You are on page 1of 56

‫صلى الله عليه‬ ‫محمد‬

‫وسلم‬
‫كأنك تراه‬
‫د‪ .‬عائض بن عبدال القرني‬

‫الطبعة الولى‬
‫‪ 1422‬هـ ـ ‪ 2002‬م‬

‫دار ابن حزم‬


‫بيروت لبنان‬

‫شبكة مجاهد مسلم السلمية الدعوية‬


‫‪www.islammi.jeeran.com‬‬
‫‪www.geocities.com/moujahedmouslem‬‬
‫بيروت ـ لبنان‬
‫نشره موقع صيد الفوائد‬
‫‪/http://www.saaid.net‬‬
‫المؤلف في سطور‬
‫•عائض بن عبدال بن عائض آل مجدوع القرني‪.‬‬
‫•من مواليد عام ‪ 1379‬هـ ببلد القرن جنوب المملكة العربية السعودية‪.‬‬
‫•حصل على الشهادة الجامعية من كلية أصول الدين جامعة المام محمد بن سعود السلمية عام‬
‫‪ 1403‬ـ ‪ 1404‬هـ‪.‬‬
‫•حصل على الماجستير في الحديث النبوي عام ‪ 1408‬هـ وعنوان رسالته " البدعة وأثرها في‬
‫الدراية والرواية"‪.‬‬
‫•حصل على الدكتوراه من جامعة المام عام ‪ 1422‬هـ بعنوان " دراسة وتحقيق كتاب‪ :‬الفهم‬
‫على صحيح مسلم للقرطبي"‪.‬‬
‫•له أكثر من ثمانمائة شريط كاسيت إسلمي في الخطب والدروس والمحاضرات والمسيات‬
‫الشعرية والندوات الدبية‪.‬‬
‫•يحفظ القرآن الكريم وكتاب بلوغ المرام ويستحضر ما يقارب من خمسة آلف حديث وأكثر من‬
‫عشرة آلف بيت شعر‪.‬‬
‫•له أربعة دواوين شعرية هي‪:‬‬
‫‪-1‬لحن الخلود‪.‬‬
‫‪-2‬تاج المدائح‪.‬‬
‫‪-3‬هدايا وتحايا‪.‬‬
‫‪-4‬قصة الطموح‪.‬‬
‫•أما مؤلفاته‪ :‬فقد ألف في الحديث والتفسير والفقه والدب والسيرة والتراجم‪ ،‬ومن مؤلفاته التي‬
‫أصدرها دار ابن حزم بلبنان‪:‬‬

‫‪ -2‬تاج المدائح‪.‬‬ ‫‪ -1‬السلم وقضايا العصر‪.‬‬


‫‪ -4‬دروس المسجد في رمضان‪.‬‬ ‫‪ -3‬ثلثون سببا للسعادة‪.‬‬
‫‪ -6‬مجتمع المثل‪.‬‬ ‫‪ -5‬فاعلم أنه ل إله إل ال‪.‬‬
‫‪ -8‬فقه الديل‪.‬‬ ‫‪ -7‬ورد المسلم والمسلمة‪.‬‬
‫‪ -10‬المعجزة الخالدة‪.‬‬ ‫‪ -9‬نونية القرني‪.‬‬
‫‪ -12‬تحف نبوية‪.‬‬ ‫‪ -11‬اقرأ باسم ربك‪.‬‬
‫‪ -14‬سياط القلوب‪.‬‬ ‫‪ -13‬حتى تكون أسعد الناس‪.‬‬
‫‪ -16‬هكذا قال لنا المعلم‪.‬‬ ‫‪ -15‬فتية آمنوا بربهم‪.‬‬
‫‪ -18‬من موحد الى ملحد‪.‬‬ ‫‪ -17‬ولكن كونوا ربانيين‪.‬‬
‫‪ -20‬وحي الذاكرة‪.‬‬ ‫‪ -19‬إمبراطور الشعراء‪.‬‬
‫‪ -22‬ترجمان السنة‪.‬‬ ‫‪ -21‬الى الذين أسرفوا على أنفسهم‪.‬‬
‫‪ -24‬العظمة‪.‬‬ ‫‪ -23‬حدائق ذات بهجة‪.‬‬
‫‪ -26‬وجاءت سكرة الموت بالحق‪.‬‬ ‫‪ -25‬ل تحزن‪.‬‬
‫‪ -28‬احفظ ال يحفظك‪.‬‬ ‫‪ -27‬مقامات القرني‪.‬‬
‫‪ -29‬أعذب الشعر‪.‬‬
‫•حضر عشرات الحاضرات والمسيات‪ ،‬وحضر مؤتمر الشباب العربي المسلم ومؤتمر الكتاب‬
‫والسنة بالوليات المتحدة الميركية‪ ،‬وحاضر في الندية الدبية والرياضية‪ ،‬وحاضر في‬
‫الجامعات والملتقيات الثقافية‪.‬‬
‫مقدمة‬
‫الحمد ل‪ ،‬والصلة والسلم على عبدال ورسوله محمد‪ ،‬وآله وصحبه‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فل أستطيع أن ألزم الحياد في كتابتي عن أحبّ إنسان الى قلبي‪ :‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫إنني ل أكتب عن زعيم سياسي قدّم لشعبه أطروحته وعرض على أتباعه فكرته‪ ،‬ليقيم دولة في زاوية‬
‫من زوايا الرض‪ ،‬بل أكتب عن رسول ربّ العالمين‪ ،‬المبعوث رحمة للناس أجمعين‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد وأنا أكتب عنه؛ لنني ل أكتب عن خليفة من الخلفاء له جنود وبنود ولديه حشود وعنده‬
‫قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسّومة والنعام والحرث‪ ،‬ولكنني أكتب عن الرحمة المهداة‬
‫والنعمة المسداة‪ :‬محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد لنني ل أتكلم عن سلطان من السلطين قهر الناس بسيفه وسوطه‪ ،‬وأخاف الناس‬
‫بسلطانه وهيمانه وصولجانه‪ ،‬لكنني أتكلم عن معصوم شرح ال صدره ووضع عنه وزره‪ ،‬ورفع له‬
‫ذكره‪.‬‬

‫ولن ألزم الحياد لنني ل أتكلم عن شاعر هدّار‪ ،‬أو خطيب ثرثار‪ ،‬أو متكلم موّار‪ ،‬أو فيلسوف هائم‪ ،‬أو‬
‫روائي متخيل‪ ،‬أو كاتب متصنّعن أو تاجر منعم‪ ،‬بل أتحدث عن نبي خاتم‪ ،‬نزل عليه الوحي‪ ،‬وهبط عليه‬
‫جبريل‪ ،‬ووصل سدرة المنتهى‪ ،‬له شفاعة كبرى‪ ،‬ومنزلة عظمى‪ ،‬وحوض مورود‪ ،‬ومقام محمود‪،‬‬
‫ولواء معقود‪ ،‬فكيف ألزم الحياد إذاً؟‬

‫أتريد أن أحبس عواطفي وأن أقيد ميولي وأن أربط على نبضات قلبي وأنا أكتب عن أحب إنسان إلى‬
‫قلبي وأغلى رجل وأعز مخلوق على نفسي؟ إن هذا لشيء عجاب!‬

‫ط سيرته‪ ،‬وأن أخمد لهيب روحي وأنا أسطّر أخباره‪ ،‬وأن أجمد‬
‫أتريد مني أن أكفكف دموعي وأنا أخ ّ‬
‫خلجات فؤادي وأنا أدبج ذكرياته؟! لن أستطيع هذا‪ ،‬كل وألف كل‪.‬‬

‫لنني أكتب عن أسوة وإمام معي بهداه في كل شاردة وواردة‪ ،‬أصلي فأذكره لنه يقول‪" :‬صلوا كما‬
‫ج فأذكره لنه يقول‪ ":‬لتأخذوا عني مناسككم" مسلم ‪ ،1297‬في كل‬ ‫رأيتموني أصلي" البخاري ‪ ،631‬أح ّ‬
‫طرفة عين أذكره لنه يقول‪ ":‬من رغب عن سنتي فليس مني" البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪ ،1401‬وفي كل‬
‫س َوةٌ حَسَ َنةٌ } الحزاب ‪.21‬‬
‫لحظة أذكره لن ال يقول‪ {:‬لَ َق ْد كَانَ َل ُكمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُ ْ‬

‫ل الناس وأفضل البشر وأزكى العالمين‪ ،‬مرجعي في ذلك دفتر الحب‬


‫إنني أكتب عن أغلى الرجال وأج ّ‬
‫المحفوظ في قلبي‪ ،‬ومصدري في ذلك ديوان العجاب المخطوط في ذاكرتي‪ ،‬فكأنني أكتب بأعصاب‬
‫جسمي وشرايين قلبي‪ ،‬وكأن مدادي دمي ودموعي ‪:‬‬

‫بدو وحضر ومن عرب ومن عجم‬ ‫إن كان أحببت بعد ال مثله في‬
‫ول تفوّه بالقول السديد فمي‬ ‫فل اشتفى ناظري من منظر حسن‬
‫وذكراك عصفور من القلب ينقر‬ ‫زمانك بستان وعهدك أخضر‬
‫كانت عصافير وكان صنوبر‬ ‫وكنت فكانت في الحقول سنابل‬
‫وأمطرتنا حبا ول زلت تمطر‬ ‫لمست أمانينا فصارت جداول‬
‫ويورق فكري حين فيك أفكّر‬ ‫تعاودني ذكراك كلّ عشيّة‬
‫كأن جرح الحب ل يتخثر‬ ‫وتأبى جراحي أن تض ّم شفاهها‬
‫أفسّر ماذا والهوى ل يُفسّر‬ ‫أحبّك ل تفسير عندي لصبوتي‬
‫طويل وأضواء القناديل تسهر‬ ‫تأخرت يا أعلى الرجال فليلنا‬

‫**‬
‫قصة النبوة‬
‫محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم كأنك تراه‬
‫اسمه‪:‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬اسم على مسمّى‪ ،‬علم على رمز‪ ،‬ووصف على إمام‪ ،‬جمع المحامد‪ ،‬وحاز‬
‫المكارم‪ ،‬واستولى على القيم‪ ،‬وتفرّد بالمثل‪ ،‬وتميّز بالريادة‪ ،‬محمود عند ال لنه رسوله المعصوم‪ ،‬ونبيّه‬
‫الخاتم‪ ،‬وعبده الصالح‪ ،‬وصفوته من خلقه‪ ،‬وخليله من أهل الرض‪ ،‬ومحمود عند الناس لنه قريب من‬
‫القلوب‪ ،‬حبيب الى النفوس‪ ،‬رحمة مهداة‪ ،‬ونعمة مسداة‪ ،‬مبارك أينما كان‪ ،‬محفوف بالعناية أينما وجد‪ ،‬محاط‬
‫بالتقدير أينما حلّ وارتحل‪ ،‬حمدت طبائعه لنها هذّبت بالوحي‪ ،‬وشرفت طباعه لنها صقلت بالنبوة‪ ،‬فال‬
‫محمود ورسوله محمد‪:‬‬

‫وشقّ له من اسمه ليجلّه‬


‫فذو العرش محمود وهذا محمّد‬

‫واسمه أحمد‪ ،‬بشّر بذلك عيسى قومه‪ ،‬واسمه العاقب والحاشر والماحي‪ ،‬وهو خاتم الرسل وخيرة النبياء‪،‬‬
‫وخطيبهم إذا وفدوا‪ ،‬وإمامهم إذا وردوا‪.‬‬

‫صاحب الحوض المورود‪ ،‬واللواء المعقود‪ ،‬والمقام المحمود‪ ،‬صاحب الغرّة والتحجيل‪ ،‬المذكور في‬
‫التوراة والنجيل‪ ،‬المؤيّد بجبريل‪ ،‬حامل لواء العزّ في بني لؤي‪ ،‬وصاحب الطود المنيف في بني عبدمناف‬
‫بن قصي‪ ،‬أشرف من ذُكر في الفؤاد‪ ،‬وصفوة الحواضر والبوادي‪ ،‬وأجلّ مصلح وهاد‪ ،‬جليل القدر‪ ،‬مشروح‬
‫الصدر‪ ،‬مرفوع الذكر‪ ،‬رشيد المر‪ ،‬القائم بالشكر‪ ،‬المحفوظ بالنصر‪ ،‬البريء من الوزر‪ ،‬المبارك في كل‬
‫عصر‪ ،‬المعروف في كل مصر‪ ،‬في همة الدهر‪ ،‬وجود البحر‪ ،‬وسخاء القطر‪ ،‬صلوات ال وسلمه عليه‬
‫وآله وصحبه‪ ،‬ما نجمٌ بدا‪ ،‬وطائر شدا‪ ،‬ونسيم غدا‪ ،‬ومسافر حدا‪.‬‬

‫واما نسبه‪:‬‬
‫فالرسول صلى ال عليه وسلم خيار من خيار‪ ،‬الى نسبه يعود كل مخار‪ ،‬وهو من نكاح ل من سفاح‪ ،‬آباؤه‬
‫سادات الناس‪ ،‬وأجداده رؤوس القبائل‪ ،‬جمعوا المكارم كابرا عن كابر‪ ،‬واستولى على معالي المور‪ ،‬فلن‬
‫ل منه‪ ،‬ول في قرن هاشم أنبل منه‪ ،‬ول في أتراب عبدمناف اكرم منه‪ ،‬ول في‬ ‫تجد في صفة عبدالمطلب أج ّ‬
‫رعيل قصيّ أعلى كعبا منه‪ ،‬وهكذا دواليك‪ ..‬حتى يدم عليه السلم‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم سيد من سيد‬
‫يروي المكارم أبا عن جد‪:‬‬

‫نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى‬


‫نورا ومن فلق الصباح عمودا‬

‫وأما موطنه عليه الصلة والسلم‪:‬‬


‫ب البلد إليه سبحانه‪ ،‬البلد الحرام‪ ،‬والتربة الطاهرة‪،‬‬
‫فقد اختار ال له من بقاع العالم ومن بين أصقاعها أح ّ‬
‫والرض المقدسة‪ ،‬والوطن المحاط بالعناية المحروس بالرعاية‪ ,‬فولد صلى ال عليه وسلم في مكة حيث‬
‫صلى النبياء‪ ،‬وتهجّد المرسلون‪ ،‬وهبط الوحي‪ ،‬وطلع النور‪ ،‬وأشرقت الرسالة‪ ،‬وسطعت النبوة‪ ،‬وانبلج‬
‫فجر البعثة‪ ،‬وحيث البيت العتيق‪ ،‬والعهد الوثيق‪ ،‬والحب العميق‪ ،‬فمكة مسقط رأس المعصوم‪ ،‬وفيها مهد‬
‫طفولته‪ ،‬وملعب صباه‪ ،‬ومعاهد شبابه‪ ،‬ومراتع فتوّته‪ ،‬ورياض أنسه‪.‬‬

‫ي تمائمي‬
‫بلدٌ نيطت عل ّ‬
‫س جلدي ترابها‬
‫وأوّل أرض م ّ‬

‫ففيها رضع لبن الطهر‪ ،‬ورشف ماء النبل‪ ،‬وحسا ينبوع الفضيلة‪ ،‬وفيها درج‪ ،‬ودخل وخرج‪ ،‬وطلع وولج‪،‬‬
‫فهي وطنه الول‪ ،‬بأبي هو وأمي‪ ،‬وهي بلدته العزيزة الى فؤاده‪ ،‬الحبيبة الى قلبه‪ ،‬الثيرة الى روحه بنفسي‬
‫هو‪.‬‬

‫وحبّب أوطان الرجال إليهم‬


‫معاهد قضاها الشباب هنالكا‬
‫إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو‬
‫عهود الصبا منها فحنّوا لذالكا‬

‫فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى‪ ،‬وبثّ دعوته العظمى‪ ،‬وأرسل للعالمين خطابه الحارّ الصادق‪ ،‬وبعث‬
‫لهل الرض رسالته المشرقة الساطعة‪ ،‬حتى إنه لما أخرج من مكة ودّعها وداع الوفياء وفارقها وما كاد‬
‫يتحمّل هذا الفراق‪ {:‬لَا ُأقْ ِس ُم بِ َهذَا ا ْلبََلدِ (‪ )1‬وَأَنتَ حِ ّل ِب َهذَا ا ْلبَلَدِ(‪ } )2‬البلد‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم طفل‪:‬‬


‫فإن الطهر ولد معه والبِشر صاحبه‪ ،‬والتوفيق رافقه‪ ،‬فهو طفل لكن ل كالطفال‪ ،‬براءة في نجابة‪ ،‬وذكاء‬
‫مع زكاء‪ ،‬وفطنه مع عناية‪ ،،‬فعين الرعاية تلحظه‪ ،‬ويد الحفظ تعاونه‪ ،‬وأغضان الولية تظلله‪ ،‬فهو هالة‬
‫النور بين الطفال‪ ،‬حفظه ال من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء‪ ،‬لنه من ثغره‬
‫مرشح لصلح العالم‪ ،‬مهيأ لسعاد البشرية‪ ،‬مع ّد بعناية لخراج الناس من الظلمات الى النور‪ ،‬فهو الرجل‬
‫لكن النبي‪ ،‬والنسان لكن الرسول‪ ،‬والعبد لكن المعصوم‪ ،‬والبشر لكن الموحى إليه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم ليس زعيما فحسب‪ ،‬لن الزعماء عدد شعر الرأس‪ ،‬لهم طموحات من العلوم‬
‫ومقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا‪ ،‬أما هو فصالح مصلح‪ ،‬ها ٍد مهدي‪ ،‬معه كتاب سنة‪ ،‬ونور وهدى‪،‬‬
‫وعلم نافع وعمل صالح‪ ،‬فهو لصلح الدنيا والخرة‪ ،‬ولسعادة الروح والجسد‪.‬‬

‫ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس عالما فحسب‪ ،‬بل يعلّم بإذن ال العلماء‪ ،‬ويفقه الفقهاء‪ ،‬ويرشد الخطباء‪،‬‬
‫ويهدي الحكماء‪ ،‬ويدل الناس الى الصواب { وَِإّنكَ َل َتهْدِي إِلَى صِرَا ٍط مّ ْستَقِيمٍ(‪ } )52‬الشورى‪.‬‬

‫فكلهم من رسول ال ملتمسٌ‬


‫غرفاً من البحر أو رشفاً من اليمّ‬

‫ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس ملكا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه‪ ،‬بل إمام معصوم ونبي نرسل‪،‬‬
‫وبشير ونذير لكل ملك ومملوك‪ ،‬وحر وعبد‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬وأبيض وأسود‪ ،‬وعربي وعجمي { َومَا َأرْسَ ْلنَاكَ‬
‫إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِي َن (‪ } )107‬النبياء‪ ،‬ويقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬والذي نفسي بيده ل يسمع بي أحد من هذه‬
‫المة يهودي ول نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إل كان من أصحاب النار"‪ .‬أخرجه مسلم‬
‫‪ 153‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫وأما شبابه‪ ،‬فهو زينة الشباب وجمال الفتيان‪ ،‬عفة ومروءة وعقل وأمانة وفصاحة‪ ،‬لم يكن يكذب كذبة‬
‫واحدة‪ ،‬ولم تعلم له عثرة واحدة ول زلة واحدة ول منقصة واحدة‪ ،‬فهو طاهر الزار مأمون الدخيلة‪ ،‬زاكي‬
‫ف الخصال‪،‬‬‫ي الخلق‪ ،‬عذب السجايا‪ ،‬صادق المنطق‪ ،‬ع ّ‬ ‫السر والعلن‪ ،‬وقور المقام‪ ،‬محترم الجانب‪ ،‬أريح ّ‬
‫حسن الخلل‪.‬‬

‫لم يستطع أعداؤه حفظ زلة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم‪ ،‬بل لم يعثروا في ملف‬
‫خلقه الكريم على ما يعيب‪ ،‬بل وجدوا والحمد ل كل ما غاظهم من نبل الهمة ونظافة السجل‪ ،‬وطهر في‬
‫السيرة‪ ،‬وجدوا الصدق الذي يباهي سناء الشمس‪ ،‬ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام‪ ،‬فهو بنفس‬
‫الغاية في كل خلق شريف وفي كل مذهب عفيف‪ ،‬فكان في عنفوان شبابه مستودع المانات ومردّ الراء‬
‫ومرجع المحاكمات ومضرب المثل في البرّ والسموّ والرشد والفصاحة {وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِيمٍ(‪ } )4‬القلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم رسول‪:‬‬


‫ن (‪ )1‬عَنِ ال ّنبَإِ‬
‫عمّ َيتَسَاءلُو َ‬
‫فهو النبأ العظيم‪ ،‬والحدث الهائل‪ ،‬والخبر العجيب‪ ،‬والشأن الفخم‪ ،‬والمر الضخم { َ‬
‫ا ْلعَظِي ِم (‪ )2‬اّلذِي هُ ْم فِيهِ ُم ْختَلِفُو َن (‪ })3‬النبأ‪ ،‬فمبعثه حقيقة هو أروع النباء وأعظم الخبار الذي سارت به‬
‫الخبار‪ ،‬وتحدّث به السمّار‪ ،‬ورعاه الركبان‪ ،‬واندهش منه الدهر‪ ،‬وذهب منه الزمن‪ ،‬فقد استدار له التاريخ‬
‫ووقفت له اليام‪ ،‬فقصة إرساله عليه الصلة والسلم ل يلفها الظلم ول تغطيها الريح ول يحجبها الغمام‪،‬‬
‫فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار‪ ،‬ونزلت على العالم نزول الغيث‪ ،‬وأشرقت إشراق الشمس‪،‬‬
‫فهو بإختصار نور‪ ،‬وهل يخفى النور؟ {يُرِيدُونَ ِليُطْفِؤُوا نُورَ اللّ ِه بَِأفْوَا ِههِ ْم وَاللّ ُه ُمتِ ّم نُورِهِ وَلَ ْو كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ (‪})8‬‬
‫الصف‪.‬‬

‫وصحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ":‬مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه‬
‫البخاري ‪ ،79‬ومسلم ‪ 2282‬عن أبي موسى الشعري رضي ال عنه‪.‬‬

‫عدوّك مذمو ٌم بكل لسان‬


‫وإن كان أعداءك القمران‬
‫ول سرّ في علك وإنما‬
‫كلم الورى ضرب من الهذيان‬

‫فهو عليه الصلة والسلم بعث ليعبد ال وحده ل شريك له‪ ،‬بعث ليوحد ال‪ ،‬بعث ليقال في الرض‪ :‬ل اله‬
‫إل ال محمد رسول ال‪ ،‬بعث ليحقّ الحق ويبطل الباطل‪ ،‬بعث بالمحجة البيضاء والملة الغرّاء والشريعة‬
‫السمحاء‪ ،‬بعث بالعدل والحسان وإيتاء ذي القربى‪ ،‬بعث بالخير والسلم والبرّ والمحبة والسعادة والصلح‪،‬‬
‫والمن واليمان‪ ،‬بعث بالطهارة والصلة والزكاة والصوم والحج والجهاد والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬بعث بمعالي المور ومكارم الخلق ومحاسن الطباع ومجامع الفضيلة‪ ،‬بعث لدحض الشرك‬
‫وسحق الصنام وكسر الوثان وطرد الجهل ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل ونفي الرذيلة‪ ،‬فما من خير إل‬
‫دلّ عليه‪ ،‬وما من شرّ إل حذّر منه‪.‬‬
‫وأما خلقه عليه الصلة والسلم فإن ال هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه‪ ،‬فهو أحسن الناس خلقا‪ ،‬وأسدّهم قول‪،‬‬
‫وأمثلهم طريقة‪ ،‬وأصدقهم خبرا‪ ،‬وأعدلهم حكما‪ ،‬وأطهرهم سريرة‪ ،‬وأنقاهم سيرة‪ ،‬وأفضلهم سجايا‪،‬‬
‫وأجودهم يدا‪ ،‬وأسمحهم خاطرا‪ ،‬وأصفاهم صدرا‪ ،‬وأتقاهم لربه‪ ،‬وأخشاهم لموله‪ ،‬وأعلمهم بالمة‪،‬‬
‫وأوصلهم رحمة‪ ،‬وأزكاهم منبتا‪ ،‬وأكرمهم محتدا‪ ،‬وأشجعهم قلبا‪ ،‬وأثبتهم جنانا‪ ،‬وأمضاهم حجة‪ ،‬وخيرهم‬
‫نفسا ونسبا وخلقا ودينا‪.‬‬

‫فهو جميل الصفات مشرق المحيّا‪ ،‬قريب من القلوب‪ ،‬حبيب الى الرواح‪ ،‬سهل الخليقة‪ ،‬ميسّر الطريقة‪،‬‬
‫مبارك الحال‪ ،‬تعلوه مهابة وترافقه جللة‪ ،‬على وجهه نور الرسالة‪ ،‬وعلى ثغره بسمة المحبة‪ ،‬حيّ القلب‪،‬‬
‫ذكي الخاطر‪ ،‬عظيم الفطنة‪ ،‬سديد الرأي‪ ،‬ريان المشاعر بالخير‪ ،‬يسعد به جليسه‪ ،‬وينعم به رفيقه‪ ،‬ويرتاح له‬
‫صاحبه‪ ،‬يحبّ الفأل ويكره الطيرة‪ ،‬يعفو ويصفح‪ ،‬ويسخو ويمنح‪ ،‬أجود من الريح المرسلة‪ ،‬وأكرم من‬
‫الغيث الهاطل‪ ،‬وأبهى من البدر‪ ،‬وسع الناس بأخلقه وطوّق الرجال بكرمه‪ ،‬وأسعد البشرية بدعوته‪ ،‬من رآه‬
‫أحبّه‪ ،‬ومن عرفه هابه‪ ،‬ومن داخله أجلّه‪ ،‬كلمه يأخذ بالقلوب‪ ،‬وسجاياه تأسر الرواح‪.‬‬

‫ثبّت ال قلبه فل يزيغ‪ ،‬وسدّد كلمه فل يجهل‪ ،‬وحفظ عينهفل تخون‪ ،‬وحصّن لسانه فل يزل‪ ،‬ورعى دينه‬
‫حمَةٍ‬
‫ق عَظِي ٍم (‪ })4‬القلم‪َ { ،‬ف ِبمَا رَ ْ‬
‫فل يضل‪ ،‬وتولى أمره فل يضيع‪ ،‬فهو محفوظ مبارك ميمون { َوِإّنكَ َلعَلى خُلُ ٍ‬
‫مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُ ْم } آل عمران ‪.159‬يقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬إن أتقاكم وأعلمكم بال أنا" أخرجه البخاري‬
‫‪ 20‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬ويقول‪ ":‬خيركم خيركم لهله وأنا خيركم لهله" أخرجه الترمذي ‪3895‬‬
‫والبيهقي في السنن ‪ 15477‬عن عائشة‪ .‬ويروى عنه أنه قال‪ ":‬إنما بعثت لتمم مكارم الخلق" أخرجه‬
‫البيهقي في السنن الكبرى ‪ .20571‬فسبحان من اجتباه واصطفاه وتوله وحماه ورعاه وكفاه‪ ،‬ومن كل بلء‬
‫حسن أبله‪.‬‬

‫وأما دينه‪:‬‬
‫ل ِم دِينا‬
‫غيْ َر الِسْ َ‬
‫ب الديان الى ال { َومَن َي ْبتَغِ َ‬
‫فهو السلم‪ ،‬دين الفطرة‪ ،‬دين الوسط‪ ،‬دين الفلح والنجاة‪ ،‬أح ّ‬
‫فَلَن يُ ْقبَ َل ِمنْهُ وَهُ َو فِي الخِرَ ِة مِنَ ا ْلخَا ِسرِينَ (‪ } )85‬آل عمران‪ ،‬دين جاء لوضع الصار والغلل عن المة‪،‬‬
‫ل َم دِينا } المائدة‬
‫ت عََل ْيكُ ْم ِنعْ َمتِي وَ َرضِيتُ َلكُ ُم الِسْ َ‬
‫سهل ميسّر‪ ،‬عام شامل‪ ،‬كامل تام {ا ْليَوْمَ َأ ْكمَلْتُ َلكُ ْم دِي َنكُمْ وََأ ْت َممْ ُ‬
‫‪.3‬‬

