You are on page 1of 136

‫في ظلل القرآن‬

‫سورة هود‬

‫خبِيرٍ (‪َ )1‬ألّ َت ْعبُدُو ْا ِإلّ الّل َه ِإ ّننِي َلكُم ّمنْهُ َنذِيرٌ َو َبشِيرٌ (‪)2‬‬
‫حكِيمٍ َ‬
‫ح ِكمَتْ آيَاتُ ُه ُثمّ ُفصّلَتْ مِن ّلدُنْ َ‬
‫الَر ِكتَابٌ ُأ ْ‬

‫والية ‪ 114‬واردة في سياق تسرية عن الرسول [ ص ] بما كان من الختلف على موسى من قبل ‪.‬‬
‫وتوجيهه للستقامة كما أمر هو ومن تاب معه ‪ ,‬وعدم الركون إلى الذين ظلموا [ أي أشركوا ] والستعانة‬
‫بالصلة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة ‪ . .‬وتتوارد اليات هكذا‪ :‬ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف‬
‫فيه ‪ ,‬ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ‪ ,‬وإنهم لفي شك منه مريب [ ‪ ] 110‬وإن كل لما ليوفينهم ربك‬
‫أعمالهم ‪ ,‬إنه بما يعملون خبير [ ‪ ] 111‬فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ول تطغوا ‪ ,‬إنه بما تعملون بصير [‬
‫‪ ] 112‬ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ‪ ,‬وما لكم من دون ال من أولياء ‪ ,‬ثم ل تنصرون [ ‪] 113‬‬
‫وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ‪ ,‬إن الحسنات يذهبن السيئات ‪ ,‬ذلك ذكرى للذاكرين [ ‪] 114‬‬
‫واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين [ ‪ . . ] 115‬وواضح أن الية قطعة من السياق المكي ‪ ,‬موضوعا‬
‫وجوا وعبارة ‪. .‬‬

‫لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس ‪ .‬ونزلت يونس بعد السراء ‪ .‬وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها ;‬
‫وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة ‪ .‬فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة ; وجرأة‬
‫المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب ‪ -‬وخاصة بعد حادث السراء وغرابته ‪,‬‬
‫واستهزاء المشركين به ‪ ,‬وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله ‪ -‬مع وحشة رسول ال [ ص ] من خديجة ‪-‬‬
‫رضي ال عنها ‪ -‬في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ; وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى‬
‫دعوته أقسى وأقصى مداها ; وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في السلم أحد من مكة وما حولها ‪.‬‬
‫‪ .‬وذلك قبيل أن يفتح ال على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الولى ثم الثانية ‪. .‬‬

‫قال ابن إسحاق‪:‬ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ‪ ,‬فتتابعت على رسول ال [ ص ]‬
‫المصائب بهلك خديجة ‪ -‬وكانت له وزير صدق على السلم يشكو إليها ‪ -‬وبهلك عمه أبي طالب ‪ -‬وكان له‬
‫عضدا وحرزا في أمره ‪ ,‬ومنعة وناصرا على قومه ‪ -‬وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلث سنين ‪ .‬فلما هلك‬
‫أبو طالب نالت قريش من رسول ال [ ص ] من الذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ‪ ,‬حتى‬
‫اعترضه سفيه من سفهاء قريش ‪ ,‬فنثر على رأسه ترابا ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق‪:‬فحدثني هشام بن عروة ‪ ,‬عن أبيه عروة بن الزبير ‪ ,‬قال‪:‬لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول‬
‫ال [ ص ] ذلك التراب ‪ ,‬دخل رسول ال [ ص ] بيته والتراب على رأسه ‪ ,‬فقامت إليه إحدى بناته ‪ ,‬فجعلت‬
‫تغسل عنه التراب وهي تبكي ‪ .‬ورسول ال [ ص ] يقول لها‪ ":‬لتبكي يا بنية ‪ ,‬فإن ال مانع أباك " قال‪:‬ويقول‬
‫بين ذلك‪ ":‬ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " ‪.‬‬

‫وقال المقريزي في إمتاع السماع‪:‬فعظمت المصيبة على رسول ال [ ص ] بموتهما وسماه "عام الحزن"‬
‫وقال‪ ":‬ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ول‬
‫ذابا عنه غيره ‪.‬‬

‫ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها ‪ ,‬وقبلهما سورة السراء وسورة الفرقان وكلها تحملطابع هذه‬
‫الفترة ; وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها ‪.‬‬

‫وآثار هذه الفترة وجوها وظللها واضحة في جو السورة وظللها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت‬
‫رسول ال [ ص ] والذين معه على الحق ; والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في‬
‫المجتمع الجاهلي ‪.‬‬

‫وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها‪:‬‬

‫فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة السلمية في التاريخ البشري كله ‪ ,‬من لدن نوح ‪ -‬عليه السلم ‪-‬‬
‫إلى عهد محمد ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة‪:‬هي الدينونة ل وحده‬
‫بل شريك ‪ ,‬والعبودية له وحده بل منازع ; والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل ال وحدهم على مدار‬
‫التاريخ ‪ .‬مع العتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلء ل دار جزاء ; وأن الجزاء إنما يكون في الخرة ;‬
‫وأن حرية الختيار التي أعطاها ال للنسان ليختار الهدى أو الضلل هي مناط هذا البتلء ‪.‬‬

‫ولقد جاء محمد عليه الصلة والسلم ومعه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)‪ . .‬أما مضمون‬
‫هذا الكتاب الساسي فهو‪(:‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪ .‬وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه‬
‫يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت كل ذي فضل فضله ‪ ,‬وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم‬
‫كبير ‪ .‬إلى ال مرجعكم وهو على كل شيء قدير)‪. . .‬‬

‫ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ول قول غير مسبوق ‪ . .‬لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى‬
‫وغيرهم‪(:‬ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ‪ ,‬إني لكم نذير مبين ‪ .‬أن ل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إني أخاف عليكم عذاب يوم‬
‫أليم)‪( . .‬وإلى عاد أخاهم هودا قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره إن أنتم إل مفترون ‪ .‬يا قوم ل أسألكم‬
‫عليه أجرا إن أجري إل على الذي فطرني ‪ ,‬أفل تعقلون ? ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يرسل‬
‫السماء عليكم مدرارا ‪ ,‬ويزدكم قوة إلى قوتكم ‪ . .‬ول تتولوا مجرمين)‪( . .‬وإلى ثمود أخاهم صالحا ‪ ,‬قال‪:‬يا‬
‫قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره ‪ ,‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها ‪ ,‬فاستغفروه ثم توبوا إليه ‪ ,‬إن‬
‫ربي قريب مجيب)‪( . .‬وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ‪ .‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ ,‬ول تنقصوا‬
‫المكيال والميزان ‪ ,‬إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ‪ .‬ويا قوم أوفوا المكيال والميزان‬
‫بالقسط ‪ ,‬ول تبخسوا الناس أشياءهم ول تعثوا في الرض مفسدين ‪ .‬بقية ال خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا‬
‫عليكم بحفيظ)‪. .‬‬

‫فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة ‪. .‬‬

‫ومن ذلك عرض مواقف الرسل ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم ‪ -‬وهم يتلقون العراض والتكذيب ‪ ,‬والسخرية‬
‫والستهزاء ‪ ,‬والتهديد واليذاء ‪ ,‬بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ‪ ,‬وفي نصر ال الذي ل شك آت ;‬
‫ثم تصديق العواقب في الدنيا ‪ -‬وفي الخرة كذلك ‪ -‬لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ‪ ,‬بالتدمير على‬
‫المكذبين ‪ ,‬وبالنجاة للمؤمنين‪:‬‬

‫ففي قصة نوح نجد هذا المشهد‪( :‬فقال المل الذين كفروا من قومه‪:‬ما نراك إل بشرا مثلنا ‪ ,‬وما نراك)(اتبعك‬
‫إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي ‪ ,‬وما نرى لكم علينا من فضل ‪ ,‬بل نظنكم كاذبين ‪ . .‬قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن‬
‫كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ‪ ,‬أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? ويا قوم ل‬
‫أسألكم عليه مال ‪ ,‬إن أجري إل على ال ‪ ,‬وما أنا بطارد الذين آمنوا ‪ ,‬إنهم ملقو ربهم ‪ .‬ولكني أراكم قوما‬
‫تجهلون ‪ .‬ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم ? أفل تذكرون ? ول أقول لكم عندي خزائن ال ‪ ,‬ول‬
‫أعلم الغيب ‪ ,‬ول أقول‪:‬إني ملك ‪ ,‬ول أقول للذين تزدري أعينكم‪:‬لن يؤتيهم ال خيرا ‪ ,‬ال أعلم بما في أنفسهم‬
‫‪ ,‬إني إذن لمن الظالمين ‪ .‬قالوا‪:‬يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ‪ ,‬فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ‪.‬‬
‫قال‪:‬إنما يأتيكم به ال ‪ -‬إن شاء ‪ -‬وما أنتم بمعجزين)‪ . .‬ثم يجيء مشهد الطوفان وهلك المكذبين ونجاة‬
‫المؤمنين ‪.‬‬

‫وفي قصة هود نجد هذا المشهد‪(:‬قالوا‪:‬يا هود ما جئتنا ببينة ‪ ,‬وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ‪ ,‬وما نحن لك‬
‫بمؤمنين ‪ .‬إن نقول‪:‬إل اعتراك بعض آلهتنا بسوء ‪ . .‬قال‪:‬إني أشهد ال ‪ ,‬واشهدوا أني بريء مما تشركون‬
‫من دونه ‪ ,‬فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون ‪ .‬إني توكلت على ال ربي وربكم ‪ ,‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها‬
‫‪ ,‬إن ربي على صراط مستقيم ‪ ,‬فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ‪ ,‬ويستخلف ربي قوما غيركم ‪ ,‬ول‬
‫تضرونه شيئا ‪ ,‬إن ربي على كل شيء حفيظ)‪ . .‬ثم تجيء العاقبة‪(:‬ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا‬
‫معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ‪ .‬وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ‪ ,‬واتبعوا أمر كل‬
‫جبار عنيد ‪ .‬وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ‪ ,‬أل إن عادا كفروا ربهم ‪ ,‬أل بعدا لعاد قوم هود !)‪.‬‬

‫وفي قصة صالح نجد هذا المشهد‪(:‬قالوا‪:‬يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ‪ ,‬أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ?‬
‫وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب ‪ .‬قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ‪ ,‬فمن‬
‫ينصرني من ال إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير)‪ . .‬ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب‪ :‬فلما‬
‫جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ‪ ,‬إن ربك هو القوي العزيز ‪ ,‬وأخذ‬
‫الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ‪ .‬كأن لم يغنوا فيها ‪ ,‬أل إن ثمود كفروا ربهم ‪ ,‬أل بعدا‬
‫لثمود ! ‪. .‬‬

‫وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد‪ :‬قالوا‪:‬يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في‬
‫أموالنا ما نشاء ? إنك لنت الحليم الرشيد ! قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا‬
‫حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ‪ ,‬إن أريد إل الصلح ما استطعت ‪ ,‬وما توفيقي إل بال ‪,‬‬
‫عليه توكلت وإليه أنيب ‪ .‬ويا قوم ل يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم‬
‫صالح ‪ ,‬وما قوم لوط منكم ببعيد ‪ .‬واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬إن ربي رحيم ودود ‪ .‬قالوا‪:‬يا شعيب ما‬
‫نفقه كثيرا مما تقول ‪ ,‬وإنا لنراك فينا ضعيفا ‪ ,‬ولول رهطك لرجمناك ‪ ,‬وما أنت علينا بعزيز ‪ .‬قال‪:‬يا قوم‬
‫أرهطي أعز عليكم من ال واتخذتموه وراءكم ظهريا ? إن ربي بما تعملون محيط ‪ .‬ويا قوم اعملوا على‬
‫مكانتكم إني عامل ‪ ,‬سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ‪ ,‬وارتقبوا إني معكم رقيب ‪ . .‬ثم‬
‫تجيء الخاتمة‪(:‬ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ‪ ,‬وأخذت الذين ظلموا الصيحة ‪,‬‬
‫فأصبحوا في ديارهم جاثمين ‪ .‬كأن لم يغنوا فيها ‪ ,‬أل بعدا لمدين كما بعدت ثمود !)‪. .‬‬

‫ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول ال [ ص ] إلى دللته‪:‬والتسريةعنه بما أصاب إخوانه‬
‫الكرام قبله ; وبما أولهم ال من رعايته ونصره ; وتوجيهه [ ص ] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل‬
‫الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به ‪ . .‬وذلك إلى التنويه بدللة هذا القصص ذاته على صدق‬
‫دعواه في الوحي والرسالة ‪.‬‬

‫فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب‪(:‬تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ‪ ,‬ما كنت تعلمها أنت ول قومك من‬
‫قبل هذا ‪ ,‬فاصبر ‪ ,‬إن العاقبة للمتقين)‪.‬‬

‫وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة‪(:‬ذلك من أنباء القرى نقصه‬
‫عليك منها قائم وحصيد ‪ .‬وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ‪ ,‬فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال‬
‫من شيء لما جاء أمر ربك ‪ ,‬وما زادوهم غير تتبيب ‪ .‬وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ‪ ,‬إن أخذه‬
‫أليم شديد)‪( . . .‬ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ; ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ‪ ,‬وإنهم لفي‬
‫شك منه مريب ‪ .‬وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم ‪ ,‬إنه بما يعملون خبير ‪ .‬فاستقم كما أمرت ومن تاب معك‬
‫‪ ,‬ول تطغوا ‪ ,‬إنه بما تعملون بصير ‪ .‬ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ‪ ,‬وما لكم من دون ال من‬
‫أولياء ‪ ,‬ثم ل تنصرون ‪ .‬وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ‪ ,‬إن الحسنات يذهبن السيئات ‪ ,‬ذلك ذكرى‬
‫للذاكرين ‪ .‬واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين)‪(. . .‬وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‬
‫‪ ,‬وجاءك في هذه الحق ‪ ,‬وموعظة وذكرى للمؤمنين ‪ .‬وقل للذين ل يؤمنون‪:‬اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ‪.‬‬
‫وانتظروا إنا منتظرون ‪ .‬ول غيب السماوات والرض ‪ ,‬وإليه يرجع المر كله ‪ ,‬فاعبده ‪ ,‬وتوكل عليه ‪ ,‬وما‬
‫ربك بغافل عما تعملون)‪. .‬‬

‫وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني ? وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في‬
‫كل مرحلة بالتوجيه المكافيء للموقف ; وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع‬
‫الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ‪ ,‬شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ; ونجده في الوقت‬
‫ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها ‪ ,‬متوافيا مع أهدافها ‪ ,‬مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من‬
‫توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية ‪.‬‬

‫ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر‪:‬‬

‫"ولقد كان آخر عهدنا ‪ -‬في هذه الظلل ‪ -‬بالقرآن المكي سورة النعام وسورة العراف متواليتين في ترتيب‬
‫المصحف ‪ -‬وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول ‪ -‬ثم جاءت النفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما‬
‫وموضوعاتهما المدنية الخاصة ‪ -‬فالن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في‬
‫ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا ‪ . .‬والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ‪,‬‬
‫في الموضوع ‪ ,‬وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة النعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه‬
‫الجاهلية بها ; وتفند هذه الجاهلية ‪ ,‬عقيدة وشعورا ‪ ,‬وعبادة وعمل ‪ .‬بينما سورة العراف تتناول حركة هذه‬
‫العقيدة في الرض ‪ ,‬وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ ‪ .‬وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس‬
‫وهود ‪ . .‬في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا ‪ . .‬إل أن سورة النعام تنفرد عن سورة‬
‫يونس بارتفاع وضخامة في اليقاع ‪ ,‬وسرعة وقوة في النبض ‪ ,‬وللء شديد في التصوير والحركة ‪ . .‬بينما‬
‫تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي ‪ ,‬ونبض هادئ ‪ ,‬وسلسة وديعة ! ‪ . .‬فأما هود فهي شديدة الشبه بالعراف‬
‫موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا ‪ . .‬ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ‪ ,‬وملمحها المميزة ‪ ,‬بعد كل هذا‬
‫التشابه والختلف" ‪. .‬‬

‫فالن نفصل هذه الشارة المجملة‪:‬‬

‫إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل ‪ . .‬إشارة إلى قصة نوح ‪ ,‬وإشارة إلى الرسل من‬
‫بعده ‪ ,‬وشيء من التفصيل في قصة موسى ‪ ,‬وإشارة مجملة إلى قصة يونس ‪ . .‬ولكن القصص إنما يجيء في‬
‫السورة شاهدا ومثال لتصديق الحقائق العتقاديه التي تستهدفها السورة ‪.‬‬

‫أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة ‪ .‬وهو إن جاء شاهدا ومثال لتصديق الحقائق العتقاديه التي‬
‫تستهدفها ; إل أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز‬
‫‪.‬‬
‫لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلثة قطاعات متميزة‪:‬‬

‫القطاع الول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا ‪.‬‬

‫والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة ‪.‬‬

‫والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود ‪. .‬‬

‫وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق العتقادية الساسية التي يستهدفها‬
‫سياق السورة كله ; وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق ‪ .‬وهي‬
‫تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه‬

‫وهذه الحقائق الساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي‪:‬‬

‫أن ما جاء به النبي [ ص ] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وهي تقوم‬
‫على الدينونة ل وحده بل شريك ‪ .‬والتلقي في هذه الدينونة عن رسل ال وحدهم كذلك ‪ .‬والمفاصلة بين الناس‬
‫على أساس هذه الحقيقة‪:‬‬

‫ففي مقدمة السورة تجيء هذه اليات عن حقيقة دعوة رسول ال ‪ [ -‬ص ]‪:‬‬

‫ألر ‪ .‬كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ‪ .‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪(. .‬أم‬
‫يقولون‪:‬افتراه ? قل‪:‬فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين ‪ .‬فإن لم‬
‫يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم ال ‪ ,‬وأن ل إله إل هو ‪ ,‬فهل أنتم مسلمون ?)‪.‬‬

‫وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم ; وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة‪:‬‬

‫ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ‪ ,‬إني لكم نذير مبين أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ‪.‬‬

‫(قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ‪ ,‬أنلزمكموها وأنتم لها‬
‫كارهون ?)‪. .‬‬

‫(ونادى نوح ربه فقال‪:‬رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ‪ .‬قال‪:‬يا نوح)(إنه ليس‬
‫من أهلك ‪ ,‬إنه عمل غير صالح ‪ ,‬فل تسألن ما ليس لك به علم ‪ ,‬إني أعظك أن تكون من الجاهلين)‪.‬‬

‫وإلى عاد أخاهم هودا قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إن أنتم إل مفترون ‪. .‬‬
‫وإلى ثمود أخاهم صالحا ‪ ,‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ ,‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها‬
‫فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب ‪. .‬‬

‫قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ‪ ,‬فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما‬
‫تزيدونني غير تخسير ‪. .‬‬

‫(وإلى مدين أخاهم شعيبا ‪ ,‬قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪.). . .‬‬

‫(قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ‪.). . .‬‬

‫وفي التعقيب ترد هذه اليات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها‪:‬‬

‫(ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ال من أولياء ‪ ,‬ثم ل تنصرون)‪. .‬‬

‫(ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله ‪ ,‬فاعبده وتوكل عليه ‪ ,‬وما ربك بغافل عما تعملون)‪.‬‬

‫وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلثة على تقرير هذه الحقيقة ‪.‬‬

‫ولكي يدين الناس ل وحده بالربوبية ‪ ,‬فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ‪ ,‬وتقرر كذلك أنهم في قبضته في‬
‫هذه الدنيا ; وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الخير ‪ . .‬وتتوافى مقاطع السورة الثلثة في‬
‫تقرير هذه الحقيقة كذلك ‪.‬‬

‫في المقدمة يجيء‪:‬‬

‫أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ‪ ,‬أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ‪ ,‬إنه عليم بذات‬
‫الصدور ‪ .‬وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ‪ ,‬ويعلم مستقرها ومستودعها ‪ ,‬كل في كتاب مبين ‪,‬‬
‫وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ‪ ,‬وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عمل ‪ ,‬ولئن‬
‫قلت‪:‬إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا‪:‬إن هذا إل سحر مبين ‪ .‬ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى‬
‫أمة معدودة ليقولن‪:‬ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ‪ ,‬وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‪. .‬‬

‫(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون ‪ .‬أولئك الذين ليس لهم في‬
‫الخرة إل النار ‪ ,‬وحبط ما صنعوا فيها ‪ ,‬وباطل ما كانوا يعملون)‪. .‬‬

‫وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات‪:‬‬


‫(إني توكلت على ال ربي وربكم ‪ ,‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ‪ .‬فإن تولوا‬
‫فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ‪ ,‬ويستخلف ربي قوما غيركم ول تضرونه شيئا ‪ ,‬إن ربي على كل شيء‬
‫حفيظ)‪. .‬‬

‫وإلى ثمود أخاهم صالحا ‪ .‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ .‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم‬
‫فيها ‪ ,‬فاستغفروه ثم توبوا إليه ‪ ,‬إن ربي قريب مجيب ‪. .‬‬

‫وفي التعقيب يجيء‪:‬‬

‫(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ‪ .‬إن أخذه أليم شديد)‪. .‬‬

‫(وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم ‪ ,‬إنه بما يعملون خبير)‪.‬‬

‫(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ‪ .‬ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ‪ ,‬ول يزالون‬
‫مختلفين ‪ .‬إل من رحم ربك ‪ ,‬ولذلك خلقهم ‪ ,‬وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين)‪. .‬‬
‫وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلثة كذلك على التعريف بحقيقة اللوهية وحقيقة الخرة في سياقها ‪ .‬وهي ل‬
‫تستهدف إثبات وجود ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إنما تستهدف تقرير ربوبية ال وحده في حياة البشر ‪ ,‬كما أنها مقررة‬
‫في نظام الكون ‪ . .‬فقضية اللوهية لم تكن محل خلف ; إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها‬
‫الرسالت ; وهي التي كانت تواجهها الرسالة الخيرة ‪ .‬إنها قضية الدينونة ل وحده بل شريك ; والخضوع ل‬
‫وحده بل منازع ‪ .‬ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره ‪ .‬كما هو واضح من هذه‬
‫المقتطفات من قطاعات السورة جميعا ‪.‬‬

‫وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق العتقادية في الضمائر ‪ ,‬وتثبيتها في النفوس ‪ ,‬وتعميقها في الكيان البشري ‪,‬‬
‫وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ‪ ,‬مكيفة للمشاعر والتصورات والعمال‬
‫والحركات ‪ . .‬في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى‬
‫المؤثرات الموحية واليقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ‪ ,‬وهو يعرض هذه‬
‫الحقائق ويفصلها ‪. .‬‬

‫يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب ‪ . .‬الترغيب في خير الدنيا والخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة ل‬
‫وحده بل شريك ‪ ,‬وما تحمله للبشرية من خير وصلح ونماء ‪ . .‬والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو‬
‫الخرة ; وبالعذاب في الدنيا أو في الخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي ‪ ,‬ويسلكون طريق الطواغيت حيث‬
‫يسلمونهم في الخرة إلى جهنم ‪ ,‬التي يقودون لها أتباعهم في الخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلء التباع‬
‫في الدنيا ; ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة ل تعالى ‪ .‬وهذه نماذج من الترهيب والترغيب‪:‬‬
‫(‪ . . .‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪ ,‬وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى‬
‫أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت كل ذي فضل فضله ‪ .‬وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ‪ .‬إلى ال مرجعكم ‪,‬‬
‫وهو على كل شيء قدير)‪. .‬‬

‫(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ‪ ,‬وهم فيها ل يبخسون ‪ .‬أولئك الذين ليس لهم في‬
‫الخرة إل النار ‪ ,‬وحبط ما صنعوا فيها ‪ ,‬وباطل ما كانوا يعملون)‪. .‬‬

‫أفمن كان على بينة من ربه ‪ ,‬ويتلوه شاهد منه ‪ ,‬ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ‪,‬‬
‫ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ‪ ,‬فل تك في مرية منه إنه الحق من ربك ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل‬
‫يؤمنون ‪ .‬ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ‪ ,‬ويقول الشهاد‪:‬هؤلء الذين‬
‫كذبوا على ربهم ‪ ,‬أل لعنة ال على الظالمين ‪ .‬الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ‪ ,‬وهم بالخرة هم‬
‫كافرون ‪ .‬أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ‪ ,‬وما كان لهم من دون ال من أولياء ‪ ,‬يضاعف لهم العذاب ‪,‬‬
‫ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ‪ .‬أولئك الذين خسروا أنفسهم ‪ ,‬وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪.‬‬
‫ل جرم أنهم في الخرة هم الخسرون ‪ .‬إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى‬

‫ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ‪ .‬مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ‪ ,‬هل يستويان‬
‫مثل ? أفل تذكرون ?)‪.‬‬

‫(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ‪ ,‬ول تتولوا‬
‫مجرمين)‪(. . .‬فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ‪ ,‬ويستخلف ربي قوما غيركم ‪ ,‬ول تضرونه شيئا ‪,‬‬
‫إن ربي على كل شيء حفيظ)‪. .‬‬

‫ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ‪ .‬إلى فرعون وملئه ‪ ,‬فاتبعوا أمر فرعون ‪ ,‬وما أمر فرعون برشيد ‪.‬‬
‫يقدم قومه يوم القيامة ‪ ,‬فأوردهم النار ‪ ,‬وبئس الورد المورود ‪ .‬واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد‬
‫المرفود ! ‪. . .‬‬

‫‪ . . .‬الخ ‪ . . .‬الخ ‪. .‬‬

‫ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار‬
‫التاريخ ; من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين ‪ -‬على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات ‪ -‬ويبرز مشهد‬
‫الطوفان بصفة خاصة ; ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد‪:‬‬

‫وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن ‪ ,‬فل تبتئس بما كانوا يفعلون ‪ .‬واصنع الفلك بأعيننا‬
‫ووحينا ‪ ,‬ول تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‪ .‬ويصنع الفلك وكلما مر عليه مل من قومه سخروا منه‬
‫‪ ,‬قال‪:‬إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ‪ .‬فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ‪ ,‬ويحل عليه‬
‫عذاب مقيم ‪ .‬حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا‪:‬احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ‪ -‬إل من سبق عليه‬
‫القول ‪ -‬ومن آمن ‪ ,‬وما آمن معه إل قليل ‪ .‬وقال‪:‬اركبوا فيها باسم ال مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم‬
‫‪ .‬وهي تجري بهم في موج كالجبال ‪ ,‬ونادى نوح ابنه ‪ -‬وكان في معزل ‪ -‬يا بني اركب معنا ول تكن مع‬
‫الكافرين ‪ .‬قال‪:‬سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ! قال‪:‬ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ‪ ,‬وحال‬
‫بينهما الموج فكان من المغرقين ‪ .‬وقيل‪:‬يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ‪ ,‬وقضي المر‬
‫واستوت على الجودي ‪ ,‬وقيل‪:‬بعدا للقوم الظالمين ‪ . . .‬الخ ‪ . . .‬الخ ‪ . . .‬الخ ‪. . .‬‬

‫ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الحداث الجارية بالنعماء والبأساء ; فيرفع للمكذبين‬
‫المستعجلين بالعذاب ‪ ,‬المتحدين للنذر في استهتار ‪ . .‬يرفع لهم صورأنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به‬
‫حين يحل بهم ; وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الحداث بهم ; وفوت النعمة وإفلتها من أيديهم‬
‫; وفي البطر والغرور والنخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد‪:‬‬

‫ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن‪:‬ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ‪ .‬وحاق بهم‬
‫ما كانوا به يستهزئون ‪ .‬ولئن أذقنا النسان منا رحمة ‪ ,‬ثم نزعناها منه ‪ ,‬إنه ليئوس كفور ‪ .‬ولئن أذقناه نعماء‬
‫بعد ضراء مسته ليقولن‪:‬ذهب السيئات عني ‪ ,‬إنه لفرح فخور ‪ .‬إل الذين صبروا وعملوا الصالحات ‪ ,‬أولئك‬
‫لهم مغفرة وأجر كبير ‪. . .‬‬

‫ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة ; وصور المكذبين فيها ; ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن‬
‫رسله ; وما يجدونه يومئذ من خزي ; ل ينصرهم منه أرباب ول شفعاء‪:‬‬

‫ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ‪ ,‬ويقول الشهاد‪:‬هؤلء الذين كذبوا على‬
‫ربهم ! أل لعنة ال عى الظالمين ! الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ‪ ,‬وهم بالخرة هم كافرون‬
‫‪.‬أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ‪ ,‬وما كان لهم من دون ال من أولياء ‪ ,‬يضاعف لهم العذاب ‪ ,‬ما كانوا‬
‫يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ‪ ,‬أولئك الذين خسروا أنفسهم ‪ ,‬وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ .‬ل جرم‬
‫أنهم في الخرة هم الخسرون)‪.‬‬

‫(إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة ‪ ,‬ذلك يوم مجموع له الناس ‪ ,‬وذلك يوم مشهود ‪ .‬وما نؤخره إل‬
‫لجل معدود ‪ .‬يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه ‪ ,‬فمنهم شقي وسعيد ‪ .‬فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير‬
‫وشهيق ‪ .‬خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء ربك ‪ -‬إن ربك فعال لما يريد ‪ .‬وأما الذين‬
‫سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء ربك ‪ -‬عطاء غير مجذوذ)‪.‬‬
‫ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور ال سبحانه واطلعه على ما يخفي‬
‫البشر من ذوات الصدور ; بينما هم غارون ل يستشعرون حضوره سبحانه ‪ ,‬ول علمه المحيط ; ول يحسون‬
‫قهره للخلئق وإحاطته بها جميعا ‪ ,‬وهم ‪ -‬الذين يكذبون ‪ -‬في قبضته كسائر الخلئق ; من حيث ل‬
‫يشعرون‪(:‬إلى ال مرجعكم ‪ ,‬وهو على كل شيء قدير ‪ .‬أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ! أل حين‬
‫يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ‪ ,‬إنه عليم بذات الصدور ‪ .‬وما من دابة في الرض إل على ال‬
‫رزقها ‪ ,‬ويعلم مستقرها ومستودعها ‪ ,‬كل في كتاب مبين)‪. .‬‬

‫(إني توكلت على ال ربي وربكم ‪ ,‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ‪ ,‬إن ربي على صراط مستقيم)‪.‬‬

‫ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك ‪ ,‬استعراض موكب اليمان ‪ .‬بقيادة الرسل الكرام ‪ ,‬على مدار‬
‫الزمان ‪ .‬وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة ‪ ,‬في صراحة وفي صرامة ‪,‬‬
‫وفي ثقة وطمأنينة ويقين ‪ . .‬وقد مر جانب من هذا الستعراض في المقتطفات السابقة ‪ ,‬والبقية ستأتي في‬
‫موضعها في تفسير السورة ‪ .‬ومما ل شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام ‪ ,‬ووحدة الحقيقة التي يواجهون‬
‫بها الجاهلية على مدار الزمان ; ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة ‪ . .‬يحمل في طياته‬
‫ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء ‪. .‬‬

‫وحسبنا في تقديم السورة هذه الشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة ‪. .‬‬

‫‪ . .‬وال المستعان ‪. .‬‬

‫الوحدة الولى‪ 24 - 1:‬الموضوع‪:‬مقدمة حول العقيدة‪:‬اللوهية والنبوة والبعث وتهديد الكفار‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫مقدمة الوحدة‬

‫هذا الدرس الول من السورة يمثل المقدمة ‪ -‬التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب ‪ -‬وهي تتضمن عرض‬
‫الحقائق الساسية في العقيدة السلمية‪:‬توحيد الدينونة ل الواحد بل منازع ‪ ,‬وعبادة ال وحده بل شريك ;‬
‫والعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والبتلء‬
‫‪ . .‬مع تعريف الناس بربهم الحق ; وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم ; وبيان حقيقة‬
‫اللوهية وحقيقة العبودية ‪ ,‬ومقتضاهما في حياة البشرية ‪ .‬وتوكيد الدينونة ل في الخرة كالدينونة له سبحانه‬
‫في الحياة الدنيا ‪.‬‬

‫كذلك تتضمن هذه المقدمة بيانا لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ; كما تتضمن تسلية وترويحا للرسول [ ص ]‬
‫في وجه العناد والتكذيب ‪ ,‬والتحدي والمكابرة ‪ ,‬التي كان رسول ال [ ص ] يواجهها في تلك الفترة العصيبة‬
‫في حياة الدعوة بمكة ‪ ,‬كما أسلفنا في التعريف بالسورة ‪ .‬مع تحديالمشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به ‪ ,‬أن‬
‫يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ‪ -‬كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى ‪ -‬وتثبيت الرسول [ ص ] المؤمنة معه‬
‫بهذا التحدي من ال وبذلك العجز من المشركين !‬

‫ومع هذا التحدي تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون ‪ .‬وهم‬
‫الذين ل يطيقون أن تنزع منهم رحمة ال في الدنيا ‪ ,‬ول يصبرون على ابتلئه فيها وهو أيسر من عذاب‬
‫الخرة !‬

‫ثم يجسم هذا التهديد في مشهد من مشاهد القيامة ; يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب المشركين‬
‫; ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الليم ‪ ,‬المصحوب بالخزي والتشهير والتنديد‬
‫والتأنيب ‪ .‬وفي الصفحة المقابلة من المشهد ‪ . .‬الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب‬
‫والنعيم والتكريم ‪ . .‬ومشهد مصور للفريقين ‪ -‬على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير ‪(:-‬مثل‬
‫الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ‪ ,‬هل يستويان مثل ? أفل تذكرون ?)‪. .‬‬

‫الدرس الول‪ 4 - 1:‬تقرير مجموعة من الحقائق العتقادية‬

‫آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ‪ .‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪ ,‬وأن‬
‫استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت كل ذي فضل فضله ‪ ,‬وإن تولوا‬
‫فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ‪ .‬إلى ال مرجعكم ‪ .‬وهو على كل شيء قدير ‪. .‬‬

‫إنها جملة الحقائق العتقاديه الساسية‪:‬‬

‫إثبات الوحي والرسالة ‪.‬‬

‫العبودية ل وحده بل شريك ‪.‬‬

‫جزاء ال في الدنيا والخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة ‪.‬‬

‫جزاء ال في الخرة للمكذبين ‪ ,‬وعودة الجميع إلى ال عصاة وطائعين ‪.‬‬

‫قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود ‪.‬‬

‫ألف ‪ .‬لم ‪ .‬راء ‪:‬مبتدأ ‪ ,‬خبره‪( :‬كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)‪ . .‬وهذا الكتاب المؤلف‬
‫من مثل هذه الحرف هو الذي يكذبون به ‪ .‬وهم عن شيء من مثله عاجزون !‬

‫(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)‪. .‬‬


‫أحكمت آياته ‪ ,‬فجاءت قوية البناء ‪ ,‬دقيقة الدللة ‪ ,‬كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة ‪ ,‬وكل معنى فيها وكل‬
‫توجيه مطلوب ‪ ,‬وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم ‪ .‬متناسقة ل اختلف بينها ول تضارب ‪ ,‬ومنسقة‬
‫ذات نظام واحد ‪ .‬ثم فصلت ‪ .‬فهي مقسمة وفق أغراضها ‪ ,‬مبوبة وفق موضوعاتها ‪ ,‬وكل منها له حيز‬
‫بمقدار ما يقتضيه ‪.‬‬

‫أما من أحكمها ‪ ,‬ومن فصلها على هذا النحو الدقيق ? فهو ال سبحانه ‪ ,‬وليس هو الرسول‪( :‬من لدن حكيم‬
‫خبير)‪. .‬‬

‫يحكم الكتاب عن حكمة ‪ ,‬ويفصله عن خبرة ‪ . .‬هكذا جاءت من لدنه ‪ ,‬على النحو الذي أنزل على الرسول ‪,‬‬
‫ل تغيير فيها ول تبديل ‪.‬‬

‫وماذا تضمنت ?‬

‫إنه يذكر أمهات العقيدة وأصولها‪:‬‬

‫(أن ل تعبدوا إل ال)‪ . .‬فهو توحيد الدينونة والعبودية والتباع والطاعة ‪.‬‬

‫(إنني لكم منه نذير وبشير)‪ . .‬فهي الرسالة ‪ ,‬وما تضمنته من نذارة وبشارة ‪.‬‬

‫(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)‪ . .‬فهي العودة إلى ال من الشرك والمعصية ‪ ,‬إلى التوحيد والدينونة ‪.‬‬

‫(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله)‪ . .‬فهو الجزاء للتائبين المستغفرين ‪.‬‬

‫(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)‪ . .‬فهو الوعيد للمتولين ‪.‬‬

‫(إلى ال مرجعكم)‪ . .‬فهي الرجعة إلى ال في الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫(وهو على كل شيء قدير)‪ . .‬فهي المقدرة المطلقة والسلطان الشامل ‪.‬‬

‫هذا هو الكتاب ‪ .‬أو هو آيات الكتاب ‪ .‬فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد‬
‫تقريرها ‪.‬‬

‫وما كان لدين أن يقوم في الرض ‪ ,‬وأن يقيم نظاما للبشر ‪ ,‬قبل أن يقرر هذه القواعد ‪.‬‬

‫فتوحيد الدينونة ل وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ; وبين تحرير البشرية من‬
‫عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ‪ ,‬أو استعبادها للرباب المتفرقة ونزواتهم ‪ ,‬وللوسطاء عند ال من‬
‫خلقه ! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص اللوهية ‪ -‬وهي الربوبية والقوامة‬
‫والسلطان والحاكمية ‪ -‬فيعبدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة ‪.‬‬

‫وما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلقي أو دولي ‪ ,‬يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة‬
‫ثابتة ‪ ,‬ل تخضع للهوى والتأويلت المغرضة ‪ ,‬إل حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة ‪.‬‬

‫وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ; ويستمتعوا بالكرامة الحقيقة التي أكرمهم بها ال ‪ ,‬إل‬
‫حين يتفرد ال سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ‪ ,‬ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور‬
‫‪.‬‬

‫وما كان الخلف على مدار التاريخ بين الجاهلية والسلم ; ول كانت المعركة بين الحق والطاغوت ‪ ,‬على‬
‫ألوهية ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬للكون ; وتصريف أموره في عالم السباب والنواميس الكونية‪:‬إنما كان الخلف‬
‫وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ‪ ,‬الذي يحكمهم بشرعه ‪ ,‬ويصرفهم بأمره ‪ ,‬ويدينهم بطاعته ?‬

‫لقد كان الطواغيت المجرمون في الرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ‪ ,‬ويذلونهم بهذا‬
‫الغتصاب لسلطان ال ‪ ,‬ويجعلونهم عبيدا لهم من دون ال ‪ .‬وكانت الرسالت والرسل والدعوات السلمية‬
‫تجاهد دائما لنتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي ‪ . .‬ال سبحانه ‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬غني عن العالمين ‪ .‬ل ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة ‪ .‬وليزيد في‬
‫ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين ‪ . .‬ولكن البشر ‪ -‬هم أنفسهم ‪ -‬الذين يذلون ويصغرون ويسفلون‬
‫حين يدينون لغير ال من عباده ; وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون ل وحده ‪ ,‬ويتحررونمن‬
‫العبودية للعبيد ‪ . .‬ولما كان ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد لعباده العزة والكرامة والستعلء فقد أرسل رسله ليردوا‬
‫الناس إلى عبادة ال وحده ‪ .‬وليخرجوهم من عبادة العبيد ‪ . .‬لخيرهم هم أنفسهم ‪ . .‬وال غني عن العالمين ‪.‬‬

‫إن الحياة البشرية ل تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده ال للنسان إل بأن يعزم البشر أن يدينوا ل وحده ‪ ,‬وأن‬
‫يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير ال ‪ .‬ذلك النير المذل لكرامة النسان في أية صورة قد كان !‬

‫والدينونة ل وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده ‪ .‬والربوبية تعني القوامة على البشر ‪ ,‬وتصريف حياتهم‬
‫بشرع وأمر من عند ال ‪ ,‬ل من عند أحد سواه ‪.‬‬

‫وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب ال وفحواه‪:‬‬

‫(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‪:‬أل تعبدوا إل ال)‪. .‬‬
‫وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب ال الكريم ‪.‬‬

‫والقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها وكل شك في أن هذا من عند ال‬
‫‪ ,‬كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير ‪ .‬والذين يظنون أنها من عند محمد ‪ -‬مهما أقروا بعظمة‬
‫محمد ‪ -‬ل يمكن أن تنال من نفوسهم الحترام الملزم ‪ ,‬الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو‬
‫الصغير ‪ . .‬إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند ال هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى‬
‫ال ‪ ,‬وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ‪ ,‬فل تتلجلج ول تتردد ول تحيد ‪.‬‬

‫كما إن القرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده ال من البشر ‪ .‬كي يتلقى البشر في كل ما‬
‫يتعلق بالدينونة ل من مصدر واحد ‪ ,‬هو هذا المصدر ‪ .‬وكي ل يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قول ‪,‬‬
‫ويشرع للناس شرعا ‪ ,‬ثم يزعم أنه شرع ال وأمره ! بينما هو يفتريه من عند نفسه !‬

‫وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ‪ ,‬ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات ‪ . .‬ثم يقول‪:‬هذا من عند‬
‫ال !!!‬

‫وما يحسم هذه الفوضى وهذا الحتيال على الناس باسم ال ‪ ,‬إل أن يكون هناك مصدر واحد ‪ -‬هو الرسول ‪-‬‬
‫لقول ال ‪.‬‬

‫والستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ‪ ,‬وشعوره بالثم ورغبته في التوبة ‪.‬‬
‫والتوبة بعد ذلك هي القلع الفعلي عن الذنب ‪ ,‬والخذ في مقابله في أعمال الطاعة ‪ .‬ول توبة بغير هذين‬
‫الدليلين ‪ ,‬فهما الترجمة العملية للتوبة ‪ ,‬وبهما يتحقق وجودها الفعلي ‪ ,‬الذي ترجى معه المغفرة والقبول ‪. .‬‬
‫فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في السلم ‪ ,‬بينما هو ل يدين ل وحده ‪ ,‬ول يتلقى منه وحده عن‬
‫طريق نبيه ; فل قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير ال ‪. .‬‬

‫والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ‪ ,‬وقوام التبليغ ‪ .‬وهما عنصرا الترغيب والترهيب ‪,‬‬
‫اللذان علم ال من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !‬

‫والعتقاد باليوم الخر ضروري لكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ‪ ,‬وأن الخير الذي تدعو إليه‬
‫الرسالت هو غاية الحياة ; ومن ثم ل بد أن يلقى جزاءه ; فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون‬
‫في العالم الخر ‪ ,‬الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها ‪ .‬أما الذين يزيغون عن نهج ال‬
‫وحكمته في الحياة فهؤلء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب ‪ . .‬وفي هذا ضمان للفطرة السليمة أل‬
‫تنحرف ‪ .‬فإنغلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ‪ ,‬ولم تلج في العصيان ‪ .‬ومن ثم تصلح هذه الرض‬
‫لحياة البشر ‪ .‬وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير ‪ .‬فالعتقاد باليوم الخر ليس طريقا للثواب في‬
‫الخرة فحسب ‪ -‬كما يعتقد بعض الناس ‪ -‬إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا ‪ .‬والحافز على‬
‫إصلحها وإنمائها ‪ .‬على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ‪ ,‬إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لئقة‬
‫بالنسان الذي نفخ ال فيه من روحه ‪ ,‬وكرمه على كثير من خلقه ‪ ,‬ورفعه عن درك الحيوان ; لتكون أهداف‬
‫حياته أعلى من ضرورات الحيوان ; ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته ‪.‬‬

‫ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ‪ ,‬بعد توحيد الدينونة ل ‪ ,‬وإثبات‬
‫الرسالة من عنده ‪ . .‬الدعوة إلى الستغفار من الشرك والتوبة ‪ . .‬وهما بدء الطريق للعمل الصالح ‪ .‬والعمل‬
‫الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام ‪ .‬إنما هو الصلح في الرض بكل معاني‬
‫الصلح ‪ ,‬من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج ‪ .‬والجزاء المشروط‪:‬‬

‫(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت كل ذي فضل فضله)‪. .‬‬

‫والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا ‪ .‬أما في الخرة فهو بالنوع والكم وبما لم‬
‫يخطر على قلب بشر ‪ .‬فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة ‪.‬‬

‫إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين ‪ ,‬المستغفرين التائبين ‪ ,‬العاملين في الحياة ‪ . .‬وضيقا عليهم في الرزق‬
‫‪ .‬فأين إذن هو المتاع الحسن ?‬

‫وهو سؤال نعتقد أنه يتحرك على ألسنة الكثيرين !‬

‫ول بد لدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ‪ ,‬وننظر إليها‬
‫في محيطها الشامل العام ‪ ,‬ول نقتصر منها على مظهر عابر ‪.‬‬

‫إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ‪ ,‬قائم على اليمان بال ‪ ,‬والدينونة له وحده ‪ ,‬وإفراده بالربوبية‬
‫والقوامة ‪ ,‬وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة ‪ . .‬إل كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة‬
‫كجماعة ; وإل ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الفراد بصفة خاصة ‪ .‬فإذا‬
‫شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ‪ ,‬فذلك شاهد على‬
‫أن هذه الجماعة ل يسودها النظام المستمد من اليمان بال ‪ ,‬القائم على العدل بين الجهد والجزاء ‪.‬‬

‫على أن الفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ‪ ,‬حتى لو ضيق عليهم في‬
‫الرزق ‪ ,‬وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ‪ ,‬كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ‪ ,‬وكما تؤذي‬
‫الجاهليات القلة الداعية إلى ال ‪ .‬وليس هذا خيال وليس ادعاء ‪ .‬فطمأنينة القلب إلى العاقبة ‪ ,‬والتصال بال ‪,‬‬
‫والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله ‪ . .‬عوض عن كثير ; ومتاع حسن للنسان الذي يرتفع درجة عن‬
‫الحس المادي الغليظ ‪.‬‬
‫ول نقول هذا لندعو المظلومين الذين ل يجدون جزاء عادل على جهدهم إلى الرضى بالوضاع المنافية‬
‫للعدالة ‪ .‬فالسلم ل يرضى بهذا ‪ ,‬واليمان ل يسكت على مثل تلك الوضاع ‪ .‬والجماعة المؤمنة مطالبة‬
‫بإزالتها وكذلك الفراد ‪ ,‬ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين ‪ .‬إنما نقوله لنه حق يحس به‬
‫المؤمنون المتصلون بال ‪ ,‬المضيق عليهم في الرزق ‪ ,‬وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الوضاع التي‬
‫تكفل المتاع الحسن لعباد ال المستغفرين التائبين العاملين بهدى ال ‪.‬‬

‫ل ذِي فَضْلٍ َفضْلَهُ وَإِن تَوَلّوْاْ‬


‫سمّى َويُ ْؤتِ كُ ّ‬
‫ل ّم َ‬
‫حسَنا إِلَى َأجَ ٍ‬
‫س َتغْ ِفرُواْ َر ّب ُكمْ ُثمّ تُوبُواْ إَِل ْيهِ ُي َم ّت ْعكُم ّمتَاعا َ‬
‫وََأنِ ا ْ‬
‫شيْ ٍء قَدِيرٌ (‪)4‬‬
‫ج ُع ُكمْ وَ ُهوَ عَلَى كُلّ َ‬
‫عذَابَ َي ْومٍ َكبِيرٍ (‪ )3‬إِلَى اللّهِ َمرْ ِ‬
‫َفإِ ّنيَ َأخَافُ عََل ْي ُكمْ َ‬

‫(ويؤت كل ذي فضل فضله)‪. .‬‬

‫خصصها بعض المفسرين بجزاء الخرة ‪ .‬وأرى أنها عامة في الدنيا والخرة ‪ ,‬على النحو الذي فسرنا به‬
‫المتاع الحسن في الدنيا ; وهو متحقق في جميع الحوال ‪ .‬وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها‬
‫الفضل ‪ .‬يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ‪ ,‬واتصال بال وهو يبذل الفضل عمل أو مال متجها به إلى ال‬
‫‪ .‬أما جزاء ال له بعد ذلك فهو فضل من ال وسماحة فوق الجزاء ‪.‬‬

‫(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)‪. .‬‬

‫هو عذاب يوم القيامة ‪ .‬ل عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين ‪ .‬فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف‬
‫إلى اليوم الموعود ‪ .‬ويقوي هذا ما بعده‪:‬‬

‫(إلى ال مرجعكم)‪.‬‬

‫وإن كان المرجع إلى ال في الدنيا والخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة ‪ .‬ولكن جرى التعبير القرآني على‬
‫أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا ‪. .‬‬

‫(وهو على كل شيء قدير)‪. .‬‬

‫وهذه كذلك تقوي هذا المعنى ‪ ,‬لن التلويح بالقدرة على كل شيء ‪ ,‬مناسب للبعث الذي كانوا يستبعدونه‬
‫ويستصعبونه !‬

‫الدرس الثاني‪ 6 - 5:‬استخفاء الكفار من الرسول وشمول علم ال بهم‬


‫وبعد إعلن خلصة الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ‪ . .‬يمضي السياق يعرض كيف‬
‫يتلقى فريق منهم تلك اليات ‪ ,‬عندما يقدمها لهم النذير البشير ‪ ,‬ويصور الوضع الحسي الذي يتخذونه والحركة‬
‫المادية المصاحبة له وهي إحناء رؤوسهم وثني صدورهم للتخفي ‪ .‬ويكشف عن العبث في تلك المحاولة وعلم‬
‫ال يتابعهم في أخفى أوضاعهم ; وكل دابة في الرض مثلهم يشملها العلم اللطيف الدقيق‪:‬‬

‫(أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ‪ .‬أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ‪ ,‬إنه عليم بذات‬
‫الصدور ‪ .‬وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ‪ ,‬ويعلم مستقرها ومستودعها ‪ .‬كل في كتاب مبين)‪. .‬‬

‫واليتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره !‬

‫ويا لها من رهبة غامرة ‪ ,‬وروعة باهرة ‪ ,‬حين يتصور القلب البشري حضور ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وإحاطة علمه‬
‫وقهره ; بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله‪:‬‬

‫(أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ‪ .‬أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ‪ .‬إنه عليم بذات‬
‫الصدور)‪. .‬‬

‫ولعل نص الية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول ال [ ص ] يسمعهم كلم ال ;‬
‫فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من ال الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلم ‪. .‬‬
‫وذلك كما ظهر منهم في بعض الحيان !‬

‫ول يكمل السياق الية حتى يبين عبث هذه الحركة ‪ ,‬وال ‪ ,‬الذي أنزل هذه اليات ‪ ,‬معهم حين يستخفون‬
‫وحين يبرزون ‪ .‬ويصور هذا المعنى ‪ -‬على الطريقة القرآنية ‪ -‬في صورة مرهوبة ‪ ,‬وهم في وضع خفي‬
‫دقيق من أوضاعهم ‪ .‬حين يأوون إلى فراشهم ‪ ,‬ويخلون إلى أنفسهم ‪ ,‬والليل لهم ساتر ‪ ,‬وأغطيتهم لهم ساتر ‪.‬‬
‫ومعذلك فال معهم من وراء هذه الستار حاضر ناظر قاهر ‪ .‬يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون‪:‬‬

‫(أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون)‪. .‬‬

‫وال يعلم ما هو أخفى ‪ .‬وليست أغطيتهم بساتر دون علمه ‪ .‬ولكن النسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه‬
‫وحيد ل يراه أحد ‪ .‬فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ‪ ,‬ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو‬
‫عنها ‪ ,‬فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه !‬

‫(إنه عليم بذات الصدور)‪. .‬‬


‫عليم بالسرار المصاحبة للصدور ‪ ,‬التي ل تفارقها ‪ ,‬والتي تلزمها كما يلزم الصاحب صاحبه ‪ ,‬أو المالك‬
‫ملكه ‪ . .‬فهي لشدة خفائها سميت ذات الصدور ‪ .‬ومع ذلك فال بها عليم ‪ . .‬وإذن فما من شيء يخفى عليه ‪,‬‬
‫وما من حركة لهم أو سكنة تذهب أو تضيع ‪.‬‬

‫(وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ; كل في كتاب مبين)‪. .‬‬

‫وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب ‪ . .‬هذه الدواب ‪ -‬وكل ما تحرك على الرض فهو دابة‬
‫من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة ‪ .‬ما من دابة من هذه الدواب التي تمل وجه البسيطة ‪ ,‬وتكمن في باطنها ‪,‬‬
‫وتخفى في دروبها ومساربها ‪ .‬ما من دابة من هذه الدواب التي ل يحيط بها حصر ول يكاد يلم بها إحصاء ‪.‬‬
‫‪ .‬إل وعند ال علمها ‪ .‬وعليه رزقها ‪ ,‬وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن ‪ .‬من أين تجيء وأين تذهب ‪ . .‬وكل‬
‫منها ‪ .‬كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق ‪.‬‬

‫إنها صورة مفصلة للعلم اللهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ‪ ,‬يرتجف لها كيان النسان حين يحاول تصورها‬
‫بخياله النساني فل يطيق ‪.‬‬

‫ويزيد على مجرد العلم ‪ ,‬تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال ‪ .‬وهذه‬
‫درجة أخرى ‪ ,‬الخيال البشري عنها أعجز إل بإلهام من ال ‪. .‬‬

‫وقد أوجب ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬على نفسه مختارا أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الرض ‪.‬‬
‫فأودع هذه الرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعا ‪ ,‬وأودع هذه المخلوقات القدرة على‬
‫الحصول على رزقها من هذا المودع في الرض في صورة من صوره ‪ .‬ساذجا خامة ‪ ,‬أو منتجا بالزرع ‪,‬‬
‫أو مصنوعا ‪ ,‬أو مركبا ‪ . .‬إلى آخر الصور المتجددة لنتاج الرزق وإعداده ‪ .‬حتى إن بعضها ليتناول رزقه‬
‫دما حيا مهضوما ممثل كالبعوضة والبرغوث !!‬

‫وهذه هي الصورة اللئقة بحكمة ال ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها ; وخلق هذه‬
‫المخلوقات بالستعدادات والمقدرات التي أوتيتها ‪ .‬وبخاصة النسان ‪ .‬الذي استخلف في الرض ‪ ,‬وأوتي‬
‫القدرة على التحليل والتركيب ‪ ,‬وعلى النتاج والنماء ‪ ,‬وعلى تعديل وجه الرض ‪ ,‬وعلى تطوير أوضاع‬
‫الحياة ; بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ‪ ,‬الذي ل يخلقه هو خلقا ‪ ,‬وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون‬
‫من قوى وطاقات أودعها ال ; بمساعدة النواميس الكونية اللهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته‬
‫لكافة الحياء !‬

‫وليس المقصود أن هناك رزقا فرديا مقدرا ل يأتي بالسعي ‪ ,‬ول يتأخر بالقعود ‪ ,‬ول يضيع بالسلبية والكسل ‪,‬‬
‫كما يعتقد بعض الناس ! وإل فأين السباب التي أمر ال بالخذ بها ‪ ,‬وجعلها جزءا من نواميسه ? وأين حكمة‬
‫ن ِإنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ‬
‫سرّونَ َومَا ُيعِْلنُو َ‬
‫ستَ ْغشُونَ ِثيَابَ ُهمْ َيعَْلمُ مَا ُي ِ‬
‫ستَخْفُواْ ِمنْ ُه أَل حِينَ َي ْ‬
‫صدُورَ ُهمْ ِل َي ْ‬
‫أَل ِإ ّن ُهمْ َي ْثنُونَ ُ‬
‫عهَا كُلّ فِي ِكتَابٍ ّمبِينٍ (‪)6‬‬
‫لرْضِ ِإلّ عَلَى الّلهِ ِرزْ ُقهَا َو َيعْلَ ُم ُمسْتَ َقرّهَا َو ُمسْتَ ْو َد َ‬
‫الصّدُورِ (‪َ )5‬ومَا مِن دَآبّ ٍة فِي ا َ‬
‫ال في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات ? وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم‬
‫ال ‪ ,‬وقد استخلف عليها النسان ليؤدي دوره في هذا المجال ?‬

‫إن لكل مخلوق رزقا ‪ .‬هذا حق ‪ .‬وهذا الرزق مذخور في هذا الكون ‪ .‬مقدر من ال في سننه التي ترتب‬
‫النتاج على الجهد ‪ .‬فل يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء ل تمطر ذهبا ول فضة ‪ .‬ولكن السماء‬
‫والرض تزخران بالرزاق الكافية لجميع المخلوقات ‪ .‬حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة ال التي ل‬
‫تحابي أحدا ‪ ,‬ول تتخلف أو تحيد ‪.‬‬

‫إنما هو كسب طيب وكسب خبيث ‪ ,‬وكلهما يحصل من عمل وجهد ‪ .‬إل أنه يختلف في النوع والوصف ‪.‬‬
‫وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك ‪.‬‬

‫ول ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا ; وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الول ‪ .‬والسياق‬
‫القرآني المحكم المتناسق ل تفوته هذه اللفتات السلوبية والموضوعية ‪ ,‬التي تشارك في رسم الجو في السياق‬
‫‪.‬‬

‫وهاتان اليتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده ‪ .‬أي أن يعبدوه‬
‫وحده ‪ .‬فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ‪ ,‬وهو الرازق الذي ل يترك أحدا من رزقه ‪ .‬وهذه المعرفة‬
‫ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ; ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 7:‬الخلق وحكمته والبعث وإنكار الكفار له‬

‫ثم يمضي السياق في تعريف البشر بربهم ‪ ,‬وإطلعهم على آثار قدرته وحكمته ‪ .‬في خلق السماوات والرض‬
‫بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة ; لحكمة كذلك خاصة ‪ .‬يبرز منها السياق هنا ما يناسب البعث‬
‫والحساب والعمل والجزاء‪:‬‬

‫(وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ‪ ,‬وكان عرشه على الماء ‪ ,‬ليبلوكم أيكم أحسن عمل ‪ .‬ولئن‬
‫قلت‪:‬إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا‪:‬إن هذا إل سحر مبين)‪. .‬‬

‫وخلق السماوات والرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس ‪ . .‬وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي‬
‫يقوم عليه الكون والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس ‪.‬‬

‫(ليبلوكم أيكم أحسن عمل)‪.‬‬


‫والجديد هنا في خلق السماوات والرض هو الجملة المعترضة‪( :‬وكان عرشه على الماء)وما تفيده من أنه عند‬
‫خلق السماوات والرض أي إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي انتهيا إليه كان هناك الماء ; وكان عرش‬
‫ال سبحانه على الماء ‪. .‬‬

‫أما كيف كان هذا الماء ‪ ,‬وأين كان ‪ ,‬وفي أية حالة من حالته كان ‪ .‬وأما كيف كان عرش ال على هذا الماء‬
‫‪ . .‬فزيادات لم يتعرض لها النص ‪ ,‬وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على مدلول النص ‪ ,‬في هذا‬
‫الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إل هذا النص وفي حدوده ‪.‬‬

‫وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقا من النظريات التي تسمى "العلمية " ‪ -‬حتى ولو كان ظاهر‬
‫النص يتفق مع النظرية وينطبق ‪ -‬فالنظريات "العلمية " قابلة دائما للنقلب رأسا على عقب ‪ ,‬كلما اهتدى‬

‫عمَلً وََلئِن قُلْتَ‬


‫حسَنُ َ‬
‫ع ْرشُهُ عَلَى ا ْلمَاء ِل َيبُْل َو ُكمْ َأ ّيكُ ْم َأ ْ‬
‫ستّ ِة َأيّامٍ َوكَانَ َ‬
‫ض فِي ِ‬
‫لرْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫وَ ُهوَ اّلذِي خَلَق ال ّ‬
‫ع ْن ُهمُ ا ْل َعذَابَ إِلَى‬
‫خ ْرنَا َ‬
‫ن َأ ّ‬
‫حرٌ ّمبِينٌ (‪ )7‬وََلئِ ْ‬
‫سْ‬‫ن اّلذِينَ كَ َفرُواْ إِنْ هَـذَا ِإلّ ِ‬
‫ت َليَقُولَ ّ‬
‫ن مِن َب ْعدِ ا ْلمَوْ ِ‬
‫ِإ ّنكُم ّم ْبعُوثُو َ‬
‫س َت ْهزِئُونَ (‪)8‬‬
‫ع ْن ُهمْ َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ َي ْ‬
‫ل يَ ْومَ َي ْأتِي ِهمْ َليْسَ َمصْرُوفا َ‬
‫ح ِبسُهُ َأ َ‬
‫ن مَا َي ْ‬
‫ُأمّ ٍة ّم ْعدُودَةٍ ّليَقُولُ ّ‬
‫العلماء إلى فرض جديد ‪ ,‬وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت‬
‫عليه النظرية الولى ‪ .‬والنص القرآني صادق بذاته ‪ ,‬اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد ‪ .‬وفرق‬
‫بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية ‪ .‬فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة ‪ -‬وإن كانت دائما احتمالية وليست قطعية‬
‫‪ -‬أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر ‪ ,‬وهي قابلة للتغيير والتبديل‬
‫والنقلب ‪ . .‬ومن ثم ل يحمل القرآن عليها ول تحمل هي على القرآن ‪ ,‬فلها طريق غير طريق القرآن ‪.‬‬
‫ومجال غير مجال القرآن ‪.‬‬

‫وتلمس موافقات من النظريات "العلمية " للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية اليمان بهذا القرآن واليقين‬
‫بصحة ما فيه ‪ ,‬وأنه من لدن حكيم خبير ‪ .‬هزيمة ناشئة من الفتنة "بالعلم" وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي‬
‫الذي ل يصدق ول يوثق به إل في دائرته ‪ .‬فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن‬
‫على "العلم" يخدم القرآن ويخدم العقيدة ‪ ,‬ويثبت اليمان ! إن اليمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة‬
‫ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه ! إن القرآن هو الصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء‬
‫‪ .‬أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن ‪ .‬وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل‬
‫حريته ‪ ,‬ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه ‪ ,‬ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والستقامة‬
‫والسلمة ‪ ,‬وتحريره من الوهم والسطورة والخرافة ‪ .‬كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن‬
‫يستقيم ‪ ,‬وأن يتحرر ‪ ,‬وأن يعيش في سلم ونشاط ‪ . .‬ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة ‪ .‬ويصل إلى‬
‫الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه ‪ .‬ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إل نادرا ‪ .‬مثل أن الماء أصل‬
‫الحياة والعنصر المشترك في جميع الحياء ‪ .‬ومثل أن جميع الحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه‬
‫فهو يحتوي على خليا التذكير والتأنيث ‪ . . .‬وأمثال هذه الحقائق ‪ .‬التي صرحت بها النصوص القرآنية ‪.‬‬

‫ونعود من هذا الستطراد إلى النص القرآني نتمله في مجاله الصيل ‪ .‬مجال بناء العقيدة وتصريف الحياة‪:‬‬

‫(وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ‪ -‬وكان عرشه على الماء ‪ -‬ليبلوكم أيكم أحسن عمل)‪. .‬‬

‫خلق السماوات والرض في ستة أيام ‪ . .‬وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها ‪. .‬‬
‫خلقها في هذا المد ‪ ,‬لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري ‪ ,‬وخلقكم وسخر لكم الرض وما‬
‫يفيدكم من السماوات ‪ . .‬وهو سبحانه مسيطر على الكون كله ‪( . .‬ليبلوكم أيكم أحسن عمل)‪ . .‬والسياق‬
‫يظهر كأن خلق السماوات والرض في ستة أيام ‪ -‬مع سيطرة ال سبحانه على مقاليده ‪ -‬كان من أجل ابتلء‬
‫النسان ‪ .‬ليعظم هذا البتلء ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلئهم ‪.‬‬

‫وكما جهز الخالق هذه الرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس ‪ ,‬جهز هذا الجنس كذلك‬
‫باستعدادات وطاقات ; وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون ; وترك له جانبا اختياريا في حياته ‪,‬‬
‫يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه ال عليه ويهديه ‪ ,‬أو أن يتجه إلى الضلل فيمد ال له فيه ‪ ,‬وترك الناس‬
‫يعملون ‪ ,‬ليبلوهم أيهم أحسن عمل ‪ .‬يبلوهم ل للعلم فهو يعلم ‪ .‬ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم ‪,‬‬
‫فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة ال وعدله ‪.‬ومن ثم يبدو التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيبا‬
‫غريبا في هذا الجو ‪ .‬بعدما يذكر أن البتلء مرتبط بتكوين السماوات والرض ‪ .‬أصيل في نظام الكون وسنن‬
‫الوجود ‪.‬‬

‫ويبدو المكذبون به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود ‪ ,‬وهم يعجبون لهذه‬
‫الحقائق وبها يفاجأون‪:‬‬

‫(ولئن قلت‪:‬إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا‪:‬إن هذا إل سحر مبين)‪. .‬‬

‫فما أعجبها قولة ‪ ,‬وما أغربها ‪ ,‬وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها !‬

‫الدرس الرابع‪ 8:‬استعجال الكفار العذاب‬

‫شأنهم في التكذيب بالبعث ‪ ,‬وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ‪ ,‬هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ‪ ,‬فهم‬
‫يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ‪ ,‬إذا ما اقتضت الحكمة الزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت‪(:‬ولئن‬
‫أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن‪:‬ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ‪ ,‬وحاق بهم ما‬
‫كانوا به يستهزؤون)‪.‬‬
‫لقد كانت القرون الولى تهلك بعذاب من عند ال يستأصلها ‪ ,‬بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها‬
‫ثم يمضون هم في التكذيب ‪ .‬ذلك أنها كانت رسالت مؤقتة لمة من الناس ‪ ,‬ولجيل واحد من هذه المة ‪.‬‬
‫والمعجزة كذلك ل يشهدها إل هذا الجيل ‪ ,‬ول تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل‬
‫الذي شهدها أول مرة ‪.‬‬

‫فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالت ‪ ,‬ولجميع القوام وجميع الجيال ‪ ,‬وكانت المعجزة التي‬
‫صاحبتها معجزة غير مادية ‪ ,‬فهي قابلة للبقاء ‪ ,‬قابلة لن تتدبرها أجيال وأجيال ‪ ,‬وتؤمن بها أجيال وأجيال ‪,‬‬
‫ومن ثم اقتضت الحكمة أل تؤخذ هذه المة بعذاب الستئصال ‪ .‬وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت‬
‫معلوم ‪ . .‬وكذلك كان الحال في المم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ‪ ,‬فلم يعم فيهم عذاب الستئصال ‪.‬‬

‫ولكن المشركين في جهلهم بنواميس ال الخاصة بخلق النسان على هذا النحو من القدرة على الختيار‬
‫والتجاه ; وخلق السماوات والرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلء ينكرون البعث ‪ .‬وفي جهلهم‬
‫بسنن ال في الرسالت والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو اليام ‪ -‬أي‬
‫مجموعة منها ‪ -‬ما يحبسه ? وما يؤخره ? فل يدركون حكمة ال ول رحمته ‪ .‬وهو يوم يأتيهم ل يصرف‬
‫عنهم ‪ ,‬بل يحيط بهم ‪ ,‬جزاء لستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم‪:‬‬

‫أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ‪.‬‬

‫إن عذاب ال ل تستعجله نفس مؤمنة ول نفس جادة ‪ .‬وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة ‪ .‬ليؤمن من يتهيأ‬
‫لليمان ‪.‬‬

‫وفي فترة التأجيل التي صرف ال العذاب فيها عن مشركي قريش ‪ ,‬كم آمن منهم من رجال حسن إسلمهم‬
‫وأبلوا أحسن البلء ‪ .‬وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في السلم ‪ . .‬وهذه وتلك بعض الحكم‬
‫الظاهرة وال يعلم ما بطن ‪ .‬ولكن البشر القاصرين العجولين ل يعلمون ‪. .‬‬

‫الدرس الخامس‪ 11 - 9:‬نماذج لتقلب النسان أمام المفاجآت التي ل يضبطها إل اليمان‬

‫وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق النساني العجيب ‪ ,‬الذي ل يثبت ول‬
‫يستقيم إل باليمان‪:‬‬

‫ولئن أذقنا النسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ‪ ,‬ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته‬
‫ليقولن‪:‬ذهب السيئات عني ‪ ,‬إنه لفرح فخور ‪ .‬إل الذين صبروا وعملوا الصالحات ‪ ,‬أولئك لهم مغفرة وأجر‬
‫كبير ‪. .‬‬
‫إنها صورة صادقة لهذا النسان العجول القاصر ‪ ,‬الذي يعيش في لحظته الحاضرة ‪ ,‬ويطغى عليه ما يلبسه ;‬
‫فل يتذكر ما مضى ول يفكر فيما يلي ‪ .‬فهو يؤوس من الخير ‪ ,‬كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه ‪ .‬مع أنها‬
‫كانت هبة من ال له ‪ .‬وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء ‪ .‬ل يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل‬
‫في رحمة ال ويرجو فرجه ; ول يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابا ‪. .‬‬

‫(إل الذين صبروا)‪. .‬‬

‫صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة ‪ ,‬فإن كثيرا من الناس يصبرون على الشدة تجلدا وإباء أن يظهر‬
‫عليهم الضعف والخور ‪ ,‬ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فل تغتر ول تبطر ‪. .‬‬

‫(وعملوا الصالحات)‪. .‬‬

‫في الحالين ‪ .‬في الشدة بالحتمال والصبر ‪ ,‬وفي النعمة بالشكر والبر ‪.‬‬

‫(أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)‪. .‬‬

‫بما صبروا على الضراء وبما شكروا في السراء ‪.‬‬

‫إن اليمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة ; كما‬
‫يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء ‪ .‬وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء ;‬
‫ويربطه بال في حاليه ‪ ,‬فل يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء ‪ .‬ول يتنفج ويتعالى عندما تغمره النعماء ‪.‬‬
‫‪ .‬وكل حالي المؤمن خير ‪ .‬وليس ذلك إل للمؤمن كما يقول رسول ال [ ص ] ‪.‬‬

‫الدرس السادس‪ 12:‬تثبيت الرسول أمام شبهات الكفار‬

‫أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون ‪ -‬وهم أفراد من هذا النسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح‬
‫الفخور ‪ -‬الذين ل يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول ملكا أو أن يصاحبه ملك‬
‫; ول يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز ! ‪ . .‬أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في‬
‫التكذيب والعناد ‪ . .‬ما تراك صانعا معهم أيها الرسول ?‬

‫(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا‪:‬لول أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ‪ .‬إنما‬
‫أنت نذير وال على كل شيء وكيل)‪. .‬‬

‫ولعل هنا تحمل معنى الستفهام ‪ .‬وهو ليس استفهاما خالصا ‪ ,‬إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن‬
‫تضيق صدرا بهذا الجهل ‪ ,‬وبهذا التعنت ‪ ,‬وبهذه القتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك‬
‫طبيعة الرسالة ووظيفتها ‪ .‬فهل سيضيق صدرك ‪ -‬يا محمد ‪ -‬وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض‬
‫ما أنزل إليك فل تبلغه لهم ‪ ,‬كي ل يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل ?‬

‫كل ‪ .‬لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا‪:‬‬

‫(إنما أنت نذير)‪. .‬‬

‫ستْهُ َليَقُولَنّ‬
‫ضرّاء َم ّ‬
‫ن َأ َذ ْقنَا ُه َن ْعمَاء َب ْعدَ َ‬
‫عنَاهَا ِمنْ ُه ِإنّهُ َل َيؤُوسٌ كَفُورٌ (‪ )9‬وََلئِ ْ‬
‫حمَ ًة ُثمّ َنزَ ْ‬
‫ل ْنسَانَ ِمنّا َر ْ‬
‫وََلئِنْ َأذَ ْقنَا ا ِ‬
‫جرٌ َكبِيرٌ (‬
‫عمِلُو ْا الصّاِلحَاتِ ُأوْلَـ ِئكَ َلهُم ّمغْ ِفرَةٌ وََأ ْ‬
‫صبَرُواْ َو َ‬
‫عنّي ِإنّ ُه لَ َفرِحٌ َفخُورٌ (‪ِ )10‬إلّ اّلذِينَ َ‬
‫س ّيئَاتُ َ‬
‫ذَهَبَ ال ّ‬
‫‪)11‬‬

‫فواجبك كله أن تنذرهم ‪ -‬وأبرز صفة النذير هنا لن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلء ‪ -‬فأد واجبك‪( :‬وال‬
‫على كل شيء وكيل)‪. .‬‬

‫فهو الموكل بهم ‪ ,‬يصرفهم كيف يشاء وفق سنته ‪ ,‬ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون ‪ .‬ولست أنت موكل‬
‫بكفرهم أو إيمانهم ‪ .‬إنما أنت نذير ‪.‬‬

‫وهذه الية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة ; وما كان يعتور صدر رسول ال [ ص ] من‬
‫الضيق ‪ .‬كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة ‪ ,‬في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير ;‬
‫وغمرت الوحشة قلب رسول ال [ ص ] وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلئل في هذه الجاهلية المحيطة‬
‫‪..‬‬

‫ومن بين كلمات الية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة ‪ ,‬وتسكب فيه الطمأنينة ‪,‬‬
‫وتريح العصاب والقلوب !‬

‫الدرس السابع‪ 16 - 13:‬تحدي الكفار لثبات مصدر القرآن وإسلمهم وإل فهي النار‬

‫وقولة أخرى يقولونها ‪ .‬وقد قالوها مرارا‪:‬إن هذا القرآن مفترى ‪ .‬فتحدهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره ‪,‬‬
‫وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الفتراء‪:‬‬

‫(أم يقولون افتراه ? قل‪:‬فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ‪ .‬وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين)‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس ‪ ,‬فما التحدي بعد ذلك بعشر سور ?‬
‫قال المفسرون القدامى‪:‬إن التحدي كان على الترتيب‪:‬بالقرآن كله ‪ ,‬ثم بعشر سور ‪ ,‬ثم بسورة واحدة ‪ .‬ولكن‬
‫هذا الترتيب ليس عليه دليل ‪ .‬بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة ‪ ,‬وسورة هود‬
‫لحقة والتحدي فيها بعشر سور ‪ .‬وحقيقة إن ترتيب اليات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب‬
‫السور ‪ .‬فقد كانت تنزل الية فتلحق بسورة سابقة أو لحقة في النزول ‪ .‬إل أن هذا يحتاج إلى ما يثبته ‪.‬‬
‫وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود ‪ .‬والترتيب التحكمي في مثل هذا ل يجوز ‪.‬‬

‫ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد (عشر سور)علة ‪ ,‬فأجهد نفسه طويل ‪-‬‬
‫رحمة ال عليه ‪ -‬ليقول‪:‬إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ‪ ,‬وأنه بالستقراء يظهر أن السور التي‬
‫كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا ‪ .‬فتحداهم بعشر ‪ . .‬لن تحديهم‬
‫بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه ‪ ,‬واحتياج المتحدي إلى‬
‫عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى ‪ . .‬الخ‬

‫ونحسب ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد ‪ .‬وأن التحدي كان يلحظ حالة القائلين وظروف‬
‫القول ‪ ,‬لن القرآن كان يواجه حالت واقعة محددة مواجهة واقعة محددة ‪ .‬فيقول مرة‪:‬ائتوا بمثل هذا القرآن ‪.‬‬
‫أو ائتوا بسورة ‪ ,‬أو بعشر سور ‪ .‬دون ترتيب زمني ‪ .‬لن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لي شيء‬
‫من هذا القرآن ‪ .‬كله أو بعضه أو سورة منه على السواء ‪ .‬فالتحدي كان بنوع هذا القرآن ل بمقداره ‪.‬‬
‫والعجز كان عن النوع ل عن المقدار ‪ .‬وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة ‪ .‬ول يلزم ترتيب ‪ ,‬إنما هو‬

‫ل أُنزِلَ عََليْ ِه كَنزٌ أَ ْو جَاء َم َعهُ مََلكٌ ِإ ّنمَا أَنتَ‬


‫صدْ ُركَ أَن يَقُولُواْ لَ ْو َ‬
‫فََلعَلّكَ تَا ِركٌ َبعْضَ مَا يُوحَى إَِل ْيكَ َوضَآ ِئقٌ بِ ِه َ‬
‫ط ْعتُم‬
‫ستَ َ‬
‫ناْ‬
‫شيْءٍ َوكِيلٌ (‪َ )12‬أمْ يَقُولُونَ ا ْف َترَاهُ قُلْ َفأْتُواْ ِب َعشْرِ سُ َو ٍر ّمثْلِهِ مُ ْف َت َريَاتٍ وَادْعُو ْا مَ ِ‬
‫ل َ‬
‫َنذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُ ّ‬
‫مّن دُونِ الّل ِه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (‪)13‬‬
‫مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ‪ ,‬ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة ‪ .‬فهو الذي‬
‫يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن ‪ .‬ونحن اليوم ل نملك تحديد الملبسات التي لم‬
‫يذكرها لنا القرآن ‪.‬‬

‫(وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين)‪. .‬‬

‫ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم ‪ .‬وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ‪ ,‬إن كنتم‬
‫صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون ال !‬

‫(فإن لم يستجيبوا لكم)‪. .‬‬


‫ولم يقدروا على افتراء عشر سور ‪ ,‬لنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عونا في هذه المهمة المتعذرة !‬
‫وعجزتم أنتم بطبيعة الحال ‪ ,‬لنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إل بعد عجزكم !‬

‫(فاعلموا أنما أنزل بعلم ال)‪. .‬‬

‫فهو وحده القادر على أن ينزله ‪ ,‬وعلم ال وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به ‪ ,‬متضمنا‬
‫ما تضمنه من دلئل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر ‪ ,‬وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ‪ ,‬وما يصلح‬
‫لهم في نفوسهم وفي معاشهم ‪. . .‬‬

‫وأن ل إله إل هو ‪. .‬‬

‫فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها ال ‪ .‬فل بد أن يكون هناك‬
‫إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن ‪.‬‬

‫ويعقب على هذا التقرير الذي ل مفر من القرار به بسؤال ل يحتمل إل جوابا واحدا عند غير المكابرين‬
‫المتعنتين ‪ .‬سؤال‪:‬‬

‫(فهل أنتم مسلمون ?)‪. .‬‬

‫بعد هذا التحدي والعجز ودللته التي ل سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم ? ‪.‬‬

‫ولكنهم ظلوا بعدها يكابرون !!!‬

‫لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان ‪,‬‬
‫وتعبيد للناس كي ل يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة ‪ . .‬داعي ل إله إل ال ‪ . .‬لهذا يعقب‬
‫السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول‪:‬‬

‫(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون ‪ .‬أولئك الذين ليس لهم في‬
‫الخرة إل النار ‪ ,‬وحبط ما صنعوا فيها ‪ ,‬وباطل ما كانوا يعملون)‪. .‬‬

‫إن للجهد في هذه الرض ثمرته ‪ .‬سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته‬
‫المحدودة ‪ .‬فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها ‪ ,‬فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ; ويتمتع‬
‫بها كما يريد ‪ -‬في أجل محدود ‪ -‬ولكن ليس له في الخرة إل النار ‪ ,‬لنه لم يقدم للخرة شيئا ‪ ,‬ولم يحسب‬
‫لها حسابا ‪ ,‬فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا ‪ .‬ولكنه باطل في الخرة ل يقام له فيها وزن وحابط [ من حبطت‬
‫الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض ] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى‬
‫الهلك !‬

‫ونحن نشهد في هذه الرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا ‪ ,‬وتنال جزاءها فيها ‪ .‬ولدنياها‬

‫س َتجِيبُو ْا َل ُكمْ فَاعَْلمُو ْا َأ ّنمَا أُنزِلِ ِبعِ ْلمِ اللّهِ وَأَن لّ إِلَـ َه ِإلّ ُهوَ َفهَلْ أَنتُم ّمسِْلمُونَ (‪)14‬‬
‫َفإِن ّلمْ َي ْ‬
‫زينة ‪ ,‬ولدنياها انتفاخ ! فل يجوز أن نعجب ول أن نسأل‪:‬لماذا ? لن هذه هي سنة ال في هذه الرض‪(:‬من‬
‫كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون)‪.‬‬

‫ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها ل يجوز أن ينسينا أن هؤلء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه ‪ -‬ونفوسهم‬
‫تتطلع للخرة وتراقب ال في الكسب والمتاع ‪ -‬فينالوا زينة الحياة الدنيا ل يبخسون منها شيئا ‪ ,‬وينالوا كذلك‬
‫متاع الحياة الخرى ‪.‬‬

‫إن العمل للحياة الخرى ل يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا ‪ .‬بل إنه هو هو مع التجاه إلى ال فيه ‪ .‬ومراقبة‬
‫ال في العمل ل تقلل من مقداره ول تنقص من آثاره ; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر ‪ ,‬وتجعل الكسب طيبا‬
‫والمتاع به طيبا ‪ ,‬ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الخرة ‪ .‬إل أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات‬
‫الحرام ‪ .‬وهذه مردية ل في الخرى فحسب ‪ ,‬بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين ‪ .‬وهي ظاهرة في حياة المم‬
‫وفي حياة الفراد ‪ .‬وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون ‪.‬‬

‫الدرس الثامن‪ 17:‬تثبيت النبي على الحق وشاهد على الحق‬

‫بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول ال [ ص ] وما جاءه من الحق ; وإلى هذا القرآن الذي‬
‫يشهد له بأنه على بينة من ربه ‪ ,‬وأنه مرسل من عنده ; كما يشهد له كتاب موسى من قبله ‪ .‬يلتفت السياق إلى‬
‫هذا الحشد من الدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته ‪ .‬ذلك ليثبت بهذه اللتفاتة قلب رسول ال‬
‫[ ص ] والقلة المؤمنة معه ‪ .‬ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ; وليعرضهم في مشهد‬
‫من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والستكبار ; وليقرر أن هؤلء المتبجحين‬
‫بالباطل ‪ ,‬المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب ال ; وأعجز من أن يجدوا لهم من دون ال أولياء‬
‫‪(. .‬ل جرم أنهم في الخرة هم الخسرون)‪ . .‬وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ;‬
‫تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ‪ ,‬وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الخرة سواء‪:‬‬
‫(أفمن كان على بينة من ربه ‪ ,‬ويتلوه شاهد منه ‪ ,‬ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ‪,‬‬
‫ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ‪ ,‬فل تك في مرية منه ‪ ,‬إنه الحق من ربك ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل‬
‫يؤمنون)‪.‬‬

‫(ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ; أولئك يعرضون على ربهم ; ويقول الشهاد‪:‬هؤلء الذين كذبوا على‬
‫ربهم ‪ ,‬أل لعنة ال على الظالمين ‪ .‬الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ‪ ,‬وهم بالخرة هم كافرون ‪.‬‬
‫أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ‪ ,‬وما كان لهم من دون ال من أولياء ‪ ,‬يضاعف لهم العذاب ‪ .‬ما كانوا‬
‫يستطيعون السمع ‪ ,‬وما كانوا يبصرون ‪ .‬أولئك الذين خسروا أنفسهم ‪ ,‬وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ .‬ل جرم‬
‫أنهم في الخرة هم الخسرون)‪.‬‬

‫(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)‬

‫(مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ‪ ,‬هل يستويان مثل ? أفل تذكرون ?)‪. .‬‬

‫إن طول هذه الجملة ‪ ,‬وتنوع الشارات واليحاءات فيها ‪ ,‬وتنوع اللفتات واليقاعات أيضا ‪ . .‬إن هذا كله‬
‫يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ‪ ,‬في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ; ويصور لنا حاجة الموقف‬
‫إلى هذه المعركة التقريرية اليحائية ; كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ; وهو يواجه ذلك الواقع‬
‫ويجاهده جهادا كبيرا ‪.‬‬

‫ل ُي ْبخَسُونَ (‪ )15‬أُوْلَـ ِئكَ اّلذِينَ َليْسَ َل ُهمْ‬


‫عمَاَلهُمْ فِيهَا وَ ُه ْم فِيهَا َ‬
‫حيَا َة ال ّد ْنيَا َوزِي َن َتهَا نُ َوفّ إَِل ْي ِهمْ َأ ْ‬
‫ن ُيرِيدُ ا ْل َ‬
‫مَن كَا َ‬
‫حبِطَ مَا صَ َنعُو ْا فِيهَا َوبَاطِلٌ مّا كَانُو ْا َي ْعمَلُونَ (‪)16‬‬
‫خرَ ِة ِإلّ النّارُ َو َ‬
‫فِي ال ِ‬

‫إن هذا القرآن ل يتذوقه إل من يخوض مثل هذه المعركة ; ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها‬
‫ويوجهها ‪ .‬والذين يتلمسون معاني القرآن ودللته وهم قاعدون ‪ .‬يدرسونه دراسة بيانية أو فنية ل يملكون أن‬
‫يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ; بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة ‪ . .‬إن حقيقة هذا‬
‫القرآن ل تتكشف للقاعدين أبدا ‪ ,‬وإن سره ل يتجلى لمن يؤثرون السلمة والراحة مع العبودية لغير ال ‪,‬‬
‫والدينونة للطاغوت من دون ال !‬

‫(أفمن كان على بينة من ربه ‪ ,‬ويتلوه شاهد منه ‪ ,‬ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ‪,‬‬
‫ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ‪ ,‬فل تك في مرية منه ‪ ,‬إنه الحق من ربك ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل‬
‫يؤمنون)‪. .‬‬
‫وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى‪( :‬أفمن كان على بينة من ربه)‪ . .‬وفي قوله تعالى‪( :‬ويتلوه‬
‫شاهد منه)‪ .‬وفي عائد هذه الضمائر في‪(:‬ربه)وفي(يتلوه)وفي(منه)‪ . .‬وأرجحها ‪ -‬كما يبدو لي ‪ -‬هو أن‬
‫المقصود بقوله تعالى‪( :‬أفمن كان على بينة من ربه)هو رسول ال [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء‬
‫به ‪ -‬وأن المقصود بقوله تعالى‪( :‬ويتلوه شاهد منه)أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته ‪ .‬وهو هذا‬
‫القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من ال ل يقدر عليه بشر ‪( .‬ومن قبله)‪ -‬أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن‬
‫; "كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ; أو بموافقة أصله لما جاء‬
‫به محمد من بعده ‪.‬‬

‫والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة ‪ -‬في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ‪ ,‬من‬
‫بينة يجدونها في أنفسهم ‪ ,‬يستيقنون معها أن ال هو الذي يوحي إليهم ‪ ,‬ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا‬
‫مستيقنا واضحا ل يخالجهم معه شك ول ريبة ‪ .‬فنوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يقول لقومه‪ :‬يا قوم أرأيتم إن كنت‬
‫على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ‪ ,‬أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? ‪ . .‬وصالح عليه‬
‫السلم يقول الكلمة ذاتها‪ :‬ال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من ال‬
‫إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير ‪ . .‬وشعيب عليه السلم يقولها كذلك‪( :‬قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على‬
‫بينة من ربي ‪ ,‬ورزقني منه رزقا)‪ . .‬فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ‪ ,‬تصور حقيقة‬
‫ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة اللوهية في نفوسهم ; ولصدق اتصال ربهم بهم عن‬
‫طريق الوحي أيضا ‪ . .‬وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة ‪ -‬كما‬
‫أسلفنا في التعريف بها ‪ -‬لثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل‬
‫الكرام قبله ; مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على‬
‫الحق الذي معهم ; فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ‪ ,‬والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل‬
‫جميعا ‪.‬‬

‫ويكون المعنى الكلي للية‪:‬أفهذا النبي الذي تتضافر الدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه ‪ . .‬حيث‬
‫يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه ‪ .‬وحيث يتبعه ‪ -‬أو يتبع يقينه هذا ‪ -‬شاهد من ربه هو هذا القرآن‬
‫الدال بخصائصه على مصدره الرباني ‪ .‬وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ‪ ,‬هو كتاب موسى الذي جاء‬
‫إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من ال تنزلت عليهم ‪ .‬وهو يصدق رسول ال [ ص ]‬

‫حمَةً ُأوْلَـ ِئكَ يُ ْؤ ِمنُونَ ِبهِ َومَن‬


‫َأ َفمَن كَانَ عَلَى َب ّينَ ٍة مّن ّربّهِ َو َيتْلُو ُه شَاهِ ٌد ّمنْهُ َومِن َقبْلِهِ ِكتَابُ مُوسَى َإمَاما َو َر ْ‬
‫حقّ مِن ّر ّبكَ وَلَـكِنّ َأ ْك َثرَ النّاسِ لَ يُ ْؤ ِمنُونَ (‬
‫ع ُدهُ فَلَ َتكُ فِي ِم ْريَةٍ ّمنْهُ ِإنّ ُه ا ْل َ‬
‫حزَابِ فَالنّارُ مَوْ ِ‬
‫لْ‬‫َيكْ ُفرْ بِ ِه مِنَ ا َ‬
‫‪)17‬‬
‫بما تضمنه من التبشير به ‪ ,‬كما يصدقه بما فيه من مطابقة للصول العتقادية التي يقوم عليها دين ال كله ‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫يقول‪:‬أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الحزاب التي تناوئه من شتى فئات‬
‫المشركين ? إنه لمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات ‪. .‬‬

‫ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الحزاب ‪ ,‬وما ينتظر هؤلء من جزاء في‬
‫الخرة ‪ .‬ويعرج على تثبيت الرسول ‪ [ -‬ص ] ‪ -‬والذين يؤمنون بما معه من الحق ; فل يقلقهم شأن المكذبين‬
‫الكافرين ‪ ,‬وهم كثرة الناس في ذلك الحين‪:‬‬

‫(أولئك يؤمنون به ‪ ,‬ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ‪ ,‬فل تك في مرية منه ‪ ,‬إنه الحق من ربك ‪,‬‬
‫ولكن أكثر الناس ل يؤمنون)‪. .‬‬

‫وقد وجد بعض المفسرين إشكال في قوله تعالى‪( :‬أولئك يؤمنون به)إذا كان المقصود بقوله تعالى‪( :‬أفمن كان‬
‫على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)هو شخص رسول ال [ ص ] كما أسلفنا ‪ . .‬فإن أولئك "تعني جماعة‬
‫يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة ‪ . .‬ول إشكال هناك ‪ .‬فالضمير في قوله تعالى (أولئك يؤمنون به)يعود على‬
‫"شاهد" وهو القرآن ‪ .‬وكذلك الضمير في قوله تعالى (ومن قبله)فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا ‪ . .‬فل‬
‫إشكال في أن يقول‪( :‬أولئك يؤمنون به)‪ -‬أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن ‪ -‬والرسول [ ص ] هو أول من آمن‬
‫بما أنزل إليه ‪ ,‬ثم تبعه المؤمنون‪( :‬آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ‪ .‬كل آمن بال وملئكته‬
‫وكتبه ورسله ‪). . .‬كما جاء في آية البقرة ‪ . .‬والية هنا تشير إلى رسول ال [ ص ] وتدمج معه المؤمنين‬
‫الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه ‪ . .‬وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ‪ ,‬ول إشكال فيه ‪.‬‬

‫(ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده)‪. .‬‬

‫وهو موعد ل يخلف ‪ ,‬وال سبحانه هو الذي قدره ودبره !‬

‫(فل تك في مرية منه ‪ ,‬إنه الحق من ربك ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل يؤمنون)‪. .‬‬

‫وما شك رسول ال [ ص ] فيما أوحي إليه ‪ ,‬ول امترى ‪ -‬وهو على بينة من ربه ‪ -‬ولكن هذا التوجيه‬
‫الرباني عقب حشد هذه الدلئل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول ال [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة‬
‫من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ‪ ,‬تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت ‪ .‬وكذلك ما كان‬
‫يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم ‪.‬‬

‫وما أحوج طلئع البعث السلمي ; وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ; ويتآزر عليها الصد‬
‫والعراض ‪ ,‬والسخرية والستهزاء ‪ ,‬والتعذيب واليذاء ; والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ;‬
‫وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الرض من محلية وعالمية ; وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ;‬
‫ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة ‪. . .‬‬

‫ما أحوج هذه الطلئع إلى تدبر هذه الية بكل فقرة فيها ‪ ,‬وبكل إشارة ‪ ,‬وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما‬
‫أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم‪:‬‬

‫(فل تك في مرية منه ‪ ,‬إنه الحق من ربك ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل يؤمنون)‪. .‬‬

‫وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلل لما كان يجده الرسل الكرام صلوات ال عليهم وسلمه من بينة من‬
‫ربهم ‪ ,‬ومن رحمة ل يخطئونها ول يشكون فيها لحظة ; ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات‬
‫الطريق‪:‬‬

‫قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما‬
‫تزيدونني غير تخسير ‪. .‬‬

‫إن هذه الطلئع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم‬
‫جميعا ‪ -‬وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون ‪ . .‬لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول ال [ ص ] إلى‬
‫البشرية كلها بهذا الدين ; فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد السلم الذي جاءها به من قبل إبراهيم‬
‫وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ‪ ,‬وسائر‬
‫النبيين !‬

‫إنها الجاهلية التي تعترف بوجود ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أول تعترف ‪ .‬ولكنها تقيم الناس أربابا في الرض‬
‫يحكمونهم بغير ما أنزل ال ; ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الرباب ل‬
‫ل ‪ . .‬ثم هي الدعوة السلمية للناس كافة أن ينحوا هذه الرباب الرضية عن حياتهم وأوضاعهم‬
‫ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ‪ ,‬وأن يعودوا إلى ال وحده يتخذونه ربا ل أرباب معه ; ويدينون له وحده ‪ .‬فل‬
‫يتبعون إل شرعه ونهجه ‪ ,‬ول يطيعون إل أمره ونهيه ‪ . .‬ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك‬
‫والتوحيد ‪ ,‬وبين الجاهلية والسلم ‪ .‬وبين طلئع البعث السلمي وهذه الطواغيت في أرجاء الرض‬
‫والصنام !‬

‫ومن ثم ل بد لهذه الطلئع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الوان ‪ . .‬وهذا بعض‬
‫ما نعنيه حين نقول‪(:‬إن هذا القرآن ل يتذوقه إل من يخوض مثل هذه المعركة ‪ .‬ويواجه مثل تلك المواقف‬
‫التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ‪ ,‬وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودللته وهم قاعدون يدرسونه دراسة‬
‫بيانية أو فنية ل يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ‪ ,‬بعيدا عن المعركة ‪ ,‬وبعيدا‬
‫عن الحركة ‪.). . .‬‬
‫الدرس التاسع‪ 24 - 18:‬مشهد خسارة وخزي الكفار في الخرة في مقابل فوز المؤمنين‬

‫ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به ; ويزعمون أنه مفترى من دون ال ‪ ,‬ويكذبون على ال سبحانه‬
‫وعلى رسوله [ ص ] وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على ال الكذب ‪ .‬سواء‬
‫بقولهم‪:‬إن ال لم ينزل هذا الكتاب ‪ ,‬أو بادعائهم شركاء ل ‪ .‬أو بدعواهم في الربوبية الرضية وهي من‬
‫خصائص اللوهية ‪ . .‬يجمل النص هنا الشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على ال ‪.‬‬

‫هؤلء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الشهاد ‪ .‬وفي الجانب الخر‬
‫المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم ‪ .‬ويضرب للفريقين مثل‪:‬العمى والصم والبصير‬
‫والسميع‪:‬‬

‫(ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ‪ ,‬ويقول الشهاد‪:‬هؤلء الذين كذبوا على‬
‫ربهم ‪ .‬أل لعنة ال على الظالمين ‪ .‬الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ‪ ,‬وهم بالخرة هم كافرون ‪.‬‬
‫أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ‪ ,‬وما كان لهم من دون ال من أولياء ‪ ,‬يضاعف لهم العذاب ‪ ,‬ما كانوا‬

‫شهَادُ هَـؤُلء اّلذِينَ َك َذبُواْ عَلَى‬


‫لْ‬‫َومَنْ َأظْلَ ُم ِممّنِ ا ْف َترَى عَلَى الّلهِ َكذِبا أُوْلَـ ِئكَ ُي ْع َرضُونَ عَلَى َر ّب ِهمْ َويَقُولُ ا َ‬
‫عوَجا وَهُم بِالخِرَ ِة ُهمْ كَافِرُونَ (‬
‫سبِيلِ الّلهِ َو َي ْبغُو َنهَا ِ‬
‫صدّونَ عَن َ‬
‫ل َل ْعنَةُ الّلهِ عَلَى الظّاِلمِينَ (‪ )18‬اّلذِينَ َي ُ‬
‫َربّ ِهمْ َأ َ‬
‫‪)19‬‬
‫يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ‪ .‬أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‪ ,‬ل جرم‬
‫أنهم في الخرة هم الخسرون ‪ .‬إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ‪ ,‬أولئك أصحاب الجنة‬
‫هم فيها خالدون ‪ .‬مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ‪ .‬هل يستويان مثل ? أفل تذكرون ?)‪.‬‬

‫إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء ‪ ,‬وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب ‪ .‬فما بال حين يكون هذا‬
‫الفتراء على ال ?‬

‫(أولئك يعرضون على ربهم ‪ ,‬ويقول الشهاد‪:‬هؤلء الذين كذبوا على ربهم)‪.‬‬

‫إنه التشهير والتشنيع ‪ .‬بالشارة‪(:‬هؤلء)‪( . .‬هؤلء الذين كذبوا)‪ . .‬وعلى من ? (على ربهم)ل على أحد آخر‬
‫! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد ‪ ,‬تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة‪:‬‬

‫(أل لعنة ال على الظالمين)‪. .‬‬


‫يقولها الشهاد كذلك ‪ .‬والشهاد هم الملئكة والرسل والمؤمنون ‪ ,‬أو هم الناس أجمعون ‪ .‬فهو الخزي‬
‫والتشهير ‪ -‬إذن ‪ -‬في ساحة العرض الحاشدة ! أو هو قرار ال سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي‬
‫والتشهير على رؤوس الشهاد‪:‬‬

‫(أل لعنة ال على الظالمين)‪. .‬‬

‫والظالمون هم المشركون ‪ .‬وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل ال ‪.‬‬

‫(ويبغونها عوجا)‪. .‬‬

‫فل يريدون الستقامة ول الخطة المستقيمة ‪ ,‬إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا ‪ .‬يريدون الطريق أو‬
‫يريدون الحياة أويريدون المور ‪ . .‬كلها بمعنى ‪( . .‬وهم بالخرة هم كافرون)ويكرر(هم)مرتين للتوكيد‬
‫وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير ‪.‬‬

‫والذين يشركون بال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وهم الظالمون ‪ -‬إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن استقامة‬
‫السلم ‪ .‬وما تنتج الدينونة لغير ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إل العوج في كل جانب من جوانب النفس ‪ ,‬وفي كل جانب‬
‫من جوانب الحياة ‪.‬‬

‫إن عبودية الناس لغير ال سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد ال أن يقيمها على الكرامة ‪ .‬وتنشئ في‬
‫الحياة الظلم والبغي وقد أراد ال أن يقيمها على القسط والعدل ‪ .‬وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه‬
‫الرباب الرضية والطبل حولها والزمر ‪ ,‬والنفخ فيها دائما لتكبر حتى تمل مكان الرب الحقيقي ‪ .‬ولما كانت‬
‫هذه الرباب في ذاتها صغيرة هزيلة ل يمكن أن تمل فراغ الرب الحقيقي ‪ ,‬فإن عبادها المساكين يظلون في‬
‫نصب دائب ‪ ,‬وهم مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار ‪ ,‬ويسلطون عليها الضواء والنظار ‪ ,‬ويضربون حولها‬
‫بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح ‪ ,‬حتى يستحيل الجهد البشري كله من النتاج المثمر للحياة إلى هذا‬
‫الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم ‪ . .‬فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء ?!‬

‫(أولئك)‪. .‬‬

‫البعداء المبعدون الملعونون ‪.‬‬

‫(لم يكونوا معجزين في الرض)‪. .‬‬

‫فلم يكن أمرهم معجزا ل ‪ ,‬ولو شاء لخذهم بالعذاب في الدنيا ‪. .‬‬

‫(وما كان لهم من دون ال من أولياء)‪. .‬‬


‫ينصرونهم أو يمنعونهم من ال ‪ .‬إنما تركهم لعذاب الخرة ‪ ,‬ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الخرة‪:‬‬

‫(يضاعف لهم العذاب)‪. .‬‬

‫فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر ; كأن لم يكن لهم سمع ول بصر‪:‬‬

‫(ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون)‪. .‬‬

‫(أولئك الذين خسروا أنفسهم)‪. .‬‬

‫وهي أفدح الخسارة ‪ ,‬فالذي يخسر نفسه ل يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في‬
‫الدنيا ‪ ,‬لم يحسوا بكرامتهم الدمية التي تتمثل في الرتفاع عن الدينونة لغير ال من العبيد ‪ .‬كما تتمثل في‬
‫الرتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع ‪ -‬مع المتاع بها ‪ -‬إلى ما هو أرقى وأسمى ‪ .‬وذلك حين كفروا بالخرة ‪,‬‬
‫وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه ‪ .‬وخسروا أنفسهم في الخرة بهذا الخزي الذي ينالهم ‪ ,‬وبهذا‬
‫العذاب الذي ينتظرهم ‪. .‬‬

‫(وضل عنهم ما كانوا يفترون)‪. .‬‬

‫غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على ال ‪ .‬فقد تبدد وذهب وضاع ‪.‬‬

‫(ل جرم أنهم في الخرة هم الخسرون)‪. .‬‬

‫الذين ل تعدل خسارتهم خسارة ‪ .‬وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى ‪.‬‬

‫وفي الجانب الخر أهل اليمان والعمل الصالح ‪ ,‬المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه ل يشكون‬
‫ول يقلقون‪:‬‬

‫(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ‪ .‬وأخبتوا إلى ربهم ‪ ,‬أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)‪. .‬‬

‫والخبات الطمأنينة والستقرار والثقة والتسليم ‪ . .‬وهي تصور حال المؤمن مع ربه ‪ ,‬وركونه إليه واطمئنانه‬
‫لكل ما يأتي به ‪ ,‬وهدوء نفسه وسكون قلبه ‪ ,‬وأمنه واستقراره ورضاه‪:‬‬

‫(مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ‪ .‬هل يستويان مثل ?)‪. .‬‬

‫صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين ‪ .‬والفريق الول كالعمى ل يرى وكالصم ل يسمع ‪ -‬والذي يعطل‬
‫حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها ‪ ,‬وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل ‪ ,‬ليدرك ويتدبر فكأنما‬
‫هو محروم من تلك الجوارح والحواس ‪ -‬والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع ‪ ,‬فيهديه بصره‬
‫وسمعه ‪.‬‬

‫(هل يستويان مثل ?)‪. . .‬‬

‫سؤال بعد الصورة المجسمة ل يحتاج إلى إجابة لنها إجابة مقررة ‪.‬‬

‫(أفل تذكرون)‪. .‬‬

‫فالقضية في وضعها هذا ل تحتاج إلى أكثر من التذكر ‪ .‬فهي بديهية ل تقتضي التفكير ‪. .‬‬

‫وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في السلوب القرآني في التعبير ‪ . .‬أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري‬
‫إلى بديهيات مقررة ل تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير ‪. .‬‬

‫عفُ َل ُهمُ ا ْل َعذَابُ مَا كَانُواْ‬


‫ن َأوِْليَاء ُيضَا َ‬
‫لرْضِ َومَا كَانَ َلهُم مّن دُونِ الّلهِ مِ ْ‬
‫ن فِي ا َ‬
‫جزِي َ‬
‫أُولَـ ِئكَ َلمْ َيكُونُو ْا ُم ْع ِ‬
‫ع ْنهُم مّا كَانُو ْا يَ ْف َترُونَ (‪)21‬‬
‫سهُمْ َوضَلّ َ‬
‫خسِرُواْ أَن ُف َ‬
‫ن َ‬
‫سمْعَ َومَا كَانُو ْا ُي ْبصِرُونَ (‪ )20‬أُوْلَـ ِئكَ اّلذِي َ‬
‫ستَطِيعُونَ ال ّ‬
‫َي ْ‬
‫خ َبتُواْ إِلَى رَ ّب ِهمْ ُأوْلَـئِكَ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ وََأ ْ‬
‫ن اّلذِينَ آ َمنُواْ وَ َ‬
‫خسَرُونَ (‪ )22‬إِ ّ‬
‫لْ‬‫خرَ ِة ُهمُ ا َ‬
‫ج َرمَ َأ ّن ُهمْ فِي ال ِ‬
‫لَ َ‬
‫ستَ ِويَانِ َمثَلً َأفَلَ‬
‫ل َي ْ‬
‫سمِيعِ هَ ْ‬
‫لصَمّ وَا ْل َبصِيرِ وَال ّ‬
‫عمَى وَا َ‬
‫جنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪َ )23‬مثَلُ ا ْل َفرِي َقيْنِ كَالَ ْ‬
‫ب ال َ‬
‫صحَا ُ‬
‫َأ ْ‬
‫َت َذكّرُونَ (‪)24‬‬

‫الوحدة الثانية‪ 49 - 25:‬الموضوع‪:‬مشاهد ولقطات من قصة نوح عليه السلم‬

‫وَلَ َقدْ َأرْسَ ْلنَا نُوحا إِلَى قَ ْومِ ِه ِإنّي َل ُكمْ َنذِيرٌ ّمبِينٌ (‪)25‬‬
‫مقدمة الوحدة‬

‫القصص في هذه السورة هو قوامها ; ولكنه لم يجيء فيها مستقل ‪ ,‬إنما جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي‬
‫جاءت السورة لتقريرها ‪ .‬والتي أجملها السياق في مطلع السورة‪( :‬كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم‬
‫خبير ‪ ,‬أل تعبدوا إل ال إنني لكم منه نذير وبشير ‪ ,‬وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يمتعكم متاعا حسنا إلى‬
‫أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت كل ذي فضل فضله ‪ ,‬وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ‪ ,‬إلى ال مرجعكم ‪.‬‬
‫وهو على كل شيء قدير)‪. .‬‬

‫وقد تضمن مطلع السورة جولت متعددة حول هذه الحقائق ‪ .‬جولت في ملكوت السماوات والرض ‪ ,‬وفي‬
‫جنبات النفس ‪ ,‬وفي ساحة الحشر ‪ . .‬ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الرض وأطواء التاريخ مع‬
‫قصص الماضين ‪ . .‬يستعرض حركة العقيدة السلمية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون ‪.‬‬
‫والقصص هنا مفصل بعض الشيء ‪ -‬وبخاصة قصة نوح والطوفان ‪ -‬وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة‬
‫التي وردت في مطلع السورة ‪ ,‬والتي يجيء كل رسول لتقريرها ‪ ,‬وكأنما المكذبون هم المكذبون ‪ ,‬وكأنما‬
‫طبيعتهم واحدة ‪ ,‬وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ ‪.‬‬

‫ويتبع القصص في هذه السورة خط سير التاريخ ‪ ,‬فيبدأ بنوح ‪ ,‬ثم هود ‪ ,‬ثم صالح ‪ ,‬ويلم بإبراهيم في الطريق‬
‫إلى لوط ‪ ,‬ثم شعيب ‪ ,‬ثم إشارة إلى موسى ‪ . .‬ويشير إلى الخط التاريخي ‪ ,‬لنه يذكر التالين بمصير السالفين‬
‫على التوالي بهذا الترتيب‪:‬‬

‫ونبدأ بقصة نوح مع قومه ‪ .‬أول هذا القصص في السياق ‪ .‬وأوله في التاريخ‪:‬‬

‫الدرس الول‪ 34 - 25:‬بين نوح وقومه عندما بلغهم دعوته‬

‫ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ‪ .‬إني لكم نذير مبين ‪ .‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ‪. .‬‬

‫إنها تكاد تكون اللفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد [ ص ] والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت‬
‫من لدن حكيم خبير ‪ .‬وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير‬
‫وحدة الرسالة ووحدة العقيدة ‪ ,‬حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها ‪ .‬وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو‬
‫معنى ما قاله نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ل ألفاظه ‪ .‬وهو الرجح ‪ .‬فنحن ل ندري بأية لغة كان نوح يعبر ‪.‬‬

‫(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه‪:‬إني لكم نذير مبين)‪. .‬‬

‫ولم يقل قال‪:‬إني ‪ . . .‬لن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة ل حكاية ماضية ‪ .‬وكأنما‬
‫هو يقول لهم الن ونحن نشهد ونسمع ‪ .‬هذا من ناحية ‪ ,‬ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها‬
‫ويترجمها إلى حقيقة واحدة‪:‬‬

‫(إني لكم نذير مبين)‪. .‬‬

‫وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين ‪.‬‬

‫ومرة أخرى يبلور مضمون الرسالة في حقيقة جديدة‪:‬‬

‫أل تعبدوا إل ال ‪. .‬‬

‫فهذا هو قوام الرسالة ‪ ,‬وقوام النذار ‪ .‬ولماذا ?‬

‫(إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم)‪. .‬‬


‫فيتم البلغ ويتم النذار ‪ ,‬في هذه الكلمات القصار ‪. .‬‬

‫واليوم ليس أليما ‪ .‬إنما هو مؤلم ‪ .‬والليم ‪ -‬اسم مفعول أصله‪:‬مألوم ! ‪ -‬إنما هم المألومون في ذلك اليوم ‪.‬‬
‫ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا ‪ ,‬لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل باللم ‪ ,‬شاعر به ‪ ,‬فما بال من فيه ?‬

‫(فقال المل الذين كفروا من قومه‪:‬ما نراك إل بشرا مثلنا ‪ ,‬وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي ‪,‬‬
‫وما نرى لكم علينا من فضل ‪ ,‬بل نظنكم كاذبين)‪. .‬‬

‫ذلك رد العلية المتكبرين ‪ . .‬المل ‪ . .‬كبار القوم المتصدرين ‪ . .‬وهو يكاد يكون رد المل من قريش‪:‬ما نراك‬
‫إل بشرا مثلنا ‪ ,‬وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا ‪ -‬بادي الرأي ‪ -‬وما نرى لكم علينا من فضل ‪ ,‬بل‬
‫نظنكم كاذبين ‪.‬‬

‫الشبهات ذاتها ‪ ,‬والتهامات ذاتها ‪ ,‬والكبرياء ذاتها ‪ ,‬والستقبال الغبي الجاهل المتعافي !‬

‫إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر‪:‬أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة ال ; فإن تكن رسالة‬
‫فليحملها ملك أو مخلوق آخر ‪ .‬وهي شبهه جاهلة ‪ ,‬مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه ال في‬
‫أرضه ‪ ,‬وهي وظيفة خطيرة ضخمة ‪ ,‬ل بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا النسان ما يكافئها من الستعداد‬
‫والطاقة ‪ ,‬وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ‪ ,‬باختيار ال لهم ‪ ,‬وهو‬
‫أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه ‪.‬‬

‫عذَابَ يَ ْومٍ أَلِيمٍ (‪)26‬‬


‫ل اللّ َه ِإّنيَ َأخَافُ عََل ْي ُكمْ َ‬
‫أَن لّ َت ْع ُبدُواْ ِإ ّ‬
‫وشبهة أخرى جاهلة كذلك ‪ .‬هي أنه إذا كان ال يختار رسول ‪ ,‬فلم ل يكون من بين هؤلء المل الكبراء في‬
‫قومهم ‪ ,‬المتسلطين العالين ? وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق النساني ‪ ,‬والتي من أجلها استحق‬
‫الخلفة في الرض بعمومه ‪ ,‬واستحق حمل رسالة ال بخصوصيته في المختارين من صفوفه ‪ .‬وهذه القيم ل‬
‫علقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الرض ‪ ,‬إنما هي في صميم النفس ‪ ,‬واستعدادها للتصال بالمل‬
‫العلى ‪ ,‬بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي ‪ ,‬واحتمال للمانة وصبر على أدائها ومقدرة على‬
‫إبلغها ‪ . . .‬إلى آخر صفات النبوة الكريمة ‪ . .‬وهي صفات ل علقة لها بمال أو جاه أو استعلء !‬

‫ولكن المل من قوم نوح ‪ ,‬كالمل من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ‪,‬‬
‫فل يدركون مبررا لختصاص الرسل بالرسالة ‪ .‬وهي في زعمهم ل تكون لبشر ‪ .‬فإن كانت فهي لمثالهم من‬
‫الوجهاء العالين في الرض !‬

‫(ما نراك إل بشرا مثلنا)‪. .‬‬


‫هذه واحدة ‪ . .‬أما الخرى فأدهى‪:‬‬

‫(وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا ‪ ,‬بادي الرأي)!!‬

‫وهم يسمون الفقراء من الناس(أراذل)‪ . .‬كما ينظر الكبراء دائما إلى الخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان !‬
‫وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا ; لنهم بفطرتهم أقرب إلى الستجابة للدعوة التي تحرر الناس من‬
‫العبودية للكبراء ‪ ,‬وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على العلياء ‪ .‬ولن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف ‪,‬‬
‫ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الستجابة ; ولنهم ل يخافون من العقيدة في ال أن تضيع عليهم مكانة‬
‫مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها ‪ .‬وأول صور الوثنية الدينونة‬
‫والعبودية والطاعة والتباع للشخاص الزائلة بدل من التجاه بهذا كله ل وحده دون شريك ‪ .‬فرسالت‬
‫التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض ‪ .‬ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما ‪,‬‬
‫ويصدون عنها الجماهير ; ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير ‪.‬‬

‫(وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي)‪. .‬‬

‫أي دون ترو ول تفكير ‪ . .‬وهذه تهمة كذلك توجه دائما من المل العالين لجموع المؤمنين ‪ . .‬أنها ل تتروى‬
‫ول تفكر في اتباع الدعوات ‪ .‬ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ‪ ,‬ول يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ‪,‬‬
‫ول أن يسلكوا طريقها ‪ .‬فإذا كان الراذل يؤمنون ‪ ,‬فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الراذل ; ول أن‬
‫يدعوا الراذل يؤمنون !‬

‫(وما نرى لكم علينا من فضل)‪. .‬‬

‫يدمجون الداعي بمن تبعوه من الراذل ! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ‪ ,‬أو أعرف‬
‫بالصواب ‪ .‬فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لهتدينا إليه ‪ ,‬ولم تسبقونا أنتم إليه ! وهم يقيسون المور ذلك‬
‫القياس الخاطيء الذي تحدثنا عنه ‪ .‬قياس الفضل بالمال ‪ ,‬والفهم بالجاه ‪ ,‬والمعرفة بالسلطان ‪ . .‬فذو المال‬
‫أفضل ‪ .‬وذو الجاه أفهم ‪ .‬وذو السلطان أعرف !!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة‬
‫التوحيد عن المجتمع ‪ ,‬أو تضعف آثارها ‪ ,‬فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ‪ ,‬وإلى تقاليد الوثنية في صورة‬

‫ن ُهمْ َأرَاذُِلنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ َومَا‬


‫ل َبشَرا ّمثَْلنَا َومَا َنرَاكَ ا ّت َب َعكَ ِإلّ اّلذِي َ‬
‫ن كَ َفرُواْ مِن قِ ْو ِمهِ مَا َنرَاكَ ِإ ّ‬
‫فَقَالَ ا ْلمَلُ اّلذِي َ‬
‫حمَةً‬
‫ظّنكُمْ كَا ِذبِينَ (‪ )27‬قَالَ يَا قَ ْومِ َأرََأ ْي ُتمْ إِن كُنتُ عَلَى َب ّينَةٍ مّن ّرّبيَ وَآتَانِي َر ْ‬
‫ل َن ُ‬
‫َنرَى َل ُكمْ عََل ْينَا مِن فَضْلٍ بَ ْ‬
‫مّنْ عِندِ ِه فَ ُع ّميَتْ عََل ْي ُكمْ َأنُ ْلزِ ُم ُكمُوهَا وَأَن ُتمْ َلهَا كَارِهُونَ (‪)28‬‬
‫من صورها الكثيرة ‪ .‬وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب ‪ .‬وهي انتكاسة للبشرية من غير شك ‪,‬‬
‫لنها تصغر من القيم التي بها صار النسان إنسانا ‪ ,‬واستحق الخلفة في الرض ‪ ,‬وتلقى الرسالة من السماء‬
‫; وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية !‬

‫(بل نظنكم كاذبين)‪. . .‬‬

‫وهي التهمة الخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه ‪ .‬ولكنهم على طريقة طبقتهم ‪" . .‬الرستقراطية " ‪.‬‬
‫‪ .‬يلقونها في أسلوب التحفظ اللئق "بالرستقراط ! " (بل نظنكم !)لن اليقين الجازم في القول والتجاه من‬
‫طبيعة الجماهير المندفعة ‪ -‬بادي الرأي ‪ -‬التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون !‬

‫إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ‪ ,‬لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ‪ ,‬المتعاظمة المدعية المنتفخة‬
‫الوداج والمخاخ !!‬

‫ويتلقى نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬التهام والعراض والستكبار ‪ ,‬في سماحة النبي وفي استعلئه وفي ثقته بالحق‬
‫الذي جاء به ‪ ,‬واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله ; وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره ‪ .‬فل‬
‫يشتم كما شتموا ‪ ,‬ول يتهم كما اتهموا ‪ ,‬ول يدعي كما ادعوا ‪ ,‬ول يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير‬
‫حقيقته ول على رسالته شيئا غير طبيعتها ‪. .‬‬

‫قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ‪ ,‬وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ‪ .‬أنلزمكموها وأنتم لها‬
‫كارهون ? ويا قوم ل أسألكم عليه مال إن أجري إل على ال ‪ ,‬وما أن بطارد الذين آمنوا ‪ ,‬إنهم ملقو ربهم ‪,‬‬
‫ولكني أراكم قوما تجهلون ‪ .‬ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم أفل تذكرون ? ول أقول لكم‪:‬عندي‬
‫خزائن ال ‪ ,‬ول أعلم الغيب ‪ ,‬ول أقول‪:‬إني ملك ‪ ,‬ولأقول للذين تزدري أعينكم‪:‬لن يؤتيهم ال خيرا ‪ .‬ال أعلم‬
‫بما في أنفسهم ‪ ,‬إني إذن لمن الظالمين ‪. .‬‬

‫(يا قوم)‪ . .‬في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه ‪ ,‬ونسبة نفسه إليهم ‪ .‬إنكم تعترضون فتقولون‪( :‬ما نراك إل‬
‫بشرا مثلنا)‪ . .‬فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي ‪ ,‬بين في نفسي مستيقن في شعوري ‪ .‬وهي خاصية‬
‫لم توهبوها ‪ .‬وإن كان ال آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة ‪ ,‬أو آتاني من الخصائص ما أستحق به‬
‫حمل الرسالة ‪ -‬وهذه رحمة ول شك عظيمة ‪ -‬مارأيكم رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية ‪,‬‬
‫لنكم غير متهيئين لدراكها ‪ ,‬وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها ‪(.‬أنلزمكموها ? )إنه ما كان لي وما أنا‬
‫بمستطيع أن ألزمكم الذعان لها واليمان بها (وأنتم لها كارهون)!‬

‫وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لدراك القيم الخفية عليهم ‪,‬‬
‫والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والختيار لها‪:‬ويبصرهم بأن المر ليس موكول إلى‬
‫الظواهرالسطحية التي يقيسون بها ‪ .‬وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم ‪ .‬مبدأ الختيار في العقيدة ‪,‬‬
‫والقتناع بالنظر والتدبر ‪ ,‬ل بالقهر والسلطان والستعلء !‬

‫ويا قوم ل أسألكم عليه مال ‪ ,‬إن أجري إل على ال ‪ ,‬وما أنا بطارد الذين آمنوا ‪ ,‬إنهم ملقو ربهم ‪ ,‬ولكني‬
‫أراكم قوما تجهلون ‪.‬‬

‫يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ‪ ,‬وليس لي عند الناس إل أن يؤمنوا ‪ .‬إنني ل أطلب مال‬
‫على الدعوة ‪ ,‬حتى أكون حفيا بالثرياء غير حفي بالفقراء ; فالناس كلهم عندي سواء ‪ . .‬ومن يستغن عن‬
‫مال الناس يتساو عنده الفقراء والغنياء ‪. .‬‬

‫(إن أجري إل على ال)‪. .‬‬

‫عليه وحده دون سواه ‪.‬‬

‫(وما أنا بطارد الذين آمنوا)‪. .‬‬

‫ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ‪ ,‬حتى يفكروا هم في اليمان به ‪ ,‬لنهم‬
‫يستنكفون أن يلتقوا عنده بالراذل ‪ ,‬أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد ! ‪ -‬لست بطاردهم ‪ ,‬فهذا ل يكون‬
‫مني ‪ .‬لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى ال ل لي‪:‬‬

‫إنهم ملقوا ربهم ‪( . .‬ولكني أراكم قوما تجهلون)‪. .‬‬

‫تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان ال ‪ .‬وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى ال ‪.‬‬

‫(ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم ‪ .‬أفل تذكرون ?)‪. .‬‬

‫فهناك ال ‪ .‬رب الفقراء والغنياء ‪ .‬رب الضعفاء والقوياء ‪ .‬هناك ال يقوم الناس بقيم أخرى ‪ .‬ويزنهم‬
‫بميزان واحد ‪ .‬هو اليمان ‪ .‬فهؤلء المؤمنون في حماية ال ورعايته ‪.‬‬

‫(ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم ?)‪. .‬‬

‫من يعصمني من ال إن أنا أخللت بموازينه ‪ ,‬وبغيت على المؤمنين من عباده ‪ -‬وهم أكرم عليه ‪ -‬وأقررت‬
‫القيم الرضية الزائفة التي أرسلني ال لعدلها ل لتبعها ?‬

‫(أفل تذكرون ?)‪. .‬‬

‫وقد أنساكم ما أنتم فيه ميزان الفطرة السليمة القويمة ?‬


‫ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة ‪.‬‬
‫يقدمها لهم في معرض التذكير ‪ ,‬ليقرر لهم القيم الحقيقية ‪ ,‬ويزدري أمامهم القيم الظاهرية ‪ ,‬بتخليه عنها ‪,‬‬
‫وتجرده منها ‪ .‬فمن شاء الرسالة كما هي ‪ ,‬بقيمها ‪ ,‬بدون زخرف ‪ ,‬بدون ادعاء ‪ ,‬فليتقدم إليها مجردة خالصة‬
‫ل‪:‬‬

‫(ول أقول لكم عندي خزائن ال ‪). .‬‬

‫فأدعي الثراء أو القدرة على الثراء ‪. . .‬‬

‫(ول أعلم الغيب)‪. .‬‬

‫فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بال غير صلة الرسالة ‪. .‬‬

‫(ول أقول‪:‬إني ملك)‪. .‬‬

‫لقُو َر ّب ِهمْ وَلَـ ِكّنيَ َأرَاكُمْ‬


‫ي ِإلّ عَلَى اللّهِ َومَا َأ َناْ ِبطَا ِردِ اّلذِينَ آ َمنُواْ ِإ ّنهُم مّ َ‬
‫جرِ َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫سأَُلكُمْ عََليْ ِه مَالً إِ ْ‬
‫َويَا قَ ْومِ ل َأ ْ‬
‫ل َتذَ ّكرُونَ (‪)30‬‬
‫جهَلُونَ (‪َ )29‬ويَا قَ ْومِ مَن يَنصُ ُرنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدّتهُ ْم َأفَ َ‬
‫قَوْما َت ْ‬
‫فأدعي صفة أعلى من صفة النسانية في ظنكم لرتفع في أعينكم ‪ ,‬وأفضل نفسي بذاتي عليكم ‪. .‬‬

‫(ول أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم ال خيرا)‪. .‬‬

‫إرضاء لكبريائكم ‪ ,‬أو مسايرة لتقديركم الرضي وقيمكم العرضية ‪.‬‬

‫(ال أعلم بما في أنفسهم)‪. .‬‬

‫فليس لي إل ظاهرهم ‪ ,‬وظاهرهم يدعو إلى التكريم ‪ ,‬وإلى الرجاء في أن يؤتيهم ال خيرا ‪. .‬‬

‫إني إذن لمن الظالمين ‪. .‬‬

‫إن ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوي ‪ .‬الظالمين للحق وقد جئت أبلغه ; والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب‬
‫ال ; والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم ال ‪.‬‬

‫وهكذا ينفي نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها المل من‬
‫قومه في الرسول والرسالة ‪ .‬ويتقدم إليهم بها مجردة إل من حقيقتها العظيمة التي ل تحتاج إلى مزيد من تلك‬
‫العراض السطحية ‪ .‬ويردهم في نصاعة الحق وقوته ‪ ,‬مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة‬
‫ليواجهوها ‪ ,‬ويتخذوا لنفسهم خطة على هداها ‪ .‬بل ملق ول زيف ول محاولة استرضاء على حساب الرسالة‬
‫وحقيقتها البسيطة ‪ .‬فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا ‪ ,‬نموذجا للداعية ‪ ,‬ودرسا في مواجهة أصحاب‬
‫السلطان بالحق المجرد ‪ ,‬دون استرضاء لتصوراتهم ‪ ,‬ودون ممالة لهم ‪ ,‬مع المودة التي ل تنحني معها‬
‫الرؤوس !‬

‫وعند هذا الحد كان المل من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة ; فإذا هم ‪ -‬على عادة طبقتهم ‪-‬‬
‫قد أخذتهم العزة بالثم ‪ ,‬واستكبروا أن تغلبهم الحجة ‪ ,‬وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري ‪ .‬وإذا هم يتركون‬
‫الجدل إلى التحدي‪:‬‬

‫(قالوا‪:‬يا نوح قد جادلتنا ‪ ,‬فأكثرت جدالنا ‪ ,‬فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)‪. .‬‬

‫إنه العجز يلبس ثوب القدرة ‪ ,‬والضعف يرتدي رداء القوة ; والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الستهانة‬
‫والتحدي‪:‬‬

‫(فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)‪. .‬‬

‫وأنزل بنا العذاب الليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ‪ ,‬ولسنا نبالي وعيدك ‪.‬‬

‫أما نوح فل يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ‪ ,‬ول يقعده عن بيان الحق لهم ‪ ,‬وإرشادهم‬
‫إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم ‪ ,‬وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه‬
‫ليس سوى رسول ‪ ,‬وليس عليه إل البلغ ‪ ,‬أما العذاب فمن أمر ال ‪ ,‬وهو الذي يدبر المر كله ‪ ,‬ويقدر‬
‫المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله ‪ ,‬وسنته هي التي تنفذ ‪ . .‬وما يملك هو أن يردها أو يحولها ‪ . .‬إنه‬
‫رسول ‪ .‬وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الخيرة ‪ ,‬فل يقعده عن إبلغه وبيانه أن القوم يكذبونه‬
‫ويتحدونه‪:‬‬

‫(قال‪:‬إنما يأتيكم به ال إن شاء ‪ ,‬وما أنتم بمعجزين ‪ .‬ول ينفعكم نصحي ‪ -‬إن أردت أن أنصح لكم ‪ -‬إن كان‬
‫ال يريد أن يغويكم ‪ ,‬هو ربكم وإليه ترجعون)‪. .‬‬

‫فإذا كانت سنة ال تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ‪ ,‬فإن هذه السنة ستمضي فيكم ‪ ,‬مهما بذلت لكم من النصح ‪ .‬ل‬
‫لن ال سيصدكم عن النتفاع بهذا النصح ‪ ,‬ولكن لن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة ال تقتضي أن تضلوا ‪,‬‬
‫ع ُي ُنكُمْ لَن ُي ْؤ ِت َيهُمُ‬
‫ل لِّلذِينَ َت ْزدَرِي َأ ْ‬
‫خزَآئِنُ الّلهِ َولَ َأعَْلمُ ا ْل َغيْبَ َولَ َأقُولُ ِإنّي مََلكٌ َولَ َأقُو ُ‬
‫َولَ َأقُولُ َل ُكمْ عِندِي َ‬
‫جدَاَلنَا َف ْأ َتنِا ِبمَا‬
‫س ِهمْ ِإنّي إِذا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ (‪ )31‬قَالُو ْا يَا نُوحُ َقدْ جَادَ ْل َتنَا َفأَ ْك َثرْتَ ِ‬
‫خيْرا اللّ ُه أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَن ُف ِ‬
‫اللّ ُه َ‬
‫جزِينَ (‪)33‬‬
‫ن الصّا ِدقِينَ (‪ )32‬قَالَ ِإ ّنمَا َي ْأتِيكُم بِ ِه اللّ ُه إِن شَاء َومَا أَنتُم ِب ُمعْ ِ‬
‫ت مِ َ‬
‫َت ِعدُنَا إِن كُن َ‬
‫وما أنتم بمعجزين ل عن أن ينالكم ما يقدر لكم ‪ ,‬فأنتم دائما في قبضته ‪ ,‬وهو المدبر والمقدر لمركم كله ;‬
‫ول مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه‪:‬‬

‫(هو ربكم وإليه ترجعون)‪. .‬‬

‫الدرس الثاني‪ 35:‬التفات لنقاش كفار قريش‬

‫وعند هذا المقطع من قصة نوح ‪ ,‬يلتفت السياق لفتة عجيبة ‪ ,‬إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة ‪,‬‬
‫التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول [ ص ] ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص ‪ .‬فيرد هذا القول قبل‬
‫أن يمضي في استكمال قصة نوح‪:‬‬

‫(أم يقولون افتراه ? قل‪:‬إن افتريته فعلي إجرامي ‪ ,‬وأنا بريء مما تجرمون)‪. .‬‬

‫فالفتراء إجرام ‪ ,‬قل لهم‪:‬إن كنت فعلته فعلي تبعته ‪ ,‬وأنا أعرف إنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه ‪ ,‬وأنا بريء‬
‫مما تجرمون من تهمة الفتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب ‪.‬‬

‫وهذا العتراض ل يخالف سياق القصة في القرآن ‪ ,‬لنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 37 - 36:‬أمر نوح بصنع السفينة‬

‫ثم يمضي السياق في قصة نوح ; يعرض مشهدا ثانيا ‪ .‬مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره‪:‬‬

‫وأوحي إلى نوح انه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن ‪ .‬فل تبتئس بما كانوا يفعلون ‪ ,‬واصنع الفلك بأعيننا‬
‫ووحينا ‪ ,‬ول تخاطبني في الذين ظلموا ‪ ,‬إنهم مغرقون ‪. .‬‬

‫فقد انتهى النذار ‪ ,‬وانتهت الدعوة ‪ ,‬وانتهى الجدل !‬

‫(وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن)‪. .‬‬

‫فالقلوب المستعدة لليمان قد آمنت ‪ ,‬أما البقية فليس فيها استعداد ول اتجاه ‪ .‬هكذا أوحى ال إلى نوح ‪ ,‬وهو‬
‫أعلم بعباده ‪ ,‬وأعلم بالممكن والممتنع ‪ ,‬فلم يبق مجال للمضي في دعوة ل تفيد ‪ .‬ول عليك مما كانوا يفعلونه‬
‫من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء‪:‬‬
‫(فل تبتئس بما كانوا يفعلون)‪. .‬‬

‫أى ل تحس بالبؤس والقلق ‪ ,‬ول تحفل ول تهتم بهذا الذي كان منهم ‪ ,‬ل على نفسك فما هم بضاريك بشيء ‪,‬‬
‫ول عليهم فإنهم ل خير فيهم ‪.‬‬

‫دع أمرهم فقد انتهى ‪. .‬‬

‫(واصنع الفلك بأعيننا ووحينا)‪. .‬‬

‫برعايتنا وتعليمنا ‪.‬‬

‫(ول تخاطبني في الذين ظلموا ‪ ,‬إنهم مغرقون)‪. .‬‬

‫فقد تقرر مصيرهم وانتهى المر فيهم ‪ .‬فل تخاطبني فيهم ‪ . .‬ل دعاء بهدايتهم ‪ ,‬ول دعاء عليهم ‪ -‬وقد ورد‬
‫في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم ‪ ,‬والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي ‪ -‬فمتى انتهى القضاء‬
‫امتنع الدعاء ‪. .‬‬

‫ن أَنصَحَ َل ُكمْ إِن كَانَ الّلهُ ُيرِيدُ أَن ُيغْ ِو َي ُكمْ هُ َو َر ّبكُمْ وَإَِليْ ِه ُت ْرجَعُونَ (‪َ )34‬أمْ‬
‫ن َأرَدتّ أَ ْ‬
‫صحِي إِ ْ‬
‫َولَ يَن َف ُعكُ ْم نُ ْ‬
‫ن مِن‬
‫ح َأنّهُ لَن ُي ْؤمِ َ‬
‫حيَ إِلَى نُو ٍ‬
‫ج َرمُونَ (‪ )35‬وَأُو ِ‬
‫جرَامِي وََأ َناْ َبرِيءٌ ّممّا ُت ْ‬
‫ن ا ْفتَ َر ْيتُ ُه فَعََليّ ِإ ْ‬
‫يَقُولُونَ ا ْفتَرَا ُه قُلْ إِ ِ‬
‫طبْنِي فِي اّلذِينَ‬
‫ح ِينَا َولَ ُتخَا ِ‬
‫ع ُي ِننَا وَ َو ْ‬
‫صنَعِ الْفُ ْلكَ ِبأَ ْ‬
‫ن فَلَ َت ْب َتئِسْ ِبمَا كَانُواْ يَ ْفعَلُونَ (‪ )36‬وَا ْ‬
‫قَ ْو ِمكَ ِإلّ مَن َقدْ آمَ َ‬
‫ظََلمُواْ ِإ ّنهُم ّم ْغرَقُونَ (‪)37‬‬
‫الدرس الرابع‪ 39 - 38:‬بين نوح وقومه أثناء صنع السفينة‬

‫والمشهد الثالث من مشاهد القصة‪:‬مشهد نوح يصنع الفلك ‪ ,‬وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم‪:‬‬

‫(ويصنع الفلك وكلما مر عليه مل من قومه سخروا منه‪:‬قال‪:‬إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ‪.‬‬
‫فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)‪. .‬‬

‫والتعبير بالمضارع ‪ .‬فعل الحاضر ‪ . .‬هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته ‪ .‬فنحن نراه ماثل لخيالنا من‬
‫وراء هذا التعبير ‪ .‬يصنع الفلك ‪ .‬ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون ‪ .‬يسخرون من‬
‫الرجل الذي كان يقول لهم‪:‬إنه رسول ويدعوهم ‪ ,‬ويجادلهم فيطيل جدالهم ; ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا‬
‫‪ . .‬إنهم يسخرون لنهم ل يرون إل ظاهر المر ‪ ,‬ول يعلمون ما وراءه من وحي وأمر ‪ .‬شأنهم دائما في‬
‫إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير ‪ .‬فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في‬
‫اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلء أنه يبادلهم سخرية بسخرية‪:‬‬
‫(قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون)‪. .‬‬

‫نسخر منكم لنكم ل تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير ال وما ينتظركم من مصير‪:‬‬

‫(فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم)‪. .‬‬

‫أنحن أم أنتم ‪ .‬يوم ينكشف المستور ‪ ,‬عن المحذور !‬

‫الدرس الخامس‪ 41 - 40:‬بداية الطوفان وتحميل السفينة‬

‫ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة‪:‬‬

‫حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ‪ ,‬قلنا‪:‬احمل فيها من كل زوجين اثنين ‪ ,‬وأهلك ‪ -‬إل من سبق عليه القول ‪-‬‬
‫ومن آمن ‪ ,‬وما آمن معه إل قليل ‪ .‬وقال‪:‬اركبوا فيها باسم ال مجريها ومرساها ‪ ,‬إن ربي لغفور رحيم ‪.‬‬

‫وتتفرق القوال حول فوران التنور ‪ ,‬ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ‪ ,‬وتبدو رائحة السرائيليات فيها وفي قصة‬
‫الطوفان كلها واضحة ‪ .‬أما نحن فل نضرب في متاهة بغير دليل ‪ ,‬في هذا الغيب الذي ل نعلم منه إل ما‬
‫يقدمه لنا النص ‪ ,‬وفي حدود مدلوله بل زيادة ‪.‬‬

‫وأقصى ما نملك أن نقوله‪:‬إن فوران التنور ‪ -‬والتنور الموقد ‪ -‬قد يكون بعين فارت فيه ‪ ,‬أو بفوارة بركانية ‪.‬‬
‫وأن هذا الفوران ربما كان علمة من ال لنوح ‪ ,‬أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء المر ‪ ,‬وبدءا لنفاذ‬
‫هذا المر بفوران الرض بالماء ‪ .‬وسح الوابل من السماء ‪.‬‬

‫لما حدث هذا (قلنا‪:‬احمل فيها من كل زوجين اثنين ‪). . .‬كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح‬
‫بمراحلها واحدة واحدة في حينها ‪ .‬فقد أمر أول بصنع الفلك فصنعه ‪ ,‬ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه‬
‫‪ ,‬ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك ‪( .‬حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)‪ . .‬أمر بالمرحلة التالية‬
‫‪..‬‬

‫(قلنا‪:‬احمل فيها من كل زوجين اثنين ‪ ,‬وأهلك إل من سبق عليه القول ومن آمن)‪. .‬‬

‫ومرة أخرى تتفرق القوال حول (من كل زوجين اثنين)وتشيع في الجو رائحة السرائيليات قوية ‪ .‬أما نحن‬
‫فل ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص‪( :‬احمل فيها من كل زوجين اثنين)‪ . .‬مما يملك نوح أن يمسك‬
‫وأن يستصحب من الحياء ‪ .‬وما وراء ذلك خبط عشواء ‪. .‬‬

‫(وأهلك ‪ -‬إل من سبق عليه القول ‪. .)-‬‬


‫سخَرُونَ (‬
‫خرُ مِن ُكمْ َكمَا َت ْ‬
‫سَ‬‫سخَرُو ْا ِمنّا َفإِنّا َن ْ‬
‫خرُواْ ِمنْهُ قَالَ إِن َت ْ‬
‫سِ‬‫ل مّن قَ ْو ِمهِ َ‬
‫صنَعُ الْفُ ْلكَ َوكُّلمَا َمرّ عََل ْيهِ مَ ٌ‬
‫َو َي ْ‬
‫عذَابٌ مّقِيمٌ (‪)39‬‬
‫ب ُيخْزِيهِ َو َيحِلّ عََليْهِ َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫ن مَن َي ْأتِيهِ َ‬
‫ف َتعَْلمُو َ‬
‫‪ )38‬فَسَ ْو َ‬

‫أي من استحق عذاب ال حسب سنته ‪.‬‬

‫(ومن آمن)‪. .‬‬

‫من غير أهلك ‪.‬‬

‫(وما آمن معه إل قليل)‪. .‬‬

‫وقال‪:‬اركبوا فيها باسم ال مجريها ومرساها ‪. .‬‬

‫فنفذ المر وحشر من حشر وما حشر ‪.‬‬

‫وقال‪:‬اركبوا فيها باسم ال مجريها ومرساها ‪ . .‬وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها ‪ ,‬فهي‬
‫في رعاية ال وحماه ‪ . .‬وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان ?!‬

‫الدرس السادس ‪ 43 - 42‬بين نوح وابنه الذي أخذه الطوفان‬

‫ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب‪:‬مشهد الطوفان‪:‬‬

‫وهي تجري بهم في موج كالجبال ‪ ,‬ونادى نوح ابنه ‪ -‬وكان في معزل ‪ -‬يا بني اركب معنا ول تكن مع‬
‫الكافرين ‪ ,‬قال‪:‬سآوى إلى جبل يعصمني من الماء ‪ .‬قال‪:‬ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ‪ .‬وحال‬
‫بينهما الموج فكان من المغرقين ‪. .‬‬

‫إن الهول هنا هولن ‪ .‬هول في الطبيعة الصامتة ‪ ,‬وهول في النفس البشرية يلتقيان‪:‬‬

‫(وهي تجري بهم في موج كالجبال)‪. .‬‬

‫وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ‪ ,‬فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ‪ ,‬وتستيقظ في كيانه‬
‫البوة الملهوفة ‪ ,‬ويروح يهتف بالولد الشارد‪:‬‬

‫(يا بني اركب معنا ول تكن مع الكافرين)‪. .‬‬

‫ولكن البنوة العاقة ل تحفل بالبوة الملهوفة ‪ ,‬والفتوة المغرورة ل تقدر مدى الهول الشامل‪:‬‬
‫(قال‪:‬سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)‪. .‬‬

‫ثم ها هي ذي البوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة المر ترسل النداء الخير‪:‬‬

‫(قال‪:‬ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم)‪.‬‬

‫ل جبال ول مخابئ ولحام ول واق ‪ .‬إل من رحم ال ‪.‬‬

‫وفي لحظة تتغير صفحة المشهد ‪ .‬فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء‪:‬‬

‫(وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)‪. .‬‬

‫وإننا بعد آلف السنين ‪ ,‬لنمسك أنفاسنا ‪ -‬ونحن نتابع السياق ‪ -‬والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد ‪ .‬وهي‬
‫تجري بهم في موج كالجبال ‪ ,‬ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء ‪ .‬وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة‬
‫الدعاء ‪ ,‬والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ‪ ,‬وكأن لم يكن دعاء ول‬
‫جواب !‬

‫وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية ‪ -‬بين الوالد والمولود ‪ -‬كما يقاس بمداه في الطبيعة ‪ ,‬والموج‬
‫يطغى على الذرى بعد الوديان ‪ .‬وإنهما لمتكافئان ‪ ,‬في الطبيعة الصامتة وفي نفس النسان ‪ .‬وتلك سمة بارزة‬
‫في تصوير القرآن ‪.‬‬

‫س َبقَ عََل ْيهِ ا ْلقَوْلُ َو َمنْ آ َمنَ‬


‫ل مَن َ‬
‫جيْنِ ا ْث َنيْنِ وَأَهَْلكَ ِإ ّ‬
‫ل فِيهَا مِن كُلّ زَ ْو َ‬
‫حمِ ْ‬
‫حتّى ِإذَا جَاء َأمْ ُرنَا َوفَارَ ال ّتنّو ُر قُلْنَا ا ْ‬
‫َ‬
‫سمِ اللّهِ َمجْرَاهَا َو ُمرْسَاهَا ِإنّ َربّي َلغَفُو ٌر ّرحِيمٌ (‪ )41‬وَ ِهيَ‬
‫ل قَلِيلٌ (‪َ )40‬وقَالَ ا ْر َكبُواْ فِيهَا ِب ْ‬
‫َومَا آ َمنَ َم َعهُ ِإ ّ‬
‫ل َتكُن مّعَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)42‬‬
‫ن فِي َمعْزِلٍ يَا ُب َنيّ ا ْركَب ّم َعنَا َو َ‬
‫ح ا ْبنَهُ َوكَا َ‬
‫جبَالِ َونَادَى نُو ٌ‬
‫ج كَا ْل ِ‬
‫َتجْرِي ِب ِهمْ فِي مَوْ ٍ‬
‫ج َفكَانَ‬
‫حمَ َوحَالَ َب ْي َن ُهمَا ا ْلمَوْ ُ‬
‫ل مَن رّ ِ‬
‫صمَ ا ْليَ ْو َم مِنْ َأ ْمرِ الّلهِ ِإ ّ‬
‫ص ُمنِي ِمنَ ا ْلمَاء قَالَ لَ عَا ِ‬
‫جبَلٍ َي ْع ِ‬
‫قَالَ سَآوِي إِلَى َ‬
‫مِنَ ا ْل ُم ْغرَقِينَ (‪)43‬‬
‫الدرس السابع‪44:‬إنتهاء الطوفان واستقرار السفينة‬

‫وتهدأ العاصفة ‪ ,‬ويخيم السكون ‪ ,‬ويقضى المر ‪ ,‬ويتمشى الستقرار كذلك في اللفاظ وفي إيقاعها في النفس‬
‫والذن‪:‬‬
‫(وقيل‪:‬يا أرض ابلعي ماءك ‪ ,‬ويا سماء أقلعي ‪ ,‬وغيض الماء ‪ ,‬وقضي المر ‪ ,‬واستوت على الجودي ‪ ,‬وقيل‬
‫بعدا للقوم الظالمين)‪. .‬‬

‫ويوجه الخطاب إلى الرض وإلى السماء بصيغة العاقل ‪ ,‬فتستجيب كلتاهما للمر الفاصل فتبلع الرض ‪,‬‬
‫وتكف السماء‪:‬‬

‫(وقيل‪:‬يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي)‪.‬‬

‫(وغيض الماء)‪. .‬‬

‫ابتلعته الرض في جوفها وغار من سطحها ‪.‬‬

‫(وقضي المر)‪. .‬‬

‫ونفذ القضاء‬

‫(واستوت على الجودي)‪. .‬‬

‫ورست رسو استقرار على جبل الجودي ‪. .‬‬

‫(وقيل بعدا للقوم الظالمين)‪. .‬‬

‫وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير ‪(. .‬قيل)على صيغة المجهول فل يذكر من قال ‪,‬‬
‫من قبيل لف موضوعهم ومواراته‪:‬‬

‫(وقيل بعدا للقوم الظالمين)‪. .‬‬

‫بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ‪ ,‬وبعدا لهم من رحمة ال فقد لعنوا ‪ ,‬وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا ‪ . .‬وما‬
‫عادوا يستحقون ذكرا ول ذكرى !‬

‫الدرس الثامن‪ 48 - 45:‬عتاب نوح لسؤاله عن ابنه الغريق واستئناف الحياة من جديد على الرض‬

‫والن وقد هدأت العاصفة ‪ ,‬وسكن الهول ‪ ,‬واستوت على الجودي ‪ .‬الن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد‬
‫المفجوع‪:‬‬

‫(ونادى نوح ربه ‪ ,‬فقال‪:‬رب إن ابني من أهلي ‪ ,‬وإن وعدك الحق ‪ ,‬وأنت أحكم الحاكمين)‪.‬‬
‫رب إن ابني من أهلي ‪ ,‬وقد وعدتني بنجاة أهلي ‪ ,‬وإن وعدك الحق ‪ ,‬وأنت أحكم الحاكمين ‪ .‬فل تقضي إل‬
‫عن حكمة وتدبير ‪. .‬‬

‫قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ‪ ,‬ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء ‪. .‬‬

‫وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها ‪ .‬فالهل ‪ -‬عند ال وفي دينه وميزانه ‪ -‬ليسوا قرابة الدم ‪ ,‬إنما هم قرابة‬
‫العقيدة ‪ .‬وهذا الولد لم يكن مؤمنا ‪ ,‬فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن ‪ . .‬جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير‬
‫وتوكيد ; وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد‪:‬‬

‫(قال‪:‬يا نوح إنه ليس من أهلك ‪ ,‬إنه عمل غير صالح ‪ ,‬فل تسألن ما ليس لك به علم ‪ .‬إني أعظك أن تكون‬
‫من الجاهلين)‪. .‬‬

‫ستَوَتْ عَلَى ا ْلجُو ِديّ َوقِيلَ ُبعْدا لّلْ َق ْومِ‬


‫ل ْمرُ وَا ْ‬
‫سمَاء َأقِْلعِي َوغِيضَ ا ْلمَاء َو ُقضِيَ ا َ‬
‫ض ابَْلعِي مَاءكِ َويَا َ‬
‫َوقِيلَ يَا َأرْ ُ‬
‫ح َكمُ ا ْلحَا ِكمِينَ (‪)45‬‬
‫ت َأ ْ‬
‫حقّ وَأَن َ‬
‫ع َدكَ ا ْل َ‬
‫ن ا ُبنِي ِمنْ أَهْلِي وَإِنّ َو ْ‬
‫ب إِ ّ‬
‫الظّالِمِينَ (‪َ )44‬ونَادَى نُوحٌ ّربّ ُه فَقَالَ رَ ّ‬

‫إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين ‪ .‬حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا ‪ .‬عروة العقيدة التي تربط بين‬
‫الفرد والفرد مال يربطه النسب والقرابة‪:‬‬

‫(إنه ليس من أهلك ‪ .‬إنه عمل غير صالح)‪. .‬‬

‫فهو منبت منك وأنت منبت منه ‪ ,‬ولو كان ابنك من صلبك ‪ ,‬فالعروة الولى مقطوعة ‪ ,‬فل رابطة بعد ذلك ول‬
‫وشيجة ‪.‬‬

‫ولن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا ل يراه قد تحقق ‪ . .‬كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد‪:‬‬

‫(فل تسألن ما ليس لك به علم ‪ .‬إني أعظك أن تكون من الجاهلين)‪. .‬‬

‫إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ‪ ,‬أو حقيقة وعد ال وتأويله ‪ ,‬فوعد ال قد‬
‫أول وتحقق ‪ ,‬ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق ‪.‬‬

‫ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ‪ ,‬فيلجأ إليه ‪ ,‬يعوذ به ‪ ,‬ويطلب‬
‫غفرانه ورحمته‪:‬‬

‫(قال‪:‬رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ‪ ,‬وإل تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)‪. .‬‬
‫وأدركت رحمة ال نوحا ‪ ,‬تطمئن قلبه ‪ ,‬وتباركه هو والصالح من نسله ‪ ,‬فأما الخرون فيمسهم عذاب أليم‪:‬‬

‫(قيل ; يا نوح اهبط بسلم منا ‪ ,‬وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ‪ .‬وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب‬
‫أليم)‪. .‬‬

‫وكانت خاتمة المطاف‪:‬النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته ; والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع‬
‫الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الليم ‪ . .‬ذات البشرى وذات الوعيد ‪ ,‬اللذان مرا في مقدمة السورة ‪ .‬فجاء‬
‫القصص ليترجمهما في الواقع المشهود ‪. .‬‬

‫الدرس التاسع‪ 49:‬من أهداف القصص القرآني‬

‫ومن ثم يجيء التعقيب‪:‬‬

‫(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ول قومك من قبل هذا ‪ ,‬فاصبر إن العاقبة للمتقين)‪.‬‬

‫فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة‪:‬‬

‫حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون ‪ .‬فهذا القصص غيب من الغيب ‪ ,‬ما كان يعلمه النبي ‪ ,‬وما كان معلوما‬
‫لقومه ‪ ,‬ول متداول في محيطه ‪ .‬إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير ‪.‬‬

‫وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني ‪ .‬فهي هي ‪ .‬والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير ‪.‬‬

‫وحقيقة تكرار العتراضات والتهامات من المكذبين على الرغم من اليات والعبر والبينات التي ل تمنع جيل‬
‫أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل ‪.‬‬

‫وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ‪ ,‬كما يبشر النبي وينذر ‪ ,‬وهذا شاهد من التاريخ ‪.‬‬

‫وحقيقة السنن الجارية التي ل تتخلف ول تحابي ول تحيد‪( :‬والعاقبة للمتقين)‪ . .‬فهم الناجون وهم المستخلفون‬
‫‪.‬‬

‫ن مِنَ‬
‫ظكَ أَن َتكُو َ‬
‫عُ‬‫س َلكَ ِبهِ عِ ْلمٌ ِإنّي أَ ِ‬
‫سأَلْنِ مَا َليْ َ‬
‫غ ْيرُ صَالِحٍ فَلَ َت ْ‬
‫عمَلٌ َ‬
‫ك ِإنّهُ َ‬
‫ح ِإنّ ُه َليْسَ ِمنْ أَهِْل َ‬
‫قَالَ يَا نُو ُ‬
‫سرِينَ‬
‫ح ْمنِي َأكُن مّنَ ا ْلخَا ِ‬
‫ل َتغْ ِفرْ لِي َوتَ ْر َ‬
‫ك مَا َليْسَ لِي ِبهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّ‬
‫سأَلَ َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ك أَ ْ‬
‫ا ْلجَاهِلِينَ (‪ )46‬قَالَ رَبّ ِإنّي َأعُوذُ ِب َ‬
‫عذَابٌ أَلِيمٌ (‬
‫سهُم ّمنّا َ‬
‫س ُن َم ّتعُ ُهمْ ُثمّ َي َم ّ‬
‫لمٍ ّمنّا َوبَركَاتٍ عََل ْيكَ وَعَلَى ُأ َممٍ ّممّن ّم َعكَ وَُأ َممٌ َ‬
‫ط ِبسَ َ‬
‫ح ا ْهبِ ْ‬
‫(‪ )47‬قِيلَ يَا نُو ُ‬
‫‪)48‬‬
‫وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل ‪ . .‬إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم‬
‫في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بل منازع ول شريك ‪.‬‬

‫تعقيب على قصة نوح‪:‬دروس وعبر ودللت منها‬

‫وبعد ‪ . .‬أكان الطوفان عاما في الرض ? أم إنه كان في تخوم الرض التي بعث فيها نوح ? وأين كانت‬
‫هذه الرض ? وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث ? أسئلة ل جواب عليها إل الظن الذي ل‬
‫يغني من الحق شيئا ; وإل السرائيليات التي ل تستند إلى دليل صحيح ‪ . .‬وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق‬
‫أهداف القصص القرآني في كثير ول قليل ‪.‬‬

‫ولكن هذا ل يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك‬
‫الزمان ‪ .‬وأن الرض التي يسكنونها كانت هي الرض المعمورة في ذلك الحين ‪ .‬وأن الطوفان قد عم هذه‬
‫الرقعة ‪ ,‬وقضى على جميع الخلئق التي تقطنها ‪ -‬فيما عدا ركب السفينة الناجين ‪.‬‬

‫وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد‬
‫السحيق ‪ ,‬الذي ل يعرف "التاريخ" عنه شيئا ‪ .‬وإل فيومها أين كان "التاريخ" ?! إن التاريخ مولود حدث لم‬
‫يسجل من أحداث البشرية إل القليل ! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب ‪ ,‬والصدق والكذب ‪ ,‬والتجريح‬
‫والتعديل ! وما ينبغي قط أن يستفتي ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق ‪ .‬ومجرد استفتائه في مثل هذا‬
‫الشأن قلب للوضاع ‪ ,‬وانتكاسة ل تصيب عقل قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين !‬

‫ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول ‪,‬‬
‫بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير ‪ . .‬وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه "العهد‬
‫القديم" تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح ‪ . .‬ولكن هذا كله شيء ل ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني‬
‫عن الطوفان ; ول ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق ‪ .‬بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الساطير‬
‫المجهولة المصدر والسانيد ‪ .‬وإن كان لوجود هذه الخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دللته في‬
‫أن الطوفان قد كان في أرض هذه القوام ; أو على القل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا‬
‫في الرض بعد ذلك وعمروا الرض من جديد ‪. .‬‬

‫وينبغي أن نذكر أن ما يسمى "بالكتاب المقدس" ‪ -‬سواء في ذلك "العهد القديم" المحتوي على كتب اليهود أو‬
‫"العهد الجديد" المحتوي على أناجيل النصارى ‪ -‬ليس هو الذي نزل من عند ال ‪ .‬فالتوراة التي أنزلها ال على‬
‫موسى قد حرقت نسخها الصلية على يد البابليين عند سبي اليهود ‪ .‬ولم تعد كتابتها إل بعد قرون عديدة ‪-‬‬
‫قبيل ميلد المسيح بنحو خمسة قرون ‪ -‬وقد كتبها عزرا ‪ -‬وقد يكون هو عزير ‪ -‬وجمع فيها بقايا من التوراة‬
‫‪ .‬أما سائرها فهو مجرد تأليف ! وكذلك الناجيل فهي جميعا ل تحوي إل ما حفظته ذاكرة تلمذة المسيح‬
‫وتلمذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير ! ‪ . .‬ومن ثم‬
‫ل يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من المور !‬

‫ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم ‪ . .‬وهي ‪ -‬في الحقيقة ‪ -‬عبر شتى ‪,‬‬
‫ل عبرة واحدة ‪ .‬وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية ‪ ,‬قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة‬
‫هود‪:‬‬

‫إن قوم نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هؤلء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ‪ ,‬ومدى إصرارهم على باطلهم ‪ ,‬ومدى‬
‫استنكارهم لدعوة السلم الخالص التي حملها نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬إليهم ‪ ,‬وخلصتها‪:‬التوحيد الخالص الذي‬
‫يفرد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بالدينونة والعبودية ; ول يجعل لحد معه صفة الربوبية ‪. .‬‬

‫إن قوم نوح هؤلء ‪ . .‬هم ذرية آدم ‪ . .‬وآدم ‪ -‬كما نعلم من قصته في سورة العراف من قبل ‪ -‬وفي سورة‬
‫البقرة كذلك ‪ -‬قد هبط إلى الرض ليقوم بمهمة الخلفة فيها ‪ -‬وهي المهمة التي خلقه ال لها وزوده بالكفايات‬
‫والستعدادات اللزمه لها ‪ -‬بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ‪ ,‬وكيف تلقى من ربه كلمات‬
‫فتاب عليه بها ‪ .‬وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق ‪ -‬هو وزوجه وبنوه ‪ -‬أن(يتبع)ما يأتيه من هدى ال ‪,‬‬
‫ول يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين ‪.‬‬

‫وإذن فقد هبط آدم إلى الرض مسلما ل متبعا هداه ‪ . .‬وما من شك أنه علم بنيه السلم جيل بعد جيل ; وأن‬
‫السلم كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الرض ; حيث لم تكن معها عقيدة أخرى ! فإذا نحن رأينا قوم‬
‫نوح ‪ -‬وهم من ذرية آدم بعد أجيال ل يعلم عددها إل ال ‪ -‬قد صاروا إلى هذه الجاهلية ‪ -‬التي وصفتها‬
‫القصة في هذه السورة ‪ -‬فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها‬
‫وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا ‪ .‬وأنها انحرفت عن السلم إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم ;‬
‫وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية ‪ .‬تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو ال وعدو الناس ‪ ,‬كلما تراخوا‬
‫عن الستمساك بهدى ال ‪ ,‬واتباعه وحده ‪ ,‬وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ول صغيرة ‪ . .‬ولقد خلق ال‬
‫النسان ومنحه قدرا من الختيار ‪ -‬هو مناط البتلء ‪ -‬وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي ال وحده فل‬
‫يكون لعدوه من سلطان عليه ‪ ,‬كما يملك أن ينحرف ‪ -‬ولو قيد شعرة ‪ -‬عن هدى ال إلى تعاليم غيره ;‬
‫فيجتاله الشيطان حتى يقذف به ‪ -‬بعد أشواط ‪ -‬إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم ‪-‬‬
‫النبي المسلم ‪ -‬بعد تلك الجيال التي ل يعلمها إل ال ‪.‬‬

‫وهذه الحقيقة ‪ . .‬حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الرض هي السلم القائم على توحيد الدينونة والربوبية‬
‫والقوامة ل وحده ‪ . .‬تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الديان المقارنة " وغيرهم من‬
‫التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة ‪ .‬سبقته أطوار شتى من التعدد‬
‫والتثنية لللهة ‪ .‬ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الرواح ‪ ,‬وتأليه الشموس والكواكب ‪ . .‬إلى آخر ما تخبط‬
‫فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة ; يهدف إلى‬
‫تحطيم قاعدة الديان السماوية والوحي اللهي والرسالت من عند ال وإثبات أن الديان من صنع البشر ;‬
‫وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان !‬

‫وينزلق بعض من يكتبون عن السلم مدافعين ; فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ‬
‫الديان ‪ -‬وفق ذلك المنهج الموجه ! ‪ -‬من حيث ل يشعرون ! وبينما هم يدافعون عن السلم متحمسين‬
‫يحطمون أصل العتقاد السلمي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم ‪ .‬حين يقرر أن آدم ‪ -‬عليه‬
‫السلم ‪ -‬هبط إلى الرض بعقيدة السلم ‪ .‬وأن نوحا ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬واجه ذراري آدم الذين اجتالهم‬
‫الشيطان عن السلم إلى الجاهلية الوثنية بذلك السلم نفسه ‪ . .‬القائم على التوحيد المطلق ‪ . .‬وأن الدورة‬
‫تجددت بعد نوح فخرج الناس من السلم إلى الجاهلية ; وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالسلم ‪ . .‬القائم‬
‫على التوحيد المطلق ‪ . .‬وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل العتقاد ‪ -‬إنما كان الترقي‬
‫والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة ‪ -‬وأن ملحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية ل‬
‫يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة ‪ .‬إنما يدل على أن عقيدة التوحيد‬
‫على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الجيال التالية ‪ -‬حتى بعد انحراف الجيال عنها ‪ -‬ترقي عقائدهم‬
‫الجاهلية ذاتها ; حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني ‪ .‬أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في‬
‫تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا ! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت ‪ ,‬لنها ليست نابعة من أفكار‬
‫البشر ومعلوماتهم المترقية ; إنما هي آتية لهم من عند ال سبحانه ‪ .‬فهي حق منذ اللحظة الولى ‪ ,‬وهي كاملة‬
‫منذ اللحظة الولى ‪. .‬‬

‫هذا ما يقرره القرآن الكريم ; ويقوم عليه التصور السلمي ‪ .‬فل مجال ‪ -‬إذن ‪ -‬لباحث مسلم ‪ -‬وبخاصة إذا‬
‫كان يدافع عن السلم ! ‪ -‬أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم ‪ ,‬إلى شيء مما‬
‫تخبط فيه نظريات علم الديان المقارنة ‪ .‬تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا !‬

‫ومع أننا هنا ‪ -‬في ظلل القرآن ‪ -‬ل نناقش الخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن السلم ‪ -‬إذ أن‬
‫مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل ‪ . . -‬ولكننا نلم بنموذج واحد ‪ ,‬نعرضه في مواجهة المنهج القرآني‬
‫والتقريرات القرآنية في هذه القضية ‪. .‬‬

‫كتب الستاذ العقاد في كتابه‪":‬ال" في فصل أصل العقيدة‪:‬‬

‫‪" . .‬ترقى النسان في العقائد ‪ .‬كما ترقى في العلوم والصناعات ‪.‬‬


‫"فكانت عقائده الولى مساوية لحياته الولى ‪ ,‬وكذلك كانت علومه وصناعاته ‪ .‬فليست أوائل العلم والصناعة‬
‫بأرقى من أوائل الديانات والعبادات ‪ ,‬وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في‬
‫الخرى ‪.‬‬

‫"وينبغي أن تكون محاولت النسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولته في سبيل العلوم والصناعات ‪" .‬‬
‫لن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة‬
‫والصناعة تارة أخرى ‪.‬‬

‫"وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة ‪ ,‬وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه البدان ‪ ,‬ولبثوا إلى زمن قريب‬
‫يقولون بدورانها حول الرض ‪ ,‬ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر اللغاز والحلم ‪ .‬ولم يخطر لحد‬
‫أن ينكر وجود الشمس لن العقول كانت في ظلم من أمرها فوق ظلم ‪ .‬ولعلها ل تزال ‪.‬‬

‫"فالرجوع إلى أصول الديان في عصور الجاهلية الولى ل يدل على بطلن التدين ‪ ,‬ول على أنها تبحث عن‬
‫محال ‪ .‬وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد ; وأن‬
‫الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر ‪ ,‬وطورا بعد طور ‪ .‬وأسلوبا بعد أسلوب ‪ ,‬كما يستعدون لعرفان‬
‫الحقائق الصغرى ‪ ,‬بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل‬
‫ويتناولها الحس والعيان ‪.‬‬

‫"وقد أسفر علم المقابلة بين الديان عن كثير من الضللت والساطير التي آمن بها النسان الول ‪ ,‬ول تزال‬
‫لها بقية شائعة بين القبائل البدائية ‪ ,‬أو بين أمم الحضارة العريقة ‪ .‬ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم‬
‫عن شيء غير ذلك ‪ ,‬ول أن تكون الديانات الولى على غير ما كانت عليه من الضللة والجهالة ‪ .‬فهذه هي‬
‫وحدهاالنتيجة المعقولة التي ل يترقب العقل نتيجة غيرها ‪ .‬وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء ‪ ,‬أو‬
‫يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين ‪ .‬فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الديان البدائية ليثبت‬
‫أن الولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء ‪ ,‬إنما يبحث عن محال ‪. . .‬‬

‫كذلك كتب في فصل‪":‬أطوار العقيدة اللهية " في الكتاب نفسه‪:‬‬

‫"يعرف علماء المقابلة بين الديان ثلثة أطوار عامة مرت بها المم البدائية في اعتقادها باللهة والرباب‪:‬‬

‫وهي دور التعدد‬

‫ودور التمييز والترجيح‬

‫ودور الوحدانية‬
‫"ففي دور التعدد كانت القبائل الولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات ‪ ,‬وقد تتجاوز العشرات إلى المئات ‪.‬‬
‫ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده ‪ ,‬أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور ‪ ,‬وتقبل‬
‫الصلوات والقرابين ‪.‬‬

‫"وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الرباب على كثرتها ‪ ,‬ويأخذ رب منها في البروز‬
‫والرجحان على سائرها ‪ .‬إما لنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الخرى بالزعامة ‪ ,‬وتعتمد عليها‬
‫في شؤون الدفاع والمعاش ‪ ,‬وإما لنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها‬
‫الرباب المختلفة ‪ ,‬كأن يكون رب المطر والقليم في حاجة إليه ‪ ,‬أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء‬
‫أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية ‪.‬‬

‫"وفي الدور الثالث تتوحد المة ‪ ,‬فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الرباب في كل إقليم من‬
‫القاليم المتفرقة ‪ .‬ويحدث في هذا الدور أن تفرض المة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها‬
‫وصاحب عرشها ‪ ,‬ويحدث أيضا أن ترضى من إله المة المغلوبة بالخضوع للهها ‪ ,‬مع بقائه وبقاء عبادته‬
‫كبقاء التابع للمتبوع ‪ ,‬والحاشية للملك المطاع ‪.‬‬

‫"ول تصل المة إلى هذه الوحدانية الناقصة إل بعد أطوارا من الحضارة تشيع فيها المعرفة ‪ ,‬ويتعذر فيها على‬
‫العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية ‪ ,‬فتصف ال بما هو أقرب إلى الكمال‬
‫والقداسة من صفات اللهة المتعددة في أطوارها السابقة ‪ ,‬وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلقتها‬
‫بإرادة ال وحكمته العالية ‪ ,‬وكثيرا ما يتفرد الله الكبر في هذه المم بالربوبية الحقة ‪ ,‬وتنزل الرباب‬
‫الخرى إلى مرتبة الملئكة أو الرباب المطرودين من الحظيرة السماوية ‪ " . . .‬الخ ‪.‬‬

‫وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين‬
‫ينشئون عقائدهم بأنفسهم ; ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية ‪ .‬وأن التطور‬
‫من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الجمال ‪. .‬‬

‫وهذا واضح من الجملة الولى في تقديم المؤلف لكتابه‪":‬موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة اللهية ‪ ,‬منذ أن اتخذ‬
‫النسان ربا ‪ ,‬إلى أن عرف ال الحد ‪ ,‬واهتدى إلى نزاهة التوحيد" ‪. . .‬‬

‫والذي ل شك فيه أن ال سبحانه يقرر في كتابه الكريم ‪ ,‬تقريرا واضحا جازما ‪ ,‬شيئا آخر غير ما يقرره‬
‫صاحب كتاب‪":‬ال" متأثرا فيه بمنهج علماء الديان المقارنة ‪ . .‬وأن الذي يقرره ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أن آدموهو‬
‫أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة ‪ ,‬وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية ‪ ,‬وعرف‬
‫الدينونة ل وحده باتباع ما يتلقى منه وحده ‪ .‬وأنه عرف بنيه بهذه العقيدة ‪ ,‬فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ‬
‫البشرية ل تعرف إل السلم دينا ‪ ,‬وإل التوحيد عقيدة ‪ . .‬وأنه لما طال المد على الجيال المتتابعة من ذرية‬
‫آدم انحرفت عن التوحيد ‪ . .‬ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد ‪ . .‬ودانت لشتى الرباب الزائفة ‪ . . .‬حتى‬
‫جاءها نوح عليه السلم بالتوحيد من جديد ‪ .‬وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ; ولم ينج إل‬
‫المسلمون الموحدون الذين يعرفون "نزاهة التوحيد" وينكرون التعدد والتثنية وسائر الرباب والعبادات الجاهلية‬
‫! ولنا أن نجزم أن أجيال من ذراري هؤلء الناجين عاشت كذلك بالسلم القائم على التوحيد المطلق ‪ .‬قبل‬
‫أن يطول عليهم المد ‪ ,‬ويعودوا إلى النحراف عن التوحيد من جديد ‪ . .‬وأنه هكذا كان شأن كل رسول‪(:‬وما‬
‫أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون)‪. .‬‬

‫والذي لشك فيه أن هذا شيء ‪ ,‬والذي يقرره علماء الديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب‪":‬ال" شيء آخر‬
‫‪ .‬وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها ‪ . .‬وآراء الباحثين في تاريخ الديان ليست‬
‫سوى نظريات يعارض بعضها بعضا ‪ ,‬فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين !‬

‫وما من شك أنه حين يقرر ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع ‪ ,‬ويقرر غيره أمرا‬
‫آخر مغايرا له تمام المغايرة ‪ ,‬فإن قول ال يكون أولى بالتباع ‪ .‬وبخاصة ممن يدافعون عن السلم ;‬
‫ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة ‪ . .‬وأن هذا الدين ل يخدم بنقض قاعدته‬
‫العتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند ال ‪ ,‬ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم ; وإنه جاء بالتوحيد منذ أقدم‬
‫العصور ولم يجيء بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ ‪ ,‬ول في أيه رسالة ‪ .‬كما أنه ل يخدم بترك‬
‫تقريراته إلى تقريرات علماء الديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلء إنما يعملون وفق منهج موجه‬
‫لتدمير القاعدة الساسية لدين ال كله ; وهي أنه وحي من ال ‪ ,‬وليس من وحي الفكر البشري المترقي‬
‫المتطور ! وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية !‬

‫ولعل هذه اللمحة المختصرة ‪ -‬التي ل نملك الستطراد فيها في كتاب الظلل ‪ -‬تكشف لنا عن مدى الخطورة‬
‫في تلقي مفهوماتنا السلمية ‪ -‬في أي جانب من جوانبها ‪ -‬عن مصدر غير إسلمي ‪ .‬كما تكشف لنا عن‬
‫مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون‬
‫منها ‪ .‬حتى وهم يتصدون لرد الفتراءات عن السلم من أعدائه ‪( . .‬إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)‪. .‬‬

‫ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح ‪ . .‬نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله !‬

‫إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا ‪ . .‬وقفة على مفرق الطريق‬
‫تكشف معالم الطريق ‪. .‬‬

‫(وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن ‪ ,‬فل تبتئس بما كانوا يفعلون ‪ .‬واصنع الفلك بأعيننا‬
‫ووحينا ‪ ,‬ول تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ‪). . .‬‬
‫(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا‪:‬احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك ‪ -‬إل من سبق عليه القول ‪ -‬ومن‬
‫آمن ‪ ,‬وما آمن معه إل قليل ‪). . .‬‬

‫(وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل ‪:-‬يا بني اركب معنا ‪ ,‬ول تكن مع‬
‫الكافرين ‪ .‬قال‪:‬سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ‪ ,‬قال‪:‬ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ‪ ,‬وحال‬
‫بينهما الموج فكان من المغرقين ‪). .‬‬

‫(ونادى نوح ربه ‪ ,‬فقال‪:‬رب إن ابني من أهلي ‪ ,‬وإن وعدك الحق ‪ ,‬وأنت أحكم الحاكمين ‪ .‬قال‪:‬يا نوح إنه‬
‫ليس من أهلك ‪ ,‬إنه عمل غير صالح ‪ ,‬فل تسألن ما ليس لك به علم ‪ ,‬إني أعظك أن تكون من الجاهلين ‪.‬‬
‫قال‪:‬رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ‪ ,‬وإل تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين)‪. .‬‬

‫إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ‪ ,‬وتتعلق بآفاق‬
‫وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم ‪.‬‬

‫إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب ; وليست وشيجة الرض والوطن ‪ ,‬وليست وشيجة القوم والعشيرة‬
‫‪ ,‬وليست وشيجة اللون واللغة ‪ ,‬وليست وشيجة الجنس والعنصر ‪ ,‬وليست وشيجة الحرفة والطبقة ‪ . .‬إن هذه‬
‫الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلقة بين الفرد والفرد ; كما قال ال سبحانه وتعالى لعبده نوح ‪ -‬عليه‬
‫السلم ‪ -‬وهو يقول‪( :‬رب إن ابني من أهلي)‪( . .‬يا نوح إنه ليس من أهلك)ثم بين له لماذا يكون ابنه ‪ . .‬ليس‬
‫من أهله ‪( . .‬إنه عمل غير صالح)‪ . .‬إن وشيجة اليمان قد انقطعت بينكما يا نوح‪( :‬فل تسألن ما ليس لك به‬
‫علم)فأنت تحسب أنه من أهلك ‪ ,‬ولكن هذا الحسبان خاطئ ‪ .‬أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ‪ ,‬ولو‬
‫كان هو ابنك من صلبك !‬

‫وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ‪ ,‬وبين نظرات‬
‫الجاهلية المتفرقة ‪ . .‬إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب ; وآنا هي الرض والوطن ‪ ,‬وآنا هي‬
‫القوم والعشيرة ‪ ,‬وآنا هي اللون واللغة ‪ ,‬وآنا هي الجنس والعنصر ‪ ,‬وآنا هي الحرفة والطبقة ! تجعلها آنا هي‬
‫المصالح المشتركة ‪ ,‬أو التاريخ المشترك ‪ .‬أو المصير المشترك ‪ . .‬وكلها تصورات جاهلية ‪ -‬على تفرقها أو‬
‫تجمعها ‪ -‬تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور السلمي !‬

‫والمنهج الرباني القويم ‪ -‬ممثل في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول [ ص ] وهي‬
‫من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه ‪ -‬قد أخذ المة المسلمة بالتربية على ذلك الصل الكبير ‪ . .‬والمعلم‬
‫الواضح البارز في مفرق الطريق ‪. .‬‬

‫وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ‪ ,‬ضرب أمثاله لشتى‬
‫الوشائج والروابط الجاهلية الخرى ‪ ,‬ليقرر من وراء هذه المثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها ‪. .‬‬
‫ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وأبيه وقومه كذلك‪:‬‬

‫(واذكر في الكتاب إبراهيم ‪ ,‬إنه كان صديقا نبيا ‪ .‬إذ قال لبيه‪:‬يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني‬
‫عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ‪ ,‬فاتبعني أهدك صراطا سويا ‪ .‬يا أبت ل تعبد الشيطان‬
‫‪ ,‬إن الشيطان كان للرحمن عصيا ‪ .‬يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطانوليا ‪. .‬‬
‫قال‪:‬أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لرجمنك ! واهجرني مليا ‪ .‬قال‪:‬سلم عليك سأستغفر لك‬
‫ربي ‪ ,‬إنه كان بي حفيا ‪ ,‬وأعتزلكم وما تدعون من دون ال وأدعو ربي ‪ ,‬عسى أل أكون بدعاء ربي شقيا ‪.‬‬
‫فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق ويعقوب وكل جعلنا نبيا ; ووهبنا لهم من رحمتنا ‪,‬‬
‫وجعلنا لهم لسان صدق عليا)‪ [ . . .‬مريم‪. ] 50 - 41:‬‬

‫وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه ال سبحانه ولقنه ‪ ,‬وهو يعطيه عهده وميثاقه ‪.‬‬
‫ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه‪:‬‬

‫وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ‪ ,‬فأتمهن ‪ ,‬قال‪:‬إني جاعلك للناس إماما ‪ ,‬قال‪:‬ومن ذريتي ? قال‪:‬ل ينال عهدي‬
‫الظالمين ‪. .‬‬

‫وإذ قال إبراهيم‪:‬رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ‪ -‬من آمن منهم بال واليوم الخر ‪.‬‬
‫قال‪:‬ومن كفر فأمتعه قليل ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ‪ [ . .‬البقرة‪] 126 - 124:‬‬

‫وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه ‪ ,‬وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ‪ ,‬ولوط وامرأته ‪ .‬وفي‬
‫الجانب الخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون‪:‬‬

‫ضرب ال مثل للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ‪ ,‬كانتا تحت عبدين من عبادنا الصالحين ‪ ,‬فخانتاهما ‪ ,‬فلم‬
‫يغنيا عنهما من ال شيئا ‪ ,‬وقيل‪:‬ادخل النار مع الداخلين ‪. . .‬‬

‫(وضرب ال مثل للذين آمنوا امرأة فرعون ‪ ,‬إذ قالت‪:‬رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ‪ ,‬ونجني من فرعون‬
‫وعمله ‪ ,‬ونجني من القوم الظالمين)‪ [ . . .‬التحريم‪] 11 - 10:‬‬

‫وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ‪ ,‬ومصالحهم‬
‫وماضيهم ومصيرهم ‪ .‬وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم ‪ .‬وما كان من الفتية أصحاب‬
‫الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ‪. . .‬‬

‫(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ‪ ,‬إذ قالوا لقومهم‪:‬إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون ال ‪,‬‬
‫كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بال وحده ‪ [ . .). . .‬الممتحنة‪. ] 4:‬‬
‫أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ? إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا‪:‬ربنا آتنا من‬
‫لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ‪ ,‬فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ‪ .‬ثم بعثناهم لنعلم أي‬
‫الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ‪ .‬نحن نقص عليك نبأهم بالحق ‪ ,‬إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ‪ ,‬وربطنا‬
‫على قلوبهم إذ قاموا فقالوا‪:‬ربنا رب السماوات والرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا ‪ .‬هؤلء‬
‫قومنا اتخذوا من دونه آلهة ‪ .‬لول يأتون عليهم بسلطان بين ! فمن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? وإذ‬
‫اعتزلتموهم وما يعبدون ‪ -‬إل ال ‪ -‬فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ‪ ,‬ويهيى ء لكم من أمركم‬
‫مرفقا ‪ [ . . .‬الكهف‪. ] 9 - 16:‬‬

‫وبهذه المثلة التي ضربها ال للمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من النبياء والمؤمنين ‪ .‬الذين سبقوها في‬
‫موكب اليمان الضارب في شعاب الزمان ‪ ,‬وضحت معالم الطريق لهذه المة ; وقام هذا المعلم البارز أمامها‬
‫عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم ‪ ,‬ول يقوم على سواها ‪ .‬وطالبها ربها بالستقامة‬
‫على الطريق في حسم ووضوح يتمثلن في مواقف كثيرة ‪ ,‬وفي توجيهات من القرآن كثيرة ‪ . .‬هذه نماذج‬
‫منها ‪. .‬‬

‫(ل تجد قوما يؤمنون بال واليوم الخر يوادون من حاد ال ورسوله ‪ -‬ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم‬
‫أو عشيرتهم ‪ -‬أولئك كتب في قلوبهم اليمان وأيدهم بروح منه ‪ ,‬ويدخلهم جنات تجري من تحتها النهار‬
‫خالدين فيها ‪ ,‬رضي ال عنهم ورضوا عنه ‪ ,‬أولئك حزب ال ‪ ,‬أل إن حزب ال هم المفلحون)‪. . .‬‬
‫[ المجادلة‪] 22:‬‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ‪ ,‬وقد كفروا بما جاءكم من الحق ‪,‬‬
‫يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بال ربكم ‪ ,‬إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ‪ ,‬تسرون‬
‫إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ‪ ,‬ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)‪ [ . . .‬الممتحنة‪] 1:‬‬

‫لن تنفعكم أرحامكم ول أولدكم ‪ ,‬يوم القيامة يفصل بينكم ‪ ,‬وال بما تعملون بصير ‪ .‬قد كانت لكم أسوة حسنة‬
‫في إبراهيم والذين معه ‪ . . .‬الخ ‪ [ . .‬الممتحنة‪] 4 - 3:‬‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على اليمان ‪ ,‬ومن يتولهم منكم فأولئك‬
‫هم الظالمون)‪ [ . . . .‬التوبة‪. ] 23:‬‬

‫(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ‪ ,‬بعضهم أولياء بعض ‪ ,‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم ‪,‬‬
‫إن ال ل يهدي القوم الظالمين)‪ [ . . .‬المائدة‪. ] 51:‬‬

‫وهكذا تقررت تلك القاعدة الصيلة الحاسمة في علقات المجتمع السلمي ; وفي طبيعة بنائه وتكوينه‬
‫العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان ‪ .‬ولم يعد هناك مجال‬
‫للجمع بين "السلم" وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها ال للمة المختارة ‪.‬‬
‫والذين يدعون صفة السلم ‪ ,‬ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلقات الجاهلية التي أحل‬
‫السلم محلها قاعدة العقيدة ‪ ,‬إما أنهم ل يعرفون السلم ; وإما أنهم يرفضونه ‪ .‬والسلم في كلتا الحالتين ل‬
‫يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لنفسهم وهم ل يطبقونها ‪ ,‬بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية‬
‫فعل !‬

‫وندع هذه القاعدة ‪ -‬وقد صارت واضحة تماما ‪ -‬لننظر في جوانب من حكمة ال في إقامة المجتمع السلمي‬
‫على هذه القاعدة ‪. .‬‬

‫إن العقيدة تمثل أعلى خصائص "النسان" التي تفرقه من عالم البهيمة ; لنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه‬
‫وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها ‪ -‬وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه‬
‫الصورة ‪ -‬وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية ‪ ,‬قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من‬
‫خواص النسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان ‪.‬‬

‫ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة ‪ -‬في المجتمع النساني الذي يبلغ ذروة الحضارة النسانية ‪ -‬هي آصرة‬
‫التجمع ‪ .‬لنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص النسان المميزة له عن البهائم ‪ .‬ول تكون آصرة التجمع‬
‫عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه النسان مع البهائم ! من مثل الرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل‬
‫خواص الحظيرة ‪ ,‬وسياج الحظيرة ! ول تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس‬
‫والعنصرواللون واللغة ‪ . .‬فكلها مما يشترك فيه النسان مع البهيمة ‪ .‬وليس هناك إل شؤون العقل والقلب‬
‫التي يختص بها النسان دون البهيمة !‬

‫كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به النسان عن البهائم ‪ . .‬هو عنصر الختيار والرادة ‪ ,‬فكل فرد على‬
‫حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ; وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه‬
‫مختارا ; ونوع المنهج العتقادي والجتماعي والسياسي والقتصادي والخلقي الذي يريد ‪ -‬بكامل حريته ‪-‬‬
‫أن يتمذهب به ويعيش ‪. .‬‬

‫ولكن هذا الفرد ل يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه ‪ .‬كما ل يملك أن يقرر الرض التي يحب‬
‫أن يولد فيها ‪ ,‬ولغة الم التي يريد أن ينشأ عليها ‪ . .‬إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات‬
‫الجاهلية ! ‪ . .‬إن هذه المور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الرض ‪ ,‬ول يؤخذ له فيها مشورة ول‬
‫رأي ; إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره ! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والخرة معا ‪ -‬أو حتى‬
‫في الدنيا وحدها ‪ -‬بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ول مريدا ; وبذلك تسلب‬
‫إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها ; وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم النسان ; بل من قواعد تركيبه‬
‫وتكوينه النساني المميز له من سائر الخلئق !‬
‫ومن أجل المحافظة على خصائص النسان الذاتية ‪ ,‬والمحافظة على الكرامة التي وهبها ال له متمشية مع‬
‫تلك الخصائص ; يجعل السلم العقيدة ‪ -‬التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد ‪ -‬هي‬
‫الصرة التي يقوم عليها التجمع النساني في المجتمع السلمي ; والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد‬
‫بإرادته الذاتية ‪ .‬وينفي أن تكون تلك العوامل الضطرارية ‪ ,‬التي ل يد له فيها ‪ ,‬ول يملك كذلك تغييرها‬
‫باختياره ‪ ,‬هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته ‪.‬‬

‫ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة ‪ -‬وعدم قيامه على العوامل الضطرارية الخرى ‪ -‬أن ينشئ‬
‫مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ; يجيء إليه الفراد من شتى الجناس واللوان واللغات والقوام والدماء‬
‫والنساب والديار والوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي ; ل يصدهم عنه صاد ‪ ,‬ول يقوم في وجوههم‬
‫حاجز ‪ ,‬ول تقف دونه حدود مصطنعة ‪ ,‬خارجة عن خصائص النسان العليا ‪ .‬وأن تصب في هذا المجتمع‬
‫كل الطاقات والخواص البشرية ‪ ,‬وتجتمع في صعيد واحد ‪ ,‬لتنشى ء "حضارة إنسانية " تنتفع بكل خصائص‬
‫الجناس البشرية ; ول تغلق دون كفاية واحدة ‪ ,‬بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والرض ‪. . .‬‬

‫"ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج السلمي في هذه القضية ; ولقامة التجمع السلمي على آصرة‬
‫العقيدة وحدها ‪ ,‬دون أواصر الجنس والرض واللون واللغة والمصالح الرضية القريبة ‪ ,‬والحدود القليمية‬
‫السخيفة ! ولبراز "خصائص النسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلئها ‪ ,‬دون الصفات المشتركة بينه وبين‬
‫الحيوان ‪ . .‬كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع‬
‫الجناس واللوان واللغات ‪ ,‬بل عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع‬
‫السلمي خصائص الجناس البشرية وكفاياتها ‪ ,‬وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ‪ ,‬وأنشأت مركبا‬
‫عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة ‪ .‬وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة‬
‫ضخمة ‪ ,‬تحوي خلصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ‪ ,‬على بعد المسافات وبطء طرق التصال في ذلك‬
‫الزمان ‪.‬‬

‫"لقد اجتمع في المجتمع السلمي المتفوق‪:‬العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي‬
‫والصينيوالهندي والروماني والغريقي والندونيسي والفريقي ‪ . . .‬إلى آخر القوام والجناس ‪. . .‬‬
‫وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع السلمي والحضارة السلمية ‪.‬‬
‫ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما "عربية " إنما كانت دائما "إسلمية " ولم تكن يوما ما "قومية " إنما‬
‫كانت دائما "عقيدية " ‪.‬‬

‫"ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ‪ ,‬وبآصرة الحب ‪ .‬وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة ‪ .‬فبذلوا جميعا‬
‫أقصى كفاياتهم ‪ ,‬وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ‪ ,‬وصبوا خلصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية‬
‫في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة ‪ ,‬وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم‬
‫الواحد ‪ ,‬وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بل عائق ‪ .‬وهذا ما لم يجتمع قط لي تجمع آخر على مدار التاريخ !‬
‫"لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع المبراطورية الرومانية مثل ‪ .‬فقد جمعت بالفعل‬
‫أجناسا متعددة ‪ ,‬ولغات متعددة ‪ ,‬وألوانا متعددة ‪ ,‬وأمزجة متعددة ‪ .‬ولكن هذا كله لم يقم على "آصرة إنسانية "‬
‫ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة ‪ . .‬لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الشراف وطبقة العبيد في‬
‫المبراطورية كلها من ناحية ; وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني ‪ -‬بصفة عامة ‪ -‬وعبودية‬
‫سائر الجناس الخرى ‪ .‬ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع السلمي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع‬
‫السلمي ‪.‬‬

‫"كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى ‪ . .‬تجمع المبراطورية البريطانية مثل ‪ . .‬ولكنه كان‬
‫كالتجمع الروماني ‪ ,‬الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغلليا ‪ ,‬يقوم على أساس سيادة القومية النجليزية ‪,‬‬
‫واستغلل المستعمرات التي تضمها المبراطورية ‪ . .‬ومثله المبراطوريات الوربية كلها ‪ . .‬المبراطورية‬
‫السبانية والبرتغالية في وقت ما ‪ ,‬والمبراطورية الفرنسية ‪ . .‬كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !‬
‫وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر ‪ ,‬يتخطى حواجز الجنس والقوم والرض واللغة واللون ‪.‬‬
‫ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة ‪ ,‬إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " ‪ .‬فكان هذا التجمع هو الوجه‬
‫الخر للتجمع الروماني القديم ‪ . .‬هذا تجمع على قاعدة طبقة "الشراف" وذلك تجمع على قاعدة طبقة‬
‫"الصعاليك" [ البروليتريا ] ; والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد السود على سائر الطبقات الخرى ! وما‬
‫كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إل أسوأ ما في الكائن النساني ‪ . .‬فهو ابتداء قائم على أساس‬
‫إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها ‪ .‬باعتبار أن "المطالب الساسية " للنسان هي "الطعام‬
‫والمسكن والجنس" ‪ -‬وهي مطالب الحيوان الولية ‪ -‬وباعتبار أن تاريخ النسان هو تاريخ البحث عن‬
‫الطعام !!‬

‫"لقد تفرد السلم بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص النسان وتنميتها وإعلئها في بناء المجتمع‬
‫النساني ‪ . .‬وما يزال متفردا ‪ . .‬والذين يعدلون عنه إلى أى منهج آخر ‪ ,‬يقوم على أية قاعدة أخرى ‪ ,‬من‬
‫القوم أو الجنس أو الرض أو الطبقة ‪ . .‬إلى آخر هذا النتن السخيف السخيف ‪ ,‬هم أعداء "النسان" حقا ! هم‬
‫الذين ل يريدون لهذا النسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره ال ; ول يريدون لمجتمعه‬
‫أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق‬

‫ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ‪ ,‬الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته ; وهم الذين يقول ال‬
‫تعالى فيهم‪( :‬الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)‪ . .‬لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس‬
‫العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين ‪ ,‬وقوة المجتمع السلمي الذي يقوم على هذا الساس ‪ . .‬ولما كانوا‬
‫بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ; وشفاء ما في صدورهم من‬
‫هذا الدين وأهله ; ولستغللهم كذلك واستغلل مقدراتهم وديارهم وأموالهم ‪ . .‬لما كانوا بصدد تلك المعركة‬
‫مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ; وأن يقيموا لهله المجتمعين على إله واحد ‪,‬‬
‫أصناما تعبد من دون ال ‪ ,‬اسمها تارة "الوطن" واسمها تارة "القوم" واسمها تارة "الجنس" ‪ .‬وظهرت هذه‬
‫الصنام على مراحل التاريخ تارة باسم "الشعوبية " وتارة باسم "الجنسية الطورانية " وتارة باسم "القومية‬
‫العربية " وتارة بأسماء شتى ‪ ,‬تحملها جبهات شتى ‪ ,‬تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع السلمي الواحد‬
‫القائم على أساس العقيدة ‪ ,‬المنظم بأحكام الشريعة ‪ . . .‬إلى أن وهنت القاعدة الساسية تحت المطارق‬
‫المتوالية ‪ ,‬وتحت اليحاءات الخبيثة المسمومة ; وإلى أن أصبحت تلك "الصنام" مقدسات يعتبر المنكر لها‬
‫خارجا على دين قومه ! أو خائنا لمصالح بلده !!!‬

‫وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع‬
‫السلمي الفريد في التاريخ ‪ . .‬كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ‪ ,‬الذي جرب سلح "القومية " في تحطيم‬
‫التجمع المسيحي ‪ ,‬وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية ‪ . .‬وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول‬
‫الجنس اليهودي ; ثم ثنوا بتحطيم الحصار السلمي حول ذلك الجنس الكنود !‬

‫وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع السلمي ‪ -‬بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية‬
‫والوطنية بين الجناس الملتحمة في المجتمع السلمي ‪ . .‬ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية‬
‫القديمة على هذا الدين وأهله ‪ .‬كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الستعمار الوربي الصليبي ‪.‬‬
‫وما يزالون ‪ . .‬حتى يأذن ال بتحطيم تلك الصنام الخبيثة الملعونة ; ليقوم التجمع السلمي من جديد ‪ ,‬على‬
‫أساسه المتين الفريد ‪. .‬‬

‫وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم‬
‫‪ .‬ذلك أن الدينونة ل وحده ل تتم تمامها إل بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم ‪.‬‬

‫يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ‪ ,‬وأل تتعدد "المقدسات" ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد ‪,‬‬
‫وأل تتعدد "الشعارات" ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وأل تتعدد القبلت‬
‫والمتجهات ‪. .‬‬

‫إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الصنام الحجرية واللهة السطورية ! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في‬
‫صور شتى ; كما أن الصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ; وآلهة الساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في‬
‫المقدسات والمعبودات من دون ال أيا كانت أسماؤها ‪ .‬وأيا كانت مراسمها ‪.‬‬

‫وما كان السلم ليخلص الناس من الصنام الحجرية والرباب السطورية ‪ ,‬ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام‬
‫الجنسيات والقوميات والوطان ‪ . .‬وما إليها ‪ . .‬يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها ‪ .‬وهو يدعوهم إلى ال‬
‫وحده ‪ ,‬وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه !‬
‫لذلك قسم السلم الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري ‪ . .‬أمة المسلمين من أتباع الرسل ‪-‬كل‬
‫في زمانه حتى يأتي الرسول الخير إلى الناس كافة ‪ -‬وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والصنام في‬
‫شتى الصور والشكال على مدار القرون ‪. .‬‬

‫وعندما أراد ال أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ‪ ,‬عرفها لهم في صورة أتباع‬
‫الرسل ‪ -‬كل في زمانه ‪ -‬وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه المة‪(:‬إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم‬
‫فاعبدون)‪ . .‬ولم يقل للعرب‪:‬إن أمتكم هي المة العربية في جاهليتها وإسلمها سواء ! ول قال لليهود‪:‬إن‬
‫أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلمهم سواء ! ول قال لسلمان الفارسي‪:‬إن أمتك هي‬
‫فارس ! ول لصهيب الرومي‪:‬إن أمتك هي الرومان ! ول لبلل الحبشي‪:‬إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال‬
‫للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش‪:‬إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى‬
‫وهارون ‪ ,‬وإبراهيم ‪ ,‬ولوط ‪ ,‬ونوح ‪ ,‬وداود وسليمان ‪ ,‬وأيوب ‪ ,‬وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ‪,‬‬
‫وزكريا ويحيى ‪ ,‬ومريم ‪ . .‬كما جاء في سورة النبياء‪ [:‬آيات‪. ] 91 - 48:‬‬

‫هذه هي أمة "المسلمين" في تعريف ال سبحانه ‪ . .‬فمن شاء له طريقا غير طريق ال فليسلكه ‪ .‬ولكن ليقل‪:‬إنه‬
‫ليس من المسلمين ! أما نحن الذين أسلمنا ل ‪ ,‬فل نعرف لنا أمة إل المة التي عرفها لنا ال ‪ .‬وال يقص‬
‫الحق وهو خير الفاصلين ‪. .‬‬

‫وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الساسية في هذا الدين ‪.‬‬

‫ثم نقف الوقفة الخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان ال سبحانه‪:‬‬

‫إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلم ‪ ,‬تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ‪ ,‬هم كانوا حصيلة‬
‫دعوة نوح في ألف سنة إل خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن ‪. .‬‬

‫إن هذه الحفنة ‪ -‬وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل ‪ -‬قد استحقت أن يغير ال لها المألوف من‬
‫ظواهر هذا الكون ; وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من‬
‫الرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الرض بعد ذلك ‪ ,‬وبذرة العمران فيها والستخلف من‬
‫جديد ‪. .‬‬

‫‪ . .‬وهذا أمر خطير ‪. .‬‬

‫إن طلئع البعث السلمي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الرض كلها ; والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية‬
‫والوحشة ; كما تعاني الذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل ‪ . .‬إن هذه الطلئع ينبغي أن تقف طويل أمام هذا‬
‫المر الخطير ‪ ,‬وأمام دللته التي تستحق التدبر والتفكير !‬
‫إن وجود البذرة المسلمة في الرض شيء عظيم في ميزان ال تعالى ‪ . .‬شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر‬
‫الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ; كما يستحق منه سبحانه أن يكل هذه البذرة‬
‫ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الرض وتعمرها من جديد !‬

‫لقد كان نوح عليه السلم يصنع الفلك بأعين ال ووحيه ‪ ,‬كما قال تعالى‪(:‬واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ول‬
‫تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)‪. .‬‬

‫وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال ال تعالى في سورة القمر‪(:‬كذبت‬
‫قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ‪ .‬فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)‪. .‬‬

‫عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه(مغلوب)ويدعو ربه أن "ينتصر" هو وقد غلب رسوله ‪ . .‬عندئذ أطلق ال‬
‫القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب‪:‬‬

‫(ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ‪ .‬وفجرنا الرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر)‪. .‬‬

‫وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب ‪ . .‬كان ال سبحانه ‪-‬‬
‫بذاته العلية ‪ -‬مع عبده المغلوب‪:‬‬

‫(وحملناه على ذات ألواح ودسر ‪ .‬تجري بأعيننا ‪ . .‬جزاء لمن كان كفر ‪.). .‬‬

‫هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلئع البعث السلمي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين‬
‫تطاردها الجاهلية ; وحين "تغلبها" الجاهلية !‬

‫إنها تستحق أن يسخر ال لها القوى الكونية الهائلة ‪ . .‬وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان ‪ .‬فما‬
‫الطوفان إل صورة من صور تلك القوى ! (وما يعلم جنود ربك إل هو)‪. .‬‬

‫وإنه ليس عليها إل أن تثبت وتستمر في طريقها ; وإل أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ; وإل أن تصبر‬
‫حتى يأتي ال بأمره ‪ ,‬وإل أن تثق أن وليها القدير ل يعجزه شيء في الرض ول في السماء ‪ .‬وأنه لن يترك‬
‫أولياءه إلى أعدائه ‪ ,‬إل فترة العداد والبتلء ; وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن ال سيصنع لها وسيصنع‬
‫بها في الرض ما يشاء ‪.‬‬

‫‪ . .‬وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم ‪. .‬‬


‫إنه ل ينبغي لحد يواجه الجاهلية بالسلم أن يظن أن ال تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد ال سبحانه‬
‫بالربوبية ‪ .‬كما أنه ل ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن ال تاركه لهذه القوى وهو‬
‫عبده الذي يستنصر به حين يغلب فيدعوه‪( :‬أني مغلوب فانتصر)‪. .‬‬

‫إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ول متقاربة ‪ . .‬إن الجاهلية تملك قواها ‪ . .‬ولكن الداعي إلى ال يستند‬
‫إلى قوة ال ‪ .‬وال يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية ‪ -‬حينما يشاء وكيفما يشاء ‪ -‬وأيسر هذه القوى‬
‫يدمر على الجاهلية من حيث ل تحتسب !‬

‫وقد تطول فترة البتلء لمر يريده ال ‪ . .‬ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إل خمسين عاما ; قبل أن يأتي‬
‫الجل الذي قدره ال ‪ .‬ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إل اثني عشر مسلما ‪ . .‬ولكن هذه الحفنة من‬
‫البشر كانت في ميزان ال تساوي تسخير تلك القوى الهائلة ‪ ,‬والتدمير على البشرية الضالة جميعا ‪ ,‬وتوريث‬
‫الرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها ‪. .‬‬

‫إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة ‪ -‬وفق مشيئة ال الطليقة ‪ -‬ولكن ال يستبدل‬
‫بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى ‪ ,‬تلئم واقع كل فترة ومقتضياتها ‪ .‬وقد تدق بعض الخوارق على بعض‬
‫العقول فل تدركها ; ولكن الموصولين بال يرون يد ال دائما ‪ ,‬ويلبسون آثارها المبدعة ‪.‬‬

‫والذين يسلكون السبيل إلى ال ليس عليهم إل أن يؤدوا واجبهم كامل ‪ ,‬بكل ما في طاقتهم من جهد ; ثم يدعوا‬
‫المور ل في طمأنينة وثقة ‪ .‬وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر‬
‫عبده الصالح نوح‪(:‬فدعا ربه أني مغلوب ‪ ,‬فانتصر)‪ . .‬ثم ينتظروا فرج ال القريب ‪ .‬وانتظار الفرج من ال‬
‫عبادة ; فهم على هذا النتظار مأجورون ‪.‬‬

‫ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن ل يكشف عن أسراره إل للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا‬
‫كبيرا ‪ . .‬إن هؤلء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ; ومن ثم يتذوقونه‬
‫ويدركونه ; لنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ‪ ,‬كما خوطبت به الجماعة المسلمة الولى ‪,‬‬
‫فتذوقته وأدركته وتحركت به ‪. .‬‬

‫‪ . .‬والحمد ل في الولى والخرة ‪. .‬‬

‫الوحدة الثالثة‪ 68 - 50:‬الموضوع‪:‬مشاهد من قصة هود مع قومه وقصة صالح مع قومه‬

‫مقدمة الوحدة‬

‫مضى قوم نوح في التاريخ ‪ ,‬الكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ ; واستبعدوا من الحياة ومن‬
‫رحمة ال سواء ‪ ,‬والناجون استخلفوا في الرض تحقيقا لسنة ال ووعده‪( :‬إن العاقبة للمتقين)‪.‬‬
‫ولقد كان وعد ال لنوح‪( :‬يا نوح اهبط بسلم منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم‬
‫منا عذاب أليم)‪ . .‬فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد ال ‪ .‬وإذا عاد من نسل نوح‬
‫الذين تفرقوا في البلد ‪ -‬ومن بعدهم ثمود ‪ -‬ممن حقت عليهم كلمة ال‪( :‬وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب‬
‫أليم)‪.‬‬

‫لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال ل يعلمها إل ال من المسلمين من ذرية آدم ‪. .‬‬
‫فل بد أن أجيال من ذرية آدم بعد استخلفه في الرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالسلم الذي كان عليه‬
‫أبواهم ‪ .‬حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم ‪ ,‬وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ثم‬
‫جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين ‪ ,‬وأهلك الباقون ولم يعد على الرض من الكافرين ديار ‪ -‬كما دعا‬
‫نوح ربه ‪ .‬ول بد أن أجيال كثيرة من ذرية نوح عاشت بالسلم بعده ‪ . .‬حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى‬
‫فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية ‪ .‬وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية ‪. .‬‬

‫فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الحقاف [ والحقف كثيب الرمل المائل ] في جنوب الجزيرة العربية ‪ ,‬وأما ثمود‬
‫فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة‬
‫والمنعة والرزق والمتاع ‪ . .‬ولكن هؤلء وهؤلء كانوا ممن حقت عليهم كلمة ال ‪ ,‬بما عتوا عن أمر ال ‪,‬‬
‫واختاروا الوثنية على التوحيد ‪ ,‬والدينونة للعبيد على الدينونة ل ‪ ,‬وكذبوا الرسل شر تكذيب ‪ .‬وفي قصصهم‬
‫هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 60 - 50:‬لقطات من قصة هود مع قومه‬

‫وإلى عاد أخاهم هودا قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ .‬إن أنتم إل مفترون ‪ .‬يا قوم ل أسألكم عليه‬
‫أجرا ‪ .‬إن أجري إل على الذي فطرني ‪ .‬أفل تعقلون ? ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يرسل السماء‬
‫عليكم مدرارا ‪ ,‬ويزدكم قوة إلى قوتكم ‪ ,‬ول تتولوا مجرمين ‪. .‬‬

‫ن ا ْلعَا ِقبَ َة لِ ْل ُمتّقِينَ (‪)49‬‬


‫ص ِبرْ إِ ّ‬
‫ن أَنبَاء ا ْل َغيْبِ نُوحِيهَا إَِل ْيكَ مَا كُنتَ َتعَْل ُمهَا أَنتَ َولَ قَ ْو ُمكَ مِن َقبْلِ هَـذَا فَا ْ‬
‫تِ ْلكَ مِ ْ‬

‫وكان هود من عاد ‪ .‬فهو أخوهم ‪ .‬واحد منهم ‪ ,‬تجمعه ‪ -‬كانت ‪ -‬آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة‬
‫الواحدة ‪ .‬وتبرز هذه الصرة هنا في السياق ‪ ,‬لن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الخ‬
‫وإخوته ‪ ,‬وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا ! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم‬
‫على أساس افتراق العقيدة ‪ .‬ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة ‪ .‬لتتفرد هذه‬
‫الوشيجة وتبرز في علقات المجتمع السلمي ‪ ,‬ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي ‪ . .‬فالدعوة به‬
‫تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والرض ‪. . .‬‬
‫ثم تنتهي بالفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد ‪ . .‬أمة مسلمة وأمة مشركة ‪ . .‬وبينهما فرقة‬
‫ومفاصلة ‪ . .‬وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد ال بنصر المؤمنين وإهلك المشركين ‪ .‬ول يجيى ء وعد‬
‫ال بهذا ول يتحقق إل بعد أن تتم المفاصلة ‪ ,‬وتتم المفارقة ‪ ,‬وتتميز الصفوف ‪ ,‬وينخلع النبي والمؤمنون معه‬
‫من قومهم ‪ ,‬ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم ‪ ,‬ويخلعوا ولءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة ‪ ,‬ويعطوا‬
‫ولءهم كله ل ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى ال وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد ‪. .‬‬
‫وعندئذ فقط ‪ -‬ل قبله ‪ -‬يتنزل عليهم نصر ال ‪. .‬‬

‫(وإلى عاد أخاهم هودا)‪. .‬‬

‫أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة ‪.‬‬

‫(قال‪:‬يا قوم)‪. .‬‬

‫بهذا التودد ‪ ,‬والتذكير بالواصر التي تجمعهم ‪ ,‬لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول ‪.‬‬
‫فالرائد ل يكذب أهله ‪ ,‬والناصح ل يغش قومه ‪.‬‬

‫(قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪. .‬‬

‫القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا ‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬عن عبادة ال الواحد التي هبط بها‬
‫المؤمنون مع نوح من السفينة ‪ .‬ولعل أول خطوة في هذا النحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة‬
‫القليلة التي حملت في السفينة مع نوح ! ثم تطور هذا التعظيم جيل بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في‬
‫أشجار وأحجار نافعة ; ثم تتطور هذه الشياء فإذا هي معبودات ‪ ,‬وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبدون الناس‬
‫للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة ‪ -‬في صورة من صور الجاهلية الكثيرة ‪ .‬ذلك أن النحراف خطوة‬
‫واحدة عن نهج التوحيد المطلق ‪ .‬الذي ل يتجه بشعور التقديس لغير ال وحده ول يدين بالعبودية إل ال وحده‬
‫‪ . .‬النحراف خطوة واحدة ل بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات ل يعلم مداها إل ال ‪.‬‬

‫على أية حال لقد كان قوم هود مشركين ل يدينون ل وحده بالعبودية ‪ ,‬فإذا هم يدعوهم تلك الدعوة التي جاء‬
‫بها كل رسول‪:‬‬

‫(يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪( . .‬إن أنتم إل مفترون)‪. .‬‬

‫مفترون فيما تعبدونه من دون ال ‪ ,‬وفيما تدعونه من شركاء ل ‪.‬‬

‫ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة ‪ ,‬فليس له من ورائها هدف ‪ .‬وما يطلب على‬
‫النصح والهداية أجرا ‪ .‬إنما أجره على ال الذي خلقه فهو به كفيل‪:‬‬
‫(يا قوم ل أسألكم عليه أجرا ‪ .‬إن أجري إل على الذي فطرني أفل تعقلون ?)‪.‬‬

‫سأَُلكُمْ‬
‫ل مُ ْف َترُونَ (‪ )50‬يَا قَ ْو ِم ل َأ ْ‬
‫غ ْيرُهُ ِإنْ أَن ُتمْ ِإ ّ‬
‫ع ُبدُواْ الّلهَ مَا َلكُم مّنْ إِلَـهٍ َ‬
‫ل يَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫وَإِلَى عَادٍ َأخَا ُهمْ هُودا قَا َ‬
‫ط َرنِي َأفَلَ َتعْقِلُونَ (‪)51‬‬
‫ج ِريَ ِإلّ عَلَى اّلذِي فَ َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫عََليْ ِه َأجْرا إِ ْ‬

‫مما يشعر أن قوله‪( :‬ل أسألكم عليه أجرا)كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من‬
‫وراء الدعوة التي يدعوها ‪ .‬وكان التعقيب‪( :‬أفل تعقلون ?)للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسول من‬
‫عند ال يطلب رزقا من البشر ‪ ,‬وال الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوت هؤلء الفقراء !‬

‫ثم يوجههم إلى الستغفار والتوبة ‪ .‬ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم‬
‫النبياء ‪ ,‬ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلف السنين‪:‬‬

‫(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬يرسل السماء عليكم مدرارا ‪ ,‬ويزدكم قوة إلى قوتكم ‪ .‬ول تتولوا‬
‫مجرمين)‪. .‬‬

‫استغفروا ربكم مما أنتم فيه ‪ ,‬وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية ‪. .‬‬

‫(يرسل السماء عليكم مدرارا)‪. .‬‬

‫وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ‪ ,‬ويحتفظون به بالخصب الناشئ من‬
‫هطول المطار في تلك البقاع ‪.‬‬

‫(ويزدكم قوة إلى قوتكم)‪. .‬‬

‫هذه القوة التي عرفتم بها ‪. .‬‬

‫(ول تتولوا مجرمين)‪. .‬‬

‫مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب ‪.‬‬

‫وننظر في هذا الوعد ‪ .‬وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة ‪ .‬وهي أمور تجري فيها سنة ال وفق‬
‫قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ‪ ,‬من صنع ال ومشيئته بطبيعة الحال ‪ .‬فما علقة الستغفار بها وما علقة‬
‫التوبة ?‬
‫فأما زيادة القوة فالمر فيها قريب ميسور ‪ ,‬بل واقع مشهود ‪ ,‬فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الرض‬
‫يزيدان التائبين العاملين قوة ‪ .‬يزيدانهم صحة في الجسم بالعتدال والقتصار على الطيبات من الرزق وراحة‬
‫الضمير وهدوء العصاب والطمئنان إلى ال والثقة برحمته في كل آن ; ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة‬
‫شريعة ال الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما ل يدينون لغير ال على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد‬
‫تعنو له الجباه ‪ . .‬كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلفة في الرض ; غير‬
‫مشغولين ول مسخرين بمراسم التأليه للرباب الرضية وإطلق البخور حولها ودق الطبول ‪ ,‬والنفخ فيها ليل‬
‫نهار لتمل فراغ الله الحق في فطرة البشر !‬

‫والملحوظ دائما أن الرباب الرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات‬
‫اللوهية من القدرة والعلم والحاطة والقهر والرحمة ‪ . .‬أحيانا ‪ . .‬كل ذلك ليدين لها الناس ! فالربوبية تحتاج‬
‫إلى ألوهية معها تخضع بها العباد ! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من‬
‫يدينون ل وحده في عمارة الرض والنهوض بتكاليف الخلفة فيها ‪ ,‬بدل من أن ينفقه عباد الرباب الرضية‬
‫في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الرباب المفتراة !‬

‫ولقد تتوافر القوة لمن ل يحكمون شريعة ال في قلوبهم ول في مجتمعهم ‪ ,‬ولكنها قوة إلى حين ‪ .‬حتى تنتهي‬
‫المور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة ال ‪ ,‬وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين ‪ .‬إنما استندت‬
‫إلى‬

‫سمَاء عََل ْيكُم ّم ْدرَارا َو َي ِز ْدكُمْ قُوّةً إِلَى قُ ّو ِتكُمْ َولَ َت َتوَلّوْاْ ُمجْ ِرمِينَ (‬
‫س َتغْ ِفرُو ْا َربّ ُكمْ ُثمّ تُوبُو ْا إَِليْهِ ُي ْرسِلِ ال ّ‬
‫َويَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫‪)52‬‬

‫جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة النتاج ‪ .‬وهذه وحدها ل تدوم ‪ .‬لن فساد الحياة‬
‫الشعورية والجتماعية يقضي عليها بعد حين ‪.‬‬

‫فأما إرسال المطر ‪ .‬مدرارا ‪ .‬فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني ‪ .‬ولكن‬
‫جريان السنن الطبيعية ل يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ‪ ,‬ومدمرا في مكان وزمان ; وأن يكون‬
‫من قدر ال أن تكون الحياة مع المطر لقوم ‪ ,‬وأن يكون الدمار معه لقوم ‪ ,‬وأن ينفذ ال تبشيره بالخير ووعيده‬
‫بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية ; فهو خالق هذه العوامل ‪ ,‬وجاعل السباب لتحقيق سنته على كل‬
‫حال ‪ .‬ثم تبقى وراء ذلك مشيئة ال الطليقة التي تصرف السباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر‬
‫النواميس وذلك لتحقيق قدر ال كيفما شاء ‪ .‬حيث شاء ‪ .‬بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والرض‬
‫غير مقيد بما عهده الناس في الغالب ‪.‬‬
‫تلك كانت دعوة هود ‪ -‬ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة ‪ .‬ربما لن الطوفان كان قريبا منهم ‪,‬‬
‫وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم ‪ ,‬وقد ذكرهم به في سورة أخرى ‪ -‬فأما قومه فظنوا به الظنون ‪. .‬‬

‫(قالوا ‪ .‬يا هود ما جئتنا ببينة ‪ ,‬وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ‪ ,‬وما نحن لك بمؤمنين ‪ .‬إن نقول إل‬
‫اعتراك بعض آلهتنا بسوء ‪.). .‬‬

‫إلى هذا الحد بلغ النحراف في نفوسهم ‪ ,‬إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي ‪ ,‬لن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه‬
‫بسوء ‪ ,‬فأصيب بالهذيان !‬

‫(يا هود ما جئتنا ببينة)‪. . .‬‬

‫والتوحيد ل يحتاج إلى بينة ‪ ,‬إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير ‪ ,‬وإلى استجاشة منطق الفطرة ‪ ,‬واستنباء‬
‫الضمير ‪.‬‬

‫(وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك)‪. .‬‬

‫أي لمجرد أنك تقول بل بينة ول دليل !‬

‫وما نحن لك بمؤمنين ‪. .‬‬

‫أي مستجيبين لك ومصدقين ‪ . .‬وما نعلل دعوتك إل بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء !‬

‫وهنا لم يبق لهود إل التحدي ‪ .‬وإل التوجه إلى ال وحده والعتماد عليه ‪ .‬وإل الوعيد والنذار الخير‬
‫للمكذبين ‪ .‬وإل المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب‪:‬‬

‫(قال إني أشهد ال ‪ ,‬واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ‪ ,‬فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون ‪ .‬إني توكلت‬
‫على ال ربي وربكم ‪ ,‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ‪ ,‬إن ربي على صراط مستقيم ‪ .‬فإن تولوا فقد أبلغتكم‬
‫ما أرسلت به إليكم ‪ ,‬ويستخلف ربي قوما غيركم ‪ ,‬ول تضرونه شيئا ‪ ,‬إن ربي على كل شيء حفيظ)‪. .‬‬

‫إنها انتفاضة التبرؤ من القوم ‪ -‬وقد كان منهم وكان أخاهم ‪ -‬وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير‬
‫طريق ال طريقا ‪ .‬وانتفاضة المفاصلة بين حزبين ل يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة ‪.‬‬

‫ن َلكَ ِبمُ ْؤ ِمنِينَ (‪)53‬‬


‫حنُ ِبتَا ِركِي آِل َه ِتنَا عَن قَوِْلكَ َومَا َنحْ ُ‬
‫ج ْئتَنَا ِب َب ّينَةٍ َومَا َن ْ‬
‫قَالُواْ يَا هُودُ مَا ِ‬
‫وهو يشهد ال ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم ‪ .‬ويشهدهم هم أنفسهم على‬
‫هذه البراءة منهم في وجوههم ; كي ل تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم !‬

‫وذلك كله مع عزة اليمان واستعلئه ‪ .‬ومع ثقة اليمان واطمئنانه !‬

‫وإن النسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلظا شدادا حمقى ‪ .‬يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات‬
‫الزائفة تمس رجل فيهذي ; ويروا في الدعوة إلى ال الواحد هذيانا من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلء‬
‫القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ‪ ,‬فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ; ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي‬
‫‪ .‬ل يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ‪ ,‬ول يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم ‪.‬‬

‫إن النسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا القتحام على قوم غلظ شداد ‪ .‬ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر‬
‫العوامل والسباب ‪. .‬‬

‫إنه اليمان ‪ .‬والثقة ‪ .‬والطمئنان ‪ . .‬اليمان بال ‪ ,‬والثقة بوعده ‪ ,‬والطمئنان إلى نصره ‪ . .‬اليمان الذي‬
‫يخالط القلب فإذا وعد ال بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب ل يشك فيها لحظة ‪ .‬لنها ملء يديه ‪ ,‬وملء‬
‫قلبه الذي بين جنبيه ‪ ,‬وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب ‪ ,‬إنما هي حاضر واقع تتمله العين والقلب ‪.‬‬

‫(قال‪:‬إني أشهد ال واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه)‪.‬‬

‫إني أشهد ال على براءتي مما تشركون من دونه ‪ .‬واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم‪:‬أنني‬
‫عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون ال ‪ .‬ثم تجمعوا أنتم وهذه اللهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء ‪.‬‬

‫تجمعوا أنتم وهي ‪ -‬جميعا ‪ -‬ثم كيدوني بل ريث ول تمهل ‪ ,‬فما أباليكم جميعا ‪ ,‬ول أخشاكم شيئا‪:‬‬

‫(إني توكلت على ال ربي وربكم)‪. .‬‬

‫ومهما أنكرتم وكذبتم ‪ .‬فهذه الحقيقة قائمة ‪ .‬حقيقة ربوبية ال لي ولكم ‪ .‬فال الواحد هو ربي وربكم ‪ ,‬لنه‬
‫رب الجميع بل تعدد ول مشاركة ‪. .‬‬

‫(ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها)‪. .‬‬

‫وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الرض ‪ ,‬بما فيها الدواب‬
‫من الناس ‪ .‬والناصية أعلى الجبهة ‪ .‬فهو القهر والغلبة والهيمنة ‪ ,‬في صورة حسية تناسب الموقف ‪ ,‬وتناسب‬
‫غلظة القوم وشدتهم ‪ ,‬وتناسب صلبة أجسامهم وبنيتهم ‪ ,‬وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم ‪ . .‬وإلى جانبها‬
‫تقرير استقامة السنة اللهية في اتجاهها الذي ل يحيد‪:‬‬
‫(إن ربي على صراط مستقيم)‪. .‬‬

‫فهي القوة والستقامة والتصميم ‪.‬‬

‫وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الستعلء وسر ذلك التحدي ‪ . .‬إنها ترسم صورة الحقيقة‬
‫التي يجدها نبي ال هود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في نفسه من ربه ‪ . .‬إنه يجد هذه الحقيقة واضحة ‪ . .‬إن ربه ورب‬
‫الخلئق قوي قاهر‪( :‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها)‪ . .‬وهؤلء الغلظ الشداء من قومه إن هم إل دواب‬
‫من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا ‪ .‬فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ;‬
‫وهي ل تسلط عليه ‪ -‬إن سلطت ‪ -‬إل بإذن ربه ? وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ?‬

‫ش َهدُو ْا َأنّي َبرِي ٌء ّممّا ُتشْ ِركُونَ (‪ )54‬مِن دُو ِنهِ‬


‫ش ِهدُ اللّهِ وَا ْ‬
‫ع َترَاكَ َبعْضُ آِل َه ِتنَا ِبسُوَ ٍء قَالَ ِإنّي ُأ ْ‬
‫ل ِإلّ ا ْ‬
‫إِن نّقُو ُ‬
‫ص َي ِتهَا إِنّ‬
‫خذٌ ِبنَا ِ‬
‫ل هُ َو آ ِ‬
‫ظرُونِ (‪ِ )55‬إنّي َت َوكّلْتُ عَلَى اللّهِ َربّي َو َربّكُم مّا مِن دَآبّةٍ ِإ ّ‬
‫جمِيعا ُثمّ لَ تُن ِ‬
‫َفكِيدُونِي َ‬
‫ستَقِيمٍ (‪)56‬‬
‫َربّي عَلَى صِرَاطٍ ّم ْ‬

‫إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ‪ ,‬ل تدع في قلبه مجال للشك في عاقبة أمره ‪ ,‬ول مجال‬
‫للتردد عن المضي في طريقه ‪.‬‬

‫إنها حقيقة اللوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا ‪.‬‬

‫وعند هذا الحد من التحدي بقوة ال ‪ ,‬وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ‪ ,‬يأخذ هود في النذار‬
‫والوعيد‪:‬‬

‫(فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم)‪. .‬‬

‫فأديت واجبي ل ‪ ,‬ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة ال سبحانه‪:‬‬

‫(ويستخلف ربي قوما غيركم)‪. .‬‬

‫يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم ‪.‬‬

‫(ول تضرونه شيئا)‪. .‬‬

‫فما لكم به من قوة ‪ ,‬وذهابكم ل يترك في كونه فراغا ول نقصا ‪. .‬‬

‫(إن ربي على كل شيء حفيظ)‪. .‬‬


‫يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الذى والضياع ‪ ,‬ويقوم عليكم فل تفلتون ول تعجزونه هربا !‬

‫وكانت هي الكلمة الفاصلة ‪ .‬وانتهى الجدل والكلم ‪ .‬ليحق الوعيد والنذار‪:‬‬

‫(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ‪ .‬ونجيناهم من عذاب غليظ)‪.‬‬

‫لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد ‪ ,‬وإهلك قوم هود ‪ ,‬نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا ‪ ,‬خلصتهم‬
‫من العذاب العام النازل بالقوم ‪ ,‬واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء ‪ .‬وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل‬
‫بالمكذبين ‪ .‬ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم ‪ ,‬يتناسق مع الجو ‪ ,‬ومع القوم الغلظ العتاة ‪.‬‬

‫والن وقد هلكت عاد ‪ .‬يشار إلى مصرعها إشارة البعد ‪ ,‬ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب ‪ ,‬وتشيع باللعنة‬
‫والطرد ‪ ,‬في تقرير وتكرار وتوكيد‪:‬‬

‫(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ‪ .‬وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم‬
‫القيامة ‪ .‬أل إن عادا كفروا ربهم ‪ .‬أل بعدا لعاد قوم هود)‪. .‬‬

‫(وتلك عاد)‪ . .‬بهذا البعد ‪ .‬وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق ‪ ,‬وكان مصرعهم معروضا على النظار ‪. .‬‬
‫ولكنهم انتهوا وبعدوا عن النظار والفكار ‪. .‬‬

‫(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)‪. .‬‬

‫وهم عصوا رسول واحدا ‪ .‬ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا ? فمن لم يسلم لرسول بها‬
‫فقد عصى الرسل جميعا ‪ .‬ول ننسى أن هذا الجمع في اليات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى‬
‫لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها ‪ .‬فهم جحدوا آيات ‪ ,‬وهم عصوا رسل ‪ .‬فما أضخم الذنب وما أشنع‬
‫الجريمة !‬

‫(واتبعوا أمر كل جبار عنيد)‪. .‬‬

‫أمر كل متسلط عليهم ‪ ,‬معاند ل يسلم بحق ‪ ,‬وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين ‪ ,‬ويفكروا‬
‫بأنفسهم لنفسهم ‪ .‬ول يكونوا ذيول فيهدروا آدميتهم ‪.‬‬

‫شيْءٍ‬
‫ل َ‬
‫ن َربّي عََلىَ كُ ّ‬
‫شيْئا إِ ّ‬
‫غيْ َر ُكمْ َولَ َتضُرّو َنهُ َ‬
‫س َتخْلِفُ َربّي قَوْما َ‬
‫َفإِن تَوَلّوْاْ فَ َقدْ َأبَْل ْغ ُتكُم مّا ُأ ْرسِلْتُ بِ ِه إَِل ْي ُكمْ َو َي ْ‬
‫عذَابٍ غَلِيظٍ (‪)58‬‬
‫ج ْينَاهُم مّنْ َ‬
‫حمَ ٍة ّمنّا َو َن ّ‬
‫ج ْينَا هُودا وَاّلذِينَ آ َمنُو ْا َمعَهُ ِب َر ْ‬
‫حَفِيظٌ (‪ )57‬وََلمّا جَاء َأ ْم ُرنَا َن ّ‬
‫وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية ال وحده لهم والدينونة ل وحده من دون العباد ‪. .‬‬
‫كانت هي قضية الحاكمية والتباع ‪ . .‬كانت هي قضية‪:‬من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره ? يتجلى هذا‬
‫في قول ال تعالى‪:‬‬

‫(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ‪ ,‬واتبعوا أمر كل جبار عنيد)‪. .‬‬

‫فهي المعصية لمر الرسل والتباع لمر الجبارين ! والسلم هو طاعة أمر الرسل ‪ -‬لنه أمر ال ‪-‬‬
‫ومعصية أمر الجبارين ‪ .‬وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والسلم وبين الكفر واليمان ‪ . .‬في كل‬
‫رسالة وعلى يد كل رسول ‪.‬‬

‫وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير ال ; والتمرد على سلطان‬
‫الرباب الطغاة ; وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ‪ ,‬واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر‬
‫يستحق عليها الخانعون الهلك في الدنيا والعذاب في الخرة ‪ . .‬لقد خلق ال الناس ليكونوا أحرارا ل يدينون‬
‫بالعبودية لحد من خلقه ‪ ,‬ول ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ول رئيس ول زعيم ‪ .‬فهذا مناط تكريمهم ‪.‬‬
‫فإن لم يصونوه فل كرامة لهم عند ال ول نجاة ‪ .‬وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة ‪ ,‬وتدعي‬
‫النسانية ‪ ,‬وهي تدين لغير ال من عباده ‪ .‬والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين‬
‫أن يكونوا على أمرهم مغلوبين ‪ .‬فهم كثرة والمتجبرون قلة ‪ .‬ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما‬
‫يضحونه مرغمين للرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال ‪.‬‬

‫لقد هلكت عاد لنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد ‪ . .‬هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الخرة‪:‬‬

‫(وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)‪. .‬‬

‫ثم ل يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلن عام وتنبيه عال‪:‬‬

‫(أل إن عادا كفروا ربهم)‪. .‬‬

‫ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد‪:‬‬

‫(أل بعدا لعاد قوم هود)‪. .‬‬

‫بهذا التحديد واليضاح والتوكيد ‪ .‬كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا‪:‬‬

‫‪( . .‬أل بعدا لعاد قوم هود)!!!‬

‫تعقيب على قصة هود‬


‫ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة ‪ ,‬قبل أن ننتقل منها إلى قصة‬
‫صالح ‪ .‬ذلك أن استعراض خط سير الدعوة السلمية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم‬
‫معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون ‪ . .‬ليس فقط في ماضيها التاريخي ‪ ,‬ولكن في‬
‫مستقبلها إلى آخر الزمان ‪ .‬وليس فقط للجماعة المسلمة الولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة ‪ .‬وتحركت به‬
‫في وجه الجاهلية يومذاك ; ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان ‪ . .‬وهذا ما‬
‫يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة السلمية الخالد ; ودليلها في الحركة في كل حين ‪.‬‬

‫ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا ‪ .‬ولكنها مرت في‬

‫عنِيدٍ (‪ )59‬وَُأ ْت ِبعُو ْا فِي هَـذِ ِه ال ّد ْنيَا َل ْعنَةً‬


‫جبّارٍ َ‬
‫عصَوْاْ ُرسُلَهُ وَا ّت َبعُواْ َأ ْمرَ كُلّ َ‬
‫حدُواْ بِآيَاتِ َر ّب ِهمْ َو َ‬
‫جَ‬‫َوتِ ْلكَ عَادٌ َ‬
‫ع ُبدُواْ‬
‫َو َي ْومَ الْ ِقيَامَ ِة أَل إِنّ عَادا كَ َفرُواْ َر ّب ُهمْ َألَ ُبعْدا ّلعَادٍ قَ ْومِ هُودٍ (‪ )60‬وَإِلَى َثمُودَ َأخَا ُهمْ صَالِحا قَالَ يَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫س َتغْ ِفرُو ُه ُثمّ تُوبُو ْا إَِليْ ِه إِنّ َربّي َقرِيبٌ‬
‫س َت ْعمَ َر ُكمْ فِيهَا فَا ْ‬
‫لرْضِ وَا ْ‬
‫شأَكُم مّنَ ا َ‬
‫غ ْيرُ ُه هُ َو أَن َ‬
‫ن إِلَـهٍ َ‬
‫اللّ َه مَا َلكُم مّ ْ‬
‫شكّ ّممّا‬
‫ّمجِيبٌ (‪ )61‬قَالُو ْا يَا صَالِحُ َقدْ كُنتَ فِينَا َم ْرجُوّا َقبْلَ هَـذَا َأ َت ْنهَانَا أَن ّن ْع ُبدَ مَا َي ْع ُبدُ آبَا ُؤنَا وَِإ ّننَا لَفِي َ‬
‫ص ُرنِي مِنَ الّلهِ‬
‫حمَةً َفمَن يَن ُ‬
‫ل يَا قَ ْومِ َأرََأ ْي ُتمْ إِن كُنتُ عَلَى َب ّينَةً مّن ّربّي وَآتَانِي ِم ْنهُ َر ْ‬
‫َتدْعُونَا إَِل ْيهِ ُمرِيبٍ (‪ )62‬قَا َ‬
‫خسِيرٍ (‪َ )63‬ويَا قَ ْومِ هَـذِ ِه نَاقَ ُة اللّ ِه َل ُكمْ آ َيةً َف َذرُوهَا َت ْأكُلْ فِي َأرْضِ الّلهِ َولَ‬
‫غ ْيرَ َت ْ‬
‫ص ْيتُهُ َفمَا َتزِيدُو َننِي َ‬
‫ع َ‬
‫إِنْ َ‬
‫غ ْيرُ َم ْكذُوبٍ (‬
‫عدٌ َ‬
‫لثَ َة َأيّامٍ ذَِلكَ وَ ْ‬
‫ب قَرِيبٌ (‪ )64‬فَعَ َقرُوهَا فَقَالَ َت َم ّتعُواْ فِي دَا ِركُمْ ثَ َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫خ َذ ُكمْ َ‬
‫َت َمسّوهَا ِبسُو ٍء َفيَ ْأ ُ‬
‫‪)65‬‬
‫مجال تفسير النصوص القرآنية مرورا عابرا لمتابعة السياق ‪ .‬وهي تحتاج إلى وقفات أمامها أطول في حدود‬
‫الجمال‪:‬‬

‫نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة ‪ . .‬دعوة توحيد العبادة والعبودية ل ‪,‬‬
‫المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول‪( :‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪ . .‬ولقد كنا‬
‫دائما نفسر "العبادة " ل وحده بأنها "الدينونة الشاملة " ل وحده ‪ .‬في كل شأن من شؤون الدنيا والخرة ‪ .‬ذلك‬
‫أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي ‪ . .‬فإن "عبد" معناها‪:‬دان وخضع وذلل ‪ .‬وطريق‬
‫معبد طريق مذلل ممهد ‪ .‬وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذلل ‪ . .‬ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن‬
‫أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية ‪ .‬بل إنه يوم خوطب به أول‬
‫مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو‬
‫الدينونة ل وحده في أمره كله ; وخلع الدينونة لغير ال من عنقه في كل أمره ‪ . .‬ولقد فسر رسول ال [ ص ]‬
‫"العبادة " نصا بأنها هي "التباع" وليست هي الشعائر التعبدية ‪ .‬وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود‬
‫والنصارى واتخاذهم الحبار والرهبان أربابا‪ ":‬بلى ‪ .‬إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلل ‪ .‬فاتبعوهم‬
‫‪ .‬فذلك عبادتهم إياهم " ‪ . .‬إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور‬
‫الدينونة ل في شأن من الشؤون ‪ . .‬صورة ل تستغرق مدلول "العبادة " بل إنها تجيء بالتبعية ل بالصالة !‬
‫فلما بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة " في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير ال التي يخرج بها‬
‫الناس من السلم إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير ال ‪ ,‬كتقديمها للصنام والوثان مثل !‬
‫وأنه متى تجنب النسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح "مسلما" ل يجوز تكفيره ! وتمتع‬
‫بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله ‪ . . .‬إلى آخر حقوق المسلم على‬
‫المسلم !‬

‫وهذا وهم باطل ‪ ,‬وانحسار وانكماش ‪ ,‬بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة " التي يدخل بها المسلم في‬
‫السلم أو يخرج منه ‪ -‬وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة ل في كل شأن ورفض الدينونة لغير ال في كل‬
‫شأن ‪ .‬وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة ‪ ,‬والذي نص عليه رسول ال [ ص ] نصا وهو يفسر‬
‫قول ال تعالى‪( :‬اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال)‪ . .‬وليس بعد تفسير رسول ال [ ص ]‬
‫لمصطلح من المصطلحات قول لقائل ‪.‬‬

‫هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلل وفي غيرها في كل ما وفقنا ال لكتابته حول هذا الدين‬
‫وطبيعته ومنهجه الحركي ‪ . .‬فالن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية‬
‫ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه ; وبين السلم الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها ; وتحدد‬
‫ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم‪( :‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪. .‬‬

‫إنه لم يكن يعني‪:‬يا قوم ل تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير ال ! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة "(‬
‫‪)1‬يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الستاذ السيد أبوالعلي المودودي أمير الجماعة السلمية‬
‫بباكستان بعنوان‪ ":‬المصطلحات الربعة في القران " ‪" . .‬الله ‪ .‬الرب ‪ .‬الدين ‪ .‬العبادةفي مفهوماتهم ‪,‬‬
‫وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية ! إنما كان يعني الدينونة ل وحده في منهج الحياة كلها ; ونبذ الدينونة‬
‫والطاعة لحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها ‪ . .‬والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلك واللعنة‬
‫في الدنيا والخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير ال ‪ . .‬فهذه صورة واحدة من صور الشرك‬
‫الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة ال وحده ‪ -‬أي الدينونة له وحده ‪ -‬إنما كانت الفعلة النكراء‬
‫التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي‪:‬جحودهم بآيات ربهم ‪ ,‬وعصيان رسله ‪ .‬واتباع أمر الجبارين من‬
‫عبيده‪(:‬وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ‪ ,‬وعصوا رسله ‪ ,‬واتبعوا أمر كل جبار عنيد)‪ .‬كما يقول عنهم أصدق‬
‫القائلين ال رب العالمين ‪. .‬‬

‫وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل ‪ ,‬واتباع الجبارين ‪ . .‬فهو أمر واحد ل أمور متعددة ‪. .‬‬
‫ومتى عصى قوم أوامر ال المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بأل يدينوا لغير ال ‪ .‬ودانوا للطواغيت‬
‫بدل من الدينونة ل ; فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ; وخرجوا بذلك من السلم إلى الشرك ‪ -‬وقد‬
‫تبين لنا من قبل أن السلم هو الصل الذي بدأت به حياة البشر على الرض ; فهو الذي نزل به آدم من‬
‫الجنة واستخلف في هذه الرض ; وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الرض ‪ .‬إنما كان‬
‫الناس يخرجون من السلم إلى الجاهلية ‪ ,‬حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى السلم ‪ . .‬وهكذا‬
‫إلى يومنا هذا ‪. .‬‬

‫والواقع إنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل‬
‫والرسالت ‪ ,‬وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم ‪ -‬وما‬
‫استحقت كل هذه العذابات واللم التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل‬
‫هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد ‪ .‬وردهم إلى الدينونة ل وحده في كل أمر وفي كل‬
‫شأن ; وفي منهج حياتهم كله للدنيا والخرة سواء ‪.‬‬

‫إن توحيد اللوهية ‪ ,‬وتوحيد الربوبية ‪ ,‬وتوحيد القوامة ‪ ,‬وتوحيد الحاكمية ‪ ,‬وتوحيد مصدر الشريعة ‪ ,‬وتوحيد‬
‫منهج الحياة ‪ ,‬وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ‪ . . .‬إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن‬
‫يرسل من أجله كل هؤلء الرسل ‪ ,‬وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات‬
‫واللم على مدار الزمان ‪ . .‬ل لن ال سبحانه في حاجة إليه ‪ ,‬فال سبحانه غني عن العالمين ‪ .‬ولكن لن‬
‫حياة البشر ل تصلح ول تستقيم ول ترتفع ول تصبح حياة لئقة "بالنسان" إل بهذا التوحيد الذي ل حد لتأثيره‬
‫في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها ‪ [ .‬وهذا ما نرجو أن نزيده بيانا ‪ -‬إن شاء ال ‪ -‬في نهاية‬
‫قصص الرسل في ختام السورة ] ‪. .‬‬

‫ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم‪(:‬ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل‬
‫السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ‪ ,‬ول تتولوا مجرمين)‪ . .‬وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة‬
‫السورة بصدد دعوة رسول ال [ ص ] لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم‬
‫خبير ‪ .‬وذلك في قوله تعالى‪(:‬وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ‪ ,‬ويؤت‬
‫كل ذي فضل فضله ‪ ,‬وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير)‪. .‬‬

‫إنها حقيقة العلقة بين القيم اليمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ‪ ,‬وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه‬
‫الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين ‪ . .‬وهي حقيقة في حاجة إلى جلء وتثبيت ; وبخاصة في نفوس‬
‫الذينيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلقة أو على القل‬
‫تستشعرها ‪. .‬‬

‫إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬والحق الذي خلقت‬
‫به السماوات والرض ‪ ,‬المتجلي في طبيعة هذا الكون و نواميسه الزلية ‪ . .‬والقرآن الكريم كثيرا ما يربط‬
‫بين الحق المتمثل في ألوهية ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬والحق الذي قامت به السماوات والرض ; والحق المتمثل في‬
‫الدينونة ل وحده ‪ . .‬والحق المتمثل في دينونة الناس ل يوم الحساب بصفة خاصة ‪ ,‬والحق في الجزاء على‬
‫الخير والشر في الدنيا والخرة ‪ . .‬وذلك في مثل هذه النصوص‪:‬‬

‫(وما خلقنا السماء والرض وما بينهما لعبين ‪ .‬لو أردنا أن نتخذ لهوا لتخذناه من لدنا ‪ . .‬إن كنا فاعلين ‪. .‬‬
‫بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ‪ ,‬ولكم الويل مما تصفون ‪ ,‬وله من في السماوات والرض‬
‫‪ ,‬ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون ‪ .‬يسبحون الليل والنهار ل يفترون ‪ .‬أم اتخذوا آلهة من‬
‫الرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إل ال لفسدتا ‪ ,‬فسبحان ال رب العرش عما يصفون ‪ .‬ل يسأل عما‬
‫يفعل وهم يسألون ‪ .‬أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل‪:‬هاتوا برهانكم ‪ .‬هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ‪ ,‬بل‬
‫أكثرهم ل يعلمون الحق فهم معرضون ‪ .‬وما أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا‬
‫فاعبدون)‪ [ . . .‬النبياء ‪. ] 25 - 16‬‬

‫(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ‪ ,‬ثم من نطفة ‪ ,‬ثم من علقة ‪ ,‬ثم من مضغة‬
‫مخلقة وغير مخلقة ‪ ,‬لنبين لكم ‪ ,‬ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ‪ ,‬ثم نخرجكم طفل ‪ ,‬ثم لتبلغوا‬
‫أشدكم ‪ ,‬ومنكم من يتوفى ‪ ,‬ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم ‪ -‬من بعد علم ‪ -‬شيئا ‪ ,‬وترى الرض‬
‫هامدة ‪ ,‬فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ‪ ,‬وأنبتت من كل زوج بهيج ‪ . .‬ذلك بأن ال هو الحق ‪ ,‬وأنه‬
‫يحيي الموتى ‪ ,‬وأنه على كل شيء قدير ‪ ,‬وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن ال يبعث من في القبور)‪[ . . .‬‬
‫الحج‪] 5 - 7:‬‬

‫وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ‪ ,‬وإن ال لهاد الذين آمنوا إلى صراط‬
‫مستقيم ‪ .‬ول يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ‪ .‬الملك يومئذ‬
‫‪ ,‬ل يحكم بينهم ‪ ,‬فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ‪ .‬والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم‬
‫عذاب مهين ‪ .‬والذين هاجروا في سبيل ال ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم ال رزقا حسنا ‪ ,‬وإن ال لهو خير‬
‫الرازقين ‪ .‬ليدخلنهم مدخل يرضونه ‪ ,‬وإن ال لعليم حليم ‪ .‬ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه‬
‫لينصرنه ال ‪ ,‬إن ال لعفو غفور ‪ .‬ذلك بأن ال يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ‪ ,‬وأن ال سميع‬
‫بصير ‪ .‬ذلك بأن ال هو الحق ‪ ,‬وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ‪ ,‬وأن ال هو العلي الكبير ‪ .‬ألم تر أن ال‬
‫أنزل من السماء ماء فتصبح الرض مخضرة ? إن ال لطيف خبير ‪ .‬له ما في السماوات وما في الرض‬
‫وإن ال لهو الغني الحميد ‪ .‬ألم تر أن ال سخر لكم ما في الرض والفلك تجري في البحر بأمره ‪ ,‬ويمسك‬
‫السماء أن تقع على الرض إل بإذنه ‪ ,‬إن ال بالناس لرؤوف رحيم ‪ .‬وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ‪,‬‬
‫إن النسان لكفور ‪ .‬لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ‪ ,‬فل ينازعنك في المر ‪ ,‬وادع إلى ربك ‪ ,‬إنك لعلى‬
‫هدى مستقيم ‪ [ . . . . .‬الحج‪. ] 67 - 54:‬‬

‫وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلقة الواضحة بين كون ال سبحانه هو الحق ‪,‬‬
‫وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ‪ ,‬وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق ‪ .‬وبين تنزيل‬
‫هذا الكتاب بالحق ‪ ,‬وبين الحكم بين الناس في الدنيا والخرة بالحق ‪ . .‬فكله حق واحد موصول ينشأ عنه‬
‫جريان قدر ال بما يشاء ‪ ,‬وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ; وفق ما يكون من الناس من‬
‫الخير والشر في دار البتلء ‪ .‬ومن هنا كان ذلك الربط بين الستغفار والتوبة ‪ ,‬وبين المتاع الحسن وإرسال‬
‫السماء مدرارا ‪ . . .‬فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات ال سبحانه وفي قضائه‬
‫وقدره ‪ ,‬وفي تدبيره وتصريفه ‪ ,‬وفي حسابه وجزائه ‪ ,‬في الخير وفي الشر سواء ‪. .‬‬

‫ومن هذا الرتباط يتجلى أن القيم اليمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس ‪ .‬فكلتاهما تؤثر في‬
‫هذه الحياة ‪ .‬سواء عن طريق قدر ال الغيبي المتعلق بعالم السباب من وراء علم البشر وسعيهم ‪ .‬أو عن‬
‫طريق الثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك ‪ .‬وهي الثار التي ينشئها في حياتهم‬
‫اليمان أو عدم اليمان ‪ ,‬من النتائج المحسوسة المدركة ‪.‬‬

‫وقد أسلفنا الشارة إلى بعض هذه الثار العملية الواقعية حين قلنا مرة‪:‬إن سيادة المنهج اللهي في مجتمع‬
‫معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ‪ ,‬وأن يجد كل فرد المن والسكينة والستقرار‬
‫الجتماعي ‪ -‬فضل على المن والسكينة والستقرار القلبي باليمان ‪ -‬ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا‬
‫حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الخير في الخرة ‪ . .‬وحين قلنا مرة‪:‬إن الدينونة ل وحده في مجتمع‬
‫من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم‬
‫والتهاويل التي تطلق حول الرباب المزيفة ‪ ,‬لتخلع عليها شيئا من خصائص اللوهية حتى تخضع لها‬
‫الرقاب ! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلفة‬
‫فيكون الخير الوفير للناس ‪ .‬فضل على الكرامة والحرية و المساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة ل‬
‫وحده دون العباد ‪ . .‬وليست هذه إل نماذج من ثمار اليمان حين تتحق حقيقته في حياة الناس ‪ [ . .‬وسيرد‬
‫عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء ال ] ‪.‬‬

‫ونقف أمام تلك المواجهة الخيرة من هود لقومه ; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم‬
‫كامل ‪ ,‬وفي تحد سافر ‪ ,‬وفي استعلء بالحق الذي معه ‪ ,‬وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة‪:‬‬

‫(قال‪:‬إني أشهد ال ‪ ,‬واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ‪ ,‬فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون ‪ .‬إني توكلت‬
‫على ال ربي وربكم ‪ ,‬ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ‪ ,‬إن ربي على صراط مستقيم ‪ .‬فإن تولوا فقد أبلغتكم‬
‫ما أرسلت به إليكم ‪ ,‬ويستخلف ربي قوما غيركم ول تضرونه شيئا ‪ ,‬إن ربي على كل شيء حفيظ)‪. .‬‬

‫إن أصحاب الدعوة إلى ال في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويل أمام هذا المشهد الباهر‬
‫‪ . .‬رجل واحد ‪ ,‬لم يؤمن معه إل قليل ‪ ,‬يواجه أعتى أهل الرض وأغنى أهل الرض وأكثر أهل الرض‬
‫حضارة مادية في زمانهم ‪ ,‬كما جاء عنهم في قول ال تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في‬
‫السورة الخرى‪:‬‬
‫(كذبت عاد المرسلين ‪ .‬إذ قال لهم أخوهم هود‪:‬أل تتقون ? إني لكم رسول أمين ‪ ,‬فاتقوا ال وأطيعون ‪ .‬وما‬
‫أسألكم عليه من أجر إن أجري إل على رب العالمين ‪ .‬أتبنون بكل ريع آية تعبثون ? وتتخذون مصانع لعلكم‬
‫تخلدون ‪ .‬وإذا بطشتم بطشتم جبارين ‪ .‬فاتقوا ال وأطيعون ‪ .‬واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ‪ .‬أمدكم بأنعام‬
‫وبنين ‪ .‬وجنات وعيون ‪ .‬إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ‪ .‬قالوا‪:‬سواء علينا أوعظت أم لم تكن من‬
‫الواعظين ‪ .‬إن هذا إل خلق الولين ‪ .‬وما نحن بمعذبين)! ‪ [ . .‬الشعراء‪] 138 - 123:‬‬

‫فهؤلء العتاة الجبارون الذين يبطشون بل رحمة ; والذين أبطرتهم النعمة ; والذين يقيمون المصانع يرجون‬

‫من ورائها المتداد والخلود ! ‪ . .‬هؤلء هم الذين واجههم هود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هذه المواجهة ‪ .‬في شجاعة‬
‫المؤمن واستعلئه وثقته واطمئنانه ; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة ‪ -‬وهم قومه ‪ -‬وتحداهم أن‬
‫يكيدوه بل إمهال ‪ .‬وأن يفعلوا ما في وسعهم فل يباليهم بحال !‬

‫لقد وقف هود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هذه الوقفة الباهرة ‪ ,‬بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك ; وبعد أن تودد إليهم‬
‫وهو يدعوهم غاية التودد ‪ . .‬ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة ال وعلى الستهتار بالوعيد والجرأة‬
‫على ال ‪. .‬‬

‫لقد وقف هود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هذه الوقفة الباهرة لنه يجد حقيقة ربه في نفسه ‪ ,‬فيوقن أن أولئك الجبارين‬
‫العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب ! وهو مستيقن أنه ما من دابة إل وربه آخذ بناصيتها ; ففيم‬
‫يحفل إذن هؤلء الدواب ?! وان ربه هو الذي استخلفهم في الرض ‪ ,‬وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال‬
‫وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين ! للبتلء ل لمطلق العطاء ‪ .‬وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف‬
‫غيرهم إذا شاء ‪ ,‬ول يضرونه شيئا ‪ ,‬ول يردون له قضاء ‪ . .‬ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ‪ ,‬وربه هو‬
‫الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء ? ‪. .‬‬

‫إن أصحاب الدعوة إلى ال ل بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا‬
‫بإيمانهم في استعلء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم ‪ . .‬أمام القوة المادية ‪ .‬وقوة الصناعة ‪ .‬وقوة المال‬
‫‪ .‬وقوة العلم البشري ‪ .‬وقوة النظمة والجهزة والتجارب والخبرات ‪ . .‬وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية‬
‫كل دابة ; وأن الناس ‪ -‬كل الناس ‪ -‬إن هم إل دواب من الدواب !‬

‫وذات يوم ل بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان‬
‫‪ . .‬أمة تدين ل وحده وترفض الدينونة لسواه ‪ .‬وأمة تتخذ من دون ال أربابا ‪ ,‬وتحاد ال !‬

‫ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد ال بالنصر لوليائه ‪ ,‬والتدمير على أعدائه ‪ -‬في صورة من الصور التي‬
‫قد تخطر وقد ل تخطر على البال ‪ -‬ففي تاريخ الدعوة إلى ال على مدار التاريخ ! لم يفصل ال بين أوليائه‬
‫وأعدائه إل بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا ال وحده ‪ . .‬وكانوا هم حزب ال الذين‬
‫ل يعتمدون على غيره والذين ل يجدون لهم ناصرا سواه ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 68 - 60:‬لقطات من قصة صالح مع ثمود‬

‫وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد ‪ .‬لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود ‪.‬‬

‫وإلى ثمود أخاهم صالحا ‪ .‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ .‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم‬
‫فيها ‪ .‬فاستغفروه ثم توبوا إليه ‪ ,‬إن ربي قريب مجيب ‪. .‬‬

‫إنها الكلمة التي ل تتغير‪:‬‬

‫(يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪. .‬‬

‫وإنه كذلك المنهج الذي ل يتبدل‪:‬‬

‫(فاستغفروه ثم توبوا إليه)‪. .‬‬

‫ثم هو التعريف بحقيقة اللوهية كما يجدها في نفسه الرسول‪:‬‬

‫(إن ربي قريب مجيب)‪. .‬‬

‫وذكرهم صالح بنشأتهم من الرض ‪ .‬نشأة جنسهم ‪ ,‬ونشأة أفرادهم من غذاء الرض أو من عناصرها التي‬
‫تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي ‪ .‬ومع أنهم من هذه الرض ‪ .‬من عناصرها ‪ .‬فقد استخلفهم ال فيها‬
‫ليعمروها ‪ .‬استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم ‪.‬‬

‫ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى ‪. .‬‬

‫(فاستغفروه ثم توبوا إليه)‪. .‬‬

‫واطمئنوا إلى استجابته وقبوله‪:‬‬

‫(إن ربي قريب مجيب)‪. .‬‬

‫والضافة في(ربي)ولفظ(قريب)ولفظ(مجيب)واجتماعها وتجاورها ‪ . .‬ترسم صورة لحقيقة اللوهية كما تتجلى‬


‫في قلب من قلوب الصفوة المختارة ‪ ,‬وتخلع على الجو أنسا واتصال ومودة ‪ ,‬تنتقل من قلب النبي الصالح إلى‬
‫قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب !‬
‫ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والستغلق والنطماس درجة ل تستشعر معها جمال تلك الصورة‬
‫ول جللها ‪ ,‬ول تحس بشاشة هذا القول الرفيق ‪ ,‬ول وضاءة هذا الجو الطليق ‪ . .‬وإذا بهم يفاجأون ‪ ,‬حتى‬
‫ليظنون بأخيهم صالح الظنون !‬

‫(قالوا‪:‬يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ? وإننا لفي شك مما تدعونا إليه‬
‫مريب)‪. .‬‬

‫لقد كان لنا رجاء فيك ‪ .‬كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ‪ ,‬أو لهذا جميعه ‪ .‬ولكن‬
‫هذا الرجاء قد خاب ‪. .‬‬

‫(أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)‪. .‬‬

‫إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إل هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي‬
‫شك مما تدعونا إليه ‪ .‬شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول‪:‬‬

‫(وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب)‪. .‬‬

‫وهكذا يعجب القوم مما ل عجب فيه ; بل يستنكرون ما هو واجب وحق ‪ ,‬ويدهشون لن يدعوهم أخوهم‬
‫صالح إلى عبادة ال وحده ‪ .‬لماذا ? ل لحجة ول لبرهان ول لتفكير ‪ .‬ولكن لن آباءهم يعبدون هذه اللهة !‬

‫وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين ‪ .‬وأن يعللوا العقائد بفعل الباء !‬

‫وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة‬
‫إلى إطلق العقل البشري من عقال التقليد ‪ ,‬ومن أوهاق الوهم والخرافة التي ل تستند إلى دليل وتذكرنا قولة‬
‫ثمود لصالح‪:‬‬

‫(قد كنت فينا مرجوا قبل هذا)‪. .‬‬

‫تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته ‪ .‬فلما أن دعاهم إلى ربوبية ال وحده تنكروا له‬
‫كما تنكر قوم صالح ‪ ,‬وقالوا‪:‬ساحر ‪ .‬وقالوا‪:‬مفتر ‪ .‬ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !‬

‫إنها طبيعة واحدة ‪ ,‬ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور ‪. .‬‬

‫ويقول صالح كما قال جده نوح‪:‬‬


‫قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ‪ ,‬فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما‬
‫تزيدونني غير تخسير ‪. .‬‬

‫يا قوم‪:‬ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ‪ ,‬تجعلني على يقين من أن هذا هو‬
‫الطريق ? وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها ‪ .‬فمن ينصرني من ال‬
‫إن أنا عصيته فقصرت في إبلغكم دعوته ‪ ,‬احتفاظا برجائكم في ? أفنافعي هذا الرجاء وناصري من ال ?‬
‫كل‪:‬‬

‫(فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير)‪. .‬‬

‫ما تزيدونني إل خسارة على خسارة ‪ . .‬غضب ال وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الخرة ‪.‬‬
‫وهي خسارة بعد خسارة ‪ .‬ول شيء إل التخسير ! والتثقيل والتشديد !‬

‫(ويا قوم هذه ناقة ال لكم آية ‪ ,‬فذروها تأكل في أرض ال ‪ ,‬ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب)‬

‫ول يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلمة ‪ .‬ولكن في إضافتها ل‪( :‬هذه‬
‫ناقة ال)وفي تخصيصها لهم‪( :‬لكم آية)ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة ‪ ,‬يعلمون بها أنها آية‬
‫لهم من ال ‪ .‬ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الساطير والسرائيليات التي تفرقت بها أقوال‬
‫المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء !‬

‫(هذه ناقة ال لكم آية ‪ .‬فذروها تأكل في أرض ال ول تمسوها بسوء)‪. .‬‬

‫وإل فيعالجكم العذاب ‪ .‬يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة ‪ .‬ولفظ قريب‪:‬‬

‫(فيأخذكم عذاب قريب)‪. .‬‬

‫يأخذكم أخذا ‪ .‬وهي حركة أشد من المس أو الوقوع ‪.‬‬

‫(فعقروها ‪ . .‬فقال‪:‬تمتعوا في داركم ثلثة أيام ‪ .‬ذلك وعد غير مكذوب)‪. .‬‬

‫ودل عقرهم للناقة ‪ ,‬أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو ‪ .‬دل على فساد قلوبهم‬
‫واستهتارهم ‪ .‬والسياق هنا ل يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها ‪ ,‬لنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة‬
‫تغييرا يذكر ‪ .‬ثم ليتابع السياق عجلة العذاب ‪ .‬فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات‪:‬‬

‫(فعقروها ‪ .‬فقال‪:‬تمتعوا في داركم ثلثة أيام)‪. .‬‬


‫فهي آخر ما بقى لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة‪:‬‬

‫(ذلك وعد غير مكذوب)‪. .‬‬

‫فهو وعد صادق لن يحيد ‪. .‬‬

‫وبالفاء التعقبية يعبر كذلك ‪ .‬فالعذاب لم يتأخر‪:‬‬

‫(فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ‪ ,‬إن ربك هو القوي العزيز ‪,‬‬
‫وأخذ الذين ظلموا الصيحة ‪ ,‬فأصبحوا في ديارهم جاثمين)‪. .‬‬

‫فلما جاء موعد تحقيق المر ‪ -‬وهو النذار أو الهلك ‪ -‬نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ‪. .‬‬
‫خاصة ومباشرة ‪ . .‬نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم ‪ ,‬فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية ‪ ,‬وكان‬
‫مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا ‪.‬‬

‫(إن ربك هو القوي العزيز)‪. .‬‬

‫يأخذ العتاة أخذا ول يعز عليه أمرا ‪ ,‬ول يهون من يتوله ويرعاه ‪.‬‬

‫ثم يعرض السياق مشهدهم ‪ ,‬معجبا منهم ‪ ,‬ومن سرعة زوالهم‪:‬‬

‫(كأن لم يغنوا فيها)‪. .‬‬

‫كأن لم يقيموا ويتمتعوا ‪ . .‬وإنه لمشهد مؤثر ‪ ,‬وإنها للمسة مثيرة ‪ ,‬والمشهد معروض ‪ ,‬وما بين الحياة‬
‫والموت ‪ -‬بعد أن يكون ‪ -‬إل لمحة كومضة العين ‪ ,‬وإذا الحياة كلها شريط سريع ‪ .‬كأن لم يغنوا فيها ‪. . .‬‬

‫ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة‪:‬تسجيل الذنب ‪ ,‬وتشييع اللعنة ‪ ,‬وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى‪:‬‬

‫(أل إن ثمود كفروا ربهم ‪ .‬أل بعدا لثمود !)‪. .‬‬

‫تعقيب على قصة صالح مع ثمود‬

‫ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ ‪ . .‬الدعوة فيها هي الدعوة ‪ .‬وحقيقة‬
‫السلم فيها هي حقيقته ‪ . .‬عبادة ال وحده بل شريك ‪ ,‬والدينونة ل وحده بل منازع ‪ . .‬ومرة أخرى نجد‬
‫الجاهلية التي تعقب السلم ‪ ,‬ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد ‪ -‬فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين‬
‫نجوا في السفينة مع نوح ‪ -‬ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية ‪ ,‬حتى جاءهم صالح ليردهم إلى السلم من‬
‫جديد ‪. .‬‬
‫ثم نجد أن القوم يواجهون الية الخارقة التي طلبوها ‪ ,‬ل باليمان والتصديق ‪ ,‬ولكن بالجحود وعقر الناقة !‬

‫ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول ال [ ص ] خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا ‪ .‬فهاهم أولء‬
‫قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا ‪ .‬فما أغنت معهم شيئا ! إن اليمان ل يحتاج إلى الخوارق ‪ .‬إنه‬
‫دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول ‪ .‬ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول‪!!!:‬‬

‫ومرة أخرى نجد حقيقة اللوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ‪ .‬قلوب الرسل الكرام ‪ .‬نجدها‬
‫في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم‪ :‬قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ‪ ,‬وآتاني منه‬
‫رحمة ‪ ,‬فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير ‪ . .‬وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما‬
‫يجده في قلبه‪( :‬إن ربي قريب مجيب)‪. .‬‬

‫وما تتجلى حقيقة اللوهية قط في كمالها وجللها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة‬
‫من عباده ‪ .‬فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد‬
‫العجيب !‬

‫ن َربّكَ ُه َو الْقَ ِويّ ا ْل َعزِيزُ (‪)66‬‬


‫خزْيِ َي ْو ِم ِئذٍ إِ ّ‬
‫ن ِ‬
‫حمَةٍ ّمنّا َومِ ْ‬
‫ن آ َمنُو ْا َمعَهُ ِب َر ْ‬
‫ج ْينَا صَالِحا وَاّلذِي َ‬
‫فََلمّا جَاء َأ ْمرُنَا َن ّ‬
‫ن َثمُودَ كَفرُواْ َربّ ُهمْ َألَ‬
‫ل إِ ّ‬
‫ص َبحُواْ فِي ِديَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ (‪َ )67‬كأَن ّلمْ َي ْغنَوْ ْا فِيهَا َأ َ‬
‫ص ْيحَ ُة َفأَ ْ‬
‫ن ظََلمُواْ ال ّ‬
‫خذَ اّلذِي َ‬
‫وََأ َ‬
‫ُبعْدا ّل َثمُودَ (‪)68‬‬

‫ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلل ; وفي الحق عجيبة ل تكاد تتصورها ! فصالح‬
‫الذي كان مرجوا في قومه ‪ ,‬لصلحه ولرجاحة عقله وخلقه ‪ ,‬يقف منه قومه موقف اليائس منه ‪ ,‬المفجوع‬
‫فيه ! لماذا ? لنه دعاهم إلى الدينونة ل وحده ‪ .‬على غير ما ورثوا عن آباءهم من الدينونة لغيره !‬

‫إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة ‪ ,‬ل يقف عند حد في ضلله وشروده ‪.‬‬
‫حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها ; بينما هو يستسيغ‬
‫النحراف الذي ل يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الطلق !‬

‫إن صالحا يناديهم‪( :‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ . .‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها ‪. .). .‬‬
‫فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الرض من دليل فطري منطقي ل يملكون له ردا ‪ . .‬وهم ما كانوا‬
‫يزعمون أنهم هم انشأوا أنفسهم ‪ ,‬ول انهم هم كفلوا لنفسهم البقاء ‪ ,‬ول أعطوا أنفسهم هذه الرزاق التي‬
‫يستمتعون بها في الرض ‪. .‬‬
‫وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬هو الذي أنشأهم من الرض ‪ ,‬وهو الذي أقدرهم على‬
‫عمارتها ‪ .‬ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا العتراف بألوهية ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وإنشائه لهم واستخلفهم في الرض‬
‫‪ ,‬بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة ل وحده بل شريك ‪ ,‬واتباع أمره وحده بل منازع ‪ . .‬وهو ما يدعوهم إليه‬
‫صالح بقوله‪( :‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)‪. .‬‬

‫لقد كانت القضية هي ذاتها ‪ . .‬قضية الربوبية ل قضية اللوهية ‪ .‬قضية الدينونة والحاكمية قضية التباع‬
‫والطاعة ‪ . .‬إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة السلم مع الجاهلية !‬

‫الوحدة الرابعة‪ 83 - 69:‬لقطات من قصة إبراهيم ولوط عليهم السلم‬

‫مقدمة الوحدة يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح ‪ ,‬وبالمم التي بوركت والمم التي‬
‫كتب عليها العذاب ‪ . .‬يلم بطرف من قصة إبراهيم ‪ ,‬تتحق فيه البركات ‪ ,‬في الطريق إلى قصة قوم لوط‬
‫الذين مسهم العذاب الليم ‪ .‬وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد ال بطرفيه لنوح‪(:‬قيل‪:‬يا نوح اهبط‬
‫بسلم منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ‪ .‬وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم)‪ . .‬وقد كانت البركات‬
‫في إبراهيم وعقبه من ولديه‪:‬إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل ‪ .‬وإسماعيل ومن نسله خاتم النبياء المرسلين ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 76 - 69:‬قصة إبراهيم مع ضيوفه الملئكة‬

‫(ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)‪. .‬‬

‫ول يفصح السياق عن هذه البشرى إل في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم ! والرسل‪:‬الملئكة ‪ .‬وهم‬
‫هنا مجهولون ‪ ,‬فل ندخل ‪ -‬مع المفسرين ‪ -‬في تعريفهم وتحديد من هم بل دليل ‪.‬‬

‫(قالوا‪:‬سلما ‪ .‬قال‪:‬سلم)‪. .‬‬

‫وكان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق ‪ ,‬وعبر الردن ‪ ,‬وسكن في أرض كنعان‬
‫في البادية ‪ -‬وعلى عادة البدو في إكرام الضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفا ‪:-‬‬

‫(فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)‪. .‬‬

‫أي سمين مشوي على حجارة الرضف المحماة ‪.‬‬

‫ولكن الملئكة ل يأكلون طعام أهل الرض‪:‬‬

‫(فلما رأى أيديهم ل تصل إليه)‪. .‬‬


‫أى ل تمتد إليه ‪.‬‬

‫(نكرهم وأوجس منهم خيفة)‪. .‬‬

‫فالذي ل يأكل الطعام يريب ‪ ,‬ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرا بحسب تقاليد أهل البدو ‪ . .‬وأهل الريف‬

‫حنِيذٍ (‪)69‬‬
‫ث أَن جَاء ِب ِعجْلٍ َ‬
‫لمٌ َفمَا َلبِ َ‬
‫وَلَ َقدْ جَاءتْ ُرسُُلنَا ِإ ْبرَاهِيمَ بِا ْلبُـشْرَى قَالُواْ سَلَما قَالَ سَ َ‬
‫عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ‪ ,‬أي من خيانة من أكلوا معه طعاما ! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا‬
‫أنهم ينوون به شرا ‪ ,‬أو أنهم ل يثقون في نياته لهم ‪ . .‬وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم‪:‬‬

‫(قالوا‪:‬ل تخف ‪ ,‬إنا أرسلنا إلى قوم لوط)‪. .‬‬

‫وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملئكة إلى قوم لوط ! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث‪:‬‬

‫(وامرأته قائمة فضحكت)‪. .‬‬

‫وربما كان ضحكها ابتهاجا بهلك القوم الملوثين‪:‬‬

‫(فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)‪. .‬‬

‫وكانت عقيما لم تلد وقد أصبحت عجوزا ‪ .‬ففاجأتها البشرى بإسحاق ‪ .‬وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون‬
‫لسحاق عقب من بعده هو يعقوب ‪ .‬والمرأة ‪ -‬وبخاصة العقيم ‪ -‬يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى ‪,‬‬
‫والمفاجأة بها تهزها وتربكها‪:‬‬

‫قالت‪:‬يا ويلتا ! أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ? إن هذا لشيء عجيب ‪. .‬‬

‫وهو عجيب حقا ‪ .‬فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فل تحمل ‪ .‬ولكن ل شيء بالقياس إلى قدرة ال‬
‫عجيب‪:‬‬

‫(قالوا‪:‬أتعجبين من أمر ال ? رحمة ال وبركاته عليكم أهل البيت ‪ .‬إنه حميد مجيد)‪. .‬‬

‫ول عجب من أمر ال ‪ .‬فالعادة حين تجري بأمر ل يكون معنى هذا أنها سنة ل تتبدل ‪ .‬وعندما يشاء ال‬
‫لحكمة يريدها ‪ -‬وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه ‪ -‬يقع ما يخالف العادة ‪ ,‬مع‬
‫وقوعه وفق السنة اللهية التي ل نعلم حدودها ‪ ,‬ول نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هو على كل حال‬
‫محدود ‪ ,‬ونحن ل نستقرئ جميع الحوادث في الوجود ‪.‬‬
‫والذين يقيدون مشيئة ال بما يعرفونه هم من نواميسه ل يعرفون حقيقة اللوهية كما يقررها ال سبحانه في‬
‫كتابه ‪ -‬وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول ‪ -‬وحتى الذين يقيدون مشيئة ال بما يقرر ال‬
‫‪ -‬سبحانه ‪ -‬أنه ناموسه ‪ ,‬ل يدركون حقيقة اللوهية كذلك ! فمشيئة ال سبحانه طليقة وراء ما قرره ال‬
‫سبحانه من نواميس ‪ .‬ولتتقيد هذه المشيئة بالنواميس ‪.‬‬

‫نعم إن ال سبحانه يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له ‪ . .‬ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه‬
‫النواميس بعد وجودها شيء آخر ! إن الناموس يجرى وينفذ بقدر من ال قي كل مرة ينفذ فيها ‪ .‬فهو ل‬
‫يجري ول ينفذ آليا ‪ .‬فإذا قدر ال في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات‬
‫سابقة كان ما قدره ال ولم يقف الناموس في وجه هذا القدر الجديد ‪ . .‬ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل‬
‫النواميس هو طلقة المشيئة بل قيد على الطلق ‪ ,‬وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق‬
‫‪..‬‬

‫وإلى هنا كان إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬قد اطمأن إلى رسل ربه ‪ ,‬وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه ‪.‬‬
‫ولكن هذا لم ينسه لوطا وقومه ‪ -‬وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريبا منه ‪ -‬وما‬
‫ينتظرهم من وراء إرسال الملئكة من هلك واستئصال ‪ .‬وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود ل تجعله يطيق‬
‫هلك القوم واستئصالهم جميعا‪:‬‬

‫خفْ ِإنّا ُأ ْرسِ ْلنَا إِلَى قَ ْومِ لُوطٍ (‪ )70‬وَا ْمرَأَتُهُ‬


‫س ِم ْنهُمْ خِي َفةً قَالُو ْا لَ َت َ‬
‫فََلمّا رَأَى َأ ْي ِد َيهُ ْم لَ َتصِلُ إَِليْ ِه َن ِكرَهُمْ وَأَ ْوجَ َ‬
‫عجُوزٌ وَهَـذَا َبعْلِي‬
‫سحَاقَ َيعْقُوبَ (‪ )71‬قَالَتْ يَا َويَْلتَى أَأَِلدُ وََأ َناْ َ‬
‫سحَاقَ َومِن َورَاء ِإ ْ‬
‫حكَتْ َف َبشّ ْرنَاهَا ِبِإ ْ‬
‫ضِ‬‫قَآ ِئمَ ٌة فَ َ‬
‫حمِيدٌ‬
‫ت اللّهِ َو َب َركَاتُهُ عََل ْيكُ ْم أَهْلَ ا ْل َبيْتِ ِإنّ ُه َ‬
‫ن َأمْ ِر اللّ ِه َرحْمَ ُ‬
‫جبِينَ مِ ْ‬
‫عجِيبٌ (‪ )72‬قَالُواْ َأ َت ْع َ‬
‫شيْءٌ َ‬
‫شيْخا ِإنّ هَـذَا َل َ‬
‫َ‬
‫عنْ ِإ ْبرَاهِيمَ الرّ ْوعُ َوجَاءتْ ُه ا ْل ُبشْرَى ُيجَادِلُنَا فِي قَ ْومِ لُوطٍ (‪ِ )74‬إنّ ِإ ْبرَاهِيمَ َلحَلِيمٌ أَوّاهٌ‬
‫ّمجِيدٌ (‪ )73‬فَلَمّا ذَهَبَ َ‬
‫ّمنِيبٌ (‪)75‬‬

‫(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ‪ .‬إن إبراهيم لحليم أواه منيب)‪.‬‬

‫والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ول يثور ‪ .‬والواه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى ‪.‬‬
‫والمنيب الذي يعود سريعا إلى ربه ‪ . .‬وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملئكة في مصير قوم‬
‫لوط وإن كنا ل نعلم كيف كان هذا الجدال لن النص القرآني لم يفصله ‪ ,‬فجاءه الرد بأن أمر ال فيهم قد‬
‫قضي وإنه لم يعد للجدال مجال‪:‬‬

‫(يا إبراهيم أعرض عن هذا ‪ ,‬إنه قد جاء أمر ربك ‪ ,‬وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)‪. .‬‬
‫الدرس الثاني‪ 83 - 77:‬لقطات من قصة لوط مع قومه‬

‫ويسكت السياق ‪ .‬وقد سكت ‪ -‬ول شك ‪ -‬إبراهيم ‪ . .‬ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك‬
‫على مشهد حافل بالحركة والنفعال مع لوط ‪ .‬وقوم لوط في مدن الردن‪:‬عمورية وسدوم ‪.‬‬

‫(ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا ‪ ,‬وقال‪:‬هذا يوم عصيب !)‪. .‬‬

‫لقد كان يعرف قومه ‪ .‬ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين ‪ .‬إذ يتركون النساء إلى الرجال‬
‫‪ ,‬مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الحياء جميعا أزواجا ‪ ,‬كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها ال ‪.‬‬
‫والتي تجد اللذة الحقيقة في تلبية نداء الحكمة الزلية ‪ ,‬ل عن تفكير وتدبير ‪ ,‬ولكن عن اهتداء واستقامة ‪.‬‬
‫والبشرية تعرف حالت مرضية فردية شاذة ‪ ,‬ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة ‪ .‬وهي تشير إلى أن المرض‬
‫النفسي يعدي كالمرض الجسدي ‪ .‬وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لختلل المقاييس في بيئة من‬
‫البيئات ‪ ,‬وانتشار المثل السيء ‪ ,‬عن طريق إيحاء البيئة المريضة ‪ .‬على الرغم من مصادمته للفطرة ‪ ,‬التي‬
‫يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة ‪ .‬الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة ل فيما‬
‫يصادمها ويعدمها ‪ .‬والشذود الجنسي يصادم الحياة ويعدمها ‪ ,‬لنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد‬
‫لستقبالها وإحيائها ‪ .‬بدل من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها ‪ .‬ومن أجل هذا تنفر الفطرة‬
‫السليمة نفورا فطريا ‪ -‬ل أخلقيا فحسب ‪ -‬من عمل قوم لوط ‪ .‬لن هذه الفطرة محكومة بقانون ال في الحياة‬
‫‪ .‬الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة ل فيما يصدمها ويعطلها ‪.‬‬

‫ولقد نجد أحيانا لذة في الموت ‪ -‬في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا ‪ -‬ولكنها ليست لذة حسية إنما هي‬
‫معنوية اعتبارية ‪ .‬على أن هذه ليست مصادفة للحياة ‪ ,‬إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر ‪.‬‬
‫وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلياها ‪. .‬‬

‫سيء لوط بأضيافه ‪ .‬وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه ‪ ,‬ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه‪:‬‬

‫(وقال‪:‬هذا يوم عصيب)!‬

‫وبدأ اليوم العصيب !‬

‫(وجاءه قومه يهرعون إليه)‪. .‬‬

‫أي يسرعون في حالة تشبه الحمى ‪.‬‬

‫(ومن قبل كانوا يعملون السيئات)‪. .‬‬


‫وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه ‪ ,‬وما ضيق بهم ذرعه ‪ ,‬وما دعاه إلى توقع يوم عصيب !‬

‫ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ‪ ,‬يهددونه في ضيفه وكرامته ‪ .‬فحاول أن‬

‫ت ُرسُُلنَا لُوطا‬
‫غ ْيرُ َم ْردُودٍ (‪ )76‬وََلمّا جَاء ْ‬
‫عذَابٌ َ‬
‫عنْ َهذَا ِإنّ ُه قَ ْد جَاء َأ ْمرُ َر ّبكَ وَِإ ّن ُهمْ آتِي ِهمْ َ‬
‫عرِضْ َ‬
‫يَا ِإ ْبرَاهِيمُ َأ ْ‬
‫عصِيبٌ (‪)77‬‬
‫سِيءَ ِب ِهمْ َوضَاقَ ِب ِهمْ َذرْعا َوقَالَ هَـذَا َي ْومٌ َ‬

‫يوقظ فيهم الفطرة السليمة ‪ ,‬ويوجههم إلى الجنس الخر الذي خلقه ال للرجال ‪ ,‬وعنده منه في داره بناته ‪,‬‬
‫فهن حاضرات ‪ ,‬حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور ‪ ,‬وسكنت الفورة‬
‫المحمومة والشهوة المجنونة !‬

‫(قال‪:‬يا قوم هؤلء بناتي هن أطهر لكم ‪ .‬فاتقوا ال ول تخزون في ضيفي ‪ .‬أليس منكم رجل رشيد ?)‪.‬‬

‫(هؤلء بناتي هن أطهر لكم)‪. .‬‬

‫أطهر بكل معاني الطهر ‪ .‬النفسي والحسي ‪ .‬فهن يلبين الفطرة النظيفة ‪ ,‬ويثرن مشاعر كذلك نظيفة ‪ .‬نظافة‬
‫فطرية ونظافة أخلقية ودينية ‪ .‬ثم هن أطهر حسيا ‪ .‬حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك‬
‫طاهرا نظيفا ‪.‬‬

‫(فاتقوا ال)‪. .‬‬

‫قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة ‪.‬‬

‫(ول تخزون في ضيفي)‪. .‬‬

‫قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلقا ‪.‬‬

‫(أليس منكم رجل رشيد ?)‪. .‬‬

‫فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة ‪ . .‬ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة‬
‫المنحرفة المريضة ‪ ,‬ول القلوب الميتة السنة ‪ ,‬ول العقول المريضة المأفونة ‪ .‬وظلت الفورة المريضة الشاذة‬
‫في اندفاعها المحموم‪:‬‬

‫قالوا‪:‬لقد علمت مالنا في بناتك من حق ‪ .‬وإنك لتعلم ما نريد ! ‪. .‬‬


‫لقد علمت لو أردنا بناتك لتزوجناهن ‪ .‬فهذا حقنا ‪( . .‬وإنك لتعلم ما نريد)‪ . .‬وهي إشارة خبيثة إلى العمل‬
‫الخبيث ‪.‬‬

‫وأسقط في يد لوط ‪ ,‬وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم ‪ ,‬نازح إليهم من بعيد ‪ ,‬ل عشيرة له تحميه ‪ ,‬وليس‬
‫له من قوة في هذا اليوم العصيب ; وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة‪:‬‬

‫(قال‪:‬لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد !)‪. .‬‬

‫قالها وهو يوجه كلمه إلى هؤلء الفتية ‪ -‬الذين جاء الملئكة في صورتهم ‪ -‬وهم صغار صباح الوجوه ;‬
‫ولكنهم ‪ -‬في نظره ‪ -‬ليسوا بأهل بأس ول قوة ‪ .‬فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة ‪ .‬أو‬
‫لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد !‬

‫وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد ‪ .‬ركن ال الذي ل يتخلى عن أوليائه ‪ .‬كما قال‬
‫رسول ال [ ص ] وهو يتلو هذه الية‪ ":‬رحمة ال على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد " !‬

‫وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها ‪ ,‬وبلغ الكرب أشده ‪ . .‬كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي‬
‫إليه‪:‬‬

‫(قالوا‪:‬يا لوط ‪ ,‬إنا رسل ربك ‪ ,‬لن يصلوا إليك)‪. .‬‬

‫وأنبأوه نبأهم ‪ ,‬لينجو مع أهل بيته الطاهرين ‪ ,‬إل امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين‪:‬‬

‫ط َهرُ َل ُكمْ فَاتّقُواْ الّلهَ‬


‫س ّيئَاتِ قَالَ يَا قَ ْو ِم هَـؤُلء َبنَاتِي ُهنّ َأ ْ‬
‫ل كَانُواْ َي ْعمَلُونَ ال ّ‬
‫َوجَاءهُ قَ ْو ُمهُ ُي ْهرَعُونَ إَِل ْيهِ َومِن قَبْ ُ‬
‫حقّ وَِإ ّنكَ َل َتعَْلمُ مَا‬
‫ن َ‬
‫ضيْفِي أََليْسَ مِن ُكمْ َرجُلٌ ّرشِيدٌ (‪ )78‬قَالُو ْا لَ َقدْ عَِلمْتَ مَا َلنَا فِي َبنَا ِتكَ مِ ْ‬
‫ل ُتخْزُونِ فِي َ‬
‫َو َ‬
‫شدِيدٍ (‪)80‬‬
‫ن لِي ِب ُكمْ قُوّ ًة أَ ْو آوِي إِلَى ُركْنٍ َ‬
‫ل لَ ْو أَ ّ‬
‫ُنرِيدُ (‪ )79‬قَا َ‬

‫(فأسر بأهلك بقطع من الليل ‪ ,‬ول يلتفت منكم أحد إل امرأتك ‪ .‬إنه مصيبها ما أصابهم ‪ ,‬إن موعدهم الصبح ‪.‬‬
‫أليس الصبح بقريب ?)‪. .‬‬

‫والسرى‪:‬سير الليل ‪ ,‬والقطع من الليل‪:‬بعضه ‪ ,‬ول يلتفت منكم أحد ‪ .‬أى ل يتخلف ول يعوق ‪ .‬لن الصبح‬
‫موعدهم مع الهلك ‪ .‬فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين ‪.‬‬

‫(أليس الصبح بقريب ?)‪. .‬‬


‫سؤال لنعاش نفس لوط بعد ما ذاق ‪ .‬لتقريب الموعد وتأكيده ‪ .‬فهو قريب ‪ .‬مع مطلع الصباح ‪ .‬ثم يفعل ال‬
‫بالقوم ‪ -‬بقوته ‪ -‬ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعلة !‬

‫والمشهد الخير ‪ .‬مشهد الدمار المروع ‪ ,‬اللئق بقوم لوط‪:‬‬

‫(فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ‪ ,‬وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ‪ .‬مسومة عند ربك وما هي‬
‫من الظالمين ببعيد)‪. .‬‬

‫فلما جاء موعد تنفيذ المر (جعلنا عاليها سافلها)‪ . .‬وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير‬
‫المعالم ويمحوها ‪ .‬وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة‬
‫النسان إلى درك الحيوان ‪ .‬بل أحط من الحيوان ‪ ,‬فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان ‪. .‬‬

‫(وأمطرنا عليها حجارة من سجيل)‪. .‬‬

‫حجارة ملوثة بالطين ‪ . .‬وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام‪:‬‬

‫(منضود)‪ . .‬متراكم بعضه يلحق بعضا ‪.‬‬

‫هذه الحجارة ‪( . .‬مسومة عند ربك)‪ . .‬كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة ‪ .‬فكأنما هذه الحجارة‬
‫مرباة ! ومطلقة لتنمو وتتكاثر ! لوقت الحاجة ‪ . .‬وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ‪ ,‬ول يفصح عنه‬
‫التفسير ‪ ,‬كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه ‪. .‬‬

‫(وما هي من الظالمين ببعيد)‪. .‬‬

‫فهي قريبة وتحت الطلب ‪ ,‬وعند الحاجة تطلق فتصيب !‬

‫والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية‬
‫التي تخسف فيها الرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل ‪ . .‬وعند ربك للظالمين كثير !!!‬

‫ول نقول هذا الكلم لنقول‪:‬إنه كان بركان من تلك البراكين ‪ ,‬ثار في ذلك الوقت ‪ ,‬فوقع ما وقع ‪ .‬إننا ل ننفي‬
‫هذا ‪ .‬فقد يكون هو الذي وقع فعل ‪ .‬ولكننا ل نجزم به كذلك ول نقيد قدر ال بظاهرة واحدة مألوفة ‪. .‬‬

‫وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير ال وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا‬
‫الموعد ليحقق قدر ال في قوم لوط كما قدر في علمه القديم ‪ .‬وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته‬
‫سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه ‪.‬‬
‫وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة ال سبحانه لهلك قوم لوط‬

‫حدٌ ِإلّ ا ْمرََأ َتكَ ِإنّهُ‬


‫ت مِن ُكمْ َأ َ‬
‫ن الّليْلِ َولَ يَ ْلتَفِ ْ‬
‫سرِ ِبأَهِْلكَ بِ ِقطْعٍ مّ َ‬
‫قَالُواْ يَا لُوطُ ِإنّا ُرسُلُ َر ّبكَ لَن َيصِلُو ْا إَِل ْيكَ َفأَ ْ‬
‫ط ْرنَا‬
‫جعَ ْلنَا عَاِل َيهَا سَافَِلهَا وََأ ْم َ‬
‫صبْحُ بِ َقرِيبٍ (‪ )81‬فَلَمّا جَاء َأ ْم ُرنَا َ‬
‫صبْحُ أََليْسَ ال ّ‬
‫عدَ ُهمُ ال ّ‬
‫ُمصِي ُبهَا مَا َأصَا َبهُمْ ِإنّ َموْ ِ‬
‫ن الظّاِلمِينَ ِب َبعِيدٍ (‪)83‬‬
‫سجّيلٍ مّنضُودٍ (‪ّ )82‬مسَ ّومَةً عِندَ َر ّبكَ َومَا ِهيَ مِ َ‬
‫حجَارَةً مّن ِ‬
‫عََل ْيهَا ِ‬
‫على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين ‪ .‬وفهم علقة مشيئة ال بالكون على النحو الذي بيناه قريبا في‬
‫التعليق على حادثة امرأة إبراهيم ‪ ,‬ل يبقى مجال لمشكلة تقوم في التصوير النساني لمثل هذه الظواهر‬
‫والمور ‪. .‬‬

‫الوحدة الخامسة‪ 99 - 84:‬الموضوع‪:‬لقطات من قصة مدين وفرعون ‪ .‬مقدمة الوحدة‬

‫وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة ‪ ,‬ينهض به شعيب في قومه أهل مدين ‪ . .‬ومع الدعوة‬
‫إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى ‪ ,‬هي قضية المانة والعدالة في التعامل بين الناس ‪ ,‬وهي وثيقة الصلة بالعقيدة‬
‫في ال ‪ ,‬والدينونة له وحده ‪ ,‬واتباع شرعه وأمره ‪ .‬وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة ‪ ,‬ولم يدركوا‬
‫العلقة بين المعاملت المالية والصلة المعبرة عن الدينونة ل !‬

‫وتجري القصة على نسق قصة هود مع عاد ‪ ,‬وقصة صالح مع ثمود ‪ ,‬وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب‬
‫عرضها ‪ .‬والتعبير عن خاتمتها إلى قصة صالح ‪ ,‬حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي العبارة عن هذا‬
‫العذاب ‪.‬‬

‫الدرس الول‪ 86 - 84:‬دعوة شعيب إلى مدين وما نهاهم عنه‬

‫(وإلى مدين أخاهم شعيبا ‪ .‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪.). . .‬‬

‫إنها الدينونة ل وحده قاعدة العقيدة الولى ‪ .‬وقاعدة الحياة الولى ‪ .‬وقاعدة الشريعة الولى ‪ .‬وقاعدة‬
‫المعاملت الولى ‪ . .‬القاعدة التي ل تقوم بغيرها عقيدة ول عبادة ول معاملة ‪. .‬‬

‫(ول تنقصوا المكيال والميزان ‪ ,‬إني أراكم بخير ‪ ,‬وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ‪ ,‬ويا قوم أوفوا المكيال‬
‫والميزان بالقسط ‪ ,‬ول تبخسوا الناس أشياءهم ‪ ,‬ول تعثوا في الرض مفسدين ‪ .‬بقية ال خير لكم إن كنتم‬
‫مؤمنين ‪ .‬وما أنا عليكم بحفيظ)‪. .‬‬

‫والقضية هنا هي قضية المانة والعدالة ‪ -‬بعد قضية العقيدة والدينونة ‪ -‬أو هي قضية الشريعة والمعاملت‬
‫التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة ‪ . .‬فقد كان أهل مدين ‪ -‬وبلدهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام‬
‫‪ -‬ينقصون المكيال والميزان ‪ ,‬ويبخسون الناس أشياءهم ‪ ,‬أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملت ‪ .‬وهي‬
‫رذيلة تمس نظافة القلب واليد ‪ ,‬كما تمس المروءة والشرف ‪ .‬كما كانوا بحكم موقع بلدهم يملكون أن يقطعوا‬
‫الطريق على القوافل الذاهبة اليبة بين شمال الجزيرة وجنوبها ‪ .‬ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما‬
‫يشاءون من المعاملت الجائزة التي وصفها ال في هذه السورة ‪.‬‬

‫ومن ثم تبدو علقة عقيدة التوحيد والدينونة ل وحده بالمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الخذ والعطاء‬
‫‪ ,‬ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الفراد أم قامت بها الدول ‪ .‬فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ‪,‬‬
‫وضمانة للعدل والسلم في الرض بين الناس ‪ .‬وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من ال وطلب‬
‫رضاه ‪ ,‬فتستند إلى أصل ثابت ‪ ,‬ل يتأرجح مع المصالح والهواء ‪. .‬‬

‫إن المعاملت والخلق ل بد أن تستند إلى أصل ثابت ل يتعلق بعوامل متقلبة ‪ . .‬هذه هي نظرة السلم ‪.‬‬
‫وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الجتماعية والخلقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر‬
‫وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم !‬

‫وهي حين تستند إلى ذلك الصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ; كما ينعدم تأثرها بالبيئة‬
‫والعوامل السائدة فيها ‪.‬‬

‫فل يكون المتحكم في أخلق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الخلقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو‬
‫يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة ‪ . .‬إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الخلقي‬
‫وفي قواعد المعاملت الخلقية ‪ ,‬حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة ال ; وحين تصبح قاعدة‬
‫الخلق هي إرضاء ال وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ‪ ,‬وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضيعة من تبعية‬
‫الخلق للعلقات القتصادية وللطور الجتماعي للمة يصبح لغوا في ظل النظرة الخلقية السلمية !‬

‫(ول تنقصوا المكيال والميزان ‪ .‬إني أراكم بخير)‪. .‬‬

‫فقد رزقكم ال رزقا حسنا ‪ ,‬فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ‪ ,‬ولن يفقركم أو يضركم أن ل‬
‫تنقصوا المكيال والميزان ‪ . .‬بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ‪ ,‬أو غصب في الخذ‬
‫والعطاء ‪.‬‬

‫(وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط)‪. .‬‬

‫إما في الخرة عند ال ‪ .‬وإما في هذه الرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع‬
‫وفي حركة التجارة ‪ .‬وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ‪ ,‬في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل‬
‫تعامل وفي كل احتكاك ‪.‬‬
‫ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية‪:‬‬

‫(ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط)‪. .‬‬

‫وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما ‪ ,‬لنه أقرب إلى جانب الزيادة ‪.‬‬

‫وللعبارات ظل في الحس ‪ .‬وظل اليفاء غير ظل عدم النقص ‪ ,‬فهو أكثر سماحة ووفاء ‪.‬‬

‫(ول تبخسوا الناس أشياءهم)‪. .‬‬

‫وهذه أعم من المكيلت والموزونات ‪ .‬فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع ‪ .‬تقويمها كيل أو وزنا‬
‫أو سعرا أو تقديرا ‪ .‬وتقويمها ماديا أو معنويا ‪ .‬وقد تدخل في ذلك العمال والصفات ‪ .‬لن كلمة "شيء "‬
‫تطلق أحيانا ويراد بها غير المحسوسات ‪.‬‬

‫وبخس الناس أشياءهم ‪ -‬فوق أنه ظلم ‪ -‬يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من اللم أو الحقد ‪ ,‬أو اليأس من‬
‫العدل والخير وحسن التقدير ‪ . .‬وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الجتماعية والنفوس‬
‫والضمائر ‪ ,‬ول تبقي على شيء صالح في الحياة ‪.‬‬

‫(ول تعثوا في الرض مفسدين)‪. .‬‬

‫والعثو هو الفساد ‪ ,‬فل تفسدوا متعمدين الفساد ‪ ,‬قاصدين إلى تحقيقه ‪ .‬ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من‬
‫ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير‪:‬‬

‫(بقية ال خير لكم إن كنتم مؤمنين)‪. .‬‬

‫فما عند ال أبقى وأفضل ‪ . .‬وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة ال وحده ‪ -‬أي الدينونة له بل شريك ‪-‬‬

‫غ ْيرُهُ َولَ تَن ُقصُو ْا ا ْل ِم ْكيَالَ وَا ْلمِيزَانَ ِإّنيَ َأرَاكُم‬


‫ن إِلَـهٍ َ‬
‫ع ُبدُو ْا اللّ َه مَا َلكُم مّ ْ‬
‫شعَيْبا قَالَ يَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫ن َأخَاهُ ْم ُ‬
‫وَإِلَى َم ْديَ َ‬
‫خسُواْ النّاسَ‬
‫سطِ َولَ َت ْب َ‬
‫عذَابَ يَ ْو ٍم ّمحِيطٍ (‪َ )84‬ويَا قَ ْومِ َأ ْوفُو ْا ا ْل ِم ْكيَالَ وَا ْلمِيزَانَ بِالْ ِق ْ‬
‫خيْرٍ وَِإّنيَ َأخَافُ عََل ْي ُكمْ َ‬
‫ِب َ‬
‫سدِينَ (‪)85‬‬
‫لرْضِ مُ ْف ِ‬
‫شيَاءهُمْ َولَ َت ْعثَوْ ْا فِي ا َ‬
‫َأ ْ‬
‫فهو يذكرهم بها هنا ‪ ,‬مع ذكر الخير الباقي لهم عند ال إن آمنوا كما دعاهم ‪ ,‬واتبعوا نصيحته في المعاملت‬
‫‪ .‬وهي فرع عن ذلك اليمان ‪.‬‬

‫(بقية ال خير لكم ‪ . .‬إن كنتم مؤمنين)‪. .‬‬


‫ثم يخلي بينهم وبين ال الذي دعاهم إليه ‪ ,‬ويبين لهم أنه هو ل يملك لهم شيئا ‪ ,‬كما أنه ليس موكل بحفظهم‬
‫من الشر والعذاب ‪ .‬وليس موكل كذلك بحفظهم من الضلل ول مسؤول عنهم إن هم ضلوا ‪ ,‬إنما عليه البلغ‬
‫وقد أداه‪:‬‬

‫(وما أنا عليكم بحفيظ)‪. .‬‬

‫ومثل هذا السلوب يشعر المخاطبين بخطورة المر ‪ ,‬وبثقل التبعة ‪ ,‬ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بل وسيط‬
‫ول حفيظ ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 87:‬قوم مدين يرفضون تدخل الدين في حياتهم‬

‫ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على النحراف والفساد ‪ ,‬وسوء الستغلل‪:‬‬

‫(قالوا‪:‬يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ‪ ,‬أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ? إنك لنت الحليم‬
‫الرشيد !)‪. .‬‬

‫وهو رد واضح التهكم ‪ ,‬بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه ‪ .‬وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ‪,‬‬
‫والمعاند بل معرفة ول فقه ‪.‬‬

‫(أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ?)‪. .‬‬

‫فهم ل يدركون ‪ -‬أو ل يريدون أن يدركوا ‪ -‬أن الصلة هي من مقتضيات العقيدة ‪ ,‬ومن صور العبودية‬
‫والدينونة ‪ .‬وأن العقيدة ل تقوم بغير توحيد ال ‪ ,‬ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ‪ ,‬كما أنها ل تقوم إل‬
‫بتنفيذ شرائع ال في التجارة وفي تداول الموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل ‪ .‬فهي لحمة واحدة ل‬
‫يفترق فيها العتقاد عن الصلة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة ‪.‬‬

‫وقبل أن نمضي طويل في تسفيه هذا التصور السقيم لرتباط الشعائر بالعقيدة ‪ .‬وارتباطهما معا بالمعاملت ‪.‬‬
‫‪ .‬قبل أن نمضي طويل في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ‪ ,‬يحسن أن نذكر أن الناس‬
‫اليوم ل يفترقون في تصورهم ول في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب ‪ .‬وأن الجاهلية التي نعيش‬
‫فيها اليوم ليست أفضل ول أذكى ول أكثر إدراكا من الجاهلية الولى ! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم‬
‫شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها ‪ -‬بما فيها أولئك الذين يقولون‪:‬إنهم يهود أو نصارى‬
‫أو مسلمون ‪ -‬فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر ‪ .‬والشريعة والتعامل ‪ .‬فيجعل العقيدة والشعائر ل ووفق أمره‬
‫‪ ,‬ويجعل الشريعة والتعامل لغير ال ‪ ,‬ووفق أمر غيره ‪ . .‬وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله ‪. .‬‬
‫وإن كان ل يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملتهم وفق ما يزعمونه‬
‫عقيدتهم وشريعتهم ‪ -‬وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف ‪-‬‬
‫فلقد قامت أزمة في "الكنيست" مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها ‪ -‬من غير‬
‫اليهود ‪ -‬أطعمة غير شرعية ‪ .‬وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده ‪ -‬مهما تعرضت‬
‫للخسارة ‪ -‬فأين من يدعون أنفسهم "مسلمين ! " من هذا الستمساك بالدين ?!!‬

‫خ ْيرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُم مّ ْؤ ِمنِينَ َومَا َأ َناْ عََل ْيكُم ِبحَفِيظٍ (‪)86‬‬
‫بَ ِقيّةُ اللّ ِه َ‬

‫إن بيننا اليوم ‪ -‬ممن يقولون‪:‬إنهم مسلمون ! ‪ -‬من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والخلق ‪ ,‬وبخاصة‬
‫أخلق المعاملت المادية ‪.‬‬

‫وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم ‪ .‬يتساءلون أول في استنكار‪:‬وما للسلم‬
‫وسلوكنا الشخصي ? ما للسلم والعري في الشواطيء ? ما للسلم وزي المرأة في الطريق ? ما للسلم‬
‫وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ? ما للسلم وتناول كأس من الخمر لصلح المزاج ? ما للسلم وهذا‬
‫الذي يفعله "المتحضرون" ?! ‪ . .‬فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين‪( :‬أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد‬
‫آباؤنا ?)‪. .‬‬

‫وهم يتساءلون ثانيا ‪ .‬بل ينكرون بشدة وعنف ‪ .‬أن يتدخل الدين في القتصاد ‪ ,‬وأن تتصل المعاملت‬
‫بالعتقاد ‪ ,‬أو حتى بالخلق من غير اعتقاد ‪ . .‬فما للدين والمعاملت الربوية ? وما للدين والمهارة في الغش‬
‫والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ? ل بل إنهم يتبجحون بأن الخلق إذا تدخلت في القتصاد‬
‫تفسده ‪ .‬وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات القتصادية الغربية ‪ -‬النظرية الخلقية مثل ‪-‬‬
‫ويعدونها تخليطا من أيام زمان !‬

‫فل يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الولى ‪ .‬ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ‪,‬‬
‫ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ‪ ,‬وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في ال ‪ ,‬والسلوك الشخصي في‬
‫الحياة ‪ ,‬والمعاملت المادية في السوق ‪ . .‬تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود !!!‬

‫وما تستقيم عقيدة توحيد ال في القلب ‪ ,‬ثم تترك شريعة ال المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين‬
‫الرض ‪ .‬فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد ‪ .‬والشرك ألوان ‪ .‬منه هذا اللون الذي نعيش به‬
‫الن ‪ .‬وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان !‬

‫ويسخر أهل مدين من شعيب ‪ -‬كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق ‪ -‬فيقولون‪:‬‬
‫(إنك لنت الحليم الرشيد !)‪. .‬‬

‫وهم يعنون عكس معناها ‪ .‬فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بل تفكير ‪ ,‬وأن يفصلوا بين العبادة‬
‫والتعامل في السوق ! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين !!!‬

‫الدرس الثالث‪ 91 - 88:‬قوم مدين يهددون بإيذاء شعيب رغم نصحه لهم‬

‫ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ; ويعرض عن تلك السخرية ل يباليها وهو‬
‫يشعر بقصورهم وجهلهم ‪ . .‬يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه ; وأنه‬
‫على ثقة مما يقول لنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ‪ ,‬وأنه إذ يدعوهم إلى المانة في المعاملة سيتأثر مثلهم‬
‫بنتائجها لنه مثلهم ذو مال وذو معاملت ; فهو ل يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم ; فلن ينهاهم عن‬
‫شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق ! إنما هي دعوة الصلح العامة لهم وله وللناس ‪ .‬وليس فيما يدعوهم إليه‬
‫خسارة عليهم كما يتوهمون‪:‬‬

‫(قال‪:‬يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ‪ ,‬ورزقني منه رزقا حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم‬
‫عنه ‪ ,‬إن أريد إل الصلح ما استطعت ‪ ,‬وما توفيقي إل بال ‪ ,‬عليه توكلت وإليه أنيب)‪. .‬‬

‫(يا قوم ‪. .). . .‬‬

‫في تودد وتقرب ‪ ,‬وتذكير بالواصر القريبة ‪.‬‬

‫ل ُتكَ َت ْأ ُم ُركَ أَن ّنتْ ُركَ مَا َي ْعبُدُ آبَا ُؤنَا أَ ْو أَن نّ ْفعَلَ فِي َأمْوَاِلنَا مَا َنشَاء ِإ ّنكَ َلأَنتَ ا ْلحَلِيمُ الرّشِيدُ‬
‫ب َأصَ َ‬
‫ش َعيْ ُ‬
‫قَالُواْ يَا ُ‬
‫(‪)87‬‬

‫(أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ?)‪. .‬‬

‫أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه ‪ .‬وعن هذه البينة الواضحة في نفسي‬
‫‪ ,‬أصدر واثقا مستيقنا ‪.‬‬

‫(ورزقني منه رزقا حسنا)‪. .‬‬

‫ومنه الثروة التي أتعامل مع الناس مثلكم فيها ‪.‬‬

‫(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)‪. .‬‬


‫فأنهاكم ثم أذهب من خلفكم فأفعل ما نهيتكم عنه لحقق لنفسي نفعا به !‬

‫(إن أريد إل الصلح ما استطعت)‪. .‬‬

‫الصلح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه ; وإن خيل إلى‬
‫بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ‪ ,‬ويضيع بعض الفرص ‪ .‬فإنما يفوت الكسب‬
‫الخبيث ويضيع الفرص القذرة ; ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلل ‪ ,‬ومجتمعا متضامنا متعاونا ل حقد‬
‫فيه ول غدر ول خصام !‬

‫(وما توفيقي إل بال)‪. .‬‬

‫فهو القادر على إنجاح مسعاي في الصلح بما يعلم من نيتي ‪ ,‬وبما يجزي على جهدي ‪.‬‬

‫(عليه توكلت)‪. .‬‬

‫عليه وحده ل اعتمد على غيره ‪.‬‬

‫(وإليه أنيب)‪. .‬‬

‫إليه وحده أرجع فيما يحزبني من المور ‪ ,‬وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي ‪.‬‬

‫ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير ‪ ,‬فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط‪:‬‬

‫فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير‪:‬‬

‫ويا قوم ل يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ‪ .‬وما قوم لوط‬
‫منكم ببعيد ‪. .‬‬

‫ل يجملنكم الخلف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة ‪ ,‬خشية أن يصيبكم ما‬
‫أصاب القوام قبلكم ‪ .‬وهؤلء قوم لوط قريب منكم في المكان ‪ .‬وقريب كذلك في الزمان ‪ .‬فمدين كانت بين‬
‫الحجاز والشام ‪.‬‬

‫ثم يفتح لهم ‪ -‬وهم في مواجهة العذاب والهلك ‪ -‬باب المغفرة والتوبة ‪ ,‬ويطمعهم في رحمة ال والقرب منه‬
‫بأرق اللفاظ وأحناها‪:‬‬

‫(واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ‪ ,‬إن ربي رحيم ودود)‪. .‬‬


‫وهكذا يطوف بهم في مجالت العظة والتذكر والخوف والطمع ‪ ,‬لعل قلوبهم تتفتح وتخشع وتلين ‪.‬‬

‫ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب ‪ ,‬ومن سوء تقدير القيم في الحياة ‪ ,‬وسوء التصور لدوافع العمل‬
‫والسلوك ‪ ,‬ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب‪:‬‬

‫عنْهُ‬
‫ن ُأخَالِ َف ُكمْ إِلَى مَا َأ ْنهَا ُكمْ َ‬
‫حسَنا َومَا ُأرِيدُ أَ ْ‬
‫قَالَ يَا قَ ْومِ َأرََأ ْي ُتمْ إِن كُنتُ عََلىَ َب ّينَةٍ مّن ّربّي َو َرزَ َقنِي ِمنْهُ ِرزْقا َ‬
‫ل َيجْ ِر َم ّن ُكمْ‬
‫ل بِاللّهِ عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه ُأنِيبُ (‪َ )88‬ويَا قَ ْومِ َ‬
‫طعْتُ َومَا َت ْوفِيقِي ِإ ّ‬
‫س َت َ‬
‫لصْلَحَ مَا ا ْ‬
‫لاِ‬
‫ن ُأرِيدُ ِإ ّ‬
‫إِ ْ‬
‫ل مَا َأصَابَ قَ ْومَ نُوحٍ َأوْ قَ ْو َم هُودٍ َأوْ قَ ْو َم صَالِحٍ َومَا قَ ْومُ لُوطٍ مّنكُم ِب َبعِيدٍ (‪)89‬‬
‫شِقَاقِي أَن ُيصِي َبكُم ّمثْ ُ‬
‫س َتغْ ِفرُواْ َر ّب ُكمْ ُثمّ تُوبُواْ إَِل ْيهِ ِإنّ َربّي َرحِيمٌ َودُودٌ (‪)90‬‬
‫وَا ْ‬

‫(قالوا‪:‬يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ‪ ,‬وإنا لنراك فينا ضعيفا ‪ ,‬ولول رهطك لرجمناك ‪ ,‬وما أنت علينا‬
‫بعزيز)‪. .‬‬

‫فهم ضيقو الصدور بالحق الواضح ‪ ,‬ل يريدون أن يدركوه‪:‬‬

‫(قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول)‪. .‬‬

‫وهم يقيسون القيم في الحياة بمقياس القوة المادية الظاهرة‪:‬‬

‫(وإنا لنراك فينا ضعيفا)‪. .‬‬

‫فل وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها ‪.‬‬

‫(ولول رهطك لرجمناك)‪. .‬‬

‫ففي حسابهم عصبية العشيرة ‪ ,‬ل عصبية العتقاد ‪ ,‬وصلة الدم ل صلة القلب ‪ .‬ثم هم يغفلون عن غيرة ال‬
‫على أوليائه فل يضعونها في الحساب ‪.‬‬

‫(وما أنت علينا بعزيز)‪. .‬‬

‫ل عزة التقدير والكرامة ول عزة الغلب والقهر ‪ .‬ولكننا نحسب حساب الهل والعشيرة !‬

‫وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية ; فإنها تقبع على الرض ومصالحها‬
‫القريبة وقيمها الدنيا ; فل ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ‪ ,‬ول لحقيقة كبيرة ; ول تتحرج عن البطش بالداعية‬
‫إل أن تكون له عصبة تؤويه ; وإل أن تكون معه قوة مادية تحميه ‪ .‬أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فل‬
‫وزن لها ول ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية ‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ 95 - 92:‬إنهاء المواجهة بين مدين وشعيب بإهلكهم‬

‫وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلل ربه ووقاره ; فيتنصل من العتزاز برهطه وقومه ; ويجبههم بسوء‬
‫التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ‪ ,‬وبسوء الدب مع ال المحيط بما يعملون ‪ .‬ويلقي كلمته الفاصلة‬
‫الخيرة ‪ .‬ويفاصل قومه على أساس العقيدة ‪ ,‬ويخلي بينهم وبين ال ‪ ,‬وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ‪,‬‬
‫ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون‪:‬‬

‫قال‪:‬يا قوم‪:‬ارهطي أعز عليكم من ال واتخذتموه وراءكم ظهريا ? إن ربي بما تعملون محيط ‪ .‬ويا قوم‬
‫اعملوا على مكانتكم إني عامل ‪ ,‬سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم‬
‫رقيب ‪. .‬‬

‫ارهطي أعز عليكم من ال ? ‪. .‬‬

‫أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ‪ ,‬وهم ضعاف ‪ ,‬وهم عباد من عباد ال ‪ . .‬أهؤلء‬
‫أعز عليكم من ال ? ‪ . .‬أهؤلء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من ال ?‬

‫(واتخذتموه وراءكم ظهريا)‪. .‬‬

‫وهي صورة حسية للترك والعراض ‪ ,‬تزيد في شناعة فعلتهم ‪ ,‬وهم يتركون ال ويعرضون عنه ‪ ,‬وهم من‬
‫خلقه ‪ ,‬وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه ‪ .‬فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر‬
‫والتكذيب وسوء التقدير ‪.‬‬

‫(إن ربي بما تعملون محيط)‪. .‬‬

‫ج ْمنَاكَ َومَا أَنتَ عََل ْينَا ِب َعزِيزٍ (‬


‫طكَ َل َر َ‬
‫ضعِيفا وَلَ ْولَ رَ ْه ُ‬
‫ب مَا نَفْ َقهُ َكثِيرا ّممّا تَقُولُ وَِإنّا َل َنرَاكَ فِينَا َ‬
‫ش َعيْ ُ‬
‫قَالُواْ يَا ُ‬
‫ظ ْه ِريّا ِإنّ َربّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ ُمحِيطٌ (‪)92‬‬
‫خ ْذ ُتمُوهُ َورَاء ُكمْ ِ‬
‫عزّ عََل ْيكُم مّنَ الّلهِ وَا ّت َ‬
‫‪ )91‬قَالَ يَا قَ ْومِ َأرَ ْهطِي أَ َ‬

‫والحاطة أقصى الصور الحسية للعلم بالشيء والقدرة عليه ‪.‬‬

‫إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ووقاره ‪ .‬الغضبة التي ل يقوم إلى جوارها شيء‬
‫من العتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه ‪ . .‬إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ‪,‬‬
‫فل تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه‬
‫ويمنعونه من قومه ‪ -‬الذين افترق طريقهم عن طريقه ‪ -‬وهذا هو اليمان في حقيقته ‪ . .‬أن المؤمن ل يعتز‬
‫إل بربه ; ول يرضى أن تكون له عصبة تخشى ول يخشى ربه ! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ‪ ,‬إنما‬
‫هي لربه ودينه ‪ .‬وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور السلمي والتصور الجاهلي في كل أزمانه‬
‫وبيئاته !‬

‫ومن هذه الغضبة ل ‪ .‬والتنصل من العتزاز أو الحتماء بسواه ‪ ,‬ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى‬
‫قومه ; وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم ‪ -‬بعد أن كان واحدا منهم ‪ -‬ويفترق الطريقان فل يلتقيان‪:‬‬

‫(ويا قوم اعملوا على مكانتكم)‪. .‬‬

‫وامضوا في طريقكم وخطتكم ‪ ,‬فقد نفضت يدي منكم ‪.‬‬

‫(إني عامل)‪. .‬‬

‫على طريقتي ومنهجي ‪.‬‬

‫(سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب)‪. .‬‬

‫أنا أم أنتم ?‬

‫(وارتقبوا إني معكم رقيب)‪. .‬‬

‫للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم ‪ . .‬وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير ‪ .‬كما يوحي بالمفاصلة وافتراق‬
‫الطريق ‪. .‬‬

‫ويسدل الستار هنا ‪ .‬على هذه الكلمة الخيرة الفاصلة وعلى هذا الفتراق والمفاصلة ‪ ,‬ليرفع هناك على‬
‫مصرع القوم ‪ ,‬وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم ‪ ,‬أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح ‪ ,‬فكان مصيرهم‬
‫كمصيرهم ‪ ,‬خلت منهم الدور ‪ ,‬كأن لم يكن لهم فيها دور ‪ ,‬وكأن لم يعمروها حينا من الدهر ‪ .‬مضوا مثلهم‬
‫مشيعين باللعنة ‪ ,‬طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب‪:‬‬

‫(ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ‪ ,‬وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم‬
‫جاثمين ‪ ,‬كأن لم يغنوا فيها ‪ .‬أل بعدا لمدين ‪ ,‬كما بعدت ثمود ‪.). . .‬‬

‫وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود ‪ ,‬حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد ‪.‬‬
‫ن ُهوَ كَاذِبٌ وَا ْرتَ ِقبُواْ ِإنّي‬
‫ب ُيخْزِيهِ َومَ ْ‬
‫عذَا ٌ‬
‫ل سَ ْوفَ َتعَْلمُونَ مَن َي ْأتِيهِ َ‬
‫عمَلُواْ عَلَى َمكَا َن ِت ُكمْ ِإنّي عَامِ ٌ‬
‫َويَا قَ ْومِ ا ْ‬
‫ص ْيحَةُ‬
‫ن ظََلمُواْ ال ّ‬
‫خذَتِ اّلذِي َ‬
‫حمَةٍ ّمنّا وََأ َ‬
‫ش َعيْبا وَاّلذِينَ آ َمنُواْ َمعَ ُه ِب َر ْ‬
‫ج ْينَا ُ‬
‫َم َعكُمْ َرقِيبٌ (‪ )93‬وََلمّا جَاء َأ ْم ُرنَا َن ّ‬
‫ن َكمَا َب ِعدَتْ َثمُودُ (‪)95‬‬
‫ص َبحُواْ فِي ِديَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ (‪َ )94‬كأَن ّل ْم َي ْغنَوْاْ فِيهَا َألَ ُبعْدا ّل َم ْديَ َ‬
‫َفأَ ْ‬
‫الدرس الخامس‪ 99 - 96:‬فرعون يقود قومه إلى النار‬

‫وخاتمة ذلك القصص هذه الشارة إلى قصة موسى مع فرعون ‪ ,‬لتسجيل نهاية فرعون وملئه ‪ ,‬ونهاية قومه‬
‫الذين ائتمروا بأمره ‪ .‬وتتضمن هذه الشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة القصة التي لم تذكر هنا ‪,‬‬
‫كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة ‪ .‬وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مباديء السلم ‪.‬‬
‫مبدأ التبعة الفردية التي ل يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء ‪. .‬‬

‫ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى باليات مزودا بقوة من ال وسلطان ‪ ,‬إلى فرعون ذي السلطان‬
‫وكبراء قومه ‪.‬‬

‫(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين ‪ .‬إلى فرعون وملئه)‪. .‬‬

‫ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها ‪ ,‬فإذا هم يتبعون أمر فرعون ‪ ,‬ويعصون أمر ال ‪.‬‬
‫على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط‪:‬‬

‫(فاتبعوا أمر فرعون ‪ .‬وما أمر فرعون برشيد)‪. .‬‬

‫ولما كانوا تبعا لفرعون في هذا المر ‪ ,‬يمشون خلفه ‪ ,‬ويتبعون خطواته الضالة بل تدبر ول تفكر ‪ ,‬ودون أن‬
‫يكون لهم رأي ‪ ,‬مستهينين بأنفسهم ‪ ,‬متخلين عن تكريم ال لهم بالرادة والعقل وحرية التجاه واختيار الطريق‬
‫‪ . .‬لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا‪:‬‬

‫(يقدم قومه يوم القيامة)‪. .‬‬

‫وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعدا عن المستقبل ‪ ,‬إذا المشهد ينقلب ‪ ,‬وإذا المستقبل ماض قد وقع ‪,‬‬
‫وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى‪:‬‬

‫(فأوردهم النار)!!‬

‫أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم ‪ .‬ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير ? ألم يتنازلوا عن أخص خصائص‬
‫الدمية وهي حرية الرادة والختيار ? فأوردهم النار ‪ .‬ويا بئساه من ورد ل يروي غلة ‪ ,‬ول يشفي صدى ‪,‬‬
‫إنما يشوي البطون والقلوب‪:‬‬
‫(وبئس الورد المورود !)‪.‬‬

‫وإذا ذلك كله ‪ .‬قيادة ففرعون لهم ‪ ,‬وإيرادهم موردهم ‪ . .‬إذا ذلك كله حكاية تروى ‪ ,‬ويعلق عليها‪:‬‬

‫(وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة)‪. .‬‬

‫ويسخر منها ويتهكم عليها‪( :‬بئس الرفد المرفود)‪. .‬‬

‫وَلَ َقدْ َأرْسَ ْلنَا مُوسَى بِآيَا ِتنَا َوسُ ْلطَانٍ ّمبِينٍ (‪ )96‬إِلَى ِفرْعَ ْونَ َومََلئِهِ فَا ّت َبعُواْ َأ ْمرَ ِفرْعَ ْونَ َومَا َأ ْمرُ ِفرْعَ ْونَ ِب َرشِيدٍ (‬
‫‪ )97‬يَ ْق ُدمُ قَ ْومَ ُه يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َفأَ ْو َردَهُ ُم النّارَ َو ِبئْسَ الْ ِو ْردُ ا ْلمَ ْورُودُ (‪ )98‬وَُأ ْت ِبعُواْ فِي هَـذِهِ َل ْع َنةً َويَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ ِبئْسَ‬
‫الرّ ْفدُ ا ْل َم ْرفُودُ (‪)99‬‬
‫فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه !!! ألم يعد السحرة عطاء جزيل ورفدا مرفودا‬
‫‪ . .‬فها هو ذا رفده لمن اتبعه ‪ . .‬النار ‪ . .‬وبئس الورد المورود ‪ .‬وبئس الرفد المرفود !‬

‫وذلك من بدائع التعبير والتصوير في هذا الكتاب العجيب ‪. .‬‬

‫الوحدة السادسة‪ 129 - 100:‬الموضوع‪:‬تقرير حقائق إعتقادية تعقيبا على قصص السورة‬

‫ع ْن ُهمْ‬
‫غنَتْ َ‬
‫س ُهمْ َفمَا أَ ْ‬
‫حصِيدٌ (‪َ )100‬ومَا ظََل ْمنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُو ْا أَن ُف َ‬
‫ن أَنبَاء الْ ُقرَى نَ ُقصّهُ عََل ْيكَ ِم ْنهَا قَآ ِئمٌ َو َ‬
‫ذَِلكَ مِ ْ‬
‫خذُ َر ّبكَ‬
‫غ ْيرَ َت ْتبِيبٍ (‪َ )101‬و َكذَِلكَ َأ ْ‬
‫شيْءٍ ّلمّا جَاء َأ ْمرُ َر ّبكَ َومَا زَادُو ُهمْ َ‬
‫آِل َه ُت ُهمُ اّلتِي َيدْعُونَ مِن دُونِ الّلهِ مِن َ‬
‫ب الخِرَ ِة ذَِلكَ يَ ْومٌ‬
‫عذَا َ‬
‫ن خَافَ َ‬
‫ن فِي ذَِلكَ ليَ ًة ّلمَ ْ‬
‫شدِيدٌ (‪ )102‬إِ ّ‬
‫خذَ ُه أَلِيمٌ َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ي ظَاِلمَ ٌة إِ ّ‬
‫خذَ الْ ُقرَى وَ ِه َ‬
‫ِإذَا َأ َ‬
‫ل ِبِإذْنِهِ‬
‫ل َتكَلّ ُم نَفْسٌ ِإ ّ‬
‫ل ِلَأجَلٍ ّم ْعدُودٍ (‪َ )104‬ي ْومَ َيأْتِ َ‬
‫خرُهُ ِإ ّ‬
‫شهُودٌ (‪َ )103‬ومَا ُن َؤ ّ‬
‫جمُوعٌ لّهُ النّاسُ َوذَِلكَ يَ ْومٌ ّم ْ‬
‫ّم ْ‬
‫شهِيقٌ (‪ )106‬خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ‬
‫سعِيدٌ (‪َ )105‬فَأمّا اّلذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ َل ُهمْ فِيهَا زَفِيرٌ َو َ‬
‫َفمِ ْن ُهمْ شَ ِقيّ َو َ‬
‫ن فِيهَا مَا‬
‫جنّةِ خَاِلدِي َ‬
‫س ِعدُو ْا فَفِي ا ْل َ‬
‫ن َربّكَ َفعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ (‪ )107‬وََأمّا اّلذِينَ ُ‬
‫لرْضُ ِإلّ مَا شَاء َر ّبكَ إِ ّ‬
‫سمَاوَاتُ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫جذُوذٍ (‪ )108‬فَلَ َتكُ فِي ِمرْيَةٍ ّممّا َي ْع ُبدُ هَـؤُلء مَا‬
‫غ ْيرَ َم ْ‬
‫عطَاء َ‬
‫ل مَا شَاء َر ّبكَ َ‬
‫لرْضُ ِإ ّ‬
‫سمَاوَاتُ وَا َ‬
‫دَامَتِ ال ّ‬
‫غ ْيرَ مَنقُوصٍ (‪ )109‬وَلَ َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ‬
‫ل َكمَا َي ْع ُبدُ آبَاؤُهُم مّن َقبْلُ وَِإنّا َلمُ َوفّو ُهمْ َنصِي َبهُمْ َ‬
‫َي ْعبُدُونَ ِإ ّ‬
‫ن كُـلّ ّلمّا َليُ َو ّف َي ّنهُمْ‬
‫شكّ ّمنْهُ ُمرِيبٍ (‪ )110‬وَإِ ّ‬
‫سبَقَتْ مِن رّ ّبكَ َل ُقضِيَ َب ْي َن ُهمْ وَِإ ّن ُهمْ َلفِي َ‬
‫ل كَِلمَةٌ َ‬
‫ختُِلفَ فِيهِ وَلَ ْو َ‬
‫فَا ْ‬
‫طغَوْاْ ِإنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‬
‫خبِيرٌ (‪ )111‬فَاسْتَ ِقمْ َكمَا ُأمِرْتَ َومَن تَابَ َم َعكَ َولَ َت ْ‬
‫ن َ‬
‫عمَاَل ُهمْ ِإنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُو َ‬
‫ك أَ ْ‬
‫َربّ َ‬
‫ن أَوِْليَاء ُثمّ لَ تُنصَرُونَ (‪ )113‬وََأ ِقمِ‬
‫سكُمُ النّارُ َومَا َلكُم مّن دُونِ اللّ ِه مِ ْ‬
‫ن ظََلمُو ْا فَ َت َم ّ‬
‫‪َ )112‬ولَ َت ْر َكنُواْ إِلَى اّلذِي َ‬
‫ص ِبرْ فَإِنّ‬
‫سنَاتِ ُيذْ ِهبْنَ السّـ ّيئَاتِ ذَِلكَ ِذ ْكرَى لِلذّا ِكرِينَ (‪ )114‬وَا ْ‬
‫حَ‬‫ن ا ْل َ‬
‫ل إِ ّ‬
‫طرَ َفيِ ال ّنهَارِ َوزُلَفا مّنَ الّليْ ِ‬
‫الصّلَةَ َ‬
‫حسِنِينَ (‪)115‬‬
‫جرَ ا ْل ُم ْ‬
‫اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأ ْ‬
‫مقدمة الوحدة هذه خاتمة السورة ‪ .‬تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة ‪ ,‬مبنية على ما سبق في سياق‬
‫السورة ‪ .‬من المقدمة ومن القصص ‪ .‬وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة التصال بما سبق من سياق السورة ‪,‬‬
‫متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك ‪.‬‬

‫والتعقيب الول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص‪(:‬ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم‬
‫وحصيد ‪ .‬وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ‪ ,‬فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء ‪ -‬لما‬
‫جاء أمر ربك ‪ -‬وما زادوهم غير تتبيب ‪ .‬وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ‪ .‬إن أخذه أليم شديد)‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحيا بالخوف من عذاب الخرة الذي يعرض في مشهد‬
‫شاخص من مشاهد يوم القيامة‪(:‬إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة ‪ .‬ذلك يوم مجموع له الناس وذلك‬
‫يوم مشهود ‪ .‬وما نؤخره إل لجل معدود ‪ .‬يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه ‪ ,‬فمنهم شقي وسعيد ‪ .‬فأما الذين‬
‫شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ‪ .‬خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء ربك ‪ -‬إن‬
‫ربك فعال لما يريد ‪ .‬وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء ربك‬
‫‪ -‬عطاء غير مجذوذ)‪. .‬‬

‫يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد [ ص ]‬
‫شأنهم شأن من قبلهم في الحالين ‪ .‬وإذا كان عذاب الستئصال ل يقع عليهم في الرض ‪ ,‬فذلك لكلمة سبقت‬
‫من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلفهم فيما جاءهم من كتاب ‪ .‬ولكن هؤلء وهؤلء‬
‫سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد ‪ .‬فاستقم أيها الرسول على طريقتك أنت ومن تاب معك ‪ ,‬ول تركنوا إلى‬
‫الذين ظلموا وأشركوا ‪ ,‬وأقم الصلة واصبر ‪ ,‬فإن ال ل يضيع أجر المحسنين‪( :‬فل تك في مرية مما يعبد‬
‫هؤلء ‪ .‬ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل ‪ ,‬وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ‪ .‬ولقد آتينا موسى‬
‫الكتاب فاختلف فيه ‪ ,‬ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كل لما ليوفينهم‬
‫ربك أعمالهم ‪ ,‬إنه بما يعملون خبير ‪ .‬فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ‪ ,‬ول تطغوا ‪,‬إنه بما تعملون بصير ‪.‬‬
‫ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون ‪ .‬وأقم الصلة طرفي‬
‫النهار وزلفا من الليل ‪ ,‬إن الحسنات يذهبن السيئات ‪ ,‬ذلك ذكرى للذاكرين ‪ .‬واصبر فإن ال ل يضيع أجر‬
‫المحسنين)‪. .‬‬

‫ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إل قليل من الذين ينهون عن الفساد في الرض ‪ .‬أما الكثرة‬
‫فكانت ماضية فيما هي فيه ‪ ,‬فاستحقت الهلك ‪ .‬وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون‪ :‬فلول كان‬
‫من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الرض ! إل قليل ممن أنجينا منهم ‪ ,‬واتبع الذين ظلموا‬
‫ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ‪ .‬وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ‪. .‬‬
‫وكشف عن سنة ال في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم ‪ .‬ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ‪.‬‬
‫ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدرا من الختيار (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ‪ ,‬ول يزالون‬
‫مختلفين ‪ .‬إل من رحم ربك ‪ ,‬ولذلك خلقهم ‪ ,‬وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‪.‬‬

‫وفي النهاية يسجل السياق غرضا من أغراض هذا القصص هوتثبيت فؤاد النبي [ ص ] ‪ ,‬ويؤمر الرسول أن‬
‫يلقي للمشركين كلمته الخيرة ‪ ,‬ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب ال ‪ .‬وأن يعبد ال ويتوكل عليه ‪ ,‬ويدع له‬
‫أخذ الناس بما يعملون‪(:‬وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ‪ ,‬وجاءك في هذه الحق ‪,‬‬
‫وموعظة وذكرى للمؤمنين ‪ .‬وقل للذين ل يؤمنون‪:‬اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ‪ .‬وانتظروا إنا منتظرون ‪.‬‬
‫ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله ‪ ,‬فاعبده وتوكل عليه ‪ ,‬وما ربك بغافل عما تعملون)‪. .‬‬

‫الدرس الول‪ 102 - 100:‬التعاظ من إهلك الكفار السابقين (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك ‪ .‬منها قائم‬
‫وحصيد ‪ .‬وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ; فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لما‬
‫جاء أمر ربك ‪ ,‬وما زادوهم غير تتبيب ‪ .‬وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ‪ .‬إن أخذه أليم شديد ‪. .‬‬

‫ومصارع القوم معروضة ‪ ,‬ومشاهدهم تزحم النفس والخيال ; منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر ‪ ,‬ومنهم‬
‫المأخوذون بالعاصفة المدمرة ‪ ,‬ومنهم من أخذته الصيحة ‪ ,‬ومنهم من خسفت به وبداره الرض ‪ ,‬ومنهم من‬
‫يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ‪ .‬وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للنظار ‪ . .‬في هذا الموضع وقد‬
‫بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد ‪ . .‬هنا يأتي هذا التعقيب‪:‬‬

‫(ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم و حصيد ‪. .‬‬

‫(ذلك من أنباء القرى نقصه عليك)‪ . .‬فما كان لك به من علم ‪ ,‬إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور ‪.‬‬
‫وذلك بعض أغراض القصص في القرآن ‪.‬‬

‫(منها قائم)‪ . .‬ل تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران ‪ ,‬كبقايا عاد في الحقاف وبقايا ثمود في‬
‫الحجر ‪ .‬ومنها(حصيد)كالزرع المحصود ‪ .‬اجتث من فوق الرض وتعرى وجهها منه ‪ ,‬كما حل بقوم نوح أو‬
‫قوم لوط ‪.‬‬

‫ج ْينَا ِم ْن ُهمْ وَا ّتبَعَ اّلذِينَ‬


‫ل ّممّنْ أَن َ‬
‫ل قَلِي ً‬
‫لرْضِ ِإ ّ‬
‫عنِ الْ َفسَادِ فِي ا َ‬
‫ن مِن َقبِْلكُمْ ُأوْلُو ْا بَ ِقيّ ٍة َي ْنهَوْنَ َ‬
‫ن الْ ُقرُو ِ‬
‫ن مِ َ‬
‫فَلَ ْولَ كَا َ‬
‫ك الْ ُقرَى ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا ُمصِْلحُونَ (‪)117‬‬
‫ن َربّكَ ِل ُيهِْل َ‬
‫ج ِرمِينَ (‪َ )116‬ومَا كَا َ‬
‫ظََلمُواْ مَا ُأ ْت ِرفُواْ فِيهِ َوكَانُو ْا ُم ْ‬
‫وما القوام ? وما العمران ? ‪ . .‬إن هي إل حقول من الناسي كحقول النبات ‪ .‬غرس منها يزكو وغرس‬
‫منها خبيث ! غرس منها ينمو وغرس منها يموت !‬

‫(وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم)‪. .‬‬

‫فهم قد عطلوا مداركهم ‪ ,‬وتولوا عن الهدى ‪ ,‬وكذبوا باليات ‪ ,‬واستهزأوا بالوعيد ‪ ,‬فصاروا إلى ما صاروا‬
‫إليه ظالمين لنفسهم ل مظلومين ‪.‬‬

‫(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لما جاء أمر ربك ‪ ,‬وما زادوهم غير تتبيب)‪. .‬‬

‫وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص ‪ .‬فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير ال سبحانه ;‬
‫وتكرر النذار مع كل رسول ; وقيل لهم‪:‬إن هذه الرباب المفتراة ل تعصمهم من ال ‪ . .‬فها هي ذي العاقبة‬
‫تصدق النذر ‪ .‬فل تغني عنهم آلهتهم شيئا ‪ ,‬ول تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك ‪ ,‬بل ما زادهم هؤلء‬
‫اللهة إل خسارة ودمارا ‪ [ .‬ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد ] ذلك أنهم اعتمدوا عليهم ‪,‬‬
‫فزادوا استهتارا وتكذيبا ‪ .‬فزادهم ال نكال وتدميرا ‪ .‬فهذا معنى (ما زادوهم)فهم ل يملكون لهم ضرا كما أنهم‬
‫ل يملكون لهم نفعا ‪ .‬ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد ‪. .‬‬

‫(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة)‪. . .‬‬

‫كذلك الذي قصصناه عليك ‪ ,‬وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة ‪. .‬‬

‫ظالمة‪:‬مشركة حين تدين لغير ال بالربوبية ‪ ,‬وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الرض والعراض عن‬
‫دعوة التوحيد والصلح ‪ .‬وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون ‪.‬‬

‫(إن أخذه أليم شديد)‪. .‬‬

‫بعد المهال والمتاع والبتلء ‪ ,‬وبعد العذار بالرسل والبينات ‪ ,‬وبعد أن يسود الظلم في المة ويسيطر‬
‫الظالمون ‪ .‬ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة ل تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في‬
‫الضلل ‪ . .‬ثم ‪ . .‬بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الضلل ; وتعتبر نفسها أمة وحدها لها‬
‫دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولؤها الخاص فيما بينها ‪ .‬وتعلن المة المشركة من قومها بهذا كله‬
‫‪ ,‬وتدعها تلقي مصيرها الذي يقدره ال لها ‪ .‬وفق سنته التي ل تتخلف على مدار الزمان ‪.‬‬

‫الدرس الثاني‪ 108 - 103:‬مصير الشقياء والسعداء يوم القيامة‬


‫ذلك الخذ الليم الشديد في الدنيا علمة على عذاب الخرة ‪ ,‬يراها من يخافون عذاب الخرة ‪ ,‬أي الذين‬
‫تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الخرة ‪ ,‬فيخافوا هذا‬
‫العذاب ‪ . .‬وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في‬
‫وصل الرحلتين بل فاصل في السياق‪(:‬إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة ‪ .‬ذلك يوم مجموع له الناس ‪,‬‬
‫وذلك يوم مشهود ‪ .‬وما نؤخره إل لجل معدود ‪ .‬يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه ‪ ,‬فمنهم شقي وسعيد ‪ .‬فأما‬
‫الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ‪ .‬خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء ربك ‪-‬‬
‫إن ربك فعال لما يريد ‪ .‬وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والرض ‪ -‬إل ما شاء‬
‫ربك ‪ -‬عطاء غير مجذوذ)‪. .‬‬

‫(إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة)‪. .‬‬

‫ففي ذلك الخذ الليم الشديد مشابه من عذاب الخرة ‪ ,‬تذكر بهذا اليوم وتخيف ‪. .‬‬

‫وإن كان ل يراها إل الذين يخافون الخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب ‪. .‬‬

‫والذين ل يخافون الخرة تظل قلوبهم صماء ل تتفتح لليات ‪ ,‬ول تحس بحكمة الخلق والعادة ‪ ,‬ول ترى إل‬
‫واقعها القريب في هذه الدنيا ‪ ,‬وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة ل تثير فيها عظة ول فهما ‪.‬‬

‫ثم يأخذ في وصف ذلك اليوم ‪. .‬‬

‫(ذلك يوم مجموع له الناس ‪ ,‬وذلك يوم مشهود)‪. .‬‬

‫وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعا ‪ ,‬على غير إرادة منهم ‪ ,‬إنما هو سوق الجميع سوقا إلى ذلك‬
‫المعرض المشهود ‪ ,‬والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون ‪. .‬‬

‫(يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه)‪. .‬‬

‫فالصمت الهائل يغشى الجميع ‪ ,‬والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه ‪ .‬والكلم بإذن ل يجرؤ أحد على‬
‫طلبه ‪ ,‬ولكن يؤذن لمن شاء ال فيخرج من صمته بإذنه ‪ . .‬ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع‪:‬‬

‫(فمنهم شقي وسعيد)‪. .‬‬

‫ومن خلل التعبير نشهد‪( :‬الذين شقوا)نشهدهم في النار مكروبي النفاس (لهم فيها زفير وشهيق)من الحر‬
‫والكتمة والضيق ‪ .‬ونشهد (الذين سعدوا)نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ول ممنوع ‪. .‬‬
‫هؤلء وأولئك خالدون حيث هم (ما دامت السماوات والرض)‪ .‬وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام‬
‫والستمرار ‪ .‬وللتعبير ظلل ‪ .‬وظل هذا التعبير هنا هو المقصود ‪.‬‬

‫وقد علق السياق هذا الستمرار بمشيئة ال في كلتا الحالتين ‪ .‬وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة ال في النهاية‬
‫‪ .‬فمشيئة ال هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ول محصورة فيها ‪ .‬إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين‬
‫يشاء ال‪:‬‬

‫(إن ربك فعال لما يريد)‪. .‬‬

‫وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة ال اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع ‪,‬‬
‫حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة ‪ .‬وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد ‪.‬‬

‫الدرس الثالث‪ 111 - 109:‬مواساة وتطمين الرسول ومن معه بأنهم على الحق‬

‫بعد هذا الستطراد إلى المصير في الخرة ‪ ,‬بمناسبة عرض مصائر القوام في الدنيا ‪ ,‬والمشابه بين عذاب‬
‫الدنيا وعذاب الخرة ‪ ,‬وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك ‪ ,‬أو هنا ثم هناك ‪ . .‬يعود السياق بما يستفاد‬
‫من القصص ومن المشاهد إلى الرسول [ ص ] والقلة المؤمنة معه في مكة ‪ -‬تسرية وتثبيتا ; وإلى المكذبين‬
‫من قومه بيانا وتحذيرا ‪ .‬فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون ‪ -‬شأنهم شأن أصحاب‬
‫ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر ‪ -‬ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه ‪ .‬فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر‬
‫عذاب الستئصال عن قوم موسى ‪ -‬بعد اختلفهم في دينهم ‪ -‬لمر قد شاءه ال في إنظارهم ‪ .‬ولكن قوم‬
‫موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون ‪ ,‬بعد الجل ‪ ,‬وفي الموعد المحدود ‪ .‬ولم يؤخر عنهم‬
‫العذاب لنهم على الحق ‪ .‬فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد‪:‬‬

‫فل تك في مرية مما يعبد هؤلء ‪ .‬ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل ‪ .‬وإنا لموفوهم نصيبهم غير‬
‫منقوص ‪.‬‬

‫ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ‪ .‬ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ‪ .‬وإنهم لفي شك منه مريب ‪.‬‬
‫وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم ‪ . .‬إنه بما يعملون خبير)‪. .‬‬

‫ل يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلء ‪ .‬والخطاب للرسول [ ص ] والتحذير لقومه ‪ .‬وهذا السلوب‬
‫أفعل في النفس أحيانا ‪ ,‬لنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها ال لرسوله ‪ ,‬وليست جدال مع أحد ‪ ,‬ول‬
‫خطابا للمتلبسين بها ‪ ,‬إهمال لهم وقلة انشغال بهم ! وعندئذ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في‬
‫اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطابا مباشرا ‪. .‬‬

‫(فل تك في مرية مما يعبد هؤلء ‪ .‬ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل)‪. .‬‬
‫ومصيرهم إذن كمصيرهم ‪ . .‬العذاب ‪ . .‬ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشيا مع السلوب‪:‬‬

‫(وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص)‪. .‬‬

‫ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم ‪ .‬وقد رأينا منه نماذج ومشاهد !‬

‫وقد ل يصيبهم عذاب الستئصال ‪ -‬في الدنيا ‪ -‬كما لم يصب قوم موسى‪:‬‬

‫(ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه)‪. .‬‬

‫وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم ‪ ,‬ولكن كلمة سبقت من ال أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة‪:‬‬

‫(ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم)‪. .‬‬

‫ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة ‪ ,‬ولم يحل عذاب الستئصال بهم ‪ ,‬لن لهم كتابا ‪ ,‬والذين لهم كتاب من أتباع‬
‫الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة ‪ ,‬لن الكتاب دليل هداية باق ‪ ,‬تستطيع الجيال أن تتدبره كالجيل الذي‬
‫أنزل فيه ‪ .‬والمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي ل يشهدها إل جيل ‪ ,‬فإما أن يؤمن بها وإما أن ل‬
‫يؤمن فيأخذه العذاب ‪ . .‬والتوراة والنجيل كتابان متكاملن يظلن معروضين للجيال حتى يجيء الكتاب‬
‫الخير ‪ ,‬مصدقا لما بين يديه من التوراة والنجيل فيصبح هو الكتاب الخير للناس جميعا يدعى إليه الناس‬
‫جميعا ‪ ,‬ويحاسب على أساسه الناس جميعا ‪ ,‬بما فيهم أهل التوراة وأهل النجيل ‪(.‬وإنهم)‪ . .‬أي قوم موسى ‪.‬‬
‫‪( .‬لفي شك منه مريب)‪ . .‬من كتب موسى ‪ ,‬لنه لم يكتب إل بعد أجيال ‪ ,‬وتفرقت فيه الروايات واضطربت ‪,‬‬
‫فل يقين فيه لمتبعيه ‪.‬‬

‫وإذا كان العذاب قد أجل ‪ . .‬فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها ‪ .‬سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن‬
‫تضيع‪:‬‬

‫وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم ‪ .‬إنه بما يعملون خبير "وفي التعبير توكيدات منوعة حتى ل يشك أحد في‬
‫الجزاء والوفاء من جراء النظار والتأجيل ‪ .‬وحتى ل يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي ل شك‬
‫في بطلنه ‪ ,‬وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين ‪. .‬‬

‫ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة ‪ .‬فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها‬
‫ومن رسول ال [ ص ] والقلة المؤمنة معه ‪ ,‬وتجمدت الدعوة على وجه التقريب ‪ .‬بينما عذاب ال الموعود‬
‫مؤجل لم يقع بعد ‪ .‬والذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين ! ‪ . .‬إنها فترة تهتزفيها بعض‬
‫القلوب ‪ .‬وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ‪ ,‬وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت ‪.‬‬
‫وتثبيت القلوب المؤمنة ل يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء ال ‪ ,‬وأنهم على الباطل الذي ل‬
‫شك فيه !‬

‫كذلك ل يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلء حكمة ال في إمهال الظالمين ‪ ,‬وإرجاء الطغاة‬
‫إلى يوم معلوم ‪ ,‬ينالون فيه جزاءهم ول يفلتون !‬

‫وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ‪ ,‬ونرى كيف يخوض القرآن المعركة‬
‫بالجماعة المسلمة ‪ ,‬وكيف يكشف لها معالم الطريق !‬

‫الدرس الرابع‪ 112:‬وصايا وتوجيهات للرسول ومن معه‬

‫ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة ال ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده‬
‫وفي و عيده ‪ .‬وإذن فليستقم المؤمنون بدين ال والداعون له على طريقتهم ‪ -‬كما أمروا ‪ -‬ل يغلون في الدين‬
‫ول يزيدون فيه ‪ ,‬ول يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم ‪ ,‬ول يدينون لغير ال مهما طال عليهم الطريق ‪.‬‬
‫ثم يتزودون بزاد الطريق ‪ ,‬ويصبرون حتى تتحقق سنة ال عندما يريد ‪.‬‬

‫(فاستقم كما أمرت ‪ -‬ومن تاب معك ‪ -‬ول تطغوا ‪ .‬إنه بما تعملون بصير ‪ .‬ول تركنوا إلى الذين ظلموا‬
‫فتمسكم النار ‪ ,‬وما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون ‪ .‬وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ‪ ,‬إن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات ‪ ,‬ذلك ذكرى للذاكرين ‪ ,‬واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين)‪. .‬‬

‫هذا المر للرسول [ ص ] ومن تاب معه‪:‬‬

‫(فاستقم كما أمرت)‪ . .‬أحس ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه‪":‬‬
‫شيبتني هود ‪ . " . . .‬فالستقامة‪:‬العتدال والمضي على النهج دون انحراف ‪ .‬وهو في حاجة إلى اليقظة‬
‫الدائمة ‪ ,‬والتدبر الدائم ‪ ,‬والتحري الدائم لحدود الطريق ‪ ,‬وضبط النفعالت البشرية التي تميل التجاه قليل أو‬
‫كثيرا ‪ . .‬ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة ‪.‬‬

‫وإنه لمما يستحق النتباه هنا أن النهي الذي أعقب المر بالستقامة ‪ ,‬لم يكن نهيا عن القصور والتقصير ‪ ,‬إنما‬
‫كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة ‪ . .‬وذلك أن المر بالستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد‬
‫ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر ‪ .‬وال يريد دينه كما أنزله ‪ ,‬ويريد‬
‫الستقامة على ما أمر دون إفراط ول غلو ‪ ,‬فالفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط‬
‫والتقصير ‪ .‬وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ‪ ,‬لمساك النفوس على الصراط ‪ ,‬بل انحراف إلى الغلو أو الهمال‬
‫على السواء ‪. .‬‬

‫(إنه بما تعملون بصير)‪. .‬‬


‫والبصر ‪ -‬من البصيرة ‪ -‬مناسب في هذا الموضع ‪ ,‬الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الدراك والتقدير ‪. .‬‬

‫فاستقم ‪ -‬أيها الرسول ‪ -‬كما أمرت ‪ .‬ومن تاب معك ‪. . .‬‬

‫(ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)‪. .‬‬

‫ل تستندوا ول تطمئنوا إلى الذين ظلموا ‪ .‬إلى الجبارين الطغاة الظالمين ‪ ,‬أصحاب القوة في الرض ‪ ,‬الذين‬
‫يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير ال من العبيد ‪ . .‬ل تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم‬
‫علىهذا المنكر الكبر الذي يزاولونه ‪ ,‬ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير ‪.‬‬

‫(فتمسكم النار)‪. .‬‬

‫جزاء هذا النحراف ‪.‬‬

‫(وما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون)‪. .‬‬

‫والستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين ‪. .‬‬

‫وال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يرشد رسوله [ ص ] ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق‪:‬‬

‫(وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل)‪. .‬‬

‫ولقد علم ال أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد ‪ ,‬والذي يقيم البنية الروحية ‪ ,‬ويمسك القلوب على‬
‫الحق الشاق التكاليف ‪ .‬ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود ‪ ,‬القريب المجيب ‪ ,‬وينسم عليها نسمة‬
‫النس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود !‬

‫والية هنا تذكر طرفي النهار ‪ -‬وهما أوله وآخره ‪ ,‬وزلفا من الليل أي قريبا من الليل ‪ .‬وهذه تشمل أوقات‬
‫الصلة المفروضة دون تحديد عددها ‪ .‬والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك ‪.‬‬

‫والنص يعقب على المر بإقامة الصلة ‪ -‬أي أدائها كاملة مستوفاة ‪ -‬بأن الحسنات يذهبن السيئات ‪ .‬وهو نص‬
‫عام يشمل كل حسنة ‪ ,‬والصلة من أعظم الحسنات ‪ ,‬فهي داخلة فيه بالولوية ‪ .‬ل أن الصلة هي الحسنة التي‬
‫تذهب السيئة بهذا التحديد ‪ -‬كما ذهب بعض المفسرين ‪:-‬‬

‫(ذلك ذكرى للذاكرين)‪. .‬‬

‫فالصلة ذكر في أساسها ومن ثم ناسبها هذا التعقيب ‪. .‬‬


‫والستقامة في حاجة إلى الصبر ‪ .‬كما أن انتظار الجل لتحقيق سنة ال في المكذبين يحتاج إلى الصبر ‪. .‬‬
‫ومن ثم كان التعقيب على المر بالستقامة وعلى ما سبقه في السياق هو‪:‬‬

‫(واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين)‪. .‬‬

‫والستقامة إحسان ‪ .‬وإقامة الصلة في أوقاتها إحسان ‪ .‬والصبر على كيد التكذيب إحسان ‪ . . .‬وال ل يضيع‬
‫أجر المحسنين ‪. . .‬‬

‫الدرس الخامس‪ 117 - 116:‬إهلك السابقين لعدم إصلحهم ونهيهم عن الفساد‬

‫ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون ‪ .‬فيشير من طرف خفي إلى أنه لو‬
‫كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لنفسهم الخير عند ال ‪ ,‬فينهون عن الفساد في الرض ‪ ,‬ويصدون‬
‫الظالمين عن الظلم ‪ ,‬ما أخذ تلك القرى بعذاب الستئصال الذي حل بهم ‪ ,‬فإن ال ل يأخذ القرى بالظلم إذا‬
‫كان أهلها مصلحين ‪ ,‬أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد ‪ ,‬إنما كان في هذه‬
‫القرى قلة من المؤمنين ل نفوذ لهم ول قوة ‪ ,‬فأنجاهم ال ‪ .‬وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين‬
‫لهم ‪ ,‬فأهلك القرى بأهلها الظالمين‪:‬‬

‫فلول كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الرض ! إل قليل ممن أنجينا منهم ‪ ,‬واتبع‬
‫الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ‪ .‬وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ‪. .‬‬

‫وهذه الشارة تكشف عن سنة من سنن ال في المم ‪ .‬فالمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير ال ‪ ,‬في‬
‫صورة من صوره ‪ ,‬فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية ‪ ,‬ل يأخذها ال بالعذاب والتدمير ‪ .‬فأما المم التي‬
‫يظلم فيها الظالمون ‪ ,‬ويفسد فيها المفسدون ‪ ,‬فل ينهض من يدفع الظلم والفساد ‪ ,‬أو يكون فيها من يستنكر ‪,‬‬
‫ولكنه ل يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد ‪ ,‬فإن سنة ال تحق عليها ‪ ,‬إما بهلك الستئصال ‪ .‬وإما بهلك‬
‫النحلل ‪ . .‬والختلل !‬

‫فأصحاب الدعوة إلى ربوبية ال وحده ‪ ,‬وتطهير الرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره ‪ ,‬هم صمام‬
‫المان للمم والشعوب ‪ . .‬وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لقرار ربوبية ال وحده ‪ ,‬الواقفين للظلم والفساد‬
‫بكل صوره ‪ . .‬إنهم ل يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب ‪ ,‬إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب ال ‪,‬‬
‫واستحقاق النكال والضياع ‪. .‬‬

‫الدرس السادس‪ 119 - 118:‬سنة ال في اختلف الناس والفصل بينهم يوم القيامة‬

‫والتعقيب الخير عن اختلف البشر إلى الهدى وإلى الضلل ‪ ,‬وسنة ال المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا‬
‫أو ذاك‪:‬‬
‫(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ‪ .‬ول يزالون مختلفين ‪ -‬إل من رحم ربك ‪ -‬ولذلك خلقهم ‪ .‬وتمت‬
‫كلمة ربك‪:‬لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين)‪. .‬‬

‫لو شاء ال لخلق الناس كلهم على نسق واحد ‪ ,‬وباستعداد واحد ‪ . .‬نسخا مكرورة ل تفاوت بينها ول تنويع‬
‫فيها ‪ .‬وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الرض ‪ .‬وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي‬
‫استخلفه ال في الرض ‪.‬‬

‫ولقد شاء ال أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته ‪ .‬وأن يوهب القدرة على حرية التجاه ‪ .‬وأن يختار‬
‫هو طريقه ‪ ,‬ويحمل تبعة الختيار ‪ .‬ويجازي على اختياره للهدى أوللضلل ‪ . .‬هكذا اقتضت سنة ال وجرت‬
‫مشيئته ‪ .‬فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلل سواء في أنه تصرف حسب سنة ال في خلقه ‪ ,‬ووفق‬
‫مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار ‪ ,‬وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار ‪.‬‬

‫شاء ال أل يكون الناس أمة واحدة ‪ .‬فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين ‪ .‬وأن يبلغ هذا الختلف أن‬
‫يكون في أصول العقيدة ‪ -‬إل الذين أدركتهم رحمة ال ‪ -‬الذين اهتدوا إلى الحق ‪ -‬والحق ل يتعدد ‪ -‬فاتفقوا‬
‫عليه ‪ .‬وهذا ل ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلل ‪.‬‬

‫ومن المقابل الذي ذكره النص‪:‬‬

‫(وتمت كلمة ربك‪:‬لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين)‪. .‬‬

‫يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة ال لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم‬
‫بالضالين المختلفين مع أهل الحق ‪ ,‬والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !‬

‫الدرس السابع‪ 123 - 120:‬وظيفة القصص في تثبيت الفؤاد وانتظار الفرج من ال‬

‫والخاتمة الخيرة ‪ .‬خطاب للرسول [ ص ] عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين ‪ .‬فأما‬
‫الذين ل يؤمنون فليلق إليهم كلمته الخيرة ‪ ,‬وليفاصلهم مفاصلة حاسمة ‪ ,‬وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في‬
‫غيب ال ‪ .‬ثم ليعبد ال وليتوكل عليه ‪ ,‬ويدع القوم لما يعملون ‪. .‬‬

‫حمَ َربّكَ وَِلذَِلكَ خَلَ َق ُهمْ َو َتمّتْ كَِلمَةُ‬


‫ختَلِفِينَ (‪ِ )118‬إلّ مَن ّر ِ‬
‫حدَ ًة َولَ َيزَالُونَ ُم ْ‬
‫ل النّاسَ ُأمّةً وَا ِ‬
‫جعَ َ‬
‫وََلوْ شَاء رَ ّبكَ َل َ‬
‫ج َمعِينَ (‪)119‬‬
‫جنّةِ وَالنّاسِ َأ ْ‬
‫ن ا ْل ِ‬
‫ج َه ّنمَ مِ َ‬
‫لمْلنّ َ‬
‫ك َ‬
‫َربّ َ‬
‫) وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ‪ ,‬وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ‪.‬‬
‫وقل للذين ل يؤمنون‪:‬اعملوا على مكانتكم إنا عاملون ‪ ,‬وانتظروا إنا منتظرون ‪ .‬ول غيب السماوات‬
‫والرض وإليه يرجع المر كله ‪ ,‬فاعبده وتوكل عليه ‪ ,‬وما ربك بغافل عما تعملون)‪. .‬‬

‫ويا ل للرسول [ ص ] لقد كان يجد من قومه ‪ ,‬ومن انحرافات النفوس ‪ ,‬ومن أعباء الدعوة ‪ ,‬ما يحتاج معه‬
‫إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه ‪ -‬وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه ‪:-‬‬

‫(وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)‪. .‬‬

‫وجاءك في هذه الحق‪. .‬‬

‫أي في هذه السورة ‪ . .‬الحق من أمر الدعوة ‪ ,‬ومن قصص الرسل ‪ ,‬ومن سنن ال ‪ ,‬ومن تصديق البشرى‬
‫والوعيد ‪.‬‬

‫وموعظة وذكرى للمؤمنين‪. .‬‬

‫تعظهم بما سلف في القرون وتذكرهم بسنن ال وأوامره ونواهيه ‪.‬‬

‫فأما الذين ل يؤمنون بعد ذلك فل موعظة لهم ول ذكرى ‪ .‬وإنما الكلمة الفاصلة ‪ ,‬والمفاصلة الحاسمة‪:‬‬

‫(وقل للذين ل يؤمنون‪:‬اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون)‪. .‬‬

‫كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلقونه ‪ . .‬وما ينتظرونه غيب‬
‫من غيب ال‪:‬‬

‫(ول غيب السماوات والرض)‪. .‬‬

‫والمر كله إليه ‪ .‬أمرك وأمر المؤمنين ‪ ,‬وأمر الذين ل يؤمنون ‪ ,‬وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما‬
‫سيكون ‪.‬‬

‫(فاعبده)‪. .‬‬

‫فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة ‪.‬‬

‫وتوكل عليه ‪. .‬‬

‫فهو الولي وحده والنصير ‪ .‬وهو العليم بما تعملون من خير وشر ‪ ,‬ولن يضيع جزاء أحد‪:‬‬
‫(وما ربك بغافل عما تعملون)‪. .‬‬

‫تعقيب على سورة هود‬

‫وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة ‪ ,‬والتوبة والنابة والرجعة إلى ال في النهاية ‪ .‬بمثل ما‬
‫بدئت به من عبادة ال وحده والتوجه إليه وحده ‪ .‬والرجعة إليه في نهاية المطاف ‪ .‬وذلك بعد طول التطواف‬
‫في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون ‪. .‬‬

‫وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام ‪ ,‬والتناسق بين القصص والسياق ‪ ,‬بكمال النظرة والفكرة‬
‫والتجاه في هذا القرآن ‪ .‬ولو كان من عند غير ال لوجدوا فيه اختلفا كثيرا ‪. .‬‬

‫وبعد ‪ .‬فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها ‪ -‬بل المتتبع للقرآن المكي كله ‪ -‬يجد أن هناك خطا أصيل ثابتا‬
‫عريضا عميقا ‪ ,‬هو الذي ترتكز عليه ; وهو المحور الذي تدور حوله ; وإليه ترجع سائر خطوطها ‪ ,‬وإليه‬

‫عظَةٌ َو ِذ ْكرَى لِ ْلمُ ْؤ ِمنِينَ (‬


‫حقّ َو َموْ ِ‬
‫ن أَنبَاء ال ّرسُلِ مَا ُن َثبّتُ ِبهِ فُؤَا َدكَ َوجَاءكَ فِي هَـذِ ِه ا ْل َ‬
‫َوكُـلّ نّ ُقصّ عََل ْيكَ مِ ْ‬
‫غيْبُ‬
‫ظرُونَ (‪ )122‬وَلِّلهِ َ‬
‫ظرُوا ِإنّا مُن َت ِ‬
‫عمَلُواْ عَلَى َمكَا َن ِتكُمْ ِإنّا عَامِلُونَ (‪ )121‬وَان َت ِ‬
‫ل يُ ْؤ ِمنُونَ ا ْ‬
‫‪َ )120‬وقُل لّّلذِينَ َ‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ (‪)123‬‬
‫ع ُبدْهُ َوتَ َوكّلْ عََليْهِ َومَا َر ّبكَ ِبغَافِلٍ َ‬
‫ل ْمرُ كُلّ ُه فَا ْ‬
‫لرْضِ وَإَِل ْيهِ ُي ْرجَعُ ا َ‬
‫سمَاوَاتِ وَا َ‬
‫ال ّ‬
‫تشد جميع خيوطها كذلك ‪ . .‬إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله ‪ . .‬وإنه محور العقيدة الذي يدور‬
‫عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيل ‪. .‬‬

‫وسنحتاج ‪ -‬في التعقيب الجمالي على هذه السورة ‪ -‬أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا‬
‫المحور ‪ -‬كما يتجلى في سياق السورة ‪ -‬وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئا ما ‪ .‬ولكننا في‬
‫هذا التعقيب الجمالي سنحتاج إلى اللمام به ‪ ,‬ربطا لجزاء هذا التعقيب الخير‪:‬‬

‫إن الحقيقة الولى البارزة في سياق السورة كله ‪ . .‬سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي‬
‫أرسل به محمد [ ص ] أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة السلمية على مدى االتاريخ‬
‫البشري ‪ .‬أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول ال [ ص ] إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية‬
‫المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية ‪. .‬‬

‫إن الحقيقة الولى البارزة في سياق السورة كله ‪ . .‬هي التركيز على المر بعبادة ال وحده ‪ ,‬والنهي عن‬
‫عبادة غيره ‪ . .‬وتقرير أن هذا هو الدين كله ‪ . .‬وإقامة الوعد والوعيد ‪ ,‬والحساب والجزاء ‪ ,‬والثواب‬
‫والعقاب ‪ ,‬على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة ‪ . .‬كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من‬
‫تفسيرها ‪. .‬‬
‫فيبقى هنا أن نجلي أول طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة ‪ ,‬وقيمة هذه الطريقة‪:‬‬

‫إن حقيقة توحيد العبادة ل ترد في صيغتين هكذا‪:‬‬

‫(يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪. .). . .‬‬

‫(أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪. .). . .‬‬

‫وواضح اختلف الصيغتين بين المر والنهي ‪ . .‬فهل مدلولهما واحد ? إن مدلول الصيغة الولى‪:‬المر بعبادة‬
‫ال ‪ ,‬وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه ‪ . .‬ومدلول الصيغة الثانية‪:‬النهي عن عبادة غير ال ‪. .‬‬

‫والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الول ومفهومه ‪ . .‬ولكن الول "منطوق" والخر "مفهوم" ‪ . .‬ولقد‬
‫اقتضت حكمة ال ‪ -‬في بيان هذه الحقيقة الكبيرة ‪ -‬عدم الكتفاء بالمفهوم ‪ ,‬في النهي عن عبادة غير ال ‪.‬‬
‫وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل ‪ .‬وإن كان مفهوما ومتضمنا في المر الول !‬

‫إن هذا يعطينا إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة ‪ ,‬ووزنها في ميزان ال سبحانه ‪ ,‬بحيث تستحق أل توكل‬
‫إلى المفهوم المتضمن في المر بعبادة ال وتقرير أن ل إله يعبد سواه ; وأن يرد النهي عن عبادة سواه في‬
‫منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر ل بالمفهوم المتضمن ! ول بالمقتضى اللزم !‬

‫كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها ‪ . .‬عبادة ال ‪ .‬وعدم عبادة سواه ‪ . .‬أن‬
‫النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء ‪ .‬وعدم الكتفاء معها بالمر بعبادة‬
‫ال وتقرير أن ل إله يعبد سواه ; وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه‬
‫المر بعبادته وحده ‪ . .‬ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان ل يجحدون ال ‪ ,‬ول يتركون عبادته ‪ ,‬ولكنهم مع‬
‫هذا ‪ -‬يعبدون معه غيره ; فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون !‬

‫ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالمر وبالنهي معا ; بحيث يؤكد أحدهما الخر ‪ ,‬التوكيد الذي‬
‫ل تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة ‪. .‬‬

‫وقد تكرر مثل هذا التعبير القرآني في مواضع شتى ; هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها‪:‬‬

‫ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‪:‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إنني لكم منه نذير وبشير ‪ [ . .‬هود‪:‬‬
‫‪]2-1‬‬

‫ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه‪:‬إني لكم نذير مبين‪:‬أل تعبدوا إل ال ‪ ,‬إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ‪. . .‬‬
‫[ هود‪] 26 - 25:‬‬
‫وإلى عاد أخاهم هودا ‪ ,‬قال‪:‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ‪ ,‬إن أنتم إل مفترون ‪. .‬‬

‫[ هود‪] 50:‬‬

‫(وقال ال‪:‬ل تتخذوا إلهين اثنين ‪ .‬إنما هو إله واحد ‪ .‬فإياي فارهبون)‪. . .‬‬

‫[ النحل‪] 51:‬‬

‫(ما كان إبراهيم يهوديا ول نصرانيا ‪ .‬ولكن كان حنيفا مسلما ‪ .‬وما كان من المشركين)‪. .‬‬

‫[ آل عمران‪] 67:‬‬

‫(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والرض حنيفا ‪ .‬وما أنا من المشركين)‪. . .‬‬

‫[ النعام‪] 79:‬‬

‫وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد ‪ ,‬له دللته من غير شك ‪ .‬سواء في تجلية قيمة هذه‬
‫الحقيقة وضخامتها التي تستدعي أل توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات‬
‫اللزمة ‪ ,‬وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها ‪ .‬أو في دللة هذه الطريقة على علم ال ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫بطبيعة الكائن النساني ‪ ,‬وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة ‪ ,‬وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو‬
‫غبش ‪ ,‬إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو ‪ ,‬الذي يتجلى فيه القصد والعمد ‪ . .‬ول الحكمة البالغة ‪. .‬‬
‫وهو أعلم بمن خلق ‪ ,‬وهو اللطيف الخبير ‪.‬‬

‫ثم نقف أمام مدلول مصطلح "العبادة " الوارد في السورة ‪ -‬وفي القرآن كله ‪ -‬لندرك ما وراء ذلك التركيز‬
‫على المر بعبادة ال وحده ‪ ,‬والنهي عن عبادة غيره ‪ .‬وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه‬
‫الحقيقة في نص منطوق ‪ ,‬وعدم الكتفاء بالدللة الضمنية المفهومة ‪.‬‬

‫لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه ‪ -‬في هذه السورة ‪ -‬ما هو مدلول مصطلح "العبادة "‬
‫الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية ; كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام ‪ ,‬وكل تلك‬
‫العذابات واللم التي عاناها الدعاة إلى عبادة ال وحده على ممر اليام ‪ . .‬فالن نضيف إلى ذلك التعقيب‬
‫بعض اللمحات‪:‬‬

‫إن إطلق مصطلح "العبادات" على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل ‪ ,‬في مقابل‬
‫إطلقمصطلح‪":‬المعاملت" على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل ‪ . .‬إن هذا جاء متأخرا عن‬
‫عصر نزول القرآن الكريم ; ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد الول ‪.‬‬
‫ولقد كتبنا من قبل في كتاب "خصائص التصور السلمي ومقوماته" شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه‬
‫هذه الفقرات‪:‬‬

‫"إن تقسيم النشاط النساني إلى "عبادات" و "معاملت" مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة "الفقه" ‪ .‬ومع‬
‫أنه كان المقصود به ‪ -‬في أول المر ‪ -‬مجرد التقسيم "الفني" الذي هو طابع التأليف العلمي ‪ ,‬إل أنه ‪ -‬مع‬
‫السف ‪ -‬أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور ‪ ,‬تبعها ‪ -‬بعد فترة ‪ -‬آثار سيئة في الحياة السلمية كلها ; إذ‬
‫جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة " إنما هي خاصة بالنوع الول من النشاط ‪ ,‬الذي يتناوله‬
‫"فقه العبادات" ‪ .‬بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط ‪ ,‬الذي يتناوله "فقه‬
‫المعاملت" ! وهو انحراف بالتصور السلمي ل شك فيه ‪ .‬فل جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في‬
‫المجتمع السلمي ‪.‬‬

‫"ليس في التصور السلمي نشاط إنساني ل ينطبق عليه معنى "العبادة " أو ل يطلب فيه تحقيق هذا الوصف ‪.‬‬
‫والمنهج السلمي كله غايته تحقيق معنى العبادة ‪ ,‬أول وأخيرا ‪.‬‬

‫"وليس هناك من هدف في المنهج السلمي لنظام الحكم ‪ ,‬ونظام القتصاد ‪ ,‬والتشريعات الجنائية ‪,‬‬
‫والتشريعات المدنية ‪ ,‬وتشريعات السرة ‪ .‬وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج ‪. .‬‬

‫"ليس هناك من هدف إل تحقيق معنى "العبادة " في حياة النسان ‪ . .‬والنشاط النساني ل يكون متصفا بهذا‬
‫الوصف ‪ ,‬محققا لهذه الغاية ‪ -‬التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود النساني ‪ -‬إل حين يتم هذا النشاط‬
‫وفق المنهج الرباني ; فيتم بذلك إفراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬باللوهية ; والعتراف له وحده بالعبودية ‪ . .‬وإل فهو‬
‫خروج عن العبادة لنه خروج عن العبودية ‪ .‬أي خروج عن غاية الوجود النساني كما أرادها ال ‪ .‬أي‬
‫خروج عن دين ال !‬

‫"وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم "العبادات" وخصوها بهذه الصفة ‪ -‬على غير مفهوم التصور‬
‫السلمي ‪ -‬حين تراجع في مواضعها في القرآن ‪ ,‬تتبين حقيقة بارزة ل يمكن إغفالها ‪ .‬وهي أنها لم تجيء‬
‫مفردة ول معزولة عن أنواع النشاط الخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملت" ‪ . .‬إنما جاءت هذه‬
‫وتلك مرتبطة في السياق القرآني ‪ ,‬ومرتبطة في المنهج التوجيهي ‪ .‬باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة‬
‫" التي هي غاية الوجود النساني ‪ ,‬وتحقيقا لمعنى العبودية ‪ ,‬ومعنى إفراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬باللوهية ‪.‬‬

‫"إن ذلك التقسيم ‪ -‬مع مرور الزمن ‪ -‬جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا‬
‫نشاط "العبادات" ‪ -‬وفق أحكام السلم ‪ -‬بينما هم يزاولون كل نشاط "المعاملت" وفق منهج آخر ‪ . .‬ل‬
‫يتلقونه من ال ولكن من إله آخر ‪ ! . .‬هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به ال !‬
‫"وهذا وهم كبير ‪ .‬فالسلم وحدة ل تنفصم ‪ .‬وكل من يفصمه إلى شطرين ‪ -‬على هذا النحو ‪ -‬فإنما يخرج‬
‫من هذه الوحدة ‪ ,‬أو بتعبير آخر‪:‬يخرج من هذا الدين ‪.‬‬

‫"وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلمه ; ويريد في الوقت ذاته‬
‫أن يحقق غاية وجوده النساني"‬

‫فالن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول‬
‫مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية ‪ . .‬بل أنه يوم خوطب به‬
‫أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه‬
‫هو "الدينونة " ل وحده في أمر كله ‪ ,‬وخلع الدينونة لغير ال من عنقه في أمره كله ‪ .‬ولقد فسر رسول ال [‬
‫ص ] "العبادة " نصا بأنها "التباع" وليست هي الشعائر التعبدية ‪ ,‬وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود‬
‫والنصارى ‪ ,‬واتخاذهم الحبار والرهبان أربابا‪ ":‬بلى إنهم أحلوا لهم الحرام ‪ ,‬وحرموا عليهم الحلل ‪ ,‬فاتبعوهم‬
‫فذلك عبادتهم إياهم " ‪ . .‬إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور‬
‫الدينونة ل في شأن من الشؤون ‪ .‬صورة ل تستغرق مدلول العبادة ‪ ,‬بل إنها تجيء بالتبعية ل بالصالة ! ‪. .‬‬

‫ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء‪":‬إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت‬
‫كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالت ; وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل ‪-‬‬
‫صلوات ال وسلمه عليهم ‪ -‬وما استحقت كل هذه العذابات واللم التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على‬
‫مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد ‪ ,‬وردهم إلى‬
‫الدينونة ل وحده في كل أمر وفي كل شأن ‪ ,‬وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللخرة سواء ‪.‬‬

‫"إن توحيد اللوهية ‪ ,‬وتوحيد الربوبية ‪ ,‬وتوحيد القوامة ‪ ,‬وتوحيد الحاكمية ‪ ,‬وتوحيد مصدر الشريعة ‪ ,‬وتوحيد‬
‫منهج الحياة ‪ ,‬وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة ‪ . .‬إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن‬
‫يرسل من أجله كل هؤلء الرسل ‪ ,‬وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ‪ ,‬وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات‬
‫واللم على مدار الزمان ‪ . .‬ل لن ال سبحانه في حاجة إليه ‪ .‬فال سبحانه غني عن العالمين ‪ .‬ولكن لن‬
‫حياة البشر ل تصلح ول تستقيم ول ترتفع ول تصبح لئقة بالنسان ‪ ,‬إل بهذا التوحيد الذي ل حد لتأثيره في‬
‫الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء" ‪. .‬‬

‫وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا المر بيانا في هذا التعقيب الختامي الخير ‪.‬‬

‫فالن نبين إجمال قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء‪:‬‬

‫ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد ‪ -‬على هذا النحو الشامل ‪ -‬في كيان الكائن النساني نفسه من ناحية‬
‫وجوده الذاتي ‪ ,‬وحاجته الفطرية ‪ ,‬وتركيبه النساني ‪ . .‬أثرها في تصوره ‪ . .‬وأثر هذا التصور في كيانه‪:‬‬
‫"إن هذا التصور إذ يتناول المور على هذا النحو الشامل ‪ -‬بكل معاني الشمول ‪ -‬يخاطب الكينونة البشرية‬
‫بكل جوانبها ‪ ,‬وبكل أشواقها ‪ ,‬وبكل حاجاتها ‪ ,‬وبكل اتجاهاتها ‪ ,‬ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها ‪ ,‬جهة‬
‫تطلب عندها كل شيء ‪ ,‬وتتوجه إليها بكل شيء ‪ .‬جهة واحدة ترجوها وتخشاها ‪ ,‬وتتقي غضبها وتبتغي‬
‫رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء ‪ ,‬لنها خالقة كل شيء ‪ ,‬ومالكة كل شيء ‪ ,‬ومدبرة كل شيء ‪.‬‬

‫"كذلك يرد الكينونة النسانية إلى مصدر واحد ‪ ,‬تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها ‪ ,‬وقيمها وموازينها ‪,‬‬
‫وشرائعها وقوانينها ‪ .‬وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والنسان ‪ ,‬بكل ما‬
‫يثيره كل منها من علمات الستفهام ‪.‬‬

‫"عندئذ تتجمع هذه الكينونة ‪ . .‬تتجمع شعورا وسلوكا ‪ ,‬وتصورا واستجابة ‪ .‬في شأن العقيدة والمنهج ‪.‬‬

‫وشأن الستمداد والتلقي ‪ .‬وشأن الحياة والموت ‪ .‬وشأن السعي والحركة ‪ .‬وشأن الصحة والرزق ‪ .‬وشأن‬
‫الدنيا والخرة ‪ .‬فل تتفرق مزقا ; ول تتجه إلى شتى السبل والفاق ‪ ,‬ول تسلك شتى الطرق على غير اتفاق !‬

‫"والكينونة النسانية حين تتجمع على هذا النحو ‪ ,‬تصبح في خير حالتها ‪ .‬لنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة‬
‫" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالتها ‪ . .‬فالوحدة هي حقيقة الخالق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬والوحدة هي حقيقة هذا‬
‫الكون ‪ -‬على تنوع المظاهر والشكال والحوال ‪ -‬والوحدة هي حقيقة الحياة والحياء ‪ -‬على تنوع النواع‬
‫والجناس ‪ -‬والوحدة هي حقيقة النسان ‪ -‬على تنوع الفراد والستعدادات ‪ -‬والوحدة هي غاية الوجود‬
‫النساني ‪ -‬وهي العبادة ‪ -‬على تنوع مجالت العبادة وهيئاتها ‪ -‬وهكذا حيثما بحث النسان عن الحقيقة في‬
‫هذا الوجود ‪. .‬‬

‫"وحين تكون الكينونة النسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة " في كل مجالتها ‪ ,‬تكون في أوج قوتها الذاتية‬
‫; وفي أوج تناسقها ‪ -‬كذلك ‪ -‬مع "حقيقة " هذا الكون الذي تعيش فيه ‪ ,‬وتتعامل معه ; ومع "حقيقة " كل شيء‬
‫في هذا الوجود ‪ ,‬مما تتأثر به وتؤثر فيه ‪ . .‬وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الثار ‪ ,‬وأن‬
‫تؤدي أعظم الدوار ‪.‬‬

‫"وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الوائل ‪ ,‬صنع ال بها في الرض‬
‫أدوارا عميقة الثار في كيان الوجود النساني ‪ ,‬وفي كيان التاريخ النساني ‪. .‬‬

‫"وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى ‪ -‬وهي ل بد كائنة بإذن ال ‪ -‬سيصنع ال بها الكثير ‪ ,‬مهما يكن في‬
‫طريقها من العراقيل ‪ .‬ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشيء قوة ل تقاوم ; لنها من صميم قوة هذا الكون‬
‫; وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا ‪.‬‬
‫" ‪ . . .‬إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور اليماني ‪ .‬وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية‬
‫ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله ‪ -‬بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة ‪ ,‬وبلوغ هذا التذوق أعلى‬
‫درجات الكمال والتناسق ‪ .‬فقيمة الحياة النسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة ل ; وحين يصبح كل‬
‫نشاط فيها ‪ -‬صغر أم كبر ‪ -‬جزءا من هذه العبادة ; أو كل العبادة ‪ ,‬متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه‬
‫‪ .‬وهو إفراد ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬باللوهية والقرار له وحده بالعبودية ‪ . .‬هذا المقام الذي ل يرتفع النسان إلى‬
‫ما هو أعلى منه ; ول يبلغ كماله النساني إل في تحقيقه ‪ .‬وهو المقام الذي بلغه رسول ال [ ص ] في أعلى‬
‫مقاماته التي ارتقى إليها ‪ .‬مقام تلقي الوحي من ال ‪ .‬ومقام السراء أيضا‪:‬‬

‫تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالميين نذيرا ‪ [ . . .‬الفرقان‪. ] 1:‬‬

‫(سبحان الذي أسرى بعبده ليل من المسجد الحرام إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله ‪ .‬لنريه من آياتنا ‪,‬‬
‫إنه هو السميع البصير)‪ [ . . .‬السراء‪. ] 1:‬‬

‫وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة ل وحده وآثارها في الحياة النسانية‪:‬‬

‫إن الدينونة ل تحرر البشر من الدينونة لغيره ; وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ‪ .‬وبذلك‬
‫تحقق للنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية ‪ ,‬هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام‬
‫آخر ‪ -‬غير النظام السلمي ‪ -‬يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ‪ ,‬في صورة من صورها الكثيرة ‪. .‬‬
‫‪.‬‬

‫سواء عبودية العتقاد ‪ ,‬أو عبودية الشعائر ‪ ,‬أو عبودية الشرائع ‪ . .‬فكلها عبودية ; وبعضها مثل بعض ;‬
‫تخضع الرقاب لغير ال ; بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير ال ‪.‬‬

‫والناس ل يملكون أن يعيشوا غير مدينين ! ل بد للناس من دينونة ‪ .‬والذين ل يدينون ل وحده يقعون من‬
‫فورهم في شر ألوان العبودية لغير ال ; في كل جانب من جوانب الحياة !‬

‫إنهم يقعون فرائس لهوائهم وشهواتهم بل حد ول ضابط ‪ .‬ومن ثم يفقدون خاصتهم الدمية ويندرجون في‬
‫عالم البهيمة‪:‬‬

‫(والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل النعام ‪ ,‬والنار مثوى لهم)‪ [ . . .‬محمد‪] 12:‬‬

‫ول يخسر النسان شيئا كأن يخسر آدميته ‪ ,‬ويندرج في عالم البهيمة ‪ ,‬وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص‬
‫من الدينونة ل وحده ‪ ,‬والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة ‪.‬‬
‫ثم هم يقعون فرائس للوان من العبودية للعبيد ‪ . .‬يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين‬
‫يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ‪ ,‬ل ضابط لها ول هدف إل حماية مصالح المشرعين أنفسهم ‪ -‬سواء‬
‫تمثل هؤلء المشرعون في فرد حاكم ‪ ,‬أو في طبقة حاكمة ‪ ,‬أو في جنس حاكم ‪ -‬فالنظرة على المستوى‬
‫النساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري ل يستمد من ال وحده ‪ ,‬ول يتقيد بشريعة ال ل‬
‫يتعداها ‪. .‬‬

‫ولكن العبودية للعبيد ل تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين ‪ . .‬فهذه هي الصورة الصارخة‬
‫‪ ,‬ولكنها ليست هي كل شيء ! ‪ . .‬إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ; ولكنها قد تكون أقوى‬
‫وأعمق وأقسى من هذه الصورة ! ونضرب مثال لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والزياء مثل ! أي‬
‫سلطان لهؤلء على قطيع كبير جدا من البشر ? ‪ . .‬كل الذين يسمونهم متحضرين ‪ ! . .‬إن الزي المفروض‬
‫من آلهة الزياء ‪ -‬سواء في الملبس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلت ‪ . . .‬الخ ‪ . .‬ليمثل‬
‫عبودية صارمة ل سبيل لجاهلي ول لجاهلية أن يفلت منها ; أو يفكر في الخروج عنها ! ولو دان الناس ‪ -‬في‬
‫هذه الجاهلية "الحضارية ! " ل بعض ما يدينون لصانعي الزياء لكانوا عبادا متبتلين ! ‪ . .‬فماذا تكون‬
‫العبودية إن لم تكن هي هذه ? وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الزياء‬
‫أيضا ?!‬

‫وإن النسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة ‪ ,‬وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ‪ ,‬وهو في الوقت ذاته ل‬
‫يناسب شكلها ول تكوينها ‪ ,‬وتضع من الصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية ! ولكن اللوهية القاهرة‬
‫لرباب الزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي ل تملك لها ردا ‪ ,‬ول تقوى على رفض الدينونة لها‬
‫‪ ,‬لن المجتمع كله من حولها يدين لها ‪ .‬فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه ? وكيف تكون الحاكمية‬
‫والربوبية إن لم تكن هي تلك ?!‬

‫وليس هذا إل مثل واحدا للعبودية المذلة حين ل يدين الناس ل وحده ; وحين يدينون لغيره من العبيد ‪. .‬‬
‫وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ‪ ,‬ولعبودية البشر‬
‫للبشر !‬

‫وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ‪ ,‬التي تصبح كلها‬
‫ول عاصم لها عندما يدين العباد للعباد ‪ ,‬في صورة من صور الدينونة ‪ . .‬سواء في صورة حاكمية التشريع ‪,‬‬
‫أو في صورة حاكمية العراف والتقاليد ‪ ,‬أو في صورة حاكمية العتقاد والتصور ‪. .‬‬

‫إن الدينونة لغير ال في العتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الوهام والساطير والخرافات التي ل‬
‫تنتهي ; والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها ; وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها ; وتقدم‬
‫فيها النذور والضاحي من الموال ‪ -‬وأحيانا من الولد ! ‪ -‬تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ;‬
‫ويعيش الناس معها في رعب من الرباب الوهمية المختلفة ‪ ,‬ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الرباب !‬
‫ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت ! ومن المشايخ والقديسين أصحاب السرار ! ومن ‪ . .‬ومن ‪ . .‬من‬
‫الوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء ‪ ,‬حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع‬
‫جهودهم ‪ ,‬وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء !‬

‫وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير ال في العراف والتقاليد بأرباب الزياء والمودات ! فينبغي أن نعلم كم من‬
‫الموال والجهود تضيع ‪ -‬إلى جانب العراض والخلق ‪ -‬في سبيل هذه الرباب !‬

‫إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والصباغ ; وعلى تصفيف الشعر وكيه ; وعلى‬
‫القمشة التي تصنع منها الزياء المتقلبة عاما بعد عام ‪ ,‬وما يتبعها من الحذية المناسبة والحلى المتناسقة مع‬
‫الزي والشعر والحذاء ! ‪ . . .‬إلى آخر ما تقضي به تلك الرباب النكدة ‪ . .‬إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق‬
‫نصف دخله ونصف جهده لملحقة أهواء تلك الرباب المتقلبة التي ل تثبت على حال ‪ .‬ومن ورائها اليهود‬
‫أصحاب رؤوس الموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الرباب ! ول يملك الرجل ول المرأة‬
‫وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد‬
‫والمال والعرض والخلق على السواء !‬

‫وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية ‪ . .‬وما من أضحية يقدمها عابد ال ل ‪ ,‬إل ويقدم‬
‫الذين يدينون لغير ال أضعافها للرباب الحاكمة ! من الموال والنفس والعراض ‪. .‬‬

‫وتقام أصنام من "الوطن" ومن "القوم" ومن "الجنس" ومن "الطبقة " ومن "النتاج" ‪ . . .‬ومن غيرها من شتى‬
‫الصنام والرباب ‪. .‬‬

‫وتدق عليها الطبول ; وتنصب لها الرايات ; ويدعى عباد الصنام إلى بذل النفوس والموال لها بغير تردد ‪. .‬‬
‫وإل فالتردد هو الخيانة ‪ ,‬وهو العار ‪ . .‬وحتى حين يتعارض العرض ‪ .‬مع متطلبات هذه الصنام ‪ ,‬فإن‬
‫العرض هو الذي يضحى ; ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم ! كما تقول البواق المنصوبة‬
‫حول الصنام ‪ ,‬ومن ورائها أولئك الرباب من الحكام !‬

‫إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل ال ; ليعبد ال وحده في الرض ; وليتحرر البشر من عبادة‬
‫الطواغيت والصنام ‪ ,‬ولترتفع الحياة النسانية إلى الفق الكريم الذي أراده ال للنسان ‪ . .‬إن كل هذه‬
‫التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل ال ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير ال ! والذين يخشون العذاب‬
‫واللم والستشهاد وخسارة النفس والولد والموال إذ هم جاهدوا في سبيل ال ‪ ,‬عليهم أن يتأملوا ماذا‬
‫تكلفهم الدينونة لغير ال في النفس والموال والولد ‪ ,‬وفوقها الخلق والعراض ‪ . .‬إن تكاليف الجهاد في‬
‫سبيل ال في وجه طواغيت الرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير ال ; وفوق ذلك كله الذل والدنس‬
‫والعار !‬

‫وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة ل وحده ‪ ,‬ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ‪ ,‬ذو قيمة‬

‫كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الرباب الزائفة ‪ .‬كي يوجه بجملته إلى عمارة الرض ‪,‬‬
‫وترقيتها ‪ ,‬وترقية الحياة فيها ‪.‬‬

‫وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء ‪ . .‬وهي أنه كلما قام عبد من عبيد ال ‪,‬‬
‫ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون ال ‪ . .‬احتاج هذا الطاغوت كي يعبد [ أي يطاع ويتبع ]‬
‫إلى أن يسخر كل القوى والطاقات ; أول لحماية شخصه ‪ .‬وثانيا لتأليه ذاته ‪ .‬واحتاج إلى حواش وذيول‬
‫وأجهزة وأبواق تسبح بحمده ‪ ,‬وترتل ذكره ‪ ,‬وتنفخ في صورته "العبدية " الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان‬
‫"اللوهية " العظيمة ! وأل تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة ! وإطلق الترانيم‬
‫والتراتيل حولها ‪ .‬وحشد الجموع ‪ -‬بشتى الوسائل ‪ -‬للتسبيح باسمها ‪ ,‬وإقامة طقوس العبادة لها ‪! . . .‬‬

‫وهو جهد ناصب ل يفرغ أبدا ‪ .‬لن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من‬
‫حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل ‪ .‬وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب‬
‫من جديد !‬

‫وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال ‪ -‬وأرواح أحيانا وأعراض ! ‪ -‬لو أنفق بعضها في عمارة‬
‫الرض ‪ ,‬والنتاج المثمر ‪ ,‬لترقية الحياة البشرية وإغنائها ‪ ,‬لعاد على البشرية بالخير الوفير ‪ . .‬ولكن هذه‬
‫الطاقات والموال ‪ -‬والرواح أحيانا والعراض ‪ -‬ل تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس ل‬
‫يدينون ل وحده ; وإنما يدينون للطواغيت من دونه ‪.‬‬

‫ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والموال والعمارة والنتاج من جراء تنكبها عن‬
‫الدينونة ل وحده ; وعبادة غيره من دونه ‪ . .‬وذلك فوق خسارتها في الرواح والعراض ‪ ,‬والقيم والخلق‬
‫‪ .‬وفوق الذل والقهر والدنس والعار !‬

‫وليس هذا في نظام أرضي دون نظام ‪ ,‬وإن اختلفت الوضاع واختلفت ألوان التضحيات ‪.‬‬

‫"ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة ل وحده ‪ ,‬فأتاحوا لنفر منهم أن يحكمهوهم بغير شريعته ‪ ,‬قد وقعوا‬
‫في النهاية في شقوة العبودية لغيره ‪ .‬العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ‪ ,‬مهما اختلفت أشكال‬
‫النظمة التي تحكمهم ‪ ,‬والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم النسانية والحرية والكرامة ‪.‬‬
‫"لقد هربت أوربا من ال ‪ -‬في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف ‪ -‬وثارت على ال‬
‫‪ -‬سبحانه ‪ -‬في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم النسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة !‬
‫ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم ‪ -‬ومصالحهم كذلك ‪ -‬في ظل النظمة الفردية‬
‫[ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ‪ ,‬والوضاع‬
‫النيابية البرلمانية ‪ ,‬والحريات الصحفية ‪ ,‬والضمانات القضائية والتشريعية ‪ ,‬وحكم الغلبية المنتخبة ‪ . . .‬إلى‬
‫آخر هذه الهالت التي أحيطت بها تلك النظمة ‪ . .‬ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان‬
‫"الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات ‪ ,‬وكل تلك التشكيلت ‪ ,‬إلى مجرد لفتات ‪ ,‬أو إلى‬
‫مجرد خيالت ! ووقعت الكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للقلية الطاغية التي تملك رأس المال ‪,‬‬

‫فتملك معه الغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس‬
‫هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ‪ ,‬في معزل عن ال سبحانه !!!‬

‫"ثم هرب فريق من الناس هناك من النظمة الفردية التي يطغي فيها "رأس المال" و "الطبقة " إلى النظمة‬
‫الجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا‬
‫بالدينونة لصحاب رؤوس الموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح‬
‫أخطر من طبقة الرأسماليين !‬

‫"وفي كل حالة ‪ ,‬وفي كل وضع ‪ ,‬وفي كل نظام ‪ ,‬دان البشر فيه للبشر ‪ ,‬دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم‬
‫الضريبة الفادحة ‪ .‬دفعوها للرباب المتنوعة في كل حال ‪.‬‬

‫"إنه ل بد من عبودية ! فإن ل تكن ل وحده تكن لغير ال ‪ . .‬والعبودية ل وحده تطلق الناس أحرارا كراما‬
‫شرفاء أعلياء ‪ . .‬والعبودية لغير ال تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم ‪ .‬ثم تأكل أموالهم‬
‫ومصالحهم المادية في النهاية ‪.‬‬

‫"من أجل ذلك كله تنال قضية اللوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالت ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وفي كتبه ‪. .‬‬
‫وهذه السورة نموذج من تلك العناية ‪ . .‬فهي قضية ل تتعلق بعبدة الصنام والوثان في الجاهليات الساذجة‬
‫البعيدة ‪ .‬ولكنها تتعلق بالنسان كله ‪ ,‬في كل زمان وفي كل مكان ; وتتعلق بالجاهليات كلها ‪ . .‬جاهليات ما‬
‫قبل التاريخ ‪ ,‬وجاهليات التاريخ ‪ .‬وجاهلية القرن العشرين ‪ .‬وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد‬
‫للعباد" ‪.‬‬

‫والخلصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية‪:‬أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها ‪ -‬وهذه‬
‫السورة نموذج منها ‪ -‬أن قضية الدينونة والتباع والحاكمية ‪ -‬التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة ‪ -‬هي‬
‫قضية عقيدة وإيمان وإسلم ; وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام !‬
‫إنها قضية عقيدة تقوم أو ل تقوم ‪ .‬وقضية إيمان يوجد أو ل يوجد ‪ .‬وقضية إسلم يتحقق أو ل يتحقق ‪ . .‬ثم‬
‫هي بعد ‪ -‬بعد ذلك ل قبله ‪ -‬قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام ; وفي أوضاع‬
‫وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام ‪ .‬وتنفذ فيها الحكام ‪.‬‬

‫وكذلك فإن قضية "العبادة " ليست قضية شعائر ; وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام‬
‫وأوضاع في واقع الحياة ‪ . .‬وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في‬
‫هذا الدين ‪ . .‬واستحقت كل هذه الرسل والرسالت ‪ .‬واستحقت كل هذه العذابات واللم والتضحيات ‪.‬‬

‫والن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ; ودللته على الخط الحركي للعقيدة السلمية في تاريخ‬
‫البشرية‪:‬‬

‫لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن السلم كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم‬

‫عليه السلم أبي البشر الول ‪ ,‬ثم على يدي نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬أبي البشر الثاني ‪ . .‬ثم بعد ذلك على يدي‬
‫كل رسول ‪ . .‬وأن السلم يعني توحيد اللوهية من ناحية العتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر ‪,‬‬
‫وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والتباع والطاعة والخضوع‪:‬أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجه‬
‫والتشريع ‪.‬‬

‫ثم بينا كذلك أن الجاهلية ‪ -‬سواء كانت جاهلية العتقاد والتصور والعبادة والشعائر ! أو جاهلية الدينونة‬
‫والتباع والطاعة والخضوع ‪ -‬أو هما معا ‪ -‬كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة السلم على أيدي الرسل‬
‫‪ -‬عليهم صلوات ال وسلمه ‪ -‬وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم ‪ ,‬كما تفسد حياتهم وأوضاعهم ; بالدينونة‬
‫لغير ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجرأو نجم أو كوكب ‪ ,‬أو روح أو أرواح‬
‫شتى ; أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر‪:‬كاهن أم ساحر أم حاكم ‪ . .‬فكلها سواء في دللتها على‬
‫النحراف عن التوحيد إلى الشرك ‪ ,‬والخروج من السلم إلى الجاهلية ‪.‬‬

‫ومن هذا التتابع التاريخي ‪ -‬الذي يقصه ال سبحانه في كتابه الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‬
‫‪ -‬يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن ; وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه ‪. .‬‬

‫خطأ المنهج لنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية ‪ ,‬ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات‬
‫ال وسلمه عليهم ‪ -‬وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات ل يرجعون إل لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي‬
‫يحوم عليها التاريخ ‪ -‬ذلك المولود الحدث الذي ل يعرف من تاريخ البشرية إل القليل ; ول يعرف هذا القليل‬
‫إل عن سبيل الظن والترجيح ! ‪ -‬وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالت رأسا‬
‫في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثل في الديانة المصرية القديمة ;‬
‫فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد ‪ -‬ولو على سبيل الحتمال ‪ -‬وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد‬
‫يوسف ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم ‪ -‬حكاية عن قوله لصاحبي السجن في‬
‫سورة يوسف ‪:-‬‬

‫(إني تركت ملة قوم ل يؤمنون بال ‪ ,‬وهم بالخرة هم كافرون ‪ .‬واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ‪,‬‬
‫ما كان لنا أن نشرك بال من شيء ‪ ,‬ذلك من فضل ال علينا وعلى الناس ‪ ,‬ولكن أكثر الناس ل يشكرون ‪ .‬يا‬
‫صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إل أسماء سميتموها أنتم‬
‫وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن الحكم إل ل ‪ ,‬أمر أل تعبدوا إل إياه ‪ ,‬ذلك الدين القيم ‪ ,‬ولكن أكثر‬
‫الناس ل يعلمون)‪ [ . . .‬يوسف‪] 40 - 37:‬‬

‫وهم إنما يفعلون ذلك ‪ ,‬لن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني ‪ ,‬بسبب ما ثار‬
‫بين الكنيسة الوروبية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ ‪ .‬فبدأ المنهج وفي عزم‬
‫أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها ‪ ,‬للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها ‪ .‬ومن أجل‬
‫هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء ‪ ,‬لنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة ‪ ,‬قبل البدء في البحث !‬

‫وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والقتصادية الغاشمة فإن المنهج‬
‫استمر في طريقه ‪ .‬لنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه ‪ ,‬والتقاليد التي تراكمت على هذا‬
‫الساس ‪ ,‬حتى صارت من أصول المنهج !‬

‫أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه ‪ .‬هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا‬
‫الطابع ‪. .‬‬

‫على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها ; فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات‬
‫اللهية كما يعرضها القرآن الكريم ‪ . .‬وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول ال‬
‫سبحانه في مسألة من المسائل ; فإنه ل يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه "مسلم" أن يأخذ بتلك النتائج ‪.‬‬
‫ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة السلم والجاهلية ‪ ,‬وسبق السلم للجاهلية في التاريخ البشري ‪ ,‬وسبق‬
‫التوحيد للتعدد والتثنية ‪ . .‬قاطعة ‪ ,‬وغير قابلة للتأويل ‪ .‬فهي مما يقال عنه‪:‬إنه معلوم من الدين بالضرورة ‪.‬‬
‫وعلى من يأخذ بنتائج علم الديان المقارنة في هذا المر ‪ ,‬أن يختار بين قول ال سبحانه وقول علماء الديان‬
‫‪ .‬أو بتعبير آخر‪:‬أن يختار بين السلم وغير السلم ! لن قول ال في هذه القضية منطوق وصريح ‪ ,‬وليس‬
‫ضمنيا ول مفهوما !‬

‫وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الخير ‪ . .‬إنما نستهدف هنا رؤية الخط‬
‫الحركي للعقيدة السلمية في التاريخ البشري ; والسلم والجاهلية يتعاوران البشرية ; والشيطان يستغل‬
‫الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والتجاه ‪ ,‬ويجتال الناس عن السلم بعد أن‬
‫يعرفوه ‪ ,‬إلى الجاهلية ; فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث ال للناس رسول يردهم إلى السلم ‪ .‬ويخرجهم‬
‫من الجاهلية ‪ .‬وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير ال سبحانه من الرباب المتفرقة ‪ . .‬وأول ما يردهم‬
‫إليه هو الدينونة ل وحده في أمرهم كله ‪ ,‬ل في الشعائر التعبدية وحدها ‪ ,‬ول في العتقاد القلبي وحده ‪.‬‬

‫إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم ‪ ,‬وفي تحديد طبيعة الدعوة السلمية كذلك ‪. .‬‬

‫إن البشرية اليوم ‪ -‬بجملتها ‪ -‬تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول ‪ -‬محمد [ ص‬
‫] ‪ -‬وهي جاهلية تتمثل في صور شتى‪:‬‬

‫بعضها يتمثل في إلحاد بال سبحانه ‪ ,‬وإنكار لوجوده ‪ . .‬فهي جاهلية اعتقاد وتصور ‪ ,‬كجاهلية الشيوعيين ‪.‬‬

‫وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود ال سبحانه ‪ ,‬وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والتباع‬
‫والطاعة ‪ ,‬كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم ‪ . .‬وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك ‪.‬‬

‫وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود ال سبحانه ‪ ,‬وأداء للشعائر التعبدية ‪ .‬مع انحراف خطير في‬
‫تصور دللة شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ .‬ومع شرك كامل في الدينونة والتباع والطاعة ‪.‬‬
‫وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم "مسلمين" ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة السلم وحقوقه ‪ -‬بمجرد‬
‫نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية ; مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ; ومع استسلمهم ودينونتهم لغير‬
‫ال من العبيد !‬

‫وكلها جاهلية ‪ .‬وكلها كفر بال كالولين ‪ .‬أو شرك بال كالخرين ‪. .‬‬

‫إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح ; تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية‬
‫شاملة ‪ ,‬وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها السلم مرات متعددة ‪ ,‬كان آخرها السلمالذي‬
‫جاء به محمد [ ص ] ‪ . .‬وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الساسي لطلئع البعث السلمي ‪ ,‬والمهمة الساسية‬
‫التي عليها أن تقوم بها للبشرية ; ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة ‪.‬‬

‫إن على هذه الطلئع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في السلم كرة أخرى ‪ ,‬والخروج من‬
‫هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها ‪ .‬على أن تحدد للبشرية مدلول السلم الساسي‪:‬وهو العتقاد بألوهية ال‬
‫وحده ‪ ,‬وتقديم الشعائر التعبدية ل وحده والدينونة والتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها ل وحده ‪.‬‬
‫‪ .‬وأنه بغير هذه المدلولت كلها ل يتم الدخول في السلم ; ول تحتسب للناس صفة المسلمين ; ول تكون لهم‬
‫تلك الحقوق التي يرتبها السلم لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك ‪ .‬وأن تخلف أحد هذه المدلولت كتخلفها جميعا‬
‫‪ ,‬يخرج الناس من السلم إلى الجاهلية ‪ ,‬ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا ‪. .‬‬
‫إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب السلم ‪ .‬فيجب أن تواجهها دورة من دورات السلم الذي‬
‫يواجه الجاهلية ‪ ,‬ليرد الناس إلى ال مرة أخرى ‪ ,‬ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده ‪. .‬‬

‫ول بد أن يصل المر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة‬
‫الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية ‪ . .‬فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلئع‬
‫البعث السلمي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية ; وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي ‪-‬‬
‫وهي تحسبه مجتمعا مسلما ‪ -‬وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية ‪ ,‬بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية‬
‫فعل ‪ ,‬ل من حيث تزعم ! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع ‪ . .‬بعيدة جدا ‪. .‬‬

‫ونقف الوقفة الخيرة في هذا التعقيب الخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم ‪.‬‬
‫واختلف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية ; كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة‪:‬‬

‫لقد أرسل كل رسول إلى قومه ‪ .‬وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلء ‪ .‬يدعوهم إلى السلم‬
‫دعوة الخ لخوته ; ويريد لهم ما يريد الخ لخوته من الخير الذي هداه ال إليه ; والذي يجد في نفسه بينة‬
‫من ربه عليه ‪.‬‬

‫هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء ‪ . .‬ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام !‬

‫لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم ‪ . .‬عبدوا ال وحده كما طلب إليهم ‪ ,‬وخلعوا‬
‫مكن أعناقهم ربقة الدينونة لي من خلقه ‪ . .‬وبذلك صاروا مسلمين ‪ . .‬صاروا "أمة مسلمة " ‪ . .‬ولم تستجب‬
‫للرسول طائفة أخرى من قومه ‪ .‬كفروا بما جاءهم به ; وظلوا في دينونتهم لغير ال من خلقه ; وبقوا في‬
‫جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى السلم ‪ . .‬ولذلك صاروا "أمة مشركة " ‪. .‬‬

‫لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين‪:‬أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد‬
‫أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة ‪ .‬مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والرومة ‪ .‬إل أن آصرة الجنس‬
‫والرومة ‪ ,‬وآصرة الرض والمصالح المشتركة ‪ . .‬لم تعد هي التي تحكم العلقات بينهم كما كانوا قبل‬
‫الرسالة ‪ . .‬لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه ‪ . .‬تلك هي آصرة العقيدة‬
‫والمنهج والدينونة ‪ . .‬وقد فرقت هذه الصرة بين القوم الواحد ‪ ,‬فجعلته أمتين مختلفتين ل تلتقيان ‪ ,‬ول‬
‫تتعايشان !‬

‫ذلك أنه بعد برزو هذه المفارقة بين عقيدة كل من المتين ; فاصل الرسول والمة المسلمة التي معه‬
‫قومهمعلى أساس العقيدة والمنهج والدينونة ‪ .‬فاصلوا المة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي‬
‫أمتهم وهي أصلهم ‪ . .‬لقد افترق المنهجان ‪ ,‬فاختلفت الجنسيتان ‪ .‬وأصبحت المتان الناشئتان من القوم الواحد‬
‫ل تلتقيان ول تتعايشان !‬
‫وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل ال بينهما ; فأهلك المة المشركة ‪ ,‬ونجى‬
‫المة المسلمة ‪ . .‬واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة ‪. .‬‬

‫والمر الذي ينبغي لطلئع البعث السلمي في كل مكان أن تكون على يقين منه‪:‬أن ال سبحانه لم يفصل بين‬
‫المسلمين وأعدائهم من قومهم ‪ ,‬إل بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم ; وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من‬
‫الشرك ; وعالنوهم بأنهم يدينون ل وحده ‪ ,‬ول يدينون لربابهم الزائفة ; ول يتبعون الطواغيت المتسلطة ; ول‬
‫يشاركون في الحياة ول في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها ال ‪ .‬سواء تعلقت‬
‫بالعتقاد ‪ ,‬أو بالشعائر ‪ ,‬أو بالشرائع ‪.‬‬

‫إن يد ال سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين ‪ ,‬إل بعد أن فاصلهم المسلمون ‪ . .‬وما دام ‪ ,‬المسلمون لم‬
‫يفاصلوا قومهم ‪ ,‬ولم يتبرأوا منهم ‪ ,‬ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم ‪ ,‬ومنهجهم عن منهجهم ‪ ,‬وطريقهم‬
‫عن طريقهم ‪ ,‬لم تتدخل يد ال سبحانه للفصل بينهم وبينهم ‪ ,‬ولتحقيق وعدال بنصر المؤمنين والتدمير على‬
‫الظالمين ‪. .‬‬

‫وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلئع البعث السلمي أن تدركها ; وأن ترتب حركتها على أساسها‪:‬‬

‫إن الخطوة الولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في السلم ; والدينونة ل وحده بل شريك ; ونبذ الدينونة لحد‬
‫من خلقه ‪ -‬في صورة من صور الدينونة ‪ -‬ثم ينقسم القوم الواحد قسمين ‪ ,‬ويقف المؤمنون الموحدون الذين‬
‫يدينون ل وحده صفا ‪ -‬أو أمة ‪ -‬ويقف المشركون الذين يدينون لحد من خلق ال صفا آخر ‪ . .‬ثم يفاصل‬
‫المؤمنون المشركين ‪ . .‬ثم يحق وعد ال بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين ‪ . .‬كما وقع باطراد على‬
‫مدار التاريخ البشري ‪.‬‬

‫ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية ‪ .‬ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة‬
‫الولى ‪.‬‬

‫ولقد يبطيء الفصل بين المتين الناشئتين من القوم الواحد ; وتكثر التضحيات والعذابات واللم على جيل من‬
‫أجيال الدعاة أو أكثر ‪ . .‬ولكن وعد ال بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع‬
‫الظاهر في جيل أو أجيال ‪ .‬فهو ل شك آت ‪ .‬ولن يخلف ال وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ‬
‫البشري ‪.‬‬

‫ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة السلمية في مواجهة الجاهلية‬
‫البشرية الشاملة ‪ .‬فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ول مكان ‪ . .‬وما دامت طلئع البعث السلمي تواجه‬
‫البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة ; وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل ‪ -‬عليهم‬
‫صلوات ال وسلمه ‪ -‬يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية ‪ .‬فإن للعصبة المسلمة أن‬
‫تمضي في طريقها ‪ ,‬مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام ‪ ,‬وما بينهما من فترة الدعوة كذلك ‪ .‬مستيقنة أن سنة‬
‫ال جارية مجراها ‪ ,‬وأن العاقبة للتقوى ‪.‬‬

‫وأخيرا ‪ ,‬فإنه من خلل هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين ‪,‬‬
‫كما يتمثل في القرآن الكريم ‪ . .‬إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية ‪. .‬‬

‫لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول ال [ ص ] في مكة ‪ .‬والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ‪,‬‬
‫والدعوة السلمية مجمدة فيها ‪ ,‬والطريق شاق طويل ل يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص‬
‫يكشف لهم عن نهاية الطريق ; ويريهم معالمه في مراحله جميعا ; ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا‬
‫الطريق ; وقد بات لحبا موصول بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري ; وبات بهذا الركب الكريم‬
‫مأنوسا مألوفا ل موحشا ول مخوفا ! ‪ . .‬إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف ; وليسوا‬
‫مجموعة شاردة في تيه مقطوع ! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ; ول‬
‫يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة !‬

‫هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ; ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة ‪ . .‬وهكذا يمكن اليوم‬
‫وغدا أن يتحرك القرآن في طلئع البعث السلمي ‪ ,‬ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم ‪. .‬‬

‫إن هذه الطلئع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه ‪ .‬تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها‬
‫; وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات ; وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق‬
‫‪.‬‬

‫والقرآن ‪ -‬بهذه الصورة ‪ -‬ل يعود مجرد كلم يتلى للبركة ‪ .‬ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة‬
‫المسلمة المتحركة ‪ ,‬لتتحرك به ‪ ,‬وتتابع توجيهاته ‪ ,‬وتتوقع موعود ال فيه ‪.‬‬

‫وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن ل يتفتح عن أسراره إل للعصبة المسلمة التي تتحرك به ‪ ,‬لتحقيق مدلوله في‬
‫عالم الواقع ‪ .‬ل لمن يقرأونه لمجرد التبرك ! ول لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية ‪ ,‬ول لمن‬
‫يدرسونه لمجرد تتبع الداء البياني فيه !‬

‫إن هؤلء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر ‪ .‬فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا‬
‫النحو ; إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه ‪.‬‬

‫إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالسلم الحنيف ; والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى السلم من‬
‫جديد ; والذين يكافحون الطاغوت في الرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية ل وحده ‪. .‬‬
‫إن هؤلء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن ; لنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه‪:‬ويحاولون المحاولة‬
‫التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ; ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لنهم‬
‫يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع ‪ . .‬وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلم ‪.‬‬
‫أأقول‪:‬جزاء ?! كل ‪ .‬وال ‪ .‬إنه لفضل من ال كبير ‪(. .‬قل‪:‬بفضل ال وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما‬
‫يجمعون)‪. .‬‬

‫والحمد ل العظيم رب الفضل العظيم ‪. .‬‬

‫يوسف‬

‫التعريف بسورة يوسف‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫هذه السورة مكية ‪ ,‬نزلت بعد سورة هود ‪ ,‬في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة يونس وفي‬
‫تقديم سورة هود ‪ . .‬بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول ال [ ص ] وبين بيعة العقبة‬
‫الولى ثم الثانية التي جعل ال فيهما لرسول ال [ ص ] وللعصبة المسلمة معه وللدعوة السلمية فرجا‬
‫ومخرجا بالهجرة إلى المدينة ‪ . .‬وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في‬
‫تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول [ ص ] والعصبة المسلمة معه في مكة ‪. .‬‬

‫والسورة مكية بجملتها ‪ ,‬على خلف ما ورد في المصحف الميري من أن اليات [ ‪ ] 7 , 3 , 2 , 1‬منها‬
‫مدنية ‪ .‬ذلك أن اليات الثلث الولى هذا نصها‪:‬‬

‫(الر تلك آيات الكتاب المبين ‪ .‬إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ‪ .‬نحن نقص عليك أحسن القصص بما‬
‫أوحينا إليك هذا القرآن ‪ ,‬وإن كنت من قبله لمن الغافلين)‪. .‬‬

‫وهذه اليات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلم ‪ . .‬ونص الية‬
‫التالية في السياق هو‪:‬‬

‫(إذ قال يوسف لبيه‪:‬يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ‪ .‬رأيتهم لي ساجدين ‪.). . .‬‬

‫ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية ‪.‬‬

‫فالتقديم لهذه القصة بقول ال تعالى‪(:‬نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من‬
‫قبله لمن الغافلين)يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة ‪. .‬‬
‫وكذلك هذه الحرف المقطعة [ الر ] وتقرير أنها آيات الكتاب المبين ‪ .‬ثم تقرير أن ال أنزل هذا الكتاب قرآنا‬
‫عربيا ‪ . .‬هو كذلك من جو القرآن المكي ‪ ,‬ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن‬
‫أعجميا يعلمه لرسول ال [ ص ] ! وتقرير أنه وحي من ال كان النبي [ ص ] من الغافلين عن اتجاهه‬
‫وموضوعاته ‪.‬‬

‫ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ‪ ,‬وهو قول ال تعالى‪:‬‬

‫ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ‪ ,‬وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ‪. .‬‬

You might also like