Professional Documents
Culture Documents
مـحــــفــــوظـة
لتـحــاد الـكـتـاب
: unecriv@net.sy E-mail اللكتروني: البريد
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة النترنت
http://www.awu-dam.org
علــم الدللـة
-دراســــة -
-2-
الهــــداء:
-3-
-4-
الباب الول :
-5-
-6-
مــدخل عام
إن السهامات اللغوية لسلفنا المفكرين في التراث العربي ،لم ينل البحث فيها ما يستحقه من عناية واهتمام ،فما زالت
مجالت كثيرة في التراث العربي اللغوي بكرا تحتاج إلى نظرة لغوية علمية واعية وإن وجدت هناك أبحاث لغوية ذات قيمة إل
أنها محمولة على الرصيد المعرفي للتراث العربي ،وتجتر عطاءً معرفيا لسلفنا الباحثين ،ولم يخرج جهدها إذ ذاك من عملية
نقل أو تصنيف دون أن يكون لروح العصر الحديث لمسات على هذا التراث ليبعث فيه التجديد .وفي غمرة الصراع بين دعاة
الصالة وأنصار المعاصرة يضيع البحث اللغوي ،ويتجرد من كل خلفية علمية حضارية ،فإذا نظرنا إلى المعوّل عليه عند دعاة
الصالة ،فإنه ل يعدو أن يكون جردا سلبيا رتيبا دون أدنى جهد لخرق تلك الرتابة والولوج داخل التراث المعرفي لبحث بنيته
الداخلية لكي يسهم في تحقيق النظرية اللسانية العامة ،أما فئة أنصار المعاصرة فإنها أقحمت المعطيات اللسانية الغربية في
دراستها للظواهر اللغوية العربية ،دون أدنى اعتبار لصالة وخصوصيات الفكر واللسان العربيين وهذا الخلل المنهجي أحدث
قطيعة معرفية بين التراث العربي والحتياجات العلمية اللغوية للنسان المعاصر ،وكان وراء التخلف في مجال البحث العلمي
اللغوي المعاصر عند الدارسين العرب ،بينما إذا نظرنا -على سبيل المقارنة -إلى الفكر اللغوي الغربي فإننا ل نلمس تلك
القطيعة المعرفية بين تراثه العلمي واللساني ،ومتطلبات العصر اللغوية ولذلك جاءت أبحاث الدارسين في الغرب ،امتدادا لجهود
أسلفهم اللغويين وكانت نظرياتهم تتويجا لتراكمات معرفية في تراثهم التاريخي.
إذا أردنا أن نؤسس فكرا عربيا معاصرا في مجال البحث اللغوي ،فإننا ملزمون ضرورة بالقيام بعملية جرد للفكر اللغوي
لتراثنا العربي ،وتمحيصه وتحديد مجالته وفرز عطاءاته اليجابية وسقطاته على مستوى السس المعرفية في الموضوع
والمنهج ،وهذا ل يتم إل بعودة تقويمية حضارية إلى الفكر العربي بشكل عام ،والفكر اللغوي بشكل خاص ،وتتم هذه العودة
عبر تتبع المسار التطوري للدرس اللغوي عند العرب القدمين والبحث عن السس المعرفية والفلسفية التي انبنى عليها التراث
الفكري العربي ،وذلك بربطه بالعلوم النسانية المختلفة ،فنحفظ أصالة تراثنا المعرفي ونقف على المنهج الفكري الذي كان
يشرف على تأطير البحاث والدراسات في هذا التراث ،وبذلك يتحقق مشروع النظرية اللسانية العربية المعاصرة ،ويظهر
منهجها في مجال العطاء الفكري النساني ،وبالتالي تكون شرعية النشأة على المستوى المعرفي .هذا المشروع اللساني العربي
ل يستقيم له أمر إل إذا أخذنا بما حققته النظريات اللسانية الغربية ،واستوعبنا مادتها استيعابا واعيا ،وحاولنا تكييف هذه
النظريات مع خصوصيات اللسان العربي في المجالت المختلفة ،وأجرينا إسقاطات منهجية على التراث اللغوي العربي بعد
تقويمه وتمحيصه من أجل بعثه بعثا جديدا وإعادة صياغته صياغة تدفعه لمواكبة التطور الحضاري للمجتمع البشري ،مع
ضرورة الخذ بالمناخ الفكري الذي ساد نشأة وترعرع الفكر اللغوي العربي" ،لن فهم المنهج العربي في أي علم من العلوم
العربية التراثية ينبغي أن يلتمس من داخل الحياة العقلية العربية ومن خلل المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في
ظل القرآن ،فمن المعلوم أن المفكرين المسلمين بدأوا بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع "منهج نظري" لكل فرع من فروع
البحث ،وكانت -مثلً -قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات…"( .)1فإذا تحققت
هذه العملية في إطارها العلمي المنهجي ستؤدي حتما إلى تفكير لساني حديث تتمخض عنه نظرية لسانية عربية قادرة على
تقديم التفسير الكافي لكل مستويات الدراسة اللغوية الصوتية والتركيبية والدللية ،بهذه الطريقة نربط الفكر اللغوي العربي القديم
بالفكر اللساني العالمي الحديث ،لن التحول العلمي للنظرية اللسانية في العصر الحديث أضحى يتوخى الشمولية في التعامل
() د.علي سامي النشار -مناهج البحث عند مفكري السلم ،ص .31 1
-7-
العلمي مع الظاهرة اللغوية ،بوصفها طبيعية إنسانية .قد تغطي اهتمامات النسان المعاصر ،إذ لم تعد تعترف بالحدود المعرفية
مع انتقال العالم اللساني إلى بحث اللسان البشري بحثا موضوعيا متخذا اللغة النسانية مادة للتطبيق باعتبارها تخضع لنواميس
متجانسة تسمح بوضع منهج لساني عام يشمل كل اللغات ،وبمثل هذا التعامل الواعي نحمي تراثنا اللغوي بأن ننفخ فيه من روح
العصرنة والحداثة فينبعث ليساير التطور النساني في كل مجالت الفكر العلمي ،ونعيد الصلة التي انبتّت بين تطلعاتنا الفكرية
اللغوية المعاصرة ،والجهود النظرية المنهجية التي أغنى بها أسلفنا تراثنا المعرفي.
وفي هذا المجال النظري البين المعالم يندرج هذا البحث كخطوة مرحلية نحو معاينة لعطاءات التراث العربي في حقل
اللغة ،مستحضرا الهتمام في إسهامات عالم من علماء أصول الفقه ،وربما كان ارتباط علم الدللة -موضوع بحثنا النظري-
بعلم أصول الفقه ،أقوى من ارتباطه بأي علم آخر من العلوم ،ذلك أن علماء الصول قدموا نماذج متقدمة جدا في تعاملهم مع
اللغة كمنظومة من العلمات اللسانية الدالة تخضع في حركيتها الخطابية إلى نواميس متحكمة في أداء وظائفها الدللية،
وساهموا منذ أوّل الماد المبكرة في معالجة مشكلت لغوية ،وما أضفى على نتاجهم المعرفي طابع الدقة والموضوعية هو
اتخاذهم القرآن الكريم منطلقا لستنباط أحكامهم الفقهية العامة بالستناد على الحكام اللغوية التي من أظهر خصوصياتها
الدللة ،وقد كان هؤلء العلماء يحملون وعيا معرفيا أملى عليهم أن يتعاملوا مع القرآن الكريم باعتباره كتاب لغة محكمة يحمل
شبكة من النواميس العميقة التي تتحكم في ضبط الدللة بأدوات وقفوا عليها وحددوا على أساسها أحكاما وقواعد أضحت فيما
بعد مبادئ للتشريع .إذن ،فالتناول الدللي في التراث المعرفي العربي كان ضمن اهتمامات لغوية أخرى ،امتزج البحث فيه
بضروب معارف مختلفة من غير أن يحمل عنوانا مميزا ،له استقلل في موضوعاته ومعاييره الخاصة .فسعيا منا إلى تحقيق
مقاربة علمية بين تراثنا الدللي المتنوع ،والمناهج الغربية الحديثة في ميدان علم السيمياء ،حصرنا بحثنا في استنطاق بنية
التراث اللغوي الدللي ،عند عالم أصولي يعد مفخرة القرن السادس الهجري بما توافر بين يديه من تراكم معرفي زاخر،
أخرجه في كتابه الموسوم "بالحكام في أصول الحكام" هذا العالم هو سيف الدين المدي الذي نوه بعلمه المؤرخ ابن خلدون
وذكره ضمن أربعة علماء متقدمين في علم أصول الفقه..
إن منهجنا في عرض بنية التفكير الدللي عند المدي يقوم على أساس تفكيكها ،والطلع على أسسها العلمية ،لنعيد
تشكيلها تشكيلً يحفظ لها طابعها المعرفي الصيل برؤى تتطلع إلى استفادة تخدم العصر وتحرك فاعلية تلك الصول التراثية
الدللية وتساعد على تنمية قدراتها في عصرنا ،خاصة إذا علمنا أن علم الدللة حديثا يلقى من بالغ الهتمام في عصرنا في كل
أنحاء العالم ،ما يجعله نقطة التقاء لنواع من التفكير النساني يقول (ليش( )Leach :السيمانتيك نقطة التقاء لنواع من التفكير
والمناهج مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة ،وإن اختلفت اهتمامات كلّ لختلف نقطة البداية(".)1
يقع هذا البحث في بابين رئيسيين :باب نظري عام يضم ثلثة فصول ،حاولت أن أبسط فيها معالم الدرس الدللي الحديث
مستهلً بالبحث عن نشأة علم الدللة ،منذ عهد الهنود الوائل ثم اليونان فالرومان وصولً إلى العصر الوسيط فعصر النهضة
إلى أن أعلن (بر) عن ميلد علم جديد يعتني بدراسة المعنى اصطلح على تسميته "بالسيمانتيك سنة 1883م .ولم يفتني أن
ل كاملً في الباب
أعاين اهتمامات اللغويين والعلماء العرب القدامى بشأن الدللة ،معاينة سريعة ما دمت خصصت لذلك فص ً
الثاني من البحث ،كما اجتهدت أن أرسم إطارا مفهوميا لماهية الدللة انطلقا من قواميس اللغة ،وورودها في القرآن الكريم،
وأقوال بعض العلماء العرب القدامى وبعض علماء الدللة المحدثين من الغرب ،وقدمت أهم المباحث التي تشكل موضوعات
علم الدللة الحديث ،وختمت ذلك بفصل عرضت فيه لمختلف النظريات الدللية التي أسست الفكر الدللي الحديث.
أما الباب الثاني فهو باب تطبيقي ،استهللته بتلخيص للمناخ المعرفي العام الذي وفّر -بدون شك -للمدي ،الجو المناسب
لكي يؤسس أفكاره الدللية في كتابه "الحكام" ،واهتديت إلى أن أمثل لكل قرن معرفي تقريبا بعالم تكون لعطاءاته العلمية أكبر
الثر في عصره ،وما بعد عصره ،وبدأت ذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري.
هذا كان في الفصل الول أما الفصول ،الثاني ،الثالث والرابع ،فقد عرضت فيهم ما تناوله المدي من مسائل تخص
-8-
الدللة محاولً أن أبرز جهوده في ضوء ما خلصت إليه البحوث الدللية الحديثة ،وذلك خدمة للهداف التي أومأنا إليها في
المدخل ،ول أدعي أني أتيت على تحقيق تلك الهداف كلها ،فحسبي إثارتي لمسائل ل زالت لم تمتد إليها اهتمامات الباحثين
المعاصرين امتدادا ترتد على إثره تلك المسائل ،حية فاعلة في التفكير اللساني الحديث ،مع اعتقادي أن الدرس اللغوي بمختلف
فروعه هو عند غير اللغويين من علمائنا أغزر وأدق مما هو عند اللغويين في تراثنا المعرفي ،وهذا ما يشجع -حقيقة -على
استثمار جهود أولئك العلماء فيما يخص إرساء نظرية لغوية شاملة..
إن مسالك البحث في التراث المعرفي تكتنفها الوعور الصعبة ،التي ل تقطعها دون أن تنال منك نيلً يتبدى -دون شك-
في مباحثك .فهناك تعترضك اللغة وهي في كامل عنفوانها ونضجها وسلطتها ،لغة تنفق معها -ضرورة -صبرا كبيرا لتصل
إلى فك شبكتها والولوج إلى نصوصها ،وهذا ما عايشته مع لغة المدي المنطقية ،العلمية ،فضلً على ذلك فإن الرجوع إلى
المصادر التي أفاد منها العالم أو التي ذللت مضان كتابه أمر ل غنى عنه ،خاصة وأن المدي مزج في كتابه "الحكام" بين
علوم العربية وعلم المنطق وعلم أصول الفقه.
ول يفوتني أن أشيد بصنيع جميع أساتذة معهد الدب -بوهران -معي فلم يدخروا نصحا أو ملحظة دون أن يبدو لي بها،
وأخص بالتنويه منهم أستاذي المحترم سليمان عشراتي الذي صاحبني مع نشأة بحثي مرحلة مرحلة ،ولطالما كنت محتاجا إلى
دفع معنوي فكان يحثني على المضي قدما في أطوار بحثي ،وإني مدين كذلك للستاذ المحترم أحمد حساني الذي لقيت عنده كل
التشجيع ،وكانت لملحظاته القيمة أكبر الثر في تدرجي في البحث ،وكنت آخذ من وقته القسط الكبير ليشرف على مراجعة ما
كنت أدونه من فصول… فلساتذتي جميعا مني الشكر والمتنان… وال ولي التوفيق…
-9-
الفصل الول:
علم الدللة :النشأة والماهية
تمهيد:
يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم ،قد ل يقدم للدرس
اللغوي الحديث شيئا ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث ،على التاريخ الول لميلد المصطلح ويطلعه على الطار العام
الذي دارت حوله موضوعات "الدراسة" في طورها البدائي ،وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح ،فينتقل
مفهومه من حقل دللي معين ،إلى حقل دللي آخر خاضعا لسنن التطور الدللي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر
مسارها التاريخي المتجدد ،ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولدة الولية لصيغة
المصطلح ودللته.
لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث ،تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيرا
علميا دقيقا ،خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة ،والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع ،سعيا
منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الولى ،وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة
هذا المصطلح ،وماهيته الولى تحديدا دقيقا أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح
ل علميا في غاية الهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات العلمي الحديث ،فإن ذلك يعد فض ً
بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملئمة ،مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج
علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالت واسعة لعادة
اكتشاف هذا التراث اكتشافا علميا واعيا ،بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة ،وسعيا منا إلى تأطير هذه الدراسة
وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلً أولً بعنصريه :نشأة علم الدللة ،والذي عرضنا فيه
للمسار التطوري الذي تبلور من خلله علم الدللة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى
والدللة ،وآخر علم كان لعلم الدللة معه وشائج متصلة وهو علم اللسنية بمختلف مباحثه .أما العنصر الثاني من هذا
الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدللة ،ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة "دللة" وما يراد فيها بدءا من
نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب
وبلغائهم ،وإليه انتهى النتاج الدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية ،ثم نقلنا الشروحات
التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة "دلّ" وما اشتق منها .وأنهينا هذا العنصر من الفصل الول بتقديم
تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب القدمين ،وعلماء الغرب المحدثين حول الدللة ومتعلقاتها وحقول
مباحثها.
- 10 -
أولً -نشأة علم الدللة
() الرواقيون ( )stoiciensينتسبون إل ريتون القيسيون (ت 244ق.م) ربطوا السائل اللغوية بالفلسفة. 3
- 11 -
من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة :أن اللغة ما هي إل صورة للعقل ،وأن النظام الذي
()1
يسود لغات البشر جميعا قوامه العقل والمنطق.
وفي حدود القرن التاسع عشر الميلدي ،تشعبت الدراسات اللغوية ،فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين
من اللغة ،فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج ،فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الصوات إلى
جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الصوات المجردة ،كما برزت التيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الشتقاقات في
اللغة ،ثم علم البنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدللي في بناء الجملة.
وفي الجانب الخر من العالم ،كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزا واسعا في إنتاجهم
الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوما لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم،
سواء تعلق المر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث ،أو علوم العربية ،كالنحو والصرف والبلغة ،بل إنهم كانوا يعدون
علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية ،ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية]
بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها .وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية ،وبنى اللغويون أحكامهم على
أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات ،وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والجماع والستصلح تماما كما
فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين" )2(.ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الحكام الفقهية ووضع القواعد
الصولية للفقه ،اهتم العلماء بدللة اللفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث .واحتاج ذلك
منهم إلى وضع أسس نظرية ،فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد
عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع
نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت البحاث المعاصرة )3(".فالبحاث الدللية في الفكر
العربي التراثي ،ل يمكن حصرها في حقل معين من النتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم
لنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير والنقد الدبي والبيان )4(".هذا التلقح بين هذه
العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدللي العربي ،الذي أرسى قواعد تعد الن المنطلقات الساسية لعلم
الدللة وعلم السيمياء على السواء ،بل إنك ل تجد كبير فرق بين علماء الدللة في العصر الحديث وبين علماء العرب
القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دللي هام ،يمكن رصده في نتاج الفلسفة واللغويين وعلماء الصول والفقهاء
والدباء" ،فالبحوث الدللية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها،
()5
وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجا أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها".
إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لسلفنا الباحثين ،وتلك البحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من
الهنود واليونان واللتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الوروبية ،فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي
الحديث وأرست قواعد هامة في البحث اللسني والدللي ،استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل
هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير ،وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي
() زبي دراقي ماضرات ف اللسانيات العامة والتاريية ،ص .25 1
- 12 -
(ميشال بر )M.Brealفي الربع الخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلله على البحث
في الدللة ،واقترح دخوله اللغة العلمية ،هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بر" :إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ
هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد ،نعم ،لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات ،وما انتبهوا قط إلى
القوانين التي تنتظم تغير المعاني ،وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلدها ووفاتها ،وبما أن هذه
()1
الدراسة تستحق اسما خاصا بها ،فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدللة على علم المعاني.
إن العالم اللغوي (بر) انطلق -دون ريب -في تحديد موضوع علم الدللة ومصطلحه من جهود من سبقه من
علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر" :إن
دراسة المعنى بوصفه فرعا مستقلً عن علم اللغة ،قد ظهرت أول ما ظهرت سنة ،1839لكن هذه الدراسة لم تعرف
()2
بهذا السم (السيمانتيك) إل بعد فترة طويلة أي سنة 1883عندما ابتكر العالم الفرنسي (م.بر) المصطلح الحديث".
إل أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدللة يجمعون على أن فضل (بر) يكمن في تخصيصه كتابا استقل بدراسة
المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدللة ،وأبدع منهجا جديدا في دراسة
المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدللت دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الخرى .ويمكن
أن نرسم معالم هذا المنهج اللغوي الجديد انطلقا من النص الذي أورده (بر) في سياق تعريفه بعلم الدللة:
أولً :إذا كانت اللسانيات تهتم بشكل الكلمات ،فإن علم الدللة (السيمانتيك) يهتم بجوهر هذه الكلمات ومضامينها.
ثانيا :الهدف الذي ينشده علم الدللة هو الوقوف على القوانين التي تنتظم تغيّر المعاني وتطورها ،والقواعد التي
تسير وفقها اللغة ،وذلك بالطلع على النصوص اللغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي
هذا سعي حثيث إلى التنويع في التراكيب اللغوية لداء وظائف دللية معينة ،وهذا التنويع هو الذي يثري
اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ،ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها ويمكن في خضم البحث عن
هذه النواميس "خلق" نواميس لغوية جديدة لكي تشرف على النظام الكلمي بين أهل اللغة لن "عالم اللسان
()3
يكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي"!!
ثالثا :اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف على ميلد الكلمات ويتتبعها في مسارها التاريخي ،وقد يردها
إلى أصولها الولى "لن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس مفروضة على الفراد ،تتناقلها الجيال
بضرب من الحتمية التاريخية ،إذ كل ما في اللغة -راهنا -إنما هو منقول عن أشكال سابقة هي الخرى
منحدرة من أنماط أكثر بدائية ،وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة"( )4فالنظام اللغوي،
نظام متجدد ما دامت الكلمات ل تخضع لقانون ثابت يلزمها بمدلولتها ،فاللغة تنتظمها نواميس خفية تعود
إلى اقتضاءات تعبيرية هي جزء من النظام الكلي الذي تسير وفقه اللغة ،وتصرف دللت تراكيبها.
هذه النقاط الثلث هي الطر الكبرى التي يندرج ضمنها منهج (ميشال بر) في علم الدللة ومعه تحديد لمجمل
فروع البحث في هذا المجال.
() .Les grands courrants de la linguistique moderne. Le roy Maurice- p.46 1
() تأليف ستيفن أولن ،دور الكلمة ف اللغة ،مقدمة ،ص .6 2
() د .عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية .ص 104 3
- 13 -
-2بين علم الدللة وعلم اللسانيات:
إن نشأة علم الدللة ،لم تكن نشأة مستقلة عن علوم اللغة الخرى .إنما كان يعد هذا العلم جزءا لصيقا بعلم
اللسانيات الذي كان يهتم بدراسة اللسان البشري ،إل أن عدم اهتمام علماء اللسانيات بدللة الكلمات -كما أشار إلى
ذلك (بر) -هو الذي كان دافعا لبعض العلماء اللغويين إلى البحث عن مجال علمي يضم بحثا في جوهر الكلمات
ودللتها ،لكي يحددوا ضمنه موضوعاته ومعاييره وقواعده ومناهجه وأدواته وما كان ذلك يسيرا خاصة إذا علمنا
ذلك التداخل المتشابك الذي كان يجمع بين علوم اللغة مجتمعة وعلم اللسنية الذي ذهب علماؤه إلى تفريعه إلى
مباحث جمعت بين حقول مختلفة من العلوم كما هو شأن اللسانيات النفسية ( ،)psycolinguistiqueومبحث
اللسانيات العصبية neuro-linguistiqueوما إلى ذلك .إن العلم اللساني كان يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة
ويتجنب الخوض في استبطان جوهر الكلمات ومعانيها الذي أصبح من اهتمامات علم الدللة (الحديث) ،ثم إن
ضرورة الحاطة ببعد اللغة الجتماعي والثقافي والنفسي وتتبع سيرورة المعنى الديناميكي كل هذه حواجز وقفت أمام
علماء اللسانيات ،فاستبعدوا بذلك الخوض في دراسة المعنى وركزوا بحوثهم على شكل الكلمات ،إلى أن برز علم
الدللة ليسد هذا الفراغ في الدراسات اللغوية من جهة ويعمق البحث في الجانب الدللي للغة من جهة أخرى ،ويجتاز
تلك الحواجز التي حالت دون أن يخوض اللسانيون في دراسة المعنى" ،لن علم الدللة هو ميدان يتجاوز حدود
اللسانيات التي يتعين عليها وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء ،فالدللة ليست ظاهرة لغوية صرفا وإذا كان
بالمكان بناء الحقول الدللية فإنه ينبغي آنذاك العتماد على المعطيات الخارجية فقط)…( ..
إن بعد اللغة الجتماعي والثقافي من العوائق التي تقف أمام الدراسات الدللية الحديثة ويمكن تحديد ذلك فيما
يلي:
أ -تعدد القيم الحافة بدللة اللفاظ المركزية.
ب -إن دللة اللفظ ليست ظاهرة قارة ذلك أنه يمكنها أن تعتني دوما بحسب التجارب الجديدة (اللغوية وغيرها
التي يخبرها المتكلم)"(.)1
إن هذه المباحث المتشعبة التي هي من صميم اهتمامات علم الدللة ،هي التي دفعت علماء اللسنية ومنهم
التوزيعيين( )2إلى إبعاد دراسة الدللة من اللسانيات .والحقيقة التي ل مراء فيها أن دراسة المعنى لم تخل منه أي
مباحث لغوية سواء أكانت قديمة أم حديثة ،ذلك أنه ل يمكن تصور دراسة الكلمات وهي جوفاء خالية من الدللت.
وهذا ما عبر عنه سوسير في سياق حديثه عن الدال والمدلول وشبه اتحاد الكلمات ودللتها بوجهي الورقة الواحدة.
إن علم الدللة كمبحث من المباحث اللغوية حسب ماهية اللسانيات ،يهتم بحلقة من حلقات علم اللسان البشري،
هذه الحلقة تكمن في المظهر البلغي وما يتعلق به ،فالرسالة البلغية هي التي تضطلع بنقل دللة الخطاب إلى
المتلقي بحيث يتم -في الحالت العادية -استيعابها استيعابا كافيا" ،فالدراسة اللسانية ل تقف عند تشخيص الحدث
اللغوي في مستواه الدائي ،ولكن في سلكه الدائري إذ تهتم اللسانيات بتولد الحدث وبلوغه وظيفته ثم بتحقيقه مردوده
عندما يولد رد الفعل المنشود ،وهكذا يكون موضوع علم اللسان اللغة في مظهرها الدائي ومظهرها البلغي وأخيرا
() سال شاكر ،مدخل إل علم الدللة ،ترجة ممد يباتي ،ص .28 1
() التوزيعية :نظرية تزعمها العال اللغوي المريكي بلومفيلد وهي نظرية عامة لللسنية ترى أن اللغة تتألف من إشارات معبة تتدرج جيعا ضمن نظام 2
اللغة لنطق يكون التعبي على مستويات متلفة والملة تمل إل مؤلفاتا الباشرة بواسطة قواعد التوزيع والتعويض والستبدال.
- 14 -
()1
في مظهرها التواصلي.
لقد ولجت اللسانيات كل مجالت التصالت النسانية حتى غدت ملتقى لكل العلوم النسانية واعتمدت في
الخطاب بأنواعه ،ول يمكن أن نقيم هذا الدور الرائد في مجالت الحياة لللسنية دون أن نقر بحضور الدللة في ذلك،
كفرع أساسي ومهم في فعالية الخطاب "فاللسانيات تستلهم الظاهرة اللغوية ونواميسها من مصادر لسانية وغير لسانية
فتعمد إلى إجراء مقطع عمودي على كل منتجات الفكر ،بمنظور مخصوص فبعد البحث عن خصائص الخطاب
الخباري والخطاب الشعري الدبي ،تعمد اللسانيات إلى دراسة نواميس الخطاب العلمي والقضائي والشهاري
()2
والديني والمذهبي.
ولم يكن لللسنية هذا الهتمام الواسع باللغة النسانية ،إل بعد أن ظهرت في أوربا مدارس بنيوية عاينت
الظاهرة اللغوية من كل جوانبها :الجانب الصوتي ،والجانب المعجمي ،والجانب التركيبي والجانب الدللي ،واستقر
لديها أن "اللسنية هي دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية ،وتحليل خصائصها النوعية ،بغية الوصول إلى نواميس
عملها"( .)3وأن "اللغة تنظيم ،وهذا التنظيم وظيفي ،يتوسله النسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل" فلم تعد
اللسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب ،بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة ،وذلك بعد ما تأكد لدى علماء
اللسنية ،أن البحث اللسني يبقى ناقصا ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها ،ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى
طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد .ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث اللسني إل
مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم المريكي "بلومفيلد" الذي كان يرى أن الدراسة اللسنية ،ل تنحصر بدراسة
الصوات والدللت اللغوية بذاتها ،بل تشمل دراسة الرتباط القائم بين أصوات معينة ودللت معينة (…) ،وجدير
()4
بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدللة ،قد تبنته اللسنية بصورة عامة.
وبعد هذا التزاوج الذي لزم علم اللسنية الخذ به ،تبين لعلماء اللغة المحدثين أن الجانب الدللي في اللغة ل يزال
ل كما كان في القديم ،وأنه محتاج إلى نظرة أخرى على مستوى البحث وعلى مستوى المنهج ،رغم ما البحث فيه هزي ً
قدمته العلوم المستحدثة من نظريات أنارت جوانب مهمة من علم الدللة كنظريات العلم والتواصل والمعلوماتية .يقول
في ذلك الكاتبان :ريمون طحان ودينر بيطار طحان" :يقترن الكلم أو الصوات ،بنظريات الدللة العامة ،وكان علم
الدللة الجزء الهزيل من النظريات اللسنية ،وقد أصبح يفضل نظريات العلم والتواصل والمعلوماتية ،مزودا بمؤشرات
سليمة منها أن المتكلمين بلغة واحدة يتبنون المعنى الواحد في الكلم الواحد أو الجملة الواحدة"(.)5
وبعد ذلك توفر لعلم الدللة وجود مستقل ،وإن بقيت تربطه بعلوم اللغة الخرى -وخاصة اللسنية -وشائج
تتجلى بصورة واضحة في مجالت البحث .حيث يبرز التقاطع بين هذه العلوم مجتمعة .ولكن ما يميز البحث الدللي،
هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب متخذا في ذلك منهجا خاصا يتوخى المعيارية في اللغة والكلم،
"والعلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية وقوام العلوم ليست فحسب مواضيع بحثها وإنما يستقيم العلم
() د.عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .81 1
() ريون طحان ،دينر بيطار ،فنون التقعيد وعلوم اللسنية ،ص .92 3
() د.ميشال زكريا ،انظر اللسنية (علم اللغة الديث) :ص .233 -232 4
- 15 -
بموضوع ومنهج" )1(.وتبعا لذلك اتسع نطاق البحث الدللي ،وأحرز علماء العرب سبقا في هذا المجال حيث برز
لغويون كثيرون وضعوا نظريات مختلفة وأرسوا بذلك قواعد أضحت مدارس دللية ،تنظر إلى قضية "المعنى"
بنظريات مختلفة ،وداخل المنهج الوحد للبحث الدللي ظهرت مناهج فرعية رأى أصحابها نجاعتها في تقديم الجوبة
الكافية لمختلف المسائل التي طرحت في الدراسات الدللية ،والتي عجز عنها البحث اللغوي قبلها ،ولكن ما هي
القضايا الساسية التي طرحها الدرس الدللي الحديث؟ وما هي المباحث اللغوية التي اختص بها علم الدللة حتى
غدت مجالً خاصة به ،تعبر عن خصوصية هذا العلم واستقلله عن بقية العلوم اللغوية الخرى؟
هذا ما سنحاول الجابة عليه في المباحث التالية.
() عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .41 1
- 16 -
ل على ذلك أنه يعد أحد فروع الدرس البلغي وهو علم المعاني.
فض ً
فدرءا للبس وتحديدا لطار الدراسة العلمية ،استقر رأي علماء اللغة المحدثين على استعمال مصطلح "علم
الدللة" ،مرادفا لمصطلح "السيمانتيك" بالجنبية وأبعدوا مصطلح "المعنى" وحصروه في الدراسة الجمالية لللفاظ
والتراكيب اللغوية وهو ما يخص "علم المعاني" في البلغة العربية.
-1لفظ "الدللة" في القرآن الكريم:
لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الطار اللغوي
المفهومي لهذه الصيغة ،وهي تعني الشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريدا أم حسا ويترتب على ذلك
وجود طرفين :طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "العراف" حكاية عن غواية الشيطان لدم وزوجه:
"فدلّهما بغرور"( .)1أي أرشدهما إلى الكل من تلك الشجرة التي نهاهما ال عنها .فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي
استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الشارة ،فبالرمز ومدلوله تمت العملية البلغية بين
الشيطان من جهة ،وآدم وزوجه من جهة ثانية ،وإلى المعنى ذاته ،يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه
السلم" :وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"( )2كما ورد قوله
تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس" :قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك ل يبلى"( .)3فهاتان اليتان
تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدللي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دللة .ومتقبل يتلقى الرسالة
ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية البلغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة ،فإذا تم التصال البلغي فواضح أن
القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل .وتبرز العلقة الرمزية بين الدال والمدلول -قطبي الفعل الدللي -في قوله
تعالى من سورة الفرقان" :ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلً" )4(.فلول
الشمس ما عرف الظل ،فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدللة مثالً
للعلقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله ،ويمكن تمثل هذه العلقة في أي صيغة أخرى ،ولقد دلت الرضة ،التي
أكلت عصا سليمان عليه السلم حتى خرّ ،أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ" :فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم
()5
على موته إل دابة الرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".
فتعيين طرفي الفعل الدللي كما تحدده الية ،ضروري ليضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال ،وهيئة سليمان وهو
ميت مدلول ،فلول وجود "الرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان -عليه السلم( -دال عليه) ،ومن
السورة السابقة ورد قوله تعالى" :وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق
جديد )6(".فهذه الية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدللي ،عناصره الدال والمدلول والرسالة الدللية التي
تخضع لقواعد معينة ،تشرف على حفظ خط التواصل الدللي بين المتخاطبين ،وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله
تعالى على لسان أخت موسى عليه السلم" :إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ
() الية رقم ،22انظر تفسي القرطب :الامع لحكام القرآن ،ج ،13ص .37 1
() سورة القصص :الية ،12انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري ،ج ،4ص .217 2
() الية ،120 :انظر تفسي ابن كثي ،ج ،4ص .542 3
() الية ،45 :انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري ،ج ،4ص .120 4
() الية ،14 :انظر تفسي الكشاف للمام الزمشري ،ج ،5ص .62 5
- 17 -
()1
عينها ول تحزن".
هذه اليات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة ،تشترك في تعيين الصل اللغوي لهذا اللفظ ،وهو ل يختلف
كثيرا عن المصطلح العلمي الحديث ودللته ،فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني العلم
والرشاد والشارة والرمز ،فإن المصطلح العلمي للدللة الحديثة ل يخرج عن هذه المعاني إل بقدر ما يضيف من
تحليل عميق للفعل الدللي ،كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملحظة بنيته السطحية ،أو افتراض وجود
قواعد دللية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة ،وهو يفسر توليد المتكلم لجمل جديدة لم يكن قد
تعلمها من قبل .كما تنص على ذلك القواعد التوليدية التي أشار إليها (تشومسكي) ضمن نظريته التوليدية ،فما يمتاز
()2
به متكلم اللغة قدرته على إنتاج وفهم جمل لم يسبق له أن أنتجها أو سمعها من قبل".
-2لفظ "دل" في معاجم اللغة:
الصورة المعجمية لي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي ،باعتبار
دللته الولى "فالحالة المعجمية لللفاظ تمثل الصورة الساسية لمحيطها الدللي( .")3وكتاب القرآن الكريم ،يمثل ذروة
ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدللة ،فلو تتبعنا لفظ "دل" ،وما صيغ منه ،في
معاجم اللغة المعروفة ،للفينا دللته ل تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم ،فيورد ابن منظور قوله حول
معاني لفظ دل" :الدليل ما يستدل به ،والدليل الدال .وقد دله على الطريق يدله دللة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها)
والفتح أعلى ،وأنشد أبو عبيد :إني امرؤ بالطرق ذو دللت .والدليل والدليلي الذي يدلك" .ويسوق ابن منظور قول
سيبويه وعلي -كرم ال وجهه -وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه" :والدليلي علمه بالدللة ورسوخه فيها".
وفي حديث علي -رضي ال عنه -في صفة الصحابة" :ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا
()4
فيدلون عليه الناس يعني :يخرجون من عنده فقهاء ،فجعلهم أنفسهم أدلة ،مبالغة".
إن ابن منظور -بما جمع من أمثلة -يرسم الطار المعجمي للفظ "دل" محددا المعنى الحقيقي الذي ينحصر في
دللة الرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم .وهذا التصور للدللة ،ل يختلف عن التصور الحديث مما
يعني أن المصطلح العلمي (الدللة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي
القديم.
وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محددا الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول …" :والدالة ما تدل به على
حميمك ،ودله عليه دللة (ويثلثه) ودلولة فاندل :سدده إليه ( )..وقد دلت تدل والدال كالهدي( …")5وبهذا الشرح يؤكد
الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد.
ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والرشاد والتسديد أي توفر :مرشِد ومرشَد ووسيلة
إرشاد وأمر مرشَد إليه .وحين يتحقق الرشاد تحصل الدللة ،وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور ،بتعيين الباث
() سورة طه :الية ،40انظر تفسي ابن كثي ،ج ،4ص .506 1
() عبد القاهر غذامي الفهري ،اللسانيات واللغة العربية ،ص .370 2
() ابن منظور ،انظر لسان العرب ،ص .395 -394 4
- 18 -
والمتقبل ووسيلة البلغ والتواصل وشروطها ،ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة البلغية ،وبناء على
ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دللي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د.فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم
الخلط بين علم الدللة ( )semantiqueوالدراسة المعجمية ( ،)lexicographieهذه التي ل تهتم إل بوصف فحوى
الكلمات كما نراها -في الحالة التقليدية -حين تسجيلها في المعجم( .")1ولكن إذا كان المعجم ل يفي بالغرض في نقل
دللة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث ،فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالت
الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها( ،)2وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية -كما قام بها علماء
المعجم -ل يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدللية العربية -ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدللة اللفظ المتجددة،
إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالتها المختلفة في السياقات المتعددة" ،وعلى
العموم فإن معاني (دللت) الكلمات هي نتائج ل يتوصل إليها إل من خلل تفاعل المكانيات التفسيرية لكامل الكلم
كما يرى إمبسون )3(".هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات
اللغوية ،يفسرها الدرس اللساني والدللي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية.
أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغويا فيقول …" :وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الزهري
في كتابه "التهذيب" قوله :دللت بهذا الطريق دللة عرفته ودللت به أدل دللة ،ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق ،دل
عليه يدله دللة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه) .وأنشد ابن العرابي:
ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به ،وأيضا الدال وقيل هو المرشد وما به الرشاد ،الجمع أدلة وأدلء ،قول
الشاعر:
من أهل كاظمة بسيف البحر شدوا المطي على دليل دائب
أي على دللة دليل كأنه قال معتمدين على دليل… قال ابن العرابي :دل فلن إذا هدى( .)4وتجمع قواميس اللغة
على أن الدللة ،تعني الهدي والرشاد ،فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه.
