You are on page 1of 377

‫أصول الدعوة‬

‫الدكتور عبد الكريم زيدان‬

‫‪1‬‬
‫المقدمة‬

‫الحمد ل رب العالمين والصلة والسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد‪:‬‬
‫فهذه هي الطبعة الثالثة لكتابي "أصول الدعوة" وقد أضفت إليه "نظام الفتاء" و "نظام الحسبة"‬
‫وهما من أنظمة السلم المهمة‪ ،‬وال تعالى أسأل أن يوفقني لخدمة السلم وإظهار معانيه‬
‫للناس وهو حسبي ونعم الوكيل‪.‬‬
‫الدكتور عبد الكريم زيدان‬
‫بغداد في ‪ 1‬رمضان ‪1395‬هـ‬
‫‪06/09/1975‬م‬

‫‪2‬‬
‫المقدمة‬

‫تمهيد ومنهج البحث‬

‫تمهيد‬
‫‪ -1‬نقصد بالدعوة‪ ،‬الدعوة إلى ال‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا‬
‫ومن اتبعني‪ .﴾..‬والمقصود بالدعوة إلى ال الدعوة إلى دينه وهو السلم ﴿إن الدين عند ال‬
‫السلم﴾ الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى‪ .‬فالسلم هو‬
‫موضوع الدعوة وحقيقتها‪ ،‬وهذا هو الصل الول للدعوة‪ .‬وقد بلغ الرسول الكريم صلى ال‬
‫عليه وسلم هذا السلم العظيم أحسن تبليغ وأكمله وظل يدعو إلى ال منذ أن أكرمه ال‬
‫بالرسالة إلى حين انتقاله إلى جوار ربه الكريم ولهذا أرسله ال تعالى‪﴿ :‬يا أيها النبي إنا‬
‫أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا‪ .‬وداعيا إلى ال بإذنه وسراجا منيرا﴾‪ .‬فهو صلى ال عليه‬
‫وسلم الداعي الول إلى السلم‪ .‬فالداعي إذن هو الصل الثاني للدعوة‪.‬‬
‫والذين دعاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى السلم وبلغهم رسالته هم العرب‬
‫وغيرهم لن رسالته عامة إلى جميع البشر غير مقصورة على العرب‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وما‬
‫أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا﴾‪ .‬فالمدعو إلى السلم إذن هو الصل الثالث للدعوة‪.‬‬
‫وقد قام رسول ال صلى ال عليه وسلم بالدعوة إلى السلم بالوسائل والساليب والمناهج التي‬
‫أوحى بها ال إليه والثابتة في القرآن والسنة النبوية الكريمة‪ .‬وهذه الوسائل والساليب وما‬
‫يتصل بها هي الصل الرابع للدعوة‪.‬‬
‫فأصول الدعوة إذن أربعة‪ :‬موضوعها‪ ،‬والداعي‪ ،‬والمدعو‪ ،‬والوسائل‪.‬‬
‫منهج البحث‬
‫‪ -2‬وبناء على ما تقدم سيكون منهجنا في البحث تقسيمه إلى أربعة أبواب‪ ،‬كل باب لصل‬
‫واحد من أصول الدعوة على النحو التالي مع خاتمة لهذه البواب‪:‬‬
‫الباب الول – موضوع الدعوة‪.‬‬
‫الباب الثاني – الداعي‪.‬‬
‫الباب الثالث – المدعو‪.‬‬
‫الباب الرابع – وسائل الدعوة وأساليبها‪.‬‬
‫الخاتمة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الباب الول‪ :‬موضوع الدعوة‬

‫تمهيد‬

‫‪ -1‬قلنا‪ :‬إن موضوع الدعوة هو السلم الذي أوحى ال تعالى به إلى رسوله محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم في القرآن والسنة المطهرة‪ .‬ونحن في كلمنا على السلم ل نريد التفصيل‬
‫والسهاب كما ل نريد اليجاز والختصار وإنما نريد أن نبين شيئا عنه يحتاج إليه المدعو ول‬
‫يسع الداعي جهله‪ ...‬وعلى هذا الساس ل بد من بيان تعريفه وأركانه وخصائصه وأنظمته‬
‫ومقاصده‪ .‬وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى خمسة فصول‪.‬‬
‫الفصل الول – تعريف السلم‪.‬‬
‫الفصل الثاني – أركانه‪.‬‬
‫الفصل الثالث – خصائصه‪.‬‬
‫الفصل الرابع – أنظمته‪.‬‬
‫الفصل الخامس – مقاصده‪.‬‬

‫الفصل الول ‪ -‬تعريف السلم‬

‫يمكن تعريف السلم بتعاريف كثيرة منها‪:‬‬

‫التعريف الول‬
‫‪ -1‬في حديث جبريل عليه السلم‪ ،‬حيث جاء بهيئة أعرابي‪ ،‬يسأل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ليسمع الحاضرون ويتعلموا أمور دينهم‪ ،‬جاء في هذا الحديث‪" :‬فأخبرني عن السلم"‬
‫فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬السلم أن تشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وتقيم‬
‫الصلة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيل"‪ .‬فالسلم هو ما‬
‫جاء في هذا الحديث وسيأتي شرحه فيما بعد‪.‬‬
‫التعريف الثاني‬
‫‪ -2‬السلم هو الخضوع والستسلم والنقياد ل رب العالمين‪ ،‬ويشترط فيه أن يكون‬
‫اختياريا ل قسريا‪ ،‬لن الخضوع القسري ل رب العالمين أي لسننه الكونية أمر عام بالنسبة‬
‫لجميع المخلوقات‪ ،‬ول ثواب فيه ول عقاب قال تعالى‪﴿ :‬أفغير دين ال يبغون وله أسلم من في‬
‫السموات والرض طوعا وكرها وإليه يرجعون﴾ [آل عمران‪ ]83 :‬فكل مخلوق خاضع ل‬
‫ولسنته في وجوده وبقائه وفنائه‪ ،‬والنسان كغيره من المخلوقات في هذا الخضوع القسري‪ .‬أما‬

‫‪4‬‬
‫الخضوع الختياري ل رب العالمين فهذا هو جوهر السلم المطالب به النسان وعليه يكون‬
‫الثواب والعقاب‪ ،‬ومظهره النقياد التام لشرع ال بتمام الرضى والقبول‪ ،‬وبل قيد ول شرط‬
‫ول تعقيب‪ ،‬ومن ثم كان السلم بهذا المعنى هو دين ال المرضي عنده‪ ،‬وأوحى به إلى رسله‬
‫الكرام وبلغوه إلى الناس‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إن الدين عند ال السلم﴾ [آل عمران‪﴿ ]19:‬ومن يبتغ‬
‫غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين﴾ [آل عمران‪﴿ ]85:‬ومن يسلم‬
‫وجهه إلى ال وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى ال عاقبة المور﴾ [لقمان‪:‬‬
‫ن إل وأنتم‬
‫‪﴿ ]22‬ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن ال اصطفى لكم الدين فل تموتُ ّ‬
‫مسلمون‪ .‬أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي‪ ،‬قالوا نعبد‬
‫إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون﴾ [البقرة‪,132 :‬‬
‫‪.]133‬‬
‫‪ -3‬ثم خص لفظ "السلم" بالدين الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه وبالنقياد‬
‫التام له بل قيد ول شرط‪ ،‬وبهذا النقياد يظهر خضوع النسان ل رب العالمين خضوعا‬
‫اختياريا وهو جوهر السلم كما قلنا‪ .‬وبهذا المعنى الخاص للسلم جاء قوله تعالى‪﴿ :‬اليوم‬
‫أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا﴾[المائدة‪ ]3:‬وعلى هذا يكون‬
‫تعريف السلم بمعناه الخاص وهو المطلوب عند اطلق هذا السم "السلم هو الخضوع‬
‫الختياري ل رب العالمين ومظهره النقياد لشرع ال الذي أوحاه إلى رسوله محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم وأمره بتبليغه إلى الناس"‪.‬‬

‫التعريف الثالث‬
‫‪ -4‬السلم هو النظام العام والقانون الشامل لمور الحياة ومناهج السلوك للنسان التي جاء‬
‫بها محمد صلى ال عليه وسلم من ربه وأمره بتبليغها إلى الناس‪ ،‬وما يترتب على اتباعها أو‬
‫مخالفتها من ثواب أوعقاب قال تعالى‪﴿ :‬ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في‬
‫الخرة من الخاسرين﴾ فالدين هنا يتضمن المعاني التي ذكرتها ويستلزم غيرها‪ ،‬وهي‬
‫بمجموعها تعني السلم الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من رب العالمين‪.‬‬

‫التعريف الرابع‬
‫‪ -5‬السلم هو مجموع ما أنزله ال تعالى على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم من أحكام‬
‫العقيدة والخلق والعبادات والمعاملت والخبارات في القرآن الكريم والسنة المطهرة‪ ،‬وقد‬
‫أمره ال بتبليغها إلى الناس قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‪ ،‬وإن لم‬

‫‪5‬‬
‫تفعل فما بلغت رسالته‪ ،‬وال يعصمك من الناس‪[﴾...‬المائدة‪ ]67 :‬وما أنزله ال عليه هو‬
‫القرآن والسنة وفيهما جميع الحكام التي ذكرناها‪ ،‬وهي دين ال‪ ،‬وهو السلم‪.‬‬

‫التعريف الخامس‬
‫‪ -6‬السلم هو الجوبة الصحيحة الحقة لثلثة اسئلة شغلت عقول البشر في القديم وفي‬
‫الحديث‪ ،‬وترد على فكر كل إنسان كلما خل بنفسه وسرح خواطره في أمور الحياة‪ ،‬أو شيع‬
‫ميتا أو شاهد قبورا‪ ...‬هذه السئلة هي‪:‬‬
‫من أين جئنا؟‬
‫ولماذا جئنا؟‬
‫وإلى أين المصير؟‬
‫والجوبة الصحيحة لهذه السئلة التي أخبر بها رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم تكون‬
‫بمجموعها وتفصيلتها السلم‪:‬‬
‫‪ -7‬فعن السؤال الول يقول ال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا‬
‫خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر‬
‫في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلً ثم لتبلغوا أشدّكم‪ ،‬ومنكم من يتوفى‬
‫ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيل يعلم من بعد علم شيئا‪[﴾...‬الحج‪﴿ .]5 :‬ولقد خلقنا‬
‫النسان من سللة من طين‪ .‬ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‪ .‬ثم خلقنا النطفة علقة‪ ،‬فخلقنا‬
‫العلقة مضغة‪ ،‬فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر‪ ،‬فتبارك ال‬
‫أحسن الخالقين﴾[المؤمنون‪﴿ .]14 ،13 ،12 :‬الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق النسان‬
‫من طين‪ .‬ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين‪ .‬ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم‬
‫السمع والبصار والفئدة قليلً ما تشكرون﴾[السجدة‪﴿ .]9 ،8 ،7:‬هل أتى على النسان حين‬
‫من الدهر لم يكن شيئا مذكورا‪ .‬إنّا خلقنا النسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا‬
‫بصيرا﴾[النسان‪﴿ .]2 ،1:‬فلينظر النسان مم خلق‪ .‬خلق من ماء دافق‪ .‬يخرج من بين الصلب‬
‫والترائب﴾[الطارق‪.]5 :‬‬
‫فهذه اليات الكريمة وأمثالها في القرآن الكريم تبين أن النسان لم يكن شيئا‪ ،‬كان معدوما‪،‬‬
‫فخلقه ال تعالى من تراب ثم جعل نسله من ماء مهين على النحو المذكور في هذه اليات‪،‬‬
‫فمن جهة خلق النسان الول وهو آدم عليه السلم كان خلقه من طين أو تراب ومن جهة‬
‫خلق نسله وذريته كان خلقه من ﴿نطفة من مني يمنى﴾[القيامة‪ ]37 :‬أي من الماء الدافق الذي‬
‫يخرج من بين الصلب والترائب‪.‬‬
‫وعن السؤال الثاني‪ :‬يقول ال تعالى في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫‪-8‬‬

‫‪6‬‬
‫﴿وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون﴾[الذاريات‪ ]56 :‬والعبادة تتضمن معرفة ال ومحبته‬
‫والخضوع له واتباع مناهجه التي وضعها للنسان لتكميل نفسه ورفعها إلى المستوى اللئق‬
‫بها والمستعدة له‪ ،‬ليظفر بالسعادة الحقيقية هنا وهناك في الدنيا والخرة‪ .‬فالنسان خلق لعبادة‬
‫ال بمعناها الواسع كما سنذكر فيما بعد‪.‬‬
‫وعن السؤال الثالث‪ :‬يقول ال تعالى في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫‪-9‬‬
‫﴿يا أيها النسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه﴾[النشقاق‪﴿ .]6 :‬وال يبدأ الخلق ثم يعيده‬
‫ثم إليه ترجعون﴾[الروم‪ ...﴿ .]11 :‬ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون‪[﴾..‬الزمر‪:‬‬
‫ن إلى ربك الرجعى﴾[العلق‪.]8 :‬‬
‫ن إلى ربك المنتهى﴾[النجم‪﴿ .]42 :‬إ ّ‬
‫‪﴿ .]7‬وإ ّ‬
‫فهذه اليات الكريمة تبين مصير النسان بعد موته وهو رجوعه إلى خالقه لمجازاته على‬
‫أعماله في الدنيا‪ ،‬وادخاله الدار التي تلئمه‪ ،‬فان كان قد زكى نفسه بعبادة ال وصار من‬
‫الطيبين فنزله في دار الطيبين – الجنة – وإن كان قد دنس نفسه ولوثها بأقذار المعصية وأبقى‬
‫خبثها فنزله في دار الخبيثين – جهنم ‪ ،-‬كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد‪.‬‬

‫التعريف السادس‬
‫‪ -10‬السلم هو الروح الحقيقية للنسان والنور الهادي له في درب الحياة والشفاء الكافي‬
‫الوافي لمراض البشرية والصراط المستقيم الذي ل يضل ن سلكه وسار فيه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول اليمان ولكن جعلناه نورا‬
‫نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط ال الذي له ما في‬
‫السموات وما في الرض‪ ،‬أل إلى ال تصير المور﴾[الشورى‪ .]52 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬وننزل‬
‫من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين﴾[السراء‪﴿ .]82 :‬قل هو للذين آمنوا هدى‬
‫وشفاء﴾[فصلت‪.]44 :‬‬
‫ومن الواضح ان هذا التعريف تعريف للسلم ببعض صفاته اللصقة به التي ل تنفك عنه‪،‬‬
‫وعلى هذا يمكن تعريفه بذكر أوصافه الخرى كأن نقول السلم هو دين الفطرة لقوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال‪ ،‬ذلك الدين‬
‫القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون﴾[الروم‪ .]30 :‬كما يمكن أن نقول في تعريفه‪ :‬السلم دين‬
‫التوحيد‪ ،‬أو دين العلم‪ ،‬أو دين العدل‪ ،‬لن فيه هذه المعاني على أتم الوجوه ويدعو إليها ويؤكد‬
‫عليها‪...‬‬

‫تعاريف اخرى للسلم‬

‫‪7‬‬
‫‪ -11‬ومما تجب ملحظته ان ما ذكرناه من تعاريف متنوعة للسلم إنما هو على سبيل‬
‫التمثيل ل الحصر إذ يمكن التيان بتعاريف اخرى بعبارات متنوعة ول مانع من ذلك بشرط‬
‫ان يكون مضمون التعريف صحيحا ومنطبقا على معنى السلم وان تكون الفاظ التعريف‬
‫واضحة صحيحة ل لبس فيها ول غموض ول اشتباه‪.‬‬

‫ل تناقض ول اختلف‬
‫‪ -12‬وملحظة ثانية‪ ،‬ان هذه التعاريف التي ذكرناها كلها صحيحة ول تناقض فيما بينها‬
‫ول اختلف لن كل واحد منها يستلزم أو يتضمن ما في التعريف الخر‪ .‬ان الختلف فيما‬
‫بينها هو اختلف في اللفاظ ل في المعاني التي يبرزها هذا التعريف دون ذلك‪ ،‬وهذا القدر‬
‫من الختلف ل يؤثر في وحدة مضمون التعاريف ودللتها على معنى السلم صراحة أو‬
‫بالتضمن والستلزام كما قلنا‪.‬‬

‫المقصود من تعدد التعاريف‬


‫‪ -13‬والغرض الذي نقصده من إيراد التعاريف المتعددة للسلم هو أن يجد الداعي بين‬
‫يديه جملة من التعاريف يستطيع أن يختار منها ما يناسب حال المدعو من جهة مدى فهمه‬
‫وثقافته وعلمه وسلمة فطرته ونوع الشبهات التي غشيت قلبه والمعاني التي هو بحاجة إلى‬
‫معرفتها عن السلم اكثر من غيرها‪ .‬فالشخص الحائر الذي قرأ ما يسمى بالفلسفة فاشتبهت‬
‫عنده المور يناسبه إذا سئل عن السلم أن يجاب بالتعريف الخامس وهو أن السلم هو‬
‫الجوبة الحقة الصحيحة لما يرد على ذهن النسان من أسئلة‪ :‬من أين جئنا‪ ،‬ولماذا جئنا‪ ،‬وإلى‬
‫أين المصير والتي بلغها رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم إلى الناس‪ .‬والمشتغل بالمور‬
‫القانونية والعلوم الجتماعية يناسبه عندما يسأل ما هو السلم‪ ،‬أن يجاب بالتعريف الثالث‪.‬‬
‫وغير المسلم إذا دعي إلى السلم وسئل عنه يجاب بالتعريف الول‪ :‬السلم أن تشهد أن ل‬
‫إله إل ال وأن محمدا رسول ال ‪ ....‬الخ‪.‬‬

‫التعريف المختار‬
‫‪ -14‬والتعريف الذي نختاره ونجعله أساسا لبيان أركان السلم هو التعريف الول الذي‬
‫ورد عن النبي صلى ال عليه وسلم في حديث جبريل‪ ،‬وقد ذكرناه سابقا‪ ،‬وهو يتضمن جميع‬
‫ما في التعاريف الخرى من معان‪.‬‬

‫الفصل الثاني ‪ -‬أركان السلم‬

‫‪8‬‬
‫تمهيد‬
‫‪ -1‬ذكرنا حديث جبريل وفيه جواب النبي صلى ال عليه وسلم عن السلم بأنه "السلم أن‬
‫تشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وتقيم الصلة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان‬
‫وتحج البيت ان استطعت إليه سبيل"‪ .‬وعلى هذا فأركان السلم‪ ،‬في ضوء هذا الحديث‬
‫الشريف‪ ،‬ثلثة‪( :‬الول) شهادة أن ل إله إل ال (الثاني) شهادة أن محمدا رسول ال (الثالث)‬
‫العمل الصالح وفي ذروته الصلة والزكاة والصوم والحج وإنما ذكرت هذه الربعة لهميتها‬
‫وللتنبيه إلى ضرورة العمل الصالح للمسلم وأنه ل يكفي التلفظ بالشهادتين بل ل بد من العمل‬
‫بمضمونها‪ .‬فل بد من الكلم عن هذه الركان الثلثة‪ ،‬وعلى هذا نقسم هذا الفصل إلى ثلثة‬
‫مباحث ونخصص لكل ركن مبحثا على حدة‪.‬‬

‫المبحث الول ‪ -‬الركن الول ‪ -‬شهادة أن ل إله إل ال‬


‫معنى الشهادة‬
‫‪ -2‬الشهادة تعني العلم والعلم والخبار والبيان ولهذا سمي الشاهد شاهدا لنه يخبر بما‬
‫علم‪ .‬والبيان والخبار كما يكون بالقول يكون بالفعل‪ ،‬فمن الشهادة بالفعل قول ال تعالى‪﴿ :‬ما‬
‫كان للمشركين أن يعمروا مساجد ال شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾[التوبة‪ ]17 :‬فهذه شهادة‬
‫منهم على أنفسهم بما يفعلونه أي‪ :‬أن أفعالهم بينت وأظهرت إنهم كفرة‪.‬‬
‫وتتضمن كلمة الشهادة القرار والعتراف والعتقاد فان الشاهد يعتقد صحة ما يشهد به‬
‫ويخبر عنه‪ ،‬فاذا شهد بما ل يعتقده كانت شهادته كاذبة لن إخباره ل يطابق اعتقاده‪ .‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول ال وال يعلم إنك لرسوله وال يشهد إن‬
‫المنافقين لكاذبون﴾[المنافقون‪ ]1 :‬فهم كاذبون لنهم ل يعترفون بصحة ما يقولون ول يعتقدون‬
‫ما يقولون‪.‬‬
‫فكلمة (أشهد) إذن تدل على معنى العلم والمعرفة والبيان وتتضمن معنى القرار والذعان‬
‫والعتقاد‪.‬‬

‫معنى الله‬
‫‪ -3‬أما كلمة "إله" فيراد بها المعبود‪ ،‬وهي تستعمل بمعنى المعبود بحق أو بباطل‪ ،‬وبهذا‬
‫المعنى وردت في قوله تعالى‪﴿ :‬أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾[الجاثية‪ ]23 :‬كما تستعمل بمعنى‬
‫المعبود الحق وبهذا المعنى وردت في قوله تعالى‪﴿ :‬فاعلم أنه ل إله إل ال واستغفر‬
‫لذنبك﴾[محمد‪ ]19 :‬وبهذا المعنى أيضا وردت في قوله عليه الصلة والسلم "أن تشهد أن ل‬
‫إله إل ال"‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫معنى كلمة التوحيد‬
‫‪ -4‬وعلى هذا يكون معنى كلمة التوحيد – أشهد أن ل إله إل ال – اني اعلم وأقر وأعترف‬
‫وأعتقد بأن المعبود الحق الذي ل يستحق العبادة غيره هو ال تعالى‪ ،‬وأن أبين ذلك وأظهره‬
‫بلساني وأفعالي وسلوكي‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وأن افراد ال تعالى بالعبادة‪ ،‬وهو الذي يسمى بتوحيد اللوهية‪ ،‬يتضمن توحيد الربوبية‬
‫ومعناه العتقاد بأن ال تعالى وحده هو رب العالمين‪ ،‬فصار عندنا التوحيد نوعين (‪ )1‬توحيد‬
‫اللوهية‪ )2( .‬توحيد الربوبية‪.‬‬

‫أولً‪ :‬توحيد اللوهية‬


‫‪ -5‬توحيد اللوهية هو الذي بعث ال به جميع رسله قال تعالى‪﴿ :‬وما أرسلنا من قبلك من‬
‫رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون﴾[النبياء‪ ]26 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬ولقد بعثنا في كل‬
‫ل أن اعبدوا ال اجتنبوا الطاغوت﴾[النمل‪..]36 :‬‬
‫أمة رسو ً‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره أفل‬
‫تتقون﴾[المؤمنون‪.]23 :‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره أفل‬
‫تتقون﴾[العراف‪.]65 :‬‬
‫‪ -6‬والعبادة ل تقوم على الحب الخالص ل مع الذل الكامل له‪ ،‬ومظهر ذلك توجه العبد إلى‬
‫ال تعالى بالتوكل عليه والثقة به والخوف منه والنابة إليه والطلب منه والنس بذكره والفرار‬
‫إليه ونشاط الجوارح بتنفيذ شرعه واقامة دينه والنصباغ بصبغته وإيثار محبته وطاعته‪،‬‬
‫وجعل السلوك والقوال والفعال وسائر الحوال على الوجه المرضي عند ال‪ ،‬وبهذا كله‬
‫يحقق المسلم معنى أشهد أن ل إله إل ال بالقول والعمل فيكون صادقا في شهادته‪.‬‬
‫‪ -7‬وتزداد معاني العبودية ويرسخ أصلها ويعظم أثرها بقدر علم العبد بمدى فقره وحاجته‬
‫إلى ال وعدم استغنائه عنه طرفة عين‪ ،‬ويزداد حب العبد ل وخضوعه له بقدر معرفته بكمال‬
‫ال وعظيم نفعه ونعمه عليه‪ ،‬وتفكره في آلئه التي ل تعد ول تحصى ﴿وما بكم من نعمة فمن‬
‫ال﴾ وفي تفكره في صفاته ومعاني اسمائه الحسنى‪.‬‬
‫‪ -8‬وبقدر امتلء القلب بمعاني العبودية يحترز من عبودية غير ال تعالى حتى يصبح عبدا‬
‫خالصا ل وهذه أسمى درجة ينالها النسان ولذلك وصف ال تعالى رسوله الكريم بوصف‬
‫العبودية في أرفع منازله‪ ،‬وصفه بها في مقام تنزل الوحي عليه‪ ،‬وحين الدعوة إليه‪ ،‬وحين‬
‫أسري به صلى ال عليه وسلم وعرج به إلى السماء‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فأوحى إلى عبده ما‬

‫‪10‬‬
‫أوحى﴾ ﴿وانه لما قام عبد ال يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا﴾ ﴿سبحان الذي أسرى بعبده‬
‫ليلً من المسجد الحرام إلى المسجد القصى﴾‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬توحيد الربوبية‬


‫‪ -9‬كلمة الربّ تدل على جملة معاني منها السيد ومالك الشيء وموجوده والمتصرف فيه‪،‬‬
‫والمربي لغيره والمتكفل بمصلحة النسان‪ ،‬وصاحب السلطان والسيادة النافذ أمره في غيره‪.‬‬
‫ومعاني الربوبية هذه وما تتضمنه أو تستلزمه من معاني أخرى ل يوصف بها ول يملكها‬
‫على وجه الحقيقة والكمال إل ال تعالى‪ ،‬وأما غيره فهو مربوب ل وإذا وجد فيه شيء من‬
‫معاني الربوبية فعلى وجه المجاز والعارية‪ ،‬فإن كل ما سوى ال مخلوق ل‪ ،‬منه يستمد وجوده‬
‫وبقاءه‪ ،‬وكل ما عنده من صفات الكمال المناسبة للمخلوق‪ ،‬فال تعالى هو رب العالمين على‬
‫وجه الحقيقة‪ ،‬فل رب سواه‪ ،‬فهو الخالق المحيي المميت النافذ أمره وحكمه في جميع خلقه‪،‬‬
‫بيده الملك وهو على كل شيء قدير‪ ،‬يتصرف في الكون كما يشاء ل معقب لحكمه ول‬
‫لتصرفه‪ ،‬وهو القائم على شؤون خلقه والمتكفل بما يصلحهم‪ ،‬وهو القادر على النفع والضرر‪،‬‬
‫إذا أراد أن ينفع أحد فل راد لفضله‪ ،‬وإن أراد بأحد غير ذلك فل مانع له من ذلك قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وإن يمسسك ال بضر فل كاشف له إل هو‪ ،‬وإن يردك بخير فل راد‬
‫لفضله﴾[النعام‪ ]17 :‬فال تعالى هو المتفرد بالعطاء والمنع والنفع والضر‪ ،‬وكل ما عدا ال‬
‫فإنه فقير إليه محتاج إليه ﴿يا أيها الناس انتم الفقراء إلى ال﴾ فالفقر وصف ذاتي لكل مخلوق‬
‫كما أن الغنى وصف ذاتي ل رب العالمين‪.‬‬

‫دلئل توحيد الربوبية‬


‫‪ -10‬والدلئل الدالة على ربوبية ال وتفرده بها وعدم مشاركة أحد له فيها كثيرة جدا‪ ،‬فما‬
‫من شيء في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر جرم إل وهو يشهد أن ال هو رب العالمين‬
‫وبالتالي فهو الله الحق للعالمين‪ ..‬إن هذا الكون العجيب الغريب المتناسق المنظم يقول بلسان‬
‫الحال‪ :‬إن له خالقا عظيما هو ال تعالى‪ ،‬وإن العقل السليم ل يمكنه أصل أن يتصور أن هذا‬
‫الكون وجد بل موجد وحدث بل محدث‪ ،‬ان قبول هذا التصور مخالف لي عقل سوي‪ .‬ان‬
‫عقولنا تأبى قبول قول من يقول‪ :‬إن هذا حدث (صدفة) بأن اثرت المطار في جبل فحفرت‬
‫فيه حفرا صارت غرفا‪ ،‬وأن عقلنا يرفض من يزعم أن هذا الكتاب حدث بفعل تجمع الحديد‬
‫وانصهاره بفعل الحرارة ثم تشقق الحديد المنصهر فصار حروفا ثم تجمعت الحروف ووقعت‬
‫عليها مادة سوداء ثم حصلت عجينة الخشب بسبب سقوط الشجار وبفعل المطار ثم جفت‬
‫وصارت صحائف فجاءتها ريح وضعتها على الحروف ثم ان هذه الحروف انطبعت على‬

‫‪11‬‬
‫الصحائف بعد تغير ترتيبها بعد طبع كل صحيفة بفعل الرياح‪ ..‬ان هذا الكلم ل يصدقه عاقل‪،‬‬
‫فكيف يصدق أن هذا الكون الهائل وهذا النسان العجيب‪ ،‬وهذه المخلوقات الغريبة من حيوان‬
‫ونبات كل ذلك حدث صدفة بل موجد ول مدبر ول منظم‪ ،‬ان هذا شيء ل يمكن قبوله أبدا‪.‬‬
‫اذكر أن أحد الطلب سألني لماذا ل يمكن أن يوجد هذا العالم صدفة بفعل المادة؟ فأجبته انظر‬
‫إلى هذه السبورة وهي أمامك – وكان عليها بعض الكتابات – لو قال انسان‪ :‬إن هذه السطر‬
‫على السبورة لم يكتبها كاتب وإنما حدثت صدفة بأن حملت الرياح ذرات التراب ودخلت بها‬
‫من نوافذ الغرفة وأسقطتها على السبورة فظهرت بشكل كلم مفهوم مكونا هذه السطر‪ ،‬أيمكن‬
‫لعاقل أن يصدق هذا القول؟ فقال ل‪ ،‬قلت فاذا كان هذا غير مقبول ويرفضه العقل‪ ،‬وهو شيء‬
‫بسيط وتافه للغاية فكيف يمكن لعقل سليم أن يصدق أن المادة الصماء العمياء أبدعت هذا‬
‫الكون أو أن هذا الكون بكل ما فيه انبثق من هذه المادة؟ ولهذا فإن القرار بربوبية ال‬
‫وانفراده بها أمر شائع عند البشر ومركوز في فطرة كل انسان‪ ،‬ويعترف به حتى المشرك‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن ال فأنى يؤفكون﴾[الزخرف‪ ]87 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬‬
‫ولئن سألتهم من خلق السموات والرض ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾ [الزخرف‪.]9 :‬‬

‫القرآن الكريم وتوحيد الربوبية في النفوس‬


‫‪ -11‬والقرآن في آياته يذكر الناس بما هو مركوز في فطرهم ويقرره وهو أن ال وحده هو‬
‫رب العالمين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قالت رسلهم أفي ال شك فاطر السموات والرض﴾ [ابراهيم‪]10 :‬‬
‫ونم أنكر وجود الخالق ع ّز وجل بلسانه فإنه مستيقن في باطنه بوجود ال تعالى‪ ،‬قال تعالى‬
‫مخبرا عن أمثال هؤلء الجاحدين المنكرين ﴿وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا﴾‬
‫[النمل‪ ]14 :‬فالنكار والجحود من البعض لوجود الخالق هو انكار وجحود محض على وجه‬
‫المكابرة والعناد ول يعنى خلو فطرة النسان من الحساس العميق بوجود الخالق‪ ،‬ولهذا إذا‬
‫زالت الغشاوات عن فطرة النسان وزالت مكابرته وعناده فإنه يجد نفسه بل اختيار منه‬
‫متوجها إلى ال هاتفا بلسانه مستنجدا به بكل كيانه‪ .‬أذكر أني قرأت في مجلة كانت تصدر في‬
‫أيام الحرب العالمية الثانية حديثا لصحفي أجراه مع أحد الطيارين وقد سأله الصحفي عن‬
‫أحرج الساعات التي مرت به أثناء قيامه بواجبه وما كان شعورة في تلك الساعة الحرجة‬
‫فأجابه الطيار بأن نشأ في بيت ليس فيه ما يذكره بال‪ ،‬فقد كان أبوه ملحدا ونشّأه على اللحاد‬
‫وكذا كان أخوته وعند انخراطه بسلك الطيران استمر في الحاده وإنكاره لكل شيء عدا ما يراه‬
‫بعينه ويلمسه بيده وفي أثناء قيامه بأعماله الحربية أحس أن طائرته توشك أن تسقط وأن‬
‫الهلك محتم فان لم يهلك بسقوط الطائرة فانه سيهلك على يد العدو إذا وصل إلى الرض‬
‫سالما‪ .‬قال الطيار‪ ،‬في تلك الساعة الحرجة لم أفكر في شيء على الرض من أهل أو قريب‬

‫‪12‬‬
‫أو صديق أو زوجة‪ ،‬وإنما رأيت نفسي وبل شعور متوجها إلى ال تعالى هاتفا باسمه طالبا‬
‫العون منه وهكذا كان فقد نجوت باعجوبة والفضل في ذلك ل وحده الذي لم أفكر فيه قط منذ‬
‫ثلثين سنة وهي عمري الن‪ .‬إن هذه القصة صحيحة على ما اعتقد إذ ل داعي لتلفيقها‪ ،‬بل‬
‫وإنها تتكرر في كل يوم مئات المرات بأشكال أخرى‪ .‬إن النسان الغافل الناسي الذي ل يخطر‬
‫بباله ل تعالى‪ ،‬يجد نفسه مدفوعا إلى التوجه إلى ال تعالى كلما ألمت به مصيبة أو وجد نفسه‬
‫في ضيق‪ ،‬فالمريض الراقد في سريره أو في غرفة العمليات‪ ،‬وراكب الطائرة الذي يخبره‬
‫قائدها أن خطرا يواجه الطائرة هؤلء ل يفكرون في تلك الساعة بشيء ول يخطر ببالهم شيء‬
‫سوى ال تعالى‪ ،‬به يستجيرون وإليه يتوجهون‪ .‬وصدق ال العظيم إذ يقول مخبرا عن‬
‫المشركين‪﴿ :‬وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا ال مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم‬
‫يشركون﴾ [لقمان‪.]32 :‬‬
‫ان مسألة وجود ال من البدهيات التي ل توجد بدهية مثلها في الوضوح والظهور‪ ،‬بل نقول إذا‬
‫لم تصح هذه المسألة في العقول فل يمكن مطلقا أن تصح مسألة أخرى غيرها‪ ،‬فليس هناك‬
‫شيء عليه من الدلة من حيث الكثرة والتنوع مثل مسألة وجود ال تعالى‪.‬‬

‫توحيد الربوبية يستلزم توحيد اللوهية‬


‫‪ -12‬وتوحيد الربوبية‪ ،‬وافراد ال تعالى بجميع معانيها‪ ،‬يستلزم قطعا توحيد اللوهية أي‬
‫افراد ال بالعبادة وأنه وحده هو المعبود الحق الذي ل يستحق غيره ذرة واحدة من العبادة‪،‬‬
‫ولهذا يذكر القرآن المشركين بربوبية ال وانفراده بها وأنها تستلزم توحيده في اللوهية‪ ،‬وهذا‬
‫مسلك سديد واضح جلي ل يجوز إغفاله والستعاضة عنه بمسالك ملتوية غير مجدية‪ ،‬فمن‬
‫هذه النصوص القرآنية قوله تعالى‪﴿ :‬أيشركون ما ل يخلق شيئا وهم يخلقون﴾ [العراف‪:‬‬
‫‪﴿ ]191‬أفمن يخلق كمن ل يخلق أفل تذكرون﴾ [النمل‪﴿ ]17 :‬يا أيها الناس ضرب مثل‬
‫فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون ال لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب‬
‫شيئا ل يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ [الحج‪.]73 :‬‬
‫فهذه اليات تذكر المشركين بحقيقة واضحة وهي أن معبوداتهم من دون ال عاجزة ل تستطيع‬
‫خلق شيء ولو ذبابة وإن يسلبهم الذباب شيئا ل يستطيعون تخليصه منه‪ ،‬فكيف يجوز في‬
‫العقل السليم أن يعبد غير ال ويسوى مع ال في العبادة وهو الخالق وحده وما سواه عاجز‬
‫ضعيف مخلوق؟‪.‬‬
‫ويحاجج القرآن المشركين ذاكرا لهم أن ما يعبدونهم من دون ال ل يملكون مثقال ذرة في‬
‫السموات ول في الرض ول يشاركون ال تعالى في ذرة في السماوات ول في الرض‪،‬‬
‫وليس ل بمعبوداتهم الباطلة حاجة ول أي عون‪ ،‬وإذا كان المر كذلك كما يرون فيجب عليهم‬

‫‪13‬‬
‫اخلص العبادة ل تعالى‪ .‬قال ال تعالى‪﴿ :‬قل ادعوا الذين زعمتم من دون ال ل يملكون‬
‫مثقال ذرة في السموات ول في الرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير﴾‬
‫[سبأ‪.]22 :‬‬
‫والقرآن يقرر بعض الحقائق التي يعترف بها المشركون وهي أن ال هو مالك السماوات‬
‫والرض والمتصرف فيها وهو الذي يجير المستجيرين به‪ ،‬فيجب إذن أن يعبدوا ال دون‬
‫غيره‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قل لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون‪ .‬سيقولون ل قل أفل تذكرون‪.‬‬
‫قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم‪ .‬سيقولون ل قل أفل تتقون‪ .‬قل من بيده‬
‫ملكوت كل شيء وهو يجير ول يجار عليه ان كنتم تعلمون‪ .‬سيقولون ل قل فأنى تسحرون‪.‬‬
‫بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون﴾ [المؤمنون‪.]90 – 84 :‬‬

‫العلوم الحديثة وعقيدة التوحيد‬


‫‪ -13‬والعلوم الحديثة المتعلقة بالكون‪ ،‬وبالذرة أو بالنسان أو بالنبات‪ ،‬وبالصناعات‪،‬‬
‫والكشوف الحديثة والمخترعات الحديثة‪ ،‬كل هذه تقوي عقيدة التوحيد وتزيد ايمان المؤمن‬
‫لنها تكشف عن دقة نظام الكون وعجائب خلق ال ولطائف صنعه الدالة على عظمته وواسع‬
‫قدرته وعلمه‪ ،‬فإن دقة المصنوع تدل على عظمة الصانع وأن وراء هذه الصنعة البديعة‬
‫والنظام الدقيق خالق عظيم‪ ،‬وصدق ال العظيم إذ يقول‪﴿ :‬سنريهم آياتنا في الفاق وفي أنفسهم‬
‫حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ [فصلت‪﴿ ]53 :‬وفي أنفسكم أفل تبصرون﴾ [الذاريات‪.]21 :‬‬

‫مكانة التوحيد في السلم‬


‫‪ -14‬التوحيد في السلم هو كل السلم‪ ،‬والقرآن كله يدور حول التوحيد‪ ،‬فآيات القرآن إما‬
‫إخبار عن ال وصفاته وخلقه وأفعاله وتدبيره‪ ،‬وإما أمر ونهي وهما من لوازم ربوبيته‬
‫وقيوميته على خلقه‪ ،‬وإما بيان للثواب بأنواعه‪ ،‬وهو جزاء من أطاعه واتبع رسله الذين‬
‫أرسلهم بشريعته القائمة على توحيده في اللوهية والربوبية‪ ،‬وإما بيان للعقاب بأنواعه وهو‬
‫جزاء المخالفين لشرعه‪ ،‬وإما إخبار عن أحوال المكذبين الماضين وهو بيان لمن خرج عن‬
‫مقتضى توحيده وعبادته‪.‬‬
‫فالتوحيد هو لب السلم وأساسه ومنه تنبثق سائر نظمه وأحكامه وأوامره ومناهجه‪ ،‬وكل ما‬
‫فيه عبادات وأحكام يرسخه ويقويه ويثبته في قلوب المؤمنين‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ -‬الركن الثاني ‪ -‬شهادة أن محمدا رسول ال‬


‫معنى هذه الشهادة‬

‫‪14‬‬
‫‪ -15‬وهذه الشهادة هي الركن الثاني في السلم‪ ،‬ومعناها العلم والتصديق والعتقاد الجازم‬
‫بأن محمدا صلى ال عليه وسلم رسول ال‪ ،‬وإعلن ذلك وإظهاره وبيانه بالقول والعمل‪ ،‬أما‬
‫بالقول فبالنطق بهذه الشهادة‪ ،‬وأما بالعمل فيكون بإقامة سلوك النسان وجميع تصرفاته القولية‬
‫والعملية وفق ما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم من ربه على وجه التباع له والقبول منه‬
‫باعتباره رسول ال‪.‬‬

‫رسل ال كثيرون‬
‫‪ -16‬ورسل ال الذين أرسلهم الى البشر كثيرون منهم من قص ال علينا أخبارهم وعرفنا‬
‫بأسمائهم ومنهم من لم يعرفنا بهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا ال‬
‫واجتنبوا الطاغوت﴾ فكل أمة من أمم الرض جاءها رسول‪ ،‬وقد ل نعرفه لن ال تعالى لم‬
‫يخبرنا باسمه ول برسالته‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬ورسلً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلً لم‬
‫نقصصهم عليك وكلم ال موسى تكليما﴾ [النساء‪.]164 :‬‬

‫تبرير ارسال الرسل‬


‫‪ -17‬والفكرة التي وراء إرسال الرسل والتي على أساسها يمكن تبرير إرسالهم الى الناس‬
‫تقوم على أساس تفرد ال تعالى بالربوبية واللوهية فهو رب العالمين وإلههم فل رب لهم‬
‫سواه ول إله لهم غيره ومن لوازم ربوبيته وألوهيته تعالى قيامه عزّ وجل بتدبير شؤون خلقه‬
‫والتكفل بمصالحهم وما يصلح لهم ويصلحون به والتصرف فيهم بالمر والنهي‪ .‬ول شك أن‬
‫النسان ل يحتاج فقط إلى الغذاء ونحوه مما هو ضروري لدامة حياته الجسدية وإنما هو‬
‫بحاجة وضرورة الى ما يفي بحاجات روحه التي امتاز بها عن غيره والى ما يوصله الى‬
‫الكمال اللئق به كانسان‪ .‬وعلى هذا فأهم مصالح النسان على الطلق ابلغه السعادة‬
‫والكمال المقدور له بتعريفه بخالقه ومعبوده وحيث ان النسان بنفسه ل يستطيع أن يعرف هذه‬
‫المور على وجه صحيح سالم من الخطأ لنها فوق قدرة العقل فقد اقتضت حكمة الرب‬
‫ورحمته بالنسان أن يرسل للبشر رسل من جنسهم يكلمونهم بلغتهم ويبلغونهم رسالت ربهم‬
‫ويعرفونهم به ويبينون لهم طرق الوصول إليه وما يسعدون به في حياتهم وأخراهم‪ .‬ولهذا كان‬
‫من لوازم اليمان بال ربا وإلها العتقاد برسل ال‪ ،‬وان إنكار رسله يتضمن الجهل بال‬
‫وتنقيصه وعدم تقديره حق قدره ومن ثم يكون كفرا قال تعالى‪﴿ :‬وما قدروا ال حق قدره إذ‬
‫قالوا ما أنزل ال على بشر من شيء﴾ [النعام‪.]91 :‬‬

‫ختم الرسالت‬

‫‪15‬‬
‫‪ -18‬وقد ختم ال رسالته بالرسالة السلمية التي أوحى بها الى نبيه محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم وجعله خاتم النبياء والمرسلين قال تعالى‪﴿ :‬ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن‬
‫رسول ال وخاتم النبيين﴾ [الحزاب‪ ]40 :‬وانما ختمت الرسالة برسالة السلم الخالدة لكمالها‬
‫ووفائها بحاجات البشر الى يوم القيامة‪ ،‬فل داعي لرسالة أخرى قال تعالى‪﴿ :‬اليوم أكملت لكم‬
‫دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا﴾ [النعام‪.]3 :‬‬

‫أدلة نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‬


‫‪ -19‬قلنا‪ :‬إن إرسال الرسل من لوازم ربوبية ال وألوهيته‪ ،‬وما من رسول أرسله ال إل‬
‫وأيده بما يدل على صدقه ونبوته‪ ،‬وبالنسبة لنبوة محمد صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬ما من أدلة‬
‫تقام لثبات نبوة نبي أو رسول ال وكانت مثل هذه الدلة وأكثر منها وأظهر موجودة في‬
‫اثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولهذا من يؤمن بنبوة موسى أوعيسى أو أي نبي آخر‬
‫ويجحد نبوة محمد صلى ال عليه وسلم فانه يكون متناقضا في نفسه وفي الواقع ول يكون‬
‫ايمانه وجحوده ال حصيلة الجهل والتعصب والتقليد بل دليل أو برهان‪ ،‬لن ما دعاه إلى‬
‫اليمان بنبوة نبي أو رسول يوجد مثله وأكبر منه يدعوه إلى اليمان بنبوة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ان مثله مثل من يعتقد أن فلنا عالم بالطب لنه طالب في السنة الولى في كلية‬
‫الطب ولكن يرفض العتقاد بأن أستاذ هذا الطالب الذي ظل يمتهن الطب عشرات السنين‬
‫تدريسا لهذا الطالب وغيره‪ ،‬وتطبيقا لعلم الطب‪ ،‬يرفض أن يعتقد فيه معرفة الطب‪ ،‬ومن‬
‫البديهي أن رفضه هذا مع اعتقاده ذاك تناقض محض ل يصدر إل عن جهل وتعصب وتقليد‪.‬‬
‫ومع هذا القول العام فان من المفيد أن نقدم بعض الدلة لثبات نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬فمن هذه الدلة سيرته صلى ال عليه وسلم منذ نشأته حتى وفاته فهذه السيرة الطيبة‬
‫العطرة ل يمكن أن يكون صاحبها كذابا يدعي على ال ما ليس فيه‪ .‬وهذا الدليل يكفي‬
‫لصحاب العقول السليمة والفطر القويمة وبه استدلت السيدة خديجة عندما أخبرها الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم بما رآه من جبريل في أول بدء الوحي فقالت له فيما قالته‪ :‬أبشر‪ ،‬فان ال‬
‫ل يخزيك أبدا‪ ،‬فانك تحمل الكل وتعين الضعيف الى آخر ما قالته في صفاته العالية وسيرته‬
‫الطيبة‪.‬‬
‫ومن أدلة نبوته هذه الشريعة العظيمة في جميع جوانبها التي يستحيل صدورها عن رجل أمي‬
‫عاش في ذلك المجتمع العربي المعروف فلو لم تكن وحيا الهيا لما أمكن لحد أن يأتي بها‬
‫مهما كان نضوجه العقلي واتساع أفق تفكيره‪ .‬وهذا الدليل يدركه ويقدره العلماء بالقانون‬
‫والجتماع والعلوم الخرى‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وأعظم دليل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وهو ل يزال قائما موجودا بين أيدينا هو‬
‫القرآن العظيم وإعجازه الثابت فل بدّ من الكلم عن هذا الدليل على حدة‪.‬‬

‫دليل العجاز‬
‫‪ -20‬من الواضح الجلي المعروف لدى المطلعين على التاريخ السلمي‪ ،‬أن أهل مكة‬
‫وقريش بالذات قاومت الدعوة السلمية الولى ولم تعترف أول المر بنبوة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأنكرت أنه رسول ال أو أن القرآن كتاب ال‪ ،‬فكان من جملة ما حصل بين‬
‫رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم وبين قريش وسائر المخافين له والمعاندين والمنكرين‬
‫أن تحداهم بالقرآن بأن قال لهم كما اوحى ال إليه‪﴿ :‬قل لئن اجتمعت النس والجن على أن‬
‫يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ [السراء‪ ]88 :‬فسكت‬
‫المخالفون عن هذا التحدي وعجزوا عن كسره أو الجابة عليه‪ ،‬ثم تحداهم رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى ال إليه‪﴿ :‬ام يقولون افتراه‪ ،‬قل فأتوا بعشر سور مثله‬
‫مفتريات وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم صادقين﴾ [هود‪ ]13 :‬فسكتوا وعجزوا‪ .‬ثم‬
‫تحداهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن قال لهم ما أوحى ال به إليه‪﴿ :‬وما كان هذا‬
‫القرآن أن يفترى من دون ال ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ل ريب فيه من‬
‫رب العالمين‪ .‬أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون ال إن كنتم‬
‫صادقين﴾ [يونس‪﴿ ]38 ،37 :‬وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‬
‫وادعوا شهداءكم من دون ال إن كنتم صادقين‪ .‬فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي‬
‫وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾ [البقرة‪ .]24 ،23 :‬وكانت نتيجة هذا التحدي‬
‫المتكرر من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى قريش وسائر المخالفين‪ ،‬أقول كانت‬
‫نتيجة ذلك أن عجز المخالفون عن كسر هذا التحدي أو عن محاولة كسره بل صمتوا صمت‬
‫الجدار وراحوا يسلكون سبلً أخرى تقوم على الكذب والفتراء واستعمال الصد عن سبيل ال‬
‫بالقوة والرهاب واليخاء لمن معهم بأن ل يسمعوا للقرآن لئل يتأثروا به‪ .‬قال تعالى مخبرا‬
‫عن أسلوبهم هذا ﴿وقال الذين كفروا ل تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون﴾ [فصلت‪:‬‬
‫‪.]26‬‬

‫تحدي القرآن للمخالفين‬


‫‪ -21‬ان التحدي إذا ما نجح بعجز من وجه اليهم عن الجابة عليه‪ ،‬فانه يدل دللة واضحة‬
‫على صدق المتحدي وصدق ما يدعيه لنفسه كما يدل على بطلن دعوى من وجه اليهم هذا‬
‫التحدي‪ .‬ولكن هذه الدللة ل تتم إل إذا كان التحدي مستجمعا الشروط اللزمة له التي تؤدي‬

‫‪17‬‬
‫إلى هذه الدللة أو هذه النتيجة‪ .‬فهل توفرت شروط تحدي القرآن لقريش الذي جاء على لسان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ وقبل الجابة على هذا السؤال نتساءل ما هي شروط التحدي؟‬
‫ان هذه الشروط هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أن يكون موضوع التحدي داخل في قدرة من وجه اليهم بل ويكون داخل في‬
‫اختصاصهم ومما هم بارعون فيه ومتفوقون فيه ومشهورون فيه‪ ،‬كما لو وجه مصارع تحديه‬
‫إلى المصارعين بأنه هو البطل الوحيد في المصارعة ومن يشك في ذلك فليتقدم إلى‬
‫مصارعته‪ ،‬فموضوع التحدي هنا "مصارعة" والمصارعة داخلة في اختصاص من وجه اليهم‬
‫هذا التحدي وهم المصارعون‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬والشرط الثاني للتحدي أن يكون من وجه اليهم راغبين كل الرغبة‪ ،‬حريصين كل‬
‫الحرص على إبطال دعوى المتحدي والجابة على تحديه‪ .‬فل يكفي توفر الشرط الول لقيام‬
‫التحدي السليم الموصل إلى نتيجة‪ ،‬فقد يكون من وجه اليهم غير راغبين ول حريصين على‬
‫إبطال دعوى المتحدي وبالتالي يسكتون ول يجيبون‪ .‬فل يدل سكوتهم على عجزهم وبالتالي ل‬
‫يدل على صدق دعوى المتحدي‪ .‬كما لو كان بين المتصارعين من هو قادر على كسر تحدي‬
‫المصارع المتحدي ولكنه ل يرغب في ذلك لنه ابن للمتحدي أو أخوه أو صديقه أو أن‬
‫المتحدي يعتبر تافها في نظر من تحداهم ل يستحق حتى الجابة على تحديه‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬والشرط الثالث للمتحدي أن ل يوجد مانع من وجه إليهم التحدي من الجابة عليه‪.‬‬
‫وأقصد هنا مانع الخوف من المتحدي‪ ،‬الخوف من بطشه وقوته وقدرته على إلحاق الذى بهم‪،‬‬
‫فل يكفي إذن توفر الشرطين السابقين لقيام التحدي الصحيح إذا لم يتوفر هذا الشرط الثالث‪،‬‬
‫فلو تحدى شخص منازعيه ومخالفيه بأنه هو الوحيد الذي يحوز ثقة الشعب‪ ،‬وأن الشعب ل‬
‫يختار غيره ول يرضى بغيره بديل برئاسة الدولة‪ ،‬وهو يتحدى كل من ل يؤمن بهذا القول أن‬
‫يرشح نفسه في النتخابات الجارية لنتخاب الرئيس‪ ،‬فإذا سكت الخرون عن تحديه ولم يرشح‬
‫أحد نفسه خوفا من بطشه وسلطانه وقوته لن بيده المر والنهي والحكم‪ ،‬فإن هذا السكون ل‬
‫يدل على صحة ما ادعاه المتحدي لنفسه‪.‬‬
‫هذه هي الشروط الضرورية لعتبار التحدي قائما فعلً ومؤديا الى نتيجته‪ ،‬فهل هذه الشروط‬
‫متوفرة في تحدي القرآن العلني للمشركين المعلن على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم؟‬

‫تحقق شروط تحدي القرآن للمخالفين‬


‫ان شروط التحدي التي ذكرناها كلها موجودة في تحدي القرآن للمخالفين‪ .‬وبيان‬ ‫‪-22‬‬
‫ذلك ما يأتي‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫أولً‪ :‬فيما يخص الشرط الول‪ ،‬وهو أن يكون موضوع التحدي داخلً في اختصاص من وجه‬
‫إليهم التحدي‪ ،‬فمن المعروف أن قريشا وسائر العرب اشتهروا بالبلغة والفصاحة والمعرفة‬
‫باللسان العربي‪ ،‬وبرزوا في ذلك خطابة ونثرا وشعرا وتذوقا‪ ،‬حتى إنهم كانوا يعقدون المواسم‬
‫الدبية لتخير أحسن الشعر‪ .‬ومن المعلوم أيضا أن القرآن الكريم أنزله ال بلغة العرب‬
‫وبلسانهم‪ ،‬فاذا تحداهم به وقال لهم‪ :‬إن كنتم في شك من أن هذا القرآن هو كلم ال المنزل‬
‫على رسول محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من‬
‫مثله‪ ،‬فإنما يتحداهم بشيء داخل في اختصاصهم وداخل فيما هم فيه بارعون‪ ،‬فيكون هذا‬
‫الشرط متحققا في تحدي القرآن للمخالفين‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬فيما يخص الشرط الثاني‪ ،‬وهو وجود الرغبة والحرص عند المخالفين من قريش‬
‫وغيرهم على ابطال دعوة النبي صلى ال عليه وسلم واثبات ادعائهم بأنه ليس رسولً ل‪ ،‬فهذا‬
‫الشرط موجود‪ ،‬ويعرفه صغار المطلعين على التاريخ السلمي‪ ،‬فمن الواضح أن قريشا لم‬
‫ترض بدعوة النبي صلى ال عليه وسلم وحاولت محاولت شتى لبطال هذه الدعوة‪ ،‬سلكت‬
‫سبيل الترغيب بأن عرضت على أبي طالب أن يمنع ابن أخيه محمدا صلى ال عليه وسلم من‬
‫الستمرار في دعوته‪ ،‬وهم مقابل ذلك يعطونه من الموال ما يجعله أغناهم‪ ،‬ويجعلونه رئيسا‬
‫عليهم فيكون هو صاحب السلطان‪ ،‬أو يعرضونه على أهل المعرفة بالمراض النفسية إن كان‬
‫ما جاء به شيئا اعتراه يحتاج الى تطبيب وعلج‪ ،‬فكان جواب النبي صلى ال عليه وسلم لعمه‬
‫بعد أن أبلغه رغبة قريش " وال يا عماه‪ ،‬لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على‬
‫أن أترك هذا المر ما تركته حتى يظهره ال أو أموت دونه‪ "...‬أو كما قال رسول ال صلى‬
‫الهل عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم سلكوا سبيل التهديد واليذاء والمقاطعة القتصادية للنبي صلى ال عليه وسلم ولمن اتبعه‬
‫وسبيل الفتراء على الرسول صلى ال عليه وسلم ورميه بما هو براء منه كقولهم‪ :‬إنه مجنون‬
‫أو ساحر أو مفتر‪ ،‬وقد بلغ الذى به وبالمسلمين أن عذبت قريش بعض المسلمين تعذيبا بدنيا‬
‫ماتوا فيه‪ ،‬كما هاجر بعض المسلمين الى الحبشة مرتين فرارا من هذا العذاب والذى الشديد‪.‬‬
‫وهذا كله يدل دللة واضحة على الرغبة الكاملة والحرص الكيد لدى قريش على ابطال دعوة‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬وهو عدم وجود مانع من الجابة وكسر التحدي‪ .‬وهذا الشرط موجود في‬
‫تحدي القرآن‪ ،‬فمن المعلوم عند صغار المتعلمين لخبار التاريخ السلمي‪ ،‬أن السلطان والقوة‬
‫والنفوذ كل ذلك كان بيد المشركين في مكة‪ ،‬أما المسلمون ورسولهم صلى ال عليه وسلم فما‬
‫كان لهم من ذلك شيء‪ .‬فقد كانوا ضعفاء ل حول لهم ول سلطان‪ ،‬حتى إن بعضهم هاجروا‬
‫إلى الحبشة فرارا بدينهم كما قلنا‪ ،‬وحتى إن المسلمين هاجروا الى المدينة في آخر المر كما‬

‫‪19‬‬
‫هاجر الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬كل ذلك يدل على أنه لم يكن هناك مانع يمنع قريشا من‬
‫الجابة على التحدي وكسره واثبات ما يزعمونه من أن القرآن ليس كلم ال وان محمدا ليس‬
‫برسول ال لو كانوا يستطيعون ذلك‪.‬‬

‫نتيجة التحدي ودللته‬


‫‪ -23‬وكانت نتيجة تحدي القرآن للمشركين عجزهم وسكوتهم كما أشرنا الى هذا من قبل‪،‬‬
‫فاذا ثبت عجزهم‪ ،‬وتوفرت شروط التحدي‪ ،‬ثبت صدق النبي صلى ال عليه وسلم وثبت أنه‬
‫رسول ال وأن القرآن كتاب ال‪ ،‬وإذا ثبت ذلك وجب على الخلق اليمان بنبوته واتباعه‬
‫والنقياد إلى الشرع الذي جاء به من ربه واليمان بكل ما جاء في القرآن والسنة النبوية‬
‫المطهرة‪ ،‬وهذا هو المطلوب‪.‬‬

‫استمرار التحدي ودللته‬


‫‪ -24‬وتحدي القرآن للمخالفين ظل قائما وموجها الى كل مرتاب في نبوة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم وفي نسبة القرآن إلى ال تعالى‪ ،‬ول يزال هذا التحدي قائما حتى الن والى أن‬
‫يرث ال الرض ومن عليها‪ ،‬فما دللة ذلك؟ دللة ذلك واضحة وهي ثبوت نبوة محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم بالدليل القاطع والبرهان الساطع والحجة القائمة الموجودة بين أيدينا الن التي ل‬
‫يستطيع أي مكابر أن ينكرها أو يغالط فيها‪ .‬وإذا عرفنا ان هذا الدليل ظل قائما عبر القرون‬
‫الطويلة منذ عهد نبوة محمد صلى ال عليه وسلم حتى الن وأن السلم واجه مختلف‬
‫الخصوم والمعاندين والكفار من أصحاب الفكار الباطلة وأنهم بذلوا كل جهد مستطاع لديهم‬
‫لطعن السلم والتشكيك فيه‪ ،‬والدس عليه وتلويث أفكاره وعقائده‪ ،‬ومع هذا لم يجرؤوا على‬
‫إجابة تحديه وكسره‪ ،‬نقول‪ :‬إذا عرفنا ذلك عرفنا قوة هذا الدليل دليل اعجاز القرآن على‬
‫صدق نبوة محمد صلى ال عليه وسلم وصدق رسالته‪ ...‬إن دليل ثبت صدقه مدة أربعة عشر‬
‫قرنا لهو أعظم دليل يقام لثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫إنكار نبوة محمد صلى ال عليه وسلم تنقيص بعقل النسان‬


‫‪ -25‬وبناء على ما تقدم نعتبر انكار نبوة محمد صلى ال عليه وسلم بعد ظهور الدليل‬
‫القاطع على نبوته وصدقه تنقيصا بالعقل البشري السوي‪ ،‬وجحودا ما بعده جحود‪ ،‬وعنادا‬
‫محضا‪ ،‬وجرما كبيرا‪ ،‬ومن ثم كان جزاؤه غليظا عند ال‪ ،‬وصاحبه ينخرط في عداد الكفرة‬
‫المتمردين على ال‪ .‬هذه واحدة‪ ،‬والخرى أن من ينكر نبوة محمد صلى ال عليه وسلم فل‬

‫‪20‬‬
‫سبيل له إطلقا لليمان بأي نبي‪ ،‬لن من ينكر وجود الشمس وهو يراها ل سبيل له الى‬
‫اليمان بوجود نجم ل يراه‪ ،‬وإذا آمن به كان متناقضا في ايمانه هذا وإنكاره ذاك‪.‬‬

‫اثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم اثبات لسائر النبوات‬


‫‪ -26‬هذا وإن اثبات نبوة محمد صلى ال عليه وسلم إثبات لسائر النبوات لن هذه النبوات‬
‫ذكرها القرآن وذكر أصحابها وهم الرسل الكرام فاذا ثبت بدليل العجاز أن القرآن من عند‬
‫ال وأن محمدا رسول ال ثبت كل ما في القرآن وثبت كل ما أخبر به محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬ونحن نقول هذا لنه ليس بين أيدينا دليل قاطع حي على إثبات نبوة أي نبي قبل محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعلى هذا فإن من ينكر نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ويريد أن يدعو‬
‫إلى اليمان بنبوة غيره يكون متناقضا ويعطي الحجة بيد المدعو على عدم التصديق بأصل‬
‫النبوات‪ ،‬ولهذا أيضا كان الكفر برسالة أي رسول كفرا برسالة السلم لنه يتضمن التكذيب‬
‫لبعض ما جاء في القرآن‪.‬‬

‫مقتضى اليمان بنبوة محمد صلى ال عليه وسلم ولوازمه‬


‫ل يقتضي التسليم المطلق والتام لما‬
‫‪ -27‬واليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا ورسو ً‬
‫جاء به أو أخبر عنه‪ ،‬وتصديقه وطاعته فيما أمر به أو نهى عنه دون حرج أو ضيق أو‬
‫مناقشة أو جدال أو تعقيب أو أخذ البعض وترك البعض الخر‪ ،‬فإن كل هذه الشياء تناقض‬
‫مقتضى اليمان به صلى ال عليه وسلم نبيا ورسولً‪ ،‬ولهذا جاءت النصوص القرآنية كلها‬
‫تؤكد وتبين هذه المور وغيرها التي هي مقتضيات اليمان بنبوته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمن‬
‫هذه النصوص الواردة في القرآن العظيم قوله تعالى‪﴿ :‬وأطيعوا ال والرسول لعلكم ترحمون﴾‬
‫[آل عمران‪.]132 :‬‬
‫﴿قل إن كنتم تحبون ال فاتبعوني يحببكم ال ويغفر لكم ذنوبكم وال غفور رحيم﴾ [آل عمران‪:‬‬
‫‪.]31‬‬
‫﴿قل أطيعوا ال والرسول‪ ،‬فإن تولوا فإن ال ل يحب الكافرين﴾ [آل عمران‪.]32 :‬‬
‫﴿من يطع الرسول فقد أطاع ال﴾ [النساء‪.]80 :‬‬
‫﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى ال ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا‪،‬‬
‫وأولئك هم المفلحون﴾ [النور‪.]51 :‬‬
‫﴿ومن يطع ال ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها النهار‪ ،‬ومن يتول يعذبه عذابا أليما﴾‬
‫[الفتح‪.]17 :‬‬
‫﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ [الحشر‪.]07 :‬‬

‫‪21‬‬
‫﴿وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم‪ ،‬ومن‬
‫يعص ال ورسوله فقد ضل ضللً مبينا﴾ [الحزاب‪.]36 :‬‬
‫﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير‬
‫وأحسن تأويل﴾ ﴿فل وربك ل يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ل يجدوا في أنفسهم‬
‫حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ [النساء‪.]65 – 59 :‬‬
‫﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ [النور‪.]63 :‬‬
‫فهذه النصوص‪ ،‬وأمثالها في القرآن كثير‪ ،‬تذكر المؤمنين بمقتضى إيمانهم بمحمد صلى ال‬
‫عليه وسلم نبيا ورسولً وبلوازم هذا اليمان‪ ،‬فمرة تأمرهم بطاعته‪ ،‬لن طاعته هي طاعة ل‪،‬‬
‫وإن جزاء المطيعين جنات النعيم وأن جزاء المخالفين عذاب النار‪ ،‬وطورا تبين لهم أن‬
‫اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم يستلزم أخذ ما أمر به الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫والنتهاء عما نهى عنه‪ ،‬وإن ما يقضي به صلى ال عليه وسلم واجب الطاعة ل خيار فيه‬
‫للمسلم‪ ،‬وإن الرجوع عند الختلف يجب أن يكون إلى ال والرسول‪ ،‬وأن اليمان الحقيقي‬
‫بمحمد صلى ال عليه وسلم يستلزم الرضى بما يحكم ويقضي به ويخبر عنه‪ ،‬وتارة تبين‬
‫نصوص القرآن أن المخالفة لمر رسول ال وعصيانه سبب لعذاب ال ومقته‪ ،‬وأن على‬
‫المخالفين له أن يحذروا الفتنة والعذاب الليم‪.‬‬
‫‪ -28‬والواقع أن ما تذكره هذه النصوص هو النتيجة المنطقية لليمان بمحمد صلى ال عليه‬
‫وسلم والرضى به رسول‪ ،‬لن من التناقض ومن غير المقبول في العقل السليم أن يؤمن‬
‫النسان بمحمد صلى ال عليه وسلم ثم ينازعه في بعض ما جاء به أو ل يرضى بما جاء به‬
‫أو ينصب نفسه معقبا لبعض ما جاء به أو يتمرد على بعض ما جاء به‪ ،‬الى غير ذلك ممّا ل‬
‫يتفق أبدا ومقتضى اليمان به‪ ..‬إن النسان إذا آمن بأن فلنا بارع في الطب مبرز فيه‪ ،‬فإنه‬
‫يتقبل منه ما يقوله في شؤون الطب وما يخبره به عن مرضه وسبل علجه ويتبع توجيهاته‬
‫في الكل والشرب وفيما يأخذ ويترك‪ ،‬ول يسوّغ لنفسه معارضته أو مناقشته‪ .‬فإذا كان هذا‬
‫ل بالنسبة للطبيب مع احتمال خطئه فيما يقول ويوصي به‪ ،‬فكيف يجوز‬
‫المسلك سليما ومعقو ً‬
‫ل أن يعارضه أو يناقشه؟‪.‬‬
‫لمن آمن بمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا ورسو ً‬

‫واجبنا نحو الرسول صلى ال عليه وسلم‬


‫‪ -29‬إن واجب المسلم نحو الرسول صلى ال عليه وسلم بعد أن أنعم ال عليه باليمان به‬
‫وتصديقه بكل ما يخبر عنه وطاعته في كل ما يأمر به والنتهاء عن كل ما ينهى عنه‪ ،‬وقبول‬
‫ذلك بتسليم تام ورضى تام كما بينا في الفقرة السابقة‪ ،‬وذكرنا النصوص القرآنية الدالة على‬
‫ذلك‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ومن واجباتنا الخرى نحوه – بأبي هو وأمي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬محبته اكثر من النفس والولد والهل والمال والناس أجمعين‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‬
‫"ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين" ومن البديهي أن‬
‫صدق المحبة تكون بخلوص المتابعة له‪ ،‬فهذا هوالذي يحبه ويرضيه‪ ،‬والمسارعة إلى ما‬
‫يرضيه صلى ال عليه وسلم مما أمرنا ال به وهو من لوازم المحبة الصادقة قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫يحلفون بال لكم ليرضوكم‪ ،‬وال ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين﴾ [التوبة‪.]62 :‬‬
‫ثانيا‪ :‬توقيره وتبجيله واحترامه حيا وميتا قال تعالى‪﴿ :‬ل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء‬
‫بعضكم بعضا﴾ [النور‪ ]63 :‬لن الرسول الكريم ليس كواحد من الناس انه رسول ال وعلى‬
‫الناس أن يوقروه ويجلّوه ويشرفوه حتى في ندائهم له فعليهم أن يقولوا له يا رسول ال يا نبي‬
‫ال‪ .‬وهذا بعض معاني هذه الية‪.‬‬
‫ومن مظاهر توقيره واحترامه عدم سبقه بالقول أو رفع الصوت عند كلمه قال تعالى‪﴿ :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا ل تقدموا بين يدي ال ورسوله واتقوا ال‪ ،‬إن ال سميع عليم‪ .‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا ل ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ول تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن‬
‫تحبط أعمالكم وأنتم ل تشعرون‪ .‬إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول ال أولئك الذين امتحن‬
‫ال قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم﴾ [الحجرات‪ .]3 – 1 :‬ويبقى هذا الحترام والتوقير‬
‫بعد وفاته صلى ال عليه وسلم فل ينبغي رفع الصوت في مسجده وعند قبره‪ ،‬كما يجب التأذب‬
‫عند سماع حديثه الشريف وسنته المطهرة والصغاء الكامل لها والرضى بها وعدم الخروج‬
‫عليها أو معارضتها بالراء الفاسدة فاذا سمع المسلم "قال رسول ال صلى ال عليه وسلم"‬
‫فليعلم أنه ل قول لحد مع قوله صلى ال عليه وسلم ول معارضة لقوله‪ ،‬وإنما هو الستماع‪،‬‬
‫وفهم هذا القول النبوي الكريم والعزم على العمل به‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬البتعاد الكامل التام عن إيذاء النبي صلى ال عليه وسلم في أي شيء وبأي قدر من‬
‫اليذاء‪ ،‬فإن هذا كله حرام وقد يؤدي إلى خروج المسلم من السلم قال تعالى‪﴿ :‬وما كان لكم‬
‫أن يؤذوا رسول ال﴾ [الحزاب‪ ]53 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬والذين يؤذون رسول ال لهم عذاب أليم﴾‬
‫[التوبة‪ ]61 :‬ويدخل في نطاق إيذائه المحرم ايذاؤه صلى ال عليه وسلم بالطعن في زوجاته‬
‫الكريمات أو سبهن أو عداوتهن فهن أمهات المؤمنين بنص القرآن قال تعالى‪﴿ :‬وأزواجه‬
‫ن زوجاته الكريمات في الدنيا والخرة‪ .‬كما يدخل في ايذائه صلى ال عليه وسلم‬
‫أمهاتكم﴾ وه ّ‬
‫ايذاؤه بالطعن في آل بيته الطهار أو سبهم أو عداوتهم‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬الصلة والسلم عليه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إن ال وملئكته يصلون على النبي يا أيها الذين‬
‫آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫التحرز من خلط ما ل بما للرسول من حق‬
‫‪ -30‬ومما يجب التنويه به والتذكير به التحرز من خلط ما ل من حق بما للرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم من حق‪ ،‬فإن المسلم قد يقع في هذا دون أن يشعر‪ ،‬أو يقع فيه متعمدا ظانا أنه من‬
‫واجب المسلم نحو الرسول صلى ال عليه وسلم أن من حقه على المسلم‪ ،‬أو أن ذلك من مزيد‬
‫محبته للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيقع في الشرك الخفي أو الجلي وبالتالي يقع في سخط ال‪.‬‬
‫إن محبة الرسول صلى ال عليه وسلم الحقيقية هي متابعته والمسارعة إلى مرضاته وهذا ل‬
‫يتم إل بتجريد المتابعة لشرعه الذي جاء به من ربه ولسنته القولية والعملية‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫ما جاء به صلى ال عليه وسلم من ربه إفراد ال بالعبادة بجميع أشكالها وصورها وعدم‬
‫إعطاء ذرة منها لحد كائنا من كان‪ ،‬وهذا هو معنى كلمة التوحيد كما بينا ذلك من قبل‪.‬‬
‫ولتحقيق هذه المعاني العالية في نفوس المسلمين بين القرآن الكريم أن محمدا صلى ال عليه‬
‫وسلم بشر قال تعالى‪﴿ :‬قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد﴾ [الكهف‪.]110 :‬‬
‫وأنه ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا وإنما المالك لهذا وذاك هو ال تعالى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قل ل‬
‫أملك لنفسي نفعا ول ضرا إل ما شاء ال‪ ،‬ولو كنت أعلم الغيب لستكثرت من الخير وما‬
‫مسني السوء‪ ،‬إن انا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون﴾ [العراف‪ ]188 :‬وعلى هذا فالستغاثة‬
‫وطلب العون وكشف الضر يكون من ال تعالى الذي دعانا الى الطلب منه والتوجه إليه قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ادعوني أستجب لكم﴾ [غافر‪﴿ ]60 :‬وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة‬
‫الداع إذا دعان‪[ ﴾...‬البقرة‪ ]186 :‬كما أن الخشية والتقوى تكون ل‪ ،‬والتوكل يكون على ال‬
‫فهو الكافي جل جلله‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ومن يطع ال ورسوله ويخشى ال ويتقه فأولئك هم‬
‫الفائزون﴾ [النور‪ ]52 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬ولو أنهم رضوا ما آتاهم ال ورسوله وقالوا حسبنا ال‬
‫سيؤتينا ال من فضله ورسوله إنا إلى ال راغبون﴾ [التوبة‪ ]59 :‬فهذه اليات صريحة في‬
‫تحديد ما ل من حق وما للرسول من حق‪ ،‬فمن حقوق ال تعالى وحده الخشية منه والتقوى له‪،‬‬
‫والكفاية لعبده والتوكل عليه والرغبة إليه‪ ،‬أما الطاعة فهي من حق ال وحق رسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وطاعة الرسول في حقيقتها طاعة ال‪ ،‬وكذلك من حق الرسول اعطاء ما يراه من‬
‫غنائم وفيء وغيرها من يرى اعطاءه‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم‪" ،‬ل تطروني كما أطرت النصارى‬
‫عيسى بن مريم فإنما أنا عبد ال فقولوا عبد ال ورسوله" أو كما قال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وقال رجل للنبي صلى ال عليه وسلم (ما شاء الهل وشئت) فقال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"أجعلتني ل ندا‪ ،‬قل ما شاء ال ثم شئت" فالنبي الكريم صلى ال عليه وسلم جاء بالتوحيد‬
‫الخالص ل رب العالمين‪ .‬ومن حرصه الشديد على ما ينفع المسلمين كان يبين لهم التوحيد‬
‫كما يبين لهم معاني الشرك لئل يقعوا فيه‪ ،‬وهذا من كمال نصحه ورحمته ورأفته بأمته – بأبي‬

‫‪24‬‬
‫هو وأمي ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجزاه ال عنا خير الجزاء‪ .‬قال تعالى في بيان بعض‬
‫أوصافه الكريمة ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين‬
‫رؤوف رحيم﴾ [التوبة‪ ]128 :‬وقال تعالى‪﴿ :‬النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ [الحزاب‪:‬‬
‫‪.]06‬‬

‫المبحث الثالث ‪ -‬الركن الثالث ‪ -‬العمل الصالح‬


‫ماهية العمل الصالح‬
‫‪ -31‬العمل الصالح هو العمل المرضي عند ال تعالى‪ ،‬وهو الجامع لشيئين (الول) أن‬
‫يكون وفق الشرع السلمي‪( .‬الثاني) أن يكون المقصود به مرضاة ال وطاعته‪ .‬فاذا فقد‬
‫العمل هذين الشيئين أو احدهما لم يكن مرضيا عند ال وبالتالي ل أجر فيه ول ثواب‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملً صالحا ول يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ والمقصود‬
‫بالعمل الصالح الصحيح أي الموافق للشرع السلمي‪ ،‬والخالص لوجه ال تعالى‪.‬‬

‫مكانة العمل الصالح في السلم‬


‫‪ -32‬وللعمل الصالح في السلم مكانة عظيمة جدا‪ ،‬لنه ثمرة اليمان بال وباليوم الخر‬
‫وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبه يظهر معنى الشهادتين بالعمل والسلوك‪ ،‬ولهميته‬
‫في السلم جاءت اليات الكثيرة به‪ ،‬فمرة تقرنه باليمان‪ ،‬ومرة تبين جزاءة الحسن‪ ،‬وأخرى‬
‫تصرح بأن ما ينفع النسان في آخرته هو العمال الصالحة وان ال تعالى ل يضيع أجر من‬
‫عملها وقام بها‪ ،‬وتارة تبين اليات أن الصالحات سبب لتكفير السيئات وغفران الذنوب‪ ،‬وأن‬
‫الخسارة تحلق النسان ل محالة إل من آمن وعمل الصالحات‪ .‬ومن هذه النصوص التي‬
‫وضحت هذه المعاني قوله تعالى‪﴿ :‬وعد ال الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر‬
‫عظيم﴾ [المائدة‪.]09 :‬‬
‫﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب﴾ [الرعد‪.]22 :‬‬
‫﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن‬
‫ما كانوا يعملون﴾ [النحل‪.]97 :‬‬
‫﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا ل نضيع أجر من أحسن عملً﴾ [الكهف‪.]30 :‬‬
‫﴿ويزيد ال الذين اهتدوا هدى‪ ،‬والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا﴾ [مريم‪:‬‬
‫‪.]76‬‬
‫﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيآتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون﴾‬
‫[العنكبوت‪.]07 :‬‬

‫‪25‬‬
‫﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلّنهم في الصالحين﴾ [العنكبوت‪.]09 :‬‬
‫﴿والعصر إن النسان لفي خسر إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا‬
‫بالصبر﴾ [سورة العصر]‪.‬‬

‫اعتناق السلم شرط لقبول العمل‬


‫‪ -33‬ومن البديهي أن العمل المرضي عند ال تعالى‪ ،‬وهو الذي بيناه‪ ،‬يشترط لقبوله شرط‬
‫ضمني هو اعتناق السلم أي اليمان به‪ ،‬ولهذا قرن ال العمل الصالح باليمان‪ ،‬والمقصود‬
‫به اعتناق السلم بعد أن بعث ال محمدا صلى ال عليه وسلم رسول الى العالمين‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين﴾‪ .‬وعلى هذا‬
‫اذا قام الشخص بالعمل وفق الشرع السلمي من حيث الظاهر أي من حيث توفر أشكال‬
‫العمل الظاهرية المطلوبة في الشرع السلمي‪ ،‬وكان قصد صاحبه مرضاة ال ولكنه لم يؤمن‬
‫بالسلم دينا وبمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا ورسولً‪ ،‬فان عمله مردود عليه ول أجر فيه‬
‫ول ثواب‪.‬‬

‫البتداع مرفوض في السلم‬


‫‪ -34‬وما دام العمل الصالح هو ما كان صحيحا خالصا ل‪ ،‬والصحيح ما كان وفق الشرع‪،‬‬
‫فان البتداع في الدين بالزيادة والنقصان ل يجوز ول ثواب فيه لصاحبه حتى ولو كان بنية‬
‫العبادة ل تعالى‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم "من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"‪.‬‬
‫والبدعة شر من المعصية‪ ،‬لن في البتداع تغييرا للدين ولحكام الشرع واتهاما له بنقصانه أو‬
‫بحاجته الى التكميل والتشذيب والتعديل‪ .‬وهذا أمر كبير جدا ل يجوز اعتقاده أو العمل بموجبه‬
‫ولهذا حذر الرسول صلى ال عليه وسلم من البدع فقال‪" :‬إياكم ومحدثات المور فان كل‬
‫محدثة بدعة وكل بدعة في النار" فالخير كل الخير فيما جاء به الشرع والوقوف عنده ﴿وما‬
‫كان ربك نسيا﴾‪.‬‬

‫تنوع العمال الصالحة‬


‫‪ -35‬والعمال الصالحة كثيرة فهي جميع ما أمر ال تعالى به على وجه الوجوب‬
‫والستحباب‪ ،‬من العبادات والمعاملت فاذا قام بها المسلم ملحظا الطاعة لربه والنقياد‬
‫لشرعه مبتغيا بها وجه ال فهو من أصحاب العمال الصالحة‪ .‬وفي مقدمة هذه العمال‬
‫الصالحة العبادات‪ ،‬وفي مقدمتها العبادات التي جاءت في حديث جبريل وهي الصلة والزكاة‬

‫‪26‬‬
‫والصيام والحج فهي من أركان السلم التي ل يجوز التهاون بها مطلقا‪ ،‬أو التقليل من أهميتها‬
‫ولذلك ذكرت في الحديث‪.‬‬

‫أهمية العبادات في السلم‬


‫‪ -36‬العبادات في السلم تنظم علقة الفرد بربه وتظهر عبوديته ل تعالى على وجه‬
‫واضح وهي حق ال الخالص على عباده وفي مقدمتها كما قلنا الصلة وأخواتها الوارد ذكرها‬
‫في الحديث‪ ،‬فهذه العبادات يجب الحرص عليها والدعوة إليها ول يجوز مطلقا التقليل من‬
‫شأنها‪ ،‬وهي بمجموعها تقوي اليمان وترسخه فهي له بمثابة الماء للنبات والهواء للنسان‪،‬‬
‫وهيهات أن يبقى اليمان على قوته إذا فرط المسلم بها‪.‬‬

‫أهمية الصلة‬
‫‪ -37‬ذكر ال تعالى الصلة في عشرات اليات في القرآن الكريم‪ ،‬وجاءت الحاديث مؤكدة‬
‫وجوبها وأهميتها‪ ،‬ومبينة أنها الفارق بين المسلم وغير المسلم‪ ،‬وأنها من صفات المؤمنين‬
‫المتقين‪ ،‬وأنه ل يجوز التفريط بها ل في القامة ول في السفر ول في حالة السلم ول في حالة‬
‫الحرب‪ ،‬ول في حالة الصحة ول في حالة المرض‪ ،‬وإن تركها والتكاسل عنها من صفات‬
‫المنافقين‪ .‬وكانت الوصية بها من آخر ما أوصى به رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي‬
‫أول ما يسأل عنه العبد يوم قدومه على ربه‪ .‬والصلة بعد هذا تزكية النفس وصلة العبد بربه‬
‫وتذكير مستمر له بعبوديته ل وبمعاني كلمة التوحيد‪ ،‬وهي صقل لروحه وغسل لدرانها‬
‫وأوساخها وهي قرة عين المسلم‪ ،‬إليها يفزع إذا ضاق الصدر وادلهمت الخطوب كما كان‬
‫يفعل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي التي تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لما فيها‬
‫من قراءة القرآن وتسبيح ال وذكره وتمجيده وما لهذا كله من تذكير للعبد ووقاية له من‬
‫المخالفة والعصيان‪ .‬ويكفي هنا أن نذكر بعض النصوص من القرآن والسنة النبوية في بيان‬
‫أهمية الصلة وعظيم أثرها‪.‬‬
‫أولً‪ :‬من القرآن الكريم‬ ‫‪-38‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬وأقيموا الصلة ول تكونوا من المشركين﴾‪.‬‬
‫﴿حافظوا على الصلوات والصلة الوسطى وقوموا ل قانتين﴾‪.‬‬
‫﴿إن الصلة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا﴾‪.‬‬
‫﴿الم‪ .‬ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين‪ .‬الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلة ومما‬
‫رزقناهم ينفقون﴾‪.‬‬
‫﴿إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلة إن ال مع الصابرين﴾‪.‬‬
‫﴿إن المنافقين يخادعون ال وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلة قاموا كسالى﴾‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬من السنة النبوية المطهرة‪:‬‬ ‫‪-39‬‬
‫قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬بين العبد وبين الكفر ترك الصلة"‪.‬‬
‫"العهد الذي بيننا وبينهم الصلة فمن تركها فقد كفر"‪.‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يقول لبلل "أرحنا بها – أي الصلة – يا بلل"‪ .‬وروي عنه صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه إذا حزّ به أمر صلّى‪.‬‬

‫أسرار الصلة‬
‫‪ -40‬هذا وإن للصلة أسرارا وحكما ليس هنا محل تفصيلها‪ ،‬ويدركها المسلم إذا أقبل عليها‬
‫بخشوع وتدبر وفهم ووعي وحضور ذهن‪ ،‬لما يتلوه من قرآن وما يذكره من أذكار‪ ،‬فهو يفتتح‬
‫الصلة بـ "ال أكبر" فال أكبر من كل كبير ومن كل ذي سلطان وقوة وجبروت‪ ،‬وما دام‬
‫العبد موصول بال الذي هو أكبر من كل شيء وأعز من كل شيء فلن يرهب المسلم أحدا‬
‫غير ال تعالى‪ ..‬وهكذا بقية الذكار تربي في المسلم معاني العبودية ل وتحرره من عبودية‬
‫غير ال وتنزع من قلبه كل معاني الطغيان والتعلق بغير ال‪.‬‬