‫دين جاء ليخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة ربّ العباد‪ ،‬ومن ضيق الدنيا الى سعة الخرة‪ ،‬ومن‬
‫ظلمات الشرك الى نور التوحيد‪ ،‬ومن شقاء الكفر الى سعادة اليمان‪.‬‬

‫دين صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬شرعه من يغفر الزلة‪ ،‬وهو الذي يعلم السرّ وأخفى‪ ،‬العالم بعلنية العبد‬
‫والنجوى‪.‬‬

‫وهو الدين الوسط الذي جاء بالعلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬خلف ما كان عليه اليهود؛ لن عندهم علم غير‬
‫نافع لم يعملوا به‪ ،‬فغضب ال عليهم‪ ،‬وخلف النصارى؛ لن عندهم عمل بل علم‪ ،‬فضلوا سواء السبيل‪.‬‬
‫فدين السلم صراط الذين أنعم ال عليهم غير المغضوب عليهم ول الضالين‪ .‬فالرسول صلى ال عليه وشلم‬
‫بعث أميا من الميين يتلو عليهم آيات ال ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬وإن كانوا من قبله لمن‬
‫الضالين‪ ،‬فجاء هذا الدين بتحريم الكذب في القوال والزور في الشهادة‪ ،‬والظلم في الحكام‪ ،‬والجور في‬
‫الولية‪ ،‬والتصفيف في المكيال والميزان‪ ،‬والبغي على الناس والعتداء على الغير والضرار بالنفس‬
‫والناس‪ ،‬فحفظ القلب باليمان‪ ،‬والجسم بأسباب الصحة‪ ،‬والمال من التلف‪ ،‬والعرض من النتهاك‪ ،‬والدم من‬
‫السفك‪ ،‬والعقل من إذهابه وتغييره‪.‬‬

‫وأما كتابه‪:‬‬
‫فهو القرآن‪ ،‬أفضل الكتب وأجلّ المواثيق‪ ،‬وأحسن القصص وأحسن الحديث‪ ،‬فهو الحق المهيب الذي ل‬
‫يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬كتاب فصّلت آياته ثم أحكمت‪ ،‬مبارك في‬
‫تلوته وتدبره والستشفاء به والتحاكم اليه والعمل به‪ ،‬كل حرف منه بعشر حسنات‪ ،‬شافع مشفّع‪ ،‬وشاهد‬
‫صادق‪ ،‬أنيس ممتع‪ ،‬وسمير مفيد‪ ،‬وصاحب أمين‪ ،‬معجز مؤثر‪ ،‬له حلوة وعليه طلوة‪ ،‬يعلو ول يعلى‬
‫عليه‪ ،‬ليس بسحر ول شعر ول بكهانة ول بقول بشر‪ ،‬بل هو كلم ال‪ ،‬منه بدا وإليه يعود‪ ،‬نزل به الروح‬
‫المين على قلب رسول ربّ العالمين ليكون من المرسلين‪ ،‬بلسان عربي مبين‪ ،‬فهو الكتاب الذي بزّ فصاحة‪،‬‬
‫وفاقها بلغة‪ ،‬وعل عليها حجة وبيانا‪ ،‬وهو هدى ورحمة وموعظة وشفاء لما في الصدور‪ ،‬ونور وبرهان‬
‫ورشد وسداد ونصيحة وتعليم‪ ،‬محفوظ من التبديل‪ ،‬محروس من الزيادة والنقص‪ ،‬معجزة خالدة‪ ،‬عصمة‬
‫لمن اتبعه ونجاة لمن عمل به‪ ،‬وسعادة لمن استرشده‪ ،‬وفوز لمن اهتدى بهديه‪ ،‬وفلح لمن حكمه في حياته‪.‬‬
‫يقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لصحابه" أخرجه مسلم ‪ 804‬عن‬
‫أبي أمامة الباهلي رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه" أخرجه البخاري ‪ 5027‬عن‬
‫عثمان رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬إن ال يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" أخرجه مسلم ‪ 817‬عن‬
‫عمر رضي ال عنه‪ .‬وهو الكتاب الذي أفحم الشعراء‪ ،‬وأسكت الخطباء‪ ،‬وغلب البلغاء‪ ،‬وقهر العرب‬
‫العرباء‪ ،‬وأعجز الفصحاء‪ ،‬وأعجب العلماء وأذهل الحكماء {إِ ّن هَـذَا الْقُرْآنَ ِي ْهدِي لِّلتِي هِيَ َأ ْقوَمُ} السراء ‪.9‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم صادقا‪:‬‬


‫فهو أصدق من تكلم‪ ،‬كلمه حق وصدق وعدل‪ ،‬لم يعرف الكذب في حياته جادّا أو مازحا‪ ،‬بل حرّم الكذب‬
‫ن الصدق يهدي الى البر‪ ،‬وإن الب ّر يهدي الى الجنة‪ ،‬ول يزال الرجل يصدق‬
‫وذمّ أهله ونهى عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬إ ّ‬
‫ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صدّيقا‪ "..‬الحديث أخرجه البخاري ‪ 6094‬ومسلم ‪ 2607‬عن عبدال بن‬
‫مسعود رضي ال عنه‪.‬‬

‫وأخبر ان المؤمن قد يبخل وقد يجبن‪ ،‬لكنه ل يكذب أبدا‪ ،‬وحذر من الكذب في المزاح لضحاك القوم‪،‬‬
‫فعاش عليه الصلة والسلم والصدق حبيبه وصاحبه‪ ،‬ويكفيه صدقا صلى ال عليه وسلم أنه أخبر عن ال‬
‫بعلم الغيب‪ ،‬وائتمنه ال على الرسالة‪ ،‬فأداها للمة كاملة تامة‪ ،‬لم ينقص حرفا ولم يزد حرفا‪ ،‬وبلّغ المانة‬
‫عن ربه بأتمّ البلغ‪ ،‬فكل قوله وعمله وحاله مبني على الصدق‪ ،‬فهو صادق في سلمه وحربه‪ ،‬ورضاه‬
‫وغضبه‪ ،‬وجدّ وهزله‪ ،‬وبيانه وحكمه‪ ،‬صادق مع القريب والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪ ،‬والرجل والمرأة‪،‬‬
‫صادق في نفسه ومع الناس‪ ،‬في حضره وسفره‪ ،‬وحلّه وإقامته‪ ،‬ومحاربته ومصالحته‪ ،‬وبيعه وشرائه‪،‬‬
‫وعقوده وعهوده ومواثيقه‪ ،‬وخطبه ورسائله‪ ،‬وفتاويه وقصصه‪ ،‬وقوله ونقله‪ ،‬وروايته ودرايته‪ ،‬بل معصوم‬
‫من أن يكذب‪ ،‬فال مانعه وحاميه من هذا الخلق المشين‪ ،‬قد أقام لسانه وسدّد لفظه‪ ،‬وأصلح نطقه وقوّم‬
‫حديثه‪ ،‬فهو الصادق المصدوق‪ ،‬الذي لم يحفظ له حرف واحد غير صادق فيه‪ ،‬ول كلمة واحدة خلف الحق‪،‬‬
‫ولم يخالف ظاهره باطنه‪ ،‬بل حتى كان صادقا في لحظاته ولفظاته وإشارات عينيه‪ ،‬وهو الذي يقول‪ ":‬ما‬
‫كان لنبي أن تكون له خائنة أعين" أخرجه أبو داود ‪ 4359‬والنسائي ‪ ،4067‬وذلك لما قال له أصحابه‪ :‬أل‬
‫أشرت لنا بعينك في قتل السير؟!‬

‫بل هو الذي جاء بالصدق من عند ربه‪ ،‬فكلمه صدق وسنّته صدق‪ ،‬ورضاه صدق وغضبه صدق‪،‬‬
‫ومدخله صدق ومخرجه صدق‪ ،‬وضحكه صدق وبكاؤه صدق‪ ،‬ويقظته صدق ومنامه صدق {ِليَسَْألَ الصّا ِدقِينَ‬
‫ص َدقُوا اللّهَ َلكَانَ‬
‫ن آ َمنُواْ اتّقُواْ اللّهَ َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ (‪ })119‬التوبة‪{ ،‬فَلَ ْو َ‬
‫ص ْد ِقهِمْ } الحزاب ‪{ ،8‬يَا َأّيهَا اّلذِي َ‬
‫عَن ِ‬
‫َخيْرا ّل ُهمْ (‪ } )21‬محمد‪.‬‬

‫فهو صلى ال عليه وسلم صادق مع ربه‪ ،‬صادق مع نفسه‪ ،‬صادق مع الناس‪ ،‬صادق مع أهله‪ ،‬صادق مع‬
‫ل لكان محمداً صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهل يُتعلم الصدق إل منه بأبي هو وأم؟‬
‫أعدائه‪ ،‬فلو كان الصدق رج ً‬
‫وهل ينقل الصدق إل عنه بنفسي هو؟ فهو الصادق المين في الجاهلية قبل السلم والرسالة‪ ،‬فكيف حاله‬
‫بال بعد الوحي والهداية ونزول جبريل عليه ونبوّته وإكرام ال له بالصطفاء والجتباء والختيار؟!‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم صابرا‪:‬‬


‫فل يعلم أحد مرّ به من المصائب والمصاعب والمشاق والزمات كما م ّر به صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫صبْ ُركَ ِإ ّل بِاللّ ِه } النحل ‪ ،127‬صبرعلى اليتم والفقر والعوز والجوع والحاجة‬ ‫صبِ ْر َومَا َ‬
‫صابر محتسب {وَا ْ‬
‫والتعب والحسد والشماتة وغلبة العدو أحيانا‪ ،‬وصبر على الطرد من الوطن والخراج من الدار والبعاد عن‬
‫الهل‪ ،‬وصبر على قتل القرابة والفتك بالصحاب وتشريد التباع وتكالب العداء وتحزّب الخصوم‬
‫واجتماع المحاربين وصلف المغرضين وكبر الجبارين وجهل العراب وجفاء البادية ومكر اليهود وعتوّ‬
‫النصارى وخبث المنافقين وضرواة المحاربين‪ ،‬وصبر على تجهّم القريب وتكالب البعيد‪ ،‬وصولة الباطل‬
‫وطغيان المكذبين‪ ..‬صبر على الدنيا بزينتها وزخرفها وذهبها وفضتها‪ ،‬فلم يتعلق منها بشيء‪ ،‬وصبر على‬
‫إغراء الولية وبريق المنصب وشهوة الرئاسة‪ ،‬فصدف عن ذلك كله طلبا لمرضاة ربه‪ ،‬فهو صلى ال عليه‬
‫وسلم الصابر المحتسب في كل شأن من شؤون حياته‪ ،‬فالصبر درعه وترسه وصاحبه وحليفه‪ ،‬كلما أزعجه‬
‫صبْرٌ‬ ‫ن } طه ‪ ،130‬وكلما بلغ به الحال أشدّه والمر أضيقه تذكّر {فَ َ‬ ‫علَى مَا يَقُولُو َ‬
‫صبِرْ َ‬
‫كلم أعدائه تذكّر {فَا ْ‬
‫صبَرَ أُوْلُوا ا ْلعَزْمِ‬
‫صبِرْ َكمَا َ‬
‫ض مضجعه تخطيط الكفار تذكّر{فَا ْ‬
‫َجمِي ٌل } يوسف ‪ ،18‬وكلما راعه هول العدو وأق ّ‬
‫مِنَ الرّ ُسلِ } الحقاف ‪.35‬‬

‫وصبره صلى ال عليه وسلم صبر الواثق بنصر ال‪ ،‬المطمئن الى وعد ال‪ ،‬الراكن الى موله‪ ،‬المحتسب‬
‫ل في عله‪ ،‬وصبره صبر من علم أن ال سوف ينصره ل محالة‪ ،‬وأن العاقبة له‪ ،‬وأن ال‬ ‫الثواب من ربّه ج ّ‬
‫معه‪ ،‬وأن ال حسبه وكافيه‪ ،‬يصبر صلى ال عليه وسلم على الكلمة النابية فل تهزه‪ ،‬وعلى اللفظة الجارحة‬
‫فل تزعجه‪ ،‬وعلى اليذاء المتعمّد فل ينال منه‪.‬‬

‫مات عمه فصبر‪ ،‬وماتت زوجته فصبر‪ ،‬وقتل حمزة فصبر‪ ،‬وأبعد من مكة فصبر‪ ،‬وتوفي ابنه فصبر‪،‬‬
‫وتوفي ابنه فصبر‪ ،‬ورميت زوجته الطاهرة فصبر‪ ،‬و ُكذّب فصبر‪ ،‬قالوا له شاعر كاهن ساحر مجنون كاذب‬
‫مفتر فصبر‪ ،‬أخرجوه‪ ،‬آذوه‪ ،‬شتموه‪ ،‬سبّوه‪ ،‬حاربوه‪ ،‬سجنوه‪ ..‬فصبر‪ ،‬وهل يتعلّم الصبر إل منه؟ وهل يُقتدى‬
‫بأحد في الصبر إل به؟ فهو مضرب المثل في سعة الصدر وجليل الصبر وعظيم التجمّل وثبات القلب‪ ،‬وهو‬
‫إمام الصابرين وقدوة الشاكرين صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم جوادا‪:‬‬


‫فهو أكرم من خلق ال‪ ،‬وأجود البرية نفسا ويدا‪ ،‬فكفّه غمامة بالخير‪ ،‬ويده غيث الجود‪ ،‬بل هو أسرع‬
‫بالخير من الريح المرسلة‪ ،‬ل يعرف "ل" إل في التشهد‪:‬‬

‫كا قال "ل" قط إل في تشهدّه‬


‫لول التشهد كانت لؤه نعم‬
‫يعطي عليه الصلة والسلم عطاء من ل يخشى الفقر؛ لنه بعث بمكارم الخلق‪ ،‬فهو سيد الجواد على‬
‫الطلق‪ ،‬أعطى غنما بين جبلين‪ ،‬وأعطى كل رئيس قبيلة من العرب مائة ناقة‪ ،‬وسأله سائل ثوبه الذي‬
‫يلبسه فخلعه وأعطاه‪ ،‬وكان ل يردّ طالب حاجة‪ ،‬قد وسع الناس برّه‪ ،‬طعامه مبذول وكفه مدرار‪ ،‬وصدره‬
‫واسع‪ ،‬وخلقه سهل‪ ،‬ووجه بسّام‪:‬‬

‫تراه إذا ما جئته متهلل‬


‫كأنك تعطيه الذي أنت سائله‬

‫ينفق مع العدم ويعطي مع الفقر‪ ،‬يجمع الغنائم ثو يوزعها في ساعة‪ ،‬ول يأخذ منها شيئا‪ ،‬مائدته صلى ال‬
‫عليه وسلم معروضة لكل قادم‪ ،‬وبيته قبلة لكل وافد‪ ،‬يضيف وينفق ويعطي الجائع بأكله‪ ،‬ويؤثر المحتاج‬
‫بذات يده‪ ،‬ويصل القريب بما يملك‪ ،‬ويواسي المحتاج بما عنده‪ ،‬ويقدّم الغريب على نفسه‪ ،‬فكان صلى ال‬
‫عليه وسلم آية في الجود والكرم‪ ،‬حتى ل يقارن به أجواد العرب كحاتم وهرم ابن جدعان؛ لنه يعطي‬
‫عطاء من ل يطلب الخلف إل من ال‪ ،‬ويجود جود من هانت عليه نفسه وماله وكل ما يملك في سبيل ربه‬
‫وموله‪ ،‬فهو أندى العالمين كفا‪ ،‬وأسخاهم يدا‪ ،‬وأكرمهم محتدا‪ ،‬قد غمر أصحابه وأحبابه وأتباعه‪ ،‬بل حتى‬
‫أعداءه ببرّه وإحسانه وجوده وكرمه وتفضله‪ ،‬أكل اليهود على مائدته‪ ،‬وجلس العراب على طعامه‪ ،‬وحفّ‬
‫المنافقون بسفرته‪ ،‬ولم يُحفظ عنه صلى ال عليه وسلم أنه تبرّم بضيف أو تضجّر من سائل أو تضايق من‬
‫طالب‪ ،‬بل جرّ أعرابي برده حتى أثّر في عنقه وقال له‪ :‬أعطني من مال ال الذي عندك‪ ،‬ل من مال أبيك‬
‫وأمّك‪ ،‬فالتفت إليه صلى ال عليه وسلم وضحك وأعطاه‪ ،‬وجاءته الكنوز من الذهب والفضة وأنفقها في‬
‫مجلس واحد ولم يدّخر منها درهما ول دينارا ول قطعة‪ ،‬فكان أسعد بالعطية يعطيها من السائل‪ ،‬وكان يأمر‬
‫بالنفاق والكرم والبذل‪ ،‬ويدعو للجود والسخاء‪ ،‬ويذمّ البخل والمساك‪ ،‬فيقول‪ ":‬من كان بؤمن بال واليوم‬
‫الخر فليكرم ضيفه" أخرجه البخاري [ ‪ ]6138 ،6136 ،6018‬ومسلم ‪ 47‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪،‬‬
‫وقال‪ ":‬كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ‪ ،2431‬وابن‬
‫حبان في صحيحه ‪ .3310‬وقال‪ ":‬ما نقصت صدقة من مال" أخرجه مسلم ‪ 2588‬عن أبي هريرة رضي ال‬
‫عنه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم شجاعا‪:‬‬


‫هذا مما تناقلته الخبار وسار مسير الشمس في رابعة النهار‪ ،‬فكان أثبت الناس قلبا‪ ،‬وكان كالطود ل‬
‫يتزعزع ول يتزلزل‪ ،‬ول يخاف التهديد والوعيد‪ ،‬ول ترهبه المواقف والزمات‪ ،‬ول تهزه الحوادث‬
‫والملمّات‪ ،‬فوّض أمره لربه وتوكل عليه وأناب إليه‪ ،‬ورضي بحكمه واكتفى بنصره ووثق بوعده‪ ،‬فكان‬
‫عليه الصلة والسلم يخوض المعارك بنفسه ويباشر القتال بشخصه الكريم‪ ،‬يعرّض روحه للمنايا ويقدّم‬
‫نفسه للموت‪ ،‬غير هائب ول خائف‪ ،‬ولم يفرّ من معركة قط‪ ،‬وما تراجع خطوة واحدة ساعة يحمي الوطيس‬
‫وتقوم الحرب على ساق وتشرع السيوف وتمتشق الرماح وتهوي الرؤوس ويدور كأس المنايا على النفوس‪،‬‬
‫فهو في تلك اللحظة أقرب أصحابه من الخطر‪ ،‬يحتمون أحيانا وهو صامد مجاهد‪ ،‬ل يكترث بالعدوّ ولو كثر‬
‫عدده‪ ،‬ول يأبه بالخصم ولو قوي بأسه‪ ،‬بل كان يعدل الصفوف ويشجع المقاتلين ويتقدم الكتائب‪.‬‬

‫سكَ‬
‫ل ُتكَلّفُ ِإلّ نَ ْف َ‬
‫سبِيلِ اللّ ِه َ‬
‫ر الناس يوم حنينن وما ثبت إل هو وستة من أصحابه‪ ،‬ونزل عليه {فَقَاتِلْ فِي َ‬
‫وقد ف ّ‬
‫وَ َحرّضِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ} النساء ‪ ،84‬وكان صدره بارزا للسيوف والرماح‪ ،‬يصرع البطال بين يديه ويذبح الكماة‬
‫أمام ناظريه وهو باسم المحيا‪ ،‬طلق الوجه‪ ،‬ساكن النفس‪.‬‬

‫وقفت وما في الموت شك لواقف‬


‫كأنك في جفن الرّدى وهو نائم‬
‫تم ّر بك البطال كلمى هزيمة‬
‫ووجهك وضّاح وثغرك باسم‬

‫شجّ عليه الصلة والسلم في وجهه وكسرت رباعيته‪ ،‬وقتل سبعون من أصحابه‪ ،‬فما وهن ول ضعف‬ ‫وقد ُ‬
‫ول خار‪ ،‬بل كان أمضى من السيف‪ .‬وبرز يوم بدر وقاد المعركة بنفسه‪ ،‬وخاض غمار الموت بروحه‬
‫ن الجهاد وحثّ وأمر به‪.‬‬
‫ب عند سماع المنادي‪ ،‬بل هو الذي س ّ‬
‫الشريفة‪ .‬وكان أول من يه ّ‬

‫وتكالبت عليه الحزاب يوم الخندق من كل مكان‪ ،‬وضاق المر وحلّ الكرب‪ ،‬وبلغت القلوب الحناجر‪،‬‬
‫وظن بال الظنون‪ ،‬وزلزل المؤمنون زلزال شديدا‪ ،‬فقام صلى ال عليه وسلم يصلي ويدعو ويستغيث موله‬
‫حتى نصره ربّه وردّ كيد عدوّه وأخزى خصومه وأرسل عليهم ريحا وجنودا وباؤوا بالخسران والهوان‪.‬‬

‫ونام الناس ليلة بدر وما نام هو صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل قام يدعو ويتضرّع ويتوسل الى ربه ويسأله‬
‫نصره وتأييده‪ ،‬فيا له من إمام وما أشجعه! ل يقوم لغضبه أحد‪ ،‬ول يبلغ مبلغه في ثبات الجأش وقوة القلب‬
‫مخلوق‪ ،‬فهو الشجاع الفريد والصنديد الوحيد الذي كملت فيه صفات الشجاعة وتمّت فيه سجايا القدام وقوة‬
‫البأس‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬والذي نفسي بيده لوددت أنني أقتل في سبيل ال ثم أحيا ثم أقتل" أخرجه البخاري [‪36،‬‬
‫‪ ]2797‬ومسلم ‪ 1876‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم زاهدا‪:‬‬


‫كان زهده صلى ال عليه وسلم زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها‪ ،‬وبقاء‬
‫الخرة وما أعدّه ال لوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم وخلود دائم‪ ،‬فرفض صلى ال عليه وسلم الخذ‬
‫من الدنيا إل بدقر ما يس ّد الرمق ويقيم الود‪ ،‬مع العلم أن الدنيا عرضت عليه وتزيّنت له وأقبلت إليه‪ ،‬ولو‬
‫أراد جبال الدنيا أن تكون ذهبا وفضة لكانت‪ ،‬بل آثر الزهد والكفاف‪ ،‬فربما بات جائعا ويم ّر الشهر ل توقد‬
‫في بيته نار‪ ،‬ويستمر اليام طاويا ل يجد رديء التمر يسدّ به جوعه‪ ،‬وما شبع من خبز الشعير ثلث ليال‬
‫متواليات‪ ،‬وكان ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه‪ ،‬وربط الحجر على بطنه من الجوع‪ ،‬وكان ربما عرف‬
‫أصحابه أثر الجوع في وجهه عليه الصلة والسلم‪.‬‬

‫وكان بيته من طين‪ ،‬متقارب الطراف‪ ،‬داني السقف‪ ،‬وقد رهن درعه في ثلثين صاعا من شعير عند‬
‫يهودي‪ ،‬وربما لبس إزارا ورداء فحسب‪ ،‬وما أكل على خوان قط‪ ،‬وكان أصحابه ربما أرسلوا له الطعام لما‬
‫يعلمون من حاجته إليه‪ ،‬كل ذلك إكراما لنفسه عن أدران الدنيا‪ ،‬وتهذيبا لروحه وحفظا لدينه ليبقى أجره‬
‫ف ُيعْطِيكَ َرّبكَ َفتَرْضَى (‪ })5‬الضحى‪ ،‬فكان يقسم الموال على‬
‫كامل عند ربه‪ ،‬وليتحقق له وعد موله { َولَسَوْ َ‬
‫الناس ثم ل يحوز منها درهما واحدا‪ ،‬ويوّزع البل والبقر والغنم على الصحاب والتباع والمؤلفة قلوبهم ثم‬
‫ل يهب بناقة ول بقرة ول شاة‪ ،‬بل يقول عليه الصلة والسلم‪ ":‬لو كان لي كعضاة ـ أي شجر ـ تهامة مال‬
‫لقسمته ثم ل تجدوني بخيل ول كذابا ول جبانا"‪ .‬أخرجه مالك في الموطأ ‪ ،977‬والطبراني في الوسط‬
‫‪ 1864‬والكامل لبن عدي ‪.97\3‬‬

‫وراودته الجبال الشمّ من ذهب‬


‫عن نفسه فأراها أيما شمم‬

‫بل وكان عليه الصلة والسلم السوة العظمى في القبال على الخرة وترك الدنيا وعدم اللتفات إليها أو‬
‫الفرح بها أو جمعها أو التلذذ بطيباتها أو التنعم بخيراتها‪ ،‬فلم يبن قصرا‪ ،‬ولم يدّحر مال‪ ،‬ولم يكن له كنز ول‬
‫جنة يأكل منها‪ ،‬ولم يخلف بستانا ول مزروعة‪ ،‬وهو القائل‪ ":‬ل نورّث‪ ،‬ما تركناه صدقة" أخرجه البخاري [‬
‫‪ ]3712 ،3039‬ومسلم برقم ‪ ،1758‬وكان يدعو بقوله وفعله وحاله الى الزهد في الدنيا والستعداد للخرة‬
‫والعمل‪.‬‬

‫ما نظر إليه صلى ال عليه وسلم وهو إمام المسلمين وقائد المؤمنين وأفضل الناس أجمعين يسكن في بيت‬
‫طين وينام على حصير بال ويبحث عن تمرات تقيم صلبه‪ ،‬وربما اكتفى باللبن‪.‬‬

‫خيّر بين أن يكون ملكا رسول أو عبدا رسول فاختار أن يكون عبدا رسول‪ ،‬يشبع يوما ويجوع يوما‪،‬‬
‫بل ُ‬
‫حتى لقي ال عز وجل‪.‬‬

‫ومن زهده في الدنيا سخاؤه وجوده كما تقدم‪ ،‬فكان ل يرد سائل ول يحجب طالبا ول يخيّب قاصدا‪ ،‬وأخبر‬
‫أن الدنيا ل تساوي عند ال جناح بعوضة‪ ،‬وقال‪ ":‬كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل" أخرجه البخاري‬
‫‪ 6416‬عن ابن عمر رضي ال عنهما‪ .‬ويروى عنه أنه قال‪ ":‬ازهد في الدنيا يحبك ال‪ ،‬وازهد فيما عند‬
‫الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه ‪ 4102‬والطبراني في الكبير ‪ 10522‬والحاكم ‪ 7833‬عن سهل بن‬
‫سعد الساعدي‪ .‬وقال‪ ":‬مالي وللدنيا‪ ،‬إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل قال في ظل شجرة ثم قام وتركها"‬
‫أخرجه أحمد [‪ ]4196 ،3701‬والترمذي ‪ ،2377‬وابن ماجه ‪ 4109‬عن عبدال بن مسعود وقال الترمذي‬
‫حسن صحيح‪ ،‬وقال‪ ":‬الدنيا ملعونة‪ ،‬ملعون ما فيها إل ذكر ال وما واله وعالما أو متعلما" أخرجه الترمذي‬
‫‪ 2322‬وابن ماجه ‪ 4112‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ ":‬ليس لك من مالك إل ما أكلت فأفنيت‪ ،‬أو‬
‫لبست فأبليت‪ ،‬أو تصدقت فأمضيت" أخرجه مسلم ‪.2958‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم متواضعا‪:‬‬