-3ماهية الدللة بين القديم والحديث:
() فايز الداية ،علم الدللة العرب ،ص .205 -204 1
- 19 -
البحث ومصطلحاته العلمية ،ول أدل على ذلك أن ظهر فرع من علوم العربية أطلق عليه مصطلح "فقه اللغة"( )1على
غرار فقه الشرع ،كما استخدم اللغويون القدامى مصطلحات هي من لوازم الفقه الشرعي نذكر منها :مصطلح القياس
والسماع والجماع واستصحاب الحال والستحسان( )2وما إلى ذلك ،ولم يشذ الدرس الدللي في التراث العربي عن
هذه السس النظرية باعتباره كان يدور في فلك العلوم التي كانت تهدف إلى فهم كتاب القرآن ،بتذليل معانيه واستنباط
دللته ،واقتباس سننه في النشاء والتعبير .ويمكن أن نلمس هذا الهتمام بالدللة -لدى المتقدمين من العلماء العرب-
في ميادين مختلفة من المعارف والعلوم كالمنطق والفلسفة ،وأصول الفقه ،والتاريخ ،والنقد ،وبناء على هذه العلوم
سنبين تعريفات للدللة عند كل من :أبي نصر الفرابي (ت 339هـ) ،والمام أبي حامد الغزالي (ت 505هـ) ،وعبد
الرحمن بن خلدون (ت 808هـ) ،والشريف الجرجاني (ت 816هـ) ،واختيارنا لهؤلء العلم ارتكز أساسا على
عدة اعتبارات كان أهمها وضوح الهتمام بالتنظير الدللي الذي يبدو بارزا في مؤلفات هؤلء العلماء ،وسنقتصر
على تقديم ماهية الدللة عند علماء العرب القدامى تقديما موجزا بالقدر الذي يبرز مفاهيمها وتعريفاتها ،ذلك أن
دراسة الدللة في التراث العربي القديم بكيفية مفصلة سيشتمل عليه الفصل الول من المدخل التطبيقي الذي يحمل
عنوان :جهود العرب القدامى في الدراسة الدللية..
() أول مؤلف حل عنوان فقه اللغة هو كتاب الصاحب ف فقه اللغة وسنن العرب ف كلمها لبن فارس. 1
() ريون طحان ،دينر بيطار ضحاك ،فنون التقعيد وعلوم اللسنية ،ص .26 2
- 20 -
حقول دللية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدللة وذلك لدماجها في استعمال لغوي أمثل .يقول الفرابي مشيرا
إلى هذه الدراسة" :اللفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة… واللفاظ
الدالة على المعاني المفردة ثلثة أجناس :اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الجناس الثلثة تشترك في أن كل
واحد منها دال على معنى مفرد"( )1فأقسام اللفاظ باعتبار دللتها تنتظم في قسمين ،ألفاظ مفردة ذات دللة مفردة،
ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه ،فدللته قابلة للتجزئة ،أما قسم اللفاظ المركبة ذات الدللة
المفردة فهي على نقيض اللفاظ المفردة ،إذ هي غير قابلة لن تتجزأ دللتها ،وتعرف بأنها ما ل يدل جزؤه على
جزء معناه ،يقدم ابن سينا تمثيلً لذلك بقوله" :اللفظ المفرد :هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً حين هو جزؤه
مثل تسميتك إنسانا بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته ،ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد"
شيئا أصلً .فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى ،في موضع آخر تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا ،وحينئذ يكون "عبد
ال" نعتا له ،ل اسما وهو مركب ل مفرد" )2(.ولم يخرج تقسيم ابن سينا لللفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في
المنطق".
ب-ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الدوات الدالة:
لقد قسم الفرابي اللفاظ الدالة إلى ثلثة أقسام :السم والفعل والداة .وإذا كانت دللة السم والفعل واضحة ،فإن
دللة الداة قد يكتنفها غموض ،يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها ،ففي مقام حصره
لستخدامات الحرف "ما" يقول" :يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد ،وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدللة
عليه أولً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالً عليه" )3(.فالحروف ليست لها دللة في ذاتها إنما قيمتها الدللية فيما
تشير إليه ،واللفظ ل يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن ،وفي هذا الطار يشرح الفرابي
استعمالت لفظ "موجود" فيقول" :الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولت والفضل أن يقال إنه اسم لجنس من
()4
الجناس العالية على أنه ليست له دللة في ذاته".
ج-الدللة محتواه في النفس:
إن العلقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق ،ل يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين ،لن علم المنطق
يهدف إلى عقلنة الفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها ،ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدللت
مصطلح منطقي هو "المعقولت" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية ،يقول الفرابي
في ذلك" :وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولت ،من حيث تدل عليها اللفاظ ،واللفاظ
من حيث هي دالة على المعقولت وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أمورا
()5
ومعقولت شأنها أن تصحح ذلك الرأي".
فالنظرية الدللية عند الفرابي ،ل تخرج عن إطار علقة اللفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية ،ويمكن أن
نجمل تعريف الفرابي لعلم الدللة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول اللفاظ ومدلولتها ،وتتبع سنن الخطاب والتعبير
- 21 -
لتقنينه وتقعيده.
() عبد القادر عودة ،التشريع النائي السلمي ،ج ،1ص .156 1
- 22 -
إن هذه التصنيفات للدللة التي حددها الغزالي ،تمثل وعيا عميقا صحب فكر هذا العالم ،ومكنه من أن يسهم في
تأسيس الفكر النظري في مجال الدللة .وهذه السهامات العلمية ،لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار
"المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين ،وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علقات
اللفاظ بالمعاني ،ولم يخرج عن تلك المحددة قبلً عند العلماء ،وهي علقة المطابقة وعلقة التضامن وعلقة اللتزام
أو الستتباع )1(.كما بحث الغزالي قسم اللفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلثة أقسام :ألفاظ مفردة
وألفاظ مركبة ناقصة ،وألفاظ مركبة تامة ،فاللفظ المفرد عند الغزالي ،ل يخرج عن تصور من سبقه من العلماء
خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي" :المفرد وهو الذي ل يراد بالجزء منه دللة على شيء أصلً حين هو جزؤه
كقولك عيسى وإنسان ،فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدللة
على شيء أصلً( .)2أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى ،والمجموع يدل دللة تامة بحيث يصح
السكوت عليه من ذلك قولهم :زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم :في الدار أو النسان في ،مركب ناقص لنه
مركب من اسم وأداة )3(.وما يلحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي لللفاظ باعتبار الفراد والتركيب ،هو
إسنادهم في ذلك كله على القصد والرادة ،فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دللة مفردة ،كانت تلك الدللة ،وإن أريد
بهما غير تلك الدللة لم تكن.
وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي لللفاظ ،للفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول
الدللة وفروعها ومتعلقاتها ،ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه لللفاظ باعتبار الكلي والجزئي ،وعموم
المعنى وخصوصه ،كما أقام تقسيمات لللفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول" :اعلم أن اللفاظ
من المعاني على أربعة منازل :المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة )4(".ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي
مرتب ،العلقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولت المادية والمجردة ،واللفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة
فيقول" :اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة ،فإن للشيء وجودا في العيان ثم في الذهان ثم
في اللفاظ ثم في الكتابة ،فالكتابة دالة على اللفظ ،واللفظ دال على المعنى الذي في النفس ،والذي في النفس هو مثال
()5
الموجود في العيان".
وعلى هذا الساس وبحسب تقسيمات الغزالي
-فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لشارة كما يقول (جاك دريدا)(.)6
-اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر.
-المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال.
() ال صدر نف سه ،ص .52الشتر كة( :الشترك اللف ظي) ،التواطئة :أعيان متعددة بع ن وا حد مشترك بين ها كدللة ا سم اليوان على الفرس والط ي 4
والسد ،والترادفة( :الترادف) ،التزايلة :هي الساء التباينة الت ليست بينها شيء من هذه النسب.
() الصدر نفسه ،ص .47 -46 5
() الكتابة جاءت لتمل فراغا لتكون امتدادا للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات ل يكن إل أن تكون مكتوبة ول نستطيع تريدها بالنطق كما هو شأن 6
لغة الب ف الرياضيات ،انظر ذلك ف كتاب)De La Grammatologie jaque derrida (p 429 :
- 23 -
-الموجود في العيان (المور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال.
وعلى هذا العتبار وبحسب ركني العملية الدللية (الدال -المدلول).
-الكتابة ،اللفاظ :دال.
-الصور الذهنية -المور الخارجية :مدلول.
إن تلك الشارات العابرة ،إلى ما قدمه المام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدللة ،يبرز ما مدى ثراء
تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا
علمنا أن العلماء القدامى ،قد امتلكوا الدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة
في النص المقدس ،وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق
مفاهيمهم ،والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الرسططاليسي( .)1بعلوم المسلمين ،وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية
التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من ل يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لثقة بعلومه قطعا.
ومنذ عهد الغزالي دأب الصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلمية ومنهم صاحب كتاب "الحكام في
أصول الحكام" سيف الدين المدي ،موضوع هذا البحث ،وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي
ينطوي عليها نظام اللغة ،وذلك استجابة للمبحث الصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة ،إلى استقراء
دقيق لمعانيها ،ل يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو.
() ممود سامي النشار ،منهج البحث عند مفكري السلم ،ص .90 1
- 24 -
حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس ،فهو ثاني رتبة عن الدللة اللغوية ")1(.فابن خلدون
يصنف الخط في المرتبة الثانية -كما فعل ذلك الغزالي -وذلك في تأديته للدللة اللغوية بعد اللفاظ ،فالخط دال على
اللفاظ واللفاظ دالة على المعاني.
ل من [صور] الحروف ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول" :إن في الكتابة انتقا ً
الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ،ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبدا من
()2
دليل إلى دليل ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة النتقال من الدلة إلى المدلولت".
بهذا التعريف للدللة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (double
)articulationاشتهر ذلك المصطلح في اللسنية الحديثة .إن التلفظ الول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة
اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة ،وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الول على دللة وعلى صورة
صوتية ول يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى ،أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى
()3
وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ول تحمل بذاتها أية دللة.
فصور الحروف الخطية -عند ابن خلدون -هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات
صوتية (فونيم) ل تحمل بذاتها أية دللة ،فضلً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو البلغية رسما بينا،
فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال ،والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس ،والكلمات اللفظية
التي في الخيال هو اختصار للعلقة القائمة بين اللفظ ومعناه ،فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى)
باعتبارهما طرفا واحدا ،ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدللة بقوله:
"معنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع ،ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا
المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه ،وهو معنى الدللة.
فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دللة ،فترتسم في النفس مقاصد هذه الدللة وعلى هذا الساس
يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي:
اللفظ قيمة صوتية تصور في الخيال المعاني الموضوع الخارجي ،ثم يحصل للنفس ملكة النتقال من
الدلة إلى المدلولت ،فتربط بالبداهة بين السم ومسماه أي بين الدال والمدلول .فإذا كان المدلول شيئا ماديا يكون
النتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون النتقال حينئذ من اللفظ إلى
المعاني الذهنية.
إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدللة ورسم على أساسها العملية الدللية ،ل تختلف عن تلك النظرية
التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه" :فالدليل اللساني ل يجمع الشيء أو
المادة والسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية ،وليست هذه الخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما
هي الثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية( ")4فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب
- 25 -
تعريف "دوسسير" ،وأن العلمة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني
( )conceptوالصور السمعية ( .)image accoustiqueوإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية
الدللية حين قال" :الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر ،حيث قال" :كما أن القول
والكلم بيان عما في النفس والضمير من المعاني" )1(.هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لهمية الجانب
السيكولوجي في الفعل الدللي ،وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف
()2
الدال بكونه الدراك النفساني للكلمة الصوتية ،والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال.
لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكدا على ضرورة الحاطة باللفاظ ودللتها على المعاني
الذهنية ،وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين:
-1طريق القراءة والتعلّم من الكتاب.
-2طريق التعلم بالمشافهة والتلقين.
وعلى أساس هذا التنظير التعليمي ،يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدللت ،ويشير إلى ضرورة
إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن ،وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل اللفاظ بمحتواها
الذهني ،يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله" :ثم من دون هذا المر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من
التعليم ،وهي معرفة اللفاظ ودللتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان
بالخطاب ،فأولً دللة الكتابة المرسومة على اللفاظ المقولة وهي أخفها ثم دللة اللفاظ المقولة على المعاني
()3
المطلوبة ،ثم القوانين في ترتيب المعاني للستدلل في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق".
هذه -بإجمال -نظرة ابن خلدون لعلم الدللة ،وأقسام المعنى باعتبار اللفاظ ودللتها ،وهي نظرة مع قدمها إل
أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدللية الحديثة.
- 26 -
أ -الدللة اللفظية :إذا كان الشيء الدال لفظا.
ب -الدللة غير اللفظية :إذا كان الشيء الدال غير لفظ.
بتحديده لطبيعة العلقة بين الدال والمدلول ،يحصي الجرجاني ثلثة مستويات صورية تنتج عنها ثلث دللت ،دللة
العبارة ودللة الشارة ودللة القتضاء ،وقد م ّر معنا تعريف المام الغزالي لدللتي الشارة والقتضاء ،أما دللة العبارة
أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص ،لن المشرّع
حين يضع النص يختار له من اللفاظ والعبارات ما يدل دللة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر
()1
المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الطلع عليه".
إن هذا الفهم العميق للدللة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور
بعد تلك الدراسات الدللية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري ،فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدللة ليشير
إلى علم آخر أعم من الدللة ( )semantiqueوهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء ( )simiologieوذلك عندما
نص على أن "الدللة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على
إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلمات اللغوية وغير اللغوية ،وقد نلمس بعض القصور في سعي
الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدللة وأنواعها ذلك "لن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدللة ،كما
يحاول العلماء اليوم بناءه ،نظرا لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلمات ( )signesبالمعارف والفنون
التي ل تتحقق إل في أنساق من العلمات )2(".هذه التصنيفات الثلثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم
الدللة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدللت اليحائية ،حيث يمير العالم المريكي
هياكوا ( )S.J.Hayakwaبين نوعين من المعاني :المعنى القصدي ( )Sens intentionnelوالمعنى التساعي (
،)Sens extentionnelأو كما يسمى في اللسنية الحديثة المعنى اليمائي ،وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج
دللت الجرجاني الثلث (دللة العبارة -دللة الشارة -دللة القتضاء) ،وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي
الوروبي غرينبرغ (( )J.H.Greenbergحيث أقام تقسيمه باعتبار القصد واليماء إلى :المعنى الداخلي (Sens
)internalوالمعنى الخارجي( )Sens external( )3فالدللة -إذن -في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند
الجرجاني بكونها العلقة بين المحتوى الفكري واللفظ ،وعلى هذا الساس يخضع ظهور الدللة أو خفاؤها إلى قرائن
لغوية تحدد الدللة المقصودة ،فهناك السياق الذي يحمل دللة ل تقبل مجازا ول تأويلً ،كما يسوق معنى ل يصح
حمله على غير ظاهره ،إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلم الذي يظهر المراد منه للسامع
بنفس الصيغة ويكون محتملً للتأويل والتخصيص( .)4ولقد أدرك الجرجاني العلقة بين طرفي العملية الدللية ،الدال
والمدلول ،وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع،
وإن كان ل يحدّد تحديدا بيّنا طبيعة المدلول ،إل أن تجريد عملية الحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى
الذهني للعلمة وموضوعها الخارجي .والمهم في تعريف الجرجاني أن الدللة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى
مدلوله ،ول يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدللي في عصره ،بل نرى عالما ناقدا
قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت 684هـ) يحلل الدللة بقوله …" :قد تبيّن أن المعاني لها حقائق
() عبد القادر عودة ،التشريع النائي السلمي ،ج ،1ص .187 -186 1
() علم الدللة عند العرب :عاطف القاضي ص .127ملة الفكر العرب العاصر ،عدد 19 -18السنة.1982 : 2
() مدخل إل علم الدللة اللسن ،د.موريس أبو ناضر ،ص -33ملة الفكر العرب ،عدد 19 -18 :السنة.1982 : 3
- 27 -
موجودة في العيان ،ولها صور موجودة في الذهان ،ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من اللفاظ وجود
()1
في الفهام والذهان".
هذه مفاهيم للدللة لم توجد مبوبة مفصلة ،كما هي عليه في الدراسات الحديثة ،إنما كانت أساس الدراسات
اللغوية في التراث المعرفي وخصت جميع العلوم بحيث وجدت في ثنايا كتب اللغة والمنطق والفقه وما إلى ذلك،
وهي تبرز من جهة أخرى حضور الدرس الدللي بأبوابه الرئيسية في شتى معارف تراثنا .كما أن ظهور التحليلت
العميقة في عدة مستويات من الدللة عند العلماء العرب المتقدمين واتساع اهتماماتهم في كل العلوم ساعدهم على
تأسيس نظرة دللية ازدادت قيمتها مع مرور الزمن وتبلورت لدى المتأخرين من علماء القرن التاسع الهجري وما
بعده .فقد ألفينا الجاحظ يصنف العلمات الدالة ويعطيها التمثيلت الجرائية في واقع المجتمع العربي ،واشتغاله
بالبيان والمنطق قد كرس عنده دقة التمييز مع عمق التحليل .وكذلك لمسنا عند علماء آخرين وضوح الرؤية الدللية
ضمن كتاباتهم ،وحسبنا أن نقرأ بعضا من أبواب ما كتبه سيبويه والجرجاني وابن جني ،بل يكاد يجزم النقاد العرب
المحدثون أن اللغة السيميائية قد مارسها شعراء أقدمون عبروا بها عن مكنوناتهم الوجدانية ،وأشاحوا اهتماماتهم في
مواضع كثيرة عن اللغة الطبيعية المألوفة وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض في موضوعه حول السمة
والسيميائية )2(".وإن المسار التاريخي لعلم السيمياء ليؤكد على إفادة هذا العلم من تلك الروافد التي جعلته يستقطب
اهتمام المشتغلين في حقول شتى من العلوم يقول في ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض" :وكذلك ابتدأت السيميائية طبية
فلسفية ،ثم لغوية خالصة ثم تشعبت إلى أدبية ،مع احتفاظها بوضعها اللساني )3(".وما يعضد هذا الرأي ما أجمع عليه
الباحثون في نشأة الدللة على أنها بدأت بالمحسوسات ثم تطورت إلى الدللت المجردة بتطور العقل النساني ورقيه،
()4
فكلما ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدللت المجردة وتوليدها والعتماد عليها في الستعمال.
() عبد الالك مرتاض :السمة والسيميائية ،ص ،19ملة الداثة ،عدد ،2يونيو .1993 2
() إبراهيم أنيس ،انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ ،ص .158 4
- 28 -
أنجع وسائل نظام البلغ والتواصل والخطاب ،وأقدرها على الطلق على التجديد والتطور والتكيف بل ل مندوحة
من القول أن النظمة السيميولوجية التي تتخذ العلمة المطلقة كمدخل أساسي لي مستوى من مستويات الدراسة
الدللية ،ل تستغني في الحوال الغالبة عن اللغة خاصة على مستوى القراءة التعليلية التبيينية.
ومقاربة لماهية الدللة وحقولها الدراسية في العصر الحديث ،عجنا نسائل البحث الدللي عند لفيف من اللغويين
وذلك بقصد رسم إطار بين تتضح من خلله معالم الدرس الدللي الحديث إن على مستوى الماهية والمصطلح وما
أفرزه من تفريعات زادت من توسيع دائرة البحث الدللي ،أو على مستوى البعاد والمشروع الذي تأسس بناء على
اختلف الرؤى والهداف بين مجموع المشتغلين في حقل البحث الدللي والسيميولوجي العام ".يرمي [هذا المشروع
السيميولوجي] من وجهة نظر "إينو" إلى تأسيس وعي بنيوي للستقراء الدللي )1(".ولن حلقة تأسيس الدرس الدللي
لم تكتمل دائرتها بعد ،اقتصرنا في مساءلتنا لمعالم البحث الدللي الحديث على بعض اللغويين الذين بدأت معهم عملية
التأسيس والتشكيل والتقعيد ،وبعض المشتغلين في حقول النقد والدب حيث غدا عندهم الدرس الدللي السيميائي أحد
أهم المناهج النقدية الحديثة.
() د.فيدوج عبد القادر ،دللية النص الدب ،ص .7 1
- 29 -
المعاني( ")1فعلم الدللة -عند العالم بر -يعني بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني ،ويُعاين الجانب التطوري
لللفاظ اللغوية ودللتها ،ويكون بر بذلك أول من وجه الهتمام إلى دراسة المعاني ذاتها ،لكن أهمية التفاتة بر إلى
جوهر الكلمات لم تقدر حق قدرها قبل محاولة النجليزيين أوجدن ( )C.K.Orgdonوريتشاردز ()I.A.Richards
اللذين أحدثا ضجة في الدراسة اللغوية بإصدار كتابهما عام 1923تحت اسم "معنى المعنى" وفيه تساءل العالمان عن
ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدللة أي الدال والمدلول( .)2وأضحى علم الدللة ابتداء من
ذلك يهتم بالصورة المفهومية ،باعتبار أن ل علقة مباشرة بين السم ومسماه ،إنما العلقة المباشرة تربط الدال
بالمحتوى الفكري الذي في الذهن يقول مازن الوعر في هذا الصدد في تقديمه لكتاب "علم الدللة" لبيار جيرو" :إذا
كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة ،فإن الدلليات تدرس المعاني التي يمكن
أن يعبر عنها من خلل البنى الصوتية والتركيبية"(.)3
ويوضح سالم شاكر أكثر فيقول" :إن علم الدللة يعني بظواهر مجردة هي الصورة المفهومية"( .)4ونزع علم
الدللة في العصر الحديث إلى تمثل المنهج الوصفي في بعض مراحل الدراسة خاصة فيما يتعلق برصد تطور الدللة
وتغيرها وبناء الحقول الدللية يقول ميشال زكريا" :أما علم الدللت فهو مستوى من مستويات الوصف اللغوي،
()5
ل في تطور معنى الكلمة ويقارن بين الحقول الدللية المختلفة".
ويتناول كل ما يتعلق بالدللة أو بالمعنى فيبحث مث ً
إن المجال الواسع الذي حظيت به الدراسات الدللية الحديثة ،يرجع بالساس إلى تلك الطر المميزة التي رسمها
العالمان أوجدن وريشاردز وبعدهما بر ،ومع تقدم الدراسة بدأت البحوث الدللية تشهد عقبات تكمن صعوبتها في
استحالة حصرها ،وتحديدها من ذلك أن عكف الدرس الدللي الحديث على البحث في ماهية الصورة المفهومية،
بحيث استحال معها الحاطة بكل ما يشكل عالم المتكلم حتى يمكن فهم وإدراك المحتوى الفكري المجرد .يقول
(كولردج) محددا مجال البحث الجديد لعلم الدللة" :ول يتضمن معنى اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها،
بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا فطبيعة اللغة ل تمكنها من نقل الموضوع فحسب،
()6
وإنما تجعلها أيضا تنقل شخصية المتكلم الذي يعرض الموضوع ونواياه".
إن الحديث عن البنى العميقة التي تتحكم في إنتاج الدللة من وجهة نظر مجردة ،يبقى بعيد المرام ،ولذلك فإن
جل علماء الدللة والسيمياء المحدثين يركزون أبحاثهم أكثر ،على ما يحيط عملية تأدية الدللة من ظواهر منطقية
نفسية .يقول بيار جيرو موضحا ذلك" :ويبقى علم الدللة بالنسبة لبر واتباعه متجها نحو السمات المنطقية ،النفسية
()7
والتاريخية للظواهر أكثر من اتجاهه نحو عللها اللسانية".
لقد خطا العالمان كاتر وفودر بالبحث الدللي خطوة بعيدة إذ تناوله من ناحية تفاعل مركبات الحدث الكلمي،
بل إنهما طرحا إشكالية أساسية تتمحور حول تخصيص العلقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ودللتها في لغة
() .Les grands courants de la linguistique moderne (Maurice le roy) P.45 1
() موريس أبو ناضر ،مدخل إل علم الدللة اللسن ،ملة الفكر العاصر ،العدد ،18/19السنة ،1982ص .32 2
() بيار جيو ،علم الدللة ،ترجة منذر عياشي ،ص .72 3
() سال شاكر ،مدخل إل علم الدللة ،ترجة ممد جباتي ،ص .4 4
() ميشال زكريا ،اللسنية :علم اللغة الديث ،ص .211 5
() بيار جيو ،علم الدللة ،ترجة منذر عياشي ،ص .133 7
- 30 -
معينة في غياب النحو ،إذ قد تصل العملية التواصلية التي تضطلع بأمر نقل الدللة إلى مستوى من التعقيد ل يمكن
للنحو أن يشرح فيه ذلك ،لن السيمانتيك من وجهة نظر هذين العالمين يتناول قدرة المتكلم على إرسال وفهم الجمل
الجديدة في ميدان يعجز عن شرحها النحو( .)1إن البعاد التي اتخذها البحث الدللي الحديث عبر دراسات معمقة،
أخرجت النظريات الدللية والفرضيات العلمية اللسانية من مجال التخمين والتقدير إلى ميدان التحقيق والتطبيق،
رسمت إطارا مفتوحا على المستقبل لمشروع دللي أوسع يلج من خلل الدرس السيمائي إلى كل مجال من مجالت
المعرفة والبحث العلمي ،ويكفي أن نتأمل كتب (أ.ج .غريماس) مثل كتاب "علم الدللة البنيوي" " ،1966السيميوتيكا
والعلوم الجتماعية" " ،1976في المعنى" ،1970لندرك المصاف الذي بلغه علم الدللة بعد ما كان علما يفتقد إلى
المنهج والموضوع معا ،إذ كان منشأه في إطار علم اللسنية العام.
يحتل اسم (غريماس) مكانا عليا ضمن الباحثين في الحقل الدللي الحديث ويرجع ذلك إلى قدرته على تحقيق
الرؤية في قراءاته النقدية للخطاب الدبي ،الشعري والنثري .لقد تجاوز غريماس المعطى الدللي ،الني مفترضا
وجود معطى ممكن تتجلى فيه العوالم الدللية التي تتمظهر في بنى دللية ،وعلى أساس وجود هذه العوالم يتم تنظير
البنيات الدللية والكشف عن آلياتها ،وقد يطرح العالم الدللي فرضية وجود البينة الدللية والعوالم الدللية فيقول:
"يجب أن نفهم بالبنية الدللية ذلك الشكل العام لنظام العوالم الدللية -المعطى ،أو الممكن ،ذي الطبيعة الجتماعية
والفردية (ثقافات أو أفراد) والسؤال عما إذا كانت البينة الدللية ماثلة في عالم الدللة أو تحضن هذا العالم"( .)2إن
احتواء العوالم الدللية في بناء من صنع ألسني للتعبير عنها يفترض وجود مشاكلة بين مستوى التعبير ومكوناته
ومستوى المعنى وسماته"( .)3ذلك أن عالم المعنى يتمظهر في التلفظ articulationويتموقع في البنى التعبيرية يوضح
غريماس ذلك بقوله" :إن فرضية المشاكلة بين المستويين تسمح إذن بالنظر إلى بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدللة
حسب وحداته المعنوية الصغرى [أي السمات] وما يقابلها من سمات مميزة على مستوى التعبير ،هذه الوحدات
()4
الدللية مكونة بالطريقة نفسها المكونة بها سمات التعبير ،من فئات سمات ثنائية"
على الرغم من تباين آراء علماء الدللة حول جوهر العملية الدللية ،فإن البحث الدللي أخذ مسارات جديدة بعد
وقوع التأكيد على أن اللغة هي نظام تتظافر فيه جملة من النظمة الفرعية كنظام البنى التركيبية ،ونظام البنى
المعجمية ،والبنى الصوتية ،والبنى الدللية ،ضمن نسق محكم أطلق عليه العلماء مصطلح النحو الكلي (Universal
،)Grammarواتجه الباحثون إلى الكشف عن هذا النسق وتحديد معالمه وسماته ،وهذه مرحلة مهمة ارتقى إليها
البحث الدللي حيث "يلحظ تشومسكي أن ما طبع البحث اللغوي في السنوات الخيرة -هو تحول من العناية باللغة
إلى العناية بالنحو ،وهو تحول من تجميع العينات وتنظيمها أو دراسة لغة خاصة أو الخصائص العامة لكثير من
ل في الدماغ وتساهم في تفسير الظواهر الملحظة"( .)5وقد اللغات أو كل اللغات إلى دراسة النساق التي توجد فع ً
أسهمت فكرة تشومسكي في توليد جملة من الفكار طُرحت كاستفهامات تقتضي أجوبة ولو على وجه الفتراض ،من
ذلك السؤال حول كيف تنتظم اللغة كجملة من البنى في شكل أنساق نظرية داخل الدماغ؟ إن وجود هذه النساق داخل
() Initiation aux problemes des linguistiques contemporaines, C.Fuches et P. le Goffic, 1
.P.72
() ج.غرياس ،البنية الدللية ،ص 97من ملة الفكر العرب العاصر ،ترجة ميشال زكريا ،العدد 18/19السنة .1982 2
() عبد القادر الفاسي ،الفهم ف اللسانيات واللغة العربية ..ص .45 5
- 31 -
الدماغ يترتب عليه الكشف عن المعرفة اللغوية الباطنية لمتكلم اللغة وضمنها الهتمام بالجهاز الداخلي الذهني
للمتكلمين عوض الهتمام بسلوكهم الفعلي ،وأقصى ما وصلت إليه البحوث اللغوية الدللية هو بروز نموذج جديد
للتفكير في نظام اللغة ،المركب من أنساق مختلفة بحيث بزغ زمن التركيب مع نظرية تشومسكي( )1في النحو التوليدي
التي تقوم على أساس تحليل السلسلة الكلمية إلى وحدات من الرموز ،لتعيد تشكيل ليس السلسلة الكلمية وحسب بل
سلسل كلمية ل متناهية ،وذلك إشارة إلى أن الدماغ البشري مركب فيه قواعد إنتاج لحداث كلمية سليمة في
التركيب والدللة معا ،وعلى الرغم من أن تشومسكي قد أغفل في بحوثه الولى النسق الدللي إل أنه تدارك ذلك،
خاصة بعد تلك السهامات التي تقدم بها العالمان كاتر وفودور ،وأعاد العتبار إلى الوظيفة الدللية للتركيب ،وعدّل
في رسمه البياني الذي تناول فيه السمات البنيوية التي تتألف منها الجملة ،مضيفا المكون الدللي وإن كانت البنية
الدللية محتواة في ما سماه تشومسكي "بالسلسل المعقدة" وتوضيح ذلك فيما يلي:
()2
الرسم قبل التعديل:
- 32 -
قواعد مركبية
تحولت إجبارية
تحولت اختيارية
سلسل معقدة
قواعد صوتية
مكون صوتي
تمثيل صوتي
ما يلحظ هو غياب المكون الدللي في الرسم البياني ،إل أن هناك مرحلة مهمة تقع بين المكون التركيبي
والمكون الصوتي وهو ما سيغير فيه تشومسكي في الرسم الثاني وذلك بتحليله للسلسل المعقدة.
()1
الرسم بعد التعديل:
قاعد السقاط تمثيلت دللية -1قواعد مقولية مكون تركيبي
-2معجم (قواعد معجمية) بنية عميقة قاعدة
بنية عميقة
قواعد تحويليلة أحادية
- 33 -
ما يلحظ هو بروز البنية العميقة والبنية السطحية ولعل ذلك ما خول تشومسكي إضافة الحلقة المفقودة في الرسم
الول ،ونعني بها ،المكون الدللي ،إذ البنية العميقة هي التي تنطوي على التمثيل الدللي الذي يتحول إلى بنية
سطحية وفق قواعد التحويل متشكلً في تمثيل صوتي.
وغدا المبحث الدللي ،واسع الرجاء بحيث انكب الدارسون يتناولون جانبا واحدا من جوانبه ،فيبدو عميقا
متشعبا فمن ذلك أن اهتدوا إلى وضع قواعد سلمة التركيب ،وسلمة الدللة ،مستوحين ذلك من قواعد السقاط التي
وضعها تشومسكي ،فلكي يؤدي التركيب الدللة المعنية ،وجب أن يكون سليما في عناصره ،وكذلك الشأن لسلمة
()1
الدللة وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي:
وبعد تخصيص الدللة في التركيب اللغوي ،توسعت الدللة لتشمل ما هو لغوي وغير لغوي من الرموز
والشارات والسمات ،وهو ما انبنى عنه ميلد السيميولوجيا كمنهج جديد في دراسة الدللة بحيث لم تعد اللغة المحتكر
الوحيد في البحث ،إنما برزت أنظمة إبلغية أخرى أهمها النظام الشاري" :فالسيميولوجية [كما تقول كريستيفا] هي
لحظة التفكير في قوانين التدليل دون أن تبقى أسيرة اللغة التواصلية التي تخلو من مكان الذات"( .)2إذن هناك وسائل
اتصال -واللغة إحداها -تستدعي دراسة في ماهيتها وعلقاتها وكيفية حدوثها ثم القوانين التي تنتظمها كما قال
الدكتور فيدوج" :إنتاج العلم عبر إشارات هو الموضوع الساسي لعلم السيميولوجية الذي هو بحث في ماهية هذه
الشارات وعلتها وكيفية حدوثها أو إنتاجها ووظيفتها والقوانين التي تتحكم بها"( .)3إن الطلع على القواعد العامة
التي تتحكم في حياة الدلئل ،يسمح بوضح أسس لمشروع سيميولوجي يعنى بمعاينة إنتاج الدللة ويحدد طرق وقواعد
ذلك كما يبيّنه الكاتب فيدوج بقوله" :والسيميولوجية منهج يهتم بدراسة حياة الدلئل داخل الحياة الجتماعية ويحيلنا إلى
معرفة كنه هذه الدلئل وعلتها وكينونتها ومجمل القوانين التي تحكمها ،ويعمل من جهة على دراستها بكل أبعادها
واستعمالتها وتعقيداتها دراسة شاملة وعامة لكل مظاهرها العلمية لن ذلك يشكل جوهر ما يندرج ضمن أهدافها
()4
وغاياتها ومطامحها في تحقيق المشروع السيميولوجي.
إن هذا التحديد المسهب لعلم السيمياء جعله يحتل مكانه المؤثر ضمن المنظومة الجتماعية ،إذ أضحى يشمل
الشارات الدالة اللغوية وغير اللغوية وتشترك جميعها في أدائها للقيمة الدللية وفق شروط عامة.
في بحوثه حول فعالية الكلم والكتابة ،ميّز (رومان جاكبسون) بين عدة نظم تواصلية تتوزع في إطارين:
- 34 -
الطار الول :نظم لسانية تستخدم التراكيب اللغوية للتواصل والبلغ.
والطار الثاني :نظم سيمولوجية مستقلة نسبيا ،عن النظام اللسني.
ثم ميز في النظم اللسانية بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة ،والذي يوضحها ذلك التمايز التاريخي الذي أشار
إليه اللغويون في بحوثهم حول الصوت والحرف وتمييزهم بين السامع والقارئ وبالتالي بين فعالية الكلم وفعالية
الكتابة ،وخلص إلى أن الكتابة تبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي كونها تضمن استمرارية
()1
ومنفذ إلى المتلقي مهما تباعد المكان والزمان.
لقد تطور البحث الدللي تطورا سريعا منذ عهد بر ودسوسير ،حتى غدا فيه التنوع والختلف بين العلماء سمة
مميزة وذلك لغراقه في بحث المجرد ،ولتساع مساحة الدرس وظهور نظم جديدة زاحمت النظام اللغوي "إذ لم تعد
اللغة إل مجرد نقطة في فضاء رحيب تهيمن عليه امبراطورية السمات"( .)2وأضحى النموذج السيميولوجي أحد
النماذج الكثر حضورا في القراءات النقدية الدبية باعتبار النص شبكة من العلمات الدالة ،وإن أهم مظهر تطوري
بدا عليه علم الدللة ضمن السيميولوجية الحديثة هو اقترانه بالتفكير الفلسفي "ويعتبر موريس من الذين قدموا نموذجا
سيميولوجيا فلسفيا بحيث استطاع أن يميز بين البعاد الدللية والبعاد التركيبية والبعاد الوظيفية للشارة .فطبقا لرأيه
فإن العلقة بين الشارة والمجموعة الجتماعية هي علقة دللية ،والعلقة بين الشارة والشارات الخرى هي
()3
علقة تركيبية أما العلقة بين الشارة ومستعمليها فهي علقة وظيفية"
إن العامل النفسي في إدراك القيمة الدللية للعلمة ذو أهمية بالغة ،فافتراض وجود الكفاية اللغوية عند المتكلم
يتوق إلى تحليل نفسي (للمتكلم) لضبط هذه الكفاية مرورا بتحليل التركيب اللساني ،ولذلك فالتحليل موحد بين
اللسانيات النفسية ،أوعلم النفس اللساني ( )psycholinguistiquesدون إغفال المركب الدللي في العملية التي
تتناول السلوك الكلمي بقصد الوقوف على البنى الذهنية المشكلة لدللته ،فالحاطة بالجانب التصوري في العملية
التواصلية يساهم بقسط وفير في اكتمال حلقات الفعل الدللي…
إن ماهية علم الدللة -كما أوضحناها -تنأى عن كل تأطير وحصر ،كما أن المباحث اللغوية الحديثة لتخاذها
طابع الشمولية في التناول والطرح ،ل زال معها الدرس الدللي يراوح مكانه ضمن المبحث السيميولوجي العام بين
تحديد الماهية العامة ،وتحقيق البعاد في إطار النظرية السيميولوجية الشاملة التي تحاول وضع المفاهيم الدللية رهن
التحقيق في المنظومة الجتماعية الحديثة التي عجت فيها المعارف والعلوم ،واحتيج في سبيل استثمارها لنساق
لسانية دقيقة قد تضاف إلى النظم السيميائية غير اللغوية لحداث وعي سيميولوجية ،تتحقق معه النهضة المبتغاة.
