You are on page 1of 67

‫الستقبل لـذا الـديــن‬

‫سـيـد قـطب‬
‫السلم منهج حياة‬
‫السلم منهج‪ .‬منهج حياة‪ .‬حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها‪ .‬منهج يشمل التصور العتقادي الذي يفسر‬

‫طبيعظة (الوجود)‪ ،‬ويحدد مكان (النسظان) فظي هذا الوجود‪ ،‬كمظا يحدد غايظة وجوده النسظاني‪ ..‬ويشمظل النظظم‬

‫والتنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور العتقادي وتستند إليه‪ ،‬وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة‬

‫البشر‪ .‬كالنظام الخلقي والينبوع الذي ينبثق منه‪ ،‬والسس التي يقوم عليها‪ ،‬والسلطة التي يستمد منها‪ .‬والنظام‬

‫السظياسي وشكله وخصظائصه‪ .‬والنظام الجتماعظي وأسظسه ومقوماتظه‪ .‬والنظام القتصظادي وفلسظفته وتشكيلتظه‪.‬‬

‫والنظام الدولي وعلقاته وارتباطاته‪..‬‬

‫ون حن نعت قد أن الم ستقبل لهذا الد ين‪ ،‬بهذا العتبار‪ .‬باعتباره من هج حياة‪ ،‬يشت مل على تلك المقومات كل ها‬

‫مترابطة‪ ،‬غير منفصل بعضها عن بعض‪ .‬المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية‪ ،‬الملبية لشتى حاجات‬

‫(النسان) الحقيقية‪ ،‬المهيمنة على شتى أوجه النشاط النسانية‪.‬‬

‫وهذا الدين ‪ -‬بهذا العتبار ‪ -‬ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالتها‬
‫(‪- )]1[1‬‬
‫الواقعية ‪ -‬إن صح أن هناك دينا إلهيا يمكن أن يكون مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة البشرية‬

‫ول يس مجرد شعائر تعبد ية يؤدي ها المؤمنون بهذا الد ين فرادى أو مجتمع ين ‪ ،‬فتكون ل هم صفة هذا الد ين ! ول يس‬

‫مجرد طر يق إلى الخرة لتحق يق الفردوس الخروي؛ بين ما هناك طر يق آ خر أو طرق أخرى لتحق يق الفردوس‬

‫الرضي‪ ،‬غير منهج الدين‪ ،‬وغير نظم وتنظيمات الدين !‬

‫وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى ‪ -‬ومن العمق والقوة كذلك ‪ -‬بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في‬

‫نجاح أ ية محاولة لت صويره في صورة العقيدة الوجدان ية المنعزلة عن وا قع الحياة البشر ية‪ ،‬وال تي ل عل قة ل ها‬

‫بتنظيمات الحياة الواقع ية‪ ،‬وتشكيلت ها وأجهزت ها العمل ية‪ .‬أو العقيدة ال تي ت عد الناس فردوس الخرة إذا هم أدوا‬

‫شعائرهظا وعباداتهظا‪ ،‬دون أن يحققوا – فظي واقظع مجتمعهظم – أنظمتهظا وشرائعهظا وأوضاعهظا المتميزة المتفردة‬

‫الخا صة ! فهذا الد ين ل يس هذا‪ .‬ولم ي كن هذا‪ .‬ول يم كن أن يكون هذا‪ ..‬رب ما ا ستطاعت أ ية نحلة في الرض‬

‫تزعم لنفسها أنها (دين) ويزعم لها أهلها أنها (دين) أن تكون كذلك! أما (هذا الدين) فل‪ .‬ثم ل‪ .‬ثم ل‪..‬‬

‫اقرأ الفصل التالي ‪..‬‬ ‫‪) ]1[(1‬‬


‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونحظن نعرف أن هناك جهودا جبارة تبذل‪-‬منظذ قرون‪ -‬لحصظر السظلم فظي دائرة العتقاد الوجدانظي‬

‫والشعائر التعبد ية‪ ،‬وك فه عن التد خل في نظام الحياة الواقع ية؛ ومن عه من الهيم نة الكاملة على كل نشاط واق عي‬

‫للحياة البشرية‪-‬كما هي طبيعته‪ ،‬كما هي حقيقته‪ ،‬وكما هي وظيفته‪.‬‬

‫ل قد كا نت هذه الخ صائص في هذا الد ين‪ ..‬خ صائص الشمول والواقع ية والهيم نة‪ ..‬هي ال تي تع بت من ها‬

‫ال صليبية العالم ية في هجوم ها على (ال مة الم سلمة) في (الو طن ال سلمي)‪ .‬ك ما أن ها هي ال تي تع بت من ها‬

‫ال صهيونية العالم ية كذلك‪ ،‬م نذ ع هد بع يد! و من ثم لم ي كن بد أن تبذل معا الجهود الجبارة لح صر هذا الد ين في‬

‫دائرة العتقاد الوجدا ني والشعائر التعبد ية؛ وك فه عن التد خل في نظام الحياة الواقع ية؛ ومن عه من الهيم نة على‬

‫نشاط الحياة البشرية‪ ..‬وذلك كله كخطوة أولى‪ ،‬او كموقعة أولى‪ ،‬في معركة القضاء عليه في النهاية!‬

‫وبعظد أن أفلحظت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصظارها الحاسظم على يظد (اتاتورك)‪-‬البطظل!!!‪ -‬فظي إلغاء‬

‫الخلفة السلمية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلنها دولة (علمانية) خالصة‪ .‬عقب محاولت ضخمة بذلت في‬

‫شتى أقطار (المة المسلمة) في (الوطن السلمي) التي وقعت في قبضة الستعمار قبل ذلك‪ ،‬لزحزحة الشريعة‬

‫السلمية عن أن تكون هي (المصدر الوحيد) للتشريع؛ والستمداد من التشريع الوروبي؛ وحصر الشريعة في‬

‫ذلك الركن الضيق المسدود‪ :‬ركن ما سموه (الحوال الشخصية)!‬

‫ب عد أن أفل حت تلك الجهود الضخ مة‪ ،‬ونالت انت صارها الحا سم على يد (الب طل!!!) أتاتورك‪ ..‬تحولت إذن‬

‫إلى الخطوة التاليظة ‪ -‬او الموقعظة التاليظة‪ -‬ممثلة فظي الجهود النهائيظة‪ ،‬التظي تبذل الن فظي شتظى أنحاء (الوطظن‬

‫السظلمي) ‪ -‬او بتعظبير أدق الذي كان إسظلميا‪ -‬لكظف هذا الديظن عظن الوجود أصظلً؛ وتنحيتظه حتظى عظن مكان‬

‫العقيدة‪ ،‬وإحلل تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم‪ ،‬وأنظمة وأوضاع ‪ ،‬تمل فراغ ( العقيدة‬

‫) ! وتسمى مثلها ‪ ..‬عقيدة ‪..‬‬

‫وصظاحب هذه المحاولة ضربات وحشيظة تكال لطلئع البعظث السظلمي فظي كظل مكان على ظهظر هذه‬

‫الرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي ل تلتقي على شيء في مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬إل على‬
‫الخوف مظن البعظث السظلمي الوشيظك؛ الذي تحتمظه طبائع الشياء‪ ،‬وحقائق الوجود والحياة‪ ،‬ودللت الواقظع‬

‫البشري من هنا و من هناك ‪..‬‬

‫ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين اضخم حقيقة‪ ،‬واصلب عودا‪ ،‬واعمق جذورا‪ ،‬من أن تفلح في معالجته تلك‬

‫الجهود كل ها‪ ،‬ول هذه الضربات الوحش ية كذلك‪ .‬ك ما أن نا نعلم أن حا جة البشر ية إلى هذا المن هج ا كبر من ح قد‬

‫الحاقد ين على هذا الد ين؛ و هي تتردى ب سرعة مخي فة في هاو ية الدمار ال سحيقة؛ ويتنادى الواعون من ها ب صيحة‬

‫الخطر‪ ،‬ويتلمسون لها طريق النجاة‪ ..‬ول نجاة إل بالرجوع إلى ال‪ ..‬والى منهجه القويم للحياة‪.‬‬

‫إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة‪ .‬وترتفع من الحناجر المتعبة‪ ..‬تهتف بمنقذ‪،‬‬

‫وتتلفت على (مخلّص)‪ .‬وتتصور لهذا المخلص سمات وملمح معينة تطلبها فيه‪ .‬وهذه السمات والملمح المعينة‬

‫ل تنطبق على أحد إل على هذا الدين!‬

‫فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين‪ ،‬ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج‪ ،‬نستمد نحن يقيننا الذي ل‬

‫يتزعزع‪ ،‬في أن الم ستقبل لهذا الد ين‪ ،‬وان له دورا في هذه الرض هو مد عو لدائه ‪ -‬أراد أعداؤه كل هم أم لم‬

‫يريدوا ‪ -‬وان دوره هذا المرتقب ل تملك عقيدة أخرى‪ -‬كما ل يملك منهج آخر‪ -‬أن يؤديه‪ .‬وأن البشرية بجملتها‬

‫ل تملك أن تستغني طويلً عنه‪.‬‬

‫إن البشر ية قد تم ضي في إعت ساف تجارب متنو عة ه نا وهناك‪ -‬ك ما هي الن ماض ية في الشرق و في‬

‫الغرب سواء‪ -‬ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب‪ ،‬واثقون من المر في نهاية المطاف‪.‬‬

‫إن هذه التجارب كلهظا تدور فظي حلقظة مفرغظة‪ ،‬وداخظل هذه الحلقظة ل تتعداهظا‪ -‬حلقظة التصظور البشري‬

‫والتجر بة البشر ية وال خبرة البشر ية المشو بة بالج هل والن قص والض عف والهوى – في ح ين يحتاج الخلص إلى‬

‫الخروج من هذه الحلقة المفرغة‪ ،‬وبدء تجربة جديدة أصيلة‪ ،‬تقوم على قاعدة مختلفة كل الختلف‪ :‬قاعدة المنهج‬

‫الربا ني ال صادر عن علم (بدل الج هل) وكمال (بدل الن قص) وقدرة (بدل الض عف) وحك مة (بدل الهوى)‪ ..‬القائم‬

‫على أساس‪ :‬إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة ال وحده دون سواه‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين‪ ،‬وسائر المناهج غيره‪ :‬أن الناس في نظام الحياة السلمي يعبدون‬

‫ب كل مفهومات القوا مة‪ -‬فيتلقون م نه ‪-‬وحده‪-‬‬ ‫إلها واحدا‪ ،‬يفردو نه‪ -‬سبحانه‪ -‬باللوه ية والربوب ية والقوا مة ‪-‬‬

‫التصورات والقيم والموازين‪ ،‬والنظمة والشرائع والقوانين‪ ،‬والتوجيهات والخلق والداب‪ ..‬بينما هم في سائر‬

‫النظظم يعبدون آلهظة وأربابا متفرقظة‪ ،‬يجعلون لهظا القوامظة عليهظم مظن دون ال‪ ،‬حيظن يتلقون التصظورات والقيظم‬

‫والموازيظن‪ ،‬والنظمظة والشرائع والقوانيظن والتوجيهات والداب والخلق‪ ،‬مظن بشظر مثلهظم‪ .‬فيجعلونهظم ‪ -‬بهذا‬

‫التلقي‪ -‬أربابا‪ ،‬و يمنحونهم حقوق اللوهية والربوبية والقوامة عليهم‪ ..‬وهم مثلهم بشر‪ ..‬عبيد كما انهم عبيد‪..‬‬

‫ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس‪-‬كما يسيمها ال سبحانه‪ -‬نظما جاهلية‪ .‬مهما تعددت‬

‫أشكالها وبيئاتها وأزمانها‪ .‬فهي قائمة على ذات الساس الذي جاء هذا الدين‪-‬يوم جاء‪ -‬ليحطمه‪ ،‬وليحرر البشر‬

‫منظه‪ ،‬وليقيظم فظي الرض ألوهيظة واحدة للناس؛ وليطلقهظم مظن عبادة العباد إلى عبادة ال وحده؛ بالمعنظى الواسظع‬

‫الشامل لمفهوم (العبادة) ومفهوم ( الله) ومفهوم (الرب) ومفهوم (الدين) (‪.)]2[1‬‬

‫ل قد جاء هذا الد ين ليل غي عبود ية الب شر للبشظر‪ ،‬فظي كل صورة من ال صور‪ ،‬وليو حد العبود ية ل في‬

‫الرض‪ ،‬كما أنها عبودية واحدة ل في هذا الكون العريض‪.‬‬

‫(أفغير دين ال يبغون‪ ،‬وله أسلم من في السماوات والرض طوعا وكرها‪ ،‬واليه يرجعون)‪..‬‬

‫[ آل عمران‪] 83 :‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫والمنهج السلمي المنبثق من هذا الدين‪ -‬بهذا العتبار‪ -‬ليس نظاما تاريخيا لفترة من فترات التاريخ‪ ،‬كما‬

‫انه ليس نظاما محليا لمجموعة من البشر في جيل من الجيال‪ ،‬ول في بيئة من البيئات‪ ..‬إنما هو المنهج الثابت‬

‫الذي ارتضاه ال لحياة البشر المتجددة‪ ،‬لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى ال أن تدور عليه أبدا‪،‬‬

‫ودا خل الطار الذي ارتضى ال أن ت ظل داخله أبدا‪ ،‬ولتب قى هذه الحياة مكي فة بال صورة العليا ال تي اكرم ال فيها‬

‫النسان عن العبودية لغير ال‪..‬‬

‫([‪ )]2‬يراجع بتوسع البحث القيم العميق الدقيق بعنوان‪" :‬المصطلحات الربعة في القرآن" للستاذ المودودي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة‪ .‬التي تعمل في جسم‬

‫الكون م نذ نشأ ته‪ ،‬وال تي تع مل ف يه اليوم وغدا‪ ،‬وال تي يل قى الب شر من جراء المخال فة عن ها‪ ،‬وال صطدام ب ها‪ ،‬ما‬

‫يلقون من آلم ودمار ونكال!‬

‫والناس‪ ..‬إ ما أن يعيشوا بمن هج ال هذا بكلي ته ف هم م سلمون‪ ،‬وإ ما أن يعيشوا بأي من هج آ خر من و ضع‬

‫البشر‪ ،‬فهم في جاهلية ل يعرفها هذا الدين‪ ..‬ذات الجاهلية التي جاء هذا الدين ليحطمها‪ ،‬وليغيرها من الساس‪.‬‬

‫ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال‪..‬‬

‫والناس إ ما أن يعيشوا بمن هج ال بكلي ته ف هم في توا فق مع نوام يس الكون‪ ،‬وفطرة الوجود‪ ،‬وفطرت هم هم‬

‫أنفسهم‪ .‬وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر‪ ،‬فهم في خصام مع نواميس الكون‪ ،‬وتصادم مع فطرة‬

‫الوجود‪ ،‬ومع فطرتهم هم أنفسهم‪ ،‬بوصفهم قطاعا في هذا الوجود‪ ..‬تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب او من‬

‫بعيد‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونحظن‪ -‬كمظا قلنظا‪ -‬نسظتيقن أن الناس عائدون إلى ال؛ عائدون إلى منهجظه هذا للحياة‪ .‬وان المسظتقبل لهذا‬

‫الدين عن يقين‪.‬‬

‫ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت او سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته هي ا نه‬

‫منهج للحياة البشرية الواقعية‪ ،‬في كل مجالتها العملية والشعورية‪ ،‬سوف تبوء بالفشل والخيبة‪ .‬وقد بانت بوادر‬

‫الفشل والخيبة‪ ..‬لن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين‪ .‬كما أنها في الحقيقة ليست من طبيعة أي دين!!!‬
‫حيَاة‬
‫ُكلّ ديِن منهَج َ‬
‫هنالك ارتباط وث يق ب ين طبي عة(النظام الجتما عي) وطبي عة(الت صور العتقادي) ‪ ..‬بل هنالك ما هو ا كبر‬

‫من الرتباط الوثيق‪ .‬هنالك النبثاق الحيوي‪ :‬انبثاق النظام الجتماعي من التصور العتقادي‪ ..‬فالنظام الجتماعي‬

‫بكل خصائصه هو أحد انبثاقات التصور العتقادي؛ إذ هو ينبت نباتا حيويا وفطريا‪ ،‬ويتكيف بعد ذلك تكيفا تاما‬

‫بالتفسير الذي يقدمه ذلك التصور للوجود‪ ،‬ولمركز النسان في هذا الوجود‪ ،‬ولغاية وجوده النساني‪.‬‬

‫وهذا النبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للمور‪ .‬بل هو الوضع الوحيد‪ .‬فما من نظام اجتماعي‬

‫يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية‪ ،‬وان يقوم بعد ذلك قياما صحيحا سليما‪ ،‬إل حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة‬

‫الوجود؛ ولحقيقظة النسظان‪ ،‬ولمركظز النسظان فظي هذا الوجود‪ ،‬ولغايظة الوجود النسظاني‪ ..‬إذ أن غايظة أي نظام‬

‫اجتما عي ينب غي أن تكون هي تحق يق غا ية الوجود الن ساني‪ ..‬كذلك فان الحقوق المخولة للن سان بح كم حقي قة‬

‫مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره‪ ،‬وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده‪ ،‬كما‬

‫تحدد نوع الرتباطات ال تي تقوم بي نه وب ين هذا الوجود‪ ،‬ونوع الرتباطات ال تي تقوم ب ين أفراد جن سه ومنظما ته‬

‫وتشكيلته‪ ..‬إلى آخر ما يعبر عنه باسم (النظام الجتماعي)‪..‬‬

‫وكظل نظام اجتماعظي يقوم على غيظر هذا السظاس‪ ،‬هظو نظام غيظر طظبيعي‪ .‬نظام متعسظف‪ .‬ل يقوم على‬

‫جذوره الفطرية‪ ..‬ول أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلً‪ .‬ول أمل في تناسق حركة (النسان) في ظلها مع‬

‫الحركة الكونية‪ .‬ول مع الفطرة البشرية؛ ول مع احتياجات النسان الحقيقية‪.‬‬

‫ومتى فقد هذا التناسق فل مفر من تعاسة الناس وشقوتهم بمثل هذه النظم‪ ،‬مهما استطاعت أن توفر لهم‬

‫من التسهيلت المادية والنتاجية‪ ..‬ثم ل مفر بعد ذلك من تحطم هذه النظم‪ ،‬لتعارضها مع فطرة الكون‪ ،‬وفطرة‬

‫النسان‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذا النبثاق ثم هذا التك يف و جه من وجوه الرتباط ب ين الت صور العتقادي والنظام الجتما عي‪ ..‬يم كن‬

‫تعميمه حتى يشمل ل مجرد النظام الجتماعي‪ ،‬بل منهج الحياة كله‪ ،‬بما فيه مشاعر الفراد وأخلقهم وعباداتهم‬

‫وشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الرض جميعا‪.‬‬


‫كما أن للمسألة كلها وجها آخر‪ ..‬إن كل (دين) هو منهج للحياة بما انه تصور اعتقادي‪ ..‬او بتعبير أدق‬

‫بما انه يشمل التصور العتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي‪ .‬بل من منهج يحكم كل نشاط النسان في هذه‬

‫الحياة الدنيا‪.‬‬

‫كذلك عكس هذه العبارة صحيح‪ ..‬أن كل منهج للحياة هو (دين)‪ .‬فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي‬

‫يصرف حياة هذه الجماعة‪..‬‬

‫غير انه إن كان المن هج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع ال‪-‬أي منبثقا من تصور اعتقادي ربا ني‪-‬‬

‫فهذه الجما عة في (د ين ال)‪ ..‬وان كان المن هج الذي ي صرف حياة هذه الجما عة من صنع الملك‪ ،‬او الم ير او‬

‫القبيلة او الشعب‪-‬أي منبثقا من مذهب او تصور او فلسفة بشرية‪ -‬فهذه الجماعة في (دين الملك) او(دين المير)‬

‫او(دين القبيلة) او(دين الشعب) ‪ ..‬وليست في (دين ال) لنها ل تتبع منهج ال‪ ،‬المنبثق ابتداء من دين ال‪ ،‬دون‬

‫سواه(‪.!)]3[1‬‬

‫والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الجتماعية لم يعودوا يحجمون‪ ،‬او يتحرجون‪ ،‬من‬

‫الت صريح بهذه الحقي قة‪ :‬و هي ان هم إن ما يقررون(عقائد)؛ ويريدون ا خذ الناس ب ها في وا قع الحياة؛ وان هم يريدون‬

‫إحلل هذه العقائد الجتماعية او الوطنية او القومية محل العقيدة الدينية‪..‬‬

‫فالشيوع ية لي ست مجرد نظام اجتما عي‪ ..‬إن ما هي كذلك ت صور اعتقادي‪ .‬ت صور يقوم على أ ساس ماد ية‬

‫هذا الكون‪ ،‬ووجود المتناقضات فظي هذه الماديظة‪ ..‬هذه المتناقضات المؤديظة إلى كظل التطورات والنقلبات فيظه‪.‬‬

‫وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية‪ ،‬كما يقوم على التفسير القتصادي للتاريخ‪ ،‬ورد التطورات في الحياة البشرية‬

‫إلى تطور أداة النتاج‪ ..‬الخ‪ .‬و من ثم ف هي لي ست مجرد نظام اجتما عي‪ ،‬إن ما هي ت صور اعتقادي يقوم عل يه‪-‬او‬

‫يدعي انه يقوم عليه‪-‬نظام اجتماعي‪ ..‬وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور وحقيقة النظام الذي يقوم الن‬

‫من فجوات ضخام!‬

‫كذلك سظائر مناهظج الحياة وأنظمتهظا الواقعيظة‪ ،‬يسظميها أصظحابها (عقائد) ويقولون‪( :‬عقيدتنظا الجتماعيظة)‬

‫او(عقيدت نا الوطن ية) او(عقيدت نا القوم ية)‪ ..‬وكل ها ت عبيرات صادقة في ت صوير حقي قة ال مر‪ :‬و هو أن كل من هج‬

‫([‪ )]3‬يراجع بتوسع معنى كلمة "دين" في كتاب المصطلحات الربعة للستاذ المودودي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫للحياة او كظل نظام للحياة هظو (ديظن) هذه الحياة‪ ،‬ومظن ثظم فالذيظن يعيشون فظي ظظل هذا المنهظج او فظي ظظل ذلك‬

‫النظام‪ ..‬دينهم هو هذا المنهج او دينهم هو هذا النظام‪ ..‬فان كانوا في منهج ال ونظامه فهم في (دين ال)‪ ..‬وان‬

‫كانوا في منهج غيره او نظامه‪ ،‬فهم في (دين غير ال)‪.‬‬

‫والمر فيما نحسب واضح ل يحتاج إلى مزيد بيان‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ونظرا لهذه الحقي قة الب سيطة لم ي كن هناك د ين ال هي هو مجرد عقيدة وجدان ية‪ ،‬منعزلة عن وا قع الحياة‬

‫البشرية في كل مجالتها الواقعية‪ .‬ول مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى او مجتمعين‪ .‬ول‬

‫مجرد (أحوال شخ صية) تحكم ها شري عة هذا الد ين‪ ،‬بين ما تح كم سائر نوا حي الحياة شري عة أخرى م ستمدة من‬

‫مصدر آخر‪ ،‬تؤلف منهجا آخر للحياة غير منبثق انبثاقا من (دين ال)‪.‬‬

‫و ما يملك أ حد يدرك مفهوم كل مة (د ين) أن يت صور إمكان وجود د ين ال هي ينعزل في وجدان الناس‪ ،‬او‬

‫يتم ثل فح سب في شعائر هم التعبد ية‪ ،‬او(أحوال هم الشخ صية)‪ ،‬ول يش مل نشاط حيات هم كله‪ ،‬ول يهي من على وا قع‬

‫حياتهم كله‪ ،‬ول يقود خطى حياتهم في كل اتجاه‪ ،‬ول يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلقهم ونشاطهم‬

‫وارتباطاتهم في كل اتجاه‪..‬‬

‫ل‪ ..‬وليس هناك دين من عند ال هو منهج للخرة وحدها‪ ،‬ليتولى دين آخر من عند غير ال وضع منهج‬

‫للحياة الدنيا!‬

‫هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري‪ ..‬وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون ل‪-‬‬

‫سبحانه‪-‬جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه‪ ،‬ويشرف عليه‪ ،‬وينحصر (اختصاصه) فيه‪ ،‬ويكون لغير ال‬

‫جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها (أرباب) اخرون‪ ،‬يتعلق بها اختصاصهم‪.‬‬

‫انه‪-‬كما ترى‪ -‬تصور مضحك للغاية‪ ،‬مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو‪ ،‬سيضحكون من‬

‫أنف سهم‪ ،‬و من تفكير هم‪ ،‬وي سخرون من سذاجتهم ور كة أفكار هم‪ ..‬لو ان هم رأوا ال مر حقي قة من هذه الزاو ية‬

