Professional Documents
Culture Documents
سورة هود
خبِيرٍ (َ )1ألّ َت ْعبُدُو ْا ِإلّ الّل َه ِإ ّننِي َلكُم ّمنْهُ َنذِيرٌ َو َبشِيرٌ ()2
حكِيمٍ َ
ح ِكمَتْ آيَاتُ ُه ُثمّ ُفصّلَتْ مِن ّلدُنْ َ
الَر ِكتَابٌ ُأ ْ
والية 114واردة في سياق تسرية عن الرسول [ ص ] بما كان من الختلف على موسى من قبل .
وتوجيهه للستقامة كما أمر هو ومن تاب معه ,وعدم الركون إلى الذين ظلموا [ أي أشركوا ] والستعانة
بالصلة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة . .وتتوارد اليات هكذا :ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف
فيه ,ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ,وإنهم لفي شك منه مريب [ ] 110وإن كل لما ليوفينهم ربك
أعمالهم ,إنه بما يعملون خبير [ ] 111فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ول تطغوا ,إنه بما تعملون بصير [
] 112ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ,وما لكم من دون ال من أولياء ,ثم ل تنصرون [ ] 113
وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ,إن الحسنات يذهبن السيئات ,ذلك ذكرى للذاكرين [ ] 114
واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين [ . . ] 115وواضح أن الية قطعة من السياق المكي ,موضوعا
وجوا وعبارة . .
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس .ونزلت يونس بعد السراء .وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها ;
وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة .فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة ; وجرأة
المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب -وخاصة بعد حادث السراء وغرابته ,
واستهزاء المشركين به ,وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله -مع وحشة رسول ال [ ص ] من خديجة -
رضي ال عنها -في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ; وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى
دعوته أقسى وأقصى مداها ; وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في السلم أحد من مكة وما حولها .
.وذلك قبيل أن يفتح ال على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الولى ثم الثانية . .
قال ابن إسحاق:ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ,فتتابعت على رسول ال [ ص ]
المصائب بهلك خديجة -وكانت له وزير صدق على السلم يشكو إليها -وبهلك عمه أبي طالب -وكان له
عضدا وحرزا في أمره ,ومنعة وناصرا على قومه -وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلث سنين .فلما هلك
أبو طالب نالت قريش من رسول ال [ ص ] من الذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ,حتى
اعترضه سفيه من سفهاء قريش ,فنثر على رأسه ترابا .
قال ابن إسحاق:فحدثني هشام بن عروة ,عن أبيه عروة بن الزبير ,قال:لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول
ال [ ص ] ذلك التراب ,دخل رسول ال [ ص ] بيته والتراب على رأسه ,فقامت إليه إحدى بناته ,فجعلت
تغسل عنه التراب وهي تبكي .ورسول ال [ ص ] يقول لها ":لتبكي يا بنية ,فإن ال مانع أباك " قال:ويقول
بين ذلك ":ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " .
وقال المقريزي في إمتاع السماع:فعظمت المصيبة على رسول ال [ ص ] بموتهما وسماه "عام الحزن"
وقال ":ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ول
ذابا عنه غيره .
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها ,وقبلهما سورة السراء وسورة الفرقان وكلها تحملطابع هذه
الفترة ; وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .
وآثار هذه الفترة وجوها وظللها واضحة في جو السورة وظللها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت
رسول ال [ ص ] والذين معه على الحق ; والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في
المجتمع الجاهلي .
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها:
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة السلمية في التاريخ البشري كله ,من لدن نوح -عليه السلم -
إلى عهد محمد -عليه الصلة والسلم -وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة:هي الدينونة ل وحده
بل شريك ,والعبودية له وحده بل منازع ; والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل ال وحدهم على مدار
التاريخ .مع العتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلء ل دار جزاء ; وأن الجزاء إنما يكون في الخرة ;
وأن حرية الختيار التي أعطاها ال للنسان ليختار الهدى أو الضلل هي مناط هذا البتلء .
ولقد جاء محمد عليه الصلة والسلم ومعه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) . .أما مضمون
هذا الكتاب الساسي فهو(:أل تعبدوا إل ال ,إنني لكم منه نذير وبشير .وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه
يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ,ويؤت كل ذي فضل فضله ,وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم
كبير .إلى ال مرجعكم وهو على كل شيء قدير). . .
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ول قول غير مسبوق . .لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى
وغيرهم(:ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ,إني لكم نذير مبين .أن ل تعبدوا إل ال ,إني أخاف عليكم عذاب يوم
أليم)( . .وإلى عاد أخاهم هودا قال:يا قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره إن أنتم إل مفترون .يا قوم ل أسألكم
عليه أجرا إن أجري إل على الذي فطرني ,أفل تعقلون ? ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يرسل
السماء عليكم مدرارا ,ويزدكم قوة إلى قوتكم . .ول تتولوا مجرمين)( . .وإلى ثمود أخاهم صالحا ,قال:يا
قوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره ,هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها ,فاستغفروه ثم توبوا إليه ,إن
ربي قريب مجيب)( . .وإلى مدين أخاهم شعيبا قال .يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ,ول تنقصوا
المكيال والميزان ,إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط .ويا قوم أوفوا المكيال والميزان
بالقسط ,ول تبخسوا الناس أشياءهم ول تعثوا في الرض مفسدين .بقية ال خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا
عليكم بحفيظ). .
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة . .
ومن ذلك عرض مواقف الرسل -صلوات ال وسلمه عليهم -وهم يتلقون العراض والتكذيب ,والسخرية
والستهزاء ,والتهديد واليذاء ,بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ,وفي نصر ال الذي ل شك آت ;
ثم تصديق العواقب في الدنيا -وفي الخرة كذلك -لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ,بالتدمير على
المكذبين ,وبالنجاة للمؤمنين:
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد( :فقال المل الذين كفروا من قومه:ما نراك إل بشرا مثلنا ,وما نراك)(اتبعك
إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي ,وما نرى لكم علينا من فضل ,بل نظنكم كاذبين . .قال:يا قوم أرأيتم إن
كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ,أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? ويا قوم ل
أسألكم عليه مال ,إن أجري إل على ال ,وما أنا بطارد الذين آمنوا ,إنهم ملقو ربهم .ولكني أراكم قوما
تجهلون .ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم ? أفل تذكرون ? ول أقول لكم عندي خزائن ال ,ول
أعلم الغيب ,ول أقول:إني ملك ,ول أقول للذين تزدري أعينكم:لن يؤتيهم ال خيرا ,ال أعلم بما في أنفسهم
,إني إذن لمن الظالمين .قالوا:يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ,فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .
قال:إنما يأتيكم به ال -إن شاء -وما أنتم بمعجزين) . .ثم يجيء مشهد الطوفان وهلك المكذبين ونجاة
المؤمنين .
وفي قصة هود نجد هذا المشهد(:قالوا:يا هود ما جئتنا ببينة ,وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ,وما نحن لك
بمؤمنين .إن نقول:إل اعتراك بعض آلهتنا بسوء . .قال:إني أشهد ال ,واشهدوا أني بريء مما تشركون
من دونه ,فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون .إني توكلت على ال ربي وربكم ,ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها
,إن ربي على صراط مستقيم ,فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ,ويستخلف ربي قوما غيركم ,ول
تضرونه شيئا ,إن ربي على كل شيء حفيظ) . .ثم تجيء العاقبة(:ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا
معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ .وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ,واتبعوا أمر كل
جبار عنيد .وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ,أل إن عادا كفروا ربهم ,أل بعدا لعاد قوم هود !).
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد(:قالوا:يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ,أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ?
وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب .قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ,فمن
ينصرني من ال إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير) . .ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب :فلما
جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ,إن ربك هو القوي العزيز ,وأخذ
الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين .كأن لم يغنوا فيها ,أل إن ثمود كفروا ربهم ,أل بعدا
لثمود ! . .
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد :قالوا:يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في
أموالنا ما نشاء ? إنك لنت الحليم الرشيد ! قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا
حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ,إن أريد إل الصلح ما استطعت ,وما توفيقي إل بال ,
عليه توكلت وإليه أنيب .ويا قوم ل يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم
صالح ,وما قوم لوط منكم ببعيد .واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,إن ربي رحيم ودود .قالوا:يا شعيب ما
نفقه كثيرا مما تقول ,وإنا لنراك فينا ضعيفا ,ولول رهطك لرجمناك ,وما أنت علينا بعزيز .قال:يا قوم
أرهطي أعز عليكم من ال واتخذتموه وراءكم ظهريا ? إن ربي بما تعملون محيط .ويا قوم اعملوا على
مكانتكم إني عامل ,سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ,وارتقبوا إني معكم رقيب . .ثم
تجيء الخاتمة(:ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ,وأخذت الذين ظلموا الصيحة ,
فأصبحوا في ديارهم جاثمين .كأن لم يغنوا فيها ,أل بعدا لمدين كما بعدت ثمود !). .
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول ال [ ص ] إلى دللته:والتسريةعنه بما أصاب إخوانه
الكرام قبله ; وبما أولهم ال من رعايته ونصره ; وتوجيهه [ ص ] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل
الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به . .وذلك إلى التنويه بدللة هذا القصص ذاته على صدق
دعواه في الوحي والرسالة .
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب(:تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ,ما كنت تعلمها أنت ول قومك من
قبل هذا ,فاصبر ,إن العاقبة للمتقين).
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة(:ذلك من أنباء القرى نقصه
عليك منها قائم وحصيد .وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ,فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال
من شيء لما جاء أمر ربك ,وما زادوهم غير تتبيب .وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ,إن أخذه
أليم شديد)( . . .ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ; ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ,وإنهم لفي
شك منه مريب .وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم ,إنه بما يعملون خبير .فاستقم كما أمرت ومن تاب معك
,ول تطغوا ,إنه بما تعملون بصير .ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ,وما لكم من دون ال من
أولياء ,ثم ل تنصرون .وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ,إن الحسنات يذهبن السيئات ,ذلك ذكرى
للذاكرين .واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين)(. . .وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك
,وجاءك في هذه الحق ,وموعظة وذكرى للمؤمنين .وقل للذين ل يؤمنون:اعملوا على مكانتكم إنا عاملون .
وانتظروا إنا منتظرون .ول غيب السماوات والرض ,وإليه يرجع المر كله ,فاعبده ,وتوكل عليه ,وما
ربك بغافل عما تعملون). .
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني ? وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في
كل مرحلة بالتوجيه المكافيء للموقف ; وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع
الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ,شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ; ونجده في الوقت
ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها ,متوافيا مع أهدافها ,مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من
توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية .
"ولقد كان آخر عهدنا -في هذه الظلل -بالقرآن المكي سورة النعام وسورة العراف متواليتين في ترتيب
المصحف -وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول -ثم جاءت النفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما
وموضوعاتهما المدنية الخاصة -فالن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في
ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . .والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ,
في الموضوع ,وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة النعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه
الجاهلية بها ; وتفند هذه الجاهلية ,عقيدة وشعورا ,وعبادة وعمل .بينما سورة العراف تتناول حركة هذه
العقيدة في الرض ,وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ .وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس
وهود . .في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . .إل أن سورة النعام تنفرد عن سورة
يونس بارتفاع وضخامة في اليقاع ,وسرعة وقوة في النبض ,وللء شديد في التصوير والحركة . .بينما
تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي ,ونبض هادئ ,وسلسة وديعة ! . .فأما هود فهي شديدة الشبه بالعراف
موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . .ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ,وملمحها المميزة ,بعد كل هذا
التشابه والختلف" . .
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل . .إشارة إلى قصة نوح ,وإشارة إلى الرسل من
بعده ,وشيء من التفصيل في قصة موسى ,وإشارة مجملة إلى قصة يونس . .ولكن القصص إنما يجيء في
السورة شاهدا ومثال لتصديق الحقائق العتقاديه التي تستهدفها السورة .
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة .وهو إن جاء شاهدا ومثال لتصديق الحقائق العتقاديه التي
تستهدفها ; إل أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز
.
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلثة قطاعات متميزة:
القطاع الول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا .
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة .
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود . .
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق العتقادية الساسية التي يستهدفها
سياق السورة كله ; وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق .وهي
تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه
أن ما جاء به النبي [ ص ] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من ال -سبحانه -وهي تقوم
على الدينونة ل وحده بل شريك .والتلقي في هذه الدينونة عن رسل ال وحدهم كذلك .والمفاصلة بين الناس
على أساس هذه الحقيقة:
ففي مقدمة السورة تجيء هذه اليات عن حقيقة دعوة رسول ال [ -ص ]:
ألر .كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .أل تعبدوا إل ال ,إنني لكم منه نذير وبشير (. .أم
يقولون:افتراه ? قل:فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين .فإن لم
يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم ال ,وأن ل إله إل هو ,فهل أنتم مسلمون ?).
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم ; وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ,إني لكم نذير مبين أل تعبدوا إل ال ,إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم .
(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ,أنلزمكموها وأنتم لها
كارهون ?). .
(ونادى نوح ربه فقال:رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين .قال:يا نوح)(إنه ليس
من أهلك ,إنه عمل غير صالح ,فل تسألن ما ليس لك به علم ,إني أعظك أن تكون من الجاهلين).
وإلى عاد أخاهم هودا قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إن أنتم إل مفترون . .
وإلى ثمود أخاهم صالحا ,قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ,هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها
فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب . .
قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ,فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما
تزيدونني غير تخسير . .
(وإلى مدين أخاهم شعيبا ,قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .). . .
(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا .). . .
وفي التعقيب ترد هذه اليات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها:
(ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ال من أولياء ,ثم ل تنصرون). .
(ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله ,فاعبده وتوكل عليه ,وما ربك بغافل عما تعملون).
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلثة على تقرير هذه الحقيقة .
ولكي يدين الناس ل وحده بالربوبية ,فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ,وتقرر كذلك أنهم في قبضته في
هذه الدنيا ; وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الخير . .وتتوافى مقاطع السورة الثلثة في
تقرير هذه الحقيقة كذلك .
أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ,أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ,إنه عليم بذات
الصدور .وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ,ويعلم مستقرها ومستودعها ,كل في كتاب مبين ,
وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ,وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عمل ,ولئن
قلت:إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا:إن هذا إل سحر مبين .ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى
أمة معدودة ليقولن:ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ,وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . .
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون .أولئك الذين ليس لهم في
الخرة إل النار ,وحبط ما صنعوا فيها ,وباطل ما كانوا يعملون). .
وإلى ثمود أخاهم صالحا .قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .هو أنشأكم من الرض واستعمركم
فيها ,فاستغفروه ثم توبوا إليه ,إن ربي قريب مجيب . .
(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة .إن أخذه أليم شديد). .
(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون .ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ,ول يزالون
مختلفين .إل من رحم ربك ,ولذلك خلقهم ,وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين). .
وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلثة كذلك على التعريف بحقيقة اللوهية وحقيقة الخرة في سياقها .وهي ل
تستهدف إثبات وجود ال -سبحانه -إنما تستهدف تقرير ربوبية ال وحده في حياة البشر ,كما أنها مقررة
في نظام الكون . .فقضية اللوهية لم تكن محل خلف ; إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها
الرسالت ; وهي التي كانت تواجهها الرسالة الخيرة .إنها قضية الدينونة ل وحده بل شريك ; والخضوع ل
وحده بل منازع .ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره .كما هو واضح من هذه
المقتطفات من قطاعات السورة جميعا .
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق العتقادية في الضمائر ,وتثبيتها في النفوس ,وتعميقها في الكيان البشري ,
وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ,مكيفة للمشاعر والتصورات والعمال
والحركات . .في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى
المؤثرات الموحية واليقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ,وهو يعرض هذه
الحقائق ويفصلها . .
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب . .الترغيب في خير الدنيا والخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة ل
وحده بل شريك ,وما تحمله للبشرية من خير وصلح ونماء . .والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو
الخرة ; وبالعذاب في الدنيا أو في الخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي ,ويسلكون طريق الطواغيت حيث
يسلمونهم في الخرة إلى جهنم ,التي يقودون لها أتباعهم في الخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلء التباع
في الدنيا ; ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة ل تعالى .وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:
( . . .أل تعبدوا إل ال ,إنني لكم منه نذير وبشير ,وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى
أجل مسمى ,ويؤت كل ذي فضل فضله .وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير .إلى ال مرجعكم ,
وهو على كل شيء قدير). .
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ,وهم فيها ل يبخسون .أولئك الذين ليس لهم في
الخرة إل النار ,وحبط ما صنعوا فيها ,وباطل ما كانوا يعملون). .
أفمن كان على بينة من ربه ,ويتلوه شاهد منه ,ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ,
ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ,فل تك في مرية منه إنه الحق من ربك ,ولكن أكثر الناس ل
يؤمنون .ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ,ويقول الشهاد:هؤلء الذين
كذبوا على ربهم ,أل لعنة ال على الظالمين .الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ,وهم بالخرة هم
كافرون .أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ,وما كان لهم من دون ال من أولياء ,يضاعف لهم العذاب ,
ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون .أولئك الذين خسروا أنفسهم ,وضل عنهم ما كانوا يفترون .
ل جرم أنهم في الخرة هم الخسرون .إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى
ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون .مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ,هل يستويان
مثل ? أفل تذكرون ?).
(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ,ول تتولوا
مجرمين)(. . .فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ,ويستخلف ربي قوما غيركم ,ول تضرونه شيئا ,
إن ربي على كل شيء حفيظ). .
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين .إلى فرعون وملئه ,فاتبعوا أمر فرعون ,وما أمر فرعون برشيد .
يقدم قومه يوم القيامة ,فأوردهم النار ,وبئس الورد المورود .واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد
المرفود ! . . .
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار
التاريخ ; من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين -على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات -ويبرز مشهد
الطوفان بصفة خاصة ; ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن ,فل تبتئس بما كانوا يفعلون .واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا ,ول تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون .ويصنع الفلك وكلما مر عليه مل من قومه سخروا منه
,قال:إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون .فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ,ويحل عليه
عذاب مقيم .حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك -إل من سبق عليه
القول -ومن آمن ,وما آمن معه إل قليل .وقال:اركبوا فيها باسم ال مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم
.وهي تجري بهم في موج كالجبال ,ونادى نوح ابنه -وكان في معزل -يا بني اركب معنا ول تكن مع
الكافرين .قال:سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ! قال:ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ,وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين .وقيل:يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ,وقضي المر
واستوت على الجودي ,وقيل:بعدا للقوم الظالمين . . .الخ . . .الخ . . .الخ . . .
ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الحداث الجارية بالنعماء والبأساء ; فيرفع للمكذبين
المستعجلين بالعذاب ,المتحدين للنذر في استهتار . .يرفع لهم صورأنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به
حين يحل بهم ; وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الحداث بهم ; وفوت النعمة وإفلتها من أيديهم
; وفي البطر والغرور والنخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن:ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم .وحاق بهم
ما كانوا به يستهزئون .ولئن أذقنا النسان منا رحمة ,ثم نزعناها منه ,إنه ليئوس كفور .ولئن أذقناه نعماء
بعد ضراء مسته ليقولن:ذهب السيئات عني ,إنه لفرح فخور .إل الذين صبروا وعملوا الصالحات ,أولئك
لهم مغفرة وأجر كبير . . .
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة ; وصور المكذبين فيها ; ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن
رسله ; وما يجدونه يومئذ من خزي ; ل ينصرهم منه أرباب ول شفعاء:
ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ,ويقول الشهاد:هؤلء الذين كذبوا على
ربهم ! أل لعنة ال عى الظالمين ! الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ,وهم بالخرة هم كافرون
.أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ,وما كان لهم من دون ال من أولياء ,يضاعف لهم العذاب ,ما كانوا
يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ,أولئك الذين خسروا أنفسهم ,وضل عنهم ما كانوا يفترون .ل جرم
أنهم في الخرة هم الخسرون).
(إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة ,ذلك يوم مجموع له الناس ,وذلك يوم مشهود .وما نؤخره إل
لجل معدود .يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه ,فمنهم شقي وسعيد .فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير
وشهيق .خالدين فيها ما دامت السماوات والرض -إل ما شاء ربك -إن ربك فعال لما يريد .وأما الذين
سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والرض -إل ما شاء ربك -عطاء غير مجذوذ).
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور ال سبحانه واطلعه على ما يخفي
البشر من ذوات الصدور ; بينما هم غارون ل يستشعرون حضوره سبحانه ,ول علمه المحيط ; ول يحسون
قهره للخلئق وإحاطته بها جميعا ,وهم -الذين يكذبون -في قبضته كسائر الخلئق ; من حيث ل
يشعرون(:إلى ال مرجعكم ,وهو على كل شيء قدير .أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ! أل حين
يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ,إنه عليم بذات الصدور .وما من دابة في الرض إل على ال
رزقها ,ويعلم مستقرها ومستودعها ,كل في كتاب مبين). .
(إني توكلت على ال ربي وربكم ,ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ,إن ربي على صراط مستقيم).
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك ,استعراض موكب اليمان .بقيادة الرسل الكرام ,على مدار
الزمان .وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة ,في صراحة وفي صرامة ,
وفي ثقة وطمأنينة ويقين . .وقد مر جانب من هذا الستعراض في المقتطفات السابقة ,والبقية ستأتي في
موضعها في تفسير السورة .ومما ل شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام ,ووحدة الحقيقة التي يواجهون
بها الجاهلية على مدار الزمان ; ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة . .يحمل في طياته
ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء . .
وحسبنا في تقديم السورة هذه الشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة . .
مقدمة الوحدة
هذا الدرس الول من السورة يمثل المقدمة -التي يتوسط القصص بينها وبين التعقيب -وهي تتضمن عرض
الحقائق الساسية في العقيدة السلمية:توحيد الدينونة ل الواحد بل منازع ,وعبادة ال وحده بل شريك ;
والعتقاد في البعث والقيامة للحساب والجزاء على ما كان من الناس من عمل وكسب في دار العمل والبتلء
. .مع تعريف الناس بربهم الحق ; وصفاته المؤثرة في وجودهم وفي وجود الكون من حولهم ; وبيان حقيقة
اللوهية وحقيقة العبودية ,ومقتضاهما في حياة البشرية .وتوكيد الدينونة ل في الخرة كالدينونة له سبحانه
في الحياة الدنيا .
كذلك تتضمن هذه المقدمة بيانا لطبيعة الرسالة وطبيعة الرسول ; كما تتضمن تسلية وترويحا للرسول [ ص ]
في وجه العناد والتكذيب ,والتحدي والمكابرة ,التي كان رسول ال [ ص ] يواجهها في تلك الفترة العصيبة
في حياة الدعوة بمكة ,كما أسلفنا في التعريف بالسورة .مع تحديالمشركين بهذا القرآن الذي يكذبون به ,أن
يأتوا بعشر سور مثله مفتريات -كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى -وتثبيت الرسول [ ص ] المؤمنة معه
بهذا التحدي من ال وبذلك العجز من المشركين !
ومع هذا التحدي تهديد قاصم للمكذبين بما ينتظرهم في الخرة من العذاب الذي يستعجلون به ويكذبون .وهم
الذين ل يطيقون أن تنزع منهم رحمة ال في الدنيا ,ول يصبرون على ابتلئه فيها وهو أيسر من عذاب
الخرة !
ثم يجسم هذا التهديد في مشهد من مشاهد القيامة ; يتمثل فيه موقف المكذبين بهذا القرآن من أحزاب المشركين
; ويتبين فيه عجزهم وعجز أوليائهم عن إنقاذهم من العذاب الليم ,المصحوب بالخزي والتشهير والتنديد
والتأنيب .وفي الصفحة المقابلة من المشهد . .الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما ينتظرهم من الثواب
والنعيم والتكريم . .ومشهد مصور للفريقين -على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير (:-مثل
الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ,هل يستويان مثل ? أفل تذكرون ?). .
آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .أل تعبدوا إل ال ,إنني لكم منه نذير وبشير ,وأن
استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ,ويؤت كل ذي فضل فضله ,وإن تولوا
فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير .إلى ال مرجعكم .وهو على كل شيء قدير . .
جزاء ال في الدنيا والخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة .
ألف .لم .راء :مبتدأ ,خبره( :كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) . .وهذا الكتاب المؤلف
من مثل هذه الحرف هو الذي يكذبون به .وهم عن شيء من مثله عاجزون !
أما من أحكمها ,ومن فصلها على هذا النحو الدقيق ? فهو ال سبحانه ,وليس هو الرسول( :من لدن حكيم
خبير). .
يحكم الكتاب عن حكمة ,ويفصله عن خبرة . .هكذا جاءت من لدنه ,على النحو الذي أنزل على الرسول ,
ل تغيير فيها ول تبديل .
وماذا تضمنت ?
(أن ل تعبدوا إل ال) . .فهو توحيد الدينونة والعبودية والتباع والطاعة .
(إنني لكم منه نذير وبشير) . .فهي الرسالة ,وما تضمنته من نذارة وبشارة .
(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) . .فهي العودة إلى ال من الشرك والمعصية ,إلى التوحيد والدينونة .
(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) . .فهو الجزاء للتائبين المستغفرين .
(وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) . .فهو الوعيد للمتولين .
(وهو على كل شيء قدير) . .فهي المقدرة المطلقة والسلطان الشامل .
هذا هو الكتاب .أو هو آيات الكتاب .فهذه هي القضايا الهامة التي جاء ليقررها ويقيم عليها بناءه كله بعد
تقريرها .
وما كان لدين أن يقوم في الرض ,وأن يقيم نظاما للبشر ,قبل أن يقرر هذه القواعد .
فتوحيد الدينونة ل وحده هو مفرق الطريق بين الفوضى والنظام في عالم العقيدة ; وبين تحرير البشرية من
عقال الوهم والخرافة والسلطان الزائف ,أو استعبادها للرباب المتفرقة ونزواتهم ,وللوسطاء عند ال من
خلقه ! وللملوك والرؤساء والحكام الذين يغتصبون أخص خصائص اللوهية -وهي الربوبية والقوامة
والسلطان والحاكمية -فيعبدون الناس لربوبيتهم الزائفة المغتصبة .
وما من نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أو أخلقي أو دولي ,يمكن أن يقوم على أسس واضحة فاصلة
ثابتة ,ل تخضع للهوى والتأويلت المغرضة ,إل حين تستقر عقيدة التوحيد هكذا بسيطة دقيقة .
وما يمكن أن يتحرر البشر من الذل والخوف والقلق ; ويستمتعوا بالكرامة الحقيقة التي أكرمهم بها ال ,إل
حين يتفرد ال سبحانه بالربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية ,ويتجرد منها العبيد في كل صورة من الصور
.
وما كان الخلف على مدار التاريخ بين الجاهلية والسلم ; ول كانت المعركة بين الحق والطاغوت ,على
ألوهية ال -سبحانه -للكون ; وتصريف أموره في عالم السباب والنواميس الكونية:إنما كان الخلف
وكانت المعركة على من يكون هو رب الناس ,الذي يحكمهم بشرعه ,ويصرفهم بأمره ,ويدينهم بطاعته ?
لقد كان الطواغيت المجرمون في الرض يغتصبون هذا الحق ويزاولونه في حياة الناس ,ويذلونهم بهذا
الغتصاب لسلطان ال ,ويجعلونهم عبيدا لهم من دون ال .وكانت الرسالت والرسل والدعوات السلمية
تجاهد دائما لنتزاع هذا السلطان المغتصب من أيدي الطواغيت ورده إلى صاحبه الشرعي . .ال سبحانه .
.
وال -سبحانه -غني عن العالمين .ل ينقص في ملكه شيئا عصيان العصاة وطغيان الطغاة .وليزيد في
ملكه شيئا طاعة الطائعين وعبادة العابدين . .ولكن البشر -هم أنفسهم -الذين يذلون ويصغرون ويسفلون
حين يدينون لغير ال من عباده ; وهم الذين يعزون ويكرمون ويستعلون حين يدينون ل وحده ,ويتحررونمن
العبودية للعبيد . .ولما كان ال -سبحانه -يريد لعباده العزة والكرامة والستعلء فقد أرسل رسله ليردوا
الناس إلى عبادة ال وحده .وليخرجوهم من عبادة العبيد . .لخيرهم هم أنفسهم . .وال غني عن العالمين .
إن الحياة البشرية ل تبلغ مستوى الكرامة الذي يريده ال للنسان إل بأن يعزم البشر أن يدينوا ل وحده ,وأن
يخلعوا من رقابهم نير الدينونة لغير ال .ذلك النير المذل لكرامة النسان في أية صورة قد كان !
والدينونة ل وحده تتمثل في ربوبيته للناس وحده .والربوبية تعني القوامة على البشر ,وتصريف حياتهم
بشرع وأمر من عند ال ,ل من عند أحد سواه .
وهذا ما يقرر مطلع هذه السورة الكريمة أنه موضوع كتاب ال وفحواه:
(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير:أل تعبدوا إل ال). .
وهذا هو معنى العبادة كما يعرفه العرب في لغتهم التي نزل بها كتاب ال الكريم .
والقرار بالرسالة أساس للتصديق بهذه القضايا التي جاءت الرسالة لتقريرها وكل شك في أن هذا من عند ال
,كفيل بتحطيم احترامها الملزم في عالم الضمير .والذين يظنون أنها من عند محمد -مهما أقروا بعظمة
محمد -ل يمكن أن تنال من نفوسهم الحترام الملزم ,الذي يتحرجون معه أن يتفلتوا منها في الكبير أو
الصغير . .إن الشعور بأن هذه العقيدة من عند ال هو الذي يطارد ضمائر العصاة حتى يثوبوا في النهاية إلى
ال ,وهو الذي يمسك بضمائر الطائعين ,فل تتلجلج ول تتردد ول تحيد .
كما إن القرار بالرسالة هو الذي يجعل هناك ضابطا لما يريده ال من البشر .كي يتلقى البشر في كل ما
يتعلق بالدينونة ل من مصدر واحد ,هو هذا المصدر .وكي ل يقوم كل يوم طاغوت مفتر يقول للناس قول ,
ويشرع للناس شرعا ,ثم يزعم أنه شرع ال وأمره ! بينما هو يفتريه من عند نفسه !
وفي كل جاهلية كان يقوم من يشرع الشرائع ,ومن يقرر القيم والتقاليد والعادات . .ثم يقول:هذا من عند
ال !!!
وما يحسم هذه الفوضى وهذا الحتيال على الناس باسم ال ,إل أن يكون هناك مصدر واحد -هو الرسول -
لقول ال .
والستغفار من الشرك والمعصية هو دليل حساسية القلب وانتفاضه ,وشعوره بالثم ورغبته في التوبة .
والتوبة بعد ذلك هي القلع الفعلي عن الذنب ,والخذ في مقابله في أعمال الطاعة .ول توبة بغير هذين
الدليلين ,فهما الترجمة العملية للتوبة ,وبهما يتحقق وجودها الفعلي ,الذي ترجى معه المغفرة والقبول . .
فإذا زعم زاعم أنه تاب من الشرك ودخل في السلم ,بينما هو ل يدين ل وحده ,ول يتلقى منه وحده عن
طريق نبيه ; فل قيمة لهذا الزعم الذي يكذبه واقع الدينونة لغير ال . .
والبشرى للتائبين والوعيد للمتولين هما قوام الرسالة ,وقوام التبليغ .وهما عنصرا الترغيب والترهيب ,
اللذان علم ال من طبيعة البشر أنهما الحافز القوي العميق !
والعتقاد باليوم الخر ضروري لكتمال الشعور بأن وراء الحياة حكمة ,وأن الخير الذي تدعو إليه
الرسالت هو غاية الحياة ; ومن ثم ل بد أن يلقى جزاءه ; فإن لم يلقه في هذه الحياة الدنيا فجزاؤه مضمون
في العالم الخر ,الذي تصل فيه الحياة البشرية إلى الكمال المقدر لها .أما الذين يزيغون عن نهج ال
وحكمته في الحياة فهؤلء يرتكسون وينتكسون إلى درك العذاب . .وفي هذا ضمان للفطرة السليمة أل
تنحرف .فإنغلبتها شهوة أو استبد بها ضعف عادت تائبة ,ولم تلج في العصيان .ومن ثم تصلح هذه الرض
لحياة البشر .وتمضي الحياة على سنتها في طريق الخير .فالعتقاد باليوم الخر ليس طريقا للثواب في
الخرة فحسب -كما يعتقد بعض الناس -إنما هو الحافز على الخير في الحياة الدنيا .والحافز على
إصلحها وإنمائها .على أن يراعى في هذا النماء أنه ليس هدفا في ذاته ,إنما هو وسيلة لتحقيق حياة لئقة
بالنسان الذي نفخ ال فيه من روحه ,وكرمه على كثير من خلقه ,ورفعه عن درك الحيوان ; لتكون أهداف
حياته أعلى من ضرورات الحيوان ; ولتكون دوافعه وغاياته أرفع من دوافع الحيوان وغاياته .
ومن ثم كان مضمون الرسالة أو مضمون آيات الكتاب المحكمة المفصلة ,بعد توحيد الدينونة ل ,وإثبات
الرسالة من عنده . .الدعوة إلى الستغفار من الشرك والتوبة . .وهما بدء الطريق للعمل الصالح .والعمل
الصالح ليس مجرد طيبة في النفس وشعائر مفروضة تقام .إنما هو الصلح في الرض بكل معاني
الصلح ,من بناء وعمارة ونشاط ونماء وإنتاج .والجزاء المشروط:
(يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ,ويؤت كل ذي فضل فضله). .
والمتاع الحسن قد يكون بالنوع كما يكون بالكم في هذه الحياة الدنيا .أما في الخرة فهو بالنوع والكم وبما لم
يخطر على قلب بشر .فلننظر في المتاع الحسن في هذه الحياة .
إننا نشاهد كثيرا من الطيبين الصالحين ,المستغفرين التائبين ,العاملين في الحياة . .وضيقا عليهم في الرزق
.فأين إذن هو المتاع الحسن ?
ول بد لدراك المعنى الكبير الذي يتضمنه النص القرآني أن ننظر إلى الحياة من زاوية أوسع ,وننظر إليها
في محيطها الشامل العام ,ول نقتصر منها على مظهر عابر .
إنه ما من جماعة يسود فيها نظام صالح ,قائم على اليمان بال ,والدينونة له وحده ,وإفراده بالربوبية
والقوامة ,وقائم على العمل الطيب المنتج في الحياة . .إل كان لها التقدم والرخاء والحياة الطيبة بصفة عامة
كجماعة ; وإل ساد فيها العدل بين الجهد والجزاء والرضى والطمأنينة بالقياس إلى الفراد بصفة خاصة .فإذا
شاهدنا في جماعة ما أن الطيبين العاملين المنتجين مضيق عليهم في الرزق والمتاع الطيب ,فذلك شاهد على
أن هذه الجماعة ل يسودها النظام المستمد من اليمان بال ,القائم على العدل بين الجهد والجزاء .
