Professional Documents
Culture Documents
كهيعص ()1
مقدمة السورة يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد ; ونفي الولد والشريك ; ويلم بقضية البعث القائمة
على قضية التوحيد . .هذا هو الموضوع الساسي الذي تعالجه السورة ,كالشأن في السور المكية غالبا .
والقصص هو مادة هذه السورة .فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى .فقصة مريم ومولد عيسى .فطرف من
قصة إبراهيم مع أبيه . .ثم تعقبها إشارات إلى النبيين:إسحاق ويعقوب ,وموسى وهرون ,وإسماعيل ,
وإدريس .وآدم ونوح .ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة .ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث ,
ونفي الولد والشريك ,وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين .
واستنكار للشرك ودعوى الولد ; وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الخرة . .وكله
يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الصيل .
إن سياق هذه السورة معرض للنفعالت والمشاعر القوية . .النفعالت في النفس البشرية ,وفي "نفس"
الكون من حولها .فهذا الكون الذي نتصوره جمادا ل حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر
وانفعالت ,تشارك في رسم الجو العام للسورة .حيث نرى السماوات والرض والجبال تغضب وتنفعل حتى
لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا:
(أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا). .
أما النفعالت في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها .والقصص الرئيسي فيها حافل
بهذه النفعالت في مواقفه العنيفة العميقة .وبخاصة في قصة مريم وميلد عيسى .
والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والتصال .فهي تبدأ بذكر رحمة ال لعبده زكريا(ذكر
رحمة ربك عبده زكريا)وهو يناجي ربه نجاء(:إذ نادى ربه نداء خفيا) . .ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها
في ثنايا السورة كثيرا .ويكثر فيها اسم(الرحمن) .ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود(:إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)ويذكر من نعمة ال على يحيى أن آتاه ال حنانا(وحنانا
من لدنا وزكاة وكان تقيا) .ومن نعمة ال على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا لطيفا:
(وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا). .
وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلل .كما تحس انتفاضات
الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي ل تطيقها فطرته . .كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا .
فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق:رضيا .سريا .حفيا .نجيا . .فأما المواضع التي
تقتضي الشد والعنف ,فتجيء فيها الفاصلة مشددة دال في الغالب .مدا .ضدا .إدا .هدا ,أو زايا:عزا .
أزا .
وتنوع اليقاع المصوسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة .فهي تبدأ
بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا:
ذكر رحمة ربك عبده زكريا .إذ نادى ربه نداء خفيا . . .الخ .
وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه:
واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا .فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشرا سويا . .الخ
إلى أن ينتهي القصص ,ويجيء التعقيب ,لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ,وللفصل في قضية بنوته .فيختلف
نظام الفواصل والقوافي . .تطول الفاصلة ,وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف
ل بالياء الممدودة الرخية .على النحو التالي:
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون .ما كان ل أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما
يقول له:كن فيكون . . .الخ .
حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة:
واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا .إذ قال لبيه:يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني
عنك شيئا . .الخ .
حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ,تغير اليقاع الموسيقي وجرس القافية:
قل:من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا .حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب ; وإما الساعة فسيعلمون
من هو شر مكانا وأضعف جندا . .الخ .
وقالوا:اتخذ الرحمن ولدا .لقد جئتم شيئا إدا ,تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتحز الجبال هذا .
.الخ .
وهكذا يسير اليقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ; ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى
في ثنايا السورة ,وفق انتقالت السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى .
الشوط الول يتضمن قصة زكريا ويحيى ,وقصة مريم وعيسى .والتعقيب على هذه القصة بالفصل في
قضية عيسى التي كثر فيها الجدل ,واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى .
والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه ال من ذرية
نسلت بعد ذلك المة .ثم إشارات إلى قصص النبيين ,ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ; ومصير
هؤلء وهؤلء .وينتهي بإعلن الربوبية الواحدة ,التي تعبد بل شريك(:رب السماوات والرض وما بينهما
فاعبده واصطبر لعبادته .هل تعلم له سميا ?)
والشوط الثالث والخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث ,ويستعرض بعض مشاهد القيامة .ويعرض صورة
من استنكار الكون كله لدعوى الشرك ,وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون ! (وكم أهلكنا قبلهم
من قرن .هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا)فنأخذ في الدرس الول:
هذه الحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور ,والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي
يتألف منها هذا القرآن ,فيجيء نسقا جديدا ل يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات ,
ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن .
وبعدها تبدأ القصة الولى .قصة زكريا ويحيى .والرحمة قوامها .والرحمة تظللها .ومن ثم يتقدمها ذكر
الرحمة(:ذكر رحمة ربك عبده زكريا). .
تبدأ القصة بمشهد الدعاء .دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية:
وإذ نادى ربه نداء خفيا .قال:رب إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ,ولم أكن بدعائك رب
ي مِن
ت ا ْلمَوَاِل َ
شيْبا وََلمْ َأكُن ِبدُعَا ِئكَ رَبّ شَ ِقيّا ( )4وَِإنّي خِفْ ُ
ش َتعَلَ الرّأْسُ َ
ن ا ْل َعظْمُ ِمنّي وَا ْ
قَالَ رَبّ ِإنّي وَهَ َ
ضيّا ()6
ب رَ ِ
جعَلْهُ رَ ّ
ب وَا ْ
ل َيعْقُو َ
ب لِي مِن ّلدُنكَ وَِليّا (َ )5يرِ ُثنِي َو َيرِثُ مِنْ آ ِ
َورَائِي َوكَانَتِ ا ْمرََأتِي عَاقِرا فَهَ ْ
سمِيّا ()7
ل َ
جعَل لّ ُه مِن قَبْ ُ
حيَى َل ْم َن ْ
سمُ ُه َي ْ
شرُكَ ِبغُلَامٍ ا ْ
يَا َزكَ ِريّا ِإنّا ُن َب ّ
شقيا .وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ,فهب لي من لدنك وليا ,يرثني ويرث من آل
يعقوب ,واجعله رب رضيا). .
إنه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس ,بعيدا عن أسماعهم .في عزلة يخلص فيها لربه ,ويكشف له عما يثقل
كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال(:رب ). .بل واسطة حتى ول حرف النداء .وإن ربه ليسمع
ويرى من غير دعاء ول نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث ,ويحتاج إلى الشكوى .وال الرحيم بعباده
يعرف ذلك من فطرة البشر ,فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم ( .وقال ربكم ادعوني
أستجب لكم)ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق ,ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو
أقوى وأقدر ; وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي ل يضام من يلجأ إليه ,ول يخيب من يتوكل عليه .
وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم .وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن .فالعظم هو أصلب ما فيه ,
وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه .ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا .والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه
نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما لتشمله هذه النار المشتعلة ,فل يبقى في الرأس المشتعل سواد .
ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه
وهو يعرض عليه حاله ورجاءه . .
ثم يعقب عليه بقوله( :ولم أكن بدعائك رب شقيا)معترفا بأن ال قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه ,فلم يشق
مع دعائه لربه ,وهو في فتوته وقوته .فما أحوجه الن في هرمه وكبرته أن يستجيب ال له ويتم نعمته عليه
.
فإذا صور حاله ,وقدم رجاءه ,ذكر ما يخشاه ,وعرض ما يطلبه . .إنه يخشى من بعده .يخشاهم أل
يقوموا على تراثه بما يرضاه .وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها -وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين -
وأهله الذين يرعاهم -ومنهم مريم التي كان قيما عليها وهي تخدم المحراب الذي يتوله -وماله الذي يحسن
تدبيره وإنفاقه في وجهه .وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله ,ويخشى أل يسيروا فيه سيرته
. .قيل لنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث . .
(وكانت امرأتي عاقرا) . .لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلفته .
ذلك ما يخشاه .فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح ,الذي يحسن الوراثة ,ويحسن القيام على تراثه وتراث
النبوة من آبائه وأجداده( :فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب).
ول ينسى زكريا ,النبي الصالح ,أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته( :واجعله رب
رضيا)ل جبارا ول غليظا ,ول متبطرا ول طموعا .ولفظة(رضي)تلقي هذه الظلل .فالرضي الذي يرضى
ويرضي .وينشر ظلل الرضى فيما حوله ومن حوله .
ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية .واللفاظ والمعاني واليقاع الرخي .كلها تشارك في تصوير
مشهد الدعاء .
ثم ترتسم لحظة الستجابة في رعاية وعطف ورضى . .فالرب ينادي عبده من المل العلى( :يا زكريا). .
ويعجل له البشرى( :إنا نبشرك بغلم)ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلم الذي بشره به( :اسمه يحيى).
وهو اسم فذ غير مسبوق( :لم نجعل له من قبل سميا). .
إنه فيض الكرم اللهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة ,وناجاه في خفية ,وكشف له عما يخشى ,
وتوجه إليه فيما يرجو .والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير
المال والقيام على الهل بما يرضي ال .وعلم ال ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه .
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ,على هذه الستجابة القريبة للدعاء .فإذا هو يواجه
الواقع . .إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ,وهن عظمه واشتعل شيبه ,وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته
وصباه:فكيف يا ترى سيكون له غلم ? إنه ليريد أن يطمئن ,ويعرف الوسيلة التي يرزقه ال بها هذا
الغلم(:قال:رب أنى يكون لي غلم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ?).
إنه يواجه الواقع ,ويواجه معه وعد ال .وإنه ليثق بالوعد ,ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك
الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه .وهي حالة نفسية طبيعية .في مثل موقف زكريا النبي الصالح .النسان !
الذي ل يملك أن يغفل الواقع ,فيشتاق أن يعرف كيف يغيره ال !
هنا يأتيه الجواب عن سؤاله:أن هذا هين على ال سهل .ويذكره بمثل قريب في نفسه:في خلقته هو و إيجاده
بعد أن لم يكن .وهو مثل لكل حي ,ولكل شيء في هذا الوجود:
(قال:كذلك قال ربك:هو علي هين .وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا).
وليس في الخلق هين وصعب على ال .ووسيلة الخلق للصغير والكبير ,وللحقير والجليل واحدة:كن .فيكون
.
وال هو الذي جعل العاقر ل تلد .وجعل الشيخ الفاني ل ينسل ; وهو قادر على إصلح العاقر وإزالة سبب
العقم ,وتجديد قوة الخصاب في الرجل .وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء .وإن كان كل
شيء هينا على القدرة:إعادة أو إنشاء .
ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلمة على تحقق البشرى فعل .فأعطاه ال
آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الستجابة . .ويؤدي بها حق الشكر ل الذي وهبه
على الكبر غلما . .وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع ال ثلث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه ,
ويحتبس إذا كلم الناس ,وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ول آفة .
وكان ذلك:
(فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا). .
ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه ,وليشكروا ال معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده .
ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه ,ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة
الجديدة على يحيى ; يناديه ربه من المل العلى:
وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة .لن مشهد النداء مشهد رائع عظيم ,يدل على
مكانة يحيى ,وعلى استجابة ال لزكريا ,في أن يجعل له من ذريته وليا ,يحسن الخلفة بعده في العقيدة وفي
العشيرة .فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل المانة الكبرى ( .يا يحيى خذ الكتاب بقوة). .
والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى ,وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون .وقد
ورث يحيى أباه زكريا ,ونودي ليحمل العبء وينهض بالمانة في قوة وعزم ,ل يضعف ول يتهاون ول
يتراجع عن تكاليف الوراثة . .
وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى:
فهذه هي المؤهلت التي زوده ال بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه . .
آتاه الحكمة صبيا ,فكان فذا في زاده ,كما كان فذا في اسمه وفي ميلده .فالحكمة تأتي متأخرة .ولكن
يحيى قد زود بها صبيا .
وآتاه الحنان هبة لدنية ل يتكلفه ول يتعلمه ; إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به .والحنان صفة ضرورية للنبي
المكلف رعاية القلوب والنفوس ,وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق .
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع ; يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ,فيطهرها ويزكيها .
(وكان تقيا)موصول بال ,متحرجا معه ,مراقبا له ,يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه .
ذلك هو الزاد الذي آتاه ال يحيى في صباه ,ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا .فاستجاب له ربه
ووهب له غلما زكيا . .
وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا .وقد رسم الخط الرئيسي في حياته ,وفي منهجه
,وفي اتجاهه .وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له ,وفي نداء يحيى وما زوده ال به
.ولم يعد في تفصيلت القصة بعد ذلك ما يزيد شيئا في عبرتها ومغزاها . .
والن فإلى قصة أعجب من قصة ميلد يحيى .إنها قصة ميلد عيسى .وقد تدرج السياق من القصة الولى
ووجه العجب فيها هو ولدة العاقر من بعلها الشيخ ,إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولدة العذراء من غير
بعل ! وهي أعجب وأغرب .
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق النسان أصل وإنشائه على هذه الصورة ,فإن حادث ولدة عيسى ابن مريم
يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله ,ويكون حادثا فذا ل نظير له من قبله ول من بعده .
والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها ! لم تشهد خلق النسان الول من غير
أب وأم ,وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث ; فشاءت الحكمة اللهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى
من غير أب ,على غير السنة التي جرت منذ وجد النسان على هذه الرض ,ليشهدها البشر ; ثم تظل في
سجل الحياة النسانية بارزة فذة تتلفت إليها الجيال ,إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الولى التي لم
يشهدها إنسان !
لقد جرت بسنة ال التي وضعها لمتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والنواع بل
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة ,ويبرز دللتها الحقيقية ,وينفي تلك الخرافات
والساطير .
والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة ,حافلة بالعواطف والنفعالت ,التي تهز من يقرؤها هزا كأنما هو
يشهدها:
واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ,فاتخذت من دونهم حجابا .فأرسلنا إليها روحنا ,
فتمثل لها بشرا سويا .قالت:إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .قال:إنما أنا رسول ربك لهب لك غلما
زكيا .قالت:أنى يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ? قال:كذلك قال ربك هو علي هين ,ولنجعله
آية للناس ورحمة منا . .وكان أمرا مقضيا . .
فهذا هو المشهد الول -فتاة عذراء .قديسة ,وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد .ل يعرف عنها أحد
إل الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد السرائيلي المتطهرين -ول يعرف عن أسرتها إل
الطيبة والصلح من قديم .
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والحتجاب عن أنظارهم . .ول
يحدد السياق هذا الشأن ,ربما لنه شأن خاص جدا من خصوصيات الفتاة . .
وها هي ذي في خلوتها ,مطمئنة إلى انفرادها .ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة . .إنه رجل مكتمل
سوي( :فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا) . .وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها
رجل في خلوتها ,فتلجأ إلى ال تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل ,والخوف من ال
والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي(:قالت:إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)فالتقي ينتفض وجدانه
عند ذكر الرحمن ,ويرجع عن دفعة الشهوة ونزع الشيطان . .
وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة ,التي نشأت في وسط صالح ,وكفلها
زكريا ,بعد أن نذرت ل جنينا . .وهذه هي الهزة الولى .
(قال:إنما أنا رسول ربك لهب لك غلما زكيا) . .وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل .وهذاالرجل السوي
-الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها -فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها -يصارحها بما يخدش سمع الفتاة
الخجول ,وهو أنه يريد أن يهب لها غلما ,وهما في خلوة -وهذه هي الهزة الثانية .
(قالت:أنى يكون لي غلم ,ولم يمسسني بشر ,ولم أك بغيا ?) . .هكذا في صراحة .وباللفاظ المكشوفة .
فهي والرجل في خلوة .والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا .فما تعرف هي بعد كيف يهب لها
غلما ? وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها( :إنما أنا رسول ربك)ول أنه مرسل ليهب لها غلما
طاهرا غير مدنس المولد ,ول مدنس السيرة ,ليطمئن بالها .ل .فالحياء هنا ل يجدي ,والصراحة أولى . .
كيف ? وهي عذراء لم يمسسها بشر ,وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلم !
ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لن يهبها غلما إل الوسيلة المعهودة بين
الذكر والنثى .وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري .
(قال:كذلك قال ربك:هو علي هين .ولنجعله آية للناس ,ورحمة منا). .
فهذا المر الخارق الذي ل تتصور مريم وقوعه ,هين على ال .فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون ,
كل شيء هين ,سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره .والروح يخبرها بأن ربها يخبرها بأن هذا
هين عليه .وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس ,وعلمة على وجوده وقدرته وحرية إرادته .
ورحمة لبني إسرائيل أول وللبشرية جميعا ,بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة ال وعبادته وابتغاء
رضاه .
بذلك انتهى الحوار بين الروح المين ومريم العذراء . .ول يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار ,فهنا فجوة
من فجوات العرض الفني للقصة .ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلم وهي عذراء لم يمسسها
بشر ,وأن يكون هذا الغلم آية للناس ورحمة من ال .أن هذا قد انتهى أمره ,وتحقق وقوعه( :وكان أمرا
مقضيا)كيف ? ل يذكر هنا عن ذلك شيئا .
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها ; فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هول:
(فحملته فانتبذت به مكانا قصيا .فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ; قالت:يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا). .
ح ِتهَا أَلّا
سيّا (َ )23فنَادَاهَا مِن َت ْ
ت يَا َل ْي َتنِي مِتّ َقبْلَ َهذَا َوكُنتُ َنسْيا مّن ِ
ج ْذعِ ال ّنخْلَ ِة قَالَ ْ
ض إِلَى ِ
َفأَجَاءهَا ا ْل َمخَا ُ
ش َربِي
ج ِنيّا (َ )25فكُلِي وَا ْ
جذْعِ ال ّنخْلَةِ ُتسَا ِقطْ عََل ْيكِ ُرطَبا َ
ك ِب ِ
ح َتكِ سَ ِريّا ( )24وَ ُهزّي إَِل ْي ِ
جعَلَ َر ّبكِ َت ْ
َتحْ َزنِي قَ ْد َ
سيّا (َ )26فَأتَتْ بِهِ
شرِ َأحَدا فَقُولِي ِإنّي َنذَرْتُ لِل ّرحْمَنِ صَوْما فَلَنْ ُأكَّل َم ا ْليَ ْومَ إِن ِ
ن مِنَ ا ْل َب َ
عيْنا َفإِمّا َت َريِ ّ
َو َقرّي َ
ك ا ْمرَأَ سَوْءٍ َومَا كَانَتْ ُأ ّمكِ
شيْئا َف ِريّا ( )27يَا ُأخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ َأبُو ِ
جئْتِ َ
حمِلُهُ قَالُوا يَا َم ْريَمُ َل َقدْ ِ
قَ ْو َمهَا َت ْ
َب ِغيّا ()28
المعهودة ? إن هذا جائز .فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية ,
والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية . .كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة
الخاصة أن ل تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية ,فتختصر المراحل اختصارا ; ويعقبها تكون الجنين
ونموه واكتماله في فترة وجيزة . .ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين .فل نجري طويل وراء
تحقيق القضية التي ل سند لنا فيها . . .فلنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيا عن أهلها ,في موقف أشد هول من
موقفها الذي أسلفنا .فلئن كانت في الموقف الول تواجه الحصانة والتربية والخلق ,بينها وبين نفسها ,
فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة .ثم هي تواجه اللم الجسدية بجانب اللم النفسية .تواجه
المخاض الذي(أجاءها)إجاءة إلى جذع النخلة ,واضطرها اضطرارا إلى الستناد عليها .وهي وحيدة فريدة ,
تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ,ول علم لها بشيء ,ول معين لها في شيء . .فإذا هي قالت( :يا
ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا)فإننا لنكاد نرى ملمحها ,ونحس اضطراب خواطرها ,ونلمس مواقع
اللم فيها .وهي تتمنى لو كانت(نسيا):تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ,ثم تلقى بعد ذلك وتنسى !
(فناداها من تحتها أل تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .
فكلي واشربي وقري عينا ,فإما ترين من البشر أحدا فقولي:إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا). .
يال ! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها .يطمئن قلبها ويصلها بربها ,ويرشدها إلى طعامها وشرابها .
ويدلها على حجتها وبرهانها !
ل تحزني ( . .قد جعل ربك تحتك سريا)فلم ينسك ولم يتركك ,بل أجرى لك تحت قدميك جدول ساريا -
الرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل -وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها
فتساقط عليك رطبا .فهذا طعام وذاك شراب .والطعام الحلو مناسب للنفساء .والرطب والتمر من أجود
طعام النفساء ( .فكلي واشربي)هنيئا ( .وقري عينا)واطمئني قلبا .فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير
الكلم ,أنك نذرت للرحمن صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة .ول تجيبي أحدا عن سؤال . .
ونحسبها قد دهشت طويل ,وبهتت طويل ,قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا .
.ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن ال ل يتركها .وإلى أن حجتها معها . .هذا الطفل الذي ينطق في المهد . .
فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها . .
إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم -ويبدو أنهم أهل بيتها القربون في نطاق ضيق محدود -وهم
يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة . .يرونها تحمل طفل !
(قالوا:يا مريم لقد جئت شيئا فريا .يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء ,وما كانت أمك بغيا !)
إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب( :يا مريم لقد جئت شيئا فريا)فظيعا مستنكرا .ثم يتحول السخط إلى تهكم
مرير( :يا أخت هارون)النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك
لخدمة الهيكل .فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه ! (ما كان
(فأشارت إليه) . .فماذا تقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل ; ثم تتبجح
فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها !
وهكذا يعلن عيسى -عليه السلم -عبوديته ل .فليس هو ابنه كما تدعي فرقة .وليس هو إلها كما تدعي
فرقة .وليس هو ثالث ثلثة هم إله واحد وهم ثلثة كما تدعي فرقة . .ويعلن أن ال جعله نبيا ,ل ولدا ول
شريكا .وبارك فيه ,وأوصاه بالصلة والزكاة مدة حياته .والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته .فله إذن
حياة محدودة ذات أمد .وهو يموت ويبعث .وقد قدر ال له السلم والمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت
ويوم يبعث حيا . .
والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه .وهو ل يحتمل تأويل في هذه الحقيقة ول جدال .
ول يزيد السياق القرآني شيئا على هذا المشهد .ل يقول:كيف استقبل القوم هذه الخارقة .ول ماذا كان بعدها
من أمر مريم وابنها العجيب .ول متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول:
(آتاني الكتاب وجعلني نبيا) . .ذلك أن حادث ميلد عيسى هو المقصود في هذا الموضع .فحين يصل به
السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق ,بلهجة
التقرير ,وإيقاع التقرير:
(ذلك عيسى ابن مريم .قول الحق الذي فيه يمترون .ما كان ل أن يتخذ من ولد .سبحانه .إذا قضى أمرا
فإنما يقول له:كن فيكون .وإن ال ربي وربكم فاعبدوه .هذا صراط مستقيم). .
ذلك عيسى ابن مريم ,ل ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لمه في مولده . .ذلك هو في حقيقته وذلك واقع
نشأته .ذلك هو يقول الحق الذي فيه يمترون ويشكون .يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته( :ما كان ل أن
يتخذ من ولد)تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدا .والولد إنما يتخذه الفانون للمتداد ,ويتخذه الضعاف
للنصرة .وال باق ل يخشى فناء ,قادر ل يحتاج معينا .والكائنات كلها توجد بكلمة كن .وإذا قضى أمرا
فإنما يقول له:كن فيكون . .فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الرادة ل بالولد والمعين . .وينتهي ما يقوله عيسى
-عليه السلم -ويقوله حاله بإعلن ربوبية ال له وللناس ,ودعوته إلى عبادة ال الواحد بل شريك(:وإن ال
ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) . .فل يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للوهام والساطير
. .وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير .
صرْ يَ ْو َم َي ْأتُو َننَا َلكِنِ
سمِعْ ِب ِهمْ وََأبْ ِ
عظِيمٍ (َ )37أ ْ
شهَدِ َي ْومٍ َ
ل لّّلذِينَ كَ َفرُوا مِن ّم ْ
ب مِن َب ْينِ ِهمْ فَ َويْ ٌ
ختََلفَ ا ْلَأحْزَا ُ
فَا ْ
ضيَ ا ْلَأ ْمرُ وَ ُهمْ فِي غَفْلَةٍ وَ ُه ْم لَا يُ ْؤ ِمنُونَ ()39
سرَةِ ِإ ْذ قُ ِ
حْالظّالِمُونَ ا ْل َي ْومَ فِي ضَلَالٍ ّمبِينٍ ( )38وَأَن ِذرْهُ ْم يَ ْومَ ا ْل َ
جعُونَ ()40
ن َنرِثُ ا ْلَأرْضَ َومَنْ عََل ْيهَا وَإَِل ْينَا ُي ْر َ
ِإنّا َنحْ ُ
الدرس الخامس 40 - 37:اختلف النصارى في عيسى وتهديدهم بالعذاب في الخرة وبعد هذا التقرير
يعرض اختلف الفرق والحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الختلف مستنكرا نابيا في ظل هذه الحقيقة
الناصعة:
ولقد جمع المبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الساقفة -وهو أحد المجامع الثلثة الشهيرة -بلغ عدد
أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلفا شديدا ,وقالت كل فرقة فيه قول . .قال
بعضهم:هو ال هبط إلى الرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء .وقال بعضهم:هو ابن
ال ,وقال بعضهم:هو أحد القانيم الثلثة:الب والبن والروح القدس .وقال بعضهم:هو ثالث ثلثة:ال إله
وهو إله وأمه إله .وقال بعضهم:هو عبد ال ورسوله وروحه وكلمته .وقالت فرق أخرى أقوال أخرى .ولم
يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلث مائة وثمانية اتفقوا على قول .فمال إليه المبراطور ونصر أصحابه
وطرد الخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين .
ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين
ينحرفون عن اليمان بوحدانية ال ,ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر ,وترى ما يحل بالكافرين
المنحرفين:
(فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم .أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ,لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين
.وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي المر وهم في غفلة وهم ل يؤمنون).
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم .بهذا التنكير للتفخيم والتهويل .المشهد الذي يشهده الثقلن:النس
والجن ,وتشهده الملئكة ,في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار .
ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلئل الهدى في الدنيا .وهم في ذلك المشهد أسمع الناس
وأبصر الناس:
(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ,لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين). .
فما أعجب حالهم ! . .ل يسمعون ول يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة .وهم أسمع
شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في
مشهد يوم عظيم !
(وأنذرهم يوم الحسرة) . .يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم محض للحسرة ل شيء فيه سواها ,فهي الغالبة
على جوه ,البارزة فيه .أنذرهم هذا اليوم الذي ل تنفع فيه الحسرات( :إذ قضي المر وهم في غفلة وهم ل
يؤمنون)وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم ,موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون .
أنذرهم ذلك اليوم الذي ل شك فيه ; فكل ما على الرض ومن على الرض عائد إلى ال ,عودة الميراث كله
إلى الوارث الوحيد !:
الوحدة الثانية 65 - 41:الموضوع:لقطات من قصص بعض النبياء الدرس الول 50 - 41:بين إبراهيم
وأبيه وفضل ال عليه في ذريته انتهت قصة ميلد عيسى بكشف ما في أسطورة الولد من نكارة وكذب
وضلل ; وهي التي يستند إليها بعض أهل الكتاب في عقائدهم الفاسدة .وتليها في السورة حلقة من قصة
إبراهيم تكشف عما في عقيدة الشرك من نكارة وكذب وضلل كذلك .وإبراهيم هو الذي ينتسب إليه العرب .
ويقول المشركون:إنهم سدنة البيت الذي بناه هو وإسماعيل .
وتبدو في هذه الحلقة شخصية إبراهيم الرضي الحليم . .تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكي
القرآن الكريم ترجمتها بالعربية ,وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه .كما تتجلى رحمة ال به
وتعويضه عن أبيه وأهله المشركين ذرية صالحة تنسل أمة كبيرة ,فيها النبياء وفيها الصالحون .وقد خلف
من بعدهم خلف أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ينحرفون عن الصراط الذي سنه لهم أبوهم إبراهيم .هم
هؤلء المشركون . .
ويصف ال إبراهيم بأنه كان صديقا نبيا .ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير التصديق .
وكلتاهما تناسب شخصية إبراهيم:
(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ,إذ قال لبيه:يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني
عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا .يا أبت ل تعبد الشيطان
إن الشيطان كان للرحمن عصيا .يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا .). .
بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه ,يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه ال إليه ,وعلمه إياه ;
وهو يتحبب إليه فيخاطبه( :يا أبت)ويسأله( :لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني عنك شيئا ?)والصل في
العبادة أن يتوجه بها النسان إلى من هو أعلى من النسان وأعلم وأقوى .وأن يرفعها إلى مقام أسمى من
مقام النسان وأسنى .فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون النسان ,بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة
الحيوان ,ل يسمع ول يبصر ول يملك ضرا ول نفعا .إذ كان أبوه وقومه يعبدون الصنام كما هو حال
قريش الذين يواجههم السلم .
هذه هي اللمسة الولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لبيه .ثم يتبعها بأنه ل يقول هذا من نفسه ,إنما هو العلم
الذي جاءه من ال فهداه .ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة ,ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف
الحق ; فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم ,ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه:
(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا). .
فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده ,إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى .فإنما يتبع ذلك
المصدر ,ويسير في الطريق إلى الهدى .
وبعد هذا الكشف عما في عبادة الصنام من نكارة ,وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في
دعوة أبيه . .يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان ,وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن ,فهو يخشى
حمَن
ن ال ّر ْ
عذَابٌ مّ َ
سكَ َ
ت ِإنّي َأخَافُ أَن َي َم ّ
عصِيّا ( )44يَا َأبَ ِ
حمَنِ َ
ن لِل ّر ْ
ش ْيطَانَ كَا َ
شيْطَانَ ِإنّ ال ّ
يَا َأبَتِ لَا َت ْعبُ ِد ال ّ
ج ْرنِي مَِليّا ( )46قَالَ
ج َم ّنكَ وَا ْه ُ
ن آِل َهتِي يَا ِإبْراهِيمُ َلئِن ّلمْ تَنتَهِ َلَأ ْر ُ
ب أَنتَ عَ ْ
ش ْيطَانِ وَِليّا ( )45قَالَ َأرَاغِ ٌ
َفتَكُونَ لِل ّ
عسَى أَلّا
ن اللّهِ وََأدْعُو َربّي َ
ع َتزِلُ ُكمْ َومَا َتدْعُونَ مِن دُو ِ
ن بِي حَ ِفيّا ( )47وََأ ْ
ك رَبّي ِإنّهُ كَا َ
سَأسْ َتغْ ِفرُ َل َ
سَلَامٌ عََل ْيكَ َ
جعَ ْلنَا َن ِبيّا (
سحَاقَ َو َيعْقُوبَ َوكُلّا َ
ع َتزََلهُمْ َومَا َي ْع ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَ َه ْبنَا َلهُ ِإ ْ
َأكُونَ ِبدُعَاء َربّي شَ ِقيّا ( )48فَلَمّا ا ْ
)49
أن يغضب ال عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان .
يا أبت ل تعبد الشيطان .إن الشيطان كان للرحمن عصيا .يا أبت إني إخاف أن يمسك عذاب من الرحمن
فتكون للشيطان وليا .
والشيطان هو الذي يغري بعبادة الصنام من دون ال ,فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص
للرحمن .وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب ال عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا .فهداية ال لعبده إلى
الطاعة نعمة ; وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة . .نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح
يوم يقوم الحساب .
ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب اللفاظ وأرقها ل تصل إلى القلب المشرك الجاسي ,فإذا أبو إبراهيم يقابله
بالستنكار والتهديد والوعيد:
أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ,وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك المر إلى هذا الحد من الجراءة
?! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع( :لئن لم تنته لرجمنك)! فاغرب
عن وجهي وابعد عني طويل .استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة( :واهجرني مليا). .
بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى .وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب .وذلك شأن اليمان مع
الكفر ; وشأن القلب الذي هذبه اليمان والقلب الذي أفسده الكفر .
ولم يغضب إبراهيم الحليم .ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه:
قال:سلم عليك .سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .وأعتز لكم وما تدعون من دون ال ,وأدعو ربي
عسى أل أكون بدعاء ربي شقيا .
سلم عليك . .فل جدال ول أذى ول رد للتهديد والوعيد .سأدعو ال أن يغفر لك فل يعاقبك بالستمرار في
الضلل وتولي الشيطان ,بل يرحمك فيرزقك الهدى .وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي .وإذا كان
وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى اليمان تؤذيك فسأعتز لك أنت وقومك ,وأعتزل ما تدعون من دون ال
من اللهة .وأدعو ربي وحده ,راجيا -بسبب دعائي ل -أل يجعلني شقيا .
فالذي يرجوه إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة . .وذلك من الدب والتحرج الذي يستشعره .فهو ل يرى
لنفسه فضل ,ول يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة !
وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره ,فلم يتركه ال وحيدا .بل وهب له
ذرية وعوضه خيرا:
(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق ويعقوب .وكل جعلنا نبيا .ووهبنا لهم من رحمتنا ,
وجعلنا لهم لسان صدق عليا). .
وإسحاق هو ابن إبراهيم ,رزقه من سارة -وكانت قبله عقيما -ويعقوب هو ابن إسحاق:ولكنه يحسب ولدا
لبراهيم لن إسحاق رزقه في حياة جده ,فنشأ في بيته وحجره ,وكان كأنه ولده المباشر ; وتعلم ديانته ولقنها
بنيه .وكن نبيا كأبيه .
(ووهبنا لهم من رحمتنا)إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم . .والرحمة تذكر هنا لنها السمة البارزة
صدْقٍ عَِليّا ( )50وَا ْذكُرْ فِي ا ْل ِكتَابِ مُوسَى ِإنّ ُه كَانَ ُمخْلَصا َوكَانَ
ن ِ
جعَ ْلنَا َل ُهمْ ِلسَا َ
َووَ َه ْبنَا َلهُم مّن ّرحْ َم ِتنَا َو َ
ح َم ِتنَا َأخَاهُ هَارُونَ َن ِبيّا (
جيّا ( )52وَوَ َه ْبنَا َلهُ مِن ّر ْ
رَسُولً ّن ِبيّا (َ )51ونَادَ ْينَا ُه مِن جَانِبِ الطّورِ ا ْلَأ ْيمَنِ َو َقرّ ْبنَاهُ َن ِ
عدِ َوكَانَ َرسُولً ّن ِبيّا (َ )54وكَانَ َي ْأ ُمرُ أَهْلَ ُه بِالصّلَاةِ وَال ّزكَاةِ
ن صَا ِدقَ الْ َو ْ
سمَاعِيلَ ِإنّ ُه كَا َ
ب ِإ ْ
)53وَا ْذ ُكرْ فِي ا ْل ِكتَا ِ
صدّيقا ّن ِبيّا (َ )56ورَ َف ْعنَاهُ َمكَانا عَِليّا ()57
ضيّا ( )55وَا ْذكُرْ فِي ا ْل ِكتَابِ ِإ ْدرِيسَ ِإنّهُ كَانَ ِ
َوكَانَ عِندَ َربّ ِه َمرْ ِ
في جو السورة ,ولنها هبة ال التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره ,وتؤنسه في وحدته واعتزاله .
(وجعلنا لهم لسان صدق عليا) . .فكانوا صادقين في دعوتهم ,مسموعي الكلمة في قومهم .يؤخذ قولهم
بالطاعة وبالتبجيل .
ثم يمضي السياق مع ذرية إبراهيم:مستطردا مع فرع إسحق فيذكر موسى وهارون:
(واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسول نبيا .وناديناه من جانب الطور اليمن وقربناه نجيا .
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا). .
فيصف موسى بأنه كان مخلصا استخلصه ال له ومحضه لدعوته .وكان رسول نبيا .والرسول هو صاحب
الدعوة من النبياء المأمور بإبلغها للناس .والنبي ل يكلف إبلغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة
يتلقاها من ال .وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم القيام على دعوة موسى والحكم بالتوراة التي
جاء بها من عند ال( :يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا .والربانيون والحبار بما استحفظوا من
كتاب ال وكانوا عليه شهداء). .
ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور اليمن [ اليمن بالنسبة لموسى إذ ذاك ] وتقريبه إلى ال لدرجة
الكلم .الكلم القريب في صورة مناجاة .ونحن ل ندري كيف كان هذا الكلم ,وكيف أدركه موسى . .
أكان صوتا تسمعه الذن أم يتلقاه الكيان النساني كله .ول نعلم كيف أعد ال كيان موسى البشري لتلقي كلم
ال الزلي . .إنما نؤمن أنه كان .وهو على ال هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق ,وهو بشر
على بشريته ,وكلم ال علوي على علويته .ومن قبل كان النسان إنسانا بنفخة من روح ال .
ويذكر رحمة ال بموسى في مساعدته بإرسال أخيه هارون معه حين طلب إلى ال أن يعينه به(وأخي هارون
هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) .وظل الرحمة هو الذي يظلل جو
السورة كله .
ثم يعود السياق إلى الفرع الخر من ذرية إبراهيم .فيذكر إسماعيل أبا العرب(:واذكر في الكتاب إسماعيل ,
إنه كان صادق الوعد وكان رسول نبيا .وكان يأمر أهله بالصلة والزكاة ,وكان عند ربه مرضيا). .
وينوه من صفات إسماعيل بأنه كان صادق الوعد .وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح ,فل بد أن هذه
الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص .
وهو رسول فل بد أن كانت له دعوة في العرب الوائل وهو جدهم الكبير .وقد كان في العرب موحدون
أفراد قبيل الرسالة المحمدية ,فالرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع إسماعيل .ويذكر السياق من أركان
العقيدة التي جاء بها الصلة والزكاة وكان يأمر بهما أهله . .ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضيا . .
والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة ,وبينهما قرابة !
(واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا .ورفعناه مكانا عليا). .
ول نملك نحن تحديد زمان إدريس .ولكن الرجح أنه سابق على إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل فلم
يرد ذكره في كتبهم .والقرآن يصفه بأنه كان صديقا نبيا ويسجل له أن ال رفعه مكانا عليا .فأعلى قدره
ورفع ذكره . .
وهناك رأي نذكره لمجرد الستئناس به ول نقرره أو ننفيه ,يقول به بعض الباحثين في الثار المصرية ,
وهو أن إدريس تعريب لكلمة "أوزريس" المصرية القديمة .كما أن يحيى تعريب لكلمة يوحنا .وكلمة اليسع
تعريب لكلمة إليشع . .وأنه هو الذي صيغت حوله أساطير كثيرة .فهم يعتقدون أنه صعد إلى السماء وصار
له فيها عرش عظيم .وكل من وزنت أعماله بعد الموت فوجدت حسناته ترجح سيئاته فإنه يلحق بأوزريس
الذي جعلوه إلها لهم .وقد علمهم العلوم والمعارف قبل صعوده إلى السماء .
وعلى أية حال فنحن نكتفي بما جاء عنه في القرآن الكريم ; ونرجح أنه سابق على أنبياء بني إسرائيل .
الدرس الثالث 63 - 58:اختلف الناس بعد النبياء ما بين مؤمنين منعمين وكافرين معذبين
يستعرض السياق أولئك النبياء ,ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين التقياء وبين الذين خلفوهم سواء من
مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل . .فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق
بعيد بين السلف والخلف:
(أولئك الذين أنعم ال عليهم من النبيين من ذرية آدم ,وممن حملنا مع نوح ,ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ,
وممن هدينا واجتبينا .إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا .فخلف من بعدهم خلف أضاعوا
الصلة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا .). . .
والسياق يقف في هذا الستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية (من ذرية آدم).
(وممن حملنا مع نوح)( .ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل) .فآدم يشمل الجميع ,ونوح يشمل من بعده ,وإبراهيم
يشمل فرعي النبوة الكبيرين:ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل .وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم
النبيين .
أولئك النبيون ومعهم من هدى ال واجتبى من الصالحين من ذريتهم . .صفتهم البارزة( :إذا تتلى عليهم آيات
الرحمن خروا سجدا وبكيا) . .فهم أتقياء شديدو الحساسية بال ; ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته ,فل
تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ,فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا . .
أولئك التقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر ال . .خلف من بعدهم خلف ,
بعيدون عن ال ( .أضاعوا الصلة)فتركوها وجحدوها (واتبعوا الشهوات)واستغرقوا فيها .فما أشد المفارقة ,
وما أبعد الشبه بين أولئك وهؤلء !
ومن ثم يتهدد السياق هؤلء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين .يتهددهم بالضلل والهلك( :فسوف
يلقون غيا)والغي الشرود والضلل ,وعاقبة الشرود والضياع والهلك .
ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى:
(إل من تاب وآمن وعمل صالحا ,فأولئك يدخلون الجنة ول يظلمون شيئا .جنات عدن التي وعد الرحمن
عباده بالغيب .إنه كان وعده مأتيا .ل يسمعون فيها لغوا إل سلما .ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .تلك
الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا). .
فالتوبة التي تنشى ء اليمان والعمل الصالح ,فتحقق مدلولها اليجابي الواضح . .تنجي من ذلك المصير فل
يلقى أصحابها(غيا)إنما يدخلون الجنة ول يظلمون شيئا .يدخلون الجنة للقامة .الجنة التي وعد الرحمن
عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها .ووعد ال واقع ل يضيع . .
ثم يرسم صورة للجنة ومن فيها ( . .ل يسمعون فيها لغوا إل سلما)فل فضول في الحديث ول ضجة ول
جدال ,إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي .صوت السلم . .والرزق في هذه الجنة
مكفول ل يحتاج إلى طلب ول كد .ول يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد( :ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا)فما يليق الطلب ول القلق في هذا الجو الراضي الناعم المين . .
(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا) . .فمن شاء الوراثة فالطريق معروف:التوبة واليمان والعمل
الصالح .أما وراثة النسب فل تجدي .فقد ورث قوم نسب أولئك التقياء من النبيين وممن هدى ال واجتبى ;
ولكنهم أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ,فلم تنفعهم وراثة النسب (فسوف يلقون غيا). .
ويختم هذا الدرس بإعلن الربوبية المطلقة ل ,والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها .ونفي الشبيه
والنظير:
(وما نتنزل إل بأمر ربك ,له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ,وما كان ربك نسيا .رب السماوات
والرض وما بينهما ,فاعبده واصطبر لعبادته .هل تعلم له سميا ?). .
وتتضافر الروايات على أن قوله (وما نتنزل إل بأمر ربك ). .مما أمر جبريل عليه السلم أن يقوله للرسول [
ص ] ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل .فاستوحشت نفسه ,واشتاقت للتصال الحبيب .
فكلف جبريل أن يقول له( :وما نتنزل إل بأمر ربك)فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا:
له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو ل ينسى شيئا ,إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل
(وما كان ربك نسيا)فناسب بعد ذلك أن يذكر الصطبار على عبادة ال مع إعلن الربوبية له دون سواه:
(رب السماوات والرض وما بينهما) . .فل ربوبية لغيره ,ول شرك معه في هذا الكون الكبير .
(فاعبده واصطبر لعبادته) . .اعبده واصطبر على تكاليف العبادة .وهي تكاليف الرتقاء إلى أفق المثول بين
يدي المعبود ,والثبات في هذا المرتقى العالي .اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك
الفق العلوي . .إنها مشقة .مشقة التجمع والحتشاد والتجرد من كل شاغل ,ومن كل هاتف ومن كل التفات
. .وإنها مع المشقة للذة ل يعرفها إل من ذاق .ولكنها ل تنال إل بتلك المشقة ,وإل بالتجرد لها ,
والستغراق فيها ,والتحفز لها بكل جارحة وخالجة .فهي ل تفشي سرها ول تمنح عطرها إل لمن يتجرد لها
,ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا .
(فاعبده واصطبر لعبادته) . .والعبادة في السلم ليست مجرد الشعائر .إنما هي كل نشاط:كل حركة .كل
خالجة .كل نية .كل اتجاه .وإنها لمشقة أن يتجه النسان في هذا كله إلى ال وحده دون سواه .مشقة تحتاج
إلى الصطبار .ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الرض إلى السماء .خالصا من أوشاب الرض
وأوهاق الضرورات ,وشهوات النفس ,ومواضعات الحياة .
إنه منهج حياة كامل ,يعيش النسان وفقه ,وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد ال ;
فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء .وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة .
فاعبده واصطبر لعبادته . .فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب ( . .هل
تعلم له سميا ?) .هل تعرف له نظيرا ? تعالى ال عن السمي والنظير . .
شيْئا ()67
حيّا (َ )66أوَلَا َي ْذكُرُ ا ْلإِنسَانُ َأنّا خَلَ ْقنَاهُ مِن َقبْلُ وََلمْ َيكُ َ
خرَجُ َ
س ْوفَ ُأ ْ
َويَقُولُ ا ْلإِنسَانُ َأ ِئذَا مَا مِتّ َل َ
ن مِن كُلّ شِيعَ ٍة َأ ّيهُ ْم َأشَدّ عَلَى
ج ِثيّا (ُ )68ثمّ َلنَنزِعَ ّ
ج َهنّمَ ِ
ضرَ ّن ُهمْ حَوْلَ َ
ح ِ
شيَاطِينَ ُثمّ َل ُن ْ
شرَ ّن ُهمْ وَال ّ
حُفَ َو َربّكَ َل َن ْ
ع ِتيّا ()69
ال ّرحْمَنِ ِ
الوحدة الثالثة 98 - 66:الموضوع:نقض أفكار الكافرين ومشاهد للنعيم والعذاب في الخرة مقدمة الوحدة
مضى السياق في السورة بقصص زكريا ومولد يحيى ; ومريم ومولد عيسى ; وإبراهيم واعتزاله لبيه .ومن
خلف بعدهم من المهتدين والضالين ,وبالتعقيب على هذا القصص بإعلن الربوبية الواحدة ,التي تستحق
العبادة بل شريك ; وهي الحقيقة الكبيرة التي يبرزها ذلك القصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته .وهذا الدرس
الخير في السورة يمضي في جدل حول عقائد الشرك وحول إنكار البعث .ويعرض في مشاهد القيامة
مصائر البشر في مواقف حية حافلة بالحركة والنفعال ,يشارك فيها الكون كله ,سماواته وأرضه ,إنسه
وجنه ,مؤمنوه وكافروه .
ويتنقل السياق بمشاهده بين الدنيا والخرة ,فإذا هما متصلتان .تعرض المقدمة هنا في هذه الرض ,
وتعرض نتيجتها هنالك في العالم الخر ,فل تتجاوز المسافة بضع آيات أو بضع كلمات .مما يلقي في الحس
أن العالمين متصلن مرتبطان متكاملن .
الدرس الول 72 - 66:البعث والحشر والمرور على الصراط وعذاب الكفار
ويقول النسان:أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ? أو ل يذكر النسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ? فوربك
لنحشرنهم والشياطين ,ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا .
ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .وإن منكم إل واردها كان على ربك حتما مقضيا .ثم ننجي الذين
اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .
يبدأ المشهد بذكر ما يقوله "النسان" عن البعث .ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من البشر في
عصور مختلفة ; فكأنما هي شبهة "النسان" واعتراضه المتكرر في جميع الجيال:
وهو اعتراض منشؤه غفلة النسان عن نشأته الولى .فأين كان ? وكيف كان ? إنه لم يكن ثم كان ; والبعث
أقرب إلى التصور من النشأة الولى لو أنه تذكر:
ثم يعقب على هذا النكار والستنكار بقسم تهديدي .يقسم ال تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله ; أنهم
سيحشرون -بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه:
(فوربك لنحشرنهم) . .ولن يكونوا وحدهم .فلنحشرنهم(والشياطين)فهم والشياطين سواء .والشياطين هم الذين
يوسوسون بالنكار ,وبينهما صلة التابع والمتبوع ,والقائد والمقود . .
وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة( :ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا). .
وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي ل يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها ,تشهد هولها
ويلفحها حرها ,وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها .وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع . .
وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين ,يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتوا وتجبرا:
وإن ال ليعلم من هم أولى بأن يصلوها ,فل يؤخذ أحد جزافا من هذه الجموع التي ل تحصى .والتي
أحصاها ال فردا فردا:
(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) . .فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين !
وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب(:وإن منكم إل واردها كان على ربك حتما مقضيا)فهم يردون فيدنون
ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ ; ويرون العتاة ينزعون ويقذفون ( .ثم ننجي الذين اتقوا)فتزحزح
عنهم وينجون منها ل يكادون ! (ونذر الظالمين فيها جثيا). .
ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة ,ويروح فيه المتقون ناجين .ويبقى
الظالمون فيه جاثين . .من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين ,ويعيرونهم
بفقرهم ,ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء:
وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات .قال الذين كفروا للذين آمنوا:أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ? . .
إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة ; والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد .وإلى
جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إل من اليمان .ل أبهة ول زينة ,ول زخرف
,ول فخامة . .هذه وتلك تتقابلن في هذه الرض وتجتمعان !
وتقف الولى بمغرياتها الفخمة الضخمة:تقف بمالها وجمالها .بسلطانها وجاهها .بالمصالح تحققها ,والمغانم
توفرها ,وباللذائذ والمتاع .وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع ,تهزأ بالمال والمتاع ,وتسخر من الجاه
والسلطان ; وتدعو الناس إليها ,ل باسم لذة تحققها ,ول مصلحة توفرها ,ول قربى من حاكم ول اعتزاز
بذي سلطان .ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف ,عاطلة من كل زينة ,معتزة بعزة ال
دون سواه . .ل بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والستهتار ,ل تملك أن تأجرهم على ذلك كله
شيئا في هذه الرض ,إنما هو القرب من ال ,وجزاؤه الوفى يوم الحساب .
وهؤلء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات ال -على عهد الرسول [ ص ] -فيقولون للمؤمنين الفقراء( :أي
الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ?)الكبراء الذين ل يؤمنون بمحمد ,أم الفقراء الذين يلتفون حوله .أيهم خير
مقاما وأحسن ناديا ? النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة ,أم بلل
وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين ? أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلء
النفر الذين ل قيمة لهم في مجتمع قريش ول خطر ? وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب ?
ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الجتماعية البارزة ?
إنه منطق الرض .منطق المحجوبين عن الفاق العليا في كل زمان ومكان .وإنها لحكمة ال أن تقف
العقيدة مجردة من الزينة والطلء ,عاطلة من عوامل الغراء .ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة ل من
دون الناس ,ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ; وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ,
ومن يشتهي الزينة والزخرف ,ومن يطلب المال والمتاع .
حتّى ِإذَا
ن َمدّا َ
حسَنُ َأثَاثا َو ِرئْيا ( )74قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلَالَةِ فَ ْل َي ْم ُددْ لَ ُه ال ّرحْمَ ُ
ن ُهمْ َأ ْ
َو َكمْ أَهَْل ْكنَا َقبَْلهُم مّن قَرْ ٍ
ضعَفُ جُندا (َ )75و َيزِيدُ اللّهُ اّلذِينَ
ن هُ َو شَرّ ّمكَانا وََأ ْ
س َيعَْلمُونَ مَ ْ
ن ِإمّا ا ْل َعذَابَ وَِإمّا السّاعَةَ فَ َ
عدُو َ
رَأَوْا مَا يُو َ
خ ْيرٌ ّم َردّا (َ )76أ َفرََأيْتَ اّلذِي كَ َفرَ بِآيَا ِتنَا َوقَالَ َلأُو َتيَنّ
خ ْيرٌ عِندَ َربّكَ َثوَابا َو َ
ا ْه َتدَوْا ُهدًى وَا ْلبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ َ
س َن ْكتُبُ مَا يَقُولُ َو َن ُمدّ َلهُ ِمنَ ا ْل َعذَابِ َمدّا (
عهْدا ( )78كَلّا َ
حمَنِ َ
خذَ عِندَ ال ّر ْ
ب َأمِ ا ّت َ
مَالً َووَلَدا ( )77أَاطّلَعَ ا ْل َغيْ َ
)79
ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين ,المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى
مصارع الغابرين ,على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين:
فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم .ولم يعصمهم شيء من ال حين كتب عليهم الهلك .
أل إن هذا النسان لينسى .ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ; ومصارع الغابرين من حوله تلفته
بعنف وتنذره وتحذره ,وهو سادر فيما هو فيه ,غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة
وأكثر أموال وأولدا .
يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول [ ص ] أن يدعو عليهم في صورة مباهلة -بأن من كان من
الفريقين في الضللة فليزده ال مما هو فيه ; حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الخرة:
(قل:من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا ,حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون
من هو شر مكانا وأضعف جندا ,ويزيد ال الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير
مردا). .
فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد [ ص ] لنهم أغنى وأبهى .فليكن ! وليدع محمد ربه أن يزيد
الضالين من الفريقين ضلل ,وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء . .حتى إذا وقع ما يعدهم ; وهو ل يعدو أن
يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين ,أو عذابهم الكبر يوم الدين -فعندئذ سيعرفون:أي الفريقين
شر مكانا وأضعف جندا .ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير
مردا)خير من كل ما يتباهى به أهل الرض ويتيهون .
ثم يستعرض السياق نموذجا آخر من تبجح الكافرين ,وقولة أخرى من أقوالهم يستنكرها ويعجب منها:
أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال:لوتين مال وولدا ? أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ? كل سنكتب ما
يقول ونمد له من العذاب مدا .ونرثه ما يقول وأتينا فردا . .
ورد في سبب نزول هذه اليات -بإسناده -عن خباب بن الرث قال:كنت رجل قينا [ حدادا ] وكان لي
على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال:ل وال ل أقضيك حتى تكفر بمحمد ,فقلت:ل وال ,ل
أكفر بمحمد [ ص ] حتى تموت ثم تبعث .قال:فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد ,فأعطيتك !
فأنزل ال :أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال:لوتين مال وولدا . . . .
وقولة العاص بن وائل نموذج من تهكم الكفار واستخفافهم بالبعث ; والقرآن يعجب من أمره ,ويستنكر
ادعاءه( :أطلع الغيب ?)فهو يعرف ما هنالك ( .أم اتخذ عند الرحمن عهدا)فهو واثق من تحققه ? ثم
يعقب(:كل) .وهل لفظة نفي وزجر .كل لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند ال عهدا ,إنما هو يكفر ويسخر ;
فالتهديد إذن والوعيد هو اللئق لتأديب الكافرين السافرين(:كل سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا). .
سنكتب ما يقول فنسجله عليه ليوم الحساب فل ينسى ول يقبل المغالطة . .وهو تعبير تصويري
ن ِب ِعبَادَ ِت ِهمْ
س َيكْ ُفرُو َ
عزّا ( )81كَلّا َ
ن اللّهِ آِلهَةً ّل َيكُونُوا َل ُهمْ ِ
خذُوا مِن دُو ِ
َو َن ِرثُهُ مَا َيقُولُ َو َي ْأتِينَا فَرْدا ( )80وَا ّت َ
ن تَ ُؤزّ ُهمْ َأزّا ( )83فَلَا َت ْعجَلْ عََل ْيهِ ْم ِإ ّنمَا َن ُعدّ
شيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِي َ
ضدّا ( )82أََلمْ َترَ َأنّا َأرْسَ ْلنَا ال ّ
َو َيكُونُونَ عََل ْي ِهمْ ِ
ج َه ّنمَ ِورْدا ( )86لَا َيمِْلكُونَ
ن إِلَى َ
جرِمِي َ
شرُ ا ْل ُمتّقِينَ إِلَى ال ّرحْمَنِ َوفْدا (َ )85و َنسُوقُ ا ْل ُم ْ
حُعدّا ( )84يَ ْومَ َن ْ
َل ُهمْ َ
عهْدا ()87
حمَنِ َ
خذَ عِندَ ال ّر ْ
الشّفَاعَ َة إِلّا َمنِ ا ّت َ
للتهديد ,وإل فالمغالطة مستحيلة ,وعلم ال ل تند عنه صغيرة ول كبيرة .ونمد له من العذاب مدا ,فنزيده
منه ونطيله عليه ول نقطعه عنه ! ويستمر السياق في التهديد على طريقة التصوير أيضا( :ونرثه ما يقول)أي
نأخذ ما يخلفه مما يتحدث عنه من مال وولد كما يفعل الوارث بعد موت المورث ! (ويأتينا فردا)ل مال معه
ول ولد ول نصير له ول سند ,مجردا ضعيفا وحيدا فريدا .
فهل رأيت إلى هذا الذي كفر بآيات ال وهو يحيل على يوم ل يملك فيه شيئا ? يوم يجرد من كل ما يملك في
هذه الدنيا ? إنه نموذج من نماذج الكفار .نموذج الكفر والدعاء والستهتار . .
الدرس الرابع 87 - 81:سيطرة الشياطين على الكافرين وصورة لهوانهم يوم القيامة
(واتخذوا من دون ال آلهة ليكونوا لهم عزا ,كل سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .ألم تر أنا أرسلنا
الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .فل تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ,
ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ,ل يملكون الشفاعة إل من اتخذ عند الرحمن عهدا).
فهؤلء الذين يكفرون بآيات ال يتخذون من دونه آلهة يطلبون عندها العزة ,والغلب والنصرة ,وكان فيهم
من يعبد الملئكة ومن يعبد الجن ويستنصرونهم ويتقوون بهم . .كل ! فسيكفر الملئكة والجن بعبادتهم ,
وينكرونها عليهم ,ويبرأون إلى ال منهم ( ,ويكونون عليهم ضدا)بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم .
وإن الشياطين ليهجونهم إلى المعاصي .فهم مسلطون عليهم ,مأذون لهم في إغوائهم منذ أن طلب إبليس
إطلق يده فيهم . .
(فل تعجل عليهم)ول يضق صدرك بهم ; فإنهم ممهلون إلى أجل قريب ,وكل شيء من أعمالهم محسوب
عليهم ومعدود . .والتعبير يصور دقة الحساب تصويرا محسوسا (إنما نعد لهم عدا) . .وإنه لتصوير مرهوب
,فيا ويل من يعد ال عليه ذنوبه وأعماله وأنفاسه ,ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير . .إن الذي يحس أن
رئيسه في الرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف ويعيش في قلق وحسبان . .فكيف بال المنتقم
الجبار ?!
وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة العد والحساب .فأما المؤمنون فقادمون على الرحمن وفدا في
كرامة وحسن استقبال(:يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) .وأما المجرمون فمسوقون إلى جهنم وردا كما
تساق القطعان (.ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) .ول شفاعة يومئذ إل لمن قدم عمل صالحا فهو عهد له
عند ال يستوفيه .وقد وعد ال من آمن وعمل صالحا أن يجزيه الجزاء الوفى ,ولن يخلف ال وعدا .
ثم يستطرد السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولت المشركين .ذلك حين يقول المشركون من
العرب:الملئكة بنات ال .والمشركون من اليهود:عزيز ابن ال .والمشركون من النصارى:المسيح ابن ال .
.فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها فطرته ,وينفر منها ضميره:
(وقالوا:اتخذ الرحمن ولدا .لقد جئتم شيئا إدا .تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتخر الجبال هدا ,
أن دعوا للرحمن ولدا ,وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا). .
إن جرس اللفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلل المشهد في رسم الجو:جو الغضب والغيرة والنتفاض ! وإن
ضمير الكون وجوارحه لتنتفض ,وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية ,والمساس بقداسة
خرّ
شقّ ا ْلَأرْضُ َو َت ِ
ن ِمنْهُ َوتَن َ
ت َيتَ َفطّرْ َ
سمَاوَا ُ
شيْئا ِإدّا (َ )89تكَادُ ال ّ
ج ْئتُمْ َ
خذَ ال ّرحْمَنُ وَلَدا ( )88لَ َق ْد ِ
َوقَالُوا ا ّت َ
سمَاوَاتِ
حمَنِ وَلَدا (َ )91ومَا يَن َبغِي لِل ّرحْمَنِ أَن َي ّتخِذَ وَلَدا ( )92إِن كُلّ مَن فِي ال ّ
عوْا لِل ّر ْ
جبَالُ َهدّا ( )90أَن دَ َ
ا ْل ِ
عدّا (َ )94وكُّل ُهمْ آتِي ِه يَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ َفرْدا (ِ )95إنّ اّلذِينَ
عدّ ُهمْ َ
حصَا ُهمْ وَ َ
عبْدا ( )93لَ َق ْد َأ ْ
حمَنِ َ
وَا ْلَأرْضِ إِلّا آتِي ال ّر ْ
شرَ بِ ِه ا ْل ُمتّقِينَ َوتُن ِذرَ بِهِ قَوْما
س ْرنَا ُه بِِلسَا ِنكَ ِل ُتبَ ّ
حمَنُ ُودّا (َ )96فإِ ّنمَا َي ّ
جعَلُ َل ُهمُ ال ّر ْ
س َي ْ
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ
آ َمنُوا َو َ
ّلدّا ()97
الذات العلية ,كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب النسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه
ويوقره .
هذه النتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والرض والجبال ,واللفاظ بإيقاعها ترسم حركة
الزلزلة والرتجاف .
وما تكاد الكلمة النابية تنطلق(:وقالوا:اتخذ الرحمن ولدا)حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع(:لقد جئتم شيئا
إدا)ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر ,ويغضب الكون كله لبارئه .وهو يحس بتلك الكلمة
تصدم كيانه وفطرته ; وتجافي ما وقر في ضميره وما استقر في كيانه ; وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن
إليها(:تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتخر الجبال هدا .أن دعوا للرحمن ولدا .وما ينبغي
للرحمن أن يتخذ ولدا). .
إن كل من في السماوات والرض إل آتى الرحمن عبدا .لقد أحصاهم وعدهم عدا .وكلهم آتيه يوم القيامة
فردا .
إن كل من في السماوات والرض إل عبد يأتي معبوده خاضعا طائعا ,فل ولد ول شريك ,إنما خلق وعبيد .
وإن الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان (. .لقد أحصاهم وعدهم عدا)فل مجال لهرب أحد
ول لنسيان أحد(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)فعين ال على كل فرد .وكل فرد يقدم وحيدا ل يأنس بأحد ول
يعتز بأحد .حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يجرد منها ,فإذا هو وحيد فريد أمام الديان .
وفي وسط هذه الوحدة والوحشة والرهبة ,إذا المؤمنون في ظلل ندية من الود السامي:ود الرحمن:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا). .
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب ,وروح رضى يلمس النفوس .وهو ود يشبع في المل
العلى ,ثم يفيض على الرض والناس فيمتلى ء به الكون كله ويفيض . .
عن أبي هريرة -رضي ال عنه -عن النبي [ ص ] قال ":إن ال إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال:يا جبريل
إني أحب فلنا فأحبه .قال:فيحبه جبريل .ثم ينادي في أهل السماء:إن ال يحب فلنا فأحبوه .قال:فيحبه أهل
السماء .ثم يوضع له القبول في الرض .وإن ال إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال:يا جبريل إني أبغض فلنا
فأبغضه .قال:فيبغضه جبريل .ثم ينادي في أهل السماء:إن ال يبغض فلنا فأبغضوه .قال:فيبغضه أهل
السماء ; ثم يوضع له البغضاء في الرض " . .
وبعد فإن هذه البشرى للمؤمنين المتقين ,وذلك النذار للجاحدين الخصيمين هما غاية هذا القرآن .ولقد يسره
ال للعرب فأنزله بلسان الرسول [ ص ] ليقرأوه:
وتختم السورة بمشهد يتأمله القلب طويل ,ويرتعش له الوجدان طويل ; ول ينتهي الخيال من استعراضه
وهو مشهد يبدؤك بالرجة المدمرة ,ثم يغمرك بالصمت العميق .وكأنما يأخذ بك إلى وادي الردى ,ويقفك
على مصارع القرون ; وفي ذلك الوادي الذي ل يكاد يحده البصر ,يسبح خيالك مع الشخوص التي كانت
تدب وتتحرك ,والحياة التي كانت تنبض وتمرح .والماني والمشاعر التي كانت تحيا وتتطلع . .ثم إذا
الصمت يخيم ,والموت يجثم ,وإذا الجثث والشلء والبلى والدمار ,ل نأمة .ل حس .ل حركة .ل
صوت ( . .هل تحس منهم من أحد ?)انظر وتلفت (هل تسمع لهم ركزا)تسمع وأنصت .أل إنه السكون
العميق والصمت الرهيب .وما من أحد إل الواحد الحي الذي ل يموت .