Professional Documents
Culture Documents
:Updated
مقدمـــة
( الهوامش
الفصـــل الول :في القراءة عامة وفي القراءة الدبية وأشكالها خاصة
-3ذريّةٌ عديدةٌ
-4القارئُ الحقيقيّ.
ص الدبيّ؟
الفصل الثالث :كيف نقرأ الن ّ
-3دور القارئ
ذد ±،à
-2متعة اللعب
{\rtf1\adeflang1025\ansi\ansicpg1256\uc1\adeff27
\deff0\deflang1025\deflangfe1025{\fonttbl{\f0\froman\fcharset0\fprq2{\*\panose
02020603050405020304}Times New Roman;}{\f27\fbidi
\fnil\fcharset178\fprq2{\*\panose
خاتمة
توطئة عامة
لقد شرع محترفو تحليل النصوص الدبية من نقاد وجامعيين وصحفيين اختصاصيين في دراسة القراءة في أواسط
السبعينات من هذا القرن .وكانوا حتى ذلك التاريخ يحاولون أن يفهموا النص وأن يشرحوه لجمهورهم على ضوء
عصره ،وهو ما كان يطلق عليه بعض نقادنا اسم "أضواء على عصر الكاتب أو على بيئته" وكانوا يقسّمون فصلهم
هذا إلى أبواب ثانوية من قبيل "الحياة الجتماعية" أو "الحياة السياسية" أو "الحركة الفكرية" أو "الحياة العقلية" أو
"الحياة الدبية" وإلى غير ذلك مما نجده في كتب النقد المدرسية1.
وكان بعضهم الخر يقارب النص الدبي عن طريق حياة كاتبه وما مر به من صروف اليام أو من خلل ل وعيه
ورغباته الدفينة أو من خلل قضاياه الجنسية وسلوكه في حلها .ولقد مثّل الناقد السوري جورج طرابيشي (حلب
)1936في كتبه المختلفة هذا النمط من النقد الدبي الذي يستوحي كارل ماركس ( )1883-1818وسيجموند فرويد (
)1938-1856معا2.
وهناك مدرسة أخرى في النقد الدبي تحاول استيعاب النص من خلل أسلوب الكاتب وطريقته في التعبير واستخدام
أدوات البلغة والمحسنات البديعية ومن خلل مقارنته مع غيره من الكتّاب وأساليبهم وطرقهم في استخدام أدوات
التعبير نفسها.
وها هم يبدؤون في دراسته من خلل الشخص الذي ينفخ في النص الحياة والذي لوله ما وُجِد نص ول ُألّف كتاب.
ونعني القارئ .لقد بدأ المهتمون بالدب في منتصف العقد السابع يدركون أن السؤالين الجوهريين اللذين طالما شغل
الناس وهما ما الدب؟ وما أفضل السبل لدراسة النصوص الدبية؟ إنهما يعنيان في حقيقة المر أن نتساءل لماذا نقرأ
كتابا؟
ما هي أفضل السبل للحاطة بخلود مقامات الهمذاني أو بعظمة رسالة الغفران أو بإخلص القارئ العربي لبخلء
الجاحظ ؟ .أيكون ذلك في دراسة الحياة الفكرية في القرن الثامن العباسي وتياراتها في البصرة بالنسبة لبي عثمان أو
في القرن العاشر وفي خراسان أو سوريا بالنسبة لبي الفضل وأبي العلء؟ .أم يكون ذلك في تقصي حياة عمرو بن
بحر ( )868-775والتنقيب في أسرار حياة أحمد بن الحسين ( )1007-968وكشف النقاب عما خفي من معيشة أحمد
بن عبد ال التنوخي ()1058-979؟ .أم أن ذلك يكون بأن نوجه أبحاثنا في طريق أخرى وهي أن نسأل القارئ
العربي عما يجده أو يعتقد أنه واجده في هاتيك المؤلفات؟ .فهذه الكتب جميعها وكل الكتب الخرى لم تظهر للوجود إل
بفضل القارئ ول تستمر بالبقاء إل بفضل العناية الخاصة التي يوليها لها!
لقد ظهر الهتمام بالقراءة حين راح ضعف المناهج النقدية التي كانت تستوحي النظريات البنيوية يبدو جليا للعيان .ثم
راح هذا الهتمام يتزايد بمقدار ما كان يكبر وعي بعض النقاد بأنه من العبث بل من الحماقة أن يلخص النص الدبي
بسلسلة من الشكال المجردة كما كانت تقترح الدراسات البنيوية.
فالدراسة التي تنحصر في بحث البنية الهيكلية كان ل بد لها أن تنتج نماذج نقدية مفرطة في العمومية أو غاية في
الغموض! .ولقد تم البرهان على أن النساق التي كان المنظرون الجماليون قد أعلنوا أنها لحمة الدب وسداه وأنها
تخص الشكال الدبية دون سواها موجودة كذلك في أشكال غير أدبية .ولقد طبق الفرنسي رولن بارت ،وبدون
صعوبة تُذكر ،المنهج البنيوي على أفلم جيمس بوند! .واكتشف مواطنه جريماس ،وبدون كبير عناء ،الشكال الدبية
الكبرى في الوصفات التي تقترحها كتب المطبخ!.
والنقد الجمالي البنيوي ،بصفته علم لما هو عام وشامل ،يقصر عن إدراك خصوصية هذا النص الدبي أو ذاك .فهو إذ
يحاول أن يصف القواعد التي تنطبق على مجموع العمال الدبية التي تنتمي إلى الصنف الدبي المدروس كرواية
السيرة الذاتية أو الرواية التاريخية أو غيرها فإنه ل يرى بصمة الديب المميزة ول مهارة صنعته والتي تسبغ على
ل ولكن ل بد لنا
النص هويته الخاصة .فتعدّد وجهات النظر الروائية هو أكثر ما يشدنا في الرواية الديستويفيسكية مث ً
من القرار أن هذه الوسيلة ل تبلغ نفس الغاية حين يستخدمها كتّاب ضعفاء .ولقد قلد أبو الطاهر محمد بن يوسف
السرقسطي (1143م) كل محسّنات الحريري (1054/1122م) وسلك طريقته في التأليف والنظم ولكننا ما زلنا نقرأ
مقامات الحريري ونعجب لحابيل أبي زيد السروجي ولتمكّنه من اللغة وآدابها ونكاد نجهل كل شيء عن السرقسطي!.
إن قيمة العمل الفني ل تقاس بوجود هذه التقنية الفنية أو تلك فيه ول بغيابهما عنه .إنها تعود إلى أسباب لم يستطع
علم الجمال البنيوي الحاطة بها .ولقد حث قصور المنهج البنوي الدارسين على تجديد طرقهم في النقد الدبي .ثم
صار هذا التجديد ممكنا حين خرجت الدراسات اللسنية الحديثة من الميدان الذي كان مؤسسوها قد رسموه لها
فأشرفت على آفاق جديدة.
إن ظهور مفهوم التداولية واغتناءه المستمر في صلب الدراسات اللسنية هو الذي دفع بأهل الدب إلى إيلء مسألة
التلقي اهتمامهم .لقد ظل علم اللسنيات خلل فترة من الزمن يتفرع إلى قسمين تقليديين أساسيين هما "النحو
التركيبي" وهو يدرس علقة العلمات اللغوية بعضها ببعض و"الدللية" وهو يبحث في علقات العلمات اللغوية
بالمعاني التي تدل عليها .وكان هذان الفرعان يطمحان إلى وصف عمل اللغة البشرية .ثم أضاف اللغويون قسما ثالثا
أطلق عليه اسم "التداولية" وهو يعنى بعلقات العلمة اللغوية بمستخدميها.
ويعود الفضل في إنشاء هذه العلقة الثلثية إلى الفيلسوف المريكي موريس C. Morrisوإلى كتاب نشره سنة
1938بعنوان أسس نظرية العلمات اللغوية ( )Foundations of the Theory of Signsوفي هذا الكتاب أشار
الفيلسوف إلى أهمية دراسة "ما يصنعه" المتكلم عن طريق اللغة.
ثم ازدهر هذا الفرع الجديد من اللسنيات ازدهارا اعتبارا من سنوات العقد السادس من قرننا هذا .ولنكتف بالشارة
إلى كتابين أساسيين في هذا المجال أحدهما للنكليزي أوستين J.I.Austinبعنوان كيف نصنع أشياء بالكلمات (
)How to do things with words( )1962والخر للفرنسي دوكرو O. Ducrotوهو بعنوان القول والفعل (
.)1984
لقد أبان الفيلسوف النكليزي بأن وظيفة اللغة ل تنحصر بأن تنقل خبرا أو بأن تصف واقعة ول بأن توصل إلى
المرسَل إليه معلومة يبعث بها عن طريق العلمات الصوتية المتكل ُم الول أي المُرسِل كما وقع التفاق على تسمية
الطرفين .فهناك في اللغة أفعال تنجز أو تحقق ما تحمله من المعاني بمجرد التلفظ بها.
ولنهب جملً من طراز" :نهض زيد من نومه" أو "أنا مشتاق لهلي" أو "عبّرت الحكومة عن استيائها" .إن هذه الجمل
جميعها تخبر عن شيء أو تكشف عن حالة نفسية أو عن موقف سياسي .ولنأخذ الن جملة" :أنتِ طالق بالثلثة" .فإن
هذه الكلمات إن قيلت على نحو معين وخلل ظروف معينة تخلق وضعا جديدا تماما .فالزوج تطلّق حقا والخلية
العائلية تتفتت مع كل النتائج الجتماعية التي يسهل تصورها.
واقتفى الفرنسي دوكرو إثر النكليزي أوستين فأظهر كيف أن الكلم يتوجه دائما نحو مُرسَل إليه وأنه يسعى دائما
على نحو مكشوف أو مستتر أن يؤثر فيه على نحو بيّن أو ل.
إن المحادثة هي دائما محاولة لجر الخر إلى اتخاذ موقف ما.
إن ما تظهره التداولية للعيان هو أهمية التأثير والتأثر في قلب الخطاب العادي .فإذا صح أن وظيفة الكلم هي بأن
يؤثر في الخرين أكثر مما يسعى إلى إخبارهم فهذا يعني أنه من الصعوبة بمكان أن نفهم كل الفهم خطابا ما إذا
اكتفينا بإرجاعه إلى صاحبه .وهذا يعني كذلك أن علينا أن نأخذ بعين العتبار الثنائي الذي يشكله الشخص المتكلم
والشخص الذي يوجه إليه كلمه.
ونرى هنا بوضوح نتائج مفهوم التداولية اللسني على دراسة النصوص الدبية .فإن كان الكلم في اللغة اليومية
يهدف دائما إلى التأثير على الخر وإلى تحقيق غاية ما ،فإن المر هو ول ريب أكثر وضوحا وأشد قوة في العمال
الدبية حيث يسعى الكاتب على ان ل يترك شيئا للصدفة ،وحيث تنتقي إرادة المؤلف الواعية الصارمة المفردات
وتنظمها بعد تفكير وإمعان نظر.
وعليه فإن الكتاب ل يمكن أن يقتصر على الكشف عن بنيته الهيكلية العميقة أو على البحث عن الوشائج القائمة بينه
وبين مؤلفه .ولكنه يفرض علينا أن نحلل علقات التأثير والتأثر بين الكاتب والقارئ.
إذا كان موضوع النقد الدبي هو العمل الدبي فما هو موضوع نظريات تلقي العمل الدبي؟ .أهو كفاءات القارئ؟ .أهو
النص الذي تظهر من خلله هذه الكفاءات؟ .أهو علقة التأثير والتأثر بين النص وقارئه؟.
ولكن هذه السئلة تتضمن أننا نستطيع أن نقصر عملية القراءة على تبادل بين طرفين وحيدين وحسب! .أيمكننا قبول
هذا؟ أليست علقة المرء بالقراءة علقة ترتبط بالعادات الثقافية وبالنماذج الثقافية التي تقترحها البيئة الجتماعية
التي ينشأ فيها الفرد القارئ كما أنها ترتبط كذلك بثوابته النفسية؟.
ومن جهة أخرى أليس أخذنا بكل هذه العوامل يعني الرجوع إلى ميدان النقد الدبي التقليدي؟ .إن هناك طرقتين ،في
حقيقة المر ،لمعالجة هذه المشكلة .إن تحليل نصّ ما يعني إما أن نتساءل عن كيفية قراءة النص أو أن نتساءل عما
نقرؤه أو عما يمكن أن نقرأه في النص .فإذا كانت دراسة "كيفية القراءة" تضفي على نظريات "التلقي" بعضا من
صفاتها المميزة فإن البحث في "محتوى القراءة" يؤدي في أغلب الحيان إلى التساؤل عن معنى النص أو عن معانيه.
ويقود الباحث في هذا الطريق كذلك غموض المصطلحات التي يستخدمها .فينشأ عن ذلك خلط بين دراسة القراءة
ودراسة العمل الدبي.
ولقد تردد الدارسون دائما أمام هذين المنهجين وكيفية اللجوء إليهما وتطبيقهما .وظهرت نتيجة لهذه المواقف
المتباينة تيارات نقدية يمكن أن نميز بين أهمها مدرسة كونستانس اللمانية ومدرسة التحليل الدللي (السيميوطيكي)
ومدرسة تحليل الرموز ونظريات القارئ الحقيقي.
ومدرسة كونستانس هي أولى المحاولت الكبرى لتجديد دراسات النصوص على ضوء القراءة .وكان اهتمام الباحثين
قبل ذلك منصبا على كشف الروابط القائمة بين النص ومبدعه ،فراح أتباع المدرسة اللمانية ينادون بانتقال البحث من
العلقة بين الكاتب ونصه إلى العلقة بين القارئ والنص.
غير أن مدرسة تحليل كونستانس تتفرع في واقع المر إلى منهجين يتميز أحدهما عن الخر .فبينما يعنى الول "بعلم
جمال التلقي" وأبرز ممثليه هو هانز روبر جوس Hans Robet Jausيهتم الثاني بفرضية "القارئ الضمني أو
القارئ المستتر" ويقوده إيزير .W. Iser
لقد ظهر "علم جمال التلقي" في مطلع العقد السابع تحدوه الرغبة بإعادة النظر في طرق دراسة تاريخ الدب .ويلحظ
جوس أن العمل الفني عامة والعمل الدبي على وجه الخصوص ل يفرض نفسه ول يستمر في الحياة إل من خلل
جمهور ما .وعليه فإن التاريخ الدبي هو تاريخ جماهير القراء المتعاقبة أكثر من تاريخ العمل الدبي بحد ذاته .وبما
أن الدب هو نشاط تواصلي فإنه ينبغي علينا أن نحلل الدب من خلل الثار التي يتركها على مجموعة المعايير
الجتماعية.
وأما نظرية إيزير بخصوص القارئ الضمني فقد نشرها عام .1976فبينما كان جوس يستقصي أبعاد التلقي التاريخية
كان اهتمام إيزير منصبا على تحليل أثر النص الدبي على الفرد القارئ .وينطلق إيزير من أن القارئ هو الغاية
الكامنة في نية المؤلف حين يشرع في الكتابة .وعليه فإن واجب النقد الدبي هو أن يبين كيف ينظم الكتاب المدروس
طريقة قراءته ويوجهها بغاية الحصول على الثر المُبتَغى ثم عليه أن يظهر ردة فعل الفرد القارئ في ملكاته الدراكية
أمام السبل المختلفة التي يقترحها النص المقروء.
إن نموذج التحليل الدللي الذي اقترحه اليطالي أمبيرتو إيكو Umberto Ecoعام 1979في كتابه القارئ في النص
( )Lector in fabulaل يختلف اختلفا كبيرا عن النموذج الذي دافع عنه إيزير .وهو يقترح تحليلً لما يسميه
"بالقراءة المتعاونة أو المستجيبة" .وغاية التحليل كما يراها العالم اليطالي هي دراسة كيف يبرمج النص شكل تلقيه
ودراسة ما يقوم به القارئ وبالحرى ما ينبغي أن يقوم به القارئ الفطن كي يستجيب على نحو حسن للنداء الكامن
في البنية النصية.
ويعود الفضل في ظهور نظريات التحليل "الرمزية" لفيليب هامون Hamonولوتين .Ottenوقد عرضاها في العقد
الثامن وهي تقوم على الرغبة بدراسة عملية القراءة من خلل تفاصيل النص .وليست الغاية هنا هي اقتراح نماذج
تأويلية عامة تصلح لكل النصوص وإنما الغاية هنا هي اقتراح تحاليل محددة وغاية في الدقة تلقي الضوء على ما
يميز هذا الجانب أو ذاك من عملية القراءة .ومع ذلك فقد حاول أوتين أن يقترح منهجا تركيبيا نستطيع بفضله أن
نفهم نشاط القراءة من خلل ثلثة ميادين رسم حدودها بدقة .وهي ميدان النص المعروض للقراءة ثم ميدان هذا
النص كما يقرؤه القارئ وأخيرا طبيعة علقة ذلك النص مع قارئه.
ولكننا نجد عند هذه النقطة من منهج أوتين تفاصيل كثيرة يقتبسها من دراسات سابقيه وخصوصا إيزير وإيكو.
ثم ظهرت طريقة جديدة لدراسة عملية القراءة تأخذ بعين العتبار القارئ الحقيقي .وقد عرض الفرنسي ميشيل بيكار
منهجه ذاك في كتابين نشر أولهما عام 1986بعنوان القراءة كلعبة وظهر ثانيهما بعد ثلث سنوات بعنوان قراءة
الوقت ( .)Lire le tempsويأخذ بيكار على المهتمين بدراسة القراءة أنهم يحللون في واقع المر قراءات نظرية
ومجردة يقوم بها قراء نظريون ومجردون .وهو يرى أن الوقت قد أزف لنطرح جانبا تلك القراءات الموهومة والتي
لم توجد قط ولندرس القراءة الوحيدة الصائبة وهي القراءة الملموسة المحددة التي يقوم بها القارئ الملموس المحدد.
وعلى نقيض القارئ المجرد الذي يقترحه نموذجا إيزير وإيكو فإن القارئ الحقيقي الملموس يدرك النص بذكائه
وبرغباته وبثقافته وبقيوده الجتماعية والتاريخية وكذلك بشخصيته اللواعية.
ولقد اقترح الفرنسي فينسان جوف في كتابه الشخصية الروائية بصفتها أثرا في الرواية (L'Effet-( )1992
)personnage dans le romanمنهجا في التحليل قريبا من منهج بيكار ولكنه أكثر اعتمادا على التحليل النفسي
منه.
إن هذه النظريات المختلفة والتي لن نكف خلل دراستنا هذه من العودة إليها ومن اقتباس مفاهيمها وعلى الخص
كتاب الناقد فينسان جوف القراءة
( )La lectureتقدّم نفسها على أنها شاملة مانعة وتزعم أنها تصلح لتحليل كل نصوص الحقل الدبي! .وبما أن
كثيرا من آثار القراءة يرتبط بطبيعة العمل الدبي الخطية فإن من عادة الباحثين أن يستقوا أكثر أمثلتهم من النصوص
الروائية من غير أن يهملوا بقية النواع الدبية .وسوف نحذو حذوهم في دراستنا هذه.
لقد اعتمدنا في توثيق معظم الروايات العربية المعاصِرة وكتّابها المذكورين في دراستنا هذه على معجم الروائيين
العرب 3للدكتور سمر روحي الفيصل وعلى معجم أعضاء اتحاد الكتّاب العرب في القطر العربي السوري والوطن
العربي ( )4والذي أعده أديب عزت وسليمان عامود وراجعه عبد ال أبو هيف .فلذلك ولهؤلء عرفاننا بالجميل .وإذا
تعذّر ذلك فقد رجعنا إلى مصادر عديدة من معاجم المؤلفين والكتّاب المتوفرة.
ولقد سعينا إلى أن يكون اسم الكاتب حين يذكر للمرة الولى بالحرف الغليظة مشفوعا بتاريخ وفاته .فإذا تعذر ذلك
فحرف (ت) متبوعا بتاريخ الوفاة .وإل فتاريخ الولدة.
وعملنا على أن تكون أسماء العلم بالحرف الغليظة .وليس كذلك أسماء الشخصيات الدبية .فالهمذاني بالحرف
الغليظة واما عيسى بن هشام فبالحرف العادية.
وجعلنا اسم الكاتب الجنبي بالحرف اللتينية حين يذكر للمرة الولى وألحقناه برديفه بالحرف العربية .وسلكنا في
ذلك التهجية الشائعة .وألحقناه كما في العلم العربية بتاريخ الولدة ثم الوفاة.
وذكرنا عنوان الرواية الجنبية حين يُذكر للمرة الولى كما هو في اللغة الجنبية وذكرنا تاريخ نشره .ثم ترجمناه إلى
العربية .فإن كان قد سبق ونقل إلى العربية فقد اتخذنا العنوان الذي اختاره من سبقنا.
لقد حاولنا أن تكون المثلة من الدب العربي .فإن تعذر علينا ذلك فمن الداب الجنبية .وعندها بذلنا جهدنا لكي تكون
من تلك التي ترجمت إلى اللغة العربية .وذلك كي يستطيع القارئ العربي الذي ل يتقن لغة غير لغة الضاد أن يرافقنا
في هذه الطريق ولقد وفقنا إلى ذلك غير مثالين أو ثلثة ،فعذرا من القارئ الكريم.
( الهوامش
-1انظر كتاب المُفيد في الدب العربي الذي كان يعالج مادة الدب العربي المقررة للسنة الثانية للبكالوريا اللبنانية.
تأليف :أحمد أبو حاقة ،أحمد أبو سعد وإيليا حاوي وجوزيف الهاشم .بيروت .دار العلم للمليين 1987الطبعة .14
من الصفحة 12حتى الصفحة .44
الدب والنصوص للصف الثاني الثانوي الدبي في سوريا لمؤلفيه فالح فلوح وندوة النوري وياسر عليا وخير الدين
صيادي ومحمد النميري .دمشق .المؤسسة العامة للمطبوعات والكتب المدرسية .1991-1990من الصفحة 5إلى
الصفحة .25
النصوص الدبية للسنة الولى الثانوية الصادر عن وزارة التربية الوطنية في المملكة المغربية سنة .1992ففي
الفصل المخصص لدب القصة نجد تقديما له (ص )62-61ثم نصا لمحمود تيمور (ص )65-63ثم ثلثة سطور عن
ل للنص وأخيرا تعليقا عليه
مصدر النص (انتصار الحياة )1963ثم تعريفا بالكاتب ثم بظروف النص ثم تحلي ً
( ص .)67-66
-2انظر كتبه لعبة الحلم والواقع :دراسة في أدب توفيق الحكيم .أو دراسته شرقٌ وغرب ،أنوثة ورجولة :دراسة في
أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية وكذلك رمزية المرأة في الرواية العربية .وقد ظهرت منها طبعات عديدة
عن دار الداب في بيروت.
-3سمر روحي الفيصل معجم الروائيين العرب طرابلس .لبنان .دار جروس برس.1995 .
-4أعضاء اتحاد الكتاب العرب في القطر العربي السوري والوطن العربي إعداد :أديب عزت وإسماعيل عامود
ومراجعة عبد ال أبو هيف دمشق .منشورات اتحاد الكتّاب العرب .1984 .الطبعة الثانية.
الفصـــل الول :في القراءة عامة وفي القراءة الدبية وأشكالها خاصة
إن نشاط القراءة نشاط معقد ومتعدد ينمو في اتجاهات كثيرة .ولقد ظهرت محاولت نظرية عديدة لللمام بها من
خلل أبعادها الكثيرة .وسنعرض هنا لواحدة منها ترى في القراءة نشاطا ذا أبعاد خمسة أساسية.
ولقد أثبتت تلك الدراسات كذلك أن حركة النظرة ليست أفقية ول متناسقة .ولكنها تقفز قفزات مفاجئة ومتقطعة تفصل
بينها وقفات قد تطول أو تقصر .ويتراوح طول هذه الوقفات بين ربع الثانية وثلثها .وهذه الوقفات هي ما يسمح لنا
بإدراك الحروف .فخلل هذه الوقفات "تسجّل" العين سبعة أو ثمانية رموز وتستبق في نفس الوقت بقية الرموز "فتلقي
نظرة" عليها بفضل محيط العين الجانبي.
ويسهل على القارئ إدراك رموز الخط بقدر ما يكون النص المقروء مؤلفا من كلمات قصيرة مألوفة قديمة وسهلة
ذات معانٍ متعددة .ومن جهة أخرى فإن قدرة الذاكرة المباشرة تتراوح بين ثمان كلمات وست عشرة كلمة .وهذا
يعني أن أفضل الجمل تلؤما مع هذا الستعداد الذهني الطبيعي هي الجمل القصيرة ذات البنية المتماسكة .ولقد لفت
ريشودو النظر إلى أن إهمال الكاتب لشروط "المقروئية" العامة هذه قد يتسبب في أن ينزلق القارئ في سبل معانٍ
كثيرة .وعندها ل يكون النص "المقروء" عين النص "المكتوب".
وانزلق معنى النص ليس أمرا نادرا في ميدان الدب .ولنذكر غموض الصوغ عند أبي تمام ( )845-779أو وحشية
مفرداته وما آلت من صعوبات شتى في التأويل .ولنذكر من بين معاصرينا أسلوب حيدر حيدر (سورية
في روايته المضنية الزمن الموحش ( )1973أو رواية ادوار خراط (مصر )1926المعقدة رامة والتنين ( )1936
.)1980
إن هذا وحده يكفي للدللة على أن فعل القراءة ذاته هو نشاط ذاتي إلى درجة بعيدة .وهكذا فإن القراءة تظهر ،حين
ننظر إليها من جانبها الفيزيائي العضوي ،على أنها نشاط استباقٍ وتنظيم وتأويل.
بعد أن ينظر القارئ إلى رموز الخط وبعد أن "يفكّها" يحاول عندها أن يفهم ما المر وعما يدور الحديث .إن تحويل
الكلمات أو "رزم الكلمات" إلى عناصر ذات معنى يفترض أن يبذل القارئ جهدا كبيرا للتجريد.
وقد يظل فهم القارئ ضمن حده الدنى ،وهو يكتفي عندها بأن يرافق الحداث الجارية أمام ناظريه .فينصب اهتمامه
على توالي الحداث وليس له من هم إل أن يبلغ نهاية الكتاب وخاتمة وقائعه .وهو ما يحدث على الغلب عندما نقرأ
روايات بوليسية أو ذات لغز بوليسي كأعمال الكاتبة النكليزية أجاتا كريستي ( )...-1891أو عندما نقرأ روايات
تعتمد المغامرة كعنصر جذاب كروايات جرجي زيدان (لبنان -1861القاهرة )1914التاريخية النقلب العثماني (
)1911أو أسير المتمهدي ( )1892مثلً .وهو ما يحدث كذلك في النصوص الدبية التي تبني حبكتها حول التشويق
الغرامي كما في بعض روايات إحسان عبد القدوس (القاهرة )1990-1919الناجحة (في بيتنا رجل.)1957 ،
ويقع نقيض ذلك حين يكون النص أصعب أو أعقد .فعندها يستطيع القارئ أن يهمل تعاقب الحداث في سبيل تأويلها.
فيتوقف عند هذا المقطع أو ذاك يُعمل فيه نظره ويسعى لدراك كل معانيه المضمرة وكل تفسيراته الممكنة.
والحقيقة أن نشاط القراءة في النصوص الولى يمضي قدما في سبل الحبكة الروائية ومنعطفاتها .وهو ل ينظر إل
إلى رقعة النص وانتشارها .ول يعبر اهتمامه قط لتراكيب اللغة وبنى جملها .فحين يقرأ أحدنا يوسف السباعي
(القاهرة -1917قبرص )1978فإنه يقرأ بسرعة فائقة وإذا أهمل شيئا من خطاب الكاتب فإنه بدون ريب ل يفقد
شيئا يعيق قراءته .وأما قراءة النصوص الخرى فإنها ل تُفلت شيئا وهي تتفحص كل شيء وتلتصق بنصها التصاقا.
فهي إذا صح القول قراءة مجتهدة ومتحمسة .وهي تطارد في كل نقطة من نقاط النص مهارة الفن وإتقان الصنعة.
وهي تبحث باستمرار عما يربط أطراف الجملة ببعضها وعما يربط الجمل ببعضها وليس ما يربط وقائع الحبكة
وأحداثها.
وبطبيعة الحال فإن هناك سبيلً وسطا بين السعي حثيثا إلى نهاية الكتاب لمعرفة خاتمة الحداث وبين القراءة المتأنية
التي تهدف إلى فهم تفاصيله الدقيقة .ويمكن أن نجمع بين القراءتين بأن نأخذ من كل منهما بنصيب قد يكبر أو
يصغر .ومهما يكن المر ،وفي جميع الحوال فإن عملية القراءة تتطلب كفاءة .ويفترض النص أن القارئ يمتلك حدا
أدنى منها إذ يرغب بمتابعة القراءة.
تكمن جاذبية القراءة إلى درجة كبيرة في الحاسيس التي تثيرها فينا .وإذا كان تلقي النص يعبئ عند قارئه ملكاته
الفكرية فإنه يهيج كذلك ،وربما على نحو أشد ،نزعاته العاطفية .فالحاسيس هي التي تقوم خلف مبدأ تقمص القارئ
للشخصيات الروائية .وهذا المبدأ هو المحرك الساسي لقراءة العمال المتخيلة .ولن الشخصيات الروائية تثير
استحساننا أو استنكارنا ولنها توقظ فينا الغيرة أو الشفقة والمودة أو البغضاء فإننا نهتم بمصائرها ويشغل بالنا ما
ومنذ مطلع القرن العشرين إلى Tomachevskiيقع لها من خير أو شر .ولقد أشار الناقد الروسي توماشفسكي
أهمية العواطف الولى في "لعبة" النص .وكلما كبُرت موهبة الكاتب كلما كبرت صعوبتنا بأن نقاوم سيطرته على
انفعالتنا وكلما ازدادت كذلك قوة نصّه على القناع .وقوة القناع هذه هي منبع افتتاننا بالنص الدبي وسبب تأثرها
به وذلك لنها إحدى وسائل التعليم والتبشير.
كذلك إلى ضعف مقاومتنا العاطفية هذه .وكان يرى أنها سبب انخراطنا في عالم النص Freudولقد أشار فرويد
الروائي وهي بالتالي سبب العظة التي نستخلصها من تلك التجربة .وذلك لننا جميعا وعلى وجه العموم نظل سلبيين
أمام شؤون الحياة اليومية وممتثلين لنتائجها .ولكننا نستكين لنداء الشاعر وهو يستطيع بفضل الحالة النفسية التي
يثيرها فينا وعن طريق المال التي يلوّح بها أمامنا أن يعبث بعواطفنا فيوجهها حيث يشاء.
ويسهل علينا أن ندرك أثر النفعالت في نشاط القراءة .فأن نتعلق بشخصية روائية يعني أن نوجه أنظارنا إلى ما يقع
لها .أي إلى الحكاية التي تُخرج الشخصية الروائية من فراغ العدم إلى عالم الوجود ثم تدفع بها إلى ساحة الحدث
الروائي .ولن وشائج عاطفية تربطنا بمصطفى سعيد فإننا نتابع قراءة رواية الطيب صالح (السودان )1929موسم
الهجرة إلى الشمال) ( )1965ونهتم بالسباب النفسية والجتماعية التي قادته إلى الضياع .ولن شخصيات ثلثية
نجيب محفوظ (القاهرة )1911جذابة ومنفرة ،كريهة ومحبوبة تثير ابتسامتنا أو تهيج غضبنا فإننا نسافر راضين في
كون الثلثية ( )1957-1956فنرضى في نفس الوقت بتصور العالم والفن الذي يتمثل من خللها.
وإنه لمن الجلي أن عنصر التقمص هو واحد من أهم طرق القراءة وأكثرها شيوعا بين القراء .وأن ارتباط القارئ
العاطفي بالنص المقروء هو مكوّن أساسي من مكوّنات القراءة وأنه سيبقى كذلك حتى زمن بعيد ول شك .وعليه فإن
استبعاد التماهي بين القارئ والشخصية الروائية وبالتالي استبعاد العنصر النفعالي من التجربة الجمالية كما نادى
حكِم عليها مسبقا بالخفاق.
بذلك بعض الكتّاب والمنظّرين المعاصرين هي محاولة قد ُ
وبما أن النص هو نتيجة إرادة الكاتب الخلّقة الواعية ومجموعة عناصر منظّمة فإنه من الممكن دائما أن نحلله على
أنه خطاب .أي على أنه موقف يتخذه الكاتب من الكون ومن الكائنات ول يعدّل من ذلك شيئا أن يلجأ الكاتب في
روايته إلى ضمير الغائب.
وإذا استخدمنا مصطلحات النظرية التداولية في النقد قلنا بأن النية في تعديل سلوك من يتوجه إليه الخطاب والتأثير
عليه هي صفة لزمة في النصوص الروائية .فالسرد ،أي ما يقوم به الحاكي حين يروي حكايته ،يسعى إلى أن يقود
المؤوّل الغائب (أي القارئ الذي يقرأ النص المسرود) أو القارئ الحاضر (المستمع الذي يصغي للنص المروي) إلى
تبني خاتمة ما أو إلى العراض عنها .ونية القناع هذه موجودة في كل حكاية سيان ظهرت واضحة جلية أم توارت
عن عين القارئ المتسرّع.
وتظهر الوظيفة الحجاجية بوضوح في الروايات التي تنافح عن فكرة ما أو تدافع عن قضية محددة .كأغلب روايات
حنا مينه التي تهدف إلى إقناع القارئ بصحة موقف الطبقات الكادحة السورية أو كبعض الروايات التي تريد تصوير
فساد المدينة الجديدة كما في رواية عبد النبي حجازي (جيرود ،سورية )1938قارب الزمن الثقيل ( )1970أو في
رواية أحمد يوسف داوود (طرطوس سورية )1945دمشق الجميلة (.)1977
ولكننا نجد هذه الوظيفة كذلك في نصوص تنتمي إلى أنواع أدبية أخرى .فالجاحظ يحاول مثلً في كتابه البخلء أن
يعدل من طريقة القارئ في النظر إلى مسألة الشح من خلل عرضه لوجهات نظر متباينة حول هذا الموضوع .فهو
يترك سهل بن هارون وأبا يوسف الكندي يشرحان لنا كيف يكون البخل صلحا والشح اقتصادا .ويكاد القارئ
يوافقهما الرأي ويقرّهما على ما هما فيه .ثم يدعو أبو عثمان آخرين فيذمّون البخل ويظهرون مساوئه ويردون على
حجج سهل بن هارون وصاحبه بحجج أخرى ل تقل عنها بلغة ول إقناعا .ويصبح من الصعب بعدها على القارئ أن
يطرح وجهة نظر هؤلء كاملة ليتبنى رأي أولئك بمجموعه .فكل منظور يلغي الخر .وكل طريقة لها ما يدعمها.