1 )(
Essais de linguistique generale Roman Jakobson, P.101-102.
)( 2د.عبد الالك مرتاض ،بي السمة والسيميائية ،ص 9ملة الداثة ،العدد الثان.1993 ،
)( 3دلئلية النص الدب ،فيدوج ،ص .15
- 35 -
الفصل الثاني:
مباحث علم الدللة الحديث
تمهـــيد:
إن المجال الذي يندرج في إطاره البحث الدللي ،يمكن حصره في دراسة طرفي الفعل الدللي -الدال
والمدلول -وما يتفرع عن ذلك من أبحاث تخص الدال من جهة والمدلول من جهة أخرى والعلقة التي تجمع بينهما،
وبناء على هذه الدراسة حدد موضوع علم الدللة الذي يضم مباحث لغوية مختلفة ومتباينة لكنها مترابطة ومتكاملة،
فبحث موضوع اللغة من جوانب مختلفة ،كما تناول الدلليون مسألة التطور الدللي فدرسوا أشكاله وأسبابه ،ونشأت
عن مبحث علقة الدال بالمدلول مواضيع أخرى كموضوع أنواع الدللة وأقسامها ومبحث الحقول الدللية وما توصل
إليه اللغويون في هذا المجال من نظريات وآراء علمية ،كما برز موضوع المجاز بمفهومه العام وعلقته بالتعبير
الدللي ،وفي هذا السياق سنحدد مباحث علم الدللة في العصر الحديث لنشاكل بها المباحث الدللية التي تناولها
المدي في مجال الدرس الصولي وهذا من أجل مقاربة علمية بين جانب من مباحث التراث المعرفي والمضامين
الدللية الحديثة لن المنهج المتوخى في المعارف اللغوية الحديثة يتراوح بين تقديم المضامين اللسانية والبحث عن
الصول الولية لها من دعائم ذهنية،وضوابط منهجية ،ومصادرات استدللية واستثمارات نفعية.)1(.
() عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية .ص 7 1
() أطلق عليها سوسي مصطلح "ميكانيزم" ماضرات ف اللسانيات العامة ص .177 2
- 36 -
إن البحث في أصل اللغة من المسائل الفكرية الصعبة التي بقي معها فكر العلماء يدور في حلقة مفرغة ،بحيث
انقسمت آراؤهم حول تحديد نشأة اللغة ،وبرزت في ثلثة اتجاهات :اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية ،واتجاه
يذهب إلى أن اللغة عرفية اصطلحية واتجاه ثالث يجمع بين الرأيين .وكان جل العلماء اللغويين يأملون التوصل إلى
تفسير شامل لهذه المسألة ،ولكنه لم يتمكنوا من ذلك وأضحت أبحاثهم ل تقدم لمسألة نشأة اللغة أي حل مقنع قد يفتح
المجال أمام جهود الباحثين في هذا الميدان ،بل إن المسألة ازدادت تعقيدا ،بكثرة الراء والنظريات التي نشأت حولها
مما حدا بالجمعية اللغوية الفرنسية ( )la societe de linguistiqueإلى إصدار قانون يمنع إلقاء محاضرات في
موضوع نشأة اللغة .إن اعتماد النظريات اللغوية الحديثة على معطيات مبنية على الحدس والفتراض ،هو الذي
أبعدها من التوصل إلى نتائج علمية دقيقة ،ولقيت بعض هذه النظريات اعترافا علميا ،لنها استندت في تعليلها لنشأة
اللغة على معطيات لغوية ملموسة من ذلك نظرية ( )bow wawالتي تذهب إلى أن أصل اللغة هو محاكاة لصوات
استقاها النسان من الطبيعة ،تدعم رأيها بوجود ألفاظ مأخوذة من أصوات تصدرها عناصر من الطبيعة كالزقزقة
والخرير ،والحفيف ،والخشخشة ،والعواء ،والمواء وما إلى ذلك ،رأي مماثل تذهب إليه نظرية الصوات التعجبية
العاطفية ،وتفيد أن الكلمات الولى التي نطق بها النسان ،كانت أصوات تعجبية عاطفية تعبر عن ألم أو دهشة أو
فرح من تلك الكلمات "أف" وي "أنين" وغير ذلك(.)1
إن المنهج الوصفي الني ،يرمي إلى تحليل البنية الداخلية للغة ،وذلك باستنباط الشبكة التنظيمية التي تبدو
كنواميس خفية تنتظم في إطارها اللغة .يرى جان بياجي أن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس خفية مفروضة
على الفراد ،تتناولها الجيال بضرب من الحتمية التاريخية إذ كل ماضي اللغة –راهنا -إنما هو منقول عن أشكال
سابقة ،هي الخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية ،وهكذا إلى الصل الوحد أو الصول الولية المتعددة(.)2
هذه القوانين الخفية التي تنتظم في إطارها اللغة ،تعود إلى الصول الولية للغة الخطاب وهي تشكل النظام
اللغوي ،وبذلك سعى اللغويون وعلماء الدللة بوجه خاص ،إلى تفكيك بنية هذا النظام لكتشاف اللغة اكتشافا علميا ،قد
ل لمشكلت لغوية ،في عالم أصبح يعتمد على اللغة في التصال والعلم في مستويات رفيعة وهامة يقدم تفسيرا مقبو ً
يقول بيار جيرو" :إنّ اللغة نظام من الشارات وهي تخدمنا في إيصال الفكار واستدعاء صور مفاهيم الشياء التي
تكونت في أذهاننا إلى ذهن الخرين(.)3
إن الدرس الدللي الحديث يهدف أساسا إلى التعرف على القوانين التي تشرف على النظام اللغوي ،وذلك بتحليل
نصوص لغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي إلى تنويع التراكيب اللغوية لداء وظائف
دللية معينة ،وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ول يكون حاجزا أمام تطورها وتجددها،
ويمكن في خضم هذا البحث على النواميس الخفية "خلق" نواميس لغوية جديدة لتشرف على النظام الكلمي والخطابي
بين أفراد المجتمع الواحد ،يقول عبد السلم المسدي شارحا ذلك بتعريفه لدور النحوي" :أما النحوي – نعني فقيه اللغة
بالصطلح المطرد -فمرامه أن يعي وجود اللسان من خلل وجود الكلم ،ويأتي عالم اللسان ليكون همه الوعي
باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلمي( )4وأشارت البحوث الدللية ،في خضم بحثها في موضوع اللغة ،إلى أن
اكتساب التراكيب اللغوية يخضع إلى التلقائية والعفوية أثناء الحدث الكلمي ،غير أن هذه التلقائية تحمل في جوهرها
() أنيس فرية نظريات ف اللغة ص 18 -17 1
() عبد السلم السدي اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .161 2
() بيار جيو ،ترجة د .منذر عياشي علم الدللة – ص 51 3
() عبد السلم السدي :اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .104 4
- 37 -
تلك القواعد التي تحدد للغة الخطاب والتواصل إطارها ،ويتعرف المجتمع اللغوي على سننها ويتمرس في توظيفها،
يوضح عبد السلم المسدي ذلك قائلً" :إن الحدث الكلمي يكتسب تلقائيا عن طريق التحصيل بالمومة ،غير أن هذا
الكتساب المومي ،سرعان ما يتحول إلى ضرب من الدراك الخفي بقوانين تلك اللغة ذلك أن الظاهرة اللسانية من
شروطها الولية ،أنها عقد جماعي يلتزم به الفرد ضمنيا بعد أن يحذق استخدام ما تنص عليه بنوده الصوتية والنحوية
والمعجمية والدللية"( .)1وإلى هذه السنن اللغوية ذاتها أشار نوام تشومسكي في سياق حديثه عن البنية السطحية والبنية
العميقة للغة ،محددا مسألة الداء الكلمي والكفاية اللغوية التي تتيح للفرد التوصل إلى نسج جمل كثيرة وجديدة،
بواسطة ما يحمل ذهنه من قواعد وسنن لغوية .يشرح ريمون طحان هذه العملية اللغوية بكيفية مفصلة فيقول" :إن
البنى السطحية نتيجة آلية وميكانيكية لبني كانت في العماق ودفعتها اللغة إلى السطح ،ويبدو أن البنى العميقة هي
أسس التفكير وهي التي تستوعب المفاهيم ،وأن البنى السطحية تقوم فقط بصوغ المفهوم على شكل جملة أصولية،
ويبدو أن هناك تماثل بين هياكل اللغة وهياكل الذهن ،وتصبح البنى الفكرية الخفية ،قوالب لغوية بارزة واللسان مرآة
صادقة تعكس صورة الفكر"(.)2
إن تعميق البحث العلمي في اللغة ،مكن من تجاوز البنى السطحية لهذه اللغة إلى بنى عميقة تكشف عن الشبكة
الداخلية التي تصنف الداءات اللغوية وتستمر معها عملية التواصل والبلغ إذ" ،ليس للساني من مهمة في خاتمة
المطاف ،سوى استنباط الشبكة التصنيفية التي تقوم عليها الظاهرة اللغوية مما يتيح له استطلع مقومات النتظام
الداخلي عبر اكتشاف النواميس المحددة لبنية اللغة والمحركة لوظيفتها في آن معا"(.)3
إن اللغة تشكل مجموعة الخبرات اللغوية للمجتمع والتي تراكمت عبر مراحل التاريخ ،وهي لهذا نظام كامل ل
يمكن أن يوجد لدى فرد واحد .وقد عبر أفلطون عن ذلك بقوله" :إن النسان لن يجرؤ على أن يعبر باللغة على كل
ما يدور بخلده من أفكار وأشياء"( )4ولذلك تقف اللغة عاجزة عن اللمام بكل ما يريد أن يفصح عنه النسان ،من أفكار
ومشاعر ،ومع ذلك تبقى اللغة الداة الساسية للتعبير ولتمييز اللغة كنظام واستخدام النسان لهذا النظام قسم سوسير
دراسة اللغة إلى قسمين:
-1دراسة جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومتكاملة في نظامها.
-2دراسة تتناول الستخدام الفردي للغة باعتباره تطبيقا علميا لنظام اللغة المتكامل الذي هو عبارة عن مجموعة
من العلمات المختزنة في العقل الجمعي ،ول تنطق لنها ليست فردية( .)5يشرح سوسير بكيفية مفصلة
التقابل الذي تشكله اللغة بنظامها ،والداء الفردي لهذا النظام مشبها اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات
صامتة غير منطوقة ،صالحة للنطق والستعمال ،وإنما يستخرج منه الفرد بحسب الحاجة إليها وبحسب
الختيار وهي القاسم المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي وتوجد في حاصل جمع عقولهم جميعا وإذا استطعنا
أن نستخرج الصور الكلمية المختزنة في عقول جميع الفراد في مجتمع لغوي واحد ،فإننا سنلمس تلك
الرابطة الجتماعية التي تربطهم جميعا وهي ما يسمى "باللغة المعينة" وهي ل تمكن أن تكون كاملة في ذهن
() عبد السلم السدي :اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .30 3
() ستيفن أولان ترجة ك مسلم كمال بشر :دور الكلمة ف اللغة ص .6 4
- 38 -
()1
1=1+1+1+1+1 أي فرد بعينه ،بل ل تكتمل إل في الوعي الجمعي وتمثلها هذه المعادلة الحسابية:
وما يلحظ على المناهج التي تناولت اللغة كمادة للبحث ،أنها تختلف من مرحلة لخرى لختلف النمط الفكري
والعلمي السائدين في العصر ،فيمكن أن نذكر المنهج السلوكي ،الذي يعتبر اللغة مجموعة عادات صوتية يكيفها حافز
البيئة ،ويفترض أصحاب هذا المنهج حصول الستجابة الكلمية للحافز على نحو شبيه في الواقع إلى حد كبير بما
يحصل عند الحيوان .وهناك المنهج العقلي المستمد أساسا من فلسفة ديكارت ،وينظر هذا المنهج إلى الداء الكلمي،
كونه يخفي وراءه معرفة ضمنية بقواعد معينة ،ويحرص العقلنيون على تبيان السنن القاعدية في النظام اللغوي،
بغية التوصل إلى إدراك اللية العقلية المحركة لعمل اللغة(.)2
هذا التناول اللغوي الموسوم بالتحليل العميق لبنية اللغة الداخلية ،يبين المدى الذين توصلت إليه الدراسات
اللسانية والدللية في العصر الحديث ،فلم تعد الدراسة تكتفي بالوصف السطحي للظاهرة اللغوية فحسب ،وإنما تلقح
العلوم الحديثة من فلسفية ونفسية واجتماعية ،أثرى المنهج اللغوي المعتمد في استنباطات سنن اللغة وقواعد نظامها،
وتمكن العلماء معه إلى تحديد وظائف اللغة حسب العملية التواصلية ،حيث يميز رومان جاكسون في الحديث اللساني
()3
ست وظائف هي
-1الوظيفة المرجعية ( :)referentielleوهي تعني إشارة اللغة إلى محتوى معين ليصاله إلى أذهان الخرين
وتبادل الرأي معهم.
-2الوظيفة التعبيرية أو النفعالية ( :)emotiveوهي التي تشير فيها اللغة إلى موقف المرسل من مختلف
القضايا التي يتحدث عنها.
-3الوظيفة النشائية ( :)conativeتظهر في اللغة التي يتوجه بها إلى المخاطب قصد لفت انتباهه إلى أمر أو
طلب منه القيام بعمل معين.
-4الوظيفة الورألسنية ( :)Metalinguistiqueوهي تعكس شعور المعبّر بنظام التواصل وتتمحور حول اللغة
نفسها.
-5وظيفة التصال ( :)phatiqueوهي تقوم على تعابير تتيح للمرسل إقامة التصال أو قطعه .
ل من المعاني والقيم الدللية.
-6الوظيفة الشعرية ( :)poetiqueوهي تتمحور حول اللغة باعتبارها تحمل ظل ً
هذه الوظائف الست هي التي تتمحور في إطارها العملية البلغية التي تتخذ اللغة كخطاب يؤدي الدللت
المقصودة في الحوال العادية ،وهي تشير إلى مدى العمق العلمي التحليلي الذي سارت عليه الدراسات اللغوية
الحديثة ،من أجل إبراز القيم الجوهرية في اللغة باعتبارها أهم نظام للتواصل .يقول سوسير" :إن اللغة هي نظام من
العلمات المعبرة عن أفكار ،وبهذا ومقارنة بالنظمة التواصلية الخرى كنظام لغة الصم البكم أو نظام الطقوس
() د .ميشال زكريا :اللسنية (علم اللغة الديث) البادئ والعلم ص .74 -73 2
() انظر الرجع السابق ص 54وكتاب intiation aux problemes des lingustiques contemporaires c. fuchs 3
() عبد السلم السدي :اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .30 3
- 40 -
ج-أن تنتمي إلى نظام من العلمات اللغوية.
ويمكن تقديم علقة العلمة اللسانية بالمدلول والموجود في العيان على النحو التالي:
Signfieالمدلول
Signe
الدليل (الرمز)
( Referentالمرجع)
فالمرجع يعني الشيء الخارجي الذي يحيلنا عليه الدليل اللساني ،وهو عالم غير لغوي ،وهو ل يحدد فقط
بالشياء المادية المحسوسة ،فكثير من المراجع ل توجد إل في إطار الخطاب اللغوي فمثلً "حب" أو "صداقة" تسجل
في الخطاب اللساني ،ولكن ل نجد قيمتها الدللية الحقيقية إل داخل المجتمع اللغوي .وهذا المثلث ،الذي يوضح
العلقات التي يقيمها الرمز اللغوي مع الدال والمدلول والمرجع ،يبرز أن العلقة بين الدال والمرجع هي منقطه وذلك
للدللة على أن استحضار المرجع يمر غالبا عبر المدلول ،وتترك حالت قليلة يمكن أن يستحضر فيها المرجع
ل في السماء العلم(.)1 بواسطة الدال وذلك مث ً
واتخذ منحى دراسة الدليل اللساني في المباحث الدللية ،عدة أبعاد ترمي إلى تعميق الدراسة لرصد العلقة التي
تجمع الدال بالمدلول ،وأخذ علم الدللة بالمبادئ اللسانية التي كتب لها النجاح في علم الصوات الوظيفي ،ورسم
العلماء منهجا لدراسة طرفي الفعل الدللي ،أو الدليل اللساني بمصطلح سوسير وحددوا جانبين رئيسيين لهذه الدراسة:
-1التحليل الداخلي للدليل وذلك بتحليل المدلول بأساليب مختلفة برده واختزاله إلى صفاته الدللية.
-2التحليل الخارجي للدليل ،أي تحليل علقات الدليل ببقية المعجم في إطار الحقول الدللية( )2وتفرعت المباحث
الدللية في العصر الحديث لتشمل عناصر الدللة الثلث :الدال والمدلول والمرجع ،وحرص العلماء على
التأكيد أن علم الدللة يختص بدراسة المدلول محددا في سبيل ذلك معايير علمية "فالمدلول يتحدد بواسطة
الوحدات المجاورة له ،وكل تغير يصيب وحدة ما من وحدات النظام يمكن أن ينعكس على مجموع أو جزء
من هذا النظام(…) فقيمة وحدة ما هي ذات طبيعية علئقية ( )relationnelوهذا ل ينفي على كل حال
الوجود اليجابي للمدلول كوحدة معجمية"(.)3
ويمكن أن تجمع عناصر الدللة ،في دراسة متكاملة تدخل ضمن مباحث الحقول الدللية ،التي تنتظم وفقا للمنهج
التصنيفي التنظيمي في دراسة الدلة ومحتوياتها ،لن الدراسة التي تناولها الدال تنسحب بالضرورة لتتناول المدلول
() linguistique francaises, intiation a la problematique structurale tomel j. L. chiss. J. 1
- 41 -
ومن ثم المرجع .فتقسيم الدراسة العلمية لمؤلفات الدللة الثلثة ليس سوى تيسير منهجي ،يعتمد في تفكيك البنية
الواحدة ذات المكونات المتحدة ليعيد تركيبها مرة أخرى لتكون الدراسة ذات طابع شمولي متكامل.
إذا كانت اللسانيات تركز اهتمامها على دراسة "الدال" من جوانبه المختلفة ،فإن علم الدللة -كما أسلفنا -يعني،
بالخص ،بالجانب المفهومي "للدال" فيتناول ضمن مباحثه العلقة التي يقيمها "المدلول" مع الشياء ،وعلقته ببقية
المدلولت داخل السياق اللغوي ،يوضح موريس أبو ناضر ذلك بقوله" :يعرف علم المعاني أو علم الدللة بأنه العلم
الذي يعنى بدراسة الدللت اللسنية ،وعلى الخص الجانب المعنوي من هذه الدللت ،أي المدلول ،والمدلول يدرس
على ضوء هذا العلم من عدة جوانب:
أ-الجانب الول :يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع الشياء التي يومئ إليها أو يعبر عنها (المفاهيم –
العواطف -معطيات العالم الخارجي).
ب-الجانب الثاني :يتمثل في العلقات التي يقيمها المدلول مع غيره من المدلولت.
()1
ج-الجانب الثالث :يتمثل في العلقات التي تنشأ بين السمات الساسية التي تتكون منها المدلولت
فقد يكون للدال أكثر من مدلول يتحدد وفق السياق اللغوي ،ومن ثم قد يكون المعنى أساسيا أو ثانويا تصريحيا أو
إيمائيا ،وقد يحمل الدال قيما دللية تسمى القيم التعبيرية أو السلوبية يذهب بيار جيرو إلى التأكيد أن للكلمة أكثر من
معنى تصريحي وآخر إيمائي ،نظرا للتداعيات التي يمكن أن تحدثها أثناء الستعمال ،فأي كلمة قد تستدعي قيما
اجتماعية أو ثقافية أو حتى قيما انفعالية ،تعكس صورة قائلها وتحدد بعض ملمح الجانب النفسي فيه (.)2
وتوصل علماء الدللة في العصر الحديث ،إلى تصنيف للمدلولت بالعتماد على عدة طرق ،حددها الدكتور
موريس أبو ناضر منها.
-1الطريقة الشكلية :وهي تعني تصنيف المدلولت وفقا للشكل الذي يجمعها في بنية واحدة بتفرعها عن أصل
واحد يبرز القرابة بينها مثل :علم -يعلم -تعليم -معلم..
-2الطريقة السياقية :وتفيد أن المدلولت تصنف باعتبار المعنى الذي ترد من خلله في السياقات المختلفة.
-3الطريقة الموضعية :وهي تعني أن المدلول يتحدد من خلل الموضع والموقف الذي يكون فيهما المتكلم.
-4الحقول الدللية :وهي تكشف عن القرابة المعنوية بين المدلولت.
-5التحليل المؤلفاتي :وهو يفيد أن المدلول يعيّن انطلقا من مؤلفات الكلمة الساسية أو ما يطلق عليه باللكسيم
"مثل لكسيم" امرأة يحوي المؤلفات التالية :أنثى +بالغ +بشر(.)3
أما دراسة (المرجع) عند علماء الدللة فإنها لم تحسم ذلك الجدل الدائر حول تحديد الموجودات في عالم العيان،
بحيث أن المرجع الذي يحدّد في السياق اللغوي أو في الصيغة المعجمية ل يمكنه أن يحيل إلى الشيء المعين في
العالم الخارجي إحالة دقيقة ،ذلك أن الموجودات في العالم الخارجي ،تتميز بالتصنيف المتعدد والمتداخل حتى داخل
() انظر مقال :مدخل إل علم الدللة اللسن د .موريس أبو ناضر ،ملة الفكر العرب العاصر ،العدد ،19 -18السنة ،1982ص .34 1
() بيار جيو ،انظر علم الدللة ،ترجة د .منذر عياشي ص .63 -62 -61 2
() مقال :مدخل إل علم الدللة النسي .موريس أو ناضر :ملة الفكر العرب العاصر ،العدد ،18/19السنة ،1982ص .35 -34 3
- 42 -
الحقل الواحد الذي يضم موجودات متماثلة ،ذلك "أن التحديد المرجعي يقع في الخطأ اعتبار علقة :دال -مدلول
علقة تسمية (…) في حين يتعين علينا أول عند إقدامنا على وصف المدلول ،استنباط الصفات المشتركة التي تلزم
(المراجع) التي قد ينطبق عليها (دليل) ما فكوننا قد شاهدنا كرسيا واحدا ،ل يخبرنا بالخصائص (الفيزيائية والوظيفية)
اللصيقة بمجموعة ل متناهية من الشياء التي تكوّن جنس الكرسي"( )1وإلى الفكرة ذاتها يشير كولردج بقوله" :ول
يتضمن" معنى "اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها بل يشمل أيضا جميع الرتباطات التي تبعثها اللفظة في
أذهاننا"(.)2
ويبقى تحديد الشيء الخارجي في عالم الموجودات بكيفية ل تعيق عملية البلغ والتواصل ،من المسائل التي ما
زالت تشغل اهتمام علماء الدللة في العصر الحديث ،خاصة وأنهم توصلوا إلى تنظيم دللي في هذا المجال مفاده أن
معرفة شيء من الشياء ،ينبغي فيه اعتباره جميع مستلزمات هذا الشيء بحيث يتميز عن غيره ول يلتبس في تحديده
أو تعيينه.
أما المسألة الخرى في المبحث الدللي والتي كانت مدار الدارس اللغوي في التراث المعرفي إحدى أسس
الدرس اللساني الحديث ،فهي العلقة بين الدال والمدلول أهي عرفية اصطلحية أم اعتباطية ل تخضع لية معيارية
قسرية تخلو من العلل؟ وأثارت قضية اعتباطية الدليل اللساني أو عرفيته – منذ سوسير –كثيرا من الجدل ،وكان
دوسوسير أول من وضع نظرية لسانية تنم عن فهم عميق لطبيعة العلقة بين العلمة اللسانية ومدلولها ،حيث يقول
توليودومورو ( )tullio de mauroوهو يعاين هذه المسألة في كتاب سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة"" :إن
سوسير وجد في مبدأ اعتباطية العلمة اللساني ،ما كان يصبو إليه من أجل إرساء نظرية لسانية ،إضافة إلى أن
سوسير في سياق حديثه عن اعتباطية العلقة بين الدال والمدلول – في بدء إلقاء دروسه على تلميذه -لم ينته سوى
من الخطوة الولى في طريق الفهم العميق لمبدأ العتباطية .هذا يعني أن المفهوم العميق لهذا المبدأ عند سوسير ،ل
ينبغي تحديده انطلقا من الصفحتين 102-101من الكتاب لكن من قراءته كله"(.)3
إن العتباطية في القتران العرضي بين الدال والمدلول ،تعتبر الخلية الحيوية التي تشرف على عملية التوالد
الداخلي في اللغة ،إذ يتم استحداث تراكيب وصيغ لغوية جديدة في صلب اللغة وابتكار مدلولت لها ذلك أن اللفاظ
تمتلك من المرونة ما يمكنها من عبور المجالت الدللية باعتماد معيار النقل الدللي ،أو تغيير مجال الستعمال ،وإن
المدلولت تستطيع كذلك أن تجتاز سلسلة من الدلة مرتدية بعضها مكان البعض الخر ،وذلك إذا اعتمدت في سياقات
معينة يحددها الموقف المعين .يشرح ذلك الدكتور عبد السلم المسدي بقوله" :إن التوالد المستمر في رصيد اللغة سببه
سمة العرضية في حصول اللفاظ دوال على المعاني ،وبهذا يتسنى الجرم بطواعية اللفاظ على عبور المجالت
الدللية واحدا بعد آخر وبطواعية المدلولت على ارتداء اللفاظ بعضها مكان بعض ،كما تسنى البت -بحكم علقة
النسان باللغة وموقعه الفاعل منها – في أمر استحداث المركبات الدللية أصلً بابتكار المدلول الذي لم يكن ،ثم
صناعة دال له فيلتحمان ،ومن التحامهما يتكون مثلث دللي جديد"(.)4
ول تتوفر للغة هذه الحركية المتجددة في بنيتها ،إذا لم تخضع علقة الدال بالمدلول إلى (معيار) العتباطية الذي
() سال شاكر :ترجة ممد جبان ،مدخل إل علم الدللة ،ص .23يياتي. 1
() notes bio – graphiques et critiques de cours de hnguistique generale p. 343 3
- 43 -
ل يقيد دال بمدلوله ،وإنما يكسب اللغة مرونة وقدرة على تجديدها كلها بابتكار مكونات أخرى .وتعميق البحث اللغوي
في مسألة العلقة بين طرفي الفعل الدللي ،أدى إلى العتقاد بأن اتصال الدال بمدلوله لم يبن على(معيار) العتباطية
إنما الذي يوحي بوجود هذا المبدأ ،هو قدم العلة التي ربطت الدال بمدلوله ،حتى ليخال إلينا أنه ل وجود لعلة تجمع
بينهما .يوضح بيار جيرو ذلك بقوله" :إن كل الكلمات تحتوي على العلة في البداية وتحتفظ غالبيتها بها زمنا طويلً
إلى حد ما .وعلى هذا فإن العلة تكون إذن إحدى السمات الرئيسية للشارة اللسانية"(.)1
إن (معيار) العتباطية في العلقة الدللية المعتمد في النظام اللغوي ،تتحدد على أساسه العملية البلغية
والتواصلية ،ذلك أنه كلما تحققت العلقة العتباطية بكثافة في لغة الخطاب ،كلما بلغ النظام التواصلي مداه وانتهى
الجهاز البلغي إلى حده الوفى .ويدل ذلك على الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تتوفر عليها اللغة المبينة علقتها
الدللية على أساس القتران العرضي أو التعسفي ،يبيّن المسدي ذلك بقوله" :إن مقبولية العلقة بين الدال والمدلول في
كل نظام تواصلي على أساس القتران المنطقي ،تتناسب تناسبا عكسيا مع طاقة ذلك النظام المعتمد في البلغ(…)
فكلما ثقلت كثافة التعسف القتراني في أي نظام إخباري ،نزع نسقه الدللي إلى طاقته القصوى .فالشحنة العتباطية
في كل واقعة تواصلية هي المولد الدائم لسعة القدرة البلغية التي تلتئم فيها"(.)2
فالدللة تكون قابلة للتساع ،كلما كانت العلة مختفية غير معروفة ذلك أن الرتباط القسري الذي جمع الدال
بمدلوله ،كان في البدء عن طريق علة جوهرية هي التي أعطت لهذا الرتباط مرونته ،بحيث يحدث امتداد في المجال
الدللي للفظ" ،فيجب على العلة أن تختفي إذن لمصلحة المعنى أما إذا حدث العكس فإنها ستقلص المعنى وتهدمه" (.)3
هذه – مجملة -هي المباحث الدللية التي تناولت في مجالها الدراسي مسألة الدال والمدلول ،وما تفرع عنها من
مسائل أخرى ،أضحت مواد الدرس الدللي الحديث الذي اعتمد منهج التحليل والتفكيك لبنية النظام اللغوي ،وإظهار
مكوناته الساسية قصد بحثها ،وإيجاد العلئق التي تجمع بينها.
() بيار جيو علم الدللة – ترجة د .منذر عياشي ص .46 1
() بيار جيو علم الدللة – ترجة د .منذر عياشي ،ص 50 3
- 44 -
-5المعنى اليحائي :وهو ذلك النوع من المعنى الذي يتصل بالكلمات ذات القدرة على اليحاء نظرا لشفافيتها(.)4
وتقسيم المعنى في علم الدللة يخضع لمبدأ عام ملخصه أن القيمة الدللية للوحدة المعجمية ل يمكن اعتبارها
دللة قارة ،إنما يخضع تحديد تلك القيمة لمجموع استعمالت هذه الصيغة في السياقات المختلفة ،ولقد قسم العلماء
الدللت اعتمادا على معايير أخرى ترتكز على الدراك لطبيعة العلقة بين قطبي الفعل الدللي ،وهو ل يخرج عن
ثلث :اعتبار العرف ،أو اعتبار الطبيعة أو اعتبار العقل ،وعلى ذلك فالدللة إما عرفية أو طبيعية أو عقلية .وأخضع
علماء الدللة تصنيف الدللت بناء على أداء السياق للمعنى" ،فالكلم إما أن يساق ليدل على تمام معناه ،وإما أن
()2
يساق ليدل على بعض معناه ،وإما أن يساق ليدل على معنى آخر خارج عن معناه إل أنه لزم له عقل أو عرفا"
واستنادا إلى ذلك فالدللت ثلثة أصناف.
دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام ،وهذه الدللت الثلثة تندرج ضمن دللة عامة هي الدللة
الوضعية التي هي قسم من القسام الدللة اللفظية ،وبناء على ذلك فأقسام الدللة في العصر الحديث تتفرع إلى ستة
أصناف يمكن تمثيلها في الترسيمة التالية:
الدللة
() د.أحد متار عمر :علم الدللة ،ص .39 -38 -37 -36 4
() عبد الرحن حسن حبنكه اليدان ضوابط العرفة وأصول الستدلل والناظرة ص 27 2
() شرح مطالع النوار :التحتاطي ص .28نقلة عادل الفاخوري ف كتابه علم الدللة عند العرب ،ص .16 3
- 45 -
الدال بمدلوله ،ويمثل لتعريفها عادة بدللة الدخان على النار إذ يتم استحضار الدللة الغائبة بحقيقة حاضرة والذي
يربط بين المرين هو العقل وعلى هذا سميت الدللة المستحضرة بالدللة العقلية ،يحدد المسدي هذه الدللة وطرق
إدراكها بقوله" :وفيها (أي الدللة العقلية) يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن طريق المسالك
العقلية بمختلف أنواعها"( )1هذه المسالك المعتمد عليها في رصد الدللة المنطقية تتحدد في ثلثة:
-1مسلك البرهان القاطع :وهو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي ،فإذا سألت عن جنس الحاضرين فأجبت بأن
بعضهم ذكور عرفت أن بينهم إناث.
-2مسلك القرائن الراجحة :وهو الذي يفضي إلى تسليم ظني يأخذ في البدء بمعطيات هي في منزلة "العلمات
الدالة" وبواسطة القرائن المنطقية يستكشف "مدلول" تلك العلمات.
()2
-3مسلك الستدلل الرياضي :وهو يعني النتقال من المعلوم فرضا إلى المجهول تقديرا
أما الدللة الثالثة فهي الدللة الطبيعية ،التي يعتمد في إدراكها على علقة طبيعية يتم على أساسها النتقال من
الدال إلى المدلول ،يقول عادل الفاخوري في تعريفها" :هي الدللة ،يجد العقل بين الدال والمدلول علقة طبيعية ينتقل
لجلها منه إليه ،كدللة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل"(.)3
فالدللة الطبيعية – إذن -فيها ربط بين حقيقة ظاهرة وحقيقة غائبة يتم على أساسها اقتران الدال بمدلوله اقترانا
طبيعيا وهذا القتران الطبيعي "يتمثل في الرابطة التي تكوّن ما يقع عليه الحس النساني وبين تفسير النسان لهذا
المحسوس ،فأعراض المراض محسوسات يفسرها الطبيب تغيرات تربط بين كل منها وبين مرض معين" ( )4ويعزى
وجود هذا الرتباط بين الدال والمدلول إلى السنن الكونية التي تسير وفقها الطبيعة ،فالحدث الطبيعي إذا تكرر أمكن
للعقل المدرك أن يعقد بينه وبين الشيء الذي أحدثه ،وبناء على ذلك "فالدللة الطبيعية هي التي ليس بين الملزوم
واللزم فيها ارتباط عقلي ،إل أن النظام الذي وضعه ال في الطبيعة قد أوجد هذا الترابط فإذا سألنا العقل المجرد عن
ملحظة النظام الموجود في الطبيعة لم يجد تعليلً عقليا له غير أن الختيار المتكرر للحداث الطبيعية ،قد نبه على
وجود هذا الترابط في الواقع" (.)5
أما الدللة من حيث المفهوم فإنها تصنف كذلك إلى ثلثة أصناف –أشرنا إليها سابقا -هي التي تمثل القسام
الثلثة للدللة الوضعية اللفظية وهي :دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام "فدللة اللفظ على تمام معناه
الحقيقي والمجازي هي دللة المطابقة ودللة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي هي دللة التضمن ،ودللة
اللفظ على معنى آخر خارج عن معناه لزم له عقل أو عرفا هي دللة اللتزام ،واللفظ الدال يحمل مقومات تمثل
مؤلفاته التمييزية فلكسيم "إنسان" يحمل المقومات التمييزية التالية" :الجسم الحي ،الحساس ،الناطق" .وعليه تكون دللة
المطابقة ،دللة اللفظ الكلّي على مجموع هذه المقومات التي تؤلف الذات أو الكنه ،وتكون دللة التضمن دللته على
ل أوبعض هذه المقومات ل كلّها .فهكذا كلمة "إنسان" تدل بالمطابقة على الحيوان الناطق ،وبالتضمن على الجسم مث ً
() د .تام حسان -الصول -دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب ،ص .319 4
() عبد الرحن حسن حبنكة اليدان ،ضوابط العرفة وأصول الناظرة والستدلل ،ص 26 5
- 46 -
على الناطق أو على الجسم الحي"( )1أما دللة اللتزام فإنها تكون خارج اللكسيم ذاته بشيء يلزمه ،وعلى ذلك" فدللة
اللتزام تكون دللة جزء على الجزء المجاور له ضمن مجموعة مرتبة من الجزاء كدللة الحاجب على العين"(.)2
وبما أن العلقة بين الدال والمدلول تخضع أساسا لفعل الدراك لطبيعة هذه العلقة ،وبناء على ذلك تتحدد
النساق الدللية ،فإن للسياق اللغوي إضافات نوعية على مستوى تحديد الصناف الدللية ،فتتميز بذلك الدللة العامة
من الدللة الخاصة ،والدللة الظاهرة من الدللة الخفية اللتان يتحكم فيهما التصريف المزدوج لستعمال اللغة وهو ما
يمكن أن يدرج تحت ما يسمى بالدللة الصلية والدللة المحولة ،فالتراكيب السياقية هي التي تشرف أساسا على
تحديد الدللة المعينة للصيغة "فإذا استطاع اسم من السماء أن تكون له معان عديدة فيجب أن نعلم أنها معان محتملة
وأن أحد هذه المعاني يتحدد ضمن سياق معين"( )3إن الدللة السياقية ،تشير إلى ذلك الترابط العضوي بين عناصر
الجملة وهو ما يشكل بنية اللغة ،بل إن مفهوم الدللة السياقية يتسع ليشمل مجموع الجمل التي تكون النص يوضح
ستيفن أولمان ذلك قائلً" :إن السياق ،ينبغي أن يشمل – ل الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والملحقة –فحسب -بل
والقطعة كلها والكتاب كله – كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف وملبسات"(.)4
إن الجملة التي تؤدي قيما دللية ،يفترض أن تكون ذات وحدة بنيوية ووظائفية ،وهو ما يكرّس مبدأ التركيب
السياقي ودوره الدائي ،وقد تستقل الجملة بدللتها داخل النسيج الدللي للخطاب وهذا ل يعني نفي أية صلة بينها وبين
السياق العام للنص بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي للجمل الخرى داخل النص الواحد .يبيّن عبد السلم
المسدي ذلك بقوله" :إن استقلل التركيب ل يعزل وجود ارتباط معنوي ،فالنص بأكمله مجال دللي واحد ،والجمل
من النص تقوم على تسلسل معنوي عام بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدللي"(.)5
وإضافة إلى الدللة السياقية ،يشير الدرس الدللي الحديث إلى دللة أخرى تتحدد وفق موقع الصيغة من السياق،
ووفق تركيب عناصر الجملة وترتيبها ،وهو ما اصطلح على تسميتها بالدللة الموقعية ،فقد تتكون الجملتان من نفس
الوحدات لكن ترتيبها في كل جملة يختلف فتتميز الدللة تبعا لذلك ،إن السياق اللغوي قد يحيل إلى دللت مختلفة
تتحدد بضوابط خاصة من ذلك المعاني الحافة الجتماعية والفردية ،وهي عبارة عن قيم عاطفية إضافية تسمى القيم
التعبيرية أو السلوبية والتي أضحت من مباحث علم السلوب الذي يهدف إلى الجابة على التساؤل التالي" :ما الذي
يجعل الخطاب الدبي الفني مزدوج الوظيفة والغاية يؤدي ما يؤديه الكلم عادة وهو إبلغ الرسالة الدللية ،ويسلط مع
ذلك على المتقبل تأثيرا ضاغطا به ينفعل للرسالة المبلغة انفعالً ما" (.)6
وشبيهة بالقيم السلوبية ،تلك الدللة التي أطلق عليها مصطلح الدللة النحوية وهي تجمع بين المعنى الموقعي
والمعنى فوق الدللي أو التعبيري ،فالكلمة في سياق الجملة وفي موقع إعرابي معين تشير إلى دللة معينة .يشرح
ذلك فايز الداية بقوله" :وأما الضافة الثانية فهي الدللة النحوية أي أن الكلمة تكتسب تحديدا وتبرز جزءا من الحياة
الجتماعية والفكرية ،عندما تحل في موقع نحوي معين في التركيب السنادي وعلقاته الوظيفية :الفاعلية ،المفعولية،
() عادل الفاخوري علم الدللة عند الغرب – دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة –ص 43 1
() بيار جيو علم الدللة ،ترجة د .منذر عياشي ،ص 56 3
() ترجة دور الكلمة ف اللغة ستيفن أولان د .كمال ممد بشر ،ص 62 4
() الدكتور عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية :ص 153 5
() د.ميي الدين صبحي ،نظرية النقد العرب وتطورها إل عصرنا ،ص 194 6
- 47 -
النعتية ،الضافة ،التمييز ،الطرفية ،فمثلً" :خاطبت الطحان في شأن تحسين عمله وزيادة مقدار إنتاجه فكلمة "طحان"
في موقع المفعول به تبرز في جهة من العلقة الجتماعية هي موقع المحاسبة والمسؤولية وهناك من يحاسبها أو
يسألها"(.)1
هذه هي مختلف البحاث الدللية التي دارت حول محور دراسة طرفي الدللة -الدال والمدلول -تناولت طبيعة
كل منهما كما عاينت العلئق المختلفة التي تنشأ من اتحاد الدال بمدلوله والتي أنتجت أقساما وأنواعا للدللة.
