Professional Documents
Culture Documents
1
المقدمة
الحمد ل رب العالمين والصلة والسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذه هي الطبعة الثالثة لكتابي "أصول الدعوة" وقد أضفت إليه "نظام الفتاء" و "نظام الحسبة"
وهما من أنظمة السلم المهمة ،وال تعالى أسأل أن يوفقني لخدمة السلم وإظهار معانيه
للناس وهو حسبي ونعم الوكيل.
الدكتور عبد الكريم زيدان
بغداد في 1رمضان 1395هـ
06/09/1975م
2
المقدمة
تمهيد
-1نقصد بالدعوة ،الدعوة إلى ال ،قال تعالى﴿ :قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا
ومن اتبعني .﴾..والمقصود بالدعوة إلى ال الدعوة إلى دينه وهو السلم ﴿إن الدين عند ال
السلم﴾ الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى .فالسلم هو
موضوع الدعوة وحقيقتها ،وهذا هو الصل الول للدعوة .وقد بلغ الرسول الكريم صلى ال
عليه وسلم هذا السلم العظيم أحسن تبليغ وأكمله وظل يدعو إلى ال منذ أن أكرمه ال
بالرسالة إلى حين انتقاله إلى جوار ربه الكريم ولهذا أرسله ال تعالى﴿ :يا أيها النبي إنا
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .وداعيا إلى ال بإذنه وسراجا منيرا﴾ .فهو صلى ال عليه
وسلم الداعي الول إلى السلم .فالداعي إذن هو الصل الثاني للدعوة.
والذين دعاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى السلم وبلغهم رسالته هم العرب
وغيرهم لن رسالته عامة إلى جميع البشر غير مقصورة على العرب ،قال تعالى﴿ :وما
أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا﴾ .فالمدعو إلى السلم إذن هو الصل الثالث للدعوة.
وقد قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدعوة إلى السلم بالوسائل والساليب والمناهج التي
أوحى بها ال إليه والثابتة في القرآن والسنة النبوية الكريمة .وهذه الوسائل والساليب وما
يتصل بها هي الصل الرابع للدعوة.
فأصول الدعوة إذن أربعة :موضوعها ،والداعي ،والمدعو ،والوسائل.
منهج البحث
-2وبناء على ما تقدم سيكون منهجنا في البحث تقسيمه إلى أربعة أبواب ،كل باب لصل
واحد من أصول الدعوة على النحو التالي مع خاتمة لهذه البواب:
الباب الول – موضوع الدعوة.
الباب الثاني – الداعي.
الباب الثالث – المدعو.
الباب الرابع – وسائل الدعوة وأساليبها.
الخاتمة.
3
الباب الول :موضوع الدعوة
تمهيد
-1قلنا :إن موضوع الدعوة هو السلم الذي أوحى ال تعالى به إلى رسوله محمد صلى ال
عليه وسلم في القرآن والسنة المطهرة .ونحن في كلمنا على السلم ل نريد التفصيل
والسهاب كما ل نريد اليجاز والختصار وإنما نريد أن نبين شيئا عنه يحتاج إليه المدعو ول
يسع الداعي جهله ...وعلى هذا الساس ل بد من بيان تعريفه وأركانه وخصائصه وأنظمته
ومقاصده .وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى خمسة فصول.
الفصل الول – تعريف السلم.
الفصل الثاني – أركانه.
الفصل الثالث – خصائصه.
الفصل الرابع – أنظمته.
الفصل الخامس – مقاصده.
التعريف الول
-1في حديث جبريل عليه السلم ،حيث جاء بهيئة أعرابي ،يسأل رسول ال صلى ال عليه
وسلم ليسمع الحاضرون ويتعلموا أمور دينهم ،جاء في هذا الحديث" :فأخبرني عن السلم"
فقال صلى ال عليه وسلم" :السلم أن تشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وتقيم
الصلة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيل" .فالسلم هو ما
جاء في هذا الحديث وسيأتي شرحه فيما بعد.
التعريف الثاني
-2السلم هو الخضوع والستسلم والنقياد ل رب العالمين ،ويشترط فيه أن يكون
اختياريا ل قسريا ،لن الخضوع القسري ل رب العالمين أي لسننه الكونية أمر عام بالنسبة
لجميع المخلوقات ،ول ثواب فيه ول عقاب قال تعالى﴿ :أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في
السموات والرض طوعا وكرها وإليه يرجعون﴾ [آل عمران ]83 :فكل مخلوق خاضع ل
ولسنته في وجوده وبقائه وفنائه ،والنسان كغيره من المخلوقات في هذا الخضوع القسري .أما
4
الخضوع الختياري ل رب العالمين فهذا هو جوهر السلم المطالب به النسان وعليه يكون
الثواب والعقاب ،ومظهره النقياد التام لشرع ال بتمام الرضى والقبول ،وبل قيد ول شرط
ول تعقيب ،ومن ثم كان السلم بهذا المعنى هو دين ال المرضي عنده ،وأوحى به إلى رسله
الكرام وبلغوه إلى الناس ،قال تعالى﴿ :إن الدين عند ال السلم﴾ [آل عمران﴿ ]19:ومن يبتغ
غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين﴾ [آل عمران﴿ ]85:ومن يسلم
وجهه إلى ال وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى ال عاقبة المور﴾ [لقمان:
ن إل وأنتم
﴿ ]22ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن ال اصطفى لكم الدين فل تموتُ ّ
مسلمون .أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ،قالوا نعبد
إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون﴾ [البقرة,132 :
.]133
-3ثم خص لفظ "السلم" بالدين الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه وبالنقياد
التام له بل قيد ول شرط ،وبهذا النقياد يظهر خضوع النسان ل رب العالمين خضوعا
اختياريا وهو جوهر السلم كما قلنا .وبهذا المعنى الخاص للسلم جاء قوله تعالى﴿ :اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا﴾[المائدة ]3:وعلى هذا يكون
تعريف السلم بمعناه الخاص وهو المطلوب عند اطلق هذا السم "السلم هو الخضوع
الختياري ل رب العالمين ومظهره النقياد لشرع ال الذي أوحاه إلى رسوله محمد صلى ال
عليه وسلم وأمره بتبليغه إلى الناس".
التعريف الثالث
-4السلم هو النظام العام والقانون الشامل لمور الحياة ومناهج السلوك للنسان التي جاء
بها محمد صلى ال عليه وسلم من ربه وأمره بتبليغها إلى الناس ،وما يترتب على اتباعها أو
مخالفتها من ثواب أوعقاب قال تعالى﴿ :ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في
الخرة من الخاسرين﴾ فالدين هنا يتضمن المعاني التي ذكرتها ويستلزم غيرها ،وهي
بمجموعها تعني السلم الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من رب العالمين.
التعريف الرابع
-5السلم هو مجموع ما أنزله ال تعالى على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم من أحكام
العقيدة والخلق والعبادات والمعاملت والخبارات في القرآن الكريم والسنة المطهرة ،وقد
أمره ال بتبليغها إلى الناس قال تعالى﴿ :يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ،وإن لم
5
تفعل فما بلغت رسالته ،وال يعصمك من الناس[﴾...المائدة ]67 :وما أنزله ال عليه هو
القرآن والسنة وفيهما جميع الحكام التي ذكرناها ،وهي دين ال ،وهو السلم.
التعريف الخامس
-6السلم هو الجوبة الصحيحة الحقة لثلثة اسئلة شغلت عقول البشر في القديم وفي
الحديث ،وترد على فكر كل إنسان كلما خل بنفسه وسرح خواطره في أمور الحياة ،أو شيع
ميتا أو شاهد قبورا ...هذه السئلة هي:
من أين جئنا؟
ولماذا جئنا؟
وإلى أين المصير؟
والجوبة الصحيحة لهذه السئلة التي أخبر بها رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم تكون
بمجموعها وتفصيلتها السلم:
-7فعن السؤال الول يقول ال تعالى﴿ :يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا
خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر
في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلً ثم لتبلغوا أشدّكم ،ومنكم من يتوفى
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم من بعد علم شيئا[﴾...الحج﴿ .]5 :ولقد خلقنا
النسان من سللة من طين .ثم جعلناه نطفة في قرار مكين .ثم خلقنا النطفة علقة ،فخلقنا
العلقة مضغة ،فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ،فتبارك ال
أحسن الخالقين﴾[المؤمنون﴿ .]14 ،13 ،12 :الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق النسان
من طين .ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين .ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم
السمع والبصار والفئدة قليلً ما تشكرون﴾[السجدة﴿ .]9 ،8 ،7:هل أتى على النسان حين
من الدهر لم يكن شيئا مذكورا .إنّا خلقنا النسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا
بصيرا﴾[النسان﴿ .]2 ،1:فلينظر النسان مم خلق .خلق من ماء دافق .يخرج من بين الصلب
والترائب﴾[الطارق.]5 :
فهذه اليات الكريمة وأمثالها في القرآن الكريم تبين أن النسان لم يكن شيئا ،كان معدوما،
فخلقه ال تعالى من تراب ثم جعل نسله من ماء مهين على النحو المذكور في هذه اليات،
فمن جهة خلق النسان الول وهو آدم عليه السلم كان خلقه من طين أو تراب ومن جهة
خلق نسله وذريته كان خلقه من ﴿نطفة من مني يمنى﴾[القيامة ]37 :أي من الماء الدافق الذي
يخرج من بين الصلب والترائب.
وعن السؤال الثاني :يقول ال تعالى في القرآن الكريم: -8
6
﴿وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون﴾[الذاريات ]56 :والعبادة تتضمن معرفة ال ومحبته
والخضوع له واتباع مناهجه التي وضعها للنسان لتكميل نفسه ورفعها إلى المستوى اللئق
بها والمستعدة له ،ليظفر بالسعادة الحقيقية هنا وهناك في الدنيا والخرة .فالنسان خلق لعبادة
ال بمعناها الواسع كما سنذكر فيما بعد.
وعن السؤال الثالث :يقول ال تعالى في القرآن الكريم: -9
﴿يا أيها النسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه﴾[النشقاق﴿ .]6 :وال يبدأ الخلق ثم يعيده
ثم إليه ترجعون﴾[الروم ...﴿ .]11 :ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون[﴾..الزمر:
ن إلى ربك الرجعى﴾[العلق.]8 :
ن إلى ربك المنتهى﴾[النجم﴿ .]42 :إ ّ
﴿ .]7وإ ّ
فهذه اليات الكريمة تبين مصير النسان بعد موته وهو رجوعه إلى خالقه لمجازاته على
أعماله في الدنيا ،وادخاله الدار التي تلئمه ،فان كان قد زكى نفسه بعبادة ال وصار من
الطيبين فنزله في دار الطيبين – الجنة – وإن كان قد دنس نفسه ولوثها بأقذار المعصية وأبقى
خبثها فنزله في دار الخبيثين – جهنم ،-كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد.
التعريف السادس
-10السلم هو الروح الحقيقية للنسان والنور الهادي له في درب الحياة والشفاء الكافي
الوافي لمراض البشرية والصراط المستقيم الذي ل يضل ن سلكه وسار فيه ،قال تعالى﴿ :
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان ولكن جعلناه نورا
نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط ال الذي له ما في
السموات وما في الرض ،أل إلى ال تصير المور﴾[الشورى .]52 :وقال تعالى﴿ :وننزل
من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين﴾[السراء﴿ .]82 :قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء﴾[فصلت.]44 :
ومن الواضح ان هذا التعريف تعريف للسلم ببعض صفاته اللصقة به التي ل تنفك عنه،
وعلى هذا يمكن تعريفه بذكر أوصافه الخرى كأن نقول السلم هو دين الفطرة لقوله
تعالى﴿ :فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ،ذلك الدين
القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون﴾[الروم .]30 :كما يمكن أن نقول في تعريفه :السلم دين
التوحيد ،أو دين العلم ،أو دين العدل ،لن فيه هذه المعاني على أتم الوجوه ويدعو إليها ويؤكد
عليها...
7
-11ومما تجب ملحظته ان ما ذكرناه من تعاريف متنوعة للسلم إنما هو على سبيل
التمثيل ل الحصر إذ يمكن التيان بتعاريف اخرى بعبارات متنوعة ول مانع من ذلك بشرط
ان يكون مضمون التعريف صحيحا ومنطبقا على معنى السلم وان تكون الفاظ التعريف
واضحة صحيحة ل لبس فيها ول غموض ول اشتباه.
ل تناقض ول اختلف
-12وملحظة ثانية ،ان هذه التعاريف التي ذكرناها كلها صحيحة ول تناقض فيما بينها
ول اختلف لن كل واحد منها يستلزم أو يتضمن ما في التعريف الخر .ان الختلف فيما
بينها هو اختلف في اللفاظ ل في المعاني التي يبرزها هذا التعريف دون ذلك ،وهذا القدر
من الختلف ل يؤثر في وحدة مضمون التعاريف ودللتها على معنى السلم صراحة أو
بالتضمن والستلزام كما قلنا.
التعريف المختار
-14والتعريف الذي نختاره ونجعله أساسا لبيان أركان السلم هو التعريف الول الذي
ورد عن النبي صلى ال عليه وسلم في حديث جبريل ،وقد ذكرناه سابقا ،وهو يتضمن جميع
ما في التعاريف الخرى من معان.
8
تمهيد
-1ذكرنا حديث جبريل وفيه جواب النبي صلى ال عليه وسلم عن السلم بأنه "السلم أن
تشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وتقيم الصلة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان
وتحج البيت ان استطعت إليه سبيل" .وعلى هذا فأركان السلم ،في ضوء هذا الحديث
الشريف ،ثلثة( :الول) شهادة أن ل إله إل ال (الثاني) شهادة أن محمدا رسول ال (الثالث)
العمل الصالح وفي ذروته الصلة والزكاة والصوم والحج وإنما ذكرت هذه الربعة لهميتها
وللتنبيه إلى ضرورة العمل الصالح للمسلم وأنه ل يكفي التلفظ بالشهادتين بل ل بد من العمل
بمضمونها .فل بد من الكلم عن هذه الركان الثلثة ،وعلى هذا نقسم هذا الفصل إلى ثلثة
مباحث ونخصص لكل ركن مبحثا على حدة.
معنى الله
-3أما كلمة "إله" فيراد بها المعبود ،وهي تستعمل بمعنى المعبود بحق أو بباطل ،وبهذا
المعنى وردت في قوله تعالى﴿ :أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾[الجاثية ]23 :كما تستعمل بمعنى
المعبود الحق وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى﴿ :فاعلم أنه ل إله إل ال واستغفر
لذنبك﴾[محمد ]19 :وبهذا المعنى أيضا وردت في قوله عليه الصلة والسلم "أن تشهد أن ل
إله إل ال".
9
معنى كلمة التوحيد
-4وعلى هذا يكون معنى كلمة التوحيد – أشهد أن ل إله إل ال – اني اعلم وأقر وأعترف
وأعتقد بأن المعبود الحق الذي ل يستحق العبادة غيره هو ال تعالى ،وأن أبين ذلك وأظهره
بلساني وأفعالي وسلوكي.
هذا ،وأن افراد ال تعالى بالعبادة ،وهو الذي يسمى بتوحيد اللوهية ،يتضمن توحيد الربوبية
ومعناه العتقاد بأن ال تعالى وحده هو رب العالمين ،فصار عندنا التوحيد نوعين ( )1توحيد
اللوهية )2( .توحيد الربوبية.
10
أوحى﴾ ﴿وانه لما قام عبد ال يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا﴾ ﴿سبحان الذي أسرى بعبده
ليلً من المسجد الحرام إلى المسجد القصى﴾.
11
الصحائف بعد تغير ترتيبها بعد طبع كل صحيفة بفعل الرياح ..ان هذا الكلم ل يصدقه عاقل،
فكيف يصدق أن هذا الكون الهائل وهذا النسان العجيب ،وهذه المخلوقات الغريبة من حيوان
ونبات كل ذلك حدث صدفة بل موجد ول مدبر ول منظم ،ان هذا شيء ل يمكن قبوله أبدا.
اذكر أن أحد الطلب سألني لماذا ل يمكن أن يوجد هذا العالم صدفة بفعل المادة؟ فأجبته انظر
إلى هذه السبورة وهي أمامك – وكان عليها بعض الكتابات – لو قال انسان :إن هذه السطر
على السبورة لم يكتبها كاتب وإنما حدثت صدفة بأن حملت الرياح ذرات التراب ودخلت بها
من نوافذ الغرفة وأسقطتها على السبورة فظهرت بشكل كلم مفهوم مكونا هذه السطر ،أيمكن
لعاقل أن يصدق هذا القول؟ فقال ل ،قلت فاذا كان هذا غير مقبول ويرفضه العقل ،وهو شيء
بسيط وتافه للغاية فكيف يمكن لعقل سليم أن يصدق أن المادة الصماء العمياء أبدعت هذا
الكون أو أن هذا الكون بكل ما فيه انبثق من هذه المادة؟ ولهذا فإن القرار بربوبية ال
وانفراده بها أمر شائع عند البشر ومركوز في فطرة كل انسان ،ويعترف به حتى المشرك،
قال تعالى﴿ :ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن ال فأنى يؤفكون﴾[الزخرف ]87 :وقال تعالى﴿ :
ولئن سألتهم من خلق السموات والرض ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾ [الزخرف.]9 :
12
أو صديق أو زوجة ،وإنما رأيت نفسي وبل شعور متوجها إلى ال تعالى هاتفا باسمه طالبا
العون منه وهكذا كان فقد نجوت باعجوبة والفضل في ذلك ل وحده الذي لم أفكر فيه قط منذ
ثلثين سنة وهي عمري الن .إن هذه القصة صحيحة على ما اعتقد إذ ل داعي لتلفيقها ،بل
وإنها تتكرر في كل يوم مئات المرات بأشكال أخرى .إن النسان الغافل الناسي الذي ل يخطر
بباله ل تعالى ،يجد نفسه مدفوعا إلى التوجه إلى ال تعالى كلما ألمت به مصيبة أو وجد نفسه
في ضيق ،فالمريض الراقد في سريره أو في غرفة العمليات ،وراكب الطائرة الذي يخبره
قائدها أن خطرا يواجه الطائرة هؤلء ل يفكرون في تلك الساعة بشيء ول يخطر ببالهم شيء
سوى ال تعالى ،به يستجيرون وإليه يتوجهون .وصدق ال العظيم إذ يقول مخبرا عن
المشركين﴿ :وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا ال مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم
يشركون﴾ [لقمان.]32 :
ان مسألة وجود ال من البدهيات التي ل توجد بدهية مثلها في الوضوح والظهور ،بل نقول إذا
لم تصح هذه المسألة في العقول فل يمكن مطلقا أن تصح مسألة أخرى غيرها ،فليس هناك
شيء عليه من الدلة من حيث الكثرة والتنوع مثل مسألة وجود ال تعالى.
13
اخلص العبادة ل تعالى .قال ال تعالى﴿ :قل ادعوا الذين زعمتم من دون ال ل يملكون
مثقال ذرة في السموات ول في الرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير﴾
[سبأ.]22 :
والقرآن يقرر بعض الحقائق التي يعترف بها المشركون وهي أن ال هو مالك السماوات
والرض والمتصرف فيها وهو الذي يجير المستجيرين به ،فيجب إذن أن يعبدوا ال دون
غيره ،قال تعالى﴿ :قل لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون .سيقولون ل قل أفل تذكرون.
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم .سيقولون ل قل أفل تتقون .قل من بيده
ملكوت كل شيء وهو يجير ول يجار عليه ان كنتم تعلمون .سيقولون ل قل فأنى تسحرون.
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون﴾ [المؤمنون.]90 – 84 :
14
-15وهذه الشهادة هي الركن الثاني في السلم ،ومعناها العلم والتصديق والعتقاد الجازم
بأن محمدا صلى ال عليه وسلم رسول ال ،وإعلن ذلك وإظهاره وبيانه بالقول والعمل ،أما
بالقول فبالنطق بهذه الشهادة ،وأما بالعمل فيكون بإقامة سلوك النسان وجميع تصرفاته القولية
والعملية وفق ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه على وجه التباع له والقبول منه
باعتباره رسول ال.
رسل ال كثيرون
-16ورسل ال الذين أرسلهم الى البشر كثيرون منهم من قص ال علينا أخبارهم وعرفنا
بأسمائهم ومنهم من لم يعرفنا بهم ،قال تعالى﴿ :ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا ال
واجتنبوا الطاغوت﴾ فكل أمة من أمم الرض جاءها رسول ،وقد ل نعرفه لن ال تعالى لم
يخبرنا باسمه ول برسالته .قال تعالى﴿ :ورسلً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلً لم
نقصصهم عليك وكلم ال موسى تكليما﴾ [النساء.]164 :
ختم الرسالت
15
-18وقد ختم ال رسالته بالرسالة السلمية التي أوحى بها الى نبيه محمد صلى ال عليه
وسلم وجعله خاتم النبياء والمرسلين قال تعالى﴿ :ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن
رسول ال وخاتم النبيين﴾ [الحزاب ]40 :وانما ختمت الرسالة برسالة السلم الخالدة لكمالها
ووفائها بحاجات البشر الى يوم القيامة ،فل داعي لرسالة أخرى قال تعالى﴿ :اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا﴾ [النعام.]3 :
16
وأعظم دليل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وهو ل يزال قائما موجودا بين أيدينا هو
القرآن العظيم وإعجازه الثابت فل بدّ من الكلم عن هذا الدليل على حدة.
دليل العجاز
-20من الواضح الجلي المعروف لدى المطلعين على التاريخ السلمي ،أن أهل مكة
وقريش بالذات قاومت الدعوة السلمية الولى ولم تعترف أول المر بنبوة محمد صلى ال
عليه وسلم ،وأنكرت أنه رسول ال أو أن القرآن كتاب ال ،فكان من جملة ما حصل بين
رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم وبين قريش وسائر المخافين له والمعاندين والمنكرين
أن تحداهم بالقرآن بأن قال لهم كما اوحى ال إليه﴿ :قل لئن اجتمعت النس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ [السراء ]88 :فسكت
المخالفون عن هذا التحدي وعجزوا عن كسره أو الجابة عليه ،ثم تحداهم رسول ال صلى
ال عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى ال إليه﴿ :ام يقولون افتراه ،قل فأتوا بعشر سور مثله
مفتريات وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين﴾ [هود ]13 :فسكتوا وعجزوا .ثم
تحداهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى ال به إليه﴿ :وما كان هذا
القرآن أن يفترى من دون ال ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ل ريب فيه من
رب العالمين .أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم
صادقين﴾ [يونس﴿ ]38 ،37 :وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
وادعوا شهداءكم من دون ال إن كنتم صادقين .فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي
وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾ [البقرة .]24 ،23 :وكانت نتيجة هذا التحدي
المتكرر من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى قريش وسائر المخالفين ،أقول كانت
نتيجة ذلك أن عجز المخالفون عن كسر هذا التحدي أو عن محاولة كسره بل صمتوا صمت
الجدار وراحوا يسلكون سبلً أخرى تقوم على الكذب والفتراء واستعمال الصد عن سبيل ال
بالقوة والرهاب واليخاء لمن معهم بأن ل يسمعوا للقرآن لئل يتأثروا به .قال تعالى مخبرا
عن أسلوبهم هذا ﴿وقال الذين كفروا ل تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾ [فصلت:
.]26
17
إلى هذه الدللة أو هذه النتيجة .فهل توفرت شروط تحدي القرآن لقريش الذي جاء على لسان
رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ وقبل الجابة على هذا السؤال نتساءل ما هي شروط التحدي؟
ان هذه الشروط هي:
أولً :أن يكون موضوع التحدي داخل في قدرة من وجه اليهم بل ويكون داخل في
اختصاصهم ومما هم بارعون فيه ومتفوقون فيه ومشهورون فيه ،كما لو وجه مصارع تحديه
إلى المصارعين بأنه هو البطل الوحيد في المصارعة ومن يشك في ذلك فليتقدم إلى
مصارعته ،فموضوع التحدي هنا "مصارعة" والمصارعة داخلة في اختصاص من وجه اليهم
هذا التحدي وهم المصارعون.
ثانيا :والشرط الثاني للتحدي أن يكون من وجه اليهم راغبين كل الرغبة ،حريصين كل
الحرص على إبطال دعوى المتحدي والجابة على تحديه .فل يكفي توفر الشرط الول لقيام
التحدي السليم الموصل إلى نتيجة ،فقد يكون من وجه اليهم غير راغبين ول حريصين على
إبطال دعوى المتحدي وبالتالي يسكتون ول يجيبون .فل يدل سكوتهم على عجزهم وبالتالي ل
يدل على صدق دعوى المتحدي .كما لو كان بين المتصارعين من هو قادر على كسر تحدي
المصارع المتحدي ولكنه ل يرغب في ذلك لنه ابن للمتحدي أو أخوه أو صديقه أو أن
المتحدي يعتبر تافها في نظر من تحداهم ل يستحق حتى الجابة على تحديه.
ثالثا :والشرط الثالث للمتحدي أن ل يوجد مانع من وجه إليهم التحدي من الجابة عليه.
وأقصد هنا مانع الخوف من المتحدي ،الخوف من بطشه وقوته وقدرته على إلحاق الذى بهم،
فل يكفي إذن توفر الشرطين السابقين لقيام التحدي الصحيح إذا لم يتوفر هذا الشرط الثالث،
فلو تحدى شخص منازعيه ومخالفيه بأنه هو الوحيد الذي يحوز ثقة الشعب ،وأن الشعب ل
يختار غيره ول يرضى بغيره بديل برئاسة الدولة ،وهو يتحدى كل من ل يؤمن بهذا القول أن
يرشح نفسه في النتخابات الجارية لنتخاب الرئيس ،فإذا سكت الخرون عن تحديه ولم يرشح
أحد نفسه خوفا من بطشه وسلطانه وقوته لن بيده المر والنهي والحكم ،فإن هذا السكون ل
يدل على صحة ما ادعاه المتحدي لنفسه.
هذه هي الشروط الضرورية لعتبار التحدي قائما فعلً ومؤديا الى نتيجته ،فهل هذه الشروط
متوفرة في تحدي القرآن العلني للمشركين المعلن على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم؟
18
أولً :فيما يخص الشرط الول ،وهو أن يكون موضوع التحدي داخلً في اختصاص من وجه
إليهم التحدي ،فمن المعروف أن قريشا وسائر العرب اشتهروا بالبلغة والفصاحة والمعرفة
باللسان العربي ،وبرزوا في ذلك خطابة ونثرا وشعرا وتذوقا ،حتى إنهم كانوا يعقدون المواسم
الدبية لتخير أحسن الشعر .ومن المعلوم أيضا أن القرآن الكريم أنزله ال بلغة العرب
وبلسانهم ،فاذا تحداهم به وقال لهم :إن كنتم في شك من أن هذا القرآن هو كلم ال المنزل
على رسول محمد صلى ال عليه وسلم ،فأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من
مثله ،فإنما يتحداهم بشيء داخل في اختصاصهم وداخل فيما هم فيه بارعون ،فيكون هذا
الشرط متحققا في تحدي القرآن للمخالفين.
ثانيا :فيما يخص الشرط الثاني ،وهو وجود الرغبة والحرص عند المخالفين من قريش
وغيرهم على ابطال دعوة النبي صلى ال عليه وسلم واثبات ادعائهم بأنه ليس رسولً ل ،فهذا
الشرط موجود ،ويعرفه صغار المطلعين على التاريخ السلمي ،فمن الواضح أن قريشا لم
ترض بدعوة النبي صلى ال عليه وسلم وحاولت محاولت شتى لبطال هذه الدعوة ،سلكت
سبيل الترغيب بأن عرضت على أبي طالب أن يمنع ابن أخيه محمدا صلى ال عليه وسلم من
الستمرار في دعوته ،وهم مقابل ذلك يعطونه من الموال ما يجعله أغناهم ،ويجعلونه رئيسا
عليهم فيكون هو صاحب السلطان ،أو يعرضونه على أهل المعرفة بالمراض النفسية إن كان
ما جاء به شيئا اعتراه يحتاج الى تطبيب وعلج ،فكان جواب النبي صلى ال عليه وسلم لعمه
بعد أن أبلغه رغبة قريش " وال يا عماه ،لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على
أن أترك هذا المر ما تركته حتى يظهره ال أو أموت دونه "...أو كما قال رسول ال صلى
الهل عليه وسلم.
ثم سلكوا سبيل التهديد واليذاء والمقاطعة القتصادية للنبي صلى ال عليه وسلم ولمن اتبعه
وسبيل الفتراء على الرسول صلى ال عليه وسلم ورميه بما هو براء منه كقولهم :إنه مجنون
أو ساحر أو مفتر ،وقد بلغ الذى به وبالمسلمين أن عذبت قريش بعض المسلمين تعذيبا بدنيا
ماتوا فيه ،كما هاجر بعض المسلمين الى الحبشة مرتين فرارا من هذا العذاب والذى الشديد.
وهذا كله يدل دللة واضحة على الرغبة الكاملة والحرص الكيد لدى قريش على ابطال دعوة
النبي صلى ال عليه وسلم.
الشرط الثالث :وهو عدم وجود مانع من الجابة وكسر التحدي .وهذا الشرط موجود في
تحدي القرآن ،فمن المعلوم عند صغار المتعلمين لخبار التاريخ السلمي ،أن السلطان والقوة
والنفوذ كل ذلك كان بيد المشركين في مكة ،أما المسلمون ورسولهم صلى ال عليه وسلم فما
كان لهم من ذلك شيء .فقد كانوا ضعفاء ل حول لهم ول سلطان ،حتى إن بعضهم هاجروا
إلى الحبشة فرارا بدينهم كما قلنا ،وحتى إن المسلمين هاجروا الى المدينة في آخر المر كما
19
هاجر الرسول صلى ال عليه وسلم .كل ذلك يدل على أنه لم يكن هناك مانع يمنع قريشا من
الجابة على التحدي وكسره واثبات ما يزعمونه من أن القرآن ليس كلم ال وان محمدا ليس
برسول ال لو كانوا يستطيعون ذلك.
20
سبيل له إطلقا لليمان بأي نبي ،لن من ينكر وجود الشمس وهو يراها ل سبيل له الى
اليمان بوجود نجم ل يراه ،وإذا آمن به كان متناقضا في ايمانه هذا وإنكاره ذاك.
21
﴿وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ،ومن
يعص ال ورسوله فقد ضل ضللً مبينا﴾ [الحزاب.]36 :
﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير
وأحسن تأويل﴾ ﴿فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ [النساء.]65 – 59 :
﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ [النور.]63 :
فهذه النصوص ،وأمثالها في القرآن كثير ،تذكر المؤمنين بمقتضى إيمانهم بمحمد صلى ال
عليه وسلم نبيا ورسولً وبلوازم هذا اليمان ،فمرة تأمرهم بطاعته ،لن طاعته هي طاعة ل،
وإن جزاء المطيعين جنات النعيم وأن جزاء المخالفين عذاب النار ،وطورا تبين لهم أن
اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم يستلزم أخذ ما أمر به الرسول صلى ال عليه وسلم
والنتهاء عما نهى عنه ،وإن ما يقضي به صلى ال عليه وسلم واجب الطاعة ل خيار فيه
للمسلم ،وإن الرجوع عند الختلف يجب أن يكون إلى ال والرسول ،وأن اليمان الحقيقي
بمحمد صلى ال عليه وسلم يستلزم الرضى بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه ،وتارة تبين
نصوص القرآن أن المخالفة لمر رسول ال وعصيانه سبب لعذاب ال ومقته ،وأن على
المخالفين له أن يحذروا الفتنة والعذاب الليم.
-28والواقع أن ما تذكره هذه النصوص هو النتيجة المنطقية لليمان بمحمد صلى ال عليه
وسلم والرضى به رسول ،لن من التناقض ومن غير المقبول في العقل السليم أن يؤمن
النسان بمحمد صلى ال عليه وسلم ثم ينازعه في بعض ما جاء به أو ل يرضى بما جاء به
أو ينصب نفسه معقبا لبعض ما جاء به أو يتمرد على بعض ما جاء به ،الى غير ذلك ممّا ل
يتفق أبدا ومقتضى اليمان به ..إن النسان إذا آمن بأن فلنا بارع في الطب مبرز فيه ،فإنه
يتقبل منه ما يقوله في شؤون الطب وما يخبره به عن مرضه وسبل علجه ويتبع توجيهاته
في الكل والشرب وفيما يأخذ ويترك ،ول يسوّغ لنفسه معارضته أو مناقشته .فإذا كان هذا
ل بالنسبة للطبيب مع احتمال خطئه فيما يقول ويوصي به ،فكيف يجوز
المسلك سليما ومعقو ً
ل أن يعارضه أو يناقشه؟.
لمن آمن بمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا ورسو ً
22
ومن واجباتنا الخرى نحوه – بأبي هو وأمي -صلى ال عليه وسلم ما يأتي:
أولً :محبته اكثر من النفس والولد والهل والمال والناس أجمعين ،قال صلى ال عليه وسلم
"ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين" ومن البديهي أن
صدق المحبة تكون بخلوص المتابعة له ،فهذا هوالذي يحبه ويرضيه ،والمسارعة إلى ما
يرضيه صلى ال عليه وسلم مما أمرنا ال به وهو من لوازم المحبة الصادقة قال تعالى﴿ :
يحلفون بال لكم ليرضوكم ،وال ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين﴾ [التوبة.]62 :
ثانيا :توقيره وتبجيله واحترامه حيا وميتا قال تعالى﴿ :ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضا﴾ [النور ]63 :لن الرسول الكريم ليس كواحد من الناس انه رسول ال وعلى
الناس أن يوقروه ويجلّوه ويشرفوه حتى في ندائهم له فعليهم أن يقولوا له يا رسول ال يا نبي
ال .وهذا بعض معاني هذه الية.
ومن مظاهر توقيره واحترامه عدم سبقه بالقول أو رفع الصوت عند كلمه قال تعالى﴿ :يا
أيها الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي ال ورسوله واتقوا ال ،إن ال سميع عليم .يا أيها الذين
آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ول تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن
تحبط أعمالكم وأنتم ل تشعرون .إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول ال أولئك الذين امتحن
ال قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ [الحجرات .]3 – 1 :ويبقى هذا الحترام والتوقير
بعد وفاته صلى ال عليه وسلم فل ينبغي رفع الصوت في مسجده وعند قبره ،كما يجب التأذب
عند سماع حديثه الشريف وسنته المطهرة والصغاء الكامل لها والرضى بها وعدم الخروج
عليها أو معارضتها بالراء الفاسدة فاذا سمع المسلم "قال رسول ال صلى ال عليه وسلم"
فليعلم أنه ل قول لحد مع قوله صلى ال عليه وسلم ول معارضة لقوله ،وإنما هو الستماع،
وفهم هذا القول النبوي الكريم والعزم على العمل به.
ثالثا :البتعاد الكامل التام عن إيذاء النبي صلى ال عليه وسلم في أي شيء وبأي قدر من
اليذاء ،فإن هذا كله حرام وقد يؤدي إلى خروج المسلم من السلم قال تعالى﴿ :وما كان لكم
أن يؤذوا رسول ال﴾ [الحزاب ]53 :وقال تعالى﴿ :والذين يؤذون رسول ال لهم عذاب أليم﴾
[التوبة ]61 :ويدخل في نطاق إيذائه المحرم ايذاؤه صلى ال عليه وسلم بالطعن في زوجاته
الكريمات أو سبهن أو عداوتهن فهن أمهات المؤمنين بنص القرآن قال تعالى﴿ :وأزواجه
ن زوجاته الكريمات في الدنيا والخرة .كما يدخل في ايذائه صلى ال عليه وسلم
أمهاتكم﴾ وه ّ
ايذاؤه بالطعن في آل بيته الطهار أو سبهم أو عداوتهم.
رابعا :الصلة والسلم عليه ،قال تعالى﴿ :إن ال وملئكته يصلون على النبي يا أيها الذين
آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾.
23
التحرز من خلط ما ل بما للرسول من حق
-30ومما يجب التنويه به والتذكير به التحرز من خلط ما ل من حق بما للرسول صلى ال
عليه وسلم من حق ،فإن المسلم قد يقع في هذا دون أن يشعر ،أو يقع فيه متعمدا ظانا أنه من
واجب المسلم نحو الرسول صلى ال عليه وسلم أن من حقه على المسلم ،أو أن ذلك من مزيد
محبته للنبي صلى ال عليه وسلم ،فيقع في الشرك الخفي أو الجلي وبالتالي يقع في سخط ال.
إن محبة الرسول صلى ال عليه وسلم الحقيقية هي متابعته والمسارعة إلى مرضاته وهذا ل
يتم إل بتجريد المتابعة لشرعه الذي جاء به من ربه ولسنته القولية والعملية ،ومن المعلوم أن
ما جاء به صلى ال عليه وسلم من ربه إفراد ال بالعبادة بجميع أشكالها وصورها وعدم
إعطاء ذرة منها لحد كائنا من كان ،وهذا هو معنى كلمة التوحيد كما بينا ذلك من قبل.
ولتحقيق هذه المعاني العالية في نفوس المسلمين بين القرآن الكريم أن محمدا صلى ال عليه
وسلم بشر قال تعالى﴿ :قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد﴾ [الكهف.]110 :
وأنه ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا وإنما المالك لهذا وذاك هو ال تعالى ،قال تعالى﴿ :قل ل
أملك لنفسي نفعا ول ضرا إل ما شاء ال ،ولو كنت أعلم الغيب لستكثرت من الخير وما
مسني السوء ،إن انا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون﴾ [العراف ]188 :وعلى هذا فالستغاثة
وطلب العون وكشف الضر يكون من ال تعالى الذي دعانا الى الطلب منه والتوجه إليه قال
تعالى﴿ :ادعوني أستجب لكم﴾ [غافر﴿ ]60 :وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة
الداع إذا دعان[ ﴾...البقرة ]186 :كما أن الخشية والتقوى تكون ل ،والتوكل يكون على ال
فهو الكافي جل جلله ،قال تعالى﴿ :ومن يطع ال ورسوله ويخشى ال ويتقه فأولئك هم
الفائزون﴾ [النور ]52 :وقال تعالى﴿ :ولو أنهم رضوا ما آتاهم ال ورسوله وقالوا حسبنا ال
سيؤتينا ال من فضله ورسوله إنا إلى ال راغبون﴾ [التوبة ]59 :فهذه اليات صريحة في
تحديد ما ل من حق وما للرسول من حق ،فمن حقوق ال تعالى وحده الخشية منه والتقوى له،
والكفاية لعبده والتوكل عليه والرغبة إليه ،أما الطاعة فهي من حق ال وحق رسوله صلى ال
عليه وسلم ،وطاعة الرسول في حقيقتها طاعة ال ،وكذلك من حق الرسول اعطاء ما يراه من
غنائم وفيء وغيرها من يرى اعطاءه.
وفي الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم" ،ل تطروني كما أطرت النصارى
عيسى بن مريم فإنما أنا عبد ال فقولوا عبد ال ورسوله" أو كما قال صلى ال عليه وسلم.
وقال رجل للنبي صلى ال عليه وسلم (ما شاء الهل وشئت) فقال صلى ال عليه وسلم:
"أجعلتني ل ندا ،قل ما شاء ال ثم شئت" فالنبي الكريم صلى ال عليه وسلم جاء بالتوحيد
الخالص ل رب العالمين .ومن حرصه الشديد على ما ينفع المسلمين كان يبين لهم التوحيد
كما يبين لهم معاني الشرك لئل يقعوا فيه ،وهذا من كمال نصحه ورحمته ورأفته بأمته – بأبي
24
هو وأمي -صلى ال عليه وسلم ،فجزاه ال عنا خير الجزاء .قال تعالى في بيان بعض
أوصافه الكريمة ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين
رؤوف رحيم﴾ [التوبة ]128 :وقال تعالى﴿ :النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الحزاب:
.]06
25
﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلّنهم في الصالحين﴾ [العنكبوت.]09 :
﴿والعصر إن النسان لفي خسر إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا
بالصبر﴾ [سورة العصر].
26
والصيام والحج فهي من أركان السلم التي ل يجوز التهاون بها مطلقا ،أو التقليل من أهميتها
ولذلك ذكرت في الحديث.
أهمية الصلة
-37ذكر ال تعالى الصلة في عشرات اليات في القرآن الكريم ،وجاءت الحاديث مؤكدة
وجوبها وأهميتها ،ومبينة أنها الفارق بين المسلم وغير المسلم ،وأنها من صفات المؤمنين
المتقين ،وأنه ل يجوز التفريط بها ل في القامة ول في السفر ول في حالة السلم ول في حالة
الحرب ،ول في حالة الصحة ول في حالة المرض ،وإن تركها والتكاسل عنها من صفات
المنافقين .وكانت الوصية بها من آخر ما أوصى به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهي
أول ما يسأل عنه العبد يوم قدومه على ربه .والصلة بعد هذا تزكية النفس وصلة العبد بربه
وتذكير مستمر له بعبوديته ل وبمعاني كلمة التوحيد ،وهي صقل لروحه وغسل لدرانها
وأوساخها وهي قرة عين المسلم ،إليها يفزع إذا ضاق الصدر وادلهمت الخطوب كما كان
يفعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهي التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لما فيها
من قراءة القرآن وتسبيح ال وذكره وتمجيده وما لهذا كله من تذكير للعبد ووقاية له من
المخالفة والعصيان .ويكفي هنا أن نذكر بعض النصوص من القرآن والسنة النبوية في بيان
أهمية الصلة وعظيم أثرها.
أولً :من القرآن الكريم -38
قال تعالى﴿ :وأقيموا الصلة ول تكونوا من المشركين﴾.
﴿حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وقوموا ل قانتين﴾.
﴿إن الصلة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا﴾.
﴿الم .ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين .الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلة ومما
رزقناهم ينفقون﴾.
﴿إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾.
27
﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلة إن ال مع الصابرين﴾.
﴿إن المنافقين يخادعون ال وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلة قاموا كسالى﴾.
ثانيا :من السنة النبوية المطهرة: -39
قال صلى ال عليه وسلم" :بين العبد وبين الكفر ترك الصلة".
"العهد الذي بيننا وبينهم الصلة فمن تركها فقد كفر".
وكان صلى ال عليه وسلم يقول لبلل "أرحنا بها – أي الصلة – يا بلل" .وروي عنه صلى
ال عليه وسلم أنه إذا حزّ به أمر صلّى.
أسرار الصلة
-40هذا وإن للصلة أسرارا وحكما ليس هنا محل تفصيلها ،ويدركها المسلم إذا أقبل عليها
بخشوع وتدبر وفهم ووعي وحضور ذهن ،لما يتلوه من قرآن وما يذكره من أذكار ،فهو يفتتح
الصلة بـ "ال أكبر" فال أكبر من كل كبير ومن كل ذي سلطان وقوة وجبروت ،وما دام
العبد موصول بال الذي هو أكبر من كل شيء وأعز من كل شيء فلن يرهب المسلم أحدا
غير ال تعالى ..وهكذا بقية الذكار تربي في المسلم معاني العبودية ل وتحرره من عبودية
غير ال وتنزع من قلبه كل معاني الطغيان والتعلق بغير ال.
بقية العبادات
-41والعبادات الخرى ،من صيام وحج وزكاة كلها تقوي اليمان وتزكي النفس وتصل
العبد بربه وتمل قلبه بمعاني العبودية ل تعالى ،ففي الصيام إيثار لمحاب ال على شهوات
الجسد ،وتعويد للمسلم على معاني الخلص ،والرادة والصبر ،وكل هذه معان جليلة يحتاجها
المسلم .الزكاة طهرة للمسلم من داء البخل والشح وعبادة المال ،وإيثار ل على محبة المال،
والسهام في تحقيق التعاون المطلوب شرعا باعانة ذوي الحاجات .والحج تربية عملية للمسلم،
فان من منهج السلم في التربية أنه ل يكتفي أن يقول للمسلم كن صالحا فقط بل يقول له هذا
ويضع له مناهج عملية يسلكها ليكون صالحا .ومن هذه المناهج العملية الحج ،ففيه إظهار
لعبودية المسلم ل بصورة عملية وبشكل معين واضح يجتث جذور الطغيان وجراثيمه من نفس
المسلم ،فان في النسان نزوعا إلى الطغيان قال تعالى﴿ :كل إن النسان ليطغى﴾ .هذا وهناك
عبادات أخرى غير المذكورة في حديث جبريل ،ومنها العبادات القلبية كالتوكل على ال
ومحبته والستعانة به والطلب منه والشوق اليه والنس به والثقة به والخوف منه وكلها
مطلوبة من المسلم.
28
أي العمال الصالحة أفضل
-42ل شك في تفاضل العمال الصالحة من حيث الجر والثواب ومن حيث درجة طلب
الشرع لها ،فالفرض أفضل من المندوب وما عظم نفعه للجماعة أفضل مما اقتصر نفعه على
فاعله .والقاعدة في أفضل العمال الصالحة بالنسبة لشخص ما هو العمل المطلوب منه شرعا
في وقت معين وظرف معين ،فالصلة حين حلول وقتها أفضل من غيرها وأوجب على المسلم
أن ينشغل بها من غيرها ،والجهاد في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من القيام بنوافل
العبادات وطلب العلم ،والصيام في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من النشغال بغيره من
العبادات وهكذا .وعلى المسلم أن يتحرى ما هو الحب ل تعالى في هذا الوقت أو في هذا
الظرف القائم فيسارع اليه ويفضله على ما سواه ،وبهذا تتحقق فيه العبودية الخالصة ل بإيثاره
دائما ما يحبه ال على ما تحبه نفسه وتهواه وإن كان من العمال الصالحة.
تمهيد
للسلم خصائصه الخاصة به التي تميزه عن غيره تمييزا واضحا بارزا فهو من حيث -1
مصدره من عند ال ،وهذه هي خصيصته الولى.
وهو من حيث مدى ونوع العلقات التي ينظمها والفعال التي يحكمها شامل وهذه هي
حصيصته الثانية.
وهو من حيث الشخاص الذين يحكمهم عام لجميع البشر باق ل يزول .وهذه هي خصيصته
الثالثة.
وهو من حيث نوع الجزاء الذي يصيب مخالفه أو متبعه ذو جزاء أخروي بالضافة الى
جزائه الدنيوي .وهذه خصيصته الرابعة.
29
وهو من حيث نزوعه إلى المثالية دون إغفال للواقع مثالي وواقعي وهذه هي خصيصته
الخامسة.
وعلى هذا سنقسم هذا الفصل إلى خمسة مباحث ونجعل لكل خصيصة مبحثا على حدة.
30
-6ويترتب على كون السلم من عند ال كماله وخلوه من معاني النقص والجهل والهوى
والظلم ،لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر في ما يصنعه ..ولما كان ال تعالى
له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ويستحيل في حقه خلف ذلك ،فان أثر هذا الكمال
يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد ،وبالتالي ل بد أن يكون كامل .وهذا بخلف
ما يصنعه النسان ويشرعه فانه ل ينفك عن معاني النقص والهوى والجهل والجور ،لن هذه
المعاني لصقة بالبشر ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد وبالتالي تظهر هذه النقائص في
القوانين والشرائع التي يصنعونها.
ويكفينا هنا أن نذكر مثال واحدا للتدليل على ما نقول :جاء السلم بمبدأ المساواة بين الناس
في الحقوق وأمام القانون بغض النظر عن اختلفهم في الجنس أو اللغة أو اللون أو الحرفة أو
الغنى أو الفقر ،وأقام ميزان التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح .وقد ورد هذا المبدأ
العظيم في القرآن والسنة النبوية .قال تعالى﴿ :يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند ال أتقاكم﴾ وجاء في الحديث الشريف أن
النبي صلى ال عليه وسلم قال" :يا أيها الناس ان ربكم واحد وان أباكم واحد أل ل فضل
لعربي على أعجمي ول لعجمي على عربي ول لحمر على أسود ول لسود على أحمر إل
بالتقوى".
وقال عليه الصلة والسلم "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وبلغت دقة تطبيق هذا المبدأ إلى حد أن النبي صلى ال عليه وسلم أنكر على مسلم عربي قوله
لمسلم غير عربي "يا ابن السوداء" واعتبر هذا القول من بقايا الجاهلية الولى.
وواضح من ذلك أن التشريع السلمي ارتفع إلى أعلى مستوى من العدالة والمساواة في
نظرته إلى الفراد وان اختلفوا في الجنس واللون واللغة وغير ذلك وطبق هذا المبدأ فعل في
واقع الحياة.
وفي القرن العشرين ،وفي عصرنا الحاضر ،وبالرغم من الضجيج الهائل في العالم حول
المساواة وتسطير هذا المبدأ في دساتير الدولة ،فانه ل يزال مجرد كلم ل نصيب له في
الواقع إل الشيء القليل .ففي الوليات المتحدة المريكية فل تزال الفروق قائمة بين المواطنين
في أبسط الحقوق على أساس اللون والجنس ،فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلة وأعلى
قدرا من صاحب البشرة السوداء ول مساواة بين الثنين في الحقوق الدمية ول أمام القانون.
ولو كان هذا التفريق والتمايز في واقع الحياة فقط لمكن أن يدعي البعض أنه من انحراف
الفراد ول تسأل عنه الدولة ولكن الواقع أن القانون نفسه يقر ويعترف صراحة بهذا التمايز
الظالم بين السود والبيض ويحميه وان كان الثنان يحملن الجنسية المريكية .فمن هذه
النصوص القانونية في بعض الوليات المريكية" :ان النكاح بين شخصين أبيض وآخر زنجي
31
يعتبر نكاحا باطل" .وبطلن العقد هنا ل يرجع إلى نقص أهلية العاقدين فأهليتهما كاملة وانما
يرجع إلى شيء آخر خطير في نظر القانون هو أن أحد طرفي عقد النكاح ذو بشرة بيضاء
بينما الطرف الخر في العقد ذو بشرة سوداء..
ومن هذه النصوص أيضا في بعض الوليات المتحدة المريكية :أن كل من يطبع أو ينشر أو
يوزع ما فيه دعوة أو حث للجمهور على اقرار المساواة الجتماعية والزواج بين البيض
والسود أو تقديم حجج للجمهور أو مجرد اقتراح في هذا السبيل يعتبر عمله جريمة يعاقب
عليها القانون بغرامة ل تتجاوز خمسمائة دولر أو بالسجن مدة ل تتجاوز ستة أشهر أو
بالعقوبتين .ان هذا النص يوغل في اتباع الهوى والجور والظلم دون حياء أو خجل أو وخز
من ضمير الى درجة أنه يعاقب من يدعو إلى المساواة بين مواطنين أمريكيين يحملون
الجنسية المريكية ولكنهم يختلفون في ألوان أجسادهم ووجوههم .فهل أدل من هذا على نقص
النسان وجهله وجوره؟
أما التمايز بين رعايا المستعمر "بكسر الميم" وأهل البلد المنكوبة بالستعمار فحدث ول
حرج ،فالمستعمرون يضعون من القوانين ما يجعل أهل البلد المستعمرة بمنزلة البهائم ،دون
أن يشعر هؤلء المستعمرون بتأنيب ضمير أو بجورهم على هؤلء الدميين .وما يعتبرونه
ظلما في بلدهم وبالنسبة لرعاياهم يعتبرونه حقا وعدل بالنسبة لهل البلد المنكوبة
باستعمارهم .وهذا وغيره يدل على مدى ما عند النسان من ظلم وجور وهوى ومحاباة
وجهل.
-7ثانيا :ويترتب أيضا على كون السلم من عند ال ،انه يظفر بقدر كبير جدا من الهيبة
والحترام من قبل المؤمنين به ،مهما كانت مراكزهم الجتماعية وسلطاتهم الدنيوية ،لن هذه
السلطات وتلك المراكز ل تخرجهم من دائرة الخضوع ل تعالى واحترام شرعه ،وطاعة هذا
الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على اليمان ول يقسر عليها المسلم قسرا .وفي
هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون السلمي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا
الخروج .أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها النسان فانها ل تظفر بهذا المقدار من
الحترام والهيبة ،إذ ليس لها سلطان على النفوس ول تقوم على أساس من العقيدة واليمان
كما هو الحال بالنسبة للسلم ولهذا فان النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما
وجدت فرصة لذلك وقدرة على الفلت من ملحقة القانون وسلطان القضاء ورأت في هذه
المخالفة اتباعا لهوائها وتحقيقا لرغباتها .ان القانون ل يكفي أن يكون صالحا بل ل بد له من
ضمانات تكفل حسن تطبيقه ،ومن أول هذه الضمانات ،ايجاد ما يصل هذا القانون بنفوس
الناس ويحملهم على الرضى به والنقياد له عن طواعية واختيار .ول يحقق مثل هذه الضمانة
32
مثل السلم ،لنه أقام تشريعاته على أساس اليمان بال واليوم الخر ورسوله محمد صلى ال
عليه وسلم ،وان اللتزام الختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا اليمان.
وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثل واحدا بشأن واقعة معينة عالجها السلم بتشريعه
ونجح في هذه المعالجة ،وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية وفشلت في هذه
المعالجة.
من المعروف أن العرب قبل السلم كانوا مولعين بشرب الخمر ل يجدون فيه منقصة ول
منكرا ،وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرب والحباب .فلما أتى
السلم بتحريم الخمر بقوله تعالى﴿ :يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والنصاب
والزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ كان لكلمة ﴿فاجتنبوه﴾ قوة هائلة
تفوق قوة الجيش والشرطة وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر ..لقد
قام المسلمون الى زقاق الخمر فأراقوها ،وإلى دنانه فكسروها ،وفطموا نفوسهم من شرب
الخمر حتى غدوا وكأنهم ل يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل ..لن أمر ال ورد ﴿
فاجتنبوه﴾ وأوامر ال من شأنها الحترام والطاعة.
وفي القرن العشرين ارادت الوليات المتحدة المريكية تخليص مواطنيها من الخمر ،وقبل ان
تشرع قانون تحريم الخمر ،مهدت له بدعاية واسعة جدا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون،
وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب .استعانت بالسينما ومسارح
التمثيل وبالذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والحصائيات من قبل
العلماء والطباء والمختصين بالشؤون الجتماعية ،وقد قدر ما انفق على هذه الدعاية بـ (
)65مليون من الدولرات وكتبت تسعة آلف صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه.
وانفق ما يقرب من ( )10عشرة مليين دولر من أجل تنفيذ القانون .وبعد هذه الدعاية
الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930م وبموجبه حرم بيع
الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها .فما كانت النتيجة؟ لقد دلت الحصائيات
للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الول سنة 1933م انه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون
مائتا نفس وحبس نصف مليون شخص وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة
مليين دولر ،وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولر .وكان آخر المطاف
أن قامت الحكومة المريكية بالغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933م ،ولم تستطع
تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في
نفوس المواطنين وبالتالي قاموا بمخالفته مما حمل الحكومة على الغائه ،لن القانون لم يكن له
سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته ،ومن ثم فشل والغي .أما كلمة ﴿فاجتنبوه﴾
التي جاء بها السلم في جزيرة العرب فقد أثرت أعظم التأثير وطبقت فعل وأريقت الخمور
33
من قبل أصحابها وامتنعوا عنها ،ل بقوة شرطي ول بقوة جندي ول رقيب ولكن بقوة اليمان
وطاعة المسلمين لشرائع السلم واحترامهم لها.
34
ب) أحكام تتعلق بعلقات الفراد ومعاملتهم كالبيع والجارة والرهن والكفالة ،وهي التي
تسمى في الصطلح الحديث بأحكام المعاملت المالية أو بالقانون المدني.
أحكام تتعلق بالقضاء والدعوى واصول الحكم والشهادة واليمين والبينات وهي تدخل ت)
فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات.
ث) أحكام تتعلق بمعاملت الجانب غير المسلمين عند دخولهم الى اقليم الدولة السلمية،
والحقوق التي يتمتعون بها والتكاليف التي يلتزمون بها ،وهذه الحكام تدخل فيما يسمى اليوم
بالقانون الدولي الخاص.
أحكام تتعلق بتنظيم علقات الدولة السلمية بالدول الخرى في السلم والحرب، ج)
وتدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي العام.
ح) أحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده ،وكيفية اختيار رئيس الدولة ،وشكل الحكومة،
وعلقات الفراد بها ،وحقوقهم ازاءها ،وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدستوري.
خ) أحكام تتعلق بموارد الدولة السلمية ومصارفها ،وتنظيم العلقات المالية بين الفراد
والدولة ،وبين الغنياء والفقراء ،وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه.
د) أحكام تتعلق بتحديد علقة الفرد بالدولة من جهة الفعال المنهي عنها "الجرائم ومقدار
عقوبة كل جريمة" ..وهذه تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الجنائي ويلحق بهذه الحكام
الجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وانزال العقوبات بالمجرمين وكيفية تنفيذها ،وهي
تدخل فيما يسمى اليوم بقانون تحقيق الجنايات أو بقانون المرافعات الجزائية.
35
الشريعة السلمية والحكام التي تقررها سواء أكانت هذه العلقات بين فرد وفرد أو بين دولة
ودولة ونكتفي هنا بضرب مثال واحد فقط ليظهر لنا مدى تمسك التشريع السلمي بالمعاني
الخلقية في أدق العلقات وأخطرها ولو ترتب على هذا التمسك تضحيات جسيمة .يقرر
الفقهاء المسلمون ان الجنبي (غير المسلم) اذا دخل اقليم الدولة السلمية بأمان ولمدة معينة
ل يجوز تسليمه الى دولته اذا طلبته خلل هذه المدة ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم
عندها ،ويبقى المنع من تسليمه قائما حتى لو هددت دولته الدولة السلمية باعلن الحرب
عليها اذا لم تسلمها اياه .ويعلل الفقهاء هذا الحكم بان الجنبي دخل اقليم الدولة السلمية بأمان
منها فعلى الدولة السلمية ان تفي بعهدها له فيبقى آمنا ل يمسه سوء ،وتسليمه بدون رضاه
غدر منها بعهدها له ل رخصة فيه فل يجوز في شرع السلم .ويبقى المنع من تسليمه وعدم
الحاق أي ضرر به حتى لو قتلت دولته جميع رعايا الدولة السلمية المقيمين في أرضها لن
فعلها ظلم ول مقابلة بالظلم ،هكذا يقول الفقهاء ،فأي مستوى رفيع بلغه التشريع السلمي في
التزامه بالمعاني الخلقية في أدق الظروف واحرج الوقات ،مما ل نجد له نظيرا ابدا في أي
تشريع وضعي آخر ل في القديم ول في الجديد ،ول عجب من ذلك فالشريعة السلمية من
عند ال ،وما يأتي من ال هو الحق الخالص والعدل الخالص.
-12الناحية الثانية – جهة الحل والحرمة في الفعل نفسه – فان الفعل قد يكون صحيحا في
ظاهره لستيفائه شروط الصحة المطلوبة ولكنه يعتبر حراما لمخالفة حقيقته الباطنة او قصد
صاحبه لما يأمر به السلم .ان هذه الصفة للشيء في الحل والحرمة تبقى لصقة بالفعل وان
صدر بها حكم قضائي يقضي بخلف ذلك الذي يدعي دينا آخر ظلما ويثبت ذلك امام
المحكمة ،فإن حكيم المحكمة انه محق في مطالبته أو يستحق الدين من صاحبه ،بل يبقى المر
عند ال تعالى على حقيقته وهو ان هذا المدعي ارتكب حراما وأكل سحتا وهذا ل يجوز في
شرع ال ول ينفعه حكم الحاكم بما ادعى لنفسه ظلما ،لن الحاكم يحكم حسب الظاهر وال
يتولى السرائر ،ولن مناط الثواب والعقاب في الخرة على حقائق الفعال ونيات النسان،
وما ارتكبه من حلل أو حرام .والصل في تعلق الحقوق وثبوت الثار الشرعية على حقيقة
الفعل وكونه حلل جائزا ظاهرا وباطنا ،ولكن لما كان الباطن أمرا خفيا يعجز النسان عن
ادراكه أو يتعذر عليه ولجل استقرار المور وجريان الحكام على أسس ثابتة وقواعد
مضبوطة ،فقد اعتبرت الشريعة السلمية الظاهر وجعلت صحته ومطابقته لمتطلبات الشريعة
قرينة على صحة الباطن وحله ومناطا لتعلق الحقوق وثبوت الثار .ولكن الشيء أو الفعل
يبقى بالرغم من ذلك موصوفا بالحل والحرمة بناء على حقيقته الباطنة ،وما يترتب على هذا
الوصف من جواز القدام عليه أو تحريمه وما يتبع ذلك من ثواب أو عقاب ،لن الحكم حسب
الظاهر ل يقلب الحلل حراما ول الحرام حلل ،وبالتالي ل يحل للمسلم أن يبيح لنفسه فعل
36
الحرام أو أكله وان أباح له ذلك القضاء .يدل على ما قلناه قول النبي صلى ال عليه وسلم:
"انما انا بشر وانكم تختصمون الي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له
على نحو ما أسمع منه ،فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فل يأخذ منه شيئا فانما اقطع له
قطعة من النار" .ولهذا اذا ظهر الباطن ظهورا كافيا وتكشفت حقيقته فالعبرة به ل بالظاهر.
ان أهمية ما بيناه تظهر في حفظ حقوق الناس وكف بعضهم عن بعض عن العتداء ،ذلك أن
المسلم يعلم بأن اقدامه على الحرام أو العتداء أو هضم حقوق الغير ل يفيده ول يخلصه من
المسؤولية وان استطاع في الدنيا التخلص من المسؤولية أو التهرب من القانون أو التحايل
على القضاء ،أو اخفاء حقيقة نفسه وفعله ،إن هذه المور التي ل تخفى على ال أبدا
وسيحاسب عليها عند مثوله أمام المحكمة اللهية الرهيبة في الخرة ،وعلى هذا الساس فان
المسلم ل يقدم على شيء إل إذا كان حللً ول يطالب بشيء إل إذا كان له وان استطاع
المطالبة بما ليس له ،ول يرتكب ما ل يحل له وان استطاع اخفاء ذلك عن القضاء وبهذا
تحفظ الحقوق ويأمن الناس عليها وتقل الخصومات والمنازعات ،ويقل عدد المراجعين
للمحاكم ،وفي هذا كله أعظم ضمان لحسن تنظيم علقات الفراد فيما بينهم وعدم ضياع
الحقوق على اصحابها .وهذا مما ل يوجد في القوانين الوضعية ،فإن المسألة عندها تنتهي
بانتهاء صدور القرار من المحكمة ول شيء بعد هذا ،اذ ل سلطان للقوانين الوضعية على
أمور الخرة وليس فيها المعاني التي ذكرناها.
37
-14وقد يقال هنا :لماذا كانت الشريعة السلمية خاتمة الشرائع ،أما كان من الفضل
والنفع استمرار تنزل الشرائع اللهية وابقاء باب الرسالت اللهية مفتوحا؟ والجواب ل ،لن
تنزل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو ،وانما هو لسد نقص في تشريع سابق ،أو لكماله
بتشريع لحق مناسب لمستوى البشرية ،وحيث ان الشريعة السلمية كاملة تامة سدت كل ما
لم تأت به الشرائع السابقة وأكدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة فل حاجة ول داعي
لمجيء شريعة أخرى قال تعالى﴿ :اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
السلم دينا﴾ فمع هذا الكمال التام ل داعي لمجيء شريعة أخرى ،وحيث ل شريعة أخرى فل
رسول آخر بعد محمد صلى ال عليه وسلم.
-15وعموم الشريعة السلمية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو
الزيادة كل ذلك يستلزم عقل وعدل أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به
على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان ويفي بحاجاتهم ول يضيق بها ول يتخلف
عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع البشري .إن هذا والحمد ل متوافر في الشريعة السلمية
لن ال تعالى ،وهو العليم الخبير ،اذ جعلها عامة في المكان والزمان ،وخاتمة لجميع الشرائع،
جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان ،ومهيأة للبقاء والستمرار لهذا العموم ..إن
ما نقوله هو الحق ،ويدل عليه واقع الشريعة السلمية وطبيعة مبادئها وأحكامها وأفكارها
ومناهجها ،ول بد هنا من بيان موجز كل اليجاز لظهار هذا المعنى واثبات صحة ما نقوله
بالدلة والبراهين.
الدليل الول :مكانة المصلحة في الشريعة
-16يقوم هذا الدليل على اظهار مدى حرص الشريعة السلمية على مصالح الناس
الحقيقية ودرء المفاسد عنهم .والواقع ان الشريعة السلمية ما شرعت ال لتحقيق مصالح
العباد في العاجل والجل ،أي في الدنيا والخرة ،ودرء المفاسد والضرار عنهم في العاجل
والجل أيضا ،حتى إن بعض الفقهاء ،قال – وقوله حق" :ان الشريعة كلها مصالح ،إما درء
مفاسد أو جلب مصالح" .وقد يظن البعض أن هذا القول مبالغ فيه ،والواقع أنه ل مبالغة فيه،
لن ما قلناه عنها ونقلنا قول بعض الفقهاء عنها ،وصف ثابت للشريعة ولكل حكم من
أحكامها ،فل يخرج شيء منها عن هذا الوصف أو الغرض العام الذي تريد الشريعة تحقيقه
للعباد في عاجلهم وآجلهم .ونكتفي هنا بذكر بعض الدلة الجزئية على هذه الحقيقة التي تكون
البرهان الول.
( -17أ) قال تعالى في تعليل رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ﴿وما أرسلناك إل رحمة
للعالمين﴾ والرحمة تتضمن قطعا رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ،ول يمكن أن تكون
رحمة إذا اغفلت هذه المصالح.
38
( -18ب) تعليل الحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة لعلم البشر بان تحقيق المصالح
هو مقصود السلم ،وأن الحكام ما شرعت إل لهذا الغرض ،قال تعالى﴿ :ولكم في القصاص
حياة يا أولي اللباب﴾ .فالقصاص شرع لتحقيق هذه المصلحة وهي الحياة للناس أي المن
والستقرار والطمئنان وحقن الدماء بزجر من تسول له نفسه العتداء على ارواح الناس.
وقال تعالى﴿ :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم
عن ذكر ال وعن الصلة فهل أنتم منتهون﴾ فتحريم الخمر يمنع عن الناس مفسدة الصد عن
ذكر ال وعن الصلة ،ودرء المفسدة ل شك في انه وجه من وجوه المصلحة ،لن المصلحة
لها وجه ايجابي وهو جلب نفع لم يكن ،ووجه سلبي وهو دفع ضرر أو مفسدة .وهكذا بقية
الحكام بل استثناء ل يخرج منها أي حكم كان سواء أكان من أحكام العتقادات أو العبادات
أو غير ذلك .نعم ،قد يجهل البعض تفاصيل المصلحة في حكم من الحكام ،ولكن هذا الجهل
ليس بحجة على انتفاء المصلحة ،فإن النسان قد يجهل تفاصيل منفعة دواء ولكن جهله به ل
يمنع من تحقيق المصحلة فيه ،فإذا كان هذا واقعيا فيما يضعه انسان فكيف ل يكون فيما
يضعه خالق النسان؟ هذه واحدة .والثانية أن المصلحة المقصودة في التشريع السلمي ل
تقتصر على مصالح الدنيا وانما تتجاوزها الى مصالح الخرة أي إلى اعداد النسان للظفر
بالسعادة الدائمة بجوار الرب الكريم الرحيم.
( -19جـ) تشريع الرخص عند وجود المشقات في تطبيق الحكام اذا كانت هذه المشقات
فوق طاقة البشر المعتادة ،من ذلك اباحة النطق بكلمة الكفر عند الكراه عليها بالتهديد بالقتل
ونحوه ،واباحة المحرم عند الضرورة مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند التعرض للهلك
جوعا ،واباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر .ول شك ان دفع المشقة ضرب من
ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة عن الناس.
( -20د) عرف بالستقراء والتأمل ان مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو
تحسينية ،فالولى هي التي ل قيام لحياة الناس بدونها واذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى
واختل نظام الحياة .وهذه الضروريات هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
أما الحاجيات فهي التي يحتاجها الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم وإذا فاتتهم لم يختل
نظام الحياة ولكن يصيب الناس ضيق وحرج.
وأما التحسينيات فهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الخلق واذا فاتت خرجت حياة
الناس عن النهج القويم السليم الذي تقضي به الفطر السليمة والعادات الكريمة.
وأحكام الشريعة كلها تحقق وتحفظ مصالح الناس المتعلقة بالضروريات الحاجيات
والتحسينات.
39
-21فبالنسبة للضروريات شرع للدين – لقامته وتحقيقه – العبادات وشرع لحفظه الجهاد
وعقوبة المرتد ،وزجر من يفسد على الناس عقيدتهم والنفس شرع ليجادها النكاح ،وشرع
لحفظها القصاص على من يعتدي عليها ،وتحريم إلقاء النفس بالتهلكة ولزوم دفع الضرر
عنها .والعقل شرع لحفظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها .والنسل شرع ليجاده الزواج،
وشرع لحفظه عقوبة الزنى والقذف ،وحرمة اجهاض المرأة الحامل .والمال شرع لتحصيله
أنواع المعاملت من بيع وشراء ونحو ذلك ،وشرع لحفظه حرمة أكل مال الناس بالباطل أو
اتلفه بل وجه سائغ مشروع ،والحجر على السفيه ،وتحريم الربا وعقوبة السرقة.
-22وبالنسبة للحاجيات شرعت لها الرخص عند المشقة ،وشرع الطلق للخلص من حياة
زوجية لم تعد تطاق .وشرعت الدية في القتل الخطأ على عاقلة القاتل.
-23وفي التحسينيات شرعت الطهارة للبدن والثوب ،وستر العورة ،وأخذ الزينة عند كل
مسجد ،والنهي عن بيع النسان على بيع أخيه ،والنهي عن قتل الطفال والنساء في الحروب.
-24فاستقراء نصوص الشريعة يدل على أن السلم ما قصد بتشريعه الحكام للناس إل
لحفظ هذه الضروريات والحاجيات والتحسينات ،وهذه هي مصالحهم في الدنيا والخرة .واذا
تعارضت المفاسد والمصالح رجح أعظمها مصلحة أو أقلها مفسدة ،فقتل القاتل مفسدة لن فيه
تفويت حياته ولكنه جاز لن فيه مصلحة أعظم وهي حفظ حياة الناس .وكشف العورة مفسدة
ولكن إذا احتيج اليها لجراء عملية جراحية ضرورية ،جاز الكشف لن مصلحة حفظ النفس
من الهلك أكبر من مفسدة كشف العورة .وترك المحتكر دون اعتراض عليه أو منع له
مصلحة له ولكن فيه مفسدة أكبر وهي الضرار بالناس فشرع المنع من الحتكار .والدفاع
عن البلد يعرض النفوس الى القتل وهذه مفسدة ولكن ترك العداء يدخلون بلد المسلمين
مفسدة أعظم من قتل النفوس فكان في دفعهم بقتالهم مصلحة أكبر من مفسدة هلك النفوس في
هذا القتال .وهكذا تجري أحكام الشريعة على نمط واحد هو جلب المصالح ودرء المفاسد.
-25وعلى هذا فكل مصلحة مشروعة حقيقية تظهر أو مفسدة تطرأ فان الشريعة السلمية
تبيح ايجاد الحكم لتحقيق تلك المصلحة ودرء المفسدة في ضوء قواعد الجتهاد المقررة في
الفقه السلمي ،لن الشريعة كما يقول الفقيه ابن القيم" :مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد ،وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ،فكل مسألة
خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة الى ضدها وعن المصلحة الى المفسدة وعن
الحكمة الى العبث فليست من الشريعة وان ادخلت فيها بالتأويل ،فالشريعة عدل ال بين عباده
ورحمته بين خلقه".
ونخرج من جميع ما تقدم ان الشريعةالسلمية وما جاءت به من احكام صريحة في نصوصها
وما ابتني عليها من أحكام اجتهادية في ضوء موازين الجتهاد الصحيح ل يمكن ابدا أن
40
تضيق بحاجات الناس المشروعة ول تعجز عن تحقيق مصالحهم الحقيقية في أي زمان
ومكان.
41
ول شك أن المساواة وما ابتني عليها وما تفرع عنها ،قاعدة يهش لها العقل السليم وتتقبلها
الفطرة السليمة وتستقيم بها المور وتنصلح الحوال ومن ثم فهي صالحة في كل زمان
ومكان.
ثالثا :مبدأ العدالة. -30
العدالة في السلم مبدأ بارز ،يظهر هذا البروز في المر بها والحكم بين الناس بموجبها،
واللتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد ،والعدو الصديق وفي المحكمة وفي السوق ،وإدارة
شؤون الدولة وفي البيت ،وحتى فيما يعطيه الب لولده .ان روح العدل وجوهره اعطاء كل
ذي حق حقه واستعمال كل شيء في موضعه وهذا المعنى الواسع للعدل يحكم جميع تصرفات
النسان وعلقاته بغيره وواجباته نحو غيره من بني النسان.
ومن النصوص القرآنية الواردة في موضوع العدل قوله تعالى﴿ :إن ال يأمركم أن تؤدوا
المانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ وقوله تعالى﴿ :يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين ل شهداء بالقسط ول يجرمنّكم شنآن قوم على ال تعدلوا اعدلوا هو أقرب
للتقوى﴾ .ول شك ان هذا المبدأ يضمن مصالح الناس ويتسع لكل تنظيم صحيح يحقق معنى
العدالة والمقصود منها ،فإذا رؤي ان تحقيق العدالة في القضاء يستلزم جعل المحاكم على
درجتين ابتدائية واستئنافية ،او ان المحكمة تؤلف من أكثر من حاكم واحد ،أو تعيين هيئة
تدقيقية لحكام المحاكم "محكمة التمييز" فهذا ونحوه سائغ جائز ما دام فيه تحقيق العدالة في
القضاء على وجه سليم.
رابعا :قاعدة ل ضرر ول ضرار. -31
وهي حديث نبوي ومعناها ان الضرر مرفوع بحكم الشريعة أي ل يجوز لحد ايقاع الضرر
بنفسه أو بغيره ،كما أن مقابلة الضرر بالضرر ل يجوز لنه عبث وإفساد ل معنى له ،فمن
أحرق مال غيره فل يجوز للغير احراق مال المعتدي وانما له أن يطالبه بالتعويض .واذا كان
الضرر ممنوعا فانه اذا وقع وجب رفعه ،ولهذا جاءت قاعدة فرعية مبنية على هذه القاعدة
هي "الضرر يزال" .وهناك فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة منها تقرير حق
الشفعة ،ومنع التعسف في استعمال الحق ،وحق السلطة في اتخاذ الجراءات الوقائية لمنع
الضرر عن الناس كحجر المرضى والقادمين الى البلد في محاجر خاصة ،والتسعير في
ظروف معينة ...الخ.
النوع الثاني :الحكام التفصيلية. -32
الحكام التفصيلية في الشريعة السلمية كثيرة يطول شرحها وبيانها وفحصها لظهار مدى
قابليتها للبقاء والستمرار ،ولهذا نكتفي بأخذ "عينات" و "نماذج" من هذه الحكام للتأمل فيها
وفحصها والتحديق فيها ليتبين لنا مدى صلحيتها للبقاء والعموم .إن أحكام الشريعة كما ذكرنا
42
إما أن تتعلق بأمور العقيدة ،أو بالخلق ،أو بالعبادات أو بالمعاملت .وعلى هذا نأخذ بعض
النماذج من كل مجموعة من هذه المجموعات.
-33فمن أحكام العقيدة وجوب اليمان بال وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم .ومسألة
اليمان بال ورسوله من المسائل البديهية التي يؤمن بها كل عقل سليم وكف فطرة سليمة،
وعليها من الدلة والبراهين ما ل يوجد على غيرها من البديهيات .وقد قدمنا بعض ذلك اثناء
كلمنا عن أركان السلم .وعلى هذا فل يتصور مجيء زمان أو جيل من الناس يقال فيه :إن
مسألة اليمان بال وما يتفرع عنها من مسائل العقيدة أو مسألة اليمان بمحمد محمد صلى ال
عليه وسلم أصبحت من المسائل العتيقة التي تناقض العصر ول يقرها العقل ،لن العقل ل
ينكر الحقائق الثابتة وانما يؤكدها ويعمقها في النفس ،ولن شأن الحقائق الثابتة الخلود ،والعقل
يعترف ويقر بهذا الثبات .ول شك ان اليمان بال من الحقائق الثابتة الخالدة التي ل يمكن أن
تتغير وتنقض في أي زمان فهي كمسألة واحد وواحد يساوي اثنين.
-34ومن أحكام العبادات وجوب الصلة والصيام ونحو ذلك .ومسائل العبادة من لوازم
اليمان بال ومقتضاه ،لنها تنظيم لعلقة الفرد بخالقه والوفاء بحق هذا الخالق العظيم،
والنسان ل ينفك عن صفة مخلوقيته ل في أي دهر من الدهور وفي أي زمن من الزمان،
وبالتالي ل ينفك عن وجوب أداء حق ال عليه ول يستغني عن تنظيم علقته بربه .والعبادات
بعد هذا ،وسيلة لتزكية النفس وطهارتها وحشوها بمعاني الحق وتخليتها من الكدورات وربطها
بخالقها ودفعها إلى الخير ومنعها من الشر وقد أشار القرآن الكريم لبعض هذه المعاني في
قوله تعالى﴿ :إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ .ول شك ان المجتمع سيكون سعيدا جدا
اذا كثرت فيه النماذج البشرية التي صقلتها عبادات السلم ،وسيكثر فيه الخير قطعا ويقل فيه
الشر ان لم ينعدم ،وفي ذلك كله تحقيق كبير لمصلحة الجماعة في كل زمان ومكان ومن ثم
فأحكام العبادات ل بد منها في أي مجتمع انساني وبالنسبة لكل فرد في القرن العشرين أو في
أي قرن بعده.
-35وأحكام الخلق كوجوب الصدق والوفاء والمانة واللتزام بالكلمة والتعاون على
البر ،وحرمة الكذب والغدر والخيانة والتعاون على الشر ،والتحلل من المسؤولية ،واستغلل
النفوذ ،والظلم ،ونحو ذلك .أقول هذه الحكام الخلقية بالوجوب والتحريم ضرورية لكل
انسان ولكل مجتمع انساني يريد الصلح والسداد .انه ل يغني عن الخلق أي تقدم في مجال
الثقافة والعلوم ،ان الزمة التي يمر بها العالم اليوم ،والضطراب في المجتمعات وسوء
العلقات بين الفراد مردها الى زعزعة القيم الخلقية في النفوس وتجاوزها فهي أزمة
أخلقية في جوهرها وأساسها .والشريعة في تأكيدها على الخلق لم تكن مسرفة في هذا
التأكيد ول مبالغة فيه لنها أكدت على ما هو ضروري لقامة قواعد الصلح على أساس
43
متين ابتداء من النفس ..والخلق بعد هذا معان ثابتة يحتاجها النسان السوي ول يتصور ان
يجيء يوم يقال فيه :إن الصدق والعدل والوفاء بالعهد وترك الظلم معان فاسدة عتيقة لم تعد
صالحة لزماننا أو عصرنا اللهم ال اذا ارتد النسان الى جاهلية جهلء لم تصل اليها الجاهلية
الولى ...وسيأتي مزيد من التفصيل للخلق فيما بعد.
-36والحكام التفصيلية الخرى المتعلقة بالمعاملت ،أي بعلقات الفراد فيما بينهم ،هي
الخرى صالحة للبقاء والعموم لن تفصيلها بني على أساس ان الحاجة اليها تبقى قائمة دائما
وأن غيرها ل يسد مسدها أبدا ول يحقق مصلحة الناس على الوجه الذي تحققه.
-37فمن هذه الحكام تنظيم السرة وكيفية الزواج وحق الحضانة والولية والنسب
والميراث ،والطلق ،والنفقة ونحو ذلك من شؤون السرة .وكل هذه الحكام جاءت على نحو
صالح واف كاف لتحقيق الخير والصلح للناس ول يمكن الستعاضة عنها بأحسن منها،
فالنكاح جاء تنظيمه غاية في البساطة وخاليا من الشكلية والطقوس فيكفي فيه ايجاب من
الرجل وقبول من المرأة بحضور شهود وبرضى ولي المرأة صيانة لهذا العقد الشريف الكريم
من البتذال والخداع ،ول يشترط لصحة النكاح أن يكون على يد شخص معين أو في مكان
معين أو بكيفية خاصة أو بلغة معينة أو بتراتيل معينة ،فهذه الكيفية البسيطة للنكاح يؤهله
للبقاء والعموم ول يتصور العقل خيرا منها.
وتشريع الطلق هو الشيء الطبيعي المعقول اذ ل يصح اجبار شخصين على ابقاء الرابطة
الزوجية بالرغم من قيام ما يدعو إلى انفصالها وانما المعقول أن تباح الفرقة بينهما ليذهب كل
واحد إلى سبيله ويجرب حظه في شركة أخرى وزوجية جديدة .ولهذا أباحت الدول الغربية
الفرقة بين الزوجين بالرغم من تحريمه بزعمهم في الديانة النصرانية .ول يقال لماذا اعطي
للزوج حق الطلق ومنعت منه المرأة ،لننا نقول ان للمرأة ان تشترط لنفسها حق الطلق في
عقد الزواج اذا شاءت وهذا شرط معتبر ،كما لها أن تطلب التفريق من المحكمة إذا مسها
ضرر من الزوج ل يمكن تلفيه إل بإيقاع الفرقة بينهما.
وتنظيم الميراث وتحديد انصبة الورثة جاء على شكل ممتاز لوحظ فيه مختلف العتبارات
كقرب الوارث وحاجته وتفتيت الثروة وتوزيعها مما يجعل هذا التنظيم وما بني عليه من أسس
واعتبارات صالحا لكل زمان ومكان.
-38وتحريم الربا ،وهو حكم يخص المعاملت المالية ،حكم تفصيلي غير قابل للتبديل
والنسخ ،لن مفاسد الربا واضراره ذاتية فيه ل تنفك عنه ابدا ومن مظاهره انحلل المجتمع
وفساده واستساغته للظلم وفقدان التعاون الجتماعي بين افراده .وعلج مثل هذا المجتمع
الفاسد يكون باصلحه جذريا ل بترك فساده واعوجاجه وتشريع الحكام الملئمة لهذا الفساد
والعوجاج.
44
-39والعقوبات في الشريعة جاءت مفصلة لعدد من الجرائم وهي الردة ،والزنى ،والقذف،
والسرقة ،وقطع الطريق ،وشرب الخمر ،وقتل النفس .اما الجرائم الخرى فقد تركت الشريعة
تقدير عقوبتها الى القاضي وتسمى الجرائم التعزير ،وعقوبتها تسمى عقوبات التعزير.
والعقوبات المقدرة كلها خير وصلح وعدل ووقاية للمجتمع من الشرور والمفاسد ول يستغني
أي مجتمع فاضل عنها ،لنها بنيت على أساس العدالة وتحقيق الزجر الكافي للمجرم وحفظ
مصلحة الفرد والجماعة .فعقوبة الردة بنيت على اصلين( :الول) اخلل المسلم بالتزامه
بأحكام السلم (الثاني) درء المفسدة عن المجتمع .وبيان ذلك أن الفرد بإسلمه التزم بأحكام
ل بالتزامه فيناله جزاء هذا
السلم وأصوله وعدم الخروج عليها أو هدمها ،فإن فعل ذلك مخ ً
الخلل .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فان في الردة واعلنها مفسدة للجماعة واضرارا بها
مع التعمد وسبق الصرار ،لن المرتد ما كنا نعرفه لول اعلن ردته المتعمدة قاصدا من
وراء ذلك تشكيك الناس في عقائدهم واحداث الضطراب فيما بينهم وزعزعة كيان الدولة التي
اتخذت السلم أساسا لها في قيامها وبقائها وأهدافها.
فكان ل بد من عقوبة زاجرة لمنع هذا الفساد عن الناس وعن الدولة ذاتها التي اتخذت السلم
أساسا لها كما قلنا .وعقوبة الزنى بنيت على أساس رعاية الخلق ومنع افسادها للفرد
والسرة والمجتمع كشيوع المراض واختلط النساب وخراب البيوت والعزوف عن الزواج
وما إلى ذلك .والشريعة من أصولها وأهدافها العناية بالخلق ومنع الفساد عن الناس ول شك
ان المجتمع الفاضل يرحب بهذه العقوبة ول يضيق بها ول يجد فيها ال الخير والمصلحة
وزجر المفسدين الذي يريدون التلهي والعبث بأعراض الغير.
وعقوبة السرقة – وهي قطع اليد – هي العلج الحاسم لقطع دابر هذا العتداء على أموال
الغير ،وإشاعة الطمأنينة في نفوس الناس .ان قطع يد واحدة ثمن قليل جدا لتحقيق طمأنينة
المجتمع .ان قطع اليد الخائنة المجرمة كقطع اليد المتآكلة التي يقرر الطبيب وجوب قطعها
لسلمة الجسد .ان عقوبة السجن للسراق ما ردعت وما قللت حوادث السرقة ،ولكن عقوبة
قطع اليد ردعت في الماضي المجرمين عن السرقات ،ول تزال هذه العقوبة قادرة على الردع
والزجر في الوقت الحاضر ،وكون هذه العقوبة قديمة ل يقدح في صلحها ،فليس كل قديم
فاسدا ول كل جديد صالحا لن صلح الشيء يستفاد من ذاته ومدى نفعه ل من جدته وقدمه.
وعقوبة القتل العمد في الشريعة السلمية هي القصاص أي قتل الجاني .والقصاص حق لهل
المجني عليه فلهم ان يطلبوه ول يسع المحكمة المتناع عن اجابتهم ،كما لهم أن يعفوا
ويتصالحوا مع القاتل على الدية .وفي حالة العفو أو المصالحة يجوز للمحكمة أن تعاقب القاتل
عقوبة تعزيرية بالحبس أو الجلد ،فهذا التنظيم لعقوبة القتل العمد تنظيم كامل لم يغفل جانب
45
الطبيعة البشرية وما جبلت عليه من حب أخذ الثأر من الجاني وانزال القصاص العادل به،
كما لم يغفل جانب المجتمع ومصلحته.
فجميع العقوبات الفصيلية قامت على معان واوصاف ثابتة ل تتغير ومن ثم فهي صالحة لكل
مجتمع فاضل يريد ان يعيش بأمان واطمئنان.
-40أما عقوبات التعزير ،وهي بالنسبة لجميع الجرائم التي لم تحدد الشريعة لها عقوبات،
فالقاضي في تحديده العقوبة يلحظ مدى جسامة ضررها بالمجتمع ،وسوابق المجرم ،وظروفه
التي دفعته الى الجرام ،إلى غير ذلك من المور ويقرر بعد ذلك العقوبة المناسبة في ضوء
قوله تعالى﴿ :وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ ول شك أن نظام التعزير نظام مرن في الشريعة
يمكنها من مواجهة مختلف الحالت التي يلزم فيها العقاب ،وبالتالي يكون صالحا لكل زمان
ومكان.
الدليل الثالث :مصادر الحكام -41
مصادر الحكام الشرعية ،نوعان( :الول) مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة النبوية (الثاني)
مصادر تبعية قامت على المصادر الصلية كالجماع والجتهاد بأنواعه المختلفة كالقياس
والستحسان والمصلحة المرسلة.
وهذه المصادر كلها تجعل الشريعة السلمية في غاية القدرة والستعداد والهلية للبقاء
والعموم ،بحيث ل يحدث شيء جديد ال وللشريعة حكم فيه ،إما بالنص الصريح أو بالجتهاد
الصحيح ،وبالتالي ل تضيق الشريعة بالوقائع الجديدة وبالتالي ل تضيق بحاجات الناس
ومصالحهم.
-42ومن جميع ما تقدم من أدلة وبراهين يظهر لنا بغاية الوضوح ان الشريعة السلمية
شريعة فيها كل مقومات العموم المكاني والزماني ،ومن ثم فهي صالحة للجميع وفي جميع
الزمان ،وهذا من فضل ال على بني النسان.
-43أحكام السلم ،ليست نصائح وارشادات خالية من الثواب والعقاب .إنها ارشادات
ونصائح حقا ولكن لها ثواب حسن ينال الملتزم بها ،ولها عقاب يصيب المخالف لها ،على
درجات متفاوتة في العقاب والثواب.
والصل في أجزية السلم وعقوباته انها في الخرة ل في الدنيا ،ولكن مقتضيات الحياة
وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علقات الفراد على نحو واضح مؤثر وضامن لحقوق
46
الناس كل ذلك دعا الى ان يكون الجزاء الخروي جزاء دنيوي ،أي مع العقاب الخروي
عقاب توقعه الدولة في الدنيا على المخالف لحكام السلم.
ونطاق الجزاء في السلم واسع شامل شمول السلم لجميع شؤون الحياة ومن ثم فأجزية
السلم تتعلق بأمور العقيدة والخلق والعبادات والمعاملت .فكل مخالفة لهذه المور لها
جزاؤها في الخرة وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضا.
والجزاء في الدنيا ل يمنع الجزاء في الخرة عن المخالف العاصي ال اذا اقترنت معصيته
بالتوبة النصوح والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه النسان ،وعلى العزم الكيد
على عدم العودة إلى هذه المخالفة ،وعلى التحلل من حقوق الغير اذا كانت معصية تتعلق بهذه
الحقوق.
وقد ترتب على هذا الجزاء الخروي خضوع المسلم لحكام الشريعة خضوعا اختياريا في
السر والعلن خوفا من عقاب ال ،وحتى لو استطاع الفلت من عقاب الدنيا ،لن العقاب
الخروي ينتظره ول يستطيع الفلت منه .ولهذا اذا ارتكب المسلم جريمة أو معصية في
غفلة من ايمانه طلب إقامة العقوبة عليه بمحض اختياره ،فهذا ماعز اعترف أمام الرسول
محمد صلى ال عليه وسلم بجريمة الزنى وطلب إقامة الحد "العقوبة" عليه .وهكذا تنزجر
النفوس من مخالفة القانون السلمي اما بدافع الحترام له والحياء من ال تعالى واما بدافع
الخوف من العقاب الجل الذي ينتظر المخالفين ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير
محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة
والعصيان.
47
-45قلنا ان السلم يحرص على إبلغ النسان الكمال المقدور له ،وهذا يكون بجعل
تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والوضاع والكيفيات
التي جاء بها السلم ،وقد تحقق ذلك كله في رسول ال صلى ال عليه وسلم ولذلك أمرنا ال
تعالى بالتاسي به ﴿لقد كان لكم في رسول ال أسوة حسنة﴾ وقوام هذه المثالية العتدال
والشمول.
أولً :العتدال
-46ونقصد بالعتدال عدم الفراط والتفريط في أي شيء واعطاء كل ذي حق حقه .يدل
على ذلك قول ال تعالى﴿ :والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ وقال
تعالى﴿ :ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾ وقال
صلى ال عليه وسلم" :خير المور أوسطها".
-47والعتدال مطلوب حتى في العبادات فل ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده،
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس رضي ال عنه ،قال :جاء ثلثة
رهط إلى بيوت ازواج رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألون عن عبادته .فلما أخبروا كأنهم
تقالوها ،قالوا :أين نحن من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر؟ قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل ابدا وقال الخر وانا أصوم الدهر ول أفطر وقال الخر
وانا اعتزل النساء ول أتزوج ابداء فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال انتم الذين قلتم
كذا وكذا ،أما وال اني لخشاكم ل واتقاكم له ،ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج
النساء ،فمن رغب عن سنتي فليس مني".
-48وتعذيب الجسد وتحميله ما ل يطيق ليس من مناهج السلم ووسائله لبلوغ الكمال
المنشود ،اذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك ،ول من مقاصد السلم تعذيب
الجسد ل قصد الغايات ول قصد الوسائل ،ومن ظن ذلك فهو واهم فان مثالية السلم يمكن
بلوغها بنهج معتدل وسير مريح ،وان الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد ويقعد به عن اداء
الفرائض فضل عن النوافل ،ومن خرج عن هذا النهج وجب رده اليه ،جاء في الحديث ان
رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رجل قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا :يا رسول ال انه
نذر ان يقوم في الشمس ول يقعد ول يستظل ول يتكلم ويصوم .فقال عليه الصلة والسلم:
"مروه فليتكلم وليقعد وليتم صومه" .فالصوم مطلوب ،ولكن الوقوف في الشمس حيث يمكن
الوقوف في الظل غير مطلوب ول معنى فيه ،وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار ل داعي له
ول فائدة فيه .وسر المسألة ان الجسد مركب الروح وليس من الحكمة خرق المركب أو
اضعافه ،والجسد مستقر الروح ومسكنها وليس من المصلحة تخريبه ول من الكمال المنشود
48
هضمه حقه ،وان الروح هي الخرى لها حق في الراحة والستجمام ل يجوز التفريط فيه،
جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي ال عنه ان رسول ال صلى ال عليه
وسلم دخل المسجد فاذا حبل ممدود بين الساريتين فقال "ما هذا" قالوا :حبل لزينب فإذا فترت
تعلقت به .فقال ل ،حلوه .ليصل أحدكم نشاطه فاذا فتر فليقعد".
وفي وصية رسول ال صلى ال عليه وسلم لعثمان بن مظعون "فان لهلك عليك حقا وإن
لضيفك عليك حقا فصم وافطر وصل ونم".
-49وحرمان النسان نفسه أو جسده من الطيبات والمتع الحلل ليس من منهاج السلم في
بلوغ الكمال ،وانما منهاجه في العتدال ،فاذا وجد النسان أو تيسر له شيء من الطيبات
بطريق الحلل أخذه وتناوله ول يقدح ذلك في تعلقه بمثالية السلم ،وإذا لم يجده لم يأس عليه
وهكذا كان يفعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وفي كتاب ال ﴿يا أيها الذين آمنوا ل
تحرموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يحب المعتدين﴾ ﴿وكلوا مما رزقكم ال
حللً طيبا واتقوا ال الذي أنتم به مؤمنون﴾ فالمطلوب لبلوغ الكمال تقوى ال وليس تحريم
الطيبات وحرمان الجسد أو النفس منها.
-50ومع هذا فقد يسوغ أو يندب أو يجب أخذ النسان نفسه بالشدة وخشونة العيش ورضاه
بالضيق إذا كان ذلك لغرض مشروع أو مقصد نبيل أو لسبب مقبول ،كما لو كان المسلم في
مقام القدوة ،أو بسبب ايثار الغير على نفسه ،أو بسبب امتناعه عما ل يجوز له فتعرض الى
ما ذكرنا .وعلى هذا الساس يجب أن نفهم سيرة أسلفنا الصالحين وما روي عنهم من أخذ
نفوسهم بالشدة وامتناعهم عن كثير من طيبات العيش ونعومته.
ثانيا -الشمول
-51والمثالية في السلم تتصف بالشمول ،لن السلم يريد من المسلم ان يبلغ الكمال
المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه ،فل يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيها
المستوى العالي من الكمال ،بينما يهمل الجوانب الخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى
المطلوب ،ان مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر اعضائه رخوة هزيلة ضعيفة .وعلى هذا
الساس فهم الصحابة الكرام مثالية السلم فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة ،وإنما تقلبوا في
جميع العبادات والحوال وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال ،فلم يحبسوا نفوسهم في مكان
ول على نوع من العبادة ول على نمط معين من العمال ،وانما باشروا الجميع ،فعند الصلة
كانوا في المسجد يصلون ،وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين ،وعند الجهاد
يقاتلون ،وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون ،وهكذا كان شأنهم في جميع الحوال.
49
المطلب الثاني -الواقعية في السلم
-52والسلم ل يغفل طبيعة النسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى
الرفيع الذي يرسمه لهم ،وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل السلم حدا أدنى أو مستوى
أدنى من الكمال ل يجوز الهبوط عنه لن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على
نحو معقول ولنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولنه وضع على
نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الرتفاع إلى مستوى الكمال .إن هذا المستوى الدنى
يتكون من جملة معاني يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض ،كما يشمل جملة معان يجب
هجرها وهي المسماة بالمحرمات .ان هذه الفرائض والمحرمات جعلت بقدر طاقة أقل الناس
استعدادا لفعل الخير وابتعادا عن الشر ومن ثم يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه ،ول يعذر في
التخلف عنها .ولكن بجانب هذا المستوى اللزامي الواجب بلوغه على كل مسلم ،وضعت
الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي،
فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج شديد ،والحرج في شرع السلم مرفوع لنه يخالف نظرة
السلم الواقعية قال تعالى﴿ :وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وقال تعالى﴿ :ل يكلف ال
نفسا إل وسعها﴾ ..وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها،
والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها.
وهذان المستويان الدنى والعلى موجودان في تشريعات السلم ،نذكر منها على سبيل المثال
ل الحصر ما يأتي:
أولً :الصلة :منها ما هو فرض ،ومنها ما هو مندوب ،فالول يدخل في معاني المستوى
الدنى ،والثاني يدخل في معاني المستوى العلى ،وفيه جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم
"ما من عبد مسلم يصلي ل تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة ال بنى
ال له بيتا في الجنة".
ثانيا :الصيام :الفرض منه صيام شهر رمضان ،وهذا من معاني الحد الدنى المطلوب،
وصيام ست من شوال ،وأيام البيض من كل شهر ،وصوم الثنين والخميس من معاني
المستوى العلى.
ثالثا :الحج :فرضه مرة في العمر ،وما زاد فتطوع وهو من معاني المستوى العلى.
رابعا :وفي انفاق المال في سبيل ال ،فريضة الزكاة ،قال تعالى﴿ :أقيموا الصلة وآتوا
الزكاة﴾ وفي صدقة التطوع يقول ال تعالى﴿ :وما تنفقوا من خير فلنفسكم وما تنفقون ال
ابتغاء وجه ال ،وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم ل تظلمون﴾.
خامسا :وفي القتل العمد شرع القصاص قال تعالى﴿ :يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص
في القتلى﴾ فلهل القتيل المطالبة به ،وهذا حقهم ،ول تثريب عليهم فيه ،ولكن السلم ندب
50
إلى العفو ،وهو من معاني المستوى العلى ،وفيه قال تعالى في نفس الية﴿ :فمن عفي له من
أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان﴾.
سادسا :وفي العتداء بصورة عامة تجوز المعاقبة بالمثل ،والعفو والصبر أفضل ،وهما من
معاني المستوى العلى ،قال تعالى﴿ :وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو
خير للصابرين﴾.
سابعا :وفي البيوع والشربة :حبب السلم للمسلم أن يكون سهلً في بيعه وشرائه ومقاضاته،
وهذه كلها من معاني المستوى العلى قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :رحم ال رجلً
سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
ثامنا :المر بالمعروف والنهي عن المنكر .فرض كفائي يجب وجوده في المة ،ويسوغ تركه
باليد واللسان والكتفاء بانكار القلب بالنسبة لحاكم ظالم طاغية ل يتسع صدره لسماع النصيحة
ويقتل من يأمره أو ينهاه ،ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه وان أدى ذلك إلى
قتله ،وهذا من معاني المستوى العلى يدل على ذلك الحديث الشريف" :سيد الشهداء حمزة بن
عبد المطلب ورجل قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله" .ول يعترض علينا هنا بان القاء
النسان نفسه في التهلكة ل يجوز ،وهذه تهلكة ،قال تعالى﴿ :ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾
لننا نقول :إن الستشهاد في سبيل ال مكرمة ل تهلكة ،وان المر بالمعروف والنهي عن
المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع ،لما يترتب عليه من تقوية نفوس
المحقين وخذلن المبطلين وايقاف الظالمين عند حدودهم.
تاسعا :والكلم بالباطل حرام يجب تركه ،والترك هنا من معاني المستوى الدنى ،والثرثرة
وكثرة الكلم بما ل يفيد ول ينفع مكروه وان لم يكن فيه باطل ،جاء في الحديث الشريف" :إن
ال يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" فالكلم الكثير بما ل ينفع مكروه وتركه
افضل وهذا من معاني المستوى العلى.