على أن الفراد الطيبين الصالحين المنتجين في هذه الجماعة يمتعون متاعا حسنا ,حتى لو ضيق عليهم في
الرزق ,وحتى لو كانت الجماعة تطاردهم وتؤذيهم ,كما كان المشركون يؤذون القلة المؤمنة ,وكما تؤذي
الجاهليات القلة الداعية إلى ال .وليس هذا خيال وليس ادعاء .فطمأنينة القلب إلى العاقبة ,والتصال بال ,
والرجاء في نصره وفي إحسانه وفضله . .عوض عن كثير ; ومتاع حسن للنسان الذي يرتفع درجة عن
الحس المادي الغليظ .
ول نقول هذا لندعو المظلومين الذين ل يجدون جزاء عادل على جهدهم إلى الرضى بالوضاع المنافية
للعدالة .فالسلم ل يرضى بهذا ,واليمان ل يسكت على مثل تلك الوضاع .والجماعة المؤمنة مطالبة
بإزالتها وكذلك الفراد ,ليتحقق المتاع الحسن للطيبين العاملين المنتجين .إنما نقوله لنه حق يحس به
المؤمنون المتصلون بال ,المضيق عليهم في الرزق ,وهم مع هذا يعملون ويجاهدون لتحقيق الوضاع التي
تكفل المتاع الحسن لعباد ال المستغفرين التائبين العاملين بهدى ال .
خصصها بعض المفسرين بجزاء الخرة .وأرى أنها عامة في الدنيا والخرة ,على النحو الذي فسرنا به
المتاع الحسن في الدنيا ; وهو متحقق في جميع الحوال .وذو الفضل يلقى جزاءه في اللحظة التي يبذل فيها
الفضل .يجده رضى نفسيا وارتياحا شعوريا ,واتصال بال وهو يبذل الفضل عمل أو مال متجها به إلى ال
.أما جزاء ال له بعد ذلك فهو فضل من ال وسماحة فوق الجزاء .
هو عذاب يوم القيامة .ل عذاب يوم بدر كما يقول بعض المفسرين .فاليوم الكبير حين يطلق هكذا ينصرف
إلى اليوم الموعود .ويقوي هذا ما بعده:
(إلى ال مرجعكم).
وإن كان المرجع إلى ال في الدنيا والخرة وفي كل لحظة وفي كل حالة .ولكن جرى التعبير القرآني على
أن المرجع هو الرجعة بعد الحياة الدنيا . .
وهذه كذلك تقوي هذا المعنى ,لن التلويح بالقدرة على كل شيء ,مناسب للبعث الذي كانوا يستبعدونه
ويستصعبونه !
(أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه .أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ,إنه عليم بذات
الصدور .وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ,ويعلم مستقرها ومستودعها .كل في كتاب مبين). .
واليتان الكريمتان تستحضران مشهدا فريدا ترجف له القلوب حين تتدبره وتتصوره !
ويا لها من رهبة غامرة ,وروعة باهرة ,حين يتصور القلب البشري حضور ال -سبحانه -وإحاطة علمه
وقهره ; بينما أولئك العبيد الضعاف يحاولون الستخفاء منه وهم يواجهون آياته يتلوها رسوله:
(أل إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه .أل حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون .إنه عليم بذات
الصدور). .
ولعل نص الية إنما يصور حالة واقعة كانت تصدر من المشركين ورسول ال [ ص ] يسمعهم كلم ال ;
فيثنون صدورهم ويطأطئون رؤوسهم استخفاء من ال الذي كانوا يحسون في أعماقهم أنه قائل هذا الكلم . .
وذلك كما ظهر منهم في بعض الحيان !
ول يكمل السياق الية حتى يبين عبث هذه الحركة ,وال ,الذي أنزل هذه اليات ,معهم حين يستخفون
وحين يبرزون .ويصور هذا المعنى -على الطريقة القرآنية -في صورة مرهوبة ,وهم في وضع خفي
دقيق من أوضاعهم .حين يأوون إلى فراشهم ,ويخلون إلى أنفسهم ,والليل لهم ساتر ,وأغطيتهم لهم ساتر .
ومعذلك فال معهم من وراء هذه الستار حاضر ناظر قاهر .يعلم في هذه الخلوة ما يسرون وما يعلنون:
وال يعلم ما هو أخفى .وليست أغطيتهم بساتر دون علمه .ولكن النسان يحس عادة في مثل هذه الخلوة أنه
وحيد ل يراه أحد .فالتعبير هكذا يلمس وجدانه ويوقظه ,ويهزه هزة عميقة إلى هذه الحقيقة التي قد يسهو
عنها ,فيخيل إليه أنه ليس هناك من عين تراه !
(وما من دابة في الرض إل على ال رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ; كل في كتاب مبين). .
وهذه صورة أخرى من صور العلم الشامل المرهوب . .هذه الدواب -وكل ما تحرك على الرض فهو دابة
من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة .ما من دابة من هذه الدواب التي تمل وجه البسيطة ,وتكمن في باطنها ,
وتخفى في دروبها ومساربها .ما من دابة من هذه الدواب التي ل يحيط بها حصر ول يكاد يلم بها إحصاء .
.إل وعند ال علمها .وعليه رزقها ,وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن .من أين تجيء وأين تذهب . .وكل
منها .كل من أفرادها مقيد في هذا العلم الدقيق .
إنها صورة مفصلة للعلم اللهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ,يرتجف لها كيان النسان حين يحاول تصورها
بخياله النساني فل يطيق .
ويزيد على مجرد العلم ,تقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا الحشد الذي يعجز عن تصوره الخيال .وهذه
درجة أخرى ,الخيال البشري عنها أعجز إل بإلهام من ال . .
وقد أوجب ال -سبحانه -على نفسه مختارا أن يرزق هذا الحشد الهائل الذي يدب على هذه الرض .
فأودع هذه الرض القدرة على تلبية حاجات هذه المخلوقات جميعا ,وأودع هذه المخلوقات القدرة على
الحصول على رزقها من هذا المودع في الرض في صورة من صوره .ساذجا خامة ,أو منتجا بالزرع ,
أو مصنوعا ,أو مركبا . .إلى آخر الصور المتجددة لنتاج الرزق وإعداده .حتى إن بعضها ليتناول رزقه
دما حيا مهضوما ممثل كالبعوضة والبرغوث !!
وهذه هي الصورة اللئقة بحكمة ال ورحمته في خلق الكون على الصورة التي خلقه بها ; وخلق هذه
المخلوقات بالستعدادات والمقدرات التي أوتيتها .وبخاصة النسان .الذي استخلف في الرض ,وأوتي
القدرة على التحليل والتركيب ,وعلى النتاج والنماء ,وعلى تعديل وجه الرض ,وعلى تطوير أوضاع
الحياة ; بينما هو يسعى لتحصيل الرزق ,الذي ل يخلقه هو خلقا ,وإنما ينشئه مما هو مذخور في هذا الكون
من قوى وطاقات أودعها ال ; بمساعدة النواميس الكونية اللهية التي تجعل هذا الكون يعطي مدخراته وأقواته
لكافة الحياء !
وليس المقصود أن هناك رزقا فرديا مقدرا ل يأتي بالسعي ,ول يتأخر بالقعود ,ول يضيع بالسلبية والكسل ,
كما يعتقد بعض الناس ! وإل فأين السباب التي أمر ال بالخذ بها ,وجعلها جزءا من نواميسه ? وأين حكمة
ن ِإنّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ
سرّونَ َومَا ُيعِْلنُو َ
ستَ ْغشُونَ ِثيَابَ ُهمْ َيعَْلمُ مَا ُي ِ
ستَخْفُواْ ِمنْ ُه أَل حِينَ َي ْ
صدُورَ ُهمْ ِل َي ْ
أَل ِإ ّن ُهمْ َي ْثنُونَ ُ
عهَا كُلّ فِي ِكتَابٍ ّمبِينٍ ()6
لرْضِ ِإلّ عَلَى الّلهِ ِرزْ ُقهَا َو َيعْلَ ُم ُمسْتَ َقرّهَا َو ُمسْتَ ْو َد َ
الصّدُورِ (َ )5ومَا مِن دَآبّ ٍة فِي ا َ
ال في إعطاء المخلوقات هذه المقدرات والطاقات ? وكيف تترقى الحياة في مدارج الكمال المقدر لها في علم
ال ,وقد استخلف عليها النسان ليؤدي دوره في هذا المجال ?
إن لكل مخلوق رزقا .هذا حق .وهذا الرزق مذخور في هذا الكون .مقدر من ال في سننه التي ترتب
النتاج على الجهد .فل يقعدن أحد عن السعي وقد علم أن السماء ل تمطر ذهبا ول فضة .ولكن السماء
والرض تزخران بالرزاق الكافية لجميع المخلوقات .حين تطلبها هذه المخلوقات حسب سنة ال التي ل
تحابي أحدا ,ول تتخلف أو تحيد .
إنما هو كسب طيب وكسب خبيث ,وكلهما يحصل من عمل وجهد .إل أنه يختلف في النوع والوصف .
وتختلف عاقبة المتاع بهذا وذاك .
ول ننسى المقابلة بين ذكر الدواب ورزقها هنا ; وبين المتاع الحسن الذي ذكر في التبليغ الول .والسياق
القرآني المحكم المتناسق ل تفوته هذه اللفتات السلوبية والموضوعية ,التي تشارك في رسم الجو في السياق
.
وهاتان اليتان الكريمتان هما بدء تعريف الناس بربهم الحق الذي عليهم أن يدينوا له وحده .أي أن يعبدوه
وحده .فهو العالم المحيط علمه بكل خلقه ,وهو الرازق الذي ل يترك أحدا من رزقه .وهذه المعرفة
ضرورية لعقد الصلة بين البشر وخالقهم ; ولتعبيد البشر للخالق الرازق العليم المحيط .
ثم يمضي السياق في تعريف البشر بربهم ,وإطلعهم على آثار قدرته وحكمته .في خلق السماوات والرض
بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة ; لحكمة كذلك خاصة .يبرز منها السياق هنا ما يناسب البعث
والحساب والعمل والجزاء:
(وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام ,وكان عرشه على الماء ,ليبلوكم أيكم أحسن عمل .ولئن
قلت:إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا:إن هذا إل سحر مبين). .
وخلق السماوات والرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس . .وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي
يقوم عليه الكون والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس .
أما كيف كان هذا الماء ,وأين كان ,وفي أية حالة من حالته كان .وأما كيف كان عرش ال على هذا الماء
. .فزيادات لم يتعرض لها النص ,وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على مدلول النص ,في هذا
الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إل هذا النص وفي حدوده .
وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقا من النظريات التي تسمى "العلمية " -حتى ولو كان ظاهر
النص يتفق مع النظرية وينطبق -فالنظريات "العلمية " قابلة دائما للنقلب رأسا على عقب ,كلما اهتدى
وتلمس موافقات من النظريات "العلمية " للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية اليمان بهذا القرآن واليقين
بصحة ما فيه ,وأنه من لدن حكيم خبير .هزيمة ناشئة من الفتنة "بالعلم" وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي
الذي ل يصدق ول يوثق به إل في دائرته .فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن
على "العلم" يخدم القرآن ويخدم العقيدة ,ويثبت اليمان ! إن اليمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة
ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه ! إن القرآن هو الصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء
.أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن .وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل
حريته ,ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه ,ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والستقامة
والسلمة ,وتحريره من الوهم والسطورة والخرافة .كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن
يستقيم ,وأن يتحرر ,وأن يعيش في سلم ونشاط . .ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة .ويصل إلى
الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه .ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إل نادرا .مثل أن الماء أصل
الحياة والعنصر المشترك في جميع الحياء .ومثل أن جميع الحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه
فهو يحتوي على خليا التذكير والتأنيث . . .وأمثال هذه الحقائق .التي صرحت بها النصوص القرآنية .
ونعود من هذا الستطراد إلى النص القرآني نتمله في مجاله الصيل .مجال بناء العقيدة وتصريف الحياة:
(وهو الذي خلق السماوات والرض في ستة أيام -وكان عرشه على الماء -ليبلوكم أيكم أحسن عمل). .
خلق السماوات والرض في ستة أيام . .وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها . .
خلقها في هذا المد ,لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري ,وخلقكم وسخر لكم الرض وما
يفيدكم من السماوات . .وهو سبحانه مسيطر على الكون كله ( . .ليبلوكم أيكم أحسن عمل) . .والسياق
يظهر كأن خلق السماوات والرض في ستة أيام -مع سيطرة ال سبحانه على مقاليده -كان من أجل ابتلء
النسان .ليعظم هذا البتلء ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلئهم .
وكما جهز الخالق هذه الرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس ,جهز هذا الجنس كذلك
باستعدادات وطاقات ; وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون ; وترك له جانبا اختياريا في حياته ,
يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه ال عليه ويهديه ,أو أن يتجه إلى الضلل فيمد ال له فيه ,وترك الناس
يعملون ,ليبلوهم أيهم أحسن عمل .يبلوهم ل للعلم فهو يعلم .ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم ,
فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة ال وعدله .ومن ثم يبدو التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيبا
غريبا في هذا الجو .بعدما يذكر أن البتلء مرتبط بتكوين السماوات والرض .أصيل في نظام الكون وسنن
الوجود .
ويبدو المكذبون به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود ,وهم يعجبون لهذه
الحقائق وبها يفاجأون:
(ولئن قلت:إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا:إن هذا إل سحر مبين). .
فما أعجبها قولة ,وما أغربها ,وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها !
شأنهم في التكذيب بالبعث ,وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ,هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ,فهم
يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ,إذا ما اقتضت الحكمة الزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت(:ولئن
أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن:ما يحبسه ? أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ,وحاق بهم ما
كانوا به يستهزؤون).
لقد كانت القرون الولى تهلك بعذاب من عند ال يستأصلها ,بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها
ثم يمضون هم في التكذيب .ذلك أنها كانت رسالت مؤقتة لمة من الناس ,ولجيل واحد من هذه المة .
والمعجزة كذلك ل يشهدها إل هذا الجيل ,ول تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل
الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالت ,ولجميع القوام وجميع الجيال ,وكانت المعجزة التي
صاحبتها معجزة غير مادية ,فهي قابلة للبقاء ,قابلة لن تتدبرها أجيال وأجيال ,وتؤمن بها أجيال وأجيال ,
ومن ثم اقتضت الحكمة أل تؤخذ هذه المة بعذاب الستئصال .وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت
معلوم . .وكذلك كان الحال في المم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ,فلم يعم فيهم عذاب الستئصال .
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس ال الخاصة بخلق النسان على هذا النحو من القدرة على الختيار
والتجاه ; وخلق السماوات والرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلء ينكرون البعث .وفي جهلهم
بسنن ال في الرسالت والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو اليام -أي
مجموعة منها -ما يحبسه ? وما يؤخره ? فل يدركون حكمة ال ول رحمته .وهو يوم يأتيهم ل يصرف
عنهم ,بل يحيط بهم ,جزاء لستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم:
أل يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
إن عذاب ال ل تستعجله نفس مؤمنة ول نفس جادة .وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة .ليؤمن من يتهيأ
لليمان .
وفي فترة التأجيل التي صرف ال العذاب فيها عن مشركي قريش ,كم آمن منهم من رجال حسن إسلمهم
وأبلوا أحسن البلء .وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في السلم . .وهذه وتلك بعض الحكم
الظاهرة وال يعلم ما بطن .ولكن البشر القاصرين العجولين ل يعلمون . .
الدرس الخامس 11 - 9:نماذج لتقلب النسان أمام المفاجآت التي ل يضبطها إل اليمان
وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق النساني العجيب ,الذي ل يثبت ول
يستقيم إل باليمان:
ولئن أذقنا النسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ,ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته
ليقولن:ذهب السيئات عني ,إنه لفرح فخور .إل الذين صبروا وعملوا الصالحات ,أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير . .
إنها صورة صادقة لهذا النسان العجول القاصر ,الذي يعيش في لحظته الحاضرة ,ويطغى عليه ما يلبسه ;
فل يتذكر ما مضى ول يفكر فيما يلي .فهو يؤوس من الخير ,كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه .مع أنها
كانت هبة من ال له .وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء .ل يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل
في رحمة ال ويرجو فرجه ; ول يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابا . .
صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة ,فإن كثيرا من الناس يصبرون على الشدة تجلدا وإباء أن يظهر
عليهم الضعف والخور ,ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فل تغتر ول تبطر . .
في الحالين .في الشدة بالحتمال والصبر ,وفي النعمة بالشكر والبر .
إن اليمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة ; كما
يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء .وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء ;
ويربطه بال في حاليه ,فل يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء .ول يتنفج ويتعالى عندما تغمره النعماء .
.وكل حالي المؤمن خير .وليس ذلك إل للمؤمن كما يقول رسول ال [ ص ] .
أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون -وهم أفراد من هذا النسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح
الفخور -الذين ل يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول ملكا أو أن يصاحبه ملك
; ول يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز ! . .أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في
التكذيب والعناد . .ما تراك صانعا معهم أيها الرسول ?
(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا:لول أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك .إنما
أنت نذير وال على كل شيء وكيل). .
ولعل هنا تحمل معنى الستفهام .وهو ليس استفهاما خالصا ,إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن
تضيق صدرا بهذا الجهل ,وبهذا التعنت ,وبهذه القتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك
طبيعة الرسالة ووظيفتها .فهل سيضيق صدرك -يا محمد -وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض
ما أنزل إليك فل تبلغه لهم ,كي ل يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل ?
كل .لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا:
ستْهُ َليَقُولَنّ
ضرّاء َم ّ
ن َأ َذ ْقنَا ُه َن ْعمَاء َب ْعدَ َ
عنَاهَا ِمنْ ُه ِإنّهُ َل َيؤُوسٌ كَفُورٌ ( )9وََلئِ ْ
حمَ ًة ُثمّ َنزَ ْ
ل ْنسَانَ ِمنّا َر ْ
وََلئِنْ َأذَ ْقنَا ا ِ
جرٌ َكبِيرٌ (
عمِلُو ْا الصّاِلحَاتِ ُأوْلَـ ِئكَ َلهُم ّمغْ ِفرَةٌ وََأ ْ
صبَرُواْ َو َ
عنّي ِإنّ ُه لَ َفرِحٌ َفخُورٌ (ِ )10إلّ اّلذِينَ َ
س ّيئَاتُ َ
ذَهَبَ ال ّ
)11
فواجبك كله أن تنذرهم -وأبرز صفة النذير هنا لن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلء -فأد واجبك( :وال
على كل شيء وكيل). .
فهو الموكل بهم ,يصرفهم كيف يشاء وفق سنته ,ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون .ولست أنت موكل
بكفرهم أو إيمانهم .إنما أنت نذير .
وهذه الية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة ; وما كان يعتور صدر رسول ال [ ص ] من
الضيق .كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة ,في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير ;
وغمرت الوحشة قلب رسول ال [ ص ] وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلئل في هذه الجاهلية المحيطة
..
ومن بين كلمات الية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة ,وتسكب فيه الطمأنينة ,
وتريح العصاب والقلوب !
الدرس السابع 16 - 13:تحدي الكفار لثبات مصدر القرآن وإسلمهم وإل فهي النار
وقولة أخرى يقولونها .وقد قالوها مرارا:إن هذا القرآن مفترى .فتحدهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره ,
وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الفتراء:
(أم يقولون افتراه ? قل:فأتوا بعشر سور مثله مفتريات .وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين).
.
ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس ,فما التحدي بعد ذلك بعشر سور ?
قال المفسرون القدامى:إن التحدي كان على الترتيب:بالقرآن كله ,ثم بعشر سور ,ثم بسورة واحدة .ولكن
هذا الترتيب ليس عليه دليل .بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة ,وسورة هود
لحقة والتحدي فيها بعشر سور .وحقيقة إن ترتيب اليات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب
السور .فقد كانت تنزل الية فتلحق بسورة سابقة أو لحقة في النزول .إل أن هذا يحتاج إلى ما يثبته .
وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود .والترتيب التحكمي في مثل هذا ل يجوز .
ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد (عشر سور)علة ,فأجهد نفسه طويل -
رحمة ال عليه -ليقول:إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ,وأنه بالستقراء يظهر أن السور التي
كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا .فتحداهم بعشر . .لن تحديهم
بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه ,واحتياج المتحدي إلى
عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى . .الخ
ونحسب -وال أعلم -أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد .وأن التحدي كان يلحظ حالة القائلين وظروف
القول ,لن القرآن كان يواجه حالت واقعة محددة مواجهة واقعة محددة .فيقول مرة:ائتوا بمثل هذا القرآن .
أو ائتوا بسورة ,أو بعشر سور .دون ترتيب زمني .لن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لي شيء
من هذا القرآن .كله أو بعضه أو سورة منه على السواء .فالتحدي كان بنوع هذا القرآن ل بمقداره .
والعجز كان عن النوع ل عن المقدار .وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة .ول يلزم ترتيب ,إنما هو
ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم .وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ,إن كنتم
صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون ال !
فهو وحده القادر على أن ينزله ,وعلم ال وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به ,متضمنا
ما تضمنه من دلئل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر ,وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ,وما يصلح
لهم في نفوسهم وفي معاشهم . . .
فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها ال .فل بد أن يكون هناك
إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن .
ويعقب على هذا التقرير الذي ل مفر من القرار به بسؤال ل يحتمل إل جوابا واحدا عند غير المكابرين
المتعنتين .سؤال:
بعد هذا التحدي والعجز ودللته التي ل سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم ? .
لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان ,
وتعبيد للناس كي ل يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة . .داعي ل إله إل ال . .لهذا يعقب
السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول:
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون .أولئك الذين ليس لهم في
الخرة إل النار ,وحبط ما صنعوا فيها ,وباطل ما كانوا يعملون). .
إن للجهد في هذه الرض ثمرته .سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته
المحدودة .فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها ,فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا ; ويتمتع
بها كما يريد -في أجل محدود -ولكن ليس له في الخرة إل النار ,لنه لم يقدم للخرة شيئا ,ولم يحسب
لها حسابا ,فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا .ولكنه باطل في الخرة ل يقام له فيها وزن وحابط [ من حبطت
الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض ] وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى
الهلك !
ونحن نشهد في هذه الرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا ,وتنال جزاءها فيها .ولدنياها
س َتجِيبُو ْا َل ُكمْ فَاعَْلمُو ْا َأ ّنمَا أُنزِلِ ِبعِ ْلمِ اللّهِ وَأَن لّ إِلَـ َه ِإلّ ُهوَ َفهَلْ أَنتُم ّمسِْلمُونَ ()14
َفإِن ّلمْ َي ْ
زينة ,ولدنياها انتفاخ ! فل يجوز أن نعجب ول أن نسأل:لماذا ? لن هذه هي سنة ال في هذه الرض(:من
كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها ل يبخسون).
ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها ل يجوز أن ينسينا أن هؤلء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه -ونفوسهم
تتطلع للخرة وتراقب ال في الكسب والمتاع -فينالوا زينة الحياة الدنيا ل يبخسون منها شيئا ,وينالوا كذلك
متاع الحياة الخرى .
إن العمل للحياة الخرى ل يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا .بل إنه هو هو مع التجاه إلى ال فيه .ومراقبة
ال في العمل ل تقلل من مقداره ول تنقص من آثاره ; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر ,وتجعل الكسب طيبا
والمتاع به طيبا ,ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الخرة .إل أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات
الحرام .وهذه مردية ل في الخرى فحسب ,بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين .وهي ظاهرة في حياة المم
وفي حياة الفراد .وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون .
بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول ال [ ص ] وما جاءه من الحق ; وإلى هذا القرآن الذي
يشهد له بأنه على بينة من ربه ,وأنه مرسل من عنده ; كما يشهد له كتاب موسى من قبله .يلتفت السياق إلى
هذا الحشد من الدلة المحيطة بالنبي [ ص ] وبدعوته ورسالته .ذلك ليثبت بهذه اللتفاتة قلب رسول ال
[ ص ] والقلة المؤمنة معه .ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار ; وليعرضهم في مشهد
من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والستكبار ; وليقرر أن هؤلء المتبجحين
بالباطل ,المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب ال ; وأعجز من أن يجدوا لهم من دون ال أولياء
(. .ل جرم أنهم في الخرة هم الخسرون) . .وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة ;
تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما ,وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الخرة سواء:
(أفمن كان على بينة من ربه ,ويتلوه شاهد منه ,ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ,
ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ,فل تك في مرية منه ,إنه الحق من ربك ,ولكن أكثر الناس ل
يؤمنون).
(ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ; أولئك يعرضون على ربهم ; ويقول الشهاد:هؤلء الذين كذبوا على
ربهم ,أل لعنة ال على الظالمين .الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ,وهم بالخرة هم كافرون .
أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ,وما كان لهم من دون ال من أولياء ,يضاعف لهم العذاب .ما كانوا
يستطيعون السمع ,وما كانوا يبصرون .أولئك الذين خسروا أنفسهم ,وضل عنهم ما كانوا يفترون .ل جرم
أنهم في الخرة هم الخسرون).
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
(مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع ,هل يستويان مثل ? أفل تذكرون ?). .
إن طول هذه الجملة ,وتنوع الشارات واليحاءات فيها ,وتنوع اللفتات واليقاعات أيضا . .إن هذا كله
يشي بما كانت تواجهه القلة المؤمنة ,في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ; ويصور لنا حاجة الموقف
إلى هذه المعركة التقريرية اليحائية ; كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية ; وهو يواجه ذلك الواقع
ويجاهده جهادا كبيرا .
إن هذا القرآن ل يتذوقه إل من يخوض مثل هذه المعركة ; ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها
ويوجهها .والذين يتلمسون معاني القرآن ودللته وهم قاعدون .يدرسونه دراسة بيانية أو فنية ل يملكون أن
يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ; بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة . .إن حقيقة هذا
القرآن ل تتكشف للقاعدين أبدا ,وإن سره ل يتجلى لمن يؤثرون السلمة والراحة مع العبودية لغير ال ,
والدينونة للطاغوت من دون ال !
(أفمن كان على بينة من ربه ,ويتلوه شاهد منه ,ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ? أولئك يؤمنون به ,
ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ,فل تك في مرية منه ,إنه الحق من ربك ,ولكن أكثر الناس ل
يؤمنون). .
وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى( :أفمن كان على بينة من ربه) . .وفي قوله تعالى( :ويتلوه
شاهد منه) .وفي عائد هذه الضمائر في(:ربه)وفي(يتلوه)وفي(منه) . .وأرجحها -كما يبدو لي -هو أن
المقصود بقوله تعالى( :أفمن كان على بينة من ربه)هو رسول ال [ ص ] وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء
به -وأن المقصود بقوله تعالى( :ويتلوه شاهد منه)أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته .وهو هذا
القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من ال ل يقدر عليه بشر ( .ومن قبله) -أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن
; "كتاب موسى " يشهد كذلك بصدق النبي [ ص ] سواء بما تضمنه من البشارة به ; أو بموافقة أصله لما جاء
به محمد من بعده .
والذي يرجح هذا عندي هو وحدة التعبير القرآني في السورة -في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم ,من
بينة يجدونها في أنفسهم ,يستيقنون معها أن ال هو الذي يوحي إليهم ,ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا
مستيقنا واضحا ل يخالجهم معه شك ول ريبة .فنوح -عليه السلم -يقول لقومه :يا قوم أرأيتم إن كنت
على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ,أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ? . .وصالح عليه
السلم يقول الكلمة ذاتها :ال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من ال
إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .وشعيب عليه السلم يقولها كذلك( :قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على
بينة من ربي ,ورزقني منه رزقا) . .فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم ,تصور حقيقة
ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة اللوهية في نفوسهم ; ولصدق اتصال ربهم بهم عن
طريق الوحي أيضا . .وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة -كما
أسلفنا في التعريف بها -لثبات أن شأن النبي [ ص ] مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل
الكرام قبله ; مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه [ ص ] وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على
الحق الذي معهم ; فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا ,والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل
جميعا .
ويكون المعنى الكلي للية:أفهذا النبي الذي تتضافر الدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه . .حيث
يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه .وحيث يتبعه -أو يتبع يقينه هذا -شاهد من ربه هو هذا القرآن
الدال بخصائصه على مصدره الرباني .وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله ,هو كتاب موسى الذي جاء
إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من ال تنزلت عليهم .وهو يصدق رسول ال [ ص ]
يقول:أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الحزاب التي تناوئه من شتى فئات
المشركين ? إنه لمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات . .
ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الحزاب ,وما ينتظر هؤلء من جزاء في
الخرة .ويعرج على تثبيت الرسول [ -ص ] -والذين يؤمنون بما معه من الحق ; فل يقلقهم شأن المكذبين
الكافرين ,وهم كثرة الناس في ذلك الحين:
(أولئك يؤمنون به ,ومن يكفر به من الحزاب فالنار موعده ,فل تك في مرية منه ,إنه الحق من ربك ,
ولكن أكثر الناس ل يؤمنون). .
وقد وجد بعض المفسرين إشكال في قوله تعالى( :أولئك يؤمنون به)إذا كان المقصود بقوله تعالى( :أفمن كان
على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)هو شخص رسول ال [ ص ] كما أسلفنا . .فإن أولئك "تعني جماعة
يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة . .ول إشكال هناك .فالضمير في قوله تعالى (أولئك يؤمنون به)يعود على
"شاهد" وهو القرآن .وكذلك الضمير في قوله تعالى (ومن قبله)فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا . .فل
إشكال في أن يقول( :أولئك يؤمنون به) -أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن -والرسول [ ص ] هو أول من آمن
بما أنزل إليه ,ثم تبعه المؤمنون( :آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون .كل آمن بال وملئكته
وكتبه ورسله ). . .كما جاء في آية البقرة . .والية هنا تشير إلى رسول ال [ ص ] وتدمج معه المؤمنين
الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه . .وهو أمر مألوف في التعبير القرآني ,ول إشكال فيه .
(فل تك في مرية منه ,إنه الحق من ربك ,ولكن أكثر الناس ل يؤمنون). .
وما شك رسول ال [ ص ] فيما أوحي إليه ,ول امترى -وهو على بينة من ربه -ولكن هذا التوجيه
الرباني عقب حشد هذه الدلئل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول ال [ ص ] من ضيق وتعب ووحشة
من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين ,تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت .وكذلك ما كان
يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم .
وما أحوج طلئع البعث السلمي ; وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان ; ويتآزر عليها الصد
والعراض ,والسخرية والستهزاء ,والتعذيب واليذاء ; والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية ;
وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الرض من محلية وعالمية ; وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها ;
ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة . . .
ما أحوج هذه الطلئع إلى تدبر هذه الية بكل فقرة فيها ,وبكل إشارة ,وبكل لمحة فيها وكل إيماءة ! ما
أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم:
(فل تك في مرية منه ,إنه الحق من ربك ,ولكن أكثر الناس ل يؤمنون). .
وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلل لما كان يجده الرسل الكرام صلوات ال عليهم وسلمه من بينة من
ربهم ,ومن رحمة ل يخطئونها ول يشكون فيها لحظة ; ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات
الطريق:
قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما
تزيدونني غير تخسير . .
إن هذه الطلئع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل -صلوات ال وسلمه عليهم
جميعا -وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون . .لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول ال [ ص ] إلى
البشرية كلها بهذا الدين ; فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد السلم الذي جاءها به من قبل إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ,وسائر
النبيين !
إنها الجاهلية التي تعترف بوجود ال -سبحانه -أول تعترف .ولكنها تقيم الناس أربابا في الرض
يحكمونهم بغير ما أنزل ال ; ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الرباب ل
ل . .ثم هي الدعوة السلمية للناس كافة أن ينحوا هذه الرباب الرضية عن حياتهم وأوضاعهم
ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم ,وأن يعودوا إلى ال وحده يتخذونه ربا ل أرباب معه ; ويدينون له وحده .فل
يتبعون إل شرعه ونهجه ,ول يطيعون إل أمره ونهيه . .ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك
والتوحيد ,وبين الجاهلية والسلم .وبين طلئع البعث السلمي وهذه الطواغيت في أرجاء الرض
والصنام !
ومن ثم ل بد لهذه الطلئع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الوان . .وهذا بعض
ما نعنيه حين نقول(:إن هذا القرآن ل يتذوقه إل من يخوض مثل هذه المعركة .ويواجه مثل تلك المواقف
التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها ,وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودللته وهم قاعدون يدرسونه دراسة
بيانية أو فنية ل يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة ,بعيدا عن المعركة ,وبعيدا
عن الحركة .). . .
الدرس التاسع 24 - 18:مشهد خسارة وخزي الكفار في الخرة في مقابل فوز المؤمنين
ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به ; ويزعمون أنه مفترى من دون ال ,ويكذبون على ال سبحانه
وعلى رسوله [ ص ] وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على ال الكذب .سواء
بقولهم:إن ال لم ينزل هذا الكتاب ,أو بادعائهم شركاء ل .أو بدعواهم في الربوبية الرضية وهي من
خصائص اللوهية . .يجمل النص هنا الشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على ال .
هؤلء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الشهاد .وفي الجانب الخر
المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم .ويضرب للفريقين مثل:العمى والصم والبصير
والسميع:
(ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? أولئك يعرضون على ربهم ,ويقول الشهاد:هؤلء الذين كذبوا على
ربهم .أل لعنة ال على الظالمين .الذين يصدون عن سبيل ال ويبغونها عوجا ,وهم بالخرة هم كافرون .
أولئك لم يكونوا معجزين في الرض ,وما كان لهم من دون ال من أولياء ,يضاعف لهم العذاب ,ما كانوا
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء ,وظلم للحقيقة ولمن يفتري عليه الكذب .فما بال حين يكون هذا
الفتراء على ال ?
(أولئك يعرضون على ربهم ,ويقول الشهاد:هؤلء الذين كذبوا على ربهم).
إنه التشهير والتشنيع .بالشارة(:هؤلء)( . .هؤلء الذين كذبوا) . .وعلى من ? (على ربهم)ل على أحد آخر
! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد ,تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة:
والظالمون هم المشركون .وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل ال .