وهكذا يقود أبو عثمان عمرو بن بحر قارئه قودا هيّنا إلى غايته الولى وإلى نيّته الساسية .وهي نسبية الحالة
المرجعية وتعذّر تبني أحكام مطلقة.
ومهما يكن نوع النص الدبي فإنه يدعو دائما قارئه دعاء سافرا أو مستترا بإلحاح قد يقوى أو يضعُف ،إلى تبنّي
موقف ما .ومع ذلك فللقارئ الحق بأن يأخذ بالحجج المطروحة أو أن يرميها ،ويستطيع كذلك أن يرضى بالنقاش
القائم أو يشيح عنه.
إن المعنى الذي يستخلصه القارئ من قراءته (بردة أفعاله أمام القصة المسرودة ،وبتأثره بالحجج المعروضة وبتعدد
زوايا السرد والرواة) يمضي مباشرة ليتخذ مكانا له في البيئة الثقافية التي يعيش فيها ذلك القارئ.
وكل قراءة تؤثر وتتأثر معا بالثقافة وبالبنية السائدة في عصر ما وفي بيئة ما .وسيان أنكرت القراءة النماذج الفكرية
المهيمنة في الخيال الجماعي أو عزّزت من مواقعها فإنها تؤثر بها فتؤكد بذلك بعدها الرمزي .ويكتسب المعنى الذي
ترتديه قراءة ما في وسط ما أهميته بالنسبة لبقية أشياء العالم التي يألفها القارئ في ذلك الوسط .ويثبت هذا المعنى
في خيال ذلك القارئ .وبما أن هذا القارئ ينتمي بالضرورة إلى مجموعة بشرية وإلى خيال جماعي تتميز به هذه
الجماعة عن غيرها من القوام فإن المعنى الذي ثبت في خياله يرفد كذلك الخيال الجماعي.
وهكذا فإن القراءة الفردية تظهر هنا كجزء ل يتجزأ من ثقافة جماعية .ونحن نعرف الن كيف أثّرت كتابات الثلث
الول من القرن العشرين تأثيرا كبيرا في تطوّر المجتمع العربي الثقافي .فإذا ذكرنا أن طبائع الستبداد لعبد الرحمن
الكواكبي (حلب ،سورية )1902-1848وتحرير المرأة لقاسم أمين
والشعر الجاهلي لطه حسين (المغاغة ،مصر )1973-1889ومسألة الحكم في السلم لعلي عبد )(1865-1908
الرزاق قد ظهرت جميعها بين عام 1900وعام 1925أدركنا كيف يمكن للقراءة أن تغير من الذهنية الجتماعية
خلل بضع سنوات
إن أهم ما تتميز به القراءة إذا ما قارناها بالمحادثة الشفهية هو أنها تواصل مؤجّل إلى حين .فالكاتب بعيد عن
قارئه في أغلب الحيان .ويفصل بينهما الزمان والمكان معا .ولنتخيل قارئا من دمشق يقرأ اليوم رسالة ابن
المقفّع (ت )756في الدب الكبير.
والعلقة بين الكاتب (المرسل) وقارئه (المتلقّي) هي علقة غير متوازية البتة .ولهذه الميزة بطبيعة الحال نتائج
هامة.
إن المحادثة الشفهية تتلفى الغموض أو سوء الفهم عن طريق إحالت دائمة وفورية إلى الوسط المكاني والمحيط
الزماني الذي يشترك به المتكلّمون أطراف المحادثة .غير أن النص المكتوب يقع بين يديّ القارئ مقطوعا عن
وسطه المكاني بعيدا عن محيطه الزماني وليس يشترك القارئ والكاتب في شبكة واحدة من المرجعية .فما يُحيل
إليه أحدهما يجهله الخر .وعليه فإن القارئ يتكئ على بنية النص ،أي على نسيج علقاته الداخلية ،كي يخلق
السياق العام الضروري لفهم النص المقروء.
وبينما يعتمد الحوار الشفهي القائم بين شخصين مثلً اعتمادا مستمرا على الموقف الذي يجمعهما بصفته إطارا
يتم فيه التواصل بين الطرفين المتحاورين ،فإن القارئ يدرك النص وكأنه موضوع مستقل قائم بذاته مغلق على
نفسه.
فإن الخر يدرك فورا ما المقصود .برزة المدينة أم ضاحية برزة أم سوق برزة أم مدرسة معينة في برزة الخ..
ويعرف كذلك وبدون تردد ما المقصود بفعل (رأينا) .هل كانوا جماعة أم أن المتحدث يستخدم ضمير الجمع للدللة
على شخصه الفريد .وهل رأى الخر رؤية العين حقا وبالصدفة أم رآه عن عمد ليطلب إليه شيئا يعرفه الطرفان.
أم أن اللقاء هذا كان غير متوقع ("صاحبنا" هذا كان غائبا) وبالتالي فإن المتكلم الول يعلن للخر عن دهشته..
الخ..
وليست "الرسالة" الدبية المكتوبة كذلك .فهي إذ تُقْطَع من سياقها تغدو نظاما داخليا مُغلَقا ليس لعناصره المكوّنة
من معنى إل من خلل علقاتها المشتركة بعضها ببعض .وبما أننا ل نستطيع أن نحيل هذا العنصر المُكوّن أو ذاك
إلى السياق العام (الذي نجهله) فإننا نتلمّس وظيفته في قلب البناء العام الذي هو العمل الدبي الذي نقرؤه .ويتم
المر وكأن النص الدبي ينشئ بالنسبة لقارئه نظام مرجعيته الخاص.
إن الخطاب الذي تحمله الحكاية مقطوع فعلً عن الموقف المرجعي الذي تضمن معرفته الكاملة والدقيقة أن يتحقق
الفعل اللغوي على نح ٍو كامل .ولكن هذا النقص البيّن ل يقضي أبدا على خطاب الحكاية بالفشل ولكنه يشكّل نقطة
انطلق لدراك ما يتميز به هذا الخطاب إدراكا أفضل .فما قصور وعجزٌ في خطاب وظيفته الساسية أن يخبر عن
شيء ليس كذلك في الخطاب الروائي الذي يهدف كما نعرف إلى غايات أخرى.
يستمد العمل الدبي ثراءه بالتحديد من خاصية التواصل المُؤخّر التي تميز النص المكتوب .وبما أن تلقي العمل
الدبي يحدث خارج إطاره الصلي فإنه ينفتح على أكثر من تأويل ويقبل أكثر من تفسير .ذلك أن كل قارئ جديد
يحمل معه تجربته الخاصة وثقافته الفردية وقيم عصره وهمومه وينظر إلى النص من خللها.
وهكذا رأى بعضهم في نصوص الجدل دفاعا عن آراء الشعوبية وأهل التسوية أو تفنيدا لها والذي قام بين
الجاحظ وابن قتيبة ( )889-828وسهل بن هارون في القرن التاسع إرهاصا بالقومية العربية وبالفكر القومي كما
ظهرا في النصف الول من القرن العشرين .وهكذا وجد بعض معاصري أبي العلء المعري في رسالة الغفران
إعلنا عن الزندقة وخبث طوية أعمى المعرة .بينما يجد بعض معاصرينا في النصوص ذاتها صوغا لشك منهجي
س معذّبة وقلقة.
سبق الفيلسوف الفرنسي ديكارت ( )1650-1596وتعبيرا عن نف ٍ
إن المعنى في العمل المكتوب أكبر من الواقعة التي يقصها ويتجاوزها .بمعنى أنه يتحرر من صفة العرضية التي
تميز الحديث الشفهي .فالكلمة تخرج من الشفتين ثم تختفي إلى البد .ولكن الكتاب ينقذ المعنى عن طريق أربعة
أشياء.
وهو ينتزعه من حدود موقف المحادثة الشفهية الضيقة فيفتحه على العالم الواسع.
وهو يرتقي به إلى الشمولية إذ يجعل له جمهورا ل ينفذ من القراء على مرّ العصور.
إن هذه الصفات الربع تُبرز بجلء إمكانيات النص المكتوب الرائعة .فبينما يموت الخطاب الشفهي مع اندثار
الصوت واختفائه ،يظل الخطاب المكتوب قائما على مرور الزمان .ولن أبا عبيدة ( )825-728والمفضّل الضبّي
(ت )780وأبا عمر الشيباني ( )820-719والصمعي ( )828-740قد جمعوا كتابة في القرنين الثامن والتاسع
شعر طرفة بن العبد البكري الذي عاش في القرن السادس فإننا نصغي اليوم لنشيد الشاعر الجاهلي.
وإذ يفصم المكتوب الوشائج القوية التي تربط المتكلم بما يقول في موقف المحادثة الشفهية ،فإنه يبيح للقارئ أن
يرى في النص شيئا آخر غير ما كان ينتويه كاتبه .وإن تنوع التأويلت التي تسمح بها مسرحيات شيكسبير (
)1616-1564وتعددها يعود أساسا إلى أننا نجهل كل شيء أو نكاد عن شخصية المؤلف وحياته .وبما أن
الكاتب ليس بعد بيننا فينكر علينا هذه القراءة أو ذلك التفسير فإن ميدان المعاني يمكن أن يمتد إلى غير نهاية!
وإذ ينفلت النص المكتوب من الموقف الخاص الذي تجري خلله المحادثة الشفهية عادة والذي يحدّ منها فإنه
يوسع أفق القارئ ويجعله مشرفا على آفاق طريفة وعلى كون جديد .ومراجع هذا الكون الجديد غامضة وغائبة
المعالم في أغلب الحيان بالنسبة للقارئ فهو يجهل أكثرها أو أنه يراها على نحو مختلفٍ .فحين نقرأ اليوم كتاب
المتاع والمؤانسة فإننا ل نكتشف في مسامراته دولة البويهين ول أيام صمصام الدولة ول وزارة أبي عبد ال
الحسيْن بن أحمد كما كانت عليه تلك الدولة أو هاتيك الوزارة .وإنما سنكتشف فيها ما قد وصل إلينا منها خلل
القرون العشرة التي تفصلنا عن مؤلّفها أبي حيّان التوحيدي ( )1023-922أي مجموعة من الصفات المجرّدة
التي عبرت تلك الزمنة والتي يمكن لنا أن نشغلها رمزيا.
وإذ يستبدلُ النص العدد المحدود بالضرورة والذي يكوّنه المشاركون في المحادثة الشفهية بعدد يمكن أل يتناهى
من القراء فإنه يكتسب بعدا كونيا .وعليه فللقرآن الكريم وهو الكتاب تعريفا قرّاءٌ من كل العصور ،ومن كل
أصقاع الرض ،ومن كل القوام على اختلف منازلها.
إن انتزاع النص من سياقه هو ،كما نرى ،الشرط اللزم والضروري لتعدده.
إن لنا أن نتساءل ،وقد رأينا ما يتميز به التواصل الدبي على نحو خاص ،إن لم يكن لكل الحق بأن يقرأ النص
وبأن يؤوله كما يحلو له .وبما أنه يندر أن يُقرأ نص أخرج من سياقه كما أراد مؤلفه منه حين باشر في كتابته
أفليس من المنطقي والمر كذلك أن نعزف عن كل محاولة لستخلص نية الكاتب الساسية وغايته التي أراد من
مؤلّفه؟ أوليس من المنطقي أن ل نرى في النص إل ما يحلو لنا أن نراه؟
ل وحيدا لنص ما فإنه ،والحق يقال ،يوجد معايير تثبت شرعية التأويل أو
لئن كان من الصعب أن نفرض تأوي ً
عدمها .وإن كان النص يجيز لنا قراءات كثيرة فإنه ل يأذن لنا أن نقرأ كما نشاء وكيفما اتفق حسب أهوائنا .إذ
لو جاز لنا أن نقرأ ما نشاء في أي نص نشاء لتساوت النصوص جميعها ولختفت الحدود بينها .ونحن نعرف
بتجربتنا أن المر ليس كذلك البتة.
فلكي تكون القراءة مقبولة يجب عليها أن تلتزم بما يمكن أن نسميه بقاعدة التماسك الداخلي أي أن موضوعية
النقد ل تقوم في اختيار مفتاح القراءة أو في انتقاء زاوية التأويل وإنما في تطبيق نموذج التأويل الذي يختاره
الناقد تطبيقا صارما على كل النص المقروء.
ويمكن لنا أن نصوغ ذلك في ثلث قواعد كبرى إن تمسك بها التأويل كان مقبولً .يجب أن يكون من الممكن
تطبيق شبكة التأويل أو نموذجه على مجموع العمل الدبي وليس على بعض مقاطعه وحسب .ويجب أن تلتزم
شبكة التأويل هذه بالمنطق الرمزي كما ظهر من خلل علوم التحليل النفسي .ويجب كذلك أن ينحو نموذج التأويل
دائما نفس التجاه .وبكلمة أخرى فإن التأويل يقاس بمقدار "صحته" .أي ليس المقصود أن نستخلص من العمل
الدبي هذه الحقيقة أو تلك .ولكن المطلوب أن نتفحصه على ضوء "لغة" أخرى كلغة التحليل البنيوي أو لغة
التحليل الواقعي أو الرمزي الخ..
وإلى مبدأ التماسك الداخلي هذا ينبغي علينا أن نضيف مبدأ التماسك الخارجي .فليس للقراءة أن تخالف شيئا من
المعطيات الموضوعية التي نعرفها عن النص وظروف تأليفه أو حياة الكاتب وعصره أو غير ذلك .فليس لنا مثلً
حين نقرأ الجاحظ ونؤول كتبه أن نتجاهل أنه كان معتزليا وأنه عاصر المحنة التي قادها أصحابه حول موضوع
خلق القرآن .وليس لنا أن نتجاهل حين نقرأ صدقي إسماعيل (إنطاكية ،سورية -1924دمشق )1972أنه كان
مناضلً بعثيا وأنه كتب رواية العصاة ( )1964من خلل مفاهيم الحزب في الصراع ضد الستعمار وتحليله للبنية
الجتماعية.
وعليه فليس لكل القراءات قيمة واحدة .وليس على التفسير أن يكون ممكنا أو محتملً وحسب وإنما يجب أن
يكون ممكنا أو محتملً أكثر من بقية التفاسير الممكنة أو المحتملة.
وهناك مثل شهير على سوء التفاهم الدبي هذا نأخذه من الدب الفرنسي .فلقد كتب أوجين سو Eugene Sue
)(1804-1857روايته المشهورة أسرار باريس وبدأ بنشرها على حلقات متسلسلة في عام .1842وكان يتوجه
بها إلى جمهور من القراء الميسورين ويهدف أن يقدّم لهم لوحات طريفة من أزقة باريس بغاية تسليتهم
والترويح عنهم .ولكن بروليتاريا باريس فهمت الرواية على نحوٍ مختلف تماما وتوهمت أنها إدانة شديدة لوضاع
حياتها البائسة وفضح لفقرها ودعوة سافرة للثورة.
وعندما أدرك أوجين سو أن عمّال باريس فهموا الحلقات الولى من روايته على نقيض ما أراد حاول أن يقنعهم
في الحلقات التالية أن معيشتهم ستتحسن بفضل الحركات السياسية الصلحية وعندما تمتثل الطبقة العاملة لرادة
الطبقات السائدة.
ولكن خطأ التأويل ظل قائما وأدى إلى نتائج خطيرة .ولقد شوهد قراء أسرار باريس وهم ينصبون متاريس للثورة
العمالية التي هزت العاصمة الفرنسية عام .1848ولقد "تلعب" قراء أوجين سو بنصه "وغشّوا" إذ قرؤوا رواية
إصلحية حقا على أنها رواية تدعو إلى الثورة.
ليست القراءات كلها إذن مشروعة .وهناك فارق أساسي بين قراءة تستخدم النص أي تُكرهه على قول شيء ما
وبين قراءة تؤول النص أي أنها تستجيب إلى ما يُبرمجه.
-3القراءة الساذجة والقراءة النقدية:
ما هي القراءة التي ينبغي علينا أن نختارها موضوعا للتحليل من بين كل القراءات التي يبيحها النص الدبي؟ إن
اللماني جوس H.R. Jaussيقترح أن نأخذ بعين العتبار القراءة الولى التي استقبل بها النص حين ظهر
للوجود .وموقف الناقد اللماني هذا يعود إلى رغبته بالحفاظ على موضوعية التاريخ الدبي .فالوسيلة الوحيدة
لدخال دراسة التلقي ضمن مواضيع تاريخ الدب هي أن نكشف النقاب عن التأويل الذي ساد بين القراء في
العصر الذي نُشِر فيه النص للمرة الولى.
كيف قُرئ كتاب زينب حين نشره محمد حسين هيكل (كفر غنام ،مصر -1888القاهرة )1956باسم مستعار عام
1914؟ .إن إعادة بناء ما يمكن أن نسميه بأفق النتظار أو أفق التوقع الذي يحيط بجمهور القراء الوائل يُنقذ،
والحق يقال ،التحليل الدبي من النغماس في تحليل نفسي مفرط يتهدده حين يتجاهل ذلك التأويل الول .وإعادة
بناء أفق النتظار ذاك أو إطار الفهم العام الذي يتحكم بالقراءة ويوجهها أمر ل غنى عنه إذا شئنا أن نقيّم طرافة
العمل الدبي لحظة ظهوره وأن نفهم لماذا ترك هذا الثر أو ذاك في ضمير القراء.
ويعرّف الناقد اللماني أفق التوقع بمعايير جمالية في الدرجة الولى .ويمكن أن نلخصها بما يلي .معرفة جمهور
القراء الوائل بنوع التجربة الدبية التي يقرؤها (رواية أو قصة صغيرة أو حكاية الخ .)..وتجربة ذلك الجمهور
الدبية من خلل أعمال سابقة عوّدته على أشكال أدبية محددة وعلى مواضيع أدبية محددة تعالج على نحوٍ معين.
وأخيرا الحدود التي يقيمها ذلك الجمهور بين اللغة الدبية واللغة اليومية السائدة.
وعليه فإن دراسة تلقي "أول رواية عربية فنية" تطلب تذكيرا بالروايات التي كان قد اعتاد قراءتها القراء العرب
في مطلع القرن العشرين من أمثال كتب نقول حداد (لبنان -1872القاهرة )1954أو أحمد شوقي (القاهرة
)1932-1868أو زينب الفواز العاملية (صيدا ،لبنان -1860القاهرة )1914أو طانيوس عبده (بيروت -1866
ل لما كان ينتظره هذا الجمهور من الرواية الجديدة ولما كان يتطلع إليه من مواضيع أكثر واقعية
)1932وتحلي ً
وألصق بحياته اليومية من كله نصيب لنقول حداد ( )1903أو من ورقة الس لحمد شوقي ( )1905أو من الملك
قورش لزينب الفوّاز ( )1905أو من غرام واحتيال لطانيوس عبده .وإعادةُ بناء أفق النتظار الذي وجّه قراءةَ
ل للغة العربيّة السائدة إذّ ذاك وتردّدها بين السجع والنثر في مقامات محمد المويلحي (-1898
زينب تفترض تحلي ً
)1900أو في ليالي سطيح لحافظ إبراهيم ( )1906وبين العربيّة الركيكة والعامية الطاغية في عذراء دنشواي
لمحمود طاهر حقّي ( )1909وبين العربيّة والعجمة في رواية أمين الريحاني (الفريكة ،لبنان )1940-1876
خارج الحريم (.)1917
إن تحليلً دقيقا لما استقبل به القرّاءُ رواية زينب حين ظهرت في مطلع القرن العشرين يفترض بالناقد أن يدرس
هذه النقاط وأن يأخذها بعين العتبار.
وينبغي أن نلحظَ أن البعدَ الجتماعي غائبٌ عن أفق التوقّع كما يُعرّفه جوس .وأنّ هذا الخير يهمل أص َل القيم
الجماليّةِ الجتماعيّ .وهذا يعني أنّ على دارس زينب أن يعير اهتمامه كذلك لخلق القرّاء العرب المصريّين في
بداية هذا القرن ولنظرتهم إلى العلقة بين الرجل والمرأة ولمعرفتهم أو لجهلهم بالريف وبأهله وعاداتهم.
-3-2القراءة الخطيّة.
إن النتقالَ من نظرية التلقي كما صاغها منظّرو مدرسة كونستانس والتي تخضع للمنظور التاريخيّ إلى مختلف
نظريّات دلليّة القراءة والتأويل التي تولي عنايتها للبنيّة النصيّة يعني أن تُطرَح المسألةُ من جديد وبمفردات
مختلفة.
ي الجوهريّ
والمر أنه ما إن يبدأ الناقد بكشف النقاب عن سبل القراءة الكامنة في النص حتى يضع خيارُه النظر ّ
وجها لوجهٍ القراءةَ "الساذجة" والقراءة "العارفة" أو القراءة "ذات الخبرة" .ونقصد بالقراءة الساذجة تلك التي
تلتزم بمسيرة الكتاب الخطيّة الفقية .وأما القراءة العارفة أو ذات الخبرة ففيها يوظّف القارئُ معرفته العميقة
ص فيروح يقرأ الصفحات الولى من النص على ضوء ما يعرفه من
بالنص والتي نتجت عن قراءةٍ سابقةٍ لذات الن ّ
خاتمة الكتاب.
خ ّيلَ لسعيد مهران وبالتالي للقارئ أن لحظة النتقام قد أزفت كلما دفع بها الكاتب إلى أجلٍ آخر .فمن
وكلّما ُ
الواضح أن عقاب الخائنْينِ سيعني نهاية الرواية .وعليه فإن هذا العقاب يجب أن يقعَ في صفحات الكتاب الخيرة.
ولكن إيهام القارئ بشيءٍ ثم إظهار غيره وسيلةٌ ناجعةٌ لبقاء تطلّعه يقظا ورغبته في معرفة الخاتمة شديدةً.
ب مغلقٍ
ففي الفصل السابع مثلً ،أي في منتصف الرواية تقريبا ،يُطلق سعيد النار على عليش من خلل با ٍ
ويحسب أنه قد نال مأربه وأنه قد أوقع بالخائن ما يستحقه .وكذلك القارئ الذي يرى الحداث من خلل عينيْ
البطل فإنه يشاطره ذلك الوهم ويؤمن أن جزءا من خطّة البطل قد تحقق.
ولكن يقظة القارئ تتضاعف وفضوله يشتدّ حين يكتشف في الفصل الثامن أن القتيل لم يكن عليش وأن قوى
المن تلحق بطل الرواية بتهمة القتل .وهذا تطوّر مفاجئٌ في الرواية يُعقّد أحداثها ويضيفُ إليها بعدا عاطفيّا
جديدا وهو بالتالي يضاعف من رغبة القارئ في معرفة ما سيأتي.
إنّ تلعب النصّ بالقارئ وبأعصابه وهو من أجمل مفاتن القراءة قائمٌ بأكمله على أفقيّة السرد وعلى "خطيّة"
القراءة .ولول القراءة الساذجة لفقد القارئ كثيرا من متعة القراءة وسحرها.
-3-3القراءة الثانية.
ب أشكال القراءة من طبيعتها وأكثرها احتراما لصول تنظيمها فإنها ليست أغناها
إن كانت القراءةُ الفقية هي أقر ُ
ول أكثرها أهميّةً .وليس تتابع الحداث هو صفة الحكاية الوحيدة.
وليس النصّ الدبيّ سطحا أو خطا مستمرا وحسب ولكنّه "كتلةٌ" ل تظهرُ الوشائجُ القائمةُ بين أطرافها ول طبيعةُ
العلقةِ بين هذه الحادثة السرديّة وتلك أو بين هذا المقطع وذاك إلّ عقب قراءة ثانيةٍ .وعليه فإن تكرار القراءة
هو أكثر ما ينسجم مع النصوص الدبية المعقدة.
صلً وهو ألف باء الدراسات النقديّة كما يمارسُه المدّرسون والنقّادُ ومحترفو
ن شرحَ النصوص الدبيّة شرحا مف ّ
إّ
ث مثلً حين يلجأ إليها القارئُ بسبب
ن إعادةَ القراءة ليست نشاطا عابرا أو جزئيّا كما يحد ُ
الدبِ يجعلهم يُدركون أ ّ
ف انتباهه عند القراءة الولى .وهم يعرفون كذلك أن إعادة القراءة ليست كذلك نشاطا منهجيا
شرودهِ أو ضع ِ
ل ولكن محصورا بالهواة ذوّاق ِة الدبِ .إن خبرتهم تجعلهم يتساءلون إن لم تكن القراءةُ الثانيةُ أمرا لبد منه
شام ً
على الطلق خلل القراءةِ العاديّة نفسها لدراك الرواية إدراكا شاملً .ولبد من معرفة بعض التفاصيل التي ل
نستطيع رؤيتها إلّ عقيْب القراءة لفهم المقصود من هذا المقطع أو ذاك.
نحن نرى في الفصل الول ،بل في الصفحات الولى من عصفور من الشرق ( )1938شابّا يأكلُ بلحا في شوارع
باريس ويلفظُ نواتها تحت مط ٍر عارمٍ ويتخ ّيلُ نفسه في ميدان المسجد بحيّ السّيدة زينب وهو يتخيل أن نافورة
ميدان الكوميدي فرانسيز هي سبيل مسجد السيّدة.
ن كلّ هذه العناصر المثقلة بالمعاني (عنوان الرواية وإهداؤها :إلى حاميتي الطاهرة السيّدة زينب ،والفص ُل الولُ)
إّ
ل يمكن فهمها على حقيقتها إل إذا كنّا نعرف "سلفا" ماذا سيحدث .أي بعد قراءةٍ ثانيةٍ.
ليست إعادةُ القراءةِ أمرا مستحبا وحسب حين نقرأُ روايةً ذات حدّ أدنى من الفن ّيةِ ،ولكنها ضرورةٌ لزمة.
ئ ووجوهُه المتعدّدة.
الفصل الثاني :القار ُ
-1القارئ وأقنعته.
فمن جهة المرسِل ،لقد صار من المتعارَف عليه أن نميّزَ بين الطرف الذي يخلُق النصّ ويُظهِرُه إلى الوجود،
ف الذي يظه ُر إلى الوجود مع النصّ وينهض بمهمّةِ إعلنه ،ونعني بذلك
ونعني بذلك الكاتبَ عينه ،وبين الطر ِ
ط البتّةَ بين شخص الكاتب توفيق الحكيم
ن ل نخل ُ
الراوي .فالذي يكتبُ ليس الذي يسرُد .ونح ُ
( )1898-1987وشخصيّة موظّفِ القضاء الذي يروي لنا مشاهداته في الريف المصريّ رغم أنّ الرواية تقدّم
نفسَها على أنّها مذكّرات نائب في الرياف!
(.)1937
وكذلك يتميّز الكاتب شكيب الجابري( )1996-1912ذو الحياة المعروفة والمدروسة بعنايةٍ والموثّقة في معجم
الروائيين العرب للدكتور سمر روحي الفيصل عن راوي قد ٌر يلهو ( )1938والذي ل نعرف عن حياته إلّ شذرات
مبعثرة هنا وهناك في أرجاء الكتاب.
ث قد يكونان طويليْن
فإذا شدّنا الفضولُ لمعرفةِ حياة الكاتب أو لمعرفة شيءٍ ضئيلٍ منها فلبدّ لنا من تحقيقٍ وبح ٍ
وشاقيْن وجمعِ وثائقَ قد يكون بعضُها رسميّا وقراء ِة مذكّراتٍ تركها المؤلّفُ نفسُه أو بعضُ معاصريه ،وقد
يضطرّنا الم ُر كذلك إلى سفرٍ مُنهِكٍ وترحا ٍل إلى بلدٍ بعيدةٍ لتقصّي آثار الرجلِ ومراحلِ أيّامِه.
إنّ الراوي هو إذن خليقةُ الكاتب وصنيعتُه وهو يتف ّر ُد عنه بجنسِه وبمشاربه وبطبائعهِ وبم ُثلِه الخلقية.
فراوي حماري قال لي ( )1945على ذكائه وفطنته المدهشة ودعابته ينتمي إلى جنس البهائم ،وليس كذلك بطبيعة
الحال كاتبُ النصّ توفيق الحكيم!
ويمكنُنا أن نستنتجَ من خلل هذه النصوص أن القرّاء الذين تتوجّه إليهم ليسوا جميعا على ذات الدرجةِ من الثقافةِ
النظرية ول تشغلهم ذات الهموم وأن أعمارهم متفاوتةٌ.
ص ذلك من خلل المواضيع التي يطرقُها النص الدبي ومن خلل اللغةِ التي يلجأ إليها لمعالجة تلك
إننا نستخِل ُ
ظهِرَ ملمحَ القارئ الذي يخاطبه الساردُ.
المواضيع .ونستطيع كذلك بفضل هذه الشارات أن نُ ْ
ن الراوي ،ل وجود له إلّ في ثنايا الحكاية ،وهو ليس إلّ حصيلة
وعليه فإن المَر ِويّ له ،شأنه في ذلك شأ ُ
اليماءات التي تُنشِئه.
إن ذهبنا من التمييز الذي رأيناه فيما سبق استطعنا أن نحصي الشكالَ التي يتخذُها القارئُ أو القنعةَ التي
يحملُها .فلنا أن نراه كفردٍ فذّ قائمٍ بذاته المتفرّدة أو كعضوٍ من جماع ٍة بشريّةٍ معروفةٍ أو كصورةٍ كامنةٍ من النصّ
يُنشئها النصّ بوجودِه .ولنا أن ننظرَ إليه كجميع ذلك معا وفي ذات اللحظة.
فلننظر الن إلى القارئ الفرد المتميّز .إنّه لمن الصعب والحقّ يقال أن نحيطَ بالقارئ حين نعتبره شخصا محدّدا
ص الدبيّ تخضعُ لسبابٍ نفسيةٍ وأخرى اجتماعيّةٍ وثالث ٍة ثقافيّ ٍة متنوّع ٍة تنوّعا
وذلك لن ردودَ أفعاله أمام الن ّ
ن علم التحليل النفسيّ ،كما سنرى في خاتمة هذه الدراسةِ ،قد يساعدنا على استخلص بعض الثوابت
شديدا .ولك ّ
الكامنة في القارئ.
يل
ويمكننا أن نحيطَ بالقارئ ،في ميدان التاريخ الجماعيّ ،من خلل القومِ الذين ينتمي إليهم .فالقارئ الفعل ّ
يرجعنا إلى الجماعةِ التي شهدت ظهورَ الكتاب للمرّة الولى وحسب ،ولكنه يُحيلُنا كذلك إلى كلّ الجماعات التي مرّ
بها الكتاب منذ ظهر حتى وقع بين يدي قارئنا .وإن كان من المفيد أن نأخذ بالحسبان ك ّل هذه القوام القارئة فذلك
لن كلّ قراء ٍة لنصّ ما تح ِملُ في ثناياها القراءات الماضية التي سبقتها.
ونحنُ ما كنّا لنقرَأ مقامات الحريري ( )1122-1054على النح ِو الذي نفعلُه اليومَ لو أنّ أبا العباس أحمد بن عبد
المؤمن الشُريْشي قرأها قبلنا على نحوٍ غير الذي قام به .وكذلك فإن قراءتَنا اليوم لنجيب محفوظ ( )1911لبدّ أن
تأخذَ بعين العتبار ما قاله عنه الناقد جورج طرابيشيّ في ال في رحلة نجيب محفوظ الرمزيّة (.)1973
ولكن القارئ وقبل أن يكون ذا حقيقةٍ تاريخيّة ملموس ٍة فرديّةٍ أو جماعيّ ٍة فإنه حالةٌ أو هيئةٌ أو صورةٌ تكمن في
خليا النصّ .أي أنّه المرويّ له المستتر الذي يتوجه إلي الحديث.
وصورةُ القارئ هذه التي يُنشئها النص ل يحدّدها نوعُ النصّ الدبي وحسبُ (تفترضُ الرواية البوليسيّةُ قارئا
مُحققا بينما تفترضُ القصةُ الفلسفيّة قارئا ناقدا) ولكن يُحددها كذلك شكلُ التعبير الخاص بكل نوع أدبيّ .فكتاب طه
حسين ( )1973-1889في الشعر الجاهليّ ( )1926ل يتوجّه بسبب لغته وأسلوبه على القل إلى ذات الجمهور
من القرّاء الذي يهدِفُ إليه إحسان عبد القدوس في رواية ل أنام! (.)1956
-1-3النصّ وخارجه.
ص الدبيّ والقارئ
ومن السؤالُ التالي .كيف نعرّفُ العلقةَ القائمةَ بين القارئِ المُج ّر ِد الذي يوجد بوجودِ الن ّ
ي الذي يأكل ويشرب؟.
الحقيق ّ
والحق أن الجواب بسيطٌ .يجب أن ننظُرَ إلى القارئ الول على أنه دورٌ يُقتَ َرحُ على القارئ الثاني أن يقوم به.
ث عادةً
وأن باستطاعة هذا الخير أن يرفضَ هذا الدور المقترحَ ويكفيه لذلك أن يُغلقَ دفتي الكتاب .وهذا ما يحد ُ
ف واسعةً بين الراء التي يقت ِرحُ النصّ على القارئ الفعليّ أن يتبنّاها مؤقّتا خلل القراءة
حين تكون ش ّقةُ الخل ِ
وبين ما يؤمنُ به القارئ فعلً.
وعلى سبيل المثال فإنّ أحدا ل يقسِرُ قارئا على أن يتبنّى نموذجَ القارئ الذي تتوجّه إليه سلسل ُة كرم ملحم كرم (
)1959-1903ونعني قارئا مشغولً بالسبلِ المُلتويةِ التي تطرقها العاطفةُ المشبوبةُ التي تحسّ بها فتاةٌ من أصلٍ
وضي ٍع نحو شابٍ حسن الصورة فاء عليه القدرُ بالنعم وذلك قبل أن يلتقيَ الحبيبان في خاتمة الرواي ِة لقاءً
ك ول ريبٍ.
