You are on page 1of 29

‫سورة مريم‬

‫كهيعص (‪)1‬‬
‫مقدمة السورة يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد ; ونفي الولد والشريك ; ويلم بقضية البعث القائمة‬
‫على قضية التوحيد ‪ . .‬هذا هو الموضوع الساسي الذي تعالجه السورة ‪ ,‬كالشأن في السور المكية غالبا ‪.‬‬

‫والقصص هو مادة هذه السورة ‪ .‬فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى ‪ .‬فقصة مريم ومولد عيسى ‪ .‬فطرف من‬
‫قصة إبراهيم مع أبيه ‪ . .‬ثم تعقبها إشارات إلى النبيين‪:‬إسحاق ويعقوب ‪ ,‬وموسى وهرون ‪ ,‬وإسماعيل ‪,‬‬
‫وإدريس ‪ .‬وآدم ونوح ‪ .‬ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة ‪ .‬ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث ‪,‬‬
‫ونفي الولد والشريك ‪ ,‬وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين ‪.‬‬

‫ومن ثم بعض مشاهد القيامة ‪ ,‬وبعض الجدل مع المنكرين للبعث ‪.‬‬

‫واستنكار للشرك ودعوى الولد ; وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الخرة ‪ . .‬وكله‬
‫يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الصيل ‪.‬‬

‫وللسورة كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها ‪ ,‬ويتمشى في موضوعاتها ‪. .‬‬

‫إن سياق هذه السورة معرض للنفعالت والمشاعر القوية ‪ . .‬النفعالت في النفس البشرية ‪ ,‬وفي "نفس"‬
‫الكون من حولها ‪ .‬فهذا الكون الذي نتصوره جمادا ل حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر‬
‫وانفعالت ‪ ,‬تشارك في رسم الجو العام للسورة ‪ .‬حيث نرى السماوات والرض والجبال تغضب وتنفعل حتى‬
‫لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا‪:‬‬

‫(أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا)‪. .‬‬

‫أما النفعالت في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها ‪ .‬والقصص الرئيسي فيها حافل‬
‫بهذه النفعالت في مواقفه العنيفة العميقة ‪ .‬وبخاصة في قصة مريم وميلد عيسى ‪.‬‬

‫والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والتصال ‪ .‬فهي تبدأ بذكر رحمة ال لعبده زكريا(ذكر‬
‫رحمة ربك عبده زكريا)وهو يناجي ربه نجاء‪(:‬إذ نادى ربه نداء خفيا)‪ . .‬ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها‬
‫في ثنايا السورة كثيرا ‪ .‬ويكثر فيها اسم(الرحمن)‪ .‬ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود‪(:‬إن‬
‫الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)ويذكر من نعمة ال على يحيى أن آتاه ال حنانا(وحنانا‬
‫من لدنا وزكاة وكان تقيا)‪ .‬ومن نعمة ال على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا لطيفا‪:‬‬
‫(وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا)‪. .‬‬

‫وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلل ‪ .‬كما تحس انتفاضات‬
‫الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي ل تطيقها فطرته ‪ . .‬كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا ‪.‬‬
‫فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق‪:‬رضيا ‪ .‬سريا ‪ .‬حفيا ‪ .‬نجيا ‪ . .‬فأما المواضع التي‬
‫تقتضي الشد والعنف ‪ ,‬فتجيء فيها الفاصلة مشددة دال في الغالب ‪ .‬مدا ‪ .‬ضدا ‪ .‬إدا ‪ .‬هدا ‪ ,‬أو زايا‪:‬عزا ‪.‬‬
‫أزا ‪.‬‬

‫وتنوع اليقاع المصوسيقي والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة ‪ .‬فهي تبدأ‬
‫بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا‪:‬‬

‫ذكر رحمة ربك عبده زكريا ‪ .‬إذ نادى ربه نداء خفيا ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬

‫وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه‪:‬‬

‫واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ‪ .‬فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل‬
‫لها بشرا سويا ‪ . .‬الخ‬

‫إلى أن ينتهي القصص ‪ ,‬ويجيء التعقيب ‪ ,‬لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ‪ ,‬وللفصل في قضية بنوته ‪ .‬فيختلف‬
‫نظام الفواصل والقوافي ‪ . .‬تطول الفاصلة ‪ ,‬وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف‬
‫ل بالياء الممدودة الرخية ‪ .‬على النحو التالي‪:‬‬

‫ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ‪ .‬ما كان ل أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما‬
‫يقول له‪:‬كن فيكون ‪ . . .‬الخ ‪.‬‬

‫ع ْبدَهُ َز َك ِريّا (‪ِ )2‬إذْ نَادَى َربّ ُه ِندَاء خَ ِفيّا (‪)3‬‬


‫حمَ ِة رَ ّبكَ َ‬
‫ِذكْرُ َر ْ‬

‫حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة‪:‬‬

‫واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ‪ .‬إذ قال لبيه‪:‬يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني‬
‫عنك شيئا ‪ . .‬الخ ‪.‬‬

‫حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ‪ ,‬تغير اليقاع الموسيقي وجرس القافية‪:‬‬
‫قل‪:‬من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا ‪ .‬حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب ; وإما الساعة فسيعلمون‬
‫من هو شر مكانا وأضعف جندا ‪ . .‬الخ ‪.‬‬

‫وفي موضع الستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال‪:‬‬

‫وقالوا‪:‬اتخذ الرحمن ولدا ‪ .‬لقد جئتم شيئا إدا ‪ ,‬تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتحز الجبال هذا ‪.‬‬
‫‪ .‬الخ ‪.‬‬

‫وهكذا يسير اليقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ; ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى‬
‫في ثنايا السورة ‪ ,‬وفق انتقالت السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى ‪.‬‬

‫ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلثة‪:‬‬

‫الشوط الول يتضمن قصة زكريا ويحيى ‪ ,‬وقصة مريم وعيسى ‪ .‬والتعقيب على هذه القصة بالفصل في‬
‫قضية عيسى التي كثر فيها الجدل ‪ ,‬واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى ‪.‬‬

‫والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه ال من ذرية‬
‫نسلت بعد ذلك المة ‪ .‬ثم إشارات إلى قصص النبيين ‪ ,‬ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ; ومصير‬
‫هؤلء وهؤلء ‪ .‬وينتهي بإعلن الربوبية الواحدة ‪ ,‬التي تعبد بل شريك‪(:‬رب السماوات والرض وما بينهما‬
‫فاعبده واصطبر لعبادته ‪ .‬هل تعلم له سميا ?)‬

‫والشوط الثالث والخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث ‪ ,‬ويستعرض بعض مشاهد القيامة ‪ .‬ويعرض صورة‬
‫من استنكار الكون كله لدعوى الشرك ‪ ,‬وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون ! (وكم أهلكنا قبلهم‬
‫من قرن ‪ .‬هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا)فنأخذ في الدرس الول‪:‬‬

‫الدرس الول‪ 11 - 1:‬بشارة زكريا بيحيى عليهما السلم‬

‫كاف ‪ .‬ها ‪ .‬يا ‪ .‬عين ‪ .‬صاد ‪. .‬‬

‫هذه الحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور ‪ ,‬والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي‬
‫يتألف منها هذا القرآن ‪ ,‬فيجيء نسقا جديدا ل يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات ‪,‬‬
‫ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن ‪.‬‬

‫وبعدها تبدأ القصة الولى ‪ .‬قصة زكريا ويحيى ‪ .‬والرحمة قوامها ‪ .‬والرحمة تظللها ‪ .‬ومن ثم يتقدمها ذكر‬
‫الرحمة‪(:‬ذكر رحمة ربك عبده زكريا)‪. .‬‬
‫تبدأ القصة بمشهد الدعاء ‪ .‬دعاء زكريا لربه في ضراعة وفي خفية‪:‬‬

‫وإذ نادى ربه نداء خفيا ‪ .‬قال‪:‬رب إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ‪ ,‬ولم أكن بدعائك رب‬

‫ي مِن‬
‫ت ا ْلمَوَاِل َ‬
‫شيْبا وََلمْ َأكُن ِبدُعَا ِئكَ رَبّ شَ ِقيّا (‪ )4‬وَِإنّي خِفْ ُ‬
‫ش َتعَلَ الرّأْسُ َ‬
‫ن ا ْل َعظْمُ ِمنّي وَا ْ‬
‫قَالَ رَبّ ِإنّي وَهَ َ‬
‫ضيّا (‪)6‬‬
‫ب رَ ِ‬
‫جعَلْهُ رَ ّ‬
‫ب وَا ْ‬
‫ل َيعْقُو َ‬
‫ب لِي مِن ّلدُنكَ وَِليّا (‪َ )5‬يرِ ُثنِي َو َيرِثُ مِنْ آ ِ‬
‫َورَائِي َوكَانَتِ ا ْمرََأتِي عَاقِرا فَهَ ْ‬
‫سمِيّا (‪)7‬‬
‫ل َ‬
‫جعَل لّ ُه مِن قَبْ ُ‬
‫حيَى َل ْم َن ْ‬
‫سمُ ُه َي ْ‬
‫شرُكَ ِبغُلَامٍ ا ْ‬
‫يَا َزكَ ِريّا ِإنّا ُن َب ّ‬
‫شقيا ‪ .‬وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ‪ ,‬فهب لي من لدنك وليا ‪ ,‬يرثني ويرث من آل‬
‫يعقوب ‪ ,‬واجعله رب رضيا)‪. .‬‬

‫إنه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس ‪ ,‬بعيدا عن أسماعهم ‪ .‬في عزلة يخلص فيها لربه ‪ ,‬ويكشف له عما يثقل‬
‫كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال‪(:‬رب ‪). .‬بل واسطة حتى ول حرف النداء ‪ .‬وإن ربه ليسمع‬
‫ويرى من غير دعاء ول نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث ‪ ,‬ويحتاج إلى الشكوى ‪ .‬وال الرحيم بعباده‬
‫يعرف ذلك من فطرة البشر ‪ ,‬فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم ‪( .‬وقال ربكم ادعوني‬
‫أستجب لكم)ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق ‪ ,‬ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو‬
‫أقوى وأقدر ; وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي ل يضام من يلجأ إليه ‪ ,‬ول يخيب من يتوكل عليه ‪.‬‬

‫وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم ‪ .‬وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن ‪ .‬فالعظم هو أصلب ما فيه ‪,‬‬
‫وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه ‪ .‬ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا ‪ .‬والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه‬
‫نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما لتشمله هذه النار المشتعلة ‪ ,‬فل يبقى في الرأس المشتعل سواد ‪.‬‬

‫ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه‬
‫وهو يعرض عليه حاله ورجاءه ‪. .‬‬

‫ثم يعقب عليه بقوله‪( :‬ولم أكن بدعائك رب شقيا)معترفا بأن ال قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه ‪ ,‬فلم يشق‬
‫مع دعائه لربه ‪ ,‬وهو في فتوته وقوته ‪ .‬فما أحوجه الن في هرمه وكبرته أن يستجيب ال له ويتم نعمته عليه‬
‫‪.‬‬

‫فإذا صور حاله ‪ ,‬وقدم رجاءه ‪ ,‬ذكر ما يخشاه ‪ ,‬وعرض ما يطلبه ‪ . .‬إنه يخشى من بعده ‪ .‬يخشاهم أل‬
‫يقوموا على تراثه بما يرضاه ‪ .‬وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها ‪ -‬وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين ‪-‬‬
‫وأهله الذين يرعاهم ‪ -‬ومنهم مريم التي كان قيما عليها وهي تخدم المحراب الذي يتوله ‪ -‬وماله الذي يحسن‬
‫تدبيره وإنفاقه في وجهه ‪ .‬وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله ‪ ,‬ويخشى أل يسيروا فيه سيرته‬
‫‪ . .‬قيل لنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث ‪. .‬‬

‫(وكانت امرأتي عاقرا)‪ . .‬لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلفته ‪.‬‬

‫ذلك ما يخشاه ‪ .‬فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح ‪ ,‬الذي يحسن الوراثة ‪ ,‬ويحسن القيام على تراثه وتراث‬
‫النبوة من آبائه وأجداده‪( :‬فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب)‪.‬‬

‫ول ينسى زكريا ‪ ,‬النبي الصالح ‪ ,‬أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته‪( :‬واجعله رب‬
‫رضيا)ل جبارا ول غليظا ‪ ,‬ول متبطرا ول طموعا ‪ .‬ولفظة(رضي)تلقي هذه الظلل ‪ .‬فالرضي الذي يرضى‬
‫ويرضي ‪ .‬وينشر ظلل الرضى فيما حوله ومن حوله ‪.‬‬

‫ذلك دعاء زكريا لربه في ضراعة وخفية ‪ .‬واللفاظ والمعاني واليقاع الرخي ‪ .‬كلها تشارك في تصوير‬
‫مشهد الدعاء ‪.‬‬

‫ثم ترتسم لحظة الستجابة في رعاية وعطف ورضى ‪ . .‬فالرب ينادي عبده من المل العلى‪( :‬يا زكريا)‪. .‬‬
‫ويعجل له البشرى‪( :‬إنا نبشرك بغلم)ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلم الذي بشره به‪( :‬اسمه يحيى)‪.‬‬
‫وهو اسم فذ غير مسبوق‪( :‬لم نجعل له من قبل سميا)‪. .‬‬