‫بقية العبادات‬
‫‪ -41‬والعبادات الخرى‪ ،‬من صيام وحج وزكاة كلها تقوي اليمان وتزكي النفس وتصل‬
‫العبد بربه وتمل قلبه بمعاني العبودية ل تعالى‪ ،‬ففي الصيام إيثار لمحاب ال على شهوات‬
‫الجسد‪ ،‬وتعويد للمسلم على معاني الخلص‪ ،‬والرادة والصبر‪ ،‬وكل هذه معان جليلة يحتاجها‬
‫المسلم‪ .‬الزكاة طهرة للمسلم من داء البخل والشح وعبادة المال‪ ،‬وإيثار ل على محبة المال‪،‬‬
‫والسهام في تحقيق التعاون المطلوب شرعا باعانة ذوي الحاجات‪ .‬والحج تربية عملية للمسلم‪،‬‬
‫فان من منهج السلم في التربية أنه ل يكتفي أن يقول للمسلم كن صالحا فقط بل يقول له هذا‬
‫ويضع له مناهج عملية يسلكها ليكون صالحا‪ .‬ومن هذه المناهج العملية الحج‪ ،‬ففيه إظهار‬
‫لعبودية المسلم ل بصورة عملية وبشكل معين واضح يجتث جذور الطغيان وجراثيمه من نفس‬
‫المسلم‪ ،‬فان في النسان نزوعا إلى الطغيان قال تعالى‪﴿ :‬كل إن النسان ليطغى﴾‪ .‬هذا وهناك‬
‫عبادات أخرى غير المذكورة في حديث جبريل‪ ،‬ومنها العبادات القلبية كالتوكل على ال‬
‫ومحبته والستعانة به والطلب منه والشوق اليه والنس به والثقة به والخوف منه وكلها‬
‫مطلوبة من المسلم‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫أي العمال الصالحة أفضل‬
‫‪ -42‬ل شك في تفاضل العمال الصالحة من حيث الجر والثواب ومن حيث درجة طلب‬
‫الشرع لها‪ ،‬فالفرض أفضل من المندوب وما عظم نفعه للجماعة أفضل مما اقتصر نفعه على‬
‫فاعله‪ .‬والقاعدة في أفضل العمال الصالحة بالنسبة لشخص ما هو العمل المطلوب منه شرعا‬
‫في وقت معين وظرف معين‪ ،‬فالصلة حين حلول وقتها أفضل من غيرها وأوجب على المسلم‬
‫أن ينشغل بها من غيرها‪ ،‬والجهاد في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من القيام بنوافل‬
‫العبادات وطلب العلم‪ ،‬والصيام في وقته أفضل بالنسبة لمن وجب عليه من النشغال بغيره من‬
‫العبادات وهكذا‪ .‬وعلى المسلم أن يتحرى ما هو الحب ل تعالى في هذا الوقت أو في هذا‬
‫الظرف القائم فيسارع اليه ويفضله على ما سواه‪ ،‬وبهذا تتحقق فيه العبودية الخالصة ل بإيثاره‬
‫دائما ما يحبه ال على ما تحبه نفسه وتهواه وإن كان من العمال الصالحة‪.‬‬

‫أثر العبادات في صلح الفرد والمجتمع‬


‫‪ -43‬وللعبادات المختلفة تأثير واضح في سلوك الفرد فهي التي تزكي نفسه كما قلنا وتزيد‬
‫مراقبته لربه تعالى في السر والعلن والخوف منه فينزجر عن المعاصي والضرار بالناس‬
‫ويسارع إلى عمل الخير‪ ،‬ول شك أن المجتمع سيكون سعيدا اذا زاد فيه عدد الصالحين‬
‫الخائفين من ال تعالى‪ ،‬وان كمية الخير في المجتمع ستكثر وإن مقادير الشر والسوء ستقل‪.‬‬
‫وعلى هذا يمكننا أن نقول أن العبادات في السلم تصلح الفرد والمجتمع وتنفع الفرد‬
‫والمجتمع‪.‬‬

‫الفصل الثالث ‪ -‬خصائص السلم‬

‫تمهيد‬
‫للسلم خصائصه الخاصة به التي تميزه عن غيره تمييزا واضحا بارزا فهو من حيث‬ ‫‪-1‬‬
‫مصدره من عند ال‪ ،‬وهذه هي خصيصته الولى‪.‬‬
‫وهو من حيث مدى ونوع العلقات التي ينظمها والفعال التي يحكمها شامل وهذه هي‬
‫حصيصته الثانية‪.‬‬
‫وهو من حيث الشخاص الذين يحكمهم عام لجميع البشر باق ل يزول‪ .‬وهذه هي خصيصته‬
‫الثالثة‪.‬‬
‫وهو من حيث نوع الجزاء الذي يصيب مخالفه أو متبعه ذو جزاء أخروي بالضافة الى‬
‫جزائه الدنيوي‪ .‬وهذه خصيصته الرابعة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وهو من حيث نزوعه إلى المثالية دون إغفال للواقع مثالي وواقعي وهذه هي خصيصته‬
‫الخامسة‪.‬‬
‫وعلى هذا سنقسم هذا الفصل إلى خمسة مباحث ونجعل لكل خصيصة مبحثا على حدة‪.‬‬

‫المبحث الول ‪ -‬الخصيصة الولى‬


‫أنه من عند ال‬
‫‪ -2‬مصدر السلم‪ ،‬ومشرع أحكامه ومناهجه‪ ،‬هو ال تعالى فهو وحيه الى رسوله الكريم‬
‫صلى ال عليه وسلم باللفظ والمعنى (القرآن الكريم) وبالمعنى دون اللفظ (السنة النبوية)‪.‬‬
‫فالسلم بهذه الخصيصة يختلف اختلفا جوهريا عن جميع الشرائع الوضعية لن مصدرها‬
‫النسان‪ ،‬أما السلم فمصدره رب النسان‪ .‬ان هذا الفرق الهائل بين السلم وغيره ل يجوز‬
‫اغفاله مطلقا ول التقليل من أهميته‪.‬‬

‫النصوص الدالة على أن السلم من عند ال‬


‫‪ -3‬بيّنا فيما سبق أن القرآن من عند ال وأثبتنا ذلك بدليل العجاز‪ ،‬ومعنى ذلك أن كل آية‬
‫فيه هي من عند ال‪ ،‬ومعنى ذلك أيضا أن السلم هو من عند ال‪ .‬ومع هذا فمن المفيد ذكر‬
‫بعض اليات القرآنية الصريحة في أن القرآن الكريم هو من عند ال أنزله على رسوله الكريم‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمن هذه اليات‪:‬‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر‪.]01:‬‬
‫﴿ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر‪.]87 :‬‬
‫﴿وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم﴾ [النحل‪.]06 :‬‬
‫﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد ال مخلصا له الدين﴾ [الزمر‪.]02 :‬‬
‫﴿تنزيل الكتاب ل ريب فيه من رب العالمين﴾ [السجدة‪.]02 :‬‬
‫‪ -4‬والقرآن الكريم‪ ،‬وفيه معاني السلم‪ ،‬واجب التباع دون غيره من الكتب والديان‬
‫السماوية السابقة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا ال لعلكم ترحمون﴾‪.‬‬
‫‪ -5‬وسنة الرسول الكريم عليه الصلة والسلم هي الخرى كالقرآن واجبة التباع‪ ،‬وعلى‬
‫هذا دل القرآن‪ ،‬وذكرنا نصوصه في هذا الباب فيما سبق‪ ،‬لن الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫كما قال تعالى عنه‪﴿ :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إل وحي يوحى﴾‪.‬‬

‫ما يترتب على كون السلم من عند ال‬


‫أولً‪ :‬كماله وخلوه من النقائص‬

‫‪30‬‬
‫‪ -6‬ويترتب على كون السلم من عند ال كماله وخلوه من معاني النقص والجهل والهوى‬
‫والظلم‪ ،‬لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر في ما يصنعه‪ ..‬ولما كان ال تعالى‬
‫له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ويستحيل في حقه خلف ذلك‪ ،‬فان أثر هذا الكمال‬
‫يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد‪ ،‬وبالتالي ل بد أن يكون كامل‪ .‬وهذا بخلف‬
‫ما يصنعه النسان ويشرعه فانه ل ينفك عن معاني النقص والهوى والجهل والجور‪ ،‬لن هذه‬
‫المعاني لصقة بالبشر ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد وبالتالي تظهر هذه النقائص في‬
‫القوانين والشرائع التي يصنعونها‪.‬‬
‫ويكفينا هنا أن نذكر مثال واحدا للتدليل على ما نقول‪ :‬جاء السلم بمبدأ المساواة بين الناس‬
‫في الحقوق وأمام القانون بغض النظر عن اختلفهم في الجنس أو اللغة أو اللون أو الحرفة أو‬
‫الغنى أو الفقر‪ ،‬وأقام ميزان التفاضل على أساس التقوى والعمل الصالح‪ .‬وقد ورد هذا المبدأ‬
‫العظيم في القرآن والسنة النبوية‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‬
‫وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند ال أتقاكم﴾ وجاء في الحديث الشريف أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬يا أيها الناس ان ربكم واحد وان أباكم واحد أل ل فضل‬
‫لعربي على أعجمي ول لعجمي على عربي ول لحمر على أسود ول لسود على أحمر إل‬
‫بالتقوى"‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"‪.‬‬
‫وبلغت دقة تطبيق هذا المبدأ إلى حد أن النبي صلى ال عليه وسلم أنكر على مسلم عربي قوله‬
‫لمسلم غير عربي "يا ابن السوداء" واعتبر هذا القول من بقايا الجاهلية الولى‪.‬‬
‫وواضح من ذلك أن التشريع السلمي ارتفع إلى أعلى مستوى من العدالة والمساواة في‬
‫نظرته إلى الفراد وان اختلفوا في الجنس واللون واللغة وغير ذلك وطبق هذا المبدأ فعل في‬
‫واقع الحياة‪.‬‬
‫وفي القرن العشرين‪ ،‬وفي عصرنا الحاضر‪ ،‬وبالرغم من الضجيج الهائل في العالم حول‬
‫المساواة وتسطير هذا المبدأ في دساتير الدولة‪ ،‬فانه ل يزال مجرد كلم ل نصيب له في‬
‫الواقع إل الشيء القليل‪ .‬ففي الوليات المتحدة المريكية فل تزال الفروق قائمة بين المواطنين‬
‫في أبسط الحقوق على أساس اللون والجنس‪ ،‬فصاحب البشرة البيضاء أسمى منزلة وأعلى‬
‫قدرا من صاحب البشرة السوداء ول مساواة بين الثنين في الحقوق الدمية ول أمام القانون‪.‬‬
‫ولو كان هذا التفريق والتمايز في واقع الحياة فقط لمكن أن يدعي البعض أنه من انحراف‬
‫الفراد ول تسأل عنه الدولة ولكن الواقع أن القانون نفسه يقر ويعترف صراحة بهذا التمايز‬
‫الظالم بين السود والبيض ويحميه وان كان الثنان يحملن الجنسية المريكية‪ .‬فمن هذه‬
‫النصوص القانونية في بعض الوليات المريكية‪" :‬ان النكاح بين شخصين أبيض وآخر زنجي‬

‫‪31‬‬
‫يعتبر نكاحا باطل"‪ .‬وبطلن العقد هنا ل يرجع إلى نقص أهلية العاقدين فأهليتهما كاملة وانما‬
‫يرجع إلى شيء آخر خطير في نظر القانون هو أن أحد طرفي عقد النكاح ذو بشرة بيضاء‬
‫بينما الطرف الخر في العقد ذو بشرة سوداء‪..‬‬
‫ومن هذه النصوص أيضا في بعض الوليات المتحدة المريكية‪ :‬أن كل من يطبع أو ينشر أو‬
‫يوزع ما فيه دعوة أو حث للجمهور على اقرار المساواة الجتماعية والزواج بين البيض‬
‫والسود أو تقديم حجج للجمهور أو مجرد اقتراح في هذا السبيل يعتبر عمله جريمة يعاقب‬
‫عليها القانون بغرامة ل تتجاوز خمسمائة دولر أو بالسجن مدة ل تتجاوز ستة أشهر أو‬
‫بالعقوبتين‪ .‬ان هذا النص يوغل في اتباع الهوى والجور والظلم دون حياء أو خجل أو وخز‬
‫من ضمير الى درجة أنه يعاقب من يدعو إلى المساواة بين مواطنين أمريكيين يحملون‬
‫الجنسية المريكية ولكنهم يختلفون في ألوان أجسادهم ووجوههم‪ .‬فهل أدل من هذا على نقص‬
‫النسان وجهله وجوره؟‬
‫أما التمايز بين رعايا المستعمر "بكسر الميم" وأهل البلد المنكوبة بالستعمار فحدث ول‬
‫حرج‪ ،‬فالمستعمرون يضعون من القوانين ما يجعل أهل البلد المستعمرة بمنزلة البهائم‪ ،‬دون‬
‫أن يشعر هؤلء المستعمرون بتأنيب ضمير أو بجورهم على هؤلء الدميين‪ .‬وما يعتبرونه‬
‫ظلما في بلدهم وبالنسبة لرعاياهم يعتبرونه حقا وعدل بالنسبة لهل البلد المنكوبة‬
‫باستعمارهم‪ .‬وهذا وغيره يدل على مدى ما عند النسان من ظلم وجور وهوى ومحاباة‬
‫وجهل‪.‬‬
‫‪ -7‬ثانيا‪ :‬ويترتب أيضا على كون السلم من عند ال‪ ،‬انه يظفر بقدر كبير جدا من الهيبة‬
‫والحترام من قبل المؤمنين به‪ ،‬مهما كانت مراكزهم الجتماعية وسلطاتهم الدنيوية‪ ،‬لن هذه‬
‫السلطات وتلك المراكز ل تخرجهم من دائرة الخضوع ل تعالى واحترام شرعه‪ ،‬وطاعة هذا‬
‫الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على اليمان ول يقسر عليها المسلم قسرا‪ .‬وفي‬
‫هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون السلمي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا‬
‫الخروج‪ .‬أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها النسان فانها ل تظفر بهذا المقدار من‬
‫الحترام والهيبة‪ ،‬إذ ليس لها سلطان على النفوس ول تقوم على أساس من العقيدة واليمان‬
‫كما هو الحال بالنسبة للسلم ولهذا فان النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما‬
‫وجدت فرصة لذلك وقدرة على الفلت من ملحقة القانون وسلطان القضاء ورأت في هذه‬
‫المخالفة اتباعا لهوائها وتحقيقا لرغباتها‪ .‬ان القانون ل يكفي أن يكون صالحا بل ل بد له من‬
‫ضمانات تكفل حسن تطبيقه‪ ،‬ومن أول هذه الضمانات‪ ،‬ايجاد ما يصل هذا القانون بنفوس‬
‫الناس ويحملهم على الرضى به والنقياد له عن طواعية واختيار‪ .‬ول يحقق مثل هذه الضمانة‬

‫‪32‬‬
‫مثل السلم‪ ،‬لنه أقام تشريعاته على أساس اليمان بال واليوم الخر ورسوله محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وان اللتزام الختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا اليمان‪.‬‬
‫وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثل واحدا بشأن واقعة معينة عالجها السلم بتشريعه‬
‫ونجح في هذه المعالجة‪ ،‬وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية وفشلت في هذه‬
‫المعالجة‪.‬‬
‫من المعروف أن العرب قبل السلم كانوا مولعين بشرب الخمر ل يجدون فيه منقصة ول‬
‫منكرا‪ ،‬وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القرب والحباب‪ .‬فلما أتى‬
‫السلم بتحريم الخمر بقوله تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والنصاب‬
‫والزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ كان لكلمة ﴿فاجتنبوه﴾ قوة هائلة‬
‫تفوق قوة الجيش والشرطة وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر‪ ..‬لقد‬
‫قام المسلمون الى زقاق الخمر فأراقوها‪ ،‬وإلى دنانه فكسروها‪ ،‬وفطموا نفوسهم من شرب‬
‫الخمر حتى غدوا وكأنهم ل يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل‪ ..‬لن أمر ال ورد ﴿‬
‫فاجتنبوه﴾ وأوامر ال من شأنها الحترام والطاعة‪.‬‬
‫وفي القرن العشرين ارادت الوليات المتحدة المريكية تخليص مواطنيها من الخمر‪ ،‬وقبل ان‬
‫تشرع قانون تحريم الخمر‪ ،‬مهدت له بدعاية واسعة جدا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون‪،‬‬
‫وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب‪ .‬استعانت بالسينما ومسارح‬
‫التمثيل وبالذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والحصائيات من قبل‬
‫العلماء والطباء والمختصين بالشؤون الجتماعية‪ ،‬وقد قدر ما انفق على هذه الدعاية بـ (‬
‫‪ )65‬مليون من الدولرات وكتبت تسعة آلف صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه‪.‬‬
‫وانفق ما يقرب من (‪ )10‬عشرة مليين دولر من أجل تنفيذ القانون‪ .‬وبعد هذه الدعاية‬
‫الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة ‪1930‬م وبموجبه حرم بيع‬
‫الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها‪ .‬فما كانت النتيجة؟ لقد دلت الحصائيات‬
‫للمدة الواقعة بين تشريعه وبين تشرين الول سنة ‪1933‬م انه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون‬
‫مائتا نفس وحبس نصف مليون شخص وغرم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة‬
‫مليين دولر‪ ،‬وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولر‪ .‬وكان آخر المطاف‬
‫أن قامت الحكومة المريكية بالغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة ‪1933‬م‪ ،‬ولم تستطع‬
‫تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في‬
‫نفوس المواطنين وبالتالي قاموا بمخالفته مما حمل الحكومة على الغائه‪ ،‬لن القانون لم يكن له‬
‫سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته‪ ،‬ومن ثم فشل والغي‪ .‬أما كلمة ﴿فاجتنبوه﴾‬
‫التي جاء بها السلم في جزيرة العرب فقد أثرت أعظم التأثير وطبقت فعل وأريقت الخمور‬

‫‪33‬‬
‫من قبل أصحابها وامتنعوا عنها‪ ،‬ل بقوة شرطي ول بقوة جندي ول رقيب ولكن بقوة اليمان‬
‫وطاعة المسلمين لشرائع السلم واحترامهم لها‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ -‬الخصيصة الثانية‬


‫الشمول‬
‫‪ -8‬قلنا في بعض تعاريف السلم انه نظام شامل لجميع شؤون الحياة وسلوك النسان‪ .‬ان‬
‫هذا الوصف للسلم وصف حقيقي ثابت للسلم ل يجوز تجريده منه ال بالفتراء عليه أو‬
‫بسبب الجهل به‪ .‬وشمول السلم هذا لشؤون الحياة وسلوك النسان ل يقبل الستثناء ول‬
‫التخصيص‪ ،‬فهو شمول تام بكل معاني كلمة الشمول‪ ،‬وهذا بخلف المبادئ والنظم البشرية‬
‫فان الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شؤونها‪ ،‬ول شأن له فيما عدا ذلك‪ .‬وعلى هذا‬
‫فل يمكن للمسلم أن يقول ان هذا المجال لي انظم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم السلم‪،‬‬
‫ل يمكن ان يقول المسلم هذا لن السلم يحكمه من يافوخه إلى أخمص قدميه‪ ،‬وللسلم في‬
‫كل ما يصدر النسان حكم خاص‪ ،‬كما له حكمه في كل ما يضعه في رأسه من أفكار وفي‬
‫قلبه من ميول‪ .‬وعلى هذا ل يجوز للمسلم ابدا أن يسمح لغير نظام السلم أن ينظم أي جانب‬
‫من جوانب حياته لنه ان فعل ذلك دخل في نطاق معنى قول ال تعالى‪﴿ :‬أفتؤمنون ببعض‬
‫الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إل خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة‬
‫يردون إلى أشد العذاب وما ل بغافل عما تعملون﴾‪.‬‬
‫وأحكام السلم الثابتة لفعال النسان وتصرفاته وعلقاته مع غيره هي الوجوب والندب‬
‫والتحريم والكراهة والباحة والصحة والبطلن‪ ،‬والفعال التي تتعلق بها هذه الحكام تسمى‬
‫على التوالي‪ :‬الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح والصحيح والباطل‪.‬‬
‫انواع أحكام السلم بالنسبة لما تتعلق به‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫وأحكام السلم بالنسبة لما تتعلق به تنقسم إلى القسام التية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أحكام العقيدة السلمية‪ ،‬وهي تتعلق بأمور العقيدة كاليمان بال واليوم الخر وهذه هي‬
‫المور العتقادية‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أحكام الخلق‪ ،‬وهي المتعلقة بما يجب أن يتحلى به المسلم‪ ،‬وما يجب أن يتخلى عنه‬
‫كوجوب الصدق وحرمة الكذب‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أحكام تتعلق بتنظيم علقة النسان بخالقه‪ ،‬كالصلة والصيام وغيرها من العبادات‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أحكام تتعلق بتنظيم علقات الفراد فيما بينهم وهذه على أنواع‪:‬‬
‫أحكام السرة من نكاح وطلق وإرث ونفقة‪ ..‬الخ وتسمى في الصطلح الحديث‬ ‫أ‌)‬
‫بأحكام السرة أو قانون الحوال الشخصية‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ب‌) أحكام تتعلق بعلقات الفراد ومعاملتهم كالبيع والجارة والرهن والكفالة‪ ،‬وهي التي‬
‫تسمى في الصطلح الحديث بأحكام المعاملت المالية أو بالقانون المدني‪.‬‬
‫أحكام تتعلق بالقضاء والدعوى واصول الحكم والشهادة واليمين والبينات وهي تدخل‬ ‫ت‌)‬
‫فيما يسمى اليوم بقانون المرافعات‪.‬‬
‫ث‌) أحكام تتعلق بمعاملت الجانب غير المسلمين عند دخولهم الى اقليم الدولة السلمية‪،‬‬
‫والحقوق التي يتمتعون بها والتكاليف التي يلتزمون بها‪ ،‬وهذه الحكام تدخل فيما يسمى اليوم‬
‫بالقانون الدولي الخاص‪.‬‬
‫أحكام تتعلق بتنظيم علقات الدولة السلمية بالدول الخرى في السلم والحرب‪،‬‬ ‫ج‌)‬
‫وتدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدولي العام‪.‬‬
‫ح‌) أحكام تتعلق بنظام الحكم وقواعده‪ ،‬وكيفية اختيار رئيس الدولة‪ ،‬وشكل الحكومة‪،‬‬
‫وعلقات الفراد بها‪ ،‬وحقوقهم ازاءها‪ ،‬وهي تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الدستوري‪.‬‬
‫خ‌) أحكام تتعلق بموارد الدولة السلمية ومصارفها‪ ،‬وتنظيم العلقات المالية بين الفراد‬
‫والدولة‪ ،‬وبين الغنياء والفقراء‪ ،‬وهي تدخل في القانون المالي بمختلف فروعه‪.‬‬
‫د‌) أحكام تتعلق بتحديد علقة الفرد بالدولة من جهة الفعال المنهي عنها "الجرائم ومقدار‬
‫عقوبة كل جريمة"‪ ..‬وهذه تدخل فيما يسمى اليوم بالقانون الجنائي ويلحق بهذه الحكام‬
‫الجراءات التي تتبع في تحقيق الجرائم وانزال العقوبات بالمجرمين وكيفية تنفيذها‪ ،‬وهي‬
‫تدخل فيما يسمى اليوم بقانون تحقيق الجنايات أو بقانون المرافعات الجزائية‪.‬‬

‫مقارنة بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية‬


‫‪ -10‬وواضح مما قدمناه ان الشريعة في شمولها تختلف مع جميع القوانين الوضعية‪ ،‬لن‬
‫شمولها كامل تام بكل معنى الكلمة‪ ،‬فما من حدث ول عمل يصدر عن النسان‪ ،‬ول علقة‬
‫تقوم بينه وبين غيره‪ ،‬ال وللشريعة حكم فيها‪ .‬فأمور العقيدة والخلق والعبادات تدخل في‬
‫نطاق شمول الشريعة ول تدخل في نطاق تنظيم القوانين الوضعية‪ .‬وحتى في نطاق العلقات‬
‫البشرية التي تنظمها القوانين الوضعية فإن الشريعة تختلف اختلفا بيّنا مع القوانين الوضعية‬
‫في هذا المجال من ناحيتين (الولى) ناحية مراعاة الخلق (الثانية) من ناحية الحل والحرمة‪.‬‬
‫‪ -11‬الناحية الولى – مراعاة المعاني الخلقية – فالشريعة السلمية راعت جانبها كل‬
‫الرعاية وسمحت لها بالتسرب الى القواعد القانونية والمتزاج بها واقامة الحكام التنظيمية‬
‫عليها‪ .‬وهذا بخلف القوانين الوضعية حيث انها ل تراعي المعاني الخلقية‪ ،‬بل ان الصل‬
‫فيها هو الفصل بين القواعد الخلقية والقواعد القانونية فالغدر والخيانة وعدم اللتزام بالكلمة‬
‫معاني ذميمة في ميزان الخلق ومن ثم ل تجوز ول تباح في جميع العلقات التي تنظمها‬

‫‪35‬‬
‫الشريعة السلمية والحكام التي تقررها سواء أكانت هذه العلقات بين فرد وفرد أو بين دولة‬
‫ودولة ونكتفي هنا بضرب مثال واحد فقط ليظهر لنا مدى تمسك التشريع السلمي بالمعاني‬
‫الخلقية في أدق العلقات وأخطرها ولو ترتب على هذا التمسك تضحيات جسيمة‪ .‬يقرر‬
‫الفقهاء المسلمون ان الجنبي (غير المسلم) اذا دخل اقليم الدولة السلمية بأمان ولمدة معينة‬
‫ل يجوز تسليمه الى دولته اذا طلبته خلل هذه المدة ولو على سبيل المفاداة بأسير مسلم‬
‫عندها‪ ،‬ويبقى المنع من تسليمه قائما حتى لو هددت دولته الدولة السلمية باعلن الحرب‬
‫عليها اذا لم تسلمها اياه‪ .‬ويعلل الفقهاء هذا الحكم بان الجنبي دخل اقليم الدولة السلمية بأمان‬
‫منها فعلى الدولة السلمية ان تفي بعهدها له فيبقى آمنا ل يمسه سوء‪ ،‬وتسليمه بدون رضاه‬
‫غدر منها بعهدها له ل رخصة فيه فل يجوز في شرع السلم‪ .‬ويبقى المنع من تسليمه وعدم‬
‫الحاق أي ضرر به حتى لو قتلت دولته جميع رعايا الدولة السلمية المقيمين في أرضها لن‬
‫فعلها ظلم ول مقابلة بالظلم‪ ،‬هكذا يقول الفقهاء‪ ،‬فأي مستوى رفيع بلغه التشريع السلمي في‬
‫التزامه بالمعاني الخلقية في أدق الظروف واحرج الوقات‪ ،‬مما ل نجد له نظيرا ابدا في أي‬
‫تشريع وضعي آخر ل في القديم ول في الجديد‪ ،‬ول عجب من ذلك فالشريعة السلمية من‬
‫عند ال‪ ،‬وما يأتي من ال هو الحق الخالص والعدل الخالص‪.‬‬
‫‪ -12‬الناحية الثانية – جهة الحل والحرمة في الفعل نفسه – فان الفعل قد يكون صحيحا في‬
‫ظاهره لستيفائه شروط الصحة المطلوبة ولكنه يعتبر حراما لمخالفة حقيقته الباطنة او قصد‬
‫صاحبه لما يأمر به السلم‪ .‬ان هذه الصفة للشيء في الحل والحرمة تبقى لصقة بالفعل وان‬
‫صدر بها حكم قضائي يقضي بخلف ذلك الذي يدعي دينا آخر ظلما ويثبت ذلك امام‬
‫المحكمة‪ ،‬فإن حكيم المحكمة انه محق في مطالبته أو يستحق الدين من صاحبه‪ ،‬بل يبقى المر‬
‫عند ال تعالى على حقيقته وهو ان هذا المدعي ارتكب حراما وأكل سحتا وهذا ل يجوز في‬
‫شرع ال ول ينفعه حكم الحاكم بما ادعى لنفسه ظلما‪ ،‬لن الحاكم يحكم حسب الظاهر وال‬
‫يتولى السرائر‪ ،‬ولن مناط الثواب والعقاب في الخرة على حقائق الفعال ونيات النسان‪،‬‬
‫وما ارتكبه من حلل أو حرام‪ .‬والصل في تعلق الحقوق وثبوت الثار الشرعية على حقيقة‬
‫الفعل وكونه حلل جائزا ظاهرا وباطنا‪ ،‬ولكن لما كان الباطن أمرا خفيا يعجز النسان عن‬
‫ادراكه أو يتعذر عليه ولجل استقرار المور وجريان الحكام على أسس ثابتة وقواعد‬
‫مضبوطة‪ ،‬فقد اعتبرت الشريعة السلمية الظاهر وجعلت صحته ومطابقته لمتطلبات الشريعة‬
‫قرينة على صحة الباطن وحله ومناطا لتعلق الحقوق وثبوت الثار‪ .‬ولكن الشيء أو الفعل‬
‫يبقى بالرغم من ذلك موصوفا بالحل والحرمة بناء على حقيقته الباطنة‪ ،‬وما يترتب على هذا‬
‫الوصف من جواز القدام عليه أو تحريمه وما يتبع ذلك من ثواب أو عقاب‪ ،‬لن الحكم حسب‬
‫الظاهر ل يقلب الحلل حراما ول الحرام حلل‪ ،‬وبالتالي ل يحل للمسلم أن يبيح لنفسه فعل‬

‫‪36‬‬
‫الحرام أو أكله وان أباح له ذلك القضاء‪ .‬يدل على ما قلناه قول النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"انما انا بشر وانكم تختصمون الي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له‬
‫على نحو ما أسمع منه‪ ،‬فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فل يأخذ منه شيئا فانما اقطع له‬
‫قطعة من النار"‪ .‬ولهذا اذا ظهر الباطن ظهورا كافيا وتكشفت حقيقته فالعبرة به ل بالظاهر‪.‬‬
‫ان أهمية ما بيناه تظهر في حفظ حقوق الناس وكف بعضهم عن بعض عن العتداء‪ ،‬ذلك أن‬
‫المسلم يعلم بأن اقدامه على الحرام أو العتداء أو هضم حقوق الغير ل يفيده ول يخلصه من‬
‫المسؤولية وان استطاع في الدنيا التخلص من المسؤولية أو التهرب من القانون أو التحايل‬
‫على القضاء‪ ،‬أو اخفاء حقيقة نفسه وفعله‪ ،‬إن هذه المور التي ل تخفى على ال أبدا‬
‫وسيحاسب عليها عند مثوله أمام المحكمة اللهية الرهيبة في الخرة‪ ،‬وعلى هذا الساس فان‬
‫المسلم ل يقدم على شيء إل إذا كان حللً ول يطالب بشيء إل إذا كان له وان استطاع‬
‫المطالبة بما ليس له‪ ،‬ول يرتكب ما ل يحل له وان استطاع اخفاء ذلك عن القضاء وبهذا‬
‫تحفظ الحقوق ويأمن الناس عليها وتقل الخصومات والمنازعات‪ ،‬ويقل عدد المراجعين‬
‫للمحاكم‪ ،‬وفي هذا كله أعظم ضمان لحسن تنظيم علقات الفراد فيما بينهم وعدم ضياع‬
‫الحقوق على اصحابها‪ .‬وهذا مما ل يوجد في القوانين الوضعية‪ ،‬فإن المسألة عندها تنتهي‬
‫بانتهاء صدور القرار من المحكمة ول شيء بعد هذا‪ ،‬اذ ل سلطان للقوانين الوضعية على‬
‫أمور الخرة وليس فيها المعاني التي ذكرناها‪.‬‬

‫المبحث الثالث ‪ -‬الخصيصة الثالثة‬


‫العموم‬
‫‪ -13‬من بديهيات السلم وصفاته الصلية انه جاء لعموم البشر ولم يأت لطائفة معينة منهم‬
‫أو لجنس خاص من أجناسهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا﴾ وقال‬
‫تعالى‪﴿ :‬قل يا أيها الناس إني رسول ال إليكم جميعا﴾ وعموم السلم هذا غير مقصور على‬
‫فترة معينة من الزمن أو جيل خاص من البشر وانما هو عموم في الزمان كما هو عموم في‬
‫المكان‪ ،‬ولهذا فهو باق ل يزول ول يتغير ول ينسخ‪ ،‬لن الناسخ يجب ان يكون في قوة‬
‫المنسوخ سواء أكان النسخ كليا أم جزئيا‪ ،‬وحيث ان السلم ختم الشرائع السابقة كلها وان‬
‫محمدا صلى ال عليه وسلم هو خاتم النبياء والمرسلين‪ ،‬فمعنى ذلك أن الشرائع اللهية‬
‫انقطعت وان الوحي اللهي لم يعد ينزل على أحد‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ما كان محمد أبا أحدٍ من‬
‫رجالكم ولكن رسول ال وخاتم النبيين﴾ وعلى هذا ل يتصور أن ينسخ السلم أو يغيره‬
‫شيء‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ -14‬وقد يقال هنا‪ :‬لماذا كانت الشريعة السلمية خاتمة الشرائع‪ ،‬أما كان من الفضل‬
‫والنفع استمرار تنزل الشرائع اللهية وابقاء باب الرسالت اللهية مفتوحا؟ والجواب ل‪ ،‬لن‬
‫تنزل الشرائع ليس من قبيل العبث واللهو‪ ،‬وانما هو لسد نقص في تشريع سابق‪ ،‬أو لكماله‬
‫بتشريع لحق مناسب لمستوى البشرية‪ ،‬وحيث ان الشريعة السلمية كاملة تامة سدت كل ما‬
‫لم تأت به الشرائع السابقة وأكدت ما جاءت به هذه الشرائع السابقة فل حاجة ول داعي‬
‫لمجيء شريعة أخرى قال تعالى‪﴿ :‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم‬
‫السلم دينا﴾ فمع هذا الكمال التام ل داعي لمجيء شريعة أخرى‪ ،‬وحيث ل شريعة أخرى فل‬
‫رسول آخر بعد محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -15‬وعموم الشريعة السلمية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو‬
‫الزيادة كل ذلك يستلزم عقل وعدل أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به‬
‫على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان ويفي بحاجاتهم ول يضيق بها ول يتخلف‬
‫عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع البشري‪ .‬إن هذا والحمد ل متوافر في الشريعة السلمية‬
‫لن ال تعالى‪ ،‬وهو العليم الخبير‪ ،‬اذ جعلها عامة في المكان والزمان‪ ،‬وخاتمة لجميع الشرائع‪،‬‬
‫جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان‪ ،‬ومهيأة للبقاء والستمرار لهذا العموم‪ ..‬إن‬
‫ما نقوله هو الحق‪ ،‬ويدل عليه واقع الشريعة السلمية وطبيعة مبادئها وأحكامها وأفكارها‬
‫ومناهجها‪ ،‬ول بد هنا من بيان موجز كل اليجاز لظهار هذا المعنى واثبات صحة ما نقوله‬
‫بالدلة والبراهين‪.‬‬
‫الدليل الول‪ :‬مكانة المصلحة في الشريعة‬
‫‪ -16‬يقوم هذا الدليل على اظهار مدى حرص الشريعة السلمية على مصالح الناس‬
‫الحقيقية ودرء المفاسد عنهم‪ .‬والواقع ان الشريعة السلمية ما شرعت ال لتحقيق مصالح‬
‫العباد في العاجل والجل‪ ،‬أي في الدنيا والخرة‪ ،‬ودرء المفاسد والضرار عنهم في العاجل‬
‫والجل أيضا‪ ،‬حتى إن بعض الفقهاء‪ ،‬قال – وقوله حق‪" :‬ان الشريعة كلها مصالح‪ ،‬إما درء‬
‫مفاسد أو جلب مصالح"‪ .‬وقد يظن البعض أن هذا القول مبالغ فيه‪ ،‬والواقع أنه ل مبالغة فيه‪،‬‬
‫لن ما قلناه عنها ونقلنا قول بعض الفقهاء عنها‪ ،‬وصف ثابت للشريعة ولكل حكم من‬
‫أحكامها‪ ،‬فل يخرج شيء منها عن هذا الوصف أو الغرض العام الذي تريد الشريعة تحقيقه‬
‫للعباد في عاجلهم وآجلهم‪ .‬ونكتفي هنا بذكر بعض الدلة الجزئية على هذه الحقيقة التي تكون‬
‫البرهان الول‪.‬‬
‫‪( -17‬أ) قال تعالى في تعليل رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ﴿وما أرسلناك إل رحمة‬
‫للعالمين﴾ والرحمة تتضمن قطعا رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم‪ ،‬ول يمكن أن تكون‬
‫رحمة إذا اغفلت هذه المصالح‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪( -18‬ب) تعليل الحكام بجلب المصلحة ودرء المفسدة لعلم البشر بان تحقيق المصالح‬
‫هو مقصود السلم‪ ،‬وأن الحكام ما شرعت إل لهذا الغرض‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ولكم في القصاص‬
‫حياة يا أولي اللباب﴾‪ .‬فالقصاص شرع لتحقيق هذه المصلحة وهي الحياة للناس أي المن‬
‫والستقرار والطمئنان وحقن الدماء بزجر من تسول له نفسه العتداء على ارواح الناس‪.‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم‬
‫عن ذكر ال وعن الصلة فهل أنتم منتهون﴾ فتحريم الخمر يمنع عن الناس مفسدة الصد عن‬
‫ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬ودرء المفسدة ل شك في انه وجه من وجوه المصلحة‪ ،‬لن المصلحة‬
‫لها وجه ايجابي وهو جلب نفع لم يكن‪ ،‬ووجه سلبي وهو دفع ضرر أو مفسدة‪ .‬وهكذا بقية‬
‫الحكام بل استثناء ل يخرج منها أي حكم كان سواء أكان من أحكام العتقادات أو العبادات‬
‫أو غير ذلك‪ .‬نعم‪ ،‬قد يجهل البعض تفاصيل المصلحة في حكم من الحكام‪ ،‬ولكن هذا الجهل‬
‫ليس بحجة على انتفاء المصلحة‪ ،‬فإن النسان قد يجهل تفاصيل منفعة دواء ولكن جهله به ل‬
‫يمنع من تحقيق المصحلة فيه‪ ،‬فإذا كان هذا واقعيا فيما يضعه انسان فكيف ل يكون فيما‬
‫يضعه خالق النسان؟ هذه واحدة‪ .‬والثانية أن المصلحة المقصودة في التشريع السلمي ل‬
‫تقتصر على مصالح الدنيا وانما تتجاوزها الى مصالح الخرة أي إلى اعداد النسان للظفر‬
‫بالسعادة الدائمة بجوار الرب الكريم الرحيم‪.‬‬
‫‪( -19‬جـ) تشريع الرخص عند وجود المشقات في تطبيق الحكام اذا كانت هذه المشقات‬
‫فوق طاقة البشر المعتادة‪ ،‬من ذلك اباحة النطق بكلمة الكفر عند الكراه عليها بالتهديد بالقتل‬
‫ونحوه‪ ،‬واباحة المحرم عند الضرورة مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند التعرض للهلك‬
‫جوعا‪ ،‬واباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر‪ .‬ول شك ان دفع المشقة ضرب من‬
‫ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة عن الناس‪.‬‬
‫‪( -20‬د) عرف بالستقراء والتأمل ان مصالح العباد تتعلق بأمور ضرورية أو حاجية أو‬
‫تحسينية‪ ،‬فالولى هي التي ل قيام لحياة الناس بدونها واذا فاتت حل الفساد وعمت الفوضى‬
‫واختل نظام الحياة‪ .‬وهذه الضروريات هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪.‬‬
‫أما الحاجيات فهي التي يحتاجها الناس لتحقيق اليسر والسعة في عيشهم وإذا فاتتهم لم يختل‬
‫نظام الحياة ولكن يصيب الناس ضيق وحرج‪.‬‬
‫وأما التحسينيات فهي التي ترجع إلى محاسن العادات ومكارم الخلق واذا فاتت خرجت حياة‬
‫الناس عن النهج القويم السليم الذي تقضي به الفطر السليمة والعادات الكريمة‪.‬‬
‫وأحكام الشريعة كلها تحقق وتحفظ مصالح الناس المتعلقة بالضروريات الحاجيات‬
‫والتحسينات‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -21‬فبالنسبة للضروريات شرع للدين – لقامته وتحقيقه – العبادات وشرع لحفظه الجهاد‬
‫وعقوبة المرتد‪ ،‬وزجر من يفسد على الناس عقيدتهم والنفس شرع ليجادها النكاح‪ ،‬وشرع‬
‫لحفظها القصاص على من يعتدي عليها‪ ،‬وتحريم إلقاء النفس بالتهلكة ولزوم دفع الضرر‬
‫عنها‪ .‬والعقل شرع لحفظه تحريم الخمر وعقوبة شاربها‪ .‬والنسل شرع ليجاده الزواج‪،‬‬
‫وشرع لحفظه عقوبة الزنى والقذف‪ ،‬وحرمة اجهاض المرأة الحامل‪ .‬والمال شرع لتحصيله‬
‫أنواع المعاملت من بيع وشراء ونحو ذلك‪ ،‬وشرع لحفظه حرمة أكل مال الناس بالباطل أو‬
‫اتلفه بل وجه سائغ مشروع‪ ،‬والحجر على السفيه‪ ،‬وتحريم الربا وعقوبة السرقة‪.‬‬
‫‪ -22‬وبالنسبة للحاجيات شرعت لها الرخص عند المشقة‪ ،‬وشرع الطلق للخلص من حياة‬
‫زوجية لم تعد تطاق‪ .‬وشرعت الدية في القتل الخطأ على عاقلة القاتل‪.‬‬
‫‪ -23‬وفي التحسينيات شرعت الطهارة للبدن والثوب‪ ،‬وستر العورة‪ ،‬وأخذ الزينة عند كل‬
‫مسجد‪ ،‬والنهي عن بيع النسان على بيع أخيه‪ ،‬والنهي عن قتل الطفال والنساء في الحروب‪.‬‬
‫‪ -24‬فاستقراء نصوص الشريعة يدل على أن السلم ما قصد بتشريعه الحكام للناس إل‬
‫لحفظ هذه الضروريات والحاجيات والتحسينات‪ ،‬وهذه هي مصالحهم في الدنيا والخرة‪ .‬واذا‬
‫تعارضت المفاسد والمصالح رجح أعظمها مصلحة أو أقلها مفسدة‪ ،‬فقتل القاتل مفسدة لن فيه‬
‫تفويت حياته ولكنه جاز لن فيه مصلحة أعظم وهي حفظ حياة الناس‪ .‬وكشف العورة مفسدة‬
‫ولكن إذا احتيج اليها لجراء عملية جراحية ضرورية‪ ،‬جاز الكشف لن مصلحة حفظ النفس‬
‫من الهلك أكبر من مفسدة كشف العورة‪ .‬وترك المحتكر دون اعتراض عليه أو منع له‬
‫مصلحة له ولكن فيه مفسدة أكبر وهي الضرار بالناس فشرع المنع من الحتكار‪ .‬والدفاع‬
‫عن البلد يعرض النفوس الى القتل وهذه مفسدة ولكن ترك العداء يدخلون بلد المسلمين‬
‫مفسدة أعظم من قتل النفوس فكان في دفعهم بقتالهم مصلحة أكبر من مفسدة هلك النفوس في‬
‫هذا القتال‪ .‬وهكذا تجري أحكام الشريعة على نمط واحد هو جلب المصالح ودرء المفاسد‪.‬‬
‫‪ -25‬وعلى هذا فكل مصلحة مشروعة حقيقية تظهر أو مفسدة تطرأ فان الشريعة السلمية‬
‫تبيح ايجاد الحكم لتحقيق تلك المصلحة ودرء المفسدة في ضوء قواعد الجتهاد المقررة في‬
‫الفقه السلمي‪ ،‬لن الشريعة كما يقول الفقيه ابن القيم‪" :‬مبناها وأساسها على الحكم ومصالح‬
‫العباد في المعاش والمعاد‪ ،‬وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها‪ ،‬فكل مسألة‬
‫خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة الى ضدها وعن المصلحة الى المفسدة وعن‬
‫الحكمة الى العبث فليست من الشريعة وان ادخلت فيها بالتأويل‪ ،‬فالشريعة عدل ال بين عباده‬
‫ورحمته بين خلقه"‪.‬‬
‫ونخرج من جميع ما تقدم ان الشريعةالسلمية وما جاءت به من احكام صريحة في نصوصها‬
‫وما ابتني عليها من أحكام اجتهادية في ضوء موازين الجتهاد الصحيح ل يمكن ابدا أن‬

‫‪40‬‬
‫تضيق بحاجات الناس المشروعة ول تعجز عن تحقيق مصالحهم الحقيقية في أي زمان‬
‫ومكان‪.‬‬

‫الدليل الثاني‪ :‬مبادئ الشريعة وطبيعة احكامها‬


‫‪ -26‬أحكام الشريعة نوعان‪( :‬الول) جاء بشكل قواعد ومبادئ عامة و (الثاني) جاء بشكل‬
‫أحكام تفصيلية‪ .‬وكل النوعين جاء على نحو يوافق كل مكان وزمان ويتفق مع عموم الشريعة‬
‫وبقائها‪ .‬ول بد من الكلم بايجاز عن كل نوع‪.‬‬
‫النوع الول‪ :‬القواعد والمبادئ العامة‪.‬‬ ‫‪-27‬‬
‫وردت في الشريعة قواعد ومبادئ عامة تتضمن أحكاما عامة يمكن بسهولة ويسر تطبيقها في‬
‫كل مكان وزمان‪ ،‬وقد صيغت بكيفية تمكنها من سهولة هذا التطبيق ويسره‪ ،‬كما ان معناها‬
‫الحق ل يمكن أن يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع‪ .‬وبالتالي يتسع لكل مصلحة‬
‫حقيقية جديدة للناس‪ .‬كما ان هذه القواعد والمبادئ تعتبر كالساس لما يقوم عليها من أحكام‬
‫جزئية ولما يتفرع عنها من فروع فمن هذه القواعد والمبادئ‪:‬‬
‫أولً‪ :‬مبدأ الشورى‪.‬‬ ‫‪-28‬‬
‫وهو مبدأ أصيل من مبادئ الشريعة في نظام الحكم السلمي ووصف من أوصاف المسلمين‬
‫في تجمعهم ومباشرتهم أمور الحكم والسلطان‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وأمرهم شورى بينهم﴾ وقال‬
‫تعالى لرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‪﴿ :‬وشاورهم في المر﴾‪ .‬إن هذا المبدأ أسمى‬
‫وأعدل وأحكم قواعد الحكم الصالح بين البشر ول يمكن الستعاضة عنه بغيره‪ ،‬وقد جاء‬
‫بدرجة كافية من العموم والمرونة بحيث يتسع لكل تنظيم صحيح يوضع لتطبيق هذا المبدأ‬
‫وسيأتي شيء من التفصيل لهذا المبدأ عند الكلم عن نظام الحكم في السلم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مبدأ المساواة‪.‬‬ ‫‪-29‬‬
‫وهو أيضا من مبادئ السلم العظيمة‪ ،‬وله مظاهر كثيرة في جميع جوانب التشريع السلمي‪،‬‬
‫منها المساواة أمام القانون‪ ،‬وفي تطبيق الحكام‪ ،‬وفي المراكز القانونية اذا ما تساوى‬
‫الشخاص في الشروط التي يشترطها التشريع السلمي‪ ،‬ومساواة في التكاليف اذا تساوى‬
‫الفراد في أسبابها الموجبة‪ .‬ان هذا المبدأ العظيم طبق فعل في واقع الحياة‪ ،‬وحرص النبي‬
‫الكريم صلى ال عليه وسلم على تطبيقه‪ ،‬فقد جاء في السنة الشريفة أن امرأة من بني مخزوم‬
‫سرقت فجاء اسامة بن زيد يستشفع لها عند رسول ال‪ ،‬فقال الرسول صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"أتشفع في حد من حدود ال؟ ثم قال عليه الصلة والسلم‪ :‬انما أهلك الذين من قبلكم انهم كانوا‬
‫اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد‪ ،‬وايم ال لو أن فاطمة‬
‫بنت محمد سرقت لقطعت يدها"‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ول شك أن المساواة وما ابتني عليها وما تفرع عنها‪ ،‬قاعدة يهش لها العقل السليم وتتقبلها‬
‫الفطرة السليمة وتستقيم بها المور وتنصلح الحوال ومن ثم فهي صالحة في كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مبدأ العدالة‪.‬‬ ‫‪-30‬‬
‫العدالة في السلم مبدأ بارز‪ ،‬يظهر هذا البروز في المر بها والحكم بين الناس بموجبها‪،‬‬
‫واللتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد‪ ،‬والعدو الصديق وفي المحكمة وفي السوق‪ ،‬وإدارة‬
‫شؤون الدولة وفي البيت‪ ،‬وحتى فيما يعطيه الب لولده‪ .‬ان روح العدل وجوهره اعطاء كل‬
‫ذي حق حقه واستعمال كل شيء في موضعه وهذا المعنى الواسع للعدل يحكم جميع تصرفات‬
‫النسان وعلقاته بغيره وواجباته نحو غيره من بني النسان‪.‬‬
‫ومن النصوص القرآنية الواردة في موضوع العدل قوله تعالى‪﴿ :‬إن ال يأمركم أن تؤدوا‬
‫المانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ وقوله تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا كونوا قوامين ل شهداء بالقسط ول يجرمنّكم شنآن قوم على ال تعدلوا اعدلوا هو أقرب‬
‫للتقوى﴾‪ .‬ول شك ان هذا المبدأ يضمن مصالح الناس ويتسع لكل تنظيم صحيح يحقق معنى‬
‫العدالة والمقصود منها‪ ،‬فإذا رؤي ان تحقيق العدالة في القضاء يستلزم جعل المحاكم على‬
‫درجتين ابتدائية واستئنافية‪ ،‬او ان المحكمة تؤلف من أكثر من حاكم واحد‪ ،‬أو تعيين هيئة‬
‫تدقيقية لحكام المحاكم "محكمة التمييز" فهذا ونحوه سائغ جائز ما دام فيه تحقيق العدالة في‬
‫القضاء على وجه سليم‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬قاعدة ل ضرر ول ضرار‪.‬‬ ‫‪-31‬‬
‫وهي حديث نبوي ومعناها ان الضرر مرفوع بحكم الشريعة أي ل يجوز لحد ايقاع الضرر‬
‫بنفسه أو بغيره‪ ،‬كما أن مقابلة الضرر بالضرر ل يجوز لنه عبث وإفساد ل معنى له‪ ،‬فمن‬
‫أحرق مال غيره فل يجوز للغير احراق مال المعتدي وانما له أن يطالبه بالتعويض‪ .‬واذا كان‬
‫الضرر ممنوعا فانه اذا وقع وجب رفعه‪ ،‬ولهذا جاءت قاعدة فرعية مبنية على هذه القاعدة‬
‫هي "الضرر يزال"‪ .‬وهناك فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة منها تقرير حق‬
‫الشفعة‪ ،‬ومنع التعسف في استعمال الحق‪ ،‬وحق السلطة في اتخاذ الجراءات الوقائية لمنع‬
‫الضرر عن الناس كحجر المرضى والقادمين الى البلد في محاجر خاصة‪ ،‬والتسعير في‬
‫ظروف معينة‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الحكام التفصيلية‪.‬‬ ‫‪-32‬‬
‫الحكام التفصيلية في الشريعة السلمية كثيرة يطول شرحها وبيانها وفحصها لظهار مدى‬
‫قابليتها للبقاء والستمرار‪ ،‬ولهذا نكتفي بأخذ "عينات" و "نماذج" من هذه الحكام للتأمل فيها‬
‫وفحصها والتحديق فيها ليتبين لنا مدى صلحيتها للبقاء والعموم‪ .‬إن أحكام الشريعة كما ذكرنا‬

‫‪42‬‬
‫إما أن تتعلق بأمور العقيدة‪ ،‬أو بالخلق‪ ،‬أو بالعبادات أو بالمعاملت‪ .‬وعلى هذا نأخذ بعض‬
‫النماذج من كل مجموعة من هذه المجموعات‪.‬‬
‫‪ -33‬فمن أحكام العقيدة وجوب اليمان بال وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬ومسألة‬
‫اليمان بال ورسوله من المسائل البديهية التي يؤمن بها كل عقل سليم وكف فطرة سليمة‪،‬‬
‫وعليها من الدلة والبراهين ما ل يوجد على غيرها من البديهيات‪ .‬وقد قدمنا بعض ذلك اثناء‬
‫كلمنا عن أركان السلم‪ .‬وعلى هذا فل يتصور مجيء زمان أو جيل من الناس يقال فيه‪ :‬إن‬
‫مسألة اليمان بال وما يتفرع عنها من مسائل العقيدة أو مسألة اليمان بمحمد محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم أصبحت من المسائل العتيقة التي تناقض العصر ول يقرها العقل‪ ،‬لن العقل ل‬
‫ينكر الحقائق الثابتة وانما يؤكدها ويعمقها في النفس‪ ،‬ولن شأن الحقائق الثابتة الخلود‪ ،‬والعقل‬
‫يعترف ويقر بهذا الثبات‪ .‬ول شك ان اليمان بال من الحقائق الثابتة الخالدة التي ل يمكن أن‬
‫تتغير وتنقض في أي زمان فهي كمسألة واحد وواحد يساوي اثنين‪.‬‬
‫‪ -34‬ومن أحكام العبادات وجوب الصلة والصيام ونحو ذلك‪ .‬ومسائل العبادة من لوازم‬
‫اليمان بال ومقتضاه‪ ،‬لنها تنظيم لعلقة الفرد بخالقه والوفاء بحق هذا الخالق العظيم‪،‬‬
‫والنسان ل ينفك عن صفة مخلوقيته ل في أي دهر من الدهور وفي أي زمن من الزمان‪،‬‬
‫وبالتالي ل ينفك عن وجوب أداء حق ال عليه ول يستغني عن تنظيم علقته بربه‪ .‬والعبادات‬
‫بعد هذا‪ ،‬وسيلة لتزكية النفس وطهارتها وحشوها بمعاني الحق وتخليتها من الكدورات وربطها‬
‫بخالقها ودفعها إلى الخير ومنعها من الشر وقد أشار القرآن الكريم لبعض هذه المعاني في‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾‪ .‬ول شك ان المجتمع سيكون سعيدا جدا‬
‫اذا كثرت فيه النماذج البشرية التي صقلتها عبادات السلم‪ ،‬وسيكثر فيه الخير قطعا ويقل فيه‬
‫الشر ان لم ينعدم‪ ،‬وفي ذلك كله تحقيق كبير لمصلحة الجماعة في كل زمان ومكان ومن ثم‬
‫فأحكام العبادات ل بد منها في أي مجتمع انساني وبالنسبة لكل فرد في القرن العشرين أو في‬
‫أي قرن بعده‪.‬‬
‫‪ -35‬وأحكام الخلق كوجوب الصدق والوفاء والمانة واللتزام بالكلمة والتعاون على‬
‫البر‪ ،‬وحرمة الكذب والغدر والخيانة والتعاون على الشر‪ ،‬والتحلل من المسؤولية‪ ،‬واستغلل‬
‫النفوذ‪ ،‬والظلم‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬أقول هذه الحكام الخلقية بالوجوب والتحريم ضرورية لكل‬
‫انسان ولكل مجتمع انساني يريد الصلح والسداد‪ .‬انه ل يغني عن الخلق أي تقدم في مجال‬
‫الثقافة والعلوم‪ ،‬ان الزمة التي يمر بها العالم اليوم‪ ،‬والضطراب في المجتمعات وسوء‬
‫العلقات بين الفراد مردها الى زعزعة القيم الخلقية في النفوس وتجاوزها فهي أزمة‬
‫أخلقية في جوهرها وأساسها‪ .‬والشريعة في تأكيدها على الخلق لم تكن مسرفة في هذا‬
‫التأكيد ول مبالغة فيه لنها أكدت على ما هو ضروري لقامة قواعد الصلح على أساس‬

‫‪43‬‬
‫متين ابتداء من النفس‪ ..‬والخلق بعد هذا معان ثابتة يحتاجها النسان السوي ول يتصور ان‬
‫يجيء يوم يقال فيه‪ :‬إن الصدق والعدل والوفاء بالعهد وترك الظلم معان فاسدة عتيقة لم تعد‬
‫صالحة لزماننا أو عصرنا اللهم ال اذا ارتد النسان الى جاهلية جهلء لم تصل اليها الجاهلية‬
‫الولى‪ ...‬وسيأتي مزيد من التفصيل للخلق فيما بعد‪.‬‬
‫‪ -36‬والحكام التفصيلية الخرى المتعلقة بالمعاملت‪ ،‬أي بعلقات الفراد فيما بينهم‪ ،‬هي‬
‫الخرى صالحة للبقاء والعموم لن تفصيلها بني على أساس ان الحاجة اليها تبقى قائمة دائما‬
‫وأن غيرها ل يسد مسدها أبدا ول يحقق مصلحة الناس على الوجه الذي تحققه‪.‬‬
‫‪ -37‬فمن هذه الحكام تنظيم السرة وكيفية الزواج وحق الحضانة والولية والنسب‬
‫والميراث‪ ،‬والطلق‪ ،‬والنفقة ونحو ذلك من شؤون السرة‪ .‬وكل هذه الحكام جاءت على نحو‬
‫صالح واف كاف لتحقيق الخير والصلح للناس ول يمكن الستعاضة عنها بأحسن منها‪،‬‬
‫فالنكاح جاء تنظيمه غاية في البساطة وخاليا من الشكلية والطقوس فيكفي فيه ايجاب من‬
‫الرجل وقبول من المرأة بحضور شهود وبرضى ولي المرأة صيانة لهذا العقد الشريف الكريم‬
‫من البتذال والخداع‪ ،‬ول يشترط لصحة النكاح أن يكون على يد شخص معين أو في مكان‬
‫معين أو بكيفية خاصة أو بلغة معينة أو بتراتيل معينة‪ ،‬فهذه الكيفية البسيطة للنكاح يؤهله‬
‫للبقاء والعموم ول يتصور العقل خيرا منها‪.‬‬
‫وتشريع الطلق هو الشيء الطبيعي المعقول اذ ل يصح اجبار شخصين على ابقاء الرابطة‬
‫الزوجية بالرغم من قيام ما يدعو إلى انفصالها وانما المعقول أن تباح الفرقة بينهما ليذهب كل‬
‫واحد إلى سبيله ويجرب حظه في شركة أخرى وزوجية جديدة‪ .‬ولهذا أباحت الدول الغربية‬
‫الفرقة بين الزوجين بالرغم من تحريمه بزعمهم في الديانة النصرانية‪ .‬ول يقال لماذا اعطي‬
‫للزوج حق الطلق ومنعت منه المرأة‪ ،‬لننا نقول ان للمرأة ان تشترط لنفسها حق الطلق في‬
‫عقد الزواج اذا شاءت وهذا شرط معتبر‪ ،‬كما لها أن تطلب التفريق من المحكمة إذا مسها‬
‫ضرر من الزوج ل يمكن تلفيه إل بإيقاع الفرقة بينهما‪.‬‬
‫وتنظيم الميراث وتحديد انصبة الورثة جاء على شكل ممتاز لوحظ فيه مختلف العتبارات‬
‫كقرب الوارث وحاجته وتفتيت الثروة وتوزيعها مما يجعل هذا التنظيم وما بني عليه من أسس‬
‫واعتبارات صالحا لكل زمان ومكان‪.‬‬
‫‪ -38‬وتحريم الربا‪ ،‬وهو حكم يخص المعاملت المالية‪ ،‬حكم تفصيلي غير قابل للتبديل‬
‫والنسخ‪ ،‬لن مفاسد الربا واضراره ذاتية فيه ل تنفك عنه ابدا ومن مظاهره انحلل المجتمع‬
‫وفساده واستساغته للظلم وفقدان التعاون الجتماعي بين افراده‪ .‬وعلج مثل هذا المجتمع‬
‫الفاسد يكون باصلحه جذريا ل بترك فساده واعوجاجه وتشريع الحكام الملئمة لهذا الفساد‬
‫والعوجاج‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫‪ -39‬والعقوبات في الشريعة جاءت مفصلة لعدد من الجرائم وهي الردة‪ ،‬والزنى‪ ،‬والقذف‪،‬‬
‫والسرقة‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬وقتل النفس‪ .‬اما الجرائم الخرى فقد تركت الشريعة‬
‫تقدير عقوبتها الى القاضي وتسمى الجرائم التعزير‪ ،‬وعقوبتها تسمى عقوبات التعزير‪.‬‬
‫والعقوبات المقدرة كلها خير وصلح وعدل ووقاية للمجتمع من الشرور والمفاسد ول يستغني‬
‫أي مجتمع فاضل عنها‪ ،‬لنها بنيت على أساس العدالة وتحقيق الزجر الكافي للمجرم وحفظ‬
‫مصلحة الفرد والجماعة‪ .‬فعقوبة الردة بنيت على اصلين‪( :‬الول) اخلل المسلم بالتزامه‬
‫بأحكام السلم (الثاني) درء المفسدة عن المجتمع‪ .‬وبيان ذلك أن الفرد بإسلمه التزم بأحكام‬
‫ل بالتزامه فيناله جزاء هذا‬
‫السلم وأصوله وعدم الخروج عليها أو هدمها‪ ،‬فإن فعل ذلك مخ ً‬
‫الخلل‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فان في الردة واعلنها مفسدة للجماعة واضرارا بها‬
‫مع التعمد وسبق الصرار‪ ،‬لن المرتد ما كنا نعرفه لول اعلن ردته المتعمدة قاصدا من‬
‫وراء ذلك تشكيك الناس في عقائدهم واحداث الضطراب فيما بينهم وزعزعة كيان الدولة التي‬
‫اتخذت السلم أساسا لها في قيامها وبقائها وأهدافها‪.‬‬
‫فكان ل بد من عقوبة زاجرة لمنع هذا الفساد عن الناس وعن الدولة ذاتها التي اتخذت السلم‬
‫أساسا لها كما قلنا‪ .‬وعقوبة الزنى بنيت على أساس رعاية الخلق ومنع افسادها للفرد‬
‫والسرة والمجتمع كشيوع المراض واختلط النساب وخراب البيوت والعزوف عن الزواج‬
‫وما إلى ذلك‪ .‬والشريعة من أصولها وأهدافها العناية بالخلق ومنع الفساد عن الناس ول شك‬
‫ان المجتمع الفاضل يرحب بهذه العقوبة ول يضيق بها ول يجد فيها ال الخير والمصلحة‬
‫وزجر المفسدين الذي يريدون التلهي والعبث بأعراض الغير‪.‬‬
‫وعقوبة السرقة – وهي قطع اليد – هي العلج الحاسم لقطع دابر هذا العتداء على أموال‬
‫الغير‪ ،‬وإشاعة الطمأنينة في نفوس الناس‪ .‬ان قطع يد واحدة ثمن قليل جدا لتحقيق طمأنينة‬
‫المجتمع‪ .‬ان قطع اليد الخائنة المجرمة كقطع اليد المتآكلة التي يقرر الطبيب وجوب قطعها‬
‫لسلمة الجسد‪ .‬ان عقوبة السجن للسراق ما ردعت وما قللت حوادث السرقة‪ ،‬ولكن عقوبة‬
‫قطع اليد ردعت في الماضي المجرمين عن السرقات‪ ،‬ول تزال هذه العقوبة قادرة على الردع‬
‫والزجر في الوقت الحاضر‪ ،‬وكون هذه العقوبة قديمة ل يقدح في صلحها‪ ،‬فليس كل قديم‬
‫فاسدا ول كل جديد صالحا لن صلح الشيء يستفاد من ذاته ومدى نفعه ل من جدته وقدمه‪.‬‬
‫وعقوبة القتل العمد في الشريعة السلمية هي القصاص أي قتل الجاني‪ .‬والقصاص حق لهل‬
‫المجني عليه فلهم ان يطلبوه ول يسع المحكمة المتناع عن اجابتهم‪ ،‬كما لهم أن يعفوا‬
‫ويتصالحوا مع القاتل على الدية‪ .‬وفي حالة العفو أو المصالحة يجوز للمحكمة أن تعاقب القاتل‬
‫عقوبة تعزيرية بالحبس أو الجلد‪ ،‬فهذا التنظيم لعقوبة القتل العمد تنظيم كامل لم يغفل جانب‬

‫‪45‬‬
‫الطبيعة البشرية وما جبلت عليه من حب أخذ الثأر من الجاني وانزال القصاص العادل به‪،‬‬
‫كما لم يغفل جانب المجتمع ومصلحته‪.‬‬
‫فجميع العقوبات الفصيلية قامت على معان واوصاف ثابتة ل تتغير ومن ثم فهي صالحة لكل‬
‫مجتمع فاضل يريد ان يعيش بأمان واطمئنان‪.‬‬
‫‪ -40‬أما عقوبات التعزير‪ ،‬وهي بالنسبة لجميع الجرائم التي لم تحدد الشريعة لها عقوبات‪،‬‬
‫فالقاضي في تحديده العقوبة يلحظ مدى جسامة ضررها بالمجتمع‪ ،‬وسوابق المجرم‪ ،‬وظروفه‬
‫التي دفعته الى الجرام‪ ،‬إلى غير ذلك من المور ويقرر بعد ذلك العقوبة المناسبة في ضوء‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ ول شك أن نظام التعزير نظام مرن في الشريعة‬
‫يمكنها من مواجهة مختلف الحالت التي يلزم فيها العقاب‪ ،‬وبالتالي يكون صالحا لكل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬
‫الدليل الثالث‪ :‬مصادر الحكام‬ ‫‪-41‬‬
‫مصادر الحكام الشرعية‪ ،‬نوعان‪( :‬الول) مصادر أصلية وهي الكتاب والسنة النبوية (الثاني)‬
‫مصادر تبعية قامت على المصادر الصلية كالجماع والجتهاد بأنواعه المختلفة كالقياس‬
‫والستحسان والمصلحة المرسلة‪.‬‬
‫وهذه المصادر كلها تجعل الشريعة السلمية في غاية القدرة والستعداد والهلية للبقاء‬
‫والعموم‪ ،‬بحيث ل يحدث شيء جديد ال وللشريعة حكم فيه‪ ،‬إما بالنص الصريح أو بالجتهاد‬
‫الصحيح‪ ،‬وبالتالي ل تضيق الشريعة بالوقائع الجديدة وبالتالي ل تضيق بحاجات الناس‬
‫ومصالحهم‪.‬‬
‫‪ -42‬ومن جميع ما تقدم من أدلة وبراهين يظهر لنا بغاية الوضوح ان الشريعة السلمية‬
‫شريعة فيها كل مقومات العموم المكاني والزماني‪ ،‬ومن ثم فهي صالحة للجميع وفي جميع‬
‫الزمان‪ ،‬وهذا من فضل ال على بني النسان‪.‬‬

‫المبحث الرابع ‪ -‬الخصيصة الرابعة‬


‫الجزاء في السلم‬

‫‪ -43‬أحكام السلم‪ ،‬ليست نصائح وارشادات خالية من الثواب والعقاب‪ .‬إنها ارشادات‬
‫ونصائح حقا ولكن لها ثواب حسن ينال الملتزم بها‪ ،‬ولها عقاب يصيب المخالف لها‪ ،‬على‬
‫درجات متفاوتة في العقاب والثواب‪.‬‬
‫والصل في أجزية السلم وعقوباته انها في الخرة ل في الدنيا‪ ،‬ولكن مقتضيات الحياة‬
‫وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علقات الفراد على نحو واضح مؤثر وضامن لحقوق‬

‫‪46‬‬
‫الناس كل ذلك دعا الى ان يكون الجزاء الخروي جزاء دنيوي‪ ،‬أي مع العقاب الخروي‬
‫عقاب توقعه الدولة في الدنيا على المخالف لحكام السلم‪.‬‬
‫ونطاق الجزاء في السلم واسع شامل شمول السلم لجميع شؤون الحياة ومن ثم فأجزية‬
‫السلم تتعلق بأمور العقيدة والخلق والعبادات والمعاملت‪ .‬فكل مخالفة لهذه المور لها‬
‫جزاؤها في الخرة وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضا‪.‬‬
‫والجزاء في الدنيا ل يمنع الجزاء في الخرة عن المخالف العاصي ال اذا اقترنت معصيته‬
‫بالتوبة النصوح والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه النسان‪ ،‬وعلى العزم الكيد‬
‫على عدم العودة إلى هذه المخالفة‪ ،‬وعلى التحلل من حقوق الغير اذا كانت معصية تتعلق بهذه‬
‫الحقوق‪.‬‬
‫وقد ترتب على هذا الجزاء الخروي خضوع المسلم لحكام الشريعة خضوعا اختياريا في‬
‫السر والعلن خوفا من عقاب ال‪ ،‬وحتى لو استطاع الفلت من عقاب الدنيا‪ ،‬لن العقاب‬
‫الخروي ينتظره ول يستطيع الفلت منه‪ .‬ولهذا اذا ارتكب المسلم جريمة أو معصية في‬
‫غفلة من ايمانه طلب إقامة العقوبة عليه بمحض اختياره‪ ،‬فهذا ماعز اعترف أمام الرسول‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم بجريمة الزنى وطلب إقامة الحد "العقوبة" عليه‪ .‬وهكذا تنزجر‬
‫النفوس من مخالفة القانون السلمي اما بدافع الحترام له والحياء من ال تعالى واما بدافع‬
‫الخوف من العقاب الجل الذي ينتظر المخالفين ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير‬
‫محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا﴾ ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا‬
‫يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة‬
‫والعصيان‪.‬‬

‫المبحث الخامس ‪ -‬الخصيصة الخامسة‬


‫المثالية والواقعية‬
‫تمهيد‬
‫‪ -44‬من خصائص السلم انه يحرص على ابلغ النسان أعلى مستوى ممكن من الكمال‬
‫وهذه هي مثالية السلم‪ .‬ولكنه ل يغفل عن طبيعة النسان وواقعه وهذه هي واقعية السلم‪.‬‬
‫فل بد من الكلم عن هاتين الناحيتين في مطلبين متتاليين‪.‬‬

‫المطلب الول ‪ -‬المثالية في السلم‬


‫المقصود بالمثالية‬

‫‪47‬‬
‫‪ -45‬قلنا ان السلم يحرص على إبلغ النسان الكمال المقدور له‪ ،‬وهذا يكون بجعل‬
‫تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والوضاع والكيفيات‬
‫التي جاء بها السلم‪ ،‬وقد تحقق ذلك كله في رسول ال صلى ال عليه وسلم ولذلك أمرنا ال‬
‫تعالى بالتاسي به ﴿لقد كان لكم في رسول ال أسوة حسنة﴾ وقوام هذه المثالية العتدال‬
‫والشمول‪.‬‬

‫أولً‪ :‬العتدال‬
‫‪ -46‬ونقصد بالعتدال عدم الفراط والتفريط في أي شيء واعطاء كل ذي حق حقه‪ .‬يدل‬
‫على ذلك قول ال تعالى‪﴿ :‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ وقال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ول تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾ وقال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬خير المور أوسطها"‪.‬‬
‫‪ -47‬والعتدال مطلوب حتى في العبادات فل ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده‪،‬‬
‫يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس رضي ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬جاء ثلثة‬
‫رهط إلى بيوت ازواج رسول ال صلى ال عليه وسلم يسألون عن عبادته‪ .‬فلما أخبروا كأنهم‬
‫تقالوها‪ ،‬قالوا‪ :‬أين نحن من رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما‬
‫تأخر؟ قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل ابدا وقال الخر وانا أصوم الدهر ول أفطر وقال الخر‬
‫وانا اعتزل النساء ول أتزوج ابداء فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال انتم الذين قلتم‬
‫كذا وكذا‪ ،‬أما وال اني لخشاكم ل واتقاكم له‪ ،‬ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج‬
‫النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني"‪.‬‬
‫‪ -48‬وتعذيب الجسد وتحميله ما ل يطيق ليس من مناهج السلم ووسائله لبلوغ الكمال‬
‫المنشود‪ ،‬اذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك‪ ،‬ول من مقاصد السلم تعذيب‬
‫الجسد ل قصد الغايات ول قصد الوسائل‪ ،‬ومن ظن ذلك فهو واهم فان مثالية السلم يمكن‬
‫بلوغها بنهج معتدل وسير مريح‪ ،‬وان الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد ويقعد به عن اداء‬
‫الفرائض فضل عن النوافل‪ ،‬ومن خرج عن هذا النهج وجب رده اليه‪ ،‬جاء في الحديث ان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رجل قائما في الشمس فسأل عنه فقالوا‪ :‬يا رسول ال انه‬
‫نذر ان يقوم في الشمس ول يقعد ول يستظل ول يتكلم ويصوم‪ .‬فقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫"مروه فليتكلم وليقعد وليتم صومه"‪ .‬فالصوم مطلوب‪ ،‬ولكن الوقوف في الشمس حيث يمكن‬
‫الوقوف في الظل غير مطلوب ول معنى فيه‪ ،‬وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار ل داعي له‬
‫ول فائدة فيه‪ .‬وسر المسألة ان الجسد مركب الروح وليس من الحكمة خرق المركب أو‬
‫اضعافه‪ ،‬والجسد مستقر الروح ومسكنها وليس من المصلحة تخريبه ول من الكمال المنشود‬

‫‪48‬‬
‫هضمه حقه‪ ،‬وان الروح هي الخرى لها حق في الراحة والستجمام ل يجوز التفريط فيه‪،‬‬
‫جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس رضي ال عنه ان رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم دخل المسجد فاذا حبل ممدود بين الساريتين فقال "ما هذا" قالوا‪ :‬حبل لزينب فإذا فترت‬
‫تعلقت به‪ .‬فقال ل‪ ،‬حلوه‪ .‬ليصل أحدكم نشاطه فاذا فتر فليقعد"‪.‬‬
‫وفي وصية رسول ال صلى ال عليه وسلم لعثمان بن مظعون "فان لهلك عليك حقا وإن‬
‫لضيفك عليك حقا فصم وافطر وصل ونم"‪.‬‬
‫‪ -49‬وحرمان النسان نفسه أو جسده من الطيبات والمتع الحلل ليس من منهاج السلم في‬
‫بلوغ الكمال‪ ،‬وانما منهاجه في العتدال‪ ،‬فاذا وجد النسان أو تيسر له شيء من الطيبات‬
‫بطريق الحلل أخذه وتناوله ول يقدح ذلك في تعلقه بمثالية السلم‪ ،‬وإذا لم يجده لم يأس عليه‬
‫وهكذا كان يفعل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفي كتاب ال ﴿يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تحرموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يحب المعتدين﴾ ﴿وكلوا مما رزقكم ال‬
‫حللً طيبا واتقوا ال الذي أنتم به مؤمنون﴾ فالمطلوب لبلوغ الكمال تقوى ال وليس تحريم‬
‫الطيبات وحرمان الجسد أو النفس منها‪.‬‬
‫‪ -50‬ومع هذا فقد يسوغ أو يندب أو يجب أخذ النسان نفسه بالشدة وخشونة العيش ورضاه‬
‫بالضيق إذا كان ذلك لغرض مشروع أو مقصد نبيل أو لسبب مقبول‪ ،‬كما لو كان المسلم في‬
‫مقام القدوة‪ ،‬أو بسبب ايثار الغير على نفسه‪ ،‬أو بسبب امتناعه عما ل يجوز له فتعرض الى‬
‫ما ذكرنا‪ .‬وعلى هذا الساس يجب أن نفهم سيرة أسلفنا الصالحين وما روي عنهم من أخذ‬
‫نفوسهم بالشدة وامتناعهم عن كثير من طيبات العيش ونعومته‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬الشمول‬
‫‪ -51‬والمثالية في السلم تتصف بالشمول‪ ،‬لن السلم يريد من المسلم ان يبلغ الكمال‬
‫المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه‪ ،‬فل يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيها‬
‫المستوى العالي من الكمال‪ ،‬بينما يهمل الجوانب الخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى‬
‫المطلوب‪ ،‬ان مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر اعضائه رخوة هزيلة ضعيفة‪ .‬وعلى هذا‬
‫الساس فهم الصحابة الكرام مثالية السلم فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة‪ ،‬وإنما تقلبوا في‬
‫جميع العبادات والحوال وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال‪ ،‬فلم يحبسوا نفوسهم في مكان‬
‫ول على نوع من العبادة ول على نمط معين من العمال‪ ،‬وانما باشروا الجميع‪ ،‬فعند الصلة‬
‫كانوا في المسجد يصلون‪ ،‬وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين‪ ،‬وعند الجهاد‬
‫يقاتلون‪ ،‬وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون‪ ،‬وهكذا كان شأنهم في جميع الحوال‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫المطلب الثاني ‪ -‬الواقعية في السلم‬
‫‪ -52‬والسلم ل يغفل طبيعة النسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى‬
‫الرفيع الذي يرسمه لهم‪ ،‬وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل السلم حدا أدنى أو مستوى‬
‫أدنى من الكمال ل يجوز الهبوط عنه لن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على‬
‫نحو معقول ولنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولنه وضع على‬
‫نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الرتفاع إلى مستوى الكمال‪ .‬إن هذا المستوى الدنى‬
‫يتكون من جملة معاني يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض‪ ،‬كما يشمل جملة معان يجب‬
‫هجرها وهي المسماة بالمحرمات‪ .‬ان هذه الفرائض والمحرمات جعلت بقدر طاقة أقل الناس‬
‫استعدادا لفعل الخير وابتعادا عن الشر ومن ثم يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه‪ ،‬ول يعذر في‬
‫التخلف عنها‪ .‬ولكن بجانب هذا المستوى اللزامي الواجب بلوغه على كل مسلم‪ ،‬وضعت‬
‫الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي‪،‬‬
‫فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج شديد‪ ،‬والحرج في شرع السلم مرفوع لنه يخالف نظرة‬
‫السلم الواقعية قال تعالى‪﴿ :‬وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وقال تعالى‪﴿ :‬ل يكلف ال‬
‫نفسا إل وسعها﴾‪ ..‬وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها‪،‬‬
‫والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها‪.‬‬
‫وهذان المستويان الدنى والعلى موجودان في تشريعات السلم‪ ،‬نذكر منها على سبيل المثال‬
‫ل الحصر ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬الصلة‪ :‬منها ما هو فرض‪ ،‬ومنها ما هو مندوب‪ ،‬فالول يدخل في معاني المستوى‬
‫الدنى‪ ،‬والثاني يدخل في معاني المستوى العلى‪ ،‬وفيه جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫"ما من عبد مسلم يصلي ل تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة ال بنى‬
‫ال له بيتا في الجنة"‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الصيام‪ :‬الفرض منه صيام شهر رمضان‪ ،‬وهذا من معاني الحد الدنى المطلوب‪،‬‬
‫وصيام ست من شوال‪ ،‬وأيام البيض من كل شهر‪ ،‬وصوم الثنين والخميس من معاني‬
‫المستوى العلى‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الحج‪ :‬فرضه مرة في العمر‪ ،‬وما زاد فتطوع وهو من معاني المستوى العلى‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬وفي انفاق المال في سبيل ال‪ ،‬فريضة الزكاة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أقيموا الصلة وآتوا‬
‫الزكاة﴾ وفي صدقة التطوع يقول ال تعالى‪﴿ :‬وما تنفقوا من خير فلنفسكم وما تنفقون ال‬
‫ابتغاء وجه ال‪ ،‬وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم ل تظلمون﴾‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬وفي القتل العمد شرع القصاص قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص‬
‫في القتلى﴾ فلهل القتيل المطالبة به‪ ،‬وهذا حقهم‪ ،‬ول تثريب عليهم فيه‪ ،‬ولكن السلم ندب‬

‫‪50‬‬
‫إلى العفو‪ ،‬وهو من معاني المستوى العلى‪ ،‬وفيه قال تعالى في نفس الية‪﴿ :‬فمن عفي له من‬
‫أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان﴾‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬وفي العتداء بصورة عامة تجوز المعاقبة بالمثل‪ ،‬والعفو والصبر أفضل‪ ،‬وهما من‬
‫معاني المستوى العلى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو‬
‫خير للصابرين﴾‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬وفي البيوع والشربة‪ :‬حبب السلم للمسلم أن يكون سهلً في بيعه وشرائه ومقاضاته‪،‬‬
‫وهذه كلها من معاني المستوى العلى قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬رحم ال رجلً‬
‫سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى"‪.‬‬
‫ثامنا‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬فرض كفائي يجب وجوده في المة‪ ،‬ويسوغ تركه‬
‫باليد واللسان والكتفاء بانكار القلب بالنسبة لحاكم ظالم طاغية ل يتسع صدره لسماع النصيحة‬
‫ويقتل من يأمره أو ينهاه‪ ،‬ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه وان أدى ذلك إلى‬
‫قتله‪ ،‬وهذا من معاني المستوى العلى يدل على ذلك الحديث الشريف‪" :‬سيد الشهداء حمزة بن‬
‫عبد المطلب ورجل قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله"‪ .‬ول يعترض علينا هنا بان القاء‬
‫النسان نفسه في التهلكة ل يجوز‪ ،‬وهذه تهلكة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ول تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾‬
‫لننا نقول‪ :‬إن الستشهاد في سبيل ال مكرمة ل تهلكة‪ ،‬وان المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع‪ ،‬لما يترتب عليه من تقوية نفوس‬
‫المحقين وخذلن المبطلين وايقاف الظالمين عند حدودهم‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬والكلم بالباطل حرام يجب تركه‪ ،‬والترك هنا من معاني المستوى الدنى‪ ،‬والثرثرة‬
‫وكثرة الكلم بما ل يفيد ول ينفع مكروه وان لم يكن فيه باطل‪ ،‬جاء في الحديث الشريف‪" :‬إن‬
‫ال يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" فالكلم الكثير بما ل ينفع مكروه وتركه‬
‫افضل وهذا من معاني المستوى العلى‪.‬‬
‫عاشرا‪ :‬والكراه على الكفر بالتهديد بالقتل يسوغ للمكره أن يقول كلمة الكفر بشرط اطمئنان‬
‫القلب باليمان رخصة من رخص السلم وهي من معاني الحد الدنى قال تعالى‪﴿ :‬إل من‬
‫أكره وقلبه مطمئن باليمان﴾ والمندوب اليه عدم قوله الكفر وان ادى ذلك إلى قتله وهذا من‬
‫معاني المستوى العلى‪.‬‬
‫‪ -53‬ول تقف واقعية السلم عند الحد الذي ذكرناه وهو وضعه مستويين للكمال‪ ،‬أدنى‬
‫وأعلى‪ ،‬وانما تظهر واقعية السلم في أمر آخر هو ايجاد المخارج المشروعة للمسلم في‬
‫أوقات الشدة والضيق‪ ،‬وعدم الزامه بما كان لزما له أو واجبا عليه‪ ،‬أو محرما عليه في‬
‫الوقات العادية‪ ،‬وعلى هذا الساس جاءت الرخص كلها وجاءت القاعدة الفقهية "الضرورات‬
‫تبيح المحظورات" لن النفوس قد ل تقوى على الستمرار بما يريده السلم في الظروف‬

‫‪51‬‬
‫القاسية والحوال الضطرارية فتقع في المعصية فخفف السلم عنها بما شرعه من رخص‬
‫ومنها اباحة أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس‪ ،‬واباحة ترك الواجب‬
‫مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر‪ ،‬واباحة الصلة للمريض وهو قاعد اذا كان ل‬
‫يقوى على الوقوف‪.‬‬
‫‪ -54‬وبهذه المثالية والواقعية في السلم يستطيع المسلم ان يحقق لنفسه الكمال المقدور له‬
‫بيسر واعتدال وشمول وبما يوافق الفطرة دون ارهاق ول حرج ول انعزال عن الحياة وأهلها‪.‬‬