يسعدهما بل ش ّ
وكذلك يمكننا أن نطرحَ بعيدا عنّا دورَ قارئٍ تغلبُ نَزعتُه لعقيدةٍ معيّن ٍة وهو الدو ُر الذي كانت تقترح ُه مثلً روايات
الدعاية الشيوعيّة والتي كانت تظهرُ عن دار التقدّم في موسكو بلغاتٍ عديدةٍ منها العربيّة.
ويغلُبُ أن يثيرَ ر ّدةَ الفع ِل هذه عند القارئ الحقيقيّ ما يمكن أن نسمّيه بالحكايات "الخصامية" .ونعني بذلك الروايةَ
ع أبطالها بين شخصيّاتٍ خيّرةٍ إطلقا وأخرى شرّيرةٍ إطلقا كذلك .وهذا النوع من
ذات البنية الثنائيّة التي توزّ ُ
الرواية ل يسعى إلى سوقِ القارئ سوقا هيّنا لطيفا إلى حقيقته المسبق ِة وإنما هو ينظرُ إلى القارئ على أنّه مؤمنٌ
بتلك الحقيقةِ مسّلمٌ بصدقها قبل أن يشرعَ في القراءة أو هو ينظر إليه على أنه رجلٌ تميل به أهواؤه نحو أولئك
الذين يحملون لواء تلك الحقيقةِ في الرواية أو يناضلون في سبيلها.
ونستطيع أن نطِلقَ على هذا النهج في الرواية اسمَ القناع بالنتقاء .فهو ينتقي ،ومنذ مطلع المر ،قارئه من
معسكر بطلِ الرواية .فرواية الدعاية الشيوعيّة مثلً تتوجّه إلى قارئ شيوعيّ أو يتعاطف مع الفكار الشيوعية.
وكذلك روايات الدعاية السلميّة عند نجيب الكيلني مثلً فإنها تتوجّه إلى قارئ مسلمٍ أو يتعاطف مع الدعاية
السلمية .ويجد القارئ نفسه بالتالي ،وبحكم بناء الرواية نفسه في معسكر الشخصيات اليجابيّة ذات العمال
الحميدة.
( )1944كأمرٍ مسّلمٍ به أم البطلة النجليزيّة ماري تجسّد في ذاتها كلّ سيّئات الغرب ليس لسبب إلّ لنها أوروبيّةً،
أو حين ينظر زكريّا تامر ( )1926في دمشق الحرائق ( )1973أو في النمور في اليوم العاشر ( )1978كأمر
بدهيّ أن مهنةَ الشرطيّ أو رجلِ لمن أو نشاط المسؤول كافيةً بذاتها لمسخِ الشخصيّة القصصيّة أو لن ينظر
ض الدور الذي يقترحه عليه يحيى
إليها القارئُ على أنها سخيفةٌ أو مُهينةٌ أو آثمة ،فإنّ من حق القارئ أن يرف َ
حقّي أو زكريّا تامر.
لقد اقترحَ تعبي ُر المرويّ له أو المسرود له للحاطة بفكرة القارئ الكامن في ثنايا النص .لقد عرّفه الناقد الفرنسيّ
جيرار جينيت Gerard Genetteعلى النحو التالي فقال" :إنّ المَرويّ له ،مَثله في ذلك مَثل الراوي ،هو واحدٌ من
ط مع القارئ
العناصرِ التي تكونُ الموقفَ القصصي .وهو يشغلُ بالضرورة ذات الموضع السردي .أي أنّه ل يختل ُ
ن الراوي ل يختلطُ مع الكاتب.".
حتى حين يكون مُضمرا كما أ ّ
ن اثنينِ من المسرود له تماما كما يفعلُ بخصوص الراوي .فهو يأخذ تارةً بعيْنِ
ويبدو أن جينيت يُميّ ُز بين نمطيْ ِ
العتبار عمليّة التواصلِ الخارجية (أيّ نشاط القراءة ذاته وفيه تكون الحكايةُ المسرودةُ هدفَ القراءة وموضوعها)
سدُ في الحكاية المسرودة فهي إذن جزءٌ منها ،كما يحدث على سبيل
وتارةً أخرى يدرسُ عمليّة تواصل "داخليّ" تتج ّ
المثال حين تتبادل الرسائلَ شخصيّتان أو أكثر من شخصيّات الرواية.
وعليه فإننا نعتقد أنه من الملئم أن نُميّ َز بين مَرويّ له داخلي (أي داخل الحكاية) وبين مرويّ له خارجيّ أو غريب
(أي غريب عن الحكاية ويقوم خارجها) .ففي رواية شكيب الجابري قدر يلهو تكتب إيلزا بطلةَ الرواية رسالة لعلء
ي ( )1953تكتب الفتاةُ الفرنسية
شخصية الرواية الساسية ،وكذلك في رواية سهيل إدريس ( )1922الحيّ اللتين ّ
جانين عددا من الرسائل لسامي بطل الرواية خلل زيارته لبيروت ويكتب لها بدوره .ولكن المرويّ له الداخليّ
(علء أو سامي أو جانين) هو دائما واحدٌ من شخصيات الرواية ول يُغيّرُ من ذلك شيئا أن يكون شخصيّةً قارئةً!
خلُ في أحداثها.
وليس على شيءٍ من ذلك المسرود له الخارجيّ .فهذا ليس شخصيّ ًة من شخصيّات الرواية ول يتد ّ
ض وجوده .وعليه فإننا
ص بالضرورة ويفتر ُ
إنّه صورةٌ وهم ّيةٌ مُجرد ٌة هي صور ُة القارئ الذي يتوجّهُ إليه كلّ ن ّ
نستطيعُ أن نقولَ بأنّ المَرويّ له الخارجيّ يتطابق مع ما سبق لنا أن أسميناه القارئ الضمني أو المضمر ،بل إنه
القارئُ الضمنيُ ذاته.
ص تحديدا شخصا
ض النصوص أحيانا لقارئها (كأن يخاطبُ الن ّ
إذا طرحنا بعيدا الصفات الخاصّة التي تنسبُها بع ُ
ن المرويّ له الذي يولد مع النص نفسه وبمجرد خروج هذا الخير إلى حيّز الوجود يتصفُ بصفاتٍ بعضُها
معينا) فإ ّ
إيجابيٌ وبعضُها الخرُ سلبيّ.
وأمّا ما يميّزه سلبا فإنّه ل يتقنُ من القراءات إلّ القراءة "الخطية" الفقية ،وليست له أيّة هوية نفسيّةٍ أو اجتماعية،
وهو عا ٍر من كلّ تجربةٍ أو حسّ سليمٍ.
وتُنشِئ كلّ حكايةٍ مسرودها الخاصّ بها أو مَرويّها بأن تُع ّدلَ من هذه الصفةِ أو تلك من مجموع الصفات الصليّة
المشتركة تعديلً لطيفا أو شديدا.
ن مفهومِ المَرويّ له يتغيّرُ إذن إن تمّ الحديثُ عن مستوى الحكاي ِة (أي عن النصّ كنصّ) أو جرى النقاشُ
إنّ مضمو َ
حول الحداث المرو ّيةِ .ولقد اقترحَ الباحثونَ أنماطا عديدةً للحاطة بهذه المتغيّرات .وبإمكاننا أن نميّزَ بينَ أنواعٍ
ثلثةٍ من المَرويّ له.
ط يشتركُ المَرويّ
ك أو ًل المرويّ له أو المسرودُ له والذي هو في نفس الوقت شخصيةٌ روائ ّيةٌ .وفي هذا النم ِ
فهنا َ
له في أحداثِ الحكاية المسرودة .وهذا النموذج يطابق ما رأيناه عندما نظرنا فيما أسماه جينيت بالمَرويّ له
الداخليّ.
ح مروان هو الراوي
(عاملٌ جزائريّ يتحرّشُ بها ثم يبصقُ في وجهها) .وتتغيّ ُر الدوارُ في الرسالةِ التاليةِ فيُصب ُ
والسيّدة اللمانيّ ُة هي المَرويّ له .وفي الرسالة التي يك ُتبُها مروان يفضحُ ما رآه تعبيرا عن عُنصريّةٍ مفاجئةٍ في
ش ِهدَها في أحد شوارع باريس يوم 17تشرين الوّل عام 1961ويذكر كيف قمع
رسالة أدنا ثم يصفُ مظاهرةَ َ
البوليس الفرنسيّ مظاهرةَ الجزائريّين بش ّدةٍ بالغةٍ.
وتتغيّ ُر الدوارُ تارة أخرى حين تكتبُ أدنا (الراوي الن) إلى مروان (المَرويّ له حاليّا) فتعتذرُ عمّا كتبته وتتمنّى له
إقامةً سعيدةً في أوروبّا.
ن هذا ما تتميّزُ به على وجه الدقّةِ رواية الرسائل .إنّها تبني عقدتَها وتدفع ُقدُما بأحداثها عن طريقِ رسائل
إّ
تتبادلها الشخصيّاتُ الروائيّ ُة فتُغيّ ُر بذلك من موقِعها .فهي تَروي تارةً ،ويُروَى لها تار ًة أخرى.
وأمّا النمطُ الثاني فهو نمطُ المَرويّ لَه المُنادى .ونعني بذلك القارئَ النكِر َة الذي ل هويةَ حقيقيّ ًة له ،والذي يُناجيه
ي لَه المُخاطَبُ ليس شخصيّةً
الساردُ خلل مجرى الحداث ويلفتُ اهتمامَه إلى هذه النقط ِة أو تلك .وهذا المَرو ّ
ل أنه كان من عادة جرجي زيدان (
خلُ أبدا في أحداثها ول يُؤثّر في تطورها .ونحن نعرف مث ً
روائ ّي ًة فهو ل يتد ّ
)1914-1861أن يلجأ في كثيرٍ من الحيان إلى هذا النموذج .وهو يستخدمه ليُعّلقَ على هذه الصفةِ أو تلك من
صفات بعضِ الشخصيّات الروائيّة أو ليضاحِ نقطةٍ من أحداث التاريخ".وأنت تعرِفُ أنّ العباسييّن ينتسبون إلى )..أو
"ول ينسى قارئنا أنّ السلطان عبد الحميد قد تس ّنمَ العرشَ في عام"...
ونسوقُ مثالً على هذا المقطعَ القصي َر التالي الذي نأخذه من أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه البخلء.
هذه بعضٌ من الحججِ التي يسوقُها سهل بن هارون (بدء القرن التاسع) في معرض ردّه على بني زياد بعد أن ذمّوا
مذهبَه في البُخل .ولن يفهمَ قارئ اليومَ برهانَ ابن هارون إن ج ِهلَ أنّ معاويةَ المشار إليه هو معاوية بن أبي
ن الحسن هذا هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصريّ (
سفيان (توفي )680مؤسّس الدولة المويّة وأ ّ
.)728-642وإن جهِل كذلك أن أوّلهما كان يرمز في الثقافة العربيّة السائدة أيّام الجاحظ إلى العظمة والثراء مع
حُسنِ السياسة وأنّ ثانيهما كان يجمع بين الفقه والزهد وأنّ الثنين معا قد عُرِفا بالنظر الثاقبِ وق ّوةِ العبارة .وإذن
فإنّ المَروي له المنزوي في كتاب الجاحظ كان لبدّ له من أن يلمّ بحدّ أدنى من الثقافة العربيّة السائدة في القرن
ن المرويّ له الخارجي الذي وصفه الناقد
التاسع الميلديّ وهكذا يتضح لنا أنّ المروي له أو المنزوي هو عي ُ
ي لـه الثلثة الذي نستطيعُ بفضلهِ أن نُحيط نظريّا بعمليةِ
ط المرو ّ
الفرنسيّ جينيت ،وأنّه النمطُ الوحيد من بين أنما ِ
القراءة.
فالمَرويّ له الشخصي ُة ينتمي فعلً وحقا إلى الحكاية ،وليس المروي لـه المُخاطَب إلّ مخلوقا روائيا يستطيعُ القارئُ
الحقيقي كلّ الستطاع ِة ألّ يتماهى معه .فحين نقرأُ جرجي زيدان مثلً نستطي ُع تماما أن نطرحَ بعيدا عنّا السئلة
التي يتوهمُ الساردُ أنّها أسئلتُنا حين يقول:
ك بأنّ القارئ يُريدُ أنْ يعرِفَ ...ول شكّ بأنّ القارئ ل يجهلُ"..
"ول ش ّ
ي لـه الخارجي بصفته دورا يقترحهُ النصّ على القارئ الحقيقيّ هو أنموذجُ القرّاء
ن المرو ّ
والحقّ يُقالُ فإ ّ
سمَ ملمحه وأن تُبرِزَ صفاته.
ن الذي تُحاولُ شتى النظرياتِ الدبية أن تر ُ
المُفتَرَضينَ أو الوهميينَ أو المُجرّدي َ
-3ذريّةٌ عديدةٌ
ص والذي يقوّي من دور القارئ الحقيقيّ قد أنجبت بدورها سللة عريضة تثير
إنّ فكرةَ القارئ المُستَ ِترِ في ثنايا الن ّ
الدهشة .إنّ هذه الفكرة تشغلُ ،والحقّ يقالُ ،واسطة العِقدِ في كبرى النماذجِ التحليليّة .وسوف نذكر ،فيما يأتي ،أهم
المحاولت التنظيريّة مرتّبةً حسب تاريخ ظهورها .فهناك أنموذج القارئ "الضمني" الذي أبر َز ملمحه إيزير
.W.Iserوهناك أنموذج القارئ"المجرد" كما طرحه لينتفيلت J. Lintveltوهناك أخيرا أنموذج القارئ "المثاليّ"
الذي اقترحه منذ فترة قريبةٍ الناقد اليطاليّ أمبيرتو إيكو .Umberto Eco
ويعتمد أنموذج إيزير على التوجيهات التي يمكن أن تُستَخلَص من النصّ والتي تصلح بصفتها هذه لكلّ القراء .أي
ن ك ّل الرشادات الكامنة في نصّ الحكاية والتي يتعذّر تلقي النص وفهمه بدونها.
أنّه يتضمّ ُ
ص ينبني بنفس الطريقة بالنسبة لجميع القرّاء .ولكن الختلف في فهم هذا المعنى من
المقصود بذلك أن معنى الن ّ
قارئ إلى آخر يعود إلى اختلف العلقة التي يُنشئها هذا القارئُ مع النصّ عن تلك التي يُنشِئها القارئُ الخر مع
ك عينَ سُبلِ القراءة التي يفرضُها النصّ على جميع
نفس النصّ .فكلّ قارئٍ ينفعل انفعالً خاصّا به مع أنّه يسل ُ
القرّاء.
ن كلّ قرّاء رواية سهيل إدريس الحي اللتينيّ يطلعون على كلّ الرسائلِ التي تبادلها سامي
وعلى سبيل المثال فإ ّ
وجانين والتي تذكرُها الرواية بنصّها .وهم يطلعون كذلك على مذكّرات الفتاة الفرنسية التي يقرؤها سامي والقارئ
معه خِلسةً .وعليه فإنّ القرّاء يُطلّون على الحداث الروائيّة من خلل وجهتيْ نظر الشخصيتين الروائيتين
ويتماهون معهما.
ولكن ردود أفعا ِل هؤلء القرّاء أمام هذا التماهي اللي الذي تُثيره المعرفةُ المشتركةُ تختلفُ اختلفا قد يكون كبيرا.
فمنهم من يرى في ك ّل ذلك إثراءً في معرفةِ الشخصيّات وخبايا نفوسها ويوافق بالنتيجةِ على سلوكها أو يقبل بعض
الشيء .كما يفعلُ جورج أزوط في سهيل إدريس في قصصه ومواقفه الدبية
( .)1989ولكن بعضهم قد يرى في ذلك مبرّرا لدانة سامي أخلقيّا ،وقد ينظ ُر إلى سلوكه على أنّه محاول ًة تثير
الزدراء تريد أن تصوّرَ نذالةً شخصيّةً على أنها تجرب ٌة حضاريّةٌ عظمى! كما يفعل جورج طرابيشي في كتابه شرقٌ
و غربٌ ،رجولةٌ وأنوثةٌ.)1977( .
ولكن المُهم هو أن هذيْن القارئيْن كليهما قد انطلقا من نفس التجربة في القراءة ،أي تجربة التماهي الليّ الذي
ص مع سامي ومع جانين.
تفرضه بنيةُ الن ّ
ب مثلً مختلفا نأخذه من رواية شكيب الجابري قدرٌ يلهو .فقارئ الرواية الضمني يُرغم القارئ
ويمكن أن نضر َ
شفَ له عن حقيق ِة العاهرة المريضة بالسلّ.
الحقيقيّ على أن ينتظرَ حتى خاتمة الكتاب قبل أن يك ِ
ن القارئ الذي يطلق عليه لينفيلت في نظامه التأويليّ اسم القارئ "المُجرّد" يعادل القارئ الضمني الذي رأيناه في
إّ
ص الدبيّ ومن
ي له والذي يفترضُه الن ّ
الفقرة السابقة .ويرى الناقدُ أن القارئَ يتصرّف من جِهةٍ كأنّه صورة المَرو ّ
جهةٍ أخرى كأنّه صورة المتلقّي النموذجيّ القادر على استخلص معنى النصّ الشامل بفضل قراءته النشيطة
اليجابية.
ويتحدّث لينفيلت كما يتحدّثُ جينيت عن المَرويّ لـه .ولكنه يخصّ بالتسمية القارئ الوهميّ الذي يتوجّه إليه
الراوي وهو الذي ناقشناه فيما سبق باسم المَروي له المخاطَب .ولكي يشرحَ ما يُريدُ فإنه يستشهِد بالمقطع التالي
وقد أخذه من كتاب الرواية الهزليّة للفرنسيّ بول سكارون P. Scarron
( .)1610-1660وفي هذا الكتاب يستخ ِدمُ الراوي ضميرَ المُتكلّم فيقول "إنّ مكانتي العالي َة وسموّ شأني يدفعاني إلى
ئ الذي يريدُ أن يقرأ كتابي هذا فأقول له" :إن أغضبتْكَ الدعاباتُ التي صادفتَها حتى الن في الكتابِ
أن أحذّ َر القار َ
ك به بين يديْكَ فأنصحك بأن ترمي به بعيدا عنك .فإنّك لن تجد به شيئا آخر حتى ولو صار بحجم الجبال
الذي تُمسِ ُ
ضخامةً".
ج ّردُ والقارئ
ويرى لينفيلت أنّ هذا المقطع يُرغمنا على أن نُميّ َز بين جهاتٍ ثلث .هي المَروي لَه والقارئ المُ َ
طوّع الذي يتوجّه إليه الحديثُ بصفته
ن نميّز ما يسمّيه بالقارئ المُت َ
الماديّ المحسوس .وعلينا كذلك حسبَ ليفيلنت أ ّ
جهةً وهم ّيةً عن القارئ المُجرّد الذي يُفت َرضُ به بالضبط أنّه يستْملِحُ هذا الصنف من الدعابة والهزل .ويرى كذلك
أنّ علينا أن نُميّزه عن القارئ المحسوس الذي يقرأ حقّا.
وبطبيعة الحال فإن من المُمكن أن يتبنّى القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ المُجَرّد الفكري فيرضى بالدعابة .ومن
المُمكن أيضا أن يُشاط َر القارئُ المحسوسُ موقفَ القارئ الوهميّ المستاء من تلك الدعابة فيطرح عنه الكتابَ.
ومهما يكن أمره فهذه الجهات الثلث تبقى مُتفرّدةً وذات طبيعةٍ مختلفةٍ.
وأمّا نحن فإننا نرى بكلّ بساطةٍ أنّ المَرويّ له المذكور ،أي ذلك القارئ المتطوّعُ المغرور بعض الشيء وسريع
ي له الكامن في ثنايا النصّ .ونقصد ذلك القارئ الفطن الذي
الغضب هو إيماءةٌ ساخرةٌ يُوجهها الراوي إلى المَرو ّ
ف حقّ المعرفةِ أن تلميح السارد ل يعنيه ول يقصده.
ص والذي يعر ُ
يظهر مع ظهور الن ّ
وأمّا اليطالي أمبيرتو إيكو فهو يُعرّف القارئَ النموذجيّ بأنه مجموعُ شروط النجاح أو مجموع عناصر التوفيق
ض وجوده
ط الفعّال والذي تفتر ُ
التي تنشأُ نصيّا والتي لبد أن تح ّققَ كي ينتق َل النصّ ونعني هيئةَ المُتلقّي النشي ِ
ن القارئَ النموذجيّ هو إذن القارئُ الذي يستجيبُ
عمليّةُ فكّ رموز الحكاية على أحسن ما يكون .وبمعنى آخر ،فإ ّ
استجابةً حسن ًة (أي استجاب ًة تطابقُ رغباتِ الكاتب) على كلّ ما يتطلّبُ النصّ سيّان كان ذلك طلبا صريحا خالصا أو
طلبا مضمرا مُبطّنا.
وقد تفرضُ بعضُ النصوص الدبيّة على قارئها أن يقترحَ على سبيل الجواب على مسألة فهم الحداث فرضيّةً
ط نجاح القراءة التي سبق أن ألمعنا إليها.
خاطئةً .ويكون عندها خطأُ التأويل الذي برمجه النصّ واحدا من شرو ِ
وتحضُرُنا كمثالٍ على نصّ "يغشّ" قارئه ويقوده إلى سبلِ تأويلٍ وهم ّيةٍ قصةٌ لبراهيم عبد القادر المازنيّ (-1890
)1949بعنوان عودةُ الحاج من مجموعته صندوق الدنيا.
في هذه القصوصة يحكي لنا راوٍ كهلٌ بعض ذكرياته كطفلٍ .فيحدّثنا عن زيارة يوميّةٍ كريهةٍ على قلبه كانت أمّه
سلُ ،حين يجنّ الليلُ ،ابنها يحملُ شيئا من الطعام إلى
تُرغِمه عليها كلّ يومٍ مساءً .فهذه المرأةُ طيّبةُ القلبِ كانت تُر ِ
امرأةٍ عجو ٍز تثير في قلبه رعبا كبيرا .وكانت الم تطلبُ من ابنها كتمان المر عن بقيّ ِة أفراد العائلة.
ن القارئَ يكتشفُ في نهاية القصّةِ ما كان يعرفُه الراوي منذ بدايتها ،أيّ أنّ العجوزَ مجنونةٌ .ولكن الراوي ل
إّ
يكتفي بأنه أخفى على قارئه جزءا من الحقيقةِ فهو يضيف في السطر الخير جملةً تقلب من جديد مفهومَ القارئ
للقصةِ ولحبكتها رأسا على عقب .فهو يصرّح" :كانت هذه المرأةُ المسكينةُ ض ّر َة أمي!".
وبطبيعة الحال فإنّ المازني كان يعرفُ بأنّ القارئ سيؤ ّولُ الشياء حسب مظاهرها وعلى غير حقيقة ما تُشيرُ إليه،
ولقد بذل الجهدَ كلّه لتضليلِ القارئ.
ف فيه
ي والقارئَ ال ُمجَ ّردَ والقارئَ النموذجيّ يُظهِرون جميعهم وبجلءٍ ،وبقطع النظر عمّا يختلِ ُ
ن القارئَ الضمن ّ
إّ
أحدُهم عن الخر مبدأً أساسيّا في نظريّة الرواية هو أنّ ال ُمتَلقّي ينشأُ نشوءا موضوعيا في جسدِ النصّ نفسه.
وسيّان أن يكونوا صورةً مُسبَقةً للقارئ تفترضُها الحكايةُ أو أن يكونوا أعوانا نشيطينَ يُساهمون في مجرى القصّة
ص دورٌ يُقتَ َرحُ على القارئ .وهم يُشبِهون غايةَ
جدُ في بني ِة كلّ ن ّ
فإنهم يقومون جميعا على المبدأ الذي يقول بأنّه يو َ
الشبّه صاحِبنا المَرويّ له الخارجيّ حتى لنكاد ل نُميّزهم عنه.
إنّ تع ّددَ أنماط القرّاء المُحتَمَلين وتعقّد طرق التحليل باستمرار كما رأينا فيما سبق قد نتجا عن تح ّولِ اهتمام
الباحثين عن نظريّات القصّة إلى الثر الذي تتركه القصّة.
لقد كانت النظريّات التي تعنى بالسرد ترى أنّ غايَتها الولى هي وصفُ الطرق السرديّة.
ص الدبيّ
ولم يكن لها بالتالي أن تذهب أبعد من الجهة السرديّة .وبما أنّها كانت تعتمد منهجا وصفيّا لدراسة الن ّ
ت يمكن للتحليلِ أن يُحيطَ بها إحاط ًة كاملةً.
ى وتقنيّا ٍ
فقد كانت تنظر إليه كما لو أنّه شيءٌ قائمٌ بحدّ ذاته يستخدمُ بن ً
ن الراوي
ولكن وبقدْر ما كانت مفاهيمُ الراوي أو المَرويّ له تنتمي إلى ميدان دراسة الطرق السرديّة باعتبار أ ّ
والمَرويّ له يظهران بظهور النصّ بقدر ما كان مفهوم القارئِ المُضمَر يفرِضُ على ال ُمنّظرِ فرضا ألّ يكتفيّ
بالوصفِ فقط.
والمرُ أن المنظو َر يتغيّ ُر تماما إذا كانت غايتُنا هي دراسةُ عمليّة القراءة .فبدلً من النظر إلى النظام السرديّ على
ب علينا أن نحّللَه من جهةِ علقته مع القارئ .ول يعود من
أنّه بنيةٌ قائمةٌ بذاتها ومستقلّةٌ بذاتها يصبح من الواج ِ
ف القارئُ حيالَ
الكافي عندها أن نكتشِفَ المَرويّ له وأن نصِفَه بل يُصبِحُ من واجبنا كذلك أن نتساءلَ كيف يتصرّ ُ
ص الدبيّ.
الدور الذي يقترحه عليه الن ّ
ي أو مفهومَ
وفي الحقيقة فإن إيزير وإيكو يتطلّعان إلى ما وراء حدود النصّ حين يدرسان مفهومَ القارئ الضمن ّ
سدُ" القارئُ الحكايةَ أكثر من انصرافه إلى
القارئِ النموذجي .وليس من شكّ في أنّ تحليلَهما ينصرف إلى كيف "يُج ّ
الحكاي ِة ذاتها.
-3-3القضايا المُعلّقة.
تنبع الصعوبات التي استعرضناها حين درسنا مختلفَ أنماط القارئ النظريّة من أن تلك النماط ليست بالضبط
ن لم يقم بعدُ فاصلً قاطعا على حقيقةِ وجود هذه النماط وجودا مستقلً عن المُحّللِ
نظريّ ًة تماما ومن أنّ البرها َ
يضمن سلمةَ التحليلِ وشموليّتَه.
ف ردودِ أفعالِ قارئه النموذجيّ فإنه يصفُ في واقع الم ِر ردودَ فعلِ أمبيرتو إيكو
فحين يشرعُ أمبيرتو إيكو بوص ِ
ذاته .وهو يقرّ بذلك مُحرَجا:
عدُنا على أن نُف ّرقَ بين تلقّي قارئٍ ما وتلقّي القارئِ النموذجيّ ليست بيّنةً البتّة.
وعليه فإنّ المعاييرَ التي قد تُسا ِ
ولقد استخلصَ أمبيرتو إيكو سمات القارئ النموذجي الذي اقترحه ،وحسب اعترافه ،بفضلِ ق ّوةِ مُشاركتِه المؤوّلةِ
ووضوحها ودقّتها لقصوصةٍ كتبها الفرنسيّ ألفونس ألليه Alphonse Allaisبعُنوان مأساة باريسيّة حقّا .ولنا
ك كلّ الشكّ بأن مُنظّرا آخرَ سيصل إلى ذات السمات وإلى ذات النتائج.
ك ّل الحقّ بأن نش ّ
هل يستطي ُع هذا القارئُ أن يُعلّمنا شيئا عن الطريقة التي يتصرّفُ بها القارئُ الحقيقيّ الملموسُ؟.
-4القارئُ الحقيقيّ.
-4-1التلقّي الملموسُ.
إن قصورَ النماذجِ القائم ِة على مفهومِ المَرويّ له المُج ّردِ وعجزَها عن الحاطةِ بعمليّةِ التلقّي قد دفعَ بكثيرٍ من
ن من أمثالِ ميشيل بيكار M...Picardإلى التخلّي عن فكرة القارئ النظري وإلى توجيه اهتمامهم إلى
الباحثي َ
دراسة القارئ الحقيقيّ ذلك الفرد المَخلوق من لحمٍ ود ٍم والذي يأخذُ بالكتاب بين يديه .وهؤلء يعتبرون أن تلك هي
ن مفهومَ
ي على نحو مفيد ويقو ُل بيكار ناطقا بلسان زملئه إ ّ
ص الدب ّ
الوسيلةُ الوحيدةُ التي تجعلنا نفهمُ قراءةَ الن ّ
القرّاء المُجرّدين كان بل ريبٍ خطوةً علميّةً هامةً قادت البحثَ النقديّ إلى المام .ولكن اليغالَ في متاهاتِ المَرويّ
له المُجرّد ِة كالقارئِ القائم في النصّ أو القارئ الضمنيّ أو القارئ النموذجيّ وإلى غير ذلك من دقائقَ وتصوّراتٍ
ن للقارئِ الحقيقيّ
طريفة يبدو في كثي ٍر من الحيان وكأنه هروبٌ خجولٌ من مواجهةِ حقيق ٍة شائنة .وهي ،ببساطة ،أ ّ
جسدا يعيشُ فيه ويقرأُ فيه كذلك .والقارئُ الحقيقيّ ليس أبدا روحا تائه ًة تنفلتُ في سماواتِ الحكاية دون ما قيدٍ.
ف وأهوا ٍء أو من أشكالٍ
إنّه إنسانٌ موجودٌ حقا ينفعلُ بصفته هذه أمام النصّ وأمام ما يقترحُه النصّ من عواط َ
فكريّةٍ وعقائديةٍ .كيف نستطيع أن ندرسَ دراسةً مُثمِرةً رواية توفيق الحكيم عصفور من الشرق بدون أن نعملَ
ف القارئِ (وهو مخلوقٌ حيّ يتنّفسُ ويهتزّ انفعالً) فتُقحِمُ ُه في عالمِ الرواية
على اكتشاف الساليب التي تأخذُ بعواط ِ
جهُ
ي الذي يشعرُ به القارئُ حيالَ محسن ،وهو نفو ٌر يُبرمِ ُ
إقحاما وتجعلُهُ مُتحفّظا قبالةَ نوايا الكاتب؟ .فالنفور الحقيق ّ
النصّ الروائيّ ذاته (إن كان على نحوٍ مقصودٍ أو غير مقصودٍ) هو الذي يجعلُ منه رمزا للتسامي ولقو ِة الفكر.
كيف نستطيعُ أن نُقدّ َر حقّ تقديرها روايةَ جرجي زيدان أسير المُتمَهدي
ف القارئ
-4-2أطرا ُ
يقترح ميشيل بيكار في كتابه القراءة كلعبة أن نُميّ َز في كلّ قارئٍ ثلثةَ أطرافٍ أساسيّةٍ أو ثلث جهات .فهناك
ئ الذي يُمسِكُ بالكتابِ أثناء المطالعةِ ويحافظُ على العلقةِ مع الوسط المحيطِ به .وهناك الطرفُ
ف القار ُ
الطر ُ
ص الوهميّةِ ويستجيبُ إلى مؤثراته .وهناك أخيرا الطرفُ النا ِق ُد الذي
اللواعي في القارئ والذي ينف ِعلُ ببنى الن ّ
ف عنايَته إلى إدراك تع ّق ِد النصّ .وعليه فإن القراءة في نظام بيكار تبدو على أنّها علقةٌ مُعقّدةٌ بين ثلثة
يصرِ ُ
مستويات متباينةٍ في علقتها مع النصّ.
وليكن المقطعُ التالي الذي نقتبِسُه من سيرة ابن هشام:
"قال ابن إسحاق :وقد كان ثابت بن قيسٍ بن الشمّاس ،كما ذكر لي ابن شهاب الزهريّ ،أتى الزبير بن باطا القُرَظيّ،
ض و َلدِ
وكان يُكنّى أبا عبد الرحمن ،وكان الزبير قد منّ على ثابت بن قيس بن شمّاس في الجاهليّةِ .ذكر لي بع ُ
خ كبيرٌ فقال)2(".. :
الزبير أنه قد منّ عليه يوم بُعاث -أخذه فجزّ ناصيَته ثمّ خلّى سبيلَه -فجاءه ثابتٌ ،وهو شي ٌ
ويمكن أن نضرِبَ على ذلك مثالً آخر نأخذه من موسم الهجرة إلى الشمال وخصوصا الفصل السابع منها .ففي هذا
المقطع يختلطُ خطابان ويتداخلن فيُؤثّ ُر كلّ منهما في الخر ويُظهِران بجلء العلق َة بين أطراف القارئِ الثلثة.
ت أشعّةِ الشمسِ الحارقةِ والصورُ المُلوّنةُ لنساءٍ عارياتٍ والجملُ المُتألّمةُ على لسان نُسوةٍ
فالهذيانُ المحمومُ تح َ
ب الذي يجتاحُ الراوي بسبب جنونِ مصطفى سعيد وهولِ
تُعذّبهُنّ الشهو ُة والثمُ يبدو ذلك كلّه تعبيرا عن الرع ِ
الرغبات التي أثارها .ومن شأن هذا كلّه إقلق طرف القارئ الل واعي.
ولكن لقاء السيّارة الحكوميّة المُعطّلة وبها خمسةُ عساكر ثم قصّة المرأة التي قتلت زوجها توقفُ مؤقّتا سيلَ
ن هذا المشهدَ
الهذيان الذي يجتاحَ طرفَ القارئ الذي يُمسكُ بالكتاب ويعيه تما َم الوعي طرفُه الناقدُ الذي يُدركُ أ ّ
ص بجريمة القتلِ الطقسيّةِ التي سترتكبُها حسنة بنت محمود أرملةُ مصطفى سعيد.
إرها ٌ
ي شيءٍ آخر.