‫الصحيحة‪ ،‬وتحت هذا النور الهادئ الهادي‪..‬‬


‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫على أن للمسالة وجها آخر‪ ..‬إن (الشخصية النسانية) (وحدة)‪ .‬وحدة في طبيعتها وكينونتها‪ .‬وحدة تؤدي‬

‫كل وظائفها كوحدة‪ .‬وهي ل تستقيم في حركتها ول تتناسق خطواتها إل حين يحكمها منهج واحد منبثق في اصله‬

‫من تصور واحد‪..‬‬

‫فأ ما ح ين تح كم ضم ير الن سان ووجدا نه شري عة‪ ،‬ثم تح كم واق عه ونشا طه شري عة‪ ..‬و كل من هذه وتلك‬

‫ينب ثق من ت صور مختلف ‪ ..‬هذه من ت صور الب شر‪ ،‬وتلك من و حي ال‪ ..‬فان شخ صيته ت صاب ب ما يش به داء‬

‫الفصام (شيزوفرنيا)! ويقع فريسة لهذا التمزق بين واقعه الشعوري الوجداني‪ ،‬وواقعه الحركي العملي‪ ،‬ويصيبه‬

‫القلق والحيرة‪ ..‬ك ما نشا هد اليوم في أر قى البلد الوروب ية والمريك ية‪ ،‬ثمرة لل صراع ب ين بقا يا الوجدان الدي ني‬

‫الذابلة وواقع الحياة العملية‪ ،‬القائم على تصورات وقيم ل علقة لها بالوجدان الديني‪ ..‬وذلك بعد (الفصام النكد)‬

‫الذي وقع هناك بين الدين والحياة‪ ،‬وكانت له أسبابه الخاصة في تاريخ النصرانية بها(‪.)]4[1‬‬

‫و(دين ال) هو الذي يقدم التفسير الشامل الكامل للوجود‪ ،‬وعلقته بخالقه العظيم‪ .‬ولمركز النسان في هذا‬

‫الوجود؛ ولغايظة وجوده النسظاني‪ ..‬ومظن ثظم يحدد تحديدا سظليما نوع الرتباطات التظي تحقظق غايظة وجود النوع‬

‫البشري‪ ،‬في حدود مر كز هذا النوع في الوجود‪ ،‬وحقو قه المخولة له بح كم هذا المر كز‪ ،‬والو سائل ال تي يبلغ ب ها‬

‫هذه الغا ية‪ ،‬ول تخرج عن حدود حقو قه ومركزه‪ ،‬وال تي يبلغ ب ها من ثم ر ضى خال قه العظ يم؛ و سعادة الدن يا‬

‫والخرة‪ ،‬بمنهج واحد ل يمزقه كل ممزق؛ ول يصيب شخصيته بداء الفصام اللعين! ول ينتهي به إلى التصادم‬

‫مع فطرته وفطرة الكون كله في نهاية المطاف!‬

‫من ثم جاء كل دين من عند ال‪ ،‬يقدم للبشر الساس التصوري العتقادي‪ ،‬الذي يقوم عليه نظام حياتهم‬

‫كل ها‪ :‬الوجدان ية والعمل ية‪ ..‬جاء ليرد الب شر إلى رب هم؛ ويرد نظام حيات هم إلى منه جه المتفرد‪ ..‬ك ما ي قع التواؤم‬

‫والتناسق بين ضميرهم وواقعهم؛ وبين وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضا‪..‬‬

‫([‪ )]4‬راجع الفصل التالي‪" :‬الفصام النكد"‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫وجاء كل دين من عند ال لينفذ في الدنيا الواقع‪ ،‬وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله‪ ،‬ل ليبقى مجرد‬

‫شعور وجداني قابع في ضمائرهم‪ .‬ول مجرد تهذيب روحي في أخلقهم‪ .‬ول مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم‬

‫ومساجدهم؛ ول مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من حياتهم‪" :‬وما أرسلنا من رسول إل ليطاع بإذن ال"‪..‬‬

‫[النساء‪]64 :‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة‪ ،‬وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل شؤون حياتهم؛ ل أن‬

‫يجعلوها مواعظ تهذيبية ل تتجاوز وجدانهم‪ ،‬ول شعائر تعبدية يقيمونها في هياكلهم‪:‬‬

‫"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‪ .‬يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا‪ ،‬والربانيون والحبار‪،‬‬

‫بمتا استتحفظوا متن كتاب ال‪ ،‬وكانوا عليته شهداء‪ ،‬فل تخشوا الناس واخشون‪ ،‬ول تشتروا بآياتتي ثمنا قليلً‬

‫ومن لم يحكم بما انزل ال فأولئك هم الكافرون‪ .‬وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‪ ،‬والعين بالعين وال نف‬

‫بالنف والذن بالذن‪ ،‬والسن بالسن‪ ،‬والجروح قصاص‪ .‬فمن تصدق به فهو كفارة له‪ .‬ومن لم يحكم بما انزل‬

‫ال فأولئك هم الظالمون"‪.‬‬

‫[المائدة‪]45-44:‬‬

‫وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه‪ ،‬والذي نظم به موسى‪-‬عليه السلم‪-‬‬

‫ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون‪.‬‬

‫ثم جاء المسيح‪-‬عليه السلم‪ -‬بالنصرانية‪ ..‬أرسله ال إلى بني إسرائيل ‪-‬فهو أحد أنبيائهم‪ -‬ومن ثم جاء‬

‫مصدقا لشريعة التوراة‪ -‬مع بعض تعديلت خفيفة‪ ،‬لرفع بعض الثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات‬

‫تأديبية‪ ،‬او كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرآن الكريم‪:‬‬

‫"وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‪ .‬ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها‪-‬إل ما حملت ظهورهما‬

‫او الحوايا او ما اختلط بعظم‪ -‬ذلك جزيناهم ببغيهم‪ ،‬وإنا لصادقون"‪..‬‬

‫[النعام‪]146:‬‬

‫وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضا‪:‬‬
‫"وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم‪ ،‬مصدقا لما بين يديه من التوراة‪ ،‬وآتيناه النجيل فيه هدى ونور‪،‬‬

‫وم صدقا ل ما ب ين يد يه من التوراة‪ ،‬وهدى وموع ظة للمتق ين‪ .‬وليح كم أ هل النج يل ب ما انزل ال ف يه‪ .‬و من لم‬

‫يحكم بما انزل ال فأولئك هم الفاسقون"‪.‬‬

‫[المائدة‪]47-46:‬‬

‫ثم جاء محمد‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬بالسلم‪ ،‬ل ينقض الشرائع السماوية الصحيحة قبله‪،‬ولكن يصدقها‪،‬‬

‫ويهي من علي ها‪ .‬ب ما ا نه الر سالة الخيرة الشاملة للبشر ية كا فة‪ ،‬المعل نة عن الر شد الن ساني‪ ،‬المتضم نة للتف سير‬

‫الواسع الكلي‪ ،‬الذي يقوم عليه نظام الحياة النسانية‪ ،‬الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم‬

‫إلى شريعة ال‪ ،‬كما يكل ضمائرهم إلى تقوى ال‪:‬‬

‫"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق‪ ،‬مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه‪ ..‬فاحكم بينهم بما انزل ال‪،‬‬

‫ول تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق‪ .‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‪.‬ولو شاء ال لجعلكم أمة واحدة‪ ،‬ولكن‬

‫ليبلوكم فيما آتاكم‪ .‬فاستبقوا الخيرات‪ .‬إلى ال مرجعكم جميعا‪ ،‬فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‪ ..‬وان احكم بينهم‬

‫ب ما انزل ال؛ ول تت بع أهواء هم‪ ،‬واحذر هم أن يفتنوك عن ب عض ما انزل ال إل يك‪ .‬فإن تولوا فاعلم إن ما ير يد‬

‫ال إنّ ي صيبهم بب عض ذنوب هم‪ .‬وان كثيرا من الناس لفا سقون‪ ..‬أفح كم الجاهل ية يبغون؟ و من اح سن من ال‬

‫حكما لقوم يوقنون"‪.‬‬

‫[المائدة‪]50-48:‬‬

‫ومظن قبظل هذه الديانات الرئيسظية جاء كظل ديظن ليرد الناس إلى ربوبيظة ال وحده؛ والى منهظج ال وحده‪..‬‬

‫وم نذ نوح‪-‬عل يه ال سلم‪ -‬توالت الر سل على هذا المن هج الوا حد‪ ،‬يختلف في تف صيلت الشري عة ويت فق في اصل‬

‫الت صور؛ و في الغا ية ال ساسية ال كبرى؛ و هي‪ :‬إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ال دون سواه‪ .‬وإبطال‬

‫اللوهيات والربوبيات الزائفة ورد اللوهية والربوبية إلى ال دون سواه‪..‬‬

‫وفي موضع آخر يُجمل القرآن الكريم هذه الحقيقة‪ ..‬ويبين طبيعة ذلك المنهج الواحد الموصول بال‪ .‬بما‬

‫ان ال هظو خالق الكون والناس‪ ،‬وبيده مقاليظد الكون والناس؛ ويظبين كذلك مقام هذا الديظن الخيظر‪ ،‬وسظبب مجيئه‬

‫مهيمنا على الجميع‪ ،‬ويعلن المفاصلة بين أهل هذا الدين‪ ،‬وسائر الجاهليين‪:‬‬
‫"وما اختلف تم فيه من ش يء فحكمه إلى ال‪ .‬ذلكم ال ربي‪ ،‬عليه توكلت‪ ،‬واليه أن يب‪ .‬فاطر السموات‬

‫والرض‪ ،‬جعتل لكتم متن أنفستكم أزواجا‪ ،‬ومتن النعام ازواجا‪ ،‬يذرؤكتم فيته‪ ،‬ليتس كمثله شيتء وهتو الستميع‬

‫البصير‪ .‬له مقاليد السماوات والرض‪،‬يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‪ ،‬إنه بكل شيء عليم‪ .‬شرع لكم من الدين‬

‫ما و صى به نوحا والذي أوحي نا إل يك‪ ،‬و ما و صينا به إبراه يم ومو سى وعي سى‪ :‬أن أقيموا الد ين ول تتفرقوا‬

‫فيه‪ .‬كبر على المشركين ما تدعوهم إليه‪ .‬ال يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب‪ .‬وما تفرقوا إل من‬

‫ب عد ما جاء هم العلم‪ ،‬بغيا بين هم‪ ،‬ولول كل مة سبقت من ر بك إلى ا جل م سمى لق ضي بين هم‪ .‬وان الذ ين أوتوا‬

‫الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‪ ..‬فلذلك فادع واستقم كما امرت‪ ،‬ول تتبع أهواءهم‪ .‬وقل‪ :‬آمنت بما انزل‬

‫ال من الكتاب‪ ،‬وأمرت لعدل بينكم ‪ .‬ال ربنا وربكم‪ .‬لنا أعمالنا ولكم أعمالكم‪ .‬ل حجة بيننا وبينكم‪ .‬ال يجمع‬

‫بيننا واليه المصير"‪.‬‬

‫[الشورى‪]15-10:‬‬

‫وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب‪-‬عليه السلم‪-‬وعن قومه‪ ،‬أهل مدين‪ ،‬يرد ذكر التشريع للحياة العملية‪،‬‬

‫واعتراض القوم عليظه‪ ،‬لعدم إدراكهظم طبيعظة الديظن‪ :‬وانظه منهظج للحياة شامظل‪ ،‬ل للضميظر المكنون وحده‪ ،‬ول‬

‫للشعائر التعبدية في الهياكل‪-‬شأنهم شأن أهل الجاهلية الحاضرة سواء!‪:‬‬

‫"والى مدين أخا هم شعيبا‪ .‬قال‪ :‬يا قوم اعبدوا ال ما لكم من اله غيره؛ ول تنقصوا المكيال والميزان‪.‬‬

‫أ ني أرا كم بخ ير‪ ،‬وإ ني أخاف علي كم عذاب يوم مح يط‪ .‬و يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالق سط‪ ،‬ول تبخ سوا‬

‫الناس أشياء هم‪ ،‬ول تعثوا في الرض مف سدين‪ ،‬بق ية ال خ ير ل كم إن كن تم مؤمن ين‪ ،‬و ما ا نا علي كم بحف يظ‪..‬‬

‫قالوا‪ :‬يا شع يب أ صلتك تأمرك أن نترك ما يع بد آباؤ نا‪ ،‬أو أن نف عل في أموال نا ما نشاء؟ ا نك ل نت الحل يم‬

‫الرشيد‪."!..‬‬

‫[هود‪]87-84:‬‬

‫كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح‪-‬عليه السلم‪-‬لقومه‪:‬‬

‫"فاتقوا ال وأطيعون‪ .‬ول تطيعوا أمر المسرفين‪ .‬الذين يفسدون في الرض ول يصلحون"‪..‬‬

‫[الشعراء‪]152-150:‬‬
‫فهظو يردهظم إلى ديظن ال ومنهجظه للحياة‪ ،‬عظن ديظن المسظرفين المفسظدين ومنهجهظم‪ ..‬أي انظه يردهظم مظن‬

‫العبودية للعبيد‪ ،‬إلى العبودية ل في نظام الحياة‪.‬‬

‫و في مو ضع آ خر يحدد ال وظي فة الر سل كا فة‪ ،‬ووظي فة كتاب ال عا مة‪ :‬بأن ها الح كم ب ين الناس في ما‬

‫اختلفوا فيه‪:‬‬

‫"كان الناس أ مة واحدة‪ .‬فب عث ال ال نبيين مبشر ين ومنذر ين‪ ،‬وانزل مع هم الكتاب بال حق‪ ،‬ليح كم ب ين‬

‫الناس فيما اختلفوا فيه"‪..‬‬

‫[البقرة‪]213:‬‬

‫فينتهي كل جدل في وظيفة الكتاب وفي وظيفة الرسل‪ .‬ويتحدد معنى دين ال‪ ،‬ومرادفته لنظام الحياة الذي‬

‫يريده ال‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ول حا جة ب نا إلى الطالة اك ثر من هذا‪ -‬في الب حث المج مل‪ -‬عن طبي عة (الد ين) وشموله لنظام الحياة‬

‫الواقعيظة‪ .‬فانظه ل معنظى للديظن أصظلً إذا هظو تخلى عظن تنظيظم الحياة الواقعيظة؛ بتصظوراته الخاصظة‪ ،‬ومفاهيمظه‬

‫الخاصة‪ ،‬وشرائعه الخاصة‪ ،‬وتوجيهاته الخاصة‪ ،‬فهذه الحياة النسانية لبد أن يقوم نظامها الساسي على قاعدة‬

‫الت صور العتقادي‪ ،‬الذي يف سر حقي قة الوجود‪ ،‬وعلق ته بخال قه‪ ،‬ومر كز الن سان ف يه‪ ،‬وغا ية وجوده الن ساني‪،‬‬

‫ونوع الرتباطات التظي تحقظق هذه الغايظة‪ .‬سظواء الرتباطات بيظن النسظان وربظه‪ .‬او الرتباطات بيظن النسظان‬

‫والكون من حوله‪ .‬او الرتباطات بين النسان وسائر الحياء‪ .‬او الرتباطات بين بني النسان‪ .‬كما يرتضيها ال‬

‫لعباده‪.‬‬

‫وإل يجظئ هذا التفسظير الشامظل الكامظل مظن عنظد ال‪ ،‬وإل يقيظم نظام الحياة كله على هذا التفسظير الشامظل‬

‫الكامل‪ ،‬فهي إذن أهواء البشر‪ .‬وهي إذن ( الجاهلية) التي جاء كل دين من عند ال لخراج الناس منها‪ ،‬ورفعهم‬

‫إلى (الربانية)‪.‬‬

‫وإل ت كن العبود ية ل وحده‪-‬ممثلة في التل قي ع نه في هذا كله‪-‬ف هي العبود ية للعب يد‪ ..‬و قد جاء د ين ال‬

‫لتحرير العباد من عبادة العبيد!‬


‫ل حاجة بنا للطالة اكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال‪ .‬لول‬

‫تلك الملب سات النكدة ال تي قا مت في أورو با‪ ،‬وأدت إلى ذلك ( الف صام الن كد) ب ين الد ين والدولة‪ .‬بل ب ين الد ين‬

‫والحياة‪.‬‬

‫إنمظا المهظم أن نلقظي الن نظرة سظريعة على تلك الملبسظات النكدة‪ ..‬التظي عصظمنا منهظا ال فظي تاريخنظا‬

‫وديننا‪ .‬فاجتلبنا ثمارها النكدة لنفسنا من هناك!‬


‫الفصَتتامُ النّكِتتتدْ‬
‫ل يس من طبي عة (الد ين) أن ينف صل عن الدن يا ول يس من طبي عة المن هج الل هي أن ينح صر في المشا عر‬

‫الوجدانيظة‪ ،‬والخلقيات التهذيبيظة‪ ،‬والشعائر التعبديظة‪ .‬او فظي ركظن ضيظق مظن أركان الحياة البشريظة‪ ..‬ركظن مظا‬

‫يسمونه (الحوال الشخصية)‪.‬‬

‫ليس من طبيعة (الدين) أن يفرد ل ‪-‬سبحانه‪ -‬قطاعا ضيقا في ركن ضئيل‪-‬او سلبي‪ -‬في الحياة البشرية‪،‬‬

‫ثم يسلم سائر قطاعات الحياة اليجابية العملية الواقعية للهة أخرى وأرباب متفرقين‪ ،‬يضعون القواعد والمذاهب‪،‬‬

‫والنظمة والوضاع‪ ،‬والقوانين والتشكيلت على أهوائهم‪ ،‬دون الرجوع إلى ال!‬

‫ليظس مظن طبيعظة (الديظن) أن يشرع طريقا للخرة‪ ،‬ل يمظر بالحياة الدن يا! طريقا ينتظظر الناس فظي نهايتظه‬

‫فردوس الخرة عن غير طريق العمل في الرض‪ ،‬وعمارتها‪ ،‬والخلفة فيها عن ال‪ ،‬وفق منهجه الذي ارتضاه!‬

‫ليظس مظن طبيعظة (الديظن) أن يكون هذا المسظخ الشائه الهزيظل! ول هذه اللعوبظة المزوقظة التظي يلهظو بهظا‬

‫الطفال! ول هذه المراسم التقليدية التي ل علقة لها بنظم الحياة العملية!‬

‫ل يس من طبي عة (الد ين) ‪-‬أي د ين فضلً عن د ين ال‪ -‬أن يكون هذا الع بث المم سوخ الهز يل‪ ..‬ف من أ ين‬

‫إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك (الفصام النكد) بين الدين والحياة ؟‪.‬‬

‫ل قد تم ذلك (الف صام الن كد) في ظروف نكدة! وكا نت له آثاره المدمرة في أورو با‪ ..‬ثم في الرض كل ها‪،‬‬

‫ح ين ط غت الت صورات الغرب ية‪ ،‬والنظ مة الغرب ية‪ ،‬والوضاع الغرب ية‪ ،‬على البشر ية كل ها في مشارق الرض‬

‫ومغاربها‪..‬‬

‫ولم يكن بد‪-‬وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق‪ -‬ان تسير في هذا الطريق البائس؛ وان تنتهي‬

‫إلى هذه النهاية التعيسة؛ وان تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الن في داخلها‪ ،‬ويذوق بعضهم بأس بعض‪ ،‬بينما‬

‫هم عاجزون عن معرفة طريق الخلص منها‪ ..‬وهم يصطرخون فيها‪.!!..‬‬

‫وليس هنا مجال الحديث عن الشقوة التي تصطرخ فيها البشرية فسيجيء شيء عنها في الفصول التالية‪.‬‬

‫فلنعد إلى الحديث عن تلك الظروف النكدة‪ ،‬التي وقع فيها ذلك (الفصام النكد)‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫لقد جاءت اليهودية لتكون منهجا لحياة بني إسرائيل‪-‬كما جاء كل دين قبلها ليكون منهج حياة لمن جاءهم‪-‬‬

‫كذلك جاءت النصرانية ‪ -‬بعد اليهودية ‪ -‬لتكون المنهج المعدل لبني إسرائيل‪.‬‬

‫ول كن اليهود لم يقبلوا ر سالة الم سيح‪-‬عل يه ال سلم‪ -‬ولم يقبلوا م نه التخف يف الذي جاء هم به من ع ند ال‪.‬‬

‫وهو يقول لهم‪-‬كما حكى القرآن الكريم‪:‬‬

‫"ومصدقا لما بين يدي من التوراة‪ ،‬ولحل لكم بعض الذي حرم عليكم‪ ،‬وجئتكم بآية من ربكم‪ ،‬فاتقوا ال‬

‫وأطيعون"‪..‬‬

‫[آل عمران‪]50:‬‬

‫ومن ثم قاوموا المسيح‪-‬عليه السلم‪ -‬وقاوموا دعوته إلى ال سماحة والسلم والتطهر الرو حي‪ ،‬والتخفف‬

‫مظن المراسظم الشكليظة التظي ل رصظيد لهظا مظن تقوى القلوب! وانتهظى بهظم المظر إلى إغراء (بيلطظس) الحاكظم‬

‫الروما ني على ارض الشام يومئذ بمحاولة ق تل الم سيح‪-‬عل يه ال سلم‪-‬و صلبه‪ .‬لول أن توفاه ال ورف عه إل يه ( في‬

‫صورة ل نعلم كيفيتها لنه ليس عندنا نص قاطع من قرآننا ول سنة نبينا عليها)‪.‬‬

‫وأ يا ما كان ال مر‪ ،‬ف قد سارت المور ب عد ذلك الح ين ب ين اليهود واتباع عي سى‪-‬عل يه ال سلم‪ -‬سيرتها‬

‫البائسة‪ .‬فبذرت بذور الحقد على اليهود في نفوس الذين صاروا نصارى‪ .‬كما بذرت بذور الكره في نفوس اليهود‬

‫على هؤلء! وانتهظت بانفصظال اتباع المسظيح عظن اليهود‪ ،‬وانفصظال النصظرانية عظن اليهوديظة (وهظي جاءت فظي‬

‫الصل لتكون تجديدا لليهودية وتعديلً طفيفا في أحكامها‪ ،‬مع الحياء الروحي والتهذيب الخلقي العميق الواضح‬

‫في دعوة المسيح عليه السلم)‪.‬‬

‫ول ما وق عت الجفوة والفر قة‪ -‬بل البغضاء والح قد‪ -‬ب ين اتباع عي سى عل يه ال سلم واليهود‪ ،‬انف صل كتاب هم‬

‫النجيظل‪-‬فظي حسظهم‪ -‬عظن التوراة‪-‬وان بقيظت التوراة وكتبهظا معدودة عندهظم مظن الكتاب المقدس‪ -‬وانفصظلت‬

‫شريعتهم عن شريعة التوراة‪ .‬بينما جسم الشريعة لبني إسرائيل كلهم في التوراة‪ ..‬وبذلك لم يعد للنصرانية بهذا‬

‫النفصال شريعة مفصلة تنظم الحياة!‬

‫ولكن التصور العتقادي‪-‬كما جاء به المسيح عليه السلم من عند ال‪ -‬كان كفيلً‪-‬لو ظل سليما‪ -‬أن يقدم‬

‫التفسير الصحيح للوجود‪ ،‬ولمركز النسان في هذا الوجود‪ ،‬ولغاية وجوده النساني‪ ..‬هذا التفسير الذي يمكن ان‬
‫يقوم عليه نظام اجتماعي‪ .‬كما كان ذلك التصور ‪ -‬لو ظل سليما كما جاء من عند ال‪ -‬كفيلً أن يرد النصارى‬

‫إلى الشريعة التي تضمنتها التوراة‪ ،‬مع التعديلت التي جاء بها المسيح للتخفيف في بعض تكاليف العبادة وتكاليف‬

‫الحياة‪.‬‬

‫غير ان الذي حدث‪ ،‬هو ان عهدا طويلً من الضطهاد الفظيع قد اظل اتباع عيسى عليه السلم‪ .‬سواء من‬

‫اليهود المنكر ين‪ ،‬او من الرومان الوثني ين‪ ،‬الذ ين كانوا يحكمون و طن الم سيح‪ .‬م ما اض طر الحواري ين‪-‬تلم يذ‬

‫المسيح‪ -‬واتباعهم وتلميذهم الى التخفي‪ ،‬والتنقل والعمل سرا‪ ،‬فترة من الوقت طويلة‪ .‬ومما اضطرهم كذلك إلى‬

‫تناقل نصوص النجيل‪ ،‬وتاريخ عيسى عليه السلم‪ ،‬وأحداث الفترة التي عاشها بينهم تناقلً خاطفا‪ ،‬في ظروف ل‬

‫تسمح بالدقة ول بالتواتر‪ ..‬مما انتهى إلى رواية نصوص النجيل الذي أنزله ال على عيسى‪-‬عليه السلم‪ -‬في‬

‫ثنا يا روايات عن حيا ته وأعماله؛ يختلف بعض ها عن ب عض؛ في ما سمي بالناج يل‪ ..‬و هي كلم هؤلء التلم يذ‬