‫طمَة السلم ‪ -‬المبحث الول ‪ -‬نظام الخلق في السلم‬


‫الفصل الرابع ‪ -‬أن ِ‬

‫تمهيد‬
‫‪ -1‬قلنا في خصائص السلم أنه شامل‪ ،‬ومن مظاهر شموله‪ ،‬أحكامه المتعلقة بالخلق‬
‫وبعلقات الناس فيما بينهم‪ ،‬وهذه الحكام تكوّن كل مجموعة منها نظاما خاصا في موضوع‬
‫خاص‪ ،‬مثل احكام الخلق‪ ،‬تكوّن نظام الخلق في السلم ومثل احكام السرة وهي المتعلقة‬
‫بالسرة وأفرادها وهي تكون نظام السرة وهكذا‪.‬‬
‫ونحن في هذا الفصل نذكر أهم أنظمة السلم ونبين معالمها البارزة بما يجليها بالقدر الذي‬
‫يحتاجه الداعية الى السلم‪ .‬ان بياننا هذا لنظمة السلم سيكون بحدود ما جاء به السلم ل‬
‫نزيد عليه شيئا ول ننقص منه شيئا ول نطوعه لما نريد‪ ،‬فالمسلم دائما يقف وراء السلم ول‬
‫يتقدم عليه‪.‬‬
‫وعلى هذا سنقسم هذا الفصل الى مباحث‪ ،‬ونفرد لكل نظام مبحثا على حدة على النحو التي‪:‬‬
‫المبحث الول – نظام الخلق‪.‬‬
‫المبحث الثاني – نظام المجتمع‪.‬‬
‫المبحث الثالث – نظام الفتاء‪.‬‬
‫المبحث الرابع – نظام الحسبة‪.‬‬
‫المبحث الخامس – نظام الحكم‪.‬‬
‫المبحث السادس – نظام المال أو نظام القتصاد‪.‬‬
‫المبحث السابع – نظام الجهاد‪.‬‬
‫المبحث الثامن – نظام الجريمة والعقاب‪.‬‬

‫المبحث الول ‪ -‬نظام الخلق في السلم‬


‫تعريف الخلق‬

‫‪52‬‬
‫‪ -2‬الخلق في اللغة الطبع والسجية‪ ،‬وفي اصطلح العلماء‪ ،‬كما يعرفه الغزالي – عبارة عن‬
‫هيئة في النفس راسخة‪ ،‬عنها تصدر الفعال بسهولة ويسر من غير حاجة الى فكر وروية[‪.]1‬‬
‫ويمكننا تعريف الخلق بأنها مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس وفي ضوئها‬
‫وميزانها يحسن الفعل في نظر النسان أو يقبح‪ ،‬ومن ثم يقدم عليه أو يحجم عنه‪.‬‬
‫أهمية الخلق‬
‫‪ -3‬للخلق أهمية بالغة لما لها من تأثير كبير في سلوك النسان وما يصدر عنه‪ ،‬بل‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬إن سلوك النسان موافق لما هو مستقر في نفسه من معان وصفات‪ ،‬وما‬
‫أصدق كلمة المام الغزالي إذ يقول في احيائه "فان كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على‬
‫الجوارح حتى ل تتحرك ال على وفقها ل محالة" فافعال النسان‪ ،‬إذن موصولة دائما بما في‬
‫نفسه من معان وصفات صلة فروع الشجرة بأصولها المغيبة في التراب‪ .‬ومعنى ذلك أن‬
‫صلح أفعال النسان بصلح اخلقه‪ ،‬لن الفرع بأصله‪ ،‬إذا صلح الصل صلح الفرع‪ ،‬وإذا‬
‫فسد الصل فسد الفرع ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث ل يخرج إل نكدا﴾‬
‫[العراف‪ .]58 :‬ولهذا كان النهج السديد في إصلح الناس وتقويم سلوكهم وتيسير سبل الحياة‬
‫الطيبة لهم أن يبدأ المصلحون باصلح النفوس وتزكيتها وغرس معاني الخلق الجيدة فيها‬
‫ولهذا أكد السلم على صلح النفوس وبين أن تغيير أحوال الناس من سعادة وشقاء ويسر‬
‫وعسر‪ ،‬ورخاء وضيق‪ ،‬وطمأنينة وقلق‪ ،‬وع ّز وذل كل ذلك ونحوه تبع لتغيير ما بأنفسهم من‬
‫معان وصفات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾‪.‬‬
‫‪ -4‬وتظهر أهمية الخلق أيضا من ناحية أخرى‪ ،‬ذلك أن النسان قبل أن يفعل شيئا أو‬
‫يتركه يقوم بعملية وزن وتقييم لتركه أو فعله في ضوء معاني الخلق المستقرة في نفسه فاذا‬
‫ظهر الفعل أو الترك مرضيا مقبول انبعث في النفس رغبة فيه واتجاه اليه ثم اقدام عليه‪ ،‬وإن‬
‫كان المر خلف ذلك انكمشت النفس عنه وكرهته واحجمت عنه تركا كان أو فعل‪ .‬إن‬
‫عملية الوزن هذه قد تكون سريعة جدا وغير محسوس بها إلى درجة أن النسان قد يفعل‬
‫الشيء أو يتركه بدون روية أو تفكير‪ ،‬وفي بعض الحيان ل تتم عملية الوزن والتقييم إل بعد‬
‫تأمل ومضي وقت طويل‪ ،‬وقد ل تتم هذه العملية فيقع النسان في التردد بين الفعل والترك‪.‬‬
‫ولكن في جميع الحوال ل بدّ من عملية الوزن والتقييم لكل فعل أو ترك بل استثناء‪.‬‬
‫او وزن الفعال والتروك بميزان الخلق‪ ،‬وصحة هذا الوزن أو فساده‪ ،‬ومدى التزام النسان‬
‫بمقتضاه‪ ،‬وتنفيذه له‪ ،‬كل ذلك يتوقف على نوع المعاني الخلقية التي يحملها من حيث جودتها‬
‫أو ردائتها‪ ،‬ومدى رسوخها في نفسه وانصباغها بها وحماسه لها وغيرته عليها وشعوره‬
‫بضرورتها اليه‪ ،‬فل يكفي لظهور أثر الخلق في فعل النسان وتركه أن يعرف النسان‬
‫الجيد والرديء من الخلق ويخزن هذه المعرفة في رأسه ويتكلم بها في المناسبات بل ل بد‬

‫‪53‬‬
‫من انصباغ كيانه بها ورسوخها في أعماق نفسه بحيث تصير له كاللون السود والبيض‬
‫بالنسبة للبشرة السوداء أو البيضاء‪ ،‬وأن تكون حاضرة في ذهنه مسيطرة على سلوكه متحمسا‬
‫لها غيورا عليها الى درجة اليمان بأن الحياة ل تصلح عوضا للتفريط بمعنى من معاني‬
‫الخلق الفاضلة السلمية التي يحملها‪ ...‬ومن أجل هذا أكد السلم على معاني الخلق‬
‫المطلوبة وشوق اليها‪ ،‬وحث النفوس عليها‪ ،‬وكررها وأعادها حتى يتذكرها المسلم دائما‬
‫وينصبغ بها‪ ،‬فيكون أثرها واضحا في سلوكه‪..‬‬

‫مكانة الخلق في السلم‬


‫للخلق في السلم مكانة عظيمة جدا‪ ،‬تظهر من وجوه كثيرة‪ ،‬نذكر منها ما يأتي‪:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫أولً‪ :‬تعليل الرسالة بتقويم الخلق وإشاعة مكارم الخلق‪ ،‬جاء في الحديث الشريف عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنما بعثت لتمم مكارم الخلق"‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تعريف الدين بحسن الخلق فقد جاء في حديث مرسل أن رجل جاء الى النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم فقال يا رسول ال‪ :‬ما الدين؟ فقال الرسول صلى ال عليه وسلم ‪" :‬حسن الخلق"‪.‬‬
‫وهذا يعني أن حسن الخلق ركن السلم العظيم الذي ل قيام للدين بدونه‪ ،‬كالوقوف في عرفات‬
‫بالنسبة للحج‪ ،‬فقد جاء في الحديث الشريف "الحج عرفة" أي أن ركن الحج العظيم الذي ل‬
‫يكون الحج ال به الوقوف في عرفات‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬من أكثر ما يرجح كفة الحسنات يوم الحسنات يوم الحساب حسن الخلق‪ ،‬جاء في الحديث‬
‫الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى ال‬
‫وحسن الخلق"‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬المؤمنون يتفاضلون في اليمان‪ ،‬وأفضلهم فيه احسنهم أخلقا‪ ،‬جاء في الحديث‪ :‬قيل يا‬
‫رسول ال أي المؤمنين أفضل ايمانا؟ قال‪" :‬أحسنهم خلقا"‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬ان المؤمنين يتفاوتون في الظفر بحب رسول ال صلى ال عليه وسلم وقربهم منه يوم‬
‫القيامة‪ ،‬واكثر المسلمين ظفرا بحب رسول ال والقرب منه اولئك المؤمنون الذين حسنت‬
‫اخلقهم حتى صاروا فيها أحسن من غيرهم جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم "أن أحبكم اليّ واقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلقا"‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬ان حسن الخلق أمر لزم وشرط ل بد منه للنجاة من النار والفوز بالجنان‪ ،‬وان‬
‫التفريط بهذا الشرط ل يغني عنه حتى الصلة والصيام‪ ،‬جاء في الحديث أن بعض المسلمين‬
‫قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم أن فلنة تصوم النهار وتقومن الليل وهي سيئة الخلق‬
‫تؤذي جيرانها بلسانها‪ ،‬قال‪ :‬ل خير فيها هي من أهل النار"‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫سابعا‪ :‬ان النبي صلى ال عليه وسلم كان يدعو ربه بأن يحسّن خلقه – وهو ذو الخلق‬
‫الحسنة – وأن يهديه لحسنها‪ ،‬فقد كان صلى ال عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم حسنت‬
‫خَلقي فحسن خُلقي" ويقل‪" :‬اللهم اهدني لحسن الخلق فانه ل يهدي لحسنها إل أنت‪،‬‬
‫واصرف عني سيئها فأنه ل يصرف عني سيئها إل أنت" ومعلوم أن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ل يدعو إل بما يحبه ال ويقربه منه‪.‬‬
‫ثامنا‪ :‬مدح ال تعالى رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم بحسن الخلق‪ ،‬فقد جاء في القرآن‬
‫الكريم ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ وال تعالى ل يمدح رسوله ال بالشيء العظيم مما يدل على‬
‫عظيم منزلة الخلق في السلم‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬كثرة اليات القرآنية المتعلقة بموضوع الخلق‪ ،‬أمرا بالجيد منها‪ ،‬ومدحا للمتصفين‬
‫به‪ ،‬ومع المدح الثواب‪ ،‬ونهيا عن الرديء منها وذم المتصفين به‪ ،‬ومع الذم العقاب‪ ،‬ول شك‬
‫أن كثرة اليات في موضوع الخلق‪ ،‬يدل على أهميتها‪ ،‬ومما يزيد في هذه الهمية أن هذه‬
‫اليات منها ما نزل في مكة قبل الهجرة‪ ،‬ومنها ما نزل في المدينة بعد الهجرة‪ ،‬مما يدل على‬
‫أن الخلق أمر مهم جدا ل يستغني عنه المسلم وان مراعاة الخلق تلزم المسلم في جميع‬
‫الحوال فهي تشبه أمور العقيدة من جهة عناية القرآن بها في سورة المكية والمدنية على حد‬
‫سواء‪.‬‬

‫خصائص نظام الخلق في السلم‬


‫‪ -6‬يتميز نظام الخلق في السلم بجملة خصائص‪ ،‬منها‪ ،‬تفصيل الخلق‪ ،‬وشمولها‪،‬‬
‫ولزومها في الوسيلة والغاية‪ ،‬وارتباطها بمعاني اليمان والتقوى‪ ،‬ووقوع الجزاء فيها ونبين‬
‫فيما يلي هذه الخصائص بايجاز‪:‬‬

‫التعميم والتفصيل في الخلق‬


‫‪ -7‬دعا السلم إلى الخلق الكريمة دعوة عامة‪ ،‬من ذلك ما جاء في القرآن الكريم‪﴿ :‬وقل‬
‫لعبادي يقولوا التي هي أحسن‪ ،‬إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للنسان عدوا مبينا﴾‬
‫والقول بما هو أحسن دعوة عامة للقول الطيب المطلوب بجميع أنواعه في مخاطباتهم‬
‫ومحاوراتهم‪ .‬وفي قوله تعالى‪ ...﴿ :‬وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم‬
‫تذكرون﴾ دعوة عامة للبتعاد عن رذائل الخلق‪ .‬وفي السنة النبوية من هذه الدعوة العامة‬
‫الى الخلق الشيء الكثير‪ ،‬ومن ذلك‪" :‬اتق ال حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق‬
‫الناس بخلق حسن" والخلق الحسن يجمع أنواع الخلق الحسنة‪ .‬وفي الحديث "ان العبد ليدرك‬
‫بحسن خلقه درجة الصائم القائم"‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪ -8‬ولم يكتف السلم بالدعوة العامة الى التحلي بالخلق الجيدة والتخلي عن الخلق‬
‫الرديئة وانما فصّل القول في الصنفين فبين أنواع كل صنف‪ ،‬والحكمة في هذا البيان المفصل‬
‫توضيح معاني الخلق تحديدها لئل يختلف الناس فيها وتتدخل الهواء في تحديد المراد منها‪،‬‬
‫ومن مظاهر رحمة ال بعبادة أن بين لهم ما يتقون وما يأخذون وما يتركون‪ ،‬ونذكر فيما يلي‬
‫أمثلة على تفصيل الخلق في القرآن والسنة النبوية المطهرة‪.‬‬
‫أمثلة من القرآن على تفصيل الخلق‬
‫أ) الوفاء بالعهد‪﴿ :‬وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولً﴾‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫ب) النهي عن القول بل علم ﴿ول تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل‬
‫أولئك كان عنه مسؤولً﴾‪.‬‬
‫جـ) النهي عن مشية التبختر والتمايل كما يفعل المتكبرون‪﴿ ،‬ول تمش في الرض مرحا إنك‬
‫لن تخرق الرض ولن تبلغ الجبال طولً﴾‪.‬‬
‫د) النهي عن السراف والتبذير والبخل والتقتير ﴿وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل‬
‫ول تبذر تبذيرا‪ .‬إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا﴾‪﴿ .‬ول تجعل‬
‫يدك مغلولة إلى عنقك ول تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا﴾‪.‬‬
‫هـ) المر بالعدل في جميع الحوال وبالنسبة لجميع الناس حتى الكفار ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو‬
‫كان ذا قربى﴾‪﴿ .‬ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا‪ .‬اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾‪.‬‬
‫و) التعاون على البر والتقوى وما ينفع الناس‪ ،‬والنهي عن التعاون على البغي والعدوان ﴿‬
‫وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثم والعدوان﴾‪.‬‬
‫ز) الظلم ظلمات يوم القيامة‪ ،‬وعاقبته وخيمة‪ ،‬وهو أنواع‪ ،‬أقبحها افتراء الكذب على ال‪،‬‬
‫وتعدي حدود ال‪ .‬والظالم مقطوع الصلة بال فهو مخذول غير منصور‪ ،‬ومن أجل هذا نهى‬
‫السلم عنه ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ ﴿ومن أظلم ممن افترى على ال كذبا‬
‫أو كذب بآياته إنه ل يفلح الظالمون﴾ ﴿تلك حدود ال فل تعتدوها‪ ،‬ومن يتعد حدود ال فأولئك‬
‫هم الظالمون﴾ ﴿وما للظالمين من أنصار﴾‪.‬‬
‫ح) الصبر من اليمان بمنزلة الرأس من الجسد‪ ،‬فل بد للمؤمن من صبر على طاعة ال‬
‫وصبر على قضاء ال وبهذا يكون من المحسنين‪ ،‬ورحمة ال قريب من المحسنين‪ ،‬ولهذا أمر‬
‫السلم بالصبر ﴿يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا ال لعلكم تفلحون﴾‪﴿ .‬‬
‫واصبر فإن ال ل يضيع أجر المحسنين﴾‪﴿ .‬فاصبر إن وعد ال حق ول يستخفنك الذين ل‬
‫يوقنون﴾‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ط) الصدق من علمات اليمان وثمراته‪ ،‬ولهذا أمر السلم به ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال‬
‫وكونوا مع الصادقين﴾‪﴿ .‬وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي‬
‫من لدنك سلطانا نصيرا﴾‪.‬‬
‫ي) الكذب رذيلة ل ينال صاحبها هداية ال‪ ،‬ويثمر النفاق في القلب ولهذا نهى السلم عنه‬
‫وحذر منه ﴿إن ال ل يهدي من هو مسرف كذاب﴾‪﴿ .‬فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه‬
‫بما أخلفوا ال ما وعدوه وبما كانوا يكذبون﴾‪.‬‬
‫ك) التكبر والعجب والبخل والفخر والرياء رذائل وأمراض تصيب القلب فتطمسه وتمحق‬
‫نوره وتبعد صاحبها عن ال تعالى‪ ،‬ولهذا جاء النهي عنها ﴿ول تصعر خدك للناس ول تمش‬
‫في الرض مرحا إن ال ل يحب كل مختال فخور﴾‪﴿ .‬إن ال ل يحب من كان مختالً فخورا‪.‬‬
‫الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم ال من فضله واعتدنا للكافرين عذابا‬
‫مهينا‪ .‬والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ول يؤمنون بال ول باليوم الخر ومن يكن الشيطان‬
‫له قرينا فساء قرينا﴾‪.‬‬
‫ل) العتدال في المشي بين البطيء والسراع مطلوب من المسلم‪ ،‬وخفض الصوت وعدم‬
‫رفعه بل حاجة مطلوب أيضا من المسلم‪﴿ ،‬واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر‬
‫الصوات لصوت الحمير﴾‪.‬‬
‫م) الثبات على الحق والدوام على الطاعة والعبادة‪ ،‬أمور مطلوبة لن المور بخواتيمها‪،‬‬
‫وبدون الستقامة والدوام والثبات على الحق تفوت الثمرة ول يصل المسلم الى الغاية‪ ،‬وينقطع‬
‫عن ركب الصالحين‪ .‬ومن أجل هذا وجب على المسلم أن يكون على قدر كبير من الثبات‬
‫على معاني اليمان والستقامة عليها لينال الفوز والرضوان ﴿ان الذين قالوا ربنا ال ثم‬
‫استقاموا تتنزل عليهم الملئكة أن ل تخافوا ول تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم‬
‫توعدون‪.﴾...‬‬
‫ن) الجنة درا الطيبين‪ ،‬اعدها ال للمتقين الذين من اخلقهم الحسنة النفاق في جميع الحوال‬
‫في اليسر والعسر فينفقون بقدر ما لهم ول يبخلون عن النفاق ولو كان قليلً‪ ،‬ومن أخلقهم‬
‫أنهم ل يستوفون كل حقوقهم من الناس بل يتركون منها لهم احسانا عليهم ﴿وسارعوا إلى‬
‫مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء‬
‫والضراء والطاظمين الغيظ والعافين عن الناس وال يحب المحسنين﴾‪.‬‬
‫س) النهي عن الغل والحقد‪﴿ :‬والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين‬
‫ل للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم﴾‪.‬‬
‫سبقونا باليمان ول تجعل في قلوبنا غ ً‬
‫ع) علج الجاهل العراض عنه وتركه وشأنه‪ ،‬وبهذا أمر السلم ﴿خذ العفو وأمر بالعرف‬
‫وأعرض عن الجاهلين﴾‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ف) ومن وصايا السلم الجامعة لعباده المؤمنين‪ ،‬في باب الخلق قوله تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا ل يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ول نساء من نساء عسى أن يكن خيرا‬
‫منهن ول تلمزوا أنفسكم ول تنابزوا باللقاب بئس السم الفسوق بعد اليمان ومن لم يتب‬
‫فأولئك هم الظالمون‪ .‬يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن اثم ول‬
‫تجسسوا ول يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا ال ان‬
‫ال تواب رحيم﴾[‪]2‬‬
‫ص) ومن اليات التي جمعت كثيرا من أخلق المؤمنين‪ ،‬وجعلت هذه الخلق علمة على‬
‫ايمانهم قوله تعالى‪﴿ :‬قد افلح المؤمنون‪ .‬الذين هم في صلتهم خاشعون‪ .‬والذين عم عن اللغو‬
‫معرضون[‪ .]3‬والذين هم للزكاة فاعلون‪ .‬والذين هم لفروجهم حافظون‪ .‬إل على أزواجهم أو‬
‫ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين‪ .‬فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون[‪ .]4‬والذين هم‬
‫لماناتهم وعهدهم راعون‪ .‬والذين هم على صلواتهم يحافظون‪ .‬أولئك هم الوارثون الذين‬
‫يرثون الفردوس هم فيها خالدون[‪ .﴾]5‬وكذلك قوله تعالى‪﴿ :‬وعباد الرحمن الذين يمشون على‬
‫الرض هونا[‪ ]6‬وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما[‪ .]7‬والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما‪.‬‬
‫والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما[‪ .]8‬إنها ساءت مستقرا‬
‫ومقاما‪ .‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما[‪ .]9‬والذين ل يدعون مع‬
‫ال إلها آخر ول يقتلون النفس التي حرم ال إل بالحق ول يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما[‬
‫‪ ]10‬يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا‪ .‬إل من تاب وآمن وعمل عملً صالحا‬
‫فأولئك يبدل ال سيئاتهم حسنات وكان ال غفورا رحيما‪ .‬ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب‬
‫إلى ال متابا‪ .‬والذين ل يشهدون الزور[‪ ]11‬وإذا مروا باللغو مروا كراما[‪ ]12‬والذين إذا‬
‫ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا[‪ .]13‬والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا‬
‫وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما[‪ ]14‬أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها‬
‫تحية وسلما‪ .‬خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما[‪.﴾]15‬‬

‫أمثلة من السنة النبوية على تفصيل الخلق‬


‫أ) في النهي عن الغضب‪ ،‬ان رجل قال للنبي صلى ال عليه وسلم أوصني قال‪" :‬ل‬ ‫‪-10‬‬
‫تغضب"‪.‬‬
‫ب) وفي الحياء‪ ،‬وردت أحاديث كثيرة منها‪" :‬الحياء ل يأتي ال بخير" "الحياء خير كله" "ان‬
‫لكل دين خلقا وخلق السلم الحياء" "اذا لم تستح فاصنع ما شئت"‪.‬‬
‫جـ) في التعاون‪" ،‬وال في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫د) في حقوق المسلم‪ ،‬والنهي عن بعض الخلق‪" :‬ل تحاسدوا ول تناجشوا ول تباغضوا ول‬
‫تدابروا ول يبع بعضكم على بيع بعض‪ .‬وكونوا عباد ال اخوانا‪ .‬المسلم أخو المسلم ل يظلمه‬
‫ول يخذله ول يكذبه ول يحقره‪ ،‬التقوى هاهنا – ويشير الى صدره الشريف ثلث مرات –‬
‫بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم‪ ،‬كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله‬
‫وعرضه"‪.‬‬
‫هـ) النهي عن اخلق المنافقين "آية المنافق ثلث اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا اؤتمن‬
‫خان" "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من‬
‫النفاق حتى يدعها‪ :‬اذا اؤتمن خان واذا حدث كذب‪ ،‬واذا عاهد غدر‪ ،‬واذا خاصم فجر"‪.‬‬
‫و) في الحلم والناة‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لشج عبد القيس "ان فيك خصلتين‬
‫يحبهما ال ورسوله الحلم والناة"‪.‬‬
‫ز) في الرفق‪" :‬ان ال رفيق يحب الرفق في المر كله"‪.‬‬
‫ح) في الرياء والسمعة والخلص‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل‬
‫شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء‪ ،‬أي ذلك في سبيل ال؟ فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال"‪" .‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ‬
‫ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته الى ال ورسوله فهجرته الى ال ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته الى‬
‫دنيا يصيبها أوامرأة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه"‪.‬‬
‫ط) في النهي عن المراء والجدل‪":‬من ترك المراء وهو محق بني له بيت في الجنة‪ ،‬ومن ترك‬
‫المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة"‪" .‬وما ضل قوم بعد أن هداهم ال ال أوتوا‬
‫الجدل"‪.‬‬
‫ي) في بذاءة اللسان‪" :‬ليس المؤمن بالطعان ول اللعان ول الفاحش ول البذيء"‪.‬‬
‫ك) في العجب والشح‪" :‬ثلث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب كل ذي رأي رأيه"‪.‬‬
‫ل) ترك الكلم فيما ل يعنيك‪" :‬من حسن إسلم المرء تركه ما ل يعنيه"‪.‬‬
‫م) ترك فضول الكلم "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق ال َفضْلَ من ماله"‪.‬‬
‫ن) وزن الكلمة بميزان السلم قبل النطق بها‪" :‬ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان ال ما‬
‫يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب ال بها رضوانه الى يوم القيامة وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من‬
‫سخط ال ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب ال عليه بها سخطه الى يوم القيامة"‪.‬‬
‫س) في المانة والوفاء بالعهد‪" :‬ل إيمان لمن ل أمانة له‪ ،‬ول دين لمن ل عهد له" وسأل رجل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم متى تقوم الساعة فقال له‪" :‬إذا ضيعت المانة فانتظر الساعة‪.‬‬
‫فقال‪ ،‬وكيف إضاعتها قال اذا وسد المر لغير أهله فانتظر الساعة"‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ع) في الصدق والكذب "عليكم بالصدق فان الصدق يهدي الى البر وان البر يهدي الى الجنة‬
‫وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا‪،‬وإياكم والكذب فان الكذب‬
‫يهدي الى الفجور وان الفجور يهدي الى النار‪ ،‬وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى‬
‫يكتب عند ال كذابا"‪.‬‬
‫ف) في القوة والعزيمة‪" :‬المؤمن القوي خير وأحب ال من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‬
‫احرص على ما ينفعك واستعن بال ول تعجز‪ ،‬وان أصابك شيء فل تقل لو اني فعلت كذا‬
‫لكان كذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر ال وما شاء فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان"‪.‬‬
‫ص) المتابعة في الخير ل في الشر‪" :‬ل يكن احدكم امعة‪ ،‬يقول‪ :‬انا مع الناس ان أحسن الناس‬
‫أحسنت وان أساؤوا أسأت‪ ،‬ولكن وطنوا أنفسكم إن احسن الناس أن تحسنوا‪ ،‬وإن أساؤوا أن‬
‫تتجنبوا إساءتهم"‪.‬‬
‫ش) الحزم واليقظة‪" :‬ل يلدغ المؤمن من جحر مرتين"‪.‬‬
‫ض) النهي عن الذل‪" :‬ل ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه‪."...‬‬
‫ط) في التوادد والتراحم والتعاطف‪" :‬مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا‬
‫اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"‪.‬‬

‫ثانيا – شمول الخلق‬


‫‪ -11‬ومن خصائص نظام الخلق في السلم الشمول‪ ،‬ونعني به أن دائرة الخلق‬
‫السلمية واسعة جدا فهي تشمل جميع أفعال النسان الخاصة بنفسه أو المتعلقة بغيره سواء‬
‫أكان الغير فردا أو جماعة أو دولة‪ ،‬فل يخرج شيء عن دائرة الخلق ولزوم مراعاة معاني‬
‫الخلق مما ل نجد له نظيرا في أية شريعة سماوية سابقة ول في أية شريعة وضعية‪ .‬ونذكر‬
‫هنا على سبيل التمثيل فقط مدى مراعاة الخلق في علقات الدولة السلمية مع غيرها من‬
‫الدول ليتبين لنا مدى حرص السلم على التمسك بمعاني الخلق‪ .‬ووجه اختيارنا هذه‬
‫العلقات هو ما شاع بين الناس‪ ،‬ويؤيده الواقع‪ ،‬ان العلقات بين الدول ل تقوم على أساس‬
‫مراعاة الخلق‪ ،‬حتى إن أحدهم قال‪ :‬ل مكان للخلق في العلقات الدولية‪ .‬ولهذا كان‬
‫الخداع والتضليل والغدروالكذب من البراعية في السياسة‪ .‬إن السلم يرفض هذا النظر‬
‫السقيم‪ ،‬ويعتبر ما هو قبيح في علقات الفراد قبيحا أيضا في علقات الدول‪ ،‬ويعتبر ما هو‬
‫مطلوب وجميل في علقات الفراد‪ ،‬مطلوبا وجميلً أيضا في علقات الدول‪ ،‬ولهذا كان من‬
‫المقرر في شرع السلم ان على الدولة السلمية ان تلتزم بمعاني الخلق‪ ،‬وهذا التقرير‬
‫موجود في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة وفي أقوال الفقهاء‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫أولً‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ عليهم على سواء إن ال ل يحب الخائنين﴾‪.‬‬
‫أي إذا ظهرت خيانة من عاهدتهم وثبتت دلئلها‪ ،‬فأعلموهم بنقض عهدهم حتى تستووا معهم‬
‫في العلم‪ ،‬لن ال تعالى ل يحب الخائنين ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين وكانوا في نقض‬
‫العهد بادين‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي صلى ال عليه وسلم وبين مشركي قريش‪ ،‬ان‬
‫من يأت من قريش النبي صلى ال عليه وسلم مسلما يرده النبي صلى ال عليه وسلم ول‬
‫يؤويه‪ ،‬وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة جاء أو جندل من قريش مسلما معلنا إسلمه يستصرخ‬
‫المسلمين ان يؤوه ويحموه من قريش‪ ،‬فقال له الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‪" :‬انا عقدنا‬
‫بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا‪ ،‬وانا ل نغدر بهم"[‪.]16‬‬
‫ثالثا‪ :‬قال الفقهاء‪ :‬ل يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم‪ ،‬لن‬
‫خيانتهم غدر ول يصلح في دين السلم الغدر[‪.]17‬‬
‫رابعا‪ :‬قال فقهاء الحنابلة‪" :‬اذا أطلق الكفار السير المسلم واستحلفوه أن يبعث اليهم بفدائه أو‬
‫يعود اليهم لزمه الوفاء"‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وأوفوا بعهد ال اذا عاهدتم﴾ ولن الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إنا ل يصلح في ديننا الغدر"[‪.]18‬‬
‫خامسا‪ :‬اذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا دار السلم الداخلين الى اقليمها ضريبة على‬
‫أموالهم التي معهم بحيث تستأصل هذه الموال‪ ،‬أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة ل‬
‫تتناسب مع أموالهم‪ ،‬فان دار السلم ل تقابلهم بالمثل‪ ،‬ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأن فعل أهل‬
‫دار الحرب غدر وظلم‪ ،‬فل نقابلهم بالغدر والظلم‪ ،‬لننا نهينا عن التخلق بمثل هذه الخلق‬
‫وان تخلقوا هم بها[‪.]19‬‬

‫ثالثا – لزومها في الوسائل والغايات‬


‫‪ -12‬والخصيصة الثالثة لنظام الخلق في السلم أن اللتزام بمقتضى الخلق مطلوب‬
‫في الوسائل والغايات‪ ،‬فل يجوز الوصول الى الغاية الشريفة بالوسيلة الخسيسة‪ .‬ولهذا ل مكان‬
‫في مفاهيم الخلق السلمية للمبدأ الخبيث "الغاية تبرر الوسيلة" وهو مبدأ انحدر إلينا من‬
‫ديار الكفر‪ .‬يدل على ذلك‪ ،‬أي على ضرورة مشروعية الوسيلة ومراعاة معاني الخلق فيها‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل على قوم بينكم وبينهم ميثاق‪ ،‬وال‬
‫بما تعملون بصير﴾ فهذه الية الكريمة توجب على المسلمين نصرة اخوانهم المظلومين قياما‬
‫بحق الخوة في الدين‪ ،‬ولكن اذا كانت نصرتهم تستلزم نقض العهد مع الكفار الظالمين لم تجز‬
‫النصرة لن وسيلتها الخيانة ونقض العهد‪ ،‬والسلم يمقت الخيانة ويكره الخائنين‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫رابعا – صلة الخلق باليمان وتقوى ال‬
‫‪ -13‬الخلق في السلم موصولة باليمان وتقوى ال‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فأتموا إليهم عهدهم‬
‫إلى مدتهم إن ال يحب المتقين﴾ فالوفاء بالعهد من تقوى ال ومحبة ال ومن اليمان المسارعة‬
‫إلى ما يحبه ال تعالى‪.‬‬
‫وفي الحديث "ل إيمان لمن ل أمانة له ول دين لمن ل عهد له" فاليمان ل بدّ أن يورث‬
‫الخلق الحسنة على رأسها المانة وحفظ العهد‪ ،‬فمن فقد المانة وضيع العهد كان ذلك ايذانا‬
‫بخلوه من معاني اليمان المطلوبة منه وتفريطه بتقوى ال‪.‬‬
‫وفي حديث آخر "وال ل يؤمن‪ ،‬وال ل يؤمن‪ ،‬وال ل يؤمن‪ ،‬قيل من يا رسول ال؟ قال الذي‬
‫ل يأمن جاره بوائقه"‪ .‬فهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلق السيئة تنافي اليمان‬
‫وتناقضه‪ ،‬وأنه ل يجتمع اليمان والخلق الرديء‪.‬‬

‫خامسا – الجزاء‬
‫‪ -14‬ومن خصائص نظام الخلق في السلم الجزاء‪ ،‬لن السلم جاء بالخلق أمرا‬
‫ونهيا‪ ،‬وعصيان أوامر الشرع أو ارتكاب ما نهى عنه سبب للعقاب‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ويل لكل‬
‫همزة لمزة﴾‪ .‬كما أن اللتزام بحدود الشرع وطاعته سبب للثواب الحسن‪.‬‬
‫والجزاء لمن يخالف حدود الشرع في الخلق‪ ،‬قد يكون في الدنيا‪ ،‬فشاهد الزور‪ ،‬وبذيء‬
‫اللسان‪ ،‬والخائن ونحوهم يعاقبهم القاضي المسلم بالعقوبة التعزيرية والحنث في اليمين‪ ،‬أي‬
‫عدم الوفاء بالوعد الموثق باسم ال‪ ،‬يترتب عليه كفارة اليمين وفي الكفارة معنى العقوبة كما‬
‫يقول الفقهاء‪.‬‬
‫وقد يكون الجزاء في الدنيا هلك الجماعة التي يشيع فيها الخلق الرديء‪ ،‬وقد أشار لهذا‬
‫الجزاء الحديث الشريف "انما أهلك من كان قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا‬
‫سرق الوضيع اقاموا عليه الحد‪ ،"...‬ومثل شيوع الجبن في المة وترك الظلمة يعبثون في‬
‫حقوق الناس دون إنكار عليهم خوفا منهم وجبنا وإيثارا للذل والحياة المهينة‪ ،‬فان هذه الخلق‬
‫الرذيلة سبب لهلك المة أو إصابتها بشر كبير أو ضرر جسيم يصيب المذنب والبريء قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾‪.‬‬

‫هل يمكن اكتساب الخلق وتقويمها؟‬


‫‪ -15‬والن وقد بينا مكانة الخلق في السلم ومدى تأثيرها في العمال وما يترتب عليها‬
‫من ثواب وعقاب‪ ،‬نسأل‪ ،‬هل يمكن تقويم الخلق واكتساب الجيد منها والتخلي عن قبيحها؟ أم‬

‫‪62‬‬
‫أن الخلق صفات لزمة تخلق في النسان وينطبع عليها فل يمكنه تغييرها ول تبديلها ول‬
‫تعديلها كما ل يمكنه تغيير صفاته الجسمية من طول وقصر ولون؟‬
‫الجواب على هذا السؤال‪ ،‬كما يظهر لنا‪ ،‬يتلخص بما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إن الخلق من حيث الجملة يمكن تقويمها وتعديلها‪ ،‬كما يمكن اكتساب الجيد منها‬
‫والتخلي عن قبيحها وبالعكس‪ .‬ودليلنا على ذلك أن الشرع أمر بالتخلق بالخلق الحسنة ونهى‬
‫عن التخلق بالخلق الرديئة‪ ،‬فلو لم يكن ذلك ممكنا مقدورا للنسان لما ورد به الشرع‪،‬‬
‫السلم ل يأمر بالمستحيل‪ ،‬ومن القواعد الصولية في الفقه السلمي‪ :‬ل تكليف إل بمقدور‬
‫أو ل تكليف بمستحيل‪ .‬وعلى هذا فكل إنسان عنده أهلية وقدرة للتحلي بالخلق الجيدة‬
‫والتخلي عن اضدادها كما أن عنده أهلية وقدرة على عكس ذلك‪ .‬وقد يستأنس لهذا بقول ال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ونفس وما سواه فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾‪.‬‬
‫ولكن مع هذا فإن الناس يتفاوتون في مقدار أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لكتساب الخلق أو‬
‫تعديلها‪ ،‬كما يختلفون في مدى أهليتهم وقدرتهم واستعدادهم لتلقي العلوم المختلفة أو ادراك‬
‫الحقائق الدقيقة نظرا لختلف عقولهم ومدى ذكائهم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬ان بعض الناس قد يجبل على بعض الخلق بحيث تكون هذه الخلق بارزة فيهم‬
‫وظاهرة في سلوكهم‪ ،‬ودليلنا على هذا حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي رواه أبو‬
‫داود‪ ،‬وقد جاء فيه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لشج عبد القيس‪" :‬ان فيك خصلتين‬
‫يحبهما ال تعالى ورسوله‪ ،‬الحلم والناة"‪ .‬قال يا رسول ال‪ ،‬انا اتخلق بهما أم ال تعالى جبلني‬
‫عليهما؟ قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬بل ال جبلك عليهما"‪ .‬فقال‪ :‬الحمد ل الذي‬
‫جبلني على خصلتين يحبهما ال تعالى ورسوله[‪.]20‬‬
‫ول شك ان الناس يتفاوتون فيما يجبلون عليه من الخلق كما يتفاوتون في ما يجبلون عليه‬
‫من قوة الدراك والذكاء‪ ،‬ويترتب على ذلك أن من جبل على نوع معين من الخلق يسهل‬
‫عليه ترسيخ هذا النوع في نفسه والبقاء عليه لنه يجد عونا في ذلك بما جبل عليه‪.‬‬

‫كيف يتحقق تقويم الخلق أو اكتسابها‬


‫ان تقويم الخلق أو اكتسابها يمكن ان يتم بشكل من الشكال التالية‪:‬‬ ‫‪-16‬‬
‫أولً‪ :‬بتقليل آثارها وعدم المضي في تنفيذ مقتضاها وما تدعو إليه‪ ،‬وهذا بالنسبة للخلق التي‬
‫تعتبر من الغرائز في كل إنسان‪ ،‬ومنها الغضب‪ ،‬يدل على ذلك ما جاء في الحديث الشريف‬
‫الذي رواه المام البخاري عن ابي هريرة رضي ال عنه أن رجل قال للنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم أوصني‪ :‬فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تغضب" فردد الرجل سؤاله مرارا‪ ،‬فكان النبيّ‬
‫الكريم صلى ال عليه وسلم يقول له‪" :‬ل تغضب"‪ .‬وقد قال العلماء في شرح الحديث‪ :‬أن النهي‬

‫‪63‬‬
‫عن الغضب ينصرف الى النهي عن العمل بمقتضى الغضب أي بلزوم دفع آثار الغضب‪،‬‬
‫وليس النهي راجعا الى نفس الغضب لنه من طباع البشر فل يمكن دفعه ول استئصاله[‪..]21‬‬
‫فالمطلوب في تقويم خلق الغضب ليس استئصاله بالكلية فهذا غير ممكن وانما الممكن السيطرة‬
‫عليه وكظمه وعدم تنفيذ مقتضاه‪ ،‬يؤيد ذلك ما جاء في القرآن الكريم ﴿والكاظمين الغيظ﴾‬
‫فمدحهم ال على ضبط غضبهم والسيطرة عليه ل على استئصاله وفي القرآن أيضا ﴿وإذا ما‬
‫غضبوا هم يغفرون﴾ فمدحهم على عدم تنفيذ مقتضى غضبهم‪ .‬وفي الحديث الشريف‪" :‬ليس‬
‫الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬بالشتذيب والتهذيب وإزالة الكدورات عن أصل الخلق‪ ،‬وتوجيهه الوجهة المرضية في‬
‫الشرع السلمي‪ ،‬مثل خلق الشجاعة‪ ،‬يستعمله صاحبه في العتداء وقتل البرياء‪ ،‬أو لطلب‬
‫السمعة والجاه‪ ،‬وكالسخاء يستعمله صاحبه للمباهاة وللرياء‪ ،‬فهذه الخلق هي في أصلها‬
‫محمودة وإنما ذمت لنحرافها عن الغرض الصحيح والوجهة المرضية في الشرع‪ ،‬فتقويمها‬
‫يكون بإزالة هذه الغراض الخسيسة عنها وبتوجيهها الوجهة الصحيحة بأن تكون الشجاعة‬
‫لنجدة الضعيف وإغاثة المظلوم وقهر الظالم واعلء كلمة ال ومحق الكفر والباطل ابتغاء‬
‫مرضاة ال وحده ل لطلب سمعة ول رياء ول جاه ول ثناء‪ .‬وكذلك السخاء يوجه الى الوجهة‬
‫المرضية عند ال بأن يكون في سبيله ولطلب مرضاته‪ ،‬بان ينفق المسلم ماله في أوجه البر‬
‫مثل اكرام الضيف والجار وكفالة اليتيم وإعانة المحتاج أو اقراضه والقيام على الرملة‬
‫والمسكين ونحو ذلك‪ .‬يدل على ما نقول الحاديث الشريفة الكثيرة منها‪ :‬عن أبي موسى‬
‫رضي ال عنه قال‪ :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل‬
‫حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل ال؟ فقال‪" :‬من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في‬
‫سبيل ال[‪ ]22‬وفي القرآن الكريم ﴿يا أيها الذين آمنوا ل تبطلوا صدقاتكم بالمن والذى كالذي‬
‫ينفق ماله رئاء الناس﴾‪.‬‬
‫وفي الحديث الشريف‪" :‬الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في السلم إذا فقهوا" لنهم‬
‫بهذا الفقه يستعملون صفاتهم وأخلقهم الجيدة في أصلها استعمال صحيحا‪ ،‬ويوجهونها الوجهة‬
‫الصحيحة‪ ،‬فيكونون خيار الناس‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬استبدال الخلق الذميم بالخلق الجيد‪ ،‬كاستبدال الكذب بالصدق والغدر بالوفاء‪ ،‬والظلم‬
‫والعدوان بالعدل والنصاف‪ .‬وهذا الستبدال ممكن في كثير من الخلق‪ ،‬حيث يزول الخلق‬
‫الذميم ويحل محله خلق جميل‪ ،‬كما نشاهد ذلك في الشخص الذي يتوب توبة صادقة‪.‬‬

‫وسائل تقويم الخلق‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫‪ -129‬هناك وسائل كثيرة لتقويم الخلق واكتساب الجيد منها والتخلي عن الرديء منها وقد‬
‫يكون أهم هذه الوسائل ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم‪ ،‬ونقصد به هنا معرفة أنواع الخلق الحسنة التي أمر بها السلم‪ ،‬وأنواع الخلق‬
‫الرديئة التي نهى عنها السلم‪ .‬ان هذا العلم ضروري لنه بدونه ل يدري المسلم بأي خلق‬
‫يتخلق‪ ،‬ومن أي خلق يتجرد‪ .‬وقد كفى السلم المسلم مؤنة البحث والستنباط فقد فصل‬
‫الخلق بنوعيها‪ .‬وما على المسلم إل أن يعرض نفسه على الخلق بنوعيها ليعرف موضعه‬
‫منها‪ ،‬ثم يعمل جاهدا لتكون أخلقه أخلقا اسلمية حقا‪.‬‬
‫‪ -2‬ول يكفي أن يعرف أنواع الخلق معرفة مجردة‪ ،‬بل يجب أن يعرف المسلم عظيم‬
‫حاجته الى الخلق الحسن‪ ،‬لنه متصل باليمان وتقوى ال وسبب للظفر برضوان ال ودخول‬
‫الجنان‪ ،‬كما يجب أن يعرف عظيم ضرر الخلق السيء عليه لنه من علمات النفاق وإمارات‬
‫ضعف اليمان وسبب سخط ال ودخول النار‪ .‬ان هذه المعرفة ستدفعه الى التخلق بالخلق‬
‫الحسنة رغبة في رضوان ال تعالى‪ ،‬كما تدفعه الى الخلص من الخلق السيئة خوفا من‬
‫سخط ال‪ ،‬لن من رغب في شيء سعى اليه‪ ،‬ومن خاف من شيء هرب منه‪.‬‬
‫‪ -3‬ول يكفي للمسلم أن يعرف أنواع الخلق السيئة ونتائجها‪ ،‬بل عليه أن يستحضر هذه‬
‫المعرفة في ذهنه لئل ينساها‪ ،‬فان آفة العلم النسيان‪ ،‬والنسيان يؤدي الى إهمال معاني‬
‫الخلق‪ ،‬فيضعف أثرها في النفس‪ ،‬ويصدر عنها ما ل ينبغي من الفعال‪ ،‬ولهذا كرر القرآن‬
‫الكريم معاني الخلق وبين لنا أنا ما صدر عن أبينا آدم عليه السلم كان من أسبابه النسيان‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما﴾‪ .‬ولما غضب سيدنا عمر‬
‫رضي ال عنه عندما قال له رجل انك ل تقضي بالعدل ول تقضي بالحق‪ ،‬قال بعض‬
‫الحاضرين‪ :‬يا أمير المؤمنين إن ال تعالى يقول‪﴿ :‬خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن‬
‫الجاهلين﴾ وهذا من الجاهلين فقال سيدنا عمر رضي ال عنه‪ :‬صدقت‪ ،‬وذهب عنه الغضب‪.‬‬
‫فالتذكر الدائم لمعاني الخلق وتذكر الساس الذي قامت عليه وهو اليمان بال تعالى‪ ،‬وان‬
‫اللتزام بمقتضى الخلق من ثمرات اليمان ومن معاني السلم‪ ،‬كل هذا يجعل سلوك المسلم‬
‫في حدود الخلق السلمية‪.‬‬
‫‪ -4‬الهتمام الكامل بتقوية معاني العقيدة السلمية في النفس‪ ،‬وعلى رأس هذه المعاني‬
‫اليمان بال وباليوم الخر وبرسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والحساس بالغربة في هذه‬
‫الدنيا وان المسلم عما قريب سيرحل عنها‪ ،‬وانه سيجازى على أعماله‪ ،‬ومن أعماله أخلقه‪،‬‬
‫وأن ال تعالى وعد وعد الصدق بالثواب للمتخلقين بأخلق السلم‪ ،‬ووعد بالعقاب لمن رفض‬
‫أخلق السلم‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫إن تقوية معاني العقيدة السلمية في النفس يؤدي الى انفتاح النفس وتقبلها لمعاني الخلق‬
‫السلمية‪ ،‬لن هذه الخلق موصولة باليمان ومعاني التقوى كما قلنا‪ ،‬وهذه الصلة تشتد كلما‬
‫قوي اليمان في النفس ورسخت العقيدة فيها‪ ،‬مما يجعل أخلق المسلم الطيبة ثابتة راسخة ل‬
‫تزول ول تضعف لنها موصولة بالقوي العزيز‪ ،‬وتجد مادة بقائها واستمرارها وصلحها من‬
‫هذا الفيض الذي ل ينضب‪ :‬اليمان بال ولوازم هذا اليمان‪ .‬فالمسلم‪ ،‬مثلً‪ ،‬ل يمكن ان يكون‬
‫ذليلً أبدا لنه موصول بالقوي العزيز الذي له العزة جميعا ﴿قل ل العزة جميعا﴾ وللمؤمنين‬
‫المتصلين به نصيب من العزة ﴿ول العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ والمؤمن ل يخاف مخلوقا ول‬
‫يخشاه ومن ثم ل يتملقه ول يذل له ول ينافق عنده لن المور كلها بيد ال‪ ،‬ومنها النفع‬
‫والضر والرزق والحياة والموت ﴿وإن يمسسك ال بضر فل كاشف له إل هو وإن يردك بخير‬
‫فل راد لفضله﴾ وعزة المؤمن ل يقترن بها ذرة من كبر أو طغيان أو جبروت أو خيلء أو‬
‫عجب بالنفس‪ ،‬لن عزة المؤمن قائمة على اليمان بال‪ ،‬وال وحده له الكبرياء والجبروت‪،‬‬
‫وكل ما سواه فهو فقير مربوب مقهور‪ ،‬فأنى للفقير المقهور أن يتكبر أو يتجبر على غيره؟‬
‫ولهذا ل يكون المسلم إل متواضعا لنه عرف قدر نفسه بعد أن عرف ربه‪ ،‬ومن عرف قدر‬
‫نفسه لن يتكبر أبدا‪ .‬ومع العزة والتواضع صبر جميل وثقة كاملة ورجاء ل يشوبه يأس‪،‬‬
‫وطمأنينة ل يخالطها قلق‪ ،‬لن اليمان يثمر هذه الخلق الفاضلة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أل بذكر ال‬
‫تطمئن القلوب﴾ ولن ما هو مقدر فهو كائن‪ ،‬فل داعي للقلق والضطراب ﴿قل لن يصيبنا إل‬
‫ما كتب ال لنا﴾ ولن من يتوكل على ال فهو حسبه‪ .‬والشجاعة والجرأة والقدام والثبات على‬
‫الحق ونحو ذلك أخلق راسخة في المسلم ما دام قلبه معمورا بمعاني اليمان‪ ،‬لن إيمانه‬
‫يعلمه أن الحياة ل تستحق أن يهن فيها المسلم أو يجبن أو يحجم حيث يجب القدام‪ ،‬لن‬
‫الجال قد فرغ منها‪ ،‬وأن الموت ل بد أن يلقيه كل حي‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬كل نفس ذائقة الموت﴾‬
‫﴿وما كان لنفس أن تموت إل بإذن ال كتابا مؤجلً﴾‪ .‬والقناعة وعفة النفس والستغناء عن‬
‫الخلق وعما في أيديهم‪ ،‬ثمرات طيبات زاكيات من ثمار اليمان‪ ،‬لن المسلم يؤمن بقول ال‬
‫تعالى‪﴿ :‬قل إن الفضل بيد ال يؤتيه من يشاء وال واسع عليم﴾ وأن الرزق بيد ال ﴿ال يبسط‬
‫الرزق لمن يشاء ويقدر﴾‪ ..‬وهكذا بقية الخلق ترسخ وتدوم وتستمر ما دامت قائمة على‬
‫إيمان عميق يتخلل شغاف القلب وتصبغ به النفس‪ .‬فتعميق اليمان في النفس وتقوية معاني‬
‫العقيدة‪ ،‬وسيلة مهمة جدا للتخلق بالخلق الحسن وللتخلي عن الخلق الرديء‪.‬‬
‫‪ -5‬مباشرة العمال الطيبة التي تساعد أو تؤدي إلى تقويم الخلق أو تسهل على النفس‬
‫قبول الخلق الزكية وطرد الخبيثة‪ ،‬فالعلم وحده بدون عمل ل يكفي‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قد أفلح من‬
‫زكاها﴾ ولم يقل ربنا تبارك وتعالى قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها‪ ،‬فل بد من تزكية فعلية‪،‬‬
‫بمباشرة العمال المحققة لزكاة النفس وتخليصها من أمراض الخلق الرذيلة‪ .‬إن المريض‬

‫‪66‬‬
‫الذي يوصف له العلج أو يقدم له العلج فعلً‪ ،‬ول يستعمله لن يستفيد منه وإن ظل ينظر اليه‬
‫ويكرر القول في تركيبه وكيفية صنعه‪.‬‬
‫‪ -6‬ومن أنواع العمال الطيبة النافعة لتقويم الخلق‪ ،‬القيام بأنواع العبادات والطاعات‬
‫المفروضة والمندوبة لنها تزكي النفس وتسهل عليها اكتساب الخلق الطيبة وطرد الخلق‬
‫الخبيثة‪ ،‬فهي لها طهرة وزكاة وقوة ووقاية‪ ،‬وقد أشار القرآن إلى هذه المعاني‪ ،‬قال تعالى في‬
‫الصلة‪﴿ :‬إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ وقال عن الزكاة ﴿خذ من أموالهم صدقة‬
‫تطهرهم وتزكيهم بها﴾ تطهرهم من البخل والشح وتصفي نفوسهم من الكدورات والخلق‬
‫الرديئة‪ .‬والصوم يربي في النسان فضيلة الصبر وقوة الرادة والعزيمة والخلق والخلص‬
‫من الرياء‪ .‬والحج تربية عملية للروح ورياضة مؤثرة في النفس ووسيلة فعالة لكتساب كثير‬
‫من الخلق والتخلص من كثير من ذميم الصفات‪ ،‬ففي الحج تربية على الصبر والخلص‬
‫والستعلء على شهوات الجسد وإنفاق المال فيما يحبه ال‪ ،‬والتخلص من الكبر والعجب‬
‫والغرور وتجاوز النسان قدر نفسه وغير ذلك مما هو معروف ومذكور في موضعه في كتب‬
‫الفقه‪ .‬وهكذا بقية العبادات بدوامها تزكو النفس فتدوم فيها معاني اليمان والتقوى ومنها‬
‫الخلق الرضية‪ ،‬لن هذه الخلق ل تنبت إل في النفس الزكية‪ ،‬ول شيء مثل العبادات‬
‫بأنواعها المختلفة يزكي النفس ويهيئها لكتساب الخلق الطيبة والتخلص من الخلق‬
‫الرديئة‪ ،‬وفي كتاب ال إشارة إلى هذه المعاني قال تعالى‪﴿ :‬إن النسان خلق هلوعا إذا مسه‬
‫الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إل المصلين الذين هم عل صلتهم دائمون والذين في‬
‫أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾‪.‬‬
‫‪ -7‬القيام بالعمال المضادة للخلق التي يراد التخلص منها أو المضادة لمقتضاها ويمكن‬
‫أن نسمي هذا المسلك بمسلك التضادد أو المراغمة للشيطان‪ ،‬لن الشيطان يفرح لكل خلق‬
‫رديء ويعمل على بقائه في النفس ويزينه في عين صاحبه بما يلقيه من مبررات باطلة‪ ،‬فإذا‬
‫قام النسان بعمل يناقض هذا الخلق ول يتفق وما يقتضيه‪ ،‬كان ذلك بل شك إغاظة للشيطان‬
‫ومراغمة له‪ ،‬مما يدعوه إلى الكف عن تزيين هذا الخلق الرديء وعن نفث المبررات الباطلة‬
‫له‪ ،‬فإذا خنس الشيطان أمكن لهذا العمل أن يزعزع كيان هذا الخلق الرديء أو يقضي عليه‬
‫كما يقضي العلج الفعال على المرض‪ .‬ومما يدل على جودة هذا المسلك وأثره في تقويم‬
‫الخلق ما ورد في الحديث أن رجلً شكا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قلبه‪ ،‬فقال له‬
‫رسول ال "امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين"‪.‬‬
‫ومن أمثلة أعمال التضادد والمراغمة علج الحسد بأن يبادر الحاسد إلى الستغفار والدعاء‬
‫بالخير إلى المحسود فإنه سيشعر بزوال الحسد من قلبه‪ ،‬ومن علج الكبر جلوس المتكبر مع‬

‫‪67‬‬
‫الفقراء والمساكين والصعاليك والجلوس في آخر المجلس‪ ،‬والقيام بالعمال التي يعدها الناس‬
‫حقيرة ل تليق بالمتكبرين مثل حمل الحطب ونحو ذلك‪.‬‬
‫ومما يمكن اعتباره من أعمال هذه الوسيلة‪ ،‬ما جاء في الحديث الشريف "إذا غضب أحدكم‬
‫وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإل فليضطجع"[‪ .]23‬وفي حديث آخر "إذا غضب‬
‫أحدكم فليتوضأ بالماء‪ ،‬فإنما الغضب من النار‪ ،‬وإنما تطفأ النار بالماء"‪.‬‬
‫‪ -8‬مسلك التكلف‪ ،‬فيتكلف النسان الخلق التي يريد التخلق بها كما لو أراد أن يكون حليما‬
‫فإنه يأتي به تكلفا مرارا حتى تألفه النفس وتعتاده ويصير لها كالطبع وكالسجية‪ .‬ويؤيد جودة‬
‫هذا المسلك‪ ،‬ما ورد في الحديث – وان روي بسند ضعيف – "إنما العلم بالتعلم والحلم‬
‫بالتحلم"‪ .‬وهذا المسلك يحتاج إلى تكرار ودوام حتى ينتج أثره‪ ،‬وهذا الدوام يستلزم الصبر‪،‬‬
‫فعلى النسان الذي يريد التخلق بنوع من الخلق الرضية عن طريق التكلف أن يتجمل‬
‫بالصبر فإنه ضروري له ضرورته للمريض الذي يتناول الدواء المر‪ .‬فإذا صبر وداوم انقادت‬
‫النفس وألفت الفعل ثم يصبح الفعل لها لذيذا‪ ،‬كالذي يريد أن يحسن خطه فإنه بتكرار الكتابة‬
‫والخط يحسن خطه‪ ،‬ثم يصبح الخط بالنسبة له شيئا سهلً ولذيذا‪.‬‬
‫‪ -9‬مخالطة المؤمنين ذوي الخلق الحسنة ومجالستهم والسماع منهم‪ ،‬لن رؤية الرجل‬
‫الصالح ذي الخلق الحسن ومجالسته والسماع منه يؤثر في جليسه فيدفعه إلى اقتباس بعض‬
‫أخلقه‪ ،‬وقديما قيل‪ :‬الطبع يأخذ من الطبع‪ .‬وقد ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه‬
‫الترمذي عن أبي سعيد أنه سمع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول "ل تصاحب إل مؤمنا‬
‫ول يأكل طعامك إل تقي" لن المرء يقتدي بمن يعاشره ويصاحبه ويجالسه فيقتبس منه‬
‫صفاته‪ .‬ولهذا كان السلف الصالح يوصون أو يأمرون بهجر أصحاب البدع والمعاصي وذوي‬
‫الخلق الرذيلة‪.‬‬
‫‪ -10‬اتخاذ القدوة الحسنة‪ ،‬وخير القدوة على الطلق رسولنا صلى ال عليه وسلم قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬لقد كان لكم في رسول ال أسوة حسنة لمن كان يرجو ال واليوم الخر وذكر ال‬
‫كثيرا﴾ فإذا فات المسلم الن رؤية رسول ال صلى ال عليه وسلم ببصره فلن تفوته رؤياه‬
‫ببصيرته باستحضار سيرته العطرة‪ .‬وشمائله الكريمة وأخلقه العظيمة‪ ،‬ولذلك نوصي كل‬
‫مسلم بقراءة سيرته مرارا واستحضار شخصه الكريم في ذهنه‪ ،‬وتصور نفسه في مجلس‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ومن القدوة الحسنة أيضا استحضار سيرة أصحابه الكرام‬
‫المملوءة بالخير وجليل العمال وكريم الخلق ل سيما سيرة الخلفاء الراشدين والعشرة‬
‫المبشرة بالجنة وأصحاب بدر وأصحاب بيعة الرضوان وسائر المهاجرين والنصار‪.‬‬
‫‪ -11‬ترك البيئة الفاسدة والفرار كما يفر المرء من المكان الموبوء‪ ،‬والتحول إلى البيئة‬
‫الصالحة التي تضم الجماعة الصالحة من المؤمنين الطيبين فإن هذه البيئة الصالحة تقوي في‬

‫‪68‬‬
‫المؤمن معاني الخلق الفاضلة وتقيه من الخلق الرديئة‪ ،‬ول يجوز له التعرض إلى البيئة‬
‫الفاسدة ذات الناس الفاسدين بحجة أنه متين الخلق ل يخشى عليه التأثر بهم أو بها‪ ،‬فإن هذا‬
‫غرور ووهم ومثاله مثال من يتعرض إلى المكان الموبوء بمرض السل ونحوه بحجة أنه قوي‬
‫البنية‪ .‬ونستأنس لهذا الذي نقوله بالحديث الشريف الذي جاء فيه أن رجلً قتل مائة نفس ثم‬
‫سأل عن أعلم أهل الرض فدل على رجل عالم فأتاه‪ ،‬فقال‪" :‬إنه قتل مائة نفس‪ ،‬فهل له من‬
‫توبة فقال نعم‪ .‬ومن يحول بينك وبين التوبة؟ إنطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناسا يعبدون‬
‫ال فاعبد ال معهم ول ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء‪...‬الخ"[‪ ]24‬فهذا الحديث يدل على‬
‫ضرورة التحول من المجتمع الفاسد إلى المجتمع الطيب أوإلى الجماعة الطيبة المؤمنة العابدة‪،‬‬
‫فإن العيش معها والبقاء معها أدعىإلى استقامة الشخص وابتعاده عن السوء‪.‬‬
‫والبيئة الفاسدة كل ما يعرضك للمعصية وسوء الخلق‪ ،‬والبيئة الصالحة كل ما يعينك على‬
‫طاعة ال وتقواه ومنها حسن الخلق‪.‬‬
‫‪ -12‬الحرص على صفة جميلة واعتبارها كالجوهرة النفيسة التي يجب صونها وحفظها‬
‫وعدم التفريط بها‪ ،‬وعدم الستهانة بكل صفة قبيحة وإن بدت بسيطة قليلة الشأن‪ ،‬لن المسلم‬
‫ل يستقل أبدا أي خلق حسن ول يستهين بأي خلق سيء فرب صفة طيبة ترفعه إلى درجات‬
‫عالية ورب صفة خبيثة تدخله النار‪ ،‬وقد مدح ال تعالى رسوله إسماعيل عليه السلم بصفة‬
‫صدق الوعد قال تعالى‪﴿ :‬واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد‪ ﴾...‬وفي الحديث‬
‫"اتقوا النار ولو بشق تمرة" كما أن الصفة الواحدة والمحافظة عليها والدوام عليها تؤدي إلى‬
‫رسوخها فيه فإن كانت صفة خير كان ذلك خيرا له وإن كانت صفة شر كان ذلك شرا له‬
‫والخير يؤدي إلى الخير والشر يؤدي إلى الشر‪ ،‬جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال‪" :‬عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬والبر يهدي إلى الجنة‪ ،‬وما‬
‫يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند ال صديقا‪ .‬وإياكم والكذب فإن الكذب‬
‫يهدي إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى‬
‫يكتب عند ال كذابا"‪.‬‬
‫‪ -13‬على المسلم أن يروض نفسه على قبول نصيحة المتدين الكيس الورع الصادق‪ ،‬فإن‬
‫المؤمن يرى من عيوب غيره ما ل يرى الغير من عيوب نفسه‪ ،‬ومن هنا حسنت صحبة‬
‫الخيار‪ ،‬وكان عمر رضي ال عنه يقول‪ :‬رحم ال امرءا أهدى إليّ عيوبي‪ .‬إن الناصح‬
‫الصادق الذي يدلك على عيوبك وسوء بعض أخلقك يستحق منك الشكر والتقدير‪ .‬إنك تشكر‬
‫من يدلك على عقرب تدب على جسمك أو تختفي تحت ثيابك وتسارع إلى إلقائها بعيدا عنك‪،‬‬
‫فكذلك يجب أن تفعل نحو من ينصحك ويدلك على عيوب أخلقك‪ ،‬لن الخلق الرذيلة‬
‫عقارب ولكنها تؤذي القلب وتفرغ فيه سمومها‪..‬‬

‫‪69‬‬
‫هذه بعض الوسائل المهمة في تقويم الخلق واكتساب الجيد منها‪ ،‬وهناك وسائل أخرى مهمة‬
‫في الموضوع نكتفي بما ذكرناه‪..‬‬

‫[‪ ]1‬احياء علوم الدين للغزالي ج ‪ ،3‬ص ‪.46‬‬


‫[‪ ]2‬السخرية بالناس‪ :‬احتقارهم والستهزاء بهم‪ .‬اللمز‪ :‬الطعن بهم بالقول‪ .‬الهمز الطعن بهم‬
‫الفعل‪ .‬والهماز اللماز مذموم ملعون قال تعالى‪﴿ :‬ويل لكل همزة لمزة﴾‪ .‬والتنابز باللقاب أن‬
‫تدعو غيرك بلقب يسؤوه سماعه‪ .‬والظن كما يقول ابن كثير في تفسيره‪ :‬التهمة والتخون‬
‫للهل والقارب والناس في غير محله لن بعضه اثم فليجتنب كثير منه احتياطا‪ ،‬وعن عمر‬
‫بن الخطاب رضي ال عنه قال‪" :‬ول تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إل خيرا وأنت تجد‬
‫لها في الخير محمل"‪ .‬والغيبة ذكرك أخاك بما يكره فان لم يكن فيه ما تذكره فقد غبته‪.‬‬
‫[‪ ]3‬اللغو هو كل ما ل يحمد من القول والفعل‪.‬‬
‫[‪ ]4‬العادون هم المجاوزون الحلل الى الحرام‪.‬‬
‫[‪ ]5‬الفردوس أعلى الجنة‪.‬‬
‫[‪ ]6‬هونا أي بسكينة ووقار وتواضع‪.‬‬
‫[‪ ]7‬أي قالوا قول سديدا ول يدخلون في جدال وخصام مع الجاهلين‪.‬‬
‫[‪ ]8‬غراما أي لزما ممتدا‪.‬‬
‫[‪ ]9‬قواما أي عدل وسطا بل إفراط ول تفريط‪.‬‬
‫[‪ ]10‬اثاما أي عقابا وجزاء‪.‬‬
‫[‪ ]11‬ول يشهدون الزور أي ل يحضرون مجالس السوء والكذب والكفر والفسق والباطل‪.‬‬
‫[‪ ]12‬مروا كراما‪ ،‬أي مكرمين أنفسهم بالعراض عن مشاهد الزور‪.‬‬
‫[‪ ]13‬أي ل يكون حالهم مثل حال الكفار حيث يسمعون كلم ال ول يتأثرون به ول يعقلون‬
‫ما فيه كأنهم صم عمي‪ ،‬وإنما حال المؤمنين عند سماعهم كلم ال فهم معناه والنتفاع به‪.‬‬
‫[‪ ]14‬إماما‪ ،‬أي اجعلنا أئمة يقتدى بنا في الخير‪ .‬أو هداة مهتدين دعاة إلى الخير‪.‬‬
‫[‪ ]15‬حسنت مستقرا ومقاما‪ .‬أي حسنت منظرا وطابت مقيل ومنزل‪.‬‬
‫[‪ ]16‬سيرة ابن هشام في موضوع صلح الحديبية‪.‬‬
‫[‪ ]17‬المغني لبن قدامة الحنبلي ج ‪ 8‬ص ‪.458‬‬
‫[‪ ]18‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪.483‬‬
‫[‪ ]19‬المبسوط ج ‪ 12‬ص ‪ ،200‬وحاشية ابن عابدين ج ‪ 2‬ص ‪.56‬‬
‫[‪ ]20‬تيسير الوصول لبن الديبع الشيباني ج ‪ 4‬ص ‪.304‬‬

‫‪70‬‬
‫[‪ ]21‬شرح الربعين النووية للمام النووي ص ‪ ،49‬وفتح المبين لشرح الربعين للفقيه ابن‬
‫حجر الهيتمي ص ‪.140‬‬
‫[‪ ]22‬تيسير الوصول ج ‪ 1‬ص ‪ 231‬وقال فيه‪ :‬رواه الخمسة‪.‬‬
‫[‪ ]23‬لن القائم متهيئ للنتقام والجالس دونه والمضطجع دونهما‪.‬‬
‫[‪ ]24‬تيسير الوصول ج ‪ 1‬ص ‪.212‬‬

‫المبحث الثاني ‪ -‬النظام الجتماعي في السلم‬

‫تمهيد‬
‫‪ -130‬من الحقائق الثابتة التي أشار إليها العلمة ابن خلدون في مقدمته أن الجتماع النساني‬
‫ضروري‪ ،‬وهو ما يعبر عنه بقول بعضهم‪ :‬النسان مدني بالطبع ومعنى ذلك أن المجتمع‬
‫ضروري للنسان‪ ،‬وهو ما يؤيده الواقع‪ ،‬فالنسان يولد في المجتمع ويعيش فيه ويموت فيه‪.‬‬
‫‪ -131‬وإذا كان المجتمع ضروريا للنسان ول بد من وجوده‪ ،‬فإن النظام – على أي نحو كان‬
‫– ضروري للمجتمع ل يتصور وجوده بدونه‪ ،‬لن الفراد ل يمكنهم العيش بحرية مطلقة‬
‫داخل المجتمع وإل كان في ذلك هلكهم أو إضطراب حياتهم وانقلب مجتمعهم إلى مجتمع‬
‫حيوانات كالذي نشاهده في الغابات‪ .‬ولهذا كان ل بد من نظام للمجتمع يتضمن الحدود التي‬
‫يجب أن يقف عندها الجميع والضوابط العامة التي يجب أن يلتزموا بها في سلوكهم حتى‬
‫يستطيعوا العيش بأمان واستقرار‪.‬‬
‫‪ -132‬وإذا كان لكل مجتمع نظام على نحو ما‪ ،‬فإن هذا النظام ل بد له من أساس وأصول‬
‫وأفكار يرتضيها المجتمع ويقوم عليها نظامه الذي يسير بموجبه‪ .‬والنظام يكون صالحا أو‬
‫فاسدا تبعا لصلح أو فساد أساسه وأصوله وأفكاره التي يقوم عليها لن الفرع يتبع الصل في‬
‫الصلح والفساد‪.‬‬
‫‪ -133‬وإذا كان نظام المجتمع قد يكون صالحا أو فاسدا‪ ،‬فإن صلحه وفساده ينعكس على‬
‫أفراده ويتأثرون به ويتحملون تبعاته فيسعدون به أو يشقون‪ ..‬وعلى هذا ويجب على من يريد‬
‫الخير لنفسه ولمجتمعه أن يبحث ويتحرى عن الساس الصالح الذي يجب أن يقوم عليه نظام‬
‫المجتمع ويسعى لتثبيت هذا الساس وإقامة نظام المجتمع عليه‪ ،‬وبهذا تتيسر للفراد سبل‬
‫الخير والسعادة ويتحقق أكبر قدر ممكن من الحياة الطيبة المستقرة الهادئة لفراده‪..‬‬
‫‪ -134‬والواقع أن السلم كفانا مؤونة البحث والتحري عن هذا الساس الذي يقوم عليه‬
‫النظام الصالح والمجتمع‪ ،‬كما كفانا مؤونة البحث عن طبيعة هذا النظام الصالح وخصائصه‪،‬‬
‫مما يجعل المر ميسورا لبناء المجتمع الصالح الذي يسعد به الناس جميعا‪ ،‬فما هو إذن أساس‬

‫‪71‬‬
‫النظام الصالح في نظر السلم‪ ،‬وما هي خصائص هذا النظام؟ هذا ما سنجيب عليه في‬
‫المطلبين التاليين بالقدر الذي يتسع له بحثنا عن هذا المقام‪.‬‬

‫المطلب الول ‪ -‬أساس نظام المجتمع في السلم‬


‫‪ -135‬إن أساس نظام المجتمع في السلم هو العقيدة السلمية لن المطلوب من كل إنسان‬
‫أن يحمل هذه العقيدة ليعرف مركزه في الحياة وعلقته بالكون والغرض الذي من أجله خلق‪،‬‬
‫وهذه العقيدة هي الموجهة لفكار النسان وسلوكه وسائر تصرفاته ول يمكن التخلي عنها في‬
‫شأن من الشؤون‪ .‬وحيث إن النسان إجتماعي بالطبع كما قلنا‪ ،‬فمن البديهي أن تكون العقيدة‬
‫السلمية هي الموجهة له في بناء هذا المجتمع والنظام الذي يختاره له‪ ،‬وبكلمة أخرى يجب‬
‫أن تكون العقيدة السلمية هي الساس لبناء المجتمع ونظامه‪ ،‬حتى يعمل الفراد في ضوء‬
‫عقيدتهم كأفراد وكأعضاء في المجتمع كما يعمل المجتمع كجماعة منظمة في ضوء عقيدتهم‬
‫التي يحملها أفراده‪ .‬ويترتب على ذلك أن كل من يحمل هذه العقيدة ويدين بها ويلتزم‬
‫ل للنتماء إلى هذا المجتمع السلمي فيصبح عضوا فيه‪ ،‬ويساهم في بقائه‬
‫بمقتضاها يكون أه ً‬
‫وتحقيق أغراضه والتمتع بمزاياه وتحمل تبعاته مهما كان جنسه أو نوعه أو لونه أو لغته أو‬
‫إقليمه أو حرفته‪ ...‬والحقيقة أن تقديم السلم هذا الساس لقامة المجتمع البشري كان حدثا‬
‫ضخما وفريدا في التاريخ البشري ما كان الناس يعرفونه ولم يخطر ببالهم‪ ،‬فالرومان واليونان‬
‫والفرس والعرب قبل السلم أقاموا مجتمعاتهم على أساس الجنس أو القبيلة أوالسللة أوالقليم‬
‫وبنوا على هذا الساس أباطيل كثيرة تولد عنها الظلم والبغي وإهدار كرامة النسان‪ ،‬فلما جاء‬
‫السلم بهذا الساس الجديد لبناء المجتمع ونظامه كان ذلك انقلبا هائلً في الحياة البشرية‪،‬‬
‫تكريما للنسان‪ ،‬ووضعا للمور في نصابها‪ ،‬فليس من اللئق بالنسان بناء مجتمعه على‬
‫أساس الجنس أوالقبيلة أو القليم‪ ،‬كما كانت تفعل المجتمعات الجاهلية قبل السلم‪ ،‬لن أصل‬
‫البشر واحد‪ ،‬ول يمكن حجب هذه الحقيقة باختلف الناس بالنساب والجناس‪ ،‬لن أجناسهم‬
‫وشعوبهم المختلفة كالغصان للشجرة الواحدة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي‬
‫خلقكم من نفس واحدة﴾ وفي الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬كلكم لدم‪،‬‬
‫وآدم من تراب"‪ .‬وكذلك ل معنى لتخاذ القليم أساسا للمجتمع البشري‪ ،‬لن الرض خلقها ال‬
‫للناس فهي إقليمهم وهي وطنهم المشترك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬والرض وضعها للنام﴾‪ .‬وأيضا فإن‬
‫الجنس والقبيلة والسللة ل يصلح واحد منها أن يكون أساسا للمجتمع البشري لن بطبيعته‬
‫ضيق ل يمكن أن يسع الناس جميعا‪ ،‬فليس بمقدور أحد أن يكون من هذا الشعب أو القبيلة أو‬
‫الجنس بعد أن خلقه ال من غيرها‪ ،‬وإنما الممكن المقدور للنسان أن يعتنق العقيدة السلمية‬
‫فيكون من أعضاء المجتمع السلمي‪ ،‬ومن يرفض اعتناق هذه العقيدة فإن المجتمع السلمي‬

‫‪72‬‬
‫ل يرفض قبوله فيه إذا رغب هو في النتماء إليه بشرط إعلن ولئه له وخضوعه لنظامه‬
‫عن طريق عقد الذمة‪ .‬وفي هذه الحالة سيجد غير المسلم مكانا أمينا في هذا المجتمع الفكري‬
‫ويتمتع بالحقوق العامة والخاصة وبحماية تامة لنفسه وماله وعرضه‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬فقول‬
‫البعض‪ :‬إن إقامة المجتمع على أساس العقيدة السلمية بغير اضطهاد غير المسلمين‪،‬‬
‫وإكراههم على تبديل دينهم قول باطل هو من قبيل التشويش والتضليل والجهالة‪ ،‬فالسلم‬
‫يقرر في القرآن الكريم‪﴿ :‬ل إكراه في الدين﴾ والفقهاء يقررون قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما‬
‫علينا" والواقع يشهد بأن غير المسلمين عاشوا في المجتمع السلمي منذ عهد الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم وحتى اليوم دون أن يمسهم أذى أو تضييق بسبب دينهم‪ ،‬والواقع يثبت أنهم‬
‫ظفروا بحماية ورعاية من المسلمين ل نجد لهما نظيرا مطلقا في أي مجتمع بالنسبة للقليات‬
‫التي فيه والتي ل تدين بدينه‪ ،‬ويكفي أن نذكر هنا مأساة الندلس وما أصاب المسلمين هناك‬
‫عندما دالت دولتهم وذهب سلطانهم‪.‬‬

‫نتائج اتخاذ العقيدة السلمية أساسا لنظام المجتمع‬


‫أولً‪ :‬الرباط اليماني‬
‫‪ -136‬يعتبر السلم المؤمنين بالعقيدة السلمية إخوة في الدين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إنما المؤمنون‬
‫إخوة﴾‪ .‬وفي الحديث الشريف "المسلم أخو المسلم" والخوة اليمانية أعظم الروابط بين‬
‫المسلمين وعلى أساسها تكون الموالة‪ ،‬وقد يشترك المسلم مع أخيه المسلم بروابط أخرى‬
‫كرابطة النسب أو القليم‪ ،‬وهذه الروابط غير منكورة ول مرفوضة في السلم ولكن بشرط‬
‫أن ل تحمل شيئا من الباطل وأن ل تعلو على رابطة اليمان ومستلزماتها‪.‬‬
‫والرابطة اليمانية ل تقتضي اضطهاد غير المسلمين أو إيذائهم‪ ،‬فقد قلنا‪ :‬إن السلم يقبل في‬
‫عضوية المجتمع السلمي غير المسلم ويأمر بحمايته‪ ،‬فإذا فات غير المسلم رابطة اليمان‬
‫وإخوة الدين فلن تفوته حماية المسلمين وعدل السلم وبر المجتمع السلمي قال تعالى‪﴿ :‬ول‬
‫يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ وقال تعالى‪﴿ :‬ل ينهاكم ال‬
‫عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم وال يحب‬
‫المقسطين﴾ وقال صلى ال عليه وسلم "أل من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو‬
‫أخذ منه شيئا بغير طيب نفس‪ ،‬فأنا خصمه يوم القيامة"‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬زوال العصبية‬


‫‪ -137‬المقصود بالعصبية التناصر بالحق وبالباطل لشتراك المتناصرين بالنسب أي نسب‬
‫القبيلة أو السللة أو السرة‪ ،‬وكان هذا المفهوم للعصبية هو الشائع عند العرب قبل السلم‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫فكان أفراد القبيلة ينصر بعضهم بعضا في الحق وفي الباطل لنتسابهم إلى قبيلة واحدة‪ .‬وقد‬
‫أنكر السلم هذه العصبية‪ ،‬وأمر بنبذها‪ ،‬فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية"‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم عن العصبية‪" :‬دعوها فإنها منتنة"‪.‬‬
‫وبعد أن كان شعار الجاهلية‪ :‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما‪ ،‬بمعنى كن بجانبه في الحالين‪،‬‬
‫أصبح الشعار في السلم‪ :‬انصر أخاك ظالما – بأن تمنعه من الظلم – أو مظلوما بأن تقف‬
‫بجانبه ضد ظالمه‪..‬‬
‫وذم العصبية في السلم ل يقف عند حد العصبية القائمة على أساس المشاركة في القبيلة أو‬
‫الجنس‪ ،‬وإنما تتعداها إلى كل عصبية قائمة على سبب آخر ما دام جوهر العصبية موجودا‬
‫وهو نصرة الغير بالباطل بسبب هذه المشاركة‪ .‬وعلى هذا فانتصار أصحاب القليم الواحد أو‬
‫الحرفة الواحدة أو المذهب الواحد بعضهم لبعض في الباطل هو من العصبية المقيتة المذمومة‪.‬‬
‫إن خلو المجتمع السلمي من العصبية بأنواعها يقلل فرص العتداء والظلم والبغي‪ ،‬ويساعد‬
‫على شد الفراد إلى معاني الحق والعدل وفي هذا كله خير مؤكد للمجتمع ولفراده‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تقوى ال هي ميزان التفاضل بين الناس‬


‫‪ -138‬وبزوال العصبية تزول نتائجها ومنها التفاخر بالحساب والنساب والعظام البالية‪...‬‬
‫فليس مجرد انتساب الفرد إلى قبيلة معينة مدعاة إلى الفخر ول إلى فضله وعلو منزلته‪ ،‬إذ ل‬
‫علقة بين فضل النسان وبين انتسابه إلى قوم معينين أو إلى قبيلة معينة‪ ،‬وإنما المعقول أن‬
‫يقدر فضل النسان بقدر ما تحمله نفسه من فضائل وأخلق كريمة وبقدر ما يقدمه من صالح‬
‫العمال‪ .‬وهذا كله يحققه تقوى ال عز وجل‪ ،‬ومن هنا كان أساس التفاضل في السلم تقوى‬
‫ال‪ ،‬وأما النتساب إلى القبائل فهو للتعارف فقط كإنتسابه إلى بلدة معينة أو حرفة معينة أو‬
‫بيت معين أو تسميته باسم معين‪ ،‬فكل هذه الشكال من النتساب أو السماء يقصد بها‬
‫التعارف وما يترتب عليه من تعاون أو تكاليف‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر‬
‫وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند ال أتقاكم﴾‪ .‬وبهذا الميزان الدقيق‬
‫العادل لمعرفة أقدرا الناس وفضلهم أصبح المجال واسعا للتنافس في الخير وبلوغ المنزلة‬
‫العالية التي يطمح إليها النسان‪ ،‬فل يمنعه منها مانع‪ ،‬من فقر أو لون أو ذكورة أو أنوثة أو‬
‫خسة نسب‪ ،‬أو دمامة خلقة‪ ،‬أو ضعف‪ ،‬كما ل يرفع النسان – إذا فاتته التقوى – شرف نسبه‪،‬‬
‫أو كثرة ماله‪ ،‬أو سعة سلطانه‪ ،‬أو كثرة ولده‪ ،‬أو فصاحة لسانه‪ ،‬أو كثرة أتباعه‪ ،‬أو جمال‬
‫صورته‪ .‬وقد أشار الرسول الكريم إلى هذه المور بقوله الموجز البليغ "من أبطأ به عمله لم‬

‫‪74‬‬
‫يسرع به نسبه" وذكر النسب إشارة إلى غيره من الشياء التي ل علقة لها في تقييم الشخص‬
‫معرفة مقدار فضله‪.‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬خصائص النظام الجتماعي في السلم‬


‫‪ -139‬والن وقد بينا أساس النظام الجتماعي في السلم وما ترتب على هذا الساس‪ ،‬نبين‬
‫خصائص هذا النظام أو معالمه البارزة‪ .‬والواقع أن خصائصه مشتقة من أساسه أو قائمة‬
‫عليه‪ ،‬وهي كثيرة‪ ،‬أهمها في نظرنا‪ :‬مراعاة الخلق‪ ،‬واللتزام بمعاني العدالة‪ ،‬والعناية‬
‫بالسرة‪ ،‬وتحديد مركز المرأة‪ .‬وتحميل الفرد مسؤولية إصلح المجتمع‪ .‬ونتكلم عن هذه‬
‫الخصائص أو المعالم بإيجاز‪:‬‬

‫أولً‪ :‬مراعاة الخلق‬


‫‪ -140‬قلنا فيما سبق‪ :‬إن للخلق منزلة رفيعة جدا في السلم‪ ،‬ولها آثار ظاهرة في مختلف‬
‫أنظمته‪ ،‬ومنها النظام الجتماعي‪ ،‬فهذا النظام يمتاز بحرصه الشديد على طهارة المجتمع‬
‫ونظافته من القبائح والرذائل‪ ،‬فالزنى محرم وعقوبته الجلد والتغريب أو الرجم‪ ،‬والقذف –‬
‫وهو رمي الغير بالزنى – محرم وعقوبته الجلد لئل تعتاد اللسنة على هذا القول البذيء‬
‫فتألفه‪ ،‬وفي هذا تلويث للمجتمع وتسهيل لوقوع الفاحشة‪ ،‬ولهذا كان عقابه غليظا ولكنه عادل‬
‫ويتفق ورعاية الخلق الفاضلة‪ ،‬وبذاءة اللسان مثل السباب والشتم محظورة في السلم‬
‫وعقوبته التعزير‪ ،‬والقمار بأنواعه محرم في شرع السلم ول يقره المجتمع السلمي‪،‬‬
‫وشهادة الزور من الكبائر في السلم‪ ،‬والتجسس والغيبة والنميمة وكل ما يوقع العداوة‬
‫والبغضاء بين أفراد المجتمع منكرات ل يقبلها النظام الجتماعي في السلم‪ .‬والمعاملت‬
‫يجب أن تقوم على الطهر وحسن النية والمانة فل يجوز الخداع والتضليل والغش والكذب في‬
‫أية معاملة بين الناس‪ .‬والمنكرات ل يجوز إقرارها في المجتمع أبدا لنها كالجراثيم إن بقيت‬
‫انتشرت وصارت كالوباء‪ ،‬ولهذا يشدد السلم النكير على من يظهر هذه المنكرات أو يتكلم‬
‫بها إذا جره الشيطان إليها‪ ،‬ويجعل إعلنها والتحدث بها جريمة ثانية فقد جاء في الحديث "أيها‬
‫الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر ال‪ ،‬ومن أبدى صفحته أقمنا‬
‫عليه الحد"‪.‬‬
‫وفي النظام الجتماعي جملة من الوسائل الوقائية التي تقي المجتمع من السواء والمنكرات‬
‫وتسد المنافذ والثغرات في وجه الشيطان‪ ،‬وهذه الوسائل لزمة ول يجوز تجاوزها‪ ،‬فل يجوز‬
‫للمرأة أن تخلو برجل غير زوجها أو من محارمها وإذا خرجت من بيتها فيجب أن يكون‬
‫لباسها شرعيا على النحو الذي سنفصله فيما بعد‪ .‬ومن مظاهر مراعاة الخلق في النظام‬