() فايز الداية علم الدللة العرب -النظرية والتطبيق -ص .21 1
() دور الكلمة ف اللغة :ترجة كمال ممد بشر ،ص .157 4
- 48 -
-1العامل الجتماعي الثقافي:
حيث يتم النتقال من الدللة الحسية إلى الدللة التجريدية ،نتيجة لرقي العقل النساني ويكون ذلك تدريجيا ،ثم قد
تندثر الدللة الحسية فاسحة مجالها للدللة التجريدية ،وقد تظل مستعملة جنبا إلى جنب مع الدللة التجريدية لفترة من
الزمن( )1فالنمو اللغوي لدى النسان الول ،عرف في بداية تسمية العالم الخارجي الدللة الحسية فحسب ،ومع تطور
العقل النساني إنزوت تلك الدللت الحسية وحلت محلها الدللت التجريدية.
وقد يحدث أن تضيق الدللة بعد أن كانت متسعة أو عامة ،ويمكن تمثل ذلك في الدللت التي كانت مستعملة
قبل السلم مثل الصلة والزكاة والحج ،ثم بعد السلم مالت دللت هذه الصيغ اللغوية نحو التخصيص وهذه سنن
لغوية تنسحب على كل عناصر النظام اللغوي ،وقد تتسع الدللة بعد أن كانت ضيقة مثال ذلك يذكر اللغويون ألفاظا
مثل" :الدلو ،و"القصعة" و"السفينة" وغيرها إذ كانت تدل هذه الكلمات على أشياء مصنوعة من مادة الخشب أو الطين
ولكن رغم التغير الذي حصل في شكل ومادة هذه الشياء في العصر الحديث ،إل أن هذه اللفاظ ما زالت دللتها
القديمة تشملها ضمن مجالها الدللي.
-2العامل النفسي:
قد تعدل اللغة بإشراف المجتمع عن استعمال بعض الكلمات لما لها من دللت مكروهة ،أو يمجها الذوق
النساني وهو ما يعرف باللمساس ،ويخضع ذلك لثقافة المجتمع ونمط تفكيره وحسه التربوي ،فيلجأ المجتمع اللغوي
إلى تغيير ذلك اللفظ ذي الدللة المكروهة والممجوجة بلفظ آخر ذي دللة يستحسنها الذوق ،فكأن اللمساس يؤدي إلى
تحايل في التعبير أو ما يسمى بالتلطف ،وهو في حقيقته إبدال الكلمة الحادة بالكلمة القل حدة ،وهذا النزوع نحو
التماس التلطف في استعمال الدللت اللغوية هو السبب في تغير المعنى(.)2
-3العامل اللغوي:
قد يحدث في صلب اللغة فجوات معجمية ل تجد معها اللفظ الذي يعبر عن الدللة الجديدة فيلجأ اللغويون إلى
سدها عن طريق القتراض اللغوي أو الشتقاق ،وقد يتجه المجتمع اللغوي نحو المجاز فيتم ابتداع دللة جديدة أو
يحصل نقل لدللة من حقل دللي إلى آخر ،وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة العربية كقولنا :أسنان المشط فدللة "السنان"
تم نقلها من مجال دللي يخص الكائن الحي بوجه عام إلى مجال آخر يبدو بعيدا ويخص "المشط" ومثل ذلك قولنا:
"أرجل الكرسي" و"ظهر السيف" و"كبد السماء" وغيرها من التراكيب اللغوية .إن الكلمة قد تقترض معنى جديدا ضمن
الخطاب اللغوي فنصبح ذات دللة إضافية متداولة مع مجموع المتخاطبين يشرح ذلك بيارجيرو بقوله" :إني ل أرى
بأسا من التكرار فأقول مجددا إني أعتقد –مع سوسير -بضرورة وجود مفهومين للقيمة البنيوية والمضمون الدللي،
ول تنفي هاتان القيمتان بعضها بعضا بل تتكاملن ،فالكلمة من جهة أولى منفتحة على إمكانات من العلقة تعدها بنية
النظام اللساني ،ولكن من جهة أخرى كلما تحققت العلقات الفتراضية ضمن الخطاب وعرفها المتكلمون ،نجد أن أثر
المعنى الناتج عنها يتخزن في الذاكرة وانطلقا من هذه اللحظة يتعلق المعنى بالشارة ويعطيها مضمونا(.)3
- 49 -
هذه السباب تعد أهم العوامل التي تتحكم في التطور الدللي أو تغيّر المعنى وقد عقد إبراهيم أنيس فصلً في
كتابه "دللة اللفاظ" وضح فيه أسباب تغيّر المعنى ومظاهره ،والتي شبهها بمظاهر وأعراض المرض وحصرها في
خمس مظاهر هي :تخصيص الدللة ،تعميم الدللة ،انحطاط الدللة ،رقي الدللة ،وتغيير مجال الستعمال
(المجاز)(.)1
وتخصيص الدللة ،يعني تحويل الدللة من المعنى الكلي ،إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجال استعمالها ،أما
تعميم الدللة فمعناها أن يصبح عدد ما تشير إليه الكلمة أكثر من السابق ،أو يصبح مجال استعمالها أوسع من قبل .أما
رقي الدللة وانحطاطها فيدرجه علماء الدللة تحت مصطلح "نقل المعنى" إذ قد تتردد الكلمة بين الرقي والنحطاط في
سلم الستعمال الجتماعي ،بل قد تصعد الكلمة الواحدة إلى القمة وتهبط إلى الحضيض في وقت قصير ،فكانت دللة
طول اليد كناية عن السخاء والكرم وهي قيمة عليا لكنها أضحت وصفا للسارق إذ يقال له :هو طويل اليد ،أما تغيير
مجال الستعمال بنقل الدللة من مجالها الحقيقي إلى مجال المجاز فيمثلون لها بكلمة "رسول" التي كانت تطلق على
الشخص الذي يرسل لداء مهمة ما.
فحوّل مجال استعمالها الدللي فأضحت تطلق على شخص "النبي" بحيث تتبادر إلى الذهن كلما استعملت ضمن
الخطاب اللغوي العادي(.)2
هذه التبدلت التي تحدثت في صلب النظام اللغوي هي من التعقيد والبطء بحيث ل يمكن رصد ذلك إل بوعي
علمي ،متمكن صاحبه من أدوات رصد التطور أو التغير الدللي ،ثم إن اللغة ما دامت تخضع علقتها الدللية لمعيار
العتباطية ،فإنها تتطور وتتغير وتنزع نحو احتواء التغيرات الجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمع اللغوي ،فما
اللغة إل انعكاس للمجتمع بكل مكوناته وعناصره وإن المجتمع يؤثر في اللغة سلبا وإيجابا وعلى ذلك فمسألة التطور
أو التغير الدللي تأخذ في مجالها كل هذه العتبارات الجتماعية والفكرية واللغوية والنفسية التي تخص المجتمع
اللغوي.
()د .أحد متار عمر ،انظر علم الدللة ،ص .248 -245 -243 2
- 50 -
كثر دورانها على اللسن بدأت مفهوماتها المحددة تتسع وقد تنحرف إلى مدلولت مغايرة من بعض الوجوه لمدلولها
القديم"( )1إن صورة الدللة الجديدة ،تحمل سمات الدللة القديمة بحكم أنها كانت دللة أصلية حلت مكانها الدللة
المجازية التي قد تنزاح أمام حكم الستعمال اللغوي لتنقل إلى مجال دللي آخر ،وقد تعود تلك الدللة الصلية القديمة
إلى مكانها الول يقول السيد أحمد خليل في سياق حديثه عن هذا التداخل بين الحقيقة والمجاز" :وحتى ذلك اللفظ
المجاز ل يظل مجازا على طول الزمن وإنما يعرض له أن يكون حقيقة متعارفا عليها في بيئة من البيئات أو لهجة
من اللهجات ،ومتى استقر في البيئة مدلوله وتحدد معناه إلى ما كان عليه أولً من تسميته بالحقيقة مقيدة بعرف هذه
البيئة وتواضعها"(.)2
تملك اللغة –إذن القدرة على وضع أنظمة إبلغية جديدة داخل النظام اللغوي العام ،وذلك بوصفها نظاما من
العلئق الدللية وتبقى الصلة – مع ذلك -قائمة بين مختلف أنظمتها اللغوية ،فدللة المجاز ل يمكن أن نتصورها على
أنها دللة جديدة تنفصم كليا عن الدللة الصلية ،وإنما يبقى المجال الدللي للفظ المجاز يحتفظ بخيط -مهما دقّ-
يربطه بالمجال الدللي للفظ الحقيقي "فكل التحولت داخل نظام اللغة تبقى معقودة بنمط تواصلي يفسر ما إذا كان
المجاز يراد به المستعار بعد أن تجوز عن وضعه أم يراد به ما يقتضي الحقيقة"(.)3
إن العلقة التي تربط الدللة الحقيقية بالدللة المجازية ،ل تخرج عن تلك النساق الدللية العامة التي تربط الدال
ل (وهو الدللة الحقيقية) يقود إلى مدلولبمدلوله ،فالبحث في دللة المجاز هو بحث في معنى المعنى .إذ أن مدلولً أو ً
ثان (وهو الدللة المجازية) والنساق الدللية التي حددها علماء الدللة ثلثة :دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة
اللتزام .ويمكن أن نلمس هذه الصناف من الدللت في المجاز بأنواعه وهو يشمل كل لفظ أو تركيب حوّل عن
معناه الصلي وبقيت تربطه معه علقات تحدد عن طريق قرائن ذكرها علماء البيان والبلغة ،فالمعنى الذي تفيده
"الكناية" كصورة بيانية يمكن أن يؤخذ بدللته الصلية أو دللته المجازية فالمدلول الول الصلي مقصود مع المدلول
الثاني المجازي ،فالدللة بناء على ذلك دللة مطابقة ،فالكناية في عرف البلغيين هي استعمال اللفظ والتركيب
ل مع إمكان إيراد المعنى الحقيقي.
اللغوي في غير ما وضعا له أص ً
أما دللة المجاز ،ذي العلقة الجزئية حيث يذكر المعنى الجزئي ويراد به المعنى الكلي ،فهو يعبر عن دللة
التضمن الذي يكون فيها المدلول الول وهو الدللة الصلية المذكورة في السياق – محتوى ومتضمن في المدلول
الثاني -وهو الدللة المجازية المرادة من السياق مثال ذلك قوله تعالى" :والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما
قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به ،وال بما تعملون خبير"( )4فاستعمل لفظ "رقبة" وأريد به "العبد
الذي يعيش الرق" والرقبة هي جزء من الجسم وعلى ذلك فدللتها متضمنة في دللة الجسم .وإذا كان المجاز ذا علقة
كلية بحيث يعبر بالكل ويراد به الجزء فهو إشارة كذلك إلى دللة التضمن ولكن في اتجاه عكسي ذلك أن المدلول
الثاني –الدللة المجازية المرادة -تكون محتواة ومتضمنة في المدلول الول – الدللة الحقيقية المذكورة.
وإذا كان بين الدللة الصلية والدللة المجازية علقة تشابه وهي ما تفيده "الستعارة" ،إذ تشير هذه الصورة
البيانية إلى اشتراك في صفة أو أكثر بين مدلول أول ومدلول ثان ،فعلقة المدلول الول بالصفة أو الصفات التي
() د .عز الدين إساعيل ،السس المالية ف النقد العرب ،ص 378 1
() د .عبد السلم السدي ،اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .97 3
- 51 -
تجمعه بالمدلول الثاني هي علقة تضمن .أما علقة الصفة ذاتها أو الصفات بالمدلول الثاني فهي علقة التزام ومثال
ذلك قولنا" :رأيت أسدا في المعركة "فعلقة السد" "بالشجاعة" -وهي الدللة المرادة -هي علقة تضمن من جهة،
وهي علقة إلتزام من جهة أخرى إذ اعتبرت الشجاعة أحد المقومات الساسية "للسد" أما علقة "الشجاعة بالرجل
المشبه بالسد فهي علقة التزام أيضا باعتبار "الشجاعة" ليست صفة ثابتة في الرجل ومقوم أساسي له إنما هي صفة
عرضية .يشرح عادل الفاخوري علقة الدللة المجازية بالدللة الحقيقة بمنهج نظري فيقول" :بما أن مدلول اللفاظ
عامة يؤلف مجموعة من الصفات من حيث المفهوم أو مجموعة من الجزاء من جهة كونه أمرا خارجيا ،كان من
البديهي لتعيين العلقة بين المدلول الصلي والمدلول المجازي أن ينطلق علم البيان من النسب القائمة بين أية
مجموعتين من الصفات أو من الجزاء"(.)1
إن المجاز يعد مبحثا خصبا لعلم الدللة ،إذ فيه تتجلى مرونة النظام اللغوي وانفتاحه على كل تغير للمعنى ،وهو
يؤكد من جانب آخر على مطاوعة اللغة لساليب التعبير التي يفرضها الموقف ويتم في صلب النظام اللغوي استحداث
أنظمة إبلغية جديدة تحافظ على نقل الرسالة البلغية ،وهي غاية ما يرمي إليه أي نظام لغوي.
() علم الدللة عند العرب -دراسة مقارنة مع السيمياء الديثة – ص .53 1
- 52 -
هـ-وضع حقول دللية بناء على علقة الترادف :يتحقق الترادف حين يوجد تضمن من الجانبين يكون (أ)
و(ب) مترادفين إذا كان (أ) يتضمن (ب) ،و(ب) يتضمن (أ) كما في كلمة "أم" و"والدة(.)1
و-وضع حقول دللية بناء على علقة الشتمال :تختلف هذه العلقة عن علقة الترادف في أنه تضمن من
طرف واحد يكون (أ) مشتملً على (ب) حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي (
)Taxonomicمثل "فرس" الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى "حيوان" وعلى هذا فمعنى "فرس" يتضمن معنى
()2
"حيوان"
()3
فالحقول الدللية بنا ًء على ذلك هي –مجموعة من الكلمات ترتبط دللتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها"
وانتهى علم الدللة إلى تصنيف للحقول الدللية باعتبار ما تتضمن من الدلة اللغوية ،وما تحيله عليه في عالم
العيان والذهان ،وهو ل يخرج عن جنسين من المدلولت :مدلولت محسوسة ومدلولت تجريدية.
والمدلولت المحسوسة تتفرع إلى قسمين :محسوسات متصلة ومحسوسات منفصلة وبنا ًء على ذلك توصل
أولمان إلى تقسيم الحقول الدللية إلى أنواع ثلثة هي:
-1الحقول المحسوسة المتصلة مثل التي تشتمل على اللوان.
-2الحقول المحسوسة المنفصلة مثل التي تشتمل على الُسر
-3الحقول التجريدية وهي تضم عالم الفكار المجردة(.)4
إن نظرية الحقول الدللية ،قد أسهمت بشكل بارز في إيجاد حلول لمشكلت لغوية كانت تعتبر إلى زمن قريب-
مستعصية ،وتتسم بالتعقيد ومن جملة تلك الحلول الكشف عن الفجوات المعجمية التي توجد داخل الحقل الدللي،
وتسمى هذه بالفجوة الوظيفية أي عدم وجود الكلمات المناسبة لشرح فكرة معينة أو التعبير عن شيء ما ،كذلك إيجاد
التقابلت وأوجه الشبه والختلف بين الدلة اللغوية داخل الحقل الدللي الواحد ،وعلقتها باللفظ العم الذي يجمعها
ويمكن بناء على ذلك إيجاد تقارب بين عدة حقول معجمية .كما تتمثل أهمية الحقول الدللية في تجميع المفردات
اللغوية بحسب السمات التمييزية لكل صيغة لغوية ،مما يرفع ذلك اللبس الذي كان يعيق المتكلم أو الكاتب في استعمال
المفردات التي تبدو مترادفة أو متقاربة في المعنى ،وتوفر له معجما من اللفاظ الدقيقة الدللة التي تقوم بالدور
الساسي في أداء الرسالة البلغية أحسن الداء(.)5
هذه التفريعات التي بحثها العلماء ،تعتبر أسس الدراسة في مبحث الحقول الدللية الذي برز في شكله الولي في
صورة المعاجم اللغوية التي صنفت الشياء الموجودة في عالم العيان ،ونتيجة لتقدم العلوم وتشعب المعارف ،احتاج
النسان إلى تصنيف علمي جديد يؤطر معارفه ويمنع عنه اللبس المصاحب لستعمال اللغة التي هي أداة المعرفة
() سال شاكر ،انظر مدخل إل علم الدللة ،ترجة ممد يياتي ص .44 3
() د .أحد متار عمر ،انظر ف ذلك علم الدلة ،ص 112 -111 -110 5
- 53 -
والعلم ،فتوصل إلى وضع معاجم لغوية جامعة ومصنفة لمفردات اللغة بشكل دقيق ،اصطلح على تسميتها –نظرا
لسيادة النظرة الطبيعية العلمية في ذلك العصر -بالحقول الدللية.
الخلصة:
هذه المباحث التي أجملناها ،تمثل مجال الدراسة الدللية التي تهتم بالمعنى وما يتعلق به ،فهي تتناوله في صيغته
الفرادية كما تتناوله في صيغته التركيبية .وأوّل ما بحث الدرس الدللي ،مسألة اللغة باعتبارها نظام من الرموز
اللغوية ،فتناولها –في البدء -من الجانب التاريخي كما تناولها القدمون من العلماء ،وبقيت النتائج التي أحرزها
العلماء في هذا المجال مجرد افتراضات تفتقد إلى الدقة العلمية لنها تكشف عن عالم للغة ل تتوفر حوله معطيات
كثيرة إنما هو أشبه بالبحث في مسألة ميتافزقية ،ولذلك تعددت النظريات حول نشأة اللغة وإن كانت تعود إلى أحد
التجاهين التاليين:
-اتجاه يقول بعرفية اللغة ومواضعة الناس حول تسمية عالم الشياء .
-اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية في النسان.
وداخل كل اتجاه ،توجد آراء مختلفة ومتباينة مما حدا ببعض الهيئات العلمية إلى منع إلقاء محاضرات ،أو إجراء
بحوث تخص النشأة التاريخية للغة.
وتناول البحث الدللي والنسني بصفة عامة جوهر العملية الدللية باعتبارها أساس التواصل والبلغ ،وبما أن
موضوع علم الدللة المعنى ،فإنه كان لزاما على الباحثين الدلليين أن يتناولوا طبيعة الدال ،كما تناولوا طبيعة
المدلول .ولقد أطلق سوسير -اختصارا -على الدال والمدلول باعتبارهما وجهين لعملة واحدة مصطلح الدليل اللساني،
وفي مجال هذا التناول الدللي اهتم علماء الدللة بالعلقة التي تربط طرفي العملية الدللية -الدال والمدلول –
وبرزت على أساس ذلك ،نظريات أرادت تأسيس رؤية موحدة تُظهر من خللها القوانين اللغوية التي تنتظم الدليل
اللساني ،فظهر في هذا المجال مبحث العلقات الدللية والتي قسمها العلماء إلى ثلثة أقسام رئيسية هي :العلقة
الوضعية ،والعلقة الطبيعية ،والعلقة العقلية.
إن دراسة طبيعة المدلول ،أوحى للعلماء تقسيما آخر للدللة بالعتماد على معايير معينة فإذا كان الدال في
صيغته الفرادية فالدللة –إذن -دللة معجمية وسماها علماء الدللة المعنى المركزي أو التصوري أو المفهومي أو
الدراكي ،أما إذا كان الدال في صيغته التركيبية فالدللة سياقية ،وقد أكد كثير من علماء الدللة أن معنى الكلمة هو
حصيلة مجموع استعمالتها في السياقات اللغوية ،وعلى هذا الساس فتكون الدللة موحية لمعان نفسية أو اجتماعية،
أو ثقافية ،وقد يفيد السياق معانيا فوق دللية اصطلح على تسميتها بالقيم تمييزا لها عن الدللة وهي القيم السلوبية أو
التعبيرية ،وقد اعتمدت معايير أخرى في تقسيم الدللة على أساس المفهوم من جهة ،وعلى أساس المجزوء من جهة
أخرى ،وبناء على ذلك ،فالدللة تتوزع إلى ثلثة أقسام :دللة مطابقة ودللة تضمن ودللة التزام.
ودرس علم الدللة في جملة مباحثه ،مسألة التطور الدللي وهو مبحث اتخذ المنهج التاريخي الوصفي أسلوبا في
الدراسة والتحليل ،يتتبع الصيغة في مراحلها المختلفة دارسا تغيرها الدللي واقفا في هذا المجال على أسباب هذا
التغير وأشكاله وانحصرت هذه العوامل في :العامل الجتماعي الثقافي ،العامل اللغوي ،والعامل النفسي كما بين
الدرس الدللي الحديث ،مظاهر هذا التغير في المعنى منها :التخصيص والتعميم ،وانحطاط ورقي المعنى ،وتغير
- 54 -
مجال الستعمال وهو ما يسمى بمبحث المجاز الذي يعد مبحثا خاصا من مباحث علم الدللة ،وذلك لعتماده في
التخاطب والتواصل اللغوي ،فالتعبير اللغوي إما أن يكون ذا دللة أصلية أو دللة مجازية ،وعلى هذا الساس فدرس
المجاز والحقيقة تنتظم فيه معظم مباحث علم الدللة ،ففيه تبرز طبيعة العلقة بين الدال والمدلول ،وانتقال المدلول
لن يكون دالً لمدلول آخر وبناء على ذلك فمبحث المجاز هو دراسة لمعنى المعنى ،ويمكن أن نلمس في هذا المبحث
مختلف النساق الدللية من دللة المطابقة والتضمن واللتزام ،ومن الدللة العرفية والطبيعية والعقلية ،كما يتناول
درس المجاز مسألة التطور الدللي باعتبار أن وظيفة المجاز تتمثل في توسيع المعنى أو تضييقه ،أو نقله من مجال
دللي إلى مجال دللي آخر.
وتمثل نظرية الحقول الدللية "الطريقة الكثر حداثة في علم الدللة فهي ل تسعى إلى تحديد البنية الداخلية
لمدلول المونمات [الكلمات] فحسب ،وإنما إلى الكشف عن بنية أخرى تسمح لنا بالتأكيد أن هناك قرابة دللية بين
مدلولت عدد معين من المونمات .)1(،فتصنيف المدلولت إلى قوائم تشكل كل قائمة حقلً دلليا يتيح استعمال أمثل
لمفردات اللغة ،وفي سبيل ذلك اتخذت معايير معينة منها استنباط العلقات الساسية بين الدلة اللغوية ،فقد تكون هذه
العلقة مبنية على أساس التضاد أو التقابل ،أو على أساس التماثل أو الترادف أو على أساس التدرج أو التعاقب ،أو
غير ذلك من العلقات التي يتشكل على أساسها الحقل الدللي وميّز علماء الدللة بين ثلثة أنواع من الحقول الدللية.
الحقول الدللية المحسوسة المنفصلة ،والحقول الدللية المحسوسة المتصلة ،والحقول الدللية التجريدية.
وجملة القول ،فإن هذه المباحث –مجتمعة -تشكل مادة لعلم الدللة ،ومن أجل تأسيس نظرة علمية شاملة تؤطر
هذه المادة ،وضع علماء الدللة نظريات مختلفة تباينت نظرتها إلى المعنى لتباين المناهج المعتمدة في البحث
والدراسة ،إذ تأثرت هذه النظريات بالمنحى العلمي والعقلي السائد في العصر ،فأخذ بعضها بالمنهج النفسي السلوكي
في تفسير الظاهرة الدللية وأخذ البعض الخر بالمنهج العقلي التصوري ،كما انبنت نظريات أخرى على أسس فكرية
وفلسفية مختلفة.
والفصل التالي فيه عرض لمختلف هذه النظريات التي تناولت مسألة الدللة من جوانبها المتعددة ،إذ سنبرز فيه
أهم النظريات الوربية من جهة والنظريات المريكية من جهة أخرى .وسنرسم السس العامة التي ارتكزت عليها
هذه النظريات بما فيها المنهج العلمي المعتمد في التحليل والدراسة الدللية.
() د .موريس أبو ناصر .مدخل إل علم الدللة اللسن ،ص .35ملة الفكر العرب العاصر العدد 18/19السنة .1982 1
- 55 -
الفصل الثالث:
النظريات الدللية الحديثة
توطئة:
إن النزوع نحو تأسيس نظري للمبحث الدللي العام ،كان ول يزال دأب الدراسات التي تناولت مسألة ”المعنى"،
ورمت إلى بلورة أفكارها ضمن رؤى تنظيرية تتوخى الشمولية في الدراسة والعالمية في الهداف .وإن التراكم
الفكري اللغوي منذ مدرسة "براغ" التي ركزت اهتمامها على الصوت والدللة ،ومدرسة "كوبنهاجن" التي اهتمت
بدراسة العلمة اللغوية ،قد رسم للغويين المحدثين اتجاها يكاد يكون واضحا نحو إرساء علمي لنظرية الدللة ،ول
يمكن في هذا الوضع إغفال الجهد المضني الذي قدمه العالم اللغوي دي سوسير ،إذ كانت لفكاره وآرائه ومنهجه في
الدراسة اللسنية ،أكبر الثر في مسار علم الدللة الحديث.
إن مصطلح "النظرية اللغوية" يدل على اكتمال في الرؤية وحصول النتيجة العلمية ،غاية البحث وإطراد في
السنن اللغوية ،لكن المبحث الدللي الحديث لم تكتمل حلقاته بعد ،فل زالت توجد الضافات العلمية التي تقدم تأويلت
جديدة لظاهرة لغوية تخص الدللة ،ومع ذلك تأسست نظريات تناولت مسألة "المعنى" من كل جوانبها ،مما أدّى إلى
تشعب البحث في متعلقات المعنى اللغوية وغير اللغوية ،وحاولت تقديم معايير موضوعية تنحسم معها كل قضايا
الدللة موضوع الخلف بين اللغويين ،غير أنها فتحت عوالم أخرى جديدة لتتسع معها رقعة البحث الذي تباينت فيه
آراء العلماء في التناول وطرائقه ،والتأويل ومعاييره ،ووجدت بين ذلك أفكار رغم أهميتها إل أنها لم ترتق إلى
مصاف النظرية العلمية ،وذلك لفتقارها لصفة الشمولية في التناول ووقوعها أسيرة لمناخ فكري –أيديولوجي -ساد
العصر.
الختلف في الرؤية التنظيرية بين العلماء يرجع إلى اختلف في المنهج أو الطريقة المعتمدة في الدراسة ،وإذا
تأملنا مختلف النظريات الغربية الحديثة التي عكفت على البحث في الدللة ،نلقى أغلبها يتوزع على خمسة حقول
تخضع لخمسة مناهج تبناها اللغويون في التنظير :أما المنهج الول فهو المنهج الشكلي الصوري الذي يصف
المدلولت بالنظر إلى الشكل الذي يجمعها في بنية واحدة وهو تفرعها عن أصل واحد .أما المنهج الثاني فهو المنهج
السياقي الذي يتم من خلله تصنيف المدلولت لعتبارات تركيبة وتعبيرية وأسلوبية .أما المنهج الموضوعي المقامي
النفسي فهو المنهج الثالث الذي يحدد معه مدلول اللفظ والخطاب اللغوي ،باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه ،أما
المنهج الرابع فهو منهج الحقول الدللية المهتم بتحديد البنية الداخلية للمدلول ،واعتبار القرابة الدللية والعلئقية بين
المدلولت (المفاهيم) ،أما المنهج الخامس فهو منهج التحليل المؤلفاتي الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل
اللفظ إلى مؤلفاته وعناصره.
- 56 -
وتجدر الشارة إلى أن النظريات العربية في أي حقل من حقول العلم والمعرفة ،ومنها حقل الدراسة الدللية ،لها
مرجعيتها التاريخية والفكرية ،وتخضع لتصورات اجتماعية معينة ل يمكن اسقاطها من أي مقاربة علمية ،وهو ما
حدا ببعض علماء العرب المحدثين إلى الدعوة لضرورة تجديد التراث من داخله دون إغفال "المفاتيح" العلمية الحديثة،
ول بد معها من احتياطات منهجية على النتائج التي نصل إليها .ومع ذلك ل يثنينا شيء عن إجراء اسقاطات منهجية
ونظرية واعية على المنظومة المعرفية التراثية ،وكون النظريات الغربية استمدت معالم قواعدها وتطبيقاتها من لغات
أجنبية غير اللغة العربية ،ل يعد مانعا من الستفادة من أفكارها في تعاملنا مع التراث العربي ،ذلك أن "اللغة العربية
بصفتها "لغة" تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبة
والدللية) وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(.)1
وتحديدا للطار النظري العام لعلم الدللة ،سنعرض لبعض النظريات التي قدمت معايير أولية لمسألة المعنى وما
تفرع عنها وسنقتصر في عرضنا على أهم معالم النظرية وقواعدها وذلك بما يخدم غايات البحث وأهدافه.
-1النظرية الشارية:
تشكل هذه النظرية في مسار علم الدللة الحديث أولى مراحل النظر العلمي في نظام اللغة ،بل إلى أصحابها
يرجع الفضل في تمييز أركان المعنى وعناصره ،معتمدين في ذلك على النتائج التي توصل إليها فردينالد دي سوسير
في أبحاثه اللسانية التي خص بها الشارة اللغوية باعتبارها "الوحدة اللغوية المتكونة من دال ومدلول ،الدال هو
الدراك النفساني للكلمة الصوتية والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الفكار التي تقترن بالدال"( . )2ورغم أن أصحاب
هذه النظرية ل يكادون يجمعون على رأي واحد فإن أغلبهم أطلق على هذه النظرية مصطلح "النظرية السمية في
المعنى ( )theory of meanings namingالتي تنظر إلى الدللة على أنها هي مسماها ذاته.
إن الذي منح لهذه النظرية الصبغة العلمية هما العالمان النجليزيان أوجدن وريتشاردز اللذان اشتهرا بمثلثهما
الذي يميز عناصر الدللة بدءا بالفكرة أو المحتوى الذهني ثم الرمز أو الدال ،وانتهاء إلى المشار إليه أو الشيء
الخارجي.
الفكرة -المحتوى الذهني
() عبد القادر الفاسي الفهري ،اللسانيات واللغة العربية ،ص .56 1
() ميشال زكريا ،اللسنية .علم اللغة الديث ،ص .180 -178 2
- 57 -
ب-رأي يرى أن معنى الكلمة هو العلقة بين التعبير وما يشير إليه.
فدراسة المعنى على الرأي الول تقتضي الكتفاء بدراسة جانبين من المثلث وهما جانبا الرمز والمشار إليه.
وعلى الرأي الثاني تتطلب دراسة الجوانب الثلثة لن الوصول إلى المشار إليه يكون عن طريق الفكرة أو الصورة
الذهنية"(.)1
وعلى أساس هذا التقسيم نشأت نظريات المدلول التي تناولت أنواع الدللة وأقسامها ،كما برزت نظريات عكفت
على دراسة الشارة اللغوية وأحصت أقسامها ،وفي إطارها نشأت فكرة العلمة أو السمة مما ساهم في ميلد علم
جديد هو علم العلمية أو السيميولوجية .وأهم مبحث شكل عقبة كأداء أمام علم الدللة هو دراسة الصورة الذهنية التي
تتميز بالتجريد ،مما فتح المجال واسعا أمام الباحثين في اكتناه عوالم خفية أطلق عليها بعضهم "عالم المفاهيم" وسماها
البعض الخر "العوالم الدللية" ،التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية في نظرية الوضاع التي تشكل المتداد الطبيعي
للنظرية الشارية ،إن مصدر الدللة كما ترمي إلى ذلك نظرية الوضاع –يكمن بالساس في المراجع الموجودة في
العالم الخارجي وتبرز دللة ما لصيغة معينة بواسطة مجموع العلئق المتشابكة بين جملة الوضاع يقول الدكتور
الفاسي" :المكان الطبيعي للمعنى هو العالم الخارجي لن المعنى يبرز في العلئق المطردة بين الوضاع ،والمعنى
اللغوي يجب أن ينظر إليه في إطار هذه الصورة العامة للعالم ،عالم مليء بالمعلومات وأجسام موفقة للتقاط جزء من
هذه المعلومات"( .)2وحقيقة أن الدللة ل يتم التعرف عليها معجميا وإنما مرورا برصد جملة العلئق التي تحددها
الوضاع في العالم الخارجي ،إذن "الفكرة الرائدة في دللة الوضاع هي أن معنى جملة يتحدد بعلقة الكلم والوضع
الموصوف"( .)3وتدعيما للنظرية الشارية التي حصل توسع في مفهومها لحظ العالم اللغوي (بوتمن) putmanأن
عالم المفاهيم المودع في العالم الخارجي أضخم بكثير مما هو في الرأس فالمفاهيم هي الساس الذي انبنت عليه
نظرية الوضاع التي تنظر إلى المعنى أنه علقة بين الكلم المنتج والوضاع الموصوفة ،وهذه النظرية ترتكز كذلك
على الدللة الخارجية للغة وانصهار المعلومات اللغوية ضمن التيار المعلوماتي ،وما دفع إلى القول بذلك ،أن المعنى
ل يتموضع في العالم الخارجي ول في النفس وإنما يتموضع في عالم المفاهيم كما ذهب إلى ذلك العالم اللغوي
(فريجة) الذي اعتبر المفاهيم هي الوسيط الذي يربط العناصر الثلثة :الذهان تمسك بالمفاهيم ،والكلمات تعبر عنها،
والشياء يحل عليها بواسطتها(.)4
-2النظرية التصورية:
إن هذه النظرية تمثل مستوى آخر من مستويات الدراسة الدللية ،فإذا كانت النظرية الشارية قد عكفت على
دراسة الشارة كأساس للولوج إلى دراسة ما يتعلق بها من عناصر المعنى ،فإن النظرية التصورية ترتكز على مبدأ
التصور الذي يمثله المعنى الموجود في الذهن ،وإذا أردنا أن نقف على جذور هذه النظرية فإننا نلفيها تعود إلى
الفيلسوف النجليزي (جون لوك) (القرن السابع عشر) الذي سماها النظرية العقلية ونادى فيها بأن استعمال الكلمات
يجب أن يكون الشارة الحساسة إلى الفكار .والفكار التي تمثلها تعد مغزاها المباشر الخاص"(.)5
() عبد القادر الفاسي الفهري ،اللسانيات واللغة العربية ،ص .386 2
- 58 -
وقد أطلق بعض الباحثين على هذه النظرية اسم النظرية الفكرية لن "الكلمة تشير إلى فكرة في الذهن وأن هذه
الفكرة هي معنى الكلمة"( )1ونتيجة للطابع التجريدي الذي وسم النظرية التصورية ،فإن العلماء المتأخرين أسسوا
أفكارهم على معطيات حسية تقع تحت الملحظة والمشاهدة ،وأرجعوا الدللت كلها إلى تلك التصورات التي تحقق
الثر العلمي ،وهذه الفكرة قريبة من فكرة النظرية السلوكية التي تنبني على مبدأ المنبه والستجابة ،إل أن تحديد
مرجعية الثار إلى التصورات الذهنية ،تلحق تلك الفكرة بالنظرية التصورية .لقد أسس (تشارلز بيرس) نظريته
البراجماتية واعتبرت امتدادا للنظرية التصورية" :رأى بيرس أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية،
فالتيار الكهربي مثل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما ،وإنما يعني مجموعة من الوقائع مثل إمكان شحن
مولد كهربي أو أن يدق جرس ،وأن تدور اللة ،وإذن فمعنى كهرباء هو ما تفعله ،وإذن فالتصورات المختلفة التي
تحقق نتيجة عملية واحدة إنما هي تصور واحد أو معنى واحد ،والتصورات التي ل ينتج عنها آثار ل معنى لها"(.)2
إن عالم الفكار عالم مستقل بذاته فالدللت واحدة في جميع اللغات وإنما الختلف أتى من تباين اللسنة،
وذهب علماء اللسنية المحدثون إلى افتراض وجود عوالم دللية يجب البحث عن معالمها وسننها بناء على البنية
الدللية حتى أن اللغويين المتأخرين اعتبروا ،أن التصورات والفكار هي كيان مستقل قد يستغني عن اللغة إذا أراد
الفراد ذلك يقول د .أحمد مختار عمر" :الفكار التي تدور في أذهاننا تملك وجودا مستقل .ووظيفة مستقلة عن اللغة
وإذا قنع كل منا بالحتفاظ بأفكاره لنفسه كان من الممكن الستغناء عن اللغة"(.)3
وما دام أن النظرية التصويرية تعتبر أن المعنى هو التصور الذي يحمله المتكلم ويحصل للسامع حتى يتم
التواصل والبلغ ،فإن عالم الشياء غير متجانس ،كما أن التصورات متباينة من فرد لخر ،فتصور "شجرة" مثلً،
يحمل جملة من الدللت المختلفة اختلفا قد يكثر أو يقل بحسب وجود هذا التصور داخل عالم الشياء ،كما أن هناك
كلمات ل تحمل تصورا باعتبارها ل تنتمي لعالم الشياء كالدوات والحروف وما إلى ذلك" .وقد كان رفض النظرية
التصورية ،للمآخذ التي ذكرنا ،وغيرها ،هو المنطلق لمعظم المناهج الحديثة التي ظهرت خلل هذا القرن"( .)4وهو ما
سيتبلور في نظريات أكثر موضوعية وعلمية.