‫كان صلى ال عليه وسلم عجيبا في ذلك‪ ،‬فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة‪ ،‬واستحيا منه وعظمه‬
‫ق قدره‪ ،‬وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب‪ ،‬فسافرت روحه الى ال وهاجرت نفسه‬ ‫وقدّره ح ّ‬
‫الى الدار الخرة‪ ،‬فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا‪ ،‬فصار عبدا لربه بحق‪ :‬يتواضع للمؤمنين‪،‬‬
‫يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين‪ ،‬ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب‬
‫الطفال ويمازح الهل ويكلم المة‪ ،‬ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى‪ ،‬ويفترش الرمل‬
‫ويتوسّد الحصير‪ ،‬قد رضي عن ربّه‪ ،‬فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي‪ ،‬يكلم‬
‫النساء بلطف‪ ،‬ويخاطب الغريب بودّ‪ ،‬ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه يقول‪ ":‬إنما أنا عبد‪ :‬آكل كما‬
‫يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد" أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد ‪ ،6\1‬وابن سعد في الطبقات ‪371\1‬‬
‫وانظر كشف الخفاء ‪ ، 17\1‬ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال‪":‬هوّن عليك‪ ،‬فإني ابن امرأة كانت تاكل‬
‫القديد بمكة" أخرجه ابن ماجه ‪ ،3312‬والحاكم ‪ 4366‬عن ابن مسعود‪ ،‬وانظر الكامل لبن عدي ‪.286\6‬‬
‫وكان يكره المدح‪ ،‬وينهى عن إطرائه ويقول‪ ":‬ل تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم‪ ،‬فإنما أنا‬
‫عبدال ورسوله‪ ،‬فقولوا عبدال ورسوله" أخرجه البخاري ‪ 3445‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬وكان‬
‫ينهى أن يقام له‪ ،‬وأن يوقف على رأسه‪ ،‬وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس‪ ،‬وكان يختلط بالناس كأنه‬
‫أحدهم‪ ،‬ويجيب الدعوة ويقول‪ ":‬لو دعيت الى كراع لجبت‪ ،‬ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت" أخرجه البخاري [‬
‫‪.]5178 ،2568‬‬
‫وكان يحب المساكين‪ ،‬ويروى عنه قوله‪ ":‬اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا‪ ،‬واحشرني في زمرة‬
‫المساكين" أخرجه الترمذي ‪ 2352‬عن أنس رضي ال عنه‪ ،‬وابن ماجه ‪ 4126‬والحاكم ‪ 7911‬عن أبي‬
‫سعيد الخدري وصححه‪ .‬وكان يحرّم الكبر وينهى عنه‪ ،‬ويبغض أهله ويقول‪ ":‬يحشر المتكبرون يوم القيامة‬
‫في صورة الذر‪ ،‬يغشاهم الذل من كل مكان" أخرجه أحمد ‪ ،6639‬والترمذي ‪ ،2492‬انظر كشف الخفاء‬
‫‪ .3236‬ويروي عن ربه أنه قال‪":‬الكبرياء ردائي‪ ،‬والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني واحدا منها قذفته في‬
‫النار" أخرجه مسلم ‪ 2620‬وأبو داود ‪ 4090‬واللفظ له‪.‬‬
‫فكان صلى ال عليه وسلم محببا الى القلوب‪ :‬تأخذه الجارية بيده فيذهب معها‪ ،‬ويزور أم أيمن وهي مولة‪.‬‬
‫ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا‪ :‬أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم‪ ":‬يا أيها الناس!‬
‫قولوا بقولكم أو ببعض قولكم‪ ،‬ل يستجريّنكم الشيطان" أخرجه أحمد ‪ 15876‬وأبو داود ‪ ،4806‬وغضب لما‬
‫قال له رجل‪ :‬ما شاء ال وشئت‪ ،‬وقال‪ ":‬ويحك! أجعلتني وال عدل؟ بل ما شاء ال وحده" أخرجه أحمد [‬
‫‪ ]2557 ،1842‬والنسائي في السنن الكبرى ‪ 10825‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪.‬‬
‫وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله‪ ،‬ويقرّب‬
‫الطعام لضيفه‪ ،‬ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم‪ ،‬ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه‪ ،‬ويلبس الصوف‬
‫ويأكل الشعير‪ ،‬وربما مشى حافيا‪ ،‬وينام في المسجد‪ ،‬ويركب الحمار‪ ،‬ويردف على الدابة‪ ،‬ويعاون الضعيف‬
‫ويتفقد السرية‪ ،‬ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج‪ ،‬ويرافق الوحيد منهم‪..‬‬

‫فصلى ال عليه وسلم ما تحرّك بذكره اللسان‪ ،‬وسارت بأخباره الركبان‪ ،‬وردّد حديثه النس والجان‪.‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم حليما‪:‬‬
‫ما دام أنه رسول ال فل بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا‪ ،‬وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم‬
‫عشرة‪ ،‬فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ‪ ،‬ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا‬
‫ل‪ .‬وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه‪ ،‬فقال لهم يوم الفتح‪ ":‬اذهبوا فأنتم‬
‫الطلقاء" أخرجه الشافعي في الم ‪ ،361\7‬والطبري في تاريخه ‪ 161\2‬والبيهقي في السنن الكبرى ‪18055‬‬
‫انظر صحيح الجامع ‪ .4815‬وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له‪ :‬تال لقد‬
‫حمُ‬
‫ب عََل ْيكُمُ ا ْليَوْ َم َيغْ ِفرُ اللّهُ َلكُمْ وَهُ َو أَرْ َ‬
‫آثرك ال علينا وإن كنا لخاطئين‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم‪ {:‬لَ َتثْرَي َ‬
‫الرّا ِحمِينَ (‪ })92‬يوسف‪.‬‬

‫ح الصّفْحَ‬
‫وقد واجهه العراب بالجفاء وسوء الدب‪ ،‬فحلم وصفح‪ ،‬وقد امتثل أمر ربه في قوله‪ {:‬فَاصْفَ ِ‬
‫الْ َجمِي َل (‪ })85‬الحجر‪ ،‬فكان ل يكافئ على السيئة بالسيئة‪ ،‬بل يعفو ويصفح‪ ،‬وكان ل ينفذ غضبه إذا كان‬
‫لنفسه‪ ،‬ول ينتقم لشخصه‪ ،‬بل إذا غضب ازداد حلما‪ ،‬وربّما تبسّم في وجه من أغضبه‪ ،‬ونصح أحد أصحابه‬
‫فقال‪":‬ل تغضب‪ ،‬ل تغضب‪ ،‬ل تغضب" أخرجه البخاري ‪.6116‬‬

‫وكان يبلغه الكلم السيء فيه‪ ،‬فل يبحث عمن قاله ول يعاتبه ول يعاقبه‪ .‬وورد عنه أنه قال‪ ":‬ل يبلغني أحد‬
‫منكم ما قيل فيّ‪ ،‬فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر" أخرجه احمد ‪ 3750‬وأبو داود ‪4860‬‬
‫والترمذي ‪ 3896‬عن عبدال بن مسعود‪ .‬وبلّغه ابن مسعود كلما قيل فيه‪ ،‬فتغيّر وجهه وقال‪ ":‬رحم ال‬
‫موسى‪ ،‬أوذي بأكثر من هذا فصبر" أخرجه البخاري [ ‪ ]3405 ،3150‬ومسلم ‪.1062‬‬

‫وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله‪ ،‬فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم‪ ،‬وقال‪":‬‬
‫من كف غضبه كف ال عنه عذابه" أخرجه أبو يعلى ‪ 4338‬والبيهقي في الشعب ‪ 8311‬وانظر العلل لبن‬
‫أبي حاتم ‪ 1919‬ومجمع الزاوئد ‪ .298\10‬وقال له رجل‪ :‬اعدل‪ ،‬فقال‪ ":‬خبت وخسرت إذا لم أعدل"‬
‫أخرجه البخاري ‪ 3138‬ومسلم ‪ 1063‬واللفظ له عن جابر بن عبدال‪ ،‬ولم يعاقبه بل صفح عنه‪ .‬وواجه‬
‫بعص اليهود بما يكره‪ ،‬فعفا وصفح‪ ،‬وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس‪ ،‬وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثل قول‬
‫ربه‪ {:‬ا ْدفَعْ بِاّلتِي ِهيَ أَ ْحسَنُ ال ّسّيئَةَ َنحْنُ أَعْلَ ُم ِبمَا يَصِفُونَ (‪ })96‬المؤمنون‪.‬‬

‫وكان مع أهله أحلم الناس‪ ،‬يمازحهم ويلطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم‪ ،‬ويدخل عليهم باسما ضحاكا‪،‬‬
‫يمل قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة‪ ،‬يقول خادمه أنس بن مالك‪ :‬خدمت رسول ال صلى ال عليه وسلم عشر‬
‫سنين ما قال لي في شيء فعلته‪ :‬لم فعلت هذا؟ ول شيء لم أفعله‪ :‬لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية‬
‫حسن الخلق‪ ،‬وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة‪ ،‬بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه‬
‫وودّه وحلمه ما يفوق الوصف‪ ،‬حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية‪:‬‬

‫وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب‬


‫هذان في الدنيا هم الرحماء‬
‫وإذا سخوت بلغت بالجود المدى‬
‫وفعلت ما لم تفعل النواء‬
‫وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما‬
‫في بُردك الصحاب والخلطاء‬
‫وأبديت حلمك للسفيه مداريا‬
‫حتى يضيق بحلمك السفهاء‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم رحيما‪:‬‬


‫وصفه ربه بقوله‪َ {:‬ومَا أَرْسَ ْلنَاكَ إِلّا َر ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِي َن (‪})107‬النبياء‪ ،‬فهو رحمة للبشرية‪ ..‬ورد عنه أنه قال‪":‬‬
‫إنما أنا رحمة مهداة" أخرجه الدارمي ‪ 15‬مرسل‪ ،‬والحاكم موصول عن أبي هريرة برقم ‪ 100‬وصححه‪.‬‬
‫ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه‪ ،‬فبكى‪ ،‬فلما سئل عن ذلك قال‪ ":‬هذه رحمة يضعها ال في قلب من يشاء‬
‫من عباده‪ ،‬وإنما يرحم ال من عباه الرحماء" أخرجه البخاري [ ‪ ]6655 ،1284‬ومسلم ‪ 923‬عن أسامة بن‬
‫زيد رضي ال عنه‪.‬‬

‫وكان رحمة على القريب والبعيد‪ ،‬عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة‪ ،‬فكان يخفف بالناس مراعاة‬
‫لحوالهم‪ ،‬وربما أراد أن يطيل في الصلة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئل يشق على أمه‪ .‬ولما بكت أمامة‬
‫بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس‪ ،‬فإذا سجد وضعها‪ ،‬وإذا قام رفعها‪ .‬أخرجه البخاري ‪،516‬‬
‫ومسلم ‪ 543‬عن أبي قتادة رضي ال عنه‪.‬‬
‫وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره‪ ،‬فأطال السجود‪ ،‬فلما سلّم اعتذر للناس وقال‪ ":‬إن إبني هذا ارتحلني‪،‬‬
‫فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل" أخرجه أحمد ‪ 27100‬والنسائي ‪ 1141‬عن شداد بن الهاد رضي ال‬
‫عنه‪ .‬وقال‪ ":‬من أ ّم منكم الناس فليخفف‪ ،‬فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة" أخرجه البخاري‬
‫‪ 703‬ومسلم ‪ 467‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وقال لمعاذ لمّا طوّل بالناس‪ ":‬أفتّان أنت يا معاذ؟" أخرجه‬
‫البخاري [ ‪ ]6106 ،705‬ومسلم ‪ 465‬عن جابر بن عبدال رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬لول أن أشق على أمتي‬
‫لمرتهم بالسواك عند كل صلة" أخرجه البخاري ‪ 887‬ومسلم ‪ 252‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وربما‬
‫ترك العمل خشية أن يفرض على الناس‪ ،‬وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة‪...‬‬

‫كل ذلك رحمة منه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكان يقول‪ ":‬والقصد القصد تبلغوا" أخرجه البخاري ‪ 6463‬عن‬
‫أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬بُعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد ‪ 21788‬عن أبي أمامة رضي‬
‫ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬خير دينكم أيسره" أخرجه أحمد ‪ 15506‬وانظر مجمع الزوائد ‪ .308\3‬ويقول‪ ":‬عليكم‬
‫هدياً قاصداً" أخرجه أحمد [ ‪ ]22544 ،22454‬والبيهقي في السنن الكبرى ‪ 4519‬عن بريدة السلمي‪،‬‬
‫وانظر البيان والتعريف ‪ .109\2‬ويقول‪ :‬خذوا من العمل ما تطيقون‪ ،‬فإن ال ل يمل حتى تملوا" أخرجه‬
‫البخاري ‪ 5862‬ومسلم ‪ 782‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬وما خيّر بين أمرين إل اختار أيسرهما ما لم يكن‬
‫إثما‪ ،‬وأنكر على الثلثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة‪ ،‬وقال‪ ":‬وال إني لخشاكم ل وأتقاكم له‪،‬‬
‫ولكنني أقوم وأنام‪ ،‬وأصوم وأفطر‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فيس مني" أخرجه البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪1401‬‬
‫عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪ .‬وأفطر في سفر في رمضان‪ ،‬وقصر الرباعية‪ ،‬وجمع بين الظهر‬
‫والعصر‪ ،‬وبين المغرب والعشاء في السفر‪ ،‬ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم‪ ،‬وقال‪ ":‬هلك‬
‫المتنطعون" أخرجه مسلم ‪ 2670‬عن عبدال بن مسعود رضي ال عنه‪ .‬وقال‪ ":‬ما كان الرفق في شيء إل‬
‫زانه‪ ،‬وما نزع من شيء إل شانه" أخرجه مسلم ‪ 2594‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬وأنكر على عبدال بن‬
‫عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة‪ ،‬ويقول‪ ":‬إيّاكم والغلو" أخرجه أحمد [ ‪ ]3238 ،1854‬والنسائي‬
‫‪ ،3057‬وابن ماجه ‪ 3029‬وابن أبي عاصم في السنة ‪ 46\1‬عن ابن عباس رضي ال عنهما وصححه‪.‬‬
‫ويروى عنه قوله‪ ":‬أمتي أمة مرحومة" أخرجه أحمد [ ‪ ]19253 ،19179‬وأبو داود ‪ 4276‬والحاكم‬
‫‪ 8372‬عن أبي موسى رضي ال عنه وصححه‪ ،.‬وقال‪ ":‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أخرجه‬
‫البخاري ‪ 7288‬ومسلم ‪ 1337‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وهذا اليسر في حياته عليه الصلة والسلم‬
‫يوافق يسر الملة وسهولة الشريعة‪ ،‬وهو امتثال منه صلى ال عليه وسلم لقول ربه‪َ {:‬وُنيَسّ ُركَ لِ ْليُ ْسرَى (‪})8‬‬
‫سرَ‬
‫ط ْعتُ ْم } التغابن ‪ {،16‬يُرِيدُ اللّ ُه ِبكُمُ ا ْليُ ْ‬
‫ستَ َ‬
‫س َعهَا } البقرة ‪{ ،286‬فاتّقُوا اللّ َه مَا ا ْ‬
‫ف اللّ ُه نَفْسا ِإلّ وُ ْ‬
‫العلى‪{ ،‬لَ ُيكَلّ ُ‬
‫َو َل يُرِي ُد ِبكُمُ ا ْلعُسْ َر } القرة ‪َ {،185‬ومَا َجعَ َل عََل ْيكُ ْم فِي الدّينِ مِنْ َحرَجٍ} الحج ‪ ..78‬وغيرها من اليات‪.‬‬

‫فهو صلى ال عليه وسلم سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلته وصومه وطعامه وشرابه‬
‫ولباسه وحله وترحاله وأخلقه‪ ،‬بل حياته مبنية على اليسر؛ لنه جاء لوضع الصار والغلل عن المة‪،‬‬
‫فليس اليسر أصل إل معه‪ ،‬ول يوجد اليسر إل في شريعته‪ ،‬فهو اليسر كله‪ ،‬وهو الرحمة والرفق بنفسه‪،‬‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم ذاكرا‪:‬‬


‫كان صلى ال عليه وسلم أكثر الناس ذكرا لربه‪ ،‬حياته كلها ذكر لموله‪ ،‬فدعوته ذكر وخطبه ذكر‬
‫ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر‪ ،‬وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لموله عز وجل‪،‬‬
‫فقلبه معلق بربه‪ ،‬تنام عينه ول ينام قلبه‪ ،‬بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم‪ ،‬وكل مراسيم حياته ومناسباته‬
‫وذكر لخالقه جلّ في عله‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يحث الناس على ذكر ربهم‪ ،‬فيقول‪":‬سبق المفردون‪ :‬الذاكرون ال كثيرا‬
‫والذاكرات" أخرجه مسلم ‪ 2676‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ ،‬ويقول‪ ":‬مثل الذي يذكر ربه والذي ل‬
‫يذكره كمثل الحيّ والميت" أخرجه البخاري ‪ 6407‬ومسلم ‪ 779‬عن أبي موسى رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬ل‬
‫يزال لسانك رطبا من ذكر ال" أخرجه أحمد [ ‪ ]17245 ،17227‬والترمذي ‪ 3375‬وابن ماجه ‪3793‬‬
‫انظر المشكاة ‪ .2279‬وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه‪ ،‬وروى عن ربّه عز وجل قوله‪ ":‬أنا مع‬
‫عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه" أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد‪ ،‬باب قول ال { لتحرك به‬
‫لسانك}‪ ،‬وأحمد[‪ ]10592 ،10585‬زابن ماجه ‪ 3792‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬ويقول‪ ":‬من ذكرني‬
‫في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منهم" أخرجه البخاري ‪ 7405‬ومسلم‬
‫‪ 2675‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وله عليه الصلة والسلم عشرات الحاديث الصحيحة التي تحث‬
‫على الذكر وترغّب فيه‪ ،‬والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والستغفار والصلة والسلم عليه‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب‪ ،‬وذكر العداد في ذلك مع ذكر المناسبات‪،‬‬
‫وعمل اليوم والليلة‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم الذاكر الشاكر الصابر‪ ،‬وهو الذي ذكّر المة بربها وعلمها‬
‫تعظيمه وتسبيحه‪ ،‬وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه‪ .‬فهو أسعد الناس بذكر ربه‪ ،‬وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة‪،‬‬
‫وأصلحهم حال بهذا الفضل‪ ،‬فكان له أوراد من الذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف‬
‫ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه‪.‬‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم داعيا‪:‬‬
‫ب دَعْوَ َة الدّاعِ ِإذَا‬
‫عنّي َفِإنّي قَرِيبٌ أُجِي ُ‬
‫عبَادِي َ‬
‫ستَجِبْ َل ُكمْ} غافر ‪ ،60‬ويقول‪ {:‬وَِإذَا سََأَلكَ ِ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬ادْعُونِي أَ ْ‬
‫دَعَانِ } البقرة ‪ ،186‬ويقول صلى ال عليه وسلم‪ ":‬الدعاء هو العبادة" أخرجه أحمد [ ‪]17919 ،17888‬‬
‫وأبو داود ‪ 1479‬والترمذي [ ‪ ]3247 ،2969‬عن النعمان بن بشير وصححه‪ .‬ويقول‪ ":‬من لم يسأل ال‬
‫يغضب عليه" أخرجه البخاري في الدب المفرد ‪ 658‬والترمذي ‪ 3373‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‬
‫وصححه‪ .‬وكان عليه الصلة والسلم لهجا بدعاء ربه في كل حالته‪ ،‬قد فوّض أمره لموله‪ ،‬وأكثر اللحاح‬
‫على خالقه يناشده رحمته وعفوه‪ ،‬ويطلب برّه وكرمه‪ ،‬وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله‪":‬‬
‫اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة وقنا عذاب النار" أخرجه البخاري [ ‪ ]6389 ،4522‬ومسلم‬
‫‪ 2688‬عن انس رضي ال عنه‪ .‬وقوله‪ ":‬اللهم إني أسألك العفو والعافية" أخرجه أحمد ‪ 4770‬وأبو داود‬
‫‪ 5074‬وابن ماجه ‪ 3871‬والحاكم ‪ 1902‬عن ابن عمر رضي ال عنهما وصححه‪.‬‬

‫وكان يكرر الدعاء ثلثا‪ ،‬ويبدأ بالثناء على ربه‪ ،‬وكان يستقبل القبلة عند دعائه‪ ،‬وربما توضأ قبل الدعاء‪،‬‬
‫وكان يعلم المة أدب الدعاء‪ ،‬كالبداية بحمد ال والصلة والسلم على رسوله‪ ،‬ودعاء ال بأسمائه الحسنى‪،‬‬
‫واللحاح في الدعاء‪ ،‬وتوخّي أوقات الجابة كأدبار الصلوات‪ ،‬وبين الذان والقامة‪ ،‬وآخر ساعة من يوم‬
‫الجمعة‪ ،‬ويوم عرفة‪ ،‬وفي حالة السجود والصوم والسفر‪ ،‬ودعوة الوالد لولده‪ ،‬وكان عليه الصلة والسلم‬
‫وقت الزمات يلحّ على ربه ويناشده‪ ،‬ويكرر السؤال مع تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن‪ ،‬وتمام‬
‫الرجاء‪ ،‬كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة‪.‬‬

‫وكان ال يجيب دعوته ويلبّي طلبه‪ ،‬كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة‪ ،‬ويوم شق‬
‫له القمر‪ ،‬وبارك له في الطعام والمال‪ ،‬ونصره في حروبه‪ ،‬ورفع دينه وأيّد حزبه وخذل أعداءه‪ ،‬وكبت‬
‫خصومه‪ ،‬حتى حقق ال له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم طموحا‪:‬‬


‫ولدت همته عليه الصلة والسلم معه يوم ولد‪ ،‬فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي المور ومكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ل يرضى بالدون ول يهوى السفاسف‪ ،‬بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ‪ ،‬ولقد‬
‫ذكر أهل السير أنه عليه الصلة والسلم وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة ل يجلس‬
‫عليه إل هو لمنزلته‪ ،‬فجاء محمد صلى ال عليه وسلم فنازع الخدم حتى جلس عليه‪ ،‬وأبى أن يجلس دونه‪.‬‬

‫وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق المين‪ ،‬ويرضون‬
‫حكمه ويعودون اليه في أمورهم‪.‬‬

‫فلما منّ ال عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة‪ ،‬وهي أعلى درجة في الجنة‪ ،‬فسأل ال إياها‪ ،‬وعلّمنا ان‬
‫نسألها له من ربه‪ ،‬بلغ سدرة المنتهى‪ ،‬وحاز الكمال البشري المطلق‪ ،‬والفضيلة النسانية‪ .‬ومن عل ّو همّته‬
‫رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولياتها ومناصبها وقصورها ودورها‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم في القرآن‬


‫{ يا أيها النبي حسبك ال}‬
‫حسبك ال يكفيك من كل ما أهمّك‪ ،‬فيحفظك في الزمات‪ ،‬ويرعاك في الملمّات‪ ،‬ويحميك في المدلهمّات‪،‬‬
‫فل تخش ول تخف ول تحزن ول تقلق‪.‬‬

‫حسبك ال فهو ناصرك على كل عدو‪ ،‬ومظهرك على كل خصم‪ ،‬ومؤيدك في كل أمر‪ ،‬ويعطيك إذا سألت‪،‬‬
‫ويغفر لك إذا استغفرت‪ ،‬ويزيدك إذا شكرت‪ ،‬ويذكرك إذا ذكرت‪ ،‬وينصرك إذا حاربت‪ ،‬ويوفّقك إذا حكمت‪.‬‬

‫حسبك ال فيمنحك العز بل عشيرة‪ ،‬والغنى بل مال‪ ،‬والحفظ بل حرس‪ ،‬فأنت المظفّر لن ال حسبك!‬
‫وأنت المنصور لن ال حسبك‪ ،‬وأنت الموفق لن ال حسبك‪ ،‬فل تخف من عين حاسد ول من كيد كائد‪ ،‬ول‬
‫من مكر ماكر‪ ،‬ول من خبث كافر‪ ،‬ول من حيلة فاجر لن ال حسبك‪.‬‬

‫وإذا سمعت صولة الباطل‪ ،‬ودعاية الشرك‪ ،‬وجلبة الخصوم‪ ،‬ووعيد اليهود‪ ،‬وتربّص المنافقين‪ ،‬وشماتة‬
‫الحاسدين‪ ،‬فاثبت لن حسبك ال‪.‬‬

‫إذا ولّى الزمان‪ ،‬وجفا الخوان‪ ،‬وأعرض القريب‪ ،‬وشمت العدو‪ ،‬وضعفت النفس‪ ،‬وأبطأ الفرج‪ ،‬فاثبت لن‬
‫حسبك ال‪.‬‬

‫إذا داهمتك المصائب‪ ،‬ونازلتك الخطوب‪ ،‬وحفّت بك النكبات‪ ،‬وأحاطت بك الكوارث‪ ،‬فاثبت لن حسبك‬
‫ال‪ ،‬ل تلتفت الى أحد من الناس‪ ،‬ول تدع أحدا من اليشر‪ ،‬ول تتجه لكائن من كان غير ال‪ ..‬لن حسبك ال‪.‬‬

‫ل بك فقر‪ ،‬أوعرضت لك حاجة‪ ،‬فل تحزن لن حسبك ال‪.‬‬


‫إذا ألمّ بك مرض‪ ،‬وأرهقك دين‪ ،‬وح ّ‬

‫إذا أبطأ النصر‪ ،‬وتأخر الفتح‪ ،‬واشتد الكرب‪ ،‬وثقل الحمل‪ ،‬وادلهمّ الخطب‪ ،‬فل تحزن لن حسبك ال‪ ،‬أنت‬
‫محظوظ لنك بأعيننا‪ ،‬وأنت محروس لنك خليلنا‪ ،‬وأنت في رعايتنا لنك رسولنا‪ ،‬وأنت في حمايتنا لنك‬
‫عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى‪.‬‬

‫{ل تحزن إن ال معنا}‬


‫هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى ال عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق‪ ،‬وقد‬
‫أحاط بهما الكفار‪ ،‬فقالها قوية في حزم‪ ،‬صادقة في عزم‪ ،‬صارمة في جزم‪َ {:‬ل تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َم َعنَا } التوبة‬
‫‪ .40‬فما دام ال معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق‪ ،‬اسكن‪ ..‬اثبت‪ ..‬اهدأ‪ ..‬اطمئن‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬
‫ل نُغلب‪ ،‬ل نُهزم‪ ،‬ل نضل‪ ،‬ل نضيع‪ ،‬ل نيأس‪ ،‬ل نقنط‪ ،‬لن ال معنا‪ ،‬النصر حليفنا‪ ،‬الفرج رفيقنا‪ ،‬الفتح‬
‫صاحبنا‪ ،‬الفوز غايتنا‪ ،‬الفلح نهايتنا لن ال معنا‪.‬‬

‫من أقوى منا قلبا‪ ،‬من أهدى منا نهجا‪ ،‬من أجلّ من مبدأ‪ ،‬من أحسن منا سيرة‪ ،‬من أرفع مان قدرا؟! لن ال‬
‫معنا‪.‬‬

‫ما أضعف عدوّنا‪ ،‬ما أذلّ خصمنا‪ ،‬ما أحقر من حاربنا‪ ،‬ما أجبن من قاتلنا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫لن نقصد بشرا‪ ،‬لن نلتجئ الى عبد‪ ،‬لن ندعو إنسانا‪ ،‬لن نخاف مخلوقا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫نحن أقوى عدة وأمضى سلحا‪ ،‬وأثبت جنانا وأقوم نهجا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫نحن الكثرون الكرمون العلون العزّون المنصورون‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر اهجر همّك‪ ،‬وأزح غمّك‪ ،‬واطرد حزنك‪ ،‬وأزل يأسك‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر ارفع رأسك‪ ،‬وهدئ من روعك‪ ،‬وأرح قلبك‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫يا أبا بكر أبشر بالفوز‪ ،‬وانتظر النصر‪ ،‬وترقّب الفتح‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف نُسمع أهل الرض روعة الذان وكلم الرحمن ونغمة القرآن‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫غدا سوف نخرج النسانية ونحرر البشرية من عبودية الوثان‪ ،‬لن ال معنا‪.‬‬

‫{وإنك لعلى خلق عظيم}‬


‫وال إنك لعظيم الخلق‪ ،‬كريم السجايا‪ ،‬مهذب الطباع‪ ،‬نقيّ الفطرة‪.‬‬

‫ي العاطفة‪ ،‬جميل السيرة‪ ،‬طاهر السريرة‪.‬‬


‫وال إنّك جمّ الحياء‪ ،‬ح ّ‬
‫وال إنك قمة الفضائل‪ ،‬ومنبع الجود‪ ،‬ومطلع الخير‪ ،‬وغاية الحسان‪.‬‬

‫وإنك لعلى خلق عظيم‪ ..‬يظلمونك فتصبر‪ ،‬يؤذونك فتغفر‪ ،‬يشتمونك فتحلك‪ ،‬يسبّونك فتعفو‪ ،‬يجفونك‬
‫فتصفح‪.‬‬