عاشرا :والكراه على الكفر بالتهديد بالقتل يسوغ للمكره أن يقول كلمة الكفر بشرط اطمئنان
القلب باليمان رخصة من رخص السلم وهي من معاني الحد الدنى قال تعالى﴿ :إل من
أكره وقلبه مطمئن باليمان﴾ والمندوب اليه عدم قوله الكفر وان ادى ذلك إلى قتله وهذا من
معاني المستوى العلى.
-53ول تقف واقعية السلم عند الحد الذي ذكرناه وهو وضعه مستويين للكمال ،أدنى
وأعلى ،وانما تظهر واقعية السلم في أمر آخر هو ايجاد المخارج المشروعة للمسلم في
أوقات الشدة والضيق ،وعدم الزامه بما كان لزما له أو واجبا عليه ،أو محرما عليه في
الوقات العادية ،وعلى هذا الساس جاءت الرخص كلها وجاءت القاعدة الفقهية "الضرورات
تبيح المحظورات" لن النفوس قد ل تقوى على الستمرار بما يريده السلم في الظروف
51
القاسية والحوال الضطرارية فتقع في المعصية فخفف السلم عنها بما شرعه من رخص
ومنها اباحة أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس ،واباحة ترك الواجب
مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر ،واباحة الصلة للمريض وهو قاعد اذا كان ل
يقوى على الوقوف.
-54وبهذه المثالية والواقعية في السلم يستطيع المسلم ان يحقق لنفسه الكمال المقدور له
بيسر واعتدال وشمول وبما يوافق الفطرة دون ارهاق ول حرج ول انعزال عن الحياة وأهلها.
تمهيد
-1قلنا في خصائص السلم أنه شامل ،ومن مظاهر شموله ،أحكامه المتعلقة بالخلق
وبعلقات الناس فيما بينهم ،وهذه الحكام تكوّن كل مجموعة منها نظاما خاصا في موضوع
خاص ،مثل احكام الخلق ،تكوّن نظام الخلق في السلم ومثل احكام السرة وهي المتعلقة
بالسرة وأفرادها وهي تكون نظام السرة وهكذا.
ونحن في هذا الفصل نذكر أهم أنظمة السلم ونبين معالمها البارزة بما يجليها بالقدر الذي
يحتاجه الداعية الى السلم .ان بياننا هذا لنظمة السلم سيكون بحدود ما جاء به السلم ل
نزيد عليه شيئا ول ننقص منه شيئا ول نطوعه لما نريد ،فالمسلم دائما يقف وراء السلم ول
يتقدم عليه.
وعلى هذا سنقسم هذا الفصل الى مباحث ،ونفرد لكل نظام مبحثا على حدة على النحو التي:
المبحث الول – نظام الخلق.
المبحث الثاني – نظام المجتمع.
المبحث الثالث – نظام الفتاء.
المبحث الرابع – نظام الحسبة.
المبحث الخامس – نظام الحكم.
المبحث السادس – نظام المال أو نظام القتصاد.
المبحث السابع – نظام الجهاد.
المبحث الثامن – نظام الجريمة والعقاب.
52
-2الخلق في اللغة الطبع والسجية ،وفي اصطلح العلماء ،كما يعرفه الغزالي – عبارة عن
هيئة في النفس راسخة ،عنها تصدر الفعال بسهولة ويسر من غير حاجة الى فكر وروية[.]1
ويمكننا تعريف الخلق بأنها مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس وفي ضوئها
وميزانها يحسن الفعل في نظر النسان أو يقبح ،ومن ثم يقدم عليه أو يحجم عنه.
أهمية الخلق
-3للخلق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك النسان وما يصدر عنه ،بل
نستطيع أن نقول :إن سلوك النسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات ،وما
أصدق كلمة المام الغزالي إذ يقول في احيائه "فان كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على
الجوارح حتى ل تتحرك ال على وفقها ل محالة" فافعال النسان ،إذن موصولة دائما بما في
نفسه من معان وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب .ومعنى ذلك أن
صلح أفعال النسان بصلح اخلقه ،لن الفرع بأصله ،إذا صلح الصل صلح الفرع ،وإذا
فسد الصل فسد الفرع ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ل يخرج إل نكدا﴾
[العراف .]58 :ولهذا كان النهج السديد في إصلح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة
الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون باصلح النفوس وتزكيتها وغرس معاني الخلق الجيدة فيها
ولهذا أكد السلم على صلح النفوس وبين أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء ويسر
وعسر ،ورخاء وضيق ،وطمأنينة وقلق ،وع ّز وذل كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من
معان وصفات ،قال تعالى﴿ :إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾.
-4وتظهر أهمية الخلق أيضا من ناحية أخرى ،ذلك أن النسان قبل أن يفعل شيئا أو
يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الخلق المستقرة في نفسه فاذا
ظهر الفعل أو الترك مرضيا مقبول انبعث في النفس رغبة فيه واتجاه اليه ثم اقدام عليه ،وإن
كان المر خلف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته واحجمت عنه تركا كان أو فعل .إن
عملية الوزن هذه قد تكون سريعة جدا وغير محسوس بها إلى درجة أن النسان قد يفعل
الشيء أو يتركه بدون روية أو تفكير ،وفي بعض الحيان ل تتم عملية الوزن والتقييم إل بعد
تأمل ومضي وقت طويل ،وقد ل تتم هذه العملية فيقع النسان في التردد بين الفعل والترك.
ولكن في جميع الحوال ل بدّ من عملية الوزن والتقييم لكل فعل أو ترك بل استثناء.
او وزن الفعال والتروك بميزان الخلق ،وصحة هذا الوزن أو فساده ،ومدى التزام النسان
بمقتضاه ،وتنفيذه له ،كل ذلك يتوقف على نوع المعاني الخلقية التي يحملها من حيث جودتها
أو ردائتها ،ومدى رسوخها في نفسه وانصباغها بها وحماسه لها وغيرته عليها وشعوره
بضرورتها اليه ،فل يكفي لظهور أثر الخلق في فعل النسان وتركه أن يعرف النسان
الجيد والرديء من الخلق ويخزن هذه المعرفة في رأسه ويتكلم بها في المناسبات بل ل بد
53
من انصباغ كيانه بها ورسوخها في أعماق نفسه بحيث تصير له كاللون السود والبيض
بالنسبة للبشرة السوداء أو البيضاء ،وأن تكون حاضرة في ذهنه مسيطرة على سلوكه متحمسا
لها غيورا عليها الى درجة اليمان بأن الحياة ل تصلح عوضا للتفريط بمعنى من معاني
الخلق الفاضلة السلمية التي يحملها ...ومن أجل هذا أكد السلم على معاني الخلق
المطلوبة وشوق اليها ،وحث النفوس عليها ،وكررها وأعادها حتى يتذكرها المسلم دائما
وينصبغ بها ،فيكون أثرها واضحا في سلوكه..
54
سابعا :ان النبي صلى ال عليه وسلم كان يدعو ربه بأن يحسّن خلقه – وهو ذو الخلق
الحسنة – وأن يهديه لحسنها ،فقد كان صلى ال عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم حسنت
خَلقي فحسن خُلقي" ويقل" :اللهم اهدني لحسن الخلق فانه ل يهدي لحسنها إل أنت،
واصرف عني سيئها فأنه ل يصرف عني سيئها إل أنت" ومعلوم أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم ل يدعو إل بما يحبه ال ويقربه منه.
ثامنا :مدح ال تعالى رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم بحسن الخلق ،فقد جاء في القرآن
الكريم ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ وال تعالى ل يمدح رسوله ال بالشيء العظيم مما يدل على
عظيم منزلة الخلق في السلم.
تاسعا :كثرة اليات القرآنية المتعلقة بموضوع الخلق ،أمرا بالجيد منها ،ومدحا للمتصفين
به ،ومع المدح الثواب ،ونهيا عن الرديء منها وذم المتصفين به ،ومع الذم العقاب ،ول شك
أن كثرة اليات في موضوع الخلق ،يدل على أهميتها ،ومما يزيد في هذه الهمية أن هذه
اليات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة ،ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة ،مما يدل على
أن الخلق أمر مهم جدا ل يستغني عنه المسلم وان مراعاة الخلق تلزم المسلم في جميع
الحوال فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سورة المكية والمدنية على حد
سواء.
55
-8ولم يكتف السلم بالدعوة العامة الى التحلي بالخلق الجيدة والتخلي عن الخلق
الرديئة وانما فصّل القول في الصنفين فبين أنواع كل صنف ،والحكمة في هذا البيان المفصل
توضيح معاني الخلق تحديدها لئل يختلف الناس فيها وتتدخل الهواء في تحديد المراد منها،
ومن مظاهر رحمة ال بعبادة أن بين لهم ما يتقون وما يأخذون وما يتركون ،ونذكر فيما يلي
أمثلة على تفصيل الخلق في القرآن والسنة النبوية المطهرة.
أمثلة من القرآن على تفصيل الخلق
أ) الوفاء بالعهد﴿ :وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولً﴾. -9
ب) النهي عن القول بل علم ﴿ول تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل
أولئك كان عنه مسؤولً﴾.
جـ) النهي عن مشية التبختر والتمايل كما يفعل المتكبرون﴿ ،ول تمش في الرض مرحا إنك
لن تخرق الرض ولن تبلغ الجبال طولً﴾.
د) النهي عن السراف والتبذير والبخل والتقتير ﴿وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل
ول تبذر تبذيرا .إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا﴾﴿ .ول تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾.
هـ) المر بالعدل في جميع الحوال وبالنسبة لجميع الناس حتى الكفار ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو
كان ذا قربى﴾﴿ .ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا .اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾.
و) التعاون على البر والتقوى وما ينفع الناس ،والنهي عن التعاون على البغي والعدوان ﴿
وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثم والعدوان﴾.
ز) الظلم ظلمات يوم القيامة ،وعاقبته وخيمة ،وهو أنواع ،أقبحها افتراء الكذب على ال،
وتعدي حدود ال .والظالم مقطوع الصلة بال فهو مخذول غير منصور ،ومن أجل هذا نهى
السلم عنه ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ ﴿ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا
أو كذب بآياته إنه ل يفلح الظالمون﴾ ﴿تلك حدود ال فل تعتدوها ،ومن يتعد حدود ال فأولئك
هم الظالمون﴾ ﴿وما للظالمين من أنصار﴾.
ح) الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد ،فل بد للمؤمن من صبر على طاعة ال
وصبر على قضاء ال وبهذا يكون من المحسنين ،ورحمة ال قريب من المحسنين ،ولهذا أمر
السلم بالصبر ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا ال لعلكم تفلحون﴾﴿ .
واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين﴾﴿ .فاصبر إن وعد ال حق ول يستخفنك الذين ل
يوقنون﴾.
56
ط) الصدق من علمات اليمان وثمراته ،ولهذا أمر السلم به ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال
وكونوا مع الصادقين﴾﴿ .وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي
من لدنك سلطانا نصيرا﴾.
ي) الكذب رذيلة ل ينال صاحبها هداية ال ،ويثمر النفاق في القلب ولهذا نهى السلم عنه
وحذر منه ﴿إن ال ل يهدي من هو مسرف كذاب﴾﴿ .فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه
بما أخلفوا ال ما وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾.
ك) التكبر والعجب والبخل والفخر والرياء رذائل وأمراض تصيب القلب فتطمسه وتمحق
نوره وتبعد صاحبها عن ال تعالى ،ولهذا جاء النهي عنها ﴿ول تصعر خدك للناس ول تمش
في الرض مرحا إن ال ل يحب كل مختال فخور﴾﴿ .إن ال ل يحب من كان مختالً فخورا.
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم ال من فضله واعتدنا للكافرين عذابا
مهينا .والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ول يؤمنون بال ول باليوم الخر ومن يكن الشيطان
له قرينا فساء قرينا﴾.
ل) العتدال في المشي بين البطيء والسراع مطلوب من المسلم ،وخفض الصوت وعدم
رفعه بل حاجة مطلوب أيضا من المسلم﴿ ،واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر
الصوات لصوت الحمير﴾.
م) الثبات على الحق والدوام على الطاعة والعبادة ،أمور مطلوبة لن المور بخواتيمها،
وبدون الستقامة والدوام والثبات على الحق تفوت الثمرة ول يصل المسلم الى الغاية ،وينقطع
عن ركب الصالحين .ومن أجل هذا وجب على المسلم أن يكون على قدر كبير من الثبات
على معاني اليمان والستقامة عليها لينال الفوز والرضوان ﴿ان الذين قالوا ربنا ال ثم
استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أن ل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم
توعدون.﴾...
ن) الجنة درا الطيبين ،اعدها ال للمتقين الذين من اخلقهم الحسنة النفاق في جميع الحوال
في اليسر والعسر فينفقون بقدر ما لهم ول يبخلون عن النفاق ولو كان قليلً ،ومن أخلقهم
أنهم ل يستوفون كل حقوقهم من الناس بل يتركون منها لهم احسانا عليهم ﴿وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء
والضراء والطاظمين الغيظ والعافين عن الناس وال يحب المحسنين﴾.
س) النهي عن الغل والحقد﴿ :والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين
ل للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم﴾.
سبقونا باليمان ول تجعل في قلوبنا غ ً
ع) علج الجاهل العراض عنه وتركه وشأنه ،وبهذا أمر السلم ﴿خذ العفو وأمر بالعرف
وأعرض عن الجاهلين﴾.
57
ف) ومن وصايا السلم الجامعة لعباده المؤمنين ،في باب الخلق قوله تعالى﴿ :يا أيها الذين
آمنوا ل يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ول نساء من نساء عسى أن يكن خيرا
منهن ول تلمزوا أنفسكم ول تنابزوا باللقاب بئس السم الفسوق بعد اليمان ومن لم يتب
فأولئك هم الظالمون .يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن اثم ول
تجسسوا ول يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا ال ان
ال تواب رحيم﴾[]2
ص) ومن اليات التي جمعت كثيرا من أخلق المؤمنين ،وجعلت هذه الخلق علمة على
ايمانهم قوله تعالى﴿ :قد افلح المؤمنون .الذين هم في صلتهم خاشعون .والذين عم عن اللغو
معرضون[ .]3والذين هم للزكاة فاعلون .والذين هم لفروجهم حافظون .إل على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون[ .]4والذين هم
لماناتهم وعهدهم راعون .والذين هم على صلواتهم يحافظون .أولئك هم الوارثون الذين
يرثون الفردوس هم فيها خالدون[ .﴾]5وكذلك قوله تعالى﴿ :وعباد الرحمن الذين يمشون على
الرض هونا[ ]6وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما[ .]7والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما.
والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما[ .]8إنها ساءت مستقرا
ومقاما .والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما[ .]9والذين ل يدعون مع
ال إلها آخر ول يقتلون النفس التي حرم ال إل بالحق ول يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما[
]10يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا .إل من تاب وآمن وعمل عملً صالحا
فأولئك يبدل ال سيئاتهم حسنات وكان ال غفورا رحيما .ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب
إلى ال متابا .والذين ل يشهدون الزور[ ]11وإذا مروا باللغو مروا كراما[ ]12والذين إذا
ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا[ .]13والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا
وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما[ ]14أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها
تحية وسلما .خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما[.﴾]15
58
د) في حقوق المسلم ،والنهي عن بعض الخلق" :ل تحاسدوا ول تناجشوا ول تباغضوا ول
تدابروا ول يبع بعضكم على بيع بعض .وكونوا عباد ال اخوانا .المسلم أخو المسلم ل يظلمه
ول يخذله ول يكذبه ول يحقره ،التقوى هاهنا – ويشير الى صدره الشريف ثلث مرات –
بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ،كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله
وعرضه".
هـ) النهي عن اخلق المنافقين "آية المنافق ثلث اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا اؤتمن
خان" "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من
النفاق حتى يدعها :اذا اؤتمن خان واذا حدث كذب ،واذا عاهد غدر ،واذا خاصم فجر".
و) في الحلم والناة ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لشج عبد القيس "ان فيك خصلتين
يحبهما ال ورسوله الحلم والناة".
ز) في الرفق" :ان ال رفيق يحب الرفق في المر كله".
ح) في الرياء والسمعة والخلص :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل
شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ،أي ذلك في سبيل ال؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
"من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال"" .إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ما نوى ،فمن كانت هجرته الى ال ورسوله فهجرته الى ال ورسوله ،ومن كانت هجرته الى
دنيا يصيبها أوامرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه".
ط) في النهي عن المراء والجدل":من ترك المراء وهو محق بني له بيت في الجنة ،ومن ترك
المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة"" .وما ضل قوم بعد أن هداهم ال ال أوتوا
الجدل".
ي) في بذاءة اللسان" :ليس المؤمن بالطعان ول اللعان ول الفاحش ول البذيء".
ك) في العجب والشح" :ثلث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب كل ذي رأي رأيه".
ل) ترك الكلم فيما ل يعنيك" :من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه".
م) ترك فضول الكلم "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق ال َفضْلَ من ماله".
ن) وزن الكلمة بميزان السلم قبل النطق بها" :ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان ال ما
يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب ال بها رضوانه الى يوم القيامة وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من
سخط ال ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب ال عليه بها سخطه الى يوم القيامة".
س) في المانة والوفاء بالعهد" :ل إيمان لمن ل أمانة له ،ول دين لمن ل عهد له" وسأل رجل
رسول ال صلى ال عليه وسلم متى تقوم الساعة فقال له" :إذا ضيعت المانة فانتظر الساعة.
فقال ،وكيف إضاعتها قال اذا وسد المر لغير أهله فانتظر الساعة".
59
ع) في الصدق والكذب "عليكم بالصدق فان الصدق يهدي الى البر وان البر يهدي الى الجنة
وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا،وإياكم والكذب فان الكذب
يهدي الى الفجور وان الفجور يهدي الى النار ،وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى
يكتب عند ال كذابا".
ف) في القوة والعزيمة" :المؤمن القوي خير وأحب ال من المؤمن الضعيف ،وفي كل خير
احرص على ما ينفعك واستعن بال ول تعجز ،وان أصابك شيء فل تقل لو اني فعلت كذا
لكان كذا ،ولكن قل :قدر ال وما شاء فعل ،فإن لو تفتح عمل الشيطان".
ص) المتابعة في الخير ل في الشر" :ل يكن احدكم امعة ،يقول :انا مع الناس ان أحسن الناس
أحسنت وان أساؤوا أسأت ،ولكن وطنوا أنفسكم إن احسن الناس أن تحسنوا ،وإن أساؤوا أن
تتجنبوا إساءتهم".
ش) الحزم واليقظة" :ل يلدغ المؤمن من جحر مرتين".
ض) النهي عن الذل" :ل ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه."...
ط) في التوادد والتراحم والتعاطف" :مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
60
أولً :قال تعالى﴿ :وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ عليهم على سواء إن ال ل يحب الخائنين﴾.
أي إذا ظهرت خيانة من عاهدتهم وثبتت دلئلها ،فأعلموهم بنقض عهدهم حتى تستووا معهم
في العلم ،لن ال تعالى ل يحب الخائنين ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين وكانوا في نقض
العهد بادين.
ثانيا :كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي صلى ال عليه وسلم وبين مشركي قريش ،ان
من يأت من قريش النبي صلى ال عليه وسلم مسلما يرده النبي صلى ال عليه وسلم ول
يؤويه ،وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة جاء أو جندل من قريش مسلما معلنا إسلمه يستصرخ
المسلمين ان يؤوه ويحموه من قريش ،فقال له الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم" :انا عقدنا
بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا ،وانا ل نغدر بهم"[.]16
ثالثا :قال الفقهاء :ل يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم ،لن
خيانتهم غدر ول يصلح في دين السلم الغدر[.]17
رابعا :قال فقهاء الحنابلة" :اذا أطلق الكفار السير المسلم واستحلفوه أن يبعث اليهم بفدائه أو
يعود اليهم لزمه الوفاء" ،قال تعالى﴿ :وأوفوا بعهد ال اذا عاهدتم﴾ ولن الرسول صلى ال
عليه وسلم قال" :إنا ل يصلح في ديننا الغدر"[.]18
خامسا :اذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا دار السلم الداخلين الى اقليمها ضريبة على
أموالهم التي معهم بحيث تستأصل هذه الموال ،أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة ل
تتناسب مع أموالهم ،فان دار السلم ل تقابلهم بالمثل ،ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأن فعل أهل
دار الحرب غدر وظلم ،فل نقابلهم بالغدر والظلم ،لننا نهينا عن التخلق بمثل هذه الخلق
وان تخلقوا هم بها[.]19
61
رابعا – صلة الخلق باليمان وتقوى ال
-13الخلق في السلم موصولة باليمان وتقوى ال ،قال تعالى﴿ :فأتموا إليهم عهدهم
إلى مدتهم إن ال يحب المتقين﴾ فالوفاء بالعهد من تقوى ال ومحبة ال ومن اليمان المسارعة
إلى ما يحبه ال تعالى.
وفي الحديث "ل إيمان لمن ل أمانة له ول دين لمن ل عهد له" فاليمان ل بدّ أن يورث
الخلق الحسنة على رأسها المانة وحفظ العهد ،فمن فقد المانة وضيع العهد كان ذلك ايذانا
بخلوه من معاني اليمان المطلوبة منه وتفريطه بتقوى ال.
وفي حديث آخر "وال ل يؤمن ،وال ل يؤمن ،وال ل يؤمن ،قيل من يا رسول ال؟ قال الذي
ل يأمن جاره بوائقه" .فهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلق السيئة تنافي اليمان
وتناقضه ،وأنه ل يجتمع اليمان والخلق الرديء.
خامسا – الجزاء
-14ومن خصائص نظام الخلق في السلم الجزاء ،لن السلم جاء بالخلق أمرا
ونهيا ،وعصيان أوامر الشرع أو ارتكاب ما نهى عنه سبب للعقاب ،قال تعالى﴿ :ويل لكل
همزة لمزة﴾ .كما أن اللتزام بحدود الشرع وطاعته سبب للثواب الحسن.
والجزاء لمن يخالف حدود الشرع في الخلق ،قد يكون في الدنيا ،فشاهد الزور ،وبذيء
اللسان ،والخائن ونحوهم يعاقبهم القاضي المسلم بالعقوبة التعزيرية والحنث في اليمين ،أي
عدم الوفاء بالوعد الموثق باسم ال ،يترتب عليه كفارة اليمين وفي الكفارة معنى العقوبة كما
يقول الفقهاء.
وقد يكون الجزاء في الدنيا هلك الجماعة التي يشيع فيها الخلق الرديء ،وقد أشار لهذا
الجزاء الحديث الشريف "انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا
سرق الوضيع اقاموا عليه الحد ،"...ومثل شيوع الجبن في المة وترك الظلمة يعبثون في
حقوق الناس دون إنكار عليهم خوفا منهم وجبنا وإيثارا للذل والحياة المهينة ،فان هذه الخلق
الرذيلة سبب لهلك المة أو إصابتها بشر كبير أو ضرر جسيم يصيب المذنب والبريء قال
تعالى﴿ :واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾.
62
أن الخلق صفات لزمة تخلق في النسان وينطبع عليها فل يمكنه تغييرها ول تبديلها ول
تعديلها كما ل يمكنه تغيير صفاته الجسمية من طول وقصر ولون؟
الجواب على هذا السؤال ،كما يظهر لنا ،يتلخص بما يأتي:
أولً :إن الخلق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها ،كما يمكن اكتساب الجيد منها
والتخلي عن قبيحها وبالعكس .ودليلنا على ذلك أن الشرع أمر بالتخلق بالخلق الحسنة ونهى
عن التخلق بالخلق الرديئة ،فلو لم يكن ذلك ممكنا مقدورا للنسان لما ورد به الشرع،
السلم ل يأمر بالمستحيل ،ومن القواعد الصولية في الفقه السلمي :ل تكليف إل بمقدور
أو ل تكليف بمستحيل .وعلى هذا فكل إنسان عنده أهلية وقدرة للتحلي بالخلق الجيدة
والتخلي عن اضدادها كما أن عنده أهلية وقدرة على عكس ذلك .وقد يستأنس لهذا بقول ال
تعالى﴿ :ونفس وما سواه فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾.
ولكن مع هذا فإن الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لكتساب الخلق أو
تعديلها ،كما يختلفون في مدى أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لتلقي العلوم المختلفة أو ادراك
الحقائق الدقيقة نظرا لختلف عقولهم ومدى ذكائهم.
ثانيا :ان بعض الناس قد يجبل على بعض الخلق بحيث تكون هذه الخلق بارزة فيهم
وظاهرة في سلوكهم ،ودليلنا على هذا حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي رواه أبو
داود ،وقد جاء فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لشج عبد القيس" :ان فيك خصلتين
يحبهما ال تعالى ورسوله ،الحلم والناة" .قال يا رسول ال ،انا اتخلق بهما أم ال تعالى جبلني
عليهما؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :بل ال جبلك عليهما" .فقال :الحمد ل الذي
جبلني على خصلتين يحبهما ال تعالى ورسوله[.]20
ول شك ان الناس يتفاوتون فيما يجبلون عليه من الخلق كما يتفاوتون في ما يجبلون عليه
من قوة الدراك والذكاء ،ويترتب على ذلك أن من جبل على نوع معين من الخلق يسهل
عليه ترسيخ هذا النوع في نفسه والبقاء عليه لنه يجد عونا في ذلك بما جبل عليه.
63
عن الغضب ينصرف الى النهي عن العمل بمقتضى الغضب أي بلزوم دفع آثار الغضب،
وليس النهي راجعا الى نفس الغضب لنه من طباع البشر فل يمكن دفعه ول استئصاله[..]21
فالمطلوب في تقويم خلق الغضب ليس استئصاله بالكلية فهذا غير ممكن وانما الممكن السيطرة
عليه وكظمه وعدم تنفيذ مقتضاه ،يؤيد ذلك ما جاء في القرآن الكريم ﴿والكاظمين الغيظ﴾
فمدحهم ال على ضبط غضبهم والسيطرة عليه ل على استئصاله وفي القرآن أيضا ﴿وإذا ما
غضبوا هم يغفرون﴾ فمدحهم على عدم تنفيذ مقتضى غضبهم .وفي الحديث الشريف" :ليس
الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب".
ثانيا :بالشتذيب والتهذيب وإزالة الكدورات عن أصل الخلق ،وتوجيهه الوجهة المرضية في
الشرع السلمي ،مثل خلق الشجاعة ،يستعمله صاحبه في العتداء وقتل البرياء ،أو لطلب
السمعة والجاه ،وكالسخاء يستعمله صاحبه للمباهاة وللرياء ،فهذه الخلق هي في أصلها
محمودة وإنما ذمت لنحرافها عن الغرض الصحيح والوجهة المرضية في الشرع ،فتقويمها
يكون بإزالة هذه الغراض الخسيسة عنها وبتوجيهها الوجهة الصحيحة بأن تكون الشجاعة
لنجدة الضعيف وإغاثة المظلوم وقهر الظالم واعلء كلمة ال ومحق الكفر والباطل ابتغاء
مرضاة ال وحده ل لطلب سمعة ول رياء ول جاه ول ثناء .وكذلك السخاء يوجه الى الوجهة
المرضية عند ال بأن يكون في سبيله ولطلب مرضاته ،بان ينفق المسلم ماله في أوجه البر
مثل اكرام الضيف والجار وكفالة اليتيم وإعانة المحتاج أو اقراضه والقيام على الرملة
والمسكين ونحو ذلك .يدل على ما نقول الحاديث الشريفة الكثيرة منها :عن أبي موسى
رضي ال عنه قال :سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل
حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل ال؟ فقال" :من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في
سبيل ال[ ]22وفي القرآن الكريم ﴿يا أيها الذين آمنوا ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى كالذي
ينفق ماله رئاء الناس﴾.
وفي الحديث الشريف" :الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في السلم إذا فقهوا" لنهم
بهذا الفقه يستعملون صفاتهم وأخلقهم الجيدة في أصلها استعمال صحيحا ،ويوجهونها الوجهة
الصحيحة ،فيكونون خيار الناس.
ثالثا :استبدال الخلق الذميم بالخلق الجيد ،كاستبدال الكذب بالصدق والغدر بالوفاء ،والظلم
والعدوان بالعدل والنصاف .وهذا الستبدال ممكن في كثير من الخلق ،حيث يزول الخلق
الذميم ويحل محله خلق جميل ،كما نشاهد ذلك في الشخص الذي يتوب توبة صادقة.
64
-129هناك وسائل كثيرة لتقويم الخلق واكتساب الجيد منها والتخلي عن الرديء منها وقد
يكون أهم هذه الوسائل ما يأتي:
-1العلم ،ونقصد به هنا معرفة أنواع الخلق الحسنة التي أمر بها السلم ،وأنواع الخلق
الرديئة التي نهى عنها السلم .ان هذا العلم ضروري لنه بدونه ل يدري المسلم بأي خلق
يتخلق ،ومن أي خلق يتجرد .وقد كفى السلم المسلم مؤنة البحث والستنباط فقد فصل
الخلق بنوعيها .وما على المسلم إل أن يعرض نفسه على الخلق بنوعيها ليعرف موضعه
منها ،ثم يعمل جاهدا لتكون أخلقه أخلقا اسلمية حقا.
-2ول يكفي أن يعرف أنواع الخلق معرفة مجردة ،بل يجب أن يعرف المسلم عظيم
حاجته الى الخلق الحسن ،لنه متصل باليمان وتقوى ال وسبب للظفر برضوان ال ودخول
الجنان ،كما يجب أن يعرف عظيم ضرر الخلق السيء عليه لنه من علمات النفاق وإمارات
ضعف اليمان وسبب سخط ال ودخول النار .ان هذه المعرفة ستدفعه الى التخلق بالخلق
الحسنة رغبة في رضوان ال تعالى ،كما تدفعه الى الخلص من الخلق السيئة خوفا من
سخط ال ،لن من رغب في شيء سعى اليه ،ومن خاف من شيء هرب منه.
-3ول يكفي للمسلم أن يعرف أنواع الخلق السيئة ونتائجها ،بل عليه أن يستحضر هذه
المعرفة في ذهنه لئل ينساها ،فان آفة العلم النسيان ،والنسيان يؤدي الى إهمال معاني
الخلق ،فيضعف أثرها في النفس ،ويصدر عنها ما ل ينبغي من الفعال ،ولهذا كرر القرآن
الكريم معاني الخلق وبين لنا أنا ما صدر عن أبينا آدم عليه السلم كان من أسبابه النسيان،
قال تعالى﴿ :ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾ .ولما غضب سيدنا عمر
رضي ال عنه عندما قال له رجل انك ل تقضي بالعدل ول تقضي بالحق ،قال بعض
الحاضرين :يا أمير المؤمنين إن ال تعالى يقول﴿ :خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
الجاهلين﴾ وهذا من الجاهلين فقال سيدنا عمر رضي ال عنه :صدقت ،وذهب عنه الغضب.
فالتذكر الدائم لمعاني الخلق وتذكر الساس الذي قامت عليه وهو اليمان بال تعالى ،وان
اللتزام بمقتضى الخلق من ثمرات اليمان ومن معاني السلم ،كل هذا يجعل سلوك المسلم
في حدود الخلق السلمية.
-4الهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة السلمية في النفس ،وعلى رأس هذه المعاني
اليمان بال وباليوم الخر وبرسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،والحساس بالغربة في هذه
الدنيا وان المسلم عما قريب سيرحل عنها ،وانه سيجازى على أعماله ،ومن أعماله أخلقه،
وأن ال تعالى وعد وعد الصدق بالثواب للمتخلقين بأخلق السلم ،ووعد بالعقاب لمن رفض
أخلق السلم.
65
إن تقوية معاني العقيدة السلمية في النفس يؤدي الى انفتاح النفس وتقبلها لمعاني الخلق
السلمية ،لن هذه الخلق موصولة باليمان ومعاني التقوى كما قلنا ،وهذه الصلة تشتد كلما
قوي اليمان في النفس ورسخت العقيدة فيها ،مما يجعل أخلق المسلم الطيبة ثابتة راسخة ل
تزول ول تضعف لنها موصولة بالقوي العزيز ،وتجد مادة بقائها واستمرارها وصلحها من
هذا الفيض الذي ل ينضب :اليمان بال ولوازم هذا اليمان .فالمسلم ،مثلً ،ل يمكن ان يكون
ذليلً أبدا لنه موصول بالقوي العزيز الذي له العزة جميعا ﴿قل ل العزة جميعا﴾ وللمؤمنين
المتصلين به نصيب من العزة ﴿ول العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ والمؤمن ل يخاف مخلوقا ول
يخشاه ومن ثم ل يتملقه ول يذل له ول ينافق عنده لن المور كلها بيد ال ،ومنها النفع
والضر والرزق والحياة والموت ﴿وإن يمسسك ال بضر فل كاشف له إل هو وإن يردك بخير
فل راد لفضله﴾ وعزة المؤمن ل يقترن بها ذرة من كبر أو طغيان أو جبروت أو خيلء أو
عجب بالنفس ،لن عزة المؤمن قائمة على اليمان بال ،وال وحده له الكبرياء والجبروت،
وكل ما سواه فهو فقير مربوب مقهور ،فأنى للفقير المقهور أن يتكبر أو يتجبر على غيره؟
ولهذا ل يكون المسلم إل متواضعا لنه عرف قدر نفسه بعد أن عرف ربه ،ومن عرف قدر
نفسه لن يتكبر أبدا .ومع العزة والتواضع صبر جميل وثقة كاملة ورجاء ل يشوبه يأس،
وطمأنينة ل يخالطها قلق ،لن اليمان يثمر هذه الخلق الفاضلة ،قال تعالى﴿ :أل بذكر ال
تطمئن القلوب﴾ ولن ما هو مقدر فهو كائن ،فل داعي للقلق والضطراب ﴿قل لن يصيبنا إل
ما كتب ال لنا﴾ ولن من يتوكل على ال فهو حسبه .والشجاعة والجرأة والقدام والثبات على
الحق ونحو ذلك أخلق راسخة في المسلم ما دام قلبه معمورا بمعاني اليمان ،لن إيمانه
يعلمه أن الحياة ل تستحق أن يهن فيها المسلم أو يجبن أو يحجم حيث يجب القدام ،لن
الجال قد فرغ منها ،وأن الموت ل بد أن يلقيه كل حي ،قال تعالى﴿ :كل نفس ذائقة الموت﴾
﴿وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجلً﴾ .والقناعة وعفة النفس والستغناء عن
الخلق وعما في أيديهم ،ثمرات طيبات زاكيات من ثمار اليمان ،لن المسلم يؤمن بقول ال
تعالى﴿ :قل إن الفضل بيد ال يؤتيه من يشاء وال واسع عليم﴾ وأن الرزق بيد ال ﴿ال يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ ..وهكذا بقية الخلق ترسخ وتدوم وتستمر ما دامت قائمة على
إيمان عميق يتخلل شغاف القلب وتصبغ به النفس .فتعميق اليمان في النفس وتقوية معاني
العقيدة ،وسيلة مهمة جدا للتخلق بالخلق الحسن وللتخلي عن الخلق الرديء.
-5مباشرة العمال الطيبة التي تساعد أو تؤدي إلى تقويم الخلق أو تسهل على النفس
قبول الخلق الزكية وطرد الخبيثة ،فالعلم وحده بدون عمل ل يكفي ،قال تعالى﴿ :قد أفلح من
زكاها﴾ ولم يقل ربنا تبارك وتعالى قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها ،فل بد من تزكية فعلية،
بمباشرة العمال المحققة لزكاة النفس وتخليصها من أمراض الخلق الرذيلة .إن المريض
66
الذي يوصف له العلج أو يقدم له العلج فعلً ،ول يستعمله لن يستفيد منه وإن ظل ينظر اليه
ويكرر القول في تركيبه وكيفية صنعه.
-6ومن أنواع العمال الطيبة النافعة لتقويم الخلق ،القيام بأنواع العبادات والطاعات
المفروضة والمندوبة لنها تزكي النفس وتسهل عليها اكتساب الخلق الطيبة وطرد الخلق
الخبيثة ،فهي لها طهرة وزكاة وقوة ووقاية ،وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني ،قال تعالى في
الصلة﴿ :إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ وقال عن الزكاة ﴿خذ من أموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها﴾ تطهرهم من البخل والشح وتصفي نفوسهم من الكدورات والخلق
الرديئة .والصوم يربي في النسان فضيلة الصبر وقوة الرادة والعزيمة والخلق والخلص
من الرياء .والحج تربية عملية للروح ورياضة مؤثرة في النفس ووسيلة فعالة لكتساب كثير
من الخلق والتخلص من كثير من ذميم الصفات ،ففي الحج تربية على الصبر والخلص
والستعلء على شهوات الجسد وإنفاق المال فيما يحبه ال ،والتخلص من الكبر والعجب
والغرور وتجاوز النسان قدر نفسه وغير ذلك مما هو معروف ومذكور في موضعه في كتب
الفقه .وهكذا بقية العبادات بدوامها تزكو النفس فتدوم فيها معاني اليمان والتقوى ومنها
الخلق الرضية ،لن هذه الخلق ل تنبت إل في النفس الزكية ،ول شيء مثل العبادات
بأنواعها المختلفة يزكي النفس ويهيئها لكتساب الخلق الطيبة والتخلص من الخلق
الرديئة ،وفي كتاب ال إشارة إلى هذه المعاني قال تعالى﴿ :إن النسان خلق هلوعا إذا مسه
الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إل المصلين الذين هم عل صلتهم دائمون والذين في
أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾.
-7القيام بالعمال المضادة للخلق التي يراد التخلص منها أو المضادة لمقتضاها ويمكن
أن نسمي هذا المسلك بمسلك التضادد أو المراغمة للشيطان ،لن الشيطان يفرح لكل خلق
رديء ويعمل على بقائه في النفس ويزينه في عين صاحبه بما يلقيه من مبررات باطلة ،فإذا
قام النسان بعمل يناقض هذا الخلق ول يتفق وما يقتضيه ،كان ذلك بل شك إغاظة للشيطان
ومراغمة له ،مما يدعوه إلى الكف عن تزيين هذا الخلق الرديء وعن نفث المبررات الباطلة
له ،فإذا خنس الشيطان أمكن لهذا العمل أن يزعزع كيان هذا الخلق الرديء أو يقضي عليه
كما يقضي العلج الفعال على المرض .ومما يدل على جودة هذا المسلك وأثره في تقويم
الخلق ما ورد في الحديث أن رجلً شكا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قلبه ،فقال له
رسول ال "امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين".
ومن أمثلة أعمال التضادد والمراغمة علج الحسد بأن يبادر الحاسد إلى الستغفار والدعاء
بالخير إلى المحسود فإنه سيشعر بزوال الحسد من قلبه ،ومن علج الكبر جلوس المتكبر مع
67
الفقراء والمساكين والصعاليك والجلوس في آخر المجلس ،والقيام بالعمال التي يعدها الناس
حقيرة ل تليق بالمتكبرين مثل حمل الحطب ونحو ذلك.
ومما يمكن اعتباره من أعمال هذه الوسيلة ،ما جاء في الحديث الشريف "إذا غضب أحدكم
وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإل فليضطجع"[ .]23وفي حديث آخر "إذا غضب
أحدكم فليتوضأ بالماء ،فإنما الغضب من النار ،وإنما تطفأ النار بالماء".
-8مسلك التكلف ،فيتكلف النسان الخلق التي يريد التخلق بها كما لو أراد أن يكون حليما
فإنه يأتي به تكلفا مرارا حتى تألفه النفس وتعتاده ويصير لها كالطبع وكالسجية .ويؤيد جودة
هذا المسلك ،ما ورد في الحديث – وان روي بسند ضعيف – "إنما العلم بالتعلم والحلم
بالتحلم" .وهذا المسلك يحتاج إلى تكرار ودوام حتى ينتج أثره ،وهذا الدوام يستلزم الصبر،
فعلى النسان الذي يريد التخلق بنوع من الخلق الرضية عن طريق التكلف أن يتجمل
بالصبر فإنه ضروري له ضرورته للمريض الذي يتناول الدواء المر .فإذا صبر وداوم انقادت
النفس وألفت الفعل ثم يصبح الفعل لها لذيذا ،كالذي يريد أن يحسن خطه فإنه بتكرار الكتابة
والخط يحسن خطه ،ثم يصبح الخط بالنسبة له شيئا سهلً ولذيذا.
-9مخالطة المؤمنين ذوي الخلق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم ،لن رؤية الرجل
الصالح ذي الخلق الحسن ومجالسته والسماع منه يؤثر في جليسه فيدفعه إلى اقتباس بعض
أخلقه ،وقديما قيل :الطبع يأخذ من الطبع .وقد ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه
الترمذي عن أبي سعيد أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول "ل تصاحب إل مؤمنا
ول يأكل طعامك إل تقي" لن المرء يقتدي بمن يعاشره ويصاحبه ويجالسه فيقتبس منه
صفاته .ولهذا كان السلف الصالح يوصون أو يأمرون بهجر أصحاب البدع والمعاصي وذوي
الخلق الرذيلة.
-10اتخاذ القدوة الحسنة ،وخير القدوة على الطلق رسولنا صلى ال عليه وسلم قال
تعالى﴿ :لقد كان لكم في رسول ال أسوة حسنة لمن كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال
كثيرا﴾ فإذا فات المسلم الن رؤية رسول ال صلى ال عليه وسلم ببصره فلن تفوته رؤياه
ببصيرته باستحضار سيرته العطرة .وشمائله الكريمة وأخلقه العظيمة ،ولذلك نوصي كل
مسلم بقراءة سيرته مرارا واستحضار شخصه الكريم في ذهنه ،وتصور نفسه في مجلس
رسول ال صلى ال عليه وسلم .ومن القدوة الحسنة أيضا استحضار سيرة أصحابه الكرام
المملوءة بالخير وجليل العمال وكريم الخلق ل سيما سيرة الخلفاء الراشدين والعشرة
المبشرة بالجنة وأصحاب بدر وأصحاب بيعة الرضوان وسائر المهاجرين والنصار.
-11ترك البيئة الفاسدة والفرار كما يفر المرء من المكان الموبوء ،والتحول إلى البيئة
الصالحة التي تضم الجماعة الصالحة من المؤمنين الطيبين فإن هذه البيئة الصالحة تقوي في
68
المؤمن معاني الخلق الفاضلة وتقيه من الخلق الرديئة ،ول يجوز له التعرض إلى البيئة
الفاسدة ذات الناس الفاسدين بحجة أنه متين الخلق ل يخشى عليه التأثر بهم أو بها ،فإن هذا
غرور ووهم ومثاله مثال من يتعرض إلى المكان الموبوء بمرض السل ونحوه بحجة أنه قوي
البنية .ونستأنس لهذا الذي نقوله بالحديث الشريف الذي جاء فيه أن رجلً قتل مائة نفس ثم
سأل عن أعلم أهل الرض فدل على رجل عالم فأتاه ،فقال" :إنه قتل مائة نفس ،فهل له من
توبة فقال نعم .ومن يحول بينك وبين التوبة؟ إنطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون
ال فاعبد ال معهم ول ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء...الخ"[ ]24فهذا الحديث يدل على
ضرورة التحول من المجتمع الفاسد إلى المجتمع الطيب أوإلى الجماعة الطيبة المؤمنة العابدة،
فإن العيش معها والبقاء معها أدعىإلى استقامة الشخص وابتعاده عن السوء.
والبيئة الفاسدة كل ما يعرضك للمعصية وسوء الخلق ،والبيئة الصالحة كل ما يعينك على
طاعة ال وتقواه ومنها حسن الخلق.
-12الحرص على صفة جميلة واعتبارها كالجوهرة النفيسة التي يجب صونها وحفظها
وعدم التفريط بها ،وعدم الستهانة بكل صفة قبيحة وإن بدت بسيطة قليلة الشأن ،لن المسلم
ل يستقل أبدا أي خلق حسن ول يستهين بأي خلق سيء فرب صفة طيبة ترفعه إلى درجات
عالية ورب صفة خبيثة تدخله النار ،وقد مدح ال تعالى رسوله إسماعيل عليه السلم بصفة
صدق الوعد قال تعالى﴿ :واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ﴾...وفي الحديث
"اتقوا النار ولو بشق تمرة" كما أن الصفة الواحدة والمحافظة عليها والدوام عليها تؤدي إلى
رسوخها فيه فإن كانت صفة خير كان ذلك خيرا له وإن كانت صفة شر كان ذلك شرا له
والخير يؤدي إلى الخير والشر يؤدي إلى الشر ،جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال
عليه وسلم أنه قال" :عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ،والبر يهدي إلى الجنة ،وما
يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا .وإياكم والكذب فإن الكذب
يهدي إلى الفجور ،وإن الفجور يهدي إلى النار ،وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى
يكتب عند ال كذابا".
-13على المسلم أن يروض نفسه على قبول نصيحة المتدين الكيس الورع الصادق ،فإن
المؤمن يرى من عيوب غيره ما ل يرى الغير من عيوب نفسه ،ومن هنا حسنت صحبة
الخيار ،وكان عمر رضي ال عنه يقول :رحم ال امرءا أهدى إليّ عيوبي .إن الناصح
الصادق الذي يدلك على عيوبك وسوء بعض أخلقك يستحق منك الشكر والتقدير .إنك تشكر
من يدلك على عقرب تدب على جسمك أو تختفي تحت ثيابك وتسارع إلى إلقائها بعيدا عنك،
فكذلك يجب أن تفعل نحو من ينصحك ويدلك على عيوب أخلقك ،لن الخلق الرذيلة
عقارب ولكنها تؤذي القلب وتفرغ فيه سمومها..
69
هذه بعض الوسائل المهمة في تقويم الخلق واكتساب الجيد منها ،وهناك وسائل أخرى مهمة
في الموضوع نكتفي بما ذكرناه..
70
[ ]21شرح الربعين النووية للمام النووي ص ،49وفتح المبين لشرح الربعين للفقيه ابن
حجر الهيتمي ص .140
[ ]22تيسير الوصول ج 1ص 231وقال فيه :رواه الخمسة.
[ ]23لن القائم متهيئ للنتقام والجالس دونه والمضطجع دونهما.
[ ]24تيسير الوصول ج 1ص .212
تمهيد
-130من الحقائق الثابتة التي أشار إليها العلمة ابن خلدون في مقدمته أن الجتماع النساني
ضروري ،وهو ما يعبر عنه بقول بعضهم :النسان مدني بالطبع ومعنى ذلك أن المجتمع
ضروري للنسان ،وهو ما يؤيده الواقع ،فالنسان يولد في المجتمع ويعيش فيه ويموت فيه.
-131وإذا كان المجتمع ضروريا للنسان ول بد من وجوده ،فإن النظام – على أي نحو كان
– ضروري للمجتمع ل يتصور وجوده بدونه ،لن الفراد ل يمكنهم العيش بحرية مطلقة
داخل المجتمع وإل كان في ذلك هلكهم أو إضطراب حياتهم وانقلب مجتمعهم إلى مجتمع
حيوانات كالذي نشاهده في الغابات .ولهذا كان ل بد من نظام للمجتمع يتضمن الحدود التي
يجب أن يقف عندها الجميع والضوابط العامة التي يجب أن يلتزموا بها في سلوكهم حتى
يستطيعوا العيش بأمان واستقرار.
-132وإذا كان لكل مجتمع نظام على نحو ما ،فإن هذا النظام ل بد له من أساس وأصول
وأفكار يرتضيها المجتمع ويقوم عليها نظامه الذي يسير بموجبه .والنظام يكون صالحا أو
فاسدا تبعا لصلح أو فساد أساسه وأصوله وأفكاره التي يقوم عليها لن الفرع يتبع الصل في
الصلح والفساد.
-133وإذا كان نظام المجتمع قد يكون صالحا أو فاسدا ،فإن صلحه وفساده ينعكس على
أفراده ويتأثرون به ويتحملون تبعاته فيسعدون به أو يشقون ..وعلى هذا ويجب على من يريد
الخير لنفسه ولمجتمعه أن يبحث ويتحرى عن الساس الصالح الذي يجب أن يقوم عليه نظام
المجتمع ويسعى لتثبيت هذا الساس وإقامة نظام المجتمع عليه ،وبهذا تتيسر للفراد سبل
الخير والسعادة ويتحقق أكبر قدر ممكن من الحياة الطيبة المستقرة الهادئة لفراده..
-134والواقع أن السلم كفانا مؤونة البحث والتحري عن هذا الساس الذي يقوم عليه
النظام الصالح والمجتمع ،كما كفانا مؤونة البحث عن طبيعة هذا النظام الصالح وخصائصه،
مما يجعل المر ميسورا لبناء المجتمع الصالح الذي يسعد به الناس جميعا ،فما هو إذن أساس
71
النظام الصالح في نظر السلم ،وما هي خصائص هذا النظام؟ هذا ما سنجيب عليه في
المطلبين التاليين بالقدر الذي يتسع له بحثنا عن هذا المقام.
72
ل يرفض قبوله فيه إذا رغب هو في النتماء إليه بشرط إعلن ولئه له وخضوعه لنظامه
عن طريق عقد الذمة .وفي هذه الحالة سيجد غير المسلم مكانا أمينا في هذا المجتمع الفكري
ويتمتع بالحقوق العامة والخاصة وبحماية تامة لنفسه وماله وعرضه .وعلى هذا ،فقول
البعض :إن إقامة المجتمع على أساس العقيدة السلمية بغير اضطهاد غير المسلمين،
وإكراههم على تبديل دينهم قول باطل هو من قبيل التشويش والتضليل والجهالة ،فالسلم
يقرر في القرآن الكريم﴿ :ل إكراه في الدين﴾ والفقهاء يقررون قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما
علينا" والواقع يشهد بأن غير المسلمين عاشوا في المجتمع السلمي منذ عهد الرسول صلى
ال عليه وسلم وحتى اليوم دون أن يمسهم أذى أو تضييق بسبب دينهم ،والواقع يثبت أنهم
ظفروا بحماية ورعاية من المسلمين ل نجد لهما نظيرا مطلقا في أي مجتمع بالنسبة للقليات
التي فيه والتي ل تدين بدينه ،ويكفي أن نذكر هنا مأساة الندلس وما أصاب المسلمين هناك
عندما دالت دولتهم وذهب سلطانهم.
73
فكان أفراد القبيلة ينصر بعضهم بعضا في الحق وفي الباطل لنتسابهم إلى قبيلة واحدة .وقد
أنكر السلم هذه العصبية ،وأمر بنبذها ،فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال
عليه وسلم "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية" .وقال عليه الصلة
والسلم عن العصبية" :دعوها فإنها منتنة".
وبعد أن كان شعار الجاهلية :انصر أخاك ظالما أو مظلوما ،بمعنى كن بجانبه في الحالين،
أصبح الشعار في السلم :انصر أخاك ظالما – بأن تمنعه من الظلم – أو مظلوما بأن تقف
بجانبه ضد ظالمه..
وذم العصبية في السلم ل يقف عند حد العصبية القائمة على أساس المشاركة في القبيلة أو
الجنس ،وإنما تتعداها إلى كل عصبية قائمة على سبب آخر ما دام جوهر العصبية موجودا
وهو نصرة الغير بالباطل بسبب هذه المشاركة .وعلى هذا فانتصار أصحاب القليم الواحد أو
الحرفة الواحدة أو المذهب الواحد بعضهم لبعض في الباطل هو من العصبية المقيتة المذمومة.
إن خلو المجتمع السلمي من العصبية بأنواعها يقلل فرص العتداء والظلم والبغي ،ويساعد
على شد الفراد إلى معاني الحق والعدل وفي هذا كله خير مؤكد للمجتمع ولفراده.
74
يسرع به نسبه" وذكر النسب إشارة إلى غيره من الشياء التي ل علقة لها في تقييم الشخص
معرفة مقدار فضله.
75
الجتماعي السلمي التوادد والتراحم والتعاطف بين أفراده ،فإن السلم دعا إليها ،وقد شبه
رسول ال صلى ال عليه وسلم حال المؤمنين في التراحم بمثل عظيم ،فقد جاء في الحديث
"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى" وفي حديث آخر "الراحمون يرحمهم ال تعالى ،إرحموا من
في الرض يرحمكم من في السماء" وفي حديث آخر "ل يرحم ال من ل يرحم الناس" وفراغ
القلب من معاني الرحمة علمة على شقوة النسان ،جاء في الحديث "ل تنزع الرحمة إل من
شقي" .والشفقة على الصغار والولد من علمات عمارة القلب بالرحمة ،جاء عن أبي هريرة
رضي ال عنه ،قال :قبّل رسول ال صلى ال عليه وسلم الحسن بن علي رضي ال عنهما،
وعنده القرع بن حابس ،فقال القرع :إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدا فقال رسول
ال صلى ال عليه وسلم" :من ل يرحم ل يُرحم" وفي القرآن الكريم في وصف صحابة رسول
ال صلى ال عليه وسلم ﴿محمد رسول ال والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾
فالتراحم بين المؤمنين من الصفات الصلية فيهم وتجعل المجتمع السلمي كالسرة الواحدة.
والحق أن مجتمعا يصل فيه التراحم إلى هذا الحد لمجتمع سعيد حقا.
ومع الرحمة تعاون نظيف على الخير ،وأيد كريمة تمتد إلى كل محتاج لن السلم دعا إلى
التعاون قال تعالى﴿ :وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثم والعدوان﴾ وهذا
التعاون المطلوب يشمل السرة والجيران والصحاب والرفيق في السفر والمنقطع والغريب.
واليتيم والمسكين وكل ذي حاجة في المجتمع السلمي قال تعالى﴿ :واعبدوا ال ول تشركوا
به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى
والجار الجنب والصاحب بالجنب وإبن السبيل وما ملكت أيمانكم﴾ وفي السنة النبوية جملة من
الحاديث في باب التعاون منها "من كان في حاجة أخيه كان ال في حاجته ،ومن فرج عن
مسلم كربة فرج ال عنه كربة من كرب يوم القيامة" .وفي الوصية بالجار المتضمنة إعانته
ومساعدته "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورثه" .والتعاون المطلوب ل
يقف عند حد إعانة المحتاجين والمعوزين ،وإنما يتجاوزه إلى آفاق واسعة ومجالت مختلفة،
لن دائرته أعمال الخير ،وهي واسعة جدا ،فالتعاون على تشييد مسجد أو فتح مدرسة أو
إنشاء مستشفى أو بناء قنطرة ،أو طبع كتاب نافع يخدم السلم ،والتعاون على إزالة منكر أو
فساد أو ظلم أو صد عدوان ونحو ذلك كله من التعاون المطلوب لنه تعاون على البر ،ول
شك أن شيوع التعاون بين أفراد المجتمع سيقضي على عوامل الثرة والجفاء والحقد والقطيعة
والبغضاء ،ويعمر القلوب بالحب والود والشفقة .مما يجعل الحياة طيبة في هذا المجتمع الطيب
لنها تقوم على الود والرحمة ل على البغض والقسوة.
76
ثانيا :اللتزام بمعاني العدالة
-141اللتزام بمعاني العدالة من أنواع الخلق الفاضلة بل في ذروتها ،وإنما أفردناها
بالذكر لهميتها ،ولتشعبها وتعدد مظاهرها ،وبروزها في النظام الجتماعي السلمي .ومما
يدل على أهمية العدل في السلم ورود اليات الكثيرة فيه بالدعوة إليه بصورة عامة أو
خاصة .فمن اليات التي تأمر بالعدل بصورة عامة قوله تعالى﴿ :إن ال يأمر بالعدل
والحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ ﴿يا
أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط﴾ ﴿قل أمر ربي بالقسط﴾ .ومن اليات التي أمرت
بالعدل في مسائل معينة العدل في القول ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾ والعدل في
الكتاب ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾ والعدل في الحكم ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل﴾ ﴿فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا﴾ والعدل في الكيل والوزن ﴿وأوفوا
الكيل والميزان بالقسط﴾ ﴿وأقيموا الوزن بالقسط ول تخسروا الميزان﴾ .والحساب يوم القيامة
يكون بالعدل فل تظلم نفس شيئا ،قال تعالى﴿ :وقضي بينهم بالقسط وهم ل يظلمون﴾ ﴿ونضع
الموازين القسط ليوم القيامة﴾ .وإذا ضممنا إلى هذه اليات الناهية عن الظلم تبين لنا أهمية
العدل في السلم حتى يمكن أن يقال دون مبالغة بأن السلم هو دين العدالة في كل شيء .إن
تأكيد السلم على معاني العدل وضرورة اللتزام به والنهي عن الظلم وضرورة تجنبه،
تترتب عليه نتائج خطيرة ،ذلك أن المجتمع الذي يشيع فيه العدل يحس أفراده بالطمئنان على
حقوقهم ،لن القانون يكون مع المحق وإن كان ضعيفا ل مع المبطل وإن كان قويا ،وبعكس
ذلك إذا شاع الظلم وندر العدل أحس الفراد بالقلق الدائم على حقوقهم وزال عنهم الطمئنان
والستقرار وكان ذلك إيذانا بدمار هذا المجتمع ،وقد أشار الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم
إلى أثر التفريط بالعدل وكيف يؤدي بالمة إلى الهلك ،فقد جاء في الحديث "إنما أهلك الذين
من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف اقاموا عليه الحد ،وأيم ال لو
أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" وتعليل هلك المم بسبب الظلم ،أن الظلم كالنار
يحس بوطأتها المظلومون ،فإذا شاع الظلم وغارت معاني العدل كثر المظلومون الذين ل
يرون في هذا المجتمع حماية لهم ول حفظا لحقوقهم وإنما يرون فيه هضم حقوقهم ،وهذا
يجرهم إلى عدم الهتمام به وببقائه وهذا قد يجرهم حتى إلى المعاونة على هلكه وإفنائه.
وهذا بخلف المجتمع العادل حيث يحرص الفراد على بقائه ورد العداء عنه لنهم يرونه
كالبيت الذي يؤويهم فيكون هذا الحرب منهم عليه وبذل الجهد لبقائه سببا لبقائه ،ولهذا قيل :إن
الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة ،وإن الدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة .ومن أجل هذا
كله فقد قام المجتمع السلمي في صدر السلم على معاني العدل واللتزام بها ،فما كان
هناك ظلم ول محاباة ول إجحاف ،وإنما كان هناك العدل الصارم الذي يتساوى أمامه الشريف
77
والوضيع ،والقانون السلمي الذي يخضع له الجميع الخليفة ومن عداه .وقد ترتب على ذلك
أن الضعيف كان معه المجتمع بكل قوته ما دام محقا ول يضيره ضعفه لن قوة المجتمع
والقانون معه ،وكان القوي ل تغني عنه قوته ما دام مبطل لن قوة المجتمع والقانون ضده
ولهذا كان أبو بكر رضي ال عنه يقول "القوي منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ،والضعيف
منكم قوي حتى آخذ الحق له" .بل بلغت العدالة في المجتمع السلمي الول إلى حد اللتزام
بالمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء حتى في نظرة القاضي ونبرات صوته وكلمه
معهم .وفي قول مأثور عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أن قال لقاضيه أبي موسى
الشعري "سوّ بين الخصمين في مجلسك وإشارتك وإقبالك" .ولما كان العدل واللتزام به من
مقومات النظام الجتماعي السلمي ،فإن أية شفاعة أو جهد يبذل لتعطيل سريان العدالة أو
للنحراف بها عن مجراها المستقيم يعتبر مما ل يجوز في شرع السلم ،ولهذا لما سرقت
المرأة المخزومية وأهم الناس أمرها سألوا أسامة بن زيد أن يستشفع لها عند رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فلما فعل ذلك غضب الرسول صلى ال عليه وسلم وقال له" :أتشفع في حد من
حدود ال"؟! ثم خطب صلى ال عليه وسلم في الناس وقال "ما بال أقوام يشفعون في حد من
حدود ال ،إنما أهلك الذين من قبلكم ...إلى آخر الحديث الذي ذكرناه قبل قليل".
78
اجراءات الزواج ب)
-144وقد شرع السلم للزواج إجراءات معينة تشريفا وتكريما لهذه العلقة علقة الزواج،
وأول هذه الجراءات :الخطبة ،أي طلب الرجل المرأة للزواج بالطرق المعروفة عند الناس،
وإذا كان من الجائز شرعا ان يتزوجها .والغرض منها أن يعرف كل من الرجل والمرأة عن
الخر ما يجعله يقدم على النكاح أو يحجم عنه ،ولهذا أباح السلم للخاطب أن يرى مخطوبته
ولكن ل يجوز الخلوة بها لنها ل تزال أجنبية عنه ،والخلوة بالجنبية حرام ،لن الخطبة وعد
بالزواج وليس بعقد زواج .والمرغوب فيه في شرع السلم تخير المرأة الصالحة كما أن
على المرأة تخير الرجل الصالح ،فإن صلح الشخص وتقواه وخلقه أرجح في ميزان الشرع
مما عدا ذلك من كثرة المال أو المنصب أو الجاه ،وفي الحديث الشريف "تنكح المرأة لربع
لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" والمرأة ذات الدين لها تأثير
كبير جدا في صلح السرة وتربية أبنائها على معاني السلم وحسن الخلق ،ولذلك وجه
أعداء السلم غارتهم على المرأة المسلمة لستئصال ما في نفسها من معاني الخير والدين.
فإذا حصل التفاق أفرغ في عقد النكاح الشرعي القائم على اليجاب والقبول والمتضمن
رضى الطرفين بحضور شهود عدول تكريما لهذا العقد وتمييزا له عن السفاح .ويستحب أن
ل ل كثيرا لنه ليس ثمنا للزوجة ولكنه رمز التكريم للمرأة في عقد النكاح،
يكون المهر قلي ً
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على إستحباب عدم المغالة في المهور ،فقد روي عن النبي
صلى ال عليه وسلم أنه قال "خير الصداق – أي المهر – أيسره" "أخف الناس صداقا أعظمهن
بركة" والواقع أن شيوع عادة المغالة في المهور يجعل الراغبين في الزواج قلة ،ويبقى
الكثيرون عازفين عنه لعدم قدرتهم عليه وهذا العزوف عن الزواج يجر إلى مفاسد ل تخفى.
والحقيقة أن السلم بسط إجراءات النكاح وسهل الوصول إليه ،فعقد النكاح يتم بإيجاب وقبول
كما قلنا ول يشترط له إجراءات شكلية معينة ول تراتيل دينية ول لغة معينة ول مكان معين،
وإنما يشترط له مع اليجاب والقبول موافقة ولي المرأة ،لن عقد النكاح ل يهم المرأة وحدها
بل يهم وليها وعائلتها والضرر الذي يلحقها بسبب سوء إختيارها ينسحب إلى عائلتها وعلى
رأسهم وليها كالب والخ ،فمن العدل أن يكون للولي رأي مسموع في زواجها .كما يشترط
حضور الشهود عند عقد النكاح لكي يعرف العقد ويشيع وتحفظ حقوق المرأة ويثبت مركزها
القانوني كزوجة وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات ،كما يشترط شرط آخر لصحة
النكاح وهو أن ل تكون المرأة محرومة على الرجل كالخت والخالة وسائر المحرمات.
جـ) حقوق الزوجة
-145ويترتب على عقد النكاح حقوق معينة للزوجة .منها المهر ،وهو حق خالص لها دون
ذويها ،ول تكلف أن تشتري به جهازا لها إل إذا رغبت هي ،لن تجهيز بيت الزوجية بما
79
يلزمه من أثاث وفراش ونحوها من واجبات الزوج ل الزوجة .كما يترتب على عقد النكاح
حق النفقة للزوجة على زوجها ،لنها متفرغة لشؤون البيت وتربية الطفال فكان من العدل أن
يقوم الزوج بالنفقة عليها ،لن كل واجب يقابله حق ،وفي الحديث الشريف " ...ولهن عليكم
رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وحق النفقة يبقى للزوجة ما دامت قائمة بواجباته نحو زوجها
فلو خرجت على طاعته وتركت بيت الزوجية عدت ناشزة وسقطت نفقتها عنه مدة نشوزها
فإذا عادت عادت النفقة لها .وللزوجة على زوجها حق المعاملة بالحسنى ،قال تعالى﴿ :ولهن
مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ وفي الحديث الشريف "خيركم خيركم لهله" .والسلم يوصي
بالصبر على المرأة فل ينبغي للزوج أن يتعجل إذا رأى منها ما يكره قال تعالى﴿ :
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل ال فيه خيرا كثيرا﴾.
د) حقوق الزوج
-146وكما للزوجة حقوق على زوجها فإن له حقوقا عليها ،فالحقوق متقابلة بين الطرفين.
فمن حقوقه طاعته بالمعروف لن القوامة له قال تعالى﴿ :الرجال قوامون على النساء بما
فضل ال بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ .وقوامة الرجل على زوجته شيء
طبيعي جدا ومعقول ول بد منه ،لن الحياة الزوجية شركة خطيرة ،وكل شركة ل بد فيها من
رئيس ،فكيف بالعلقة الزوجية التي تخص أخطر علقات النسان بغيره؟ إن هذه العلقة
الكريمة والشركة الخطيرة ل بد لها من رئيس يطاع في موضع الخلف حتى تبقى الشركة
قائمة بل انفصام ،والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة وهذا ما قرره السلم ويشهد له الواقع
ويطبقه البشر وإن جادل بعضهم فيه .ثم إن هذه القوامة ل غضاضة فيها على المرأة ،لنها
خالية من الستعلء والتسلط والهواء والتعسف وإرادة الشر ،لن الزوج يحرص على الخير
لزوجته ول يريد برياسته عليها إستعلء ول تكبرا ول تسلطا ول يتعسف في إستعمال قوامته
ل عن ذلك كله فإن علقته بزوجته مبنية على المودة والرحمة قال تعالى﴿ :ومن
عليها ،وفض ً
آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ فقوامة الرجل
على المرأة قائمة على المودة والرحمة اللتين غرسهما ال تعالى في قلبيهما ،فل يتصور فيها
ما يضايق المرأة أو يجرح كرامتها .إن النسان يطيع بإختياره وبكل سرير صديقه المخلص
المحب له ،بل ويفرخ إذا صار رئيسا له في دائرة من دوائر الدولة .فكيف الحال برئاسة
الزوج وقوامته على زوجته ،وما بينه وبين زوجته من المودة والرحمة والخلص والحرص
على ما ينفع الطرفين ما ل نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين؟ إن بعض الناس يسارعون
وينكرون حق الزوج في القوامة على زوجته ،ويوغرون صدر المرأة على التمرد على هذه
القوامة التي يسمونها عبودية .وهذا التجاه من هذا البعض ل يجوز في شرع ال وقد يكون
كفرا إذا أصر عليه النسان لنه مصادمة لنصوص الشريعة ،كما أنه يدل على جهالة صاحبه
80
أو هواه أو إرادته السوء والشر بالمرأة أو رغبته في تفكيك السرة وإشاعة الفوضى فيها ،كل
هذه المور نتائج لزمة للدعوة إلى تمرد المرأة على قوامة الزوج ،فيجب أن تمنع كما يمنع
أي شيء ضار ،وأن تبصر المرأة المسلمة بضلل هذا القول وضرره .وقد يكون من النافع
أن نذكر لهذا البعض من الناس أن ملكة النكليز عندما تزوجت سألها الكاهن قبل أن يجري
الطقوس الدينية لعقد النكاح ،سألها :هل تطيعين زوجك ،قالت :نعم .ومن هذا كله يتضح لكل
منصف أن قوامة الزوج على زوجته هو ما جاء به الشرع ويقره العقل السليم ويطبقه البشر.
فعلى المرأة المسلمة والمدركة لمصلحتها أن تطيع زوجها في المعروف فإن أمرها بمعصية
وجب عليها أن تعصيه ،لنه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومن حقوق الزوج على زوجته أن ل تخونه في شيء ،وأن تعاونه لنها شريكة حياته ،وأن
تقوم بتربية أولده وهم أولدها أيضا وهي أقدر على هذه المهمة الخطيرة من غيرها بل ل
يسد مسدها أحد في هذه التربية ،فليس أحد يملك مثل حنانها وعاطفتها على أولدها .فإذا ما
قامت بمهمتها هذه ساهمت في تنشئة جيل سليم ،وكان عملها هذا أفضل من أي عمل آخر
تقوم به خارج بيتها.
هـ) تعدد الزوجات
-147ومن حق الزوج أن يتزوج أكثر من واحدة إلى حد أربع زوجات ،وهذا ما نطق به
القرآن وثبت بالسنة وذكره الفقهاء جميعا ولم يخالف فيه أحد من المسلمين .ففي القرآن ﴿وإن
خفتم أل تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع ،فإن خفتم أن
ل تعدلوا فواحدة﴾ والمقصود بالعدل هنا العدل بين الزوجات في النفقات ونحوها مما يمكن فيه
العدل.
وتعدد الزوجات ليس واجبا ول مندوبا وإنما هو مباح ،والمباح يجوز فعله وتركه ،فهو خاضع
لتقدير الشخص نفسه ،فإن رأى المصلحة فيه ،فعله ،وإل تكره ول تثريب عليه في الحالين.
ول داعي لقحام القاضي أو غيره لتقدير مدى الحاجة أو المصلحة في التعدد ،لن هذه المسألة
خاصة بالنسان ،والصل في كل إنسان عاقل أن أحرص من غيره على تقدير ما يصلح له ل
سيما في مسألة الزواج حيث تترتب على الزوج تبعات ثقيلة مالية وغير مالية ،فهو ل يقدم
على التعدد إل إذا وجد الحاجة داعية إلى ذلك .ول نستطيع هنا أن نحصر مبررات التعدد
التي تدفع الرجل إليه ،وإنما نذكر منها على سبيل التمثيل :عقم الزوجة وتطلع الزوج للذرية،
ومرض الزوجة وعدم صلحيتها للقيام بمهام الزوجية ،ونبل الزوج وكرم أخلقه حيث يتزوج
يتيمة أو أرملة أو قريبة له فاتتها فرص الزواج ،إلى غير ذلك من الدوافع النبيلة للتعدد .وفي
التعدد علج حاسم لمشكلة اجتماعية خطيره تتعرض له المجتمعات البشرية في أعقاب
الحروب بل حتى في الوقات العادية ،وهي كثرة عدد النساء وقلة عدد الرجال ،وهذه المشكلة
81
ل يمكن حلها بصورة شريفة وناجحة إل بإباحة التعدد شرعا ،وإل حلت نفسها عن طريق
السفاح والعلقات غير المشروعة ،ول شك أن كل امرأة عاقلة تفضل أن تكون زوجة ثانية
ول تكون عشيقة لرجل .وعلى هذا فما يقوله البعض من اعتراض على مبدأ التعدد ،إنما هو
قول متهافت في نفسه هزيل في حجته مخالف لشرع السلم .وقد يكون من المفيد أن أبين هنا
أن بعض الفقهاء ذهب إلى أن للمرأة أن تشترط على زوجها في عقد النكاح عدم الزواج عليها
وإذا تزوج فمن حقها أن تطلق نفسها منه ،يمكن الخذ بهذا الرأي الفقهي الجتهادي لن
المسلمين عند شروطهم.
و) الطلق
-148ومن حق الزوج أن يطلق زوجته ،والطلق في الصل غير مرغوب فيه في نظر
الشريعة السلمية ،جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "أبغض الحلل
إلى ال الطلق" وعلى هذا فل ينبغي للمسلم أن يقدم عليه بدون مبرر مقبول.
وقد ذهب بعض الجهال إلى العتراض على مبدأ الطلق ،وطالبوا بإلغائه ،وكثيرا ما نسمع
شيئا من هذا اللغو أو نقرؤه في صحيفة أو كتاب .والواقع أن هذا القول ل يصدر إل عن
جاهل أو معاند لشرع السلم ،فإن الطلق في السلم من محاسن الشريعة وواقعيتها ،وهو
بمثابة العلج الذي تقدمه الشريعة حيث ل ينفع غيره ،ول عيب في تحضير العلج استعدادا
لحالت الطوارئ والمرض ..وخلصة القول في مسألة الطلق وحكمته أن السلم يرغب في
إبقاء الرابطة الزوجية وإدامتها على المودة والوئام لتحقق أغراضها المرسومة لها ،وفي سبيل
ذلك سهل السلم إجراءات النكاح وشرع فيها الخطبة وأباح رؤية المخطوبة لضمان بقاء
الرابطة ،وندب الزوج إلى الصبر على المرأة إذا رأى منها ما يكرهه كما بينا .وبين السلم
أن من الفضل للزوج أن يكون حسن الخلق مع زوجته ،ومع هذا فإن السلم ل يغفل عن
الواقع ،فقد ينشب الخلف بين الزوجين مما يؤدي إلى الطلق ،ولعلج هذه الحالة قرر
السلم ما يأتي:
أولً :شكّك السلم الزوج في وجدانه إذا أحس بكره زوجته وذكره باحتمال خطئه وتسرعه
قال تعالى﴿ :وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل ال فيه
خيرا كثيرا﴾.
ثانيا :إذا استمرت الزوجة في مشاكساتها ومخالفاتها ،فللزوج أن يؤدبها عن طريق الوعظ
والنصيحة والهجر في المضاجع والضرب غير المبرح قال تعالى﴿ :واللتي تخافون نشوزهن
فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فل تبغوا عليهن سبيلً إن ال كان
عليا كبيرا﴾.
82
ثالثا :إذا استشرى الخلف وجب اللجوء إلى التحكم بأن يختار الزوج حكما من أهله ،وتختار
الزوجة حكما من أهلها ،فيجتمعان وينظران في الخلف بين الزوجين وأسبابه ويعملن على
ل من الحكمين حريص على حسم الخلف
إزالته ،وكثيرا ما ينجح هذا التحكيم لن ك ً
لمصلحتها في حسمه ،كما أنهما – لعلقتهما العائلية – يمكنها الوقوف على أسباب الخلف،
ول شك أن معرفة السباب الحقيقية تسهل معالجتها .قال تعالى في التحكيم بين الزوجين﴿ :
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا إصلحا يوفق ال
بينهما﴾.
رابعا :إذا لم ينفع التحكيم واستمر الخلف وأراد الزوج الفراق فعليه أن يسلك فيه مسلكا يقيه
شر العجلة والتسرع والغضب ،فأوجب عليه السلم أن يوقع الطلق بالكيفية التية:
أ) أن يطلقها وهي طاهرة غير حائض ولم يكن قد مسّها في طهرها هذا ،والحكمة في ذلك أن
الزوج إذا طلقها في هذه الحالة فإن ذلك يعني أن نفسه راغبة عنها وأن هناك من السباب
القوية ما يحمله على فراقها إلى درجة أن امتنع عن مسيسها قبل طلقها.
ب) ومع هذا فإن الشرع السلمي إحتاط للمر احتياطا آخر فقد يكون الزوج لم يقدر المسألة
حق قدرها وتسرع في تصميمه على الطلق ،ولهذا أوجب عليه أن يطلقها طلقة واحدة هي
التي تسمى في الصطلح الشرعي بالطلقة الرجعية ويكون له في هذا الطلق الرجعي الحق
في إرجاع زوجته خلل مدة العدة وهي عدة تمتد إلى ما يقرب من ثلثة أشهر .فإذا فكر
بهدوء فقد يظهر له أنه قد تسرع في طلقه ،وقد يحمله تفكيره الهادئ إلى ترجيح إبقاء
الرابطة الزوجية على قطعها وإن كان هناك ما يبرر قطعها إيثارا لمصلحة أولده الصغار من
الضياع ،ولهذا أعطاه الشرع السلمي الحق في إرجاع زوجته خلل مدة العدة كما قلنا .وقد
يكون هذا الطلق نذيرا للمرأة فل تعود لما أدى إليه.
ت) فإذا انتهت مدة العدة ولم يراجعها الزوج ،ثم أسف الزوج على ما وقع وأراد إرجاع
زوجته ،ففي هذه الحالة ،يشترط أن ترضى الزوجة بالرجوع وأن يتم ذلك بعقد نكاح جديد
ومهر جديد.
ث) فإذا كرر الزوج الطلق مرتين بالكيفية التي بيناها ،ثم طلقها المرة الثالثة ،ففي هذه
الحالة ل يمكنه إعادتها إليه إل بشروط ثقيلة ،هي :أن تنتهي عدتها ،ثم تنكح زوجا غيره نكاحا
حقيقيا ل صوريا ،ثم يفارقها هذا الزوج بموت أو طلق ،ثم تنتهي عدتها من هذه الفرقة ،ثم
تعقد نكاح جديد مع مطلقها الول برضى تام منهما وبمهر جديد.
-149هذه هي إجراءات الشرع السلمي لمنع وقوع الطلق ،أو لمنع إساءة إستعماله بدون
رؤية وتأمل ،فإذا لم تنفع كل هذه الجراءات الطويلة لمنع أو إزالة أسباب الطلق ،فإن وقوعه
83
هو الحل الوحيد لفض النزاع وإنهاء هذه الرابطة التي لم تعد مبعث ارتياح واستقرار ،وإنما
أصبحت مبعث شر وخصام ،ولفساح المجال لكل من الزوجين ليجرب حظه في زواج آخر.
وقد يقال هنا :ما الحكمة في إعطاء الزوج حق الطلق دون الزوجة؟ والجواب أن الرجل
عادة أكثر سيطرة على عواطفه من المرأة ولن الطلق يحمله أعباء مالية كثيرة قد تدفعه إلى
الروية وعدم الستعجال ومن هذه العباء المهر المؤجل ونفقة العدة ونفقة الولد .ومع هذا
فيجوز للمرأة أن تشترط لنفسها في عقد النكاح حق الطلق فتطلق نفسها منه بموجب هذا
الشرط .كما أن للمرأة أن تطلب من القاضي أن يفرق بينها وبين زوجها إذا أصابها من الزوج
ضرر يبرر حل الرابطة الزوجية.
ومن هذا العرض السريع الموجز لبيان نظام الطلق في السلم يتبين لكل منصف أنه نظام
كامل يعتبر من محاسن الشريعة السلمية ،إذ ليس من المنطق ول المصلحة إبقاء الرابطة
الزوجية بعد أن ظهر عدم الفائدة من بقائها ،أو ظهر أن بقاءها مضر .ولهذا نجد الدول
الغربية تقرر جواز الطلق المدني لن الكنائس ل تجيزه ،وحتى إيطاليا التي كانت إلى عهد
قريب تأخذ بالتفريق الجسماني بين الزوجين عند وجود أسبابه ،ومعناه أن الزوجين يعيشان
منفردين ولكن يعتبر كل منهما زوجا للخر بحكم القانون ول يحق لحدهما الزواج لن
الرابطة الزوجية تعتبر باقية قانونا ،إل أنها أجازت أخيرا الطلق بموجب القوانين التي
شرعتها.
وقد يقال هنا أيضا :لماذا ل يشترط إذن القاضي لصحة وقوع الطلق؟ والجواب ل فائدة ول
مصلحة في هذا الذن ،لن هناك من السرار الزوجية ما ل يحسن كشفه أمام القاضي ،فمن
الخير ومصلحة الزوجة أن تبقى هذه السرار مكتومة غير مفضوحة ،ولهذا لم يشترط أحد من
الفقهاء أخذ إذن القاضي لصحة وقوع الطلق ،وما قرره الفقهاء هو الصواب الذي ل يجوز
غيره.
84
حقوق البوين على أولدهما
-151البوان سبب وجود الولد وتحمل الشيء الكثير في تربيته ،فمن الوفاء لهما القيام
بحقوقهما وعدم التفريط بها ،ولهذا عظمت الوصية بهما وقرن ال تعالى برهما بعبادته ،قال
تعالى﴿ :وقضى ربك أل تعبدوا إل إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو
كلهما فل تقل لهما أف ول تنهرهما وقل لهما قولً كريما واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا﴾.
التضامن بين أفراد السرة
-152يقوم بين أفراد السرة ودّ ورحمة وشفقة جبلية فطرية ،وقد عززها السلم بتشريعات
كثيرة تحقق التضامن والتعاون والتكافل فيما بينهم .ومن هذه التشريعات ما هو ملزم يخضع
لحكم القضاء ،ومنها ما هو ملزم ولكن ل يخضع لحكم القضاء ،فمن الولى وجوب النفقة
لمستحقيها على القادر عليها من أفراد السرة ،فنفقة الزوجة على زوجها ونفقة الصغار على
أبيهم ،ونفقة الب الفقير على أولده القادرين على النفاق ،وهكذا القول في بقية نفقات أفراد
السرة ،تخضع لسلطان القضاء ويجري فيها الحكم واللزام إذا ما توافرت شروطها .ومن
أمثلة ما هو ملزم ولكن ل يخضع لسلطان القضاء حسن المعاملة بين أفراد السرة فهو واجب
ولكن ل يخضع للزام القاضي وإنما يترك لديانة وتقوى عضو السرة.
ويقابل واجب النفاق بين أعضاء السرة حق الميراث لهم ،لن الغرم بالغنم ،ومن اسباب
الميراث :الزوجية والقرابة ،وقد حدد السلم انصبة الورثة وأقام هذا التحديد على أساس
العدل الدقيق الذي قد ل يتفطن إليه بعض الناس ،مثل جعل حصة البن ضعف حصة البنت
قال تعالى﴿ :يوصيكم ال في أولدكم للذكر مثل حظ النثيين﴾ لن النثى مكفية المؤونة ،فهي
إن لم يكن لها مال ،فنفقتها قبل الزواج على أبيها إلى أن تتزوج ول تكلف بالكتساب ،وإذا
تزوجت فنفقتها على زوجها ،وهي ل تدفع مهرا في الزواج ول تلزم بالنفاق على أولدها.
أما الذكر فإنه إذا بلغ وقدر على الكتساب فنفقته على نفسه ،وإذا تزوج فهو يدفع المهر
ويتحمل نفقة زوجته وأولده الصغار ،فالتكاليف المالية على الرجل أكثر بكثير من تكاليف
المرأة ،فمن العدل إذن أن يأخذ أكثر منها في الميراث.
والميراث يقوم على أساس من الفطرة ورغبة النسان ،فان كل شخص ل يكتسب المال لسد
حاجة نفسه فقط بل لكفاية غيره أيضا من أفراد أسرته كأولده مثل ،فإيصال ثمرة أتعابه بعد
موته إلى هؤلء يدفعه إلى المزيد من السعي ،لنه يتفق ورغبته وإرادته .وفي الميراث فوائد
وحكم ،منها توفير شيء للورثة يستعينون به في حياتهم ويستغنون به عن سؤال الناس ،كما
85
ان في الميراث تفتيتا للثروة وتوزيعها على عدد كبير من الفراد وبهذا تتداول الموال ول
تتكدس بأيدي قليلة.
ومن صور التضامن داخل السرة الولية على النفس والولية على المال .فأما الولية على
النفس فيدخل فيها حضانة الصغير عند أمه إلى سن معينة كما ذكرنا من قبل ،ثم ضمه إلى من
له الولية على النفس والجد ،فيتم تربيته وحفظه وتقويمه ،ومثل الصغير في خضوعه للولية
على النفس المجنون والمعتوه .فاذا بلغ الصغير عاقل أو أفاق المجنون وزال عته المعتوه
زالت عنه الولية على النفس ،وصار له الحق في الذهاب حيث يشاء ،إل ان الصغيرة إذا
بلغت فان الولية تستمر عليها ويستمر وليها بالمحافظة عليها ورعايتها حتى تتزوج .ولما
كانت الولية على النفس تتضمن الحفظ والرعاية والتربية والتوجيه وكلها لمصلحة الصغير أو
الصغيرة ،فقد ذكر الفقهاء الشروط الواجب توافرها في الولي ،فقالوا يشترط فيه أن يكون بالغا
عاقلً أمينا قادرا على القيام بمهام الولية ،يتفق دينه مع دين المولى عليه.
اما الولية على المال فهذه تثبت على الصغير في ماله وعلى من هو في حكم الصغير
كالمجنون والمعتوه .وتثبت هذه الولية للب والجد وغيرهما على التفصيل المذكور في كتب
الفقه .وقد شرعت هذه الولية لمصلحة الصغير ومن في حكمه ،ولهذا يشترط في الولي
المانة والقدرة على حفظ مال الصغير وتنميته .وتبقى هذه الولية ما دام سببها قائما ،فإذا
زال ،زالت كما لو بلغ الصغير عاقلً وكان رشيدا أي :قادرا على تثمير ماله والتصرف به
تصرفا حسنا فإن الولية تزول عنه ،قال تعالى﴿ :وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم﴾ .وكذلك تزول الولية على المجنون إذا عقل وكان
رشيدا .ويجب على الولياء أن يتصرفوا في أموال المولى عليهم على وجه المصلحة لهم
وعلى هذا ل يجوز لهم هبة أموالهم أو تبذيرها.
86
كان ول يزال من أعظم المؤثرات في سير المجتمع وفي مدى صلحه وفساده .ولهذا كله فقد
أولى السلم مسألة المرأة كل ما تستحق من عناية وتوضيح حتى تستبين المور ويعرف
الناس المسلك السديد في معالجة هذه المسألة على الوجه الصحيح.
ونحن في هذا البحث ل نريد الحاطة بكل جزئيات الموضوع وإنما نريد ذكر النقاط البارزة
فيه على وجه يعطي فكرة جيدة عن مركز المرأة في المجتمع في نظر السلم.
87
الجنة في الخرة ،حتى إن بعض المجامع الكنسية في روما قررت أنها حيوان نجس ل روح
له ول خلود[.]1
خامسا :وفي القانون الروماني للزوج الحق – في الزواج مع السيادة – أن يبيع زوجته ،وأن
يأخذ ما يكون عندها من أموال.
سادسا :ما كانت هناك قيود على الداب العامة تلتزم بها المرأة ،بل كان التحلل عن هذه القيود
هو الشائع في المجتمعات الجاهلية ،العربية منها وغير العربية ،وقد أشار القرآن الكريم إلى
شيء من هذا التحلل ،قال تعالى﴿ :ول تبرجن تبرج الجاهلية الولى﴾ ومن معاني تبرج
الجاهلية الولى خروج المرأة مكشوفة الرأس والصدر والعنق تخالط الرجال وهي بهذه
الحالة ،وتتغنج في مشيتها بينهم ،وهكذا ذكر أهل التفسير بصدد هذه الية الكريمة.
88
ث) لها حق المهر في عقد النكاح قال تعالى﴿ :وآتوا النساء صدقاتهن نحلة﴾ وحق النفقة
على الزوج ﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ وحق النفقة على أولدها
باعتبارها أما.
حق الحضانة على أولدها الصغار إذا وقعت الفرقة بينها وبين زوجها. ج)
ح) ولها حق تعلم العلوم النافعة لها بالكيفية المناسبة لطبيعتها وبشرط اللتزام التام بالداب
السلمية اللزمة لها .وأعظم ما ينفعها تعلم شريعة السلم وما فيها من حلل وحرام .أما
العلوم الدنيوية فهي مباحة ،فاذا شاءت المرأة أن تتعلم منها شيئا فل بأس ،ولكن بالشرط الذي
قدمناه وهو اللتزام بالداب وبالكيفية المناسبة لها والمحافظة على عفتها .كما ينبغي أن تتعلم
ما يلئم طبيعتها ويقوي اختصاصها الفطري في تربية الولد ورعاية البيت ،فتتعلم فنون
الخياطة والطبخ وأصول تربية الولد ونحو ذلك ،فاذا أرادت المزيد من المعرفة ،فل بأس
بشرط أن ل تؤثر في قيامها بواجباتها المطلوبة منها كزوجة أو أم ،وبشرط أن يكون التعلم
بالكيفية المشروعة فل يجوز اختلطها بالشباب بحجة التعلم ،ول تكشفها أمام الرجال أو
ظهورها بالمحرم من اللباس ،فكل هذا وامثاله حرام ل يباح ول يجوز ولو بحجة طلب العلم.
أما الحقوق السياسية ،ومنها الشتغال بالمور العامة ،والنتخاب فالمسألة فيها شيء خ)
من التفصيل:
اما الهتمام بأمور المسلمين العامة ،فهذا من حقها بل من واجبها ،جاء في الحديث "من لم
يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" ومن أمر المسلمين شؤونهم العامة التي يصلحون بها أو
يشقون ،ومن مظاهر الهتمام التفكر بشؤونهم وإشاعة المفاهيم السلمية فيمن يحيط بالمرأة
من زوج وابناء وأقارب وجيران ،كما أن من حقها إبداء رأيها في المور العامة وإبداء
النصح بالكيفية المستطاعة والملئمة لطبيعتها مثل الكتابة والتأليف وعقد الجتماعات للنساء
وتعليمهن وإشاعة الخلق الفاضلة فيهن ،وحثهن على القيام بواجبهن ونحو ذلك ،وبنهيهن عن
المنكرات ،قال تعالى﴿ :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر﴾.
أما الشتراك في النتخابات بالكيفية المعروفة في الوقت الحاضر لختيار رئيس الدولة أو
أعضاء مجلس المة ،فالظاهر لنا .انه غير جائز للمرأة لعدم وجود السوابق في هذا المجال
فقد جرى انتخاب الخلفاء الراشدين وبايعهم المسلمون ولم ينقل إلينا اشتراك النساء في ذلك.
89
الحقوق وتحمل الواجبات ،قال تعالى﴿ :يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء﴾ فالنساء كالرجال مطالبات بتقوى ال أي
بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه .ويترتب على هذه القاعدة ما يأتي:
أ) أنها كالرجل تخاطبة بالتكاليف الشرعية في باب العتقاد والعبادات والمعاملت ،إل بما
تقتضيه طبيعتها كما هو معروف ،أو بسبب عدم قدرتها على هذا الواجب كالجهاد يكلف به
الرجل ل المرأة إل إذا رغبت في الخروج مع المجاهدين فل تمنع ،وتقوم بما تقدر عليه من
أمور الجهاد كمداواة الجرحى واعداد الطعام ونحو ذلك .وقد ورد في القرآن الكريم ان النساء
المؤمنات بايعن الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم كما بايعه الرجال قال تعالى﴿ :يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل يشركن بال شيئا ول يسرقن ول يزنين ول يقتلن
أولدهن ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ول يعصينك في معروف فبايعهن
واستغفر لهن ال إن ال غفور رحيم﴾ مما يدل على أن النساء مكلفات بما كلف به الرجل من
أمور الدين.
ب) وترتب على مخاطبة المرأة بالتكاليف الشرعية أنها مجزية على عملها وقيامها بما كلفت
به ،قال تعالى﴿ :ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
ول يظلمون نقيرا﴾ وقال تعالى﴿ :فاستجاب لهم ربهم أني ل أضيع عمل عامل منكم من ذكر
أو أثنى بعضكم من بعض﴾ وقال تعالى﴿ :من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾.
ت) إن الخطابات في القرآن التي تخاطب المؤمنين وتكلفهم بالتكليفات الشرعية يدخل فيها
النساء إل إذا قام الدليل على خلف ذلك .فقوله تعالى﴿ :ليس بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب
من يعمل سوءا يجز به ول يجد له من دون ال وليا ول نصيرا﴾ يشمل الرجال والنساء .وقد
يذكر القرآن الكريم النساء مع الرجال فيما يخاطبهم به من تكليفات أو فيما يمدحهم عليه ،قال
تعالى﴿ :إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين
والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات
والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات ،والذاكرين ال كثيرا والذاكرات أعد
ال لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾.
ث) وعلى المرأة واجب الطاعة لزوجها بالمعروف ،ووفائها بحقه عليها ،جاء في الحديث
الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "لو كانت آمر أحدا أن يسجد لحد لمرت الزوجة أن
تسجد لزوجها" فاذا أطاعته بالمعروف وأدت حقه عليها كانت من النساء الفضيلت قال صلى
ال عليه وسلم فيما يرويه عنه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي ال عنه :قيل يا رسول ال
90
أي النساء خير؟ قال" :التي تسره إذا نظر ،وتطيعه إذا أمر ول تخالفه في نفسها ومالها بما
يكره".
ج) والمرأة مسؤولة عن البيت وشؤونه ومؤتمنة عليه ،فعليها القيام بهذه المانة والخروج من
عهدة هذه المسؤولية ،جاء في الحديث الشريف" :كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...
والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".
91
-159هناك جملة آداب واخلق يجب أن تلتزم بها المرأة لتسهم في بقاء طهارة المجتمع
ونظافته مما يشين ،ولتبقى هي نفسها بعيدة عن مظنة التهم مزالق الشيطان ،ومن هذه الداب
ما يأتي:
أولً :ل يجوز للمرأة أن تخلو بأي رجل يحل له نكاحها حتى ولو كان قريبا لها كابن العم أو
ابن الخال .وهذا المنع كما هو واضح يسري على الرجل سريانه على المرأة فل يجوز لمسلم
أن يخلو بامرأة يحل له نكاحها .وتعليل هذا المنع هو سد منافذ الشيطان فان الشيطان كما جاء
في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم فيزين له الخطيئة ويهيج فيه الشهوة ،جاء في
الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "إياكم والخلوة بالنساء ،والذي نفسي بيده ما
خل رجل بامرأة إل ودخل الشيطان بينهما" وفي حديث آخر "ل يخلون أحدكم بامرأة إل مع
ذي محرم" .ول يقال :إن الثقافة عاصمة من الوقوع في الخطيئة فل ضرر من الخلوة
بالجنبية ،لن المسألة مسألة ضعف النفس وما فيها من شهوات وقابليات للستجابة لغواية
الشيطان والمثقف والمثقفة كالجاهل والجاهلة في هذه المسائل والواقع شاهد على صحة ما
نقول .وأيضا فان الثقافة ل تقلع الشهوات وإنما الذي يضعفها ول يستأصلها تقوى ال والخشية
منه وعمارة القلب باليمان ،بدليل أن الحديث الشريف يخاطب المؤمنين أصحاب رسول ال
وهم خيار خلق ال بعد رسول ال ،فكيف بغيرهم ممن عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ
وان مل رأسه ببعض ما يسمى ثقافة وعلما؟ .ومثل المنع من الخلوة منع المرأة من السفر
وحدها بدون زوجها أو أحد محارمها ،لن الوحدة في ديار الغربة تفتح للشيطان منافذ للغواء
ولليقاع في الخطيئة.
ثانيا :لزوم ابتعادها عن الختلط بالرجال خوف الفتنة .يدل على ذلك أن السلم في سبيل
عدم الختلط بالرجال لم يفرض على المرأة صلة الجمعة ولم يوجب عليها صلة الجماعة،
ول يستحب لها اتباع الجنائز ،وإذا حضرت للصلة في المسجد وجب عليها أن تقف مع
النساء في الصف الخير خلف الرجال ،فإذا كان المر هكذا في بيوت ال فكيف يجوز
الختلط في غير أماكن العبادة؟
ومع هذا فإذا وجدت الضرورة والحاجة إلى مثل هذا الختلط جاز في حدود الدب
والحتشام كخروج المرأة مع المجاهدين تعد الطعام وتداوي الجرحى ،فقد خرج الرسول صلى
ال عليه وسلم ومعه بعض نساء المسلمين إلى القتال وقمن بمداواة الجرحى وسقي المقاتلين
من المسلمين .بل وقد تضطر المرأة إلى القتال الفعلي مع المسلمين كما حصل لبعضهن في
موقعة أحد ،وهذا يستلزم الختلط .وكذلك قد تضطر المرأة إلى الخروج من بيتها لقضاء
حاجتها فتركب السيارة العامة أو القطار وتختلط بالرجال ،فهذا ونحوه يجوز عند الحاجة
بشرط اللتزام بالداب السلمية في المشي واللباس والكلم.
92
ثالثا :اخفاء زينتها ال ما ظهر منها – فقد جاء في القرآن الكريم في آداب النساء ﴿وقل
للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها﴾ فل
يجوز تعمد اظهار شيء من زينتها إل ما ظهر منها بغير قصد ،أو ما كان ظاهرا ل يمكن
اخفاؤه كالرداء والثياب وهذه هي الزينة الظاهرة التي يجوز ابداؤها على رأي ابن مسعود
رضي ال عنه .أو هي الكحل والخاتم على رأي ابن عباس رضي ال عنه .أو هي الوجه
والكفان على رأي بعض العلماء[ ]2فالوجه واليدان يجوز كشفهما أما غيرهما فل يجوز كشفه،
وبعض العلماء أجاز كشفهما بشرط عدم وجود الزينة فيهما.
رابعا :ويجب أن يكون لباس المرأة شرعيا أي وفق ما أمر به الشرع قال تعالى﴿ :وليضربن
بخمرهن على جيوبهن﴾ .والخمار ما يوضع على الرأس ،فالية الكريمة تأمر بانزال الخمار
الى العنق والصدر لخفائهما.
وقال تعالى في آية أخرى﴿ :يا أيها النبي قل لزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن
من جلبيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فل يؤذين وكان ال غفورا رحيما﴾ والجلباب هو الملءة
التي تغطي جسم المرأة وتلبسه فوق ثيابها فل يظهر منها شيء وهو يشبه العباءة التي
تستعملها بعض نسائنا اليوم وكانت شائعة بالمس.
ومن الشروط الخرى في لبس المرأة في حكم السلم ،أن ل يكون شفافا ول ضيقا حتى ل
يظهر أعضاء المرأة ول يصفها ،وقد جاء في الحديث الشريف" :سيكون في آخر أمتي نساء
كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت ،العنوهن فانهن ملعونات" فهن كاسيات بالسم
عاريات أو كالعاريات في الحقيقة والواقع ،وهذا الحديث من أعلم النبوة فقد وقع ما أخبر عنه
النبي صلى ال عليه وسلم .وفي حديث آخر أن النبي صلى ال عليه وسلم نهى المرأة أن
تلبس ما يصف حجم عظامها.
ومن شروط لباس المرأة الشرعي أيضا أن ل يكون معطرا إذا خرجت من بيتها ،وان ل يشبه
لباس الرجال ول زيهم فقد جاء في الحديث الشريف" :ليس منا من تشبّه بالرجال من النساء،
ول من تشبه بالنساء من الرجال".
وخلصة القول في لباس المرأة الشرعي الذي تتحقق فيه الداب السلمية في اللباس بالنسبة
للمرأة" :أن يكون ساترا لجميع بدنها إل وجهها وكفيها ،وان ل يكون – أي لباسها – زينة في
نفسه ،ول شفافا ول ضيقا يصف بدنها ،ول مطيبا – أي معطرا – ول مشابها للباس الرجال،
ولباس الكفار ،ول ثوب شهرة"[.]3
خامسا :من آداب السلم في مشي المرأة وكلمها ما أشار اليه القرآن الكريم ﴿ول يضربن
بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن﴾ أي ل تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها ،فإذا فعلت
ذلك بالتبرج والتعرض للرجال فهو حرام[ ]4والواقع أن هذا يدخل في باب سد الذرائع ،وعلى
93
هذا ،ل ينظر الى القصد وانما ينظر الى مآل الفعل ،وعلى هذا ينبغي للمرأة أن ل تفعله لئل
يثير ما ل ينبغي في الرجال بأن ينتبهوا اليه وإلى مشيها فيقعون في إثم النظر اليها أو الظن
السيء بها .ويقاس على ذلك المنع ،منع أي مشية فيها إثارة للفتنة ،فينبغي أن تمشي المرأة
مشية ل تغري الفساق وضعيفي الخلق .وقال تعالى﴿ :يا نساء النبي لستن كأحد من النساء
ل معروفا﴾ يقول المام ابن
إن اتقيتن فل تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قو ً
العربي في تفسير هذه الية" :أمرهن ال أن يكون قولهن جزلً ،وكلمهن فصلً ،ول يكون
على وجه يحدث في القلب علقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع ،وأخذ عليهن أن
يكون قولهن معروفا ...قيل المعروف هو السر فان المرأة مأمورة بخفض الكلم"[ ]5فعلى
المرأة المسلمة أن تلتزم بهذه الحدود في كلمها.