‫وروايات هم عن حياة الم سيح‪ ،‬متضم نة في ثنايا ها ب عض ما يروى من كلم ال سيد الم سيح‪ ..‬و قد ك تب اقدم هذه‬

‫الناجيل بعد المسيح بجيل كامل‪ ،‬ويختلف المؤرخون للنصرانية اختلفا كبيرا في تحديد تاريخه ما بين‪ 40‬سنة و‬

‫‪ 64‬سنة‪ ،‬كما يختلفون في اللغة التي كتب بها‪ ..‬إذ لم توجد سوى ترجمة له‪..‬‬

‫ول قد كان من ن صيب (بولس) ( الذي لم ير الم سيح ‪-‬عل يه ال سلم‪ -‬وإن ما د خل الن صرانية من الوثن ية‬

‫الرومانية) أن يتولى نشر النصرانية في أوروبا‪ .‬مطعمة بما رسب في تصوراته من الوثنية والفلسفة الغريقية‪..‬‬

‫وكانظت هذه كارثظة على النصظرانية منظذ أيامهظا الولى فظي أوروبظا‪ ..‬فوق مظا لحظق بهظا مظن تحريظف فظي فترة‬

‫الضطهاد الولى‪ .‬فترة تناقل الروايات في ظروف ل تسمح بتمحيصها ول بتواترها!‪.‬‬

‫(وكتب بولس رسائله بعد ذلك‪-‬بعد القرن الول الميلدي‪ -‬وهي شاهد على امتزاج المثلة الدينية بصور‬

‫الفلسفة‪-‬ول سيما فلسفة الحلول‪ -‬وكان يقول‪ :‬ان المسيح جالس على يمين ال‪ ،‬ويدعو لمن يطلب لهم الخير "أن‬

‫تسكن فيهم كلمته" ويسأل لهم الغفران منه‪ ،‬ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الرض! ويبدو من جملة‬

‫كلمه انه كان ينتظر معاده في زمن قريب‪ .‬وكثيرا ما أشار إليه‪-‬صلوات ال عليه‪ -‬باسم‪":‬ربنا يسوع المسيح"!‬

‫وسمى نفسه باسم‪":‬رسول يسوع المسيح بحسب أمر ال مخلصنا وربنا يسوع المسيح!") (‪.)]5[1‬‬

‫([‪ )]5‬ص‪ 169‬من كتاب "ال" للستاذ عباس محمود العقاد‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ول كن الكار ثة العظ مى كا نت في الحدث الذي تم ب عد ذلك‪ .‬وكان ظاهره انت صار الن صرانية‪ ،‬و هو دخول‬

‫المبراطور الروماني (قسطنطين) في النصرانية‪ ،‬واستطاعة الحزب النصراني أن يصبح هو الحاكم سنة ‪355‬م‪.‬‬

‫ويصف درابر المريكي في كتابه(الدين والعلم) هذا الحادث وآثاره النكدة يقول‪:‬‬

‫( دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين‪ ،‬الذين تقلدوا وظائف خطيرة‪ ،‬ومناصب عالية في‬

‫الدولة الروم ية‪ ،‬بتظاهر هم بالن صرانية ولم يكونوا يحفلون بأ مر الد ين‪ ،‬ولم يخل صوا له يو ما من اليام‪ ..‬وكذلك‬

‫كان (ق سطنطين)‪ ..‬ف قد ق ضى عمره في الظلم والفجور؛ ولم يتقيد بأوامر الكني سة الدين ية إل قليلً في آ خر عمره‬

‫(سنة ‪337‬م)‪.‬‬

‫( ان الجماعة النصرانية‪ ،‬وان كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك‪ ،‬ولكنها لم تتمكن من‬

‫أن تقطع دابر الوثنية‪ ،‬وتقلع جرثومتها‪ .‬وكان نتيجة كفاحها ان اختلطت مبادئها‪ ،‬ونشأ من ذلك دين جديد‪ ،‬تتجلى‬

‫فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء‪ ..‬هنالك يختلف السلم عن النصرانية‪ ،‬إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء‬

‫باتا‪ ،‬ونشر عقائد خالصة بغير غبش ‪..‬‬

‫(وان هذا المظبراطور الذي كان عبدا للدنيظا‪ ،‬والذي لم تكظن عقائده الدينيظة تسظاوي شيئا‪ ،‬رأى لمصظلحته‬

‫الشخ صية‪ ،‬ولم صلحة الحزب ين المتناف سين‪-‬الن صراني والوث ني‪-‬ان يوحده ما ويؤلف بينه ما‪ :‬ح تى إن الن صارى‬

‫الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة‪ .‬ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت‬

‫بالعقائد الوثنية القديمة! وسيخلص الدين النصراني عاقبة المر من أدناس الوثنية وأرجاسها) (‪.)]6[1‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولكظن الديانظة الجديدة لم تتخلص‪-‬بعظد ذلك‪ -‬قظط مظن أدناس الوثنيظة وأرجاسظها‪-‬كمظا أمظل النصظارى‬

‫الرا سخون‪ -‬ف قد ظلت تتل بس بهذه ال ساطير والت صورات الوثن ية‪ .‬ثم زادت الطي نة بلة‪ .‬فأ صبحت تتل بس كذلك‬

‫بالخلفات السياسية والعنصرية‪ ،‬وأصبحت العقيدة تغير وتنقح لتحقيق أهداف سياسية‪:‬‬

‫يقول (الفرد بتلر) في كتابه‪( :‬فتح العرب لمصر) ترجمة الستاذ (محمد فريد أبو حديد)‪:‬‬

‫([‪ )]6‬نقلً عن كتاب‪" :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" للسيد أبي الحسن الندوي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫(إن ذينك القرنين‪-‬الخامس والسادس‪ -‬كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين‪ .‬نضال يذكيه‬

‫اختلف في الجنس واختلف في الدين‪ .‬وكان اختلف الدين اشد من اختلف الجنس إذ كانت علة العلل في ذلك‬

‫الوقت‪ ،‬تلك العداوة بين (الملكانية) و (المونوفيسية) وكانت الطائفة الولى‪-‬كما يدل عليها اسمها‪ -‬حزب مذهب‬

‫الدولة المبراطورية‪ ،‬وحزب الملك والبلد‪ .‬وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة‪-‬وهي ازدواج طبيعة المسيح‪-‬‬

‫على حين أن الطائفة الخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين‪-‬أهل مصر‪ -‬كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها‪،‬‬

‫وتحاربهظا حربا عنيفظة‪ ،‬فظي حماسظة هوجاء‪ ،‬يصظعب علينظا ان نتصظورها‪ ،‬او نعرف كنههظا فظي قوم يعقلون‪ .‬بله‬

‫يؤمنون بالنجيل!)‪..‬‬

‫ويقول (ت‪.‬و‪.‬أرنولد) في كتا به‪( :‬الدعوة إلى ال سلم) ترج مة ح سن إبراه يم وزميل يه‪ ،‬عن هذا الخلف‬

‫الطائفي السياسي العنصري وآثاره في البتداعات والضافات والتعديلت في النصرانية‪:‬‬

‫"… ولقد افلح (جستنيان) قبل الفتح السلمي بمئة عام في ان يكسب المبراطورية الرومانية مظهرا من‬

‫مظاهر الوحدة‪ .‬ولكن سرعان ما تصدعت بعد موته‪ ،‬وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قوي مشترك‪ ،‬يربط‬

‫الوليات وحاضرة الدولة"‪.‬‬

‫(أ ما هر قل ف قد بذل جهودا لم ت صادف نجاحا كاملً في إعادة ر بط الشام بالحكو مة المركز ية‪ .‬ول كن ما‬

‫اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى‪-‬لسوء الحظ‪ -‬إلى زيادة النقسام‪ ،‬بدلً من القضاء عليه‪ .‬ولم يكن‬

‫ث مة ما يقوم مقام الشعور بالقوم ية سوى العوا طف الدين ية‪ .‬فحاول بتف سيره العقيدة تف سيرا ي ستعين به على تهدئة‬

‫النفوس‪ ،‬ان ي قف ما يم كن ان يش جر ب عد ذلك ب ين الطوائف المتناحرة من خ صومات‪ ،‬وان يو حد ب ين الخارج ين‬

‫على الدين وبين الكنيسة الرثوذكسية؛ وبينهم وبين الحكومة المركزية) (‪.)]7[1‬‬

‫(وكان مجمع خلقيدونية قد أعلن في سنة‪ 451‬ميلدية أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتيه‪،‬‬

‫ل اختلط بينهما‪ ،‬ول تغير‪ ،‬ول تجزؤ‪ ،‬ول انفصال‪ .‬ول يمكن أن ينتفي خلفهما بسبب اتحادهما‪ .‬بل الحرى أن‬

‫تحتفظ كل طبيعة منها بخصائصها‪ ،‬وتجتمع في أقنوم واحد‪ ،‬وجسد واحد‪ .‬ل كما لو كانت متجزئة او منفصلة في‬

‫أقنومين‪ .‬بل مجتمعة في أقنوم واحد‪ :‬هو ذلك البن‪ ،‬وال‪ ،‬والكلمة)‪..‬‬

‫([‪ )]7‬يدل هذا النص على أن جهود المبراطور لتفسير الدين لم تكن من أجل الدين ولكنها كانت محاولة سياسية بحتة دفعه إليها‬ ‫‪1‬‬

‫ل من صنم القومية !!!‬


‫ضعف "القومية" التي تربط بين أجزاء المبراطورية‪ .‬فأراد أن يتخذ من الدين صنما آخر بد ً‬
‫(وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع‪ ،‬وكانوا ل يعترفون في المسيح إل بطبيعة واحدة‪ .‬وقالوا‪ :‬انه مركب‬

‫القانيم‪ .‬له كل الصفات اللهية والبشرية‪ .‬ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية بل أصبحت وحدة‬

‫مركبة القانيم‪..‬‬

‫وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بو جه‬

‫خاص في مصر والشام والبلد الخارجة عن نطاق المبراطورية البيزنطية‪ ،‬في الوقت الذي سعى فيه هرقل في‬

‫إصلح ذات البين‪ ،‬عن طريف المذهب القائل بان للمسيح مشيئة واحدة‪ ..‬ففي الوقت الذي نجد فيه‪ .‬هذا المذهب‬

‫يعترف بوجود الطبيعتين‪ ،‬إذا به يتمسك بوحدة القنوم في حياة الم سيح البشرية‪ .‬وذلك بإنكاره وجود نوعين من‬

‫الحياة في أقنوم وا حد‪ .‬فالم سيح الوا حد‪-‬الذي هو ا بن ال‪-‬يح قق الجا نب الن ساني والجا نب الل هي‪ ،‬بقوة إله ية‬

‫إنسانية واحدة‪ .‬ومعنى هذا انه ل يوجد سوى إرادة واحدة‪ ،‬في الكلمة المتجسدة‪..‬‬

‫ل كن هر قل قد ل قي الم صير الذي انت هى إل يه كثيرون جدا م من كانوا يأملون أن يقيموا دعائم ال سلم‪ .‬ذلك‬

‫بان الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأع نف ما يكون فح سب‪ .‬بل إن هر قل نف سه قد و صم باللحاد‪ ،‬و جر على نف سه‬

‫سخط الطائفتين على السواء(‪.)]8[1‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذه الملب سات ال تي عاجلت الن صرانية في بدء نشأت ها أولً‪ ،‬ثم ع ند انت صارها ال سياسي على ذلك الن حو‬

‫ثانيا‪ ،‬ثم ما تل ذلك النتصار من خلفات سياسية وعنصرية وتحريفات وتعديلت في العقيدة بسببها ثالثا‪..‬‬

‫كل أولئك قد مل الت صور العتقادي في ها بعنا صر غري بة كل الغرا بة على طبيعت ها‪ ،‬وعلى طبي عة(الد ين‬

‫اللهي) كله‪ ..‬و من ثم لم يعد الت صور الن صراني‪-‬ك ما صنعته التحريفات المتوال ية أولً ثم ك ما صاغته المجامع‬

‫المقدسة العامة والخاصة أخيرا(‪ - )]9[2‬قادرا على أن يعطي التفسير اللهي للوجود وحقيقته‪ ،‬وحقيقة صلته بخالقه‪.‬‬

‫وحقي قة هذا الخالق و صفاته‪ ،‬وحقي قة الوجود الن ساني وغاي ته وطري قه‪ ..‬هذه المقومات ال تي ل بد أن ت صح كي‬

‫يصح النظام الجتماعي الذي ينبثق منها‪ ،‬ويقوم بعد ذلك عليها‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫([‪ )]8‬ص‪ 53-52‬من الترجمة العربية‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫([‪ )]9‬يراجع بالتفصيل كتاب محاضرات في النصرانية للستاذ محمد أبو زهرة‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫غ ير أن ال مر لم ي قف ع ند ف ساد الت صور العتقادي على هذا الن حو؛ بل م ضت الملب سات النكدة في‬

‫طريقها خطوات أخرى عاثرة!‬

‫لقظد أرادت الكنيسظة أن تقظف فظي وجظه الترف الرومانظي‪ ،‬والسظعار الشهوانظي الذي كانظت المبراطوريظة‬

‫الرومانية قد انتهت اليه‪ ،‬قبل دخولها في النصرانية‪ ،‬والذي يصفه درابر المريكي في كتابه (الدين والعلم) بقوله‪:‬‬

‫"لمظا بلغظت الدولة الروميظة فظي القوة الحربيظة والنفوذ السظياسي اوجهظا‪ ،‬ووصظلت الحضارة إلى أقصظى‬

‫الدرجات‪ ..‬هبطظت فظي فسظاد الخلق‪ ،‬وفظي النحطاط فظي الديظن والتهذيظب إلى أسظفل الدركات‪ ..‬بطظر الرومان‬

‫معيشت هم واخلدوا إلى الرض‪ ،‬وا ستهتروا ا ستهتارا‪ ،‬وكان مبدؤ هم ان الحياة إن ما هي فر صة للتم تع‪ ،‬ينت قل في ها‬

‫الن سان من نع يم إلى ترف‪ ،‬و من ل هو إلى لذة‪ .‬ولم ي كن اعتدال هم إل ليطول ع مر اللذة! كا نت موائد هم تز هو‬

‫بأوا ني الذ هب والف ضة مر صعة بالجوا هر‪ ،‬ويح تف ب هم خدم في مل بس جميلة خل بة‪ ،‬وغادات روم ية ح سان‪،‬‬

‫وغوان كاسظيات عاريات غيظر متعففات تدل دللً‪ .‬ويزيظد فظي نعيمهظم حمامات باذخظة‪ ،‬ومياديظن للهظو واسظعة‪،‬‬

‫ومصظارع يتصظارع فيهظا البطال مظع البطال‪ ،‬أو مظع السظباع؛ ول يزالون يصظارعون ح تى يخظر الواحظد منهظم‬

‫صريعا يتش حط في د مه‪ .‬و قد أدرك هؤلء الفاتحون الذ ين دوخوا العالم‪ ،‬ا نه ان كان هناك ش يء ي ستحق العبادة‬

‫فهظو القوة‪ ،‬لنظه بهظا يقدر النسظان ان ينال الثروة التظي يجمعهظا أصظحابها بعرق الجظبين وكظد اليميظن‪ ،‬وإذا غلب‬

‫الن سان في ساحة القتال بقوة ساعده‪ ،‬فحينئذ يم كن أن ي صادر الموال والملك‪ ،‬ويع ين إيرادات القطاع‪ ،‬وان‬

‫راس الدولة الرومية هو رمز لهذه القوة القاهرة‪ ،‬فكان نظام رومة يشف عن أبهة الملك‪ .‬ولكنه كان طلء خادعا‬

‫كالذي نراه في حضارة اليونان في عهد انحطاطها(‪.)]10[1‬‬

‫أرادت الكنيسة أن ت قف في وجه هذا السعار الجامح‪ ،‬وهذا التردي الكا سح‪ ..‬ولكنها لم تسلك إليه طريق‬

‫الفطرة ال سوية المعتدلة المتز نة‪ ،‬ول كان قد ب قي ب ين يدي ها من حقي قة الت صور الن صراني ال صحيح ما تق يم به‬

‫الميزان بين الناس بالقسط‪ ،‬ول ما تقيم به الميزان بين الفراط والتفريط في وظائف فطرتهم الطبيعية‪.‬‬

‫عندئذ اند فع في الجا نب ال خر تيار من (الرهبان ية) العات ية‪ ،‬لعل ها كا نت اشأم على البشر ية من بهي مة‬

‫الرومان الوثن ية‪ .‬وا صبح الحرمان من طيبات الحياة‪ ،‬و سحق الخ صائص الفطر ية في الن سان‪ ،‬وم حق الطاقات‬

‫([‪ )]10‬عن كتاب‪ " :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫وال ستعدادات ال تي خلق ها ال ف يه لتك فل بقاء النوع من ناح ية‪ ،‬ك ما تك فل عمارة الرض والقيام بفرائض الخل فة‬

‫في ها من ناح ية أخرى‪ ..‬ا صبح هذا النحراف العا تي عن الفطرة هو عنوان الكمال والتقوى والفضيلة‪ ..‬ال مر‬

‫الذي لم يأذن به ال‪ ،‬ول يمكن أن تستقيم معه حياة!‬

‫ولم ين شئ ذلك علجا لذلك النحلل‪ .‬ولك نه ان شأ صراعا ب ين طرف ين جامح ين‪ ،‬كله ما بع يد عن جادة‬

‫الفطرة وحقيقة حاجات النسان‪.‬‬

‫وي صور (لي كى) في كتا به‪( :‬تار يخ أخلق أورو با) ما كان عل يه العالم الن صراني في ذلك الع صر من‬

‫التاريخ بين الرهبانية والفجور‪ ..‬بقوله‪:‬‬

‫"إن التبذل والسفاف قد بلغا غايتهما في أخلق الناس واجتماعهم‪ .‬وكانت الدعارة والفجور‪ ،‬والخلد إلى‬

‫الترف‪ ،‬والتسظاقط على الشهوات‪ ،‬والتحلق فظي مجالس الملوك وأنديظة الغنياء والمراء‪ ،‬والمسظابقة فظي زخارف‬

‫اللباس والحلي والزي نة في حدت ها وشدت ها‪ ..‬كا نت الدن يا في ذلك الح ين تتأر جح ب ين الرهبان ية الق صوى والفجور‬

‫القصى‪ .‬وان المدن التي ظهر فيها اكثر الزهاد كانت اسبق المدن في الخلعة والفجور(‪.)]11[1‬‬

‫وهكذا عجز نظام الرهبنة‪ ،‬المنبثق من تصورات كنسية ومجمعية منحرفة عن اصل التصور النصراني‬

‫الربا ني‪ ،‬عن أن يكون ح تى نظاما أخلقيا للعالم الن صراني‪ .‬وخلف في النفوس جفوة للد ين‪-‬والد ين م نه براء!‪-‬‬

‫وترك فيها تحفزا للنتقاض عليه وعلى نظامه الذي ل تطيقه الفطرة‪ ..‬وكان عاملً نكدا من عوامل ذلك ( الفصام‬

‫النكد) في نهاية المطاف!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثم كانت الطامة يوم اكتشف الناس‪ ،‬الذين تأخذهم الكنيسة بهذا الحرمان القاسي‪ ،‬وتنذرهم باستحالة نفاذهم‬

‫إلى الجنة إذا هم زاولوا من طيبات الحياة شيئا!‪..‬‬

‫نقول‪ :‬كانت الطامة يوم اكتشف الناس ان حياة رجال الكنيسة الشخصية‪ ،‬ل تعج بالمتاع بالطيبات فحسب!‬

‫ول تسقط في الترف فحسب! وإنما هي تعج بالفواحش والمناكر في اشد صورها شذوذا وفحشا ونكرا!‬

‫يقول درابر في كتابه‪( :‬الدين والعلم)‪:‬‬

‫([‪ )]11‬عن كتاب‪ " :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫لم تكظن الرهبانيظة والنظام الدينظي السظلبي إل مصظادمة للفطرة‪ .‬فبقيظت مقهورة بعوامظل الديانظة الجديدة‬

‫وسظلطانها الروحظي‪ ،‬وسظاعدتها عوامظل أخرى‪ .‬ثظم قهرت الطبيعظة‪ ،‬وتسظرب الضعظف والنحراف إلى المراكظز‬

‫الدين ية‪ ،‬ح تى صارت تزا حم المرا كز الدنيو ية‪-‬ورب ما ت سبقها في ف ساد الخلق والدعارة والفجور‪ .‬لذلك وق فت‬

‫الحكو مة المآدب الدين ية‪ ،‬والولياء وذكريات هم‪ ،‬ال تي وجدت في ها الخل عة والفجور ح مى ومرتعا‪ ،‬وات هم الق سوس‬

‫بكبائر ومنكرات‪.‬‬

‫(ويقول الراهظب جروم (‪ : )jerume‬ان عيظش القسظوس ونعيمهظم كان يزري بترف المراء والغنياء‬

‫المترف ين‪ .‬و قد انح طت أخلق البابوات انحطاطا عظيما‪ ،‬وا ستحوذ علي هم الج شع و حب المال‪ ،‬وعدوا طور هم‪،‬‬

‫ح تى ان هم كانوا يبيعون المنا صب والوظائف كال سلع‪ ،‬و قد تباع بالمزاد العل ني‪ ،‬ويؤجرون ارض الج نة بالوثائق‬

‫والصظظكوك وتذاكظظر الغفران‪ ،‬ويأذنون بنقظظض القانون‪ ،‬ويمنحون شهادات النجاة‪ ،‬وأجازات حظظل المحرمات‬

‫والمحظورات‪ ،‬كأوراق النقظد وطوابظع البريظد‪ ،‬ويرتشون ويرابون‪ .‬وقظد بذروا المال تبذيرا‪ ،‬حتظى اضطظر البابظا‬

‫(إنوسنت الثامن) أن يرهن تاج البابوية! ويذكر عن البابا (ليو العاشر) انه انفق ما ترك البابا السابق من ثروة‬

‫واموال‪ ،‬وان فق ن صيبه ودخله‪ ،‬وا خذ إيراد خليف ته المتر قب سلفا وأنف قه! ويروى ان مجموع د خل فرن سا لم ي كن‬

‫يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم!) (‪.)]12[1‬‬

‫ومسألة صكوك الغفران التي يشير إليها درابر في الفقرة السابقة‪ ،‬كانت الكنيسة قد قررت أن تمنح لنفسها‬

‫الحق في إعطائها في أحد المجامع الكنسية الكثيرة‪ ،‬التي كانت تجتمع بين الحين والحين‪ .‬وتغير وتبدل وتحرف‬

‫وتنشئ وتضيف ما تشاؤه الهواء (المقدسة!) إلى العقيدة النصرانية!‬

‫(وقد جاء في كتاب‪ :‬تاريخ الكنيسة في بيان قرار المجمع الثاني عشر في هذا الشأن‪:‬‬

‫(أنهى المجمع تعليمه‪ ،‬فيما يتعلق بأمر الغفران‪ ،‬فقال‪ :‬ان يسوع المسيح لما كان قد قلد كنيسته سلطان منح‬

‫الغفرانات ‪ ،‬و قد ا ستعملت الكني سة هذا ال سلطان الذي نال ته من العلي م نذ اليام الولى‪ ،‬قد أعلم المج مع المقدس‬

‫وأمر‪ ،‬بان تحفظه للكنيسة‪ ،‬في الكنيسة‪ ،‬هذه العملية الخلصية للشعب المسيحي‪ ،‬والمثبتة بسلطان المجامع‪ ..‬ثم‬

‫ضرب بسيف الحرمان من يزعمون ان الغفرانات غير مفيده‪ ،‬او ينكرون على الكنيسة سلطان منحها‪ .‬غير انه قد‬

‫([‪ )]12‬عن كتاب‪ " :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " للستاذ أبي الحسن الندوي‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫ر غب في ان ي ستعمل هذا ال سلطان باعتدال واحتراز‪ ،‬ح سب العادة المحفو ظة قديما‪ ،‬والمثب تة في الكني سة‪ ،‬لئل‬

‫يمس التهذيب الكنسي تراخ بفرط التساهل)‪.‬‬

‫"…وهذا نص صك الغفران‪ ،‬الذي كان يباع بيع السلعة"‪:‬‬

‫(ربنا يسوع يرحمك (يا فلن)‪ ،‬ويحلك باستحقاقات المة الكلية القداسة‪ .‬وأنا بالسلطان الرسولي المعطى‬

‫لي‪ ،‬احلك من جميع القصاصات‪ ،‬والحكام والطائلت الكنسية التي استوجبتها وأيضا من جميع الفراط والخطايا‬

‫والذنوب ال تي ارتكبت ها‪-‬مهمظا كا نت عظي مة وفظي عة‪ -‬و من كل علة‪-‬وان كا نت محفو ظة لبي نا القدس البا با‬

‫والكر سي الر سولي‪ -‬وأم حو جم يع أقذار الذ نب‪ ،‬و كل علمات المل مة‪ ،‬ال تي رب ما جلبت ها على نف سك في هذه‬