‫{ وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ })4‬القلم‪ ..‬يحبّك الملك والمملوك‪ ،‬والصغير والكبير‪ ،‬والرجل والمرأة‪ ،‬والغني‬
‫والفقير‪ ،‬والقريب والبعيد‪ ،‬لنك ملكت القلوب بعطفك‪ ،‬وأسرت الرواح بفضلك‪ ،‬وطوّقت العناق بكرمك‪.‬‬

‫{وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪.. })4‬هذبّك الوحي‪ ،‬وعلمك جبريل‪ ،‬وهداك ربك‪ ،‬وصاحبتك العناية‪ ،‬ورافقتك‬
‫الرعاية‪ ،‬وحالفك التوفيق‪.‬‬

‫{وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ .. })4‬البسمة على محياك‪ ،‬البِِشر على طلعتك‪ ،‬النور على جبينك‪ ،‬الحب في قلبك‪،‬‬
‫الجود في يدك‪ ،‬البركة فيك‪ ،‬الفوز معك‪.‬‬

‫من زار بابك لم تبرح جوارحه‬


‫تروي احاديث ما أوليت من منن‬
‫فالعين عن قرّة والكف عن صلة‬
‫والقلب عن جابر والسمع عن حسن‬

‫{وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ .. })4‬ل تكذب ولو أن السيف على رأسك‪ ،‬ول تخون ولو حزت الدنيا‪ ،‬ول تغدر‬
‫ولو أعطيت الملك‪ ،‬لنبي نبيّ معصوم‪ ،‬وإمام قدوة‪ ،‬وأسوة حسنة‪.‬‬

‫{ وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ ..})4‬صادق ولو قابلتك المنايا‪ ،‬وشجاع ولو قاتلت السود‪ ،‬وجواد ولو سئلت كل ما‬
‫تملك‪ ،‬فأنت المثال الراقي والرمز السامي‪.‬‬

‫{وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ ..})4‬سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة‪ ،‬وتفوقت على الكل علما وحلما‬
‫وكرما ونبل وشجاعة وتضحية‪.‬‬

‫{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}‬


‫لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين‪ ،‬فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك‬
‫وعصاك وحاربك وجفاك‪.‬‬

‫ك بِمَ ْجنُو ٍن (‪ })2‬القلم‪ ..‬وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقل‪ ،‬وأتمّهم رشدا‪ ،‬وأسدهم رأيا‪،‬‬
‫ت ِب ِنعْمَةِ َرّب َ‬
‫{مَا أَن َ‬
‫وأعظمهم حكمة‪ ،‬واجلذهم بصيرة!‬
‫وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ‪ ،‬ويزيل الضلل‪ ،‬وينسف الباطل‪ ،‬ويمحو الجهل‪،‬‬
‫ويهدي العقل‪ ،‬وينير الطريق‪.‬‬

‫لست مجنونا أنك على هدى من ال‪ ،‬وعلى نور من ربك‪ ،‬وعلى ثقة من منهجك‪ ،‬وعلى بيّنة من دينك‪،‬‬
‫وعلى رشد من دعوتك‪ ،‬صانك ال من الجنون‪ ،‬بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن‬
‫البصيرة‪ ،‬فأنت الذي يهتدي بك العقلء‪ ،‬ويستضيء بحكمتك الحكماء‪ ،‬ويقتدي بك الراشدون المهديّون‪.‬‬

‫كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملت الرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدل‪ ،‬فأين يوجد الرشد‬
‫إل عندك؟ وأين تكون الحكمة إل لديم؟ وأين تحلّ البركة إل معك؟ أنت أعقل العقلء‪ ،‬وأفضل النبلء‪ ،‬وأجلّ‬
‫ل تركة‬
‫الحكماء‪ .‬كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الرض‪ ،‬وأهدى للعالم أج ّ‬
‫عرفها الناس‪ ،‬وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلء‪:‬‬

‫أخوك عيسى دعا ميتا فقام له‬


‫وأنت أحييت أجيال من الرمم‬

‫{ وإنك لتهدي الى صراط مستقيم}‬


‫أنت يا محمد مهمّتك الهداية‪ ،‬ووظيفتك الدللة‪ ،‬وعملك الصلح‪ ..‬أنت تهدي الى صراط مستقيم‪ ،‬لنك‬
‫تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضللة‪ ،‬وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير‪.‬‬

‫أنت تهدي الى صراد مستقيم‪ ،‬فمن أراد السعادة فليتبعك‪ ،‬ومن أحبّ الفلح فليقتد بك‪ ،‬ومن رغب في النجاة‬
‫فليهتد بهداك‪.‬‬
‫أحسن صلة صلتك‪ ،‬وأت ّم صيام صيامك‪ ،‬وأكمل حجّ حجك‪ ،‬وأزكى صدقة صدقتك‪ ،‬وأعظم ذكرك لربك‪.‬‬

‫وأنت تهدي الى صراط مستقيم‪ ..‬من ركب سفينة هدايتك نجا‪ ،‬من دخل دار دعوتك أمن‪ ،‬من تمسّك بحبل‬
‫رسالتك سلم‪ .‬فمن تبعك ما ذلّ‪ ،‬وما ضلّ وزلّ وما قل‪ ،‬وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية‬
‫لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ وال مؤيدك وناصرك وحافظك؟‬

‫وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة‪ ،‬وشريعة غرّاء‪ ،‬وملة كاملة‪،‬‬
‫ودين تام‪.‬‬

‫هديت العقل من الزيغ‪ ،‬وطهّرت القلب من الريبة‪ ،‬وغسلت الضمير من الخيانة‪ ،‬وأخرجت المة من‬
‫الظلم‪ ،‬وحرّرت البشر من الطاغوت‪.‬‬

‫وإنك لتهدي الى صراط مستقيم‪ ،‬فكلمك هدى‪ ،‬وحالك هدى‪ ،‬وفعلك هدى‪ ،‬و مذهبك هدى‪ ،‬فأنت الهادي‬
‫الى ال‪ ،‬الدال على طريق الخير‪ ،‬المرشد لكل برّ‪ ،‬الداعي الى الجنة‪.‬‬

‫{ يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك}‬


‫أدّ الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة‪ ،‬بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة‪ ،‬ل تنقص منها حرفا‪ ،‬ول تحذف كلمة‪،‬‬
‫ول تغفل جملة‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها‪ ،‬فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة‪ ،‬فأنت مبلّغ فحسب‪ ،‬ل تزد في‬
‫الرسالة حرفا‪ ،‬ول تضف من عندك على المتن‪ ،‬ل تُدخل شيئا في المضمون‪ ،‬لنك مرسل فحسب‪ ،‬مبعوث‬
‫حمّلت فأدّ‪.‬‬
‫ليس إل‪ ،‬مكلف ببلغ‪ ،‬مسؤول عن مهمة‪ .‬فمثلما سمعت بلغ‪ ،‬ومثلما ُ‬
‫بلّغ ما أنزل إليك‪ ،‬عرف من عرف‪ ،‬وأنكر من أنكر‪ ،‬استجاب من استجاب وأعرض من أعرض‪ ،‬أقبل من‬
‫أقبل وأدبرمن أدبر‪.‬‬

‫بلغ ما أنزل إليك‪ ،‬بلّغ الكل وادع الجميع‪ ،‬وانصح الكافة‪ ،‬الكبراء والمستضعفين‪ ،‬السادة والعبيد‪ ،‬والنس‬
‫والجن‪ ،‬الرجال والنساء‪ ،‬الغنياء والفقراء‪ ،‬الكبار والصغار‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك‪ ..‬فل ترهب العداء ول تخف الخصوم‪ ،‬ول تخش الكفار‪ ،‬ول يهولك سيف مصلت‪ ،‬أو‬
‫رمح مشرع‪ ،‬أو منية كالحة‪ ،‬أو موت عابس‪ ،‬أو جيش مدجج‪ ،‬أو حركة حامية‪.‬‬

‫بلّغ ما أنزل إليك فل يغريك مال‪ ،‬ول يعجبك منصب‪ ،‬ول يزدهيك جاه‪ ،‬ول تغرّك دنيا‪ ،‬ول يخدعك متاع‪،‬‬
‫ول يردّك تحرّج‪.‬‬

‫ب طفل الهدى المحبوب متّشحا‬‫وش ّ‬


‫بالخير متّزرا بالنور والنار‬
‫في كفّه شعلة تهدي وفي دمه‬
‫ل جبّار‬
‫عقيدة تتحدّى ك ّ‬
‫وفي ملمحه وعد وفي يده‬
‫عزائم صاغها من قدرة الباري‬

‫{ وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}‪:‬‬

‫إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا‪ ،‬وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام‪ ،‬ولو كتمت‬
‫منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة ال وما أدّيت أمانة ال‪ ،‬نريد منك أن‬
‫تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك‪ ،‬وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك‪.‬‬

‫{وال يعصمك من الناس}‪:‬‬

‫بلغ الرسالة كاملة ول تخف أحدا‪ ،‬وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟!‬
‫لن يقتلك أحد لن ال يعصمك من الناس‪ ،‬ولن يطفئ نورك أحد لن ال يعصمك من الناس‪ ،‬ولن يعطّل‬
‫مسيرتك أحد لن ال يعصمك من الناس‪ ،‬اصدع بما تؤمر‪ ،‬وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لن ال‬
‫يعصمك من الناس‪ .‬اشرح دعوتك‪ ،‬وابسط رسالتك‪ ،‬وارفع صوتك‪ ،‬وأعلن منهجك‪ ،‬وما عليك لن ال‬
‫يعصمك من الناس‪.‬‬

‫ل جبروت في الدنيا ل يهزمك‪ ،‬كل طاغية في المعمورة لن يقهرك‪،‬‬


‫كل قوة في الرض لن تستطيع لك‪ ،‬ك ّ‬
‫لن ال يعصمك من الناس‪.‬‬

‫ظنّوا الحمام وظنّوا العنكبوت على‬


‫خير البريّة لم ينسج ولم يحم‬
‫عناية ال أغنت عن مضاعفه‬
‫من الروع وعن عالٍ من الطم‬
‫{ألم نشرح لك صدرك}‬
‫أما شرحنا لك صدرك فصار وسيعا فسيحا ل ضيق فيه‪ ،‬ول حرج ول همّ ول غمّ ول حزن‪ ،‬بل ملناه لك‬
‫نورا وسرورا وحبورا‪.‬‬

‫أما شرحنا لك صدرك وملناه حكمة ورحمة وإيمانا وبرا وإحسانا‪.‬‬

‫وشرحنا لك صدرك فوسعت أخلق الناس‪ ،‬وعفوت عن تقصيرهم‪ ،‬وصفحت عن أخطائهم‪ ،‬وسترت‬
‫عيوبهم‪ ،‬وحلمت على سفيههم‪ ،‬وأعرضت عن جاهلهم‪ ،‬ورحمت ضعيفهم‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوادا‪ ،‬وكالبحر كرما‪ ،‬وكالنسيم لطفا‪ ،‬تعطي السائل‪ ،‬وتمنح الراغب‪،‬‬
‫وتكرم القاصد‪ ،‬وتجود على المؤمّل‪.‬‬
‫شرحنا لك صدرك فصار بردا وسلما يطفئ الكلمة الجافية‪ ،‬ويبرد العبارة الجارحة‪ ،‬فإذا العفو والحلم‬
‫والصفح والغفران‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء العراب‪ ،‬ونيل السفهاء‪ ،‬وعجرفة الجبابرة‪ ،‬وتطاول التافهين‪،‬‬
‫وإعراض المتكبرين‪ ،‬ومقت الحسدة‪ ،‬وسهام الشامتين‪ ،‬وتجهّم القرابة‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فكنت بسّاما في الزمات‪ ،‬ضحّاكا في الملمّات‪ ،‬مسرورا وأنت في عين العاصفة‪،‬‬
‫ف بك الحوادث وأنت ثابت‪ ،‬لنك‬
‫مطمئنا وأنت في جفن الردى‪ ،‬تداهمك المصائب وأنت ساكن‪ ،‬وتلت ّ‬
‫مشروح الصدر‪ ،‬عامر الفؤاد‪ ،‬حيّ النفس‪.‬‬

‫شرحنا لك صدرك فلم تكن فظا قاسيا غليظا جافيا‪ ،‬بل كنت رحمة وسلما وبرا وحنانا ولطفا‪ ،‬فالحلم يُطلب‬
‫منك‪ ،‬والجود يُتعلّم من سيرتك‪ ،‬والعفو يؤخذ من ديوانك‪.‬‬

‫{ووضعنا عنك وزرك}‪:‬‬

‫حططنا عنك خطاياك وغسلناك من آثار الذنوب‪.‬‬

‫ي طاهر من كل ذنب وخطيئة‪ ،‬ذنبك مغفور‪،‬‬ ‫فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ ،‬وأنت الن نق ّ‬
‫وسعيك مشكور‪ ،‬وعملك مبرور‪ ،‬وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور‪ ،‬فهنيئا لك هذا الغفران‪ ،‬وطوبى لك‬
‫هذا الفوز‪ ،‬وقرة عين لك هذا الفلح‪.‬‬

‫{الذي أنقض ظهرك}‪:‬‬

‫أثقل هذا الوزر كاهلك‪ ،‬وأضنى ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه‪ ،‬فالن أذهبنا هذا الثقل وأزلنا هذه التبعة‪،‬‬
‫وأعفيناك من هذا الخطب‪ ،‬وأرحناك من هذا الحمل‪ ،‬فاسعد بهذه البشرى‪ ،‬وتقبّل هذا العطاء‪ ،‬وافرح بهذا‬
‫التفضّل‪.‬‬

‫{ورفعنا لك ذكرك}‪:‬‬

‫ل أُذكر إل تذكر معي‪ ،‬يقرن ذكرك بذكري في الذان والصلة والخطب والمواعظ‪ ،‬فهل تريد شرفا فوق‬
‫ل وكل مسبّح وكل حاجّ وكل خطيب‪ ،‬فهل تطلب مجدا أعلى من هذا؟‬
‫هذا؟ يذكرك كل مص ّ‬

‫أنت مذكور في التوراة والنجيل‪ ،‬منوّه باسمك في الصحف الولى والدواوين السابقة‪ ،‬اسمك يشاد به في‬
‫النوادي‪ ،‬ويُتلى في الحواضر والبوادي‪ ،‬ويُمدح في المحافل‪ ،‬ويُكرر في المجامع‪.‬‬

‫رفعنا لك ذكرك فسار في الرض مسير الشمس‪ ،‬وعبر القارات عبور الريح‪ ،‬وسافر في الدنيا سفر‬
‫الضوء‪ ،‬فكل مدينة تدري بك‪ ،‬وكل بلد يسمع بك‪ ،‬وكل قرية تسأل عنك‪.‬‬

‫رفعنا لك ذكرك فصرت حديث الرّّكب‪ ،‬وقصة السّمر‪ ،‬وخبر المجالس‪ ،‬وقضية القضايا‪ ،‬والنبأ العظيم في‬
‫الحياة‪.‬‬
‫رفعنا لك ذكرك فما نُسي مع اليام‪ ،‬وما مُحي مع العوام‪ ،‬وما شُطب مع قائمة الخلود‪ ،‬وما نُسخ من ديوان‬
‫التاريخ‪ ،‬وما أغفل من دفتر الوجود‪ ،‬نُسي الناس إل أنت‪ ،‬وسقطت السماء إل اسمك‪ ،‬وأغفل العظماء إل‬
‫ذاتك‪ ،‬فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتّباعك‪ ،‬ومن حُفظ اسمه فبسبب القتداء بك‪ .‬ذهبت آثار الدول‬
‫وبقيت آثارك‪ ،‬ومُحيت مآثر السلطين وبقيت مآثرك‪ ،‬وزالت أمجاد الملوك وخلّد مجدك‪ ،‬فليس في البشر‬
‫أشرح منك صدرا‪ ،‬ول أرفع منك ذكرا‪ ،‬ول أعظم منك قدرا‪ ،‬ول أحسن منك أثرا‪ ،‬ول أجمل منك سيرا‪.‬‬

‫إذا تشهّد متشهّد ذكرك معنا‪ ،‬وإذا تهجّد متهجّد سمّاك معنا‪ ،‬وإذا خطب خطيب نوّه بك معنا‪ ،‬فاحمد ربّك‬
‫لننا رفعنا لك ذكرك‪.‬‬

‫{ فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا}‪:‬‬

‫إذا ضاقت عليك السبل وبارت الحيل‪ ،‬وتقطعت الحبال وضاق الحال‪ ،‬فاعلم أن الفرج قريب وأن اليسر‬
‫حاصل‪.‬‬

‫ل تحزن‪ ،‬فإن بعد الفقر غنى‪ ،‬وبعد المرض شفاء‪ ،‬وبعد البلوى عافية‪ ،‬وبعد الضيق سعة‪ ،‬وبعد الشدّة‬
‫فرحا‪.‬‬

‫سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك‪ ،‬فترزقون وتنصرون وتكرمون ويفتح عليك‪ ،‬ولكن ليس يسر واحد بل‬
‫يسران‪.‬‬

‫إنها سنة ثابتة وقاعدة مطّردة أن مع كل عسر يسرا‪ ،‬بعد الليل فجر صادق‪ ،‬وخلف جبل المشقة سهل‬
‫الراحة‪ ،‬ووراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة‪ ،‬إذا اشتد الحبل انقطع‪ ،‬وإذا اكتمل الخطب‬
‫ارتفع‪ ،‬سوف يصل الغائب‪ ،‬ويشفى المريض‪ ،‬ويعافى المبتلى‪ ،‬ويفكّ المحبوس‪ ،‬ويغنى الفقير‪ ،‬ويشبع‬
‫الجائع‪ ،‬ويروى الظمآن‪ ،‬ويسرّ المهموم‪ ،‬وسيجعل ال بعد عسر يسرا‪.‬‬

‫وهذه السورة نزلت عليه الصلة والسلم وهو في حال من الضيق‪ ،‬وتكالب العداء‪ ،‬واجتماع الخصوم‪،‬‬
‫وإعراض الناس‪ ،‬وقلة الناصر‪ ،‬وتعاظم المكر‪ ،‬وكثرة الكيد‪ ،‬فكان ل بد له من عزاء وسلوة وتطمين‬
‫وترويح‪ ،‬فنزلت هذه الكلمات له ولتباعه الى يوم القيامة وعدا صادقا وبشر طيبة‪ ،‬وجائزة متقبّلة‪:‬‬

‫اشتدي أزمة تنفرجي‬


‫قد آذن ايلك بالبلج‬

‫{فإذا فرغت فانصب}‪:‬‬

‫إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية فانصب لنا بالعبادة‪ ،‬وتوجّه لنا بالطاعة‪ ،‬وأكثر من‬
‫ذكرنا ودعائنا‪.‬‬

‫إذا فرغت من الناس وقضايا الناس وأسئلة الناس فقم في محراب عظمتنا‪ ،‬وانطرح على بابنا‪ ،‬واقرب‬
‫منا‪ ،‬ومرّغ جبينك لنا‪ ،‬لتلقى الفوز والفلح والمن والنجاة‪.‬‬

‫إذا فرغت من الهل والولد والقريب والصاحب فاجعل لك وقتا معنا‪ ،‬ارفع فيه سؤالك‪ ،‬اعرض فيه‬
‫حاجتك‪ ،‬أكثر فيه دعاءك‪ ،‬ادعنا وسبّحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا‪.‬‬
‫إذا فرغت من الحكام والقضايا والموعظة والفتيا والتعليم والرشاد والجهاد والنصيحة‪ ،‬فتعال لتزداد من‬
‫قوتنا قوة‪ ،‬ومن مددنا عونا‪ ،‬ومن رزقنا زادا‪ ،‬ومن فتحنا بصيرة وذخيرة‪.‬‬

‫نحن أولى بك منك‪ ،‬وأحق بفراغك من غيرنا‪ ،‬ويا له من توجيه له ولتباعه عليه الصلة والسلم في‬
‫صرف الفراغ في العبودية‪ ،‬وملء هذا الزمن بذكره وشكره جلّ في عله‪ ،‬ليحصل المقصود من الرضا‬
‫والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة وصلح الحال والمال‪ ،‬وعمار الدنيا والخرة‪.‬‬

‫{وإلى ربّك فارغب}‪:‬‬

‫إلى ربك وحده فارغب‪ ،‬ول ترغب من غيره شيئا‪ ،‬وإليه وحده فاتجه وعليه توكّل‪ ،‬وفيه فأمل‪ ،‬فإن الرغبة‬
‫والرهبة ل تكون إل إليه لنه صاحب الثواب لمن أطاعه والعقاب لمن عصاه‪ ،‬والرغائب الجليلة ل يملكها‬
‫إل ال‪ ،‬فعنده مفاتح الخزائن ومقاليد المور‪ ،‬فهو أهل أن يدعى وأن يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جلّ في‬
‫عله‪:‬‬

‫إليك وإل ل تش ّد الركائب‬


‫ومنك وإل فالمؤمّل خائب‬
‫وفيك وإل فالغرام مضيّع‬
‫وعنك وإل فالمحدث كاذب‬

‫وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلى ال عليه وسلم في فترات عصيبة‪ ،‬وفي لحظات حاسمة عاشها‬
‫صلى ال عليه وسلم وتجرّع غصصها وحسا مرارتها‪.‬‬

‫{إنا فتحنا لك فتحا مبينا}‬


‫لقد فتحنا لك يا محمد فتحا بيّنا ظاهرا مباركا‪ ،‬فتحنا لك القلوب فغرست بها اليمان‪ ،‬وفتحنا لك الضمائر‬
‫فبنيت فيها الفضيلة‪ ،‬وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق‪ ،‬وفتحنا لك البلدان فنشرت بها الهدى‪ ،‬وفتحنا لك‬
‫كنز المعرفة وديوان العلم ومستودع التوفيق‪ ،‬وفتحنا بدعوتك القلوب الغلف والعيون العني والذان الصمّ‪،‬‬
‫وأسمعنا رسالتك الثقلين‪.‬‬

‫ح الجود من يمينك‪.‬‬
‫فتحنا لك فتدفّق العلم النافع من لسانك‪ ،‬وفاض الهدى المبارك من قلبك‪ ،‬وس ّ‬

‫وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها‪ ،‬وجمعت الرزاق ووزعتها‪ ،‬وحصلت على الموال وأنفقتها‪.‬‬

‫وفتحنا لك باب العلم وأنت الميّ الذي ما قرأ وكتب‪ ،‬فصار العلماء ينهلون من بحار علمك‪.‬‬

‫وفتحنا عليك الخير فوصلت القريب وأعطيت البعيد‪ ،‬وأشبعت الجائع وكسوت العاري‪ ،‬وواسيت المسكين‪،‬‬
‫وأغنيت الفقير‪ ،‬بفضلنا ورزقنا وكرمنا‪.‬‬
‫وفتحنا لك القلع والمدن والقرى‪ ،‬فهيمن دينك‪ ،‬وارتفعت رايتك‪ ،‬وانتصرت دولتك‪ ،‬فأنت مفتوح عليك في‬
‫كل خير وبرّ وإحسان ونصر وتوفيق‪.‬‬

‫{فاعلم أنه ل إله إل ال}‬


‫{فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} محمد ‪ ،19‬فل تشرك معه في عبوديته أحدا‪ ،‬ول تعد من دونه إلها آخر‪ ،‬بل‬
‫تصرف له عبادتك‪ ،‬وتخلص له طاعتك‪ ،‬وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك‪ ،‬فإذا سألت فاسأل ال‪ ،‬وإذا‬
‫استعنت فاستعن بال‪ ،‬فل يستحق العبادة إل هو‪ ،‬ول يكشف الضرّ غيره‪ ،‬ول يجيب دعوة المضطر سواه‪.‬‬

‫{فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّ ُه } فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر‪ ،‬وأرأف من ملك‪ ،‬وأجود من أعطى‪ ،‬وأحلم من‬
‫قدر‪ ،‬وأقوى من أخذ‪ ،‬وأجلّ من قصد‪ ،‬وأكرم من ابتغي‪ ،‬فل يدعى إله سواه‪ ،‬ول رب يطاع غيره‪ ،‬فالواجب‬
‫أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب‪.‬‬

‫{فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} المتفرد بالجمال والكمال والجلل‪ ،‬خلق الخلق ليعبدوه‪ ،‬وأوجد النس والجن‬
‫ليوحّدوه‪ ،‬وأنشأ البريّة ليطيعوه‪ ،‬فمن أطاعه فاز برضوانه‪ ،‬ومن أحبّه نال قربه‪ ،‬ومن خافه أمن عذابه‪ ،‬ومن‬
‫عظمه أكرمه‪ ،‬ومن عصاه أدّبه‪ ،‬ومن حاربه خذله‪ ،‬يذكر من ذكره‪ ،‬ويزيد من شكره‪ ،‬ويذلّ من كفره‪ ،‬له‬
‫الحكم وإليه ترجعون‪.‬‬
‫{فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ} فأخلص له العبادة‪ ،‬لنه ل يقبل الشريك‪ ،‬وفوّض إليه المر لنه الكافي القويّ‪،‬‬
‫واسأله فهو الغني‪ ،‬وخف عذابه لنه شديد‪ ،‬واخش أخذه لنه أليم‪ ،‬ول تتعدّ حدوده لنه يغار‪ ،‬ول تحارب‬
‫أولياءه‪ ،‬لنه ينتقم‪ ،‬واستغفره فهو واسع المغفرة‪ ،‬واطمع في فضله لنه كريم‪ ،‬ولذ بجنابه فهناك المن‪ ،‬وأدم‬
‫ذكره لتنل محبته‪ ،‬وأدمن شكره لتحظى بالمزيد‪ ،‬وعظم شعائره لتفوز بوليته‪ ،‬وحارب أعداءه ليخصّك‬
‫بنصره‪.‬‬

‫{إقرأ}‬
‫تبدأ قصة النبوة بكلمة‪{:‬ا ْقرَأْ} يوم نزلت على رسولنا صلى ال عليه وسلم في الغار‪ ،‬ومن بداية {اقْرَأْ}‬
‫بدأنا‪ ،‬بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا‪ ،‬ومن تاريخ نزول {ا ْقرَأْ} بدأت مسيرتنا المقدّسة‪ ،‬وتغيّر بها وجه الرض‬
‫وصفحة اليام ومعالم الدنيا‪ ،‬فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين‪ ،‬وهي اللحظة الفاصلة‬
‫بين الظلم والنور‪ ،‬والكفر واليمان‪ ،‬والجهل والعلم‪ ،‬واختيار اقرأ من بين قاموس اللفاظ وديوان اللغة له‬
‫سر عجيب ونبأ غريب‪ ،‬فلم يكن مكان {اقْرَأْ} غيرها من الكلمات‪ ،‬ل " اكتب"‪ ،‬ول "ادع" ول "تكلم" ول‬
‫"قل"‪ ،‬ول "اخطب"‪ ....‬إنما {ا ْقرَأْ}‪ ،‬ويا لها من كلمة جليلة جميلة أصيلة‪.‬‬

‫ك } محمد ‪.19‬‬
‫س َتغْفِرْ ِلذَنبِ َ‬
‫اقرأ يا محمد قبل أن تدعو‪ ،‬واطلب العلم قبل أن تعمل {فَاعَْلمْ َأنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا اللّهُ وَا ْ‬

‫إن {ا ْقرَأْ} منهج حياة‪ ،‬ورسالة حية لكل ح ّ‬


‫ي تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة‪ ،‬وأن يطرد الجهل‬
‫عن نفسه وأمته‪.‬‬

‫وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ول درس كتابا ول حمل قلما؟‬
‫يقرأ أول باسم ربه كلم ربّه‪ ،‬فمصدره الول الوحي يتلوه غضّا طريا‪ ،‬ويقرأ في كتاب الكون المفتوح‬
‫ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلم القدرة‪ ،‬فيقرأ في الشمس الساطعة‪ ،‬والنجوم اللمعة‪ ،‬والجدول والغدير‪،‬‬
‫والتل والرابية‪ ،‬والحديقة والصحراء‪ ،‬والرض والسماء‪:‬‬

‫وكتابي الفضاء اقرأ فيه‬


‫صورا ما قرأتها في كتابي‬

‫وكلمة {ا ْقرَأْ} تدلك على فضل العلم وعلوّ مكانته‪ ،‬وأنه أول منازل الشرف الرافعة‪.‬‬