‫ع ِتيّا (‪ )8‬قَالَ َكذَِلكَ قَالَ َر ّبكَ هُوَ عََليّ‬


‫ن ا ْل ِكبَرِ ِ‬
‫قَالَ رَبّ َأنّى َيكُونُ لِي غُلَامٌ َوكَانَتِ ا ْمرََأتِي عَاقِرا َوقَدْ بََلغْتُ مِ َ‬
‫س ِويّا (‪)10‬‬
‫س ثَلَاثَ َليَالٍ َ‬
‫جعَل لّي آيَ ًة قَالَ آ َي ُتكَ أَلّا ُتكَّلمَ النّا َ‬
‫ل رَبّ ا ْ‬
‫شيْئا (‪ )9‬قَا َ‬
‫ك َ‬
‫َهيّنٌ َوقَ ْد خَلَ ْق ُتكَ مِن َقبْلُ وََلمْ َت ُ‬
‫شيّا (‪)11‬‬
‫عِ‬‫س ّبحُوا ُبكْرَةً َو َ‬
‫ب فَأَ ْوحَى إَِل ْيهِمْ أَن َ‬
‫ن ا ْل ِمحْرَا ِ‬
‫َفخَرَجَ عَلَى قَ ْومِ ِه مِ َ‬

‫إنه فيض الكرم اللهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة ‪ ,‬وناجاه في خفية ‪ ,‬وكشف له عما يخشى ‪,‬‬
‫وتوجه إليه فيما يرجو ‪ .‬والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير‬
‫المال والقيام على الهل بما يرضي ال ‪ .‬وعلم ال ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه ‪.‬‬

‫وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ‪ ,‬على هذه الستجابة القريبة للدعاء ‪ .‬فإذا هو يواجه‬
‫الواقع ‪ . .‬إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ‪ ,‬وهن عظمه واشتعل شيبه ‪ ,‬وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته‬
‫وصباه‪:‬فكيف يا ترى سيكون له غلم ? إنه ليريد أن يطمئن ‪ ,‬ويعرف الوسيلة التي يرزقه ال بها هذا‬
‫الغلم‪(:‬قال‪:‬رب أنى يكون لي غلم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ?)‪.‬‬
‫إنه يواجه الواقع ‪ ,‬ويواجه معه وعد ال ‪ .‬وإنه ليثق بالوعد ‪ ,‬ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك‬
‫الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه ‪ .‬وهي حالة نفسية طبيعية ‪ .‬في مثل موقف زكريا النبي الصالح ‪ .‬النسان !‬
‫الذي ل يملك أن يغفل الواقع ‪ ,‬فيشتاق أن يعرف كيف يغيره ال !‬

‫هنا يأتيه الجواب عن سؤاله‪:‬أن هذا هين على ال سهل ‪ .‬ويذكره بمثل قريب في نفسه‪:‬في خلقته هو و إيجاده‬
‫بعد أن لم يكن ‪ .‬وهو مثل لكل حي ‪ ,‬ولكل شيء في هذا الوجود‪:‬‬

‫(قال‪:‬كذلك قال ربك‪:‬هو علي هين ‪ .‬وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا)‪.‬‬

‫وليس في الخلق هين وصعب على ال ‪ .‬ووسيلة الخلق للصغير والكبير ‪ ,‬وللحقير والجليل واحدة‪:‬كن ‪ .‬فيكون‬
‫‪.‬‬

‫وال هو الذي جعل العاقر ل تلد ‪ .‬وجعل الشيخ الفاني ل ينسل ; وهو قادر على إصلح العاقر وإزالة سبب‬
‫العقم ‪ ,‬وتجديد قوة الخصاب في الرجل ‪ .‬وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء ‪ .‬وإن كان كل‬
‫شيء هينا على القدرة‪:‬إعادة أو إنشاء ‪.‬‬

‫ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلمة على تحقق البشرى فعل ‪ .‬فأعطاه ال‬
‫آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الستجابة ‪ . .‬ويؤدي بها حق الشكر ل الذي وهبه‬
‫على الكبر غلما ‪ . .‬وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع ال ثلث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه ‪,‬‬
‫ويحتبس إذا كلم الناس ‪ ,‬وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ول آفة ‪.‬‬

‫(قال‪:‬آيتك أل تكلم الناس ثلث ليال سويا)‪. .‬‬

‫وكان ذلك‪:‬‬

‫(فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا)‪. .‬‬

‫ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه ‪ ,‬وليشكروا ال معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 15 - 12:‬من صفات يحيى عليه السلم‬

‫ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه ‪ ,‬ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة‬
‫الجديدة على يحيى ; يناديه ربه من المل العلى‪:‬‬

‫(يا يحيى خذ الكتاب بقوة ‪.). . .‬‬


‫لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا ‪ ,‬في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين ‪ .‬على طريقة القرآن في‬
‫عرضه الفني للقصص ‪ ,‬ليبرز أهم الحلقات والمشاهد ‪ ,‬وأشدها حيوية وحركة ‪.‬‬

‫ن تَ ِقيّا (‪َ )13‬و َبرّا بِوَاِل َد ْيهِ وََلمْ َيكُن‬


‫حنَانا مّن ّل ُدنّا َوزَكَاةً َوكَا َ‬
‫حكْ َم صَ ِبيّا (‪َ )12‬و َ‬
‫خ ِذ ا ْل ِكتَابَ بِقُوّةٍ وَآ َت ْينَا ُه ا ْل ُ‬
‫حيَى ُ‬
‫يَا َي ْ‬
‫حيّا (‪ )15‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْل ِكتَابِ َم ْر َيمَ ِإذِ ان َت َبذَتْ‬
‫صيّا (‪َ )14‬وسَلَامٌ عََل ْيهِ َي ْومَ وُِلدَ َويَ ْومَ َيمُوتُ َو َي ْومَ ُي ْبعَثُ َ‬
‫ع ِ‬
‫جبّارا َ‬
‫َ‬
‫س ِويّا (‪ )17‬قَالَتْ ِإنّي‬
‫حنَا َفتَ َمثّلَ َلهَا َبشَرا َ‬
‫حجَابا َفأَ ْرسَ ْلنَا إَِل ْيهَا رُو َ‬
‫خذَتْ مِن دُو ِن ِهمْ ِ‬
‫ن أَهِْلهَا َمكَانا شَ ْر ِقيّا (‪ )16‬فَا ّت َ‬
‫مِ ْ‬
‫ل َر ّبكِ ِلأَهَبَ َلكِ غُلَاما َز ِكيّا (‪ )19‬قَالَتْ َأنّى َيكُونُ لِي‬
‫أَعُوذُ بِال ّرحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَ ِقيّا (‪ )18‬قَالَ ِإ ّنمَا َأنَا َرسُو ُ‬
‫ك َب ِغيّا (‪)20‬‬
‫شرٌ وََلمْ َأ ُ‬
‫سنِي َب َ‬
‫غُلَامٌ وََلمْ َي ْمسَ ْ‬

‫وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة ‪ .‬لن مشهد النداء مشهد رائع عظيم ‪ ,‬يدل على‬
‫مكانة يحيى ‪ ,‬وعلى استجابة ال لزكريا ‪ ,‬في أن يجعل له من ذريته وليا ‪ ,‬يحسن الخلفة بعده في العقيدة وفي‬
‫العشيرة ‪ .‬فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل المانة الكبرى ‪( .‬يا يحيى خذ الكتاب بقوة)‪. .‬‬
‫والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى ‪ ,‬وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون ‪ .‬وقد‬
‫ورث يحيى أباه زكريا ‪ ,‬ونودي ليحمل العبء وينهض بالمانة في قوة وعزم ‪ ,‬ل يضعف ول يتهاون ول‬
‫يتراجع عن تكاليف الوراثة ‪. .‬‬

‫وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى‪:‬‬

‫(وآتيناه الحكم صبيا ‪ ,‬وحنانا من لدنا وزكاة ‪ ,‬وكان تقيا)‪. .‬‬

‫فهذه هي المؤهلت التي زوده ال بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه ‪. .‬‬

‫آتاه الحكمة صبيا ‪ ,‬فكان فذا في زاده ‪ ,‬كما كان فذا في اسمه وفي ميلده ‪ .‬فالحكمة تأتي متأخرة ‪ .‬ولكن‬
‫يحيى قد زود بها صبيا ‪.‬‬

‫وآتاه الحنان هبة لدنية ل يتكلفه ول يتعلمه ; إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به ‪ .‬والحنان صفة ضرورية للنبي‬
‫المكلف رعاية القلوب والنفوس ‪ ,‬وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق ‪.‬‬

‫وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع ; يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس ‪ ,‬فيطهرها ويزكيها ‪.‬‬

‫(وكان تقيا)موصول بال ‪ ,‬متحرجا معه ‪ ,‬مراقبا له ‪ ,‬يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه ‪.‬‬

‫ذلك هو الزاد الذي آتاه ال يحيى في صباه ‪ ,‬ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا ‪ .‬فاستجاب له ربه‬
‫ووهب له غلما زكيا ‪. .‬‬
‫وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا ‪ .‬وقد رسم الخط الرئيسي في حياته ‪ ,‬وفي منهجه‬
‫‪ ,‬وفي اتجاهه ‪ .‬وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له ‪ ,‬وفي نداء يحيى وما زوده ال به‬
‫‪ .‬ولم يعد في تفصيلت القصة بعد ذلك ما يزيد شيئا في عبرتها ومغزاها ‪. .‬‬

‫تقديم لقصة ميلد عيسى عليه السلم‬

‫والن فإلى قصة أعجب من قصة ميلد يحيى ‪ .‬إنها قصة ميلد عيسى ‪ .‬وقد تدرج السياق من القصة الولى‬
‫ووجه العجب فيها هو ولدة العاقر من بعلها الشيخ ‪ ,‬إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولدة العذراء من غير‬
‫بعل ! وهي أعجب وأغرب ‪.‬‬

‫وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق النسان أصل وإنشائه على هذه الصورة ‪ ,‬فإن حادث ولدة عيسى ابن مريم‬
‫يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله ‪ ,‬ويكون حادثا فذا ل نظير له من قبله ول من بعده ‪.‬‬

‫والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها ! لم تشهد خلق النسان الول من غير‬
‫أب وأم ‪ ,‬وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث ; فشاءت الحكمة اللهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى‬
‫من غير أب ‪ ,‬على غير السنة التي جرت منذ وجد النسان على هذه الرض ‪ ,‬ليشهدها البشر ; ثم تظل في‬
‫سجل الحياة النسانية بارزة فذة تتلفت إليها الجيال ‪ ,‬إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الولى التي لم‬
‫يشهدها إنسان !‬

‫لقد جرت بسنة ال التي وضعها لمتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والنواع بل‬

‫حمََلتْهُ فَان َتبَذَتْ ِبهِ‬


‫ضيّا (‪َ )21‬ف َ‬
‫ن َأمْرا مّ ْق ِ‬
‫جعَلَهُ آ َيةً لِلنّاسِ َو َرحْمَةً ّمنّا َوكَا َ‬
‫ك هُوَ عََليّ َهيّنٌ وَِل َن ْ‬
‫قَالَ َكذَِلكِ قَالَ َربّ ِ‬
‫صيّا (‪)22‬‬
‫َمكَانا َق ِ‬
‫استثناء ‪ ,‬حتى المخلوقات التي ل يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خليا التذكير‬
‫والتأنيث ‪ . .‬جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة ‪ ,‬ونسوا‬
‫الحادث الول ‪ .‬حادث وجود النسان لنه خارج عن القياس ‪ .‬فأراد ال أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم‬
‫‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ليذكرهم بحرية القدرة وطلقة الرادة ‪ ,‬وأنها ل تحتبس داخل النواميس التي تختارها ‪ .‬ولم‬
‫يتكرر حادث عيسى لن الصل هو أن تجري السنة التي وضعها ال ‪ ,‬وأن ينفذ الناموس الذي اختاره ‪ .‬وهذه‬
‫الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة ‪ ,‬وعدم احتباسها داخل حدود‬
‫النواميس (ولنجعله آية للناس)‪.‬‬
‫ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في‬
‫إبرازه ‪ ,‬فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬صفات ألوهية ‪ ,‬وتصوغ حول مولده الخرافات‬
‫والساطير ‪ ,‬وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب ‪ - ,‬وهي إثبات القدرة اللهية التي ل تتقيد ‪-‬‬
‫تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد ‪.‬‬

‫والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة ‪ ,‬ويبرز دللتها الحقيقية ‪ ,‬وينفي تلك الخرافات‬
‫والساطير ‪.‬‬

‫والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة ‪ ,‬حافلة بالعواطف والنفعالت ‪ ,‬التي تهز من يقرؤها هزا كأنما هو‬
‫يشهدها‪:‬‬

‫الدس الثالث‪ 33 - 16:‬لقطات من حمل عيسى وولدته وكلمه ورسالته‬

‫واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ‪ ,‬فاتخذت من دونهم حجابا ‪ .‬فأرسلنا إليها روحنا ‪,‬‬
‫فتمثل لها بشرا سويا ‪ .‬قالت‪:‬إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ‪ .‬قال‪:‬إنما أنا رسول ربك لهب لك غلما‬
‫زكيا ‪ .‬قالت‪:‬أنى يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ? قال‪:‬كذلك قال ربك هو علي هين ‪ ,‬ولنجعله‬
‫آية للناس ورحمة منا ‪ . .‬وكان أمرا مقضيا ‪. .‬‬