‫‪75‬‬
‫الجتماعي السلمي التوادد والتراحم والتعاطف بين أفراده‪ ،‬فإن السلم دعا إليها‪ ،‬وقد شبه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم حال المؤمنين في التراحم بمثل عظيم‪ ،‬فقد جاء في الحديث‬
‫"مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى‬
‫له سائر الجسد بالسهر والحمى" وفي حديث آخر "الراحمون يرحمهم ال تعالى‪ ،‬إرحموا من‬
‫في الرض يرحمكم من في السماء" وفي حديث آخر "ل يرحم ال من ل يرحم الناس" وفراغ‬
‫القلب من معاني الرحمة علمة على شقوة النسان‪ ،‬جاء في الحديث "ل تنزع الرحمة إل من‬
‫شقي"‪ .‬والشفقة على الصغار والولد من علمات عمارة القلب بالرحمة‪ ،‬جاء عن أبي هريرة‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬قال‪ :‬قبّل رسول ال صلى ال عليه وسلم الحسن بن علي رضي ال عنهما‪،‬‬
‫وعنده القرع بن حابس‪ ،‬فقال القرع‪ :‬إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم واحدا فقال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬من ل يرحم ل يُرحم" وفي القرآن الكريم في وصف صحابة رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ﴿محمد رسول ال والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾‬
‫فالتراحم بين المؤمنين من الصفات الصلية فيهم وتجعل المجتمع السلمي كالسرة الواحدة‪.‬‬
‫والحق أن مجتمعا يصل فيه التراحم إلى هذا الحد لمجتمع سعيد حقا‪.‬‬
‫ومع الرحمة تعاون نظيف على الخير‪ ،‬وأيد كريمة تمتد إلى كل محتاج لن السلم دعا إلى‬
‫التعاون قال تعالى‪﴿ :‬وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثم والعدوان﴾ وهذا‬
‫التعاون المطلوب يشمل السرة والجيران والصحاب والرفيق في السفر والمنقطع والغريب‪.‬‬
‫واليتيم والمسكين وكل ذي حاجة في المجتمع السلمي قال تعالى‪﴿ :‬واعبدوا ال ول تشركوا‬
‫به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى‬
‫والجار الجنب والصاحب بالجنب وإبن السبيل وما ملكت أيمانكم﴾ وفي السنة النبوية جملة من‬
‫الحاديث في باب التعاون منها "من كان في حاجة أخيه كان ال في حاجته‪ ،‬ومن فرج عن‬
‫مسلم كربة فرج ال عنه كربة من كرب يوم القيامة"‪ .‬وفي الوصية بالجار المتضمنة إعانته‬
‫ومساعدته "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورثه"‪ .‬والتعاون المطلوب ل‬
‫يقف عند حد إعانة المحتاجين والمعوزين‪ ،‬وإنما يتجاوزه إلى آفاق واسعة ومجالت مختلفة‪،‬‬
‫لن دائرته أعمال الخير‪ ،‬وهي واسعة جدا‪ ،‬فالتعاون على تشييد مسجد أو فتح مدرسة أو‬
‫إنشاء مستشفى أو بناء قنطرة‪ ،‬أو طبع كتاب نافع يخدم السلم‪ ،‬والتعاون على إزالة منكر أو‬
‫فساد أو ظلم أو صد عدوان ونحو ذلك كله من التعاون المطلوب لنه تعاون على البر‪ ،‬ول‬
‫شك أن شيوع التعاون بين أفراد المجتمع سيقضي على عوامل الثرة والجفاء والحقد والقطيعة‬
‫والبغضاء‪ ،‬ويعمر القلوب بالحب والود والشفقة‪ .‬مما يجعل الحياة طيبة في هذا المجتمع الطيب‬
‫لنها تقوم على الود والرحمة ل على البغض والقسوة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ثانيا‪ :‬اللتزام بمعاني العدالة‬
‫‪ -141‬اللتزام بمعاني العدالة من أنواع الخلق الفاضلة بل في ذروتها‪ ،‬وإنما أفردناها‬
‫بالذكر لهميتها‪ ،‬ولتشعبها وتعدد مظاهرها‪ ،‬وبروزها في النظام الجتماعي السلمي‪ .‬ومما‬
‫يدل على أهمية العدل في السلم ورود اليات الكثيرة فيه بالدعوة إليه بصورة عامة أو‬
‫خاصة‪ .‬فمن اليات التي تأمر بالعدل بصورة عامة قوله تعالى‪﴿ :‬إن ال يأمر بالعدل‬
‫والحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ ﴿يا‬
‫أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط﴾ ﴿قل أمر ربي بالقسط﴾‪ .‬ومن اليات التي أمرت‬
‫بالعدل في مسائل معينة العدل في القول ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾ والعدل في‬
‫الكتاب ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾ والعدل في الحكم ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا‬
‫بالعدل﴾ ﴿فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا﴾ والعدل في الكيل والوزن ﴿وأوفوا‬
‫الكيل والميزان بالقسط﴾ ﴿وأقيموا الوزن بالقسط ول تخسروا الميزان﴾‪ .‬والحساب يوم القيامة‬
‫يكون بالعدل فل تظلم نفس شيئا‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وقضي بينهم بالقسط وهم ل يظلمون﴾ ﴿ونضع‬
‫الموازين القسط ليوم القيامة﴾‪ .‬وإذا ضممنا إلى هذه اليات الناهية عن الظلم تبين لنا أهمية‬
‫العدل في السلم حتى يمكن أن يقال دون مبالغة بأن السلم هو دين العدالة في كل شيء‪ .‬إن‬
‫تأكيد السلم على معاني العدل وضرورة اللتزام به والنهي عن الظلم وضرورة تجنبه‪،‬‬
‫تترتب عليه نتائج خطيرة‪ ،‬ذلك أن المجتمع الذي يشيع فيه العدل يحس أفراده بالطمئنان على‬
‫حقوقهم‪ ،‬لن القانون يكون مع المحق وإن كان ضعيفا ل مع المبطل وإن كان قويا‪ ،‬وبعكس‬
‫ذلك إذا شاع الظلم وندر العدل أحس الفراد بالقلق الدائم على حقوقهم وزال عنهم الطمئنان‬
‫والستقرار وكان ذلك إيذانا بدمار هذا المجتمع‪ ،‬وقد أشار الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‬
‫إلى أثر التفريط بالعدل وكيف يؤدي بالمة إلى الهلك‪ ،‬فقد جاء في الحديث "إنما أهلك الذين‬
‫من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف اقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ال لو‬
‫أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" وتعليل هلك المم بسبب الظلم‪ ،‬أن الظلم كالنار‬
‫يحس بوطأتها المظلومون‪ ،‬فإذا شاع الظلم وغارت معاني العدل كثر المظلومون الذين ل‬
‫يرون في هذا المجتمع حماية لهم ول حفظا لحقوقهم وإنما يرون فيه هضم حقوقهم‪ ،‬وهذا‬
‫يجرهم إلى عدم الهتمام به وببقائه وهذا قد يجرهم حتى إلى المعاونة على هلكه وإفنائه‪.‬‬
‫وهذا بخلف المجتمع العادل حيث يحرص الفراد على بقائه ورد العداء عنه لنهم يرونه‬
‫كالبيت الذي يؤويهم فيكون هذا الحرب منهم عليه وبذل الجهد لبقائه سببا لبقائه‪ ،‬ولهذا قيل‪ :‬إن‬
‫الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة‪ ،‬وإن الدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة‪ .‬ومن أجل هذا‬
‫كله فقد قام المجتمع السلمي في صدر السلم على معاني العدل واللتزام بها‪ ،‬فما كان‬
‫هناك ظلم ول محاباة ول إجحاف‪ ،‬وإنما كان هناك العدل الصارم الذي يتساوى أمامه الشريف‬

‫‪77‬‬
‫والوضيع‪ ،‬والقانون السلمي الذي يخضع له الجميع الخليفة ومن عداه‪ .‬وقد ترتب على ذلك‬
‫أن الضعيف كان معه المجتمع بكل قوته ما دام محقا ول يضيره ضعفه لن قوة المجتمع‬
‫والقانون معه‪ ،‬وكان القوي ل تغني عنه قوته ما دام مبطل لن قوة المجتمع والقانون ضده‬
‫ولهذا كان أبو بكر رضي ال عنه يقول "القوي منكم ضعيف حتى آخذ الحق منه‪ ،‬والضعيف‬
‫منكم قوي حتى آخذ الحق له"‪ .‬بل بلغت العدالة في المجتمع السلمي الول إلى حد اللتزام‬
‫بالمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء حتى في نظرة القاضي ونبرات صوته وكلمه‬
‫معهم‪ .‬وفي قول مأثور عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أن قال لقاضيه أبي موسى‬
‫الشعري "سوّ بين الخصمين في مجلسك وإشارتك وإقبالك"‪ .‬ولما كان العدل واللتزام به من‬
‫مقومات النظام الجتماعي السلمي‪ ،‬فإن أية شفاعة أو جهد يبذل لتعطيل سريان العدالة أو‬
‫للنحراف بها عن مجراها المستقيم يعتبر مما ل يجوز في شرع السلم‪ ،‬ولهذا لما سرقت‬
‫المرأة المخزومية وأهم الناس أمرها سألوا أسامة بن زيد أن يستشفع لها عند رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فلما فعل ذلك غضب الرسول صلى ال عليه وسلم وقال له‪" :‬أتشفع في حد من‬
‫حدود ال"؟! ثم خطب صلى ال عليه وسلم في الناس وقال "ما بال أقوام يشفعون في حد من‬
‫حدود ال‪ ،‬إنما أهلك الذين من قبلكم‪ ...‬إلى آخر الحديث الذي ذكرناه قبل قليل"‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬العناية بالسرة‬


‫‪ -142‬السرة هي أساس كيان المجتمع لن من مجموعها يتكون المجتمع فهي بالنسبة له‬
‫كالخلية لبدن النسان‪ ،‬ويترتب على ذلك أن السرة إذا صلحت صلح المجتمع وإذا فسدت فسد‬
‫المجتمع ولهذا إعتنى النظام الجتماعي السلمي بالسرة عناية كبيرة تظهر في الحكام‬
‫الكثيرة بشأنها‪ ،‬وأكثر هذه الحكام وردت بها آيات في القرآن الكريم يتعبد المسلمون بتلوتها‬
‫في صلتهم وفي خارج صلتهم‪ ،‬فضلً عن الحاديث النبوية الكريمة الواردة في موضوع‬
‫السرة‪ .‬وليس من شأننا هنا أن نفصل القول في أحكام السرة‪ ،‬فهذا أمر يطول ول تتسع له‬
‫دراستنا ول هو مطلوبنا‪ ،‬وإنما يكفينا أن نشير إلى معالم التنظيم السلمي في موضوع السرة‬
‫وهو من صميم النظام الجتماعي في السلم‪.‬‬
‫أ‌) الزواج‬
‫‪ -143‬الزواج هو السبيل الطبيعي لتكوين السرة وبقاء الجنس البشري‪ ،‬وقد رغب فيه‬
‫السلم وجعله من سننه‪ ،‬فقد جاء في الحديث الشريف "يا معشر الشباب من استطاع منكم‬
‫الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"‪.‬‬
‫والغرض من الزواج إيجاد النسل وتكوين السرة الصالحة جاء في الحديث "امرأة ولود أحب‬
‫إلى ال من امرأة حسناء ل تلد‪ ،‬إني مكاثر بكم المم يوم القيامة"‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫اجراءات الزواج‬ ‫ب‌)‬
‫‪ -144‬وقد شرع السلم للزواج إجراءات معينة تشريفا وتكريما لهذه العلقة علقة الزواج‪،‬‬
‫وأول هذه الجراءات‪ :‬الخطبة‪ ،‬أي طلب الرجل المرأة للزواج بالطرق المعروفة عند الناس‪،‬‬
‫وإذا كان من الجائز شرعا ان يتزوجها‪ .‬والغرض منها أن يعرف كل من الرجل والمرأة عن‬
‫الخر ما يجعله يقدم على النكاح أو يحجم عنه‪ ،‬ولهذا أباح السلم للخاطب أن يرى مخطوبته‬
‫ولكن ل يجوز الخلوة بها لنها ل تزال أجنبية عنه‪ ،‬والخلوة بالجنبية حرام‪ ،‬لن الخطبة وعد‬
‫بالزواج وليس بعقد زواج‪ .‬والمرغوب فيه في شرع السلم تخير المرأة الصالحة كما أن‬
‫على المرأة تخير الرجل الصالح‪ ،‬فإن صلح الشخص وتقواه وخلقه أرجح في ميزان الشرع‬
‫مما عدا ذلك من كثرة المال أو المنصب أو الجاه‪ ،‬وفي الحديث الشريف "تنكح المرأة لربع‬
‫لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" والمرأة ذات الدين لها تأثير‬
‫كبير جدا في صلح السرة وتربية أبنائها على معاني السلم وحسن الخلق‪ ،‬ولذلك وجه‬
‫أعداء السلم غارتهم على المرأة المسلمة لستئصال ما في نفسها من معاني الخير والدين‪.‬‬
‫فإذا حصل التفاق أفرغ في عقد النكاح الشرعي القائم على اليجاب والقبول والمتضمن‬
‫رضى الطرفين بحضور شهود عدول تكريما لهذا العقد وتمييزا له عن السفاح‪ .‬ويستحب أن‬
‫ل ل كثيرا لنه ليس ثمنا للزوجة ولكنه رمز التكريم للمرأة في عقد النكاح‪،‬‬
‫يكون المهر قلي ً‬
‫وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على إستحباب عدم المغالة في المهور‪ ،‬فقد روي عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال "خير الصداق – أي المهر – أيسره" "أخف الناس صداقا أعظمهن‬
‫بركة" والواقع أن شيوع عادة المغالة في المهور يجعل الراغبين في الزواج قلة‪ ،‬ويبقى‬
‫الكثيرون عازفين عنه لعدم قدرتهم عليه وهذا العزوف عن الزواج يجر إلى مفاسد ل تخفى‪.‬‬
‫والحقيقة أن السلم بسط إجراءات النكاح وسهل الوصول إليه‪ ،‬فعقد النكاح يتم بإيجاب وقبول‬
‫كما قلنا ول يشترط له إجراءات شكلية معينة ول تراتيل دينية ول لغة معينة ول مكان معين‪،‬‬
‫وإنما يشترط له مع اليجاب والقبول موافقة ولي المرأة‪ ،‬لن عقد النكاح ل يهم المرأة وحدها‬
‫بل يهم وليها وعائلتها والضرر الذي يلحقها بسبب سوء إختيارها ينسحب إلى عائلتها وعلى‬
‫رأسهم وليها كالب والخ‪ ،‬فمن العدل أن يكون للولي رأي مسموع في زواجها‪ .‬كما يشترط‬
‫حضور الشهود عند عقد النكاح لكي يعرف العقد ويشيع وتحفظ حقوق المرأة ويثبت مركزها‬
‫القانوني كزوجة وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات‪ ،‬كما يشترط شرط آخر لصحة‬
‫النكاح وهو أن ل تكون المرأة محرومة على الرجل كالخت والخالة وسائر المحرمات‪.‬‬
‫جـ) حقوق الزوجة‬
‫‪ -145‬ويترتب على عقد النكاح حقوق معينة للزوجة‪ .‬منها المهر‪ ،‬وهو حق خالص لها دون‬
‫ذويها‪ ،‬ول تكلف أن تشتري به جهازا لها إل إذا رغبت هي‪ ،‬لن تجهيز بيت الزوجية بما‬

‫‪79‬‬
‫يلزمه من أثاث وفراش ونحوها من واجبات الزوج ل الزوجة‪ .‬كما يترتب على عقد النكاح‬
‫حق النفقة للزوجة على زوجها‪ ،‬لنها متفرغة لشؤون البيت وتربية الطفال فكان من العدل أن‬
‫يقوم الزوج بالنفقة عليها‪ ،‬لن كل واجب يقابله حق‪ ،‬وفي الحديث الشريف "‪ ...‬ولهن عليكم‬
‫رزقهن وكسوتهن بالمعروف" وحق النفقة يبقى للزوجة ما دامت قائمة بواجباته نحو زوجها‬
‫فلو خرجت على طاعته وتركت بيت الزوجية عدت ناشزة وسقطت نفقتها عنه مدة نشوزها‬
‫فإذا عادت عادت النفقة لها‪ .‬وللزوجة على زوجها حق المعاملة بالحسنى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ولهن‬
‫مثل الذي عليهن بالمعروف﴾ وفي الحديث الشريف "خيركم خيركم لهله"‪ .‬والسلم يوصي‬
‫بالصبر على المرأة فل ينبغي للزوج أن يتعجل إذا رأى منها ما يكره قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل ال فيه خيرا كثيرا﴾‪.‬‬
‫د) حقوق الزوج‬
‫‪ -146‬وكما للزوجة حقوق على زوجها فإن له حقوقا عليها‪ ،‬فالحقوق متقابلة بين الطرفين‪.‬‬
‫فمن حقوقه طاعته بالمعروف لن القوامة له قال تعالى‪﴿ :‬الرجال قوامون على النساء بما‬
‫فضل ال بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾‪ .‬وقوامة الرجل على زوجته شيء‬
‫طبيعي جدا ومعقول ول بد منه‪ ،‬لن الحياة الزوجية شركة خطيرة‪ ،‬وكل شركة ل بد فيها من‬
‫رئيس‪ ،‬فكيف بالعلقة الزوجية التي تخص أخطر علقات النسان بغيره؟ إن هذه العلقة‬
‫الكريمة والشركة الخطيرة ل بد لها من رئيس يطاع في موضع الخلف حتى تبقى الشركة‬
‫قائمة بل انفصام‪ ،‬والرجل أحق بهذه القوامة من المرأة وهذا ما قرره السلم ويشهد له الواقع‬
‫ويطبقه البشر وإن جادل بعضهم فيه‪ .‬ثم إن هذه القوامة ل غضاضة فيها على المرأة‪ ،‬لنها‬
‫خالية من الستعلء والتسلط والهواء والتعسف وإرادة الشر‪ ،‬لن الزوج يحرص على الخير‬
‫لزوجته ول يريد برياسته عليها إستعلء ول تكبرا ول تسلطا ول يتعسف في إستعمال قوامته‬
‫ل عن ذلك كله فإن علقته بزوجته مبنية على المودة والرحمة قال تعالى‪﴿ :‬ومن‬
‫عليها‪ ،‬وفض ً‬
‫آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ فقوامة الرجل‬
‫على المرأة قائمة على المودة والرحمة اللتين غرسهما ال تعالى في قلبيهما‪ ،‬فل يتصور فيها‬
‫ما يضايق المرأة أو يجرح كرامتها‪ .‬إن النسان يطيع بإختياره وبكل سرير صديقه المخلص‬
‫المحب له‪ ،‬بل ويفرخ إذا صار رئيسا له في دائرة من دوائر الدولة‪ .‬فكيف الحال برئاسة‬
‫الزوج وقوامته على زوجته‪ ،‬وما بينه وبين زوجته من المودة والرحمة والخلص والحرص‬
‫على ما ينفع الطرفين ما ل نسبة بينه وما بين صديقين مخلصين؟ إن بعض الناس يسارعون‬
‫وينكرون حق الزوج في القوامة على زوجته‪ ،‬ويوغرون صدر المرأة على التمرد على هذه‬
‫القوامة التي يسمونها عبودية‪ .‬وهذا التجاه من هذا البعض ل يجوز في شرع ال وقد يكون‬
‫كفرا إذا أصر عليه النسان لنه مصادمة لنصوص الشريعة‪ ،‬كما أنه يدل على جهالة صاحبه‬

‫‪80‬‬
‫أو هواه أو إرادته السوء والشر بالمرأة أو رغبته في تفكيك السرة وإشاعة الفوضى فيها‪ ،‬كل‬
‫هذه المور نتائج لزمة للدعوة إلى تمرد المرأة على قوامة الزوج‪ ،‬فيجب أن تمنع كما يمنع‬
‫أي شيء ضار‪ ،‬وأن تبصر المرأة المسلمة بضلل هذا القول وضرره‪ .‬وقد يكون من النافع‬
‫أن نذكر لهذا البعض من الناس أن ملكة النكليز عندما تزوجت سألها الكاهن قبل أن يجري‬
‫الطقوس الدينية لعقد النكاح‪ ،‬سألها‪ :‬هل تطيعين زوجك‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ .‬ومن هذا كله يتضح لكل‬
‫منصف أن قوامة الزوج على زوجته هو ما جاء به الشرع ويقره العقل السليم ويطبقه البشر‪.‬‬
‫فعلى المرأة المسلمة والمدركة لمصلحتها أن تطيع زوجها في المعروف فإن أمرها بمعصية‬
‫وجب عليها أن تعصيه‪ ،‬لنه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪.‬‬
‫ومن حقوق الزوج على زوجته أن ل تخونه في شيء‪ ،‬وأن تعاونه لنها شريكة حياته‪ ،‬وأن‬
‫تقوم بتربية أولده وهم أولدها أيضا وهي أقدر على هذه المهمة الخطيرة من غيرها بل ل‬
‫يسد مسدها أحد في هذه التربية‪ ،‬فليس أحد يملك مثل حنانها وعاطفتها على أولدها‪ .‬فإذا ما‬
‫قامت بمهمتها هذه ساهمت في تنشئة جيل سليم‪ ،‬وكان عملها هذا أفضل من أي عمل آخر‬
‫تقوم به خارج بيتها‪.‬‬
‫هـ) تعدد الزوجات‬
‫‪ -147‬ومن حق الزوج أن يتزوج أكثر من واحدة إلى حد أربع زوجات‪ ،‬وهذا ما نطق به‬
‫القرآن وثبت بالسنة وذكره الفقهاء جميعا ولم يخالف فيه أحد من المسلمين‪ .‬ففي القرآن ﴿وإن‬
‫خفتم أل تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع‪ ،‬فإن خفتم أن‬
‫ل تعدلوا فواحدة﴾ والمقصود بالعدل هنا العدل بين الزوجات في النفقات ونحوها مما يمكن فيه‬
‫العدل‪.‬‬
‫وتعدد الزوجات ليس واجبا ول مندوبا وإنما هو مباح‪ ،‬والمباح يجوز فعله وتركه‪ ،‬فهو خاضع‬
‫لتقدير الشخص نفسه‪ ،‬فإن رأى المصلحة فيه‪ ،‬فعله‪ ،‬وإل تكره ول تثريب عليه في الحالين‪.‬‬
‫ول داعي لقحام القاضي أو غيره لتقدير مدى الحاجة أو المصلحة في التعدد‪ ،‬لن هذه المسألة‬
‫خاصة بالنسان‪ ،‬والصل في كل إنسان عاقل أن أحرص من غيره على تقدير ما يصلح له ل‬
‫سيما في مسألة الزواج حيث تترتب على الزوج تبعات ثقيلة مالية وغير مالية‪ ،‬فهو ل يقدم‬
‫على التعدد إل إذا وجد الحاجة داعية إلى ذلك‪ .‬ول نستطيع هنا أن نحصر مبررات التعدد‬
‫التي تدفع الرجل إليه‪ ،‬وإنما نذكر منها على سبيل التمثيل‪ :‬عقم الزوجة وتطلع الزوج للذرية‪،‬‬
‫ومرض الزوجة وعدم صلحيتها للقيام بمهام الزوجية‪ ،‬ونبل الزوج وكرم أخلقه حيث يتزوج‬
‫يتيمة أو أرملة أو قريبة له فاتتها فرص الزواج‪ ،‬إلى غير ذلك من الدوافع النبيلة للتعدد‪ .‬وفي‬
‫التعدد علج حاسم لمشكلة اجتماعية خطيره تتعرض له المجتمعات البشرية في أعقاب‬
‫الحروب بل حتى في الوقات العادية‪ ،‬وهي كثرة عدد النساء وقلة عدد الرجال‪ ،‬وهذه المشكلة‬

‫‪81‬‬
‫ل يمكن حلها بصورة شريفة وناجحة إل بإباحة التعدد شرعا‪ ،‬وإل حلت نفسها عن طريق‬
‫السفاح والعلقات غير المشروعة‪ ،‬ول شك أن كل امرأة عاقلة تفضل أن تكون زوجة ثانية‬
‫ول تكون عشيقة لرجل‪ .‬وعلى هذا فما يقوله البعض من اعتراض على مبدأ التعدد‪ ،‬إنما هو‬
‫قول متهافت في نفسه هزيل في حجته مخالف لشرع السلم‪ .‬وقد يكون من المفيد أن أبين هنا‬
‫أن بعض الفقهاء ذهب إلى أن للمرأة أن تشترط على زوجها في عقد النكاح عدم الزواج عليها‬
‫وإذا تزوج فمن حقها أن تطلق نفسها منه‪ ،‬يمكن الخذ بهذا الرأي الفقهي الجتهادي لن‬
‫المسلمين عند شروطهم‪.‬‬
‫و) الطلق‬
‫‪ -148‬ومن حق الزوج أن يطلق زوجته‪ ،‬والطلق في الصل غير مرغوب فيه في نظر‬
‫الشريعة السلمية‪ ،‬جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "أبغض الحلل‬
‫إلى ال الطلق" وعلى هذا فل ينبغي للمسلم أن يقدم عليه بدون مبرر مقبول‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض الجهال إلى العتراض على مبدأ الطلق‪ ،‬وطالبوا بإلغائه‪ ،‬وكثيرا ما نسمع‬
‫شيئا من هذا اللغو أو نقرؤه في صحيفة أو كتاب‪ .‬والواقع أن هذا القول ل يصدر إل عن‬
‫جاهل أو معاند لشرع السلم‪ ،‬فإن الطلق في السلم من محاسن الشريعة وواقعيتها‪ ،‬وهو‬
‫بمثابة العلج الذي تقدمه الشريعة حيث ل ينفع غيره‪ ،‬ول عيب في تحضير العلج استعدادا‬
‫لحالت الطوارئ والمرض‪ ..‬وخلصة القول في مسألة الطلق وحكمته أن السلم يرغب في‬
‫إبقاء الرابطة الزوجية وإدامتها على المودة والوئام لتحقق أغراضها المرسومة لها‪ ،‬وفي سبيل‬
‫ذلك سهل السلم إجراءات النكاح وشرع فيها الخطبة وأباح رؤية المخطوبة لضمان بقاء‬
‫الرابطة‪ ،‬وندب الزوج إلى الصبر على المرأة إذا رأى منها ما يكرهه كما بينا‪ .‬وبين السلم‬
‫أن من الفضل للزوج أن يكون حسن الخلق مع زوجته‪ ،‬ومع هذا فإن السلم ل يغفل عن‬
‫الواقع‪ ،‬فقد ينشب الخلف بين الزوجين مما يؤدي إلى الطلق‪ ،‬ولعلج هذه الحالة قرر‬
‫السلم ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬شكّك السلم الزوج في وجدانه إذا أحس بكره زوجته وذكره باحتمال خطئه وتسرعه‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل ال فيه‬
‫خيرا كثيرا﴾‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إذا استمرت الزوجة في مشاكساتها ومخالفاتها‪ ،‬فللزوج أن يؤدبها عن طريق الوعظ‬
‫والنصيحة والهجر في المضاجع والضرب غير المبرح قال تعالى‪﴿ :‬واللتي تخافون نشوزهن‬
‫فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فل تبغوا عليهن سبيلً إن ال كان‬
‫عليا كبيرا﴾‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ثالثا‪ :‬إذا استشرى الخلف وجب اللجوء إلى التحكم بأن يختار الزوج حكما من أهله‪ ،‬وتختار‬
‫الزوجة حكما من أهلها‪ ،‬فيجتمعان وينظران في الخلف بين الزوجين وأسبابه ويعملن على‬
‫ل من الحكمين حريص على حسم الخلف‬
‫إزالته‪ ،‬وكثيرا ما ينجح هذا التحكيم لن ك ً‬
‫لمصلحتها في حسمه‪ ،‬كما أنهما – لعلقتهما العائلية – يمكنها الوقوف على أسباب الخلف‪،‬‬
‫ول شك أن معرفة السباب الحقيقية تسهل معالجتها‪ .‬قال تعالى في التحكيم بين الزوجين‪﴿ :‬‬
‫وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا إصلحا يوفق ال‬
‫بينهما﴾‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إذا لم ينفع التحكيم واستمر الخلف وأراد الزوج الفراق فعليه أن يسلك فيه مسلكا يقيه‬
‫شر العجلة والتسرع والغضب‪ ،‬فأوجب عليه السلم أن يوقع الطلق بالكيفية التية‪:‬‬
‫أ‌) أن يطلقها وهي طاهرة غير حائض ولم يكن قد مسّها في طهرها هذا‪ ،‬والحكمة في ذلك أن‬
‫الزوج إذا طلقها في هذه الحالة فإن ذلك يعني أن نفسه راغبة عنها وأن هناك من السباب‬
‫القوية ما يحمله على فراقها إلى درجة أن امتنع عن مسيسها قبل طلقها‪.‬‬
‫ب‌) ومع هذا فإن الشرع السلمي إحتاط للمر احتياطا آخر فقد يكون الزوج لم يقدر المسألة‬
‫حق قدرها وتسرع في تصميمه على الطلق‪ ،‬ولهذا أوجب عليه أن يطلقها طلقة واحدة هي‬
‫التي تسمى في الصطلح الشرعي بالطلقة الرجعية ويكون له في هذا الطلق الرجعي الحق‬
‫في إرجاع زوجته خلل مدة العدة وهي عدة تمتد إلى ما يقرب من ثلثة أشهر‪ .‬فإذا فكر‬
‫بهدوء فقد يظهر له أنه قد تسرع في طلقه‪ ،‬وقد يحمله تفكيره الهادئ إلى ترجيح إبقاء‬
‫الرابطة الزوجية على قطعها وإن كان هناك ما يبرر قطعها إيثارا لمصلحة أولده الصغار من‬
‫الضياع‪ ،‬ولهذا أعطاه الشرع السلمي الحق في إرجاع زوجته خلل مدة العدة كما قلنا‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا الطلق نذيرا للمرأة فل تعود لما أدى إليه‪.‬‬
‫ت‌) فإذا انتهت مدة العدة ولم يراجعها الزوج‪ ،‬ثم أسف الزوج على ما وقع وأراد إرجاع‬
‫زوجته‪ ،‬ففي هذه الحالة‪ ،‬يشترط أن ترضى الزوجة بالرجوع وأن يتم ذلك بعقد نكاح جديد‬
‫ومهر جديد‪.‬‬
‫ث‌) فإذا كرر الزوج الطلق مرتين بالكيفية التي بيناها‪ ،‬ثم طلقها المرة الثالثة‪ ،‬ففي هذه‬
‫الحالة ل يمكنه إعادتها إليه إل بشروط ثقيلة‪ ،‬هي‪ :‬أن تنتهي عدتها‪ ،‬ثم تنكح زوجا غيره نكاحا‬
‫حقيقيا ل صوريا‪ ،‬ثم يفارقها هذا الزوج بموت أو طلق‪ ،‬ثم تنتهي عدتها من هذه الفرقة‪ ،‬ثم‬
‫تعقد نكاح جديد مع مطلقها الول برضى تام منهما وبمهر جديد‪.‬‬
‫‪ -149‬هذه هي إجراءات الشرع السلمي لمنع وقوع الطلق‪ ،‬أو لمنع إساءة إستعماله بدون‬
‫رؤية وتأمل‪ ،‬فإذا لم تنفع كل هذه الجراءات الطويلة لمنع أو إزالة أسباب الطلق‪ ،‬فإن وقوعه‬

‫‪83‬‬
‫هو الحل الوحيد لفض النزاع وإنهاء هذه الرابطة التي لم تعد مبعث ارتياح واستقرار‪ ،‬وإنما‬
‫أصبحت مبعث شر وخصام‪ ،‬ولفساح المجال لكل من الزوجين ليجرب حظه في زواج آخر‪.‬‬
‫وقد يقال هنا‪ :‬ما الحكمة في إعطاء الزوج حق الطلق دون الزوجة؟ والجواب أن الرجل‬
‫عادة أكثر سيطرة على عواطفه من المرأة ولن الطلق يحمله أعباء مالية كثيرة قد تدفعه إلى‬
‫الروية وعدم الستعجال ومن هذه العباء المهر المؤجل ونفقة العدة ونفقة الولد‪ .‬ومع هذا‬
‫فيجوز للمرأة أن تشترط لنفسها في عقد النكاح حق الطلق فتطلق نفسها منه بموجب هذا‬
‫الشرط‪ .‬كما أن للمرأة أن تطلب من القاضي أن يفرق بينها وبين زوجها إذا أصابها من الزوج‬
‫ضرر يبرر حل الرابطة الزوجية‪.‬‬
‫ومن هذا العرض السريع الموجز لبيان نظام الطلق في السلم يتبين لكل منصف أنه نظام‬
‫كامل يعتبر من محاسن الشريعة السلمية‪ ،‬إذ ليس من المنطق ول المصلحة إبقاء الرابطة‬
‫الزوجية بعد أن ظهر عدم الفائدة من بقائها‪ ،‬أو ظهر أن بقاءها مضر‪ .‬ولهذا نجد الدول‬
‫الغربية تقرر جواز الطلق المدني لن الكنائس ل تجيزه‪ ،‬وحتى إيطاليا التي كانت إلى عهد‬
‫قريب تأخذ بالتفريق الجسماني بين الزوجين عند وجود أسبابه‪ ،‬ومعناه أن الزوجين يعيشان‬
‫منفردين ولكن يعتبر كل منهما زوجا للخر بحكم القانون ول يحق لحدهما الزواج لن‬
‫الرابطة الزوجية تعتبر باقية قانونا‪ ،‬إل أنها أجازت أخيرا الطلق بموجب القوانين التي‬
‫شرعتها‪.‬‬
‫وقد يقال هنا أيضا‪ :‬لماذا ل يشترط إذن القاضي لصحة وقوع الطلق؟ والجواب ل فائدة ول‬
‫مصلحة في هذا الذن‪ ،‬لن هناك من السرار الزوجية ما ل يحسن كشفه أمام القاضي‪ ،‬فمن‬
‫الخير ومصلحة الزوجة أن تبقى هذه السرار مكتومة غير مفضوحة‪ ،‬ولهذا لم يشترط أحد من‬
‫الفقهاء أخذ إذن القاضي لصحة وقوع الطلق‪ ،‬وما قرره الفقهاء هو الصواب الذي ل يجوز‬
‫غيره‪.‬‬

‫حقوق الصغار في السرة‬


‫‪ -150‬ثمرة النكاح انجاب الذرية‪ ،‬وايجاد النسل‪ ،‬ولهم حقوق مقررة على أبويهم منها ثبوت‬
‫النسب‪ ،‬وما يترتب عليه من حقوق‪ ،‬والنفاق عليهم من قبل الب ل الم‪ .‬كما يجب على الم‬
‫ارضاعهم قال تعالى‪﴿ :‬والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة‬
‫وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ وإذا وقعت الفرقة بين الزوجين فان حق‬
‫حضانة الصغار وتربيتهم يكون للم حتى يبلغوا السن التي يستغنون فيها عن حضانة الم‬
‫فيأخذهم الب لكمال تربيتهم وحفظهم‪ ،‬وسن الحضانة تقدر ببلوغ سبع سنين بالنسبة للولد‬
‫الذكور‪ ،‬وتسع سنين بالنسبة للناث‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫حقوق البوين على أولدهما‬
‫‪ -151‬البوان سبب وجود الولد وتحمل الشيء الكثير في تربيته‪ ،‬فمن الوفاء لهما القيام‬
‫بحقوقهما وعدم التفريط بها‪ ،‬ولهذا عظمت الوصية بهما وقرن ال تعالى برهما بعبادته‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وقضى ربك أل تعبدوا إل إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو‬
‫كلهما فل تقل لهما أف ول تنهرهما وقل لهما قولً كريما واخفض لهما جناح الذل من‬
‫الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا﴾‪.‬‬
‫التضامن بين أفراد السرة‬
‫‪ -152‬يقوم بين أفراد السرة ودّ ورحمة وشفقة جبلية فطرية‪ ،‬وقد عززها السلم بتشريعات‬
‫كثيرة تحقق التضامن والتعاون والتكافل فيما بينهم‪ .‬ومن هذه التشريعات ما هو ملزم يخضع‬
‫لحكم القضاء‪ ،‬ومنها ما هو ملزم ولكن ل يخضع لحكم القضاء‪ ،‬فمن الولى وجوب النفقة‬
‫لمستحقيها على القادر عليها من أفراد السرة‪ ،‬فنفقة الزوجة على زوجها ونفقة الصغار على‬
‫أبيهم‪ ،‬ونفقة الب الفقير على أولده القادرين على النفاق‪ ،‬وهكذا القول في بقية نفقات أفراد‬
‫السرة‪ ،‬تخضع لسلطان القضاء ويجري فيها الحكم واللزام إذا ما توافرت شروطها‪ .‬ومن‬
‫أمثلة ما هو ملزم ولكن ل يخضع لسلطان القضاء حسن المعاملة بين أفراد السرة فهو واجب‬
‫ولكن ل يخضع للزام القاضي وإنما يترك لديانة وتقوى عضو السرة‪.‬‬
‫ويقابل واجب النفاق بين أعضاء السرة حق الميراث لهم‪ ،‬لن الغرم بالغنم‪ ،‬ومن اسباب‬
‫الميراث‪ :‬الزوجية والقرابة‪ ،‬وقد حدد السلم انصبة الورثة وأقام هذا التحديد على أساس‬
‫العدل الدقيق الذي قد ل يتفطن إليه بعض الناس‪ ،‬مثل جعل حصة البن ضعف حصة البنت‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬يوصيكم ال في أولدكم للذكر مثل حظ النثيين﴾ لن النثى مكفية المؤونة‪ ،‬فهي‬
‫إن لم يكن لها مال‪ ،‬فنفقتها قبل الزواج على أبيها إلى أن تتزوج ول تكلف بالكتساب‪ ،‬وإذا‬
‫تزوجت فنفقتها على زوجها‪ ،‬وهي ل تدفع مهرا في الزواج ول تلزم بالنفاق على أولدها‪.‬‬
‫أما الذكر فإنه إذا بلغ وقدر على الكتساب فنفقته على نفسه‪ ،‬وإذا تزوج فهو يدفع المهر‬
‫ويتحمل نفقة زوجته وأولده الصغار‪ ،‬فالتكاليف المالية على الرجل أكثر بكثير من تكاليف‬
‫المرأة‪ ،‬فمن العدل إذن أن يأخذ أكثر منها في الميراث‪.‬‬
‫والميراث يقوم على أساس من الفطرة ورغبة النسان‪ ،‬فان كل شخص ل يكتسب المال لسد‬
‫حاجة نفسه فقط بل لكفاية غيره أيضا من أفراد أسرته كأولده مثل‪ ،‬فإيصال ثمرة أتعابه بعد‬
‫موته إلى هؤلء يدفعه إلى المزيد من السعي‪ ،‬لنه يتفق ورغبته وإرادته‪ .‬وفي الميراث فوائد‬
‫وحكم‪ ،‬منها توفير شيء للورثة يستعينون به في حياتهم ويستغنون به عن سؤال الناس‪ ،‬كما‬

‫‪85‬‬
‫ان في الميراث تفتيتا للثروة وتوزيعها على عدد كبير من الفراد وبهذا تتداول الموال ول‬
‫تتكدس بأيدي قليلة‪.‬‬
‫ومن صور التضامن داخل السرة الولية على النفس والولية على المال‪ .‬فأما الولية على‬
‫النفس فيدخل فيها حضانة الصغير عند أمه إلى سن معينة كما ذكرنا من قبل‪ ،‬ثم ضمه إلى من‬
‫له الولية على النفس والجد‪ ،‬فيتم تربيته وحفظه وتقويمه‪ ،‬ومثل الصغير في خضوعه للولية‬
‫على النفس المجنون والمعتوه‪ .‬فاذا بلغ الصغير عاقل أو أفاق المجنون وزال عته المعتوه‬
‫زالت عنه الولية على النفس‪ ،‬وصار له الحق في الذهاب حيث يشاء‪ ،‬إل ان الصغيرة إذا‬
‫بلغت فان الولية تستمر عليها ويستمر وليها بالمحافظة عليها ورعايتها حتى تتزوج‪ .‬ولما‬
‫كانت الولية على النفس تتضمن الحفظ والرعاية والتربية والتوجيه وكلها لمصلحة الصغير أو‬
‫الصغيرة‪ ،‬فقد ذكر الفقهاء الشروط الواجب توافرها في الولي‪ ،‬فقالوا يشترط فيه أن يكون بالغا‬
‫عاقلً أمينا قادرا على القيام بمهام الولية‪ ،‬يتفق دينه مع دين المولى عليه‪.‬‬
‫اما الولية على المال فهذه تثبت على الصغير في ماله وعلى من هو في حكم الصغير‬
‫كالمجنون والمعتوه‪ .‬وتثبت هذه الولية للب والجد وغيرهما على التفصيل المذكور في كتب‬
‫الفقه‪ .‬وقد شرعت هذه الولية لمصلحة الصغير ومن في حكمه‪ ،‬ولهذا يشترط في الولي‬
‫المانة والقدرة على حفظ مال الصغير وتنميته‪ .‬وتبقى هذه الولية ما دام سببها قائما‪ ،‬فإذا‬
‫زال‪ ،‬زالت كما لو بلغ الصغير عاقلً وكان رشيدا أي‪ :‬قادرا على تثمير ماله والتصرف به‬
‫تصرفا حسنا فإن الولية تزول عنه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن‬
‫آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم﴾‪ .‬وكذلك تزول الولية على المجنون إذا عقل وكان‬
‫رشيدا‪ .‬ويجب على الولياء أن يتصرفوا في أموال المولى عليهم على وجه المصلحة لهم‬
‫وعلى هذا ل يجوز لهم هبة أموالهم أو تبذيرها‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬تحديد مركز المرأة في المجتمع‬


‫‪ -153‬والخصيصة الرابعة من خصائص النظام الجتماعي السلمي تحديده مركز المرأة في‬
‫المجتمع تحديدا دقيقا صريحا مفصلً‪ ،‬حتى ل تدخل الهواء في هذه المسألة الخطيرة جدا‬
‫وحتى تتحقق للمجتمع طهارته ونظافته وعفته واستقامته وتنشأ فيه الجيال القوية المينة‪،‬‬
‫فيبقى المجتمع على صلحه واستقامته ويسعد أفراده‪ .‬وقد تناول القرآن الكريم بآيات كثيرة‬
‫شؤون المرأة وتحديد مركزها الجتماعي وما لها وما عليها‪ ،‬وكذلك فعلت السنة النبوية‪ ،‬ول‬
‫شك أن معالجة موضوع المرآة في القرآن بآيات كثيرة وفي السنة بأحاديث كثيرة يدل دللة‬
‫قاطعة على أهمية هذا الموضوع وعظيم عناية السلم به‪ .‬والواقع أن حالة المرأة في المجتمع‬
‫ومدى ما لها وما عليها من الحقوق والواجبات‪ ،‬ونوع الضوابط التي تحكم سلوكها‪ ،‬كل ذلك‬

‫‪86‬‬
‫كان ول يزال من أعظم المؤثرات في سير المجتمع وفي مدى صلحه وفساده‪ .‬ولهذا كله فقد‬
‫أولى السلم مسألة المرأة كل ما تستحق من عناية وتوضيح حتى تستبين المور ويعرف‬
‫الناس المسلك السديد في معالجة هذه المسألة على الوجه الصحيح‪.‬‬
‫ونحن في هذا البحث ل نريد الحاطة بكل جزئيات الموضوع وإنما نريد ذكر النقاط البارزة‬
‫فيه على وجه يعطي فكرة جيدة عن مركز المرأة في المجتمع في نظر السلم‪.‬‬

‫مركز المرأة في المجتمع قبل السلم‬


‫‪ -154‬من المفيد أن نذكر شيئا عن مركز المرأة في المجتمع العربي الجاهلي قبل السلم‬
‫لنرى مدى الصلح العظيم الذي جاء به السلم في هذا الموضوع‪ ،‬ثم نعرف المعايب‬
‫والخطاء والباطيل التي كان عليها الناس قبل السلم في مسألة المرأة حتى ل يقع المجتمع‬
‫السلمي فيها‪ ،‬وقد روي عن سيدنا عمر رضي ال عنه أنه قال‪" :‬إنما تنقض عرى السلم‬
‫عروة عروة إذا نشأ في السلم من لم يعرف الجاهلية" لنه إذا لم نعرف قبائح الجاهلية لم‬
‫نتوقها وربما خالطناها أو وقعنا فيها‪.‬‬
‫والمجتمعات غير العربية قبل السلم أو التي لم تهتد بهديه بعد بزوغ شمسه‪ ،‬لم تكن أحسن‬
‫حال من المجتمعات العربية الجاهلية‪.‬‬
‫ونذكر فيما يلي بعض الوضاع التي كانت عليها المرأة في المجتمعات الجاهلية العربية وغير‬
‫العربية‪.‬‬
‫أولً‪ :‬كان العرب قبل السلم ينظرون إلى المرأة نظرة احتقار وامتهان‪ ،‬ويحزنون لولدة‬
‫النثى‪ ،‬وقد بين القرآن الكريم هذه الحالة النفسية التي كانت تنتابهم فقال تعالى‪﴿ :‬وإذا بشر‬
‫أحدهم بالنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم‪ ،‬يتوارى من القوم من سوء ما بشر به‪ ،‬أيمسكه‬
‫على هون أم يدسه في التراب أل ساء ما يحكمون﴾ حتى آل المر ببعضهم إلى وأد البنات‬
‫وهن في قيد الحياة قال تعالى‪﴿ :‬وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت﴾‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬ما كانت المرأة ترث‪ ،‬لن الرث عند عرب الجاهلية كان محصورا بالرجال‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬كانت كثيرا ما تخضع للتعسف والظلم‪ ،‬فاذا مات الرجل وترك زوجة وأولدا من‬
‫غيرها‪ ،‬فللبن الحق في تزويجها ولو كانت كارهة كما كان له أن يمنعها من التزوج‪.‬‬
‫وللزوج أن يطلقها ما شاء من الطلقات ويراجعها قبل أن تنتهي عدتها وهكذا يجعلها كالمعلقة‬
‫ل هي مطلقة فتذهب إلى حال سبيلها ول هي بالزوجة التي تتمتع بحقوق الزوجية‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬والقوام الجاهلية الخرى ما كانت أحسن حال من عرب الجاهلية‪ ،‬فقد وقع الختلف‬
‫في أوروبا حول المرأة من جهة مساواتها مع الرجل في تلقي الدين والقيام بالعبادة واستحقاق‬

‫‪87‬‬
‫الجنة في الخرة‪ ،‬حتى إن بعض المجامع الكنسية في روما قررت أنها حيوان نجس ل روح‬
‫له ول خلود[‪.]1‬‬
‫خامسا‪ :‬وفي القانون الروماني للزوج الحق – في الزواج مع السيادة – أن يبيع زوجته‪ ،‬وأن‬
‫يأخذ ما يكون عندها من أموال‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬ما كانت هناك قيود على الداب العامة تلتزم بها المرأة‪ ،‬بل كان التحلل عن هذه القيود‬
‫هو الشائع في المجتمعات الجاهلية‪ ،‬العربية منها وغير العربية‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم إلى‬
‫شيء من هذا التحلل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ول تبرجن تبرج الجاهلية الولى﴾ ومن معاني تبرج‬
‫الجاهلية الولى خروج المرأة مكشوفة الرأس والصدر والعنق تخالط الرجال وهي بهذه‬
‫الحالة‪ ،‬وتتغنج في مشيتها بينهم‪ ،‬وهكذا ذكر أهل التفسير بصدد هذه الية الكريمة‪.‬‬

‫مركز المرأة في المجتمع السلمي‬


‫‪ -155‬يعرف مركز المرأة في النظام الجتماعي السلمي بمعرفة الحقوق التي لها‬
‫والواجبات التي عليها‪ ،‬والوظيفة التي اختصت بها‪ ،‬والداب التي تلتزم بها فل بد من بيان هذه‬
‫المور الربعة المكونة لمركز المرأة في المجتمع السلمي‪.‬‬

‫أولً‪ :‬حقوق المرأة‬


‫‪ -156‬القاعدة في حقوق المرأة أنها فيها كالرجل ال فيما يختلفان فيه من استعداد وكفاية‬
‫وقدرة هي مناط هذه الحقوق وبشرط أن ل تعارض هذه الحقوق ما عليها من واجبات‪ .‬وعلى‬
‫هذه القاعدة تتمتع المرأة بالحقوق التالية‪:‬‬
‫أ‌) تتمتع بحق الحياة لنها نفس معصومة كالرجل‪ ،‬ولهذا حرم السلم وأد البنات‪ ،‬وأوجب‬
‫القصاص في قتلها عمدا كما هو الحكم بالنسبة للرجل‪.‬‬
‫هي أهل للتكريم لنها انسان وال تعالى يقول‪﴿ :‬ولقد كرمنا بني آدم﴾‪.‬‬ ‫ب‌)‬
‫ت‌) لها حق اكتساب الموال بالطرق المشروعة‪ ،‬لن لها ذمة صالحة لكتساب الحقوق‬
‫المالية وغير المالية‪ ،‬فهي فيه كالرجل‪ .‬ومن أسباب اكتساب الموال‪ ،‬الميراث وقد أثبته‬
‫الشرع السلمي لها بعد أن حرمها الجاهليون منه قال تعالى‪﴿ :‬للرجل نصيب مما ترك‬
‫الوالدان والقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والقربون مما قلّ منه أو كثر نصيبا‬
‫مفروضا﴾‪ .‬ولها حق التصرف بأموالها كما تشاء دون حاجة إلى إذن أحد ما دامت عاقلة‬
‫رشيدة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ث‌) لها حق المهر في عقد النكاح قال تعالى‪﴿ :‬وآتوا النساء صدقاتهن نحلة﴾ وحق النفقة‬
‫على الزوج ﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ وحق النفقة على أولدها‬
‫باعتبارها أما‪.‬‬
‫حق الحضانة على أولدها الصغار إذا وقعت الفرقة بينها وبين زوجها‪.‬‬ ‫ج‌)‬
‫ح‌) ولها حق تعلم العلوم النافعة لها بالكيفية المناسبة لطبيعتها وبشرط اللتزام التام بالداب‬
‫السلمية اللزمة لها‪ .‬وأعظم ما ينفعها تعلم شريعة السلم وما فيها من حلل وحرام‪ .‬أما‬
‫العلوم الدنيوية فهي مباحة‪ ،‬فاذا شاءت المرأة أن تتعلم منها شيئا فل بأس‪ ،‬ولكن بالشرط الذي‬
‫قدمناه وهو اللتزام بالداب وبالكيفية المناسبة لها والمحافظة على عفتها‪ .‬كما ينبغي أن تتعلم‬
‫ما يلئم طبيعتها ويقوي اختصاصها الفطري في تربية الولد ورعاية البيت‪ ،‬فتتعلم فنون‬
‫الخياطة والطبخ وأصول تربية الولد ونحو ذلك‪ ،‬فاذا أرادت المزيد من المعرفة‪ ،‬فل بأس‬
‫بشرط أن ل تؤثر في قيامها بواجباتها المطلوبة منها كزوجة أو أم‪ ،‬وبشرط أن يكون التعلم‬
‫بالكيفية المشروعة فل يجوز اختلطها بالشباب بحجة التعلم‪ ،‬ول تكشفها أمام الرجال أو‬
‫ظهورها بالمحرم من اللباس‪ ،‬فكل هذا وامثاله حرام ل يباح ول يجوز ولو بحجة طلب العلم‪.‬‬
‫أما الحقوق السياسية‪ ،‬ومنها الشتغال بالمور العامة‪ ،‬والنتخاب فالمسألة فيها شيء‬ ‫خ‌)‬
‫من التفصيل‪:‬‬
‫اما الهتمام بأمور المسلمين العامة‪ ،‬فهذا من حقها بل من واجبها‪ ،‬جاء في الحديث "من لم‬
‫يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" ومن أمر المسلمين شؤونهم العامة التي يصلحون بها أو‬
‫يشقون‪ ،‬ومن مظاهر الهتمام التفكر بشؤونهم وإشاعة المفاهيم السلمية فيمن يحيط بالمرأة‬
‫من زوج وابناء وأقارب وجيران‪ ،‬كما أن من حقها إبداء رأيها في المور العامة وإبداء‬
‫النصح بالكيفية المستطاعة والملئمة لطبيعتها مثل الكتابة والتأليف وعقد الجتماعات للنساء‬
‫وتعليمهن وإشاعة الخلق الفاضلة فيهن‪ ،‬وحثهن على القيام بواجبهن ونحو ذلك‪ ،‬وبنهيهن عن‬
‫المنكرات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر﴾‪.‬‬
‫أما الشتراك في النتخابات بالكيفية المعروفة في الوقت الحاضر لختيار رئيس الدولة أو‬
‫أعضاء مجلس المة‪ ،‬فالظاهر لنا‪ .‬انه غير جائز للمرأة لعدم وجود السوابق في هذا المجال‬
‫فقد جرى انتخاب الخلفاء الراشدين وبايعهم المسلمون ولم ينقل إلينا اشتراك النساء في ذلك‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬واجبات المرأة‬


‫‪ -157‬القاعدة في واجبات المرأة كالقاعدة في حقوقها‪ ،‬فهي فيها كالرجل إل فيما يختلفان فيه‬
‫مما هو مناط التكليف‪ ،‬وأساس هذه القاعدة انها انسان‪ ،‬ولها أهلية وجوب أي صلحية اكتساب‬

‫‪89‬‬
‫الحقوق وتحمل الواجبات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة‬
‫وخلق منها زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء﴾ فالنساء كالرجال مطالبات بتقوى ال أي‬
‫بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه‪ .‬ويترتب على هذه القاعدة ما يأتي‪:‬‬
‫أ‌) أنها كالرجل تخاطبة بالتكاليف الشرعية في باب العتقاد والعبادات والمعاملت‪ ،‬إل بما‬
‫تقتضيه طبيعتها كما هو معروف‪ ،‬أو بسبب عدم قدرتها على هذا الواجب كالجهاد يكلف به‬
‫الرجل ل المرأة إل إذا رغبت في الخروج مع المجاهدين فل تمنع‪ ،‬وتقوم بما تقدر عليه من‬
‫أمور الجهاد كمداواة الجرحى واعداد الطعام ونحو ذلك‪ .‬وقد ورد في القرآن الكريم ان النساء‬
‫المؤمنات بايعن الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم كما بايعه الرجال قال تعالى‪﴿ :‬يا أيها‬
‫النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن ل يشركن بال شيئا ول يسرقن ول يزنين ول يقتلن‬
‫أولدهن ول يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ول يعصينك في معروف فبايعهن‬
‫واستغفر لهن ال إن ال غفور رحيم﴾ مما يدل على أن النساء مكلفات بما كلف به الرجل من‬
‫أمور الدين‪.‬‬
‫ب‌) وترتب على مخاطبة المرأة بالتكاليف الشرعية أنها مجزية على عملها وقيامها بما كلفت‬
‫به‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة‬
‫ول يظلمون نقيرا﴾ وقال تعالى‪﴿ :‬فاستجاب لهم ربهم أني ل أضيع عمل عامل منكم من ذكر‬
‫أو أثنى بعضكم من بعض﴾ وقال تعالى‪﴿ :‬من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‬
‫فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾‪.‬‬
‫ت‌) إن الخطابات في القرآن التي تخاطب المؤمنين وتكلفهم بالتكليفات الشرعية يدخل فيها‬
‫النساء إل إذا قام الدليل على خلف ذلك‪ .‬فقوله تعالى‪﴿ :‬ليس بأمانيكم ول أماني أهل الكتاب‬
‫من يعمل سوءا يجز به ول يجد له من دون ال وليا ول نصيرا﴾ يشمل الرجال والنساء‪ .‬وقد‬
‫يذكر القرآن الكريم النساء مع الرجال فيما يخاطبهم به من تكليفات أو فيما يمدحهم عليه‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين‬
‫والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات‬
‫والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات‪ ،‬والذاكرين ال كثيرا والذاكرات أعد‬
‫ال لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾‪.‬‬
‫ث‌) وعلى المرأة واجب الطاعة لزوجها بالمعروف‪ ،‬ووفائها بحقه عليها‪ ،‬جاء في الحديث‬
‫الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "لو كانت آمر أحدا أن يسجد لحد لمرت الزوجة أن‬
‫تسجد لزوجها" فاذا أطاعته بالمعروف وأدت حقه عليها كانت من النساء الفضيلت قال صلى‬
‫ال عليه وسلم فيما يرويه عنه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي ال عنه‪ :‬قيل يا رسول ال‬

‫‪90‬‬
‫أي النساء خير؟ قال‪" :‬التي تسره إذا نظر‪ ،‬وتطيعه إذا أمر ول تخالفه في نفسها ومالها بما‬
‫يكره"‪.‬‬
‫ج‌) والمرأة مسؤولة عن البيت وشؤونه ومؤتمنة عليه‪ ،‬فعليها القيام بهذه المانة والخروج من‬
‫عهدة هذه المسؤولية‪ ،‬جاء في الحديث الشريف‪" :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته‪...‬‬
‫والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها"‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الوظيفة التي اختصت بها‬


‫‪ -158‬خلق ال سبحانه وتعالى كل مخلوق على نحو يمكنه أن تكون زوجة وأما وأودع فيها‬
‫التطلع والحنين إلى ذلك‪ .‬وقد وهبها ال تعالى القابلية والقدرة على تربية أولدها والصبر‬
‫عليهم في جو من حنان المومة الفطري فيها‪ .‬فالوظيفة الصلية التي اختصت بها المرأة‪ ،‬هي‬
‫وظيفة الزوجة والم وتربية الولد وتنشئتهم النشأة الصالحة‪ .‬وتربية الولد تكون في البيت‬
‫ل في الطريق‪ ،‬وتحتاج إلى انصراف إلى اداء هذه الوظيفة ووقت كاف لها‪ ،‬وقد وفر لها‬
‫السلم ذلك‪ ،‬فقد رفع عنها مؤونة العيش والكتساب بما فرضه على الزوج من واجب النفاق‬
‫عليها وعلى أولدها‪ ،‬ومن ثم لم تعد لها حاجة للعمل خارج البيت‪ ،‬لن العمل يقصد به الكسب‬
‫وتحصيل الرزق‪ ،‬وقد كفيت ذلك لقاء انصرافها إلى عمل جليل هو تربية الولد في البيت‪.‬‬
‫كما أن السلم رفع عنها ايجاب بعض ما فرضه على الرجل تحقيقا لغراض معينة منها‬
‫توفير الوقت الكافي للنصراف إلى مهمتها‪ ،‬فالقتال في سبيل ال ليس بواجب عليها وجوبه‬
‫على الرجل‪ ،‬والصلة في المسجد واجب أو من السنن المؤكدة على الرجال دون النساء‪،‬‬
‫وصلة الجمعة تجب على الرجل دون المرأة‪ ،‬فهذا وأمثاله يدل على أن السلم يرغب في‬
‫بقاء الزوجة في بيتها وعدم الخروج منه إل لحاجة أو سبب معقول لتنصرف إلى مهمتها‬
‫الخطيرة‪ :‬تربية الولد وتهيئة المسكن المريح للزوج الذي يأوي اليه بعد تعبه خارجه‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وقرن في بيوتكن ول تبرجن تبرج الجاهلية الولى﴾ وليس المقصود بالقرار في‬
‫البيوت عدم الخروج منه مطلقا ال يرى أن المرأة تخرج للحج وتخرج الداء الصلة في‬
‫المساجد إذا شاءت‪ ،‬وتخرج لزيارة أهلها وتخرج للمعالجة‪ ..‬الخ وانما المقصود أن المرأة في‬
‫بيتها ول تخرج بل غرض مشروع ول سبب معقول لن هذا هو المرغوب فيه في نظر‬
‫الشرع‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الداب التي تلتزم بها‬

‫‪91‬‬
‫‪ -159‬هناك جملة آداب واخلق يجب أن تلتزم بها المرأة لتسهم في بقاء طهارة المجتمع‬
‫ونظافته مما يشين‪ ،‬ولتبقى هي نفسها بعيدة عن مظنة التهم مزالق الشيطان‪ ،‬ومن هذه الداب‬
‫ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬ل يجوز للمرأة أن تخلو بأي رجل يحل له نكاحها حتى ولو كان قريبا لها كابن العم أو‬
‫ابن الخال‪ .‬وهذا المنع كما هو واضح يسري على الرجل سريانه على المرأة فل يجوز لمسلم‬
‫أن يخلو بامرأة يحل له نكاحها‪ .‬وتعليل هذا المنع هو سد منافذ الشيطان فان الشيطان كما جاء‬
‫في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم فيزين له الخطيئة ويهيج فيه الشهوة‪ ،‬جاء في‬
‫الحديث الشريف عن النبي صلى ال عليه وسلم "إياكم والخلوة بالنساء‪ ،‬والذي نفسي بيده ما‬
‫خل رجل بامرأة إل ودخل الشيطان بينهما" وفي حديث آخر "ل يخلون أحدكم بامرأة إل مع‬
‫ذي محرم"‪ .‬ول يقال‪ :‬إن الثقافة عاصمة من الوقوع في الخطيئة فل ضرر من الخلوة‬
‫بالجنبية‪ ،‬لن المسألة مسألة ضعف النفس وما فيها من شهوات وقابليات للستجابة لغواية‬
‫الشيطان والمثقف والمثقفة كالجاهل والجاهلة في هذه المسائل والواقع شاهد على صحة ما‬
‫نقول‪ .‬وأيضا فان الثقافة ل تقلع الشهوات وإنما الذي يضعفها ول يستأصلها تقوى ال والخشية‬
‫منه وعمارة القلب باليمان‪ ،‬بدليل أن الحديث الشريف يخاطب المؤمنين أصحاب رسول ال‬
‫وهم خيار خلق ال بعد رسول ال‪ ،‬فكيف بغيرهم ممن عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ‬
‫وان مل رأسه ببعض ما يسمى ثقافة وعلما؟‪ .‬ومثل المنع من الخلوة منع المرأة من السفر‬
‫وحدها بدون زوجها أو أحد محارمها‪ ،‬لن الوحدة في ديار الغربة تفتح للشيطان منافذ للغواء‬
‫ولليقاع في الخطيئة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لزوم ابتعادها عن الختلط بالرجال خوف الفتنة‪ .‬يدل على ذلك أن السلم في سبيل‬
‫عدم الختلط بالرجال لم يفرض على المرأة صلة الجمعة ولم يوجب عليها صلة الجماعة‪،‬‬
‫ول يستحب لها اتباع الجنائز‪ ،‬وإذا حضرت للصلة في المسجد وجب عليها أن تقف مع‬
‫النساء في الصف الخير خلف الرجال‪ ،‬فإذا كان المر هكذا في بيوت ال فكيف يجوز‬
‫الختلط في غير أماكن العبادة؟‬
‫ومع هذا فإذا وجدت الضرورة والحاجة إلى مثل هذا الختلط جاز في حدود الدب‬
‫والحتشام كخروج المرأة مع المجاهدين تعد الطعام وتداوي الجرحى‪ ،‬فقد خرج الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم ومعه بعض نساء المسلمين إلى القتال وقمن بمداواة الجرحى وسقي المقاتلين‬
‫من المسلمين‪ .‬بل وقد تضطر المرأة إلى القتال الفعلي مع المسلمين كما حصل لبعضهن في‬
‫موقعة أحد‪ ،‬وهذا يستلزم الختلط‪ .‬وكذلك قد تضطر المرأة إلى الخروج من بيتها لقضاء‬
‫حاجتها فتركب السيارة العامة أو القطار وتختلط بالرجال‪ ،‬فهذا ونحوه يجوز عند الحاجة‬
‫بشرط اللتزام بالداب السلمية في المشي واللباس والكلم‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ثالثا‪ :‬اخفاء زينتها ال ما ظهر منها – فقد جاء في القرآن الكريم في آداب النساء ﴿وقل‬
‫للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ول يبدين زينتهن إل ما ظهر منها﴾ فل‬
‫يجوز تعمد اظهار شيء من زينتها إل ما ظهر منها بغير قصد‪ ،‬أو ما كان ظاهرا ل يمكن‬
‫اخفاؤه كالرداء والثياب وهذه هي الزينة الظاهرة التي يجوز ابداؤها على رأي ابن مسعود‬
‫رضي ال عنه‪ .‬أو هي الكحل والخاتم على رأي ابن عباس رضي ال عنه‪ .‬أو هي الوجه‬
‫والكفان على رأي بعض العلماء[‪ ]2‬فالوجه واليدان يجوز كشفهما أما غيرهما فل يجوز كشفه‪،‬‬
‫وبعض العلماء أجاز كشفهما بشرط عدم وجود الزينة فيهما‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬ويجب أن يكون لباس المرأة شرعيا أي وفق ما أمر به الشرع قال تعالى‪﴿ :‬وليضربن‬
‫بخمرهن على جيوبهن﴾‪ .‬والخمار ما يوضع على الرأس‪ ،‬فالية الكريمة تأمر بانزال الخمار‬
‫الى العنق والصدر لخفائهما‪.‬‬
‫وقال تعالى في آية أخرى‪﴿ :‬يا أيها النبي قل لزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن‬
‫من جلبيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فل يؤذين وكان ال غفورا رحيما﴾ والجلباب هو الملءة‬
‫التي تغطي جسم المرأة وتلبسه فوق ثيابها فل يظهر منها شيء وهو يشبه العباءة التي‬
‫تستعملها بعض نسائنا اليوم وكانت شائعة بالمس‪.‬‬
‫ومن الشروط الخرى في لبس المرأة في حكم السلم‪ ،‬أن ل يكون شفافا ول ضيقا حتى ل‬
‫يظهر أعضاء المرأة ول يصفها‪ ،‬وقد جاء في الحديث الشريف‪" :‬سيكون في آخر أمتي نساء‬
‫كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت‪ ،‬العنوهن فانهن ملعونات" فهن كاسيات بالسم‬
‫عاريات أو كالعاريات في الحقيقة والواقع‪ ،‬وهذا الحديث من أعلم النبوة فقد وقع ما أخبر عنه‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وفي حديث آخر أن النبي صلى ال عليه وسلم نهى المرأة أن‬
‫تلبس ما يصف حجم عظامها‪.‬‬
‫ومن شروط لباس المرأة الشرعي أيضا أن ل يكون معطرا إذا خرجت من بيتها‪ ،‬وان ل يشبه‬
‫لباس الرجال ول زيهم فقد جاء في الحديث الشريف‪" :‬ليس منا من تشبّه بالرجال من النساء‪،‬‬
‫ول من تشبه بالنساء من الرجال"‪.‬‬
‫وخلصة القول في لباس المرأة الشرعي الذي تتحقق فيه الداب السلمية في اللباس بالنسبة‬
‫للمرأة‪" :‬أن يكون ساترا لجميع بدنها إل وجهها وكفيها‪ ،‬وان ل يكون – أي لباسها – زينة في‬
‫نفسه‪ ،‬ول شفافا ول ضيقا يصف بدنها‪ ،‬ول مطيبا – أي معطرا – ول مشابها للباس الرجال‪،‬‬
‫ولباس الكفار‪ ،‬ول ثوب شهرة"[‪.]3‬‬
‫خامسا‪ :‬من آداب السلم في مشي المرأة وكلمها ما أشار اليه القرآن الكريم ﴿ول يضربن‬
‫بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن﴾ أي ل تضرب برجليها ليسمع قعقعة خلخاليها‪ ،‬فإذا فعلت‬
‫ذلك بالتبرج والتعرض للرجال فهو حرام[‪ ]4‬والواقع أن هذا يدخل في باب سد الذرائع‪ ،‬وعلى‬

‫‪93‬‬
‫هذا‪ ،‬ل ينظر الى القصد وانما ينظر الى مآل الفعل‪ ،‬وعلى هذا ينبغي للمرأة أن ل تفعله لئل‬
‫يثير ما ل ينبغي في الرجال بأن ينتبهوا اليه وإلى مشيها فيقعون في إثم النظر اليها أو الظن‬
‫السيء بها‪ .‬ويقاس على ذلك المنع‪ ،‬منع أي مشية فيها إثارة للفتنة‪ ،‬فينبغي أن تمشي المرأة‬
‫مشية ل تغري الفساق وضعيفي الخلق‪ .‬وقال تعالى‪﴿ :‬يا نساء النبي لستن كأحد من النساء‬
‫ل معروفا﴾ يقول المام ابن‬
‫إن اتقيتن فل تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قو ً‬
‫العربي في تفسير هذه الية‪" :‬أمرهن ال أن يكون قولهن جزلً‪ ،‬وكلمهن فصلً‪ ،‬ول يكون‬
‫على وجه يحدث في القلب علقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع‪ ،‬وأخذ عليهن أن‬
‫يكون قولهن معروفا‪ ...‬قيل المعروف هو السر فان المرأة مأمورة بخفض الكلم"[‪ ]5‬فعلى‬
‫المرأة المسلمة أن تلتزم بهذه الحدود في كلمها‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع‬


‫واجب الفرد في اصلح المجتمع‬
‫‪ -160‬ومن خصائص النظام الجتماعي في السلم تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع‪،‬‬
‫بمعنى أن كل فرد فيه مطالب بالعمل على اصلح المجتمع وإزالة الفساد منه على قدر طاقته‬
‫ووسعه‪ ،‬والتعاون مع غيره لتحقيق هذا المطلوب قال تعالى‪﴿ :‬وتعاونوا على البر والتقوى ول‬
‫تعاونوا على الثم والعدوان﴾ ومن أعظم التعاون التعاون على اصلح المجتمع‪ ،‬وإذا كان‬
‫الفرد مطالبا باصلح المجتمع‪ ،‬فمن البديهي انه مطالب بعدم افساده‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ول تفسدوا‬
‫في الرض بعد إصلحها﴾‪ .‬من القواعد الفقهية "ما حرم أخذه حرم اعطاؤه" لن اعطاء‬
‫الحرام للغير من الفساد والفساد‪ ،‬وان المسلم إذا عجز عن الصلح فعلى القل عليه أن يمتنع‬
‫من الفساد وتكثير الفساد‪ ،‬وعلى هذا ل يجوز اعطاء الرشوة كما ل يجوز أخذها‪ ،‬ول يجوز‬
‫اعطاء الربا كما ل يجوز أخذه‪ ،‬جاء في الحديث "لعن ال آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"‪.‬‬
‫وفي حديث آخر "الراشي والمرتشي والرائش بينهما"‪.‬‬
‫أدلة مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع‬
‫‪ -161‬أولً‪ :‬من القرآن الكريم‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن‬
‫المنكر﴾ والمعروف اسم جامع لكل ما طلبه الشرع السلمي‪ .‬والمنكر اسم جامع لكل ما نهى‬
‫عنه‪ .‬ويدخل في ذلك بداهة ما يصلح المجتمع ويطهره من الفساد وفي وصية العبد الصالح‬
‫لقمان لبنه التي قصها ال علينا ﴿يا بني أقم الصلة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر‬
‫على ما أصابك إن ذلك من عزم المور﴾‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ويؤكد القرآن الكريم مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع بما يقصه من أخبار المم السابقة‬
‫التي فرط أفرادها بواجب الصلح فلحقهم الذم والهلك‪ ،‬حتى يعتبر كل مسلم بما حل بهم فل‬
‫يفرط تفريطهم لئل يصيبه ما أصابهم‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬فلول كان من القرون من قبلكم أولوا بقية‬
‫ينهون عن الفساد في الرض إل قليلً ممن أنجينا منهم﴾‪ .‬أي هل كان من المم التي قبلكم‬
‫أولوا بقية أي أصحاب طاعة ودين وعقل ينهون قومهم عن الفساد في الرض[‪ .]6‬وقال‬
‫تعالى‪﴿ :‬فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس‬
‫بما كانوا يفسقون﴾ فهذه الية الكريمة دلت على أن الذين نجوا من العذاب‪ ،‬إنما نجوا بسبب‬
‫نهيهم عن السوء والفساد‪ ،‬فدل ذلك على وجوبه[‪.]7‬‬
‫‪ -162‬ثانيا‪ :‬من السنة النبوية‬
‫وفي السنة أحاديث كثيرة تقرر مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع‪ ،‬منها الحديث الشريف‪:‬‬
‫"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" واصلح المجتمع وإزالة الفساد عنه‪ ،‬والتفكير في‬
‫تحقيق ذلك من الهتمام بأمور المسلمين‪ .‬وفي حديث آخر عن النبي صلى ال عليه وسلم "من‬
‫رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف‬
‫اليمان" فهذا الحديث الشريف صريح في تحميل الفرد مسؤولية إزالة الفساد المطلوب من‬
‫المسلم إزالته‪ .‬وهذا الحديث الشريف يأمر أيضا بأن يكون المسلم في حالة استعداد وتهيؤ‬
‫للصلح وإزالة للفساد‪ ،‬وهذا المعنى يفهم من عبارة "فان لم يستطع فبقلبه"‪ ،‬لن التغيير بالقلب‬
‫يعني كراهية المنكر‪ ،‬يقول المام النووي‪" :‬فبقلبه معناه فليكرهه بقلبه وليس ذلك بازالة وتغيير‬
‫منه للمنكر ولكنه هو الذي في وسعه"[‪ ]8‬فالتغيير بالقلب يعني كراهية المنكر وهو وإن لم يكن‬
‫إزالة وتغييرا كما يقول المام النووي إل أنه مقدمة للتغيير وتهيؤ له واعداد النفس لتغييره‬
‫فعل‪ ،‬لن النسان عادة‪ ،‬ل يزيل شيئا يحبه وإنما يزيل ويغير شيئا يكرهه‪ ،‬فكراهية الشيء‬
‫مقدمة لزالته وسابقة لتغييره‪ ،‬فجاز اطلق اسم التغيير على كراهية القلب للمنكر بهذا‬
‫العتبار‪ ،‬وكراهية القلب للمنكر يجعل القلب حيا عامرا باليمان ذا حساسية كافية ضد‬
‫المنكرات والفساد‪ ،‬ول يسع المسلم ترك هذه الكراهية وإذا فقدها كان ذلك علمة مرض قلبه‬
‫فليسارع إلى تطبيبه بعلج اليمان قبل فوات الوان‪ ،‬وقد اعتبر المام ابن تيمية رحمه ال‬
‫تعالى النكار القلبي ردة عن السلم‪ ،‬فقد قال رحمه ال‪" :‬والمرتد من أشرك بال تعالى أو‬
‫كان مبغضا للرسول صلى ال عليه وسلم ولما جاء به أو ترك انكار منكر بقلبه"[‪.]9‬‬
‫ومن السنة أيضا‪ ،‬قول النبي صلى ال عليه وسلم "وال لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر‬
‫ولتأخذن على يد الظلم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن ال‬
‫بقلوب بعضكم على بعض ثم ليعلنكم كما لعنهم" وهذا الحديث الشريف صريح في الدللة على‬

‫‪95‬‬
‫تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع ورفع الفساد عنه‪ ،‬وفيه تأكيد على منع الظالم من‬
‫الظلم‪ ،‬لن الظلم من أعظم الفساد في الرض‪.‬‬

‫تعديل مسؤولية الفرد عن اصلح المجتمع‬


‫‪ -163‬وإذا كان الفرد مسئول عن إصلح المجتمع‪ ،‬فما تعليل ذلك؟ ولماذا يطالب الفرد بهذا‬
‫الواجب مع مطالبته بإصلح نفسه؟ الذي نراه‪ ،‬إن تعليل هذه المسؤولية أو هذه المطالبة‪ ،‬ما‬
‫يأتي‪:‬‬
‫‪ -164‬أولً‪ :‬الفرد يتأثر بالمجتمع‬
‫النسان كائن اجتماعي يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه‪ ،‬فتمرض روحه أو تهزل‪ ،‬أو تصح‬
‫وتقوى تبعا لصلح المجتمع أو فساده‪ .‬وقد أشار النبي الكريم صلى ال عليه وسلم إلى هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬فقد جاء في الحديث الشريف "ما من مولود إل يولد على الفطرة‪ ،‬فأبواه يهوّدانه أو‬
‫ينصّرانه‪ ..‬الخ" فالبوان بالنسبة للصغير مجتمعه الصغير الذي يؤثر فيه‪ ،‬فيدفعه إلى الفساد أو‬
‫الصلح‪ ،‬فإذا كان البوان ضالين دفعاه إلى الضلل واخرجاه عن مقتضى الفطرة السليمة‬
‫التي خلقه ال عليها‪ ،‬وإذا كانا صالحين أبقياه على الفطرة التي خلقه ال عليها‪ ،‬ونمّيا فيه جانب‬
‫الخير‪ .‬وهكذا شأن المجتمع الكبير في تأثيره في الفرد صلحا وفسادا‪.‬‬
‫‪ -165‬ثانيا‪ :‬ضرورة قيام المجتمع الصالح‬
‫وقيام المجتمع الصالح ضروري للفرد‪ ،‬لن المطلوب من المسلم تحقيق الغرض الذي خلق من‬
‫أجله وهو عبادة ال وحده قال تعالى‪﴿ :‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون﴾ والعبادة اسم‬
‫جامع لما يحبه ال تعالى من القوال والفعال والحوال الظاهرة والباطنة[‪ ]10‬وهذا المعنى‬
‫الواسع للعبادة يقتضي أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وعلقاته مع الناس على وفق‬
‫ما جاءت به الشريعة السلمية‪ ،‬والمسلم ل يستطيع أن يصوغ حياته هذه الصياغة السلمية‬
‫إل إذا كان المجتمع الذي يعيش فيه منظما على نحو يسهل عليه هذه الصياغة أي أن يكون‬
‫مجتمعا اسلميا صحيحا‪ .‬فإن لم يكن كذلك بأن كان مجتمعا جاهليا صرفا‪ ،‬أو مجتمعا مشوبا‬
‫بمعاني الجاهلية‪ ،‬فإن المسلم ل يستطيع فيه أن يحيا الحياة السلمية المطلوبة أو يتعذر عليه‬
‫ذلك‪ .‬ولهذا يأمر السلم بالتحول من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع السلمي‪ ،‬ما دام عاجزا‬
‫عن إزالة جاهليته‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إن الذين توفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم‪ ،‬قالوا‬
‫كنا مستضعفين في الرض‪ ،‬قالوا ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها‪ ،‬فأولئك مأواهم‬
‫جهنم وساءت مصيرا﴾ وقد جاء في تفسير هذه الية الكريمة أنها نزلت‪" :‬في كل من أقام بين‬
‫ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه‬
‫مرتكب حراما بالجماع"[‪ ]11‬ولهذا يجب على كل مسلم تعهد المجتمع الذي يعيش فيه وإزالة‬

‫‪96‬‬
‫المنكر حال ظهوره أو وقوعه وان ل يستهين به‪ ،‬لن المنكرات كالجراثيم التي تؤثر في‬
‫الجسد قطعا‪ ،‬وإذا لم تمرض البعض فانها تضعف مقاومته فيسهل عليها فيما بعد التغلب عليه‪.‬‬
‫ولهذا كانت أولى مهمات الدولة السلمية إقامة هذا المجتمع السلمي الفاضل وإزالة‬
‫المنكرات منه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا‬
‫بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور﴾‪.‬‬

‫‪ -166‬ثالثا‪ :‬النجاة من العقاب الجماعي‬


‫وقيام الفراد باصلح المجتمع ينجيهم وينجي المجتمع من الهلك الجماعي أوالعقاب الجماعي‬
‫أو الضيق والضنك والقلق والشر الذي يصيب المجتمع‪ .‬وتوضيح هذه الجملة يحتاج إلى شيء‬
‫من التفصيل لهمية الموضوع وخطورته‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫من سنة ال تعالى‪ ،‬ان المجتمع الذي يشيع فيه المنكر‪ ،‬وتنتهك فيه حرمات ال‪ ،‬وينتشر فيه‬
‫ن ال تعالى يعمهم بمحن غلظ قاسية تعم‬
‫الفساد‪ ،‬ويسكت الفراد عن النكار والتغيير‪ ،‬فإ ّ‬
‫الجميع وتصيب الصالح والطالح‪ ،‬وهذه في الحقيقة سنة مخيفة وقانون رهيب يدفع كل فرد ل‬
‫سيما من كان عنده علم أو فقه أو سلطان إلى المسارعة والمبادرة فورا لتغيير المنكر دفعا‬
‫للعذاب والعقاب عن نفسه وعن مجتمعه‪ ،‬والدليل على ما نقول القرآن والسنة‪.‬‬

‫‪ -167‬أ) من القرآن الكريم‪:‬‬


‫قال تعالى‪﴿ :‬واتقوا فتنة ل تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن ال شديد العقاب﴾ قال‬
‫ابن عباس رضي ال عنه في هذه الية‪ :‬أمر ال المؤمنين أن ل يقروا المنكر بين أظهرهم‬
‫فيعمهم العذاب[‪ ]12‬فمقصود الية‪ ،‬واتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح كما قال‬
‫المام القرطبي[‪.]13‬‬
‫وفي تفسير ابن كثير بصدد هذه الية الكريمة‪" :‬يحذر ال تعالى عباده المؤمنين فتنة أي‬
‫اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره ل يخص بها أهل المعاصي ول من باشر الذنب بل‬
‫يعمها"‪.‬‬

‫‪ -168‬ب) من السنة النبوية المطهرة‪:‬‬


‫جاء في صحيح المام البخاري رحمه ال تعالى عن النبي صلى ال عليه وسلم "مثل القائم في‬
‫حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلها‪ ،‬وبعضهم أسفلها‪،‬‬
‫وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من قوفهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو انا خرقنا في‬
‫نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا‪ ،‬وان أخذوا على أيديهم‬

‫‪97‬‬
‫نجوا ونجوا" ففي هذا الحديث دليل كما يقول المام القرطبي على تعذيب العامة بذنوب‬
‫الخاصة‪ ،‬وفيه استحقاق العقوبة للجماعة كلها عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم‬
‫التغيير‪ ،‬وانه إذا لم تغير المنكرات وترجع المور إلى حكم الشرع وجب على المؤمنين‬
‫المنكرين لها بقلوبهم هجران ذلك البلد[‪ .]14‬ويمكن القول أيضا أن في هذا الحديث الشريف‬
‫دللة أخرى وهي أن النحراف عن النهج الصحيح والمسلك السديد يؤدي إلى الهلك أو‬
‫الضرر‪ ،‬ول ينفع في دفعهما عن الجماعة كون المنحرفين حسني النية والقصد لن الذين‬
‫أرادوا خرق السفينة إنما أرادوا بخرقها عدم إيذاء من فوقهم فلم يغن عنهم حسن مقصدهم لن‬
‫فعلهم خروج على النهج السديد في معالجة ما يهم الجميع‪.‬‬
‫وعن أبي بكر الصديق رضي ال عنه قال‪ :‬يا أيها الناس انكم تقرؤون هذه الية‪﴿ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم من ضل إذا اهتديتم﴾ واني سمعت رسول ال صلى ال‬
‫ن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم ال بعقاب‬
‫عليه وسلم يقول‪" :‬إ ّ‬
‫منه" فهذا يدل على أن وقوع الفساد في المجتمع والسكوت عليه وعدم تغييره سبب للعقاب‬
‫الجماعي‪.‬‬