‫وإن كل سعادة وفلح سببها العلم‪ ،‬فرسالته صلى ال عليه وسلم علميّة عمليّة‪ ،‬لنه بعث بالعلم النافع‬
‫والعمل الصالح " مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري ‪ 79‬ومسلم ‪2282‬‬
‫عن أبي موسى رضي ال عنه‪.‬‬

‫فاليهود عندهم علم بل عمل‪ ،‬فغضب عليهم‪ ،‬والنصارى لديهم عمل بل علم فضلوا‪ ،‬فأمرنا بالستعاذة من‬
‫ب عَلَيهِمْ َولَ الضّالّي َن (‪ } )7‬الفاتحة‪.‬‬
‫سبيل الطائفتين {غَيرِ المَغضُو ِ‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم باكيا‪:‬‬


‫البكاء فضيلة عند رؤية التقصير أو خوف سوء المصير‪ ،‬وهو محمدة إذا تذكّر العبد ربه وخاف ذنوبه‪،‬‬
‫ودليل على تقوى القلب وسمّو النفس وطهر الضمير ورقّة العاطفة‪ ،‬مدح ال رسله بالبكاء فقال‪ِ {:‬إذَا ُتتْلَى‬
‫ت الرّ ْحمَن َخرّوا ُسجّدا َوُب ِكيّا (‪ })58‬مريم‪.‬‬
‫عََل ْيهِ ْم آيَا ُ‬

‫ل ْذقَا ِن َي ْبكُونَ َويَزِيدُهُمْ ُخشُوعا (‪ } )109‬السراء‪.‬‬


‫ووصف أولياءه الصالحين بأنهم{ َويَخِرّونَ لِ َ‬

‫ولم أعداءه على القسوة والغلظة فقال‪ {:‬أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ول تبكون}‪.‬‬

‫ض مِ َن ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُو ْا مِنَ ا ْلحَ ّق } المائدة‬


‫عيُ َنهُ ْم تَفِي ُ‬
‫ل تَرَى أَ ْ‬
‫س ِمعُو ْا مَا أُنزِلَ إِلَى الرّسُو ِ‬
‫وأثنى على قوم فقال‪ {:‬وَِإذَا َ‬
‫‪.83‬‬

‫ب العالمين‪ ،‬وإمام الخائفين من مالك يوم الدين هو خاتم المرسلين صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وسيد الخاشعين لر ّ‬
‫فقد كان نديّ الجفن‪ ،‬سريع العبرة‪ ،‬سخيّ الدمع‪ ،‬رقيق القلب‪ ،‬جياش العاطفة‪ ،‬مشبوب الحشا‪ ،‬تنطلق دمعته‬
‫في صدق وطهر‪ ،‬ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات‪ ،‬يترك بكاؤه في قلوب أصحابه آثارا من التربية‬
‫والقتداء والصلح ما ل تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثرة‪ ،‬فهو يبكي صلى ال عليه وسلم عند تلوة‬
‫حكِي ُم (‬
‫عبَا ُدكَ َوإِن َتغْ ِفرْ َلهُ ْم فَِإّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِي ُز الْ َ‬
‫القرآن‪ ،‬فقد قام ليلة من الليالي يكرر قوله تعالى‪ {:‬إِن ُت َعذّ ْبهُ ْم فَِإّنهُ ْم ِ‬
‫‪ } )118‬المائدة‪ ،‬فيبكي غالب ليله‪.‬‬

‫وهو يبكي عند سماع القرآن‪ ،‬فقد صحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال لبن مسعود‪":‬اقرأ عليّ القرآن"‪،‬‬
‫قال‪ :‬كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال‪ ":‬اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري" فيقرأ ابن مسعود من أول‬
‫ك عَلَى هَـؤُلء َشهِيدا (‪ })41‬النساء‪ .‬قال‪":‬‬
‫ج ْئنَا ِب َ‬
‫شهِيدٍ وَ ِ‬
‫ل أمّ ٍة بِ َ‬
‫ج ْئنَا مِن كُ ّ‬
‫سورة النساء‪ ،‬حتى بلغ‪َ {:‬ف َكيْفَ ِإذَا ِ‬
‫حسبك الن" فنظرت فإذا عيناه تذرفان‪ .‬أخرجه البخاري [ ‪ ]5055 ،4582‬ومسلم ‪ 800‬عن عبدال بن‬
‫مسعود‪.‬‬

‫وهو يخشع صلى ال عليه وسلم عند سماع القرآن‪ ،‬فقد صح أنه قام ليلة يستمع لبي موسى الشعري وهو‬
‫يقرأ القرآن ثم قال له في الصباح‪ ":‬لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك‪ ،‬لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود"‬
‫أخرجه البخاري ‪ 5048‬ومسلم ‪ 793‬عن أبي موسى‪.‬‬
‫فيقول أبو موسى‪ :‬لو كنت أعلم أنك تستمع لي لحبّرته لك تحبيرا‪ .‬أي‪ :‬جوّدته وحسنته وجمّلته‪ .‬هذه الزيادة‬
‫أخرجها البيهقي في الكبرى [ ‪ ]208421 ،4484‬وفي الشعب ‪.2604‬‬

‫وقال عبدال بن الشخير في حديث صحيح‪ :‬دخلت على رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلي‬
‫وبصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء‪ ،‬وهو القدر إذا استجمع غليانا‪.‬‬

‫ويحضر صلى ال عليه وسلم جنازة ابنته زينب‪ ،‬ويجلس على القبر وتذرف عيناه من هول المنظر‪ ،‬وتذكر‬
‫العاقبة والتفكير في ذلك المصير‪ ،‬وأصحابه يشاهدون هذا المشهد المؤثر المعبّر منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ويخبر صلى ال عليه وسلم بفضل البكاء من خشية ال‪ ،‬فيذكر السبعة الذين يظلهم ال في ظله يوم ل ظل‬
‫إل ظله‪ ...":‬ورجل ذكر ال خاليا ففاضت عيناه" اخرجه البخاري[ ‪ ]6806 ،1423 ،660‬ومسلم ‪1031‬‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫وصحّ عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ ":‬عينان ل تمسّهما النار أبدا‪ :‬عين بكت وجل من خشية ال‪ ،‬وعين‬
‫باتت تحرس في سبيل ال" أخرجه الترمذي ‪ 1639‬والبيهقي في الشعب ‪ 796‬عن ابن عباس‪.‬‬

‫فالبكاء السنّي الشرعي ما كان من خوف ال عز وجل‪ ،‬وتذكّر القدوم عليه والوقوف بين يديه والتفكير في‬
‫آياته الشرعية والكونية‪ .‬والبكاء من الوفاء‪ ،‬ومن أفضل أعمال الولياء‪ ،‬خاصة إذا كان ندما من معصية‬
‫وعند فوت طاعة‪ ،‬ووجل من عذاب‪ ،‬ورحمة لمصاب‪ ،‬ورقة عند موعظة‪ ،‬وخشية عند تفكّر‪ .‬ول يحمد‬
‫البكاء على الدنيا‪ ،‬فهي أقل وأرخص من يُبكى عليها‪ ،‬فليست أهل لذلك‪.‬‬

‫فكان بكاؤه صلى ال عليه وسلم أجلّ وأفضل البكاء‪ ،‬وهو ما دلّ على يقين وعظمة خوف وشدة رهبة من‬
‫الجليل‪ ،‬وصدق معرفة وحسن علم بعاقبة‪ ،‬فأعماله صلى ال عليه وسلم كلها في أرقى مقامات العمال‬
‫وأسمى غايات الحوال‪.‬‬

‫ولم يكن صلى ال عليه وسلم بالهلوع الجزوع الذي يأسف على فوات الحظوظ الدنيوية ويجزعلى ذهاب‬
‫المكاسب الدنيّة‪ ،‬ولم يكن بالفرح البطر القاسي الذي ل تؤثر فيه المواقف ول تحرّكه الزمات‪ ،‬بل كان بكاؤه‬
‫وندمه وأسفه في مرضاة ربه‪ .‬وكان تبسّمه وضحكه وسروره في طاعة خالقه‪ ،‬ففي كل خصلة من خصال‬
‫ل اللّهِ أُسْ َوةٌ‬
‫النبل وفي كل صفة من صفات الفضل هو المثل العلى والقدوة الحسنة‪ {:‬لَ َق ْد كَانَ َلكُ ْم فِي رَسُو ِ‬
‫حَ َسنَةٌ} الحزاب ‪.21‬‬
‫لقد كان أصحابه صلى ال عليه وسلم ينظرون إليه على المنبر ودموعه تذرف‪ ،‬ونشيجه يتعالى‪ ،‬ولصدره‬
‫ل ينكس رأسه ويترك التعبير لعينيه أمام هذا‬
‫أزيز ولصوته أزيمن حينها يتحول المسجد إلى بكاء ودموع‪ ،‬ك ّ‬
‫المشهد الذي ل تمحوه اليام ول تنسيه الليالي‪.‬‬

‫يا ال! محمد رسول ال هكذا باكيا أمام الناس‪ ،‬هكذا تسحّ دموعه وتتساقط على وجنتيه وهو أعرف الناس‬
‫بال وأدراهم بالوحي وأعلمهم بالمصير!‬

‫يبكي من قلب ملؤه الخوف من ال‪ ،‬ومن نفس عمَرها حب ال‪ ،‬فتكاد دموعه تتحدث للناس‪ ،‬ويكاد يكون‬
‫بكاؤه أبلغ من كل موعظة وأفصح من كل كلمة‪.‬‬

‫قد كنت أشفق من دمعي على بصري‬


‫فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ضاحكا‪:‬‬


‫الضحك المعتدل بلسم للروح ودواء للنفس وراحة للخاطر المكدود وبعد الجد والعمل‪ ،‬والمقتصد منه دليل‬
‫على الريحية‪ ،‬وآية على اعتدال المزاج‪ ،‬وعلمة على صفاء الطويّة‪.‬‬

‫وكان رسولنا صلى ال عليه وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضحاكا بساما يمازح زوجاته ويلطفهن‬
‫ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحب والحنان والعطف؛ لنه بُعث رحمة للعالمين‪ ،‬وأحق الناس بهذه‬
‫الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه‪ .‬وكانت تعلو محيّاه الطاهر البسمة المشرقة الموحية‪ ،‬فإذا قابل بها‬
‫الناس أسر قلوبهم أسرا فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه‪ ،‬يبتسم عن مثل البرد في وجه‬
‫أبهى من الشمس‪ ،‬وجبين أزهى من البدر‪ ،‬وفم أطهر من القحوان‪ ،‬وخلق أندى من الرياض‪ ،‬وو ّد أرق من‬
‫النسيم‪ ،‬يمزح ول يقول إل حقا‪ ،‬فيكون مزحه على أرواح أصحابه أهنى من قطرات الماء على كبد الصادي‬
‫وألطف من يد الوالد الحاني على رأس ابنه الوديع‪ ،‬يمازحهم فتنشط أرواحهم وتنشرح صدورهم وتنطلق‬
‫أسارير وجوههم‪ ،‬فل وال ما يريدون الدنيا كلها في جلسة واحدة من جلساته‪ ،‬ول وال ل يرغبون في‬
‫القناطير المقنطرة من الذهب والفضة في كلمة حانية وادعة مشرقة من كلماته‪.‬‬

‫يقول جرير بن عبدال البجلي‪ :‬ما رآني رسول ال صلى ال عليه وسلم إل تبسّم في وجهي‪ ،‬وجرير يفتخر‬
‫ل عند جرير من كل الذكريات‬
‫بهذا العطاء ويعلن هذا السخاء‪ ،‬فهذه البسمة الوارفة الدافئة الصادقة أج ّ‬
‫وأسمى من كل المنيات‪.‬‬

‫يبتسم في وجهه فكفى‪ ،‬يمل روحه برا وحنانا ولطفا‪ ،‬ويشبع قلبه سماحة ورحمة وودا‪ ،‬ول تظن المسألة‬
‫عادية أو أن الموقف سهل بسيطن لنك ما عشت الحدث وما لبست القضية‪.‬‬
‫والرسول صلى ال عليه وسلم في ضحكه ومزاحه ودعابته وسط بين من جفّ خلقه ويبس طبعه وتجهّم‬
‫محيّاه وعبس وجهه‪ ،‬وبين من أكثر من الضحك واستهتر في المزاح وأدمن الدعابة والخفة‪ ،‬فكان صلى ال‬
‫عليه وسلم يضحك في مناسبات حتى تبدو نواجذه‪ ،‬ولكنه لم يستغرق في الضحك حتى يهتز جسمه أو يتمايل‬
‫أو تبدو لهواته‪ ،‬وهي أقصى الحق‪.‬‬

‫وقد صحّ عنه أنه قال‪ ":‬وإيّاك والضحك‪ ،‬فإن كثرة الضحك تميت القلب" أخرجه أحمد ‪ 8034‬والترمذي‬
‫‪ 2305‬وابن ماجه ‪ 4217‬عن أبي هريرة رضي ال عنه وانظر البيان والتعريف ‪ 22\1‬وكشف الخفاء ‪.85‬‬

‫وقد ورد أنه مازح بعض أصحابه فقال له‪ :‬أريد أن تحملني يا رسول ال على جمل‪ ،‬قال‪ ":‬ل أجد لك إل‬
‫ولد الناقة" فولّى الرجال فدعاه وقال‪ ":‬وهل تلد البل إل النوق؟" أي أن الجمل أصل ولد ناقة‪ .‬أخرجه أحمد‬
‫‪ 13405‬وأبو داود ‪ 4998‬والترمذي ‪ 1991‬عن أنس بن مالك‪.‬‬

‫ويروى أن عجوزا أتته صلى ال عليه وسلم تطلب منه أن يدعو لها بدخول الجنة‪ ،‬فقال‪ ":‬ل يدخل الجنة‬
‫جعَ ْلنَاهُنّ َأ ْبكَارا (‪)36‬‬
‫عجوز" فولّت تبكي‪ ،‬فدعاها وقال‪ ":‬أما سمعت قول ال سبحانه‪ِ {:‬إنّا أَنشَ ْأنَاهُنّ إِنشَاء (‪َ )35‬ف َ‬
‫عُرُبا َأتْرَابا (‪ })37‬الواقعة‪ .‬أخرجه الطبراني انظر مجمع الزوائد ‪.419\10‬‬

‫بل كان ضحكه طاعة لربه تعالى‪ ،‬وفيه من مقاصد القتدء والسوة ما يفوق الوصف‪ ،‬ولم يكن ضحكه‬
‫عبثا أو لهوا أو تزجية للوقت وقتل للزمن‪.‬‬

‫يركب صلى ال عليه وسلم راحلته مسافرا فيدعو بدعاء السفر ثم يقول‪ ":‬اللهم اغفر لي ذنبي فإنه ل يغفر‬
‫الذنوب إل أنت" ثم يضحك صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيسأله أصحابه‪ :‬لم ضحكت يا رسول ال؟ فقال‪ ":‬يضحك‬
‫ربك إذا قال العبد‪ :‬اللهم اغفر لي ذنوبي فإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪ ،‬ويقول‪ :‬علم عبدي أنه ل يغفر الذنوب‬
‫إل أنا"‪ .‬أخرجه أحمد ‪ 932‬وأبو داود ‪ 2602‬والترمذي ‪ 3446‬عن علي رضي ال عنه‪.‬‬

‫ويتلو صلى ال عليه وسلم قصة الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة ويخرج من النار‪ ،‬ويسأل ربه شيئا‬
‫فشيئا حتى يعطيه ال عشرة أمثال ما تمنّى‪ ،‬فيقول الرجل‪ :‬أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيضحك صلى ال‬
‫عليه وسلم عند ذلك‪.‬‬

‫فمن هديه صلى ال عليه وسلم الذي هداه ال إليه ودلّه عليه أنه يعطي كل مقام حقه حتى ل يصلح في ذلك‬
‫المقام إل ما فعله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ففي وقت النس والفرح والسرور مزاح مقتصد ودعابة وقورة‬
‫ومرح معتدل‪ ،‬وفي وقت الموعظة والخوف والتذكر بكاء في خشية ورهبة في ذكرى وتأثر في سكون‪،‬‬
‫فمزاحه تأليف للقلوب‪ ،‬ودعابته أنس للرواح‪ ،‬وضحكه بلسم للنفوس‪ ،‬بل كل مزحة مكتوبة في دواوين‬
‫الحديث على أنها سنة‪ ،‬وكل دعابة نقلها الرواة على أنها أثر وخلق من أخلقه الشريفة‪ ،‬فسبحان من رفع‬
‫قدره حتى صار ضحكه يحفظ في بطون السفار كأنه أعجب قصة من قصص العبر والعظات‪ ،‬وتبارك من‬
‫شرّف منزلته حتى جعل مزحه يرويه الثقات عن الثقات كأنه فريضة قائمة‪ ،‬فصلى ال عليه وعلى أصحابه‬
‫وآله ما تنفس صباح وعسعس ليل‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم شجاعا‪:‬‬


‫الرسول صلى ال عليه وسلم أشجع الناس قلبا‪ ،‬ويكفي شجاعته مثل أنه ما فرّ من معركة قط‪ ،‬وما تأخر‬
‫عن القتال‪ ،‬وما نكص عند النزال‪ ،‬بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق واحمرّت الحدق‬
‫وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسّرت الرماح على الجماجم‪ ،‬حينها تجد سيد الخلق صلى ال‬
‫عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس‪ ،‬عنده من الطمأنينة والثقة بربّه ما يكفي أمة وما يفيض على جيش‪.‬‬

‫أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة والقلوب‬
‫الحاقدة يريدون روحه صلى ال عليه وسلم بأي ثمن‪ ،‬وهو أعزل من السلح؟ فلما رأى تخوف أبي بكر عليه‬
‫قال‪ ":‬يا أبا بكر‪ ،‬ما ظنّك باثنين ال ثالثهما" أخرجه البخاري [ ‪ ]4663 ،3653‬ومسلم ‪ 2381‬عن أبي بكر‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة‪.‬‬

‫ويفرّ المسلمون في حنين ول يبقى إل ستة من الصحابة‪ ،‬فيتقدم صلى ال عليه وسلم على بغلته الى جيش‬
‫الكفار المدجج بالسلح الكثير العدد القوي البأس‪ ،‬فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول‪ ":‬شاهت الوجوه" أخرجه‬
‫مسلم ‪ 1777‬عن سلمة بن عمرو بن الكوع رضي ال عنه‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم ممدوحا‪:‬‬


‫فذو العرش محمود وهذا محمد‪:‬‬

‫ك مَقَاما مّ ْحمُودا (‪ } )79‬السراء‪.‬‬


‫{عَسَى أَن َي ْب َعثَكَ َرّب َ‬

‫الشمس من حساده والنصر من‬


‫قرنائه والحمد من أسمائه‬
‫أين الثلثة من ثلث خلله‬
‫من حسنه وإبائه ومضائه‬
‫مضت الدهور وما أتين بمثله‬
‫ولقد أتى فعجزن عن نظرائه‬

‫محمد بن عبدال‪ ..‬هذا السم العلم‪ ،‬إذا ذكر ذكرت معه الفضيلة في أجمل صورها‪ ،‬وذكر معه الطهر‬
‫في أرقى مشاهده‪ ،‬وذكر معه العدل في أسمى معانيه‪.‬‬

‫محمد بن عبدال‪ ..‬اسم كتب بحروف من نور في قلوب الموحّدين‪ ،‬فلو شققت كل قلب لرأيته محفورا في‬
‫النياط مكتوبا في السويداء‪ ،‬مرسوما في العروق‪.‬‬

‫ق قلبي في الهوى قطعا‬


‫وال لو ش ّ‬
‫وأبصر اللحظ رسما في سويداه‬
‫لكنت أنت الذي في لوحه كتبت‬
‫ذكراه أو رسمت بالحب سيماه‬

‫محمد صاحب الغرة والتبجيل‪ ،‬المذكور في التوراة والنجيل‪ ،‬المؤيد بجبريل‪ ..‬حامل لواء العز في بني‬
‫لؤين وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي‪.‬‬
‫بشّرت به الرسل‪ ،‬وأخبرت به الكتب‪ ،‬وحفلت باسمه التواريخ‪ ،‬وتشرّفت به النوادي‪ ،‬وتضوعت بذكره‬
‫المجامع‪ ،‬وصدحت بذكراه المنائر‪ ،‬ولجلجت بحديثه المنابر‪.‬‬

‫ق عَنِ‬
‫ح ُبكُمْ َومَا غَوَى (‪ } )2‬النجم‪ ،‬وحفظ من الهوى‪َ {:‬ومَا يَنطِ ُ‬
‫ل صَا ِ‬
‫عصم من الضللة والغواية‪ {:‬مَا ضَ ّ‬
‫ا ْلهَوَى (‪ })3‬النجم‪...‬‬

‫فكلمه شريعة‪ ،‬ولفظه دين‪ ،‬وسنته وحي{إِ ْن هُوَ إِلّا وَ ْحيٌ يُوحَى (‪})4‬النجم‪..‬‬

‫ك عَلَى الْحَقّ ا ْل ُمبِينِ (‪} )79‬النمل‪.‬‬


‫سجاياه طاهرة‪ ،‬وطبيعته فاضلة‪ ،‬وخصاله نبيلة‪ ،‬ومواقفه جليلة{ ِإّن َ‬

‫تواضعه جمّ‪ ،‬وجوده عمّ‪ ،‬ونوره تمّ‪ ،‬فهو مرضي الفعال‪ ،‬صادق القوال‪ ،‬شريف الخصال{وَِإّنكَ َلعَلى خُُلقٍ‬
‫عَظِي ٍم (‪ } )4‬القلم‪.‬‬

‫ب لَن َفضّو ْا مِنْ حَوِْلكَ‬


‫حمَ ٍة مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُمْ َولَ ْو كُنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَلْ ِ‬
‫ليّن الجانب‪ ،‬سهل الخليقة‪ ،‬يسير الطبع{ َف ِبمَا رَ ْ‬
‫} آل عمران ‪.159‬‬

‫حنَا َلكَ َفتْحا‬


‫ظاهر العناية‪ ،‬ملحوظ بعين الرعاية‪ ،‬منصور الراية‪ ،‬موفق محظوظ‪ ،‬مظفّر مفتوح عليه {ِإنّا َفتَ ْ‬
‫ّمبِينا (‪ } )1‬الفتح‪.‬‬

‫أصلح ال قلبه‪ ،‬وأنار له دربه‪ ،‬وغفر له ذنبه {ِل َيغْفِرَ َلكَ اللّ ُه مَا تَ َقدّ َم مِن ذَن ِبكَ َومَا تََأخّرَ} الفتح ‪.2‬‬

‫فهو المصلح الذي عمر ال به القلوب‪ ،‬وأسعد به الشعوب‪ ،‬وأعتق به الرقاب من عبودية الطاغوت‪ ،‬وحرّر‬
‫به النسان من رقّ الوثنية { وَِإّنكَ َل َتهْدِي إِلَى صِرَا ٍط مّ ْستَقِي ٍم (‪ })52‬الشورى‪.‬‬

‫وهو الذي أعفى البشرية من التكاليف الشاقة‪ ،‬وأراحها من المصاعب‪ ،‬وأبعدها من المعاطب‪ ،‬وسهل لها‬
‫بإذن ال أمر الحياة‪ ،‬وبصّرها بسنن الفطرة { َويَضَ ُع َع ْنهُمْ إِصْرَ ُهمْ وَالَغْلَلَ اّلتِي كَا َنتْ َعَليْهِ ْم } العراف ‪.157‬‬

‫فهو رحمة للنسان‪ ،‬إذا علّمه الرحمن‪ ،‬وسكب في قلبه نور اليمان‪ ،‬ودلّه على طريق الجنان‪..‬‬

‫وهو رحمة للشيخ الكبير‪ ،‬إذ سهّل له العبادة‪ ،‬وأرشده لحسن الخاتمة‪ ،‬وأيقظه لتدارك العمر واغتنام بقية‬
‫اليام‪..‬‬

‫وهو رحمة للشاب إذ هداه إلى أجمل أعمال الفتوة وأكمل خصال الصبا‪ ،‬فوجّه طاقته لنبل السجايا وأجلّ‬
‫الخلق‪..‬‬

‫وهو رحمة للطفل‪ ،‬إذ سقاه مع لبن أمه دين الفطرة‪ ،‬وأسمعه ساعة المولد أذان التوحيد‪ ،‬وألبسه في عهد‬
‫الطفولة حلة اليمان‪..‬‬

‫وهو رحمة للمرأة‪ ،‬إذ أنصفها في عالم الظلم‪ ،‬وحفظ حقها في دنيا الجور‪ ،‬وصان جانبها في مهرجان‬
‫الحياة‪ ،‬وحفظ لها عفافها وشرفها ومستقبلها‪ ،‬فعاش أبا للمرأة وزوجا وأخا ومربيا‪..‬‬
‫وهو صلى ال عليه وسلم رحمة للولة والحكام‪ ،‬إذ وضع لهم ميزان العدالة‪ ،‬وحذّرهم من متالف الجور‬
‫والتعسف‪ ،‬وح ّد لهم حدود التبجيل والحترام والطاعة في طاعة ال ورسوله‪..‬‬

‫وهو رحمة للرعية‪ ،‬إذ وقف مدافعا عن حقوقها محرما الحيف ناهيا عن السلب والنهب والسفك والبتزاز‬
‫والضطهاد والستبداد‪.‬‬

‫إذا فهو رحمة للجميع ونعمة على الكل‪َ {:‬ومَا أَرْسَ ْلنَاكَ إِلّا َر ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِي َن (‪ })107‬النبياء‪.‬‬

‫وكان إذا تكلم عبل كلمه حدود النفس وتجاوز أقطار الروح‪ ،‬فغاص حديثه في أعماق الفئدة‪ ،‬ونقش لفظه‬
‫في صفحة الذاكرة‪ ،‬وخطّ على سويداء القلوب‪.‬‬

‫وكان إذا ضحك مل المكان أنسا‪ ،‬وأتحف الحضور بشرا‪ ،‬وعبّأ جلسه سعادة وحفاوة‪.‬‬

‫وكان إذا بكى خشع لبكائه الناس‪ ،‬وذرفت كل عين مخزونها‪ ،‬وأخرجت كل نفس مكنوناتها‪ ،‬فكأن نذر‬
‫القيامة على البواب‪ ،‬وكأن رسل الموت وقوف على الرؤوس‪ ،‬فل ترى إل دموعا وخشوعا وخضوعا‬
‫ض َحكُونَ َولَا َت ْبكُونَ (‪ })60‬النجم‪.‬‬
‫ن (‪َ )59‬وتَ ْ‬
‫جبُو َ‬
‫ث َتعْ َ‬
‫حدِي ِ‬
‫وإطراقا‪َ {:‬أ َفمِنْ َهذَا ا ْل َ‬

‫بادٍ هواك صبرت أن لم تصبر‬


‫وبكاك إذا لم يجر دمعك أو جرى‬

‫وكان إذا خطب هز المنابر‪ ،‬وأيقظ الضمائر‪ ،‬وحرّك السرائر‪ ،‬وألهب السامعين‪ ،‬وأذهل المخاطبين‪ ،‬فلو أن‬
‫للصخر عينا لبكت‪ ،‬ولو أن للجدار نفسا لخشعت‪ ،‬ولو أن لليام أذنا لنصتت‪.‬‬

‫ليت للدهر مقلة فلعل الذكر‬


‫يبكيه مثلما أبكاني‬
‫بحديث يغوص في القلب غوصا‬
‫وعليه جللة من معان‬

‫ل ُتكَلّفُ ِإلّ‬
‫سبِيلِ اللّهِ َ‬
‫ل فِي َ‬
‫وكان إذا قاتل ثبت ثبوت الرجال‪ ،‬وتقدّم تقدّم السيل‪ ،‬وصمد صمود الحق { َفقَاتِ ْ‬
‫نَفْ َسكَ} النساء ‪.84‬‬