‫فهذا هو المشهد الول ‪ -‬فتاة عذراء ‪ .‬قديسة ‪ ,‬وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد ‪ .‬ل يعرف عنها أحد‬
‫إل الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد السرائيلي المتطهرين ‪ -‬ول يعرف عن أسرتها إل‬
‫الطيبة والصلح من قديم ‪.‬‬

‫ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والحتجاب عن أنظارهم ‪ . .‬ول‬
‫يحدد السياق هذا الشأن ‪ ,‬ربما لنه شأن خاص جدا من خصوصيات الفتاة ‪. .‬‬

‫وها هي ذي في خلوتها ‪ ,‬مطمئنة إلى انفرادها ‪ .‬ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة ‪ . .‬إنه رجل مكتمل‬
‫سوي‪( :‬فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)‪ . .‬وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها‬
‫رجل في خلوتها ‪ ,‬فتلجأ إلى ال تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل ‪ ,‬والخوف من ال‬
‫والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي‪(:‬قالت‪:‬إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)فالتقي ينتفض وجدانه‬
‫عند ذكر الرحمن ‪ ,‬ويرجع عن دفعة الشهوة ونزع الشيطان ‪. .‬‬

‫وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة ‪ ,‬التي نشأت في وسط صالح ‪ ,‬وكفلها‬
‫زكريا ‪ ,‬بعد أن نذرت ل جنينا ‪ . .‬وهذه هي الهزة الولى ‪.‬‬
‫(قال‪:‬إنما أنا رسول ربك لهب لك غلما زكيا)‪ . .‬وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل ‪ .‬وهذاالرجل السوي‬
‫‪ -‬الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها ‪ -‬فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها ‪ -‬يصارحها بما يخدش سمع الفتاة‬
‫الخجول ‪ ,‬وهو أنه يريد أن يهب لها غلما ‪ ,‬وهما في خلوة ‪ -‬وهذه هي الهزة الثانية ‪.‬‬

‫ثم تدركها شجاعة النثى المهددة في عرضها ! فتسأل في صراحة‪:‬كيف ?‬

‫(قالت‪:‬أنى يكون لي غلم ‪ ,‬ولم يمسسني بشر ‪ ,‬ولم أك بغيا ?)‪ . .‬هكذا في صراحة ‪ .‬وباللفاظ المكشوفة ‪.‬‬
‫فهي والرجل في خلوة ‪ .‬والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا ‪ .‬فما تعرف هي بعد كيف يهب لها‬
‫غلما ? وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها‪( :‬إنما أنا رسول ربك)ول أنه مرسل ليهب لها غلما‬
‫طاهرا غير مدنس المولد ‪ ,‬ول مدنس السيرة ‪ ,‬ليطمئن بالها ‪ .‬ل ‪ .‬فالحياء هنا ل يجدي ‪ ,‬والصراحة أولى ‪. .‬‬
‫كيف ? وهي عذراء لم يمسسها بشر ‪ ,‬وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلم !‬

‫ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لن يهبها غلما إل الوسيلة المعهودة بين‬
‫الذكر والنثى ‪ .‬وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري ‪.‬‬

‫(قال‪:‬كذلك قال ربك‪:‬هو علي هين ‪ .‬ولنجعله آية للناس ‪ ,‬ورحمة منا)‪. .‬‬

‫فهذا المر الخارق الذي ل تتصور مريم وقوعه ‪ ,‬هين على ال ‪ .‬فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون ‪,‬‬
‫كل شيء هين ‪ ,‬سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره ‪ .‬والروح يخبرها بأن ربها يخبرها بأن هذا‬
‫هين عليه ‪ .‬وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس ‪ ,‬وعلمة على وجوده وقدرته وحرية إرادته ‪.‬‬
‫ورحمة لبني إسرائيل أول وللبشرية جميعا ‪ ,‬بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة ال وعبادته وابتغاء‬
‫رضاه ‪.‬‬

‫بذلك انتهى الحوار بين الروح المين ومريم العذراء ‪ . .‬ول يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار ‪ ,‬فهنا فجوة‬
‫من فجوات العرض الفني للقصة ‪ .‬ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلم وهي عذراء لم يمسسها‬
‫بشر ‪ ,‬وأن يكون هذا الغلم آية للناس ورحمة من ال ‪ .‬أن هذا قد انتهى أمره ‪ ,‬وتحقق وقوعه‪( :‬وكان أمرا‬
‫مقضيا)كيف ? ل يذكر هنا عن ذلك شيئا ‪.‬‬

‫ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها ; فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هول‪:‬‬

‫(فحملته فانتبذت به مكانا قصيا ‪ .‬فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ; قالت‪:‬يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا‬
‫منسيا)‪. .‬‬

‫وهذه هي الهزة الثالثة ‪. .‬‬


‫إن السياق ل يذكر كيف حملته ول كم حملته ‪ .‬هل كان حمل عاديا كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت‬
‫الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه‬

‫ح ِتهَا أَلّا‬
‫سيّا (‪َ )23‬فنَادَاهَا مِن َت ْ‬
‫ت يَا َل ْي َتنِي مِتّ َقبْلَ َهذَا َوكُنتُ َنسْيا مّن ِ‬
‫ج ْذعِ ال ّنخْلَ ِة قَالَ ْ‬
‫ض إِلَى ِ‬
‫َفأَجَاءهَا ا ْل َمخَا ُ‬
‫ش َربِي‬
‫ج ِنيّا (‪َ )25‬فكُلِي وَا ْ‬
‫جذْعِ ال ّنخْلَةِ ُتسَا ِقطْ عََل ْيكِ ُرطَبا َ‬
‫ك ِب ِ‬
‫ح َتكِ سَ ِريّا (‪ )24‬وَ ُهزّي إَِل ْي ِ‬
‫جعَلَ َر ّبكِ َت ْ‬
‫َتحْ َزنِي قَ ْد َ‬
‫سيّا (‪َ )26‬فَأتَتْ بِهِ‬
‫شرِ َأحَدا فَقُولِي ِإنّي َنذَرْتُ لِل ّرحْمَنِ صَوْما فَلَنْ ُأكَّل َم ا ْليَ ْومَ إِن ِ‬
‫ن مِنَ ا ْل َب َ‬
‫عيْنا َفإِمّا َت َريِ ّ‬
‫َو َقرّي َ‬
‫ك ا ْمرَأَ سَوْءٍ َومَا كَانَتْ ُأ ّمكِ‬
‫شيْئا َف ِريّا (‪ )27‬يَا ُأخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ َأبُو ِ‬
‫جئْتِ َ‬
‫حمِلُهُ قَالُوا يَا َم ْريَمُ َل َقدْ ِ‬
‫قَ ْو َمهَا َت ْ‬
‫َب ِغيّا (‪)28‬‬
‫المعهودة ? إن هذا جائز ‪ .‬فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية ‪,‬‬
‫والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية ‪ . .‬كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة‬
‫الخاصة أن ل تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية ‪ ,‬فتختصر المراحل اختصارا ; ويعقبها تكون الجنين‬
‫ونموه واكتماله في فترة وجيزة ‪ . .‬ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين ‪ .‬فل نجري طويل وراء‬
‫تحقيق القضية التي ل سند لنا فيها ‪ . . .‬فلنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيا عن أهلها ‪ ,‬في موقف أشد هول من‬
‫موقفها الذي أسلفنا ‪ .‬فلئن كانت في الموقف الول تواجه الحصانة والتربية والخلق ‪ ,‬بينها وبين نفسها ‪,‬‬
‫فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة ‪ .‬ثم هي تواجه اللم الجسدية بجانب اللم النفسية ‪ .‬تواجه‬
‫المخاض الذي(أجاءها)إجاءة إلى جذع النخلة ‪ ,‬واضطرها اضطرارا إلى الستناد عليها ‪ .‬وهي وحيدة فريدة ‪,‬‬
‫تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ‪ ,‬ول علم لها بشيء ‪ ,‬ول معين لها في شيء ‪ . .‬فإذا هي قالت‪( :‬يا‬
‫ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا)فإننا لنكاد نرى ملمحها ‪ ,‬ونحس اضطراب خواطرها ‪ ,‬ونلمس مواقع‬
‫اللم فيها ‪ .‬وهي تتمنى لو كانت(نسيا)‪:‬تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ‪ ,‬ثم تلقى بعد ذلك وتنسى !‬

‫وفي حدة اللم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى‪:‬‬

‫(فناداها من تحتها أل تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ‪ .‬وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ‪.‬‬
‫فكلي واشربي وقري عينا ‪ ,‬فإما ترين من البشر أحدا فقولي‪:‬إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا)‪. .‬‬

‫يال ! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها ‪ .‬يطمئن قلبها ويصلها بربها ‪ ,‬ويرشدها إلى طعامها وشرابها ‪.‬‬
‫ويدلها على حجتها وبرهانها !‬

‫ل تحزني ‪( . .‬قد جعل ربك تحتك سريا)فلم ينسك ولم يتركك ‪ ,‬بل أجرى لك تحت قدميك جدول ساريا ‪-‬‬
‫الرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل ‪ -‬وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها‬
‫فتساقط عليك رطبا ‪ .‬فهذا طعام وذاك شراب ‪ .‬والطعام الحلو مناسب للنفساء ‪ .‬والرطب والتمر من أجود‬
‫طعام النفساء ‪( .‬فكلي واشربي)هنيئا ‪( .‬وقري عينا)واطمئني قلبا ‪ .‬فأما إذا واجهت أحدا فأعلنيه بطريقة غير‬
‫الكلم ‪ ,‬أنك نذرت للرحمن صوما عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة ‪ .‬ول تجيبي أحدا عن سؤال ‪. .‬‬

‫ونحسبها قد دهشت طويل ‪ ,‬وبهتت طويل ‪ ,‬قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيا ‪.‬‬
‫‪ .‬ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن ال ل يتركها ‪ .‬وإلى أن حجتها معها ‪ . .‬هذا الطفل الذي ينطق في المهد ‪. .‬‬
‫فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها ‪. .‬‬

‫(فأتت به قومها تحمله ‪ . .)! . .‬فلنشهد هذا المشهد المثير‪:‬‬

‫إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم ‪ -‬ويبدو أنهم أهل بيتها القربون في نطاق ضيق محدود ‪ -‬وهم‬
‫يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة ‪ . .‬يرونها تحمل طفل !‬

‫(قالوا‪:‬يا مريم لقد جئت شيئا فريا ‪ .‬يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء ‪ ,‬وما كانت أمك بغيا !)‬

‫إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب‪( :‬يا مريم لقد جئت شيئا فريا)فظيعا مستنكرا ‪ .‬ثم يتحول السخط إلى تهكم‬
‫مرير‪( :‬يا أخت هارون)النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك‬
‫لخدمة الهيكل ‪ .‬فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه ! (ما كان‬

‫جعََلنِي َن ِبيّا (‪)30‬‬


‫ع ْبدُ اللّ ِه آتَا ِنيَ ا ْل ِكتَابَ َو َ‬
‫ص ِبيّا (‪ )29‬قَالَ ِإنّي َ‬
‫َفأَشَارَتْ إَِليْ ِه قَالُوا َك ْيفَ ُنكَّلمُ مَن كَانَ فِي ا ْل َم ْهدِ َ‬
‫جبّارا‬
‫جعَلْنِي َ‬
‫حيّا (‪َ )31‬و َبرّا بِوَاِل َدتِي وََل ْم َي ْ‬
‫ن مَا كُنتُ وََأ ْوصَانِي بِالصّلَا ِة وَالزّكَاةِ مَا ُدمْتُ َ‬
‫جعََلنِي ُمبَارَكا َأيْ َ‬
‫َو َ‬
‫حقّ اّلذِي فِيهِ‬
‫حيّا (‪ )33‬ذَِلكَ عِيسَى ا ْبنُ َم ْر َيمَ قَوْلَ ا ْل َ‬
‫شَ ِقيّا (‪ )32‬وَالسّلَامُ عََليّ يَ ْومَ وُلِدتّ َو َي ْومَ َأمُوتُ َو َي ْومَ ُأ ْبعَثُ َ‬
‫ن اللّ َه َربّي‬
‫س ْبحَانَهُ ِإذَا قَضَى َأمْرا َفإِ ّنمَا يَقُولُ َلهُ كُن َف َيكُونُ (‪ )35‬وَإِ ّ‬
‫ن لِلّ ِه أَن َي ّتخِ َذ مِن وََلدٍ ُ‬
‫َي ْمتَرُونَ (‪ )34‬مَا كَا َ‬
‫ستَقِيمٌ (‪)36‬‬
‫صرَاطٌ ّم ْ‬
‫ع ُبدُو ُه َهذَا ِ‬
‫َو َر ّب ُكمْ فَا ْ‬
‫أبوك امرأ سوء ‪ ,‬وما كانت أمك بغيا)حتى تأتي بهذه الفعلة التي ل يأتيها إل بنات آباء السوء والمهات البغايا‬
‫!‬

‫وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها‪:‬‬

‫(فأشارت إليه)‪ . .‬فماذا تقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل ; ثم تتبجح‬
‫فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها !‬

‫(قالوا‪:‬كيف نكلم من كان في المهد صبيا ?)‪.‬‬

‫ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى‪:‬‬


‫قال‪:‬إني عبد ال ‪ ,‬آتاني الكتاب ‪ ,‬وجعلني نبيا ‪ ,‬وجعلني مباركا أينما كنت ‪ ,‬وأوصاني بالصلة والزكاة ما‬
‫دمت حيا ‪ ,‬وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ‪ ,‬والسلم علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ‪.‬‬

‫وهكذا يعلن عيسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬عبوديته ل ‪ .‬فليس هو ابنه كما تدعي فرقة ‪ .‬وليس هو إلها كما تدعي‬
‫فرقة ‪ .‬وليس هو ثالث ثلثة هم إله واحد وهم ثلثة كما تدعي فرقة ‪ . .‬ويعلن أن ال جعله نبيا ‪ ,‬ل ولدا ول‬
‫شريكا ‪ .‬وبارك فيه ‪ ,‬وأوصاه بالصلة والزكاة مدة حياته ‪ .‬والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته ‪ .‬فله إذن‬
‫حياة محدودة ذات أمد ‪ .‬وهو يموت ويبعث ‪ .‬وقد قدر ال له السلم والمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت‬
‫ويوم يبعث حيا ‪. .‬‬

‫والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه ‪ .‬وهو ل يحتمل تأويل في هذه الحقيقة ول جدال ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 36 - 34:‬عيسى ينص على بشريته وعبوديته ل‬

‫ول يزيد السياق القرآني شيئا على هذا المشهد ‪ .‬ل يقول‪:‬كيف استقبل القوم هذه الخارقة ‪ .‬ول ماذا كان بعدها‬
‫من أمر مريم وابنها العجيب ‪ .‬ول متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول‪:‬‬

‫(آتاني الكتاب وجعلني نبيا)‪ . .‬ذلك أن حادث ميلد عيسى هو المقصود في هذا الموضع ‪ .‬فحين يصل به‬
‫السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق ‪ ,‬بلهجة‬
‫التقرير ‪ ,‬وإيقاع التقرير‪:‬‬

‫(ذلك عيسى ابن مريم ‪ .‬قول الحق الذي فيه يمترون ‪ .‬ما كان ل أن يتخذ من ولد ‪ .‬سبحانه ‪ .‬إذا قضى أمرا‬
‫فإنما يقول له‪:‬كن فيكون ‪ .‬وإن ال ربي وربكم فاعبدوه ‪ .‬هذا صراط مستقيم)‪. .‬‬

‫ذلك عيسى ابن مريم ‪ ,‬ل ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لمه في مولده ‪ . .‬ذلك هو في حقيقته وذلك واقع‬
‫نشأته ‪ .‬ذلك هو يقول الحق الذي فيه يمترون ويشكون ‪ .‬يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته‪( :‬ما كان ل أن‬
‫يتخذ من ولد)تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدا ‪ .‬والولد إنما يتخذه الفانون للمتداد ‪ ,‬ويتخذه الضعاف‬
‫للنصرة ‪ .‬وال باق ل يخشى فناء ‪ ,‬قادر ل يحتاج معينا ‪ .‬والكائنات كلها توجد بكلمة كن ‪ .‬وإذا قضى أمرا‬
‫فإنما يقول له‪:‬كن فيكون ‪ . .‬فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الرادة ل بالولد والمعين ‪ . .‬وينتهي ما يقوله عيسى‬
‫‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ويقوله حاله بإعلن ربوبية ال له وللناس ‪ ,‬ودعوته إلى عبادة ال الواحد بل شريك‪(:‬وإن ال‬
‫ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)‪ . .‬فل يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للوهام والساطير‬
‫‪ . .‬وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير ‪.‬‬
‫صرْ يَ ْو َم َي ْأتُو َننَا َلكِنِ‬
‫سمِعْ ِب ِهمْ وََأبْ ِ‬
‫عظِيمٍ (‪َ )37‬أ ْ‬
‫شهَدِ َي ْومٍ َ‬
‫ل لّّلذِينَ كَ َفرُوا مِن ّم ْ‬
‫ب مِن َب ْينِ ِهمْ فَ َويْ ٌ‬
‫ختََلفَ ا ْلَأحْزَا ُ‬
‫فَا ْ‬
‫ضيَ ا ْلَأ ْمرُ وَ ُهمْ فِي غَفْلَةٍ وَ ُه ْم لَا يُ ْؤ ِمنُونَ (‪)39‬‬
‫سرَةِ ِإ ْذ قُ ِ‬
‫حْ‬‫الظّالِمُونَ ا ْل َي ْومَ فِي ضَلَالٍ ّمبِينٍ (‪ )38‬وَأَن ِذرْهُ ْم يَ ْومَ ا ْل َ‬
‫جعُونَ (‪)40‬‬
‫ن َنرِثُ ا ْلَأرْضَ َومَنْ عََل ْيهَا وَإَِل ْينَا ُي ْر َ‬
‫ِإنّا َنحْ ُ‬

‫الدرس الخامس‪ 40 - 37:‬اختلف النصارى في عيسى وتهديدهم بالعذاب في الخرة وبعد هذا التقرير‬
‫يعرض اختلف الفرق والحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الختلف مستنكرا نابيا في ظل هذه الحقيقة‬
‫الناصعة‪:‬‬

‫(فاختلف الحزاب من بينهم)‪. .‬‬

‫ولقد جمع المبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من الساقفة ‪ -‬وهو أحد المجامع الثلثة الشهيرة ‪ -‬بلغ عدد‬
‫أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلفا شديدا ‪ ,‬وقالت كل فرقة فيه قول ‪ . .‬قال‬
‫بعضهم‪:‬هو ال هبط إلى الرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء ‪ .‬وقال بعضهم‪:‬هو ابن‬
‫ال ‪ ,‬وقال بعضهم‪:‬هو أحد القانيم الثلثة‪:‬الب والبن والروح القدس ‪ .‬وقال بعضهم‪:‬هو ثالث ثلثة‪:‬ال إله‬
‫وهو إله وأمه إله ‪ .‬وقال بعضهم‪:‬هو عبد ال ورسوله وروحه وكلمته ‪ .‬وقالت فرق أخرى أقوال أخرى ‪ .‬ولم‬
‫يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلث مائة وثمانية اتفقوا على قول ‪ .‬فمال إليه المبراطور ونصر أصحابه‬
‫وطرد الخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين ‪.‬‬

‫ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين‬
‫ينحرفون عن اليمان بوحدانية ال ‪ ,‬ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر ‪ ,‬وترى ما يحل بالكافرين‬
‫المنحرفين‪:‬‬

‫(فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ‪ .‬أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ‪ ,‬لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين‬
‫‪ .‬وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي المر وهم في غفلة وهم ل يؤمنون)‪.‬‬

‫ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم ‪ .‬بهذا التنكير للتفخيم والتهويل ‪ .‬المشهد الذي يشهده الثقلن‪:‬النس‬
‫والجن ‪ ,‬وتشهده الملئكة ‪ ,‬في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار ‪.‬‬

‫ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلئل الهدى في الدنيا ‪ .‬وهم في ذلك المشهد أسمع الناس‬
‫وأبصر الناس‪:‬‬

‫(أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ‪ ,‬لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين)‪. .‬‬
‫فما أعجب حالهم ! ‪ . .‬ل يسمعون ول يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة ‪ .‬وهم أسمع‬
‫شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في‬
‫مشهد يوم عظيم !‬

‫(وأنذرهم يوم الحسرة)‪ . .‬يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم محض للحسرة ل شيء فيه سواها ‪ ,‬فهي الغالبة‬
‫على جوه ‪ ,‬البارزة فيه ‪ .‬أنذرهم هذا اليوم الذي ل تنفع فيه الحسرات‪( :‬إذ قضي المر وهم في غفلة وهم ل‬
‫يؤمنون)وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم ‪ ,‬موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون ‪.‬‬

‫أنذرهم ذلك اليوم الذي ل شك فيه ; فكل ما على الرض ومن على الرض عائد إلى ال ‪ ,‬عودة الميراث كله‬
‫إلى الوارث الوحيد !‪:‬‬

‫(إنا نحن نرث الرض ومن عليها وإلينا يرجعون)‪. .‬‬

‫صرُ وَلَا ُي ْغنِي‬


‫سمَعُ وَلَا ُيبْ ِ‬
‫صدّيقا ّن ِبيّا (‪ِ )41‬إذْ قَالَ ِلَأبِيهِ يَا َأبَتِ ِلمَ َت ْع ُبدُ مَا لَا َي ْ‬
‫ن ِ‬
‫ب ِإ ْبرَاهِيمَ ِإنّهُ كَا َ‬
‫وَا ْذ ُكرْ فِي ا ْل ِكتَا ِ‬
‫صرَاطا سَ ِويّا (‪)43‬‬
‫ن ا ْلعِ ْلمِ مَا َلمْ َي ْأ ِتكَ فَاتّ ِب ْعنِي أَ ْه ِدكَ ِ‬
‫ت ِإنّي َقدْ جَاءنِي مِ َ‬
‫شيْئا (‪ )42‬يَا َأبَ ِ‬
‫عَنكَ َ‬

‫الوحدة الثانية‪ 65 - 41:‬الموضوع‪:‬لقطات من قصص بعض النبياء الدرس الول‪ 50 - 41:‬بين إبراهيم‬
‫وأبيه وفضل ال عليه في ذريته انتهت قصة ميلد عيسى بكشف ما في أسطورة الولد من نكارة وكذب‬
‫وضلل ; وهي التي يستند إليها بعض أهل الكتاب في عقائدهم الفاسدة ‪ .‬وتليها في السورة حلقة من قصة‬
‫إبراهيم تكشف عما في عقيدة الشرك من نكارة وكذب وضلل كذلك ‪ .‬وإبراهيم هو الذي ينتسب إليه العرب ‪.‬‬
‫ويقول المشركون‪:‬إنهم سدنة البيت الذي بناه هو وإسماعيل ‪.‬‬

‫وتبدو في هذه الحلقة شخصية إبراهيم الرضي الحليم ‪ . .‬تبدو وداعته وحلمه في ألفاظه وتعبيراته التي يحكي‬
‫القرآن الكريم ترجمتها بالعربية ‪ ,‬وفي تصرفاته ومواجهته للجهالة من أبيه ‪ .‬كما تتجلى رحمة ال به‬
‫وتعويضه عن أبيه وأهله المشركين ذرية صالحة تنسل أمة كبيرة ‪ ,‬فيها النبياء وفيها الصالحون ‪ .‬وقد خلف‬
‫من بعدهم خلف أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ينحرفون عن الصراط الذي سنه لهم أبوهم إبراهيم ‪ .‬هم‬
‫هؤلء المشركون ‪. .‬‬

‫ويصف ال إبراهيم بأنه كان صديقا نبيا ‪ .‬ولفظة صديق تحتمل معنى أنه كثير الصدق وأنه كثير التصديق ‪.‬‬
‫وكلتاهما تناسب شخصية إبراهيم‪:‬‬
‫(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ‪ ,‬إذ قال لبيه‪:‬يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني‬
‫عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ‪ .‬يا أبت ل تعبد الشيطان‬
‫إن الشيطان كان للرحمن عصيا ‪ .‬يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ‪.). .‬‬

‫بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه ‪ ,‬يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه ال إليه ‪ ,‬وعلمه إياه ;‬
‫وهو يتحبب إليه فيخاطبه‪( :‬يا أبت)ويسأله‪( :‬لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني عنك شيئا ?)والصل في‬
‫العبادة أن يتوجه بها النسان إلى من هو أعلى من النسان وأعلم وأقوى ‪ .‬وأن يرفعها إلى مقام أسمى من‬
‫مقام النسان وأسنى ‪ .‬فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون النسان ‪ ,‬بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة‬
‫الحيوان ‪ ,‬ل يسمع ول يبصر ول يملك ضرا ول نفعا ‪ .‬إذ كان أبوه وقومه يعبدون الصنام كما هو حال‬
‫قريش الذين يواجههم السلم ‪.‬‬

‫هذه هي اللمسة الولى التي يبدأ بها إبراهيم دعوته لبيه ‪ .‬ثم يتبعها بأنه ل يقول هذا من نفسه ‪ ,‬إنما هو العلم‬
‫الذي جاءه من ال فهداه ‪ .‬ولو أنه أصغر من أبيه سنا وأقل تجربة ‪ ,‬ولكن المدد العلوي جعله يفقه ويعرف‬
‫الحق ; فهو ينصح أباه الذي لم يتلق هذا العلم ‪ ,‬ليتبعه في الطريق الذي هدي إليه‪:‬‬

‫(يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا)‪. .‬‬

‫فليست هناك غضاضة في أن يتبع الوالد ولده ‪ ,‬إذا كان الولد على اتصال بمصدر أعلى ‪ .‬فإنما يتبع ذلك‬
‫المصدر ‪ ,‬ويسير في الطريق إلى الهدى ‪.‬‬

‫وبعد هذا الكشف عما في عبادة الصنام من نكارة ‪ ,‬وبيان المصدر الذي يستمد منه إبراهيم ويعتمد عليه في‬
‫دعوة أبيه ‪ . .‬يبين له أن طريقه هو طريق الشيطان ‪ ,‬وهو يريد أن يهديه إلى طريق الرحمن ‪ ,‬فهو يخشى‬

‫حمَن‬
‫ن ال ّر ْ‬
‫عذَابٌ مّ َ‬
‫سكَ َ‬
‫ت ِإنّي َأخَافُ أَن َي َم ّ‬
‫عصِيّا (‪ )44‬يَا َأبَ ِ‬
‫حمَنِ َ‬
‫ن لِل ّر ْ‬
‫ش ْيطَانَ كَا َ‬
‫شيْطَانَ ِإنّ ال ّ‬
‫يَا َأبَتِ لَا َت ْعبُ ِد ال ّ‬
‫ج ْرنِي مَِليّا (‪ )46‬قَالَ‬
‫ج َم ّنكَ وَا ْه ُ‬
‫ن آِل َهتِي يَا ِإبْراهِيمُ َلئِن ّلمْ تَنتَهِ َلَأ ْر ُ‬
‫ب أَنتَ عَ ْ‬
‫ش ْيطَانِ وَِليّا (‪ )45‬قَالَ َأرَاغِ ٌ‬
‫َفتَكُونَ لِل ّ‬
‫عسَى أَلّا‬
‫ن اللّهِ وََأدْعُو َربّي َ‬
‫ع َتزِلُ ُكمْ َومَا َتدْعُونَ مِن دُو ِ‬
‫ن بِي حَ ِفيّا (‪ )47‬وََأ ْ‬
‫ك رَبّي ِإنّهُ كَا َ‬
‫سَأسْ َتغْ ِفرُ َل َ‬
‫سَلَامٌ عََل ْيكَ َ‬
‫جعَ ْلنَا َن ِبيّا (‬
‫سحَاقَ َو َيعْقُوبَ َوكُلّا َ‬
‫ع َتزََلهُمْ َومَا َي ْع ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَ َه ْبنَا َلهُ ِإ ْ‬
‫َأكُونَ ِبدُعَاء َربّي شَ ِقيّا (‪ )48‬فَلَمّا ا ْ‬
‫‪)49‬‬
‫أن يغضب ال عليه فيقضي عليه أن يكون من أتباع الشيطان ‪.‬‬

‫يا أبت ل تعبد الشيطان ‪ .‬إن الشيطان كان للرحمن عصيا ‪ .‬يا أبت إني إخاف أن يمسك عذاب من الرحمن‬
‫فتكون للشيطان وليا ‪.‬‬
‫والشيطان هو الذي يغري بعبادة الصنام من دون ال ‪ ,‬فالذي يعبدها كأنما يتعبد الشيطان والشيطان عاص‬
‫للرحمن ‪ .‬وإبراهيم يحذر أباه أن يغضب ال عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان وتابعا ‪ .‬فهداية ال لعبده إلى‬
‫الطاعة نعمة ; وقضاؤه عليه أن يكون من أولياء الشيطان نقمة ‪ . .‬نقمة تقوده إلى عذاب أشد وخسارة أفدح‬
‫يوم يقوم الحساب ‪.‬‬

‫ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب اللفاظ وأرقها ل تصل إلى القلب المشرك الجاسي ‪ ,‬فإذا أبو إبراهيم يقابله‬
‫بالستنكار والتهديد والوعيد‪:‬‬

‫(قال‪:‬أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لرجمنك ‪ .‬واهجرني مليا)‪.‬‬

‫أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ‪ ,‬وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك المر إلى هذا الحد من الجراءة‬
‫?! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع‪( :‬لئن لم تنته لرجمنك)! فاغرب‬
‫عن وجهي وابعد عني طويل ‪ .‬استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة‪( :‬واهجرني مليا)‪. .‬‬

‫بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى ‪ .‬وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب ‪ .‬وذلك شأن اليمان مع‬
‫الكفر ; وشأن القلب الذي هذبه اليمان والقلب الذي أفسده الكفر ‪.‬‬

‫ولم يغضب إبراهيم الحليم ‪ .‬ولم يفقد بره وعطفه وأدبه مع أبيه‪:‬‬

‫قال‪:‬سلم عليك ‪ .‬سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ‪ .‬وأعتز لكم وما تدعون من دون ال ‪ ,‬وأدعو ربي‬
‫عسى أل أكون بدعاء ربي شقيا ‪.‬‬

‫سلم عليك ‪ . .‬فل جدال ول أذى ول رد للتهديد والوعيد ‪ .‬سأدعو ال أن يغفر لك فل يعاقبك بالستمرار في‬
‫الضلل وتولي الشيطان ‪ ,‬بل يرحمك فيرزقك الهدى ‪ .‬وقد عودني ربي أن يكرمني فيجيب دعائي ‪ .‬وإذا كان‬
‫وجودي إلى جوارك ودعوتي لك إلى اليمان تؤذيك فسأعتز لك أنت وقومك ‪ ,‬وأعتزل ما تدعون من دون ال‬
‫من اللهة ‪ .‬وأدعو ربي وحده ‪ ,‬راجيا ‪ -‬بسبب دعائي ل ‪ -‬أل يجعلني شقيا ‪.‬‬

‫فالذي يرجوه إبراهيم هو مجرد تجنيبه الشقاوة ‪ . .‬وذلك من الدب والتحرج الذي يستشعره ‪ .‬فهو ل يرى‬
‫لنفسه فضل ‪ ,‬ول يتطلع إلى أكثر من تجنيبه الشقاوة !‬

‫وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم وآلهتهم وهجر أهله ودياره ‪ ,‬فلم يتركه ال وحيدا ‪ .‬بل وهب له‬
‫ذرية وعوضه خيرا‪:‬‬

‫(فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق ويعقوب ‪ .‬وكل جعلنا نبيا ‪ .‬ووهبنا لهم من رحمتنا ‪,‬‬
‫وجعلنا لهم لسان صدق عليا)‪. .‬‬
‫وإسحاق هو ابن إبراهيم ‪ ,‬رزقه من سارة ‪ -‬وكانت قبله عقيما ‪ -‬ويعقوب هو ابن إسحاق‪:‬ولكنه يحسب ولدا‬
‫لبراهيم لن إسحاق رزقه في حياة جده ‪ ,‬فنشأ في بيته وحجره ‪ ,‬وكان كأنه ولده المباشر ; وتعلم ديانته ولقنها‬
‫بنيه ‪ .‬وكن نبيا كأبيه ‪.‬‬

‫(ووهبنا لهم من رحمتنا)إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونسلهم ‪ . .‬والرحمة تذكر هنا لنها السمة البارزة‬

‫صدْقٍ عَِليّا (‪ )50‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْل ِكتَابِ مُوسَى ِإنّ ُه كَانَ ُمخْلَصا َوكَانَ‬
‫ن ِ‬
‫جعَ ْلنَا َل ُهمْ ِلسَا َ‬
‫َووَ َه ْبنَا َلهُم مّن ّرحْ َم ِتنَا َو َ‬
‫ح َم ِتنَا َأخَاهُ هَارُونَ َن ِبيّا (‬
‫جيّا (‪ )52‬وَوَ َه ْبنَا َلهُ مِن ّر ْ‬
‫رَسُولً ّن ِبيّا (‪َ )51‬ونَادَ ْينَا ُه مِن جَانِبِ الطّورِ ا ْلَأ ْيمَنِ َو َقرّ ْبنَاهُ َن ِ‬
‫عدِ َوكَانَ َرسُولً ّن ِبيّا (‪َ )54‬وكَانَ َي ْأ ُمرُ أَهْلَ ُه بِالصّلَاةِ وَال ّزكَاةِ‬
‫ن صَا ِدقَ الْ َو ْ‬
‫سمَاعِيلَ ِإنّ ُه كَا َ‬
‫ب ِإ ْ‬
‫‪ )53‬وَا ْذ ُكرْ فِي ا ْل ِكتَا ِ‬
‫صدّيقا ّن ِبيّا (‪َ )56‬ورَ َف ْعنَاهُ َمكَانا عَِليّا (‪)57‬‬
‫ضيّا (‪ )55‬وَا ْذكُرْ فِي ا ْل ِكتَابِ ِإ ْدرِيسَ ِإنّهُ كَانَ ِ‬
‫َوكَانَ عِندَ َربّ ِه َمرْ ِ‬
‫في جو السورة ‪ ,‬ولنها هبة ال التي تعوض إبراهيم عن أهله ودياره ‪ ,‬وتؤنسه في وحدته واعتزاله ‪.‬‬

‫(وجعلنا لهم لسان صدق عليا)‪ . .‬فكانوا صادقين في دعوتهم ‪ ,‬مسموعي الكلمة في قومهم ‪ .‬يؤخذ قولهم‬
‫بالطاعة وبالتبجيل ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 57 - 51:‬مع موسى وهارون وإسماعيل وإدريس‬

‫ثم يمضي السياق مع ذرية إبراهيم‪:‬مستطردا مع فرع إسحق فيذكر موسى وهارون‪:‬‬

‫(واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسول نبيا ‪ .‬وناديناه من جانب الطور اليمن وقربناه نجيا ‪.‬‬
‫ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا)‪. .‬‬

‫فيصف موسى بأنه كان مخلصا استخلصه ال له ومحضه لدعوته ‪ .‬وكان رسول نبيا ‪ .‬والرسول هو صاحب‬
‫الدعوة من النبياء المأمور بإبلغها للناس ‪ .‬والنبي ل يكلف إبلغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة‬
‫يتلقاها من ال ‪ .‬وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم القيام على دعوة موسى والحكم بالتوراة التي‬
‫جاء بها من عند ال‪( :‬يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ‪ .‬والربانيون والحبار بما استحفظوا من‬
‫كتاب ال وكانوا عليه شهداء)‪. .‬‬

‫ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور اليمن [ اليمن بالنسبة لموسى إذ ذاك ] وتقريبه إلى ال لدرجة‬
‫الكلم ‪ .‬الكلم القريب في صورة مناجاة ‪ .‬ونحن ل ندري كيف كان هذا الكلم ‪ ,‬وكيف أدركه موسى ‪. .‬‬
‫أكان صوتا تسمعه الذن أم يتلقاه الكيان النساني كله ‪ .‬ول نعلم كيف أعد ال كيان موسى البشري لتلقي كلم‬
‫ال الزلي ‪ . .‬إنما نؤمن أنه كان ‪ .‬وهو على ال هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق ‪ ,‬وهو بشر‬
‫على بشريته ‪ ,‬وكلم ال علوي على علويته ‪ .‬ومن قبل كان النسان إنسانا بنفخة من روح ال ‪.‬‬
‫ويذكر رحمة ال بموسى في مساعدته بإرسال أخيه هارون معه حين طلب إلى ال أن يعينه به(وأخي هارون‬
‫هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون)‪ .‬وظل الرحمة هو الذي يظلل جو‬
‫السورة كله ‪.‬‬

‫ثم يعود السياق إلى الفرع الخر من ذرية إبراهيم ‪ .‬فيذكر إسماعيل أبا العرب‪(:‬واذكر في الكتاب إسماعيل ‪,‬‬
‫إنه كان صادق الوعد وكان رسول نبيا ‪ .‬وكان يأمر أهله بالصلة والزكاة ‪ ,‬وكان عند ربه مرضيا)‪. .‬‬

‫وينوه من صفات إسماعيل بأنه كان صادق الوعد ‪ .‬وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح ‪ ,‬فل بد أن هذه‬
‫الصفة كانت بارزة في إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص ‪.‬‬

‫وهو رسول فل بد أن كانت له دعوة في العرب الوائل وهو جدهم الكبير ‪ .‬وقد كان في العرب موحدون‬
‫أفراد قبيل الرسالة المحمدية ‪ ,‬فالرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع إسماعيل ‪ .‬ويذكر السياق من أركان‬
‫العقيدة التي جاء بها الصلة والزكاة وكان يأمر بهما أهله ‪ . .‬ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضيا ‪. .‬‬
‫والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة ‪ ,‬وبينهما قرابة !‬

‫وأخيرا يختم السياق هذه الشارات بذكر إدريس‪:‬‬

‫(واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ‪ .‬ورفعناه مكانا عليا)‪. .‬‬

‫ول نملك نحن تحديد زمان إدريس ‪ .‬ولكن الرجح أنه سابق على إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل فلم‬
‫يرد ذكره في كتبهم ‪ .‬والقرآن يصفه بأنه كان صديقا نبيا ويسجل له أن ال رفعه مكانا عليا ‪ .‬فأعلى قدره‬
‫ورفع ذكره ‪. .‬‬

‫حمَ ْلنَا مَعَ نُوحٍ َومِن ُذرّيّ ِة ِإ ْبرَاهِيمَ وَِإسْرَائِيلَ َو ِممّنْ‬


‫ن َ‬
‫ن مِن ُذرّيّةِ آ َدمَ َو ِممّ ْ‬
‫أُوَْل ِئكَ اّلذِينَ َأ ْن َعمَ اللّهُ عََل ْيهِم مّنَ ال ّن ِبيّي َ‬
‫سجّدا َو ُب ِكيّا (‪َ )58‬فخََلفَ مِن َب ْعدِ ِهمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُوا الصّلَاةَ‬
‫خرّوا ُ‬
‫ج َت َب ْينَا ِإذَا ُتتْلَى عََل ْي ِهمْ آيَاتُ ال ّرحْمَن َ‬
‫َه َد ْينَا وَا ْ‬
‫جنّةَ وَلَا ُيظْلَمُونَ‬
‫ل صَالِحا َفأُوَْل ِئكَ َي ْدخُلُونَ ا ْل َ‬
‫عمِ َ‬
‫غيّا (‪ )59‬إِلّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَ َ‬
‫ت فَسَ ْوفَ يَلْ َقوْنَ َ‬
‫شهَوَا ِ‬
‫وَا ّت َبعُوا ال ّ‬
‫عدُ ُه َم ْأتِيّا (‪)61‬‬
‫عبَادَهُ بِا ْل َغيْبِ ِإنّهُ كَانَ َو ْ‬
‫حمَنُ ِ‬
‫عدَ ال ّر ْ‬
‫ن اّلتِي وَ َ‬
‫عدْ ٍ‬
‫جنّاتِ َ‬
‫شيْئا (‪َ )60‬‬
‫َ‬

‫وهناك رأي نذكره لمجرد الستئناس به ول نقرره أو ننفيه ‪ ,‬يقول به بعض الباحثين في الثار المصرية ‪,‬‬
‫وهو أن إدريس تعريب لكلمة "أوزريس" المصرية القديمة ‪ .‬كما أن يحيى تعريب لكلمة يوحنا ‪ .‬وكلمة اليسع‬
‫تعريب لكلمة إليشع ‪ . .‬وأنه هو الذي صيغت حوله أساطير كثيرة ‪ .‬فهم يعتقدون أنه صعد إلى السماء وصار‬
‫له فيها عرش عظيم ‪ .‬وكل من وزنت أعماله بعد الموت فوجدت حسناته ترجح سيئاته فإنه يلحق بأوزريس‬
‫الذي جعلوه إلها لهم ‪ .‬وقد علمهم العلوم والمعارف قبل صعوده إلى السماء ‪.‬‬
‫وعلى أية حال فنحن نكتفي بما جاء عنه في القرآن الكريم ; ونرجح أنه سابق على أنبياء بني إسرائيل ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 63 - 58:‬اختلف الناس بعد النبياء ما بين مؤمنين منعمين وكافرين معذبين‬

‫يستعرض السياق أولئك النبياء ‪ ,‬ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين التقياء وبين الذين خلفوهم سواء من‬
‫مشركي العرب أو من مشركي بني إسرائيل ‪ . .‬فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق‬
‫بعيد بين السلف والخلف‪:‬‬

‫(أولئك الذين أنعم ال عليهم من النبيين من ذرية آدم ‪ ,‬وممن حملنا مع نوح ‪ ,‬ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل ‪,‬‬
‫وممن هدينا واجتبينا ‪ .‬إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ‪ .‬فخلف من بعدهم خلف أضاعوا‬
‫الصلة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ‪.). . .‬‬

‫والسياق يقف في هذا الستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية (من ذرية آدم)‪.‬‬
‫(وممن حملنا مع نوح)‪( .‬ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل)‪ .‬فآدم يشمل الجميع ‪ ,‬ونوح يشمل من بعده ‪ ,‬وإبراهيم‬
‫يشمل فرعي النبوة الكبيرين‪:‬ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل ‪ .‬وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم‬
‫النبيين ‪.‬‬

‫أولئك النبيون ومعهم من هدى ال واجتبى من الصالحين من ذريتهم ‪ . .‬صفتهم البارزة‪( :‬إذا تتلى عليهم آيات‬
‫الرحمن خروا سجدا وبكيا)‪ . .‬فهم أتقياء شديدو الحساسية بال ; ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته ‪ ,‬فل‬
‫تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر ‪ ,‬فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا ‪. .‬‬

‫أولئك التقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر ال ‪ . .‬خلف من بعدهم خلف ‪,‬‬
‫بعيدون عن ال ‪( .‬أضاعوا الصلة)فتركوها وجحدوها (واتبعوا الشهوات)واستغرقوا فيها ‪ .‬فما أشد المفارقة ‪,‬‬
‫وما أبعد الشبه بين أولئك وهؤلء !‬

‫ومن ثم يتهدد السياق هؤلء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين ‪ .‬يتهددهم بالضلل والهلك‪( :‬فسوف‬
‫يلقون غيا)والغي الشرود والضلل ‪ ,‬وعاقبة الشرود والضياع والهلك ‪.‬‬

‫ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى‪:‬‬

‫(إل من تاب وآمن وعمل صالحا ‪ ,‬فأولئك يدخلون الجنة ول يظلمون شيئا ‪ .‬جنات عدن التي وعد الرحمن‬
‫عباده بالغيب ‪ .‬إنه كان وعده مأتيا ‪ .‬ل يسمعون فيها لغوا إل سلما ‪ .‬ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ‪ .‬تلك‬
‫الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)‪. .‬‬
‫فالتوبة التي تنشى ء اليمان والعمل الصالح ‪ ,‬فتحقق مدلولها اليجابي الواضح ‪ . .‬تنجي من ذلك المصير فل‬
‫يلقى أصحابها(غيا)إنما يدخلون الجنة ول يظلمون شيئا ‪ .‬يدخلون الجنة للقامة ‪ .‬الجنة التي وعد الرحمن‬
‫عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها ‪ .‬ووعد ال واقع ل يضيع ‪. .‬‬

‫عبَا ِدنَا مَن كَانَ‬


‫جنّةُ اّلتِي نُورِثُ مِنْ ِ‬
‫شيّا (‪ )62‬تِ ْلكَ ا ْل َ‬
‫عِ‬‫ن فِيهَا َلغْوا إِلّا سَلَاما وََل ُهمْ ِرزْ ُق ُهمْ فِيهَا ُب ْكرَةً وَ َ‬
‫س َمعُو َ‬
‫لَا َي ْ‬
‫ن َر ّبكَ َنسِيّا (‪ )64‬رَبّ‬
‫ك لَ ُه مَا َبيْنَ َأ ْيدِينَا َومَا خَ ْل َفنَا َومَا َبيْنَ ذَِلكَ َومَا كَا َ‬
‫ل إِلّا ِبَأ ْمرِ َربّ َ‬
‫تَ ِقيّا (‪َ )63‬ومَا َن َتنَزّ ُ‬
‫س ِميّا (‪)65‬‬
‫ل َتعَْلمُ لَ ُه َ‬
‫طبِرْ ِل ِعبَا َدتِهِ هَ ْ‬
‫صَ‬‫ع ُبدْهُ وَا ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَا ْلَأرْضِ َومَا َب ْي َنهُمَا فَا ْ‬
‫ال ّ‬

‫ثم يرسم صورة للجنة ومن فيها ‪( . .‬ل يسمعون فيها لغوا إل سلما)فل فضول في الحديث ول ضجة ول‬
‫جدال ‪ ,‬إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي ‪ .‬صوت السلم ‪ . .‬والرزق في هذه الجنة‬
‫مكفول ل يحتاج إلى طلب ول كد ‪ .‬ول يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد‪( :‬ولهم رزقهم فيها‬
‫بكرة وعشيا)فما يليق الطلب ول القلق في هذا الجو الراضي الناعم المين ‪. .‬‬

‫(تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا)‪ . .‬فمن شاء الوراثة فالطريق معروف‪:‬التوبة واليمان والعمل‬
‫الصالح ‪ .‬أما وراثة النسب فل تجدي ‪ .‬فقد ورث قوم نسب أولئك التقياء من النبيين وممن هدى ال واجتبى ;‬
‫ولكنهم أضاعوا الصلة واتبعوا الشهوات ‪ ,‬فلم تنفعهم وراثة النسب (فسوف يلقون غيا)‪. .‬‬

‫الدرس الرابع‪ 65 - 64:‬ربوبية ال المطلقة وإثبات الوحي والصبر على العبادة‬

‫ويختم هذا الدرس بإعلن الربوبية المطلقة ل ‪ ,‬والتوجيه إلى عبادته والصبر على تكاليفها ‪ .‬ونفي الشبيه‬
‫والنظير‪:‬‬

‫(وما نتنزل إل بأمر ربك ‪ ,‬له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ‪ ,‬وما كان ربك نسيا ‪ .‬رب السماوات‬
‫والرض وما بينهما ‪ ,‬فاعبده واصطبر لعبادته ‪ .‬هل تعلم له سميا ?)‪. .‬‬

‫وتتضافر الروايات على أن قوله (وما نتنزل إل بأمر ربك ‪). .‬مما أمر جبريل عليه السلم أن يقوله للرسول [‬
‫ص ] ردا على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل ‪ .‬فاستوحشت نفسه ‪ ,‬واشتاقت للتصال الحبيب ‪.‬‬
‫فكلف جبريل أن يقول له‪( :‬وما نتنزل إل بأمر ربك)فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا‪:‬‬

‫له من بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وهو ل ينسى شيئا ‪ ,‬إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل‬
‫(وما كان ربك نسيا)فناسب بعد ذلك أن يذكر الصطبار على عبادة ال مع إعلن الربوبية له دون سواه‪:‬‬

‫(رب السماوات والرض وما بينهما)‪ . .‬فل ربوبية لغيره ‪ ,‬ول شرك معه في هذا الكون الكبير ‪.‬‬
‫(فاعبده واصطبر لعبادته)‪ . .‬اعبده واصطبر على تكاليف العبادة ‪ .‬وهي تكاليف الرتقاء إلى أفق المثول بين‬
‫يدي المعبود ‪ ,‬والثبات في هذا المرتقى العالي ‪ .‬اعبده واحشد نفسك وعبى ء طاقتك للقاء والتلقي في ذلك‬
‫الفق العلوي ‪ . .‬إنها مشقة ‪ .‬مشقة التجمع والحتشاد والتجرد من كل شاغل ‪ ,‬ومن كل هاتف ومن كل التفات‬
‫‪ . .‬وإنها مع المشقة للذة ل يعرفها إل من ذاق ‪ .‬ولكنها ل تنال إل بتلك المشقة ‪ ,‬وإل بالتجرد لها ‪,‬‬
‫والستغراق فيها ‪ ,‬والتحفز لها بكل جارحة وخالجة ‪ .‬فهي ل تفشي سرها ول تمنح عطرها إل لمن يتجرد لها‬
‫‪ ,‬ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا ‪.‬‬

‫(فاعبده واصطبر لعبادته)‪ . .‬والعبادة في السلم ليست مجرد الشعائر ‪ .‬إنما هي كل نشاط‪:‬كل حركة ‪ .‬كل‬
‫خالجة ‪ .‬كل نية ‪ .‬كل اتجاه ‪ .‬وإنها لمشقة أن يتجه النسان في هذا كله إلى ال وحده دون سواه ‪ .‬مشقة تحتاج‬
‫إلى الصطبار ‪ .‬ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الرض إلى السماء ‪ .‬خالصا من أوشاب الرض‬
‫وأوهاق الضرورات ‪ ,‬وشهوات النفس ‪ ,‬ومواضعات الحياة ‪.‬‬

‫إنه منهج حياة كامل ‪ ,‬يعيش النسان وفقه ‪ ,‬وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد ال ;‬
‫فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء ‪ .‬وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة ‪.‬‬

‫فاعبده واصطبر لعبادته ‪ . .‬فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطر والقلوب ‪( . .‬هل‬
‫تعلم له سميا ?)‪ .‬هل تعرف له نظيرا ? تعالى ال عن السمي والنظير ‪. .‬‬

‫شيْئا (‪)67‬‬
‫حيّا (‪َ )66‬أوَلَا َي ْذكُرُ ا ْلإِنسَانُ َأنّا خَلَ ْقنَاهُ مِن َقبْلُ وََلمْ َيكُ َ‬
‫خرَجُ َ‬
‫س ْوفَ ُأ ْ‬
‫َويَقُولُ ا ْلإِنسَانُ َأ ِئذَا مَا مِتّ َل َ‬
‫ن مِن كُلّ شِيعَ ٍة َأ ّيهُ ْم َأشَدّ عَلَى‬
‫ج ِثيّا (‪ُ )68‬ثمّ َلنَنزِعَ ّ‬
‫ج َهنّمَ ِ‬
‫ضرَ ّن ُهمْ حَوْلَ َ‬
‫ح ِ‬
‫شيَاطِينَ ُثمّ َل ُن ْ‬
‫شرَ ّن ُهمْ وَال ّ‬
‫حُ‬‫فَ َو َربّكَ َل َن ْ‬
‫ع ِتيّا (‪)69‬‬
‫ال ّرحْمَنِ ِ‬
‫الوحدة الثالثة‪ 98 - 66:‬الموضوع‪:‬نقض أفكار الكافرين ومشاهد للنعيم والعذاب في الخرة مقدمة الوحدة‬
‫مضى السياق في السورة بقصص زكريا ومولد يحيى ; ومريم ومولد عيسى ; وإبراهيم واعتزاله لبيه ‪ .‬ومن‬
‫خلف بعدهم من المهتدين والضالين ‪ ,‬وبالتعقيب على هذا القصص بإعلن الربوبية الواحدة ‪ ,‬التي تستحق‬
‫العبادة بل شريك ; وهي الحقيقة الكبيرة التي يبرزها ذلك القصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته ‪ .‬وهذا الدرس‬
‫الخير في السورة يمضي في جدل حول عقائد الشرك وحول إنكار البعث ‪ .‬ويعرض في مشاهد القيامة‬
‫مصائر البشر في مواقف حية حافلة بالحركة والنفعال ‪ ,‬يشارك فيها الكون كله ‪ ,‬سماواته وأرضه ‪ ,‬إنسه‬
‫وجنه ‪ ,‬مؤمنوه وكافروه ‪.‬‬

‫ويتنقل السياق بمشاهده بين الدنيا والخرة ‪ ,‬فإذا هما متصلتان ‪ .‬تعرض المقدمة هنا في هذه الرض ‪,‬‬
‫وتعرض نتيجتها هنالك في العالم الخر ‪ ,‬فل تتجاوز المسافة بضع آيات أو بضع كلمات ‪ .‬مما يلقي في الحس‬
‫أن العالمين متصلن مرتبطان متكاملن ‪.‬‬
‫الدرس الول‪ 72 - 66:‬البعث والحشر والمرور على الصراط وعذاب الكفار‬