-3النظرية السلوكية:
إن التجديد الذي طبع النظرية التصورية أدى إلى نشأة اتجاه آخر في البحث الدللي ،يستبعد الفكار المجردة،
وتمثل في النظرية السلوكية ،وقد خضع أصحاب هذه النظرية للمنحى العلمي الذي طغى على ساحة البحث وقتذاك.
وهو منحى يرتكز على الملحظة والمشاهدة ،فقد ولى عهد العلوم التجريدية النظرية ،وأعطت هذه النظرية السلوكية
اهتماما للجانب الممكن ملحظته علنية وهي بهذا تخالف النظرية التصورية التي تركز على الفكرة أو التصور( .)5إن
البحث عن ماهية الدللة وآلية حصونها أدى بالعالم اللغوي المريكي (بلو مفيلد) إلى هجر التجاه العقلي والبحث عن
() د .ممود فهمي زيدان ،ف فلسفة اللغة ،ص .96 1
- 59 -
الدللة في السلوك اللغوي الظاهر ،وبعد تحقق الفكار التي مال إليها (بلومفيلد) تجلى التجاه السلوكي لدى هذا العالم
وقد "عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه ،والستجابة التي تستدعيها من السامع فعن
طريق نطق صيغة لغوية يحث المتكلم سامعه على الستجابة لموقف .هذا الموقف وتلك الستجابة هما المعنى اللغوي
للصيغة"( .)1والقول بمبدأ المثير والستجابة يستدعي الخذ كذلك بالمقام الذي حصل فيه الحدث الكلمي ،ولكي يتم
تحديد دللة صيغة لغوية تحديدا دقيقا وجب حصر جميع المقامات التي صاحبت استعمال الصيغة في الحدث
الكلمي ،ومعرفة شاملة لكل ما يشكل عالم المتكلم" :فدللة صيغة لغوية ما إنما هي المقام الذي يفصح فيه المتكلم عن
هذه الدللة والرد اللغوي أو السلوكي الذي يصدر عن المخاطب" )2(..لن المقام هو المميّز بين المكانيات المتعددة
للدللة خاصة وإن الصيغة اللغوية قد أخذت أبعادا اجتماعية وثقافية ،وتعلقت بها قيم أسلوبية وتعبيرية مما يعيق
التواصل والبلغ ،وتداخل المعنى الرئيسي والهامشي ،ولذا فالخذ بالعلقة المتينة بين القول والمقام سوف يزيل
كثيرا من اللبس في الحداث الكلمية "إذ أن اللجوء إلى المقام أو حال الخطاب يساعد على الخصوص في:
1ـ استكشاف مرجع الصيغ اللغوية للقول.
2ـ اختيار وإيثار تأويل بعينه في حالة الكلم الملبس أو المبهم.
3ـ استكشاف قيمة القول (تهديد ،وعد ،وعيد (…)…).
4ـ تحديد خاصة القول (هل هو موسوم أو غير موسوم) صيغ لغوية خاصة بالفلحين مثلً"(..)3
والحقيقة أن النظرية السلوكية بقدر ما كشفت عن عوالم خفية ودفعت بالبحث الدللي خطوات نحو المام ،بقدر
ما فتحت أبوابا عن عوالم أخرى بقيت خفية ،ذلك أن الخذ بمبدأ دراسة الفعال الكلمية القابلة للملحظة والمشاهدة،
لم يقدم الجوبة الكافية عن تلك التساؤلت حول ضبط دللة الصيغة اللغوية ضبطا يخضع لمعايير علمية دقيقة
تنسحب على كل الصيغ والتراكيب اللغوية ،فوجود القيم الحافة وتكوّن المعنى الديناميكي الذي ل يأخذ صورة قارة
ثابتة ،شكّل أهم العوائق أمام نظرية (بلو مفيلد) السلوكية ،وقد تطورت هذه النظرية على يد الفيلسوف المريكي
(شارل موريس )ـ ( )Charles Morrisالذي لحظ أنه قد تتعدد الستجابات لمثير واحد ،يعني اشتراك دللت في
صيغة لغوية واحدة ،وذلك أن المنطوق قد يحمل قيما أسلوبية ومعان حافة يتولد عنها استجابات متنوعة ،وقد أخرج
(موريس) من معنى الصيغة ،الستجابة أو رد الفعل ،واكتفى بمجرد الميل أو الرغبة" ،ويعني ذلك أنه إذا وجد ميل أو
رغبة صريحة للقيام باستجابة معينة لمثير (منطوق لغوي) فدللة على وجود ارتباط يجعل الستجابة تكون لذلك
()4
المثير ،وهذا الرتباط بمثابة الشتراط وقد مثل ذلك بالعلقة" :إذا كانت ط حينئ ٍذ تكون س" ،حيث ط = اشتراط.
ورغم هذا التطور الحاصل في النظرية السلوكية ،بلجوء موريس إلى فكرة الميل أو المزاج ،فإنه وجدت تراكيب
وعبارات لغوية ل تخضع لمعايير هذه النظرية .وبالتالي وجدت فجوات علمية واضحة لم تستطع النظرية السلوكية
سدها ،مما عجل بميلد اتجاه آخر في الدرس الدللي حاول الجابة عن التساؤلت المطروحة حول تحديد علمي
موضوعي دقيق للدللة وطرق ضبطها..
- 60 -
4ـ النظرية السياقية:
إن نظام اللغة نظام متشابك العلقات بين وحداته ،ومفتوح دوما على التجديد والتغيير في بنياته المعجمية
والتركيبية ،حتى غدا تحديد دللة الكلمة يحتاج إلى تحديد مجموع السياقات التي ترد فيها ،وهذا ما نادت به النظرية
السياقية التي نفت عن الصيغة اللغوية دللتها المعجمية ،يقول مارتيني" :خارج السياق ل تتوفر الكلمة على
المعنى"( .)1إن منهج النظرية السياقية يعد من المناهج الكثر موضوعية ومقاربة للدللة ،ذلك أنه يقدم نموذجا فعليا
لتحديد دللة الصيغ اللغوية ،وقد تبنى كثير من علماء اللغة هذا المنهج منهم العالم (وتغنشتين) ـ ()Wittgenstein
الذي صرح قائلً" :ل تفتش عن معنى الكلمة وإنما عن الطريقة التي تستعمل فيها"( )2إن هذه الطريقة التي تستعمل
فيها الكلمة هي التي تصنف دللة هذه الكلمة ضمن الدللة الرئيسية أو القيم الحافة التي تتحدد معها الصور
السلوبية ،لن السياق يحمل حقائق إضافية تشارك الدللة المعجمية للكلمة في تحديد الدللة العامة التي قصدها الباث
يقول ستيفن أولمن" :السياق وحده هو الذي يوضح لنا ما إذا كانت الكلمة ينبغي أن تؤخذ على أنها تعبير موضوعي
صرف أو أنها قصد بها أساسا؛ التعبير عن العواطف والنفعالت"( .)3لقد حصل تطور هام في مفهوم السياق إذ لم
يعد يقتصر على الجانب اللغوي في إيضاح دللة الصيغة اللغوية ،وإنما وجدت جوانب أخرى قد تنحسم معها الدللة
المقصودة للكلمة ،كالوضع والمقام الذي يحدث فيه التواصل أو الملمح الفيزيولوجية النفسية للمتكلم التي تصاحبه
يقول الدكتور عبد القادر الفهري الفاسي في ذلك" :اختيار مفهوم ملئم من بين لئحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ
المشترك يتطلب مجهودا معرفيا خاصا ويتسبب أحيانا في أخطاء ويقع رفع اللتباس عن طريق السياق اللغوي
()4
المباشر ،أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس" .
إن تعدد المفاهيم التي يدل عليها اللفظ تعني أن هذا اللفظ له معنى مركزي هو "النواة" ،ومعان هامشية ثانوية اكتسبها
بفعل دورانه المتجدد في أنساق كلمية مختلفة ،حتى أضحى المعنى المركزي يدور في فلك المعاني الثانوية التي ل
تفاضل بينهما وأصبح طريق رفع اللبس في الدللة يمر عبر السياق اللغوي أو الخطابي أو معاينة المقام الذي يتمثل
في المعطيات الخارجية والنفسية .ويتضح في ذلك خاصة عند استعمال المشترك اللفظي ( )polysemieوتبعا لذلك
فإن دللة الكلمة تتعدد بتعدد السياقات وتنوعها أي تبعا لتوزعها اللغوي وقد توصل العلماء إلى تمييز بين أربعة أنواع
من السياق.)5(:
1ـ السياق اللغوي.
2ـ السياق العاطفي النفعالي.
3ـ سياق الموقف أو المقام.
4ـ السياق الثقافي أو الجتماعي.
() د.موريس أبو ناضر ،مدخل إل علم الدللة اللسن ،ص ،33ملة الفكر العرب العاصر ،العددج رقم ،18/19السنة .1982 2
() دور الكلمة ف اللغة :ستيفن أولن ،ترجة ممد كمال بشي ،ص .63 3
- 61 -
1ـ السياق اللغوي:
فالسياق اللغوي يشرف على تغيير دللة الكلمة تبعا لتغيير يمس التركيب اللغوي ،كالتقديم والتأخير في عناصر
الجملة فقولنا" :زيد أتم قراءة الكتاب" ،تختلف دللتها اللغوية عن جملة":قراءة الكتاب أتمها زيد"(..)1
() التقد ي والتأخ ي ف الكلم ي ضع لقا صد دلل ية ،حدد ها البلغيون ف مبحث هم حول ت صيص الدللة ،و قد تبلور ذلك ض من مفاه يم ل سانية 1
- 62 -
عبد القاهر الجرجاني في كتابه" :دلئل العجاز" ..وقد اعتبر فيرث *( )Firhtأن قائمة الكلمات المتراصفة مع كل
كلمة تعد جزءا من معناها( ،)1بحيث يستدعي حضور كلمة ما حضور سلسلة من الكلمات التي تتراصف معها سياقيا
وتتوافق معها في الوقوع.
() د.ميشال زكريا ،اللسنية (علم اللغة الديث) ،البادئ والعلم ،ص .213 2
() د.عبد القادر الفاسي ،اللسانيات واللغة العربية ،ص .370 4
- 63 -
المعجمي ،فقد أكد ستيفن أولمان ذلك بقوله" :الكلمة هي مكانها في نظام من العلقات التي تربطها بكلمات أخرى في
المادة اللغوية( ،)1هذه العلقات التي تم إحصاؤها هي كالتالي:
أحد متار عمر ،علم الدللة ،ص .101 -99 -98 () 2
- 64 -
جـ .تضاد التضايف :ويسميه المناطقة "الضافة" ،وهي نسبة بين معنيين كل منهم مرتبط بإدراك الخر
كإدراك البوة والبنوة ،فإن أحدهما ل يدرك إل مع إدراك الخر..
د.علقة التنافر :أو ما يطلق عليه في علم المنطق بعلقة التخالف وهي النسبة بين معنى ومعنى آخر من جهة
إمكان اجتماعهما وإمكان ارتفاعهما ،مع اتحاد المكان والزمان أي :يمكن اجتماعهما معا في شيء واحد في
زمان واحد ،ويمكن ارتفاعهما معا عن شيء واحد في زمان واحد مثل (أكل ـ باع) ،و(الطول ـ البياض)
(.)1
إن العتقاد بضرورة إحداث تقابلت بين مجموع اللفاظ المتماثلة أو المتباينة ،يعكس حقيقة العملية الدللية التي
تتم في مستوى ذهني معقد ،إذ التقاطُ دللة صيغة ما يتم بعد سلسلة من التقابلت الذهنية التي يقوم بها السامع ،ولذلك
ذهب سوسير إلى القول بأن إنتاج دللة صيغة ما يتم بواسطة عملية التقابل بينهما وبين صيغ أخرى بإحدى العلقات
التي حددها اللغويون والتي أشرنا إليها سابقا….
() عبد الرحان حسن حبنكة اليدان ،انظر ف ذلك:ضوابط العرفة :ص .56 -53ود.أحد متار عمر ،علم الدللة ،ص .105 -103 -102 1
() د .ميشال زكريا ،اللسنية ،علم اللغة الديث ،ص .203 2
- 65 -
كتب ،ذهب ،سأل…، ف
رجل ،رسالة ،أستاذ ،أمس.. أ
وباستبدال الرموز بعناصر الكلم في نظام اللغة تحصل جمل كثيرة من بينها الجملة:
كتب الرجل الرسالة إلى الستاذ بالمس .ويمكن رسم تلك الرموز التي تدل على القواعد التنظيمية ضمن كفاية
المتكلم اللغوية" بالمشجر(."arbre" )1
ويبدو أن اعتماد هذه القواعد من شأنه أن يعقد عملية التواصل والبلغ ،ولذلك تشترط القاعدة التوليدية وجود
متكلم ومتقبل مثاليين ،لن عملية التحام المعنى بالبنى اللغوية هي ليست بالعملية السهلة ذلك أنها تقتضي علما كافيا
بقواعد السقاط وبناء على ذلك "يحتوي المكون الدللي إذا على المعجم أو اللئحة بمفردات اللغة وعلى القواعد
السقاطية التي تشكل قدرة المتكلم على استدلل معنى الجمل من خلل معنى المفردات"(..)2
لقد تحدث (تشومسكي) على وجهي الظاهرة اللغوية السطحي والعميق ،أو كما سماه الظاهر والخفي وعليه حدد
مصطلح "الكفاية اللغوية" و"الداء اللغوي" وقد أرجع العلماء هذه الفكرة إلى أصول فلسفية تعود إلى نظرية أفلطون
حول العالم " .تقول نظرية أفلطون أن للعالم وجه ظاهري نعتمد في إدراكه على شهادة الحواس وقد تكون هذه
الحواس خادعة ل موضوعية فيها ووجه خفي حقيقي يدرك بالعقل ..أو كما يقول كانط أن العالم الظاهري يخفي
عالما حقيقيا( ،)3فالداء اللغوي يمثل ظاهرة الخطاب في النظرية التوليدية ،والكفاية اللغوية تمثل حقيقة الخطاب،
وعلى اللغوي ـ كما يقول (تشومسكي)ـ أن ل يبني أحكامه على بنية اللغة السطحية ،وإنما عليه أن يصل إلى البنية
التحتية العميقة ،ليطلع على القواعد الذهنية التي تنتظم اللغة .وقد توصل (تشومسكي) إلى أن العقل النساني يحوي
آلية مكونة من مجموعة قواعد متناهية بمقدورها تحليل الجمل ومساعدة متكلم اللغة على إنتاج جمل ل متناهية بمعجم
() د .ميشال زكريا ،انظر اللسنية ،علم اللغة الديث ،ص 202إل .205 1
() د.ميشال زكريا ،الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية ،ملة الفكر العرب العاصر ،رقم ،18/19لسنة .1982 2
() د.ممد فهمي زيدان .ف فلسفة اللغة ،ص .142 3
- 66 -
ل على فهم الجمل التي لم يسبق له أن سمعها ،ورصد اللتباس الحاصل في الجملة ،وقد أضاف لغوي متناه فض ً
(تشومسكي) فكرة جريئة ل زالت موضع بحث وجدل بين علماء اللغة وهو ما سمي بالعموميات اللغوية ،وتعني أن
جميع اللغات متشابهة في بنياتها الداخلية وهو ما يفسر خضوع التركيب في أي لغة لتلك المدخلت العميقة ،وما يشد
من عضد هذه الفكرة هو أن المعاني كما تنص نظرية الوضاع ـ ل تتموقل في عالم اللغة إنما توجد في عالم
الوضاع وقد تمخض عن هذه الفكرة ،البحث عن العلقة بين البنية الدللية والعوالم الدللية "فإن كانت الكلمة على
مستوى الدال عبارة عن صرّة من الصوات" ،وإذا كانت كذلك فلم ل تكون على مستوى المعنى "صرّة من الوحدات
البدائية للمعنى"( .)1وعوّض التحليل المفهومي في النظرية التوليدية التحليل التوزيعي ،الذي اتبعته النظريات السابقة
في اللغة ،فما الدللة إل مجموعة سمات تتحدد بواسطة المشير الدللي وذلك "في تعيين العلقات الدللية بين الكلمات
المترادفة والمتزايلة أو المتضمنة الواحدة الخرى"(..)2
إن الهدف السمى الذي رسمته النظرية التوليدية هو معرفة الطاقة الكامنة في اللغة على مستوى التعبير ولذلك
تأثرا بآراء المدرسة الفلسفية العقلنية التي سادت القرن السابع عشر ،اتخذ ( تشومسكي) منهجا عميقا ل يعتمد
الوصف ،وإنما التحليل والتفسير للوصول إلى وضع معايير تحدد قدرة اللغة على الخلق والبداع والبتكار بإعادة بناء
"نسق المعاني" عن طريق قواعد التوليد والتحويل ،ولذلك عُدّت النظرية التحويلية التوليدية من أحدث النظريات التي
قدمت تفسيرا علميا موضوعيا لنظام اللغة ووضعت قواعد مرنة تصلح لي لغة ،لنها قواعد تتسم بالشمولية
والعالمية ،وهذه المرونة في التقعيد النظري ضرورية للنظام اللغوي الذي ينزع نحو التجدد والتكيف والتطور فضلً
على شمولية التناول والدراسة ،وغدا (تشومسكي) يرسم المنهج القويم في الدرس اللغوي مميزا بين الميتودولوجيا
والنظرية ،فقد كان اشتغال البنيويين ـ قبل تشومسكي ـ منحصرا على وصف التجاه ووضع نظريات تقوم بتطبيق
مجموعة عمليات وإجراءات على العينات اللغوية ،مهمتها معاينة الوحدات الدالة الصغرى ،فأشار (تشومسكي) في
كتابه (البنى التركيبية) إلى ضرورة الهتمام بالمنهج الذي يكمن في الطرق التي تمكن من بناء النحاء ،وغدا
ل من الهتمام بسلوكهم الفعلي ،فلم يعد المبحث اللساني مع (تشومسكي) يهتم بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين بد ً
النتاج الكلمي الذي هو عبارة عن سلسل فيزيائية بمفهوم الفونولوجيا قادرا على تقديم تفسير كاف لليات حدوث
التركيب اللغوي ،ولذلك اتجه الدرس اللساني ،ل إلى تحديد ما هو موجود من السلسل اللغوية السليمة فحسب ،بل
أيضا إلى ما يمكن أن يوجد من التراكيب اللغوية غير اللحنة بواسطة مجموعة من القواعد التوليدية .يكون بذلك
موقف (تشومسكي) قد انحرف بالدرس اللغوي إلى وجهة جديدة تختلف عن وجهة البنيويين الذين لم يميزوا بين
صورة النحو ،والوسيلة التي تقود إلى اكتشافه ،وهو ما عكف تشومسكي على اتخاذه مبدأ للدراسة اللغوية بحيث فرق
بين المنهج والنظرية وولج بذلك إلى كل ما يشكل العالم الداخلي الذهني للمتكلم ،وشأن كل نظرية دللية فإن النظرية
التوليدية ،وصلت إلى الباب المسدود ،وإن نجحت في الكشف عن البنية العميقة لعدد ل متناه من الجمل إل أنها
عجزت عن تفسير عدم التوافق بين معاني المفردات المنتظمة في جملة واحدة ،وهو ما فسح المجال لنظرية كاتز
وفودر التي تعتبر مكملً لقواعد (تشومسكي) التوليدية التي ارتكزت على ما يسمى بالمؤلفات الساسية لمعاني الكلمات
وهي مؤلفات تتجاوز الرموز التي اعتمدها (تشومسكي) في القواعد التوليدية ،وعلى ضوء نظرية كاتزوفودر يمكن
مثلً تحليل كلمة "رجل" على النحو التالي:
اسم +محسوس +معدود +حي +بشري +ذكر +بالغ..
() علم الدللة ،بيار جيو ترجة :د.منذر عياش ،ص .187 1
() د.ميشال زكريا ،الكون الدلل ف القواعد التوليدية والتحويلية ،ملة الفكر العرب العاصر ،العدد رقم 18/19السنة .1982 2
- 67 -
وتختلف عنها كلمة "امرأة" بمؤلف "الجنس" فقط( )1وهكذا بالنسبة للكلمات الخرى..
()2
7ـ نظرية الوضعية المنطقية في المعنى:
تصور معنى الكلمة أو الجملة عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية ،ينبني على نظرات متباينة ،وإن كانت كل
نظرة من هذه النظرات هي عبارة عن امتداد معرفي لفكار سبقتها وتأسست فلسفتها على جملة من النتقادات التي
وجهها لها علماء اللغة عامة وأهل المنطق والفلسفة خاصة ،من رواد هذه النظرية "مورتس شليك (")M.Chilik
المؤسس الول .والعالم "أتونيراث" ( ، )A/ NEURATHوهمبل ( ،)Hempelو"كارنب ( ،")Carnap( )3و"الفرد
جولر أير ( ،")A.J.Ayerو"فردريك وايزمان ( ،")F. Waismanذهب "شليك" ( )1882-1936إلى أن معنى قضية
ما ،هو طريقة تحقيقها وذلك بتوفر شروط للتحقيق تكون على إثرها القضية صادقة ،من ذلك الواقع التجريبي للمعنى
وهو ما وسم نظريته "بالنظرية التجريبية في المعنى" ،وقد وضع "شليك" معايير ثلثة لتحديد معنى الكلمة :إما
بالشارة إلى مسماها المعيّن (الشيء في العالم الخارجي) ،أو بالتكافؤ والترادف ويخص ذلك الكلمات التي تعتبر
محمولت تجريبية مثل:مربع ،شجرة …،أو بالستخدام في السياق اللغوي وذلك خاص بالكلمات التي ل تعتبر
محمولت تجريبية مثل:إذا ،الن …،وغيرها من الصيغ التي ل معنى لها إل داخل السياق .ماذا يعني "شليك"
بمصطلح "التحقيق"؟ ..التحقيق عند "شليك" يعني مطابقة المعنى للواقع ممايدل على صدق القضية في الواقع
التجريبي ،ول يشترط أن يكون التحقيق بالمعنى القوي فتلك غاية بعيدة الحصول وإنما يعني "شليك" التحقيق بالمعنى
الضعيف ،أو ما سماه بإمكان التحقيق .والمكان كما يوضح "شليك" نوعان :إمكان تجريبي :وهو المعنى الذي يتسق
وقوانين الواقع والطبيعة ،وإمكان منطقي :وهو ما يطابق قواعد التركيب والنحو واستخدامنا المألوف للكلمات وفق
نسق صحيح ،والحقيقة أن نظرية "شليك" توقفت عن العطاء العلمي وتقديم التفسيرات الكافية لتمثيلت من المعنى لم
تخضع لقواعد هذه النظرية ومعاييرها ،وذلك لنحصار نظرية "شليك" في تفسير الكلمات ذات الواقع الحسي بينما
وجدت قضايا وصيغ ل يشملها الدراك الحسي المباشر لكنها محققة المعنى مثال ذلك تركيب الذرة الذي قال عنه
"شليك" أن ل معنى له.
ويأتي بعد "شليك" العالمان "أوتونيراث" ( ،)1945-1882و"همبل" ( ،)-1905اللذان دعيا إلى معيار جديد
يعتمد في رصد المعنى ل يرتد إلى الواقع التجريبي كما كان يقول "شليك" وإنما يرتد إلى قضية "بروتوكول" وتعني
تسجيل دقيق لما عاناه المتكلم في خبرته ،ويشترط في هذه القضية أن تصدر بضمير المتكلم وتلحق كل جملة بحسب
اتساقها مع جمل بروتوكول سبق وأن قبلناها وذلك للحكم بصدقها ،وإن تنافرت معها كان الحكم بكذبها وعدم تحققها،
فالمعيار الذي اعتمده "نيراث وهمبل" ،هاهنا هو معيار التساق (.)consistance
أما كارنب ( )1975-1891بعد جملة أفكار قدمها حول تصوره لمعنى الجملة أو القضية ،انتهى إلى رد ذلك
إلى الواقع التجريبي وذلك بعد إدراكه أن اللغة هي حاملة لواقع ومعبرة عنه وليس عبارة فقط عن تراكيب وأنساق
لغوية.
() موريس أبو ناضر ،مدخل إل علم الدللة اللسن :ص ،26ملة الفكر العرب العاصر العدد ،18/19السنة .1982 1
() د .ممد فهمي زيدان .ف فلسفة اللغة ،ص 125إل .128 2
() إن إسهام "كارنب" ف مال السيميولوجيا الديثة قد عد عم ًل ف غاية الهية ،خاصة وأن سعي هذا العال الفيلسوف كان يتجه إل بناء لغة مثالية، 3
(علم الشارة ـ بيار جيو ـ الوعي) القدمة مازن الوعر ،ص .15
- 68 -
وبالرغم مما وجهت لنظرية الوضعية المنطقية من انتقادات ،إل أنها قدمت للدرس الدللي الحديث طرقا أخرى
للبحث عن المعنى تتسم بالعمق في التحليل ،وإن كان أصحاب هذه النظرية قد وقعوا تحت سلطة النظرة الحسية
للشياء وهو ما جعلهم يخلطون بين البحث في المعنى وبين صدق الجملة .وذلك ما سوف يعرض نظريتهم إلى مآخذ
شديدة أدت إلى تعديل في مواقفهم بحيث عزفوا عن القول بمبدأ التحقيق التجريبي بالمعنى القوي ،إلى القول بمبدأ
التحقيق التجريبي بالمعنى الضعيف ،ويعني ذلك نسبية تحقيق معنى الجمل والكلمات والقضايا واستحالة تحقيقها تحقيقا
مطلقا تاما بينما ظل موقف القائلين بالتساق في الحكم بصدق ومعنى الجملة ثابتا ،بالرغم من الملحظات الكثيرة
التي وجهت إليهم وهو ما جعل موقفهم يضعف مما أدى إلى إجراء تعديل في المصطلح "تحقيق" الذي استبدل
بمصطلح تدعيم ( )confrmationوسوف ينشأ اتجاه آخر على يد "ألفريد جولزير ( ")Ayerو(فردريك وايزمان) (F.
..)waisman
يذهب "أير" إلى أنه ل يكون للجملة معنى إل إذا أمكن تدعيمها إلى درجة كبيرة بإشارتها إلى واقع يمكن
ملحظته .ول يعد هذا تحديدا تاما لمعنى الجملة وإنما مجرد تدعيم لها ،بحيث يكون لها احتمال كبير في المعنى
المحدد بواسطة التدعيم ،خاصة وأن الجملة مسندة إلى ضمير المتكلم وبالتالي فهي تعبر عن إحساسات وإدراكات
ذاتية وقد وصل "أير" إلى قناعة علمية تتلخص في المتناع عن اعتماد معيار عام لمعنى الجملة ،وربط ذلك المعنى
بمجموعة الخبرات التي تحققت بفعل الملحظة المباشرة عن طريق التحقيق التجريبي الذي يصدقه الواقع وحتى في
()1
هذه الحالة تصدق الجملة صدقا احتماليا ل صدقا تاما.
أما (وايزمان) فقد سار على نهج "أير" ولكن بأسلوب مختلف وذلك بدعوته إلى أن البحث عن مكافئ تام يشرح
معنى الجملة سيبقى مفتوحا لنه ناقص ،ذلك أن الجملة المطلوب رصد معناها تحوي على حالت جزئية يصعب
حصرها وتحديدها ،كما أن التركيب المعد لقامة تحقيق القضية لن يكون هو التركيب الخير المناسب ،وإنما قد
نحصل على تركيب جديد يشرح أو يحلل أو يضيف إلى معنى الجملة الصلية .معان جديدة وبالرغم من الجهود
المضنية في البحث عن تصور ثابت للمعنى بقي البحث بين دور وآخر يفاجأ ،بمسائل جديدة مرتبطة بمسألة "المعنى"،
فيخوض من أجل تفسيرها وتحليلها ودراسات مستفيضة ،فالقول باعتماد معيار الترادف لتحديد معنى القضية أدى
إلى البحث حول ،ماهية الترادف ،وهل الترادف خال من المعنى؟ ..بالطبع ل يقدم الترادف تفسيرا لمعنى الجملة
حتى يكون للجملة المرادفة معنى كذلك ،وهو يحتاج إلى إيجاد مكافئ له في المعنى ،وهكذا يقع الدرس في هذا
المجال ،في حلقة مفرغة..
()2
8ـ النظرية البراجماتية:
قريبة هي نظرية (تشارلز بيرس ـ ( ))CH. Pierceمن نظرية أصحاب الوضعية المنطقية وذلك في اعتمادها
على الملحظة الحسية المباشرة ،وتحقق المعنى في الواقع التجريبي ،وقد أشار (أير) إلى نظرية (بيرس) لنها تعد
تدعيما لرأيه وموقفه ،يرى (بيرس) أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لثاره العملية فالطابع الوظيفي للشيء
ل ل يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما وإنما يعني مجموعة هو الذي يحدد تصورنا حوله فالتيار الكهربي مث ً
() إن الشارة إل السس الفلسفية الت أرسيت عليها قواعد النظرية النطقية ف العن ،تقدم الصورة القيقية لوظيفة اللغة الت ل تقتصر على اليصال 1
والبلغ فحسب أو تسمية الواقع الفيزيائي للنسان وإنا ف فهم هذا الواقع وخلقه باستمرار ،وتستأثر هذه النظرية بالهتمام التزايد لكونا تتناول
اللغة ف شكلها السياقي التعدد...
() د.ممود فهمي زيدان ،ف فلسفة اللغة ،ص .97 2
- 69 -
من الوقائع مثل :إمكان شحن مولد كهربي أو أن يدق جرس أو أن تدور آلة ،وإذن فمعنى لفظ "كهرباء" هو ما تفعله،
ويبقى همّ نظرية "بيرس" هو إثبات المعادل المادي للشيء ،حتى يتحقق معناه ،فمع أن الكهرباء غير مرئية فل يمكن
أن ننفي وجودها وإنما ننظر إلى آثارها العملية ولذلك رأى "بيرس" أن التصورات التي ل تنتج عنها آثار ،ل معنى
لها ،وقد أوضحنا في نظرية (بلومفيلد) السلوكية( ،)1التي تقترب منها نظرية (بيرس) ،من حيث المبدأ ،كيف عجزت
معاييرها عن تقديم تفسير كاف لجمل وعبارات ل يبدي أمامها المتلقي أية استجابة ،هل يعني ذلك حسب (بيرس) أنها
ل تشتمل على معنى ،ومع ذلك يبقى (بيرس) أهم فيلسوف مؤسس لعلم الشارات لم تقدر جهوده حق قدرها إل بعد
موته سنة ،1914حيث استثمر العالمان رومان جاكسون وشارل موريس جهوده في علم الشارات فحاول تطبيق
نظرياته على علم اللغة العام ،ول يمكن أن نغفل تلك التصانيف التي وضعها (بيرس) حول الشارات محددا في ذلك
نظاما سيميائيا يضم العلمات اللغوية وغير اللغوية ،وما يلفت النتباه في حديث (بيرس) عن الشارات هو ربطه
للشارة مع مدلولها من جهة والمرسل إليه من جهة ثانية إذ قد تكون الشارة رمزا ( )symboleأو إيقونة ()Icone
أو قرينة ( ،)Indiceوأثناء عملية التواصل قد تستعمل الشارة نفسها تارة رمزا وتارة أخرى أيقونة أو قرينة ،يتوقف
استعمال الشارة للتواصل والبلغ على معرفة مسبقة بدللتها الصطلحية فرمز "الدخان" على سبيل المثال هو
إشارة طبيعية أو قرينة قد تدل على النار أو علمة تدل على الخطر أو رمز التصال كما عند بعض قبائل الهنود
الحمر"(..)2
()3
9ـ نظرية ":مور ـ كواين" :
يرى جورج مور ( )G.Mooreأن تصور معنى كلمة أو جملة يمر عبر إجراءات تحليل صحيح يقوم على
خطوتين :التقسيم والتمييز وعلى معايير ثلث هي :التكافؤ المنطقي والترجمة والترادف .ويقصد (مور) بالتقسيم،
تحليل تصور معنى ما إلى مؤلفاته ويعني ذلك أن تصور المعنى مركب من جملة تصوراته الجزئية ،وشبيه تقسيم
(مور) بتصنيفات أصحاب النظرية التحليلية الذين قسموا معنى الكلمات إلى ما يؤلفها ،من سمات دللية( .)4أما
التمييز فله ارتباط عند (جورج مور) باستخدام الكلمة في السياق اللغوي وذلك بإحصاء جملة الستخدامات الممكنة
للكلمة الحاملة لتصور المعنى موضوع البحث ،ومحاولة جمع الخصائص المشتركة التي تجمعها وتميزها عن المعنى
الذي نحن بصدد البحث عنه ،وإذا تحقق ذلك تميز تصور المعنى عما عداه من التصورات الخرى..
أما معايير التحليل الصحيح فهي تهدف إلى إيجاد معادل دللي للمعنى ،فمعيار التكافؤ المنطقي عند "مور" يعني
تحليل مقارب لتصور المعنى (موضوع البحث) إلى جملة تصورات أخرى تكافئه وتساويه وذلك من أجل التحقق من
المعنى..
أما معيار الترجمة فليس يعني نقل كلمة من لغة إلى أخرى وإنما يعني ترجمة التصور إلى تصورات تصل معه
إلى حد التكافؤ وينتج عن ذلك تساو في المعنى بين التحليل وموضوعه ،وهو ما يسمى بـ"الترادف" .فالترجمة تفضي
إلى التكافؤ الذي يفضي بدوره إلى الترادف.
() انظر" :النظرية السلوكية" ص ،63للعال المريكي بلومفيلد. 1
() انظر :ذلك ف مقال "الشارة ،الذور الفلسفية والنظرية اللسانية" ،بسام بركة ،ص ،51 -50ملة الفكر العرب العاصر ،العدد رقم ،31 -30 2
سنة .1984
() د.ممود فهمي زيدان ،ف فلسفة اللغة :ص .105 -103 -100 -99 3
- 70 -
وبالرغم مما سجلته نظرية (مور) من تقدم في البحث حول المعنى إل أنها تعرضت لمآخذ وانتقادات كثيرة
كانت وراء نشوء نظريات أخرى قدمت البديل لنظرية (مور) ومن تلك النظريات نظرية (كواين (W.V.Quine
))1908الذي تتلمذ على (كارنب ( ،))Carnapبدأ (كواين) من حيث انتهى عنده (مور) الذي قال :أن تصور معنى
الكلمة هو التيان بتصورات أخرى تكافئه منطقيا ويسمى المعنى الناتج ترادفا ،ولكنه يجد نفسه قد وقع في حلقة
مفرغة أشرنا إليها من قبل عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية وهو أن المعنى يعتمد على التيان بترادف ،لكن
الترادف غير ممكن إل إذا كان المعنى قد استقر في ذهننا من قبل ،فخاض كواين بحثه الول في مسألة الترادف
كأساس للبحث عن المعنى ،فاستعان في بادئ المر بالنظرية السلوكية التي تنبني على مبدأي المنبه والستجابة؛ أي
أن معنى جملة ما بالنسبة لشخص ما تحدده مجموعة المنبهات التي تفضي إلى تقبل الشخص للجملة ،ويعني (كواين)،
بذلك أن القول بأن جملة ما أو كلمات تعتبر مترادفة إذ حققت استجابة واحدة ،ولكن هذه النظرية ل تشتمل كل الجمل
أو الكلمات ،كما أوضحنا ذلك في النظرية البراجماتية (لبيرس) ذلك أن أساس تصور المعنى ـ عند هذه النظرية ـ
نفسي ،وبالتالي ،يختلف من شخص لخر ،فعدّل (كواين) من نظريته واعتمد على معيار (الصدق) .نقول عن جملتين
أو كلمتين أنهما مترادفتان إذا كانتا لهما قيمة صدق واحدة ،وكانتا تشترك في المصادقات .و(كواين) يربط تصوره
حول المعنى بتحققه في الواقع ،ويرتد(كواين) إلى ما آلت إليه نظرية المعنى التجريبي عند (شليك) ويقر بصعوبة
البحث عن المعنى باعتماد معيار الترادف..