‫ميزان صلح المجتمع وفساده‬


‫‪ -169‬وإذا كان الفرد مسؤول عن اصلح المجتمع وإزالة فساده‪ ،‬فما هو الميزا لصلحه‬
‫وفساده والجواب‪ ،‬أن المجتمع الصالح هو المجتمع السلمي أي القائم على أساس العقيدة‬
‫السلمية التي ينبثق عنها النظام الجتماعي السلمي‪ ،‬الذي ينظم شؤونه المختلفة والذي بينا‬
‫بعض خصائصه‪ .‬والمجتمع الفاسد هو الذي يقوم على غير أساس العقيدة السلمية ول يحكمه‬
‫النظام الجتماعي‪ ،‬وتشيع فيه المنكرات‪ ،‬وهو الذي يسميه السلم بالمجتمع الجاهلي‪ .‬وبكلمة‬
‫أخرى المجتمع الصالح هو القائم على معاني السلم وأفكاره ومناهجه والتي تطبق فيه‬
‫أحكامه والمجتمع الفاسد بخلفه‪.‬‬

‫[‪ ]1‬الوحي المحمدي للشيخ محمد رشيد رضا رحمه ال ص ‪ ،320‬طبع المكتب السلمي‬
‫[‪ ]2‬أحكام القرآن لبن العربي المالكي ج ‪ 3‬ص ‪.1357 – 1356‬‬
‫[‪ ]3‬حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة للستاذ ناصر الدين اللباني ص ‪ ،89‬طبع‬
‫المكتب السلمي‪.‬‬
‫[‪ ]4‬ابن العربي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.136‬‬
‫[‪ ]5‬ابن العربي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪98‬‬
‫[‪ ]6‬تفسير القرطبي ج ‪ 9‬ص ‪.113‬‬
‫[‪ ]7‬احياء علوم الدين للغزالي ج ‪ 2‬ص ‪.27‬‬
‫[‪ ]8‬شرح صحيح مسلم للنووي ج ‪ 2‬ص ‪.25‬‬
‫[‪ ]9‬اختيارات ابن تيمية في الجزء الخامس من الفتاوى ص ‪.182‬‬
‫[‪ ]10‬مختصر فتاوى ابن تيمية ص ‪.173 – 172‬‬
‫[‪ ]11‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.542‬‬
‫[‪ ]12‬تفسير القرطبي ج ‪ 7‬ص ‪.391‬‬
‫[‪ ]13‬تفسير القرطبي ج ‪ 7‬ص ‪.393‬‬
‫[‪ ]14‬تفسير القرطبي ج ‪ 7‬ص ‪.392‬‬

‫المبحث الثالث ‪ -‬نِظامُ الفتاء‬

‫تمهيد‬
‫‪ -130‬المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله ابتدا ًء وفق المناهج السلمية وأن يتقبل حكم‬
‫الشرع في نتائج أفعاله‪ ،‬وأن يتصرف على النحو المشروع في علقاته مع الخرين فاذا جهل‬
‫ذلك أو بغضه وجب عليه أن يعرفه ليكون سلوكه وفق الحدود الشرعية‪ .‬ومن سبل المعرفة‬
‫قيام العلماء بتعليم الناس أمور الدين وتبليغهم أحكامه‪ ،‬أو قيام الجهال بسؤال العلماء عن أحكام‬
‫السلم‪.‬‬
‫‪ -131‬أما قيام العلماء بواجب التعليم والتبليغ فهذا ما افترضه السلم على أهل العلم‪ .‬فعليهم‬
‫تعليم الناس ما يحتاجونه من أمور دينهم بالقدر الذي يأمر به السلم ويحتاجه الناس‪ .‬ويزداد‬
‫هذا الوجوب على العلماء ويتأكد كلما فشا الجهل في الناس واندرست معالم الشريعة وظهرت‬
‫البدع‪ .‬فاذا قصر العلماء في واجب التعليم والتبليغ أثموا وحوسبوا على تقصيرهم حسابا‬
‫عسيرا‪ ،‬لن تقصيرهم في هذا الواجب يعتبر من كتمان العلم الذي اؤتمنوا عليه وأمروا بنشره‬
‫وتبليغه للناس‪ .‬فاذا قام العلماء بواجب التبليغ وجب على الناس أن يقبلوا عليهم ويسمعوا منهم‬
‫ويتعلموا ما يقولون ويعملوا بما يتعلمون‪ ،‬فاذا لم يفعلوا أثموا وحوسبوا لقيام الحجة عليهم‬
‫بتبليغ العلماء لهم احكام الدين‪.‬‬
‫‪ -132‬وبالرغم من تبليغ العلماء أحكام الدين ابتداءً فقد يبقى البعض جاهلً بأحكام السلم‪،‬‬
‫وقد يقصر العلماء بواجب التبليغ‪ ،‬فيفشو الجهل‪ ،‬ويكثر عدد الجاهلين‪ .‬وواجب الجاهل أن‬
‫يتعلم أمود دينه التي تهمه قال تعالى‪﴿ :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون﴾‪ .‬ول يرفع عن‬

‫‪99‬‬
‫الجاهل مسؤولية تعلم ما يلزمه من أمور الدين تقصير العلماء بواجب التعليم والتبليغ ابتداءً اذ‬
‫عليه أن يسأل أهل العلم عما يجهله من أمور الدين كما جاء في الية الكريمة‪.‬‬
‫‪ -133‬وسؤال الجاهل أهل العلم‪ ،‬وجواب هؤلء له‪ ،‬وما يتعلق بهذين الموقفين موقف الجاهل‬
‫وهو يسأل‪ ،‬وموقف العالم وهو يجيب‪ ،‬من وجوب عليهما في السؤال والجواب أو ندب أو‬
‫اباحة بل وجوب في السؤال والجواب وغير ذلك من المور‪ ،‬كل ذلك يكوّن ما يعرف في‬
‫الشريعة السلمية بنظام الفتاء‪.‬‬

‫الفتاء في اللغة‬
‫‪ -134‬جاء في لسان العرب لبن منظور‪ :‬أفتاه في المر‪ ،‬أي أبانه له‪ ،‬وأفتاه في المسألة‬
‫يفتيه‪ :‬إذا أجابه‪ ،‬والسم الفتوى‪ ،‬واستفتيته فأفتاني افتاء‪ ،‬والفتوى اسم يوضع موضع الفتاء‪،‬‬
‫والفتيا والفتوى‪ :‬ما أفتى به الفقيه‪.‬‬
‫ومما تقدم نعلم أن الستفتاء في اللغة يعني السؤال عن أمر أو عن حكم مسألة وهذا السائل‬
‫يسمى المستفتي‪ .‬والمسؤول الذي يجيب‪ :‬هو المفتي‪ ،‬وقيامه بالجواب هو الفتاء‪ ،‬وما يجيب به‬
‫هو الفتوى‪ .‬فالفتاء يتضمن وجود المستفتي والمفتي والفتاء نفسه والفتوى‪.‬‬

‫الفتاء في الصطلح‬
‫‪ -135‬والمعنى الصطلحي للفتاء هو المعنى اللغوي لهذه الكلمة وما تتضمنه من وجود‬
‫مستفت ومفت وافتاء وفتوى‪ ،‬ولكن بقيد واحد هو أن المسألة التي وقع السؤال عن حكمها‬
‫تعتبر من المسائل الشرعية‪ ،‬وأن حكمها المراد معرفته هو حكم شرعي‪.‬‬
‫فالمستفتي اذن في نظام الفتاء الذي نتكلم عنه هو‪ :‬السائل عن حكم الشرع في مسالة من‬
‫المسائل‪ ،‬أي من يسأل عن حكم مسألة شرعية‪ ،‬وإنّ المفتي هو من يجيب عن هذا السؤال‪،‬‬
‫وقيامه بإعطاء الجواب هو الفتاء‪ ،‬ونصّ ما يجيب به هو الفتوى‪.‬‬

‫منهج البحث‬
‫‪ -136‬وبناءً على ما تقدم نقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب‪:‬‬
‫الول‪ :‬للكلم عن المستفتي‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬للكلم عن المفتي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬للكلم عن الفتاء‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬للكلم عن الفتوى‪.‬‬

‫المطلب الول ‪ -‬المستفتي‬

‫‪100‬‬
‫من هو المستفتي‬
‫‪ -137‬المستفتي هو من يسأل عن حكم الشرع في مسألة ما‪ ،‬وهذا يعني أنه جاهل بهذا الحكم‬
‫وإنما يسأل ليعرفه وليعمل بما يفتيه به المفتي مقلدا له بهذه الفتوى‪ .‬ولكن هل يجب على كل‬
‫جاهل بالحكم الشرعي أن يسأل عنه حتى يعرفه أم ل؟ واذا علم الحكم أو كان قادرا على‬
‫معرفته بنفسه فهل يجب عليه أو يسوغ أن يسأل عنه أم ل؟ الجواب على ذلك يختلف باختلف‬
‫الناس واختلف أحوالهم‪ .‬فقد يحرم على بعضهم الستفتاء وقد يجب وقد يجوز‪ ،‬فل بد من‬
‫بيان هذه الصناف من الناس‪.‬‬

‫الصنف الول‪ :‬المحرم عليهم الستفتاء‬


‫‪ -138‬من توافرت فيه أهلية الجتهاد وشروطه على النحو المذكور في كتب أصول الفقه‬
‫صار مجتهدا‪ ،‬والمجتهد يحرم عليه تقليد غيره‪ ،‬لن الواجب عليه – وقد صار مجتهدا – أن‬
‫يجتهد في المسألة حتى يعرف حكمها الشرعي على وجه اليقين أو غلبة الظن‪ ،‬وبالتالي يحرم‬
‫عليه أن يستفتي أحدا في بيان حكم هذه المسألة‪ .‬والتحريم هنا يتعلق بالستفتاء الذي يراد به‬
‫تقليد المفتي بما يفتي به‪ ،‬أما سؤال المجتهد غيره عن حكم مسألة على وجه المذاكرة وفحص‬
‫المعلومات فهو جائز غير ممنوع‪ ،‬وإذا تبين للمجتهد بعد هذه المذاكرة أن الصواب عند غيره‬
‫وجب عليه اتباعه لنه صار من جملة ما عرفه باجتهاده‪.‬‬
‫‪ -139‬وإذا قلنا بأن الجتهاد يتجزأ‪ ،‬وهذا ما نرجحه‪ ،‬بحيث يكون المسلم مجتهدا في بعض‬
‫المسائل دون بعض‪ ،‬فإنه فيما يقدر عليه من الجتهاد ينزل منزلة المجتهد المطلق فل يجوز له‬
‫سؤال غيره وتقليده فيما يفتيه به‪ .‬أما فيما يعجز عن الجتهاد فيه فإنه ينزل منزلة غير‬
‫المجتهد فيجب عليه الستفتاء أو يجوز كما سنبينه فيما بعد‪.‬‬

‫الصنف الثاني‪ :‬من يجب عليهم الستفتاء‬


‫‪ -140‬يجب الستفتاء على كل من لم يصل الى مرتبة الجتهاد ووجب عليه معرفة الحكم‬
‫الشرعي‪ .‬فشروط وجوب الستفتاء شرطان‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬أن يكون غير مجتهد‪ .‬سواء كان سبب ذلك عجزه عن الجتهاد لعدم استعداده‬
‫له وعدم قدرته عليه أو لعدم الملكة الفقهية فيه أو لعدم تفرغه لطلب العلم حتى يصل الى‬
‫مرتبة الجتهاد أو لي سبب آخر‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬وجوب معرفته الحكم الشرعي‪ .‬وهذا يختلف باختلف الشخاص‪ ،‬فمن بلغ‬
‫عاقلً لزمه أن يعرف أحكام الصلة وكيفية أدائها وشروطها‪ .‬وإذا دخل عليه رمضان وجب‬
‫عليه أن يعرف أحكام الصيام‪ .‬وإذا صار عنده مال وبلغ النصاب وجب عليه أن يعرف أحكام‬

‫‪101‬‬
‫الزكاة‪ ،‬وإذا استطاع الحج وجب عليه أن يعرف أحكام الحج‪ ،‬ومن نزلت به نازلة وجب عليه‬
‫أن يعرف حكمها‪ .‬ومن باشر التجارة والبيع والشراء وجب عليه أن يعرف أحكام هذه‬
‫المعاملت وهكذا‪ .‬والصل الجامع في هذا الشرط هو‪ :‬كل من لزمته معرفة حكم شرعي‬
‫معين وجب عليه أن يسأل أهل العلم عنه من يعرفه‪ .‬أما ما زاد على ذلك من معرفة تفاصيل‬
‫الشرع فهو من المور المندوبة في حق الفرد وان كان من الفروض الكفائية في حق المة إذ‬
‫ل بد أن يوجد في المة من يعرف تفاصيل الشرع مع بلوغه رتبة الجتهاد ليفتي الناس فيما‬
‫يحتاجون إليه من أمور الدين‪.‬‬
‫‪ -141‬والخلصة فإنّ العامي يجب عليه استفتاء العلماء فيما يلزمه من تكاليف الشرع‬
‫ليعرف كيف يؤدي هذه التكاليف على الوجه المشروع‪.‬‬

‫الصنف الثالث‪ :‬من يجوز لهم الستفتاء‬


‫‪ -142‬ويجوز الستفتاء لغير المجتهد فيما ل تلزمه معرفته من أحكام الشرع كالعامي الذي ل‬
‫يجب عليه الحج فل يلزمه أن يعرف احكامه وبالتالي ل يجب عليه أن يسأل عن هذه الحكام‬
‫وان كان يجوز له أن يسأل عنها‪ ،‬لن معرفة أحكام الشرع والستزادة من هذه المعرفة من‬
‫المور المندوبة في حق كل مسلم‪ ،‬وحيث كان المر مندوبا فجوازه أولى‪.‬‬
‫‪ -143‬ولكن هل يجوز الستفتاء لغير المجتهد فيما ل يلزمه معرفته فيما لم يقع عليه من‬
‫الحوادث والنوازل؟ للعلماء قولن‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬كراهة ذلك‪ ،‬وهذا هو المنقول عن المام مالك‪ ،‬فقد كان رحمه ال تعالى يكره‬
‫السؤال عن حكم ما لم يقع‪ ،‬ولهذا كان بعض تلمذته اذا أراد معرفة حكم مسألة لم تقع دفع‬
‫الى المام مالك من يسأله عنها كأنها مسألة واقعة‪ .‬وتعليل هذه الكراهة عند بعض العلماء هو‬
‫أن الفتاء في أمور الدين شيء خطير ومسؤولية كبيرة‪ ،‬لن الفتاء في أمود الدين في حقيقته‬
‫اخبار عن شرع ال وحكمه‪ ،‬وهذا ل يسوغ ال بعد بذل الجهد المستطاع‪ ،‬فاذا قصر المجتهد‬
‫في ذلك تعرض للمسؤولية‪ ،‬وما دامت الواقعة لم تقع فل حاجة ول ضرورة للتعرض للفتاء‬
‫وما ينطوي عليه من مسؤولية‪ ،‬بل إن السلمة والحتياط في الدين يوجبان العراض عن مثل‬
‫هذا الفتاء‪ .‬كما أن اجتهاد المجتهد قد يتغير فل حاجة للتسرع في الفتاء والحادثة لم تقع بعد‪،‬‬
‫فقد يتغير اجتهاد المجتهد ثم تقع الحادثة ول يستطيع المجتهد اخبار المستفتي عن اجتهاده‬
‫الجديد‪ ،‬ولهذا كله فيحسن بالمفتي أن يعرض عن الفتاء عما لم يقع بعد كما يحسن بالعامي أن‬
‫يستفتي عما يحتاجه وعما يقع له فعلً ويدع ما سوى ذلك مما لم يقع بعد‪.‬‬
‫‪ -144‬القول الثاني‪ :‬عدم كراهيته السؤال عما لم يقع بعد إذا كان غرض السائل معرفة الحكم‬
‫مسبقا لحتمال وقوعها‪ .‬وهذا ما نرجحه‪ ،‬اذ ل ضرر فيه‪ ،‬بل فيه احتياط لما يحتمل وقوعه‪،‬‬

‫‪102‬‬
‫إذ قد تقع الحادثة ول يتيسر لصاحبها الوصول الى من يستفتيه فيها‪ ،‬فإذا حرص على معرفة‬
‫حكمها قبل وقوعها كان حرصه في محله‪ ،‬وعلى المفتي أن يجيبه‪ ،‬لن كليهما محسن غير‬
‫مسيء‪ ،‬السائل في حرصه على معرفة الحكم‪ ،‬والمفتي في تعريفه بما حرص المستفتي على‬
‫معرفته‪ ،‬وبناء على هذا القول وجدنا بعض العلماء من يتصور المسائل ويفترض الوقائع‬
‫ويجيب عليه‪ ،‬ويدون ذلك حتى يقف عليها من يريد معرفة هذه الحكام‪.‬‬

‫على المستفتي أن يسأل الصالح للفتاء‬


‫‪ -145‬وحيث وجب على المسلم أو جاز له الستفتاء فعليه أن يستفتي من توافرت فيه‬
‫الصلحية للفتاء لن استفتاءه يتعلق بالدين فعليه أن يحتاط لدينه فيسأل من هو أهل للفتاء‪.‬‬
‫ولكن كيف يعرف العامي الصالح الكفء ليسأله؟ قالوا يعرف ذلك بالسؤال عنه أو اخبار الثقة‬
‫له عنه أو باشتهار أمره بين الناس‪ ،‬وهذا هو المقدور للعامي‪.‬‬
‫‪ -146‬فإذا لم يجد العامي في بلده من يستفتيه فعليه أن يرحل الى حيث يجد من يفتيه‪ ،‬فقد‬
‫كان السلف الصالح إذا احتاج أحدهم الى معرفة مسألة شرعية ولم يجد من يخبره بحكمها‬
‫رحل الى حيث يجد العالم الكفء الذي يخبره بذلك‪.‬‬

‫استفتاء الصلح‬
‫‪ -147‬واذا وجب على المستفتي أن يستفتي الصالح للفتاء‪ ،‬فهل يجب عليه أن يتحرى عن‬
‫الصلح اذا كثر المفتون في بلده؟‬
‫قولن للعلماء في هذه المسألة‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬ل يجب عليه التحري عن الصلح‪ ،‬فله ان يسأل من شاء من اهل الفتاء ما‬
‫داموا صالحين له‪ ،‬لن العامي ل قدرة له على معرفة الصلح ول على وزن الرجال وتقدير‬
‫منازلهم ومراتبهم في العلم فتكليفه بذلك ضرب من التكليف بما ل يطاق‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يجب عليه التحري عن الصلح واستفتاؤه دون غيره‪ ،‬وليس في ذلك تكليف له‬
‫بما ل يطاق‪ ،‬اذ يستطيع أن يعرف الصلح بالسؤال عنه أو باخبار الثقة له عنه أو باشتهار‬
‫أمره وبروزه بين أقرانه‪ ،‬وهذا القدر‪ ،‬كما يرى‪ ،‬ممكن له ويؤدي إلى معرفة الصلح غالبا‪،‬‬
‫وهذا هو المقدور له والمطالب به‪ ،‬وإذا لم يصل إلى الصلح مع ذلك كله فل لوم عليه ول‬
‫تثريب‪.‬‬
‫‪ -148‬والراجح عندي القول الول لن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ما كانوا‬
‫يوجبون على المستفتي استفتاء الصلح أو البحث عنه فدل على جواز استفتاء الفاضل وترك‬
‫الفضل‪ .‬ومع هذا يستحب للعامي التحري عن الصلح واستفتائه كلما كان ذلك ميسورا له‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫من هو الصلح‬
‫‪ -149‬واذا قلنا بوجوب التحري عن الصلح‪ ،‬على القول الول للعلماء‪ ،‬أو عن استحباب ذلك‬
‫له على ما ذكرناه في ترجيحنا‪ ،‬فمن هو الصلح للفتاء؟ المستفاد من اقوال العلماء أن‬
‫الصلح هو العلم الورع‪ ،‬ولكن إذا وجد المستفتي المفتي العلم ووجد المفتي الورع فأيهما‬
‫يسأل؟ قولن للعلماء‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬يسأل العلم لنه هو الصلح فيتعين عليه استفتاؤه لن مدار الفتاء على العلم‬
‫وما دام هو العلم فهو الولى بالفتاء والصلح له من غيره‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬الصلح هو الورع‪ ،‬فعليه أن يستفتيه دون غيره‪ .‬واستدل أصحاب هذا القول‬
‫بقوله جل جلله ﴿اتقوا ال ويعلمكم ال﴾ وبما روي عن السلف الصالح "ان هذا العلم دين‬
‫فانظروا عمن تأخذونه"‪.‬‬
‫‪ -150‬والراجح عندي أن استفتاء الورع أولى‪ ،‬لن ما عنده من العلم يكفي للفتاء ولن‬
‫ورعه يحجزه عن التهجم على الفتوى والتساهل فيها ويبعده عن مزالق الهوى الخفي‪ ،‬كما أن‬
‫ورعه يدفعه الى البحث الشديد لمعرفة الحكم الصحيح‪ ،‬وبهذا البحث الشديد وخلوص النية‬
‫تكون إصابته في الفتوى محتملة جدا‪ .‬بل ويمكن القول أن الورع هو الصلح للفتاء في‬
‫زماننا هذا فيتعين استفتاؤه دون غيره ما أمكن ذلك‪ ،‬لقلة الورع عند العامة وأكثر العلماء‪ ،‬فمن‬
‫الحتياط المطلوب في الدين أن يسأل المستفتي المفتي الورع ما دام عنده من العلم ما يكفي‬
‫للفتاء ويدع العلم الذي ل ورع عنده أو عنده من الورع ما ل يكفي لمنصب الفتاء‪.‬‬

‫استفتاء المستفتي لكثر من واحد‬


‫‪ -151‬وإذا لم تطمئن نفس المستفتي إلى جواب المفتي فماذا يعمل؟ قالوا‪ :‬له أن يسأل غيره‪.‬‬
‫ولكن إذا اختلفت عليه الفتوى فماذا يعمل؟ أقوال في المسألة‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬يأخذ المستفتي بقول من يفتيه بالحظر دون الباحة لنه أحوط‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يأخذ بالقول الخف لقوله تعالى ﴿يريد ال بكم اليسر ول يريد بكم العسر﴾ وقوله‬
‫صلى ال عليه وسلم "إنّ ال يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه"‪.‬‬
‫القول الثالث‪ :‬على المستفتي أن يتحرى عن العلم الورع ويسأله إن لم يكن قد سأله‪ ،‬ويأخذ‬
‫بفتياه‪ ،‬فان لم يجد مثل هذا المفتي ووجد العلم فقط والورع فقط استفتى الورع‪ ،‬وأخذ بقوله‬
‫وقال بعضهم‪ :‬يستفتي العلى ويأخذ بقوله‪.‬‬
‫القول الرابع‪ :‬يأخذ بقول من وافق قوله قول الخرين للتعاضد كتعدد الدلة ولزيادة غلبة الظن‬
‫بأن هذا القول هو الراجح‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫القول الخامس‪ :‬يتخير فيأخذ بأي قول شاء لن الجميع أهل للفتاء‪.‬‬
‫‪ -152‬والراجح عندي التفصيل في المسألة بأن ينظر‪ :‬إذا كان المستفتي قد استفتى العلم‬
‫الورع فعليه أن يأخذ بقوله ول عبرة بعدم اطمئنانه وسكون نفسه وليس له أن يسأل غيره‪ .‬وإ‬
‫ذا لم يكن المستفتي قد استفتى العلم الورع فعليه أن يتحرى عنه فيسأله ويأخذ بقوله‪ ،‬فإن لم‬
‫يجده ولكن وجد الورع أخذ بقوله‪ ،‬وإذا كان الجميع متساوين بالعلم والورع كما يبدو‬
‫للمستفتي ولم تسكن نفسه إلى قول من استفتاه فله أن يستفتي الخرين‪ ،‬فإن اتفقوا فيها‪ ،‬أخذ‬
‫بفتياهم‪ ،‬وإن اختلفوا أخذ بما تطمئن إليه نفسه من أقوالهم دون تقيد بكثرة المتفقين أو قلتهم‪،‬‬
‫لن الكثرة بذاتها ليست من المرجحات في باب الفتوى وانما الترجيح بالدليل‪ ،‬فان لم يكن‬
‫هناك دليل صريح يصلح للترجيح كان الترجيح لقول العلم الورع ثم لقول الورع‪ ،‬فإن‬
‫انعدم هذا كان الترجيح باطمئنان النفس وسكونها عمل بالحديث الشريف "استفت نفسك وإن‬
‫افتوك وافتوك وافتوك" وقوله صلى ال عليه وسلم "دع ما يريبك إلى ما ل يريبك"‪.‬‬

‫اعادة الستفتاء‬
‫‪ -153‬وإذا استفتى العامي عن حادثة فهل عليه أن يعيد استفتاءه إذا نزلت به مرة أخرى أم‬
‫يعمل بالفتوى الولى؟ قولن للعلماء‪ ،‬منهم من قال بوجوب اعادة الستفتاء لحتمال تغير‬
‫اجتهاد المفتي‪ .‬ومنهم من قال بعدم وجوب اعادة الستفتاء لن المستفتي قد عرف حكم الحادثة‬
‫باستفتائه الول فل حاجة الى اعادته‪.‬‬
‫‪ -154‬والذي أميل إلى ترجيحه هو التفصيل‪ :‬فإن كان الذي افتاه أولً هو العلم الورع فل‬
‫حاجة في هذه الحالة إلى إعادة الستفتاء‪ ،‬وإن لم يكن كذلك ثم نزلت به الحادثة مرة أخرىة‬
‫ووجد العلم فعليه أن يستفتيه لن اجتهاده مظنة الصواب أكثر من غيره وقد وجده فعليه أن‬
‫يسأله‪ .‬أما إذا لم يجد العلم الورع فالولى له أن يعيد استفتاءه إذا أمكنه ذلك لن اجتهاد‬
‫المجتهد قد يتغير لظهور ما لم يكن ظاهرا له من الدلة‪ ،‬فإذا جاءت الفتوى الثانية كالولى‬
‫عمل بها وإن اختلف عليه الجواب كرر الستفتاء وأخذ بما تسكن إليه نفسه على النحو الذي‬
‫فصلناه من قبل‪.‬‬

‫كيفية الستفتاء أو صيغته‬


‫‪ -155‬والمستفتي حين يسأل عن حكم مسألة أو واقعة إنما يسأل عن حكم الشرع فيها‪ ،‬وبناء‬
‫على ذلك ينبغي أن تكون صيغة الستفتاء على النحو التي‪" :‬ما حكم الشرع السلمي في هذه‬
‫المسألة" أو يقول "ما حكم ال في هذه المسألة" أو نحو ذلك من الصيغ الدالة على هذا المعنى‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫الستفتاء بموجب مذهب معين‬
‫‪ -156‬وقد أثار كثير من العلماء السؤال التالي‪ :‬هل يجب على المستفتي أن يكون استفتاؤه‬
‫بموجب مذهب معين أم يجوز له الستفتاء وفق أي مذهب شاء؟ وقد أجابوا على هذا السؤال‬
‫بأن الجواب مبني على مسألة أخري‪ ،‬هي‪ :‬هل يجب على العامي أن يتقيد بمذهب معين يأخذ‬
‫بعزائمه ورخصه ويستغني بموجبه أم ل يجب عليه ذلك؟ وإذا انتسب إلى مذهب معين والتزم‬
‫به واستفتى بموجبه فما قيمة انتسابه والتزامه هذا في كيفية استفتائه؟‬
‫‪ -157‬وقد تعرض المام أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي لهذا السؤال وما ابتني عليه‪ ،‬فقال‬
‫ما خلصته‪ :‬إن العامي إما أن يكون منتسبا إلى مذهب معين وإما أن ل يكون‪ ،‬ولكل حالة‬
‫حكمها على النحو التالي‪:‬‬

‫الحالة الولى‪ :‬أن يكون منتسبا إلى مذهب معين‪ .‬وفي هذه الحالة قولن للعلماء‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬ان انتسابه لمذهب معين ل يجعله ملتزما به لن المذاهب إنما تكون لمن يعرف‬
‫الدلة‪ ،‬والعامي ل معرفة له بها‪ ،‬وعلى هذا له أن يستفتي من شاء من المفتين وعلى أي‬
‫مذهب يفتيه المفتي‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ان انتساب العامي إلى مذهب معين هو انتساب معتبر في حقه ملزم له لن اعتقد‬
‫أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بما اعتقده والتزم به‪ .‬ورتبوا على ذلك أن‬
‫عليه أن يستفتي من يفتيه بموجب مذهبه‪.‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬عدم انتساب العامي إلى مذهب معين‪ .‬وفي هذه الحالة قولن عند العلماء‪:‬‬
‫القول الول‪ :‬ل يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين وبالتالي ل يلزمه أن يستفتي بموجب مذهب‬
‫معين بل له أن يستفتي أي عالم‪ ،‬ويأخذ بفتواه على أي مذهب جاءت فتواه‪ ،‬ودليل هذا القول‬
‫ان السلف لم يلزموا العامي بتقليد عالم معين ولزوم استفتائه دون غيره‪ ،‬بل كانوا يبيحون له‬
‫استفتاء أي عالم شاء‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬يلزمه ان يتمذهب بمذهب معين فيأخذ بعزائمه ورخصه ويستفتي بموجبه‪ .‬واحتج‬
‫أصحاب هذا القول بأنه لو جاز للعامي اتباع أي مذهب شاء لدى ذلك إلى التقاط رخص‬
‫المذاهب اتباعا لهواه‪ ،‬وهذا مسلك من شأنه أن يؤدي الى النحلل عن التكاليف الشرعية‬
‫والتلعب بالحكام‪ ،‬ول خلص من هذه الفوضى ال بإلزام العامي بالنتساب إلى مذهب معين‬
‫والستفتاء بموجبه فقط‪ .‬وقالوا عن حجة أصحاب القول الول بأن المذاهب لم تكن قد مهدت‬
‫وحررت وعرفت في عهد السلف الصالح ومن ثم أباحوا عدم التقيد بمذهب معين‪ .‬ثم خلص‬
‫أصحاب هذا القول الى ضرورة النتساب الى مذهب معين يختاره بعد التحري والسؤال عن‬

‫‪106‬‬
‫المذهب الصلح ويمكن أن يعرف ذلك بالسؤال كما قلنا وبالشهرة وشيوع المذهب ونحو ذلك‪،‬‬
‫فاذا ما انتسب الى مذهب معين كان عليه أن يستفتي بموجبه ول يستفتي وفق غيره‪.‬‬

‫القول الراجح في المسألة‬


‫‪ -158‬والراجح في المسألة التفصيل بعد ذكر بعض المقدمات على النحو التالي‪:‬‬
‫أ‌) إنّ الواجب على كل مسلم أن يعرف حكم ال فيما يلزمه من أمور كما ورد في الكتاب‬
‫والسنة وبالستنباط الصحيح منها أو من المصادر التي أشارت اليها نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫ن المسلم – ما دام قادرا على الجتهاد – أن يعرف حكم ال تعالى عن طريق‬
‫ب‌) والصل أ ّ‬
‫البحث والنظر في معاني القرآن والسنة وفيما دلت عليه نصوصهما من أدلة الستنباط‪ ،‬وبهذا‬
‫تكون معرفته للحكام مبنية على الدليل والبرهان وهي المعرفة التي أمر بها الشرع الشريف‪.‬‬
‫ت‌) وللمسلم القادر على البحث والجتهاد أن يأخذ بمناهج المجتهدين في البحث والستنباط ما‬
‫دامت تلك المناهج سائغة وجائزة التباع بموجب الدليل والبرهان وإن تفاضلت فيما بينها‬
‫بالجودة والقرب من الصواب وبالولوية بالتباع‪.‬‬
‫ث‌) وإذا كان المسلم عاجزا عما تقدم‪ ،‬فعليه أن يستعين بأهل العلم ليدلوه على أحكام الشرع‬
‫ويقلدهم بما يقولون باعتبار أن ما يخبرونه به هو حكم الشرع‪ ،‬وال تعالى أمر من ل يعلم ان‬
‫يسأل من يعلم‪ ،‬وفائدة السؤال هو الخذ بجواب أهل العلم والعمل به وإل لم يكن للسؤال فائدة‬
‫ول معنى‪ ،‬وهذا ما ينزه عنه الشارع الحكيم‪.‬‬
‫ج‌) وللمسلم العاجز عن الجتهاد أن يستعين بكتب العلماء‪ ،‬الموثوقة والمشهود لصحابها‬
‫بالمامة بالدين مثل أصحاب المذاهب المعروفة فيتفقه بها ويتخرج عليها ويأخذ بما فيها‬
‫باعتبار أن ما فيها هي أحكام الشرع التي وصل اليها أصحابها وهم علماء فقهاء أهل لمعرفة‬
‫أحكام الشرع‪.‬‬
‫ح‌) وإذا تفقه المسلم بفقه هذه المذاهب وانتسب الى أحدها فقيل عنه‪ :‬إنه شافعي أو حنفي فإنّ‬
‫هذا النتساب يعني تفقهه بفقه هذا المذهب واتخاذه دليلً وهاديا له الى أحكام الشرع‪ ،‬فالمذهب‬
‫بحقه كاشف له عن أحكام الشرع‪ ،‬وليس مصادما للشرع‪ ،‬وعلى هذا الساس انتسب اليه‪.‬‬
‫خ‌) وعلى هذا فإذا تبين لهذا المنتسب أن مذهبه لم يوفق في الدللة الى الصواب في مسألة‬
‫معينة وأن الصواب فيها عند غير هذا المذهب وبالتالي اتبع غير مذهبه في هذه المسألة فهو‬
‫في هذا المسلك محسن غير مسيء‪ ،‬ولهذا نقل عن أصحاب المذاهب أن كل واحد منهم قال‪:‬‬
‫إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط‪ .‬لن الحديث هو القول الحق وفيه‬
‫حكم ال فليزم اتباعه‪ ،‬ويقاس على قولهم هذا كل قول صحيح ظهرت صحته بالدليل والبرهان‬
‫فيلزم اتباعه وهجر ما خالفه‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫د‌) وبناء على ما تقدم يجوز للمسلم أن ينتسب الى مذهب معين‪ ،‬فيدرسه ويتفقه به باعتباره‬
‫مظنة الصواب ويستفتي بموجبه‪ .‬كما يجوز للعامي أن ل ينتسب إلى مذهب معين وإنما يتعلم‬
‫ما يلزمه من أحكام الشرع بسؤال أهل العلم عنها ابتدا ًء أو عند نزول الحادثة به‪ .‬ولهذا العامي‬
‫غير المنتسب الى مذهب معين أن يستفتي دون تقيد بأي مذهب‪ ،‬فاذا استفتى بمذهب معين فإنّ‬
‫استفتاءه هذا يمكن توجيهه وتصحيحه باعتبار أن هذا العامي اعتقد أن هذا المذهب أولى من‬
‫غيره بالتباع‪ .‬وكما يجوز لغير المنتسب لمذهب أن يستفتي دون تقيد بمذهب فإنّ المنتسب هو‬
‫الخر له أن يستفتي دون تقيد بمذهب‪ ،‬وتوجيه ذلك أنه يريد معرفة حكم الشرع كما يدله عليه‬
‫هذا المفتي الذي هو أعلم منه ولذلك جاء يستفتيه‪.‬‬
‫ذ‌) والخلصة‪ ،‬فإنه في جميع الحوال يسع العامي الذي لم يصل الى رتبة الجتهاد أن يستفتي‬
‫دون تقيد بمذهب معين وإنما يسأل عن حكم الشرع سواء كان هذا العامي منتسبا الى مذهب‬
‫معين أو غير منتسب‪ ،‬وسواء تفقه على مذهب معين أو لم يتفقه‪ ،‬فيقول للمفتي‪ :‬ما حكم الشرع‬
‫في كذا وكذا‪ .‬وهذه صيغة صحيحة سليمة‪ ،‬أما السؤال بمذهب معين فغايته أنه سائغ وجائز‬
‫على التوجيه الذي بيناه‪.‬‬

‫مطالبة المستفتي بالدليل‬


‫‪ -159‬وهل للمستفتي أن يطالب مفتيه بدليل ما يفتيه به؟ قال بعضهم‪ :‬ليس له ذلك‪ ،‬وإنما له‬
‫أن يسأله عن الدليل في مجلس آخر‪ .‬ول نرى وجها لتعليق السؤال على مجلس آخر‪ .‬والذي‬
‫نرجحه أن للعامي أن يطلب من مفتيه الدليل‪ ،‬لن ما يفتيه به دين يدين ال تعالى به ويعمل به‬
‫فمن حقه أن يستوثق من ذلك‪ ،‬وأقل درجات الستيثاق أن يطلب منه الدليل‪ ،‬فإذا قال له‬
‫المفتي‪ :‬الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا‪ ،‬أو معناه كذا وكذا‪ ،‬سكن المستفتي‪،‬‬
‫واطمأن‪ ،‬لن المفروض في المفتي أنه عرف صحة الحديث ومعناه فأفتى بموجبه‪ ،‬أما إذا قال‬
‫له‪ :‬إن الدليل هو رأيي أو محض اجتهادي فللمستفتي في هذه الحالة أن يستفتي غيره إذا لم‬
‫يطمئن إلى جواب المفتي كما قلنا من قبل كما أن للمستفتي أن يقبل جواب المفتي ول يسأل‬
‫غيره باعتبار أن المفتي من أهل العلم والفتيا وأن اجتهاده سائغ ومظنة الصواب‪ .‬ومع هذا كله‬
‫يسوغ للمستفتي أن ل يطالب مفتيه بالدليل اكتفاء منه بظاهر حال المفتي وأنه ل يفتي ال بعلم‬
‫ودليل‪.‬‬

‫ادب المستفتي‬
‫‪ -160‬قال العلماء يجب على المستفتي أن يكون مؤدبا في استفتائه‪ ،‬وعددوا بعض مظاهر‬
‫أدبه معه‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫والواقع ان آداب الكلم في السلم‪ ،‬وآداب التلميذ نحو استاذه‪ ،‬وآداب المسلم نحو أهل العلم‪،‬‬
‫كلها لزمة في حق المستفتي‪ ،‬فهو مسلم فعليه أن يلتزم بآداب السلم في الكلم والخطاب‪،‬‬
‫وهو بمنزلة التلميذ نحو استاذه فعليه أن يلتزم بآداب السلم في هذا المجال‪ ،‬وهو يسأل أهل‬
‫العلم فعليه أن يلتزم بآداب السلم نحو العلماء‪ .‬وعلى هذا يجب عليه أن يظهر تواضعه نحو‬
‫المفتي واحترامه له فل يعلي صوته عليه‪ ،‬ول يومئ بيده في وجهه‪ ،‬ول يكلمه بلهجة جافة‬
‫قاسية‪ ،‬وأن يستأذنه بالسؤال والجلوس ويتخير الوقت المناسب والمكان المناسب لسؤاله‪ ،‬فل‬
‫يستفتيه وهو مشغول بغيره ول أن يطرق عليه بابه في وقت القيلولة أو النوم ليل الى غير‬
‫ذلك من مظاهر الحترام والتوقير وآداب السؤال‪ .‬ول شك أن هذه المظاهر والداب تتأثر‬
‫بالعرف والعادات فيجب مراعاتها ما دامت هذه العادات والعراف ل تصادم معاني الشريعة‬
‫السلمية‪.‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬المفتي‬


‫شروط المفتي‬
‫‪ -161‬المفتي من يقوم بالفتاء‪ ،‬والفتاء اخبار عن حكم ال‪ ،‬فل بد أن يكون أهلً لذلك‪ ،‬وهذه‬
‫الهلية تكون بشروط‪ ،‬ومن هذه الشروط أن يكون مسلما بالغا عاقلً فقيها مجتهدا‪ ،‬عدل‪.‬‬
‫وليس من الشروط المطلوبة الذكورة ول الحرية ول النطق فتصح فتوى المرأة والعبد‬
‫والخرس‪ .‬وهذا الجمال في الشروط ل يغني عن شيء من التفصيل في بعضها على القل‪.‬‬

‫الشرط الول‪ :‬السلم‬


‫‪ -162‬وهذا الشرط في الحقيقة مفهوم‪ ،‬لن المفتي يخبر عن حكم ال ويبلغ شرع ال ويطبق‬
‫أحكامه على الوقائع والحداث فل بد أن يكون مؤمنا بال وبرسوله محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫وبشرع ال الذي بلغه رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإن السلم وما به يصير الشخص مسلما‪ ،‬وما به يفقد المسلم اسلمه فيصير مرتدا‪ ،‬كل‬
‫ذلك مبين في كتب العقائد وليس هو موضوع بحثنا‪ ،‬ويكفينا هنا أن نقول‪ :‬أن العنوان الظاهر‬
‫للمسلم أن يتلفظ بالشهادتين معتقدا بهما فيقول‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال وأشهد أن محمدا رسول‬
‫ال‪ ،‬وأن يظهر ما تقتضيه هذه الشهادة من أقوال وأفعال فيؤدي العبادات الظاهرة كالصلة‬
‫والصيام ويؤدي الزكاة ان كان ذا مال وبلغ النصاب وأن يحج البيت ان استطاع إليه سبيل‪.‬‬
‫وعليه أن ينطوي قلبه على النقياد التام والستسلم ل رب العالمين‪ ،‬فل يكون في قلبه‬
‫معارضة ول كراهية ول مزاحمة لما جاء به الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم ل في خبر‬
‫ول في أمر ول في نهي‪ .‬وعلى المسلم أيضا أن ل يأتي ما يناقض حقيقة السلم وما تلفظ به‬

‫‪109‬‬
‫من الشهادتين ل في العتقادات ول في القوال ول في الفعال وال وقع العصيان والبتداع‬
‫وقد يؤدي به ذلك الى الرتداد عن السلم فيصير مرتدا والمرتد ل يصلح للفتاء‪ .‬أما‬
‫البتداع والعصيان إذا لم يصل إلى درجة الردة فإنهما قادحان في الهلية للفتاء وقد يصلن‬
‫الى درجة سلب هذه الهلية عن صاحبها‪.‬‬

‫الشرط الثاني‪ :‬البلوغ والعقل‬


‫‪ -163‬ل بد أن يكون المفتي ذا عقل يعقل به أحكام الشرع ويفهمها ويعرفها‪ ،‬وأقل درجات‬
‫العقل المعتبرة يكون بالبلوغ ولهذا كان شرط التكليف أن يكون المسلم بالغا عاقلً‪ ،‬فل يكفي‬
‫البلوغ وحده مع عدم العقل ول يكفي العقل وحده بدون بلوغ‪ ،‬لن البلوغ مظنة نضج العقل‬
‫ولذلك علق به التكليف والتكليف إنما يقوم على القابلية على فهم الخطاب الشرعي واحكام‬
‫الشريعة والفتاء يحتاج إلى قدر أكبر من الفهم فيستلزم العقل من باب أولى‪ ،‬ولهذا ما علمنا‬
‫أن أحدا أفتى أو تصدى للفتاء وهو دون البلوغ‪ .‬ول ينتقض قولنا بصحة تحمل الحديث‬
‫الشريف قبل سن البلوغ بل وصحة روايته أيضا عند بعض العلماء‪ ،‬لن تحمل الحديث يقوم‬
‫على القدرة على حفظ المسموع وضبطه‪ ،‬وروايته مبنية على القدرة على الداء كما سمع‬
‫وحفظ‪ .‬وهذه القدرة يتصور وجودها فيمن هو دون سن البلوغ‪ ،‬أما الفتاء فيقوم على إدراك‬
‫معاني الشريعة وفهم أحكامها وهذا ل يتأتى عادة لمن هو دون سن البلوغ‪.‬‬

‫الشرط الثالث‪ :‬العدالة‬


‫‪ -164‬ويشترط في المفتي أن يكون عدلً‪ .‬والعدالة هيئة يكون عليها المسلم من مقتضياتها‬
‫ولوازمها فعل المطلوب شرعا وترك المنهي عنه شرعا‪ ،‬وهجر ما يخرم المروءة ويوقع في‬
‫التهم والشكوك‪ ،‬وان تكون أخلق صاحبها وسلوكه على النحو اللئق بعلماء السلم‪ .‬ول‬
‫يعني ما قلناه اشتراط العصمة من الذنوب حتى تتحقق العدالة ويصير المسلم عدلً‪ ،‬وإنما‬
‫المقصود أن تكون أحوال المسلم العدل ظاهرة الحسن والطاعة للشرع فل يفعل كبيرة إل على‬
‫وجه الندرة أو الخطأ أو غلبة الطبع‪ ،‬ول يصر على صغيرة‪ ،‬فهو يجتهد ليكون سلوكه كله‬
‫وفق مقتضيات العدالة وإن انحرف عنها في بعض الحوال والوقات‪ .‬وبالجهة فإن العدل هو‬
‫من تكون أحواله الحسنة هي الغالبة فيه ول يصدر عنه ما يعتبر قادحا في عدالته إل على‬
‫وجه الندرة أو الغفلة مع الخلوص من الصرار على المعصية‪.‬‬
‫هذا وإن ما يناقض العدالة ليس على درجة واحدة من القبح وشدة المناقضة‪ ،‬ولهذا كان بعضها‬
‫مسقطا للعدالة دون بعض فالمسقط منها مثل القول على ال ورسوله بغير علم إما عن طريق‬
‫البتداع في الدين أو بالتأويلت الفاسدة الظاهرة الفساد والبطلن‪ ،‬ومثل مجاراة الظلمة‬

‫‪110‬‬
‫والفتاء لهم بما يشتهون‪ ،‬وأخذ الرشوة ونحو ذلك‪ .‬وغير المسقط للعدالة مثل ارتكاب الصغيرة‬
‫من المعاصي وعدم الصرار عليها‪.‬‬

‫الشرط الرابع‪ :‬الجتهاد‬


‫‪ -165‬ويشترط في المفتي كما ذكر العلماء‪ :‬أن يكون فقيها مجتهدا‪ ،‬والمجتهد هو من قامت‬
‫فيه أهلية معرفة الحكام الشرعية التفصيلية من أدلتها المعتبرة عن طريق البحث والستنباط‬
‫مع احاطته بالمور الضرورية للجتهاد‪ .‬ول يشترط لثبوت هذه الهلية كثرة الجتهاد‬
‫واستخراج الحكام‪ ،‬بل يكفي وجودها ول يشترط كثرة عملها وفعاليتها لن المنظور إليه‬
‫وجود هذه الهلية بوجود مقوماتها التي ذكرناها وهي القدرة على البحث واستخراج الحكام‬
‫ومعرفتها عن طريق الستدلل من مصادرها المعتبرة‪ .‬ان مثل صاحب هذه الهلية مثل‬
‫الشاعر الذي قامت فيه ملكة نظم الشعر وأهليته‪ ،‬فهو شاعر سواء أكثر من نظم الشعر أو لم‬
‫يكثر‪.‬‬

‫أقسام المجتهدين‬
‫‪ -166‬هذا وإن العلماء‪ ،‬وهم يتكلمون عن الجتهاد كشرط في المفتي قسموا المجتهدين إلى‬
‫أقسام وبينوا من يصلح من هذه القسام للفتاء‪ ،‬فقالوا قد يكون المجتهد مجتهدا مطلقا‪ ،‬أو‬
‫مجتهدا في مذهب معين‪ ،‬أو مجتهدا في نوع من العلم‪ ،‬أو مجتهدا في مسألة أو مسائل معينة‪.‬‬
‫فل بد من التعريف بهؤلء وبيان من يصلح منهم للفتاء ومن ل يصلح‪.‬‬

‫أولً‪ :‬المجتهد المطلق‬


‫‪ -167‬وقالوا في تعريفه‪ :‬انه "من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له‬
‫أهلية تامة يمكنه بها معرفة أحكام الشرع بالدليل وسائر الوقائع إذا شاء‪ ،‬فإن كثرت اصابته‬
‫صلح – مع بقية الشروط – أن يفتي ويقضي وإل فل" وقالوا ان الجتهاد المطلق ل بد‬
‫لتحصيله من توافر المعرفة الجيدة بالكتاب والسنة وما ورد فيهما مما يتعلق بالحكام‪ ،‬وأن‬
‫يعرف المر والنهي‪ ،‬والمجمل والمبين‪ ،‬والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ والعام والخاص‬
‫والمطلق والمقيد والمستثنى والمستثنى منه‪ ،‬وتوافر المعرفة الجيدة بالسنة النبوية الشريفة‬
‫بحيث يستطيع المجتهد التمييز بين صحيح السنة وسقيمها ومراتب ما روي منها وطرق‬
‫الحتجاج بها وغير ذلك مما هو ضروري ولزم لمعرفة الحكم الشرعي من القرآن الكريم‬
‫والسنة المطهرة‪ .‬وقالوا أيضا‪ :‬ل بد للمجتهد المطلق أن يعرف ما أجمع عليه الفقهاء وما‬

‫‪111‬‬
‫اختلفوا فيه وأن يعرف القياس وشروطه وأن يكون على قدر كافٍ من المعرفة باللغة العربية‬
‫وأساليبها ونحوها وصرفها‪.‬‬
‫ول خلف بين العلماء في أن المجتهد المطلق أهل للفتاء وأنه يصلح أن يكون مفتيا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المجتهد في مذهب معين‬


‫‪ -168‬ولهذا المجتهد أربعة أحوال‪ ،‬ولكل حالة حكمها‪ ،‬كما قال العلماء‪.‬‬
‫الحالة الولى‪ :‬أن يتبع إمام مذهبه في مناهج البحث والستدلل والستنباط ولكن ل يقلده فيما‬
‫وصل إليه هذا المام باجتهاده من أحكام تفصيلية‪ .‬ولمثل هذا المجتهد الحق في أن يكون مفتيا‪.‬‬
‫ومن هذا النوع المام أبو يوسف والمام محمد صاحبا أبي حنيفة رحمهم ال تعالى جميعا‪،‬‬
‫والقاضي أبو يعلى الحنبلي في المذهب الحنبلي والمزني وابن سريج في المذهب الشافعي‪.‬‬
‫الحالة الثانية‪ :‬أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلً بتقريره بالدليل ولكن ل يخرج على‬
‫أصول إمامه وقواعده مع قدرته على الخريج والستنباط وإلحاق الفروع بالصول التي قررها‬
‫إمامه‪ .‬ولصاحب هذه الحالة الهلية لن يكون مفتيا‪ ،‬ويعتبر مستفتيه مقلدا لمامه وليس مقلدا‬
‫له لعدم استقلل هذا المجتهد المفتي بتصحيح نسبة ما يقوله إلى الشرع الشريف رأسا بل‬
‫واسطة إمامه‪ .‬ولكن قد يكون لهذا المجتهد نوع من الستقلل بالفتوى كما في افتائه في مسألة‬
‫ل يجد لها حكما منقولً عن إمامه فيفتي عن طريق التخريج على مذهب إمامه والتفريع على‬
‫أقواله في المسائل المشابهة لهذه المسألة التي يفتي فيها‪ .‬ولكن هل ينسب ما يقوله هذا المجتهد‬
‫في فتواه إلى إمامه فيكون من مذهب هذا المام‪ ،‬أم أنه ينسب إلى المجتهد نفسه‪ ،‬ويعتبر من‬
‫قوله واجتهاده؟ فيه خلف‪ ،‬والظاهر أنه تصح السنبة إلى الثنين ولكن باعتبارين فينسب القول‬
‫إلى إمام مذهبه باعتباره مخرجا على أصول هذا المام‪ ،‬وعلى هذا يكون المستفتي مقلدا لهذا‬
‫المام‪ .‬كما يمكن نسبة ما يقوله هذا المفتي إلى نفسه باعتبار أنه هو الذي قام بالفتاء وإن كان‬
‫عن طريق التخريج على أصول إمامه‪ .‬وعلى هذا يكون المستفتي مقلدا لهذا المجتهد فيما يفتيه‬
‫به غير مقلد لمامه‪.‬‬
‫الحالة الثالثة‪ :‬أن ل يصل المجتهد إلى مرتبة أصحاب الحالة الثانية وإنما يقف عند رتبة‬
‫أصحاب الوجوه والتخريج في المذهب مع حفظه لفقه مذهب إمامه ومعرفته بأدلته وقدرته‬
‫على تقرير أقواله ونصرتها والستدلل لها‪ ،‬كما أنه قادر على الترجيح بين أقوال إمامه‬
‫المذكورة في المذهب‪.‬‬
‫ولصاحب هذه الحالة الحق في الفتاء وأن يصير مفتيا‪ ،‬وتكون فتواه مقبولة وإن لم تبلغ فتوى‬
‫أصحاب الحالة الثانية‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫الحالة الرابعة‪ :‬أن يكون قادرا على فهم فقه مذهبه مع حفظ لهذا الفقه أو لكثره‪ ،‬ويفهم‬
‫ضوابطه وتخريجات أصحابه ويستطيع الرجوع إلى مصادر هذا المذهب‪.‬‬
‫ولصاحب هذه الحالة أن يفتي وأن يصير مفتيا ولكن في المسائل التي بيّن أحكامها أصحاب‬
‫المذهب والمجتهدون فيه‪ ،‬وكذلك له الفتاء فيما يندرج تحت ضابط مفهوم وواضح من‬
‫ضوابط المذهب‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬المجتهد في نوع من العلم‬


‫‪ -169‬وقد مثلوا لهذا النوع بقولهم‪ :‬من عرف القياس وشروطه أن يفتي في مسائل القياس‪.‬‬
‫وكذلك من عرف الفرائض والمواريث وأصولها وقواعدها أن يفتي فيها‪.‬‬
‫ويبدو لي أن مثل هذا المجتهد ل يصلح أن يعين مفتيا لن المفتي ل يفتي فقط في هذا النوع‬
‫من العلم الذي علمه‪ ،‬ولكن له أن يفتي فيما علمه دون أن يعين مفتيا‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬المجتهد في مسألة أو مسائل معينة‬


‫‪ -170‬وهو من كان مجتهدا في مسألة معينة أو مسائل معينة من الفقه فله أن يفتي فيها دون‬
‫غيرها‪ .‬ويبدو لي أن مثل هذا ل يصلح أن يعين مفتيا وإن جاز له الفتاء في المسائل التي‬
‫علمها واجتهد فيها‪.‬‬

‫الخلصة والترجيح‬
‫‪ -171‬والخلصة أن مدار الهلية للفتاء هو العلم المقبول بما يفتي به وهو المبني على‬
‫البحث ومعرفة الدليل والجتهاد فيه‪ ،‬فكل من حصل على مثل هذا العلم في مسألة من المسائل‬
‫كان له أن يفتي فيها‪ ،‬وهذا متوجه على القول بتجزئ الجتهاد وهو ما نرجحه‪ .‬وكل من جهل‬
‫حكم مسألة فليس له أن يفتي فيها وإن كانت عنده أهلية الفتاء من حيث الجهة‪ .‬هذا من جهة‬
‫الصلحية للفتاء في مسألة معينة‪ ،‬أما من جهة صلحية التعيين في منصب الفتاء أي في أن‬
‫يعين مفتيا‪ ،‬فهذا المنصب يحتاج إلى أهلية الجتهاد على النحو الذي ذكره العلماء‪ ،‬ول تلزم‬
‫بين الهليتين بالنسبة للفتاء في مسألة معينة‪ ،‬فقد يكون الشخص مجتهدا الجتهاد الذي يؤهله‬
‫للتعيين في منصب المفتي ويعين فعلً في هذا المنصب ولكن ل يكون أهلً للفتاء في مسألة‬
‫معينة لجهله بحكمها أو لعدم وصوله إلى معرفة حكمها‪ .‬وقد يكون الشخص أهلً للفتاء في‬
‫مسألة معينة أو مسائل معينة ولكن ليس أهلً لن يعين مفتيا للناس‪.‬‬

‫شروط أخرى‬

‫‪113‬‬
‫‪ -172‬وقد اشترط العلماء شروطا أخرى في المفتي ليتمكن من اداء وظيفته على نحو جيد‬
‫وسليم‪ .‬فقالوا‪ :‬يشترط فيه أن يكون على قدر كاف من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس‬
‫ومكرهم وخداعهم حتى ل يقع في هذا الخداع وذلك المكر‪ ،‬وأن يكون صلبا في دينه ل تأخذه‬
‫في الحق لومة لئم‪ ،‬وان ل يتأثر بوعد أو وعيد‪ ،‬وأن يكون على قدر كبير من الورع والزهد‬
‫ومخافة ال تعالى‪.‬‬
‫ول شك أن هذه الشروط ضرورية للمفتي ول يسد مسدها أو يقوم مقامها مجرد علمه وعدالته‬
‫الظاهرة‪ .‬ولكن هذه الصفات ل يمكن معرفتها على وجه جيد إل بالعمل وممارسة الفتاء فعلً‪،‬‬
‫ولهذا يصعب جدا معرفتها ابتداء إذا أريد تعيين شخص ما في منصب الفتاء‪ ،‬وعلى هذا يجب‬
‫على ولي المر عند ارادته اختيار شخص ليعينه مفتيا أن يتحرى عن سلوكه وأحواله‪،‬‬
‫والسؤال عنه ممن يعرفه‪ ،‬ويثق بأخباره قبل القدام على تعيينه‪.‬‬

‫وجوب وجود المفتي‬


‫‪ -173‬وجود المفتي الكفء المستجمع لشروط الفتاء من فروض الكفاية‪ ،‬فيجب أن يوجد في‬
‫كل قرية او بلدة مفت يقوم بافتاء الناس فيما يسألون عنه من أمور الدين أو يعلمهم بها ابتداء‬
‫دون أن يسألوه‪ .‬وقد قال بعض العلماء‪ :‬يجب تعدد المفتين بحيث يكون في كل مسافة قصر –‬
‫أي المسافة التي تقصر فيها الصلة – مفت واحد‪ .‬ولهمية وجود المفتي في البلد قال العلماء‪:‬‬
‫إذا لم يوجد مفت في مكان ما حرم السكن فيه ووجب الرحيل منه الى حيث يوجد من يفتيه في‬
‫أحكام الدين وما ينزل به من نوازل‪.‬‬

‫العمل على ايجاد المفتين‬


‫‪ -174‬وإذا كان وجود المفتي من فروض الكفاية فيجب العمل على إيجاده باتخاذ الوسائل‬
‫الضرورية لذلك‪ ،‬ولهذا قال المام ابن حزم "فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة‬
‫أو حصن أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها ويتعلم القرآن كله وما‬
‫صح عن النبي صلى ال عليه وسلم من أحاديث الحكام‪ ...‬الخ ثم يقوم بتعليمهم فان لم يجدوا‬
‫في محلتهم من يفققههم في ذلك كله ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المجتهدين‬
‫في صنوف العلم وأن بعدت ديارهم وأن كانوا بالصين"‪ ..‬فالجماعة اذن تهيئ من يتعلم أحكام‬
‫الدين ويتفقه فيه ثم يقوم بتعليم الجاهلين ابتداء أو يفتيهم عما يسألون‪.‬‬
‫‪ -175‬وحيث إن ولي المر يمثل جماعة المسلمين وينظر في مصالحهم فعليه أن يقوم بواجب‬
‫إيجاد المفتين الكفاء بتهيئة الوسائل الضرورية اللزمة لذلك مثل تأسيس المدارس لتعليم الفقه‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫واختيار الطلبة‪ ،‬وتخصيص المال اللزم لهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي ثم يعينهم في‬
‫مناصب الفتاء ويجعل لهم رواتب كافية تغنيهم عن الكسب وتعينهم على التفرغ للفتاء‪.‬‬

‫منع المفتي الماجن والمفتي الجاهل‬


‫‪ -176‬ولولي المر أن يمنع المفتي الماجن والمفتي الجاهل من الفتاء سواء كان هذا المفتي‬
‫قد عينه ولي المر أو أنه يقوم بالفتاء بل تعيين‪ ،‬فان كان قد عينه فله أن يعزله عن منصبه‬
‫ويولي غيره من الكفاء‪ ،‬وإن كان يفتي الناس بل تعيين من ولي المر منعه من الفتاء‬
‫وتوعده إذا عاد‪ .‬والمفتي الماجن هو الذي يفتي الناس بما يشتهون فيحل لهم الحرام ويحرم‬
‫عليهم الحلل بالشبه الباطلة والتأويلت الفاسدة إرضاء لهم واتباعا لهوائهم‪ .‬أما المفتي‬
‫الجاهل فهو الذي يجهل أحكام السلم فيفتي بغير علم‪ .‬وكلهما – الماجن والجاهل – ل‬
‫يصلح لمنصب الفتاء‪ ،‬ومن ل يصلح للفتاء يجب منعه منه‪ ،‬قال الفقيه ابن نجيم الحنفي‪:‬‬
‫"ينبغي للمام أن يسأل أهل العلم المشهورين في عصره عمن يصلح للفتوى ليمنع من ل‬
‫يصلح ويتوعده بالعقوبة إذا عاد" وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬ينبغي للمام أن يتصفح أحوال‬
‫المفتين‪ ،‬فمن صلح للفتيا أقره ومن ل يصلح منعه ونهاه أن يعود وهدده بالعقوبة إذا عاد‪ .‬وهذا‬
‫الكلم ينطبق على المفتين الذين يباشرون الفتاء بل تعيين من ولي المر‪ ،‬ولكن إذا كان لولي‬
‫المر منع هؤلء لعدم صلحهم‪ ،‬فله من باب أولى أن يعزل المفتي الذي عينه إذا ظهر انه‬
‫غير كفءٍ للفتاء لمجونه أو جهله‪.‬‬

‫كفاية المفتي من بيت المال‬


‫‪ -177‬ويحل للمفتي أن يأخذ من بيت المال ما يكفيه لنه يقوم بالفتاء وهو من المصالح‬
‫العامة كالذان‪ .‬ولهذا يجوز لولي المر أن يخصص مرتبا شهريا للمفتي من بيت المال بالقدر‬
‫الذي يكفيه ويغنيه عن الكسب‪.‬‬

‫ضمان المفتي‬
‫‪ -178‬إذا أفتى المفتي مستفتيه بفتوى معينة فعمل بها وأدى عمله الى إتلف نفس أو مال‪،‬‬
‫وحكم على المستفتي بالضمان فهل يرجع على مفتيه بما ضمن أم ل؟ ينظر‪ :‬فإن كانت فتوى‬
‫المفتي باطلة قطعا لمخالفتها للنص القاطع أوالجماع الظاهر كان للمستفتي أن يرجع بما‬
‫ضمن على المفتي لنه هو المتسبب في ذلك‪ .‬وإن كانت فتوى المفتي سائغة‪ ،‬لم يضمن المفتي‬
‫شيئا‪ ،‬ول يكون للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن‪ .‬أما إذا كان المفتي غير أهل للفتاء فإنه‬
‫يضمن مطلقا لنه غرّ من استفتاه ومعنى ذلك أن للمستفتي أن يرجع عليه بما ضمن‪ .‬وقيل‪ :‬ل‬

‫‪115‬‬
‫يضمن ول يكون للمستفتي حق الرجوع عليه‪ ،‬لن المستفتي هو المقصر‪ ،‬إذ سأل من ل‬
‫يصلح للفتاء‪.‬‬

‫واجبات المفتي وآدابه‬


‫‪ -179‬على المفتي أن يعلم أن ما يقوله ويفتي به دين محاسب عليه أمام ال تعالى‪ ،‬ولهذا‬
‫يجب عليه أن يطيل النظر والفكر ول يسرع في الجابة‪ ،‬وإذا لم يعرف الجواب فليقل ل‬
‫أدري فإن نصف العلم ل أدري‪ ،‬وقد كان المام مالك يسأل عن مسائل فيقول عن بعضها أو‬
‫أكثرها ل أدري‪ ،‬فقد روى الهيثم بن جميل قال‪ :‬شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة‪،‬‬
‫فقال في ثنتين وثلثين منها‪ :‬ل أدري‪ .‬وعن عبد ال ابن مسعود وابن عباس رضي ال‬
‫عنهما‪ :‬من أفتى عن كل ما يسأل عنه فهو مجنون‪.‬‬
‫‪ -180‬هذا وينبغي للمفتي أن يلحظ عرف البلد وعاداته ليعرف مقصود المستفتي وإذا لم يفهم‬
‫السؤال استفهم من السائل عن مراده وإذا جهل لغته كفاه ترجمة واحد ثقة‪ .‬كما ينبغي للمفتي‬
‫أن يشاور الفقهاء الحاضرين في موضوع الستفتاء إذا رأى حاجة لذلك‪ ،‬وأن يتحرز من الميل‬
‫في إفتائه إلى المستفتي أو إلى خصمه فيبين في فتواه ما لحدهما من حق دون أن يبين ما‬
‫عليه من واجب‪.‬‬
‫‪ -181‬وعلى المفتي‪ ،‬كما قال العلماء‪ ،‬أن يقدم رقاع الفتوى حسب تسلسل تقديمها فيجيب على‬
‫استفتاء السبق ثم الذي يليه وهكذا ولكن يجوز تقديم استفتاء المسافر والمرأة إذا كان تأخير‬
‫الجواب يضر بهما‪.‬‬
‫‪ -182‬وعلى المفتي أن يبتعد عن مظان التهم والريب ليكون قوله مقبولً عند المستفتي‬
‫وغيره‪ ،‬وان ل يقبل هدية ممن يستفتيه لئل يجره ذلك الى التساهل معه في الفتيا دون أن‬
‫يشعر‪.‬‬
‫‪ -183‬وعلى المفتي أن يكون لينا متواضعا ل فظا غليظا وأن يقبل على المستفتي بلطف‬
‫وبشاشة واذا رآه بطيء الفهم فليترفق به حتى يفهمه الجواب‪ .‬واخيرا فإن المفتي من حملة‬
‫العلم فيجب أن يكون له حلم ووقار وسكينة وسمت على النحو اللئق بالعلماء‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪ -‬الفتاء‬


‫تعريفه‬
‫‪ -184‬الفتاء هو قيام المفتي بجواب المستفتي‪ ،‬وهو في حقيقته تبليغ عن ال تعالى واخبار‬
‫عما شرعه لعباده من أحكام‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫أول من قام به‬
‫‪ -185‬وأول من قام به سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم فكان إفتاؤه عليه الصلة والسلم‬
‫متضمنا جوامع الكلم ومشتملً على فصل الخطاب‪.‬‬

‫الفتاء بعد النبي صلى ال عليه وسلم‬


‫‪ -186‬ثم قام بالفتاء بعد النبي صلى ال عليه وسلم صحابته الكرام‪ ،‬وكان منهم المكثر في‬
‫افتائه والمتوسط والمقل‪ .‬والذين حفظت عنهم الفتوى مائة ونيف وثلثون نفسا ما بين رجل‬
‫وامرأة‪ .‬والمكثرون منهم في الفتاء‪ :‬سبعة عمر بن والخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدال بن‬
‫مسعود‪ ،‬وعائشة أم المؤمنين‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وعبدال بن عباس‪ ،‬وعبدال بن عمر رضي ال‬
‫عنهم أجمعين‪.‬‬

‫من له حق الفتاء‬
‫ل لن يكون مفتيا كان أهلً لن يفتي‪ ،‬سواء عين مفتيا أو لم‬
‫‪ -187‬أولً‪ :‬كل من كان أه ً‬
‫يعين‪ ،‬وقد بينا من قبل شروط المفتي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬من كان مجتهدا في نوع من العلم أو في مسألة من مسائل الفقه كان له أن يفتي في هذه‬
‫المسألة أو ذلك النوع من العلم‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مقلدة المذاهب‪ .‬فمن قلد مذهبا وحفظه وعرف ما قاله أصحابه فله أن يفتي بما قالوه على‬
‫أن يقول في جوابه ما يدل على أنه قول أو رأي هذا المذهب فيقول مثلً‪ :‬مذهب أبي حنيفة في‬
‫هذه المسألة كذا وكذا‪ .‬وإذا ترقى في المعرفة بأصول المذهب وقواعده وسئل عن مسألة‬
‫ل في هذه‬
‫تندرج تحت قاعدة من هذه القواعد فعليه أن يقول‪ :‬مقتضى مذهب أبي حنيفة مث ً‬
‫المسألة كذا وكذا‪.‬‬

‫العامي إذا عرف حكم المسألة‬


‫‪ -188‬وإذا عرف العامي حكم مسألة من المسائل ودليلها‪ ،‬فهل له أن يفتي من سأله عنها؟ قال‬
‫بعضهم‪ :‬يجوز له ذلك‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬يجوز إذا كان دليل المسألة نصا من كتاب ال أو سنة‬
‫نبيه‪ .‬وقال بعض آخر‪ :‬ل يجوز للعامي أن يفتي مطلقا ولو في مسألة عرف حكمها ودليلها إذ‬
‫قد يكون لهذا الدليل معارض يجهله هو‪.‬‬
‫ولكن لو أفتاه عالم بحكم مسألة ثم سئل عنها فله أن يخبر بحكمها عمن أخبره لن الفتاء إنما‬
‫يكون باجتهاد من نفسه ل بالحكاية عن غيره‪ .‬هذا ما قالوه‪ ،‬والظاهر لي أن العامي إذا عرف‬

‫‪117‬‬
‫حكم مسألة بطريق من طرق المعرفة المعتبرة شرعا‪ ،‬فلهذا العامي أن يفتي غيره بها وإن كان‬
‫الحوط أن ينقل له نص فتوى من أفتاه بها‪.‬‬

‫هل يفتي العامي بما يجده في كتب الحديث‬


‫‪ -189‬ومن لم يكن مجتهدا وكان عنده كتب الحديث وشروحه وأقوال الصحابة‪ ،‬فهل له أن‬
‫يفتي بما يجده في هذه الكتب أم ل؟ قال عبدال‪ :‬سألت أبي – أي المام أحمد بن حنبل رحمه‬
‫ال تعالى – عن الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫واختلف الصحابة والتابعين وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك ول بالسناد‬
‫القوي من الضعيف فهل يجوز له أن يعمل بما شاء ويتخير ما أحب مما يجده في هذه الكتب‬
‫فيفتي ويعمل به؟ قال – أي المام أحمد بن حنبل – ل يعمل حتى يسأل أهل العلم عما يأخذ به‬
‫منها حتى يكون عمله على وجه صحيح‪.‬‬

‫هل يشترط إذن المام للقيام بالفتاء‬


‫ل للفتاء وعين مفتيا فل خلف في جواز الفتاء له بل ووجوبه عليه لنه‬
‫‪ -190‬من كان أه ً‬
‫ما عين إل لذلك‪ .‬أما من كان أهلً للفتاء ولم يعين مفتيا‪ ،‬فله أن يفتي دون حاجة لذن مسبق‬
‫من ولي المر‪ ،‬لن الفتاء إخبار عن شرع ال وتبليغ لحكامه‪ ،‬فهو إذن من الواجبات الدينية‬
‫بالنسبة للقادرين عليه ول يشترط للقيام بالواجب الديني أخذ الذن من ولي المر‪ ،‬وان كان‬
‫لولي المر حق مراقبة القائمين بالفتاء ولكن حقه هذا في المراقبة ل ينسحب الى وجوب أخذ‬
‫الذن المسبق منه للقيام بالفتاء‪ ،‬وما علمنا أحدا كان يأخذ الذن من المام أو من ولي المر‬
‫ن الفتاء مقصور على من يعينهم‬
‫قبل أن يفتي الناس‪ ،‬كما لم نعلم أن أحدا من أهل العلم قال‪ :‬إ ّ‬
‫ولي المر مفتين‪.‬‬

‫التصدي للفتاء‬
‫‪ -191‬وإذا كان اذن المام أو ولي المر ليس شرطا لثبوت حق الفتاء للمسلم كما قلنا‪ ،‬إل‬
‫أنه يجب على من يتصدى للفتاء أن يتأكد من أهليته له ول يتسرع في الوثوق من أهليته‬
‫وكفاءته‪ ،‬ومن سبل التأكد من أهليته شهادة أهل العلم له بالهلية بالضافة الى ما يعرفه من‬
‫نفسه‪ ،‬قال المام مالك‪ :‬ل ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلً لذلك ويرى هو نفسه‬
‫ل لذلك" محمول على شهادة العلماء له‬
‫أهلً لذلك‪ .‬وقول المام مالك‪" :‬حتى يراه الناس أه ً‬
‫بالهلية وشيوع شهادتهم له في الناس‪.‬‬

‫خلوص النية والقصد عند الفتاء‬

‫‪118‬‬
‫‪ -192‬فإذا وثق المسلم من أهليته للفتاء بشهادة أهل العلم له وبما يعرفه من نفسه فعليه أن‬
‫يفحص نيته جيدا حتى تكون خالصة ل بحيث ل يقصد من تصديه للفتاء والقيام به إل تبليغ‬
‫شرع ال وتعليم الناس ما أنزل ال ابتغاء مرضاة ال‪ ،‬فهو ل يريد بافتائه مباهاة العلماء‬
‫وحصول المنزلة عند الناس‪ ،‬وبهذا القصد الحسن والنية الخالصة يبارك ال في مسعاه ويعلمه‬
‫ما لم يعلم ويثيبه على افتائه‪.‬‬

‫على من يجب الفتاء‬


‫‪ -193‬وقد يصير الفتاء واجبا على من هو أهل له في حالتين‪:‬‬
‫الحالة الولى‪ :‬الفتاء واجب في حق من عينه ولي المر مفتيا ورضي بهذا التعيين‪ .‬ولكن‬
‫يجب أن يعرف بأن هذا الوجوب ل يعني وجوب الفتاء عليه في كل ما يسأل عنه‪ ،‬وإنما‬
‫يعني وجوب النظر في موضوع الستفتاء وإرادته الفتاء‪ ،‬فإذا عرف حكم المسألة المسؤول‬
‫عنها أفتى فيها وإذا لم يعرف قال‪ :‬ل أعرف‪ ،‬ول يجوز إلزامه بالفتاء فيما يجهله‪.‬‬
‫ل للفتاء ولم يعينه ولي المر مفتيا ول يوجد غيره يفتي الناس فإنّ‬
‫الحالة الثانية‪ :‬إذا كان أه ً‬
‫الفتاء يتعين عليه إذا استفتاه أحد في مسألة شرعية وقدر على الجواب‪.‬‬

‫على من يحرم الفتاء‬


‫‪ -194‬ويحرم الفتاء على الجاهل‪ ،‬لن الفتاء إخبار عن شرع ال فل يجوز إل بعلم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬قل إنما ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا‬
‫بال ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على ال ما ل تعلمون﴾‪ .‬فالفتاء بغير علم ضلل‬
‫وإضلل للغير وكل ذلك حرام‪ ،‬وكما يحرم على الجاهل الفتاء يحرم الفتاء على الماجن الذي‬
‫ل يبالي بما يفتي وبما يقول‪.‬‬

‫على من يكره الفتاء‬


‫‪ -195‬اختلف الفقهاء في حكم الفتاء بالنسبة للقاضي‪ ،‬فقال بعضهم يكره الفتاء للقاضي في‬
‫مسائل الحكام التي ينظرها مخافة أن يجبن عن الرجوع عما أفتى به إذا ترجح عنده وقت‬
‫المحاكمة ضد ما أفتى به‪ ،‬قال القاضي شريح‪ :‬أنا أقضي لكم ول أفتي‪ .‬ولكن للقاضي أن يفتي‬
‫في مسائل العبادات كالصلة والصيام‪ .‬وقال الحنفية‪ :‬للقاضي أن يفتي من لم يخاصم إليه‪ ،‬ول‬
‫يفتي أحد الخصمين فيما خوصم إليه‪.‬‬
‫ل للفتاء‪ ،‬ولم يقيدوا هذا الجواز بشيء‪.‬‬
‫وقال بعض الفقهاء‪ :‬للقاضي أن يفتي ما دام أه ً‬

‫‪119‬‬
‫‪ -196‬والراجح عندي هو القول الول ولكن بشرط أن يتعين عليه الفتاء‪ ،‬فإن تعين عليه‬
‫الفتاء فعليه أن يفتي وإن كان قاضيا ولو في مسألة ينظر فيها قضاء وإن كان السائل أحد‬
‫الخصوم‪ ،‬لن المستفتي إذا علم أن الحق لخصمه فقد يترك المخاصمة ويسلم الحق له‪ ،‬ول‬
‫خوف من هذا الفتاء لن المفتي يبين الحكم على فرض ثبوت الوقائع عند المستفتي‪ ،‬أما‬
‫القاضي فإنه وان كان يطبق نفس الحكم الذي يفتي به ولكن بشرط أن تثبت الوقائع أمامه‬
‫بالطرق الشرعية فإذا عجز صاحب الحق عن إثبات حقه أمام القاضي فان القاضي ل يحكم له‬
‫به على خصمه وإن كان يفتي له به على سبيل الفتوى‪.‬‬

‫التهيب من الفتاء‬
‫‪ -197‬الفتاء وان كان تبليغا لشرع ال وقياما بواجب ديني إل أن صاحبه معرض للخطأ‪،‬‬
‫ومن هنا كان السلف الصالح يتهيبون من الفتاء مع صلحيتهم له ويود كل واحد منهم أن‬
‫يقوم غيره به‪ ،‬بل وكان كل واحد منهم أو أكثرهم يحيل الفتاء الى غيره ليكفيه مؤنته ويجنبه‬
‫خطره‪ ،‬قال عبد الرحمن بن أبي ليلى‪ :‬أدركت عشرين ومائة من النصار من أصحاب النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا الى هذا‪ ،‬وهذا الى هذا حتى ترجع‬
‫إلى الول‪ .‬وفي رواية أخرى‪ :‬ما منهم من يحدث بحديث إل ودّ أن أخاه كفاه إياه ول يستفتى‬
‫عن شيء ال ودّ أن أخاه كفاه الفتيا‪ .‬وقال المام أبو حنيفة رحمه ال تعالى‪ :‬لول الخوف من‬
‫ال تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت‪ ،‬يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر‪.‬‬

‫الجرأة على الفتاء‬


‫‪ -198‬وإذا كان التهيب من الفتاء مسلكا حميدا عرف به السلف الصالح فإنّ الجرأة على‬
‫الفتاء وجدت أيضا في السلف الصالح ولهذا كان بعضهم كثير الفتيا‪ ،‬ول تتأتى الكثرة في‬
‫الفتيا مع التهيب من الفتاء عادة‪ ،‬فكيف نوفق بين التهيب من الفتاء – وهو مسلك حميد –‬
‫والجرأة عليه وقد وجد المسلكان في السلف الصالح دون نكير؟‬
‫التحقيق في المسألة أن التهيب من الفتاء قد يكون سببه كثرة المفتين وعدم تعين الفتاء على‬
‫المسؤول وهذا ما كان واقعا وغالبا في السلف الصالح‪ .‬أما الجرأة على الفتاء فقد يكون سببها‬
‫قلة العلم كما قد يكون سببها سعة العلم وابتلء صاحبه بكثرة السائلين‪ .‬أما السبب الول للجرأة‬
‫وهو قلة العلم حيث يندفع من قلّ علمه الى الجواب عن كل مسألة مخافة أن يتهم بالجهل‪،‬‬
‫فهذا‪ ،‬ول الحمد‪ ،‬لم يقع في السلف الصالح‪ ،‬أما السبب الثاني للجرأة وهو سعة العلم وابتلء‬
‫المسؤول بكثرة السائلين فهذا قد وقع في السلف الصالح ولهذا عرف من كثرت فتاواه وبسبب‬
‫هذه الكثرة عرف بالجرأة على الفتاء‪ ،‬وهذه بل شك جرأة محمودة غير مذمومة‪ ،‬ولهذا كان‬

‫‪120‬‬
‫ابن عباس رضي ال عنهما من أوسع الصحابة إفتاء وجمعت فتاواه في عشرين سفرا‪ ،‬وكان‬
‫سعيد بن المسيب في التابعين واسع الفتيا‪ ،‬وكانوا يسمونه سعيد بن المسيب الجريء‪.‬‬

‫المتناع عن الفتاء‬
‫‪ -199‬وقد يكون الشخص أهلً للفتاء غير متهيب منه‪ ،‬ولكن يرى أو يوجد ما يدعوه الى‬
‫المتناع عن الفتاء فيجوز له ذلك المتناع ومن هذه الحالت‪:‬‬
‫أ‌) قد يسأل المستفتي عن أمر شرعي وتدل القرائن للمفتي المتيقظ أن مراد المستفتي التوصل‬
‫بالفتوى الى غرض فاسد‪.‬‬
‫ب‌) قد يسأل العامي عن مسألة عويصة ل يستطيع ادراكها وليس هي من المسائل التي يلزمه‬
‫معرفة حكمها‪ ،‬فيمتنع المفتي عن الجابة لئل يوقعه في الحيرة والفهم الفاسد‪.‬‬
‫ت‌) إذا كان موضوع الستفتاء حادثة لم تقع بعد‪ ،‬فيمتنع المفتي عن الجابة اتباعا لمسلك‬
‫بعض السلف في المتناع عن الفتاء فيما لم يقع بعد مخافة أن يتبدل اجتهاده عند وقوع‬
‫الحادثة‪.‬‬
‫ث‌) إذا كان المفتي في حالة يخشى فيها عليه من عدم التثبت والتأمل في موضوع الستفتاء‪،‬‬
‫كحال الغضب والجوع والعطش والهم والخوف والمرض والحر الشديد وانشغال الفكر‬
‫ومدافعة الخبثين ونحو ذلك من الظروف والحوال‪.‬‬

‫الجرة على الفتاء‬


‫‪ -200‬يجوز لمن يقوم بالفتاء أن يأخذ عليه أجرا من بيت المال لن الفتاء من المصالح‬
‫العامة وعلى هذا يجوز للمام أن يخصص شيئا لمن يقوم بالفتاء من بيت المال سواء كان‬
‫ذلك العطاء لمن عينه مفتيا أو لمن لم يعينه ولكنه يقوم بالفتاء وسواء كان العطاء منظما في‬
‫كل شهر أو متقطعا‪ .‬فاذا لم يكن لمن يقوم بالفتاء رزق معين من بيت المال‪ ،‬فالولى له عدم‬
‫أخذ الجرة على افتائه ولكن إذا كان انقطاعه للفتاء يمنعه عن الكسب فله أخذ الجرة إل أنه‬
‫إذا تعين عليه الفتاء لم يجز له أن يأخذ أجرا من المستفتي لنه اعتياض عن واجب عليه‪،‬‬
‫وهذا ل يجوز حتى لو لم يكن عنده ما يكفيه‪ .‬ومن المفيد أن أقوله هنا‪ :‬لو أن أهل بلد أو‬
‫جماعة جعلوا لمفتيهم – غير المعين من قبل ولي المر – رزقا من أموالهم كان ذلك حسنا‬
‫وجاز للمفتي أخذه‪.‬‬

‫الفتاء لمن ل تقبل شهادته للمفتي‬

‫‪121‬‬
‫‪ -201‬ويجوز الفتاء لمن ل تقبل شهادته للمفتي‪ ،‬كأن يفتي الشخص لبيه أو أمه أو زوجته‬
‫أو شريكه لن القصد من الفتاء بيان الحكم الشرعي فقط وليس فيه إلزام بخلف القضاء‪.‬‬

‫المطلب الرابع ‪ -‬الفتوى‬


‫تعريفها‬
‫‪ -202‬هي نص جواب المفتي‪ ،‬أو هي حكم الشرع الذي يخبر عنه المفتي بإفتائه‪.‬‬

‫أساس الفتوى‬
‫‪ -203‬وما دامت الفتوى تتضمن حكم الشرع فيجب أن تقوم على كتاب ال وسنة نبيه صلى‬
‫ال عليه وسلم وما دل عليه هذان الصلن الكبيران من أدلة الحكام كالجماع‪.‬‬
‫ل صلح أن يكون أساسا للفتوى‪ ،‬وإن كان فاسدا لم يصلح‪،‬‬
‫‪ -204‬أما الرأي فإن كان مقبو ً‬
‫والفاسد هو المخالف للكتاب والسنة‪ .‬أما الرأي المقبول هو أنواع‪:‬‬
‫الول‪ :‬رأي الصحابة الكرام لعتماده على النظر السديد والفقه العميق والستنباط الدقيق‬
‫لمشاهدتهم التنزيل وصحبتهم للنبي الكريم صلى ال عليه وسلم ولما عرفوا به من جودة الذهن‬
‫وإحاطة بمقاصد الشرع ومعانيه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الرأي الذي يفسر النصوص ويبين دللتها ويسهل طريق الستنباط منها مثل رأي‬
‫الصحابة في العول في الميراث‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ما قبلته المة من الراء الفقهية ويدخل في هذا النوع القيسة الصحيحة التي توافرت‬
‫فيها شروط القياس الصحيح ولم تخالف النصوص‪.‬‬
‫‪ -205‬وإذا كانت الفتوى تتضمن حكم الشرع وبالتالي يجب أن تقوم على الكتاب والسنة وما‬
‫دلت عليه نصوصهما‪ ،‬فمن البديهي أن ل تقوم الفتوى على الحيل المحرمة شرعا ول على‬
‫الشبه الباطلة تحليلً لحرام أو تحريما لحلل‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لعن ال اليهود‬
‫والنصارى حرمت عليهم الشحوم‪ ،‬فجملوها (أي أذابوها) وباعوها وأكلوا ثمنها" ولكن يجوز‬
‫أن تقوم الفتوى على الترخص المباح الذي يجوز للمستفتي أن يأخذ به ويجوز للمفتي أن يفتي‬
‫به‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬وخذ بيدك ضغثا واضرب به ول تحنث﴾ وفي الحديث الشريف‪:‬‬
‫"إن ال يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤخذ عزائمه"‪.‬‬