94
ويؤكد القرآن الكريم مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع بما يقصه من أخبار المم السابقة
التي فرط أفرادها بواجب الصلح فلحقهم الذم والهلك ،حتى يعتبر كل مسلم بما حل بهم فل
يفرط تفريطهم لئل يصيبه ما أصابهم .قال تعالى﴿ :فلول كان من القرون من قبلكم أولوا بقية
ينهون عن الفساد في الرض إل قليلً ممن أنجينا منهم﴾ .أي هل كان من المم التي قبلكم
أولوا بقية أي أصحاب طاعة ودين وعقل ينهون قومهم عن الفساد في الرض[ .]6وقال
تعالى﴿ :فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس
بما كانوا يفسقون﴾ فهذه الية الكريمة دلت على أن الذين نجوا من العذاب ،إنما نجوا بسبب
نهيهم عن السوء والفساد ،فدل ذلك على وجوبه[.]7
-162ثانيا :من السنة النبوية
وفي السنة أحاديث كثيرة تقرر مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع ،منها الحديث الشريف:
"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" واصلح المجتمع وإزالة الفساد عنه ،والتفكير في
تحقيق ذلك من الهتمام بأمور المسلمين .وفي حديث آخر عن النبي صلى ال عليه وسلم "من
رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
اليمان" فهذا الحديث الشريف صريح في تحميل الفرد مسؤولية إزالة الفساد المطلوب من
المسلم إزالته .وهذا الحديث الشريف يأمر أيضا بأن يكون المسلم في حالة استعداد وتهيؤ
للصلح وإزالة للفساد ،وهذا المعنى يفهم من عبارة "فان لم يستطع فبقلبه" ،لن التغيير بالقلب
يعني كراهية المنكر ،يقول المام النووي" :فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بازالة وتغيير
منه للمنكر ولكنه هو الذي في وسعه"[ ]8فالتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر وهو وإن لم يكن
إزالة وتغييرا كما يقول المام النووي إل أنه مقدمة للتغيير وتهيؤ له واعداد النفس لتغييره
فعل ،لن النسان عادة ،ل يزيل شيئا يحبه وإنما يزيل ويغير شيئا يكرهه ،فكراهية الشيء
مقدمة لزالته وسابقة لتغييره ،فجاز اطلق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا
العتبار ،وكراهية القلب للمنكر يجعل القلب حيا عامرا باليمان ذا حساسية كافية ضد
المنكرات والفساد ،ول يسع المسلم ترك هذه الكراهية وإذا فقدها كان ذلك علمة مرض قلبه
فليسارع إلى تطبيبه بعلج اليمان قبل فوات الوان ،وقد اعتبر المام ابن تيمية رحمه ال
تعالى النكار القلبي ردة عن السلم ،فقد قال رحمه ال" :والمرتد من أشرك بال تعالى أو
كان مبغضا للرسول صلى ال عليه وسلم ولما جاء به أو ترك انكار منكر بقلبه"[.]9
ومن السنة أيضا ،قول النبي صلى ال عليه وسلم "وال لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر
ولتأخذن على يد الظلم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن ال
بقلوب بعضكم على بعض ثم ليعلنكم كما لعنهم" وهذا الحديث الشريف صريح في الدللة على
95
تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع ورفع الفساد عنه ،وفيه تأكيد على منع الظالم من
الظلم ،لن الظلم من أعظم الفساد في الرض.
96
المنكر حال ظهوره أو وقوعه وان ل يستهين به ،لن المنكرات كالجراثيم التي تؤثر في
الجسد قطعا ،وإذا لم تمرض البعض فانها تضعف مقاومته فيسهل عليها فيما بعد التغلب عليه.
ولهذا كانت أولى مهمات الدولة السلمية إقامة هذا المجتمع السلمي الفاضل وإزالة
المنكرات منه ،قال تعالى﴿ :الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور﴾.
97
نجوا ونجوا" ففي هذا الحديث دليل كما يقول المام القرطبي على تعذيب العامة بذنوب
الخاصة ،وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم
التغيير ،وانه إذا لم تغير المنكرات وترجع المور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين
المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد[ .]14ويمكن القول أيضا أن في هذا الحديث الشريف
دللة أخرى وهي أن النحراف عن النهج الصحيح والمسلك السديد يؤدي إلى الهلك أو
الضرر ،ول ينفع في دفعهما عن الجماعة كون المنحرفين حسني النية والقصد لن الذين
أرادوا خرق السفينة إنما أرادوا بخرقها عدم إيذاء من فوقهم فلم يغن عنهم حسن مقصدهم لن
فعلهم خروج على النهج السديد في معالجة ما يهم الجميع.
وعن أبي بكر الصديق رضي ال عنه قال :يا أيها الناس انكم تقرؤون هذه الية﴿ :يا أيها
الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ واني سمعت رسول ال صلى ال
ن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب
عليه وسلم يقول" :إ ّ
منه" فهذا يدل على أن وقوع الفساد في المجتمع والسكوت عليه وعدم تغييره سبب للعقاب
الجماعي.
[ ]1الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا رحمه ال ص ،320طبع المكتب السلمي
[ ]2أحكام القرآن لبن العربي المالكي ج 3ص .1357 – 1356
[ ]3حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة للستاذ ناصر الدين اللباني ص ،89طبع
المكتب السلمي.
[ ]4ابن العربي ،المرجع السابق ،ص .136
[ ]5ابن العربي ،المرجع السابق ،ص .123
98
[ ]6تفسير القرطبي ج 9ص .113
[ ]7احياء علوم الدين للغزالي ج 2ص .27
[ ]8شرح صحيح مسلم للنووي ج 2ص .25
[ ]9اختيارات ابن تيمية في الجزء الخامس من الفتاوى ص .182
[ ]10مختصر فتاوى ابن تيمية ص .173 – 172
[ ]11تفسير ابن كثير ج 1ص .542
[ ]12تفسير القرطبي ج 7ص .391
[ ]13تفسير القرطبي ج 7ص .393
[ ]14تفسير القرطبي ج 7ص .392
تمهيد
-130المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله ابتدا ًء وفق المناهج السلمية وأن يتقبل حكم
الشرع في نتائج أفعاله ،وأن يتصرف على النحو المشروع في علقاته مع الخرين فاذا جهل
ذلك أو بغضه وجب عليه أن يعرفه ليكون سلوكه وفق الحدود الشرعية .ومن سبل المعرفة
قيام العلماء بتعليم الناس أمور الدين وتبليغهم أحكامه ،أو قيام الجهال بسؤال العلماء عن أحكام
السلم.
-131أما قيام العلماء بواجب التعليم والتبليغ فهذا ما افترضه السلم على أهل العلم .فعليهم
تعليم الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم بالقدر الذي يأمر به السلم ويحتاجه الناس .ويزداد
هذا الوجوب على العلماء ويتأكد كلما فشا الجهل في الناس واندرست معالم الشريعة وظهرت
البدع .فاذا قصر العلماء في واجب التعليم والتبليغ أثموا وحوسبوا على تقصيرهم حسابا
عسيرا ،لن تقصيرهم في هذا الواجب يعتبر من كتمان العلم الذي اؤتمنوا عليه وأمروا بنشره
وتبليغه للناس .فاذا قام العلماء بواجب التبليغ وجب على الناس أن يقبلوا عليهم ويسمعوا منهم
ويتعلموا ما يقولون ويعملوا بما يتعلمون ،فاذا لم يفعلوا أثموا وحوسبوا لقيام الحجة عليهم
بتبليغ العلماء لهم احكام الدين.
-132وبالرغم من تبليغ العلماء أحكام الدين ابتداءً فقد يبقى البعض جاهلً بأحكام السلم،
وقد يقصر العلماء بواجب التبليغ ،فيفشو الجهل ،ويكثر عدد الجاهلين .وواجب الجاهل أن
يتعلم أمود دينه التي تهمه قال تعالى﴿ :فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون﴾ .ول يرفع عن
99
الجاهل مسؤولية تعلم ما يلزمه من أمور الدين تقصير العلماء بواجب التعليم والتبليغ ابتداءً اذ
عليه أن يسأل أهل العلم عما يجهله من أمور الدين كما جاء في الية الكريمة.
-133وسؤال الجاهل أهل العلم ،وجواب هؤلء له ،وما يتعلق بهذين الموقفين موقف الجاهل
وهو يسأل ،وموقف العالم وهو يجيب ،من وجوب عليهما في السؤال والجواب أو ندب أو
اباحة بل وجوب في السؤال والجواب وغير ذلك من المور ،كل ذلك يكوّن ما يعرف في
الشريعة السلمية بنظام الفتاء.
الفتاء في اللغة
-134جاء في لسان العرب لبن منظور :أفتاه في المر ،أي أبانه له ،وأفتاه في المسألة
يفتيه :إذا أجابه ،والسم الفتوى ،واستفتيته فأفتاني افتاء ،والفتوى اسم يوضع موضع الفتاء،
والفتيا والفتوى :ما أفتى به الفقيه.
ومما تقدم نعلم أن الستفتاء في اللغة يعني السؤال عن أمر أو عن حكم مسألة وهذا السائل
يسمى المستفتي .والمسؤول الذي يجيب :هو المفتي ،وقيامه بالجواب هو الفتاء ،وما يجيب به
هو الفتوى .فالفتاء يتضمن وجود المستفتي والمفتي والفتاء نفسه والفتوى.
الفتاء في الصطلح
-135والمعنى الصطلحي للفتاء هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة وما تتضمنه من وجود
مستفت ومفت وافتاء وفتوى ،ولكن بقيد واحد هو أن المسألة التي وقع السؤال عن حكمها
تعتبر من المسائل الشرعية ،وأن حكمها المراد معرفته هو حكم شرعي.
فالمستفتي اذن في نظام الفتاء الذي نتكلم عنه هو :السائل عن حكم الشرع في مسالة من
المسائل ،أي من يسأل عن حكم مسألة شرعية ،وإنّ المفتي هو من يجيب عن هذا السؤال،
وقيامه بإعطاء الجواب هو الفتاء ،ونصّ ما يجيب به هو الفتوى.
منهج البحث
-136وبناءً على ما تقدم نقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب:
الول :للكلم عن المستفتي.
الثاني :للكلم عن المفتي.
الثالث :للكلم عن الفتاء.
الرابع :للكلم عن الفتوى.
100
من هو المستفتي
-137المستفتي هو من يسأل عن حكم الشرع في مسألة ما ،وهذا يعني أنه جاهل بهذا الحكم
وإنما يسأل ليعرفه وليعمل بما يفتيه به المفتي مقلدا له بهذه الفتوى .ولكن هل يجب على كل
جاهل بالحكم الشرعي أن يسأل عنه حتى يعرفه أم ل؟ واذا علم الحكم أو كان قادرا على
معرفته بنفسه فهل يجب عليه أو يسوغ أن يسأل عنه أم ل؟ الجواب على ذلك يختلف باختلف
الناس واختلف أحوالهم .فقد يحرم على بعضهم الستفتاء وقد يجب وقد يجوز ،فل بد من
بيان هذه الصناف من الناس.
101
الزكاة ،وإذا استطاع الحج وجب عليه أن يعرف أحكام الحج ،ومن نزلت به نازلة وجب عليه
أن يعرف حكمها .ومن باشر التجارة والبيع والشراء وجب عليه أن يعرف أحكام هذه
المعاملت وهكذا .والصل الجامع في هذا الشرط هو :كل من لزمته معرفة حكم شرعي
معين وجب عليه أن يسأل أهل العلم عنه من يعرفه .أما ما زاد على ذلك من معرفة تفاصيل
الشرع فهو من المور المندوبة في حق الفرد وان كان من الفروض الكفائية في حق المة إذ
ل بد أن يوجد في المة من يعرف تفاصيل الشرع مع بلوغه رتبة الجتهاد ليفتي الناس فيما
يحتاجون إليه من أمور الدين.
-141والخلصة فإنّ العامي يجب عليه استفتاء العلماء فيما يلزمه من تكاليف الشرع
ليعرف كيف يؤدي هذه التكاليف على الوجه المشروع.
102
إذ قد تقع الحادثة ول يتيسر لصاحبها الوصول الى من يستفتيه فيها ،فإذا حرص على معرفة
حكمها قبل وقوعها كان حرصه في محله ،وعلى المفتي أن يجيبه ،لن كليهما محسن غير
مسيء ،السائل في حرصه على معرفة الحكم ،والمفتي في تعريفه بما حرص المستفتي على
معرفته ،وبناء على هذا القول وجدنا بعض العلماء من يتصور المسائل ويفترض الوقائع
ويجيب عليه ،ويدون ذلك حتى يقف عليها من يريد معرفة هذه الحكام.
استفتاء الصلح
-147واذا وجب على المستفتي أن يستفتي الصالح للفتاء ،فهل يجب عليه أن يتحرى عن
الصلح اذا كثر المفتون في بلده؟
قولن للعلماء في هذه المسألة:
القول الول :ل يجب عليه التحري عن الصلح ،فله ان يسأل من شاء من اهل الفتاء ما
داموا صالحين له ،لن العامي ل قدرة له على معرفة الصلح ول على وزن الرجال وتقدير
منازلهم ومراتبهم في العلم فتكليفه بذلك ضرب من التكليف بما ل يطاق.
القول الثاني :يجب عليه التحري عن الصلح واستفتاؤه دون غيره ،وليس في ذلك تكليف له
بما ل يطاق ،اذ يستطيع أن يعرف الصلح بالسؤال عنه أو باخبار الثقة له عنه أو باشتهار
أمره وبروزه بين أقرانه ،وهذا القدر ،كما يرى ،ممكن له ويؤدي إلى معرفة الصلح غالبا،
وهذا هو المقدور له والمطالب به ،وإذا لم يصل إلى الصلح مع ذلك كله فل لوم عليه ول
تثريب.
-148والراجح عندي القول الول لن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ما كانوا
يوجبون على المستفتي استفتاء الصلح أو البحث عنه فدل على جواز استفتاء الفاضل وترك
الفضل .ومع هذا يستحب للعامي التحري عن الصلح واستفتائه كلما كان ذلك ميسورا له.
103
من هو الصلح
-149واذا قلنا بوجوب التحري عن الصلح ،على القول الول للعلماء ،أو عن استحباب ذلك
له على ما ذكرناه في ترجيحنا ،فمن هو الصلح للفتاء؟ المستفاد من اقوال العلماء أن
الصلح هو العلم الورع ،ولكن إذا وجد المستفتي المفتي العلم ووجد المفتي الورع فأيهما
يسأل؟ قولن للعلماء:
القول الول :يسأل العلم لنه هو الصلح فيتعين عليه استفتاؤه لن مدار الفتاء على العلم
وما دام هو العلم فهو الولى بالفتاء والصلح له من غيره.
القول الثاني :الصلح هو الورع ،فعليه أن يستفتيه دون غيره .واستدل أصحاب هذا القول
بقوله جل جلله ﴿اتقوا ال ويعلمكم ال﴾ وبما روي عن السلف الصالح "ان هذا العلم دين
فانظروا عمن تأخذونه".
-150والراجح عندي أن استفتاء الورع أولى ،لن ما عنده من العلم يكفي للفتاء ولن
ورعه يحجزه عن التهجم على الفتوى والتساهل فيها ويبعده عن مزالق الهوى الخفي ،كما أن
ورعه يدفعه الى البحث الشديد لمعرفة الحكم الصحيح ،وبهذا البحث الشديد وخلوص النية
تكون إصابته في الفتوى محتملة جدا .بل ويمكن القول أن الورع هو الصلح للفتاء في
زماننا هذا فيتعين استفتاؤه دون غيره ما أمكن ذلك ،لقلة الورع عند العامة وأكثر العلماء ،فمن
الحتياط المطلوب في الدين أن يسأل المستفتي المفتي الورع ما دام عنده من العلم ما يكفي
للفتاء ويدع العلم الذي ل ورع عنده أو عنده من الورع ما ل يكفي لمنصب الفتاء.
104
القول الخامس :يتخير فيأخذ بأي قول شاء لن الجميع أهل للفتاء.
-152والراجح عندي التفصيل في المسألة بأن ينظر :إذا كان المستفتي قد استفتى العلم
الورع فعليه أن يأخذ بقوله ول عبرة بعدم اطمئنانه وسكون نفسه وليس له أن يسأل غيره .وإ
ذا لم يكن المستفتي قد استفتى العلم الورع فعليه أن يتحرى عنه فيسأله ويأخذ بقوله ،فإن لم
يجده ولكن وجد الورع أخذ بقوله ،وإذا كان الجميع متساوين بالعلم والورع كما يبدو
للمستفتي ولم تسكن نفسه إلى قول من استفتاه فله أن يستفتي الخرين ،فإن اتفقوا فيها ،أخذ
بفتياهم ،وإن اختلفوا أخذ بما تطمئن إليه نفسه من أقوالهم دون تقيد بكثرة المتفقين أو قلتهم،
لن الكثرة بذاتها ليست من المرجحات في باب الفتوى وانما الترجيح بالدليل ،فان لم يكن
هناك دليل صريح يصلح للترجيح كان الترجيح لقول العلم الورع ثم لقول الورع ،فإن
انعدم هذا كان الترجيح باطمئنان النفس وسكونها عمل بالحديث الشريف "استفت نفسك وإن
افتوك وافتوك وافتوك" وقوله صلى ال عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما ل يريبك".
اعادة الستفتاء
-153وإذا استفتى العامي عن حادثة فهل عليه أن يعيد استفتاءه إذا نزلت به مرة أخرى أم
يعمل بالفتوى الولى؟ قولن للعلماء ،منهم من قال بوجوب اعادة الستفتاء لحتمال تغير
اجتهاد المفتي .ومنهم من قال بعدم وجوب اعادة الستفتاء لن المستفتي قد عرف حكم الحادثة
باستفتائه الول فل حاجة الى اعادته.
-154والذي أميل إلى ترجيحه هو التفصيل :فإن كان الذي افتاه أولً هو العلم الورع فل
حاجة في هذه الحالة إلى إعادة الستفتاء ،وإن لم يكن كذلك ثم نزلت به الحادثة مرة أخرىة
ووجد العلم فعليه أن يستفتيه لن اجتهاده مظنة الصواب أكثر من غيره وقد وجده فعليه أن
يسأله .أما إذا لم يجد العلم الورع فالولى له أن يعيد استفتاءه إذا أمكنه ذلك لن اجتهاد
المجتهد قد يتغير لظهور ما لم يكن ظاهرا له من الدلة ،فإذا جاءت الفتوى الثانية كالولى
عمل بها وإن اختلف عليه الجواب كرر الستفتاء وأخذ بما تسكن إليه نفسه على النحو الذي
فصلناه من قبل.
105
الستفتاء بموجب مذهب معين
-156وقد أثار كثير من العلماء السؤال التالي :هل يجب على المستفتي أن يكون استفتاؤه
بموجب مذهب معين أم يجوز له الستفتاء وفق أي مذهب شاء؟ وقد أجابوا على هذا السؤال
بأن الجواب مبني على مسألة أخري ،هي :هل يجب على العامي أن يتقيد بمذهب معين يأخذ
بعزائمه ورخصه ويستغني بموجبه أم ل يجب عليه ذلك؟ وإذا انتسب إلى مذهب معين والتزم
به واستفتى بموجبه فما قيمة انتسابه والتزامه هذا في كيفية استفتائه؟
-157وقد تعرض المام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي لهذا السؤال وما ابتني عليه ،فقال
ما خلصته :إن العامي إما أن يكون منتسبا إلى مذهب معين وإما أن ل يكون ،ولكل حالة
حكمها على النحو التالي:
الحالة الولى :أن يكون منتسبا إلى مذهب معين .وفي هذه الحالة قولن للعلماء:
القول الول :ان انتسابه لمذهب معين ل يجعله ملتزما به لن المذاهب إنما تكون لمن يعرف
الدلة ،والعامي ل معرفة له بها ،وعلى هذا له أن يستفتي من شاء من المفتين وعلى أي
مذهب يفتيه المفتي.
القول الثاني :ان انتساب العامي إلى مذهب معين هو انتساب معتبر في حقه ملزم له لن اعتقد
أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بما اعتقده والتزم به .ورتبوا على ذلك أن
عليه أن يستفتي من يفتيه بموجب مذهبه.
الحالة الثانية :عدم انتساب العامي إلى مذهب معين .وفي هذه الحالة قولن عند العلماء:
القول الول :ل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين وبالتالي ل يلزمه أن يستفتي بموجب مذهب
معين بل له أن يستفتي أي عالم ،ويأخذ بفتواه على أي مذهب جاءت فتواه ،ودليل هذا القول
ان السلف لم يلزموا العامي بتقليد عالم معين ولزوم استفتائه دون غيره ،بل كانوا يبيحون له
استفتاء أي عالم شاء.
القول الثاني :يلزمه ان يتمذهب بمذهب معين فيأخذ بعزائمه ورخصه ويستفتي بموجبه .واحتج
أصحاب هذا القول بأنه لو جاز للعامي اتباع أي مذهب شاء لدى ذلك إلى التقاط رخص
المذاهب اتباعا لهواه ،وهذا مسلك من شأنه أن يؤدي الى النحلل عن التكاليف الشرعية
والتلعب بالحكام ،ول خلص من هذه الفوضى ال بإلزام العامي بالنتساب إلى مذهب معين
والستفتاء بموجبه فقط .وقالوا عن حجة أصحاب القول الول بأن المذاهب لم تكن قد مهدت
وحررت وعرفت في عهد السلف الصالح ومن ثم أباحوا عدم التقيد بمذهب معين .ثم خلص
أصحاب هذا القول الى ضرورة النتساب الى مذهب معين يختاره بعد التحري والسؤال عن
106
المذهب الصلح ويمكن أن يعرف ذلك بالسؤال كما قلنا وبالشهرة وشيوع المذهب ونحو ذلك،
فاذا ما انتسب الى مذهب معين كان عليه أن يستفتي بموجبه ول يستفتي وفق غيره.
107
د) وبناء على ما تقدم يجوز للمسلم أن ينتسب الى مذهب معين ،فيدرسه ويتفقه به باعتباره
مظنة الصواب ويستفتي بموجبه .كما يجوز للعامي أن ل ينتسب إلى مذهب معين وإنما يتعلم
ما يلزمه من أحكام الشرع بسؤال أهل العلم عنها ابتدا ًء أو عند نزول الحادثة به .ولهذا العامي
غير المنتسب الى مذهب معين أن يستفتي دون تقيد بأي مذهب ،فاذا استفتى بمذهب معين فإنّ
استفتاءه هذا يمكن توجيهه وتصحيحه باعتبار أن هذا العامي اعتقد أن هذا المذهب أولى من
غيره بالتباع .وكما يجوز لغير المنتسب لمذهب أن يستفتي دون تقيد بمذهب فإنّ المنتسب هو
الخر له أن يستفتي دون تقيد بمذهب ،وتوجيه ذلك أنه يريد معرفة حكم الشرع كما يدله عليه
هذا المفتي الذي هو أعلم منه ولذلك جاء يستفتيه.
ذ) والخلصة ،فإنه في جميع الحوال يسع العامي الذي لم يصل الى رتبة الجتهاد أن يستفتي
دون تقيد بمذهب معين وإنما يسأل عن حكم الشرع سواء كان هذا العامي منتسبا الى مذهب
معين أو غير منتسب ،وسواء تفقه على مذهب معين أو لم يتفقه ،فيقول للمفتي :ما حكم الشرع
في كذا وكذا .وهذه صيغة صحيحة سليمة ،أما السؤال بمذهب معين فغايته أنه سائغ وجائز
على التوجيه الذي بيناه.
ادب المستفتي
-160قال العلماء يجب على المستفتي أن يكون مؤدبا في استفتائه ،وعددوا بعض مظاهر
أدبه معه.
108
والواقع ان آداب الكلم في السلم ،وآداب التلميذ نحو استاذه ،وآداب المسلم نحو أهل العلم،
كلها لزمة في حق المستفتي ،فهو مسلم فعليه أن يلتزم بآداب السلم في الكلم والخطاب،
وهو بمنزلة التلميذ نحو استاذه فعليه أن يلتزم بآداب السلم في هذا المجال ،وهو يسأل أهل
العلم فعليه أن يلتزم بآداب السلم نحو العلماء .وعلى هذا يجب عليه أن يظهر تواضعه نحو
المفتي واحترامه له فل يعلي صوته عليه ،ول يومئ بيده في وجهه ،ول يكلمه بلهجة جافة
قاسية ،وأن يستأذنه بالسؤال والجلوس ويتخير الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله ،فل
يستفتيه وهو مشغول بغيره ول أن يطرق عليه بابه في وقت القيلولة أو النوم ليل الى غير
ذلك من مظاهر الحترام والتوقير وآداب السؤال .ول شك أن هذه المظاهر والداب تتأثر
بالعرف والعادات فيجب مراعاتها ما دامت هذه العادات والعراف ل تصادم معاني الشريعة
السلمية.
109
من الشهادتين ل في العتقادات ول في القوال ول في الفعال وال وقع العصيان والبتداع
وقد يؤدي به ذلك الى الرتداد عن السلم فيصير مرتدا والمرتد ل يصلح للفتاء .أما
البتداع والعصيان إذا لم يصل إلى درجة الردة فإنهما قادحان في الهلية للفتاء وقد يصلن
الى درجة سلب هذه الهلية عن صاحبها.
110
والفتاء لهم بما يشتهون ،وأخذ الرشوة ونحو ذلك .وغير المسقط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة
من المعاصي وعدم الصرار عليها.
أقسام المجتهدين
-166هذا وإن العلماء ،وهم يتكلمون عن الجتهاد كشرط في المفتي قسموا المجتهدين إلى
أقسام وبينوا من يصلح من هذه القسام للفتاء ،فقالوا قد يكون المجتهد مجتهدا مطلقا ،أو
مجتهدا في مذهب معين ،أو مجتهدا في نوع من العلم ،أو مجتهدا في مسألة أو مسائل معينة.
فل بد من التعريف بهؤلء وبيان من يصلح منهم للفتاء ومن ل يصلح.
111
اختلفوا فيه وأن يعرف القياس وشروطه وأن يكون على قدر كافٍ من المعرفة باللغة العربية
وأساليبها ونحوها وصرفها.
ول خلف بين العلماء في أن المجتهد المطلق أهل للفتاء وأنه يصلح أن يكون مفتيا.
112
الحالة الرابعة :أن يكون قادرا على فهم فقه مذهبه مع حفظ لهذا الفقه أو لكثره ،ويفهم
ضوابطه وتخريجات أصحابه ويستطيع الرجوع إلى مصادر هذا المذهب.
ولصاحب هذه الحالة أن يفتي وأن يصير مفتيا ولكن في المسائل التي بيّن أحكامها أصحاب
المذهب والمجتهدون فيه ،وكذلك له الفتاء فيما يندرج تحت ضابط مفهوم وواضح من
ضوابط المذهب.
الخلصة والترجيح
-171والخلصة أن مدار الهلية للفتاء هو العلم المقبول بما يفتي به وهو المبني على
البحث ومعرفة الدليل والجتهاد فيه ،فكل من حصل على مثل هذا العلم في مسألة من المسائل
كان له أن يفتي فيها ،وهذا متوجه على القول بتجزئ الجتهاد وهو ما نرجحه .وكل من جهل
حكم مسألة فليس له أن يفتي فيها وإن كانت عنده أهلية الفتاء من حيث الجهة .هذا من جهة
الصلحية للفتاء في مسألة معينة ،أما من جهة صلحية التعيين في منصب الفتاء أي في أن
يعين مفتيا ،فهذا المنصب يحتاج إلى أهلية الجتهاد على النحو الذي ذكره العلماء ،ول تلزم
بين الهليتين بالنسبة للفتاء في مسألة معينة ،فقد يكون الشخص مجتهدا الجتهاد الذي يؤهله
للتعيين في منصب المفتي ويعين فعلً في هذا المنصب ولكن ل يكون أهلً للفتاء في مسألة
معينة لجهله بحكمها أو لعدم وصوله إلى معرفة حكمها .وقد يكون الشخص أهلً للفتاء في
مسألة معينة أو مسائل معينة ولكن ليس أهلً لن يعين مفتيا للناس.
شروط أخرى
113
-172وقد اشترط العلماء شروطا أخرى في المفتي ليتمكن من اداء وظيفته على نحو جيد
وسليم .فقالوا :يشترط فيه أن يكون على قدر كاف من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس
ومكرهم وخداعهم حتى ل يقع في هذا الخداع وذلك المكر ،وأن يكون صلبا في دينه ل تأخذه
في الحق لومة لئم ،وان ل يتأثر بوعد أو وعيد ،وأن يكون على قدر كبير من الورع والزهد
ومخافة ال تعالى.
ول شك أن هذه الشروط ضرورية للمفتي ول يسد مسدها أو يقوم مقامها مجرد علمه وعدالته
الظاهرة .ولكن هذه الصفات ل يمكن معرفتها على وجه جيد إل بالعمل وممارسة الفتاء فعلً،
ولهذا يصعب جدا معرفتها ابتداء إذا أريد تعيين شخص ما في منصب الفتاء ،وعلى هذا يجب
على ولي المر عند ارادته اختيار شخص ليعينه مفتيا أن يتحرى عن سلوكه وأحواله،
والسؤال عنه ممن يعرفه ،ويثق بأخباره قبل القدام على تعيينه.
114
واختيار الطلبة ،وتخصيص المال اللزم لهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي ثم يعينهم في
مناصب الفتاء ويجعل لهم رواتب كافية تغنيهم عن الكسب وتعينهم على التفرغ للفتاء.
ضمان المفتي
-178إذا أفتى المفتي مستفتيه بفتوى معينة فعمل بها وأدى عمله الى إتلف نفس أو مال،
وحكم على المستفتي بالضمان فهل يرجع على مفتيه بما ضمن أم ل؟ ينظر :فإن كانت فتوى
المفتي باطلة قطعا لمخالفتها للنص القاطع أوالجماع الظاهر كان للمستفتي أن يرجع بما
ضمن على المفتي لنه هو المتسبب في ذلك .وإن كانت فتوى المفتي سائغة ،لم يضمن المفتي
شيئا ،ول يكون للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن .أما إذا كان المفتي غير أهل للفتاء فإنه
يضمن مطلقا لنه غرّ من استفتاه ومعنى ذلك أن للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن .وقيل :ل
115
يضمن ول يكون للمستفتي حق الرجوع عليه ،لن المستفتي هو المقصر ،إذ سأل من ل
يصلح للفتاء.
116
أول من قام به
-185وأول من قام به سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم فكان إفتاؤه عليه الصلة والسلم
متضمنا جوامع الكلم ومشتملً على فصل الخطاب.
من له حق الفتاء
ل لن يكون مفتيا كان أهلً لن يفتي ،سواء عين مفتيا أو لم
-187أولً :كل من كان أه ً
يعين ،وقد بينا من قبل شروط المفتي.
ثانيا :من كان مجتهدا في نوع من العلم أو في مسألة من مسائل الفقه كان له أن يفتي في هذه
المسألة أو ذلك النوع من العلم.
ثالثا :مقلدة المذاهب .فمن قلد مذهبا وحفظه وعرف ما قاله أصحابه فله أن يفتي بما قالوه على
أن يقول في جوابه ما يدل على أنه قول أو رأي هذا المذهب فيقول مثلً :مذهب أبي حنيفة في
هذه المسألة كذا وكذا .وإذا ترقى في المعرفة بأصول المذهب وقواعده وسئل عن مسألة
ل في هذه
تندرج تحت قاعدة من هذه القواعد فعليه أن يقول :مقتضى مذهب أبي حنيفة مث ً
المسألة كذا وكذا.
117
حكم مسألة بطريق من طرق المعرفة المعتبرة شرعا ،فلهذا العامي أن يفتي غيره بها وإن كان
الحوط أن ينقل له نص فتوى من أفتاه بها.
التصدي للفتاء
-191وإذا كان اذن المام أو ولي المر ليس شرطا لثبوت حق الفتاء للمسلم كما قلنا ،إل
أنه يجب على من يتصدى للفتاء أن يتأكد من أهليته له ول يتسرع في الوثوق من أهليته
وكفاءته ،ومن سبل التأكد من أهليته شهادة أهل العلم له بالهلية بالضافة الى ما يعرفه من
نفسه ،قال المام مالك :ل ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلً لذلك ويرى هو نفسه
ل لذلك" محمول على شهادة العلماء له
أهلً لذلك .وقول المام مالك" :حتى يراه الناس أه ً
بالهلية وشيوع شهادتهم له في الناس.
118
-192فإذا وثق المسلم من أهليته للفتاء بشهادة أهل العلم له وبما يعرفه من نفسه فعليه أن
يفحص نيته جيدا حتى تكون خالصة ل بحيث ل يقصد من تصديه للفتاء والقيام به إل تبليغ
شرع ال وتعليم الناس ما أنزل ال ابتغاء مرضاة ال ،فهو ل يريد بافتائه مباهاة العلماء
وحصول المنزلة عند الناس ،وبهذا القصد الحسن والنية الخالصة يبارك ال في مسعاه ويعلمه
ما لم يعلم ويثيبه على افتائه.
119
-196والراجح عندي هو القول الول ولكن بشرط أن يتعين عليه الفتاء ،فإن تعين عليه
الفتاء فعليه أن يفتي وإن كان قاضيا ولو في مسألة ينظر فيها قضاء وإن كان السائل أحد
الخصوم ،لن المستفتي إذا علم أن الحق لخصمه فقد يترك المخاصمة ويسلم الحق له ،ول
خوف من هذا الفتاء لن المفتي يبين الحكم على فرض ثبوت الوقائع عند المستفتي ،أما
القاضي فإنه وان كان يطبق نفس الحكم الذي يفتي به ولكن بشرط أن تثبت الوقائع أمامه
بالطرق الشرعية فإذا عجز صاحب الحق عن إثبات حقه أمام القاضي فان القاضي ل يحكم له
به على خصمه وإن كان يفتي له به على سبيل الفتوى.
التهيب من الفتاء
-197الفتاء وان كان تبليغا لشرع ال وقياما بواجب ديني إل أن صاحبه معرض للخطأ،
ومن هنا كان السلف الصالح يتهيبون من الفتاء مع صلحيتهم له ويود كل واحد منهم أن
يقوم غيره به ،بل وكان كل واحد منهم أو أكثرهم يحيل الفتاء الى غيره ليكفيه مؤنته ويجنبه
خطره ،قال عبد الرحمن بن أبي ليلى :أدركت عشرين ومائة من النصار من أصحاب النبي
صلى ال عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا الى هذا ،وهذا الى هذا حتى ترجع
إلى الول .وفي رواية أخرى :ما منهم من يحدث بحديث إل ودّ أن أخاه كفاه إياه ول يستفتى
عن شيء ال ودّ أن أخاه كفاه الفتيا .وقال المام أبو حنيفة رحمه ال تعالى :لول الخوف من
ال تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ،يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر.
120
ابن عباس رضي ال عنهما من أوسع الصحابة إفتاء وجمعت فتاواه في عشرين سفرا ،وكان
سعيد بن المسيب في التابعين واسع الفتيا ،وكانوا يسمونه سعيد بن المسيب الجريء.
المتناع عن الفتاء
-199وقد يكون الشخص أهلً للفتاء غير متهيب منه ،ولكن يرى أو يوجد ما يدعوه الى
المتناع عن الفتاء فيجوز له ذلك المتناع ومن هذه الحالت:
أ) قد يسأل المستفتي عن أمر شرعي وتدل القرائن للمفتي المتيقظ أن مراد المستفتي التوصل
بالفتوى الى غرض فاسد.
ب) قد يسأل العامي عن مسألة عويصة ل يستطيع ادراكها وليس هي من المسائل التي يلزمه
معرفة حكمها ،فيمتنع المفتي عن الجابة لئل يوقعه في الحيرة والفهم الفاسد.
ت) إذا كان موضوع الستفتاء حادثة لم تقع بعد ،فيمتنع المفتي عن الجابة اتباعا لمسلك
بعض السلف في المتناع عن الفتاء فيما لم يقع بعد مخافة أن يتبدل اجتهاده عند وقوع
الحادثة.
ث) إذا كان المفتي في حالة يخشى فيها عليه من عدم التثبت والتأمل في موضوع الستفتاء،
كحال الغضب والجوع والعطش والهم والخوف والمرض والحر الشديد وانشغال الفكر
ومدافعة الخبثين ونحو ذلك من الظروف والحوال.
121
-201ويجوز الفتاء لمن ل تقبل شهادته للمفتي ،كأن يفتي الشخص لبيه أو أمه أو زوجته
أو شريكه لن القصد من الفتاء بيان الحكم الشرعي فقط وليس فيه إلزام بخلف القضاء.
أساس الفتوى
-203وما دامت الفتوى تتضمن حكم الشرع فيجب أن تقوم على كتاب ال وسنة نبيه صلى
ال عليه وسلم وما دل عليه هذان الصلن الكبيران من أدلة الحكام كالجماع.
ل صلح أن يكون أساسا للفتوى ،وإن كان فاسدا لم يصلح،
-204أما الرأي فإن كان مقبو ً
والفاسد هو المخالف للكتاب والسنة .أما الرأي المقبول هو أنواع:
الول :رأي الصحابة الكرام لعتماده على النظر السديد والفقه العميق والستنباط الدقيق
لمشاهدتهم التنزيل وصحبتهم للنبي الكريم صلى ال عليه وسلم ولما عرفوا به من جودة الذهن
وإحاطة بمقاصد الشرع ومعانيه.
الثاني :الرأي الذي يفسر النصوص ويبين دللتها ويسهل طريق الستنباط منها مثل رأي
الصحابة في العول في الميراث.
الثالث :ما قبلته المة من الراء الفقهية ويدخل في هذا النوع القيسة الصحيحة التي توافرت
فيها شروط القياس الصحيح ولم تخالف النصوص.
-205وإذا كانت الفتوى تتضمن حكم الشرع وبالتالي يجب أن تقوم على الكتاب والسنة وما
دلت عليه نصوصهما ،فمن البديهي أن ل تقوم الفتوى على الحيل المحرمة شرعا ول على
الشبه الباطلة تحليلً لحرام أو تحريما لحلل ،قال صلى ال عليه وسلم" :لعن ال اليهود
والنصارى حرمت عليهم الشحوم ،فجملوها (أي أذابوها) وباعوها وأكلوا ثمنها" ولكن يجوز
أن تقوم الفتوى على الترخص المباح الذي يجوز للمستفتي أن يأخذ به ويجوز للمفتي أن يفتي
به ،ودليل ذلك قوله تعالى﴿ :وخذ بيدك ضغثا واضرب به ول تحنث﴾ وفي الحديث الشريف:
"إن ال يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه".
122
-207ولكن يجوز أن تكون الفتوى أوسع من موضوع الستفتاء ،بمعنى أنها تتعلق به
وبغيره ،إذا رأى المفتي أن في هذا التوسع فائدة للمستفتي ،ودليل ذلك أن بعض الصحابة
الكرام سألوا النبي صلى ال عليه وسلم عن ماء البحر وهل يجوز التوضؤ به ،فقال صلى ال
عليه وسلم" :هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته" فأجابهم صلى ال عليه وسلم عن ميتة البحر ولم
يسألوه عنها لعلمه صلى ال عليه وسلم بفائدة بيان هذا الحكم لهم.
-208كما يجوز أن تكون الفتوى متعلقة بموضوع آخر غير موضوع الستفتاء ،وهذا يكون
إذا رأى المفتي أن الجواب على موضوع الستفتاء ل يفيد المستفتي أو ل يقوى على إدراكه
وفهمه فيحيد عن جواب سؤاله الى بيان بعض ما يحتاجه المستفتي ،ويدل على ذلك قوله
تبارك وتعالى﴿ :يسألونك عن الهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت
من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا ال﴾.
وضوح الفتوى
-209ولما كانت الفتوى تتضمن بيان حكم الشرع وتبليغه فيجب أن تكون واضحة مفهومة
لن التبليغ يجب أن يكون بالسلوب المبين ولهذا قال تعالى في تبليغ الرسالة وقيام الرسول
صلى ال عليه وسلم بهذا التبليغ﴿ :وما على الرسول إل البلغ المبين﴾ ويتأتى وضوح الفتوى
باللغة السهلة والسلوب المفهوم لدى المستفتي ،بعيدة عن الصطلحات التي ل يفهمها
المستفتي .كما ينبغي أن تكون خالية من التردد وعدم القطع في الجواب كأن يقول المفتي :في
المسألة قولن ،لن المستفتي يريد الجواب القاطع الذي يقلد المفتي فيه ويعمل بموجبه.
ومن لوازم وضوح الفتوى وايضاحها للمستفتي أن يمهد لها المفتي إذا كان فيها حكم مستغرب
حتى يزول هذا الستغراب عند المستفتي بهذا التمهيد.
123
التفصيل والطالة كأن يقول في الجواب :إذا ثبت ذلك عليه بالبينة الشرعية أو بالقرار استتابه
ولي المر فإن تاب قبلت توبته وان أصر ولم يتب قتل .وكذلك إ ذا سئل المفتي عن كلم
يحتمل معنيين فليقل في فتواه :إن أراد المستفتي بكلمه كذا وكذا ،فالحكم كذا ،وإن أراد كذا،
فالحكم كذا.
-212وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق المفتي الجواب بل يفصله .وإذا كان السؤال
يتضمن جملة مسائل فصلها المفتي وذكر مع كل مسألة الفتوى التي تخصها.
124
وكذلك إذا كان الحكم ملحوظا فيه تحقيق غرض معين ورأى الفقيه المفتي أن هذا الغرض ل
يتحقق في موضوع الستفتاء فل ينبغي أن يفتي به ،مثل أن يستفتيه أحد في إزالة منكر معين
باليد ورأى الفقيه أن إزالته يترتب عليه شر ومنكر أكبر من المنكر القائم فينبغي له أن ل يفتيه
بالحكم العام وهو إزالة المنكر باليد ما دام المفتي يرى ترتب منكر أكبر من المنكر المزال،
وهذا باب واسع يعتمد على فطنة المفتي وملحظته الحوال والمكنة والزمنة والظروف
وحالة المستفتي.
125
فيها من خطأ عندما يحرر فتواه ،أما إذا كانت سائغة فليس له أن يتعرض لها بالشطب أو
التخطئة وإن خالفت اجتهاده.
العمل بالفتوى
-219والفتوى متى صدرت ممن هو أهل للفتاء عمل بها المستفتي وكان عمله هذا مقلدا
لصاحب الفتوى ،ولكن إذا رجع المفتي عن هذه الفتوى قبل أن يعمل بها المستفتي وعلم
برجوعه حرم عليه العمل بها ،وعليه أن يعيد استفتاءه ويعمل بما يفتي به .وأما لو عمل
بالفتوى ثم رجع المفتي عن فتواه وعلم المستفتي برجوعه ،فعلى المستفتي اعادة استفتائه
والعمل بالفتوى الجديدة حتى ولو استلزمت نقض عمله السابق ما دام هذا العمل له صفة
الستمرار كما لو نكح من لم يجز له نكاحها بموجب فتوى سابقة رجع عنها صاحبها ثم
استفتى فأفتي بعدم الجواز فإنه يفارق زوجته .هذا ما قالوه ،ويبدو لي أن هذا النقض إنما
يكون إذا كانت الفتوى السابقة التي رجع عنها صاحبها باطلة قطعا لمخالفتها للدليل القاطع ،أما
إذا كانت سائغة ورجع عنها صاحبها وكان المستفتي قد عمل بها فل أرى وجوب نقض عمل
المستفتي بها لنه عمل بما هو سائغ وبزعم شرعي.
سبَة
حْالمبحث الرابع -نِظامُ ال ِ
126
تمهيد
-130قلنا فيما سبق :إن المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله وأقواله وفق المناهج السلمية
ولهذا أمر ال تعالى أهل العلم بتبليغ الناس أحكام السلم وتعليمهم حدود ما أنزل ال ،كما أمر
سبحانه وتعالى من ل يعلم أن يتعلم ،ومن سبل التعلم أن يسأل أهل العلم ولهذا وجد في
السلم نظام الفتاء الذي تكلمنا عنه .ومع هذا قد يبقى المسلم جاهل شرع ال إما لن تبليغ
العلماء لم يصله أن أنه قصر في تعلم ما يجب عليه تعلمه كما لم يستفت أهل العلم فيما يهمه
من أمور ،فيقع في المعصية ومخالفة الشرع بسبب جهله .وقد يعلم المسلم حدود ما أنزل ال
ومع هذا يقع في المعصية اتباعا لهواه ،والمعصية في الحالتين منكر ارتكب أو معروف هجر،
والمنكر إذا وقع وجبت إزالته ،والمعروف إذا هجر ،وجب المر به .وإزالة المنكر إذا ظهر
فعله ،والمر بالمعروف إذا ظهر تركه هو أساس وملك ما يعرف بالشريعة السلمية بنظام
الحسبة وهو ما نتكلم عنه في هذا المبحث.
منهج البحث
-131تسهيلً للبحث وإحاطة بالموضوع نقسم هذا المبحث إلى خمسة مطالب:
المطلب الول – للتعريف بالحسبة وبيان مشروعيتها ومكانتها في السلم
المطلب الثاني – للكلم عن المحتسب
المطلب الثالث – للكلم عن المحتسب عليه
المطلب الرابع – للكلم عن المحتسب فيه
المطلب الخامس – للكلم عن نفس الحتساب
معناها في الصطلح
-133والحسبة عند الفقهاء "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"
فهي إذن من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،بل إن الفقهاء يسمون المر بالمعروف
127
والنهي عن المنكر ،احتسابا وحسبة ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضاة ال وما عنده من
ثواب.
دليل مشروعيتها
-134دل على طلب الشرع للحسبة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ،فكل آية وردت
في المر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها.
والواقع أن القرآن الكريم دل على طلب الحسبة بأساليب متنوعة فطورا يأمر بها ،وتارة
يجعلها وصفا لزما للمؤمنين وسببا لخيرية المة وان الغاية من التمكين في الرض والظفر
بالسلطان والحكم هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن ترك ذلك سبب لستحقاق
اللعنة .فمن هذه اليات :قوله تعالى﴿ :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴿ ﴾...كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر﴾ ﴿الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا
بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون﴾.
-135والسنة النبوية دلت على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها .فمن ذلك قوله صلى ال
عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك
أضعف اليمان" "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن ال عليكم شراركم ثم
يدعو خياركم فل يستجاب لهم" "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف
ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك".
مدى مشروعيتها
-136والحسبة – وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر – قد ينظر اليها من ناحية المطالب
بها ،وقد ينظر إليها من حيث هي أمر ونهي .فمن الناحية الولى هي فرض كفائي إذا قام به
البعض ،سقط عن الباقين ،وإن لم يقم بها أحد ،أثم القادرون جميعا .وقد تصير فرض عين إذا
تعينت على شخص معين كما أنها قد تصير مستحبة بالنسبة للمسلم غير واجبة عليه بل وقد
تصير محرمة في ظروف خاصة كما سنبينه فيما بعد.
أما من الناحية الثانية أي بالنظر إلى ذاتها فإنها تكون – على رأي البعض – واجبة أو مندوبة
نظرا إلى موضوعها ،أي إلى ما تتعلق به فإن كانت أمرا بواجب أو نهيا عن حرام كانت
128
الحسبة واجبة ،سواء كان وجوبها عينيا أو كفائيا ،وان كان موضوعها أو ما تتعلق به مندوبا
كانت مندوبة .وقال البعض الخر من الفقهاء :إن الحسبة بذاتها تكون واجبة دائما بغض
النظر عما تتعلق به.
حكمة مشروعيتها
-138وحكمة مشروعيتها ظاهرة لن تبليغ الدعوة السلمية بجميع معانيها يندرج تحت
مفهوم المر بالمعروف والنهي عن المنكر .كما أن من حكمة مشروعيتها توقي العذاب
واستنزال رحمة ال ،وبيان ذلك أن المعاصي سبب المصائب وما ينزل على الناس من عذاب
التأديب أو النتقام أو الستئصال وبهذا جرت سنة ال قال تعالى﴿ :وما أصابكم من مصيبة
فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير .﴾...وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سببا للمصائب
والهلك فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت الخرون فل يأمرون ول ينهون فيكون ذلك من
ذنوبهم فتصيبهم المصائب ،وفي الحديث الشريف "ان الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك
ال أن يعمهم بعذاب منه" .وكما أن المعصية سبب المصيبة والعذاب ،فإن الطاعة سبب النعمة
والرخاء ورضوان ال تعالى وبذلك جرت سنة ال تعالى ،قال تعالى﴿ :لئن شكرتم لزيدنكم﴾
وقال تعالى﴿ :فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة ﴾...وقال تعالى﴿ :والذين هاجروا
في ال من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولجر الخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين
صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾.
129
أركان الحسبة
-139الحسبة تستلزم وجود من يقوم بها ،وهذا هو المحتسب ،ومن تجري عليه الحسبة وهذا
هو المحتسب عليه ،وعمل أو ترك تجري فيه الحسبة ،وهذا هو المحتسب فيه ،وما يقوم به
المحتسب وهذا هو الحتساب فأركان الحسبة أربعة :المحتسب ،والمحتسب عليه ،والمحتسب
فيه ،والحتساب .ول بد من الكلم عن هذه الربعة في المطالب التالية:
130
رأينا في هذه الفروق
-142هذه الفروق بنيت على أساس التفريق بين المعين للحسبة وغير المعين لها .والواقع أن
الحسبة من فروض السلم فل يتوقف القيام بها على التعيين من قبل ولي المر ومن ثم كانت
تسمية غير المعين بالمتطوع تسمية غير دقيقة لنها تشعر بأن القيام بالحسبة من قبل غير
المعين لها هو من قبيل القيام بالمور المستحبة غير الواجبة.
ومع هذا فإن تنظيم الحسبة وضبطها من قبل ولي المر وتعيين الكفاء لها حتى ل تسود
الفوضى في المجتمع بإسم الحسبة أقول :إن هذا التنظيم من المور الحسنة ولكن بشرط أن ل
يكون هذا التنظيم مانعا من قيام الخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع .وعلى هذا ل
نرى ما قاله الفقهاء من أن المحتسب له أن يتخذ أعوانا أما المتطوع فليس له ذلك ،لن إتخاذ
العوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى فل ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا
التعاون بحجة أنه غير معين من قبل ولي المر ما دام صالحا للحسبة وتتوفر فيه شروط
الحسبة .وكذلك ل نرى منع المتطوع من التعزير على المنكرات الظاهرة أو على القل ل
نرى منعه من التعزير مطلقا لن التعزير درجات فينبغي أن ل يمنع إل من بعضها ل كلها
كأن يمنع من الضرب والجلد.
ولية المحتسب
-143ولية المحتسب يستمدها من الشرع الشريف لن المسلم مكلف بالحسبة وحيث يوجد
التكليف توجد الولية على القيام بما كلف به ،إل أنه في حالة قيام ولي المر بتنظيم أمور
الحسبة وتعيين الكفاء لها فإن المعين يملك من الولية أكثر مما يملكه غير المعين ،ومع هذا
فإن ولية (المحتسب) المعين من قبل ولي المر يستمدها من الشرع وإن جاءت عن طريق
ولي المر باعتبار أن تنظيم ولي المر للحسبة سائغ مشروع فكأن الشرع خوله ذلك.
131
-145وقد بحث الفقهاء أوجه الفرق والختلف بين ولية المحتسب وولية القاضي وخرجوا
من بحثهم هذا ببيان أوجه الفرق والخلف بينهما على النحوالتالي:
أ) أوجه التفاق:
تتفق الوليتان في جواز الستعداء إلى المحتسب والدعاء أمامه في حقوق الدميين في
دعاوى خاصة هي المتعلقة ببخس أو تطفيف في كيل أو وزن ،أو متعلقة بغش أو تدليس في
بيع أو ثمن أو متعلقة بمطل أو تأخير لدين مستحق الداء مع القدرة على الوفاء .وإنما جاز
للمحتسب أن ينظر في هذه الدعاوى دون غيرها لنها كما قالوا "تتعلق بمنكر ظاهر هو
منصوب لزالته واختصاصها بمعروف بين هو مندوب إلى إقامته".
وللمحتسب كما للقاضي أن يلزم المدعى عليه بأداء الحق الواجب عليه إلى مستحقه في
الدعاوى التي له حق النظر فيها إذا ثبتت تلك الحقوق بإقرار المدعى عليه وثبتت قدرته على
الوفاء .وإنما كان للمحتسب إلزام المدعى عليه بإداء هذه الحقوق لن تأخير وفائها مطل،
والمطل منكر نهى الشارع عنه ،قال صلى ال عليه وسلم" :مطل الغني ظلم يحل ماله
وعرضه" والمحتسب منصوب لزالة المنكر.
أوجه الخلف: ب)
أولً :تقصر ولية المحتسب عن ولية القاضي من وجهين:
الوجه الول :ليس للمحتسب سماع الدعاوى التي تخرج عن نطاق المنكرات الظاهرة أي التي
تخرج عن نطاق الدعاوى الثلث التي أشرنا إليها في أوجه التفاق.
الوجه الثاني :له النظر في الحقوق المعترف بها ،أما ما يدخله التجاحد والتناكر فل ينظر فيه
لن الحق ل يثبت عند ذاك إل ببينة من المدعي أو تحليف المنكر اليمين وهذا للقاضي ل
للمحتسب.
ثانيا :وتزيد ولية المحتسب على ولية القاضي من وجهين:
:1للمحتسب أن يأمر بما هو معروف ،وينهى عما هو منكر ،وإن لم يرتفع إليه في ذلك
خصم ولم يتقدم إليه أحد بدعوى ،وليس للقاضي ذلك إل برفع دعوى ومطالبة خصم.
:2للمحتسب من سلطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات الظاهرة ما ليس للقاضي ،لن الحسبة
– كما يقول الفقهاء – تقوم على الرهبة ،فل تجافيها الغلظة وإتخاذ العوان وسلطة السلطة،
أما القضاء فموضوع لنصاف الناس واستماع البينات حتى يتبين المحق من المبطل فكان
الملئم له الناة والوقار والبعد عن الغلظة والخشونة والرهبة.
-146ويمكن أن نضيف إلى ما قاله الفقهاء فرقا ثالثا تزيد به ولية المحتسب على ولية
القاضي وهي ولية المحتسب على المر والنهي فيما ل يدخل في صلحية القاضي ول
يجري فيه الحكم ،فللمحتسب أن يأمر العامة بالصلة في أوقاتها ويأمر بالجمعة والجماعات
132
وينهى عن منكرات المساجد وعن تأخير الصلة عن أوقاتها ونحو ذلك مما ل يجري فيه حكم
القضاء ول ينظر فيه القاضي.
شروط المحتسب
ل للحتساب ،وهذه الشروط:
-147اشترط الفقهاء شروطا معينة في المحتسب ليكون أه ً
أولً :أن يكون مكلفا لن غير المكلف ل يلزمه أمر ول يجب عليه تكليف .والمكلف في
اصطلح الفقهاء هو البالغ العاقل ،وهذا في الحقيقة شرط وجوب الحتساب على المسلم ،أما
إمكان الحسبة وجوازها فل يستدعي إل العقل حتى إن الصبي المميز وإن لم يكن مكلفا فله
إنكار المنكر وليس لحد منعه من ذلك ،لن احتسابه من القربات وهو من أهلها كالصلة
وليس حكم احتسابه حكم الوليات حتى يشترط له التكليف.
ثانيا :أن يكون مسلما وهذا شرط واضح لن الحسبة نصرة للدين فل يكون من أهل النصرة
من هو جاحد لصل الدين.
-148ثالثا :الذن من المام أو نائبه ،وهذا شرط محل نظر ذلك أن المحتسب إذا عين من
قبل ولي المر ،فل حاجة له للذن ،لنه ما عين إل للحتساب .أما إذا لم يكن معينا وهو
الذي يسمونه "المتطوع" فإن اشترطوا له الذن لكل نوع من أنواع الحسبة فإن اشتراطهم هذا
ل دليل عليه بل إن النصوص تدفعه لن كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه وقدر على
إزالته دون اشتراط إذن من المام ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن
من المام فضلً عن أن الحسبة تجري على المام نفسه فكيف يحتاج المحتسب إلى إذن منه
للنكار عليه؟.
وإن اشترطوا الذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة وهي التي يجري فيها التعزير واتخاذ
العوان واستعمال القوة فهذا الشرط له وجه مقبول لبتنائه على المصلحة ،لن إباحة هذا
النوع من الحتساب لكل أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى ووقوع القتتال بين الناس بحجة
الحسبة ،وباشتراط الذن تندفع هذه الضرار فيلزم الذن لن دفع الضرر واجب وما يستلزمه
هذا الدفع يكون مشروعا .ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا
أمن الفتنة وإن استلزم التغيير اتخاذ العوان واستعمال القوة ومباشرة التعزير كلما كان ذلك
ضروريا ول يحتمل التأخير حتى يتحصل الذن.
-149رابعا :العدالة ،وهذا شرط قال به البعض ،فعندهم ل بد أن يكون المحتسب
عدلً غير فاسق ومن مظاهر عدالته أنه يعمل بما يعلم ول يخالف قوله عمله .ويمكن أن
يستدل لهذا القول بما يأتي:
أ) قوله تعالى﴿ :أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم﴾.
133
ب) المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه ول يخالف قوله فعله ليكون لقوله
التأثير في رفع المنكر واستجابة الناس له ولهذا قال شعيب عليه السلم لقومه كما أخبرنا ال
تعالى﴿ :وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إل الصلح ما استطعت﴾ وفي
الحديث الشريف أن النبي صلى ال عليه وسلم قال" :رأيت ليلة أسري بي رجالً تقرض
شفاههم بالمقاريض فقلت له من هؤلء يا جبريل قال هؤلء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس
بالبر وينسون أنفسهم".
-150وقال البعض الخر :العدالة ليست شرطا ،وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر لنه
ما من أحد إل ويصدر منه العصيان ،والمعصية تثلم العدالة ،فكيف يشترط ما يتعذر تحققه في
المسلم؟ ولهذا قال سعيد بن جبير رحمه ال تعالى" :إذا كان ل يأمر بالمعروف ول ينهى عن
المنكر إل من ل يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء".
-151والراجح ،عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ ،ومن حيث الجملة دون
التفصيل ،لن الحتساب فرض كسائر الفروض السلمية ل يتوقف القيام به على أكثر مما
ل بالصطلح
يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض ،وليس مما يتوقف عليه أن يكون المحتسب عد ً
المعروف عند الفقهاء ،لن ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه هو من المور الحسنة
المشروعة ،والحق ينبغي أن يتبع ويقبل من قائله بغض النظر عن فعله وسلوكه ،وما احتج به
المشترطون ل حجة لهم فيه لن الذم على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق
هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه ل على نهيه عن المنكر ،وإن كان النهي عن المنكر ممن
يأتيه مستقبحا في النفوس ،كما أن أمره بالمعروف دل على قوة علمه وعقاب العالم وذمه إذا
ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر ،وعليه فإن النكار في قوله تعالى﴿ :وتنسون
أنفسكم﴾ إنما كان عليهم بسبب أنهم نسوا أنفسهم ل بسبب أنهم أمروا غيرهم بالمعروف.
-152ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والصل ،إل أن العدالة
لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها ومن ثم يكون لشتراط العدالة
وجه مقبول ،وبيان ذلك أن الحسبة إذا كانت بالوعظ والرشاد فإن نفعها المرجو يحصل إذا
كان المحتسب ورعا تقيا عدلً حيث يكون لكلمه ووعظه – عادة – تأثير في الناس وقبول
عندهم فيتركون المنكر ،وحيث كان نفع الحسبة مرجوا بالوعظ ول ضرر للمحتسب منه كانت
الحسبة عليه واجبة ،فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطا مقبولً .أما
إذا كان المحتسب فاسقا غير عدل فالغالب أن وعظه ل يؤثر ول يقبل فل يفيد ،وإذا لم ينفع
وعظه لم تجب عليه الحسبة لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة.
134
أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطا في المحتسب لوجوب الحسبة عليه ،إذ
الشرط لوجوبها عليه القوة والقدرة وليست العدالة ،ولن ال تعالى يزع بالسلطان ما ل يزع
بالقرآن.
-153ومع هذا التفصيل الذي بيناه ،فإنه مما ل ريب فيه أن من المرغوب فيه بالنسبة لجميع
المحتسبين أن يكونوا على أكبر قدر ممكن من العدالة وتجنب ما يخدشها ،وكلما كان المحتسب
أكثر عدالة من غيره كان ذلك كما قالوا "أزيد في توقيره وأنفى للطعن في دينه" وتؤثر حسبته
وتقبل وإن كانت بالقوة والقهر.
-154خامسا :العلم ،ويشترط في المحتسب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف
المنكر فينهى عنه ،ويعرف المعروف فيأمر به حسب الموازين الشرعية ،وبهذا يكون احتسابه
عن علم ومعرفة ل عن جهل وتخبط .وقد جاء في الثر "ل يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر إل من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه" ويدخل في حد العلم المطلوب علم
المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقف عند حدود الشرع كما سنبينه فيما
بعد .ولكن هل يشترط في المحتسب أن يكون مجتهدا؟ الجواب باليجاب إذا قلنا :للمحتسب أن
يحمل الناس على رأيه في المور المختلف فيها ،أما إذا قلنا :ليس للمحتسب ذلك فالجتهاد
ليس شرطا وإنما يكفي أن يكون عالما بالمنكرات المتفق عليها وبالمعروف المتفق عليه .وعدم
شرط الجتهاد هو ما نرجحه.
-155وهل يشترط في المحتسب أن يكون عارفا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي
يباشرها الناس؟ الواقع أن هذا التساؤل وارد لن عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن
والحرف ليتأكد من عدم غش أصحابها واحتيالهم وإضرارهم بالناس ،فقد ذكر الفقهاء أن على
المحتسب أن يراقب أصحاب المهن والصنائع المختلفة ويمنعهم من الغش فيها ،كما يمنع
مباشرتها من قبل الجهال بها ،ومن البديهي أن ذلك ل يتأتى للمحتسب إل إذا كان عارفا بهذه
الصنائع والحرف ،بل ذهب الفقهاء إلى أن المحتسب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية
كالكحال "طبيب العيون" ليتأكد من صلحيته لهذه المهنة ،وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا
الجانب من العلم ،قال الفقيه عبد الرحمن بن نصر الشيزري" :وأما الكحالون فيمتحنهم
المحتسب ...فمن وجده فيما امتحنه عارفا بتشريح عدد طبقات العين السبعة ..وكان خبيرا
بتركيب الكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس" كما صرح
الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالوزان ونحوها فمن أقوالهم "لما كانت هذه – أي القناطير
والرطال والمثاقيل والدراهم – أصول المعاملت وبها اعتبار المبيعات لزم المحتسب معرفتها
وتحقيق كميتها لتقع المعاملة بها من غير غبن على الوجه الشرعي".
135
-156وعلى هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسب فيه من المهن والحرف
والصنائع .ولكن يمكن أن يقال :إن إلزام المحتسب بمعرفة هذه الشياء كلها أو أكثرها بل
وحتى بعضها مما يشق عليه ويعسر ،ولهذا نرى أن وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن
أن تتحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الشياء سواء كان هؤلء الخبراء من أعوانه الدائمين أو
من غيرهم ،فيستشيرهم فيما يحتسب فيه من شؤون هذه المهن والحرف والصنائع ويأخذ
بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاة.
-157سادسا :القدرة ،ويشترط في المحتسب أن يكون قادرا على الحتساب باليد واللسان،
وإل وقف عند النكار القلبي .وهذا الشرط مفهوم فيمن يقوم بالحتساب من تلقاء نفسه وبدون
تعيين ولي المر ،أما المعين فإن القدرة حاصلة فيه لن الدولة معه .هذا ول يقف سقوط
وجوب الحسبة على العجز الحسي بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ول يطيقه
على النحو الذي سنبينه فيما بعد إن شاء ال.
آداب المحتسب
-158ذكر الفقهاء جملة من الداب التي يجب على المحتسب التحلي بها حتى ينجح في عمله
ن على المحتسب أن
ويؤدي واجب الحسبة على الوجه المرضي المقبول ،فمن ذلك ما قالوه :إ ّ
يقصد باحتسابه وجه ال تعالى وطلب رضاه ول يقصد بحسبته الرياء والسمعة والجاه والمنزلة
عند الناس .والواقع أن خلوص النية مما يلزم المسلم في جميع أعماله فإن ال تعالى ل يقبل
من العمل إل ما كان خالصا لوجهه الكريم ،ولكن حاجة المسلم إلى الخلص تعظم وتشتد
كلما كان عمله بطبيعته ظاهرا أو متعلقا بالخرين ،ولهذا قد يتسرب الوسواس إلى بعض
التقياء فيتركون الحسبة بحجة عدم خلوص النية ،ونقول لهؤلء الطيبين الورعين :إن عليهم
أن يقوموا بالحسبة ويدفعوا هواجس الرياء ول يتعمقوا في ذلك أو يسترسلوا في الخوف من
الرياء لن الشيطان قد يفتح عليهم بابا من الوسواس الذي ل ينتهي.
-159وقالوا إن المحتسب يلزمه الصبر والحلم بالضافة إلى بقية الخلق الحسنة .والواقع
أن تأكيد فقهائنا رحمهم ال تعالى على الصبر والحلم له ما يبرره ،لن الغالب لحوق الذى
والمضايقات بالمحتسب فإن لم يكن صبورا حليما كان ضرره أكبر من نفعه وكان ما يفسده
أكثر مما يصلحه وفاته ما كان مرجوا من احتسابه.
-160وقالوا أيضا :يجب أن يكون المحتسب رقيقا رفيقا في أمره ونهيه بعيدا عن الفظاظة
مع صلبة بالدين .وقد يبدو قولهم لول وهلة متناقضا إذ كيف يتفق الرفق مع الصلبة؟
والحقيقة ل تناقض ،فالرفق وعدم الفظاظة مما أمر به الشرع فقد جاء في الحديث الشريف "إن
ال رفيق يحب الرفق في المر كله" وفي القرآن الكريم ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا
136
من حولك﴾ فالمحتسب يستطيع أن يوصل أمره ونهيه بأسلوب رقيق يفتح مغاليق القلب،
وسيأتي مزيد للكلم عن هذه المسألة فيما بعد إن شاء ال تعالى .أما الصلبة بالدين فتعني
عدم التهاون في بيان أحكامه ول المداهنة للمحتسب عليه ول مجازاته على حساب الدين،
وهذا ل يتناقض مع الرفق.
-161وقالوا أيضا :على المحتسب أن يقلل علقاته مع الناس حتى ل يكثر خوفه من
انقطاعها ،وأن يقطع طمعه من الخلئق حتى تزول منه معاني الملق والمداهنة ،وأن ل يقبل
هداياهم فضلً عن رشاواهم التي هي حرام وسحت ،وأن يلزم أعوانه بما ألتزمه من الخلق
والداب فإذا علم أن أحدا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع
معه التحذير "لتنتفي عن المحتسب الظنون وتنجلي عنه الشبهات" كما قال الفقهاء رحمهم ال،
لن الناس – غالبا – يحملون المحتسب أوزار أعوانه ،وقليل منهم من يفصل بين أعمالهم
وأعماله فل خلص من ذلك إل بإبعاد العوان السيئين عنه.
137
-164تجري الحسبة على القارب والباعد على حد سواء لن الحسبة أمر بمعروف ونهي
عن منكر والكل أمام هذا الفرض سواء .ولكن الفقهاء رحمهم ال تعالى قالوا :احتساب البن
على والديه يكون ببيان الحكم الشرعي والموعظة الحسنة والتخويف من ال تعالى ول يتعدى
ذلك إلى الوسائل الخرى كالكلم الغليظ والضرب ،رعاية لحق البوة والمومة دون تفريط
بواجب الحتساب.
ثانيا :غير المسلمين
-165ويجري الحتساب على غير المسلم المقيم في دار السلم ذميا كان أو مستأمنا لننا
وإن أمرنا بتركهم وما يدينون إل أن هذا الترك لهم ل يعني تركهم يخرقون نظام السلم
ويتعاطون ما يناقضه علنية ،وإنما يعني تركهم وما يعتقدون وما يباشرونه في بيوتهم
ومعابدهم من صنوف العبادة ،أما إذا تظاهروا وأعلنوا ما يناقض السلم كما لو سكروا في
قارعة الطريق ،أو خطبوا في الناس يعلنون شتمهم للسلم وتكذيبهم لنبي السلم فإنهم
يمنعون من ذلك وتجري الحسبة عليهم في ضوء ما يفعلون.
ثالثا :المراء
-166ويجري الحتساب على السلطان ونوابه وسائر ذوي المرة والولية كما يجري على
آحاد الناس ،ولكن يجب أن يلحظ المحتسب منزلة السلطان وفقه الحتساب معه ،ومن هنا
قال الفقهاء يكون الحتساب عليه بتعريف الحكم الشرعي والوعظ ل بالقوة والقهر .وقد زخر
تاريخنا السلمي بأخبار المحتسبين مع الخلفاء والمراء دون أن يلحقهم أذى بل كانوا يقابلون
بالقبول والتقدير وهكذا يكون شأن الحكام الصالحين.
رابعا :القضاة
-167وتجري الحسبة على القضاة ،قال الفقهاء" :وينبغي للمحتسب أن يتردد على مجالس
القضاة والحكام ويمنعهم من الجلوس في الجامع والمسجد للحكم بين الناس وأنه متى رأى
المحتسب القاضي قد استشاط على رجل غضبا أو شتمه أو احتد عليه في كلمه ردعه عن
ذلك ووعظه وخوفه بال عز وجل ،فإن القاضي ل يجوز أن يحكم وهو غضبان ول يقول
هجرا ول يكون فظا غليظا".
خامسا :أصحاب المهن المختلفة
-168ويجري الحتساب على جميع أصحاب المهن والحرف والصنائع المختلفة لن للسلم
حكمه فيهم وفيما يباشرونه .فمن أحكام السلم في الصنائع التي يحتاجها الناس أنه يعتبرها
من فروض الكفاية فإذا امتنع أصحابها عنها ألزمهم المحتسب بالقيام بها .وحكم السلم فيما
يباشرونه هو أداؤه على الوجه الصحيح السليم الخالي من الغش والتدليس والضرار ،ومن ثم
كانت واجبات المحتسب تمتد إلى مراقبتهم جميعا ليقرهم على أعمالهم إن كانت على الوجه
138
الشرعي ويمنعهم منها إن كانت مخالفة للشرع ،ولهذا بين العلماء رحمهم ال تعالى الضوابط
والحدود الواجب مراعاتها في مباشرة المهن المختلفة والتي يجب على المحتسب التأكد من
مراعاتها من قبل أصحاب هذه المهن.
المقصود بالمنكر
-170وإذا كان موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه اليجابي والسلبي فما المقصود بالمنكر؟
الغالب أن هذه الكلمة تطلق على المعصية ،والمعصية هي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت
عنه أو ترك ما أمرت به سواء كانت المعصية من صغائر الذنوب أو كبائرها وسواء تعلقت
بحق ال أو بحق العبد .وسواء ورد بها نص شرعي خاص أو عرف حكمها من قواعد
الشريعة وأصولها العامة وما أرشدت إليه من مصادر ،وسواء كانت المعصية من أعمال
القلوب أو أعمال الجوارح .ولكن كلمة المنكر في باب الحسبة تطلق على معنى أوسع مما
ذكرناه فتطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت الشريعة عنه وإن كان ل يعتبر معصية في حق
فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله ،ولهذا إذا زنى المجنون أو همّ بفعل الزنى ،وإذا شرب
الصبي الخمر كان ما فعله منكرا يستحق النكار وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرط
التكليف وهو العقل والبلوغ.
139
-171والجهة التي تملك إعطاء وصف المنكر لي فعل أو ترك هي الشريعة السلمية لن
إعطاء هذا الوصف حكم شرعي ،والحاكم هو ال تعالى﴿ :إن الحكم إل ل﴾ وما على الفقهاء
إل التعرف على حكم ال ،فعملهم هو كشف عن الحكم الشرعي وليس إنشاءً للحكم الشرعي
ولهذا إذا تبين خطؤهم لم نتابعهم عليه لن الحجة فيما بيّنه الشرع وقد ظهر لنا ،ولن مهمة
الفقهاء الكشف ،وليس النشاء كما قلنا.
-172وقد يعترض البعض علينا بأن الفقهاء قالوا :إن ما رآه المسلمون حسنا أو قبيحا دخل
في موضوع الحسبة أمرا بالول ونهيا عن الثاني فكيف نوفق بين هذا القول وبين ما قلناه؟
والجواب أن الشريعة السلمية دلت على أن الجماع حجة معتبرة فإذا أخذنا بما رآه
المسلمون حسنا فأمرنا به وبما رأوه فبيحا فنهينا عنه فإنما نأخذ بدليل الجماع وهو دليل
شرعي أرشدتنا إليه الشريعة.
وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح.
شروط المنكر
-173وإذا كان المنكر بوجهيه هو موضوع الحسبة فل بد من توافر شروط معينة فيه ليمكن
الحتساب فيه .فما هي هذه الشروط؟ قال علماؤنا رحمهم ال تعالى يشترط فيه أن يكون
ظاهرا وقائما في الحال ومتفقا على حكمه .ول بد من الكلم بإيجاز عن كل شرط.
أولً :أن يكون ظاهرا
-174المراد بظهور المنكر انكشافه للمحتسب وعلمه به بدون تجسس سواء كان هذا
النكشاف والعلم به حصل عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو اللمس أو الذوق لن هذه
الحواس طرق سليمة للعلم بالشيء وبها يكون الشيء ظاهرا ما دامت خالية من التجسس.
وعلى هذا من كان في بيته وقد أغلق بابه عليه وقام بشيء من المنكر لم يجز للمحتسب أن
يتسلق الجدار أو يكسر الباب ليطلع على ما يفعله أهل الدار ،ولكن لو ظهر المنكر الذي
يباشرونه عن طريق الصياح أو الستغاثة جاز للمحتسب اقتحام الدار لظهور المنكر عن
طريق سمعه للصياح أو الستغاثة.
ويدخل في مفهوم أو في معنى ظهور المنكر أي مكان يغلب على ظن المحتسب وقوع المنكر
فيه ،فعليه أن يخرج إلى ذلك المكان ويقوم بالحتساب فيه ،ول يجوز له أن يسقط وجوب
الحسبة عليه بالقعود بالبيت بحجة عدم انكشاف المنكر وظهوره له.
ثانيا :أن يكون قائما في الحال
140
-175ومعنى ذلك أن يكون موجودا في الحال لن المنكر إذا وقع وانتهى فل احتساب فيه
على فاعله وإنما لولي المر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك عليه ولكن يجوز الحتساب على فاعله
بوعظه بعدم العودة إليه.
ولكن هل يشترط وجود المنكر فعلً أو يكفي وجود مقدماته وإن لم يوجد بعد؟ الواقع أن
المنكر إذا ظهرت بوادره ولحت علماته وقامت القرائن على وشك وقوعه دخل في موضوع
الحسبة وجاز الحتساب فيه بالوعظ والرشاد بل تقريع إذ قد يحمل التقريع المحتسب عليه
على ارتكاب المعصية على وجه العناد .ولكن إذا لم ينفع الوعظ ورأى المحتسب أن المنكر
يوشك أن يقع وإذا وقع لم يكن تلفيه جاز أو وجب على المحتسب الحتساب فيه بالوجه الذي
يمنع وقوعه ما دام قادرا على ذلك.
وإذا كان وجود مقدمات المنكر يكفي لجريان الحتساب فيه فهل يكفي العزم على المنكر
للحتساب؟ الواقع أن العزم على المنكر ما دام حديث نفس ولم يظهر في الخارج على شكل
أشياء مادية تعتبر مقدمات للمنكر لم يجز الحتساب فيه ،ولكن لو صرح صاحب هذا العزم
الخبيث بعزمه جاز للمحتسب أن يحتسب عليه بالوعظ والرشاد والتخويف من ال تعالى
بالقدر الذي يستحقه عزمه.
ثالثا :عدم الخلف فيه
-176ويشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرا حتى ل يحتج
المحتسب عليه بأن ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء وإن كان غير جائز على رأي
المحتسب.
ولكن إذا كان المنكر مما اختلف الفقهاء فيه فهل يمنع ذلك الختلف من الحتساب فيه بدون
قيد ول شرط؟
الواقع أن الخلف إما أن يكون سائغا وإما أن ل يكون سائغا ولكل حكمه:
أ) الخلف السائغ يمنع من الحتساب على رأي بعض الفقهاء ،وقال آخرون يجوز للمحتسب
أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه بشرط أن يكون المحتسب مجتهدا.
ب) الخلف غير السائغ ،وهو الخلف الشاذ أو الباطل الذي ل يعتد به لعدم قيامه على أي
دليل مقبول كالذي يخالف صريح القرآن أو السنة الصحيحة المتواترة أو المشهورة أو إجماع
المة أو ما علم من الدين بالضرورة ،فمثل هذا الخلف ل قيمة له ول يمنع المحتسب من
النكار والحتساب.
141
-177الشرط الجوهري في موضوع الحسبة أن يكون منكرا في الشريعة السلمية وحيث إن
من صفات الشريعة الشمول بمعنى أن لها حكما في كل شيء بل استثناء فإن موضوع الحسبة
يصير واسعا جدا بحيث يشمل جميع تصرفات وأفعال النسان ،ول يخرج من ذلك إل ما
تتوافر فيه شروط الحتساب ،ول يدخل في ولية المحتسب .وقد أشار الفقهاء إلى هذه السعة،
فالفقيه ابن الخوة يقول "والمحتسب من نصبه المام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية والشكف
عن أمورهم ومصالحهم وبياعاتهم ومأكولتهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقهم
وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر" ويقول ابن خلدون وهو يتكلم عن المحتسب "ويبحث
عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل
المنع من المضايقات في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الكثار في الحمل ،والحكم
على أهل المباني المتعينة للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة ...الخ".
142
بكتمان العيوب وتدليس السلع مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرا من باطنه ،ويدخل في
الصناعات مثل الذين يصفون المطعومات والملبوسات فيجب نهي هؤلء عن الغش الذي
يرتكبونه في مصنوعاتهم أو بياعاتهم.
-181رابعا :فيما يتعلق بالطرق والدروب
مثل بناء الدكات ووضع السطوانات وغرس الشجار ووضع الخشاب والسلع والطعمة في
الطرقات وذبح الحيوانات في الطريق وتلويث الرض بالدماء وطرح القمامة في الدروب
والزقة وإلقاء قشور البطيخ فيها ورشها بالماء بحيث يخشى منها الزلق ونحو ذلك مما فيه
ضرر بالناس ،فيمنع ذلك كله ويحتسب فيه ،لنه ضرر ،وهو ممنوع في الشريعة وإذا وقع
يجب رفعه.
-182خامسا :فيما يتعلق بالحرف والصناعات
وقد ذكر الفقهاء جميع الحرف والصناعات وبينوا كيفية الحتساب فيها .والصول الجامعة في
الحتساب فيها هي:
أ) من حيث المكان ،فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة ل ضرر فيه على الخرين فل
يكون مكان الخباز في سوق القمشة مثلً ،وان يكون المكان بذاته صالحا لمباشرة المهنة أو
الصنعة وصلحه من جهة نظافته وسعته وتهويته.
ب) من حيث أدوات الحرفة أو الصنعة يجب أن تكون صالحة للستعمال ،وقد وضع الفقهاء
رحمهم ال تعالى مقاييس لصلح كل أداة كأنهم هم أصحاب تلك الصنائع والحرف ،فالمام
الشيزري يقول في مقلى الزلبية" :ينبغي أن يكون مقلى الزلبية من النحاس الحمر الجيد..
ثم يبين الشيزري رحمه ال كيفية اعداده للستعمال فيقول :ويحرق فيه النخالة ثم يدلكه بورق
السلق إذا برد ثم يعاد إلى النار ويجعل فيه قليل من عسل ويوقد عليه حتى يحترق العسل ،ثم
يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف ثم يغسل ويستعمل فإنه ينقى من وسخه وزنجاره" وقد ذكرت
هذا الكلم بطوله ليتبين للناس مدى اهتمام فقهائنا رحمهم ال تعالى بما ينفع للناس في حياتهم
ويدفع عنهم الضرر في معايشهم.
جـ) إذا كانت أدوات الحرفة مقاييس للوزن أو الكيل أو الذرع وجب التأكد من سلمة هذه
المقاييس وصحتها.
د) من جهة المصنوع أو المبيع ،يجب أن يكون خاليا من الغش والتدليس ،فل تخلط الحنطة
بالتراب ول الطحين بغيره من المواد الرديئة ،وان توضع العلمات المميزة لكل نوع إذا اتحد
الجنس ،فتنقط لحوم المعز – كما قال الفقهاء – بنقط الزعفران حتى تعرف وتميز من غيرها،
وان تبقى أذناب المعز معلقة على لحومها الى آخر البيع.
143
هـ) من جهة من يباشر الصنعة والحرفة ،يجب أن يلحظ المحتسب اهليتهم ،وقد ذكرنا من
قبل قيام المحتسب بامتحان الكحال – طبيب العيون – وهكذا قالوا في امتحان اصحاب الحرف
الخرى كالمجبرين والفصادين والحجامين والجراحين وغيرهم .كما تلحظ امانتهم وعفتهم.
-183سادسا :فيما يتعلق بالخلق والفضيلة
ومما يلحظه المحتسب ويحتسب فيه ما يتعلق بالخلق والداب والفضيلة فيمنع مما يناقض
الخلق الفاضلة ،والداب السلمية مثل الخلوة بالجنبية والتطلع على الجيران من السطوح
والنوافذ وجلوس الرجال في طرقات النساء وأماكن خروجهن أو تجمعهن أو التحرش بهن،
ومثل التكشف بالطرقات باظهار العورات وما ل يحل كشفه واظهاره ومنع من عرف بالفجور
من معاملة النساء قال أبو يعلى الحنبلي "وإذا كان من أهل السواق من يختص بمعاملة النساء
راعي المحتسب سيرته وأمانته فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن وان ظهرت منه الريبة
وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن وادبه على التعرض لهن".
مراتب الحتساب
-186وبناء على ما تقدم تكون مراتب الحتساب ثلثة:
144
المرتبة الولى – تغيير المنكر باليد أي تغييره فعلً ولو باستعمال القوة واستعمال السلح
والستعانة بالعوان كما في دفع الصائل لتخليص النفس البريئة من الموت وتخليص العرض
المصون من الهتك .ويدخل في نطاق التغيير باليد ضرب المحتسب عليه أو حبسه أو دفعه
لمنعه من مباشرة المنكر.
المرتبة الثانية – الحتساب بالقول ،وهو أنواع:
أ) التعريف :أي تعريف المحتسب عليه بالحكم الشرعي لفعله أو تركه إذ قد يكون المحتسب
عليه جاهلً بذلك فارتكب المنكر.
ب) الوعظ والنصح والرشاد والتخويف من ال تعالى وقد يقلع العاصي عن معصيته إذا سمع
نصح الناصح ووعظ الواعظ فيحصل المقصود من الحتساب.
جـ) التهديد والتخويف بإنزال الذى به من قبل المحتسب وينبغي أن يكون ذلك مما يقدر عليه
المحتسب فعلً وبما هو غير ممنوع شرعا لنه إذا هدده بما ل يقدر عليه ،لم يؤثر تهديده وإذا
هدده بغير الجائز شرعا ،كان ذلك غير جائز ،لن على المحتسب أن ل يخالف الشرع في
احتسابه.
المرتبة الثالثة – الحتساب بالقلب ،وهذا إذا عجز عن المرتبتين السابقتين ،وهذه المرتبة ل
يجوز أن يخلو منها أي مسلم يسمع بمنكر أو يراه إذ ل ضرر فيه ثم يتبع ذلك بالحتساب
القولي أو الفعلي.
فقه الحتساب
-187الغرض من الحتساب إزالة المنكر من الرض وإيجاد المعروف فعلً ،وإذا كان هذا
هو الغرض من الحتساب فيجب الوصول إليه بأيسر طريق وأقصره بشرط أن يكون
مشروعا وأن ينظر الى ما يؤول اليه احتسابه من جهة ما يترتب عليه من زوال مفسدة المنكر
وحلول مصلحة المعروف مكانه ،وفي ضوء ذلك يقدم أو يحجم عن الحتساب .ومما يعين
على تفهم فقه الحتساب بيان القواعد التالية.
القاعدة الولى
-188النكار القلبي يجب أن يكون كاملً ودائما وبالنسبة لكل منكر .وفائدته بقاء القلب في
حساسيته ضد المنكر وبقاء عزمه على التغيير عند المكان .أما النكار القولي أو الفعلي
فيكون حسب الستطاعة ودليل ذلك قوله تعالى﴿ :فاتقوا ال ما استطعتم﴾ وما جاء في الحديث
الشريف الذي ذكرنا "من رأى منكم منكرا فليغيره ....الخ" ويلحظ هنا أنّ الثواب يكون كاملً
إن شاء ال تعالى إذا كان المحتسب ينكر المنكر بقلبه ويكرهه كراهية تامة ويفعل لزالته بقدر
استطاعته.
145
القاعدة الثانية
-189إنما يطلب الحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة .فإذا كان ما
يترتب عليه فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر لم يكن هذا الحتساب مطلوبا شرعا
وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبا أو فعل محرما لن على المحتسب أن يتقي ال في
عباده وليس عليه هداهم ،وليس من تقوى ال أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر أو
حصول منكر أكبر ،لن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلح فإذا كان ما
يترتب على الحتساب مقدارا من الفساد أكبر من الفساد القائم أو يفوت من الصلح مقدارا
أكبر من الصلح الفائت لم يكن هنا الحتساب مما أمر به الشرع .ول شك أن ما قلناه يختلف
باختلف الشخاص والحوال والظروف ،وعلى المحتسب ان يتبصر فيها ويزن مقادير
المعروف والمنكر التي تنتج عن احتسابه ثم يقدم بعد ذلك على احتسابه او يحجم عنه .وهذا
كله بالنسبة للواقعة المعينة والشخص المعين ،اما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف مطلقا
وينهى عن المنكر مطلقا.
-190وبناء على هذه القاعدة نستطيع أن نفهم لماذا قال العلماء :ل يجوز الخروج على
السلطان بالقوة وحمل السلح وإن ظهر منه شيء من الفسوق ،لن الغالب في هذا الخروج
حصول مفاسد أعظم من مفسدة فسقه ،وحيث كانت المفسدة اعظم لم يجز الحتساب ،كما أنّ
المام ل يزال في دائرة السلم ولم يخرج منه بفسقه ،فيبقى له حق الطاعة على الرعية ما لم
يأمر بمعصية فل يستوجب الحتساب عليه بالقوة وحمل السلح واحداث الفتنة والقتتل بين
المسلمين.
القاعدة الثالثة
-191الخذ بالرفق ما أمكن ذلك ،ومستند هذه القاعدة ما يأتي:
أ) الحديث النبوي الشريف "إن ال رفيق يحب الرفق في المر كله" ويعطي عليه ما ل يعطي
على العنف.
ب) إن النسان بطبيعته وما فطر عليه يقبل المر والنهي باللطف والرفق ولين القول أكثر من
قبوله عن طريق العنف بل ربما حمله العنف على الصرار على المنكر مراغمة للمر وعنادا
له .وربما دل على ما نقول قول ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم﴿ :ولو كنت فظا غليظ
القلب لنفضوا من حولك﴾ مع انه صلى ال عليه وسلم ل يأمر إل بالمعروف ول ينطق إل
بالحق.
جـ) ان الحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه قابلً للحتساب راضيا به مقتنعا
بضرورته ومضمونه حتى يكون له من نفسه وازع يمنعه من العودة الى المنكر ،وهذا كله
يحتمل حصوله بقدر أكبر إذا كان الحتساب بالرفق وعدم الغضب والعنف وبالمحاججة
146
والمناقشة الهادئة المقنعة ،جاء في الحديث الشريف الذي رواه المام أحمد بن حنبل رحمه ال
تعالى "عن ابي امامة ان غلما شابا أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال يا نبي ال أتأذن لي
في الزنى؟ فصاح الناس به ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم قربوه ،ادن ،فدنا حتى جلس بين
يديه ،فقال النبي عليه الصلة والسلم :أتحبه لمك ،فقال :ل ،جعلني ال فداك .قال :كذلك
الناس ل يحبونه لمهاتهم .أتحبه لبنتك؟ قال :ل ،جعلني ال فداك ،قال :كذلك الناس ل
يحبونه لبناتهم .أتحبه لختك حتى ذكر صلى ال عليه وسلم العمة والخالة ،والغلم يقول في
كل واحدة :ل جعلني ال فداك ،والنبي صلى ال عليه وسلم يقول :كذلك الناس ل يحبونه.
فوضع رسول ال صلى ال عليه وسلم يده على صدره وقال :اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه
وحصن فرجه ،فلم يكن شيء أبغض اليه من الزنى".
د) الحتساب يجري على السلطان كما قلنا ،والسلطان بحاجة الى التلطف معه لما يحس من
نفسه من سلطة ،ولنه محتاج الى الهيبة وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الحتساب ،فمنعا
لذلك ومراعاة لما يحس هو من نفسه كان الرفق معه في الحتساب هو المطلوب وبهذا أشار
الفقهاء .ويقاس على السلطان نوابه وولة المور .وقد يدل على ما قلناه او يؤيده أن ال تعالى
أمر نبيه موسى عليه السلم وأخاه هارون وقد أرسلهما الى فرعون أن يقول له قولً لينا لعله
يتذكر أو يخشى.
-192وما قلناه ل يعني ان الرفق هو السلوب الوحيد للحتساب أو انه ل يجوز تركه في
بعض الحيان ،وإنما يعني ما قلناه التأكيد على الرفق والخذ به كلما أمكن ذلك ول يستعاض
عنه بغيره إل عند الحاجة أو الضرورة .فمن مجالت الرفق اللزمة للمحتسب ،إذا غلب على
ل منه بحكمه أو استجابة لهوى عابر او لضعف في
ظنه أن المحتسب عليه قام بالمنكر جه ً
إرادته .كما ان الرفق يلزم الحتساب بالتعريف بالحكم او بالوعظ والرشاد او التخويف من
ال تعالى .فإذا لم ينفع الرفق تحول المحتسب الى الشدة ،وكذلك إذا كان المنكر جسيما ل
يمكن معه النتظار أخذ المحتسب بالشدة الكافية لدفعه ول يعتبر ذلك خروجا عن قاعدة الرفق،
لن من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتسب عليه بإبعاده عن المنكر وتخليصه من
المعصية وما يترتب عليه من عقاب.
147
أما الحتساب باليد او بالقول ،فهذا يجب بالقدرة على هذا النوع من الحتساب بشرط أن يأمن
المحتسب على نفسه من الذى والضرر كما يأمن على غيره من المسلمين من الذى
والضرر.
وتعليل ذلك ان الخوف من لحوق الذى والضرر بمنزلة العجز الحسي والعجز الحسي يفوت
شرط القدرة فل يجب الحتساب إل انه يجب هجران اصحاب المنكرات وعدم مخالطتهم.
148
من يستحب الحتساب
-196ويستحب الحتساب القولي إذا علم المحتسب ان قوله ل يفيد ولكن ل يلحقه أذى منه
وهذا على رأي بعض العلماء .وقد قيدنا هذا الستحباب بما قلناه في الفقرة السابقة.
كما يستحب الحتساب إذا علم المحتسب ان انكاره يفيد ولكن يلحقه اذى .ووجه الستحباب
إزالة المنكر مع تحمله الذى .وحتى إذا علم المحتسب أن احتسابه ل يفيد المحتسب عليه ول
يمنعه من منكره .ولكن احتسابه يفيد من ناحية اخرى كأن تقوى به قلوب المؤمنين وتنكسر او
تضعف شوكة الفاسقين او يمهد لزالته ففي هذه الحوال يصير مستحبا برغم الذى الذي يناله
ما دام يتحمله ول يتعدى الى غيره.
149
يتعلق بحق خاص توقف نظر المحتسب فيه على طلب صاحب الحق واعلمه بحقه ووجه
العتداء عليه وليس للمحتسب ان يتدخل فيه من تلقاء نفسه لن المحتسب إنما يتدخل في منكر
ظاهر وقبل رفع صاحب الحق ظلمته إليه ل يكون ظاهرا ولكن بعد اعلمه به يصير ظاهرا
فيحق للمحتسب النظر فيه والحتساب فيه ،فإذا رفع إليه المنكر المتعلق بحق خاص كان على
المحتسب أن يتثبت من وجوده بطريق المشاهدة او بإقرار المعتدي ،اما عند الخفاء والنكار
والجحود ممن نسب إليه العتداء فل يتدخل المحتسب ،لنه ل يسمع بينة كما قلنا من قبل ول
يوجه يمينا عند النكار ول يتجسس.
أما إذا كان الحتساب في حق من حقوق ال تعالى أو يغلب فيه حق ال أو كان في حق عام
يتعلق به نفع الناس كاعتداء على مرفق عام ،فإن الحتساب حينئذ يقوم على المشاهدة والعلم
الشخصي إلى قيام المنكر ووجوده.
تمهيد
-130قلنا فيما سبق أن المجتمع ضروري للنسان ،وأن النظام – على أي نحو كان –
ضروري للمجتمع .ونضيف هنا فنقول أن وجود رئيس للمجمتع ضروري لبقائه ونظامه ،لنه
يستطيع أن يحمل الناس على طاعة النظام وعدم الخروج عليه فيجنبهم حياة الفوضى
والضطراب والهرج والمرج ،ولهذا لم يوجد مجتمع إل وجد فيه رئيس – على أي نحو كان
– يطيعه الناس عن رضى واختيار ،أو قهر واضطرار "لما في طباع العقلء من التسليم
لزعيم يمنعهم من المظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ،ولول الولة لكانوا فوضى
150
مهملين وهمجا مضاعين"[ ]1ولن "بني آدم ل تتم مصلحتهم إل بالجتماع لحاجة بعضهم إلى
بعض ،ول بد لهم عند الجتماع من رئيس"[.]2
وإذا وجد رئيس للمجتمع ،أمكن عند ذلك أن يأخذ المجتمع شكل دولة ،على نحو ما ،لتوافر
عناصر الدولة من اقليم وسكان ونظام وحاكم يباشر السلطة في المجتمع ،ويحمل الناس على
عدم الخروج على أحكامه.
151
أسسه ومصبوغة بصبغته ،وتطبق أحكامه ،والخليفة هو الحارس لبقاء صفتها هذه ،كما سنبين
فيما بعد.
152
التأمير في أقل الجتماعات ،فكيف بأكثرها جاء في الحديث "ل يحل لثلثة يكونون بفلة من
الرض إل أمروا أحدهم" وفي رواية في سنن أبي داود "إذا خرج ثلثة في سفر فليؤمروا
أحدهم" ،ويقول المام ابن تيمية تعليقا على هذين الحديثين" :فإذا كان قد أوجب في أقل
الجتماعات وأقصر الجتماعات أن يولى أحدهم ،كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو
أكثر من ذلك"[.]10
خامسا :أن كثيرا من أحكام الشريعة يحتاج تنفيذها إلى قوة وسلطان ،مثل أحكام الجهاد ،واقامة
الحدود والعقوبات ،واقامة العدل بين الناس ،فل بد من نصب المام حتى يمكن تنفيذ هذه
الحكام ،وقد أشار إلى هذا المعنى ابن تيمية إذ يقول "ولن ال تعالى أوجب المر بالمعروف
والنهي عن المنكر واقامة الحج والجمع والعياد ونصر المظلوم واقامة الحدود ل تتم إل
بالقوة والمارة"[.]11
153
انابة المالك غيره في مباشرة ما يملكه أمر جائز كما هو معروف في نظرية النيابة في الفقه
السلمي.
154
وصاحب الحق له أن يباشره بنفسه كما له أن يباشره بواسطة نائبه بأن يوكل من يقوم به نيابة
عنه .وقد أقر الفقهاء هذه الطريقة من النتخاب وصرحوا بها ،فمن أقوالهم "وإذا تقرر أن هذا
المنصب – أي منصب الخليفة – واجب بإجماع ،فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار
أهل العقد والحل ،فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق طاعته"[.]15
155
بهذا النتخاب لما فاز فيه إل أولئك الخيار الذين عرفوا بأهل العقد والحل ولما نازعهم أحد
في هذه المنزلة ومن ثم كان انتخابهم الخليفة يعتبر انتخابا من المة نفسها لنه تم بتوكيل
ضمني منها لهم للقيام بهذا النتخاب.
ولية العهد
-142قلنا :إن المة هي التي تختار الخليفة عن طريق أهل الحل والعقد ،وقد يعترض علينا
بولية العهد التي أقرها الفقهاء كطريق لتولي منصب الخلفة ،فالماوردي وأبو يعلى الحنبلي
يقولن "والمامة تنعقد من وجهين :أحدهما باختيار أهل العقد والحل والثاني بعهد المام من
قبله"[.]19
والجواب على هذا العتراض أن اختيار الخليفة عن طريق عهد المام السابق قد وقع فعلً في
عصر الخلفاء الراشدين فقد عهد أبو بكر إلى عمر بن الخطاب رضي ال عنهما ،وعهد عمر
إلى ستة يختارون من بينهم واحدا للخلفة ،وعلى هاتين السابقتين اعتمد الفقهاء في تجويزهم
ولية العهد واعتبروا جواز هذا المسلك ثابتا بالجماع.
ولكن ما هو التكييف القانوني الشرعي لولية العهد؟ وهل يصير المعهود إليه بالخلفة خليفة
بهذا العهد فقط؟ وما الذي يسبق العهد؟ إن الجواب على هذه السئلة ضروري حتى يتبين لنا
156
مدى موافقة أو مناقضة ولية العهد لحق المة في اختيار الخليفة ،وهذا الجواب يظهر مما
يأتي:
أولً :جاء في كتاب الحكام السلطانية للفقيه أبي يعلى الحنبلي ما يأتي:
أ) يجوز للمام أن يعهد إلى امام بعده ...ولن عهده إلى غيره ليس بعقد للمامة"[.]20
ب) لن المامة ل تنعقد للمعهود اليه بنفس العهد ،وإنما تنعقد بعهد المسلمين ...ان امامة
المعهود اليه تنعقد بعد موته باختيار أهل الوقت"[]21
فهذه القوال صريحة في دللتها على أن المامة ل تنعقد ول تثبت بمجرد العهد وإنما تثبت
باختيار أهل الحل والعقد ،ومعنى ذلك أن التكييف القانوني للعهد انه ترشيح للخلفة وليس
تعيينا نهائيا لمن يتوله .أما قولهم المامة تنعقد بالعهد ،والنعقاد غير الترشيح ،فجوابنا أن
استعمالهم كلمة "تنعقد" محمولة على الترشيح لتتفق أقوالهم التي ذكرناها مع هذا الستعمال ،أو
أن هذا الستعمال محمول على ما يؤول إليه العهد وهو انعقاد المامة للمرشح بناء على
رضى أهل الحل والعقد المتوقع نظرا لمشاورتهم بأمر العهد كما هو الغالب.