نأ ّ
ص هو بناءٌ يُبنى قبل أن يكو َ
ب عنه أبدا أن الن ّ
لقد سبقَ لنا ورأينا أن طرفَ القارئ الناقد ل يغي ُ
ب الذي يقودُه من خلل
وكلّ بناءٍ يتطلّبُ مهندسا .وعليه فإنّ عينَ هذا القارئِ مشدود ٌة على الدوام إلى طيفِ الكات ِ
علقاته مع النصّ .ويُمكن أن يُنظَ َر إلى الكاتب بطريقتيْن.
إن قارئَ موسم الهجرة إلى الشمال يتسلّى مع الراوي الول ويحاولُ أن يتن ّب َأ بخاتمة مصطفى سعيد وبمصير
الراوي النكرة بينما يسعى إلى تحليل الرواية لستخلص ما تهدف إليه .إن سؤال كيف ستنتهي مغامرة مصطفى
سعيد يرافقه باستمرار سؤالٌ آخر هو ماذا يُريدُ أن يقولَ لنا الطيب صالح من خلل سيرة بطله؟.
ف اللواعي الذي
ك النصّ من خلل صلتِه بمؤلّفه فإنّ الطر َ
وإذا كان طرفُ المشاطرةِ النقديّةِ في القارئ يُدر ُ
ب عالم الرواية بذاته ولذاته .وهذا الطرفُ من القارئ هو الذي يقعُ في حبائلِ
يستجيبُ لبني ِة النصّ الروائيّ ِة يستوع ُ
ن عالم النصّ عالمٌ حقيقيٌ وموجودٌ حقا .ولنه ينسى
ي الذي يجعله يحسب ،خلل فترة القراءة ،أ ّ
الوهم السرد ّ
ف هو الذي يجعلنا نتعاطفُ مع مصطفى سعيد ونثور
ص اللغويّة فإنه يُص ّدقُ ما يُقالُ له فيه .وهذا الطر ُ
طبيعة الن ّ
لنهاية حسنة بنت محمود ونحسّ صقيع لندن يدبّ في أعطافنا.
وينبغي علينا كذلك أن نضيفَ تأثير بعض دوافعنا الغريزية اللواعية .فثمّة مستوى من القراءة يجدُ القارئ في
ى أو انعكاسا لحلمه الخفيّة ولهلوسته التخيّليّة .وعندها تنشُطُ علقةُ القارئ مع ذاته وعلقته
بعض مشاهده صد ً
ب القارئ لمشاهد العنفِ أو لوصف العلقات الغراميّة إلّ تنشيطا آنيّا لغرائزَ فيه أسكنتها
مع ل وعيه .وليس انجذا ُ
التربيةُ والكبتُ .وكذلك النزوعُ إلى السلطة ومراكز القوّة التي تحرّك بعض الشخصيّات الروائيّة فإنها ترضي
الرغبات الدفينة في القارئ.
-4-4السُس النفسيّة
ن كلّ قارئٍ يحملُ في تكوينه كقارئٍ أطرافا أساسيّةً مُعيّنةً ثم العملَ على استخلص تلك الطراف وتحديد
ن الق ْولَ بأ ّ
إّ
معالمها يفترضان أن جميع القراء يمتلكون عددا من الثوابت النفسيّة المشتركة .وفي حقيقة المر فإنّه ليس من
ن كلّ إنسان يحملُ بالضافة إلى
المُمكن أن نأمل بأن نحيط بعمليّة القراءة وأن نفهمَ إن غابت عنّا هذه المُسلّمة .إ ّ
صفاته الشخصيّة الفريدة الفذّة عددا من الصفات العامّة الموجودة عند كلّ الخرين.
إنّ هذه الطريقة بتحليل نشاط القراءة تنسجم مع معطيات التحليل النفسيّ .ونحن نعرف مثلً أن بعض مفاهيم
سيجموند فرويد تفترض بالفعل وجود وقائع نفسيّة ثابتة تجتاز التاريخ ويعرّف التحليلُ النفسيّ مثل الستيهامات
ظمُ
الولى بأنها البنى التخيّليّة الوهمية النموذجيّة (الحياة في بطن الم والمشهد الصليّ والخصاء والغراء) التي تُن ّ
الحياة الستيهاميّة لكلّ منا مهما كانت تجربتُه الشخصية.
ع بيولوجيّ وبسيكولوجيّ معا فإننا نضعُ في متناول يدنا الدوات اللزمة
ف القارئ الحقيقيّ على أنّه موضو ٌ
وإذ نعرّ ُ
التي نحتاجها لتحليل تجربة القراءة تحليلً دقيقا .وإذا كان مفهومُ القارئ المُجرد يساعدُنا على فهم كيف يعملُ ظاهرُ
س جميعا يساعدنا
ن النظر إلى القارئ الحقيقيّ على أنه حامل لردود أفعال نفسيّة ولنزوات يشتركُ بها النا ُ
النصّ فإ ّ
على فهم كيف يعملُ باطنُ النصّ.
وبعد أن درسنا المروي له الخارجيّ ،أي بعد أن رأينا كيف يتخ ّيلُ النصّ قارئه ،علينا أن نحلّل الن كي يتصرف
القارئُ أمام الدور الذي يقترحه عليه النصّ.
( )1الجاحظ ،كتاب البخلء تحقيق طه الحاجريّ ،القاهرة ،دار المعارف بمصر ،سلسلة ذخائر العرب ،بدون تاريخ،
صفحة .13
( )2ابن إسحاق السيرة النبويّة برواية ابن هشام ،تحقيق مصطفى السقّا وإبراهيم البياريّ وعبد الحفيظ شلبي،
القاهرة ،شركة ومطبعة مصطفى الحلبيّ ،الطبعة الثانية 1955الجزء الثاني ،صفحة .242
ص الدبيّ؟
الفصل الثالث :كيف نقرأ الن ّ
ص
-1-1نقصانُ الن ّ
إن الجابة على سؤال (كيف نقرأ نصا أدبيّا؟) تقتضي أن نحدّد نصيب كلّ من النص وقارئه في عمليّة تجسيد معنى
النص ،أي في عمليّة إخراج المعنى من حالة الكمون إلى حالة الظهور .فالقراءة ليست تلقيا سلبيّا أبدا .وإنما هي
تفاعل خلّق ومشاركة حقيقي ٌة بين النص والقارئ .والعمل الدبي يحتاج ،تعريفا ،وبسبب طبيعته وبنيته ،إلى
مساهمة الموجّه إليه اليجابيّة .فالعالم الذي يُنشئه النص ل يمكن له إلّ أن يكون ناقصا .إذ أنه ليس من المستحيل
ل للعالم الواقعي ،بل إنه من المستحيل كذلك أن نصف فيه
وحسب أن ننشئ عن طريق النص الدبي عالما كاملً بدي ً
العالم الواقعي وصفا شاملً جامعا وليس في مقدور الرواية قط أن تعرض كونا يختلف الختلف كلّه عن العالم الذي
نعيش فيه .فحجم الكتاب وعدد صفحاته ل يبيح ذلك .وهي كذلك ل تستطيع أن تذكر كلّ التفاصيل التي تتعلّق
بالوسط الذي نتحرّك فيه وإلّ صار الوصف بل نهاية.
ويكفي أن ننظر في شخصيّات العالم الروائي .كيّ ندرك هذه الستحالة المركّبة .فالنص الروائي يعجز عجزا كاملً
عن إبداع شخصيّات تختلف اختلفا كاملً عن الشخصيّات الحيّة التي يحتكّ بها القارئ في حياته اليوميّة .بل وإن
أكثر المخلوقات غرابة ،كتلك التي نجدها في روايات الخيال العلمي مثلً ،تظلّ تحتفظ بصفات وخصائص يستعيرها
المؤلّف من تجربة العالم الحقيقي الواقعي وليست هذه المخلوقات في نهاية المطاف إلّ كائنات بشريّة مشوّهة.
ولنتأمّل وصف العفريت التالي من ألف ليلة وليلة.
"ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء ومشى على وجه الرض ،فتعجّب غاية العجب ،وبعد ذلك
تكامل الدخان ،واجتمع ثمّ انتفض فصار عفريتا رأسه في السحاب ورجله في التراب برأس كالقبة وأي ٍد كالمداري
ورجلين كالصواري وف ٍم كالمغارة وأسنان كالحجارة ومناخير كالبريق وعينين كالسراجين ،أشعث أغبر)1("..
وكذلك المر في كتاب زكريّا بن محمّد القزويني ( )1283-1201الشهير عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات.
فهو حين يريد وصف شياطين الدنيا الذين حشرهم ال أمام النبيّ سليمان يستعير التفاصيل من عالمي النسان
والحيوان:
"فرآهم سليمان على صور عجيبة .منهم من كانت وجوههم في أقفيتهم وتخرج النار من فيهم ،ومنهم من كان
يمشي على أربعٍ ،ومنهم من كان له رأسان ،ومنهم من كانت رؤوسهم رؤوس أسدٍ وأبدانهم أبدان الفيل .ورأى
سليمان شيطانا نصفه صورة كلب ونصفه صورة سنّور وله خرطوم
طويل.)2("..
وسبب ذلك أنّه يستحيل على القارئ أن يتصوّر مخلوقا يختلف عنه كلّ الختلف! وكذلك يستحيل على المؤلّف أن
يصف وصفا كاملً إنسانا حقيقيا!
ولنفترض جدلً أن بإمكاننا وصف مظهره ورسم طباعه على نحو يقارب الحقيقية ،فإنّه ينبغي علينا كذلك ،من أجل
إنشاء صورته الكاملة أن نذكر كلّ العلقات التي تربطه بالخرين ،وبألوف الشخاص الذين صادفهم في طفولته ثمّ
في صباه ومراهقته ،والعلقات التي تشدّه إلى البيئة المحيطة به كالطبيعة والبحر والهواء والحرارة ..إلخ وهذه
حلقات من سلسل ل تنتهي أبدا بالمعنى الحرفي الكلمة.
(؟ )630 -أو امرؤ القيس (500؟540 -؟) أو جبلة بن اليهم (توفي نحو )644هم فوق ما يصفهم به معروف
الرناؤوط ( )1948-1892في روايته سيد قريش ( .)1928وفي ما ينوف عن 480صفحة من القطع الكبير! ()3
والنبي العربي محمّد بن عبد ال هو أكثر مما يقوله عنه نفس الكاتب في روايته المذكورة ومحمّد ابن إسحاق
(توفي )767في تهذيب سيرة ابن هشام والواقدي ( )822 -747في المغازي معا.
فهؤلء الشخاص التاريخيّون يستمدّون كثافتهم وقوامهم من ثقافة كلّ قارئ عربي والتحامه بتاريخه وهم يعيشون
بكلّيتهم في ضميره .وبما أنّ الرواية تعجز عن الحاطة الشاملة بهم فإن سيد قريش تسكن إلى معرفة قارئها
بتاريخه ليُكمل ما ل يذكره النص الدبي.
ن النص الروائي ناقصٌ بنيويا ول بدّ له من مشاركة القارئ .ويمكننا القول بأن على القارئ أن يُكمل النص في
إّ
أربعة ميادين أساسيّة أل وهي ميدان الحتمال أو مشابهة الواقع ،وميدان تلحق الحداث وتتابعها ،وميدان المنطق
ل من هذه النقاط الواحدة تلو الخرى.
الرمزي ،وأخيرا ميدان مغزى النص العام .وسنناقش فيما يلي ك ً
وبما أنّه من المستحيل على المؤلّف أن يصف الشخصيّات الروائيّة أو إطارها الجغرافي أو الموقف الروائي وصفا
كاملً فإن القارئ يُكمل السرد من خياله حسب ما يظهر له على أنّه محتمل أو قريب الوقوع.
ولنقرأ كيف يصف لنا علي عقلة عرسان ( )1941زينب زوجة بطل روايته صخرة الجولن ( )1982حين يذكرها
للمرة الولى:
ي وهي تعود من الحصاد ،ثوبها مغمس بالعرق ،والتراب يكسوها حتى أخمص
"وتراقصت صورتها أمام ناظر ّ
قدميّها ،وفمها ممتلئ بالغبار حتى لتغص به ،ول يكاد وجهها الحبيب يظهر من بين طبقات التراب المتراكمة عليه
ورائحة الشقاء البشري تفوح منها إلخ" ( )4وهذا الوصف يكاد يخلو من إشارة واحدة إلى شخص زينب .أهي
طويلة أم قصيرة؟ سمراء أم شقراء؟ ما لون عينيها؟ ما شكل أنفها؟ هل تقاطيع وجهها متسقة أم ل؟ هل وجهها
بيضاوي أم متطاول أم مستدير؟ الخ .وبعد صفحات قليلة يضيف النص إشارة توحي بأكثر مما تُظهر:
"وعلى صفرة السى في الوجه النحيل تطفو بقعة ربيعية كواحة ترتفع لظامئ في الصحراء"(.)5
إن زينب الفقيرة التي تكافح أثناء غياب زوجها لطعام عائلتها الصغيرة تهم راوي علي عقلة عرسان أكثر مما
تعنيه صفاتُها الجسديّة .وعلى القارئ بل ريب أن يستكمل ملمحها .وهي ستبدو لغلب القرّاء امرأة ناحلة ،سمراء
أو قمحيّة اللون وذات عينين واسعتين سوداوين ترتدي ثوبا طويلً غابت ألوانه .الخ.
فالطار الجغرافي (حوران) الذي تشير إليه الرواية يفرض على القارئ مجموعةً من الصفات العامة التي يعرف
بثقافته أو يعتقد أنها تميّز هذه المنطقة من سورية .وكذلك المر حين يتخيل بطلُ الرواية ابنه فإنه يقول:
ولنأخذ على سبيل المثال وصف إطفاء اللفافة فهذه الحركة تفترض أن يمد المدخّن يده باللفافة التي يلتقطها بين
إبهامه وسبابته فيطفئ جذوتها بأن يسحق طرفها في المنفضة .ولكن أحمد زياد محبك (حلب )1949يكتفي بجملة
قصيرة:
أي أنه يكتفي بذكر حركة واحدة من مجموع الحركات الضروريّة لطفاء اللفافة ويقوم القارئ تلقائيّا بتخيل الحركات
الناقصة.
ونجد كذلك عند حسن حميد ( )1956الجمل التالية ولعلّه من أكثر الكتّاب لجوءا إلى هذا اليجاز الشديد:
وكل من هذه الجمل يصف جزءا واحدا من عمليّة معقّدة فيها كثير من الحركات ولكن القارئ يمل الفراغ من
مخيلته ومن ثقافته الحياتية .ولكنّه قد يعجز عن ذلك فيبقى هذا الجزء من السرد غامضا يستغلق فهمُه عليه .كما
ل ول كيف تدخّن!
هي حالة قارئ ل يعرف ما هي النرجيلة مث ً
ولكن السرد قد يتطلّب مساهمة القارئ في تخيّل مجموعة من الحداث أعقد بكثير مما ذكرناه ولننظر في المقطع
التالي من ابن إسحاق:
"قال ابن إسحاق :وكان من حديث عبد ال بن سلّم ،كما حدّثني بعض أهله عن إسلمه حين أسلم ،وكان حبرا
عالما ،قال :لمّا سمعت برسول ال صلّى ال عليّه وسلم عرفتُ صفته واسمه وزمانه الذي كنّا نتوكّف له ،فكنت
مُسراّ لذلك ،صامتا عليه حتى قدم رسول ال صلّى ال عليه وسلّم المدينة ،فلّما نزل بقباء في بنى عمرو ابن
عوف ،أقبل رجل حين أخبر بقدومه.)9("..
فهذا النص يتراكب في ثلثة طوابق .فالراوي الول محمّد بن إسحاق بن يسار كتب مؤلفه في القرن الثاني للهجرة
/القرن الثامن للميلد ومات في بغداد (767م) والراوي الثاني عبد ال بن سلّم توفي في القرن الول للهجرة /
القرن السابع للميلد (664م) وهذا بدوره يحكي قص ًة جرت معه قبل عام
( )622سنة جاء الرسول العربي فيها يثرب .وإذا استطاع القارئ أن يسافر عبر القرون من ابن إسحاق إلى ابن
سلّم ومنهما إلى رسول ال خلل بضعة أسطرٍ ،ودون أن يشعر بانقطاع في الزمن أو في المكان السرديّين فلنه
استعان بثقافته التاريخية ومل بها الفراغ الذي يفصل بين الراويين والحداث التي يذكرانها.
ولقد يشير النص في أحيان كثيرة إلى شيء آخر غير ما يُظهره أو غير ما يظهر أنّه يعنيه ،وهنا يتوجّب على
ك ألغاز اللغة الرمزية ،ولكي يبلغ مراده هذا ل بد له أن يأخذ بعين العتبار انتقال النص من
الطرف المتلقّي أن يف ّ
السرد المباشر إلى اليحاء أو التشبيه أو التمثيل.
ل هو الشكل الفني
فالحب الذي يعيشه محسن وسليم وعبده في رواية توفيق الحكيم عودة الروح ( )1933مث ً
لمشاعر البورجوازيّة الصغيرة في مصر بعد الحرب العالمية الولى ،وتعلّق محسن وأعمامه بسنّية ،الفتاة التي
ترمز إلى مصر ،هو الترجمة الروائية لتفتح المشاعر الوطنيّة عند تلك البرجوازيّة وبداية وعيها بانتمائها إلى
ماضٍ تليدٍ .وبطبيعة الحال يمكن أن يرى القارئ العجول هذين الجانبين في عودة الروح على أنّهما منفصلن ل
علقة لولهما بثانيهما أو على أنهما لحظتان متعاقبتان أو متوازيتان في السرد الروائي .ولكن قراءة يقظة يمكن
لها أن تزيح النقاب عن سلسلة المعادلت الرمزيّة تلك وعن دورها في تنظيم الحكاية.
وفي مكنة القارئ أخيرا أن يكتشف المعنى العام الذي أراد المؤلّفُ أن تحمله روايتُه .ولهذا ليس على القارئ أن
يرصد تدخّل الراوي المقصود في النص وحسب وإنّما عليه أن يُحيط ببنية النص العامة كذلك.
ولقد بنى توفيق الحكيم مثلً روايته عصفور من الشرق على مجموعةٍ من المعارضات الجوهريّة والتي تتفرّع عنها
ت المنطق .ول بد للقارئ من أخذها بعين العتبار ليدرك هدف الرواية العام أي
متناقضات أخرى ثانويّة ينظّمها ذا ُ
إدانة الحضارة الوربية الحديثة إدانةً شاملةً قاطعةً باسم قيم القرون الوسطى النخبوية الرستقراطية التي مثلها
الشرق بقسميه ،البوذي من جهة ومجموعة الديانات الموحّدة من جهة أخرى ،حسب ما يراه توفيق الحكيم،
ومثاقفة محسن بطل الرواية يُفترض بها أن تبرهن للقارئ على التناقض الجوهري القائم بين الشرق والغرب.
وهذه المثاقفة تتحقق خلل تجارب وفي ميادين تهدف إلى إبرازي التناقض الساسي.
ن السرة الفصول الستة الولى من الرواية .وهي تسعى إلى إقناع القارئ بتمزّق الروابط في صدر
يشغل ميدا ُ
الخليّة العائليّة الوربيّة ،وتلخّص سيّدة فرنسية عجوز هذا الوضع بقولها:
"في زماننا كان البيت كل شيء! لقد ذهب كل شيء طيّب بذهاب زماننا ..ولم تعد هنالك أسرة ..الرجل والمرأة في
المصنع طول النهار ..ول أمل في أن ينشأ الولد على الخلق القويم .يا له من زمن عجيب!"(.)10
وأما الميدان الثاني فهو ميدان العلقة بين الرجل والمرأة .وفيها يمثّل محسن الرجلَ الشرقي وهو الطهر جُعل
إنسانا ورمز الشعر والفن والخيال .وأمّا سوزان ديبون الفرنسيّة فهي ترمز إلى أوروبا وإلى نزوة الجسد وإلى لون
الصلصال المحترق .وباختصار إلى الحيوانيّة الثقيلة والنانيّة المجرمة اللتين تسمان كل النساء وخصوصا نساء
أوروبا منهن ،كما يرى توفيق الحكيم.
وأمّا تجربة المثاقفة الثالثة ونعني صداقة محسن المصري مع العامل الروسي المهاجر إلى باريس فتهدف إلى
رفض الفكر الوروبي الحديث برمته وإلى إدانته بشقيه اليساري واليميني الغربيّين معا.
وهذه السلسلة من المعارضات هي التي تقود القارئ إلى فهم غاية الكاتب من كتابه :إدانةُ النموذج الحضاري الذي
تمثّله أوروبا الصناعيّة واستنكار افتتان النخبة الشرقيّة بمبادئها..
"كل هذا العلم الحديث الذي يبهرك ليس في حقيقته غير طريقة وأسلوب .نعم إن الجديد حقا في العلم الوروبي
الحديث هو أسلوب التفكير المنتظم وطرائق البحث العقلي المرتب .أما أكثر من ذلك فل [ ]...إنها مدنيّة ل تدرك
ول تعترف إل بما يقع تحت لمسها وبصرها ومنطقها .ول تقوم إ ّل على عالم المحسوس .وإنّي أص ّر على أن هذه
الحضارة إن هي إلّ مدنيّة ناقصة"(.)11
ولكن يندر في العادة أن يج ّد القارئُ في الرواية الناضجة هذه المعارضات الصريحة والمكشوفة .وهي أكثر ما توجد
في الروايات التعليمية أو في الروايات التي تهدف بصورة أساسيّة إلى الدفاع عن قضيّة عقائديّة معينة .وأمّا
الروايةُ الفنيّة الناجحة فإنها تكتفي عادةً بإشارات رقيقة أو بتلميحات لطيفة فتترك للقارئ مهمة أن يُنشئ بمشاركته
الفطنة معناها العام.
-1-3الثابتُ والمضطرب:
ب الول فهو الماكن الصريحةُ في النص والمقاطعُ الواضحة فيه والحالت البيّنة به .واستنادا إليها نتبين
وأما القط ُ
معنى النص العامَ .وأمّا قطبُ التلقّي الثاني فهو المقاطعُ الغامضة والشارات المُلتبسة والتي تقتضي مساهمةَ
القارئ لتأويلها.
والمقاطعُ الواضحة التي تؤّول أو تُقرأ مباشرة هي تلك التي تنشأ على القواعد النصيّة وعلى قواعد السرد كما
أظهرتها المدارسُ ذات النزعة البنيويّة أو ذات التجاه الدللي .وحين يكون أمامنا نصٌ كثيف يستغلق فهمُه فإنه
من المثمر في أحيان كثيرة أن نؤسس التأويلَ على وشائج التشابه في مقاطع النص أو على تعارضها واختلفها أو
على طريقة توزيعها وانتظامها انتظاما هرميّا.
ومهما يكن المرُ فإنه من الضروري أن نميّز في كل قراءة بين جهتين أو بعدين الولى هي تأويل يُبرمجه النص
ويفرضه على القارئ ،والثانية تأويلٌ ل يتعلّق إلّ بالقارئ نفسه.
-2النص الدبيّ من حيث أنه "برمجة".
"-2-1عقدُ" القراءة
إن النص الدبي "يبرمج" شكلَ تلقيه بأن يقترح على القارئ مجموعةً من القواعد العامة المتفق عليها وكذلك نقاطاً
يلتزم بالعمل بها وبتطبيقها .وهذا ما أسماه النقّاد "بعقد" القراءة.
ويُحدّد النصُ الدبي على وجه العموم طريقةَ تأويله إذ ينخرط في نوع أدبيّ معين أو حين يتخذّ مكاناً له ضمن
المؤسسة الدبيّة الرسميّة .فالنوعُ الدبي مثلً يحيل القارئ إلى مجموعة من القواعد التي تواضع النقّاد على أنّها تميز
هذا النوع عن غيره .فيثير هذا عند القارئ توقعاً معيّنا .ويجعله في حالة "نفسيّة"خاصة".
فهو قد يتقبّل أن ينهض ميتٌ من قبره في الرواية الخيالية وقد ل يجد غضاضة في أن يظهر جني من قمقم أو أن يطير
بساطٌ يحمل رجلً حين يقرأ حكاية شعبيّة من حكايات ألف ليلة وليلة ولكنه سينكر هذه الحداث بقوة إذا وجدها أو ما
يماثلها في الرواية الجتماعية أو في الرواية الواقعية مما يكتبه عادة نجيب محفوظ! ولقد رضي القارئ السوري على
سبيل المثال أن يبعث زكريّا تامر عمر المختار أو يوسف العظمة من قبريهما هجاءً للواقع العربي المعاصر في بعض
قصصه الصغيرة الغاضبة .ولكن هذا القارئ سيستغرب كثيراً إن رأى سيّارة مثلً في رواية جرجي زيدان )-1861
(1914الحجّاج ابن يوسُف الثقفي ) (1902أو رأى جبلة بن اليهم يدخّن لفيفةً تبغ في سيد قريش لن هاتين
الروايتين التاريخيتين تتناقضان عندئذ مع حقيقة التاريخ الذي يقتضي نوعُهما الدبي أن تلتزما بها التزاماً صارماً.
وقد يحدث أن يكون النص غامضاً أو يصعب تصنيفُه بين النواع الدبية المعروفة أو أن يثير حيرة القارئ فعندها تتجه
أبصارُ هذا الخير نحو المؤسسة الدبيّة وهيئاتها ينتظر منها أن "تفتيه" حول شرعية النص الدبية أو أن تضمن له
على القل انتماءه إلى الدب ،أيّ أنّه ينتظر منها شهادة "حسن سلوك" تمنحها لنصوص تثير ريبته وشكوكه .وهذا ما
قامت به المؤسساتُ الدبيّة العربيّة في العقد الخامس من هذا القرن حين ظهرت كتاباتٌ من نوع جديد ل تنتمي إلى ما
كان يألفه القارئُ من النواع الدبية ول إلى ما كان قد تواضع عليه النقّاد في ميدان الشعر "فأفتى" بذلك المجددون
في الدب وقبلتها المؤسساتُ وأسمتها شعر التفعيلة وأدخلتها في صنف النواع الدبيّة الشرعيّة!
ت كذلك حين ظهرت بعضُ الروايات التجريبية التي كانت تعتمد ما كان كتابها يحسبون وهذا ما قامت به هذه المؤسسا ُ
أنه تيار التداعي أو تيّار اللوعي ،كنصوص إسماعيل فهد إسماعيل )البصرة العراق (1940كانت السماء زرقاء –
1970والمستنقعات الضوئيّة 1971والحبل " 1972فقد أثارت حيرة بعض القرّاء وتحفظهم قبل أن تضمن الهيئاتُ
الدبيّة قيمة هذه النصوص الفنية.
والحق أن ميثاق القراءة ينعقد بين النص وقارئه في مكانين على القل ،في فاتحة النص الدبي ومطلعه أولً
وفي هامشه ثانيا.
وينعقد ميثاق القراءة ويظهر على نحو ضمني وغير مباشر في مطلع النص ومستهلّه .والسطر الولى من النص تحدد
بشكل حاسم طريقة تلقيه.
فهناك" :حدثنا عيسى بنُ هشام :قال" … :الشهيرة التي تستهل أغلبَ مقامات بديع الزمان الهمذاني )(1007-969
وهناك قرينتها التي ل تقل عنها شهرة" :حدث الحارث بن همام :قال "..التي تفتح مقامات الحريري )-1054
(1222مع تنويعاتها حكى وروى وأخبر .وكلها تؤذن منذ مطلع النص بأننا نلجُ بفضلها باباً يقودُنا إلى عالم الكدية
والمغامرة الهازئة بالعراف والتقاليد الجتماعية .وهناك كذلك "كان يا ما كان ،في قديم الزمان "..التي تهمسُ بها
جداتُنا حين يُدخلننا ج َو الحكاية الشعبية السحرية.
ولكن لمطلع النص وظيف ٌة أخرى .وهو غالباً ما يحدد ميدانَ قراءة النص .ولنعدْ إلى رواية علي عقلة عرسان فهي تبدأ
على النحو التالي:
"وقفتُ اليوم على سفح الجبل الذي ارتبطت به ارتباط جذر الشيح بالرض ونظرت من فوقه باتجاه الشرق كما هي
عادتي منذ أصبح الجبل الدنيا بالنسبة لي .كانت القرى والمزارع على مد النظر ،منبطحة تحت مرمى ذراعي ككائن
جريح.(16)"..
فالكاتب يرمي بقارئه رميًا ل هوادة فيه في عالم واقعي تغشاه نزعةٌ عاطفية أليمة :رجلٌ ينتصب واقفاً على جبل يشرف
على وادٍ كأنه حارس للرض والسماء معاً يضرب بجذوره عميقاً في أرض الوطن وتاريخه .إنه رمزٌ للمقاومة
وللصمود يغرس في زمن الرواية ولكن هذا ل يحيط به
ثم يضيف علي عقلة عرسان ،اعتباراً من السطر الثامن ،تفاصيل جديدةً تحدد انتماء هذا الرجل الجتماعي :فلّح فقير
أرغمته ظروفُ الحياة القاسية على الغتراب بعيداً عن أسرته وقريته قبل أن يلبي نداء الوطن .وهذه العناصر تشكلُ
الطار الدللي الذي ستنمو فيه أحداثُ الرواية.
وأخيراً فإن عقد القراءة ل يفتأ يظهر طيلة النص من خلل التزام هذا الخير بمجموعة من القواعد والعراف وتقيده
-3دور القارئ
-3-1الستباق والتبسيط
إن الستباق والتبسيط هما ردّتا فعل القارئ الساسيتان أمام النص الدبي .وهما قائمتان في صلب عملية القراءة
والتأويل .ويمكن تفسيرُ ذلك بفضل واحدٍ من مبادئ النشاط اللغوي الجوهري التي كشفت عنها اللسنية الحديثةُ.
لكي يفهمَ الموَجّه إليه مقولةً ما ل بد له من إدراك النيّة الكامنة خلفها .وعليه ما إن يفتح القارئُ كتابا حتى ينشئ
فرضيّةً حول مضمونه العام وبمعنى آخر فإنه يشرع فورا في استباق المضمون السردي وبالتالي في تبسيطه .فهو
ل أو تطورات الحكاية .وهو يصوغ إذ يُنشئ في قرارة نفسه فرضي ًة حول النص فهو يستبق أحداثَ الرواية مث ً
فرضيته على نحو مبسط كما لو كان يطرح على نفسه أسئل ًة من طراز :ع ّم يتحدّث الكاتبُ؟ ماذا يقصد؟ ويحاول
الجابة على ذلك :أغلب ظنّي أنه يتحدّث عن كذا وكذا .أو يبدو لي أنّه يريد كيْت وكيْت.
فلقد يفترض القارئ أمام رواية عبد الكريم ناصيف (سلميّة ،سوريّة
)1939المخطوفون ( )1991أول ما يفترض أنها رواية مغامرات يُخطف فيها أشخاص عديدون وأن الرواية
تعرض ما جرى لهؤلء المساكين من وقائع ومصائب! وقد تتعزّز فرضيّته عند قراءة السطور الولى من مقدمة
محمد توفيق البجيرمي التي يذكر فيها الدويسة ورحلت غليفر ثم رحلت الفيلسوف الغريقي لوسيان السمياطي
ومغامرات سندباد جميعا! ولكن الوحدات المعنوية التي تنتظم الفصل الول من الرواية تجعل القارئ يرمي بعيدا
فرضيته الولى ليدخل في عالم سردي آخر .ولينشئ فرضيةً جديدةً تتوافق مع معطيات الفصل الول.
وأما نزع ُة التبسيط فإنها تكشف في حقيقة المر عن ضرورة الفهم التي ترتبط ارتباطا عضويا بعملية القراءة.
والقارئ إذ يحتاج إلى معرفة أين تقودُه خطاه في طرق النص يميل باستمرار إلى التبسيط .فبينما يسعى الكاتبُ
الفطن دائما إلى مضاعفة النظمة الرمزية وإلى تعقيد البنية الدلليّة قدر إمكانه يسعى القارئ إلى اختزالها
وتبسيطها قدر إمكانه كذلك.
إن الميلَ إلى تعقيد صفات الشخصية الروائية ومطاردة دقائقها واليحاء بخفاياها ومكامن نفسها هو ما يميّز الكاتب
في حين أن القارئ يميل دائما إلى إهمال التفاصيل ورقائق اللوان فيراها بيضاء أو سوداء ،خيّرةً أو شرّيرةً،
شرقي ًة أو غربية.
وحين يقصر بالقارئ علمُه فيعجز عن استكشاف معنى النص الحقيقي يلجأ عندها إلى تأويله تأويلً رمزيا .فإن
جعلنا عنوانُ رواية جيمس جويس
( )1882-1941أوليس ( )1922نظن أن هناك علقة ما بين أوليس هذا والوديسة فما أسرع ما
نكتشف أن الطار الزماني والمكاني اللذين تنتشر فيهما الرواية النكليزية ل يمتان بصلة إلى ملحمة الشاعر
الغريقي .وأن علينا ،لفهم النص على حقيقته أن نؤوله تأويلً رمزيا أي على أنه أوديسة عصرية وهي طواف
بطلها بلوم في أرجاء مدينة دوبلن اليرلندية .ونشعر بذات الضرورة أمام عنوان ابن عربي يترجم أشواقه (فواز
حجو ،اتحاد الكتاب ،دمشق )1994وصقر قريش وحيدا (خالد سلمة الجويشي اتحاد الكتاب ،دمشق
)1993أو تداعيات بين يدي أبي العلء المعري التي سبق ذكرُها.
وبسبب نزوع القارئ إلى استباق أحداث الرواية تبدو القراء ُة وكأنها امتحانٌ مستمر يفرضه النصُ لتقييم قدرات
هوامشُ الفصل الثالث:
1ـ ألف ليلة وليلة4 ،أجزاء ،بيروت ،المكتبة الثقافية ،الطبعة الثانية ،1981 ،الجزء الول ،ص .25
2ـ مجاني الب شيخو ،بإدارة فؤاد أفرامِ البستاني 5 ،أجزاء ،بيروت ،المطبعة الكاثوليكية ،1966الجزء
الخامس ،ص .281
3ـ معروف الرناؤوط ،سيد قريش ،بيروت ،الطبعة الثالثة ،دار القلم4 ،1971 ،أجزاء في مجلدين.