‫الفرصة‪ .‬وارفع القصاصات التي كنت تلتزم بمكابدتها في المطهر؛ وأردك حديثا إلى الشركة في أسرار الكنيسة‪،‬‬

‫وأقر نك في شر كة القدي سين‪ .‬أردك ثان ية إلى الطهارة والبر اللذ ين كا نا لك ع ند معمودي تك‪ ،‬ح تى ا نه في ساعة‬

‫الموت يغلق أما مك الباب الذي يد خل م نه الخ طأ إلى م حل العذاب والعقاب‪ ،‬ويف تح الباب الذي يؤدي الى فردوس‬

‫الفرح‪ .‬وان لم تمت سنين مستطيلة‪ ،‬فهذه النعمة تبقى غير متغيرة‪ ،‬حتى تأتي ساعتك الخيرة‪ ..‬باسم الب والبن‬

‫والروح القدس‪.)]13[1( )..‬‬

‫فإذا أضف نا هذه إلى تلك‪ ..‬إذا أضف نا ع نت الكني سة في ا خذ الناس بالحرمان القا سي‪ ،‬با سم الد ين‪-‬والد ين‬

‫بر يء!‪ -‬إلى ترف رجال الكني سة وف ساد حيات هم‪ ..‬إلى مهزلة صكوك الغفران‪ ،‬أدرك نا طرفا من تلك الملب سات‬

‫النكدة‪ ،‬التي أدت في النهاية إلى (الفصام النكد) في تاريخ أوروبا المنكود!‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫غير أن المر لم يقف عند هذه الحدود‪ ..‬فقد دخلت الكنيسة في نزاع طويل وحاد مع الباطرة والملوك‪-‬ل‬

‫على الدين والخلق‪ -‬ولكن على السلطة والنفوذ‪.‬‬

‫وبدأ النزاع والمنافسظة بيظن البابويظة والمبراطوريظة فظي القرن الحادي عشظر‪ ،‬فاشتدت بعنظف‪ ،‬وحمظى‬

‫ل حتى أن هنري الرابع ممثل المبراطورية اضطر في سنة ‪1077‬م أن يتقدم‬


‫وطيسها‪ ،‬وانتصرت فيها البابوية أو ً‬

‫بخضوع نحو البلط البابوي في قلعة كانوسا‪ ..‬ولم يسمح له البابا بالدخول إل بعد أن يشفع له الرجال‪ ،‬فسمح له‬

‫([‪ )]13‬من كتاب‪ " :‬محاضرات في النصرانية " للستاذ الشيخ محمد أبو زهرة‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫بالمثول بين يديه‪ ،‬فدخل المبراطور حافيا‪ .‬لبسا الصوف‪ ،‬وتاب على يديه؛ فغفر له البابا زلته‪ ..‬وكانت الحرب‬

‫بين البابوية والمبراطورية بعد ذلك سجالً حتى ضعفت البابوية(‪.)]14[1‬‬

‫وقد حدث في سنة ‪-1245‬كما جاء في كتاب (سوسنة سليمان)‪-‬أن المجمع الثالث عشر انعقد في ليون من‬

‫أعمال فرنسا‪ ،‬بأمر البابا‪( .‬إنوسنت) الرابع‪ ،‬لجل عزل فردريك ملك فرنسا وحرمه‪ .‬ولكن كنيسة فرنسا لم تسلم‬

‫بصحته او بسلطانه! (‪.)]15[2‬‬

‫ول ما كا نت الكني سة‪-‬إلى جوار صراعها مع الباطرة والملوك على ال سلطة‪ -‬قد فر ضت لنف سها سلطانا‬

‫على الجماهير؛ واستغلته ابشع استغلل‪ ،‬في فرض التاوات المالية الباهظة التي تجبى إليها مباشرة؛ مما جعل‬

‫الناس يئنون تحظت هذا الرهاق‪ ،‬فقظد اسظتغل الحكام السظاخطون هذا الضغظط العام ليثيروا السظخط العام على‬

‫الكنيسة؛ واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة؛ وفي أولها فضح رجال الدين؛ وكشف أقذارهم وأدناسهم‪ ،‬وبيان خبايا‬

‫حياتهم الشخصية‪ ،‬التي يخفونها وراء وقار الزي الكهنوتي والمراسم الكنسية!!!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وكانت القاصمة التي تم بها ذلك (الفصام النكد) وانتهى بها المر في أوروبا بين الدين والحياة‪ ،‬وانقطع‬

‫بها نهائيا ما بين التصور العتقادي والنظام الجتماعي من سبب‪ ..‬بل كانت الجناية الكبرى التي جنتها الكنيسة‬

‫الغربيظة على نفسظها‪ ،‬وعلى الديظن النصظراني‪ ،‬ثظم على الديظن كله فظي الرض جميعا‪-‬إلى أن يأذن ال بتغييظر‬

‫الحوال‪ -‬هي ذاك‪:‬‬

‫لقظد احتجزت (الكنيسظة) لنفسظها حظق فهظم (الكتاب المقدس) وتفسظيره‪ ،‬وحظرت على أي عقظل مظن خارج‬

‫(الكهنوت) أن يحاول فهمه او تفسيره‪.‬‬

‫ثم اتبعت هذا بإدخال معميات في العقيدة ل سبيل لدراكها او تصورها او تصديقها‪ ..‬وقد ذكرنا مثلً من‬

‫هذه المعميات في النص الذي نقلناه عن (سيرت‪.‬م‪.‬أرنولد)عن حقيقة السيد المسيح وطبيعته‪..‬‬

‫ثم أدخلت مثل هذه المعميات في الشعائر التعبدية‪ ..‬والمثال الصارخ لها هو مسألة (العشاء الرباني) الذي‬

‫كان أحد الحالت التي ثار عليها مارتن لوثر وكالفن وزنجلي فيما سمي (بالصلح الديني)‪.‬‬

‫([‪ )]14‬عن كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫([‪ )]15‬عن كتاب محاضرات في النصرانية‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫وم سألة العشاء الربا ني م سألة م ستحدثة ما جاء ب ها (الكتاب المقدس) عند هم‪ ،‬و ما تعرض ل ها الن صارى‬

‫الولون‪ ،‬ول (المجامع المقدسة) الولى‪ ..‬وقصتها كما يلي‪:‬‬

‫إن النصارى يأكلون في الفصح خبزا‪ ،‬ويشربون خمرا‪ ،‬ويسمون ذلك (العشاء الرباني)‪.‬‬

‫وقد زعمت الكنيسة أن ذلك الخبز يستحيل إلى جسد المسيح وذلك الخمر يستحيل إلى دم المسيح المسفوك‪.‬‬

‫فمن أكلهما وقد استحال هذه الستحالة فقد ادخل المسيح في جسده‪ .‬بلحمه ودمه‪...‬‬

‫وقظد فرضظت الكنيسظة على الناس قبول هذا الزعظم ومنعتهظم مظن مناقشتظه‪ .‬وإل عرضوا أنفسظهم للطرد‬

‫والحرمان‪.‬‬

‫ثم لم تك تف الكني سة بتلك المعميات والخرافات في العقيدة و في الشعائر‪ -‬مع كف الناس عن الب حث عن‬

‫أصظولها فظي (الكتاب المقدس) ومحاولة فهمظه او تفسظيره‪ -‬بظل اتبعتهظا بأمثالهظا فظي الكون والحياة‪ .‬فادعظت آراء‬

‫ونظريات جغراف ية وتاريخ ية وطبيع ية م ما كان سائدا في ع صرها‪ ،‬مليئة بالخ طأ والخرا فة عن الكون والحياة‬

‫والنسان‪ .‬وجعلتها (مقدسة) ل تجوز مناقشتها ول تصحيحها ول تجربتها‪ ،‬ول القول بسواها‪.‬‬

‫وكانظت هذه هظي القاصظمة! لنهظا الباطظل الذي يسظهل على التجربظة بيان بطلنظه‪ ،‬وكشظف زيفظه! ولنهظا‬

‫المنطقة التي أطلق ال فيها العقل النساني ليرتادها‪ ،‬وهو مزود بكل المؤهلت التي تمكنه من كشفها وتحقيقها‪،‬‬

‫ولم يفرض عليه فيها نظرية معينة!‬

‫وفي هذا يقول السيد أبو الحسن الندوي ما يغنينا عن العادة‪ ،‬ويصور اثر هذه القاصمة في ذلك (الفصام‬

‫النكد) تصويرا مختصرا دقيقا في كتابه القيم " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ‪:‬‬

‫( ‪ ..‬ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا‪ ،‬ومن اكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الدين الذي‬

‫كانوا يمثلونه‪ ،‬انهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة‪ ،‬معلومات بشرية‪ ،‬ومسلمات عصرية‪ ،‬عن التاريخ والجغرافيا‬

‫والعلوم الطبيعية‪ ،‬ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر‪ ،‬وكانت حقائق راهنة ل يشك فيها‬

‫رجال ذلك العصر‪ ،‬ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم النساني‪.‬‬

‫( وإذا كان ذلك في ع صر من الع صور غا ية ما و صل إل يه علم الب شر فا نه ل يؤ من عل يه التحول‬

‫والتعارض‪ .‬فان العلم الن ساني متدرج مترق ف من ب نى عل يه دي نه ف قد ب نى ق صرا على كث يب مه يل من الر مل‪.‬‬
‫ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان اكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فان ذلك كان سببا للكفاح المشئوم بين‬

‫الد ين والع قل والعلم‪ ،‬الذي انهزم ف يه الد ين‪ ،‬ذلك الد ين المختلط بعلم الب شر‪ ،‬الذي ف يه ال حق والبا طل‪ ،‬والخالص‬

‫والزائف‪ ..‬هزيمظة منكرة‪ ،‬وسظقط رجال الديظن سظقوطا لم ينهضوا بعده‪ .‬وشظر مظن ذلك كله وأشأم‪ :‬أن أوروبظا‬

‫أصبحت ل دينية‪.‬‬

‫ولم يكتف رجال الدين بما ادخلوه في كتبهم المقدسة‪ ،‬بل درسوا كل ما تناقلته اللسن‪ ،‬واشتهر بين الناس‪،‬‬

‫وذكره بعظض شراح التوراة والنج يل ومفسظريها من معلومات جغراف ية وتاريخ ية وطبيع ية‪ .‬وصظبغوها صظبغة‬

‫دين ية‪ ،‬وعدو ها من تعال يم الد ين وأ صوله ال تي ي جب العتقاد ب ها‪ ،‬ون بذ كل ما يعارض ها‪ ،‬وألفوا في ذلك كتبا‬

‫وتآليظف‪ ،‬وسظموا هذه الجغرافيظا التظي مظا انزل ال بهظا مظن سظلطان‪( :‬الجغرافيظا المسظيحية) (‪Christian‬‬

‫‪ )Geography‬وعضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وكفروا كل من لم يدن بها‪.‬‬

‫وكان ذلك في ع صر انف جر ف يه بركان العقل ية في أورو با‪ ،‬وح طم علماء الطبي عة والعلوم سلسل التقل يد‬

‫الديني‪ .‬فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة‪ ،‬واعتذروا‬

‫عظن عدم اعتقادهظا واليمان بهظا بالغيظب؛ وأعلنوا اكتشافاتهظم واختباراتهظم‪ .‬فقامظت قيامظة الكنيسظة‪ ،‬وقام رجالهظا‬

‫المتصرفون في زمام المور في أوروبا وكفروهم‪ ،‬واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي‪ ،‬وأنشأوا‬

‫محا كم التفت يش‪ ،‬ال تي تعا قب‪-‬ك ما يقول البا با‪(-‬أولئك الملحد ين والزناد قة الذ ين هم منتشرون في المدن والبيوت‬

‫وال سراب والغابات والمغارات والحقول!)‪ ..‬فجدت واجتهدت و سهرت على عمل ها‪ ،‬واجتهدت أل تدع في العالم‬

‫الن صراني عرقا نابضا ضد الكني سة‪ ،‬وانب ثت عيون ها في طول البلد وعرض ها‪ ،‬وأح صت على الناس النفاس‪،‬‬

‫وناقشت عليها الخواطر‪ ،‬حتى يقول عالم نصراني‪ " :‬ل يمكن لرجل ان يكون مسيحيا ويموت حتف انفه" ( يقصد‬

‫الموت موتة طبيعية)‪.‬‬

‫( ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلثمئة ألف‪ .‬احرق منهم اثنان وثلثون ألف أحياء! كان‬

‫من هم العالم ال طبيعي المعروف (برو نو)‪ ،‬نق مت م نه الكني سة آراء من اشد ها قوله بتعدد العوالم‪ ،‬وحك مت عل يه‬

‫بالق تل‪ ،‬واقتر حت بان ل تراق قطرة من د مه! وكان ذلك يع ني أن يحرق حيا! وكذلك كان! وكذلك عو قب العالم‬

‫الطبيعي الشهير (جاليليو) بالقتل لنه كان يعتقد بدوران الرض حول الشمس!‪.‬‬
‫( هنالك ثار المجددون المتنورون‪ ،‬وعيظل صظبرهم‪ ،‬واصظبحوا حربا لرجال الديظن وممثلي الكنيسظة‪،‬‬

‫والمحافظ ين على القد يم‪ ،‬ومقتوا كل ما يت صل ب هم‪ ،‬ويعزى إلي هم‪ ،‬من عقيدة‪ ،‬وثقا فة‪ ،‬وعلم‪ ،‬وأخلق‪ ،‬وآداب‪،‬‬

‫وعادوا الد ين الم سيحي اولً‪ ،‬والد ين المطلق ثان ية‪ ،‬وا ستحالت الحرب ب ين زعماء الد ين الم سيحي‪-‬وبل فظ ا صح‬

‫الديانة البولسية‪ -‬حربا بين العلم والدين مطلقا! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان ل تتصالحان‪ ،‬وان العقل‬

‫والنظام الديني ضدان ل يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الخر‪ ،‬ومن آمن بالول كفر بالثاني‪ .‬وإذا ذكروا‬

‫الد ين ذكروا تلك الدماء الزك ية ال تي أري قت في سبيل العلم والتحق يق‪ ،‬وتلك النفوس البريئة ال تي ذه بت ضح ية‬

‫لق سوة الق ساوسة وو ساوسهم‪ ،‬وتم ثل لعين هم وجوه كال حة عاب سة وجباه مقط بة‪ ،‬وعيون تر مي بالشرر‪ ،‬و صدور‬

‫ضيقظة حرجظة‪ ،‬وعقول سظخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهظم؛ وآلوا على أنفسظهم كراهظة هؤلء‪ ،‬وكظل مظا يمثلونظه‪،‬‬

‫وتواصوا به‪ ،‬وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!‬

‫( ولم يكن عند هؤلء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير‪ ،‬ومن الوداعة والهدوء‪ ،‬ومن‬

‫العقل والجتهاد‪ ،‬ما يميزون به بين الدين‪ ،‬ورجاله المحتكرين لزعامته‪ ،‬ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من‬

‫عهدة وم سؤولية‪ .‬و ما ير جع إلى رجال الكني سة من جمود وا ستبداد و سوء تمث يل‪ ،‬فل ينبذوا الد ين ن بذ النواة‪..‬‬

‫ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين‪ ،‬والستعجال‪ ..‬لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه كغالب الثوار‪،‬‬

‫في أكثر العصار والمصار!!!‪).‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذه‪-‬باخت صار وإجمال شديد ين‪ -‬أ هم الملب سات النكدة لذلك (الف صام الن كد) الذي تعا ني أورو با‪-‬وتعا ني‬

‫معها البشرية كلها اليوم مع السف‪ -‬آثاره التعيسة‪ ،‬وتتجرع كأسه المريرة‪.‬‬

‫وهذا هو (الدين) الذي ثارت عليه أوروبا‪ ..‬ثم تابعها في الثورة الببغاوات والقرود في الرض كلها‪ ،‬دون‬

‫تفرقة بين دين ودين!‬

‫وهذا هو(الدين) الذي ثارت عليه أوروبا‪ ..‬الدين الذي شوهت معالمه منذ أول خطوة‪ .‬ثم زيفت خصائصه‬

‫الربانية‪ ،‬وتصوراته السماوية‪ ،‬وقيمه وأسسه‪ ..‬ذلك التزييف الشنيع!‬


‫هؤلء هم (رجال الدين) الذين قدموا هذه الجناية على أنفسهم وعلى الدين‪ ،‬وعلى البشرية المنكودة‪ ،‬بقيادة‬

‫الغرب الموتور من الدين المزيف‪ ،‬ومن رجال الدين المزيفين!‬

‫وهي كلها‪-‬ول الحمد‪ -‬ملبسات (أوروبية) بحتة‪ ،‬وليست إنسانية عالمية‪-‬ومتعلقة بنوع معين من (الدين)‬

‫ل بحقي قة الد ين‪ .‬وخا صة بحق بة من التار يخ خا صة‪ ،‬تملك البشر ية أن تتخلص من آثار ها التعي سة‪ ،‬ح ين تف تح‬

‫أعينها على الحقيقة من وراء دخان المعركة التاريخية!‬

‫ولكن هذا الخلص لن يجيء أبدا عن طريق العقلية الغربية‪ ،‬ولن ينبثق أبدا من هذه العقلية المكبلة بأغلل‬

‫ذلك التاريخ المرير‪ ،‬وبالرواسب التي خلفتها تلك المعركة التعيسة‪ ،‬وبالموجات التي أطلقتها في الفكر والضمير‪،‬‬

‫وفي الدب والفن‪ ،‬وفي السياسة والقتصاد‪ ،‬وفي كل أوضاع الحياة التي قامت على ذلك (الفصام النكد) بعد ما‬

‫تعمقت جذوره في تربة الغرب المنكود!‬


‫انتهى دور الرجل البيض‬
‫يقول الفيلسوف النجليزي المعاصر( برتراند رسل)‪:‬‬

‫ل قد انت هى الع صر الذي ي سود ف يه الر جل الب يض‪ .‬وبقاء تلك ال سيادة إلى ال بد ل يس قانونا من قوان ين‬

‫الطبي عة‪ .‬واعت قد أن الر جل الب يض لن يل قى أياما رض ية كتلك ال تي لقي ها خلل أرب عة قرون‪ ..‬إن الرو سي هو‬

‫الرجل البيض الوحيد الذي تسنح له الفرصة لنشر نفوذه في آسيا‪ .‬والشعوب السيوية تمقت الستعمار‪ ،‬وهم ل‬

‫يعتقدون أن (للكريمل ين) غايات ا ستعمارية‪ ..‬لن هم لم يجربوه‪ ..‬بين ما رزحوا أجيالً طويلة ت حت سلطان الر جل‬

‫الغر بي‪ ،‬وا صبحوا يكرهون تلك التجر بة‪ .‬ولهذا لست اعت قد أن للدولة الغرب ية فر صة في آسيا‪ .‬ولك ني اعت قد أن‬

‫الهند قد تعيش في توافق مع العالم الغربي‪ .‬أما العالم العربي‪-‬وكذلك مصر والباكستان‪ -‬فستنحاز إلى المعسكر‬

‫الشيوعي!‪.‬‬

‫أطلق (برترا ند ر سل) نبوء ته هذه عام ‪ .1950‬ورب ما يبدو أن الوقائع ال تي تلت ذلك‪-‬وبخا صة سقوط‬

‫الصظين فظي قبضظة الشيوعيظة‪ -‬تصظدق أسظاس هذه النبوءة‪ ..‬ولكننظا نلحظظ أنهظا نظرة قريبظة الجذور سظطحية‬

‫المقدمات‪ ،‬مادية السباب‪ -‬وهو ما ل نستغربه من مفكر غربي أيا كانت قيمة تحرره العقلي الذي اشتهر عنه‪..‬‬

‫فهو أسير عقلية وبيئة ووراثات وحضارة معينة‪ ،‬ل تسمح له بأن يفكر وراءها؛ ول ان يخرج من إسارها‪ ،‬ليرى‬

‫المر كله جملة‪ ،‬ومن زاوية أخرى جديدة!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن المسألة اعمق من هذا بكثير‪..‬‬

‫ل قد انت هى الع صر الذي ي سود ف يه الر جل الب يض‪ ،‬لن حضارة الر جل الب يض قد ا ستنفدت أغراض ها‬

‫المحدودة القري بة‪ ،‬ولم ي عد لدي ها ما تعط يه للبشر ية من ت صورات ومفاه يم ومبادئ وق يم‪ ،‬ت صلح لقيادة البشر ية‪،‬‬

‫وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين‪ ..‬النمو والترقي للعنصر النساني‪ ،‬وللقيم النسانية‪ ،‬وللحياة (النسانية)‪..‬‬

‫لقظد أصظيبت بالع قم‪-‬او كادت‪ -‬ب عد مظا ولد ته فظي (الماجنظا كارتظا) النجليزيظة‪ .‬ومبادئ الثورة الفرنسظية‪.‬‬

‫ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة المريكية)‪.‬‬


‫وكلهظا كانظت قيما محدودة تروج فظي فترة خاصظة ‪ .‬وتواجظه حالت محدودة وأوضاعا خاصظة‪ .‬ولم تكظن‬

‫رصيدا لبني النسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!‬

‫وكلها كانت مبتوتة عن الصل الكبير الذي ل تقوم النظمة الجتماعية‪ ،‬ول تعيش المبادئ والقيم‪ ،‬إل إذا‬

‫انبث قت م نه‪ ،‬وقا مت عل يه‪ .‬ال صل العتقادي المرت بط بال‪ ،‬والتفسير الكلي للوجود‪ ،‬ومر كز النسان ف يه‪ ،‬وغا ية‬

‫وجوده النساني‪ ..‬ومن ثم كانت قيما محدودة موقوتة لنها في الصل قيم مبتوتة!‪( ..‬نبات شيطاني) ل جذور له‬

‫في أعماق الفطرة البشرية‪ ،‬لنه ليس آتيا من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية‪.‬‬

‫ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر‪ ،‬فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة‬

‫الحياة‪ ،‬ولفطرة النسان؛ ولم تراع في السس التي قامت عليها‪ ،‬ول في الوسائل التي اتخذتها‪ ،‬ول في الطريق‬

‫ال تي سارت ف يه‪ ..‬لم تراع في هذا كله احتياجات (الن سان) الحقيق ية‪ ،‬المنبث قة من طبي عة تكوي نه‪ ،‬وا صل خلق ته‬

‫وحقيقة فطرته وأهملت إهمالً شنيعا أهم مقوماته‪-‬التي بها صار النسان إنسانا‪ -‬ولم تهملها فحسب‪ ،‬بل طاردتها‬

‫في جفوة وعنف‪..‬‬

‫وكان ذلك كله ب سبب تلك الملب سات النكدة‪ ،‬ال تي أثمرت ذلك (الف صام الن كد)‪ .‬فقا مت تلك الحضارة‪ -‬من‬

‫ثم‪ -‬على أ سس معاد ية للد ين‪ ..‬أ سس فكر ية وشعور ية وواقع ية‪ ..‬و سارت كذلك‪ -‬من ثم‪ -‬في طر يق معارض‬

‫للحقيقة النسانية‪ ،‬وللحاجات الحقيقية لبني النسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة النسانية وتميزها‪.‬‬

‫ومن ثم اخذ (النسان) يشقى شقا ًء مريرا بالحضارة‪ ،‬التي قامت أصلً‪-‬او المفروض أنها قامت أصلً‪-‬‬

‫لخدمته وترقيته وإسعاده‪ ..‬وحين تتناقض(الحضارة) مع (النسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة‪-‬تطول او تقصر‪-‬‬

‫من صراع النسان مع الحضارة‪ ،‬ومن اللم والتضحيات‪ ،‬والخسائر والمرارات‪ ،‬ان ينتصر الن سان‪ ،‬لنه هو‬

‫الصل‪ .‬ولن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وعند ما يكون هذا هو مقياس البقاء‪ ،‬فإن الرو سي ي قف مع النجليزي والمري كي والفرن سي وال سويسري‬

‫والسويدي‪ ..‬وسائر البيض‪ ..‬على قدم سواء!‬


‫ل بظل إن الروسظي ليبدو متخلفا بنظامظه المتعسظف‪ ،‬الذي ل يملك البقاء بغيظر الوسظائل البوليسظية البشعظة‪،‬‬

‫وبغ ير(حمامات الدم) و( حركات التطه ير) الدور ية‪ ،‬ومع سكرات العتقال‪ ،‬ومع سكرات الموت‪ ...‬لشدة م صادمته‬

‫للفطرة النسانية في الكليات والجزئيات!‬

‫إن المارك سية‪ -‬من الوج هة النظر ية‪ -‬تقوم على جهالة عمي قة بالن فس البشر ية وطبيعت ها وتاريخ ها‪ -‬فضلً‬

‫على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية‪ ،‬وتفسير الكون والحياة‪ -‬فهي إذ تصور جميع الدوافع النسانية قائمة على‬

‫جوعة المعدة والصراع على لقمة الخبز‪ ،‬وتصور جميع الحركات التاريخية منبثقة من تغير أدوات النتاج‪ ..‬تلغي‬

‫أهم مقومات النسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ البهيمة! وتلغي أهم وظائف النسان‪ .‬وهي أن يكون العامل‬

