Professional Documents
Culture Documents
سورة فاطر
هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها .أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد .فهي
تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها .إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزا ,
وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ,وروعة هذا الكون ; وليتدبر آيات ال المبثوثة في تضاعيفه ,
المتناثرة في صفحاته ; وليتذكر آلء ال ,ويشعر برحمته ورعايته ; وليتصور مصارع الغابرين في الرض
ومشاهدهم يوم القيامة ; وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع ال ,وآثار يده في أطواء الكون ,وفي أغوار
النفس ,وفي حياة البشر ,وفي أحداث التاريخ .وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الثار وحدة الحق
ووحدة الناموس ,ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة . . .ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع ل يتماسك
له قلب يحس ويدرك ,ويتأثر تأثر الحياء .
والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية اليقاعات .يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات
فهي كلها موضوع واحد .كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ,تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة
والتاريخ والبعث .فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ,إلى اليمان والخشوع والذعان .
والسمة البارزة الملحوظة في هذه اليقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة .وإظهار هذه
اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ; وتقبضها وتبسطها ,وتشدها وترخيها .بل معقب ول شريك ول ظهير .
ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ,وتطرد إلى ختامها . .
هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد(:الحمد ل فاطر السماوات والرض
,جاعل الملئكة رسلً أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع .يزيد في الخلق ما يشاء إن ال على كل شيء
قدير). .
وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ,وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض .بل معقب ول
شريك:
(ما يفتح ال للناس من رحمة فل ممسك لها ,وما يمسك فل مرسل له من بعده ,وهو العزيز الحكيم). .
والهدى والضلل رحمة تتدفق أو تغيض( :فإن ال يضل من يشاء ويهدي من يشاء)( . .إن ال يُسمع من
يشاء وما أنت بمسمع من في القبور .إن أنت إل نذير). .
وهذه اليد تصنع الحياة الولى وتنشر الموتى في الحياة الخرة(:وال الذي أرسل الرياح ,فتثير سحابا ,فسقناه
إلى بلد ميت ,فأحيينا به الرض بعد موتها .كذلك النشور). .
والعزة كلها ل ومنه وحده تستمد( :من كان يريد العزة فلله العزة جميعا). .
والخلق والتكوين والنسل والجل خيوطها كلها في تلك اليد ل تند عنها(:وال خلقكم من تراب ,ثم من نطفة ,
ثم جعلكم أزواجا .وما تحمل من أنثى ول تضع إل بعلمه .وما يعمر من معمر ,ول ينقص من عمره إل
في كتاب .إن ذلك على ال يسير):
وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والرض وحركات الكواكب والفلك (يولج الليل في النهار ويولج
النهار في الليل ,وسخر الشمس والقمر كل يجري لجل مسمى .ذلكم ال ربكم له الملك .والذين تدعون من
دونه ما يملكون من قطمير . .
ويد ال المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ,وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والنسان:
(ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء ,فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ,ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف
ألوانها وغرابيب سود ,ومن الناس والدواب والنعام مختلف ألوانه كذلك).
وهذه اليد تنقل خطى البشر ,وتورث الجيل الجيل( :ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)( . .هو الذي
جعلكم خلئف في الرض). .
وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال ( .إن ال يمسك السماوات والرض أن تزول ,ولئن زالتا
إن أمسكهما من أحد من بعده). .
وهي القابضة على أزمة المور ل يعجزها شيء على الطلق( :وما كان ال ليعجزه من شيء في السماوات
ول في الرض). .
وهو (على كل شيء قدير) . .وهو (العزيز الحكيم)( . .وإلى ال ترجع المور)وهو (عليم بما يصنعون). .
(وله الملك) . .وهو (الغني الحميد)( . .وإلى ال المصير) . .وهو (عزيز غفور) . .وهو (غفور شكور). .
وإنه بعباده (لخبير بصير) . .وهو (عالم غيب السماوات والرض) . .وهو (عليم بذات الصدور) . .وكان
(حليما غفورا) . .وكان (عليما قديرا) . .وكان (بعباده بصيرا). .
ومن تلك اليات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ,والسمة الغالبة عليها ,والظل الذي تلقيه في النفس على
وجه العموم .
ونظرا لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها .وإل فهي شوط
واحد متصل اليقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها . . .
تبدأ السورة بتقديم الحمد ل .فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى ال ,وإيقاظه لرؤية آلئه ,واستشعار
رحمته وفضله ,وتملي بدائع صنعه في خلقه ,وامتلء الحس بهذه البدائع ,وفيضه بالتسبيح والحمد
والبتهال:
فهو منشىء هذه الخلئق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ,والتي ل نعرف إل القليل
عن أصغرها وأقربها إلينا . .أمنا الرض . .والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ,على
ما بينها من أبعاد هائلة ل يتصورها خيالنا البشري إل بمشقة عظيمة ; والتي تحوي -مع ضخامتها وتباعد
أفلكها ومداراتها -من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بددا .
وإننا لنمر على مثل هذه الشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والرض ,دون أن نقف أمامها طويلً
لنتدبر مدلولها الهائل ; كما نمر على مشاهد السماوات والرض ذاتها بمثل هذه البلدة ,ل نقف أمامها إل
قليلً .ذلك أن حسنا قد تبلد ,فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك اليقاعات الموقظة الموحية ,التي
توقعها على القلوب الموصولة بذكر ال ,المتيقظة لثار يده المبدعة في هذا الوجود .وذلك أن اللفة قد
أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الولى .
ول يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بال إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ,وأحجامها ونسبها ,
ونسب الفضاء حولها ,وطرق سيرها في مداراتها ,وعلقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها
. . .ل يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بال إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا
الخلق الهائل الجميل العجيب .فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره .حسبه مشهد النجوم المتناثرة في
الليلة الظلماء .حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء .حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس
والنطلق .حسبه الغروب الزاحف بالظلم الموحي بالوداع والنتهاء . .بل حسبه هذه الرض وما فيها من
مشاهد ل تنتهي ول يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي . .بل حسبه زهرة واحدة ل
ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها . . .
والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبّر هذه الخلئق . . .الجليل منها والدقيق . . .وحسب القلب واحدة منها
لدراك عظمة فاطرها ,والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والبتهال . .
(الحمد ل فاطر السماوات والرض)( . .جاعل الملئكة رسلً أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع). .
والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل ال من الحق . .والملئكة هم رسل ال
بالوحي إلى من يختاره من عباده في الرض .وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله .ومن ثم يذكر ال
الملئكة بصفتهم رسلً عقب ذكره لخلق السماوات والرض .وهم صلة ما بين السماء والرض .وهم
يقومون بين فاطر السماوات والرض ,وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها .
ولول مرة -فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلل -نجد وصفا للملئكة يختص بهيئتهم .وقد ورد وصفهم
من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ,مثل قوله تعالى :ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون ,
يسبحون الليل والنهار ل يفترون . .وقوله :إن الذين عند ربك ل يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله
يسجدون . .أما هنا فنجد شيئا يختص بتكوينهم الخلقي( :أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع) . .وهو وصف ل
يمثلهم للتصور .لننا ل نعرف كيف هم ول كيف أجنحتهم هذه .ول نملك إل الوقوف عند هذا الوصف ,
دون تصور معين له .فكل تصور قد يخطى ء .ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد .
والذي ورد في القرآن هو هذا ; وهو قوله تعالى في وصف جهنم :عليها ملئكة غلظ شداد ,ل يعصون ال
ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . .وهو كذلك ل يحدد شكلً ول هيئة .والذي ورد في الثر ":أن النبي
[ ص ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية ":له ستمائة جناح " . .وهو كذلك ل يعين شكلً ول
هيئة .فالمر إذن مطلق .والعلم ل وحده في هذه الغيبيات .
وبمناسبة ذكر الجنحة مثنى وثلث ورباع .حيث ل يعرف النسان إل شكل الجناحين للطائر .يذكر أن ال
(يزيد في الخلق ما يشاء) . .فيقرر طلقة المشيئة ,وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق . .وفيما نشهده نحن
ونعلمه أشكال ل تحصى من الخلق .ووراء ما نعلم أكثر وأكثر ( . .إن ال على كل شيء قدير) . .وهذا
التعقيب أوسع من سابقه وأشمل .فل تبقى وراءه صورة ل يتناولها مدلوله ,من صور الخلق والنشاء
والتغيير والتبديل .
(ما يفتح ال للناس من رحمة فل ممسك لها ,وما يمسك فل مرسل له من بعده ,وهو العزيز الحكيم). .
في هذه الية الثانية من السورة صورة من صور قدرة ال التي ختم بها الية الولى .وحين تستقر هذه
الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة
جميعا .
إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والرض وتصله بقوة ال .وتيئسه من مظنة كل رحمة في
السماوات والرض وتصله برحمة ال .وتوصد أمامه كل باب في السماوات والرض وتفتح أمامه باب ال .
وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والرض وتشرع له طريقه إلى ال .
ورحمة ال تتمثل في مظاهر ل يحصيها العد ; ويعجز النسان عن مجرد ملحقتها وتسجيلها في ذات نفسه
وتكوينه ,وتكريمه بما كرمه ; وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ; وفيما أنعم به عليه مما يعلمه
ومما ل يعلمه وهو كثير
ورحمة ال تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح .ويجدها من يفتحها ال له في كل شيء ,وفي كل وضع ,
وفي كل حال ,وفي كل مكان . .يجدها في نفسه ,وفي مشاعره ; ويجدها فيما حوله ,وحيثما كان ,وكيفما
كان .ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان . .ويفتقدها من يمسكها ال عنه في كل شيء ,وفي
كل وضع ,وفي كل حالة ,وفي كل مكان .ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علمة الوجدان والرضوان !
وما من نعمة -يمسك ال معها رحمته -حتى تنقلب هي بذاتها نقمة .وما من محنة -تحفها رحمة ال -
حتى تكون هي بذاتها نعمة . .ينام النسان على الشوك -مع رحمة ال -فإذا هو مهاد .وينام على الحرير
-وقد أمسكت عنه -فإذا هو شوك القتاد .ويعالج أعسر المور -برحمة ال -فإذا هي هوادة ويسر .
ويعالج أيسر المور -وقد تخلت رحمة ال -فإذا هي مشقة وعسر .ويخوض بها المخاوف والخطار فإذا
هي أمن وسلم .ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار !
ول ضيق مع رحمة ال .إنما الضيق في إمساكها دون سواه .ل ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن
,أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلك .ول وسعة مع إمساكها ولو تقلب النسان في أعطاف النعيم ,
وفي مراتع الرخاء .فمن داخل النفس برحمة ال تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة .ومن داخل النفس
مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة !
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع البواب ,وتوصد جميع النوافذ ,وتسد جميع المسالك . .فل عليك .فهو
الفرج والفسحة واليسر والرخاء . .وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع البواب والنوافذ والمسالك فما هو
بنافع .وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء !
هذا الفيض يفتح ,ثم يضيق الرزق .ويضيق السكن .ويضيق العيش ,وتخشن الحياة ,ويشوك المضجع . .
فل عليك .فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة .وهذا الفيض يمسك .ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء
.فل جدوى .وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلء !
المال والولد ,والصحة والقوة ,والجاه والسلطان . .تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها
رحمة ال .فإذا فتح ال أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمئنان .
يبسط ال الرزق -مع رحمته -فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الخرة .
ويمسك رحمته ,فإذا هو مثار قلق وخوف ,وإذا هو مثار حسد وبغض ,وقد يكون معه الحرمان ببخل أو
مرض ,وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار .
ويمنح ال الذرية -مع رحمته -فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ,ومضاعفة للجر في
الخرة بالخلف الصالح الذي يذكر ال .ويمسك رحمته فإذا الذرية بلء ونكد وعنت وشقاء ,وسهر بالليل
وتعب بالنهار !
ويهب ال الصحة والقوة -مع رحمته -فإذا هي نعمة وحياة طيبة ,والتذاذ بالحياة .ويمسك نعمته فإذا
الصحة والقوة بلء يسلطه ال على الصحيح القوي ,فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ,
ويدخر السوء ليوم الحساب !
ويعطي ال السلطان والجاه -مع رحمته -فإذا هي أداة إصلح ,ومصدر أمن ,ووسيلة لدخار الطيب
الصالح من العمل والثر .ويمسك ال رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ,ومصدر طغيان
وبغي بهما ,ومثار حقد وموجدة على صاحبهما ل يقر له معهما قرار ,ول يستمتع بجاه ول سلطان ,
ويدخربهما للخرة رصيدا ضخما من النار !
والعلم الغزير .والعمر الطويل .والمقام الطيب .كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال . . .مع المساك ومع
الرسال . .وقليل من المعرفة يثمر وينفع ,وقليل من العمر يبارك ال فيه .وزهيد من المتاع يجعل ال فيه
السعادة .
والجماعات كالحاد .والمم كالفراد .في كل أمر وفي كل وضع ,وفي كل حال . .ول يصعب القياس
على هذه المثال !
ومن رحمة ال أن تحس برحمة ال ! فرحمة ال تضمك وتغمرك وتفيض عليك .ولكن شعورك بوجودها هو
الرحمة .ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة .وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة .والعذاب هو
العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها .وهو عذاب ل يصبه ال على مؤمن أبدا ( .إنه ل
ييأس من روح ال إل القوم الكافرون).
ورحمة ال ل تعز على طالب في أي مكان ول في أي حال .وجدها إبراهيم -عليه السلم -في النار .
ووجدها يوسف -عليه السلم -في الجب كما وجدها في السجن .ووجدها يونس -عليه السلم -في بطن
الحوت في ظلمات ثلث .ووجدها موسى -عليه السلم -في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل
حراسة ,كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه .ووجدها أصحاب الكهف في
الكهف حين افتقدوها في القصور والدور .فقال بعضهم لبعض( :فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من
رحمته) .ووجدها رسول ال [ ص ] وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الثار . .ووجدها كل من
آوى إليها يأسا من كل ما سواها .منقطعا عن كل شبهة في قوة ,وعن كل مظنة في رحمة ,قاصدا باب ال
وحده دون البواب .
ثم إنه متى فتح ال أبواب رحمته فل ممسك لها .ومتى أمسكها فل مرسل لها .ومن ثم فل مخافة من أحد .
ول رجاء في أحد .ول مخافة من شيء ,ول رجاء في شيء .ول خوف من فوت وسيلة ,ول رجاء مع
الوسيلة .إنما هي مشيئة ال .ما يفتح ال فل ممسك .وما يمسك ال فل مرسل .والمر مباشرة إلى ال . .
(وهو العزيز الحكيم) . .يقدر بل معقب على الرسال والمساك .ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء
الرسال والمساك .
وما بين الناس ورحمة ال إل أن يطلبوها مباشرة منه ,بل وساطة وبل وسيلة إل التوجه إليه في طاعة وفي
رجاء وفي ثقة وفي استسلم .
أية طمأنينة ? وأي قرار ? وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الية في
الضمير ?!
آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ; وتنشىء في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة ; وموازين ل تهتز ول
تتأرجح ول تتأثر بالمؤثرات كلها .ذهبت أم جاءت .كبرت أم صغرت .جلت أم هانت .كان مصدرها
الناس أو الحداث أو الشياء !
صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للحداث والشياء والشخاص والقوى والقيم
والعتبارات .ولو تضافر عليها النس والجن .وهم ل يفتحون رحمة ال حين يمسكها ,ول يمسكونها حين
وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر السلم .الفئة التي
صنعت على عين ال بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ,تنشىء في الرض ما شاء ال أن ينشىء من
عقيدة وتصور ,وقيم وموازين ,ونظم وأوضاع .وتقر في الرض ما شاء ال أن يقر من نماذج الحياة
الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالساطير والحلم .الفئة التي كانت قدرا من قدر ال يسلطه على من يشاء في
الرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء ال من محو ومن إثبات .ذلك أنها لم تكن تتعامل مع
ألفاظ هذا القرآن ,ول مع المعاني الجميلة التي تصورها . .وكفى . .ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي
تمثلها آيات القرآن ,وتعيش في واقعها بها ,ولها . .
وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ,قادرا على أن ينشىء بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الرض
-بإذن ال -ما يشاء ال . .ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ,فتأخذها جدا ,وتتمثلها حقا .حقا
تحسه ,كأنها تلمسه باليدي وتراه بالبصار . .
ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد ل على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الية . .
لقد واجهتني هذه الية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة .واجهتني في لحظة جفاف روحي
,وشقاء نفسي ,وضيق بضائقة ,وعسر من مشقة . .واجهتني في ذات اللحظة .ويسر ال لي أن أطلع منها
على حقيقتها .وأن تسكب حقيقتها في روحي ; كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني .
حقيقة أذوقها ل معنى أدركه .فكانت رحمة بذاتها .تقدم نفسها لي تفسيرا واقعيا لحقيقة الية التي تفتحت لي
تفتحها هذا .وقد قرأتها من قبل كثيرا .ومررت بها من قبل كثيرا .ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق
معناها ,وتنزل بحقيقتها المجردة ,وتقول:هأنذا . .نموذجا من رحمة ال حين يفتحها .فانظر كيف تكون !
إنه لم يتغير شيء مما حولي .ولكن لقد تغير كل شيء في حسي ! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة
كبرى من حقائق هذا الوجود ,كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الية .نعمة يتذوقها النسان ويعيشها ;
ولكنه قلما يقدر على تصويرها ,أو نقلها للخرين عن طريق الكتابة .وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها .وتم
هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي .وهأنذا أجد الفرج والفرح والري
والسترواح والنطلق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق .وأنا في مكاني ! إنها رحمة ال يفتح ال
بابها ويسكب فيضها في آية من آياته .آية من القرآن تفتح كوة من النور .وتفجر ينبوعا من الرحمة .وتشق
طريقا ممهودا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان .اللهم
حمدا لك .اللهم منزل هذا القرآن .هدى ورحمة للمؤمنين . . .
ونعود بعد تسجيل هذه الومضة إلى سياق السورة . .فنجده يؤكد في الية الثالثة إيحاء اليتين الولى والثانية
; فيذكر الناس بنعمة ال عليهم ; وهو وحده الخالق وهو وحده الرازق .الذي ل إله إل هو ; ويعجب كيف
يصرفون عن هذا الحق الواضح المبين:
(يا أيها الناس اذكروا نعمة ال عليكم .هل من خالق غير ال يرزقكم من السماء والرض ? ل إله إل هو .
فأنى تؤفكون ?). .
ق فَلَا َت ُغ ّر ّنكُمُ
عدَ اللّ ِه حَ ّ
ل مّن َقبِْلكَ وَإِلَى اللّهِ ُترْجَعُ المُورُ ( )4يَا َأ ّيهَا النّاسُ ِإنّ وَ ْ
ت رُسُ ٌ
وَإِن ُي َك ّذبُوكَ فَ َقدْ ُك ّذبَ ْ
ح ْزبَهُ ِل َيكُونُوا ِمنْ
عدُوّا ِإ ّنمَا َيدْعُو ِ
خذُوهُ َ
عدُوّ فَا ّت ِ
ش ْيطَانَ َل ُكمْ َ
حيَاةُ ال ّد ْنيَا وَلَا َي ُغ ّرنّكُم بِاللّ ِه ا ْل َغرُورُ (ِ )5إنّ ال ّ
ا ْل َ
جرٌ َكبِيرٌ ()7
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُم ّمغْ ِفرَةٌ وََأ ْ
ن آ َمنُوا َو َ
شدِيدٌ وَاّلذِي َ
عذَابٌ َ
ن كَ َفرُوا َل ُهمْ َ
سعِيرِ ( )6اّلذِي َ
ب ال ّ
صحَا ِ
َأ ْ
ونعمة ال على الناس ل تتطلب إل مجرد الذكر ; فإذا هي واضحة بينة يرونها ويحسونها ويلمسونها ,ولكنهم
ينسون فل يذكرون .
وحولهم السماء والرض تفيضان عليهم بالنعم ,وتفيضان عليهم بالرزق ; وفي كل خطوة ,وفي كل لحظة
فيض ينسكب من خيرات ال ونعمه من السماء والرض .يفيضها الخالق على خلقه .فهل من خالق غيره
يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم ? إنهم ل يملكون أن يقولوا هذا ,وما كانوا يدعونه وهم في أغلظ
شركهم وأضله .فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير ال ,فما لهم ل يذكرون ول يشكرون ? وما لهم
ينصرفون عن حمد ال والتوجه إليه وحده بالحمد والبتهال ? إنه (ل إله إل هو)فكيف يصرفون عن اليمان
بهذا الحق الذي ل مراء فيه ( . .فأنى تؤفكون ?) . .وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق
الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد ال وشكره من ل يجد مفرا من
العتراف بذلك الحق المبين !
هذه اليقاعات الثلثة القوية العميقة هي المقطع الول في السورة .وفي كل منها صورة تخلق النسان خلقا
جديدا حين تستقر في ضميره على حقيقتها العميقة .وهي في مجموعها متكاملة متناسقة في شتى التجاهات
انتهى المقطع الول من السورة بتلك اليقاعات الثلثة العميقة ,بتلك الحقائق الكبيرة الصيلة:حقيقة وحدانية
الخالق المبدع .وحقيقة الختصاص بالرحمة .وحقيقة النفراد بالرزق .