‫فكان ل يعرف الفرار‪ ،‬ول يسمع بالهزيمة ول يستسلم للحباط‪ ،‬محيّاه باسم والغبار يمل المكان‪ ،‬وقلبه‬
‫مطمئن والرؤوس تعاف البدا‪ ،‬ونفسه ساكنة والنفوس شذر مذر على رؤوس الرماح‪ ،‬وطلعته ضاحكة‬
‫ت أَ ْو ُقتِلَ انقََل ْبتُ ْم عَلَى‬
‫ل َأفَإِن مّا َ‬
‫ت مِن َقبْلِهِ الرّسُ ُ‬
‫خلَ ْ‬
‫ل َقدْ َ‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُو ٌ‬
‫والسيوف تخطّ بالدماء حروف الموت{ َومَا مُ َ‬
‫أَعْقَا ِبكُ ْم } آل عمران ‪.144‬‬

‫وقفت وما في الموت شكّ لواقف‬


‫كأنّك في جفن الردى وهو نائم‬
‫تم ّر بك البطال كلمى هزيمة‬
‫ووجهك وضّاح وثغرك باسم‬
‫وكان إذا جاد بلغ المدى في السخاء‪ ،‬وفعل ما لم تفعله النواء‪ ،‬يعطي عطاء من ل يخشى الفقر‪ ،‬ويهب هبة‬
‫من أرخص الدنيا وزهد في الحطام وعاف البقاء ورجا من ال الخلف‪ ..‬يداه غمامة أينما هلّت‪ ،‬وكفّه مدرارا‬
‫أينما وقع نفع‪ ،‬جاد بمهجته فعرّضها للمنايا في سبيل ال‪ ،‬وقدّمها لشفرات السيوف لرفع ل إله إل ال‪ ،‬فما‬
‫شجاعته إل آية لجوده‪ ،‬وما إقدامه إل برهان على سخائه‪:‬‬

‫أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة‬


‫أدّبت في هول الردى أبطالها‬
‫وإذا وعدت وفيت فيما قلته‬
‫ل من يكذّب قوله أفعالها‬

‫يعطي ما يملك في ساعة‪ ،‬ويهدي ما عنده في لحظة‪ ،‬هانت عليه الدنيا فمنح أجلف العرب مئات البل‪،‬‬
‫ورخصت عنده الموال فجاد بالغنائم على مسلمي الفتح‪ ":‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أن لي بعدد عضاة تهامة‬
‫مال لنفقته ثم ل تجدوني بخيل ول جبانا ول كذابا" مالك في الموطأ ‪.977‬‬

‫ما قال "ل" إل في التشهد‬


‫وما ترك "نعم" إل عند المناهي‬

‫سئل قميصه فخلعه وأعطاه‪ ،‬وجاد بقوته فعصب بطنه على حرّ الجوع وبلواه‪ ..‬جود حاتم للصيت والسمعة‬
‫والرياء‪ ،‬وجود خاتم النبياء لمرضاة رب الرض والسماء‪.‬‬

‫أنفق من فاقة‪ ،‬وأعطى من فقر‪ ،‬وآثر من حاجة‪ ،‬ووصل مع العوز‪.‬‬

‫وكان إذا عفا على الجاني أسره بإحسانه‪ ،‬فل يعاتبه ول يطالبه‪ ..‬ينسى الساءة ويدفن الزلة ويمحو بحلمه‬
‫صفَحِ الصّفْحَ الْ َجمِي َل (‪ })85‬الحجر‪.‬‬
‫لذنب‪ ،‬ويغطي بصفحه الجرم {فَا ْ‬

‫قاتله قومه ونازلوه‪ ،‬فآذوه وسبّوه وشتموه‪ ،‬وطردوه وحاربوه وجرحوه‪ ،‬فلما انتصر عفا وصفح‪ ،‬وحلم‬
‫وسمح‪ ،‬وصاح في الدهر صيحته المشهورة وكلمته العامرة‪":‬اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪.‬‬

‫أنشودة أخلقه‪ ":‬إن ال أمرني أن أصل من قطعني‪ ،‬وأن أعفو عمن ظلمني‪ ،‬وأن أعطي من حرمني"‪.‬‬
‫أخرجه رزين أنظر المشكاة ‪ 5358‬وتفسير القرطبي ‪.346\7‬‬

‫كل خلق كريم في القرآن فهو مترجم في سيرة هذا النسان‪ ،‬ولذلك قالت عائشة عنه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫كان خلقه القرآن‪.‬‬

‫وكان إذا وعد وفى‪ ،‬فلم يحفظ عنه أعداؤه خلفا لوعد‪ ،‬ول خيانة لعهد‪ ،‬مع حرصهم الشديد على الظفر‬
‫ل وترحالً‪ ،‬عاش حالة‬‫بعثرة له أو زلّة‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬عاش عمره كله سلمًا وحربا ورضىً وغضباً وح ً‬
‫واحدة من الصدق والمانة‪ ،‬فهل الصدق إل ما كان عليه؟ وهل المانة إل منه وإليه؟‬

‫لقد وعده رجل في مكان‪ ،‬فانتظر صلى ال عليه وسلم في ذلك المكان ثلثة أيام‪ ،‬ليفي بوعده‪ .‬لقد عاهد‬
‫المشركين واليهود وهم أشد الناس عداوة له‪ ،‬فما خان ول خلف بالعهد‪ ،‬ول نقض لميثاق‪ .‬وحق له أن يكون‬
‫أوفى الناس بوعده وأصدقهم في عهده‪ ،‬وهو الذي جاء بشريعة الصدق والوفاء‪ ،‬وحذّر من الخيانة ونقض‬
‫الميثاق‪ ،‬أليس هو القائل‪ ":‬آية المنافق ثلث‪ :‬إذا حدّث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمن خان" أخرجه‬
‫البخاري [ ‪ ]2682 ،33‬ومسلم ‪ 59‬عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬وهو الذي نزلت عليه‪ {:‬وََأ ْوفُو ْا بِا ْل َع ْهدِ إِنّ‬
‫ا ْل َع ْهدَ كَا َن مَسْؤُو ًل (‪ ،} )34‬وقوله‪ {:‬اّلذِينَ يُوفُو َن ِبعَ ْهدِ اللّهِ َو َل يِن ُقضُونَ ا ْلمِيثَا َق (‪ })20‬الرعد‪.‬‬

‫وإذا أخذت العهد أو أعطيته‬


‫فجميع عهدك ذمّة ووفاء‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم خطيبا‪:‬‬


‫{ َوقُل ّلهُ ْم فِي أَنفُ ِسهِ ْم قَ ْو ًل بَلِيغا (‪ } )63‬النساء‪.‬‬

‫ن صيرفيٌّ صارم‬
‫ولسا ٌ‬
‫كذباب السيف ما مسّ قطع‬
‫منطق كالفجر أو كالغيث ما‬
‫شانه عيب كنورٍ قد سطع‬

‫طالع دفتر بيانه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وتأمّل ديوان فصاحته‪ ،‬كلم لعمري يأخذ بالقلوب‪ ،‬وحديث وال‬
‫ن حديثه‬
‫يأسر الرواح‪ ،‬صحة مخارج وإشراق عبارة وحسن ديباجة‪ ،‬وانتقاء ألفاظ‪ ،‬ورصانة جمل‪ ،‬حتى كأ ّ‬
‫روض فوّاح‪ ،‬أو حديقة غنّاء باكرها الغيث وصحبتها الصبا‪ ،‬وداعبها النسيم‪ ،‬وقد آتاه العجاز في إيجاز‪،‬‬
‫والبلغة في اختصار‪ ،‬وقد أخبر بذلك فقال‪ ":‬أوتيت جوامع الكلم" أخرجه البخاري ‪ 2977‬ومسلم ‪523‬‬
‫واللفظ له عن أبي هريرة‪ ،‬وفي رواية‪ ":‬واختصر لي الكلم اختصارا"‪ .‬أخرجه البيهقي في الشعب ‪1436‬‬
‫عن عمر رضي ال عنه وانظر كشف الخفاء ‪.15-14\1‬‬

‫ولكن إن تنظر فيما صحّ عنه من أحاديث قولية‪ ،‬وهي ما يقارب العشرة آلف حديث‪ ،‬فإذا هي شملت كل‬
‫فصول الحياة وأبواب الخرة وأخبار الماضي ومعجزات المستقبل‪ ،‬وإن شئت أن تعرف سم ّو كلمه صلى‬
‫ال عليه وسلم وجزالة لفظه وقوة عبارته ونصاعة بيانه‪ ،‬فقارنه بكلم غيره من البشر مهما عظمت‬
‫فصاحته‪ .‬ولو دخلت ناديا به لوحات من الكلمات الخالدة والعبارات المؤثرة لخطباء العالم وشعراء الدنيا‬
‫ونوابغ الدهر‪ ،‬ثم نظرت الى كلمه صلى ال عليه وسلم لرأيت كلمه ناسخا لمحاسن كلم غيره‪ ،‬حتى كأنه‬
‫ما أعجبك قبل كلمه كلم‪ ،‬ول هزك قبل حديثه حديث‪ ،‬بل إنّك لتجد الرجل العامي الذي ما تمرّس على‬
‫ضروب الكلم ول ميّز بين مختلف الكلم‪ ،‬يجد للفظ الرسول صلى ال عليه وسلم وقعا خاصا ومذاقا آخر‪.‬‬

‫يريد عليه الصلة والسلم أن يوصي معاذ بن جبل وصية جامعة مانعة شافية كافية‪ ،‬فيأتي بعبارة موجزة‬
‫مليئة بالفوائد‪ ،‬حافلة بالشوارد‪ ،‬بديعة المنزع‪ ،‬مشرقة الديباجة‪ ،‬فيقول‪ ":‬اتق ال حيثما كنت‪ ،‬وأتبع السيئة‬
‫الحسنة تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه أحمد [ ‪ ]20894 ،20847‬والترمذي ‪ 1987‬والدارمي‬
‫‪ 2791‬والمشكاة ‪ .5083‬ولو أن بليغا أراد أن يقول مثلها لسهب في الوصية وأطال في النصح‪ ،‬فإما أن‬
‫يجعل المعنى على حساب اللفظ فيبسط القول ويختزل المعنى‪ ،‬أو أن يجعل اللفظ على حساب المعنى فيوجز‬
‫الحديث ويشير الى المعنى إشارة‪.‬‬

‫سأله صلى ال عليه وسلم عقبة بن عامر عن النجاة ما هي؟ فل يتلعثم ول يتعثر ول يفكر‪ ،‬إنما ينطلق فمه‬
‫الشريف بجملة راشدة واعية موحية فيقول‪ ":‬كفّ عليك لسانك‪ ،‬وليسعك بيتك‪ ،‬وابك على خطيئتك" أخرجه‬
‫أحمد ‪ 21732‬والترمذي ‪ 2406‬وابن أبي عاصم في الزهد ‪ 15\1‬وصححه عن عقبة بن عامر رضي ال‬
‫عنه‪ .‬فانظر لحسن التقسيم الثلثي البديع‪ ،‬مع استيفاء المعنى واختصار اللفظ دون تحضير سابق ول إعداد‬
‫متقدم؛ لن السائل واقف يريد الجواب‪ ،‬مستعجل يبتغي النصح‪.‬‬

‫ويركب صلى ال عليه وسلم راحلته ومعه ابن عباس رضي ال عنهما‪ ،‬فيوصيه صلى ال عليه وسلم‬
‫بوصية حضرته في الحال‪ ،‬فيخرجها في حلة من البيان تأسر اللباب‪ ،‬ويضعها في طبق من الفصاحة يكاد‬
‫يذهب ضوؤه بالبصار‪ ،‬يقول‪ ":‬يا غلم! إني أعلمك كلمات‪ :‬احفظ ال يحفظك‪ ،‬احفظ ال تجده تجاهك‪،‬‬
‫تعرّف على ال في الرخاء يعرفك في الشدة‪ ،‬وإذا سألت فاسأل ال وإذا استعنت فاستعن بال‪ ،‬واعلم أن المة‬
‫لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه ال لك‪ ،‬ولو اجتمعوا ان يضروك لم يضروك‬
‫إل بشيء قد كتبه ال عليك‪ ،‬رفعت القلم وجفّت الصحف‪ .‬واعلم أن النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع‬
‫الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسرا"‪ .‬أخرجه أحمد [‪ ]2800 ،2758 ،2664‬والترمذي ‪ ،2516‬والحاكم ‪6304‬‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما وانظر المشكاة ‪ .5302‬والن أضعك أمام هذا النص الراقي من البيان‪،‬‬
‫وأحاكمك الى عقلك‪ :‬هل رأيت في كلم البشر كهذا الكلم؟ حسن فواصل وعذوبة لفظ‪ ،‬وقوة معان‪ ،‬وأسر‬
‫ي في‬‫خطاب! فقوله‪ ":‬احفظ ال يحفظك" من الجمل المحفورة في ذاكرة البيان‪ ،‬والتي يسجد لها العقل السو ّ‬
‫محراب الفصاحة‪ ،‬فإنها جمعت الوصايا في وصية‪ ،‬واختصرت العظات في عظة‪ ،‬فلو كان غيره صلى ال‬
‫عليه وسلم المتحدث لقال‪ :‬احفظ ال بأداء أوامره يحفظك بنعمه‪ ،‬واحفظ ال بترك نواهيه يحفظك من عقابه‪،‬‬
‫واحفظ ال في شبابك يحفظك في هرمك‪ ..‬إلى آخر تلك المقابلت‪ ،‬وإلى قائمة طويلة من المقدمات والنتائج‬
‫والبدايات والخواتم‪ ،‬ولكنه قال‪":‬احفظ ال يحفظك" فل أبدع ول أروع ول أوجز ول أعجز من هذا الكلم‬
‫الباهي الزاهي‪:‬‬

‫كأنه الروض حيّته الصّبا سحرا‬


‫وزاره الغيث فازدانت خمائله‬

‫ثم اقرأ الحديث جملة جملة‪ ،‬وقف إن كنت ذا ذائقة للبيان وذا دربة على سحر الخطاب‪:‬‬

‫إذا تغلغل فكر المرء في طرف‬


‫من حسنه غرقت فيه خمائله‬

‫وخذ أي حديث من أحاديثه العطرة الزكية‪ ،‬هل ترى فيها عوجا من الركاكة‪ ،‬أو أمتا من التكلف؟ بل رقة‬
‫في فخامة‪ ،‬وسهولة في إشراق‪ ،‬وأصالة في عمق‪ ،‬فسبحان من أجرى الحديث على لسانه سلسا متدفقا‬
‫أخاذا‪.‬‬

‫ويقول صلى ال عليه وسلم‪ ":‬إنما العمال بالنيات" أخرجه البخاري [‪ ]54، 1‬ومسلم ‪ 1907‬عن عمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه‪ .‬فيكفي ويشفي ويفي المقصود‪ ،‬ويستولي على المعاني ويطوي مسافات من الحكام‬
‫والعقائد والداب والخلق في جملتين زاهيتين جامعتين‪ ،‬فتصبح قاعدة للعلماء ومثل للحكماء وكلمة شاردة‬
‫للدباء‪.‬‬

‫وخذ مثل كلمه على البديهة والفجاءة‪ :‬يدخل طفل من النصار له طائر يلعب به فمات فيقول‪ ":‬يا أبا‬
‫عمير ما فعل النغير؟" أخرجه البخاري [ ‪ ]6203 ،6129‬ومسلم ‪ 2150‬عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪.‬‬
‫انظر الى تقابل العبارة وحسن السجعة وموازنة الجملتين‪ ،‬ل وكس ول شطط‪.‬‬

‫ويقول في حنين على وجه العجلة‪:‬‬

‫" أنا النبي ل كذب‬


‫أنا ابن عبدالمطلب"‬
‫أخرجه البخاري [‪ ،]2874 ،2864‬ومسلم ‪ 1776‬عن البراء بن عازب رضي ال عنه‪.‬‬

‫فلو أن علماء الكلم وأساطين البيان أرادوا هذا الكلم على عجلة من أمرهم لما تأتّى لهم‪.‬‬

‫ول غرابة ان يكون صلى ال عليه وسلم أفصح الناس فإن معجزته الكبرى وآيته العظمى هو القرآن الذي‬
‫أدهش الفصحاء وأفحم الشعراء وأذهل العرب العرباء‪ ،‬فل بد أن يكون هذا النبي الموحى إليه بدرجة سامية‬
‫من البيان الخلب الجذاب الذي يستولي على اللباب‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم مفتيا‪:‬‬


‫{ َويَ ْستَ ْفتُو َنكَ فِي النّسَاء قُلِ اللّ ُه يُ ْفتِيكُ ْم }النساء ‪.127‬‬

‫يطاوعه اللفظ العصيّ إذا قضى‬


‫ويسعفه الرأي الصيل إذا جرى‬
‫ن ظنّا قلت صبحٌ مؤلقٌ‬
‫إذا ظ ّ‬
‫كأنه صريح البرق من ظنّه سرى‬

‫كان عليه الصلة والسلم مؤيدا من ربه في علم الفتيا‪ ،‬فقد فتح ال عليه أبواب المعرفة وكنوز الفهم‪ ،‬فكان‬
‫عنده جواب لكل سائل على حسب حاله وما يصلح له وما ينفعه في دنياه وأخراه‪ .‬كان الجواب ثوبا مفصل‬
‫على السائل يفصّله تماما على الذي أحسن‪ ،‬مع جمال الداء وبهاء اللقاء ومتعة التلقي منه‪ ،‬فكأنه قرأ حياة‬
‫السائل قبل أن ياتيه‪ ،‬وألمّ بدخائله ومذاهبه قبل أن يستفتيه‪ ،‬وما ذاك إل لقوّة أنوار النبوّة وبركة الوحي وأثر‬
‫التوفيق والفتح الرباني‪.‬‬

‫يسأله شيخ كبير أدركه الهرم وأضناه الكبر عن عمل يداوم عليه‪ ،‬فأفتاه بعمل يسير يناسب حاله على أفضل‬
‫عمل وأسهل عبادة وأيسر طاعة‪ ،‬في لفظ وجيز‪ ،‬ول كان غيره لربما أوصى الرجل بالجتهاد في الطاعة‬
‫واغتنام آخر العمر بالجدّ في العبادة مع إغفال ضعفه وإهمال شيخوخته‪.‬‬

‫وانظر ما أجمل كلمة‪ ":‬ل يزال لسانك رطبا من ذكر ال" أخرجه أحمد [‪ ]17245 ،17227‬والترمذي‬
‫‪ 3375‬وابن ماجه ‪ 3793‬وانظر المشكاة ‪ .2279‬وما فيها من حسن تصوير وبراعة عرض وطلوة عبارة‬
‫تهيج السامع على هذا العمل الجليل‪.‬‬

‫وجاءه غيلن الثقفي‪ ،‬وكان قوي البنية ضخم العضاء صلب الجسم‪ ،‬فسأله عن عمل يتقرب به الى ال‬
‫تعالى‪ ،‬فقال‪ ":‬عليك بالجهاد في سبيل ال" (لم يجد تخريجه)‪ ،‬فانظر لحسن اختياره للعمل وملحظته‬
‫استعداد الرجل وما يصلح له ويناسب حاله‪ ،‬فيا لها من فطنة باهرة وحكمة عامرة‪.‬‬

‫وسأله أبو ذر ـ وكان غضوبا حا ّد الطباع ـ أن يوصيه فقال‪ ":‬ل تغضب" ثلثا‪ ،‬أخرجه البخاري ‪6116‬‬
‫عن أبي هريرة رضي ال عنه‪ .‬فكان هذا دواءه وعلج حالته وبلسم حاله الذي ل يصرف إل من صيدلية‬
‫النبوة المباركة‪ .‬وصارت هذه الكلمة قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الشريعة‪.‬‬

‫ويرى أبا موسى الشعري يصعد جبل فيقول له‪ ":‬عليك بل حول ول قوة إل بال‪ ،‬فإنها كنز من كنوز‬
‫الجنة" أخرجه البخاري [ ‪ ]6610 ،4205‬ومسلم ‪ .2704‬فهذه الكلمة تناسب صعود الجبال وحمل الثقال‪،‬‬
‫لن فيها البراءة من قوة العبد وحوله وطلب المعونة من ال والمدد‪ ،‬فما أحسن الختيار في هذا الرشاد مع‬
‫مراعاة مقتضى المقام‪.‬‬

‫ويرى صلى ال عليه وسلم ضعف أبي ذر وقلة تحمّله فيأمره باجتناب المارة‪ ،‬لنه ضعيف‪ ،‬وهي أمانة‬
‫وخزي وندامة يوم القيامة‪ ،‬لن مثل أبي ذر له أبواب في الخير يجيدها غير باب الولية‪ ،‬فانظر لفطنته صلى‬
‫ال عليه وسلم ومعرفته بمواهب الناس{إِ ْن هُوَ إِلّا وَ ْحيٌ يُوحَى (‪ } )4‬النجم‪.‬‬

‫ويقول صلى ال عليه وسلم لمعاذ لما بعثه الى اليمن‪ ":‬إنك تأتي أقواما أهل كتاب" أخرجه البخاري [‬
‫‪ ]1496 ،1458‬ومسلم ‪ 19‬عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ .‬وذلك لينبّه معاذا الى معرفة أقدار المخاطبين‪،‬‬
‫والطلع على أحوالهم ليقول لهم ما يناسبهم‪.‬‬

‫ويوصي معاذا ـ وهو رديفه على حمار ـ بحق ال على العبيد وحق العبيد على ال؛ لن معاذا عالم داعية‬
‫تناسبه هذه الوصية الكبرى‪ ،‬وسوف يبلغها للمة‪ ،‬لنه في مكان التوجيه والرشاد والنصح‪ ،‬وهذا الذي فعله‬
‫معذا في حياته‪ .‬ولو كان أعرابيا لما ناسبه هذا الكلم‪.‬‬

‫وجاءه حصين بن عبيد فسأله‪":‬كم تعبد؟" قال‪ :‬سبعة‪ ،‬واحدا في السماء وستة في الرض‪ ،‬قال‪ ":‬من‬
‫لرغبك ورهبك؟" قال‪ :‬الذي في السماء‪ ،‬قال‪ ":‬فاترك التي في الرض واعبد الذي في السماء" ثم قال له‪":‬‬
‫قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شرّ نفسي" اخرجه الترمذي ‪ 3483‬والللكائي في شرح اعتقاد أهل‬
‫السنة ‪ 1184‬عن عمران بن حصين رضي ال عنه وانظر المشكاة ‪ .2476‬فهذا الدعاء يناسب حال حصين‬
‫بن عبيد وما كان فيه من أمر مريج ومن اشتباه حال وشكّ مريب وفوات رشد وبعد صواب‪ ،‬فناسب أن‬
‫يطلب الرشد من ربّه وأن يستعيذ من شرّ نفسه كل بلء منها‪.‬‬

‫وأرشد صلى ال عليه وسلم علي ابن أبي طالب الى أن يقول‪":‬اللهم اهدني وسدّدني" اخرجه مسلم ‪2725‬‬
‫عن علي رضي ال عنه‪ .‬وهذا يناسب حال علي‪ ،‬فإنه عاش حتى أدرك اختلف المور وظهور الفتن‬
‫والتباس الحال التي تتطلب الهداية من ال في هذا الجو المظلم‪ ،‬وطلب السداد من الحيّ القيوّم عند هذه‬
‫الواردات والراء والهواء‪.‬‬

‫فسبحان من ألهم رسوله وفتح على نبيه وأفاض عليه من مكنون الفهم ومخزون الفقه ما فاق الوصف وجلّ‬
‫عن المدح‪:‬‬

‫قطف الرجال القول قبل نباته‬


‫وقطفت أنت القول لمّا نوّرا‬
‫فهو المشيع بالعيون‬
‫وهو المضاعف حسنه إن كرّرا‬

‫وليس كلمه صلى ال عليه وسلم بكلم شعر من الشعراء الذين يهرفون بما ل يعرفونن وفي كل واد‬
‫يهيمون‪ ،‬وإنما زخرفهم من خيالتهم الفاسدة ومن تصوراتهم الكاسدة‪ ،‬فأما هو فصانه ال من ذلك‪ ،‬بل كلمه‬
‫وحي يوحى وشرع يتلى‪ ،‬وليس قوله بقول سياسي يسترضي به المل وينافق به الجمهور ويروّج به بضاعته‬
‫المزجاة‪ ،‬بل كان صلى ال عليه وسلم نبيّا ربّانيا ورسول معصوما ينقل عن جبريل عن ربّه حكمة راشدة‬
‫وملة هاديةن ودينا قيّما‪.‬‬
‫ولم يكن صلى ال عليه وسلم اديبا يغرف من مخزون ثقافته ومن فيض ذاكرته التي جمعها هذا الديب من‬
‫نتاج الناس وزبد ثقافات البشر أبناء الطين وسللة التراب‪ ،‬بل كان صلى ال عليه وسلم معلّما معصوما أن‬
‫يزيغ‪ ،‬محفوظا أن يضلّ‪ ،‬مصانا أن يجازف‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم طاهرا مطهرا‬


‫{يَا َأّيهَا الّنبِيّ ِإنّا َأرْسَ ْلنَاكَ شَاهِدا َومُبَشّرا َو َنذِيرا (‪َ )45‬ودَاعِيا ِإلَى اللّ ِه بِِإ ْذنِهِ وَسِرَاجا ّمنِيرا (‪ } )46‬الحزاب‪.‬‬

‫كأن الثريّا علّقت بجبينه‬


‫وفي جيده الشّعرى وفي وجهه القمر‬
‫عليه جلل المجد لو أن وجهه‬
‫أضاء بليل هلّل البدو والحضر‬

‫لقد أكمل ال المحاسن لرسوله صلى ال عليه وسلم وأتمّ عليه نعمة الفضل‪ ،‬واختصّه بالعناية حتى صار‬
‫السوة الحسنة في كل فضيلة‪ ،‬فمنه تتعلم فنون المكارم‪ ،‬ومن برديه تنبع صفوة المناقب؛ لن من لوازم‬
‫القدوة أن يكون مثاليا جامعا لما تفرق في الخيار من سجايا حميدة‪ ،‬فكان عليه الصلة والسلم ذاك النسان‬
‫المجتبى من ربه المصطفى من خالقه‪ ،‬ليقود الناس الى أحسن الخلق وأنبل العمال وأكرم المذاهب‪.‬‬

‫فأما مخبره عليه الصلة والسلم فهو الطاهر المبارك الذي غسل قلبه بماء الحياة فصار أبيض نقيا‬
‫مطهرا‪ ،‬وقد أذهب ال من صدره كلّ غيظ وحسد وحقد وغلّ وغش‪ ،‬فصار أرحم الناس قاطبة‪ ،‬وأبرّهم‬
‫كافة‪ ،‬وأكرمهم جميعا‪ ،‬فعمّ حلمه وكرمه وطيبه وجوده الحاضر والبادي والقريب والبعيد‪ ،‬فنفسه أذكى نفس‪،‬‬
‫حقّ له أن يكون كذلك لنه المرشّح لقيادة العالم وإصلح الكون‬
‫وباله أشرح بال‪ ،‬وضميره أطهر ضمير‪ ،‬و ُ‬
‫وتقويم البشرية { َومَا َأرْسَ ْلنَاكَ إِلّا رَ ْحمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ (‪ })107‬النبياء‪.‬‬

‫إن البريّة يوم مبعث أحمد‬


‫نظر الله لها فبدّل حالها‬
‫بل كرّم النسان يوم اختار من‬
‫خير البرية نجمها وهللها‬

‫ينهى عن الغضب ويقول‪":‬ل تغضب"‪ ،‬ويكون أبعد الناس عن أسباب الغضب المشين دوافعه‪ ،‬بل وسع‬
‫الناس حلما وأمطرهم كرما وأوسعهم عفوا وصفحا‪.‬‬

‫ويقول‪ ":‬ل تحاسدوا"‪ .‬أخرجه البخاري [‪ ]6076 ،6116‬ومسلم ‪ 2559‬عن أنس بن مالك رضي ال عنه‪.‬‬
‫ثم يكون المعافى من هذا الداء القاتل‪ ،‬فليس في كيانه ذرة من حسد‪ ،‬أو قطرة من حقد‪ ،‬صانه ال من ذلك‪ ،‬بل‬
‫هو الذي وزع الخير على العالم وقسم الفضل من ال على الناس‪.‬‬