()1
(.)- )Frege ـ دللة العوالم الممكنة عند (فريجة
لم يرتق (فريجة) بأفكاره حول تصور المعنى إلى مستوى النظرية ،وإنما لهمية ما طرحه في هذا المجال
ارتأينا الشارة إليه.
ما يميز فكر (فريجة) في بحثه حول المعنى هو افتراضه لوجود عالم دللي مستقل .كيف وصل (فريجة) إلى
ذلك؟ ..لقد تبلورت فكرته هذه منذ أن أثبت التمييز بين معنى اسم العلم وإشارته ،بحيث فرق بين السم ومسماه من
جهة ودللته من جهة ثانية ،وخلص إلى أن المسمى ليس هو المعنى ،وهو ما استقر لدى علماء اللسنية والدللة
المحدثين فيما يخص السماء كلها الدالة على معنى أو على ذات ،ارتقى (فريجة) إلى التمييز بين الصورة الحسية
التي تنشأ عن إدراك ضمني سابق لشيء ما أوتوهم هذا الدراك ،وهذه الصورة تختلط بالمشاعر والنطباعات الذاتية،
ولذلك يختلف الدراك الحسي من شخص لخر فكانت عندئ ٍذ الصورة الحسية ذاتية ،أما المعنى فله موضوعيته
()2
واستقلله ومن هنا تأتي فكرة (فريجة) من افتراض عالم المعاني
بحيث يكون السعي لكتشافه ل لخلقه ،وهو ما طرحه العالم الفرنسي (غريماس) في موضوعه "البنية
الدللية"( ،)3وقد ميز (فريجة) في العالم الدللي ثلثة عوالم هي:
العالم المادي (عالم الشياء) والعالم الذاتي (عالم التصورات والفكار) ،وعالم المعاني .إل أن افتراض (فريجة)
بوجود دللة العوالم الممكنة ( )4( )possible world semanticsقد قوبل بالنتقاد وذلك لستحالة الحديث عن عالم
غامض ل نعرف كيف نكتشفه .وقد كان (فريجة) نفسه قد أعلن أن المعاني ليست في حاجة إلى البحث عن معيار
() د.ممود فهمي زيدان ،ف فلسفة اللغة :الصفحة .117 -116 -115 1
() أخذت السيميولوجيا الديثة أبعادها الفلسفية على يد الفيلسوف (فرية) خاصة ،انظر علم الشارة ،السيميولوجيا ،بيار جيو ،ص .15 2
() انظر مقالة "البنية الدللية" ف ملة الفكر العرب العاصر ،عدد ،18/19سنة ،1982ص .97 3
() د.عبد القادر الفاسي الفهري ،انظر اللسانيات واللغة العربية ،ص ..351 4
- 71 -
بفضله نستطيع تحديد معنى كلمة أو جملة ما ،ولكن يجب أن ننطلق من مبدأ أن فكرة معنى كلمة هي فكرة معروفة
لدى كل من يتكلم اللغة ،وبالتالي فهي متروكة لعتبارات أخرى تتضح بفعل الستخدام لعناصر اللغة والتعامل في
مجال البلغ والتواصل.
وجملة القول ،أن البحث عن ماله معنى في اللغة وما ل معنى له ،قد أخذ من فكر العلماء المحدثين كثيرا وما
استقر لديهم هو صعوبة المسلك نحو تحديد معنى الجملة ،تحديدا تاما ،واستحالة إقامة معيار صارم ثابت يمكن
بواسطته رصد دللة الجملة ،وما يمكن تسجيله:
أ ـ إن الب حث في دللة الج مل أو القضا يا ،ب حث يت سم بالخطورة وذلك لطبي عة الل غة ال تي تنزع ن حو التطور
والتجدد وترفض أبدا منطق "المعيارية"..
ب ـ إن ما توصل إليه العلماء في مجال بحثهم عن المعنى ،يفتقر إلى طابع الشمولية والعموم ولذلك وجدت
ثغرات في نظرياتهم التي ضعفت على إثرها وزال تأثيرها..
ج ـ إن اعتماد معيار التحقيق أو مطابقة الواقع أو معيار التّساق أو معيار التدعيم كما نادى بذلك العلماء ـ
الذين استعرضنا أفكارهم ـ يربط اللغة بالتحقيق المادي للدللة ،والملحظة المباشرة للمعنى وهو ما فتح
المجال لعتماد معيار "الصدق والكذب" ،بالنسبة للقضايا أو الجمل..
د ـ إن النزوع نحو هدف إثبات معنى محدد للكلمة أو الجملة ،كان دأب علماء اللغة والفلسفة والمنطق ،آخذين
في سبيل ذلك ،بمستويين اثنين هما :مستوى التركيب ومستوى المضمون وهما معياران أساسيان ولكنهما ل
يكفيان لتحديد شامل كامل لدللة الجملة أو الكلمة ،وإنما وجب تظافر عدة أنظمة تأخذ في اعتبارها عالم
المتكلم وعالم المتلقي وطبيعة الخطاب وعناصره ،والمقام الذي يجمع ذلك كله…
- 72 -
- 73 -
الباب الثاني :
- 74 -
- 75 -
الفصل الول:
جهود العرب القدامى في الدراسات الدللية
الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني
تمهيد:
مما يكاد يجمع حوله جل علماء اللغة والدب المحدثين أنه ل يمكن عزل النص عن سياقه الحيوي الذي نشأ في
أجوائه وتأثر بمناخه المعرفي ،بل لولوج فضاء النص العام وتفكيك بنيتة تفكيكا يبرز الصول التي تتحكم في نتاج
العصر المعرفي والضافات التي جاء النص بها وأبعادها الفلسفية ،وجب مراعاة الروافد المعرفية التي أفاد النص
منها أو اتخذ موقفا إزاءها يقول مطاع الصفدي" :ل يمكن تأويل نص إل باسترجاع السياق اللغوي والبيئي
والنثربولوجي العام الذي نما وترعرع النص فيه"( ،)1ثم إن مفهوم التراث المعرفي ل ينحصر زمانيا في الماضي،
وإنما المفهوم الحديث الذي بلوره غادامير ( )Hans – Gorg Gadamerهو امتزاج التراث مع ذاتية الباحث عنه
والملتمس لسس بنائه ،وهذا التراث الحاصل كل مشكل من جدلية الحاضر مع الماضي ،فل وجود لتراث ساكن لنه
ل جدوى منه وإنما الفهم المعاصر المتوافق وكينونتنا الراهنة هو الذي يعطي للتراث أبعاده وذلك بما يتحدد على
أساسه من رواسب ثقافية محمولة في وعاء لغوي ،ومعنى ذلك أن مساءلتنا للتراث العربي تقوم على أساس من
الحوار العادل إذ يتحول التراث إلى ذات محاورة تمتلك رواسبها الثقافية ذات أبعاد معرفية وفلسفية ،وتقوم ذاتنا
المحملة بمعارف مسبقة تشتمل كل خصائص الوجود الثقافي العلمي الراهن وبذلك ينتفي أي تسلط من أي طرف،
وتتغير نظرتنا إلى اللغة الحاملة للفكر التراثي عن كونها كومة رموز خالية من أي عمق دللي ذلك" :إن إرجاع
النص إلى مجرد كومة رموز لعمق دللي وراءها هو منهج مادي ساذج ،يريد أن يناقض المنهج التجريدي الساذج
( )
كذلك الذي يجرد عالم الدللت بمعزل عن النص وسياقه الحيوي الذي قيل أو خط ضمن إطاره ، 2وفي هذا الطار
النظري العام تأتي ضرورة تحديد المناخ المعرفي الذي أنتج فيه المدي كتابه "الحكام في أصول الحكام" ،بما اشتمل
عليه من مفاهيم دللية ولسانية تستند ـ بالطبع ـ إلى منهج يملك رؤية معينة في التعامل مع النصوص اللغوية
وتأويل دللتها بما يتوافق والوعي بعمق الحدث اللغوي مكتوبا أو منطوقا أو مسموعا ،خاصة إذا علمنا أن المدي
عاش في عصر الملخصات للنتاج التراثي المتقدم الذي تأثر بحركة النقل في القرنين الثاني والثالث الهجريين واللذين
شهدا ترجمة لعلوم وآداب اليونان والفرس وغيرهما من القوام ،وظهر جليا أثر الفلسفة اليونانية عامة والمنطق
() استراتيجية التسمية ،التأويل وسؤال التراث ـ ملة الفكر العرب العاصر ص 4ـ عدد 30/31ـ .1984 1
- 76 -
ل عن الفلسفة المسلمين الذين اتخذوا الرسطوطاليسي خاصة في مؤلفات علماء الصول من المتكلمين( .)1فض ً
مواقف متباينة من المنطق اليوناني ،فحرصا منا لمقاربة المنهج المعرفي الذي اعتمده المدي في تقديم قراءاته
التأويلية لبنية الخطاب اللغوي في القرآن الكريم ،عجنا نسائل مجموعة من العلماء الذين افتخر بهم عصرهم ،وذلك
بما قدموه من عطاءات أسهمت بشكل بارز وواضح في بلورة العلوم النسانية في شتى مجالتها في العصر الحديث،
وقد اعتمدنا في سبيل ذلك التدرج الزمني بدءا بالقرن الثاني الهجري وانتها ًء إلى القرن الذي سبق المدي ،وحددنا
مجالت معرفية تتباين من قرن لخر ،ففي مجال علم أصول الفقه اخترنا الشافعي ـ رضي ال عنه ـ لكونه أول
من سن قواعد عامة لستنباط الحكام والدللت من القرآن الكريم ،معتمدا أساسا على القياس والفهم العميق لمعاني
اللغة العربية ،وقد كان اعتمادنا لبراز إسهامات الشافعي في مجال الدللة على كتابه "الرسالة" خاصة ،وملخصه
كتاب" :أحكام القرآن" وبما أن البلغة وفن النظم لها صلة أساسية بعلقة اللفظ بالمعنى والتركيب بالدللة السياقية،
أبرزنا إسهامات علماء البلغة ملخصة في كتابي الجاحظ "البيان والتبيين" ،خاصة وكتاب "الحيوان" إل أن القرن
الخامس الهجري قد شهد بروز عالم فذ له حس لغوي نافذ في مجال النظم وهو عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلئل
العجاز" ،ولم نكتف بالجاحظ كمسهم في إرساء نظرية بلغية ذات أهمية بالغة لكون عبد القاهر قد تخطى المفاهيم
الولية التي كانت معروفة بها البلغة العربية إلى مفاهيم جديدة ل زالت أحكامها نافذة إلى يومنا هذا رغم تقادم
الزمان وبعد المسافة بيننا وبين صاحبها ـ الجرجاني ـ… وقبل الجرجاني توقفنا عند صاحب كتاب "الخصائص"
لنجليَ فيه بعض الحكام اللغوية التي أضحت سننا مطردة في فن النشاء والتعبير اللغويين ،ول تخفى على أي مطلع
على التراث اللغوي العربي مكانة ابن جني في التأسيس لبنية الخطاب اللغوي ،بما أرساه من نظريات في اللغة انبنت
بطول المعاينة للياتها في التشكيل الحرفي واللفظي والسياقي ،تنم عن امتلك حقيقي لدوات المساءلة اللغوية لسنن
العرب في كلمها ،وآخر ما ختمنا به رسم الجواء المعرفية التي ول شك أفاد منها المدي ـ هو الشيخ الرئيس
ابن سينا فرصدنا عطاءاته التي تخص الدللة في كتبه" :منطق المشرقين" ،وكتابه "العبارة" ،و"الشفاء" ثم كتابه
"الشارات والتنبيهات" ..وقد حاولنا في كل ذلك أن نقدم مجمل السهامات في مجال الدرس اللغوي عامة والدللي
على وجه الخصوص التي يكون علي بن محمد المدي قد أفاد منها إفادة تدل على النضج المنهجي الذي وسم أبحاثه
في كتابه الحكام ،وقد اكتفينا عند بعض المتقدمين ـ ممن وقع عليهم اختيارنا كنماذج لقرن معرفي معين ـ ببعض
كتبهم عن البعض الخر وذلك خاضع للبرنامج الذي سطرناه حيث ل ينبغي أن نخوض في مباحث الدللة عند عالم
من هؤلء المتقدمين خوضا شاملً وعميقا وكأنه موضوع البحث الذي عكفنا فيه على تجلية جهود المدي اللسانية
والدللية ،واضعين مقاربة علمية نحاول من خللها ممارسة فعل الحفر والبناء في عطاءات المدي اللغوية بناء ل
يسلب التراث اللغوي خصائصه وسماته وأبعاده المعرفية ،كما ل يقدم تقديما مشوها ومزيفا نتيجة لتلك الدوات
ل معرفيا لغويا نراعي فيه شروط المثاقفة التي تتنافى وشروط المشاكلة، النظرية الحديثة التي عقدنا من خللها جد ً
فيغدو كتاب المدي مشروعا ثقافيا متجدد الفعالية يطلب قراءة لغوية تتماشى وسنن الكلم والكتابة آنذاك وبذلك نكون
قد وصلنا بين حلقات المعرفة اللغوية ،وإن لم نعرض لكل فعاليات التراث اللغوي قبل عصر المدي ،ولكن حسبنا أن
نثير مسائل تخص حقل الدللة المعرفي عند بعض العلماء ،الذين اعتبروا كمقدمات مهمة لم تتضح معالم نتائجها إل
في القرون التالية لها ،وخاصة مع المدي الذي تعد أبحاثه وأفكاره حلقة مهمة ل يمكن إسقاطها في عطاءات القرنين
السادس والسابع الهجريين…
() سنعرض لذه الفكرة ف مبحثنا حول الشافعي ،وطرق الستدلل عنده ،والمدي ف كتابه "الحكام ف أصول الحكام". 1
- 77 -
1ـ الجهود الدللية عند الشافعي ( 150هـ 204هـ):
من خلل كتابه "الرسالة".
يعد المام الشافعي أول من وضع البواب الولى لعلم أصول الفقه ،بحيث بيّن العام من اللفاظ والخاص ،كما
أشار إلى طرق تخصيص الدللة وتعميمها باعتماد القرائن اللفظية والعقلية ،وكيفية استنباط الحكام بالعتماد على
التحليل المستند على النقل ،يقول الشافعي :و"رسول ال عربي اللسان والدار ،فقد يقول القول عاما يريد به العام،
()1
وعاما يريد به الخاص".
وأقدم ما وصلنا مكتوبا في علم أصول الفقه هو كتاب "الرسالة" للشافعي يُجمع على ذلك العلماء المحدثون
والقدمون على السواء ،وكان الكتاب محاولة لوضع قواعد لفهم النصوص القرآنية وتحديد الدللة المقصودة وفق
منهج أظهر مافيه هو القياس الفقهي .يقول الدكتور علي سامي النشار":يجمع مؤرخو "علم الصول" على أن أول
محاولة لوضع مباحث الصول كعلم نجدها عند الشافعي ،وأنه لم يكن قبل هذا العهد ثمة محاولت لوضع منهج
أصولي عام يحدد للفقيه الطرائق التي يجب أن يسلكها في استنباط الحكام" ولم ينفرد المحدثون من باحثي المسلمين
أو من المستشرقين بهذا القول وحدهم .بل إن علماء المسلمين القدمين شاركوا فيه بحيث نرى إماما عظيما كابن
حنبل ( 214هـ ـ 285هـ) ،يقول" :لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي" ،كما يقول الجويني
(شارح ممتاز من شراح الرسالة)" :أنه لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الصول ومعرفتها" ،كما يقول ابن رشد:
"النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الول( )2تلك المصطلحات التي أعطاها الشافعي أبعاده
الدللية ،وأضحت معروفة الحدود في علم أصول الفقه إلى يومنا هذا ،ل يمكن أن نعطيها قدرها من البداع العلمي،
إل إذا أخذناها في عصرنا الول الذي ظهرت فيه ،ذلك أنه ليس من اليسير أن يتوصل عالم إلى حصر أدوات علمه
النظرية في بداية تشكل بنية العقل العربي ،وخاصة وأن فقه القرآن وتأويل معانيه الراجحة ،كانت آنذاك تعتمد على
النقل والثر لقرب عهدها بعصر الرسول ـ عليه الصلة والسلم ـ وقد طرح هذا النضج المبكر لدى الشافعي
بمعرفته طرق تحديد الدللت عدة أسئلة تحاول إيجاد التحليل الكافي لذلك النضج المعرفي المبكر ،وتقف على أصول
منهج الشافعي وروافده المعرفية ،فمن المحققين من رد تلك القواعد الفقهية التي استنبطها الشافعي إلى تلك
الرهاصات الولية التي تمظهرت في تعامل جمهور الصحابة العلماء مع المسائل المستجدة بعد وفاة النبي ـ صلى
ال عليه وسلم ـ ،يقول ابن خلدون":ثم نظرنا في طرق استدلل الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقايسون
الشباه منها بالشباه ،ويناظرون المثال بالمثال بإجماع منهم (…) ،فإن كثيرا من الواقعات بعده ـ صلوات ال
عليه وسلمه ـ لم تندرج في النصوص الثابتة فقايسوه بما ثبت وألحقوها بما نص عليه ،بشروط في ذلك اللحاق،
تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين (…) واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي "أصول الدلة"( )3ويكاد
يجمع المؤرخون أن مناهج العلماء المسلمين مدينة بشكل بارز إلى منهج الشافعين بل إن من تل الشافعي ما وسعه
إل أن يقتفي أثر منهجه ويسير على سنن القواعد الصولية ،التي أرساها والتي يكون قد أخذها ،أو استوحاها ممن
سبقه من العلماء الحناف ومن جمهور الصحابة الفقهاء ،يقول الدكتور سامي النشار …":وفي الحقيقة إن تاريخ
وضع المنهج الصولي يذهب إلى حد أبعد من عصر الشافعي بكثير ،بحيث ل يجب أن نلتمسه فقط عند العلماء
الحناف في السنوات التي تسبق عصر الشافعي ،بل في عصر الصحابة أنفسهم ولدى الكثير من فقهائهم ،وعن هؤلء
() الرسالة ـ ص .213 1
- 78 -
الفقهاء أخذت معظم القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الحكام"( )1ونشير في هذا المجال إلى تلك البحاث التي
أثارها المتكلمون معتمدين على المنهج العقلني في تحليل الحكام وتأويل النصوص ،ولشك أن علماء الصول بدءا
من الشافعي قد أفادوا من طرق المتكلمين في استنباط الحكام ومقايسة الشباه وإلحاق المثال ببعضها لتشكيل القانون
المنطقي المطرد ،وقد أخذ العلماء الحناف بالقياس العقلي حيث كانوا يلحقون الصول بالفروع على نقيض الشافعي
الذي سوف يطلع فيما بعد بمنهج يقيم فيه الفروع على الصول( )2ويتجاوز القياس الحنفي إلى نظرية للمعرفة تعتمد
أساسا على النصوص المنقولة وعلى علقة اللفاظ بالمعاني يقول فخر الدين الرازي" :كان الناس قبل الشافعي
يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون ،ولكن ماكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلئل
الشريعة ،وفي كيفية معارضتها وترجيحها ،فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانونا كليا يرجع في
()3
معرفة مراتب أدلة الشرع إليه.
بينما يذهب بعض المؤرخين إلى إلحاق فكر الشافعي في استنباط الحكام وتحديد القواعد الصولية ،بفكر
اليونان ويسوقون لذلك علل وأدلة ترجح ذلك ،منها أن كتب اليونان في المنطق والفلسفة كانت قد نقلت إلى اللغة
ل على ذلك كان المام ـ كما يذكر هؤلء المؤرخون ـ على معرفة باللغة اليونانية .كما العربية قبل الشافعي ،فض ً
()4
ذهب ابن القيم إلى أن الشافعي في قوله بالقياس الصولي يشارك أرسطو في قوله بالتمثيل ظنيا ،أي كل من
قياس الشافعي وتمثيل أرسطو ل يفضيان إلى اليقين .غير أن هذه العلل والدلة وغيرها مما ذكره المتقدمون أو
المتأخرون من المؤرخين ل تثبت إثباتا قطعيا تأثر الشافعي بالمنطق الرسطي خاصة إذا علمنا أن الشافعي في طرق
الستدلل ل يعتمد على العقل إل لمما ،بل إن اعتماده يكاد يقتصر كليا على النقل ،ومقارنة النصوص ببعضها،
وإسناد بعضها ببعض في إثبات الدللة يقول مصطفى عبد الرازق وهو يصف منهج الشافعي في كتابه "الرسالة":
ل ثم الخذ في التقسيم مع التمثيل والستشهاد لكل قسم ،وقد يعرض "التجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أو ً
الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها ،وينتهي به التمحيص إلى تخيير ما يقتضيه منها ـ ومنها أسلوبه في
الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه ،حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف
في الستدلل والنقض ومراعاة النظام المنطقي حوارا فلسفيا على رغم اعتماده على النقل أولً وبالذات واتصاله
بأمور شرعية خالصة" )5(.وما هو ثابت لدى المحققين في حياة الشافعي العلمية ،أنه كان يدعو إلى ضرورة اللمام
الشامل بفنون اللغة العربية ،لن فهم النصوص ل يتأتى بغير ذلك ،فأصحاب العربية أخلق بتأويل وفهم معاني القرآن
والسنة ،ينقل معروف الدواليبي إشادة الشافعي بأهل العربية فيقول" :أصحاب العربية جن النس يبصرون ما ل
يبصر غيرهم"( ..)6ومصطلح "العربية" كان يطلق عصرئ ٍذ على علوم العربية كالنحو والبلغة ،ويعني ذلك أن
الشافعي كان ذا اطلع واسع بعلم العربية ،وطرق تأدية المعاني من غير لبس ،وظاهر ذلك من المباحث اللسانية
والدللية التي أثارها في كتابه "الرسالة" ،وملخصه كتاب":أحكام القرآن" ،لقد عقد المام الشافعي بابا عن الختلف
بين الحاديث في رسالته مثبتا أن اتفاق العبارات ل يعني اتفاق المدلولت .يقول الشافعي موضحا وكاشفا أسرار
() مناقب الشافعي ـ ص 102 -98ـ نقله د .سامي النشار ف كتابه منهج البحث عند مفكري السلم ـ ص .83 3
- 79 -
بلغة الحديث الشريف" :ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله ويسن في غيره خلف الجملة فيستدل
على أنه لم يرد بما حرم ما أحل ول بما أحل ما حرم"( ..)1إن هذا الفهم العميق لمقاصد الكلم ينم عن امتلك الشافعي
لحس لغوي ،مطّلع على سنن القول ودللته ،ومراس طويل للفصيح من لسان العرب ،بل إن رصف اللفاظ وحسن
وقوعها في سياق الجملة ،مما يبين عن دللة اللفظ الذي كان مبهما في صيغته المعجمية ،وهي إشارة إلى فضل
تسييق اللفظ من أجل تحديد دللته ،وهو ما نادت به النظرية السياقية ( )Theorie Contextuelleحيث استقر لدى
أصحابها من علماء الدللة ،أنْ ليس للفظ من دللة إل دللته السياقية ،يقول الشافعي في إشارته إلى معنى اللفظ
السياقي عند العرب في كلمها" :وتبتدئ الشيء من كلمها يبين أول لفظها فيه عن آخره ،وتبتدئ الشيء يبين آخر
لفظها منه عن أوله( ،)2وتأكيدا لذلك يضع المام عنوانا لباب سماه":الصنف الذي يبين سياقه معناه"( ..)3ويمكن أن
نلمس نظرية الشافعي المعرفية بعرض السبل التي يدرك بها النسان معنى السياق وقد حصرها المام في النصوص
الدينية وفي اللغة العربية وسنن العرب في كلمها فضلً عن الحس السليم في تمييز الخاص والعام والظاهر والخفي
الدللة ونظرية المعرفة تعني الطرق المنطقية التي توصلنا إلى إدراك ماهية المور المعقولة والمحسوسة وهي نظرية
أسقطت من تناولها البحث في ذات ال تعالى ،وفي الفضاء والقدر (الجبر والختيار) ،وفي الخلود (بعد الموت) كما
قال بذلك كبار الفلسفة( ،)4ومن تمام المعرفة اللغوية التي ينص عليها الشافعي ،هو العلم بمعاني اللغة واتساع لسانها،
وهي الشارة إلى وجود المجاز الذي عدّ عند أهل العربية القدامى من طرق توسيع المعنى ،وكذلك ينبه الشافعي إل
أن الكلم قد يخرج عن ظاهره كما يخرج عن عمومه وطريق معرفة ذلك هي القرينة اللفظية ،يقول موضحا ذلك
كله ،ومحددا طرق المعرفة والستدلل" :فإنما خاطب ال بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها ،وكان مما
تعرف من معانيها اتساع لسانها ،وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر ويستغني بأول
هذا منه عن آخره ،وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ،فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعاما
ظاهرا يراد به الخاص ،وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهرة( ،)5إن هذا التعيين الدقيق لمنافذ المعرفة،
وهذا التقسيم الواضح لصناف اللفظ والدللة ،يؤكد أن الشافعي في الصدر الول كان ذا وعي لغوي كبير بمستويات
الكلم ،وهو ما جعله حقيقة في طليعة العلماء الذين وضعوا منهجا بيّنا في استنباط الحكام ،وحصر الدللت
المختلفة ،بالنظر الدقيق لظاهر الخطاب اللغوي وباطنه ،ثم إن المادة اللغوية التي كان الشافعي يرتكز عليها أساسا
لصدار السنن الدللية المطردة هو نصوص القرآن الكريم وما صح من الحديث الشريف ،وهذا ما يعطي لتلك
الحكام مكانتها من الدقة وصيرورتها لن تكون شاملة لكلم العرب ،وسننها في فن القول والكتابة ،ويكفي أن نعرض
لعناوين بعض البواب التي بحثها الشافعي لنستشف عمق التقسيم لمستويات الكلم عنده ،يقول":باب بيان ما أنزل من
الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص"" ،باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام
والخصوص""،باب مانزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص( ،)6وغيرها من البواب ،إن أحاديث النبي ـ
صلى ال عليه وسلم ـ وهي أدنى مستوى من الفصاحة وحسن التأليف من القرآن الكريم تكتسي عند الشافعي مقاما
رفيعا وهي أقرب إلى كلم العرب الفصحاء ،مستوى من القرآن الكريم الذي يبقى من أعلى مستويات الكلم على
() بوث ومقارنات ف تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة ف السلم ،ص .107 4
- 80 -
الطلق .وفي ذلك مايجيز سحب تلك القوانين التي خصها الشافعي أحاديث النبي على كلم العرب .والقصد من ذلك
تبيين معالم المشروع اللساني الذي يهدف اللغويون إلى وضعه في العصر الحديث ،بحيث تكتسب تلك القواعد
الصولية التي شملت نصوص القرآن والحديث الشريف طابع الشمولية لكل أقسام الكلم في اللغة العربية ،وقد ربط
الشافعي تحليله لبنية الخطاب على أساس موقعه من المتلقي الذي يتخذ منه موقفا من محموله ،وذلك ظاهر في أن
الخطاب يحمل تأليفا لمدلولته ليس غريبا عما اعتاد سماعه المتلقي الذي يقوم بعملية تفكيك لبنية الخطاب بعد حصر
مدلولته ،والوقوف على مقاصد صاحب الخطاب .ويقول الشافعي مبينا موقف المسلمين الفقهاء من الحديث النبوي
الذي التبست دللته فلم يعرف أظاهر عام هو أم باطن خاص .…" :وهكذا غير هذا من حديث رسول ال ـ صلى
ال عليه وسلم ـ هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدللة عنه كما وصفت [بطرق تحديد الدللة لفظيا] أو بإجماع
المسلمين :أنه على باطن دون ظاهر ،وخاص دون عام ،فيجعلونه بما جاءت عليه الدللة ويطيعونه في المرين
()1
جميعا".
كما كان للشافعي رؤية دلئلية للعلمة غير اللغوية إذ في معرض تفسيره للفظ "العلمات" الوارد في القرآن
الكريم .استند في تحديد مدلولها على العقل ،يقول ال تعالى" :وعلمات وبالنجم هم يهتدون"( )2قال الشافعي" :فخلق ال
لهم (أي للمسلمين) علمات ونصب لهم المسجد الحرام ،وأمرهم أن يتوجهوا إليه .إنما توجههم إليه بالعلمات التي
خلق لهم ،والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلمات( )3وأثار الشافعي مسألة الترادف في اللغة
وقد أثبته في معرض بحثه عن دللة لفظ "شطر" الوارد ذكره في قوله تعالى مخاطبا نبيه ـ عليه الصلة والسلم
ـ" :ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام"( ،)4لقد أحصى الشافعي ألفاظا تناظر لفظ "شطر" في الدللة
منها :وجهة ـ قصد ـ تلقاء.
ثم قال" :وكلها بمعنى واحد وإن كانت بألفاظ مختلفة"( )5وقد أُدرج موضوع "الترادف" ضمن مباحث الدللة في
العصر الحديث ،لكونه له ارتباط بتأدية المعنى بأشكال لغوية مختلفة وهي مسألة أضحت مدار جدل كبير بين علماء
اللغة المحدثين أثبتها البعض وأنكرها البعض الخر ،كما ناقشها القدمون وانقسموا إلى قسمين :مثبت للترادف ومنكر
لوجوده في اللغة ،وقد ألف هؤلء كتبا عديدة للتدليل على صحة زعمهم ،نذكر من بينهم الرّماني صاحب كتاب
"اللفاظ المترادفة" ،وكراع النمل صاحب كتاب "المنتخب" والفيروز آبادي الذي ألف كتابا أسماه "الروض المسلوف
فيما له اسمان إلى ألوف" .أما المنكرون لوجود الترادف من القدمين فنذكر منهم :ابن فارس في كتابه "الصاحبي"
وأبو هلل العسكري في كتابه "الفروق في اللغة"..
أما المحدثون فقد وسعوا من دائرة الجدل اللغوي حول مسألة الترادف ،وساق كل فريق دلئل تثبت أو تنكر
وجود الترادف في اللغة النسانية كلها ،فقال المثبتون أنه ل خلف في وجود الترادف بأقسامه( :المتقارب دلليا ـ
شبه الترادف ـ الترجمة ـ التفسير)( )6وإنما الخلف في وجود الترادف الكامل بين لفظين أو أكثر ذلك أن هذا النوع
() د.أحد متار عمر ،انظر علم الدللة ،ص .223 -221 -220 6
- 81 -
يقتضي التطابق التام بين المكونات الساسية لجميع اللفاظ التي تبدو مترادفة فضلً عن التناظر التام بين سماتها
الدللية ،أما المنكرون فقد استندوا على نفي الترادف ،لكون الختلف الفونولوجي بين اللفاظ يقتضي اختلفا في
المعنى( )1ويبدو أن ما قدمه المثبتون من العلل ومن التقسيم لصناف الترادف في اللغة ،هو أرجح وأقوى مما قدمه
المنكرون ،وذلك هو ما مال إليه الشافعي بعد معاينته لتلك العلقات التي تربط اللفاظ ببعضها في القرآن الكريم ،ول
يفوتنا أن نسجل كذلك إثارة الشافعي لمسألة المشترك اللفظي في لسان العرب ففي تفسيره لقوله تعالى في حق نبيه
الكريم" :وأزواجه أمهاتهم"( )2حيث يقول" :مثل ما وصفت :من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معان
مختلفة"( )3وبذلك غدا الشافعي بما خطه من القواعد ووضعه من السنن ،مصدر إلهام لجميع علماء الصول ،بحيث
اتخذت "رسالته" كأساس لي استنباط دللي من القرآن الكريم ،والحديث الشريف ،وغدت أبوابها معروفة لدى علماء
الدين الذين عكفوا عليها شرحا وتمحيصا .يقول الدكتور سامي النشار" :واستمرت رسالة الشافعي سنوات طويلة
تسيطر على المناهج الصولية في العالم السلمي .ولم يبدأ التحقيق والتمحيص فيها إل بعد أكثر من قرن حين بدأ
()4
المام محمد بن عبد ال أبو بكر الصيرفي (320هـ ـ )932يضع شرحه عليها .وقد حفظ لنا التاريخ أسماء تسعة
من شراح الرسالة"( ،)5وكما أثبت المؤرخون إفادة الشافعي من تلك الحركة العلمية التي قام بها المتكلمون ،فقد أعطى
الشافعي دفعا قويا لعلم الكلم ،وذلك أن أضحى بفضله صنف من الصوليين يمزجون بين طريقة المتكلمين وطريقة
الفقهاء في الستدلل آخذين بالمنهج الذي أرسى أطره الشافعي ،من ذلك تجريد القواعد العامة من المسائل الفقهية،
كما صنع صاحب الحكام في أصول الحكام.
() هؤلء التسعة هم :الصيف :النيسابوري .حسان بن ممد .القفال ممد بن علي ،الافظ أبو بكر الورف ،أبو زيد الروي ،يوسف بن عمر .جال 4
() من هذه الفات الت تصيب النطق :التعتع ،التمتمة ـ البسة ـ العقدة ـ العقلة… انظر البيان والتبيي باب عيوب البيان ،ص .27 6
() د.ميشال زكريا ،انظر ذلك ف كتاب" :اللسنة ،علم اللغة الديث ـ ص .70 7
- 82 -
قسم العلقة إلى أصناف ،كما وقف على وظائف الكلم ،لن ذلك هو جوهر البيان وفي إطاره تناول الدللة السياقية،
واختيار المكان والمقام الملئمين لموقع اللفظ والمعنى ،كما خاض الجاحظ في ذلك الجدل الذي دار حول نشأة اللغة:
أتوفيقية هي أم اصطلحية توفيقية؟… تلك بعض البحاث التي تناولها الجاحظ ضمن مباحث البيان ،نحاول أن نعبر
إليها بغية اقتناص ما نستطيع أن نعثر عليه من مفاهيم لسانية ،ودللية…
ولصعوبة إنشاده ثلث مرات متتالية ظن البعض من اللغويين أنه من أشعار الجن ،وذلك لما بين كلماته من
تنافر يعسر نطقها مجتمعة في سياق واحد ،ولما في إنشادها من الستكراه والنبو ،والبلغة عند الجاحظ ليس إل أن
تؤلف في نسق صحيح بين كلمات أو بين حروف اللفظ ثم تراعي حسن موقع المعنى من ذلك لتقذفه إلى سمع
المتكلم فإذا هو يعيَه ويستوعبه يقول الجاحظ" :ل يكون الكلم يستحق اسم البلغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه
معناه ،فل يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"( ،)3ثم إن القدر المساوي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن
يصرف المتكلم كلمه على وجه ل إطناب فيه ،ول حشو لن تآليف الكلم سليمة واقتضاؤها للمعنى صحيح يقول
- 83 -
الجاحظ" :وإنما اللفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها ،وشريفها لشريفها ،وسخيفها لسخيفها،
والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من اللفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات
الملتبسة"( )1فعلى قدر المعاني تأتي اللفاظ ،فقد تكفي الشارة الحقيقية للمعنى الظاهر البعيد عن اللبس وقد تتطلب
المعاني الخفية التي تحتمل دللت كثيرة إلى ألفاظ كثيرة قصد إجلء الدللت المشتركة والبانة عن المعنى المراد.