ثانيا :في سابقة عهد أبي بكر إلى عمر ،شاور أبو بكر أهل الحل والعقد في رغبته في العهد
إلى عمر فاظهروا رضاهم وموافقتهم ،وهذا ثابت في التاريخ ،وعلى هذا يكون عهد أبي بكر
إلى عمر كأنه عهد من أهل الحل والعقد بالمامة إلى عمر بعد وفاة الخليفة ،وعلى هذا
التوجيه يمكن اعتبار عهد أبي بكر كاشفا لرادة أهل الحل والعقد ،وكذلك في عهد عمر بن
الخطاب إلى الستة لختيار خليفة منهم ،فقد آل أمر الختيار إلى عبد الرحمن بن عوف فقام
باستشارة كبار الصحابة وأهل الحل والعقد ثلثة أيام بلياليها فرآهم يرضون بعثمان بن عفان
فأعلن عند ذاك اختياره له ومبايعته له فبايعه المسلمون ،فيكون اختيار عبد الرحمن بن عوف
لعثمان كاشفا عن اختيار أهل الحل والعقد ولذلك بايعوه .ومع هذا فنحن نعتبر كل من عهد
أبي بكر إلى عمر وعهد عمر إلى الستة ترشيحا للخلفة وان سبقه تشاور مع أهل الحل والعقد
وموافقتهم على المرشح ،لن موافقتهم هذه ل يترتب عليها تولي الخلفة فعل من قبل المرشح
إل بعد وفاة الخليفة المعاهد واعلن الموافقة الصريحة منهم ببيعتهم للمرشح ،فما لم يعلن أهل
الحل والعقد اختيارهم الصريح وبيعتهم الصريحة ل يصير المعهود إليه – المرشح – خليفة،
وقد نبه إلى هذا المعنى الفقيه المشهور ابن تيمية رحمه ال تعالى ،فقال – وهو يتكلم عن
المامة ويرد على أقوال من قال ان المامة تنعقد ببيعة أربعة أو اثنين أو واحد – "فليست هذه
أقول أئمة السنة بل المامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ،ول يصير الرجل اماما
حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود المامة ،فان المقصود من المامة
إنما يحصل بالقدرة والسلطان ،فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار اماما...
وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه ،ولو قدر أنهم لم ينفذوا
157
عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم صار إماما ،سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز ...فمن قال انه
يصير اماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط ،كما أن
من ظن أن تخلف الواحد أو الثنين أو العشرة يضر فقد غلط ...وعثمان لم يصر اماما
باختيار بعضهم – أي الستة الذين اختارهم عمر – بل بمبايعة الناس له وجميع المسلمين
بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد"[.]22
وإذا كان تكييف ولية العهد انه ترشيح ،وانه يسبق بمشاورة أهل الحل والعقد وظهور رضاهم
عن المرشح ،فإنه ل شك مسلك سديد وحميد لختيار الخليفة ول يناقض حق المة في اختيار
الخليفة ،بل وقد يرجح على طريقة انتخاب أهل الحل والعقد للخليفة دون عهد منه إلى أحد،
لما في العهد من حسم لمادة الخلف والنزاع ،ولهذا رجح هذه الطريقة المام ابن حزم فقال:
"وهذا – أي العهد – هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال المامة
وانتظام أمر السلم وأهله ورفع ما يتخوف من الختلف والشغب مما يتوقع من غيره بقاء
المة فوضى ومن انتشار المر وحدوث الطماع"[.]23
شروط الخليفة
-143يشترط في الخليفة جملة شروط ،كلها تلتقي في تحقيق كفايته للنهوض بأعباء هذا
المنصب الخطير على الوجه المرضي ل تعالى والمحقق لمصلحة المة .وهذه الشروط ،على
ما ذكره الفقهاء هي:
أولً :السلم :فيجب أن يكون مسلما لقوله تعالى﴿ :أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر
منكم﴾ أي منكم أيها المسلمون ،فهو من المسلمين .ولقوله تعالى﴿ :ولن يجعل ال للكافرين
على المؤمنين سبيلً﴾ والخلفة أعظم السبيل فل تكون لغير مسلم ،ولن حقيقة الخلفة ،كما
سنبين فيما بعد خلفة عن صاحب الشرع في حفظ الدين ،فمن البديهي أن تودع هذه المانة
بيد من يؤمن بهذا الدين ،وان ل تسند لمن يكفر به.
ثانيا :أن يكون رجلً ،لقوله تعالى﴿ :الرجال قوامون على النساء﴾ ولحديث رسول ال صلى
ال عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره من
أئمة الحديث[ ،]24والواقع خير شاهد فإنّ المرأة تعجز عن النهوض بمهام رئاسة الدولة وهي
كثيرة وجسيمة ،ول نريد أن نكثر من ذكر الحجج والدلة فما ذكرناه من قول ال تعالى وقول
رسوله تكفينا وتكفي من يؤمن بال واليوم الخر وبالسلم دينا ،ومن يجد في نفسه شيئا من
ذلك ،نقول له :أمامك دول العالم في الماضي والحاضر ،فامسك قلما واحص عدد النساء
اللتي تولين رئاسة الدولة وعدد الرجال الذين تولوا رئاسة الدولة ،ثم قارن بين العددين ،نر
ضآلة نسبتهن إلى نسبتهم في ولية رئاسة الدولة مما يدل على أن الناس بتجربتهم يعرفون أن
158
رئاسة الدولة ل يصلح لها إل الرجال ،وان من صار منهن في منصب رئاسة الدولة إنما كان
نادرا ولظروف استثنائية.
ثالثا :أن يكون جامعا للعلم بالحكام الشرعية لنه مكلف بتنفيذها ،ول يمكنه التنفيذ مع الجهل
بها ،والعلم قبل العمل ،قال تعالى﴿ :فاعلم أنه ل إله إل ال واستغفر لذنبك﴾ واشترط بعض
الفقهاء الجتهاد ولم يكتفوا بمجرد العلم عن طريق التقليد.
رابعا :وأن يكون عدلً في دينه ،ل يعرف عنه فسق ،متقيا ل ،ورعا ،عارفا بأمور السياسة
وشؤون الحكم جريئا على اقامة حدود ال ل تأخذه في ال لومة لئم ،شجاعا ،ذا دراية
بمصالح المة وسبل تحقيقها مع حرص عليها وتقديمه لها[.]25
خامسا :أن يكون من قريش لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم "الئمة من قريش" وهذا
حديث صحيح روي من غير وجه واحتج به الفقهاء[ .]26والحكمة من هذا الشرط ،كما يقول
العلمة ابن خلدون ،أن مقصود الخلفة يحصل بالجتماع ووحدة الكلمة وترك النزاع وانقياد
المة لرئيسها ،وهذا يحصل إذا كان الخليفة ممن تسكن النفوس اليهم ويعترف لهم بالفضل
والتقدم ،وهذا العتراف وذاك السكن كان متحققا فيمن يولى من قريش ،لن قريش كانت ذا
قوة وشوكة ،وتعترف لها العرب بالتقدم والفضل والزعامة ،ولم ينازعوها في ذلك ،مما يجعل
أمر اجتماع الكلمة وحصول الطاعة لهم أقرب احتمال وأسهل منالً من غيرهم ،ولذلك جاء
الحديث بالتنويه بهم وان الئمة منهم ليحصل الئتلف ويسهل النقياد ويتحقق مقصود
الخلفة[ .]27ثم يستنتج ابن خلدون فيقول" :فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع
بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع ل يخص الحكام بجيل ول عصر ول أمة
علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه اليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من
القرشية وهي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي
عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن
الحماية"[ ]28ومعنى ذلك أن مآل القرشية ،عنده أصبحت تعنى النتساب إلى جماعة قوية
يعترف الناس لها بالقوة والشوكة والتقدم والفضل ليحملهم ذلك على طاعة من يولى الخلفة
منهم ،فتهدأ ثائرتهم ويسهل حكمهم ،وينقادوا إلى الحكم المرضي المطلوب.
والواقع أن الحديث "الئمة من قريش" حديث صحيح ل مجال للطعن في سنده ول في متنه،
فيبقى تحديد المعنى المقصود منه .والذي فهمه الفقهاء من هذا الحديث هو اشتراط النسب
القرشي في الخليفة ،وهذا المعنى هو ما يذكرونه ول يذكرون غيره إل ابن خلدون ،وهو فقيه
ومؤرخ ،ذكر التوجيه الذي نقلناه عنه .وما ذكره ابن خلدون في فهمه للحديث وان كان – في
نظرنا – يحتمله الحديث إل انه احتمال مرجوح .كذلك يمكن القول على وجه الحتمال
المرجوح ان الحديث مسوق على سبيل الخبار بما سيقع ل على سبيل المر بما يقع .وفي
159
ضوء هذا كله الذي يترجح عندي الن ،انه إذا تساوى اثنان في شروط الخلفة وكان أحدهما
قرشيا وجب اختيار القرشي .وإن كان القرشي عاريا من شروط الخلفة والخر مستوفيا لها
إل أنه غير قرشي قدم المستوفي لها على القرشي ،لن مقاصد الخلفة ل تتحقق بالقرشي وهو
عاطل وعار من شروطها وإنما تتحقق بالخر الكفء القدير ،لن الصل العام في الوليات
لزوم توافر القدرة والكفاءة ،وقد وجدتا .وان لم يوجد القرشي أصل كانت الخلفة لمن تتوافر
فيه بقية شروطها.
عزل الخليفة
-144المة هي التي تختار الخليفة ،فلها حق عزله ،لن من يملك حق التعيين يملك حق
العزل .ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي ،وإل كان تعسفا في استعمال
الحق ،واتباعا للهوى ،وهذان ل يجوزان في شرع السلم .والمبرر الشرعي لعزل الخليفة،
خروجه عن مقتضى وكالته عن المة خروجا يبرر عزله ،أو عجزه عن القيام بمهام الخلفة
وهذا ما صرح به الفقهاء ،فالمام ابن حزم يقول – وهو يتكلم عن المام – ما نصه..." ..
فهو المام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب ال تعالى وسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإن
زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق ،فإن لم يؤمن اذاه ال بخلعه خلع
وولي غيره"[ .]29ومن أقوال الفقهاء أيضا "وللمة خلع المام وعزله بسبب يوجبه مثل أن
يوجد منه ما يوجب اختلل أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه واقامته
لنتظامها واعلئها"[ .]30ومن أمثلة العجز عن مهام الخلفة الموجب لزوالها عنه أو عزله
واختيار غيره لمنصب الخلفة :جنونه المطبق ،وعماه ،وأسره بيد العدو على وجه ل يرجى
خلصه لعجزه عن النظر في أمور المسلمين ،فيختارون غيره ليقوم بمصالح المسلمين[.]31
تنفيذ العزل
-145وإذا كانت المة تملك حق عزل الخليفة عند وجود السبب الشرعي الداعي لذلك ،إل
انه يجب أن يعرف جيدا بأن مجرد وجود السبب الشرعي للعزل ل يعني بالضرورة لزوم
تنفيذ العزل ،لنه عند التنفيذ يجب أن ينظر في امكانه ونتائجه ،فإذا كان تنفيذه ممكنا ورؤي
انه ل تترتب على العزل نتائج مضرة بالمة تربو علىعدم عزله ،وجب العزل في هذه
الحالة .وإذا رؤي أن التنفيذ غير ممكن أو ممكن بذاته ولكن تترتب عليه نتائج مضرة بالمة
تزيد على اضرار بقائه وعدم عزله ،وجب أو ترجح عدم التنفيذ ،لن من قواعد المر
بالمعروف والنهي عن المنكر أن ل يكون العمل على إزالته المنكر مستلزما أو مقتضيا وقوع
منكر أعظم منه[.]32
160
المطلب الثاني -الشورى
وجوب الشورى
-146مبدأ الشورى من أهم مقومات نظام الحكم في السلم ،به نطق القرآن ،وجاءت السنة،
وأجمع عليه الفقهاء .وهو حق للمة وواجب على الخليفة ،والتفريط به سبب لعزله كما
سنذكره .والدلة على وجوبه تستفاد من القرآن ومن سيرة النبي صلى ال عليه وسلم ومن
أقوال الفقهاء:
أولً :قال تعالى﴿ :وشاورهم في المر﴾ وظاهر المر يدل على الوجوب .ومن أقوال الفقهاء
والمفسرين بصدد هذه الية قول ابن تيمية" :ل غنى لولي المر عن المشاورة فإنّ ال تعالى
أمر بها نبيه صلى ال عليه وسلم"[ .]33وجاء في تفسير الطبري بصدد آية ﴿وشاورهم في
المر﴾ .إنما أمر ال نبيه صلى ال عليه وسلم بمشاورتهم فيه تعريفا منه امته ليقتدوا به في
ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم"[ .]34وفي تفسير الرازي "قال الحسن
وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك – أي أمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم بالمشاورة –
ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته"[.]35
ثانيا :ومما يؤكد وجوب المشاورة على رئيس الدولة أن النبي صلى ال عليه وسلم على جللة
قدره وعظيم منزلته كان كثير المشاورة لصحابه ،شاورهم يوم بدر في التوجه إلى قتال
المشركين .وشاورهم قبل معركة أحد أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو .وشاور السعدين:
سعد بن معاز وسعد بن عبادة يوم الخندق فأشارا عليه بترك مصالحة العدو على بعض ثمار
المدينة مقابل انصرافهم عنها فقبل رأيهما[ ،]36وهكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
كثير المشاورة لصحابه حتى قال العلماء "لم يكن أحد أكثر مشورة لصحابه من رسول ال
صلى ال عليه وسلم"[.]37
161
-148مما ذكرناه يتبين لنا بوضوح أن المشاورة في نظام الحكم في السلم ذات أهمية
بالغة ،وتعليل ذلك ،على ما نرى ،ان المشاورة سبيل معرفة الرأي الصواب لن كل مستشار
يظهر رأيه ووجهة هذا الرأي ومدى فائدته .وبعرض هذه الراء ومقارنتها ومناقشتها يظهر
الصواب غالبا .كما أن بالمشاورة استفادة بل جهد من خبرات الخرين وتجاربهم التي
اكتسبوها في سنين طوال وبجهود وتضحيات .كما أن بالمشاورة عصمة لولي المر من
القدام على أمور تضر المة ول يشعر هو بضررها ،ول سبيل الى اصلح الضرر بعد
وقوعه ،ول يرفعه كونه حسن النية ...وفي المشاورة أيضا تذكير للمة بأنها هي صاحبة
السلطان وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان ،وفي هذا وذاك عصمة
من الطغيان الذي هو من صفات النسان ،قال تعالى﴿ :كل إن النسان ليطغى.﴾...
أهل الشورى
-150ولكن كيف تتم المشاورة؟ وهل يجب على رئيس الدولة أن يشاور المة كلها أو طائفة
منها أو أفرادا منها؟ المستفاد من سيرة النبي صلى ال عليه وسلم وهديه في الشورى ،انه كان
يشاور جمهور المسلمين في المور التي تهمهم مباشرة كما حصل في مسألة الخورج إلى قتال
المشركين في معركة أحد ،فقد استشار جمهورهم الموجودين في المدينة ،وكان يقول "أشيروا
عليّ"[ .]40وكذلك في مسألة غنائم هوازن فقد حرص النبي صلى ال عليه وسلم على أن
يعرف آراء جميع المسلمين المشتركين في حرب هوازن في مسألة الغنائم التي صارت اليهم،
فقد جاء في أخبارها أن النبي صلى ال عليه وسلم بعد أن ذكر لهم ما يراه بصدد الغنائم ،قال
الحاضرون "يا رسول ال رضينا وسلمنا ،قال :فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى
نعلم ...فكان زيد بن ثابت على النصار يسألهم :هل سلموا؟ فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم
ن أهل الشورى كانوا جميع
يتخلف عنهم رجل واحد ...الخ"[ .]41فهذه الواقعة تدل على أ ّ
162
المسلمين الذين يتعلق بهم موضوع المشاورة .وأحيانا كان النبي صلى ال عليه وسلم يستشير
بعض أصحابه ل كلهم كما حصل في مسألة أسرى بدر ،فقد استشار عليه الصلة والسلم
بعض أصحابه في هؤلء السرى وهل يأخذ منهم الفداء أم ل؟
واستشار عليه الصلة والسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على
ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق ،فقال :يا رسول ال
إن كان هذا أمرا من السماء فامض له ،وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع
وطاعة ،وإن كان انما هو الرأي ،فما لهم إل السيف ،فأخذ الرسول صلى ال عليه وسلم
برأيهما وترك موضوع المصالحة مع غطفان[.]42
فهذه السوابق الثابتة في سنة النبي صلى ال عليه وسلم تدل على أن أهل الشورى ،تارة
يكونون جمهور المة ،وطورا يكونون جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويتعلق بهم
موضوع المشاورة كما في مسألة غنائم هوازن ،وأحيانا يكون أهل الشورى المتبوعين في
قومهم كما في مسألة مصالحة غطفان حيث شاور النبي صلى ال عليه وسلم السعدين من
سادات النصار والمتبوعين فيهم .وأحيانا أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين من ذوي
الرأي كما في مسألة أسرى بدر.
وفي ضوء هذه السوابق يمكن أن نقول :إن من يشاورهم رئيس الدولة يختلفون باختلف
موضوع المشاورة من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي ولطف ادراك،
فيشاور رئيس الدولة أهل الختصاص والمعرفة ،وقد أشار المام القرطبي في تفسيره إلى ما
نقول ،فقال رحمه ال "واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل يعلمون وما أشكل عليهم من
أمور الدين ،ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ،ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح .ووجوه
الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلد وعمارتها ..إلى أن قال ،قال العلماء صفة
المستشار إن كان في الحكام أن يكون عالما ودينا ،وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا
أن يكون عاقلً مجربا"[.]43
163
فإذا وجد الحكم صريحا في الكتاب أو السنة وجب اتباعه ول طاعة لحد في مخالفته وان لم
يوجد الحكم صريحا ،فأي الراء أشبه بكتاب ال وسنة رسوله عمل به[.]45
164
ووجه الدللة في هذه السابقة القديمة أن أبا بكر رضي ال عنه أخذ برأيه ونفذه ولم يأخذ برأي
غيره وإن كانوا كثيرين.
ثالثا :إن الخليفة – رئيس الدولة – مسؤول مسؤولية كاملة عن أعماله ،فل يجوز الزامه بتنفيذ
رأي غيره إن لم يقتنع بصوابه ،لن كون النسان مسؤول عن عمله يعني أن يعمله باختياره
ورأيه ل أن يعمل وينفذ رأي غيره على وجه اللزام وهو كاره له غير مقتنع به ثم يسأل هو
عن هذا الرأي ونتائجه.
رابعا :إن صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي وطبيعته ل من كثرة أو قلة القائلين
به.
خامسا :ليست الكثرة لذاتها دليلً قاطعا أو راجحا على الصواب ،كما أن القلة ليست لذاتها
دليلً أو راجحا على الخطأ ،إذ يمكن أن يكون الخطأ مع الكثرة ،وقد أشار القرآن إلى هذه
الحقيقة ،قال تعالى﴿ :وإن تطع أكثر من في الرض يضلوك﴾﴿قل ل يستوي الخبيث والطيب
ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾.
سادسا :في حالة الحروب ،وهي أخطر ما تمر به المة ،يفوض المر إلى قائد الجيش لينفذ ما
يراه من خطط الهجوم والدفاع بعد أن يستشير مساعديه ،ول يلزم برأيهم مطلقا وان كان
ملزما باستشارتهم ،ومعنى ذلك أن البشر يدركون بفطرتهم ان خير حل عند اختلف الرئيس
مع مستشاريه هو ترك المر له يقرر ما يراه ،ولهذا يأخذون بهذا الحل في حالة الحرب ،مع
أن خطأ القائد قد يؤدي إلى فناء الجيش وهلك المة ،ولكن مع هذا يأخذون بهذا الحل لنه
خير الحلول وأصوبها عند اختلف الرئيس مع من يشاورهم.
اعتراضات ودفعها
-154إنّ رأينا الذي قدمناه واعتبرناه هو الراجح ،بل ونعتبره هو الصحيح قد يعترض
البعض عليه بالعتراضات التالية:
العتراض الول :أن النبي صلى ال عليه وسلم أخذ برأي الكثرية في مسألة الخروج إلى
معركة أحد مع أنه كان يميل إلى عدم الخروج .والجواب أن النبي صلى ال عليه وسلم إنما
أخذ برأيهم لنه رأى ذلك ،ل لن الخذ برأي الكثرية ملزم ،وكلمنا في الزام الكثرية
لرئيس الدولة أو عدم الزامه.
العتراض الثاني :ما فائدة المشاورة إذا لم يلتزم رئيس الدولة برأي من يشاورهم أو برأي
أكثريتهم؟ والجواب ،فائدة المشاورة تظهر في ظهور الرأي الصواب والمظنون في رئيس
الدولة أن يأخذ بالصواب ،فإذا لم يؤخذ برأيهم فمعنى ذلك أنه لم يقتنع بما قيل ل لكونه يريد
العناد والخلف.
165
العتراض الثالث :أن ال تعالى أمر بالمشاورة وهذا المر يتضمن الخذ برأي من يشاورهم،
والجواب ،المشاورة غير التنفيذ ،وال تعالى أمر بالمشاورة ،وينقضي حق هذا المر باجراء
المشاورة فعل ،اما التنفيذ فشيء آخر ،وهو متروك لرئيس الدولة حسب ما يراه ،ما دام المر
اجتهاديا.
166
الحكام التشهير بهم أو تكبير سيئاتهم أو انتقاصهم أو تجريء الناس عليهم أو نحو ذلك من
المقاصد الباطلة التي ل يراد بها وجه ال ول الخير للمنصوح ول المصلحة للمة.
الثاني :أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكام على أساس من العلم والفقه ،فل يجوز
أن ينكر عليهم أو ينتقصهم في المور الجتهادية ،لن رأيه ليس أولى من رأيهم ما دام المر
اجتهاديا.
الثالث :ل يجوز للفراد احداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرأي إذا لم يأخذوا برأيهم ما دام
المر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم.
167
-158قلنا فيما مضى :إن المة مخاطبة بأحكام الشرع مكلفة بتنفيذها مثل أحكام العقوبات
والجهاد والحكم بين الناس بالعدل ونحو ذلك من الحكام الشرعية التي هي من الفروض في
السلم ،وانها تملك – بتمليك الشرع لها – السلطة لتنفيذ هذه الحكام وحمل الناس عليها.
وحيث إن تنفيذ هذه الحكام باستعمالها سلطتها ،ول يمكن أن يكون عن طريق جماعي .فقد
برزت قاعدة النيابة لتحقيق ذلك ،بأن تنيب المة واحدا عنها من يباشر سلطانها نيابة عنها
لتحقيق ما هي مكلفة به ،وهذا النائب هو الخليفة.
168
الجزئية في نطاق الجتهاد وقواعده وضوابطه ،ويلزم تنفيذ هذه الحكام الجتهادية السائغة،
ول يجوز للمة ول لهل الحل والعقد عصيان هذه الحكام ول التمرد عليها ما دام الخليفة قد
قرر تنفيذها ،ول يقبل منهم تبرير عصيانهم بمخالفة هذه الحكام لرائهم الجتهادية لن
الجتهاد ل ينقض بمثله كما يقول الفقهاء .إل أنه من المرغوب فيه جدا للخليفة بل قد يكون
من الواجب عليه أن يشاور أهل الشورى فيما يريد تشريعه من المور الجتهادية كما كان
يفعل المام عمر بن الخطاب ،ومن أمثلة ما فعله هذا المام الراشد تشاوره مع أهل الشورى
في مسألة تقسيم أراضي السواد في العراق أيقسمها على الفاتحين أم يبقيها بأيدي أصحابها
ويضرب على أراضيهم الخراج؟ ول شك أن الخليفة عندما يشاور أهل الشورى في هذه
المسائل قد يخرجون برأي واحد وقد يختلفون ،وعند الختلف يترك المر للخليفة ليختار
الرأي الذي يراه .والمأمول دائما أن الرأي الصواب فالراجح جدا أن الخليفة يقبله لنه ل
مصلحة له في مخالفة الصواب وهو المنصوب لتنفيذ أحكام الشرع وتحقيق مصالح المة ،وإذا
قدر أنه لم يقتنع بوجهات نظر الخرين الصائبة وأخذ بوجهة نظر خاطئة فهذا نادر ،ل غالب،
لن الغالب ما قلناه ،والعبرة للغالب الشائع ل للنادر...
169
-163وإذا تبين لنا أن الخليفة والمة خاضعون لسلطان السلم ،فإنّ معنى ذلك أن الدولة
السلمية يمكن وصفها بأنها "دولة قانونية" أو "دولة قانون" أي أنها تخضع في جميع
تصرفاتها وشؤونها ،كما يخضع جميع الفراد في جميع تصرفاتهم وعلقاتهم إلى القانون.
وأعنى القانون هنا ،بالنسبة للدولة السلمية القانون السلمي المتمثل بكتاب ال وسنة رسوله
وما قام عليهما من استنباط صحيح واجتهاد سائغ مقبول ..قال تعالى﴿ :اتبعوا ما أنزل اليكم
من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء﴿ ﴾...أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم﴾.
ويترتب على ذلك أن نظام الحكم السلمي ل يقوم على معنى باطل قد يتلبس الحكم أو يقارنه
أو يخالطه مثل الهوى والطغيان والتكبر في الرض وحب الفساد والتسلط على الخرين
وغمط حقوق الناس وتسخيرهم للشهوات ونحو ذلك من المعاني الفاسدة التي ل تنفك عنها نظم
الحكم الوضعية ،لن نظام الحكم السلمي خاضع للقانون السلمي المبرأ من هذه العيوب
والمفاسد .ومن مظاهر هذا الخضوع أن المة في اختيارها للخليفة أو أهل الشورى ،تختارهم
وفقا للموازين الشرعية ،بعيدة عن الهواء ،وهؤلء المنتخبون في مجلس الشورى يباشرون
حقهم في ابداء الرأي مستحضرين في قلوبهم مخافة ال ومراقبته فل يقولون إل ما يعتقدونه
الحق والصواب ول يألون جهدا في إرادة الخير للمة والنصح للخليفة ول يبغون من وراء
ذلك إل مرضاة ال ...وأفراد المة عندما ينتقدون أو يبدون آراءهم في تصرفات الخليفة
يفعلون ذلك وهم يشعرون بلزوم خضوعهم إلى شرع ال الذي يأمرهم بالعدل في القول
والصدق فيه وإرادة النصح الخالص في النقد أو العتراض .والخليفة في شؤون ومباشرته
سلطان الحكم إنما يستهدي بشرع ال ،فل يعطي ول يمنع ول يقدم ول يحجم إل ببرهان من
شرع ال ،وينفذ القانون السلمي بعدل ومساواة وجدية ،ل تمنعه من إقامة الشرع صداقة ول
قرابة ول أي معنى من المعاني التي ل يعترف بها الشرع في مجال التنفيذ ،لن تنفيذ القانون
السلمي من لوازم خضوعه له كما قلنا ،ول يعطل تنفيذه بحجة الرحمة المتوهمة ،فالرحمة
الحقة في تنفيذ القانون السلمي ل في تعطيله ،وقد نبهنا ال تعالى إلى هذا الجانب الضعيف
في النفس النسانية الذي يتسلل منه الشيطان ليمنع ولي المر من اقامة حدود ال ،قال
تعالى﴿ :الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ول تأخذكم بهما رأفة في دين
ال.﴾...
ن أي خلف
وإذا كانت الدولة السلمية دولة قانون ،وقانونها هو شرع ال – السلم – فإ ّ
ينشب يكون مرجعه إلى هذا الشرع ،ل إلى شيء غيره ،قال تعالى﴿ :فإن تنازعتم في شيء
فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر﴾ .والمحق من كان الحق بجانبه
ببرهان من الشرع ومن ثم تكون الدولة بجانبه وان كان ضعيفا ،والمبطل من لم يكن الحق
بجانبه ببرهان من الشرع ومن ثم تكون الدولة ضده وإن كان قويا.
170
ن معنى ذلك أن
-164وإذا كانت الدولة السلمية دولة قانونية ،خاضعة لسلطان السلم فإ ّ
الحكم الحقيقي والسلطان الحقيقي لمشرّع هذا السلم وهو ال جل جلله وصدق ال العظيم إذ
يقول ﴿إن الحكم إل ل﴾.
مقاصد الحكم
-166يقول الفقهاء في تعريفهم للمامة أي الخلفة "المامة موضوعة لخلفة النبوة في
حراسة الدين وسياسة الدنيا به"[.]50
فهذا التعريف يؤكد على وظائف الخلفة أي مقاصد الحكم ويجملها في مقصدين كبيرين
الول :حراسة الدين ،والثاني :سياسة الدنيا به.
فل بد من الكلم عن كل مقصد على حدة وبيان ما يندرج تحته من مقاصد فرعية.
171
الشبهة واظهار الصواب بالدليل والبرهان حتى يظهر الحق وتقوم الحجة ،فإن أصر المبطل
على باطله وسعى ِإلى نشره في الناس منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع .وقد أشار
الفقهاء إلى ما ذكرناه فقد قالوا :إن على المام "حفظ الدين على الصول التي أجمع عليها
سلف المة .فان زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب ،وأخذه بما يلزمه من
الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل والمة ممنوعة من الزلل"[.]51
-169ومن لوازم حفظ الدين "تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى ل تظهر
العداء بغرة ينتهكون فيها محرما ويسفكون فيها لمسلم أو معاهدا دما"[ .]52والحقيقة أن دفع
العداء عن دار السلم ضروري لحفظ الدين وبقائه لن استيلء الكفرة على دار السلم
ضياع للسلم وطمس لحقائقه وفتنة عظيمة للمسلمين وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له
وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع والتضليل .بل
نستطيع القول أن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلءه واظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى ل
يبقى للباطل حكم قائم ول راية مرفوعة ،وهذا ما أشار اليه الماوردي إذ يقول ،وهو يعدد
واجبات المام" ،والسادس جهاد من عاند السلم بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل الذمة ليقام
بحق ال تعالى في اظهاره على الدين كله"[.]53
-170ثانيا :تنفيذه
وأما تنفيذ الدين ،السلم ،وهو المظهر الثاني لحراسته ،فيتحقق في أمور منها :تطبيق أحكامه
في سائر معاملت الناس وعلقاتهم فيما بينهم ،وفي علقاتهم مع الدولة ،وفي علقة الدولة –
دار السلم – مع غيرها من الدول .ومنها :حمل الناس على الوقوف عند حدود ال والطاعة
لوامره وترغيبهم في ذلك ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية .ومنها إزالة المفاسد
والمنكرات من المجتمع كما يقضي به السلم ،إذ ل يمكن الدعاء بحفظ الدين مع ترك
المفاسد والمنكرات بل إنكار ول إزالة مع توفر القدرة على ذلك .وقد أشار القرآن الكريم إلى
هذا المقصد من مقاصد الحكم السلمي ،قال تعالى﴿ :الذين إن مكناهم في الرض أقاموا
الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور﴾.
172
الشرعية لمور الدنيا بالدين .ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم السلمي ويلتزم
بها الحاكم المسلم ،والتي أشار إليها الفقهاء ما يأتي:
أ) اقامة العدل بين الناس
-172أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين ،اللتزام التام بالعدل في إدارة شؤون الناس وعدم
الحيدة عنه مطلقا ،لنه هو الساس الذي ل قيام لدولة بدونه ول بقاء لمة بفقده ،ولهذا كان
من صفة عقد البيعة للمام أن يقال فيها "بايعناك بيعة رضى على إقامة العدل والنصاف
والقيام بفروض المامة"[.]54
والعدل يتضمن اعطاء كل انسان حقه وعدم ظلمه في شيء .فمن الظلم تكليفه بما ل يجب
عليه شرعا أو أخذ ماله بغير وجه حق أو منعه ما يستحق ،وهذا ما أشار إليه الفقهاء ،فالفقيه
الماوردي يقول – وهو يعدد واجبات المام – "وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع
نصا واجتهادا من غير عسف وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غيرسرف ول
تقصير فيه ودفعه في وقت ل تقديم فيه ول تأخير"[ .]55والعلمة ابن خلدون يوضح الظلم
الممنوع فيقول "ول تحسبن الظلم انما هو أخذ المال أوالملك من يد مالكه من غير عوض ول
سبب ،كما هو المشهور ،بل الظلم أعم من ذلك .وكل من أخذ ملك أحد ،أوغصبه في عمله
أوطالبه بغير حق ،أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه .فجباة الموال بغير حق،
والمنتهبون لها ظلمة ،والمانعون لحقوق الناس ظملة .ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب
العمران"[ .]56وعلى هذا يجب على الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم ،وأول
ما يلزمه في هذا الباب اختيار الموظفين الكفاء المناء ،والثاني مراقبتهم.
-173أما اختيار الموظفين الكفاء ،فهذا شيء ضروري ،لن الخليفة ل يمكنه أن يباشر
أمور الناس بنفسه لن ذلك فوق طاقته بل ويستحيل عليه حتى لو أراده .وإنما يباشر أمور
الناس بواسطة نوابه أي الموظفين الذين يختارهم ،فعليه أن يتخير الكفء المين .ومرد الكفاءة
إلى القدرة على ما يتوله ،ومرد المانة عدم التفريط بشؤون ما ولي عليه من أمور ،وقد أشار
القرآن الكريم إلى قانون تولي المور الواجب مراعاته من كل حاكم وولي أمر ،قال تعالى﴿ :
إن خير من استأجرت القوي المين﴾ .فإذا وفق الخليفة إلى حسن اختيار الموظفين الكفاء
المناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم ،وشعر الناس بالمن والمان
والطمئنان ،وانكمش أولو الطماع وأهل البغي ،ولم يستطع قوي أن يعتدي على ضعيف لن
الدولة أقوى منه ،ولم يخش الضعيف المحق من عدوان القوي لن الدولة مع المحق وإن كان
ضعيفا .وهذا كله يؤدي إلى كسب قلوب الناس وربطهم لنها في نظرهم كالبيت لهم
وكالحارس لحقوقهم .أما إذا عين الخليفة الموظفين العاجزين والفاسدين والخائنين ،فإنّ الناس
سيكتوون بنار فسادهم وخيانتهم ،ويقعون تحت ظلمهم وبغيهم ،مما يضعف صلتهم بالدولة
173
والولء لها ،ويزهدهم في الدفاع عنها" ،ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران" كما
قال ابن خلدون .ول يشفع للخليفة عند الناس كرهه لتصرفات ولته الظلمة الفاسدين ،لن
الناس يحملونه مسؤولية أعمالهم لنه هو الذي ولهم ،ولهذا كله يجب الهتمام الكامل باختيار
الموظفين الكفاء المناء وبدون ذلك يقع المحذور الذي أشرنا إليه ،ول يدفعه كون الخليفة
نفسه صالحا ،وقد أشار الفقهاء الى واجب الخليفة في اختيار الموظفين الكفاء ،فقال الفقيه
الماوردي عند تعداد واجبات المام "التاسع استكفاء المناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه اليهم
من العمال ويكله إليهم من الموال لتكون العمال بالكفاء مضبوطة والموال بالمناء
محفوظة"[.]57
-174ول يكفي أن يعين الخليفة الكفاء المناء ،بل عليه أيضا أن يراقبهم في أعمالهم فقد
"يخون المين ويغش الصالح" كما يقول الفقهاء .وحتى إذا استبعدنا خيانتهم وغشهم ،فل يمكننا
استبعاد خطئهم ،وظلم الناس خطأ كظلم الناس عمدا من جهة لحوق الضرر بالمظلوم وكرهه
للظلم ،فل بد من المراقبة المستمرة والمحاسبة الدائمة للموظفين حتى ل تقع خيانة ول غش،
ويقل الخطأ ويعرف الناس شدة حرص الخليفة على العدل ومنع الظلم ،ويخرج هو من عهدة
الخلفة ومسؤولية الحكم .وقد نبه الفقهاء رحمهم ال تعالى إلى هذا المعنى ،فقال الفقيه أبو
يعلى الحنبلي :على الخليفة "أن يباشر بنفسه مشارفة المور وتصفح الحوال ليهتم بسياسة
المة وحراسة الملة ،ول يعول على التفويض تشاغلً بلذة أوعبادة .فقد يخون المين ويغش
الناصح .وقد قال ال تعالى﴿ :يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق
ول تتبع الهوى﴾ فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة ،وقد قال النبي صلى ال
عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[.]58
ب) إشاعة المن والستقرار
-175ومن واجبات الخليفة المهمة ،ومن واجبات الحكام المسلمين جميعا إشاعة المن
والستقرار في دار السلم حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ويتنقلوا في
دار السلم آمنين مطمئنين .إن هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق القانون السلمي
الجنائي ،أي بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين في المن ،المعتدين على الناس ،بشرط
أن يكون التطبيق عادل وعلى الجميع بل محاباة ول تردد .فإذا ما طبقت الحكام الشرعية
على المعتدين ،أمن الناس وخاف المجرم ،وتحقق الطمئنان .وسنتكلم عن أهمية العقوبات
الشرعية وأثرها الفعال في منع الجرام وفي تحقيق المان للناس عند الكلم عن نظام الجرائم
والعقوبات وقد أشار الفقهاء إلى هذا المقصد قالوا :وعلى الخليفة "إقامة الحدود لتصان محارم
ال تعالى عن النتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلف واستهلك"[.]59
جـ) تهيئة ما يحتاجه الناس
174
-176ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين ،قيام الحكم السلمي بتهيئة ما يحتاجه الناس من
مختلف الصناعات والحرف والعلوم ،فهذه من فروض الكفاية التي يجب وجودها في المة
لسد حاجاتها ،وقد أشار الفقهاء إلى ذلك ،فقد قال العلمة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار"
على "الدر المختار" :ومن فروض الكفاية الصنائع المحتاج إليها[ .]60ومن الواضح أن
الصنائع المحتاج إليها تختلف باختلف العصور والزمان ،فما كان الناس يحتاجونه في
المس قد يحتاجون إلى غيره اليوم ،فعلى الحكم السلمي ملحظة ذلك وتهيئة وسائله.
ويترتب على اعتبار تحصيل الصناعات والحرف المحتاج إليها من فروض الكفايات لحوق
الثم بالمة وبالحكام إذا قصروا في تحصيلها ،وثبوت حق الحكام في اجبار أصحاب
الصناعات على القيام بها إذا امتنعوا عنها ،وهذا ما صرح به الفقهاء ،فقد قال الفقيه المشهور
ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية :إن لولي المر اجبار اصحاب الحرف والصناعات
على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عن القيام وكان في الناس حاجة إلى صناعاتهم[.]61
د) استثمار خيرات البلد
-177ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين ،استثمار خيرات البلد بما يحقق للرعية الرفاه
القتصادي والعيش الكريم ،وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب ،فقد قال الفقيه المشهور أبو
يوسف في كتابه القيم "الخراج" الذي وجهه إلى الخليفة هارون الرشيد :إن على الخليفة أن
يأمر بحفر النهار واجراء الماء فيها وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك وهذا نص كلمه:
"فإذا اجتمعوا – أي أهل الخبرة – على أن في ذلك – أي في حفر النهار – صلحا وزيادة
في الخراج أمرت بحفر تلك النهار وجعلت النفقة من بيت المال ،ول تحمل النفقة على أهل
البلد .وكل ما فيه مصلحة لهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا اصلح ذلك لهم أجيبوا
إليه ،إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم"[ ]62وما ذكره أبو يوسف رحمه ال من ضرورة حفر
النهار لرض الخراج[ ]63هو من قبيل التمثيل ل الحصر ،يدل على ذلك عبارته الخيرة
"وكل ما فيه مصلحة لهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلح ذلك لهم أجيبوا اليه"
كما يمكن القياس على ما ذكره أبو يوسف جميع العمال اللزمة لستغلل ثروات البلد
وخيراتها على وجه يعود بالنفع العميم على الجميع فهذه يجب القيام بها ،مثل تنظيم الري في
البلد وإقامة السدود وتحسين الزراعة واستخراج المعادن وإقامة المصانع وتعبيد الطرق التي
تسهل نقل المحاصيل ،وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين إلى غير ذلك من المور التي ل
يمكن حصرها وعدها وتختلف باختلف الزمان والمكان والظروف والحوال.
175
[ ]2السياسة الشرعية لبن تيمية ص .138
[ ]3منهاج السنة النبوية لبن تيمية ج 1ص .137
[ ]4السياسة الشرعية لبن تيمية ص .138
[ ]5أحكام القرآن للجصاص ج 2ص ،210وتفسير القرطبي ج 5ص .259
[ ]6الفروق للقرافي ج 1ص .208 – 207
[ ]7الحكام السلطانية للماوردي ص .3الحكام السلطانية لبن يعلى الحنبلي ص .3
[ ]8مقدمة ابن خلدون ص .191
[ ]9الملل والنحل لبن حزم ج 4ص .87
[ ]10فتاوى ابن تيمية ج 28ص ،65ومثل هذا ورد في كتابه السياسة الشرعية ص .129
[ ]11السياسة الشرعية لبن تيمية ص .139
[ ]12المغني لبن قدامة الحنبلي ج 8ص .17
[ ]13الحكام السلطانية للماوردي ص .29
[ ]14تفسير الرازي ج 27ص .177
[ ]15مقدمة ابن خلدون ص ،193وانظر الماوردي ص .4
[ ]16الحكام السلطانية للماوردي ص ،4وأبو يعلى الحنبلي ص .4-3
[ ]17تفسير المنار ج 5ص .181
[ ]18من شروط العدالة السلم ،فيشترط أن يكون الشخص مسلما.
[ ]19الماوردي ص ،4وأبو يعلى ص .7
[ ]20أبو يعلى ص .9
[ ]21أبو يعلى ص .9
[ ]22منهاج السنة لبن تيمية ج 1ص .143-140
[ ]23الملل والنحل لبن حزم ج 4ص .169
[ ]24تيسير الوصول ج 2ص .36
[ ]25الماوردي ص ،4وأبو يعلى ص ،4ومقدمة ابن خلدون ص .193
[ ]26الملل والنحل لبن حزم ،والماوردي ص ،4وأبو يعلى ص .4
[ ]27مقدمة ابن خلدون ص .195
[ ]28مقدمة ابن خلدون ص ،198ويلحظ هنا أن العصبية التي يتكلم عنها ابن خلدون ليست
هي العصبية الجاهلية ،وانما يعني بها ارتباط القوم بسبب النسب أو غيره وهذا الرتباط
يجعلهم متعاونين أولي قوة ل يستطيع غيرهم منازعتهم في المر.
[ ]29الملل والنحل لبن حزم ج 4ص .102
176
[ ]30المواقف لليجي وشرحه نقل عن كتاب النظريات السياسية السلمية للستاذ ضياء
الدين الريس ص .270
[ ]31أبو يعلى ص .605
[ ]32فتاوى ابن تيمية ج 28ص .129
[ ]33السياسة الشرعية لبن تيمية ص .169
[ ]34تفسير الطبري ج 4ص .94
[ ]35تفسير الرازي ج 9ص .66
[ ]36امتاع السماع للمقريزي ص ،219وتفسير الرازي ج 9ص .67
[ ]37السياسة الشرعية لبن تيمية ص .169
[ ]38تفسير القرطبي ج 4ص .249
[ ]39أحكام القرآن للجصاص ج 2ص .40
[ ]40امتاع السماع للمقريزي ص .116
[ ]41امتاع السماع ص .429
[ ]42امتاع السماع ص .236
[ ]43تفسير القرطبي ج 4ص .250 – 249
[ ]44تفسير الطبري ج 5ص ،87تفسير القرطبي ج 5ص ،261تفسير الجصاص ج 2
ص .212
[ ]45السياسة الشرعية لبن تيمية ص .170
[ ]46تفسير القرطبي ج 4ص .257
[ ]47أبو بكر الصديق ،تأليف الستاذ علي الطنطاوي ص .163 – 162
[ ]48المرجع السابق.
[ ]49الطبقات الكبرى لبن سعد ج 3ص .183
[ ]50الماوردي ص ،3وابن خلدون في مقدمته ،ذكر هذا التعريف أيضا.
[ ]51أبو يعلى الحنبلي ص .11
[ ]52الماوردي ص .14
[ ]53الماوردي ص :14وسنزيد هذه النقطة توضيحا عند الكلم عن نظام الجهاد.
[ ]54أبو يعلى ص .9
[ ]55الماوردي ص .12
[ ]56مقدمة ابن خلدون ص .223
[ ]57الماوردي ص .14
177
[ ]58أبو يعلى الحنبلي ص .12
[ ]59الماوردي ص .14
[ ]60ابن عابدين ج 3ص .32
[ ]61الطرق الحكمية لبن القيم ص .222
[ ]62الخراج لبي يوسف ص .110
[ ]63أرض الخراج ،هي الراضي التي فتحها المسلمون ،مثل أرض العراق وتركوها بيد
أهلها على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة تسمى "الخراج".
النظام القتِصَادي
تمهيد
-379من الحقائق الثاب تة أن الن سان يبذل كثيرا من نشاطـه وجهده للح صول على و سائل
العيش من طعام ولباس وسكن وغير ذلك من المور الضرورية وغير الضرورية .ول شك
أن هذا الجهد المبذول من كل انسان ضروري لتوفير وسائل العيش للخرين لن النسان ل
ي ستطيع بمفرده توف ير جم يع ما يحتا جه لنف سه .إنّ نشاط الن سان في هذا المجال و ما يتر تب
عليه هو الذي يسمى بالنشاط القتصادي .ولما كان الن سان يعيش في المجتمع فل يمك نه أن
يتمتع بحرية مطلقة فيما يباشره من نشاط ومنه النشاط القتصادي ،بل ل بد من تنظيمه على
نحـو يرتضيـه المجتمـع ويحقـق الخيـر له وللفرد .والقواعـد والحكام التـي تنظـم النشاط
ل التي تكوّن النظام القتصادي فيه .وهذا النظام – على
القتصادي للفراد في مجتمع ماهي إ ّ
أي نحو كان – ل بد له من أساس يقوم عليه وأفكار معينة تشيع فيه تكوّن معالمه وخصائصه
وتنسجم أحكامه وقواعده مع هذه المعالم والخصائص ومع ذلك الساس الذي يقوم عليه.
-380ول ما كان الشمول من خ صائص ال سلم ،ف من البدي هي أن ن جد في ال سلم تنظيما
للنشاط القت صادي للن سان ب ما وض عه له من قوا عد وأحكام في ضوء أفكاره .وهذه القوا عد
والحكام وما قامت عليه من أساس تكوّن النظام القتصادي السلمي.
-381ويقوم نظام السـلم فـي القتصـاد على أسـاس العقيدة السـلمية ويتفرع منهـا .فهذه
العقيدة إذن هي أ ساسه الفكري ،وهويرا عي الفطرة الن سانية ومعا ني الخلق الفاضلة ويؤ كد
على ضرورة سـد حاجات الفراد اللزمـة للعيـش ،وهذه هـي خصـائصه .وبناء على أسـاسه
وخصـائصه تنبثـق جملة مبادئ عامـة وتنظيمات جزئيـة ،كمـا أنـه يحدد موارد بيـت المال
ومصـارفه لتسـتطيع الدولة توفيـر حاجات الفراد ومصـلحة المجتمـع .وعلى هذا سـنتكلم عـن
178
أساسه الفكري وخصائصه في مطلب أول ،ثم عن مبادئه العامة في مطلب ثان ،ثم عن بيت
المال في مطلب ثالث.
179
-385ثانيا :المال مال ال :والمال – وهو ما يتموله الناس وي ستفيدون م نه ويم كن إحرازه –
هو من جملة ما في الكون ،ف هو إذن ل وحده وان ال تعالى هو مال كه الحقي قي ،قال تعالى:
{وآتوهم من مال ال الذي آتاكم}.
-386ثالثا :تسخير ال تعالى مخلوقاته لنفع النسان :ال تعالى بمحض فضله سخر للنسان
ما خلقه في السموات والرض لينتفع به ،وهيأ له سبل هذا النتفاع بما أودعه في النسان من
عقـل وجوارح يسـتطيع بهـا الهتداء إلى سـبل النتفاع بمـا خلقـه ال تعالى .قال ربنـا تبارك
وتعالى{ :وسخر لكم ما في السموات وما في الرض جميعا منه}{ ،ألم تروا أن ال سخر لكم
ما في ال سموات و ما في الرض وأ سبغ علي كم نع مه ظاهرة وباط نة} وقال تعالى ممتنا على
النسان بما أودعه فيه مما يستطيع به الهتداء إلى سبل النتفاع بما خلقه ال له {قل هو الذي
أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليلً ما تشكرون}.
-387رابعا :الملك المجازي للن سان :و مع أن الملك الحقي قي هو ل رب العالم ين ،ف قد اذن
ال تعالى – بمحـض فضله – للنسـان أن يختـص بالنتفاع بالمال والتصـرف فيـه واضافتـه
وتسـميته مالكا له .قال ربنـا تبارك وتعالى{ :ول تأكلوا أموالكـم بينكـم بالباطـل وتدلوا بهـا إلى
الحكام لتأكلوا فريقا مـن أموال الناس بالثـم وأنتـم تعلمون}{ ،واعلموا أنمـا أموالكـم وأولدكـم
فتنة}{ ،الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} .فهذه اليات الكريمة تضيف المال للنسان اضافة
ملك واخت صاص .و في الحد يث الشر يف "ل ي حل مال امرئ م سلم إل بط يب من نف سه" فهذا
الحديث الشريف يضيف المال للنسان على وجه الملك له ومع هذا فإن الملك الحقيقي يبقى ل
رب العالم ين ل نه ي ستحيل أن يشار كه أ حد في ملك ش يء من الكون فضل عن أن ي ستأثر
لوحده بملك شيء .ومعنى ذلك أن اضافة الملك للنسان ،هي من قبيل المجاز ل الحقيقة وان
الن سان في ما يمل كه كالوك يل ف يه عن مال كه الحقي قي .ويتر تب على ذلك أن على الن سان أن
يخ ضع في ما يمل كه إلى جم يع القيود والتنظيمات ال تي شرع ها المالك الحقي قي و هو ال تعالى،
وانـه ل يجوز للنسـان أبدا أن يخرج عـن هذه القيود ،فإن خرج عنهـا كان عاصـيا لمـر ال
وا ستحق العقاب المقرر فـي الشرع ،وقـد ينزع م نه الملك نهائيا أو مؤقتا ،كليا أو جزئيا .و قد
أدرك فقهاؤنا رحمهم ال تعالى هذه المعاني وأشاروا اليها ،فقد قال المام القرطبي في تفسيره،
وهو يفسر قوله تعالى{ :وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} قال رحمه ال .وفي هذا دليل على
أن أصـل الملك ل سـبحانه ،وأن العبـد ليـس له فيـه إل التصـرف الذي يرضـي ال ...ثـم قال
رحمـه ال تعالى :وهذا دليـل على أن الموال ليسـت أموالكـم فـي الحقيقـة ،ومـا أنتـم فيهـا إل
بمنزلة النواب والوكلء فاغتنموا الفر صة في ها ق بل أن تزال عن كم الى من بعد كم[ .]1أن ف قه
هذه الحقيقة تجعل المسلم مندفعا الى تنفيذ شرع ال في المال الذي آل ليه ،فل يبخل به حيث
180
ي جب عل يه بذله ،ل نه وك يل عل يه ول يس بمالك حقي قي له ،والشأن في الوك يل تنف يذ ما يريده
الموكل فيما وكله فيه..
-388خامسا :استعمال المال في مرضاة ال :وكل ما يؤتاه المسلم من مال يجب أن يستعمله
في مرضاة ال ،لتحقيق الغاية التي خلق من أجلها وهي عبادة ال تعالى ليظفر بالحياة الطيبة
في الخرى قال تعالى{ :واب تغ في ما آتاك ال الدار الخرة ول ت نس ن صيبك من الدن يا} .ول كن
هذا ل يعني حرمان نفسه من طيبات الدنيا ول ارهاق جسده بحرمانه مما يحتاج إليه .قال ربنا
{قل من حرم زينة ال التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}.
-389سادسا :الدنيا وسيلة ل غاية :والدنيا بكل ما فيها من متاع وأموال ليست هي الغاية
للنسان وانما هي وسيلة الى الغاية التي خلق من أجلها وهي اعداد نفسه للدار الخرة بعبادة
ر به ،فل يجوز أن ين سى هذه الغا ية إذا ظ فر بو سائل الدن يا ومتاع ها ،ول يج عل الدن يا أو شيئا
منها هي غايته .ان الحذاء وظيفته أن يضع النسان قدمه فيه ،وإن الدابة وظيفتها أن يركبها
النسـان ليبلغ المكان الذي يريده ،فل يجوز فـي فقـه السـلم ول فـي ادراك العقـل السـليم أن
يكون القصد من اقتناء الحذاء غاية في نفسه ول الحصول على الدابة غاية في نفسها ،وهكذا
متاع الدن يا يم يل ال يه الم سلم كو سيلة ف قط ت سهل له بلوغ الغا ية ال تي خلق من أجل ها ،وا نه
سيفارق هذه الوسائل قطعا ول يبقى له إل ما استفاده منها في عبادة ربه ومرضاته .ان ادراك
هذه المعا ني وا ستحضارها في الذ هن من المور الضرور ية لض بط النشاط القت صادي على
النحو الذي يريده السلم ،لن الضوابط الحقيقية لنشاط النسان هي التي تضبطه من داخله،
تضبـط ارادتـه وقصـده ونظرتـه وميله ،فاذا انضبـط الداخـل سـهل ضبـط الخارج أي النشاط
الخارجي للنسان ،وقد أشار القرآن الكريم الى هذه المعاني جميعا في آيات كثيرة ،منها:
{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند ال خير وأبقى أفل تعقلون}.
{إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل}.
{المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أمل}.
-390قلنا فيما سبق :إن خصائص النظام القتصادي في السلم مراعاته للفطرة النسانية
ومعاني الخلق الفاضلة وتأكيده على سد حاجات النسان الضرورية للحياة .ونذكر فيما يلي
شيئا عن كل خصيصة بإيجاز.
أولً :مراعاة الفطرة النسانية
181
-391فطـر ال النسـان على جملة غرائز وميول ورغبات ل يمكـن قلعهـا واسـتئصالها أبدا
وان كان يمكن تقويمها وتهذيبها إذا ما انحرفت أو تكدرت .وعلى هذا فأي نظام يصادم الفطرة
النسـانية ويناقض ها ل يم كن أن يأتـي بخيـر ول تتيسـر له فرص البقاء .ونظام القت صاد في
السلم راعى جانب الفطرة النسانية لن السلم هو دين الفطرة ،ومن مظاهر هذه المراعاة
إقراره بحـق الملكيـة للنسـان لنـه مفطور على ذلك ،وقـد أشار القرآن الكريـم إلى ذلك ،قال
تعالى{ :وتحبون المال حبا جما} وإقراره نظام الرث لن النسـان مفطور على حبـه لبنائه،
وقلقه عليهم اذا تركهم بدون مال ،ومن ثم أقر السلم نظام الرث لنه ينسجم ويتفق مع هذه
الفطرة .و قد أشار القرآن الكر يم الى نوازع فطرة الن سان ن حو أبنائه وشفق ته علي هم واهتما مه
بهم وخوفه عليهم بعد موته ،قال تعالى{ :وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا
عليهـم فليتقوا ال وليقولوا قولً سـديدا} وقال تعالى{ :أيود أحدكـم أن تكون له جنـة مـن نخيـل
وأعناب تجري مـن تحتهـا النهار له فيهـا مـن كـل الثمرات وأصـابه الكـبر وله ذريـة ضعفاء
فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ،كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تتفكرون} .كما أن السلم
في نظامه القتصادي أقر للنسان بالتمتع بثمرات جهوده ونشاطه ،لن هذا مما يتفق وما فطر
عليه كل إنسان ،بل أن في أصل غريزة النسان رفضه أن يشاركه الغير في ثمرات جهوده،
وانما قد يرضى بهذه المشاركة لمعنى آخر كالحصول على ثواب ال تعالى ،وقد أشار القرآن
الكر يم إلى هذه الغريزة الن سانية ،قال تعالى{ :وال ف ضل بعض كم على ب عض في الرزق ف ما
الذ ين فضلوا برادي رزق هم على ما مل كت أيمان هم ف هم ف يه سواء أفبنع مة ال يجحدون} قال
القرطبي في تفسير هذه الية :أي جعل ال منكم غنيا وفقيرا فما الذين فضلوا بالرزق برادي
م ما رزقوا شيئا على رقيق هم ح تى ي ستوي المملوك والمالك في المال[ .]2و في آ ية أخرى قال
تعالى{ :ضرب لكم مثل من أنفسكم هل لكم مما ملكت ايمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم
ف يه سواء }...ويقول القر طبي في تف سير هذه ال ية :من أنف سكم " :من" ه نا للبتداء كأ نه قال:
أ خذ مثل وانتز عه من أقرب ش يء من كم و هي أنف سكم .الى أن قال المام القر طبي ،والمع نى:
هل ير ضى أحد كم أن يكون مملو كه في ماله ونف سه مثله ،فإذا لم ترضوا بهذا لنف سكم فك يف
جعلتم ل شركاء[.]3
وعلى أساس مراعاة الفطرة النسانية قامت جملة مبادئ عامة في النظام القتصادي السلمي
سنذكرها فيما بعد .ولكن مراعاة الفطرة النسانية ل يعني السير وراءها كيفما سارت والى أية
جهـة اتجهـت ،لن مراعاتهـا ل تقتضـي ول تسـتلزم هذه التبعيـة العمياء ،وانمـا تعنـي مراعاة
أصلها مع تهذيب لها ورقابة عليها إذا ما انحرفت أو تكدرت.
ثانيا :مراعاة معاني الخلق
182
-392ويراعـي النظام القتصـادي معانـي الخلق الفاضلة فل يجوز لنسـان أن يهدر هذه
المعاني أو يتخطى حدودها في أي جانب من جوانب نشاطه القتصادي لن المجتمع السلمي
يقوم على معانـي الخلق كالمحبـة والتعاون النظيـف قال تعالى{ :وتعاونوا علىالبر والتقوى
ول تعاونوا علىال ثم والعدوان} فل ح سد ول خ صام ول ح قد ول بغضاء ول كذب ول غش
ول خداع ول غدر ،واذا ما صار في يد الن سان مال لم ي جز أن ينف قه في الف حش والرذيلة
ومتـع الجسـد المحرمـة ،بـل عليـه أن ينفقـه فـي السـبل الحلل وتنفيـس الكرب عـن المكروب
والمحتاجين .وإذا أراد أن ينمي النسان أمواله فل يجوز له أن ينميها بما يفسد الخلق ويقطع
روابـط المودة بيـن أبناء المجتمـع كفتـح حانات الخمور والفحـش والقراض بالربـا .وهذه
المراعاة لمعانـي الخلق منهـا مـا هـو متروك ليمان النسـان ووجدانـه كاللتزام بالصـدق
والوفاء ،ومنها ما تتدخل الدولة في الزام الفراد به واجبارهم عليه مثل منعهم من الربا وفتح
محلت الفحش والخمور.
ثالثا :التأكيد على سد حاجات الفراد
-393للنسان حاجات مادية ضرورية ل يمكنه العيش بدونها كحاجته الى الطعام والشراب
وال سكن واللباس و ما يل حق بهذه الشياء وينزل منزلت ها .ول بد من توف ير هذه الشياء ل كل
ان سان الى ال حد الد نى للع يش الكر يم .و قد أ كد النظام القت صادي ال سلمي على هذه الناح ية
أي لزوم سد هذه الحاجات الضرورية لكل انسان في المجتمع السلمي .وقد قرر لتحقيق هذا
المطلب وسائل متعددة ومتدر جة إن لم تف الواحدة من ها و جب ال خذ بالتي تلي ها ح تى يتح قق
المقصود ويجد كل فرد كفايته في المجتمع السلمي .وهذه الوسائل هي:
-394أولًَ :ال صل أن كل ان سان مكلف ب سد حاجا ته بنف سه أي ب ما يبذله من ج هد ونشاط،
ولهذا حث السلم على العمل والكت ساب ،ومدح العامل ين الكا سبين ،قال تعالى{ :فإذا قض يت
الصلة فانتشروا في الرض وابتغوا من فضل ال} .وفي الحديث الشريف "أن أفضل الكسب
كسب الرجل من يده".
-395ثانيا :على الدولة أن تهيئ سبل العمل للقادرين عليه حتى ولو اقتضى المر اقراضهم
من بيت المال ما يستطيعون به العمل والكتساب ،وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف رحمه ال
الى جواز اقراض المحتاج مـن بيـت المال فقـد قال الفقيـه ابـن عابديـن رحمـه ال :وعـن أبـي
يوسف :يدفع للعاجز – أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجية لفقره – كفايته من بيت المال
قرضا ليعمل ويستغل أرضه[.]4
ويقاس على ما ذكره أبو يوسف اقراض المحتاجين – من غير أصحاب الراضي الخراجية –
من بيت المال ليستعينوا بذلك على الكسب الحلل.
183
-396ثالثا :إذا عجـز الفرد عـن سـد حاجاتـه بنفسـه لعجزه أو شيخوختـه أو مرضـه أو عدم
تي سر الع مل له مع قدر ته عل يه ،و جب على أفراد أ سرته القيام بالنفاق عل يه ح سب القوا عد
المقررة في الفقه السلمي في باب النفقات الشرعية لفراد السرة.
-397رابعا :إذا لم يجـد العاجـز الفقيـر مـن ينفـق عليـه مـن أفراد أسـرته لعدم وجودهـم أو
لفقرهم وجب اعطاؤه ما يكفيه من الزكاة وهي حق الفقراء في أموال الغنياء ،وحصيلة الزكاة
من أوسع أبواب الضمان الجتماعي العام للفقراء والمحتاجين.
-398خامسا :إذا لم تكف الزكاة وجب سد حاجات المحتاجين من موارد بيت المال الخرى
التي سنذكرها فيما بعد.
-399سادسا :إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد حاجات المحتاجين وجب على الغنياء سد
حاجات الفقراء ،و في هذا يقول الفق يه المعروف ا بن حزم "وفرض على الغنياء من أ هل كل
بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك ان لم تقم الزكاة بهم ،فيقام لهم بما يأكلون
من القوت الذي ل بد م نه ،ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبم سكن يكنهم من الم طر
والصيف والشمس وعيون المارة"[ .]5ويؤيد ما ذهب اليه ابن حزم ان الزكاة ليست هي الحق
الوحيد في أموال الغنياء للفقراء ،فقد روي عن السيدة عائشة ام المؤمنين وابن عمر رضي
ال عن هم وغيره ما من ال صحابة الكرام أن هم قالوا" :إن في المال حقا سوى الزكاة"[ ،]6و قد
ذ كر القر طبي والرازي في قوله تعالى{ :ل يس البر أن تولوا وجوه كم ق بل المشرق والمغرب
ول كن البر من آ من بال واليوم ال خر والملئ كة والكتاب وال نبيين وآ تى المال على ح به ذوي
القربـى واليتامـى والمسـاكين }...قال :إن اليتاء هنـا غيـر الزكاة وإنـه مـن الواجبات ل
ـم قال
ـر .ثـ
ـا اطعام المضطـ
ـض المثلة منهـ
التطوعات ،وضرب الرازي لهذه الواجبات بعـ
القرطبي "واتفق العلماء على أنه اذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف
المال اليها .قال مالك رحمه ال :يجب على الناس فداء أسراهم وان استغرق ذلك أموالهم وهذا
اجماع أيضا"[.]7
-400وعلى هذا نرى جواز قيام ولي ال مر الم سلم بتنظ يم جبا ية المال اللزم من الغنياء
بفرض الضرائب العادلة في أموال هم بقدر ما ي سد حاجات المحتاج ين ويم كن الدولة ال سلمية
من القيام بالوجائب المفرو ضة على الم سلمين وال تي تقوم ب ها الدولة نيا بة عن هم م ثل تح صين
الثغور واعداد ال سلح للدفاع عن دار ال سلم وهذا كله اذا لم يو جد في ب يت المال ما يك في
للقيام بمـا ذكرنـا مـن سـد حاجات الفقراء وحاجات الدولة الضروريـة .يؤيـد مـا نقول الحديـث
الشريف "كلكم راع ومسؤول عن رعيته ،فالمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم...
الخ" ويقول المام النووي فـي شرح هذا الحديـث" :قال العلماء :الراعـي هـو الحافـظ المؤتمـن
الملتزم صلح ما قام عل يه و ما هو ت حت نظره .فف يه أن كل من كان ت حت نظره ش يء ف هو
184
مطالب بالعدل فيـه والقيام بمصـالحه فـي دينـه ودنياه ومتعلقاتـه"[ .]8والواقـع أن المأمول مـن
أغنياء المسلمين المسارعة الى النفاق على الفقراء والمحتاجين ومساعدة الدولة بأموالهم لتقوم
بما هو ضروري لبقائها إذا لم يوجد في بيت المال ما يك في لذلك ،لن السلم مدح المنفقين
أموال هم في سبيل ال في آيات كثيرة في القرآن الكر يم وذم الب خل والبخلء وحذر من ال شح
وكل هذا يدفع المسلم الى النفاق وال سخاء ،وكذلك فعلت السنة النبوية في الحث على النفاق
في سبيل ال وتعددت الوصايا والوامر في ذلك ،ويكفينا هنا أن نذكر الحديث الذي رواه أبو
سعيد الخدري رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال :قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم" :من كان معه فضل ظهر فليعد به على من ل ظهر له ،ومن كان له فضل من
زاد فليعد به على من ل زاد له .قال :فذكر رسول ال صلى ال عليه وسلم من أصناف المال
ما ذكر حتى رأينا أن ل حق لحد منا في فضل"[ .]9فاذا لم يندفع الغنياء من تلقاء أنفسهم
بالنفاق المطلوب من هم جاز لولي ال مر أن يحمل هم عل يه بتنظ يم الضرائب العادلة في أموال هم
بقدر ما يكفي لسد حاجات الدولة والمحتاجين على النحو الذي ذكرناه.
-401في النظام القتصادي السلمي جملة مبادئ عامة تقوم على أساس العقيدة السلمية
والفطرة النسانية والمصلحة العامة .وعن هذه المبادئ تتفرع جزئيات كثيرة تنظيمات مختلفة.
ونذكر من هذه المبادئ العامة حرية العمل ،وحق الملكية ،وحق الرث.
-402ي حث ال سلم على الع مل ويكره الع جز والك سل .وأشرف العمال وأعظم ها قدرا ما
يقرب مـن ال تعالى كالعبادات الخالصـة كالصـلة ،والعمال المباحـة إذا اقترنـت بهـا النيـة
الصالحة كالزراعة والصناعة ونحو ذلك .وفي باب الكسب والنشاط القتصادي يحث السلم
على الع مل ويبارك العا مل ويث ني على جهده وك سبه الحلل ،قال تعالى{ :فإذا قض يت ال صلة
فانتشروا في الرض وابتغوا من فضل ال}.
وقال تعالى{ :هـو الذي جعـل لكـم الرض ذلول فامشوا فـي مناكبهـا وكلوا مـن رزقـه وإليـه
النشور} .وفي الحديث الشريف "ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده" .وفي
حد يث آ خر " من بات كال في طلب الحلل بات مغفورا له" .وال حث على الع مل وبذل النشاط
القتصـادي جاء عاما مطلقا غيـر مقصـور على نوع معيـن وغيـر مقيـد بشيـء سـوى الحـل
الشرعـي .وعلى هذا فإنـه يشمـل جميـع أنواع النشاط القتصـادي ومختلف أنواع المعاملت
185
والمكاسب مثل التجارة والزراعة والصناعة والشركة والمضاربة والجارة وسائر ما يباشره
النسان من أوجه العمل والنشاط القتصادي لغرض الكسب الحلل .ول تنقص فيمة النسان
فـي نظـر السـلم بمباشرة أي عمـل حلل وان عدّه الناس عمل بسـيطا أو حقيرا ،لن قيمـة
النسان في نظر السلم في دينه وتقواه ل في ماله وغناه ول في عمله ومهنته ،ولهذا وجدنا
أكابر المـة مـن علمائهـا وفقهائهـا يمتهنون مختلف المهـن الحرة المباحـة كمـا وجدنـا بعـض
الصحابة الكرام يؤجرون أنفسهم لغيرهم للقيام ببعض العمال المباحة الحلل لقاء أجر معلوم.
-403و من و سائل ال حث على الع مل والك سب غ ير المباشرة أن ال سلم حث على اعا نة
الفقير وجعل المعين خيرا من المعان من ج هة نوال الجر والثواب ،ف في الحد يث "ال يد العليا
خ ير من اليد ال سفلى" كما أن في الزكاة وال حج وصنوف البر المختل فة والنفاق في سبيل ال
ثوابا عظيما ،ول يتأ تى هذا الثواب إل بالقيام بأ سبابه من حج وزكاة وغير ها ،وهذه ل تتأ تى
إل بوجود المال ع ند الم سلم ،وال صل في تح صيل المال الع مل وبذل الج هد ،و من ه نا صار
العمـل وسـيلة للحصـول على ثواب ال تعالى لنـه وسـيلة لتحصـيل المال ،وبذل المال وسـيلة
لمرضاة ال ونوال ثوا به ،ولهذا جاء في الحد يث الشر يف "ن عم المال ال صالح للر جل ال صالح"
لن العبد الصالح ينفق المال الحلل الذي صار في يده في السبل المرضية عند ال فينال ثوابه
ورضوانه.
-404واختيار العمل المناسب للفرد متروك له ولتقديره ،بمعنى أن السلم يمنح الفرد حرية
العمل أي الحرية القتصادية ،فله أن يباشر ما يشاء من أوجه النشاط القتصادي دون اكراه أو
اجبار أو منـع ،وليـس فـي نصـوص الشريعـة مـا يدل على خلف هذا الصـل :الحريـة
القتصادية ،أو حرية العمل للفراد .والحقيقة أن تقرير هذا المبدأ يقوم على أساس من فطرة
النسـان ،وحفـظ كرامتـه وآدميتـه ،ومسـؤوليته الفرديـة بمـا يصـدر عنـه ،وملحظـة مصـلحة
الجما عة ،وبيان ذلك أن فطرة كل ان سان نزوع الى الحر ية في روا حه ومجيئه و في ما يأ خذ
ويترك ،فل يصح اهدار هذا الميل الفطري السليم الذي يحس به حتى الحيوان العجم .نعم قد
تنحرف الفطرة فيختار الفرد ما ي ضر ول ين فع و ما يحرم ول ي حل فتحتاج في هذه الحالة الى
التقو يم والتقي يد لتعود حريت ها في دائرة الحلل الوا سعة الف سيحة .وأيضا فان في إقرار حر ية
العمـل للنسـان حفظا أكيدا لكرامتـه آدميتـه لن النسـان حـر مختار يمتاز عـن الحيوان فـي
اختياره فل يجوز أن يسوى بالحيوان الذي يسيره قائده كيفما يشاء .فل يجوز اذن تقييد حريته
في مجال العمل والنشاط القتصادي وغل يده عما يهوى ويريد بل ضرورة تقضي بذلك ،لن
فـي هذا التقييـد اهدارا لدميتـه ،وهذا المعنـى ملحوظ لدى فقهائنـا العظام ،حتـى ان المام أبـا
حنيفة رحمه ال تعالى لم يجز الحجر على السفيه بحجة أن في هذا الحجر اهدارا لدميته وهو
أشـد ضررا على السـفيه مـن ضياع ماله .ول يصـح القول هنـا بأن مـن المصـلحة للفرد
186
وللمجموع تقييد حرية الفرد واعطاء الدولة الحق في تعيين العمال لجميع الفراد ،ل يقال هذا
القول لن الن سان ل يحتاج ف قط الى خ بز يأكله ويمل به معد ته وإن ما يحتاج أيضا الى ن سيم
الحر ية يمل به رو حه ووجدا نه وكيا نه الن ساني ،و من ثم ل بد من تقر ير مبدأ حر ية الع مل
للنسان وجعله هو الصل والساس والتقييّد هو الستثناء الذي ل يجوز إل عند الضرورة.
وفـي حريـة العمـل أيضا انماء لمواهـب النسـان وكفاءتـه وقدرتـه لن كـل انسـان يختار مـن
العمال مـا يرغـب فيـه ويناسـب ميوله وقدرتـه ،فيندفـع نحوه بشوق ورغبـة ،فيكثـر انتاجـه
ويبارك في عمله وفي هذا خير عميم للمجتمع الذي يعيش فيه .وهذا بخلف سلب الفرد حريته
في العمل وتسليط الدولة عليه لتختار هي العمل له ،فان هذا التجاه ل يوفر للفراد ما يناسبهم
من أعمال فتموت مواهبهم ويقل نشاطهم ويقبلون على العمل متضجرين كارهين فتقل ثمرات
أعمال هم وي قل البداع في ها ،ويعود ضرر ذلك علي هم وعلى المجت مع .وأخيرا فان الن سان في
ال سلم م سؤول م سؤولية كاملة عن أعماله و عن اختياره وتر كه ،ف من العدل اعطاؤه الحر ية
الكافية لختيار العمل الذي يريده.
و مع هذا الذي قلناه ،يم كن ع ند الضرورة ،وح يث يكون ا ستعمال الناس لحريت هم القت صادية
مضرا للمجموع ،أو يكون وراء هذه الحريـة سـوء قصـد وارادة الشـر بالجماعـة ،ففـي هذه
الحالت وأمثالهـا يكون لولي المـر الحـق فـي التدخـل فـي حريـة الفراد والزامهـم بمـا يدفـع
الضرر عن الناس ،وعلى هذا ال ساس قال ب عض الفقهاء بجواز ت سعير المواد الضرور ية إذا
امت نع التجار عن بيع ها بقيمت ها المعتادة ،وح مل أرباب ال صناعات والحرف على الع مل بأ جر
المثل إذا امتنعوا عن العمل وكان في الناس حاجة لصناعاتهم وأعمالهم"[.]10
-405ومـن النتائج الحتميـة لتقريـر مبدأ حريـة العمـل للفراد ،اقرار المنافسـة الحرة بيـن
الفراد في مجال النشاط القت صادي في اطار من الخلق ال سلمية الفاضلة ،فل كل فرد أن
يضاعف نشاطه أو جهده ليبز غيره في مجال عمله ،بشرط مراعاة معاني الخلق ،فل يجوز
الغش والخداع والخصام وتنزيل السعار الى حد الخ سارة بح جة المناف سة الحرة بينما القصد
منها الضرار بالخرين واحتكار البيع في السوق من قبل فرد أو زمرة قليلة تتواطأ على هذا
التنزيل والضرار بالناس.
-406ومن النتائج أيضا لتقرير مبدأ حرية العمل التفاوت في الرباح وثمرات العمال نظرا
لختلف المواهب والكفاءات ومقدار الجهد المبذول .والسلم يقر هذا التفاوت الطبيعي ما دام
ناتجا عن أسباب مباحة مشروعة لنه نتيجة لزمة لختلف الناس في مقدار ذكائهم ومعرفتهم
ومواهبهم ،قال تعالى{ :نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض
درجات ليت خذ بعض هم بعضا سخريا ورح مة ر بك خ ير م ما يجمعون} فال تعالى فا ضل ب ين
عباده فـي الرزق وفـي الغنـى والفقـر ليسـخر ويسـتعمل بعضهـم بعضا فـي أسـباب المعايـش
187
المختل فة فت سد حاجات هم جميعا[ ،]11وهذا التفاوت الذي قدره ال تعالى إن ما قدره بأ سبابه و هي
كثيرة جدا ل يم كن أن يح يط ب ها الن سان ،ومن ها تفاوت هم في الموا هب والكفاءات ،ول يم كن
ازالة هذا التفاوت مطلقا ما دام التفاوت في مواهب البشر قائما ل يمكن إزال ته ،وإنما الممكن
والمطلوب اعانة الضعيف من قبل الغني ،وهذا ما أكده السلم ودعا إليه ووضع من الوسائل
ما يحققه فعل.
-407من البديهيات التي يعرفها صغار المطلع ين على الشريعة ال سلمية ،ان السلم أقر
للفراد بحق الملكية الفردية ،وبهذا القرار أمكن للفرد أن يكون مالكا .قال تعالى{ :أو لم يروا
أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون} فأثبت ال تعالى للناس الملك لما خلقه ال
سـبحانه وتعالى وقال تعالى{ :وإن تبتـم فلكـم رؤوس أموالكـم ل تَظلِمون ول تُظلَمون} فأثبتـت
هذه ال ية الملك للناس وأضافت المال اليهم اضا فة ملك واخت صاص .وقال تعالى{ :ول تقربوا
مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وقال تعالى{ :وسيجنبها التقى الذي يؤتي ماله
يتزكى} وقال تعالى{ :ما أغنى عنه ماله وما كسب} فهذه اليات الكريمة وأمثالها تضيف الملك
للنسان مما يدل دللة قاطعة وواضحة على أن السلم يقر مبدأ الملكية الفردية ،وفي السنة
النبو ية الش يء الكث ير من الحاد يث الشري فة ال تي تقرر هذا المبدأ ،من ها "ل ي حل مال امرئ
م سلم إل بط يب من نف سه" .و قد شر عت ن ظم في ال سلم تقوم أ ساسا على القرار بمبدأ حق
الملكيـة الفرديـة ،منهـا ،الميراث ،والزكاة ،والمهور فـي النكاح ،والنفقات وغيـر ذلك إذ بدون
العتراف بحق الملكية ل يبقى معنى للميراث ول يمكن تحقيق فرض الزكاة ..الخ.
-408والدلئل الشرع ية الدالة على إقرار مبدأ حق الملك ية الفرد ية ل تفرق ب ين مال ومال،
ف سواء كان المال المملوك منقولً أو عقارا ،مأكولً أوغ ير مأكول حيوانا أو نباتا ،و سائل انتاج
أو وسائل استهلك ،فكل هذا الختلف في المال موضوع الملكية ل يهم ،لن المال المضاف
الى الفرد إضافة ملك واختصاص الذي جاءت به النصوص الشرعية وذكرنا بعضها ،لم تقيد
المال بصفة معينة بل جاءت مطلقة من كل قيد ،عدا ما عرف من نصوص أخرى من حرمة
تملك بعض الشياء كالخمر والخنزير ،أو ما كان سبب ملكه حراما وإن كان هو بنفسه يصلح
أن يكون مملوكا كالمغصوب والمسروق ونحو ذلك.
-409و قد ر تب ال سلم على مبدأ حق الملك ية الفرد ية التزاما عاما على الكا فة باحترا مه
وعدم الم ساس به إل بو جه حق ،قال تعالى{ :ول تأكلوا أموال كم بين كم بالبا طل} وقال تعالى:
{ول تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} وفي الحديث الشريف "ل يحل مال امرئ
188
مسلم إل بطيب من نفسه" .كما قرر السلم عقابا لمن ينقض هذا اللتزام ويتجاوز على حق
الملك للغ ير ،فهناك عقو بة السـرقة وق طع الطر يق وخيا نة الما نة والن هب ون حو ذلك سواء
أكانت هذه العقوبات عقوبات حدود أم تعزيز.
-410ول كن اقرار ال سلم ب حق الملك ية الفرد ية ل يع ني أ نه حق مطلق من كل ق يد وان
مو قف ال سلم م نه هو مو قف الحارس له ف قط ،فالحقي قة أن ال سلم مع اقراره ب حق الملك ية
وحمايتـه له فإنـه ينظمـه ويقيده بجملة قيود منـذ نشأتـه الى اندثاره ،وبهذا يجمـع السـلم بيـن
موقفين بالنسبة لحق الملكية الفردية :الول :العتراف به الحماية له .والثاني :التقيد والتنظيم
لهذا الحق ،وهذا التقييد يظهر فيما يأتي.
-411أولً :من حيث نشأة حق الملكية الفردية ،يشترط السلم أن ينشأ عن سبب شرعي،
فان ن شأ عن سبب غير شر عي فإن ال سلم ل يعترف به ول يحم يه بل يأ مر بنز عه عن يد
حائزه ورده الى مالكـه الصـلي ،فإن لم يوجـد ،وضـع فـي بيـت المال .والسـباب الشرعيـة
للملكيـة( :أ) السـتيلء على المال المباح ،ويندرج تحـت هذا النوع الصـيد ،واحياء الرض
الموات ،والستيلء على الكل والجام ،واستخراج المعادن والكنوز .وكل ذلك بشروط معينة[
( .]12ب) العقود والتصـرفات مثـل البيـع والهبـة والوصـية والجارة والشركـة والمضاربـة،
والمزارعـة والمغارسـة ونحـو ذلك ،بشرط أن تكون هذه العقود والتصـرفات بالكيفيـة التـي
شرعهـا السـلم( .جــ) الميراث ،حيـث يخلف الوارث المورث فـي ملكيـة تركتـه بأسـباب
وشروط معينة معروفة في باب الميراث في كتب الفقه السلمي.
هذه هي السباب الشرعية المنشئة لحق الملكية ،فان نشأ هذ الحق بها اعتراف السلم به ول
يهم بعد ذلك كميتها ول نوعيتها لن المنظور اليه في الشرع في باب الملكية الفردية :الشرعية
ل الكم ية ول النوع ية ،أي المنظور إل يه ال سبب المنشـئ للملك ية فان كان مشروعا كان الملك
مشروعا محميا مـن قبـل السـلم ،وإن لم يكـن السـبب مشروعا لم يكـن الملك مشروعا ول
محميا من قبل السلم .ولهذا فإن السلم يحمي الملك الكثير إذا كان سببه مشروعا ،ويرفض
العتراف والحماية للملك القليل إذا كان سببه غير مشروع ،انه يعترف بملك الرض الواسعة
مـا دام ملكهـا نشـأ عـن سـبب مشروع ويرفـض العتراف بملكيـة شـبر واحـد مغصـوب لن
الغصب ليس سببا شرعيا للملكية.
-412ثانيا :أما قيود الملكية في بقائها ونمائها فتظهر فيما شرعه السلم من حقوق في مال
النسان ووجوب أداء هذه الحقوق مثل حق الزكاة والنفقات الشرعية كما تظهر هذه القيود في
نماء الملك ،فقـد حدد السـلم سـبل تثميـر المال وتنميتـه ،ومنهـا التجارات والمزارعات
والشركات ونحو ذلك ،فل يعترف السلم بالنماء الناتج عن سبب باطل حرام كالربا مثلً أو
ب يع الخمور ،أوف تح نوادي القمار .إن هذا النماء النا تج عن هذه ال سباب المحر مة في ن ظر
189
السلم ،كالورم الذي يصيب بدن المريض ،يحسبه الجاهل سمنة وعافية وهو في نظر الحكيم
العارف بلء ومرض يجب التخلص منه.
-413ثالثا :أما قيود استهلك المال موضوع الملكية ،فتظهر فيما قرره السلم من ضرورة
العتدال في النفاق قال تعالى{ :كلوا واشربوا ول ت سرفوا} وقال تعالى{ :والذ ين إذا أنفقوا لم
يسرفوا لم يقتروا وكان بين ذلك قواما} وهذا العتدال المطلوب في النفاق إنما هو في النفاق
على المباحات أو على حاجات النســان الضروريــة كالكــل والشرب ،أمــا النفاق على
المحرمات فممنوع قليله وكثيره ،فل يجوز النفاق على الملذات المحرمـة كالفحـش والخمور
والرقص وليس الذهب من قبل الرجال ونحو ذلك مما وقع فيه المترفون الذين ل يخشون ال
تعالى ،مما أدى الى شيوع الفاحشة في المجتمع وظهور فئات كثيرة منحرفة تقوم بهذه الفعال
المحرمة التي يهواها هؤلء المترفون.
-414رابعا :نزع الملكيـة عنـد الضرورة وللمصـلحة العامـة بعـد تعويـض صـاحب الملك
التعويـض العادل ،وقـد ضرب الفقهاء بعـض المثلة على ذلك منهـا جواز نزع الملك لتوسـعة
طريق عام ،كما يجز بيع الملك جبرا على صاحبه تسديدا لدين حق عليه للخرين.
-415من المبادئ المقررة في الشرع السلمي حق الرث ،فاذا مات الشخص وترك مالً،
ورثه اقرباؤه ،القرب فالقرب ،ونال المتسحقون للميراث سهاما معينة من تركة الميت إذا ما
توفرت شروط الميراث وأسبابه وزالت موانعه حسب القواعد المقررة في الشرع السلمي.
وحق الرث يقوم على أساس من الفطرة والعدل واحترام ارادة المالك ،ويدفع الى بذل المزيد
مـن الجهـد والنشاط ويحقـق ضمانا اجتماعيا لفراد السـرة الواحدة ،ويفتـت الثروات ويمنـع
تكديسها ،فهو لهذا كله مبدأ عظيم من مبادئ النظام القتصادي السلمي.
-416أما قيامه على أساس من الفطرة ،فقد بينا فيما سبق أن من الفطرة في النسان اهتمامه
بذري ته وقل قه علي هم إذا أ حس بترك هم بل مال ،ورغب ته في أن يو فر ل هم ما ي ستعينون به في
حياته وبعد موته.
وأ ما قيا مه على أ ساس من العدل ،فان الن سان في حيا ته يع يل أولده وبق ية من هو مكلف
باعالت هم كأ مه وأب يه وزوج ته .وقد يلزم بهذا النفاق الزاما عن طر يق القضاء اذا امتنع عنه،
والغالب عدم امتنا عه ،ف من العدل أن تكون أمواله ب عد مو ته لولئك الذ ين كان هو ال سبب في
وجود هم ،كأولده ،أو كانوا هم ال سبب في وجوده م ثل أبو يه ،لي ستعينوا بهذه الموال بالنفاق
منها على أنفسهم كما كان هو في حياته ينفق منها عليهم.
190
-417وأما قيام الميراث على أساس احترام إرادة المالك ،فان النسان يرغب رغبة أكيدة أن
تكون أمواله ب عد مو ته لقربائه ل لغير هم ،في جب احترام اراد ته هذه ود فع أمواله الى ورث ته
بعد موته ،وقد فصل الشرع السلمي هذا فبين حصص هؤلء القرباء من الميراث على نحو
دقيق عادل .ول شك أن المسلم يسره ويرضيه أن تصير أمواله الى ورثته من بعده وفقا لهذا
التقسيم الشرعي العادل.
-418وأما أن مبدأ الرث يدفع الى المزيد من بذل النشاط والجهد فأمر واضح لن النسان
ل يعمل لنفسه فقط وإنما لمن يهمه شأنهم من أفراد أسرته أيضا فهو يجهد نفسه ليسد حاجاتهم
مع حاجات نفسه .وكما انه ل يعمل لتوفير حاجاتهم الحاضرة فكذلك يبذل جهدا آخر لتوفير ما
يسد حاجاتهم في المستقبل فان بقي في قيد الحياة تولى النفاق بنفسه عليهم وان مات تولوا هم
بأنف سهم النفاق من أمواله ال تي ترك ها ل هم .وعلى هذا فاذا م نع التوارث فان الن سان تض عف
همته في العمل ويقلل نشاطه القتصادي لنه يعلم بأن ثمرة جهوده ل ترجع إلى أفراد أسرته
الذين يهتم بأمرهم .ول شك أن المجتمع سيخسر كثيرا من فتور الناس عن العمل ومن ضعف
دوفعهم على بذل كل ما يستطيعون من جهد ونشاط اقتصادي.
ومبدأ الميراث يحقق ضمانا اجتماعيا داخل السرة لما يوفره من أموال تعود الى الحياء منهم
إذا مات أحدهـم وترك مال ،فل يضيـع الصـغير واليتيـم والرملة ،ول يصـيرون عالة على
المجتمع ،وفي هذا تخفيف عن كاهل الدولة في سد حاجات المحتاجين.
-419والميراث يفتت الثروات ويمنع من تكديسها في أيد قليلة لن تركة النسان بعد موته
تفسم على عدد غير قليل من أقاربه ،ولما كان النسان غير مخلد في الدنيا ،وعمره في الغالب
قصير ل يتجاوز بضع عشرات من السنين فان الثروة التي قد يجمعها النسان في حياته ل بد
ان تتف تت ب عد ز من ق صير .وتفت يت الثروات ال كبيرة م ما ير غب ف يه ال سلم وي سلك لتحقي قه
سبل كثيرة هادئة مريحة ل عنف فيها ول اهتزاز ،ومن هذه السبل تقرير مبدأ الميراث.
-420وأخيرا فان تنظ يم الرث في ال سلم جاء على غا ية في العدل والد قة م ما ل ن جد له
نظيرا مطلقا في أي شرع آ خر ،ف قد لو حظ ف يه مدى قرب الوارث من الم يت ،ومدى حاج ته،
وتكاليفه ،واعانته للمورث ،وفي ضوء ذلك وغيره جاءت حصص الورثة مختلفة ،ومن أمثلة
هذا الختلف أن نصـيب البـن ضعـف نصـيب البنـت قال تعالى{ :يوصـيكم ال فـي أولدكـم
للذ كر م ثل حظ النثي ين }..لن حا جة ال بن الى المال أك ثر من حا جة الب نت لكثرة التكال يف
المال ية عل يه ،فالر جل هوالذي يد فع الم هر في النكاح دون المرأة ،و هو المكلف بالنفاق على
زوجته وعلى أولده .فمن العدل اذن أن يكون نصيبه في الميراث ضعف نصيب اخته.
191
الفرع الول -موارد بيت المال
تمهيد
-421مـن البديهـي أن الدولة تحتاج الى نفقات كثيرة لسـد حاجاتهـا المختلفـة ،وهذه النفقات
تغطي ها من موارد ها المتعددة .و قد كا نت الدولة ال سلمية في ع هد الر سول صلى ال عل يه
و سلم قليلة التكال يف فلم ي كن هناك موظفون ل هم روا تب دائ مة منظ مة ،وإن ما كان يع طي من
يقوم بب عض العمال أجرا على عمله ،م ثل جباة الزكاة فاذا انت هت الجبا ية انت هى ال جر .و في
القتال كان ي ستنفر الم سلمين ويأتون بأ سلحتهم ودواب هم ويقاتلون فان غنموا شيئا ق سمه علي هم.
وحصيلة الزكاة إذا وردت قسمها الرسول صلى ال عليه وسلم على المستحقين ،وهلى هذا لم
تكن الحاجة قائمة لتنظيم واردات الدولة ومصارفها على النحو الذي حدث فيما بعد .وجاء أبو
ب كر ال صديق ر ضي ال ع نه و سار على الن هج الول فلم يض بط الواردات وال الم صروفات
لعدم ظهور الحاجة الى ذلك ،ولن أمد خلفته كان قصيرا .فلما جاء عمر بن الخطاب رضي
ال عنه ،واتسعت رقعة البلد السلمية بما فتحه ال على المسلمين من بلد الروم والفرس،
وزادت واردات الدولة من الغنائم والف يء والجز ية ،ف كر ع مر بن الخطاب في طري قة تض بط
هذه الموال الكثيرة وتض بط صرفها ،فأن شأ ب يت المال لح فظ أموال الم سلمين واح صاء د خل
الدولة السـلمية مـن مواردهـا المتعددة ،واحصـاء مصـاريفها ومقدار هذه المصـاريف مثـل
روا تب الج ند والعمال والولة ون حو ذلك من وجوه ال صرف على الم صالح العا مة وحاجات
الدولة ،وما كان يبقى من أموال بعد الصرف يحفظ في بيت المال وينفق في حينه.
فبيت المال إذن يشبه الخزانة العامة في الوقت الحاضر ،حيث كل ما يعود للدولة من حقوق
مال ية يضاف الي ها باعتباره حقا ل ها ،و كل ما تحتا جه الدولة من نفقات و صرف تتحمله هذه
الخزانة العامة ويضاف إليها باعتباره حقا عليها.
-422وموارد الدولة ال سلمية أي موارد ب يت المال هي الزكاة والخراج والجز ية والعثور
والفيء وخمس الغنائم وغير ذلك مما نذكره فيما يلي تباعا.
أولً :الزكاة[]13
-423الزكاة مأخوذة من النماء والزيادة ،و هي في الشري عة حق ي جب في المال ،و هي من
فروض ال سلم وأركا نه قال تعالى{ :وآتوا الزكاة} و في الحد يث الشر يف أن ال نبي صلى ال
عليـه وسـلم بعـث معاذا إلى اليمـن وقال له "أعلمهـم أن ال افترض عليهـم صـدقة تؤخـذ مـن
أغنيائ هم فترد في فقرائ هم" وأج مع الم سلمون على وجوب ها ،وات فق ال صحابة الكرام على قتال
مانعيها .وعلى هذا فمن أنكر وجوبها كفر ،ومن منعها معتقدا وجوبها وقدر المام على أخذها
منه أخذها منه جبرا وعزره على امتناعه ،وان كان خارجا عن قبضة المام قاتله كما فعل أبو
192
ب كر ر ضي ال ع نه وقال قوله المشهور "لو منعو ني عقال كانوا يؤدو نه الى ر سول ال صلى
ال عليه وسلم لقاتلتهم عليه".
-424و هي ت جب على كل م سلم وم سلمة ،فاذا ملك ن صابا خاليا من د ين فعل يه زكا ته ع ند
تمام الحول سـواء أكان كـبيرا أو صـغيرا عاقلً أو مجنونا ،ول زكاة فـي مـا ل يحول عليـه
الحول ،وهذا فـي الماشيـة والذهـب والفضـة وقيـم عروض التجارة ،أمـا فـي الزرع والثمار
والمعدن فل يشترط لهـا الحول .وتجـب الزكاة فـي الذمـة بحلول الحول حتـى ولو تلف المال
بتفريط من صاحبه أو عدم تفريط ،وذهب أبوحنيفة إلى سقوط الزكاة بتلف النصاب على كل
حال إل أن يكون المام قـد طلبهـا فمنعهـا .ول تسـقط بالموت ،وقال الحنفيـة بالسـقوط إل إذا
أوصـى بهـا فتجـب مـن الثلث .والدولة السـلمية تجـبي زكاة الموال الظاهرة وهـي الماشيـة
والزروع وتقسـمها على مسـتحقيها ،أم 7ا الموال الباطنـة كالذهـب والفضـة وعروض التجارة
فان أصحابها يخرجون زكاتها إل إذا دفعوها الى المام فإنه يقسمها على المستحقين ،ويبدو لي
جواز قيام المام بجباية زكاة الموال الباطنة ابتداء وتقسيمها على مستحقيها.
-425أما النصاب ومقدار الزكاة فيختلف باختلف الموال وأصنافها على النحو التالي[.]14
-426أولً :المواشي ،وتشمل البل والبقر والغنم على التفصيل التالي:
نصاب البل وزكاتها. أ)
مقدار زكاتها عدد البل
شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز. 9–5
والجذع من الغنم ما له ستة أشهر .والثني منها ما استكمل سنة.
شاتان. 14 – 10
ثلث شياه. 19 – 15
أربع شياه. 24 – 20
ابنة مخاض من البل وهي ما استكملت سنة ،فان لم يجد ابنة مخاض 35 – 25
فابن لبون ذكر.
ابنة لبون وهي ما استكملت سنتين 45 – 36
حِقّة وهي ما استكملت ثلث سنين واستحقت الركوب وطرق الفحل. 60 – 46
جذعة وهي ما استكملت اربع سنين 75 – 61
بنتا لبون. 90 – 76
حقتان. 120 – 91
ثلث بنات لبون. 139 – 121
حقتان وبنت لبون. 149 – 140
193
ثلث حقاق. 159 – 150
أربع بنات لبون. 169 – 160
حقة وثلث بنات لبون. 179 – 170
حقتان وبنتا لبون. 189 – 180
ثلث حقاق وبنت لبون. 199 – 190
أربع حقاق أوخمس بنات لبون. 200
وعلى هذا القياس في ما زاد ،في كل أربع ين اب نة لبون و في كل خم سين ح قة .وذ هب الحنف ية
والثوري والنخ عي أن ال بل اذا زادت على عشر ين ومائة ا ستؤنفت الفري ضة فيكون في كل
خ مس من ال بل شاة الى خ مس وأربع ين ومائة فيكون في ها حقتان وب نت مخاض الى خم سين
ومائة وفيها ثلث حقاق ثم تستأنف الفريضة بعد ذلك فيكون في كل خمس شاة.
هذا ويشترط لزكاة البـل مـع تحقـق النصـاب ومرور الحول أن تكون سـائمة أي ترعـى الكل
لت قل مؤونت ها .و عن مالك رح مه ال :ال سوم ل يس بشرط لزكات ها فت جب الزكاة في المعلو فة
والعاملة هذا وليس فيما دون خمس من البل زكاة.
194
ثم على هذا القياس فيما زاد :في كل ثلثين تبيع وفي كل أربعين مسنة .هذا ويشترط في البقر
والجاموس مع الن صاب ومرور الحول ال سوم ،و عن مالك ل يس هذا بشرط فت جب الزكاة في
المعلو فة والعاملة كقوله في ال بل .وي ضم الجاموس الى الب قر ع ند عد الن صاب ،ول يس في ما
دون الثلثين زكاة.
الزكاة العدد
جذعة أو ثنية من المعز إل أن تكون كلها صغارا دون الجذاع والثنايا 120 – 40
فيؤخذ منها صغيرة دون الجذعة والثنية.
شاتان. 200 – 121
ثلث شياه. 399 – 201
أربع شياه. 400
195
-430ثالثا :زكاة الذهـب والفضـة ،ويشترط فـي زكاتهـا النصـاب ومرور الحول ،ونصـاب
الفضة مائتا درهم وفيه خمسة دراهم ،ونصاب الذهب عشرون مثقال وفيه نصف مثقال .واذا
اتجر بالدراهم والدنانير زكاها وربحها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا.
ول يس في حلي المرأة زكاة إذا كان م ما تلب سه عادة أو تعيره .وذ هب ب عض أ هل العلم الى أن
فيه زكاة.
-431رابعا :زكاة المعادن
و هي من الموال الظاهرة ،وت جب الزكاة في جم يع الخارج من ها سواء اكا نت من المعادن
ال صلبة كالذ هب والف ضة والحد يد ،أو المائ عة كالق ير والن فط أو كا نت تش به الح جر وتنك سر
بالطرق كالجوا هر .ويشترط لوجوب الزكاة في ها أن تبلغ ن صابا ب عد ال سبك والت صفية ،ومقدار
الن صاب عشرون مثقال من الذ هب ومائ تا در هم من الف ضة أو قي مة هذا الن صاب من غ ير
الذهـب والفضـة ول يشترط مرور الحول لوجوب الزكاة ،ومقدار الزكاة ربـع العشـر .وقال
المام أبو حنيفة رحمه ال تعالى يجب الخمس في قليل المعدن وكثيره من غير اعتبار نصاب
بناء على أنه ركاز والركاز فيه الخمس ،ولنه ل يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب.
ول زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان ،وعن المام أحمد بن حنبل أن فيه الزكاة
لنه خارج من معدن.
-432خامسا :الركاز
وهو كل مال وجد مدفونا من ضرب الجاهلية (قبل السلم) في أرض موات أو طريق سابل
يكون لواجده وعليه الخمس ،لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم "وفي الركاز الخمس" ويجب
هذا الخمـس على واجده سـواء أكان مسـلما أو ذميا ،صـغيرا أو كـبيرا عاقلً أو مجنونا لعموم
هذا الحديـث الشريـف .ويعرف أنـه مـن ضرب الجاهليـة إذا كان عليـه علمـة تدل على ذلك
ك صورة صنم أو ا سم ملك ل هم أو تار يخ قد يم ق بل ال سلم .ا ما إذا كان من ضرب ال سلم
بدللة ما عليه من آية قرآنية أو تاريخ هجري فهو لقطة وتسري عليها أحكامها.
هذا وان الركاز إذا عثر عليه في أرض مملوكة فهو لمالك الرض ل ح قّ فيه لواجده ،وعلى
مالكه الخمس.
-433سادسا :عروض التجارة
والعروض جمع عرض وهو غير الثمان من المال على اختلف أنواعه من النبات والحيوان
والعقار وسائر الموال الخرى التي يتجر بها صاحبها بقصد الربح .وتجب الزكاة في أموال
التجارة إذا بلغت نصابا بعد تقويمها بالذهب أو الفضة ومضى عليها حول ول يلتفت الى زيادة
الن صاب أو نق صانه خلل الحول ما دام الن صاب حا صل في أول الحول وآخره .والنماء أي
الربح تابع لصل مال التجارة عند التقويم في نهاية الحول.