‫تعلق الفتوى بموضوع الستفتاء‬


‫‪ -206‬الصل في الفتوى أن تكون متعلقة بموضوع الستفتاء مطابقة له ليحصل المستفتي‬
‫على بغيته من استفتائه غير خارجة عنه‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫‪ -207‬ولكن يجوز أن تكون الفتوى أوسع من موضوع الستفتاء‪ ،‬بمعنى أنها تتعلق به‬
‫وبغيره‪ ،‬إذا رأى المفتي أن في هذا التوسع فائدة للمستفتي‪ ،‬ودليل ذلك أن بعض الصحابة‬
‫الكرام سألوا النبي صلى ال عليه وسلم عن ماء البحر وهل يجوز التوضؤ به‪ ،‬فقال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪" :‬هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته" فأجابهم صلى ال عليه وسلم عن ميتة البحر ولم‬
‫يسألوه عنها لعلمه صلى ال عليه وسلم بفائدة بيان هذا الحكم لهم‪.‬‬
‫‪ -208‬كما يجوز أن تكون الفتوى متعلقة بموضوع آخر غير موضوع الستفتاء‪ ،‬وهذا يكون‬
‫إذا رأى المفتي أن الجواب على موضوع الستفتاء ل يفيد المستفتي أو ل يقوى على إدراكه‬
‫وفهمه فيحيد عن جواب سؤاله الى بيان بعض ما يحتاجه المستفتي‪ ،‬ويدل على ذلك قوله‬
‫تبارك وتعالى‪﴿ :‬يسألونك عن الهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت‬
‫من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا ال﴾‪.‬‬

‫وضوح الفتوى‬
‫‪ -209‬ولما كانت الفتوى تتضمن بيان حكم الشرع وتبليغه فيجب أن تكون واضحة مفهومة‬
‫لن التبليغ يجب أن يكون بالسلوب المبين ولهذا قال تعالى في تبليغ الرسالة وقيام الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم بهذا التبليغ‪﴿ :‬وما على الرسول إل البلغ المبين﴾ ويتأتى وضوح الفتوى‬
‫باللغة السهلة والسلوب المفهوم لدى المستفتي‪ ،‬بعيدة عن الصطلحات التي ل يفهمها‬
‫المستفتي‪ .‬كما ينبغي أن تكون خالية من التردد وعدم القطع في الجواب كأن يقول المفتي‪ :‬في‬
‫المسألة قولن‪ ،‬لن المستفتي يريد الجواب القاطع الذي يقلد المفتي فيه ويعمل بموجبه‪.‬‬
‫ومن لوازم وضوح الفتوى وايضاحها للمستفتي أن يمهد لها المفتي إذا كان فيها حكم مستغرب‬
‫حتى يزول هذا الستغراب عند المستفتي بهذا التمهيد‪.‬‬

‫اليجاز والطالة في الفتوى‬


‫‪ -210‬والوضوح في الفتوى ل يستلزم الطالة بالضرورة‪ ،‬ولهذا كان الصل في الفتوى‬
‫اليجاز والختصار حتى تبدو وكأنها نص قانوني لن الغرض من الفتوى بيان الحكم الشرعي‬
‫في المسألة للمستفتي وليس الغرض منها مناقشة الراء وسوق الدلة‪ .‬وعلى هذا يجوز للمفتي‬
‫ويسعه أن يقول في فتواه جوابا للمستفتي‪ ،‬يجوز‪ ،‬أو ل يجوز‪ .‬أو يقول‪ :‬نعم‪ ،‬أو ل‪.‬‬
‫‪ -211‬ولكن يجب أن يعلم أن اليجاز في الفتوى ل يجوز إذا كان على حساب الخلل بالبيان‬
‫المطلوب والوضوح المطلوب‪ ،‬وعلى هذا يجب على المفتي أن يطيل في فتواه إذا كان ذلك ل‬
‫بد منه لوضوح الفتوى وتخليصها من البهام والغموض‪ ،‬فمن استفتى عن حكم من قال قولً‬
‫يكفر قائله‪ ،‬فل يبادر المفتي بالقول‪ :‬انه حلل الدم‪ ،‬وانما يجب أن يكون الجواب بشيء من‬

‫‪123‬‬
‫التفصيل والطالة كأن يقول في الجواب‪ :‬إذا ثبت ذلك عليه بالبينة الشرعية أو بالقرار استتابه‬
‫ولي المر فإن تاب قبلت توبته وان أصر ولم يتب قتل‪ .‬وكذلك إ ذا سئل المفتي عن كلم‬
‫يحتمل معنيين فليقل في فتواه‪ :‬إن أراد المستفتي بكلمه كذا وكذا‪ ،‬فالحكم كذا‪ ،‬وإن أراد كذا‪،‬‬
‫فالحكم كذا‪.‬‬
‫‪ -212‬وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق المفتي الجواب بل يفصله‪ .‬وإذا كان السؤال‬
‫يتضمن جملة مسائل فصلها المفتي وذكر مع كل مسألة الفتوى التي تخصها‪.‬‬

‫ذكر دليل الفتوى‬


‫‪ -213‬ويجوز أن يندب للمفتي أن يذكر في فتواه الدليل الذي استند اليه كأن يذكر نصا من‬
‫كتاب ال أو سنة نبيه صلى ال عليه وسلم أو إجماع الفقهاء أو قياسا جليا‪ .‬وإذا كانت المسألة‬
‫مما اختلفت فيها أنظار المجتهدين فيندب للمفتي أن يذكر في فتواه الدلة التي جعلته يرجح أو‬
‫يأخذ بفتواه هذه‪ ،‬كما يجوز للمفتي أن يناقش أدلة الراء الخرى التي لم يأخذ بها‪.‬‬
‫وكذلك يندب ذكر الدليل إذا كانت هناك فتوى باطلة تتعلق بموضوع الستفتاء حتى يعلم‬
‫المستفتي وغيره دليل فتواه وبطلن الفتوى السابقة‪.‬‬
‫وما قلناه يفعله المفتي من تلقاء نفسه‪ ،‬أما إذا سأله المستفتي عن الدليل فقد قلنا فيما سبق‪ :‬إن‬
‫على المفتي أن يجيبه ويذكر له الدليل‪.‬‬

‫تغير الفتوى بتغير المكان والزمان‬


‫‪ -214‬والفتوى قد تتغير بتغير المكان والزمان‪ ،‬وهذا إذا كان الحكم الشرعي مبنيا على عرف‬
‫بلد وتغير هذا العرف ولم يكن العرف الجديد مخالفا للنص الشرعي‪ .‬أو كان الحكم الشرعي‬
‫مبنيا على معنى معين وتغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر فقد جاء الحديث الشريف‬
‫بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط‪ .‬وقد قال العلماء يجوز إخراج صدقة الفطر‬
‫من الذرة أو الرز أو غيرهما إذا كانت هذه الصناف غالب أقوات البلد‪ ،‬وعلّل العلماء ذلك‬
‫بأن الصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت لنها كانت هي غالب أقوات أهل‬
‫المدينة ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان الحكم الشرعي واردا بالنسبة لمكان معين وزمان معين فيجب الفتاء فيه في‬
‫ذلك المكان والزمان دون الفتاء بالحكم العام‪ ،‬كالسرقة الحد فيها هو قطع اليد وهذا هو حكمها‬
‫العام‪ ،‬ولكن السرقة في الغزو في أرض العدو حكمها عدم القطع هناك ولزوم تأجيل إقامة‬
‫الحد لورود الحديث الشريف "ل تقطع اليدي في الغزو"‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫وكذلك إذا كان الحكم ملحوظا فيه تحقيق غرض معين ورأى الفقيه المفتي أن هذا الغرض ل‬
‫يتحقق في موضوع الستفتاء فل ينبغي أن يفتي به‪ ،‬مثل أن يستفتيه أحد في إزالة منكر معين‬
‫باليد ورأى الفقيه أن إزالته يترتب عليه شر ومنكر أكبر من المنكر القائم فينبغي له أن ل يفتيه‬
‫بالحكم العام وهو إزالة المنكر باليد ما دام المفتي يرى ترتب منكر أكبر من المنكر المزال‪،‬‬
‫وهذا باب واسع يعتمد على فطنة المفتي وملحظته الحوال والمكنة والزمنة والظروف‬
‫وحالة المستفتي‪.‬‬

‫التشدد في عبارات الفتوى والحلف عليها‬


‫‪ -215‬ويجوز التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة أو المصلحة فيقول المفتي في فتواه مثلً‪:‬‬
‫وهذا عليه إجماع المسلمين‪ ،‬أو ل أعلم فيه خلفا‪ ،‬أو من خالف حكم هذه الفتوى فقد أثم‬
‫وعصى ال تعالى ونحو ذلك‪ .‬كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد في الفتوى‬
‫في بعض الحيان وفي المور الخطيرة ما دام الحكم ثابتا بدليل قطعي يدل على هذا الجواز‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬ويستفتونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين﴾‪.‬‬

‫ما يراعى في كتابة الفتوى أو النطق بها‬


‫‪ -216‬والفتوى كما تجوز شفاها تجوز كتابة‪ ،‬وفي الحالتين ينبغي للمفتي أن يبدأ فتواه‬
‫بالبسملة وحمد ال تعالى والصلة والسلم على نبيه صلى ال عليه وسلم وأن يختم فتواه‬
‫بقوله‪ :‬وبال التوفيق‪ ،‬أو وال هو الموفق‪ ،‬أو وال أعلم‪.‬‬
‫‪ -217‬وإذا كانت الفتوى مكتوبة فعلى المفتي أن يقارب سطورها وكلماتها ول يترك فواصل‬
‫فيما بينها لئل يزور أحد عليه ويضيف اليها ما لم يقله‪ .‬وأن تكون موصولة بآخر سطر من‬
‫السؤال‪ ،‬وإذا ضاقت ورقة الستفتاء عن الفتوى لطولها فينبغي أن يكتب الجواب أو يكمله في‬
‫ظهر الورقة ول يكتبها في ورقة مستقلة منفصلة خوفا من الحتيال عليه‪.‬‬
‫‪ -218‬وإذا كان في ورقة الستفتاء فتوى من ليس أهلً للفتوى فللمفتي أن يشطب اسم صاحب‬
‫هذه الفتوى وإن كانت صحيحة‪ ،‬أما إذا كانت الفتوى خطأ فيشطب اسمه ويشطب الفتوى‪،‬‬
‫ولكن هذا الشطب يكون بإذن صاحب الستفتاء‪ ،‬وإذا رفض فللمفتي أن يمتنع عن اعطاء‬
‫الفتوى كتابة وإنما يجيبه شفاها‪ ،‬والسبب في ذلك أن ذكر اسم المفتي مع اسم من سبقه وهو‬
‫غير أهل للفتاء تقريرا للناس لما يتوهمونه من صلحية وأهلية ذلك الشخص للفتاء إذا رأوا‬
‫اسمه مقرونا باسم المفتي‪ .‬أما إذا كان اسم من سبقه أهلً للفتاء ولكن كانت فتواه خطأ قطعا‬
‫فله شطبها بإذن صاحب الستفتاء أو إعادتها الى صاحب الفتوى ليصححها أو ينبه على ما‬

‫‪125‬‬
‫فيها من خطأ عندما يحرر فتواه‪ ،‬أما إذا كانت سائغة فليس له أن يتعرض لها بالشطب أو‬
‫التخطئة وإن خالفت اجتهاده‪.‬‬

‫العمل بالفتوى‬
‫‪ -219‬والفتوى متى صدرت ممن هو أهل للفتاء عمل بها المستفتي وكان عمله هذا مقلدا‬
‫لصاحب الفتوى‪ ،‬ولكن إذا رجع المفتي عن هذه الفتوى قبل أن يعمل بها المستفتي وعلم‬
‫برجوعه حرم عليه العمل بها‪ ،‬وعليه أن يعيد استفتاءه ويعمل بما يفتي به‪ .‬وأما لو عمل‬
‫بالفتوى ثم رجع المفتي عن فتواه وعلم المستفتي برجوعه‪ ،‬فعلى المستفتي اعادة استفتائه‬
‫والعمل بالفتوى الجديدة حتى ولو استلزمت نقض عمله السابق ما دام هذا العمل له صفة‬
‫الستمرار كما لو نكح من لم يجز له نكاحها بموجب فتوى سابقة رجع عنها صاحبها ثم‬
‫استفتى فأفتي بعدم الجواز فإنه يفارق زوجته‪ .‬هذا ما قالوه‪ ،‬ويبدو لي أن هذا النقض إنما‬
‫يكون إذا كانت الفتوى السابقة التي رجع عنها صاحبها باطلة قطعا لمخالفتها للدليل القاطع‪ ،‬أما‬
‫إذا كانت سائغة ورجع عنها صاحبها وكان المستفتي قد عمل بها فل أرى وجوب نقض عمل‬
‫المستفتي بها لنه عمل بما هو سائغ وبزعم شرعي‪.‬‬

‫الفرق بين الفتوى والحكم‬


‫‪ -220‬هناك جملة فروق بين الفتوى التي تصدر عن المفتي وبين الحكم الذي يصدر عن‬
‫القاضي‪ ،‬ومن هذه الفورق‪:‬‬
‫أ‌) الفتوى تعتبر محض اخبار عن ال تعالى بما هو مطلوب شرعا من المستفتي أو بما هو‬
‫مباح له‪ .‬أما حكم القاضي فهو وإن كان اخبارا عن حكم الشرع أيضا إل أن فيه إلزاما‬
‫للمحكوم عليه بما تضمنه الحكم‪.‬‬
‫ب‌) إن كل ما يجري فيه حكم القاضي تجري فيه الفتوى أيضا ول عكس‪ ،‬فالعبادات تجري‬
‫فيها الفتوى ولكن ل يجري فيها حكم القضاء فليس لحاكم أن يحكم أن هذه الصلة صحيحة أو‬
‫فاسدة أو أن هذا الماء نجس ل يجوز الوضوء به ولكن للمفتي أن يفتي في هذه المسائل‬
‫ونحوها‪ .‬ويلحق بالعبادات أسبابها كما لو شهد شاهد أو شاهدان بهلل رمضان وأثبت ذلك‬
‫حاكم وأمر بإعلنه فإن ذلك منه فتوى وليس بحكم وهذا ما قاله المالكية‪.‬‬
‫ت‌) فتوى المفتي أعظم خطرا من حكم القاضي‪ ،‬لن الفتوى تعتبر شريعة عامة تتعلق‬
‫بالمستفتي وغيره‪ ،‬أما حكم القاضي فهو خاص ل يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله‪.‬‬

‫سبَة‬
‫حْ‬‫المبحث الرابع ‪ -‬نِظامُ ال ِ‬

‫‪126‬‬
‫تمهيد‬
‫‪ -130‬قلنا فيما سبق‪ :‬إن المطلوب من المسلم أن تكون أفعاله وأقواله وفق المناهج السلمية‬
‫ولهذا أمر ال تعالى أهل العلم بتبليغ الناس أحكام السلم وتعليمهم حدود ما أنزل ال‪ ،‬كما أمر‬
‫سبحانه وتعالى من ل يعلم أن يتعلم‪ ،‬ومن سبل التعلم أن يسأل أهل العلم ولهذا وجد في‬
‫السلم نظام الفتاء الذي تكلمنا عنه‪ .‬ومع هذا قد يبقى المسلم جاهل شرع ال إما لن تبليغ‬
‫العلماء لم يصله أن أنه قصر في تعلم ما يجب عليه تعلمه كما لم يستفت أهل العلم فيما يهمه‬
‫من أمور‪ ،‬فيقع في المعصية ومخالفة الشرع بسبب جهله‪ .‬وقد يعلم المسلم حدود ما أنزل ال‬
‫ومع هذا يقع في المعصية اتباعا لهواه‪ ،‬والمعصية في الحالتين منكر ارتكب أو معروف هجر‪،‬‬
‫والمنكر إذا وقع وجبت إزالته‪ ،‬والمعروف إذا هجر‪ ،‬وجب المر به‪ .‬وإزالة المنكر إذا ظهر‬
‫فعله‪ ،‬والمر بالمعروف إذا ظهر تركه هو أساس وملك ما يعرف بالشريعة السلمية بنظام‬
‫الحسبة وهو ما نتكلم عنه في هذا المبحث‪.‬‬

‫منهج البحث‬
‫‪ -131‬تسهيلً للبحث وإحاطة بالموضوع نقسم هذا المبحث إلى خمسة مطالب‪:‬‬
‫المطلب الول – للتعريف بالحسبة وبيان مشروعيتها ومكانتها في السلم‬
‫المطلب الثاني – للكلم عن المحتسب‬
‫المطلب الثالث – للكلم عن المحتسب عليه‬
‫المطلب الرابع – للكلم عن المحتسب فيه‬
‫المطلب الخامس – للكلم عن نفس الحتساب‬

‫المطلب الول ‪ -‬التعريف بالحسبة ومشروعيتها ومكانتها في السلم‬


‫معناها في اللغة‬
‫‪ -132‬الحسبة في اللغة تدل على العد والحساب‪ ،‬ويقال‪ :‬احتسب بكذا إذا اكتفى به‪ ،‬واحتسب‬
‫على فلن المر‪ ،‬أنكره عليه‪ ،‬واحتسب الجر على ال‪ :‬ادخره لديه‪ .‬والحسبة اسم من‬
‫الحتساب‪ ،‬والحتساب يستعمل في فعل ما يحتسب عند ال تعالى‪.‬‬

‫معناها في الصطلح‬
‫‪ -133‬والحسبة عند الفقهاء "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"‬
‫فهي إذن من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬بل إن الفقهاء يسمون المر بالمعروف‬

‫‪127‬‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬احتسابا وحسبة ما دام القائم به يفعله ابتغاء مرضاة ال وما عنده من‬
‫ثواب‪.‬‬

‫دليل مشروعيتها‬
‫‪ -134‬دل على طلب الشرع للحسبة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة‪ ،‬فكل آية وردت‬
‫في المر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها‪.‬‬
‫والواقع أن القرآن الكريم دل على طلب الحسبة بأساليب متنوعة فطورا يأمر بها‪ ،‬وتارة‬
‫يجعلها وصفا لزما للمؤمنين وسببا لخيرية المة وان الغاية من التمكين في الرض والظفر‬
‫بالسلطان والحكم هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن ترك ذلك سبب لستحقاق‬
‫اللعنة‪ .‬فمن هذه اليات‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض‬
‫يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪﴿ ﴾...‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف‬
‫وتنهون عن المنكر﴾ ﴿الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا‬
‫بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن‬
‫مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا‬
‫يفعلون﴾‪.‬‬
‫‪ -135‬والسنة النبوية دلت على مشروعية الحسبة وطلب الشرع لها‪ .‬فمن ذلك قوله صلى ال‬
‫عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك‬
‫أضعف اليمان" "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن ال عليكم شراركم ثم‬
‫يدعو خياركم فل يستجاب لهم" "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف‬
‫ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك"‪.‬‬

‫مدى مشروعيتها‬
‫‪ -136‬والحسبة – وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر – قد ينظر اليها من ناحية المطالب‬
‫بها‪ ،‬وقد ينظر إليها من حيث هي أمر ونهي‪ .‬فمن الناحية الولى هي فرض كفائي إذا قام به‬
‫البعض‪ ،‬سقط عن الباقين‪ ،‬وإن لم يقم بها أحد‪ ،‬أثم القادرون جميعا‪ .‬وقد تصير فرض عين إذا‬
‫تعينت على شخص معين كما أنها قد تصير مستحبة بالنسبة للمسلم غير واجبة عليه بل وقد‬
‫تصير محرمة في ظروف خاصة كما سنبينه فيما بعد‪.‬‬
‫أما من الناحية الثانية أي بالنظر إلى ذاتها فإنها تكون – على رأي البعض – واجبة أو مندوبة‬
‫نظرا إلى موضوعها‪ ،‬أي إلى ما تتعلق به فإن كانت أمرا بواجب أو نهيا عن حرام كانت‬

‫‪128‬‬
‫الحسبة واجبة‪ ،‬سواء كان وجوبها عينيا أو كفائيا‪ ،‬وان كان موضوعها أو ما تتعلق به مندوبا‬
‫كانت مندوبة‪ .‬وقال البعض الخر من الفقهاء‪ :‬إن الحسبة بذاتها تكون واجبة دائما بغض‬
‫النظر عما تتعلق به‪.‬‬

‫مكانة الحسبة في السلم‪:‬‬


‫‪ -137‬وللحسبة مكانة عظيمة جدا في السلم لنها أمر بمعروف ونهي عن منكر‪ .‬وهذا من‬
‫أخص خصائص الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال ال تعالى مبينا هذه الحقيقة‪﴿ :‬يأمرهم‬
‫بالمعروف وينهاهم عن المنكر‪ ﴾...‬وقد وصف ال المة السلمية بما وصف به رسولها‬
‫حتى تقوم من بعده بما قام به صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬المؤمنون والمؤمنات بعضهم‬
‫أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ فالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫من الصول العظيمة للسلم‪ ،‬ومن ثم كانت الحسبة محل عناية الفقهاء والتنويه بشأنها‪ .‬قال‬
‫الفقيه المشهور بابن الخوة‪" :‬الحسبة من قواعد المور الدينية‪ ،‬وقد كان أئمة الصدر الول‬
‫يباشرونها بأنفسهم لعموم صلحها وجزيل ثوابها‪ ،‬وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه‪ ،‬ونهي‬
‫عن المنكر إذا ظهر فعله‪ ،‬وإصلح بين الناس"‪ .‬وقال ابن خلدون في مقدمته‪" :‬أما الحسبة فهي‬
‫وظيفة دينية من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور‬
‫المسلمين أن يعين لذلك من يراه أهل له‪."...‬‬

‫حكمة مشروعيتها‬
‫‪ -138‬وحكمة مشروعيتها ظاهرة لن تبليغ الدعوة السلمية بجميع معانيها يندرج تحت‬
‫مفهوم المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬كما أن من حكمة مشروعيتها توقي العذاب‬
‫واستنزال رحمة ال‪ ،‬وبيان ذلك أن المعاصي سبب المصائب وما ينزل على الناس من عذاب‬
‫التأديب أو النتقام أو الستئصال وبهذا جرت سنة ال قال تعالى‪﴿ :‬وما أصابكم من مصيبة‬
‫فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير‪ .﴾...‬وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سببا للمصائب‬
‫والهلك فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت الخرون فل يأمرون ول ينهون فيكون ذلك من‬
‫ذنوبهم فتصيبهم المصائب‪ ،‬وفي الحديث الشريف "ان الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك‬
‫ال أن يعمهم بعذاب منه"‪ .‬وكما أن المعصية سبب المصيبة والعذاب‪ ،‬فإن الطاعة سبب النعمة‬
‫والرخاء ورضوان ال تعالى وبذلك جرت سنة ال تعالى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬لئن شكرتم لزيدنكم﴾‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬فآتاهم ال ثواب الدنيا وحسن ثواب الخرة‪ ﴾...‬وقال تعالى‪﴿ :‬والذين هاجروا‬
‫في ال من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولجر الخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين‬
‫صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫أركان الحسبة‬
‫‪ -139‬الحسبة تستلزم وجود من يقوم بها‪ ،‬وهذا هو المحتسب‪ ،‬ومن تجري عليه الحسبة وهذا‬
‫هو المحتسب عليه‪ ،‬وعمل أو ترك تجري فيه الحسبة‪ ،‬وهذا هو المحتسب فيه‪ ،‬وما يقوم به‬
‫المحتسب وهذا هو الحتساب فأركان الحسبة أربعة‪ :‬المحتسب‪ ،‬والمحتسب عليه‪ ،‬والمحتسب‬
‫فيه‪ ،‬والحتساب‪ .‬ول بد من الكلم عن هذه الربعة في المطالب التالية‪:‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬المحتسب‬


‫من هو المحتسب‬
‫‪ -140‬المحتسب من يقوم بالحتساب أي بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ولكن شاع‬
‫عند الفقهاء اطلق هذا السم على من يعينه ولي المر للقيام بالحسبة‪ ،‬وأطلقوا عليه أيضا اسم‬
‫والي الحسبة‪ ،‬أما من يقوم بها من دون تعيين ولي المر فقد أطلقوا عليه اسم "المتطوع" ثم‬
‫راحوا يفرقون بين المحتسب والمتطوع‪.‬‬

‫الفرق بين المحتسب والمتطوع‬


‫‪ -141‬أ) الحتساب فرض متعين على المحتسب بحكم الولية أي بحكم تعيينه محتسبا‪ ،‬أما‬
‫فرضه على غيره فهو من فروض الكفاية ومن ثم ل يجوز للمحتسب أن يتشاغل عما عين له‬
‫من أمور الحسبة بخلف المتطوع‪.‬‬
‫ب) وقالوا‪ :‬إن المحتسب عين للستعداء اليه وطلب العون منه عند الحاجة ومن ثم تلزمه‬
‫اجابة من طلب ذلك منه بخلف المتطوع إذ ل يلزمه من ذلك شيء‪.‬‬
‫جـ) وقالوا‪ :‬إن المحتسب عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة حتى يتمكن من إزالتها كما‬
‫أن عليه أن يبحث عما ترك من المعروف الظاهر حتى يأمر بإقامته‪ ،‬أما المتطوع فل يلزمه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫د) وقالوا‪ :‬للمحتسب أن يستعين على أداء مهمته بالعوان‪ ،‬فيتخذ له من العوان والمساعدين‬
‫بقدر ما يحتاج لداء مهمته التي عين لها‪ ،‬وليس للمتطوع ذلك‪.‬‬
‫هـ) قالوا‪ :‬وللمحتسب أن يعزر على المنكرات الظاهرة‪ ،‬ول يتجاوزها الى إقامة الحدود‬
‫وليس للمتطوع ذلك‪.‬‬
‫و) للمحتسب أن يأخذ على عمله أجرا من بيت المال وليس للمتطوع ذلك‪.‬‬
‫ز) للمحتسب أن يجتهد في المسائل المبنية على العرف فيقر منها ما يراه صالحا للقرار‬
‫وينكر منها ما يراه مستحقا للنكار وليس للمتطوع ذلك‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫رأينا في هذه الفروق‬
‫‪ -142‬هذه الفروق بنيت على أساس التفريق بين المعين للحسبة وغير المعين لها‪ .‬والواقع أن‬
‫الحسبة من فروض السلم فل يتوقف القيام بها على التعيين من قبل ولي المر ومن ثم كانت‬
‫تسمية غير المعين بالمتطوع تسمية غير دقيقة لنها تشعر بأن القيام بالحسبة من قبل غير‬
‫المعين لها هو من قبيل القيام بالمور المستحبة غير الواجبة‪.‬‬
‫ومع هذا فإن تنظيم الحسبة وضبطها من قبل ولي المر وتعيين الكفاء لها حتى ل تسود‬
‫الفوضى في المجتمع بإسم الحسبة أقول‪ :‬إن هذا التنظيم من المور الحسنة ولكن بشرط أن ل‬
‫يكون هذا التنظيم مانعا من قيام الخرين بواجب الحسبة على الوجه المشروع‪ .‬وعلى هذا ل‬
‫نرى ما قاله الفقهاء من أن المحتسب له أن يتخذ أعوانا أما المتطوع فليس له ذلك‪ ،‬لن إتخاذ‬
‫العوان على الحسبة من التعاون على البر والتقوى فل ينبغي منع من يقوم بالحسبة من هذا‬
‫التعاون بحجة أنه غير معين من قبل ولي المر ما دام صالحا للحسبة وتتوفر فيه شروط‬
‫الحسبة‪ .‬وكذلك ل نرى منع المتطوع من التعزير على المنكرات الظاهرة أو على القل ل‬
‫نرى منعه من التعزير مطلقا لن التعزير درجات فينبغي أن ل يمنع إل من بعضها ل كلها‬
‫كأن يمنع من الضرب والجلد‪.‬‬

‫ولية المحتسب‬
‫‪ -143‬ولية المحتسب يستمدها من الشرع الشريف لن المسلم مكلف بالحسبة وحيث يوجد‬
‫التكليف توجد الولية على القيام بما كلف به‪ ،‬إل أنه في حالة قيام ولي المر بتنظيم أمور‬
‫الحسبة وتعيين الكفاء لها فإن المعين يملك من الولية أكثر مما يملكه غير المعين‪ ،‬ومع هذا‬
‫فإن ولية (المحتسب) المعين من قبل ولي المر يستمدها من الشرع وإن جاءت عن طريق‬
‫ولي المر باعتبار أن تنظيم ولي المر للحسبة سائغ مشروع فكأن الشرع خوله ذلك‪.‬‬

‫مقصود هذه الولية‬


‫‪ -144‬ومقصود ولية المحتسب سواء عين من قبل ولي المر أو لم يعين هو إقامة شرع ال‬
‫في الرض وتطهيرها من الفساد لتكون كلمة ال هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى‪ .‬وهذا‬
‫المقصود في الحقيقة هو مقصود كل ولية في السلم وكل الفرق بين ولية وأخرى هو في‬
‫سعتها ومتعلقاتها وهكذا تعمل جميع الوليات منسجمة لتحقيق مقصود واحد هو إقامة شرع ال‬
‫في الرض وتطهيرها من الفساد والمفسدين‪.‬‬

‫ولية المحتسب وولية القاضي‬

‫‪131‬‬
‫‪ -145‬وقد بحث الفقهاء أوجه الفرق والختلف بين ولية المحتسب وولية القاضي وخرجوا‬
‫من بحثهم هذا ببيان أوجه الفرق والخلف بينهما على النحوالتالي‪:‬‬
‫أ‌) أوجه التفاق‪:‬‬
‫تتفق الوليتان في جواز الستعداء إلى المحتسب والدعاء أمامه في حقوق الدميين في‬
‫دعاوى خاصة هي المتعلقة ببخس أو تطفيف في كيل أو وزن‪ ،‬أو متعلقة بغش أو تدليس في‬
‫بيع أو ثمن أو متعلقة بمطل أو تأخير لدين مستحق الداء مع القدرة على الوفاء‪ .‬وإنما جاز‬
‫للمحتسب أن ينظر في هذه الدعاوى دون غيرها لنها كما قالوا "تتعلق بمنكر ظاهر هو‬
‫منصوب لزالته واختصاصها بمعروف بين هو مندوب إلى إقامته"‪.‬‬
‫وللمحتسب كما للقاضي أن يلزم المدعى عليه بأداء الحق الواجب عليه إلى مستحقه في‬
‫الدعاوى التي له حق النظر فيها إذا ثبتت تلك الحقوق بإقرار المدعى عليه وثبتت قدرته على‬
‫الوفاء‪ .‬وإنما كان للمحتسب إلزام المدعى عليه بإداء هذه الحقوق لن تأخير وفائها مطل‪،‬‬
‫والمطل منكر نهى الشارع عنه‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬مطل الغني ظلم يحل ماله‬
‫وعرضه" والمحتسب منصوب لزالة المنكر‪.‬‬
‫أوجه الخلف‪:‬‬ ‫ب‌)‬
‫أولً‪ :‬تقصر ولية المحتسب عن ولية القاضي من وجهين‪:‬‬
‫الوجه الول‪ :‬ليس للمحتسب سماع الدعاوى التي تخرج عن نطاق المنكرات الظاهرة أي التي‬
‫تخرج عن نطاق الدعاوى الثلث التي أشرنا إليها في أوجه التفاق‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬له النظر في الحقوق المعترف بها‪ ،‬أما ما يدخله التجاحد والتناكر فل ينظر فيه‬
‫لن الحق ل يثبت عند ذاك إل ببينة من المدعي أو تحليف المنكر اليمين وهذا للقاضي ل‬
‫للمحتسب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬وتزيد ولية المحتسب على ولية القاضي من وجهين‪:‬‬
‫‪ :1‬للمحتسب أن يأمر بما هو معروف‪ ،‬وينهى عما هو منكر‪ ،‬وإن لم يرتفع إليه في ذلك‬
‫خصم ولم يتقدم إليه أحد بدعوى‪ ،‬وليس للقاضي ذلك إل برفع دعوى ومطالبة خصم‪.‬‬
‫‪ :2‬للمحتسب من سلطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات الظاهرة ما ليس للقاضي‪ ،‬لن الحسبة‬
‫– كما يقول الفقهاء – تقوم على الرهبة‪ ،‬فل تجافيها الغلظة وإتخاذ العوان وسلطة السلطة‪،‬‬
‫أما القضاء فموضوع لنصاف الناس واستماع البينات حتى يتبين المحق من المبطل فكان‬
‫الملئم له الناة والوقار والبعد عن الغلظة والخشونة والرهبة‪.‬‬
‫‪ -146‬ويمكن أن نضيف إلى ما قاله الفقهاء فرقا ثالثا تزيد به ولية المحتسب على ولية‬
‫القاضي وهي ولية المحتسب على المر والنهي فيما ل يدخل في صلحية القاضي ول‬
‫يجري فيه الحكم‪ ،‬فللمحتسب أن يأمر العامة بالصلة في أوقاتها ويأمر بالجمعة والجماعات‬

‫‪132‬‬
‫وينهى عن منكرات المساجد وعن تأخير الصلة عن أوقاتها ونحو ذلك مما ل يجري فيه حكم‬
‫القضاء ول ينظر فيه القاضي‪.‬‬

‫شروط المحتسب‬
‫ل للحتساب‪ ،‬وهذه الشروط‪:‬‬
‫‪ -147‬اشترط الفقهاء شروطا معينة في المحتسب ليكون أه ً‬
‫أولً‪ :‬أن يكون مكلفا لن غير المكلف ل يلزمه أمر ول يجب عليه تكليف‪ .‬والمكلف في‬
‫اصطلح الفقهاء هو البالغ العاقل‪ ،‬وهذا في الحقيقة شرط وجوب الحتساب على المسلم‪ ،‬أما‬
‫إمكان الحسبة وجوازها فل يستدعي إل العقل حتى إن الصبي المميز وإن لم يكن مكلفا فله‬
‫إنكار المنكر وليس لحد منعه من ذلك‪ ،‬لن احتسابه من القربات وهو من أهلها كالصلة‬
‫وليس حكم احتسابه حكم الوليات حتى يشترط له التكليف‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يكون مسلما وهذا شرط واضح لن الحسبة نصرة للدين فل يكون من أهل النصرة‬
‫من هو جاحد لصل الدين‪.‬‬
‫‪ -148‬ثالثا‪ :‬الذن من المام أو نائبه‪ ،‬وهذا شرط محل نظر ذلك أن المحتسب إذا عين من‬
‫قبل ولي المر‪ ،‬فل حاجة له للذن‪ ،‬لنه ما عين إل للحتساب‪ .‬أما إذا لم يكن معينا وهو‬
‫الذي يسمونه "المتطوع" فإن اشترطوا له الذن لكل نوع من أنواع الحسبة فإن اشتراطهم هذا‬
‫ل دليل عليه بل إن النصوص تدفعه لن كل مسلم يلزمه تغيير المنكر إذا رآه وقدر على‬
‫إزالته دون اشتراط إذن من المام ويؤيد ذلك استمرار السلف الصالح على الحسبة دون إذن‬
‫من المام فضلً عن أن الحسبة تجري على المام نفسه فكيف يحتاج المحتسب إلى إذن منه‬
‫للنكار عليه؟‪.‬‬
‫وإن اشترطوا الذن بالنسبة لبعض أنواع الحسبة وهي التي يجري فيها التعزير واتخاذ‬
‫العوان واستعمال القوة فهذا الشرط له وجه مقبول لبتنائه على المصلحة‪ ،‬لن إباحة هذا‬
‫النوع من الحتساب لكل أحد قد يؤدي إلى الفتنة والفوضى ووقوع القتتال بين الناس بحجة‬
‫الحسبة‪ ،‬وباشتراط الذن تندفع هذه الضرار فيلزم الذن لن دفع الضرر واجب وما يستلزمه‬
‫هذا الدفع يكون مشروعا‪ .‬ومع هذا التوجيه المقبول نرى جواز تغيير المنكر من المتطوع إذا‬
‫أمن الفتنة وإن استلزم التغيير اتخاذ العوان واستعمال القوة ومباشرة التعزير كلما كان ذلك‬
‫ضروريا ول يحتمل التأخير حتى يتحصل الذن‪.‬‬
‫‪ -149‬رابعا‪ :‬العدالة‪ ،‬وهذا شرط قال به البعض‪ ،‬فعندهم ل بد أن يكون المحتسب‬
‫عدلً غير فاسق ومن مظاهر عدالته أنه يعمل بما يعلم ول يخالف قوله عمله‪ .‬ويمكن أن‬
‫يستدل لهذا القول بما يأتي‪:‬‬
‫أ) قوله تعالى‪﴿ :‬أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم﴾‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ب) المطلوب من المسلم أن يعمل بما يدعو الناس إليه ول يخالف قوله فعله ليكون لقوله‬
‫التأثير في رفع المنكر واستجابة الناس له ولهذا قال شعيب عليه السلم لقومه كما أخبرنا ال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إل الصلح ما استطعت﴾ وفي‬
‫الحديث الشريف أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬رأيت ليلة أسري بي رجالً تقرض‬
‫شفاههم بالمقاريض فقلت له من هؤلء يا جبريل قال هؤلء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس‬
‫بالبر وينسون أنفسهم"‪.‬‬
‫‪ -150‬وقال البعض الخر‪ :‬العدالة ليست شرطا‪ ،‬وإنما الشرط القدرة على إزالة المنكر لنه‬
‫ما من أحد إل ويصدر منه العصيان‪ ،‬والمعصية تثلم العدالة‪ ،‬فكيف يشترط ما يتعذر تحققه في‬
‫المسلم؟ ولهذا قال سعيد بن جبير رحمه ال تعالى‪" :‬إذا كان ل يأمر بالمعروف ول ينهى عن‬
‫المنكر إل من ل يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء"‪.‬‬
‫‪ -151‬والراجح‪ ،‬عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ‪ ،‬ومن حيث الجملة دون‬
‫التفصيل‪ ،‬لن الحتساب فرض كسائر الفروض السلمية ل يتوقف القيام به على أكثر مما‬
‫ل بالصطلح‬
‫يتطلبه ويحتاجه هذا الفرض‪ ،‬وليس مما يتوقف عليه أن يكون المحتسب عد ً‬
‫المعروف عند الفقهاء‪ ،‬لن ما يأمر به المحتسب أو ينهى عنه هو من المور الحسنة‬
‫المشروعة‪ ،‬والحق ينبغي أن يتبع ويقبل من قائله بغض النظر عن فعله وسلوكه‪ ،‬وما احتج به‬
‫المشترطون ل حجة لهم فيه لن الذم على من يأمر غيره بالمعروف وينسى نفسه إنما استحق‬
‫هذا الذم بسبب ارتكابه ما نهى عنه ل على نهيه عن المنكر‪ ،‬وإن كان النهي عن المنكر ممن‬
‫يأتيه مستقبحا في النفوس‪ ،‬كما أن أمره بالمعروف دل على قوة علمه وعقاب العالم وذمه إذا‬
‫ارتكب المنكر أشد من الجاهل إذا ارتكب المنكر‪ ،‬وعليه فإن النكار في قوله تعالى‪﴿ :‬وتنسون‬
‫أنفسكم﴾ إنما كان عليهم بسبب أنهم نسوا أنفسهم ل بسبب أنهم أمروا غيرهم بالمعروف‪.‬‬
‫‪ -152‬ومع ترجيحنا عدم اشتراط العدالة في المحتسب من حيث المبدأ والصل‪ ،‬إل أن العدالة‬
‫لها تأثير في بعض أنواع الحسبة وفي وجوبها أو عدم وجوبها ومن ثم يكون لشتراط العدالة‬
‫وجه مقبول‪ ،‬وبيان ذلك أن الحسبة إذا كانت بالوعظ والرشاد فإن نفعها المرجو يحصل إذا‬
‫كان المحتسب ورعا تقيا عدلً حيث يكون لكلمه ووعظه – عادة – تأثير في الناس وقبول‬
‫عندهم فيتركون المنكر‪ ،‬وحيث كان نفع الحسبة مرجوا بالوعظ ول ضرر للمحتسب منه كانت‬
‫الحسبة عليه واجبة‪ ،‬فيكون اشتراط العدالة في هذه الحالة لوجوب الحسبة اشتراطا مقبولً‪ .‬أما‬
‫إذا كان المحتسب فاسقا غير عدل فالغالب أن وعظه ل يؤثر ول يقبل فل يفيد‪ ،‬وإذا لم ينفع‬
‫وعظه لم تجب عليه الحسبة لفقدان شرط وجوبها وهو العدالة‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫أما إذا كانت الحسبة بالقوة والقهر فالعدالة ليست شرطا في المحتسب لوجوب الحسبة عليه‪ ،‬إذ‬
‫الشرط لوجوبها عليه القوة والقدرة وليست العدالة‪ ،‬ولن ال تعالى يزع بالسلطان ما ل يزع‬
‫بالقرآن‪.‬‬
‫‪ -153‬ومع هذا التفصيل الذي بيناه‪ ،‬فإنه مما ل ريب فيه أن من المرغوب فيه بالنسبة لجميع‬
‫المحتسبين أن يكونوا على أكبر قدر ممكن من العدالة وتجنب ما يخدشها‪ ،‬وكلما كان المحتسب‬
‫أكثر عدالة من غيره كان ذلك كما قالوا "أزيد في توقيره وأنفى للطعن في دينه" وتؤثر حسبته‬
‫وتقبل وإن كانت بالقوة والقهر‪.‬‬
‫‪ -154‬خامسا‪ :‬العلم‪ ،‬ويشترط في المحتسب أن يكون عنده من العلم ما يستطيع أن يعرف‬
‫المنكر فينهى عنه‪ ،‬ويعرف المعروف فيأمر به حسب الموازين الشرعية‪ ،‬وبهذا يكون احتسابه‬
‫عن علم ومعرفة ل عن جهل وتخبط‪ .‬وقد جاء في الثر "ل يأمر بالمعروف وينهى عن‬
‫المنكر إل من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه" ويدخل في حد العلم المطلوب علم‬
‫المحتسب بمواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقف عند حدود الشرع كما سنبينه فيما‬
‫بعد‪ .‬ولكن هل يشترط في المحتسب أن يكون مجتهدا؟ الجواب باليجاب إذا قلنا‪ :‬للمحتسب أن‬
‫يحمل الناس على رأيه في المور المختلف فيها‪ ،‬أما إذا قلنا‪ :‬ليس للمحتسب ذلك فالجتهاد‬
‫ليس شرطا وإنما يكفي أن يكون عالما بالمنكرات المتفق عليها وبالمعروف المتفق عليه‪ .‬وعدم‬
‫شرط الجتهاد هو ما نرجحه‪.‬‬
‫‪ -155‬وهل يشترط في المحتسب أن يكون عارفا بالصنائع الدنيوية والمهن والحرف التي‬
‫يباشرها الناس؟ الواقع أن هذا التساؤل وارد لن عمل المحتسب يشمل مراقبة هذه المهن‬
‫والحرف ليتأكد من عدم غش أصحابها واحتيالهم وإضرارهم بالناس‪ ،‬فقد ذكر الفقهاء أن على‬
‫المحتسب أن يراقب أصحاب المهن والصنائع المختلفة ويمنعهم من الغش فيها‪ ،‬كما يمنع‬
‫مباشرتها من قبل الجهال بها‪ ،‬ومن البديهي أن ذلك ل يتأتى للمحتسب إل إذا كان عارفا بهذه‬
‫الصنائع والحرف‪ ،‬بل ذهب الفقهاء إلى أن المحتسب يمتحن بعض أصحاب المهن العلمية‬
‫كالكحال "طبيب العيون" ليتأكد من صلحيته لهذه المهنة‪ ،‬وهذا يستلزم معرفة المحتسب لهذا‬
‫الجانب من العلم‪ ،‬قال الفقيه عبد الرحمن بن نصر الشيزري‪" :‬وأما الكحالون فيمتحنهم‬
‫المحتسب‪ ...‬فمن وجده فيما امتحنه عارفا بتشريح عدد طبقات العين السبعة‪ ..‬وكان خبيرا‬
‫بتركيب الكحال وأمزجة العقاقير أذن له المحتسب بالتصدي لمداواة أعين الناس" كما صرح‬
‫الفقهاء بضرورة معرفة المحتسب بالوزان ونحوها فمن أقوالهم "لما كانت هذه – أي القناطير‬
‫والرطال والمثاقيل والدراهم – أصول المعاملت وبها اعتبار المبيعات لزم المحتسب معرفتها‬
‫وتحقيق كميتها لتقع المعاملة بها من غير غبن على الوجه الشرعي"‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫‪ -156‬وعلى هذا يجب على المحتسب أن يعرف ما يحتسب فيه من المهن والحرف‬
‫والصنائع‪ .‬ولكن يمكن أن يقال‪ :‬إن إلزام المحتسب بمعرفة هذه الشياء كلها أو أكثرها بل‬
‫وحتى بعضها مما يشق عليه ويعسر‪ ،‬ولهذا نرى أن وجوب هذه المعرفة في المحتسب يمكن‬
‫أن تتحقق باستعانته بذوي الخبرة بهذه الشياء سواء كان هؤلء الخبراء من أعوانه الدائمين أو‬
‫من غيرهم‪ ،‬فيستشيرهم فيما يحتسب فيه من شؤون هذه المهن والحرف والصنائع ويأخذ‬
‫بأقوالهم ما داموا أمناء ثقاة‪.‬‬
‫‪ -157‬سادسا‪ :‬القدرة‪ ،‬ويشترط في المحتسب أن يكون قادرا على الحتساب باليد واللسان‪،‬‬
‫وإل وقف عند النكار القلبي‪ .‬وهذا الشرط مفهوم فيمن يقوم بالحتساب من تلقاء نفسه وبدون‬
‫تعيين ولي المر‪ ،‬أما المعين فإن القدرة حاصلة فيه لن الدولة معه‪ .‬هذا ول يقف سقوط‬
‫وجوب الحسبة على العجز الحسي بل يلحق به ما يخاف من المكروه الذي ينزل به ول يطيقه‬
‫على النحو الذي سنبينه فيما بعد إن شاء ال‪.‬‬

‫آداب المحتسب‬
‫‪ -158‬ذكر الفقهاء جملة من الداب التي يجب على المحتسب التحلي بها حتى ينجح في عمله‬
‫ن على المحتسب أن‬
‫ويؤدي واجب الحسبة على الوجه المرضي المقبول‪ ،‬فمن ذلك ما قالوه‪ :‬إ ّ‬
‫يقصد باحتسابه وجه ال تعالى وطلب رضاه ول يقصد بحسبته الرياء والسمعة والجاه والمنزلة‬
‫عند الناس‪ .‬والواقع أن خلوص النية مما يلزم المسلم في جميع أعماله فإن ال تعالى ل يقبل‬
‫من العمل إل ما كان خالصا لوجهه الكريم‪ ،‬ولكن حاجة المسلم إلى الخلص تعظم وتشتد‬
‫كلما كان عمله بطبيعته ظاهرا أو متعلقا بالخرين‪ ،‬ولهذا قد يتسرب الوسواس إلى بعض‬
‫التقياء فيتركون الحسبة بحجة عدم خلوص النية‪ ،‬ونقول لهؤلء الطيبين الورعين‪ :‬إن عليهم‬
‫أن يقوموا بالحسبة ويدفعوا هواجس الرياء ول يتعمقوا في ذلك أو يسترسلوا في الخوف من‬
‫الرياء لن الشيطان قد يفتح عليهم بابا من الوسواس الذي ل ينتهي‪.‬‬
‫‪ -159‬وقالوا إن المحتسب يلزمه الصبر والحلم بالضافة إلى بقية الخلق الحسنة‪ .‬والواقع‬
‫أن تأكيد فقهائنا رحمهم ال تعالى على الصبر والحلم له ما يبرره‪ ،‬لن الغالب لحوق الذى‬
‫والمضايقات بالمحتسب فإن لم يكن صبورا حليما كان ضرره أكبر من نفعه وكان ما يفسده‬
‫أكثر مما يصلحه وفاته ما كان مرجوا من احتسابه‪.‬‬
‫‪ -160‬وقالوا أيضا‪ :‬يجب أن يكون المحتسب رقيقا رفيقا في أمره ونهيه بعيدا عن الفظاظة‬
‫مع صلبة بالدين‪ .‬وقد يبدو قولهم لول وهلة متناقضا إذ كيف يتفق الرفق مع الصلبة؟‬
‫والحقيقة ل تناقض‪ ،‬فالرفق وعدم الفظاظة مما أمر به الشرع فقد جاء في الحديث الشريف "إن‬
‫ال رفيق يحب الرفق في المر كله" وفي القرآن الكريم ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا‬

‫‪136‬‬
‫من حولك﴾ فالمحتسب يستطيع أن يوصل أمره ونهيه بأسلوب رقيق يفتح مغاليق القلب‪،‬‬
‫وسيأتي مزيد للكلم عن هذه المسألة فيما بعد إن شاء ال تعالى‪ .‬أما الصلبة بالدين فتعني‬
‫عدم التهاون في بيان أحكامه ول المداهنة للمحتسب عليه ول مجازاته على حساب الدين‪،‬‬
‫وهذا ل يتناقض مع الرفق‪.‬‬
‫‪ -161‬وقالوا أيضا‪ :‬على المحتسب أن يقلل علقاته مع الناس حتى ل يكثر خوفه من‬
‫انقطاعها‪ ،‬وأن يقطع طمعه من الخلئق حتى تزول منه معاني الملق والمداهنة‪ ،‬وأن ل يقبل‬
‫هداياهم فضلً عن رشاواهم التي هي حرام وسحت‪ ،‬وأن يلزم أعوانه بما ألتزمه من الخلق‬
‫والداب فإذا علم أن أحدا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع‬
‫معه التحذير "لتنتفي عن المحتسب الظنون وتنجلي عنه الشبهات" كما قال الفقهاء رحمهم ال‪،‬‬
‫لن الناس – غالبا – يحملون المحتسب أوزار أعوانه‪ ،‬وقليل منهم من يفصل بين أعمالهم‬
‫وأعماله فل خلص من ذلك إل بإبعاد العوان السيئين عنه‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪ -‬المحتسب عليه‬


‫التعريف به وبشرطه‬
‫‪ -162‬المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر أي فعل يجوز أو يجب فيه الحتساب ويسمى‬
‫المحتسب عليه أو المحتسب معه‪.‬‬
‫ويشترط فيه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرا وإن لم يكن معصية‬
‫يحاسب عليها ديانة‪ .‬وعلى هذا ل يشترط فيه أن يكون بالغا عاقلً‪ ،‬فالمجنون إذا زنى وجب‬
‫الحتساب معه وكذا الصبي مميزا كان أو غير مميز إذا شرب الخمر أو همّ بشربه أنكر عليه‬
‫المحتسب وحال بينه وبين شربها‪ ،‬وإن كان فعل هذا الصبي ل يعتبر معصية يحاسب عليها‬
‫ديانة‪.‬‬

‫أنواع المحتسب عليهم‬


‫‪ -163‬قلنا‪ :‬إن المحتسب عليه هو كل إنسان يباشر ما تجري فيه الحسبة‪ ،‬وعلى هذا يمكن أن‬
‫يكون محتسبا عليه أي فرد في المجتمع بل استثناء إذا ما صدر منه ما تجري فيه الحسبة‪،‬‬
‫سواء كان إماما للمسلمين أو واحدا من عموم الناس‪ .‬وعلى هذا تجري الحسبة على الصناف‬
‫التية التي قد يظن البعض عدم جريانها عليهم أو يتهاونون في الحتساب معهم‪ ،‬أو أن الحسبة‬
‫معهم تكون بشكل معين‪.‬‬
‫أولً‪ :‬القارب‪:‬‬

‫‪137‬‬
‫‪ -164‬تجري الحسبة على القارب والباعد على حد سواء لن الحسبة أمر بمعروف ونهي‬
‫عن منكر والكل أمام هذا الفرض سواء‪ .‬ولكن الفقهاء رحمهم ال تعالى قالوا‪ :‬احتساب البن‬
‫على والديه يكون ببيان الحكم الشرعي والموعظة الحسنة والتخويف من ال تعالى ول يتعدى‬
‫ذلك إلى الوسائل الخرى كالكلم الغليظ والضرب‪ ،‬رعاية لحق البوة والمومة دون تفريط‬
‫بواجب الحتساب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬غير المسلمين‬
‫‪ -165‬ويجري الحتساب على غير المسلم المقيم في دار السلم ذميا كان أو مستأمنا لننا‬
‫وإن أمرنا بتركهم وما يدينون إل أن هذا الترك لهم ل يعني تركهم يخرقون نظام السلم‬
‫ويتعاطون ما يناقضه علنية‪ ،‬وإنما يعني تركهم وما يعتقدون وما يباشرونه في بيوتهم‬
‫ومعابدهم من صنوف العبادة‪ ،‬أما إذا تظاهروا وأعلنوا ما يناقض السلم كما لو سكروا في‬
‫قارعة الطريق‪ ،‬أو خطبوا في الناس يعلنون شتمهم للسلم وتكذيبهم لنبي السلم فإنهم‬
‫يمنعون من ذلك وتجري الحسبة عليهم في ضوء ما يفعلون‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬المراء‬
‫‪ -166‬ويجري الحتساب على السلطان ونوابه وسائر ذوي المرة والولية كما يجري على‬
‫آحاد الناس‪ ،‬ولكن يجب أن يلحظ المحتسب منزلة السلطان وفقه الحتساب معه‪ ،‬ومن هنا‬
‫قال الفقهاء يكون الحتساب عليه بتعريف الحكم الشرعي والوعظ ل بالقوة والقهر‪ .‬وقد زخر‬
‫تاريخنا السلمي بأخبار المحتسبين مع الخلفاء والمراء دون أن يلحقهم أذى بل كانوا يقابلون‬
‫بالقبول والتقدير وهكذا يكون شأن الحكام الصالحين‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬القضاة‬
‫‪ -167‬وتجري الحسبة على القضاة‪ ،‬قال الفقهاء‪" :‬وينبغي للمحتسب أن يتردد على مجالس‬
‫القضاة والحكام ويمنعهم من الجلوس في الجامع والمسجد للحكم بين الناس وأنه متى رأى‬
‫المحتسب القاضي قد استشاط على رجل غضبا أو شتمه أو احتد عليه في كلمه ردعه عن‬
‫ذلك ووعظه وخوفه بال عز وجل‪ ،‬فإن القاضي ل يجوز أن يحكم وهو غضبان ول يقول‬
‫هجرا ول يكون فظا غليظا"‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬أصحاب المهن المختلفة‬
‫‪ -168‬ويجري الحتساب على جميع أصحاب المهن والحرف والصنائع المختلفة لن للسلم‬
‫حكمه فيهم وفيما يباشرونه‪ .‬فمن أحكام السلم في الصنائع التي يحتاجها الناس أنه يعتبرها‬
‫من فروض الكفاية فإذا امتنع أصحابها عنها ألزمهم المحتسب بالقيام بها‪ .‬وحكم السلم فيما‬
‫يباشرونه هو أداؤه على الوجه الصحيح السليم الخالي من الغش والتدليس والضرار‪ ،‬ومن ثم‬
‫كانت واجبات المحتسب تمتد إلى مراقبتهم جميعا ليقرهم على أعمالهم إن كانت على الوجه‬

‫‪138‬‬
‫الشرعي ويمنعهم منها إن كانت مخالفة للشرع‪ ،‬ولهذا بين العلماء رحمهم ال تعالى الضوابط‬
‫والحدود الواجب مراعاتها في مباشرة المهن المختلفة والتي يجب على المحتسب التأكد من‬
‫مراعاتها من قبل أصحاب هذه المهن‪.‬‬

‫المطلب الرابع ‪ -‬موضوع الحسبة‬


‫المنكر هو موضوع الحسبة‬
‫‪ -169‬قلنا في تعريف الحسبة أنها أمر بمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن منكر إذا ظهر‬
‫فعله‪ .‬وهذا التعريف في الواقع يشمل موضوع الحسبة والحتساب ذاته‪ .‬فالموضوع هو‬
‫المعروف والمنكر‪ ،‬والحتساب هو المر بالول والنهي عن الثاني‪.‬‬
‫ثم إن المنكر قد يكون بإيجاد فعل نهت الشريعة عنه وقد يكون بترك فعل أمرت الشريعة‬
‫بفعله‪ ،‬فيكون المنكر بهذا العتبار ذا وجهين‪:‬‬
‫الول‪ :‬إيجابي يتمثل بإيجاد الفعل المحظور شرعا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬سلبي يتحقق بترك الفعل المطلوب شرعا أي المعروف‪ .‬ويكون الحتساب في الوجهين‬
‫بالنهي عنهما أي بالنهي عن إيجاد الفعل المحظور حتى ل يوجد أو النكفاف عنه بعد وجوده‪،‬‬
‫وبالنهي عن ترك الفعل المشروع حتى يوجد‪ .‬وعلى هذا فنحن نؤثر أن نجعل موضوع الحسبة‬
‫هو المنكر بوجهيه ويكون الحتساب فيه بالنهي عنه بهذين الوجهين‪.‬‬

‫المقصود بالمنكر‬
‫‪ -170‬وإذا كان موضوع الحسبة هو المنكر بوجهيه اليجابي والسلبي فما المقصود بالمنكر؟‬
‫الغالب أن هذه الكلمة تطلق على المعصية‪ ،‬والمعصية هي مخالفة الشريعة بارتكاب ما نهت‬
‫عنه أو ترك ما أمرت به سواء كانت المعصية من صغائر الذنوب أو كبائرها وسواء تعلقت‬
‫بحق ال أو بحق العبد‪ .‬وسواء ورد بها نص شرعي خاص أو عرف حكمها من قواعد‬
‫الشريعة وأصولها العامة وما أرشدت إليه من مصادر‪ ،‬وسواء كانت المعصية من أعمال‬
‫القلوب أو أعمال الجوارح‪ .‬ولكن كلمة المنكر في باب الحسبة تطلق على معنى أوسع مما‬
‫ذكرناه فتطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت الشريعة عنه وإن كان ل يعتبر معصية في حق‬
‫فاعله إما لصغر سنه أو لعدم عقله‪ ،‬ولهذا إذا زنى المجنون أو همّ بفعل الزنى‪ ،‬وإذا شرب‬
‫الصبي الخمر كان ما فعله منكرا يستحق النكار وإن لم يعتبر معصية في حقهما لفوات شرط‬
‫التكليف وهو العقل والبلوغ‪.‬‬

‫من يملك إعطاء وصف المنكر‬

‫‪139‬‬
‫‪ -171‬والجهة التي تملك إعطاء وصف المنكر لي فعل أو ترك هي الشريعة السلمية لن‬
‫إعطاء هذا الوصف حكم شرعي‪ ،‬والحاكم هو ال تعالى‪﴿ :‬إن الحكم إل ل﴾ وما على الفقهاء‬
‫إل التعرف على حكم ال‪ ،‬فعملهم هو كشف عن الحكم الشرعي وليس إنشاءً للحكم الشرعي‬
‫ولهذا إذا تبين خطؤهم لم نتابعهم عليه لن الحجة فيما بيّنه الشرع وقد ظهر لنا‪ ،‬ولن مهمة‬
‫الفقهاء الكشف‪ ،‬وليس النشاء كما قلنا‪.‬‬
‫‪ -172‬وقد يعترض البعض علينا بأن الفقهاء قالوا‪ :‬إن ما رآه المسلمون حسنا أو قبيحا دخل‬
‫في موضوع الحسبة أمرا بالول ونهيا عن الثاني فكيف نوفق بين هذا القول وبين ما قلناه؟‬
‫والجواب أن الشريعة السلمية دلت على أن الجماع حجة معتبرة فإذا أخذنا بما رآه‬
‫المسلمون حسنا فأمرنا به وبما رأوه فبيحا فنهينا عنه فإنما نأخذ بدليل الجماع وهو دليل‬
‫شرعي أرشدتنا إليه الشريعة‪.‬‬
‫وكذلك أخذنا بالعرف الصحيح هو اتباع بما أرشدتنا إليه الشريعة من مراعاة العرف الصحيح‪.‬‬

‫شروط المنكر‬
‫‪ -173‬وإذا كان المنكر بوجهيه هو موضوع الحسبة فل بد من توافر شروط معينة فيه ليمكن‬
‫الحتساب فيه‪ .‬فما هي هذه الشروط؟ قال علماؤنا رحمهم ال تعالى يشترط فيه أن يكون‬
‫ظاهرا وقائما في الحال ومتفقا على حكمه‪ .‬ول بد من الكلم بإيجاز عن كل شرط‪.‬‬
‫أولً‪ :‬أن يكون ظاهرا‬
‫‪ -174‬المراد بظهور المنكر انكشافه للمحتسب وعلمه به بدون تجسس سواء كان هذا‬
‫النكشاف والعلم به حصل عن طريق السمع أو البصر أو الشم أو اللمس أو الذوق لن هذه‬
‫الحواس طرق سليمة للعلم بالشيء وبها يكون الشيء ظاهرا ما دامت خالية من التجسس‪.‬‬
‫وعلى هذا من كان في بيته وقد أغلق بابه عليه وقام بشيء من المنكر لم يجز للمحتسب أن‬
‫يتسلق الجدار أو يكسر الباب ليطلع على ما يفعله أهل الدار‪ ،‬ولكن لو ظهر المنكر الذي‬
‫يباشرونه عن طريق الصياح أو الستغاثة جاز للمحتسب اقتحام الدار لظهور المنكر عن‬
‫طريق سمعه للصياح أو الستغاثة‪.‬‬
‫ويدخل في مفهوم أو في معنى ظهور المنكر أي مكان يغلب على ظن المحتسب وقوع المنكر‬
‫فيه‪ ،‬فعليه أن يخرج إلى ذلك المكان ويقوم بالحتساب فيه‪ ،‬ول يجوز له أن يسقط وجوب‬
‫الحسبة عليه بالقعود بالبيت بحجة عدم انكشاف المنكر وظهوره له‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يكون قائما في الحال‬

‫‪140‬‬
‫‪ -175‬ومعنى ذلك أن يكون موجودا في الحال لن المنكر إذا وقع وانتهى فل احتساب فيه‬
‫على فاعله وإنما لولي المر أن يعاقبه إذا ثبت ذلك عليه ولكن يجوز الحتساب على فاعله‬
‫بوعظه بعدم العودة إليه‪.‬‬
‫ولكن هل يشترط وجود المنكر فعلً أو يكفي وجود مقدماته وإن لم يوجد بعد؟ الواقع أن‬
‫المنكر إذا ظهرت بوادره ولحت علماته وقامت القرائن على وشك وقوعه دخل في موضوع‬
‫الحسبة وجاز الحتساب فيه بالوعظ والرشاد بل تقريع إذ قد يحمل التقريع المحتسب عليه‬
‫على ارتكاب المعصية على وجه العناد‪ .‬ولكن إذا لم ينفع الوعظ ورأى المحتسب أن المنكر‬
‫يوشك أن يقع وإذا وقع لم يكن تلفيه جاز أو وجب على المحتسب الحتساب فيه بالوجه الذي‬
‫يمنع وقوعه ما دام قادرا على ذلك‪.‬‬
‫وإذا كان وجود مقدمات المنكر يكفي لجريان الحتساب فيه فهل يكفي العزم على المنكر‬
‫للحتساب؟ الواقع أن العزم على المنكر ما دام حديث نفس ولم يظهر في الخارج على شكل‬
‫أشياء مادية تعتبر مقدمات للمنكر لم يجز الحتساب فيه‪ ،‬ولكن لو صرح صاحب هذا العزم‬
‫الخبيث بعزمه جاز للمحتسب أن يحتسب عليه بالوعظ والرشاد والتخويف من ال تعالى‬
‫بالقدر الذي يستحقه عزمه‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬عدم الخلف فيه‬
‫‪ -176‬ويشترط في المنكر أن يكون مما اتفق الفقهاء على اعتباره منكرا حتى ل يحتج‬
‫المحتسب عليه بأن ما يفعله جائز على رأي بعض الفقهاء وإن كان غير جائز على رأي‬
‫المحتسب‪.‬‬
‫ولكن إذا كان المنكر مما اختلف الفقهاء فيه فهل يمنع ذلك الختلف من الحتساب فيه بدون‬
‫قيد ول شرط؟‬
‫الواقع أن الخلف إما أن يكون سائغا وإما أن ل يكون سائغا ولكل حكمه‪:‬‬
‫أ) الخلف السائغ يمنع من الحتساب على رأي بعض الفقهاء‪ ،‬وقال آخرون يجوز للمحتسب‬
‫أن ينكر على فاعل المنكر المختلف فيه بشرط أن يكون المحتسب مجتهدا‪.‬‬
‫ب) الخلف غير السائغ‪ ،‬وهو الخلف الشاذ أو الباطل الذي ل يعتد به لعدم قيامه على أي‬
‫دليل مقبول كالذي يخالف صريح القرآن أو السنة الصحيحة المتواترة أو المشهورة أو إجماع‬
‫المة أو ما علم من الدين بالضرورة‪ ،‬فمثل هذا الخلف ل قيمة له ول يمنع المحتسب من‬
‫النكار والحتساب‪.‬‬

‫إتساع موضوع الحسبة‬

‫‪141‬‬
‫‪ -177‬الشرط الجوهري في موضوع الحسبة أن يكون منكرا في الشريعة السلمية وحيث إن‬
‫من صفات الشريعة الشمول بمعنى أن لها حكما في كل شيء بل استثناء فإن موضوع الحسبة‬
‫يصير واسعا جدا بحيث يشمل جميع تصرفات وأفعال النسان‪ ،‬ول يخرج من ذلك إل ما‬
‫تتوافر فيه شروط الحتساب‪ ،‬ول يدخل في ولية المحتسب‪ .‬وقد أشار الفقهاء إلى هذه السعة‪،‬‬
‫فالفقيه ابن الخوة يقول "والمحتسب من نصبه المام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية والشكف‬
‫عن أمورهم ومصالحهم وبياعاتهم ومأكولتهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقهم‬
‫وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر" ويقول ابن خلدون وهو يتكلم عن المحتسب "ويبحث‬
‫عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل‬
‫المنع من المضايقات في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الكثار في الحمل‪ ،‬والحكم‬
‫على أهل المباني المتعينة للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة‪ ...‬الخ"‪.‬‬

‫أمثلة على إتساع موضوع الحسبة‬


‫‪ -178‬أولً‪ :‬في العتقادات‬
‫تجري الحسبة في أمور العقيدة‪ ،‬فمن أظهر عقيدة باطلة‪ ،‬أو اظهر ما يناقض العقيدة السلمية‬
‫الصحيحة أو دعا الناس إليها أو حرف النصوص أو ابتدع في الدين بدعة ل أصل لها‪ ،‬منع‬
‫من ذلك وجرت الحسبة عليه‪ ،‬لن التقول على ال ودينه بالباطل ل يجوز ويناقض العقيدة‬
‫السلمية التي من أصولها النقياد والخضوع ل رب العالمين ولشرعه‪ .‬ويدخل في ذلك‬
‫رواية الحاديث المقطوع ببطلنها وكذبها‪ ،‬وتفسير كتاب ال بالباطل من القول كتفسير‬
‫الباطنية الذي ل تحتمله النصوص ول اللغه ول الشرع ول المنقول عن السلف الصالح‪.‬‬
‫‪ -179‬ثانيا‪ :‬في العبادات‬
‫مثل ترك صلة الجمعة من قبل أهل قرية أو بلد مع توافر شرط إقامتها‪ ،‬وترك الذان أو‬
‫الزيادة فيه بما لم يأت به الشرع‪ .‬ومثل المخالفة لهيئات العبادات كالجهر في صلة السرار‪،‬‬
‫والسرار في صلة الجهر‪ ،‬أو الزيادة في الصلة أو عدم الطمأنينة فيها‪ ،‬وكالفطار في‬
‫رمضان‪ ،‬وكالمتناع عن اخراج الزكاة‪.‬‬
‫‪ -180‬ثالثا‪ :‬في المعاملت‬
‫مثل عقد العقود المحرمة وأكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره والرشوة والغش في‬
‫الصناعات والبياعات يدل على ذلك الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللً‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا‬
‫يا صاحب الطعام؟ فقال‪ :‬أصابته السماء يا رسول ال‪ ،‬قال‪" :‬أفل جعلته فوق الطعام كي يراه‬
‫ل في البيوع‬
‫الناس من غشنا فليس منا" والواقع أن الغش يكون في أشياء كثيرة جدا فيكون مث ً‬

‫‪142‬‬
‫بكتمان العيوب وتدليس السلع مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرا من باطنه‪ ،‬ويدخل في‬
‫الصناعات مثل الذين يصفون المطعومات والملبوسات فيجب نهي هؤلء عن الغش الذي‬
‫يرتكبونه في مصنوعاتهم أو بياعاتهم‪.‬‬
‫‪ -181‬رابعا‪ :‬فيما يتعلق بالطرق والدروب‬
‫مثل بناء الدكات ووضع السطوانات وغرس الشجار ووضع الخشاب والسلع والطعمة في‬
‫الطرقات وذبح الحيوانات في الطريق وتلويث الرض بالدماء وطرح القمامة في الدروب‬
‫والزقة وإلقاء قشور البطيخ فيها ورشها بالماء بحيث يخشى منها الزلق ونحو ذلك مما فيه‬
‫ضرر بالناس‪ ،‬فيمنع ذلك كله ويحتسب فيه‪ ،‬لنه ضرر‪ ،‬وهو ممنوع في الشريعة وإذا وقع‬
‫يجب رفعه‪.‬‬
‫‪ -182‬خامسا‪ :‬فيما يتعلق بالحرف والصناعات‬
‫وقد ذكر الفقهاء جميع الحرف والصناعات وبينوا كيفية الحتساب فيها‪ .‬والصول الجامعة في‬
‫الحتساب فيها هي‪:‬‬
‫أ) من حيث المكان‪ ،‬فيجب أن يكون مكان الحرفة أو الصنعة ل ضرر فيه على الخرين فل‬
‫يكون مكان الخباز في سوق القمشة مثلً‪ ،‬وان يكون المكان بذاته صالحا لمباشرة المهنة أو‬
‫الصنعة وصلحه من جهة نظافته وسعته وتهويته‪.‬‬
‫ب) من حيث أدوات الحرفة أو الصنعة يجب أن تكون صالحة للستعمال‪ ،‬وقد وضع الفقهاء‬
‫رحمهم ال تعالى مقاييس لصلح كل أداة كأنهم هم أصحاب تلك الصنائع والحرف‪ ،‬فالمام‬
‫الشيزري يقول في مقلى الزلبية‪" :‬ينبغي أن يكون مقلى الزلبية من النحاس الحمر الجيد‪..‬‬
‫ثم يبين الشيزري رحمه ال كيفية اعداده للستعمال فيقول‪ :‬ويحرق فيه النخالة ثم يدلكه بورق‬
‫السلق إذا برد ثم يعاد إلى النار ويجعل فيه قليل من عسل ويوقد عليه حتى يحترق العسل‪ ،‬ثم‬
‫يجلى بعد ذلك بمدقوق الخزف ثم يغسل ويستعمل فإنه ينقى من وسخه وزنجاره" وقد ذكرت‬
‫هذا الكلم بطوله ليتبين للناس مدى اهتمام فقهائنا رحمهم ال تعالى بما ينفع للناس في حياتهم‬
‫ويدفع عنهم الضرر في معايشهم‪.‬‬
‫جـ) إذا كانت أدوات الحرفة مقاييس للوزن أو الكيل أو الذرع وجب التأكد من سلمة هذه‬
‫المقاييس وصحتها‪.‬‬
‫د) من جهة المصنوع أو المبيع‪ ،‬يجب أن يكون خاليا من الغش والتدليس‪ ،‬فل تخلط الحنطة‬
‫بالتراب ول الطحين بغيره من المواد الرديئة‪ ،‬وان توضع العلمات المميزة لكل نوع إذا اتحد‬
‫الجنس‪ ،‬فتنقط لحوم المعز – كما قال الفقهاء – بنقط الزعفران حتى تعرف وتميز من غيرها‪،‬‬
‫وان تبقى أذناب المعز معلقة على لحومها الى آخر البيع‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫هـ) من جهة من يباشر الصنعة والحرفة‪ ،‬يجب أن يلحظ المحتسب اهليتهم‪ ،‬وقد ذكرنا من‬
‫قبل قيام المحتسب بامتحان الكحال – طبيب العيون – وهكذا قالوا في امتحان اصحاب الحرف‬
‫الخرى كالمجبرين والفصادين والحجامين والجراحين وغيرهم‪ .‬كما تلحظ امانتهم وعفتهم‪.‬‬
‫‪ -183‬سادسا‪ :‬فيما يتعلق بالخلق والفضيلة‬
‫ومما يلحظه المحتسب ويحتسب فيه ما يتعلق بالخلق والداب والفضيلة فيمنع مما يناقض‬
‫الخلق الفاضلة‪ ،‬والداب السلمية مثل الخلوة بالجنبية والتطلع على الجيران من السطوح‬
‫والنوافذ وجلوس الرجال في طرقات النساء وأماكن خروجهن أو تجمعهن أو التحرش بهن‪،‬‬
‫ومثل التكشف بالطرقات باظهار العورات وما ل يحل كشفه واظهاره ومنع من عرف بالفجور‬
‫من معاملة النساء قال أبو يعلى الحنبلي "وإذا كان من أهل السواق من يختص بمعاملة النساء‬
‫راعي المحتسب سيرته وأمانته فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن وان ظهرت منه الريبة‬
‫وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن وادبه على التعرض لهن"‪.‬‬

‫المطلب الخامس ‪ -‬الحتساب‬


‫معنى الحتساب‬
‫‪ -184‬نريد بالحتساب القيام فعلً بالحسبة كأن يأمر المحتسب بفعل معين بكيفية معينة أو‬
‫يزيل منكرا بيده كأن يكسره أو يمزقه أو يتلفه أو يدفع صاحب المنكر بيده وبالقوة عما هو‬
‫فيه‪.‬‬

‫ما يتم به الحتساب‬


‫‪ -185‬الحتساب الكامل يتم بازالته تماما ومحوه فعلً ولو بالقوة عند القتضاء من قبل‬
‫المحتسب او أعوانه او من قبل صاحب المنكر نفسه بأن يأمره المحتسب بتكسير آلة المنكر‬
‫فيطيع أمره‪ .‬فإن عجز المحتسب عن التغيير باليد انتقل الى الحتساب بالقول عن طريق‬
‫الوعظ والرشاد والتخويف من ال تعالى وقد يزول المنكر بهذا الطريق وقد ل يزول ويبقى‬
‫صاحب المنكر مصرا على منكره‪ .‬فإذا عجز المحتسب عن النكار بالقول تحول إلى النكار‬
‫بالقلب بأن يكرهه بقلبه ويود لو استطاع تغييره‪ .‬ودليل ما قلناه الحديث الشريف "من رأى‬
‫منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فان لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان"‪.‬‬

‫مراتب الحتساب‬
‫‪ -186‬وبناء على ما تقدم تكون مراتب الحتساب ثلثة‪:‬‬

‫‪144‬‬
‫المرتبة الولى – تغيير المنكر باليد أي تغييره فعلً ولو باستعمال القوة واستعمال السلح‬
‫والستعانة بالعوان كما في دفع الصائل لتخليص النفس البريئة من الموت وتخليص العرض‬
‫المصون من الهتك‪ .‬ويدخل في نطاق التغيير باليد ضرب المحتسب عليه أو حبسه أو دفعه‬
‫لمنعه من مباشرة المنكر‪.‬‬
‫المرتبة الثانية – الحتساب بالقول‪ ،‬وهو أنواع‪:‬‬
‫أ) التعريف‪ :‬أي تعريف المحتسب عليه بالحكم الشرعي لفعله أو تركه إذ قد يكون المحتسب‬
‫عليه جاهلً بذلك فارتكب المنكر‪.‬‬
‫ب) الوعظ والنصح والرشاد والتخويف من ال تعالى وقد يقلع العاصي عن معصيته إذا سمع‬
‫نصح الناصح ووعظ الواعظ فيحصل المقصود من الحتساب‪.‬‬
‫جـ) التهديد والتخويف بإنزال الذى به من قبل المحتسب وينبغي أن يكون ذلك مما يقدر عليه‬
‫المحتسب فعلً وبما هو غير ممنوع شرعا لنه إذا هدده بما ل يقدر عليه‪ ،‬لم يؤثر تهديده وإذا‬
‫هدده بغير الجائز شرعا‪ ،‬كان ذلك غير جائز‪ ،‬لن على المحتسب أن ل يخالف الشرع في‬
‫احتسابه‪.‬‬
‫المرتبة الثالثة – الحتساب بالقلب‪ ،‬وهذا إذا عجز عن المرتبتين السابقتين‪ ،‬وهذه المرتبة ل‬
‫يجوز أن يخلو منها أي مسلم يسمع بمنكر أو يراه إذ ل ضرر فيه ثم يتبع ذلك بالحتساب‬
‫القولي أو الفعلي‪.‬‬

‫فقه الحتساب‬
‫‪ -187‬الغرض من الحتساب إزالة المنكر من الرض وإيجاد المعروف فعلً‪ ،‬وإذا كان هذا‬
‫هو الغرض من الحتساب فيجب الوصول إليه بأيسر طريق وأقصره بشرط أن يكون‬
‫مشروعا وأن ينظر الى ما يؤول اليه احتسابه من جهة ما يترتب عليه من زوال مفسدة المنكر‬
‫وحلول مصلحة المعروف مكانه‪ ،‬وفي ضوء ذلك يقدم أو يحجم عن الحتساب‪ .‬ومما يعين‬
‫على تفهم فقه الحتساب بيان القواعد التالية‪.‬‬
‫القاعدة الولى‬
‫‪ -188‬النكار القلبي يجب أن يكون كاملً ودائما وبالنسبة لكل منكر‪ .‬وفائدته بقاء القلب في‬
‫حساسيته ضد المنكر وبقاء عزمه على التغيير عند المكان‪ .‬أما النكار القولي أو الفعلي‬
‫فيكون حسب الستطاعة ودليل ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬فاتقوا ال ما استطعتم﴾ وما جاء في الحديث‬
‫الشريف الذي ذكرنا "من رأى منكم منكرا فليغيره‪ ....‬الخ" ويلحظ هنا أنّ الثواب يكون كاملً‬
‫إن شاء ال تعالى إذا كان المحتسب ينكر المنكر بقلبه ويكرهه كراهية تامة ويفعل لزالته بقدر‬
‫استطاعته‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫القاعدة الثانية‬
‫‪ -189‬إنما يطلب الحتساب إذا كان من ورائه تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة‪ .‬فإذا كان ما‬
‫يترتب عليه فوات معروف أكبر أو حصول منكر أكبر لم يكن هذا الحتساب مطلوبا شرعا‬
‫وإن كان المحتسب عليه قد ترك واجبا أو فعل محرما لن على المحتسب أن يتقي ال في‬
‫عباده وليس عليه هداهم‪ ،‬وليس من تقوى ال أن يتسبب باحتسابه في فوات معروف أكبر أو‬
‫حصول منكر أكبر‪ ،‬لن الشرع إنما أوجب الحسبة لقمع الفساد وتحصيل الصلح فإذا كان ما‬
‫يترتب على الحتساب مقدارا من الفساد أكبر من الفساد القائم أو يفوت من الصلح مقدارا‬
‫أكبر من الصلح الفائت لم يكن هنا الحتساب مما أمر به الشرع‪ .‬ول شك أن ما قلناه يختلف‬
‫باختلف الشخاص والحوال والظروف‪ ،‬وعلى المحتسب ان يتبصر فيها ويزن مقادير‬
‫المعروف والمنكر التي تنتج عن احتسابه ثم يقدم بعد ذلك على احتسابه او يحجم عنه‪ .‬وهذا‬
‫كله بالنسبة للواقعة المعينة والشخص المعين‪ ،‬اما بالنسبة للعموم فهو يأمر بالمعروف مطلقا‬
‫وينهى عن المنكر مطلقا‪.‬‬
‫‪ -190‬وبناء على هذه القاعدة نستطيع أن نفهم لماذا قال العلماء‪ :‬ل يجوز الخروج على‬
‫السلطان بالقوة وحمل السلح وإن ظهر منه شيء من الفسوق‪ ،‬لن الغالب في هذا الخروج‬
‫حصول مفاسد أعظم من مفسدة فسقه‪ ،‬وحيث كانت المفسدة اعظم لم يجز الحتساب‪ ،‬كما أنّ‬
‫المام ل يزال في دائرة السلم ولم يخرج منه بفسقه‪ ،‬فيبقى له حق الطاعة على الرعية ما لم‬
‫يأمر بمعصية فل يستوجب الحتساب عليه بالقوة وحمل السلح واحداث الفتنة والقتتل بين‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‬
‫‪ -191‬الخذ بالرفق ما أمكن ذلك‪ ،‬ومستند هذه القاعدة ما يأتي‪:‬‬
‫أ) الحديث النبوي الشريف "إن ال رفيق يحب الرفق في المر كله" ويعطي عليه ما ل يعطي‬
‫على العنف‪.‬‬
‫ب) إن النسان بطبيعته وما فطر عليه يقبل المر والنهي باللطف والرفق ولين القول أكثر من‬
‫قبوله عن طريق العنف بل ربما حمله العنف على الصرار على المنكر مراغمة للمر وعنادا‬
‫له‪ .‬وربما دل على ما نقول قول ال تعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪﴿ :‬ولو كنت فظا غليظ‬
‫القلب لنفضوا من حولك﴾ مع انه صلى ال عليه وسلم ل يأمر إل بالمعروف ول ينطق إل‬
‫بالحق‪.‬‬
‫جـ) ان الحتساب المثمر هو الذي يجعل المحتسب عليه قابلً للحتساب راضيا به مقتنعا‬
‫بضرورته ومضمونه حتى يكون له من نفسه وازع يمنعه من العودة الى المنكر‪ ،‬وهذا كله‬
‫يحتمل حصوله بقدر أكبر إذا كان الحتساب بالرفق وعدم الغضب والعنف وبالمحاججة‬