وإن إدراك الجاحظ إلى أن اللفظ هو عبارة عن مقاطع صوتية تنتج عنها حروف وأصوات ،ليعبر عن القدرة التي
أوتيها في معاينة اللغة يضاهي في ذلك ما أشار إليه أندري مارتينه في قوله بالتلفظ المزدوج Double articulation
يقول الجاحظ" :الصوت وهو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف… ول تكون الحروف كلما
()2
إل بالتقطيع والتأليف"
- 84 -
كاليد والرأس أو بأشياء أخرى خارجة عن أعضائه كالثوب والسيف .والحقيقة أن الجاحظ قد استطاع أن يحصر
الشارة غير اللفظية حصرا يتجاوز به عصره الذي نشأ فيه إلى عصر انبثاق علم الرموز .يقول الجاحظ" :فأما
الشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب إذا تباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف ،وقد يتهدد رافع السيف أو
السوط فيكون ذلك زاجرا ومانعا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا" )1(.أما علقة الشارة باللفظ فهي تفصح عن مدلوله
وقد تنوب عنه في الدللة عليه ،كما تعتبر الشارة إيجازا أو حذفا أستغني فيه اللفظ في موضع ل يختل فيه البيان
بالشارة .يقول الجاحظ" :والشارة واللفظ شريكان .ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب
عن اللفظ وما تغني عن الخط… ولول الشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص )2(:إن للشارة مجالها الوظيفي
قد ل يلجه اللفظ ،وهو الدللة على "معنى خاص الخاص" ،ويقصد به الجاحظ المعنى الموجز إيجازا ،ل يكون إل
بالشارة دون غيرها من أدوات البيان الخمس ،وقد يكون اللفظ ناقصا في الدللة على المعنى ل يرفع عنه النقص إل
بمصاحبة الشارة له .يوضح الجاحظ ذلك بقوله" :وحسن الشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان"( ،)3أما
الدللة بالعقد أو الحساب فهي كذلك من شمول أصناف البيان الخمس ،فالرقم الحسابي الذي تضمنته آيات القرآن
الكريم يحمل دللت ومنافع جليلة ،بل إن دللة الرقم الرياضي هي من الدللت المنطقية ،فسواء كانت مفردة أو
أضيفت لبعضها البعض فإنما هي دوال تهدي إلى مدلولت ،إذ تُتخذ مدرجا يُرتقى به من المعلوم فرضا إلى المجهول
تقديرا .يقول الجاحظ ،مؤكدا على قيمة دللة العقد ضمن أنظمة البلغ الخرى .." :والحساب يشمل على معانٍ
ل ـ معنى الحساب في كثيرة ،ومنافع جليلة ،ولول معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن ال ـ عز وج ّ
الخرة ،وفي عدم اللفظ وفساد الخط ،والجهل بالعقد فساد جل النعم وفقدان جمهور المنافع واختلل كل ما جعله ال ـ
ل ـ لنا قواما ومصلحة ونظاما"(..)4
عزّ وج ّ
أما الدللة بالنصبة أو الحال ،فهي في حقيقتها امتداد للدللة بالشارة لنها دللة كل صامت أو ماكان في حكمه
من جماد أو إنسان أو حيوان ،فصورته المرئية أو المسموعة تحمل مدلولت ترتبط بشكل علئقي مع دوالها .وبذلك
يكون الجاحظ قد نظر إلى عالم الشارة نظرة شاملة وهو في ذلك يستلهم أحكامه من القرآن الكريم ،الذي جعل ال فيه
ل ـ يقولكل شيء هو آية أو علمة من علمات الكون الفسيح ودليل من دلئلية ألوهيته وربوبيته ـ عزّ وج ّ
الجاحظ" :وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد ،وذلك ظاهر في خلق السموات والرض،
وفي كل صامت وناطق ،وجامد ونام ومقيم ،وظاعن وزائد وناقص .فالدللة التي في الموت الجامد .كالدللة التي في
الحيوان الناطق .فالصامت ناطق من جهة الدللة والعجماء معربة من جهة البرهان"( .)5إن البلغة عند الجاحظ ـ
إذن ـ تهدف إلى تحقيق غاية من الكلم البشري تتلخص في حسن البلغ بوسائل مختلفة ذات نسق تنظيمي محكم،
وهو بذلك يؤسس لمفاهيم لسانية ودللية تتوخى الشمولية في التناول ،منطلقاتها شروط توصيل الدللة كما يقصد إليها
المتكلم مع وعي دقيق بأوضاع المستمع المتلقي ،وأجوائه النفسية والحالية العامة .يقول الجاحظ ملخصا ذلك كله:
"وعلى قدر وضوح الدللة وصواب الشارة وحسن الختصار ودقة المدخل يكون إطار المعنى"( ..)6ويحصل ثمة
- 85 -
البلغ بتوافر سمات تعود إلى الشارة وإلى طريق تأديتها من دقة الختيار وتناسبها مع المعنى المؤدي ،دون النظر
إلى أداة ذلك من أدوات البيان الخمس .وقد أورد الجاحظ تلخيص هذه الدوات في كتاب الحيوان إل أنه لم يشر
صراحة إلى أداة النصبة أو الحال وذلك لكون الكتاب كان قد ألفه قبل كتاب البيان والتبيين الذي وردت فيه الدوات
خمسا مفصلة ومحددة ،يقول الجاحظ" :وجعل [ال] آلة البيان التي بها يتعارفون (الناس) معانيهم والترجمان الذي إليه
يرجعون عند اختلفهم في أربعة أشياء ،وفي خصلة خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الربعة في جهاتها ،فقد نزل
بجنسها الذي وضعت له ،وصرفت إليه .وهذه الخصال هي :اللفظ والخط والشارة والعقد ،والخصلة الخامسة ما
أوجد من صحة الدللة ،وصدق الشهادة ووضوح البرهان ،في الجرام الجامدة والصامتة والساكنة"(..)1
() .Essais de linguistique generale. p. 98ـ وانظر شرح ذلك ف الباب الول :مبحث اللغة ،ص .37 2
() د.ميشال زكريا " :اللسنية ،علم اللغة الديث" ص .54 4
- 86 -
د ـ أصل اللغة عند الجاحظ :
يذهب الجاحظ في البحث عن أصل اللغة مذهب القائلين بالتوقيف ل التوفيق ،ويقدم لصحة مذهبه أدلة وحجج
منها كلم عيسى ـ عليه السلم ـ بالحكمة وهو صبي ،كما أن آدم وحواء كانا محتاجين للغة ،للتفاهم والتحاور
والتشاور فأخذ ال بأيديهم وألهمهم لغة ،وحيا من عنده ،ثم إن القرآن الكريم قد أتى بألفاظ لم يعرفها العرب في
جاهليتهم وذكر الجاحظ بعضا منها كتسمية كتاب ال قرآن ،والتيمم مسح على التراب ،والقذف فسق ،إن ذلك كله لم
يكن في لغة أهل الجاهلية )1(.ومع ذلك أقر الجاحظ بوجود ألفاظ جديدة كانت ثمرة للتواضع والصطلح بين أهل
اللغة استدعتها ظروف مستجدة ،وعلوم فرضت مصطلحات جديدة حتى غدا لجمهور الفقهاء وعلماء أصول الفقه
وأهل اللغة والدب ،لكل معجمه الخاص ،فكان ذلك اصطلح على نظام علمي داخل نظام علمي عام .فالجاحظ
كان يميل إلى القول بأن اللغة إلهام في الصل إل أنه يقول بالصطلح كذلك لن المعاني غير متناهية ،والعالم
الدللي غير محصور ولذلك قد يلجأ المتكلم إلى الحتيال على نفسه وعلى اللغة ،وذلك ليغطي عن قصوره
وقصورها ،لنه ل يستطيع أن يحيط بعالم المعنى كما أن اللغة ل يمكنها أن تعبر عن كل ما يشكل عالمه الدللي،
فيلجأ عندئ ٍذ إلى اختراع أنظمة جديدة للتواصل يكون للصطلح فيها المحل الول ولكنها ـ هذه النظمة الجديدة ـ
تعيش داخل نظام كلي عام هو اللغة الصلية الولى.
() د.ميشال عاصي ،مفاهيم المالية والنقد ف أدب الاحظ ،ص .166 2
- 87 -
بحسب أصناف الناس في المجتمع وتباين مقاماتهم وأحوالهم .وتلك رؤية علمية في غاية الدّقة لطبيعة وجوهر العملية
البلغية ،التي يراعى فيها الشروط الموضوعية (الخارجية) والشروط الذاتية التي يتصف بها الخطاب وصاحبه وهو
ما تنادي به بعض المدارس اللسانية الحديثة التي تدعو إلى ضرورة الحاطة بوضع المتلقي النفسي والجتماعي حتى
ل يقع المعنى في انسداد دللي .وتلك إشارة إلى وجوب التوفيق عند المتكلم بين خطابه ومقام المستمع المتلقي ،ويعني
ذلك أن المتكلم كان قد قام بمطابقات تركيبية تشمل المطابقة النحوية (التأليف على سمت كلم العرب) ،والمطابقة
ل على المطابقة بين اللفظ والمعنى وحسن موقع الكلمة من السياق ،وهو ما البلغية (معرفية الفصل من الوصل) فض ً
تشير إليه نظرية الوقوع أو الرصف ( )collocational theoryحيث يعرف ستيفن أولمان الوقوع أو الرصف
بقوله" :هو الرتباط العتيادي لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة" )1(.ثم إن عرض الجاحظ لموضوع التنافر
الحادث بين الكلمات يقدم التقدير الكافي لمنع الوقوع أو الرصف في بعض السياقات ،وقد أكدت دراسات دللية تالية
في النظرية السياقية ،أن الجملة ل تعتبر كاملة المعنى إل إذا صيغت طبقا لقواعد النحو ،وراعت توافق الوقوع بين
مفردات الجملة وتقبلها أبناء اللغة بحيث يعطونها تفسيرا ملئما وهو ما سمي باسم التقبلية( ،)Acceptability( )2كما
اتضح في الدرس الدللي الحديث أنه كلما كان المتلقي على علم مسبق بفحوى الخطاب ،كلما كان استيعابه للدللة
ل مفصلً أكثر ،واتخذ الخطاب نمط اليجاز والقتصاد ،أما إذا كان المتلقي ممن ل يستوعب الخطاب إل إذا كان كام ً
لعتبارات شتى ،فإنّ ذلك يقتضي التبسيط في بنيته ولذلك يقول الجاحظ" :رأينا ال تبارك وتعالى إذا خاطب العرب
والعراب ،أخرج الكلم مخرج الشارة والوحي والحذف ،وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا
وزاد في الكلم"( .)3وقد يبلغ الحذف تمامه في الضراب حيث يزول كل شيء وتبقى المعاني عارية "غفلً غير
موسومة"(.)4
إن المقام ومحدودية الدراسة ،ل تسمح لنا أن نفيض في المباحث اللغوية التي أثارها الجاحظ ،ولو استرسلنا في
عرض عطاءات الجاحظ اللسانية والدللية لضاق بنا المجال ولحتاج ذلك لدراسة مستقلة ،تحاول أن تقارب بين ما
أبدعه الجاحظ وما قررته الدراسات اللغوية الحديثة .وحسب الجاحظ –من خلل ما قدمناه من عرض مقتضب -أنه
كرّس رؤية علمية شاملة ،إذ نظر إلى بنية اللغة نظرة كلية آخذا في ذلك بمبدأ أن الدللة ل تتحقق إل بتفاعل النساق
اللغوية المختلفة ،منها ما يخص المرسل ومنها ما يخص المتلقي من أهل اللغة ،كما لم يغفل نسق المحتوى
والمضمون فضلً على قناة الرسال وعنى بها التركيب وسماته الصورية من تآلف الكلم وفق قواعد التركيب والنحو،
وما أظهره الجاحظ هو مرونة النظام اللغوي ،وقابلية الشكل والمحتوى إلى التغيير في ظل معطيات البلغ
والتواصل ،وأقرب تمثيل لذلك هو النزياح الدللي المعبر عنه بالمجاز.
() ممد الصغي بنان ،النظريات اللسانية والبلغية والدبية عند الاحظ –من خلل البيان والتبيي ،ص .270 4
- 88 -
جني من أعظم العلماء الذين قدموا نموذجا مشرقا لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي ،فبدت اللغة العربية في
"خصائصه" لغة ل تدانيها لغة لما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلم ،والبانة عن المعاني بأحسن وجوه
الداء ،كما فتح أبوابا بديعة في العربية ل عهد للناس بها قبله كوضعه لصول الشتقاق بأقسامه ،ومناسبة اللفاظ
للمعاني( )1ومنها "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني" ،كما ناقش ابن جني مسألة نشأة اللغة التي كانت تشغل مكانا مهما
في البحوث اللغوية آنذاك ،وأوضح بتعليل منطقي أن اللغة أكثرها مجاز صار في حكم الحقيقة ،وما يبرز قدرة ابن
جني على رصد الظواهر اللغوية وتحليلها بمنطق علمي ،هو ما قدمه حول التفريع الدللي للفعل في "خصائصه".
وفيما يلي سنعرض لبعض تلك المسائل عرضا نحاول من خلله إبراز جهود ابن جني في ميدان "الدللة".
أ-اللفظ والمعنى:
تناول ابن جني في كتابه الخصائص عرض ثلث علئق متصلة هي :العلقة بين اللفظ والمعنى ،والعلقة بين
اللفظ واللفظ ،ثم العلقة بين الحروف ببعضها .وأفرد لذلك أبوابا من ذلك "باب في تلقي المعاني على اختلف
الصول والمباني" حيث عرض فيه لشتراك السماء في المعنى الواحد ورده لوجود تقارب دللي بين تلك السماء،
يقول في مستهل هذا الباب" :هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة ،قوي الدللة على شرف هذه اللغة ،وذلك أن
تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة ،فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه "وفي ذلك
إشارة إلى وقوع الترادف في اللغة الذي كان ينكره بعض علماء اللغة في عصر ابن جني ومنهم أستاذه أبو علي
الفارسي .وما اشتهر به صاحب الخصائص هو إبراز لظاهرة لغوية تتمثل في تقارب الدللت لتقارب حروف
اللفاظ ،وهو ما سماه "تصاقب اللفاظ لتصاقب المعاني" سجل فيه أن مخارج حروف اللفظ التي تقترب من مخارج
حروف لفظ آخر ،هما متقاربان دلليا لتقاربهما فنولوجيا وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية .وهذه الملحظة
تنم عن دقة وعمق رؤية ابن جني لنظام اللغة ففي شرحه للفظ "أزا" الوارد ذكره في قوله تعالى" :ألم تر أنا أرسلنا
الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا"( )2يقول ابن جني في قوله تعالى" :تأزهم أزا" :أي تزعجهم وتقلقهم ،فهذا في معنى
تهزهم هزا والهمزة أخت الهاء ،فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين ،وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لنها أقوى من
الهاء ،وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز ،لنك قد تهز مال بال له ،كالجذع وساق الشجرة ،ونحو ذلك"( .)3كما
قدم ابن جني تطبيقات أخرى مست ألفاظا وجد بين حروفها اشتراكا في الصفات الفنولوجية ،فأفضى ذلك إلى تقاربها
في الدللة من ذلك المقابلة بين فعل (ج ع د) والفعل (ش ح ط) .يقول ابن جني" :فالجيم أخت الشين والعين أخت
الحاء والدال أخت الطاء" .كما كان يرى أن هناك مناسبة طبيعية بين الصيغة المعجمية ودللتها ،وذلك فيما يخص
أصوات الطبيعة .وهي مسألة لم تكن محل خلف بين العلماء في عصره ،إل أن ابن جني قدم تعليلً بديعا ،للخليل بن
أحمد ولسيبويه ،يفسر العلقة الطبيعية بين الصوت ودللته ،فيقول الخليل" :كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة
ومدا فقالوا :صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا :صرصر" .ويقول سيبويه في المصادر التي جاءت على
وزن فعلن أنها تأتي للضطراب والحركة نحو القفزان والغليان ،والغثيان فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي
حركات الفعال"( .)4وهذا ما أدرجه ابن جني في باب "إمساس اللفاظ أشباه المعاني" ،إذ التأليف الصوري للفظ يرسم
القيمة الدللية للمعنى الذي يقابله ،وإن كان ذلك صعبا تطبيقه على كل عناصر النظام اللغوي إل أن ذلك يبقى طرحا
() الصائص ،ج ،1ص .28 -27كان لستاذه أب علي الفارسي تقسيمات ف الشتقاق ولكن ليست كتقسيماته خاصة ف الشتقاق الكبي،انظر 1
- 89 -
جريئا من قبل ابن جني له قيمته العلمية وسبقه المعرفي في عصره ،وهي محاولت كانت تنتظر من يعطيها طابع
النظرية الشاملة بعد ابن جني ،ولكن وجد أتباع لم يكملوا ما بدأه أبو الفتح ابن جني وإنما انتحلوا بحوثه ونسبوها إلى
أنفسهم كابن سيده صاحب كتاب "المحكم" المتوفى سنة 458هـ( .)1وقد قام ابن جني بذات الصنيع في باب الشتقاق،
خاصة في تلك التقلبات المورفولوجية الستة التي تنتج عن الصيغة المعجمية الثلثية ،إل أنه بعد أن ربط تلك الصيغ
دلليا بالصيغة الم ،وجد صيغا مهملة ل واقع لغوي لها ،وكان في بعض الحيان يلحق المثلة قسرا بالقاعدة وتلك
ملحظة أخذه عنها علماء اللغة ،بل إن ابن جني نفسه قد أقر بصعوبة المسلك في إجراء التقلبات الستة وربطها بدللة
الصل الثلثي فقال" :وهذا أعوص مذهبا ،وأحزن مضطربا وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلم الستة على القوة
والشدة…"( )2إن علقة الرمز اللغوي بدللته ل يمكن –كما قرر الدرس اللساني الحديث -أن تكون قسرية ول طبيعية،
لن ذلك سيبقى النظام اللغوي في حالة من الجمود ولكن القول بالعلقة العتباطية أو الكيفية ( )arbitraireبين اللفظ
ودللته ،يعطي للغة ،المرونة اللزمة خلل التغيّر الذي يطرأ على البنية اللغوية من جراء الحداث الناجمة عن
الستعمال اللغوي وعن تطور بعض المدلولت ،ما كان التغير ليحصل لو لم تكن الشارة بالحقيقة "كيفية" أي
اعتباطية"(.)3
ب-التفريع الدللي للفعل :يعقد ابن جني تفريعا دلليا للفعل يضبط سماته الذاتية والنتقائية ،فأبرز معايير تنتظم
ص ابن جني الفعل وكان يسميه اللفظ .بهذا التوزيع لكونه "يعد القطب الرئيسي في وفقها العلمة اللسانية الدالة ،وقد خ ّ
العملية البلغية إذ أنه النواة الدافعة للحركة المتجددة المتوخاة من الحداث المحققة في الواقع اللغوي ،ولذلك فإن
الفعال كما قال آدم سميث ( )A.smithنطفة اللغات( .)4فالفعل يحمل دللة بنيته المورفولوجية ،كما يقدم لنا سمات
الفاعل ومكوناته الساسية ،إضافة إلى الدللة الزمانية التي تعين على تحديد قيمة الدللة العامة للصيغة المعجمية.
يقسم ابن جني الدللة إلى ثلثة أقسام :الدللة اللفظية والدللة الصناعية والدللة المعنوية ،ويفاضل بينها جاعلً الدللة
اللفظية على رأس الدللت الثلثة ثم تليها الدللة الصناعية فالمعنوية .يقول ابن جني" :فمنه جميع الفعال ،ففي كل
واحد منها الدلة الثلثة .أل ترى إلى قام و(دللة لفظه على مصدره) ودللة بنائه على زمانه ،ودللة معناه على
فاعله فهذه ثلث دلئل من لفظه وصيغته ومعناه"( )5ويمكن توضيح ذلك بالرسم التالي:
الدللة اللفظية (المعنى).
الدللة الصناعية (الزمن). الدللة التفريعية للفعل
الدللة المعنوية (الفاعل).
-1الدللة اللفظية :وهي الدللة المعجمية ودللة البنية المورفولوجية على الحدث ،وقد عدّها ابن جني على رأس
الدللت الثلثة لنها "دللة أساسية تعد جوهر المادة اللّغوية المشترك في كل ما يستعمل من اشتقاقاتها
() الصدر السابق،ج ،2ص 152وانظر الكتاب لسيبويه ،ج ،4ص .14 4
() الصدر نفسه –ج -1ص ( 29كلم الحقق ممد علي النجار). 1
- 90 -
وأبنيتها الصرفية"( )1ففعل "قعد" مثلً يدل بصيغته المعجمية على حدث خاص ذي دللة معينة وهو المصدر
"القعود" ،وإنه متعلق بفاعل تعلقا معنويا ،ومنه اشتقت صيغ أخرى لها ارتباط بالدللة الساسية للفعل منها:
مقعد –متقاعد -قاعدة وما إلى ذلك من الصيغ .وما يجدر ذكره أن قيمة الدللة الساسية للصيغة الصرفية،
تعتبر المركز الذي يستقطب كل الدللت المتفرعة عنه ،بحيث تدْخل في علئق وظيفية مختلفة وتبقى
مشدودة إلى الدللة اللفظية للفعل.
-2الدللة الصناعية :وهي دللة بنية (اللفظ) المورفولوجية على الزمن ،وهي تلي الدللة اللفظية لن اللفظ
يحمل صورة الحدث الدللي المستغرق لحيز زماني يقول ابن جني "وإنما كانت الدللة الصناعية أقوى من
المعنوية من قبل إنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ ،ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم
بها ،فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به فدخل بذلك في باب المعلوم
بالمشاهدة"( .)2فكانت الدللة الصناعية مع أنها دللة غير لفظية وإنما يستلزمها اللفظ في حكم الدللة اللفظية،
التي هي صورة تلزم الفعل ،فأين كان هو مشاهدا معلوما كان الزمن المقترن به معلوما بالمشاهدة أيضا،
من مسموع اللفظ ،وينظر ابن جني في هذا المجال إلى المصدر على أنه مجال مفتوح على الزمنة الثلثة
فيقول" :وكذلك الضرب والقتل :نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما ،ونفس الصيغة تفيد فيهما صلحهما للزمنة
الثلثة على ما نقوله في المصادر"(.)3
-3الدللة المعنوية :إن الفعل يحدّد سمات فاعله الذاتية والنتقائية ،الساسية والعرضية ،وذلك من جهة دللته،
ويعرف ذلك بطريق الستدلل ،فيتحدد جنس الفاعل ،وعدده ،وحاله ،ليس من الصيغة الفونولوجية للفعل بل
من مؤشرات خارجة عن الفعل .ففعل (قعد) يدل على حادث مقترن بزمن ماض ،وقد يتعرض مجاله
الزمني إلى التّساع ليشمل زمن الحاضر أو المضارع المستقبل في سياق لغوي يحمل خصائص تركيبية
ودللية ومقامية معينة ،أما دللته على (الفاعل) فهي دللة إلزام ،يقول ابن جني "أل تراك حين تسمع
(ضَرَب) قد عرفت حدثه وزمانه ،ثم تنظر فيما بعد ،فتقول :هذا فعل ولب ّد له من فاعل ،فليث شعري من
هو؟ وماهو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله ،من موضع آخر ل من وضع مسموع
ل غير مفصّل"( .)4إن السمات
ل مذكر يصحّ منه الفعل مجم ً
ضرب ،أل ترى أنه يصلح أن يكون فاعله ك ّ
المعنوية التي رصدها ابن جني في هذا المقام يمكن على ضوئها وضع نسق تفريعي لفئة (الفاعل) تخصّ
كل فعل من اللسان العربي وتوضيحه كالتي:
فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقائية
حاله
جنسه
فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والنتقالية
- 91 -
عدده
تعيينه
ص الفعلويورد ابن جني تفريعا دلليا لصيغ مختلفة من اللفاظ (الفعال) ،يحدّد على ضوئها سمات عامّة تخ ّ
وصاحبه فيقول" :وكذلك (قطّع) و(كسّر) ،فنفس اللفظ ها هنا يفيد معنى الحدث ،وصورته تفيد شيئين :أحدهما
الماضي ،والخر تكثير الفعل ،كما أن (ضارب) يفيد بلفظه الحدث ،وببنائه الماضي ،وكون الفعل من اثنين ،وبمعناه
أنّ له فاعلً فتلك أربعة معان…"( )1فالتفريع الدللي الضافي الذي يكمل به ابن جني تفريعه الول يمكن توضيحه
كالتالي:
إن هذه السمات الدللية للفعل وما ينضوي تحتها من سمات فرعية محدّدة ،هي في جورها سمات مميزة للفعل
ل عمّا
(كسّر) ،الذي له توارد خاص في سياق معيّن ،ويستلزم فاعلً يحمل مكونات تمييزية جوهرية وعرضية ،فض ً
يوحيه (الفعل) فيما يخص (المفعول به) ،وذلك بحسب قواعد الوقوع أو الرصف التي تتحكم في بنية التركيب
ل معيّنا أيضا…
الصحيح ،حيث يستدعي الفعل ،فاعلً معيّنا ،ومفعو ً
أمّا فعل (ضَارَب) وهو ذو لصيغة مورفولوجية مختلفة عن (كسّر) يمكن توضيح سماته على النحو التالي:
الدللة اللفظية (الحدث)
الدللة الصناعية (زمن الماضي)
ب –(فاعل) على
ضار َ
إن جملة التفريعات التي أوردها ابن جني للركن الفعلي تؤكد على أهمية (الفعل) في الموروث اللساني إذ غدا
ص كلّ متعلقاته ،التي يحدّد معها تواردا سياقيا صحيحا ،ويمكن أن يتخذ ذلك
حقلً ألسنيا يغطي مفاهيم مختلفة ،تخ ّ
- 92 -
كتصنيف مهم في حصر السمات الدللية وضبطها ضبطا محكما لتغتدي فيصلً فارزا للمداخل المعجمية ،وهي
المداخل التي تكتسب مجالها الدللي من خلل توافقها ،أو عدم توافقها مع السمة المميزة( )1وإنّ تلك النماط التي
عقدها ابن جني مع كل بنية مورفولوجية ل تختلف كبير اختلف ،مع تلك السمات المميزة المعتمدة في الدرس الدللي
الحديث( .)2حيث تلعب الملمح المشتركة بين وحدات السياق اللغوي دورا مهمّا في تأمين التوارد الصحيح.
ج-الحقيقة والمجاز :في مبحث الحقيقة والمجاز يعقد ابن جني بابين أولهما في:
الفرق بين الحقيقة والمجاز ،وثانيهما في :أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة.
في الباب الوّل تناول أبو الفتح بن جني تعريف الحقيقة والمجاز على أساس الوضع الوّل الذي يحدّد الستعمال
الصلي للصيغة ،أمّا دواعي انتقال اللفظ من دللته الحقيقية إلى دللة المجاز فقد حصرها ابن جني في ثلث :التساع
والتوكيد والتشبيه .فانتقاء هذه الدواعي يبقي اللفظ على دللته الحقيقية ،يعرّف ابن جني الحقيقة والمجاز فيقول:
"الحقيقة :ما أق ّر في الستعمال على أصل وضعه في اللغة .والمجاز :ما كان ض ّد ذلك"( .)3ثم يحدد دواعي التجوز
فيقول" :وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلثة ،وهي :التساع والتوكيد والتشبيه ،فإن عدم هذه
الوصاف كانت الحقيقة البتة"( .)4فالمجاز في أصله هو إضافة معنى جديد إلى المعنى القديم (الحقيقة) ،وفي ذلك توكيد
للمعنى وتشبيه المعنيين الوّل بالثاني.
أمّا التساع فلن في لئحة الملمح الحقيقية للدال يُضاف ملمح جديد على سبيل المجاز ،يقرّر ابن جني بتطبيق
إجرائي فيقول"… وكذلك قول ال سبحانه( :وأدخلناه في رحمتنا) هذا هو مجاز ،وفيه الوصاف الثلثة ،أمّا السعة
ل اسما هو الرحمة ،وأمّا التشبيه فلنه شبّه الرحمة -وإن لم يصح دخولها –فلنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحا ّ
بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه .وأمّا التوكيد فلنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر .وهذا تعال
بالعرض ،وتفخيم منه إذ صيّر إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين"( .)5وإنّ تحقق هذه المعاني مرتبط بوجود قرينة
صارفة من إتيان المعنى الحقيقي لفظية في المجاز اللغوي وعقلية في المجاز المرسل.
أمّا في الباب الثاني فبعد طول معاينة للغة ،يرى ابن جني أنّ أكثر كلم العرب إنّما هو مجاز وذلك ناتج عن
كثرة دوران اللفظ على اللسنة ،بدللته المجازية اكتسب سمة الدللة الحقيقية ،وإنّ تلك التراكيب اللغوية التي تخالها
ذات دللة حقيقية هي في الصل ذات دللة مجازية محققة لتلك المعاني الثلثة التي ذكرنا ،ويسوق ابن جني في
سبيل أمثلة كثيرة ،يقول" :إعلم أن أكثر اللغة مع تأملّه مجاز ل حقيقة ،وذلك عامّة الفعال ،نحو قام زيد ،وقعد عمرو
(… ).وجاء الصيف ،وانهزم الشتاء…"( )6ويلمس ابن جني البحث في الزمن الطويل الغابر ،عن الصل الذي وظّفت
لسببه الكلمة وهو محاولة الجمع بين التكوين اللغوي للكلمة ودللتها المتداولة آنيا ،ففي بحثه عن أصل فعل (ع ق ر)
ل قطعت إحدى رجليه فرفعها ،ووضعها على ودللته على الصوت في قولنا( :رفع عقيرته) يقول ابن جني" :أنّ رج ً
() الستاذ أحد حسّان ،الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب – .32 1
() انظر الباب الول من البحث –الفصل الثالث :النظرية التحليلية –ص .72 2
() انظر الصدر نفسه ،ج 2من ،ص 442إل ص .458 6
- 93 -
الخرى ثم صرخ بأعلى صوته فقال الناس (رفع عقيرته)( .)1فكان الصل في استعمال (ع ق ر) للدللة على الصوت
المرتفع كالصراخ ولكن خفيت أسباب التسمية لبعدها الزمني فأضحت تدل على من رفع رجله دللة حقيقية مع أنها
في أصل وضعها كانت تدل على الصوت .فحصل نقل لدللة اللفظ من مجال إلى مجال ،انتقلت عبره المجازات إلى
الستعمال العادي الحقيقي .ويلجأ ابن جني إلى تقديم العلل المنطقية الفلسفية( )2على صحة ما ذهب إليه .وإن كنّا نرى
أن رؤيته هذه في علقة الدللة بالحقيقة والمجاز أن فيها بعض التعسف لنه إذا قلنا أن أكثر اللغة مجاز وحاولنا أن
نردّ كل صيغة إلى دللتها الصلية للفينا صيغا قد تعرّضت لحركة نقل متتالية فنردّها إلى أصل هو بذاته مجاز،
ل على الفروع .وهذا حقيقة ماهو سمة في اللغة التي من مميزاتها المرونة والتغيير ولظللنا نتبع الصول فل نعثر إ ّ
ورفض كل قاعدة تريد أن تبقيها متحجرة جامدة.
ل ذلك -5نشأة اللغة :يناقش ابن جني قضية نشأة اللغة التي نجد لها حضورا مكثّفا في مؤلفات القدمين ولع ّ
راجع إلى ارتباط هذه القضية بمشكلة كانت نقطة خلف كبيرة بين العلماء ،بل تعدّ سبب الصطدام الذي حصل بين
السياسي والديني ونعني بها مشكلة "خلق القرآن" يعرض ابن جني لراء علماء عصره في مسألة نشأة اللغة فيصرح
في باب القول على أصل اللغة أنها إلهام أم اصطلح" :هذا موضع محوج إلى فصل تأمّل ،غير أن أكثر أهل النظر
على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلح ل وحي وتوقيف .إل أن أبا علي رحمه ال –قال لي يوما :هي من
عند ال ،واحتج بقوله سبحانه" :وعلّم آدم السماء كلها"( )3وهذا ل يتناول موضع الخلف .وذلك أنّه قد يجوز أن يكون
تأويله :أقدر آدم على أن واضع عليها ،وهذا المعنى من عند ال سبحانه ل محالة"( .)4وبهذا التعليق الخير على قول
أبي علي الفارسي يكون ابن جني قد أفصح عن مذهبه فكان أميل إلى القول بعرفية الدللة اللغوية مقدّما تأويلً للية
الكريمة السابقة الذكر .يكاد يجمع عليه أغلب العلماء الذين قالوا بالصطلح ،يعني ،أن النسان قد ركّبت فيه
استعدادات فطرية ،وقواعد ذهنية بها يستطيع أن يسمّي الشياء ،ويضع نظاما علميا مطردا مع كل الشياء الجديدة
على غرار وضعه للرموز التي تخصّ نظام المرور أو تلك المستعملة في نظام الملحة البحرية (الشارات الضوئية)
فهذا كلّه من باب التواضع والتوفيق ،والحقيقة أن ابن جني ل يكاد يستقّر على رأي حيث ذكر مذهب الذين قالوا
بطبيعية اللغة ،المستلهمة من أصوات الطبيعة ،واستحسنه وقبله .يقول في ذلك" :وذهب بعضهم (أي بعض العلماء)
ي الريح ،وحنين الرعد ،وخرير الماء .وشحيح إلى أن أصل اللغات كلها إنّما هو من الصوات المسموعات كدو ّ
الحمار ،ونعيق الغراب وصهيل الفرس وتريب الظبي ،ونحو ذلك ،ثم وُلدت اللغات عن ذلك بينما بعد .وهذا عندي
وجه صالح ،ومذهب متقبل"( .)5ولكن ابن جني ما يلبث أن يقوي في نفسه شعور يجذبه إلى العتقاد بكون اللغة توقيفا
من عند ال تعالى ،وذلك ظاهر من تناسق أجزائها وموافقتها لكل حال ومقام ،ثمّ ما اجتمع لديه من أقوال العلماء من
أساتذته من أنّ اللغة وحي وإلهام من عند ال .كل ذلك دفع ابن جني إلى ترجيح المذهب القائل بتوقيفية اللغة يقول في
ذلك" :إنّني إذا ما تأملت حال هذه اللغة الشريفة ،الكريمة اللطيفة ،وجدت فيها من الحكمة والدقة والرهاف والرقّة ما
يملك عليّ جانب الفكر ،حتى يكاد يطمح به أمام غلوة()6السحر ،فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا –رحمهم ال ،-ومنه ما
() الصدر نفسه ،ج ،2ص :488انظر التعليل الذي قدمه للتركيب (قام زيد) على اعتباره تعبيا مازيا. 2
() غلوة السحر :الغاية ف سباق اليل ،يريد أنه يدنو من غاية السحر. 6
- 94 -
حذوته على أمثلتهم ،فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وأماده صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه"(.)1
وخلصة موقف ابن جني من نشأة اللغة أنه وقف موقفا وسطا فقال باللهام والصطلح معا ،يوضّح ذلك ما
ختم به هذا الباب حيث افترض أن يكون ال تعالى قد خلق قبلنا أقواما كانت لهم القدرة التي مكنتهم على الصطلح
والتواضع في تسمية الشياء ،يقول أبو الفتح موضحا موقفه ومعبّرا في ذات الوقت عن حيرته بين القول بعرفية اللغة
أو القول باللهام" :فأقف بين تين الخلتين (اللهام والعرف) حسيرا ،وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا وإن خطر خاطر فيما
بعد ،يعلّق الكف بإحدى الجهتين ويكفها (أو يفكها) عن صاحبتها قلنا به"( .)2وما يجدر ملحظته هو أن موضوع نشأة
اللغة كان من ضمن المواضيع التي أسهب البحث فيه علماء اللغة المحدثون ،وجدّوا في تقديم العلل الراجحة لذلك،
تهدف إلى تأسيس رؤية موضوعية تأخذ الظواهر اللغوية النموذجية (القرآن الكريم –الحاديث الشريفة –كلم العرب
الفصيح) كمعطى لوضع معايير مطردة تتناول اللغة في بعدها الشامل وفي جميع مستوياتها المعجمية والتركيبية ،وإنّ
ذلك من شأنه أن ينقل البحث في أصل اللغة –الذي عدّه بعض اللغويين بحثا ميتافيزيقيا –إلى البحث في آلياتها التي
تشرف على ضبط الدللت المختلفة ،خاصة إذا علمنا أن الدللة قد ولجت كل مجالت المعرفة والثقافة في العصر
الحديث بل وكل ميادين الحياة.
() الصدر نفسه ،ج ،1ص ،47وانظر باب ف اللغة :أف باب واحد وضعت أم تلحق تابع منها بفارط –ج -2ص .30 -29 -28 2
() انظر مبحث :مفاهيم الدللة عند الفاراب -الفصل الول :ماهية علم الدللة كما عرفها القدمون ،ص .16 4
- 95 -
)denotatifعند اللسنيين المحدثين ومنهم العالم الدللي جون ليونز ( )John Lyonsوهو ل يختلف كثيرا عن
معنى الرجاع الذي تتحدد معه العلقة القائمة بين الوحدة المعجمية وماهو خارج من النظام اللغوي من أشخاص
ل أنّ (ليونز) يميّز بين التعيين والرجاع في أنّ الول يحدّد مدلول الوحدة المعجمية خارج السياق وأماكن وأشياء .إ ّ
()1
اللغوي أما الثاني فيحدّد مدلولها داخل العبارات المرتبطة بالسياق .يبرز ابن سينا المعنى التعييني للفظ المفرد
فيقول" :والمعنى المفرد –هو المعنى من حيث يلتفت إليه الذهن كما هو ،ول يلتفت إلى شيء منه يتقوم أو معه
يحصل ،وإن كان للذهن أن يلتفت وقتا آخر إلى معان أخرى فيه ومعه أو لم يكن"( .)2وكإشارة إلى صعوبة تعيين
دللة اللفظ المفرد يرى ابن سينا أنه لكي تحصل الدللة المعينة وجب أن يرجع إلى معنى اللفظ المفرد دون متعلقاته،
وإن كان ذلك يبقى مجرد شرط نظري بحيث أن الذهن يُضمّن الصورة المفهومية للفظ متعلقات أخرى وهو ما يشكل
إحدى العقبات القائمة أمام التحديد التام لرجاع دللة اللفظ في العالم الخارجي ،وقد طرح (ليونز) الشكالية ذاتها في
حديثه عن التعيين ووصل إلى حدّ القول بوقوع البهام في البحث عن تعيين بعض العبارات والجمل ،بل ووجد بعض
()3
الصيغ التي تخلو من التعيين مثل الصفات والنعوت منها :جميل ،قبيح ،زكي ،شريف وغيرها..