196
ثانيا :الجزية
-434الجز ية هي المال المقدر المأخوذ من الذ مي ،ف هي ضري بة على الرؤوس يلتزم غ ير
المسلم بأدائها الى الدولة السلمية إذا ما دخل في الذمة أي صار ذميا.
وهي ثابتة بالكتاب والسنة والجماع ،فمن الكتاب قوله تعالى{ :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول
باليوم والخر ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
ح تى يعطوا الجز ية عن يد و هم صاغرون} و في ال سنة ،ان ال نبي صلى ال عل يه و سلم أ خذ
الجذية من مجوس البحرين .وأجمع المسلمون على أخذ الجزية من غير المسلم[.]16
-435ويشترط لوجوب الجزيـة العقـل والبلوغ والذكورة فل تجـب على الصـبيان والنسـاء
والمجانين ،كما يشترط لوجوبها السلمة من الزمانة والعمى والشيخوخة فل تجب على زمن
ول أعمى ول شيخ كبير .ول تجب على الراهب وعند بعض الفقهاء تجب عليه مطلقا وعند
آخرين تجب عليه اذا خالط الناس أو كان قادرا على العمل.
-436وت جب الجز ية في آ خر كل سنة وتؤ خذ في آخر ها ،وع ند الحنف ية ت جب في أول ها
وتؤخذ في آخرها .ومقدارها ( )12درهما على الفقير المعتل ،و ( )24درهما على المتوسط و
( )48درهما على الموسـر ،وعنـد بعـض الفقهاء انهـا غيـر مقدرة وإنمـا يقدرهـا المام حسـب
اجتهاده ورأيه.
-437وت سقط الجز ية ب عد وجوب ها إذا أ سلم الذ مي أو عجزت الدولة ال سلمية عن حما ية
الذمي ين ،ولهذا ردّ أ بو عبيدة بن الجراح ر ضي ال ع نه الجز ية الى الذمي ين في ب عض مدن
الشام عندما عجز الجيش السلمي عن حمايتهم[ ]17وفي صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن
نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة "فان منعناكم فلنا الجزية وإل فل حتى تمنعكم"[
.]18
ثالثا :الخراج
-438الخراج ما ضرب على أراضي الكفار المغنومة عنوة التي تركت بيد أهلها[ ]19فهي
ضريبة مالية على الراضي المفتوحة التي تركها المسلمون بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها.
وأول مـن فعـل ذلك المام الراشـد عمـر بـن الخطاب رضـي ال عنـه ،إذ فرض على أرض
العراق الخراج وترك ها بيد أصحابها ،بعد مشاورة م نه للصحابة الكرام وموافقت هم على رأ يه.
والرض التي تفرض عليها ضريبة الخراج تسمى بالرض الخراجية.
-439والخراج نوعان :خراج وظيفـة ،وهـو مـا يفرض على الرض بالنسـبة الى مسـاحتها
ونوع زراعتها .وخراج مقاسمة وهو أن يكون المفروض جزء من الخارج كالخمس والسدس
197
ون حو ذلك .والفرق ب ين النوع ين أن في خراج الوظي فة يكون الوا جب شيئا في الذ مة يتعلق
بالتمكـن مـن النتفاع بالرض ويؤخـذ مرة واحدة فـي السـنة ،أمـا فـي خراج المقاسـمة فيكون
الواجب متعلقا بما يخرج من الرض ل بالتمكن من زراعتها ،حتى إذا عطل الرض صاحبها
مع التمكن من النتفاع بها لم يجب عليه شيء .كما أن خراج المقاسمة يتكرر بتكرر الخارج
من الرض.
ـى ل يكون الخراج مرهقا
ـة الرض حتـ
ـر الخراج طاقـ
ـد تقديـ
ـه عنـ
-440والمنظور إليـ
لصـاحبها ،وقـد نـص الفقهاء على بعـض مـا يسـترشد بـه لمعرفـة مدى طاقـة الرض لمقدار
الخراج[ ]20فمن ذلك خصوبة الرض ونوع ما يزرع فيها واثمانه وطريقة سقيها وقربها أو
بعدها عن المدن والسواق.
-441وإذا عجز صاحب الرض عن استغلل أرضه ،فقد ذهب الحنفية ان للمام في هذه
الحالة أن يعطيها لغيره ،مزارعة أو أن يؤجرها أو أن يزرعها بمال بيت المال ويستوفي من
جميع ذلك ضريبة الخراج ويمسك الباقي لصاحب الرض .وعن أبي يوسف رحمه ال تعالى
يدفع للعاجز كفايته من بيت المال قرضا ليعمل ويستغل أرضه .وعند الشافعية والحنابلة يؤمر
صاحب الرض بإيجارها أو رفع يده عنها ول تترك بيده خرابا وان دفع خراجها لئل تصير
بالخراب أرضا ميتـة فيتضرر بيـت المال ويقـل النتاج فـي الدولة السـلمية وفـي هذا ضرر
عام.
والواقع ان الحلول التي ذكرها الفقهاء كلها سائغة ولولي المر أن يختار منها ما يراه أصلح
من غيره[.]21
رابعا :العشور
-442ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمنون .فهي بالنسبة الى الذمي تفرض على
أمواله المعدة للتجارة إذا انتقل من بلد الى بلد داخل الدولة السلمية ومقدارها نصف العشر.
وهي بالنسبة للمستأمن – وهو غير المسلم إذا دخل الى دار السلم بأمان – تفرض على ما
يدخل به من مال للتجارة الى اقليم دار السلم ،ومقدارها عشر ما يدخل به من مال كقاعدة
عامة ،وإن كان من الجائز أن يقل عن هذا المقدار أو يزيد تبعا لقاعدة المعاملة بالمثل ،بمعنى
أن دولة المستأمن إذا أخذت من تجار دار السلم إذا دخلوا أراضيها ضريبة أكثر من العشر
أو أقل فإن الدولة السلمية تعامل رعايا هذه الدولة بالمثل فتستوفي من أموالهم التجارية نفس
هذه الضريبة.
-443ويشترط لوجوب هذه الضريبـة فـي مال الذمـي أن يبلغ نصـاب الزكاة وهذا مـا قاله
الحنفيـة والزيديـة وبعـض الحنابلة[ ]22وقال المام مالك :النصـاب ليـس بشرط لوجوب هذه
198
الضريبة[ ]23وتستوفى هذه الضريبة في السنة مرة واحدة من الذمي والمستأمن إل إذا رجع
المستأمن بماله الى بلده ثم عاد بنفس ماله الى دار السلم فإنه تؤخذ منه الضريبة مرة أخرى
على نفس المال.
خامسا :الغنائم
-444والغنيمة ،كما يقول المام ابن تيمية :هي المال المأخوذ من الكفار بالقتال وسماها ال
تعالى أنفال لنها زيادة في أموال المسلمين[.]24
والغني مة أرب عة أ صناف :أ سرى و سبي ،وأرضون ،وأموال منقولة ،أ ما ال سرى ،ف هم الرجال
المقاتلون مـن الكفار إذا ظفـر بهـم المسـلمون وأسـروهم والمام مخيـر فيهـم – إذا قاموا على
كفرهم – في فعل الصلح حسب اجتهاده ،إما القتل وإما السترقاق وإما الفداء بمال أو أسرى،
أو المن بغير فداء[ ]25ولكن إذا أسلم السير سقط القتل عنه وكان المام على خياره فيه بين
الرق والمن والفداء[.]26
-445وأمـا السـبي فهـم النسـاء والطفال وهؤلء ل يجوز قتلهـم ويكونون سـببا مسـترقا،
يقسمون مع الغنائم "الموال المنقولة" فإن فادى المام بالسبي على مال جاز ويكون مال فدائهم
مغنوما مكان هم ،وان أراد المام أن يفادي ب هم عن أ سرى الم سلمين في أيدي العدو جاز ذلك
وعوض الغانم ين عن هم من سهم الم صالح وان أراد أل من علي هم لزم ا ستطابة نفوس الغانم ين
عنهم إما بالعفو عن حقوقهم فيهم وإما بمال يعوضهم عنهم[.]27
-446وأما الرضون ،فخلصة القول فيها ،على ما ذكره المام أبو عبيد في كتابه الموال،
والماوردي في كتا به الحكام ال سلطانية[ :]28ان الرض ال تي ي ستولي علي ها الم سلمون ثل ثة
أقسام:
القسم الول – أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم وتكون أرضا عشرية أي يستوفى من زرعها
الزكاة المقررة.
القسم الثاني – أرض فتحت صلحا على خراج معلوم فهي على ما صولحوا عليه ول يلزمهم
أك ثر م نه و هي على نوع ين :أحده ما ي صالحهم المام على أن ملك الرض للم سلمين فت صير
بهذا الصلح وقفا من دار السلم ويكون الخارج أجرة ل يسقط عنهم باسلمهم .والنوع الثاني
أن يصـالحهم المام على أن الرض لهـم على أن يؤدوا خراجا معلوما ويجوز لهـم التصـرف
بها بالبيع ونحوه بخلف النوع الول.
القسم الثالث – أرض فتحها المسلمون بالحرب واستولوا عليها عنوة ،فهذه اختلف فيها الفقهاء
فذ هب الشاف عي رح مه ال تعالى الى ان ها تكون غني مة كالموال المنقولة تق سم على الغانم ين
الم سلمين ب عد اخراج خم سها الى من ذكر هم ال تعالى ،إل إذا ر غب الغانمون بترك ها لب يت
199
المال فتوقـف على مصـالح المسـلمين ،وقال المام مالك رحمـه ال تعالى تصـير وقفا على
المسلمين ول يجوز قسمتها على الغانمين .وقال أبو حنيفة رحمه ال تعالى :المام فيها بالخيار
بيـن قسـمتها بيـن الغانميـن فتصـير أرضا عشريـة أو يعيدهـا الى أيدي المشركيـن أصـحابها
ال صليين بخراج يضر به علي ها فتكون أرض خراج ويكون المشركون ب ها أهل ذ مة ،أو يقف ها
على كافة المسلمين وتصير هذه الرض من اقليم دار السلم سواء سكنها المسلمون أو أعيد
اليها المشركون لملك المسلمين لها ول يجوز التنازل عنها للمشركين .ورجح المام أبو عبيد
أن الخيار للمام في الرض المفتو حة عنوة ،فله أن يقسمها على الغانم ين ب عد اخراج الخ مس
من ها ،كما له أن يجعلها موقوفة على المسلمين عامة .ورأي الحنفية يتضمن هذا الذي رجحه
أبو عبيد وعلى هذا ،نميل الى رأي الحنفية.
-447أما الموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة ،ول تقسم إل بعد انجلء الحرب وتحقق ظفر
المسلمين ،ويجوز بعد جمعها ،قسمتها في دار الحرب ،كما يجوز تأخير قسمتها بعد الرجوع
الى دار ال سلم بح سب ما يراه الم ير من الم صلحة .فاذا أرادوا ق سمتها بدأ بأ سلب القتلى
فأع طى كل قا تل سلب قتيله .وال سلب ما كان على المقتول من لباس يق يه و ما كان م عه من
سلح يقاتل به وما كان تحته من فرس يقاتل عليه .ثم يبدأ بعد اعطاء السلب لمستحقيه باخراج
الخمس من جميع الغنمة ،ويوزع الى مستحقيه على ما سنذكره في باب مصارف بيت المال
ثـم يرضـخ بعـد اخراج الخمـس لهـل الرضـخ وهـم مـن ل سـهم له ممـن يكون مـع الجيـش
ال سلمي كالن ساء وال صبيان وأ هل الذ مة فير ضخ ل هم من الغني مة بح سب ما قدموه من عون
للمقاتل ين ول يبلغ بر ضخ أحد هم سهم فارس ول را جل .وب عد الخراج الخ مس والر ضخ يق سم
الباقي من الغنيمة على المقاتلين للراجل منهم سهم واحد وللفارس ثلثة أسهم .ويجوز لمير
الجيش أن يزيد في سهام بعض المقاتلين إذا ظهرت منهم زيادة نكاية العدو ،أو قاموا بأعمال
سهلت نصر المسلمين ،وهذه الزيادة المعطاة لهؤلء يجوز أن تكون من الخمس كما يجوز أن
تكون من أربعة الخماس الباقية من الغنيمة.
سادسا :الفيء
-448الف يء هو كل مال أخذه الم سلمون من الكفار بغ ير قتال وأد خل الفقهاء في مفهو مه
الجزية والخراج والعشور ،والمال الذي يصالح عليه العدو ،وما يتركه المشركون بعد هربهم
أو جلئ هم .و سمي فيئا لن ال تعالى أفاءه على الم سلمين أي رده علي هم من الكفار ،لن ال
تعالى خلق الخلق لعباد ته وخلق المال لل ستعانة به على عباد ته ،فالكا فر لكفره أباح ال تعالى
لعباده المؤمنين الذين يعبدونه نفس هذا الكافر وماله ،لنه لم يستعمل ماله في عبادة ال[،]29
والصل في الفيء قول ال تعالى في سورة الحشر {وما أفاء ال على رسوله منهم فما أوجفتم
200
عل يه من خ يل ول ركاب ول كن ال ي سلط ر سله على من يشاء وال على كل ش يء قد ير} ..
فالفيء هو المال الواصل للمسلمين من المشركين بل قتال.
201
ومصـرف زكاة المعادن وخمـس الركاز مصـرف الزكاة المعتادة اي مصـرف زكاة الماشيـة
والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة.
-452ثالثا :الغنيمة
الواجب في الغنيمة لبيت المال خمسها ،ويقسم هذا الخمس على من ذكرهم ال تعالى في سورة
النفال ،قال تعالى{ :واعلموا انمـا غنمتـم مـن شيـء فإن ل خمسـه وللرسـول ولذي القربـى
واليتا مى والم ساكين وا بن ال سبيل }..سورة النفال آ ية .41وكان ر سول ال صلى ال عل يه
وسلم يصرف سهم ال وسهمه في مصالح السلم وأربعة أخماس الخمس في أهلها المستحقين
ل ها مقدما لل هم فال هم والحوج فالحوج ،دون أن يق سم بين هم أرب عة أخماس الخ مس ال سوية[
.]34
-453رابعا :الفيء
ويق سم على من ذكر هم ال تعالى في سورة الح شر ،قال تعالى { :ما أفاء ال على ر سوله من
أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي ل يكون دولة بين
الغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا ال إن ال شديد العقاب.
للفقراء المهاجريـن الذيـن أخرجوا مـن ديارهـم وأموالهـم يبتغون فضل مـن ال ورضوانا
وينصرون ال ورسوله أولئك هم الصادقون .والذين تبؤوا الدار واليمان من قبلهم يحبون من
هاجـر إليهـم ول يجدون فـي صـدورهم حاجـة ممـا أوتوا ويؤثرون على أنفسـهم ولو كان بهـم
خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر
ل للذ ين آمنوا رب نا ا نك رؤوف
ل نا ولخوان نا الذ ين سبقونا باليمان ول تج عل في قلوب نا غ ّ
رحيم} سورة الحشر آية (.)10-9-8-7
وقال الفق يه الماوردي :يؤ خذ خ مس الف يء ،ويق سم على خم سة أ سهم مت ساوية :سهم من ها كان
لرسول ال صلى ال عليه وسلم في حياته ينفق منه على نفسه وأزواجه ومصالحه ومصالح
المسلمين ،وقد صار هذا السهم بعد وفاته صلى ال عليه وسلم مصروفا في مصالح المسلمين
كأرزاق الج يش واعداد ال سلح وبناء الح صون والقنا طر واعطاء روا تب القضاة والموظف ين
و ما جرى هذا المجرى من وجوه الم صالح العا مة .وال سهم الثا ني سهم ذوي القر بى و هم ب نو
هاشم وبنو عبد المطلب ابنا عبد مناف .والسهم الثالث لليتامى من ذوي الحاجات ،واليتم موت
الب مع ال صغر .وال سهم الرا بع للم ساكين و هم الذ ين ل يجدون ما يكفي هم .وال سهم الخا مس
لبني السبيل وهم المسافرون الذين ل يجدون ما ينفقون .واما أربعة أخماس الفيء ففيه قولن
احده ما ا نه للج يش خا صة ،والثا ني ا نه م صروف في الم صالح العا مة ،ومن ها ارزاق الج يش
وما يلزمه[.]35
202
والواقـع ان اليـة الكريمـة ،كمـا يقول الفقيـه المشهور ابـن القيـم :إن مـا أفاء ال على رسـوله
بجملته لمن ذكر في هذه اليات ولم يخص منه خمسة بالمذكورين بل عمم واطلق واستوعب
فيصرف الفيء على المذكورين كل هم .أما ذ كر اليتامى والمساكين ونحوهم فانما يفيد العنا ية
بهم وضرورة ادخالهم في جملة المستحقين للفيء ،وان كانوا يستحقون ايضا من خمس الغنيمة
ول يفيـد حصـر السـتحقاق بهـم .وعلى هذا فالفيـء يسـتحقه هؤلء المذكورون والمهاجرون
والن صار الذ ين جاؤوا من بعد هم من الم سلمين الذي يقولون رب نا اغ فر ل نا ولخوان نا الذي
سبقونا باليمان ..الخ ،ول يدخل معهم من يلعنهم ويتبرأ منهم ،وعلى هذا فيصرف الفيء في
جميـع مصـالح المسـلمين ومنهـا النفاق على ذوي الحاجات ودفـع الرزاق للجنـد والعلماء
والقضاة و سائر موظ في الدولة ،ك ما يعطـى م نه الى عموم الم سلمين ،وهذا هو المأثور عن
الخلفاء الراشد ين في سيرتهم وهدي هم ولذلك قال ع مر ر ضي ال ع نه" :ول يس أ حد أ حق بهذا
المال من احد انما هو الر جل وسابقته ،والر جل وغناؤه ،والر جل وبلؤه ،والرجل وحاج ته".
فجعل هم ع مر ر ضي ال ع نه أرب عة أق سام ،الول :ذوي ال سوابق الذ ين ب سابقتهم اي با سلمهم
ح صل المال .والثا ني :من يغ ني عن الم سلمين في جلب المنا فع ل هم كولة المور والعلماء
الذ ين يجلبون ل هم منا فع الدن يا والخرة .والثالث :من يبلي بلء ح سنا في د فع الضرر عن هم
كالمجاهدين في سبيل ال من الجناد والمرابطين ونحوهم .والرابع :ذوي الحاجات .كما روي
عن عمر رضي ال عنه انه قال "وال لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا
المال وهو يرعى مكانه"[ .]36ويفهم من هذا كله ان عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء
فيعطون م نه ب عد سد النفقات الضرور ية للدولة كأرزاق الج ند والولة ونحو هم وهذا ما تدل
عليه الية الكريمة ،ويقدم ذوو الحاجات على غيرهم من الفاضل بعد سد النفقات الضرور ية
للدولة.
ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات
مـن المسـلمين وليـس له وارث معيـن ،وكالغصـوب والعواري والودائع وغيـر ذلك مـن أموال
المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها[.]37
203
[ ]6المحلى ج 6ص .158
[ ]7تفسير القرطبي ج 2ص ،242-241تفسير الرازي ج 5ص .24
[ ]8اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج 2ص .284
[ ]9المحلى ج 6ص .157 -156
[ ]10الطرق الحكمية لبن قيم الجوزية ص .240 ،226
[ ]11تفسير القرطبي ج 16ص .83
[ ]12أنظر تفصيل ذلك في كتابنا المدخل لدراسعة الشريعة السلمية.
[ ]13المغني لبن قدامة ج 2ص 572وما بعدها.
[ ]14المغني ج 2ص 580وما بعدها .أبو يعلى الحنبلي ص 99وما بعدها .الماوردي ص
109وما بعدها.
[ ]15المغني ج 2ص .696والوسق يقدر بستين صاعا ،والصاع يقرب من كيلو ونصف
لنه مقدر بأربع حفنات بيدي رجل.
[ ]16المغني ج 8ص ،496والجصاص ج 3ص ،93 – 92اختلف الفقهاء للطبري ص
.199
[ ]17الخراج لبي يوسف ص .139
[ ]18تاريخ الطبري ج 4ص .16
[ ]19شرح الزهار ج 1ص .571
[ ]20الماوردي ص ،144 – 143أبو يعلى الحنبلي ص .151
[ ]21كتابنا أحكام الذميين والمستأمنين ص .167
[ ]22شرح السير الكبير للسرخسي ج 4ص ،284وشرح الزهار ج 1ص ،577المغني
ج 8ص .519
[ ]23الموال لبي عبيد ص .536 – 535
[ ]24السياسة الشرعية لبن تيمية ص .30
[ ]25أبو يعلى ص .125
[ ]26الماوردي ص .126
[ ]27الماوردي ص .127 – 126
[ ]28الموال لبي عبيد ص ،5الماوردي ص .133 – 132
[ ]29السياسة الشرعية لبن تيمية ص .36
[ ]30أنظر بحثنا في أحكام اللقطة.
[ ]31الماوردي ص .186 – 185
204
[ ]32السياسة الشرعية لبن تيمية ص .48 ،34
[ ]33المرجع السابق ص .34
[ ]34زاد المعاد لبن القيم ج 3ص .222
[ ]35الماوردي ص .123 – 122
[ ]36السياسة الشرعية لبن تيمية ص ،46 – 44زاد المعاد لبن القيم ج 3ص – 221
.222
[ ]37مجموع فتاوى ابن تيمية ج 8ص .277 – 276
-379الجهاد في الل غة :بذل الن سان جهده وطاق ته ،و في ال صطلح الشر عي :بذل الم سلم
طاقته وجهده في نصرة السلم ابتغاء مرضاة ال ،ولهذا قيد الجهاد في السلم بأنه في سبيل
ال ليدل على هذا المعنـى الضروري لتحقـق الجهاد الشرعـي ،وبهذا جاءت اليات القرآنيـة
معلنة ان جهاد المسلمين ومنه القتال ،انما هو جهاد في سبيل ال بخلف الكافرين فان جهادهم
وقتال هم في غ ير سبيل ال ،اي في سبيل الشيطان ،قال تعالى{ :الذ ين آمنوا يقاتلون في سبيل
ال والذ ين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} سورة الن ساء ال ية .76و قد ي عبر عن المع نى
الذي بيناه بعبارة :القتال لتكون كلمة ال هي العليا ،كما جاء في الحديث الشريف "سئل رسول
ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ،فأي ذلك في سبيل
ال؟ فقال صلى ال عل يه و سلم :من قا تل لتكون كل مة ال هي العل يا ف هو في سبيل ال" لن
المقصود بكلمة ال السلم ،وجعلها هي العليا اي هي النافذة الظاهرة ،ول شك ان اظهار دين
ال مما يرضي ال تعالى.
-380والجهاد أنواع فهناك الجهاد باللسـان بـبيان شرائع السـلم ودحـض الباطيـل المفتراة
عن السلم ،والجهاد بالمال بإنفاقه في وجوه البر ،ل سيما على الغزاة والمقاتلين في سبيل ال
بشراء العتاد والسلح والرزاق لهم ،والجهاد بالنفس بمقاتلة اعداء ال ،وإذا أطلق الجهاد فانه
يراد بـه – غالبا – الجهاد بالنفـس أي القتال كمـا أن الجهاد بالنفـس يقرن غالبا بالجهاد بالمال،
كما نلحظ ذلك في آيات القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على
تجارة تنجي كم من عذاب أل يم تؤمنون بال ور سوله وتجاهدون في سبيل ال بأموال كم وأنف سكم
ذلكـم خيـر لكـم إن كنتـم تعلمون .يغفـر لكـم ذنوبكـم ويدخلكـم جنات تجري مـن تحتهـا النهار
وم ساكين طي بة في جنات عدن ذلك الفوز العظ يم وأخرى تحبون ها ن صر من ال وف تح قر يب
وبشر المؤمنين}.
205
-381والجهاد بالنفس بمقاتلة العداء من فروض الكفاية في الحوال العتيادية إذا حصلت
به الكفاية ،ولكنه يصير فرض عين ،إذا احتل الكفرة بلدا من بلد السلم أو إذا استنفر المام
المسـلمين ،قال المام ابـن العربـي المالكـي "إذا كان النفيـر عاما لغلبـة العدو على الحوزة او
اسـتيلئه على السـارى كان النفيـر عاما ووجـب الخروج خفافا وثقالً وركبانا ورجالً عـبيدا
وأحرارا ،من كان له أب من غ ير اذ نه ح تى يظ هر د ين ال وتح مى البي ضة وتح فظ الحوزة،
ويخزي ال العدو ويستنقذ السرى .ول خلف في هذا"[.]1
-382ول ما كان الجهاد من فروض ال سلم ف قد عظ مت به الو صية ،وا مر ال تعالى بأ خذ
العدة اللز مة له قال تعالى{ :وأعدوا ل هم ما ا ستطعتم من قوة و من رباط الخ يل ترهبون به
عدو ال وعدو كم} سورة النفال ال ية ،60 :ف كل ما به قوة وحا جة في القتال و جب تح صيله
واعداده ،وهذا يختلف باختلف الزمان والحوال ،ول شـك ان مـن وسـائل القوة المهمـة فـي
زماننا تعلم واتقان مختلف العلوم والفنون والصناعات اللزمة لعداد القتال .وتعلم هذه المور
من الفروض الكفائية في المة ،لن ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب .ومن المستحب لكل
م سلم ان يتعلم ما ي ستطيعه من أمور القتال ،كالر مي والط عن وا ستعمال ال سلح مبتغيا بذلك
وجه ال تعالى ويعلمه للخرين ،وقد أشار شيخ السلم ابن تيمية الى هذه المور فقال رحمه
ال" :وتعلم هذه الصناعة – أي صناعات الحرب وآلت القتال – هومن العمال الصالحة لمن
يبتغي بذلك وجه ال عز وجل فمن علم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به ل ينقص
أحدهما من الجر شيئا" ،وكان سيدنا عمر رضي ال عنه يوصي المسلمين وولتهم "أن علموا
أولدكم الرمي والفروسية" وفي حديث عن النبي صلى ال عليه وسلم " ...ومن تعلم الرمي ثم
نسيه فليس منا".
-383والواقع أن الجهاد ضروري لبقاء المسلمين امة قوية مرهوبة الجانب بعيدة عن أطماع
الطامعين والحاقدين من الكافرين والمافقين ،كما أن الجهاد بنفسه دليل قاطع على ايمان المسلم
ومبادرته إلى ما يحبه ال تعالى وايثاره مرضاته وما عنده ،ولهذا وبخ ال تعالى من يتقاعس
عن الجهاد قال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى
الرض أرضيتـم بالحياة الدنيـا مـن الخرة فمـا متاع الحياة الدنيـا فـي الخرة إل قليـل} سـورة
التوبة الية.38 :
-384ولعظيم اثر الجهاد ودللته على اليمان ،قال الفقهاء :المقام في ثغور المسلمين أفضل
مـن المجاورة فـي المسـاجد الثلث :المسـجد الحرام ومسـجد الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم،
والم سجد الق صى .وتعل يل ذلك أن الرباط من ج نس الجهاد ،والمجاورة غايت ها أن تكون من
ج نس ال حج ،وقال تعالى{ :أجعل تم سقاية الحاج وعمارة الم سجد الحرام ك من آ من بال واليوم
الخر وجاهد في سبيل ال ل يستوون عند ال} سورة التوبة الية ،19 :وفي الصحيحين عن
206
النبي صلى ال عليه وسلم انه سئل عن أي العمال افضل؟ قال صلى ال عليه وسلم "إيمان
بال ورسوله .قيل :ثم ماذا؟ قال :ثم جهاد في سبيله .قيل :ثم ماذا؟ قال :ثم حج مبرور".
-385وترك الجهاد سـبب للمذلة والهوان وضياع الديار وتسـلط الكفرة على بلد السـلم،
وهذا من العذاب الذي توعد به ال تعالى تاركي الجهاد ،قال ربنا في القرآن الكريم {إل تنفروا
يعذبكـم عذابا أليما ويسـتبدل قوما غيركـم ول تضروه شيئا وال على كـل شيـء قديـر} سـورة
التوبة الية .39 :قال المام العربي المالكي في تفسيره :في هذه الية تهديد شديد ووعيد مؤكد
فـي ترك النفيـر والخروج الى الكفار لمقاتلتهـم على أن تكون كلمـة ال هـي العليـا .أمـا نوع
العذاب ،فقال ع نه المام ا بن العربـي " :هو الذي فـي الدن يا باسـتيلء العدو على من يسـتولي
عل يه ،وبالنار في الخرة" .ووقائع التار يخ القدي مة والحدي ثة تؤ يد ما ذكره ا بن العر بي ،ف ما
أصاب المسلمين من ذل وتسلط الكفرة عليهم ال بتركهم الجهاد المطلوب منهم.
-386وعلى ذكر الجهاد ،والقتال في سبيل ال ،يقول ب عض الكتاب المحدث ين :إن القتال في
السلم ،أو الجهاد في السلم ،هو دفاعي ل هجومي ،بمعنى أنه ل يجوز للدولة السلمية ان
تهاجـم دولة غيـر اسـلمية إل إذا هاجمتهـا هذه الخيرة .والواقـع ان هذا القول غيـر سـديد
وينقصه التحقيق والتدق يق ،ول تدل عليه دلئل الشريعة ،ذلك ان القتال في السلم له أسباب
منها :رد العتداء وفي هذا قال تعالى{ :وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ال
ل يحـب المعتديـن} سـورة البقرة اليـة .190 :ومنهـا :القتال لنصـرة ضعفاء المسـلمين الذيـن
يتعرضون لظلم الكفرة قال تعالى{ :وما لكم ل تقاتلون في سبيل ال والمستضعفين من الرجال
والن ساء والولدان الذ ين يقولون رب نا أخرج نا من هذه القر ية الظالم أهل ها} سورة الن ساء ال ية:
.75ومنها :أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا السلم ومنعوا المسلمين من تولي الحكم
والسلطان لقامة شرع ال وتطبيقه في الرض ،وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من
قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون وغيرهم بل مبرر .والحقيقة أن القرآن والسنة النبوية يدلن
على هذا النوع من القتال ،قال تعالى{ :وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل} سورة
النفال اليـة ،39 :والفتنـة معناهـا الكفـر والشرك ،قال المام أبـو بكـر الجصـاص فـي أحكام
القرآن في تفسير هذه ال ية{ :وقاتلو هم حتى ل تكون فت نة ويكون الد ين كله ل} يوجب فرض
قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع ...أما الدين فهو النقياد
ل بالطاعة ..والدين الشرعي هو النقياد ل عز وجل والستسلم له ...ودين ال هو السلم
لقوله تعالى{ :ان الدين عند ال السلم} سورة آل عمران الية ،19 :فقول المام الجصاص:
حتى يتركوا الك فر ،أي كفرهم المتعلق بتشريع الحكام ،لن التشريع من حق ال وحده ،ف من
ناز عه ذلك ف قد ك فر وأشرك ،قال تعالى{ :أم ل هم شركاء شرعوا ل هم من الد ين ما لم يأذن به
ال} سورة الشورى الية.21 :
207
ويؤيد ما قلناه أيضا قوله تعالى{ :قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما
حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صـاغرون} سـورة التوبـة اليـة ،21 :قال المام الشافعـي :الصـغار أن تؤخـذ منهـم الجزيـة
وتجري علي هم احكام ال سلم[ .]2فهذا صريح في ان قتال الم سلمين ان ما هو لظهار د ين ال
بتطبيق شرائعه بعد أن يتولى المسلمون الحكم والسلطان وليس المقصود قتل غير المسلمين أو
اكراههم على السلم لنه لو كان هذا هو المقصود لما شرعت الجزية ولما أقر الكافر على
كفره في دار السلم.
وفي السنة النبوية ما يؤيد ما قلناه ،فقد وردت احاديث كثيرة عن النبي صلى ال عليه وسلم
وفيها يأمر الرسول صلى ال عليه وسلم امراء الجند عند توجيههم الى المشركين ان يدعوهم
الى السـلم فان أبوا فالى الجزيـة أي الى الخضوع الى سـلطان الدولة السـلمية فان أبوا
قاتلوهم حتى يخضعوهم قهرا لسلطان المسلمين[.]3
-387والحقيقـة ان بدء المسـلمين لغيرهـم بالقتال إذا رفضوا السـلم أو الجزيـة ،انمـا هـو
لمصـلحة عموم المشركيـن الذيـن يخضعون لسـلطان الكفـر ،لن المسـلمين يريدون بهذا القتال
ر فع هذا الح كم الكا فر عن هم وإزالة شرائ عه الباطلة ،ور فع الحوا جز عن عموم الناس لرؤ ية
السلم وشرائعه ،فمن شاء آمن ومن شاء بقي على كفره بشرط الولء للدولة السلمية .وهذا
كله من مصلحة المشرك ين الدنيوية والخروية .اما الدنيوية فتظهر في تمتعهم بعدل السلم
والحافظة على أموالهم وحقوقهم .وأما الخروية فبتهيئة سبل رؤيتهم السلم واحتمال دخولهم
فيه عن رضى واختيار ل عن جبر واكراه وفي هذا سعادتهم وفوزهم في الخرة.
والخلصة فان المسلم ل ينفك عن الجهاد في سبيل ال أبدا فهو في جهاد دائم :يجاهد نفسه
ليحملها على الطاعة وعلى بذل المال والنفس في سبيل مرضاة ال تعالى ،ويجاهد بلسانه
وقلمه ليبين معاني السلم ويرد على افتراءات المبطلين ،ويجاهد في جميع أحواله ،في
الرخاء والشدة ،وفي حالة الضعف والقوة ،وفي حالة الفقر والغنى ،وبهذا قال المفسرون في
قوله تعالى{ :انفروا خفافا وثقالً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير لكم إن كنتم
تعلمون} سورة التوبة الية .41 :والمر بالجهاد وذكر فضائلة وثوابه في الكتاب والسنة أكثر
من أن يحصر ،بل ولم يرد في ثواب العمال وفضلها – كما يقول ابن تيمية رحمه ال – مثل
ما ورد فيه .وتعليل ذلك ان نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ،ويشتمل على
جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة مثل محبة ال والخلص له والصبر والزهد .وان
القائم به بين احدى الحسنين دائما ،إما النصر والظفر ،وإما الشهادة والجنة[.]4
208
[ ]1أحكام القرآن لبي العربي المالكي ج 2ص .943
[ ]2مختصر المزني ج 8ص .277
[ ]3صحيح مسلم ج 7ص ،310الخراج لبي يوسف ص ،190زاد المعاد ج 2ص .65
[ ]4مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ج 8ص 353
تمهيد
-379في كتاب ال و سنة ر سوله صلى ال عل يه و سلم احكام كثيرة تبين الفعال والتروك
المحر مة ال تي يعا قب مرتكب ها .وهذه الحكام و ما ينب ني علي ها أو يتفرع من ها تكون ما يم كن
ت سميته بنظام الجري مة والعقو بة في ال سلم أو بالقانون الجنائي ال سلمي .والقانون الجنائي
ال سلمي في أ صله قانون عال مي ،ل نه جزء من الشري عة ال سلمية ،و هي بطبيعت ها شري عة
عالم ية ل اقليم ية ،أراد مشرع ها – وهوال جل جلله – تطبيق ها على كا فة الناس في جم يع
بقاع الرض ،وهم مخاطبون بأحكام ها ،مطالبون بتنفيذها ،ول كن لعدم ول ية دار السلم على
مـا سوى اقليمهـا ف قد تعذر تطبيقهـا فـي خارج اقليم ها ،أ ما فـي دا خل اقليـم السـلم ،في جب
التطبيق ،لن الولية فيها للمسلمين ،وفي هذا المعنى يقول المام ابو يوسف "ولن الشرائع هو
العموم في حق الناس كا فة إل ا نه تعذر تنفيذ ها في دار الحرب لعدم الول ية وام كن في دار
ال سلم فلزم التنفيذ فيها"[ ]1وعلى هذا فإن احكام القانون الجنائي السلمي تب طق على جم يع
الجرائم التي تقع في دار السلم بغض النظر عن جنسية مرتكبها أو ديانته ،وهذه هي القاعدة
العامـة .إل أن فـي بعـض جزئياتهـا اختلفا قليلً بيـن الفقهاء بالنسـبة للذمييـن ،واختلفا أكثـر
بالنسـبة للمسـتأمنين[ ]2فمـن ذلك أن جمهور الفقهاء اسـتثنوا الذمييـن والمسـتأمنين مـن عقوبـة
شرب الخمـر باعتبار أن هم يعتقدون حل ها .وع ند الظاهر ية ت جب علي هم عقو بة شرب الخ مر
شأنهم في ذلك شأن المسلمين[ .]3وبعد هذا التمهيد نتكلم عن الجريمة أولً ثم عن العقوبة ثانيا،
في فرعين متتاليين.
209
أن تكون من المحظورات الشرع ية ،أي م ما ن هى ع نه الشرع ال سلمي ن هي أ)
تحريم ل نهي كراهة بدليل وجوب العقاب على مرتكب هذه المحظورات ،والعقاب ل يجب إل
على ترك وا جب أو ف عل محرم ،فيكون المق صود من المحظورات الشرع ية :ترك وا جب أو
فعل محرم.
أن يكون تحريم الفعل أو الترك من قبل الشريعة السلمية فان كان من غيرها ب)
فل يعتبر المحظور جريمة.
أن يكون للمحظور عقو بة من ق بل الشرع ال سلمي سواء أكا نت هذه العقو بة ت)
مقدرة و هي ال تي ي سميها الفقهاء ب ـ "ال حد" ،أو كان تقدير ها مفوضا الى رأي القا ضي و هي
التي يسميها الفقهاء "التعزير" ،فاذا خل الفعل او الترك من عقوبة لم يكن جريمة.
أنواع الجرائم
-382الجرائم على اختلف انواعها يجمعها جامع واحد هو أنها محظورات شرعية معاقب
عليهـا .وقـد قسـمها الفقهاء الى ثلثـة انواع بالنظـر الى نوع عقوبتهـا ،وهـي :جرائم الحدود
وجرائم القصاص والديات ،وجرائم التعزير.
جرائم الحدود
-383وهذه الجرائم هي الزنى والقذف ،وشرب الخمر ،والسرقة ،والحرابة – قطع الطريق
– والردة ،والبغي على خلف فيه[.]5
وال حد في الل غة :الم نع ،و في الشرع :عقو بة مقدرة وج بت حقا ل تعالى[ .]6وب عض الفقهاء
يعرف الحد بأنه العقوبة المقدرة شرعا ،ول يقيدها بكونها حقا ل تعالى ،فيسمى القصاص بهذا
العتبار حدا أيضا[.]7
210
-384وهذه هـي جرائم القتـل والجروح وقطـع الطراف ،ويسـميها الفقهاء بالجنايات على
النفـس او مـا دون النفـس .وعقوبـة هذه الجرائم القصـاص إذا توافرت شروطـه ،او الديـة إذا
كا نت الجري مة غ ير عمد ية ،او كا نت عمدا ولم تتوا فر شروط الق صاص الخرى .و قد ت جب
الكفارة أيضا فـي جرائم القتـل .والقصـاص معناه أن يفعـل بالجانـي مثـل فعله بالمجنـي عليـه،
فيق تل او يق طع طر فه .وأ ما الد ية ف هي المال الوا جب في الجنا ية على الن فس او على ما دون
النفس بشروطها المقررة في الفقه السلمي .ولولي القتيل ان يعفو عن القصاص ،كما له ان
يعفـو عـن الديـة لنهـا حقـه .وفـي جرائم الجراح ونحوهـا يجوز للمجنـي عليـه ان يعفـو عـن
الجاني .واما الكفارة فهي عقوبة فيها معنى العبادة وتكون بعتق رقبة مؤمنة او بالصيام.
جرائم التعزير
-385التعزيـر ل غة :التأد يب ،وشرعا :تأد يب على معاص لم تشرع في ها عقوبات مقدرة[]8
وجرائم التعزير هي المحظورات الشرعية التي ليس لها عقو بة مقدرة من الشرع السلمي،
م ثل الخلوة بأجنب ية وأ كل الر با وخيا نة الما نة ون حو ذلك[ ،]9والمام او نائ به ،هو الذي يقدر
عقو بة التعز ير ،و هو في تقديره عقو بة التعز ير ل ي صدر عن الهوى وإن ما يل حظ ج سامة
الجريمة وظروفها ومقدار ضررها ،وحال الجاني من كونه من ذوي المروءات ،أو من ذوي
ال سوابق والجرام ،و ما ي تم به انزجار الجا ني وعدم عود ته الى م ثل فعله في الم ستقبل[.]10
ويجب التعزير على كل بالغ عاقل إذا ارتكب شيئا من جرائم التعزير سواء كان ذكرا أو أنثى،
مسلما كان أو كافرا ،أما الصبي العاقل فيعزر تأديبا ل عقوبة[.]11
211
المجتمـع وإزالة مفاسـده ،ولهذا الزمـت افراده بازالة المنكـر .ول شـك ان المجتمـع الطاهـر
العفيف سيساعد كثيرا على منع الجرام وقمع المجرمين .وسيقوي جوانب الخير من النفوس
ويسـد منافـذ الشـر التـي تطـل منهـا النفوس الضعيفـة ،وفـي هذا ضمان ايضا لتقويـة النفوس
واعطائها مناعة ضد الجرام.
ول كن مع هذا كله ،ف قد ت سول للب عض نفو سهم ارتكاب الجرائم .فكان ل بد من عقو بة عاجلة
توقعها الدولة السلمية عليهم زجرا لهم من العودة اليها وردعا للخرين الذين قد تسول لهم
انفسهم ارتكاب الجريمة ،وفي هذا استقرار للمجتمع واشاعة للطمأنينة فيه ،كما أن في انزال
العقاب بالمجرمين مصلحة لهم كما سنبين.
هذا وإن العقاب الدنيوي للمجرم ل يمنع العقاب الخروي ما لم تقترن به التوبة النصوح ،قال
تعالى{ :إنما جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا
أو تق طع أيدي هم وأرجل هم من خلف أو ينفوا من الرض ذلك ل هم خزي في الدن يا ول هم في
الخرة عذاب عظيم} سورة المائدة الية .33 :ومن تمام التوبة النصوح التحلل من حق الغير
إن كان اجرامـه مـس هذا الحـق .ويؤيـد مـا قلناه ايضا الحديـث الشريـف "إن السـارق إذا تاب
سبقته يده الى الجنة ،وان لم يتب سبقته يده الى النار"[ ]13فهذا السارق الذي قطعت يده تسبقه
يده المقطوعة الى الجنة ان تاب وإل سبقته الى النار.
212
اقي مت الحدود الشرع ية ظهرت طا عة ال ونق صت مع صيته ،وح صل الخ ير والن صر ،فينب غي
ان يكون ولة المور أشداء في اقامة حدود ال ل تأخذهم رأفة في الدين ،وان يكون قصدهمه
مـن اقامتهـا رحمـة الخلق بكـف الناس عـن المنكرات ال إشفاء لغيـظ نفوسـهم ول ارادة العلو
والفساد ،فيكون احدهم بمنزلة الوالد إذا أدب ولده ،يؤدبه رحمة به واصلحا لحاله ،مع أنه يود
ويؤثر ان ل يحوجه الى التأديب ،وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه.
213
-390وجم يع العقوبات الشرع ية بن يت على ا ساسين كبيرين :الول :العدل والثا ني :الردع.
ويظهر الساس الول – العدل – في أن العقوبة بقدر الجريمة ،قال تعالى{ :وجزاء سيئة سيئة
مثل ها} سورة الشورى ال ية ،40 :فل يس في ها زيادة على ما ي ستحقه المجرم ،وان ظن ب عض
الجهلء هذه الزيادة ك ما سنبينه ب عد قل يل .ويظ هر ال ساس الثا ني – الردع – في مقدار اللم
الذي تحدثه العقوبة في المجرم وما تسببه له من فقدان حريته او بعض أعضائه ،ول شك أن
فقده هذه الشياء يؤل مه ويخي فه فيمت نع من الجرام بدا فع من حب الذات والخوف من المؤذي
المؤلم إذا ما سولت له نفسه الجرام وزين له الشيطان مخالفة حدود السلم.
أنواع العقوبة
ـاص ،والديات،
ـة أنواع :الحدود ،والقصـ
ـلمية رابعـ
ـة السـ
ـي الشريعـ
-391العقوبات فـ
والتعزير ،وكنا قد أشرنا إليها من قبل عند كلمنا على تقسيم الجرائم ،فل بد من الكلم بايجاز
شديد عن كل عقوبة من هذه العقوبات من حيث دليل مشروعيتها ومقدارها.
الحدود أ)
-392وهي العقوبات المقدرة لجرائم الحدود ،وقد وجبت ،كما قال الفقهاء حقا ل تعالى ،لن
نفعها للعامة ل اختصاص لحد بها ،وما كان نفعه عاما ،يعتبر من حق ال ،ولهذا نسب الى
رب الناس جميعا لعظيـم خطره وشمول نفعـه[ ،]15ولن هذه النسـبة تشعـر بلزوم العنايـة
والهتمام به وعدم التفريط فيه ولهذا ل يجوز اسقاط هذه العقوبات "الحدود" بعد ثبوت جرائمها
امام القضاء حتى ولو رضي المجني عليه بهذا السقاط ،لتعلق حق ال بهذه العقوبات.
وجرائم الحدود ال تي ث بت في ها هذا النوع من العقوبات هي :الز نى ،والقذف ،وشرب الخ مر،
والسرقة ،والحرابة ،والردة ،والبغي.
214
أما الرجم ،فقد ثبت بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم وأجمع عليه الصحابة والمسلمون ولم
يشذ عن هذا الجماع إل الخوارج[ .]18والرجم معناه رجم الزاني بالحجارة أو ما يقوم مقامها
حتـى الموت .ول يجـب الرجـم إل على المحصـن باجماع العلماء .ومـن شروط الحصـان أن
يكون الزاني قد وطئ وطءا كاملً في نكاح تام.
أ ما التغر يب فمعناه ن في الزا ني عن البلد الذي ز نى ف يه إلى بلد غيره ،و قد اختلف العلماء في
وجوبـه مـع الجلد .فعنـد الحنفيـة ل تغريـب مـع الجلد إل إذا رأى المام المصـلحة فيـه فيكون
تعزيرا ل حدا ،وهذا مذ هب الزيد ية أيضا .وع ند الحنابلة والشافع ية ل بد من تغر يب الزا ني
غير المحصن لمدة سنة مع جلده سواء كان ذكرا أو انثى .وقال مالك يغرب الرجل ول تغرب
المرأة وبه قال المام الوزاعي[.]19
-394واللواط يدخـل فـي مفهوم الزنـى عنـد الجمهور كالمالكيـة والشافعيـة والحنابلة وأبـي
يوسف ومحمد صاحبي أبي حني فة ،فيكون عقا به عقاب الزنى[ .]20ويقول المام ا بن تيمية "
والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة :أن يقتل الثنان العلى والسفل – أي الفاعل والمفعول
به – سواء كان محصنين أو غير محصنين ،فان أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي ال
عنهما ،عن النبي صلى ال عليه وسلم قال" :من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول به"[.]21
-395ثانيا :عقوبة القذف
القذف شرعا التهام بالزنى ،أي نسبة الشخص الى الزنى بشروط معينة ،كأن يقال :يا زاني،
أو يـا زانيـة .وعقوب ته الجلد ثمانون جلدة ،قال تعالى{ :والذيـن يرمون المحصـنات ثـم لم يأتوا
بأربعـة شهداء فاجلدوهـم ثمانيـن جلدة ول تقبلوا لهـم شهادة أبدا وأولئك هـم الفاسـقون} سـورة
النور الية .4 :والنص وإن ورد في المحصنات لكن الحكم يثبت في المحصنين أيضا وعليه
اجماع الفقهاء[ .]22ويشترط لوجوب عقوبـة القذف شروط منهـا أن يكون القاذف بالغا عاقلً،
ـل والبلوغ
ـي العقـ
ـان هـ
ـحنا رجلً كان أو امرأة .وشرائط الحصـ
وأن يكون المقذوف مصـ
والحر ية والع فة عن الز نى وال سلم وهذا ع ند جمهور الفقهاء ،وع ند الظاهر ية ل يس ال سلم
شرطا للحصان ،فمن قذف ذمية بالزنى وجب عليه الحد كما يجب لو قذف مسلمة وحجتهم
قوله تعالى{ :والذين يرمون المحصنات} وهذا عموم يدخل فيه الكافرة والمسلمة[.]23
-396وإذا قذف الزوج زوجته بالزنى ،وعجز عن إثبات قذفه ،وجب عليه اللعان ،وإذا أثبت
قذفـه بالبيئة وجـب على زوجتـه حـد الزنـى .والصـل فـي اللعان قوله تعالى{ :والذيـن يرمون
أزواج هم ولم ي كن ل هم شهداء إل أنف سهم فشهادة أحد هم أر بع شهادات بال إ نه ل من ال صادقين
والخام سة أن لع نة ال عل يه إن كان من الكاذب ين ويدرؤوا عن ها العذاب أن تش هد أ بع شهادات
بال إنـه لمـن الكاذبيـن والخامسـة أن غضـب ال عليهـا إن كان مـن الصـادقين} سـورة النور
215
اليات 9-6 :وإذا ن كل الزوج القاذف ولم يل عن حد في قول الجمهور حد القذف ،وقال أ بو
حنيفة رحمه ال :ل يجد ويحبسه الحاكم حتى يلعن أو يذب نفسه فيحد حد القذف ،وإن نكلت
الزوجة وجب الحد عليها في قول مالك والشافعي ،وقال أبو حنيفة تحبس حتى تلعن .وعند
الحنابلة إذا نكلت الزوجة لم تحد ،وفي حبسها حتى تلعن أو تقر روايتان[.]24
-397ثالثا :عقوبة الخمر
وحد الشرب ثابت بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم واجماع المسلمين ،فقد ثبت عن النبي
صلى ال عليه وسلم :أنه ضرب في شرب الخمر بالجريد والنعال أربعين ،وضرب أبو بكر
رضي ال عنه أربعين ،وضرب عمر في خلفته ثمانين .وكان علي رضي ال عنه يضرب
مرة أربع ين ،ومرة ثمان ين .ف من العلماء من يقول :ي جب ضرب الثمان ين ،ومن هم من يقول:
الواجـب اربعون ،والزيادة يفعلهـا المام عنـد الحاجـة ،إذا أدمـن الناس الخمـر أو كان الشارب
ممـن ل يرتدع بدونهـا ونحـو ذلك ،فأمـا مقلة الشاربيـن وعدم اعتيادهـا مـن الشارب ،فتكفـي
الربعون[ .]25والخمـر ،التـي حرمهـا ال ورسـوله وأمـر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بجلد
شاربهـا ،كـل شراب مسـكر مـن أي أصـل كان سـواء كان مـن الثمار أو الحبوب أو غيرهـا،
وكذلك الحشي شة يجلد صاحبها ك ما يجلد شارب الخ مر ،ل ما ث بت في ال صحيحين عن ال نبي
صلى ال عل يه وسلم أ نه قال " :كل م سكر حرام "...وفي حد يث آخر "كل م سكر خ مر ،و كل
مسكر حرام" وفي رواية اخرى "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وفي حديث آخر "ما أسكر
كثيره فقليله حرام"[.]26
وتحر يم الخ مر ثا بت في القرآن الكر يم ك ما هو ثا بت بال سنة النبو ية ،قال تعالى{ :إن ما الخ مر
والمي سر والن صاب والزلم ر جس من ع مل الشيطان فاجتنبوه لعل كم تفلحون} سورة المائدة
الية.90 :
-398رابعا :عقوبة السرقة
السرقة اعتداء على مال الغير بأخذه خفية ظلما بشروط معينة ،منها :ان يكون محرزا ول تقل
قيمتـه عـن ربـع دينار .وعقوبتهـا قطـع اليـد قال تعالى{ :والسـارق والسـارقة فاقطعوا أيديهمـا
جزاءا بما كسبا نكالً من ال وال عزيز حكيم}[ ]27ومن صور العتداء على مال الغير التي
ل تع تبر سرقة بالمع نى ال صطلحي الفق هي وبالتالي ل ي جب في ها ق طع ال يد وإن ما ي جب في ها
التعز ير ،خيا نة الما نة كج حد الودي عة العار ية وغير ها من المانات ،وغ صب المال وانتها به
وخطفه من يد صاحبه.
-399خامسا :عقوبة قطع الطريق
216
جري مة ق طع الطر يق ،أوالحرا بة ،ع ند الفقهاء ،الخروج على المارة ل خذ المال من هم مجاهرة
بالقوة والق هر ،م ما يؤدي الى امتناع الناس عن المرور وانقطاع الطر يق ،سواء ارت كب هذه
الجريمة فرد أو جماعة ،بسلح أوغيره ،ويسمى مرتكب هذه الجريمة ،بالمحارب[.]28
والصل في عقوبتهما قوله سبحانه وتعالى{ :إنما جزاء الذ ين يحاربون ال ور سوله وي سعون
فـي الرض فسـادا أن يقتلوا أو يصـلبوا أو تقطـع أيديهـم وأرجلهـم مـن خلف أن ينفوا مـن
الرض ،ذلك ل هم خزي في الدن يا ول هم في الخرة عذاب عظ يم .إل الذ ين تابوا من ق بل أن
تقدروا عليهم فاعلموا أن ال غفور رحيم} سورة المائدة الية.34 – 33 :
وعقو بة قا طع الطر يق أن يق تل أو ي صلب إذا ق تل وأ خذ المال .ويق تل بل صلب إذا ق تل ولم
يأخذ مال .وتقطع يده ورجله من خلف إذا أخذ المال ولم يقتل ،وينفى من الرض إذا أخاف
ال سبيل ف قط فلم يق تل ولم يأ خذ مال .وع ند المالك ية يق تل قا طع الطر يق وجوبا إذا ق تل المج ني
عل يه ،وإن لم يقتله ول كن أ خذ ماله ف قط ،فإن المام مخ ير ف يه ب ين الق تل وال صلب والق طع من
خلف .وإذا أخاف السبيل فقط فالمام مخير فيه بين القتل والصلب من خلف والنفي[.]29
-400سادسا :عقوبة المرتد
المرتـد لغـة :الراجـع مطلقا :وشرعا :الراجـع عـن ديـن السـلم ،والردة تكون باللفاظ ،أو
الفعال ،أوالعتقادات .فتكون باللفـظ بأن يتكلم المسـلم بكلمـة الكفـر كسـب ال ورسـوله،
ل يدل على اسـتخفافه بالديـن السـلمي كالصـلة بل وضوء
وبالفعال ،بأن يأتـي المسـلم عم ً
عمدا على وجـه السـتخفاف بالديـن ،وكالقاء القرآن الكريـم فـي قذر عمدا .وبالعتقادات بأن
يعتقد المسلم امورا باطلة مناقضة لما عرف من السلم بالضرورة ،مثل انكار وجود ال ،أو
يوم القيامة ،أو الملئكة أو الجن ،أو يعتقد قدك العالم ،أو كذب الرسول صلى ال عليه وسلم،
أو حل الز نى ،أو يعت قد أن القرآن ل يس من ع ند ال أو أن محمدا صلى ال عل يه و سلم ل يس
خاتـم النـبياء والرسـل ونحـو ذلك .ويشترط لوقوع الردة أن يكون المرتـد عاقلً مختارا ،فل
تعتبر ردة المجنون ول الصبي الذي ل يعقل ،ول السكران الذي زال عقله بالسكر ول المكره
إذا كان قلبـه مطمئنا باليمان.وليسـت الذكورة شرطا لوقوع الردة ،وكذا البلوغ عنـد الحنفيـة
خلفا لغيرهم الذين يرون البلوغ شرطا لها[.]30
وعقوبة المرتد القتل لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وهذا الحكم
يش مل المر تد والمرتدة ع ند الجمهور ،وقال الحنف ية :المرتدة ل تق تل وإن ما تح بس ح تى تتوب.
أ ما امهال المر تد ق بل قتله ف قد قال الجمهور بوجوب امهاله ويعرض ال سلم عل يه لعله ير جع
عن ردته ،فأن أبى ،قتل .وقال الحنفية :المهال ليس واجبا بل مستحبا[.]31
-401سابعا :عقوبة البغي
217
جريمة البغي هي خروج جماعة ذات قوة وشوكة على المام بتأويل سائغ يريدون خلعه بالقوة
والعنـف ،ويسـميهم الفقهاء :البغاة .والصـل فـي هذه الجريمـة وعقوبتهـا قول ال جلّ جلله:
{وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الخرى فقاتلوا التي
تب غي ح تى تف يء الى أ مر ال }..سورة الحجرات ال ية .9 :وعقو بة البغاة قتال هم إذا أظهروا
الع صيان للمام وامتنعوا عن أداء ما علي هم من حقوق وجاهروا بذلك وتهيؤوا للقتال ،سواء
نصبوا علهيم اماما أو لم ينصبوا .ول يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم المام من يسألهم ويكشف
لهم الصواب ويدفع ما يحتجون به وينذرهم ويخوفهم نتيجة بغيهم ،وهذا هو ما فعله سيدنا علي
رضي ال عنه مع الخوارج فقد أرسل إليهم عبد ال بن عباس رضي ال عنهما يدعوهم الى
الطاعة والرجوع الى الجماعة .فإذا أبوا ،قاتلهم .هذا ويجوز قتالهم وإن لم يبدؤوا بالقتال فعلً،
إذا ترجـح للمام أنهـم يماطلون ويسـوفون ويريدون كسـب الوقـت وتجميـع النصـار اسـتعدادا
للقتال ،وقد يكون ،في هذه الحالة ،من الحزم معاجلتهم قبل أن يستفحل شرهم وتقوى شوكتهم
فيصـعب القضاء عليهـم .فاذا رجـع البغاة الى الطاعـة ولزوم الجماعـة لم يجـز قتالهـم لن
المق صود ح صل و هو رجوع هم الى طا عة المام .هذا ول ش يء على من قاتل هم من إ ثم أو
ضمان أو كفارة لن ال تعالى أح ّل قتالهـم .وكذلك ل ضمان فـي اتلف أموالهـم .وكذلك ليـس
على أهـل البغـي ضمان مـا أتلفوه حال الحرب مـن نفـس أو مال ،وبهذا قال الحنابلة والحنفيـة
والشافعي في أحد قوليه .والحجة لهذا القول :السوابق القديمة المحفوظة عن الصحابة الكرام،
و عن علي بن أ بي طالب ر ضي ال عن هم أجمع ين ،ولن للبغاة تأويلً سائغا ،و في تضمين هم
تنفير لهم عن الرجوع الى الطاعة ولزوم الجماعة ،فل يجوز[.]32
القصاص والديات أ)
-402والنوع الثا ني من أنواع العقو بة في الشري عة ال سلمية :الق صاص والديات ،وت جب
هذه العقوبـة فـي جرائم العتداء على النفـس أو على مـا دون النفـس ،أي فـي جرائم القتـل
والجروح وقطع الطراف والعضاء .وقد تجب الكفارة أيضا في جرائم القتل ،ونتكلم عن هذه
العقوبات بايجاز فيما يلي:
القصاص في جريمة القتل :قتل الجاني .وهو حق لولياء القتيل ،وهم جميع الورثة من ذوي
الن ساب وال سباب عند أك ثر الفقهاء .والصل في وجوب الق صاص في الن فس ،قوله سبحانه
وتعالى { :يا أي ها الذ ين آمنوا ك تب علي كم الق صاص في القتلى ،ال حر بال حر ،والع بد بالع بد،
والن ثى بالن ثى} سورة البقرة ال ية ،178 :ولوجوب الق صاص شروط ،من ها :أن يكون الق تل
عمدا عدوانا لقول ر سول ال صلى ال عل يه و سلم "الع مد قود" وان يكون القت يل مع صوم الدم
مطلقا أي غيـر مباح الدم ،وان يكون كافئا للقاتـل بمعنـى أن القاتـل ل يزيـد عليـه بحريـة أو
اسلم ،وهذا الشرط عند جمهور الفقهاء خلفا للحنفية[.]33
218
أما القصاص ،في جرائم العتداء على ما دون النفس ،فالصل فيه قوله تعالى{ :وكتبنا عليهم
في ها أن الن فس بالن فس والع ين بالع ين وال نف بال نف والذن بالذن وال سن بال سن والجروح
ق صاص} سـورة المائدة ال ية ،45 :وجاءت ال سنة النبويـة أيضا بوجوب الق صاص فيمـا دون
الن فس ك ما في ق صة الرب يع ب نت الن ضر ال تي ك سرت ثن ية جار ية فأ مر ال نبي صلى ال عل يه
وسلم بالقتصاص منها.
وشروط القصاص فيما دون النفس هي شروط القصاص في النفس مع وجوب توفر شرطين
آخرين هما :أولً :الممائلة بين محل الجريمة وبين ما يقابلها في الجاني المراد القتصاص منه
في هذا المحل .الثاني :ان يكون المثل ممكن الستيفاء[.]34
-403الدية
الدية في الشرع في باب القتل :اسم للمال الذي يدفع لهل القتيل من قبل من يجب عليه هذا
المال ،ويختلف مقدارها باختلف المال الذي تجب فيه .فهي عند الحنفية ،إذا كان القتيل ذكرا
م سلما ،من ال بل مائة ،و من الذ هب ألف دينار ،و من الف ضة عشرة آلف در هم ،و من الحلل
مائ تا حلة ،كل ثوبان :ازار ورداء ،و من الب قر مائ تا بقرة ،و من الغ نم ألف شاة ،ود ية الن ثى
على النصف من دية الذكر ،ودية الجنين عشر دية أمه.
وت جب الد ية في الق تل الخ طأ وش به الع مد على عاقلة الجا ني و هم الع صبة الن سبية أي أقارب
القتيل الذكور من جهة الب ،وأضاف إليهم الحنابلة العصبة السببية المتأتية من ولء العتاقة،
وعند الحنفية عاقلة الرجل أهل ديوانه من المقاتلة فان لم يكن فقبيلته .وتدفع الدية أقساطا في
ثلث سنوات ،ويؤدي كل رجل من العاقلة ،من الدية ،المقدار الذي يطيقه .وتجب الدية أيضا
في القتل العمد إذا اختارها أولياء القتيل على رأي من يقول :إنهم يخيرون بين القصاص وبين
الدية وتكون في هذه الحالة في مال الجاني فقط[.]35
-404الكفارة
وهي عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين عند عدم القدرة على العتق .وتجب الكفارة
في القتل الخطأ بل خلف بين العلماء .وتجب أيضا في القتل شبه العمد عند كثير من الفقهاء
كالحنفية والشافعية والحنابلة .أما في القتل العمد ،فقد قال بوجوبها الشافعية والزيدية ،ولم يقل
بوجوبها الحنفية والظاهرية والحنابلة على المشهور في مذهبهم[.]36
التعزير ب)
-405وثالث أنواع العقوبات التعزير ،وقد عرفناه من قبل ،وقلنا :إنه يجب في كل معصية
– ترك واجب أو فعل محرم – لم يرد في الشرع تقدير لعقوبتها .مثل تقبيل الصبي المرد ،أو
أكل ما ل يحل كالدم والميتة أو قذف الناس بغير الزنى ،أو السرقة من غير حرز ،أو سرقة
ما ل يبلغ ن صاب حد ال سرقة ،أو خيا نة الما نة كالوكلء والشركاء إذا خانوا ،أو ال غش في
219
ـي المكيال والميزان ،أو شهادة الزور ،أو الرشوة ،أو التعزي بعزاء
ـف فـ
المعاملة ،أو التطفيـ
الجاهلية ،الى غير ذلك من أنواع المحرمات .فمرتكبها يعاقب تعزيرا بقدر ما يراه ذوو الشأن
مثـل ولي المـر أوالقاضـي على حسـب كثرة هذه المحرمات فـي الناس أو قلتهـا ،فاذا كانـت
المعصية كثيرة الوقوع في الناس زاد في العقوبة بخلف ما إذا كانت قليلة .وعلى حسب حال
الجانـي فاذا كان مـن ذوي السـوابق والفجور زاد فـي عقوبتـه بخلف المقـل مـن ذلك .وعلى
حسب كبر الجرم وصغره ،فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولدهم ويتكرر ذلك منه بما ل
يعاقب به من لم يتعرض إل لمرأة واحدة او لصبي واحد.
أنواع التعزير
-406التعز ير يكون ب كل ما ف يه ايلم ،من قول وف عل ،وترك قول ،وترك ف عل ،ف قد يعزر
الش خص بوع ظه وتوبي خه والغلظ له ،و قد يعزر بهجره وترك ال سلم عل يه ح تى يتوب أو
يقلع عن مع صيته ،ك ما ه جر ال نبي صلى ال عل يه و سلم وأ صحابه {الثل ثة الذ ين خلفوا} و قد
يعزر بعزله عن ولي ته ،ك ما كان ال نبي صلى ال عل يه و سلم وأ صحابه يعزرون بذلك .و قد
يكون التعزير بالنفي عن الوطن أو بالحبس ،أو بالضرب ،وقد يعزر بتسويد وجهه .وقد يكون
بالعقوبات المال ية ك ما دلت على ذلك سنة ال نبي صلى ال عل يه و سلم ،ف قد أ مر عل يه ال صلة
والسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفه ،وأمره لهم يوم خيبر باكفاء القدور التي طبخت فيها
لحوم الح مر واتلف هذا الل حم ،وم ثل هد مه لم سجد الضرار .وكذلك ف عل ع مر وعلي ر ضي
ال عنه ما ف قد أمرا بتحر يق المكان الذي يباع ف يه الخ مر ،وم ثل أ خذ ش طر مال ما نع الزكاة.
ومثل اراقة عمر بن الخطاب رضي ال عنه اللبن المشوب بالماء المعد للبيع ،وأخيرا قد يكون
التعزير بالقتل مثل قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين ،وهذا مذهب المام
مالك وبعض الحنابلة[.]37
أكثر التعزير
-407اختلف العلماء في أك ثر التعز ير على أقوال :الول :ع شر أ سواط ،الثا ني :دون أ قل
الحدود ،إما تسعة وثلثون سوطا ،وإما تسعة وسبعون سوطا ،الثالث :انه ل يقدر بذلك ،ولكن
إن كان التعزير فيما من حبسه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر وان زاد على حد جنس آخر مثل
التعزير على سرقة دون النصاب ل يبلغ به قطع اليد وان ضرب السارق أكثر من حد القذف.
والتعز ير على ف عل دون الز نى ل يبلغ حد الز نى وان جاز ضر به أك ثر من حد القذف .وهذا
القول ،ك ما يقول ا بن تيم ية :أعدل القوال وعل يه دلت سنة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم[
.]38
-408وهـل يجوز التعزيـر بالقتـل؟ ذهـب المام مالك الى الجواز ووافقـه عليـه طائفـة مـن
أصحاب أحمد بن حنبل والشافعي على ذلك من حيث الجملة وان اختلفوا في بعض الجزئيات.
220
فعند هم يجوز ق تل الداع ية الى البدع المخال فة للكتاب وال سنة أ ما ق تل الجا سوس الم سلم الذي
أجازه مالك وب عض الحنابلة فقـد منعـه الشافعـي .وأبـو حنيفـة رحمـه ال تعالى يجوز التعزيـر
بالق تل في موا ضع ،من ها :في ما يتكرر من الجرائم إذا كان جن سه يو جب الق تل ،ك ما يق تل من
تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لخذ المال .ومن لم يندفع فساده في الرض إل بقتله ،جاز
قتله ،م ثل المفرق لجما عة الم سلمين ويدل على هذا ما جاء في الحد يث الشر يف " من أتا كم
وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" ،وسئل رسول
ال صلى ال عليه وسلم عمن لم ينته عن شرب الخمر ،فقال" :من لم ينته عنها فاقتلوه" وهذا
أيضا يدل على جواز التعزير بالقتل[.]39
اعتراضات ودفعها
-409اعترض أو يعترض البعـض على نظام الجريمـة والعقوبـة فـي الشريعـة السـلمية
باعتراضات يظنها مقبولة ،ويخلص منها إلى أن العقوبات الشرعية ل يمكن تطبيقها في الوقت
الحاضر أو ل يمكن تطبيق أكثر عقوبات الحدود على القل.
ويقوم هذا العتراض على أن عقوبات الحدود تتض من اهدار آدم ية الش خص بجلده في الز نى
والقذف وشرب الخ مر ،والتد خل في الحر ية الشخ صية ك ما في الز نى وشرب الخ مر ،وق طع
العضاء في عقوبة السرقة وقطع الطريق ،والرجم في الزنى بالنسبة للمحصن والتدخل في
حر ية العقيدة وق تل المخالف ك ما في عقو بة الردة ،واعطاء حق العقاب للفرد ل للمجت مع في
عقوبة القصاص ،وتحميل اقارب الجاني أو اشراكهم في دفع الدية خلفا لمبدأ شخصية العقاب
وعدم مسؤولية النسان عن جرم غيره.
والواقـع أن هذه العتراضات واهيـة ومـا قامـت عليـه أوهـى منهـا ،وان اغتـر بهـا أصـحابها
وحسبوها حججا قوية وأدلة دامغة تبرر اعتراضهم وتعذرهم في هجر العقوبات الشرعية .فل
بد من كشف بطلن هذه العتراضات بشيء من التوضيح والتفصيل.
-410قولهم :إن الجلد فيه اهدار لدمية الشخص مردود ،لن الجاني هوالذي أهان نفسه ولم
يكرم ها ،وعرض ها للهدار ولم ي صنها ،فان الزا ني الذي أباح لنف سه أن يلغ في اناء غيره لم
يعد ينفعه وعظ وتوبيخ وإنما يحتاج الى تذكير بالسوط وتحسيسه باللم الجسدي ل المعنوي،
واما رجمه ان كان محصنا فلنه لم يعد صالحا للعيش في المجتمع السلمي الطاهر لنه ولغ
في إناء الغير وعنده اناء يكفيه .وأما الجلد في القذف فانه السبيل لتبرئة المتهمة بالزنى ،ورفع
الشكوك عنها ،إذ ل سبيل الى ذلك إل باظهار كذب القاذف ،بمعاقبته .وسر المسألة ان السلم
يع نى بنظا فة المجت مع وطهار ته و سلمة العراض والخلق ،فاذا كا نت هذه المور مطلو بة
فوسائلها مطلوبة ،وهذا ما يقرره السلم ،وإذا كا نت هذه المور :من العفة وسلمة العرض
والخلق وطهارة المجتمـع غيـر مرغوبـة فوسـائلها غيـر مرغوبـة ،وهذا مـا يقرره ضمنا
221
المعترضون على العقوبات الشرعية .فالخلف إذن في المحافظة على هذه الغراض ،السلم
يقول ل بد من المحافظة عليها ومن ثم أوجب التشدد على من يريد تلويث المجتمع وتفويت
هذه الغراض المهمة الشريفة عليه.
-411أ ما ادعاؤ هم بأن هذه العقوبات تتض من التد خل في الحر ية الشخ صية ك ما في الز نى
وشرب الخمـر ،فمردود لن الحريـة الشخصـية ل يجوز أن تؤدي الى الضرار بالمجتمـع،
فالحرية الشخصية تقف حيث تكون اداة ضرر وهدم في المجتمع ،ول يمكن لمنصف أن يقول
إن ز نى الزا ني ن فع للمجت مع ،فأضراره أو ضح من أن نتكلم عن ها في هذا المقام .أ ما بالن سبة
لشرب الخمر ،فان عقل النسان جوهرة ثمينة ل يجوز تعطيلها اختيارا فيكفي النسان تعطيل
عقله اضطرارا في النوم ،فضلً عما في شرب الخمر من ت سهيل سبل الجرام للسكران كما
هو واضح ومعروف ،والدولة مسؤولة عن منع الجرام في اقليمها وسد سبله.
-412أما ادعاؤهم بقسوة بعض العقوبات لما فيها من بتر وقطع بعض العضاء فانهم قد
فاتهم مدى ترويع السارق وقاطع الطريق للمنين ،كان عليهم أن يتصوروا فعل السارق وهو
يسير في جنح الظلم على رؤوس أقدامه فينقب الجدار ويكسر القفل ويدخل على المنين في
بيوتهم من نساء وأطفال ورجال ،وبيده السلح يزهق روح من يقاومه ،فيأخذ المتاع من البيت
ويخرج ،وربما يستيقظ أهل الدار فيحصل القتل أو الفزع والهلع .فهم لو تصوروا فظاعة جرم
السـارق لمـا أسـفوا على قطـع يده الثمـة الخبيثـة .ومثـل هذا يقال عـن قطاع الطرق الذيـن
يترب صون بالمارة ويهاجمون هم وي سلبونهم أموال هم وأرواح هم .ثم يقال :إن العقو بة ي جب أن
يكون فيهـا قدر كاف مـن الردع والزجـر ،ول شـك أن قطـع يـد السـارق او المحارب فيـه هذا
المقدار ،أما غيرهما من العقوبات الوضعية كالحبس والغرامات فل تملك هذا القدر من الردع،
ودليل ذلك الواقع فان جرائم السرقة بازدياد ولم تقللها عقوبة الحبس .بل إن السجن صار نزل
ل صحاب ال سوابق يترددون ال يه ويع تبرونه مأوى أمينا ل هم بل ومحل للقائ هم وتبادل خبراتهم
في عالم السرقة والجرام.
-413أما قولهم :إن عقوبة الردة بقتل المرتد تدخل في حرية العقيدة ومصادرة لها واكراه
للنسـان على اعتقاده مـا ل يريـد ،فهذا القول مأخذه الجهـل فـي طبيعـة هذه العقوبـة ،ومعنـى
الردة ،ومع نى الكراه على تبد يل الد ين .فالردة ك ما قل نا الرجوع عن ال سلم ،أي ان م سلما
ير جع عن ا سلمه ،فن حن اذن إزاء م سلم ارت كب جرما معينا ي سمى "الردة" ول سنا أمام ر جل
يهودي أو نصـراني نكر هه على تبديـل عقيدتـه ،ومبدأ ل اكراه فـي الد ين مقرر فـي الشريعـة
ال سلمية و في نص القرآن الكر يم ،ول يجوز الم ساس به ،بدل يل وا ضح ان ال سلم شرع
الجزيـة ،والجزيـة اقرار لغيـر المسـلم على دينـه ،فلو كان هناك اكراه على تبديـل عقيدة غيـر
المسلم وتحويله بالجبر عن عقيدته لما شرعت الجزية.
222
أما سبب عقوبة المرتد وجعلها القتل فيرجع الى أمرين خطيرين :الول :ان المسلم بردته أخل
بالتزا مه ،لن الم سلم با سلمه يكون قد التزم أحكام ال سلم وعقيد ته فاذا ار تد كان ذلك م نه
اخللً خطيرا في اصل التزامه ،ومن يخل بالتزامه عمدا يعاقب ،وقد تبلغ عقوبته العدام ،ال
يرى ان مـن تعاقـد مـع الدولة لتوريـد الطعام لفراد الجيـش ثـم أخـل بالتزامـه عمدا فـي حالة
احتياج الجيش للرزاق أن جزاءه قد يصل الى العدام؟ الثاني :ان المرتد مع اخلله بالتزامه
يقوم بجريمة أخرى هي الستهزاء بدين الدولة والستخفاف بعقيدة سكانها المسلمين ،وتجريء
لغيره من المنافق ين ليظهروا نفاق هم ،وتشك يك لضعاف العقيدة في عقيدت هم ،وهذه كل ها جرائم
خطيرة يستحق معها المرتد استئصال روحه وتخليص الناس من شره .وإنما قل نا :إن المرتد
من يرت كب هذه المور ،ل نه ل يعرف ارتداده إل بالت صريح وإل لو اخ فى رد ته ل ما عرف.
ومع هذا فقد قلنا :إنه يمهل ثلثة أيام لعطائه فرصة الرجوع عن ردته ،وهذا المهال واجب
ع ند كث ير من الفقهاء ف هل يم كن ب عد هذا ان يقال :عقو بة الردة قا سية أو أن في ها اكراها على
تبديل العقيدة أو أن فيها تدخل في حرية العقيدة؟
-414وأما قولهم :إن العقوبة في جريمة القتل ،هي القصاص ،اعتبرت حقا لولياء القتيل ل
للمجتمع مع أن القتل يهم المجتمع ويعتبر اعتداء عليه فيكون العقاب حقه ل حق أولياء القتيل،
فهذا القول هزيل وسطحي ،فاول ان للمجتمع حقه في هذه العقوبة ،ولهذا إذا عفا أولياء القتيل
عن القاتل جاز للقاضي أن يحكم عليه بعقوبة تعزيرية بالسجن أو بالضرب أو بهما .وفي هذا
يقول ابن فرحون المالكي" :إذا عفي عن القاتل العمد على الدية فان على القاتل الدية ويستحب
له الكفارة ويضرب مائة ويحبس سنة"[ ]40لن حق اولياء القتيل في القصاص هو الغالب أي
أغلب من حق المجتمع فيه ،ومن ثم كان لهم العفو عنه ،كما كان لهم طلبه ،وإذا طلبوه لم يسع
القاضي ان يعفو عنه بل ول لرئيس الدولة أن يعفو عن القاتل ما دام يمكن لحد ان يتصرف
ف يه بغ ير رضا هم .أ ما في القوان ين الوضع ية فالنظرة تختلف ،لن هذه القوان ين تج عل عقو بة
القا تل من حق المجت مع ل من حق أ هل القت يل ،وبالتالي فل يتر تب على عفو هم ع نه ا سقاط
العقو بة ،ك ما أن للمجت مع ممثل برئ يس الدولة أو غيره ،ان يع فو عن القا تل ،أو يبدل عقو بة
العدام بغيرها .والنظرة الفاحصة في جريمة القتل العمد تبين ان ضرر هذه الجريمة يقع اول
وب صورة مباشرة على المج ني عل يه وأهله ،ف هم الذ ين اكتووا بنار هذه الجري مة ولحق هم الذى
والضرر المبا شر بفقد هم عزيز هم ،وان ضرر هم هذا والم هم وأذا هم أ شد وأك ثر بكث ير من
تضرر المجت مع وأذاه وأل مه ،ف من ال طبيعي والعدل ان يكون حق هم في الق صاص من الجا ني
اغلب من حق المجتمع ،ثم ان في تمكينهم من القصاص حسما للجريمة واطفاء لنار الغضب
وطلب الثأر في نفو سهم ،و في الحيلولة بين هم وب ين ذلك ابقاء لجذور الجري مة ف قد يند فع أ هل
القتيل لقتل الجاني بعد حبسه ،كما يحدث هذا كثيرا ،ويقال أيضا :إن في القصاص من القاتل
223
واعطاء حق القصاص لهل القتيل ردعا مؤثرا وزجرا كافيا لمن تسول له نفسه ازهاق روح
البريء لن النسان يحب ذاته ويحرص عليها ويخاف من فواتها ،فينزجر عما يؤدي الى ذلك
إذا ما علم أن الق صاص من حق اولياء القتيل وأ نه ل يم كن للقا ضي ،ول رئ يس الدولة الع فو
عنه إذا ما طلب أهل القتيل القصاص منه .ولهذا كله رأينا أن جرائم القتل قليلة يوم كان نظام
القصاص الشرعي هو المطبق السائد في البلد السلمية ،وان جرائم القتل ازدادت ول تزال
في ازدياد عندما نحيت عقوبة القصاص الشرعية ،فيكف بعد هذا يمكن لمنصف ان يعترض
على عقوبة القصاص الشرعية ،والنظر السديد يؤيدها والواقع يشهد بصحتها وبكفايتها للزجر
والردع وأثر ها في ح فظ حياة الناس و صدق ال العظ يم إذ يقول{ :ول كم في الق صاص حياة يا
أولي اللباب} سورة البقرة الية.179 :
ول بد ه نا من الشارة الى أن هذا الحجاج والمناق شة إن ما ي ساقان على سبيل التنزل وا سكات
المعترض بنفـس اعتراضـه ،وإل فان المؤمـن بال وباليوم الخـر وبديـن السـلم ل يجوز له
العتراض على شرع ال لن العتراض عل يه نوع من الرتداد عن د ين ال سلم ،وان من
شرط اليمان الحكـم بمـا شرعـه ال والرضـى بـه ،قال تعالى{ :فل وربـك ل يؤمنون حتـى
يحكموك في ما ش جر بين هم ثم ل يجدوا في أنف سهم حرجا م ما قض يت وي سلموا ت سليما} سورة
النساء الية.65 :
-415وأمـا اعتراضهـم فـي الديـة وانهـا تحميـل لغيـر الجانـي وان هذا يناقـض مبدأ قصـر
الم سؤولية على من قام ف يه سببها ،فالجواب أن مبدأ ق صر الم سؤولية على من قام ف يه سببها
الم ستفاد من قوله تعالى{ :ول تزر وازرة وزر أخرى} سورة فا طر ال ية ،18 :مبدأ قائم في
الشريعة غير مسنوخ ول معطل ،وليس في تشريع الدية مناقضة له أصل ،لن ايجاب الدية
على العاقلة في القتل الخطأ ،إنما كان بناء على التعاون والمواساة ،لن المخطئ من حقه أن
يعان ،وان أولى من يعي نه أهله واقرباؤه من ع صبته الذ ين يرثو نه ب عد مو ته ،ف من باب الغ نم
بالغرم و جب علي هم موا ساته والشتراك م عه في الد ية ،و في هذا الشتراك ت سهيل على أ هل
المج ني عل يه الظ فر بالد ية لن مبلغ ها كبير وامكان ادائ ها من الجا ني ضع يف ،في ح ين ان
تحم يل العاقلة ب ها سيجعل ما ي صيب الوا حد من هم مبلغا ي سيرا ي سهل عل يه اداؤه في سهل على
أ هل القتيل الظ فر به كما قلنا .وقد ذهب ب عض الفقهاء الى تعليل آخر في وجوب الد ية على
العاقلة خل صته أن ع صبة القا تل خ طأ مان علي هم أن يراقبوه ويوجهوه لئل ي قع في الرعو نة
والطيش فيقتل غيره خطأ ،فاذا لم يفعلوا ذلك كان خطأ منهم وتقصيرا في واجبهم في مراقبة
بعضهم بعضا فيتحملون جزاء تقصيرهم بتحميلهم الدية مع الجاني.
الخلصة
224
والخلصة أن نظام الجزية والعقوبة نظام عادل قام على أسس متينة واحاطة تامة بما يصلح
له أمر الناس ،وبمراعاة غرائز الناس ،مما يؤدي الى قمع أو تقليل الجرام فيهم ،مع عدالة
تامة في تقدير العقوبة وجعلها بقدر الجريمة ،وفي تطبيق العقوبة على الجميع .وقد رأينا
تهافت اعتراضات المعترضين على الحدود والقصاص والديات ،أما التعزير فاعتراضهم عليه
قليل جدا ،بل إن نظام التعزير مما انفردت به الشريعة السلمية ،وهو احدث ما ينادي به في
الوقت الحاضر علماء القانون الجنائي .وإذا علمنا ان نطاق العقوبات التعزيرية أوسع بكثير
من نطاق الحدود والقصاص علمنا مدى متانة القانون الجنائي السلمي وامتيازه على ما سواه
من القوانين الوضعية ،ووفائه بحاجات الناس وقيامه بتوفير المن والطمئنان لهم مما ل
يجاريه في ذلك ،ول يقاربه فيه أي قانون وضعي ،وهذا من بعض دلئل تنزل شرعة السلم
من ال جل جلله.
225
[ ]15التلويح على التوضيح ج 2ص .151
[ ]16بداية المجتهد ج 2ص .262
[ ]17تيسير الوصول ج 2ص .7
[ ]18بداية المجتهد ج 2ص ،363المغني ج 8ص ،157المبسوط ج 9ص .36
[ ]19شرح الكنز للزيلعي ج 3ص ،174 – 173المبسوط ج 9ص ،45 – 44المغني ج
8ص ،168 – 167بداية المجتهد ج 2ص .365 – 364
[ ]20الكاساني ج 7ص ،34الشرح الصغير للدردير ج 2ص ،393 – 390كشاف القناع
ج .4
[ ]21مجموع الفتاوى ابن تيمية ج 28ص .335 – 334
[ ]22تفسير القرطبي ج 12ص .172
[ ]23بداية المجتهد ج 2ص ،368المغني ج 8ص ،216الماوردي ص ،221المحلى ج
11ص .268
[ ]24بداية المجتهد ج 2ص ،99الهداية وفتح القدير ج 3ص ،251 – 250أبو يعلى
الحنبلي ص .256
[ ]25مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .337 – 336
[ ]26المرجع السابق ص .342 – 340
[ ]27سورة المائدة الية ،38 :الكاساني ج 7ص ،92 – 91شرح الخرشي ج 8ص .104
[ ]28السياسة الشرعية لبن تيمية ص ،83 – 82المغني ج 8ص ،288فتح القدير ج 7
ص 268وما بعدها ،بداية المجتهد ج 2ص ،380الكاساني ج 7ص 93ومعنى يصلبوا،
أي يربطوا على خشبة ليشتهر أمرهم ويعرفهم الناس ،وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلف ،أي
تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ،والمراد بالنفي هنا حبس الجاني في غير بلده.
[ ]29نفس مصادر رقم .279
[ ]30بدائع الصنائع للكاساني ج 7ص ،134رد المحتار ج 3ص ،394 – 392الفتاوى
الهندية ج 2ص ،253المغني ج 8ص ،123شرح الخرشي في فقه المالكية ج 8ص ،62
شرح الزهار في فقه الزيدية ج 4ص .576
[ ]31الفتاوى الهندية ج 2ص ،257المغني ج 8ص .125 – 123
[ ]32أبو يعلى الحنبلي ص ،39 – 38الماوردي ص ،56 – 55الكاساني ج 7ص ،113
،140الهداية وفتح القدير ج 4ص ،411المغني ج ،114 – 108كشاف القنا ج 4ص ،99
مغني المحتاج ج 4ص ،128المهذب للشيرازي ج 2ص ،437شرح الزهار ج 4ص
.570
226
[ ]33المغني ج 7ص 643وما بعدها ،الكاساني ج 7ص 232وما بعدها ،الماوردي ص
222وما بعدها ،بداية المجتهد ج 2ص ،332شرح الخرشي ج 8ص ،4مغني المحتاج ج
4ص ،16شرح فتح القدير ج 8ص .254
[ ]34المغني ج 7ص ،707 – 702تفسير القرطبي ج 6ص ،161وما بعدها ،الدر
المختار ج 5ص ،485الكاساني ج 7ص .297
[ ]35الدر المختار ورد المحتار ج 5ص ،517 – 504الكاساني ج 7ص ،257 – 251
المغني ج 7ص 759وما بعدها ،بداية المجتهد ج 2ص ،345المحلى لبن حزم ج 11ص
،58مختصر المزني ج 5ص ،141مغني المحتاج ج 4ص ،55شرح الزهار ج 4ص
.468
[ ]36المغني ج 7ص ،651وج 8ص ،97 – 96الدر المختار ج 5ص ،468 – 467
الكاساني ج 7ص ،251المحلى ج 10ص ،514البحر الزخار ج 5ص ،222متن
المنهاج ومغني المحتاج ج 4ص .107
[ ]37مجموع الفتاوى ابن تيمية ج 28ص .345 – 344 ،108 – 107
[ ]38مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .108
[ ]39المرجع السابق ص .347 – 345
[ ]40تبصرة الحكام لبن فرحون المالكي ج 2ص .259
صدُ السلم
الفصل الخامس -مَقا ِ
227
قال جل جلله{ :و ما أر سلناك إل رح مة للعالم ين} وإن ما كا نت ر سالته عل يه ال صلة وال سلم
رحمة للعالم ين لنها تتض من تحقيق الم صالح للعباد في دنيا هم وآخرت هم وتدرأ عنهم المفا سد
والضرار.
228
بيسر وسلمة حتى توصله الى ال تعالى راضيا مرضيا ،بخلف المعاني غير السلمية فانها
تكدر حياة النسان وتشقيه في الدنيا وتقطع صلته بال ول توصله في الخرة إل إلى النار.
229
على قلب بشر ،وفيها رضوان ال ورؤية وجهه الكريم والقرب منه في جنات النعيم ،وكل هذه
المور العظام ل يساوي اليسير منها كل نعيم الدنيا .واما من حيث الدوام فان سعادة الخرة
ولذائذ ها دائ مة غ ير منقط عة ،بين ما نع يم الدن يا ولذائذ ها منقط عة قطعا ،ف هي ل تتجاوز ع مر
النسان ،إذا فرضنا أن يتنعم في عمره كله ،وأية نسبة بين سعادة مقدرة بعمر النسان القصير
المتنا هي ،و سعادة الخرة الدائ مة لمدى غ ير متناه ية؟ فالم سلم العا قل ل يم كن أن يؤ ثر الدن يا
على الخرة أبدا ،لن الشرع يأمـر بتقديـم الخرة ،والحسـاب يقتضـي هذا التقديـم ،ومصـلحة
النسان تدعو الى هذا التقديم ،وهذا هو الحق وماذا بعد الحق إل الضلل والجهل والخسران
المبين.
تمهيد
-379الدا عي هو المكلف شرعا بالدعوة إلى ال ،فل بد من التعر يف به وبيان أدلة تكلي فه.
والدا عي و هو يقوم بهذا التكل يف الشر عي يحتاج الى عدة تعي نه على أداء ما كلف به وت سهل
عليه هذه المهمة العظيمة .كما يحتاج الى نوع معين من الخلق السلمية أكثر مما يحتاجه
غيره ،وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى ثلثة فصول:
الفصل الول – التعريف بالداعي
الفصل الثاني – عدة الداعي
الفصل الثالث – اخلق الداعي
230
الداعي الول
-379الداعي الول إلى ال تعالى ،بعد أن أنعم ال علينا بالسلم ،هو رسولنا الكريم محمد
صلى ال عليه وسلم .قال تعالى{ :يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى
ال بإذنه وسراجا منيرا} سورة الحزاب الية .46-45 :وقد كرر القرآن الكريم الخطاب إلى
الر سول الكر يم صلى ال عل يه و سلم يأمره بالدعوة إلى ال وال ستمرار علي ها وعدم التحول
عنهـا ،فمـن هذه اليات الكريمـة قوله تعالى{ :وادع إلى ربـك إنـك لعلى هدى مسـتقيم} سـورة
الحـج اليـة ،67 :وقوله تعالى{ :وادع الى ربـك ول تكونـن مـن المشركيـن} سـورة القصـص
ال ية ،87 :وقوله تعالى { :قل إن ما أمرت أن أع بد ال ول أشرك به إل يه أد عو وإل يه المآب}
سورة الرعد الية ،36 :وقد ظل صلى ال عليه وسلم يدعو إلى ربه تبارك وتعالى حتى أتاه
اليقين من ربه وصار الى جواره الكريم راضيا مرضيا فجزاه ال على المسلمين خير الجزاء.
231
الدعوة إليه .وهذا التشريف والتكريم ل يستفاد فقط من الخطابات اللهية لرسوله بالدعوة إليه
ك ما ذكر نا وإن ما هو صريح اليات الكثيرة في القرآن ،قال تعالى{ :كن تم خ ير أ مة أخر جت
للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عـن المنكـر} سـورة آل عمران اليـة ،110 :فهذه اليـة
الكريمـة افادت معنييـن :الول خيريـة هذه المـة ،والثانـي أنهـا حازت هذه الخيريـة لقيامهـا
بوظيفة المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهي وظيفة رسول ال ورسل ال جميعا ،وأول
ما يد خل في ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر الدعوة الى ال وحده والبراءة من الشرك
بأنوا عه .بـل إن القرآن الكريـم جعـل مـن صـفات المؤمنيـن الدعوة إلى ال ،بخلف المنافقيـن
الذ ين ي صدون عن سبيل ال و يدعون الى غيره ،قال تعالى{ :والمنافقون والمنافقات بعض هم
أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف }..سورة التوبة الية ،67 :ثم قال تعالى
بعد ذلك{ :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
سورة التو بة ال ية .71 :قال القر طبي في تف سير هذه ال ية الكري مة( :فج عل ال تعالى ال مر
بالمعروف والن هي عن المن كر فر قا ب ين المؤمن ين والمنافق ين ،فدل على أن أ خص أو صاف
المؤمنين المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ورأسها الدعاء إلى السلم)[ .]1وأضيف الى
ذلك أن ال تبارك وتعالى ،بهذا الية ،وصف المة السلمية بما وصف به رسوله صلى ال
عليه وسلم ،قال تعالى عن رسوله{ :يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات
ويحرم عليهم الخبائث} سورة العراف الية.157 :
232
الناس أن هذه سبيله أي طريقته وم سلكه وسنته وهي الدعوة الى شهادة أن ل إله إل ال وحده
ل شريك له ،يدعو إلى ال بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان ،هو وكل من اتبعه يدعو
الى ما دعا اليه رسول ال صلى ال عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي"[
.]2و في الحد يث الشر يف الذي رواه المام البخاري عن ا بن عباس أن ال نبي صلى ال عل يه
و سلم قال" :فليبلغ العلم الشا هد الغائب"[ ]3ويد خل في مع نى الشا هد كل م سلم علم من أ مر
السلم شيئا.
-383والدعوة إلى ال ،و هي وا جب على كل م سلم وم سلمة ،ك ما قل نا ،قد تؤدى ب صروة
فرد ية ،وقد تؤدى ب صورة جماعية ،وإذا أرد نا الد قة بالت عبير قل نا :إن هذا الوا جب يؤدى على
نحوين :الول ،نحو فردي بأن يقوم به المسلم بصفته فردا مسلما ،والثاني ،يؤدى هذا الواجب
أو جانبا منـه بصـفته فردا فـي جماعـة تدعـو الى ال تعالى .يدل على هذا كله قول ال تبارك
وتعالى{ :ولت كن من كم أ مة يدعون الى الخ ير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المن كر وأولئك
هـم المفلحون} سـورة آل عمران اليـة ،104 :قال المام ابـن كثيـر فـي تفسـير هذه اليـة
"والمقصـود مـن هذه اليـة أن تكون فرقـة مـن هذه المـة متصـدية لهذا الشأن ،وان كان ذلك
واجبا على كل فرد من ال مة بح سبه ،ك ما ث بت في صحيح م سلم عن أ بي هريرة ،قال :قال
ر سول ال صلى ال عل يه و سلم " :من رأى من كم منكرا فليغيره بيده ،فان لم ي ستطع فبل سانه،
فان لم يسـتطع فبقلبـه وذلك أضعـف اليمان" .والواقـع ان تجمـع الدعاة للقيام بواجـب الدعوة
بصورة جماعية ،يكون ضروريا كلما كانت مهمة الدعوة جسيمة ،كما لو أريد نشر الدعوة الى
ال في المجتمعات الوثنية الجاهلية التي عشعش فيها الشيطان وبيض وصد أهلها عن سبيل ال
وأرك سهم في حمأة الشرك ك ما في القطار الوثن ية في افريق يا ونحو ها ،فان م ثل هذه القطار
تحتاج الى جهود كبيرة جدا ومنظمة لنشر الدعوة الى ال وتعليمهم أمور السلم مما ل يقوى
عليه جهد فرد ول جهود مبعثرة لبعض الفراد .ويؤيد هذا التبشير بالسلم على شكل جمعي،
ما جاء في السنة النبوية ،أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يأمر من يسلم بالتحول الى دار
الهجرة ليضم جهده الى جهود المسلمين وتوجيهها التوجيه السليم من قبل رسول ال صلى ال
عليه وسلم.
كمـا اننـا نجـد فـي قوله تعالى{ :وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثـم والعدوان}
سورة المائدة الية ،2 :دليل آخر على مشروعية التجمع والدعوة الجماعية ،بل ووجوبها إذا
كان البر ل يمكـن تحصـيله بدون ذلك .وقـد اشار المام أبـو حنيفـة ،على مـا رواه الجصـاص
عنه ،الى ضرورة التجمع على المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتوجيه الجهود الجماعية
لتحقيق هذا المقصود.
233
شبهات واعتراضات
-384قد يتوهم البعض ان واجب الدعوة الى ال ل يلزمه ،لنه ليس من رجال الدين ،وإن
هذا الواجـب واجـب كفائي يجـب على العلماء فقـط ل على الجميـع بدليـل قوله تعالى{ :ولتكـن
منكـم أمـة يدعون الى الخيـر ويأمرون بالمعروف وينهون عـن المنكـر وأولئك هـم المفلحون}
سورة آل عمران الية.110 :
والجواب على ذلك أن تف سير هذه ال ية الكري مة ،ك ما نقلناه عن ا بن كث ير ،الفقرة ال سابقة "أن
تكون فرقـة مـن هذه المـة متصـدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كـل فرد مـن المـة
بحسبه" .وجاء في تفسير الرازي بصدد هذه الية :في قوله تعالى{ :منكم} قولن :أحدهما :أن
"من" هاهنا ليست للتبعيض لدليلين :الول :ان ال تعالى اوجب المر بالمعروف والنهي عن
المنكر على كل المة في قوله{ :كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر} .الثاني :هو أنه ل مكلف ال ويجب عليه المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،إما بيده
أو بلسانه أو بقلبه ،ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس .إذا ثبت هذا فنقول :معنى هذه
الية كونوا أمة دعاة الى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ،واما كلمة "من" فهي هنا
لل تبيين ،ل للتبع يض كقوله تعالى{ :فاجتنبوا الر جس من الوثان} سورة ال حج ال ية .30 :ثم
ذ كر الرازي القول الثا ني و هو ان " من" للتبع يض لن " في القوم من ل يقدر على الدعوة ول
على ال مر بالمعروف والنهـي عن المنكـر" ثم قال عن أصـحاب هذا القول :ان هذا التكليـف
مختص بالعلماء لن الدعوة الى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر ،فثبت أن
هذا التكليف متوجه على العلماء ل على الجهال ،والعلماء بعض المة"[ .]4وبنفس هذا المعنى
وذكر القولين في هذه الية ،جاء تفسير القرطبي وتفسير الجصاص[ ]5والواقع أن القول الذي
ذكره الرازي أصـح لمـا اسـتدل بـه أصـحابه ،وهـو مـا ذكره ابـن كثيـر بعبارتـه الدقيقـة التـي
ذكرناهـا ،إذ جعـل الوجوب على كـل فرد ،مـع لزوم وجود فرقـة متصـدية لشأن الدعوة الى
الخير .والحقيقة أن هناك شيئا من اللتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة (العلماء) التي فسر
بها أصحاب القول الثاني كلمة "ولتكن منكم أمة" الواردة في الية باعبتار أن الدعوة الى الخير
متأتـ مـن فهـم الفرض الكفائي .فل بـد مـن
ٍ مشروطـة بالعلم .والسـبب الثانـي لهذا اللتباس
توضيح هذين المرين ،فنقول:
ل شك أن الدعوة الى الخير ،وأعلها الدعوة الى ال ،مشروط لها العلم ولكن العلم ليس شيئا
واحدا ل يتجزأ ول يتب عض وإن ما هو ب طبيعته يتجزأ ويتب عض ،ف من علم م سألة وج هل أخرى
فهو عالم بالولى جاهل بالثانية ،ومعنى ذلك أن يعد من جملة العلماء بالمسألة الولى ،وبالتالي
يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة الى ما علم دون ما جهل ،ول خلف بين الفقهاء ،ان من جهل
شيئا أو ج هل حك مه أ نه ل يد عو ال يه ،لن العلم ب صحة ما يد عو إل يه الدا عي شرط ل صحة
234
الدعوة .وعلى هذا فكل مسلم يدعو الى ال بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد ،ويكون هذا
المعنى هو المقصود من قولهم :إن الدعوة تجب على العلماء ل على غيرهم ،أي على من يعلم
الم سألة وحكم ها ال تي يد عو الي ها ،سواء كان من عا مة الم سلمين أو م من نال حظا كبيرا من
العلم .وبهذا يظهر فساد قول من قال :إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظا كبيرا من العلم
دون سواهم ،وقد يسمونهم برجال الدين .لن هذه التسمية تصدق على كل مسلم فهو من رجال
السلم وليست مقصورة على فئة منهم .أما المر الثاني الذي يسببه حصل هذا اللبس ،وهو
مع نى الفرض الكفائي ،فالمق صود به ا نه اذا قام به الب عض سقط التكل يف عن الب عض ال خر
وان كان واجبا على الكل ،قال الرازي" :ثم قالوا – أي أصحاب القول الول القائلين بالوجوب
على ال كل ،وان كل مة " من" لل تبيين ولي ست للتبع يض – ان ذلك وان كان واجبا على ال كل ،إل
أ نه م تى قام قوم سقط التكل يف عن الباق ين ،ونظيره قوله تعالى{ :انفروا خفافا وثقالً} وقوله:
{إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما} فالمر عام ،ثم اذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف
على الباق ين"[ .]6وقال الج صاص و هو يتكلم عن تف سير ال ية{ :ولت كن من كم أ مة يدعون الى
الخيـر }..حوت هذه اليـة معنييـن ،أحدهمـا :وجوب المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر،
والخر انه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل واحد في نفسه اذا قام به غيره"[ ]7فقوله:
ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره ،يبين المقصود من الفرض الكفائي وهو
سقوطه إذا قام به الغ ير خلفا للفرض العي ني الذي ل ي سقط إل بالقيام به من كل فرد .وعلى
هذا فالدعوة من صفات المؤمنين كما بينا ،ولن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بازالة
المنكر حسب استطاعته ،فاذا حصل المقصود بفرد أو افراد لم يطالب الخرون باعادة المنكر
لزالته ،ول يؤاخذون لنهم لم يزيلوه .والشأن في المسلم المبادرة إلى المر بالمعروف والنهي
عـن المنكـر دون انتظار غيره فقـد ل يقوم بـه الغيـر فيقـع فـي الثـم .والمسـلم يدعـو الى ال
باعتباره مسـلما مؤمنا بال ورسـوله ،وقـد ذكرنـا ،قوله تعالى{ :قـل هذه سـبيلي أدعوا الى ال
على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان ال وما أنا من المشركين} سورة يوسف الية ،108 :فل
بد للمسلم أن يدعو الى ال ،ولكن لو قدر أنه لم يدع شخصا معينا الى ال أو لم يدع في وقت،
وقام بالدعوة م سلم آ خر ،فإن الدا عي يؤ جر دون الول ،ول كن لو ترك الم سلم الدعوة الى ال
تركا دائما م ستمرا متعمدا فإ نه ل ينضوي ت حت مفهوم قوله تعالى { :قل هذه سبيلي أد عو الى
ال }...لن اتباع الرسول صلى ال عليه وسلم هم الذين يدعون الى ال.