‫اليجا بي الول في هذه الرض و في أطوار التار يخ‪ ..‬ثم هي‪-‬فجأة‪ -‬تت صور الم ستقبل خلوا من كل وراثات‬

‫البشرية؛ وتفترض أن الناس سيتحولون ملئكة خيرين‪ ،‬ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه‪ ،‬ول يأخذ إل قدر ما‬

‫يكفيه‪ ..‬وكل هذا بدون رقابة‪ ،‬وبدون حكومة‪ ،‬وبدون عقيدة سماوية تطمعه في جنة او تخيفه من نار‪ .‬وبدون أي‬

‫سظبب معقول‪ ..‬اللهظم إل ذلك النقلب الخرافظي العجيظب‪ ،‬الذي يتظم فظي طبائع البشظر‪ ،‬بمجرد تحطيظم العناصظر‬

‫البرجوازية‪ ،‬وتسليم المر للبروليتريا‪.‬‬

‫وإذا كان هذا الت صور (العل مي) عن الم ستقبل يبدو (خرا فة) فان ذلك الت صور عن التار يخ ل ي قل ع نه‬

‫إمعانا في الجهالة (العلمية) بحقيقة النفس البشرية‪ ،‬وطبيعتها‪ ،‬وتاريخها على السواء‪.‬‬

‫حين يكون هذا الجهل العميق‪ ،‬وهذه الخرافة الطاغية‪ ،‬هما أساس التصور الماركسي‪ ،‬فإننا ل ننتظر أبدا‬

‫أن يقوم على أ ساسه وا قع عملي في الحياة ال تي يزاول ها الب شر‪ ،‬إل أن يكون ف يه من العت ساف قدر ما في هذا‬

‫التصور من رغبة جامحة في مجانية حقائق الفطرة‪ ،‬التي تصطدم اصطداما عنيفا بذلك التصور‪.‬‬

‫و من ثم اضطرت المارك سية‪-‬ع ند الت طبيق العملي‪ -‬ان تتخلى عن أ هم مقد ساتها المارك سية! وعللت هذا‬

‫التخلي الذي يكاد يكون كاملً‪ ،‬بان الماركسية مذهب متطور‪ ،‬على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات)‬

‫احتشاد النظرية الماركسية!‬

‫ل قد تحط مت النظر ية (العلم ية) المارك سية ت حت مطارق الفطرة في مع ظم أجزائ ها الرئي سية‪ .‬ولم ي بق إل‬

‫(الدولة) وإل النظمة الديكتاتورية البوليسية‪ ،‬التي تعرفها روسيا جيدا في أيام القيصرية!‬
‫وو فق النظر ية (المحط مة) فان (الدولة) كان ينب غي أن تكون الن‪-‬وب عد حوالي ن صف قرن‪ -‬في طريق ها‬

‫إلى الذبول والزوال‪ ..‬ولكن الذي يعلمه كل أحد أن الدولة هناك‪ ،‬تتضخم يوما بعد يوم‪ ،‬وتبتلع كل شيء – بما في‬

‫ذلك الشعب نفسه!‬

‫ولعله مظن المفارقات الطريفظة أن الماركسظية التظي تفترض إمكان قيام المجتمظع بدون حكومظة فظي نهايظة‬

‫المطاف‪ ،‬هي ال تي تنت هي في ها الحكو مة إلى أن ت صبح هي الش يء الوح يد الذي له وجود! ح يث ل وجود (للفرد)‬

‫ول وجود (للشعب) ول وجود (لفطرة النسان) في ظل ذلك النظام!‬

‫إن المارك سية‪-‬كمذ هب‪ -‬ل تز يد على أن تكون جهالة (علم ية) منقط عة النظ ير‪ .‬أما النظام البولي سي الذي‬

‫قام باسمها ‪ ،‬فهو نظام تعرفه روسيا من قبل أيام القيصرية‪ .‬وهو نظام يمكن أن تطيقه الشعوب المتخلفة‪-‬بعض‬

‫الوقت‪ -‬ولكن الدميين الذين يستشعرون وجودهم (النساني) ل يصبرون عليه طويلً‪ ..‬وحتى هذه الشعوب التي‬

‫ترزح ت حت وطأ ته فان فطرت ها تقاو مه مقاو مة عني فة‪-‬على الر غم من طول خضوع ها قبله للقي صرية الطاغ ية‪-‬‬

‫وهو ل يعيش إل في ظل الرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحزب الشيوعي) القليل العدد‪ ،‬على مرافق‬

‫البلد؛ وعلى الر غم من احتكار كل موارد الرتزاق والمعاش في يد الدولة‪ ،‬ال مر الذي يذل ل ها الرقاب! وعلى‬

‫الرغم من بلشفة الصغار عن طريق المنظمات الخاصة للطفال وللشباب‪ .‬وعلى الرغم من سيطرة الدولة على‬

‫كل أجهزة التوجيه والعلم‪ .‬وعلى الرغم من أن المدرسين جميعا يتبعون(اليديولوجية الشيوعية)‪ .‬وعلى الرغم‬

‫مظن حركات التطهيظر لكظل مظن يشظك فظي عدم ولئه للنظام الشيوعظي‪ ..‬فلبظد ان يكون هذا النظام مظن الكراهيظة‬

‫والصظطدام بالفطرة إلى الحظد الذي ل تجدي كظل هذه العوامظل السظاحقة فظي جعله آمنا على نفسظه مظن انتقاض‬

‫الجماهير‪-‬او بتعبير آخر من انتقاض الفطرة‪ ،‬التي يستحيل أن تصبر طويلً على مثل هذا النظام المتعسف‪ -‬وآية‬

‫الفشل لي نظام ل يقوم إل في حراسة الرهاب‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫من ثم تبدد نبوءة (برترا ند ر سل) قري بة الجذور سطحية المقدمات ماد ية ال سباب‪ .‬ل تخرج عن نطاق‬

‫التفكير المادي المحدود‪ .‬سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!‬


‫إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير‪ .‬أنها قضية الحضارة المنبتة عن ال‪ ،‬وعن منهجه للحياة‪ .‬قضية‬

‫النظمة الجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية‪ ،‬التي لم تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم‬

‫ت عط الن سان التفسير الوا حد ال صحيح لحقي قة هذا الوجود وعلق ته بخال قه؛ ولحقي قة هذا الن سان ومركزه في هذا‬

‫الوجود؛ ولغاية وجوده النساني ووسائل بلوغها المشروعة‪.‬‬

‫إ نه (الف صام الن كد) الذي ت ستوي في القيام على أ ساسه كل النظ مة ال سائدة في عالم (الر جل الب يض)؛‬

‫والذي ي ستوي ف يه الرو سي والمري كي‪ ،‬والنجليزي والفرن سي‪ ،‬وال سويسري وال سويدي‪ ..‬و سائر من يتبع هم في‬

‫الشرق وفي الغرب سواء‪.‬‬

‫انه ليس هنالك فارق حقيقي‪-‬من ناحية الصل الوضعي لهذه النظمة كلها!‪ -‬ول عبرة بان تكون الكنائس‬

‫مثلً مفتوحة البواب في أمريكا الرأسمالية؛ او مغلقة البواب في روسيا الشيوعية؛ او مهملة ل لها ول عليها‪-‬‬

‫مع ضمان حرية اللحاد‪ -‬في السويد الشتراكية!‬

‫ل عبرة بهذه الفوارق الشكل ية ما دام أن الن ظم الجتماع ية‪ ،‬والمذا هب الفكر ية في هذه البلد كل ها لي ست‬

‫منبثقة انبثاقا من التصور العتقادي اللهي‪ ،‬الذي يكفل‪-‬وحده‪ -‬التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وعلقته بخالقه؛‬

‫ولحقيقة النسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده النساني‪ ..‬هذه العناصر الساسية التي تنبثق منها أسس‬

‫النظام الجتما عي‪ ،‬ك ما تنب ثق من ها منا هج الف كر ال صحيحة‪ ،‬المو صولة بفطرة الن سان الحقيق ية‪ ،‬الملب ية لحاجات‬

‫النسان الحقيقية كذلك‪.‬‬

‫هذه هي القضية في جذورها العميقة الشاملة‪ .‬ل كما يتصورها‪-‬داخل القضبان الفكرية!‪( -‬براتراند رسل)‬

‫شأ نه في التفك ير من دا خل القضبان شأن كل مفكري الغرب‪ ،‬أ سارى بيئت هم وحضارت هم وتاريخ هم التع يس مع‬

‫كنيستهم الغاشمة‪ ،‬وفصامهم النكد الذي طبع حياتهم كلها خلل خمسة قرون مريرة!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ثم ماذا؟‬
‫ثم ا نه الخواء ين خر في روح الحضارة الغرب ية‪ ،‬بمذاهب ها جميعا‪ .‬وبأنظمت ها جميعا‪ ..‬الخواء الذي تخت نق‬

‫فيه روح (النسان)‪ ،‬وتنهدر فيه قيمة (النسان)‪ ،‬وتنحدر فيه خصائص (النسان)‪ ..‬بينما تتكدس (الشياء) وتعلو‬

‫قيمتها‪ ،‬وتطغى على كل قيمة للنسان!‬

‫انظه الخواء الذي يهدد الحياة النسظانية ورقيهظا بالتوقظف‪ .‬بظل يهددهظا بالنكسظة والنحدار‪-‬على الرغظم مظن‬

‫ضخامة النتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي‪ -‬ذلك أن (النسان) ذاته لم تراع فطرته‪ ،‬ول احتياجاته‬

‫الحقيقية عند إقامة النظام الحضاري الذي ساد!‬

‫إن بريق الحضارة المادية ل يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل‬

‫هذه الحضارة‪ .‬وان الصظواريخ المطلقظة‪ ،‬والقمار الصظاعدة‪ ،‬ل يجوز ان تلهينظا عظن الدرك الذي ينحدر إليظه‬

‫(النسان) ومقومات (النسان)!‬

‫إن الن سان هو اكرم ما في هذه الرض‪ .‬ا نه هو الكائن ال ساسي في ها‪ ،‬والم ستخلف في مقدرات ها‪ .‬و كل‬

‫ش يء في ها في خدم ته‪-‬أو ينب غي أن يكون كذلك‪-‬و(إن سانيته) هي المقوم العلى الذي يقاس به مدى صعوده او‬

‫هبوطه‪ .‬وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملءمة لطبيعته أو مصادمة‪..‬‬

‫فإذا رأينا (النسان) ينحدر في صفاته (النسانية) وفي تصوره للقيم النسانية‪..‬‬

‫ل من توابعها‪..‬‬
‫إذا رأيناه وقودا لللة‪ ،‬او عبدا لها‪ ،‬او تابعا ذلي ً‬

‫إذا رأيناه‪ -‬تبعا لهذا‪ -‬ينحط في تصوره وذكائه وأخلقه‪..‬‬

‫إذا رأيناه يهبط في علقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة‪..‬‬

‫إذا رأينا وظائفه الساسية تعطل وتذوي وتتراجع‪.‬‬

‫إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير‪ ،‬ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة‬

‫والمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة‪..‬‬

‫إذا رأيناه هاربا من نف سه و من المخاوف والقل قل ال تي تل فه ب ها الحضارة الماد ية ‪ ،‬والنظ مة الجتماع ية‬

‫والسياسية والخلقية والفكرية‪.‬‬


‫إذا رأيناه هائمظا على وجهظه يقتظل سظآمته وملله ‪ ،‬بمظا يقتظل بظه روحظه وجسظمه وأعصظابه‪ ،‬مظن المكيفات‬

‫والخمور‪ ،‬او مظا يشبظه المكيفات والخمور مظن الفكار السظود‪ ،‬ومذاهظب اليأس الكابظي والقنوط الملبظس والضياع‬

‫الليم‪ ..‬كما في (الوجودية) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة‪..‬‬

‫إذا رأيناه يئد نسله‪ ،‬او يبيع اولده‪ ،‬ليشتري بهم ثلجات وغسالت كهربائية‪-‬كما جاءتنا النباء عن أوروبا‬

‫الضائعة‪..‬‬

‫إذا رأيناه في م ثل هذه الحال النكدة‪ ..‬فان جم يع ما ي صل إل يه (العلم) في معزل عن (روح الن سان) من‬

‫تيسيرات للحياة المادية‪ ،‬ومن رفاهيات حضارية‪ ..‬ل يغير شيئا من حقيقة النحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن‬

‫حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها‪ ..‬ثم‪ ..‬من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها‪..‬‬

‫ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل‪ ،‬بريء‪-‬في أساسه‪ -‬من العيوب الساسية التي أفسدت حياة‬

‫الب شر؛ وضي عت علي هم ثمار العلم والمعر فة والتقدم الحضاري‪ ..‬نظام ي سمح للن سانية بان تح قق غا ية وجود ها‬

‫النسظاني‪-‬كمظا أرادهظا خالقهظا العظيظم‪ -‬وان تسظتخدم (العقظل) و(العلم) و(التجربظة) اسظتخداما آخظر‪ ،‬يتناسظق مظع‬

‫احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الصيلة‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لقظد انتهظى دور الرجظل البيظض‪ ..‬انتهظى دوره سظواء أكان روسظيا أم أمريكيا‪ ،‬إنجليزيا أم فرنسظويا‪ ،‬ام‬

‫سويسريا أم سويديا‪ ..‬انتهى لن ذلك (الفصام النكد) في التاريخ الوروبي‪ ،‬وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم‬

‫والوضاع التي تقوم في الغرب‪ ..‬قد حدد بدوره نهاية دور الرجل البيض!‬

‫إنه لبد من قاعدة من التصور العتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والوضاع التي تقوم عليها حياة‬

‫(النسان)‪..‬‬

‫ل بد من تف سير صحيح للوجود‪ ،‬ولمر كز الن سان ف يه‪ ،‬ولغا ية وجوده الن ساني‪ ..‬وهذا التف سير ال صحيح‪،‬‬

‫وذلك التصظور المطابظق للحقيقظة‪-‬كمظا هظي فظي الواقظع لكمظا يراهظا الناس مظن خلل عدسظات عقولهظم القاصظرة‬

‫وشهواتهم وأهوائهم وانفعالتهم المتغيرة‪ -‬ضرورة من ضرورات (الحياة النسانية)‪..‬‬


‫وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الب يض‪ .‬بل حاربته حربا شعواء‪ ،‬يستوي في هذا جميع النظمة السائدة‬

‫في الغرب وفي الشرق جميعا‪.‬‬

‫والن سان هو الن سان م نذ ن شأ‪ .‬ا نه في حا جة إلى (عقيدة) تع مر قل به؛ وتنب ثق من ها ت صوراته؛ وتقدم له‬

‫التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلقته هو والكون بالخالق العلى‪(..‬عقيدة) ترسم له أهدافا اكبر من‬

‫ذاته‪ ،‬واعم من جيله‪ ،‬وابعد من حاضره‪ ،‬وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية‪ ،‬لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها‬

‫ويخشا ها؛ ويت قي غضب ها ويطلب رضا ها؛ وينت ظر عون ها على الخ ير؛ وي ستحي من مواجهت ها بال شر؛ وير جو‬

‫جزاءها العادل الكامل‪ ،‬الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛‬

‫ويتلقى عنها نظام حياته‪ ،‬ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء‪ ..‬فتستقيم حياته كلها‬

‫حزمة واحدة‪ ،‬ل فصام فيها ول صدام‪..‬‬

‫ولقد يشغل النسان بعض الوقت بجوعة الجسد‪ ،‬وما يتعلق بها من النتاج بشتى وسائله وصنوفه‪ ،‬ومن‬

‫المتاع الحسظي بشتظى ألوانظه ومذاقاتظه‪ ..‬ولكظن هذه الجوعظة وكظل مظا يتعلق بهظا ل تسظتغرق الكينونظة النسظانية‪.‬‬

‫وإشباع ها ل ي سد سائر الجوعات (الن سانية)‪ .‬و ما أن تهدأ هذه الجو عة ح تى تتحرك في الكائن الن ساني جو عة‬

‫أخرى‪ .‬جو عة ل ي سدها الطعام‪ ،‬ول يروي ها الشراب‪ ،‬ول يكفي ها الك ساء‪ ،‬ول ت سكنها كل ضروب المتاع‪ ..‬إن ها‬

‫جوعة من نوع آخر‪ .‬جوعة إلى اليمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛ ومجال اكبر من الحياة‬

‫الدن يا‪ ..‬وجو عة إلى الوئام ب ين ضم ير الن سان وواق عه‪ ،‬ب ين الشري عة ال تي تح كم ضميره والشري عة ال تي تح كم‬

‫حياته‪ .‬بين منهج حركته الذاتية ومنهج الحركة الكونية من حوله‪ .‬جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه‬

‫وشريعة مجتمعه على السواء‪..‬‬

‫و كل نظام للحياة ل يح قق ال سعادة للكائن البشري إل إذا تض من كفا ية هذه الجوعات المتعددة في كينون ته‬

‫الواحدة‪ ..‬وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل البيض!‬

‫ولهذا السبب‪-‬من وراء كل سبب‪ -‬انتهى دور الرجل البيض‪..‬‬


‫صَيْحَتتتاتُ الخَطتتتتر‬
‫والن تتعالى ال صيحات من ه نا و من هناك ؛ منذرة ب سوء م صير البشر ية في ظل هذه الحضارة الماد ية‬

‫الخاوية من اليمان خواءها من الروح النساني‪-‬حضارة الرجل البيض‪ -‬وتتنوع هذه الصرخات‪ ..‬فتارة تكون‬

‫نذيرا بانحدار البشريظة كلهظا إلى الهاويظة‪ .‬وتارة تكون نذيرا بانحدارهظا إلى الماركسظية! وتتنوع كذلك القتراحات‬

‫لدرء هذا الخطر او ذاك‪..‬‬

‫ولكنها كلها تحاول عبثا‪.‬لنها ل تعالج المشكلة من الساس‪ .‬ول ترجع إلى جذور المشكلة العميقة البعيدة‬

‫في التربة الوروبية!‬

‫ومظن خلل تلك الصظيحات‪ ،‬ومظن خلل هذه القتراحات كذلك يتظبين لنظا نحظن مدى قصظر النظظر‪ ،‬ومدى‬

‫العمى النوعي عن الرؤية! في العقلية الغربية!‬

‫وإننا نكاد نبصر بهؤلء الحيارى سجناء في قفص من (العلم)! يشد أقدامهم بالغلل؛ فإذا أرادوا الوثوب‪،‬‬

‫كان أقصى وثوبهم قفزة في داخل القفص! او سجناء في قفص من (الواقع) يعجزهم عن الستشراف لما وراءه!‬

‫وهظي ظاهرة تلقظي علينظا‪-‬نحظن أصظحاب المنهظج السظلمي‪ -‬تبعظة خطيرة‪ ..‬إن النقاذ الحقيقظي للبشريظة‬

‫المهددة في كينونتها النسانية‪ ،‬ل يجيء إل عن طرق تحطيم هذا القفص‪ ،‬والخروج منه‪ ،‬ورؤية الوضع كله من‬

‫زاو ية م ستقلة تماما‪ :‬وتقد يم ت صور كلي شا مل للمشكلة‪ ،‬واقتراح حلول مبتكرة ‪ ،‬تنب ثق من هذا الت صور الشا مل‬

‫الجديد‪.‬‬

‫ول نريظد أن نسظبق السظياق‪ ..‬فلنبدأ بإثبات نموذجيظن مظن نماذج تلك الصظيحات المنذرة بالخطظر؛ وتلك‬

‫القتراحات المقدمة من زاوية النظر القصير‪ ،‬او العمى النوعي!‬

‫أحد هذين النموذجين لعالم كبير من علماء هذا القرن هو دكتور ألكسيس كاريل‪ .‬والخر لسياسي خطير‬

‫من ساسة هذا الجيل هو مستر دالس وزير الخارجية المريكية‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫كتظب دكتور ألكسظيس كاريظل كتابا تقظع ترجمتظه العربيظة فظي سظت وسظبعين وثلثمئة صظفحة مظن القطظع‬

‫ضمنه شهادة ضد الحضارة المادية القائمة‪ ،‬لقتلها أهم خصائص‬ ‫(‪)]16[1‬‬


‫المتوسط‪ ،‬بعنوان‪( :‬النسان ذلك المجهول)‬

‫النسان؛ وأطلق فيه صيحة مدوية بالخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء العتداء على القوانين الطبيعية‪،‬‬

‫التي ل تدع المعتدين عليها بل عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة النسان‪ .‬بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!‬

‫ونحن هنا نقتطف نتفا من هذه الشهادة؛ ومن صيحة الخطر المدوية فيها؛ ومن اقتراحاته كذلك لتلفي هذا‬

‫الخطر الداهم‪:‬‬

‫(إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق‬

‫بالكائنات الح ية في ع صرنا‪ .‬ف قد بدأ نا ندرك مدى ما في حضارت نا من ض عف‪ ..‬وكثيرون يرغبون في أن يلقوا‬

‫عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث‪ .‬ولهؤلء أكتب هذا الكتاب‪ ..‬كذلك كتبت لولئك الذين يجدون‬

‫مظن أنفسظهم شجاعظة كافيظة ليدركوا‪-‬ليظس فقظط ضرورة إحداث تغييرات عقليظة وسظياسية واجتماعيظة‪ -‬بظل أيضا‬

‫ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري… ) (ص ‪ 12-11‬مقدمة الكتاب)‬

‫(إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب‪ ،‬لنها ل تلئمنا‪ ،‬فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا‬

‫الحقيقيظة‪ ،‬إذ أنهظا تولدت مظن خيالت الكتشافات العلميظة‪ ،‬وشهوات الناس‪ ،‬وأوهامهظم‪ ،‬ونظرياتهظم ورغباتهظم ‪.‬‬

‫وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إل أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا‪( )...‬ص‪)38‬‬

‫(لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال‪ ،‬إهمالً تاما عند تنظيم الحياة الصناعية‪.‬‬

‫إذ أن الصظناعة العصظرية تن هض على مبدأ‪ " :‬ال حد القصظى من النتاج بأقظل التكاليظف " حتظى يسظتطيع فرد او‬

‫مجموعة من الفراد أن يحصلوا على اكبر مبلغ مستطاع من المال‪ .‬وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة‬

‫البشظر الذيظن يديرون اللت‪ ،‬ودون أي اعتبار للتأثيرات التظي تحدثهظا طريقظة الحياة الصظناعية التظي يفرضهظا‬

‫المصنع على الفراد‪ ،‬وأحفادهم‪( )...‬ص‪)40‬‬

‫(يجب أن يكون النسان مقياسا لكل شيء‪ .‬ولكن الواقع هو عكس ذلك‪ .‬فهو غريب في العالم الذي ابتدعه!‬

‫انه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه‪ ،‬لنه ل يملك معرفة عملية بطبيعته‪ ...‬ومن ثم فان التقدم الهائل الذي أحرزته‬

‫([‪ )]16‬ترجمة شفيق أسعد فريد‪ ،‬نشر مكتبة المعارف بيروت‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫علوم الجماد على علوم الحياة هظو إحدى الكوارث التظي عانظت منهظا النسظانية‪ ...‬فالبيئة التظي ولدتهظا عقولنظا‬

‫واختراعات نا غ ير صالحة ل بالن سبة لقوام نا ول بالن سبة لهيئت نا ‪ ...‬إن نا قوم تع ساء‪ ،‬نن حط أخلقيا وعقليا‪ ...‬إن‬

‫الجماعات وال مم ال تي بل غت في ها الحضارة ال صناعية اع ظم ن مو وتقدم هي على و جه الد قة‪ ،‬الجماعات وال مم‬

‫الخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها‪ .‬ولكنها ل تدرك‬

‫ذلك‪ ،‬إذ ل يس هناك ما يحمي ها من الظروف العدائ ية ال تي شيد ها العلم حول ها… وحقي قة ال مر أن مدنيت نا م ثل‬

‫ل معينة للحياة من شأنها ان تجعل الحياة نفسها مستحيلة‪.‬وذلك لسباب ل تزال‬


‫المدنيات التي سبقتها‪ ،‬أوجدت أحوا ً‬

‫غامضظة… إن القلق والهموم التظي يعانظي منهظا سظكان المدن العصظرية تتولد عظن نظمهظم السظياسية والقتصظادية‬

‫والجتماعية…) (ص‪)44‬‬

‫(إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الختراعات الميكانيكية‪ .‬وقد يكون من الجدى أن ل نضفي مثل‬

‫هذا القدر الكبير من الهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء‪ .‬فحقيقة المر أن العلم الخالص ل يجلب لنا‬

‫مطلقا ضررا مباشرا‪ .‬ول كن حين ما ي سيطر جماله الطا غي على عقول نا‪ ،‬وي ستعبد أفكار نا في ممل كة الجماد‪ ،‬فا نه‬

‫ي صبح خطرا‪ .‬و من ثم ي جب أن يحول الن سان اهتما مه إلى نف سه والى ال سبب في عجزه الخل قي والعقلي‪ .‬إذ ما‬