وما نلحظه في تعريف ابن سينا للفظ المفرد أنه تعريف يختلف عن التعريف الذي أورده في كتابه "الشارات
والتنبيهات" حيث يقول" :اللفظ المفرد هو الذي ل يراد بالجزء منه دللة أصلً ،حين هو جزؤه مثل تسميتك إنسانا
بعبد ال فإنك حين تدل بهذا على ذاته ل على صفته من كونه "عبد ال" فلست تريد بقولك "عبد" شيئا أصلً ،فكيف إذ
سميته بـ"عيسى"؟ بلى ،في موضع آخر قد تقول "عبد ال" وتعني بـ"عبد" شيئا ،وحينئذ يكون "عبد ال" نعتا له ،ل
اسما ،وهو مركب ل مفرد"(.)4
ومدار الدللة عند ابن سينا هو القصد والرادة ،لنها "دللة وضعية متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون
الوضع فما يتلفظ به ويراد به معنى ما ،ويفهم منه ذلك المعنى ،يقال له :إنه دال على ذلك المعنى ،وما سوى ذلك
المعنى ،مما ل تتعلق به إرادة التلفظ ،وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه –بحسب تلك اللغة ،أو لغة أخرى أو بإرادة
أخرى -يصلح لن يدل به عليه فل يقال له :إنه دال عليه -أو ل يراد"( .)5ولذلك قد يقال أن جزء "عبد ال" يحمل
دللة في نفسه ولكن ليست دللة مقصودة يقول ابن سينا موضحا ذلك" :إذا لم يرد باللفظ دللة لم يكن دالً .لن معنى
قولنا" :لفظ دال" هو أنه يراد به الدللة ل أن له نفسه حقا من الدللة"( .)6والواقع اللغوي يؤكد على أهمية التحقق من
بنية الكلمة لرصد دللتها وضرورة الوقوف على قصد المتكلم من الصيغ المتشابهة ،خاصّة ما يشكل عالمه الدللي
وهو مرمى مستحيل التحقيق ،لن اللغة وجدت للمحاورة والمشاركة لوجود المجاورة كما قال ابن سينا ولو احتفظ كل
إنسان بعالمه الدللي لما احتجنا إلى اللغة ،فالتواصل والبلغ يقتضي أن يكون قدر من الشتراك في سنن اللغة بين
جمهور المتكلمين من أهلها لنها ثمرة لتواضع بينهم ،ولذلك نجد من يعترض على تعريف ابن سينا للفظ المفرد ،وما
() ان ظر الف صل :التعي ي ( )denotationمن كتا به ( )Element de semantiqueوان ظر مقال التعي ي والتضم ي ف علم الدللة – 1
() انظر .فصل "التعيي" ف كتابه )Element desemantique ( :ص .85 3
- 96 -
سبب ذلك إل سوء في الفهم وقلة العتبار لما ينبغي أن يفهم ويعتبر( .)1وقد شرح العالم المريكي هياكوا (S.J.Haya
)kwaكيف تحمل الكلمات المعاني اليحائية التي لها إسقاطات نفسية تخص المتكلم وقد ل يتنبه المتلقي لها وميّز بين
نوعين من المعنى :المعنى التصريحي ( )Sens intentionnelوالمعنى الثانوي أو اليحائي (Sens
)extensionnelأو كما سمى ذلك غرينيبزغ ( )J.H.Greebergالمعنى الداخلي مقابل المعنى الخارجي وقد "علّق
الشارح على التعديل الذي أدْخله ابن سينا على تعريفه الول للفظ المفرد بقوله قد" :زاد في الرسم القديم ذكر (الرادة)
تنبيها على أن المرجع في دللة اللفظ هو إرادة المتلفظ"(.)2
ويورد ابن سينا تفريعا آخر للفظ الدال بحسب ما يغطيه من الدوال الفرعية فكأنه لكسيم رئيسي يشرف على حقل
ل واحدا ل غير وهنا يحصل التطابق التام بين اللفظ العم وما يضمه ،يسمي ابن
من اللفاظ ،قد يضم هذا الحقل دا ً
سينا ذلك النوع من اللفاظ:
بالخاص المطلق ،يقول في ذلك" :إعلم أن أصناف الدال على ما هو من غير تغيير العرف (وفي نسخة "مفهوم
العرف") ثلثة:
أحدها :بالخصوصية المطلقة مثل دالة الحد على ماهية السم مثل دللة الحيوان الناطق على النسان"( .)3فالمثال
الذي قدمه ابن سينا يخصّ الحدود والتعاريف وينسحب على الوحدات المعجمية ،كما تقوم به نظرية الحقول الدللية
فالتعريف" :الحيوان الناطق" يعد لكسيما رئيسيا يغطي أو يتضمن الدللة على ماهية لفظ النسان .معنى ذلك أن النوع
يشتمل على الجنس من حيث المفهوم ،لن النوع يحتوي صفات الجنس كلها مضافا إليها الفصول النوعية في حين
يكون الجنس أشمل من النوع من حيث الماصدق كما يقول المناطقة(.)4
أما النوع الثاني من اللفاظ فهي تلك التي تغطي ألفاظا فرعية غير متجانسة ،وهي ذات حقل من الفراد تشترك
في أن اللفظ العام يتحقق فيها مفهومه الذهني ،يقول ابن سينا موضحا ذلك" :والثاني :بالشركة المطلقة مثل ما يجب أن
يقال –حين يسأل عن جماعة مختلفة فيها مثلً :فرس وثور وإنسان :ماهي؟ وهناك ل يجب ول يحسن إل الحيوان"(.)5
إن تحديد العلقات التقابلية داخل الحقل المعجمي بناء على معجم المفاهيم ،يوضح مجالت الستعمال أكثر مما
يوضحه المعجم التقليدي ،ويسمح ذلك بمعرفة أن هذا اللفظ يدرس ضمن مجموعة مترابطة مع ألفاظ أخرى لنها
تنتمي إلى حقل مفهومي مشترك.
ل أوسع مما خص به النوعين الوليين، أما النوع الثالث من أنواع اللفظ المفرد ،فيقيم على أساسه ابن سينا حق ً
وذلك لن هذا النوع يحمل سمات الخصوصية المطلقة والشركة وهما صفتا النوعين السابقين .يقول ابن سينا في
تحديد هذا النوع من اللفظ المفرد" :وأما الثالث فهو ما يكون بشركة وخصوصية معا ،مثل ما إنّه إذا سئل عن جماعة
هم :زيد وعمرو وخالد ،ماهم؟ كان الذي يصلح أن يجاب به على الشرط المذكور أنّهم أناس"( .)6ومن ضمن العلقات
() انظر تعليق الشارح :من كتاب الشارات والتنبيهات ،ج ،1ص .192 1
() انظر الامش ف كتاب :علم الدللة ص .99أحد متار عمر. 4
- 97 -
التي حددها علماء الدللة داخل الحقل المعجمي ،علقة الجزء بالكل ،ذلك أن مجموع السمات التي يحملها الكل تنطبق
ص جزءا واحدا فقط ،ويشرح المناطقة هذه العلقة بكون الكل يضم تحته أجزاء ل
على جزئياته ول يمكن أن تخ ّ
جزئيات وهذه الجزاء مجتمعة في هيئتها التركيبية يطلق عليها اسم الكل ول يصح إطلق الكل على جزء من
أجزائه( )1فلفظ "أناس" لفظ كلّ يضم تحته أجزاء من اللفاظ ،ل يطلق عليها إل وهي مجتمعة ل مفردة.
وعلى أساس هذه الصناف الثلثة للفظ المفرد يمكن بناء العلقات الدللية بين جملة الحقول التي يؤسسها وبين
الدللة التي يحملها .فالنوع الول يشير إلى علقة المطابقة بين النسان والحيوان الناطق ،أما النوع الثاني والثالث
فهو يحقق علقة التضمن ،وما هو حريّ بالملحظة في هذا المقام هو أن ابن سينا يسعى إلى وضع قواعد كلية تنتظم
اللفاظ ،وهذا هو "دأب المناطقة ،بل إنه لينادي بأن تكون تلك القواعد عامّة لجميع اللغات ينتفع بها كل القوام خاصة
فيما تعلق بالجانب الدللي الذي يسعى المنطقي إلى تحقيقه بضبطه لللفاظ في حالتها الفرادية والتركيبية يقول ابن
()2
سينا" :يلزم المنطقي أيضا أن يراعي جانب اللفظ المطلق من حيث ذلك غير مقيد بلغة قوم دون قوم .إل فيما يقل" .
فابن سينا بخبرته في التحليل يدرك أن بين اللغات قدرا من الشتراك وتبقى كل لغة تتميّز بخصوصيتها
الموفورلوجية ،والفونولوجية بحيث تتفاوت في ذلك اللغات ،وتختلف.
ب-أقسام الدللة :إنّ تعيين العلقة بين اللفظ والمعنى ،تناوله ابن سينا من جوانب ثلثة- :دللة المطابقة ودللة
التضمن ودللة اللتزام ،فإذا كان النتقال بواسطة العقل من الدال إلى مدلوله ،لعلمه بعلقة الوضع وأنّه كلّما تحقق
مسموع اسم ارتسم في الخيال مدلوله ،فإن الدللة عندئذ دللة وضعية تمنع من وقوع اللتباس بين الدللت الثلث.
لنّه قد يطلق اللفظ ول يعني به مدلوله المطابق له كما إذا أطلقنا لفظ "الشمس" وعنينا به "الجرم" كانت الدللة بينهما
مطابقة وإذا عنينا به "الضوء" كانت العلقة بينهما تضمن".
ولكن بتدخل الوضع وتوسط العرف الصلي يمنع انتقاض الدللت بعضها ببعض يورد ابن سينا أمثلة يوضح
فيها كل قسم من أقسام الدللة الثلث فدللة المطابقة هي التطابق الحاصل بين اللفظ وما يدل عليه كالنسان فإنه يدل
على الحيوان الناطق ،أمّا دللة التضمن فهو ما يتضمنه اللفظ من معان جزئية تدخل في ماهيته كقولهم النسان فإنه
يتضمن الحيوان .أما دللة اللتزام فهي تحتاج إلى أمر خارجي لعقد الصلة بين الدال ولزمه ،فقولنا الب يلتزم البن
يقول ابن سينا معرفا ذلك" :أصناف دللة اللفظ على المعنى ثلثة:
دللة المطابقة ودللة التضمن ودللة اللتزام"( .)3وهي دللت تجمع النساق كلّها .ويشرح علقة اللتزام
فيقول" :ودللة اللتزام مثل دللة المخلوق على الخلق والب على البن والسقف على الحائط والنسان على
الضاحك ،وذلك أن يدل أولً دللة المطابقة على المعنى الذي يدّل عليه أولً ،ويكون ذلك المعنى يصحبه معنى آخر،
فينتقل الذهن أيضا إلى ذلك المعنى الثاني الذي يوافق المعنى الول ويصحبه .وتشترك دللة المطابقة ودللة التضمن
في أن كل منها ليس دللة على أمر خارج عن الشيء"( .)4وينصّ ابن سينا هاهنا على أمر مهم يخصّ العلقة بين
دللة المطابقة ودللة اللتزام إذ الوصول إلى دللة اللفظ على معناه بطريق اللتزام يمرّ عبر إجراء دللة المطابقة
بين اللفظ وما يطابقه من مدلولت بتوسط الذهن الذي ينجز هاتين المرحلتين (بشكل سريع جدا) فدللة الب على
- 98 -
البن دللة التزام ولكن هذه الدللة لم تنعقد حتى وجد العقل أن بين الب ومدلوله (أنه والد له أبناء) هناك علقة
مطابقة ،ثمّ تختلف دللة اللتزام عن دللتي التضمن والمطابقة في أنها تستدعي مدلولً خارجا عن اللفظ ،أما دللتا
التضمن والمطابقة فإنهما تستدعيان مدلولهما من لفظيهما .لن دللة اللفظ على كل أجزائه هي دللة مطابقة ،أما
علقته بجزء من هذه الجزاء فهي علقة تضمن ،ولذلك نجد ابن سينا في حصره للعلقة القائمة نظريا بين اللفظ
والمعنى ل يقيّدها فيقول في ذلك" :ولن بين اللفظ والمعنى علقة ما"( .)1ثم لتعيين العلقة بين الدال والدلول يستدعي
إدراك العلقة بين المدلول والشيء الخارجي وذلك ما أشارت إليه المباحث اللسانية الحديثة التي أكدت أنْ ل علقة
مباشرة بين الدال والمدلول وإنما العلقة الحقيقية هي بين الرمز اللغوي ومحتواه الذهني ( ،)conceptإل أن وعي
النسان اعتاد على ربط الدال بالشيء الخارجي ربطا مباشرا دون وعي بالمحتوى الذهني في العلقة الدللية بين
الدال والمدلول ،ولذلك يرى ابن سينا أن العلقة الدللية تنعقد بين المعنى (المدلول) والشيء في العالم الخارجي تأكيدا
أن ل علقة مباشرة بين الدال والمدلول يقول موضحا ذلك" :فما يخرج بالصوت يدل على ما في النفس وهي التي
تسمى آثارا والتي في النفس تدل على المور وهي التي تسمى معاني"( .)2ويمكن توضيح ذلك بالمثلث التالي:
ما في النفس (المحتوى الذهني)
- 99 -
في النفس فيكون المعنى ،ويرتسم في الذهن ،ضمن الذاكرة اللغوية ارتباط اللفظ بمعناه ،فكلما ت ّم ارتسام مسموع السم
في الخيال توارد إلى النفس معناه ،وذلك تأكيد على ما سجلناه عند ابن سينا من أن العلقة الحقيقية الدللية هي بين
الدال والصورة والذهنية يقول ابن سينا مبرزا ذلك" :فمعنى دللة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم،
ارتسم في النفس معنى ،فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم ،فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى
معناه"(.)1
ج-العملية الدللية :يشير ابن سينا ،في رصده لليات الفعل الدللي ،إلى تلك القدرة التي أوتيها النسان المتكلم،
بحيث مكنته من نقل المفاهيم التي التقطها من العالم الخارجي إلى نفسه وقد انتقل معها من الحس إلى التجريد
ويطالعنا في هذا الموضوع الدرس الدللي بأبحاث مستفيضة حول معاينة وجود العوالم الدللية ،ومن ضمن المواضع
التي أظهرها العلماء مواضع أربع وهي :الفكار و الحداث و الوضاع و المفاهيم( .ففريجه) Fregeذهب إلى أن
تموضع العوالم الدللية هو عالم المفاهيم لنها الوسيط الذي يربط الفكار والحداث والوضاع :الذهان تمسك
بالمفاهيم والكلمات تعبّر عنها والشياء يحال عليها بواسطتها"( .)2فأين يرى ابن سينا تموضع العوالم الدللية؟ يقول في
ذلك" :إن النسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور المور الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم فيها ارتساما
ثانيا ثابتا ،وإن غاب عن الحس .فللمور وجود في العيان ووجود في النفس يكوّن آثارا في النفس .ولمّا كانت
الطبيعة النسانية محتاجة إلى المحاورة لضطرارها إلى المشاركة والمجاورة انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به
إلى ذلك (…) فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلت تقطيع الحروف وتركيبها معا ،ليدل
بها على ما في النفس من أثر .ثم وقع اضطرار ثان إلى إعلم الغائبين من الموجودين في الزمان أو من المستقبلين
إعلما بتدوين ما علم… فاحتيج إلى ضرب آخر من العلم غير النطق ،فاخترعت أشكال الكتابة"( .)3إن هذا النص
يحمل دللة علمية عميقة ،يقف فيه ابن سينا على تاريخ وجود الدللة وأشكالها المقولية صوتا وكتابة ..فقد جعل
النسان ذاته ،مستودع للبنيات الدللية التي عكست صورا من العالم الخارجي إلى النفس ،ولكنها ليست نفس الصور
وإنّما أخذَت شكلً ثانيا ليس هو شكلها الوّل ولكنّه شكل ثابت ل يتغيّر من هنا تنسج العمليات الدللية –بحسب ابن
سينا -حيث تأخذ الطابع التجريدي البحث في غياب صور عالم العيان .وتحتاج عندئذ لنماط مقولية بعد المواضعة
عليها وهنا يشير ابن سينا إلى الطابع الجتماعي للغة فلول الحاجة الجتماعية للمحاورة التي اقتضاها المجتمع
ل ما يبقي الصلت الجتماعية راسخة .ولكن البشري لستغنى عن اللغة ،فاللغة حاملة للقيم الجتماعية وهي وعاء لك ّ
ابن سينا يميل إلى القول بأن اللغة إلهام من عند ال تعالى الذي وهب النسان (آلت) لنتاج تقاطيع صوتية اصطلح
عليها ،وحمّلها مدلولت متعلقة بها ،وكان الصوت اللغوي يقوم بالعملية الدللية ،التي هي جوهر فعل البلغ
والتواصل ،في حيّز زماني ومكان ضيّق ،ولما احتاج النسان إلى نقل معارفه إلى الغائبين من الموجودين ،أو ما كان
في حكمهم من التين مستقبلً ،كانت الكتابة شكلً متطورا .وقد ميّز في الدرس اللساني الحديث العالم اللغوي (رومان
جاكسون) بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة وفي إطار ذلك قابل بين الصوت والحرف ،والمستمع والقارئ ووقف
على فعالية الكلم وفعالية الكتابة وخلص إلى أن الكتابة ستبقى الداة الكثر فعالية في الخطاب التواصلي والبلغي
كونها تضمن له استمرارية كبرى ومنفذا إلى المتلقين مهما تباعد المكان والزمان .وأن الكتابة تفضل الكلم المنطوق،
في أن المستمع بعد أن يقوم بتركيب ثان لسلسلة الكلم المنطوق قد يحصل له بعض المعنى لنه ستكون عندئذ
() نظرية النقد العرب ،وتطورها إل عصرنا –ص ،202د.مي الدين صبحي. 3
() انظر ذلك ف مبحث أقسام الدللة عند ابن سينا ،ص .112 5
() قضايا النقد الدب بي القدي والديث :ص – 291د.ممد زكي العشماوي. 2
إن هذه القواعد ل تحقق الغاية من التواصل والبلغ إل في وجود باث ومتلق واعيين بآليات الحدث الكلمي،
ذلك أنّ الحفاظ على خط التواصل سليما ليس بالمر الهيّن ،فقد يتعرض قانون التخاطب إلى تعديل فيحصل بين
() اللسانيات رأسها العرفية :ص .767 1
() مدخل إل علم الدللة .د.موريس أبو ناضر .ملة الفكر العرب العاصر -عدد .19 -18ص .31سنة .1982 4
() التراكيب النحوية وسياقاتا الختلفة ،عند عبد القاهر الرجان ،ص ،96صال بلعيد. 1
-1مدخل عام
() ص Structures syntaxique ,N. chomsky 117ترجه إل الفرنسية .ميشال برودو ( .)Michel Braudeau 3
() الحكام ف أصول الحكام (القدمة) الشيخ عبد الرزاق عفيفي. 4
لقد ترك المدي مصنّفات تربو على العشرين مصنّفا اختصر بعضها في كتاب جامع ،من ذلك كتاب "أبكار
الفكار" في علم الكلم اختصره في كتاب ،سمّاه "منائح القرائح" وله كتاب "رموز الكنوز" و "دقائق الحقائق" ولباب
اللباب" و "كتاب منتهى السؤل في علم الصول" و "كتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات" و كتاب "غاية المل
في علم الجدل" وغير ذلك من الكتب فضلً على كتاب "الحكام في أصول الحكام".
ل في بيته
وأقام المدي في آخر حياته بدمشق مدرسا بالمدرسة العزيزية ثم ما لبث أن عزل منها وأقام بطا ً
()1
وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلثاء سنة إحدى وثلثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق
-رحمه ال.-
() انظر فعل مباحث علم الدللة الديث :الدال والدلول :ص .42 1
() انظر –التعيي والتضمي ف علم الدللة( -د .جوزيف شري) -ملة الفكر العاصر ،عدد 18/19سنة .1982ص .73 -72 5
() استراتيجية التسمية ،التأويل وسؤال التراث ،مطاع الصفدي ،ص ،4ملة الفكر العرب العاصر ،عدد 31 -30سنة .1984 4
() انظر فصل الدال والدلول ف الباحث الدللية الديثة .ص .42 2
() فقد تعرض الاحظ لتأويل هذه الية حيث ساق أقوال العلماء ف القول بعرفية العلقة الدللية انظر ذلك من البحث ص .98 3
() انظر ذلك ف مبحث النظريات الدللية الديثة -النظرية التوليدية ص .75 5
() أحد متار عمر -انظر علم الدللت ص .37 -36 1
() أصدر أوجدن وريشاردز لكاتبها "معن العن" سنة 1932وأحدثوا به ضجة ف عال اللغة. 6
() انظر ذلك ف "مبحث أقسام الدللة" الدللة الطبيعية ص 47 3
إن دللة اللتزام يعتبرها المدي غير لفظية كون اللزم هو خارج عن مدلول اللفظ ،إذ ل يعتبر اللزم جزءا
ل في مدلول اللفظ ولذلك عدت دللة التضمن دللةمن مدلول اللفظ بخلف دللة التضمن التي يعتبر فيها الجزء داخ ً
لفظية .وبين علقة المطابقة والتضمن هناك مساواة بشرط انتفاء وجود لزم لمدلول اللفظ المطابق .يوضح ذلك
المدي في قوله "ودللة اللتزام وإن شاركت دللة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللزم في اللتزام،
وقد كانت النسب بين الدللت محل خلف كبير بين جمهور العلماء ،والمدي يخالف بتصنيفه لقسام الدللة
تقسيم العلماء المحدثين الذين أدرجوا دللة اللتزام ضمن الدللة اللفظية .إن دللة اللتزام تحدّد على مستوى ذهني،
فبين معنى اللفظ ومدلوله الخارجي اللزم له تلزم ذهني ولذلك كانت الدللة ،دللة عقلية بحيث يجد العقل بين الدال
والمدلول علقة ذاتية ينتقل لجلها منه إليه كما قال التهاوني(.)2
ولن معنى اللفظ ل يرتبط بأي معنى خارجي ،احتيج لتحديد علقة اللزوم إلى آلية ضبط هو النتقال الذهني
بحيث يكون المر الخارجي لزما لمسمى اللفظ بحيث يلزم من تصور المسمى تصوره ،بحيث إذا انتفى وجود
النتقال الذهني لستحال تحديد اللزم لدللة اللفظ ،ولما كانت الدللة اللتزامية يعتمد في إدراكها المسلك العقلي،
كانت إذن دللة عقلية وبما أن دللة اللتزام بتعبير المناطقة هي شاهد على غائب عدّها بعض اللغويين دللة منطقية
لن الفكر ينتقل انتقالً منطقيا من الحقائق الحاضرة إلى حقائق غائبة..
إن ما حققه المدي في رحاب التفريع لعالم الدللة ،كان له أثر التحول المنهجي لمسار المقاربة العلمية للظاهرة
اللغوية ،مما يعين على التفكير في إيجاد نسق تفريعي دللي للخطاب اللغوي في كامل مستوياته ،والمعتمد في
التواصل والبلغ ،وقد يعوّل عليه كثيرا في حصر السمات الدللية الدقيقة وضبطها ضبطا محكما لتغدو مداخل مهمة
في التعامل مع الظواهر اللغوية المتجددة ،لن اللغة العربية علمية في سننها التعبيرية ،ذهنية في انتظام قواعدها،
وتخضع لنظام علمي متكامل الجزاء ،دقيق العناصر ،وإن تجلياتها على مستوى النص القرآني خاصة وسعي
العلماء نحو اكتشاف القوالب المقولية والنظم الخطابية وتأسيسها تأسيسا علميا ،سيفتح المجال الواسع لدخال المنظومة
اللغوية في تفاعل خصب قصد تفجير طاقاتها الكامنة ،موازاة مع المستجدات الحاصلة على المستوى المفهومي لعالم
الدللة أو عالم العيان والشياء…
() عادل الفاخوري ،انظر ذلك ف كتاب علم الدللة عند العرب :ص .16 2
() أحد متار .علم الدللة :ص 99وانظر مدخل إل علم الدللة -بسام شاكر ص .44 4
() هذا ما اعتمدته النظرية التحليلية ف نضريتها نظرتا للحقول الدللية انظر ذلك ص 72من البحث. 5
() سال شاكر ،انظر مدخل إل علم الدللة :ص .44 4
() غرياس .انظر-البنية الدللية -ص -97ملة للفكر العرب العاصر -عدد /18/9سنة .1982 5
() انظر الزهر لسبون ج ( 1ص )386 -369فيه حديث مستفيض حول اهتمام بالشترك اللفظي واختلفهم ف إثباته ونفيه… 3
() ريون طحان ،بيطار طحان ،فنون التقعيد وعلوم واللسنية ص .204 -203 3
() بدأ أبو هلل كتابه -الفروق ف اللغة -بعنوان" :باب ف البانة عن كون اختلف العبارات والساء موجبا لختلف العان ف كل لغة". 4
() انظر علم الدللة ،د .أحد متار عمر ،ص .224 -223 1
() أحد متار عمر .علم الدللة ،ص .222 -220 4
() أحد متار عمر ،علم الدللة ،ص A Jolles .80أول عام اعتب ألفاظ الترادف والتضاد من القول الدللية. 2
أ-الحرف:
فالخطاب اللغوي عند المدي يضطلع بتوفير الليات التعبيرية التي تبدأ من أدنى صيغة إلى أكبر تركيب،
فالتفريع الدللي للحرف يمثل إحدى أهم الدوات في الخطاب الشرعي لدى المدي فضلً عن الركن السمي والركن
الفعلي .ولذلك نجد المدي في كتابه الحكام يقيم للحروف جدولً تفريعيا من زاوية وظيفته الدللية ،فالحرف ما دل
على معنى في غيره وهو أصناف منها حرف الضافة ،وهو ما يفضي بمعاني الفعال إلى السماء وهو ثلثة أقسام،
لكل منها دللت معينة مقيدة بضوابط محكمة ،فمن الحروف مال يكون إل حرفا (ك ِمنْ) التي تؤدي دللة التبعيض
ودللة بيان الجنس وبداية الغاية وما إلى ذلك ،ومنها مال يكون حرفا وإسما معا (ك َعنْ) التي تؤدي دللة المباعدة،
وقد تكون إسما مجرورا بإحدى أدوات الجر ،ومن الحروف ما يكون حرفا وفعلً (-كخل وحاشا )-اللتين تفيدان
الستثناء )2(،ويمكن توضح ذلك الرسم التفريعي التي
الدللة الحرفية
الدللة السمية التفريغ الدللي للحرف
ب-الفعل:
إن التفريع الدللي للفعل له وجود متميز في كتاب المدي ،فبعد تمييزه بين الماضي والمضارع والمر تمييزا
صوريا وزمانيا ،يقف المدي على التمييز بين رؤية النحاة ورؤية المناطقة للفعل ،فالبنية الشكلية لصيغة الفعل لها
دللتها التمييزية ضمن المقولت النحوية ،فالنحاة يرون أن الفعل كلمة مفردة سواء أكان هذا الفعل ماضيا أو مضارعا
أو أمرا ،أما المناطقة فيرون أن الفعل المفرد هو الماضي دون المضارع ،فالمفرد هو الذي يدل على شيء مخصوص
ول جزء له يدل على شيء أصلً ،بخلف غير المفرد وهو الذي يدل على شيء مخصوص ،وله جزء يدل على
شيء مخصوص كذلك .يقول المدي" :والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقا فعند الحكماء ،المفرد منه إنما
هو الماضي دون المضارع وذلك لن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع ،معينا كان أو غير
معين ،والمفرد هو الدال الذي ل جزء له يدل على شيء أصلً (…) وهو بخلف الماضي ،فإنه وإن دل على الفعل
وعلى موضوعه .فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفردا"(.)3
لقد بحث يمسلف ( )Hjelmslevالدللة التي قد تؤديها أجزاء من الكلمة ،فكل لغة تكمن في نظام من العلمات
يعني ذلك نظام من الوحدات التعبيرية التي تتصل بمحتوى (المعنى) ،فالكلمات هي بالطبع علمات لكن أجزاء من
() الستاذ أحد حسان ،الكون الدلل للفعل ف لسان العرب ص .124 2
ج-السم:
يقيم المدي تقسيمات المفرد على تفريع دللي يأخذ كمعيار دللته الخبارية أو عدم حمله لهذه الدللة .فالسم هو
الذي يصلح لبناء الجمل الخبرية من جنسه خلفا للفعل الذي ل يصح منه ذلك .يقول المدي في ماهية السم المفرد
"هو إما أن يصح جعله أحد جزئي القضية الخبرية التي هي ذات جزءين فقط أو ل يصح فإن كان الول فإما أن
يصبح تركيب القضية الخبرية من جنسه أو ل يصبح ،فإن كان الول فهو السم وإن كان الثاني فهو الفعل ،وأما قسيم
القسم الول فهو الحرف" )2(،وقد احتاط المدي في الحد الذي عرف به السم ،وذلك بأن أخرج منه السماء الناقصة
والمضمرة التي ل تدل على معين معلوم في عالم الدللة ،بحيث يتعذر بناء قضية خبرية ذات محتوى دللي من
أسماء مبهمة أو ناقصة يقول شارحا ذلك" :ول يلزم على ما ذكرناه (في السم) ،السماء النواقص كالذي والتي،
والمضمرات كهو وهي ،حيث إنه ل يمكن جعلها أحد ج ْزءَي القضية الخبرية عند تجردها ول تركب القضية الخبرية
منها"(.)3
فالسم عنصر أساسي في أي سياق لغوي ،تقتضي دللته إرجاعا في عالم العيان أو الذهان بوصفه شيئا له
مميزات خاصة ،ينقل (بيار لورة ( )Pierre Leratتعريف أرسطو" :الذي أجمل مدونة أجزاء الخطاب وعرف السم
كالتي :هو مقطع صوتي يقصد به دللة متعارف عليها ،خال من أي مرجع إلى الزمن ول يدل كل جزء منه على
دللة عندما يؤخذ مستقلً"( )4إن ماهية السم عند المدي تكاد تنحصر في اسم العلم ،إذ يحيل اسم العلم مباشرة على
مفهومه الذهني بحيث إذا سمع اسم تبادر إلى الذهن مسماه ،على خلف السماء العادية التي ل يخضع حقلها
المفهومي إلى حصر أو تعيين .وفي معرض تفريع السم تفريعا ،يعتمد معيار الفراد والتركيب في إحداث أنساق من
الحقول المفهومية ،يقول المدي" :ثم ل يخلو إما أن يكون السم واحدا ،أو متعددا ،فإن كان واحدا فمسماه إما أن
يكون واحدا ،أو متعددا ،فإن كان واحدا فمفهومه منقسم على وجوه :القسمة الولى :أنه إما أن يكون بحيث يصح أن
يشترك في مفهومه كثيرون ،أو ل يصح فإن كان الول فهو كلي ،وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل ،ما بين أشخاص
متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم النسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم (بفتح اللم) والشمس
والقمر أو بحكم التفاق كاسم عنقاء مغرب ،أو جبل من ذهب"(.)5
() الستاذ أحد حسان ،الكون الدلل للفعل ف اللسان العرب ،ص .135 1
() لقد وضع الفاراب (ت 339هـ) علما خاصا ساه علم اللفاظ ب ثَ فيه بإسهاب تفريعات اللفاظ الفردة والركبة -انظر الفصل الاص بهود 1
السم
جزئي كلي
إن المدي كما نلحظ ،ل يؤسس أحكامه اللغوية النظرية انطلقا من الواقع اللغوي الجرائي فحسب ،بل إنه
يرسم قواعد كلية تتموضع فيها تراكيب اللغة وعناصرها المعجمية في إطار مشروع لغوي ل يتفاعل بالواقع فحسب
بل ويفعل في الواقع ،وهو ما نكاد نلمسه في المباحث اللغوية في التراث المعرفي عند علماء اللغة كسيبويه والمبّرد
والفّراء وغيرهم فقد يتعاملون مع تركيب (زيد منطلق) كركن اسمي مع انتفاء هذا السم في واقع اللغة ويبنون عليه
قواعد نظرية تخص أنحاء اللغة.
() ميشان زكريا ،اللسنية ،علم اللغة الديث ،ص .32 1
() د .عبد القادر الفاسي القهري ،اللسانيات واللغة العربية ،ص .381 3
() انظر نظرية الوضعية النطقية ومذهب (شليك) ف الكم على صدق القضية (الملة) وربطه بالتحقيق التجريب ف فصل (النظريات الدللية الديثة) 2
ص .78
() الصدر السابق ،ج ،2ص .12 -11 3
() انظر النظرية السياقية ف مبحث النظريات الدللية الديثة ،ص .70 2
() انظر ف ذلك ف الفصل السابق ،نظرية النظم عند الرجان ،ص .119 1
() إبراهيم أنيس ،انظر ذلك ف كتاب دللة اللفاظ ،ص 152إل .167 1
() انظر ف ذلك النظرية السياقية الت أعطت للمتلقي دورا ف ربط الطاب بالقام ،فالقول البحث عن مقامه غالبا ما يستعصي عن التأويل ،ص .70 3
() وهذا ما يؤكده رائد الدرسة التجريدية "إدوارد ساميي" ف كتابه –اللغة -ص .37 -34 6
() د .كمال ممد بشر ،انظر دور الكلمة ف اللغة ف القدمة ،ص 6من كتاب (ستيفن أولن). 3
() د .عبد السلم السدي ،انظر ف ذلك اللسانيات وأسسها العرفية ،ص ،64ص .81 1
() انظر فصل ماهية الدللة عند الحدثي (غريارس) ،ص .30 4
تمهيد:
إن المنظومة اللغوية تنزع نحو التمدد والتغير اللزمين لتغطية مجمل الحاجات اللغوية التي يقتضيها الخطاب
البلغي في الحوال المختلفة ،ولذلك استقر في أذهان اللغويين المحدثين أن محاولة البقاء على معنى قار دون أن
يخضع لعوامل التغيير الدللي هو ضرب من النمطية التي يرفضها النظام اللغوي المتجدد.
ولعل أبرز العوامل التي تنتظم التغيّر الدللي هو الطابع الجتماعي للغة ،الذي يلقي بتأثيره على الطابع الذهني
والفكري لدى أهل هذه اللغة إذ تغدو المنظومة اللغوية حاملة للقيم الجتماعية والفكرية المستجدة .وفي ضوء ذلك
نفسر مذهب "رونالد بارت ( "، )Roland Barthesواتباع نظرية سيمولوجية الدللة الذين اعتبروا المعنى المعجمي
معنى مشوشا دائما لنه معرض للتغيير والتطور بفعل الستعمال الجتماعي للرمز الدللي( )1إذ يفتح أمامه إمكانية
تغيير المجال الدللي وهو ما بحث مظاهره اللغويون محددين مستويات مختلفة منها :مستوى النقل ومستوى التغيير
النحطاطي أو المتسامي ،وذلك بتخصيص الدللة أو تعميمها( ،)2ثم مستوى الحذف والتعويض وذلك بملء الفجوة
الدللية التي تركها اللفظ المندثر بدللة جديدة تستدعيها الظروف اللغوية ،وقد يحدث أن يعاد اللفظ القديم (المندثر)
ليحمل دللة جديدة تلئم الحاجة اللغوية المستجدة ،هذه الحركية أو الدينامية التي تميز العناصر اللغوية داخل النظام
اللساني ،يمكن حصرها في تقاطع حقلين رئيسيين على جميع مستويات التغيير الدللي هما :حقل الحقيقة وحقل
المجاز ،حقل الدللة الصلية ،وحقل الدللة المحوّلة ولما كان المجاز يعد الجسر اللغوي الذي تنتقل عبره الدوال إلى
المدلولت الجديدة أو العكس ،كان ذلك مظهرا على قوة الطاقة التعبيرية في اللغة ول أدل على ذلك أن ظاهرة المجاز
ظاهرة عامة لكل اللسنة يلجأ إليها المجتمع اللغوي لتوليد المعاني الضرورية خاصة في إغناء الرصيد المصطلحاتي
الخاص بالتواصل العلمي المعرفي ،فهو إذن ضرب من العقلنة في باطن منظومة أساسها ومنطلقها العتباط المحض،
لن مبعثه هو القتران العرفي الذي ل يلبث أن يتحول إلى إطراد معقول يأخذ اللغة من الحاجة إلى الكفاف ومن
التوحد الدللي إلى طواعية التكاثر فيصبح هذا التولّد المستمر ينبوعا في اللغة ل ينضب( .)3إذن فمهمة المجاز تقوم
على أساس التحديد المفهومي للحقل الدللي إذ تستوعب اللغة المدلولت المستحدثة بتفجير طاقاتها التعبيرية الكامنة
() …Introduction à la sémiologie, P 21. Dalila Morsly, Francois chevaldonne et autres 1
() انظر ذلك ف كتاب :دور الكلمة ف اللغة :ستيفن أولن ،ترجة كمال بشر ،ص .161وكتاب :علم اللغة :د .ممود السعران ص .401 -388 2
() عبد السلم السدي :النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية ،ص ،23ملة الفكر العرب العاصر ،عدد ،31 -30سنة .1984 1
() فصل القام فيما بي الكمة والشريعة من التصال :ص .20 -19 2
-2ماهية المجاز
يستهل المدي مبحثه حول المجاز بالتعريف اللغوي الذي يعنى النتقال من حال إلى حال ،أي تجوز اللفظ
لدللته الصلية إلى دللة جديدة ،فالدللة الولى هي الدللة الحقيقية والدللة الثانية هي الدللة المجازية .فيقول
المدي" :وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز ،وهو النتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلن من جهة إلى
جهة كذا"( .)4ولما كان المجاز تابعا للحقيقة وكانت الحقيقة تقسّم إلى لغوية وعرفية ووضعية وشرعية ،كان المجاز في
التقسيم تابعا كذلك للحقيقة ،ول تنفصم عرى التصال بين دللة اللفظ الحقيقية ودللته المجازية بل يبقى رباط خفي
() الصدر نفسه ج ،1ص .27 1
() د .عبد السلم السدي… اللسانيات وأسسها العرفية ،ص .97 1
() النواميس الشعرية والظاهرة الصطلحية ،ص ،23ملة الفكر العرب العاصر ،عدد .1984 /31 -30 3
() النواميس اللغوية والظاهرة الصطلحية ،ص ،23ملة الفكر العرب العاصر ،عدد 30/31سنة .1984 3
خاتمة البحث:
ليس من المبالغة في شيء ،إذا جزمنا أن المدي في كتابه "الحكام" قد أرسى نظرية علمية بينة المعالم ،واضحة
- 164 -
-1المصادر والمراجع العربية
-الدوريات:
-مجلة تجليات الحداثة ،معهد اللغة العربية وآدابها ،جامعة وهران عدد ،2سنة .1993
-مجلة الفكر العربي المعاصر ،عدد 18/19سنة ،1982وعدد 31 -30سنة ،1984بيروت –لبنان.
- 170 -
- 171 -
الفهرس
الهــــداء3................................................................:
الباب الول :
-3عبد الجليل