فل يريدون الستقامة ول الخطة المستقيمة ,إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا .يريدون الطريق أو
يريدون الحياة أويريدون المور . .كلها بمعنى ( . .وهم بالخرة هم كافرون)ويكرر(هم)مرتين للتوكيد
وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير .
والذين يشركون بال -سبحانه -وهم الظالمون -إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن استقامة
السلم .وما تنتج الدينونة لغير ال -سبحانه -إل العوج في كل جانب من جوانب النفس ,وفي كل جانب
من جوانب الحياة .
إن عبودية الناس لغير ال سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد ال أن يقيمها على الكرامة .وتنشئ في
الحياة الظلم والبغي وقد أراد ال أن يقيمها على القسط والعدل .وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه
الرباب الرضية والطبل حولها والزمر ,والنفخ فيها دائما لتكبر حتى تمل مكان الرب الحقيقي .ولما كانت
هذه الرباب في ذاتها صغيرة هزيلة ل يمكن أن تمل فراغ الرب الحقيقي ,فإن عبادها المساكين يظلون في
نصب دائب ,وهم مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار ,ويسلطون عليها الضواء والنظار ,ويضربون حولها
بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح ,حتى يستحيل الجهد البشري كله من النتاج المثمر للحياة إلى هذا
الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم . .فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء ?!
(أولئك). .
فلم يكن أمرهم معجزا ل ,ولو شاء لخذهم بالعذاب في الدنيا . .
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر ; كأن لم يكن لهم سمع ول بصر:
وهي أفدح الخسارة ,فالذي يخسر نفسه ل يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في
الدنيا ,لم يحسوا بكرامتهم الدمية التي تتمثل في الرتفاع عن الدينونة لغير ال من العبيد .كما تتمثل في
الرتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع -مع المتاع بها -إلى ما هو أرقى وأسمى .وذلك حين كفروا بالخرة ,
وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه .وخسروا أنفسهم في الخرة بهذا الخزي الذي ينالهم ,وبهذا
العذاب الذي ينتظرهم . .
غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على ال .فقد تبدد وذهب وضاع .
الذين ل تعدل خسارتهم خسارة .وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى .
وفي الجانب الخر أهل اليمان والعمل الصالح ,المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه ل يشكون
ول يقلقون:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات .وأخبتوا إلى ربهم ,أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون). .
والخبات الطمأنينة والستقرار والثقة والتسليم . .وهي تصور حال المؤمن مع ربه ,وركونه إليه واطمئنانه
لكل ما يأتي به ,وهدوء نفسه وسكون قلبه ,وأمنه واستقراره ورضاه:
(مثل الفريقين كالعمى والصم والبصير والسميع .هل يستويان مثل ?). .
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين .والفريق الول كالعمى ل يرى وكالصم ل يسمع -والذي يعطل
حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها ,وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل ,ليدرك ويتدبر فكأنما
هو محروم من تلك الجوارح والحواس -والفريق الثاني كالبصير يرى وكالسميع يسمع ,فيهديه بصره
وسمعه .
سؤال بعد الصورة المجسمة ل يحتاج إلى إجابة لنها إجابة مقررة .
فالقضية في وضعها هذا ل تحتاج إلى أكثر من التذكر .فهي بديهية ل تقتضي التفكير . .
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في السلوب القرآني في التعبير . .أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري
إلى بديهيات مقررة ل تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير . .
وَلَ َقدْ َأرْسَ ْلنَا نُوحا إِلَى قَ ْومِ ِه ِإنّي َل ُكمْ َنذِيرٌ ّمبِينٌ ()25
مقدمة الوحدة
القصص في هذه السورة هو قوامها ; ولكنه لم يجيء فيها مستقل ,إنما جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي
جاءت السورة لتقريرها .والتي أجملها السياق في مطلع السورة( :كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم
خبير ,أل تعبدوا إل ال إنني لكم منه نذير وبشير ,وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يمتعكم متاعا حسنا إلى
أجل مسمى ,ويؤت كل ذي فضل فضله ,وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ,إلى ال مرجعكم .
وهو على كل شيء قدير). .
وقد تضمن مطلع السورة جولت متعددة حول هذه الحقائق .جولت في ملكوت السماوات والرض ,وفي
جنبات النفس ,وفي ساحة الحشر . .ثم أخذ في هذه الجولة الجديدة في جنبات الرض وأطواء التاريخ مع
قصص الماضين . .يستعرض حركة العقيدة السلمية في مواجهة الجاهلية على مدار القرون .
والقصص هنا مفصل بعض الشيء -وبخاصة قصة نوح والطوفان -وهو يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة
التي وردت في مطلع السورة ,والتي يجيء كل رسول لتقريرها ,وكأنما المكذبون هم المكذبون ,وكأنما
طبيعتهم واحدة ,وعقليتهم واحدة على مدار التاريخ .
ويتبع القصص في هذه السورة خط سير التاريخ ,فيبدأ بنوح ,ثم هود ,ثم صالح ,ويلم بإبراهيم في الطريق
إلى لوط ,ثم شعيب ,ثم إشارة إلى موسى . .ويشير إلى الخط التاريخي ,لنه يذكر التالين بمصير السالفين
على التوالي بهذا الترتيب:
ونبدأ بقصة نوح مع قومه .أول هذا القصص في السياق .وأوله في التاريخ:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه .إني لكم نذير مبين .أل تعبدوا إل ال ,إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم . .
إنها تكاد تكون اللفاظ ذاتها التي أرسل بها محمد [ ص ] والتي تضمنها الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت
من لدن حكيم خبير .وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في السياق لتقرير
وحدة الرسالة ووحدة العقيدة ,حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها .وذلك مع تقدير أن المحكي هنا هو
معنى ما قاله نوح -عليه السلم -ل ألفاظه .وهو الرجح .فنحن ل ندري بأية لغة كان نوح يعبر .
ولم يقل قال:إني . . .لن التعبير القرآني يحيي المشهد فكأنما هو واقعة حاضرة ل حكاية ماضية .وكأنما
هو يقول لهم الن ونحن نشهد ونسمع .هذا من ناحية ,ومن ناحية أخرى أنه يلخص وظيفة الرسالة كلها
ويترجمها إلى حقيقة واحدة:
واليوم ليس أليما .إنما هو مؤلم .والليم -اسم مفعول أصله:مألوم ! -إنما هم المألومون في ذلك اليوم .
ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا ,لتصوير اليوم ذاته بأنه محمل باللم ,شاعر به ,فما بال من فيه ?
(فقال المل الذين كفروا من قومه:ما نراك إل بشرا مثلنا ,وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي ,
وما نرى لكم علينا من فضل ,بل نظنكم كاذبين). .
ذلك رد العلية المتكبرين . .المل . .كبار القوم المتصدرين . .وهو يكاد يكون رد المل من قريش:ما نراك
إل بشرا مثلنا ,وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا -بادي الرأي -وما نرى لكم علينا من فضل ,بل
نظنكم كاذبين .
الشبهات ذاتها ,والتهامات ذاتها ,والكبرياء ذاتها ,والستقبال الغبي الجاهل المتعافي !
إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر:أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة ال ; فإن تكن رسالة
فليحملها ملك أو مخلوق آخر .وهي شبهه جاهلة ,مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه ال في
أرضه ,وهي وظيفة خطيرة ضخمة ,ل بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا النسان ما يكافئها من الستعداد
والطاقة ,وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيأون لحمل الرسالة ,باختيار ال لهم ,وهو
أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه .
ولكن المل من قوم نوح ,كالمل من قوم كل نبي تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية ,
فل يدركون مبررا لختصاص الرسل بالرسالة .وهي في زعمهم ل تكون لبشر .فإن كانت فهي لمثالهم من
الوجهاء العالين في الرض !
وهم يسمون الفقراء من الناس(أراذل) . .كما ينظر الكبراء دائما إلى الخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان !
وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبا ; لنهم بفطرتهم أقرب إلى الستجابة للدعوة التي تحرر الناس من
العبودية للكبراء ,وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على العلياء .ولن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف ,
ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الستجابة ; ولنهم ل يخافون من العقيدة في ال أن تضيع عليهم مكانة
مسروقة لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها .وأول صور الوثنية الدينونة
والعبودية والطاعة والتباع للشخاص الزائلة بدل من التجاه بهذا كله ل وحده دون شريك .فرسالت
التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض .ومن ثم كان يقاومها الطغاة دائما ,
ويصدون عنها الجماهير ; ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بشر التهم للتشويش والتنفير .
أي دون ترو ول تفكير . .وهذه تهمة كذلك توجه دائما من المل العالين لجموع المؤمنين . .أنها ل تتروى
ول تفكر في اتباع الدعوات .ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها ,ول يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها ,
ول أن يسلكوا طريقها .فإذا كان الراذل يؤمنون ,فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الراذل ; ول أن
يدعوا الراذل يؤمنون !
يدمجون الداعي بمن تبعوه من الراذل ! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى ,أو أعرف
بالصواب .فلو كان ما معكم خيرا وصوابا لهتدينا إليه ,ولم تسبقونا أنتم إليه ! وهم يقيسون المور ذلك
القياس الخاطيء الذي تحدثنا عنه .قياس الفضل بالمال ,والفهم بالجاه ,والمعرفة بالسلطان . .فذو المال
أفضل .وذو الجاه أفهم .وذو السلطان أعرف !!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائما حين تغيب عقيدة
التوحيد عن المجتمع ,أو تضعف آثارها ,فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية ,وإلى تقاليد الوثنية في صورة
وهي التهمة الخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه .ولكنهم على طريقة طبقتهم " . .الرستقراطية " .
.يلقونها في أسلوب التحفظ اللئق "بالرستقراط ! " (بل نظنكم !)لن اليقين الجازم في القول والتجاه من
طبيعة الجماهير المندفعة -بادي الرأي -التي يترفع عنها السادة المفكرون المتحفظون !
إنه النموذج المتكرر من عهد نوح ,لهذه الطبقة المليئة الجيوب الفارغة القلوب ,المتعاظمة المدعية المنتفخة
الوداج والمخاخ !!
ويتلقى نوح -عليه السلم -التهام والعراض والستكبار ,في سماحة النبي وفي استعلئه وفي ثقته بالحق
الذي جاء به ,واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله ; وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره .فل
يشتم كما شتموا ,ول يتهم كما اتهموا ,ول يدعي كما ادعوا ,ول يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير
حقيقته ول على رسالته شيئا غير طبيعتها . .
قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ,وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم .أنلزمكموها وأنتم لها
كارهون ? ويا قوم ل أسألكم عليه مال إن أجري إل على ال ,وما أن بطارد الذين آمنوا ,إنهم ملقو ربهم ,
ولكني أراكم قوما تجهلون .ويا قوم من ينصرني من ال إن طردتهم أفل تذكرون ? ول أقول لكم:عندي
خزائن ال ,ول أعلم الغيب ,ول أقول:إني ملك ,ولأقول للذين تزدري أعينكم:لن يؤتيهم ال خيرا .ال أعلم
بما في أنفسهم ,إني إذن لمن الظالمين . .
(يا قوم) . .في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه ,ونسبة نفسه إليهم .إنكم تعترضون فتقولون( :ما نراك إل
بشرا مثلنا) . .فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي ,بين في نفسي مستيقن في شعوري .وهي خاصية
لم توهبوها .وإن كان ال آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة ,أو آتاني من الخصائص ما أستحق به
حمل الرسالة -وهذه رحمة ول شك عظيمة -مارأيكم رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية ,
لنكم غير متهيئين لدراكها ,وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها (.أنلزمكموها ? )إنه ما كان لي وما أنا
بمستطيع أن ألزمكم الذعان لها واليمان بها (وأنتم لها كارهون)!
وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لدراك القيم الخفية عليهم ,
والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والختيار لها:ويبصرهم بأن المر ليس موكول إلى
الظواهرالسطحية التي يقيسون بها .وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم .مبدأ الختيار في العقيدة ,
والقتناع بالنظر والتدبر ,ل بالقهر والسلطان والستعلء !
ويا قوم ل أسألكم عليه مال ,إن أجري إل على ال ,وما أنا بطارد الذين آمنوا ,إنهم ملقو ربهم ,ولكني
أراكم قوما تجهلون .
يا قوم إن الذين تدعونهم أراذل قد دعوتهم فآمنوا ,وليس لي عند الناس إل أن يؤمنوا .إنني ل أطلب مال
على الدعوة ,حتى أكون حفيا بالثرياء غير حفي بالفقراء ; فالناس كلهم عندي سواء . .ومن يستغن عن
مال الناس يتساو عنده الفقراء والغنياء . .
ونفهم من هذا الرد أنهم طلبوا أو لوحوا له بطردهم من حوله ,حتى يفكروا هم في اليمان به ,لنهم
يستنكفون أن يلتقوا عنده بالراذل ,أو أن يكونوا وإياهم على طريق واحد ! -لست بطاردهم ,فهذا ل يكون
مني .لقد آمنوا وأمرهم بعد ذلك إلى ال ل لي:
تجهلون القيم الحقيقية التي يقدر بها الناس في ميزان ال .وتجهلون أن مرد الناس كلهم إلى ال .
فهناك ال .رب الفقراء والغنياء .رب الضعفاء والقوياء .هناك ال يقوم الناس بقيم أخرى .ويزنهم
بميزان واحد .هو اليمان .فهؤلء المؤمنون في حماية ال ورعايته .
من يعصمني من ال إن أنا أخللت بموازينه ,وبغيت على المؤمنين من عباده -وهم أكرم عليه -وأقررت
القيم الرضية الزائفة التي أرسلني ال لعدلها ل لتبعها ?
فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بال غير صلة الرسالة . .
فليس لي إل ظاهرهم ,وظاهرهم يدعو إلى التكريم ,وإلى الرجاء في أن يؤتيهم ال خيرا . .
إن ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوي .الظالمين للحق وقد جئت أبلغه ; والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب
ال ; والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم ال .
وهكذا ينفي نوح -عليه السلم -عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة وكل هالة مصطنعة يتطلبها المل من
قومه في الرسول والرسالة .ويتقدم إليهم بها مجردة إل من حقيقتها العظيمة التي ل تحتاج إلى مزيد من تلك
العراض السطحية .ويردهم في نصاعة الحق وقوته ,مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة
ليواجهوها ,ويتخذوا لنفسهم خطة على هداها .بل ملق ول زيف ول محاولة استرضاء على حساب الرسالة
وحقيقتها البسيطة .فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعا ,نموذجا للداعية ,ودرسا في مواجهة أصحاب
السلطان بالحق المجرد ,دون استرضاء لتصوراتهم ,ودون ممالة لهم ,مع المودة التي ل تنحني معها
الرؤوس !
وعند هذا الحد كان المل من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة ; فإذا هم -على عادة طبقتهم -
قد أخذتهم العزة بالثم ,واستكبروا أن تغلبهم الحجة ,وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري .وإذا هم يتركون
الجدل إلى التحدي:
(قالوا:يا نوح قد جادلتنا ,فأكثرت جدالنا ,فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين). .
إنه العجز يلبس ثوب القدرة ,والضعف يرتدي رداء القوة ; والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الستهانة
والتحدي:
وأنزل بنا العذاب الليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك ,ولسنا نبالي وعيدك .
أما نوح فل يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم ,ول يقعده عن بيان الحق لهم ,وإرشادهم
إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم ,وردهم إلى هذه الحقيقة وهي أنه
ليس سوى رسول ,وليس عليه إل البلغ ,أما العذاب فمن أمر ال ,وهو الذي يدبر المر كله ,ويقدر
المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله ,وسنته هي التي تنفذ . .وما يملك هو أن يردها أو يحولها . .إنه
رسول .وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الخيرة ,فل يقعده عن إبلغه وبيانه أن القوم يكذبونه
ويتحدونه:
(قال:إنما يأتيكم به ال إن شاء ,وما أنتم بمعجزين .ول ينفعكم نصحي -إن أردت أن أنصح لكم -إن كان
ال يريد أن يغويكم ,هو ربكم وإليه ترجعون). .
فإذا كانت سنة ال تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم ,فإن هذه السنة ستمضي فيكم ,مهما بذلت لكم من النصح .ل
لن ال سيصدكم عن النتفاع بهذا النصح ,ولكن لن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة ال تقتضي أن تضلوا ,
ع ُي ُنكُمْ لَن ُي ْؤ ِت َيهُمُ
ل لِّلذِينَ َت ْزدَرِي َأ ْ
خزَآئِنُ الّلهِ َولَ َأعَْلمُ ا ْل َغيْبَ َولَ َأقُولُ ِإنّي مََلكٌ َولَ َأقُو ُ
َولَ َأقُولُ َل ُكمْ عِندِي َ
جدَاَلنَا َف ْأ َتنِا ِبمَا
س ِهمْ ِإنّي إِذا ّلمِنَ الظّاِلمِينَ ( )31قَالُو ْا يَا نُوحُ َقدْ جَادَ ْل َتنَا َفأَ ْك َثرْتَ ِ
خيْرا اللّ ُه أَعَْلمُ ِبمَا فِي أَن ُف ِ
اللّ ُه َ
جزِينَ ()33
ن الصّا ِدقِينَ ( )32قَالَ ِإ ّنمَا َي ْأتِيكُم بِ ِه اللّ ُه إِن شَاء َومَا أَنتُم ِب ُمعْ ِ
ت مِ َ
َت ِعدُنَا إِن كُن َ
وما أنتم بمعجزين ل عن أن ينالكم ما يقدر لكم ,فأنتم دائما في قبضته ,وهو المدبر والمقدر لمركم كله ;
ول مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه:
وعند هذا المقطع من قصة نوح ,يلتفت السياق لفتة عجيبة ,إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة ,
التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول [ ص ] ودعواهم أن محمدا يفتري هذا القصص .فيرد هذا القول قبل
أن يمضي في استكمال قصة نوح:
(أم يقولون افتراه ? قل:إن افتريته فعلي إجرامي ,وأنا بريء مما تجرمون). .
فالفتراء إجرام ,قل لهم:إن كنت فعلته فعلي تبعته ,وأنا أعرف إنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه ,وأنا بريء
مما تجرمون من تهمة الفتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب .
وهذا العتراض ل يخالف سياق القصة في القرآن ,لنها إنما جاءت لتأدية غرض من هذا في السياق .
ثم يمضي السياق في قصة نوح ; يعرض مشهدا ثانيا .مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره:
وأوحي إلى نوح انه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن .فل تبتئس بما كانوا يفعلون ,واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا ,ول تخاطبني في الذين ظلموا ,إنهم مغرقون . .
فالقلوب المستعدة لليمان قد آمنت ,أما البقية فليس فيها استعداد ول اتجاه .هكذا أوحى ال إلى نوح ,وهو
أعلم بعباده ,وأعلم بالممكن والممتنع ,فلم يبق مجال للمضي في دعوة ل تفيد .ول عليك مما كانوا يفعلونه
من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء:
(فل تبتئس بما كانوا يفعلون). .
أى ل تحس بالبؤس والقلق ,ول تحفل ول تهتم بهذا الذي كان منهم ,ل على نفسك فما هم بضاريك بشيء ,
ول عليهم فإنهم ل خير فيهم .
فقد تقرر مصيرهم وانتهى المر فيهم .فل تخاطبني فيهم . .ل دعاء بهدايتهم ,ول دعاء عليهم -وقد ورد
في موضع آخر أنه حين يئس منهم دعا عليهم ,والمفهوم أن اليأس كان بعد هذا الوحي -فمتى انتهى القضاء
امتنع الدعاء . .
ن أَنصَحَ َل ُكمْ إِن كَانَ الّلهُ ُيرِيدُ أَن ُيغْ ِو َي ُكمْ هُ َو َر ّبكُمْ وَإَِليْ ِه ُت ْرجَعُونَ (َ )34أمْ
ن َأرَدتّ أَ ْ
صحِي إِ ْ
َولَ يَن َف ُعكُ ْم نُ ْ
ن مِن
ح َأنّهُ لَن ُي ْؤمِ َ
حيَ إِلَى نُو ٍ
ج َرمُونَ ( )35وَأُو ِ
جرَامِي وََأ َناْ َبرِيءٌ ّممّا ُت ْ
ن ا ْفتَ َر ْيتُ ُه فَعََليّ ِإ ْ
يَقُولُونَ ا ْفتَرَا ُه قُلْ إِ ِ
طبْنِي فِي اّلذِينَ
ح ِينَا َولَ ُتخَا ِ
ع ُي ِننَا وَ َو ْ
صنَعِ الْفُ ْلكَ ِبأَ ْ
ن فَلَ َت ْب َتئِسْ ِبمَا كَانُواْ يَ ْفعَلُونَ ( )36وَا ْ
قَ ْو ِمكَ ِإلّ مَن َقدْ آمَ َ
ظََلمُواْ ِإ ّنهُم ّم ْغرَقُونَ ()37
الدرس الرابع 39 - 38:بين نوح وقومه أثناء صنع السفينة
والمشهد الثالث من مشاهد القصة:مشهد نوح يصنع الفلك ,وقد اعتزل القوم وترك دعوتهم وجدالهم:
(ويصنع الفلك وكلما مر عليه مل من قومه سخروا منه:قال:إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون .
فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم). .
والتعبير بالمضارع .فعل الحاضر . .هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدته .فنحن نراه ماثل لخيالنا من
وراء هذا التعبير .يصنع الفلك .ونرى الجماعات من قومه المتكبرين يمرون به فيسخرون .يسخرون من
الرجل الذي كان يقول لهم:إنه رسول ويدعوهم ,ويجادلهم فيطيل جدالهم ; ثم إذا هو ينقلب نجارا يصنع مركبا
. .إنهم يسخرون لنهم ل يرون إل ظاهر المر ,ول يعلمون ما وراءه من وحي وأمر .شأنهم دائما في
إدراك الظواهر والعجز عن إدراك ما وراءها من حكمة وتقدير .فأما نوح فهو واثق عارف وهو يخبرهم في
اعتزاز وثقة وطمأنينة واستعلء أنه يبادلهم سخرية بسخرية:
(قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون). .
نسخر منكم لنكم ل تدركون ما وراء هذا العمل من تدبير ال وما ينتظركم من مصير:
(فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم). .
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ,قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين ,وأهلك -إل من سبق عليه القول -
ومن آمن ,وما آمن معه إل قليل .وقال:اركبوا فيها باسم ال مجريها ومرساها ,إن ربي لغفور رحيم .
وتتفرق القوال حول فوران التنور ,ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ,وتبدو رائحة السرائيليات فيها وفي قصة
الطوفان كلها واضحة .أما نحن فل نضرب في متاهة بغير دليل ,في هذا الغيب الذي ل نعلم منه إل ما
يقدمه لنا النص ,وفي حدود مدلوله بل زيادة .
وأقصى ما نملك أن نقوله:إن فوران التنور -والتنور الموقد -قد يكون بعين فارت فيه ,أو بفوارة بركانية .
وأن هذا الفوران ربما كان علمة من ال لنوح ,أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء المر ,وبدءا لنفاذ
هذا المر بفوران الرض بالماء .وسح الوابل من السماء .
لما حدث هذا (قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين ). . .كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح
بمراحلها واحدة واحدة في حينها .فقد أمر أول بصنع الفلك فصنعه ,ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه
,ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك ( .حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) . .أمر بالمرحلة التالية
..
(قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين ,وأهلك إل من سبق عليه القول ومن آمن). .
ومرة أخرى تتفرق القوال حول (من كل زوجين اثنين)وتشيع في الجو رائحة السرائيليات قوية .أما نحن
فل ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص( :احمل فيها من كل زوجين اثنين) . .مما يملك نوح أن يمسك
وأن يستصحب من الحياء .وما وراء ذلك خبط عشواء . .
وقال:اركبوا فيها باسم ال مجريها ومرساها . .وهذا تعبير عن تسليمها للمشيئة في جريانها ورسوها ,فهي
في رعاية ال وحماه . .وماذا يملك البشر من أمر الفلك في اللجة الطاغية بله الطوفان ?!
وهي تجري بهم في موج كالجبال ,ونادى نوح ابنه -وكان في معزل -يا بني اركب معنا ول تكن مع
الكافرين ,قال:سآوى إلى جبل يعصمني من الماء .قال:ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم .وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين . .
إن الهول هنا هولن .هول في الطبيعة الصامتة ,وهول في النفس البشرية يلتقيان:
وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح ,فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم ,وتستيقظ في كيانه
البوة الملهوفة ,ويروح يهتف بالولد الشارد:
ولكن البنوة العاقة ل تحفل بالبوة الملهوفة ,والفتوة المغرورة ل تقدر مدى الهول الشامل:
(قال:سآوي إلى جبل يعصمني من الماء). .
ثم ها هي ذي البوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة المر ترسل النداء الخير:
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد .فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء:
وإننا بعد آلف السنين ,لنمسك أنفاسنا -ونحن نتابع السياق -والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد .وهي
تجري بهم في موج كالجبال ,ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء .وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة
الدعاء ,والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ,وكأن لم يكن دعاء ول
جواب !
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية -بين الوالد والمولود -كما يقاس بمداه في الطبيعة ,والموج
يطغى على الذرى بعد الوديان .وإنهما لمتكافئان ,في الطبيعة الصامتة وفي نفس النسان .وتلك سمة بارزة
في تصوير القرآن .
وتهدأ العاصفة ,ويخيم السكون ,ويقضى المر ,ويتمشى الستقرار كذلك في اللفاظ وفي إيقاعها في النفس
والذن:
(وقيل:يا أرض ابلعي ماءك ,ويا سماء أقلعي ,وغيض الماء ,وقضي المر ,واستوت على الجودي ,وقيل
بعدا للقوم الظالمين). .
ويوجه الخطاب إلى الرض وإلى السماء بصيغة العاقل ,فتستجيب كلتاهما للمر الفاصل فتبلع الرض ,
وتكف السماء:
ونفذ القضاء
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير (. .قيل)على صيغة المجهول فل يذكر من قال ,
من قبيل لف موضوعهم ومواراته:
بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ,وبعدا لهم من رحمة ال فقد لعنوا ,وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . .وما
عادوا يستحقون ذكرا ول ذكرى !
الدرس الثامن 48 - 45:عتاب نوح لسؤاله عن ابنه الغريق واستئناف الحياة من جديد على الرض
والن وقد هدأت العاصفة ,وسكن الهول ,واستوت على الجودي .الن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد
المفجوع:
(ونادى نوح ربه ,فقال:رب إن ابني من أهلي ,وإن وعدك الحق ,وأنت أحكم الحاكمين).
رب إن ابني من أهلي ,وقد وعدتني بنجاة أهلي ,وإن وعدك الحق ,وأنت أحكم الحاكمين .فل تقضي إل
عن حكمة وتدبير . .
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ,ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء . .
وجاءه الرد بالحقيقة التي غفل عنها .فالهل -عند ال وفي دينه وميزانه -ليسوا قرابة الدم ,إنما هم قرابة
العقيدة .وهذا الولد لم يكن مؤمنا ,فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن . .جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير
وتوكيد ; وفيما يشبه التقريع والتأنيب والتهديد:
(قال:يا نوح إنه ليس من أهلك ,إنه عمل غير صالح ,فل تسألن ما ليس لك به علم .إني أعظك أن تكون
من الجاهلين). .
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين .حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا .عروة العقيدة التي تربط بين
الفرد والفرد مال يربطه النسب والقرابة:
فهو منبت منك وأنت منبت منه ,ولو كان ابنك من صلبك ,فالعروة الولى مقطوعة ,فل رابطة بعد ذلك ول
وشيجة .
ولن نوحا دعا دعاء من يستنجز وعدا ل يراه قد تحقق . .كان الرد عليه يحمل رائحة التأنيب والتهديد:
إني أعظك خشية أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط ,أو حقيقة وعد ال وتأويله ,فوعد ال قد
أول وتحقق ,ونجا أهلك الذين هم أهلك على التحقيق .
ويرتجف نوح ارتجافة العبد المؤمن يخشى أن يكون قد زل في حق ربه ,فيلجأ إليه ,يعوذ به ,ويطلب
غفرانه ورحمته:
(قال:رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ,وإل تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). .
وأدركت رحمة ال نوحا ,تطمئن قلبه ,وتباركه هو والصالح من نسله ,فأما الخرون فيمسهم عذاب أليم:
(قيل ; يا نوح اهبط بسلم منا ,وبركات عليك وعلى أمم ممن معك .وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب
أليم). .
وكانت خاتمة المطاف:النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته ; والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع
الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الليم . .ذات البشرى وذات الوعيد ,اللذان مرا في مقدمة السورة .فجاء
القصص ليترجمهما في الواقع المشهود . .
(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ول قومك من قبل هذا ,فاصبر إن العاقبة للمتقين).
حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون .فهذا القصص غيب من الغيب ,ما كان يعلمه النبي ,وما كان معلوما
لقومه ,ول متداول في محيطه .إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير .
وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني .فهي هي .والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير .
وحقيقة تكرار العتراضات والتهامات من المكذبين على الرغم من اليات والعبر والبينات التي ل تمنع جيل
أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل .
وحقيقة تحقق البشرى والوعيد ,كما يبشر النبي وينذر ,وهذا شاهد من التاريخ .
وحقيقة السنن الجارية التي ل تتخلف ول تحابي ول تحيد( :والعاقبة للمتقين) . .فهم الناجون وهم المستخلفون
.
ن مِنَ
ظكَ أَن َتكُو َ
عُس َلكَ ِبهِ عِ ْلمٌ ِإنّي أَ ِ
سأَلْنِ مَا َليْ َ
غ ْيرُ صَالِحٍ فَلَ َت ْ
عمَلٌ َ
ك ِإنّهُ َ
ح ِإنّ ُه َليْسَ ِمنْ أَهِْل َ
قَالَ يَا نُو ُ
سرِينَ
ح ْمنِي َأكُن مّنَ ا ْلخَا ِ
ل َتغْ ِفرْ لِي َوتَ ْر َ
ك مَا َليْسَ لِي ِبهِ عِ ْلمٌ وَِإ ّ
سأَلَ َ
ن َأ ْ
ك أَ ْ
ا ْلجَاهِلِينَ ( )46قَالَ رَبّ ِإنّي َأعُوذُ ِب َ
عذَابٌ أَلِيمٌ (
سهُم ّمنّا َ
س ُن َم ّتعُ ُهمْ ُثمّ َي َم ّ
لمٍ ّمنّا َوبَركَاتٍ عََل ْيكَ وَعَلَى ُأ َممٍ ّممّن ّم َعكَ وَُأ َممٌ َ
ط ِبسَ َ
ح ا ْهبِ ْ
( )47قِيلَ يَا نُو ُ
)48
وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل . .إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم
في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بل منازع ول شريك .
وبعد . .أكان الطوفان عاما في الرض ? أم إنه كان في تخوم الرض التي بعث فيها نوح ? وأين كانت
هذه الرض ? وأين تخومها في العالم القديم وفي العالم الحديث ? أسئلة ل جواب عليها إل الظن الذي ل
يغني من الحق شيئا ; وإل السرائيليات التي ل تستند إلى دليل صحيح . .وليس لها بعد ذلك قيمة في تحقيق
أهداف القصص القرآني في كثير ول قليل .
ولكن هذا ل يمنع من القول بأن ظاهر النصوص القرآنية يلهم أن قوم نوح كانوا هم مجموع البشرية في ذلك
الزمان .وأن الرض التي يسكنونها كانت هي الرض المعمورة في ذلك الحين .وأن الطوفان قد عم هذه
الرقعة ,وقضى على جميع الخلئق التي تقطنها -فيما عدا ركب السفينة الناجين .
وهذا حسبنا في إدراك طبيعة ذلك الحادث الكوني الذي جاءنا خبره من المصدر الوحيد الوثيق عن ذلك العهد
السحيق ,الذي ل يعرف "التاريخ" عنه شيئا .وإل فيومها أين كان "التاريخ" ?! إن التاريخ مولود حدث لم
يسجل من أحداث البشرية إل القليل ! وكل ما سجله قابل للخطأ والصواب ,والصدق والكذب ,والتجريح
والتعديل ! وما ينبغي قط أن يستفتي ذات يوم في شأن جاءنا به الخبر الصادق .ومجرد استفتائه في مثل هذا
الشأن قلب للوضاع ,وانتكاسة ل تصيب عقل قد استقرت فيه حقيقة هذا الدين !
ولقد حفلت أساطير شتى الشعوب وذكرياتها الغامضة بذكر طوفان أصاب أرضها في تاريخ قديم مجهول ,
بسبب معصية ذلك الجيل الذي شهد ذلك الحادث الكبير . .وأساطير بني إسرائيل المدونة فيما يسمونه "العهد
القديم" تحوي كذلك ذكرى طوفان نوح . .ولكن هذا كله شيء ل ينبغي أن يذكر في معرض الحديث القرآني
عن الطوفان ; ول ينبغي أن يخلط الخبر الصادق الوثيق .بمثل هذه الروايات الغامضة وهذه الساطير
المجهولة المصدر والسانيد .وإن كان لوجود هذه الخبار الغامضة عن الطوفان عند شعوب شتى دللته في
أن الطوفان قد كان في أرض هذه القوام ; أو على القل قد رحلت ذكرياته مع ذراري الناجين حين تفرقوا
في الرض بعد ذلك وعمروا الرض من جديد . .
وينبغي أن نذكر أن ما يسمى "بالكتاب المقدس" -سواء في ذلك "العهد القديم" المحتوي على كتب اليهود أو
"العهد الجديد" المحتوي على أناجيل النصارى -ليس هو الذي نزل من عند ال .فالتوراة التي أنزلها ال على
موسى قد حرقت نسخها الصلية على يد البابليين عند سبي اليهود .ولم تعد كتابتها إل بعد قرون عديدة -
قبيل ميلد المسيح بنحو خمسة قرون -وقد كتبها عزرا -وقد يكون هو عزير -وجمع فيها بقايا من التوراة
.أما سائرها فهو مجرد تأليف ! وكذلك الناجيل فهي جميعا ل تحوي إل ما حفظته ذاكرة تلمذة المسيح
وتلمذتهم بعد نحو قرن من وفاة المسيح -عليه السلم -ثم خلطت به حكايات كثيرة وأساطير ! . .ومن ثم
ل يجوز أن يطلب عند تلك الكتب جميعها يقين في أمر من المور !