‫ويقول‪ ":‬ول تدابروا‪ ،‬ول تقاطعوا" الحديث السابق‪ ،‬ثم يترجم هذا الخلق النبيل من الصلة والبر‬
‫ظمِينَ‬
‫والحسان‪ ،‬فيصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه‪ ،‬فأعظم عبد صحّت فيه آية‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫ا ْل َغيْظَ وَا ْلعَافِي َن عَنِ النّاسِ } آل عمران ‪.134‬‬
‫ويقول‪ ":‬إن ال أوحى إليّ أن تواضعوا" أخرجه مسلم ‪ 2865‬عن عياض بن حمار رضي ال عنه‪ .‬فيكون‬
‫هو التواضع كله صورة ماثلة ومشهدا حيا وحقيقة قائمة‪ ،‬يركب الحمار‪ ،‬ويخصف النعل‪ ،‬ويجلس على‬
‫التراب‪ ،‬ويحلب الشاة‪ ،‬ويقف مع العجوز‪ ،‬ويذهب مع الجارية‪ ،‬ويخالط المساكين‪ ،‬ويضيف العراب‪،‬‬
‫ويجالس الفقراء‪.‬‬

‫ويقول‪":‬خيركم خيركم لهله وأنا خيركم لهلي" أخرجه الترمذي ‪ 3895‬والبيهقي في السنن ‪ 15477‬عن‬
‫عائشة رضي ال عنها‪ .‬فيتمثل فيه هذا الحديث أعظم تمثيل‪ ،‬فإذا الرحيم الودود بأهله يدخل عليهم ضحّاكا‬
‫بسّاما‪ ،‬يداعبهم بأرق العبارات ويلطفهم بأحسن التعامل‪ ،‬يشاركهم الخدمة ويجاذبهم أحلى الحديث ويبادلهم‬
‫أجمل السمر بل فظاظة ول غلظة ول لوم ول تعنيف { وَِإّنكَ َلعَلى خُُل ٍق عَظِي ٍم (‪ })4‬القلم‪.‬‬

‫خلق أرق من النسيم إذا سرى‬


‫وشمائل كالمنديل الفوّاح‬

‫قال له رجل وهو يقسم الغنائم‪ :‬اعدل يا محمد‪ .‬فردّ عليه‪ ":‬خبت وخسرت فمن يعدل إذا لم أعدل؟" أخرجه‬
‫البخاري ‪ 3610‬ومسلم ‪ .1064‬وصدق وب ّر فيما قال‪ ،‬فليس في العالم أعدل منه‪ ،‬وإذا لم يكن عادل صلى ال‬
‫عليه وسلم فقد انتهى العدل في الدنيا‪ ،‬وطوي من الناس‪ ،‬وارتفع من الرض‪ ،‬وهل العدل إل حكمه؟ ولو كان‬
‫العدل شخصا ناطقا ثم سألته من أعدل البريّة؟ لقال محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ص منه‪ ،‬وأقسم لو‬


‫وانظر الى عدله في أحكامه وإنصافه حتى من نفسه‪ ،‬بل طلب من بعض أصحابه أن يقت ّ‬
‫أن فاطمة ابنته سرقت لقطع يدها‪ ،‬فكان ل يحابي أحدا في الحق‪ ،‬ول يشفع عنده بشر في الحدود‪ ،‬وقد صاح‬
‫في وجه أسامة بن زيد وهو من أحبّ الناس إليه لما شفع في المخزومية التي سرقت‪ ":‬أتشفع في حدّ من‬
‫حدود ال" أخرجه البخاري[ ‪ ]6788 ،3475‬ومسلم ‪ 1688‬عن عائشة رضي ال عنها‪.‬‬

‫وحكم بين الزبير ورجل من النصار‪ ،‬فقال النصاري‪ :‬أن كان ابن عمتك؟ يعني أن الزبير ابن عمتك‬
‫حرَجا ّممّا‬‫سهِمْ َ‬
‫جدُو ْا فِي أَنفُ ِ‬
‫ل يَ ِ‬
‫ك فِيمَا شَجَ َر َب ْي َنهُمْ ُثمّ َ‬
‫ح ّكمُو َ‬
‫ى يُ َ‬
‫حتّ َ‬
‫ك لَ يُ ْؤ ِمنُونَ َ‬
‫صفية فحكمت له؟ فأنزل ال‪ {:‬فَلَ وَ َرّب َ‬
‫ضيْتَ َويُسَّلمُو ْا تَ ْسلِيما(‪ })65‬النساء‪ .‬فكفى بال شهيدا على عدل رسوله وصدق أحكامه وصحة قضائه‪:‬‬ ‫قَ َ‬

‫وإذا حكمت فل ارتياب كأنما‬


‫جاء الخصوم من السماء قضاء‬

‫فهو مؤسس العدل في العالم‪ ،‬وهادم صرح الظلم‪ ،‬واعترف بذلك العدو والصديق والكاره والمحب‪.‬‬

‫وقس على ذلك أخلقه الشريفة التي دعا إليها وكان أول عامل بها‪ ،‬فصدّق فعله قوله وباطنه ظاهره‪،‬‬
‫وجوارحه قلبه‪.‬‬

‫وأما جمال ظاهره صلى ال عليه وسلم فهو عنوان كتاب قيمه المثلى‪ ،‬وبوابة قصر محاسنه الجلّى‪ ،‬فكان‬
‫أجمل الناس وجها وأبهاهم محيّا‪ ،‬وأزهرهم جبينا وأنورهم طلعة‪ ،‬رقيق البشرة طيب الرائحة‪ ،‬زكي الشذا‪.‬‬
‫عرقه كالجمان‪ ،‬وأنفاسه كالمسك‪ ،‬يقول أنس‪ :‬ما مسست حريرا ول ديباجا ألين من كف رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ول شممت مسكا ول عنبرا أزكى من رائحته‪ .‬أخرجه البخاري ‪ 3561‬ومسلم ‪ .2330‬يصافحه‬
‫الرجل فيجد آثار الطيب في كفه أياما عديدة من أثر مصافحته‪:‬‬

‫أل إن وادي الجزع أضحى ترابه‬


‫من المسك كافورا وأعواده رندا‬
‫وما ذاك إل أن هندا عشية‬
‫تمشّت وجرت في جوانبه بردا‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم حيّ العاطفة جيّاش الفؤاد‪ ،‬يضحك للنادرة ويهش للدعابة‪ ،‬ويتأثر للموقف ويبكي‬
‫رحمة‪ ،‬ويلين شفقة ويمتلئ خشية‪ ،‬إذا سالم فأوفى الوفياء وأكرم الصدقاء‪ ،‬وإذا حارب فأعتى من الرياح‬
‫النكباء وأمضى من الصعدة السمراء‪ ،‬وإذا أعطى فأجود من تحت السماء وأسخى من شربة الماء‪ ،‬وإذا‬
‫رضي مل القلوب سعادة وعمر المجلس حفاوة‪ ،‬وإذا غضب في الحق كان أمضى من السيف حسما‪ ،‬وأقوى‬
‫من اليام حزما‪.‬‬

‫يضحك بأسنان كالبرد‪ ،‬ويبكي بدموع كالمطر‪ ،‬ويعطي بكفّ الغيث‪ ،‬ويقابل بمحيّا كالفجر‪ ،‬ل يملّ جليسه‬
‫حديثه‪ ،‬ول يسأم رفيقه صحبته‪ ،‬ول يطيق من عرفه فراقه‪.‬‬

‫يخرج الى العيد في حلّة حمراء زاهية باهية‪ ،‬بوجه طلق بشوش‪ ،‬أجمل من العيد وأجل من تلك الفرحة‪،‬‬
‫فكان عيد الصحابة العظم رؤيته وسماع حديثه والتمتع بصحبته‪ ،‬ويحضر الستسقاء متخشعا مبتذل‬
‫متضرعا باكيا‪ ،‬فكان أعظم موعظة عند المسلمين رؤية ذاك الوجه الخاشع والنظر الى تلك الدموع الصادقة‬
‫والمنظر المؤثر‪.‬‬

‫ويخوض صلى ال عليه وسلم الحرب ويشعل المعركة بقلب وثّاب ونفس ثابتة وعزم صادق‪ ،‬فتنهزم أمامه‬
‫الصفوف وتتراجع من سطوته البطال‪ ،‬فأشجع الصحابة وقت الذروة يتقي به‪ ،‬وأعتى الكماة لحظة الموت‬
‫يحتمي به‪.‬‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم محبوبا‪:‬‬


‫{فَاّلذِينَ آ َمنُو ْا بِهِ وَعَزّرُوهُ َونَصَرُوهُ وَاّتبَعُو ْا النّورَ اّلذِيَ أُنزِ َل َمعَ ُه } العراف ‪.157‬‬

‫" ل يؤمن أحدكم حتى أكون احب إليه من والده وولده والناس أجمعين" أخرجه البخاري ‪ 15‬ومسلم ‪44‬‬
‫عن أنس رضي ال عنه‪.‬‬

‫أحبّك حبا ليس في غضاضة‬


‫وبعض مودات الرجال سراب‬
‫ومنحتك الود الصريح وإنه‬
‫عليه دليل ظاهر وكتاب‬

‫من يطالع سيرة الصحابة يرى ذلك الحب الصادق الفياض لشخص الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫حبا يستولي على النفس ويملك المشاعر‪ ،‬حبا ل يعدله حب الولد والوالد والبن والزوجة‪ ،‬حبا يصل شغاف‬
‫القلب ويمازج قرار الروح‪.‬‬

‫ولكن لماذا أحبّوه هذا الحب؟ إذ ل يوجد في التاريخ كله قوم أحبّوا إمامهم أو زعيمهم أو شيخهم أو قائدهم‬
‫ب أصحاب محمد محمدا صلى ال عليه وسلم حتى افتدوه بالمهج‪ ،‬وعرّضوا أجسامهم‬ ‫أو أستاذهم كما أح ّ‬
‫للسيوف دون جسمه‪ ،‬وضحوا بدمائهم لحمايته‪ ،‬وبذلوا أعراضهم دون عرضه‪ ،‬فكان بعضهم ل يمل عينيه‬
‫من النظر الى رسول ال صلى ال عليه وسلم إجلل له‪ ،‬ومنهم من ذهب الى الموت طائعا ويعلم أنها النهاية‬
‫ب محمدا ودعوته‪ .‬بل‬
‫وكأنه يذهب الى عرس‪ ،‬ومنهم من احتسى الشهادة في سبيل ال كالماء الزلل‪ ،‬لنه أح ّ‬
‫كانوا يتمنون رضاه على رضاهم‪ ،‬وراحته ولو تعبوا‪ ،‬وشبعه ولو جاعوا‪ ،‬فما كانوا يرفعون أصواتهم على‬
‫صوته‪ ،‬ول يقدمون أمرهم على أمره‪ ،‬ول يقطعون أمرا من دونه‪ ،‬فهو المطاع المحبوب‪ ،‬والسوة الحسنة‪،‬‬
‫والقدوة المباركة‪.‬‬

‫أما دواعي هذا الحب وأسبابه‪ ،‬فأعظمها أن هذا النسان هو رسول الرحمن‪ ،‬وصفوة النس والجان‪ ،‬أرسله‬
‫ال ليخرجهم من الظلمات الى النور‪ ،‬ويقودهم الى جنة عرضها السموات والرض‪.‬‬

‫ثم إنهم وجدوا فيه صلى ال عليه وسلم المام الذي كملت فضائله وتمّت محاسنه‪ ،‬فقد أسرهم بهذا الخلق‬
‫العظيم والمذهب الكريم‪ ،‬فوجدوا في قربه واتباعه جنة وارفة من اليمان‪ ،‬بعد نار تلظى من الكفر‬
‫والجاهلية‪ ،‬فهو الذي غسل أرواحهم بإذن ال من أوضار الوثنية‪ ،‬وزكّى نفوسهم من آثام الشرك‪ ،‬وطهّر‬
‫ضمائرهم من لوثة الصنام‪ ،‬وعلمهم الحياة الكريمة‪ .‬مل صدورهم سعادة بعد عمر من القلق والضطراب‬
‫والغموم والهموم‪ ،‬بنى في قلوبهم صروح اليقين بعد خراب الشك والريبة والنحراف‪.‬‬

‫كانوا قبل دعوته كالبهائم السائمة‪ ،‬ل إيمان‪ ،‬ول أدب ول صلة‪ ،‬ول زكاة‪ ،‬ول نور‪ ،‬ول صلح‪ ،‬حياة‬
‫مظلمة من عبادة الصنام وملبسة الفواحش ومعاقرة الخمر وسفك الدماء والسلب والنهب‪ ،‬فليس لهم في‬
‫الحياة رسالة‪ ،‬وما عندهم عن ال خبر‪ ،‬وما لديهم من أمر الدنيا نبأ‪ ،‬فهم في غيّهم يعمهون‪.‬‬

‫قلوب أقسى من الحجارة‪ ،‬ونفوس أظلم من الليل‪ ،‬وبؤس أشد بشاعة من الموت‪ ،‬فل عقل محفوظ‪ ،‬ول دم‬
‫معصوم‪ ،‬ول مال حلل‪ ،‬ول عرض مصان‪ ،‬ول نفوس راضية‪ ،‬ول أخلق قويمة‪ ،‬ول مجتمع يحترم‬
‫الفضيلة‪ ،‬ول شعب يحمي المبادئ‪.‬‬

‫فلما أراد ال إنقاذ هذه البشرية وإسعادها وصلحها وفلحها بعث محمدا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكأن الناس‬
‫ولدوا من جديد‪ ،‬وكأن وجه الدنيا تغير‪ ،‬وكأن الرض لبست ثوبا آخر‪ ،‬فالوحي يتنزل على هذا المام من‬
‫لدن لطيف خبير‪ ،‬وجبريل يغدو ويروح بشريعة نسخت الشرائع‪ ،‬فيها سعادة العباد‪ ،‬وصلح البشر‪ ،‬وعمارة‬
‫الرض‪ ..‬فمسجد يبنى‪ ،‬ورقبة تعتق‪ ،‬وصدر يعمر‪ ،‬وجسد يطهر‪ ،‬وصلة تؤدى‪ ،‬ومصحف يتلى‪ ،‬وآية‬
‫ل ّمنْهُ ْم َيتْلُو‬
‫ث فِي الُْأ ّميّينَ رَسُو ً‬
‫تفسّر‪ ،‬وحديث يشرح‪ ،‬وراية تعقد‪ ،‬وحضارة تبنى‪ ،‬وأمة تحرّر { هُ َو اّلذِي َبعَ َ‬
‫عََل ْيهِ ْم آيَاتِهِ َويُ َزكّيهِمْ َوُيعَّل ُمهُمُ ا ْل ِكتَابَ وَالْ ِح ْكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن َقبْلُ َلفِي ضَلَا ٍل مّبِينٍ (‪ } )2‬الجمعة‪.‬‬

‫ب الصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم لنه وصلهم بال ودلّهم على رضوانه‪ ،‬وهداهم الى‬ ‫لقد أح ّ‬
‫صراطه المستقيم‪ .‬وإنهم لمعذورون في هذا الحب لنه أقل ما يجب عليهم نحو هذا الرسول المعصوم والنبي‬
‫الخاتم‪ ،‬الذي جاء إليهم وهم عاكفون على أصنامهم‪ ،‬فصاح بهم ‪":‬قولوا ل إله إل ال تفلحوا" أخرجه أحمد‬
‫ج بهم‬
‫‪ 18525‬والحاكم ‪ ،39‬وصلى بهم وقال‪ ":‬صلوا كما رأيتموني أصلي" أخرجه البخاري ‪ ،631‬وح ّ‬
‫وقال‪ ":‬خذوا عني مناسككم" أخرجه مسلم ‪ ،1297‬وعلمهم السنة وقال‪ ":‬من رغب عن سنتي فليس مني"‬
‫أخرجه البخاري ‪ 5063‬ومسلم ‪ ،1401‬ودعاهم الى التقوى وقال‪ ":‬إن أتقاكم وأعلمكم بال أنا" أخرجه‬
‫البخاري ‪ .20‬فال أنقذهم به من النار‪ ،‬وبصّرهم من العمى‪ ،‬وعلّمهم به من الجهل‪ ،‬وأصلحهم بعد الفساد‪،‬‬
‫وهداهم بعد الضللة‪ ،‬وأرشدهم بعد الغي‪.‬‬

‫كيف ل يحبه أصحابه بل كل مسلم وهو ل يزاول طاعة إل والرسول صلى ال عليه وسلم نصب عينيه في‬
‫طهارته وصلته وصيامه وزكاته وحجّه وذكره وعقيدته وخلقه وسلوكه‪ ،‬كيف ل يحبه وكلما فعل خيرا‬
‫فإنما إمامه محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو قام بقربة فقدوته محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو أحسن في حياته‬
‫فأسوته محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو أسدى جميل أو قدّم معروفا فمثله العلى محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫المصلحون أصابع جمعت يدا‬
‫هي أنت بل أنت اليد البيضاء‬

‫كيف ل يحبه النسان وحديثه يرنّ في الذن ويعبر الى القلب بكل فضيلة وكل خلق شريف وسجايا نبيلة‪،‬‬
‫داعيا الى الصدق والعدل والسلم والرحمة والتآخي والحسان‪ ،‬محذرا من الفجور والفسوق والعصيان‬
‫والظلم والعتداء والبغي والجرام‪ ..‬فميلد النسان الميلد الثاني يوم اتبع هذا الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫واقتدى بهذا النبي المي‪:‬‬

‫أخوك عيسى دعا ميتا فقام له‬


‫وأنت أحييت أجيال من الرمم‬

‫وسعادة العبد إنما هي في الهتداء بهدي هذا المام المعصوم‪ ،‬لنه الوحيد من الناس الذي يدور معه الحق‬
‫حيثما دار‪ ،‬فعلى قوله تعرض القوال‪ ،‬وعلى فعله توزن الفعال‪ ،‬وعلى حاله تقاس الحوال‪{:‬وإنّك لتهدي الى‬
‫صراط مستقيم}‪.‬‬

‫من نحن قبلك إل نقطة غرقت‬


‫في اليمّ أو دمعة خرساء في القدم‬

‫محمد صلى ال عليه وسلم مباركا‪:‬‬


‫{ ُمبَارَكا َأيْ َن مَا كُنتُ وَأَ ْوصَانِي بِالصّلَاةِ وَال ّزكَا ِة مَا ُدمْتُ َحيّا (‪ } )31‬مريم‪.‬‬

‫إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا‬


‫كفى بالمطايا طيب ذكرك هاديا‬
‫وإني لستغثي وما بي غشوة‬
‫ل خيال منك يلقى خياليا‬
‫لع ّ‬

‫كانت البركة فيه ومعه وعنده عليه الصلة والسلم‪ ،‬فكلمه مبارك‪ ،‬يقول الكلمة الموجزة فتحمل في طياتها‬
‫العبر والعظات ما يدهش لروعتها العقل حسنا وبلغة‪ ،‬ويلقي الخطبة فيجعل ال فيها من النفع والتأثير‬
‫والبركة ما يبقى صداه في الجيال جيل بعد جيل‪.‬‬

‫والبركة في عمره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد عاش ثلثا وعشرين سنة في إبلغ رسالته ليس إل‪ ،‬فكان في‬
‫هذه الفترة الوجيزة من الفتح والنصر والنفع والعلم واليمان والصلح ما ل يقوم به غيره في قرون ول‬
‫دهور‪ ،‬ففي ثلث وعشرين سنة فحسب‪ ،‬بلّغ الرسالة وأدّى المانة وعلّم القرآن ونشر السنة‪ ،‬وقضى على‬
‫الكفر‪ ،‬وأسّس دولة العدل‪ ،‬وأقام أعظم حضارة راشدة عرفتها النسانية‪.‬‬

‫وانظر الى بركة يوم واحد من أيامه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو يوم النحر‪ ،‬اليوم العاشر من حجه صلى‬
‫ال عليه وسلم على سبيل المثال‪ ،‬ففي هذا اليوم الواحد صلى الفجر بمزدلفة ودفع الى منى وهو يلبّي ويذكر‬
‫ال ويدعوه‪ ،‬ويعلم الناس المناسك‪ ،‬ويفتي الحجاج‪ ،‬ثم رمى جمرة العقبة‪ ،‬ثم حلق ثم نحر ثم ذهب الى‬
‫المسجد الحرام فطاف‪ ،‬ثم صلى الظهر‪ ،‬وهو مع ذلك يرشد الناس ويوجّههم‪ ..‬هذا إلى صلة الظهر فقط‪ ،‬مع‬
‫أن وسيلة النقل ناقته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع بعد المسافة وكثرة الزحام وحرارة الجو ووقوفه للناس‬
‫يسألونه‪ ،‬فسبحان من بارك في لحظات عمره ودقائق حياته‪:‬‬

‫مرّت سنين بالسعود وبالهنا‬


‫فكأنها من حسنها أيام‬

‫وبورك له صلى ال عليه وسلم في آثاره‪ ،‬فقد مرّ بصاحب قبرين يعذبان‪ ،‬أحدهما كان ل يتنزه من البول‪،‬‬
‫ق صلى ال عليه وسلم عصا خضراء كانت معه وغرسها على‬ ‫والخر كان يمشي بالنميمة بين الناس‪ ،‬فش ّ‬
‫القبرين وقال‪ ":‬أرجو أن يخفف عنهما من العذاب حتى تيبسا" أخرجه البخاري [‪ ]218 ،216‬ومسلم ‪292‬‬
‫عن ابن عباس رضي ال عنهما‪ .‬وهذا خاص به‪ ،‬ول يكون إل له صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لما جعل ال فيه من‬
‫البركة‪.‬‬

‫ومرض علي ابن أبي طالب بالرمد يوم خيبر‪ ،‬حتى أصبح ل يرى شيئا‪ ،‬فنفث عليه صلى ال عليه وسلم‬
‫فأبصر بإذن ال في الحال لبركة دعائه ونفثه‪:‬‬

‫مرض الحبيب فزرته‬


‫فمرضت من خوفي عليه‬
‫وأتى الحبيب يزورني‬
‫فشفيت من نظري إليه‬

‫وكان الجيش في الخندق ألف رجل قد بلغ بهم الجوع مبلغا عظيما‪ ،‬فدعا جابر بن عبدال الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم وثلثة معه على عناق من ولد الماعز ذبحها وشيء من طعام الشعير‪ ،‬فدعا صلى ال عليه وسلم‬
‫الجيش جميعا وسبقهم‪ ،‬ودعا على الطعام ونفث‪ ،‬ثم أدخلهم عشرة عشرة‪ ،‬فأكلوا جميعا وشبعوا جميعا وبقي‬
‫الطعام بحاله‪ ،‬ووزع على أهل المدينة‪ ،‬فما بقي بيت إل دخله من ذلك الطعام‪ .‬فل إله إل ال! يا لها من‬
‫معجزة باهرة وآية ظاهرة على صدقه وبركنه ونبوّته‪:‬‬

‫علوّ في الحياة وفي الممات‬


‫بحق فيك كل المعجزات‬
‫عليك تحية الرحمن تسري‬
‫بتبريك عواد رائحات‬
‫وسافر معه جيش قوامه ألف وأربعمائة رجل‪ ،‬فانتهى ماؤهم وأشرفوا على الهلك‪ ،‬وانقطعوا في البيداء‪،‬‬
‫فدعا صلى ال عليه وسلم بقربة صغيرة فيها قليل من ماء‪ ،‬فصبّه على يده الشريفة الطاهرة المباركة‪ ،‬فثارت‬
‫من بين أصابعه أنهار الماء‪ ،‬فمل الناس أوعيتهم وعبأوا قربهم وسقوا رواحلهم‪ ،‬وشربوا وتوضؤوا‬
‫واغتسلوا جميعا { َأفَ ِسحْ ٌر َهذَا أَمْ أَنتُمْ لَا ُتبْصِرُونَ (‪ })15‬الطور‪.‬‬

‫وأبيض يستسقى الغمام بوجهه‬


‫ثمال اليتامى عصمة للرامل‬

‫فحيّا ال ذاك الكف الطاهر المبارك الذي ما خان ول غش ول غدر ول نهب ول سلب ول سرق ول سفك‪.‬‬

‫يد بيضاء لو مدّت بليل‬


‫عظيم الهول أشرقت الليالي‬
‫وزار صلى ال عليه وسلم سعد بن أبي وقاص وهو مريض ملتهب الجسم‪ ،‬فوضع يده المباركة على صدر‬
‫سعد‪ ،‬فوجد بردها كالثلج فشفي بإذن ال‪ .‬يقول سعد بعد سنوات طويلة‪ :‬وال لكأني أجد بردها الن على‬
‫صدري‪.‬‬

‫ش صلى ال عليه وسلم بقية وضوئه على جابر بن عبدال وهو مريض فشفي بإذن ال‪ ،‬وحلق رأسه‬ ‫ور ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم بمنى يوم النحر‪ ،‬فأعطى شقّه اليمن أبا طلحة النصاري لن صوته في الجيش كمائة‬
‫فارس جائزة له‪ ،‬والنصف الخر وزع على الناس‪ ،‬فكادوا يقتتلون عليه‪ ،‬فمنهم من حصل على شعرة‪،‬‬
‫ومنهم من تقاسم هو وصاحبه شعرة واحدة‪ ،‬ومنهم من كان يضع هذه الشعرة في الماء إذا أراد أن يشرب‪.‬‬

‫جعلت لعرّاف اليمامة حكمه‬


‫وعراف نجد إن هما شفياني‬
‫فوال ما من رقية يعلمانها‬
‫ول شربة إل بها سقياني‬
‫فجئت الى المعصوم حتى أعلّني‬
‫بشربة حقّ من هدى وبيان‬

‫ومسح صلى ال عليه وسلم رأس أبي محذورة وهو صغير‪ ،‬فأقسم أبو محذورة ل يحلق هذا الشعر الذي‬
‫مسّه كف الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فبقي طيلة حياته حتى طال ودفن معه‪.‬‬

‫وكان الصبيان يأتونه صلى ال عليه وسلم بآنيتهم فيضع كفه المبارك في إناء الماء واللبن‪ ،‬فيجدون فيه‬
‫البركة والشفاء بإذن ال‪.‬‬

‫وقصص بركته ل تنتهي‪ ،‬وأحاديث معجزاته ل تنقضي‪ ،‬فهو المبارك أينما حل وأينما ارتحل‪ ،‬وهو الموفّق‬
‫أينما سار وأقام‪.‬‬

‫يا رب صلّ وسّلم ما أردت على‬


‫نزيل عرشك خير الرسل كلهم‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم مربيا‪:‬‬


‫{ يتلوا عليكم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} ‪.‬‬

‫هديتنا لسبيل الحق نسلكه‬


‫مسّكتنا حبل هدى غير منصرم‬
‫أنت المام الذي نرجو شفاعته‬
‫وأنت قدوتنا في حالك الظلم‬

‫كان صلى ال عليه وسلم مربيا كملت مناقب المربي فيه‪ ،‬فهو رفيق في تعليمه ويقول‪ ":‬إن ال رفيق يحب‬
‫الرفق‪ ،‬ويعطي على الرفق ما ل يعطي على العنف" أخرجه البخاري ‪ 6927‬ومسلم ‪ 2593‬عن عائشة‬
‫رضي ال عنها‪ .‬ويقول‪ ":‬ما كان الرفق في شيء إل زانه‪ ،‬وما نزع من شيء إل شانه" أخرجه مسلم ‪2594‬‬
‫حمَةٍ‬
‫عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬وكان يصل الى قلوب الناس بألين السبل حتى قال فيه ربه عز وجل‪َ {:‬ف ِبمَا َر ْ‬
‫ك } آل عمران ‪ .159‬فهو أعظم من تمثل خلق القرآن‪،‬‬
‫ب لَنفَضّو ْا مِنْ حَوِْل َ‬
‫ت فَظّا غَلِيظَ ا ْلقَلْ ِ‬
‫مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُمْ وََل ْو كُن َ‬
‫فتجده القريب منالنفوس‪ ،‬الحبيب الى القلوب‪.‬‬