‫جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الستعانة بها‬

‫فيما يعود علينا بالنفع؟ حقا انه لمما ل يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالنحطاط‬

‫الخلقي‪ ،‬وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الجناس الطيبة) (ص‪)60‬‬

‫(الن سان نتي جة الورا ثة والبيئة‪ ،‬وعادات الحياة والتفك ير ال تي يفرض ها عل يه المجت مع الع صري‪ ..‬ول قد‬

‫وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره‪ ...‬وعرفنا انه ل يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها‬

‫(التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلله؛ وان العلم والميكانيكا ليسا مسؤولين عن حالته الراهنة‪ ،‬وإنما‬

‫ن حن الم سؤولون لن نا لم ن ستطع التمي يز ب ين الممنوع والمشروع… ل قد نقض نا قوان ين الطبي عة‪ ،‬فارتكب نا بذلك‬

‫الخطيئة العظمى‪ .‬الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائما‪ ..‬إن مبادئ (الدين العلمي) و(الداب الصناعية) قد سقطت‬

‫تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية)‪ .‬فالحياة ل تعطي إل إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الرض‬

‫المحر مة)‪ ..‬إن ها تض عف ال سائل! ولهذا فان الحضارة آخذة في النهيار‪ ،‬لن علوم الجماد قادت نا إلى بلد لي ست‬
‫لنا‪ .‬فقبلنا هداياها جميعا بل تمييز ول تبصر! ولقد اصبح الفرد ضيقا‪ ،‬متخصصا‪ ،‬فاجرا‪ ،‬غبيا‪ ،‬غير قادر على‬

‫التحكم في نفسه ومؤسساته)‪( .‬ص‪.)322‬‬

‫ول سوف يكون من ال صعب أن نتخلص من مذ هب ظل ي سيطر خلل اك ثر من ثلثمائة عام على عقول‬

‫القوم المتحضرين‪..‬‬

‫فإذا كان على الحضارة العلم ية ان تتخلى عن الطر يق الذي سارت ف يه م نذ ع صر النه ضة‪ ،‬وتعود إلى‬

‫ملحظة المادة الجامدة ببساطة‪ ،‬فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور‪..‬‬

‫ستفقد المادة سيادتها؛ وي صبح النشاط العقلي كالنشاط الف سيولوجي‪ .‬و سيبدو أل م فر من درا سة الوظائف‬

‫الدبية والجمالية والدينية‪ ،‬كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء‪..‬‬

‫وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة‪ ،‬وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل برامجها‪..‬‬

‫وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الهتمام فقط بمنع المراض العضوية دون المراض‬

‫العقل ية‪ ،‬والضطرابات الع صبية‪ ،‬ك ما سيسألون ع ما يجعل هم ل يبذلون اهتماما بال صحة الروح ية؟ ولماذا يعزلون‬

‫المرضظى بالمراض المعديظة‪ ،‬ول يعزلون أولئك الذيظن ينشرون المراض العقليظة والدبيظة؟ ولماذا يعتظبرون‬

‫العادات المسئولة عن المراض العضوية عادات ضارة‪ ،‬دون العادات التي تؤدي إلى الفساد والجرام والجنون؟‬

‫ول سوف يدرك القت صاديون أن (ب ني الن سان) يفكرون ويشعرون ويتألمون‪ .‬و من ثم ي جب أن تقدم ل هم‬

‫أشياء أخرى غيظر العمظل والطعام‪ ،‬والفراغ! وان لهظم احتياجات روحيظة مثظل الحتياجات الفسظيولوجية‪ .‬كمظا‬

‫سيدركون أيضا أن أسباب الزمات القتصادية والمالية‪ ،‬قد تكون أسبابا أدبية وعقلية‪..‬‬

‫وسظوف ل نضطظر إلى قبول أحوال البربريظة فظي المدن الكظبرى وطغيان المصظنع والمكتظب‪ ،‬وتضحيظة‬

‫الكظبرياء الدبيظة فظي سظبيل المصظلحة القتصظادية‪ ،‬او تضحيظة العقظل للمال‪ ..‬ويجظب أيضا أن ننبظذ الختراعات‬

‫الميكانيكية التي تعرقل النمو البشري‪.‬‬

‫( وسوف ل يبدو القتصاديون‪ ،‬وكأنهم المرجع النهائي لكل شيء‪.‬‬

‫(ول ما كان من الوا ضح أن تحر ير الن سان من مذ هب (الماد ية) سوف يقلب اغلب جوا نب حيات نا‪ ،‬فان‬

‫المجتمع العصري سوف يعارض بكل قوته هذا التقدم في آرائنا)‪( ...‬ص‪)331-329‬‬
‫(مه ما ي كن‪ ،‬ي جب ان نت خذ دوا عي الحي طة ح تى ل يحدث ف شل المادة رد ف عل رو حي‪ .‬إذ ل ما كا نت‬

‫(التكنولوجيا) وعبادة المادة لم يصيبا نجاحا‪ ،‬فقد يستشعر الناس إغراءً عظيما لختيار الطقوس المضادة‪ ..‬طقوس‬

‫العقل‪ ..‬ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطرا من رئاسة الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء! فقد احدث (فرويد)‬

‫أضرارا اكثظر مظن التظي أحدثهظا أكثظر علماء الميكانيكظا تطرفا! فان مظن الكوارث أن نختزل النسظان إلى جانبظه‬

‫العقلي‪ ،‬م ثل اختزاله إلى آليا ته الطبيع ية‪-‬الكيماو ية‪ ..‬ول م فر من درا سة ال صفات الطبيع ية لم صل الدم وتواز نه‬

‫اليونظي‪ ،‬وقابليتظه اختراق البروتوبلزم‪ ...‬الخ‪ .‬كمظا ندرس الحلم والشهوة والتأثيرات السظيكولوجية للصظلة‬

‫وذاكرة الكلمات‪ ...‬الخ‪ .‬بيظد أن اسظتبدال الروحظي بالمادي لن يصظحح الخطظأ الذي ارتكبتظه النهضظة‪ ...‬فاسظتبعاد‬

‫المادة سوف يكون أكثر إضرارا بالن سان من استبعاد الع قل! وإنما سيوجد الخلص ف قط في التنحي عن جميع‬

‫المذاهب (ص‪)332-331‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذه هي خلصة صيحة دكتور كاريل‪ ..‬فما هي اقتراحاته؟‬

‫ما الحل الذي يقترحه للخلص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في اليمان بالمادة‪-‬والمادة‬

‫وحدها‪ -‬وفي الوقت ذاته ل يسبب الغلطة الخرى بإهمال المادة وإنما يسير وسطا‪ ،‬يلحظ جوانب النسان كلها ‪،‬‬

‫وجوانب الحياة النسانية كلها ؟ ما المنهج الذي يجعل النسان سيدا للمادة‪ ،‬دون ان يهملها او يلجأ إلى سيكلوجية‬

‫فرويد المضللة‪ ،‬او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟‬

‫وماذا عنده بعد هذا الدراك العميق للكارثة التي تهدد الجنس البشري‪ .‬ومناداته بضرورة (قلب الحضارة‬

‫الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و(التنحي عن جميع المذاهب)؟‪.‬‬

‫إننا نستمع إليه فنسمع عجبا‪ ،‬ونرى عجبا كذلك!‬

‫( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!‬

‫( إن العلج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقا بأنفسنا‪ .‬فمثل هذه المعرفة ستمكننا‬

‫من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا‪ ..‬وهكذا سوف نتعلم‬

‫كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا‪ ،‬وكيف نغيرها‪ .‬إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها‪ .‬ولئن‬
‫استطاع هذا العلم‪-‬علم النسان‪ -‬أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة‪ ،‬وامكانياتنا‪ ،‬والطريقة التي تمكننا من تحقيق‬

‫هذه المكانيات‪ ،‬فا نه سيمدنا باليضاح ال صحيح ل ما يطرأ علي نا من ض عف ف سيولوجي‪ .‬كذا لمراض نا الدب ية‬

‫والعقلية‪.‬‬

‫( إننا ل نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي ل تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو‬

‫محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحرارا لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعا لهوائنا‪..‬‬

‫و ما دا مت الحوال الطبيع ية للحياة قد حطمت ها المدن ية الع صرية‪ ،‬ف قد ا صبح (علم الن سان) اك ثر العلوم‬

‫ضرورة‪( ..‬ص‪)45-44‬‬

‫هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الدراك العميق للكارثة المحيقة!‬

‫وانتهاء الرجل إلى هذا القتراح‪ ،‬واعتباره الحل الوحيد الممكن للمشكلة‪-‬مشكلة بقاء هذه البشرية متحفظة‬

‫بإن سانيتها‪ ،‬او انحدار ها من ها وتراجع ها إلى البربر ية الوحش ية‪ -‬اعتباره إن ال حل الوح يد المم كن هو (مز يد من‬

‫علوم النسان)‪ ..‬هو ظاهرة تلفت النظر بشدة‪-‬كما أسلفنا‪ -‬إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم‪،‬‬

‫بح يث تضع هم في ق فص حديدي من (حدود العلم والوا قع) ل يملكون الخروج من إ ساره! ك ما ان هذه الظاهرة‬

‫تجزم بأن الحل لن يجيء من هناك! لنه يحتاج إلى راقب يرقب الوضع من خارج القفص ل من داخله!‬

‫إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية‪-‬كما يميل دكتور كاريل في كتابه إلى تقريره‪-‬‬

‫وإن ما نتي جة طبي عة‪-‬تكاد تكون حتم ية‪ -‬لتقد ير قي مة الن سان ودوره‪ ،‬في الت صور الزائف الذي قا مت عل يه هذه‬

‫الحضارة‪ ،‬حين افترقت في نشأتها عن التصور العتقادي الصحيح‪ .‬الذي يحمل تكريم النسان‪ ،‬واعتباره خليفة‬

‫ال في هذه الرض‪..‬‬

‫كما أن تلك الفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل النتاج‪ ،‬والتي ل اعتبار فيها لنسانية النسان‪،‬‬

‫وخصائصه الثمينة‪ ،‬وحاجاته الحقيقية‪ ..‬إنما ترجع إلى النظمة القتصادية المنبثقة من تصورات ومناهج تتوخى‬

‫العداء للتصظور العتقادي وللخلق الدينيظة؛ وتسظخر مظن فكرة تدخظل العنصظر الخلقظي فظي نظام الحياة‬

‫القتصادي!‬
‫كما أن اعتماد الناس على معلوماتهم القليلة‪ ..‬او بتعبير أدق على جهلهم المطبق‪-‬كما يعبر دكتور كاريل‪-‬‬

‫بفطرة النسان وحقيقته‪ ،‬في إقامة أنظمتهم الجتماعية والقتصادية والسياسية والتربوية‪ ..‬لم يأت عفوا‪ .‬إنما جاء‬

‫نتي جة مباشرة لروح العداء ل كل ما يج يء من ع ند ال؛ و من كل ما يمد هم به المن هج الل هي من معر فة بهذا‬

‫النسان على حقيقته ‪ ..‬هذا العداء الذي قامت هذه الحضارة على أساسه‪ .‬بسبب تلك الملبسات النكدة بين الكنيسة‬

‫والعلم في أوروبا‪..‬‬

‫و من هذه اليماءات ال سريعة ندرك أن ال مر اع مق بكث ير م ما يت صوره هذا العالم العال مي ال كبير؛ وي قف‬

‫عنده‪ ،‬بسبب القيود التي تشده بها عقليته‪ ،‬الناشئة في ظل تلك الحضارة العقيم!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وكما أحس دكتور كاريل بالخطر على مقومات النسان وكينونته من الحضارة الصناعية المادية‪ ..‬كذلك‬

‫أحس مستر دالس وزير خارجية أمريكا بالخطر على الوليات المتحدة‪ ،‬وعلى العالم الغربي من الشيوعية التي‬

‫يقوم نظام ها الجتما عي على أ ساس من (المذ هب المادي) و من (التف سير القت صادي للتار يخ)‪ ..‬وو جه م ستر‬

‫دالس في كتا به‪ (:‬حرب أم سلم) صيحة الذ عر من هذا الخ طر‪ ،‬وطالب بدف عه‪ ،‬ول كن مقترحا ته كذلك جاءت‬

‫جزئية‪ ،‬ل تعالج المشكلة من جذورها‪ ..‬لقد طلب من رجال الكنيسة عنده أن يقوموا بما ليس من طوقهم‪ ،‬ول في‬

‫طبيعة موقفهم ان يؤدوه‪ ،‬بعد ذلك الواقع التاريخي في حياة الكنيسة وحياة المجتمع منذ عهد بعيد‪..‬‬

‫وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول‪:‬‬

‫( إن هناك شيئا ما ي سير بش كل خا طئ في امت نا‪ .‬وإل ل ما أ صبحنا في هذا الحرج‪ ،‬و في هذه الحالة‬

‫النفسية‪ ..‬ل يجدر بنا ان نأخذ موقفا دفاعيا‪ ،‬وان يتملكنا الذعر‪ ..‬إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!‬

‫( إن ال مر ل يتعلق بالماديات‪ ،‬فلدي نا أع ظم إنتاج عال مي في الشياء الماد ية‪ ،‬ان ما ينق صنا هو إيمان‬

‫صظحيح قوي‪ .‬فبدونظه يكون كظل مظا لدينظا قليلً‪ .‬وهذا النقظص ل يعوضظه السظياسيون مهمظا بلغظت قدرتهظم‪ ،‬او‬

‫الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم‪ ،‬او العلماء مهما كثرت اختراعاتهم‪ ،‬او القنابل مهما بلغت قوتها!‬

‫( فمتى شعر الناس بالحاجة إلى العتماد على الشياء المادية‪ .‬فإن النتائج السيئة تصبح أمرا حتميا‪.‬‬
‫( و في بلد نا ل تجتذب نظم نا الخلص الرو حي اللزم للدفاع عن ها‪ .‬وهناك حيرة في عقول الناس‪،‬‬

‫وتآ كل لرواحهم‪ .‬وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي‪-‬كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم‬

‫حتى الن‪ -‬ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف)‪.‬‬

‫( لقد تقابلنا مع أقسى الختبارات التي يمكن ان يلتقي بها أي شعب‪ ..‬وهو اختبار الحياة في رفاهية‪..‬‬

‫( لقد قال يسوع‪ :‬إن هذه الشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من اجل ما أمر به ال‪ ،‬ومن‬

‫اجظل تحقيظق عدالتظه‪ ..‬ولكظن عندمظا يحدث ذلك فعندئذ يبدأ المتحان الكظبر‪ .‬لن هذه الشياء الماديظة‪-‬كمظا انذر‬

‫يسوع‪ -‬يمكنها أن تصبح الصدأ الذي ينخر في الرواح‪.‬‬

‫( كذلك فإن لدي نا نموذجا معروفا‪ .‬فالرجال الذ ين لدي هم إح ساس بالوا جب إزاء كائن أعلى‪ ،‬يجاهدون‬

‫لتحق يق إراد ته‪ ،‬لن إيمان هم يمنح هم القوة والفضيلة والحك مة المب سطة ‪ 00‬إن هم ل يبنون ليوم هم ف قط‪ ،‬بل لل غد؛‬

‫وليس لنفسهم وحدهم‪ ،‬وإنما للجنس البشري‪ .‬ومجتمع هذا أساسه ستكون من نتائجه الثروة والرفاهية للكثيرين‬

‫إذا ساعدته الحوال‪ ..‬وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإن ها تكون طيبة‪ ،‬إلى درجة أنها تشجع على العتقاد‬

‫بأن ها النها ية المرتق بة! وبذا سيبتعد الناس عن بذل الجهود النشائ ية لل جل الطو يل؛ ويبدأون ال صراع من أ جل‬

‫الحصول على الشياء المادية‪.‬‬

‫( ومع ذلك التغير ينمو خطر متزايد‪ .‬فالمريكيون قد حصلوا على المن بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها‬

‫ضمان المن‪ .‬أعني كنتيجة فرعية لمسعاهم العظيم‪ .‬وعندما بدأنا نتقاعس عن سعينا‪ ،‬ونطلب المن كنهاية في‬

‫ذاته‪ ،‬أخذ المن يزداد بعدا عنا! وستظل الحال دائما هكذا‪ ،‬ومهما تكن درجة ثرائنا‪ .‬فالمن ل يمكن شراؤه بأي‬

‫ثمن نقدي ‪ 00‬وخمسة بليين ‪ ،‬أو خمسون بليونا ل تكفي‪ .‬فالمن والسلم ليسا سلعتين يمكن شراؤهما‪ .‬لقد حاول‬

‫الباطرة الرومان أيام انحدارهظم أن يشتروا السظلم‪ .‬وكانظت النتيجظة فتظح شهيظة أولئك الذيظن كانوا يسظعون إلى‬

‫تدميرهم‪.‬‬

‫( وبينما ينحدر نفوذنا وأمننا‪ ،‬فإن نفوذ الشيوعية السوفيتية وأمنها آخذان في الرتفاع ‪ 00‬إنها تستطيع أن‬

‫تنفذ –بل هي تنفذ فعلً‪ -‬سياسات تحمل طابع " تجربة الشيوعية السوفييتية العظمى" تلك التجربة التي استطاع بها‬
‫الشيوعيون أن يجتذبوا إليهم خيال شعوب العالم‪ .‬تماما كما فعلنا نحن في القرن التاسع عشر بالتجربة المريكية‬

‫العظمى!‬

‫( وإننظا نعلم أن التصظويرات الشيوعيظة خادعظة ومضللة؛ ونعلم أن الشيوعيظة السظوفيتية لن تفتظح أبواب‬

‫التجر بة ال تي قاموا ب ها في وطن هم للح كم علي ها حكما حرّا محايدا‪ .‬ونعلم أن أولئك الذ ين يقعون في براثن هم من‬

‫جراء الغراء الزائف لهذا الت صوير‪ ،‬سرعان ما يدركون الفرق بين ها وب ين الحقي قة ‪ 00‬إن العنكبوت ين سج بيتا‬

‫جميلً يتألق في ضوء الشمس ويدعوا الذباب إلى صالونه! والدعا ية الشيوعية جذابة م ثل بيت العنكبوت‪ .‬ومتى‬

‫وقع في قبضتها شعب فإن الستبداد يمتص قواه الروحية ‪ 00‬ولكن الشيوعية –كأمل‪ -‬لها قبول عند الجماهير في‬

‫كل مكان من آسيا‪ ،‬وفي جزر الباسفيك‪ ،‬وجنوب أمريكا‪ ،‬وأفريقيا ‪ 00‬وحتى في أوروبا الغربية ‪00‬‬

‫( لقد قال ستالين‪ :‬إن قوة وحيوية الماركسية –اللينينية‪ ،‬تكمن‪ ،‬في أنها تركز نشاطها العملي في الحاجة‬

‫في تنمية الحياة المادية للمجتمع‪.‬‬

‫( ويبدو أن كثيرا متن البلد غيتر الشيوعيتة –بمتا فتي ذلك الدول المستيحية الغربيتة‪ -‬تعطتي الولويتة‬

‫"لتنمية الحياة المادية للمجتمع" وتجعل من "الروحية" أمرا ثانويّا يتعلق بالفراد أنفسهم‪..‬‬

‫( ويت خذ الشيوعيون ذلك مثالً ل كي يثبتوا أ نه ح تى المجتمعات الغرب ية كان علي ها أن تت بع النظريات‬

‫الماديتة للشيوعيتة! ول يقوم الزعماء الغربيون بإنكار ذلك بطريقتة مقنعتة ‪ 00‬وهكذا يرتفتع المستتوى الدبتي‬

‫للشيوعية السوفييتية في العالم بدرجة كبيرة!‬

‫( إن ال صعوبة ناشئة في أن نا ن قف موقفا غامضا من إيمان نا؛ و من العل قة ال تي ب ين هذا اليمان‬

‫ونشاطنا!‬

‫( إننا نستطيع أن نتحدث ببلغة عن التحرر والحرية‪ ،‬و عن حقوق الن سان والحريات ال ساسية؛ و عن‬

‫الكرامة والقيمة النسانية للفرد ‪ 00‬ولكن معظم حديثنا مشتق من فترة كان مجتمعنا فيها قائما على "الفردية" ‪00‬‬

‫ونتيجة لذلك فليس لها أثر كبير عند أولئك الذين يعيشون في ظروف يكون معنى الفردية فيها هو الموت المبكر‪..‬‬

‫( ونستطيع كذلك أن نتحدث ببلغة عن التقدم المادي الذي حققناه‪ ،‬وعن روائع النتاج الجماعي‪ ،‬وعدد‬

‫السظيارات وأجهزة الراديظو والتليفزيون التظي يمتلكهظا أفراد شعبنظا‪ ..‬ولكظن المبالغظة فظي وصظف الماديات تعطظي‬
‫البعض فكرة بأننا قد أفلسنا من الناح ية الروحية؛ وتجعل من البعض حاسدين ل نا‪ ،‬وأميل إلى التمجيد الشيو عي‬

‫(للجهود الجماعية) من أجل تنمية الحياة المادية للمجتمع! ) ‪..‬‬

‫( إن نا ل ن ستطيع أن نكا فح الشيوع ية ال سيوفييتية في العالم‪ ،‬وأن نح بط أ ساليبها في الخداع والرهاب‬

‫والعنف‪ ،‬ما لم يكن لدينا إيمان‪ ،‬واستعانة بالوسائل الروحية في مجتمعنا الحديث المعقد؛ والتي تحول نفسها إلى‬

‫أعمال خالصة من الدناءة‪ ،‬وظروف الحياة الذليلة‪ ،‬التي ل يمكن أن تنمو فيها الروح! )‬

‫( لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء في أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية‪ ،‬دون أن‬

‫نمارس اللحاد والماديتة‪ ..‬إن ذلك يعتمظد على الرغبظة الختياريظة للفرد فظي قبول أو التخلي عظن اللتزامات‬

‫الجتماعية تجاه الفرد الخر‪..‬‬

‫( ونتي جة لذلك فإن كثيرا من قوم نا قد فقدوا إيمان هم في مجت مع حر‪ .‬وكأ مة فقد نا كذلك إيمان نا الدي ني‬

‫وممارسة شعائرنا الدينية‪ .‬رغم أننا ما زلنا متدينين! إننا نفرق بين الدين وممارسة الدين! ولم نعد نؤمن بأن‬

‫اليمان يتمشى مع الظروف الحديثة‪ ..‬ومتى تحطمت الصلة بين اليمان والعمل‪ ،‬فلن نستطيع بعد ذلك أن ننمي‬

‫قوة روحية نستطيع نشرها في جميع أنحاء العالم )‪..‬‬

‫( إن علي نا أن نغ ير كل ذلك‪ .‬إن نا ن ستطيع‪ -‬بل ي جب‪ -‬أن نر فض كل ية النظر ية المارك سية القائلة‪ :‬إن‬

‫الشياء المادية لها الولوية‪ ،‬والروحية تابعة لها‪ .‬إن العبودية والستبداد ل يمكن ان يكونا صوابا‪ ،‬حتى ولو‬

‫ب صفة ا ستثنائية‪ .‬وي جب أل نخ شى و ضع اليمان في مرت بة ال صدارة بالن سبة لحر ية الن سانية والتحرر‪ ،‬وان‬

‫نتمسك بالرأي الديني القائل‪ :‬إن ال قد خلق النسان لكي يكون اكثر من منتج مادي؛ وان غايته النهائية شيء‬

‫آخر غير المن الجثماني‪ .‬يجب أن نؤمن بأنه يجب تحرير الناس في كل مكان من التضييق الروحي والعقلي‬

‫والقتصادي المتزايد‪ ،‬بحجة أن ذلك سينمي الرفاهية القتصادية للمجتمع الذي ينتمون إليه! )‪..‬‬

‫( وي جب أن نف هم كذلك بوضوح أن مجتمعا حرا ل يس معناه مجتمعا ي سعى كل فرد ف يه لنف سه‪ .‬بل ا نه‬

‫مجتمع متناسق‪ .‬والقيود المفروضة هي‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬روابط الخوة المنبعثة من اليمان‪ .‬فان الناس خلقوا لكي‬

‫يعيشوا إخوانا في رعاية ال ) ‪..‬‬

‫ثم يختم هذا الفصل بقوله‪:‬‬


‫( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت‪ ،‬إل إذا كان لدينا شيء نقوله‪،‬‬

‫يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الن!‪.‬‬

‫( وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لمتنا‪ .‬وبعثورهم عليها يستطيعون أن‬

‫يساهموا بشكل حاسم في الحباط السلمي للساليب الشريرة‪ ،‬والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية‪.‬‬

‫( إن كثيرا من الوعاظ والمعلم ين يأ سفون لن المعر فة العلم ية قد زادت قدرة الن سان على الذى إلى‬

‫درجة كبيرة‪ .‬ول يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه‪.‬‬

‫( إن القوة الماد ية ال كبيرة تكون خطرة في ع صر الماد ية ف قط؛ ول يس في ع صر رو حي‪ .‬والمعر فة‬