ونخلص من هذه القضية العرضية إلى عبرة هذا الحادث الكوني العظيم . .وهي -في الحقيقة -عبر شتى ,
ل عبرة واحدة .وسنحاول أن نلم بشيء منها في الصفحات التالية ,قبل أن ننتقل من قصة نوح إلى قصة
هود:
إن قوم نوح -عليه السلم -هؤلء الذين شهدنا مدى جاهليتهم ,ومدى إصرارهم على باطلهم ,ومدى
استنكارهم لدعوة السلم الخالص التي حملها نوح -عليه السلم -إليهم ,وخلصتها:التوحيد الخالص الذي
يفرد ال -سبحانه -بالدينونة والعبودية ; ول يجعل لحد معه صفة الربوبية . .
إن قوم نوح هؤلء . .هم ذرية آدم . .وآدم -كما نعلم من قصته في سورة العراف من قبل -وفي سورة
البقرة كذلك -قد هبط إلى الرض ليقوم بمهمة الخلفة فيها -وهي المهمة التي خلقه ال لها وزوده بالكفايات
والستعدادات اللزمه لها -بعد أن علمه ربه كيف يتوب من الزلة التي زلها ,وكيف تلقى من ربه كلمات
فتاب عليه بها .وكيف أخذ عليه ربه العهد والميثاق -هو وزوجه وبنوه -أن(يتبع)ما يأتيه من هدى ال ,
ول يتبع الشيطان وهو عدوه وعدو بنيه إلى يوم الدين .
وإذن فقد هبط آدم إلى الرض مسلما ل متبعا هداه . .وما من شك أنه علم بنيه السلم جيل بعد جيل ; وأن
السلم كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية في الرض ; حيث لم تكن معها عقيدة أخرى ! فإذا نحن رأينا قوم
نوح -وهم من ذرية آدم بعد أجيال ل يعلم عددها إل ال -قد صاروا إلى هذه الجاهلية -التي وصفتها
القصة في هذه السورة -فلنا أن نجزم أن هذه الجاهلية طارئة على البشرية بوثنيتها وأساطيرها وخرافاتها
وأصنامها وتصوراتها وتقاليدها جميعا .وأنها انحرفت عن السلم إليها بفعل الشيطان المسلط على بني آدم ;
وبفعل الثغرات الطبيعية في النفس البشرية .تلك الثغرات التي ينفذ منها عدو ال وعدو الناس ,كلما تراخوا
عن الستمساك بهدى ال ,واتباعه وحده ,وعدم اتباع غيره معه في كبيرة ول صغيرة . .ولقد خلق ال
النسان ومنحه قدرا من الختيار -هو مناط البتلء -وبهذا القدر يملك أن يستمسك بهدي ال وحده فل
يكون لعدوه من سلطان عليه ,كما يملك أن ينحرف -ولو قيد شعرة -عن هدى ال إلى تعاليم غيره ;
فيجتاله الشيطان حتى يقذف به -بعد أشواط -إلى مثل تلك الجاهلية الكالحة التي انتهت إليها ذراري آدم -
النبي المسلم -بعد تلك الجيال التي ل يعلمها إل ال .
وهذه الحقيقة . .حقيقة أن أول عقيدة عرفت في الرض هي السلم القائم على توحيد الدينونة والربوبية
والقوامة ل وحده . .تقودنا إلى رفض كل ما يخبط فيه من يسمونهم "علماء الديان المقارنة " وغيرهم من
التطوريين الذين يتحدثون عن التوحيد بوصفه طورا متأخرا من أطوار العقيدة .سبقته أطوار شتى من التعدد
والتثنية لللهة .ومن تأليه القوى الطبيعية وتأليه الرواح ,وتأليه الشموس والكواكب . .إلى آخر ما تخبط
فيه هذه "البحوث" التي تقوم ابتداء على منهج موجه بعوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة ; يهدف إلى
تحطيم قاعدة الديان السماوية والوحي اللهي والرسالت من عند ال وإثبات أن الديان من صنع البشر ;
وأنها من ثم تطورت بتطور الفكر البشري على مدار الزمان !
وينزلق بعض من يكتبون عن السلم مدافعين ; فيتابعون تلك النظريات التي يقررها الباحثون في تاريخ
الديان -وفق ذلك المنهج الموجه ! -من حيث ل يشعرون ! وبينما هم يدافعون عن السلم متحمسين
يحطمون أصل العتقاد السلمي الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم .حين يقرر أن آدم -عليه
السلم -هبط إلى الرض بعقيدة السلم .وأن نوحا -عليه السلم -واجه ذراري آدم الذين اجتالهم
الشيطان عن السلم إلى الجاهلية الوثنية بذلك السلم نفسه . .القائم على التوحيد المطلق . .وأن الدورة
تجددت بعد نوح فخرج الناس من السلم إلى الجاهلية ; وأن الرسل جميعا أرسلوا بعد ذلك بالسلم . .القائم
على التوحيد المطلق . .وأنه لم يكن قط تطور في العقيدة السماوية في أصل العتقاد -إنما كان الترقي
والتركيب والتوسعفي الشرائع المصاحبة للعقيدة الواحدة -وأن ملحظة ذلك التطور في العقائد الجاهلية ل
يدل على أن الناس صاروا إلى التوحيد بناء على تطور في أصل العقيدة .إنما يدل على أن عقيدة التوحيد
على يد كل رسول كانت تترك رواسب في الجيال التالية -حتى بعد انحراف الجيال عنها -ترقي عقائدهم
الجاهلية ذاتها ; حتى تصير أقرب إلى أصل التوحيد الرباني .أما عقيدة التوحيد في أصلها فهي أقدم في
تاريخ البشرية من العقائد الوثنية جميعا ! وقد وجدت هكذا كاملة منذ وجدت ,لنها ليست نابعة من أفكار
البشر ومعلوماتهم المترقية ; إنما هي آتية لهم من عند ال سبحانه .فهي حق منذ اللحظة الولى ,وهي كاملة
منذ اللحظة الولى . .
هذا ما يقرره القرآن الكريم ; ويقوم عليه التصور السلمي .فل مجال -إذن -لباحث مسلم -وبخاصة إذا
كان يدافع عن السلم ! -أن يعدل عن هذا الذي يقرره القرآن الكريم في وضوح حاسم ,إلى شيء مما
تخبط فيه نظريات علم الديان المقارنة .تلك النظريات النابعة من منهج موجه كما أسلفنا !
ومع أننا هنا -في ظلل القرآن -ل نناقش الخطاء والمزالق في الكتابات التي تكتب عن السلم -إذ أن
مجال هذه المناقشة بحث آخر مستقل . . -ولكننا نلم بنموذج واحد ,نعرضه في مواجهة المنهج القرآني
والتقريرات القرآنية في هذه القضية . .
"وينبغي أن تكون محاولت النسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولته في سبيل العلوم والصناعات " .
لن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة
والصناعة تارة أخرى .
"وقد جهل الناس شأن الشمس الساطعة ,وهي أظهر ما تراه العيون وتحسه البدان ,ولبثوا إلى زمن قريب
يقولون بدورانها حول الرض ,ويفسرون حركاتها وعوارضها كما تفسر اللغاز والحلم .ولم يخطر لحد
أن ينكر وجود الشمس لن العقول كانت في ظلم من أمرها فوق ظلم .ولعلها ل تزال .
"فالرجوع إلى أصول الديان في عصور الجاهلية الولى ل يدل على بطلن التدين ,ول على أنها تبحث عن
محال .وكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصر واحد ; وأن
الناس يستعدون لعرفانها عصرا بعد عصر ,وطورا بعد طور .وأسلوبا بعد أسلوب ,كما يستعدون لعرفان
الحقائق الصغرى ,بل على نحو أصعب وأعجب من استعدادهم لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل
ويتناولها الحس والعيان .
"وقد أسفر علم المقابلة بين الديان عن كثير من الضللت والساطير التي آمن بها النسان الول ,ول تزال
لها بقية شائعة بين القبائل البدائية ,أو بين أمم الحضارة العريقة .ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم
عن شيء غير ذلك ,ول أن تكون الديانات الولى على غير ما كانت عليه من الضللة والجهالة .فهذه هي
وحدهاالنتيجة المعقولة التي ل يترقب العقل نتيجة غيرها .وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء ,أو
يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين .فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الديان البدائية ليثبت
أن الولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء ,إنما يبحث عن محال . . .
"يعرف علماء المقابلة بين الديان ثلثة أطوار عامة مرت بها المم البدائية في اعتقادها باللهة والرباب:
ودور الوحدانية
"ففي دور التعدد كانت القبائل الولى تتخذ لها أربابا تعد بالعشرات ,وقد تتجاوز العشرات إلى المئات .
ويوشك في هذا الدور أن يكون لكل أسرة كبيرة رب تعبده ,أو تعويذة تنوب عن الرب في الحضور ,وتقبل
الصلوات والقرابين .
"وفي الدور الثاني وهو دور التمييز والترجيح تبقى الرباب على كثرتها ,ويأخذ رب منها في البروز
والرجحان على سائرها .إما لنه رب القبيلة الكبرى التي تدين لها القبائل الخرى بالزعامة ,وتعتمد عليها
في شؤون الدفاع والمعاش ,وإما لنه يحقق لعباده جميعا مطلبا أعظم وألزم من سائر المطالب التي تحققها
الرباب المختلفة ,كأن يكون رب المطر والقليم في حاجة إليه ,أو رب الزوابع والرياح وهي موضع رجاء
أو خشية يعلو على موضع الرجاء والخشية عند الرباب القائمة على تسيير غيرها من العناصر الطبيعية .
"وفي الدور الثالث تتوحد المة ,فتتجمع إلى عبادة واحدة تؤلف بينها مع تعدد الرباب في كل إقليم من
القاليم المتفرقة .ويحدث في هذا الدور أن تفرض المة عبادتها على غيرها كما تفرض عليها سيادة تاجها
وصاحب عرشها ,ويحدث أيضا أن ترضى من إله المة المغلوبة بالخضوع للهها ,مع بقائه وبقاء عبادته
كبقاء التابع للمتبوع ,والحاشية للملك المطاع .
"ول تصل المة إلى هذه الوحدانية الناقصة إل بعد أطوارا من الحضارة تشيع فيها المعرفة ,ويتعذر فيها على
العقل قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول الهمج وقبائل الجاهلية ,فتصف ال بما هو أقرب إلى الكمال
والقداسة من صفات اللهة المتعددة في أطوارها السابقة ,وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وعلقتها
بإرادة ال وحكمته العالية ,وكثيرا ما يتفرد الله الكبر في هذه المم بالربوبية الحقة ,وتنزل الرباب
الخرى إلى مرتبة الملئكة أو الرباب المطرودين من الحظيرة السماوية " . . .الخ .
وواضح سواء من رأي الكاتب نفسه أو مما نقله ملخصا من آراء علماء الدين المقارن أن البشر هم الذين
ينشئون عقائدهم بأنفسهم ; ومن ثم تظهر فيها أطوارهم العقلية والعلمية والحضارية والسياسية .وأن التطور
من التعدد إلى التثنية إلى التوحيد تطور زمني مطرد على الجمال . .
وهذا واضح من الجملة الولى في تقديم المؤلف لكتابه":موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة اللهية ,منذ أن اتخذ
النسان ربا ,إلى أن عرف ال الحد ,واهتدى إلى نزاهة التوحيد" . . .
والذي ل شك فيه أن ال سبحانه يقرر في كتابه الكريم ,تقريرا واضحا جازما ,شيئا آخر غير ما يقرره
صاحب كتاب":ال" متأثرا فيه بمنهج علماء الديان المقارنة . .وأن الذي يقرره ال -سبحانه -أن آدموهو
أول البشر عرف حقيقة التوحيد كاملة ,وعرف نزاهة التوحيد غير مشوبة بشائبة من التعدد والتثنية ,وعرف
الدينونة ل وحده باتباع ما يتلقى منه وحده .وأنه عرف بنيه بهذه العقيدة ,فكانت هنالك أجيال في أقدم تاريخ
البشرية ل تعرف إل السلم دينا ,وإل التوحيد عقيدة . .وأنه لما طال المد على الجيال المتتابعة من ذرية
آدم انحرفت عن التوحيد . .ربما إلى التثنية وربما إلى التعدد . .ودانت لشتى الرباب الزائفة . . .حتى
جاءها نوح عليه السلم بالتوحيد من جديد .وأن الذين بقوا على الجاهلية أغرقهم الطوفان جميعا ; ولم ينج إل
المسلمون الموحدون الذين يعرفون "نزاهة التوحيد" وينكرون التعدد والتثنية وسائر الرباب والعبادات الجاهلية
! ولنا أن نجزم أن أجيال من ذراري هؤلء الناجين عاشت كذلك بالسلم القائم على التوحيد المطلق .قبل
أن يطول عليهم المد ,ويعودوا إلى النحراف عن التوحيد من جديد . .وأنه هكذا كان شأن كل رسول(:وما
أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون). .
والذي لشك فيه أن هذا شيء ,والذي يقرره علماء الديان المقارنة ويتابعهم فيه مؤلف كتاب":ال" شيء آخر
.وبينهما تقابل تام في منهج النظر وفي النتائج التي ينتهي إليها . .وآراء الباحثين في تاريخ الديان ليست
سوى نظريات يعارض بعضها بعضا ,فهي ليست الكلمة النهاية حتى في مباحث البشر الفانين !
وما من شك أنه حين يقرر ال -سبحانه -أمرا يبينه في كتابه الكريم هذا البيان القاطع ,ويقرر غيره أمرا
آخر مغايرا له تمام المغايرة ,فإن قول ال يكون أولى بالتباع .وبخاصة ممن يدافعون عن السلم ;
ويكتبون ما يكتبون بقصد دفع الشبهات عنه وعن أصل الدين جملة . .وأن هذا الدين ل يخدم بنقض قاعدته
العتقادية في أن الدين جاء وحيا من عند ال ,ولم يبتدعه البشر من عند أنفسهم ; وإنه جاء بالتوحيد منذ أقدم
العصور ولم يجيء بغير التوحيد في أية فترة من فترات التاريخ ,ول في أيه رسالة .كما أنه ل يخدم بترك
تقريراته إلى تقريرات علماء الديان المقارنة وبخاصة حين يعلم أن هؤلء إنما يعملون وفق منهج موجه
لتدمير القاعدة الساسية لدين ال كله ; وهي أنه وحي من ال ,وليس من وحي الفكر البشري المترقي
المتطور ! وليس وقفا على ترقي العقل البشري في العلم المادي والخبرة التجريبية !
ولعل هذه اللمحة المختصرة -التي ل نملك الستطراد فيها في كتاب الظلل -تكشف لنا عن مدى الخطورة
في تلقي مفهوماتنا السلمية -في أي جانب من جوانبها -عن مصدر غير إسلمي .كما تكشف لنا عن
مدى تغلغل مناهج الفكر الغربية ومقرراتها في أذهان الذين يعيشون على هذه المناهج والمقررات ويستقون
منها .حتى وهم يتصدون لرد الفتراءات عن السلم من أعدائه ( . .إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
ونقف وقفة أخرى مع قصة نوح . .نقف مع نوح وابنه الذي ليس من أهله !
إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا . .وقفة على مفرق الطريق
تكشف معالم الطريق . .
(وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إل من قد آمن ,فل تبتئس بما كانوا يفعلون .واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا ,ول تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ). . .
(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا:احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك -إل من سبق عليه القول -ومن
آمن ,وما آمن معه إل قليل ). . .
(وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل :-يا بني اركب معنا ,ول تكن مع
الكافرين .قال:سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ,قال:ل عاصم اليوم من أمر ال إل من رحم ,وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين ). .
(ونادى نوح ربه ,فقال:رب إن ابني من أهلي ,وإن وعدك الحق ,وأنت أحكم الحاكمين .قال:يا نوح إنه
ليس من أهلك ,إنه عمل غير صالح ,فل تسألن ما ليس لك به علم ,إني أعظك أن تكون من الجاهلين .
قال:رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ,وإل تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). .
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ,وتتعلق بآفاق
وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم .
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب ; وليست وشيجة الرض والوطن ,وليست وشيجة القوم والعشيرة
,وليست وشيجة اللون واللغة ,وليست وشيجة الجنس والعنصر ,وليست وشيجة الحرفة والطبقة . .إن هذه
الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلقة بين الفرد والفرد ; كما قال ال سبحانه وتعالى لعبده نوح -عليه
السلم -وهو يقول( :رب إن ابني من أهلي)( . .يا نوح إنه ليس من أهلك)ثم بين له لماذا يكون ابنه . .ليس
من أهله ( . .إنه عمل غير صالح) . .إن وشيجة اليمان قد انقطعت بينكما يا نوح( :فل تسألن ما ليس لك به
علم)فأنت تحسب أنه من أهلك ,ولكن هذا الحسبان خاطئ .أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ,ولو
كان هو ابنك من صلبك !
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ,وبين نظرات
الجاهلية المتفرقة . .إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب ; وآنا هي الرض والوطن ,وآنا هي
القوم والعشيرة ,وآنا هي اللون واللغة ,وآنا هي الجنس والعنصر ,وآنا هي الحرفة والطبقة ! تجعلها آنا هي
المصالح المشتركة ,أو التاريخ المشترك .أو المصير المشترك . .وكلها تصورات جاهلية -على تفرقها أو
تجمعها -تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور السلمي !
والمنهج الرباني القويم -ممثل في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول [ ص ] وهي
من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه -قد أخذ المة المسلمة بالتربية على ذلك الصل الكبير . .والمعلم
الواضح البارز في مفرق الطريق . .
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ,ضرب أمثاله لشتى
الوشائج والروابط الجاهلية الخرى ,ليقرر من وراء هذه المثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها . .
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم -عليه السلم -وأبيه وقومه كذلك:
(واذكر في الكتاب إبراهيم ,إنه كان صديقا نبيا .إذ قال لبيه:يا أبت لم تعبد ما ل يسمع ول يبصر ول يغني
عنك شيئا ? يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ,فاتبعني أهدك صراطا سويا .يا أبت ل تعبد الشيطان
,إن الشيطان كان للرحمن عصيا .يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطانوليا . .
قال:أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لرجمنك ! واهجرني مليا .قال:سلم عليك سأستغفر لك
ربي ,إنه كان بي حفيا ,وأعتزلكم وما تدعون من دون ال وأدعو ربي ,عسى أل أكون بدعاء ربي شقيا .
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون ال وهبنا له إسحاق ويعقوب وكل جعلنا نبيا ; ووهبنا لهم من رحمتنا ,
وجعلنا لهم لسان صدق عليا) [ . . .مريم. ] 50 - 41:
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه ال سبحانه ولقنه ,وهو يعطيه عهده وميثاقه .
ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه:
وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ,فأتمهن ,قال:إني جاعلك للناس إماما ,قال:ومن ذريتي ? قال:ل ينال عهدي
الظالمين . .
وإذ قال إبراهيم:رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات -من آمن منهم بال واليوم الخر .
قال:ومن كفر فأمتعه قليل ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ . .البقرة] 126 - 124:
وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه ,وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ,ولوط وامرأته .وفي
الجانب الخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:
ضرب ال مثل للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ,كانتا تحت عبدين من عبادنا الصالحين ,فخانتاهما ,فلم
يغنيا عنهما من ال شيئا ,وقيل:ادخل النار مع الداخلين . . .
(وضرب ال مثل للذين آمنوا امرأة فرعون ,إذ قالت:رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ,ونجني من فرعون
وعمله ,ونجني من القوم الظالمين) [ . . .التحريم] 11 - 10:
وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ,ومصالحهم
وماضيهم ومصيرهم .وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم .وما كان من الفتية أصحاب
الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم . . .
(قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ,إذ قالوا لقومهم:إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون ال ,
كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بال وحده [ . .). . .الممتحنة. ] 4:
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ? إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا:ربنا آتنا من
لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ,فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .ثم بعثناهم لنعلم أي
الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .نحن نقص عليك نبأهم بالحق ,إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ,وربطنا
على قلوبهم إذ قاموا فقالوا:ربنا رب السماوات والرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذن شططا .هؤلء
قومنا اتخذوا من دونه آلهة .لول يأتون عليهم بسلطان بين ! فمن أظلم ممن افترى على ال كذبا ? وإذ
اعتزلتموهم وما يعبدون -إل ال -فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ,ويهيى ء لكم من أمركم
مرفقا [ . . .الكهف. ] 9 - 16:
وبهذه المثلة التي ضربها ال للمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من النبياء والمؤمنين .الذين سبقوها في
موكب اليمان الضارب في شعاب الزمان ,وضحت معالم الطريق لهذه المة ; وقام هذا المعلم البارز أمامها
عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم ,ول يقوم على سواها .وطالبها ربها بالستقامة
على الطريق في حسم ووضوح يتمثلن في مواقف كثيرة ,وفي توجيهات من القرآن كثيرة . .هذه نماذج
منها . .
(ل تجد قوما يؤمنون بال واليوم الخر يوادون من حاد ال ورسوله -ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم
أو عشيرتهم -أولئك كتب في قلوبهم اليمان وأيدهم بروح منه ,ويدخلهم جنات تجري من تحتها النهار
خالدين فيها ,رضي ال عنهم ورضوا عنه ,أولئك حزب ال ,أل إن حزب ال هم المفلحون). . .
[ المجادلة] 22:
(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ,وقد كفروا بما جاءكم من الحق ,
يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بال ربكم ,إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ,تسرون
إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ,ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل) [ . . .الممتحنة] 1:
لن تنفعكم أرحامكم ول أولدكم ,يوم القيامة يفصل بينكم ,وال بما تعملون بصير .قد كانت لكم أسوة حسنة
في إبراهيم والذين معه . . .الخ [ . .الممتحنة] 4 - 3:
(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على اليمان ,ومن يتولهم منكم فأولئك
هم الظالمون) [ . . . .التوبة. ] 23:
(يا أيها الذين آمنوا ل تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ,بعضهم أولياء بعض ,ومن يتولهم منكم فإنه منهم ,
إن ال ل يهدي القوم الظالمين) [ . . .المائدة. ] 51:
وهكذا تقررت تلك القاعدة الصيلة الحاسمة في علقات المجتمع السلمي ; وفي طبيعة بنائه وتكوينه
العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان .ولم يعد هناك مجال
للجمع بين "السلم" وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها ال للمة المختارة .
والذين يدعون صفة السلم ,ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلقات الجاهلية التي أحل
السلم محلها قاعدة العقيدة ,إما أنهم ل يعرفون السلم ; وإما أنهم يرفضونه .والسلم في كلتا الحالتين ل
يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لنفسهم وهم ل يطبقونها ,بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية
فعل !
وندع هذه القاعدة -وقد صارت واضحة تماما -لننظر في جوانب من حكمة ال في إقامة المجتمع السلمي
على هذه القاعدة . .
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص "النسان" التي تفرقه من عالم البهيمة ; لنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه
وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها -وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه
الصورة -وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية ,قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من
خواص النسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة -في المجتمع النساني الذي يبلغ ذروة الحضارة النسانية -هي آصرة
التجمع .لنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص النسان المميزة له عن البهائم .ول تكون آصرة التجمع
عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه النسان مع البهائم ! من مثل الرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل
خواص الحظيرة ,وسياج الحظيرة ! ول تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس
والعنصرواللون واللغة . .فكلها مما يشترك فيه النسان مع البهيمة .وليس هناك إل شؤون العقل والقلب
التي يختص بها النسان دون البهيمة !
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به النسان عن البهائم . .هو عنصر الختيار والرادة ,فكل فرد على
حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد ; وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه
مختارا ; ونوع المنهج العتقادي والجتماعي والسياسي والقتصادي والخلقي الذي يريد -بكامل حريته -
أن يتمذهب به ويعيش . .
ولكن هذا الفرد ل يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه .كما ل يملك أن يقرر الرض التي يحب
أن يولد فيها ,ولغة الم التي يريد أن ينشأ عليها . .إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات
الجاهلية ! . .إن هذه المور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الرض ,ول يؤخذ له فيها مشورة ول
رأي ; إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره ! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والخرة معا -أو حتى
في الدنيا وحدها -بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ول مريدا ; وبذلك تسلب
إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها ; وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم النسان ; بل من قواعد تركيبه
وتكوينه النساني المميز له من سائر الخلئق !
ومن أجل المحافظة على خصائص النسان الذاتية ,والمحافظة على الكرامة التي وهبها ال له متمشية مع
تلك الخصائص ; يجعل السلم العقيدة -التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد -هي
الصرة التي يقوم عليها التجمع النساني في المجتمع السلمي ; والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد
بإرادته الذاتية .وينفي أن تكون تلك العوامل الضطرارية ,التي ل يد له فيها ,ول يملك كذلك تغييرها
باختياره ,هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة -وعدم قيامه على العوامل الضطرارية الخرى -أن ينشئ
مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا ; يجيء إليه الفراد من شتى الجناس واللوان واللغات والقوام والدماء
والنساب والديار والوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي ; ل يصدهم عنه صاد ,ول يقوم في وجوههم
حاجز ,ول تقف دونه حدود مصطنعة ,خارجة عن خصائص النسان العليا .وأن تصب في هذا المجتمع
كل الطاقات والخواص البشرية ,وتجتمع في صعيد واحد ,لتنشى ء "حضارة إنسانية " تنتفع بكل خصائص
الجناس البشرية ; ول تغلق دون كفاية واحدة ,بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والرض . . .
"ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج السلمي في هذه القضية ; ولقامة التجمع السلمي على آصرة
العقيدة وحدها ,دون أواصر الجنس والرض واللون واللغة والمصالح الرضية القريبة ,والحدود القليمية
السخيفة ! ولبراز "خصائص النسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلئها ,دون الصفات المشتركة بينه وبين
الحيوان . .كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع
الجناس واللوان واللغات ,بل عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة ! وأن صبت في بوتقة المجتمع
السلمي خصائص الجناس البشرية وكفاياتها ,وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ,وأنشأت مركبا
عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة .وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة
ضخمة ,تحوي خلصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ,على بعد المسافات وبطء طرق التصال في ذلك
الزمان .
"لقد اجتمع في المجتمع السلمي المتفوق:العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي
والصينيوالهندي والروماني والغريقي والندونيسي والفريقي . . .إلى آخر القوام والجناس . . .
وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع السلمي والحضارة السلمية .
ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما "عربية " إنما كانت دائما "إسلمية " ولم تكن يوما ما "قومية " إنما
كانت دائما "عقيدية " .
"ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ,وبآصرة الحب .وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة .فبذلوا جميعا
أقصى كفاياتهم ,وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ,وصبوا خلصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية
في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة ,وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم
الواحد ,وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بل عائق .وهذا ما لم يجتمع قط لي تجمع آخر على مدار التاريخ !
"لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع المبراطورية الرومانية مثل .فقد جمعت بالفعل
أجناسا متعددة ,ولغات متعددة ,وألوانا متعددة ,وأمزجة متعددة .ولكن هذا كله لم يقم على "آصرة إنسانية "
ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . .لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الشراف وطبقة العبيد في
المبراطورية كلها من ناحية ; وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني -بصفة عامة -وعبودية
سائر الجناس الخرى .ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع السلمي ; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع
السلمي .
"كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . .تجمع المبراطورية البريطانية مثل . .ولكنه كان
كالتجمع الروماني ,الذي هو وريثه ! تجمعا قوميا استغلليا ,يقوم على أساس سيادة القومية النجليزية ,
واستغلل المستعمرات التي تضمها المبراطورية . .ومثله المبراطوريات الوربية كلها . .المبراطورية
السبانية والبرتغالية في وقت ما ,والمبراطورية الفرنسية . .كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت !
وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر ,يتخطى حواجز الجنس والقوم والرض واللغة واللون .
ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية " عامة ,إنما أقامته على القاعدة "الطبقية " .فكان هذا التجمع هو الوجه
الخر للتجمع الروماني القديم . .هذا تجمع على قاعدة طبقة "الشراف" وذلك تجمع على قاعدة طبقة
"الصعاليك" [ البروليتريا ] ; والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد السود على سائر الطبقات الخرى ! وما
كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إل أسوأ ما في الكائن النساني . .فهو ابتداء قائم على أساس
إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها .باعتبار أن "المطالب الساسية " للنسان هي "الطعام
والمسكن والجنس" -وهي مطالب الحيوان الولية -وباعتبار أن تاريخ النسان هو تاريخ البحث عن
الطعام !!
"لقد تفرد السلم بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص النسان وتنميتها وإعلئها في بناء المجتمع
النساني . .وما يزال متفردا . .والذين يعدلون عنه إلى أى منهج آخر ,يقوم على أية قاعدة أخرى ,من
القوم أو الجنس أو الرض أو الطبقة . .إلى آخر هذا النتن السخيف السخيف ,هم أعداء "النسان" حقا ! هم
الذين ل يريدون لهذا النسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره ال ; ول يريدون لمجتمعه
أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ,الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته ; وهم الذين يقول ال
تعالى فيهم( :الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) . .لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس
العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين ,وقوة المجتمع السلمي الذي يقوم على هذا الساس . .ولما كانوا
بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه ; وشفاء ما في صدورهم من
هذا الدين وأهله ; ولستغللهم كذلك واستغلل مقدراتهم وديارهم وأموالهم . .لما كانوا بصدد تلك المعركة
مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها ; وأن يقيموا لهله المجتمعين على إله واحد ,
أصناما تعبد من دون ال ,اسمها تارة "الوطن" واسمها تارة "القوم" واسمها تارة "الجنس" .وظهرت هذه
الصنام على مراحل التاريخ تارة باسم "الشعوبية " وتارة باسم "الجنسية الطورانية " وتارة باسم "القومية
العربية " وتارة بأسماء شتى ,تحملها جبهات شتى ,تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع السلمي الواحد
القائم على أساس العقيدة ,المنظم بأحكام الشريعة . . .إلى أن وهنت القاعدة الساسية تحت المطارق
المتوالية ,وتحت اليحاءات الخبيثة المسمومة ; وإلى أن أصبحت تلك "الصنام" مقدسات يعتبر المنكر لها
خارجا على دين قومه ! أو خائنا لمصالح بلده !!!
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع
السلمي الفريد في التاريخ . .كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ,الذي جرب سلح "القومية " في تحطيم
التجمع المسيحي ,وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . .وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول
الجنس اليهودي ; ثم ثنوا بتحطيم الحصار السلمي حول ذلك الجنس الكنود !
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع السلمي -بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية
والوطنية بين الجناس الملتحمة في المجتمع السلمي . .ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية
القديمة على هذا الدين وأهله .كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الستعمار الوربي الصليبي .
وما يزالون . .حتى يأذن ال بتحطيم تلك الصنام الخبيثة الملعونة ; ليقوم التجمع السلمي من جديد ,على
أساسه المتين الفريد . .
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم
.ذلك أن الدينونة ل وحده ل تتم تمامها إل بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ,وأل تتعدد "المقدسات" ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد ,
وأل تتعدد "الشعارات" ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وأل تتعدد القبلت
والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الصنام الحجرية واللهة السطورية ! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في
صور شتى ; كما أن الصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة ; وآلهة الساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في
المقدسات والمعبودات من دون ال أيا كانت أسماؤها .وأيا كانت مراسمها .
وما كان السلم ليخلص الناس من الصنام الحجرية والرباب السطورية ,ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام
الجنسيات والقوميات والوطان . .وما إليها . .يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها .وهو يدعوهم إلى ال
وحده ,وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه !
لذلك قسم السلم الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . .أمة المسلمين من أتباع الرسل -كل
في زمانه حتى يأتي الرسول الخير إلى الناس كافة -وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والصنام في
شتى الصور والشكال على مدار القرون . .
وعندما أراد ال أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ,عرفها لهم في صورة أتباع
الرسل -كل في زمانه -وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه المة(:إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاعبدون) . .ولم يقل للعرب:إن أمتكم هي المة العربية في جاهليتها وإسلمها سواء ! ول قال لليهود:إن
أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلمهم سواء ! ول قال لسلمان الفارسي:إن أمتك هي
فارس ! ول لصهيب الرومي:إن أمتك هي الرومان ! ول لبلل الحبشي:إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال
للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش:إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى
وهارون ,وإبراهيم ,ولوط ,ونوح ,وداود وسليمان ,وأيوب ,وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ,
وزكريا ويحيى ,ومريم . .كما جاء في سورة النبياء [:آيات. ] 91 - 48:
هذه هي أمة "المسلمين" في تعريف ال سبحانه . .فمن شاء له طريقا غير طريق ال فليسلكه .ولكن ليقل:إنه
ليس من المسلمين ! أما نحن الذين أسلمنا ل ,فل نعرف لنا أمة إل المة التي عرفها لنا ال .وال يقص
الحق وهو خير الفاصلين . .
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الساسية في هذا الدين .
ثم نقف الوقفة الخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان ال سبحانه:
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلم ,تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ,هم كانوا حصيلة
دعوة نوح في ألف سنة إل خمسين عاما كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن . .
إن هذه الحفنة -وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل -قد استحقت أن يغير ال لها المألوف من
ظواهر هذا الكون ; وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من
الرض ! وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الرض بعد ذلك ,وبذرة العمران فيها والستخلف من
جديد . .
إن طلئع البعث السلمي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الرض كلها ; والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية
والوحشة ; كما تعاني الذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل . .إن هذه الطلئع ينبغي أن تقف طويل أمام هذا
المر الخطير ,وأمام دللته التي تستحق التدبر والتفكير !
إن وجود البذرة المسلمة في الرض شيء عظيم في ميزان ال تعالى . .شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر
الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعا ; كما يستحق منه سبحانه أن يكل هذه البذرة
ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الرض وتعمرها من جديد !
لقد كان نوح عليه السلم يصنع الفلك بأعين ال ووحيه ,كما قال تعالى(:واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ول
تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون). .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترون عليه كما قال ال تعالى في سورة القمر(:كذبت
قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر .فدعا ربه أني مغلوب فانتصر). .
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه(مغلوب)ويدعو ربه أن "ينتصر" هو وقد غلب رسوله . .عندئذ أطلق ال
القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب:
(ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر .وفجرنا الرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر). .
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب . .كان ال سبحانه -
بذاته العلية -مع عبده المغلوب:
(وحملناه على ذات ألواح ودسر .تجري بأعيننا . .جزاء لمن كان كفر .). .
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلئع البعث السلمي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين
تطاردها الجاهلية ; وحين "تغلبها" الجاهلية !
إنها تستحق أن يسخر ال لها القوى الكونية الهائلة . .وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان .فما
الطوفان إل صورة من صور تلك القوى ! (وما يعلم جنود ربك إل هو). .