هذا ومـن معانـي الفرض الكفائي ،انـه متوجـه الى المسـلمين جميعا بأن يعملوا لتحقيـق هذا
الفرض ،وعلى القادر فعل أن يقوم بهذا الفرض مباشرة ،فيكون معنى الية{ :ولتكن منكم أمة
يدعون الى الخيـر ويأمرون بالمعروف وينهون عـن المنكـر} أن يقوم المسـلمون باعداد هذه
(المة) أي الجماعة المتصدية للدعوة الى ال وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من
235
قيام هم و هو اقا مة د ين ال ون شر دعو ته ،فان لم يف عل الم سلمون ذلك أ ثم الجم يع ،المتأ هل
للدعوة وغيره[.]8
ويقال أيضا :إن الدعوة الى ال حتـى لو قلنـا :إنهـا تجـب على البعـض دون البعـض الخـر
باعتبار انهـا مـن الفروض الكفائيـة ،فان الشرط للخروج مـن عهدة الفرض الكفائي حصـول
الكفا ية ب من يقوم به ،ول ما كا نت الكفا ية غ ير حا صلة ،في جب أن يقوم بهذا الوا جب كلم م سلم
ح سب قدر ته ،ل سيما في زمان نا ح يث ل يزال الشرك والوثن ية والجاهل ية تغ شى مجتمعات
بشر ية كثيرة في افريق يا وامري كا وغير ها من أقطار الرض المختل فة ،ون شر الدعوة الى ال
في هذه المجتمعات الجاهل ية يحتاج الى جهود جبارة يشترك في ها جم يع الم سلمين كل ح سب
استطاعته ،بماله او تعليمه ،أو بفكره أو بسلطانه.
-385و قد يتش بث الب عض ،توهما م نه ،بقوله تعالى { :يا أي ها الذ ين آمنوا علي كم أنف سكم ل
يضر كم من ضل إذا اهتدي تم} سورة المائدة ال ية ،105 :ليتخلص من وا جب الدعوة إلى ال
ويبرر قعوده وتقاعسه ،متوهما أن هذه الية الكريمة تعفيه من تكليف الدعوة إلى ال ،ما دام
هو في نف سه صالحا مهتديا .إن هذا الو هم ت سرب الى الب عض في ز من ال صديق أ بي ب كر
رضـي ال عنـه فخطـب فـي الناس ،وقال "يـا أيهـا الناس انكـم تقرؤون هذه اليـة الكريمـة
وتضعونها في غير موضعها{ :عليكم أنفسكم ل يضركم من ضل إذا اهتديتم} ،وإني سمعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن
يعمهم ال بعقاب"[.]9
هذا ،ويلحظ أن في الية نفسها ما يؤكد وجوب الدعوة الى ال تعالى على كل مسلم ،وينفي
الوهـم الذي يتشبـث بـه القاعدون ،ذلك أن ال سـبحانه وتعالى قال فـي اليـة {إذا اهتديتـم}
والهتداء كما قال شيخ السلم ابن تيمية "إنما يتم باداء الوجب .فاذا قام المسلم بما يجب عليه
مـن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر ،كمـا قام بغيره مـن الواجبات لم يضره ضلل
الضلل"[.]10
-386وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى ،وهي أن الباطل انتشر في الرض ،ولم تعد الدعوة
الى ال تن فع شيئا ،وعلى الم سلم أن يه تم بنف سه ويدع أ مر الخلق .والجواب على هذه الشب هة،
كما سنوضحه فيما بعد ،أن الواجب على المسلم هوالقيام بواجب الدعوة الى ال ،سواء حصل
المقصود واستجاب الناس أو لم يستجيبوا ،وقد حصلت هذه الشبهة لقوام سالفين ق صّ ال لنا
من أخبارهم ،وكيف أن الدعاة الى ال ردوا عليهم شبهتهم ،قال تعالى{ :وإذ قالت أمة منهم لم
تعظون قوما ال مهلكهـم أو معذبهـم عذابا شديدا؟ قالوا معذرة إلى ربكـم ولعلهـم يتقون .فلمـا
ن سوا ما ذكروا به أنجي نا الذ ين ينهون عن ال سوء وأخذ نا الذ ين ظلموا بعذاب بئ يس ب ما كانوا
يفسقون} سورة العراف الية .165-164 :والية الكريمة تشير إلى أهل قرية صاروا ثلث
236
فرق :فرقة ارتكبت المعاصي ،وفرقة أنكرت عليهم ووعظت هم ،وفر قة سكتت عنهم فلم تفعل
ولم تنـه ولكنهـا قالت للمنكرة{ :لم تعظون قوما ال مهلكهـم أو معذبهـم عذابا شديدا} أي :لم
تنهون هؤلء و قد علم تم أن هم قد هلكوا وا ستحقوا العقو بة من ال فل فائدة في نهي كم ايا هم،
فقالت الفرقـة المنكرة ،بالجواب الصـحيح {معذرة إلى ربكـم} أي :فيمـا أخـذ علينـا مـن واجـب
المر بالمعروف والنهي عن المنكر فنحن نعتذر إلى ربنا ل نملك إل أن ندعو هؤلء العصاة
للقلع عن معصيتهم والنابة الى ربهم {ولعلهم يتقون} أي :ولعل هذا النكار عليه ودعوتنا
إيا هم للنا بة الى رب هم والرجوع إل يه يدعو هم الى ال ستجابة[ .]11و في هذا اشارة الى أ نه ما
دام هناك احتمال قبول الدعوة فل بـد مـن اسـتمرار الوعـظ والرشاد والدعوة إلى ال تعالى
ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
-387وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى تقوم على فهم سقيم للية الكريمة {ل يكلف ال نفسا
إل وسـعها} سـورة البقرة اليـة ،286 :فيتعلل بأن الدعوة إلى ال تسـبب له تعبا ونصـبا ل
يستطيع تحمله ،والواقع أن هذه حجة ضعاف اليمان رقيقي الدين ،فان التعب المزعوم ينالهم
في سعيهم للظ فر بمآرب الدن يا التاف هة كالح صول على ر بح مادي زه يد مثل ،فأولى ب هم أن
يتحملوا شيئا من التعب في الدعوة الى ال وفي هذا التعب أجر عظيم لهم .والحقيقة ان التعب
المزعوم ي سير وب سيط ،ف هل هناك ت عب شد يد في تعل يم الجا هل أمور ال سلم ،أو في عرض
السلم على الكافر الذي لم يسمع بالسلم؟ وهل يتعب إذا حرك لسانه بالكلم الطيب أو يتعب
فكره إذا ف كر في أمور ال سلم؟ و هل يت عب تعبا ل يطاق إذا تي سر له ال سفر الى المجتمعات
الوثنية يدعوها الى ال؟ أل ينظر الى رجال الكنيسة الذين يذهبون ويقضون السنين هناك؟ إن
الم سلم أولى من هم بالتبش ير ون شر الدعوة الى ال ب ين اولئك الوثني ين ،وإن عل يه إذا و سوس له
الشيطان بالتعـب والرهاق أن يتذكـر قول ال تعالى{ :إن تكونوا تألمون فإنهـم يألمون كمـا
تألمون وترجون من ال ما ل يرجون} سورة النساء الية .106 :وعليه أن يتذكر أن أصحاب
ر سول ال تحملوا كثيرا في الدعوة إلى ال والجهاد في سبيله ،ونذ كر على سبيل المثال شيئا
من أخبارهم وجهادهم في سبيل ال ،فقد جاء في كتب السيرة ،ان النبي صلى ال عليه وسلم
بعد أن رجع الى المدينة ومعه المسلمون بعد معركة أحد جاءه الخبر – أن أبا سفيان ومن معه
من المشركين عزموا على الرجوع الى المدينة – لستئصال من بقي من المسلمين .فلما صلى
الر سول صلى ال عل يه و سلم ال صبح ،أ مر بللً فنادي :إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم
يأمر كم لطلب عدو كم ول يخرج مع نا إل من ش هد القتال أ مس .فخرج م عه سعد بن معاذ الى
داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريح فقال :إن رسول ال يأمركم أن تطلبوا عدوكم .فقال أسيد
بن حضير – وبه سبعه جراحات يريد أن يداويها – سمعا وطاعة ل ولرسوله ،وأخذ سلحه
ولم يعرج على دواء ،ول حق بر سول ال صلى ال عل يه و سلم .وجاء سعد بن عبادة قو مع،
237
وجاء أبو قتادة الى طائفة فبادروا جميعا ،وخرج من بني سلمة أربعون جريحا – بالطفيل بن
النعمان ثلثـة عشـر جرحا ،وبالحارث بـن الصـمة عشـر جراحات – حتـى وافوا رسـول ال
صلى ال عليه وسلم فقال لما رآهم" :اللهم ارحم بني سلمة"[ .]12وهكذا كان صحابة رسول
ال وهذا نموذج من جهادهم في سبيل اعلء كلمة ال ،فهل يستكثر المسلم إذا أتعب نفسه قليل
في الدعوة الى ال ون شر محا سن ال سلم وتعل يم الناس مكارم الخلق؟ ال ي ستحي من نف سه
إذا استكثر الجهد البسيط الذي يبذله في الدعوة الى ال ،وصحابة رسول ال يخرجون جرحى
للقتال وهم يقولون :سمعا وطاعة ل ولرسوله.
238
الرض ،قالوا ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها ،فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}
سورة الن ساء ال ية .97 :وقال أ هل التف سير في هذه ال ية :إن ها نزلت " في كل من أقام ب ين
ظهرانـي المشركيـن وهـو قادر على الهجرة وليـس متمكنـا مـن اقامـة الديـن فهـو ظالم لنفسـه
مرت كب حراما بالجماع"[ ]13وقال المام مالك "ته جر الرض ال تي ي صنع في ها المن كر جهرا
ول يسـتتر فيهـا"[ .]14وعلى هذا فقيام المسـلم بدعوة أهـل الشرك والكفـر إلى ال وإلى دينـه،
يفيده ويقيه شرور الكفر.
الو جه الثالث – د فع الهلك والعذاب عن الم سلمين ،قال تعالى{ :واتقوا فت نة ل ت صيبن الذ ين
ظلموا منكـم خاصـة واعلموا أن ال شديـد العقاب} سـورة النفال اليـة .25 :قال ابـن عباس
ر ضي ال عنه ما :أ مر ال المؤمن ين أل يقروا المن كر ب ين أظهر هم فيعم هم العذاب أي ي صيب
الصالح والطالح .وفي مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت النبي صلى ال عليه وسلم :يا
رسول ال أنهلك وفينا الصالحون؟ قال" :نعم إذا كثر الخبث"[.]15
239
إلى ال تعالى واعمار الرض بفضائل العمال وبعبادة ال تبارك وتعالى ،قال عــز وجــل
{الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر
ول عاقبة المور} سورة الحج الية ،41 :وقد قال أهل التفسير في المراد من أهل التمكين في
الرض :إنهم الولة ،ومنهم من أدخل فيهم العلماء[ ،]16والول أظهر ،وعلى هذا فمن اتاه ال
تعالى الملك والسـلطان فعليـه أن يعمـر الرض بعبادة ال وعلى رأسـها الصـلة ويأمـر
بالمعروف وين هى عن المن كر ،وعلى رأس المعروف الدعوة إلى ال ،وعلى رأس الن هي عن
المنكر النهي عن الشرك بجميع أنواعه وأشكاله ،وهذا هو مقصود الولية ،قال شيخ السلم
ابن تيمية" :انما نصب المام ليأمر بالمعروف ،وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولية"[
.]17وقـد فقـه هذا المعنـى ولة المـر فـي الماضـي ،فاسـتعملوا سـلطانهم فـي اقامـة ديـن ال
والدعوة اليه .ك تب عمر بن عبد العزيز إلى عماله في القاليم كتابا جاء فيه "وان من طا عة
ال التي أنزل في كتابه أن يدعو الناس إلى السلم كافة ..فادع إلى السلم وأمر به ،فان ال
تعالى قال{ :ومن أح سن قول م من د عا إلى ال وع مل صالحا وقال إنني من المسلمين}[.]18
والحقيقة أن قيام ولي المر بواجب الدعوة إلى ال يؤدي إلى نتائج كبيرة جدا ومؤثرة جدا لنه
يملك القوة وال سلطان وبيده ال مر والن هي م ما يجعله قادرا على التنف يذ أك ثر من أي وا حد من
آحاد الرع ية ،ولهذا جاء في ال ثر المشهور "أن ال يزع بال سلطان ما ل يزع بالقرآن" .وبقدر
قدرة المسلم على الدعوة والتنفيذ يكون واجبة في الدعوة إلى ال ومسؤوليته عن ذلك.
240
ويو سف عل يه ال سلم عند ما د خل ال سجن مظلوما لم يشغله ال سجن وضي قه عن وا جب الدعوة
إلى ال ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها ،فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا
ال به {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إل
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان ،إن الحكم إل ل أمر أل تعبدوا إل
إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون} سورة يوسف الية .40 ،39 :المطلوب من
الداعي أن يدعو إلى ال وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس.
-391المطلوب من الدا عي أن يد عو إلى ال ،وهذا هو الوا جب عل يه ،ول يس المطلوب م نه
أن يسـتجيب الناس ،قال تعالى{ :ومـا على الرسـول إل البلغ المـبين} سـورة العنكبوت اليـة:
،18فاذا كان الرسـول غيـر مكلف إل بالتبليـغ فغيره مـن احاد المـة أولى أن ل يكلف بغيـر
التبليغ .وتعليل ذلك من وجهين :الول :أن القاعدة الًصولية تقول :إن النسان ل يكلف بفعل
غيره أي ل يكلف أن يفعل غيره فعل معينا أو يترك فعلً معينا ،لن هذا من قبيل تكليف ما ل
يطاق ،وانمـا يكلف النسـان أن يفعـل هـو فعل معينا يتعلق بغيره وقـد يحمله على الفعـل،
كالدعوة إلى ال ،وكالمـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر ،فالمسـلم مطالب ومكلف بأن يأمـر
بالمعروف ،وقـد يسـتجيب المأمور فيكون أمـر المـر سـببا لفعـل المأمور وقـد ل يسـتجيب
المأمور ،ولهذا مدح ال تعالى أ حد أ نبيائه بأ نه {وكان يأ مر أهله بال صلة} سورة مر يم ال ية:
،55فالذي يمل كه الم سلم ويكلف به أن يأ مر غيره بالمعروف ويدعوه إلى عبادة ال ول يكلف
بأن يف عل الغ ير فعل معينا .الو جه الثانـي :إن ال ستجابة والهدا ية ب يد ال وحده ،ف هو الهادي
{كذلك يضـل ال مـن يشاء ويهدي مـن يشاء }...سـورة المدثـر اليـة ،31 :ول الحجـة على
عباده ،ولو شاء لهدا هم أجمع ين ،ل ي سأل ع ما يف عل و هم ي سألون .أ ما هدا ية التبل يغ والبيان
والدعوة ف هي للر سل ول سائر الدعاة ،ف هم المكلفون ب ها ،قال تعالى لر سوله الكر يم صلى ال
عل يه و سلم{ :وا نك لتهدي إلى صراط م ستقيم} سورة الشورى ال ية ،52 :مع قوله في آ ية
أخرى {إنك ل تهدي من أحببت ولكن ال يهدي من يشاء} سورة القصص الية.56 :
241
عن المنكر لكونه ل يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فان الذكرى تنفع المؤمنين فإن الذي عليه
المـر والنهـي ل القبول"[ ]21ووجـه الدللة بهذا القول ان الدعوة الى ال فـي رأس المـر
بالمعروف والنهي عن المنكر فيسري عليها معنى هذا القول .وبهذا المعنى قال السيوطي في
اشباهـه[ .]22وممـا يؤكـد وجوب السـتمرار على الدعوة إلى ال حرمـة اليأس ،واحتمال
الجا بة ،لن المور ب يد ال وقلوب العباد ب ين أ صبعين من أ صابع الرح من يقلب ها ك يف يشاء
فل ي ستطيع الدا عي أن يق طع بعدم الجا بة في جب عل يه ال ستمرار بالدعوة والو عظ والرشاد
حتى يقضي ال أمرا كان مفعولً.
242
النبي صلى ال عليه وسلم قال لعلي رضي ال عنه "فوال لن يهدي ال بك رجل واحدا خير
لك من حمر النعم" وفي حديث آخر "من دل على خير فله مثل أجر فاعله".
243
[ ]23تفسير ابن كثير ج 4ص .100
تمهيد
-379يحتاج الداعي إلى ال في اداء مهمته ووظيفته ،التي هي في الصل وظيفة رسل ال،
إلى عدة قوية من الفهم الدقيق واليمان العميق والتصال الوثيق بال تعالى .هذه هي مقومات
عدة الداعي وأركانها وإذا فقدها لم يغن عنها شيء آخر وإذا ضعفت معانيها في نفسه فعليه أن
يقويها ،فل بد من الكلم عنها بما يبين المقصود منها في أبحاث متتالية.
فضل العلم
-380وف ضل العلم وأهله معروف غ ير منكور ن طق به القرآن الكر يم ور فع شأ نه وأكد ته
السنة النبوية وأمر ال بالتزود منه وطلب المزيد منه قال تعالى{ :وقل ربي زدني علما} سورة
طه الية{ ،114 :يرفع ال الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} سورة المجادلة الية:
244
،11و في ال سنة النبو ية " من يرد ال به خيرا يفق هه في الد ين" وا ستشهد ال تعالى بأ هل العلم
على أجل مشهود به وهو توحيد ال وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملئكة وهذه تزكية لهم
وتعديـل وتوثيـق لن ال تعالى ل يسـتشهد بمجروح قال تعالى{ :شهـد ال أنـه ل إله إل هـو
والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط ل إله إل هو العزيز الحكيم} سورة آل عمران الية.18 :
وأهـل العلم ل ينفعون أنفسـهم فقـط وإنمـا ينفعون غيرهـم بمـا يرشدونهـم إليـه ويدلونهـم عليـه
يوصـلونهم بـه إلى ربهـم ،فالناس كمـا قال المام أحمـد بـن حنبـل رحمـه ال تعالى :إلى العلم
أحوج منهم إلى الطعام والشراب لنهم يحتاجون اليهما في اليوم مرة أو مرتين ،وحاجتهم إلى
العلم بعدد أنفاسـهم ،ومـن أجـل هذا كله كان طلب العلم أفضـل مـن صـلة النافلة ،وبهذا قال
الشاف عي وأ بو حني فة ومالك وغير هم من أئ مة الم سلمين ،وجاءت ال سنة النبو ية بالبشارة ل هم،
ففيهـا" :ان العالم ليسـتغفر له مـن فـي السـماوات ومـن فـي الرض ،وان ال تعالى وملئكتـه
يصـلون على معلمـي الناس الخيـر"[ ]1فعلى الداعـي المسـلم أن يحرص أن يكون دائما مـن
المتفقهين في الدين ،العلماء بأحكامه المعلمين للناس الخير حتى يصيبه ما نطقت به هذه اليات
والحاديث.
الفهم الدقيق
-381ومن العلم العزيز النادر الذي يغفل عنه الكثيرون مع دللة القرآن عليه وتصريحه به
والدعوة اليه ،علم طريق الخرة الذي يهيج القلب ويزعجه ويدفعه إلى سلوكه ،ويشعر صاحبه
بغربته في الدنيا وقرب رحيله عنها إلى سفر بعيد ل يرجع بعده إلى دنياه ول ينفع فيه زاد إل
التقوى ولذلك فهو دائما مشغول بإعداد هذا الزاد {وتزودوا فان خير الزاد التقوى} سورة البقرة
الية ،197 :متطلعا إلى ما هناك ،إلى ما يؤول إليه أمره بعد سفره البعيد ،أيكون مصيره إلى
نار جه نم ،و في ذلك شقاؤه العظ يم ،أم يكون م صيره في دار النع يم بجوار الرب الكر يم؟ ا نه
لهذه العاقبـة المجهولة ،يكون دائما بيـن الخوف والرجاء ،ولكنـه خوف العارف ل الجاهـل
ورجاء العامـل ل الخامـل ...ان هذا العلم هـو الذي قلّ وجوده بيـن الناس وبيـن طلب العلم،
وبدونـه ل يعتـبر العالم عالما وان حفـظ الشروح والمتون والحكام ومل رأسـه منهـا ورددهـا
على لسانه ..ان هذا العلم هو لب العلم وغايته وكل مسلم محتاج إليه والعالم أشد حاجة إليه،
والداعي أحوج من الجميع إليه ...ان هذا العلم هو الذي نسميه "الفهم الدقيق" وهو الذي فقهه
الصحابة الكرام وأشربت به عقولهم وقلوبهم فضنوا بوقتهم أن يذهب سدى في غير طاعة ال
ودعوة إل يه ،فنش طت جوارح هم في العبادة والجهاد في سبيل ال والدعوة إل يه ح تى أتا هم من
ربهم اليقين.
245
الفهم الدقيق يقوم على تدبر معاني القرآن
-382ويقوم الفهـم الدقيـق على تدبر معانـي القرآن وإطالة النظـر فيهـا وترديدهـا والوقوف
عندها والتغلغل في مراميها ومقاصدها ،فان ال تعالى أنزل كتابه ليتدبر الناس آياته ل لمجرد
أن يتلوه بل فهـم ول تدبر .قال تعالى{ :كتاب أنزلناه إليـك مبارك ليدبروا آياتـه ولتذكـر أولوا
اللباب} سورة ص الية ،29 :وقال تعالى{ :أفل يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} سورة
محمد الية ،24 :ان تلوة القرآن بتدبر وامعان تعرف المسلم بالرب الذي يدعو إليه ،وطريق
الوصول إليه ،وما للمستجيب من الكرامة إذا قدم عليه ،وتعرفه في مقابل ذلك ثلثة أخرى :ما
يدعو إليه الشيطان وحزبه ،والطريق الموصلة إليه ،وما للمستجيب لدعوة الشيطان من الهانة
والعذاب .ان هذه المعر فة ضرور ية للدا عي إذ ب ها تجعله كأ نه في الخرة وان كان هو في
الدنيا وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه الناس فتريه الحق حقا والباطل باطلً
وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلل والغي والرشاد وتعطيه قوة في قلبه وحياة
وسـعة وانشراحا وبهجـة وسـرورا وتعلقا بالخرة وعزوفا عـن الدنيـا ،فيصـير هـو فـي شأن
والناس في شأن آخر[.]2
246
ال صنف الثا ني :و هم الذ ين عرفوا الحقي قة والغا ية ،عرفوا أن هم خلقوا ل لعباد ته ،وان هم إل يه
راجعون ،قال تعالى{ :و ما خل قت ال جن وال نس إل ليعبدون} سورة الذاريات ال ية { ،56 :يا
أي ها الن سان إ نك كادح الى ر بك كدحا فملق يه} سورة النشقاق ال ية ،6 :فغايت هم عبادة ال
وحده ومن ها الجهاد في سبيله والدعوة إل يه وعمارة الرض بف عل الخ ير وهدا ية الحيارى إلى
الحق وقيادتهم في دروب الحياة ،تلك غايتهم في الحياة الدنيا ،ووراؤها الغاية العظمى والعليا:
وهـي ابتغاء مرضاة ال وحده جـل جلله .قال تعالى{ :يـا أيهـا الذيـن آمنوا اركعوا واسـجدوا
واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون .وجاهدوا في ال حق جهاده ،هو اجتباكم وما جعل
علي كم في الد ين من حرج ملة أبي كم ابراه يم هو سماكم الم سلمين من ق بل و في هذا ليكون
الر سول شهيدا علي كم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا ال صلة وآتوا الزكاة واعت صموا بال
هو مول كم فن عم المولى ون عم الن صير} سورة ال حج ال ية ،78 – 77 :هذه مه مة الم سلم في
الحياة وغاي ته في ها ،عبادة ال وحده وجهاد في سبيله :يجا هد نف سه ح تى يحمل ها على الطا عة
ويبعدهـا عـن المعصـية ،ويجاهـد بقلمـه ولسـانه وماله ويده فـي سـبيل ال حتـى تعلو كلمةال
ويستنير البشر بنور السلم .وقد اختار ال تعالى المسلمين لهذه المهمة الخطيرة ،مهمة هداية
الناس وقيادتهـم للحـق واخراجهـم مـن الظلمات إلى النور ،فل مجال للتخلي عـن هذه المهمـة
الشري فة وهذه المكر مة العظي مة ال تي أكرم ال ب ها الم سلمين ،بل علي هم أن يقابلو ها بالر ضى
والنهوض بها وشكر ال عليها.
247
إلى هذا الحد فقدت حاسة القبول والعتبار وعند ذاك ل يجدي معها وعظ ول تذكير ،وبالتالي
وبالبداهة ل يصلح صاحب هذه النفس ان يكون داعيا إلى ال.
ف ما هو العلج لتخل يص القلب من ا سر الدن يا وتعل قه ب ها؟ العلج في ذلك تي قن زوال الدن يا
ومفارقتهـا وتيقـن لقاء الخرة وبقاءهـا ثـم يقارن بيـن المريـن فيؤثـر الخرة على الدنيـا .قال
تعالى{ :وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} سورة القصص الية ،60 :وقال تعالى{ :قل
متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل} سورة النساء الية{ ،77 :ما عندكم
ين فد و ما ع ند ال باق} سورة الن حل ال ية ،96 :وان يح ضر في ذه نه هذا الذي تيق نه .وهذه
الغاية واستحضارها في الذهن ل تكفي وحدها بل ل بد من قطع التسويف وطول المل حتى
يحس بالغربة في هذه الدنيا ،وانه قد يرحل عنها في أية ساعة ،قال صلى ال عليه وسلم" :إذا
أصبحت فل تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فل تحدث نفسك بالصباح "..وقال عليه الصلة
والسلم" :ما لي وللدنيا ،ما أنا والدنيا إلى كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
وإذا وسـوس له الشيطان والقـى فـي روعـه أنـه شاب قوي موفور الصـحة والعافيـة ،فليطرد
وسواسه باستحضار الشباب الذين رحلوا وهم الن تحت الثرى ،وإذا لج الشيطان في وسوسته
فليخرج إلى المقابر ويستنطق الراقدين كم فيهم من الشباب الذين شربوا كأس الموت مبكرين،
ثم ليرجع إلى محلته وليعد شيوخ وكهول بلده فسيجدهم أقل من عشر رجال بلده ،ومعنى ذلك
أن الموت في الشباب كثير لم ينج منهم إل القليل وهم الكهول الحاضرون.
فاذا قصـر أمله فـي الحياة انبعـث إلى التجهـز للخرة بع مل الطاعات :إذ ل يدري متـى ينادى
عليه بالرحيل.
فاذا تخلص الداعي المسلم من التعلق بالدنيا وأفرغ ما في قلبه من سمومها واقبل على الخرة
أ حس بغر بة شديدة في الدن يا ولكن مع خ فة في رو حه واقبال شد يد على مرا ضي ر به وعلى
رأ سها الدعوة إل يه وهدا ية الحيارى من عباده ،ل يعي قه عن ذلك ت عب ول ن صب ول ألم ول
سـفر ول سـهر ول بذل ول تضحيـة ،لن ذلك كله مـن الزاد المؤكـد نفعـه وفائدتـه فـي سـفره
الطو يل البع يد إلى الخرة ،بل ا نه سيجد في تع به را حة ،و في أل مه لذة و في بذله ربحا و في
تضحيته عوضا مضمونا .وليس فيما أقوله خيالً أو مبالغة ،فإن الغريب عن أهله الذي طالت
غربته وازداد شوقه إليهم سيجد لذة وهو يعد أسباب سفره إليهم وإن كان في اعداد ذلك تعب
لجسمه وسهر في ليله ومن جرب عرف...
[ ]1مدراج السالكين لبن قيم الجوزية ص .470 – 469
[ ]2مدراج السالكين لبن القيم ج 1ص 452
248
عدّة الدّاعي -المبحث الثاني -اليمان العميق
الفصل الثاني ُ -
249
التي تقلبوا فيها لم يتزعزع ايمانهم ولم يسترب إلى قلوبهم ذرة من الشك في كونهم على الحق
ومو صولين بال حق ويدعون الى ال حق وان الكفرة في ضلل مبين قال تعالى{ :له دعوة ال حق
والذ ين يدعون من دو نه ل ي ستجيبون ل هم بش يء إل كبا سط كف يه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو
ببال غه و ما دعاء الكافر ين إل في ضلل} سورة الر عد ال ية ،14 :ول يض عف إيمان الدا عي
ان صراف الناس ع نه وعدم اجابت هم له .ف قد ل بث نوح عل يه ال سلم ك ما أخبر نا ال ع نه {فل بث
في هم ألف سنة إل خم سين عاما} سورة العنكبوت ال ية ،14 :ولم يؤ من له إل القل يل .ك ما ل
يدل ان صراف الناس ع نه ا نه مق صر في دعو ته ما دام قد أفرغ جهده فالتق صير يعرف – إن
وجد – من قلة ما يقدمه الداعي للدعوة ل من عدم اجابة المدعو.
250
يشك قط في أنه هو الدجال الكذاب ،ولم تؤثر في ذلك المسلم خوارقه ول كثرة اتباعه ،ول في
اعتزازه هـو بالسـلم لن دعوة ذلك الدجال باطلة قطعا لمخالفتهـا لمعانـي السـلم الحقـة فل
يمكن أبدا أن ينقلب الباطل حقا لي سبب خارجي مقترن به ولو كان من خوراق العادات كما
ل يمكن أبدا أن يصير السلم الحق باطل بكون المؤمن به رجل واحدا أعزل ولهذا ولما قتل
الدجال ذلك الم سلم ازداد يقينا بأ نه على ال حق وان الدجال مب طل كذاب وان خوار قه ت صديق
ل خبر الر سول صلى ال عل يه و سلم وبالتالي ي ظل ذلك الم سلم على ايما نه وان كان وحيدا ل
حول له ول قوة ول ناصرا...
251
لنهم عباد ال المطيعين الذين يقومون بعبادة مولهم .وحب المسلم ل وما تعلق به يترك أثرا
طيبا حلوا في نفس المسلم يحس بحلوته وطيبه قال صلى ال عليه وسلم "ثلثة من كن فيه
وجد حلوة اليمان أن يكون ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وان يكره أن يرجع إلى الكفر
بعد أن أنقذه ال منه كما يكره أن يقذف في النار وان يحب المرء ل يحبه إل ال" .فحب العبد
لر به ي ستلزم هذه المور قطعا ول يم كن أن تتخلف ع نه و قد يكون من المف يد أن أتب سط ولو
قليل في لوازم محبة المسلم لربه جل جلله وأجعل هذه اللوازم في فقرات زيادة في ايضاحها
وإظهارها لعظيم اهميتها ،فأقول:
لوازم محبة العبد لربه
-383قال تعالى { :يا أي ها الذ ين آمنوا من ير تد من كم عن دي نه ف سوف يأ تي ال بقوم يحب هم
ويحبونـه ،أذلة على المؤمنيـن أعزة على الكافريـن يجاهدون فـي سـبيل ال ول يخافون لومـة
لئم} سورة المائدة الية ،54 :وقال تعالى{ :قل إن كنتم تحبون ال فاتبعوني يحببكم ال} سورة
آل عمران الية ،31 :فلوازم محبة المسلم لربه في ضوء هاتين اليتين الكريمتين هي:
أولً :أذلة على المؤمنين ،فالمسلم رقيق رحيم شفيق على اخيه المسلم والداعي وهو يدعو أخاه
المسلم إلى ما يرضي ال ،يستشعر هذه الشفقة والرحمة التي تصل إلى صورة الذلة المشروعة
وسنتكلم عن هذه فيما بعد وهذه مثل قوله تعالى في صفة محمد صلى ال عليه وسلم وأصحابه
{رحماء بينهم} سورة الفتح الية.29 :
ثانيا :أعزة على الكافريـن ،وهذا مثـل قوله تعالى{ :محمـد رسـول ال والذيـن م عه أشداء على
الكفار }...سـورة الفتـح اليـة ،29 :ل يهيـن ول يسـتكين ول يشعـر بصـغار امامهـم ول فـي
غيبتهم ،ل في ظاهره ول في باطنه ،فهو قوي عليهم بقدر ما هو لين على المؤمنين.
ثالثا :يجاهدون في سبيل ال ،والجهاد في سبيل ال يعني جهاد النفس الدائم حتى تستقيم وتثبت
وت ستمر على طا عة ال وجهاد العدو ح تى يخ نس وين كف ضرره ،وجهاد الدعوة إلى ال ح تى
ي تم التبل يغ وال تبيين ويتي سر للناس سبل الهدا ية .وهذا الجهاد المبذول من الدا عي الم سلم في
دعوته إلى ال تعالى يظهر ويتميز بالنشغال التام في أمور الدعوة والفتكار بها وتقليب وجوه
الرأي في وسائلها والحرص على نجاحها ،وإيثارها على الولد والمال والنفس والراحة وحطام
الدن يا كل ها قال تعالى { :قل إن كان آباؤ كم وأبناؤ كم واخوان كم وأزواج كم وعشيرت كم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من ال ورسوله وجهاد في
سبيله فتربصوا حتى يأتي ال بأمره وال ل يهي القوم الفاسقين} سورة التوبة الية.24 :
رابعا :ل يخافون لومـة لئم ،أي ل يردهـم عمـا هـم فيـه مـن طاعـة ال والدعوة إليـه والمـر
بالمعروف والن هي عن المن كر ل يرد هم عن ذلك راد ول ي صدهم عن ذلك صاد ول يمنع هم
منه لوم اللئمين ،ول عذل العاذلين[.]4
252
خام سا :متاب عة الر سول صلى ال عل يه وسلم في هديه في جم يع أحواله بالضا فة إلى طا عة
أمره والبتعاد عما نهى عنه {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} سورة الحشر
الية ،7 :فهو قدوة الداعي إلى ال .يقتدي به في سيرته في دعوته إلى ال خطوة خطوة {لقد
كان لكم في رسول ال أسوة حسنة} سورة الحزاب الية ،21 :وانفع شيء للداعي المسلم أن
يتفقه في سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم وسيرته في الدعوة إلى ال منذ أن بعثه ال إلى
أن اختاره إلى جواره الكريـم ،ووجـه هذا النفـع للداعـي أن سـيرة رسـول ال عليـه الصـلة
والسلم هي ترجمة عملية للمنهج الرباني للدعوة إليه الذي جاءت به آيات ال في قرآنه وما
من حالة قط يمر بها الداعي إلى ال إل يجد مثيلها أو شبيها لها أو قريبا منها في سيرة النبي
صلى ال عليه وسلم وكيف تصرف ازاءها سيد الدعاة إلى ال .إن التفقه في السيرة النبوية إذا
ان ضم إلى التف قه في القرآن ل سيما في ما ي خص الدعوة إلى ال ،يج عل الدا عي على نور من
ر به وفرقان مبين يبين له ال صواب في المور المشتب هة والدقي قة .والذي يع ين على متاب عة
الرسول صلى ال عليه وسلم استحضار شخصه الكريم في فكر الداعي ومصاحبته مصاحبة
روحية وجدانية وتخيل مواقفه المختلفة واستحضار صفاته الكريمة وعظيم شفقته على المة،
فان هذا ونحوه سيزيد من مح بة الم سلم لر سوله الكر يم صلى ال عل يه و سلم وكل ما ازدادت
محبته له ازداد تعلقه به ومتابعته له.
-384ومن لوازم محبة الداعي المسلم لربه المستفادة من القرآن والسنة وطبيعة المحبة أمور
أخرى منها:
أ) الولع بذكره تعالى في كل حين فل يفتر عنه لسان الداعي ول يخلو منه قلبه فمن أحب شيئا
أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به ،ومن هنا كان من علمات المحبين ،الكثار من
تلوة كتا به جل جلله ،ف هو رب يع قلوب هم وأني سهم في وحدت هم والنور الذي ين ير صدورهم،
وكذلك ذ كر ال في كل ح ين و في كل منا سبة ،ولهذا ي ستحب للدا عي الم سلم أن يأ خذ نف سه
بأوراد الذكر التي وردت بها السنة النبوية يتلوها بعد صلة الصبح وعند النوم وعند الخروج
والدخول والكل والشرب واللباس والسفر والقامة وفي السحار.
ب) يأ نس بمناجاة ال بالخلوة ف هو ل ي ستوحش من ها ول يض يق ب ها بل ي ستغلها فر صة لهذه
المناجاة.
جـ) يتنعم بطاعته ول يستثقلها فان المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وينشط لها ولهذا كانت الصلة
قرة ع ين لر سول ال صلى ال عل يه و سلم ورا حة لنف سه الكري مة من ت عب الدن يا .قال الجن يد
رحمه ال :علمة المحب دوام النشاط في طاعة ال.
د) ل يتأ سف على ما يفو ته م ما سوى ال عز و جل ويع ظم تأ سفه على فوت كل ساعة خلت
عن ذكر ال وعن القيام بخدمته وطاعته.
253
هـ) يؤثر ما يحبه ال على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه ،فان المحب الصادق يؤثر دائما ما
يحبه محبوبه ،ول يبالي بالمشاق والتعاب في هذا اليثار.
ز) يحب لقاء ال لن المحب يحب لقاء الحبيب وبالتالي فهو ل يكره الموت إذا جاء لنه مفتاح
اللقاء وطريق الوصول إلى ال.
ح) الغيرة ل وعلمت ها الغ ضب إذا انته كت محارم ال وهكذا كان ر سول ال صلى ال عل يه
وسلم ل يغضب لنفسه وإنما يغضب لربه إذا انتهكت محارمه .ومع هذه الغيرة حزن يصيب
المسـلم إذا رأى مخالفـة المسـلمين لشرع ال ،روي أن أحـد الصـحابة – وأظنـه أبـا الدرداء –
دخل إلى بيته يبكي ،فقيل له :ما يبكيك؟ قال :دخلت المسجد فرأيت الناس ل يقيمون صلتهم
على النحو الذي شاهدته في زمن النبي صلى ال عليه وسلم.
ثانيا :الخوف
-385ومـن ثمرات اليمان العميـق ولواز مه الخوف من ال .فإن رأس الحكمـة مخا فة ال.
ومن عرف ال خافه من خاف ال لم يخف أحدا من الناس وخافه الناس .وبيان ذلك أن حقيقة
الخوف عبارة عـن تألم القلب بسـبب توقـع المؤلم فـي المسـتقبل .وسـبب هذا الخوف العلم
بالمفضي إلى وقوع هذا المؤلم في المستقبل فالخوف من ال علم المسلم بما يفضي إلى عقابه
وهوعصيانه وعدم القيام بحقه تبارك وتعالى .ويزداد هذا الخوف كلما فقه المسلم عظم الجناية
فـي مخالفـة الرب تبارك وتعالى وانـه جـل جلله لو أهلك العالميـن لم يمنعـه مـن ذلك مانـع.
وأع ظم ما يقوي جا نب الخوف في الع بد تدبر آيات الوع يد في القرآن فان ها حق و صدق ،ل
مبالغـة فيهـا ول تخييـل ،وان العباد مجزيون على أعمالهـم حتـى الذرة مـن الخيـر أوالشـر
يعملونها .فاذا حصل عنده هذا اليمان العميق بأثر الذنوب ودقة الحساب وتفرد ال بالحكم يوم
الحساب ومجهولية الخاتمة ،انبعثت في القلب الخشية من الرب جل جلله ،وابتعد المسلم عن
مفضيات المكروه المؤلم .ثـم ل تلبـث هذه الخشيـة وحرقـة الخوف أن تفيـض مـن القلب على
البدن ،فل يرى المؤمن إل وجل كالمصاب الحزين ل يمزح ول يهزل ول يضحك إل تبسما،
فان الحزيـن الخائف المشدوه ل يجـد فرصـة للهزل وان وجدهـا ل يسـتطيعه ول يقدر عليـه.
وللخوف أثره القط عي فان من خاف من ش يء هرب م نه وابت عد ع نه وأ خذ الوقا ية م نه ولهذا
ـي عقارب وحيات ومؤذيات
ـة .والذنوب والمعاصـ
ـد الهائج والنار المحرقـ
ـن السـ
ـر مـ
يفـ
ومحرقات ،ل بد أن يفر منها كل خائف من ال ول بد أن يغلبها بالطاعات.
إن الداعي المسلم إذا ما استشعر خوف ال ،انكف وانزجر عن المخالفات واندفع إلى ما يقي
نفسه من المؤذيات والمؤلمات في الخرة ،وعلى رأس الوقا ية تقوى ال وفي مقدمة تقوى ال
الجهاد في سبيل ال ومنه الدعوة إليه .وازداد بخشيته من ربه هدى ورحمة قال تعالى{ :وهدى
ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} فالهدى والرحمة للخائف ل للمن.
254
ثالثا :الرجاء
-386ومـن ثمرات اليمان العميـق الرجاء ،وعدم القنوط مـن رحمـة ال .ذلك أن ال تعالى
وعد عباده المؤمنين بما وعدهم به في كتابه المجيد ومنعهم من القنوط .والشأن في صاحب
اليمان العميق أن يؤمن بهذا الوعد الصادق من الرب القادر الرحيم.
فيحمله هذا الرجاء على تحقيق أسبابه ،وأسبابه هي طاعة الرب ومنها الدعوة إليه .لن حقيقة
الرجاء ارتياح القلب لنتظار ما هو محبوب للنفس عند حصول أكثر أسبابه ،فان كان انتظاره
مع ف قد أ سبابه كان حمقا وغرورا ،فرجاء رح مة ال وتأييده ورضوا نه يكون بتح صيل أ سباب
ذلك التي أخبرنا الرب بها ووعد عليها الرحمة والتأييد والنصر والرضوان ،فيندفع المسلم ذو
اليمان العم يق الى تح صيل هذه ال سباب ج هد المكان بل ت سويف ول تأخ ير راجيا من ال
تعالى أن يوق فه الى ت صحيح هذه ال سباب وال ستمرار على تح صيلها وقبول ها م نه .إن حال ته
حالة الذي نثر البذر في الرض الخصبة الجيدة وأوصل اليها الماء والسماد وظل يتعهدها الى
وقت الحصاد راجيا ال تعالى أن يحفظ زرعه ويدفع عنه الفة .والداعي المسلم في رجاء دائم
ل يقنط أبدا لنه آمن بوعد ال للعاملين الداعين بالنصر والتأييد والثواب الجزيل فهو مضمون
النصر والتأييد من الرب الجليل.
-379معناه وآثاره
نر يد بالت صال الوث يق تعلق الدا عي الم سلم بر به وتوكله عل يه في جم يع أموره لتيق نه بأن ال
تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير والضرر والنفع والمنع والعطاء وانه ما شاء ال كان وما لم
ي شأ لم ي كن ،وان ال تعالى يك في من يتو كل عل يه ويفوض المور إل يه {و من يتو كل على ال
ف هو ح سبه} ل سيما من يتو كل عل يه في أمور الدعوة الى ال ون صره وإعلء كلم ته وجهاد
اعدائه ،قال تعالى حكايـة عـن موسـى وهارون{ :قال ربنـا إننـا نخاف ان يفرط علينـا أو أن
يطغى ،قال ل تخافا إنني معكما أسمع وأرى} وهذه المعية النصر والتأييد غير مقصورة على
255
أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالته ،وانما هي شاملة لعباده المتقين ل سيما الدعاة
منهم الى دينه .قال تعالى{ :إن ال مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.
-380وحالة الدا عي الم سلم في توكله على ال و صلته به ي جب أن تكون كحالة الط فل مع
أمه ل يعرف غيرها ول يتعلق إل بها ول يفزع إل إليها ول يعتمد إل عليها وإذا نابه شيء لم
يهتف إل باسمها .ولكن هذه الحالة ل تعني ترك السباب وإنما تعني عدم التعلق بها والركون
إليها لن التعلق يكون بمسبب السباب ال جل جلله القوي العزيز.
-381ويزداد هذا التصال بالرب جل جلله إذا استحضر الداعي المسلم ما يعلمه ويؤمن به
يقينا وهو أن الخلق ل يملكون لنفسهم ول لغيرهم نفعا ول ضرّا وان المور كلها بل استثناء
بيد ال القوي العزيز فاذا استحضر الداعي هذه المعاني في قلبه فانه سيزهد حتما في العتماد
على أي مخلوق ،ويتوجـه بكليتـه الى خالقـه وموله وناصـره {بـل ال مولكـم وهـو خيـر
الناصرين} {ال ولي الذين آمنوا}.
و مع اعتماد الدا عي على ال في جم يع أموره فا نه ي ثق بر به ث قة كاملة بأ نه يحف ظه وين صره
ويدفـع عنـه الشرور ،قال تعالى{ :إن ال يدافـع عـن الذيـن آمنوا} {ولقـد سـبقت كلمتنـا لعبادنـا
المرسلين إنهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون}.
-382ول كن ل يجوز للدا عي الم سلم أن يحدد ل وقتا لنزال ن صره واعان ته على اعدائه ول
نوعا معينا أو كيفية معينة لهذا النصر أو العون قال تعالى{ :إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في
الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد} وقال ابن كثير في تفسير هذه الية" :المراد بالنصر النتصار
لهم ممن آذاهم ،وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى
وزكر يا وشعي با :سلط علي هم من أعدائ هم من أهان هم و سفك دماء هم ،ف سلط على اليهود الذ ين
أرادوا قتل عيسى عليه السلم ،سلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم ال تعالى عليهم
وقال السدي :لم يبعث ال عزّ وجل رسول قط إلى قوم فيقتلونه أو قوما من المؤمنين يدعون
الى الحـق فيقتلون فيذهـب ذلك القرن حتـى يب عث ال تبارك وتعالى لهـم مـن ينصـرهم فيطلب
بدمائ هم م من ف عل ذلك ب هم في الدن يا ،قال :فكا نت ال نبياء والمؤمنون يقتلون في الدن يا و هم
منصورون فيها ،وهكذا رسوله :أمره بالهجرة ثم رجع إليها فاتحا منتصرا"[.]1
-383و ما دام الدا عي الم سلم ين صر ال أي ين صر دي نه بالدعوة إل يه ،فان ال تعالى نا صره
قال عز و جل {ولين صرن ال من ين صره إن ال لقوي عز يز} فعلى الدا عي أن يتي قن ذلك ول
ي شك ف يه أبدا .قال صلى ال عل يه و سلم ع ند رجو عه من الطائف ،و قد رده أهل ها أ سوأ رد،
وكان م عه ز يد ،قال عل يه ال صلة وال سلم لز يد" :إن ال جا عل ل ما ترى فرجا ومخرجا ،وان
ال تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه"[ ،]2والداعي ل ييأس أبدا لن اليأس حرام أن يتسرب الى
256
القلب الموصول بال ،وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بال ،قال عز من قائل {ول
تيأسوا من روح ال إنه ل ييأس من روح ال إل القوم الكافرون}.
إن هذا التصال بالرب جل جلله ضروري جدا للداعي المسلم فيه تهون عليه الصعاب
وتخف اللم وتنتزع من قلبه الخشية من الناس {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم ،فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا ال ونعم الوكيل} .ويحس بعزة اليمان لنه موصول
بالقوي العزيز {ول العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين ل يعلمون} .فل يعظم في عينه
باطل ول مبطل لن الباطل وأهله من التافه الحقير فل يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين.
[ ]1تفسير ابن كثير ج ،4ص 83وقد ذكر القرطبي في تفسير هذه الية قريبا مما ذكره ابن
كثير ،تفسير القرطبي ج ،15ص .322
[ ]2امتاع السماع ص .28
أولً :الصدق
-380فـي كتاب ال تعالى آيات كثيرة تتحدث عـن الصـدق وفضيلتـه وتأمـر المؤمنيـن بأن
يكونوا مع ال صادقين { يا أي ها الذ ين آمنوا اتقوا ال وكونوا مع ال صادقين} سورة التو بة ال ية:
،119وأنه في يوم القيامة ينفع العبد وينجيه من سخط ال ويؤدي به إلى الجنان {هذا يوم ينفع
الصـادقين صـدقهم لهـم جنات تجري مـن تحتهـا النهار ،خالديـن فيهـا أبدا رضـي ال عنهـم
ورضوا ع نه ذلك الفوز العظ يم} سورة المائدة ال ية .119 :وحقي قة ال صدق ح صول الش يء
وتمامـه وكمال قوتـه واجتماع أجزائه .هكذا قال ابـن قيـم الجوزيـة فـي مدارجـه .ويكون فـي
القصد والقول والعمل ،ومعناه في القصد كمال العزم وقوة الرادة على السير إلى ال وتجاوز
العوائق ويكون ذلك بالمبادرة الى أداء ما افترضه ال عليه وفي مقدمته الجهاد في سبيله ومنه
257
الدعوة إلى ال ،والصدود عن كل معوق أو مثبط والنصراف عنهم والنفرة منهم لنهم أناس
في غفلة يعيشون ول يعلمون إل ظاهرا من الحياة الدنيا ،ذلك مبلغهم من العلم وهو في حقيقته
الجهالة والهوى .والحقيقـة أن قلب الصـادق شديـد الحسـاسية ل يحتمـل هؤلء المثبطيـن ولهذا
فهو يضيق بهم ول يستطيع مجاورتهم ول مصاحبتهم ول مجالستهم .انه ينشرح صدره ويهش
لمن يشوقه الى السراع في سيره الى ال والدعوة إليه .أما صدق القول ،فمعناه نطق اللسان
بالحق والصواب فل ينطق بالباطل اي باطل كان .ويكون الصدق في العمال بأن تكون وفق
المناهج الشرعية والمتابعة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإذا ما تحقق للمسلم الصدق في
القول والق صد والع مل أدى به ذلك الى در جة أخرى في ال صديقية و هي ال تي أ مر ال عباده
المؤمنين بطلبها ،موجها جل جلله الخطاب الى رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم {وقل ربي
ادخل ني مد خل صدق وأخرج ني مخرج صدق واج عل لي من لد نك سلطانا ن صيرا} ومع نى
مد خل ال صدق ومخر جه أن يكون دخول الم سلم في أي ش يء ومباشر ته لي ع مل وخرو جه
م نه وتر كه له بال ول بمع نى أن أفعاله وترو كه مو صولة بال ومو صلة إل يه ،م ستعينا على
أدائها بال ومقصوده مرضاه ال فغايته هي ال وحده {قل إن صلتي ونسكي ومحياي ومماتي
ل رب العالميـن} فاذا بلغ المسـلم هذه الدرجـة مـن الصـديقية لم يعـد فـي نظره غرض مقبول
لرغبته في الحياة إل إذا كان بقاؤه فيها وسيلة لمرضاة ال فاذا فاته هذا الغرض أو لم يستطع
رغب عن الحياة وأحب الموت.
روي عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أنه قال "لول ثلث لما أحببت البقاء لول أن أحمل
على جياد الخ يل في سبيل ال ،ومكابدة الل يل ،ومجال سة أقوام ينتقون أطا يب الكلم ك ما ينت قى
أطايب التمر ويريد المام عمر بهذه الثلث التي ذكرها :الجهاد والصلة والعلم النافع .وكلها
ترضي الرب عزّ وجل"[.]1
-381والداعي المسلم الصادق يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته فقد كان صلى ال عليه
و سلم يتحدث الى من ل يعرفو نه فيقولون :وال ما هو بو جه كذاب ول صوت كذاب[ .]2ول
شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعي وصوته يؤثر في المخاطب ويحمله ذلك على قبول
قوله واحترامـه إل إذا كان عمـى القلب قـد بلغ منـه مبلغا عظيما .ومهمـا يكـن مـن أمـر فان
ال صدق والنفاق أ ساسه الكذب .فك يف يم كن أن يكون الدا عي كذابا؟ والكذب يهدي إلى الفجور
كما قال الرسول صلى ال عليه وسلم ،فكيف يمكن أن يكون الفاجر داعيا إلى ال؟
ثانيا :الصبر
-382الصبر من فروض ال سلم .و هو نصف اليمان .وذكره القرآن الكر يم في أك ثر من
ثمانين موضعا أمر به {واستعينوا بالصبر والصلة} ونهيا عن ضده {فاصبر كما صبر أولو
258
العزم من الرسل ول تستعجل لهم} ومحبة لهله {وال يحب الصابرين} ومعيته تعالى لهم {إن
ال مع الصابرين} وعاقبته خير {وان تصبروا خير لكم} وجزاؤه عظيم {إنما يوفى الصابرون
أجرهـم بغيـر حسـاب} وأهـل الصـبر هـم المنتفعون باليات والعظات {إن فـي ذلك ليات لكـل
صبار شكور} و هو سبب لدخول الجنان {سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} وبال صبر
اليقين تنال المامة في الدين {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}
هذا بعض ما في القرآن الكريم عن الصبر .وفي السنة النبوية آحاديث كثيرة في الصبر ،منها
" ما أع طي أ حد عطاء خيرا له وا سع من ال صبر" "عجبا ل مر المؤ من ،ان أمره كله له خ ير،
ول يس ذلك ل حد إل للمؤ من ان أ صابته سراء ش كر فكان خيرا له ،وإن ا صابته ضراء صبر
فكان خيرا له".
-383وال صبر ل غة :الح بس وال كف ،وشرعا :هو على ثل ثة أنواع :صبر على طا عة ال،
وصبر عن معصية ال ،وصبر على المصائب والبلء.
أمـا الصـبر على طاعـة ال ،فيكون بالمحافظـة عليهـا دوما والخلص فيهـا ووقوعهـا على
مقتضـى الشرع .وممـا يعيـن على تحصـيله المعرفـة بال وحقـه على العباد ،وحسـن الجزاء
للمطيعين .واما الصبر على المعصية فيكون بهجر السيئات والفرار من المعاصي والدوام على
هذا الفرار وذلك الهجر ومما يعين على تحصيل هذا الصبر استحضار الخوف من عذاب ال،
وأعلى من هذا ا ستحضار الحياء من ال والمح بة له ،مع ا ستحضار ثمرة هذا ال صبر و هي
ابقاء اليمان وتقوي ته وإنماؤه لن المع صية تن قص اليمان أو تضع فه أو تكدره أو تذ هب نوره
وبهاءه.
أمـا الصـبر على البلء والمصـائب ،فيكون بترك التسـخط واحتمال المؤلم المكروه وترك
الشكوى للناس فإن الصبر الجميل ينافيه الشكوى للمخلوق أما الشكوى ل فل ينافيه ،قال تعالى
عن يعقوب عل يه ال سلم{ :إن ما أش كو ب ثي وحز ني إلى ال} وقال عن أيوب {ر بِ إ ني م سنيَ
الضر وأنت أرحم الراحمين} مع قوله تعالى عنه في آية أخرى {إنا وجدناه صابرا نعم العبد
إ نه أواب} وم ما ي ستدعي هذا ال صبر ا ستحضار ن عم ال ال تي ل ت عد ول تح صى فتهون على
الم صاب م صيبته وي قل وقع ها على نف سه ويكون مثله م ثل من يع طى ألف دينار ويف قد فل سا
واحدا .ومما يعين أيضا على الصبر على البلء تذكر الجزاء العظيم للصابرين.
259
الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على البتلء لن في
الول اختيارا وإيثارا ومحبة ،أما الثاني فهو صبر ضرورة ول اختيار للصابر.
260
-388البتلء ل بد منه
والبتلء ل بد منه ،فل بد من الصبر لجتياز المتحان بنجاح .قال تعالى{ :أحسب الناس أن
يتركوا أن يقولوا آمنـا وهـم ل يفتنون؟ ولقـد فتنـا الذيـن مـن قبلهـم فليعلمـن ال الذيـن صـدقوا
وليعلمن الكاذبين}.
وقال تعالى{ :ما كان ال ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} قال
تعالى{ :أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء
وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر ال أل إن نصر ال قريب} فالبتلء
من سنة ال في الحياة يبتلي عباده بمن يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء ليظهر ما في نفوسهم من
إيمان ونفاق وهذا البتلء يكون بأشياء كثيرة على رأسـها التكاليـف الشرعيـة فهـي ابتلء
وامتحان وقد يكون في تزا حم محبوبات الرب مع محبوبات الن فس ،فإذا آثر محبوبات ال عزّ
وجـل على محبوبات النفـس ،اجتاز هذا المتحان وال رسـب وفشـل ،وقـد يكون البتلء فـي
المصـائب واللم التـي يصـاب بهـا كالمرض وفقـد العزة وتلف الموال ،فإذا صـبر وسـلم
واسترجع ولم يجزع أثابه ال ثواب الصابرين ،وكان في هذا المتحان من الناجحين ،وإل كان
من الخاسرين.
261
من عزم المور} وقال تعالى{ :لتبلون في أموال كم وأنف سكم ولت سمعن من الذ ين أوتوا الكتاب
من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ،وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم المور}.
262
خامسا :وفي وصيته عليه الصلة والسلم لسامة بن زيد وقد جعله أميرا على الجيش لغزو
الروم قبل وفاته عليه الصلة والسلم بأيام ،قال له "ول تمنوا لقاء العدو فإنكم ل تدرون لعلكم
تبتلون بهم ،ولكن قولوا اللهم اكفناهم وأكفف بأسهم"[.]5
وقال ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم{ :وكفى ال المؤمنين القتال} وهذا يشعر بأن عدم
احتياج المؤمنيـن للقتال لكفايـة ال تعالى يعتـبر مـن نعمـة ال على المؤنيـن ،والقتال فيـه أذى
ونصب وألم فلو كان تعريض المسلم نفسه للبتلء والذى مطلوبا لذاته لما كان عدم الحتياج
اليه مما يمن ال به على المؤمنين.
سادسا :ايذاء أ هل البا طل للمؤمن ين غ ير مطلوب قطعا بل هو من سيئات أ هل البا طل ،ل نه
ايذاء ل هل ال حق ،فك يف ي سوغ ت سليم الم سلم نف سه للمب طل يؤذ يه ويهي نه ويذله؟ أل يكون في
هذا الت سليم اعا نة على وقوع ما ي سخط ال تعالى ،والقاء للن فس في التهل كة والمها نة والذلة؟
وكل هذا ل يجوز.
سـابعا :أذِن ال للمكره أن يقول كلمـة الكفـر تخليصـا لنفسـه مـن الذى والتلف وهذا يدل على
إباحة دفع الذى وأن للمسلم أن ل يساعد على وقوعه عليه.
ثامنا :ع ند ان سحاب خالد بن الول يد ب من م عه من ج ند الم سلمين في معر كة مؤ تة ودخول هم
المدي نة المنورة ،ج عل الناس يحثون على الج يش التراب ويقولون :يا فرار ،فرر تم في سبيل
ال ،فيقول ر سول ال صلى ال عل يه و سلم" :لي سوا بالفرار ولكن هم الكرار إن شاء ال تعالى"
ووجه الدللة في هذا الخبر أن خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين انسحبوا من ملقاة العدو
تخلصـا مـن الذى والضرر .فعابهـم المسـلمون فـي المدينـة ووصـفوهم بالفرار ،ولكـن سـيد
العارفين نبينا محمد صلى ال عليه وسلم نظر إلى غير ما ينظرون ورأى في انسحابهم الناجح
نوعا من النصر لتخلصهم من القتل ومن أذى المشركين واحتمال أسرهم وأن انسحابهم كتحول
الجند في ساحة المعركة من جهة أخرى .فدل ذلك على أن دفع البل ء أمر مطلوب إذا أمكن
المسلم دفعه وان تسليم المسلم نفسه للذى والضرر حيث يمكنه الخلص ليس بالمر الممدوح
بل ول المشروع.
تا سعا :ها جر الم سلمون من م كة الى الحبشة فرارا بدينهم وتخل صا من أذى قر يش .فدل ذلك
على جواز د فع البلء والذى وعدم ال ستسلم له بح جة تح مل الذى في سبيل ال .لن ن فس
المسلم ليست ملكه وإنما هي ملك ال ،فل يجوز اتلفها بل فائدة تعود الى السلم ،وليس من
الفائدة أن يقول الناس :مـا أثبـت هذا الداعـي واجرأه على تحمـل الذى فـي سـبيل ال .بـل قـد
263
يكون تحمـل الذى بهذا الدافـع ولهذا الغرض رياء وطلبا للسـمعة والجاه عنـد الناس ،وهذا ل
يجوز.
عاشرا :إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم لم ير بأ سا من عون ع مه أ بي طالب وكان على
د ين قو مه في د فع ما ي ستطيعه من أذى قر يش ع نه ول ما ما تت خدي جة وع مه في عام وا حد
سماه "عام الحزن" وقال "ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب" لنه لم يكن في
عشريته وأعمامه حامٍ له ،ول ذاب عنه غيره[.]6
وعندما رجع عليه الصلة والسلم من الطائف وانتهى الى حراء بعث رجل من خزاعة الى
المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه ،فأجاره ،ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم
مكة فأقام بها وجعل يدعو الى ال[.]7
وجه الدللة في هذه الثار أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رضي بحماية عمه أبي طالب
له ودفعه الذى عنه .وكذلك دخوله عليه الصلة والسلم بجوار المطع مِ ،فدل ذلك على جواز
د فع البلء والذى عن الدا عي ولو عن طر يق حما ية المشرك وعدم ا ستحباب ت سليم الم سلم
نف سه ل هل البا طل .وكذلك ف عل أ صحاب ر سول ال الذ ين هاجروا الى الحب شة فعند ما رجعوا
الى مكة "لم يدخل منهم أحد إل بجوار أو متخفيا"[ ،]8ويجب أن يعلم هنا أن الداعي المسلم في
رغبته وسعيه لدفع الذى عن نفسه إنما يقصد التمكين وإيجاد الجو المناسب لدعوته الى ال،
يوضح ذلك ما جاء في السيرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يخرج الى القبائل أيام
المو سم ويدعو ها الى ال سلم ويقول " من ر جل يحمل ني الى قو مه فيمنع ني ح تى أبلغ ر سالة
ربي ،فانَ قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي"[.]9
264
ثالثا :إذا وقـع الضرر والذى على الداعـي المسـلم بالرغـم مـن التزامـه بالسـير المشروع فـي
الدعوة الى ال فعليـه أن يسـتعين بال ويصـبر الصـبر الجميـل وليعلم أن المور كلهـا بيـد ال
تعالى وإن ما شاء ال كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ل حول ول قوة إل بال.
ثالثا :الرحمة
-392من اخلق الداعي الضرورية :الرحمة ،وقبل أن أبين أهميتها للداعي ،أذكر ما ورد
في السنة النبوية[.]10
قال صـلى ال عليـه وسـلم" :ل يُرحـم مـن ل يرحـم الناس" "ل تنزع الرحمـة إل مـن شقـي"
"الراحمون يرحمهم ال تعالى ،ارحموا من في الرض يرحمكم من في السماء" "قبل رسول ال
صلى ال عليه وسلم الحسن بن علي رضي ال عنهما وعنده القرع بن حابس .فقال القرع:
إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا فنظر إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم قال من
ل يَرحم ل يُرحم" "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش
الرض".
-393و من صفات وأخلق الم صطفى صلى ال عل يه و سلم ،رحم ته وشفق ته على أم ته قال
تعالى{ :ل قد جاء كم ر سول من أنف سكم عز يز عل يه ما عن تم حر يص علي كم بالمؤمن ين رؤوف
رحيم} .ومن شفقته صلى ال عليه وسلم دللته لمته على ما يبعدهم عن النار وقد مثل ذلك
بم ثل بل يغ ،قال صلى ال عل يه و سلم" :إن ما مثلي وم ثل أم تي كم ثل ر جل ا ستوقد نارا فجعلت
الدواب والفراش يقعن فيه ،فأنا آخذ بحجزكم وانتم تقتحمون فيه"[.11
265
نوح عليه السلم {لقد أرسلنا نوحا الى قومه يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ،إني أخاف
عليكم عذاب يوم عظيم} سورة العراف الية 56 :فقوله عليه السلم {إني أخاف عليكم عذاب
يوم عظ يم} ل ي صدر إل عن قلب رح يم وشف قة ظاهرة علي هم وكذلك قوله عل يه ال سلم ،و قد
رموه بالضللة {يا قوم ليس بي ضللة ولكني رسول من رب العالمين ،أبلغكم رسالت ربي
وأن صح ل كم واعلم من ال ما ل تعلمون .أوعجب تم ان جاء كم ذ كر من رب كم على ر جل من كم
لينذر كم ولتتقوا ولعل كم ترحمون} سورة العراف ال ية .63-61 :فجواب نوح عل يه ال سلم
مشحون بالرحمة والشفقة عليهم واللطف في مخاطبتهم ،ولم يغضبه كلمهم لنهم قوم يجهلون
ولن الداعي الرحيم ل يغضب لنفسه قط .وهكذا كان خلق رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم
ف ما كان يغ ضب لنف سه ،وإن ما يغ ضب إذا انته كت حرمات ال .ثم في جواب نوح أ نه ين صح
لهم ،أي يخلص في القول النافع المفيد لهم ،بالرغم من قولهم الباطل فيه ويبين لهم أنه رسول
من رب العالمين ليعلموا أن ما يخبرهم به هو الحق الصريح الواجب قبوله ،وفي قبوله رحمة
بهم ،دليل على ما كان في قلبه عليه السلم من عظيم الرحمة بقومه.
266
الداعـي وصـفحه عن أصـحابه أوسـع قال تعالى{ :فاعـف عنهـم واسـتغفر لهـم وشاورهـم فـي
المر}.
رابعا :التواضع
التكبر حماقة وجهل
-398التكبر حماقة وجهل ودليل قاطع على جهل المتكبر بربه وبنفسه ،فلو عرف ربه لعلم
أن الكـبرياء ل وحده قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال ال عزّ وجـل "العـز إزاري
وال كبرياء ردائي ف من ينازع ني في وا حد منه ما ف قد عذب ته"[ ]12ولو عرف المت كبر نف سه وان
أوله نطفة قذرة وآخره جيفة قذرة لخجل من نفسه ووقف عند حده قال محمد بن الحسين بن
علي كما ذكر صاحب "الحياء" :ما دخل قلب امرئ شيء من التكبر قط إل نقص من عقله
بقدر ما دخل من ذلك قل أوكثر.
جزاء المتكبرين
-399مـن جزاء المتكـبر حرمانـه مـن التعاظ والنتفاع بآيات ال لن تكـبره يمنعـه مـن
الن صياع لل حق ،فيط بع ال على قل به وي صرفه عن آيا ته ،ونتيج ته الخي بة والف شل و سخط ال
تعالى ،ودخول جهنم داخرا ،وفقده ما يناله المتواضعون لربهم من نعيم الخرة وبهذه المعاني
نطق القرآن والسنة النبوية ،قال تعالى{ :سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الرض بغير
267
ال حق} {كذلك يط بع ال على كل قلب مت كبر جبار} {وا ستفتحوا وخاب كل جبار عن يد} {إ نه ل
يحـب المسـتكبرين} {إن الذيـن يسـتكبرون عـن عبادتـي سـيدخلون جهنـم داخريـن} {تلك الدار
الخرة نجعلها للذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا والعاقبة للمتقين}.
و في ال سنة النبو ية قال ر سول ال صلى ال عل يه و سلم" :ل يزال الر جل يذ هب بنف سه ح تى
يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم" ومعنى يذهب بنفسه يرتفع ويتكبر .وقال عليه الصلة
والسلم "ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" .أل أخبركم بأهل النار" :كل عتلٍ
جوّاظ مستكبر".
النهي عن الكبر
-400و ما ذكرناه من ن صوص كل ها تتض من الن هي عن ال كبر ،و قد جاءت ن صوص أخرى
فيها النهي الصريح عن التكبر منها قوله تعالى{ :ول تصعر خدك للناس ول تمش في الرض
مرحا إن ال ل يحب كل مختال فخور}.
حقيقة الكبر
-401جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه "الكبر بطر الحق وغمط الناس"
أي ردّ الحق واحتقار الناس .فحقيقة الكبر استعظام المتكبر نفسه واستصغار قدر غيره فيدفعه
ذلك الى رذائل ومهلكات.
فالمت كبر يرد ال حق ول يقبله ول يذ عن إل يه قال تعالى{ :وجحدوا ب ها وا ستيقنتها أنف سهم ظلما
وعلوا} .ول يعترف بخطئه ول تقصـيره ول سـوء عمله لنـه معجـب بنفسـه ،وفـي الحديـث
الشريف" :ثلث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه".
والمت كبر يحت قر الناس ول يرى ل هم قدرا وي ستنكف أن ي سألهم ع ما يجهله ول يق بل تعل يم من
يعلمه ،ول يقبل نصيحة ناصح ،لنه ل يراه شيئا ويرى أن على الناس أن يلهجوا بالثناء عليه.
يأنف من مجالستهم ومحادثتهم ،يرى أنه هو الناجي وهم الهلكى .إلى غير ذلك من آثار الكبر
وافعال المتكبرين.
سبب الكبر
-402وسبب الكبر عجب النسان بنفسه لعلمه أو ماله أو جاهه أوحسبه أو نسبه أو سلطانه
وغ ير ذلك م ما يد عو إلى العجاب بالن فس ناسـيا هذا المعجـب أن ال تعالى هو المنعـم بهذه
الشياء وان لو شاء ل سلبها م نه ،فيؤدي به هذا العجاب إلى ا ستعظام نف سه ورؤ ية قدره فوق
اقدار الناس فيحتقرهم ويزدريهم.
268
علج الكبر
-403وعلج هذا الداء العضال الصـعب – الكـبر – واكتسـاب حقيقـة التواضـع ،يكون
بالمعر فة اليقين ية :معر فة المت كبر لر به ولنف سه .فيعرف أن ال كبرياء هي ل وحده ح صرا ول
يجوز مطلقا لي ان سان أن ي سمح لذرة من ال كبر ان تت سرب إلى قل به فان ها جرثو مة خطرة
فتاكة كثيرة التوالد تطمس نور اليمان وتكدر العمال وتحبطها .وان يعرف المتكبر قدر نفسه
فهو نشأ من نطفة قذرة ثم يصير جيفة قذرة ،وان كل ما عنده من علم ومال وجاه وسلطان هو
محض عطاء ال له ،وان لو شاء ال لسلبه ذلك كله ،وان ليس له من نفسه إل العدم .ثم يأتي
المتكبر على أسباب اعجابه بنفسه ثم الى تكبره ،سببا سببا ،فينقضه .فالعلم الذي عنده قليل جدا
بالن سبة إلى ما يجهله {و ما أوتي تم من العلم إل قليل} وهناك من هو أعلم م نه {وفوق كل ذي
علم عليم} فلم العجب والكبرياء؟ وان العلم الحقيقي هو الذي يثمر المعرفة بالرب جل جلله،
ويحجز النفس عن الرذائل والحماقات مثل الكبر ،ويروضها على الفضائل مثل التواضع .أما
العبادة ال تي يقوم ب ها المت كبر والتقوى والورع فل ت صلح سببا للعجاب بالن فس والدلل ب ها
على ال والتكبر على الخلق .فما يدري هذا المسكين أن عبادته مقبولة وانه من الصالحين عند
ال وخاتم ته مجهولة وتزك ية الن فس ممنو عة {فل تزكوا أنف سكم هو أعلم ب من ات قى} .والعبادة
هي حق ال على العبد ول يحق للعبد أن يمن بها على ال ول أن يتكبر على الغير لقيامه بما
هو حق ال عل يه ،وال هو الذي مك نه من ها وهداه إلي ها {وقالوا الح مد ل الذي هدا نا لهذا و ما
كنـا لنهتدي لول أن هدانـا ال} وأي تقوى هذه التـي ل تقـي صـاحبها مـن منازعـة ال حقـه
الخالص في ال كبرياء ،ول تع صم صاحبها من التمرغ في رذيلة أخر جت ابل يس من ملكوت
ال سماوات وجعل ته طريدا ملعونا إلى يوم الد ين؟ يوم امت نع عن ال سجود لدم ت كبرا م نه عل يه
واعجابا بنفسه حيث قال {أنا خير منه} .وهكذا القول في المال والسلطان والجاه وقوة النصار
والتباع والتعزز بالحسـاب والنسـاب فكلهـا مـن الباطيـل وإيحاءات مـن الشيطان الرجيـم.
فالمال غاد ورائح ،والسلطان ل يبقى فاليام دول والجاه مثله .وقوة النصار والتباع ل تغني
من ال شيئا {يوم حن ين إذ أعجبت كم كثرت كم فلم ت غن عنكم شيئا} والتعزز بالح ساب والن ساب
يعنـي تشبـث وتعزز بعظام باليـة ان بقيـت العظام!! ومـا يغنـي الباء الصـالحون عـن البناء
الطالحين {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت خير الحاكمين.
قال يا نوح إنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فل تسألن ما ليس لك به علم اني أعظك أن
تكون مـن الجاهليـن .قال رب إنـي أعوذ بـك أن أسـألك مـا ليـس لي بـه علم وأل تغفـر لي
وترحمني أكن من الخاسرين}.
269
التواضع
-404وإذ قد بينا الكبر وأسبابه وبعض عواقبه وآثاره ،ظهرت لنا حقيقة التواضع ،فهو ضد
ال كبر و هو ثمرة المعر فة بال وبالن فس فل يم كن أبدا أن يتكبر ول يتواضع إن سان عرف ر به
وعرف قدر نف سه ،وعلى هذا فاذا كان المت كبر جاهل بر به فالمتوا ضع عارف بر به ،وإذا كان
المت كبر محتقرا غيره يرا هم كالذباب وكالعب يد فإن المتوا ضع يف قه جيدا قول أ بي ب كر ال صديق
ر ضي ال ع نه "ل يحتقرن أ حد أحدا من الم سلمين فان صغير الم سلمين ع ند ال كبير" .وإذا
كان المت كبر ي ستنكف عن مجال سة ال صالحين والفقراء والضعفاء بالر غم من أن أحد هم يعدل
ملء الرض من أمثاله فان المتوا ضع يف قه جيدا مع نى قوله تعالى {وا صبر نف سك مع الذ ين
يدعون ربهـم بالغداة والعشـي يريدون وجهـه ول تعـد عيناك عنهـم} وقـد قال المفسـرون فـي
أ سباب نزول ها ان قريشا قالت للر سول صلى ال عل يه و سلم :إ نا ل نر ضى أن نكون أتباعا
لهؤلء من ضعفاء الم سلمين م ثل صهيب وعمار وبلل وخباب فاطرد هم ع نك ول تبق هم في
مجلسك إذا دخلنا عليك ،فاذا فرغنا وخرجنا فادخلهم إن شئت .فأنزل تعالى هذه الية واتبعها
بآ ية عن اولئك المت كبرين المتعجرف ين الذ ين طلبوا طرد الضعفاء من مجلس ر سول ال فقال
تعالى عن هم{ :ول ت طع من أغفل نا قل به عن ذكر نا وات بع هواه وكان أمره فرطا}[ .]13ويف قه
المتوا ضع جيدا مع نى قول ال تعالى{ :واخ فض جنا حك ل من اتب عك من المؤمن ين} وإذا كان
المت كبر يج حد ال حق ويرده ول يذ عن له فان الم سلم المتوا ضع يف قه جيدا مع نى قول العارف
المتواضـع الفضيـل بـن عياض رحمـه ال تعالى وقـد سـئل عـن التواضـع فقال :التواضـع أن
تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.
270
على الدا عي أن يعرف أن جم يع ما عنده هو م حض ف ضل ال عل يه فليتحدث الى الناس و هو
بهذا اليقيـن وبهذا الشعور يتحدث اليهـم بفضـل ال ل بفضـل نفسـه فاذا عرف الناس منـه ذلك
فتحوا له قلوب هم أو على ال قل لم يغلقو ها دون كل مه في قع في ها من معان يه الطي بة الناف عة ما
يشاء ال وقوعه ،وال المستعان.
-406ومن التواضع العظيم الذي قد يغفل عنه الداعي وهو مهم وضروري طاعة من أمره
الشرع بطاع ته كالم ير و من يتولى شؤو نه أو تعلي مه ،وأن ل ي ستنكف عن هذه الطا عة ول
ي حس منها بغضا ضة ول يمن عه من ها كبر خ في في نف سه فيرفضها وي ستثقلها أو يتهرب منها
بتأويلت فا سدة هي في حقيقت ها من ايحاءات الشيطان كأن يقول :هذا الم ير أو المعلم غ ير
صالح ول كفء أو صغير أو أنا أعلم منه وأكفأ أو هذا المعلم ل يصلح أو المعلم غير صالح
ول كفء أو صغير أو أنا أعلم منه وأك فأ أو هذا المعلم ل ي صلح للتعليم ونحو ذلك ،وليتذ كر
جيدا تأميـر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أسـامة بـن زيـد وكان شابا على جيـش كان فيـه
سادات المهاجرين والنصار ومشايخهم وكبارهم ،قال صاحب امتاع السماع في هذه الحادثة:
"ثم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم – يوم الثلثاء لثلث بقين من صفر – أسامة بن زيد،
قال :يا أسامة ،سر على اسم ال وبركته حتى تنتهي الى موت أبيك فأوطئهم الخيل ،وقد وليتك
هذا الجيش ...فلما كان يوم الربعاء ابتدأ مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم فصدع وحم.
وعقد يوم الخميس لسامة لواء بيده وقال :يا أسامة ،اغز باسم ال في سبيل ال فقاتلوا من كفر
بال اغزوا ول تغدروا ول تقتلوا وليدا ول امرأة ول تتمنوا لقاء العدو ،فانكـم ل تدرون لعلكـم
تبتلون بهم ،ولكنكم قولوا اللهم اكفناهم ،واكفف بأسهم عنا فان لقوكم قد أجلبوا وضجوا فعليكم
بالسـكينة والصـمت ول تنازعوا فتفشلوا فتذهـب ريحكـم ،وقولوا اللهـم إنـا عبادك نواصـينا
ونواصيهم بيدك ،وانما تغلبهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة"[ ]14ثم يذكر صاحب امتاع
ال سماع أن ب عض الناس تكلموا عن تأم ير أ سامة على الج يش باعتباره شابا ل خبرة له وإن
هذا الجيش يضم المهاجرين والنصار وان عمر بن الخطاب رد على هذا الكلم على من تكلم
به وأ خبر ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بهذا الذي قاله الب عض ،وان ر سول ال صلى ال
عليه وسلم غضب لذلك غضبا شديدا وأنه عليه الصلة والسلم خرج وقد عصب على رأسه
عصابة ثم صعد المنبر فحمد ال وأثنى عليه ثم قال"أما بعد أيها الناس ،فما مقالة بلغتني عن
بعضكم في تأميري اسامة؟ وال لئن قلتم في أمارته لقد قلتم في أمارة أبيه من قبله وأنه لخليق
للمارة وان كان أبوه لخليقا لها"[ .]15وقد ذكرت معظم ما ورد في قصة تأمير أسامة لما في
هذا من دللت وعبر وعظات واحكام ،وأخيرا فان الداعي الفقيه يزداد تواضعا ل تعالى كلما
و فق في دعو ته ون جح في م ساعيه ون صره ال على اعدائه .وهكذا كان ر سول ال صلى ال
عليه وسلم ،فقد دخل مكة فاتحا وهو منكس الرأس تواضعا لربه واعترافا له بفضله.
271
خامسا :المخالطة والعزلة
أيهما أفضل المخالطة أم العزلة؟
-407أيه ما أف ضل للم سلم المخال طة مع الناس أم العزلة عن هم؟ قال بعض هم العزلة أف ضل،
وقال أكثرهم :المخالطة أفضل ،والصواب أن يقال :الفضل للمسلم أحبهما الى ال تعالى ،فاذا
كا نت المخال طة أ حب الى ال بالن سبة لهذا الم سلم نظرا لظروف حاله ومكا نه وزما نه ،ف هي
أفضـل فـي ح قه ،وإذا كانـت العزلة بالنسـبة إل يه أحـب الى ال لظروف حاله وزمانـه ومكانـه
فالعزلة أفضل في حقه.
المخالطة ل بد منها
-408والمخالطـة ل بـد منهـا فان النسـان اجتماعـي بطبعـه ل يسـتطيع العيـش بمفرده ولو
استطاعه لكان أمرا شاذا ل يستطيع جميع الناس متابعته عليه .هذا في أمور الدنيا وحوائجها
أما بالنسبة لمور الدين فكذلك الحال فان من فرائض السلم ومستحباته ما ل يمكن تأديته إل
بالمخالطة مع الناس وتعاونهم ،مثل صلة الجمعة والعيدين ،وتشييع الجنائز وعيادة المرضى
وتعلم أمور الدين وتعليمها الى غير ذلك من المطلوبات التي تستلزم المخالطة.
272
حدود المخالطة الواجبة
-410والمخالطـة الواجبـة هـي مـا كانـت ضروريـة لعمال الدعوة الى ال تعالى أو أداء
فروض السـلم الخرى ،فاذا خلت مـن هذا المقصـود ،زالت عنهـا صـفة الوجوب وصـارت
مباحة أو مكروهة أو حراما ،فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي والمكروهة إذا
فو تت على الدا عي فائدة أخرو ية إذا حمّل ته اثما .وعلى هذا فان المأمول من الدا عي أن تكون
مخالطته كلها بدافع من الدعوة الى ال ،فاذا زار شخصا أو تعارف معه أو صادقه أو رافقه أو
آخاه أو غ شي مجل سا أو تكلم في ج مع فا نه ي صدر عن رغ بة في الدعوة الى ال أو بالعداد
والتهيئة لها.
273
-413والدا عي يعرف حقوق ال صحبة ويح مل نف سه على الوفاء بهذه الحقوق ومن ها موا ساته
لصحابه وقضاء حوئجهم وسكوته عن عيوبهم فالنسان ل يخلو من عيب ،إل إذا وجب عليه
النطق بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ويتحمل اساءتهم في حق نفسه ،ويقبل اعذارهم،
فالمؤمن الكريم يحضر في نفسه محاسن أخيه ،والمنافق اللئيم يحضر في نفسه معايب أخيه،
قال عبدال بن المبارك رحمه ال تعالى" :المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات".
-414أ ما سلوكه مع من ل ي صاحبه ول يراف قه لف سقه وع صيانه ،ف هو سلوك المؤ من :فل
يخاصـمهم {وإذا خاطبهـم الجاهلون قالوا سـلما} ولكـن ينصـحهم ويعظهـم ،وقـد يضطـر الى
هجر هم ومقاطعت هم إذا كا نت مع صيتهم تقت ضي اله جر والمقاط عة ،ك ما لو كانوا يدعون الى
بدعة في الدين ،أو يفرقون صفوف المسلمين أو يكيدون لهم أو يعملون للحاق الذى بهم ،أو
يسعون لظلمهم والبغي عليهم ،فإنه في هذه الحالة وبعد العذار لهم وافراغ الجهد في نصحهم،
إذا لم يكفوا ع ما هم ف يه ،يض طر الى هجر هم ومقاطعت هم وعدم الكلم مع هم زجرا ل هم عن
بغيهم وكيدهم وعدوانهم وبدعتهم حتى يتحاشاهم الناس ويعرفونهم فيحذروهم ،بل وللداعي ان
ل يرد عليهـم السـلم إذا سـلّموا ،امعانا فـي زجرهـم واظهارا لنكار عملهـم ،ويعلل المامـا
الغزالي عدم رد السلم عليهم مع أن ردّه واجب بقوله "ورد السلم وان كان واجبا فانه يسقط
بأدنـى غرض فيـه مصـلحة ،حتـى يسـقط بكون النسـان فـي الحمام وقضاء حاجتـه ،وغرض
الز جر أ هم من هذه الغراض لن ف يه زجرا وتنفيرا ع نه"[ ]16وبهذا المع نى أيضا قال ش يخ
السلم ابن تيمية[.]17
عزلة الداعي
-415وإذا كا نت المخال طة من مقدمات الدعوة الى ال تعالى ،وان الدا عي ل ي ستغني عن ها
ك ما قل نا فا نه مع ذلك يحتاج الى ش يء من العزلة والوحدة والنفراد بنف سه ل نه ك ما قال ش يخ
ال سلم ا بن تيم ية" :ل بد للع بد من أوقات ينفرد ب ها بنف سه في دعائه وذكره و صلته وتفكره
ومحاسبة نفسه واصلح قلبه"[ ]18ويلحظ في هذه العزلة شيئان:
الول :أن تكون في الوقات ال تي ندب الشرع ف يه الى نوع مع ين من العبادة كالعتكاف في
رمضان وقيام الليل والصلة فيه والجلوس في المساجد انتظارا للصلة ،فإن في هذه الوقات
والقيام فيهـا بعبادة ال بالصـلة والذكـر والدعاء نوعا ممتازا مـن العزلة والخلوة المشروعـة،
وهي على قصرها ذات أثر بليغ جدا.
الثاني :إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الول ،كأن يخلو في بيته أياما لما
يح سه من حا جة الى هذه الخلوة للرا حة وال ستجمام ومراج عة الح ساب مع نف سه ،وتدارك ما
فاتـه ،فل بأس فـي ذلك بشرط أن يكون قصـده مـن ذلك اعداد نفسـه وتهيئتهـا الى المزيـد مـن
274
الدعوة الى ال ،فيكون مثله في هذه الحالة م ثل المجا هد الذي يتحول عن ميدان القتال ليش حذ
سيفه أو يعلف فرسه أو يصلح رمحه أو يداوي جرحه وقلبه معلق بالجهاد ونيته الرجوع إليه
من قريب فهو في جهاد في الحالتين ،والعمال بالنيات وال المستعان.
-416هذا وإن للداعي عزلة أخرى من نوع آخر ،وهي غياب فكره عن الحاضرين مع بقاء
جسمه معهم ،وهذه العزلة يحتاجها كلما وجد نفسه مضطرا بين قوم سوء ومجلس غيبة وكلم
با طل ل ي ستطيع الخروج م نه ،ول تحو يل مجراه ال خبيث ،فيغ يب ع نه برو حه ويب قى ج سده
معهم.
-417وهناك عزلة ثالثة للداعي ،وهي مفارقة الكفرة والتحول عنهم الى غيرهم إذا بدا له أن
بذل الج هد مع هم ع بث أو ل يجدي أو أن احتمال اجابت هم في الو قت الحا ضر احتمال ضع يف
أو أن أذاهم ل يطاق فيتحول عنهم الى غير هم ويوجه جهده اليهم فيدعوهم الى ال تعالى لن
جهـد الداعـي محدود ووقتـه محدود فاذا لم يجـد الجابـة عنـد قوم تحول الى غيرهـم واعتزل
الول ين بل وله أن يعتزل الجم يع الى ح ين و قد ي ستأنس لهذا بقوله تعالى حكا ية عن إبراه يم
عل يه ال سلم {وأعتزل كم و ما تدعون من دون ال} .وبقوله تعالى حكا ية عن نبيه مو سى عل يه
السـلم {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} وقوله تعالى عـن أهـل الكهـف{ :وإذ اعتزلتموهـم ومـا
يعبدون إل ال فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا} وال
سبحانه وتعالى أعلم.
275
[ ]12رواه مسلم ،رياض الصالحين للنووي ،ص .216
[ ]13شمائل الرسول صلى ال عليه وسلم لبن كثير ،ص .104-103
[ ]14امتاع السماع ،ص .537-536
[ ]15سيرة ابن هشام ،ص ،258-257وامتاع السماع ،ص .537
[ ]16احياء علوم الدين للغزالي ج ،2ص .149
[ ]17مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ج ،8ص .218-216
[ ]18مجموع الفتاوى ،ج ،1ص .637
تمهيد
-586تكلم نا في الباب الول عن موضوع الدعوة – ال سلم – ثم تكلم نا في الباب الثا ني
عن الداعي الذ ين يؤمن بالسلم ويد عو إليه .والشخص الذي يدعى الى السلم هو المد عو
وهو ما نتكلم عنه في هذا الباب والكلم عن المدعو يستلزم التعريف به وبيان ما له وما عليه
وأصناف المدعوين وعلى هذا سنقسم هذا الباب الى فصلين:
الفصل الول :التعريف بالمدعو وما له وما عليه.
الفصل الثاني :أصناف المدعوين.
من هو المدعو؟
-586النسان أي إنسان كان ،هو المدعو الى ال تعالى ،لن السلم رسالة ال الخالدة بعث
ال به محمدا صلى ال عليه وسلم الى الناس أجمعين قال تعالى{ :قل يا أيها الناس إني رسول
ال إليكم جميعا} وقوله تعالى{ :وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا} وهذا العموم بالنسبة
للمدعو ين ل ي ستثنى م نه أي ان سان مخا طب بال سلم ومكلف بقبوله والذعان له و هو البالغ
العا قل مه ما كان جن سه ونو عه ولو نه ومهن ته واقلي مه وكو نه ذكرا أو أن ثى الى غ ير ذلك من
الفروق بيـن البشـر .ولذلك كان ممـن آمـن بمحمـد صـلى ال عليـه وسـلم العربـي كأبـي بكـر،
276
والحبشي كبلل ،والرومي كصهيب ،والفارسي كسلمان ،والمرأة كخديجة ،والصبي كعلي بن
أبي طالب ،والغني كعثمان بن عفان ،والفقير كعمار.
-587وعلى هذا فالدعوة الى ال عا مة لجم يع الب شر ولي ست خا صة بج نس دون ج نس ،أو
طبقة دون طب قة ،أو فئة دون فئة ،ولهذا يخاطب القرآن البشر بصفتهم الدمية قال تعالى { :يا
أيها الناس اعبدوا ربكم} { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} وعلى الداعي أن يفقه عموم
دعوته الى ال ويحرص على ايصالها لكل انسان يستطيع الوصول اليه وهذا ل يناقض ابتداء
الداعي بالقربين اليه فيدعوهم قبل البعيدين لن لكل إنسان الحق في ايصال الدعوة اليه ،فليس
البعد بأولى من القرب ،بل القرب أولى لسهولة تبلي غه واحتمال صيرورته داعيا أيضا بعد
اسـلمه فيسـهل ايصـال الدعوة الى البعيديـن ،ولهذا جاء فـي القرآن الكريـم{ :وأنذر عشيرتـك
القربين} وهذا وإن كان خطابا لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولكنه يشمل معناه الدعاة الى
ال فعليهم أن ينذروا القربين اليهم مبتدئين بأفراد أسرهم وأقاربهم ومن يعرفونهم بل ان دعوة
الهل وأفراد السرة أوجب من غيرهم لن الداعي ان كان رب أسرة فإنه مسؤول عنهم "كلكم
راع وم سؤول عن رعي ته" وهذه الم سؤولية تش مل القيام بشؤون هم الماد ية من توف ير الطعام
والشراب والسكن ونحو ذلك من الشياء المادية كما تشمل شؤونهم الدينية بتعليمهم ما يلزمهم
مـن أمور السـلم ودعوتهـم اليـه .قال تعالى مثنيا على أحـد رسـله الكرام{ :وكان يأمـر أهله
بالصـلة} .وقال تعالى{ :قوا أنفسـكم وأهليكـم نارا} ووقايتهـم مـن النار تكون بدعوتهـم الى
السلم وطاعة أوامر ال وترك نواهيه.
حقوق المدعو
-588ومـن حـق المدعـو أن يؤتـى ويدعـى ،أي أن الداعـي يأتيـه ويدعوه الى ال تعالى ول
يجلس الدا عي في بي ته وينت ظر مج يء الناس ال يه وهكذا كان يف عل الدا عي الول نبي نا الكر يم
صلى ال عليه وسلم ،يأتي مجالس قريش ويدعوهم ويخرج الى القبائل في منازلها في موسم
قدومهـا مكـة ويدعوهـم ويذهـب الى ملقاة مـن يقدم الى مكـة يدعوه .فقـد جاء فـي سـيرة ابـن
هشام" :فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم ،إذا كانت ،على قبائل
العرب يدعوهم الى ال ،ويخبرهم انه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن
ال ما بعثه به فيقف على منازل القبائل من العرب فيقول" :يا بني فلن اني رسول ال إليكم
يأمركـم أن تعبدوا ال ول تشركوا بـه شيئا وأن تخلعوا مـا تعبدون مـن دونـه هذه النداد وأن
تؤمنوا بي وت صدقوا بي وتمنعو ني ح تى أب ين عن ال ما بعث ني به ...وكان صلى ال عل يه
و سلم ل ي سمع بقادم الى م كة من العرب له ا سم وشرف إل ت صدى له فدعاه الى ال وعرض
عليه ما عنده"[ .]1ولم يكتف صلى ال عليه وسلم بأهل مكة ومن كان يأتيها وإنما يذهب الى
277
خارج ها ذ هب الى الطائف يد عو أهل ها (فل ما انت هى الى الطائف ع مد الى ن فر من ثق يف هم
يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم فجلس اليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فدعاهم الى ال.)..
-589ونسأل هنا لماذا كان المدعو يؤتى ويدعى ول يأتي؟ والجواب على ذلك من وجوه:
الوجـه الول :إن وظيفـة الرسـول الكريـم صـلى ال عليـه وسـلم التبليـغ قال تعالى{ :يـا أيهـا
الر سول بلغ ما أنزل إل يك من ر بك} وقال تعالى{ :و ما على الر سول إل البلغ ال مبين} .وهذا
التبل يغ قد ي ستلزم نقلة الر سول صلى ال عل يه و سلم الى مكان من يراد تبلي غه لحتمال عدم
و صول خبر الدعوة ال يه أو أن ها و صلته ب صورة غ ير صحيحة ،أو و صلته ب صورة صحيحة
ولكن لم ينهض فيأتي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليسمع منه فلجل هذه الحتمالت
كان الرسول عليه الصلة والسلم يأتي الى أماكن الناس لتبليغهم الدعوة الى ال.
الوجه الثاني :شفقته صلى ال عليه وسلم على عباد ال وحرصه على هدايتهم وتخليصهم من
الكفر كل ذلك كان يحمله على الذهاب اليهم في أماكنهم ومنازلهم ويبلغهم الدعوة الى ال.
الو جه الثالث :إن البع يد عن ال سلم قل به مر يض ،ومر ضى القلوب ل يعرفون مرض هم ول
يح سون به فل يشعرون بالحا جة الى عل جه فل بد من اخبار هم بمرض هم من ق بل الر سل
الكرام ول ينتظرون مجيئهـم اليهـم ليخـبروهم بـل يذهبون اليهـم ويخـبرونهم بالمرض والعلج
لن من أعراض مرضهم إعراضهم عن الدعوة والمجيء الى صاحبها.
-590وعلى الداعي المسلم أن يقتدي برسول ال صلى ال عليه وسلم فينتقل الى الناس في
أماكن هم ومجال سهم وقرا هم ويبلغ هم ال سلم ويدعو هم الى ال تعالى و يا حبذا لو توزع الدعاة
الى القرى والمحلت وتفرغ كل وا حد من هم الى ج هة ،و في هذا المع نى يقول المام الغزالي
"يتكفل كل عالم باقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلّم أهله دينهم ،وتمييز ما يضرهم
ع ما ينفع هم ،و ما يشقي هم عما ي سعدهم ،ول ينب غي أن ي صبر الى أن يسأل ع نه ،بل ينب غي أن
يتصدى الى دعوة الناس الى نفسه فإنهم ورثة النبياء والنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل
كانوا ينادونهـم فـي مجامعهـم ويدورون على أبواب دورهـم فـي البتداء ويطلبون واحدا واحدا
فيرشدون هم وهذا فرض ع ين على العلماء كا فة وعلى ال سلطين كا فة أن يرتبوا في كل قر ية
و في كل محلة فقي ها متدينا يعلم الناس دين هم فان الخلق ل يولدون إل جهال فل بد من تبل يغ
الدعوة اليهم في الصل والفرع"[.]2
278
يلقاه أو يذ هب إل يه .جاء في ال سيرة النبو ية أن الر سول صلى ال عل يه و سلم ب عد أن عرض
نفسه الكريمة على قبائل العرب التي وافت الموسم في مكة وكان ذلك قبل الهجرة بنحو ثلث
سنوات ،ولم يستجب له منهم أحد ،لقي ستة نفر من الخزرج عند العقبة من منى وهم يحلقون
رؤوسـهم ،فجلس إليهـم رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فدعاهـم الى ال وقرأ عليهـم القرآن
فاستجابوا ل ولر سوله وآمنوا ثم رجعوا الى قومهم بالمدي نة وذكروا لهم رسول ال صلى ال
عل يه و سلم "ودعو هم الى ال سلم فف شا في هم ح تى لم ي بق دار من دور الن صار إل في ها ذ كر
رسول ال صلى ال عل يه وسلم"[ ]3فر سول ال صلى ال عل يه وسلم لم ي ستصغر شأن أولئك
ال ستة وهم يحلقون رؤوسهم بعد أن لم يستجب له أحد من القبائل النازلة حوالي مكة ولم ي قل
في نفسه الكريمة :أي أمل في هؤلء المشغولين بحلق رؤوسهم .ثم إن أولئك الستة كانوا هم
الدعاة الول إلى ال سلم في المدي نة ،فعلى الدا عي أن يقتدي بهدي ر سول ال صلى ال عل يه
وسلم ،ول يستهين بأحد فيزهذ في دعوته فقد يكون الخير الكثير على يد هذا الذي ل يرى فيه
خيرا الن.