‫العلم ية الجديدة خطرة اليوم لن ها حد ثت في و قت أخف قت ف يه الزعا مة الروح ية أن تو ضح ال صلة ب ين العقيدة‬

‫والعمل‪ .‬ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلً من محاولة وقف التقدم العلمي‪ ،‬او الرجوع‬

‫به القهقري ) ‪.‬‬

‫( ل قد ك تب الرئ يس ول سون ق بل وفا ته بأ سابيع قليلة مقالً ا ستعرض ف يه تهد يد المبادئ الثور ية وأعمال‬

‫الشيوعية‪ .‬وختمه بقول‪ :‬إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي‪ :‬إن حضارتنا ل تستطيع الستمرار في البقاء من‬

‫الناحية المادية‪ ،‬إل إذا استردت روحانيتها‪..‬‬

‫( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا‪ ،‬ولكل فرد يخاف ال‪ ،‬او يحب‬

‫بلده! ) ‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ول كن هذه ال صيحة ال تي أر سلها م ستر دالس‪-‬كال صيحة ال تي أر سلها دكتور كار يل من ق بل‪ -‬ل تم كن‬

‫تلبيت ها بهذا ال سهولة! ول بهذا التحدي الذي يض عه دالس أمام كنائ سهم ومنظمات هم والرأ سماليين و كل فرد يخاف‬

‫ال او يحب بلده!‬

‫إن المسظألة اعمظق مظن هذا بكثيظر‪ .‬فالكنائس لم يعظد لديهظا مظن النصظرانية‪-‬منظذ مظا أفسظدها بولس أولً‪.‬‬

‫ل للحياة النسانية‪.‬‬
‫وقسطنطين ثانيا‪ .‬والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثا‪ -‬ما يصلح أساسا شام ً‬
‫وحتظى البقيظة الباقيظة مظن التصظور النصظراني‪-‬هذه التظي يتحدث عنهظا مسظتر دالس‪ -‬لم تعظد الحضارة‬

‫المريك ية الماد ية تطيق ها‪ .‬هذه الحضارة ال تي قا مت ابتداء على (الفرد ية) الجام حة‪ ،‬ممثلة في النظام الرأ سمالي‬

‫الربوي الحتكاري إلى أبعد الحدود‪..‬‬

‫وما أظن مستر دالس نفسه قد فكر‪-‬وهو يرسل هذه الصيحة في ساعة الخطر‪ -‬في تطبيق بقية التصور‬

‫النصظراني تلك‪ .‬فان أول مظا تقتضيظه‪ :‬إلغاء النظام الربوي الذي تقوم هذه الحضارة عليظه‪ ،‬والذي يسظاهم بالقسظط‬

‫الول والو فر في ويلت البشر ية‪ ،‬وويلت الحضارة الماد ية‪ .‬والذي تحرّ مه الن صرانية‪ ،‬ك ما يحر مه كل د ين‬

‫سماوي وكل فطرة سليمة!‬

‫إن ما أراد م ستر دالس صورة باه تة من الن صرانية ل تتد خل في صميم النظام القت صادي‪ .‬و في الو قت‬

‫ذاته تخدم أغراضه السياسية الخرى في دفع غائلة الشيوعية!‬

‫وح تى لو كان جادا في أعمال الت صور الدي ني في صميم الحياة كل ها‪ ..‬فان هنالك هوة ل ت عبر‪ ،‬ول يقام‬

‫علي ها معبر بين التعاليم النصرانية ال صحيحة‪ ،‬وب ين الحياة الواقع ية عنده‪ .‬اشترك في حفرها وتعميقها خم سمائة‬

‫عام من الصراع المرير!‬

‫وهو يكلف رجال الكنيسة عنده والزعماء الروحيين مال قبل لهم به‪ .‬حتى يطلب إليهم‪ ،‬بما بين أيديهم من‬

‫رصظيد مهلهظل للديظن النصظراني‪ ،‬ومظن تاريظخ مريظر بيظن الكنيسظة ورجالهظا والديظن وأهله وبيظن ضمائر الناس‬

‫وعقول هم‪ ،‬و من ف صام ن كد قا مت بعده كل جوا نب الحياة والف كر والشعور على أ ساس العداء للد ين كله‪ ..‬أقول‬

‫يكلفهم مال قبل لهم به‪ ،‬وهو يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل‪ ،‬يصل بين اليمان والعمل‪.‬‬

‫وبين الفردية والجماعية‪ .‬وبين الروح والمادة‪ .‬وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم‪ .‬وبين العناية‬

‫بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح اليماني‪ ..‬منهج ل يفرق بين الدين وممارسة الدين‪ .‬ويرفض القول‪ :‬بأنه‬

‫من غ ير المم كن الح صول على عدالة اجتماع ية بدون ممار سة اللحاد والماد ية‪ .‬ك ما ير فض أن يكون للشياء‬

‫الماديظة الولو ية‪ .‬او أن تكون العبوديظة والسظتبداد وسظيلة الكثار مظن النتاج المادي‪ .‬او أن يعتدي على الحريظة‬

‫العقلية والروحية والقتصادية في سبيل هذا الكثار‪ ..‬منهج ل يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ول يجعل‬
‫التد ين و سيلة واحدة هي عودة العلم والمعر فة القهقري!‪ ..‬و في النها ية من هج تتطور (العبادة) ف يه ح تى ي صبح‬

‫(العمل) إحدى صورها‪..‬‬

‫فأنى يجدون هذا المنهج في بقايا التصور المهلهل؛ وفي أنقاض التاريخ المرير‪ ،‬وفي الفجوة التي ل تعبر‪،‬‬

‫وال تي ل يقام علي ها م عبر‪ ،‬ب ين طبي عة الد ين الذي عند هم‪-‬ك ما صاغته هذه الملب سات كل ها‪ -‬وب ين طبي عة الحياة‬

‫النسانية بصفة عامة‪ ،‬وطبيعة هذه الحضارة المادية بصفة خاصة؟!‬

‫إن الذي يملك استحداث هذا المنهج قوم آخرون‪ ..‬والدين الذي يتضمن م ثل هذا المنهج في اكمل صورة‬

‫ليس هو ما يسمى عند قومه اليوم بالدين!‬

‫إن م ستر دالس ير يد أن يج ند (الد ين) لحما ية النظ مة الغرب ية من الشيوع ية‪ ..‬ول كن الد ين ل يملك أن‬

‫يصنع شيئا في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه ل يملك أن يصنع شيئا‬

‫في صورته الباهتة التي تراد له‪ ..‬ل يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طردا قبيحا!‬

‫إن (ديظن ال) ل يصظلح خادما يلبظس منطقظة الخدم‪ ،‬ويقظف بحضرة (أسظياده)‪ ،‬ويوجهونظه حيظث يريدون!‬

‫يطردو نه من حضرت هم فين صرف‪ ،‬و هو يق بل الرض ب ين أيدي هم‪ ..‬ثم ي قف وراء الباب‪ -‬في شارة الخدم‪ -‬ر هن‬

‫الشارة!‪ ..‬ويستدعونه للخدمة‪ ،‬فيقبل الرض بين أيديهم‪ ،‬وينحني قائلً‪ :‬لبيك يا مولي! كما يفعل من يسمونهم‬

‫(رجال الدين)!‬

‫كل! إن (ديظن ال) ل يرضظى إل أن يكون سظيدا مهيمنا‪ .‬قويا متصظرفا‪ .‬عزيزا كريما‪ .‬حاكما ل محكوما‪.‬‬

‫قائدا ل مقودا ‪ 00‬و هو ل يح مي الناس من الشيوع ية ول من غ ير الشيوع ية إل أن تكون حيات هم كل ها ر هن‬

‫إشارته‪ .‬يصرفها بجملتها‪ ،‬وينظمها من أطرافها‪ ،‬وينسقها وفق شريعته ‪ 00‬حين يتحاكم إليه الناس في أمورهم‬

‫كلها‪ :‬صغيرها وكبيرها‪ .‬ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلم‪:‬‬

‫" فل ور بك ل يؤمنون ح تى يحكموك في ما ش جر بين هم‪ ،‬ثم ل يجدوا في أنف سهم حرجا م ما قض يت‬

‫ويسلموا تسليما ‪" 00‬‬

‫[النساء‪]65 :‬‬

‫ويومئذ فقط يؤدي دوره كاملً ‪ 00‬دور السيد المدبر ‪ 00‬ل دور الخادم الملبي‪00‬‬
‫ويومئذ فقط ينتهي ذلك الفصام النكد‪ .‬الذي أنشأ كل هذا الشقاء المرير‪ .‬وكل هذا الخطر الخطير‪00‬‬

‫ويومئذ فقط يجئ المخلص‪ ،‬الذي تتعالى الصيحات بصفاته وسماته! هذا المخلص المرتقب للناس أجمعين‬

‫‪ 00‬هو هذا الدين ‪00‬‬


‫المخَلّتتص‬
‫"إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك‪ ،‬تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة ‪ 00‬تهتف‬

‫بمنقظذ‪ ،‬وتتلفظت على (مخلص)‪ ،‬وتتصظور لهذا المخلص سظمات وملمظح معينظة تطلبهظا فيظه ‪ 00‬وهذه السظمات‬

‫والملمح المعينة ل تنطبق على أحد إل على (هذا الدين) ‪00‬‬

‫جاءت هذه الفقرة في الف صل الول من هذا الكتاب ‪ 00‬والف صل الذي سلف ( صيحات الخ طر) يتض من‬

‫التف سير الكا مل لهذه الفقرة في أقوال دكتور كار يل‪ ،‬و في أقوال م ستر دالس على ال سواء! لول أن كل منه ما –‬

‫ل مر قد قدر‪ -‬ل يت جه بدعائه للمخلص الحقي قي الذي عل يه وحده تنط بق هذه الو صاف؛ وف يه وحده تتح قق هذه‬

‫السمات!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن دكتور كاريل يطلب منهجا للحياة غير (دين الصناعة) و (التكنولوجيا)‪.‬‬

‫ير يد منهجا يع تبر (الن سان مقيا سا ل كل ش يء) ول يجعله (غريبا في العالم الذي ابتد عه) ‪ 00‬ول ين هض‬

‫على الجهل المطبق بخصائصه ومقوماته‪.‬‬

‫منهجا ( ل يهمظل تأثيظر المصظنع على الحالة الفسظيولوجية والعقليظة للعمال إهمالً تاما عنظد تنظيظم الحياة‬

‫ال صناعية) ول ( ين هض على مبدأ ال حد الق صى من النتاج بأ قل قدر من التكال يف ‪ 00‬ح تى ي ستطيع فرد أو‬

‫مجموعة من الفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال)‪.‬‬

‫منهجا ل ينشظئ بيئة (غيظر صظالحة ل بالنسظبة لقوامنظا ول بالنسظبة لهيئتنظا)‪ .‬ول يجعلنظا ( ننحظط أخلقيا‬

‫وعقليا)‪ .‬ول يكبت ويعطل ( نمو وجوه النشاط العاطفي والجمالي والديني فيخلق أشخاصا في المرتبة الدنيا‪ .‬ذوي‬

‫عقول ضيقة غير صحيحة)‪.‬‬

‫منهجا ل يل غي شخ صية الفرد من ح سابه‪ ،‬ولك نه كذلك ل ين سى حا جة الفرد للحياة الجماع ية‪ .‬فل (نر بي‬

‫ونعيش ونعمل في قطعان كبيرة أشبه بقطعان الغنام!)‪.‬‬

‫منهجا ل يلغي شخصية الذكر وشخصية النثى‪( .‬فإهمال انعدام المساواة بين الجنسين أمر خطر جدّا)‪.‬‬
‫منهجا ل يدع حياة بنظي النسظان نهبا (لخيالت ماركظس ولينيظن وفرويظد) و (شهوات الناس وأهوائهظم‬

‫ونظرياتهم ورغباتهم)‪.‬‬

‫منهجا ل يعتدي على قوان ين الفطرة‪ .‬ول يش جع على (ارتياد الرض المحر مة)‪ .‬ول ي صطدم من الحقائق‬

‫الحيوية للكينونة النسانية ‪00‬‬

‫وأخيرا ‪ 00‬منهجا ل يتخذ من فشل (المادية) سببا للنكسة إلى (الروحية) السلبية التي عرفتها أوربا في‬

‫نظام الرهبنة ول إلى سيكولوجية فرويد المضللة!‬

‫ولكن دكتور كاريل يطلب هذا المنهج الذي هذه سماته عند (علم النسان) الذي يطالب بإنشائه على الرغم‬

‫من تقريره أن في العقل البشري بطبيعته عجزا عن العلم بالنسان!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وما الذي يطلبه مستر دالس كذلك؟‬

‫إنظه يطلب منهجا (ل يعطظي الولويظة المطلقظة لتنميظة الحياة الماديظة للمجتمظع مظع إعطاء الروحيظة أهميظة‬

‫ثانوية‪ ،‬ول يعتبر اليمان أمرا ثانويا يتعلق بالفراد)‪.‬‬

‫منهجا (ل يقف موقفا غامضا من اليمان وعلقته بالنشاط الحيوي)‪00‬‬

‫منهجا (ل يقوم على الفردية المطلقة ‪ -‬كما عرفتها التجربة المريكية ‪ -‬هذه الفردية التي يكون معناها في‬

‫بعض الظروف‪ :‬الموت المبكر)‪00‬‬

‫منهجا (ل يخفق –بشكل يد عو إلى الرثاء ! – في أن يرى أن من الممكن الح صول على عدالة اجتماعية‬

‫بدون ممارسة اللحاد والمادية)‪.‬‬

‫منهجا (ل يفرق بين الدين وممارسة الدين‪ .‬ول يحطم الصلة بين اليمان والعمل‪ .‬ول يزعم أن اليمان ل‬

‫يتمشى مع الظروف الحديثة)‪.‬‬

‫منهجا (يرفض أن يكون للشياء المادية الولوية ول يجعل الروحية تابعة لها‪ .‬ويرفض أن يعتبر العبودية‬

‫والسظتبداد صظوابا ‪ -‬ولو فظي حالة اسظتثنائية ‪ -‬ويرفظض اعتبار النسظان أداة إنتاج فحسظب‪ .‬ويرفظض الرفاهيظة‬

‫القتصادية على حساب الحرية الروحية والعقلية)‪.‬‬


‫منهجا يعيظش الفراد فظي المجتمظع الذي يقوم عليظه‪ ،‬إخوانا فظي ال‪ .‬روابطهظم الخويظة هظي القيود التظي‬

‫تشدهم‪ ،‬والتي تحفظ مجتمعهم من الفردية الطاغية ومن الجماعية الطاغية كذلك‪.‬‬

‫منهجا ي ظل الروح اليما ني ف يه مهيمنا على المعر فة العلم ية‪ .‬فل يطلب و قف تقدم المعر فة والعلم بح جة‬

‫أنها بذاتها خطرة على اليمان الديني!‬

‫وأخيرا ‪ 00‬يريد منهجا يوضح العلقة بين العقيدة والعمل‪ ،‬وتتطور فيه (العبادة) حتى يصبح العمل إحدى‬

‫صورها ‪000‬‬

‫ولكن مستر دالس يطلب هذا المنهج عند رجال الكنيسة المريكية‪ ،‬وعند الزعماء الروحيين في بلده ‪000‬‬

‫على الرغم مما يعرفه من تاريخ الكنيسة الغربية‪ ،‬ومن (الفصام النكد) بينها وبين المجتمع‪ ،‬ورواسبه المريرة!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولكن الذي ينبغي أن يكون واضحا ‪ 00‬أنه ل (علم النسان) يملك أن يستجيب لصيحة دكتور كاريل‪ ،‬ول‬

‫الكنيسة وآباؤها الروحيون يملكون أن يستجيبوا لصيحة مستر دالس!‬

‫إن هذه الصفات التي يطلبانها في (المخلص) ل تتوافر في أحد إل في (هذا الدين)‪ .‬وإن هذا المنهج الذي‬

‫يصفانه ل يملكه إل السلم‪ .‬من بين سائر المناهج والمذاهب والنظريات التي يعرفها بنو النسان!‬

‫ودكتور كار يل ل يت جه إلى هذا (المخلص) ‪ 00‬ل نه ‪ -‬على الر غم من سعة أف قه‪ ،‬و من غزارة عل مه ‪-‬‬

‫رجل أبيض ‪ 00‬يتجه بتمجيده كله للجنس البيض! ويؤلف كتابه لنقاذ الجنس الب يض! ويوجه اهتمامه لنقاذ‬

‫الجنس البيض من النحلل والبوار‪.‬‬

‫والسلم ليس من صنع الرجل البيض‪ ،‬ومن ثم ل يمكن أن يتجه إليه العالم العالمي الكبير!‬

‫وم ستر دالس كذلك ل يت جه إلى هذا (المخلص) ل نه فوق أ نه (ر جل أب يض)‪ ،‬فإن له مع هذا الد ين شأنا‬

‫‪ 00‬إنه الرجل الذي قام بأكبر نصيب قام به سياسي عالمي في العصر الحديث في حرب السلم‪ ،‬وإقامة الجهزة‬

‫التي ترصد لهذا الدين في كل بقاع الرض بل استثناء‪ ،‬وتحاول أن تحل محله تصورات وقيما أخرى من صنع‬

‫النسان!‬
‫ولكن هذا الدين‪ ،‬هو وحده الذي يملك تلبية تلك الصرخات وهو وحده الذي تتحقق فيه هذه السمات‪ .‬وهو‬

‫وحده الذي توجد عنده هذه (الوصفة) اللزمة لشفاء بني النسان!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫إن السلم منهج جديد للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها‬

‫كذلك ‪ 00‬من هج أصيل‪ ،‬م ستقل الجذور ‪ 00‬منهج شامل متكا مل‪ .‬وليس مجرد تعد يل للحياة الراه نة وأوضاعها‬

‫القائ مة ‪ 00‬إ نه من هج للت صور والعتقاد؛ ك ما أ نه من هج للع مل والوا قع ‪ 00‬و من ثم ف هو ‪ -‬وحده ‪ -‬الك فء‬

‫للضطلع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة‪.‬‬

‫ل قد أخ طأ المجت مع البشري طري قه‪ .‬ل من يوم أن ات جه إلى تنم ية علوم الجماد وترك علوم الن سان بدون‬

‫نماء ‪ 00‬ول من يوم أن ترك اللة تتحكم في حياته‪ ،‬وتكيفها هذا التكيف المناقض لطبيعة النسان ‪ 00‬ول من‬

‫يوم أن ترك النظم السياسية والجتماعية والقتصادية تحت رحمة المستغلين يوجهونها لغير صالح البشر‪ ،‬ولغير‬

‫احتياجاتهم الحقيقية‪ -‬كما يقرر دكتور كاريل ‪00‬‬

‫كل! فهذه مراحل متأخرة في تاريخ النحراف‪00‬‬

‫إنمظا أخطظأ المجتمظع طريقظه يوم أن جعظل تلك الملبسظات النكدة التظي صظاحبت عصظر الحياء وعصظر‬

‫التنوير‪ ،‬وعصر النهضة الصناعية ‪ 00‬تصرفه عن منهج ال كله ‪ -‬ل عن تصورات الكنيسة وحدها‪ -‬وتوقع‬

‫(الفصام النكد) في حياته‪ ،‬بين التصور العتقادي اللهي‪ ،‬ونظام الحياة الجتماعي ‪00‬‬

‫ولم ي عد ذلك الترق يع الجزئي عن طر يق العنا ية بعلوم الحياة وعلوم الن سان –ك ما ي ظن دكتور كار يل‪-‬‬

‫فالناس ل يوجظه حياتهظم ول يغيرهظا أن ( يعلموا ) ولكظن يوجظه حياتهظم ويغيرهظا أن ( يعتقدوا ) والنسظان هظو‬

‫النسان!‬

‫ولقظد انتظرت مظن دكتور كاريظل ‪ -‬وهظو يذكظر "ضرورة قلب الحضارة الصظناعية وظهور فكرة أخرى‬

‫للتقدم البشري" – أن ي ثب وث بة كاملة‪ ،‬فيخرج من قف صه الحديدي "العل مي"! ولك نه لم ي ستطع هذه الوث بة ال كبرى‬

‫وبقي داخل القفص‪ ،‬يهتف بصيحة الخطر الذي يراه يتهدد البشرية المسكينة الصائرة إلى البوار!‬
‫إن الحياة البشريظة المهددة فظي حاجظة إلى هذه الوث بة الكاملة‪ ،‬فظي حاجظة إلى أن ترجظع إلى فطرتهظا التظي‬

‫فطر ها ال علي ها‪ .‬و هي ل يم كن أن تر جع إلى هذه الفطرة بمبادئ ونظريات أو و سائل تن بع من ذلك الت صور‬

‫الحضاري الذي يك من ف يه الخ طر؛ والذي قام ابتداء على أ صول معاد ية ليناب يع لفطرة ‪ 00‬ل بد من ت صور جد يد‬

‫جدة حقيق ية كاملة؛ يغ ير قاعدة الحياة من ال ساس ويرد ها إلى الفطرة؛ ويقيم ها على أ ساس آخر يت فق مع طبي عة‬

‫التكوين الن ساني المتكا مل؛ ومع الحقي قة الكون ية – ك ما هي في الوا قع ل ك ما تبدو من خلل المناظ ير الملو نة‪،‬‬

‫المصنوعة في معامل الحضارة المعادية!‬

‫إن علمنظا القليظل المحدود عظن الكائن البشري ‪ -‬أو جهلنظا المطبظق بهذا الكائن البشري‪ -‬كمظا وصظفه هذا‬

‫العالم العال مي ال كبير‪ ،‬ل ي سمح إطلقا بأن نكون ن حن ‪ -‬الب شر‪ -‬الذي نتولى و ضع (الت صميم) ال ساسي ابتداءً‬

‫لحياة هذا الكائن ‪ 00‬ولو كان هذا مدى علمنا ‪ -‬أو مدى جهلنا ‪ -‬بجهاز مادي صغير‪ ،‬ما أمن صاحبه أن يتركه‬

‫لنا لصلحه ‪ -‬بله تركي به! ‪ -‬ولكننا بهذا الجهل – نتصدى لقامة نظام (للنسان) ‪ 00‬أعز وأثمن ما في هذه‬

‫الرض جميعا! ول نبالي ما يصيبه من جراء (هذا النظام!)‪.‬‬

‫لقد أدركنا الغرور‪ ،‬ونحن نرى العقل البشري يبدع في عالم المادة‪ ،‬ويأتي بما يشبه الخوارق! فوهمنا أن‬

‫العقظل الذي يبدع الطائرة والصظاروخ؛ ويحطظم الذرة وينشظئ القنبلة اليدروجينيظة؛ ويعرف القوانيظن الطبيعيظة‬

‫ويستخدمها في هذا البداع ‪ 00‬وهمنا أن هذا العقل جدير بأن نكل إليه كذلك وضع (نظام) الحياة البشرية ‪00‬‬

‫وقواعد التصور والعتقاد‪ ،‬وأسس الخلق والسلوك ‪ 00‬ناسين أنه حين يعمل في (عالم المادة) فإنه يعمل في‬

‫عالم يم كن أن يعر فه‪ ،‬ل نه مج هز بإدراك قواني نه ‪ 00‬أ ما ح ين يع مل في (عالم الن سان) ف هو يع مل في متا هة‬

‫واسعة بالقياس إليه! هو غير مجهز ابتداء بإدراك حقيقتها الهائلة الغامضة‪.‬‬

‫ومظن عجظب أن الذي يقرر هذه الحقيقظة هظو العالم العالمظي الكظبير الذي يطلب هذه الحقيقظة عنظد (علم‬

‫النسان)!!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫وفي مقابل ذلك الوهم الكبير‪ ،‬يوجد وهم آخر كبير!‬


‫إن بعظض الناس يظظن أن هيمنظة المنهظج اليمانظي على الحياة‪ ،‬مظن شأنظه طرد العلوم الماديظة ونتائجهظا‬

‫الحضارية من الحياة!‬

‫وهو وهم ساذج ‪ -‬على الرغم من أنه وهم كبير! ‪ -‬بل وهم مضحك! ولكنه ‪ -‬مع السف ‪ -‬يرتكن في‬

‫الغرب و في التاريظخ الحضاري له‪ ،‬على وا قع تاريخظي طويظل‪ .‬حتظى ليحتاج من مسظتر دالس إلى ذلك الفصظل‬

‫المطول في كتا به‪( :‬حرب أم سلم) ‪ 00‬ف صل‪( :‬حاجات نا الروح ية) الذي اقتطع نا م نه في الف صل ال سابق تلك‬

‫الصرخات؛ وتلك التحديات!‬

‫غ ير أن ال مر في المن هج الل هي ال صحيح ل يس على هذا الن حو ‪ 00‬إن (الد ين) ل يس بديلً من العلم‬

‫والحضارة‪ .‬ول عدوّا للعلم والحضارة‪ .‬إنمظا هظو إطار للعلم والحضارة‪ ،‬ومحور للعلم والحضارة‪ ،‬ومنهظج للعلم‬