وفي المقطع الثاني يتجه أولً إلى رسول ال [ ص ] بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له ,ويرجع المر كله إلى
ال .ويتجه ثانيا إلى الناس يهتف بهم:إن وعد ال حق ,ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق
الكبرى ,ويذهب بهم إلى السعير -وهو عدوهم الصيل -ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء
المخدوعين بالعدو الصيل ! ويتجه أخيرا إلى النبي [ ص ] أل يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى
والضلل بيد ال .وال عليم بما يصنعون .
(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ,وإلى ال ترجع المور). .
تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة ; فإن يكذبوك فل عليك من التكذيب ,فلست بدعا من الرسل( :فقد
كذبت رسل من قبلك)والمر كله ل ,وإليه ترجع المور ,وما التبليغ والتكذيب إل وسائل وأسباب .
والعواقب متروكة ل وحده ,يدبر أمرها كيف يريد .
ويهتف بالناس:
(يا أيها الناس إن وعد ال حق .فل تغرنكم الحياة الدنيا ,ول يغرنكم بال الغرور .إن الشيطان لكم عدو
فاتخذوه عدوا .إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير). .
إن وعد ال حق . .إنه آت ل ريب فيه .إنه واقع ل يتخلف .إنه حق والحق ل بد أن يقع ,والحق ل يضيع
ول يبطل ول يتبدد ول يحيد .ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع ( .فل تغرنكم الحياة الدنيا) .ولكن الشيطان يغر
ويخدع فل تمكنوه من أنفسكم (ول يغرنكم بال الغرور) . .والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على
عدائكم (فاتخذوه عدوا)ل تركنوا إليه ,ول تتخذوه ناصحا لكم ول تتبعوا خطاه ,فالعدو ل يتبع خطى عدوه
وهو يعقل ! وهو ل يدعوكم إلى خير ,ول ينتهي بكم إلى نجاة( :إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير)! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير ?!
إنها لمسة وجدانية صادقة .فحين يستحضر النسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ,فإنه
يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات .يتحفز لدفع الغواية والغراء ;
ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ,ويتوجس من كل هاجسة ,ويسرع ليعرضها على ميزان ال الذي أقامه
له ليتبين ,فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم !
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير .حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة
الشيطان بالغواية ; كما يتوفز النسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية ! حالة التعبئة الشعوريه
ضد الشر ودواعيه ,وضد هواتفه المستسرة في النفس ,وأسبابه الظاهرة للعيان .حالة الستعداد الدائم
للمعركة التي ل تهدأ لحظة ول تضع أوزارها في هذه الرض أبدا .
ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفز ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان ,وحالة المؤمنين
الذين طاردوه:
(الذين كفروا لهم عذاب شديد .والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير). .
ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية ,وحقيقة عمل الشيطان ,والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله ;
ويمتد منه طريق الضلل الذي ل يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه:
هذا هو مفتاح الشر كله . .أن يزين الشيطان للنسان سوء عمله فيراه حسنا .أن يعجب بنفسه وبكل ما
يصدر عنها .أل يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه ,لنه واثق من أنه ل يخطىء ! متأكد أنه
دائما على صواب ! معجب بكل ما يصدر منه ! مفتون بكل ما يتعلق بذاته .ل يخطر على باله أن يراجع
حسَرَاتٍ ِإنّ
سكَ عََل ْي ِهمْ َ
ن اللّ َه ُيضِلّ مَن َيشَاءُ َو َي ْهدِي مَن َيشَاءُ فَلَا َتذْهَبْ نَ ْف ُ
حسَنا فَإِ ّ
عمَلِ ِه فَرَآ ُه َ
َأ َفمَن ُزيّنَ َلهُ سُوءُ َ
ص َنعُونَ ()8
اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْ
نفسه في شيء ,ول أن يحاسبها على أمر .وبطبيعة الحال ل يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في
رأي يراه .لنه حسن في عين نفسه .مزين لنفسه وحسه .ل مجال فيه للنقد ,ول موضع فيه للنقصان !
هذا هو البلء الذي يصبه الشيطان على إنسان ; وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلل .فإلى البوار !
إن الذي يكتب ال له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب .فل يأمن مكر ال .
ول يأمن تقلب القلب .ول يأمن الخطأ والزلل .ول يأمن النقص والعجز .فهو دائم التفتيش في عمله .دائم
الحساب لنفسه .دائم الحذر من الشيطان .دائم التطلع لعون ال .
وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلل ,وبين الفلح والبوار .
إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير .ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين .هو هذا الغرور .
هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فل يرى مخاطر الطريق .ول يحسن عملً لنه مطمئن إلى حسن عمله
وهو سوء .ول يصلح خطأ لنه واثق أنه ل يخطىء ! ول يصلح فاسدا لنه مستيقن أنه ل يفسد ! ول يقف
عند حد لنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلح !
ويدع السؤال بل جواب ( . .أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ?) . .ليشمل كل جواب .كأن يقال:أفهذا
يرجى له صلح ومتاب ? أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب ال ? أفهذا يستوي مع المتواضعين التقياء ? . .
.إلى آخر صور الجابة على مثل هذا السؤال .وهو أسلوب كثير التردد في القرآن .
وكأنما يقول:إن مثل هذا قد كتب ال عليه الضللة ; مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ; وبما
فتح عليه هذا الباب الذي ل يعود منه ضال !
فإن ال يضل من يشاء ويهدي من يشاء ; بما تقتضيه طبيعة الضلل في ذلك وطبيعة الهدى في هذا .طبيعة
الضلل برؤية العمل حسنا وهو سوء .وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى . .وهو مفرق
الطريق الحاسم بين الهدى والضلل .
وما دام المر كذلك (فل تذهب نفسك عليهم حسرات). .
إن هذا الشأن .شأن الهدى والضلل .ليس من أمر بشر .ولو كان هو رسول ال [ ص ] إنما هو من أمر
ال .والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن .وهو مقلب القلوب والبصار . .وال -سبحانه -يعزي
رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له .حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضللهم
,ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلل .وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم ,ومن
رؤية الحق الذي جاء به معروفا بينهم ! وهو حرص بشري معروف .يرفق ال سبحانه برسوله من وقعه في
حسه ,فيبين له أن هذا ليس من أمره ,إنما هو من أمر ال .
وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم ,وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير .ورأوا
الناسفي الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ; ول يرون ما فيها من الخير والجمال .ول يستمتعون بما فيها
من الحق والكمال .وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها ال -سبحانه -رسوله .فيبلغوا
دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد .ثم ل يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له ال الصلح والفلح .
وهو يقسم لهم الهدى أو الضلل وفق علمه بحقيقة صنعهم .وال يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ;
ويعلمها بعد أن تكون .وهو يقسم لهم وفق علمه الزلي .ولكنه ل يحاسبهم على ما يكون منهم إل بعد أن
يكون .
وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة .وهو متصل بالمقطع الول .ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه . .
هذا المقطع الثالث جولت متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلئل اليمان ; ويتخذ من
مشاهده المعروضة للبصائر والبصار أدلته وبراهينه .
وهذه الجولت المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلل ,وعن تسلية الرسول [ ص ]
عن إعراض المعرضين ,وتفويض هذا المر لصاحبه العليم بما يصنعون . .فمن شاء أن يؤمن
ح َي ْينَا بِ ِه ا ْلَأرْضَ َب ْعدَ مَ ْو ِتهَا َكذَِلكَ الّنشُورُ ()9
ت فََأ ْ
سحَابا َفسُ ْقنَا ُه إِلَى بََلدٍ ّميّ ٍ
وَاللّهُ اّلذِي َأ ْرسَلَ ال ّريَاحَ َف ُتثِيرُ َ
فهذه أدلة اليمان معروضة في صفحة الكون حيث ل خفاء فيها ول غموض .ومن شاء أن يضل فهو يضل
عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب .
وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة .وفيه دليل على البعث والنشور .وفي خلق النسان من تراب ,
ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة .وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في
كتاب مبين .
وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة .وفيهما من نعم ال على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان .
وفي مشهد الليل والنهار يتداخلن ويطولن ويقصران حجة .وفيهما على التقدير والتدبير دليل .وكذلك
مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب .
هذه كلها حجج ودلئل معروضة في المجال الكوني الفسيح .وهذا هو ال خالقها ومالكها .والذين يدعون من
دون ال ما يملكون من قطمير .ول يسمعون ول يستجيبون .ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلّل .
فماذا بعد الحق إل الضلل ?
(وال الذي أرسل الرياح ,فتثير سحابا ,فسقناه إلى بلد ميت ,فأحيينا به الرض بعد موتها .كذلك النشور).
وهذا المشهد يتردد في معرض دلئل اليمان الكونية في القرآن .مشهد الرياح ,تثير السحب ; تثيرها من
البحار ,فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ; والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحابا ; ثم يسوق ال
هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة ,فتذهب يمينا وشمالً إلى حيث يريد ال لها أن تذهب
,وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات ,حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل . .إلى
بلد ميت . .مقدر في علم ال أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب .والماء حياة كل شيء في هذه الرض .
(فأحيينا به الرض بعد موتها) . .وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب
فيها .وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الخرة .وهو يقع بين أيديهم في الدنيا .
( .كذلك النشور) . .في بساطة ويسر ,وبل تعقيد ول جدل بعيد !
هذا المشهد يتردد في معرض دلئل اليمان الكونية في القرآن لنه دليل واقعي ملموس ,ل سبيل إلى
المكابرة فيه .ولنه من جانب آخر يهز القلوب حقا حين تتمله وهي يقظى ; ويلمس المشاعر لمسا موحيا
حين تتجه إلى تأمله .وهو مشهد بهيج جميل مثير .وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها النسان اليوم
وهي محل جدب جرداء .ثم يمر عليها غدا وهي ممرعة خضراء من آثار الماء .والقرآن يتخذ موحياته من
مألوف البشر المتاح لهم ,مما يمرون عليه غافلين .وهو معجز معجب حين تتمله البصائر والعيون .
الدرس الثاني 10:العزة بيد ال وحده وانقلب مكر الكفار على أنفسهم
ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة -شيئا -إلى معنى نفسي ومطلب شعوري .
ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والستعلء .ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى ال
والعمل الصالح الذي يرفعه ال .كما يعرض الصفحة المقابلة .صفحة التدبير السيّىء والمكر الخبيث ,وهو
يهلك ويبور:
(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ,إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ,والذين يمكرون
س ّيئَاتِ
ح يَ ْر َفعُهُ وَاّلذِينَ َي ْم ُكرُونَ ال ّ
طيّبُ وَا ْل َعمَلُ الصّالِ ُ
جمِيعا إَِليْ ِه َيصْ َعدُ ا ْلكَِلمُ ال ّ
ن ُيرِيدُ ا ْل ِعزّ َة فَلِلّ ِه ا ْلعِزّ ُة َ
مَن كَا َ
شدِيدٌ َو َم ْكرُ أُوَْل ِئكَ ُهوَ َيبُورُ ()10
ب َ
عذَا ٌ
َل ُهمْ َ
السيئات لهم عذاب شديد ,ومكر أولئك هو يبور). .
ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات ,والكلمة الطيبة والعمل الصالح ,هو الحياة الطيبة في
هذه وفي تلك ; وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة .وهي الصلة التي سبقت الشارة إليها في سورة
إبراهيم (.ألم تر كيف ضرب ال مثلً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل
حين بإذن ربها ويضرب ال المثال للناس لعلهم يتذكرون ,ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق
الرض ما لها من قرار) . .وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ; وما فيهما من حياة ونماء .
والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء !
وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة ,وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل
بحكم العقيدة ,وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة اللوان .العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال .مما
جعلهم يقولون( :إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا). .
وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ,وتبدل الوسائل والخطط أيضا !
إن العزة كلها ل .وليس شيء منها عند أحد سواه .فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها
مصدر غيره .ليطلبها عند ال ,فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ,ول في أي كنف ,ول بأي سبب
(فلله العزّة جميعا). .
إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ; وتخشى اتباع الهدى -وهي تعترف
أنه الهدى -خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى .إن الناس هؤلء ,القبائل والعشائر وما إليها ,إن هؤلء
ليسوا مصدرا للعزة ,ول يملكون أن يعطوها أو يمنعوها (فلله العزّة جميعا) . .وإذا كانت لهم قوة فمصدرها
الول هو ال .وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو ال .وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر
الول ,ل إلى الخذ المستمد من هذا المصدر .ليأخذ من الصل الذي يملك وحده كل العزة ,ول يذهب
يطلب قمامة الناس وفضلتهم .وهم مثله طلب محاويج ضعاف !
إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة السلمية .وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ,وتعديل الحكم
والتقدير ,وتعديل النهج والسلوك ,وتعديل الوسائل والسباب ! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي
قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزا كريما ثابتا في وقفته غير مزعزع ,عارفا طريقه إلى العزة ,طريقه الذي
ليس هنالك سواه !
إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر .ول لعاصفة طاغية .ول لحدث جلل .ول لوضع ول لحكم .ول لدولة
ول لمصلحة ,ول لقوة من قوى الرض جميعا .وعلم ? والعزة ل جميعا .وليس لحد منها شيء إل
برضاه ?
ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه .فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن
يطلبها عند ال .القول الطيب والعمل الصالح .القول الطيب الذي يصعد إلى ال في عله ; والعمل
الصالحالذي يرفعه ال إليه ويكرمه بهذا الرتفاع .ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والستعلء .
والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس .حقيقة تستقر في القلب
فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والنحناء لغير ال .حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي .يستعلي
بها على شهواته المذلة ,ورغائبه القاهرة ,ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس .ومتى استعلى على
هذه فلن يملك أحد وسيلة لذلله وإخضاعه .فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ,ومخاوفهم ومطامعهم .
ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان . .وهذه هي العزة الحقيقية
ذات القوة والستعلء والسلطان !
إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل .وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو
وتجبر وإصرار .وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل للشهوة .وليست قوة عمياء تبطش بل حق ول
عدل ول صلح . .كل ! إنما العزة استعلء على شهوة النفس ,واستعلء على القيد والذل ,واستعلء على
الخضوع الخانع لغير ال .ثم هي خضوع ل وخشوع ; وخشية ل وتقوى ,ومراقبة ل في السراء والضراء
. .ومن هذا الخضوع ل ترتفع الجباه .ومن هذه الخشية ل تصمد لكل ما يأباه .ومن هذه المراقبة ل ل
تعنى إل برضاه .
هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة ,وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في
السياق .ثم تكمل بالصفحة المقابلة:
ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون .ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء .فهؤلء لهم عذاب شديد .
فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور .فل يحيا ول يثمر .من البوار ومن البوران سواء .وذلك تنسيقا مع إحياء
الرض وإثمارها في الية السابقة .
والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلبا للعزة الكاذبة ,والغلبة الموهومة .وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء ,
وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء .ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى ال ,والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه .
وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل .فأما المكر السيى ء قولً وعملً فليس سبيلً إلى العزة ولو حقق
القوة الطاغية الباغية في بعض الحيان .إل أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد .وعد ال ,ل يخلف
ال وعده .وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الجل المحتوم في تدبير ال المرسوم .
ثم يجيء مشهد النشأة الولى للنسان بعد الكلم عن نشأة الحياة كلها بالماء .ويذكر ما يلبس تلك النشأة من
حمل في البطون ; ومن عمر طويل وعمر قصير .وكله في علم ال المكنون .
(وال خلقكم من تراب ,ثم من نطفة ,ثم جعلكم أزواجا .وما تحمل من أنثى ول تضع إل بعلمه .وما يعمر
من معمر ول ينقص من عمره إل في كتاب .إن ذلك على ال يسير). .
والشارة إلى النشأة الولى من التراب تتردد كثيرا في القرآن ; وكذلك الشارة إلى أول مراحل الحمل:النطفة
. .والتراب عنصر ل حياة فيه ,والنطفة عنصر فيه الحياة .والمعجزة الولى هي معجزة هذه الحياة التي ل
يعلم أحد كيف جاءت ,ول كيف تلبست بالعنصر الول .وما يزال هذا سرا مغلقا على البشر ; وهو حقيقة
قائمة مشهودة ,ل مفر من مواجهتها والعتراف بها .ودللتها على الخالق المحيي القدير دللة ل يمكن
دفعها ول المماحكة فيها .
ن أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ َومَا ُي َع ّمرُ مِن ّم َعمّرٍ
حمِلُ مِ ْ
جعََل ُكمْ َأزْوَاجا َومَا َت ْ
وَاللّهُ خَلَ َقكُم مّن ُترَابٍ ُثمّ مِن ّنطْفَ ٍة ُثمّ َ
عذْبٌ ُفرَاتٌ سَائِغٌ
حرَانِ َهذَا َ
ستَوِي ا ْل َب ْ
ن ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ (َ )11ومَا َي ْ
ب إِ ّ
ع ُمرِهِ إِلّا فِي ِكتَا ٍ
وَلَا يُنقَصُ ِمنْ ُ
خرَ ِل َت ْب َتغُوا
خ ِرجُونَ حِ ْليَةً تَ ْل َبسُو َنهَا َو َترَى الْفُ ْلكَ فِي ِه مَوَا ِ
ستَ ْ
ن َلحْما طَ ِريّا َو َت ْ
ل َت ْأكُلُو َ
شَرَابُهُ وَ َهذَا مِلْحٌ ُأجَاجٌ َومِن كُ ّ
شكُرُونَ ()12
مِن فَضْلِهِ وََلعَّل ُكمْ َت ْ
هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان .وتأمل هذه
النقلة ل ينتهي ول يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة .وكل سر منها أضخم من الخر
وأعجب صنعا .
والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين ,حين يتميز
الذكر من النثى ,وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الية( :ثم جعلكم أزواجا) . .سواء كان
المقصود جعلكم ذكرا وأنثى وأنتم أجنة ,أو كان المقصود جعلكم أزواجا بعد ولدتكم وتزاوج الذكر والنثى .
.هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة ! فأين الخلية الواحدة في النطفة من
ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد ,الكثير الجهزة المتعدد الوظائف ? وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك
الخلق الحافل بالخصائص المتميزة ?
إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ; وتتركب كل مجموعة خاصة من الخليا المتولدة منها لتكوين
عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة .ثم تعاون هذه العضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقا واحدا
على هذا النحو العجيب ; ومخلوقا متميزا من سائر المخلوقات الخرى من جنسه ,بل من أقرب الناس إليه ,
بحيث ل يتماثل أبدا مخلوقان اثنان . .وكلهم من نطفة ل تميز فيها يمكن إدراكه ! . .ثم تتبع هذه الخليا
حتى تصير أزواجا ,قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة ,تسير في ذات المراحل ,دون انحراف . .إن
هذا كله لعجب ل ينقضي منه العجب .ومن ثم هذه الشارة التي تتردد في القرآن كثيرا عن تلك الخارقة
المجهولة السر ; بل تلك الخوارق المجهولة السرار ! لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها ,ولعل أرواحهم
تستيقظ على اليقاع المتكرر عليها !
وإلى جوار هذه الشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم ال [ كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في
سورة سبأ ] صورة علم ال المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الرض جميعا:
وعلم ال على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الطراف !!!
وتصوير علم ال المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه ل في التصور
ول في التعبير -كما قلنا في سورة سبأ -فهو بذاته دليل على أن ال هو منزل هذا القرآن .وهذه إحدى
السمات الدالة على مصدره اللهي المتفرد .
(وما يعمر من معمر ول ينقص من عمره إل في كتاب .إن ذلك على ال يسير). .
فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على
إختلف في الحجام والشكال والنواع والجناس والمواطن والزمنة ; ثم يتصور أن كل فرد من أفرادهذا
الحشد -الذي ل يمكن حصره ,ول يعلم إل خالقه عدده -يعمر فيطول عمره ,أو ينقص من عمره فيقصر
وفق قدر مقدور ,ووفق علم متعلق بهذا الفرد ,متابع له ,عمر أم لم يعمر .
بل متعلق بكل جزء من كل فرد .يعمر أو ينقص من عمره .فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو
تذبل أو تسقط عن قريب .وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح .وهذا القرن من
ل أو يتحطم في صراع .وهذه العين في ذلك النسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق
ذلك الحيوان يبقى طوي ً
تقدير معلوم .
كل ذلك (في كتاب) . .من علم ال الشامل الدقيق .وأن ذلك ل يكلف جهدا ول عسرا( :إن ذلك على ال
يسير). .
إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه ; ثم يتصور ما وراءه . .إنه لمر عجيب جد عجيب . .وإنه لتجاه إلى
حقيقة ل يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو .واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير
مألوف البشر كذلك .وإنما هو التوجيه اللهي الخاص إلى هذا المر العجيب .
والتعمير يكون بطول الجل وعد العوام ; كما يكون بالبركة في العمر ,والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقا مثمرا ,
واحتشاده بالمشاعر والحركات والعمال والثار .وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ; أو نزع
البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ .
ورب ساعة تعدل عمرا بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ,وبما يتم فيها من أعمال وآثار .ورب عام يمر
خاويا فارغا ل حساب له في ميزان الحياة ,ول وزن له عند ال !
وكل ذلك في كتاب . .كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي ل يعرف حدوده إل ال . .
والجماعات كالحاد .والمم كالفراد . .كل منها يعمر أو ينقص من عمره .والنص يشمله .
بل إن الشياء لكالحياء .وإني لتصور الصخرة المعمرة ,والكهف المعمر ,والنهر المعمر ,والصخرة التي
ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ; والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ; والنهر
الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد !
ومن الشياء ما تصنعه يد النسان .البناء المعمر أو القصير العمر .والجهاز المعمر أو قصير العمر .
والثوب المعمر أو قصير العمر . .وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب ال كالنسان .
وإن تصور المر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد ,وأسلوب جديد .وإن القلب
الذي يستشعر يد ال وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل .وهو حيثما
تلفت وجد يد ال .ووجد عين ال .ووجد عناية ال ,ووجد قدرة ال ,متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا
الوجود .
ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات .يمضي إلى مشهد الماء في هذه
الرض من زاوية معينة .زاوية تنويع الماء .فهذا عذب سائغ ,وهذا ملح مر .وكلهما يفترقان ويلتقيان -
بتسخيرال -في خدمة النسان .
(وما يستوي البحران . .هذا عذب فرات سائغ شرابه ,وهذا ملح أجاج . .ومن كل تأكلون لحما طريا
وتستخرجون حلية تلبسونها .وترى الفلك فيه مواخر .لتبتغوا من فضله ,ولعلكم تشكرون). .
إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة ; ووراءها حكمة -فيما نعلم -ظاهرة ; فأما الجانب العذب السائغ
اليسير التناول فنحن نعرف جانبا من حكمة ال فيما نستخدمه وننتفع به ; وهو قوام الحياة لكل حي .وأما
الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون
الضخم:
; وعلى الرغم من النبعاثات الغازية من الرض طول الدهور -ومعظمها سام -فإن الهواء باق دون تلويث
في الواقع ,ودون تغير في نسبته المتوازنة اللزمة لوجود النسان .وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة
الفسيحة من الماء -أي المحيط -الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ,والنباتات .
وأخيرا النسان نفسه . " . .
وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع ,واضح فيه القصد والتدبير ,ومنظور فيه إلى تناسقات
وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه .ول يصنع هذا إل ال خالق هذا الكون وما
فيه ومن فيه .فإن هذا التنسيق الدقيق ل يجيء مصادفة واتفاقا بحال من الحوال .والشارة إلى اختلف
البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى .وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج
منها في عالم المشاعر والتجاهات والقيم والموازين .
(ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر). .
واللحم الطري هو السماك والحيوانات البحرية على اختلفها .والحلية من اللؤلؤ والمرجان .واللؤلؤ يوجد
في أنواع من القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء ,فيفرز جسم
القوقعة داخل الصدفة إفرازا خاصا يحيط به هذا الجسم الغريب ,كي ل يؤذي جسم القوقعة الرخو .وبعد
زمن معين يتصلب هذا الفراز ,ويتحول إلى لؤلؤة ! والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعابا مرجانية
تمتد في البحر أحيانا عدة أميال ,وتتكاثر حتى تصبح خطرا على الملحة في بعض الحيان ; وخطرا على
كل حي يقع في براثنها ! وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلى !
والفلك تمخر البحار والنهار -أي تشقها -بما أودع ال الشياء في هذا الكون من خصائص .ولكثافة الماء
وكثافة الجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه .وللرياح
كذلك .وللقوى التي سخرها ال للنسان وعرفه كيف يستخدمها كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من
القوى .وكلها من تسخير ال للنسان .
(لتبتغوا من فضله) . .بالسفر والتجارة ,والنتفاع باللحم الطري والحلى واستخدام الماء والسفن في البحار
والنهار .
(ولعلكم تشكرون) . .وقد يسر ال لكم أسباب الشكر ,وجعلها حاضرة بين أيديكم .ليعينكم على الداء .
سمّى ذَِل ُكمُ اللّهُ َربّ ُكمْ َلهُ
جرِي ِلَأجَلٍ ّم َ
شمْسَ وَالْ َق َمرَ كُلّ َي ْ
سخّرَ ال ّ
يُولِجُ الّليْلَ فِي ال ّنهَارِ َويُوِلجُ ال ّنهَارَ فِي الّليْلِ َو َ
طمِيرٍ ()13
ن مِن قِ ْ
ن مِن دُونِ ِه مَا َيمِْلكُو َ
ن َتدْعُو َ
ا ْلمُ ْلكُ وَاّلذِي َ
الدرس الخامس 13:التذكير بالنعمة في الليل والنهار والشمس والقمر
ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار .ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم
لجريانهما إلى الجل المعلوم:
يولج الليل في النهار ,ويولج النهار في الليل .وسخر الشمس والقمر ,كل يجري لجل مسمى . .
وإيلج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين .مشهد دخول الليل في النهار ,
والضياء يغيب قليلً قليلً ,والظلم يدخل قليلً قليلً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب .
ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ,وينتشر الضياء رويدا رويدا ,ويتلشى الظلم رويدا
رويدا ,حتى تشرق الشمس ويعم الضياء . .كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه
.وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه . .وقد يعنيهما معا بتعبير واحد .وكلها مشاهد تطوّف
بالقلب في سكون ,وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ; وهو يرى يد ال تمد هذا الخط ,وتطوي ذاك الخط
,وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط .وفي نظام دقيق مطرد ل يتخلف مرة ول يضطرب .ول يختل يوما
أو عاما على توالي القرون . .
وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للجل المرسوم لهما ,والذي ل يعلمه إل خالقهما . .هو الخر ظاهرة
يراها كل إنسان ,سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ,ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما
ومداها:أم ل يعلم من هذا كله شيئا . .فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ,ويصعدان وينحدران
أمام كل بصر .وهذه الحركة الدائبة التي ل تفتر ول تختل حركة مشهودة ل يحتاج تدبرها إلى علم
وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الجيال على السواء .وقد ندرك
نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لول مرة .وليس هذا هو المهم .إنما
المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ,وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ,وأن تثير فينا من التدبر
ورؤية يد ال المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم . .والحياة حياة القلوب . .
وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدللة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ,وبطلن كل ادعاء
بالشرك ,وخسران عاقبته يوم القيامة:
(ذلكم ال ربكم له الملك ,والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير .إن تدعوهم ل يسمعوا دعاءكم .
ولو سمعوا ما استجابوا لكم .ويوم القيامة يكفرون بشرككم .ول ينبئك مثل خبير). .
ذلكم .الذي أرسل الرياح بالسحاب ,والذي أحيا الرض بعد موتها ,والذي خلقكم من تراب ,والذي جعلكم
أزواجا ,والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ,والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ,والذي خلق
البحرين ,والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لجل مسمى .
.ذلكم هو (ال ربكم). .
(له الملك)( . .والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) . .والقطمير غلف النواة ! وحتى هذا الغلف
الزهيد ل يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون ال !
خبِيرٍ (
ن ِبشِ ْر ِك ُكمْ وَلَا ُي َنبّ ُئكَ ِمثْلُ َ
س َتجَابُوا َل ُكمْ َو َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة َيكْ ُفرُو َ
س ِمعُوا مَا ا ْ
س َمعُوا دُعَاء ُكمْ وَلَ ْو َ
إِن َتدْعُو ُهمْ لَا َي ْ
)14
فهم أصنام أو أوثان أو أشجار ,أو نجوم أو كواكب ,أو ملئكة أو جن . .وكلهم ل يملكون بالفعل قطميرا .
وكلهم ل يسمعون لعبادهم الضالين .سواء كانوا ل يسمعون أصلً ,أو ل يسمعون لكلم البشر . .
الوحدة الرابعة 26 - 15:الموضوع:غنى ال وقدرته وعجز البشر وفردية التبعة وعدم مساواة المؤمنين
بالكافرين
مرة أخرى يرجع إلى الهتاف بالناس أن ينظروا في علقتهم بال ,وفي حقيقة أنفسهم ; ويرجع إلى الرسول
[ ص ] بالتسلية عما يلقى ,والتسرية عما يجد من إعراض وضلل -كالشأن في المقطع الثاني من السورة -
ويزيد هنا الشارة إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلل ,وأن الختلف بين طبيعتهما أصيل
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى ال ,وال هو الغني الحميد ,إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ,وما ذلك على
ال بعزيز). .
إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ,ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم
فيه من الظلمات الى نور ال وهداه .في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى ال .وأن ال غني
عنهم كل الغنى .وأنهم حين يدعون إلى اليمان بال وعبادته وحمده على آلئه فإن ال غني عن عبادتهم
وحمدهم ,وهو المحمود بذاته .وأنهم ل يعجزون ال ول يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق
جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الرض ,فإن ذلك عليه يسير . .
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ,لئل يركبهم الغرور وهم يرون أن ال -جل وعل -يعنى بهم
,ويرسل إليهم الرسل ; ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضللة الى الهدى ,ويخرجوهم من الظلمات إلى
النور .ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على ال ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى !
وال هو الغني الحميد .
وإن ال سبحانه يمنح العباد من رعايته ,ويفيض عليهم من رحمته ,ويغمرهم بسابغ فضله -بإرسال رسله
إليهم ,واحتمال هؤلء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ,وثباتهم على الدعوة إلى ال بعد العراض
واليذاء . .إن ال سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلً وكرما ومنا .لن هذه صفاته المتعلقة
بذاته .ل لن هؤلء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم ,أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم .ول لن هؤلء
العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة العادة أو الستبدال ,فيغتفر لهم ما يقع منهم لنهم صنف ل يعاد ول
يستبدل .
وإن النسان ليدهش ويحار في فضل ال ومنه وكرمه ,حين يرى هذا النسان الصغير الضئيل الجاهل
القاصر ,الضعيف العاجز ,ينال من عناية ال ورعايته كل هذا القدر الهائل !
والنسان ساكن صغير من سكان هذه الرض .والرض تابع صغير من توابع الشمس .والشمس نجم مما ل
عد له ول حصر من النجوم .والنجوم إن هي إل نقط صغيرة -على ضخامتها الهائلة -متناثرة في فضاء
الكون الذي ل يعلم الناس حدوده .وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إل بعض
خلق ال !