وإنه ليس عليها إل أن تثبت وتستمر في طريقها ; وإل أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ; وإل أن تصبر
حتى يأتي ال بأمره ,وإل أن تثق أن وليها القدير ل يعجزه شيء في الرض ول في السماء .وأنه لن يترك
أولياءه إلى أعدائه ,إل فترة العداد والبتلء ; وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن ال سيصنع لها وسيصنع
بها في الرض ما يشاء .
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ول متقاربة . .إن الجاهلية تملك قواها . .ولكن الداعي إلى ال يستند
إلى قوة ال .وال يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية -حينما يشاء وكيفما يشاء -وأيسر هذه القوى
يدمر على الجاهلية من حيث ل تحتسب !
وقد تطول فترة البتلء لمر يريده ال . .ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إل خمسين عاما ; قبل أن يأتي
الجل الذي قدره ال .ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إل اثني عشر مسلما . .ولكن هذه الحفنة من
البشر كانت في ميزان ال تساوي تسخير تلك القوى الهائلة ,والتدمير على البشرية الضالة جميعا ,وتوريث
الرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها . .
إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة -وفق مشيئة ال الطليقة -ولكن ال يستبدل
بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى ,تلئم واقع كل فترة ومقتضياتها .وقد تدق بعض الخوارق على بعض
العقول فل تدركها ; ولكن الموصولين بال يرون يد ال دائما ,ويلبسون آثارها المبدعة .
والذين يسلكون السبيل إلى ال ليس عليهم إل أن يؤدوا واجبهم كامل ,بكل ما في طاقتهم من جهد ; ثم يدعوا
المور ل في طمأنينة وثقة .وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر
عبده الصالح نوح(:فدعا ربه أني مغلوب ,فانتصر) . .ثم ينتظروا فرج ال القريب .وانتظار الفرج من ال
عبادة ; فهم على هذا النتظار مأجورون .
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن ل يكشف عن أسراره إل للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا
كبيرا . .إن هؤلء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن ; ومن ثم يتذوقونه
ويدركونه ; لنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ,كما خوطبت به الجماعة المسلمة الولى ,
فتذوقته وأدركته وتحركت به . .
مقدمة الوحدة
مضى قوم نوح في التاريخ ,الكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ ; واستبعدوا من الحياة ومن
رحمة ال سواء ,والناجون استخلفوا في الرض تحقيقا لسنة ال ووعده( :إن العاقبة للمتقين).
ولقد كان وعد ال لنوح( :يا نوح اهبط بسلم منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم
منا عذاب أليم) . .فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد ال .وإذا عاد من نسل نوح
الذين تفرقوا في البلد -ومن بعدهم ثمود -ممن حقت عليهم كلمة ال( :وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب
أليم).
لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال ل يعلمها إل ال من المسلمين من ذرية آدم . .
فل بد أن أجيال من ذرية آدم بعد استخلفه في الرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالسلم الذي كان عليه
أبواهم .حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم ,وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح -عليه السلم -ثم
جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين ,وأهلك الباقون ولم يعد على الرض من الكافرين ديار -كما دعا
نوح ربه .ول بد أن أجيال كثيرة من ذرية نوح عاشت بالسلم بعده . .حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى
فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية .وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية . .
فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الحقاف [ والحقف كثيب الرمل المائل ] في جنوب الجزيرة العربية ,وأما ثمود
فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة
والمنعة والرزق والمتاع . .ولكن هؤلء وهؤلء كانوا ممن حقت عليهم كلمة ال ,بما عتوا عن أمر ال ,
واختاروا الوثنية على التوحيد ,والدينونة للعبيد على الدينونة ل ,وكذبوا الرسل شر تكذيب .وفي قصصهم
هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح .
وإلى عاد أخاهم هودا قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .إن أنتم إل مفترون .يا قوم ل أسألكم عليه
أجرا .إن أجري إل على الذي فطرني .أفل تعقلون ? ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يرسل السماء
عليكم مدرارا ,ويزدكم قوة إلى قوتكم ,ول تتولوا مجرمين . .
وكان هود من عاد .فهو أخوهم .واحد منهم ,تجمعه -كانت -آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة
الواحدة .وتبرز هذه الصرة هنا في السياق ,لن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الخ
وإخوته ,وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذا ومستقبحا ! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم
على أساس افتراق العقيدة .ويبرز بذلك معنى انقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة .لتتفرد هذه
الوشيجة وتبرز في علقات المجتمع السلمي ,ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي . .فالدعوة به
تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والرض . . .
ثم تنتهي بالفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد . .أمة مسلمة وأمة مشركة . .وبينهما فرقة
ومفاصلة . .وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد ال بنصر المؤمنين وإهلك المشركين .ول يجيى ء وعد
ال بهذا ول يتحقق إل بعد أن تتم المفاصلة ,وتتم المفارقة ,وتتميز الصفوف ,وينخلع النبي والمؤمنون معه
من قومهم ,ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم ,ويخلعوا ولءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة ,ويعطوا
ولءهم كله ل ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى ال وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد . .
وعندئذ فقط -ل قبله -يتنزل عليهم نصر ال . .
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة .
بهذا التودد ,والتذكير بالواصر التي تجمعهم ,لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول .
فالرائد ل يكذب أهله ,والناصح ل يغش قومه .
القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا -كما أسلفنا -عن عبادة ال الواحد التي هبط بها
المؤمنون مع نوح من السفينة .ولعل أول خطوة في هذا النحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة
القليلة التي حملت في السفينة مع نوح ! ثم تطور هذا التعظيم جيل بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في
أشجار وأحجار نافعة ; ثم تتطور هذه الشياء فإذا هي معبودات ,وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبدون الناس
للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة -في صورة من صور الجاهلية الكثيرة .ذلك أن النحراف خطوة
واحدة عن نهج التوحيد المطلق .الذي ل يتجه بشعور التقديس لغير ال وحده ول يدين بالعبودية إل ال وحده
. .النحراف خطوة واحدة ل بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات ل يعلم مداها إل ال .
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين ل يدينون ل وحده بالعبودية ,فإذا هم يدعوهم تلك الدعوة التي جاء
بها كل رسول:
(يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره)( . .إن أنتم إل مفترون). .
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة ,فليس له من ورائها هدف .وما يطلب على
النصح والهداية أجرا .إنما أجره على ال الذي خلقه فهو به كفيل:
(يا قوم ل أسألكم عليه أجرا .إن أجري إل على الذي فطرني أفل تعقلون ?).
سأَُلكُمْ
ل مُ ْف َترُونَ ( )50يَا قَ ْو ِم ل َأ ْ
غ ْيرُهُ ِإنْ أَن ُتمْ ِإ ّ
ع ُبدُواْ الّلهَ مَا َلكُم مّنْ إِلَـهٍ َ
ل يَا قَ ْومِ ا ْ
وَإِلَى عَادٍ َأخَا ُهمْ هُودا قَا َ
ط َرنِي َأفَلَ َتعْقِلُونَ ()51
ج ِريَ ِإلّ عَلَى اّلذِي فَ َ
ن َأ ْ
عََليْ ِه َأجْرا إِ ْ
مما يشعر أن قوله( :ل أسألكم عليه أجرا)كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من
وراء الدعوة التي يدعوها .وكان التعقيب( :أفل تعقلون ?)للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسول من
عند ال يطلب رزقا من البشر ,وال الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوت هؤلء الفقراء !
ثم يوجههم إلى الستغفار والتوبة .ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم
النبياء ,ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلف السنين:
(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ,يرسل السماء عليكم مدرارا ,ويزدكم قوة إلى قوتكم .ول تتولوا
مجرمين). .
استغفروا ربكم مما أنتم فيه ,وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية . .
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ,ويحتفظون به بالخصب الناشئ من
هطول المطار في تلك البقاع .
وننظر في هذا الوعد .وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة .وهي أمور تجري فيها سنة ال وفق
قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ,من صنع ال ومشيئته بطبيعة الحال .فما علقة الستغفار بها وما علقة
التوبة ?
فأما زيادة القوة فالمر فيها قريب ميسور ,بل واقع مشهود ,فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الرض
يزيدان التائبين العاملين قوة .يزيدانهم صحة في الجسم بالعتدال والقتصار على الطيبات من الرزق وراحة
الضمير وهدوء العصاب والطمئنان إلى ال والثقة برحمته في كل آن ; ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة
شريعة ال الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما ل يدينون لغير ال على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد
تعنو له الجباه . .كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلفة في الرض ; غير
مشغولين ول مسخرين بمراسم التأليه للرباب الرضية وإطلق البخور حولها ودق الطبول ,والنفخ فيها ليل
نهار لتمل فراغ الله الحق في فطرة البشر !
والملحوظ دائما أن الرباب الرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات
اللوهية من القدرة والعلم والحاطة والقهر والرحمة . .أحيانا . .كل ذلك ليدين لها الناس ! فالربوبية تحتاج
إلى ألوهية معها تخضع بها العباد ! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من
يدينون ل وحده في عمارة الرض والنهوض بتكاليف الخلفة فيها ,بدل من أن ينفقه عباد الرباب الرضية
في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الرباب المفتراة !
ولقد تتوافر القوة لمن ل يحكمون شريعة ال في قلوبهم ول في مجتمعهم ,ولكنها قوة إلى حين .حتى تنتهي
المور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة ال ,وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين .إنما استندت
إلى
سمَاء عََل ْيكُم ّم ْدرَارا َو َي ِز ْدكُمْ قُوّةً إِلَى قُ ّو ِتكُمْ َولَ َت َتوَلّوْاْ ُمجْ ِرمِينَ (
س َتغْ ِفرُو ْا َربّ ُكمْ ُثمّ تُوبُو ْا إَِليْهِ ُي ْرسِلِ ال ّ
َويَا قَ ْومِ ا ْ
)52
جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة النتاج .وهذه وحدها ل تدوم .لن فساد الحياة
الشعورية والجتماعية يقضي عليها بعد حين .
فأما إرسال المطر .مدرارا .فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني .ولكن
جريان السنن الطبيعية ل يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ,ومدمرا في مكان وزمان ; وأن يكون
من قدر ال أن تكون الحياة مع المطر لقوم ,وأن يكون الدمار معه لقوم ,وأن ينفذ ال تبشيره بالخير ووعيده
بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية ; فهو خالق هذه العوامل ,وجاعل السباب لتحقيق سنته على كل
حال .ثم تبقى وراء ذلك مشيئة ال الطليقة التي تصرف السباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر
النواميس وذلك لتحقيق قدر ال كيفما شاء .حيث شاء .بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والرض
غير مقيد بما عهده الناس في الغالب .
تلك كانت دعوة هود -ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة .ربما لن الطوفان كان قريبا منهم ,
وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم ,وقد ذكرهم به في سورة أخرى -فأما قومه فظنوا به الظنون . .
(قالوا .يا هود ما جئتنا ببينة ,وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ,وما نحن لك بمؤمنين .إن نقول إل
اعتراك بعض آلهتنا بسوء .). .
إلى هذا الحد بلغ النحراف في نفوسهم ,إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي ,لن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه
بسوء ,فأصيب بالهذيان !
والتوحيد ل يحتاج إلى بينة ,إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير ,وإلى استجاشة منطق الفطرة ,واستنباء
الضمير .
أي مستجيبين لك ومصدقين . .وما نعلل دعوتك إل بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء !
وهنا لم يبق لهود إل التحدي .وإل التوجه إلى ال وحده والعتماد عليه .وإل الوعيد والنذار الخير
للمكذبين .وإل المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب:
(قال إني أشهد ال ,واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ,فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون .إني توكلت
على ال ربي وربكم ,ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ,إن ربي على صراط مستقيم .فإن تولوا فقد أبلغتكم
ما أرسلت به إليكم ,ويستخلف ربي قوما غيركم ,ول تضرونه شيئا ,إن ربي على كل شيء حفيظ). .
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم -وقد كان منهم وكان أخاهم -وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير
طريق ال طريقا .وانتفاضة المفاصلة بين حزبين ل يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة .
وإن النسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلظا شدادا حمقى .يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات
الزائفة تمس رجل فيهذي ; ويروا في الدعوة إلى ال الواحد هذيانا من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلء
القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ,فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ; ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي
.ل يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ,ول يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .
إن النسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا القتحام على قوم غلظ شداد .ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر
العوامل والسباب . .
إنه اليمان .والثقة .والطمئنان . .اليمان بال ,والثقة بوعده ,والطمئنان إلى نصره . .اليمان الذي
يخالط القلب فإذا وعد ال بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب ل يشك فيها لحظة .لنها ملء يديه ,وملء
قلبه الذي بين جنبيه ,وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب ,إنما هي حاضر واقع تتمله العين والقلب .
إني أشهد ال على براءتي مما تشركون من دونه .واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم:أنني
عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون ال .ثم تجمعوا أنتم وهذه اللهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء .
تجمعوا أنتم وهي -جميعا -ثم كيدوني بل ريث ول تمهل ,فما أباليكم جميعا ,ول أخشاكم شيئا:
ومهما أنكرتم وكذبتم .فهذه الحقيقة قائمة .حقيقة ربوبية ال لي ولكم .فال الواحد هو ربي وربكم ,لنه
رب الجميع بل تعدد ول مشاركة . .
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الرض ,بما فيها الدواب
من الناس .والناصية أعلى الجبهة .فهو القهر والغلبة والهيمنة ,في صورة حسية تناسب الموقف ,وتناسب
غلظة القوم وشدتهم ,وتناسب صلبة أجسامهم وبنيتهم ,وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . .وإلى جانبها
تقرير استقامة السنة اللهية في اتجاهها الذي ل يحيد:
(إن ربي على صراط مستقيم). .
وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الستعلء وسر ذلك التحدي . .إنها ترسم صورة الحقيقة
التي يجدها نبي ال هود -عليه السلم -في نفسه من ربه . .إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . .إن ربه ورب
الخلئق قوي قاهر( :ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها) . .وهؤلء الغلظ الشداء من قومه إن هم إل دواب
من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا .فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ;
وهي ل تسلط عليه -إن سلطت -إل بإذن ربه ? وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ?
إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ,ل تدع في قلبه مجال للشك في عاقبة أمره ,ول مجال
للتردد عن المضي في طريقه .
إنها حقيقة اللوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا .
وعند هذا الحد من التحدي بقوة ال ,وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ,يأخذ هود في النذار
والوعيد:
يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم .
(ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا .ونجيناهم من عذاب غليظ).
لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد ,وإهلك قوم هود ,نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا ,خلصتهم
من العذاب العام النازل بالقوم ,واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء .وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل
بالمكذبين .ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم ,يتناسق مع الجو ,ومع القوم الغلظ العتاة .
والن وقد هلكت عاد .يشار إلى مصرعها إشارة البعد ,ويسجل عليها ما اقترفت من ذنب ,وتشيع باللعنة
والطرد ,في تقرير وتكرار وتوكيد:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد .وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم
القيامة .أل إن عادا كفروا ربهم .أل بعدا لعاد قوم هود). .
(وتلك عاد) . .بهذا البعد .وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق ,وكان مصرعهم معروضا على النظار . .
ولكنهم انتهوا وبعدوا عن النظار والفكار . .
وهم عصوا رسول واحدا .ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعا ? فمن لم يسلم لرسول بها
فقد عصى الرسل جميعا .ول ننسى أن هذا الجمع في اليات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى
لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها .فهم جحدوا آيات ,وهم عصوا رسل .فما أضخم الذنب وما أشنع
الجريمة !
أمر كل متسلط عليهم ,معاند ل يسلم بحق ,وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين ,ويفكروا
بأنفسهم لنفسهم .ول يكونوا ذيول فيهدروا آدميتهم .
شيْءٍ
ل َ
ن َربّي عََلىَ كُ ّ
شيْئا إِ ّ
غيْ َر ُكمْ َولَ َتضُرّو َنهُ َ
س َتخْلِفُ َربّي قَوْما َ
َفإِن تَوَلّوْاْ فَ َقدْ َأبَْل ْغ ُتكُم مّا ُأ ْرسِلْتُ بِ ِه إَِل ْي ُكمْ َو َي ْ
عذَابٍ غَلِيظٍ ()58
ج ْينَاهُم مّنْ َ
حمَ ٍة ّمنّا َو َن ّ
ج ْينَا هُودا وَاّلذِينَ آ َمنُو ْا َمعَهُ ِب َر ْ
حَفِيظٌ ( )57وََلمّا جَاء َأ ْم ُرنَا َن ّ
وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية ال وحده لهم والدينونة ل وحده من دون العباد . .
كانت هي قضية الحاكمية والتباع . .كانت هي قضية:من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره ? يتجلى هذا
في قول ال تعالى:
(وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ,واتبعوا أمر كل جبار عنيد). .
فهي المعصية لمر الرسل والتباع لمر الجبارين ! والسلم هو طاعة أمر الرسل -لنه أمر ال -
ومعصية أمر الجبارين .وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والسلم وبين الكفر واليمان . .في كل
رسالة وعلى يد كل رسول .
وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير ال ; والتمرد على سلطان
الرباب الطغاة ; وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية ,واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر
يستحق عليها الخانعون الهلك في الدنيا والعذاب في الخرة . .لقد خلق ال الناس ليكونوا أحرارا ل يدينون
بالعبودية لحد من خلقه ,ول ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ول رئيس ول زعيم .فهذا مناط تكريمهم .
فإن لم يصونوه فل كرامة لهم عند ال ول نجاة .وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة ,وتدعي
النسانية ,وهي تدين لغير ال من عباده .والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين
أن يكونوا على أمرهم مغلوبين .فهم كثرة والمتجبرون قلة .ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما
يضحونه مرغمين للرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال .
لقد هلكت عاد لنهم اتبعوا أمر كل جبار عنيد . .هلكوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الخرة:
ثم ل يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلن عام وتنبيه عال:
بهذا التحديد واليضاح والتوكيد .كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصدا:
ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريبا .ولكنها مرت في
نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة . .دعوة توحيد العبادة والعبودية ل ,
المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول( :قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره) . .ولقد كنا
دائما نفسر "العبادة " ل وحده بأنها "الدينونة الشاملة " ل وحده .في كل شأن من شؤون الدنيا والخرة .ذلك
أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي . .فإن "عبد" معناها:دان وخضع وذلل .وطريق
معبد طريق مذلل ممهد .وعبده جعله عبدا أي خاضعا مذلل . .ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن
أول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية .بل إنه يوم خوطب به أول
مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو
الدينونة ل وحده في أمره كله ; وخلع الدينونة لغير ال من عنقه في كل أمره . .ولقد فسر رسول ال [ ص ]
"العبادة " نصا بأنها هي "التباع" وليست هي الشعائر التعبدية .وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود
والنصارى واتخاذهم الحبار والرهبان أربابا ":بلى .إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلل .فاتبعوهم
.فذلك عبادتهم إياهم " . .إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور
الدينونة ل في شأن من الشؤون . .صورة ل تستغرق مدلول "العبادة " بل إنها تجيء بالتبعية ل بالصالة !
فلما بهت مدلول "الدين" ومدلول "العبادة " في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير ال التي يخرج بها
الناس من السلم إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير ال ,كتقديمها للصنام والوثان مثل !
وأنه متى تجنب النسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح "مسلما" ل يجوز تكفيره ! وتمتع
بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله . . .إلى آخر حقوق المسلم على
المسلم !
وهذا وهم باطل ,وانحسار وانكماش ,بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ "العبادة " التي يدخل بها المسلم في
السلم أو يخرج منه -وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة ل في كل شأن ورفض الدينونة لغير ال في كل
شأن .وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة ,والذي نص عليه رسول ال [ ص ] نصا وهو يفسر
قول ال تعالى( :اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ال) . .وليس بعد تفسير رسول ال [ ص ]
لمصطلح من المصطلحات قول لقائل .
هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيرا في هذه الظلل وفي غيرها في كل ما وفقنا ال لكتابته حول هذا الدين
وطبيعته ومنهجه الحركي . .فالن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية
ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه ; وبين السلم الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها ; وتحدد
ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم( :يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره). .
إنه لم يكن يعني:يا قوم ل تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير ال ! كما يتصور الذين انحسر مدلول "العبادة "(
)1يراجع البحث القيم الذي كتبه المسلم العظيم الستاذ السيد أبوالعلي المودودي أمير الجماعة السلمية
بباكستان بعنوان ":المصطلحات الربعة في القران " " . .الله .الرب .الدين .العبادةفي مفهوماتهم ,
وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية ! إنما كان يعني الدينونة ل وحده في منهج الحياة كلها ; ونبذ الدينونة
والطاعة لحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها . .والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلك واللعنة
في الدنيا والخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير ال . .فهذه صورة واحدة من صور الشرك
الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة ال وحده -أي الدينونة له وحده -إنما كانت الفعلة النكراء
التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي:جحودهم بآيات ربهم ,وعصيان رسله .واتباع أمر الجبارين من
عبيده(:وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ,وعصوا رسله ,واتبعوا أمر كل جبار عنيد) .كما يقول عنهم أصدق
القائلين ال رب العالمين . .
وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل ,واتباع الجبارين . .فهو أمر واحد ل أمور متعددة . .
ومتى عصى قوم أوامر ال المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بأل يدينوا لغير ال .ودانوا للطواغيت
بدل من الدينونة ل ; فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ; وخرجوا بذلك من السلم إلى الشرك -وقد
تبين لنا من قبل أن السلم هو الصل الذي بدأت به حياة البشر على الرض ; فهو الذي نزل به آدم من
الجنة واستخلف في هذه الرض ; وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الرض .إنما كان
الناس يخرجون من السلم إلى الجاهلية ,حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى السلم . .وهكذا
إلى يومنا هذا . .
والواقع إنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل
والرسالت ,وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل -صلوات ال وسلمه عليهم -وما
استحقت كل هذه العذابات واللم التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل
هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد .وردهم إلى الدينونة ل وحده في كل أمر وفي كل
شأن ; وفي منهج حياتهم كله للدنيا والخرة سواء .
إن توحيد اللوهية ,وتوحيد الربوبية ,وتوحيد القوامة ,وتوحيد الحاكمية ,وتوحيد مصدر الشريعة ,وتوحيد
منهج الحياة ,وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . . .إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن
يرسل من أجله كل هؤلء الرسل ,وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ; وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات
واللم على مدار الزمان . .ل لن ال سبحانه في حاجة إليه ,فال سبحانه غني عن العالمين .ولكن لن
حياة البشر ل تصلح ول تستقيم ول ترتفع ول تصبح حياة لئقة "بالنسان" إل بهذا التوحيد الذي ل حد لتأثيره
في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها [ .وهذا ما نرجو أن نزيده بيانا -إن شاء ال -في نهاية
قصص الرسل في ختام السورة ] . .
ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم(:ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل
السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ,ول تتولوا مجرمين) . .وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة
السورة بصدد دعوة رسول ال [ ص ] لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم
خبير .وذلك في قوله تعالى(:وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ,ويؤت
كل ذي فضل فضله ,وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير). .
إنها حقيقة العلقة بين القيم اليمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ,وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه
الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين . .وهي حقيقة في حاجة إلى جلء وتثبيت ; وبخاصة في نفوس
الذينيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ; والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلقة أو على القل
تستشعرها . .
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية ال -سبحانه -والحق الذي خلقت
به السماوات والرض ,المتجلي في طبيعة هذا الكون و نواميسه الزلية . .والقرآن الكريم كثيرا ما يربط
بين الحق المتمثل في ألوهية ال -سبحانه -والحق الذي قامت به السماوات والرض ; والحق المتمثل في
الدينونة ل وحده . .والحق المتمثل في دينونة الناس ل يوم الحساب بصفة خاصة ,والحق في الجزاء على
الخير والشر في الدنيا والخرة . .وذلك في مثل هذه النصوص:
(وما خلقنا السماء والرض وما بينهما لعبين .لو أردنا أن نتخذ لهوا لتخذناه من لدنا . .إن كنا فاعلين . .
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ,ولكم الويل مما تصفون ,وله من في السماوات والرض
,ومن عنده ل يستكبرون عن عبادته ول يستحسرون .يسبحون الليل والنهار ل يفترون .أم اتخذوا آلهة من
الرض هم ينشرون ? لو كان فيهما آلهة إل ال لفسدتا ,فسبحان ال رب العرش عما يصفون .ل يسأل عما
يفعل وهم يسألون .أم اتخذوا من دونه آلهة ? قل:هاتوا برهانكم .هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ,بل
أكثرهم ل يعلمون الحق فهم معرضون .وما أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا
فاعبدون) [ . . .النبياء . ] 25 - 16
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ,ثم من نطفة ,ثم من علقة ,ثم من مضغة
مخلقة وغير مخلقة ,لنبين لكم ,ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ,ثم نخرجكم طفل ,ثم لتبلغوا
أشدكم ,ومنكم من يتوفى ,ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم -من بعد علم -شيئا ,وترى الرض
هامدة ,فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ,وأنبتت من كل زوج بهيج . .ذلك بأن ال هو الحق ,وأنه
يحيي الموتى ,وأنه على كل شيء قدير ,وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن ال يبعث من في القبور)[ . . .
الحج] 5 - 7:
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ,وإن ال لهاد الذين آمنوا إلى صراط
مستقيم .ول يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم .الملك يومئذ
,ل يحكم بينهم ,فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم .والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم
عذاب مهين .والذين هاجروا في سبيل ال ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم ال رزقا حسنا ,وإن ال لهو خير
الرازقين .ليدخلنهم مدخل يرضونه ,وإن ال لعليم حليم .ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه
لينصرنه ال ,إن ال لعفو غفور .ذلك بأن ال يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ,وأن ال سميع
بصير .ذلك بأن ال هو الحق ,وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ,وأن ال هو العلي الكبير .ألم تر أن ال
أنزل من السماء ماء فتصبح الرض مخضرة ? إن ال لطيف خبير .له ما في السماوات وما في الرض
وإن ال لهو الغني الحميد .ألم تر أن ال سخر لكم ما في الرض والفلك تجري في البحر بأمره ,ويمسك
السماء أن تقع على الرض إل بإذنه ,إن ال بالناس لرؤوف رحيم .وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ,
إن النسان لكفور .لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ,فل ينازعنك في المر ,وادع إلى ربك ,إنك لعلى
هدى مستقيم [ . . . . .الحج. ] 67 - 54:
وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلقة الواضحة بين كون ال سبحانه هو الحق ,
وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ,وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق .وبين تنزيل
هذا الكتاب بالحق ,وبين الحكم بين الناس في الدنيا والخرة بالحق . .فكله حق واحد موصول ينشأ عنه
جريان قدر ال بما يشاء ,وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء ; وفق ما يكون من الناس من
الخير والشر في دار البتلء .ومن هنا كان ذلك الربط بين الستغفار والتوبة ,وبين المتاع الحسن وإرسال
السماء مدرارا . . .فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات ال سبحانه وفي قضائه
وقدره ,وفي تدبيره وتصريفه ,وفي حسابه وجزائه ,في الخير وفي الشر سواء . .
ومن هذا الرتباط يتجلى أن القيم اليمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس .فكلتاهما تؤثر في
هذه الحياة .سواء عن طريق قدر ال الغيبي المتعلق بعالم السباب من وراء علم البشر وسعيهم .أو عن
طريق الثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك .وهي الثار التي ينشئها في حياتهم
اليمان أو عدم اليمان ,من النتائج المحسوسة المدركة .
وقد أسلفنا الشارة إلى بعض هذه الثار العملية الواقعية حين قلنا مرة:إن سيادة المنهج اللهي في مجتمع
معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ,وأن يجد كل فرد المن والسكينة والستقرار
الجتماعي -فضل على المن والسكينة والستقرار القلبي باليمان -ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا
حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الخير في الخرة . .وحين قلنا مرة:إن الدينونة ل وحده في مجتمع
من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم
والتهاويل التي تطلق حول الرباب المزيفة ,لتخلع عليها شيئا من خصائص اللوهية حتى تخضع لها
الرقاب ! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلفة
فيكون الخير الوفير للناس .فضل على الكرامة والحرية و المساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة ل
وحده دون العباد . .وليست هذه إل نماذج من ثمار اليمان حين تتحق حقيقته في حياة الناس [ . .وسيرد
عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء ال ] .
ونقف أمام تلك المواجهة الخيرة من هود لقومه ; وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم
كامل ,وفي تحد سافر ,وفي استعلء بالحق الذي معه ,وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة:
(قال:إني أشهد ال ,واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ,فكيدوني جميعا ثم ل تنظرون .إني توكلت
على ال ربي وربكم ,ما من دابة إل هو آخذ بناصيتها ,إن ربي على صراط مستقيم .فإن تولوا فقد أبلغتكم
ما أرسلت به إليكم ,ويستخلف ربي قوما غيركم ول تضرونه شيئا ,إن ربي على كل شيء حفيظ). .
إن أصحاب الدعوة إلى ال في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويل أمام هذا المشهد الباهر
. .رجل واحد ,لم يؤمن معه إل قليل ,يواجه أعتى أهل الرض وأغنى أهل الرض وأكثر أهل الرض
حضارة مادية في زمانهم ,كما جاء عنهم في قول ال تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في
السورة الخرى:
(كذبت عاد المرسلين .إذ قال لهم أخوهم هود:أل تتقون ? إني لكم رسول أمين ,فاتقوا ال وأطيعون .وما
أسألكم عليه من أجر إن أجري إل على رب العالمين .أتبنون بكل ريع آية تعبثون ? وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون .وإذا بطشتم بطشتم جبارين .فاتقوا ال وأطيعون .واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون .أمدكم بأنعام
وبنين .وجنات وعيون .إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .قالوا:سواء علينا أوعظت أم لم تكن من
الواعظين .إن هذا إل خلق الولين .وما نحن بمعذبين)! [ . .الشعراء] 138 - 123:
فهؤلء العتاة الجبارون الذين يبطشون بل رحمة ; والذين أبطرتهم النعمة ; والذين يقيمون المصانع يرجون
من ورائها المتداد والخلود ! . .هؤلء هم الذين واجههم هود -عليه السلم -هذه المواجهة .في شجاعة
المؤمن واستعلئه وثقته واطمئنانه ; وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة -وهم قومه -وتحداهم أن
يكيدوه بل إمهال .وأن يفعلوا ما في وسعهم فل يباليهم بحال !
لقد وقف هود -عليه السلم -هذه الوقفة الباهرة ,بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك ; وبعد أن تودد إليهم
وهو يدعوهم غاية التودد . .ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة ال وعلى الستهتار بالوعيد والجرأة
على ال . .
لقد وقف هود -عليه السلم -هذه الوقفة الباهرة لنه يجد حقيقة ربه في نفسه ,فيوقن أن أولئك الجبارين
العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب ! وهو مستيقن أنه ما من دابة إل وربه آخذ بناصيتها ; ففيم
يحفل إذن هؤلء الدواب ?! وان ربه هو الذي استخلفهم في الرض ,وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال
وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين ! للبتلء ل لمطلق العطاء .وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف
غيرهم إذا شاء ,ول يضرونه شيئا ,ول يردون له قضاء . .ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ,وربه هو
الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء ? . .
إن أصحاب الدعوة إلى ال ل بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا
بإيمانهم في استعلء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم . .أمام القوة المادية .وقوة الصناعة .وقوة المال
.وقوة العلم البشري .وقوة النظمة والجهزة والتجارب والخبرات . .وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية
كل دابة ; وأن الناس -كل الناس -إن هم إل دواب من الدواب !
وذات يوم ل بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة ; فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان
. .أمة تدين ل وحده وترفض الدينونة لسواه .وأمة تتخذ من دون ال أربابا ,وتحاد ال !
ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد ال بالنصر لوليائه ,والتدمير على أعدائه -في صورة من الصور التي
قد تخطر وقد ل تخطر على البال -ففي تاريخ الدعوة إلى ال على مدار التاريخ ! لم يفصل ال بين أوليائه
وأعدائه إل بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا ال وحده . .وكانوا هم حزب ال الذين
ل يعتمدون على غيره والذين ل يجدون لهم ناصرا سواه .
وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد .لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود .
وإلى ثمود أخاهم صالحا .قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .هو أنشأكم من الرض واستعمركم
فيها .فاستغفروه ثم توبوا إليه ,إن ربي قريب مجيب . .
وذكرهم صالح بنشأتهم من الرض .نشأة جنسهم ,ونشأة أفرادهم من غذاء الرض أو من عناصرها التي
تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي .ومع أنهم من هذه الرض .من عناصرها .فقد استخلفهم ال فيها
ليعمروها .استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم .
(قالوا:يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ? وإننا لفي شك مما تدعونا إليه
مريب). .
لقد كان لنا رجاء فيك .كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ,أو لهذا جميعه .ولكن
هذا الرجاء قد خاب . .
إنها للقاصمة ! فكل شيء يا صالح إل هذا ! وما كنا لنتوقع أن تقولها ! فيا لخيبة الرجاء فيك ! ثم إننا لفي
شك مما تدعونا إليه .شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول:
وهكذا يعجب القوم مما ل عجب فيه ; بل يستنكرون ما هو واجب وحق ,ويدهشون لن يدعوهم أخوهم
صالح إلى عبادة ال وحده .لماذا ? ل لحجة ول لبرهان ول لتفكير .ولكن لن آباءهم يعبدون هذه اللهة !
وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين .وأن يعللوا العقائد بفعل الباء !
وهكذا يتبين مرة ثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح ودعوة
إلى إطلق العقل البشري من عقال التقليد ,ومن أوهاق الوهم والخرافة التي ل تستند إلى دليل وتذكرنا قولة
ثمود لصالح:
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد [ ص ] وأمانته .فلما أن دعاهم إلى ربوبية ال وحده تنكروا له
كما تنكر قوم صالح ,وقالوا:ساحر .وقالوا:مفتر .ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه !
إنها طبيعة واحدة ,ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور . .
يا قوم:ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ,تجعلني على يقين من أن هذا هو
الطريق ? وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها .فمن ينصرني من ال
إن أنا عصيته فقصرت في إبلغكم دعوته ,احتفاظا برجائكم في ? أفنافعي هذا الرجاء وناصري من ال ?
كل:
ما تزيدونني إل خسارة على خسارة . .غضب ال وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الخرة .
وهي خسارة بعد خسارة .ول شيء إل التخسير ! والتثقيل والتشديد !