‫والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة‪.‬‬

‫والسلم ‪ -‬بالذات ‪ -‬كان هو العلن الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي‪ ،‬وقوانينه‪ ،‬وقواه‪،‬‬

‫ومدخرا ته‪ .‬وكان اليذان العام بانطلق هذا الع قل ليع مل ويبدع في ذلك الملك العر يض الذي ا ستخلفه ر به ف يه‪.‬‬

‫وكانت هذه إحدى الحقائق التي تضمنها التصور السلمي عن حقيقة علقة الخلق بالخالق؛ ومركز النسان في‬

‫‪ 00‬ومن ثم ازدهرت في ظل السلم حضارة كاملة بكل مقوماتها البداعية‬ ‫(‪)]17[1‬‬


‫هذا الكون‪ ،‬وحدود اختصاصه‬

‫ال تي كا نت تتيح ها ل ها الدوات والو سائل في حين ها ‪-‬والدوات والو سائل قابلة دائما للتطور والتر قي‪ -‬وال سلم‬

‫يد فع هذا الن مو ويقوده‪ ،‬ولك نه يحف ظه دائما دا خل إطار الفطرة؛ ل ي صطدم بطبي عة الن سان وخ صائصه الثمي نة‪،‬‬

‫ول يحطمها ويكبتها‪ ،‬كما يقرر دكتور كاريل عن الحضارة المعاصرة!‬

‫ول قد كان ال سلم هو الذي أن شأ ‪ -‬بطبي عة واقع ية منه جه ‪ -‬المن هج التجر يبي‪ ،‬الذي انت قل إلى أور با من‬

‫جامعات الندلس؛ والذي أقام عليظه (روجظر بيكون) و (فرنسظيس بيكون) ‪ -‬الذي يسظمونه افتراء (أبظا المنهظج‬

‫التجريبي) ‪ -‬منهجهما كما قرر ذلك بريفولت وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم(‪.)]18[2‬‬

‫إن ال سلم ي كل ر سم (الت صميم) ال ساسي للحياة البشر ية‪ ،‬إلى العلم الكا مل الشا مل‪ ،‬ال مبرأ من الج هل‬

‫والق صور والهوى كذلك يكله إلى علم ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ب ما أن ال هو الذي أبدع الكون و ما ف يه؛ وأبدع قواني نه‬

‫([‪ )]17‬يراجع بتوسع كتاب‪ :‬خصائص التصور السلمي ومقوماته‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫([‪ )]18‬يراجع كتاب‪ :‬هذا الدين ص ‪.74-70‬‬ ‫‪2‬‬


‫وطاقاته؛ وأبدع النسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض ‪ 00‬وهو الذي يعلم ‪ -‬وحده ‪-‬‬

‫كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية ‪ 00‬فهو‪ -‬وحده ‪ -‬القادر على أن يصنع للنسان نظام‬

‫حياة؛ شاملً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به ‪ 00‬عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق)‬

‫‪ 00‬وفي الوقت ذاته ل يلغي العقل البشري ‪ -‬كما أرادت الكنيسة ذات يوم‪ -‬هذه الداة العظيمة‪ ،‬التي وهبها ال‬

‫للنسان ليعمل بها ويبدع؛ ل ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى‪ ،‬ومن التهور‪ ،‬ومن الخبط‬

‫في الت يه‪ ،‬ومن النك سة والنحدار‪ .‬ويضع ل ها المن هج الذي يقوّمها من ها فل تم يل؛ ويهديها فل ت ضل؛ ويك فل لها‬

‫حريتها واستقامتها على السواء‪.‬‬

‫وبهذا يظل (النسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع النسان والمادة‪ .‬وبالتصور‬

‫الذي يشعره بكرامتظه على ال؛ كمظا يشعره بعبوديتظه ل‪ .‬وفظي الوقظت ذاتظه يشعره بأنظه مسظتخلف فظي هذا الملك‬

‫العريض ‪00‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫و من هذا كله ي تبين أن ال سلم ‪ -‬وحده ‪ -‬هو المن هج الذي ي ستصرخه م ستر دالس ‪ -‬ولك نه ل يت جه‬

‫إليه!‪ -‬المن هج الذي يملك أن يتقدم لتخليص البشرية من بربر ية الحضارة الصناعية –كما يعبر دكتور كار يل ‪-‬‬

‫ومن مصيدة الشيوعية ‪ -‬كما يقول مستر دالس‪ -‬وأننا نحن أصحاب المنهج السلم ‪ -‬وحدنا ‪ -‬الذين نملك تلك‬

‫الوثبة الكبرى!‬

‫إن هذه الحضارة ال صناعية ال تي تح يط بالبشر ية اليوم‪ ،‬تح طم أ هم ما في كيان (الن سان) وتحارب أر فع‬

‫مقوماته النسانية‪ ،‬وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلت الرائعة ‪ -‬وإن كانت هذه التسهيلت قد تكون مؤذية‬

‫لكيانه المادي ذاته ‪ -‬كما يقرر العالم العالمي الكبير‪ ،‬في مواضع شتى من كتابه القيم ‪00‬‬

‫والسلم ‪ -‬بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور النسان فيه‪ ،‬وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي‪ -‬لن يعمد‬

‫إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!‬
‫ولكظن السظلم سظيعمد ‪ -‬ابتداء ‪ -‬إلى تغييظر النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتهظا ‪ 00‬سظيمنحها قيمتهظا‬

‫الحقيقية بل مبالغة وبل بخس كذلك! بحيث يصبح الروح النساني المؤمن هو المسيطر عليها‪ .‬ل أن تكون هي‬

‫المسيطرة عليه‪ ،‬وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته ‪..‬‬

‫إن السلم سيقر في خلد النسان قيمته العلوية ومقوماته الكريمة ‪ 00‬سيستنقذ الروح النساني من المهانة‬

‫التي فرضها عل يه (دارون) و (كارل مار كس) وأشباه هم! وعندئذ سيشعر أنه هو السيد‪ ،‬الذي ينبغي أن يسيطر‬

‫على اللة‪ ،‬وعلى البداع المادي‪ ،‬والحضارة ‪00‬‬

‫وحين يصبح الروح النساني المؤمن هو المسيطر‪ ،‬فيومئذ سيصبح متمتعا بحريته ‪ -‬في إطار عقيدته ‪-‬‬

‫قادرا على الختيار ‪ 00‬فالختيار هو العن صر الهام الذي يفتقده الروح الن ساني الن‪ .‬و هو م جبر مقهور ذل يل‬

‫لللة؛ وللتصورات المنبثقة من دورتها اللية!‬

‫والقدرة على الختيار ستتيح للروح الن ساني المؤ من‪ ،‬أن ي ستبعد العنا صر الضارة في هذه الحضاريات‪،‬‬

‫وينمي العناصر الصالحة‪ ،‬المتفقة مع الحاجات الحقيقية للكينونة النسانية‪ .‬كما أن سيطرة الروح النساني المؤمن‬

‫سظتتيح له التحرر مظن الوضاع المنافيظة لكرامتظه‪ ،‬ومظن طرائق النتاج وأنظمظه العمظل التظي تهدر فيهظا مقومات‬

‫الن سان الكري مة ‪ ،‬فلي ست طرائق النتاج وأنظ مة الع مل شرائع مقد سة! إن ما هي مجرد و سائل ا ستغللية لتنم ية‬

‫مقادير النتاج المادي‪ ،‬على حساب المقومات النسانية! فإذا تقرر أن (النسان) أكرم وأغلى من (الشياء) تغيرت‬

‫طرائق النتاج وأنظمة العمل بحيث توائم بين وفرة النتاج ومقومات النسان الكريمة ‪00‬‬

‫و في حالة نشأة ت صورات وق يم جديدة‪ ،‬منبث قة من المن هج ال سلمي للحياة ‪ 00‬و ما يت بع هذه النشأة من‬

‫سيطرة الروح الن ساني المؤ من على الحضارة ال صناعية وأدوات ها وطرائق ها‪ ،‬مع القدرة على الختيار ال تي هي‬

‫وليدة تلك ال سيطرة ‪ 00‬في هذه الحالة ف قط ي صبح المز يد من (علوم الن سان) ذا قي مة حقيق ية في إطار الت صميم‬

‫الكلي‪ .‬ك ما ي صبح من المم كن تلب ية هتاف م ستر دالس إلى المن هج الذي ي صف سماته‪ ،‬ول يجده ب ين يد يه؛ ول‬

‫تملك كنيسته ول آباؤه الروحيون ‪ -‬وهو أحدهم! ‪ -‬أن تقدمه له!‬

‫ومن حسن الحظ أن الفطرة النسانية ذاتها‪ -‬كما أبدعها ال‪ -‬متناسقة مع فطرة الكون‪ .‬وأن فطرة الكون‪،‬‬

‫كفطرة النسان‪ ،‬تحتوي على عناصر الحركة والبداع والنمو والترقي ‪ 00‬ومن ثم ستجد الفطرة أن الكثير من‬
‫هذه الحضاريات يلبي ويتمشى مع حاجاتها الحقيقية المترقية ‪ 00‬ولن تصطدم إل بما هو ضار بكينونة النسان‬

‫ذاته‪ .‬وهذا ما يجب أن يطرد وينفى ‪ 00‬وهذا ما يكفله منهج ال للحياة ‪ 00‬هذا الدين ‪ 00‬المخلّص الذي يطل به‬

‫الغرب ولكنه يأباه !!!‬


‫المستَقبل لهذا الدّين‬

‫وحين يتقرر أن السلم هو ‪ -‬وحده ‪ -‬القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة‪ ،‬تدلف‬

‫إليهظا مقودة بسظلسل الحضارة الماديظة البراقظة‪ .‬وهظو ‪ -‬وحده ‪ -‬القادر على منحهظا المنهظج الملئم لفطرتهظا‬

‫ولحتياجاتهظا الحقيقيظة‪ .‬وهظو ‪ -‬وحده ‪ -‬الذي ينسظق بيظن خطاهظا فظي البداع المادي وخطاهظا فظي السظتشراف‬

‫الرو حي‪ .‬و هو ‪ -‬وحده ‪ -‬الذي يملك أن يق يم لها نظاما واقعيا للحياة ي تم ف يه هذا التناسق الذي لم تعر فه البشر ية‬

‫قط إل في النظام السلمي ‪ -‬وحده ‪ -‬على مدى التاريخ ‪00‬‬

‫ح ين يتقرر هذا كله تت ضح م عه شنا عة الجري مة ال تي يرتكب ها ‪ -‬في حق البشر ية كل ها ‪ -‬أولئك الذ ين‬

‫يوجهون الضربات الوحشيظة لطلئع البعظث السظلمي فظي كظل مكان ‪ -‬وفظي أولهظم مسظتر دالس الذي يصظرح‬

‫ويستصرخ في طلب مثل هذا المنهج ‪ -‬والذين يجندون قواهم كلها‪ ،‬لطمس معالم المنهج السلمي‪ ،‬ومواراته عن‬

‫أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ‪ ،‬المتلفتة على (مخلص)‪ ،‬وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والكاذيب!‬

‫إنها جريمة بشعة ‪ -‬في حق البشرية كلها ‪ -‬البشرية المسكينة المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها‬

‫ولحتياجات ها الحقي قة ‪ -‬ك ما يقرر العالم الغر بي ال كبير‪ -‬المهددة بغل بة الفل سفة الماد ية علي ها ‪ -‬ك ما ينذر م ستر‬

‫دالس – البشرية التي تدلف إلى الهاوية‪ ،‬مقودة بسلسل هذه الحضارة المادية البراقة‪ ،‬وهي في كل لحظة تقترب‬

‫من الهوة الرعي بة‪ ،‬ول من قذ ل ها إل هذا الد ين‪ ،‬الذي يحار به أعداء البشر ية‪ ،‬في كل مكان على و جه الرض‪،‬‬

‫بشتى الخطط والمؤامرات والساليب!‬

‫إل أن هذه الحرب المشبوبة على السلم ل تفقدنا الثقة المطلقة في أن (المستقبل لهذا الدين)‪.‬‬

‫لقد صمد السلم في حياته المديدة‪ ،‬لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحش ية‪ ،‬التي توجه اليوم‬

‫إلى طلئع البعث السلمي في كل مكان‪ .‬وكافح ‪ -‬وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية‪ -‬وانتصر‪ ،‬وبقى‪،‬‬

‫وأبقى على شخصية الجماعات والوطان‪ ،‬التي كان يحميها‪ ،‬وهو مجرد من السلح!‬

‫إن السظلم هظو الذي حمظى الوطظن الٍسظلمي فظي الشرق مظن هجمات التتار؛ كمظا حماه مظن هجمات‬

‫ال صليبيين على ال سواء ‪ 00‬ولو انت صر ال صليبيون في الشرق ك ما انت صروا في الندلس قديما‪ ،‬أو ك ما انت صر‬
‫ال صهيونيون في فل سطين حديثا‪ ،‬ما بق يت قوم ية عرب ية‪ ،‬ول ج نس عر بي ول و طن عر بي ‪ 00‬والندلس قديما‬

‫وفلسطين حديثا كلهما شاهد على أنه حين يطرد السلم من أرض‪ ،‬فإنه ل تبقى فيها لغة ول قومية‪ ،‬بعد اقتلع‬

‫الجذر الصيل!‬

‫والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار‪ ،‬لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم‬

‫صظمدوا فظي وجظه بنظي جنسظهم المهاجميظن‪ ،‬حميظة للسظلم‪ ،‬لنهظم كانوا مسظلمين! صظمدوا بإيحاء مظن العقيدة‬

‫ال سلمية‪ ،‬وبقيادة روح ية إ سلمية من المام الم سلم (ا بن تيم ية) الذي قاد التعبئة الروح ية‪ ،‬وقا تل فظي مقد مة‬

‫الصفوف!‬

‫ول قد ح مى صلح الد ين هذه البق عة من اندثار العرو بة من ها والعرب والل غة العرب ية ‪ 00‬و هو كردي ل‬

‫عربي ‪ 00‬ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلمها من غارة الصليبيين‪ .‬وكان السلم في ضميره‬

‫هو الذين كافح الصليبيين‪ .‬كما كان السلم في ضمير الظاهر بيبرس‪ ،‬والمظفر قطز‪ ،‬والملك الناصر ‪ 00‬هو‬

‫الذي كافح التتار المتبربرين!‬

‫والسلم هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاما‪ .‬وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها‪ .‬حتى بعد‬

‫أن تحط مت مقومات ها الممثلة في الل غة والثقا فة‪ ،‬حين ما اع تبرت فرن سا الل غة العرب ية – في الجزائر‪ -‬ل غة أجنب ية‬

‫محظورا تعليمها! هنالك قام السلم ‪ -‬وحده ‪ -‬في الضمير‪ ،‬يكافح الغزاة‪ ،‬ويستعلي عليهم‪ ،‬ول يحنى رأسه لهم‬

‫لن هم أعداؤه (ال صليبيون)! وبهذا ‪ -‬وحده ‪ -‬بق يت روح المقاو مة في الجزائر‪ ،‬ح تى أزكت ها من جد يد الحر كة‬

‫السلمية التي قام بها عبد الحميد بن باديس‪ ،‬فأضاءت شعلتها من جديد ‪ 00‬وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها‬

‫المغفلون والمضلّلون‪ ،‬يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيدا لنهم (صليبيون)!‬

‫إنهم على يقين أن (السلم)‪ ،‬باستعلء روحه على أعدائه‪ ،‬هو الذي يقف في طريقهم في الجزائر‪ .‬ومن‬

‫ثم يعلنونها حربا على (المسلمين) ‪ 00‬ل على (العرب) ول على (الجزائريين)!‬

‫والسلم هو الذي هب في ال سودان في ثورة المهدي ال كبير على الحتلل البريطا ني للقسم الشمالي من‬

‫الوادي (مصر) ثم القسم الجنوبي (السودان) ومراجعة إعلنات (المهدي) الكبير ‪ ،‬ورسائل (عثمان دقنة) لكتشنر‬

‫وكرومر وتوفيق‪ ،‬تشهد بحيوية هذا الباعث الصيل‪.‬‬


‫والسلم هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني ‪ 00‬وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت‬

‫بذرة المقاومة‪ .‬ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل‪..‬‬

‫وأول انتفاضظة فظي مراكظش‪ ،‬كانظت منبثقظة مظن الروح السظلمي‪ .‬وكان (الظهيظر البربري) الذي سظنه‬

‫‪ 00‬هو‬ ‫الفرنسيون سنة ‪ 1931‬وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية‪ ،‬وفصلهم عن الشريعة السلمية‬

‫الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين‪.‬‬

‫لقظد كافظح الٍسظلم ‪ -‬وهظو أعزل ‪ -‬لن عنصظر القوة كامظن فظي طظبيعته‪ .‬كامظن فظي بسظاطته ووضوحظه‬

‫وشموله‪ ،‬وملءمتظه للفطرة البشريظة‪ ،‬وتلبيتظه لحاجاتهظا الحقيقيظة ‪ 00‬كامظن فظي السظتعلء عظن العبوديظة للعباد‬

‫بالعبودية ل رب العباد؛ وفي رفض التلقي إل منه‪ ،‬ورفض الخضوع إل له من دون العالمين ‪ ..‬كامن كذلك في‬

‫السظتعلء بأهله على الملبسظات العارضظة كالوقوع تحظت سظلطان المتسظلطين‪ .‬فهذا السظلطان يظظل خارج نطاق‬

‫الضمير مهما اشتدت وطأته ‪ ..‬ومن ثم ل تقع الهزيمة الروحية طالما عمر السلم القلب والضمير‪ ،‬وإن وقعت‬

‫الهزيمة الظاهرية في بعض الحايين‪.‬‬

‫و من أ جل هذه الخ صائص في ال سلم يحار به أعداؤه هذه الحرب المنكرة‪ ،‬ل نه ي قف ل هم في الطر يق‪،‬‬

‫يعوقهم عن أهدافهم الستعمارية الستغللية‪ ،‬كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الرض كما يريدون!‬

‫ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملت القمع والبادة‪ ،‬كما يطلقون عليه حملت التشويه والخداع‬

‫والتضليل!‬

‫و من أ جل هذا يريدون أن ي ستبدلوا به قيما أخرى‪ ،‬وت صورات أخرى‪ ،‬ل ت مت ب سبب إلى هذا المنا ضل‬

‫العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية‪ ،‬والصليبية العالمية‪ ،‬والستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!‬

‫إن خصائص السلم الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلب الوطن السلمي ‪ 00‬هذه‬

‫هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الصيل‪..‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ولكن الذي ل شك فيه ‪ -‬على الرغم من ذلك كله ‪ -‬هو أن (المستقبل لهذا الدين)‪..‬‬
‫( فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي ل‬

‫يتزعزع‪ ،‬في أن الم ستقبل لهذا الد ين‪ .‬وأن له دورا في هذه الرض هو مد عو لدائه ‪ -‬أراد أعداؤه أم لم يريدوا‬

‫‪ -‬وأن دوره هذا المرتقب ل تملك عقيدة أخرى ‪ -‬كما ل يملك منهج آخر‪ -‬أن يؤديه‪ .‬وأن البشرية بجملتها ل‬

‫تملك كذلك أن تستغني طويلً عنه ) ‪ 00‬كما قلنا في صدر هذا الكتاب‪00‬‬

‫ول حا جة ب نا إلى الم ضي في توك يد هذه الحقي قة على هذا الن حو‪ .‬فنكت في في هذا المو ضع بعرض عبرة‬

‫عن الواقع التاريخي للسلم‪ ،‬لعلها أنسب العبر في هذا المقام‪:‬‬

‫بينما كان (سراقة بن مالك) يطارد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وصاحبه أبا بكر رضي ال عنه ‪-‬‬

‫وهما مهاجران خفية عن أعين قريش ‪ 00‬وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه‪،‬‬

‫طمعا في جائزة قر يش المغر ية ال تي ر صدتها ل من يأتي ها بمح مد و صاحبه أو ي خبر عنه ما ‪ 00‬وبين ما هو ي هم‬

‫بالرجوع –وقد عاهد النبي‪ -‬صلى ال لعيه وسلم‪ -‬أن يكفيهما من وراءه ‪00‬‬

‫في هذه اللح ظة قال ال نبي صلى ال عل يه و سلم‪ ( :‬يا سراقة‪ .‬ك يف بك و سوارى ك سرى؟ ) ‪ 00‬يعده‬

‫سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! (ملك الملوك!)‪.‬‬

‫وال وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد‬

‫الوحيد ‪ 00‬إل من صاحبه الذي ل يغني شيئا عنه‪ ،‬والمهاجظظر ‪ -‬سرّا ً‪ -‬معه!‬

‫ولكن كالرسول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬كان عارفا بالحق الذي معه‪ ،‬معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية‬

‫في الرض كلها يومذاك ‪ 00‬وكان واثقا من أن هذا الحق لبد أن ينتصر على هذا الباطل‪ .‬وأنه ل يمكن أن يوجد‬

‫(الحق) في صورته هذه‪ ،‬وأن يوجد (الباطل) في صورته هذه‪ ،‬ثم ل يكون ما يكون!‬

‫كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كل ها‪ ،‬بحيث ل يصلها ري ول سماد ‪ 00‬كانت قد خب ثت بح يث‬

‫يتحتم أن تجتث ‪ 00‬وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء ‪ 00‬وكان واثقا من هذا كله ثقة اليقين‬

‫‪00‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملبساته‪ ،‬وكل سماته‪ .‬مع الجاهلية كلها من حولنا ‪ 00‬فل يجوز ‪-‬‬

‫من ثم ‪ -‬أن ينق صنا اليق ين في العاق بة المحتو مة‪ .‬العاق بة ال تي يش ير إلي ها كل ش يء من حول نا‪ .‬على الر غم من‬

‫جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!‬

‫إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج‪ ،‬ليست بأقل من حاجتها يومذاك ‪ 00‬وإن وزن هذا المنهج اليوم ‪-‬‬

‫بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج ‪ -‬ل يقل عنه يومذاك ‪00‬‬

‫و من ثم ينب غي أل يخالج نا ال شك في أن ما و قع مرة في م ثل هذه الظروف ل بد أن ي قع‪ .‬ول يجوز أن‬

‫يتطرق إلى قلوبنا الشك‪ ،‬بسبب ما نراه من حولنا‪ ،‬من الضربات الوحشية التي تكال لطلئع البعث السلمي في‬

‫كل مكان‪ ،‬ول بسبب ما نراه كذلك من ضخامة السس التي تقوم عليها الحضارة المادية‪ 00‬إن الذي يفصل في‬

‫المر ليس هو ضخامة الباطل‪ ،‬وليس هو قوة الضربات التي تكال للسلم‪ .‬إنما الذي يفصل في المر هو قوة‬

‫الحق‪ ،‬ومدى الصمود للضربات!‬

‫إن نا لسنا وحد نا ‪ 00‬إن رصيد الفطرة مع نا ‪ 00‬فطرة الكون وفطرة الن سان ‪ 00‬و هو رصيد هائل ض خم‬

‫‪ 00‬أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة ‪ 00‬ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة‪ ،‬فل بد أن‬

‫يكتب النصر للفطرة ‪ 00‬قصر الصراع أم طال(‪.)]19[1‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا ‪ 00‬إن أمامنا كفاحا مريرا شاقا طويلً‪ .‬لستنقاذ الفطرة من الركام‪.‬‬

‫ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام‪.‬‬

‫كفاحا مريرا يجب أن نستعد له استعدادا طويلً ‪00‬‬

‫يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ‪00‬‬

‫نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بال‪ .‬وفي حقيقة معرفتنا بال فإننا لن نؤمن به حق اليمان حتى نعرفه‬

‫حق المعرفة ‪00‬‬

‫ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا ل‪ .‬فإننا لن نعرف ال حق المعرفة إل إذا عبدناه حق العبادة‪.‬‬

‫([‪ )]19‬راجع فصل "رصيد الفطرة" في كتاب‪" :‬هذا الدين"‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫ونرت فع إلى م ستواه في وعي نا ب ما حول نا‪ ،‬ومعرفت نا ل ساليب ع صرنا ‪ 00‬ور حم ال رجلً عرف زما نه‬

‫واستقامت طريقته‪.‬‬

‫ونرت فع إلى م ستواه في إحاطت نا لثقا فة عصرنا وحضارته؛ وممار سة هذه الثقا فة وهذه الحضارة ممار سة‬

‫اختبار واختيار ‪ 00‬فإننا ل نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها وما ينبغي أن ندع‪ ،‬إل إذا سيطرنا عليها‬

‫بالمعرفة والخبرة‪ .‬فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الختيار ‪00‬‬

‫ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة‪ ،‬فنرفض ما نرفض من‬

‫هذه الحضارة‪ ،‬ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!‬

‫وهذا كفاح مرير ‪ 00‬وكفاح طويل ‪ 00‬ولكنه كفاح بصير وفاح أصيل‪..‬‬

‫وال معنا ‪" 00‬وال غالب على أمره ولكن أكثر الناس ل يعلمون" ‪00‬‬

‫وصدق ال العظيم‪.‬‬

You might also like