واجبات المدعو
-592وإذا كان من حق المدعو أن يؤتى ويدعى ،وأن ل يستهان به ول يستصغر شأنه ،فإن
عليه أن يستجيب إذا ما دعي إلى ال ،لنه يُدعى الى الخير والحق ويستجيب لنداء ربه جل
جلله .و من بيان الوا قع الذي قد ي ستفيد م نه الدا عي ،ويطرد ع نه اليأس ويب قي أما مه ال مل،
نقول :إن الناس لي سوا سواء في ال ستجابة الى ال حق وقبول الدعوة ،فمن هم ال سريع جدا في
ال ستجابة ومن هم البط يء جدا ومن هم ب ين هذ ين الحد ين في درجات كثيرة جدا ت ستعصي على
العدّ والح صاء .ف من الناس من يؤ من حال وبدون تردد أو تل كؤ أو تع ثر ح تى كأ نه ينت ظر
سماع الدعوة ليؤمن ،ومن أمثلة ذلك ايمان أبي بكر الصديق وايمان السحرة بموسى .أما ايمان
أبي بكر فقد أخبر عنه رسولنا الكريم صلى ال عليه وسلم إذ قال "ما دعوت أحدا الى السلم
إل كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد ال ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ،ما عكم – أي ما
تلبث – حين ذكرته له وما تردد فيه"[ ]4أما ايمان السحرة فأعني بهم السحرة الذين جاء بهم
فرعون م صر لبطال معجزة مو سى عل يه ال سلم .وأخبر نا ال تعالى بق صتهم وايمان هم ،قال
تعالى{ :فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين ،قالوا آمنا برب
العالم ين رب موسى وهارون ،قال آمنتم له ق بل أن آذن ل كم ،انه ل كبيركم الذي علم كم السحر
فلسوف تعلمون ،لقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ولصلبنكم أجمعين قالوا ل ضير إنا إلى
ربنا منقلبون ،إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} فأولئك السحرة جاؤوا
لينصـروا باطـل فرعون وكفره ويقاوموا دعوة موسـى نـبي ال ،ولكـن مـا ان رأوا المعجزة
279
وعلموا أن ها لي ست من ال سحر الذي تعلموه ،وان ما هي من ع ند ال ودل يل صدق نبيه الكر يم
مو سى عل يه ال سلم ،أقول ما ان رأو ذلك ح تى آمنوا حال وأعلنوا ايمان هم صراحة ب ما يدل
على عظم اليمان وقوة نوره الذي دخل قلوبهم وبدد كل باطل فيها حتى هتفت ألسنتهم وقالوا:
{آمنا برب العالمين ،رب موسى وهارون} ولما هددهم اللعين بما هددهم به قالوا {ل ضير} أي
ل ضرر علي نا في ما يلحق نا من عذاب الدن يا فان عذا بك ساعة فن صبر ل ها ثم نل قى ال رب نا
مؤمنيـن ونحـن نرجـو أن يغفـر خطايانـا السـابقة فاننـا بادرنـا الى اليمان عنـد ظهور معجزة
موسى عليه السلم.
هذان مثلن لل ستجابة ال سريعة لدعوة ال تكون ع ند ب عض الناس أ ما المثلة على ال ستجابة
البطيئة فهي كثيرة نكتفي منها بما قصه ال علينا من أخبار قوم نوح فانه لبث فيهم ألف سنة
إل خمسـين عاما ومـع هذا لم يؤمـن له إل القليـل كمـا جاء فـي القرآن الكريـم .وأبـو سـفيان
والطلقاء لم يؤمنوا بال سلم و نبي ال سلم مح مد صلى ال عل يه و سلم إل ب عد ف تح م كة وب عد
عداوة شديدة ومحاربة دا مت عشرين سنة .وهناك من ل ي ستجيب الى دعوة ال ويموت و هو
كافر ،نعوذ بال من الخذلن.
-593و من واجبات المد عو ب عد أن هداه ال الى ال سلم أن يقوم ب حق ال سلم فيق يم أمور
حيا ته و سلوكه على منا هج ال سلم ويع بد ال على الن حو الذي أ مر به وبينّه في قرآ نه وعلى
لسان رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم حتى ل يكون في اسلمه شوب نفاق ،يقول :إنه من
المسلمين ،ولكنه ل يؤدي حقوق السلم.
في كل مجتمع يوجد سادة واشراف لهم نفوذ فيه وقد يكون بأيديهم السلطان وهؤلء هم
الصنف الول من المدعوين ويسميهم القرآن "المل" وازاء هؤلء يوجد جمهور الناس
وعامتهم ،وهؤلء هم الصنف الثاني من المدعوين ،فاذا ما استجاب الناس الى الدعوة الى ال
ودخل اليمان في قلوبهم وصارت الغلبة للمؤمنين وصار المجتمع اسلميا أمكن عند ذاك
ظهور صنف آخر يظهر السلم رياء ونفاقا ويبطن الكفر وهؤلء هم المنافقون وهم الصنف
280
الثالث من أصناف المدعوين ،كما أن من دخل في السلم قد يكون اسلمه ضعيفا وإيمانه
رقيقا مما يجعل انزلقه الى المعاصي سهل وهؤلء هم العصاة ويكونون الصنف الرابع من
أصناف المدعوين ،ول بد من الكلم عن هذه الصناف في المباحث التالية
تعريف المل
-586يستعمل القرآن الكر يم كلمة "المل" في قصصه عن الرسل الكرام وما جرى لهم مع
أقوام هم "والمل" ك ما يقول المف سرون :هم أشراف القوم وقادت هم ورؤ ساؤهم و ساداتهم[ ]1ف هم
اذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه الذين يعتبرهم الناس اشرافا وسادة ،أويعتبرون
حسب مفاهيم المجتمع وقيمه اشراف المجتمع وسادته ،ومن ثم يستحقون – في عرف الناس –
قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه ،وقد يباشرون ذلك فعلً .واطلق كلمة المل على هؤلء
فـي القرآن الكريـم بهذا المعنـى ،هـو مـن قبيـل بيان الواقـع ل مـن قبيـل بيان اسـتحقاقهم فعلً
للشرف وال سيادة والقيادة والرئا سة .ويش به هذا الطلق ما ورد في ر سائل ال نبي صلى ال
عليه وسلم الى رؤساء فارس والروم ومصر ،فقد جاء في بعض هذه الرسائل مخاطبة الرسول
الكريـم صـلى ال عليـه وسـلم الى رئيـس الروم بعبارة "إلى عظيـم الروم" فاطلق هذه العبارة
على رئيس الروم من قبيل بيان واقعه وهو انه عظيم في نظر الروم لرئاسته لهم ،وليس بيانا
لستحقاقه هذا الوصف.
281
وهذا مـن أعظـم الظلم والصـد عـن سـبيل ال إذ يوصـف الحـق الذي جاء بـه نوح مـن ربـه
بالضلل ،ول كن هذا هو من طق المل وكذلك كان مو قف المل من قر يش من دعوة ر سول ال
صـلى ال عليـه وسـلم قاوموا هذه الدعوة المباركـة ،وآذوا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم
ورموه بالكذب وتآمروا بـه ،قال تعالى{ :وعجبوا أن جاءهـم منذر منهـم وقال الكافرون هذا
سـاحر كذاب ،أجعـل اللهـة إلها واحدا إن هذا لشيـء عجاب .وانطلق المل منهـم أن امشوا
وا صبروا على آلهت كم ان هذا لش يء يراد .ما سمعنا بهذا في الملة الخرة إن هذا إل اختلق}
سـورة ص اليات 7 – 4 :والمل فـي اليـة الكريمـة هـم سـادة قريـش وقادتهـا ورؤسـاؤها
وكبراؤ ها ،قالوا لقوم هم :ا ستمروا على دين كم ول ت ستجيبوا ل ما يدعو كم إل يه مح مد صلى ال
عليه وسلم من التوحيد[.]3
وفي السيرة النبوية الشيء الكثير عن موقف المل من قريش وغيرهم من الدعوة الى ال التي
بلغهم إياها الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم ،من ذلك ما ذكره ابن هشام في سيرته من أن
الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم كان يخرج الى القبائل ويدعوهـا الى ال تعالى ،وكان يمشـي
وراءه أبـو لهـب وهـو مـن أشراف قريـش ويقول للناس " ...فل تطيعوه ول تسـمعوا منـه"[]4
وكذلك عندما خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم الى الطائف واجتمع بنفر منهم "وهم يومئذ
سادة ثقيف وأشرافها" ردوه أقبح رد ولم يكتفوا بذلك وإنما "اغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه
ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس"[.]5
أولً :الكبر
-589ال كبر خلق ذم يم وآ فة عظي مة م ستقرة في الن فس ،وتظ هر آثاره في الخارج بأشكال
مختل فة وموا قف متعددة ،و من آثاره عدم رؤية ال حق في غالب الحيان أو رؤي ته ول كن الكبر
يم نع من العتراف به والنقياد له ك ما يم نع العتراف بالف ضل لولي الف ضل ويم نع المت كبر
من الرؤية الصحيحة لقدر نفسه فيراها فوق أقدار الناس فيستنكف أن يكون معهم أو تابعا لحد
منهم ،وقد يقترن الحسد مع الكبر فيزيد من آثاره سوءا وصدودا عن الحق وجحدا له ومحاربة
لهله وعداوة لهم.
282
-590ومن اليات الدالة على صفة الكبر في المل وما أدت إليه من نتائج غاية في السوء
والقبح قوله تعالى:
{وجحدوا بهـا واسـتيقنتها أنفسـهم ظلما وعلوا }...ففرعون وقومـه أنكروا نبوة موسـى -1
عل يه ال سلم مع أن نفو سهم أيق نت ب ها ،وكان الحا مل ل هم على انكار ها ظلم هم وت كبرهم على
موسى عليه السلم.
{لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم -2
عذاب يوم عظيم ،قال المل من قومه انا لنراك في ضلل مبين} فالمل بدل من رؤيتهم الحق
الذي جاءهـم بـه نوح رأوه ضلل ،ونوره ظلما ،وادعوا ان هذا الضلل بيـن ،أي :ظاهـر
واضح ،وهو في الحقيقة دليل على عماهم وعدم رؤيتهم الحق الذي أدي بهم الى هذا الدعاء
وبالتالي الى هلكهم ،قال تعالى مخبرا عن عاقبتهم {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أنهم كانوا قوما
عمين} سورة العراف الية.60 :
وقال تعالى مخبرا عن المل من قوم عاد وما قالوه لنبيهم هود{ :قال المل الذين كفروا -3
من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} والمقصود بالسفاهة الحمق وخفة العقل،
فالمل من قوم عاد يرون ما يدعو هم ال يه نبيهم حمقا وخ فة ع قل ولو كان عند هم ب صر حد يد
لرأوا ان ما يدعوهم اليه هو الحق الصريح.
ما بينه ال تعالى عن المل من قريش وكيف أنهم وصفوا دعوة الرسول صلى ال عليه -4
و سلم بالكذب والختلق قال تعالى م خبرا عن هم { :ما سمعنا بهذا في الملة الخرة ان هذا إل
اختلق} وكيف أنهم وصفوه بالسحر والجنون قبحهم ال تعالى.
قال تعالى مخبرا عن المل من قوم نوح {فقال المل الذين كفروا من قومه ما نراك إل -5
بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل
نظنكـم كاذبيـن} سـورة هود اليـة ،27 :فالمل مـن قوم نوح يقولون مـا نراك اتبعـك إل أراذل
القوم – وهم الفقراء والضعفاء وأصحاب الحرف الخسيسة – ولم يتبعك السادة والشراف ول
القادة الرؤ ساء فك يف نكون مع هم ومثل هم في متابع تك؟ ثم يقولون وهؤلء الراذل اتبعوك بل
إعمال فكر ،ول روية ،ول تأمل لنهم من الراذل ،ل من السادة والشراف ثم يضيفون الى
ذلك بأنهـم ل يرون لرسـول ال ول لتباعـه أي فضـل عليهـم ،ثـم ينتهون الى القول بأنـه مـن
الكاذبيـن .وهذا كله مـن نتائج كـبرهم النفسـي الذي جعلهـم يقلبون الحقائق ويأنفون عـن الحـق
بحجة أن الراذل ابتعوه ،وفاتهم ان الحق في نفسه يبقى حقا سواء اتبعه الضعفاء والفقراء أو
القادة والرؤ ساء وان أتباع ال حق في الحقي قة هم الشراف ولو كانوا فقراء ،وان الراذل في
الحقيقة هم المعاندون المخالفون للحق وان كانوا في أعين الناس من الشراف.
283
وقال تعالى { :ثم أر سلنا مو سى وأخاه هارون بآيات نا و سلطان مبين .إلى فرعون وملئه -6
فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا
من المهلكين} وفرعون ملؤه ،استكبروا عن اتباع الحق فجحدوا وجاؤوا بهذه الجهالت تبريرا
لكفرهم ،وفرعون هذا هو الذي أدى به كبره الى ادعاء اللوهية وشيء من الربوبية قال تعالى
مخبرا عنه {ما علمت لكم من إله غيري} {أنا ربكم العلى}.
وفي السيرة النبوية أن المل من قريش قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم ل نرضى -7
أن نكون مـع هؤلء يعنون ضعفاء المسـلمين مثـل صـهيب وعمار وبلل وخباب – فاطردهـم
عنك ول تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك فاذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا،
فأدخلهـم ان شئت فأنزل ال تعالى{ :واصـبر نفسـك مـع الذيـن يدعون ربهـم بالغداة والعشـي
يريدون وجهه ول تعد عيناك عنهم} وقال تعالى عن أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين طلبوا
ما طلبوا {ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}[.]6
وقال تعالى عن المت كبرين عن ر سالة ال سلم واليمان بمح مد صلى ال عل يه و سلم: -8
{وقالوا لول نزّل هذا القرآن على ر جل من القريت ين عظ يم ،أ هم يق سمون رح مة ر بك ،ن حن
قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا }...سورة الزمر الية ،31 :ومعنى هذه الية الكريمة،
ان المعترضين على القرآن الكريم ،المتكبرين عن اليمان به والتصديق بنبوة محمد صلى ال
عليه وسلم قالوا :هل كان انزال القرآن على رجل كبير في أعينهم من القريتين :مكة والطائف
و عن ا بن عباس يعنون بالر جل العظ يم جبارا من جبابرة قر يش[ ]7ف هم بدا فع كبرهم النف سي
يستصغرون شأن الرسول صلى ال عليه وسلم ،ول يرونه أهل للرسالة وأنهم أو غيرهم من
ال كبراء هم الم ستحقون للر سالة وتنزل الو حي ،ورد ال علي هم قول هم بأن ال مر ب يد ال وال
أعلم حيث يجعل رسالته.
284
"فالمل" دفاعا عن رياستهم على الناس وتسلطهم عليهم يقولون :إن نوحا بدعوته هذه يريد أن
يتفضـل عليكـم ،أي يترفـع ويتعاظـم عليكـم ويترأس عليكـم .ويريـد المل بهذا الدعاء صـرف
الناس عن نوح عليه السلم لتبقى سيطرتهم ورياستهم عليهم .والحقيقة أن رسل ال ل يريدون
علوا في الرض ول ف سادا ول ريا سة ول تعاظما وإن ما هم بطبي عة دعوت هم ي صيرون أئ مة
للناس وتصير لهم الرياسة ولكن ليست هي مثل رياسة أولئك المل المتكبرين على ال.
قال تعالى عن فرعون وملئه { :ثم بعث نا من بعد هم مو سى وهارون إلى فرعون وملئه -2
بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين .فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين.
قال مو سى أتقولون لل حق ل ما جاء كم أ سحر هذا ول يفلح ال ساحرون .قالوا أجئت نا لتلفت نا ع ما
وجد نا عل يه آباء نا وتكون لك ما ال كبرياء في الرض و ما ن حن لك ما بمؤمن ين} سورة يو نس
اليات.78-76 :
ـم برروا
ـن ثـ
ـق والنقياد له وكانوا قوما مجرميـ
ـن اتباع الحـ
ـتكبروا عـ
ففرعون وملؤه اسـ
اسـتكبارهم عـن الحـق بالدعاء بأن موسـى وهارون يريدان ثنيهـم عـن الديـن الذي كان عليـه
آباؤهـم أو أنهمـا يريدان أن تكون لهمـا الكـبرياء أي العظمـة والرياسـة فـي الرض .فأسـباب
رفض فرعون وملئه دعوة الحق ترجع الى الكبر وإلى حب الرياسة والعلو في الرض ولهذا
اتهموا موسى وهارون بحب الرياسة لن فرعون يظن أن القصد من دعوتهما هو ذلك أو أن
مآل دعوتهما ذهاب رياسته على الناس.
وقال تعالى عن المل من قريش {وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن -3
هذا لشيء يراد} هذا بعض ما قاله المل من قريش ،ومعناه كما جاء في تفسير القرطبي" :إن
هذا لش يء يراد :كل مة تحذ ير ،أي إن ما ير يد مح مد صلى ال عل يه و سلم ب ما يقول النقياد له
ليعلو علينا ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد فاحذروا أن تطيعوه"[.]8
وفي تفسير ابن كثير في معنى قوله تعالى{ :إن هذا لشيء يراد} :قال ابن جرير في معنى هذه
ال ية :إن المل قالوا إن هذا الذي يدعو نا إل يه مح مد صلى ال عل يه و سلم من التوح يد لش يء
ير يد به الشرف علي كم وال ستعلء وان يكون له من كم أتباع ول سنا نجي به[ .]9ومع نى ذلك كله
أن المل من قريش حرصا منهم على الرياسة والجاه رفضوا دعوة السلم لظنهم انها تفقدهم
جاههم وسلطانهم علىالناس.
ثالثا :الجهالة
" -592والمل" غارق في الجهالة ،ول يش عر بجهال ته ف هو يك فر بر به ويرد دعو ته الكري مة
التـي بعـث بهـا رسـله الى الناس ويصـفها بأنهـا ضلل ويرمـي مبلغيهـا وهـم الرسـل الكرام
بال سفاهة وخ فة الع قل .ويؤلب الدهماء علي هم ويك يد ضد هم ويعادي هم وي ستغرب من دعوت هم
285
ويدعي أن آية كذب الرسول أنه من البشر ،وأنهم أي المل أولى بالرسالة ممن أرسلوا ،لنهم
– المل – أك ثر مال وأ عز نفرا ،وأن الر سل الكرام يريدون تحويل هم عن ملة آبائ هم ويأتون هم
بدين جديد ما سمعوا به من قبل وأنهم – أي المل – يسخرون ويستهزئون بالمؤمنين زاعمين
أنهــم ل يفهمون ول يعلمون ولهذا ااتبعوا الدعوة الى ال واتبعوا رســل ال بل رؤيــة ول
تمحيص ول تأمل بينما هم لم يفعلوا ذلك لنهم سادة أشراف يفهمون ويعقلون ويدركون.
وانهـم يحسـبون النـبياء الكرام مفسـدين فـي الرض ،وانهـم – أي المل – هـم المصـلحون
المدافعون عن دين الناس وحقوقهم ،وانهم في سبيل هذا الدفاع سيحاربون النبياء والدعاة الى
ال تعالى .وهذه بعض آثار جهالتهم وحماقاتهم اخبرنا ال تعالى بها في آيات كثيرة ،وهي من
أ سباب ضلل هم وحماقات هم ،و هي من أ سباب ضلل هم وعدم انتفاع هم بهدى ال تعالى ،ف من
ذلك:
قال تعالى عن قوم نوح {فقال المل الذ ين كفروا من قو مه ما نراك إل بشرا مثل نا و ما -1
نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين}
فهم لجهالتهم ،يقولون لنبيهم نوح عليه السلم :لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من
دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا ولم يتبعك الشراف ول الرؤساء منا .وهذا كله
من جهالتهم وإل لو كان لهم عقل لعلموا أن ل بد أن يكون الرسول من البشر حتى يمكن أن
يخاطبهـم ويمكـن لهـم أن يفهموه كمـا أنهـم لو كان لهـم عقـل سـليم لعلموا أن الحرمان والفقـر
والضعف ل علقة لشيء منها في أمور الديانة وأن الضعفاء والفقراء باتباعهم الحق يبرهنون
على حسن ادراكهم وصفاء نفوسهم.
وقال تعالى عن قوم ثمود و ما قالوه ل نبيهم صالح {قال المل الذ ين ا ستكبروا من قو مه -2
للذ ين ا ستضعفوا ل من آ من من هم أتعلمون أن صالحا مر سل من ر به؟ قالوا إنّا ب ما أر سل به
مؤمنون .قال الذيـن اسـتكبروا إنـا بالذي آمنتـم بـه كافرون} سـورة العراف اليـة،76-75 :
فالمل من ثمود كانوا م صرين على جهالت هم وانكار هم نبوة صالح عل يه ال سلم وان ما سألوا
المؤمنين سؤال متكبر جاهل ل سؤال متفهم متواضع.
قال تعالى{ :وكذلك ما أر سلنا من قبلك في قر ية من نذ ير إل قال مترفو ها إ نا وجد نا -3
آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمترفون هم (المل) وجوابهم على دعوة رسل ال
أن هم وجدوا آباء هم على ملة ود ين وان هم مقتفون أثر هم ل يحيدون عن ذلك وهذا من جهل هم،
لن الباطل ل يتابع وأن الحق أحق أن يت بع ،وهذا التقليد الذم يم للباطل القد يم الذي كان عل يه
الباء والجداد من أعظم أسباب التمرد على الحق .قال تعالى في داء التقليد الذميم{ :وإذا قيل
لهم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئا ول
يهتدون} سورة البقرة الية.170 :
286
وقال تعالى{ :وقال المل مـن قوم فرعون أتذر موسـى وقومـه ليفسـدوا فـي الرض -4
ويذرك وآلهتـك ،قال سـنقتل أبناءهـم ونسـتحي نسـاءهم وإنـا فوقهـم قاهرون} سـورة العراف
ال ية" .127 :المل" من قوم فرعون يع تبرون مو سى نبي ال والدا عي إل يه وأتبا عه المؤمن ين
مفسـدين فـي الرض ويؤلبون فرعون على مقاومتهـم والقضاء عليهـم .إن جهلهـم مـع كـبرهم
وحبهم للرياسة والجاه جعلهم يعتبرون موسى مفسدا في الرض.
287
[ ]8تفسير القرطبي ج 15ص .152-151
[ ]9تفسير ابن جرير ج 4ص .27
[ ]10تفسير ابن كثير ج 2ص .440
[ ]11تفسير ابن كثير ج 2ص .441
[ ]12تفسير القرطبي ج 15ص .150
288
وبالتالي يكونون أسـرع الى الجابـة للحـق والنقياد له مـن غيرهـم ،وهذا التعليـل أشار اليـه
القرطبي في تفسيره ،والواقع أن الكبر وحب الرياسة والنغماس في الترف ونحو ذلك مما ل
ينفك عنه (المل) غالبا ،يجعل انفكاكهم عن هذه الموانع صعبا وبالتالي تكون قلوبهم في أكنّة ل
تتأثـر بال حق وعلى عيون هم غشاوة ل ترى ال حق واضحا جليا فتند فع الى معادا ته عن ج هل
وبدافع الحرص على مكانتهم كما بينا هذا من قبل.
289
فيقول المسـتضعفون وهـم الجمهور مـن الكفار للمل المسـتكبرين مـن الكفار {بـل مكـر الليـل
والنهار} أي مكركم بالليل والنهار أي كنتم تمكرون بنا ليل ونهارا وتغروننا وتمنوننا بالماني
الباطلة وتخبرون نا أن كم على ال حق ،وأن دعوة الر سل باطلة فاذا جم يع ما ذكرتموه ل نا با طل
وكذب وكنتـم تأمروننـا أن نكفـر بال ونجعـل له أندادا أي نظراء وآلهـة معـه وتقيموا لنـا شبها
لثبات باطل كم لضلل نا وإغوائ نا وهكذا فان كم أي ها ال كبراء المجرمون بدعائ كم ل نا الى الك فر
وتزيينكم لنا الباطل اتبعناكم وصرنا من الكافرين .ثم يخبر ال تعالى عنهم أنهم أسروا الندامة
ل ما رأوا العذاب أي أظهروا جميعا الندم ال سادة والتباع ،كل ندم على ما سلف م نه ول كن ل
ينفع هم الندم ولهذا تو ضع في أعناق هم ال سلسل أي تج مع أيدي هم مع أعناق هم جزاء أعمال هم
وتكذيبهم .للقادة عذاب بحسبهم وللتباع عذاب بحسبهم[.]5
290
-592ثانيا :الغراء بالمال وحطام الدنيـا ،فإن المل يملكون ذلك ويلوحون بـه الى الجمهور
إن تابعوهم على باطلهم ورضوا بقيادتهم لهم وقد يشير الى ذلك قوله تعالى عن قوم نوح ،قال
ربنا عز شأنه{ :قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إل خسارا} فانهم
اتبعوا ساداتهم وكبراءهم أصحاب الرئاسة والموال على أمل الحصول على شيء من أموالهم
وفي قوله تعالى حكا ية عن فرعون {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك م صر
وهذه النهار تجري مـن تحتـي أفل تبصـرون} اشارة ،على مـا أفهمـه ،الى اغراء فرعون
للجمهور بما يملكه من مال وأسباب الحياة المادية وانه يعطيها من يوافقه على باطله أو يهيء
له فرصة الستفادة منها .وفي السيرة النبوية أن اشراف قريش عرضوا على رسول ال صلى
ال عليه وسلم المال الكثير يعطونه له إذا ترك دعوته ،مما يدل على أن (المل) يغرون الناس
بالمال اعطاء أو منعا لصدهم عن الدعوة الى ال سبحانه وتعالى.
ثالثا :الشبهات ،والمل ل يكتفي بالقوة والبطش والتخويف لصد الجمهور عن دعوة الحق وانما
يسلك معهم سبيل الشبهات وهذه الشبهات أنواع كثيرة منها رمي الداعي الى ال بالجنون
والضلل والسفاهة وقد ذكرنا بعض اليات الكريمة عن قوم نوح وهود ومنها {قال المل من
قومه انا لنراك في ضلل مبين} وعن هود{ :قال المل الذين كفروا من قومه انا لنراك في
سفاهة وانا لنظنك من الكاذبين} .ومن شبهاتهم قولهم أن الرسول بشر وما ينبغي في زعمهم
أن يكون الرسول من البشر {فقال المل الذين كفروا من قومه ما نراك إل بشرا مثلنا} ومن
شبهاتهم أن المل في مقاومتهم دعوة الحق يريدون حماية عقيدة الناس ومصالحهم ودفع الفساد
عنهم ،قال تعالى عن مثل هذه الشبهة القديمة في المل المتجددة في كل زمان{ :وقال فرعون
ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد} ومثل
هذا كان يقول المل من قريش من أن الرسول صلى ال عليه وسلم يريد افساد عقيدتهم وتسفيه
آلهتهم ولهذا فهم يقاومونه .ومن شبهاتهم أن لهم الموال الكثيرة والجاه والسلطان وأن هذا
دليل على أحقيتهم وصلحهم ولهذا فهم خير من الداعي ولو كان رسول .قال تعالى{ :ونادى
فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون.
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين} ففرعون يعتز بملكه وسلطانه وثراه ومنعته
ويوهم الجمهور أنه وهذه منزلته أحق بالحق من موسى الذي ليس عنده شيء مما عند فرعون
الذي ل يكاد يفصح عن مقصده وغرضه ،وقال تعالى{ :وما أرسلنا في قرية من نذير إل قال
مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ،وقالوا نحن أكثر أموال وأولدا وما نحن بمعذبين} فهم
يستدلون بما أعطاهم ال من أموال وأولد على صلحهم ونجاتهم من العذاب وجهلوا سنة ال
في العطاء والمنع فال تعالى يعطي المال لمن يحب ولمن ل يحب فل يكون المال دليل على
صلح الشخص ورضى ال عنه .وهذه الشبهات على بطلنها فإنها تؤثر في الجمهور لن من
291
يسمع يضل ،ولن المل يلقيها بأسلوب ناعم مزخرف ليزيد من تضليله وإغرائه للجمهور
بالمال وإخافته لهم بالقوة .والنسان يحب الحياة والتمتع فيها ويخاف الذى والحرمان ،فتتجمع
الشبهات مع هذه الغرائز النسانية فيقع التأثير في أكثر الجمهور ول ينجو منه إل القليل منهم،
ومع هذا يبقى أكثر أتباع الرسل الكرام من الجمهور ل من المل.
--------------------------------------------------------
-----
[ ]1من حديث طويل رواه المام البخاري في صحيحه ج 1ص .9-7
[ ]2سيرة ابن هشام ج 1ص .339
[ ]3تفسير ابن كثير ج 2ص .442
[ ]4تفسير ابن كثير ج 4ص .130
[ ]5تفسير ابن كثير ج 3ص ،539تفسير القرطبي ج 14ص .304-303
تعريف المنافق
-586المنافق في الصطلح الشرعي هو الذي يظهر غير ما يبطنه ويخفيه ،فإن كان الذي
يخفيه التكذيب بأصول اليمان فهو المنافق الخالص وحكمه في الخرة حكم الكافر وقد يزيد
عل يه في العذاب لخدا عه المؤمن ين ب ما يظهره ل هم من ال سلم قال تعالى{ :إن المنافق ين في
الدرك السفل من النار} وإن كان الذي يخفيه غير الكفر بال وكتابه ورسوله وإنما هو شيء
من المع صية ل ف هو الذي ف يه شع بة أو أك ثر من ش عب النفاق .والذي نر يد أن نتكلم ع نه في
هذا الب حث هو المنافق الخالص الذي يخ في كفره وتكذيبه ل ولكتابه ولر سوله .ومع هذا فاننا
سنذكر بعض صفات هؤلء المافقين ليتعظ ويعتبر المسلم فقد يكون فيه من صفات المنافقين
وهو ل يشعر ولنه من الجائز أن يجتمع مع السلم بعض شعب النفاق.
292
الى المدينة لن المسلمين كانوا قلة مستضعفين ل حول لهم ول قوة ول سلطان وإنما السلطان
لكفار قريش ،ولكن بعد أن هاجر النبي صلى ال عليه وسلم والمسلمون الى المدينة ،وصار
للمسلمين قوة وسلطان وانتشر السلم في المدينة ظهر النفاق والمنافقون.
أساس النفاق
-588وأساس النفاق الكفر والجبن ،أما الكفر فهو ما يبطنه المنافق ،وأما الجبن فهو الذي
يجعل المنافق يظهر خلف ما يبطنه من الكفر ولهذا ل يكون المنافق إل جبانا خوارا ضعيف
القلب يحسن الكيد والمواربة والعمل في الظلم وإذا لقي المؤمنين أظهر لهم نفسه كأنه مؤمن
{وإذا لقوا الذ ين آمنوا قالوا آم نا وإذا خلوا إلى شياطين هم قالوا إ نا مع كم إن ما ن حن م ستهزئون}
فهـم لجبنهـم يقولون :إننـا مؤمنون ،وإذا خلوا الى قرنائهـم مـن المنافقيـن والكاذبيـن قالوا نحـن
نستهزيء بالمؤمنين بقولنا لهم أننا مؤمنون.
علمات النفاق
-590وإذا كان النفاق يقوم على الكفر الباطن ،والصل خفاء ما في القلوب ،فان السبيل الى
معر فة المنا فق هو ظهور علمات النفاق عل يه فاذا ما ظهرت هذه العلمات حذره الم سلمون
وتوقوا شره سواء أكان من المنافقين الخالصين ،أي الذين يخفون تكذيب ال ورسوله ،أو كان
من الذين عندهم أصل التصديق بال ورسوله ولكن شاب تصديقه بعض معاني النفاق واتصف
بب عض صفات المنافق ين ف من ظهرت عل يه صفات المنافق ين عو مل معاملة المنافق ين بقدر ما
ظهر فيه من صفاتهم سواء أكان عنده أصل اليمان بال ورسوله أو لم يكن عنده هذا الصل.
-591وعلمات المنا فق تعرف من كتاب ال و سنة ر سوله ل ب ما يتعارف عل يه الناس ف قد
يعتـبرون بعـض هذه العلمات مـن لوازم المجاملة أو مـن حسـن الداب والخلق وكـل هذه
التبريرات لصفات النفاق والمنافقين ل تغير من الحقيقة شيئا لن العبرة بالمسميات ل بالسماء
فان حقي قة الش يء تب قى هي هي وان غ ير الناس ا سم هذا الش يء ف ما هي علمات المنا فق
وصفاته؟
293
-592أولً :مرض القلب ،قال تعالى{ :في قلوبهم مرض فزادهم ال مرضا ولهم عذاب أليم
ب ما كانوا يكذبون} ومرض القلب نوع من الف ساد ي صيب القلب فيخ تل ادراك صاحبه واراد ته
ح تى ل يرى الحق أو يراه على خلف ما هو عل يه وتخ تل اراد ته بح يث يب غض ال حق النا فع
ويحب الباطل الضار .ومريض القلب يؤذيه مال يؤذي صحيح القلب فأدنى شيء يثير شهوته،
قال تعالى{ :ول تخضعـن بالقول فيطمـع الذي فـي قلبـه مرض} فالخضوع بالقول يثيـر شهوة
صاحب القلب الفا سد المر يض .بين ما صاحب القلب ال صحيح لو تعر ضت له امرأة لم يلت فت
إليها وقصة يوسف عليه السلم معروفة ،وكذلك الحال في الشبهات فأدنى شبهة تثير الشكوك
في صاحب القلب المريض وأدنى فتنة تزلزل قدميه وترده على عقبيه ،قال تعالى{ :ليجعل ما
يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض }...والمنافق له النصيب الكبر من مرض القلب إذا
كان منافقا خالصا وله نصيب غير قليل إذا كان عنده أصل اليمان ولكنه متصف بصفات أهل
النفاق.
-593ثانيا :الف ساد في الرض ،قال تعالى{ :وإذا ق يل ل هم ل تف سدوا في الرض قالوا إن ما
نحـن مصـلحون أل إنهـم هـم المفسـدون ولكـن ل يشعرون} فهـم يفسـدون ول يشعرون أنهـم
مف سدون بل ويح سبون أنف سهم من الم صلحين والف ساد هو الك فر قول وعمل وع مل المع صية
والمر بها .لن من عصي ال في الرض أو أمر بالمعصية فقد أفسد في الرض لن صلح
الرض بالطاعة وفسادها بالمعصية .وفساد المنافقين كفرهم وشكهم وتكذيبهم ومخادعتهم ال
ورسوله والمؤمنين ،وموالتهم لعداء الدين ومحاربتهم لولياء ال والداعين إليه الى غير ذلك
مما يتبين من صفاتهم.
-594ثالثا :رمي هم المؤمن ين بال سفه ،قال تعالى{ :وإذا ق يل ل هم آمنوا ك ما آ من الناس ،قالوا
أنؤ من ك ما آ من ال سفهاء أل إن هم هم ال سفهاء ول كن ل يعلمون} وال سفيه هو الجا هل الضع يف
الرأي القل يل المعر فة بموا ضع الم صالح والمضار[ .]1ول كن الحقي قة ك ما أ خبر ال تعالى أن هم
هم السفهاء فالسفاهة محصورة فيهم وبأمثالهم من الكفرة ولكن من تمام جهلهم أنهم ل يعرفون
ما فيهم من الضللة والجهالة.
-595رابعا :اللدد في الخصومة والعزة بالثم ،قال تعالى{ :ومن الناس من يعجبك قوله في
الحياة الدن يا ويش هد ال على ما في قل به و هو ألد الخ صام .وإذا تولى سعى في الرض ليف سد
فيها ويهلك الحرث والنسل وال ل يحب الفساد .وإذا قيل له اتق ال أخذته العزة بالثم فحسبه
جه نم ولبئس المهاد} سورة البقرة اليات .206-204 :فالمنا فق يأ تي بالقول الج يد يتمشدق به
ويلوي لسانه به ويظهر السلم ويشهد ال والمؤمنين أن الذي في قلبه موافق للسانه وهو ألد
الخ صام أي أعوج في خ صامه وو جه هذا العوج أن يكذب ويزور عن ال حق ويفتري ويف جر،
كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم "آية المنافق ثلث إذا حدث كذب
294
وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" .وهو مع هذا يقصد الفساد في الرض فليس له همة إل في
الفساد في الرض واهلك ما ينفع الناس من حرث ونسل ،وإذا قيل له :اتق ال واترك ما أنت
فيه من قول فاجر وسعي فاسد وارجع الى الحق ،امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالثم
أي بسبب ما اشتمل عليه من الثام.
-596خامسا :موالة الكافرين والتربص بالمؤمنين ،قال تعالى{ :بشر المنافقين بأن لهم عذابا
أليما .الذيـن يتخذون الكافريـن أولياء مـن دون المؤمنيـن أيبتغون عندهـم العزة فان العزة ل
جميعا ...الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من ال قالوا ألم نكن معكم ،وإن كان للكافرين
نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فال يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل ال
للكافريـن على المؤمنيـن سـبيل} سـورة النسـاء اليات .140 ،138 ،137 :المنافـق يوالي
الكافر ين اي ين صرهم ويود هم ويقول إذا خل ب هم :إ ني مع كم ،ف هو في الحقي قة من هم .و من
صفات المنافق ين ان هم ينتظرون زوال دولة الم سلمين وظهور الكفار علي هم وذهاب دين هم فان
كان للمسـلمين نصـر وغلبـة قال لهـم المنافقون ألم نكـن معكـم .وإن كان للكافريـن غلبـة على
الم سلمين قالوا ل هم ألم ن ساعدكم في البا طن .فالمنافقون ي صانعون الكفار والم سلمين وإن كان
ودهم وميلهم مع الكفار ولكن ل يريدون الظهور معهم علنية ول تحمل ما يتحملون من جهد
في محاربة المسلمين.
ـن
ـن اداء العبادات ،قال تعالى{ :إن المنافقيـ
ـل عـ
ـادسا :الخداع والرياء والتكاسـ
-597سـ
يخادعون ال و هو خادع هم وإذا قاموا الى ال صلة قاموا ك سالى يرؤون الناس ول يذكرون ال
إل قليل .مذبذبيـن بيـن ذلك ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء ومـن يضلل ال فلن تجـد له سـبيل}
سورة النساء الية .142 :من صفات المنافقين الخداع يخادعون ال ويخادعون الناس أما وجه
مخادعتهم ال تعالى فهو اعتقادهم أن أمرهم كما راج بين الناس وجرت عليهم أحكام السلم
فـي الظاهـر ،وخفـت حقيقتهـم على الناس فكذلك يظنون يكون حكمهـم عنـد ال يوم القيامـة،
فيروج أمرهـم ويخفـى عنـد ال كمـا راج وخفـي على الناس .وهذا محـض الجهـل لن ال ل
يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء .ومن صفاتهم تثاقلهم عن العبادات فهم اذا تذكروا
الصـلة وقاموا اليهـا قاموا كسـالى ل يحبونهـا ول يريدونهـا وانمـا يفعلونهـا على وجـه الرياء
للناس ولهذا فهم ل يذكرون ال إل قليل .جاء في الحديث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
"تلك صلة المنا فق .تلك صلة المنا فق .تلك صلة المنا فق .يجلس ير قب الش مس ح تى إذا
كا نت ب ين قر ني الشيطان قام فن قر أربعا .ل يذ كر ال في ها إل قليلً" .والمنافقون متحيرون فل
هم من المؤمنين ظاهرا وباطنا ول مع الكافرين.
-598سابعا :التحا كم الى الطاغوت ،قال تعالى{ :ألم تر الى الذ ين يزعمون أن هم آمنوا ب ما
أنزل إليـك ومـا أنزل مـن قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقـد أمروا أن يكفروا بـه
295
ويريـد الشيطان أن يضلهـم ضلل بعيدا .وإذا قيـل لهـم تعالوا الى مـا أنزل ال والى الرسـول
رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك
يحلفون بال إن أردنـا إل احسـانا وتوفيقا .اولئك الذيـن يعلم ال مـا فـي قلوبهـم فأعرض عنهـم
وعظ هم و قل ل هم في أنف سهم قول بليغا} سورة الن ساء اليتان .60-59 :من صفات المنافق ين
زعمهم أنهم يؤمنون بما أنزل ال على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وما أنزل ال على
رسله من قبله ومع هذا الزعم بألسنتهم يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وهو الباطل وهو ما
عدا الكتاب وال سنة .و قد أمر هم ال تعالى بالبراءة م نه وير يد الشيطان أن يضل هم ضلل بعيدا
في دفعهم الى التحاكم الى ما عدا الكتاب والسنة فكيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بسبب نفاقهم
وتمرد هم على أوا مر ال ،ثم جاؤوا الى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم يحلفون بال أن هم ما
قصـدوا بالتحاكـم الى الطاغوت إل الحسـان والتوفيـق الى الصـلح والخيـر ومصـانعة أهـل
البا طل .اوأولئك المنحرف ين عن د ين ال و عن شريع ته يعلم ال ما في قلوب هم من المرض
والنفاق ،فأعرض عنهم أي ل تعنفهم على ما في قلوبهم ولكن انههم عما في قلوبهم من النفاق
وانصحهم بكلم بليغ رادع لهم.
-599ثامنا :الفسـاد بيـن المؤمنيـن ،قال تعالى{ :لو خرجوا فيكـم مـا زادوكـم إل خبال
ولوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم وال عليم بالظالمين} سورة التوبة الية:
.47ويحرص المنافقون على اضعاف الم سلمين وتفر يق صفوفهم واشغال هم في ما بين هم .وهذه
الية الكريمة تبين هذه المعاني وغيرها .فقد يحزن المسلمون على عدم انضمام بعض الناس
الي هم وعدم الع مل مع هم ظنا من هم أن هم من هم وأن هم ينفعون هم إذا خرجوا مع هم .ول كن ال يعلم
غيـر ذلك يعلم أنهـم لو خرجوا مـع الم سلمين ل ما زادوهـم إل خبال أي فسـادا بالنمي مة وايقاع
الختلف ب ين الم سلمين و بث الراج يف ولوضعوا خلل الم سلمين أي ل سرعوا في ما بين هم
بالنميمـة والبغضاء والفتنـة .وفـي المسـلمين سـماعون لولئك المنافقيـن أي مطيعون لهـم
ومسـتجيبون لحديثهـم وكلمهـم يسـتنصحونهم أو يسـألونهم لن المسـلمين ل يعلمون حالهـم،
فيؤدي ذلك الى وقوع الشر بين المؤمنين[.]2
-600تاسعا :الكذب والخوف وكره المسلمين ،قال تعالى{ :ويحلفون بال انهم لمنكم وما هم
منكـم ولكنهـم قوم يفرقون .لو يجدون ملجـأ أو مغارات أو مدخل لولوا إليـه وهـم يجمحون}
سورة التوبة اليتان .57-56:فمن صفات المنافقين الكذب والحلف عليه جاء في الحديث "آية
النا فق ثلث إذا حدث كذب وإذا و عد أخلف وإذا ائت من خان" و في روا ية "وإذا خا صم ف جر"
و في ال ية الكري مة أخبار عن المنافق ين ان هم يحلفون بال أن هم من الم سلمين ،والحقي قة خلف
ذلك ،ولكن هم قوم يفرقون أي يخافون فالدا فع ل هم على الكذب أن هم يخافون أن ينك شف كفر هم
فيعاقبهم المسلمون فهم من كرههم للمسلمين ل يودون مخالطتهم ول رؤيتهم ولهذا فهم في هم
296
وحزن كلما رأوا السلم وأهله في عز ونصر ،لن هذا يسوؤهم ويحزنهم ولو رأوا ملجأ أي
حصنا أو مغارات أو مدخل وهو النفق في الرض لسرعوا في ذهابهم اليها ليغيبوا عنكم ول
يروكم.
-601عاشرا :يعيبون أهل الحق ،ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم ،قال تعالى{ :ومنهم
من يلمزك في ال صدقات فإن أعطوا من ها رضوا وان لم يعطوا من ها إذا هم ي سخطون} سورة
التوبة الية .58 :ومن صفات المنافقين الطعن في أهل الحق وفي أعمالهم الحقة العادلة لن
المنافق ين ل يحبون ال حق والعدل ،ورضا هم و سخطهم لنف سهم ،فان أعطوا شيئا م ما يريدون،
رضوا ،وإن لم يعطوا ،سخطوا أو غضبوا ورموا أ هل الحق بالظلم والح يف وهذا كان ديدن هم
مع رسول ال صلى ال عليه وسلم وهذا ما تخبرنا به هذه الية الكريمة .فقد كان من المنافقين
من يلمز أي يعيب رسول ال صلى ال عليه وسلم ويطعن عليه في قسم الصدقات أي الزكاة
على الم ستحقين فإذا أعطوا منهـا رضوا وسـكتوا وإن لم يعطوا منهـا غضبوا و سخطوا ،وهذا
شأن المنافقين في كل زمان يرضون على الشخص إذا أعطاهم ما يأملون ويسخطون عليه إذا
لم يعط هم ما يأملون و هم في رضا هم و سخطهم ينظرون الى أنف سهم ول ينظرون إلىال حق
والعدل.
-602حادي ع شر :ال مر بالمن كر والن هي عن المعروف ،قال تعالى{ :المنافقون والمنافقات
بعض هم من ب عض يأمرون بالمن كر وينهون عن المعروف ويقبضون أيدي هم ،ن سوا ال فن سيهم
ن المنافقين هم الفاسقون} سورة التوبة الية ،67 :ومن صفات المنافقين أنهم يأمرون بالمنكر،
إّ
وينهون عن المعروف لن نفوسهم المريضة لم تعد ترغب في رؤية الخير يعمله الناس .فهم
يحبون أن يشيع الشر والمنكر بين الناس فهذا هو الذي تهواه نفوسهم ويشفي حقدهم وغيظهم
على أ هل ال حق ،وح تى يت ساووا مع الناس في ف عل القبائح و مع هذه ال صفة الخبي ثة ل ينفقون
فيما يحبه الهل فهم بخلء في النفاق وفي فعل الخير وفي المر به والدللة عليه.
-603ثا ني ع شر :الغدر وعدم الوفاء بالع هد قال تعالى{ :ومن هم من عا هد ال لئن آتا نا من
فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين .فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون.
فأعقب هم نفا قا في قلوب هم الى يوم يلقو نه ب ما أخلفوا ال ما وعدوه وب ما كانوا يكذبون} سورة
التوبة اليات ،77-75 :ومن صفات المنافقين الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد حتى مع ال
جل جلله بخلف المؤ من فان الكل مة تلز مه ،فل يغدر ول يخون وي في بعهده مع الناس و مع
ال تعالى .وهذه الية الكريمة تبين أن من المنافقين من أعطى ال عهده وميثاقه لئن أغناه من
فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين فما وفى بما قال ول صدق فيما ادعى ،فأعقبهم
هذا الصنيع نفاقا سكن وثبت في قلوبهم الى يوم يلقون ال عز وجل يوم القيامة[.]3
297
-604ثالث ع شر :يعيبون المؤمن ين وي سخرون من هم ول يرضي هم من هم ش يء ،قال تعالى:
{الذي يلمزون المطوع ين من المؤمن ين في ال صدقات والذ ين ل يجدون ال جهد هم في سخرون
منهم سخر ال منهم ولهم عذاب أليم} سورة التوبة الية.79 :
مـن صـفات المنافقيـن عيبهـم الدائم للمؤمنيـن ،وطعنهـم فيهـم ،ول يرضيهـم منهـم شيـء .فإن
ت صدق أحد المؤمن ين بالمال الكثير قالوا عنه هذا مراء .وان ت صدق بالقليل ل نه ل ي جد أك ثر
منه ،قالوا ان ال لغني عن صدقة هذا .ومع عيبهم هذا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم
ويضحكون منهم.
-605رابـع عشـر :تواصـيهم بترك الجهاد ،قال ال تعالى{ :فرح المخلفون بمقعدهـم خلف
ر سول ال وكرهوا أن يجاهدوا بأموال هم وأنف سهم في سبيل ال وقالوا ل تنفروا في ال حر قل
نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} سورة التوبة الية .81 :من صفات المنافق عدم المعرفة
عدم الفقـه فهـو يترك اليمان بال ويفرح بقعوده عـن الجهاد فـي سـبيله ويوصـي غيره مـن
المنافقين بعدم الجهاد لما فيه من المشقة كالحر وينسى هذا المنافق أن نار جهنم أشدّ حرا من
هذا وأن العاقل من يعمل ما ينجيه منها.
خامس عشر :الضرار بالمؤمنين وتسترهم بفعل ظاهره مشروع ،قال تعالى{ :والذين اتخذوا
مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب ال ورسوله من قبل،
وليحلفن إن أردنا إل الحسنى وال يشهد إنهم لكاذبون .ل تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى
من أول يوم أحق أن تقوم فيه ،فيه رجال يحبون أن يتطهروا وال يحب المطهرين} سورة
التوبة الية .108-107 :تشير الية الى بعض صنيع المنافقين في عهد النبي صلى ال عليه
وسلم .فقد بنوا مسجدا ضرارا لمسجد قباء أي ضررا لهل مسجد قباء وهم المؤمنون ،وكفروا
بالنبي صلى ال عليه وسلم وإرصادا لمن حارب ال ورسوله أي انتظارا وترقبا لمن حارب
ال ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار .وهذا هو مقصودهم من بناء هذا المسجد ،وان حلفوا
كاذبين إنهم إنما أرادوا ببنائه الحسنى أي الخير والرفق بالمسلمين ليصلي فيه ذو العلة
والحاجة وال يشهد إنهم لكاذبون فيما يحلفون عليه .وقد كان من خبر هذا المسجد أن ال عز
وجل أمر النبي صلى ال عليه وسلم أن يهدمه ول يصلي فيه .وان مسجد قباء الذي أسس
على التقوى وطلب رضاء ال هو الذي يستحق أن يصلي فيه المسلمون ويجتمعون فيه على
الخير" .وهذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلئم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها
اعداء هذا الدين .تتخذ في صورة نشاط ظاهره للسلم وباطنه لسحق السلم ،أو تشويهه
وتمويهه وتمييعه .وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لفتة الدين عليها لتختفي وراءها وهي
ترمي هذا الدين .وتتخذ في صورة تشكيلت وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن السلم...
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وانزال اللفتات الخادعة عنها وبيان
298
حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها .ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول ال
صلى ال عليه وسلم.]4["..
--------------------------------------------------------
-----------------------------------------------
[ ]1تفسير ابن كثير ج 1ص .50
[ ]2تفسير ابن كثير ج 2ص .361
[ ]3تفسير ابن كثير ج 2ص ،173تفسير القرطبي ج 8ص .210
[ ]4في ظلل القرآن ج 11ص .36-35
تعريفهم
-586نريد بالعصاة ،كصنف من أصناف الناس ،من كان عندهم أصل اليمان وهو القرار
بشهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسـول ال ،ولكنهـم ل يقومون بحقوق هذه الشهادة ،فهـم
يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه .ومنهم المكثر من المعاصي ومنهم المقل
ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدا ومتنوعة جدا ل يحصيها إل ال تعالى.
أسباب العصيان
-588وقـد يرد الى الذهـن هذا السـؤال :لماذا يعصـي المسـلم أوامـر الشرع السـلمي و هو
مؤ من بال وبر سوله وباليوم ال خر ،ومؤ من بأن مع صية الخالق جل جلله تؤدي الى سخطه
وعذابه؟ والجواب على ذلك :أن اليمان قد يضعف في قلب المسلم فتغلبه شهوته ويقبل اغراء
الشيطان فيرت كب المع صية لن العقاب على الذنوب ش يء موعود به في الخرة ،ولذائذ الدن يا
المحرمـة شيـء حاضـر ،والنفـس مجبولة على التأثـر بالحاضـر ل بالغائب ،وإن كانـت عاقبـة
الحا ضر مرة ،وعاق بة الغائب حلوة ،ول يمنع ها من هذا التأ ثر إل اليمان القوي المن ير الذي
299
يجعل الغائب كالحاضر فيكون التأثر به ل بالحاضر المحسوس فعل .قال تعالى{ :بل تؤثرون
الحياة الدنيا} فالنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة وان كانت تافهة على اللذة الجلة وان كانت
جسـيمة ،ومـع ضعـف اليمان يقوى هذا الطبـع وهذه الجبلة فـي النسـان ،فيسـتسهل ارتكاب
المخالفـة ابتغاء اللذة العاجلة ،أو دفـع المشقـة العاجلة ،ل سـيما مـع أمـل البقاء والتوبـة فـي
المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو ال تعالى.
جهل العاصي
-589العا صي جا هل قطعا ،فلول جهله ل ما ع صى ال تعالى .قال رب نا جل جلله{0 :إن ما
التوبة على ال للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب ال عليهم وكان
ال عليما حكيما} سورة الن ساء ال ية .17 :قال مجا هد وغ ير وا حد من أ هل العلم :كل من
عصى ال خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان
يحدث أن أ صحاب ر سول ال صلى ال عل يه و سلم كانوا يقولون :كل ذ نب ا صابه ع بد ف هو
جهالة .و عن مجاهـد أيضا قال :كـل عامـل بمعصـية ال فهـو جاهـل حيـن عملهـا .وعـن ابـن
عباس :من جهالته عمل السوء[.]1
وو جه ج هل العا صي ،ا نه يج هل قدر ر به و ما ي جب له من طا عة ل حق ربوبي ته والوهي ته
وعظم ته وكمال أنعا مه على عبده وكمال ف قر الع بد له ،وعدم خفاء ش يء على ال تعالى م ما
ع مل الخلق ،وان هم مجزيون على أعمال هم .و من ج هل العا صي ،جهله بضرر الذنوب .وكان
ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب ول يلمسها ول يضعها على جسمه،
ولكن العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها .ومن جهله ان يؤثر العاجلة على الخرة ،وما
ن سبة العاجلة و ما في ها من لذائذ الى نع يم الخرة ال كن سبة ما يعلق بال صبع إذا غم سها في
الب حر الى مائه ،و من جهله الت سويف وطول ال مل وتأج يل التو بة ،ولم يعلم أن الموت أقرب
الى النسان من شراك نعله ،وانه ل يستأذنه إذا حان الجل .ومن جهله أن يتعب كثيرا ويترك
لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بر بح آ جل في الدن يا ،ولو ع قل لف عل للخرة ما يفعله لنوال هذا
الر بح .ال ترى الطالب يح بس نف سه في بي ته يقرأ ويدرس أياما وأ سابيع لين جح في المتحان
وان فات ته ب عض اللذات .والتا جر ير كب الخطار ويفارق أهله ويق طع الفيا في والقفار لير بح
شيئا من المال .فلماذا ل يعمل للخرة كما يعمل في هذه الحوال ،ثم أليس من جهل العاصي
أنه إذا سمع قول طبيب يخبره أنه إذا شرب كذا أو أكل كذا ،مات أو كان على خطر شديد فانه
يت بع ن صيحة ال طبيب ويف طم نف سه م ما نهاه ع نه ،مع أن قول ال طبيب يحت مل الخ طأ .بين ما ما
أخبر نا به الر سول صلى ال عل يه و سلم من وع يد ال وعذا به ل من تخ طى حدوده ،هو خبر
صدق ويقين قطعا ،فلماذا ل يأخذ بقول الرسول صلى ال عليه وسلم ويأخذ بقول الطبيب لول
300
جهله وجهالته؟ ومن جهل العاصي اتكاله على عفو ال ورحمته ونسي ان رحمة ال قريب من
المح سنين ،وان العارف ين يؤتون ما آتوا وقلوب هم وجلة ان ل يق بل من هم ،وان الرا جي حقا من
قام بالسـباب وانتظـر رحمـة العليـم العلم ،كالذي يحرث الرض ويلقـي البذر ويقوم بالسـقي
ويتعهـد الزرع ويرجـو أن يحفـظ ال زرعـه ويجنبـه الفات .أمـا الحمـق المغرور فهـو الذي
يترك أرضه تملها الشواك والدغال ول يلقي فيها بذرا ويرجو أن ينبتها ال له.
الوقاية من المعاصي
-590العلج من ارتكاب المعا صي أو الم يل الي ها ،وان ك نا قد أشر نا ال يه ب عض الشارة،
سنتكلم عنه إن شاء ال تعالى -عند كلمنا عن أساليب الدعوة في الباب الرابع .ويكفينا هنا
أن نقول ان الوقاية خير من العلج ،كما قالوا ،وهو يصدق في الوقاية من أمراض البدن ومن
أمراض القلب ،والمعاصـي هـي سـبب مرض القلب ونتائج مرض القلب فكيـف يتقـي مـن
المعاصي؟ في كل نفس استعداد وقابلية لرتكاب المعاصي {ونفس وما سواها فألهمها فجورها
وتقواها} فالنفس تحمل جراثيم المعاصي ،وهذه الجراثيم تكون مقهورة مغلوبة ما دام القلب في
صـحة وعافيـة معمورا باليمان .فاذا ضعـف لي سـبب كان ،ووجدت هذه الجراثيـم المناخ
الملئم انتعشـت ونمـت وظهرت فعاليتهـا .كمـا يحصـل لجراثيـم الجسـم .ومـن المناخ الملئم
لجراثيـم المعاصـي كـل المهيجات للمعصـية مـن المرئيات والملموسـات والمسـموعات
والمطعومات ،والقراءات .لكل واحد من هذه الميهجات ،إذا أهاج شهوتك ،دفعك نحو المعصية
وأن ساك ذ كر ال .ف من المناخ الملئم لجراث يم المعا صي ،الن ساء الكا سيات العاريات ،والغناء
الفاحش القبيح ،والمخالطات المحرمة ،وارتياد محلت أهل الغفلة ،وسماع كلم أهل الدنيا ،كل
هذا وأمثاله يقوي جرثومـة المعصـية حتـى تكون هـي القاهرة الغالبـة بعـد أن كانـت مقهورة
مغلوبة وبالتالي يواقع المعصية وينغمس فيها .أما المناخ الملئم لضعاف جرثومة المعصية،
فهو كل شيء يقوي فيه معاني اليمان والعلم الحق بال واليوم الخر ويبصرك طريق الخرة.
فصحبتك للطيبين العاملين للسلم الداعين الى ال من أكبر الحصون لنفسك وليمانك وبالتالي
لضعاف جرثو مة المع صية .وأخيرا ،فان من الوقا ية أن ل ي ستصغر الم سلم ذنبا مه ما كان
صغيرا فان الحزمة من الحطب تتكون من عيدان .وأن ل يعرض نفسه الى ما يضعف ايمانه
ويقوي فيـه جرثومـة المعصـية اعتمادا منـه على قوتـه وعافيتـه فليـس مـن العقـل أن يعرض
النسان نفسه لجرثومة السل ويغشى محلت المسلولين بحجة أنه قوي صحيح البدن.
301
الداعي ينظر الى العصاة نظرة اشفاق ورحمة فهو يراهم كالواقفين على حافة واد عميق
سحيق في ليلة ظلماء .يخاف عليهم من السقوط ،ويعمل جهده لتخليصهم من الهلك .وهو في
سبيل هذه الغاية ،يتجاوز عن تجاوزهم افتخارا على حقه إن كانت معصيتهم في حقه ول
يعيرهم ول يشمت بهم ،ول يحتقرهم افتخارا بنفسه عليهم وادلل بطاعته ،ولكن له أن
يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع ،وان يغضب لهذا التجاوز ،قالت عائشة رضي
ال عنها ( :ما انتقم رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفسه قط ول نيل منه شيء فانتقم لنفسه
إل أن تنتهك محارم ال .فاذا انتهكت محارم ال لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقهم ل) .ومن
محارم ال التي يغضب لها المسلم ،محاربة العصاة الدعوة الى ال والصد عن سبيله والحاق
الذى بالدعاة حتى يمتنعوا عن القيام بواجب الدعوة ،ففي هذه الحوال ونحوها يجوز للداعي
أن يسلك مع هؤلء العصاة ما يكف به ضررهم عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع،
على أن ل يتجاوز هذا القدر ،وان يتوسل بالسهل فالسهل من وسائل كف ضررهم ،مع
رغبته التامة في هدايتهم وصلحهم.
--------------------------------------------------------
--
[ ]1تفسير ابن كثير ج 1ص .463
تمهيد
-586الدعوة الى ال تحتاج الى علم وكفاءة معينـة على التبليـغ والتأثيـر والسـتفادة مـن
الظروف والحوال ومعر فة الن فس الن سانية .أ ما العلم ف قد تكلم نا ع نه في ما يت صل بموضوع
الدعوة ،أي السـلم .وهنـا نتكلم عـن العلم الذي يتصـل بكيفيـة مباشرة التبليـغ وإزالة العوائق
عنـه ،وهذه هـي أسـاليب الدعوة ،كمـا نتكلم عمـا يسـتعين بـه الداعـي لتبليـغ الدعوة مـن أشياء
وأمور وهذه هي وسائل الدعوة .فاذا فقه الداعي ذلك كله أمكنه أن يكون على قدر من الكفاءة
لتبليغ معاني الدعوة الى ال تعالى ،وكل ميسر لما خلق له ،والمور كلها بيد ال.
وعلى هذا سنقسم هذا الباب الى ثلثة فصول:
الفصل الول – مصادر هذه الساليب والوسائل ومدى الحاجة إليها.
الفصل الثاني – أساليب الدعوة.
الفصل الثالث – وسائل الدعوة.
302
الفصل الول -مَصادر أساليب الدّعوة ووَسائِلها ومدى الحاجة إليها
تعداد المصادر
-586م صادر أ ساليب الدعوة وو سائلها هي :القرآن الكر يم ،ال سنة النبو ية المطهرة ،سيرة
السـلف الصـالح ،اسـتنباطات الفقهاء ،التجارب ،ونتكلم فيمـا يلي بشيـء مـن اليجاز عـن كـل
مصدر للتعريف به.
303
-588وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تتعلق بأمور الدعوة ووسائلها .كما أن السيرة النبوية
المطهرة ومـا جرى لرسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فـي مكـة والمدينـة ،وكيفيـة معالجتـه
للحداث والظروف التـي واجهتـه ،كـل ذلك يعطينـا مادة غزيرة جدا فـي أسـاليب الدعوة
ووسائلها ،لن الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم مرّ بمختلف الظروف والحوال التي يمكن
أن يمر بها الداعي في كل زمان ومكان ،فما من حالة يكون فيها الداعي ،أو أحداث تواجهه،
ال ويوجد نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريب منها في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم ،فيستفيد
الداعـي منهـا ال حل الصـحيح والموقـف السـليم الذي يجـب أن يق فه إذا ما ف قه معانـي ال سيرة
النبوية ،وقد يكون من حكمة ال ولطيف لطف ال أن جعل رسوله الكريم يمر بما مر به من
ظروف وأحوال حتى يعرف الدعاة المسلمون كيف يتصرفون وكيف يسلكون في أمور الدعوة
في مختلف الظروف اقتداء بسيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم.
فال سيرة النبو ية والتوجيهات النبو ية الكري مة ت طبيقات عمل ية ل ما أ مر ال به ر سوله في أمور
الدعوة وتبليغ الرسالة ،وما ألهم رسوله في هذا المجال ،فل يجوز للداعي أن يغفل عن سيرة
النبي الكريم صلى ال عليه وسلم.
خامسا :التجارب
-591التجر بة معلم ج يد للن سان ل سيما ل من يع مل مع الناس ،وللدا عي تجارب كثيرة في
مجال الدعوة هي حصيلة عمله المباشر مع الناس ومباشرته للوسائل فعل في ضوء ما فهمه
من الم صادر ال سابقة ،لن الت طبيق قد يظ هر له و جه خطئه فيتجن به في الم ستقبل ،و قد يكون
304
الثمن غاليا ولكن ما يتعلمه من التجارب أغلى من الثمن المدفوع إذا انتفع من التجارب حقا،
وهذا هو المأمول من المؤمن فان المؤمن ل يلدغ من جحر مرتين ...وكما أن الداعي يستفيد
مـن تجاربـه الخاصـة ،يسـتفيد أيضا مـن تجارب الخريـن فـي مجال الوسـائل والسـاليب فان
الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت...
305
لتحقيق وتنفيذ السلوب الصحيح والوسيلة الصحيحة بعد تقريرهما ،ل أن يوجه ذلك للتشكيك
في السلوب الصحيح والتجديف بعيدا عن الوسائل الصحيحة ،والجدل العقيم.
306
عليه نافرين من الحق مقبل ين على الدنيا معادين للدا عي أوعلى القل ل يهتمون بما يدعوهم
إل يه من الخ ير ول يح سون بحا جة إل يه .أ ضف الى ذلك أن أحوال الناس وأهواء هم مختل فة
متضاربة وأمراضهم كثيرة متنوعة وكل ذلك يجعل مهمة الداعي في تطبيق ما تعلمه صعبة
وليست يسيرة .ومع هذا كله فإنه من الممكن تذليل هذه الصعوبة جهد المكان وهذا ما نبينه
في الفقرة التالية:
307
رابعا :تطه ير قل به من جراث يم الرياء تطهيرا كاملً .بتجر يد الخلص ل رب العالم ين بح يث
ل يب قى ف يه أي تل فت الى الناس وطلب ال سمعة عند هم أو طلب مرضات هم على ح ساب الن هج
الصحيح للدعوة .إن الداعي قد ينحرف عن النهج الصحيح لما يسمعه من ضجيج الناس ومن
صياحهم او من رغبة أصحابه في التساهل في معاني النهج الصحيح .والذي يعينه على الثبات
وال ستقامة وعدم الخروج على الن هج ال صحيح اخل صه الكا مل التام الذي يجعله ل يلت فت إلى
أي داع من دوا عي الخروج .إن تجريد الخلص صعب جدا لن جراثيم الرياء خفية ودقيقة
قد يحملها الداعي ول يحس بها كما يحمل الصحيح جراثيم المرض ول يحس بها ،ولهذا يمكن
أن تؤثر فيه أو تضعف مقاومته لدواعي الخروج عن النهج الصحيح وال المستعان.
[ ]1تفسير ابن كثير ج 2ص .465
[ ]2تفسير ابن كثير ج 2ص 301و .302
[ ]3تفسير ابن كثير ج 1ص 33
تمهيد
-586تقوم أسـاليب الدعوة الناجحـة على تشخيـص الداء فـي المدعويـن ومعرفـة الدواء،
والتأكيـد على ذلك ،وإزاحـة الشبهات التـي تمنـع المدعويـن مـن رؤيـة الداء والحسـاس بـه،
وترغيبهم في استعمال الدواء وترهيبهم من تركه .ثم تعهد المستجيبين منهم بالتربية والتعليم
لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم وكل هذا نبينه في المباحث التالية:
308
مقومات الداء ،وهي تجتمع مع الكفر بال ،وتتفرق مع أصل اليمان به ،كما نجده في ضعاف
العقيدة من المسلمين .فإذا وجد أصل الداء بكل مقوماته وجدت الشرور والمفاسد بكل صنوفها
وأنواعها ،وإذا وجدت بعضها وجد من الشرور والمفاسد بقدرها.
أمـا أصـل الدواء لهذا الداء فهـو اليمان بال ربا وإلها ل إله غيره ،والكفـر بالطاغوت بكـل
أنوا عه ومظاهره والقبال على ال وعدم الركون الى الدن يا ،قال تعالى عن نوح عل يه ال سلم:
{لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب
يوم عظ يم} وكذلك قال سيدنا مح مد صلى ال عل يه و سلم لرؤ ساء قر يش و قد جاؤوا الى أ بي
طالب يسألونه ماذا يريد منهم محمد صلى ال عليه وسلم فقال الرسول الكريم" :تقولون :ل إله
إل ال وتخلعون ما تعبدون من دو نه"[ ]1وهكذا قالت ر سل ال جميعا بل ا ستثناء ،قال تعالى:
ل أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت}.
{ولقد بعثتا في كل أمة رسو ً
309
ثم نخرجكم طفلً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكيل يعلم
من ب عد علم شيئا وترى الرض هامدة فإذا أنزل نا علي ها الماء اهتزت ور بت وأنب تت من كل
زوج به يج .ذلك بأن ال هو ال حق وأ نه يح يي المو تى وا نه على كل ش يء قد ير .وان ال ساعة
آت ية ل ر يب في ها وان ال يب عث من في القبور} سورة ال حج اليات 7-5 :وقال تعالى { :من
ع مل صالحا من ذ كر أو أن ثى و هو مؤ من فلنحيي نه حياة طي بة ولنجزين هم أجر هم بأح سن ما
كانوا يعملون} سورة النحل الية.97 :
وهذا النهـج القرآنـي فـي التأكيـد على العقيدة السـلمية ظـل مسـتمرا حتـى بعـد الهجرة الى
المدينـة ،فكانـت اليات تنزل ببيانهـا ،او تختـم آيام المعاملت بأصـول العقيدة كاليمان بال
واليوم ال خر .والتأك يد على العقيدة و هو الن هج ال سليم كما قل نا ،لزم أيضا للدا عي في دعو ته
بالنسـبة لضعاف العقيدة مـن المسـلمين الذيـن يظهـر ضعـف عقيدتهـم بعصـيان أوامـر الشرع
وا ستثقال تكالي فه والتخ بط في كث ير من دروب الغوا ية والضلل .بل إن هذا الن هج لزم ح تى
بالنسبة للمسلمين الذين ل يظهر عليهم عصيان ظاهر ،لن هذا التأكيد على العقيدة وتذكيرهم
بمعانيها يقيهم النحراف والعصيان.
اعتراض ودفعه
-590و قد يعترض علي نا بأن في دعوة ال نبياء لقوام هم إنكارا من هم لب عض مفا سدهم .ك ما
في قصة لوط وشعيب عليهما السلم ،فكيف يقال إن التأكيد يكون على معاني العقيدة أولً فإذا
ح صلت ال ستجابة انت قل الدا عي الى الفروع؟ والجواب على ذلك أن التأك يد على العقيدة معناه
ج عل معا ني العقيدة في المقام الول وعدم ن سيانها ابدا ،ور بط المفا سد الخطيرة في المجت مع
بمعانـي العقيدة وبيان انهـا بعـض آثار التمرد على ال .هذا هـو المقصـود ممـا قلناه مـن لزوم
التأكيد على العقيدة ،وليس المقصود اغفال ما يراه الداعي من مفاسد خطيرة في المجتمع .يدل
على ذلك ما جاء في القرآن الكر يم عن لوط عل يه ال سلم{ :كذ بت قوم لوط المر سلين إذ قال
ل هم أخو هم لوط أل تتقون .إ ني ل كم ر سول أم ين .فاتقوا ال وأطيعون .و ما أ سألكم عل يه من
أجر إن أجري إل على رب العالم ين .أتأتون الذكران من العالم ين وتذرون ما خلق ربكم من
أزواجكـم بـل أنتـم قوم عادون} سـورة الشعراء اليات .166-160 :فلوط عل يه السـلم بدأهـم
بالمر بتقوى ال وأعلمهم بأنه رسول ال وان من حق الرسول ان يطاع فيما يخبرهم به من
مناهج العبادة ل وحده ،ثم اتبع ذلك ان بيّن لهم بعض مفاسدهم المخالفة لمر ال.
وعن شع يب عليه ال سلم ،قال ربنا تعالى{ :والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا ال ما
ل كم من إله غيره قد جاءت كم بي نة من رب كم فأوفوا الك يل والميزان ول تبخ سوا الناس أشياء هم
310
ول تف سدوا في الرض بعد إصلحها ذل كم خ ير لكم إن كنتم مؤمن ين} سورة العراف ال ية:
.85
فشعيب عليه السلم بدأهم بعبادة ال وحده ثم بيّن لهم ان ما جاء به من ال هو الحق الواضح
ال مبين الذي ي ستلزم وفاء الك يل والميزان وعدم ظلم الناس وارتكاب الف ساد في الرض ،فهذا
هو الخير لهم إن كانوا مؤمنين بال ورسوله.
فلوط وشعيـب عليهمـا السـلم بينـا لقوميهمـا أن ل إله إل ال ،ثـم زادا على ذلك أن ذكروهمـا
ببعض نتائج تمردهم على ال ومنها سوء أفعالهم كاللواط والتطفيف .ومثل هذا ما نزل بمكة
بشأن المطففين قال تعالى{ :ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو
وزنوهـم يخسـرون أل يظـن أولئك أنهـم مبعوثون ليوم عظيـم يوم يقوم الناس لرب العالميـن}
سورة المطففين اليات.5-1 :
فربـط التطفيـف والنهـي عنـه بأصـل مـن أصـول العقيدة وهـو يوم الحسـاب وقيام الناس لرب
العالمين.
الكليات ل الجزئيات
-592وما دام أصل المر وسنامه التأكيد على أصل الداء والدواء ،فعلى الداعي أن ل يبدد
جهوده فـي الجزئيات واسـتئصالها ،إن كان فـي ذلك تعويـق له عـن غرس معانـي العقيدة
ال سلمية في النفوس ودعو ته إلى ال .ودليل نا على ذلك أن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم
كان يرى ال صنام تلوث ب يت ال ،وتح يط به و هي ت طل بعيون ها الجامدة القبي حة ،و هو عل يه
الصلة والسلم ل يرفع يده لتحطيمها ،ول يأمر أصحابه بتكسيرها ،ولو أراد لمر ،ولو أمر
لن فذ الم سلمون ما يأمر هم به ،ولك نه لم يف عل ذلك عل يه ال صلة وال سلم ،لن الم سألة لي ست
مسألة تكسير أصنام آنذاك ،وإنما هي تكسير اقفال القلوب حتى تفقه الحق ثم يأتي اليوم الذي
311
تخر فيه تلك الصنام تحت ضربات المؤمنين .وقد كان ذلك في يوم فتح مكة ،فكان صلى ال
عليه وسلم يشير بعصاه الى الصنام وهو يقول" :لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقا" فتخر الى الرض مكسرة محطمة.
ماهية الشبهات؟
-586المق صود بالشب هة ه نا :ما يث ير ال شك والرتياب في صدق الدا عي و أحق ية ما يد عو
إليه ،فيمنع ذلك من رؤية الحق والستجابة له أو تأخير هذه الستجابة ،وغالبا ترتبط الشبهة
بعادة مورو ثة أو م صلحة قائ مة أو ريا سة دنيو ية أو حم ية جاهل ية ،فتؤ ثر الشب هة ب سبب هذه
المور في النفوس الضعيفة المتصلة بهذه الشياء ،وتتعلق بها وتحسبها حجة وبرهانا تدفع به
الحق وتخاصم الدعاة الى ال تعالى.
مصدر الشبهات
-587والغالب أن "المل" هم الذ ين يثيرون الشبهات ويزينون ها للناس ويشيعون ها في ما بين هم
ويكررونها على مسامعهم حتى تألفها نفوس البسطاء من عامة الناس ،ويأخذون في ترديدها،
ثـم تصـديقها ،ثـم تبنيهـا واعتبارهـا كالحقائق الثابتـة وعنـد ذاك يندفعون الى الدفاع عنهـا
ومخاصمة الحق وأهله من أجلها ،والمل منهم يضحكون ويسخرون فقد حققوا ما يريدون.
312
بيانا من هم ول أك ثر إخل صا من هم ول أك ثر تأييدا من ال تعالى من هم ،و مع هذا كله أثار أ هل
البا طل ما أثاروه من الشبهات حول هم م ما ق صه ال تعالى علي نا في اخبار هم .ثم إن الدا عي
بفقهـه هذه الحقيقـة يعلم مدى مـا يبلغ الضلل بالنسـان بحيـث يجعله يخاصـم رسـل ال الذيـن
يريدون شفاءه مـن المراض وخلصـه مـن النيران وادخاله فـي الجنان .وأخيرا فان فقـه هذه
المور لز مة ل كل م سلم بل ا ستثناء ليم يز ال خبيث من الط يب ،وح تى ل يتأ ثر بهذه الشبهات
فينساق وراءها ويصير – من حيث ل يشعر – مع العداء ضد الدعاة الى ال تعالى.
أنواع الشبهات
-589والشبهات أنواع ،منها ما يتعلق بالداعي ،ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة ،ومنها ما
يتعلق بعموم المدعوين.
فالذي يتعلق بالدا عي يتم ثل بالط عن في شخ صه و سيرته و سلوكه وإل صاق الت هم به ،ورم يه
بالسـفه والجهالة والضللة والجنون والفتراء الى غيـر ذلك ممـا يكون المقصـود منـه تنفيـر
الناس منه وعدم الثقة به.
والذي يتعلق بموضوع الدعوة ،يتمثل اتهامها بالبتداع والخروج على مألوفات الناس وتقاليدهم
ونظامهم الموروث ،مما يراد به تنفير الناس من الدعوة إلى ال وصدهم عن سبيله.
والذي يتعلق بالمدعو ين يتم ثل بإظهار الحرص على م صالحهم وملت هم ود ين آبائ هم والحفاظ
على نعيمهم وحياتهم المطمئنة مما يقصد منه اثارة حماس الناس ضد الدعاة الى ال.
313
وال سلوب الج يد في إزالة الشبهات يعر فه الدا عي من ق صص ال نبياء وموقف هم من الشبهات
التي أثارها المبطلون ،وهذا ما نذكر شيئا عنه في الفقرات التالية:
314
و من شبهات هم ال تي يثيرون ها حول الدا عي ا نه ير يد العلو في الرض والريا سة على الناس،
وتغيير عقائدهم وتقاليدهم الموروثة وان ما جاء به بدعة مضرة ودعوة مفرقة ما سمعوا مثلها
مـن قبـل ،وانهـا تؤدي الى الفسـاد فـي الرض فيجـب أن يقاوم الداعـي ودعوتـه ،ويمنـع مـن
ال ستمرار في ها ،قال تعالى حكا ية عن أقوام نوح وعاد وثمود و ما قالوه لر سلهم ،و ما أجابت هم
به رسلهم لتفنيد هذه الشبهات الباطلة ...{ :قالوا إن انتم إل بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما
كان يع بد آباؤ نا فأتو نا ب سلطان مبين .قالت ل هم ر سلهم ان ن حن إل ب شر مثل كم ول كن ال ي من
على مـن يشاء مـن عباده ،ومـا كان لنـا ان نأتيكـم بسـلطان إل بإذن ال وعلى ال فليتوكـل
المؤمنون} سورة ابراهيم اليات 11-10 :وقال تعالى{ :وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما
هذا إل رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم ،وقالوا ما هذا إل إفك مفترى ،وقال الذين
كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إل سحر مبين} سورة سبأ الية" .43 :فالمل" أثاروا في الناس
شب هة التقل يد والحرص على د ين الباء ،وان ر سل ال يريدون صرفهم عن ذلك .وقال تعالى
عن قوم نوح{ :فقال المل الذين كفروا من قومه ما هذا إل بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم
ولو شاء ال لنزل ملئكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الولين} سورة المؤمنون اليات.24-23 :
ف هم يزعمون أن نوحا عليه السلم يريد اكت ساب المنزلة العالية فيهم والريا سة عليهم واظهار
الفضل لنفسه بدعوته هذه ،لن أهل الباطل يقيسون أهل الحق بموازينهم المعوجة ويحسبون أن
غرض الدعاة الى ال هو غرض أهل الباطل ،من طلب العلو في الرض والتسلط على رقاب
الناس كما قال فرعون وملؤه لموسى{ :قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما
الكبرياء في الرض} .ثم احتج قوم نوح بأنه بشر مثلهم ول يستحق – بزعمهم أن يكون مبلغا
عـن ال – وان ال تعالى لو أراد تبليغهـم بشيـء لنزل عليهـم ملئكـة .وشبهتهـم هذه التـي
أثاروها مثل شبهة قريش .قال تعالى{ :وقالوا لول أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي المر
ثم ل ينظرون .ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلً وللبسنا عليهم ما يلبسون} سورة النعام اليات:
.9-8أي لو أنزل ال ملكا لجعله بصورة ر جل منهم حتى يبلغ هم ،وعند ذلك يثيرون ن فس
الشبهة.
وقد قال تعالى في قصة موسى عليه ال سلم{ :وقال المل من قوم فرعون اتذر موسى وقومه
ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك ،قال سنقتل ابناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
قال مو سى لقو مه ا ستعينوا بال وا صبروا ان الرض ل يورث ها من يشاء من عباده والعاق بة
للمتقين} سورة العراف اليات" .128-127 :فالمل" أثاروا حفيظة فرعون على موسى عليه
السلم بادعائهم ان موسى يريد الفساد في الرض ،فل يصح تركه يستمر في دعوته والظاهر
أيضا أن هم أرادوا ب ما آثاروه من هذه الشب هة الباطلة ال تبرير للتنك يل بمو سى و من م عه من
المؤمنين ،وليجدوا تأييدا من اتباعهم الضالين .والظاهر أيضا ان هذا الدعاء من أهل الباطل
315
وما عزم عليه فرعون من تقتيل اتباع موسى قد بلغهم ،فقال لهم موسى عليه السلم استعينوا
بال واصـبروا ،وبيّن لهـم أن العاقبـة دائما تكون للمتقيـن .أمـا جواب موسـى لشبهات فرعون
وطعونه في موسى فقد بيّنها ال تعالى في آيات أخرى مثل قوله عن موسى{ :وقال موسى يا
فرعون إ ني ر سول ال من رب العالم ين .حق يق على أن ل أقول على ال إل ال حق قد جئت كم
ببيّنة من ربكم }....سورة العراف اليات.105-104 :
وقال تعالى{ :وكذلك ما أر سلنا من قبلك في قر ية من نذ ير إل قال مترفو ها إ نا وجد نا آباء نا
على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم ،قالوا إنا بما
أر سلتم به كافرون} سورة الزخرف اليات .24-23 :فأ هل الترف "المل" يثيرون في الناس
شبهة التقليد ويغرونهم على ضرورة التمسك بدين آبائهم وبالتالي ضرورة مقاومة الدعوة الى
ال .فيرد عليهم الرسل الكرام برد منطقي سليم {أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}
أي أن الحق هو الواجب التباع وان كان مخالفا لما كان عليه آباؤكم ،والحق هو ما جئتكم به
من ربكم فانظروه وقارنوه مع ما عندكم يتبين لكم صدق ما أقول .فينقطع أهل الباطل عن هذا
الرد ويقولون انهم كافرون بالذي جاء به.
-593ثالثا :رميهم الدعاة بالتصال المشبوه وان دعوتهم من خرافات الماضين:
ومـن أسـاليب المبطليـن فـي اثارة الشبهات حول الداعـي ،زعمهـم انـه متصـل بقوم معينيـن
يساعدونه على التلفيق والقيام بهذه الدعوة ،وان دعوته ل صلة لها بالدين ول بال ،وإنما هي
من خرافات الماضين ،يريد بها الوصول الى ما يريده بمن يعينه عليها .قال ربنا تعالى عن
قر يش و ما أثاروه من شبهات كاذ بة حول دعوة ال سلم و نبيه عل يه ال صلة وال سلم{ :وقال
الذيـن كفروا إن هذا إل إفـك افتراه وأعانـه عليـه قوم آخرون فقـد جاؤوا ظلما وزورا ،وقالوا
أساطير الولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلً .قل أنزله الذي يعلم السر في السموات
والرض انه كان غفورا رحيما} سورة الفرقان اليات.6-4 :
-594رابعا :الداعي رجل مغمور:
ومن شبهاتهم ان الداعي رجل مغمور ل هو في العير ول في النفير ،وليس هو من المثقفين
الكبار ول من الغنياء المعروف ين ول من ذوي المنا صب والجاه في المجت مع ،ويرتبون على
ذلك انهم أولى بكل خير وبكل دعوة الى الصلح ،فلو كان ما يدعو اليه الداعي صلحا وحقا
لجاء بهذه الدعوة غيره من أشراف المجت مع .قال تعالى حكا ية عن مشر كي العرب في ما قالوه
لسيدنا محمد صلى ال عليه وسلم {وقالوا لول أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم.
أ هم يق سمون رح مة ر بك ،ون حن ق سمنا بين هم معيشت هم في الحياة الدن يا ورفع نا بعض هم فوق
ب عض درجات ليت خذ بعض هم بعضا سخريا ورح مة ر بك خ ير م ما يجمعون} سورة الزخرف
اليات 32-31 :فال تعالى أعلم حيث يجعل رسالته فهو الحكيم العليم .وقال تعالى{ :وقالوا
316
ن حن أك ثر أموالً وأولدا و ما ن حن بمعذب ين قل إن ر بي يب سط الرزق ل من يشاء ويقدر ول كن
أكثر الناس ل يعلمون ،وما أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل
صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون .والذين يسعون في آياتنا
معاجزيـن أولئك فـي العذاب محضرون} سورة سـبأ ال ية 38 :فأهـل البا طل يحتجون بكثرة
الموال والولد والن صار على أحقيت هم ب كل دعوة الى ال صلح ،وان هم لهذا أ هل للفوز من
أي عذاب .فبين ل هم القرآن العظ يم أن ال يب سط الرزق ل من يشاء ويضي قه لحك مة بال غة ،وان
الموال والولد ل تقرب عند ال وإنما الذي يقرب هو العمل الصالح.
-595خامسا :اتباع الداعي أناس مغمورون:
ومـن شبهاتهـم حول الدعوة ،ان أتباع الداعـي الى ال أناس مغمورون فقراء جهال اصـحاب
حرف خ سيسة ،ق صار ن ظر ورأي ،وان الدعاة واتباع هم ل ي ستحقون ارشاد الناس الى الخ ير
ول قيادتهـم الى الهدى ،ولهذا كله فإن "المل" هـم وحدهـم المسـتحقون لقيادة الناس الى الخيـر،
ول يم كن أن يكونوا اتباعا للدا عي الى ال لن هم أ هل ن ظر ورأي خلف أولئك الفقراء الذ ين
اتبعوا الداعي بل بيّنة وبرهان .قال تعالى عن قوم نوح{ :فقال المل الذين كفروا من قومه ما
نراك إل بشرا مثلنا ،وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من
فضل بل نظنكم كاذبين} فيجيبهم نوح عليه السلم بما قصه ال علينا{ :قال يا قوم أرأيتم إن
كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
ويا قوم ل أسألكم عليه مال إن أجري إل على ال وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملقوا ربهم
ولك ني أرا كم قوما تجهلون .و يا قوم من ين صرني من ال إن طردت هم أفل تذكرون .ول أقول
لكـم عندي خزائن ال ول أعلم الغيـب ول أقول إنـي ملك ول أقول للذيـن تزدري أعينكـم لن
يؤتي هم ال خيرا .ال أعلم ب ما في أنف سهم إ ني إذا ل من الظالم ين} سورة هود اليات31-28 :
يبين لهم نوح عليه السلم انه على بيّنة من ربه أي على يقين وأمر واضح جلي ونبوة صادقة.
وإذا كان ذلك قد خ في علي كم ولم تهتدوا إل يه وبادر تم الى التكذ يب فك يف نكره كم على قبول
الدعوة .والشأن فـي قبولهـا القتناع والقبول الختياري ،لن الكراه فـي الديـن ممنوع .وأمـا
بشأن أتباع نوح عليـه السـلم وكونهـم مـن الفقراء والضعفاء فيقول نوح عليـه السـلم ،بأنـه
رسول ال يدعو الناس الى عبادة ال وحده ،ل فرق في دعوته بين شريف ووضيع ،ول بين
غني وفقير ،فكلهم أهل لن يدعوهم ومطالب بأن يدعوهم ،فمن استجاب منهم له قبله وصار
مـن أتباعـه ول يمكنـه أبدا أن يطردهـم مـن مجلسـه بحجـة أنهـم فقراء ضعفاء وان الشراف
يأنفون من هم و من حضور مجلس يضم هم .ك ما ل يم كن أن يقول ل هم ل يس ل كم ع ند ال ثواب
على أعمالكم ،وقد آمنوا برسالة ربهم فال أعلم بما في نفوسهم.
317
والوا قع ان أ هل البا طل – ل سيما المل من هم – يضيقون ذرعا بالفقراء والضعفاء ويأنفون ان
يكونوا مثلهم أتباعا للدعاة الى ال ولذلك فهم يطلبون إبعادهم من مجلسهم ،وكذلك فعل اشراف
قريـش ،طلبوا مـن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ان يطردهـم مـن مجلسـه فأنزل ال جـل
جلله{ :وا صبر نف سك مع الذ ين يدعون رب هم بالغداة والع شي يريدون وج هه ول ت عد عيناك
عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}
سورة الك هف ال ية 28 :فل يجوز اتباع أ صحاب الهواء والغافلة قلوب هم عن ذ كر ال في ما
يقترحونه ويطلبونه من باطل ومنه إبعاد المؤمنين الصادقين لكونهم من الفقراء والمستضعفين.
-596هذه ب عض شبهات أ هل البا طل ال تي ذكر ها ال تعالى في ق صص ال نبياء في القرآن
العظ يم ،ويجمع ها جا مع وا حد هو الط عن بالدا عي والدعوة وتحر يض الدهماء والعا مة على
مخاصـمة الدعوة ليخلوا الجـو "للمل" الكافـر الضال فيبقوا على باطلهـم وتسـلطهم على رقاب
الخلق.
318
ثالثا :قال تعالى { :قل لو شاء ال ما تلو ته علي كم ول أدرا كم به ف قد لب ثت في كم عمرا من قبله
أفل تعقلون} سورة يونس الية .16 :وجه الدللة ان رسول ال صلى ال عليه وسلم ما بلغ
بالوحي إل بعد بلوغه الربعين من عمره المبارك ،ليكون ذلك أدفع للشبهة وأدحض لقول أهل
الباطـل ،فقـد لبـث فيهـم رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم هذه المدة الطويلة وخـبروه وعرفوا
سـيرته الطيبـة وأخلقـه القويمـة وامانتـه وصـدقه فل يعقـل ان يكذب على ال بعـد هذا العمـر
الطو يل فيد عي الر سالة وإذا كان ال مر كذلك وإن صدقه ظا هر ،فادعاء الكفرة ا نه ساحر او
مجنون او كاذب ،ادعاء باطـل وشبهـة مدحوضـة .ويمكـن هنـا أن نقول مـا قلناه مـن أن دفـع
الشبهة مقدم على جلب بعض النفع ،ذلك ان رسول ال صلى ال عليه وسلم مضى أكثر عمره
حتى بلغ بالرسالة .ول شك ان بعثته قبل الربع ين كان يمكن أن يكون في ها مزيد في الدعوة
الى ال ،ولكـن شاءت حكمـة ال أل يجعـل بعثتـه إل بعـد بلوغـه الربعيـن مـن عمره المبارك
الميمون وإن فات بعض النفع والخير لتأخر بعثته ليدفع الشبهة ويدحض ادعاءات أهل الباطل
كما هو واضح من سياق الية الكريمة .وهكذا يجب على الداعي الفقيه أن يترك بعض ما فيه
فائدة ونفع ليدفع شبهات أهل الباطل وما يترتب عليه من ضرر .وسبب ذلك كله أن الشبهة إذا
أثيرت بيـن الناس وشاعـت فل بـد أن تترك أثرا فـي النفوس ل سـيما الضعيفـة والجاهلة
والمتربصة ،ويصعب عند ذاك مكافحتها والقضاء عليها إل بجهد كبير ،فكل ما يمنع حدوث
الشبهات او اعطاء ها ما ت ستند إل يه مطلوب من الدا عي ملحظ ته واعتباره وأخذه وان فوت
عليـه بعـض الفوائد ،لن القاعدة تقول "درء المفاسـد أولى مـن جلب المنافـع" ويدفـع أعظـم
الضررين بتحمل أقلهما.
رابعا :وقد قال تعالى عن رسولنا الكريم صلى ال عليه وسلم {وما علمناه الشعر وما ينبغي له
إن هو إل ذكر وقرآن مبين} فمنع ال تعالى رسوله من تعلم الشعر وانشائه حتى ل يكون ذلك
وسيلة بيد أهل الباطل يبنون عليها شبهاتهم الباطلة.
والواقع أن الدعاة الى ال محتاجون أكثر من غيرهم الى البتعاد عن كثير من المباح الذي قد
يتشبث به أهل الباطل ويجعلونه مثارا لشبهاتهم وللصد عن سبيل ال .ولكن يجب التنبه لما
يجب توقيه دفعا للشبهة ،وما يجب مباشرته لنه من الدعوة وان ظن أنه من الشبهة ،وهذا
موضع دقيق يكثر فيه الخطأ ،ويحتاج الى تفصيل يكفينا منه هنا ،أن نقول :يسع الداعي أن
يترك ما يخص نفسه وحظوظه المباحة دفعا هنا للشبهة ،وقد يجب أو يندب هذا الترك ،ول
يسع الداعي أن يترك ما يخص صميم الدعوة او ما يتصل بها اتصالً مباشرا ،أو يتعلق
بنهجها وأسلوبها ،ل يجوز مثلً ترك دعوة المير والدخول عليه لهذا الغرض بحجة دفع شبهة
تقول الناس أنه من بطانة المير أو أنه يداهن المير.
319
المبحث الثالث -الترغيب والترهيب
معناهما وأهميتهما
-586نقصـد بالترغيـب كـل مـا يشوق المدعـو الى السـتجابة وقبول الحـق والثبات عليـه.
ونق صد بالتره يب كل ما يخ يف ويحذر المد عو من عدم ال ستجابة أو ر فض ال حق أو عدم
الثبات عل يه ب عد قبوله .والمل حظ أن القرآن الكر يم مملوء ب ما ير غب الناس في قبول دعوة
السلم والتحذير من رفضها ،مما يدل دللة قاطعة على أهمية هذا السلوب :أسلوب الترغيب
والترهيب في الدعوة الى ال تعالى ،وعدم اهماله من قبل الداعي المسلم.
320
رفض هم ،على أن ل يغ فل الدا عي أبدا عن الترغيب والتره يب بالجزاء في الخرة .و من أدلة
هذا الجواز ما يأتي:
قال تعالى{ :و عد ال الذ ين آمنوا من كم وعملوا ال صالحات لي ستخلفنهم في الرض ك ما -1
استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}...
سورة النور الية.55 :
وقال تعالى حكايـة عـن قوم نوح عليـه السـلم لقومـه{ :فقلت اسـتغفروا ربكـم إنـه كان -2
غفارا ،يرسـل السـماء عليكـم مدرارا ويمددكـم بأموال وبنيـن ويجعـل لكـم جنات ويجعـل لكـم
أنهارا} سورة نوح الية.11-10 :
مـا قاله رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم عندمـا جاء أشراف قريـش عمـه أبـا طالب -3
ليحدثوه بشأن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم وطلبوا منه أن يكل مه لي كف عنهم ويكفوا ع نه،
فب عث إل يه أ بو طالب فجاءه ،فقال :يا ا بن أ خي هؤلء اشراف قو مك قد اجتمعوا لك ليعطوك
وليأخذوا منك ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم "يا عم ،كلمة واحدة تعطونيها ،تملكون بها
العرب وتدين لكم بها العجم" فقال أبو جهل :نعم وأبيك وعشر كلمات .فقال رسول ال صلى
ال عليه وسلم" :تقولون ل إله إل ال وتخلعون ما تعبدون من دونه"[.]2
321
من لوازم الترغيب والترهيب
-590ولما كان النسان يعيش في الدنيا ويشاهدها ويحس بها ويتعرض لغراءاتها مما قد
يجره إلى الركون إليها والتعلق بها ونسيان الخرة ،فل بد إذن من تنفير المدعوين من إيثارها
على الخرة ل مـن الفرار منهـا جملة واحدة ،مـع بيان حقيقتهـا وقيمتهـا وقدرهـا بالنسـبة الى
الخرة ونعيم ها .و قد ب ين ذلك كله القرآن الكر يم خ ير بيان م ما يج عل أ يّ م سلم عا قل يؤ ثر
الخرة على الدن يا ،بل ويج عل المد عو غير المسلم منجذب إلى هذه الحقائق في مواز نة الدن يا
مع الخرة وقد يجره ذلك إلى اليمان لما يحسه من صدق هذا البيان والتصوير لقيمة الدنيا.
ومن اليات القرآنية في هذا الباب قوله تعالى{ :إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء
فاختلط بـه نبات الرض ممـا يأكـل الناس والنعام حتـى إذا أخذت الرض زخرفهـا وازّينـت
ل أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالمس،
وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا لي ً
كذلك نفصـل اليات لقوم يتفكرون} وقال تعالى{ :اعملوا أنمـا الحياة الدنيـا لعـب ولهـو وزينـة
وتفاخر بينكم وتكاثر في الموال والولد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا
ثم يكون حطاما و في الخرة عذاب شد يد ومغفرة من ال ورضوان و ما الحياة الدن يا إل متاع
الغرور}.
وفي السنة النبوية المطهرة تحذير من الدنيا وإيثارها على الخرة وقيمتها بالنسبة للخرة ،من
ذلك الحديث الشريف "إن الدنيا حلوة خضرة وإن ال تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف
تعملون ،فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" .وكان صلى ال عليه وسلم يقول "اللهم ل عيش إل عيش
الخرة" وقال صلى ال عليه وسلم في بيان قدر الدنيا بالنسبة للخرة "ما الدنيا في الخرة إل
مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع".
--------------------------------------------------------
-----------------------------------------------
[ ]1سيرة ابن هشام ج 2ص ،41ومثل هذا أيضا في ج 2ص 55من هذه السيرة.
[ ]2سيرة ابن هشام ج 2ص .27
322
المستجدين وشأنهم بمجرد أنهم قبلوا السلم وصاروا من عداد المسلمين ،فقد تبقى فيهم بقايا
كثيرة أو قليلة مـن دائهـم القديـم :الشرك بأنواعـه ،ممـا يعرضهـم إلى النتكاس والرجوع عـن
السلم ،أو السير على غير هدى ويحسبون أنهم مهتدون.
-587وفي السنة النبوية سوابق قديمة تدل علىهذا النهج القويم في الدعوة الى ال ،أي تعليم
من يقبل السلم ،فقد ثبت في السنة المطهرة ،انه عندما أسلم عمير بن وهب ،قال صلى ال
عليـه وسـلم لصـحابه "فقهوا أخاكـم فـي دينـه ،واقرئوه القرآن"[ .]1ويسـتدل بهذا الخـبر ،على
ضرورة تعليم من يدخل في السلم وان من يعرف معاني السلم أو بعضها عليه أن يعلمها
غيره من المسلمين الجدد .وفي السنة أيضا ،أن النبي صلى ال عليه وسلم أرسل مصعب بن
عم ير ليعلم م سلمي المدي نة القرآن ،و قد ظل م صعب يعلم القرآن ويد عو الى ال سلم ح تى لم
يبق دار من دور النصار إل وفيها مسلمون[ .]2وعندما أسلم بنو المصطلق أرسل صلى ال
ل يعلمهم أمور السلم[.]3
عليه وسلم إليهم رسو ً
-588ومما يدل على حرص رسول ال صلى ال عليه وسلم على تعليم الناس أمور السلم
ما رواه أبو رفاعة تميم بن أسيد رضي ال عنه .قال :انتهيت إلى رسول ال صلى ال عليه
و سلم و هو يخ طب ،فقلت :يا ر سول ال ر جل غر يب جاء ي سأل عن دي نه ل يدري ما دي نه،
ي ر سول ال صلى ال عل يه و سلم وترك خطب ته ح تى انت هى إلي فأ تى بكر سي فق عد
فأق بل عل ّ
عليه وجعل يعلمني مما علمه ال ثم أتى خطبته فأتمها"[.]4
فلول أن تعليم الناس أمور السلم أمر ضروري ول يحتمل التأخير لما ترك رسول ال صلى
ال عليه وسلم خطبته ونزل لتعليم السائل.
ـم
ـم بحدود ال ول يكتفوا منهـ
ـلم ويعرفوهـ
فعلى الدعاة إلى ال أن يعلموا الناس أحكام السـ
بالعاطفة الطيبة وترديد بعض الكلمات الحقة .وان السلم صالح لكل زمان ومكان ،فإن هذه
العمومات ل تكفـي بـل ل بـد مـن معرفـة تفصـيل السـلم بالقدر المسـتطاع .إن نشـر مفاهيـم
السـلم واجـب على كـل مسـلم فمـن كان عنده علم ،فل يجوز له كتمانـه ل سـيما عنـد شيوع
الجهل وظهور البدع ،قال ابن كثير رحمه ال تعالى "فالواجب على العلماء الكشف عن معاني
كلم ال وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه ،كما قال تعالى{ :وإذ أخذ ال ميثاق
الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليل فبئس
ما يشترون} ثم قال ابن كثير رحمه ال :فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عما ذمهم ال تعالى به
وان نأتمر بما أمر نا به من تعلم كتاب ال المنزل الينا وتعلي مه وتفه مه وتفهي مه"[ .]5ول شك
ان هذا الواجـب على الدعاة أوجـب لن الشأن فـي الدعاة انهـم يدعون الى ال على بصـيرة
وعلم ،فعلي هم تب صير غير هم وتعليم هم ول يبخلوا ب ما عند هم من علم فان ك تم العلم ل يجوز
قال تعالى{ :إن الذ ين يكتمون ما أنزل نا من البينات والهدى من ب عد ما بيناه للناس في الكتاب
323
أولئك يلعنهـم ال ويلعنهـم اللعنون إل الذيـن تابوا أصـلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهـم وأنـا
التواب الرحيم}.
التربية مع التعليم
-589ول يكفي ان يقوم الداعي المسلم بتعليم المستجيب معاني السلم وإنما عليه أن يحمله
على الع مل ب ها و صياغة سلوكه بموجب ها ومقتضا ها ،وهذا هو ما نريده بالترب ية مع العلم...
وهكذا كان ن هج الم سلمين الول ين ،قال عبدال بن م سعود ر ضي ال ع نه كان الر جل م نا إذا
تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن .وقال أبو عبد الرحمن السلمي:
حدث نا الذ ين كانوا يقرئون نا ان هم كانوا ي ستقرئون من ال نبي صلى ال عل يه و سلم .وكانوا إذا
تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ،فتعلمنا القرآن والعمل جميعا[.]6
324
إليها ،ومن ثم فل يمكن أن يكون تحاسد في طلبها ول تباغض ،وإنما أنس ومحبة وتنافس.
و هي ب عد ذلك ل تنال بالما ني الفار غة مع القعود والك سل فان من ير يد الو صول إلى م كة
فعل يه أن يعزم على ال سفر والرح يل ومفار قة ال هل والو طن و حث ال سير والتزود ول كن الزاد
هنا زاد التقوى ،وجعل حياة المسلم كلها ل رب العالمين ،قال تعالى{ :قل إن صلتي ونسكي
ومحياي ومما تي ل رب العالم ين} وكان صلى ال عل يه و سلم يذ كر الم سلمين بهذه المعا ني،
وبهذه الغاية العليا ،وبالتزود من زاد التقوى ،حتى إن أول خطبة خطبها في المدينة كانت في
الحث على تقوى ال والتعلق بالخرة[.]7
من وسائل التربية
ل وفهما ،وفتح
-592ومن وسائل التربية المؤثرة جدا التصال بكتاب ال العظيم تلوة وتأم ً
منافـذ القلب إلى هذا الروح العظيـم :القرآن ،لتنسـاب أنواره إلى كيان المسـلم فتزيـل ادواءه
وظلمتـه ،وتبعـث فيـه الحياة الحقيقيـة ،فإن القرآن ،كمـا وصـفه ال تعالى ،نور وهدى وشفاء
وروح ،ول يبقى مع النور ظلمة ،ول مع الهدى شك ول مع الشفاء داء ،ول مع الروح موت،
قال تعالى{:آلم .ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين}{.وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنيـن}{.وكذلك أوحينـا إليـك روحا مـن أمرنـا.}....وكذلك ينبغـي التصـال الدائم بالسـيرة
النبو ية الكري مة و سيرة أ صحابه الكرام ح تي ي صبح الم سلم كأ نه يع يش هناك مع ر سول ال
وصـحبه متخطيا حدود الزمـن مسـلحا برو حه للحاق بهـم والتأسـي بسـيرتهم .إن على الداعـي
المسلم أن يعين المستجيبين على هذا النمط من التربية وبهذا السلوب وغيره حتى يثبتوا على
السلم ويكونوا دعاة إلى ال ،فان السلم يحتاج إلى المزيد من الدعاة الفاهمين.
--------------------------------------------------------
-----------------------------------------------
[ ]1سيرة ابن هشام ج 2ص .308
[ ]2سيرة ابن هشام ج 2ص .308
[ ]3إمتاع السماع ص .34
[ ]4رياض الصالحين ص .268
[ ]5تفسير ابن كثير ج 1ص .3
[ ]6تفسير ابن كثير ج 1ص .3
[ ]7ابن هشام ج 2ص .118
325
تمهيد
-586نر يد بالوسائل ما ي ستعين به الدا عي على تبليغ الدعوة الى ال على ن حو نا فع مث مر.
هي نوعان :و سائل تتعلق باتخاذ ال سباب لتهيئة المجال الج يد الم ساعد لتبل يغ الدعوة الى ال،
ونسـميها بالوسـائل الخارجيـة للدعوة .ووسـائل تتعلق بمهمـة تبليـغ الدعوة بصـورة مباشرة
ونسميها وسائل تبليغ الدعوة .وعلى هذا نقسم هذا الفصل إلى مبحثين:
المبحث الول :للوسائل الخارجية.
المبحث الثاني :لوسائل تبليغ الدعوة.
326
لملقاته ودفعه .أما الثاني فل يحس به أصلً إل إذا وقع ومن ثم ل يتخذ من السباب ما يدفعه
أو يتوقاه .ولهذا الفرق يح سب الجا هل ما يفعله الر جل الحذر نوعا من الخوف الذي ل مبرر
له ،ونوعا من الج بن ل يت فق مع اليمان .وكثيرا ما يتأثر الرجل الحذر بأقوال الجهال فيترك
ما يدعو إليه الحذر ويتجاهل الخطر وان تحققت مقدماته فعلى الداعي المسلم أن ل يلتفت إلى
أقوال هؤلء .إن م ثل الحذر ك صاحب ال سفينة ي سير في الب حر على ضوء ما تش ير به حالة
الجـو فـي ضوء قواعـد علم الفلك والنواء .ويأخـذ الحذر المطلوب لتقلبات الجـو وحتـى إذا لم
يحدث المتوقع فل ضرر عليه فيما يأخذ من الحيطة .ومثل الجاهل الحمق ،مثل الذي يسير
في المح يط في مر كب صغير ول يلت فت الى ما تش ير إل يه الخبار العلم ية عن حالة ال جو
المتوق عة ،بل يبلغ به الج هل إلى مخال فة ذلك ،و سرعان ما يع طب به مرك به وتتك سر الوا حه
فيغرق ب ما ف يه ومن ف يه ،وان كا نت نيته ح سنة وقصده مرضاة ال تعالى ،و قد يكون مأجورا
في الخرة ،ولكن أمور الدنيا تجري وفق السباب والمسببات ل وفق القصود والنيات.
327
بهذا و جه الحك مة في ال مر بأ خذ ال سلح ،وذ كر الحذر في الطائ فة الثان ية دون الولى لن ها
أولى بأخذ الحذر.
وفي هذه الية أدلّ دليل على تعاطي السباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي اللباب ويوصل الى
ال سلمة ويبلغ دار الكرا مة ،ثم قال رح مه ال" :وخذوا حذر كم" أي كونوا متيقظ ين ،وضع تم
ال سلح أو لم تضعوه .وهذا يدل على تأك يد التأ هب والحذر من العدو في كل الحوال وترك
الستسلم ،إن الجيش ما جاءه مصاب قط إل من تفريط في حذر[.]2
-591وقال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا }...سورة
النساء الية 71 :هذا خطاب للمؤمنين وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل ال وحماية
الشرع ،وأمـر لهـل الطاعـة بالقيام بإحياء دينهـم ،وإعلء دعوتـه .وأمرهـم ال تعالى ان ل
يقتحموا على عدو هم على جهالة ح تى يتح سسوا ما عند هم ويعلموا ك يف يردون علي هم ،فذلك
أثبت لهم[.]3
328
خيوطـه ،وتعشيـش الحمامتيـن ليكون ذلك داعيا لصـرف انظار المشركيـن عـن وجودهمـا فـي
الغار.
-593ثانيا :وفي السنة النبوية أيضا أن قريشا عندما عزمت على ق تل رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،أتى جبريل عليه السلم رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :ل تبيت هذه الليلة
على فراشك الذي كنت تبيت عليه .فلما كانت عتمة الليل ،اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى
ينام فيثبون عليه ،فلما رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك قال لعلي بن أبي طالب" :نم
على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الخضر ،فنم فيه فإنه لن يصل إليك شيء تكرهه
منهم" ثم خرج عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ،وأخذ ال
تعالى على أبصارهم عنه فل يرونه ،فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم.]6["..
-594ثالثا :وكان أصـحاب رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم إذا صـلوا ذهبوا فـي الشعاب
واستخفوا بصلتهم من قومهم[ ]7يوم كانوا في مكة.
329
الديم ،ينثر الزرع ويتعهده ،واعتماده على ال وحده ل على ما باشره من أسباب ،وهذه كانت
حالة سيد المتوكلين رسولنا صلى ال عليه وسلم ،فقد باشر السباب في هجرته كما بينا ودخل
مع صاحبه أبي بكر إلى الغار أخذا بالحيطة والحذر ولكن اعتماده ما كان على ما باشره من
أ سباب وإن ما كان اعتماده على ال وحده ،ولهذا ل ما ش عر أ بو ب كر بالقلق على حياة ر سول ال
صلى ال عل يه و سلم وظ هر عل يه الحزن من أ جل ر سول ال صلى ال عل يه و سلم قال له
الرسول الكريم كما أخبرنا ال{ :ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه ل تحزن إن ال
مع نا} فكان ن ظر ر سول ال واعتماده على مع ية ال له ما بالن صر والح فظ والتأي يد ل على ما
باشره من السباب.
أنواع الحذر
-597والحذر أنواع مـن جهـة مـا يحذره الداعـي المسـلم ،فهناك حذره مـن الوقوع فـي
المع صية ،وحذره من ال هل والولد ،وحذره من اتباع الهوى ،وحذره نم المنافق ين والكافر ين،
ول بد من كلمة قصيرة عن هذه النواع.
الحذر من المعاصي
-598قال تعالى{ :ويحذركم ال نفسه} أي يحذركم عقابه بأن تباشروا المعاصي وما يسخط
الرب جل جلله في حل علي كم عذا به أو تفقدوا ن صره وتأييده والدا عي إلى ال يحذر أن ي حل
عليه غضب ال أو يقطع عنه مدده وعونه ونصره وتأييده وحفظه .ولهذا فهو دائم التعلق بال
شديد الحذر من الوقوع فيما يغضب ال تعالى .فهو دائم المراقبة لربه دائم التفتيش في زوايا
نفسه لئل ينبت فيها شيء من الرياء – وما أصعب التوقي منه – أو طلب السمعة عند الناس
أو العجاب بالنفس وبالتعالي على الخلق والمن بما يقوم به من أمور الدعوة إلى غير ذلك من
اقذار المعاصي القلبية .فان ال تعالى ل تخفى عليه خافية قال جل جلله {واعلموا أن ال يعلم
ما في أنفسكم فاحذروه} سورة البقرة الية.235 :
330
ا بن العر بي المال كي" :إن العدو لم ي كن عدوا لذا ته وإن ما عدوا بفعله ،فإذا ف عل الزوج والولد
فعل العدو كان عدوا ،ول فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة" وقال أهل التفسير :إن هذه
اليـة نزلت فـي عوف بـن مالك الشجعـي كان ذا أهـل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليـه
ورققوه ،فقالوا إلى من تتركنا؟ فيرق لهم ويقيم عندهم"[ ،]9فليحذر الداعي المسلم جهالة الهل
والولد وتثبيطهم له عن الجهاد في سبيل ال والدعوة ،فهم مجبنة مبخلة كما قلنا.
وسائل الحذر
331
-602وسـائل الحذر كثيرة ،تختلف باختلف مـا يحذر منـه وباختلف الظروف والحوال.
ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال وهي التي وردت فيها الثار – ويجوز القياس عليها عند
الحاجة – وهذه الوسائل يأخذها الداعي في المجتمعات الوثنية كما لو ذهب الى بلدان افريقية
الوثني يعلم الناس هناك السلم .ومن هذه الوسائل:
-603أولً :البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة الى ال حذرا من العداء ،وهذا الحذر لزم في
المجتمعات الوثنية والكافرة التي يضيق المل فيها من انتشار السلم كما في البلد الوثنية في
افريقيـا ،ودليـل هذا الحذر مـا جاء فـي السـيرة" :فلمـا أسـلم أبـو بكـر رضـي ال عنـه أظهـر
ا سلمه ...فج عل يد عو الى ال والى ال سلم من و ثق به من قو مه م من يغشاه ويجلس إل يه"[
.]12
-604ثانيا :بالتخفـي والسـتتار ،احباطا لكيـد الكافريـن وابعاد أذاهـم عـن الداعـي الى ال،
ودليلنا على ذلك اختفاء رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه الصديق في الغار.
-605ثالثا :اعتزال القوم والختفاء عن هم ودليل نا على ذلك فت ية أ هل الك هف وفي هم قال ال
تعالى{ :وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون ال فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته
ويهيء لكم من أمركم مرفقا}.
وإذا جاز هذا النوع مـن العتزال جاز مـا دونـه كالهجـر وعدم المخالطـة والتوقـف عـن نشـر
الدعوة الى ح ين ،نزولً ع ند ح كم الضرورة ،و في هذه الحالة ينب غي للدا عي أن ينش غل بنف سه
ويقبـل على عبادة ربـه ويتأمـل فـي أمور الدعوة والفتكار فيهـا ،الى أن يزول مـا دعاه الى
العتزال.
-606رابعا :الخروج الى الم حل الم ين تخل صا من أذى الكافر ين ودليل نا على ذلك خروج
المسلمين الى الحبشة[ .]13والواقع أن الخروج من أرض الكفرة حيث يتجه كيدهم الى البطش
بالداعـي الى ال ،أمـر ذكره ال تعالى دون إنكار ممـا يدل على مشروعيتـه فـي حـق الدعاة
الم سلمين ،قال رب نا تبارك وتعالى{ :وجاء ر جل من أق صى المدي نة ي سعى قال يا مو سى إن
المل يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إ ني لك من النا صحين ،فخرج من ها خائفا يتر قب قال رب
نجني من القوم الظالمين} سورة القصص الية.21-20 :
-607خامسا :عدم إظهار المسلم اسلمه إذا كان في هذا الظهار تنكيل الكفرة بالمسلم ،قال
تعالى{ :وقال رجـل مؤمـن مـن آل فرعون يكتـم إيمانـه أتقتلون رجلً أن يقول ربـي ال وقـد
جاء كم بالبينات من رب كم} سورة غا فر ال ية 27 :و قد قص ال علي نا خبر ذلك المؤ من الذي
كان يكتم إيمانه دون انكار فدل على جواز كتم اليمان عند الضرورة ومن باب اولى جواز أن
يكتم الداعي الى ال صفته عن الكفار .بل ويجوز أن يكتم اسمه ،ودليلنا على ذلك أن رسول
ال صلى ال عل يه و سلم ع ند م سيره الى بدر ذ هب هو وأ بو ب كر ر ضي ال ع نه بعيدا عن
332
الم سلمين فو قف على ش يخ من العرب و سأل عن قر يش فل ما أجا به سألهما م من انت ما فقال
رسـول ال نحـن مـن ماء[ ]14وممـا يدل أيضا على جواز اخفاء المسـلم إيمانـه ،أن مسـلمي
المدي نة واعدوا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم المج يء الى العق بة في م نى خارج م كة ،و قد
جاء في اخبار هذه الحادثة ما يرويه واحد من الذين حضروا العقبة وبايعوا رسول ال صلى
ال عليه وسلم وهو كعب بن مالك ،قال "وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ثم
قال :فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد
رسول ال صلى ال عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة
ونحن ثلثة وسبعون رجلً ومعنا امرأتان ...قال فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول ال صلى
ال عليه وسلم حتى جاءنا معه العباس.]15[...
-608سادسا :التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة ،قال تعالى عن يعقوب عليه السلم:
{وقال يا بنّي ل تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من ال من
شيء إن الحكم إل ل عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} سورة يوسف الية.67 :
-609سابعا :اخفاء الداعي قصده وتفاصيل ما يريده ،جاء في السيرة النبوية "وكان رسول
ال صلى ال عليه وسلم قلما يخرج في غروة إل كنى عنها وأخبر انه يريد غير الوجه الذي
يقصد له إل ما كان في غزوة تبوك فانه بينها للناس لبعد الشقة"[.]16
333
بد أن يكون مشوبا ب حب ال سمعة والرياء فلي سارع الى تنق ية اخل صه ،وف سح المجال للك فء
الِمين بالسهام في جهاد الدعوة الى ال تعالى.
334
ثانيا :خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم
من قو مه ورجاء أن يقبلوا م نه ما جاء هم به من ال عزّ وجلّ ،هذا ما رواه ا بن هشام في
سيرته[.]22
ثالثا :و في امتاع ال سماع للمقريزي "ويقال :إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ل ما عاد من
الطائف وانتهى الى حراء بعث رجلً من خزاعة الى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة
ربه فأجاره"[.]23
رابعا :عندما رجع المسلمون المهاجرون الى الحبشة ظنا منهم أن أهل مكة أسلموا "ولم يدخل
منهم أحد إل بجواز أو مستخفيا"[ ]24أي بجوار مشرك ليمنعه من ايذاء أو اعتداء قريش.
خام سا :عرض ا بن الدغ نة على أ بي ب كر جواره ،فقبله أ بو ب كر ،فقال ا بن الدغ نة :يا مع شر
قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فل يعرضن له أحد إل بخير[.]25
335
لش يء أبدا"[ .]27وكذلك رد أ بو ب كر جوار بن الدغ نة ل ما طلب م نه أن ل ي صلي في م سجده
عند باب داره في بني جمح[.]28
-616ويجوز قبول حمايـة غيـر المسـلم وإن كان الغرض الول منهـا الخلص مـن ايذاء
الكفرة وبطشهم ،لن بقاء المسلم حيا يعطيه فرصا في المستقبل للقيام بواجب الدعوة الى ال.
دليل نا على ذلك ما جاء في سيرة ا بن هشام" :فل ما رأى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ما
يصيب اصحابه من البلء ،وما هو فيه من العافية لمكانه من ال ،ومن عمه أبي طالب وأنه ل
يقدر على أن يمنع هم م ما هم ف يه من البلء ،قال ل هم" :لو خرج تم الى أرض الحب شة فإن ب ها
ملكا ل يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل ال لكم فرجا مما أنتم فيه"[.]29
336
الفرع الثالث -النظام
أهمية النظام
-619النظام و سيلة جيدة ل بد من ها لح سن ا ستخدام الجهود وتوجيه ها على ن حو مث مر في
مجال الدعوة إلى ال ،وبالتالي زيادة فرص النجاح للداعـي فـي بلوغـه هدفـه .وبدون النظام
تنبع ثر الجهود ويكون ال سير على غ ير هدى ،وال سلم هو د ين النظام .فال صلة تؤدي بنظام
من جهة الوقت ومتابعة المأموم للمام وكذا في العبادات الخرى مثل الحج والصيام والزكاة.
337
أولً :ل بد ل كل جما عة من رئ يس ،تلك حقي قة قررت ها الشري عة وأمرت ب ها ويؤيد ها الوا قع
ويدركهـا العقـل السـليم ،ولهذا جاء فـي الحديـث الشريـف "إذا خرج ثلثـة فـي سـفر فليؤمروا
أحد هم" و في حد يث آ خر "ل ي حل لثل ثة يكونون بفلة من الرض إل أمروا علي هم أحد هم"
ويقول المام ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث "فأوجب صلى ال عليه وسلم تأمير الواحد في
الجتماع القليـل العارض فـي السـفر ،تنـبيها بذلك على سـائر أنواع الجتماع .ولن ال تعالى
أوجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ول يتم ذلك إل بالقوة والمارة"[ ]34والمقصود من
المارة تحق يق طا عة ال ور سوله وتنف يذ أوامره ،قال ا بن تيم ية "فالوا جب اتخاذ المارة دينا
وقر بة يتقرب ب ها الى ال .فان التقرب ال يه بطاع ته وطا عة ر سوله من أف ضل القربات ،وإن ما
يفسد فيها حال أكثر الناس لبتغاء الرئاسة أو المال بها"[.]35
ثانيا :في بيعة العقبة الثانية ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "اخرجوا إليّ منكم اثني عشر
نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم"[.]36
ثالثا :كان صلى ال عليه وسلم كلما خرج من المدينة لغزوة ونحوها يعين من ينوب عنه على
المدينة.
المقصود من المارة
-721والمقصود من اتخاذ المير أو الرئيس للجمع القليل أو الكثير ،جريان أمور المجتمعين
على نسق واحد ورأي واحد .ول يتحقق هذا المقصود إل بطاعة الجماعة للرئيس عند اختلف
الراء ،وإل لم ي كن للمرة مع نى ول فائدة ،جاء في الحد يث الذي رواه عبادة بن ال صامت:
بايعنـا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم على السـمع والطاعـة فـي عسـرنا ويسـرنا ومنشطنـا
ومكره نا وأثرة علي نا وألّ ننازع ال مر أهله وأن نقول ال حق أين ما ك نا ل نخاف في ال لو مة
لئم"[ .]37والطا عة تكون في المعروف ل في المع صية .جاء في الحديث الشريف "ل طا عة
لمخلوق في معصية الخالق".
ضرورة الطاعة
-722والطاعة للرئيس ضرورية في كل عمل ،وهي أشد ضرورة لعمل الجماعة التي تدعو
الى ال وتقوم بنشر السلم .ولهذا فقد بلغ من فقه الصحابة الكرام للطاعة أنهم كانوا في حفر
الخندق حول المدي نة ي ستأذنون ر سول ال صلى ال عل يه و سلم إذا أراد أحد هم الذهاب لقضاء
حاجته بخلف المنافقين المندسين في صفوف المسلمين ،فقد كانوا يتسللون لواذاًَ ول يستأذنون
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ابن هشام ويتسللون – أي المنافقون – الى أهلهم بغير علم
من ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ول اذن .وكان الر جل من الم سلمين إذا ناب ته النائ بة من
338
الحا جة ال تي ل بد له من ها يذ كر ذلك لر سول ال صلى ال عل يه و سلم وي ستأذن في اللحوق
لحاجته فيأذن له ،فإذا قضى حاجته رجع الى ما كان فيه من عمل رغبة في الخير واحتسابا
له ،فأنزل ال تعالى فـي أولئك المؤمنيـن{ :إنمـا المؤمنون الذيـن آمنوا بال ور سوله وإذا كانوا
م عه على أ مر جا مع لم يذهبوا ح تى ي ستأذنوه ،إن الذ ين ي ستأذنونك أولئك الذ ين يؤمنون بال
ورسـوله ،فإذا اسـتأذنوك لبعـض شأنهـم فأذن لمـن شئت منهـم واسـتغفر لهـم ال إن ال غفور
رحيم} سورة النور الية.]38[ 62 :
الطاعة والمشاورة
-723ول يعني قولنا بلزوم الطاعة ترك المشاورة ،فإن الرئيس يجب عليه أن يشاور أفراد
الجما عة ،وقد قال العلماء" :لم يكن أحد أكثر مشورة لصحابه من رسول ال صلى ال عليه
وسلم"[ ]39كما أن لي فرد أن يبدي رأيه وعلى الرئيس أن يسمعه – وإذا كان صوابا أخذ به
– يدل على ذلك ما جاء في السيرة النبوية "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إلى مكة
ير يد العمرة في ال سنة ال سادسة للهجرة ،فا ستعدت قر يش لمن عه من الدخول ،فأراد صلى ال
عل يه وسلم أن يرسل عمر بن الخطاب إليهم ليخبرهم بقصد رسول ال صلى ال عل يه وسلم
وأ نه جاء لزيارة الب يت ل للقتال فقال ع مر ر ضي ال ع نه :يا ر سول ال أخاف قريشا على
نف سي ول يس بم كة من ب ني عدي بن ك عب أ حد يمنع ني ،و قد عر فت قر يش عداو تي إيا ها
وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني :عثمان بن عفان .فدعا رسول ال صلى
ال عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه الى أبي سفيان واشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب
وإنما جاء زائرا البيت ومعظما لحرمته"[.]40
339
رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم حذيفـة بـن اليمان ليطلع على مـا عنـد المشركيـن فـي حرب
الخندق ،قال حذيفة :لقد امكنني أن أقتل أبا سفيان ولكن لم أفعل لن رسول ال صلى ال عليه
وسلم أمرني أن ل أحدث شيئا حتى آتيه[.]41
340
النفع ،وقد يكون هذا الفرد حسن النية والقصد وراغبا في الجر ،ولكن نتائج العمال في الدنيا
كما قلنا أكثر من مرة مبنية على المقدمات والسباب التي تتبعها النتائج والمسببات.
341
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة أحد قال" :من يأخذ هذا السيف بحقه ،فقام إليه
رجل .فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فأعطاه إياه"[.]45
342
[ ]27ابن هشام ج 1ص .278
[ ]28ابن هشام ج 1ص .396
[ ]29ابن هشام ج 1ص .343
[ ]30ابن هشام ج 2ص .98
[ ]31ابن هشام ج 1ص .49
[ ]32ابن هشام ج 3ص .45ومعنى عيبة نصح رسول ال :أي موضع سره .صفقهم معه
أي هواهم له ،واجتماعهم عليه.
[ ]33ابن هشام ج 1ص .396
[ ]34مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .930
[ ]35مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .391
[ ]36ابن هشام ج 2ص .51
[ ]37ابن هشام ج 2ص .63
[ ]38ابن هشام 390ص .170
[ ]39السياسة الشرعية لبن تيمية ص .169
[ ]40ابن هشام ج 3ص .271
[ ]41ابن هشام ج 3ص .187-186
[ ]42ابن هشام ج 3ص .176
[ ]43ابن هشام ج 4ص .44
[ ]44ابن هشام ج 2ص .129
[ ]45ابن هشام ج 3ص .10
تمهيد
-721تبليـغ الدعوة الى ال تكون بالقول وبالعمـل وبسـيرة الداعـي التـي تجعله قدوة حسـنة
لغيره فتجذبهم الى السلم ،ونتكلم عن هذه الوسائل في ثلثة فروع متتالية:
343
تبارك وتعالى{ :وإن أ حد من المشرك ين ا ستجارك فأجره ح تى ي سمع كلم ال} سورة التو بة
ال ية 6 :وكان تبل يغ ر سول ال لر سالة ر به للناس بالقول ،قال تعالى مخاطبا ر سوله وآمرا له
أن يقول للناس{ :قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} سورة يونس الية{ 108 :قل يا
أي ها الناس إ ني ر سول ال إلي كم جميعا} سورة العراف ال ية .158 :وكذلك أ مر ال ر سله
أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المبين قال تعالى{ :لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا
قوم اعبدوا ال ما لكم من إليه غيره} سورة العراف الية{ 59 :وقال موسى يا فرعون إني
رسول من رب العالمين} سورة العراف الية 104 :فل يجوز للداعي أن يغفل مكانة القول
في تبليغ الدعوة ول أثر الكلمة الطيبة في النفوس .فالقول اذن هوالوسيلة الصيلة في ايصال
الحق للناس.
344
فيستعملوا كلمة راعنا يريدون بها الشتيمة والتنقيص .وإذا اضطر الداعي الى استعمال بعض
اللفاظ المستحدثة فعليه أن يبين مقصوده منها حتى ل يتبادر الى الذهان المعاني الباطلة التي
تحملها هذه اللفاظ أوالتي يفهمها الناس منها.
345
" يا ب ني عبدال ان ال عز و جل قد أح سن ا سم أبي كم"[ .]5أي فاح سنوا الجا بة واقبلوا الدعوة
وآمنوا بال ورسوله.
-737وعلى هذا يجوز للداعي أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكرهم به من طيب
أصـلهم وكرم عائلتهـم وشرف نسـبهم وان ذلك ل يتفـق وجريهـم مـع العصـاة وانعماسـهم فـي
الرذائل والشهوات ،وان اللئق ب هم أن يكونوا مع الخيار المطيع ين ل ،فهذا ونحوه سائغ إن
شاء ال ل نرى ف يه شيئا على أل ي سرف ف يه الدا عي وان يكون ق صده م نه التشو يق والح مل
على الطاعة ل المداهنة والنفاق ،والعمال بالنيات.
-738والتلطـف فـي القول ل يعنـي المداهنـة والنفاق ول اخفاء الحـق او تحسـين الباطـل
اوالرضى به ،وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق واعانته على هذا القبول وليس فيه إخفاء
مرض المدعو ،فان الداعي كالطبيب فكما ان الطبيب ل يخفي على المريض علته وضرورة
العلج له فكذلك الداعي قال تعالى حكاية عن بعض رسله{ :ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا
إليـه يرسـل السـماء عليكـم مدرارا ويزدكمـك قوة إلى قوتكـم ول تتولوا مجرميـن} سـورة هود
اليـة 52 :وقال تعالى عـن صـالح ومـا قال لقومـه{ :فاتقوا ال وأطيعون ،ول تطيعوا أمـر
المسرفين .الذين يفسدون في الرض ول يصلحون} سورة الشعراء الية.153-150 :
أنواع القول
-739والقول فـي مجال التبليـغ أنواع ،منهـا :الخطبـة ،والدرس ،والمحاضرة والناقشـة
والتحد يث أمرا بمعروف أو نهيا عن من كر والكتا بة فان ها أيضا من القول باعتبار ها أداة من
أدوات التبليغ وتؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمن ل يمكن للداعي المشافهة معهم.
الخطبة
-740وهي وسيلة جيدة للتبليغ وتكون عادة لجمع من الناس قد ل يعرفهم الداعي أو يعرف
بعضهم فقط .ويشترط للخطبة الناجحة أن يكون لدى الداعي معنى أو معان معينة يريد بيانها
ولفت النظار إليها .ومن المستحسن أن يكون موضوع الخطبة مما له علقة في أحوال الناس
مع ربط ذلك بمعاني العقيدة السلمية ،كأن يكون الذين يخطب فيهم ممن تكثر فيهم العصبية
القبلية ،فيحدثهم عن أضرارها وحكم السلم فيها ،وان المؤمن ل ينصر قريبه إل بالحق ،وان
على الم سلم أن ير ضى ب ما ق ضى به ال سلم من التآ خي بال سلم ون بذ الع صبية الجاهل ية.
وعلى الداعي الخطيب ان يلحظ في خطبته المور التالية:
346
الستشهاد باليات القرآن ية والحاديث النبوية والتطبيقات العملية لها من قبل الر سول -1
الكريم والرسل الكرام صلوات ال وسلمه عليهم .والصحابة الكرام ،فان ذكر التطبيق يجعل
معنى الية والحديث مشهودا محسوسا.
يسـتعين بالقصـص الوادرة فـي الكتاب والسـنة ول بأس مـن تصـوير المعانـي بشكـل -2
ق صص وضرب المثال ك ما في الحد يث الشر يف" :أرأي تم لو أن في باب أحد كم نهرا يغت سل
فيه في اليوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا ل يا رسول ال ،قال كذلك الصلة".
ان ل يطيـل فـي الخطبـة ،جاء فـي الحديـث الشريـف "ان طول صـلة الرجـل وقصـر -3
خطب ته مئ نة من فق هه ،فأطيلوا ال صلة واق صروا الخط بة"[ ]6وهذا الحد يث ورد في خط بة
الجمعة فيقاس عليها سائر الخطب إل إذا اقتضت الضرورة اطالتها.
أن ل يكثر الخطب مخافة السآمة ،يدل على ذلك أن أبا وائل شفيق بن سلمة ،قال :كان -4
ا بن م سعود ر ضي ال ع نه يذكر نا في كل خم يس مرة .فقال له ر جل :يا ا با ع بد الرح من
لوددت ا نك ذكرت نا كل يوم .فقال :أ ما ا نه يمنع ني من ذلك كراه ية ان امل كم وا ني اتخول كم
بالموعظة كما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا[.]7
أن يكون كلم الدا عي ب سيطا واضحا لن الذ ين ي سمعونه لي سوا في م ستوى وا حد من -5
العلم والقدرة على فهم الخطاب .فإذا اختار السلوب البسيط الواضح والعبارات القصيرة انتفع
بها الجميع وفهمها الجميع.
من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يذكر الناس بربهم ،ويبين لهم ،وينذرهم وان ل -6
يقصد المباراة في خطبه ،ول مدح الناس وقولهم :ما أعلمه وأقدره على الخطب .وإنما يقصد
ن شر معا ني الدعوة الى ال ،فإذا رأى حا جة الى ما بي نه في مكان مع ين إلى اعاد ته في مكان
آخر اعاده وكرره .ودليلنا على ذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يكرر دعوته الى
ال ،ويقول للناس :اعبدوا ال وحده واتركوا ما دونه .كما أنه عليه الصلة والسلم كان يكرر
في خطبته في المسلمين لزوم التقوى والعمل للخرة ،وفي القرآن الكريم تكرير لقصة موسى
عليه السلم وتكرير لكثير من أصول العقيدة ومعانيها.
من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يجلب انتباه السامعين من حادثة صادفها أو قصة -7
قرأهـا ،أو خاطـر انقدح فـي نفسـه ،فإذا مـا جلب انتباه السـامعين مضـى الخطيـب فـي كلمـه
مترسلً مشوقا ومنذرا.
على الداعـي أن يتفرس فـي نفوس الحاضريـن وأي مرض يغلب عليهـم وأي شيـء -8
يحتاجو نه أك ثر من غيره ،فيبدأ به ويرب طه بالعقيدة ال سلمية فإذا كانوا بحا جة إلى التخو يف
والترهيـب لمـا يلمسـه فيهـم مـن الجرأة على المخالفات الشرعيـة ذكـر لهـم اليات والحاديـث
الواردة فـي ذلك وخوفهـم مـن طول المـل وأن الحزم يقضـي بأخـذ العدة قبـل حلول الجـل،
347
والعدة هي تقوى ال فإنها خير ما يتزود به المسافر الى ال {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}
وان لذة المعصية وهي قصيرة تعقبها مرارة الندم والعذاب مدة طويلة .والعاقل من صبر نفسه
عن لذة حرام ل تدوم ليظ فر بلذة حلل تدوم ولين جو من عذاب دائم مق يم .وإذا رأى في القوم
الذ ين يخ طب في هم شعورا باليأس والقنوط و صعوبة الرجوع الى ال ذكر هم بعظ يم رح مة ال
وان ال يقبل التائبين الصادقين وقال فيهم{ :قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا
من رح مة ال إن ال يغ فر الذنوب جميعا} ويذ كر ل هم ق صة القا تل مائة ن فس وك يف أن الفق يه
دلّه على طريق التوبة إلى ال والتحول الى القرية الصالحة.
على الداعي أن يحذر من ذكر اليات والحاديث التي قد يساء فهمها دون شرح وبيان -9
ل ها م ثل قوله صلى ال عل يه و سلم " من قال ل إله إل ال خال صا من قل به د خل الج نة" .فعلى
الخطيب أن يشرح الحديث حتى يفهمه السامعون الفهم الصحيح.
وعلى الداعي أن ل يسرع في كلمه ول يرفع صوته بل حاجة. -10
ي ستحسن أن تكون الخط بة ارتجالً ل في ور قة مكتو بة وان تكون معاني ها حاضرة -11
في ذهنه ،أي :أعدها من قبل.
الدرس
-741الغالب فـي الدرس أن يكون شرحا ليـة مـن القرآن ،أو لحديـث رسـول ال صـلى ال
عليه وسلم أو بيانا لمسألة أو مسائل من الفقه كما أن الغالب في الدرس أن يحضره عدد قليل
من الناس جاؤوا قاصدين سماع الدرس مما يعطي فرصة طيبة للداعي أن يتعرف عليهم عن
كثب ويوثق علقته بهم .ويشترط للداعي في درسه أن يحضر مادته مسبقا تحضيرا جيدا وأن
ل يستطرد كثيرا وهو يلقي موضوعه لن الستطراد يبعد السامع عن أصل الموضوع ويبعث
في نف سه ال سآمة .و في تف سير القرآن ي ستحسن أن يكون بالقرآن نف سه ف ما أجمله القرآن في
موضع فصله في موضع آخر ،فإن لم يجد هذا البيان في القرآن تحول إلى السنة فإن لم يجد
ف في أقوال المف سرين من ال صحابة والتابع ين وكذلك يف عل في تف سيره الحد يث النبوي وع ند
كلمه في الفقه السلمي يستحسن أن يبين الحكم الفقهي الراجح إن كان من ذوي القدرة على
تمي يز القوال الفقه ية الراج حة من المرجو حة فإن لم ي ستطع ذلك فعل يه أن يبين الح كم وفقا
لتجاه أحد المذاهب السلمية دون أن يذكر الخلفات الفقهية في كل مسألة يتعرض لها لن
ذكر هذا الخلف يشتت أذهان السامعين.
المحاضرة
348
-742والغالب فـي المحاضرة أنهـا تعالج موضوعا معينا باسـتقصاء وإحاطـة وذكـر الدلة
والبراهين ،وذكر ما قيل حول الموضوع ،والصواب من هذه القوال ،والمحاضرة الناجحة ما
كانـت تهدف إلى هدف معيـن ومحدد وتجلي هذا الهدف وتـبينه البيان الشافـي المقنـع .ويجـب
على المحاضر أن يكون دقيقا في كلمه ل يلقي القول جزافا ول يكثر من العبارات العاطفية،
لن مجال ها ال صلي الخط بة ول يس المحاضرة وأن يشرك ال سامعين م عه في الو صول إلى ما
يريده بأن يبين مقدمات النتي جة ال تي و صل إلي ها في بح ثه فإذا ما ا ستطاع اقناع هم ب ها كان
وصولهم إلى النتيجة مي سورا .وعلى المحاضر أن يقيم المقدمات لما يريد الوصول إليه على
مسائل واضحة جلية مشهورة وأن يتجنب المسائل الدقيقة والمشتبهة والتي تقبل الخذ والرد،
أوال تي هي في نف سها تحتاج إلى إثبات ،و من هذه الم سائل ما تعورف على ت سميته بالمعا ني
الفل سفية ،فإذا أراد المحا ضر أن يعرض ب عض الحقائق الدين ية وأ صول العقيدة ال سلمية م ثل
الب عث ب عد الموت فيكف يه أن يل فت النظار الى ما نشاهده من موت وب عث في عالم الحيوان
والنبات وأن يضرب المثلة على ذلك لتقريـب هذه الحقيقـة الى الذهان .وهذا النهـج ورد فـي
القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى{ :ومن آياته أنك ترى الرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} فالحياة بعد الموت أثر
مشاهد محسوس ،أرض ميتة ل نبت فيها ول حياة ينزل ال عليها المطر فتهيج ويخرج منها
نبات حي بألوا نه المختل فة وطعو مه المتنو عة ،ان ال الذي أح يا هذه الرض هو الذي يح يي
الموتى بعد أن خلقهم من ماء مهين من نطفة نعرفها ونراها ،فإن العادة كما هو معلوم أسهل
من البتداء قال تعالى{ :وضرب ل نا مثلً ون سي خل قه قال من يح يي العظام و هي رم يم؟ قل
يحيي ها الذي أنشأ ها أول مرة و هو ب كل خلق عل يم} .وهذا وعلى الدا عي في محاضر ته أن ل
يكون جافا بل عليه أن يضفي على محاضرته شيئا من التحريك العاطفي الوجداني بما يذكره
من حقائق ال سلم ومعا ني العقيدة ال سلمية .وهذا التحر يك الوجدا ني يقوم على أ ساس اثارة
ما في النفوس من معاني اليمان.
المناقشة والجدل
-743الناقشة والجدل يكونان بين شخصين أو أكثر يعرض كل جانب وجهة نظره فيما يراه
ويعتقده من أمور .والدا عي عند ما يد عو غيره الى ال قد ل يق بل المد عو دعو ته فيق بل على
جدال الداعي ومناقشته .وقد ذكر القرآن الكريم بعض صور المناقشات التي جرت بين الرسل
الكرام وبين أقوامهم من ذلك قوله تعالى{ :لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما
لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .قال المل من قومه إنا لنراك في ضلل
مبين ،قال يا يوم ليس بي ضللة ولكني رسول من رب العالمين .أبلغكم رسالت ربي وأنصح
349
ل كم وأعلم من ال ما ل تعلمون أو عجب تم أن جاء كم ذ كر من رب كم على ر جل من كم لينذر كم
ولتتقوا ولعلكـم ترحمون} .فالمدعـو فـي مناقشتـه وجداله مـع الداعـي قـد يصـل الى حـد اتهام
الداعي بالضلل المبين ،فل يعجب الداعي من ضلل المدعو ول يخرجه عن هدوئه واتزانه
وشفق ته عل يه ك ما هو وا ضح من جواب نوح عل يه ال سلم .فعلى الدا عي أن يل حظ ذلك دائما
وان يكون كلمه في الجدال والناقشة بالحسنى وبالكلم الطيب والدب الجم والتواضع والهدوء
وعدم رفع الصوت وعدم اغاظة المقابل والستهزاء به وليبق كلمه معه على مستواه العالي
الرف يع الرق يق الل ين المحبوب الخالي من الفظا ظة والخشو نة ،ول كن ف يه قوة القناع ووضوح
الحـق ،ومثـل هذا يسـتفاد مـن قوله تعالى{ :ادع الى سـبيل ربـك بالحكمـة والموعظـة الحسـنة
وجادلهم بالتي هي أحسن} فإذا أصر المدعو على باطله ولج في عناده وأصبح الكلم معه عبثا
فليقطع الداعي الجدل معه ويذكر قول ال تعالى{ :قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} وقوله تعالى:
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وهذا المسلك هو قطع الجدل مسلك
سديد ،لن ب عض الناس ل ين فع مع هم الجدل لن هم ل يريدون من جدل هم الو صول الى ال حق
وإن ما يريدون المكابرة والعناد والجحود قال تعالى{ :ولو نزل نا عل يك كتابا في قرطاس فلم سوه
ن هذا إل سحر مبين}.
بأيديهم لقال الذين كفروا إ ْ
350
-746القاعدة الثانية :الرفق ،والصل فيه الكتاب والسنة قال تعالى مخاطبا موسى وهارون
ل لينا لعله يتذكر أو يخشى} سورة طه
عليهما السلم{ :اذهبا الى فرعون إنه طغى فقول له قو ً
الية 24 :والقول اللين الذي أشارت اليه هذه الية الكريمة ذكره ال تعالى في سورة النازعات
قال تعالى{ :فقل هل لك الى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} فهذا الخطاب صريح في بيان
ال حق ولك نه رق يق ل ي جد المب طل ف يه إثارة لنف سه المثقلة بالبا طل .ثم يبلغ الل ين والر فق في
الخطاب الى مدى أبعد من ذلك فيقول موسى كما حكاه ال تعالى عنه{ :إنا قد أوحي إلينا أن
العذاب على من كذب وتولى} فهذا تحذير لطيف وصادق الى فرعون إذ لم يوجه موسى عليه
السلم العذاب الى فرعون مباشرة وإنما قال{ :على من كذب وتولى} وهذا فيه ما فيه من لين
القول والتل طف في التحذ ير .وإذا كان ال تعالى قد أ مر مو سى عل يه ال سلم بالقول الل ين مع
ع صمته وح فظ ال له فغيره أولى بال خذ بالل ين والتل طف في الخطاب فان القائل بالل ين ل يس
بافضل من موسى والمقول له ليس بأخبث من فرعون .وفي السنة النبوية "ما كان الرفق في
ش يء إل زا نه ول كان الع نف في ش يء إل شا نه" "ان ال ي حب الر فق في ال مر كله ويع طي
عل يه ما ل يع طي على الع نف" ول شك أن القول الل ين في الدعوة وال مر بالمعروف والن هي
عن المنكر يدخل في مفهوم الرفق المأمور به .ول شك أن الداعي المسلم قد يخرج في بعض
الحيان عن هذا النهج اللين في المر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن عليه دائما أن يحمل
نفسه عليه لنه هو السبيل القويم الذي دلت عليه السنة النبوية وطبقه الرسول صلى ال عليه
وسلم فعلً فمن هذه التطبيقات ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي ال عنه قال "بينما
أن أ صلي مع ر سول ال صلى ال عل يه و سلم اذ ع طس ر جل من القوم فقلت :يرح مك ال،
فرما ني القوم بأب صارهم ،فقلت :واث كل أ ّميَاه ما شأن كم تنظرون ال يّ؟ فجعلوا يضربون بأيدي هم
على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني ،لكني سكت ،فلما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فبأبي هو وأمي ،ما رأيت معلما قبله ول بعده أحسن تعليما منه فوال ما كهرني ول ضربني
ول شتمني قال "ان هذه الصلة ل يصلح فيها شيء من كلم الناس انما هي التسبيح والتكبير
وقراءة القرآن أو كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم"[.]8
-747القاعدة الثالثـة :النظـر الى المصـالح والمفاسـد ،ومعنـى ذلك :أن يكون قول المـر
بالمعروف والنا هي عن المن كر بف قه ون ظر في ما ي صلح من ذلك و ما ل ي صلح و ما يقدر عل يه
وما ل يقدر عليه فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به او ما ينهى عنه نظر :فإن كان
فيما يقوله أمرا ونهيا مصالح أعظم من المفسدة التي تحصل في أمره ونهيه وجب عليه المر
والنهي وان كان العكس أي المفاسد أعظم لم يجب عليه بل قد يحرم[.]9
-748القاعدة الرابعـة :اختلط المعروف بالمنكـر ،الداعـي بالنسـبة لنواع المعروف يدعـو
الي ها دعوة مطل قة وكذا بالن سبة لنواع المن كر ين هى عن ها نهيا مطلقا .ول كن بالن سبة لش خص
351
معيـن أو طائفـة معينـة إذا كانوا جامعيـن بيـن معروف ومنكـر ،وهـم إمـا أن يفعلوهمـا معا أو
يتركوه ما معا فعلى الدا عي أن ين ظر فان كان م صلحة المعروف أ كبر وأر جح أ مر به وإن
جاؤوا بالمنكـر المغمور فـي الخيـر .وإن كان الشـر أكثـر نهـى عنـه وإن فات الخيـر الكثيـر
المغمور فيـه .وإذا اشتبـه المـر على الداعـي توقـف حتـى يتـبين له المـر فل يقدم ال بعلم
واخلص.
-749القاعدة الخامسة :التبليغ حسب المكان ،وليس من شروط أداء واجب التبليغ ان يصل
أ مر ال مر ون هي النا هي الى كل إن سان مكلف في العالم اذ ل يس هذا من شرط تبل يغ الر سالة
فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل يشترط ان يتمكن المكلفون من وصول ذلك اليهم ثم اذا
فرطوا فلم يسعوا في وصوله اليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه فان التفريط منهم ل منه[.]10
الكتابة
-750الكتا بة و هي من أنواع القول في الدعوة الى ال ك ما أشر نا من ق بل .والكتا بة إ ما أن
تكون كتا بة ر سائل الى من ير يد الدا عي دعوت هم الى ال سلم ون بذ ما يخال فه وإ ما أن تكون
بتأل يف الك تب والبحاث والمقالت في المجلت وغير ها .وكل ها و سيلة جيدة للدعوة الى ال،
ف قد كان ر سول ال صلى ال عل يه و سلم يأ مر بكتا بة الرسائل الى حكام البلد غ ير ال سلمية
يدعو هم في ها الى ال واعتناق د ين ال سلم كر سائله عل يه ال صلة وال سلم الى ك سرى في
العراق ،وهر قل في الشام ،والمقو قس في م صر ،وكذلك علماء ال سلم ير سلون الر سائل الى
الحكام المسلمين يدعونهم فيها الى ما أمرهم ال به مثل رسالة الوزاعي الى الوالي العباسي
في الشام حول أ هل الذ مة ولزوم رعا ية حق هم المشروع .وتأل يف الك تب في معا ني ال سلم
وكتا بة البحاث والمقالت والر سائل ،من الو سائل المفيدة جدا في الدعوة الى ال ل سيما إذا
ترجمت الى لغات من يراد تعريفهم بالسلم ودعوتهم إليه فيمكن بهذه الوسيلة تبليغ السلم
الى مليين الناس الذين ل يعرفون اللغة العربية ولم تصلهم معاني السلم .ويلحظ في كتابة
الرسـائل والبحاث والكتـب أنهـا توجـه الى العموم يقرؤهـا كثيـر مـن الناس على اختلف
م ستوياتهم في العلم والف هم في جب على الدا عي أن يكتب ها بأ سلوب ب سيط مفهوم وا ضح يدر كه
أ قل الناس قدرة على ف هم الخطاب وان تكون المعا ني ال تي يبين ها م ما ل ي سع أي إن سان ير يد
ال سلم أن يجهل ها .وأن تكون خال ية من ذ كر الم سائل الدقي قة والخلف ية وان تكون مخت صرة
دون اخلل بالمعنى ومقتضيات التفهيم.
352
-751المقصود بالعمل :نريد بالعمل هنا في مجال التبليغ إزالة المنكر فعلً وهذا هو الغالب
ويجوز أن ل يكون في العمل إزالة منكر وإنما فيه إقامة معروف مثل بناء مسجد أو مدرسة
أو نحو ذلك مما يسهل أو يحقق اقامة شرع ال في جانب من جوانبه ويكون هذا العمل كدعوة
صامتة الى السلم ووسيلة فعالة من وسائل نشر الدعوة الى ال.
353
من جهة ما قد عسى أن يترتب على إزالة هذه الجزئية من مفاسد أكبر من المصالح في ضوء
القواعد السابقة.
-755فإذا عدم الداعـي القدرة على الزالة اواسـتطاع الزالة ولكـن يترتـب على ذلك منكـر
أ كبر أو يلح قه ضرر ج سيم ،و من الضرر تعط يل عمله ال مبرور في الدعوة الى ال ،ومن عه
النتقال الى الزالة بالقول فإذا لم يسـتطعه ايضا لهذه المحاذيـر انتقـل الى التغييـر بالقلب كمـا
جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه.
-756و من ت طبيقات هذه القاعدة إقرار ال نبي صلى ال عل يه و سلم لع بد ال بن اب يّ وأمثاله
من ائ مة النفاق ل ما ل هم من اعوان ،فازالة منكره بنوع من عقا به ت ستلزم إزالة معروف أ كبر
من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه[.]11
القاعدة الثانية
-757كره المنكـر ل رخصـة فيـه وإزالتـه حسـب القدرة .وممـا يجـب أن يعلم جيدا أن كره
المنكـر يجـب أن يكون تاما كاملً ،لن الصـل فـي المؤمـن أن يكون حبـه موافقا لحـب ال.
وبغضه موافقاص لما يبغضه ال ،وأي نقص في هذه الموافقة في جانبيها أو في أحد جانبيها
حرده نقص اليمان قطعا .لن بغض المنكر في القلب ل ضرر فيه مطلقا فمن لم يفعله أي لم
يكره المن كر بقل به كان ذلك دليلً على ض عف إيما نه بل وموت قل به وعدم ايما نه لن الحد يث
ورد في آخره "ليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل" .بعد أن ذكر مراتب تغيير المنكر باليد
واللسان والقلب .أما إزالة المنكر باليد أي :فعلً فهذه تكون بحسب القوة والقدرة فان ال تعالى
ل يكلف نفسـا إل وسـعها ،قال تعالى{ :فاتقوا ال مـا اسـتطعتم} .ومتـى كانـت كراهيـة القلب
للمن كر كاملة واراد ته للتغ ير كاملة وف عل الم سلم من ها بح سب قدر ته ،أو لم يف عل لعجزه ،فإ نه
يعطى ثواب الفعل.
القاعدة الثالثة
-758الستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر ،والصل في ذلك مشروعية تأليف القلوب حتى
تقبل الخير وتقلع عن الشر ،ولو كان هذا التأليف بمال يبذل ،وقد روي عن المام الفقيه عمر
بن عبد العزيز أنه قال "وال ما استطيع أن أخرج لهم شيئا من أمر الدين إل ومعه طرف من
الدن يا ا ستلين به قلوب هم خوفا أن ينخرق عل يّ من هم ما ل طا قة لي به"[ ]12وعلى هذا يجوز
للداعي أن يعوض المتلبس بالمنكر بشيء مباح جزاء تركه أو تغييره فعلً كما لو كان له ولد
أو صـديق يلعـب القمار فيعوضـه بتخصـيص جائزة له على سـبق غيره فـي مباح كركـض أو
فرو سية أو ر مي ،أو ح فظ ما ي ستحب حف ظه .وإذا كان متلب سا بمن كر ارتياد المل هي عو ضه
بالسفرات البريئة ،أو كان ميالً الى الرشوة أوالتساهل في أكل مال الغير عوضه بزيادة أجرته
أو راتبه ونحو ذلك.
354
الفرع الثالث -التبليغ بالسيرة الحسنة
أهمية السيرة الحسنة
-759من الو سائل المه مة جدا في تبل يغ الدعوة الى ال وجذب الناس الى ال سلم ،ال سيرة
الطي بة للدا عي وأفعاله الحميدة و صفاته العال ية وأخل قه الزاك ية م ما يجعله قدوة طي بة وأ سوة
حسـنة لغيره ،ويكون بهـا كالكتاب المفتوح يقرأ فيـه الناس معانـي السـلم فيقبلون عليهـا
وينجذبون اليها ،لن التأثر بالفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلم فقط.
-760إن السلم انتشر في كثير من بلد الدنيا بالسيرة الطيبة للم سلمين التي كانت تجلب
أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق السلم فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته
الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للسلم يستدل بها غير المسلم على أحقية السلم وانه من
عند ال ،ل سيما إذا كان سليم الفطرة سليم العقل.
-761ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه واليمان بما
يدعو إليه أن خديجة بنت خويلد رضي ال عنها عندما أخبرها رسول ال صلى ال عليه وسلم
بمـا حدث له فـي غار حراء قالت له "ابشـر وال ل يخزيـك أبدا انـك لتصـل الرحـم وتصـدق
الحد يث وتح مل ال كل وتع ين على نوائب الد هر – في أو صاف أ خر جميلة عدت ها من أخل قه
تصديقا منها له واعانة على الحق"[.]13
وروي أيضا أن أعرابيا جاء الى ال نبي صلى ال عل يه و سلم فقال له :من أ نت؟ قال أ نا مح مد
بن ع بد ال؟ قال العرا بي أأ نت الذي يقال ع نك ا نك كذاب؟ فقال أ نا الذي يزعمون ني كذلك
فقال العرابي :ليس هذا الوجه وجه كذاب ،وما الذي تدعو إليه؟ فذكر له رسول ال صلى ال
عليه وسلم ما يدعو إليه من أمور السلم فقال له العرابي آمنت بك وأشهد أن ل إله إل ال
وأش هد أن محمدا ر سول ال .فالعرا بي ا ستدل ب سمت ر سول ال ووج هه المن ير الكر يم الذي
يكون عليه أهل الصدق والخلق الكريمة ،استدل بذلك على صدقه فيما يدعو إليه صلى ال
عليه وسلم.
355
الصل الول للسيرة الحسنة
-763الصل الول هو حسن الخلق وقد تكلمنا في فصل سابق عن نظام الخلق كما تكلمنا
عن أخلق الداعي فل نعيدهما هنا وإنما نحيل عليهما وما ذكرناه هناك يقال هنا في تجلية هذا
الصـل .ونحـب أن نكرر ونذكـر هنـا بخلق الصـبر والعفـو فان الداعـي ل بـد أن يكون حليما
صـبورا على الذى لنـه ل بـد أن يحصـل له أذى أومضايقات فان لم يحلم ويصـبر كان كمـا
يقول ابن تيمية "ما يفسد أكثر مما يصلح" ولهذا قال تعالى{ :خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض
عن الجاهل ين} {وأ مر بالمعروف وا نه عن المن كر وا صبر على ما أ صابك إن ذلك من عزم
المور} ولهذا أمر ال الرسل – وهم أئمة المرين بالمعروف والناهين عن المنكر – بالصبر
قال تعالى{ :فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} بل إن الصبر مقرون بتبليغ الرسالة مما
يدل على أهميتـه ولزو مه للداعـي الى ال تعالى فان أول ما أنزل على نبينـا محمـد صـلى ال
عليه وسلم بعد أن بلغ الرسالة سورة {يا أيها المدثر} وفيها {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر
وثيا بك فط هر والر جز فاه جر ول تم نن ت ستكثر ولر بك فا صبر} سورة المد ثر اليات7-1 :
فافتتـح آيات الرسـال الى الخلق بالمـر بالنذارة وختمهـا بالمـر بالصـبر ونفـس النذار أمـر
بالمعروف ونهي عن المنكر فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر[.]14
والحقيقة أن الداعي بسماحته وعفوه وإعراضه عن الجاهلين وصبره على أذاهم ينال منهم مال
يناله بدون هذه الصفات بل أقول ل بد أن تحملهم هذه الصفات العالية الى قبول الحق ولو بعد
حين إل من سبق عليه الكتاب ول حول ول قوة إل بال.
356
[ ]3تيسير الوصول ج 3ص .317
[ ]4رياض الصالحين ص :274والثرثار هو كثير الكلم تكلفا ،والمتشدق المتطاول على
الناس بكلمه ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلمه .المتفيهق هو الذي يمل فمه بالكلم
ويتوسع فيه ويغرب به تكبرا وارتفاعا واظهارا للفضيلة على غيره.
[ ]5سيرة ابن هشام ج 2ص .33
[ ]6رياض الصالحين ص .297
[ ]7رياض الصالحين ص .297ويتخولنا معناها يتعهدنا.
[ ]8رياض الصالحين ص .298-297
[ ]9مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .128
[ ]10مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .126-125
[ ]11فتاوى ابن تيمية ج 28ص .131
[ ]12سيرة عمر بن عبد العزيز ،تأليف عبد ال بن الحكم ص .60
[ ]13إمتاع السماع ص .14 – 3
[ ]14مجموع فتاوى ابن تيمية ج 28ص .137-136
الخاتمة
-733هذا ما ي سره ال تعالى في بيان أ صول الدعوة الى ال تبارك وتعالى فان كان صوابا
فهو محض فضل ال عل يّ ،وان كان فيه خطأ أو زلل فاستغفر ال تعالى وال ورسوله بريئان
منه ،فإني ،كما قال ربنا تبارك وتعالى على لسان أحد أنبيائه الكرام {إن أريد إل الصلح ما
استطعت وما توفيقي إل بال عليه توكلت وإليه أنيب} وأخيرا ،فإني أسأل ال تعالى ،وهو خير
م سؤول ،أن ين فع بهذه الف صول كاتب ها وقارئ ها ،وأن يجعل نا من الذ ين قال ال تعالى في هم {إن
الذيـن آمنوا وعملوا الصـالحات يهديهـم ربهـم بايمانهـم ،تجري مـن تحتهـم النهار فـي جنات
النعيم ،دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلم وآخر دعواهم أن الحمد ل رب العالمين}
سـورة يونـس اليـة .10-9 :وال المسـتعان ول حول ول قوة إل بال وصـلى ال على سـيدنا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد ل رب العالمين.
الفهرست
الفهرست
357
تمهيد ومنهج البحث
فقرة -1تمهيد -2 ،منهج البحث
الباب الول
موضوع الدعوة
فقرة -3تمهيد ،تقسيم الباب الى خمسة فصول
الفصل الول
-4تعر يف ال سلم – التعر يف الول -5التعر يف الثا ني -6المع نى الخاص لل سلم -7
التعريـف الثالث -8التعريـف الرابـع -9التعريـف الخامـس -12 -10تفصـيل التعريـف
الخامـس -13التعريـف السـادس -14تعاريـف أخرى للسـلم -15ل تناقـض ول اختلف
-16المقصود من تعدد التعاريف -17التعريف المختار.
الفصل الثاني
أركان السلم
-18تمهيد :تعداد الركان وتقسيم الفصل إلى ثلثة مباحث.
المبحث الول
الركن الول
شهادة أن ل إله إل ال
-19معنـى الشهادة -20معنـى الله -21معنـى كلمـة التوحيـد -22توحيـد اللوهيـة -23
أساس العبادة -24زيادة معاني العبودية -25متى يتحرر العبد العبودية لغير ال 25مكرر
– توح يد الربوب ية -26دلئل توح يد الربوب ية -27القرآن يقرر توح يد الربوب ية في النفوس
-28توح يد الربوب ية ي ستلزم توح يد اللوه ية -29العلوم الحدي ثة وعقيدة التوح يد -30مكا نة
التوحيد في السلم.
المبحث الثاني
الركن الثاني
شهادة أن محمدا رسول ال
رسـل ال كثيرون -33تـبرير إرسـال الرسـل -34ختـم -31معنى هذه الشهادة -32
الرسالت -35أدلة نبوة محمد صلى ال عليه وسلم -36دليل العجاز -37تحدي القرآن
358
للمخالف ين -38تح قق شروط تحدي القرآن للمخالف ين -39التحدي ودلل ته -40ا ستمرار
التحدي ودللته -41انكار نبوة محمد صلى ال عليه وسلم تنقيص لعقل النسان -42اثبات
نبوة محمد صلى ال عليه وسلم اثبات لسائر النبوات -44 -43مقتضى اليمان بنبوة محمد
صلى ال عليه وسلم ولوازمه -45واجبنا نحو الرسول صلى ال عليه وسلم -46التحرز من
خلط ما ل بما للرسول من حق.
المبحث الثالث
الركن الثالث
العمل الصالح
-47ماهية العمل الصالح -48مكانة العمل الصالح في السلم -49اعتناق السلم شرط
لقبول العمـل -50البتداع مرفوض فـي السـلم -51تنوع العمال الصـالحة -52أهميـة
العبادات فـي السـلم -53أهميـة الصـلة -54الدلئل على أهم ية ال صلة من القرآن -55
الدلئل من ال سنة -56أ سرار ال صلة -57بق ية العبادات -58أي العمال ال صالحة أف ضل
-59أثر العبادات في صلح الفرد والمجتمع.
الفصل الثالث
خصائص السلم
-60تمهيد :تعداد هذه الخصائص ،وتقسيم الفصل إلى خمسة مباحث.
المبحث الول
الخصيصة الولى
أنه من عند ال
-61م صادر ال سلم -62الدلئل على أن ال سلم من ع ند ال -63القرآن وا جب التباع
-64ال سنة واج بة التباع -65ما يتر تب على كون ال سلم من ع ند ال :كماله وخلوه من
النقائص -66احترامه من قبل المؤمنين.
المبحث الثاني
الخصيصة الثانية
الشمول
-67السلم نظام شامل لجميع شؤون الحياة -68أنواع أحكام السلم بالن سبة لما تتعلق به
-71 -69مقارنة بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية.
359
المبحث الثالث
الخصيصة الثالثة
العموم
-72السلم عام للبشر جميعا -74-73لماذا كانت الشريعة السلمية خاتمة الشرائع؟ -75
-84الدليـل الول :مكانـة المصـلحة فـي الشريعـة -99 -85الدليـل الثانـي :مبادئ الشريعـة
وطبيعـة أحكامهـا ،القواعـد والمبادئ العامـة ،الحكام التفصـيلية -101 -100الدليـل الثالث:
مصادر الحكام.
المبحث الرابع
الخصيصة الرابعة
الجزاء في السلم
-102أحكام السلم ليست نصائح وإرشادات – الجزاء في السلم الصل فيه أنه أخروي –
نطاق الجزاء وا سع وشا مل – الجزاء في الدن يا ل يم نع الجزاء في الخرة – ما يتر تب على
الجزاء من خضوع المسلم لحكام الشريعة.
المبحث الخامس
الخصيصة الخامسة
المثالية والواقعية
-103تمهيد وتقسيم المبحث إلى مطلبين.
المطلب الول
المثالية
-104المقصـود بالمثاليـة :العتدال والشمول -105أولً :العتدال ،المقصـود بـه -106
العتدال مطلوب في العبادات -107تعذيب الجسد وتحميله ما ل يطيق وحرمانه من الطيبات
ليس من السلم -108يسوغ أو يندب أو يجب أخذ المسلم نفسه بالشدة -109ثانيا :الشمول
ومعناه.
المطلب الثاني
الواقعية
360
-111 -110تتجلى الواقعيـة فـي السـلم بوضعـه مسـتويين للكمال ،أعلى وأدنـى .وبإيجاد
المخارج المشرو عة للم سلم في أوقات الشدة والض يق -112المثال ية والواقع ية تتيحان للم سلم
تحقيق الكمال المقدور له بيسر واعتدال.
الفصل الرابع
أنظمة السلم
-114تمهيد وتقسيم الفصل الى ثمانية مباحث.
المبحث الول
نظام الخلق في السلم
-115تعريـف الخلق -117 -116أهميـة الخلق -118مكانـة الخلق فـي السـلم
-119خصـائص نظام الخلق فـي السـلم -121 -120الخصـيصة الولى :التعميـم
والتف صيل في الخلق -122أمثلة من القرآن الكر يم على تف صيل الخلق -123أمثلة من
السـنة النبويـة على تفصـيل الخلق -124الخصـيصة الثانيـة :شمول الخلق لجميـع أفعال
النسـان الخاصـة بنفسـه أو المتعلقـة بغيره سـواء أكان الغيـر فردا أو جماعـة أو دولة -125
الخ صيصة الثال ثة :لزوم ها في الو سائل والغايات -126الخ صيصة الراب عة :صلة الخلق
باليمان وتقوى ال -127الخصيصة الخامسة :الجزاء ،وقد يكون في الدنيا -128هل يمكن
اكتساب الخلق؟ -129كيف يتحقق تقويم الخلق أو اكتسابها؟ وسائل تقويمها.
المبحث الثاني
النظام الجتماعي في السلم
-134 -130تمه يد ويش مل :ضرورة المجت مع للن سان ،وضرورة النظام للمجت مع ،والنظام
يم كن أن يكون صالحا أو فا سدا ،وهذا ال صلح والف ساد ينع كس على أفراد المجت مع لذا ل بد
من التحري عن ال ساس ال صالح لبناء المجت مع الذي ي سره ل نا ال سلم ،وتق سيم المب حث إلى
مطلبين.
المطلب الول
أساس نظام المجتمع في السلم
-135أ ساس نظام المجت مع هو العقيدة ال سلمية -138 -136نتائج اتخاذ العقيدة ال سلمية
أساسا لنظام المجتمع (الرباط اليماني ،زوال العصبية ،التقوى ميزان التفاضل).
361
المطلب الثاني
خصائص النظام الجتماعي في السلم
-139خصـائص النظام الجتماعـي مشتقـة مـن أسـاسه أو قائمـة عليـه -140أولً :مراعاة
الخلق -141ثانيا :اللتزام بمعانـي العدالة -152 -142ثالثا :العنايـة بالسـرة (الزواج
واجراءاتـه ،حقوق الزوجـة وحقوق الزوج ،تعدد الزوجات والصـل فيـه الباحـة ،الطلق
والجراءات ال تي ت سبق الو صول إل يه من أ مر للم سلم بالمعاشرة بالمعروف ثم التأد يب عن
طريق الوعظ والنصح والهجر في المضجع والضرب ثم الطلق والكيفية التي يشترط ايقاعه
ب ها ،حقوق ال صغار في ال سرة ،حقوق البو ين على أولده ما ،التضا من ب ين أفراد ال سرة)
-153رابعا :تحد يد مر كز المرأة في المجت مع -154مر كز المرأة في المجت مع ق بل ال سلم
-155مر كز المرأة في المجت مع ال سلمي -156أولً :حقوق المرأة ( حق الحياة ،التكر يم،
الكسـب بالطرق المشروعـة ،المهـر والنفقـة ،الحضانـة ،تعلم العلوم النافعـة ،الحقوق السـياسية
ورأي نا في ذلك) -157ثانيا :واجبات المرأة -158ثالثا :الوظي فة ال تي اخت صت ب ها -159
رابعا :الداب التي تلتزم بها.
-162 -160الخصيصة الخامسة :تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع وواجب الفرد في
اصـلح المجتمـع والدلة على ذلك مـن القرآن الكريـم والسـنة النبو ية -164تعليـل مسـؤولية
الفرد عن اصـلح المجت مع -164أولً :الفرد يتأثـر بالمجتمـع -165ثانيا :ضرورة قيام
المجتمع الصالح -168 -166النجاة من العقاب الجماعي والدلة على ذلك من الكتاب والسنة
-169ميزان صلح المجتمع وفساده.
المبحث الثالث
نظام الفتاء
-170تمه يد -171وا جب العلماء تعل يم الناس ما يحتاجو نه من أمور دين هم -172وا جب
الجاهل أن يسأل العلماء عن أمور دينه -173سؤال الجاهل وجواب العالم يكون نظام الفتاء
-174الفتاء في اللغة -175الفتاء في الصطلح -176منهج البحث وتقسيم المبحث إلى
أربعة مطالب.
المطلب الول
المستفتي
-177من هو المستفتي -179 -178الصنف الول :المحرم عليه الستفتاء -181 -180
الصنف الثاني :من يجب عليهم الستفتاء -184 -182من يجوز لهم الستفتاء وأقوال العلماء
362
في ذلك -186 -185على المستفتي أن يسأل الصالح للفتاء ،وأن يرحل الى حيث يجد من
يفتيه -187استفتاء الصلح وقولي العلماء في ذلك -188الراجح من القولين -189من هو
الصلح وقولي العلماء في ذلك -190الراجح استفتاء الورع -191استفتاء المستفتي لكثر
من واحد وأقوال العلماء في ذلك -192الراجح في ذلك :التفصيل -194 -193هل تجوز
إعادة الستفتاء وما نرجحه في ذلك -195كيفية الستفتاء أو صيغته -197 -196الستفتاء
بموجب مذهب معين وأقوال العلماء في ذلك -198القول الراجح في هذه المسألة -199هل
للمستفتي مطالبة مفتيه بالدليل؟ والقوال في ذلك -200أدب المستفتي مع المفتي.
المطلب الثاني
المفتي
-201شروط المفتـي -202الشرط الول :السـلم -203الشرط الثانـي :البلوغ والعقـل
-204الشرط الثالث :العدالة -205الشرط الرابـع :الجتهاد -206أقسـام المجتهديـن -207
المجت هد المطلق -208المجت هد في مذ هب مع ين والحالت في ذلك -209المجت هد في نوع
من العلم -210المجتهد في مسألة أو مسائل معينة -211الخلصة والترجيح -212شروط
أخرى مثـل :اليقظـة وجودة الذهـن والمعرفـة بالناس ومكرهـم وخداعهـم ،وأن يكون على قدر
كبير من الزهد والورع -213وجوب وجود المفتي وحرمة السكن في مكان ل يوجد فيه من
يبين أحكام الد ين -214ي جب الع مل على ايجاد المفت ين على جما عة الم سلمين -215على
ولي المر المسلم واجب القيام بتهيئة الوسائل الضرورية لذلك -216لولي المر منع المفتي
الما جن والجا هل من الفتاء -217يجوز للمف تي أن يأ خذ كفاي ته من ب يت المال -218هل
يضمن المفتي بفتواه؟ -223 -219واجبات المفتي وآدابه.
المطلب الثالث
الفتاء
-224تعريفه -225أول من قام به -226الفتاء بعد النبي صلى ال عليه وسلم -227من
له حق الفتاء -228العامي إذا عرف حكم مسألة فهل له أن يفتي من سأله عنها؟ -229هل
يفتي العامي بما يجده في كتب الحديث؟ -230هل يشترط إذن المام للقيام بالفتاء؟ -231
التصدي للفتاء -232خلوص النية والقصد عند الفتاء -233على من يجب الفتاء؟ -234
على من يحرم الفتاء؟ -235على من يكره الفتاء؟ الفتاء بالن سبة للقا ضي وأقوال الفقهاء
في ذلك -236الراجح من هذه القوال -238 -237تهيب السلف الصالح من الفتاء ووجود
الجرأة على الفتاء أيضا في السلف الصالح والتوفيق بين المرين -239الحالت التي يجوز
363
في ها المتناع عن الفتاء -240جواز أ خذ الجرة على الفتاء -241جواز الفتاء ل من ل
تقبل شهادته للمفتي.
المطلب الرابع
الفتوى
-242تعريف الفتوى -245 -243الساس الذي يجب أن تقوم عليه الفتوى -248 -246
تعلق الفتوى بموضوع السـتفتاء وجواز الزيادة فيهـا على موضوعهـا -249وضوح الفتوى
-252 -250اليجاز والطالة في الفتوى -253جواز ذكر دليل الفتوى -254جواز تغير
الفتوى بتغ ير المكان والزمان إذا كان الح كم الشر عي مبنيا على العرف وتغيره -255جواز
التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة ،كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد فيها
-258 -256ما يراعي في كتابة الفتوى أوالنطق بها -259العمل بالفتوى -260الفرق بين
الفتوى والحكم.
المبحث الرابع
نظام الحسبة
-261تمهيد -262منهج البحث وتقسيم المبحث الى خمسة مطالب:
المطلب الول
التعريف بالحسبة ومشروعيتها
ومكانتها في السلم
-263معنا ها في الل غة -264معنا ها في ال صطلح -266 -265دل يل مشروعيت ها من
الكتاب والسـنة -267مدى مشروعيتهـا -268مكانـة الحسـبة فـي السـلم -269حكمـة
مشروعيتها -270أركان الحسبة.
المطلب الثاني
المحتسب
-271من هو المحتسب -272الفرق بين المحتسب والمتطوع -273رأينا في هذه الفروق
-274ول ية المحت سب -275مق صود هذه الول ية -277 -276ول ية المحت سب وول ية
القاضـي ،أوجـه التفاق وأوجـه الختلف -288 -278شروط المحتسـب المتفـق عليهـا
والمختلف فيها وما نرى في ذلك -292 -289آداب المحتسب.
364
المطلب الثالث
المحتسب عليه
-293التعريف به وبشرطه -299 -294أنواع المحسب عليهم :القارب ،غير المسلمين،
المراء ،القضاة ،أصحاب المهن المختلفة.
المطلب الرابع
موضوع الحسبة
-300المن كر هو موضوع الح سبة -301المق صد بالمن كر -303 -302من يملك إعطاء
وصف المنكر؟ -304شروط المنكر -305أن يكون ظاهرا -306أن يكون قائما في الحال
-307عدم الخلف ف يه -308ات ساع موضوع الح سبة -313 -309أمثلة على ات ساع
ل في العتقادات ،ثانيا في العبادات ،ثالثا في المعاملت ،رابعا فيما يتعلق
موضوع الحسبة :أو ً
بالطرق والدروب ،خامسـا فيمـا يتعلق بالحرف والصـناعات ،سـادسا فيمـا يتعلق بالخلق
والفضيلة.
المطلب الخامس
الحتساب
-314مع نى الحت ساب -315ما ي تم به الحت ساب -316مرا تب الحت ساب -317ف قه
الحتساب -318القاعدة الولى :النكار القلبي -320 -319القاعدة الثانية :تحصيل مصلحة
أو دفع مفسدة ،وما ينبني عليها من عدم جواز الخروج على السلطان بالقوة ان ظهر منه شيء
من الفسوق -322 -321القاعدة الثالثة :الخذ بالرفق ما أمكن ،وجواز الستعاضة عن ذلك
ع ند الضرورة -323م تى ي جب الحت ساب -325 -324هل يشترط النتفاع بالحت ساب
لوجو به؟ والرأي الرا جح في ذلك -326م تى ي ستحب الحت ساب -328 -327م تى يحرم
الحت ساب -329الشرط في مباشرة الحت ساب ،في ال حق الخاص :ظهور المن كر ويتح قق
بالعلم .في الحق العام :المشاهدة والعلم الشخصي -330الحتساب في الوقت الحاضر.
المبحث الخامس
نظام الحكم
-331تمه يد -332المق صود بنظام الح كم -333هل يو جد نظام ح كم في ال سلم؟ -334
مقومات نظام الحكم في السلم ،وتقسيم المبحث إلى أربعة مطالب.
المطلب الول
365
الخليفة
-335تعريف الخليفة -336أدلة وجوب نصب المام من القرآن والسنة والجماع والمعقول
-337مـن يملك حـق انتخاب الخليفـة؟ -338أسـاس حـق المـة فـي انتخاب الخليفـة -339
المر كز القانو ني للخلي فة -340ك يف تختار ال مة الخلي فة؟ -341أ هل الع قد وال حل -342
معرفة أهل العقد والحل في الوقت الحاضر -343ولية العهد وهل يصبح ولي العهد خليفة
بهـا أم باختيار المـة؟ -344شروط الخليفـة :السـلم والذكورة والعلم بالحكام الشرعيـة
والعدالة والقرشية وما دار حول هذا الشرط من نقاش والرأي في ذلك -345عزل الخليفة ول
بد من وجود المبرر الشرعي وهو خروجه عن مقتضى وكالته عن المة خروجا يبرر عزله
-346تنفيذ العزل شريطة عدم ترتب مفسدة أعظم على العزل.
المطلب الثاني
الشورى
-347أدلة وجوب ها من الكتاب وال سنة الفعل ية -348ترك المشاورة مو جب لعزل رئ يس
الدولة -349تعليل أهمية المشاورة -350في أي شيء تجري الشورى -351أهل الشورى
-352الخلف بين رئيس الدولة وأهل الشورى -353الخذ برأي رئيس الدولة إذا لم يظهر
الرأي الش به بكتاب ال و سنة ر سوله صلى ال عل يه و سلم -354أدلة ال خذ برأي رئ يس
الدولة وإن خالف رأي الكثرية -355اعتراضات ودفعها -356حق الفراد في إبداء آرائهم
-357حدود حرية الرأي -358تنظيم الشورى في الوقت الحاضر.
المطلب الثالث
الخضوع لسلطان السلم
-359تمه يد -360سلطان ال مة مق يد غ ير مطلق -361سلطان الخلي فة مق يد غ ير مطلق
-362ما يترتب على تقييد سلطان المة والخليفة -363الجدية والمساواة في تنفيذ شرع ال
-364الدولة السلمية دولة قانونية -365الحكم الحقيقي فيها ل.
المطلب الرابع
مقاصد الحكم في السلم
-366الحكم وسيلة ل غاية -367مقاصد الحكم -371 -368المقصد الول :حراسة الدين:
حف ظه وتنفيذه -372المق صد الثا ني :سياسة الدن يا به -375 -373إقا مة العدل ب ين الناس
366
ووا جب الخلي فة سلوك ال سبل المحق قة لذلك -376إشا عة ال من وال ستقرار -377تهيئة ما
يحتاجه الناس -378استثمار خيرات البلد.
المبحث السادس
النظام القتصادي
-381 -379تمهيد ويشمل تنظيم السلم لنشاط النسان القتصادي وإقامته ذلك على أساس
من العقيدة السلمية وتقسيم المبحث إلى ثلثة مطالب.
المطلب الول
الفرع الول
الساس الفكري للنظام القتصادي السلمي
-382العقيدة ال سلمية هي ال ساس الفكري للنظام القت صادي ال سلمي -389 -383من
معاني العقيدة السلمية ولوازمها التي لها علقة في موضوع النظام القتصادي.
الفرع الثاني
خصائص النظام القتصادي السلمية
ـي الخلق -393
ـة -392مراعاة معانـ
ـد -391أولً :مراعاة الفطرة البشريـ
-390تمهيـ
التأكيد على سد حاجات الفراد والوسائل التي قررها السلم لتحقيق ذلك -400 -394حث
ال سلم على الع مل والك سب ،على الدولة تهيئة سبل العمل للقادر ين عل يه ،على أفراد ال سرة
النفاق على الفرد إذا عجـز ،فاذا لم يجـد أنفـق عليـه مـن الزكاة ،فاذا لم تـف أنفـق عليـه مـن
الموارد الخرى لبيـت المال ،فاذا لم يكـن وجـب على الغنياء ،ويجوز لولي المـر فرض
الضرائب العادلة بقدر الحاجة.
المطلب الثاني
المبادئ العامة في النظام القتصادي السلمي
-401تمهيد ويشمل ذكر أهم هذه المبادئ ،وتقسيم المطلب إلى ثلثة فروع.
الفرع الول
حرية العمل
-402الحـث على العمـل ومباركـة العامـل على جهده وكسـبه الحلل -403جعـل السـلم
المع ين خيرا من المعان ،والع مل و سيلة للح صول على ثواب ال -404اختيار الع مل متروك
367
للفرد مع جواز تد خل الدولة لل حد من الحر ية القت صادية إذا أضرت بالمجموع -405اقرار
المناف سة الحرة في إطار الخلق ال سلمية -406التفاوت في الرباح و في ثمرات العمال
نظرا لختلف المواهب والكفاءات.
الفرع الثاني
حق الملكية الفردية
-407إقرار ال سلم حق الملك ية الفرد ية والدلة الشرع ية على ذلك -408ل تفر قه في هذا
ال حق ب ين مال ومال -409ال حث على عدم الم ساس بملك الغ ير -410 .حق الملك ية غ ير
مطلق بل هو مقيد -411اشتراط السلم ليعترف بهذا الحق بأن ينشأ عن سبب شرعي مع
ذكـر السـباب الشرعيـة للتملك -412تحديـد السـلم وسـائل تنميـة المال وتثميره ،كمـا بيـن
الحقوق في هذا المال وواجب أدائها -413ضرورة العتدال في النفاق وعلى المباحات فقط
-414جواز نزع الملكية الخاصة عند الضرورة مع التعويض العادل على صاحب الملك.
الفرع الثالث
حق الرث
-417 -415إقرار ال سلم حق الرث على أ ساس من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك
-418مبدأ الرث يد فع إلى المز يد من بذل النشاط ويح قق الضمان الجتما عي دا خل ال سرة
-419الميراث يفتت الثروات ويمنع تكدسها -420مبدأ الرث في السلم روعي فيه القرابة
والحاجة.
المطلب الثالث
بيت المال :موارده ومصارفه
الفرع الول :موارد بيت المال
-422 -421تمهيد ويتضمن تنظيم عمر بن الخطاب رضي ال عنه لجباية الموال وانفاقها،
وبيان موارد بيـت المال -433 -423الزكاة وأدلة وجوبهـا وأنصـبتها حسـب الموال
والحيوانات والزروع والمعادن وعروض التجارة والذهـب والفضـة -437 -434الجزيـة:
تعريفهـا وأدلة ثبوتهـا وشروط وجوبهـا ومقدارهـا وسـقوطها -441 -438الخراج ،تعريفـه
ونوعيه وما ينظر إليه عند تقديره ،وما يعمل بالرض إذا عجز صاحبها عن استغللها -442
-443العشور تعريف ها وشروط وجوب ها -447 -444الغنائم ،تعريف ها وأ صنافها وآراء
368
الفقهاء في ق سمة هذه ال صناف -448الف يء ،تعري فه و سبب ت سميته ودليله الشر عي -449
الموارد الخرى لبيت المال.
الفرع الثاني
مصارف بيت المال
-450أولً :الزكاة وت صرف للنواع التي حددت ها ال ية الكري مة -451ثانيا :زكاة المعادن
وخ مس الركاز ،وت صرف في م صرف الزكاة -452ثالثا :الغني مة وي صرف خم سها لب يت
المال ويع طي للنواع ال تي ذكرت ها آ ية النفال -453رابعا :الف يء ويق سم ح سب آ ية سورة
الحشر ،وأن عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء ويقدم ذو الحاجات على غيرهم.
المبحث السابع
نظام الجهاد
-454الجهاد لغـة وشرعا -455أنواع الجهاد باللسـان والمال والنفـس -456الجهاد بالنفـس
فرض كفا ية في الحوال العاد ية ،وي صير فرض ع ين إذا اح تل الكفار بلدا من بلد الم سلمين
-457وجوب اعداد القوة اللزمـة ماديـة كانـت أو معنويـة -458ضرورة الجهاد لبقاء أمـة
المسـلمين -459المرابطـة أفضـل مـن المجاورة -460ترك الجهاد سـبب للمذلة والهوان
-461الجهاد هل هو دفا عي أم هجومي؟ مع ذكر أهم أسبابه في السلم -462البدء بقتال
المشركين لمصلحة عمومهم -463المسلم في جهاد دائم.
المبحث الثامن
نظام الجريمة والعقوبة
-464تمهيـد ويتضمـن بيان عالميـة القانون الجزائي السـلمي وإرادة الشارع تطـبيقه على
الناس كافـة وبشكـل خاص فـي دار السـلم مـع اختلفات يسـيرة للفقهاء حول بعـض الحكام
وهل تطبق على الذمي والمستأمن أم ل؟
الفرع الول
الجريمة
-465تعر يف الجري مة والمور التي ي جب أن تتو فر فيها لعتبار ها جري مة في ال صطلح
الفقهـي -466أسـاس اعتبار الفعـل أو الترك جريمـة هـو مـا فيـه مـن ضرر محقـق للفرد
-468جرائم الحدود وللجما عة -467أنواع الجرائم وتق سيم الفقهاء ل ها إلى ثل ثة أنواع
-469جرائم القصاص -470جرائم التعزير.
369
الفرع الثاني
العقوبة
-471تمه يد :ال صل في الجزاء هو جزاء الخرة ،ل كن مقتضيات الحياة وضرورة تنظ يم
المجتمـع دعـت الى أن يكون مـع الجزاء الخروي جزاء دنيويا ،والعقاب الدنيوي ل يمنـع
-473 الخروي إل إذا اقترن بالتو بة الن صوح -472تشر يع العقاب من رح مة ال بعباده
وجوب الحزم في إقامة العقوبات الشرعية -474وجوب المساواة في إقامة العقوبات الشرعية
-476أنواع العقو بة وحر مة تعطيل ها -475ابتناء العقوبات الشرع ية على العدل والردع
-477الحدود -478عقوبة الزنى -479عقوبة اللواط -480القذف -481اللعان -482
عقوبة الخمر -483عقوبة السرقة -484عقوبة قطع الطريق -485عقوبة المرتد -486
عقو بة الب غي -487الق صاص والديات -488الكفارة -489التعز ير -490الد ية -491
أنواع التعزير -492أكثر التعزير -493هل يجوز التعزير بالقتل؟ -494اعتراضات على
الحدود ودفعها -495رد قولهم :إن الجلد فيه إهدار لدمية الشخص -496رد دعواهم أن
هذه العقوبات تتض من التد خل في الحر ية الشخ صية -497رد دعوا هم ق سوة ب عض ب عض
العقوبات -498رد دعواهم أن عقوبة الردة تعد تدخلً في حرية العقيدة ومصادرة لها -499
العقوبة في جريمة القتل حق لولياء القتيل ،وللمجتمع حق في هذه العقوبة -500اعتراضهم
على تحميل الدية لغير الجاني وجوابه -501الخلصة في نظام الجريمة والعقوبة.
الفصل الخامس
مقاصد السلم
-502تحق يق م صالح العباد في العا جل وال جل -503أنواع م صالح العباد -504معيار
المصـلحة والمفسـدة -505عجـز النسـان عـن إدراك المصـلحة والمفسـدة -506مصـلحة
النسان الحقيقية في اتباع ما أنزل ال -507مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الخرة.
الباب الثاني
عدة الداعي
-508تمهيد ويتضمن تقسيم الباب الى ثلثة فصول.
الفصل الول
التعريف بالداعي
370
-509الداعي الول محمد صلى ال عليه وسلم -510الدعوة الى ال وظيفة رسل ال -511
المة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة الى ال -512من هو المكلف بالدعوة الى ال -513
ـة -514شبهات
ـورة جماعيـ
ـد تؤدي بصـ
ـة ،وقـ
ـورة فرديـ
ـد تؤدي بصـ
الدعوة الى ال قـ
واعتراضات -515بيان مع نى ال ية { :يا أيها الذ ين آمنوا عليكم أنف سكم ل يضر كم من ضل
إذا اهتديتـم} -516شبهـة انتشار الباطـل فـي الرض وعدم جدوى الدعوة الى ال ،وجوابهـا
-517شبهـة أخرى حول فهـم اليـة{ :ل يكلف ال نفسـا إل وسـعها} وجوابهـا -518تعليـل
تكل يف الم سلم بالدعوة الى ال -519الدعوة الى ال بقدر حال الدا عي وقدر ته -520الدا عي
يدعو الى ال في كل وقت ،وفي جميع أحواله وظروفه -521المطلوب من الداعي أن يدعو
الى ال ،ول يس المطلوب م نه أن ي ستجيب الناس -522ال ستمرار في الدعوة الى ال وإن لم
يستجب أحد -523أجر الداعي على ال ل على العباد -524مكانة الداعي في السلم.
الفصل الثاني
عدة الداعي
-525تمهيد ويتضمن تقسيم الفصل الى ثلثة مباحث.
المبحث الول
الفهم الدقيق
-526العلم قبل العمل -527فضل العلم -528الفهم الدقيق -529الفهم الدقيق يقوم على
تدبر معاني القرآن -530أركان الفهم الدقيق -531معرفة الداعي غايته في الحياة ومركزه
بين الناس -532التجافي عن دار الغرور والتعلق بالخرة.
المبحث الثاني
اليمان العميق
-533حقي قة اليمان العم يق -534ضرورة هذا اليمان للدا عي المسلم -535ثمرات هذا
اليمان ولوازمه -536المحبة -538 -537لوازم محبة العبد لربه -539الخوف -540
الرجاء.
المبحث الثالث
التصال الوثيق
-541معناه وآثاره -542حالة الداعي المسلم في توكله على ال -543استحضار الداعي
أن الخلق ل يملكون لنف سهم ول لغير هم نفعا ول ضرا -544ل يجوز للدا عي أن يحدد ل
371
وقتا لنزال نصره -545على الداعي أن يتيقن نصر ال له -546اتصال الداعي بربه يهون
عليه الصعاب.
الفصل الثالث
أخلق الداعي
-547أخلق الدا عي هي أخلق ال سلم -548ال صدق وحقيق ته -549ظهور أ ثر ال صدق
في وجه وصوت الداعي -550الصبر من فروض السلم -551معنى الصبر لغة وشرعا
-552ال صبر بال ول -553حا جة الن سان إلى ال صبر -554ال صبر أ شد ضرورة للم سلم
-555ضرورة الصـبر إلى المسـلم -556البتلء ل بـد منـه -557ابتلء الدعاة إلى ال
-558ا ستدعاء البلء ودف عه -559خل صة القول في ا ستدعاء البلء ودف عه -560الرح مة
-561الرح مة من أخلق الم صطفى وأم ته -562ضرورة الرح مة للدا عي -563الرح مة
تهون على الدا عي ما يلقاه من الجهلء -564الرح مة تث مر الع فو وال صفح -565الفظا ظة
تؤدي الى انفضاض الناس -566الت كبر حما قة وج هل -567جزاء المت كبرين -568الن هي
عن الكبر -569حقيقة الكبر -570سبب الكبر -571علج الكبر -572التواضع -573
حا جة الدا عي الى التوا ضع -574من التوا ضع طا عة من أ مر الشرع بطاع ته -575أيه ما
أف ضل المخال طة أم العزلة؟ -576المخال طة ل بد من ها -577المخال طة واج بة على الدا عي
-578حدود المخالطـة الواجبـة -579الحـب فـي ال والبغـض فـي ال -580المختارون
لصحبة الداعي -582 -581سلوك الداعي مع من يصاحب ومن ل يصاحب -585 -583
عزلة الداعي وأنواعها.
الباب الثالث
المدعو
-586تمهيد ويتضمن تقسيم الباب إلى فصلين.
الفصل الول
التعريف بالمدعو وماله وما عليه
-587من هو المد عو -588الدعوة الى ال عا مة إلى جم يع الب شر -589حقوق المد عو
-590لماذا كان المدعو يؤتى ويدعى -591على الداعي المسلم القتداء برسول ال صلى
ال عليه وسلم -592ل يستهان بأي انسان -594 -593واجبات المدعو.
الفصل الثاني
372
أصناف المدعوين
-595تمه يد ويتض من تق سيم المدعو ين إلى أرب عة أ صناف ،وإفراد كل صنف بمب حث على
حدة.
المبحث الول
المل
-596تعريف المل -597المل والدعوة الى ال -598أسباب عداوة المل للدعوة الى ال
-599أولً :الكبر -600اليات الدالة على ذلك -601ثانيا :حب الرئاسة والجاه واليات
-603المل هم المل في كل الدالة على ذلك -602ثالثا :الجهالة واليات الدالة على ذلك
مكان وزمان.
المبحث الثاني
جمهور الناس
-604تعريف جمهور الناس -605الجمهور أسرع من غيرهم إلى الستجابة -606تعليل
سرعة استجابة الجمهور للحق -607احتمال تأثر الجمهور بالمل -608لماذا يتأثر الجمهور
بالمل -609الخوف -610الغراء بالمال وحطام الدنيا -611الشبهات.
المبحث الثالث
المنافقون
-612تعريف المنافق -613أين يوجد المنافق -614أساس المنافق -615المنافق أسوأ من
-618 -617علمات المنافـق تعرف مـن الكتاب والسـنة الكافـر -616علمات النفاق
علمات المنا فق و صفاته أولً :مرض القلب -619ثانيا :الف ساد في الرض -620ثالثا:
رمي هم المؤمن ين بال سفه -621رابعا :اللدد في الخ صومة -622خام سا :موالة الكافر ين
-624سـابعا :التحاكـم إلى والتربـص بالمسـلمين -623سـادسا :الخداع والرياء والتكاسـل
الطاغوت -625ثامنا :الف ساد ب ين المؤمن ين -626تا سعا :الكذب والخوف وكره الم سلمين
-627عاشرا :السخط لحظ النفس -628حادي عشر :المر بالمنكر والنهي عن المعروف
-629ثاني عشر :الغدر وعدم الوفاء بالعهد -630ثالث عشر :عيبهم المؤمنين والسخرية
ب هم -631را بع ع شر :توا صيهم بترك الجهاد -632خا مس ع شر :الضرار بالمؤمن ين
وتسترهم بفعل ظاهره مشروع.
المبحث الرابع
373
العصاة
-633تعريفهم -634المسلم غير معصوم من المعصية -635أسباب العصيان -636جهاد
العاصي -637الوقاية من المعاصي -638موقف الداعي من العصاة.
الباب الرابع
أساليب الدعوة ووسائلها
-639تمهيد ويتضمن تقسيم الباب إلى ثلثة فصول.
الفصل الول
مصادر أساليب الدعوة ووسائلها
ومدى الحاجة إليها
-640تعداد الم صادر -641أولً :القرآن الكر يم -642ثانيا :ال سنة النبو ية -643ثالثا:
-645خامسـا :التجارب -646 سـيرة السـلف الصـالح -644رابعا :اسـتنباطات الفقهاء
ضرورة ال ستمساك بالن هج الصحيح في الو سائل وال ساليب -647نتائج الخروج عن الن هج
الصحيح -648صعوبة اللتزام بالنهج الصحيح -649تيسير اللتزام بالنهج الصحيح.
الفصل الثاني
أساليب الدعوة
-650تمهيد ويتضمن تقسيم الفصل إلى أربعة مباحث.
المبحث الول
الداء والدواء
-651تحد يد أ صل الداء والدواء -652أ صل داء الب شر وأ صل دوائ هم -653التأك يد على
معانـي العقيدة السـلمية -654اعتراض ودفعـه -655ابتعاد الداعـي عـن النهـج الصـحيح
-656الكليات ل الجزئيات.
المبحث الثاني
إزالة الشبهات
-657ماهية الشبهات -658مصدر الشبهات -659ل خلص من الشبهات ول تبديل فيها
-660أنواع الشبهات -661مو قف الدا عي من الشبهات -662أمثلة على شبهات أ هل
البا طل والرد علي ها ،أولً :الط عن بالدعاة -663ثانيا :الف ساد في الرض وطلب الرئا سة
374
-665رابعا :الدا عي ر جل مغمور -666 -664ثالثا :رمي هم الدعاة بالت صال المشبوه
خامسا :أتباع الداعي أناس مغمورون -667شبهات أهل الباطل يجمعها جامع الطعن بالداعي
والدعوة -668ابتعاد الدا عي عن الشبهات -669الدعاة بحا جة إلى البتعاد عن كث ير من
المباح حتى ل يكون مثارا للشبهة ضدهم.
المبحث الثالث
الترغيب والترهيب
-670معناه ما وأهميته ما -671بم يكون الترغ يب والتره يب -672ال صل فيه ما يكون
بالجزاء فـي الخرة ،ويجوز أن يكون بمـا يصـيب المدعويـن فـي الدنيـا -673مـن أسـاليب
الترغ يب والتره يب -674من لوازم الترغ يب والتره يب -675التحذ ير من الدن يا و من
إيثارها على الخرة.
المبحث الرابع
التربية والتعليم
-676ضرورة التعليم -677الدليل على ذلك من السنة النبوية -678حرص الرسول صلى
ال عليه وسلم على تعليم الناس -679التربية مع التعليم -680ضرورة التربية على معاني
السـلم -681مـن معالم التربيـة -682مـن وسـائل التربيـة :التصـال بكتاب ال -683
التصال بالسيرة النبوية الكريمة.
الفصل الثالث
وسائل الدعوة
-684تمهيد ويتضمن المقصود من الوسائل وتقسيم الفصل إلى مبحثين.
المبحث الول
الوسائل الخارجية للدعوة
-685أساسها وتقسيمها إلى ثلثة فروع.
الفرع الول
الحذر
-689 -688دل يل مشروع ية الحذر من -686معناه -687الحذر ممدوح غ ير مذموم
القرآن الكريم -692 -690دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية -693الحاجة إلى الحذر
375
-694الحذر والتوكل على ال -695أنواع الحذر -696الحذر من المعاصي -697الحذر
من ال هل والولد -698الحذر من اتباع الهوى -699الحذر من المنافق ين والكفار -700
وسائل الحذر -701البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة -702التخفي والستتار -703اعتزال
القوم والختفاء عنهم -704الخروج إلى المحل المين -705عدم إظهار المسلم إسلمه إذا
كان فيه تنكيل الكفرة به -706التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة -707إخفاء الداعي
قصده وتفاصيل ما يريد.
الفرع الثاني
الستعانة بالغير
-708الستعانة بأهل الخير والكفاءة -709الستعانة لغرض الحماية -710استعانة الداعي
بغ ير الم سلم -711جواز ال ستعانة بغ ير الم سلم لغرض حما ية الدا عي -712تعل يل جواز
الستعانة بغ ير المسلم -714 -713شروط قبول حما ية غير المسلم -715الستعانة بغ ير
المسلم في بعض المور -716ما يشترط لهذه الستعانة.
الفرع الثالث
النظام
-717أهمية النظام -718حاجة الداعي إلى النظام -719حاجة الجماعة إلى النظام -720
معالم النظام الجماعـي فـي الشريعـة السـلمية -721المقصـود مـن المارة -722ضرورة
الطاعة -723الطاعة والمشاورة -724يسع الفرد ما ل يسع الجماعة -725ليس كل مسلم
يصلح للعمل مع غيره -728 -726ما يجب على الرئيس من رفق وعطف وتشجيع لمن هم
تحت إمرته.
المبحث الثاني
وسائل تبليغ الدعوة
-729تمهيد ويتضمن تقسيم المبحث إلى ثلثة فروع.
الفرع الول:التبل يغ بالقول -730:أهم ية القول في التبل يغ -732 -731الضوا بط العا مة في
القول -738 -733الضوا بط العا مة للقائل -739أنواع القول -740الخط بة -741الدرس
-742المحاضرة -743المناقشة والجدل -744المر بالمعروف والنهي عن المنكر -745
-749قواعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر (خمس قواعد) -750الكتابة.
376
الفرع الثا ني:التبل يغ بالع مل -751 :المق صود بالع مل -752ال صل في إزالة المن كر -753
القواعد العامة في إزالة المنكر -758 -754ما يضاف إلى القواعد العامة.
الفرع الثالث:التبل يغ بال سيرة الح سنة -761 -759 :أهم ية ال سيرة الح سنة وأثر ها في ك سب
النصـار للدعوة -762أصـول السـيرة الحسـنة -763الصـل الثانـي :موافقـة العمـل للقول
-765الخاتمة.
377