(ويا قوم هذه ناقة ال لكم آية ,فذروها تأكل في أرض ال ,ول تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب)
ول يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلمة .ولكن في إضافتها ل( :هذه
ناقة ال)وفي تخصيصها لهم( :لكم آية)ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة ,يعلمون بها أنها آية
لهم من ال .ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الساطير والسرائيليات التي تفرقت بها أقوال
المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء !
(هذه ناقة ال لكم آية .فذروها تأكل في أرض ال ول تمسوها بسوء). .
وإل فيعالجكم العذاب .يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة .ولفظ قريب:
(فعقروها . .فقال:تمتعوا في داركم ثلثة أيام .ذلك وعد غير مكذوب). .
ودل عقرهم للناقة ,أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو .دل على فساد قلوبهم
واستهتارهم .والسياق هنا ل يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها ,لنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة
تغييرا يذكر .ثم ليتابع السياق عجلة العذاب .فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات:
(فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ,إن ربك هو القوي العزيز ,
وأخذ الذين ظلموا الصيحة ,فأصبحوا في ديارهم جاثمين). .
فلما جاء موعد تحقيق المر -وهو النذار أو الهلك -نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا . .
خاصة ومباشرة . .نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم ,فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية ,وكان
مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا .
يأخذ العتاة أخذا ول يعز عليه أمرا ,ول يهون من يتوله ويرعاه .
كأن لم يقيموا ويتمتعوا . .وإنه لمشهد مؤثر ,وإنها للمسة مثيرة ,والمشهد معروض ,وما بين الحياة
والموت -بعد أن يكون -إل لمحة كومضة العين ,وإذا الحياة كلها شريط سريع .كأن لم يغنوا فيها . . .
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة:تسجيل الذنب ,وتشييع اللعنة ,وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى:
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ . .الدعوة فيها هي الدعوة .وحقيقة
السلم فيها هي حقيقته . .عبادة ال وحده بل شريك ,والدينونة ل وحده بل منازع . .ومرة أخرى نجد
الجاهلية التي تعقب السلم ,ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد -فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين
نجوا في السفينة مع نوح -ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية ,حتى جاءهم صالح ليردهم إلى السلم من
جديد . .
ثم نجد أن القوم يواجهون الية الخارقة التي طلبوها ,ل باليمان والتصديق ,ولكن بالجحود وعقر الناقة !
ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول ال [ ص ] خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا .فهاهم أولء
قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا .فما أغنت معهم شيئا ! إن اليمان ل يحتاج إلى الخوارق .إنه
دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول .ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول!!!:
ومرة أخرى نجد حقيقة اللوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة .قلوب الرسل الكرام .نجدها
في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم :قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ,وآتاني منه
رحمة ,فمن ينصرني من ال إن عصيته ? فما تزيدونني غير تخسير . .وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما
يجده في قلبه( :إن ربي قريب مجيب). .
وما تتجلى حقيقة اللوهية قط في كمالها وجللها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة
من عباده .فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد
العجيب !
ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلل ; وفي الحق عجيبة ل تكاد تتصورها ! فصالح
الذي كان مرجوا في قومه ,لصلحه ولرجاحة عقله وخلقه ,يقف منه قومه موقف اليائس منه ,المفجوع
فيه ! لماذا ? لنه دعاهم إلى الدينونة ل وحده .على غير ما ورثوا عن آباءهم من الدينونة لغيره !
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة ,ل يقف عند حد في ضلله وشروده .
حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها ; بينما هو يستسيغ
النحراف الذي ل يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الطلق !
إن صالحا يناديهم( :يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره . .هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها . .). .
فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الرض من دليل فطري منطقي ل يملكون له ردا . .وهم ما كانوا
يزعمون أنهم هم انشأوا أنفسهم ,ول انهم هم كفلوا لنفسهم البقاء ,ول أعطوا أنفسهم هذه الرزاق التي
يستمتعون بها في الرض . .
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن ال -سبحانه -هو الذي أنشأهم من الرض ,وهو الذي أقدرهم على
عمارتها .ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا العتراف بألوهية ال -سبحانه -وإنشائه لهم واستخلفهم في الرض
,بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة ل وحده بل شريك ,واتباع أمره وحده بل منازع . .وهو ما يدعوهم إليه
صالح بقوله( :يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره). .
لقد كانت القضية هي ذاتها . .قضية الربوبية ل قضية اللوهية .قضية الدينونة والحاكمية قضية التباع
والطاعة . .إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة السلم مع الجاهلية !
مقدمة الوحدة يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح ,وبالمم التي بوركت والمم التي
كتب عليها العذاب . .يلم بطرف من قصة إبراهيم ,تتحق فيه البركات ,في الطريق إلى قصة قوم لوط
الذين مسهم العذاب الليم .وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد ال بطرفيه لنوح(:قيل:يا نوح اهبط
بسلم منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك .وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) . .وقد كانت البركات
في إبراهيم وعقبه من ولديه:إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل .وإسماعيل ومن نسله خاتم النبياء المرسلين .
ول يفصح السياق عن هذه البشرى إل في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم ! والرسل:الملئكة .وهم
هنا مجهولون ,فل ندخل -مع المفسرين -في تعريفهم وتحديد من هم بل دليل .
وكان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق ,وعبر الردن ,وسكن في أرض كنعان
في البادية -وعلى عادة البدو في إكرام الضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفا :-
فالذي ل يأكل الطعام يريب ,ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدرا بحسب تقاليد أهل البدو . .وأهل الريف
حنِيذٍ ()69
ث أَن جَاء ِب ِعجْلٍ َ
لمٌ َفمَا َلبِ َ
وَلَ َقدْ جَاءتْ ُرسُُلنَا ِإ ْبرَاهِيمَ بِا ْلبُـشْرَى قَالُواْ سَلَما قَالَ سَ َ
عندنا يتحرجون من خيانة الطعام ,أي من خيانة من أكلوا معه طعاما ! فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا
أنهم ينوون به شرا ,أو أنهم ل يثقون في نياته لهم . .وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم:
وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملئكة إلى قوم لوط ! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث:
وكانت عقيما لم تلد وقد أصبحت عجوزا .ففاجأتها البشرى بإسحاق .وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون
لسحاق عقب من بعده هو يعقوب .والمرأة -وبخاصة العقيم -يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى ,
والمفاجأة بها تهزها وتربكها:
قالت:يا ويلتا ! أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ? إن هذا لشيء عجيب . .
وهو عجيب حقا .فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فل تحمل .ولكن ل شيء بالقياس إلى قدرة ال
عجيب:
(قالوا:أتعجبين من أمر ال ? رحمة ال وبركاته عليكم أهل البيت .إنه حميد مجيد). .
ول عجب من أمر ال .فالعادة حين تجري بأمر ل يكون معنى هذا أنها سنة ل تتبدل .وعندما يشاء ال
لحكمة يريدها -وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه -يقع ما يخالف العادة ,مع
وقوعه وفق السنة اللهية التي ل نعلم حدودها ,ول نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هو على كل حال
محدود ,ونحن ل نستقرئ جميع الحوادث في الوجود .
والذين يقيدون مشيئة ال بما يعرفونه هم من نواميسه ل يعرفون حقيقة اللوهية كما يقررها ال سبحانه في
كتابه -وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول -وحتى الذين يقيدون مشيئة ال بما يقرر ال
-سبحانه -أنه ناموسه ,ل يدركون حقيقة اللوهية كذلك ! فمشيئة ال سبحانه طليقة وراء ما قرره ال
سبحانه من نواميس .ولتتقيد هذه المشيئة بالنواميس .
نعم إن ال سبحانه يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له . .ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه
النواميس بعد وجودها شيء آخر ! إن الناموس يجرى وينفذ بقدر من ال قي كل مرة ينفذ فيها .فهو ل
يجري ول ينفذ آليا .فإذا قدر ال في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات
سابقة كان ما قدره ال ولم يقف الناموس في وجه هذا القدر الجديد . .ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل
النواميس هو طلقة المشيئة بل قيد على الطلق ,وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق
..
وإلى هنا كان إبراهيم -عليه السلم -قد اطمأن إلى رسل ربه ,وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه .
ولكن هذا لم ينسه لوطا وقومه -وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريبا منه -وما
ينتظرهم من وراء إرسال الملئكة من هلك واستئصال .وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود ل تجعله يطيق
هلك القوم واستئصالهم جميعا:
(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط .إن إبراهيم لحليم أواه منيب).
والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ول يثور .والواه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى .
والمنيب الذي يعود سريعا إلى ربه . .وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملئكة في مصير قوم
لوط وإن كنا ل نعلم كيف كان هذا الجدال لن النص القرآني لم يفصله ,فجاءه الرد بأن أمر ال فيهم قد
قضي وإنه لم يعد للجدال مجال:
(يا إبراهيم أعرض عن هذا ,إنه قد جاء أمر ربك ,وإنهم آتيهم عذاب غير مردود). .
الدرس الثاني 83 - 77:لقطات من قصة لوط مع قومه
ويسكت السياق .وقد سكت -ول شك -إبراهيم . .ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك
على مشهد حافل بالحركة والنفعال مع لوط .وقوم لوط في مدن الردن:عمورية وسدوم .
(ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا ,وقال:هذا يوم عصيب !). .
لقد كان يعرف قومه .ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين .إذ يتركون النساء إلى الرجال
,مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الحياء جميعا أزواجا ,كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها ال .
والتي تجد اللذة الحقيقة في تلبية نداء الحكمة الزلية ,ل عن تفكير وتدبير ,ولكن عن اهتداء واستقامة .
والبشرية تعرف حالت مرضية فردية شاذة ,ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة .وهي تشير إلى أن المرض
النفسي يعدي كالمرض الجسدي .وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لختلل المقاييس في بيئة من
البيئات ,وانتشار المثل السيء ,عن طريق إيحاء البيئة المريضة .على الرغم من مصادمته للفطرة ,التي
يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة .الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة ل فيما
يصادمها ويعدمها .والشذود الجنسي يصادم الحياة ويعدمها ,لنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد
لستقبالها وإحيائها .بدل من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها .ومن أجل هذا تنفر الفطرة
السليمة نفورا فطريا -ل أخلقيا فحسب -من عمل قوم لوط .لن هذه الفطرة محكومة بقانون ال في الحياة
.الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة ل فيما يصدمها ويعطلها .
ولقد نجد أحيانا لذة في الموت -في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا -ولكنها ليست لذة حسية إنما هي
معنوية اعتبارية .على أن هذه ليست مصادفة للحياة ,إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر .
وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلياها . .
سيء لوط بأضيافه .وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه ,ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه:
ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ,يهددونه في ضيفه وكرامته .فحاول أن
ت ُرسُُلنَا لُوطا
غ ْيرُ َم ْردُودٍ ( )76وََلمّا جَاء ْ
عذَابٌ َ
عنْ َهذَا ِإنّ ُه قَ ْد جَاء َأ ْمرُ َر ّبكَ وَِإ ّن ُهمْ آتِي ِهمْ َ
عرِضْ َ
يَا ِإ ْبرَاهِيمُ َأ ْ
عصِيبٌ ()77
سِيءَ ِب ِهمْ َوضَاقَ ِب ِهمْ َذرْعا َوقَالَ هَـذَا َي ْومٌ َ
يوقظ فيهم الفطرة السليمة ,ويوجههم إلى الجنس الخر الذي خلقه ال للرجال ,وعنده منه في داره بناته ,
فهن حاضرات ,حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور ,وسكنت الفورة
المحمومة والشهوة المجنونة !
(قال:يا قوم هؤلء بناتي هن أطهر لكم .فاتقوا ال ول تخزون في ضيفي .أليس منكم رجل رشيد ?).
أطهر بكل معاني الطهر .النفسي والحسي .فهن يلبين الفطرة النظيفة ,ويثرن مشاعر كذلك نظيفة .نظافة
فطرية ونظافة أخلقية ودينية .ثم هن أطهر حسيا .حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك
طاهرا نظيفا .
قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة .
قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلقا .
فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة . .ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة
المنحرفة المريضة ,ول القلوب الميتة السنة ,ول العقول المريضة المأفونة .وظلت الفورة المريضة الشاذة
في اندفاعها المحموم:
وأسقط في يد لوط ,وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم ,نازح إليهم من بعيد ,ل عشيرة له تحميه ,وليس
له من قوة في هذا اليوم العصيب ; وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة:
قالها وهو يوجه كلمه إلى هؤلء الفتية -الذين جاء الملئكة في صورتهم -وهم صغار صباح الوجوه ;
ولكنهم -في نظره -ليسوا بأهل بأس ول قوة .فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة .أو
لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد !
وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد .ركن ال الذي ل يتخلى عن أوليائه .كما قال
رسول ال [ ص ] وهو يتلو هذه الية ":رحمة ال على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد " !
وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها ,وبلغ الكرب أشده . .كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي
إليه:
وأنبأوه نبأهم ,لينجو مع أهل بيته الطاهرين ,إل امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين:
(فأسر بأهلك بقطع من الليل ,ول يلتفت منكم أحد إل امرأتك .إنه مصيبها ما أصابهم ,إن موعدهم الصبح .
أليس الصبح بقريب ?). .
والسرى:سير الليل ,والقطع من الليل:بعضه ,ول يلتفت منكم أحد .أى ل يتخلف ول يعوق .لن الصبح
موعدهم مع الهلك .فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين .
(فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها ,وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود .مسومة عند ربك وما هي
من الظالمين ببعيد). .
فلما جاء موعد تنفيذ المر (جعلنا عاليها سافلها) . .وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير
المعالم ويمحوها .وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة
النسان إلى درك الحيوان .بل أحط من الحيوان ,فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان . .
هذه الحجارة ( . .مسومة عند ربك) . .كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة .فكأنما هذه الحجارة
مرباة ! ومطلقة لتنمو وتتكاثر ! لوقت الحاجة . .وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ,ول يفصح عنه
التفسير ,كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه . .
والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية
التي تخسف فيها الرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل . .وعند ربك للظالمين كثير !!!
ول نقول هذا الكلم لنقول:إنه كان بركان من تلك البراكين ,ثار في ذلك الوقت ,فوقع ما وقع .إننا ل ننفي
هذا .فقد يكون هو الذي وقع فعل .ولكننا ل نجزم به كذلك ول نقيد قدر ال بظاهرة واحدة مألوفة . .
وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير ال وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا
الموعد ليحقق قدر ال في قوم لوط كما قدر في علمه القديم .وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته
سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه .
وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة ال سبحانه لهلك قوم لوط
وهذا دور من أدوار الرسالة الواحدة بالعقيدة الخالدة ,ينهض به شعيب في قومه أهل مدين . .ومع الدعوة
إلى عقيدة التوحيد قضية أخرى ,هي قضية المانة والعدالة في التعامل بين الناس ,وهي وثيقة الصلة بالعقيدة
في ال ,والدينونة له وحده ,واتباع شرعه وأمره .وإن كان أهل مدين قد تلقوها بدهشة بالغة ,ولم يدركوا
العلقة بين المعاملت المالية والصلة المعبرة عن الدينونة ل !
وتجري القصة على نسق قصة هود مع عاد ,وقصة صالح مع ثمود ,وإن كانت أقرب في نهايتها وأسلوب
عرضها .والتعبير عن خاتمتها إلى قصة صالح ,حتى لتشترك معها في نوع العذاب وفي العبارة عن هذا
العذاب .
(وإلى مدين أخاهم شعيبا .قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره .). . .
إنها الدينونة ل وحده قاعدة العقيدة الولى .وقاعدة الحياة الولى .وقاعدة الشريعة الولى .وقاعدة
المعاملت الولى . .القاعدة التي ل تقوم بغيرها عقيدة ول عبادة ول معاملة . .
(ول تنقصوا المكيال والميزان ,إني أراكم بخير ,وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ,ويا قوم أوفوا المكيال
والميزان بالقسط ,ول تبخسوا الناس أشياءهم ,ول تعثوا في الرض مفسدين .بقية ال خير لكم إن كنتم
مؤمنين .وما أنا عليكم بحفيظ). .
والقضية هنا هي قضية المانة والعدالة -بعد قضية العقيدة والدينونة -أو هي قضية الشريعة والمعاملت
التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة . .فقد كان أهل مدين -وبلدهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام
-ينقصون المكيال والميزان ,ويبخسون الناس أشياءهم ,أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملت .وهي
رذيلة تمس نظافة القلب واليد ,كما تمس المروءة والشرف .كما كانوا بحكم موقع بلدهم يملكون أن يقطعوا
الطريق على القوافل الذاهبة اليبة بين شمال الجزيرة وجنوبها .ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما
يشاءون من المعاملت الجائزة التي وصفها ال في هذه السورة .
ومن ثم تبدو علقة عقيدة التوحيد والدينونة ل وحده بالمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الخذ والعطاء
,ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الفراد أم قامت بها الدول .فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ,
وضمانة للعدل والسلم في الرض بين الناس .وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من ال وطلب
رضاه ,فتستند إلى أصل ثابت ,ل يتأرجح مع المصالح والهواء . .
إن المعاملت والخلق ل بد أن تستند إلى أصل ثابت ل يتعلق بعوامل متقلبة . .هذه هي نظرة السلم .
وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الجتماعية والخلقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر
وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم !
وهي حين تستند إلى ذلك الصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ; كما ينعدم تأثرها بالبيئة
والعوامل السائدة فيها .
فل يكون المتحكم في أخلق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الخلقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو
يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة . .إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الخلقي
وفي قواعد المعاملت الخلقية ,حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة ال ; وحين تصبح قاعدة
الخلق هي إرضاء ال وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ,وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضيعة من تبعية
الخلق للعلقات القتصادية وللطور الجتماعي للمة يصبح لغوا في ظل النظرة الخلقية السلمية !
فقد رزقكم ال رزقا حسنا ,فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ,ولن يفقركم أو يضركم أن ل
تنقصوا المكيال والميزان . .بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ,أو غصب في الخذ
والعطاء .
إما في الخرة عند ال .وإما في هذه الرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع
وفي حركة التجارة .وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ,في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل
تعامل وفي كل احتكاك .
ومرة أخرى يكرر شعيب نصحه في صورة إيجابية بعد صورة النهي السلبية:
وإيفاء الكيل والميزان أقوى من عدم نقصهما ,لنه أقرب إلى جانب الزيادة .
وللعبارات ظل في الحس .وظل اليفاء غير ظل عدم النقص ,فهو أكثر سماحة ووفاء .
وهذه أعم من المكيلت والموزونات .فهو يشمل حسن تقويم أشياء الناس من كل نوع .تقويمها كيل أو وزنا
أو سعرا أو تقديرا .وتقويمها ماديا أو معنويا .وقد تدخل في ذلك العمال والصفات .لن كلمة "شيء "
تطلق أحيانا ويراد بها غير المحسوسات .
وبخس الناس أشياءهم -فوق أنه ظلم -يشيع في نفوس الناس مشاعر سيئة من اللم أو الحقد ,أو اليأس من
العدل والخير وحسن التقدير . .وكلها مشاعر تفسد جو الحياة والتعامل والروابط الجتماعية والنفوس
والضمائر ,ول تبقي على شيء صالح في الحياة .
والعثو هو الفساد ,فل تفسدوا متعمدين الفساد ,قاصدين إلى تحقيقه .ثم يوقظ وجدانهم إلى خير أبقى من
ذلك الكسب الدنس الذي يحصلون عليه بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم في التقدير:
فما عند ال أبقى وأفضل . .وقد دعاهم في أول حديثه إلى عبادة ال وحده -أي الدينونة له بل شريك -
ومثل هذا السلوب يشعر المخاطبين بخطورة المر ,وبثقل التبعة ,ويقفهم وجها لوجه أمام العاقبة بل وسيط
ول حفيظ .
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على النحراف والفساد ,وسوء الستغلل:
(قالوا:يا شعيب أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ,أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ? إنك لنت الحليم
الرشيد !). .
وهو رد واضح التهكم ,بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه .وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ,
والمعاند بل معرفة ول فقه .
(أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ?). .
فهم ل يدركون -أو ل يريدون أن يدركوا -أن الصلة هي من مقتضيات العقيدة ,ومن صور العبودية
والدينونة .وأن العقيدة ل تقوم بغير توحيد ال ,ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ,كما أنها ل تقوم إل
بتنفيذ شرائع ال في التجارة وفي تداول الموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل .فهي لحمة واحدة ل
يفترق فيها العتقاد عن الصلة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة .
وقبل أن نمضي طويل في تسفيه هذا التصور السقيم لرتباط الشعائر بالعقيدة .وارتباطهما معا بالمعاملت .
.قبل أن نمضي طويل في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ,يحسن أن نذكر أن الناس
اليوم ل يفترقون في تصورهم ول في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب .وأن الجاهلية التي نعيش
فيها اليوم ليست أفضل ول أذكى ول أكثر إدراكا من الجاهلية الولى ! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم
شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها -بما فيها أولئك الذين يقولون:إنهم يهود أو نصارى
أو مسلمون -فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر .والشريعة والتعامل .فيجعل العقيدة والشعائر ل ووفق أمره
,ويجعل الشريعة والتعامل لغير ال ,ووفق أمر غيره . .وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . .
وإن كان ل يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملتهم وفق ما يزعمونه
عقيدتهم وشريعتهم -وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف -
فلقد قامت أزمة في "الكنيست" مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها -من غير
اليهود -أطعمة غير شرعية .وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده -مهما تعرضت
للخسارة -فأين من يدعون أنفسهم "مسلمين ! " من هذا الستمساك بالدين ?!!
خ ْيرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُم مّ ْؤ ِمنِينَ َومَا َأ َناْ عََل ْيكُم ِبحَفِيظٍ ()86
بَ ِقيّةُ اللّ ِه َ
إن بيننا اليوم -ممن يقولون:إنهم مسلمون ! -من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والخلق ,وبخاصة
أخلق المعاملت المادية .
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم .يتساءلون أول في استنكار:وما للسلم
وسلوكنا الشخصي ? ما للسلم والعري في الشواطيء ? ما للسلم وزي المرأة في الطريق ? ما للسلم
وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ? ما للسلم وتناول كأس من الخمر لصلح المزاج ? ما للسلم وهذا
الذي يفعله "المتحضرون" ?! . .فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين( :أصلتك تأمرك أن نترك ما يعبد
آباؤنا ?). .
وهم يتساءلون ثانيا .بل ينكرون بشدة وعنف .أن يتدخل الدين في القتصاد ,وأن تتصل المعاملت
بالعتقاد ,أو حتى بالخلق من غير اعتقاد . .فما للدين والمعاملت الربوية ? وما للدين والمهارة في الغش
والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ? ل بل إنهم يتبجحون بأن الخلق إذا تدخلت في القتصاد
تفسده .وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات القتصادية الغربية -النظرية الخلقية مثل -
ويعدونها تخليطا من أيام زمان !
فل يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الولى .ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ,
ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ,وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في ال ,والسلوك الشخصي في
الحياة ,والمعاملت المادية في السوق . .تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود !!!
وما تستقيم عقيدة توحيد ال في القلب ,ثم تترك شريعة ال المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين
الرض .فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد .والشرك ألوان .منه هذا اللون الذي نعيش به
الن .وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان !
ويسخر أهل مدين من شعيب -كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق -فيقولون:
(إنك لنت الحليم الرشيد !). .
وهم يعنون عكس معناها .فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بل تفكير ,وأن يفصلوا بين العبادة
والتعامل في السوق ! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين !!!
الدرس الثالث 91 - 88:قوم مدين يهددون بإيذاء شعيب رغم نصحه لهم
ويتلطف شعيب تلطف صاحب الدعوة الواثق من الحق الذي معه ; ويعرض عن تلك السخرية ل يباليها وهو
يشعر بقصورهم وجهلهم . .يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه ; وأنه
على ثقة مما يقول لنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا ,وأنه إذ يدعوهم إلى المانة في المعاملة سيتأثر مثلهم
بنتائجها لنه مثلهم ذو مال وذو معاملت ; فهو ل يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم ; فلن ينهاهم عن
شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق ! إنما هي دعوة الصلح العامة لهم وله وللناس .وليس فيما يدعوهم إليه
خسارة عليهم كما يتوهمون:
(قال:يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ,ورزقني منه رزقا حسنا ? وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم
عنه ,إن أريد إل الصلح ما استطعت ,وما توفيقي إل بال ,عليه توكلت وإليه أنيب). .
ل ُتكَ َت ْأ ُم ُركَ أَن ّنتْ ُركَ مَا َي ْعبُدُ آبَا ُؤنَا أَ ْو أَن نّ ْفعَلَ فِي َأمْوَاِلنَا مَا َنشَاء ِإ ّنكَ َلأَنتَ ا ْلحَلِيمُ الرّشِيدُ
ب َأصَ َ
ش َعيْ ُ
قَالُواْ يَا ُ
()87
أجد حقيقته في نفسي وأستيقن أنه هو يوحي إلي ويأمرني بما أبلغكم إياه .وعن هذه البينة الواضحة في نفسي
,أصدر واثقا مستيقنا .
الصلح العام للحياة والمجتمع الذي يعود صلحه بالخير على كل فرد وكل جماعة فيه ; وإن خيل إلى
بعضهم أن اتباع العقيدة والخلق يفوت بعض الكسب الشخصي ,ويضيع بعض الفرص .فإنما يفوت الكسب
الخبيث ويضيع الفرص القذرة ; ويعوض عنهما كسبا طيبا ورزقا حلل ,ومجتمعا متضامنا متعاونا ل حقد
فيه ول غدر ول خصام !
فهو القادر على إنجاح مسعاي في الصلح بما يعلم من نيتي ,وبما يجزي على جهدي .
إليه وحده أرجع فيما يحزبني من المور ,وإليه وحده أتوجه بنيتي وعملي ومسعاي .
ثم يأخذ بهم في واد آخر من التذكير ,فيطل بهم على مصارع قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط:
فقد يفعل هذا في مثل تلك القلوب الجاسية ما لم يفعله التوجيه العقلي اللين الذي يحتاج إلى رشد وتفكير:
ويا قوم ل يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح .وما قوم لوط
منكم ببعيد . .
ل يجملنكم الخلف معي والعناد في مواجهتي على أن تلجوا في التكذيب والمخالفة ,خشية أن يصيبكم ما
أصاب القوام قبلكم .وهؤلء قوم لوط قريب منكم في المكان .وقريب كذلك في الزمان .فمدين كانت بين
الحجاز والشام .
ثم يفتح لهم -وهم في مواجهة العذاب والهلك -باب المغفرة والتوبة ,ويطمعهم في رحمة ال والقرب منه
بأرق اللفاظ وأحناها:
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من فساد القلوب ,ومن سوء تقدير القيم في الحياة ,وسوء التصور لدوافع العمل
والسلوك ,ما كشف عنه تبجحهم من قبل بالسخرية والتكذيب:
عنْهُ
ن ُأخَالِ َف ُكمْ إِلَى مَا َأ ْنهَا ُكمْ َ
حسَنا َومَا ُأرِيدُ أَ ْ
قَالَ يَا قَ ْومِ َأرََأ ْي ُتمْ إِن كُنتُ عََلىَ َب ّينَةٍ مّن ّربّي َو َرزَ َقنِي ِمنْهُ ِرزْقا َ
ل َيجْ ِر َم ّن ُكمْ
ل بِاللّهِ عََليْ ِه تَ َوكّلْتُ وَإَِليْ ِه ُأنِيبُ (َ )88ويَا قَ ْومِ َ
طعْتُ َومَا َت ْوفِيقِي ِإ ّ
س َت َ
لصْلَحَ مَا ا ْ
لاِ
ن ُأرِيدُ ِإ ّ
إِ ْ
ل مَا َأصَابَ قَ ْومَ نُوحٍ َأوْ قَ ْو َم هُودٍ َأوْ قَ ْو َم صَالِحٍ َومَا قَ ْومُ لُوطٍ مّنكُم ِب َبعِيدٍ ()89
شِقَاقِي أَن ُيصِي َبكُم ّمثْ ُ
س َتغْ ِفرُواْ َر ّب ُكمْ ُثمّ تُوبُواْ إَِل ْيهِ ِإنّ َربّي َرحِيمٌ َودُودٌ ()90
وَا ْ
(قالوا:يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ,وإنا لنراك فينا ضعيفا ,ولول رهطك لرجمناك ,وما أنت علينا
بعزيز). .
فل وزن عندهم للحقيقة القوية التي يحملها ويواجههم بها .
ففي حسابهم عصبية العشيرة ,ل عصبية العتقاد ,وصلة الدم ل صلة القلب .ثم هم يغفلون عن غيرة ال
على أوليائه فل يضعونها في الحساب .
ل عزة التقدير والكرامة ول عزة الغلب والقهر .ولكننا نحسب حساب الهل والعشيرة !
وحين تفرغ النفوس من العقيدة القويمة والقيم الرفيعة والمثل العالية ; فإنها تقبع على الرض ومصالحها
القريبة وقيمها الدنيا ; فل ترى حرمة يومئذ لدعوة كريمة ,ول لحقيقة كبيرة ; ول تتحرج عن البطش بالداعية
إل أن تكون له عصبة تؤويه ; وإل أن تكون معه قوة مادية تحميه .أما حرمة العقيدة والحق والدعوة فل
وزن لها ول ظل في تلك النفوس الفارغة الخاوية .
وعندئذ تأخذ شعيبا الغيرة على جلل ربه ووقاره ; فيتنصل من العتزاز برهطه وقومه ; ويجبههم بسوء
التقدير لحقيقة القوى القائمة في هذا الوجود ,وبسوء الدب مع ال المحيط بما يعملون .ويلقي كلمته الفاصلة
الخيرة .ويفاصل قومه على أساس العقيدة ,ويخلي بينهم وبين ال ,وينذرهم العذاب الذي ينتظر أمثالهم ,
ويدعهم لمصيرهم الذي يختارون:
قال:يا قوم:ارهطي أعز عليكم من ال واتخذتموه وراءكم ظهريا ? إن ربي بما تعملون محيط .ويا قوم
اعملوا على مكانتكم إني عامل ,سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب . .
أجماعة من البشر مهما يكونوا من القوة والمنعة فهم ناس ,وهم ضعاف ,وهم عباد من عباد ال . .أهؤلء
أعز عليكم من ال ? . .أهؤلء أشد قوة ورهبة في نفوسكم من ال ?
وهي صورة حسية للترك والعراض ,تزيد في شناعة فعلتهم ,وهم يتركون ال ويعرضون عنه ,وهم من
خلقه ,وهو رازقهم وممتعهم بالخير الذي هم فيه .فهو البطر وجحود النعمة وقلة الحياء إلى جانب الكفر
والتكذيب وسوء التقدير .
إنها غضبة العبد المؤمن لربه أن يستباح جلله -سبحانه -ووقاره .الغضبة التي ل يقوم إلى جوارها شيء
من العتزاز بنسبه ورهطه وعشيرته وقومه . .إن شعيبا لم ينتفخ ولم ينتفش أن يجد القوم يرهبون رهطه ,
فل تمتد إليه أيديهم بالبطش الذي يريدونه ! ولم يسترح ولم يطمئن إلى أن يكون رهطه هم الذين يحمونه
ويمنعونه من قومه -الذين افترق طريقهم عن طريقه -وهذا هو اليمان في حقيقته . .أن المؤمن ل يعتز
إل بربه ; ول يرضى أن تكون له عصبة تخشى ول يخشى ربه ! فعصبية المسلم ليست لرهطه وقومه ,إنما
هي لربه ودينه .وهذا هو مفرق الطريق في الحقيقة بين التصور السلمي والتصور الجاهلي في كل أزمانه
وبيئاته !
ومن هذه الغضبة ل .والتنصل من العتزاز أو الحتماء بسواه ,ينبعث ذلك التحدي الذي يوجهه شعيب إلى
قومه ; وتقوم تلك المفاصلة بينه وبينهم -بعد أن كان واحدا منهم -ويفترق الطريقان فل يلتقيان:
أنا أم أنتم ?
للعاقبة التي تنتظرني وتنتظركم . .وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير .كما يوحي بالمفاصلة وافتراق
الطريق . .
ويسدل الستار هنا .على هذه الكلمة الخيرة الفاصلة وعلى هذا الفتراق والمفاصلة ,ليرفع هناك على
مصرع القوم ,وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم ,أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح ,فكان مصيرهم
كمصيرهم ,خلت منهم الدور ,كأن لم يكن لهم فيها دور ,وكأن لم يعمروها حينا من الدهر .مضوا مثلهم
مشيعين باللعنة ,طويت صفحتهم في الوجود وصفحتهم في القلوب:
(ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ,وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم
جاثمين ,كأن لم يغنوا فيها .أل بعدا لمدين ,كما بعدت ثمود .). . .
وطويت صفحة أخرى من الصفحات السود ,حق فيها الوعيد على من كذبوا بالوعيد .
ن ُهوَ كَاذِبٌ وَا ْرتَ ِقبُواْ ِإنّي
ب ُيخْزِيهِ َومَ ْ
عذَا ٌ
ل سَ ْوفَ َتعَْلمُونَ مَن َي ْأتِيهِ َ
عمَلُواْ عَلَى َمكَا َن ِت ُكمْ ِإنّي عَامِ ٌ
َويَا قَ ْومِ ا ْ
ص ْيحَةُ
ن ظََلمُواْ ال ّ
خذَتِ اّلذِي َ
حمَةٍ ّمنّا وََأ َ
ش َعيْبا وَاّلذِينَ آ َمنُواْ َمعَ ُه ِب َر ْ
ج ْينَا ُ
َم َعكُمْ َرقِيبٌ ( )93وََلمّا جَاء َأ ْم ُرنَا َن ّ
ن َكمَا َب ِعدَتْ َثمُودُ ()95
ص َبحُواْ فِي ِديَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ (َ )94كأَن ّل ْم َي ْغنَوْاْ فِيهَا َألَ ُبعْدا ّل َم ْديَ َ
َفأَ ْ
الدرس الخامس 99 - 96:فرعون يقود قومه إلى النار
وخاتمة ذلك القصص هذه الشارة إلى قصة موسى مع فرعون ,لتسجيل نهاية فرعون وملئه ,ونهاية قومه
الذين ائتمروا بأمره .وتتضمن هذه الشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة القصة التي لم تذكر هنا ,
كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة .وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مباديء السلم .
مبدأ التبعة الفردية التي ل يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء . .
ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى باليات مزودا بقوة من ال وسلطان ,إلى فرعون ذي السلطان
وكبراء قومه .
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين .إلى فرعون وملئه). .
ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها ,فإذا هم يتبعون أمر فرعون ,ويعصون أمر ال .
على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط:
ولما كانوا تبعا لفرعون في هذا المر ,يمشون خلفه ,ويتبعون خطواته الضالة بل تدبر ول تفكر ,ودون أن
يكون لهم رأي ,مستهينين بأنفسهم ,متخلين عن تكريم ال لهم بالرادة والعقل وحرية التجاه واختيار الطريق
. .لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعا:
وبينما نحن نسمع حكاية عن الماضي ووعدا عن المستقبل ,إذا المشهد ينقلب ,وإذا المستقبل ماض قد وقع ,
وإذا فرعون قد قاد قومه إلى النار وانتهى:
(فأوردهم النار)!!
أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم .ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير ? ألم يتنازلوا عن أخص خصائص
الدمية وهي حرية الرادة والختيار ? فأوردهم النار .ويا بئساه من ورد ل يروي غلة ,ول يشفي صدى ,
إنما يشوي البطون والقلوب:
(وبئس الورد المورود !).
وإذا ذلك كله .قيادة ففرعون لهم ,وإيرادهم موردهم . .إذا ذلك كله حكاية تروى ,ويعلق عليها:
وَلَ َقدْ َأرْسَ ْلنَا مُوسَى بِآيَا ِتنَا َوسُ ْلطَانٍ ّمبِينٍ ( )96إِلَى ِفرْعَ ْونَ َومََلئِهِ فَا ّت َبعُواْ َأ ْمرَ ِفرْعَ ْونَ َومَا َأ ْمرُ ِفرْعَ ْونَ ِب َرشِيدٍ (
)97يَ ْق ُدمُ قَ ْومَ ُه يَ ْومَ ا ْل ِقيَامَةِ َفأَ ْو َردَهُ ُم النّارَ َو ِبئْسَ الْ ِو ْردُ ا ْلمَ ْورُودُ ( )98وَُأ ْت ِبعُواْ فِي هَـذِهِ َل ْع َنةً َويَ ْومَ الْ ِقيَامَةِ ِبئْسَ
الرّ ْفدُ ا ْل َم ْرفُودُ ()99
فهذه النار هي الرفد والعطاء والمنة التي رفد بها فرعون قومه !!! ألم يعد السحرة عطاء جزيل ورفدا مرفودا
. .فها هو ذا رفده لمن اتبعه . .النار . .وبئس الورد المورود .وبئس الرفد المرفود !
الوحدة السادسة 129 - 100:الموضوع:تقرير حقائق إعتقادية تعقيبا على قصص السورة
ع ْن ُهمْ
غنَتْ َ
س ُهمْ َفمَا أَ ْ
حصِيدٌ (َ )100ومَا ظََل ْمنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُو ْا أَن ُف َ
ن أَنبَاء الْ ُقرَى نَ ُقصّهُ عََل ْيكَ ِم ْنهَا قَآ ِئمٌ َو َ
ذَِلكَ مِ ْ
خذُ َر ّبكَ
غ ْيرَ َت ْتبِيبٍ (َ )101و َكذَِلكَ َأ ْ
شيْءٍ ّلمّا جَاء َأ ْمرُ َر ّبكَ َومَا زَادُو ُهمْ َ
آِل َه ُت ُهمُ اّلتِي َيدْعُونَ مِن دُونِ الّلهِ مِن َ
ب الخِرَ ِة ذَِلكَ يَ ْومٌ
عذَا َ
ن خَافَ َ
ن فِي ذَِلكَ ليَ ًة ّلمَ ْ
شدِيدٌ ( )102إِ ّ
خذَ ُه أَلِيمٌ َ
ن َأ ْ
ي ظَاِلمَ ٌة إِ ّ
خذَ الْ ُقرَى وَ ِه َ
ِإذَا َأ َ
ل ِبِإذْنِهِ
ل َتكَلّ ُم نَفْسٌ ِإ ّ
ل ِلَأجَلٍ ّم ْعدُودٍ (َ )104ي ْومَ َيأْتِ َ
خرُهُ ِإ ّ
شهُودٌ (َ )103ومَا ُن َؤ ّ
جمُوعٌ لّهُ النّاسُ َوذَِلكَ يَ ْومٌ ّم ْ
ّم ْ
شهِيقٌ ( )106خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
سعِيدٌ (َ )105فَأمّا اّلذِينَ شَقُواْ فَفِي النّارِ َل ُهمْ فِيهَا زَفِيرٌ َو َ
َفمِ ْن ُهمْ شَ ِقيّ َو َ
ن فِيهَا مَا
جنّةِ خَاِلدِي َ
س ِعدُو ْا فَفِي ا ْل َ
ن َربّكَ َفعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ ( )107وََأمّا اّلذِينَ ُ
لرْضُ ِإلّ مَا شَاء َر ّبكَ إِ ّ
سمَاوَاتُ وَا َ
ال ّ
جذُوذٍ ( )108فَلَ َتكُ فِي ِمرْيَةٍ ّممّا َي ْع ُبدُ هَـؤُلء مَا
غ ْيرَ َم ْ
عطَاء َ
ل مَا شَاء َر ّبكَ َ
لرْضُ ِإ ّ
سمَاوَاتُ وَا َ
دَامَتِ ال ّ
غ ْيرَ مَنقُوصٍ ( )109وَلَ َقدْ آ َت ْينَا مُوسَى ا ْل ِكتَابَ
ل َكمَا َي ْع ُبدُ آبَاؤُهُم مّن َقبْلُ وَِإنّا َلمُ َوفّو ُهمْ َنصِي َبهُمْ َ
َي ْعبُدُونَ ِإ ّ
ن كُـلّ ّلمّا َليُ َو ّف َي ّنهُمْ
شكّ ّمنْهُ ُمرِيبٍ ( )110وَإِ ّ
سبَقَتْ مِن رّ ّبكَ َل ُقضِيَ َب ْي َن ُهمْ وَِإ ّن ُهمْ َلفِي َ
ل كَِلمَةٌ َ
ختُِلفَ فِيهِ وَلَ ْو َ
فَا ْ
طغَوْاْ ِإنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (
خبِيرٌ ( )111فَاسْتَ ِقمْ َكمَا ُأمِرْتَ َومَن تَابَ َم َعكَ َولَ َت ْ
ن َ
عمَاَل ُهمْ ِإنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُو َ
ك أَ ْ
َربّ َ
ن أَوِْليَاء ُثمّ لَ تُنصَرُونَ ( )113وََأ ِقمِ
سكُمُ النّارُ َومَا َلكُم مّن دُونِ اللّ ِه مِ ْ
ن ظََلمُو ْا فَ َت َم ّ
َ )112ولَ َت ْر َكنُواْ إِلَى اّلذِي َ
ص ِبرْ فَإِنّ
سنَاتِ ُيذْ ِهبْنَ السّـ ّيئَاتِ ذَِلكَ ِذ ْكرَى لِلذّا ِكرِينَ ( )114وَا ْ
حَن ا ْل َ
ل إِ ّ
طرَ َفيِ ال ّنهَارِ َوزُلَفا مّنَ الّليْ ِ
الصّلَةَ َ
حسِنِينَ ()115
جرَ ا ْل ُم ْ
اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأ ْ
مقدمة الوحدة هذه خاتمة السورة .تشتمل على تعليقات وتعقيبات متنوعة ,مبنية على ما سبق في سياق
السورة .من المقدمة ومن القصص .وهذه التعليقات والتعقيبات شديدة التصال بما سبق من سياق السورة ,
متكاملة معه في أداء أهدافها كذلك .
والتعقيب الول في هذا الدرس تعقيب مباشر على القصص(:ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم
وحصيد .وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ,فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء -لما
جاء أمر ربك -وما زادوهم غير تتبيب .وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة .إن أخذه أليم شديد).
.
والتعقيب الثاني يتخذ مما نزل بالقرى من عذاب موحيا بالخوف من عذاب الخرة الذي يعرض في مشهد
شاخص من مشاهد يوم القيامة(:إن في ذلك لية لمن خاف عذاب الخرة .ذلك يوم مجموع له الناس وذلك
يوم مشهود .وما نؤخره إل لجل معدود .يوم يأت ل تكلم نفس إل بإذنه ,فمنهم شقي وسعيد .فأما الذين
شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق .خالدين فيها ما دامت السماوات والرض -إل ما شاء ربك -إن
ربك فعال لما يريد .وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والرض -إل ما شاء ربك
-عطاء غير مجذوذ). .
يليه تعقيب آخر مستمد من عاقبة القرى ومن مشهد القيامة لتقرير أن المشركين الذين يواجههم محمد [ ص ]
شأنهم شأن من قبلهم في الحالين .وإذا كان عذاب الستئصال ل يقع عليهم في الرض ,فذلك لكلمة سبقت
من ربك إلى أجل كما أجل العذاب لقوم موسى مع اختلفهم فيما جاءهم من كتاب .ولكن هؤلء وهؤلء
سيوفون أعمالهم على وجه التأكيد .فاستقم أيها الرسول على طريقتك أنت ومن تاب معك ,ول تركنوا إلى
الذين ظلموا وأشركوا ,وأقم الصلة واصبر ,فإن ال ل يضيع أجر المحسنين( :فل تك في مرية مما يعبد
هؤلء .ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل ,وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص .ولقد آتينا موسى
الكتاب فاختلف فيه ,ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كل لما ليوفينهم
ربك أعمالهم ,إنه بما يعملون خبير .فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ,ول تطغوا ,إنه بما تعملون بصير .
ول تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون .وأقم الصلة طرفي
النهار وزلفا من الليل ,إن الحسنات يذهبن السيئات ,ذلك ذكرى للذاكرين .واصبر فإن ال ل يضيع أجر
المحسنين). .
ثم عودة إلى القرون الخالية التي لم يكن فيها إل قليل من الذين ينهون عن الفساد في الرض .أما الكثرة
فكانت ماضية فيما هي فيه ,فاستحقت الهلك .وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون :فلول كان
من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الرض ! إل قليل ممن أنجينا منهم ,واتبع الذين ظلموا
ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين .وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . .
وكشف عن سنة ال في كون الناس مختلفين في مناهجهم واتجاهاتهم .ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة .
ولكن إرادته اقتضت إعطاء البشر قدرا من الختيار (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ,ول يزالون
مختلفين .إل من رحم ربك ,ولذلك خلقهم ,وتمت كلمة ربك لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وفي النهاية يسجل السياق غرضا من أغراض هذا القصص هوتثبيت فؤاد النبي [ ص ] ,ويؤمر الرسول أن
يلقي للمشركين كلمته الخيرة ,ويكلهم إلى ما ينتظرهم من غيب ال .وأن يعبد ال ويتوكل عليه ,ويدع له
أخذ الناس بما يعملون(:وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ,وجاءك في هذه الحق ,
وموعظة وذكرى للمؤمنين .وقل للذين ل يؤمنون:اعملوا على مكانتكم إنا عاملون .وانتظروا إنا منتظرون .
ول غيب السماوات والرض وإليه يرجع المر كله ,فاعبده وتوكل عليه ,وما ربك بغافل عما تعملون). .
الدرس الول 102 - 100:التعاظ من إهلك الكفار السابقين (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك .منها قائم
وحصيد .وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ; فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لما
جاء أمر ربك ,وما زادوهم غير تتبيب .وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة .إن أخذه أليم شديد . .
ومصارع القوم معروضة ,ومشاهدهم تزحم النفس والخيال ; منهم الغارقون في لجة الطوفان الغامر ,ومنهم
المأخوذون بالعاصفة المدمرة ,ومنهم من أخذته الصيحة ,ومنهم من خسفت به وبداره الرض ,ومنهم من
يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار .وما حل بهم من قبل في الدنيا يخايل للنظار . .في هذا الموضع وقد
بلغ السياق من القلوب والمشاعر أعماقها بتلك المصارع والمشاهد . .هنا يأتي هذا التعقيب:
(ذلك من أنباء القرى نقصه عليك) . .فما كان لك به من علم ,إنما هو الوحي ينبئك بهذا الغيب المطمور .
وذلك بعض أغراض القصص في القرآن .
(منها قائم) . .ل تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران ,كبقايا عاد في الحقاف وبقايا ثمود في
الحجر .ومنها(حصيد)كالزرع المحصود .اجتث من فوق الرض وتعرى وجهها منه ,كما حل بقوم نوح أو
قوم لوط .
فهم قد عطلوا مداركهم ,وتولوا عن الهدى ,وكذبوا باليات ,واستهزأوا بالوعيد ,فصاروا إلى ما صاروا
إليه ظالمين لنفسهم ل مظلومين .
(فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون ال من شيء لما جاء أمر ربك ,وما زادوهم غير تتبيب). .
وهذا غرض آخر من أغراض هذا القصص .فقد افتتحت السورة بإنذار الذين يدينون لغير ال سبحانه ;
وتكرر النذار مع كل رسول ; وقيل لهم:إن هذه الرباب المفتراة ل تعصمهم من ال . .فها هي ذي العاقبة
تصدق النذر .فل تغني عنهم آلهتهم شيئا ,ول تدفع عنهم العذاب لما جاء أمر ربك ,بل ما زادهم هؤلء
اللهة إل خسارة ودمارا [ .ولفظ تتبيب أقوى ببنائه اللفظي وجرسه المشدد ] ذلك أنهم اعتمدوا عليهم ,
فزادوا استهتارا وتكذيبا .فزادهم ال نكال وتدميرا .فهذا معنى (ما زادوهم)فهم ل يملكون لهم ضرا كما أنهم
ل يملكون لهم نفعا .ولكن بسببهم كانت الخسارة المضاعفة والتدمير المضاعف والنكال الشديد . .
كذلك الذي قصصناه عليك ,وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين يأخذها وهي ظالمة . .
ظالمة:مشركة حين تدين لغير ال بالربوبية ,وظالمة لنفسها بالشرك والفساد في الرض والعراض عن
دعوة التوحيد والصلح .وقد ساد فيها الظلم وسيطر الظالمون .
بعد المهال والمتاع والبتلء ,وبعد العذار بالرسل والبينات ,وبعد أن يسود الظلم في المة ويسيطر
الظالمون .ويتبين أن دعاة الحق المصلحين قلة منعزلة ل تأثير لها في حياة الجماعة الظالمة السادرة في
الضلل . .ثم . .بعد أن تفاصل العصبة المؤمنة قومها السادرين في الضلل ; وتعتبر نفسها أمة وحدها لها
دينها ولها ربها ولها قيادتها المؤمنة ولها ولؤها الخاص فيما بينها .وتعلن المة المشركة من قومها بهذا كله
,وتدعها تلقي مصيرها الذي يقدره ال لها .وفق سنته التي ل تتخلف على مدار الزمان .
ففي ذلك الخذ الليم الشديد مشابه من عذاب الخرة ,تذكر بهذا اليوم وتخيف . .
وإن كان ل يراها إل الذين يخافون الخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب . .
والذين ل يخافون الخرة تظل قلوبهم صماء ل تتفتح لليات ,ول تحس بحكمة الخلق والعادة ,ول ترى إل
واقعها القريب في هذه الدنيا ,وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة ل تثير فيها عظة ول فهما .
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعا ,على غير إرادة منهم ,إنما هو سوق الجميع سوقا إلى ذلك
المعرض المشهود ,والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون . .
فالصمت الهائل يغشى الجميع ,والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه .والكلم بإذن ل يجرؤ أحد على
طلبه ,ولكن يؤذن لمن شاء ال فيخرج من صمته بإذنه . .ثم تبدأ عملية الفرز والتوزيع:
ومن خلل التعبير نشهد( :الذين شقوا)نشهدهم في النار مكروبي النفاس (لهم فيها زفير وشهيق)من الحر
والكتمة والضيق .ونشهد (الذين سعدوا)نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء دائم غير مقطوع ول ممنوع . .
هؤلء وأولئك خالدون حيث هم (ما دامت السماوات والرض) .وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام
والستمرار .وللتعبير ظلل .وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .
وقد علق السياق هذا الستمرار بمشيئة ال في كلتا الحالتين .وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة ال في النهاية
.فمشيئة ال هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ول محصورة فيها .إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين
يشاء ال:
وزاد السياق في حالة الذين سعدوا ما يطمئنهم إلى أن مشيئة ال اقتضت أن يكون عطاؤه لهم غير مقطوع ,
حتى على فرض تبديل إقامتهم في الجنة .وهو مطلق فرض يذكر لتقرير حرية المشيئة بعدما يوهم التقييد .
الدرس الثالث 111 - 109:مواساة وتطمين الرسول ومن معه بأنهم على الحق
بعد هذا الستطراد إلى المصير في الخرة ,بمناسبة عرض مصائر القوام في الدنيا ,والمشابه بين عذاب
الدنيا وعذاب الخرة ,وتصوير ما ينتظر المكذبين هنا أو هناك ,أو هنا ثم هناك . .يعود السياق بما يستفاد
من القصص ومن المشاهد إلى الرسول [ ص ] والقلة المؤمنة معه في مكة -تسرية وتثبيتا ; وإلى المكذبين
من قومه بيانا وتحذيرا .فليس هناك شك في أن القوم يعبدون ما كان آباؤهم يعبدون -شأنهم شأن أصحاب
ذلك القصص وأصحاب تلك المصائر -ونصيبهم الذي يستحقونه سيوفونه .فإن كان قد أخر عنهم فقد أخر
عذاب الستئصال عن قوم موسى -بعد اختلفهم في دينهم -لمر قد شاءه ال في إنظارهم .ولكن قوم
موسى وقوم محمد على السواء سيوفون ما يستحقون ,بعد الجل ,وفي الموعد المحدود .ولم يؤخر عنهم
العذاب لنهم على الحق .فهم على الباطل الذي كان عليه آباؤهم بكل تأكيد:
فل تك في مرية مما يعبد هؤلء .ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل .وإنا لموفوهم نصيبهم غير
منقوص .
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه .ولول كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم .وإنهم لفي شك منه مريب .
وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم . .إنه بما يعملون خبير). .
ل يتسرب إلى نفسك شك في فساد عبادة هؤلء .والخطاب للرسول [ ص ] والتحذير لقومه .وهذا السلوب
أفعل في النفس أحيانا ,لنه يوحي بأنها قضية موضوعية يبينها ال لرسوله ,وليست جدال مع أحد ,ول
خطابا للمتلبسين بها ,إهمال لهم وقلة انشغال بهم ! وعندئذ يكون لتلك الحقيقة الخالصة المجردة أثرها في
اهتمامهم أكثر مما لو خوطبوا بها خطابا مباشرا . .
(فل تك في مرية مما يعبد هؤلء .ما يعبدون إل كما يعبد آباؤهم من قبل). .
ومصيرهم إذن كمصيرهم . .العذاب . .ولكنه يلفه كذلك في التعبير تمشيا مع السلوب:
ومعروف نصيبهم هذا من نصيب القوم قبلهم .وقد رأينا منه نماذج ومشاهد !
وقد ل يصيبهم عذاب الستئصال -في الدنيا -كما لم يصب قوم موسى:
وتفرقت كلمتهم واعتقاداتهم وعباداتهم ,ولكن كلمة سبقت من ال أن يكون حسابهم الكامل يوم القيامة:
ولحكمة ما سبقت هذه الكلمة ,ولم يحل عذاب الستئصال بهم ,لن لهم كتابا ,والذين لهم كتاب من أتباع
الرسل كلهم مؤجلون إلى يوم القيامة ,لن الكتاب دليل هداية باق ,تستطيع الجيال أن تتدبره كالجيل الذي
أنزل فيه .والمر ليس كذلك في الخوارق المادية التي ل يشهدها إل جيل ,فإما أن يؤمن بها وإما أن ل
يؤمن فيأخذه العذاب . .والتوراة والنجيل كتابان متكاملن يظلن معروضين للجيال حتى يجيء الكتاب
الخير ,مصدقا لما بين يديه من التوراة والنجيل فيصبح هو الكتاب الخير للناس جميعا يدعى إليه الناس
جميعا ,ويحاسب على أساسه الناس جميعا ,بما فيهم أهل التوراة وأهل النجيل (.وإنهم) . .أي قوم موسى .
( .لفي شك منه مريب) . .من كتب موسى ,لنه لم يكتب إل بعد أجيال ,وتفرقت فيه الروايات واضطربت ,
فل يقين فيه لمتبعيه .
وإذا كان العذاب قد أجل . .فإن الكل سيوفون أعمالهم خيرها وشرها .سيوفيهم بها العليم الخبير بها ولن
تضيع:
وإن كل لما ليوفينهم ربك أعمالهم .إنه بما يعملون خبير "وفي التعبير توكيدات منوعة حتى ل يشك أحد في
الجزاء والوفاء من جراء النظار والتأجيل .وحتى ل يشك أحد في أن ما عليه القوم هو الباطل الذي ل شك
في بطلنه ,وأنه الشرك الذي زاوله من قبل كل المشركين . .
ولقد كان لهذه التوكيدات ما يقتضيها من واقع الحركة في تلك الفترة .فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة منها
ومن رسول ال [ ص ] والقلة المؤمنة معه ,وتجمدت الدعوة على وجه التقريب .بينما عذاب ال الموعود
مؤجل لم يقع بعد .والذى ينزل بالعصبة المؤمنة ويمضي أعداؤها ناجين ! . .إنها فترة تهتزفيها بعض
القلوب .وحتى القلوب الثابتة تنالها الوحشة ,وتحتاج إلى مثل هذه التسرية وإلى مثل هذا التثبيت .
وتثبيت القلوب المؤمنة ل يكون بشيء كما يكون بتوكيد أن أعداءها هم أعداء ال ,وأنهم على الباطل الذي ل
شك فيه !
كذلك ل يكون تثبيت القلوب المؤمنة بشيء كما يكون بجلء حكمة ال في إمهال الظالمين ,وإرجاء الطغاة
إلى يوم معلوم ,ينالون فيه جزاءهم ول يفلتون !
وهكذا نلمح مقتضيات الحركة بهذه العقيدة في النصوص القرآنية ,ونرى كيف يخوض القرآن المعركة
بالجماعة المسلمة ,وكيف يكشف لها معالم الطريق !
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة ال ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده
وفي و عيده .وإذن فليستقم المؤمنون بدين ال والداعون له على طريقتهم -كما أمروا -ل يغلون في الدين
ول يزيدون فيه ,ول يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم ,ول يدينون لغير ال مهما طال عليهم الطريق .
ثم يتزودون بزاد الطريق ,ويصبرون حتى تتحقق سنة ال عندما يريد .
(فاستقم كما أمرت -ومن تاب معك -ول تطغوا .إنه بما تعملون بصير .ول تركنوا إلى الذين ظلموا
فتمسكم النار ,وما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون .وأقم الصلة طرفي النهار وزلفا من الليل ,إن
الحسنات يذهبن السيئات ,ذلك ذكرى للذاكرين ,واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين). .
(فاستقم كما أمرت) . .أحس -عليه الصلة والسلم -برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه":
شيبتني هود . " . . .فالستقامة:العتدال والمضي على النهج دون انحراف .وهو في حاجة إلى اليقظة
الدائمة ,والتدبر الدائم ,والتحري الدائم لحدود الطريق ,وضبط النفعالت البشرية التي تميل التجاه قليل أو
كثيرا . .ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة .
وإنه لمما يستحق النتباه هنا أن النهي الذي أعقب المر بالستقامة ,لم يكن نهيا عن القصور والتقصير ,إنما
كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة . .وذلك أن المر بالستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد
ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر .وال يريد دينه كما أنزله ,ويريد
الستقامة على ما أمر دون إفراط ول غلو ,فالفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط
والتقصير .وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ,لمساك النفوس على الصراط ,بل انحراف إلى الغلو أو الهمال
على السواء . .
ل تستندوا ول تطمئنوا إلى الذين ظلموا .إلى الجبارين الطغاة الظالمين ,أصحاب القوة في الرض ,الذين
يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير ال من العبيد . .ل تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم
علىهذا المنكر الكبر الذي يزاولونه ,ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير .
والستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين . .
وال -سبحانه -يرشد رسوله [ ص ] ومن معه من القلة المؤمنة إلى زاد الطريق:
ولقد علم ال أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد ,والذي يقيم البنية الروحية ,ويمسك القلوب على
الحق الشاق التكاليف .ذلك أنه يصل هذه القلوب بربها الرحيم الودود ,القريب المجيب ,وينسم عليها نسمة
النس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية النكدة الكنود !
والية هنا تذكر طرفي النهار -وهما أوله وآخره ,وزلفا من الليل أي قريبا من الليل .وهذه تشمل أوقات
الصلة المفروضة دون تحديد عددها .والعدد محدد بالسنة ومواقيته كذلك .
والنص يعقب على المر بإقامة الصلة -أي أدائها كاملة مستوفاة -بأن الحسنات يذهبن السيئات .وهو نص
عام يشمل كل حسنة ,والصلة من أعظم الحسنات ,فهي داخلة فيه بالولوية .ل أن الصلة هي الحسنة التي
تذهب السيئة بهذا التحديد -كما ذهب بعض المفسرين :-
والستقامة إحسان .وإقامة الصلة في أوقاتها إحسان .والصبر على كيد التكذيب إحسان . . .وال ل يضيع
أجر المحسنين . . .
ثم يعود السياق إلى تكملة التعليق والتعقيب على مصارع القرى والقرون .فيشير من طرف خفي إلى أنه لو
كان في هذه القرون أولو بقية يستبقون لنفسهم الخير عند ال ,فينهون عن الفساد في الرض ,ويصدون
الظالمين عن الظلم ,ما أخذ تلك القرى بعذاب الستئصال الذي حل بهم ,فإن ال ل يأخذ القرى بالظلم إذا
كان أهلها مصلحين ,أي إذا كان للمصلحين من أهلها قدرة يصدون بها الظلم والفساد ,إنما كان في هذه
القرى قلة من المؤمنين ل نفوذ لهم ول قوة ,فأنجاهم ال .وكان فيها كثرة من المترفين وأتباعهم والخانعين
لهم ,فأهلك القرى بأهلها الظالمين:
فلول كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الرض ! إل قليل ممن أنجينا منهم ,واتبع
الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين .وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . .
وهذه الشارة تكشف عن سنة من سنن ال في المم .فالمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير ال ,في
صورة من صوره ,فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية ,ل يأخذها ال بالعذاب والتدمير .فأما المم التي
يظلم فيها الظالمون ,ويفسد فيها المفسدون ,فل ينهض من يدفع الظلم والفساد ,أو يكون فيها من يستنكر ,
ولكنه ل يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد ,فإن سنة ال تحق عليها ,إما بهلك الستئصال .وإما بهلك
النحلل . .والختلل !
فأصحاب الدعوة إلى ربوبية ال وحده ,وتطهير الرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره ,هم صمام
المان للمم والشعوب . .وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لقرار ربوبية ال وحده ,الواقفين للظلم والفساد
بكل صوره . .إنهم ل يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب ,إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب ال ,
واستحقاق النكال والضياع . .
الدرس السادس 119 - 118:سنة ال في اختلف الناس والفصل بينهم يوم القيامة
والتعقيب الخير عن اختلف البشر إلى الهدى وإلى الضلل ,وسنة ال المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا
أو ذاك:
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة .ول يزالون مختلفين -إل من رحم ربك -ولذلك خلقهم .وتمت
كلمة ربك:لملن جهنم من الجنة والناس أجمعين). .
لو شاء ال لخلق الناس كلهم على نسق واحد ,وباستعداد واحد . .نسخا مكرورة ل تفاوت بينها ول تنويع
فيها .وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الرض .وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي
استخلفه ال في الرض .
ولقد شاء ال أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته .وأن يوهب القدرة على حرية التجاه .وأن يختار
هو طريقه ,ويحمل تبعة الختيار .ويجازي على اختياره للهدى أوللضلل . .هكذا اقتضت سنة ال وجرت
مشيئته .فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلل سواء في أنه تصرف حسب سنة ال في خلقه ,ووفق
مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار ,وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار .
شاء ال أل يكون الناس أمة واحدة .فكان من مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين .وأن يبلغ هذا الختلف أن
يكون في أصول العقيدة -إل الذين أدركتهم رحمة ال -الذين اهتدوا إلى الحق -والحق ل يتعدد -فاتفقوا
عليه .وهذا ل ينفي أنهم مختلفون مع أهل الضلل .
يفهم أن الذين التقوا على الحق وأدركتهم رحمة ال لهم مصير آخر هو الجنة تمتليء بهم كما تمتليء جهنم
بالضالين المختلفين مع أهل الحق ,والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة !
الدرس السابع 123 - 120:وظيفة القصص في تثبيت الفؤاد وانتظار الفرج من ال
والخاتمة الخيرة .خطاب للرسول [ ص ] عن حكمة سوق القصص إليه في خاصة نفسه للمؤمنين .فأما
الذين ل يؤمنون فليلق إليهم كلمته الخيرة ,وليفاصلهم مفاصلة حاسمة ,وليخل بينهم وبين ما ينتظرهم في
غيب ال .ثم ليعبد ال وليتوكل عليه ,ويدع القوم لما يعملون . .
ويا ل للرسول [ ص ] لقد كان يجد من قومه ,ومن انحرافات النفوس ,ومن أعباء الدعوة ,ما يحتاج معه
إلى التسلية والتسرية والتثبيت من ربه -وهو الصابر الثابت المطمئن إلى ربه :-
أي في هذه السورة . .الحق من أمر الدعوة ,ومن قصص الرسل ,ومن سنن ال ,ومن تصديق البشرى
والوعيد .
فأما الذين ل يؤمنون بعد ذلك فل موعظة لهم ول ذكرى .وإنما الكلمة الفاصلة ,والمفاصلة الحاسمة:
(وقل للذين ل يؤمنون:اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون). .
كما قال أخ لك ممن سبق قصصهم في هذه السورة لقومه ثم تركهم لمصيرهم يلقونه . .وما ينتظرونه غيب
من غيب ال:
والمر كله إليه .أمرك وأمر المؤمنين ,وأمر الذين ل يؤمنون ,وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما
سيكون .
(فاعبده). .
فهو الولي وحده والنصير .وهو العليم بما تعملون من خير وشر ,ولن يضيع جزاء أحد:
(وما ربك بغافل عما تعملون). .
وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة ,والتوبة والنابة والرجعة إلى ال في النهاية .بمثل ما
بدئت به من عبادة ال وحده والتوجه إليه وحده .والرجعة إليه في نهاية المطاف .وذلك بعد طول التطواف
في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون . .
وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام ,والتناسق بين القصص والسياق ,بكمال النظرة والفكرة
والتجاه في هذا القرآن .ولو كان من عند غير ال لوجدوا فيه اختلفا كثيرا . .
وبعد .فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها -بل المتتبع للقرآن المكي كله -يجد أن هناك خطا أصيل ثابتا
عريضا عميقا ,هو الذي ترتكز عليه ; وهو المحور الذي تدور حوله ; وإليه ترجع سائر خطوطها ,وإليه
وسنحتاج -في التعقيب الجمالي على هذه السورة -أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا
المحور -كما يتجلى في سياق السورة -وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئا ما .ولكننا في
هذا التعقيب الجمالي سنحتاج إلى اللمام به ,ربطا لجزاء هذا التعقيب الخير:
إن الحقيقة الولى البارزة في سياق السورة كله . .سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي
أرسل به محمد [ ص ] أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة السلمية على مدى االتاريخ
البشري .أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول ال [ ص ] إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية
المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية . .
إن الحقيقة الولى البارزة في سياق السورة كله . .هي التركيز على المر بعبادة ال وحده ,والنهي عن
عبادة غيره . .وتقرير أن هذا هو الدين كله . .وإقامة الوعد والوعيد ,والحساب والجزاء ,والثواب
والعقاب ,على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة . .كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من
تفسيرها . .
فيبقى هنا أن نجلي أول طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة ,وقيمة هذه الطريقة:
وواضح اختلف الصيغتين بين المر والنهي . .فهل مدلولهما واحد ? إن مدلول الصيغة الولى:المر بعبادة
ال ,وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه . .ومدلول الصيغة الثانية:النهي عن عبادة غير ال . .
والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الول ومفهومه . .ولكن الول "منطوق" والخر "مفهوم" . .ولقد
اقتضت حكمة ال -في بيان هذه الحقيقة الكبيرة -عدم الكتفاء بالمفهوم ,في النهي عن عبادة غير ال .
وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل .وإن كان مفهوما ومتضمنا في المر الول !
إن هذا يعطينا إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة ,ووزنها في ميزان ال سبحانه ,بحيث تستحق أل توكل
إلى المفهوم المتضمن في المر بعبادة ال وتقرير أن ل إله يعبد سواه ; وأن يرد النهي عن عبادة سواه في
منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر ل بالمفهوم المتضمن ! ول بالمقتضى اللزم !
كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها . .عبادة ال .وعدم عبادة سواه . .أن
النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء .وعدم الكتفاء معها بالمر بعبادة
ال وتقرير أن ل إله يعبد سواه ; وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه
المر بعبادته وحده . .ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان ل يجحدون ال ,ول يتركون عبادته ,ولكنهم مع
هذا -يعبدون معه غيره ; فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون !
ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالمر وبالنهي معا ; بحيث يؤكد أحدهما الخر ,التوكيد الذي
ل تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة . .
وقد تكرر مثل هذا التعبير القرآني في مواضع شتى ; هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها:
ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير:أل تعبدوا إل ال ,إنني لكم منه نذير وبشير [ . .هود:
]2-1
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه:إني لكم نذير مبين:أل تعبدوا إل ال ,إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم . . .
[ هود] 26 - 25:
وإلى عاد أخاهم هودا ,قال:يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ,إن أنتم إل مفترون . .
[ هود] 50:
(وقال ال:ل تتخذوا إلهين اثنين .إنما هو إله واحد .فإياي فارهبون). . .
[ النحل] 51:
(ما كان إبراهيم يهوديا ول نصرانيا .ولكن كان حنيفا مسلما .وما كان من المشركين). .
[ آل عمران] 67:
(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والرض حنيفا .وما أنا من المشركين). . .
[ النعام] 79:
وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد ,له دللته من غير شك .سواء في تجلية قيمة هذه
الحقيقة وضخامتها التي تستدعي أل توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات
اللزمة ,وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها .أو في دللة هذه الطريقة على علم ال -سبحانه -
بطبيعة الكائن النساني ,وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة ,وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو
غبش ,إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو ,الذي يتجلى فيه القصد والعمد . .ول الحكمة البالغة . .
وهو أعلم بمن خلق ,وهو اللطيف الخبير .