‫ويقول النسان‪:‬أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ? أو ل يذكر النسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ? فوربك‬
‫لنحشرنهم والشياطين ‪ ,‬ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ‪ .‬ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ‪.‬‬
‫ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا ‪ .‬وإن منكم إل واردها كان على ربك حتما مقضيا ‪ .‬ثم ننجي الذين‬
‫اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ‪.‬‬

‫يبدأ المشهد بذكر ما يقوله "النسان" عن البعث ‪ .‬ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من البشر في‬
‫عصور مختلفة ; فكأنما هي شبهة "النسان" واعتراضه المتكرر في جميع الجيال‪:‬‬

‫(ويقول النسان‪:‬أئذا ما مت لسوف أخرج حيا ?)‪. .‬‬

‫وهو اعتراض منشؤه غفلة النسان عن نشأته الولى ‪ .‬فأين كان ? وكيف كان ? إنه لم يكن ثم كان ; والبعث‬
‫أقرب إلى التصور من النشأة الولى لو أنه تذكر‪:‬‬

‫أو ل يذكر النسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ? ‪.‬‬

‫ثم يعقب على هذا النكار والستنكار بقسم تهديدي ‪ .‬يقسم ال تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله ; أنهم‬
‫سيحشرون ‪ -‬بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه‪:‬‬

‫(فوربك لنحشرنهم)‪ . .‬ولن يكونوا وحدهم ‪ .‬فلنحشرنهم(والشياطين)فهم والشياطين سواء ‪ .‬والشياطين هم الذين‬
‫يوسوسون بالنكار ‪ ,‬وبينهما صلة التابع والمتبوع ‪ ,‬والقائد والمقود ‪. .‬‬

‫وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة‪( :‬ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا)‪. .‬‬
‫وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي ل يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها ‪ ,‬تشهد هولها‬
‫ويلفحها حرها ‪ ,‬وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها ‪ .‬وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع ‪. .‬‬

‫وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين ‪ ,‬يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتوا وتجبرا‪:‬‬

‫ضيّا (‪ُ )71‬ثمّ ُن َنجّي‬


‫حتْما مّ ْق ِ‬
‫ُثمّ َل َنحْنُ َأعَْلمُ بِاّلذِينَ ُه ْم أَوْلَى ِبهَا صِِليّا (‪ )70‬وَإِن مّنكُمْ إِلّا وَا ِردُهَا كَانَ عَلَى َر ّبكَ َ‬
‫ل اّلذِينَ كَ َفرُوا لِّلذِينَ آ َمنُوا َأيّ ا ْل َفرِي َقيْنِ‬
‫ت قَا َ‬
‫ج ِثيّا (‪ )72‬وَِإذَا ُتتْلَى عََل ْيهِ ْم آيَا ُتنَا َب ّينَا ٍ‬
‫ن فِيهَا ِ‬
‫اّلذِينَ اتّقَوا ّو َن َذرُ الظّالِمِي َ‬
‫ن َن ِديّا (‪)73‬‬
‫حسَ ُ‬
‫خيْ ٌر مّقَاما وََأ ْ‬
‫َ‬
‫(ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا)‪ . .‬وفي اللفظ تشديد ‪ ,‬ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا‬
‫النتزاع ; تتبعها صورة القذف في النار ‪ ,‬وهي الحركة التي يكملها الخيال !‬

‫وإن ال ليعلم من هم أولى بأن يصلوها ‪ ,‬فل يؤخذ أحد جزافا من هذه الجموع التي ل تحصى ‪ .‬والتي‬
‫أحصاها ال فردا فردا‪:‬‬

‫(ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا)‪ . .‬فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين !‬

‫وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب‪(:‬وإن منكم إل واردها كان على ربك حتما مقضيا)فهم يردون فيدنون‬
‫ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ ; ويرون العتاة ينزعون ويقذفون ‪( .‬ثم ننجي الذين اتقوا)فتزحزح‬
‫عنهم وينجون منها ل يكادون ! (ونذر الظالمين فيها جثيا)‪. .‬‬

‫الدرس الثاني‪ 76 - 73:‬رفض الكفار للحق ومشاهد عذابهم في الخرة‬

‫ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة ‪ ,‬ويروح فيه المتقون ناجين ‪ .‬ويبقى‬
‫الظالمون فيه جاثين ‪ . .‬من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين ‪ ,‬ويعيرونهم‬
‫بفقرهم ‪ ,‬ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء‪:‬‬

‫وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات ‪ .‬قال الذين كفروا للذين آمنوا‪:‬أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ? ‪. .‬‬

‫إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة ; والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد ‪ .‬وإلى‬
‫جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إل من اليمان ‪ .‬ل أبهة ول زينة ‪ ,‬ول زخرف‬
‫‪ ,‬ول فخامة ‪ . .‬هذه وتلك تتقابلن في هذه الرض وتجتمعان !‬

‫وتقف الولى بمغرياتها الفخمة الضخمة‪:‬تقف بمالها وجمالها ‪ .‬بسلطانها وجاهها ‪ .‬بالمصالح تحققها ‪ ,‬والمغانم‬
‫توفرها ‪ ,‬وباللذائذ والمتاع ‪ .‬وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع ‪ ,‬تهزأ بالمال والمتاع ‪ ,‬وتسخر من الجاه‬
‫والسلطان ; وتدعو الناس إليها ‪ ,‬ل باسم لذة تحققها ‪ ,‬ول مصلحة توفرها ‪ ,‬ول قربى من حاكم ول اعتزاز‬
‫بذي سلطان ‪ .‬ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف ‪ ,‬عاطلة من كل زينة ‪ ,‬معتزة بعزة ال‬
‫دون سواه ‪ . .‬ل بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والستهتار ‪ ,‬ل تملك أن تأجرهم على ذلك كله‬
‫شيئا في هذه الرض ‪ ,‬إنما هو القرب من ال ‪ ,‬وجزاؤه الوفى يوم الحساب ‪.‬‬

‫وهؤلء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات ال ‪ -‬على عهد الرسول [ ص ] ‪ -‬فيقولون للمؤمنين الفقراء‪( :‬أي‬
‫الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ?)الكبراء الذين ل يؤمنون بمحمد ‪ ,‬أم الفقراء الذين يلتفون حوله ‪ .‬أيهم خير‬
‫مقاما وأحسن ناديا ? النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة ‪ ,‬أم بلل‬
‫وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين ? أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلء‬
‫النفر الذين ل قيمة لهم في مجتمع قريش ول خطر ? وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب ?‬
‫ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الجتماعية البارزة ?‬

‫إنه منطق الرض ‪ .‬منطق المحجوبين عن الفاق العليا في كل زمان ومكان ‪ .‬وإنها لحكمة ال أن تقف‬
‫العقيدة مجردة من الزينة والطلء ‪ ,‬عاطلة من عوامل الغراء ‪ .‬ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة ل من‬
‫دون الناس ‪ ,‬ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ; وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ‪,‬‬
‫ومن يشتهي الزينة والزخرف ‪ ,‬ومن يطلب المال والمتاع ‪.‬‬

‫حتّى ِإذَا‬
‫ن َمدّا َ‬
‫حسَنُ َأثَاثا َو ِرئْيا (‪ )74‬قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلَالَةِ فَ ْل َي ْم ُددْ لَ ُه ال ّرحْمَ ُ‬
‫ن ُهمْ َأ ْ‬
‫َو َكمْ أَهَْل ْكنَا َقبَْلهُم مّن قَرْ ٍ‬
‫ضعَفُ جُندا (‪َ )75‬و َيزِيدُ اللّهُ اّلذِينَ‬
‫ن هُ َو شَرّ ّمكَانا وََأ ْ‬
‫س َيعَْلمُونَ مَ ْ‬
‫ن ِإمّا ا ْل َعذَابَ وَِإمّا السّاعَةَ فَ َ‬
‫عدُو َ‬
‫رَأَوْا مَا يُو َ‬
‫خ ْيرٌ ّم َردّا (‪َ )76‬أ َفرََأيْتَ اّلذِي كَ َفرَ بِآيَا ِتنَا َوقَالَ َلأُو َتيَنّ‬
‫خ ْيرٌ عِندَ َربّكَ َثوَابا َو َ‬
‫ا ْه َتدَوْا ُهدًى وَا ْلبَاقِيَاتُ الصّاِلحَاتُ َ‬
‫س َن ْكتُبُ مَا يَقُولُ َو َن ُمدّ َلهُ ِمنَ ا ْل َعذَابِ َمدّا (‬
‫عهْدا (‪ )78‬كَلّا َ‬
‫حمَنِ َ‬
‫خذَ عِندَ ال ّر ْ‬
‫ب َأمِ ا ّت َ‬
‫مَالً َووَلَدا (‪ )77‬أَاطّلَعَ ا ْل َغيْ َ‬
‫‪)79‬‬

‫ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين ‪ ,‬المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى‬
‫مصارع الغابرين ‪ ,‬على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين‪:‬‬

‫وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ‪. .‬‬

‫فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم ‪ .‬ولم يعصمهم شيء من ال حين كتب عليهم الهلك ‪.‬‬

‫أل إن هذا النسان لينسى ‪ .‬ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ; ومصارع الغابرين من حوله تلفته‬
‫بعنف وتنذره وتحذره ‪ ,‬وهو سادر فيما هو فيه ‪ ,‬غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة‬
‫وأكثر أموال وأولدا ‪.‬‬

‫يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول [ ص ] أن يدعو عليهم في صورة مباهلة ‪ -‬بأن من كان من‬
‫الفريقين في الضللة فليزده ال مما هو فيه ; حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الخرة‪:‬‬

‫(قل‪:‬من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا ‪ ,‬حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون‬
‫من هو شر مكانا وأضعف جندا ‪ ,‬ويزيد ال الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير‬
‫مردا)‪. .‬‬
‫فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد [ ص ] لنهم أغنى وأبهى ‪ .‬فليكن ! وليدع محمد ربه أن يزيد‬
‫الضالين من الفريقين ضلل ‪ ,‬وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء ‪ . .‬حتى إذا وقع ما يعدهم ; وهو ل يعدو أن‬
‫يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين ‪ ,‬أو عذابهم الكبر يوم الدين ‪ -‬فعندئذ سيعرفون‪:‬أي الفريقين‬
‫شر مكانا وأضعف جندا ‪ .‬ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير‬
‫مردا)خير من كل ما يتباهى به أهل الرض ويتيهون ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 77:‬نموذج لكافر مغتر بماله وولده وعذابه في الخرة‬

‫ثم يستعرض السياق نموذجا آخر من تبجح الكافرين ‪ ,‬وقولة أخرى من أقوالهم يستنكرها ويعجب منها‪:‬‬

‫أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال‪:‬لوتين مال وولدا ? أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ? كل سنكتب ما‬
‫يقول ونمد له من العذاب مدا ‪ .‬ونرثه ما يقول وأتينا فردا ‪. .‬‬

‫ورد في سبب نزول هذه اليات ‪ -‬بإسناده ‪ -‬عن خباب بن الرث قال‪:‬كنت رجل قينا [ حدادا ] وكان لي‬
‫على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال‪:‬ل وال ل أقضيك حتى تكفر بمحمد ‪ ,‬فقلت‪:‬ل وال ‪ ,‬ل‬
‫أكفر بمحمد [ ص ] حتى تموت ثم تبعث ‪ .‬قال‪:‬فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد ‪ ,‬فأعطيتك !‬
‫فأنزل ال‪ :‬أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال‪:‬لوتين مال وولدا ‪. . . .‬‬

‫وقولة العاص بن وائل نموذج من تهكم الكفار واستخفافهم بالبعث ; والقرآن يعجب من أمره ‪ ,‬ويستنكر‬
‫ادعاءه‪( :‬أطلع الغيب ?)فهو يعرف ما هنالك ‪( .‬أم اتخذ عند الرحمن عهدا)فهو واثق من تحققه ? ثم‬
‫يعقب‪(:‬كل)‪ .‬وهل لفظة نفي وزجر ‪ .‬كل لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند ال عهدا ‪ ,‬إنما هو يكفر ويسخر ;‬
‫فالتهديد إذن والوعيد هو اللئق لتأديب الكافرين السافرين‪(:‬كل سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا)‪. .‬‬
‫سنكتب ما يقول فنسجله عليه ليوم الحساب فل ينسى ول يقبل المغالطة ‪ . .‬وهو تعبير تصويري‬

‫ن ِب ِعبَادَ ِت ِهمْ‬
‫س َيكْ ُفرُو َ‬
‫عزّا (‪ )81‬كَلّا َ‬
‫ن اللّهِ آِلهَةً ّل َيكُونُوا َل ُهمْ ِ‬
‫خذُوا مِن دُو ِ‬
‫َو َن ِرثُهُ مَا َيقُولُ َو َي ْأتِينَا فَرْدا (‪ )80‬وَا ّت َ‬
‫ن تَ ُؤزّ ُهمْ َأزّا (‪ )83‬فَلَا َت ْعجَلْ عََل ْيهِ ْم ِإ ّنمَا َن ُعدّ‬
‫شيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِي َ‬
‫ضدّا (‪ )82‬أََلمْ َترَ َأنّا َأرْسَ ْلنَا ال ّ‬
‫َو َيكُونُونَ عََل ْي ِهمْ ِ‬
‫ج َه ّنمَ ِورْدا (‪ )86‬لَا َيمِْلكُونَ‬
‫ن إِلَى َ‬
‫جرِمِي َ‬
‫شرُ ا ْل ُمتّقِينَ إِلَى ال ّرحْمَنِ َوفْدا (‪َ )85‬و َنسُوقُ ا ْل ُم ْ‬
‫حُ‬‫عدّا (‪ )84‬يَ ْومَ َن ْ‬
‫َل ُهمْ َ‬
‫عهْدا (‪)87‬‬
‫حمَنِ َ‬
‫خذَ عِندَ ال ّر ْ‬
‫الشّفَاعَ َة إِلّا َمنِ ا ّت َ‬
‫للتهديد ‪ ,‬وإل فالمغالطة مستحيلة ‪ ,‬وعلم ال ل تند عنه صغيرة ول كبيرة ‪ .‬ونمد له من العذاب مدا ‪ ,‬فنزيده‬
‫منه ونطيله عليه ول نقطعه عنه ! ويستمر السياق في التهديد على طريقة التصوير أيضا‪( :‬ونرثه ما يقول)أي‬
‫نأخذ ما يخلفه مما يتحدث عنه من مال وولد كما يفعل الوارث بعد موت المورث ! (ويأتينا فردا)ل مال معه‬
‫ول ولد ول نصير له ول سند ‪ ,‬مجردا ضعيفا وحيدا فريدا ‪.‬‬
‫فهل رأيت إلى هذا الذي كفر بآيات ال وهو يحيل على يوم ل يملك فيه شيئا ? يوم يجرد من كل ما يملك في‬
‫هذه الدنيا ? إنه نموذج من نماذج الكفار ‪ .‬نموذج الكفر والدعاء والستهتار ‪. .‬‬

‫الدرس الرابع‪ 87 - 81:‬سيطرة الشياطين على الكافرين وصورة لهوانهم يوم القيامة‬

‫ويستطرد السياق في استعراض ظواهر الكفر والشرك‪:‬‬

‫(واتخذوا من دون ال آلهة ليكونوا لهم عزا ‪ ,‬كل سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ‪ .‬ألم تر أنا أرسلنا‬
‫الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ‪ .‬فل تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا ‪ .‬يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ‪,‬‬
‫ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ‪ ,‬ل يملكون الشفاعة إل من اتخذ عند الرحمن عهدا)‪.‬‬

‫فهؤلء الذين يكفرون بآيات ال يتخذون من دونه آلهة يطلبون عندها العزة ‪ ,‬والغلب والنصرة ‪ ,‬وكان فيهم‬
‫من يعبد الملئكة ومن يعبد الجن ويستنصرونهم ويتقوون بهم ‪ . .‬كل ! فسيكفر الملئكة والجن بعبادتهم ‪,‬‬
‫وينكرونها عليهم ‪ ,‬ويبرأون إلى ال منهم ‪( ,‬ويكونون عليهم ضدا)بالتبرؤ منهم والشهادة عليهم ‪.‬‬

‫وإن الشياطين ليهجونهم إلى المعاصي ‪ .‬فهم مسلطون عليهم ‪ ,‬مأذون لهم في إغوائهم منذ أن طلب إبليس‬
‫إطلق يده فيهم ‪. .‬‬

‫(فل تعجل عليهم)ول يضق صدرك بهم ; فإنهم ممهلون إلى أجل قريب ‪ ,‬وكل شيء من أعمالهم محسوب‬
‫عليهم ومعدود ‪ . .‬والتعبير يصور دقة الحساب تصويرا محسوسا (إنما نعد لهم عدا)‪ . .‬وإنه لتصوير مرهوب‬
‫‪ ,‬فيا ويل من يعد ال عليه ذنوبه وأعماله وأنفاسه ‪ ,‬ويتتبعها ليحاسبه الحساب العسير ‪ . .‬إن الذي يحس أن‬
‫رئيسه في الرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف ويعيش في قلق وحسبان ‪ . .‬فكيف بال المنتقم‬
‫الجبار ?!‬

‫وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة العد والحساب ‪ .‬فأما المؤمنون فقادمون على الرحمن وفدا في‬
‫كرامة وحسن استقبال‪(:‬يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا)‪ .‬وأما المجرمون فمسوقون إلى جهنم وردا كما‬
‫تساق القطعان ‪(.‬ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا)‪ .‬ول شفاعة يومئذ إل لمن قدم عمل صالحا فهو عهد له‬
‫عند ال يستوفيه ‪ .‬وقد وعد ال من آمن وعمل صالحا أن يجزيه الجزاء الوفى ‪ ,‬ولن يخلف ال وعدا ‪.‬‬

‫الدرس الخامس‪ 95 - 88:‬تكذيب الكفار في نسبة الولد ل وعبودية كل المخلوقات ل‬

‫ثم يستطرد السياق مرة أخرى إلى مقولة منكرة من مقولت المشركين ‪ .‬ذلك حين يقول المشركون من‬
‫العرب‪:‬الملئكة بنات ال ‪ .‬والمشركون من اليهود‪:‬عزيز ابن ال ‪ .‬والمشركون من النصارى‪:‬المسيح ابن ال ‪.‬‬
‫‪ .‬فينتفض الكون كله لهذه القولة المنكرة التي تنكرها فطرته ‪ ,‬وينفر منها ضميره‪:‬‬
‫(وقالوا‪:‬اتخذ الرحمن ولدا ‪ .‬لقد جئتم شيئا إدا ‪ .‬تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتخر الجبال هدا ‪,‬‬
‫أن دعوا للرحمن ولدا ‪ ,‬وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا)‪. .‬‬

‫إن جرس اللفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلل المشهد في رسم الجو‪:‬جو الغضب والغيرة والنتفاض ! وإن‬
‫ضمير الكون وجوارحه لتنتفض ‪ ,‬وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النابية ‪ ,‬والمساس بقداسة‬

‫خرّ‬
‫شقّ ا ْلَأرْضُ َو َت ِ‬
‫ن ِمنْهُ َوتَن َ‬
‫ت َيتَ َفطّرْ َ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫شيْئا ِإدّا (‪َ )89‬تكَادُ ال ّ‬
‫ج ْئتُمْ َ‬
‫خذَ ال ّرحْمَنُ وَلَدا (‪ )88‬لَ َق ْد ِ‬
‫َوقَالُوا ا ّت َ‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫حمَنِ وَلَدا (‪َ )91‬ومَا يَن َبغِي لِل ّرحْمَنِ أَن َي ّتخِذَ وَلَدا (‪ )92‬إِن كُلّ مَن فِي ال ّ‬
‫عوْا لِل ّر ْ‬
‫جبَالُ َهدّا (‪ )90‬أَن دَ َ‬
‫ا ْل ِ‬
‫عدّا (‪َ )94‬وكُّل ُهمْ آتِي ِه يَ ْو َم الْ ِقيَامَةِ َفرْدا (‪ِ )95‬إنّ اّلذِينَ‬
‫عدّ ُهمْ َ‬
‫حصَا ُهمْ وَ َ‬
‫عبْدا (‪ )93‬لَ َق ْد َأ ْ‬
‫حمَنِ َ‬
‫وَا ْلَأرْضِ إِلّا آتِي ال ّر ْ‬
‫شرَ بِ ِه ا ْل ُمتّقِينَ َوتُن ِذرَ بِهِ قَوْما‬
‫س ْرنَا ُه بِِلسَا ِنكَ ِل ُتبَ ّ‬
‫حمَنُ ُودّا (‪َ )96‬فإِ ّنمَا َي ّ‬
‫جعَلُ َل ُهمُ ال ّر ْ‬
‫س َي ْ‬
‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َ‬
‫آ َمنُوا َو َ‬
‫ّلدّا (‪)97‬‬
‫الذات العلية ‪ ,‬كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عندما يغضب النسان للمساس بكرامته أو كرامة من يحبه‬
‫ويوقره ‪.‬‬

‫هذه النتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السماوات والرض والجبال ‪ ,‬واللفاظ بإيقاعها ترسم حركة‬
‫الزلزلة والرتجاف ‪.‬‬

‫وما تكاد الكلمة النابية تنطلق‪(:‬وقالوا‪:‬اتخذ الرحمن ولدا)حتى تنطلق كلمة التفظيع والتبشيع‪(:‬لقد جئتم شيئا‬
‫إدا)ثم يهتز كل ساكن من حولهم ويرتج كل مستقر ‪ ,‬ويغضب الكون كله لبارئه ‪ .‬وهو يحس بتلك الكلمة‬
‫تصدم كيانه وفطرته ; وتجافي ما وقر في ضميره وما استقر في كيانه ; وتهز القاعدة التي قام عليها واطمأن‬
‫إليها‪(:‬تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الرض وتخر الجبال هدا ‪ .‬أن دعوا للرحمن ولدا ‪ .‬وما ينبغي‬
‫للرحمن أن يتخذ ولدا)‪. .‬‬

‫وفي وسط الغضبة الكونية يصدر البيان الرهيب‪:‬‬

‫إن كل من في السماوات والرض إل آتى الرحمن عبدا ‪ .‬لقد أحصاهم وعدهم عدا ‪ .‬وكلهم آتيه يوم القيامة‬
‫فردا ‪.‬‬

‫إن كل من في السماوات والرض إل عبد يأتي معبوده خاضعا طائعا ‪ ,‬فل ولد ول شريك ‪ ,‬إنما خلق وعبيد ‪.‬‬

‫وإن الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان ‪(. .‬لقد أحصاهم وعدهم عدا)فل مجال لهرب أحد‬
‫ول لنسيان أحد(وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)فعين ال على كل فرد ‪ .‬وكل فرد يقدم وحيدا ل يأنس بأحد ول‬
‫يعتز بأحد ‪ .‬حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يجرد منها ‪ ,‬فإذا هو وحيد فريد أمام الديان ‪.‬‬
‫وفي وسط هذه الوحدة والوحشة والرهبة ‪ ,‬إذا المؤمنون في ظلل ندية من الود السامي‪:‬ود الرحمن‪:‬‬

‫(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)‪. .‬‬

‫وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب ‪ ,‬وروح رضى يلمس النفوس ‪ .‬وهو ود يشبع في المل‬
‫العلى ‪ ,‬ثم يفيض على الرض والناس فيمتلى ء به الكون كله ويفيض ‪. .‬‬

‫عن أبي هريرة ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عن النبي [ ص ] قال‪ ":‬إن ال إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال‪:‬يا جبريل‬
‫إني أحب فلنا فأحبه ‪ .‬قال‪:‬فيحبه جبريل ‪ .‬ثم ينادي في أهل السماء‪:‬إن ال يحب فلنا فأحبوه ‪ .‬قال‪:‬فيحبه أهل‬
‫السماء ‪ .‬ثم يوضع له القبول في الرض ‪ .‬وإن ال إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال‪:‬يا جبريل إني أبغض فلنا‬
‫فأبغضه ‪ .‬قال‪:‬فيبغضه جبريل ‪ .‬ثم ينادي في أهل السماء‪:‬إن ال يبغض فلنا فأبغضوه ‪ .‬قال‪:‬فيبغضه أهل‬
‫السماء ; ثم يوضع له البغضاء في الرض " ‪. .‬‬

‫الدرس السادس‪ 98 - 97:‬القرآن إنذار وتبشير وتوجيه لمصارع السابقين‬

‫وبعد فإن هذه البشرى للمؤمنين المتقين ‪ ,‬وذلك النذار للجاحدين الخصيمين هما غاية هذا القرآن ‪ .‬ولقد يسره‬
‫ال للعرب فأنزله بلسان الرسول [ ص ] ليقرأوه‪:‬‬

‫(فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا)‪. .‬‬

‫وتختم السورة بمشهد يتأمله القلب طويل ‪ ,‬ويرتعش له الوجدان طويل ; ول ينتهي الخيال من استعراضه‬

‫سمَعُ َل ُهمْ ِركْزا (‪)98‬‬


‫حدٍ َأوْ َت ْ‬
‫س ِم ْنهُم مّنْ َأ َ‬
‫ن هَلْ ُتحِ ّ‬
‫َو َكمْ أَهَْل ْكنَا َقبَْلهُم مّن قَرْ ٍ‬
‫(وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ?)‪.‬‬

‫وهو مشهد يبدؤك بالرجة المدمرة ‪ ,‬ثم يغمرك بالصمت العميق ‪ .‬وكأنما يأخذ بك إلى وادي الردى ‪ ,‬ويقفك‬
‫على مصارع القرون ; وفي ذلك الوادي الذي ل يكاد يحده البصر ‪ ,‬يسبح خيالك مع الشخوص التي كانت‬
‫تدب وتتحرك ‪ ,‬والحياة التي كانت تنبض وتمرح ‪ .‬والماني والمشاعر التي كانت تحيا وتتطلع ‪ . .‬ثم إذا‬
‫الصمت يخيم ‪ ,‬والموت يجثم ‪ ,‬وإذا الجثث والشلء والبلى والدمار ‪ ,‬ل نأمة ‪ .‬ل حس ‪ .‬ل حركة ‪ .‬ل‬
‫صوت ‪( . .‬هل تحس منهم من أحد ?)انظر وتلفت (هل تسمع لهم ركزا)تسمع وأنصت ‪ .‬أل إنه السكون‬
‫العميق والصمت الرهيب ‪ .‬وما من أحد إل الواحد الحي الذي ل يموت ‪.‬‬

You might also like