ثم ينال النسان من ال كل هذه الرعاية . .ينشئه ,ويستخلفه في الرض ,ويهبه كل أدوات الخلفة -سواء
في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللزمة له في خلفته -ويضل هذا المخلوق ويتبجح
حتى ليشرك بربه أو ينكره .فيرسل ال إليه الرسل ,رسولً بعد رسول ,وينزل على الرسل الكتب
والخوارق .ويطرد فضل ال ويفيض حتى لينزل في كتابه الخير للبشر قصصا يحدث بها الناس ,ويقص
عليهم ما وقع لسلفهم ,ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ,ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ,ومن عجز
وضعف ,بل إنه -سبحانه -ليحدث عن فلن وفلن بالذات ,فيقول لهذا:أنت فعلت وأنت تركت ,
كل ذلك ,وهذا النسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الرض ,التابعة الصغيرة من توابع الشمس ,
التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! وال -سبحانه -هو فاطر السماوات والرض ,وخالق
هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة .بمجرد توجه الرادة .وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه
الرادة . .
والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل ال ورعايته ورحمته ,وليستحيوا أن يستجيبوا
للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالعراض والجحود والنكران .
فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ,الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة .والقرآن يلمس بالحقائق
قلوب البشر ,لن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ,ولنه هو الحق وبالحق نزل .فل يتحدث إل بالحق ,
ول يقنع ال بالحق ,ول يعرض إل بالحق ,ول يشير بغير الحق . .
ولمسة أخرى بحقيقة أخرى .حقيقة فردية التبعة ,والجزاء الفردي الذي ل يغني فيه احد عن أحد شيئا .فما
ل منهم محاسب
بالنبي [ ص ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ,فهو محاسب على عمله وحده ,كما أن ك ً
على ما كسبت يداه ,يحمل حمله وحده ,ل يعينه أحد عليه .ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ,وهو الكاسب
وحده ل سواه ; والمر كله صائر إلى ال:
(ول تزر وازرة وزر أخرى .وإن تدع مثقلة إلى حملها ل يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى). . .
وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الخلقي ,وفي السلوك العملي سواء .فشعور كل
فرد بأنه مجزيّ بعمله ,ل يؤاخذ بكسب غيره ,ول يتخلص هو من كسبه ,عامل قوي في يقظته لمحاسبة
نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ,أو أن يحمل عنه أحد شيئا .
كما أنه -في الوقت ذاته -عامل مطمئن ,فل يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ,فيطيش وييئس
من جدوى عمله الفردي الطيب .ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلل بما
يملك من وسيلة .
إن ال -سبحانه -ل يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فردا فردا ; كل على عمله ,وفي حدود
واجبه .ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الصلح غاية جهده .فإذا قام بقسطه هذا فل عليه من
السوء في الجماعة التي يعيش فيها ,فإنما هو محاسب على إحسانه .كذلك لن ينفعه صلح الجماعة إذا كان
هو بذاته غير صالح .فال ل يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !
والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ,فتكون أعمق وأشد أثرا .يصور كل
نفس حاملة حملها .فل تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب القرباء ليحمل
عنها شيئا ,فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئا مما يثقلها !
إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ,حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في
وقفتها يبدو على من فيها الجهد والعياء ,واهتمام كل بحمله وثقله ,وانشغاله عن البعداء والقرباء !
وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ,يلتفت إلى رسول ال [ -ص ]:
فهؤلء هم الذين يفلح فيهم النذار .هؤلء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه .ويقيمون الصلة ليتصلوا بربهم
ويعبدوه .هؤلء هم الذين ينتفعون بك ,ويستجيبون لك .فل عليك ممن ل يخشى ال ول يقيم الصلة .
ل لك .ول لغيرك .إنما هو يتطهر لينتفع بطهره .والتطهر معنى لطيف شفاف .يشمل القلب وخوالجه
ومشاعره ,ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره .وهو معنى موح رفاف .
وهو المحاسب ,والمجازي ,فل يذهب عمل صالح ,ول يفلت عمل سيىء .ول يوكل الحكم والجزاء إلى
غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون . .
ولن يستوي عند ال اليمان والكفر ,والخير والشر ,والهدى والضلل ; كما ل يستوي العمى والبصر ,
والظلمة والنور ,والظل والحرور ,والحياة والموت ,وهي مختلفة الطبائع من الساس:
وما يستوي العمى والبصير .ول الظلمات ول النور .ول الظل ول الحرور .وما يستوي الحياء ول
الموات . .
وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة .كما أن هناك صلة بين طبيعة
اليمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة . .
إن اليمان نور ,نور في القلب ونور في الجوارح ,ونور في الحواس .نور يكشف حقائق الشياء والقيم
والحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد .فالمؤمن ينظر بهذا النور ,نور ال ,فيرى تلك الحقائق ,
ويتعامل معها ,ول يخبط في طريقه ول يلطش في خطواته !
واليمان بصر ,يرى .رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ول مخلخلة .ويمضي بصاحبه في الطريق على
نور وعلى ثقة وفي اطمئنان .
واليمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ,ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم
بل دليل !
واليمان حياة .حياة في القلوب والمشاعر .حياة في القصد والتجاه .كما أنه حركة بانية .مثمرة .قاصدة
.ل خمود فيها ول همود .ول عبث فيها ول ضياع .
والكفر عمى .عمى في طبيعة القلب .وعمى عن رؤية دلئل الحق .وعمى عن رؤية حقيقة الوجود .
وحقيقة الرتباطات فيه .وحقيقة القيم والشخاص والحداث والشياء .
والكفر ظلمة أو ظلمات .فعندما يبعد الناس عن نور اليمان يقعون في ظلمات من شتى النواع والشكال .
ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الشياء .
والكفر هاجرة .حرور .تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الستقرار على هدف ,وعدم الطمئنان
إلى نشأة أو مصير .ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !
والكفر موت .موت في الضمير .وانقطاع عن مصدر الحياة الصيل .وانفصال عن الطريق الواصل .
ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ,ولن يستوي عند ال هذا وذاك .
وهنا يلتفت إلى النبي [ ص ] يعزيه ويسري عنه ,بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة ال .وترك ما تبقى
بعد ذلك لصاحب المر يفعل به ما يشاء:
(إن ال يسمع من يشاء ,وما أنت بمسمع من في القبور .إن أنت إل نذير .إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا
,وإن من أمة إل خل فيها نذير .وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر
وبالكتاب المنير .ثم أخذت الذين كفروا .فكيف كان نكير ?). .
إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس .واختلف طباع الناس واختلف استقبالهم لدعوة ال
أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ,والظل والحرور ,والظلمات والنور ,والحياة والموت .
ووراء ذلك كله تقدير ال وحكمته .وقدرته على ما يشاء .
وإذن فالرسول ليس إل نذيرا .وقدرته البشرية تقف عند هذا الحد .فما هو بمسمع من في القبور .ول من
يعيشون بقلوب ميتة فهم كأهل القبور ! وال وحده هو القادر على إسماع من يشاء ,وفق ما يشاء ,حسبما
يشاء .فماذا على الرسول أن يضل من يضل ,ويعرض من يعرض متى أدى المانة ,وبلغ الرسالة ,فسمع
من شاء ال أن يسمع ,وأعرض من شاء ال أن يعرض ?
ومن قبل قال ال لرسوله [ ص ]( :فل تذهب نفسك عليهم حسرات).
لقد أرسله ال بالحق بشيرا ونذيرا .شأنه شأن إخوانه من الرسل -صلوات ال عليهم -وهم كثير .فما من
أمة إل سبق فيها رسول:
فإن لقي من قومه التكذيب ,فتلك هي طبيعة القوام في استقبال الرسل ; ل عن تقصير من الرسل ,ول عن
نقص في الدليل:
(وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم .جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير). .
والبينات الحجج في صورها الكثيرة ,ومنها الخوارق المعجزة التي كانوا يطلبون أو يتحداهم بها الرسول .
والزبر الصحف المتفرقة بالمواعظ والنصائح والتوجيهات والتكاليف .والكتاب المنير .الرجح أنه كتاب
موسى .التوراة .وكلهم كذبوا بالبينات والزبر والكتاب المنير .
هذا كان شأن أمم كثيرة في استقبال رسلهم وما معهم من دلئل الهدى .فالمر إذن ليس جديدا ,وليس فريدا ,
إنما هو ماض مع سنة الولين .
ختَِلفٌ
ح ْمرٌ ّم ْ
ج َددٌ بِيضٌ َو ُ
جبَالِ ُ
ختَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َو ِمنَ ا ْل ِ
جنَا ِبهِ َث َمرَاتٍ ّم ْ
خرَ ْ
سمَاءِ مَاءً َفَأ ْ
ن ال ّ
ن اللّ َه أَنزَلَ مِ َ
أََلمْ َترَ أَ ّ
غرَابِيبُ سُودٌ ()27
أَلْوَا ُنهَا وَ َ
ولقد كان النكير شديدا ,وكان الخذ تدميرا .فليحذر الماضون على سنة الولين ,أن يصيبهم ما أصاب
الولين !
إنها لمسة قرآنية ينتهي بها هذا المقطع .وتختم بها هذه الجولة .ثم تبدأ جولة جديدة في واد جديد . .
وهذه الجولة قراءات في كتاب الكون وفي الكتاب المنزل .قراءات في كتاب الكون في صحائفه المعجبة
الرائعة ,المتنوعة اللوان والنواع والجناس .الثمار المتنوعة اللوان ,والجبال الملونة الشعاب ,والناس
والدواب والنعام وألوانها المتعددة الكثيرة . .هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون
المفتوح . .وقراءات في الكتاب المنزل وما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة .وتوريث
هذا الكتاب للمة المسلمة .ودرجات الوارثين .وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو ال وغفرانه للمسيئين ;
ومشهدهم في دار النعيم .ومقابلهم مشهد الكافرين الليم .وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة اللوان
بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم ال العليم بذات الصدور . .
(ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء ,فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ; ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف
ألوانها وغرابيب سود) ,ومن الناس والدواب والنعام مختلف ألوانه كذلك .إنما يخشى ال من عباده العلماء .
إن ال عزيز غفور). .
إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب .لفتة تطوف في الرض كلها تتبع فيها
اللوان والصباغ في كل عوالمها .في الثمرات .وفي الجبال .وفي الناس .وفي الدواب والنعام .لفتة
تجمع في كلمات قلئل ,بين الحياء وغير الحياء في هذه الرض جميعا ,وتدع القلب مأخوذا بذلك
المعرض اللهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الرض جميعا .
وتبدأ بإنزال الماء من السماء ,وإخراج الثمرات المختلفات اللوان .ولن المعرض معرض أصباغ وشيات ,
فإنه ل يذكر هنا من الثمرات إل ألوانها (فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) . .وألوان الثمار معرض بديع
لللوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الجيال .فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون
نوع آخر .بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد .فعند التدقيق في أي ثمرتين
أختين يبدو شيء من اختلف اللون !
وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ; ولكنها من ناحية دراسة اللوان تبدو
طبيعية .ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ,بل إن فيها أحيانا ما يكون على
شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها !
(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود). .
والجدد الطرائق والشعاب .وهنا لفتة في النص صادقة ,فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها .والجدد
الحمر مختلف ألوانها فيما بينها .مختلف في درجة اللون والتظليل واللوان الخرى المتداخلة فيه ,وهناك
جدد غرابيب سود ,حالكة شديدة السواد .
واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ,بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ,تهز
القلب هزا ,وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ,التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة
كما تراه في الثمرة ,على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ,وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير
النسان .ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك ,يستحق النظر
واللتفات .
ثم ألوان الناس .وهي ل تقف عند اللوان المتميزة العامة لجناس البشر .فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين
بني جنسه .بل متميز من توأمه الذي شاركه حملً واحدا في بطن واحدة !
وكذلك ألوان الدواب والنعام .والدواب أشمل والنعام أخص .فالدابة كل حيوان .والنعام هي البل
وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ,والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب
.ومن ثم يعرفون ال معرفة حقيقية .يعرفونه بآثار صنعته .ويدركونه بآثار قدرته .ويستشعرون حقيقة
عظمته برؤية حقيقة إبداعه .ومن ثم يخشونه حقا ويتقونه حقا ,ويعبدونه حقا .ل بالشعور الغامض الذي
يجده القلب أمام روعة الكون .ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر . .وهذه الصفحات نموذج من الكتاب .
.واللوان والصباغ نموذج من بدائع التكوين الخرى وبدائع التنسيق التي ل يدركها إل العلماء بهذا الكتاب
.العلماء به علما واصلً .علما يستشعره القلب ,ويتحرك به ,ويرى به يد ال المبدعة لللوان والصباغ
والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل .
إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه .ومن كمال هذا الجمال أن وظائف
الشياء تؤدى عن طريق جمالها .هذه اللوان العجيبة في الزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة
التي تفوح .ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ,لتنشأ الثمار .وهكذا تؤدي
الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها ! . .والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الخر إليه ,لداء
الوظيفة التي يقوم بها الجنسان .وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال .
الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه .ومن ثم هذه اللفتات في كتاب ال المنزل إلى
الجمال في كتاب ال المعروض .
عزيز قادر على البداع وعلى الجزاء .غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ,وهم يرون بدائع
صنعته .
ومن كتاب الكون ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل ,والذين يتلونه ,وما يرجون من تلوته ,وما ينتظرهم من
جزاء:
(إن الذين يتلون كتاب ال ,وأقاموا الصلة ,وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلنية ,يرجون تجارة لن تبور .
ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله .إنه غفور شكور). .
وتلوة كتاب ال تعني شيئا آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت .تعني تلوته عن تدبر ,ينتهي
إلى إدراك وتأثر ,وإلى عمل بعد ذلك وسلوك .ومن ثم يتبعها بإقامة الصلة ,وبالنفاق سرا وعلنية من
رزق ال .ثم رجاؤهم بكل هذا (تجارة لن تبور) . .فهم يعرفون أن ما عند ال خير مما ينفقون .ويتاجرون
تجارة كاسبة مضمونة الربح .يعاملون فيها ال وحده وهي أربح معاملة ; ويتاجرون بها في الخرة وهي
أربح تجارة . .تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم ,وزيادتهم من فضل ال ( . .إنه غفور شكور) . .يغفر
التقصير ويشكر الداء .وشكره -تعالى -كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء .ولكن
التعبير
الدرس الثالث 38 - 31:اختلف موقف الناس من القرآن وصورة من النعيم والعذاب يوم القيامة
ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب ,وما فيه من الحق ,تمهيدا للحديث عن ورثة هذا الكتاب:
(والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ,مصدقا لما بين يديه .إن ال بعباده لخبير بصير). . .
ودلئل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه ; فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ,أو هو
الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة .وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره .
والحق واحد ل يتعدد فيها وفيه .ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ,وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم:
(إن ال بعباده لخبير بصير). .
هذا هو الكتاب في ذاته .وقد أورثه ال لهذه المة المسلمة ,اصطفاها لهذه الوراثة ,كما يقول هنا في كتابه:
وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه المة بكرامتها على ال ; كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا
الصطفاء وعن تلك الوراثة .وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ,فهل تسمع المة المصطفاة وتستجيب ?
إن ال سبحانه قد أكرم هذه المة بالصطفاء للوراثة ; ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء:
(فمنهم ظالم لنفسه .ومنهم مقتصد .ومنهم سابق بالخيرات بإذن ال). .
ل لنه الكثر عددا ( -ظالم لنفسه)تربى سيئاته في العمل على حسناته .
فالفريق الول -ولعله ذكر أو ً
والفريق الثاني وسط(مقتصد)تتعادل سيئاته وحسناته .والفريق الثالث (سابق بالخيرات بإذن ال) ,تربى
حسناته على سيئاته . .ولكن فضل ال شمل الثلثة جميعا .فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في
اليات التالية .على تفاوت في الدرجات .
ول ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه المة باصطفائها ,
وكرم ال سبحانه في جزائها .فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ,وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه
المة جيمعا -بفضل ال -ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم ال .
نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره ال لهذه المة بصنوفها الثلثة من حسن الجزاء:
(ذلك هو الفضل الكبير .جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
وقالوا:الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن .إن ربنا لغفور شكور .الذي أحلّنا دار المقامة من فضله ل يمسنا
فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب). .
إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس ,ونعيم نفسي محسوس .فهم (يحلون فيها من أساور من ذهب
ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) . .وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ,الذي يلبي بعض رغائب النفوس .
وبجانبه ذلك الرضا وذلك المن وذلك الطمئنان( :وقالوا الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن) . .والدنيا بما فيها
من
ثم نتلفت الى الجانب الخر .فنرى القلق والضطراب وعدم الستقرار على حال:
(والذين كفروا لهم نار جهنم ,ل يقضى عليهم فيموتوا ,ول يخفف عنهم من عذابها). .
ثم ها نحن أولء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الصداء ,متناوح من شتى الرجاء .إنه
صوت المنبوذين في جهنم:
وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعا . .فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول .إنه
يقول:
إنه النابة والعتراف والندم إذن .ولكن بعد فوات الوان .فها نحن أولء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب
القاسي:
فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ,وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر .
إنهما صورتان متقابلتان:صورة المن والراحة ,تقابلها صورة القلق والضطراب .ونغمة الشكر والدعاء
تقابلها ضجة الصطراخ والنداء .ومظهر العناية والتكريم ,يقابله مظهر الهمال والتأنيب .والجرس اللين
واليقاع الرتيب ,يقابلهما الجرس الغليظ واليقاع العنيف .فيتم التقابل ,ويتم التناسق في الجزئيات وفي
الكليات سواء .
وأخيرا يجيء التعقيب على هذه المشاهد جميعا ,وعلى ما سبقها من اصطفاء وتوريث:
والعلم الشامل اللطيف الدقيق أنسب تعقيب على تنزيل الكتاب .وعلى اصطفاء من يرثونه ويحملونه .وعلى
تجاوز ال عن ظلم بعضهم لنفسه .وعلى تفضله عليهم بذلك الجزاء .وعلى حكمه على الذين كفروا بذلك
المصير . .فهو عالم غيب السماوات والرض .وهو عليم بذات الصدور .وبهذا العلم الشامل اللطيف
الدقيق يقضي في كل هذه المور . .
الوحدة السادسة 45 - 39:الموضوع:خضوع الكون والنسان ل وسنته المطردة ونفي الشركاء مقدمة الوحدة
هذا المقطع الخير في السورة يشتمل عل جولت واسعة المدى كذلك ,ولمسات للقلب وإيحاءات شتى:جولة
مع البشرية في أجيالها المتعاقبة ,يخلف بعضها بعضا .وجولة في الرض والسماوات للبحث عن أي أثر
للشركاء الذين يدعونهم من دون ال .وجولة في السماوات والرض كذلك لرؤية يد ال القوية القادرة
تمسكبالسماوات والرض أن تزول .وجولة مع هؤلء المكذبين بتلك الدلئل واليات كلها وهم قد عاهدوا ال
من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى المم ,ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما
زادهم إل نفورا .وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ول يخشون أن تدور
عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة ال الجارية . .ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب( :ولو يؤاخذ ال الناس
بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) .وفضل ال العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الخذ المدمر المبيد
..
(هو الذي جعلكم خلئف في الرض .فمن كفر فعليه كفره .ول يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إل مقتا .
ول يزيد الكافرين كفرهم إل خسارا).
إن تتابع الجيال في الرض ,وذهاب جيل ومجيء جيل ,ووراثة هذا لذاك ,وانتهاء دولة وقيام دولة ,
وانطفاء شعلة واتقاد شعلة .وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور . .إن التفكير في هذه الحركة
الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ,وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ,يتأمل
التون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ,كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم .وجدير
بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير العمار ,وتقلب الصولجان ,وتديل الدول ,وتورث الملك ,وتجعل من
الجيل خليفة لجيل .وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ,وال وحده هو الباقي الدائم الذي ل يزول ول يحول .
ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ,فل يخلد ول يبقى .من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ; وأن
يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ,وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل .من
كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ,ويترك وراءه الذكر الجميل ,ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه
الخير .
هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ,حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ,والطلوع والفول ,
والدول الدائلة ,والحياة الزائلة ,والوراثة الدائبة جيلً بعد جيل:
وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ,يذكرهم بفردية التبعة ,فل يحمل أحد عن أحد شيئا ,ول يدفع
أحد عن أحد شيئا ; ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلل ,وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف:
(فمن كفر فعليه كفره .ول يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إل مقتا .ول يزيد الكافرين كفرهم إل خسارا).
والمقت أشد البغض .ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل
خسران ?!
والجولة الثانية في السماوات والرض ,لتقصّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون ال ,
والسماوات والرض ل تحس لهم أثرا ,ول تعرف عنهم خبرا:
(قل:أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون ال ? أروني ماذا خلقوا من الرض ? أم لهم شرك في
السماوات ? أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه ? بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إل غرورا).
والحجة واضحة والدليل بين .فهذه الرض بكل ما فيها ومن فيها .هذه هي مشهودة منظورة .أي جزء فيها
أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحدا -غير ال -خلقه وأنشأه ! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه
سمَاوَاتِ َأمْ
ش ْركٌ فِي ال ّ
ن ا ْلَأرْضِ َأمْ َل ُهمْ ِ
ن اللّ ِه َأرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِ َ
ن مِن دُو ِ
ن َتدْعُو َ
ش َركَاءكُمُ اّلذِي َ
قُلْ َأرََأيْ ُتمْ ُ
سمَاوَاتِ
سكُ ال ّ
غرُورا (ِ )40إنّ اللّهَ ُي ْم ِ
ضهُم َبعْضا إِلّا ُ
آ َت ْينَاهُمْ ِكتَابا َفهُمْ عَلَى َب ّينَ ٍة ّمنْ ُه بَلْ إِن َي ِعدُ الظّالِمُونَ َب ْع ُ
غفُورا ()41
حدٍ مّن َب ْعدِ ِه ِإنّهُ كَانَ حَلِيما َ
س َكهُمَا ِمنْ َأ َ
ن َأ ْم َ
وَا ْلَأرْضَ أَن َتزُولَا وََلئِن زَاَلتَا إِ ْ
الدعوى لو جرؤ عليها مدع .وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو ال ; وهو يحمل آثار الصنعة التي ل
يدعيها مدع ,لنه ل تشبهها صنعة ,مما يعمل العاجزون أبناء الفناء !
ول هذه من باب أولى ! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه اللهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات ,ول
مشاركة في ملكية السماوات .كائنة ما كانت .حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملئكة . .فقصارى ما
كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلغهم خبر السماء .أو يستشفعوا بالملئكة عند ال .ولم يرتق
ادعاؤهم يوما إلى الزعم بأن لهم شركا في السماء !
وحتى هذه الدرجة -درجة أن يكون ال قد آتى هؤلء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه ,واثقون بما فيه -لم
يبلغها أولئك الشركاء المزعومون . .والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال النكاري موجها إلى المشركين
أنفسهم -ل إلى الشركاء -فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه
من ال فهم على بينة منه وبرهان .وليس هذا صحيحا ول يمكن أن يدعوه .وعلى هذا المعنى يكون هناك
إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من ال بيّن .وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق .وليس لهم من
هذا شيء يدعونه ; بينما الرسول [ ص ] قد جاءهم بكتاب من عند ال بيّن .فما لهم يعرضون عنه ,وهو
السبيل الوحيد لستمداد العقيدة ?!
والظالمون يعد بعضهم بعضا أن طريقتهم هي المثلى ; وأنهم هم المنتصرون في النهاية .وإن هم إل
مخدوعون مغرورون ,يغر بعضهم بعضا ,ويعيشون في هذا الغرور الذي ل يجدي شيئا . .
والجولة الثالثة -بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ول خبر في السماوات ول في الرض -تكشف عن يد ال
القوية الجبارة تمسك بالسماوات والرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بل شريك:
(إن ال يمسك السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده .إنه كان حليما غفورا).
.
ونظرة إلى السماوات والرض ; وإلى هذه الجرام التي ل تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي ل تعلم له
حدود .وكلها قائمة في مواضعها ,تدور في أفلكها محافظة على مداراتها ,ل تختل ,ول تخرج عنها ,ول
تبطىء أو تسرع في دورتها ,وكلها ل تقوم على عمد ,ول تشد بأمراس ,ول تستند على شيء من هنا أو
من هناك . .نظرة إلى تلك الخلئق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة
التي تمسك بهذه الخلئق وتحفظها أن تزول .
ولئن زالت السماوات والرض عن مواضعها ,واختلت وتناثرت بددا ,فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد
ذلك أبدا .وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيرا لنهاية هذا العالم .حين يختل نظام الفلك وتضطرب
وتتحطم وتتناثر ; ويذهب كل شيء في هذا الفضاء ل يمسك أحد زمامه .
حدَى ا ْلُأ َممِ فََلمّا جَاء ُهمْ َنذِيرٌ مّا زَادَ ُهمْ إِلّا نُفُورا (
ن ِإ ْ
ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َلئِن جَاء ُهمْ َنذِيرٌ ّل َيكُونُنّ أَ ْهدَى مِ ْ
سمُوا بِاللّ ِه َ
وََأ ْق َ
جدَ
سنّتَ ا ْلأَوّلِينَ فَلَن َت ِ
ن إِلّا ُ
ظرُو َ
ل يَن ُ
سيّئُ إِلّا ِبأَهْلِ ِه فَهَ ْ
سّيئِ وَلَا َيحِيقُ ا ْل َم ْكرُ ال ّ
س ِتكْبَارا فِي ا ْلَأرْضِ َو َم ْكرَ ال ّ
)42ا ْ
سنّتِ اللّهِ َتحْوِيلً ()43
جدَ ِل ُ
سنّتِ اللّ ِه َت ْبدِيلً وَلَن َت ِ
ِل ُ
وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا .والنتهاء إلى العالم الخر ,الذي
يختلف في طبيعته عن عالم الرض اختلفا كاملً .
(حليما)يمهل الناس ,ول ينهي هذا العالم بهم ,ول يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إل في الجل المعلوم
.ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والستعداد (.غفورا)ل يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ,بل يتجاوز عن كثير
من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيرا .وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لقتناص الفرصة قبل أن تذهب فل
تعود .
والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا ال عليه ,ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد ,وفساد في الرض
.وتحذير لهم من سنة ال التي ل تتخلف ,ول تبديل فيها ول تحويل:
وأقسموا بال جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى المم .فلما جاءهم نذير ما زادهم إل نفورا
.استكبارا في الرض ومكر السيى ء -ول يحيق المكر السيى ء إل بأهله -فهل ينظرون إل سنة الولين ?
فلن تجد لسنة ال تبديلً ولن تجد لسنة ال تحويلً . .
ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ; وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء
سلوكهم ما يرون ; وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم ,وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به .
وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ; ويقسمون بال حتى ما يدعون مجالً للتشديد في القسم(:لئن جاءهم نذير
ليكونن أهدى من إحدى المم) . .يعنون اليهود .يعرضون بهم بهذا التعبير ول يصرحون !
ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم . .يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلء القوم
في جاهليتهم .ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق ال أمنيتهم ,وأرسل فيهم نذيرا:
فلما جاءهم نذير ما زادهم إل نفورا .استكبارا في الرض ومكر السيىء ! . .
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه اليمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم:استكبارا في الرض ومكر السيىء .
والقرآن يكشفهم هذا الكشف ,ويسجل عليهم هذا المسلك .ثم يضيف إلى هذه المواجهة الدبية المزرية بهم ,
تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري:
فما يصيب مكرهم السيى ء أحدا إل أنفسهم ; وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم .
وإذا كان المر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم ل ينتظرون إل أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ,وهو
معروف لهم .وإل أن تمضي سنة ال الثابتة في طريقها الذي ل يحيد:
والمور ل تمضي في الناس جزافا ; والحياة ل تجري في الرض عبثا ; فهناك نواميس ثابتة تتحقق ,ل
تتبدل ول تتحول .والقرآن يقرر هذه الحقيقة ,ويعلمها للناس ,كي ل ينظروا الحداث فرادى ,ول
جزَهُ مِن
شدّ ِم ْن ُهمْ قُوّ ًة َومَا كَانَ اللّهُ ِل ُي ْع ِ
ظرُوا َكيْفَ كَانَ عَا ِقبَ ُة اّلذِينَ مِن َقبْلِ ِهمْ َوكَانُوا َأ َ
أَوََلمْ َيسِيرُوا فِي ا ْلَأرْضِ َفيَن ُ
سمَاوَاتِ وَلَا فِي ا ْلَأرْضِ ِإنّ ُه كَانَ عَلِيما َقدِيرا ()44
شيْءٍ فِي ال ّ
َ
يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الصيلة ,محصورين في فترة قصيرة من الزمان ,وحيز محدود من المكان
.ويرفع تصورهم لرتباطات الحياة ,وسنن الوجود ,فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس .
ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للجيال قبلهم ; ودللة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد
النواميس .
وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة ال ل تتبدل ول
تتحول:
أو لم يسيروا في الرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم -وكانوا أشد منهم قوة -وما كان ال
ليعجزه من شيء في السماوات ول في الرض .إنه كان عليما قديرا .
والسير في الرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ; والوقوف على مصارع الغابرين ,وتأمل ما كانوا فيه وما
صاروا إليه . .كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلل وإيحاءات ومشاعر وتقوى . .
ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الرض والوقوف على مصارع الغابرين ,وآثار
الذاهبين .وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ,فل تقف .وإذا وقفت ل تحس .وإذا أحست ل تعتبر .
وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن ال الثابتة .وقصور عن إدراك الحداث وربطها بقوانينها الكلية .
وهي الميزة التي تميز النسان المدرك من الحيوان البهيم ,الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالت ; ل
رابط لها ,ول قاعدة تحكمها .والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس .
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم -وكانوا أشد منهم قوة -فلم تعصمهم قوتهم
من المصير المحتوم .أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة ال الكبرى .القوة التي ل يغلبها شيء ول
يعجزها شيء ; والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالولين:
يحيط علمه بكل شيء في السماوات والرض ; وتقوم قدرته إلى جانب علمه .فل يند عن علمه شيء ,ول
يقف لقدرته شيء .ومن ثم ل يعجزه شيء في السماوات ول في الرض .ول مهرب من قدرته ول استخفاء
من علمه( :إنه كان عليما قديرا). .
(ولو يؤاخذ ال الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى .فإذا جاء
أجلهم فإن ال كان بعباده بصيرا). .
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة ال ,ومن شر في الرض وفساد ,ومن ظلم في الرض وطغيان .إن هذا
كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ ال الناس به ,لتجاوزهم -لضخامته وشناعته وبشاعته -إلى كل حي على ظهر
هذه الرض .ولصبحت الرض كلها غير صالحة للحياة إطلقا .ل لحياة البشر فحسب ,ولكن لكل حياة
أخرى !
والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم ال
به مؤاخذة سريعة .
يؤخرهم أفرادا إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا .ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلفة
المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر .ويؤخرهم جنسا إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة
الكبرى .ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعا .
وانتهى وقت العمل والكسب ,وحان وقت الحساب والجزاء ,فإن ال لن يظلمهم شيئا:
وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم ,ل تفوت منهم ول عليهم كبيرة ول صغيرة .
هذا هو اليقاع الخير في السورة التي بدأت بحمد ال فاطر السماوات والرض ( .جاعل الملئكة رسلً أولي
أجنحة)يحملون رسالة السماء إلى الرض .وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار . .
وبين البدء والختام تلك الجولت العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة .وهذه نهاية المطاف .ونهاية
الحياة .ونهاية النسان . .
انتهى الجزء الثاني والعشرون ويليه الجزء الثالث والعشرون مبدوءا بسورة يس