ثم نقف أمام مدلول مصطلح "العبادة " الوارد في السورة -وفي القرآن كله -لندرك ما وراء ذلك التركيز
على المر بعبادة ال وحده ,والنهي عن عبادة غيره .وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه
الحقيقة في نص منطوق ,وعدم الكتفاء بالدللة الضمنية المفهومة .
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه -في هذه السورة -ما هو مدلول مصطلح "العبادة "
الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية ; كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام ,وكل تلك
العذابات واللم التي عاناها الدعاة إلى عبادة ال وحده على ممر اليام . .فالن نضيف إلى ذلك التعقيب
بعض اللمحات:
إن إطلق مصطلح "العبادات" على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل ,في مقابل
إطلقمصطلح":المعاملت" على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل . .إن هذا جاء متأخرا عن
عصر نزول القرآن الكريم ; ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد الول .
ولقد كتبنا من قبل في كتاب "خصائص التصور السلمي ومقوماته" شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه
هذه الفقرات:
"إن تقسيم النشاط النساني إلى "عبادات" و "معاملت" مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة "الفقه" .ومع
أنه كان المقصود به -في أول المر -مجرد التقسيم "الفني" الذي هو طابع التأليف العلمي ,إل أنه -مع
السف -أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور ,تبعها -بعد فترة -آثار سيئة في الحياة السلمية كلها ; إذ
جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة " إنما هي خاصة بالنوع الول من النشاط ,الذي يتناوله
"فقه العبادات" .بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط ,الذي يتناوله "فقه
المعاملت" ! وهو انحراف بالتصور السلمي ل شك فيه .فل جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في
المجتمع السلمي .
"ليس في التصور السلمي نشاط إنساني ل ينطبق عليه معنى "العبادة " أو ل يطلب فيه تحقيق هذا الوصف .
والمنهج السلمي كله غايته تحقيق معنى العبادة ,أول وأخيرا .
"وليس هناك من هدف في المنهج السلمي لنظام الحكم ,ونظام القتصاد ,والتشريعات الجنائية ,
والتشريعات المدنية ,وتشريعات السرة .وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج . .
"ليس هناك من هدف إل تحقيق معنى "العبادة " في حياة النسان . .والنشاط النساني ل يكون متصفا بهذا
الوصف ,محققا لهذه الغاية -التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود النساني -إل حين يتم هذا النشاط
وفق المنهج الرباني ; فيتم بذلك إفراد ال -سبحانه -باللوهية ; والعتراف له وحده بالعبودية . .وإل فهو
خروج عن العبادة لنه خروج عن العبودية .أي خروج عن غاية الوجود النساني كما أرادها ال .أي
خروج عن دين ال !
"وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم "العبادات" وخصوها بهذه الصفة -على غير مفهوم التصور
السلمي -حين تراجع في مواضعها في القرآن ,تتبين حقيقة بارزة ل يمكن إغفالها .وهي أنها لم تجيء
مفردة ول معزولة عن أنواع النشاط الخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملت" . .إنما جاءت هذه
وتلك مرتبطة في السياق القرآني ,ومرتبطة في المنهج التوجيهي .باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة
" التي هي غاية الوجود النساني ,وتحقيقا لمعنى العبودية ,ومعنى إفراد ال -سبحانه -باللوهية .
"إن ذلك التقسيم -مع مرور الزمن -جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا
نشاط "العبادات" -وفق أحكام السلم -بينما هم يزاولون كل نشاط "المعاملت" وفق منهج آخر . .ل
يتلقونه من ال ولكن من إله آخر ! . .هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به ال !
"وهذا وهم كبير .فالسلم وحدة ل تنفصم .وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو -فإنما يخرج
من هذه الوحدة ,أو بتعبير آخر:يخرج من هذا الدين .
"وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلمه ; ويريد في الوقت ذاته
أن يحقق غاية وجوده النساني"
فالن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول
مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . .بل أنه يوم خوطب به
أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه
هو "الدينونة " ل وحده في أمر كله ,وخلع الدينونة لغير ال من عنقه في أمره كله .ولقد فسر رسول ال [
ص ] "العبادة " نصا بأنها "التباع" وليست هي الشعائر التعبدية ,وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود
والنصارى ,واتخاذهم الحبار والرهبان أربابا ":بلى إنهم أحلوا لهم الحرام ,وحرموا عليهم الحلل ,فاتبعوهم
فذلك عبادتهم إياهم " . .إنما أطلقت لفظة "العبادة " على "الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور
الدينونة ل في شأن من الشؤون .صورة ل تستغرق مدلول العبادة ,بل إنها تجيء بالتبعية ل بالصالة ! . .
ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء":إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت
كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالت ; وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل -
صلوات ال وسلمه عليهم -وما استحقت كل هذه العذابات واللم التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على
مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد ,وردهم إلى
الدينونة ل وحده في كل أمر وفي كل شأن ,وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللخرة سواء .
"إن توحيد اللوهية ,وتوحيد الربوبية ,وتوحيد القوامة ,وتوحيد الحاكمية ,وتوحيد مصدر الشريعة ,وتوحيد
منهج الحياة ,وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . .إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن
يرسل من أجله كل هؤلء الرسل ,وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ,وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات
واللم على مدار الزمان . .ل لن ال سبحانه في حاجة إليه .فال سبحانه غني عن العالمين .ولكن لن
حياة البشر ل تصلح ول تستقيم ول ترتفع ول تصبح لئقة بالنسان ,إل بهذا التوحيد الذي ل حد لتأثيره في
الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء" . .
وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا المر بيانا في هذا التعقيب الختامي الخير .
فالن نبين إجمال قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء:
ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد -على هذا النحو الشامل -في كيان الكائن النساني نفسه من ناحية
وجوده الذاتي ,وحاجته الفطرية ,وتركيبه النساني . .أثرها في تصوره . .وأثر هذا التصور في كيانه:
"إن هذا التصور إذ يتناول المور على هذا النحو الشامل -بكل معاني الشمول -يخاطب الكينونة البشرية
بكل جوانبها ,وبكل أشواقها ,وبكل حاجاتها ,وبكل اتجاهاتها ,ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها ,جهة
تطلب عندها كل شيء ,وتتوجه إليها بكل شيء .جهة واحدة ترجوها وتخشاها ,وتتقي غضبها وتبتغي
رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء ,لنها خالقة كل شيء ,ومالكة كل شيء ,ومدبرة كل شيء .
"كذلك يرد الكينونة النسانية إلى مصدر واحد ,تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها ,وقيمها وموازينها ,
وشرائعها وقوانينها .وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والنسان ,بكل ما
يثيره كل منها من علمات الستفهام .
"عندئذ تتجمع هذه الكينونة . .تتجمع شعورا وسلوكا ,وتصورا واستجابة .في شأن العقيدة والمنهج .
وشأن الستمداد والتلقي .وشأن الحياة والموت .وشأن السعي والحركة .وشأن الصحة والرزق .وشأن
الدنيا والخرة .فل تتفرق مزقا ; ول تتجه إلى شتى السبل والفاق ,ول تسلك شتى الطرق على غير اتفاق !
"والكينونة النسانية حين تتجمع على هذا النحو ,تصبح في خير حالتها .لنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة
" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالتها . .فالوحدة هي حقيقة الخالق -سبحانه -والوحدة هي حقيقة هذا
الكون -على تنوع المظاهر والشكال والحوال -والوحدة هي حقيقة الحياة والحياء -على تنوع النواع
والجناس -والوحدة هي حقيقة النسان -على تنوع الفراد والستعدادات -والوحدة هي غاية الوجود
النساني -وهي العبادة -على تنوع مجالت العبادة وهيئاتها -وهكذا حيثما بحث النسان عن الحقيقة في
هذا الوجود . .
"وحين تكون الكينونة النسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة " في كل مجالتها ,تكون في أوج قوتها الذاتية
; وفي أوج تناسقها -كذلك -مع "حقيقة " هذا الكون الذي تعيش فيه ,وتتعامل معه ; ومع "حقيقة " كل شيء
في هذا الوجود ,مما تتأثر به وتؤثر فيه . .وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الثار ,وأن
تؤدي أعظم الدوار .
"وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الوائل ,صنع ال بها في الرض
أدوارا عميقة الثار في كيان الوجود النساني ,وفي كيان التاريخ النساني . .
"وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى -وهي ل بد كائنة بإذن ال -سيصنع ال بها الكثير ,مهما يكن في
طريقها من العراقيل .ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشيء قوة ل تقاوم ; لنها من صميم قوة هذا الكون
; وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا .
" . . .إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور اليماني .وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية
ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله -بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة ,وبلوغ هذا التذوق أعلى
درجات الكمال والتناسق .فقيمة الحياة النسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة ل ; وحين يصبح كل
نشاط فيها -صغر أم كبر -جزءا من هذه العبادة ; أو كل العبادة ,متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه
.وهو إفراد ال -سبحانه -باللوهية والقرار له وحده بالعبودية . .هذا المقام الذي ل يرتفع النسان إلى
ما هو أعلى منه ; ول يبلغ كماله النساني إل في تحقيقه .وهو المقام الذي بلغه رسول ال [ ص ] في أعلى
مقاماته التي ارتقى إليها .مقام تلقي الوحي من ال .ومقام السراء أيضا:
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالميين نذيرا [ . . .الفرقان. ] 1:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليل من المسجد الحرام إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله .لنريه من آياتنا ,
إنه هو السميع البصير) [ . . .السراء. ] 1:
وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة ل وحده وآثارها في الحياة النسانية:
إن الدينونة ل تحرر البشر من الدينونة لغيره ; وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده .وبذلك
تحقق للنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية ,هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام
آخر -غير النظام السلمي -يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ,في صورة من صورها الكثيرة . .
.
سواء عبودية العتقاد ,أو عبودية الشعائر ,أو عبودية الشرائع . .فكلها عبودية ; وبعضها مثل بعض ;
تخضع الرقاب لغير ال ; بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير ال .
والناس ل يملكون أن يعيشوا غير مدينين ! ل بد للناس من دينونة .والذين ل يدينون ل وحده يقعون من
فورهم في شر ألوان العبودية لغير ال ; في كل جانب من جوانب الحياة !
إنهم يقعون فرائس لهوائهم وشهواتهم بل حد ول ضابط .ومن ثم يفقدون خاصتهم الدمية ويندرجون في
عالم البهيمة:
(والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل النعام ,والنار مثوى لهم) [ . . .محمد] 12:
ول يخسر النسان شيئا كأن يخسر آدميته ,ويندرج في عالم البهيمة ,وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص
من الدينونة ل وحده ,والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة .
ثم هم يقعون فرائس للوان من العبودية للعبيد . .يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين
يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ,ل ضابط لها ول هدف إل حماية مصالح المشرعين أنفسهم -سواء
تمثل هؤلء المشرعون في فرد حاكم ,أو في طبقة حاكمة ,أو في جنس حاكم -فالنظرة على المستوى
النساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري ل يستمد من ال وحده ,ول يتقيد بشريعة ال ل
يتعداها . .
ولكن العبودية للعبيد ل تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين . .فهذه هي الصورة الصارخة
,ولكنها ليست هي كل شيء ! . .إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ; ولكنها قد تكون أقوى
وأعمق وأقسى من هذه الصورة ! ونضرب مثال لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والزياء مثل ! أي
سلطان لهؤلء على قطيع كبير جدا من البشر ? . .كل الذين يسمونهم متحضرين ! . .إن الزي المفروض
من آلهة الزياء -سواء في الملبس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلت . . .الخ . .ليمثل
عبودية صارمة ل سبيل لجاهلي ول لجاهلية أن يفلت منها ; أو يفكر في الخروج عنها ! ولو دان الناس -في
هذه الجاهلية "الحضارية ! " ل بعض ما يدينون لصانعي الزياء لكانوا عبادا متبتلين ! . .فماذا تكون
العبودية إن لم تكن هي هذه ? وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الزياء
أيضا ?!
وإن النسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة ,وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ,وهو في الوقت ذاته ل
يناسب شكلها ول تكوينها ,وتضع من الصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية ! ولكن اللوهية القاهرة
لرباب الزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي ل تملك لها ردا ,ول تقوى على رفض الدينونة لها
,لن المجتمع كله من حولها يدين لها .فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه ? وكيف تكون الحاكمية
والربوبية إن لم تكن هي تلك ?!
وليس هذا إل مثل واحدا للعبودية المذلة حين ل يدين الناس ل وحده ; وحين يدينون لغيره من العبيد . .
وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ,ولعبودية البشر
للبشر !
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ,التي تصبح كلها
ول عاصم لها عندما يدين العباد للعباد ,في صورة من صور الدينونة . .سواء في صورة حاكمية التشريع ,
أو في صورة حاكمية العراف والتقاليد ,أو في صورة حاكمية العتقاد والتصور . .
إن الدينونة لغير ال في العتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الوهام والساطير والخرافات التي ل
تنتهي ; والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها ; وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها ; وتقدم
فيها النذور والضاحي من الموال -وأحيانا من الولد ! -تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ;
ويعيش الناس معها في رعب من الرباب الوهمية المختلفة ,ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الرباب !
ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت ! ومن المشايخ والقديسين أصحاب السرار ! ومن . .ومن . .من
الوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء ,حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع
جهودهم ,وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء !
وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير ال في العراف والتقاليد بأرباب الزياء والمودات ! فينبغي أن نعلم كم من
الموال والجهود تضيع -إلى جانب العراض والخلق -في سبيل هذه الرباب !
إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والصباغ ; وعلى تصفيف الشعر وكيه ; وعلى
القمشة التي تصنع منها الزياء المتقلبة عاما بعد عام ,وما يتبعها من الحذية المناسبة والحلى المتناسقة مع
الزي والشعر والحذاء ! . . .إلى آخر ما تقضي به تلك الرباب النكدة . .إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق
نصف دخله ونصف جهده لملحقة أهواء تلك الرباب المتقلبة التي ل تثبت على حال .ومن ورائها اليهود
أصحاب رؤوس الموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الرباب ! ول يملك الرجل ول المرأة
وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد
والمال والعرض والخلق على السواء !
وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية . .وما من أضحية يقدمها عابد ال ل ,إل ويقدم
الذين يدينون لغير ال أضعافها للرباب الحاكمة ! من الموال والنفس والعراض . .
وتقام أصنام من "الوطن" ومن "القوم" ومن "الجنس" ومن "الطبقة " ومن "النتاج" . . .ومن غيرها من شتى
الصنام والرباب . .
وتدق عليها الطبول ; وتنصب لها الرايات ; ويدعى عباد الصنام إلى بذل النفوس والموال لها بغير تردد . .
وإل فالتردد هو الخيانة ,وهو العار . .وحتى حين يتعارض العرض .مع متطلبات هذه الصنام ,فإن
العرض هو الذي يضحى ; ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم ! كما تقول البواق المنصوبة
حول الصنام ,ومن ورائها أولئك الرباب من الحكام !
إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل ال ; ليعبد ال وحده في الرض ; وليتحرر البشر من عبادة
الطواغيت والصنام ,ولترتفع الحياة النسانية إلى الفق الكريم الذي أراده ال للنسان . .إن كل هذه
التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل ال ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير ال ! والذين يخشون العذاب
واللم والستشهاد وخسارة النفس والولد والموال إذ هم جاهدوا في سبيل ال ,عليهم أن يتأملوا ماذا
تكلفهم الدينونة لغير ال في النفس والموال والولد ,وفوقها الخلق والعراض . .إن تكاليف الجهاد في
سبيل ال في وجه طواغيت الرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير ال ; وفوق ذلك كله الذل والدنس
والعار !
وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة ل وحده ,ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ,ذو قيمة
كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الرباب الزائفة .كي يوجه بجملته إلى عمارة الرض ,
وترقيتها ,وترقية الحياة فيها .
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء . .وهي أنه كلما قام عبد من عبيد ال ,
ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون ال . .احتاج هذا الطاغوت كي يعبد [ أي يطاع ويتبع ]
إلى أن يسخر كل القوى والطاقات ; أول لحماية شخصه .وثانيا لتأليه ذاته .واحتاج إلى حواش وذيول
وأجهزة وأبواق تسبح بحمده ,وترتل ذكره ,وتنفخ في صورته "العبدية " الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان
"اللوهية " العظيمة ! وأل تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة ! وإطلق الترانيم
والتراتيل حولها .وحشد الجموع -بشتى الوسائل -للتسبيح باسمها ,وإقامة طقوس العبادة لها ! . . .
وهو جهد ناصب ل يفرغ أبدا .لن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من
حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل .وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب
من جديد !
وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال -وأرواح أحيانا وأعراض ! -لو أنفق بعضها في عمارة
الرض ,والنتاج المثمر ,لترقية الحياة البشرية وإغنائها ,لعاد على البشرية بالخير الوفير . .ولكن هذه
الطاقات والموال -والرواح أحيانا والعراض -ل تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس ل
يدينون ل وحده ; وإنما يدينون للطواغيت من دونه .
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والموال والعمارة والنتاج من جراء تنكبها عن
الدينونة ل وحده ; وعبادة غيره من دونه . .وذلك فوق خسارتها في الرواح والعراض ,والقيم والخلق
.وفوق الذل والقهر والدنس والعار !
وليس هذا في نظام أرضي دون نظام ,وإن اختلفت الوضاع واختلفت ألوان التضحيات .
"ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة ل وحده ,فأتاحوا لنفر منهم أن يحكمهوهم بغير شريعته ,قد وقعوا
في النهاية في شقوة العبودية لغيره .العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ,مهما اختلفت أشكال
النظمة التي تحكمهم ,والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم النسانية والحرية والكرامة .
"لقد هربت أوربا من ال -في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف -وثارت على ال
-سبحانه -في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم النسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة !
ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم -ومصالحهم كذلك -في ظل النظمة الفردية
[ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ,والوضاع
النيابية البرلمانية ,والحريات الصحفية ,والضمانات القضائية والتشريعية ,وحكم الغلبية المنتخبة . . .إلى
آخر هذه الهالت التي أحيطت بها تلك النظمة . .ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان
"الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات ,وكل تلك التشكيلت ,إلى مجرد لفتات ,أو إلى
مجرد خيالت ! ووقعت الكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للقلية الطاغية التي تملك رأس المال ,
فتملك معه الغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس
هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ,في معزل عن ال سبحانه !!!
"ثم هرب فريق من الناس هناك من النظمة الفردية التي يطغي فيها "رأس المال" و "الطبقة " إلى النظمة
الجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا
بالدينونة لصحاب رؤوس الموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح
أخطر من طبقة الرأسماليين !
"وفي كل حالة ,وفي كل وضع ,وفي كل نظام ,دان البشر فيه للبشر ,دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم
الضريبة الفادحة .دفعوها للرباب المتنوعة في كل حال .
"إنه ل بد من عبودية ! فإن ل تكن ل وحده تكن لغير ال . .والعبودية ل وحده تطلق الناس أحرارا كراما
شرفاء أعلياء . .والعبودية لغير ال تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم .ثم تأكل أموالهم
ومصالحهم المادية في النهاية .
"من أجل ذلك كله تنال قضية اللوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالت ال -سبحانه -وفي كتبه . .
وهذه السورة نموذج من تلك العناية . .فهي قضية ل تتعلق بعبدة الصنام والوثان في الجاهليات الساذجة
البعيدة .ولكنها تتعلق بالنسان كله ,في كل زمان وفي كل مكان ; وتتعلق بالجاهليات كلها . .جاهليات ما
قبل التاريخ ,وجاهليات التاريخ .وجاهلية القرن العشرين .وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد
للعباد" .
والخلصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية:أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها -وهذه
السورة نموذج منها -أن قضية الدينونة والتباع والحاكمية -التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة -هي
قضية عقيدة وإيمان وإسلم ; وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام !
إنها قضية عقيدة تقوم أو ل تقوم .وقضية إيمان يوجد أو ل يوجد .وقضية إسلم يتحقق أو ل يتحقق . .ثم
هي بعد -بعد ذلك ل قبله -قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام ; وفي أوضاع
وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام .وتنفذ فيها الحكام .
وكذلك فإن قضية "العبادة " ليست قضية شعائر ; وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام
وأوضاع في واقع الحياة . .وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في
هذا الدين . .واستحقت كل هذه الرسل والرسالت .واستحقت كل هذه العذابات واللم والتضحيات .
والن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ; ودللته على الخط الحركي للعقيدة السلمية في تاريخ
البشرية:
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن السلم كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم
عليه السلم أبي البشر الول ,ثم على يدي نوح -عليه السلم -أبي البشر الثاني . .ثم بعد ذلك على يدي
كل رسول . .وأن السلم يعني توحيد اللوهية من ناحية العتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر ,
وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والتباع والطاعة والخضوع:أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجه
والتشريع .
ثم بينا كذلك أن الجاهلية -سواء كانت جاهلية العتقاد والتصور والعبادة والشعائر ! أو جاهلية الدينونة
والتباع والطاعة والخضوع -أو هما معا -كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة السلم على أيدي الرسل
-عليهم صلوات ال وسلمه -وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم ,كما تفسد حياتهم وأوضاعهم ; بالدينونة
لغير ال -سبحانه -سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجرأو نجم أو كوكب ,أو روح أو أرواح
شتى ; أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر:كاهن أم ساحر أم حاكم . .فكلها سواء في دللتها على
النحراف عن التوحيد إلى الشرك ,والخروج من السلم إلى الجاهلية .
ومن هذا التتابع التاريخي -الذي يقصه ال سبحانه في كتابه الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه
-يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن ; وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه . .
خطأ المنهج لنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية ,ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات
ال وسلمه عليهم -وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات ل يرجعون إل لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي
يحوم عليها التاريخ -ذلك المولود الحدث الذي ل يعرف من تاريخ البشرية إل القليل ; ول يعرف هذا القليل
إل عن سبيل الظن والترجيح ! -وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالت رأسا
في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثل في الديانة المصرية القديمة ;
فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد -ولو على سبيل الحتمال -وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد
يوسف -عليه السلم -وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم -حكاية عن قوله لصاحبي السجن في
سورة يوسف :-
(إني تركت ملة قوم ل يؤمنون بال ,وهم بالخرة هم كافرون .واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ,
ما كان لنا أن نشرك بال من شيء ,ذلك من فضل ال علينا وعلى الناس ,ولكن أكثر الناس ل يشكرون .يا
صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار ? ما تعبدون من دونه إل أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان إن الحكم إل ل ,أمر أل تعبدوا إل إياه ,ذلك الدين القيم ,ولكن أكثر
الناس ل يعلمون) [ . . .يوسف] 40 - 37:
وهم إنما يفعلون ذلك ,لن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني ,بسبب ما ثار
بين الكنيسة الوروبية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ .فبدأ المنهج وفي عزم
أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها ,للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها .ومن أجل
هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء ,لنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة ,قبل البدء في البحث !
وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والقتصادية الغاشمة فإن المنهج
استمر في طريقه .لنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه ,والتقاليد التي تراكمت على هذا
الساس ,حتى صارت من أصول المنهج !
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه .هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا
الطابع . .
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها ; فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات
اللهية كما يعرضها القرآن الكريم . .وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول ال
سبحانه في مسألة من المسائل ; فإنه ل يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه "مسلم" أن يأخذ بتلك النتائج .
ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة السلم والجاهلية ,وسبق السلم للجاهلية في التاريخ البشري ,وسبق
التوحيد للتعدد والتثنية . .قاطعة ,وغير قابلة للتأويل .فهي مما يقال عنه:إنه معلوم من الدين بالضرورة .
وعلى من يأخذ بنتائج علم الديان المقارنة في هذا المر ,أن يختار بين قول ال سبحانه وقول علماء الديان
.أو بتعبير آخر:أن يختار بين السلم وغير السلم ! لن قول ال في هذه القضية منطوق وصريح ,وليس
ضمنيا ول مفهوما !
وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الخير . .إنما نستهدف هنا رؤية الخط
الحركي للعقيدة السلمية في التاريخ البشري ; والسلم والجاهلية يتعاوران البشرية ; والشيطان يستغل
الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والتجاه ,ويجتال الناس عن السلم بعد أن
يعرفوه ,إلى الجاهلية ; فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث ال للناس رسول يردهم إلى السلم .ويخرجهم
من الجاهلية .وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير ال سبحانه من الرباب المتفرقة . .وأول ما يردهم
إليه هو الدينونة ل وحده في أمرهم كله ,ل في الشعائر التعبدية وحدها ,ول في العتقاد القلبي وحده .
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم ,وفي تحديد طبيعة الدعوة السلمية كذلك . .
إن البشرية اليوم -بجملتها -تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول -محمد [ ص
] -وهي جاهلية تتمثل في صور شتى:
بعضها يتمثل في إلحاد بال سبحانه ,وإنكار لوجوده . .فهي جاهلية اعتقاد وتصور ,كجاهلية الشيوعيين .
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود ال سبحانه ,وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والتباع
والطاعة ,كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم . .وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك .
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود ال سبحانه ,وأداء للشعائر التعبدية .مع انحراف خطير في
تصور دللة شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال .ومع شرك كامل في الدينونة والتباع والطاعة .
وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم "مسلمين" ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة السلم وحقوقه -بمجرد
نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية ; مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ; ومع استسلمهم ودينونتهم لغير
ال من العبيد !
وكلها جاهلية .وكلها كفر بال كالولين .أو شرك بال كالخرين . .
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح ; تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية
شاملة ,وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها السلم مرات متعددة ,كان آخرها السلمالذي
جاء به محمد [ ص ] . .وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الساسي لطلئع البعث السلمي ,والمهمة الساسية
التي عليها أن تقوم بها للبشرية ; ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة .
إن على هذه الطلئع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في السلم كرة أخرى ,والخروج من
هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها .على أن تحدد للبشرية مدلول السلم الساسي:وهو العتقاد بألوهية ال
وحده ,وتقديم الشعائر التعبدية ل وحده والدينونة والتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها ل وحده .
.وأنه بغير هذه المدلولت كلها ل يتم الدخول في السلم ; ول تحتسب للناس صفة المسلمين ; ول تكون لهم
تلك الحقوق التي يرتبها السلم لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك .وأن تخلف أحد هذه المدلولت كتخلفها جميعا
,يخرج الناس من السلم إلى الجاهلية ,ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا . .
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب السلم .فيجب أن تواجهها دورة من دورات السلم الذي
يواجه الجاهلية ,ليرد الناس إلى ال مرة أخرى ,ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده . .
ول بد أن يصل المر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة
الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية . .فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلئع
البعث السلمي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية ; وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي -
وهي تحسبه مجتمعا مسلما -وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية ,بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية
فعل ,ل من حيث تزعم ! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع . .بعيدة جدا . .
ونقف الوقفة الخيرة في هذا التعقيب الخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم .
واختلف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية ; كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة:
لقد أرسل كل رسول إلى قومه .وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلء .يدعوهم إلى السلم
دعوة الخ لخوته ; ويريد لهم ما يريد الخ لخوته من الخير الذي هداه ال إليه ; والذي يجد في نفسه بينة
من ربه عليه .
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء . .ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام !
لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم . .عبدوا ال وحده كما طلب إليهم ,وخلعوا
مكن أعناقهم ربقة الدينونة لي من خلقه . .وبذلك صاروا مسلمين . .صاروا "أمة مسلمة " . .ولم تستجب
للرسول طائفة أخرى من قومه .كفروا بما جاءهم به ; وظلوا في دينونتهم لغير ال من خلقه ; وبقوا في
جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى السلم . .ولذلك صاروا "أمة مشركة " . .
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين:أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد
أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة .مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والرومة .إل أن آصرة الجنس
والرومة ,وآصرة الرض والمصالح المشتركة . .لم تعد هي التي تحكم العلقات بينهم كما كانوا قبل
الرسالة . .لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه . .تلك هي آصرة العقيدة
والمنهج والدينونة . .وقد فرقت هذه الصرة بين القوم الواحد ,فجعلته أمتين مختلفتين ل تلتقيان ,ول
تتعايشان !
ذلك أنه بعد برزو هذه المفارقة بين عقيدة كل من المتين ; فاصل الرسول والمة المسلمة التي معه
قومهمعلى أساس العقيدة والمنهج والدينونة .فاصلوا المة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي
أمتهم وهي أصلهم . .لقد افترق المنهجان ,فاختلفت الجنسيتان .وأصبحت المتان الناشئتان من القوم الواحد
ل تلتقيان ول تتعايشان !
وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل ال بينهما ; فأهلك المة المشركة ,ونجى
المة المسلمة . .واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة . .
والمر الذي ينبغي لطلئع البعث السلمي في كل مكان أن تكون على يقين منه:أن ال سبحانه لم يفصل بين
المسلمين وأعدائهم من قومهم ,إل بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم ; وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من
الشرك ; وعالنوهم بأنهم يدينون ل وحده ,ول يدينون لربابهم الزائفة ; ول يتبعون الطواغيت المتسلطة ; ول
يشاركون في الحياة ول في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها ال .سواء تعلقت
بالعتقاد ,أو بالشعائر ,أو بالشرائع .
إن يد ال سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين ,إل بعد أن فاصلهم المسلمون . .وما دام ,المسلمون لم
يفاصلوا قومهم ,ولم يتبرأوا منهم ,ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم ,ومنهجهم عن منهجهم ,وطريقهم
عن طريقهم ,لم تتدخل يد ال سبحانه للفصل بينهم وبينهم ,ولتحقيق وعدال بنصر المؤمنين والتدمير على
الظالمين . .
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلئع البعث السلمي أن تدركها ; وأن ترتب حركتها على أساسها:
إن الخطوة الولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في السلم ; والدينونة ل وحده بل شريك ; ونبذ الدينونة لحد
من خلقه -في صورة من صور الدينونة -ثم ينقسم القوم الواحد قسمين ,ويقف المؤمنون الموحدون الذين
يدينون ل وحده صفا -أو أمة -ويقف المشركون الذين يدينون لحد من خلق ال صفا آخر . .ثم يفاصل
المؤمنون المشركين . .ثم يحق وعد ال بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين . .كما وقع باطراد على
مدار التاريخ البشري .
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية .ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة
الولى .
ولقد يبطيء الفصل بين المتين الناشئتين من القوم الواحد ; وتكثر التضحيات والعذابات واللم على جيل من
أجيال الدعاة أو أكثر . .ولكن وعد ال بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع
الظاهر في جيل أو أجيال .فهو ل شك آت .ولن يخلف ال وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ
البشري .
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة السلمية في مواجهة الجاهلية
البشرية الشاملة .فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ول مكان . .وما دامت طلئع البعث السلمي تواجه
البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة ; وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل -عليهم
صلوات ال وسلمه -يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية .فإن للعصبة المسلمة أن
تمضي في طريقها ,مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام ,وما بينهما من فترة الدعوة كذلك .مستيقنة أن سنة
ال جارية مجراها ,وأن العاقبة للتقوى .
وأخيرا ,فإنه من خلل هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين ,
كما يتمثل في القرآن الكريم . .إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية . .
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول ال [ ص ] في مكة .والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ,
والدعوة السلمية مجمدة فيها ,والطريق شاق طويل ل يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص
يكشف لهم عن نهاية الطريق ; ويريهم معالمه في مراحله جميعا ; ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا
الطريق ; وقد بات لحبا موصول بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري ; وبات بهذا الركب الكريم
مأنوسا مألوفا ل موحشا ول مخوفا ! . .إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف ; وليسوا
مجموعة شاردة في تيه مقطوع ! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ; ول
يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة !
هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ; ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة . .وهكذا يمكن اليوم
وغدا أن يتحرك القرآن في طلئع البعث السلمي ,ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم . .
إن هذه الطلئع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه .تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها
; وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات ; وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق
.
والقرآن -بهذه الصورة -ل يعود مجرد كلم يتلى للبركة .ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة
المسلمة المتحركة ,لتتحرك به ,وتتابع توجيهاته ,وتتوقع موعود ال فيه .
وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن ل يتفتح عن أسراره إل للعصبة المسلمة التي تتحرك به ,لتحقيق مدلوله في
عالم الواقع .ل لمن يقرأونه لمجرد التبرك ! ول لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية ,ول لمن
يدرسونه لمجرد تتبع الداء البياني فيه !
إن هؤلء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر .فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا
النحو ; إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه .
إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالسلم الحنيف ; والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى السلم من
جديد ; والذين يكافحون الطاغوت في الرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية ل وحده . .
إن هؤلء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن ; لنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه:ويحاولون المحاولة
التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة ; ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لنهم
يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع . .وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلم .
أأقول:جزاء ?! كل .وال .إنه لفضل من ال كبير (. .قل:بفضل ال وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما
يجمعون). .
يوسف
هذه السورة مكية ,نزلت بعد سورة هود ,في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة يونس وفي
تقديم سورة هود . .بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة سندي رسول ال [ ص ] وبين بيعة العقبة
الولى ثم الثانية التي جعل ال فيهما لرسول ال [ ص ] وللعصبة المسلمة معه وللدعوة السلمية فرجا
ومخرجا بالهجرة إلى المدينة . .وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في
تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول [ ص ] والعصبة المسلمة معه في مكة . .
والسورة مكية بجملتها ,على خلف ما ورد في المصحف الميري من أن اليات [ ] 7 , 3 , 2 , 1منها
مدنية .ذلك أن اليات الثلث الولى هذا نصها:
(الر تلك آيات الكتاب المبين .إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون .نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن ,وإن كنت من قبله لمن الغافلين). .
وهذه اليات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة يوسف عليه السلم . .ونص الية
التالية في السياق هو:
(إذ قال يوسف لبيه:يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر .رأيتهم لي ساجدين .). . .
فالتقديم لهذه القصة بقول ال تعالى(:نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من
قبله لمن الغافلين)يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة . .
وكذلك هذه الحرف المقطعة [ الر ] وتقرير أنها آيات الكتاب المبين .ثم تقرير أن ال أنزل هذا الكتاب قرآنا
عربيا . .هو كذلك من جو القرآن المكي ,ومواجهة المشركين في مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن
أعجميا يعلمه لرسول ال [ ص ] ! وتقرير أنه وحي من ال كان النبي [ ص ] من الغافلين عن اتجاهه
وموضوعاته .
ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها ,وهو قول ال تعالى:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ,وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون . .