You are on page 1of 43

‫سورة فاطر‬

‫ج ِنحَ ٍة ّم ْثنَى َوثُلَاثَ َو ُربَاعَ َيزِيدُ فِي ا ْلخَ ْلقِ مَا‬


‫ل ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلً أُولِي َأ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ جَاعِ ِ‬
‫طرِ ال ّ‬
‫ح ْمدُ لِلّ ِه فَا ِ‬
‫ا ْل َ‬
‫سكْ فَلَا ُم ْرسِلَ لَهُ مِن‬
‫ك َلهَا َومَا ُيمْ ِ‬
‫حمَ ٍة فَلَا ُم ْمسِ َ‬
‫ح اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪ )1‬مَا يَ ْفتَ ِ‬
‫ل َ‬
‫ن اللّهَ عَلَى كُ ّ‬
‫َيشَاءُ إِ ّ‬
‫حكِيمُ (‪)2‬‬
‫َب ْعدِهِ وَهُ َو ا ْل َعزِيزُ ا ْل َ‬

‫سورة فاطر‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫مقدمة سورة فاطر‬

‫هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها ‪ .‬أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد ‪ .‬فهي‬
‫تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها ‪ .‬إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزا ‪,‬‬
‫وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ‪ ,‬وروعة هذا الكون ; وليتدبر آيات ال المبثوثة في تضاعيفه ‪,‬‬
‫المتناثرة في صفحاته ; وليتذكر آلء ال ‪ ,‬ويشعر برحمته ورعايته ; وليتصور مصارع الغابرين في الرض‬
‫ومشاهدهم يوم القيامة ; وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع ال ‪ ,‬وآثار يده في أطواء الكون ‪ ,‬وفي أغوار‬
‫النفس ‪ ,‬وفي حياة البشر ‪ ,‬وفي أحداث التاريخ ‪ .‬وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الثار وحدة الحق‬
‫ووحدة الناموس ‪ ,‬ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة ‪ . . .‬ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع ل يتماسك‬
‫له قلب يحس ويدرك ‪ ,‬ويتأثر تأثر الحياء ‪.‬‬

‫والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية اليقاعات ‪ .‬يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات‬
‫فهي كلها موضوع واحد ‪ .‬كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ‪ ,‬تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة‬
‫والتاريخ والبعث ‪ .‬فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ‪ ,‬إلى اليمان والخشوع والذعان ‪.‬‬

‫والسمة البارزة الملحوظة في هذه اليقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة ‪ .‬وإظهار هذه‬
‫اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ; وتقبضها وتبسطها ‪ ,‬وتشدها وترخيها ‪ .‬بل معقب ول شريك ول ظهير ‪.‬‬

‫ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ‪ ,‬وتطرد إلى ختامها ‪. .‬‬

‫هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد‪(:‬الحمد ل فاطر السماوات والرض‬
‫‪ ,‬جاعل الملئكة رسلً أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع ‪ .‬يزيد في الخلق ما يشاء إن ال على كل شيء‬
‫قدير)‪. .‬‬
‫وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ‪ ,‬وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض ‪ .‬بل معقب ول‬
‫شريك‪:‬‬

‫(ما يفتح ال للناس من رحمة فل ممسك لها ‪ ,‬وما يمسك فل مرسل له من بعده ‪ ,‬وهو العزيز الحكيم)‪. .‬‬

‫والهدى والضلل رحمة تتدفق أو تغيض‪( :‬فإن ال يضل من يشاء ويهدي من يشاء)‪( . .‬إن ال يُسمع من‬
‫يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ‪ .‬إن أنت إل نذير)‪. .‬‬

‫وهذه اليد تصنع الحياة الولى وتنشر الموتى في الحياة الخرة‪(:‬وال الذي أرسل الرياح ‪ ,‬فتثير سحابا ‪ ,‬فسقناه‬
‫إلى بلد ميت ‪ ,‬فأحيينا به الرض بعد موتها ‪ .‬كذلك النشور)‪. .‬‬

‫والعزة كلها ل ومنه وحده تستمد‪( :‬من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)‪. .‬‬

‫والخلق والتكوين والنسل والجل خيوطها كلها في تلك اليد ل تند عنها‪(:‬وال خلقكم من تراب ‪ ,‬ثم من نطفة ‪,‬‬
‫ثم جعلكم أزواجا ‪ .‬وما تحمل من أنثى ول تضع إل بعلمه ‪ .‬وما يعمر من معمر ‪ ,‬ول ينقص من عمره إل‬
‫في كتاب ‪ .‬إن ذلك على ال يسير)‪:‬‬

‫وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والرض وحركات الكواكب والفلك (يولج الليل في النهار ويولج‬
‫النهار في الليل ‪ ,‬وسخر الشمس والقمر كل يجري لجل مسمى ‪ .‬ذلكم ال ربكم له الملك ‪ .‬والذين تدعون من‬
‫دونه ما يملكون من قطمير ‪. .‬‬

‫ويد ال المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ‪ ,‬وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والنسان‪:‬‬

‫(ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء ‪ ,‬فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ‪ ,‬ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف‬
‫ألوانها وغرابيب سود ‪ ,‬ومن الناس والدواب والنعام مختلف ألوانه كذلك)‪.‬‬

‫وهذه اليد تنقل خطى البشر ‪ ,‬وتورث الجيل الجيل‪( :‬ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)‪( . .‬هو الذي‬
‫جعلكم خلئف في الرض)‪. .‬‬

‫وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال ‪( .‬إن ال يمسك السماوات والرض أن تزول ‪ ,‬ولئن زالتا‬
‫إن أمسكهما من أحد من بعده)‪. .‬‬

‫وهي القابضة على أزمة المور ل يعجزها شيء على الطلق‪( :‬وما كان ال ليعجزه من شيء في السماوات‬
‫ول في الرض)‪. .‬‬
‫وهو (على كل شيء قدير)‪ . .‬وهو (العزيز الحكيم)‪( . .‬وإلى ال ترجع المور)وهو (عليم بما يصنعون)‪. .‬‬
‫(وله الملك)‪ . .‬وهو (الغني الحميد)‪( . .‬وإلى ال المصير)‪ . .‬وهو (عزيز غفور)‪ . .‬وهو (غفور شكور)‪. .‬‬
‫وإنه بعباده (لخبير بصير)‪ . .‬وهو (عالم غيب السماوات والرض)‪ . .‬وهو (عليم بذات الصدور)‪ . .‬وكان‬
‫(حليما غفورا)‪ . .‬وكان (عليما قديرا)‪ . .‬وكان (بعباده بصيرا)‪. .‬‬

‫ومن تلك اليات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ‪ ,‬والسمة الغالبة عليها ‪ ,‬والظل الذي تلقيه في النفس على‬
‫وجه العموم ‪.‬‬

‫ونظرا لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها ‪ .‬وإل فهي شوط‬
‫واحد متصل اليقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها ‪. . .‬‬

‫الدرس الول‪ 1:‬الثناء على ال وقدرته وخلقه للملئكة‬

‫ل أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع ‪ ,‬يزيد في الخلق‬


‫(الحمد ل فاطر السماوات والرض ‪ ,‬جاعل الملئكة رس ً‬
‫ما يشاء ‪ ,‬إن ال على كل شيء قدير)‪. .‬‬

‫تبدأ السورة بتقديم الحمد ل ‪ .‬فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى ال ‪ ,‬وإيقاظه لرؤية آلئه ‪ ,‬واستشعار‬
‫رحمته وفضله ‪ ,‬وتملي بدائع صنعه في خلقه ‪ ,‬وامتلء الحس بهذه البدائع ‪ ,‬وفيضه بالتسبيح والحمد‬
‫والبتهال‪:‬‬

‫(الحمد ل)‪. .‬‬

‫ويتلو حمد ال ذكر صفته الدالة على الخلق والبداع‪:‬‬

‫(فاطر السماوات والرض)‪. .‬‬

‫فهو منشىء هذه الخلئق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ‪ ,‬والتي ل نعرف إل القليل‬
‫عن أصغرها وأقربها إلينا ‪ . .‬أمنا الرض ‪ . .‬والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ‪ ,‬على‬
‫ما بينها من أبعاد هائلة ل يتصورها خيالنا البشري إل بمشقة عظيمة ; والتي تحوي ‪ -‬مع ضخامتها وتباعد‬
‫أفلكها ومداراتها ‪ -‬من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بددا ‪.‬‬

‫وإننا لنمر على مثل هذه الشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والرض ‪ ,‬دون أن نقف أمامها طويلً‬
‫لنتدبر مدلولها الهائل ; كما نمر على مشاهد السماوات والرض ذاتها بمثل هذه البلدة ‪ ,‬ل نقف أمامها إل‬
‫قليلً ‪ .‬ذلك أن حسنا قد تبلد ‪ ,‬فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك اليقاعات الموقظة الموحية ‪ ,‬التي‬
‫توقعها على القلوب الموصولة بذكر ال ‪ ,‬المتيقظة لثار يده المبدعة في هذا الوجود ‪ .‬وذلك أن اللفة قد‬
‫أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الولى ‪.‬‬

‫ول يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بال إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ‪ ,‬وأحجامها ونسبها ‪,‬‬
‫ونسب الفضاء حولها ‪ ,‬وطرق سيرها في مداراتها ‪ ,‬وعلقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها‬
‫‪ . . .‬ل يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بال إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا‬
‫الخلق الهائل الجميل العجيب ‪ .‬فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره ‪ .‬حسبه مشهد النجوم المتناثرة في‬
‫الليلة الظلماء ‪ .‬حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء ‪ .‬حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس‬
‫والنطلق ‪ .‬حسبه الغروب الزاحف بالظلم الموحي بالوداع والنتهاء ‪ . .‬بل حسبه هذه الرض وما فيها من‬
‫مشاهد ل تنتهي ول يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي ‪ . .‬بل حسبه زهرة واحدة ل‬
‫ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها ‪. . .‬‬

‫والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبّر هذه الخلئق ‪ . . .‬الجليل منها والدقيق ‪ . . .‬وحسب القلب واحدة منها‬
‫لدراك عظمة فاطرها ‪ ,‬والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والبتهال ‪. .‬‬

‫(الحمد ل فاطر السماوات والرض)‪( . .‬جاعل الملئكة رسلً أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع)‪. .‬‬

‫والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل ال من الحق ‪ . .‬والملئكة هم رسل ال‬
‫بالوحي إلى من يختاره من عباده في الرض ‪ .‬وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله ‪ .‬ومن ثم يذكر ال‬
‫الملئكة بصفتهم رسلً عقب ذكره لخلق السماوات والرض ‪ .‬وهم صلة ما بين السماء والرض ‪ .‬وهم‬
‫يقومون بين فاطر السماوات والرض ‪ ,‬وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها ‪.‬‬

‫ولول مرة ‪ -‬فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلل ‪ -‬نجد وصفا للملئكة يختص بهيئتهم ‪ .‬وقد ورد وصفهم‬
‫من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ‪ ,‬مثل قوله تعالى‪ :‬ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون ‪,‬‬
‫يسبحون الليل والنهار ل يفترون ‪ . .‬وقوله‪ :‬إن الذين عند ربك ل يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله‬
‫يسجدون ‪ . .‬أما هنا فنجد شيئا يختص بتكوينهم الخلقي‪( :‬أولي أجنحة مثنى وثلث ورباع)‪ . .‬وهو وصف ل‬
‫يمثلهم للتصور ‪ .‬لننا ل نعرف كيف هم ول كيف أجنحتهم هذه ‪ .‬ول نملك إل الوقوف عند هذا الوصف ‪,‬‬
‫دون تصور معين له ‪ .‬فكل تصور قد يخطى ء ‪ .‬ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد ‪.‬‬
‫والذي ورد في القرآن هو هذا ; وهو قوله تعالى في وصف جهنم‪ :‬عليها ملئكة غلظ شداد ‪ ,‬ل يعصون ال‬
‫ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ‪ . .‬وهو كذلك ل يحدد شكلً ول هيئة ‪ .‬والذي ورد في الثر‪ ":‬أن النبي‬
‫[ ص ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية‪ ":‬له ستمائة جناح " ‪ . .‬وهو كذلك ل يعين شكلً ول‬
‫هيئة ‪ .‬فالمر إذن مطلق ‪ .‬والعلم ل وحده في هذه الغيبيات ‪.‬‬
‫وبمناسبة ذكر الجنحة مثنى وثلث ورباع ‪ .‬حيث ل يعرف النسان إل شكل الجناحين للطائر ‪ .‬يذكر أن ال‬
‫(يزيد في الخلق ما يشاء)‪ . .‬فيقرر طلقة المشيئة ‪ ,‬وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق ‪ . .‬وفيما نشهده نحن‬
‫ونعلمه أشكال ل تحصى من الخلق ‪ .‬ووراء ما نعلم أكثر وأكثر ‪( . .‬إن ال على كل شيء قدير)‪ . .‬وهذا‬
‫التعقيب أوسع من سابقه وأشمل ‪ .‬فل تبقى وراءه صورة ل يتناولها مدلوله ‪ ,‬من صور الخلق والنشاء‬
‫والتغيير والتبديل ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 2:‬حقيقة كون الرحمة بيد ال وحده‬

‫(ما يفتح ال للناس من رحمة فل ممسك لها ‪ ,‬وما يمسك فل مرسل له من بعده ‪ ,‬وهو العزيز الحكيم)‪. .‬‬

‫في هذه الية الثانية من السورة صورة من صور قدرة ال التي ختم بها الية الولى ‪ .‬وحين تستقر هذه‬
‫الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة‬
‫جميعا ‪.‬‬

‫إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والرض وتصله بقوة ال ‪ .‬وتيئسه من مظنة كل رحمة في‬
‫السماوات والرض وتصله برحمة ال ‪ .‬وتوصد أمامه كل باب في السماوات والرض وتفتح أمامه باب ال ‪.‬‬
‫وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والرض وتشرع له طريقه إلى ال ‪.‬‬

‫ورحمة ال تتمثل في مظاهر ل يحصيها العد ; ويعجز النسان عن مجرد ملحقتها وتسجيلها في ذات نفسه‬
‫وتكوينه ‪ ,‬وتكريمه بما كرمه ; وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته ; وفيما أنعم به عليه مما يعلمه‬
‫ومما ل يعلمه وهو كثير‬

‫ورحمة ال تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح ‪ .‬ويجدها من يفتحها ال له في كل شيء ‪ ,‬وفي كل وضع ‪,‬‬
‫وفي كل حال ‪ ,‬وفي كل مكان ‪ . .‬يجدها في نفسه ‪ ,‬وفي مشاعره ; ويجدها فيما حوله ‪ ,‬وحيثما كان ‪ ,‬وكيفما‬
‫كان ‪ .‬ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان ‪ . .‬ويفتقدها من يمسكها ال عنه في كل شيء ‪ ,‬وفي‬
‫كل وضع ‪ ,‬وفي كل حالة ‪ ,‬وفي كل مكان ‪ .‬ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علمة الوجدان والرضوان !‬

‫وما من نعمة ‪ -‬يمسك ال معها رحمته ‪ -‬حتى تنقلب هي بذاتها نقمة ‪ .‬وما من محنة ‪ -‬تحفها رحمة ال ‪-‬‬
‫حتى تكون هي بذاتها نعمة ‪ . .‬ينام النسان على الشوك ‪ -‬مع رحمة ال ‪ -‬فإذا هو مهاد ‪ .‬وينام على الحرير‬
‫‪ -‬وقد أمسكت عنه ‪ -‬فإذا هو شوك القتاد ‪ .‬ويعالج أعسر المور ‪ -‬برحمة ال ‪ -‬فإذا هي هوادة ويسر ‪.‬‬
‫ويعالج أيسر المور ‪ -‬وقد تخلت رحمة ال ‪ -‬فإذا هي مشقة وعسر ‪ .‬ويخوض بها المخاوف والخطار فإذا‬
‫هي أمن وسلم ‪ .‬ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار !‬
‫ول ضيق مع رحمة ال ‪ .‬إنما الضيق في إمساكها دون سواه ‪ .‬ل ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن‬
‫‪ ,‬أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلك ‪ .‬ول وسعة مع إمساكها ولو تقلب النسان في أعطاف النعيم ‪,‬‬
‫وفي مراتع الرخاء ‪ .‬فمن داخل النفس برحمة ال تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة ‪ .‬ومن داخل النفس‬
‫مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة !‬

‫هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع البواب ‪ ,‬وتوصد جميع النوافذ ‪ ,‬وتسد جميع المسالك ‪ . .‬فل عليك ‪ .‬فهو‬
‫الفرج والفسحة واليسر والرخاء ‪ . .‬وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع البواب والنوافذ والمسالك فما هو‬
‫بنافع ‪ .‬وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء !‬

‫هذا الفيض يفتح ‪ ,‬ثم يضيق الرزق ‪ .‬ويضيق السكن ‪ .‬ويضيق العيش ‪ ,‬وتخشن الحياة ‪ ,‬ويشوك المضجع ‪. .‬‬
‫فل عليك ‪ .‬فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة ‪ .‬وهذا الفيض يمسك ‪ .‬ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء‬
‫‪ .‬فل جدوى ‪ .‬وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلء !‬

‫المال والولد ‪ ,‬والصحة والقوة ‪ ,‬والجاه والسلطان ‪ . .‬تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها‬
‫رحمة ال ‪ .‬فإذا فتح ال أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والطمئنان ‪.‬‬

‫يبسط ال الرزق ‪ -‬مع رحمته ‪ -‬فإذا هو متاع طيب ورخاء ; وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الخرة ‪.‬‬
‫ويمسك رحمته ‪ ,‬فإذا هو مثار قلق وخوف ‪ ,‬وإذا هو مثار حسد وبغض ‪ ,‬وقد يكون معه الحرمان ببخل أو‬
‫مرض ‪ ,‬وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار ‪.‬‬

‫ويمنح ال الذرية ‪ -‬مع رحمته ‪ -‬فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع ‪ ,‬ومضاعفة للجر في‬
‫الخرة بالخلف الصالح الذي يذكر ال ‪ .‬ويمسك رحمته فإذا الذرية بلء ونكد وعنت وشقاء ‪ ,‬وسهر بالليل‬
‫وتعب بالنهار !‬

‫ويهب ال الصحة والقوة ‪ -‬مع رحمته ‪ -‬فإذا هي نعمة وحياة طيبة ‪ ,‬والتذاذ بالحياة ‪ .‬ويمسك نعمته فإذا‬
‫الصحة والقوة بلء يسلطه ال على الصحيح القوي ‪ ,‬فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ‪,‬‬
‫ويدخر السوء ليوم الحساب !‬

‫ويعطي ال السلطان والجاه ‪ -‬مع رحمته ‪ -‬فإذا هي أداة إصلح ‪ ,‬ومصدر أمن ‪ ,‬ووسيلة لدخار الطيب‬
‫الصالح من العمل والثر ‪ .‬ويمسك ال رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما ‪ ,‬ومصدر طغيان‬
‫وبغي بهما ‪ ,‬ومثار حقد وموجدة على صاحبهما ل يقر له معهما قرار ‪ ,‬ول يستمتع بجاه ول سلطان ‪,‬‬
‫ويدخربهما للخرة رصيدا ضخما من النار !‬
‫والعلم الغزير ‪ .‬والعمر الطويل ‪ .‬والمقام الطيب ‪ .‬كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال ‪ . . .‬مع المساك ومع‬
‫الرسال ‪ . .‬وقليل من المعرفة يثمر وينفع ‪ ,‬وقليل من العمر يبارك ال فيه ‪ .‬وزهيد من المتاع يجعل ال فيه‬
‫السعادة ‪.‬‬

‫والجماعات كالحاد ‪ .‬والمم كالفراد ‪ .‬في كل أمر وفي كل وضع ‪ ,‬وفي كل حال ‪ . .‬ول يصعب القياس‬
‫على هذه المثال !‬

‫ومن رحمة ال أن تحس برحمة ال ! فرحمة ال تضمك وتغمرك وتفيض عليك ‪ .‬ولكن شعورك بوجودها هو‬
‫الرحمة ‪ .‬ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة ‪ .‬وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة ‪ .‬والعذاب هو‬
‫العذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكك فيها ‪ .‬وهو عذاب ل يصبه ال على مؤمن أبدا ‪( .‬إنه ل‬
‫ييأس من روح ال إل القوم الكافرون)‪.‬‬

‫ورحمة ال ل تعز على طالب في أي مكان ول في أي حال ‪ .‬وجدها إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في النار ‪.‬‬
‫ووجدها يوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في الجب كما وجدها في السجن ‪ .‬ووجدها يونس ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في بطن‬
‫الحوت في ظلمات ثلث ‪ .‬ووجدها موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل‬
‫حراسة ‪ ,‬كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه ‪ .‬ووجدها أصحاب الكهف في‬
‫الكهف حين افتقدوها في القصور والدور ‪ .‬فقال بعضهم لبعض‪( :‬فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من‬
‫رحمته)‪ .‬ووجدها رسول ال [ ص ] وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الثار ‪ . .‬ووجدها كل من‬
‫آوى إليها يأسا من كل ما سواها ‪ .‬منقطعا عن كل شبهة في قوة ‪ ,‬وعن كل مظنة في رحمة ‪ ,‬قاصدا باب ال‬
‫وحده دون البواب ‪.‬‬

‫ثم إنه متى فتح ال أبواب رحمته فل ممسك لها ‪ .‬ومتى أمسكها فل مرسل لها ‪ .‬ومن ثم فل مخافة من أحد ‪.‬‬
‫ول رجاء في أحد ‪ .‬ول مخافة من شيء ‪ ,‬ول رجاء في شيء ‪ .‬ول خوف من فوت وسيلة ‪ ,‬ول رجاء مع‬
‫الوسيلة ‪ .‬إنما هي مشيئة ال ‪ .‬ما يفتح ال فل ممسك ‪ .‬وما يمسك ال فل مرسل ‪ .‬والمر مباشرة إلى ال ‪. .‬‬
‫(وهو العزيز الحكيم)‪ . .‬يقدر بل معقب على الرسال والمساك ‪ .‬ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء‬
‫الرسال والمساك ‪.‬‬

‫(ما يفتح ال للناس من رحمة فل ممسك لها)‪. .‬‬

‫وما بين الناس ورحمة ال إل أن يطلبوها مباشرة منه ‪ ,‬بل وساطة وبل وسيلة إل التوجه إليه في طاعة وفي‬
‫رجاء وفي ثقة وفي استسلم ‪.‬‬

‫(وما يمسك فل مرسل له من بعده)‪.‬‬


‫فل رجاء في أحد من خلقه ‪ ,‬ول خوف لحد من خلقه ‪ .‬فما أحد بمرسل من رحمة ال ما أمسكه ال ‪.‬‬

‫أية طمأنينة ? وأي قرار ? وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الية في‬
‫الضمير ?!‬

‫آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة ; وتنشىء في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة ; وموازين ل تهتز ول‬
‫تتأرجح ول تتأثر بالمؤثرات كلها ‪ .‬ذهبت أم جاءت ‪ .‬كبرت أم صغرت ‪ .‬جلت أم هانت ‪ .‬كان مصدرها‬
‫الناس أو الحداث أو الشياء !‬

‫صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للحداث والشياء والشخاص والقوى والقيم‬
‫والعتبارات ‪ .‬ولو تضافر عليها النس والجن ‪ .‬وهم ل يفتحون رحمة ال حين يمسكها ‪ ,‬ول يمسكونها حين‬

‫سمَاءِ وَا ْلَأرْضِ لَا إِلَ َه إِلّا ُهوَ َفَأنّى‬


‫غ ْيرُ اللّ ِه َيرْ ُز ُقكُم مّنَ ال ّ‬
‫ل مِنْ خَاِلقٍ َ‬
‫ت اللّهِ عََل ْي ُكمْ هَ ْ‬
‫يَا َأ ّيهَا النّاسُ ا ْذ ُكرُوا ِن ْعمَ َ‬
‫تُ ْؤ َفكُونَ (‪)3‬‬
‫يفتحها ‪( . .‬وهو العزيز الحكيم)‪. .‬‬

‫وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الية وهذه الصورة تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر السلم ‪ .‬الفئة التي‬
‫صنعت على عين ال بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة ‪ ,‬تنشىء في الرض ما شاء ال أن ينشىء من‬
‫عقيدة وتصور ‪ ,‬وقيم وموازين ‪ ,‬ونظم وأوضاع ‪ .‬وتقر في الرض ما شاء ال أن يقر من نماذج الحياة‬
‫الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالساطير والحلم ‪ .‬الفئة التي كانت قدرا من قدر ال يسلطه على من يشاء في‬
‫الرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء ال من محو ومن إثبات ‪ .‬ذلك أنها لم تكن تتعامل مع‬
‫ألفاظ هذا القرآن ‪ ,‬ول مع المعاني الجميلة التي تصورها ‪ . .‬وكفى ‪ . .‬ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي‬
‫تمثلها آيات القرآن ‪ ,‬وتعيش في واقعها بها ‪ ,‬ولها ‪. .‬‬

‫وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس ‪ ,‬قادرا على أن ينشىء بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الرض‬
‫‪ -‬بإذن ال ‪ -‬ما يشاء ال ‪ . .‬ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب ‪ ,‬فتأخذها جدا ‪ ,‬وتتمثلها حقا ‪ .‬حقا‬
‫تحسه ‪ ,‬كأنها تلمسه باليدي وتراه بالبصار ‪. .‬‬

‫ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد ل على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الية ‪. .‬‬

‫لقد واجهتني هذه الية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة ‪ .‬واجهتني في لحظة جفاف روحي‬
‫‪ ,‬وشقاء نفسي ‪ ,‬وضيق بضائقة ‪ ,‬وعسر من مشقة ‪ . .‬واجهتني في ذات اللحظة ‪ .‬ويسر ال لي أن أطلع منها‬
‫على حقيقتها ‪ .‬وأن تسكب حقيقتها في روحي ; كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني ‪.‬‬
‫حقيقة أذوقها ل معنى أدركه ‪ .‬فكانت رحمة بذاتها ‪ .‬تقدم نفسها لي تفسيرا واقعيا لحقيقة الية التي تفتحت لي‬
‫تفتحها هذا ‪ .‬وقد قرأتها من قبل كثيرا ‪ .‬ومررت بها من قبل كثيرا ‪ .‬ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق‬
‫معناها ‪ ,‬وتنزل بحقيقتها المجردة ‪ ,‬وتقول‪:‬هأنذا ‪ . .‬نموذجا من رحمة ال حين يفتحها ‪ .‬فانظر كيف تكون !‬

‫إنه لم يتغير شيء مما حولي ‪ .‬ولكن لقد تغير كل شيء في حسي ! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة‬
‫كبرى من حقائق هذا الوجود ‪ ,‬كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الية ‪ .‬نعمة يتذوقها النسان ويعيشها ;‬
‫ولكنه قلما يقدر على تصويرها ‪ ,‬أو نقلها للخرين عن طريق الكتابة ‪ .‬وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها ‪ .‬وتم‬
‫هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي ‪ .‬وهأنذا أجد الفرج والفرح والري‬
‫والسترواح والنطلق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق ‪ .‬وأنا في مكاني ! إنها رحمة ال يفتح ال‬
‫بابها ويسكب فيضها في آية من آياته ‪ .‬آية من القرآن تفتح كوة من النور ‪ .‬وتفجر ينبوعا من الرحمة ‪ .‬وتشق‬
‫طريقا ممهودا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان ‪ .‬اللهم‬
‫حمدا لك ‪ .‬اللهم منزل هذا القرآن ‪ .‬هدى ورحمة للمؤمنين ‪. . .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 3:‬تذكير الناس بخلق ال ورزقه لهم‬

‫ونعود بعد تسجيل هذه الومضة إلى سياق السورة ‪ . .‬فنجده يؤكد في الية الثالثة إيحاء اليتين الولى والثانية‬
‫; فيذكر الناس بنعمة ال عليهم ; وهو وحده الخالق وهو وحده الرازق ‪ .‬الذي ل إله إل هو ; ويعجب كيف‬
‫يصرفون عن هذا الحق الواضح المبين‪:‬‬

‫(يا أيها الناس اذكروا نعمة ال عليكم ‪ .‬هل من خالق غير ال يرزقكم من السماء والرض ? ل إله إل هو ‪.‬‬
‫فأنى تؤفكون ?)‪. .‬‬

‫ق فَلَا َت ُغ ّر ّنكُمُ‬
‫عدَ اللّ ِه حَ ّ‬
‫ل مّن َقبِْلكَ وَإِلَى اللّهِ ُترْجَعُ المُورُ (‪ )4‬يَا َأ ّيهَا النّاسُ ِإنّ وَ ْ‬
‫ت رُسُ ٌ‬
‫وَإِن ُي َك ّذبُوكَ فَ َقدْ ُك ّذبَ ْ‬
‫ح ْزبَهُ ِل َيكُونُوا ِمنْ‬
‫عدُوّا ِإ ّنمَا َيدْعُو ِ‬
‫خذُوهُ َ‬
‫عدُوّ فَا ّت ِ‬
‫ش ْيطَانَ َل ُكمْ َ‬
‫حيَاةُ ال ّد ْنيَا وَلَا َي ُغ ّرنّكُم بِاللّ ِه ا ْل َغرُورُ (‪ِ )5‬إنّ ال ّ‬
‫ا ْل َ‬
‫جرٌ َكبِيرٌ (‪)7‬‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َلهُم ّمغْ ِفرَةٌ وََأ ْ‬
‫ن آ َمنُوا َو َ‬
‫شدِيدٌ وَاّلذِي َ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫ن كَ َفرُوا َل ُهمْ َ‬
‫سعِيرِ (‪ )6‬اّلذِي َ‬
‫ب ال ّ‬
‫صحَا ِ‬
‫َأ ْ‬

‫ونعمة ال على الناس ل تتطلب إل مجرد الذكر ; فإذا هي واضحة بينة يرونها ويحسونها ويلمسونها ‪ ,‬ولكنهم‬
‫ينسون فل يذكرون ‪.‬‬

‫وحولهم السماء والرض تفيضان عليهم بالنعم ‪ ,‬وتفيضان عليهم بالرزق ; وفي كل خطوة ‪ ,‬وفي كل لحظة‬
‫فيض ينسكب من خيرات ال ونعمه من السماء والرض ‪ .‬يفيضها الخالق على خلقه ‪ .‬فهل من خالق غيره‬
‫يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم ? إنهم ل يملكون أن يقولوا هذا ‪ ,‬وما كانوا يدعونه وهم في أغلظ‬
‫شركهم وأضله ‪ .‬فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير ال ‪ ,‬فما لهم ل يذكرون ول يشكرون ? وما لهم‬
‫ينصرفون عن حمد ال والتوجه إليه وحده بالحمد والبتهال ? إنه (ل إله إل هو)فكيف يصرفون عن اليمان‬
‫بهذا الحق الذي ل مراء فيه ‪( . .‬فأنى تؤفكون ?)‪ . .‬وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق‬
‫الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد ال وشكره من ل يجد مفرا من‬
‫العتراف بذلك الحق المبين !‬

‫هذه اليقاعات الثلثة القوية العميقة هي المقطع الول في السورة ‪ .‬وفي كل منها صورة تخلق النسان خلقا‬
‫جديدا حين تستقر في ضميره على حقيقتها العميقة ‪ .‬وهي في مجموعها متكاملة متناسقة في شتى التجاهات‬

‫الوحدة الثالثة‪ 8 - 4:‬الموضوع‪:‬بين اتباع الرسول واتباع الشيطان‬

‫انتهى المقطع الول من السورة بتلك اليقاعات الثلثة العميقة ‪ ,‬بتلك الحقائق الكبيرة الصيلة‪:‬حقيقة وحدانية‬
‫الخالق المبدع ‪ .‬وحقيقة الختصاص بالرحمة ‪ .‬وحقيقة النفراد بالرزق ‪.‬‬

‫وفي المقطع الثاني يتجه أولً إلى رسول ال [ ص ] بالتسلية والتسرية عن تكذيبهم له ‪ ,‬ويرجع المر كله إلى‬
‫ال ‪ .‬ويتجه ثانيا إلى الناس يهتف بهم‪:‬إن وعد ال حق ‪ ,‬ويحذرهم لعب الشيطان بهم ليخدعهم عن تلك الحقائق‬
‫الكبرى ‪ ,‬ويذهب بهم إلى السعير ‪ -‬وهو عدوهم الصيل ‪ -‬ويكشف لهم عن جزاء المؤمنين وجزاء‬
‫المخدوعين بالعدو الصيل ! ويتجه أخيرا إلى النبي [ ص ] أل يأسى عليهم وتذهب نفسه حسرات فإن الهدى‬
‫والضلل بيد ال ‪ .‬وال عليم بما يصنعون ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 7 - 4:‬تحذير الناس من الكفر والتكذيب‬

‫يخاطب الرسول [ ص ]‪:‬‬

‫(وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ‪ ,‬وإلى ال ترجع المور)‪. .‬‬

‫تلك هي الحقائق الكبرى واضحة بارزة ; فإن يكذبوك فل عليك من التكذيب ‪ ,‬فلست بدعا من الرسل‪( :‬فقد‬
‫كذبت رسل من قبلك)والمر كله ل ‪ ,‬وإليه ترجع المور ‪ ,‬وما التبليغ والتكذيب إل وسائل وأسباب ‪.‬‬
‫والعواقب متروكة ل وحده ‪ ,‬يدبر أمرها كيف يريد ‪.‬‬

‫ويهتف بالناس‪:‬‬

‫(يا أيها الناس إن وعد ال حق ‪ .‬فل تغرنكم الحياة الدنيا ‪ ,‬ول يغرنكم بال الغرور ‪ .‬إن الشيطان لكم عدو‬
‫فاتخذوه عدوا ‪ .‬إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير)‪. .‬‬
‫إن وعد ال حق ‪ . .‬إنه آت ل ريب فيه ‪ .‬إنه واقع ل يتخلف ‪ .‬إنه حق والحق ل بد أن يقع ‪ ,‬والحق ل يضيع‬
‫ول يبطل ول يتبدد ول يحيد ‪ .‬ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع ‪( .‬فل تغرنكم الحياة الدنيا)‪ .‬ولكن الشيطان يغر‬
‫ويخدع فل تمكنوه من أنفسكم (ول يغرنكم بال الغرور)‪ . .‬والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على‬
‫عدائكم (فاتخذوه عدوا)ل تركنوا إليه ‪ ,‬ول تتخذوه ناصحا لكم ول تتبعوا خطاه ‪ ,‬فالعدو ل يتبع خطى عدوه‬
‫وهو يعقل ! وهو ل يدعوكم إلى خير ‪ ,‬ول ينتهي بكم إلى نجاة‪( :‬إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب‬
‫السعير)! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير ?!‬

‫إنها لمسة وجدانية صادقة ‪ .‬فحين يستحضر النسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ‪ ,‬فإنه‬
‫يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات ‪ .‬يتحفز لدفع الغواية والغراء ;‬
‫ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ‪ ,‬ويتوجس من كل هاجسة ‪ ,‬ويسرع ليعرضها على ميزان ال الذي أقامه‬
‫له ليتبين ‪ ,‬فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم !‬

‫وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير ‪ .‬حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة‬
‫الشيطان بالغواية ; كما يتوفز النسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية ! حالة التعبئة الشعوريه‬
‫ضد الشر ودواعيه ‪ ,‬وضد هواتفه المستسرة في النفس ‪ ,‬وأسبابه الظاهرة للعيان ‪ .‬حالة الستعداد الدائم‬
‫للمعركة التي ل تهدأ لحظة ول تضع أوزارها في هذه الرض أبدا ‪.‬‬

‫ثم يدعم هذه التعبئة وهذا الحذر وهذا التوفز ببيان عاقبة الكافرين الذين لبوا دعوة الشيطان ‪ ,‬وحالة المؤمنين‬
‫الذين طاردوه‪:‬‬

‫(الذين كفروا لهم عذاب شديد ‪ .‬والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير)‪. .‬‬

‫الدرس الثاني‪ 8:‬وسيلة الشيطان في تزيين السوء لوليائه‬

‫ويعقب على هذا بتصوير طبيعة الغواية ‪ ,‬وحقيقة عمل الشيطان ‪ ,‬والباب الذي يفتح فيجيء منه الشر كله ;‬
‫ويمتد منه طريق الضلل الذي ل يرجع منه سالك متى أبعدت فيه خطاه‪:‬‬

‫(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ‪. .)? . . .‬‬

‫هذا هو مفتاح الشر كله ‪ . .‬أن يزين الشيطان للنسان سوء عمله فيراه حسنا ‪ .‬أن يعجب بنفسه وبكل ما‬
‫يصدر عنها ‪ .‬أل يفتش في عمله ليرى مواضع الخطأ والنقص فيه ‪ ,‬لنه واثق من أنه ل يخطىء ! متأكد أنه‬
‫دائما على صواب ! معجب بكل ما يصدر منه ! مفتون بكل ما يتعلق بذاته ‪ .‬ل يخطر على باله أن يراجع‬
‫حسَرَاتٍ ِإنّ‬
‫سكَ عََل ْي ِهمْ َ‬
‫ن اللّ َه ُيضِلّ مَن َيشَاءُ َو َي ْهدِي مَن َيشَاءُ فَلَا َتذْهَبْ نَ ْف ُ‬
‫حسَنا فَإِ ّ‬
‫عمَلِ ِه فَرَآ ُه َ‬
‫َأ َفمَن ُزيّنَ َلهُ سُوءُ َ‬
‫ص َنعُونَ (‪)8‬‬
‫اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْ‬
‫نفسه في شيء ‪ ,‬ول أن يحاسبها على أمر ‪ .‬وبطبيعة الحال ل يطيق أن يراجعه أحد في عمل يعمله أو في‬
‫رأي يراه ‪ .‬لنه حسن في عين نفسه ‪ .‬مزين لنفسه وحسه ‪ .‬ل مجال فيه للنقد ‪ ,‬ول موضع فيه للنقصان !‬

‫هذا هو البلء الذي يصبه الشيطان على إنسان ; وهذا هو المقود الذي يقوده منه إلى الضلل ‪ .‬فإلى البوار !‬

‫إن الذي يكتب ال له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب ‪ .‬فل يأمن مكر ال ‪.‬‬
‫ول يأمن تقلب القلب ‪ .‬ول يأمن الخطأ والزلل ‪ .‬ول يأمن النقص والعجز ‪ .‬فهو دائم التفتيش في عمله ‪ .‬دائم‬
‫الحساب لنفسه ‪ .‬دائم الحذر من الشيطان ‪ .‬دائم التطلع لعون ال ‪.‬‬

‫وهذا هو مفرق الطريق بين الهدى والضلل ‪ ,‬وبين الفلح والبوار ‪.‬‬

‫إنها حقيقة نفسية دقيقة عميقة يصورها القرآن في ألفاظ معدودة‪:‬‬

‫(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا)‪. .‬‬

‫إنه نموذج الضال الهالك البائر الصائر إلى شر مصير ‪ .‬ومفتاح هذا كله هو هذا التزيين ‪ .‬هو هذا الغرور ‪.‬‬
‫هو هذا الستار الذي يعمي قلبه وعينه فل يرى مخاطر الطريق ‪ .‬ول يحسن عملً لنه مطمئن إلى حسن عمله‬
‫وهو سوء ‪ .‬ول يصلح خطأ لنه واثق أنه ل يخطىء ! ول يصلح فاسدا لنه مستيقن أنه ل يفسد ! ول يقف‬
‫عند حد لنه يحسب أن كل خطوة من خطواته إصلح !‬

‫إنه باب الشر ‪ .‬ونافذة السوء ‪ .‬ومفتاح الضلل الخير ‪. .‬‬

‫ويدع السؤال بل جواب ‪( . .‬أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ?)‪ . .‬ليشمل كل جواب ‪ .‬كأن يقال‪:‬أفهذا‬
‫يرجى له صلح ومتاب ? أفهذا كمن يحاسب نفسه ويراقب ال ? أفهذا يستوي مع المتواضعين التقياء ? ‪. .‬‬
‫‪ .‬إلى آخر صور الجابة على مثل هذا السؤال ‪ .‬وهو أسلوب كثير التردد في القرآن ‪.‬‬

‫وتجيب الية بأحد هذه الجوبة من بعيد‪:‬‬

‫(فإن ال يضل من يشاء ويهدي من يشاء فل تذهب نفسك عليهم حسرات)‪:‬‬

‫وكأنما يقول‪:‬إن مثل هذا قد كتب ال عليه الضللة ; مستحقا لها بما زين له الشيطان من سوء عمله ; وبما‬
‫فتح عليه هذا الباب الذي ل يعود منه ضال !‬
‫فإن ال يضل من يشاء ويهدي من يشاء ; بما تقتضيه طبيعة الضلل في ذلك وطبيعة الهدى في هذا ‪ .‬طبيعة‬
‫الضلل برؤية العمل حسنا وهو سوء ‪ .‬وطبيعة الهدى بالتفتيش والحذر والمحاسبة والتقوى ‪ . .‬وهو مفرق‬
‫الطريق الحاسم بين الهدى والضلل ‪.‬‬

‫وما دام المر كذلك (فل تذهب نفسك عليهم حسرات)‪. .‬‬

‫إن هذا الشأن ‪ .‬شأن الهدى والضلل ‪ .‬ليس من أمر بشر ‪ .‬ولو كان هو رسول ال [ ص ] إنما هو من أمر‬
‫ال ‪ .‬والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ‪ .‬وهو مقلب القلوب والبصار ‪ . .‬وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يعزي‬
‫رسوله ويسليه بتقرير هذه الحقيقة له ‪ .‬حتى يستقر قلبه الكبير الرحيم المشفق على قومه مما يراه من ضللهم‬
‫‪ ,‬ومصيرهم المحتوم بعد هذا الضلل ‪ .‬وحتى يدع ما يجيش في قلبه البشري من حرص على هداهم ‪ ,‬ومن‬
‫رؤية الحق الذي جاء به معروفا بينهم ! وهو حرص بشري معروف ‪ .‬يرفق ال سبحانه برسوله من وقعه في‬
‫حسه ‪ ,‬فيبين له أن هذا ليس من أمره ‪ ,‬إنما هو من أمر ال ‪.‬‬

‫وهي حالة يعانيها الدعاة كلما أخلصوا في دعوتهم ‪ ,‬وأدركوا قيمتها وجمالها وما فيها من الخير ‪ .‬ورأوا‬
‫الناسفي الوقت ذاته يصدون عنها ويعرضون ; ول يرون ما فيها من الخير والجمال ‪ .‬ول يستمتعون بما فيها‬
‫من الحق والكمال ‪ .‬وأولى أن يدرك الدعاة هذه الحقيقة التي واسى بها ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬رسوله ‪ .‬فيبلغوا‬
‫دعوتهم باذلين فيها أقصى الجهد ‪ .‬ثم ل يأسوا بعد ذلك على من لم يقدر له ال الصلح والفلح ‪.‬‬

‫(إن ال عليم بما يصنعون)‪. .‬‬

‫وهو يقسم لهم الهدى أو الضلل وفق علمه بحقيقة صنعهم ‪ .‬وال يعلم هذه الحقيقة قبل أن تكون منهم ;‬
‫ويعلمها بعد أن تكون ‪ .‬وهو يقسم لهم وفق علمه الزلي ‪ .‬ولكنه ل يحاسبهم على ما يكون منهم إل بعد أن‬
‫يكون ‪.‬‬

‫وبذلك ينتهي المقطع الثاني في السورة ‪ .‬وهو متصل بالمقطع الول ‪ .‬ومتسق كذلك مع المقطع الذي يليه ‪. .‬‬

‫الوحدة الثالثة‪ 14 - 9:‬الموضوع‪:‬آيات في الكون والنفس دالة على الوحدانية‬

‫هذا المقطع الثالث جولت متتابعة في المجال الكوني الذي يعرض فيه القرآن دلئل اليمان ; ويتخذ من‬
‫مشاهده المعروضة للبصائر والبصار أدلته وبراهينه ‪.‬‬

‫وهذه الجولت المتتابعة تجيء في السورة عقب الحديث عن الهدى والضلل ‪ ,‬وعن تسلية الرسول [ ص ]‬
‫عن إعراض المعرضين ‪ ,‬وتفويض هذا المر لصاحبه العليم بما يصنعون ‪ . .‬فمن شاء أن يؤمن‬
‫ح َي ْينَا بِ ِه ا ْلَأرْضَ َب ْعدَ مَ ْو ِتهَا َكذَِلكَ الّنشُورُ (‪)9‬‬
‫ت فََأ ْ‬
‫سحَابا َفسُ ْقنَا ُه إِلَى بََلدٍ ّميّ ٍ‬
‫وَاللّهُ اّلذِي َأ ْرسَلَ ال ّريَاحَ َف ُتثِيرُ َ‬
‫فهذه أدلة اليمان معروضة في صفحة الكون حيث ل خفاء فيها ول غموض ‪ .‬ومن شاء أن يضل فهو يضل‬
‫عن بينة وقد أخذته الحجة من كل جانب ‪.‬‬

‫وفي مشهد الحياة النابضة بعد الموات حجة ‪ .‬وفيه دليل على البعث والنشور ‪ .‬وفي خلق النسان من تراب ‪,‬‬
‫ثم صيرورته إلى هذا الخلق الراقي حجة ‪ .‬وكل مرحلة من مراحل خلقه وحياته تمضي وفق قدر مرسوم في‬
‫كتاب مبين ‪.‬‬

‫وفي مشهد البحرين المتميزين وتنويعهما حجة ‪ .‬وفيهما من نعم ال على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان ‪.‬‬

‫وفي مشهد الليل والنهار يتداخلن ويطولن ويقصران حجة ‪ .‬وفيهما على التقدير والتدبير دليل ‪ .‬وكذلك‬
‫مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق العجيب ‪.‬‬

‫هذه كلها حجج ودلئل معروضة في المجال الكوني الفسيح ‪ .‬وهذا هو ال خالقها ومالكها ‪ .‬والذين يدعون من‬
‫دون ال ما يملكون من قطمير ‪ .‬ول يسمعون ول يستجيبون ‪ .‬ويوم القيامة يتبرأون من عبادهم الضلّل ‪.‬‬
‫فماذا بعد الحق إل الضلل ?‬

‫الدرس الول‪ 9:‬لفت النظار إلى الرياح والمطر والنبات‬

‫(وال الذي أرسل الرياح ‪ ,‬فتثير سحابا ‪ ,‬فسقناه إلى بلد ميت ‪ ,‬فأحيينا به الرض بعد موتها ‪ .‬كذلك النشور)‪.‬‬

‫وهذا المشهد يتردد في معرض دلئل اليمان الكونية في القرآن ‪ .‬مشهد الرياح ‪ ,‬تثير السحب ; تثيرها من‬
‫البحار ‪ ,‬فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ; والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحابا ; ثم يسوق ال‬
‫هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة ‪ ,‬فتذهب يمينا وشمالً إلى حيث يريد ال لها أن تذهب‬
‫‪ ,‬وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات ‪ ,‬حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل ‪ . .‬إلى‬
‫بلد ميت ‪ . .‬مقدر في علم ال أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب ‪ .‬والماء حياة كل شيء في هذه الرض ‪.‬‬
‫(فأحيينا به الرض بعد موتها)‪ . .‬وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب‬
‫فيها ‪ .‬وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الخرة ‪ .‬وهو يقع بين أيديهم في الدنيا ‪.‬‬
‫‪( .‬كذلك النشور)‪ . .‬في بساطة ويسر ‪ ,‬وبل تعقيد ول جدل بعيد !‬

‫هذا المشهد يتردد في معرض دلئل اليمان الكونية في القرآن لنه دليل واقعي ملموس ‪ ,‬ل سبيل إلى‬
‫المكابرة فيه ‪ .‬ولنه من جانب آخر يهز القلوب حقا حين تتمله وهي يقظى ; ويلمس المشاعر لمسا موحيا‬
‫حين تتجه إلى تأمله ‪ .‬وهو مشهد بهيج جميل مثير ‪ .‬وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها النسان اليوم‬
‫وهي محل جدب جرداء ‪ .‬ثم يمر عليها غدا وهي ممرعة خضراء من آثار الماء ‪ .‬والقرآن يتخذ موحياته من‬
‫مألوف البشر المتاح لهم ‪ ,‬مما يمرون عليه غافلين ‪ .‬وهو معجز معجب حين تتمله البصائر والعيون ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 10:‬العزة بيد ال وحده وانقلب مكر الكفار على أنفسهم‬

‫ومن مشهد الحياة النابضة في الموات ينتقل نقلة عجيبة ‪ -‬شيئا ‪ -‬إلى معنى نفسي ومطلب شعوري ‪.‬‬

‫ينتقل إلى معنى العزة والرفعة والمنعة والستعلء ‪ .‬ويربط هذا المعنى بالقول الطيب الذي يصعد إلى ال‬
‫والعمل الصالح الذي يرفعه ال ‪ .‬كما يعرض الصفحة المقابلة ‪ .‬صفحة التدبير السيّىء والمكر الخبيث ‪ ,‬وهو‬
‫يهلك ويبور‪:‬‬

‫(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ‪ ,‬إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ‪ ,‬والذين يمكرون‬

‫س ّيئَاتِ‬
‫ح يَ ْر َفعُهُ وَاّلذِينَ َي ْم ُكرُونَ ال ّ‬
‫طيّبُ وَا ْل َعمَلُ الصّالِ ُ‬
‫جمِيعا إَِليْ ِه َيصْ َعدُ ا ْلكَِلمُ ال ّ‬
‫ن ُيرِيدُ ا ْل ِعزّ َة فَلِلّ ِه ا ْلعِزّ ُة َ‬
‫مَن كَا َ‬
‫شدِيدٌ َو َم ْكرُ أُوَْل ِئكَ ُهوَ َيبُورُ (‪)10‬‬
‫ب َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫َل ُهمْ َ‬
‫السيئات لهم عذاب شديد ‪ ,‬ومكر أولئك هو يبور)‪. .‬‬

‫ولعل الرابط الذي يصل بين الحياة النامية في الموات ‪ ,‬والكلمة الطيبة والعمل الصالح ‪ ,‬هو الحياة الطيبة في‬
‫هذه وفي تلك ; وما بينهما من صلة في طبيعة الكون والحياة ‪ .‬وهي الصلة التي سبقت الشارة إليها في سورة‬
‫إبراهيم ‪(.‬ألم تر كيف ضرب ال مثلً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل‬
‫حين بإذن ربها ويضرب ال المثال للناس لعلهم يتذكرون ‪ ,‬ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق‬
‫الرض ما لها من قرار)‪ . .‬وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة ; وما فيهما من حياة ونماء ‪.‬‬
‫والكلمة تنمو وتمتد وتثمر كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر سواء بسواء !‬

‫وقد كان المشركون يشركون استبقاء لمكانتهم الدينية في مكة ‪ ,‬وما يقوم عليها من سيادة لقريش على القبائل‬
‫بحكم العقيدة ‪ ,‬وما تحققه هذه السيادة من مغانم متعددة اللوان ‪ .‬العزة والمنعة في أولها بطبيعة الحال ‪ .‬مما‬
‫جعلهم يقولون‪( :‬إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)‪. .‬‬

‫فال يقول لهم‪:‬‬

‫(من كان يريد العزة فلله العزّة جميعا)‬

‫وهذه الحقيقة كفيلة حين تستقر في القلوب أن تبدل المعايير كلها ‪ ,‬وتبدل الوسائل والخطط أيضا !‬
‫إن العزة كلها ل ‪ .‬وليس شيء منها عند أحد سواه ‪ .‬فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها‬
‫مصدر غيره ‪ .‬ليطلبها عند ال ‪ ,‬فهو واجدها هناك وليس بواجدها عند أحد ‪ ,‬ول في أي كنف ‪ ,‬ول بأي سبب‬
‫(فلله العزّة جميعا)‪. .‬‬

‫إن الناس الذين كانت قريش تبتغي العزة عندهم بعقيدتها الوثنية المهلهلة ; وتخشى اتباع الهدى ‪ -‬وهي تعترف‬
‫أنه الهدى ‪ -‬خشية أن تصاب مكانتها بينهم بأذى ‪ .‬إن الناس هؤلء ‪ ,‬القبائل والعشائر وما إليها ‪ ,‬إن هؤلء‬
‫ليسوا مصدرا للعزة ‪ ,‬ول يملكون أن يعطوها أو يمنعوها (فلله العزّة جميعا)‪ . .‬وإذا كانت لهم قوة فمصدرها‬
‫الول هو ال ‪ .‬وإذا كانت لهم منعة فواهبها هو ال ‪ .‬وإذن فمن كان يريد العزة والمنعة فليذهب إلى المصدر‬
‫الول ‪ ,‬ل إلى الخذ المستمد من هذا المصدر ‪ .‬ليأخذ من الصل الذي يملك وحده كل العزة ‪ ,‬ول يذهب‬
‫يطلب قمامة الناس وفضلتهم ‪ .‬وهم مثله طلب محاويج ضعاف !‬

‫إنها حقيقة أساسية من حقائق العقيدة السلمية ‪ .‬وهي حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ‪ ,‬وتعديل الحكم‬
‫والتقدير ‪ ,‬وتعديل النهج والسلوك ‪ ,‬وتعديل الوسائل والسباب ! ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي‬
‫قلب لتقف به أمام الدنيا كلها عزيزا كريما ثابتا في وقفته غير مزعزع ‪ ,‬عارفا طريقه إلى العزة ‪ ,‬طريقه الذي‬
‫ليس هنالك سواه !‬

‫إنه لن يحني رأسه لمخلوق متجبر ‪ .‬ول لعاصفة طاغية ‪ .‬ول لحدث جلل ‪ .‬ول لوضع ول لحكم ‪ .‬ول لدولة‬
‫ول لمصلحة ‪ ,‬ول لقوة من قوى الرض جميعا ‪ .‬وعلم ? والعزة ل جميعا ‪ .‬وليس لحد منها شيء إل‬
‫برضاه ?‬

‫ومن هنا يذكر الكلم الطيب والعمل الصالح‪:‬‬

‫(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)‪. .‬‬

‫ولهذا التعقيب المباشر بعد ذكر الحقيقة الضخمة مغزاه وإيحاؤه ‪ .‬فهو إشارة إلى أسباب العزة ووسائلها لمن‬
‫يطلبها عند ال ‪ .‬القول الطيب والعمل الصالح ‪ .‬القول الطيب الذي يصعد إلى ال في عله ; والعمل‬
‫الصالحالذي يرفعه ال إليه ويكرمه بهذا الرتفاع ‪ .‬ومن ثم يكرم صاحبه ويمنحه العزة والستعلء ‪.‬‬

‫والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها مظهر في دنيا الناس ‪ .‬حقيقة تستقر في القلب‬
‫فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والنحناء لغير ال ‪ .‬حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي ‪ .‬يستعلي‬
‫بها على شهواته المذلة ‪ ,‬ورغائبه القاهرة ‪ ,‬ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس ‪ .‬ومتى استعلى على‬
‫هذه فلن يملك أحد وسيلة لذلله وإخضاعه ‪ .‬فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم ‪ ,‬ومخاوفهم ومطامعهم ‪.‬‬
‫ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان ‪ . .‬وهذه هي العزة الحقيقية‬
‫ذات القوة والستعلء والسلطان !‬
‫إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل ‪ .‬وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو‬
‫وتجبر وإصرار ‪ .‬وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل للشهوة ‪ .‬وليست قوة عمياء تبطش بل حق ول‬
‫عدل ول صلح ‪ . .‬كل ! إنما العزة استعلء على شهوة النفس ‪ ,‬واستعلء على القيد والذل ‪ ,‬واستعلء على‬
‫الخضوع الخانع لغير ال ‪ .‬ثم هي خضوع ل وخشوع ; وخشية ل وتقوى ‪ ,‬ومراقبة ل في السراء والضراء‬
‫‪ . .‬ومن هذا الخضوع ل ترتفع الجباه ‪ .‬ومن هذه الخشية ل تصمد لكل ما يأباه ‪ .‬ومن هذه المراقبة ل ل‬
‫تعنى إل برضاه ‪.‬‬

‫هذا مكان الكلم الطيب والعمل الصالح من الحديث عن العزة ‪ ,‬وهذه هي الصلة بين هذا المعنى وذاك في‬
‫السياق ‪ .‬ثم تكمل بالصفحة المقابلة‪:‬‬

‫(والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور)‪.‬‬

‫ويمكرون هنا مضمنة معنى يدبرون ‪ .‬ولكنه عبر بها لغلبة استعمالها في السوء ‪ .‬فهؤلء لهم عذاب شديد ‪.‬‬
‫فوق أن مكرهم وتدبيرهم يبور ‪ .‬فل يحيا ول يثمر ‪ .‬من البوار ومن البوران سواء ‪ .‬وذلك تنسيقا مع إحياء‬
‫الرض وإثمارها في الية السابقة ‪.‬‬

‫والذين يمكرون السيئات يمكرونها طلبا للعزة الكاذبة ‪ ,‬والغلبة الموهومة ‪ .‬وقد يبدو في الظاهر أنهم أعلياء ‪,‬‬
‫وأنهم أعزاء وأنهم أقوياء ‪ .‬ولكن القول الطيب هو الذي يصعد إلى ال ‪ ,‬والعمل الصالح هو الذي يرفعه إليه ‪.‬‬
‫وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل ‪ .‬فأما المكر السيى ء قولً وعملً فليس سبيلً إلى العزة ولو حقق‬
‫القوة الطاغية الباغية في بعض الحيان ‪ .‬إل أن نهايته إلى البوار وإلى العذاب الشديد ‪ .‬وعد ال ‪ ,‬ل يخلف‬
‫ال وعده ‪ .‬وإن أمهل الماكرين بالسوء حتى يحين الجل المحتوم في تدبير ال المرسوم ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 11:‬حياة النسان بيد ال وحده من البداية للنهاية‬

‫ثم يجيء مشهد النشأة الولى للنسان بعد الكلم عن نشأة الحياة كلها بالماء ‪ .‬ويذكر ما يلبس تلك النشأة من‬
‫حمل في البطون ; ومن عمر طويل وعمر قصير ‪ .‬وكله في علم ال المكنون ‪.‬‬

‫(وال خلقكم من تراب ‪ ,‬ثم من نطفة ‪ ,‬ثم جعلكم أزواجا ‪ .‬وما تحمل من أنثى ول تضع إل بعلمه ‪ .‬وما يعمر‬
‫من معمر ول ينقص من عمره إل في كتاب ‪ .‬إن ذلك على ال يسير)‪. .‬‬

‫والشارة إلى النشأة الولى من التراب تتردد كثيرا في القرآن ; وكذلك الشارة إلى أول مراحل الحمل‪:‬النطفة‬
‫‪ . .‬والتراب عنصر ل حياة فيه ‪ ,‬والنطفة عنصر فيه الحياة ‪ .‬والمعجزة الولى هي معجزة هذه الحياة التي ل‬
‫يعلم أحد كيف جاءت ‪ ,‬ول كيف تلبست بالعنصر الول ‪ .‬وما يزال هذا سرا مغلقا على البشر ; وهو حقيقة‬
‫قائمة مشهودة ‪ ,‬ل مفر من مواجهتها والعتراف بها ‪ .‬ودللتها على الخالق المحيي القدير دللة ل يمكن‬
‫دفعها ول المماحكة فيها ‪.‬‬

‫ن أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلّا ِبعِ ْلمِهِ َومَا ُي َع ّمرُ مِن ّم َعمّرٍ‬
‫حمِلُ مِ ْ‬
‫جعََل ُكمْ َأزْوَاجا َومَا َت ْ‬
‫وَاللّهُ خَلَ َقكُم مّن ُترَابٍ ُثمّ مِن ّنطْفَ ٍة ُثمّ َ‬
‫عذْبٌ ُفرَاتٌ سَائِغٌ‬
‫حرَانِ َهذَا َ‬
‫ستَوِي ا ْل َب ْ‬
‫ن ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ (‪َ )11‬ومَا َي ْ‬
‫ب إِ ّ‬
‫ع ُمرِهِ إِلّا فِي ِكتَا ٍ‬
‫وَلَا يُنقَصُ ِمنْ ُ‬
‫خرَ ِل َت ْب َتغُوا‬
‫خ ِرجُونَ حِ ْليَةً تَ ْل َبسُو َنهَا َو َترَى الْفُ ْلكَ فِي ِه مَوَا ِ‬
‫ستَ ْ‬
‫ن َلحْما طَ ِريّا َو َت ْ‬
‫ل َت ْأكُلُو َ‬
‫شَرَابُهُ وَ َهذَا مِلْحٌ ُأجَاجٌ َومِن كُ ّ‬
‫شكُرُونَ (‪)12‬‬
‫مِن فَضْلِهِ وََلعَّل ُكمْ َت ْ‬

‫هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان ‪ .‬وتأمل هذه‬
‫النقلة ل ينتهي ول يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة ‪ .‬وكل سر منها أضخم من الخر‬
‫وأعجب صنعا ‪.‬‬

‫والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين ‪ ,‬حين يتميز‬
‫الذكر من النثى ‪ ,‬وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الية‪( :‬ثم جعلكم أزواجا)‪ . .‬سواء كان‬
‫المقصود جعلكم ذكرا وأنثى وأنتم أجنة ‪ ,‬أو كان المقصود جعلكم أزواجا بعد ولدتكم وتزاوج الذكر والنثى ‪.‬‬
‫‪ .‬هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة ! فأين الخلية الواحدة في النطفة من‬
‫ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد ‪ ,‬الكثير الجهزة المتعدد الوظائف ? وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك‬
‫الخلق الحافل بالخصائص المتميزة ?‬

‫إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد ; وتتركب كل مجموعة خاصة من الخليا المتولدة منها لتكوين‬
‫عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة ‪ .‬ثم تعاون هذه العضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقا واحدا‬
‫على هذا النحو العجيب ; ومخلوقا متميزا من سائر المخلوقات الخرى من جنسه ‪ ,‬بل من أقرب الناس إليه ‪,‬‬
‫بحيث ل يتماثل أبدا مخلوقان اثنان ‪ . .‬وكلهم من نطفة ل تميز فيها يمكن إدراكه ! ‪ . .‬ثم تتبع هذه الخليا‬
‫حتى تصير أزواجا ‪ ,‬قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة ‪ ,‬تسير في ذات المراحل ‪ ,‬دون انحراف ‪ . .‬إن‬
‫هذا كله لعجب ل ينقضي منه العجب ‪ .‬ومن ثم هذه الشارة التي تتردد في القرآن كثيرا عن تلك الخارقة‬
‫المجهولة السر ; بل تلك الخوارق المجهولة السرار ! لعل الناس يشغلون قلوبهم بتدبرها ‪ ,‬ولعل أرواحهم‬
‫تستيقظ على اليقاع المتكرر عليها !‬

‫وإلى جوار هذه الشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم ال [ كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في‬
‫سورة سبأ ] صورة علم ال المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الرض جميعا‪:‬‬

‫(وما تحمل من أنثى ول تضع إل بعلمه)‪.‬‬


‫والنص يتجاوز إناث النسان إلى إناث الحيوان والطير والسماك والزواحف والحشرات ‪ .‬وسواها مما نعلمه‬
‫ومما ل نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها ‪ ,‬فالبيضة حمل من نوع خاص ‪ .‬جنين ل يتم نموه في‬
‫داخل جسم الم ; بل ينزل بيضة ‪ ,‬ثم يتابع نموه خارج جسم الم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى‬
‫يصبح جنينا كاملً ثم يفقس ويتابع نموه العادي ‪.‬‬

‫وعلم ال على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الطراف !!!‬

‫وتصوير علم ال المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه ل في التصور‬
‫ول في التعبير ‪ -‬كما قلنا في سورة سبأ ‪ -‬فهو بذاته دليل على أن ال هو منزل هذا القرآن ‪ .‬وهذه إحدى‬
‫السمات الدالة على مصدره اللهي المتفرد ‪.‬‬

‫ومثلها الحديث عن العمر في الية ذاتها‪:‬‬

‫(وما يعمر من معمر ول ينقص من عمره إل في كتاب ‪ .‬إن ذلك على ال يسير)‪. .‬‬

‫فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على‬
‫إختلف في الحجام والشكال والنواع والجناس والمواطن والزمنة ; ثم يتصور أن كل فرد من أفرادهذا‬
‫الحشد ‪ -‬الذي ل يمكن حصره ‪ ,‬ول يعلم إل خالقه عدده ‪ -‬يعمر فيطول عمره ‪ ,‬أو ينقص من عمره فيقصر‬
‫وفق قدر مقدور ‪ ,‬ووفق علم متعلق بهذا الفرد ‪ ,‬متابع له ‪ ,‬عمر أم لم يعمر ‪.‬‬

‫بل متعلق بكل جزء من كل فرد ‪ .‬يعمر أو ينقص من عمره ‪ .‬فهذه الورقة من تلك الشجرة يطول عمرها أو‬
‫تذبل أو تسقط عن قريب ‪ .‬وهذه الريشة من ذلك الطائر يطول مكثها أو تذهب مع الريح ‪ .‬وهذا القرن من‬
‫ل أو يتحطم في صراع ‪ .‬وهذه العين في ذلك النسان أو هذه الشعرة تبقى وتسقط وفق‬
‫ذلك الحيوان يبقى طوي ً‬
‫تقدير معلوم ‪.‬‬

‫كل ذلك (في كتاب)‪ . .‬من علم ال الشامل الدقيق ‪ .‬وأن ذلك ل يكلف جهدا ول عسرا‪( :‬إن ذلك على ال‬
‫يسير)‪. .‬‬

‫إذا مضى الخيال يتدبر هذا ويتتبعه ; ثم يتصور ما وراءه ‪ . .‬إنه لمر عجيب جد عجيب ‪ . .‬وإنه لتجاه إلى‬
‫حقيقة ل يتجه إليها التفكير البشري على هذا النحو ‪ .‬واتجاه إلى تصور هذه الحقيقة وتصويرها على غير‬
‫مألوف البشر كذلك ‪ .‬وإنما هو التوجيه اللهي الخاص إلى هذا المر العجيب ‪.‬‬

‫والتعمير يكون بطول الجل وعد العوام ; كما يكون بالبركة في العمر ‪ ,‬والتوفيق إلى إنفاقه إنفاقا مثمرا ‪,‬‬
‫واحتشاده بالمشاعر والحركات والعمال والثار ‪ .‬وكذلك يكون نقص العمر بقصره في عد السنين ; أو نزع‬
‫البركة منه وإنفاقه في اللهو والعبث والكسل والفراغ ‪.‬‬
‫ورب ساعة تعدل عمرا بما يحتشد فيها من أفكار ومشاعر ‪ ,‬وبما يتم فيها من أعمال وآثار ‪ .‬ورب عام يمر‬
‫خاويا فارغا ل حساب له في ميزان الحياة ‪ ,‬ول وزن له عند ال !‬

‫وكل ذلك في كتاب ‪ . .‬كل ذلك من كل كائن في هذا الكون الذي ل يعرف حدوده إل ال ‪. .‬‬

‫والجماعات كالحاد ‪ .‬والمم كالفراد ‪ . .‬كل منها يعمر أو ينقص من عمره ‪ .‬والنص يشمله ‪.‬‬

‫بل إن الشياء لكالحياء ‪ .‬وإني لتصور الصخرة المعمرة ‪ ,‬والكهف المعمر ‪ ,‬والنهر المعمر ‪ ,‬والصخرة التي‬
‫ينتهي أجلها أو يقصر فإذا هي فتات ; والكهف الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو محطم أو مسدود ; والنهر‬
‫الذي ينتهي أجله أو يقصر فإذا هو غائض أو مبدد !‬

‫ومن الشياء ما تصنعه يد النسان ‪ .‬البناء المعمر أو القصير العمر ‪ .‬والجهاز المعمر أو قصير العمر ‪.‬‬
‫والثوب المعمر أو قصير العمر ‪ . .‬وكلها ذات آجال وأعمار في كتاب ال كالنسان ‪.‬‬

‫وكلها من أمر ال العليم الخبير ‪. .‬‬

‫وإن تصور المر على هذا النحو ليوقظ القلب إلى تدبر هذا الكون بحس جديد ‪ ,‬وأسلوب جديد ‪ .‬وإن القلب‬
‫الذي يستشعر يد ال وعينه على كل شيء بمثل هذه الدقة ليصعب أن ينسى أو يغفل أو يضل ‪ .‬وهو حيثما‬
‫تلفت وجد يد ال ‪ .‬ووجد عين ال ‪ .‬ووجد عناية ال ‪ ,‬ووجد قدرة ال ‪ ,‬متمثلة ومتعلقة بكل شيء في هذا‬
‫الوجود ‪.‬‬

‫وهكذا يصنع القرآن القلوب !‬

‫الدرس الرابع‪ 12:‬البحار وما فيها من نعم للنسان‬

‫ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات ‪ .‬يمضي إلى مشهد الماء في هذه‬
‫الرض من زاوية معينة ‪ .‬زاوية تنويع الماء ‪ .‬فهذا عذب سائغ ‪ ,‬وهذا ملح مر ‪ .‬وكلهما يفترقان ويلتقيان ‪-‬‬
‫بتسخيرال ‪ -‬في خدمة النسان ‪.‬‬

‫(وما يستوي البحران ‪ . .‬هذا عذب فرات سائغ شرابه ‪ ,‬وهذا ملح أجاج ‪ . .‬ومن كل تأكلون لحما طريا‬
‫وتستخرجون حلية تلبسونها ‪ .‬وترى الفلك فيه مواخر ‪ .‬لتبتغوا من فضله ‪ ,‬ولعلكم تشكرون)‪. .‬‬

‫إن إرادة التنويع في خلق الماء واضحة ; ووراءها حكمة ‪ -‬فيما نعلم ‪ -‬ظاهرة ; فأما الجانب العذب السائغ‬
‫اليسير التناول فنحن نعرف جانبا من حكمة ال فيما نستخدمه وننتفع به ; وهو قوام الحياة لكل حي ‪ .‬وأما‬
‫الجانب الملح المر وهو البحار والمحيطات فيقول أحد العلماء في بيان التقدير العجيب في تصميم هذا الكون‬
‫الضخم‪:‬‬

‫; وعلى الرغم من النبعاثات الغازية من الرض طول الدهور ‪ -‬ومعظمها سام ‪ -‬فإن الهواء باق دون تلويث‬
‫في الواقع ‪ ,‬ودون تغير في نسبته المتوازنة اللزمة لوجود النسان ‪ .‬وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة‬
‫الفسيحة من الماء ‪ -‬أي المحيط ‪ -‬الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ‪ ,‬والنباتات ‪.‬‬
‫وأخيرا النسان نفسه ‪. " . .‬‬

‫وهذا بعض ما تكشف لنا من حكمة الخلق والتنويع ‪ ,‬واضح فيه القصد والتدبير ‪ ,‬ومنظور فيه إلى تناسقات‬
‫وموازنات يقوم بعضها على بعض في حياة هذا الكون ونظامه ‪ .‬ول يصنع هذا إل ال خالق هذا الكون وما‬
‫فيه ومن فيه ‪ .‬فإن هذا التنسيق الدقيق ل يجيء مصادفة واتفاقا بحال من الحوال ‪ .‬والشارة إلى اختلف‬
‫البحرين توحي بمعنى القصد في هذه التفرقة وفي كل تفرقة أخرى ‪ .‬وستأتي في السورة إشارات إلى نماذج‬
‫منها في عالم المشاعر والتجاهات والقيم والموازين ‪.‬‬

‫ثم يلتقي البحران المختلفان في تسخيرهما للنسان‪:‬‬

‫(ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر)‪. .‬‬

‫واللحم الطري هو السماك والحيوانات البحرية على اختلفها ‪ .‬والحلية من اللؤلؤ والمرجان ‪ .‬واللؤلؤ يوجد‬
‫في أنواع من القواقع يتكون في أجسامها نتيجة دخول جسم غريب كحبة رمل أو نقطة ماء ‪ ,‬فيفرز جسم‬
‫القوقعة داخل الصدفة إفرازا خاصا يحيط به هذا الجسم الغريب ‪ ,‬كي ل يؤذي جسم القوقعة الرخو ‪ .‬وبعد‬
‫زمن معين يتصلب هذا الفراز ‪ ,‬ويتحول إلى لؤلؤة ! والمرجان نبات حيواني يعيش ويكون شعابا مرجانية‬
‫تمتد في البحر أحيانا عدة أميال ‪ ,‬وتتكاثر حتى تصبح خطرا على الملحة في بعض الحيان ; وخطرا على‬
‫كل حي يقع في براثنها ! وهو يقطع بطرق خاصة وتتخذ منه الحلى !‬

‫والفلك تمخر البحار والنهار ‪ -‬أي تشقها ‪ -‬بما أودع ال الشياء في هذا الكون من خصائص ‪ .‬ولكثافة الماء‬
‫وكثافة الجسام التي تتكون منها السفن دخل في إمكان طفو السفن على سطح الماء وسيرها فيه ‪ .‬وللرياح‬
‫كذلك ‪ .‬وللقوى التي سخرها ال للنسان وعرفه كيف يستخدمها كقوة البخار وقوة الكهرباء وغيرهما من‬
‫القوى ‪ .‬وكلها من تسخير ال للنسان ‪.‬‬

‫(لتبتغوا من فضله)‪ . .‬بالسفر والتجارة ‪ ,‬والنتفاع باللحم الطري والحلى واستخدام الماء والسفن في البحار‬
‫والنهار ‪.‬‬

‫(ولعلكم تشكرون)‪ . .‬وقد يسر ال لكم أسباب الشكر ‪ ,‬وجعلها حاضرة بين أيديكم ‪ .‬ليعينكم على الداء ‪.‬‬
‫سمّى ذَِل ُكمُ اللّهُ َربّ ُكمْ َلهُ‬
‫جرِي ِلَأجَلٍ ّم َ‬
‫شمْسَ وَالْ َق َمرَ كُلّ َي ْ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫يُولِجُ الّليْلَ فِي ال ّنهَارِ َويُوِلجُ ال ّنهَارَ فِي الّليْلِ َو َ‬
‫طمِيرٍ (‪)13‬‬
‫ن مِن قِ ْ‬
‫ن مِن دُونِ ِه مَا َيمِْلكُو َ‬
‫ن َتدْعُو َ‬
‫ا ْلمُ ْلكُ وَاّلذِي َ‬
‫الدرس الخامس‪ 13:‬التذكير بالنعمة في الليل والنهار والشمس والقمر‬

‫ويختم هذا المقطع بجولة كونية في مشهد الليل والنهار ‪ .‬ثم في تسخير الشمس والقمر وفق النظام المرسوم‬
‫لجريانهما إلى الجل المعلوم‪:‬‬

‫يولج الليل في النهار ‪ ,‬ويولج النهار في الليل ‪ .‬وسخر الشمس والقمر ‪ ,‬كل يجري لجل مسمى ‪. .‬‬

‫وإيلج الليل في النهار والنهار في الليل قد يعني ذينك المشهدين الرائعين ‪ .‬مشهد دخول الليل في النهار ‪,‬‬
‫والضياء يغيب قليلً قليلً ‪ ,‬والظلم يدخل قليلً قليلً حتى يكون الغروب وما يليه من العتمة البطيئة الدبيب ‪.‬‬
‫ومشهد دخول النهار في الليل حينما يتنفس الصبح ‪ ,‬وينتشر الضياء رويدا رويدا ‪ ,‬ويتلشى الظلم رويدا‬
‫رويدا ‪ ,‬حتى تشرق الشمس ويعم الضياء ‪ . .‬كذلك قد يعني طول الليل وهو يأكل من النهار وكأنما يدخل فيه‬
‫‪ .‬وطول النهار وهو يأكل من الليل وكأنما يدخل فيه ‪ . .‬وقد يعنيهما معا بتعبير واحد ‪ .‬وكلها مشاهد تطوّف‬
‫بالقلب في سكون ‪ ,‬وتغمره بشعور من الروعة والتقوى ; وهو يرى يد ال تمد هذا الخط ‪ ,‬وتطوي ذاك الخط‬
‫‪ ,‬وتشد هذا الخيط وترخي ذاك الخيط ‪ .‬وفي نظام دقيق مطرد ل يتخلف مرة ول يضطرب ‪ .‬ول يختل يوما‬
‫أو عاما على توالي القرون ‪. .‬‬

‫وتسخير الشمس والقمر وجريانهما للجل المرسوم لهما ‪ ,‬والذي ل يعلمه إل خالقهما ‪ . .‬هو الخر ظاهرة‬
‫يراها كل إنسان ‪ ,‬سواء كان يعلم أحجام هذين الجرمين ‪ ,‬ونوعهما من النجوم والكواكب ومدارهما ودورتهما‬
‫ومداها‪:‬أم ل يعلم من هذا كله شيئا ‪ . .‬فهما بذاتهما يظهران ويختفيان أمام كل إنسان ‪ ,‬ويصعدان وينحدران‬
‫أمام كل بصر ‪ .‬وهذه الحركة الدائبة التي ل تفتر ول تختل حركة مشهودة ل يحتاج تدبرها إلى علم‬
‫وحساب ! ومن ثم فهي آية معروضة في صفحة الكون لجميع العقول وجميع الجيال على السواء ‪ .‬وقد ندرك‬
‫نحن اليوم علمها الظاهر أكثر مما كان يدرك المخاطبون بهذا القرآن لول مرة ‪ .‬وليس هذا هو المهم ‪ .‬إنما‬
‫المهم أن توحي إلينا ما كانت توحيه إليهم ‪ ,‬وأن تهز قلوبنا كما كانت تهز قلوبهم ‪ ,‬وأن تثير فينا من التدبر‬
‫ورؤية يد ال المبدعة وهي تعمل في هذا الكون العجيب ما كانت تثير فيهم ‪ . .‬والحياة حياة القلوب ‪. .‬‬

‫الدرس السادس‪ 14 - 13:‬ال المالك والشركاء فقراء عاجزون‬

‫وفي ظل تلك المشاهد المتنوعة العميقة الدللة القوية السلطان يعقب بتقرير حقيقة الربوبية ‪ ,‬وبطلن كل ادعاء‬
‫بالشرك ‪ ,‬وخسران عاقبته يوم القيامة‪:‬‬
‫(ذلكم ال ربكم له الملك ‪ ,‬والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ‪ .‬إن تدعوهم ل يسمعوا دعاءكم ‪.‬‬
‫ولو سمعوا ما استجابوا لكم ‪ .‬ويوم القيامة يكفرون بشرككم ‪ .‬ول ينبئك مثل خبير)‪. .‬‬

‫ذلكم ‪ .‬الذي أرسل الرياح بالسحاب ‪ ,‬والذي أحيا الرض بعد موتها ‪ ,‬والذي خلقكم من تراب ‪ ,‬والذي جعلكم‬
‫أزواجا ‪ ,‬والذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تضع ‪ ,‬والذي يعلم ما يعمر وما ينقص من عمره ‪ ,‬والذي خلق‬
‫البحرين ‪ ,‬والذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لجل مسمى ‪.‬‬
‫‪ .‬ذلكم هو (ال ربكم)‪. .‬‬

‫(له الملك)‪( . .‬والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)‪ . .‬والقطمير غلف النواة ! وحتى هذا الغلف‬
‫الزهيد ل يملكه أولئك الذين يدعونهم من دون ال !‬

‫ثم يمعن في الكشف عن حقيقة أمرهم ‪.‬‬

‫(إن تدعوهم ل يسمعوا دعاءكم)‪. .‬‬

‫خبِيرٍ (‬
‫ن ِبشِ ْر ِك ُكمْ وَلَا ُي َنبّ ُئكَ ِمثْلُ َ‬
‫س َتجَابُوا َل ُكمْ َو َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة َيكْ ُفرُو َ‬
‫س ِمعُوا مَا ا ْ‬
‫س َمعُوا دُعَاء ُكمْ وَلَ ْو َ‬
‫إِن َتدْعُو ُهمْ لَا َي ْ‬
‫‪)14‬‬

‫فهم أصنام أو أوثان أو أشجار ‪ ,‬أو نجوم أو كواكب ‪ ,‬أو ملئكة أو جن ‪ . .‬وكلهم ل يملكون بالفعل قطميرا ‪.‬‬
‫وكلهم ل يسمعون لعبادهم الضالين ‪ .‬سواء كانوا ل يسمعون أصلً ‪ ,‬أو ل يسمعون لكلم البشر ‪. .‬‬

‫(ولو سمعوا ما استجابوا لكم)‪. .‬‬

‫كالجن والملئكة ‪ .‬فالجن ل يملكون الستجابة ‪ .‬والملئكة ل يستجيبون للضالين ‪.‬‬

‫هذه في الحياة الدنيا ‪ .‬فأما يوم القيامة فيبرأون من الضلل والضالين‪:‬‬

‫(ويوم القيامة يكفرون بشرككم)‪. .‬‬

‫يحدث بهذا الخبير بكل شيء ‪ ,‬وبكل أمر ‪ ,‬وبالدنيا والخرة‪:‬‬

‫(ول ينبئك مثل خبير)‪. .‬‬


‫وبهذا ينتهي هذا المقطع ‪ ,‬وتختم هذه الجولت والمشاهد في تلك العوالم ; ويعود القلب البشري منها بزاد يكفيه‬
‫حياته كلها لو ينتفع بالزاد ‪ .‬وإنه لحسب القلب البشري مقطع واحد من سورة واحدة لو كان الذي يريد هو‬
‫الهدى ‪ ,‬ولو كان الذي يطلب هو البرهان !‬

‫الوحدة الرابعة‪ 26 - 15:‬الموضوع‪:‬غنى ال وقدرته وعجز البشر وفردية التبعة وعدم مساواة المؤمنين‬
‫بالكافرين‬

‫مرة أخرى يرجع إلى الهتاف بالناس أن ينظروا في علقتهم بال ‪ ,‬وفي حقيقة أنفسهم ; ويرجع إلى الرسول‬
‫[ ص ] بالتسلية عما يلقى ‪ ,‬والتسرية عما يجد من إعراض وضلل ‪ -‬كالشأن في المقطع الثاني من السورة ‪-‬‬
‫ويزيد هنا الشارة إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلل ‪ ,‬وأن الختلف بين طبيعتهما أصيل‬

‫جدِيدٍ (‪َ )16‬ومَا ذَِلكَ‬


‫حمِيدُ (‪ )15‬إِن َيشَ ْأ ُيذْهِ ْب ُكمْ َو َيأْتِ ِبخَ ْلقٍ َ‬
‫يَا َأ ّيهَا النّاسُ أَن ُتمُ الْفُ َقرَاء إِلَى اللّهِ وَاللّ ُه هُوَ ا ْل َغ ِنيّ ا ْل َ‬
‫عَلَى اللّهِ ِب َعزِيزٍ (‪)17‬‬
‫عميق كأصاله الختلف بين العمى والبصر والظلمات والنور والظل والحرور والموت والحياة ‪ .‬وأن بين‬
‫الهدى والبصر والنور والظل والحياة صلة وشبها ‪ ,‬كما ان بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة‬
‫وشبها ! ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 17 - 15:‬فقر الناس وعجزهم أمام غنى ال وقوته‬

‫(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى ال ‪ ,‬وال هو الغني الحميد ‪ ,‬إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ‪ ,‬وما ذلك على‬
‫ال بعزيز)‪. .‬‬

‫إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى ‪ ,‬ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم‬
‫فيه من الظلمات الى نور ال وهداه ‪ .‬في حاجة الى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى ال ‪ .‬وأن ال غني‬
‫عنهم كل الغنى ‪ .‬وأنهم حين يدعون إلى اليمان بال وعبادته وحمده على آلئه فإن ال غني عن عبادتهم‬
‫وحمدهم ‪ ,‬وهو المحمود بذاته ‪ .‬وأنهم ل يعجزون ال ول يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق‬
‫جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الرض ‪ ,‬فإن ذلك عليه يسير ‪. .‬‬

‫الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة ‪ ,‬لئل يركبهم الغرور وهم يرون أن ال ‪ -‬جل وعل ‪ -‬يعنى بهم‬
‫‪ ,‬ويرسل إليهم الرسل ; ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضللة الى الهدى ‪ ,‬ويخرجوهم من الظلمات إلى‬
‫النور ‪ .‬ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على ال ! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئا في ملكه تعالى !‬
‫وال هو الغني الحميد ‪.‬‬
‫وإن ال سبحانه يمنح العباد من رعايته ‪ ,‬ويفيض عليهم من رحمته ‪ ,‬ويغمرهم بسابغ فضله ‪ -‬بإرسال رسله‬
‫إليهم ‪ ,‬واحتمال هؤلء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم ‪ ,‬وثباتهم على الدعوة إلى ال بعد العراض‬
‫واليذاء ‪ . .‬إن ال سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلً وكرما ومنا ‪ .‬لن هذه صفاته المتعلقة‬
‫بذاته ‪ .‬ل لن هؤلء العباد يزيدون في ملكه شيئا بهداهم ‪ ,‬أو ينقصون من ملكه شيئا بعماهم ‪ .‬ول لن هؤلء‬
‫العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة العادة أو الستبدال ‪ ,‬فيغتفر لهم ما يقع منهم لنهم صنف ل يعاد ول‬
‫يستبدل ‪.‬‬

‫وإن النسان ليدهش ويحار في فضل ال ومنه وكرمه ‪ ,‬حين يرى هذا النسان الصغير الضئيل الجاهل‬
‫القاصر ‪ ,‬الضعيف العاجز ‪ ,‬ينال من عناية ال ورعايته كل هذا القدر الهائل !‬

‫والنسان ساكن صغير من سكان هذه الرض ‪ .‬والرض تابع صغير من توابع الشمس ‪ .‬والشمس نجم مما ل‬
‫عد له ول حصر من النجوم ‪ .‬والنجوم إن هي إل نقط صغيرة ‪ -‬على ضخامتها الهائلة ‪ -‬متناثرة في فضاء‬
‫الكون الذي ل يعلم الناس حدوده ‪ .‬وهذا الفضاء الذي تتناثر فيه تلك النجوم كالنقط التائهة إن هو إل بعض‬
‫خلق ال !‬

‫ثم ينال النسان من ال كل هذه الرعاية ‪ . .‬ينشئه ‪ ,‬ويستخلفه في الرض ‪ ,‬ويهبه كل أدوات الخلفة ‪ -‬سواء‬
‫في تكوينه وتركيبه أو تسخير القوى والطاقات الكونية اللزمة له في خلفته ‪ -‬ويضل هذا المخلوق ويتبجح‬
‫حتى ليشرك بربه أو ينكره ‪ .‬فيرسل ال إليه الرسل ‪ ,‬رسولً بعد رسول ‪ ,‬وينزل على الرسل الكتب‬
‫والخوارق ‪ .‬ويطرد فضل ال ويفيض حتى لينزل في كتابه الخير للبشر قصصا يحدث بها الناس ‪ ,‬ويقص‬
‫عليهم ما وقع لسلفهم ‪ ,‬ويحدثهم عن ذوات أنفسهم ‪ ,‬ويكشف لهم عما فيها من قوى وطاقات ‪ ,‬ومن عجز‬
‫وضعف ‪ ,‬بل إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ليحدث عن فلن وفلن بالذات ‪ ,‬فيقول لهذا‪:‬أنت فعلت وأنت تركت ‪,‬‬

‫ن ذَا قُ ْربَى ِإ ّنمَا تُن ِذرُ اّلذِينَ‬


‫شيْءٌ وَلَ ْو كَا َ‬
‫حمَلْ ِم ْنهُ َ‬
‫حمِْلهَا لَا ُي ْ‬
‫خرَى وَإِن َت ْدعُ ُمثْقََلةٌ إِلَى ِ‬
‫وَلَا َتزِرُ وَازِرَ ٌة ِوزْرَ ُأ ْ‬
‫ستَوِي‬
‫خشَوْنَ َر ّبهُم بِال َغيْبِ وََأقَامُوا الصّلَاةَ َومَن َت َزكّى َفإِ ّنمَا َي َت َزكّى ِلنَ ْفسِ ِه وَإِلَى اللّ ِه ا ْل َمصِيرُ (‪َ )18‬ومَا َي ْ‬
‫َي ْ‬
‫حرُورُ (‪)21‬‬
‫عمَى وَا ْل َبصِيرُ (‪ )19‬وَلَا الظُّلمَاتُ وَلَا النّورُ (‪ )20‬وَلَا الظّلّ وَلَا ا ْل َ‬
‫ا ْلأَ ْ‬
‫ل لمشكلتك ‪ ,‬وهاك خلصا من ضيقتك !‬
‫ويقول لذاك‪:‬هاك ح ً‬

‫كل ذلك ‪ ,‬وهذا النسان هو الساكن الصغير من سكان هذه الرض ‪ ,‬التابعة الصغيرة من توابع الشمس ‪,‬‬
‫التائهة في هذا الوجود الكبير حتى ما تكاد تحس ! وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬هو فاطر السماوات والرض ‪ ,‬وخالق‬
‫هذا الوجود بما فيه ومن فيه بكلمة ‪ .‬بمجرد توجه الرادة ‪ .‬وهو قادر على ان يخلق مثله بكلمة وبمجرد توجه‬
‫الرادة ‪. .‬‬
‫والناس خلقاء أن يدركوا هذه الحقيقة ليدركوا مدى فضل ال ورعايته ورحمته ‪ ,‬وليستحيوا أن يستجيبوا‬
‫للفضل الخالص والرعاية المجردة والرحمة الفائضة بالعراض والجحود والنكران ‪.‬‬

‫فهي من هذه الناحية لمسة وجدانية موحية ‪ ,‬الى جانب أنها حقيقة صادقة واقعة ‪ .‬والقرآن يلمس بالحقائق‬
‫قلوب البشر ‪ ,‬لن الحقيقة حين تجلى أفعل في النفس ‪ ,‬ولنه هو الحق وبالحق نزل ‪ .‬فل يتحدث إل بالحق ‪,‬‬
‫ول يقنع ال بالحق ‪ ,‬ول يعرض إل بالحق ‪ ,‬ول يشير بغير الحق ‪. .‬‬

‫الدرس الثاني ‪ 18‬فردية التبعة والحساب والمستفيد من النذار‬

‫ولمسة أخرى بحقيقة أخرى ‪ .‬حقيقة فردية التبعة ‪ ,‬والجزاء الفردي الذي ل يغني فيه احد عن أحد شيئا ‪ .‬فما‬
‫ل منهم محاسب‬
‫بالنبي [ ص ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ‪ ,‬فهو محاسب على عمله وحده ‪ ,‬كما أن ك ً‬
‫على ما كسبت يداه ‪ ,‬يحمل حمله وحده ‪ ,‬ل يعينه أحد عليه ‪ .‬ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ‪ ,‬وهو الكاسب‬
‫وحده ل سواه ; والمر كله صائر إلى ال‪:‬‬

‫(ول تزر وازرة وزر أخرى ‪ .‬وإن تدع مثقلة إلى حملها ل يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)‪. . .‬‬

‫(ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ‪ ,‬وإلى ال المصير)‪. .‬‬

‫وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الخلقي ‪ ,‬وفي السلوك العملي سواء ‪ .‬فشعور كل‬
‫فرد بأنه مجزيّ بعمله ‪ ,‬ل يؤاخذ بكسب غيره ‪ ,‬ول يتخلص هو من كسبه ‪ ,‬عامل قوي في يقظته لمحاسبة‬
‫نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ‪ ,‬أو أن يحمل عنه أحد شيئا ‪.‬‬
‫كما أنه ‪ -‬في الوقت ذاته ‪ -‬عامل مطمئن ‪ ,‬فل يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ‪ ,‬فيطيش وييئس‬
‫من جدوى عمله الفردي الطيب ‪ .‬ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلل بما‬
‫يملك من وسيلة ‪.‬‬

‫إن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ل يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فردا فردا ; كل على عمله ‪ ,‬وفي حدود‬
‫واجبه ‪ .‬ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الصلح غاية جهده ‪ .‬فإذا قام بقسطه هذا فل عليه من‬
‫السوء في الجماعة التي يعيش فيها ‪ ,‬فإنما هو محاسب على إحسانه ‪ .‬كذلك لن ينفعه صلح الجماعة إذا كان‬
‫هو بذاته غير صالح ‪ .‬فال ل يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !‬

‫والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ‪ ,‬فتكون أعمق وأشد أثرا ‪ .‬يصور كل‬
‫نفس حاملة حملها ‪ .‬فل تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب القرباء ليحمل‬
‫عنها شيئا ‪ ,‬فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئا مما يثقلها !‬
‫إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ‪ ,‬حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في‬
‫وقفتها يبدو على من فيها الجهد والعياء ‪ ,‬واهتمام كل بحمله وثقله ‪ ,‬وانشغاله عن البعداء والقرباء !‬

‫وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ‪ ,‬يلتفت إلى رسول ال ‪ [ -‬ص ]‪:‬‬

‫(إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلة)‪. .‬‬

‫فهؤلء هم الذين يفلح فيهم النذار ‪ .‬هؤلء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه ‪ .‬ويقيمون الصلة ليتصلوا بربهم‬
‫ويعبدوه ‪ .‬هؤلء هم الذين ينتفعون بك ‪ ,‬ويستجيبون لك ‪ .‬فل عليك ممن ل يخشى ال ول يقيم الصلة ‪.‬‬

‫ومن تزكى فأنما يتزكى لنفسه ‪. .‬‬

‫ل لك ‪ .‬ول لغيرك ‪ .‬إنما هو يتطهر لينتفع بطهره ‪ .‬والتطهر معنى لطيف شفاف ‪ .‬يشمل القلب وخوالجه‬
‫ومشاعره ‪ ,‬ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره ‪ .‬وهو معنى موح رفاف ‪.‬‬

‫(وإلى ال المصير)‪. .‬‬

‫وهو المحاسب ‪ ,‬والمجازي ‪ ,‬فل يذهب عمل صالح ‪ ,‬ول يفلت عمل سيىء ‪ .‬ول يوكل الحكم والجزاء إلى‬
‫غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون ‪. .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 19:‬عدم تساوي المتناقضين كالمؤمن والكافر‬

‫ولن يستوي عند ال اليمان والكفر ‪ ,‬والخير والشر ‪ ,‬والهدى والضلل ; كما ل يستوي العمى والبصر ‪,‬‬
‫والظلمة والنور ‪ ,‬والظل والحرور ‪ ,‬والحياة والموت ‪ ,‬وهي مختلفة الطبائع من الساس‪:‬‬

‫وما يستوي العمى والبصير ‪ .‬ول الظلمات ول النور ‪ .‬ول الظل ول الحرور ‪ .‬وما يستوي الحياء ول‬
‫الموات ‪. .‬‬

‫وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة ‪ .‬كما أن هناك صلة بين طبيعة‬
‫اليمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة ‪. .‬‬

‫إن اليمان نور ‪ ,‬نور في القلب ونور في الجوارح ‪ ,‬ونور في الحواس ‪ .‬نور يكشف حقائق الشياء والقيم‬
‫والحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد ‪ .‬فالمؤمن ينظر بهذا النور ‪ ,‬نور ال ‪ ,‬فيرى تلك الحقائق ‪,‬‬
‫ويتعامل معها ‪ ,‬ول يخبط في طريقه ول يلطش في خطواته !‬
‫واليمان بصر ‪ ,‬يرى ‪ .‬رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ول مخلخلة ‪ .‬ويمضي بصاحبه في الطريق على‬
‫نور وعلى ثقة وفي اطمئنان ‪.‬‬

‫واليمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ‪ ,‬ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم‬
‫بل دليل !‬

‫واليمان حياة ‪ .‬حياة في القلوب والمشاعر ‪ .‬حياة في القصد والتجاه ‪ .‬كما أنه حركة بانية ‪ .‬مثمرة ‪ .‬قاصدة‬
‫‪ .‬ل خمود فيها ول همود ‪ .‬ول عبث فيها ول ضياع ‪.‬‬

‫والكفر عمى ‪ .‬عمى في طبيعة القلب ‪ .‬وعمى عن رؤية دلئل الحق ‪ .‬وعمى عن رؤية حقيقة الوجود ‪.‬‬
‫وحقيقة الرتباطات فيه ‪ .‬وحقيقة القيم والشخاص والحداث والشياء ‪.‬‬

‫والكفر ظلمة أو ظلمات ‪ .‬فعندما يبعد الناس عن نور اليمان يقعون في ظلمات من شتى النواع والشكال ‪.‬‬
‫ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الشياء ‪.‬‬

‫والكفر هاجرة ‪ .‬حرور ‪ .‬تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الستقرار على هدف ‪ ,‬وعدم الطمئنان‬
‫إلى نشأة أو مصير ‪ .‬ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !‬

‫والكفر موت ‪ .‬موت في الضمير ‪ .‬وانقطاع عن مصدر الحياة الصيل ‪ .‬وانفصال عن الطريق الواصل ‪.‬‬

‫ن أَنتَ إِلّا َنذِيرٌ (‬


‫سمِعٍ مّن فِي الْ ُقبُورِ (‪ )22‬إِ ْ‬
‫ت ِبمُ ْ‬
‫سمِعُ مَن َيشَاءُ َومَا أَن َ‬
‫حيَاء وَلَا ا ْلَأ ْموَاتُ ِإنّ اللّهَ ُي ْ‬
‫ستَوِي ا ْلَأ ْ‬
‫َومَا َي ْ‬
‫ك فَ َقدْ َكذّبَ اّلذِينَ مِن‬
‫حقّ َبشِيرا َو َنذِيرا وَإِن مّنْ ُأمّةٍ إِلّا خلَا فِيهَا َنذِيرٌ (‪ )24‬وَإِن ُي َكذّبُو َ‬
‫‪ِ )23‬إنّا َأ ْرسَ ْلنَاكَ بِا ْل َ‬
‫ت اّلذِينَ كَ َفرُوا َف َكيْفَ كَانَ َنكِيرِ (‪)26‬‬
‫خذْ ُ‬
‫َقبْلِ ِهمْ جَاء ْت ُهمْ ُرسُُلهُم بِا ْل َب ّينَاتِ َوبِال ّز ُبرِ َوبِا ْل ِكتَابِ ا ْل ُمنِيرِ (‪ُ )25‬ثمّ َأ َ‬
‫وعجز عن النفعال والستجابة الخذين من النبع الحقيقي ‪ ,‬المؤثرين في سير الحياة !‬

‫ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ‪ ,‬ولن يستوي عند ال هذا وذاك ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 26 - 22:‬حدود مهمة الرسول ومواساته على كفر الكفار‬

‫وهنا يلتفت إلى النبي [ ص ] يعزيه ويسري عنه ‪ ,‬بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة ال ‪ .‬وترك ما تبقى‬
‫بعد ذلك لصاحب المر يفعل به ما يشاء‪:‬‬
‫(إن ال يسمع من يشاء ‪ ,‬وما أنت بمسمع من في القبور ‪ .‬إن أنت إل نذير ‪ .‬إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا‬
‫‪ ,‬وإن من أمة إل خل فيها نذير ‪ .‬وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر‬
‫وبالكتاب المنير ‪ .‬ثم أخذت الذين كفروا ‪ .‬فكيف كان نكير ?)‪. .‬‬

‫إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس ‪ .‬واختلف طباع الناس واختلف استقبالهم لدعوة ال‬
‫أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ‪ ,‬والظل والحرور ‪ ,‬والظلمات والنور ‪ ,‬والحياة والموت ‪.‬‬
‫ووراء ذلك كله تقدير ال وحكمته ‪ .‬وقدرته على ما يشاء ‪.‬‬

‫وإذن فالرسول ليس إل نذيرا ‪ .‬وقدرته البشرية تقف عند هذا الحد ‪ .‬فما هو بمسمع من في القبور ‪ .‬ول من‬
‫يعيشون بقلوب ميتة فهم كأهل القبور ! وال وحده هو القادر على إسماع من يشاء ‪ ,‬وفق ما يشاء ‪ ,‬حسبما‬
‫يشاء ‪ .‬فماذا على الرسول أن يضل من يضل ‪ ,‬ويعرض من يعرض متى أدى المانة ‪ ,‬وبلغ الرسالة ‪ ,‬فسمع‬
‫من شاء ال أن يسمع ‪ ,‬وأعرض من شاء ال أن يعرض ?‬

‫ومن قبل قال ال لرسوله [ ص ]‪( :‬فل تذهب نفسك عليهم حسرات)‪.‬‬

‫لقد أرسله ال بالحق بشيرا ونذيرا ‪ .‬شأنه شأن إخوانه من الرسل ‪ -‬صلوات ال عليهم ‪ -‬وهم كثير ‪ .‬فما من‬
‫أمة إل سبق فيها رسول‪:‬‬

‫(وإن من أمة إل خل فيها نذير)‪.‬‬

‫فإن لقي من قومه التكذيب ‪ ,‬فتلك هي طبيعة القوام في استقبال الرسل ; ل عن تقصير من الرسل ‪ ,‬ول عن‬
‫نقص في الدليل‪:‬‬

‫(وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم ‪ .‬جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير)‪. .‬‬

‫والبينات الحجج في صورها الكثيرة ‪ ,‬ومنها الخوارق المعجزة التي كانوا يطلبون أو يتحداهم بها الرسول ‪.‬‬
‫والزبر الصحف المتفرقة بالمواعظ والنصائح والتوجيهات والتكاليف ‪ .‬والكتاب المنير ‪ .‬الرجح أنه كتاب‬
‫موسى ‪ .‬التوراة ‪ .‬وكلهم كذبوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ‪.‬‬

‫هذا كان شأن أمم كثيرة في استقبال رسلهم وما معهم من دلئل الهدى ‪ .‬فالمر إذن ليس جديدا ‪ ,‬وليس فريدا ‪,‬‬
‫إنما هو ماض مع سنة الولين ‪.‬‬

‫وهنا يعرض على المشركين مصائر المكذبين ‪ .‬لعلهم يحذرون‪:‬‬

‫(ثم أخذت الذين كفروا)‪. .‬‬


‫ويسأل سؤال تعجيب وتهويل‪:‬‬

‫(فكيف كان نكير ?)‪. .‬‬

‫ختَِلفٌ‬
‫ح ْمرٌ ّم ْ‬
‫ج َددٌ بِيضٌ َو ُ‬
‫جبَالِ ُ‬
‫ختَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َو ِمنَ ا ْل ِ‬
‫جنَا ِبهِ َث َمرَاتٍ ّم ْ‬
‫خرَ ْ‬
‫سمَاءِ مَاءً َفَأ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن اللّ َه أَنزَلَ مِ َ‬
‫أََلمْ َترَ أَ ّ‬
‫غرَابِيبُ سُودٌ (‪)27‬‬
‫أَلْوَا ُنهَا وَ َ‬

‫ولقد كان النكير شديدا ‪ ,‬وكان الخذ تدميرا ‪ .‬فليحذر الماضون على سنة الولين ‪ ,‬أن يصيبهم ما أصاب‬
‫الولين !‬

‫إنها لمسة قرآنية ينتهي بها هذا المقطع ‪ .‬وتختم بها هذه الجولة ‪ .‬ثم تبدأ جولة جديدة في واد جديد ‪. .‬‬

‫الوحدة الخامسة ‪ 38 - 27‬الموضوع‪:‬التنوع والتكوين في الكون واتجاهات البشر مقدمة الوحدة‬

‫وهذه الجولة قراءات في كتاب الكون وفي الكتاب المنزل ‪ .‬قراءات في كتاب الكون في صحائفه المعجبة‬
‫الرائعة ‪ ,‬المتنوعة اللوان والنواع والجناس ‪ .‬الثمار المتنوعة اللوان ‪ ,‬والجبال الملونة الشعاب ‪ ,‬والناس‬
‫والدواب والنعام وألوانها المتعددة الكثيرة ‪ . .‬هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون‬
‫المفتوح ‪. .‬وقراءات في الكتاب المنزل وما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة ‪ .‬وتوريث‬
‫هذا الكتاب للمة المسلمة ‪ .‬ودرجات الوارثين ‪ .‬وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو ال وغفرانه للمسيئين ;‬
‫ومشهدهم في دار النعيم ‪ .‬ومقابلهم مشهد الكافرين الليم ‪ .‬وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة اللوان‬
‫بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم ال العليم بذات الصدور ‪. .‬‬

‫الدرس الول‪ 28 - 27:‬التنويع والتلوين في خلق ال‬

‫(ألم تر أن ال أنزل من السماء ماء ‪ ,‬فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ; ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف‬
‫ألوانها وغرابيب سود)‪ ,‬ومن الناس والدواب والنعام مختلف ألوانه كذلك ‪ .‬إنما يخشى ال من عباده العلماء ‪.‬‬
‫إن ال عزيز غفور)‪. .‬‬

‫إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب ‪ .‬لفتة تطوف في الرض كلها تتبع فيها‬
‫اللوان والصباغ في كل عوالمها ‪ .‬في الثمرات ‪ .‬وفي الجبال ‪ .‬وفي الناس ‪ .‬وفي الدواب والنعام ‪ .‬لفتة‬
‫تجمع في كلمات قلئل ‪ ,‬بين الحياء وغير الحياء في هذه الرض جميعا ‪ ,‬وتدع القلب مأخوذا بذلك‬
‫المعرض اللهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الرض جميعا ‪.‬‬
‫وتبدأ بإنزال الماء من السماء ‪ ,‬وإخراج الثمرات المختلفات اللوان ‪ .‬ولن المعرض معرض أصباغ وشيات ‪,‬‬
‫فإنه ل يذكر هنا من الثمرات إل ألوانها (فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها)‪ . .‬وألوان الثمار معرض بديع‬
‫لللوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الجيال ‪ .‬فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون‬
‫نوع آخر ‪ .‬بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد ‪ .‬فعند التدقيق في أي ثمرتين‬
‫أختين يبدو شيء من اختلف اللون !‬

‫وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ; ولكنها من ناحية دراسة اللوان تبدو‬
‫طبيعية ‪ .‬ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ‪ ,‬بل إن فيها أحيانا ما يكون على‬
‫شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها !‬

‫(ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود)‪. .‬‬

‫والجدد الطرائق والشعاب ‪ .‬وهنا لفتة في النص صادقة ‪ ,‬فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها ‪ .‬والجدد‬
‫الحمر مختلف ألوانها فيما بينها ‪ .‬مختلف في درجة اللون والتظليل واللوان الخرى المتداخلة فيه ‪ ,‬وهناك‬
‫جدد غرابيب سود ‪ ,‬حالكة شديدة السواد ‪.‬‬

‫واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ‪ ,‬بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ‪ ,‬تهز‬
‫القلب هزا ‪ ,‬وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ‪ ,‬التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة‬
‫كما تراه في الثمرة ‪ ,‬على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ‪ ,‬وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير‬
‫النسان ‪ .‬ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك ‪ ,‬يستحق النظر‬
‫واللتفات ‪.‬‬

‫ثم ألوان الناس ‪ .‬وهي ل تقف عند اللوان المتميزة العامة لجناس البشر ‪ .‬فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين‬
‫بني جنسه ‪ .‬بل متميز من توأمه الذي شاركه حملً واحدا في بطن واحدة !‬

‫وكذلك ألوان الدواب والنعام ‪ .‬والدواب أشمل والنعام أخص ‪ .‬فالدابة كل حيوان ‪ .‬والنعام هي البل‬

‫عزِيزٌ غَفُورٌ (‪)28‬‬


‫عبَادِهِ ا ْلعَُلمَاء ِإنّ اللّهَ َ‬
‫خشَى اللّهَ ِمنْ ِ‬
‫ختَلِفٌ أَ ْلوَانُ ُه َكذَِلكَ ِإ ّنمَا َي ْ‬
‫َومِنَ النّاسِ وَالدّوَابّ وَا ْلَأ ْنعَا ِم ُم ْ‬
‫سرّا وَعَلَا ِنيَ ًة َيرْجُونَ ِتجَارَ ًة لّن َتبُورَ (‪)29‬‬
‫ب اللّهِ وََأقَامُوا الصّلَاةَ وَأَن َفقُوا ِممّا رَ َز ْقنَاهُمْ ِ‬
‫ن اّلذِينَ َيتْلُونَ ِكتَا َ‬
‫إِ ّ‬
‫شكُورٌ (‪)30‬‬
‫ِليُ َو ّف َيهُمْ ُأجُورَ ُهمْ َو َيزِيدَهُم مّن َفضْلِهِ ِإنّهُ غَفُورٌ َ‬
‫والبقر والغنم والماعز ‪ ,‬خصصها من الدواب لقربها من النسان ‪ .‬واللوان والصباغ فيها معرض كذلك‬
‫جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء ‪.‬‬
‫هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ‪ ,‬يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول‪:‬‬

‫إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون ال‪:‬‬

‫(إنما يخشى ال من عباده العلماء)‪. .‬‬

‫وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ‪ ,‬والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب‬
‫‪ .‬ومن ثم يعرفون ال معرفة حقيقية ‪ .‬يعرفونه بآثار صنعته ‪ .‬ويدركونه بآثار قدرته ‪ .‬ويستشعرون حقيقة‬
‫عظمته برؤية حقيقة إبداعه ‪ .‬ومن ثم يخشونه حقا ويتقونه حقا ‪ ,‬ويعبدونه حقا ‪ .‬ل بالشعور الغامض الذي‬
‫يجده القلب أمام روعة الكون ‪ .‬ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر ‪ . .‬وهذه الصفحات نموذج من الكتاب ‪.‬‬
‫‪ .‬واللوان والصباغ نموذج من بدائع التكوين الخرى وبدائع التنسيق التي ل يدركها إل العلماء بهذا الكتاب‬
‫‪ .‬العلماء به علما واصلً ‪ .‬علما يستشعره القلب ‪ ,‬ويتحرك به ‪ ,‬ويرى به يد ال المبدعة لللوان والصباغ‬
‫والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل ‪.‬‬

‫إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ‪ .‬ومن كمال هذا الجمال أن وظائف‬
‫الشياء تؤدى عن طريق جمالها ‪ .‬هذه اللوان العجيبة في الزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة‬
‫التي تفوح ‪ .‬ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ‪ ,‬لتنشأ الثمار ‪ .‬وهكذا تؤدي‬
‫الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها ! ‪ . .‬والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الخر إليه ‪ ,‬لداء‬
‫الوظيفة التي يقوم بها الجنسان ‪ .‬وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال ‪.‬‬

‫الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ‪ .‬ومن ثم هذه اللفتات في كتاب ال المنزل إلى‬
‫الجمال في كتاب ال المعروض ‪.‬‬

‫(إن ال عزيز غفور)‪. .‬‬

‫عزيز قادر على البداع وعلى الجزاء ‪ .‬غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ‪ ,‬وهم يرون بدائع‬
‫صنعته ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 30 - 29:‬ثواب وفوز أصحاب التلوة والتطبيق‬

‫ومن كتاب الكون ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل ‪ ,‬والذين يتلونه ‪ ,‬وما يرجون من تلوته ‪ ,‬وما ينتظرهم من‬
‫جزاء‪:‬‬

‫(إن الذين يتلون كتاب ال ‪ ,‬وأقاموا الصلة ‪ ,‬وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلنية ‪ ,‬يرجون تجارة لن تبور ‪.‬‬
‫ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ‪ .‬إنه غفور شكور)‪. .‬‬
‫وتلوة كتاب ال تعني شيئا آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت ‪ .‬تعني تلوته عن تدبر ‪ ,‬ينتهي‬
‫إلى إدراك وتأثر ‪ ,‬وإلى عمل بعد ذلك وسلوك ‪ .‬ومن ثم يتبعها بإقامة الصلة ‪ ,‬وبالنفاق سرا وعلنية من‬
‫رزق ال ‪ .‬ثم رجاؤهم بكل هذا (تجارة لن تبور)‪ . .‬فهم يعرفون أن ما عند ال خير مما ينفقون ‪ .‬ويتاجرون‬
‫تجارة كاسبة مضمونة الربح ‪ .‬يعاملون فيها ال وحده وهي أربح معاملة ; ويتاجرون بها في الخرة وهي‬
‫أربح تجارة ‪ . .‬تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم ‪ ,‬وزيادتهم من فضل ال ‪( . .‬إنه غفور شكور)‪ . .‬يغفر‬
‫التقصير ويشكر الداء ‪ .‬وشكره ‪ -‬تعالى ‪ -‬كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء ‪ .‬ولكن‬
‫التعبير‬

‫خبِيرٌ َبصِيرٌ (‪ُ )31‬ثمّ أَ ْو َر ْثنَا ا ْل ِكتَابَ‬


‫صدّقا ّلمَا َبيْنَ َي َديْهِ ِإنّ اللّهَ ِب ِعبَادِهِ َل َ‬
‫حقّ ُم َ‬
‫ن ا ْل ِكتَابِ هُ َو ا ْل َ‬
‫ح ْينَا إَِل ْيكَ مِ َ‬
‫وَاّلذِي َأ ْو َ‬
‫ت ِبِإذْنِ اللّهِ ذَِلكَ هُ َو الْ َفضْلُ‬
‫خيْرَا ِ‬
‫صدٌ َو ِم ْنهُمْ سَا ِبقٌ بِا ْل َ‬
‫عبَا ِدنَا فَ ِم ْن ُهمْ ظَالِمٌ ّلنَ ْفسِهِ َو ِم ْنهُم مّ ْقتَ ِ‬
‫صطَ َف ْينَا مِنْ ِ‬
‫اّلذِينَ ا ْ‬
‫حرِيرٌ (‪)33‬‬
‫س ُهمْ فِيهَا َ‬
‫ن َي ْدخُلُو َنهَا ُيحَلّوْنَ فِيهَا ِمنْ َأسَا ِورَ مِن ذَهَبٍ وَُلؤْلُؤا وَِلبَا ُ‬
‫عدْ ٍ‬
‫جنّاتُ َ‬
‫ا ْل َكبِيرُ (‪َ )32‬‬
‫يوحي للبشر بشكر المنعم ‪ .‬تشبها واستحياء ‪ .‬فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الداء أفل يشكرون له هم حسن‬
‫العطاء ?!‬

‫الدرس الثالث‪ 38 - 31:‬اختلف موقف الناس من القرآن وصورة من النعيم والعذاب يوم القيامة‬

‫ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب ‪ ,‬وما فيه من الحق ‪ ,‬تمهيدا للحديث عن ورثة هذا الكتاب‪:‬‬

‫(والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ‪ ,‬مصدقا لما بين يديه ‪ .‬إن ال بعباده لخبير بصير)‪. . .‬‬

‫ودلئل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه ; فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ‪ ,‬أو هو‬
‫الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة ‪ .‬وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره ‪.‬‬
‫والحق واحد ل يتعدد فيها وفيه ‪ .‬ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ‪ ,‬وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم‪:‬‬
‫(إن ال بعباده لخبير بصير)‪. .‬‬

‫هذا هو الكتاب في ذاته ‪ .‬وقد أورثه ال لهذه المة المسلمة ‪ ,‬اصطفاها لهذه الوراثة ‪ ,‬كما يقول هنا في كتابه‪:‬‬

‫(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)‪. .‬‬

‫وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه المة بكرامتها على ال ; كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا‬
‫الصطفاء وعن تلك الوراثة ‪ .‬وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ‪ ,‬فهل تسمع المة المصطفاة وتستجيب ?‬

‫إن ال سبحانه قد أكرم هذه المة بالصطفاء للوراثة ; ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء‪:‬‬
‫(فمنهم ظالم لنفسه ‪ .‬ومنهم مقتصد ‪ .‬ومنهم سابق بالخيرات بإذن ال)‪. .‬‬

‫ل لنه الكثر عددا ‪( -‬ظالم لنفسه)تربى سيئاته في العمل على حسناته ‪.‬‬
‫فالفريق الول ‪ -‬ولعله ذكر أو ً‬
‫والفريق الثاني وسط(مقتصد)تتعادل سيئاته وحسناته ‪ .‬والفريق الثالث (سابق بالخيرات بإذن ال)‪ ,‬تربى‬
‫حسناته على سيئاته ‪ . .‬ولكن فضل ال شمل الثلثة جميعا ‪ .‬فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في‬
‫اليات التالية ‪ .‬على تفاوت في الدرجات ‪.‬‬

‫ول ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه المة باصطفائها ‪,‬‬
‫وكرم ال سبحانه في جزائها ‪ .‬فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ‪ ,‬وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه‬
‫المة جيمعا ‪ -‬بفضل ال ‪ -‬ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم ال ‪.‬‬

‫نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره ال لهذه المة بصنوفها الثلثة من حسن الجزاء‪:‬‬

‫(ذلك هو الفضل الكبير ‪ .‬جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ‪.‬‬
‫وقالوا‪:‬الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن ‪ .‬إن ربنا لغفور شكور ‪ .‬الذي أحلّنا دار المقامة من فضله ل يمسنا‬
‫فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب)‪. .‬‬

‫إن المشهد يتكشف عن نعيم مادي ملموس ‪ ,‬ونعيم نفسي محسوس ‪ .‬فهم (يحلون فيها من أساور من ذهب‬
‫ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير)‪ . .‬وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ‪ ,‬الذي يلبي بعض رغائب النفوس ‪.‬‬
‫وبجانبه ذلك الرضا وذلك المن وذلك الطمئنان‪( :‬وقالوا الحمد ل الذي أذهب عنا الحزن)‪ . .‬والدنيا بما فيها‬
‫من‬

‫شكُورٌ (‪ )34‬اّلذِي َأحَّلنَا دَارَ ا ْلمُقَامَةِ مِن َفضْلِهِ لَا َي َمسّنَا‬


‫حزَنَ ِإنّ َر ّبنَا َلغَفُورٌ َ‬
‫عنّا ا ْل َ‬
‫ح ْمدُ لِلّ ِه اّلذِي َأذْهَبَ َ‬
‫َوقَالُوا ا ْل َ‬
‫ع ْنهُم مّنْ‬
‫ج َه ّنمَ لَا يُ ْقضَى عََل ْيهِمْ َف َيمُوتُوا وَلَا ُيخَ ّففُ َ‬
‫سنَا فِيهَا ُلغُوبٌ (‪ )35‬وَاّلذِينَ كَ َفرُوا َل ُهمْ نَارُ َ‬
‫فِيهَا َنصَبٌ وَلَا َي َم ّ‬
‫غ ْيرَ اّلذِي ُكنّا َن ْعمَلُ َأوََلمْ‬
‫جنَا َن ْعمَلْ صَالِحا َ‬
‫خ ِر ْ‬
‫ط ِرخُونَ فِيهَا َر ّبنَا َأ ْ‬
‫ل كَفُورٍ (‪ )36‬وَ ُهمْ َيصْ َ‬
‫جزِي كُ ّ‬
‫عذَا ِبهَا َكذَِلكَ َن ْ‬
‫َ‬
‫غيْبِ‬
‫ُن َعمّ ْركُم مّا َي َت َذكّ ُر فِي ِه مَن َت َذكّرَ َوجَاء ُكمُ ال ّنذِيرُ َفذُوقُوا فَمَا لِلظّاِلمِينَ مِن ّنصِيرٍ (‪ )37‬إِنّ اللّهَ عَاِلمُ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ ِإنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ (‪)38‬‬
‫ال ّ‬
‫قلق على المصير ‪ ,‬ومعاناة للمور تعد حزنا بالقياس إلى هذا النعيم المقيم ‪ .‬والقلق يوم الحشر على المصير‬
‫مصدر حزن كبير ‪( .‬إن ربنا لغفور شكور)‪ . .‬غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما جازانا عليها ‪( .‬الذي أحلّنا دار‬
‫المقامة)‪ . .‬للقامة والستقرار (من فضله)فما لنا عليه من حق ‪ ,‬إنما هو الفضل يعطيه من يشاء ‪( .‬ل يمسنا‬
‫فيها نصب ول يمسنا فيها لغوب)‪ . .‬بل يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والطمئنان ‪.‬‬
‫فالجو كله يسر وراحة ونعيم ‪ .‬واللفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم ‪ .‬حتى‬
‫"الحزن" ل يتكأ عليه بالسكون الجازم ‪ .‬بل يقال "الحزَن" بالتسهيل والتخفيف ‪ .‬والجنة (دار المقامة)‪ .‬والنصب‬
‫واللغوب ل يمسانهم مجرد مساس ‪ .‬واليقاع الموسيقي للتعبير كله هادىء ناعم رتيب ‪.‬‬

‫ثم نتلفت الى الجانب الخر ‪ .‬فنرى القلق والضطراب وعدم الستقرار على حال‪:‬‬

‫(والذين كفروا لهم نار جهنم ‪ ,‬ل يقضى عليهم فيموتوا ‪ ,‬ول يخفف عنهم من عذابها)‪. .‬‬

‫فل هذه ول تلك ‪ .‬حتى الرحمة بالموت ل تنال !‬

‫(كذلك نجزي كل كفور)‪. .‬‬

‫ثم ها نحن أولء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الصداء ‪ ,‬متناوح من شتى الرجاء ‪ .‬إنه‬
‫صوت المنبوذين في جهنم‪:‬‬

‫(وهم يصطرخون فيها)‬

‫وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعا ‪ . .‬فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول ‪ .‬إنه‬
‫يقول‪:‬‬

‫(ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل)‪. .‬‬

‫إنه النابة والعتراف والندم إذن ‪ .‬ولكن بعد فوات الوان ‪ .‬فها نحن أولء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب‬
‫القاسي‪:‬‬

‫(أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ?)‪. .‬‬

‫فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ‪ ,‬وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر ‪.‬‬

‫(وجاءكم النذير)‪. .‬‬

‫زيادة في التنبيه والتحذير ‪ .‬فلم تتذكروا ولم تحذروا ‪.‬‬

‫(فذوقوا ‪ .‬فما للظالمين من نصير)‪. .‬‬

‫إنهما صورتان متقابلتان‪:‬صورة المن والراحة ‪ ,‬تقابلها صورة القلق والضطراب ‪ .‬ونغمة الشكر والدعاء‬
‫تقابلها ضجة الصطراخ والنداء ‪ .‬ومظهر العناية والتكريم ‪ ,‬يقابله مظهر الهمال والتأنيب ‪ .‬والجرس اللين‬
‫واليقاع الرتيب ‪ ,‬يقابلهما الجرس الغليظ واليقاع العنيف ‪ .‬فيتم التقابل ‪ ,‬ويتم التناسق في الجزئيات وفي‬
‫الكليات سواء ‪.‬‬

‫وأخيرا يجيء التعقيب على هذه المشاهد جميعا ‪ ,‬وعلى ما سبقها من اصطفاء وتوريث‪:‬‬

‫(إن ال عالم غيب السماوات والرض ‪ .‬إنه عليم بذات الصدور)‪.‬‬

‫ن كُ ْفرُ ُهمْ عِندَ َر ّب ِهمْ إِلّا مَقْتا وَلَا َيزِيدُ‬


‫جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ فِي ا ْلَأرْضِ َفمَن َك َفرَ َفعَلَيْ ِه كُ ْفرُهُ وَلَا َيزِيدُ ا ْلكَا ِفرِي َ‬
‫هُوَ اّلذِي َ‬
‫خسَارا (‪)39‬‬
‫ا ْلكَا ِفرِينَ كُ ْفرُ ُهمْ إِلّا َ‬

‫والعلم الشامل اللطيف الدقيق أنسب تعقيب على تنزيل الكتاب ‪ .‬وعلى اصطفاء من يرثونه ويحملونه ‪ .‬وعلى‬
‫تجاوز ال عن ظلم بعضهم لنفسه ‪ .‬وعلى تفضله عليهم بذلك الجزاء ‪ .‬وعلى حكمه على الذين كفروا بذلك‬
‫المصير ‪ . .‬فهو عالم غيب السماوات والرض ‪ .‬وهو عليم بذات الصدور ‪ .‬وبهذا العلم الشامل اللطيف‬
‫الدقيق يقضي في كل هذه المور ‪. .‬‬

‫الوحدة السادسة‪ 45 - 39:‬الموضوع‪:‬خضوع الكون والنسان ل وسنته المطردة ونفي الشركاء مقدمة الوحدة‬

‫هذا المقطع الخير في السورة يشتمل عل جولت واسعة المدى كذلك ‪ ,‬ولمسات للقلب وإيحاءات شتى‪:‬جولة‬
‫مع البشرية في أجيالها المتعاقبة ‪ ,‬يخلف بعضها بعضا ‪ .‬وجولة في الرض والسماوات للبحث عن أي أثر‬
‫للشركاء الذين يدعونهم من دون ال ‪ .‬وجولة في السماوات والرض كذلك لرؤية يد ال القوية القادرة‬
‫تمسكبالسماوات والرض أن تزول ‪ .‬وجولة مع هؤلء المكذبين بتلك الدلئل واليات كلها وهم قد عاهدوا ال‬
‫من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى المم ‪ ,‬ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما‬
‫زادهم إل نفورا ‪ .‬وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ول يخشون أن تدور‬
‫عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة ال الجارية ‪ . .‬ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب‪( :‬ولو يؤاخذ ال الناس‬
‫بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)‪ .‬وفضل ال العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الخذ المدمر المبيد‬
‫‪..‬‬

‫الدرس الول‪ 39:‬استخلف ال للناس في الرض‬

‫(هو الذي جعلكم خلئف في الرض ‪ .‬فمن كفر فعليه كفره ‪ .‬ول يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إل مقتا ‪.‬‬
‫ول يزيد الكافرين كفرهم إل خسارا)‪.‬‬
‫إن تتابع الجيال في الرض ‪ ,‬وذهاب جيل ومجيء جيل ‪ ,‬ووراثة هذا لذاك ‪ ,‬وانتهاء دولة وقيام دولة ‪,‬‬
‫وانطفاء شعلة واتقاد شعلة ‪ .‬وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور ‪ . .‬إن التفكير في هذه الحركة‬
‫الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ‪ ,‬وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ‪ ,‬يتأمل‬
‫التون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ‪ ,‬كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم ‪ .‬وجدير‬
‫بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير العمار ‪ ,‬وتقلب الصولجان ‪ ,‬وتديل الدول ‪ ,‬وتورث الملك ‪ ,‬وتجعل من‬
‫الجيل خليفة لجيل ‪ .‬وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ‪ ,‬وال وحده هو الباقي الدائم الذي ل يزول ول يحول ‪.‬‬

‫ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ‪ ,‬فل يخلد ول يبقى ‪ .‬من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ; وأن‬
‫يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ‪ ,‬وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل ‪ .‬من‬
‫كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ‪ ,‬ويترك وراءه الذكر الجميل ‪ ,‬ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه‬
‫الخير ‪.‬‬

‫هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ‪ ,‬حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ‪ ,‬والطلوع والفول ‪,‬‬
‫والدول الدائلة ‪ ,‬والحياة الزائلة ‪ ,‬والوراثة الدائبة جيلً بعد جيل‪:‬‬

‫(هو الذي جعلكم خلئف في الرض)‪. .‬‬

‫وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ‪ ,‬يذكرهم بفردية التبعة ‪ ,‬فل يحمل أحد عن أحد شيئا ‪ ,‬ول يدفع‬
‫أحد عن أحد شيئا ; ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلل ‪ ,‬وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف‪:‬‬

‫(فمن كفر فعليه كفره ‪ .‬ول يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إل مقتا ‪ .‬ول يزيد الكافرين كفرهم إل خسارا)‪.‬‬

‫والمقت أشد البغض ‪ .‬ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره ? وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل‬
‫خسران ?!‬

‫الدرس الثاني‪ 40:‬نفي الشركاء العجزة عن ال‬

‫والجولة الثانية في السماوات والرض ‪ ,‬لتقصّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون ال ‪,‬‬
‫والسماوات والرض ل تحس لهم أثرا ‪ ,‬ول تعرف عنهم خبرا‪:‬‬

‫(قل‪:‬أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون ال ? أروني ماذا خلقوا من الرض ? أم لهم شرك في‬
‫السماوات ? أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه ? بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إل غرورا)‪.‬‬

‫والحجة واضحة والدليل بين ‪ .‬فهذه الرض بكل ما فيها ومن فيها ‪ .‬هذه هي مشهودة منظورة ‪ .‬أي جزء فيها‬
‫أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحدا ‪ -‬غير ال ‪ -‬خلقه وأنشأه ! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه‬
‫سمَاوَاتِ َأمْ‬
‫ش ْركٌ فِي ال ّ‬
‫ن ا ْلَأرْضِ َأمْ َل ُهمْ ِ‬
‫ن اللّ ِه َأرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِ َ‬
‫ن مِن دُو ِ‬
‫ن َتدْعُو َ‬
‫ش َركَاءكُمُ اّلذِي َ‬
‫قُلْ َأرََأيْ ُتمْ ُ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫غرُورا (‪ِ )40‬إنّ اللّهَ ُي ْم ِ‬
‫ضهُم َبعْضا إِلّا ُ‬
‫آ َت ْينَاهُمْ ِكتَابا َفهُمْ عَلَى َب ّينَ ٍة ّمنْ ُه بَلْ إِن َي ِعدُ الظّالِمُونَ َب ْع ُ‬
‫غفُورا (‪)41‬‬
‫حدٍ مّن َب ْعدِ ِه ِإنّهُ كَانَ حَلِيما َ‬
‫س َكهُمَا ِمنْ َأ َ‬
‫ن َأ ْم َ‬
‫وَا ْلَأرْضَ أَن َتزُولَا وََلئِن زَاَلتَا إِ ْ‬
‫الدعوى لو جرؤ عليها مدع ‪ .‬وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو ال ; وهو يحمل آثار الصنعة التي ل‬
‫يدعيها مدع ‪ ,‬لنه ل تشبهها صنعة ‪ ,‬مما يعمل العاجزون أبناء الفناء !‬

‫(أم لهم شرك في السماوات ?)‪. .‬‬

‫ول هذه من باب أولى ! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه اللهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات ‪ ,‬ول‬
‫مشاركة في ملكية السماوات ‪ .‬كائنة ما كانت ‪ .‬حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملئكة ‪ . .‬فقصارى ما‬
‫كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلغهم خبر السماء ‪ .‬أو يستشفعوا بالملئكة عند ال ‪ .‬ولم يرتق‬
‫ادعاؤهم يوما إلى الزعم بأن لهم شركا في السماء !‬

‫(أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه ?)‪. .‬‬

‫وحتى هذه الدرجة ‪ -‬درجة أن يكون ال قد آتى هؤلء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه ‪ ,‬واثقون بما فيه ‪ -‬لم‬
‫يبلغها أولئك الشركاء المزعومون ‪ . .‬والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال النكاري موجها إلى المشركين‬
‫أنفسهم ‪ -‬ل إلى الشركاء ‪ -‬فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه‬
‫من ال فهم على بينة منه وبرهان ‪ .‬وليس هذا صحيحا ول يمكن أن يدعوه ‪ .‬وعلى هذا المعنى يكون هناك‬
‫إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من ال بيّن ‪ .‬وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق ‪ .‬وليس لهم من‬
‫هذا شيء يدعونه ; بينما الرسول [ ص ] قد جاءهم بكتاب من عند ال بيّن ‪ .‬فما لهم يعرضون عنه ‪ ,‬وهو‬
‫السبيل الوحيد لستمداد العقيدة ?!‬

‫(بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إل غرورا)‪. .‬‬

‫والظالمون يعد بعضهم بعضا أن طريقتهم هي المثلى ; وأنهم هم المنتصرون في النهاية ‪ .‬وإن هم إل‬
‫مخدوعون مغرورون ‪ ,‬يغر بعضهم بعضا ‪ ,‬ويعيشون في هذا الغرور الذي ل يجدي شيئا ‪. .‬‬

‫الدرس الثالث‪ 41:‬تدبير ال للسموات والرض وقيامه عليهما‬

‫والجولة الثالثة ‪ -‬بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ول خبر في السماوات ول في الرض ‪ -‬تكشف عن يد ال‬
‫القوية الجبارة تمسك بالسماوات والرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بل شريك‪:‬‬
‫(إن ال يمسك السماوات والرض أن تزول ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ‪ .‬إنه كان حليما غفورا)‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫ونظرة إلى السماوات والرض ; وإلى هذه الجرام التي ل تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي ل تعلم له‬
‫حدود ‪ .‬وكلها قائمة في مواضعها ‪ ,‬تدور في أفلكها محافظة على مداراتها ‪ ,‬ل تختل ‪ ,‬ول تخرج عنها ‪ ,‬ول‬
‫تبطىء أو تسرع في دورتها ‪ ,‬وكلها ل تقوم على عمد ‪ ,‬ول تشد بأمراس ‪ ,‬ول تستند على شيء من هنا أو‬
‫من هناك ‪ . .‬نظرة إلى تلك الخلئق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة‬
‫التي تمسك بهذه الخلئق وتحفظها أن تزول ‪.‬‬

‫ولئن زالت السماوات والرض عن مواضعها ‪ ,‬واختلت وتناثرت بددا ‪ ,‬فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد‬
‫ذلك أبدا ‪ .‬وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيرا لنهاية هذا العالم ‪ .‬حين يختل نظام الفلك وتضطرب‬
‫وتتحطم وتتناثر ; ويذهب كل شيء في هذا الفضاء ل يمسك أحد زمامه ‪.‬‬

‫حدَى ا ْلُأ َممِ فََلمّا جَاء ُهمْ َنذِيرٌ مّا زَادَ ُهمْ إِلّا نُفُورا (‬
‫ن ِإ ْ‬
‫ج ْهدَ َأ ْيمَا ِنهِمْ َلئِن جَاء ُهمْ َنذِيرٌ ّل َيكُونُنّ أَ ْهدَى مِ ْ‬
‫سمُوا بِاللّ ِه َ‬
‫وََأ ْق َ‬
‫جدَ‬
‫سنّتَ ا ْلأَوّلِينَ فَلَن َت ِ‬
‫ن إِلّا ُ‬
‫ظرُو َ‬
‫ل يَن ُ‬
‫سيّئُ إِلّا ِبأَهْلِ ِه فَهَ ْ‬
‫سّيئِ وَلَا َيحِيقُ ا ْل َم ْكرُ ال ّ‬
‫س ِتكْبَارا فِي ا ْلَأرْضِ َو َم ْكرَ ال ّ‬
‫‪ )42‬ا ْ‬
‫سنّتِ اللّهِ َتحْوِيلً (‪)43‬‬
‫جدَ ِل ُ‬
‫سنّتِ اللّ ِه َت ْبدِيلً وَلَن َت ِ‬
‫ِل ُ‬

‫وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا ‪ .‬والنتهاء إلى العالم الخر ‪ ,‬الذي‬
‫يختلف في طبيعته عن عالم الرض اختلفا كاملً ‪.‬‬

‫ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والرض أن تزول بقوله‪:‬‬

‫(إنه كان حليما غفورا)‪. .‬‬

‫(حليما)يمهل الناس ‪ ,‬ول ينهي هذا العالم بهم ‪ ,‬ول يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إل في الجل المعلوم‬
‫‪ .‬ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والستعداد ‪(.‬غفورا)ل يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ‪ ,‬بل يتجاوز عن كثير‬
‫من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيرا ‪ .‬وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لقتناص الفرصة قبل أن تذهب فل‬
‫تعود ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 43 - 42:‬انطباق سنة ال المطردة على الكفار‬

‫والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا ال عليه ‪ ,‬ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد ‪ ,‬وفساد في الرض‬
‫‪ .‬وتحذير لهم من سنة ال التي ل تتخلف ‪ ,‬ول تبديل فيها ول تحويل‪:‬‬
‫وأقسموا بال جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى المم ‪ .‬فلما جاءهم نذير ما زادهم إل نفورا‬
‫‪ .‬استكبارا في الرض ومكر السيى ء ‪ -‬ول يحيق المكر السيى ء إل بأهله ‪ -‬فهل ينظرون إل سنة الولين ?‬
‫فلن تجد لسنة ال تبديلً ولن تجد لسنة ال تحويلً ‪. .‬‬

‫ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ; وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء‬
‫سلوكهم ما يرون ; وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم ‪ ,‬وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به ‪.‬‬
‫وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ; ويقسمون بال حتى ما يدعون مجالً للتشديد في القسم‪(:‬لئن جاءهم نذير‬
‫ليكونن أهدى من إحدى المم)‪ . .‬يعنون اليهود ‪ .‬يعرضون بهم بهذا التعبير ول يصرحون !‬

‫ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم ‪ . .‬يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلء القوم‬
‫في جاهليتهم ‪ .‬ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق ال أمنيتهم ‪ ,‬وأرسل فيهم نذيرا‪:‬‬

‫فلما جاءهم نذير ما زادهم إل نفورا ‪ .‬استكبارا في الرض ومكر السيىء ! ‪. .‬‬

‫وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه اليمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم‪:‬استكبارا في الرض ومكر السيىء ‪.‬‬
‫والقرآن يكشفهم هذا الكشف ‪ ,‬ويسجل عليهم هذا المسلك ‪ .‬ثم يضيف إلى هذه المواجهة الدبية المزرية بهم ‪,‬‬
‫تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري‪:‬‬

‫ول يحيق المكر السيىء إل بأهله ‪. .‬‬

‫فما يصيب مكرهم السيى ء أحدا إل أنفسهم ; وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم ‪.‬‬

‫وإذا كان المر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم ل ينتظرون إل أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ‪ ,‬وهو‬
‫معروف لهم ‪ .‬وإل أن تمضي سنة ال الثابتة في طريقها الذي ل يحيد‪:‬‬

‫(فلن تجد لسنة ال تبديلً ‪ ,‬ولن تجد لسنة ال تحويلً)‪. .‬‬

‫الدرس الخامس‪ 44:‬دعوة الكفار للعتبار من السابقين‬

‫والمور ل تمضي في الناس جزافا ; والحياة ل تجري في الرض عبثا ; فهناك نواميس ثابتة تتحقق ‪ ,‬ل‬
‫تتبدل ول تتحول ‪ .‬والقرآن يقرر هذه الحقيقة ‪ ,‬ويعلمها للناس ‪ ,‬كي ل ينظروا الحداث فرادى ‪ ,‬ول‬

‫جزَهُ مِن‬
‫شدّ ِم ْن ُهمْ قُوّ ًة َومَا كَانَ اللّهُ ِل ُي ْع ِ‬
‫ظرُوا َكيْفَ كَانَ عَا ِقبَ ُة اّلذِينَ مِن َقبْلِ ِهمْ َوكَانُوا َأ َ‬
‫أَوََلمْ َيسِيرُوا فِي ا ْلَأرْضِ َفيَن ُ‬
‫سمَاوَاتِ وَلَا فِي ا ْلَأرْضِ ِإنّ ُه كَانَ عَلِيما َقدِيرا (‪)44‬‬
‫شيْءٍ فِي ال ّ‬
‫َ‬
‫يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الصيلة ‪ ,‬محصورين في فترة قصيرة من الزمان ‪ ,‬وحيز محدود من المكان‬
‫‪ .‬ويرفع تصورهم لرتباطات الحياة ‪ ,‬وسنن الوجود ‪ ,‬فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس ‪.‬‬
‫ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للجيال قبلهم ; ودللة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد‬
‫النواميس ‪.‬‬

‫وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة ال ل تتبدل ول‬
‫تتحول‪:‬‬

‫أو لم يسيروا في الرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ‪ -‬وكانوا أشد منهم قوة ‪ -‬وما كان ال‬
‫ليعجزه من شيء في السماوات ول في الرض ‪ .‬إنه كان عليما قديرا ‪.‬‬

‫والسير في الرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ; والوقوف على مصارع الغابرين ‪ ,‬وتأمل ما كانوا فيه وما‬
‫صاروا إليه ‪ . .‬كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلل وإيحاءات ومشاعر وتقوى ‪. .‬‬

‫ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الرض والوقوف على مصارع الغابرين ‪ ,‬وآثار‬
‫الذاهبين ‪ .‬وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ‪ ,‬فل تقف ‪ .‬وإذا وقفت ل تحس ‪ .‬وإذا أحست ل تعتبر ‪.‬‬
‫وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن ال الثابتة ‪ .‬وقصور عن إدراك الحداث وربطها بقوانينها الكلية ‪.‬‬
‫وهي الميزة التي تميز النسان المدرك من الحيوان البهيم ‪ ,‬الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالت ; ل‬
‫رابط لها ‪ ,‬ول قاعدة تحكمها ‪ .‬والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس ‪.‬‬

‫وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم ‪ -‬وكانوا أشد منهم قوة ‪ -‬فلم تعصمهم قوتهم‬
‫من المصير المحتوم ‪ .‬أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة ال الكبرى ‪ .‬القوة التي ل يغلبها شيء ول‬
‫يعجزها شيء ; والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالولين‪:‬‬

‫(وما كان ال ليعجزه من شيء في السماوات ول في الرض)‪. .‬‬

‫ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض اسانيدها‪:‬‬

‫(إنه كان عليما قديرا)‪. .‬‬

‫يحيط علمه بكل شيء في السماوات والرض ; وتقوم قدرته إلى جانب علمه ‪ .‬فل يند عن علمه شيء ‪ ,‬ول‬
‫يقف لقدرته شيء ‪ .‬ومن ثم ل يعجزه شيء في السماوات ول في الرض ‪ .‬ول مهرب من قدرته ول استخفاء‬
‫من علمه‪( :‬إنه كان عليما قديرا)‪. .‬‬

‫الدرس السادس ‪ 45‬حلم ال بالناس وتأخير حسابهم ليوم القيامة‬


‫وأخيرا يجيء ختام السورة ‪ ,‬يكشف عن حلم ال ورحمته إلى جانب قوته وقدرته ; ويؤكد أن إمهال الناس عن‬
‫حلم وعن رحمة ‪ ,‬ل يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية‪:‬‬

‫(ولو يؤاخذ ال الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ‪ .‬ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ‪ .‬فإذا جاء‬
‫أجلهم فإن ال كان بعباده بصيرا)‪. .‬‬

‫إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة ال ‪ ,‬ومن شر في الرض وفساد ‪ ,‬ومن ظلم في الرض وطغيان ‪ .‬إن هذا‬
‫كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ ال الناس به ‪ ,‬لتجاوزهم ‪ -‬لضخامته وشناعته وبشاعته ‪ -‬إلى كل حي على ظهر‬
‫هذه الرض ‪ .‬ولصبحت الرض كلها غير صالحة للحياة إطلقا ‪ .‬ل لحياة البشر فحسب ‪ ,‬ولكن لكل حياة‬
‫أخرى !‬

‫سمّى َفِإذَا جَاء َأجَُلهُمْ‬


‫ل ّم َ‬
‫خرُ ُهمْ إِلَى َأجَ ٍ‬
‫ظ ْهرِهَا مِن دَابّةٍ وََلكِن يُ َؤ ّ‬
‫سبُوا مَا َت َركَ عَلَى َ‬
‫خذُ اللّ ُه النّاسَ ِبمَا َك َ‬
‫وََلوْ ُيؤَا ِ‬
‫َفإِنّ اللّ َه كَانَ ِب ِعبَادِ ِه بَصِيرا (‪)45‬‬

‫والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم ال‬
‫به مؤاخذة سريعة ‪.‬‬

‫غير أن ال حليم ل يعجل على الناس‪:‬‬

‫(ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى)‪. .‬‬

‫يؤخرهم أفرادا إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا ‪ .‬ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلفة‬
‫المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر ‪ .‬ويؤخرهم جنسا إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة‬
‫الكبرى ‪ .‬ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعا ‪.‬‬

‫(فإذا جاء أجلهم)‪. .‬‬

‫وانتهى وقت العمل والكسب ‪ ,‬وحان وقت الحساب والجزاء ‪ ,‬فإن ال لن يظلمهم شيئا‪:‬‬

‫(فإن ال كان بعباده بصيرا)‪. .‬‬

‫وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم ‪ ,‬ل تفوت منهم ول عليهم كبيرة ول صغيرة ‪.‬‬
‫هذا هو اليقاع الخير في السورة التي بدأت بحمد ال فاطر السماوات والرض ‪( .‬جاعل الملئكة رسلً أولي‬
‫أجنحة)يحملون رسالة السماء إلى الرض ‪ .‬وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار ‪. .‬‬

‫وبين البدء والختام تلك الجولت العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة ‪ .‬وهذه نهاية المطاف ‪ .‬ونهاية‬
‫الحياة ‪ .‬ونهاية النسان ‪. .‬‬

‫انتهى الجزء الثاني والعشرون ويليه الجزء الثالث والعشرون مبدوءا بسورة يس‬

You might also like