4ـ علي عقلة عرسان ،صخرة الجولن ،دمشق ،اتحاد الكتاب العرب ،الطبعة الثانية،
،1987ص .13-12
7ـ أحمد زياد محبك ،الكوبرا تصنع العسل ،حلب ،دار القلم العربي ،1996 ،ص .18
8ـ حسن حميد ،تعالي نطير أوراق الخريف ،دمشق ،اتحاد الكتاب العرب،1992 ،
ص .29
9ـ السيرة النبوية لبن هشام ،القاهرة ،جزءان ،مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ،الطبعة الثانية ،1955
الجزء الول ص .516
10ـ توفيق الحكيم ،عصفور من الشرق ،القاهرة ،المطبعة النموذجية ،بدون تاريخ،
ص .45-44
13ـ عبد ال بن المقفع ،كليلة ودمنة ،نشر الب لويس شيخو ،بيروت ،دار المشرق ،الطبعة الثامنة ،1969 ،ص
.59
14ـ الجاحظ ،كتاب الحيوان ،تحقيق وشرح عبد السلم محمد هارون ،بيروت ،دار الجيل ،1988 ،ص .43-3
17ـ حنا مينة ،الشراع والعاصفة ،بيروت ،دار الداب ،الطبعة الخامسة .1986
18ـ عمر بن أبي ربيعة ،الديوان ،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ،بيروت ،دار الندلس ،بدون تاريخ،
القصيدة ،رقم ،33ص .151-150
20ـ نجيب محفوظ ،اللص والكلب ،القاهرة ،مكتبة مصر ،بدون تاريخ ،ص .36
21ـ محمد حيدر ،رأي في صخرة الجولن في مجلة الكاتب العربي ،دمشق ،اتحاد الكتاب العرب ،العدد رقم ،5عام
،1983ص 92-75ا.ه.
24ـ علي عقلة عرسان ،تحولت عازف الناي ،دمشق ،اتحاد الكتاب العرب.1993 ،
الفصل الرابع :ماذا نقرأ في النص الدبي
-1مستويات القراءة:
ت القراءة هي قديمةٌ ِق َدمَإِننا نقرأُ دائماً عدّة أشيا ٍء معاً في نصّ ما ،وفكرةُ تعدّد معاني النصّ الواحدِ أو تعدّد مستويا ِ
القراءة ذاتِها.
ق كان التدريسُ مُدرِكاً للصعوبات التي يُثيرُها تأويلُ النصوصِ ويُؤكّد على ضرورةِ العتمادِ على منهجٍ واعٍ ومنذ الغري ِ
في القراءة .وكان السوفسطائيون أولَ من وضع قواعدَ ذلك المنهج وجاء بعدهم أرسطو ،ومؤلّفاتهُ ونخصّ منها كتاب
البلغة وكتاب الشعر .وثبتَ عندهم أن القافيةَ ووقعَها على نفس القارئ" ،وأسلوبَ المؤلّفِ وفنونَ الخطابةِ والبديع،
كلّ ذلك عناصرُ موضوعيةٌ نستطيع بفض ِلهِا إنشاءَ تحلي ٍل للنصّ وبالتالي أن نقبضَ على ناصيةِ معنىً من شأنِهِ الفلت
أبداً.
ولقد قطعَ فقهُ اللغة مرحلةً جديدةً في عهدِ أوج السكندرية وازدهارِها أيام البطالمة )بين القرن الرابع والول قبل
الميلد( ،فقد كان تجميعُ التراث الدبي الغريقي وتصنيفهُ في صدور مكتباتِها يقتضي نشاطاً فكرّيا ونقديّا كبيريْن .ولم
تكن غاي ُة عل ِم اللغةِ عند كتّابها تحقيقَ النصوص الدبية المحمولة من كل الصقاع وحسب وإنما تحليلَها وتأويلَها
ونقدَها .وكان نهجُ علماء السكندرية في ذلك صارماً يسعى إلى التدقيقِ ومقاربةِ ظاهر النصّ فكانَ ذلك إيذاناً بالقطيعة
مع التقاليد اليونانيةِ التي أسسها الرواقيون ،ويرفع لواءَها علماءُ بيرغاموس في آسية الصغرى الغريقية وكانت
تزاحمُ مدينة السكندرية على الصدارة .وكان هؤلء يدعون إلى تأويل النصوص تأويلً مجازياً ويعملون على إظهار
معنى النصّ الخفيّ وكشف النقاب عن نيّةِ الكاتبِ ومراميهِ الخبيئة .وكانت نصوص هوميروس بطبيعةِ الحالِ مادّة
دراستهم المفضّلة.
والحقيقةُ أن هاتين المدرستين ورغم البون الشاسع بينهما كانتا تطلبان أمرا واحدا هوإيجادُ طريقةٍ في
ب كلّ منهما الخرى.التأويلِ تلمّ بكلّ أبعاد النص الدبي .وسوف تُخصِ ُ
شئُ منهج ًا
وأما في العصور الوسطى الوروبيةِ فإن تأويلَ التوراة بشقيْها العهد القديم والعهد الجديد ،هو الذي سيُن ِ
تفسيرياً حقيقياً .وكان هذا يُميزُ بين أربع مستويات في معنى تلك النصوص المقدسة .فهناك المعنى "الحرفي" )أي
القصة المحكيّة( ،والمعنى "المجازي" )العهدُ القديمُ يُبشّر بالعهد الجديد( .والمعنى "الوعظي" )مغزى القصةِ
الخلقي(،وأخيراً المعنى "الباطني" )قيمةُ الرسالة التوراتية عند خاتمة النسان(.
ص الدبيةِ الدنيويةِ .وكان دانته الياري )،(1321-1265 ثم ما لبثَ هذا المذهبُ في التفسيرِ أن راحَ يُطبّق على النصو َ
يُطالب بأن يُطبّق النقّاد كذلك منهجَهم هذا على ملحمته الشعرية اللعوبة اللهية.
وأمّا في ميدان الحضارة العربية فنستطيع القولَ بأن كلّ علوم اللغة العربية وربما كذلك كل علوم الثقافة السلمية قد
س لهذه الحضارةِ وتأويلهِ ونعني القرآن الكريم ،ووضع منهج نشأت في أول عهدها حول مسألة قراءة النص المُؤسّ ِ
علمي في التفسير.
ولقد بدأَ الجدلُ الفكري منذ العقد الخامس من القرن السابع الميلدي أي بعد مقتلِ الخليفةِ الثالث عثمان بن عفّان
وانقسام المّة إلى أحزاب وشيعٍ يبذلُ أنصارُها ك ّل جهدهم لتبرير مواقفهم السياسيةِ تلك بآياتِ القرآن ،وبنصوص
ض دعاوى الخصمِ. الحديث يفسّرونها ويُؤولونَها لدعم قضيتِهم أو لنق ِ
ثم ظهرت مع اتساع رقعة الدولة العربية ودخول أمم أخرى ذات لغات غير العربية وثقافات مختلف ٍة وانتشار السلم
كدين للدولة الجديدة قضايا جديدةٌ ومسائل طريفة سُ ِئلَ النصُ القرآني عن إجابة لها وظهرت مذاهب في تأويل القرآن
عديدةٌ تعتمدُ على أسس فكرية وطرق علميةٍ مختلفةٍ.
فكان ما أسمي بالتفسير بالمأثور .وأجلّها تفسيرُ ابن جرير الطبري ) ،(923-839جامع البيان في تفسير القرآن .وقد
عرض فيه لقوال الصحابة وآرائهم وذكر بعض وجوه العراب والقواعد لتعزيز هذا التأويلِ أو ذاك ولتفضيل هذه
القراءة على غيرها .ومن التفاسير بالمأثور تفسير ابن كثير ،في القرن الرابع عشر وكتاب السيوطي )-1407
،(1475الدرِ المنثورِ في التفسير بالمأثور.
وكان ما أسمي بالتفسير بالرأي .وقد أثار جدلً شديداً بين العلماء فمنهم من حرّمه ومنهم من جوّزه .ولكن اختلفهم كان
يقوم في الحقيقة حول شروط القراءة والقواعد التي ينبغي الخذ بها حين التأويل وليس حول مشروعية تعدد قراءات
القرآن الكريم .ولقد يستطيع القارئُ الراغبُ في معرف ِة هذا الجدلِ وبمختلف شروط النهج التي لبد منها لقبول التفسير
بالرأي أن يعود إلى مؤلّف قاضي دمشق بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي ) ،(1391-1344البرهان في علوم
القرآن ) (1وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها تلك الشروط تفسيرُ فخر الدين الرازي ) ،(1209-1149المسمى مفاتيح
الغيب والمشهور بالتفسير الكبير ،وتفسيرُ عبد ال بن عمر البيضاوي )توفي نحو ،(1282المسمى أنوار التنزيل
2ـ القراءة الجابذة أو التوحيدية:
ن نقرأَ وقد وضعْنا كمسلم ٍة وجودَ معنى جوهريّ أو أصليّ تتعّلقُ به المعاني الخرى أو تنبثقُ عنه
ن نستطيعُ أ ْ
ونح ُ
ئ "العادي" تلقائيا مع النص
ج ُم فروعُ الشجرةِ المختلفةِ عن أصلٍ واح ٍد أساسي .وهذه العلقةُ التي يُنشئِها القار ُ
كما تن ُ
يداف ُع عنها بعضُ النقّادِ اليوم ويجعلون منها أساسَ العمليةِ التأويليةِ.
ويُطلقُ هذا التّيارُ النقديّ على أنصا ِرهِ اسمَ الهرمونوطيقيين .وهذه الكلم ُة الخيرةُ من أصلٍ يوناني وتعني التعريف
بالشيء والبانةَ عنه ونقلَ ُه وترجم َتهُ أو ترجم َة معانيهِ ...وهذا المذهبُ في تأويل النص الدبي يعت ِم ُد مبدأ التماسكِ
ص المتفرّقةِ على ضو ِء الهيكل العام .وهو يرى أنه مهما تباينت هذه
والترابطِ .أيّ أنّه يوجبُ تأويلَ عناصرِ الن ّ
جعَ العم َل الدبيّ إلى النّيةِ التي أنشأته وإلى أصلِ ِه الوّل أو جذرهِ
القراءاتُ فيما بينها فإنه من الممكنِ دائما أَنْ ُنرْ ِ
العميقِ الذي يضمنُ وحدةَ أجزائِ ِه ووحدةَ معانيه المتفرّقة.
فدراسة "الجزئيات" عند أبي عثمان بحر الجاحظ (775؟ ـ 868؟) ،وتنظيم "التفاصيل" التي تمل كتاب الحيوان حسب
أنواعها أو منطق استحضارها في النص ودراسة تد ّرجِ المعاني والصور وتصاعِدها عند ابن الرومي ()896-835
تساعدنا بفضل مقاربات متلحقة على فهم شامل لدب الرجلين.
إن النقد الهرمونوطيقي يسعى إذن إلى إنشاء قراءة تأويليّة مركزية وعقلنية تربط كل تفاصيل النصوص المعقّدة
بخط معنوي توحيدي ،وهذا المبدأُ المُوحّد الذي يُنظّم القارئ بموجبه تأويله هو الموضوع الذي يسكن كل زوايا
الكتاب ويتكشف فيها..
وأبعدُ النصوص عن النزعة الذاتية ،وأفقرُها بالقيم الشخصية كتلك التي تلتزم المواضيع المطروقة والشكال
المألوفة (كالنسيب في القصيدة الجاهلية مثلً) ،لبد وأن يختلج فيها وعلى نحو خفي نشاطٌ روحي مركزي يشد إليه
أطراف القطعة شدا قويا مع كل ما تحمله من أفكار وعواطف وخطرات .فخلف تعدد المواضيع في القصيدة التقليدية
الجاهلية تكمن فكرةٌ موجّهةٌ قد تكشف عنها القراءة المُتأنيةِ كما فعل طه حسين حين درس لبيد (560؟661-؟)،
وطرفة بن العبد (543؟569-؟) ،وزهير بن أبي سلمة (530؟627-؟).)5(... ،
ع الذي يسكن كل زوايا الكتاب هو الكاتبُ نفسه وقد انتقل إلى داخل مؤلّفه وعاش
وليس يسعنا أن ننكر أن الموضو َ
في ثنايا كتابه .وبطبيعة الحال فإننا ل نقصد هنا شخص المؤلّف كما يظهر لنفسه وفي مرآة ذاته أو في عيون
الخرين محدودا في الزمان والمكان مشغولً بمتاعب الحياة اليومية .وإنما المقصودُ بالمؤلف ذاتُه العميقة الفاعلة
وعقله الخلّق وهو يُع ِم ُل الفكر واعيا وقد التحم بنصه وبكل الشياء التي اختار مواجهتها التحام الرض بالجذر.
ليس الجاحظ الذي يعنينا هو الرجل المريض بالنقرس والمصاب بالفالج أو الذي ترك حاميه ابن الزيات حين نكبه
الخليفة المتوكل لنه ل يريد أن يكون "ثاني اثنين إذ هما في التنور"! هذا هو أبو عثمان عمرو بن بحر من موالي
كنانة .وأما الجاحظ فهو الفكر الوثّاب والذهن المتقد والناظم المُبدِع الذي ينفث في كتابه قوة ذاكرته وفضولهِ
الموسوعي ودقة ملحظته وسلمة منطقه وقدرته على المحاجة والقناع وتوليد الفكار.
إن قراءة النص الدبي تعني إذن أن ندرك حضور الكاتب في داخله..
ض وجودَ مستوى سرديٍ ظاهرٍ يقابلُ ُه مستوى قائمٌ في الصل فكأنّه جذرٌ
وهذه الطريقةُ في النظ ِر إلى النصّ تفتر ُ
سدَ وتظهرَ على سطح المستوياتِ التالية .وعليه
بنيويٌ عامٌ تنتظم فيه المكانياتُ السرديةُ في حال ِة كمون قبل أن تتج ّ
ففي كلّ نصّ من أنواع الدب التخيلي ،حسب هذه المدرسة ،معنى أوّليّ وعامٌ يستطيع كلّ قارئٍ أن يدركَهُ!...
إنّ مقاربةَ التحليل النفسي للنصوصِ الدبيةِ تنطوي في هذا التيّارِ النقدي العام الذي يبحثُ عن جذرٍ تأويلي....
ونحن نبتعدُ هنا عن القراءةِ الواعيةِ المدرِكةِ وندخل في عالم التلقّي اللواعي .وإذا قبلنا بمبدأ أنّ الرغباتِ الباطنيةَ
الدفين َة هي في نفس الوقتِ قليل ُة العددِ وعامةٌ يشترك بها جميعُ الناس على اختلف طبقاتهم ومشاربهم استطعنا أن
ف أو يتو ّهمُ أنه يكتشفُ خللها بُنى
ح لماذا يميل القارئُ لكتبِ الخيالِ أكثر من غيرِها ...فهو يكتش ُ
نفهمَ وأنْ نشر َ
رغباتهِ الستيهامية الكبرى .والقارئُ ل يفتأُ يبحث دائما عن ذات الرغبات ونفس الشيا ِء في الدب التخَيّلي.
ن كلّ قارئ ،حسب منهج التحليل النفسي يجدُ خلل الحكايةِ التي يقرؤها "حكايةَ عائلتِهِ" ،هو .ذلك أن
وبتعبيرٍ آخر فإ ّ
ج خيالهِ وعلى صورةِ
ل منا ينسجُ لنفسهِ في طفولتهِ حكاي ًة وهميةً يستبدلُ فيها أقاربَه الحقيقيين بأقاربِ من نس ِ
ّكً
ت ول
ح هذه الحكاية الخرافي ِة ويدفنها في أعماق ِه ولكنها ل تمو ُ
نزواتهِ .ويكبحُ الطفلُ فيما بعد عندما يكبرُ من جما ِ
ن كلّ منا
تختفي اختفاءا كاملً .وربما كانَ ميلُنا للرواية الدبية ناشئا عن هذه الحكاية الوهمية النائمة فينا .وإيما ُ
ئ سواءا
الراسخُ بحكايةِ طفولتِهِ "الوهمية" هو التفسيرُ الوحيدُ المقبو ُل للوهمِ الروائي .ذلك الوهم الذي يجعل القار َ
كان قارئا ساذجا أو فطنا يحسبُ أن بإمكانه حقا أنْ يلتقيَ بمصطفى سعيد أو برؤوف علوان في الحياة اليومية وهذا
الوهم هو الذي يجعلنا نحزن أو نفرح لما يصيب البطل الروائي أو على القلّ يجعلنا نعنى بمصيره .وهكذا فإنّ تأثّر
القارئ بحياة الشخصيةِ الورائية يبرهن على ق ّوةِ إيمانه بما كانت تبدعهُ مخيلتُهُ في طفولته .ولقد تلعب هذه المخيلة
والقصص التي تبدعها دورا في تنظيم بنيتهِ الشخصية يبلغ من أهميت ِه أنه يصير الساسَ النفسي لكل إيمان القارئ
بالسرد الروائي .فما إن تنخرط الشخصياتُ الروائيةُ في سياقِ الحبكةِ الروائية حتّى تذكّ َر القارئَ بالحكاية الساسية
ض من
ت ورغم تقدّمهِ في العمرِ بأنّها حقيقةٌ أو بع ٌ
التي تخيلَها صغيرا والتي ما يزال يعتق ُد ورغمَ مرورِ الوق ِ
الحقيقةِ!..
ت الحياةِ
ف عليه بغير علمٍ منّا هو ثواب ُ
إنّ ما نقرؤه قب َل ك ّل شيءٍ والكلماتِ التي نجدها تلقائيا واضحةً وما نتعرّ ُ
ن علينا
ن كا َ
ب فكّ عراه باستخداماتِها اليديولوجيةِ .وبتعبيرٍ آخر إِ ْ
النفسيةِ غيرُ الواعي ِة وقد امتزجت امتزاجا يصعُ ُ
ن علينا أن نعيَ أنّ ما يدركُ ُه القارئُ
ص الدبيّ فإ ّ
أن ل نهملَ دورَ اليديولوجي ِة الهامَ في توجيهِ تأوي ِل القارئِ للن ّ
على غير وعي منه هو تلك الثوابت النفسية ..وعليهِ فإنّه من المشروع تماما العتقاد بأن الليات النفسية التي
تتحكم في البداع والخلق الدبيّين ل تختلفُ كثيرا عن الليات النفسية التي تتح ّكمُ بتلقي النص وتأويلِهِ .وكما أنّ
العملَ الدبيَ يُبدعُ إرضاءً لرغباتِ الفنّان الدفنية وترجم ًة لها فإنّه يُرضي كذلك رغباتنا الدفينةَ نحن القرّاءَ.
ج فينا عندما نقرأ هي صدى أهوائنا الخبيئةِ التي يوقظُها النصّ في أعماقنا .وهذه الحاسيسُ
والمشاعرُ التي تختل ُ
ى لِما توقظُهُ فينا أهواءُ الكاتب.
ت إلّ صد ً
ق أو اشمئزا ٍز وضج ٍر وإلى غير ذلك ليس ْ
ن أو قل ٍ
من حبورٍ أو حز ٍ
ولقد أصابت بعضُ الروايات شهر ًة كبيرةً في أوساطِ القرّاءِ رغم سذاجةِ بنائها الفنّي ورغم تحليلِها الضعيف
والسطحي للشخصيات الروائية بفضل ماكانت تُرضي ِه ـ وما تزا ُل ـ عند قرّائِها .ومن هذا القبيل نجاحُ بعضِ
روايات إحسان عبد القدوس أو محمد عبد الحليم عبد ال ( ،)1970-1920فتعبي ُر هذه الرواياتِ عن ظمأٍ شديدٍ
للحبّ وحاجةٍ قوي ٍة لختلطِ الجنسيْن بعضهما ببعض بأسلوبٍ سردي يدغدغُ ميو َل القارئِ وغريزته كان بل ريبٍ
ب كذلك خلف
خلف تحمّس جمهور من القرّاء لهذا الشكل من التعبير الدبي رغم تبسيطهِ البالغ للمسألةِ .وكان بل ري ٍ
ض الوساطِ الفكريّة له.
استنكارِ بع ِ
ولقد نظّرَ نقّا ٌد لهذا النهج في التأويل الدبي (الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا Dérida.Jوأعوانه) اعتمادا على
ت فيها .فالعلمةُ الصوتية (أصغر وحدة صوتيةٍ في نظام اللغة
اللسنية البنيوية وخصوصا على علمِ الصوا ِ
ف فيه عن بقية العلمات
شئُ نفسَها داخل النظام اللغوي بما تختل ُ
الصوتي كالصوت سين أو غين الخ )...تُن ِ
الصوتية في ذات النظام اللغوي .أي أن العنصرَ الصوتي ل يوجد إل بالعلقة التي تربطه ببقية العناصر الخرى
وهي علقةُ تمايزٍ واختلفٍ ومعارضة .وعليه فليس للغة إذن مركز ثابتٌ يشدّ إليه عناصرَها المكوّنةَ ،ول بدايةَ
لها وليس لها مستوى أصلي ابتدائي ول مكانَ انطلقٍ .وبالتالي يُصبح من المستحيل علينا إن سلّمنا بمقدماتِ
هذه المدرسةِ النقديةِ أن نتخيّل الكتابَ على صور ِة كلّ كامل ويصبح من العبث أن نحاول تثبيت معنى النص
والحاطة فيه .فهذا سراب عابر ل يكاد يتركّب حتى يتفكّك ول يكاد يتراءى حتى يغيب ويضمحل!..
ض كلّ المعارضة نهجَ القراءة المركزية التي يبشر بها أصحاب النزعة
ن هذا النهج في القراءة يناق ُ
إّ
الهرمونوطيقية .فهو ينادي كما نرى بقراءة تفكك النص وتبعثِرهُ .وهو يدعو كذلك إلى تجنب أن تهيمن خطوط
ح هذا المذهب القارئ بأن يعبر النص
المعاني على القارئ فتأخذُ بلبّه وتفرضُ عليه أوهامها التوحيدية .وينص ُ
ل عند أدقّ تفاصيلهِ وأن يتأمل رويدا في كل جزئياته .وهذا البطءُ المقصودُ يُضعفُ مقاومةَ
ببطءٍ وأن يقف طوي ً
ح الكلمات وترمي به في هذه العوالم التي ل
القارئُ أمام المفرداتِ فتج ّر ُه هذه إلى اللجّةِ العميقة الساكنة خلف سط ِ
تكاد تنتهي .فالكلمة المُنخرطة في قواعد النص ونحوه تتشقق أرضها فتبر ُز معانيها الكامنة فيها وشبكات الدللة
التي توحي بها .وهذه الشبكات تش ّد القارئَ بدورها إلى شبكات أخرى وإلى عوالم أخرى كامن ًة خلفها وهكذا
ب ويقوده البابُ
دواليك .كتلك المتاهات التي تصفها سيرة الملك سيف بن ذي يزن حيث يجد البطل نفسه أمام با ٍ
ح على لغزٍ جدي ٍد أو على
ب ينفت ُ
إلى بابٍ آخرَ وسردابٍ في آخرهِ باب جديدٌ يفضي إلى سردابٍ جدي ٍد وكلّ سردا ٍ
ح كلّ أبوابهِ المغلقة.
كونٍ غامضٍ لبد من استكشاف ِه وفت ِ
إنّ القراءة الجابذة مُتسرّعةٌ تبحث عن بنية المعنى الساسي أو ما تراها كبنية المعنى الساسي وتجهلُ خلجاتِ
ت النصّ بظواهره اللغوية .ولكنّ القراءة المتمهلة الدؤوب تُميطُ اللثامَ عنها
المعاني وخفقتها الرقيقةِ وتلمسِ ثنيا ِ
وتضيء من داخلها سبلَها الملتوية.
ونجد أمثل ًة لهذه القراءة التفكيكية عند جمهور مفسّري القرآن الكريم .وسوف نستشهد على زعمنا من تفسير
القرآن للحافظ ابن كثير الشافعيّ الدمشقي (توفي عام .)1372فهو بعد أن يستعرض فيما يُنيف على أربع
صفحات ميادين المعاني التي تقود إليها الحرفُ الثلث ُة الولى من سورة البقرة {ألم} ينتقلُ إلى الية الثانية {ذلك
ب ل ريبَ فيه هدىً للمتقين} .فيقول:
الكتا ُ
"قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب .وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن ُجَبيْر والسّدي ومقاتل بن
هوامش الفصل الرابع:
ـ الزركشي .البرهان في علوم القرآن ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،القاهرة ،دار إحياء الكتب العربية، 1
أربعة أجزاء.1957 ،
ـ صبحي الصالح ،مباحث في علوم القرآن ،بيروت ،دار العلم للمليين ،الطبعة السابعة عشر ،بدون تاريخ ،ص 2
.297-289
ـ عبد ال بن المقفع ،كليلة ودمنة ،تنقيح ونشر الب لويس شيخو اليسوعي ،بيروت ،دار المشرق ،الطبعة 3
الثامنة ،1969 ،ص .59
ـ ابن قتيبة ،الشعر والشعراء ،تحقيق دي غويه ومراجعة محمد يوسف نجم ،وإحسان عباس ،بيروت ،دار 4
الثقافة ،بدون تاريخ ،الجزء الول ،ص .17
ـ طه حسين ،حديث الربعاء ،من المجموعة الكاملة ،الجزء الثاني ،بيروت ،دار الكتاب اللبناني ،الطبعة الثانية، 5
،1974لبيد ص ،59-32طرفة ص ،81-59زهير ص .118-81
ـ ابن كثير ،تفسير القرآن العظيم ،تحقيق حسين بن إبراهيم زهران ،أربعة مجلدات ،بيروت ،دار الكتب العلمية، 6
،1988ج ،1ص .62
ـ ابن قتيبة ،الشعر والشعراء ،سبق ذكره ،ج ،1ص .245 7
8ـ حسن سحلول مشكلة القراءة والتأويل في النص الدبي ،المعرفة ،عدد ،384أيلول ،1995ص
.194-174ونجوى عبد السلم وحسن سحلول معضلة القارئ النظرية المعرفة ،عدد ،402آذار
،1997ص .236-214
-1متعة التخيّل
طلِق
-1-1الوعيُ المُن َ
ماذا يحدث حين يقرأ المرء كتابا؟ ما هي المشاعرُ أو الحاسيس والنطباعات التي تثيرها القراءةُ فينا؟
يبدو أن علقتنا بالنص الدبيّ تؤدّي بنا إلى ما يمكن أن نسمّيه ،وبعد كثير ممن سبقنا من النقّاد ونخص منهم
جوس ( ،)Jaussبالمتعة الجماليّة.
ويتحرّر النسانُ في هذه المتعة الجماليّة مما يكوّن واقع حياته اليوميّة وقيودها بفضل خياله .وينفتح الدراك
المتخيّل في حقيقة المر على إحساس مزدوجٍ من التحرّر والخلق معا .ولكيّ يبلغ الدراك المتخيّل هذه الدرجة فإنه
يجتاز مرحلتين اثنتين فهو يلغي حدود العالم الحقيقيّ ويزيله من الوجود فيتخذ القارئ مساف ًة بينه وبين هذا العالم،
ثم يروح في المرحلة التالية يخلق من رموز المادة التي يتأمّلها ويقرؤها بديلً عنه .وبمعنى آخر ،إنّ القراءة إذن
هي نشاطٌ تحريريّ (يفك القيود التي تربط القارئ إلى محيطه) ونشاط تملئ ٍة يُنشئ في الخيال واعتبارا من رموز
النص المقروء عالما تسم ُه الهواء الشخصيّة.
فالقارئ إذ تأخذه الشفقة بنفيسة إحدى بطلت رائعة نجيب محفوظ بداية ونهاية ( )1949التي يضنيها جسدها كما
تؤرق الحيوان غريزته ،أو يلهو ساخرا من كديات عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني أو تسلب الحيرة لبّه وهو
يحاول أن يقتفي آثار أبطال جبرا إبراهيم جبرا خلل سبل روايته الغربية في البحث عن وليد مسعود فإنه يغفل
بعض الغفلة خلل زمنٍ قد يطول أو يقصر (وهو فترة القراءة) عن هموم حياته الذاتيّة وعن متاعبها.
ولكن انشغاله عن نفسه بمصير الشخصيّات الروائيّة وتمثّله لها يجعلنه يعيش مواقف جديد ًة ل يعرفها من خلل
حياته الحقيقيّة ويطّلع على تجارب جديدة فتتعدلّ نظرته إلى الشياء .ويمكننا أن ننظر إلى إحساس القارئ بانفلته
من ذاته وانفتاحه على تجربة الخر (البطل الروائيّ) على أنّه من قبيل ازدواج الشخصيّة وتماهيها مع الشخصيّة
الروائيّة أو تقمّصها إهابها.
فنحن نحط الرحال خلل القراءة في بلد خياليّة فنقيم فيها حينا من الوقت ونصادف فيها أشخاصا آخرين ونخالطهم
ونندمج معهم ونفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم .أي أننا نرسل أثناء القراءة "ذواتنا الوهميّة" لكتشاف هذه الراضي
البكر وكأنّنا قد طلبنا إليها أن تُعدّ لنا تقريرا عما تراه وتسمعه خلل رحلتها .وذواتنا الوهميّة تلك هي التي تفرح أو
تحزن وليس نحن .وهي التي تُشفق على نفيسة أو تسخر من سذاجة عيسى بن هشام وتتألّم على مصير وليد
مسعود .وأمّا نحن فإننا نكتفي بان نعيرها جسدنا وعواطفنا كما يعير الكاهن أو المشعوذ الوسيط جسده للرواح
العلويّة أو السفليّة كي تنطق من خلله .وكما أن وجود هذه الرواح العلويّة أو السفليّة في الجسد المعار يجعله
خليقا بالخبار بما حدث أو بما سيحدث أو قادرا على فهم ما جرى أو سيجري فإن ذواتنا الوهميّة التي تغوص في
الرواية تشعر بمشاعر وتعيش أحاسيس أكبر وأكثف من تلك التي تشعر بها وتعيشها ذواتنا الحقيقيّة التي جفّفتها
الحداث وأقست قلوبها التجارب .ولطالما أعرب الجاحظ والتوحيديّ عن ثقتهما بدور الدب في تهذيب الخلق .أو
لم يكن ذلك ليمانهما بأن ذواتنا الوهميّة أو الروائيّة ،وبعد عودتها من رحلتها في ملكوت الفنون ورحاب الدب،
ستنصهر من جديد في ذواتنا الحقيقيّة فتغذّيها وتصقلها وتشذبّها؟
القراءة إذن ارتحالٌ وسياح ٌة في كونٍ آخر يُغني التجربة الفردّية ويوسع من آفاقها .والقارئ الذي يغادر أرض
الواقع في بداية الرواية ليلج الكون الروائيّ يرجع إليها في النهاية وقد غذتّه الرواية.
لقد كان الشاعر العربيّ القديم يقول :اغترب تتجدّد .ويسعنا اليوم أن نقول كذلك :اقرأ تتجدّد.
-1-2الدوار
إن واحدةً من أكثر تجارب القراءة إثارةً لضطراب القارئ هي تلك التي تجعله يتقمّص شخصيّةً تختلف عن
شخصيّته وتجعله يتلفّظ بأفكارٍ وآراءٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن أفكاره وآرائه الخاصة وإذا كان هذا التماهي بين ذات
القارئ والشخصيّة الروائيّة يتحقّق في كلٌ النصوص الروائيّة فإنه يتجلّى على نحوٍ قويّ في النصوص التي تستخدم
ضمير المتكلّم .فحين أقرأ مثلً يوميّات نائب في الرياف فإنّي أحلّ في إهاب الراوي الذي يقص الحداث ،ويختلط
صوته خلل فترة من الوقت (زمن القراءة) مع صوتي فل أكاد أميّز أحدهما عن الخر .ويحدث المر ذاته فأتيه عن
نفسي مع راوي موسم الهجرة إلى الشمال أو مع راوي جان بول سارتر في ( )1980-1905الغثيان.)1938( .
يكمن الجواب في الواقعة النفسيّة التالية .إن كلّ ما أفكّر فيه يكوّن جزءا من عالمي الباطنيّ وعنصرا تأسيسيّا من
مجموع العناصر التي تكوّن حقيقتي الولى وتوازني الضروري ،ولكني حين أباشر القراءة فإني أحتضن أفكارا
وآراء تنتمي انتماءً جليّا إلى عالمٍ داخليّ آخر غريبٍ عن عالمي الخاص .ولكن هذه الفكار الغريبة والمشاعر
ن ول رضىً مني كما لو أنّني لست موجودا بعد .وهذا أمرٌ ل يطاق
الجنبيّة تشغل ذهني وتمل عالمي عن غير إذ ٍ
ويصعب قبوله خصوصا إذا أخذنا بعين العتبار أنّه لبد لكلّ فكرةٍ من كائن يفكر بها .وهذا يعني أن تلك الفكار
الغريبة عنّي والتي تسكنني ثم تنمو وتتطوّر لبدّ أن يكون لها كائنٌ أجنبيّ يحملها في باطني ويقيم في داخلي أنا
وأجهله ك ّل الجهل .فل جرم أن يكون استبطان الخر هذا يقلقنا بقدر ما يسحرنا .فأن نكون من ل نكون ولو لزمنٍ
قصير أمرٌ تهتزّ له دعائم شخصيّتنا .والقارئ الذي يتحوّل إلى وسيلةٍ تلجأ إليها تجربةٌ غريب ٌة عليه كي تتجسّد أو
يصير شاشةً تنعكس عليها حياةٌ أخرى غير حياته تختلط عليه ملمح هويّته الخاصة وتختلط عليه السباب ول يعود
يعرف من هو على وجه اليقين.
أن نقرأ هذا يعني أن تصبح حدود شخصيّتنا مباحةً للخرين فتجتاحها التيّارات والنطباعات والفكار الكامنة في
الكتاب الذي نأخذ بين أيدينا .وتنطلق من قمقمها كجنّي علء الدين وتتجسّد في عالمنا الداخليّ منذ أن نشرع في
القراءة.
فأن نقرأ كتاب اليّام ( )1929لطه حسين هو أن نعيش حقّا ما عاشه الصبيّ الضرير في قريته واللم الماحق الذي
أخذته بتلبيبه حين ماتت أخته الصبيّة لهمال أهلها الثم وأن نجعل الشارات أو الصرخات الغاضبة التي تصدر عن
ب تصدر عنّا نحن الذين
الكاتب الذي يرجع وقد بلغ مبلغ الرجال إلى موطن طفولته الشقيّة إشاراتٍ وصرخات غض ٍ
بلغنا مبلغ الرجال ونرجع إلى موطن طفولتنا الشقيّة.
إنّ انهيار دعائم وجودنا هذا انهيارا مؤقّتا هو ما يشرح ول ريب ما اعتاد بعضهم على وصف القراءة بأنها حيرةٌ
أو دوار يضطرب فيه النسان بين القلق والغبطة .ذلك أنّ القراءة تستبدل ما نحن عليه عادةً أي أجزاءٌ من خطاباتٍ
شتّى تصدر عن جهاتِ شتّى تجعل منا كائنات ممزّقةً مليئةً بالتناقضات وبالعواطف المتباينة بكائنٍ مسحورٍ ،كائنٍ
قارئٍ فذّ ليس ينطبق كلّ النطباق على حقيقتنا المُتشعّبة ولكنه ليس بكائنٍ آخر.
ولكن اندماج القارئ في عالم النصّ قد يرتدي أشكالً مختلف ًة غاية الختلف .ويرتبط هذا إلى درجةٍ بعيدةٍ بالمسافة
ص فإنّ القراءة يمكن
التاريخيّة التي تفصل بين القارئ وبين عهد النصّ المقروء .فحين يكون القارئ معاصرا للن ّ
لها أن تجدّد من أحاسيسه وربما تجعله يغيّر من طريقة رؤيته للكون وإدراكه للشياء.
ص الدبيّ لمعطيات العالم وبتغييره لها .إنّ رواية عبد الرحمن منيف ( )1933شرق
إنّنا نفسّرها بتحوير الن ّ
المتوسّط ( )1975تجعل من القمع البوليسيّ نابضا سرديّا أساسيّا في أحداثها التي تجري في دولةٍ ما من دول
الشرق الوسط العربيّة .وتعرض الرواية وقائعها وتصف رعب حامد من خلل حامد نفسه .وليس بمقدور القارئ
العربيّ الذي يعي الحداث من خلل ضمير حامد المقهور إلّ أن يتأمّل في طبيعة هذه النظمة السياسيّة الحديثة
ي أو إلى قسمه الفريقيّ.
والمخيفة سواء أكان هذا القارئ ينتمي إلى هذا القسم من الوطن العرب ّ
وتقود رواية غسان كنفاني ( )1972-1936رجالٌ في الشمس ( )1963مجموعة من العمّال الفلسطينيين الباحثين
عن سراب الثروة في إحدى الدول العربيّة المنتجة للنفط أو عن لقمة عيش فيها إلى الموت اختناقا في صهريج
حوّلته شمس الصحراء العربيّة إلى جحي ٍم ذي عجلت .وهذه الرواية تقود قارئها على نحوٍ منطقيّ إلى أن يتساءل
عن هذا الجانب من وضع اللجئين الفلسطينيين وإلى إضافته كبعدٍ جديدٍ في الكارثة الفلسطينيّة.
وكذلك رواية الفرنسيّ جان بول سارتر الغثيان تدفع قارئها إلى التساؤل عن معنى الوجود عامة وعن معنى وجوده
الشخصيّ على وجه الخصوص.
إن إيزير يصف سلوك القارئ هذا بأنه سلوك مشاركةٍ ومساهمةٍ.
وحين تنهض مسافةٌ زمنيّةٌ كبيرةٌ بين عهد القارئ وأيام النصّ فإن أوّل ما يسعى إليه القارئ هو أن يعيد بناء
ظروف كتابة النص التاريخيّة .فحين يقرأ أحدنا اليوم رواية معروف الرناؤوط سيد قريش فإنّه يحاول خصوصا أن
ي الذي كان يحيط بالكاتب الشاميّ حين كتب روايته في الثلث الول من القرن العشرين .وهذا
ينشئ الفق الثقاف ّ
المحيط الفكري يجعلنا قادرين على إدراك تصوّر معروف الرناؤوط لمشكلة بعث المة العربيّة .وما تكشف عنه
قراءتنا للرواية هو ما كان عليه وعي مثقّفٍ عربيّ عاش العقود الخيرة لهيمنة الدولة العثمانيّة على البلد
السوريّة ثم هزيمتها أمام الثورة العربيّة وعاصر دخول استعمارٍ جديدٍ .وما كان يتخيّله من وسائل لبعث المّة
العربيّة.
إنّ تجربة معروف الرناؤوط هذه قد فرضت عليه شكل معالجته الروائيّة لتجربة بعث المة العربيّة الوّل أيام
الرسول العربيّ.
وتصبح الظاهرة أوضح حين نقرأ نصوصا قديمةً أو متأخّرةً .فكتاب العتبار لسامة بن منقذ ( )1188-1095يرغم
القارئ العربيّ المعاصر على تعديل رؤيته الشخصيّة للكون بقدر ما ترغمه على إعادة بناء الفق الثقافي الذي يسبغ
ص الذي أمله المير السوري على كاتبه مقتبسا بنية كليلة ودمنة يضع القارئ
على النص معناه ولحمته .فهذا الن ّ
أمام حياةٍ سياسيّةٍ عاصفة في قرن يملؤه الصخب والعنف سقطت فيه القدس أمام فرسان الحملة الصليبيّة الولى
وبنى هؤلء فيه دولً وممالك على الساحل السوري وبزغ فيه نجم زنكي فأوقع بالصليبيّين أولى هزائمهم وطردهم
من الرها في عام ( )1144وكانوا قد أقاموا فيها إمار ًة منذ ( )1097ثم بنى فيه ابنه نور الدين دولته بعد أن دخل
دمشق عام ( )1154وظهر فيه أخيرا صلح الدين بن أيوب فأنهى دولة الفاطميّين في القاهرة ( )1171وأعاد مصر
لبني العبّاس قبل أن يشمر عن ساعديه لطرد الصليبيّين من القدس عام .1187
وعليه فإنّ هناك مشاركةٌ ومساهمةٌ حين يتجاوز القارئ وضعه الضيّق والمحصور في حياته اليوميّة .وهناك تأ ّملٌ
حين يبلغ رؤية للكون ليست من عالمه الثقافي ول من أفقه المألوف.
-2متعة اللعب
"-2-1البليينج" و"الجيم".
لقد رأينا فيما سبق أن ميشيل بيكار يقترح أن نفهم تلقّي النصوص الدبيّة حسب أنموذج اللعب .وتجمع القراءة إذا
أخذنا بهذا القول بين صنفين من صنوف التسلية مختلفين كلّ الختلف.
ويسمّي بيكار الصنف الول ( )Playingويسمّي الصنف الثاني ( .)Gameوتشير المفردة الولى إلى أنواعٍ من
اللعب تقترح على اللعبين أدوارا يلعبونها أو يتظاهرون بلعبها .وهي تقوم بشكل أساسيّ على تماهي اللعب مع
صورةٍ أو شخصيّةٍ وهميّةٍ .ومن هذا القبيل لعبة "الحرامي والشرطي" وأمّا المفردة الثانية فهي تشير إلى ألعابٍ
تحتاج معرف ًة وذكاءً وحسا بالستراتيجيّة كتلك الكفاءات التي يحتاجها لعب رقعة الشطرنج على سبيل المثال.
وبينما تسمح طبيعة لعب الجيم باتخاذ مسافة بين الفرد والموضوع أو بين اللعب واللعبة فإن ألعاب البليينج تضرب
جذورها في خيال القارئ وتوهّمه.
وعليه فإن القراءة الدبيّة هي لعبة أدوارٍ (بليينج) ولعبة قواعد (جيم) معا .ومن المستحيل أن نقرأ رواي ًة دون أن
نتماهى مع شخصيّاتها وأن نتحد بها .ولكنه من المستحيل كذلك أن نقرأها دون أن نلتزم بعددٍ من القواعد التفاقيّة
وبمعجم الرموز الصطلحية وعقود القراءة.
-2-2تورّطٌ ومراقبةٌ.
لقد رأينا فيما سبق أن القارئ مسوقٌ باستمرار إلى جدل ّيةٍ دائمة بين استباق الحداث وبين الرجوع إلى الوراء حين
يبني تلقّيه للنص الدبيّ .فعليه أن يبدأ بتخيّل أشكالٍ يمل بها فراغات النص ثم ينبغي عليه أن يغيّر منها أو أن
يطرحها بعيدا إذا ظهر له فيما بعد أنها ل تتفق مع بقيّة الحكاية.
ينبغي علينا إذن أن نميّز بين مسارين أو بين عمليّتين .فإذ يمل القارئ فراغات النص بتصوّراتٍ تنبع من تجربته
الفرديّة الخاصّة ومن أوهامه الذاتيّة فإنه ينخرط بكليّته في النص يتبنّاه ويتورّط فيه .ولكنه يرغم على أن يبتعد عن
تصوّراته نفسها حين يعارضها النص وأن يهمل توقّعاته حين تكذّبها بقية أحداث الرواية .وعندها يستطيع أن يراقب
ذاته وهي تشارك في فعل القراءة.
ولنضرب على قولنا هذا مثالً من رواية كوكب القردة لكاتبها بيير بول .وتبدأ الحكاية حين يعثر جين وفيليس وهما
يقومان بنزهة في الفضاء على زجاجةٍ مغلقةٍ تحتوي على قرطاسٍ .ويقرآن في القرطاس قصة رجلٍ حطّ عقيب
رحلةٍ قام بها في رحاب الكون فوق كوكبٍ تحكمه قرد ٌة فطنةٌ .وبما أن الكاتب ل يصف لنا شخصيْ جين وفيليس ول
ملمحهما فإنّ القارئ يمل هذا الفراغ القائم في النص الروائي بتصوّرات من ثقافته العامة ومن ردود فعله
ن هاتين
التلقائيّة .ويتخيّل أن جين وفيليس زوجان شابان .ولكن الكاتب يكشف للقارئ في نهاية القصة أ ّ
الشخصيّتين هما في الحقيقة قردان وليسا كائنين بشريّين! وهنا يجد القارئ نفسه مرغما على تعديل تصوّره الول.
وإذ يفعل فإنّه ل يستطيع إلّ أن يعمل النظر بميله التلقائي إلى إسباغ الصفات البشريّة على ما يتخيّله والذي يفرض
عليه نحوا من تصوّره للكون.
لقد اضطّر قارئنا هنا إلى أن يتورّط شخصيّا في القراءة قبل أن يجد نفسه مرغما على إعادة النظر في ردّة فعله
الولى وعلى وضع نفسه موضع التساؤل .إن تفحّص النسان لنفسه هذا ونقده لذاته يضفيان على القراءة أهم ّيةً
بالغةً .وللتناقضات التي أبدعها القارئ حين تخيّل تصوّراته أهميتها الخاصة بها .فهي ترغمه على اكتشاف نقص
هذه التصوّرات التي تخيّلها بنفسه ،وبالتالي على أن يتّخذ مسافة بينه وبين النص الذي يساهم فيه فيصبح هو
نفسه موضع المراقبة أو إنه يرى نفسه على القل متورّطا في النص .إنّ قدرة القارئ على رؤية نفسه منخرطا في
مسار يؤثّر فيه لحظةٌ أساسيّةٌ في تجربته الجماليّة .واستبعاد الذات ومهما كان الشكل الذي يرتديه تجربةٌ تخصب
الذات أبدا.
وتدفع بعض النصوص الدبيّة ككتابات المريكيّ ويليام فوكنر ( )1962-1897بهذا السلوب الدبيّ حتى نهايته
القصوى ،ولقد لجأ نجيب محفوظ إلى هذه الطريقة على القل م ّرةً واحدةً في روايته ميرامار ( .)1967فهو يقصّ
علينا حكايته من خلل عامر وجدي وحسني علّم ومنصور باهي وسرحان البحيري ..وهو إذ يغيّر باستمرار من
زاوية السرد يمنع القارئ من تبنّي منظورٍ واحدٍ عا ٍم وشاملٍ يلمّ بكلّ أطراف النص .ويحرمه من رؤية مركزيّةٍ
تجعل في مقدوره أن يوحّد ضمن منحى سرديّ واضحٍ أفكار شخصيّات الرواية ومناجاتها والتي تتقاطع وتتشابك
طيلة النص.
ك رموز النص فإنّه مضط ٌر لن يتساءل حول صحة طريقته بمقاربة النص .وإذ
وإذ يفشل القارئ باستمرار في ف ّ
يضطر باستمرار إلى استعادة تصوّراته الولى وتعديلها وأحيانا إلى التخلّي عنها فإنه مرغمٌ في نفس الوقت على أن
يقرأ وعلى أن يراقب نفسه وهو يقرأ!
ن هذا النوسان الدائم بين النخراط والتورّط تارةً والبتعاد وإعمال النظرة تار ًة أخرى هو ما يجعل من القراءة
إّ
واقعةً نعيشها.
-3سياحةٌ داخل الزمن
إنّ القراءة تجعلنا مسافرين داخل الزمن .وليست جملتنا هذه من باب الستعارة إلّ قليلً .فحين نفتح صفحات رواية
فإننا نق ّر ضمنا برضانا بأن نتناسى لفترةٍ من الزمن الواقع الذي يحيط بنا كي نصل من جديدٍ الجسور التي تربط
بيننا وبين طفولةٍ تمل الحكايات والقصص كلّ زواياها .وإذ تنّبه القراءة من نومها النا المتخيّلة ،وهذه تكون عادةً
في حالة سباتٍ عند الراشد المستيقظ .فإنها تنقل القارئ من جديد إلى الماضي البعيد.
ما الذي يجعل هذا الجزء الكامن فينا والذي ورثناه عن طفولتنا ينهض من غفلته بهذه السهولة؟.
إن الجواب يكمن في التشابه القائم بين حالة القراءة وحالة النوم .فوضع المرء الذي يقرأ قريبٌ ،من ناحية الطاقة
النفسانيّة من وضع المرء الذي يحلم .والقراءة كالنوم تقوم على سكونٍ نسبيّ وعلى يقظةٍ محدودةٍ (معدومةٍ عند
النائم) وعلى تعطيل دور الفاعل اليجابي لصالح دور المتلقّي السلبي.
وعليه فإن القارئ وقد وضع على هذا النحو في حالةٍ اقتصاد للطاقة شبيهةٍ بحالة اقتصاد الطاقة عند الحالم يترك
مؤثّراته النفسانيّة تأخذ طريق الرجعية أو الرتداد إلى حالة سلوك سابقة.
ولقد صاغ مفهوم الرتداد هذا كريستيان ميتز Christian Metzفي كتابه Le Signifiant imaginaireالدال
الخيالي .ويذهب كريستيان ميتز من التمييز بين ما يدرك في حالة اليقظة وبين ما يتصوّر في حالة الحلم.
تَ ِردُ المؤثّراتُ النفسانيّة في حالة الشخص المستيقظ الفعّال من الخارج (أي من العالم المحيط) نحو الداخل (أي
الجهاز النفساني حيث تنطبع هذه المؤثّرات) .ويسمّي الكاتب هذا المسار أو هذا المنحى الذي تسلكه المؤثّرات
بالمنحى أو المسار التقدّمي.
والمر على نقيض ذلك عند الشخص الحالم السلبيّ .فالمؤثّرات تصدر من ل وعي الشخص (وهي كائن ٌة ومنذ
البداية داخل الجهاز النفسانيّ) وتوهم بأنّها خارجيّةٌ عن طريق إنتاجها لصورٍ ذهنيّة .ويسمّي ميتز هذا المسار
التراجعي أو الرتدادي.
ي إلى التصوّرات) هو الذي يجعل ممكنا ظهور الهلوسة والهذيان.
والمسار التراجعيّ هذا (من الداخل النفسان ّ
وهذا الرتداد ل يبلغ بطبيعة الحال في القراءة الدرجة التي يبلغها في حالة الحلم .وكما أن موج الرتداد يصطدم
عند الشخص الذي ينظر إلى فيلم سينمائيّ بماديّة صور الفيلم وصوته فإن موج الرتداد عند القارئ يبقى مقيّدا
بحامل الهلوسة أي بالكتاب نفسه.
ويمكننا كذلك أن نضيف ملحظةً أخرى .فبما أن الستار اللغويّ هو أقلّ كثاف ًة منه من شاشة السينما فإن المسار
التراجعي عند القارئ يصل إلى أبعد مما يصل إليه عند مشاهد السينما .فتصورّات القارئ الوهمية تتعامل مع عنصرٍ
واقعيّ هو أقل قسرا بكثيرٍ في القراءة منه في السينما .وهذا ما يفسّر تلك الصداقة الحميمة والنادرة (والتي هي
بإمكان كلّ قارئِ) التي تشدّ الشخص الذي يقرأ إلى الشخصية الروائيّة التي يقرأ ما يقع لها.
ويلعب خيال القارئ الشخصيّ في التوهّم دورا يجعلنا نستطيع الحديث عن حضورٍ للشخصيّة الروائيّة داخل شخص
القارئ .وليست تستطيع أي صورةٍ سينمائيّة أبدا مهما بلغت من القوّة أن تعطينا هذا الشعور بالتوحّد الذي نجده
ص القارئ والشخصيّة الروائيّة التي يتصوّرها .وهذا يجعلنا بدوره نفهم الحساس بالخيبة التي
باستمرار بين شخ ٍ
تغمرنا عادةً حين نشاهد على شاشة السينما أو التلفزيون فيلما اقتبس من رواية قرأناها .وذلك أن الشخصيّة
الروائيّة التي تبلغ درجة التواجد بفضل تصوّرات القارئ التخيّليّة تبدو على الشاشة وكأنه كائن مطلقٌ مستقلّ بذاته
يأتي إلى الوجود دون أن يساهم فيه القارئ أبدا .وذلك أيضا لن الصلة الحميمة التي كانت تشدّ القارئ إلى
المخلوقات الروائيّة قد قطعت تماما في العمليّة السينمائيّة.
وما يفقده القارئ حين تنقل الرواية إلى السينما هو قدرة الخلق والبداع الممتعة .فهو حين يقرأ يلبس الكلمات ثيابا
زاهيةً حسب سبل متعته الشخصيّة المتفرّدة والمتميّزة عن متع الخرين .وهو حين يرى ذات الرواية منقولةً إلى
السينما فإنه يتشوّق لن يجد من جديدٍ متعته الولى بل وينبغي لنا أن نقول إنه يتشوّق لن يرى من جديدٍ ما كانت
متعته قد كست به شخصيّات الرواية .وهو يخضع إذ ذاك لقوة التكرار القاهرة والتي تكمن في قلب المتعة ذاتها
فتدفع الطفل مثلً إلى أن يلعب باستمرارٍ نفس اللعبة وتسوق المراهق إلى أن يستمع دائما إلى نفس الشريط
ط آخر فيرتوي منه حتى الثمالة قبل أن يتركه إلى عقار آخر .ولكن
الموسيقيّ قبل أن تملّه نفسه فينتقل إلى شري ٍ
قارئ الرواية ل يرى على الشاشة أمامه "فيلمه" هو! .إن الصور التي تتوالى أمام ناظريه في الفيلم "الحقيقي" هي
ص آخر ورغبات شخصٍ آخر وصور تنبع متعة شخصٍ آخر .وهو ما يندر بنا أن نجده أمرا سائغا.
توهّمات شخ ٍ
من منّا ،غير مخرج فيلم اللص والكلب ،كان تخيّل سعيد مهران على صورة شكري سرحان أو كان تمثّل نور على
ف يحيى شاهين وقد أخذ مكان أحمد عبد الجوّاد تلك الشخصيّة
ملمح شادية؟ من قارئٌ للثلثيّة يرى دون أس ٍ
الفريدة والعصيّة على التمثيل والتي كان قد تخيّلها حسب حياته الخاصة الفريدة وحسب ماضيه الفريد والخاص به؟
ن (حتى ولو كان وجه شكري سرحان أو سعاد حسني!) على الشخصيِة الروائيّة يسلبنا حقّنا
إنّ فرض وجهٍ معيّ ٍ
ونصيبنا منها.
"-3-2الطفل الذي يقرأ فينا".
إنّ الطفل الذي يقرأ فينا إذن هو الذي يجعلنا نؤمن بالقصص المتخيّلة ونصدّقها .إنّه زمنٌ كانت تسود فيه الخرافة
ولم نكن نميّز فيه بين ماهو كائنٌ وبين ما كان يحلو لنا أن يكون! .من منّا لم يؤمن بالغول؟ من منّا لم يؤمن بعنترة
بن شدّاد؟
ن هذا القبول الجذل بالوهم ل يختفي أبدا اختفا ًء كاملً .وإنّ ما كنّا نؤمن به أطفالً يعود فينشط في سنّ الرّشد إذا
إّ
توفّرت لذلك بعض الظروف (منها ظرف القراءة) وهو يكمن خلف ما نؤمن به كبارا .ما إن نفتح رواي ًة حتى يرجع
الطفل الذي فينا ثانيةً ويظهر ك ّرةً أخرى .على هذه الدرجة من القوّة أو تلك.
وهذا الطفل الكامن فينا يص ّر ويتشبّث .إنّه هناك يقرأ ويلهو متحرّرا من قواعد المنطق الضيّق وعابثا بمقولت
الزمان والمكان .واستسلم القارئ المنافق لوهم القراءة يقوم على إيمان الطفل الساذج والعميق بعالم الخيال.
وبكلماتٍ أخرى إنّ القارئ البالغ يستخدم الطفل الكامن فيه كعذرٍ ليؤمن خلل فترة القراءة بما يرفضه منطقه كراشدٍ
في مكانٍ آخر .وهكذا نجد الطفل وسيطا أو شاهدا أو بطلً يختبئ خلفه القارئ الراشد في كثيرٍ من القصص الخياليّة
وخصوصا منها الرواية القائمة على المبالغة أو الحداث الخارقة للعادة أو البطولت الفذّة كسيرة الملك سيف بن
ذي يزن أو سيرة فيروز شاه أو في الروايات البوليسيّة.
أن نقرأ هو إذن أن نعيد الصلة ك ّرةً أخرى مع ما كنا نؤمن به صغارا .وبكلمةٍ أخرى مع ما كنّا نشعر به .والقراءة
التي طالما فتحت لخيالنا في الماضي عوالم ل حدود لها تبعث ذلك الماضي من جدي ٍد كلّما شاقنا الحنين إليه وفتحنا
ن أوّل ما قرأناه هو الرحم الذي تخرج منه قراءاتنا اللحقة.
رواي ًة نقرؤها .وبهذا المعنى فإ ّ
ولنجب وبدون تردّد :عمر الطفولة! .إنّنا نقرأ كأطفا ٍل مهما كان عمرنا حسب البطاقة الشخصيّة وعلى ضوء أوّل
ن أوّل حرف في القراءة هو الرغبة الحارقة .والقراءة شهوةٌ طفوليّةٌ.
م ّرةٍ قرأنا بها أطفالً ومن خلل هاجسها .إ ّ
وحين نراود النصّ بالنظر أو بالقلم فإنّنا نرتاد أرض جنةٍ سلفت ونضارةً مضت ووثبة خيالٍ جموحٍ عقل في مطلع
حياتنا الواعية.
إنّ باستطاعتنا أن نقول ،وبشكل أكثر دقّةٍ ،إنّ القراءة ترجعنا إلى ماضينا بكيفيتين متميّزتين كما برهن على ذلك
ميشيل بيكر Michel Picardفي كتابه قراءة الوقت.Lire Le temps .
نستطيع أن نلخّص الكيّفيّة الولى بقولنا :إنّ اتحادنا مع بعض المواقف الروائيّة يجعلنا نعيش من جديد القصص
الوهميّة التي أنشأناها في طفولتنا.
وأمّا الكيّفيّة الثانية فهي أنّ بعض تفاصيل النصّ المقروء توقظ فينا صورا باطنيّ ًة دفين ًة وهي ما يسمّى "بشاشة
الذكرى".
وسوف ندرس الكيّفيّة الولى التي ترتبط بأثر الرواية في الفصل السادس الذي نخصّصه لهذا الموضوع وسوف
نكتفي هنا بأن نشير على عجل إلى النقطة الثانية.
إنّ شأننا ،حين نقرأ نصّا ،بتخيّل أداةٍ ما أو بتصوّر مشهد ما أو بتمثّل شخصيّة روائيّةٍ ما يبعث فينا ومن باطننا
صورا كانت خبيئةً يصعب علينا في كثي ٍر من الحيان أن نقول على وجه ال ّدقّة من أين أتتنا .فبندقيّة محمّد المسعود
في (صخرة الجولن) ووجه مصطفى سعيد أو ليالي لندن في (موسم الهجرة إلى الشمال) هي تصوّراتٌ تختلف من
قارئٍ لخر وأحيانا عند نفس القارئ من عمرٍ لخر رغم وحدة التفاصيل التي تقترحها الروايتان على القرّاء.
"أغلق السيّد أحمد عبد الجوّاد باب البيت وراءه ،ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت في خطواتٍ
متراخيةٍ ،وطرف عصاه ينغرز في الرض التربة كلّما توكأ عليها في مشيته المتثائبة" .من أين تأتينا الصورة التي
نكسو بها شخصيّة أحمد عبد الجواد؟ من أين تأتينا صورة الفناء الغارق تحت ضوء النجوم الباهت؟ .كيف هي
"الخطوات المتراخية"؟ كيف نرى "المشية المتثائبة"؟.
-1-1التأثير والمتاع
إن كانت القراءة تجرب ًة فذلك لن النصّ يؤثّر في القارئ بطريقةٍ أو بأخرى .ونحن نستطيع بشكلٍ عامٍ أن نميّز بين
نوعين من النصوص الدبيّة .فبعضها تعمل عملها في القارئ على نحوٍ ملموس فتعزّز من قناعاته الفكريّة السابقة
ومن سلوكه الواقعي أو تعدّل منها تعديلً ملموسا .وتكتفي نصوصٌ أدبيّةٌ أخرى بالترويح عنه وإدخال السرور على
قلبه .وينبغي علينا ألّ نهمل نصوصا أدب ّيةً كثيرةً نصنّفها للوهلة الولى حسب صنفها أو حسب عنوانها أو حسب ما
يحيط بها في أحد هاتين المجموعتين بينما هي تنتمي حقا حسب مراميها البعيدة إلى المجموعة الثانية.
فلقد تزعم بعض الكتابات أنها تعمل على تسلية قارئها وأن غايتها اللهو والعبث بينما هي تسعى في واقع المر إلى
دفعه لتخاذ موقفٍ فكريّ معيّنٍ أو لقناعه بوجهة نظر محدّدة.
ولنأخذ على سبيل المثال واحدةً من مقامات بديع الزمان الهمذاني .هي المقامة القريضيّة .فنحن نعرف أن مقامات
الهمذاني حكاياتٌ قصيرةٌ ،مختلفة المواضيع لطيفةٌ طريفةٌ ومسجوعةٌ أبدعها خياله .وهي قليلة الحظّ من الفنّ
القصصي عامّ ًة لن غرض البديع فيها كان التفنّن في النشاء وإيراد الحكم والمثال وتصوير شخصيّة بطلها وحيله
الغريبة وأساليبه العجيبة في التسوّل والكدية .ولذلك أسماها" :مقامات الكدية".
على أن ضعف الفنّ القصصي فيها وغلبة البراعة والسخرية وخفة الروح عليها لم يمنع أن يكون في بعضها
كالمقامة القريضية مثلً غاي ًة أخرى.
ويسلك الكاتب في مقامتنا هذه سلوكه في بقيّة مقاماته ،ويلتزم فيها كلّ اللتزام بالقواعد التي استنّها في هذا الفن
الفريد .فهناك الراوي (عيسى بن هشام) والقوم من حوله وهناك البلد البعيد (خوارزم) .وهناك اللقاء مع الشخص
الغريب (أبو الفتح السكندري) الذي يثير فضول الجماعة ويقود حبل الحكاية إلى نهايتها المألوفة .وهناك كما في
بقيّة المقامات الجملة القصيرة النيقة والمسجوعة .وهناك التناصّ الذي يلجأ إليه فن المقامة على نحوٍ شديدٍ .فهناك
حكّكُ) وآخر بجملة تذكّر بالمتنّبي (وأسمعت
جذَ ْيلُها المُ َ
ع ْذيْقُها المُ َرحّبُ و ُ
تناصٌ بقول ينسب للحباب بن المنذر (أنا ُ
كلماتي من به صمم).-1
يسعى الهمذاني إذن في هذه المقامة من خلل لجوئه إلى مجموع حيل فنّ المقامة وحسب ظاهر المور إلى ما
يسعى إليه أيضا في بقيّة المقامات من إمتاع القارئ وتسليته.
ولكن سرعان ما يبدو للعين اليقظة أن الكاتب يريد بالضافة إلى ذلك أن يثير اهتمام القارئ بمسألة كانت تشغل
أوساط أهل الدب وأنّه يعملُ على إقناعه بوجهة نظر معيّنةٍ.
ن فلنا أشعر من فلنٍ إطلقا واحدا من أسس النقد .وكانت المفاضلة بين
لقد كانت المُفاضلة بين الشعراء والقول بأ ّ
القدماء (شعراء دولة بني أميّة وما قبلها) وبين المتأخّرين (شعراء دولة بني العبّاس وما وليها) تمل المجالس
الدبيّة في حضرة الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عبّاد الطالقاني ( )995-938التي كان يرتادها أبو الفضل أحمد
بن الحسين .فقام الخلف بين الدباء وصيارف الكلم :أيّ الفريقين خير منزلةٍ في الدب وأحسن مقاما فيه؟ وأدلى
فيه الهمذاني بدلوه مع دلء الخرين وخصوصا أبي بكر الخوارزمي (.)993-935
ويعلن أبو الفتح السكندري في المقامة القريضيّة ناطقا ولشك بلسان الكاتب بأن المفاضلة بين كلّ شاعرين عسرةٌ
ف هو الذعان لحدهما بنوعٍ وللخر بفنّ .كأن نقول
ل يتهجّم عليها ول تجوز لناقدٍ .وأن خير ما يذكره حكمٌ منص ٌ
"الفرزدق أمتن صخرا وأكثر فخرا وجرير أوجع هجوا وأشرف يوما
إلخ."...
وأمّا القول الفصل فيما شجر بين النقّاد بخصوص القدماء والمحدثين فبديع الزمان الهمذاني يقتدي بما ذكره أبو
العبّاس المبرّد ( )898-826في الكامل ويحاول أن يقنع القارئ بأنه "ليس لقدم العهد يفضّل القائل ،ول لحدثان العهد
يهتضم المصيب ،ولكن يعطى لكلّ ذي حقّ حقّه" .وهاهو أبو الفتح يعلن في مقامة تسعى إلى التسلية أمرا على غاية
الجد" :المتقدّمون أشرف لفظا ،وأكثر من المعاني حظّا ،والمتأخّرون ألطف صنعا ،وأرقّ نسجا".
وبالنظر إلى مرامي النصّ وطموحه بالتأثير بالقارئ فالقراءة ليست أبدا نشاطا محايدا.
-1-2الجمعي والفردي.
هناك طريقتان لدراك الثار الملموسة التي يتركها عملٌ أدبيّ ما .فنحن نستطيع أن ندرس القراءة من خلل نتائجها
العامّة على مجتمع ما .أو من خلل تأثيرها الخاص على قارئ محدد .أي أنّنا ننظر إليها في الحالة الولى من خلل
علقتها مع جمهورٍ من القرّاء بينما ننظر إليها في الحالة الثانية من خلل علقتها مع فردٍ واحدٍ.
ويرى جوس Jaussأن تأثير القراءة قد يتخذ أشكالً ثلث ًة متميّزةً .فهي قد تنقل النموذج المعياري كما ورثه
المجتمع من تاريخه .وقد تبدع أنموذجا معياريّا جديدا تقترحه على مجتمعها .وهي قد تحدث قطيع ًة في النموذج
السائد وسط هذه الجماعة النسانيّة.
ويمكن للعمل الدبيّ أن يعلن شرعيّة القيم المهيمنة في مجتمعٍ ما ويعمل على نقلها كما هي وهذه حالة الدب
الرسميّ أو حالة الدب الذي يلجأ إلى النماذج الجاهزة .وقد يطالب الكتاب بقيمٍ جديدةٍ مستحدثةٍ ويعمل على إضفاء
ي أو الدب المناضل .وقد يقطع العمل الدبيّ صلته بالقيم التقليديّة بأن
الشرعيّة عليها وهذه حالة الدب التعليم ّ
يجدّد أفق انتظار القارئ وبأن يغيّر من تطلّعاته..
ع أو ل القيم
وباستثناء حالة الكتب الدبيّة الرسميّة أو القصص الجاهزة فإنّه يكفي أن يحمل نصّ ما على نحوٍ وا ٍ
السائدة في عصره كي يلعب دورا اجتماعيّا في نقل النماذج المعياريّة في هذا المجتمع وبالتالي في تعزيزها وتدعيم
أركانها.
فإذ يمجّد كتاب كليلة ودمنة من دور السلطان (السد في غابة الحيوان) ويدعو إلى المتثال له والخضوع له حفظا
على أمن الجماعة وحسن سيرها وهو إذ ينادي باحترام الوالدين والروابط الجتماعية وبضرورة احترام النظام القائم
على معايبه لنه خير من الفوضى وشرورها فإن الكتاب ينقل القيم التي قام عليها المجتمع العربيّ السلميّ أيّام
دولة بني العبّاس .وعليه فإن قيمة الكتاب في البصرة في القرن الثامن الميلديّ كانت أبعد بكثير من حياة المربد
الدبيّة ومهاجاة شعرائه.
ن العمل الدبيّ يمكن له عن طريق القراءة أن يفتي بشرعيّة قيمٍ جديدةٍ بدلً من الكتفاء بضمان القيم
ومع ذلك فإ ّ
المسيطرة .ول تكتفي القراءة عندها بنقل النماذج المعياريّة ولكنها تخلق مراجع جديدة .وهذا ما نراه في مجموعة
من الروايات العربية التي ظهرت في نهاية العقد السادس ومطلع السابع .كرواية المصري صنع ال إبراهيم
(القاهرة )1937تلك الرائحة ( )1966والسوري هاني الراهب (اللذقية )1939شرخٌ في تاريخ طويل ()1970
والكويتي إسماعيل فهد إسماعيل كانت السماء زرقاء ( )1971والردني عبد الرحمن منيف الشجارُ واغتيال
مرزوق ( .)1973فقد طالبت جميعها بأن نبحث في واقع المجتمع العربيّ وطبيعة أنظمته تفسيرا لتخلّفه ولهزيمته
أمام العداء .وهي إذ فعلت ذلك فإنّها كانت تدير ظهرها للتفاسير الشائعة آنذاك والقائمة على موضوع المؤامرة
الخارجيّة وتواطؤ الطابور الخامس والجواسيس العملء .وكان نجاح هذه الروايات حسنا في الوساط العارفة
ففرض حساسيّةً جديدةً وبشّر برؤيةٍ جديدةٍ ونقدٍ مختلفين.
وقد تظهر القطيعة مع النموذج السائد في الحقل الجماليّ .وهنا يؤكّد العمل الدبيّ الخلّق صفته التجديديّة بأن يغيّر
من أفق انتظار القارئ الدبيّ .ولقد ساهمت رواية البحث عن وليد مسعود عند ظهورها بتغيير حساسيّة القارئ
الجماليّة .فبينما كان القارئ معتادا على الصيغ الجاهزة كما نجدها عند إحسان عبد القدوس أو نوع من الغنائيّة
العاطفيّة كما نجدها عند نجيب محفوظ جاءنا جبرا إبراهيم جبرا بأسلوب صارم ودقيق يكتفي باليحاء والشارة أكثر
مما يلجأ إلى الشرح والوصف .وترسم جمله عالما داخليّا أكثر قسوةً وعنفا ومواقف معقّد ًة تنبع من ضمير
الشخصيّة الروائيّة أكثر مما تصدر عن تناقضها مع المجتمع المحيط كما هي في أغلب الحيان عند أستاذنا نجيب
محفوظ .ومن شأن معالجةٍ كهذه أن تمتد من ميدانها الدبي المحدد إلى الميدان
وهكذا نخلص إلى أن للعمال الدبية بفضل القراءة تأثيرا عظيما على تطوّر العقليّات .فهي تزيد من سلطان سلوكٍ
ث على اتخاذ سلوكٍ جديدٍ وعاداتٍ جديدةٍ .وقد تعدّل من ذوق الجمهور فيتطلّع إلى أمرٍ
وعاداتٍ قائمةٍ أو أنها تح ّ
جديدٍ ويسعى إليه.
وأمّا تحليل الثر المحصور فإنّه يهدف شيئا آخر .هو أن يستخلص وقع النصّ على قارئ بعينه .أي أنّه يعنى بأثر
الكتاب الملموس أكثر مما يهتم ببعده الثقافي .وبما أن تأثير القراءة على الشخص المنفرد يسبق تأثيرها على
ص عند القارئ المنفرد.
المجتمع ويحدّده فإننا سندرس في هذه الصفحات الخيرة من كتابنا تلقي الن ّ
-2الثر والتلّقي
لكي نحيط بأثر القراءة على القارئ فإنّه ينبغي علينا أن نضع نصب أعيننا الفاصل الذي يقيمه جوس بين ما يسميّه
ص الدبيّ نفسه على القارئ وبين ما يطلق عليه "تلقّي النصّ" وهو من شأن القارئ
"أثر النص" وهو ما يفرضه الن ّ
المتلّقي حرّا ونشيطا .وإنّه لمرٌ ذو معنى أن نجد تقسيما مشابها لهذا عند ناقدٍ آخر وهو إيزير .فهذا الخير يرى
ص الدبيّ قطبين .هما "القطب الفنّي" و "القطب الجماليّ".
أن للن ّ
فحين أقرأ على سبيل المثال يوميّات نائب في الرياف فإنني ل أستطيع أن أختار الزاوية التي أنظر منها إلى أحداث
الرواية .وما أعرفه عنها ومنها هو ما يريد الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلّم أن أعرفه .وليس بوسعي البتة أن
أعرف وقائع الحداث ول أن أدركها إلّ من خلل نظرته وإدراكه لها .وأنا أنظر إليها من خلل عينيه وأنا أفهمها
من خلل الكلمات التي يختارها هو وينقلها إلي وعلى النحو الذي يريد! وإذن فإن النصّ يفرض عليّ منظوري
للحداث.
ن هذا التمييز بين "أثر النصّ" وبين "تلقّيه" يجعلنا ندرك أن العلقة بين القارئ والنصّ هي وعلى وجه الدوام علقةٌ
إّ
سلبيةٌ وإيجابيّ ٌة معا منفعلةٌ وفاعلةٌ في نفس الوقت .وليس يستطيع القارئ أن يستخلص تجربته من القراءة إلّ
بمقارنة رؤيته للعالم مع الرؤية التي يتضمّنها النصّ.
ولنّ الجريمة والعقاب تضعني موضوعيا في منظور قاتلٍ يعذّبه ضميره فإنني أستطيع ذاتيّا أن أعدّل من رؤيتي
للجريمة والمجرمين.
يعتبر إبراهيم أصلن من كتاب القص المقلين في مصر ،فقبل أن يصدر روايته الولى "مالك الحزين"( )1لم يعرفه
القراء إل من خلل مجموعة قصصية تحمل عنوان "بحيرة المساء" ( )1971ولكنه استطاع من خللها أن يكون
صوتا متميزا داخل حركة التجديد التي عرفتها الساحة الثقافية في مصر آواخر الستينات إذ أفردت له مجلة "فاليري"
68عددا خاصا نشرت له فيه أبرز قصصه القصيرة ،وبعد هذه الرواية لم نقرأ إل نصا روائيا واحدا عنوانه "وردية
ليل"( )2لم يثر انتباه النقاد ،ومع ذلك تظل رواية "مالك الحزين" ( )3من الروايات القليلة التي استقطبت اهتمام النقاد
باعتبارها مصدرا أساسيا من مصادر ما يطلق عليه المصريون بالحساسية الروائية الجديدة التي حاولت "الفلت
من أثر الرؤى التقليدية ومن العلقة اللية بين الدب والواقع ومن قواعد إحالتها له وقبل هذا كله من الفهم
التقليدي للعمل الفني ،طبيعته وآلياته المعقدة وغاياته"( )4وقد أدرج صبري حافظ هذه الرواية ضمن "روايات
الكتابة" فهي "ليست من النوع الذي يسميه "بارت" بروايات القراءة ( )Romans Lisiblesأي النص المكتوب
للقراءة التقليدية السهلة التي ل تتطلب قراءته جهدا كبيرا من المتلقي ولكنها تنتمي إلى النوع الثاني من الروايات
التي يسميها "بارت" بروايات الكتابة ( )Romans scriptiblesالتي تتطلب قراءتها جهدا ملحوظا من القارئ"()5
ولذلك مهد الكاتب لبحثه عن رواية "مالك الحزين" مستعرضا أهم ما جاء في نظرية "رولن بارت" كما وردت في
كتابه المعروف " )SZ"(6ومتوقفا خاصة عند الشفرات الصانعة للمعنى التي تتحول فيها جزئيات النص إلى تيمات
تتجمع حول مجموعة من البؤر وتساهم بتفاعلها مع الشفرات الخرى في خلق المجال الرمزي الذي تتحرك فيه
روايات الكتابة عبر مجموعة من التعارضات بالثنائية والنساق البنائية التي تشكل عبرها هذه التعارضات بنية
العمل الروائي وبالتالي معناه النهائي"( )7ولحظ أنه ل يمكن فهم الرواية وتحليلها إل عبر تحديد مجموعة من
الجدليات أو التعارضات الفاعلة التي تطل علينا منذ البداية وهي جدليات زمنية وأخرى مكانية وأهمها جدلية
الحضور والغياب وهي تسفر عن نفسها في صورة العلقة الفاعلة بين الحضور كوجود وكتحقق وكحياة وبين
الغياب كموت وضياع ( )8وجدلية المفتوح والمغلق وهي "جدلية أكثر تعقيدا" لن هناك عددا من درجات النفتاح
والنغلق في الرواية يتزايد وينقص وفق قراءتنا لها أو تصورنا لمستويات المعنى فيها"( )9وعلى هذا النحو يعتقد
المؤلف أنه استطاع أن -يحدد معنى الرواية ويدرك قيمتها الفنية ،بيد أن هذا المنهج الجدلي في تحليل الرواية
"مالك الحزين" لبراهيم أصلن يظل محدودا فقد نقده محمد بدوي في كتابه "الرواية الحديثة في مصر"( )10قائلً
"ويهمنا أن نشير إلى استحالة الطمئنان إلى أي ضرب من الثنينيات الضدية حتى لو وجدت وسائط بينهما .فكثافة
النص وامتلؤه يخلق فضاء سمته التشابك والتعقيد ..فإن مثل هذا التقسيم وإن بدا مبهرا للوهلة الولى إل أنه
أقرب إلى الشكلية وينم عن معيار أخلقي ينهض على إثنينية مثالية شر /خير ،بل قد يشي برؤية تنطوي على
بعض الرومانتيكية ( )11مقترحا بذلك منهجا لتحليل الرواية وفهمها وهو الستفادة من نظرية الرواية الجديدة في
فرنسا لن رواية "مالك الحزين" تعد بالنسبة إليه "نموذجا متميزا في وضع إنجازات الرواية الغربية في سياق مغاير
لسياقها الذي نشأت فيه ( )12على الرغم من أن أصلن "لم يكن يسعى إلى أن يكون مندوب الرواية الجديدة في
مصر ،وإنما تحدد مسعاه في توظيف إنجازاتها لنتاج أدب روائي معبر عن واقعه ( )13وعلى هذا النحو حلل جملة
من الظواهر الفنية المحدودة كالمكان والشخصيات وأيديولوجية السارد وتشخيص الواقع مستنتجا في النهاية أن
المكان أبرز ما يميز رواية إبراهيم أصلن ،فهو يصر على منحه "هذه البطولة المتفردة "ذات الدللة السياسية
العميقة ومفادها عند الباحث أنه "على حين تقوم الدولة التابعة بالتفريط في المكان ،يحل مشكل التراب الوطني
المحتل في إطار خطة المركز المبريالي الدولي وما نتج عن هذا المنحى من تغيرات في بنية المجتمع وثقافته
وأيديولوجيته السياسية ،يقوم نص "مالك الحزين" بتحويل المكان المتعين من مجرد بقعة جغرافية معينة إلى رمز
للوطن ومستقبل من يعيشون فيه (.)14
وفي الحقيقة ل يقدم الفصل الخاص برواية "مالك الحزين في كتاب محمد بدوي "الرواية الحديثة في مصر" فهما
مخالفا لما ورد في دراسة صبري حافظ المتعلقة بالرواية ذاتها ذلك أن الباحثين يتفقان على أهمية استفادة هذه
الرواية من إنجازات "الرواية الجديدة" في فرنسا على مستوى التنظير للرواية إن لم يكن على مستوى البداع ذاته
فهما يحيلن على أهم ما ورد من آراء أدبية لدى منظري الرواية الجديدة ونقادها وإن كان بدوي ،يحيل مباشرة
على كتاب ألن روب غريه الشهير "من أجل رواية جديدة ( ")1963فإن صبري حافظ يهتم بنظرية الناقد الفرنسي
رولن بارت الذي لم يكن بعيدا عن هذه الحركة الدبية الفرنسية ،والكاتبان يلحان على أهمية المكان ودللته في
هذه الرواية باعتباره يجسد إلى حد بعيد كيفية التعامل مع شخوص الرواية وكيفية فهمهم وتكاد ل تختلف في هذا
السياق إل العبارات المستعملة ويظل المعني واحدا ،ورغم ذلك فإن دراستهما تؤكدان على أهمية هذه الرواية
وتميزها في إطار حركة الحساسية الروائية الجديدة في مصر.
تقوم رواية "مالك الحزين" على واحد وعشرين مقطعا ولكن هذه المقاطع السردية ل تتساوى من حيث المساحة
النصية التي تحتلها فالمقطع الول ل يتجاوز السطر الربعة في حين تبلغ بعض المقاطع العشرين صفحة أو
تتجاوزها ،وتتخلل بعض المقاطع مجموعة من العناوين ولكن بعضها الخر جاء صامتا ل يحمل أي عنوان إضافة
إلى أن الكاتب يلتجئ أيضا إلى بعض العلمات الطباعية للفصل بين المقاطع الثانوية داخل المقطع الواحد والمرقم
ولكنه ل يعمم هذا السلوب إذ أن المقاطع القصيرة هي مقاطع بسيطة في تركيبها ول تضم مقاطع سردية ثانوية
ولكنها في أغلب الحيان تكون بمثابة الختزال الحدثي للمقطع( :صائد العميان -المعلم رمضان يأخذ نصيبه من
البرتقال -الشيخان -فاطمة -علقة -من عواقب ركوب الماء -الولد والمصباح -العم عمران يحمل رسالة من
الملك السهران -ليلة العزاء -المستحمة -عبد ال الغلبان -كفوف الدم -سلمان الصغير أضاع الهرم الكبير-
رجوع الشيخ إلى عصاه -رحيل -مطر -رجوع) ولعل أهم ما فيها ما يتعلق بصياغتها فهي تحيل القارئ على
بعض العناوين المعروفة في الكتب القديمة والحديثة وخاصة كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنة .وقد رأى
فيها بعض النقاد شكلً من أشكال التناص .يقول صبري حافظ إن الكتابين (ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة) "من
النصوص الغائبة والفاعلة في "مالك الحزين" وتقيم رواية "مالك الحزين" علقتها التناصية مع هذين النصين
الكبيرين من خلل أسلوبي المفارقة والتوازي"(.)15
بيد أن هذه المقاطع في علقتها بالحكاية التي تقوم عليها الرواية ل تثير إشكالية محددة على غرار بعض الروايات
الحديثة ،فهي ل تعدو أن تكون إشارة إلى النتقال من صيغة إلى أخرى كالنتقال من الوصف إلى السرد شأن
العلقة بين المقطع الول والثاني ،ففي المقطع الول يصف السارد حالة الطقس في يومين" ،كانت بالمس قد
أمطرت مطرا كثيرا ابتلت منه حتى عتبات البيوت في الحواري الضيقة .أما اليوم فإنها كفت ،لم تمطر ول مرة
واحدة ومع أن الشمس لم تطلع وظلت طول النهار وهي غائبة فإن الجو كان أكثر دفئا .ومنذ قليل ،جاء المساء
مبكرا"( )16كما يمكن أن تكون إشارة النتقال من شخصية إلى أخرى أو مجموعة شخصيات إلى مجموعة أخرى أو
كذلك من زمن إلى آخر ،فالنتقال من المقطع الثاني إلى المقطع الثالث وهما من المقاطع القصيرة هو النتقال من
الحديث عن يوسف النجار إلى الحديث عن بعض الشخصيات الخرى وأهمّها فاروق السّينمائي حيث تكون المقاطع
قصيرة وإن طالت تُجزّأ إلى مقاطع ثانوية لتتحوّل إلى مشاهد اجتماعيّة متنوّعة ولكل مشهد شخوصه ولحظته
الزمنّية وحدثه ومؤثثاته.
وتأكيدا لكلمنا يمكن أن نقف عند المقطع الرابع وهو مقطع طويل نسبيا بالمقارنة مع المقاطع الثلثة الولى ،فقد
قسمّه المؤلف طباعيّا إلى أربعة مقاطع ثانوية ،ففي المقطع الثانوي الول يصف السّارد حجرة يوسف النجار مركزا
على الشياء التي تحويها (الكتب المتراصة وزجاجات خمر فارغة وأكواب ،وعلب أدوية وأمشاط كبريت )..ولكنه
يهتمّ بوصف لوحتين معلقتين لبيكاسو فيصفهما وصفا مفصلً ويشخّصهما تشخيصا كلّيا تمثل إحداهما "رجل يركب
بغلة عجوزا ،بدرع على الظهر ورمح طويل كالعصا وكان التّابع قريبا من الرض على ظهر حماره اللهي ذي
الخرجين ،يرفع رأسه المدور ويتطلع إلى فارسه العالي وهو صامت وكانت الرضية مجموعة من الخطوط التي
استكملها توقيع بيكاسو والتاريخ."..
وفي المشهد الثاني يصف السارد يوسف النجار وهو يستعد للخروج إلى الشارع وعندما يصل يلتقي في المقهى
صديقيه جابرا وفاروقا اللذين يخبراه بموت العم مجاهد ثم يغادر المقهى "شكره يوسف النجار وقدم له سيجارة،
أخذها فاروق وأشعلها وراح يتباعد وهو يغادر الوسعاية ويتمتم"( )18وفي المشهد الثالث يفصل السارد حادثة موت
مجاهد عندما تخبر الم ولدها بتفاصيل الموت "في الصباح ،أخبرته أمه أن أمناء الشرطة قد وجدوا العم مجاهد ميتا
عند الفجر ،داخل دكانه الذي كان يعرفه )19("..وخلل خروج يوسف النجار من جديد إلى المقهى يتعرف على
شخصيات جديدة هي العم عمران ،سالم فرج حنفي -المير عوض ال ويتقدمها السارد من خلل أفعالها اليومية
العادية "وحينئذ رأى المير عوض ال وهو يجلس عند مدخل المقهى ،صافحه ورأى العم عمران وأراد أن يدخل
لكي يجلس معه ويأخذ بخاطره ويرى وقع موت العم مجاهد على نفسه ولكن المير أحضر مقعدا وطلب له كوبا من
الشاي"(.)19
وفي المقطع الرابع يركز السارد على شخصيات المقهى :قاسم أفندي -عبد ال القهوجي -المعلم رمضان -الشيخ
حسني -عوض ال -عبد النبي العرج -سليمان الصغير -جمال ماسح الحذية -العم عمران ،من خلل أفعالها
العادية المتكررة "كان عبد النبي العرج يقف داخل النصبة أمام المنقل الكبير ،يشعل الفحم ويهوي عليه بمروحة
من الريش ،أما في الناحية اليمنى ،أمام قاسم أفندي ،فقد كان سليمان الصغير يتفرج بجانب عينه على الربعة الذين
يلعبون الدومينو بالنقود ،وكان جمال ماسح الحذية قد ترك صندوقه المقعد واقترب منهم أكثر وراح يتابعهم في
صمت )20(.ويعمد كذلك إلى وصف بعض مؤثثات المقهى "وعلى بعد مقعدين آخرين ،كان دولب قصير عليه لوحة
من البلور وطبقان أحدهما به كمية من الماركات النحاسية ووراء هذا الدولب كان مقعد المعلم موضوعا على
صندوق كازوزة فارغ ومقلوب ،تحت الرف الذي يحمل الراديو الخشبي الكبير"( )20ولكن الكيد أن هذه المقاطع
الثانوية الربعة التي تؤسس المقطع الرئيسي محورها شخصية يوسف النجار وما وصف المقهى وشخوصه إل
نتيجة علقة يوسف النجار به ،فعندما غادر يوسف النجار المقهى ظلت عين السارد مستقرة فلم تتابع الشخصية في
تنقلها بل ظلت حبيسة المكان تصفه وتشخصه وهو ما يؤكد لنا أهمية تأثير التقطيع السينمائي في التقطيع الروائي.
في المقطع السادس يلتجئ السارد إلى أسلوبين للتمييز بين المقاطع الثانوية وهما السلوب الطباعي عن طريق
نقاط الفصل وأسلوب العناوين الداخلية ولذلك يمكن أن نقول إن هذا المقطع الرئيسي يقوم على سبعة مقاطع ثانوية
غير متساوية ،ففي المقطع الثانوي الول يروي السارد الحكاية التي كانت تجول على ألسنة شخوص المقهى وهي
حكاية مفادها أن المعلم صبحي تاجر الطيور ،اشترى بيت الحاج محمد موسى الذي يوجد به المقهى إل أنه دفع
نقودا لسكان الدور الول والدور الثاني ولكن المعلم ( )21وأغراهم لكي يبحثوا بأنفسهم عن بيت آخر يسكنون
فيه ..عطية الذي استأجر المقهى ظل يتلعب مع المعلم صبحي إذ "عاد يأخذ النقود بحجة تدبير مكان آخر وهو
يقسم أنه سوف يتركه أول الشهر القادم ثم ل يفعل فاضطر صاحب المقهى إلى اليعاز لحد صبيانه باستعمال
السكين حتى يجبر المتسوغ على تركه حتى حصل منه على ثروة كبيرة( .)22أما المقطع الثاني فهو يحمل عنوان
"المعلم رمضان يأخذ نصيبه من البرتقال ..وهو نادرة بطلها المعلم رمضان والشيخ حسني يتخللها استطراد يتعلق
ببعض شخوص الرواية من خلل بعض مظاهر حياتهم في الحي والنادرة هي أن المعلم "رمضان ناول الكيس إلى
الشيخ حسني وقال إن هذا هو البرتقال ،وطلب منه أن يقسمه بنفسه حتى يكون مطمئنا لكن الشيخ حسني قسم
البرتقالت على طريقته الخاصة فأخذها باستثناء أربع "فاستغرب المعلم غاية الستغراب وأراد أن يفهم أولً ثم يثير
الموضوع مع الشيخ ولكنه لم يجد الطريقة التي يفكر بها لكي يفهم وينتهي المقطع الثانوي( )23بوصف الشيخ
حسني وهو "يسحب زميله العمى ويتجه به ناحية الشاطئ ليبدأ المقطع الثالث الذي يحمل عنوان "الشيخان" في هذا
المقطع الثانوي يروي السارد قصة الشيخين حسني وجنيد وهما أعميان .فبعدما أورد السارد في مقطع ثانوي سابق
"صائد العميان" حكاية الشيخ حسني مع العميان إذ كان يحتال عليهم موهما إياهم بأنه ينظر ويرى ويبتز أموالهم
وكان يستخدم صبي المقهى "ناظور جينا ،يروي الجزء الول من إحدى نوادر الشيخ حسني الذي يقترح على الشيخ
"جنيد" أن يستأجرا معا مركبا ويتجول في النيل .ويتخلل النادرة شيء من سيرة الشيخ حسني كما يرويها بنفسه
للشيخ جنيد .ثم ينتقل السارد إلى المقطع السردي الموالي وهو مقطع قصير عنوانه "فاطمة" يصف هذه الفتاة وهي
تتجه إلى شارع فضل ال عثمان قادمة من "قطر الندى" لينتهي أخيرا إلى وصف ما يدور من حديث بين الصديقين
"شوقي" و"فاروق" يتعلق بالستعدادات لليلة العزاء وينتهي المقطع بالعودة إلى فاطمة وهي تلتقي الصديقين عند
خروجهما من البيت.
ما يمكن أن نستنتجه من هذا العرض هو أن الكاتب يعمد إلى ضرب من التقطيع يتسم بالدقة والكثرة ولذلك تتنوع
البؤر وتتعدد بسرعة مذهلة .ثم إن المقاطع -على قصرها -تسعى عموما إلى تحقيق استقلليتها السردية ،فكل
مقطع يتمحور حول حديث جديد أو حول حكاية شخصية جديدة وهذا يعود إلى طبيعة الحكاية في هذه الرواية ولكنه
يؤكد أن هذا الضرب من التقطيع هو تقطيع سينمائي إذ أن المقاطع تتحول إلى مشاهد متراكبة تؤسس الرواية كلها.
الحكاية:
إن مثل هذا التقطيع المشهدي ل يبني حكاية ولذلك جاءت رواية "مالك الحزين" معادية للحكاية معاداة غريبة .فزمن
الحداث ل يتجاوز يومين ،ذلك أن الحداث تبدأ ذات يوم عندما أزاح يوسف النجّار "البطّانيّة عن نصفه السفل
وجلس على الكنبة وهو يداري ساقيه بطرف الجلباب" وتنتهي الحكاية صباحا بعد يوم" :في الحجرة الخارجيّة التي
ل ورأى نور الصباح الحقيقي وهو يدخل من فتحات
تطلّ على الوسعاية الصغيرة ،فتح يوسف النجار عينيه قلي ً
الشيش المعلق" وبين البداية والنهاية ،يقوم خط سردي عام هو موت العم مجاهد ودفنه والستعداد لليلة العزاء بعد
الدفن وباستثناء هذا الخيط السردي العام الذي يجمع بين شخوص الرواية ،ل يمكن أن نعثر على أي مظهر من
مظاهر الحكاية الكبرى شأن الرواية العادية ولكننا نقرأ مجموعة من الحكايات الصغرى هي في النهاية "ميكرو
حكايات" وهي ل تكاد تحصى فلكل شخصية من الشخصيات حكايتها الخاصة وهي حكايات قد تتمطّط أحيانا فتتقاطع
مع بقية الحكايات شان نوادر الشيخ "حسني" العمى وحكاية المعلم صبحي مع المحلّت التي اشتراها وخاصة مع
المقهى الذي يمثّل مركز الحي ومنتدى سكانه ولكنها تأتي أحيانا مختزلة شأن حكاية السطى "قدري" مع رأس
العجل(.)24
وإذا أدركنا أن عدد الشخوص يفوق الثمانين في الرواية فإن الميكرو -حكايات تتعدد بدورها تعددا لفتا للنتباه
وهي التي تؤسس النسيج السردي في الرواية وعلى هذا النحو ل يمكن الحديث عن شخصيات محوريّة ول عن
بطولة فيكفي الحكايات أن تكون وقعت في مكان واحد ويكفي الشخوص أن يجمعهم هذا المكان وهي حيّ إمبابة
"وعندئذ تصبح الرواية على حد عبارة فيصل درّاج "رواية عن المكان أو رواية عن بشر ل يتحدّدون إل في مكانهم
هو البداية والنّهاية ،ولهذا فإن الرواية تقدّم وصفا دقيقا لسمات المكان وتدخل الحواري الرطبة وتصف الجدران
وترسم النية ،تفعل كل ذلك باهتمام وعناية ثم ل تلبث أن تصف المسلسل اللمتناهي للحركة اليوميّة التي تتم في
هذا المكان ،مسلسل يشمل كل أشكال الحركة في العارض اليومي والبسيط والنافل حتى تكاد الرواية أن تكون سردا
أمينا للحياة اليومية في أمبابة"(.27
إن تشعب هذه المقاطع السردية الناتج عن تعدد شخوصها وميكرو حكاياتها يضعنا أمام مفهومين إجرائيين يسهلن
علينا ولوج عالم "مالك الحزين" الروائي وفهمه وهما مفهوما التسطيح والغراب.
التسطيح:
عندما نتأمل الوظائف السردية التي تؤسس المقاطع التي إليها أشرنا ،نلحظ أنها تشخص اليومي من الفعال فأفعال
المقطع الثاني من الرواية -على سبيل المثال -هي التالية :أزاح البطانية عن نصفه السفل -جلس على الكنبة
وهو يداري ساقيه بطرف الجلباب -مد يده إلى كوب الشاي الكبير الدافئ -قام يوسف النجار واقفا .ويقوم المقطع
الثانوي الرابع من المقطع الرابع على الفعال التالية :كان قاسم أفندي يقرأ شيئا في جريدة الهرام -عبد ال
القهوجي يستمع إليه -كان المعلم رمضان يجلس وهو نعسان إلى جوار الشيخ حسني /الذي ثبت كعبه وراح يدق
بمشط قدمه على الرض ليضبط إيقاع الجندول التي تذاع من الراديو ..وكان عبد النبي العرج يقف داخل النصبة
أمام الموقد الكبير /يشعل الفحم /ويهوى عليه بمروحة من الريش -كان سليمان الصغير يتفرج بجانب عينه على
الربعة الذين يلعبون الدومينو بالنقود -كان جمال ماسح الحذية قد ترك صندوقه المقعد واقترب منهم أكثر وراح
يتابعهم فيصمت /كان العم عمران وحيدا في بيجامة من الكشور وطاقية من نفس القماش.
على هذا النحو تمضي الفعال السردية في الرواية كلها والسارد ل يكتفي بوصف الفعال اليومية التي يمارسها
شخوصه في الحي داخل البيوت أو في المقهى أو في أماكن أخرى ولكنه يبالغ في تفصيل هذه الفعال وتجزئتها
ولذلك تعتني الجمل السردية عموما بتشخيص الجزيئات من الفعال على نحو هذه الجملة السّرديّة" :بعد ذلك وقف
المعلم على أجولة الدقيق الفارغة وراء الفرن وغسل يديه ..وغادر المكان وهو يخرج منديله ويجفّف يديه ويمسح
فمه ويتّجه إلى المقهى".
عن مثل هذه الفعال المفصّلة يمكن الستغناء عنها في الرواية الواقعيّة التقليدية بدون أن يؤثّر ذلك في مساق
السرد وتطوير الحبكة لكننا ل نستطيع ذلك في هذه الرّواية .إن قيمة هذه الفعال في ذاتها إذ تخلو الرّواية من
حكاية عامة وحبكة وإنما هي مجموعة أفعال مرتبطة بشخوصها تشخّص في مكان محدّد وهو في إمبابة.
إن السارد -في هذا السياق -يصف ما يرى ويسمع ،وما يحدّد الشخصيّة الروائيّة عنده هو ما تُصد ُرهُ من أفعال
وأقوال في حيّ "امبابة" ول شيء غير ذلك ولذلك ل تقوم الشخصية إل من خلل مظهرها الخارجي ،فالعم عمران
يقدم من خلل الثوب الذي عليه وعرف به في الحيّ والمقهى والبيجامة الكستور المقلّم والطاقيّة من نفس القماش
يقدّم عبد ال القهوجي من خلل هيأته الفزيولوجية المتمثّلة في قامته النّحيلة وعينيه المريضتين والشيخ حسني
من خلل جلبابه القديم وسترته المفتوحة وشعره الخشن الذي بقعه البياض ويقدّم عبد النبي العرج من خلل
عاهته أو من خلل الفعال التي يؤديها ولذلك قلما نجد في الرواية علمة نفسيّة أو اجتماعية تسم الشخصية أو
تساهم في تحديد أبعادها وهذا يعني أن الشخصية في رواية "مالك الحزين" شخصية بل عمق نفسي أو اجتماعي.
إنها شخصية مسطحة ،وهي شخصية بل تاريخ ،فقد لحظ بعض النقاد أن ل تاريخ للشخصية خارج حياتها في
"إمبابة" فنحن نعرف ما في المكان حتى ذلك التاريخ البعيد ولكننا ل نعرف ماضي الكثير من الشخصيات .فالمعلم
ل لم يوجد إل عندما جاء "إمبابة" ووجوده قبل قدومه كالعدم وكذلك سيّد طلب الحلّق فقد جاء مع أمه إلى
صبحي مث ً
هذا الحي الشعبي ولكن القارئ ل يعرف أي شيء عن ماضيه فكأنه خلق مع قدومه إلى "إمبابة" ولعل أعمق هذه
الشخصيات شخصية يوسف النجار ،فهو مثقف يكتب رواية لم يستطع أن ينجزها وكان شاهدا على بعض الحداث
السياسية والجتماعية كالمظاهرات العنيفة وتدخل قوات المن بأسلحتها التي بلغت حي "إمبابة" وأخرجته من حياته
اليومية الروتينية "تقول إنك رأيتهم رأي العين يحرقون وتستجيب لهم حتى أعشاب الشاطئ الخضراء .وتكتب أنك
مشيت على كسور الزجاج التي غطت شوارع المدينة وأرصفتها"( )26ولكننا ل نستطيع أن نقرأ شيئا كثيرا عن
حياته الشخصية وعن مواقفها الفكرية إذ يبدو لنا السارد شحيحا في عرض صورتها فباستثناء الفعال اليومية،
التي تؤديها في البيت والشارع والمقهى أو تلك العلقة التي تربطه بالمرأة الشابة "فاطمة" ولم تتطور ،تظل
الشخصية منحصرة في حركتها الخارجية بما تأتيه من أفعال يومية وأقوال عادية عن هوية الشخوص في رواية
"مالك الحزين" ليست في ذواتهم بل في انتماءاتهم إلى المكان ،إن حي "إمبابة" الشعبي هو الذي يبرز وجودهم
وأفعالهم ويكسبهم ملمحهم الخاصة وخارجه يسقطون في "اللهوية" و"اللانتماء" ويفقد الفعل ذاته معناه ،ولعل أكثر
المواقف السردية دللة في هذا السياق ما يتعلق بعلقة يوسف النجار "بفاطمة" لقد فكرت وعرفت أنها لو ذهبت معه
إلى بيت صديقه (خارج إمبابة) فسوف يمكنه أن ينام معها حتى تعرف ويثبت لها نفسه ثم يتركها .لقد فكرت وهي
في الوتوبيس عندما تصورت نفسها تخلع ملبسها في مكان ل تعرفه وخافت لنها لم تخلع ملبسها بعيدا عن
إمبابة أبدا( )27فالفعل الجنسي بالنسبة إلى فاطمة ل يمكن أن يتحقق إل في "إمبابة" لنه في هذا المكان يطور
العلقة بينها وبين يوسف النجار ويحافظ عليها لكنه عندما يقع خارج هذا الطار المكاني فإنه يبدد هذه العلقة
وينهيها وهو ما ل ترغب فيه فاطمة.
إن المكان يظل سيد الموقف السردي ،فهو الذي يمنح الشخوص هوياتهم ولكنهم في الوقت ذاته فيه ينغمسون
ويمارسون ضربا من الحياة الجماعية التي تؤلف بين الخصوصيات الفردية وتخلق نفسا ملحميا واضحا فكأن
الشخوص مثلهم مثل الشياء والمباني يساهمون في تأثيث المكان وتحديد ملمحه" :عندما وصل إلى هناك ،رأى
ن وأولد صديق واللمّة أمام
إمبابة على حالها ،المداخل المضاءة وعربات الفاكهة والكبدة والسّمين ومطحن الب ّ
التلفزيون المفتوح ومطعم الفول والسطى بدري الحلق وبيع المصنوعات وكشك الخواجة والمكتبة والجاويش عبد
الحميد ومدخل المقهى المزدحم"( )28إن مثل هذه الجملة القصصيّة وما يشبهها كثير في الرواية ،ل يفصل فيها
السارد بين ذكره المحلّت والمبيعات والشخوص ،فهو يذكرهم جميعا في سياق واحد ،فهم بالتالي عناصر تؤثّث
"إمبابة" ل تختلف عن بقية العناصر الخرى ،إضافة إلى أنهم يلتحمون بالمكان التحاما غريبا ،فالسارد يتعمدّ
المبالغة في ذكر المواقع والمحلّت والشوارع بأسمائها وبعض الشوارع تحمل أسماء بعض العلم شأن فضل ال
عثمان ولكنّه ل ينبّه إلى أنها شوارع وقد يلتبس المر على القارئ فيتوهم أنها شخوص والحال أنها شوارع" :كان
يعمل عند السطى بدوي الحلّق وراء الكيت كات ويعيش مع أمه الريفية عند التقاء قطر النّدى مع فضل ال
عثمان"("- )29وظلّت توقظه حتى أصبح يقوم وحده ويرتدي ملبسه ثم يغادر أمير الجيوش ويذهب إلى فضل ال
عثمان" ( )30وعلى هذا النحو تتلشى الشخصية في المكان وتتقزم ورغم ذلك ،تجد ذاتها فيه" :ومن مكانه عند
مدخل المقهى رأى الواجهة الخلفيّة للجامع الكبير العالي ،جامع خالد بن الوليد ،بلونها الصفر المبتل من المطر
القديم وسوره الحديدي المطلي على طول الطريق الجانبي المنحدر من شارع النيل أمام المقهى وهو يلتقي مع
شارع مراد وشارع السلم عند ناصية الجامع والرصيف العريض الذي بدا منحرفا في نقطة التقائها وفي مقدمة
ذلك الرّصيف رأى العمود الحجريّ المتآكل ،تعلوه تلك الذّراع التي تمسك بالغطاء الكبير المقلوب والمصباح
المكسور دائما ،تطلّ من أعلى فوق العربة الخشبيّة التي ترتفع عن الرض قليلً المقوّسة مثل قارب صغير أو مثل
مركوب والده الحاج عوض ال وهو ما زال منسيّا تحت سريره النّحاسي الكبير"(.)31
إن علقة الشخوص بالمكان تقوم على جدليّة النفي والثبات ذلك أن المكان يتعاظم ويحوّل شخصية إلى شيء من
أشيائه ولكنه في الوقت ذاته يمنحها هويّتها ويجعلها في وضعها هذا تكتشف ذاتها.
الغراب:
من وجهة نظر مغربة غير ( )RECITيعرف الغراب بأنه تقديم فصل أو مرحلة من الحكاية عادية بواسطة طرف
ثالث ل يفهمها بحيث يكون القارئ مدفوعا إلى أن يرى في الفصل أو في المرحلة تفاصيل وقيما مخالفة للمألوف
وهو يختلف عن المفهوم عند ( )32الغرائبي الذي حدّده تودوروف في كتابه "مقدمة للدب الفانطاستيكي" حصر هذا
المفهوم في تشخيص الخارق من الحداث وبحث عن الصلة التي تربطه بالعجائبي والفانطاستيكي متحدثا عن
القطيعة مع النظام المعترف به ( )33والبروز المفاجئ لما ل يمكن قبوله في قلب الشرعية اليومية التي ل تتغير في
رواية "مالك الحزين" نسق ل يخرج ( )SINGULARISATIONإن الغراب عن النظام المعترف به ول
يتعارض مع المنطقي ،بل يتصل ثابت التصال بالنادرة .ذلك أن الرواية تزخر بمجموعة من الحداث الشاذة التي ل
يقاس عليها وهي أحداث تتقاطع مع تلك الحداث العادية واليومية التي يقوم عليها نسيج الرواية ولكنّه تقاطع
يحدث مفارقات حدثية عجيبة ،فمن غمرة العادي واليومي تنبثق مجموعة من الحداث الشاذة الغريبة التي قد يقبلها
العقل على مضض ولكن تنفرج لها السريرة وينفتح لها القلب وهي أحداث تخرج على الروتين المألوف وتجابه
المتكرر وتظهر بمظهر المغرب والشاذ من هذه الحداث ما يتعلق بحكاية الشيخ حسني مع العميان .ذلك أن الشيخ
حسني العمى كان يصطاد العميان بطريقة غريبة ،فهو يوهمهم أنه يرى فيصطحبهم إلى الماكن العامة ويبتز
نقودهم وقد اتخذ من صبيّ المقهى "عبد ال" ناظورجيّا يشتغل لحسابه إذ "لم يكن عليه ،عندما يرى أحد العميان ،إل
أن يخبر الشيخ بما رأى ،ومع الوقت ،صار عبد ال يعرف عمله جيدا ويجيب وحده على بعض السئلة الضرورية
مثل سن الزبون وأطرف ما في الحكاية الشيخ ( )34وثيابه أو ما قد يكون من علمات بارزة ..حسني مع العميان
ما يتعلّق بقصّته الغريبة مع الشيخ جنيد فقد أوهمه كالعادة أنه يرى وكان يصطحبه في الشارع والمقاهي ويقصّ
عليه بعض مظاهر حياة المبصرين ثم دعاه إلى جولة في النيل على مركب خاص يقوده الشيخ حسني بنفسه
وتنتهي القصة نهاية شاذة نادرة وطريفة في الن ذاته فقد "شمرّ الشيخ حسني كتفه ومال قليلً وبكل هدوء مدّ
العصا في الماء لكي يقيس عمقه ولكنها لم تصل إلى شيء فأخرجها .ومدّ يده الخرى ناحية مقدمة المجداف ثم
سحبها على الفور وأيقن أنه غارق ل محالة وأنّهم سوف يعرفون جثته من ورقة المجلة )35( ،وسكت عن الحركة
تماما وفجأة صرخ بكل ما يملك من قوة "غريق ،غريق" ول تقل هذه النادرة غرابة عن تلك التي تتعلق بركوب
الشيخ حسني الدراجة النارية ،فقد كان -رغم عماه -يركب "الموتوسيكل" ولم يكف عن ذلك إل عندما دخل
بالموتوسيكل من واجهة أجزخانة المبابي وهو يكسر كل شيء أمامه حتى وصل إلى الدكتور عبد التّواب الذي
يشرب الشاي وراء الستارة وخبطه في جنبه اليمن ثم انقلب هو والموتوسيكل على جنبه اليسر ولحقه حسين عبد
الشافي الذي ( )36كان قد تركه وقفز عند مدخل الجزخانة ومن هذه النوادر أيضا قصة السطى قدري مع رأس
العجل ،فقد اشترى الرجل رأس عجل وعد به زوجته وركب الترام وأخرج أذن العجل وداس عليها بحذائه كي ل
تضيع وراح يقرأ في جريدة الخبار عن الحكومة التي سوف تخفض السعار "لكن سارقا قطع الذن وأخذ الرأس
وعندما وصل إلى سوق الخضر طوى السطى قدري جريدته وانحنى ليحمل رأس العجل ويعبر بها كوبري إمبابة
ولكنه وجدها قد اختفت تماما بينما هو يدوس على الذن الرمادية الكبيرة التي انفصلت بعناية(.)37
كذلك يمكن أن نذكر حكاية الكابتن حسين عبد الشافي التي رواها الشيخ حسني للشيخ جنيد وهو قائد فريق مصر
لكرة القدم وقد شارك في الكأس العالمية الولى التي دارت في ألمانيا النازية فـ "عندما مات والده لم يكن يملك
شيئا ول الستر وإنه احتار ماذا يفعل ،لم يكن يريد أن يفضح نفسه وهو الكابتن المعروف على مستوى العالم
ويستدين من أجل دفن والده ،لذلك أخرج غيارا نظيفا ونزل بوالده إلى البحر وخلع ثيابه وغطسه في الماء الطاهر
ثلث مرات وتل الشهادتين ثم ألبسه الغيار النظيف وصعد به إلى الشاطئ وأخذه أمامه على الدراجة وسنده بين
يديه كأنه لم يمت وذهب به من هنا حتى سيدي عمر ودفنه هناك بمعرفة عبد الخالق الحانوتي"( )38وتتواتر هذه
الحكايات المغربة أو هذه النوادر فنذكر حكاية الشيخ حسني مع برتقالت العم رمضان ( )39أو حكايته مع هذه
البرتقالت وعصاه( )40ولكن حكاية معزى العم مجاهد تظل أكثر هذه الحكايات خروجا عن المألوف وإغرابا ()41
فلما انتهى الشيخ حمادة البيض من ترتيل القرآن في معزى العم مجاهد الذي نظمه سكان الحي غفل الحاضرون
عن إغلق "ماكينة" تضخيم الصوت وعندئذ ظل العم عمران يتحدث ويقص حكاية حي الكيت كات وصوته يبلغ
السكان جميعا إلى أن بلغ بعض سكان الحي المعروفين فشرع يفضح أسرارهم واحدا واحدا على هذا النحو" :إن
الذي وقع على أوراق البيع (بيع بيت الشيخ حسني) هو الشيخ حسني العمى ولكن الذي قبض الفلوس هو الهرم
بائع الحشيش لن الشيخ حسني كان مديونا له بثمنه "أيوه ،شرب بالبيت حشيش وأفيون ..أيوه الهرم يضحك على
أي حد ،النهار ده بس ضحك على الحكومة وهرب من اللومان وقاعد دلوقت عند فتحية اللي بيخبي عندها الحشيش
والفلوس ،فتحية بتاعة حارة توكل"(.)42
إن إغراب مثل هذه الوظائف السردية تتمثل في أنها تخيب انتظار المتلقي داخل النص وخارجه فالسطى قدري الذي
أراد أن يبعد الشيخ حسني بعصاه في مثل هذا الظرف الخطير" :وحاول أن يسحبه بعيدا عن دائرة القتال ولكن
الشيخ حسني عاد يصرخ" :العصايا ،العصايا" وقال السطى "عصاية إيه دلوقتي ،العصايا ضاعت ،ضاعت إزاي؟
العصايا هناك أهه" "يا أخي إعمل معروف يل بينا وإل أمشي أنا؟ كذلك كان رد فعل بعض من كان يستمع إلى حكاية
العم عمران وهو يفضح رجال الحي" :ثم ارتفع في الساحة الكبيرة صوت خبط على الباب وصوت رجل يطلب منهم
أن يغلقوا الماكينة أنها مفتوحة ولنه سمع الكلم وهو يركب المعدية قادما من الزمالك وضرب النار شغال وصاح
السطى قدري النجليزي" :يا نهار أسود"(.)44
لقد استعمل محمد بدري للتعبير عن مفهوم الغراب الذي استعملناه مفهوم العجائبي فهو يرى أن العجيب في رواية
"مالك الحزين" نابع من تحدي النسان للقهر بكل صوره ،وربما يكون للعجيب الذي يعني كسر قوانين الطبيعة في
فضاء روائي يمزج الواقع بالوهم دللة مختلفة عن العجيب في رواية أصلن التي تعلن منذ بدايتها لقارئها أنها
واقع حدث يوما ،فله كما يقول غرييه ثقل الحقيقة النسانية وهو أمر نلمسه منذ بداية الرواية ،حيث الوصف
المقتصد الواقعي وعلقات ( )45الشياء تعضد لدينا أننا في مستوى المعيش اليومي" الروائي الذي اعتبره من باب
العجائب ل يناقض الطبيعة البشرية ول يندرج بالتالي في إطار الخارق ولكنه أيضا يتحداها أحيانا دون أن يتجاوزها
وفي هذا السياق ندرج كل الفعال التي يمارسها الشيخ حسني الذي يرفض طبيعة القاصر الضرير ويسلك سلوك
المبصر ولكن هذا السلوك يوقعه في مأزق تحول الوضعية إلى نادرة بمعناها الدبي واللغوي كذلك ندرج تلك
الوظائف السردية التي ذكرناها فهي أفعال (شاذة نادرة الوقوع وتكتسب شرعيتها من تعارضها مع العادي المألوف
المتكرر الذي يغرق حكاية "مالك الحزين" ولذلك فضلنا مصطلح الغراب بالمعنى الذي أوضحنا معتقدين أن للعجائبي
دللة مغايرة تماما لمفهوم الفراد أو الغراب وتظل المسألة مسألة مصطلح كان بإمكان محمد بدوي أن يتلفاها بين
نسقي التسطيح والغراب علقة وطيدة تحدد تعامل جديدا مع الواقعية وهو تعامل ل يخلو من مفارقة عجيبة فبقدر
ما تسعى الرواية عبر نسق التسطيح بما يحوي من أفعال سردية عادية مألوفة ويومية إلى تكثيف الحالة
المرجعية ،تحاول عبر نسق الغراب أو الفراد إلى تكسير النسق الول والقتراب من خانة الخارق إلى درجة أن
بعض النقاد تحدث عن العجائبي وهو يحلل هذه الحداث المغربة وهكذا يتقاطع الواقعي واللواقعي تقاطعا عنيفا إذا
اعتبرنا الواقعي تشخيصا للعادي والمألوف والطبيعي وفي حدود هذا المفهوم تختلف رواية "مالك الحزين" عن
رواية "صخب البحيرة" فلئن أكدنا في تحليلنا رواية محمد البساطي على تلك النزعة الفريدة المتمثلة في تقليص
التشخيص الواقعي في اتجاه التشخيص الرمزي رغم عدم الوقوع فيه والكتفاء بمقاربته ومحاذاته فإن رواية
"إبراهيم أصلن" تحدث هذه المفارقة العجيبة بين الواقعي واللواقعي .فهي تغرق من تشخيص الواقعي تشخيصا
محايدا اجتماعيا ولغويا من خلل تشخيص حيّ شعبي في مدينة القاهرة الكبرى هو حيّ إمبابة بسكانه ومستوياته
اللغوية إلى حد الغراب إنها واقعية السطح الخارجية التي تظهر مدى زيف الواقعية التقليدية ومدى تشويهها
للواقع وترفض المفاهيم الرومانسية القديمة وتتخلى عن ميتافيزيقيات العمق حيث تسترد الشياء ألقها باستقللها
ووجودها الصلب وحيث يستعيد النسان حضوره الحميمي في العالم الذي يعيش فيه(.)46
-2وردية ليل.
-3دار الداب1992 ،
-4صبري حافظ :قراءة في رواية حديثة "مالك الحزين" فصول ج 2ص 159
-25عن صبري حافظ ،فصول ،الحداثة في اللغة والدب ،ج ،2ص 159
وقد استعمل بوريس أخندارم هذا المفهوم (مفهوم نسق الغراء أو الغراب) في بحثه "نظرية المنهج الشكلي ـ
أنظر نصوص الشكلنيين الرّوس تعريب إبراهيم الخطيب ـ مؤسسة البحاث العربية 1982ـ ص .42
-3-1الستلب
إنّ أوضح المخاطر هو أن يهيمن النصّ بعقيدته على عقيدة القارئ .فالقارئ الذي يقرأ يقبل ضمنا بما أسميناه في
حةِ
ص الدبي .وعليه فل بدّ له من القرار مبدئيّا بص ّ
فصلٍ سابقٍ بعقد القراءة وميثاقها أي بالعراف التي تنظم الن ّ
ما يقوله الراويّ ويمكن أن يقوده هذا من حيث ل يشعر إلى أن يقع في حبال عقيدة النص .فبقدر ما يظهر الراوي
على أنّه أصل الحكاية التي يرويها ومصدرُها بقدرِ ما يظهر على أنه حجّةٌ تقضي بين الحداث التي يرويها وتش ّرعُ
بما تنقلُه!.
فصوت الراوي هو الذي يُطلعنا على أفعال الشخصيّات وعلى الظروف التي تحيط بهذه الفعال وبما أن علينا أن
ق ول شك فقد ننزلق فعلً ونروح ننظ ُر إلى الحكام التي يطلقها
نعتبر أن ما يرويه لنا الراوي قد وقع حقا أي أنّه ح ّ
هذا الراوي على تلك الفعال وعلى هاتيك الشخصيّات ليس على ما هي عليه حقا أي أنّها أحكام الراوي ليس غير
وإنما على أنها أحكامٌ صائبةٌ وحقيقيّ ٌة بالطلق .وهنا يتح ّولُ الراوي من مصدرٍ للقصّة إلى مؤولٍ شرعيّ لها يؤخذُ
بقوله ويؤمن له.
فبما أننا نقرّ ضمنا احتراما مِنّا للتقاليد الروائية بكلّ ما يقوله راوي نجيب محفوظ في اللص والكلب عن أبطال
ض بالعُصابِ
القصّة فكيف لنا أن ننكر هذه التقاليد عينها حين تقودنا إلى الشفاق على سعيد مهران وهو لِصّ ومري ٌ
وقتل نفسا بريئةً؟
ويكمن في عمليّة القراءة خط ٌر آخر هو ما يضعه القارئ من ذاته في النصّ وما يوظّفُه فيه .فقد يحدثُ أن تكون
الصلة بيننا وبين أحد شخصيّات الرواية من القوة والعمق بحيث ل يشغلُنا بعد إلّ مصيرها هي وبقطع النظر عن كلّ
ي يخاطبُ فينا قدرتنا على النفعال وحسب .وبالتالي فإن حسّنا النقديّ يسهو
اعتباراتٍ أخرى .ذلك أن النصّ الدب ّ
وقد تختفي قدرتُنا على اتخاذ المسافة النقديّة اللزمة بيننا وبين النصّ .ويستطيع الكاتب أن يحبب لنفسنا وأن يزيّن
لعيننا شخص ّيةً روائيّةً لو قدّر لها أن تتجسّد شخصا نابضا بالحياة لكرهتُه نفوسنا ومجتّه عقولنا.
والحقيقة أن العلقة النفعاليّة بين النصّ وقارئه تنتمي إلى بنية النصّ الجماليّ ِة ول تتطابق دائما مع مقتضيات
الخلق كما يريدها النظام الجتماعي اللهم إن لم يكن في أشكال الرواية البدائيّة أو الساذجة.
فحين نقرأ مثلً مغامرات العميل السرّي البريطاني جيمس بوند فإننا نتمنّى أن ينجح هذا الجاسوسُ في مسعاه وأن
ينتصر على أعدائه وذلك بقطع النظر عن جرائم القتل التي يقترفها (أليس رمزُه 007يعني أن له إجازةً من
رؤسائه بالقتل دون حساب؟) وبغض البصر عن القيم الخلقيّة أو المصالح السياسيّة التي يقتلُ من أجلها أو ينافحُ
عنها خصومُه.
وهناك كذلك خط ٌر آخر يحدقُ بالقارئ يأتي من البعد التوهيمي الذي يكمن في أغلب النصوص الدبيّة التخيليّة .فقد
يعود القارئ إلى الخلف بسبب قوّة هذا الجانب .فهو حين يقرأ هذا المقطع أو ذاك من الرواية فإنّه يرتدّ إلى سنين
طفولته الولى ويعيش فيها ثانيةً المشاهد القديمة التي مرّت به عندئذٍ فترجعُها القراءةُ صاخب ًة عاصفةً.
فحين يقرأ أحدُنا كتاب طه حسين اليّام ويقرأ وصفا لحياة الكتاب ولحياة "شيخنا" و "العريف" فإننا أو إنّ بعضنا ممن
عاش هذا النمط من التعليم قبل أن ينتشر التعليم الحكومي انتشاره في أيامنا يعيشُ من جديد من خلل حياة الطفل
طه حسين ما سبق له أن عاشه في طفولته إن سعيدا أو شقيّا.
ولكن هذه العودة إلى الماضي وبسبب غياب المسافة اللزمة لتحكيم النقد ل تأتي للقارئ بجديد .فهي تعيدُ إلى
اللحظة الحاضرة وعلى نحوٍ انفعاليّ مشهدا عاشه القارئ في الماضي على نحوٍ انفعاليّ كذلك.
-3-2التطوّر أو النمو
ولكن يكفي أن يقود النصّ قارئه إلى أن يوظّف عواطفه في النصّ المقروء توظيفا معتدلً ومتوازنا عن طريق اتخاذ
مساف ٍة نقديّ ٍة بينه وبين ما يقرأ حتى تظهر القراءة على أنها تجربةٌ مُخصبةٌ وثريّةٌ تدفع به ُقدُما إلى المام بدلً من
أن تشدّه شدّا إلى الخلف!
ولنأخذ على سبيل المثال رواية أديب لطه حسين .فالراوي الول /طه حسين يق ّدمُ لنا في الفصول الولى من روايته
شخصيّة أديب تقديما ل يخلو من إعجابٍ يشوبه كثيرٌ من التحفّظ .وهو يصارحنا بذلك ويعرضُ لنا أسبابه .ولكن
أديب هو الذي يسرد علينا وقائع الفصل السابع .وتنمو الرواية على هذا النحو .وهي تنقل لنا تباعا ما تراه كلّ من
الشخصيتين الساسيّتين .وكلّ منها تشهد القارئ على سلمة رأيها وخطل ما تدّعيه صاحبتها .فتعرض حججها
عرضا مقنعا وتف ّندُ أقوال الخرى تفنيدا ل يخلو من صواب .أي أن القارئ يتماهى في كلّ طو ٍر من أطوار السرد مع
أحد الشخصيّتين ويتبنّى وجهة نظرها المخالفة لوجهة النظر التي سيتبنّاها في المقطع اللحق .وهذا النتقال من
الشخصيّتين المتباينتين تكشف له أعماق كلّ منهما وأعماق نفسه هو.
ولكن لعبة التماهي هي التي تسمح في أغلب الحيان في تطوّر القارئ .والحقيقة إن التماهي كما أشار إلى ذلك
فرويد ليس ظاهر ًة نفسانيةً كغيرها من مظاهر النفس ولكنّها أساس بنية النسان التخيليّة وهي النموذج الذي ينشئ
عليه الفرد كلّ المسارات التي تميّزه عن غيره من الفراد.
وآليّات التماهي التي تقوم عليها النصوص التخيّل ّيةُ هي بعض من هذه الوظيفة المزدوجة الساسيّة والخلّقة.
وهناك رسالةٌ بعث بها قارئٌ لجان جاك روسو ( )1778-1712بعد أن قرأ روايته هيلويز الجديدة ( )1761توضح
وضوحا بيّنا آليّةَ التماهي هذه .وهو يقول فيها" :كم يلذّ لي أن الدموع التي تسكبها شخصيّاتك الفاضلة بالدموع
ت به ول
التي تنهمر من عينيّ أنا بفضل النسان الحبيب إلى قلبي والذي يسكن منّي الصدر .وليس من رسمٍ أتي َ
عاطف ًة ول فكرةً ول مبدأ جئت به إلّ وينطبقُ كلّ النطباق على وضعي المؤلم" ويذكر يحيى حقّي شيئا من هذا
القبيل بخصوص روايته قنديل أم هاشم .فيقول "إنّ اسمي ل يكاد يذكر إلّ ويذكرُ معه "قنديل أم هاشم "كأني لم أكتب
غيرها! .وكنت أحيانا أضيقُ بذلك ولكنّ كثيرين حدّثوني عنها واعترفوا بعمق تأثيرها في نفوسهم .ومنهم أديبٌ
يمنيّ قال لي لقد أحسستُ أنّك تصفني حين أعود من القاهرة إلى اليمن!()2
ويبدو أن ما يدركه القارئ من خلل تماهيه مع الشخصيّات الروائيّة هو حقيقة حياته نفسها .فإذا ترتقي به القراءة
الدبيّة إلى إدراكٍ أوضح لمصيره فإنها تجعله أقدر على فهم خفايا نفسه .وهذا يعني أنه إذا أبقت البنى الروائيّة
ضمير القارئ النقديّ يقظا فإن عودة المكبوت في القراءة تدفع بالقارئ إلى المام عوضا عن أن تشدّه إلى الوراء.
وبدلً من أن يعيش من خلل القراءة ثانيةً مشهدا سبق له أن عاشه في حياته فالقارئ يستطيع أن "يوظّفَ" نفسه
على نحوٍ مختلفٍ في المشهد نفسه.
إنّ قراءة بعض النصوص تجعل ممكنا ما يسمّى في التحليل النفسيّ "بإزالة العقد" .وهذه المفردةُ تعني تصريف
النفعال وانطلق الطاقة النفعاليّة المكبوتة التي تسبّبُ الضطرابات النفسيّة والعصبيّة .وهذه الضطرابات مصدرها
ماضي الشخص ور ّدةُ فعله آنذاك أمام حادث ٍة ما .وينبغي على هذا الشخص أن يعيش من جديدٍ ر ّدةَ فعله تلك كيّ
يتخلّص من الضطرابات النفسيّة والعصبيّة التي نشأت عنها في المرّة الولى.
وزوال العقد هذا يشير بشك ٍل عامٍ إلى وظيفة الفنّ التطهيريّة.
وحين يعيش القارئ ثانيةً ومن خلل القراءة الوقائع الولى التي انعقدت فيها خيوط شخصيّته فبإمكانه أن يدخل
توازنا جديدا في شخصيّته فيغيّر من طبيعة علقته مع ماضيه .فهو كقارئٍ يستطيعُ أن يتخلّص من الضطرابات
التي قد تركتها في وجدانه عقدة أوديب حين يعيشُ ثانيةً ومن باب التسلية التي تتضمنّها القراءة علقة الراوي
الغاضبة بأمّه في اليام أو علقة محسن الساخرة بها في عودة الروح أو علقة سامي المقهورة بها في الحيّ
اللتيني أو علقة مصطفى سعيد الل مبالية بها في موسم الهجرة إلى الشمال وإلى غيرها من المثلة في الدب
العربيّ الحديث.
ج كلّها تظهر لنا كم تختلف المسافة النقديّة الساخرة من كاتبٍ إلى آخر.
وهذه النماذ ُ
-3-3القراءة الدبيّة
فإن كان للقراءة الدبيّة خصوصيتها فعلينا أن نحاول الحاطة بها من خلل ما تتركه من أثرٍ .ويرى ميشيل بيكار إن
القراءة الدبيّة أي قراءة النصوص الدبيّة تتميّز بوظائف جوهريّةٍ ثلث.
ص الدبيّ حين يدّعي التمرّد على ثقاف ٍة أدبيّةٍ ما فهو يفترض في
وأمّا الوظيفة الولى فهي "التجديد في التقليد" .فالن ّ
الوقت نفسه أنها موجودةٌ .فحديث عيسى بن هشام لمحمّد المويلحي يؤكّد جدّته وحداثته من خلل مقارنته مع
مقامات الهمذاني أو الحريري أو مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي
ض وجود الشعر القديم .وليس تفهم إشكاليّة شعر التفعيلة بدون قواعد
( .)1800-1871وثورة الشعر الحديث تفتر ُ
الشعر العمودي! .وليس يُفهم البداع عامّةً بدون خلفيّةٍ ثقافيّةٍ تقليديّة.
ص الدبيّ يحفل دائما بمعانٍ كثير ٍة ويمكننا أن نؤوله على سبلٍ شتّى .والقراءةُ الدبيّة تتصف أكثر من غيرها
إن الن ّ
من القراءات ببعدها الذاتي هذا .وهي تثري القارئ على المستوى الفكريّ وتجعله يوظّف على المستوى التخيّلي
جزءا من ذاته.
فإذا كان توفيق الحكيم يريد من روايته يوميّات نائب في الرياف ( )1933أن تؤدّي مهمةً إصلحيّةً واجتماعيّةً
فوصف لنا فيها أحوال الفلّحين وأبناء المدن المصريّين في فترة ما بين الحربين وكشف لنا عن الهوّة الواسعة
التي كانت تفصل بين عامّة الشعب وأفراد الطبقات الغنيّة فإن روايته هذه تحقق كذلك أمرا آخر .فهي توجد من
خلل الشخصيّات التي ترسمها والحداث التي تعرضها والبنية السرديّة التي تختارها ما يمكن للقارئ معه أن
يتماهى بشخصيّاتها وأن يوظّف تخيليّا في أحداثها شيئا من نفسه.
ص الدبيّ مساحةٌ مزدوج ٌة وغامضةٌ يعي ُد فيها الجانب الذاتي النفساني والجانب الجتماعي تشكيل العلقات
إنّ الن ّ
التي تربطهما ببعضهما.
وأمّا الوظيفة الثالثة حسب بيكار فهي "النمذجة من خلل تجربة واقعة متخيّلة" .وهنا نمسّ البعد التربوي لعمليّة
القراءة" .فنمذجة" موقفٍ تعني أن تقترحَ الرواية على القارئ أن يجرّب في عالم الخيال أمرا قد يقع له في عالم
الواقع .أي أن القراءة تسمح للقارئ أن "يجرّب" المواقف.
ويفترض بالقارئ الذي يواجه مشاكل إسماعيل عند عودته إلى بلده بعد غيابٍ طويلٍ في بلدٍ بعيدٍ أن يختار بعض
السبل وأن يتجنب غيرها.
وهكذا يغتني الفرد بتجرب ٍة لم يعرفها بحياته الفعليّة .ويكفيه أن يستبدل بعناصر الحياة الروائيّة عناصر مشابهةً من
حياته الفعليّة .ويمكن أن نقيس نجاح عملٍ فنيّ بالوهم الذي يخلقهُ .وهذا الوهم يجعلنا نتخ ّيلُ خلل فترة أننا قد
عشنا حياةً أخرى غير حياتنا فتثرى تجربتنا الحياتيّ ُة إثراءً كبيرا.
تجديدٌ في التقليد وانتقاء معنى من معانٍ عديدةٍ ونمذجةٌ من خلل تجربة واقعةٍ مُتخيّلةٍ .إنّ القراءة الدبيّة بهذه
الطرق الثلث نشاطٌ خصبٌ يُغيّ ُر الفرد القارئ.
-1بديع الزمان الهمذاني المقامات ،شرحُ محمد محي الدين عبد الحميد .بيروت ،دار الكتب العلميّة ،بدون تاريخ.
انظر المقامة القريضيّة من الصفحة 10إلى الصفحة .17
-2يحيى حقّي قنديلُ أم هاشم مع سيرة ذاتيّ ٍة للمؤلّف .القاهرة ،الهيئة المصريّة العامّة للكتاب .1975 ،صفحة -43
44
خاتمة
ص الدبيّ وتأويله كما ظهرت في السنوات الخيرة .وهي آخر ما وصل إليه النقد
وبعد فهذه نظريّات قراءة الن ّ
الدبيّ في أوروبا وآخر ما وصل إلينا منها .وها هي صحفنا ومجلّتنا الدوريّة ل تكاد تخلو من دراسةٍ تتبنّى بعض
هذه النظريّات أو من ترجم ٍة لشيءٍ من نصوصها الساسيّة أو الثانويّة ولقد دخلت مصطلحاتها النقديّة على نحوٍ
واسعٍ لغة باحثينا .فنحن واجدون القراءة والتأويل والتلقّي وأفق التوقّع أو النتظار وغيرها كثير.
ولكن ينبغي أن ل يغيّب تعدّد نظريّات التلقّي وتطوّرها الثري خلل السنوات الخيرة عن أنظارنا أهميّة المسائل التي
تثيرها .فتحليل القراءة ونظريّاتها تصطدم بنفس العثرات التي تصطدم بها نظريّاتُ التحليل الدبيّ الخرى وتحدق
بالولى نفسُ المخاطر التي تحيطُ بالثانية.
ن أول هذه المخاطر هو خطر الذاتيّة أي أن يسقط الدارس ذات نفسه على المادة التي يفترض به أنه يدرسها
إّ
حسب معايير العلم وأدواته .وهذا خطر يتربّص بالباحثين على وجه الدوام كما رأينا في الفصل الذي خصصناه لهذه
ص الذي يقرؤه على نحوٍ
القضية .من يضمن لنا أن الباحث الذي يزعم لنا أنه يستخلصُ نشاط القارئ من خلل الن ّ
ي ل يقدّم لنا في نهاية المطاف رؤيته الذاتيّة؟ إنّ بعض الدراسات النقديّة تكشف لنا عن مهارة الناقد أكثر
موضوع ّ
ن النصّ يبرمجه.
مما تنير لنا مسار القراءة الذي تزعم أنّه قائمٌ في صلب النصّ موضوعيّا وأ ّ
وثاني هذه المخاطر هو خطر التاريخيانية .وقد صبغت التاريخانية بقوة مدرسة جوس النقدية في مطلع شأنها.
وليس هذا الخطر بأقلّ شأنا من خطر إسقاط ذات الباحث على المادة المدروسة.
فإن كانت دراسة التلّقي تعني أن نكشف النقاب عن التخيّلت السائدة في عصرها فهذا يعني أن موضوع التحليل هو
وبالمعنى الدقيق دراسة تاريخ العقليّات .وقد تكشف لنا دراسة تلقّي نصّ ما عن خصوصيّة ثقافة العصر الذي ظهر
فيه الكتاب وعن متغيّراته الجتماعيّة أكثر مما تكشف لنا عن آلية التلقّي نفسها!.
والخطر الثالث هو ما أظهرته الدراساتُ البنيويّة بشقيها الشكلي والتحليلي .فهي تنشئ بنى تحليلي ًة تبلغ من التجريد
ص عن ذاك ول ما يفرّق الثمين من الغث .فإن كنا نجد نفس السبل
والتعميم درجةً ل نعرف معها ما يميّزُ هذا الن ّ
على أرض كلّ النصوص فلماذا نتعب أنفسنا بقراءة إدوار الخرّاط أو جبرا إبراهيم جبرا بدلً من الكتفاء بتصفّح
الروايات المسلسلة في مجلة الشبكة؟ وإذا كانت النصوص كلّها تنهض على نفس البنى وترتفع حسب نفس الهيكل
فما الفرق عندها بين روايات نجيب محفوظ العظمى وروايات غادة السمّان؟
ليس النشاط الذي يسعى إلى أن يستخلص عددا معيّنا من الثوابت بقطع النظر عن القارئ وعن النص أمرا متعبا
وعقيما وحسب .ولكنه أمرٌ خط ٌر كذلك.
وباختصار ينبغي أن تتجنب نظريّة التلّقي ،مثلها في هذا مثل كلّ نظريّات التحليل الدبيّة الخرى مزلقين اثنين .أن
تفرط في السعة أو أن تغالي في الضيق .فهي تخطئ هدفها في كلتا الحالتين وهو أن تظهر ما يختصُ به الثر
المدروس عن سواه.
النهايات ()1978
المغمورون ()1979
المدّ والجزر –الصعود ()1986 عبد الكريم ناصيف (سلميّة سوريّة
)1939
المدّ والجزر -النكسار ()1987
المخطوفون ()1991
كليلة ودمنة
السيران وأولد يعقوب ()1972 عبد ال عبد (اللذقية )1976 -1928
السنديانة ()1971
الصخرة ()1978
أصول الحكم في السلم علي عبد الرازق
صخرة الجولن ()1982 علي عقلة عرسان ( )1941