‫جاءه أعرابي فقال في التشهد‪ :‬ال ارحمني ومحمدا ول ترحم معنا أحدا‪ ،‬فقال له صلى ال عليه وسلم‪ ":‬لقد‬
‫حجرت واسعا" أخرجه البخاري ‪ 6010‬عن أبي هريرة‪ .‬أي أنه ضيّق رحمة ال التي وسعت كل شيء‪ ،‬ثم‬
‫قام العرابي فبال في طرف المسجد‪ ،‬فأراد الصحابة ضرب العرابي‪ ،‬فمنعهم صلى ال عليه وسلم ودعا‬
‫بدلو من ماء فصبّه على بول العرابي‪ ،‬ثم دعا العرابي برفق ولين وحسن خلق فقال‪ ":‬إن هذه المساجد ل‬
‫يصلح فيها شيء من الذى والقذر‪ ،‬وإنما هي للصلة والذكر وقراءة القرآن" أخرجه مسلم ‪ 285‬عن أنس بن‬
‫مالك رضي ال عنه‪ .‬فذهب هذا العرابي الى قومه لما رأى منا لرفق واللين‪ ،‬فدعاهم الى السلم فأسلموا‪.‬‬

‫وجلس معه صلى ال عليه وسلم غلم على مائدة الطعام‪ ،‬فأخذت يد الغلم تطيش في الصحفة‪ ،‬فما نهره‬
‫ول زجره وإنما قال له برفق‪ ":‬س ّم ال وكل بيمينك وكل مما يليك" أخرجه البخاري [ ‪]5378 ،5376‬‬
‫ومسلم ‪ 2022‬عن عمر ابن أبي سلمة رضي ال عنه‪.‬‬

‫ودخل اليهود عليه صلى ال عليه وسلم فقالوا‪ :‬السام عليك‪ ،‬يعني الموت‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬عليكم السام‬
‫واللعنة‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ ":‬يا عائشة‪ ،‬ما هذا؟ إن ال يكره الفحش والتفاحش‪ ،‬وقد رددت عليهم ما‬
‫قالوا‪ ،‬فقلت‪ :‬وعليكم" أخرجه البخاري [ ‪ ]6030 ،2935‬ومسلم ‪ 2165‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬وليس‬
‫في قاموس حياته صلى ال عليه وسلم ول في معجم أدبه كلمة نابية ول بذيئة ول فاحشة‪ ،‬وإنما طهر كله‬
‫ونقاء وصفاء ولين ووفاء‪ ،‬لنه رحمة مهداة‪ ،‬ونعمة مسداة‪ ،‬وبركة عامة‪ ،‬وخير متصل‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهية السآمة والملل عليهم‪ ،‬أي يتركهم فترات من‬
‫الزمن بل وعظ ليكون أنشط لنفوسهم وأروح لقلوبهم‪ ،‬فكان إذا وعظهم أوجز وأبلغ‪ ،‬وكان ينهى عن التطويل‬
‫على الناس وإدخال المشقة عليهم‪ ،‬سواء في الصلة أو الخطب‪ ،‬ويقول‪ ":‬إن قصر خطبة الرجل وطول‬
‫صلته مئنة من فقهه" أخرجه مسلم ‪ 869‬عن عمار رضي ال عنه‪ .‬أي علمة على فقهه‪ ،‬فقصّروا الخطبة‬
‫وأطيلوا الصلة‪.‬‬

‫وأنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى ال عليه وسلم فقال‪ ":‬دعهم يا عمر‪ ،‬ليعلم يهود‬
‫أن في ديننا فسحة" أخرجه أحمد [ ‪ ]25431 ،24334‬عن عائشة رضي ال عنها أنظر كشف الخفاء‪:‬‬
‫‪.658‬‬

‫ودخل أبو بكر عليه صلى ال عليه وسلم في بيت عائشة رضي ال عنها وعندها جاريتان تغنيان يوم العيد‪،‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬أمزمار الشيطان في بيت رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فقال صلى ال عليه وسلم‪ ":‬دعهم يا‬
‫أبا بكر‪ ،‬فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" أخرجه البخاري [ ‪ ]3931 ،952‬ومسلم ‪ 892‬عن عائشة رضي ال‬
‫عنها‪.‬‬

‫وسأل صلى ال عليه وسلم عائشة عن زواج حضرته للنصار‪ ":‬هل كان معكم شيء من لهو؟ ـ أي من‬
‫طرب ـ فإن النصار يعجبهم اللهو" أخرجه البخاري ‪ 5163‬عن عائشة رضي ال عنها‪ .‬كل هذا في حدود‬
‫المباح الذي يريح النفس ويذهب عنها السأم والملل‪ ،‬أما الحرام فكان أبعد الناس عنه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وكان صلى ال عليه وسلم يربي أصحابه بالقدوة الحيّة الماثلة فيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكان يدعوهم الى‬
‫تقوى ال وهو أتقاهم‪ ،‬وينهاهم عن الشيء فيكون أشدّهم حذرا منه‪ ،‬ويعظهم ودموعه على خدّه الشريف‪،‬‬
‫ويوصيهم بأحسن الخلق‪ ،‬فإذا هو أحسنهم خلقا‪ ،‬ويندبهم الى ذكر ال وإذا به أكثرهم ذكرا‪ ،‬ويناديهم الى البذل‬
‫والعطاء ثم يكون أسخاهم يدا وأكرمهم نفسا‪ ،‬وينصحهم بحسن العشرة مع الهل‪ ،‬ثم تجده أحسن الناس لهله‬
‫رحمة وعطفا ورقة ولطفا‪:‬‬

‫يا صاحب الخلق السمى وهل حملت‬


‫روح الرسالت إل روح مختار‬
‫أعلى السجايا التي صاغت لصاحبها‬
‫من الهدى والمعالي نصب تذكار‬

‫والعجيب توصّله صلى ال عليه وسلم الى غرس هذه الفضيلة في نفوس أصحابه غرسا بقي بقاء حياتهم‪،‬‬
‫ودام دوام أعمارهم ونقله التباع عنهم‪ ،‬وأتباع التباع عن التباع الى اليوم‪ ،‬فكان إذا لقيه الرجل يوما من‬
‫الدهر أو ساعة من الزمن وآمن به‪ ،‬ترك عليه من الثر ما يبقى ملزما له حتى الموت‪ ،‬فكأن ليس في حياة‬
‫هذا الرجل إل ذلك اليوم أو تلك الساعة التي لقي فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫قد يضيق العمر إل ساعة‬


‫وتضيق الرض إل موضعا‬

‫وما ذاك إل لصدق نبوته عليه الصلة والسلم وبركة دعوته‪ ،‬وعظيم إخلصه وجللة خلقه ونبل فضائله‪:‬‬

‫فعليه ما سجع الحمام سلمنا‬


‫فيه إله العالمين هدانا‬
‫وجوب الصلة والسلم عليه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫{إِنّ اللّهَ َومَلَا ِئكَتَ ُه يُصَلّو َن عَلَى الّنبِيّ يَا َأّيهَا اّلذِي َن آ َمنُوا صَلّوا َعَليْهِ َوسَّلمُوا تَسْلِيما (‪ } )56‬الحزاب‪.‬‬

‫صلى عليك ال يا علم الهدى‬


‫ن مشتاق الى لقياكا‬‫ما ح ّ‬
‫وعليك ملء الرض من صلواتنا‬
‫وقلوبنا ذابت على ذكراك‬

‫الصلة على محمد صلى ال عليه وسلم جلء البصار‪ ،‬ونور البصائر‪ ،‬وبهجة القلوب‪ ،‬وراحة الرواح‪،‬‬
‫وقرة العيون‪ ،‬ومسك المجالس‪ ،‬وطيب الحياة‪ ،‬وزكاة العمر‪ ،‬وجمال اليام‪ ،‬وذهاب الهموم‪ ،‬وطرد الحزان‪،‬‬
‫وهي الجالبة للسرور وانشراح الصدور وتكامل الحبور وتعاظم النور‪.‬‬

‫ل النس وتحصل البركة وتنزل السكينة‪ ،‬وهي علمة الحب وشاهد‬ ‫بها يطيب السمر ويحلو الحديث ويح ّ‬
‫المتابعة وبرهان الموالة ودليل الصلح وطريق الفلح‪ ،‬يقول صلى ال عليه وسلم‪ ":‬من صلى عليّ صلة‬
‫واحدة صلى ال عليه بها عشر صلوات‪ ،‬ورفعه عشر درجات‪ ،‬وكتبت له عشر حسنات‪ ،‬ومحي عنه عشر‬
‫سيئات" أخرجه النسائي في الكبرى ‪ 9890‬وفي عمل اليوم والليلة ‪ 63‬عن أنس بن مالك‪ .‬وقال‪ ":‬أكثروا‬
‫عليّ من الصلة ليلة الجمعة ويوم الجمعة" أخرجه ابن عدي في الكامل ‪ 102\3‬والبيهقي في الكبرى ‪5790‬‬
‫وفي الشعب ‪ 3030‬عن أنس بن مالك وانظر كشف الخفاء ‪ .190\1‬وقال‪ ":‬رغم أنف من ذكرت عنده ولم‬
‫يصلّ عليّ" أخرجه أحمد ‪ 7402‬والترمذي ‪ 3545‬والحاكم ‪ .2016‬وروي مرفوعا‪ ":‬البخيل من ذكرت‬
‫عنده فلم يصلّ عليّ" أخرجه أحمد ‪ 1738‬والترمذي ‪ 3546‬عن علي رضي ال عنه وانظر كشف الخفاء ‪\1‬‬
‫‪ .332‬وورد‪ ":‬إن ل ملئكة سياحين في الرض يبلغونني من أمتي السلم" أخرجه أحمد [‪]4198 ،3657‬‬
‫والنسائي ‪ 1282‬والدارمي ‪ 2774‬والحاكم ‪ 3576‬عن عبدال بن مسعود‪ .‬ولما قال أبيّ بن كعب‪ :‬سوف‬
‫أجعل لك صلتي كلها‪ ،‬أي دعائي‪ ،‬قال‪ ":‬إذن يغفر ذنبك‪ ،‬وتكفي همّك" أخرجه الترمذي ‪.2457‬‬

‫فيصلى عليه صلى ال عليه وسلم في التشهد الول والثاني‪ ،‬وعند ذكره‪ ،‬وفي خطبة الجمعة‪ ،‬والعيد‪،‬‬
‫والستسقاء‪ ،‬وفي خطبة النكاح‪ ،‬وفي مجلس العلم والمواعظ‪ ،‬والكتب والرسائل‪ ،‬والمعاهدات‪ ،‬والصكوك‪،‬‬
‫وعند لقاء الحباب‪ ،‬وعند الوداع‪ ،‬وفي الدعاء وأذكار الصباح والمساء‪ ،‬وعند نزول الهموم وترادف الغموم‬
‫وفقد الغراض وتزاحم الكرب وحدوث المصاب ووصول المبشرات‪ ،‬وعند تأليف الكتب وشرح حديثه‬
‫وكتابة سيرته وذكر أخباره وقصصه‪ ..‬إلى غير ذلك من المناسبات‪ ،‬فصلّى ال عليه وسلم ما زهر فاح‪،‬‬
‫وبلبل صاح‪ ،‬وسر باح‪ ،‬وحمام ناح‪ ،‬وصلى ال عليه وسلم ما نسيم تدّفق وما دمع ترقرق‪ ،‬وما وجه أشرق‪،‬‬
‫وصلى ال عليه وسلم ما اختلف الليل والنهار‪ ،‬وهطلت المطار‪ ،‬ودنت الثمار واهتزت الشجار‪ ،‬وصلى ال‬
‫عليه وسلم ما بدت النجوم‪ ،‬وتلبدّت الغيوم وانقشعت الهموم‪ ،‬وتليت الخبار والعلوم‪ ،‬وعلى آله الطيبين‬
‫البرار‪ ،‬وأصحابه الخيار من المهاجرين والنصار‪ ،‬ومن تبعهم واقتفى الك الثار‪.‬‬

‫صلى عليه إلهه وخليله‬


‫ما دامت الغبراء والخضراء‬
‫فهو الذي فاق النام كرامة‬
‫واستبشرت بقدومه النباء‬
‫وجوب التأدب مع الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫عمَاُلكُمْ‬
‫حبَطَ أَ ْ‬
‫ضكُمْ ِل َبعْضٍ أَن تَ ْ‬
‫جهْ ِر َبعْ ِ‬
‫ل كَ َ‬
‫جهَرُوا لَ ُه بِالْ َقوْ ِ‬
‫ت النّبِيّ َولَا تَ ْ‬
‫ق صَوْ ِ‬
‫{يَا َأّيهَا اّلذِينَ آ َمنُوا لَا تَ ْر َفعُوا أَصْوَا َتكُ ْم فَوْ َ‬
‫وَأَنتُمْ لَا تَ ْشعُرُونَ (‪ } )2‬الحجرات‪.‬‬

‫قحطان عدنان شادوا منك عزّتهم‬


‫بك التشرّف للتأريخ ل بهم‬
‫أكاد أقتلع الهات من حرقي‬
‫إذا ذكرتك أو أرتاع من ندمي‬

‫الدب معه صلى ال عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها‪ ،‬فالدب مع شخصه الكريم بإجلله‬
‫وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وانزاله المنزلة التي أنزله ال إياها‪ :‬ل غلوّ ول جفاء‪ ،‬وعدم العتراض‬
‫عليه صلى ال عليه وسلم أو مناقضة أقواله بأقوال غيره من الناس‪ ،‬أو تقديم قول كائن من البشر مهما كان‬
‫ي معصوم‪ ،‬أو التعرّض لصفة من‬ ‫على قوله‪ ،‬أو أخذ حديثه على أنه كلم يصيب ويخطئ‪ ،‬بل هو كلم نب ّ‬
‫صفاته بجفاء‪ ،‬أو رد قوله بعد التأكد من صحة نسبته اليه‪ ،‬أو الشك في بعض قضاياه وأحكامه‪ ،‬أو مقارنته‬
‫بالقادة والزعماء والملوك‪ ،‬فقد رفع ال قدره على الجميع وأعلى منزلته على الكل‪.‬‬

‫بل يحرم كل ما فهم منه الجفاء والتنقص والعتراض عليه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والواجب على كل من‬
‫رضي به رسول واتبعه وآمن به حبه حبا صادقا أعظم من حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين‪،‬‬
‫وتصديق ما أخبر به‪ ،‬وامتثال ما أمر به والنتهاء عما نهى عنه‪ ،‬والهتداء بهداه والقتداء بسنته والرضى‬
‫بحكمه والحرص على متابعته‪ ،‬وتوقير حديثه والصلة والسلم عليه إذا ذكر صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعدم‬
‫رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه‪ ،‬وعدم الضحك وقت تلوة أخباره وكلمه وآثاره‪ ،‬والخشوع عند ذكر‬
‫شيء من سنته‪ ،‬والتأدب عند الستشهاد بقوله‪ ،‬والتسليم عند أمره ونهيه‪ ،‬واليمان بمعجزاته والذب عن‬
‫جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه { فالذين ءامنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم‬
‫المفلحون}‪.‬‬

‫يا من تضوّع طيب القاع منزله‬


‫فطاب من طيب ذاك القاع والكم‬
‫نفسي الفداء لمجدٍ أنت حامله‬
‫فيه العفاف وفيه الجود والكرم‬

‫فعلى المسلم أن يفعل فعل أصحاب محمد صلى ال عليه وسلم في التأدب معه‪ ،‬فمنهم من كان ل يتكلم عنده‬
‫إل بصوت خافض خاشع‪ ،‬وكان إذا تحدث كان على رؤوسهم الطير‪ ،‬ومنهم من جلس في الطريق خارج‬
‫المسجد لما سمعه يقول من داخل المسجد‪ ":‬يا أيها الناس اجلسوا" أخرجه أبو داود ‪ 1091‬والحاكم ‪1056‬‬
‫عن جابر رضي ال عنه‪ .‬ومنهم من ل يكلم ابنه حتى مات لنه عارض حديث الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ..‬إلى آخر تلك الفعال الجميلة والخصال الحميدة من تأدبهم معه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم مبشّرا‪:‬‬


‫ل َكبِيرا (‪ } )47‬الحزاب‪.‬‬
‫{ َوبَشّرِ ا ْلمُ ْؤ ِمنِينَ بِأَنّ َلهُم مّنَ اللّ ِه فَضْ ً‬

‫" بشّروا ول تنفروا‪ ،‬ويسّروا ول تعسّروا"‪.‬‬

‫بشرى لنا السلم إن لنا‬


‫من العناية ركنا غير منهزم‬
‫لما دعا ال داعينا لطاعته‬
‫بأكرم الرسل كنا أكرم المم‬

‫من أعظم صفاته صلى ال عليه وسلم أنه مبشر‪ {:‬يَا َأّيهَا النّبِيّ ِإنّا أَرْسَ ْلنَاكَ شَاهِدا َو ُمبَشّرا َو َنذِيرا (‪})45‬‬
‫الحزاب‪ ،‬فهو صلى ال عليه وسلم الذي أتى بالبشارة الكبرى‪ ،‬وهي اليمان بال والبشارة بعفوه وغفرانه‬
‫ورضوانه ورحمته‪ ،‬والبشارة بجنة عرضها السموات والرض‪ ،‬وقد بشّر صلى ال عليه وسلم بتوبة ال‬
‫على من تاب وعفوه عمن أناب‪ ،‬فجلّ الذين بشارة‪ ،‬فقد بشّر عليه الصلة والسلم بان الوضوء يحطّ الخطايا‬
‫وأن الصلة ورمضان والحج والعمرة كفارات لما بينها من الذنوب إل الكبائر‪ ،‬وبشّر من فقد عينيه بالجنة‪،‬‬
‫وبشر من فقد ابنه بقصر في الجنة‪ ،‬وبشّر من أصابه مرض بأنه يمحو الخطايا‪ ،‬وأن من أراد ال به خيرا‬
‫ابتله‪ ،‬وبشّر من انتظر الصلة أن الملئكة تصلي عليه وتدعو له ما لم يحدث‪ ،‬وبشّر من سبح تسبيحة‬
‫واحدة بغرس نخلة له في الجنة‪ ،‬وأن من قال سبحان ال وبحمده مائة مرة حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد‬
‫البحر‪ ،‬وأن من أذنب ذنبا ثم توضأ وصلى ركعتين واستغفر ال غفر ال له‪ ،‬وبشّر أن من أصابه مرض أو‬
‫وصب أو نصب أو هم أو غمّ أو حزن حتى الشوكة يشاكها جعلها ال كفارة له من الذنوب‪.‬‬

‫وجاء بكتاب عظيم وذكر حكيم يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بان لهم أجرا حسنا ونهاهم عن‬
‫س مِن رّوْحِ اللّهِ ِإلّ الْقَ ْومُ ا ْلكَا ِفرُو َن (‪ })87‬يوسف‪.‬‬
‫ل يَيَْأ ُ‬
‫اليأس‪ِ {:‬إنّ ُه َ‬
‫وعن القنوط‪{:‬ومن يقنط من رحمة ربه إل الضالون}‪.‬‬

‫ونهاهم عن الحزن‪َ {:‬و َل َت ِهنُوا َو َل تَ ْح َزنُوا } آل عمران ‪.139‬‬

‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ‬


‫سهِمْ لَا تَ ْقنَطُوا مِن رّ ْ‬
‫عبَادِيَ اّلذِينَ َأسْ َرفُوا عَلَى أَنفُ ِ‬
‫ل يَا ِ‬
‫وفتح باب الغفران للتائبين من المسرفين‪ {:‬قُ ْ‬
‫َيغْفِ ُر ال ّذنُوبَ َجمِيعا ِإنّ ُه هُوَ ا ْلغَفُورُ الرّحِي ُم (‪ } )53‬الزمر‪.‬‬

‫ولما أرسل رسله الى البلدان ودعاة الى ال قال لهم‪ ":‬بشّروا ول تنفّروا‪ ،‬ويسّروا ول تعسّروا"‪ ،‬وحذّر من‬
‫التشديد والتنفير فقال‪ ":‬يا أيها الناس! إن منكم منفّرين‪ ،‬من صلى بالناس فليخفف‪ ،‬فإن فيهم الكبير والصغير‬
‫والمريض وذا الحاجة" أخرجه البخاري [ ‪ ]702 ،90‬ومسلم ‪. 466‬‬

‫وذمّ المتكلفين في الدين‪ ،‬وبشّر عائشة ببراءة ال لها‪ ،‬وبشر كعب بن مالك بتوبة ال عليه‪ ،‬وبشر جابرا‬
‫بأن ال كلم أباه‪ ،‬وبشر المسلمين بدخول زيد وجعفر وابن أبي رواحة الجنة‪ ،‬وبشر بلل بأنه سمع دفي نعليه‬
‫في الجنة‪ ،‬وبشّر أبيّ بن كعب بأن ال ذكره في المل العلى‪ ،‬وبشّر العشرة بالجنة‪ ،‬وبشّر أهل بدر بأن ال‬
‫قال لهم‪ ":‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" أخرجه البخاري [ ‪ ]3983 ،3007‬ومسلم ‪ 2494‬عن علي رضي‬
‫ال عنه‪ .‬وبشّر أهل البيعة تحت الشجرة برضوان ال‪ ،‬وبشّر الذي لزم {قُ ْل هُ َو اللّهُ أَ َح ٌد (‪ })1‬الخلص‪ ،‬بأن‬
‫ال يحبه‪ ،‬وبشّر رجل صلى معه وقد أصاب حدّا بأن ال غفر له‪.‬‬

‫وبالجملة فمن أعظم خصاله الحميدة صلى ال عليه وسلم إدخال البشرى على الناس وإسعادهم‪.‬‬

‫بشرى من الغيب ألقت في فم الغار‬


‫وحيًا وأفضت الى الدنيا بأسرار‬

‫الرسول صلى ال عليه وسلم معلما‪:‬‬


‫{وَعَّل َمكَ مَا لَ ْم َتكُنْ َتعْلَمُ َوكَا َن فَضْلُ اللّهِ َعَل ْيكَ عَظِيما (‪ } )113‬النساء‪.‬‬

‫" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل ال له به طريقا الى الجنة" أخرجه مسلم ‪ 2699‬عن أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه‪.‬‬

‫كفاك بالعلم في المي معجزة‬


‫عند البريّة والتأديب في اليتم‬
‫فهو الذي تم في فضل وفي كرم‬
‫ثم اصطفاه رسول بارئ النسم‬

‫بعث صلى ال عليه وسلم معلما الناس يعلم الناس مكارم الخلق ومعالي المور وأشرف الخصال وأنبل‬
‫السجايا‪.‬‬
‫فعلّم صلى ال عليه وسلم بوعظه الذي كان يهز به القلوب فكأنه منذر جيش يقول صبّحكم ومساكم‪ ،‬وكان‬
‫إذا وعظ عل صوته واشتدّ غضبه واحمرّت عيناه‪ ،‬فل تسمع إل بكاء ونحيبا وحنينا وأنينا وتفجّعا وتوجعّا‬
‫وندما وحسرة وتوبة ورجوعا وإنابة‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بخطبه القيمة الناعة في مناسبات العبادات‪ ،‬فكانت فيضا من الهدى ونهرا من‬
‫النور‪ ،‬تزيد اليمان وترفع اليقين‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بفتواه لمن سأله‪ ،‬فكان أفقه الناس وأعظمهم إجابة وأكثرهم إصابة‪ ،‬وأعرفهم بما‬
‫يصلح للسائل‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بوصاياه ونصائحه التي تصل الى القلوب وتمل النفوس تقوى وصلحا‪.‬‬

‫وعلّم بضرب المثال التي يعرفها الناس‪ ،‬وتوضيح المعاني بأمور محسوسة تقرب المعنى وتزيل الشكال‬
‫وترفع الوهم‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بالقصص الجذاب الخلب الذي يثير في النفوس العجاب والنصات‬
‫والستجابة‪.‬‬

‫وعلّم صلى ال عليه وسلم بالقدوة الحية المتمثلة في سيرته العطرة وأخلقه السامية وخصاله الجليلة التي‬
‫أجمع على حسنها العقلء وأحبها التقياء واقتدى بها الولياء‪.‬‬

‫وأول كلمة نزلت عليه صلى ال عليه وسلم كلمة "اقرأ"‪ ،‬وهي من أعظم أدلة فضل العلم وقيمة المعرفة‪،‬‬
‫وأمره ال أن يقول‪ :‬رب زدني علما‪ ،‬ولم يأمره بطلب زيادة إل من العلم لنه طريق الرضوان وباب التوفيق‬
‫وسبيل الفلح‪ ،‬وامتنّ عليه ربّه بأن علّمه ما لم يكن يعلم من المعارف اليمانية والفتوحات الربانية‬
‫والمواهب اللهية‪ ،‬وقال له ربه‪ {:‬فَاعْلَمْ َأنّهُ لَا ِإلَهَ إِلّا اللّهُ } محمد ‪ .19‬فبدأ بالعلم قبل القول والعمل‪ ،‬فكان‬
‫صلى ال عليه وسلم أسوة العلماء وقدوة طلبةا لعلم في الستزادة من العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬وقال‪":‬‬
‫مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل الغيث" أخرجه البخاري ‪ 79‬ومسلم ‪ .2282‬فكانت مهمته‬
‫الكبرى تعليم الكتاب والحكمة‪َ {:‬وُيعَّلمُهُ ُم ا ْلكِتَابَ وَا ْل ِح ْكمَةَ} البقرة ‪ .129‬حتى خرج من أصحابه صلى ال عليه‬
‫وسلم علماء وفقهاء وحكماء ومفسرون ومحدّثون ومفتون وخطباء ومربّون ملؤوا الدنيا علما وحكما ورشدا‬
‫واستفاقة‪:‬‬

‫فكلهم من رسول ال ملتمس‬


‫غرفا من البحر أو رشفا من الديم‬

‫وقد حثّ عليه الصلة والسلم على العلم ونشره وتعليمه فقال كما في حجة الوداع‪ ":‬فليبلغ الشاهد الغائب‪،‬‬
‫فرب مبلغ أوعى من سامع" أخرجه البخاري [‪ ]7078 ،1741‬ومسلم ‪ 1679‬عن أبي بكرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫وقال‪ ":‬نضر ال امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها‪ ،‬فرب حامل فقه الى من هو أفقه منه" أخرجه‬
‫الترمذي ‪ 2658‬عن ابن مسعود رضي ال عنه وانظر‪ :‬كشف الخفاء ‪ .423\2‬وقال‪ ":‬بلّغوا عني ولو آية"‬
‫أخرجه البخاري ‪ 3461‬عن عبدال بن عمرو رضي ال عنهما‪ .‬وكانت حياته صلى ال عليه وسلم كلها‬
‫تعليما لمته‪ ،‬فصلته وصيامه وصدقته وحجه وذكره لربه وكلمه وقيامه وقعوده وأكله وشربه‪ ،‬كل هذا‬
‫تعليم وأسوة لمن آمن به واتبعه‪ ،‬وكان صلى ال عليه وسلم يتدرّج في التعليم‪ ،‬فما كان يلقي العلم على‬
‫ل عََليْهِ الْ ُقرْآنُ‬
‫س عَلَى ُمكْثٍ} السراء ‪{ ،106‬لَوْلَا نُزّ َ‬
‫أصحابه جملة واحدة بل شيئا فشيئا {فَ َر ْقنَاهُ ِلتَ ْقرَأَ ُه عَلَى النّا ِ‬
‫ل (‪ } )32‬الفرقان‪ .‬فكان يمتثل هذا في تدريسه لصحابه‪ ،‬وكان يبدأ‬ ‫ت بِ ِه فُؤَا َدكَ َو َرتّ ْلنَا ُه تَ ْرتِي ً‬
‫حدَةً َكذَِلكَ ِلنُ َثبّ َ‬
‫جمْلَةً وَا ِ‬
‫ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم بكبار المسائل والهم فالمهم‪ ،‬ويكرر المسألة حتى تفهم عنه‪ ،‬ويعلّم تعليما علميا بالقدوة‪،‬‬
‫كالوضوء أمام الناس ليأخذوا عنه‪ ،‬وصلته لهم ليصلوا كصلته‪ ،‬وقوله‪ ":‬صلوا كما رأيتموني أصلي"‬
‫أخرجه البخاري ‪ 631‬عن مالك بن الحويرث رضي ال عنه‪ .‬وحجه بهم وقوله‪ ":‬لتأخذوا عني مناسككم"‬
‫أخرجه مسلم ‪ 1297‬عن جابر بن عبدال رضي ال عنهما‪.‬‬

‫**‬

‫تمّ والحمد ل‬
‫شبكة مجاهد مسلم السلمية الدعوية‬
‫نسأل ال التوفيق‬
‫‪www.islammi.jeeran.com‬‬
‫بيروت لبنان‬
‫نشره موقع صيد الفوائد‬
‫‪/http://www.saaid.net‬‬

You might also like