‫‪146‬‬
‫والمناقشة الهادئة المقنعة‪ ،‬جاء في الحديث الشريف الذي رواه المام أحمد بن حنبل رحمه ال‬
‫تعالى "عن ابي امامة ان غلما شابا أتى النبي صلى ال عليه وسلم فقال يا نبي ال أتأذن لي‬
‫في الزنى؟ فصاح الناس به‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم قربوه‪ ،‬ادن‪ ،‬فدنا حتى جلس بين‬
‫يديه‪ ،‬فقال النبي عليه الصلة والسلم‪ :‬أتحبه لمك‪ ،‬فقال‪ :‬ل‪ ،‬جعلني ال فداك‪ .‬قال‪ :‬كذلك‬
‫الناس ل يحبونه لمهاتهم‪ .‬أتحبه لبنتك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬جعلني ال فداك‪ ،‬قال‪ :‬كذلك الناس ل‬
‫يحبونه لبناتهم‪ .‬أتحبه لختك حتى ذكر صلى ال عليه وسلم العمة والخالة‪ ،‬والغلم يقول في‬
‫كل واحدة‪ :‬ل جعلني ال فداك‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬كذلك الناس ل يحبونه‪.‬‬
‫فوضع رسول ال صلى ال عليه وسلم يده على صدره وقال‪ :‬اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه‬
‫وحصن فرجه‪ ،‬فلم يكن شيء أبغض اليه من الزنى"‪.‬‬
‫د) الحتساب يجري على السلطان كما قلنا‪ ،‬والسلطان بحاجة الى التلطف معه لما يحس من‬
‫نفسه من سلطة‪ ،‬ولنه محتاج الى الهيبة وقد يتطاول عليه المغرضون بحجة الحتساب‪ ،‬فمنعا‬
‫لذلك ومراعاة لما يحس هو من نفسه كان الرفق معه في الحتساب هو المطلوب وبهذا أشار‬
‫الفقهاء‪ .‬ويقاس على السلطان نوابه وولة المور‪ .‬وقد يدل على ما قلناه او يؤيده أن ال تعالى‬
‫أمر نبيه موسى عليه السلم وأخاه هارون وقد أرسلهما الى فرعون أن يقول له قولً لينا لعله‬
‫يتذكر أو يخشى‪.‬‬
‫‪ -192‬وما قلناه ل يعني ان الرفق هو السلوب الوحيد للحتساب أو انه ل يجوز تركه في‬
‫بعض الحيان‪ ،‬وإنما يعني ما قلناه التأكيد على الرفق والخذ به كلما أمكن ذلك ول يستعاض‬
‫عنه بغيره إل عند الحاجة أو الضرورة‪ .‬فمن مجالت الرفق اللزمة للمحتسب‪ ،‬إذا غلب على‬
‫ل منه بحكمه أو استجابة لهوى عابر او لضعف في‬
‫ظنه أن المحتسب عليه قام بالمنكر جه ً‬
‫إرادته‪ .‬كما ان الرفق يلزم الحتساب بالتعريف بالحكم او بالوعظ والرشاد او التخويف من‬
‫ال تعالى‪ .‬فإذا لم ينفع الرفق تحول المحتسب الى الشدة‪ ،‬وكذلك إذا كان المنكر جسيما ل‬
‫يمكن معه النتظار أخذ المحتسب بالشدة الكافية لدفعه ول يعتبر ذلك خروجا عن قاعدة الرفق‪،‬‬
‫لن من معاني الرفق الحرص على مصلحة المحتسب عليه بإبعاده عن المنكر وتخليصه من‬
‫المعصية وما يترتب عليه من عقاب‪.‬‬

‫متى يجب الحتساب‬


‫‪ -193‬الحتساب القلبي واجب على كل مسلم في جميع الحوال إذا ما سمع بمنكر أو رآه‬
‫كما قلنا‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫أما الحتساب باليد او بالقول‪ ،‬فهذا يجب بالقدرة على هذا النوع من الحتساب بشرط أن يأمن‬
‫المحتسب على نفسه من الذى والضرر كما يأمن على غيره من المسلمين من الذى‬
‫والضرر‪.‬‬
‫وتعليل ذلك ان الخوف من لحوق الذى والضرر بمنزلة العجز الحسي والعجز الحسي يفوت‬
‫شرط القدرة فل يجب الحتساب إل انه يجب هجران اصحاب المنكرات وعدم مخالطتهم‪.‬‬

‫هل يشترط النتفاع بالحتساب لوجوبه‬


‫‪ -194‬وإذا توفرت القدرة وأمن المحتسب من الذى والضرر فهل يشترط النتفاع باحتسابه‬
‫لوجوب الحسبة عليه؟ قولن للعلماء‪:‬‬
‫القول الول – ل يجب الحتساب وإنما يستحب عند عدم رجاء النتفاع فإذا كان مرجوا وجب‬
‫الحتساب ودليل هذا القول ما فهموه من قوله تعالى‪﴿ :‬فذكر إن نفعت الذكرى﴾ جاء في‬
‫تفسير ابن كثير بصدد هذه الية‪ :‬منهم من حملها على ظاهرها فيكون المعنى‪ :‬ذكّر حيث تنفع‬
‫التذكرة‪.‬‬
‫القول الثاني – يجب الحتساب سواء نفع او لم ينفع لن احتسابه قيام منه بواجب شرعي فل‬
‫يتوقف على انتفاع الغير به‪ ،‬ولن على المسلم أن يؤدي ما عليه وليس عليه ان يقوم الغير بما‬
‫عليه مثل ترك صاحب المنكر منكره‪ .‬وأجابوا على احتجاج اصحاب القول الول بأن الية‬
‫الكريمة‪﴿ :‬فذكر إن نفعت الذكرى﴾ ل تعلق الوجوب على حصول النتفاع للدلة التالية‪:‬‬
‫أ) إن المعلق (بأن) على الشيء ل يلزم ان يكون عدما عند عدم ذلك الشيء‪ ،‬يدل على ذلك‬
‫آيات‪ ،‬منها قوله تعالى‪﴿ :‬فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلة إن خفتم‪ ﴾..‬فان القصر‬
‫جائز وإن لم يوجد الخوف‪ ،‬وقوله تعالى‪﴿ :‬فإن لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة﴾ والرهن جائز‬
‫مع وجود الكاتب‪.‬‬
‫ب) ان ذكر الشرط في الية الكريمة‪﴿ :‬فذكر إن نفعت الذكرى﴾ لفوائد‪ ،‬منها‪ :‬انه سبحانه‬
‫وتعالى ذكر اشرف الحالتين عند التذكير وهي حالة النتفاع‪ ،‬وسكت عن الحالة الخرى وهي‬
‫عدم النتفاع منبها عليه كما في قوله تعالى‪﴿ :‬سرابيل تقيكم الحر‪ ﴾...‬وتقدير الية وتقيكم‬
‫البرد‪ .‬وعلى هذا فقوله تعالى‪﴿ :‬فذكر إن نفعت الذكرى﴾ تقديرها فذكر إن نفعت الذكرى أو لم‬
‫تنفع‪ .‬ومن الفوائد ايضا ان المراد الحث على النتفاع بالذكرى كما يقول الشخص لغيره إذا‬
‫بيّن له الحق‪ ،‬قد اوضحت لك المر إن كنت تعقل‪ .‬فيكون مراده الحث على القبول‪.‬‬
‫‪ -195‬والراجح عندي من القولين الوجوب كلما كان النتفاع مرجوا او ممهدا لتحقيق النتفاع‬
‫او كان فيه إظهار شعائر السلم‪ ،‬او يحقق مصلحة مشروعة غير انتفاع المحتسب عليه‪ ،‬فإذا‬
‫عري عن ذلك كله كان مستحبا ل واجبا‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫من يستحب الحتساب‬
‫‪ -196‬ويستحب الحتساب القولي إذا علم المحتسب ان قوله ل يفيد ولكن ل يلحقه أذى منه‬
‫وهذا على رأي بعض العلماء‪ .‬وقد قيدنا هذا الستحباب بما قلناه في الفقرة السابقة‪.‬‬
‫كما يستحب الحتساب إذا علم المحتسب ان انكاره يفيد ولكن يلحقه اذى‪ .‬ووجه الستحباب‬
‫إزالة المنكر مع تحمله الذى‪ .‬وحتى إذا علم المحتسب أن احتسابه ل يفيد المحتسب عليه ول‬
‫يمنعه من منكره‪ .‬ولكن احتسابه يفيد من ناحية اخرى كأن تقوى به قلوب المؤمنين وتنكسر او‬
‫تضعف شوكة الفاسقين او يمهد لزالته ففي هذه الحوال يصير مستحبا برغم الذى الذي يناله‬
‫ما دام يتحمله ول يتعدى الى غيره‪.‬‬

‫متى يحرم الحتساب‬


‫‪ -197‬ويحرم الحتساب إذا لحق المحتسب من جرائه اذى جسيما بغيره من اصحابه أو‬
‫اقربائه او رفقائه أو عموم المسلمين حتى ولو قدرنا زوال المنكر‪ ،‬لنه يفضي إلى منكر آخر‬
‫هو إلحاق الذى بالخرين وهذا ل يجوز‪ ،‬لن للمسلم أن يتسامح في حق نفسه ويتحمل الذى‬
‫ولكن ليس من حقه أن يتسامح في إيذاء غيره عن طريق احتسابه‪ .‬وكذلك يحرم الحتساب إذا‬
‫أدى إلى وقوع منكر أكبر من المحتسب عليه مع لحوق الذى بالخرين‪ .‬وكذلك يحرم‬
‫الحتساب إذا لم يكن من ورائه إل إلحاق الذى الجسيم بنفسه كقتله أو هتك عرضه دون أن‬
‫يكون لحتسابه اي مصلحة او اي أثر في إزالة المنكر ورفعه‪.‬‬
‫‪ -198‬والذى المخوف من جراء الحتساب وبالتالي ينقله إلى الستحباب او الحرمة على‬
‫النحو الذي بيناه‪ ،‬هو الذى الذي يتحقق به زوال ما هو حاصل للمحتسب او لغيره من سلمة‬
‫وعافية في جسمه او عرضه او حريته او ماله وليس هو خوف امتناع حصول هذه الشياء‬
‫له‪ ،‬لن الضرر الحقيقي هو فوات شيء موجود فعلً من هذه الشياء وليس هو – اي الضرر‬
‫– امتناع حصولها‪ .‬وعلى هذا فالضرب الشديد الؤلم والجرح وهتك العرض واتلف عضو‬
‫من البدن او إزهاق الروح او التعذيب الشديد او السجن الشديد كل هذا ونحوه يعتبر من الذى‬
‫الذي ينقل الحتساب من الوجوب الى الستحباب او الحرمة على النحو الذي فصلناه‪.‬‬

‫الشرط في مباشرة الحتساب‬


‫‪ -199‬من المعلوم ان القاضي ل يباشر النظر في حقوق الناس ودعاويهم إل إذا رفعوها إليه‪،‬‬
‫فالشرط في نظر القاضي فيها هو رفع الدعوى فهل يشترط للمحتسب لمباشرة احتسابه رفع‬
‫المنكر إليه من قبل من وقع عليه هذا المنكر او شاهده؟ الجواب على ذلك ان كان الحتساب‬

‫‪149‬‬
‫يتعلق بحق خاص توقف نظر المحتسب فيه على طلب صاحب الحق واعلمه بحقه ووجه‬
‫العتداء عليه وليس للمحتسب ان يتدخل فيه من تلقاء نفسه لن المحتسب إنما يتدخل في منكر‬
‫ظاهر وقبل رفع صاحب الحق ظلمته إليه ل يكون ظاهرا ولكن بعد اعلمه به يصير ظاهرا‬
‫فيحق للمحتسب النظر فيه والحتساب فيه‪ ،‬فإذا رفع إليه المنكر المتعلق بحق خاص كان على‬
‫المحتسب أن يتثبت من وجوده بطريق المشاهدة او بإقرار المعتدي‪ ،‬اما عند الخفاء والنكار‬
‫والجحود ممن نسب إليه العتداء فل يتدخل المحتسب‪ ،‬لنه ل يسمع بينة كما قلنا من قبل ول‬
‫يوجه يمينا عند النكار ول يتجسس‪.‬‬
‫أما إذا كان الحتساب في حق من حقوق ال تعالى أو يغلب فيه حق ال أو كان في حق عام‬
‫يتعلق به نفع الناس كاعتداء على مرفق عام‪ ،‬فإن الحتساب حينئذ يقوم على المشاهدة والعلم‬
‫الشخصي إلى قيام المنكر ووجوده‪.‬‬

‫الحتساب في الوقت الحاضر‬


‫‪ -200‬يمكن لولي المر المسلم في الوقت الحاضر ان ينظم شؤون الحسبة على النحو الذي‬
‫يحقق المقصود من الحتساب وان يتخذ ما يلزم لذلك فله ان يفتح المدارس لتخريج المحتسبين‬
‫الكفاء‪ ،‬كما له أن ينظم شؤون الحسبة بين المحتسبين فيعين لمور المساجد محتسبين‪،‬‬
‫وللسواق محتسبين ولمنكرات الطرق محتسبين وهكذا‪ ،‬كما له أن يرسل بعضهم الى القرى‬
‫والرياف لتعليم الناس امور دينهم لن الغالب عليهم الجهل‪.‬‬
‫أما إذا لم يقم ولي المر بما ذكرنا جاز او وجب على المسلمين القيام بمهمة الحتساب وتهيئة‬
‫المحتسبين والنفاق عليهم على أن يقوموا بالحتساب في حدود الوعظ والرشاد والتذكير فقط‬
‫دون استعمال العنف لئل يؤدي ذلك العنف الى الفوضى والفتنة مما يجعل المغرضين يستغلون‬
‫ذلك ويتقولون بالباطل على الحسبة والمحتسبين وتأليب ولة المر على المحتسبين‪.‬‬

‫المبحث الخامس ‪ -‬نِظام الحُكم‬

‫تمهيد‬
‫‪ -130‬قلنا فيما سبق أن المجتمع ضروري للنسان‪ ،‬وأن النظام – على أي نحو كان –‬
‫ضروري للمجتمع‪ .‬ونضيف هنا فنقول أن وجود رئيس للمجمتع ضروري لبقائه ونظامه‪ ،‬لنه‬
‫يستطيع أن يحمل الناس على طاعة النظام وعدم الخروج عليه فيجنبهم حياة الفوضى‬
‫والضطراب والهرج والمرج‪ ،‬ولهذا لم يوجد مجتمع إل وجد فيه رئيس – على أي نحو كان‬
‫– يطيعه الناس عن رضى واختيار‪ ،‬أو قهر واضطرار "لما في طباع العقلء من التسليم‬
‫لزعيم يمنعهم من المظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم‪ ،‬ولول الولة لكانوا فوضى‬

‫‪150‬‬
‫مهملين وهمجا مضاعين"[‪ ]1‬ولن "بني آدم ل تتم مصلحتهم إل بالجتماع لحاجة بعضهم إلى‬
‫بعض‪ ،‬ول بد لهم عند الجتماع من رئيس"[‪.]2‬‬
‫وإذا وجد رئيس للمجتمع‪ ،‬أمكن عند ذلك أن يأخذ المجتمع شكل دولة‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬لتوافر‬
‫عناصر الدولة من اقليم وسكان ونظام وحاكم يباشر السلطة في المجتمع‪ ،‬ويحمل الناس على‬
‫عدم الخروج على أحكامه‪.‬‬

‫المقصود بنظام الحكم‬


‫‪ -131‬ونريد بنظام الحكم في بحثنا هذا مجموعة من القواعد والحكام التي تتعلق بالحاكم –‬
‫أي رئيس الدولة – وتبين كيفية اختياره ومركزه القانوني وعلقة المة به‪ ،‬والغراض التي‬
‫يهدف اليها الحكم ونحو ذلك‪.‬‬

‫هل يوجد نظام حكم في السلم؟‬


‫‪ -132‬وقد يسأل البعض‪ ،‬هل يوجد في السلم نظام للحكم؟ والجواب نعم‪ ،‬لن من خصائص‬
‫السلم الشمول‪ ،‬فمن البديهي أن يرد فيه من القواعد والحكام ما يكونّ نظاما خاصا للحكم‬
‫في السلم‪ ،‬فنحن نجد في القرآن الكريم المر بالشورى‪ ،‬ولزوم طاعة الحكام‪ ،‬والحكم بما‬
‫أنزل ال‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬وفي السنة النبوية تتكرر ألفاظ المير والمام والبيعة‪ ،‬وطاعة المير في‬
‫غير معصية ال‪ .‬وفي اجتهادات الفقهاء القائمة على نصوص القرآن والسنة كثير من الحكام‬
‫والقواعد المهمة المتعلقة بالحكم‪ .‬وكل هذا وما سنذكره يدل على أن للسلم نظامه الخاص في‬
‫الحكم‪.‬‬

‫مقومات نظام الحكم في السلم‬


‫‪ -133‬وإذا كان في السلم نظام للحكم‪ ،‬فل بد له من مقومات أو أسس‪ ،‬وهي في نظرنا‪،‬‬
‫وجود الخليفة‪ ،‬وقاعدة الشورى‪ ،‬والخضوع لسلطان السلم‪ .‬ول بد من الكلم عن كل واحد‬
‫من هذه المقومات في مطلب على حدة‪.‬‬

‫المطلب الول ‪ -‬الخليفة‬


‫تعريف الخليفة‬
‫‪ -134‬الخليفة اسم يقال لمن استخلفه غيره‪ ،‬ولمن خلف غيره في أمر من المور[‪ .]3‬وفي‬
‫الصطلح الشرعي‪ ،‬يراد بالخليفة‪ ،‬عند الطلق‪ ،‬من يتولى إمرة المسلمين أي‪ :‬رئاسة الدولة‬
‫السلمية‪ ،‬ويسمى أيضا بالمام‪ ،‬فهو رئيس لدولة موصوفةى بوصف السلم‪ ،‬أي قائمة على‬

‫‪151‬‬
‫أسسه ومصبوغة بصبغته‪ ،‬وتطبق أحكامه‪ ،‬والخليفة هو الحارس لبقاء صفتها هذه‪ ،‬كما سنبين‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫وجوب نصب الخليفة‬


‫‪ -135‬يقول المام ابن تيمية "يجب أن يعرف أن ولية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ل‬
‫قيام للدين إل بها"[‪ ]4‬وهذا حق‪ ،‬فنصب الخليفة الذي يتولى الحكم وادارة شؤون الناس من‬
‫ل عليها القرآن والسنة والجماع وطبيعة أحكام الشريعة السلمية‪.‬‬
‫فرائض السلم التي د ّ‬
‫أولً‪ :‬فمن الكتاب‪ ،‬قوله تعالى‪﴿ :‬أطيعوا ال والرسول وأولي المر منكم﴾ وأولو المر هم‬
‫المراء‪ ،‬وأدخل بعضهم في مفهوم أولي المر العلماء أيضا[‪.]5‬‬
‫ثانيا‪ :‬ومن السنة القولية‪ ،‬الحديث الشريف "‪ ....‬ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة‬
‫الجاهلية" أي بيعة للمام‪ ،‬وهذا صريح في الدللة على وجوب نصب الخليفة‪ .‬وفي حديث آخر‬
‫"لتنقض عرى السلم عروة عروة وأولها نقضا الحكم وآخرها الصلة" والمقصود بالحكم‪،‬‬
‫الحكم على النهج السلمي ويدخل فيه بالضرورة وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم‪ ،‬ونقضه‬
‫يعني التخلي عنه وعدم اللتزام به‪ ،‬وقد قرن بنقض الصلة وهي واجبة فدل على وجوبه‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ومن السنة الفعلية‪ ،‬أن الرسول صلى ال عليه وسلم أقام أول دولة إسلمية في المدينة‬
‫بعد أن مهّد لها وهو في مكة‪ ،‬وصار هو صلى ال عليه وسلم أول رئيس لتلك الدولة‬
‫السلمية التي قامت في المدينة‪ ...‬وما معاهدته عليه الصلة والسلم مع يهود المدينة ثم مع‬
‫غيرهم إل من مظاهر السلطان الذي أخذ يباشره بصفته رئيسا لدولة السلم‪ .‬وقد أدرك‬
‫الفقهاء اجتماع صفة المام – الرئاسة – مع صفة النبوة في شخص الرسول الكريم صلى ال‬
‫عليه وسلم وبينوا حكم ما يصدر عنه بهذه الصفة أو بتلك[‪.]6‬‬
‫رابعا‪ :‬الجماع‪ ،‬قال الفقهاء‪ :‬نصب الخليفة واجب بالجماع‪ ،‬فمن أقوالهم هذه‪ ،‬ما قاله‬
‫الماوردي الشافعي‪ ،‬وأبو يعلى الحنبلي‪" ،‬عقد المامة لمن يقوم بها في المة واجب بالجماع"[‬
‫‪ .]7‬ويفصل ابن خلدون فيقول في مقدمته "إن نصب المام واجب‪ ،‬فقد عرف وجوبه في‬
‫الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم عند وفاته‬
‫بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي ال عنه وإلى تسليم النظر اليه في أمورهم‪ ،‬وكذا في كل‬
‫عصر من العصار‪ ،‬واستقر ذلك اجماعا دالً على وجوب نصب المام[‪ .]8‬وحكى ابن حزم‬
‫الجماع على وجوب المامة وقال‪" :‬لم يخالف في هذا إل فرقة من الخوارج هي النجدات‪،‬‬
‫فإنهم قالوا‪ :‬ل يلزم الناس فرض المام إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم" ثم قال ابن حزم‪:‬‬
‫"وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد" ثم أخذ يسرد الدلة على اثبات وجوب المامة والرد على‬
‫هذه الفرقة[‪ .]9‬والواقع أن قول النجدات ل يعول عليه‪ ،‬فإن الدلة تخالفه‪ ،‬لن السلم يوجب‬

‫‪152‬‬
‫التأمير في أقل الجتماعات‪ ،‬فكيف بأكثرها جاء في الحديث "ل يحل لثلثة يكونون بفلة من‬
‫الرض إل أمروا أحدهم" وفي رواية في سنن أبي داود "إذا خرج ثلثة في سفر فليؤمروا‬
‫أحدهم"‪ ،‬ويقول المام ابن تيمية تعليقا على هذين الحديثين‪" :‬فإذا كان قد أوجب في أقل‬
‫الجتماعات وأقصر الجتماعات أن يولى أحدهم‪ ،‬كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو‬
‫أكثر من ذلك"[‪.]10‬‬
‫خامسا‪ :‬أن كثيرا من أحكام الشريعة يحتاج تنفيذها إلى قوة وسلطان‪ ،‬مثل أحكام الجهاد‪ ،‬واقامة‬
‫الحدود والعقوبات‪ ،‬واقامة العدل بين الناس‪ ،‬فل بد من نصب المام حتى يمكن تنفيذ هذه‬
‫الحكام‪ ،‬وقد أشار إلى هذا المعنى ابن تيمية إذ يقول "ولن ال تعالى أوجب المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر واقامة الحج والجمع والعياد ونصر المظلوم واقامة الحدود ل تتم إل‬
‫بالقوة والمارة"[‪.]11‬‬

‫من يملك حق انتخاب الخليفة‬


‫‪ -136‬والمة هي التي تملك حق نصب الخليفة قياما منها بهذا الواجب الشرعي الذي خوطب‬
‫به المسلمون‪ ،‬كما سنذكره‪ .‬يدل على ذلك ما جاء في المغني "من اتفق المسلمون على امامته‬
‫وبيعته ثبتت امامته ووجبت معونته"[‪ ]12‬ومعنى ذلك أن المة هي صاحبة الحق في اختيار‬
‫ل لمنصب الخلفة‪.‬‬
‫من تراه أه ً‬

‫أساس حق المة في انتخاب الخليفة‬


‫‪ -137‬وأساس حق المة في انتخاب الخليفة – على ما نرى – كونها هي المخاطبة في القرآن‬
‫بتنفيذ أحكام الشرع واعلء كلمة ال في الرض واقامة المجتمع السلمي الفاضل فمن هذه‬
‫النصوص القرآنية ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون‬
‫عن المنكر﴾ ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوادلين‬
‫والقربين﴾ ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما‬
‫مائة جلدة﴾ فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على مسؤولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام‬
‫السلم‪.‬‬
‫وما دامت المة مسؤولة عن تنفيذ أحكام السلم‪ ،‬ومطالبة به‪ ،‬فهي تملك – بداهة – السلطة‬
‫على هذا التنفيذ – بتمليك من الشارع – وحيث إن جماعة المسلمين ل تستطيع أن تباشر‬
‫سلطانها بصفتها الجماعية لتعذره في الواقع‪ ،‬فقد ظهرت النيابة في الحكم والسلطان‪ ،‬بأن‬
‫تختار المة الخليفة لينوب عنها في مباشرة سلطاتها لتنفيذ ما هي مكلفة بتنفيذه شرعا‪ ،‬لن‬

‫‪153‬‬
‫انابة المالك غيره في مباشرة ما يملكه أمر جائز كما هو معروف في نظرية النيابة في الفقه‬
‫السلمي‪.‬‬

‫المركز القانوني للخليفة‬


‫‪ -138‬وإذا كانت المة هي التي تختار رئيسها – الخليفة – فهو اذن وكيلها ونائب عنها‪،‬‬
‫ومركزه القانوني هو مركز النائب والوكيل عن المة‪ .‬وقد أدرك الفقهاء هذا المعنى‪،‬‬
‫وصرحوا به‪ ،‬فمن أقوالهم في هذا الباب‪ ،‬ما ذكره الفقيه الماوردي وهو يتكلم عن موت‬
‫الخليفة‪ ،‬والوزير وأثر ذلك في سلطة أمير البلد أو القطر‪ ،‬فقال ما نصه "وإذا كان تقليد المر‬
‫من قبل الخليفة‪ ،‬لم ينعزل بموت الخليفة‪ ،‬وإن كان من قبل الوزير‪ ،‬انعزل بموت الوزير‪ ،‬لن‬
‫تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين‪ ،‬وتقليد الوزير نيابة عن نفسه"[‪.]13‬‬

‫كيف تختار المة الخليفة؟‬


‫‪ -139‬وإذا كانت المة هي التي تختار الخليفة‪ ،‬فكيف تمارس هذا الختيار‪ ،‬هل تقوم به‬
‫مباشرة‪ ،‬بأن يقوم جميع أفرادها بإظهار رأيهم بمن يرضونه لهذا المنصب‪ ،‬أم يقوم به طائفة‬
‫منها نيابة عنها؟ الواقع أننا ل نجد نظاما محددا لختيار رئيس الدولة‪ ،‬وهذا يعني أن المر‬
‫متروك للمة‪ ،‬فهي التي تختار طريقة اختيارها للمام‪ ،‬وعلى هذا فيمكنها أن تباشر انتخاب‬
‫الخليفة بالطريقة المباشرة‪ ،‬حيث يشترك جميع أفراد المة إل من استثني منهم بدليل شرعي‪،‬‬
‫كالصغار والمجانين وغير المسلمين‪ ،‬ونجد سندا لهذه الطريقة في الية الكريمة‪﴿ :‬وأمرهم‬
‫شورى بينهم﴾ فظاهر هذا النص يدل على أن المسلمين يتشاورون فيما يهمهم‪ ،‬ول شك أن‬
‫اختيار الخليفة من أهم ما يهمهم‪ ،‬ويؤيد ما استظهرناه ما جاء في تفسير هذه الية الكريمة في‬
‫تفسير المام الرازي‪ ،‬فقد جاء فيه‪" :‬إذا وقعت الواقعة‪ ،‬اجتمعوا وتشاوروا‪ ،‬فأثنى ال عليهم‪،‬‬
‫أي‪ :‬ل ينفردون برأي‪ ،‬بل ما لم يجتمعوا عليه ل يعزمون عليه"[‪.]14‬‬
‫ويجوز للمة أن تباشر حقها في انتخاب الخليفة بصورة غير مباشرة عن طريق النيابة‪ ،‬وهذه‬
‫الطريقة نجد لها سندا في السوابق التاريخية القديمة في عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬وهو خير‬
‫العصور فهما للسلم وتطبيقا له‪ ،‬فقد تم انتخاب أولئك الخلفاء الكرام من قبل طائفة من‬
‫المسلمين‪ ،‬هم الذين يسميهم الفقهاء بأهل الحل والعقد‪ ،‬وتبعهم المسلمون الموجودون في المدينة‬
‫فبايعوا من اختاروه خليفة‪ ،‬ولم ينتخبهم جميع المسلمين‪ ،‬كما يبايعهم بعد انتخابهم جميع‬
‫المسلمين في جميع المدن السلمية‪ ،‬ولم ينقل لها اعتراض على هذه الطريقة‪ ،‬ل من الخلفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬ول من غيرهم‪ ،‬فدل ذلك على اجماعهم على صحة هذه الطريقة في النتخاب‪.‬‬
‫ويؤيد هذه الطريقة من النظر أن المة هي صاحبة الحق في انتخاب الخليفة كما قلنا‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫وصاحب الحق له أن يباشره بنفسه كما له أن يباشره بواسطة نائبه بأن يوكل من يقوم به نيابة‬
‫عنه‪ .‬وقد أقر الفقهاء هذه الطريقة من النتخاب وصرحوا بها‪ ،‬فمن أقوالهم "وإذا تقرر أن هذا‬
‫المنصب – أي منصب الخليفة – واجب بإجماع‪ ،‬فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار‬
‫أهل العقد والحل‪ ،‬فيتعين عليهم نصبه ويجب على الخلق طاعته"[‪.]15‬‬

‫أهل العقد والحل‬


‫‪ -140‬وإذا كان انتخاب الخليفة من حق المة‪ ،‬ولها أن تباشر هذا الحق عن طريق أهل الحل‬
‫والعقد‪ ،‬فمن هم أهل الحلّ والعقد؟ وما علقتهم بالمة؟ وكيف ينالون هذه المنزلة؟‬
‫أما عن السؤال الول‪ ،‬من هم أهل الحل والعقد‪ ،‬فإنّ الفقهاء يذكرون أوصافا عامة لهم‬
‫ويقولون‪ :‬هي الشروط المعتبرة فيهم وهي الول‪ :‬العدالة الجامعة لشروطها‪ .‬والثاني‪ :‬العلم‬
‫الذي يتوصل إلى معرفة من يستحق المامة على الشروط المعتبرة فيها‪ .‬والثالث‪ :‬الرأي‬
‫والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للمة أصلح وبتدبير المصالح أقوم[‪ .]16‬ويذهب بعض‬
‫الفقهاء المحدثين إلى تحديد أوضح في أوصاف أهل العقد والحل‪ ،‬فيقول صاحب تفيسر المنار‬
‫رشيد رضا رحمه ال تعالى "أولو المر جماعة أهل الحل والعقد‪ ،‬وهم المراء والحكماء‬
‫والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع اليهم الناس في الحاجات‬
‫والمصالح العامة"[‪ .]17‬فيفهم من هذا القول ومما ذكره الفقهاء أن أهل العقد والحل هم‬
‫المتبعون في المة الحائزون على ثقتها ورضاها لما عرفوا به من التقوى والعدالة[‪]18‬‬
‫والخلص والستقامة وحسن الرأي ومعرفة المور والحرص على مصالح المة‪.‬‬
‫أما علقة أهل العقد والحل بالمة فهي علقة النائب والوكيل‪ ،‬فهم يباشرون انتخاب رئيس‬
‫الدولة – الخليفة – نيابة عن المة‪ ،‬ومن ثم يعتبر انتخابهم ملزما للمة‪.‬‬
‫ن المتبادر إلى الذهن أن المة هي‬
‫أما كيف ينالون هذه المنزلة – منزلة أهل العقد والحل – فإ ّ‬
‫التي ترفعهم إلى هذه المنزلة باختيارها لهم‪ .‬ولكننا ل نجد في السوابق التاريخية القديمة ما‬
‫يشير إلى أن المة اجتمعت وانتخبت طائفة منها واعطتها صفة أهل الحل والعقد‪ .‬ومع هذا‬
‫فإنّ خلو السوابق التاريخية مما ذكرنا ل يدل على أن من كانوا يسمون أهل العقد والحل ما‬
‫كانوا يمثلون المة ول يعتبرون وكلء عنها‪ ،‬لن الوكالة – كما هو معروف – تنعقد صراحة‬
‫أو ضمنا‪ ،‬وقد كانت وكالة أهل العقد والحل عن المة في عصر السلم الول – عصر‬
‫الخلفاء الراشدين – وكالة ضمنية‪ ،‬لنهم كانوا معروفين بتقواهم وسابقتهم في السلم ودرايتهم‬
‫بالمور واخلصهم في العمل‪ ،‬مع فضل الصحبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم ومدح ال‬
‫لهم في قرآنه‪ ،‬وثناء رسوله العام والخاص عليهم‪ ،‬ومن ثم فقد كانوا حائزين على رضى المة‬
‫وثقتها‪ ،‬فما كانت هناك حاجة لقيام المة بانتخابهم وتوكيلهم عنها صراحة‪ ،‬وحتى لو قامت‬

‫‪155‬‬
‫بهذا النتخاب لما فاز فيه إل أولئك الخيار الذين عرفوا بأهل العقد والحل ولما نازعهم أحد‬
‫في هذه المنزلة ومن ثم كان انتخابهم الخليفة يعتبر انتخابا من المة نفسها لنه تم بتوكيل‬
‫ضمني منها لهم للقيام بهذا النتخاب‪.‬‬

‫معرفة أهل العقد والحل في الوقت الحاضر‬


‫‪ -141‬وإذا أخذنا في الوقت الحاضر بالنتخاب غير المباشر لرئيس الدولة‪ ،‬وفقا للحكام‬
‫الشرعية‪ ،‬فل مناص من قيام المة بانتخاب من يمثلونها وينوبون عنها في مباشرة هذا‬
‫النتخاب‪ .‬ومن تنتخبهم المة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل العقد والحل لمتابعة‬
‫المة لهم ورضاها بنيابتهم‪ .‬وعلى الدولة أن تضع النظام اللزم لجراء هذا النتخاب وضمان‬
‫سلمته من التزييف والتضليل‪ ،‬وان تعين في هذا النظام الشروط الواجب توافرها فيمن‬
‫تنتخبهم المة لتكوين جماعة أهل العقد والحل‪ ،‬في ضوء ما ذكره الفقهاء من شروط فيهم‪ .‬إن‬
‫مثل هذا النتخاب‪ ،‬على النحو الذي ذكرناه‪ ،‬ضروري على ما نرى‪ ،‬ليجاد أو معرفة أهل‬
‫العقد والحل‪ ،‬ولثبات نيابتهم عن المة بالتوكيل الصريح‪ ،‬لن التوكيل الضمني يتعذر حصوله‬
‫في الوقت الحاضر لكثرة أفراد المة‪ ،‬ولن اجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح بابا خطيرا‬
‫على المة ويؤذن بفوضى وشر مستطير‪ ،‬إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحل والعقد‬
‫أن يدعي لنفسه هذه المنزلة وينصب نفسه ممثلً عن المة ونائبا عنها بحجة أنها ترضي نيابته‬
‫ضمنا‪.‬‬

‫ولية العهد‬
‫‪ -142‬قلنا‪ :‬إن المة هي التي تختار الخليفة عن طريق أهل الحل والعقد‪ ،‬وقد يعترض علينا‬
‫بولية العهد التي أقرها الفقهاء كطريق لتولي منصب الخلفة‪ ،‬فالماوردي وأبو يعلى الحنبلي‬
‫يقولن "والمامة تنعقد من وجهين‪ :‬أحدهما باختيار أهل العقد والحل والثاني بعهد المام من‬
‫قبله"[‪.]19‬‬
‫والجواب على هذا العتراض أن اختيار الخليفة عن طريق عهد المام السابق قد وقع فعلً في‬
‫عصر الخلفاء الراشدين فقد عهد أبو بكر إلى عمر بن الخطاب رضي ال عنهما‪ ،‬وعهد عمر‬
‫إلى ستة يختارون من بينهم واحدا للخلفة‪ ،‬وعلى هاتين السابقتين اعتمد الفقهاء في تجويزهم‬
‫ولية العهد واعتبروا جواز هذا المسلك ثابتا بالجماع‪.‬‬
‫ولكن ما هو التكييف القانوني الشرعي لولية العهد؟ وهل يصير المعهود إليه بالخلفة خليفة‬
‫بهذا العهد فقط؟ وما الذي يسبق العهد؟ إن الجواب على هذه السئلة ضروري حتى يتبين لنا‬

‫‪156‬‬
‫مدى موافقة أو مناقضة ولية العهد لحق المة في اختيار الخليفة‪ ،‬وهذا الجواب يظهر مما‬
‫يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬جاء في كتاب الحكام السلطانية للفقيه أبي يعلى الحنبلي ما يأتي‪:‬‬
‫أ) يجوز للمام أن يعهد إلى امام بعده‪ ...‬ولن عهده إلى غيره ليس بعقد للمامة"[‪.]20‬‬
‫ب) لن المامة ل تنعقد للمعهود اليه بنفس العهد‪ ،‬وإنما تنعقد بعهد المسلمين‪ ...‬ان امامة‬
‫المعهود اليه تنعقد بعد موته باختيار أهل الوقت"[‪]21‬‬
‫فهذه القوال صريحة في دللتها على أن المامة ل تنعقد ول تثبت بمجرد العهد وإنما تثبت‬
‫باختيار أهل الحل والعقد‪ ،‬ومعنى ذلك أن التكييف القانوني للعهد انه ترشيح للخلفة وليس‬
‫تعيينا نهائيا لمن يتوله‪ .‬أما قولهم المامة تنعقد بالعهد‪ ،‬والنعقاد غير الترشيح‪ ،‬فجوابنا أن‬
‫استعمالهم كلمة "تنعقد" محمولة على الترشيح لتتفق أقوالهم التي ذكرناها مع هذا الستعمال‪ ،‬أو‬
‫أن هذا الستعمال محمول على ما يؤول إليه العهد وهو انعقاد المامة للمرشح بناء على‬
‫رضى أهل الحل والعقد المتوقع نظرا لمشاورتهم بأمر العهد كما هو الغالب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬في سابقة عهد أبي بكر إلى عمر‪ ،‬شاور أبو بكر أهل الحل والعقد في رغبته في العهد‬
‫إلى عمر فاظهروا رضاهم وموافقتهم‪ ،‬وهذا ثابت في التاريخ‪ ،‬وعلى هذا يكون عهد أبي بكر‬
‫إلى عمر كأنه عهد من أهل الحل والعقد بالمامة إلى عمر بعد وفاة الخليفة‪ ،‬وعلى هذا‬
‫التوجيه يمكن اعتبار عهد أبي بكر كاشفا لرادة أهل الحل والعقد‪ ،‬وكذلك في عهد عمر بن‬
‫الخطاب إلى الستة لختيار خليفة منهم‪ ،‬فقد آل أمر الختيار إلى عبد الرحمن بن عوف فقام‬
‫باستشارة كبار الصحابة وأهل الحل والعقد ثلثة أيام بلياليها فرآهم يرضون بعثمان بن عفان‬
‫فأعلن عند ذاك اختياره له ومبايعته له فبايعه المسلمون‪ ،‬فيكون اختيار عبد الرحمن بن عوف‬
‫لعثمان كاشفا عن اختيار أهل الحل والعقد ولذلك بايعوه‪ .‬ومع هذا فنحن نعتبر كل من عهد‬
‫أبي بكر إلى عمر وعهد عمر إلى الستة ترشيحا للخلفة وان سبقه تشاور مع أهل الحل والعقد‬
‫وموافقتهم على المرشح‪ ،‬لن موافقتهم هذه ل يترتب عليها تولي الخلفة فعل من قبل المرشح‬
‫إل بعد وفاة الخليفة المعاهد واعلن الموافقة الصريحة منهم ببيعتهم للمرشح‪ ،‬فما لم يعلن أهل‬
‫الحل والعقد اختيارهم الصريح وبيعتهم الصريحة ل يصير المعهود إليه – المرشح – خليفة‪،‬‬
‫وقد نبه إلى هذا المعنى الفقيه المشهور ابن تيمية رحمه ال تعالى‪ ،‬فقال – وهو يتكلم عن‬
‫المامة ويرد على أقوال من قال ان المامة تنعقد ببيعة أربعة أو اثنين أو واحد – "فليست هذه‬
‫أقول أئمة السنة بل المامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها‪ ،‬ول يصير الرجل اماما‬
‫حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود المامة‪ ،‬فان المقصود من المامة‬
‫إنما يحصل بالقدرة والسلطان‪ ،‬فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار اماما‪...‬‬
‫وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه‪ ،‬ولو قدر أنهم لم ينفذوا‬

‫‪157‬‬
‫عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم صار إماما‪ ،‬سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز‪ ...‬فمن قال انه‬
‫يصير اماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط‪ ،‬كما أن‬
‫من ظن أن تخلف الواحد أو الثنين أو العشرة يضر فقد غلط‪ ...‬وعثمان لم يصر اماما‬
‫باختيار بعضهم – أي الستة الذين اختارهم عمر – بل بمبايعة الناس له وجميع المسلمين‬
‫بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد"[‪.]22‬‬
‫وإذا كان تكييف ولية العهد انه ترشيح‪ ،‬وانه يسبق بمشاورة أهل الحل والعقد وظهور رضاهم‬
‫عن المرشح‪ ،‬فإنه ل شك مسلك سديد وحميد لختيار الخليفة ول يناقض حق المة في اختيار‬
‫الخليفة‪ ،‬بل وقد يرجح على طريقة انتخاب أهل الحل والعقد للخليفة دون عهد منه إلى أحد‪،‬‬
‫لما في العهد من حسم لمادة الخلف والنزاع‪ ،‬ولهذا رجح هذه الطريقة المام ابن حزم فقال‪:‬‬
‫"وهذا – أي العهد – هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال المامة‬
‫وانتظام أمر السلم وأهله ورفع ما يتخوف من الختلف والشغب مما يتوقع من غيره بقاء‬
‫المة فوضى ومن انتشار المر وحدوث الطماع"[‪.]23‬‬

‫شروط الخليفة‬
‫‪ -143‬يشترط في الخليفة جملة شروط‪ ،‬كلها تلتقي في تحقيق كفايته للنهوض بأعباء هذا‬
‫المنصب الخطير على الوجه المرضي ل تعالى والمحقق لمصلحة المة‪ .‬وهذه الشروط‪ ،‬على‬
‫ما ذكره الفقهاء هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬السلم‪ :‬فيجب أن يكون مسلما لقوله تعالى‪﴿ :‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر‬
‫منكم﴾ أي منكم أيها المسلمون‪ ،‬فهو من المسلمين‪ .‬ولقوله تعالى‪﴿ :‬ولن يجعل ال للكافرين‬
‫على المؤمنين سبيلً﴾ والخلفة أعظم السبيل فل تكون لغير مسلم‪ ،‬ولن حقيقة الخلفة‪ ،‬كما‬
‫سنبين فيما بعد خلفة عن صاحب الشرع في حفظ الدين‪ ،‬فمن البديهي أن تودع هذه المانة‬
‫بيد من يؤمن بهذا الدين‪ ،‬وان ل تسند لمن يكفر به‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن يكون رجلً‪ ،‬لقوله تعالى‪﴿ :‬الرجال قوامون على النساء﴾ ولحديث رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره من‬
‫أئمة الحديث[‪ ،]24‬والواقع خير شاهد فإنّ المرأة تعجز عن النهوض بمهام رئاسة الدولة وهي‬
‫كثيرة وجسيمة‪ ،‬ول نريد أن نكثر من ذكر الحجج والدلة فما ذكرناه من قول ال تعالى وقول‬
‫رسوله تكفينا وتكفي من يؤمن بال واليوم الخر وبالسلم دينا‪ ،‬ومن يجد في نفسه شيئا من‬
‫ذلك‪ ،‬نقول له‪ :‬أمامك دول العالم في الماضي والحاضر‪ ،‬فامسك قلما واحص عدد النساء‬
‫اللتي تولين رئاسة الدولة وعدد الرجال الذين تولوا رئاسة الدولة‪ ،‬ثم قارن بين العددين‪ ،‬نر‬
‫ضآلة نسبتهن إلى نسبتهم في ولية رئاسة الدولة مما يدل على أن الناس بتجربتهم يعرفون أن‬

‫‪158‬‬
‫رئاسة الدولة ل يصلح لها إل الرجال‪ ،‬وان من صار منهن في منصب رئاسة الدولة إنما كان‬
‫نادرا ولظروف استثنائية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن يكون جامعا للعلم بالحكام الشرعية لنه مكلف بتنفيذها‪ ،‬ول يمكنه التنفيذ مع الجهل‬
‫بها‪ ،‬والعلم قبل العمل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فاعلم أنه ل إله إل ال واستغفر لذنبك﴾ واشترط بعض‬
‫الفقهاء الجتهاد ولم يكتفوا بمجرد العلم عن طريق التقليد‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬وأن يكون عدلً في دينه‪ ،‬ل يعرف عنه فسق‪ ،‬متقيا ل‪ ،‬ورعا‪ ،‬عارفا بأمور السياسة‬
‫وشؤون الحكم جريئا على اقامة حدود ال ل تأخذه في ال لومة لئم‪ ،‬شجاعا‪ ،‬ذا دراية‬
‫بمصالح المة وسبل تحقيقها مع حرص عليها وتقديمه لها[‪.]25‬‬
‫خامسا‪ :‬أن يكون من قريش لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم "الئمة من قريش" وهذا‬
‫حديث صحيح روي من غير وجه واحتج به الفقهاء[‪ .]26‬والحكمة من هذا الشرط‪ ،‬كما يقول‬
‫العلمة ابن خلدون‪ ،‬أن مقصود الخلفة يحصل بالجتماع ووحدة الكلمة وترك النزاع وانقياد‬
‫المة لرئيسها‪ ،‬وهذا يحصل إذا كان الخليفة ممن تسكن النفوس اليهم ويعترف لهم بالفضل‬
‫والتقدم‪ ،‬وهذا العتراف وذاك السكن كان متحققا فيمن يولى من قريش‪ ،‬لن قريش كانت ذا‬
‫قوة وشوكة‪ ،‬وتعترف لها العرب بالتقدم والفضل والزعامة‪ ،‬ولم ينازعوها في ذلك‪ ،‬مما يجعل‬
‫أمر اجتماع الكلمة وحصول الطاعة لهم أقرب احتمال وأسهل منالً من غيرهم‪ ،‬ولذلك جاء‬
‫الحديث بالتنويه بهم وان الئمة منهم ليحصل الئتلف ويسهل النقياد ويتحقق مقصود‬
‫الخلفة[‪ .]27‬ثم يستنتج ابن خلدون فيقول‪" :‬فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع‬
‫بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع ل يخص الحكام بجيل ول عصر ول أمة‬
‫علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه اليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من‬
‫القرشية وهي وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي‬
‫عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن‬
‫الحماية"[‪ ]28‬ومعنى ذلك أن مآل القرشية‪ ،‬عنده أصبحت تعنى النتساب إلى جماعة قوية‬
‫يعترف الناس لها بالقوة والشوكة والتقدم والفضل ليحملهم ذلك على طاعة من يولى الخلفة‬
‫منهم‪ ،‬فتهدأ ثائرتهم ويسهل حكمهم‪ ،‬وينقادوا إلى الحكم المرضي المطلوب‪.‬‬
‫والواقع أن الحديث "الئمة من قريش" حديث صحيح ل مجال للطعن في سنده ول في متنه‪،‬‬
‫فيبقى تحديد المعنى المقصود منه‪ .‬والذي فهمه الفقهاء من هذا الحديث هو اشتراط النسب‬
‫القرشي في الخليفة‪ ،‬وهذا المعنى هو ما يذكرونه ول يذكرون غيره إل ابن خلدون‪ ،‬وهو فقيه‬
‫ومؤرخ‪ ،‬ذكر التوجيه الذي نقلناه عنه‪ .‬وما ذكره ابن خلدون في فهمه للحديث وان كان – في‬
‫نظرنا – يحتمله الحديث إل انه احتمال مرجوح‪ .‬كذلك يمكن القول على وجه الحتمال‬
‫المرجوح ان الحديث مسوق على سبيل الخبار بما سيقع ل على سبيل المر بما يقع‪ .‬وفي‬

‫‪159‬‬
‫ضوء هذا كله الذي يترجح عندي الن‪ ،‬انه إذا تساوى اثنان في شروط الخلفة وكان أحدهما‬
‫قرشيا وجب اختيار القرشي‪ .‬وإن كان القرشي عاريا من شروط الخلفة والخر مستوفيا لها‬
‫إل أنه غير قرشي قدم المستوفي لها على القرشي‪ ،‬لن مقاصد الخلفة ل تتحقق بالقرشي وهو‬
‫عاطل وعار من شروطها وإنما تتحقق بالخر الكفء القدير‪ ،‬لن الصل العام في الوليات‬
‫لزوم توافر القدرة والكفاءة‪ ،‬وقد وجدتا‪ .‬وان لم يوجد القرشي أصل كانت الخلفة لمن تتوافر‬
‫فيه بقية شروطها‪.‬‬

‫عزل الخليفة‬
‫‪ -144‬المة هي التي تختار الخليفة‪ ،‬فلها حق عزله‪ ،‬لن من يملك حق التعيين يملك حق‬
‫العزل‪ .‬ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي‪ ،‬وإل كان تعسفا في استعمال‬
‫الحق‪ ،‬واتباعا للهوى‪ ،‬وهذان ل يجوزان في شرع السلم‪ .‬والمبرر الشرعي لعزل الخليفة‪،‬‬
‫خروجه عن مقتضى وكالته عن المة خروجا يبرر عزله‪ ،‬أو عجزه عن القيام بمهام الخلفة‬
‫وهذا ما صرح به الفقهاء‪ ،‬فالمام ابن حزم يقول – وهو يتكلم عن المام – ما نصه‪..." ..‬‬
‫فهو المام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب ال تعالى وسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن‬
‫زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق‪ ،‬فإن لم يؤمن اذاه ال بخلعه خلع‬
‫وولي غيره"[‪ .]29‬ومن أقوال الفقهاء أيضا "وللمة خلع المام وعزله بسبب يوجبه مثل أن‬
‫يوجد منه ما يوجب اختلل أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه واقامته‬
‫لنتظامها واعلئها"[‪ .]30‬ومن أمثلة العجز عن مهام الخلفة الموجب لزوالها عنه أو عزله‬
‫واختيار غيره لمنصب الخلفة‪ :‬جنونه المطبق‪ ،‬وعماه‪ ،‬وأسره بيد العدو على وجه ل يرجى‬
‫خلصه لعجزه عن النظر في أمور المسلمين‪ ،‬فيختارون غيره ليقوم بمصالح المسلمين[‪.]31‬‬

‫تنفيذ العزل‬
‫‪ -145‬وإذا كانت المة تملك حق عزل الخليفة عند وجود السبب الشرعي الداعي لذلك‪ ،‬إل‬
‫انه يجب أن يعرف جيدا بأن مجرد وجود السبب الشرعي للعزل ل يعني بالضرورة لزوم‬
‫تنفيذ العزل‪ ،‬لنه عند التنفيذ يجب أن ينظر في امكانه ونتائجه‪ ،‬فإذا كان تنفيذه ممكنا ورؤي‬
‫انه ل تترتب على العزل نتائج مضرة بالمة تربو علىعدم عزله‪ ،‬وجب العزل في هذه‬
‫الحالة‪ .‬وإذا رؤي أن التنفيذ غير ممكن أو ممكن بذاته ولكن تترتب عليه نتائج مضرة بالمة‬
‫تزيد على اضرار بقائه وعدم عزله‪ ،‬وجب أو ترجح عدم التنفيذ‪ ،‬لن من قواعد المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر أن ل يكون العمل على إزالته المنكر مستلزما أو مقتضيا وقوع‬
‫منكر أعظم منه[‪.]32‬‬

‫‪160‬‬
‫المطلب الثاني ‪ -‬الشورى‬
‫وجوب الشورى‬
‫‪ -146‬مبدأ الشورى من أهم مقومات نظام الحكم في السلم‪ ،‬به نطق القرآن‪ ،‬وجاءت السنة‪،‬‬
‫وأجمع عليه الفقهاء‪ .‬وهو حق للمة وواجب على الخليفة‪ ،‬والتفريط به سبب لعزله كما‬
‫سنذكره‪ .‬والدلة على وجوبه تستفاد من القرآن ومن سيرة النبي صلى ال عليه وسلم ومن‬
‫أقوال الفقهاء‪:‬‬
‫أولً‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬وشاورهم في المر﴾ وظاهر المر يدل على الوجوب‪ .‬ومن أقوال الفقهاء‬
‫والمفسرين بصدد هذه الية قول ابن تيمية‪" :‬ل غنى لولي المر عن المشاورة فإنّ ال تعالى‬
‫أمر بها نبيه صلى ال عليه وسلم"[‪ .]33‬وجاء في تفسير الطبري بصدد آية ﴿وشاورهم في‬
‫المر﴾‪ .‬إنما أمر ال نبيه صلى ال عليه وسلم بمشاورتهم فيه تعريفا منه امته ليقتدوا به في‬
‫ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم"[‪ .]34‬وفي تفسير الرازي "قال الحسن‬
‫وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك – أي أمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم بالمشاورة –‬
‫ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته"[‪.]35‬‬
‫ثانيا‪ :‬ومما يؤكد وجوب المشاورة على رئيس الدولة أن النبي صلى ال عليه وسلم على جللة‬
‫قدره وعظيم منزلته كان كثير المشاورة لصحابه‪ ،‬شاورهم يوم بدر في التوجه إلى قتال‬
‫المشركين‪ .‬وشاورهم قبل معركة أحد أيبقى في المدينة أم يخرج إلى العدو‪ .‬وشاور السعدين‪:‬‬
‫سعد بن معاز وسعد بن عبادة يوم الخندق فأشارا عليه بترك مصالحة العدو على بعض ثمار‬
‫المدينة مقابل انصرافهم عنها فقبل رأيهما[‪ ،]36‬وهكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫كثير المشاورة لصحابه حتى قال العلماء "لم يكن أحد أكثر مشورة لصحابه من رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم"[‪.]37‬‬

‫ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة‬


‫‪ -147‬وإذا كانت المشاورة حقا للمة وواجبا على رئيس الدولة‪ .‬فإنّ التفريط بها إلى حد‬
‫تركها موجب للعزل‪ ،‬جاء في تفسير القرطبي "قال ابن عطية‪ :‬والشورى من قواعد الشريعة‬
‫وعزائم الحكام‪ ،‬من ل يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب"[‪ ]38‬فل بقاء لحاكم مستبد في‬
‫دولة السلم‪.‬‬

‫تعليل أهمية المشاورة‬

‫‪161‬‬
‫‪ -148‬مما ذكرناه يتبين لنا بوضوح أن المشاورة في نظام الحكم في السلم ذات أهمية‬
‫بالغة‪ ،‬وتعليل ذلك‪ ،‬على ما نرى‪ ،‬ان المشاورة سبيل معرفة الرأي الصواب لن كل مستشار‬
‫يظهر رأيه ووجهة هذا الرأي ومدى فائدته‪ .‬وبعرض هذه الراء ومقارنتها ومناقشتها يظهر‬
‫الصواب غالبا‪ .‬كما أن بالمشاورة استفادة بل جهد من خبرات الخرين وتجاربهم التي‬
‫اكتسبوها في سنين طوال وبجهود وتضحيات‪ .‬كما أن بالمشاورة عصمة لولي المر من‬
‫القدام على أمور تضر المة ول يشعر هو بضررها‪ ،‬ول سبيل الى اصلح الضرر بعد‬
‫وقوعه‪ ،‬ول يرفعه كونه حسن النية‪ ...‬وفي المشاورة أيضا تذكير للمة بأنها هي صاحبة‬
‫السلطان وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان‪ ،‬وفي هذا وذاك عصمة‬
‫من الطغيان الذي هو من صفات النسان‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬كل إن النسان ليطغى‪.﴾...‬‬

‫في أي شيء تجري الشورى‬


‫‪ -149‬والمشاورة مع المة تجري في شؤون الدولة المختلفة وفي المور الشرعية الجتهادية‬
‫التي ل نص فيها‪ ،‬أي أن رئيس الدولة يستشير في أمور الدين والدنيا كما يقول الفقهاء‪ ،‬فقد‬
‫جاء في تفسير الجصاص "الستشارة تكون في أمور الدنيان وفي أمور الدين التي ل وحي‬
‫فيها‪ ]39["...‬والمشاورة في أمور الدنيا أي في شؤون الدولة المهمة منها مثل تسيير الجيوش‬
‫واعلن الحرب وعقد المعاهدات واسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها ونحو ذلك‪،‬‬
‫فل تكون المشاورة في كل شيء من شؤون الدولة حتى في صغائرها وجزئياتها‪ ،‬فإنّ هذا غير‬
‫ممكن ول مطلوب ول حاجة اليه ول منفعة فيه ول دليل عليه‪.‬‬

‫أهل الشورى‬
‫‪ -150‬ولكن كيف تتم المشاورة؟ وهل يجب على رئيس الدولة أن يشاور المة كلها أو طائفة‬
‫منها أو أفرادا منها؟ المستفاد من سيرة النبي صلى ال عليه وسلم وهديه في الشورى‪ ،‬انه كان‬
‫يشاور جمهور المسلمين في المور التي تهمهم مباشرة كما حصل في مسألة الخورج إلى قتال‬
‫المشركين في معركة أحد‪ ،‬فقد استشار جمهورهم الموجودين في المدينة‪ ،‬وكان يقول "أشيروا‬
‫عليّ"[‪ .]40‬وكذلك في مسألة غنائم هوازن فقد حرص النبي صلى ال عليه وسلم على أن‬
‫يعرف آراء جميع المسلمين المشتركين في حرب هوازن في مسألة الغنائم التي صارت اليهم‪،‬‬
‫فقد جاء في أخبارها أن النبي صلى ال عليه وسلم بعد أن ذكر لهم ما يراه بصدد الغنائم‪ ،‬قال‬
‫الحاضرون "يا رسول ال رضينا وسلمنا‪ ،‬قال‪ :‬فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى‬
‫نعلم‪ ...‬فكان زيد بن ثابت على النصار يسألهم‪ :‬هل سلموا؟ فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم‬
‫ن أهل الشورى كانوا جميع‬
‫يتخلف عنهم رجل واحد‪ ...‬الخ"[‪ .]41‬فهذه الواقعة تدل على أ ّ‬

‫‪162‬‬
‫المسلمين الذين يتعلق بهم موضوع المشاورة‪ .‬وأحيانا كان النبي صلى ال عليه وسلم يستشير‬
‫بعض أصحابه ل كلهم كما حصل في مسألة أسرى بدر‪ ،‬فقد استشار عليه الصلة والسلم‬
‫بعض أصحابه في هؤلء السرى وهل يأخذ منهم الفداء أم ل؟‬
‫واستشار عليه الصلة والسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على‬
‫ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‬
‫إن كان هذا أمرا من السماء فامض له‪ ،‬وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع‬
‫وطاعة‪ ،‬وإن كان انما هو الرأي‪ ،‬فما لهم إل السيف‪ ،‬فأخذ الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫برأيهما وترك موضوع المصالحة مع غطفان[‪.]42‬‬
‫فهذه السوابق الثابتة في سنة النبي صلى ال عليه وسلم تدل على أن أهل الشورى‪ ،‬تارة‬
‫يكونون جمهور المة‪ ،‬وطورا يكونون جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويتعلق بهم‬
‫موضوع المشاورة كما في مسألة غنائم هوازن‪ ،‬وأحيانا يكون أهل الشورى المتبوعين في‬
‫قومهم كما في مسألة مصالحة غطفان حيث شاور النبي صلى ال عليه وسلم السعدين من‬
‫سادات النصار والمتبوعين فيهم‪ .‬وأحيانا أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين من ذوي‬
‫الرأي كما في مسألة أسرى بدر‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه السوابق يمكن أن نقول‪ :‬إن من يشاورهم رئيس الدولة يختلفون باختلف‬
‫موضوع المشاورة من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي ولطف ادراك‪،‬‬
‫فيشاور رئيس الدولة أهل الختصاص والمعرفة‪ ،‬وقد أشار المام القرطبي في تفسيره إلى ما‬
‫نقول‪ ،‬فقال رحمه ال "واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل يعلمون وما أشكل عليهم من‬
‫أمور الدين‪ ،‬ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب‪ ،‬ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح‪ .‬ووجوه‬
‫الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلد وعمارتها‪ ..‬إلى أن قال‪ ،‬قال العلماء صفة‬
‫المستشار إن كان في الحكام أن يكون عالما ودينا‪ ،‬وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا‬
‫أن يكون عاقلً مجربا"[‪.]43‬‬

‫الخلف بين رئيس الدولة وأهل الشورى‬


‫‪ -151‬وقد يختلف رئيس الدولة مع أهل الشورى‪ ،‬فما الحل في هذه الحالة؟ الحل ما أمرت به‬
‫الية الكريمة ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم‪ ،‬فإن تنازعتم‬
‫في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خير وأحسن تأويل﴾‬
‫فيجب رد المتنازع فيه إلى كتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم كما تقضي به الية‬
‫الكريمة وأجمع عليه المفسرون[‪.]44‬‬

‫‪163‬‬
‫فإذا وجد الحكم صريحا في الكتاب أو السنة وجب اتباعه ول طاعة لحد في مخالفته وان لم‬
‫يوجد الحكم صريحا‪ ،‬فأي الراء أشبه بكتاب ال وسنة رسوله عمل به[‪.]45‬‬

‫الخذ برأي رئيس الدولة‬


‫‪ -152‬وإذا لم يظهر الرأي الذي هو أشبه بكتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬وبقي الخلف بين رئيس‬
‫الدولة وبين أهل الشورى‪ ،‬فما الحكم في هذه الحالة؟ الذي نراه ونرجحه ترك المر إلى رئيس‬
‫الدولة‪ ،‬فان شاء أخذ برأي الكثرية‪ ،‬وإن شاء أخذ برأي القلية‪ ،‬وإن شاء أخذ برأيه هو وإن‬
‫كان خلف رأي الكثرية والقلية‪ .‬وقد يبدو قولنا هذا غريبا‪ ،‬لن الذهان ألفت الخذ برأي‬
‫الكثرية دائما إلى درجة العتقاد بأن الخذ به ملزم‪ ،‬وان الخروج على رأي الكثرية علمة‬
‫الستبداد والتعسف‪ ،‬إلى آخر ما يقال في هذا المجال‪ ،‬ولكن الحق أحق أن يتبع‪ ،‬فما هي حجتنا‬
‫فيما قلناه؟ إن حجتنا تتلخص بالدلة التية‪:‬‬

‫أدلة الخذ برأي رئيس الدولة وإن خالف رأي الكثرية‬


‫‪ -153‬أولً‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬وشاورهم في المر فإذا عزمت فتوكل على ال﴾ قال قتادة في‬
‫تفسير هذه الية‪" :‬أمر ال تعالى نبيه عليه السلم إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل‬
‫على ال ل على مشاورتهم"[‪.]46‬‬
‫ثانيا‪ :‬السوابق القديمة ومنها ما فعله الخليفة الراشد أبو بكر الصديق في جيش أسامة‪ ،‬وفي‬
‫محاربة المرتدين‪ .‬وخلصة القول في جيش أسامة بن زيد‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أرسله قائدا على جيش من المسلمين فيه كبارهم وأبطالهم وأمره بالتوجه إلى جهة فلسطين‪،‬‬
‫وقبل أن ينفصل من المدينة توفي الرسول صلى ال عليه وسلم فتوقف أسامة حتى بويع أبو‬
‫بكر بالخلفة‪ ،‬فأرسل إليه عمر بن الخطاب يستأذنه بالرجوع مع جيشه ليكون بجانبه ويسهم‬
‫في دفع شر المرتدين عن المدينة وكان هذا رأي عمر بن الخطاب أيضا وغيره من المسلمين‬
‫ولكن أبا بكر رفض هذا الرأي وقال‪ :‬وال لو علمت أن السباع تجر برجلي ان لم أرده ما‬
‫رددته ول حللت لواء عقده رسول ال صلى ال عليه وسلم[‪.]47‬‬
‫أما قصة المرتدين‪ ،‬فقد كان منهم فريق كبير امتنعوا ان أداء الزكاة مع بقائهم على اليمان بال‬
‫وبرسوله‪ ،‬وأرسلوا وفدا إلى المدينة ليقنع الخليفة بالموافقة على ذلك‪ ،‬فرفض أبو بكر هذا‬
‫الرأي وقال‪ :‬وال لو منعوني عقالً لجاهدتهم عليه وظل أبو بكر رضي ال عنه على هذا‬
‫الرأي بالرغم من رأي أكثر الصحابة أن اللين أولى في هذه الحالة‪ ،‬لضعف المسلمين وانتشار‬
‫الردة وكثرة المرتدين ولكن أبا بكر ظل باقيا على رأيه ماضيا في الذي شرح ال له صدره‬
‫من الحق ل يضعف ول يني[‪.]48‬‬

‫‪164‬‬
‫ووجه الدللة في هذه السابقة القديمة أن أبا بكر رضي ال عنه أخذ برأيه ونفذه ولم يأخذ برأي‬
‫غيره وإن كانوا كثيرين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬إن الخليفة – رئيس الدولة – مسؤول مسؤولية كاملة عن أعماله‪ ،‬فل يجوز الزامه بتنفيذ‬
‫رأي غيره إن لم يقتنع بصوابه‪ ،‬لن كون النسان مسؤول عن عمله يعني أن يعمله باختياره‬
‫ورأيه ل أن يعمل وينفذ رأي غيره على وجه اللزام وهو كاره له غير مقتنع به ثم يسأل هو‬
‫عن هذا الرأي ونتائجه‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬إن صواب الرأي أو خطأه يستمدان من ذات الرأي وطبيعته ل من كثرة أو قلة القائلين‬
‫به‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬ليست الكثرة لذاتها دليلً قاطعا أو راجحا على الصواب‪ ،‬كما أن القلة ليست لذاتها‬
‫دليلً أو راجحا على الخطأ‪ ،‬إذ يمكن أن يكون الخطأ مع الكثرة‪ ،‬وقد أشار القرآن إلى هذه‬
‫الحقيقة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وإن تطع أكثر من في الرض يضلوك﴾﴿قل ل يستوي الخبيث والطيب‬
‫ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬في حالة الحروب‪ ،‬وهي أخطر ما تمر به المة‪ ،‬يفوض المر إلى قائد الجيش لينفذ ما‬
‫يراه من خطط الهجوم والدفاع بعد أن يستشير مساعديه‪ ،‬ول يلزم برأيهم مطلقا وان كان‬
‫ملزما باستشارتهم‪ ،‬ومعنى ذلك أن البشر يدركون بفطرتهم ان خير حل عند اختلف الرئيس‬
‫مع مستشاريه هو ترك المر له يقرر ما يراه‪ ،‬ولهذا يأخذون بهذا الحل في حالة الحرب‪ ،‬مع‬
‫أن خطأ القائد قد يؤدي إلى فناء الجيش وهلك المة‪ ،‬ولكن مع هذا يأخذون بهذا الحل لنه‬
‫خير الحلول وأصوبها عند اختلف الرئيس مع من يشاورهم‪.‬‬

‫اعتراضات ودفعها‬
‫‪ -154‬إنّ رأينا الذي قدمناه واعتبرناه هو الراجح‪ ،‬بل ونعتبره هو الصحيح قد يعترض‬
‫البعض عليه بالعتراضات التالية‪:‬‬
‫العتراض الول‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أخذ برأي الكثرية في مسألة الخروج إلى‬
‫معركة أحد مع أنه كان يميل إلى عدم الخروج‪ .‬والجواب أن النبي صلى ال عليه وسلم إنما‬
‫أخذ برأيهم لنه رأى ذلك‪ ،‬ل لن الخذ برأي الكثرية ملزم‪ ،‬وكلمنا في الزام الكثرية‬
‫لرئيس الدولة أو عدم الزامه‪.‬‬
‫العتراض الثاني‪ :‬ما فائدة المشاورة إذا لم يلتزم رئيس الدولة برأي من يشاورهم أو برأي‬
‫أكثريتهم؟ والجواب‪ ،‬فائدة المشاورة تظهر في ظهور الرأي الصواب والمظنون في رئيس‬
‫الدولة أن يأخذ بالصواب‪ ،‬فإذا لم يؤخذ برأيهم فمعنى ذلك أنه لم يقتنع بما قيل ل لكونه يريد‬
‫العناد والخلف‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫العتراض الثالث‪ :‬أن ال تعالى أمر بالمشاورة وهذا المر يتضمن الخذ برأي من يشاورهم‪،‬‬
‫والجواب‪ ،‬المشاورة غير التنفيذ‪ ،‬وال تعالى أمر بالمشاورة‪ ،‬وينقضي حق هذا المر باجراء‬
‫المشاورة فعل‪ ،‬اما التنفيذ فشيء آخر‪ ،‬وهو متروك لرئيس الدولة حسب ما يراه‪ ،‬ما دام المر‬
‫اجتهاديا‪.‬‬

‫حق الفراد في ابداء آرائهم‬


‫‪ -155‬وقيام الخليفة بمشاورة أهل الحل والعقد ل يعني أن غيرهم من أفراد المة ل حق لهم‬
‫في ابداء آرائهم في شؤون الحكم وتصرفات الخليفة‪ ،‬فالواقع أن لكل فرد أن يبدي رأيه فيما‬
‫يرى فيه المصلحة أو إزالة مفسدة‪ ،‬وأساس هذا الحق تكليف الشارع لكل مسلم بالمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬بل جعل القيام بهذا التكليف من صفات المؤمنين الصلية قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فان لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان"‪ .‬ومن الواضح أن القيام‬
‫بهذا الفرض يستلزم تمتع الفرد بحق ابداء رأيه بالمعروف الذي يأمر به وبالمنكر الذي يريد‬
‫تغييره وهذا الحق للفراد متمم للشورىة ومساعد لها ويتفق مع أهدافها لن به يعان الخليفة‬
‫على معرفة الصواب وتجنب الخطأ‪ ،‬فقد يفوت أهل الشورى بعض المور التي يعرفها غيرهم‬
‫من أفراد المة‪ .‬وعلى هذا ل يجوز للخليفة أو لغيره من أولياء المور النتقاص من هذا الحق‬
‫للفراد كما ل يجوز للفراد التنازل عنه أو تعطيله‪ ،‬لنه حق أوتوه من الشرع ليتمكنوا من‬
‫أداء ما افترض عليهم من واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬ولهذا كان الحكام‬
‫الصالحون يربون أفراد المة على حرية الرأي ويحثونهم على هذه الصفة ويعيبونهم على‬
‫تركها‪ ،‬قال رجل للمام عمر بن الخطاب "اتق ال يا عمر‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬ال فلتقولوها‪ :‬ول‬
‫خير فينا إن لم نسمعها"‪ .‬وفي خطبة لبي بكر رضي ال عنه "فإن أحسنت فاعينوني‪ ،‬وإن‬
‫زغت فقوموني"[‪.]49‬‬

‫حدود حرية الرأي‬


‫‪ -156‬وحق الفراد في إبداء آرائهم في تصرفات الخليفة‪ ،‬له حدود وضوبط‪،‬‬
‫الول‪ :‬أن يكون قصد صاحبه بذل النصح الخالص للخليفة‪ ،‬جاء في الحديث الصحيح الذي‬
‫رواه المام مسلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قال "الدين النصيحة‪ ،‬قلنا لمن؟ قال ل ولكتابه‬
‫ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم"‪ .‬فل يجوز للفرد أن يقصد في بيان رأيه في تصرفات‬

‫‪166‬‬
‫الحكام التشهير بهم أو تكبير سيئاتهم أو انتقاصهم أو تجريء الناس عليهم أو نحو ذلك من‬
‫المقاصد الباطلة التي ل يراد بها وجه ال ول الخير للمنصوح ول المصلحة للمة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يكون بيان المسلم لرأيه في تصرفات الحكام على أساس من العلم والفقه‪ ،‬فل يجوز‬
‫أن ينكر عليهم أو ينتقصهم في المور الجتهادية‪ ،‬لن رأيه ليس أولى من رأيهم ما دام المر‬
‫اجتهاديا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ل يجوز للفراد احداث الفتنة ومقاتلة المخالفين لهم بالرأي إذا لم يأخذوا برأيهم ما دام‬
‫المر يحتمل رأيهم ورأي غيرهم‪.‬‬

‫تنظيم الشورى في الوقت الحاضر‬


‫‪ -157‬ذكرنا في الفقرات السابقة السوابق الثابتة في السنة النبوية في موضوع الشورى‪،‬‬
‫ومجموعها يدل على أن الشريعة السلمية لم تنص على كيفية خاصة لتحقيق مبدأ الشورى‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أنها تركت تنظيم الشورى للمة السلمية على النحو الذي يلئم ظروفها وأحوالها‬
‫ويحقق مقصود الشورى ومعرفة رأي المة‪ .‬وهذا في الحقيقة من حسنات الشريعة واحتياطها‬
‫للمستقبل‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬فيبدو لنا‪ ،‬أن ما يوافق العصر الحاضر أن تقوم المة بانتخاب أهل‬
‫الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة ويعتبرون بنفس الوقت أهل العقد والحل‪ ،‬على أن يكون‬
‫لرئيس الدولة الحق في مشاورة أهل الختصاص في موضوع اختصاصهم‪ ،‬وأن يكون له‬
‫الحق في استفتاء المة في المسائل الخطيرة‪ ،‬وأن يوضع نظام مفصل لكل هذه المسائل‬
‫وغيرها مما له علقة في موضوع الشورى في ضوء قواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها في‬
‫نظام الحكم‪ .‬كما يجب توفير حرية الرأي للمواطنين لبداء آرائهم في شؤون الدولة في الحدود‬
‫الشرعية‪ ،‬فل يجوز مثل التشهير والطعن والسباب وفاحش الكلم والفتراء والتضليل بحجة‬
‫ابداء الرأي‪ ،‬فليس من حق أحد أن يشيع الفساد بحجة ابداء الرأي‪ .‬والواقع أن مجرد وضع‬
‫النظمة ل يكفي لتحقيق النتخاب السليم ول لتحديد حدود الرأي المباح الخالص من الغش‬
‫والدجل‪ ،‬وإنما الذي يفيد كثيرا في هذا الباب – مع وضع النظمة اللزمة – اشاعة المفاهيم‬
‫السلمية والخلق السلمية‪ ،‬وتربية الفراد على معاني العقيدة السلمية ومخافة ال وتقواه‬
‫في السر والعلن‪ ،‬فبهذا يقف النسان عند الحدود الشرعية ويقوم بواجبه على الوجه المرضي‬
‫سواء أكان هذا الواجب في انتخاب أعضاء مجلس الشورى أو في قيام هؤلء بابداء آرائهم أو‬
‫في ابداء آحاد الناس آراءهم فيما يرونه من وجوه المصلحة‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪ -‬الخضوع لسلطان السلم‬


‫تمهيد‬

‫‪167‬‬
‫‪ -158‬قلنا فيما مضى‪ :‬إن المة مخاطبة بأحكام الشرع مكلفة بتنفيذها مثل أحكام العقوبات‬
‫والجهاد والحكم بين الناس بالعدل ونحو ذلك من الحكام الشرعية التي هي من الفروض في‬
‫السلم‪ ،‬وانها تملك – بتمليك الشرع لها – السلطة لتنفيذ هذه الحكام وحمل الناس عليها‪.‬‬
‫وحيث إن تنفيذ هذه الحكام باستعمالها سلطتها‪ ،‬ول يمكن أن يكون عن طريق جماعي‪ .‬فقد‬
‫برزت قاعدة النيابة لتحقيق ذلك‪ ،‬بأن تنيب المة واحدا عنها من يباشر سلطانها نيابة عنها‬
‫لتحقيق ما هي مكلفة به‪ ،‬وهذا النائب هو الخليفة‪.‬‬

‫سلطان المة مقيد غير مطلق‬


‫‪ -159‬ولكن سلطان المة مقيد غير مطلق‪ ،‬مقيد بالغرض الذي من أجله منحت المة هذا‬
‫السلطان من قبل الشرع‪ ،‬ومعنى ذلك أن سلطانها مقيد بسلطان ال المطلق الذي له الحاكمية‬
‫الحقة المطلقة ﴿إن الحكم إل ل﴾ وارادته الشرعية المتمثلة في شرعه‪ ،‬ومن شرعه نظام‬
‫الحكم في السلم‪ .‬وعلى هذا فإنّ سلطان المة في الحقيقة سلطان تنفيذ لشرع ال ومنه نظام‬
‫الحكم وليس بسلطان خلق وابتداع لنظام يهواه‪...‬‬

‫سلطان الخليفة مقيد غير مطلق‬


‫‪ -160‬وإذا كان سلطان المة مقيد بسلطان السلم أي بشرائعه وأحكامه ونظمه‪ ،‬ومنها نظام‬
‫الحكم‪ ،‬فإنّ الخليفة – وهو نائبها – سلطانه في الحكم مقيد أيضا بسلطان السلم‪ ،‬لنه ل يمكن‬
‫أن يملك الوكيل أكثر مما يملكه الموكل من سلطة وحق‪ ..‬فسلطانه‪ ،‬سلطان تنفيذ للشرع‪،‬‬
‫وليس بسلطان ابتداع لشرع‪ ،‬ولهذا قال عمر بن عبد العزيز في خطبته بعد توليه الخلفة‪ :‬إنما‬
‫أنا متبع ولست بمبتدع‪...‬‬

‫ما يترتب على تقييد سلطان المة والخليفة‬


‫‪ -161‬ويترتب على تقييد سلطان المة والخليفة بسلطان السلم انه ل يملك واحد منهما‬
‫الخروج على هذا السلطان أبدا‪ ،‬فل يجوز لحدهما ول لكليهما‪ ،‬وإن كان برضى منهما تغيير‬
‫شرع ال أو اتباع غيره‪ ،‬لن التفاق على الباطل ل بقلبه حقا ول يعطي المتفقين عليه تبريرا‬
‫شرعيا لعملهم الباطل‪ ...‬ولكن يجوز للخليفة وضع الترتيبات اللزمة لتنفيذ شرع ال ومنه‬
‫نظامه في الحكم‪ ،‬أو وضع النظمة اللزمة لدارة شؤون الدولة في نطاق القواعد العامة في‬
‫الشرع السلمي‪ ،‬ما دام ل يوجد نص أو نصوص تحكم هذه الشؤون‪ ..‬وهذه الدائرة التي‬
‫يباح فيها للخليفة وضع هذه النظمة لتسهيل تنفيذ شرع ال وادارة شؤون الدولة هي التي‬
‫تدخل فيما يسميه الفقهاء بالمور الجتهادية التي يجوز فيها البحث والنظر‪ ،‬وتشريع الحكام‬

‫‪168‬‬
‫الجزئية في نطاق الجتهاد وقواعده وضوابطه‪ ،‬ويلزم تنفيذ هذه الحكام الجتهادية السائغة‪،‬‬
‫ول يجوز للمة ول لهل الحل والعقد عصيان هذه الحكام ول التمرد عليها ما دام الخليفة قد‬
‫قرر تنفيذها‪ ،‬ول يقبل منهم تبرير عصيانهم بمخالفة هذه الحكام لرائهم الجتهادية لن‬
‫الجتهاد ل ينقض بمثله كما يقول الفقهاء‪ .‬إل أنه من المرغوب فيه جدا للخليفة بل قد يكون‬
‫من الواجب عليه أن يشاور أهل الشورى فيما يريد تشريعه من المور الجتهادية كما كان‬
‫يفعل المام عمر بن الخطاب‪ ،‬ومن أمثلة ما فعله هذا المام الراشد تشاوره مع أهل الشورى‬
‫في مسألة تقسيم أراضي السواد في العراق أيقسمها على الفاتحين أم يبقيها بأيدي أصحابها‬
‫ويضرب على أراضيهم الخراج؟ ول شك أن الخليفة عندما يشاور أهل الشورى في هذه‬
‫المسائل قد يخرجون برأي واحد وقد يختلفون‪ ،‬وعند الختلف يترك المر للخليفة ليختار‬
‫الرأي الذي يراه‪ .‬والمأمول دائما أن الرأي الصواب فالراجح جدا أن الخليفة يقبله لنه ل‬
‫مصلحة له في مخالفة الصواب وهو المنصوب لتنفيذ أحكام الشرع وتحقيق مصالح المة‪ ،‬وإذا‬
‫قدر أنه لم يقتنع بوجهات نظر الخرين الصائبة وأخذ بوجهة نظر خاطئة فهذا نادر‪ ،‬ل غالب‪،‬‬
‫لن الغالب ما قلناه‪ ،‬والعبرة للغالب الشائع ل للنادر‪...‬‬

‫الجدية والمساواة في تنفيذ شرع ال‬


‫ن هذا الخضوع‬
‫‪ -162‬وإذا كان الخليفة والمة خاضعين لسلطان السلم المتمثل في شرعه فإ ّ‬
‫يظهر في جدية التنفيذ والمسارعة فيه والحرص عليه‪ ،‬فل يفيد الدعاء بالخضوع لسلطان‬
‫السلم مع المخالفة الفعلية له‪ .‬ومع هذه الجدية في التنفيذ والمسارعة فيه‪ ،‬مساواة بين الرعية‬
‫في تنفيذ القانون السلمي عليهم‪ ،‬لن الخليفة ل يملك تعطيل القانون بالنسبة لواحد منهم وإل‬
‫كان مسؤول عن ذلك مسؤولية دينية أمام ال في الخرة‪ ،‬وأمام المة التي اختارته في الدنيا‪.‬‬
‫كما أن المة كلها ل تملك تعطيل القانون بالنسبة لي فرد ول يجوز لها السعي في هذا‬
‫المجال المحرم بالشفاعة السيئة أو التأثير على الخليفة‪ .‬وقد بين الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫هذه المعاني بصورة حاسمة وصريحة في مسألة المرأة المخزومية التي سرقت وأه ّم الناس‬
‫أمرها فطلبوا من أسامة أن يكلم فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم على وجه الشفاعة لها‬
‫عنده عسى أن يعفيها من اقامة الحد أو يجد لها مخرجا‪ ،‬وقد غضب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم لذلك‪ ،‬وقال في خطبة له في الناس على أثر ذلك‪" :‬إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا‬
‫سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ال لو أن فاطمة‬
‫بنت محمد سرقت لقطعت يدها"‪.‬‬

‫الدولة السلمية دولة قانونية‬

‫‪169‬‬
‫‪ -163‬وإذا تبين لنا أن الخليفة والمة خاضعون لسلطان السلم‪ ،‬فإنّ معنى ذلك أن الدولة‬
‫السلمية يمكن وصفها بأنها "دولة قانونية" أو "دولة قانون" أي أنها تخضع في جميع‬
‫تصرفاتها وشؤونها‪ ،‬كما يخضع جميع الفراد في جميع تصرفاتهم وعلقاتهم إلى القانون‪.‬‬
‫وأعنى القانون هنا‪ ،‬بالنسبة للدولة السلمية القانون السلمي المتمثل بكتاب ال وسنة رسوله‬
‫وما قام عليهما من استنباط صحيح واجتهاد سائغ مقبول‪ ..‬قال تعالى‪﴿ :‬اتبعوا ما أنزل اليكم‬
‫من ربكم ول تتبعوا من دونه أولياء‪﴿ ﴾...‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم﴾‪.‬‬
‫ويترتب على ذلك أن نظام الحكم السلمي ل يقوم على معنى باطل قد يتلبس الحكم أو يقارنه‬
‫أو يخالطه مثل الهوى والطغيان والتكبر في الرض وحب الفساد والتسلط على الخرين‬
‫وغمط حقوق الناس وتسخيرهم للشهوات ونحو ذلك من المعاني الفاسدة التي ل تنفك عنها نظم‬
‫الحكم الوضعية‪ ،‬لن نظام الحكم السلمي خاضع للقانون السلمي المبرأ من هذه العيوب‬
‫والمفاسد‪ .‬ومن مظاهر هذا الخضوع أن المة في اختيارها للخليفة أو أهل الشورى‪ ،‬تختارهم‬
‫وفقا للموازين الشرعية‪ ،‬بعيدة عن الهواء‪ ،‬وهؤلء المنتخبون في مجلس الشورى يباشرون‬
‫حقهم في ابداء الرأي مستحضرين في قلوبهم مخافة ال ومراقبته فل يقولون إل ما يعتقدونه‬
‫الحق والصواب ول يألون جهدا في إرادة الخير للمة والنصح للخليفة ول يبغون من وراء‬
‫ذلك إل مرضاة ال‪ ...‬وأفراد المة عندما ينتقدون أو يبدون آراءهم في تصرفات الخليفة‬
‫يفعلون ذلك وهم يشعرون بلزوم خضوعهم إلى شرع ال الذي يأمرهم بالعدل في القول‬
‫والصدق فيه وإرادة النصح الخالص في النقد أو العتراض‪ .‬والخليفة في شؤون ومباشرته‬
‫سلطان الحكم إنما يستهدي بشرع ال‪ ،‬فل يعطي ول يمنع ول يقدم ول يحجم إل ببرهان من‬
‫شرع ال‪ ،‬وينفذ القانون السلمي بعدل ومساواة وجدية‪ ،‬ل تمنعه من إقامة الشرع صداقة ول‬
‫قرابة ول أي معنى من المعاني التي ل يعترف بها الشرع في مجال التنفيذ‪ ،‬لن تنفيذ القانون‬
‫السلمي من لوازم خضوعه له كما قلنا‪ ،‬ول يعطل تنفيذه بحجة الرحمة المتوهمة‪ ،‬فالرحمة‬
‫الحقة في تنفيذ القانون السلمي ل في تعطيله‪ ،‬وقد نبهنا ال تعالى إلى هذا الجانب الضعيف‬
‫في النفس النسانية الذي يتسلل منه الشيطان ليمنع ولي المر من اقامة حدود ال‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ول تأخذكم بهما رأفة في دين‬
‫ال‪.﴾...‬‬
‫ن أي خلف‬
‫وإذا كانت الدولة السلمية دولة قانون‪ ،‬وقانونها هو شرع ال – السلم – فإ ّ‬
‫ينشب يكون مرجعه إلى هذا الشرع‪ ،‬ل إلى شيء غيره‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فإن تنازعتم في شيء‬
‫فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر﴾‪ .‬والمحق من كان الحق بجانبه‬
‫ببرهان من الشرع ومن ثم تكون الدولة بجانبه وان كان ضعيفا‪ ،‬والمبطل من لم يكن الحق‬
‫بجانبه ببرهان من الشرع ومن ثم تكون الدولة ضده وإن كان قويا‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ن معنى ذلك أن‬
‫‪ -164‬وإذا كانت الدولة السلمية دولة قانونية‪ ،‬خاضعة لسلطان السلم فإ ّ‬
‫الحكم الحقيقي والسلطان الحقيقي لمشرّع هذا السلم وهو ال جل جلله وصدق ال العظيم إذ‬
‫يقول ﴿إن الحكم إل ل﴾‪.‬‬

‫المطلب الرابع ‪ -‬مقاصد الحكم في السلم‬


‫الحكم وسيلة ل غاية‬
‫‪ -165‬الحكم في السلم وسيلة ل غاية‪ ،‬وسيلة فعالة إلى مقاصد معينة يستطيع الحكم تحقيقها‬
‫لما للحاكم من سلطان يستطيع به تنفيذ ما يعجز عنه آحاد المسلمين‪ ،‬فيختصر الطريق ويبلغ‬
‫الهداف ويحقق المقاصد وهي بعض مقاصد السلم‪ ،‬فما هي مقاصد الحكم السلمي؟‬

‫مقاصد الحكم‬
‫‪ -166‬يقول الفقهاء في تعريفهم للمامة أي الخلفة "المامة موضوعة لخلفة النبوة في‬
‫حراسة الدين وسياسة الدنيا به"[‪.]50‬‬
‫فهذا التعريف يؤكد على وظائف الخلفة أي مقاصد الحكم ويجملها في مقصدين كبيرين‬
‫الول‪ :‬حراسة الدين‪ ،‬والثاني‪ :‬سياسة الدنيا به‪.‬‬
‫فل بد من الكلم عن كل مقصد على حدة وبيان ما يندرج تحته من مقاصد فرعية‪.‬‬

‫المقصد الول‪ :‬حراسة الدين‬


‫‪ -167‬ويقصد بالدين هنا بداهة السلم‪ ،‬فهو الدين المطلوب حراسته بالحكم‪ .‬وحراسته تعني‬
‫شيئين‪ :‬حفظه وتنفيذه‪ .‬فما معنى الحفظ والتنفيذ في هذا المقام؟‬
‫‪ -168‬أولً‪ :‬حفظه‬
‫وحفظ السلم يعني ابقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وسار عليها صحابته الكرام ونقلوها إلى الناس من بعده‪ .‬وعلى هذا ل يجوز أي‬
‫تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني‪ ،‬لن التحريف والتبديل يدخلن في نطاق البتداع‬
‫المذموم في دين ال‪ .‬ول يجوز التردد أبدا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في ابداء‬
‫الرأي وحرية الفكر والجتهاد‪ ..‬لن الفرد ان كان مسلما فليس من حقه أن يبدل دين ال‪ ،‬وإذا‬
‫اختار لنفسه الضللة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدا أن يضل الخرين أو يفسد عقائدهم‪.‬‬
‫وإن كان الفرد غير مسلم فليس من حقه أبدا أن يخرج على نظام دار السلم ويشوه حقائق‬
‫السلم وإل كان ناقضا لعقد الذمة‪ .‬ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ‪ ،‬نتيجة‬
‫فهم سقيم أو تضليل خبيث فيجب على ولي المر – الخليفة – أو نائبه‪ ،‬أن يعمل على كشف‬

‫‪171‬‬
‫الشبهة واظهار الصواب بالدليل والبرهان حتى يظهر الحق وتقوم الحجة‪ ،‬فإن أصر المبطل‬
‫على باطله وسعى ِإلى نشره في الناس منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع‪ .‬وقد أشار‬
‫الفقهاء إلى ما ذكرناه فقد قالوا‪ :‬إن على المام "حفظ الدين على الصول التي أجمع عليها‬
‫سلف المة‪ .‬فان زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب‪ ،‬وأخذه بما يلزمه من‬
‫الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل والمة ممنوعة من الزلل"[‪.]51‬‬
‫‪ -169‬ومن لوازم حفظ الدين "تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى ل تظهر‬
‫العداء بغرة ينتهكون فيها محرما ويسفكون فيها لمسلم أو معاهدا دما"[‪ .]52‬والحقيقة أن دفع‬
‫العداء عن دار السلم ضروري لحفظ الدين وبقائه لن استيلء الكفرة على دار السلم‬
‫ضياع للسلم وطمس لحقائقه وفتنة عظيمة للمسلمين وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له‬
‫وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع والتضليل‪ .‬بل‬
‫نستطيع القول أن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلءه واظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى ل‬
‫يبقى للباطل حكم قائم ول راية مرفوعة‪ ،‬وهذا ما أشار اليه الماوردي إذ يقول‪ ،‬وهو يعدد‬
‫واجبات المام‪" ،‬والسادس جهاد من عاند السلم بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل الذمة ليقام‬
‫بحق ال تعالى في اظهاره على الدين كله"[‪.]53‬‬
‫‪ -170‬ثانيا‪ :‬تنفيذه‬
‫وأما تنفيذ الدين‪ ،‬السلم‪ ،‬وهو المظهر الثاني لحراسته‪ ،‬فيتحقق في أمور منها‪ :‬تطبيق أحكامه‬
‫في سائر معاملت الناس وعلقاتهم فيما بينهم‪ ،‬وفي علقاتهم مع الدولة‪ ،‬وفي علقة الدولة –‬
‫دار السلم – مع غيرها من الدول‪ .‬ومنها‪ :‬حمل الناس على الوقوف عند حدود ال والطاعة‬
‫لوامره وترغيبهم في ذلك ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية‪ .‬ومنها إزالة المفاسد‬
‫والمنكرات من المجتمع كما يقضي به السلم‪ ،‬إذ ل يمكن الدعاء بحفظ الدين مع ترك‬
‫المفاسد والمنكرات بل إنكار ول إزالة مع توفر القدرة على ذلك‪ .‬وقد أشار القرآن الكريم إلى‬
‫هذا المقصد من مقاصد الحكم السلمي‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬الذين إن مكناهم في الرض أقاموا‬
‫الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور﴾‪.‬‬

‫المقصد الثاني‪ :‬سياسة الدنيا به‬


‫‪ -171‬إن هذا المقصد يعني أن الدنيا داخلة في نطاق الدين‪ ،‬محكومة به‪ ،‬غير خارجة عنه‪.‬‬
‫والقول الجامع في سياسة الدنيا بالدين هو إدارة شؤون الدولة والرعية على وجه يحقق‬
‫المصلحة ويدرأ المفسدة‪ ،‬وهذا يتم إذا كانت إدارة شؤون الحياة وفقا لقواعد الشريعة ومبادئها‬
‫وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقا لقواعد الجتهاد السليم‪ .‬فهذه هي السياسة‬

‫‪172‬‬
‫الشرعية لمور الدنيا بالدين‪ .‬ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم السلمي ويلتزم‬
‫بها الحاكم المسلم‪ ،‬والتي أشار إليها الفقهاء ما يأتي‪:‬‬
‫أ‌) اقامة العدل بين الناس‬
‫‪ -172‬أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين‪ ،‬اللتزام التام بالعدل في إدارة شؤون الناس وعدم‬
‫الحيدة عنه مطلقا‪ ،‬لنه هو الساس الذي ل قيام لدولة بدونه ول بقاء لمة بفقده‪ ،‬ولهذا كان‬
‫من صفة عقد البيعة للمام أن يقال فيها "بايعناك بيعة رضى على إقامة العدل والنصاف‬
‫والقيام بفروض المامة"[‪.]54‬‬
‫والعدل يتضمن اعطاء كل انسان حقه وعدم ظلمه في شيء‪ .‬فمن الظلم تكليفه بما ل يجب‬
‫عليه شرعا أو أخذ ماله بغير وجه حق أو منعه ما يستحق‪ ،‬وهذا ما أشار إليه الفقهاء‪ ،‬فالفقيه‬
‫الماوردي يقول – وهو يعدد واجبات المام – "وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع‬
‫نصا واجتهادا من غير عسف وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غيرسرف ول‬
‫تقصير فيه ودفعه في وقت ل تقديم فيه ول تأخير"[‪ .]55‬والعلمة ابن خلدون يوضح الظلم‬
‫الممنوع فيقول "ول تحسبن الظلم انما هو أخذ المال أوالملك من يد مالكه من غير عوض ول‬
‫سبب‪ ،‬كما هو المشهور‪ ،‬بل الظلم أعم من ذلك‪ .‬وكل من أخذ ملك أحد‪ ،‬أوغصبه في عمله‬
‫أوطالبه بغير حق‪ ،‬أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‪ .‬فجباة الموال بغير حق‪،‬‬
‫والمنتهبون لها ظلمة‪ ،‬والمانعون لحقوق الناس ظملة‪ .‬ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب‬
‫العمران"[‪ .]56‬وعلى هذا يجب على الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم‪ ،‬وأول‬
‫ما يلزمه في هذا الباب اختيار الموظفين الكفاء المناء‪ ،‬والثاني مراقبتهم‪.‬‬
‫‪ -173‬أما اختيار الموظفين الكفاء‪ ،‬فهذا شيء ضروري‪ ،‬لن الخليفة ل يمكنه أن يباشر‬
‫أمور الناس بنفسه لن ذلك فوق طاقته بل ويستحيل عليه حتى لو أراده‪ .‬وإنما يباشر أمور‬
‫الناس بواسطة نوابه أي الموظفين الذين يختارهم‪ ،‬فعليه أن يتخير الكفء المين‪ .‬ومرد الكفاءة‬
‫إلى القدرة على ما يتوله‪ ،‬ومرد المانة عدم التفريط بشؤون ما ولي عليه من أمور‪ ،‬وقد أشار‬
‫القرآن الكريم إلى قانون تولي المور الواجب مراعاته من كل حاكم وولي أمر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫إن خير من استأجرت القوي المين﴾‪ .‬فإذا وفق الخليفة إلى حسن اختيار الموظفين الكفاء‬
‫المناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم‪ ،‬وشعر الناس بالمن والمان‬
‫والطمئنان‪ ،‬وانكمش أولو الطماع وأهل البغي‪ ،‬ولم يستطع قوي أن يعتدي على ضعيف لن‬
‫الدولة أقوى منه‪ ،‬ولم يخش الضعيف المحق من عدوان القوي لن الدولة مع المحق وإن كان‬
‫ضعيفا‪ .‬وهذا كله يؤدي إلى كسب قلوب الناس وربطهم لنها في نظرهم كالبيت لهم‬
‫وكالحارس لحقوقهم‪ .‬أما إذا عين الخليفة الموظفين العاجزين والفاسدين والخائنين‪ ،‬فإنّ الناس‬
‫سيكتوون بنار فسادهم وخيانتهم‪ ،‬ويقعون تحت ظلمهم وبغيهم‪ ،‬مما يضعف صلتهم بالدولة‬

‫‪173‬‬
‫والولء لها‪ ،‬ويزهدهم في الدفاع عنها‪" ،‬ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران" كما‬
‫قال ابن خلدون‪ .‬ول يشفع للخليفة عند الناس كرهه لتصرفات ولته الظلمة الفاسدين‪ ،‬لن‬
‫الناس يحملونه مسؤولية أعمالهم لنه هو الذي ولهم‪ ،‬ولهذا كله يجب الهتمام الكامل باختيار‬
‫الموظفين الكفاء المناء وبدون ذلك يقع المحذور الذي أشرنا إليه‪ ،‬ول يدفعه كون الخليفة‬
‫نفسه صالحا‪ ،‬وقد أشار الفقهاء الى واجب الخليفة في اختيار الموظفين الكفاء‪ ،‬فقال الفقيه‬
‫الماوردي عند تعداد واجبات المام "التاسع استكفاء المناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه اليهم‬
‫من العمال ويكله إليهم من الموال لتكون العمال بالكفاء مضبوطة والموال بالمناء‬
‫محفوظة"[‪.]57‬‬
‫‪ -174‬ول يكفي أن يعين الخليفة الكفاء المناء‪ ،‬بل عليه أيضا أن يراقبهم في أعمالهم فقد‬
‫"يخون المين ويغش الصالح" كما يقول الفقهاء‪ .‬وحتى إذا استبعدنا خيانتهم وغشهم‪ ،‬فل يمكننا‬
‫استبعاد خطئهم‪ ،‬وظلم الناس خطأ كظلم الناس عمدا من جهة لحوق الضرر بالمظلوم وكرهه‬
‫للظلم‪ ،‬فل بد من المراقبة المستمرة والمحاسبة الدائمة للموظفين حتى ل تقع خيانة ول غش‪،‬‬
‫ويقل الخطأ ويعرف الناس شدة حرص الخليفة على العدل ومنع الظلم‪ ،‬ويخرج هو من عهدة‬
‫الخلفة ومسؤولية الحكم‪ .‬وقد نبه الفقهاء رحمهم ال تعالى إلى هذا المعنى‪ ،‬فقال الفقيه أبو‬
‫يعلى الحنبلي‪ :‬على الخليفة "أن يباشر بنفسه مشارفة المور وتصفح الحوال ليهتم بسياسة‬
‫المة وحراسة الملة‪ ،‬ول يعول على التفويض تشاغلً بلذة أوعبادة‪ .‬فقد يخون المين ويغش‬
‫الناصح‪ .‬وقد قال ال تعالى‪﴿ :‬يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق‬
‫ول تتبع الهوى﴾ فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[‪.]58‬‬
‫ب) إشاعة المن والستقرار‬
‫‪ -175‬ومن واجبات الخليفة المهمة‪ ،‬ومن واجبات الحكام المسلمين جميعا إشاعة المن‬
‫والستقرار في دار السلم حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم ويتنقلوا في‬
‫دار السلم آمنين مطمئنين‪ .‬إن هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق القانون السلمي‬
‫الجنائي‪ ،‬أي بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين في المن‪ ،‬المعتدين على الناس‪ ،‬بشرط‬
‫أن يكون التطبيق عادل وعلى الجميع بل محاباة ول تردد‪ .‬فإذا ما طبقت الحكام الشرعية‬
‫على المعتدين‪ ،‬أمن الناس وخاف المجرم‪ ،‬وتحقق الطمئنان‪ .‬وسنتكلم عن أهمية العقوبات‬
‫الشرعية وأثرها الفعال في منع الجرام وفي تحقيق المان للناس عند الكلم عن نظام الجرائم‬
‫والعقوبات وقد أشار الفقهاء إلى هذا المقصد قالوا‪ :‬وعلى الخليفة "إقامة الحدود لتصان محارم‬
‫ال تعالى عن النتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلف واستهلك"[‪.]59‬‬
‫جـ) تهيئة ما يحتاجه الناس‬

‫‪174‬‬
‫‪ -176‬ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين‪ ،‬قيام الحكم السلمي بتهيئة ما يحتاجه الناس من‬
‫مختلف الصناعات والحرف والعلوم‪ ،‬فهذه من فروض الكفاية التي يجب وجودها في المة‬
‫لسد حاجاتها‪ ،‬وقد أشار الفقهاء إلى ذلك‪ ،‬فقد قال العلمة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار"‬
‫على "الدر المختار"‪ :‬ومن فروض الكفاية الصنائع المحتاج إليها[‪ .]60‬ومن الواضح أن‬
‫الصنائع المحتاج إليها تختلف باختلف العصور والزمان‪ ،‬فما كان الناس يحتاجونه في‬
‫المس قد يحتاجون إلى غيره اليوم‪ ،‬فعلى الحكم السلمي ملحظة ذلك وتهيئة وسائله‪.‬‬
‫ويترتب على اعتبار تحصيل الصناعات والحرف المحتاج إليها من فروض الكفايات لحوق‬
‫الثم بالمة وبالحكام إذا قصروا في تحصيلها‪ ،‬وثبوت حق الحكام في اجبار أصحاب‬
‫الصناعات على القيام بها إذا امتنعوا عنها‪ ،‬وهذا ما صرح به الفقهاء‪ ،‬فقد قال الفقيه المشهور‬
‫ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية‪ :‬إن لولي المر اجبار اصحاب الحرف والصناعات‬
‫على العمل بأجر المثل إذا امتنعوا عن القيام وكان في الناس حاجة إلى صناعاتهم[‪.]61‬‬
‫د) استثمار خيرات البلد‬
‫‪ -177‬ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين‪ ،‬استثمار خيرات البلد بما يحقق للرعية الرفاه‬
‫القتصادي والعيش الكريم‪ ،‬وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب‪ ،‬فقد قال الفقيه المشهور أبو‬
‫يوسف في كتابه القيم "الخراج" الذي وجهه إلى الخليفة هارون الرشيد‪ :‬إن على الخليفة أن‬
‫يأمر بحفر النهار واجراء الماء فيها وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك وهذا نص كلمه‪:‬‬
‫"فإذا اجتمعوا – أي أهل الخبرة – على أن في ذلك – أي في حفر النهار – صلحا وزيادة‬
‫في الخراج أمرت بحفر تلك النهار وجعلت النفقة من بيت المال‪ ،‬ول تحمل النفقة على أهل‬
‫البلد‪ .‬وكل ما فيه مصلحة لهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا اصلح ذلك لهم أجيبوا‬
‫إليه‪ ،‬إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم"[‪ ]62‬وما ذكره أبو يوسف رحمه ال من ضرورة حفر‬
‫النهار لرض الخراج[‪ ]63‬هو من قبيل التمثيل ل الحصر‪ ،‬يدل على ذلك عبارته الخيرة‬
‫"وكل ما فيه مصلحة لهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلح ذلك لهم أجيبوا اليه"‬
‫كما يمكن القياس على ما ذكره أبو يوسف جميع العمال اللزمة لستغلل ثروات البلد‬
‫وخيراتها على وجه يعود بالنفع العميم على الجميع فهذه يجب القيام بها‪ ،‬مثل تنظيم الري في‬
‫البلد وإقامة السدود وتحسين الزراعة واستخراج المعادن وإقامة المصانع وتعبيد الطرق التي‬
‫تسهل نقل المحاصيل‪ ،‬وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين إلى غير ذلك من المور التي ل‬
‫يمكن حصرها وعدها وتختلف باختلف الزمان والمكان والظروف والحوال‪.‬‬

‫[‪ ]1‬الحكام السلطانية للماوردي ص ‪.3‬‬

‫‪175‬‬
‫[‪ ]2‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.138‬‬
‫[‪ ]3‬منهاج السنة النبوية لبن تيمية ج ‪ 1‬ص ‪.137‬‬
‫[‪ ]4‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.138‬‬
‫[‪ ]5‬أحكام القرآن للجصاص ج ‪ 2‬ص ‪ ،210‬وتفسير القرطبي ج ‪ 5‬ص ‪.259‬‬
‫[‪ ]6‬الفروق للقرافي ج ‪ 1‬ص ‪.208 – 207‬‬
‫[‪ ]7‬الحكام السلطانية للماوردي ص ‪ .3‬الحكام السلطانية لبن يعلى الحنبلي ص ‪.3‬‬
‫[‪ ]8‬مقدمة ابن خلدون ص ‪.191‬‬
‫[‪ ]9‬الملل والنحل لبن حزم ج ‪ 4‬ص ‪.87‬‬
‫[‪ ]10‬فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪ ،65‬ومثل هذا ورد في كتابه السياسة الشرعية ص ‪.129‬‬
‫[‪ ]11‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.139‬‬
‫[‪ ]12‬المغني لبن قدامة الحنبلي ج ‪ 8‬ص ‪.17‬‬
‫[‪ ]13‬الحكام السلطانية للماوردي ص ‪.29‬‬
‫[‪ ]14‬تفسير الرازي ج ‪ 27‬ص ‪.177‬‬
‫[‪ ]15‬مقدمة ابن خلدون ص ‪ ،193‬وانظر الماوردي ص ‪.4‬‬
‫[‪ ]16‬الحكام السلطانية للماوردي ص ‪ ،4‬وأبو يعلى الحنبلي ص ‪.4-3‬‬
‫[‪ ]17‬تفسير المنار ج ‪ 5‬ص ‪.181‬‬
‫[‪ ]18‬من شروط العدالة السلم‪ ،‬فيشترط أن يكون الشخص مسلما‪.‬‬
‫[‪ ]19‬الماوردي ص ‪ ،4‬وأبو يعلى ص ‪.7‬‬
‫[‪ ]20‬أبو يعلى ص ‪.9‬‬
‫[‪ ]21‬أبو يعلى ص ‪.9‬‬
‫[‪ ]22‬منهاج السنة لبن تيمية ج ‪ 1‬ص ‪.143-140‬‬
‫[‪ ]23‬الملل والنحل لبن حزم ج ‪ 4‬ص ‪.169‬‬
‫[‪ ]24‬تيسير الوصول ج ‪ 2‬ص ‪.36‬‬
‫[‪ ]25‬الماوردي ص ‪ ،4‬وأبو يعلى ص ‪ ،4‬ومقدمة ابن خلدون ص ‪.193‬‬
‫[‪ ]26‬الملل والنحل لبن حزم‪ ،‬والماوردي ص ‪ ،4‬وأبو يعلى ص ‪.4‬‬
‫[‪ ]27‬مقدمة ابن خلدون ص ‪.195‬‬
‫[‪ ]28‬مقدمة ابن خلدون ص ‪ ،198‬ويلحظ هنا أن العصبية التي يتكلم عنها ابن خلدون ليست‬
‫هي العصبية الجاهلية‪ ،‬وانما يعني بها ارتباط القوم بسبب النسب أو غيره وهذا الرتباط‬
‫يجعلهم متعاونين أولي قوة ل يستطيع غيرهم منازعتهم في المر‪.‬‬
‫[‪ ]29‬الملل والنحل لبن حزم ج ‪ 4‬ص ‪.102‬‬

‫‪176‬‬
‫[‪ ]30‬المواقف لليجي وشرحه نقل عن كتاب النظريات السياسية السلمية للستاذ ضياء‬
‫الدين الريس ص ‪.270‬‬
‫[‪ ]31‬أبو يعلى ص ‪.605‬‬
‫[‪ ]32‬فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.129‬‬
‫[‪ ]33‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.169‬‬
‫[‪ ]34‬تفسير الطبري ج ‪ 4‬ص ‪.94‬‬
‫[‪ ]35‬تفسير الرازي ج ‪ 9‬ص ‪.66‬‬
‫[‪ ]36‬امتاع السماع للمقريزي ص ‪ ،219‬وتفسير الرازي ج ‪ 9‬ص ‪.67‬‬
‫[‪ ]37‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.169‬‬
‫[‪ ]38‬تفسير القرطبي ج ‪ 4‬ص ‪.249‬‬
‫[‪ ]39‬أحكام القرآن للجصاص ج ‪ 2‬ص ‪.40‬‬
‫[‪ ]40‬امتاع السماع للمقريزي ص ‪.116‬‬
‫[‪ ]41‬امتاع السماع ص ‪.429‬‬
‫[‪ ]42‬امتاع السماع ص ‪.236‬‬
‫[‪ ]43‬تفسير القرطبي ج ‪ 4‬ص ‪.250 – 249‬‬
‫[‪ ]44‬تفسير الطبري ج ‪ 5‬ص ‪ ،87‬تفسير القرطبي ج ‪ 5‬ص ‪ ،261‬تفسير الجصاص ج ‪2‬‬
‫ص ‪.212‬‬
‫[‪ ]45‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.170‬‬
‫[‪ ]46‬تفسير القرطبي ج ‪ 4‬ص ‪.257‬‬
‫[‪ ]47‬أبو بكر الصديق‪ ،‬تأليف الستاذ علي الطنطاوي ص ‪.163 – 162‬‬
‫[‪ ]48‬المرجع السابق‪.‬‬
‫[‪ ]49‬الطبقات الكبرى لبن سعد ج ‪ 3‬ص ‪.183‬‬
‫[‪ ]50‬الماوردي ص ‪ ،3‬وابن خلدون في مقدمته‪ ،‬ذكر هذا التعريف أيضا‪.‬‬
‫[‪ ]51‬أبو يعلى الحنبلي ص ‪.11‬‬
‫[‪ ]52‬الماوردي ص ‪.14‬‬
‫[‪ ]53‬الماوردي ص ‪ :14‬وسنزيد هذه النقطة توضيحا عند الكلم عن نظام الجهاد‪.‬‬
‫[‪ ]54‬أبو يعلى ص ‪.9‬‬
‫[‪ ]55‬الماوردي ص ‪.12‬‬
‫[‪ ]56‬مقدمة ابن خلدون ص ‪.223‬‬
‫[‪ ]57‬الماوردي ص ‪.14‬‬

‫‪177‬‬
‫[‪ ]58‬أبو يعلى الحنبلي ص ‪.12‬‬
‫[‪ ]59‬الماوردي ص ‪.14‬‬
‫[‪ ]60‬ابن عابدين ج ‪ 3‬ص ‪.32‬‬
‫[‪ ]61‬الطرق الحكمية لبن القيم ص ‪.222‬‬
‫[‪ ]62‬الخراج لبي يوسف ص ‪.110‬‬
‫[‪ ]63‬أرض الخراج‪ ،‬هي الراضي التي فتحها المسلمون‪ ،‬مثل أرض العراق وتركوها بيد‬
‫أهلها على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة تسمى "الخراج"‪.‬‬

‫النظام القتِصَادي‬

‫تمهيد‬
‫‪ -379‬من الحقائق الثاب تة أن الن سان يبذل كثيرا من نشاطـه وجهده للح صول على و سائل‬
‫العيش من طعام ولباس وسكن وغير ذلك من المور الضرورية وغير الضرورية‪ .‬ول شك‬
‫أن هذا الجهد المبذول من كل انسان ضروري لتوفير وسائل العيش للخرين لن النسان ل‬
‫ي ستطيع بمفرده توف ير جم يع ما يحتا جه لنف سه‪ .‬إنّ نشاط الن سان في هذا المجال و ما يتر تب‬
‫عليه هو الذي يسمى بالنشاط القتصادي‪ .‬ولما كان الن سان يعيش في المجتمع فل يمك نه أن‬
‫يتمتع بحرية مطلقة فيما يباشره من نشاط ومنه النشاط القتصادي‪ ،‬بل ل بد من تنظيمه على‬
‫نحـو يرتضيـه المجتمـع ويحقـق الخيـر له وللفرد‪ .‬والقواعـد والحكام التـي تنظـم النشاط‬
‫ل التي تكوّن النظام القتصادي فيه‪ .‬وهذا النظام – على‬
‫القتصادي للفراد في مجتمع ماهي إ ّ‬
‫أي نحو كان – ل بد له من أساس يقوم عليه وأفكار معينة تشيع فيه تكوّن معالمه وخصائصه‬
‫وتنسجم أحكامه وقواعده مع هذه المعالم والخصائص ومع ذلك الساس الذي يقوم عليه‪.‬‬
‫‪ -380‬ول ما كان الشمول من خ صائص ال سلم‪ ،‬ف من البدي هي أن ن جد في ال سلم تنظيما‬
‫للنشاط القت صادي للن سان ب ما وض عه له من قوا عد وأحكام في ضوء أفكاره‪ .‬وهذه القوا عد‬
‫والحكام وما قامت عليه من أساس تكوّن النظام القتصادي السلمي‪.‬‬
‫‪ -381‬ويقوم نظام السـلم فـي القتصـاد على أسـاس العقيدة السـلمية ويتفرع منهـا‪ .‬فهذه‬
‫العقيدة إذن هي أ ساسه الفكري‪ ،‬وهويرا عي الفطرة الن سانية ومعا ني الخلق الفاضلة ويؤ كد‬
‫على ضرورة سـد حاجات الفراد اللزمـة للعيـش‪ ،‬وهذه هـي خصـائصه‪ .‬وبناء على أسـاسه‬
‫وخصـائصه تنبثـق جملة مبادئ عامـة وتنظيمات جزئيـة‪ ،‬كمـا أنـه يحدد موارد بيـت المال‬
‫ومصـارفه لتسـتطيع الدولة توفيـر حاجات الفراد ومصـلحة المجتمـع‪ .‬وعلى هذا سـنتكلم عـن‬

‫‪178‬‬
‫أساسه الفكري وخصائصه في مطلب أول‪ ،‬ثم عن مبادئه العامة في مطلب ثان‪ ،‬ثم عن بيت‬
‫المال في مطلب ثالث‪.‬‬

‫المطلب الول ‪ -‬الفرع الول ‪ -‬الساس الفكري للنظام القتصادي السلمي‬


‫‪ -382‬العقيدة السلمية هي الساس الفكري للنظام القتصادي السلمي‪ ،‬وهذه العقيدة‪ ،‬كما‬
‫أشرنـا مـن قبـل‪ ،‬تـبين علقـة النسـان بالكون وبخالق الكون وبالغايـة التـي مـن أجلهـا خلق‬
‫الن سان‪ ،‬وتف صل و سائل تحق يق هذه الغا ية‪ .‬فالن سان – في ضوء هذه العقيدة الح قة – من‬
‫مخلوقات ال‪ ،‬بـل ومـن أفضـل هذه المخلوقات وأن ال سـبحانه وتعالى خلقـه لعبادتـه بمعناهـا‬
‫الواسع‪ .‬وأنه ل يبلغ هذه الغاية إل بالخضوع الختياري المطلق ل رب العالمين‪ .‬ومظهر هذا‬
‫الخضوع صياغة نف سه و سلوكه ونشا طه‪ ،‬وم نه النشاط القت صادي‪ ،‬على الن حو الذي ف صّله‬
‫وشر عه ال تعالى‪ .‬وعلى هذا فإنّ النظام القت صادي في ال سلم‪ ،‬يع مل مع غيره من أنظ مه‬
‫السلم‪ ،‬لتسهيل وتيسير السبل للنسان لبلوغ الغاية التي خلق من أجلها وهي عبادة ال وحده‪.‬‬
‫فإذا تيسرت هذه العبادة للنسان زكت نفسه بالقدر المطلوب وصار أهلً للظفر بالحياة الطيبة‬
‫في الخرة فضلً عن ظفره بالسعادة في الدنيا‪.‬إنّ فقه هذا الساس الفكري للنظام القتصادي‬
‫في ال سلم من ق بل الم سلم ضروري جدا له ل نه بهذا الف قه وا ستحضاره في ذه نه سيعرف‬
‫مركزه الحقي قي في الدن يا وعلق ته ب ها وغاي ته في الحياة‪ ،‬وبالتالي يتق بل بن فس رض ية جم يع‬
‫الضوا بط والتنظيمات ال تي جاء ب ها الشرع ال سلمي في مجال النشاط القت صادي‪ ،‬و سيندفع‬
‫لتنفيـذ هذه الضوابـط والتنظيمات والتقيـد بهـا‪ ،‬وبهذا تظهـر ثمار النظام القتصـادي فـي واقـع‬
‫الحياة ويسهم هذا النظام في تحقيق ما خلق النسان من أجله‪.‬‬
‫‪ -383‬ومن معاني العقيدة السلمية ولوازمها التي لها علقة في موضوع النظام القتصادي‬
‫ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -384‬أولً‪ :‬الملك ل وحده‪ :‬أن الكون ب كل ما ف يه وبدون أي ا ستثناء مملوك ل تعالى وحده‬
‫على وجه الحقيقة والخلوص‪ ،‬فل شريك لحد معه في ذرة منه‪ ،‬لن ال تعالى هو خالقه‪ ،‬قال‬
‫ربنـا فـي القرآن الكريـم‪ { :‬ول ملك السـموات والرض ومـا بينهمـا}‪{ ،‬ل ملك السـموات‬
‫والرض وما فيهن}‪{ ،‬ولم يكن له شريك في الملك}‪{ ،‬قل ادعوا الذين زعمتم من دون ال ل‬
‫يملكون مثقال ذرة فـي السـموات ول فـي الرض ومـا لهـم فيهمـا مـن شرك‪ .}...‬ومـن لوازم‬
‫الملك التام الت صرف التام في المملوك‪ ،‬ولهذا فإنّ ل وحده حق الت صرف المطلق في جم يع‬
‫مخلوقاته‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫‪ -385‬ثانيا‪ :‬المال مال ال‪ :‬والمال – وهو ما يتموله الناس وي ستفيدون م نه ويم كن إحرازه –‬
‫هو من جملة ما في الكون‪ ،‬ف هو إذن ل وحده وان ال تعالى هو مال كه الحقي قي‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{وآتوهم من مال ال الذي آتاكم}‪.‬‬
‫‪ -386‬ثالثا‪ :‬تسخير ال تعالى مخلوقاته لنفع النسان‪ :‬ال تعالى بمحض فضله سخر للنسان‬
‫ما خلقه في السموات والرض لينتفع به‪ ،‬وهيأ له سبل هذا النتفاع بما أودعه في النسان من‬
‫عقـل وجوارح يسـتطيع بهـا الهتداء إلى سـبل النتفاع بمـا خلقـه ال تعالى‪ .‬قال ربنـا تبارك‬
‫وتعالى‪{ :‬وسخر لكم ما في السموات وما في الرض جميعا منه}‪{ ،‬ألم تروا أن ال سخر لكم‬
‫ما في ال سموات و ما في الرض وأ سبغ علي كم نع مه ظاهرة وباط نة} وقال تعالى ممتنا على‬
‫النسان بما أودعه فيه مما يستطيع به الهتداء إلى سبل النتفاع بما خلقه ال له {قل هو الذي‬
‫أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليلً ما تشكرون}‪.‬‬
‫‪ -387‬رابعا‪ :‬الملك المجازي للن سان‪ :‬و مع أن الملك الحقي قي هو ل رب العالم ين‪ ،‬ف قد اذن‬
‫ال تعالى – بمحـض فضله – للنسـان أن يختـص بالنتفاع بالمال والتصـرف فيـه واضافتـه‬
‫وتسـميته مالكا له‪ .‬قال ربنـا تبارك وتعالى‪{ :‬ول تأكلوا أموالكـم بينكـم بالباطـل وتدلوا بهـا إلى‬
‫الحكام لتأكلوا فريقا مـن أموال الناس بالثـم وأنتـم تعلمون}‪{ ،‬واعلموا أنمـا أموالكـم وأولدكـم‬
‫فتنة}‪{ ،‬الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار}‪ .‬فهذه اليات الكريمة تضيف المال للنسان اضافة‬
‫ملك واخت صاص‪ .‬و في الحد يث الشر يف "ل ي حل مال امرئ م سلم إل بط يب من نف سه" فهذا‬
‫الحديث الشريف يضيف المال للنسان على وجه الملك له ومع هذا فإن الملك الحقيقي يبقى ل‬
‫رب العالم ين ل نه ي ستحيل أن يشار كه أ حد في ملك ش يء من الكون فضل عن أن ي ستأثر‬
‫لوحده بملك شيء‪ .‬ومعنى ذلك أن اضافة الملك للنسان‪ ،‬هي من قبيل المجاز ل الحقيقة وان‬
‫الن سان في ما يمل كه كالوك يل ف يه عن مال كه الحقي قي‪ .‬ويتر تب على ذلك أن على الن سان أن‬
‫يخ ضع في ما يمل كه إلى جم يع القيود والتنظيمات ال تي شرع ها المالك الحقي قي و هو ال تعالى‪،‬‬
‫وانـه ل يجوز للنسـان أبدا أن يخرج عـن هذه القيود‪ ،‬فإن خرج عنهـا كان عاصـيا لمـر ال‬
‫وا ستحق العقاب المقرر فـي الشرع‪ ،‬وقـد ينزع م نه الملك نهائيا أو مؤقتا‪ ،‬كليا أو جزئيا‪ .‬و قد‬
‫أدرك فقهاؤنا رحمهم ال تعالى هذه المعاني وأشاروا اليها‪ ،‬فقد قال المام القرطبي في تفسيره‪،‬‬
‫وهو يفسر قوله تعالى‪{ :‬وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} قال رحمه ال‪ .‬وفي هذا دليل على‬
‫أن أصـل الملك ل سـبحانه‪ ،‬وأن العبـد ليـس له فيـه إل التصـرف الذي يرضـي ال‪ ...‬ثـم قال‬
‫رحمـه ال تعالى‪ :‬وهذا دليـل على أن الموال ليسـت أموالكـم فـي الحقيقـة‪ ،‬ومـا أنتـم فيهـا إل‬
‫بمنزلة النواب والوكلء فاغتنموا الفر صة في ها ق بل أن تزال عن كم الى من بعد كم[‪ .]1‬أن ف قه‬
‫هذه الحقيقة تجعل المسلم مندفعا الى تنفيذ شرع ال في المال الذي آل ليه‪ ،‬فل يبخل به حيث‬

‫‪180‬‬
‫ي جب عل يه بذله‪ ،‬ل نه وك يل عل يه ول يس بمالك حقي قي له‪ ،‬والشأن في الوك يل تنف يذ ما يريده‬
‫الموكل فيما وكله فيه‪..‬‬
‫‪ -388‬خامسا‪ :‬استعمال المال في مرضاة ال‪ :‬وكل ما يؤتاه المسلم من مال يجب أن يستعمله‬
‫في مرضاة ال‪ ،‬لتحقيق الغاية التي خلق من أجلها وهي عبادة ال تعالى ليظفر بالحياة الطيبة‬
‫في الخرى قال تعالى‪{ :‬واب تغ في ما آتاك ال الدار الخرة ول ت نس ن صيبك من الدن يا}‪ .‬ول كن‬
‫هذا ل يعني حرمان نفسه من طيبات الدنيا ول ارهاق جسده بحرمانه مما يحتاج إليه‪ .‬قال ربنا‬
‫{قل من حرم زينة ال التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}‪.‬‬
‫‪ -389‬سادسا‪ :‬الدنيا وسيلة ل غاية‪ :‬والدنيا بكل ما فيها من متاع وأموال ليست هي الغاية‬
‫للنسان وانما هي وسيلة الى الغاية التي خلق من أجلها وهي اعداد نفسه للدار الخرة بعبادة‬
‫ر به‪ ،‬فل يجوز أن ين سى هذه الغا ية إذا ظ فر بو سائل الدن يا ومتاع ها‪ ،‬ول يج عل الدن يا أو شيئا‬
‫منها هي غايته‪ .‬ان الحذاء وظيفته أن يضع النسان قدمه فيه‪ ،‬وإن الدابة وظيفتها أن يركبها‬
‫النسـان ليبلغ المكان الذي يريده‪ ،‬فل يجوز فـي فقـه السـلم ول فـي ادراك العقـل السـليم أن‬
‫يكون القصد من اقتناء الحذاء غاية في نفسه ول الحصول على الدابة غاية في نفسها‪ ،‬وهكذا‬
‫متاع الدن يا يم يل ال يه الم سلم كو سيلة ف قط ت سهل له بلوغ الغا ية ال تي خلق من أجل ها‪ ،‬وا نه‬
‫سيفارق هذه الوسائل قطعا ول يبقى له إل ما استفاده منها في عبادة ربه ومرضاته‪ .‬ان ادراك‬
‫هذه المعا ني وا ستحضارها في الذ هن من المور الضرور ية لض بط النشاط القت صادي على‬
‫النحو الذي يريده السلم‪ ،‬لن الضوابط الحقيقية لنشاط النسان هي التي تضبطه من داخله‪،‬‬
‫تضبـط ارادتـه وقصـده ونظرتـه وميله‪ ،‬فاذا انضبـط الداخـل سـهل ضبـط الخارج أي النشاط‬
‫الخارجي للنسان‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم الى هذه المعاني جميعا في آيات كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند ال خير وأبقى أفل تعقلون}‪.‬‬
‫{إنا جعلنا ما على الرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عمل}‪.‬‬
‫{المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أمل}‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬خصائص النظام القتصادي السلمي‬

‫‪ -390‬قلنا فيما سبق‪ :‬إن خصائص النظام القتصادي في السلم مراعاته للفطرة النسانية‬
‫ومعاني الخلق الفاضلة وتأكيده على سد حاجات النسان الضرورية للحياة‪ .‬ونذكر فيما يلي‬
‫شيئا عن كل خصيصة بإيجاز‪.‬‬
‫أولً‪ :‬مراعاة الفطرة النسانية‬

‫‪181‬‬
‫‪ -391‬فطـر ال النسـان على جملة غرائز وميول ورغبات ل يمكـن قلعهـا واسـتئصالها أبدا‬
‫وان كان يمكن تقويمها وتهذيبها إذا ما انحرفت أو تكدرت‪ .‬وعلى هذا فأي نظام يصادم الفطرة‬
‫النسـانية ويناقض ها ل يم كن أن يأتـي بخيـر ول تتيسـر له فرص البقاء‪ .‬ونظام القت صاد في‬
‫السلم راعى جانب الفطرة النسانية لن السلم هو دين الفطرة‪ ،‬ومن مظاهر هذه المراعاة‬
‫إقراره بحـق الملكيـة للنسـان لنـه مفطور على ذلك‪ ،‬وقـد أشار القرآن الكريـم إلى ذلك‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬وتحبون المال حبا جما} وإقراره نظام الرث لن النسـان مفطور على حبـه لبنائه‪،‬‬
‫وقلقه عليهم اذا تركهم بدون مال‪ ،‬ومن ثم أقر السلم نظام الرث لنه ينسجم ويتفق مع هذه‬
‫الفطرة‪ .‬و قد أشار القرآن الكر يم الى نوازع فطرة الن سان ن حو أبنائه وشفق ته علي هم واهتما مه‬
‫بهم وخوفه عليهم بعد موته‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا‬
‫عليهـم فليتقوا ال وليقولوا قولً سـديدا} وقال تعالى‪{ :‬أيود أحدكـم أن تكون له جنـة مـن نخيـل‬
‫وأعناب تجري مـن تحتهـا النهار له فيهـا مـن كـل الثمرات وأصـابه الكـبر وله ذريـة ضعفاء‬
‫فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت‪ ،‬كذلك يبين ال لكم اليات لعلكم تتفكرون}‪ .‬كما أن السلم‬
‫في نظامه القتصادي أقر للنسان بالتمتع بثمرات جهوده ونشاطه‪ ،‬لن هذا مما يتفق وما فطر‬
‫عليه كل إنسان‪ ،‬بل أن في أصل غريزة النسان رفضه أن يشاركه الغير في ثمرات جهوده‪،‬‬
‫وانما قد يرضى بهذه المشاركة لمعنى آخر كالحصول على ثواب ال تعالى‪ ،‬وقد أشار القرآن‬
‫الكر يم إلى هذه الغريزة الن سانية‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وال ف ضل بعض كم على ب عض في الرزق ف ما‬
‫الذ ين فضلوا برادي رزق هم على ما مل كت أيمان هم ف هم ف يه سواء أفبنع مة ال يجحدون} قال‬
‫القرطبي في تفسير هذه الية‪ :‬أي جعل ال منكم غنيا وفقيرا فما الذين فضلوا بالرزق برادي‬
‫م ما رزقوا شيئا على رقيق هم ح تى ي ستوي المملوك والمالك في المال[‪ .]2‬و في آ ية أخرى قال‬
‫تعالى‪{ :‬ضرب لكم مثل من أنفسكم هل لكم مما ملكت ايمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم‬
‫ف يه سواء‪ }...‬ويقول القر طبي في تف سير هذه ال ية‪ :‬من أنف سكم‪ " :‬من" ه نا للبتداء كأ نه قال‪:‬‬
‫أ خذ مثل وانتز عه من أقرب ش يء من كم و هي أنف سكم‪ .‬الى أن قال المام القر طبي‪ ،‬والمع نى‪:‬‬
‫هل ير ضى أحد كم أن يكون مملو كه في ماله ونف سه مثله‪ ،‬فإذا لم ترضوا بهذا لنف سكم فك يف‬
‫جعلتم ل شركاء[‪.]3‬‬
‫وعلى أساس مراعاة الفطرة النسانية قامت جملة مبادئ عامة في النظام القتصادي السلمي‬
‫سنذكرها فيما بعد‪ .‬ولكن مراعاة الفطرة النسانية ل يعني السير وراءها كيفما سارت والى أية‬
‫جهـة اتجهـت‪ ،‬لن مراعاتهـا ل تقتضـي ول تسـتلزم هذه التبعيـة العمياء‪ ،‬وانمـا تعنـي مراعاة‬
‫أصلها مع تهذيب لها ورقابة عليها إذا ما انحرفت أو تكدرت‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬مراعاة معاني الخلق‬

‫‪182‬‬
‫‪ -392‬ويراعـي النظام القتصـادي معانـي الخلق الفاضلة فل يجوز لنسـان أن يهدر هذه‬
‫المعاني أو يتخطى حدودها في أي جانب من جوانب نشاطه القتصادي لن المجتمع السلمي‬
‫يقوم على معانـي الخلق كالمحبـة والتعاون النظيـف قال تعالى‪{ :‬وتعاونوا علىالبر والتقوى‬
‫ول تعاونوا علىال ثم والعدوان} فل ح سد ول خ صام ول ح قد ول بغضاء ول كذب ول غش‬
‫ول خداع ول غدر‪ ،‬واذا ما صار في يد الن سان مال لم ي جز أن ينف قه في الف حش والرذيلة‬
‫ومتـع الجسـد المحرمـة‪ ،‬بـل عليـه أن ينفقـه فـي السـبل الحلل وتنفيـس الكرب عـن المكروب‬
‫والمحتاجين‪ .‬وإذا أراد أن ينمي النسان أمواله فل يجوز له أن ينميها بما يفسد الخلق ويقطع‬
‫روابـط المودة بيـن أبناء المجتمـع كفتـح حانات الخمور والفحـش والقراض بالربـا‪ .‬وهذه‬
‫المراعاة لمعانـي الخلق منهـا مـا هـو متروك ليمان النسـان ووجدانـه كاللتزام بالصـدق‬
‫والوفاء‪ ،‬ومنها ما تتدخل الدولة في الزام الفراد به واجبارهم عليه مثل منعهم من الربا وفتح‬
‫محلت الفحش والخمور‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬التأكيد على سد حاجات الفراد‬
‫‪ -393‬للنسان حاجات مادية ضرورية ل يمكنه العيش بدونها كحاجته الى الطعام والشراب‬
‫وال سكن واللباس و ما يل حق بهذه الشياء وينزل منزلت ها‪ .‬ول بد من توف ير هذه الشياء ل كل‬
‫ان سان الى ال حد الد نى للع يش الكر يم‪ .‬و قد أ كد النظام القت صادي ال سلمي على هذه الناح ية‬
‫أي لزوم سد هذه الحاجات الضرورية لكل انسان في المجتمع السلمي‪ .‬وقد قرر لتحقيق هذا‬
‫المطلب وسائل متعددة ومتدر جة إن لم تف الواحدة من ها و جب ال خذ بالتي تلي ها ح تى يتح قق‬
‫المقصود ويجد كل فرد كفايته في المجتمع السلمي‪ .‬وهذه الوسائل هي‪:‬‬
‫‪ -394‬أولًَ‪ :‬ال صل أن كل ان سان مكلف ب سد حاجا ته بنف سه أي ب ما يبذله من ج هد ونشاط‪،‬‬
‫ولهذا حث السلم على العمل والكت ساب‪ ،‬ومدح العامل ين الكا سبين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فإذا قض يت‬
‫الصلة فانتشروا في الرض وابتغوا من فضل ال}‪ .‬وفي الحديث الشريف "أن أفضل الكسب‬
‫كسب الرجل من يده"‪.‬‬
‫‪ -395‬ثانيا‪ :‬على الدولة أن تهيئ سبل العمل للقادرين عليه حتى ولو اقتضى المر اقراضهم‬
‫من بيت المال ما يستطيعون به العمل والكتساب‪ ،‬وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف رحمه ال‬
‫الى جواز اقراض المحتاج مـن بيـت المال فقـد قال الفقيـه ابـن عابديـن رحمـه ال‪ :‬وعـن أبـي‬
‫يوسف‪ :‬يدفع للعاجز – أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجية لفقره – كفايته من بيت المال‬
‫قرضا ليعمل ويستغل أرضه[‪.]4‬‬
‫ويقاس على ما ذكره أبو يوسف اقراض المحتاجين – من غير أصحاب الراضي الخراجية –‬
‫من بيت المال ليستعينوا بذلك على الكسب الحلل‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ -396‬ثالثا‪ :‬إذا عجـز الفرد عـن سـد حاجاتـه بنفسـه لعجزه أو شيخوختـه أو مرضـه أو عدم‬
‫تي سر الع مل له مع قدر ته عل يه‪ ،‬و جب على أفراد أ سرته القيام بالنفاق عل يه ح سب القوا عد‬
‫المقررة في الفقه السلمي في باب النفقات الشرعية لفراد السرة‪.‬‬
‫‪ -397‬رابعا‪ :‬إذا لم يجـد العاجـز الفقيـر مـن ينفـق عليـه مـن أفراد أسـرته لعدم وجودهـم أو‬
‫لفقرهم وجب اعطاؤه ما يكفيه من الزكاة وهي حق الفقراء في أموال الغنياء‪ ،‬وحصيلة الزكاة‬
‫من أوسع أبواب الضمان الجتماعي العام للفقراء والمحتاجين‪.‬‬
‫‪ -398‬خامسا‪ :‬إذا لم تكف الزكاة وجب سد حاجات المحتاجين من موارد بيت المال الخرى‬
‫التي سنذكرها فيما بعد‪.‬‬
‫‪ -399‬سادسا‪ :‬إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد حاجات المحتاجين وجب على الغنياء سد‬
‫حاجات الفقراء‪ ،‬و في هذا يقول الفق يه المعروف ا بن حزم "وفرض على الغنياء من أ هل كل‬
‫بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك ان لم تقم الزكاة بهم‪ ،‬فيقام لهم بما يأكلون‬
‫من القوت الذي ل بد م نه‪ ،‬ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبم سكن يكنهم من الم طر‬
‫والصيف والشمس وعيون المارة"[‪ .]5‬ويؤيد ما ذهب اليه ابن حزم ان الزكاة ليست هي الحق‬
‫الوحيد في أموال الغنياء للفقراء‪ ،‬فقد روي عن السيدة عائشة ام المؤمنين وابن عمر رضي‬
‫ال عن هم وغيره ما من ال صحابة الكرام أن هم قالوا‪" :‬إن في المال حقا سوى الزكاة"[‪ ،]6‬و قد‬
‫ذ كر القر طبي والرازي في قوله تعالى‪{ :‬ل يس البر أن تولوا وجوه كم ق بل المشرق والمغرب‬
‫ول كن البر من آ من بال واليوم ال خر والملئ كة والكتاب وال نبيين وآ تى المال على ح به ذوي‬
‫القربـى واليتامـى والمسـاكين‪ }...‬قال‪ :‬إن اليتاء هنـا غيـر الزكاة وإنـه مـن الواجبات ل‬
‫ـم قال‬
‫ـر‪ .‬ثـ‬
‫ـا اطعام المضطـ‬
‫ـض المثلة منهـ‬
‫التطوعات‪ ،‬وضرب الرازي لهذه الواجبات بعـ‬
‫القرطبي "واتفق العلماء على أنه اذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف‬
‫المال اليها‪ .‬قال مالك رحمه ال‪ :‬يجب على الناس فداء أسراهم وان استغرق ذلك أموالهم وهذا‬
‫اجماع أيضا"[‪.]7‬‬
‫‪ -400‬وعلى هذا نرى جواز قيام ولي ال مر الم سلم بتنظ يم جبا ية المال اللزم من الغنياء‬
‫بفرض الضرائب العادلة في أموال هم بقدر ما ي سد حاجات المحتاج ين ويم كن الدولة ال سلمية‬
‫من القيام بالوجائب المفرو ضة على الم سلمين وال تي تقوم ب ها الدولة نيا بة عن هم م ثل تح صين‬
‫الثغور واعداد ال سلح للدفاع عن دار ال سلم وهذا كله اذا لم يو جد في ب يت المال ما يك في‬
‫للقيام بمـا ذكرنـا مـن سـد حاجات الفقراء وحاجات الدولة الضروريـة‪ .‬يؤيـد مـا نقول الحديـث‬
‫الشريف "كلكم راع ومسؤول عن رعيته‪ ،‬فالمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم‪...‬‬
‫الخ" ويقول المام النووي فـي شرح هذا الحديـث‪" :‬قال العلماء‪ :‬الراعـي هـو الحافـظ المؤتمـن‬
‫الملتزم صلح ما قام عل يه و ما هو ت حت نظره‪ .‬فف يه أن كل من كان ت حت نظره ش يء ف هو‬

‫‪184‬‬
‫مطالب بالعدل فيـه والقيام بمصـالحه فـي دينـه ودنياه ومتعلقاتـه"[‪ .]8‬والواقـع أن المأمول مـن‬
‫أغنياء المسلمين المسارعة الى النفاق على الفقراء والمحتاجين ومساعدة الدولة بأموالهم لتقوم‬
‫بما هو ضروري لبقائها إذا لم يوجد في بيت المال ما يك في لذلك‪ ،‬لن السلم مدح المنفقين‬
‫أموال هم في سبيل ال في آيات كثيرة في القرآن الكر يم وذم الب خل والبخلء وحذر من ال شح‬
‫وكل هذا يدفع المسلم الى النفاق وال سخاء‪ ،‬وكذلك فعلت السنة النبوية في الحث على النفاق‬
‫في سبيل ال وتعددت الوصايا والوامر في ذلك‪ ،‬ويكفينا هنا أن نذكر الحديث الذي رواه أبو‬
‫سعيد الخدري رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال‪ :‬قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬من كان معه فضل ظهر فليعد به على من ل ظهر له‪ ،‬ومن كان له فضل من‬
‫زاد فليعد به على من ل زاد له‪ .‬قال‪ :‬فذكر رسول ال صلى ال عليه وسلم من أصناف المال‬
‫ما ذكر حتى رأينا أن ل حق لحد منا في فضل"[‪ .]9‬فاذا لم يندفع الغنياء من تلقاء أنفسهم‬
‫بالنفاق المطلوب من هم جاز لولي ال مر أن يحمل هم عل يه بتنظ يم الضرائب العادلة في أموال هم‬
‫بقدر ما يكفي لسد حاجات الدولة والمحتاجين على النحو الذي ذكرناه‪.‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬المبادئ العامة في النظام القتصادي السلمي‬

‫‪ -401‬في النظام القتصادي السلمي جملة مبادئ عامة تقوم على أساس العقيدة السلمية‬
‫والفطرة النسانية والمصلحة العامة‪ .‬وعن هذه المبادئ تتفرع جزئيات كثيرة تنظيمات مختلفة‪.‬‬
‫ونذكر من هذه المبادئ العامة حرية العمل‪ ،‬وحق الملكية‪ ،‬وحق الرث‪.‬‬

‫الفرع الول ‪ -‬حرية العمل‬

‫‪ -402‬ي حث ال سلم على الع مل ويكره الع جز والك سل‪ .‬وأشرف العمال وأعظم ها قدرا ما‬
‫يقرب مـن ال تعالى كالعبادات الخالصـة كالصـلة‪ ،‬والعمال المباحـة إذا اقترنـت بهـا النيـة‬
‫الصالحة كالزراعة والصناعة ونحو ذلك‪ .‬وفي باب الكسب والنشاط القتصادي يحث السلم‬
‫على الع مل ويبارك العا مل ويث ني على جهده وك سبه الحلل‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فإذا قض يت ال صلة‬
‫فانتشروا في الرض وابتغوا من فضل ال}‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬هـو الذي جعـل لكـم الرض ذلول فامشوا فـي مناكبهـا وكلوا مـن رزقـه وإليـه‬
‫النشور}‪ .‬وفي الحديث الشريف "ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده"‪ .‬وفي‬
‫حد يث آ خر " من بات كال في طلب الحلل بات مغفورا له"‪ .‬وال حث على الع مل وبذل النشاط‬
‫القتصـادي جاء عاما مطلقا غيـر مقصـور على نوع معيـن وغيـر مقيـد بشيـء سـوى الحـل‬
‫الشرعـي‪ .‬وعلى هذا فإنـه يشمـل جميـع أنواع النشاط القتصـادي ومختلف أنواع المعاملت‬

‫‪185‬‬
‫والمكاسب مثل التجارة والزراعة والصناعة والشركة والمضاربة والجارة وسائر ما يباشره‬
‫النسان من أوجه العمل والنشاط القتصادي لغرض الكسب الحلل‪ .‬ول تنقص فيمة النسان‬
‫فـي نظـر السـلم بمباشرة أي عمـل حلل وان عدّه الناس عمل بسـيطا أو حقيرا‪ ،‬لن قيمـة‬
‫النسان في نظر السلم في دينه وتقواه ل في ماله وغناه ول في عمله ومهنته‪ ،‬ولهذا وجدنا‬
‫أكابر المـة مـن علمائهـا وفقهائهـا يمتهنون مختلف المهـن الحرة المباحـة كمـا وجدنـا بعـض‬
‫الصحابة الكرام يؤجرون أنفسهم لغيرهم للقيام ببعض العمال المباحة الحلل لقاء أجر معلوم‪.‬‬
‫‪ -403‬و من و سائل ال حث على الع مل والك سب غ ير المباشرة أن ال سلم حث على اعا نة‬
‫الفقير وجعل المعين خيرا من المعان من ج هة نوال الجر والثواب‪ ،‬ف في الحد يث "ال يد العليا‬
‫خ ير من اليد ال سفلى" كما أن في الزكاة وال حج وصنوف البر المختل فة والنفاق في سبيل ال‬
‫ثوابا عظيما‪ ،‬ول يتأ تى هذا الثواب إل بالقيام بأ سبابه من حج وزكاة وغير ها‪ ،‬وهذه ل تتأ تى‬
‫إل بوجود المال ع ند الم سلم‪ ،‬وال صل في تح صيل المال الع مل وبذل الج هد‪ ،‬و من ه نا صار‬
‫العمـل وسـيلة للحصـول على ثواب ال تعالى لنـه وسـيلة لتحصـيل المال‪ ،‬وبذل المال وسـيلة‬
‫لمرضاة ال ونوال ثوا به‪ ،‬ولهذا جاء في الحد يث الشر يف "ن عم المال ال صالح للر جل ال صالح"‬
‫لن العبد الصالح ينفق المال الحلل الذي صار في يده في السبل المرضية عند ال فينال ثوابه‬
‫ورضوانه‪.‬‬
‫‪ -404‬واختيار العمل المناسب للفرد متروك له ولتقديره‪ ،‬بمعنى أن السلم يمنح الفرد حرية‬
‫العمل أي الحرية القتصادية‪ ،‬فله أن يباشر ما يشاء من أوجه النشاط القتصادي دون اكراه أو‬
‫اجبار أو منـع‪ ،‬وليـس فـي نصـوص الشريعـة مـا يدل على خلف هذا الصـل‪ :‬الحريـة‬
‫القتصادية‪ ،‬أو حرية العمل للفراد‪ .‬والحقيقة أن تقرير هذا المبدأ يقوم على أساس من فطرة‬
‫النسـان‪ ،‬وحفـظ كرامتـه وآدميتـه‪ ،‬ومسـؤوليته الفرديـة بمـا يصـدر عنـه‪ ،‬وملحظـة مصـلحة‬
‫الجما عة‪ ،‬وبيان ذلك أن فطرة كل ان سان نزوع الى الحر ية في روا حه ومجيئه و في ما يأ خذ‬
‫ويترك‪ ،‬فل يصح اهدار هذا الميل الفطري السليم الذي يحس به حتى الحيوان العجم‪ .‬نعم قد‬
‫تنحرف الفطرة فيختار الفرد ما ي ضر ول ين فع و ما يحرم ول ي حل فتحتاج في هذه الحالة الى‬
‫التقو يم والتقي يد لتعود حريت ها في دائرة الحلل الوا سعة الف سيحة‪ .‬وأيضا فان في إقرار حر ية‬
‫العمـل للنسـان حفظا أكيدا لكرامتـه آدميتـه لن النسـان حـر مختار يمتاز عـن الحيوان فـي‬
‫اختياره فل يجوز أن يسوى بالحيوان الذي يسيره قائده كيفما يشاء‪ .‬فل يجوز اذن تقييد حريته‬
‫في مجال العمل والنشاط القتصادي وغل يده عما يهوى ويريد بل ضرورة تقضي بذلك‪ ،‬لن‬
‫فـي هذا التقييـد اهدارا لدميتـه‪ ،‬وهذا المعنـى ملحوظ لدى فقهائنـا العظام‪ ،‬حتـى ان المام أبـا‬
‫حنيفة رحمه ال تعالى لم يجز الحجر على السفيه بحجة أن في هذا الحجر اهدارا لدميته وهو‬
‫أشـد ضررا على السـفيه مـن ضياع ماله‪ .‬ول يصـح القول هنـا بأن مـن المصـلحة للفرد‬

‫‪186‬‬
‫وللمجموع تقييد حرية الفرد واعطاء الدولة الحق في تعيين العمال لجميع الفراد‪ ،‬ل يقال هذا‬
‫القول لن الن سان ل يحتاج ف قط الى خ بز يأكله ويمل به معد ته وإن ما يحتاج أيضا الى ن سيم‬
‫الحر ية يمل به رو حه ووجدا نه وكيا نه الن ساني‪ ،‬و من ثم ل بد من تقر ير مبدأ حر ية الع مل‬
‫للنسان وجعله هو الصل والساس والتقييّد هو الستثناء الذي ل يجوز إل عند الضرورة‪.‬‬
‫وفـي حريـة العمـل أيضا انماء لمواهـب النسـان وكفاءتـه وقدرتـه لن كـل انسـان يختار مـن‬
‫العمال مـا يرغـب فيـه ويناسـب ميوله وقدرتـه‪ ،‬فيندفـع نحوه بشوق ورغبـة‪ ،‬فيكثـر انتاجـه‬
‫ويبارك في عمله وفي هذا خير عميم للمجتمع الذي يعيش فيه‪ .‬وهذا بخلف سلب الفرد حريته‬
‫في العمل وتسليط الدولة عليه لتختار هي العمل له‪ ،‬فان هذا التجاه ل يوفر للفراد ما يناسبهم‬
‫من أعمال فتموت مواهبهم ويقل نشاطهم ويقبلون على العمل متضجرين كارهين فتقل ثمرات‬
‫أعمال هم وي قل البداع في ها‪ ،‬ويعود ضرر ذلك علي هم وعلى المجت مع‪ .‬وأخيرا فان الن سان في‬
‫ال سلم م سؤول م سؤولية كاملة عن أعماله و عن اختياره وتر كه‪ ،‬ف من العدل اعطاؤه الحر ية‬
‫الكافية لختيار العمل الذي يريده‪.‬‬
‫و مع هذا الذي قلناه‪ ،‬يم كن ع ند الضرورة‪ ،‬وح يث يكون ا ستعمال الناس لحريت هم القت صادية‬
‫مضرا للمجموع‪ ،‬أو يكون وراء هذه الحريـة سـوء قصـد وارادة الشـر بالجماعـة‪ ،‬ففـي هذه‬
‫الحالت وأمثالهـا يكون لولي المـر الحـق فـي التدخـل فـي حريـة الفراد والزامهـم بمـا يدفـع‬
‫الضرر عن الناس‪ ،‬وعلى هذا ال ساس قال ب عض الفقهاء بجواز ت سعير المواد الضرور ية إذا‬
‫امت نع التجار عن بيع ها بقيمت ها المعتادة‪ ،‬وح مل أرباب ال صناعات والحرف على الع مل بأ جر‬
‫المثل إذا امتنعوا عن العمل وكان في الناس حاجة لصناعاتهم وأعمالهم"[‪.]10‬‬
‫‪ -405‬ومـن النتائج الحتميـة لتقريـر مبدأ حريـة العمـل للفراد‪ ،‬اقرار المنافسـة الحرة بيـن‬
‫الفراد في مجال النشاط القت صادي في اطار من الخلق ال سلمية الفاضلة‪ ،‬فل كل فرد أن‬
‫يضاعف نشاطه أو جهده ليبز غيره في مجال عمله‪ ،‬بشرط مراعاة معاني الخلق‪ ،‬فل يجوز‬
‫الغش والخداع والخصام وتنزيل السعار الى حد الخ سارة بح جة المناف سة الحرة بينما القصد‬
‫منها الضرار بالخرين واحتكار البيع في السوق من قبل فرد أو زمرة قليلة تتواطأ على هذا‬
‫التنزيل والضرار بالناس‪.‬‬
‫‪ -406‬ومن النتائج أيضا لتقرير مبدأ حرية العمل التفاوت في الرباح وثمرات العمال نظرا‬
‫لختلف المواهب والكفاءات ومقدار الجهد المبذول‪ .‬والسلم يقر هذا التفاوت الطبيعي ما دام‬
‫ناتجا عن أسباب مباحة مشروعة لنه نتيجة لزمة لختلف الناس في مقدار ذكائهم ومعرفتهم‬
‫ومواهبهم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض‬
‫درجات ليت خذ بعض هم بعضا سخريا ورح مة ر بك خ ير م ما يجمعون} فال تعالى فا ضل ب ين‬
‫عباده فـي الرزق وفـي الغنـى والفقـر ليسـخر ويسـتعمل بعضهـم بعضا فـي أسـباب المعايـش‬

‫‪187‬‬
‫المختل فة فت سد حاجات هم جميعا[‪ ،]11‬وهذا التفاوت الذي قدره ال تعالى إن ما قدره بأ سبابه و هي‬
‫كثيرة جدا ل يم كن أن يح يط ب ها الن سان‪ ،‬ومن ها تفاوت هم في الموا هب والكفاءات‪ ،‬ول يم كن‬
‫ازالة هذا التفاوت مطلقا ما دام التفاوت في مواهب البشر قائما ل يمكن إزال ته‪ ،‬وإنما الممكن‬
‫والمطلوب اعانة الضعيف من قبل الغني‪ ،‬وهذا ما أكده السلم ودعا إليه ووضع من الوسائل‬
‫ما يحققه فعل‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬حق الملكية الفردية‬

‫‪ -407‬من البديهيات التي يعرفها صغار المطلع ين على الشريعة ال سلمية‪ ،‬ان السلم أقر‬
‫للفراد بحق الملكية الفردية‪ ،‬وبهذا القرار أمكن للفرد أن يكون مالكا‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أو لم يروا‬
‫أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون} فأثبت ال تعالى للناس الملك لما خلقه ال‬
‫سـبحانه وتعالى وقال تعالى‪{ :‬وإن تبتـم فلكـم رؤوس أموالكـم ل تَظلِمون ول تُظلَمون} فأثبتـت‬
‫هذه ال ية الملك للناس وأضافت المال اليهم اضا فة ملك واخت صاص‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬ول تقربوا‬
‫مال اليتيم إل بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} وقال تعالى‪{ :‬وسيجنبها التقى الذي يؤتي ماله‬
‫يتزكى} وقال تعالى‪{ :‬ما أغنى عنه ماله وما كسب} فهذه اليات الكريمة وأمثالها تضيف الملك‬
‫للنسان مما يدل دللة قاطعة وواضحة على أن السلم يقر مبدأ الملكية الفردية‪ ،‬وفي السنة‬
‫النبو ية الش يء الكث ير من الحاد يث الشري فة ال تي تقرر هذا المبدأ‪ ،‬من ها "ل ي حل مال امرئ‬
‫م سلم إل بط يب من نف سه"‪ .‬و قد شر عت ن ظم في ال سلم تقوم أ ساسا على القرار بمبدأ حق‬
‫الملكيـة الفرديـة‪ ،‬منهـا‪ ،‬الميراث‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والمهور فـي النكاح‪ ،‬والنفقات وغيـر ذلك إذ بدون‬
‫العتراف بحق الملكية ل يبقى معنى للميراث ول يمكن تحقيق فرض الزكاة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫‪ -408‬والدلئل الشرع ية الدالة على إقرار مبدأ حق الملك ية الفرد ية ل تفرق ب ين مال ومال‪،‬‬
‫ف سواء كان المال المملوك منقولً أو عقارا‪ ،‬مأكولً أوغ ير مأكول حيوانا أو نباتا‪ ،‬و سائل انتاج‬
‫أو وسائل استهلك‪ ،‬فكل هذا الختلف في المال موضوع الملكية ل يهم‪ ،‬لن المال المضاف‬
‫الى الفرد إضافة ملك واختصاص الذي جاءت به النصوص الشرعية وذكرنا بعضها‪ ،‬لم تقيد‬
‫المال بصفة معينة بل جاءت مطلقة من كل قيد‪ ،‬عدا ما عرف من نصوص أخرى من حرمة‬
‫تملك بعض الشياء كالخمر والخنزير‪ ،‬أو ما كان سبب ملكه حراما وإن كان هو بنفسه يصلح‬
‫أن يكون مملوكا كالمغصوب والمسروق ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ -409‬و قد ر تب ال سلم على مبدأ حق الملك ية الفرد ية التزاما عاما على الكا فة باحترا مه‬
‫وعدم الم ساس به إل بو جه حق‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ول تأكلوا أموال كم بين كم بالبا طل} وقال تعالى‪:‬‬
‫{ول تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} وفي الحديث الشريف "ل يحل مال امرئ‬

‫‪188‬‬
‫مسلم إل بطيب من نفسه"‪ .‬كما قرر السلم عقابا لمن ينقض هذا اللتزام ويتجاوز على حق‬
‫الملك للغ ير‪ ،‬فهناك عقو بة السـرقة وق طع الطر يق وخيا نة الما نة والن هب ون حو ذلك سواء‬
‫أكانت هذه العقوبات عقوبات حدود أم تعزيز‪.‬‬
‫‪ -410‬ول كن اقرار ال سلم ب حق الملك ية الفرد ية ل يع ني أ نه حق مطلق من كل ق يد وان‬
‫مو قف ال سلم م نه هو مو قف الحارس له ف قط‪ ،‬فالحقي قة أن ال سلم مع اقراره ب حق الملك ية‬
‫وحمايتـه له فإنـه ينظمـه ويقيده بجملة قيود منـذ نشأتـه الى اندثاره‪ ،‬وبهذا يجمـع السـلم بيـن‬
‫موقفين بالنسبة لحق الملكية الفردية‪ :‬الول‪ :‬العتراف به الحماية له‪ .‬والثاني‪ :‬التقيد والتنظيم‬
‫لهذا الحق‪ ،‬وهذا التقييد يظهر فيما يأتي‪.‬‬
‫‪ -411‬أولً‪ :‬من حيث نشأة حق الملكية الفردية‪ ،‬يشترط السلم أن ينشأ عن سبب شرعي‪،‬‬
‫فان ن شأ عن سبب غير شر عي فإن ال سلم ل يعترف به ول يحم يه بل يأ مر بنز عه عن يد‬
‫حائزه ورده الى مالكـه الصـلي‪ ،‬فإن لم يوجـد‪ ،‬وضـع فـي بيـت المال‪ .‬والسـباب الشرعيـة‬
‫للملكيـة‪( :‬أ) السـتيلء على المال المباح‪ ،‬ويندرج تحـت هذا النوع الصـيد‪ ،‬واحياء الرض‬
‫الموات‪ ،‬والستيلء على الكل والجام‪ ،‬واستخراج المعادن والكنوز‪ .‬وكل ذلك بشروط معينة[‬
‫‪( .]12‬ب) العقود والتصـرفات مثـل البيـع والهبـة والوصـية والجارة والشركـة والمضاربـة‪،‬‬
‫والمزارعـة والمغارسـة ونحـو ذلك‪ ،‬بشرط أن تكون هذه العقود والتصـرفات بالكيفيـة التـي‬
‫شرعهـا السـلم‪( .‬جــ) الميراث‪ ،‬حيـث يخلف الوارث المورث فـي ملكيـة تركتـه بأسـباب‬
‫وشروط معينة معروفة في باب الميراث في كتب الفقه السلمي‪.‬‬
‫هذه هي السباب الشرعية المنشئة لحق الملكية‪ ،‬فان نشأ هذ الحق بها اعتراف السلم به ول‬
‫يهم بعد ذلك كميتها ول نوعيتها لن المنظور اليه في الشرع في باب الملكية الفردية‪ :‬الشرعية‬
‫ل الكم ية ول النوع ية‪ ،‬أي المنظور إل يه ال سبب المنشـئ للملك ية فان كان مشروعا كان الملك‬
‫مشروعا محميا مـن قبـل السـلم‪ ،‬وإن لم يكـن السـبب مشروعا لم يكـن الملك مشروعا ول‬
‫محميا من قبل السلم‪ .‬ولهذا فإن السلم يحمي الملك الكثير إذا كان سببه مشروعا‪ ،‬ويرفض‬
‫العتراف والحماية للملك القليل إذا كان سببه غير مشروع‪ ،‬انه يعترف بملك الرض الواسعة‬
‫مـا دام ملكهـا نشـأ عـن سـبب مشروع ويرفـض العتراف بملكيـة شـبر واحـد مغصـوب لن‬
‫الغصب ليس سببا شرعيا للملكية‪.‬‬
‫‪ -412‬ثانيا‪ :‬أما قيود الملكية في بقائها ونمائها فتظهر فيما شرعه السلم من حقوق في مال‬
‫النسان ووجوب أداء هذه الحقوق مثل حق الزكاة والنفقات الشرعية كما تظهر هذه القيود في‬
‫نماء الملك‪ ،‬فقـد حدد السـلم سـبل تثميـر المال وتنميتـه‪ ،‬ومنهـا التجارات والمزارعات‬
‫والشركات ونحو ذلك‪ ،‬فل يعترف السلم بالنماء الناتج عن سبب باطل حرام كالربا مثلً أو‬
‫ب يع الخمور‪ ،‬أوف تح نوادي القمار‪ .‬إن هذا النماء النا تج عن هذه ال سباب المحر مة في ن ظر‬

‫‪189‬‬
‫السلم‪ ،‬كالورم الذي يصيب بدن المريض‪ ،‬يحسبه الجاهل سمنة وعافية وهو في نظر الحكيم‬
‫العارف بلء ومرض يجب التخلص منه‪.‬‬
‫‪ -413‬ثالثا‪ :‬أما قيود استهلك المال موضوع الملكية‪ ،‬فتظهر فيما قرره السلم من ضرورة‬
‫العتدال في النفاق قال تعالى‪{ :‬كلوا واشربوا ول ت سرفوا} وقال تعالى‪{ :‬والذ ين إذا أنفقوا لم‬
‫يسرفوا لم يقتروا وكان بين ذلك قواما} وهذا العتدال المطلوب في النفاق إنما هو في النفاق‬
‫على المباحات أو على حاجات النســان الضروريــة كالكــل والشرب‪ ،‬أمــا النفاق على‬
‫المحرمات فممنوع قليله وكثيره‪ ،‬فل يجوز النفاق على الملذات المحرمـة كالفحـش والخمور‬
‫والرقص وليس الذهب من قبل الرجال ونحو ذلك مما وقع فيه المترفون الذين ل يخشون ال‬
‫تعالى‪ ،‬مما أدى الى شيوع الفاحشة في المجتمع وظهور فئات كثيرة منحرفة تقوم بهذه الفعال‬
‫المحرمة التي يهواها هؤلء المترفون‪.‬‬
‫‪ -414‬رابعا‪ :‬نزع الملكيـة عنـد الضرورة وللمصـلحة العامـة بعـد تعويـض صـاحب الملك‬
‫التعويـض العادل‪ ،‬وقـد ضرب الفقهاء بعـض المثلة على ذلك منهـا جواز نزع الملك لتوسـعة‬
‫طريق عام‪ ،‬كما يجز بيع الملك جبرا على صاحبه تسديدا لدين حق عليه للخرين‪.‬‬

‫الفرع الثالث ‪ -‬حق الرث‬

‫‪ -415‬من المبادئ المقررة في الشرع السلمي حق الرث‪ ،‬فاذا مات الشخص وترك مالً‪،‬‬
‫ورثه اقرباؤه‪ ،‬القرب فالقرب‪ ،‬ونال المتسحقون للميراث سهاما معينة من تركة الميت إذا ما‬
‫توفرت شروط الميراث وأسبابه وزالت موانعه حسب القواعد المقررة في الشرع السلمي‪.‬‬
‫وحق الرث يقوم على أساس من الفطرة والعدل واحترام ارادة المالك‪ ،‬ويدفع الى بذل المزيد‬
‫مـن الجهـد والنشاط ويحقـق ضمانا اجتماعيا لفراد السـرة الواحدة‪ ،‬ويفتـت الثروات ويمنـع‬
‫تكديسها‪ ،‬فهو لهذا كله مبدأ عظيم من مبادئ النظام القتصادي السلمي‪.‬‬
‫‪ -416‬أما قيامه على أساس من الفطرة‪ ،‬فقد بينا فيما سبق أن من الفطرة في النسان اهتمامه‬
‫بذري ته وقل قه علي هم إذا أ حس بترك هم بل مال‪ ،‬ورغب ته في أن يو فر ل هم ما ي ستعينون به في‬
‫حياته وبعد موته‪.‬‬
‫وأ ما قيا مه على أ ساس من العدل‪ ،‬فان الن سان في حيا ته يع يل أولده وبق ية من هو مكلف‬
‫باعالت هم كأ مه وأب يه وزوج ته‪ .‬وقد يلزم بهذا النفاق الزاما عن طر يق القضاء اذا امتنع عنه‪،‬‬
‫والغالب عدم امتنا عه‪ ،‬ف من العدل أن تكون أمواله ب عد مو ته لولئك الذ ين كان هو ال سبب في‬
‫وجود هم‪ ،‬كأولده‪ ،‬أو كانوا هم ال سبب في وجوده م ثل أبو يه‪ ،‬لي ستعينوا بهذه الموال بالنفاق‬
‫منها على أنفسهم كما كان هو في حياته ينفق منها عليهم‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫‪ -417‬وأما قيام الميراث على أساس احترام إرادة المالك‪ ،‬فان النسان يرغب رغبة أكيدة أن‬
‫تكون أمواله ب عد مو ته لقربائه ل لغير هم‪ ،‬في جب احترام اراد ته هذه ود فع أمواله الى ورث ته‬
‫بعد موته‪ ،‬وقد فصل الشرع السلمي هذا فبين حصص هؤلء القرباء من الميراث على نحو‬
‫دقيق عادل‪ .‬ول شك أن المسلم يسره ويرضيه أن تصير أمواله الى ورثته من بعده وفقا لهذا‬
‫التقسيم الشرعي العادل‪.‬‬
‫‪ -418‬وأما أن مبدأ الرث يدفع الى المزيد من بذل النشاط والجهد فأمر واضح لن النسان‬
‫ل يعمل لنفسه فقط وإنما لمن يهمه شأنهم من أفراد أسرته أيضا فهو يجهد نفسه ليسد حاجاتهم‬
‫مع حاجات نفسه‪ .‬وكما انه ل يعمل لتوفير حاجاتهم الحاضرة فكذلك يبذل جهدا آخر لتوفير ما‬
‫يسد حاجاتهم في المستقبل فان بقي في قيد الحياة تولى النفاق بنفسه عليهم وان مات تولوا هم‬
‫بأنف سهم النفاق من أمواله ال تي ترك ها ل هم‪ .‬وعلى هذا فاذا م نع التوارث فان الن سان تض عف‬
‫همته في العمل ويقلل نشاطه القتصادي لنه يعلم بأن ثمرة جهوده ل ترجع إلى أفراد أسرته‬
‫الذين يهتم بأمرهم‪ .‬ول شك أن المجتمع سيخسر كثيرا من فتور الناس عن العمل ومن ضعف‬
‫دوفعهم على بذل كل ما يستطيعون من جهد ونشاط اقتصادي‪.‬‬
‫ومبدأ الميراث يحقق ضمانا اجتماعيا داخل السرة لما يوفره من أموال تعود الى الحياء منهم‬
‫إذا مات أحدهـم وترك مال‪ ،‬فل يضيـع الصـغير واليتيـم والرملة‪ ،‬ول يصـيرون عالة على‬
‫المجتمع‪ ،‬وفي هذا تخفيف عن كاهل الدولة في سد حاجات المحتاجين‪.‬‬
‫‪ -419‬والميراث يفتت الثروات ويمنع من تكديسها في أيد قليلة لن تركة النسان بعد موته‬
‫تفسم على عدد غير قليل من أقاربه‪ ،‬ولما كان النسان غير مخلد في الدنيا‪ ،‬وعمره في الغالب‬
‫قصير ل يتجاوز بضع عشرات من السنين فان الثروة التي قد يجمعها النسان في حياته ل بد‬
‫ان تتف تت ب عد ز من ق صير‪ .‬وتفت يت الثروات ال كبيرة م ما ير غب ف يه ال سلم وي سلك لتحقي قه‬
‫سبل كثيرة هادئة مريحة ل عنف فيها ول اهتزاز‪ ،‬ومن هذه السبل تقرير مبدأ الميراث‪.‬‬
‫‪ -420‬وأخيرا فان تنظ يم الرث في ال سلم جاء على غا ية في العدل والد قة م ما ل ن جد له‬
‫نظيرا مطلقا في أي شرع آ خر‪ ،‬ف قد لو حظ ف يه مدى قرب الوارث من الم يت‪ ،‬ومدى حاج ته‪،‬‬
‫وتكاليفه‪ ،‬واعانته للمورث‪ ،‬وفي ضوء ذلك وغيره جاءت حصص الورثة مختلفة‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫هذا الختلف أن نصـيب البـن ضعـف نصـيب البنـت قال تعالى‪{ :‬يوصـيكم ال فـي أولدكـم‬
‫للذ كر م ثل حظ النثي ين‪ }..‬لن حا جة ال بن الى المال أك ثر من حا جة الب نت لكثرة التكال يف‬
‫المال ية عل يه‪ ،‬فالر جل هوالذي يد فع الم هر في النكاح دون المرأة‪ ،‬و هو المكلف بالنفاق على‬
‫زوجته وعلى أولده‪ .‬فمن العدل اذن أن يكون نصيبه في الميراث ضعف نصيب اخته‪.‬‬

‫المطلب الثالث ‪ -‬بيت المال موارده ومصارفه‬

‫‪191‬‬
‫الفرع الول ‪ -‬موارد بيت المال‬
‫تمهيد‬
‫‪ -421‬مـن البديهـي أن الدولة تحتاج الى نفقات كثيرة لسـد حاجاتهـا المختلفـة‪ ،‬وهذه النفقات‬
‫تغطي ها من موارد ها المتعددة‪ .‬و قد كا نت الدولة ال سلمية في ع هد الر سول صلى ال عل يه‬
‫و سلم قليلة التكال يف فلم ي كن هناك موظفون ل هم روا تب دائ مة منظ مة‪ ،‬وإن ما كان يع طي من‬
‫يقوم بب عض العمال أجرا على عمله‪ ،‬م ثل جباة الزكاة فاذا انت هت الجبا ية انت هى ال جر‪ .‬و في‬
‫القتال كان ي ستنفر الم سلمين ويأتون بأ سلحتهم ودواب هم ويقاتلون فان غنموا شيئا ق سمه علي هم‪.‬‬
‫وحصيلة الزكاة إذا وردت قسمها الرسول صلى ال عليه وسلم على المستحقين‪ ،‬وهلى هذا لم‬
‫تكن الحاجة قائمة لتنظيم واردات الدولة ومصارفها على النحو الذي حدث فيما بعد‪ .‬وجاء أبو‬
‫ب كر ال صديق ر ضي ال ع نه و سار على الن هج الول فلم يض بط الواردات وال الم صروفات‬
‫لعدم ظهور الحاجة الى ذلك‪ ،‬ولن أمد خلفته كان قصيرا‪ .‬فلما جاء عمر بن الخطاب رضي‬
‫ال عنه‪ ،‬واتسعت رقعة البلد السلمية بما فتحه ال على المسلمين من بلد الروم والفرس‪،‬‬
‫وزادت واردات الدولة من الغنائم والف يء والجز ية‪ ،‬ف كر ع مر بن الخطاب في طري قة تض بط‬
‫هذه الموال الكثيرة وتض بط صرفها‪ ،‬فأن شأ ب يت المال لح فظ أموال الم سلمين واح صاء د خل‬
‫الدولة السـلمية مـن مواردهـا المتعددة‪ ،‬واحصـاء مصـاريفها ومقدار هذه المصـاريف مثـل‬
‫روا تب الج ند والعمال والولة ون حو ذلك من وجوه ال صرف على الم صالح العا مة وحاجات‬
‫الدولة‪ ،‬وما كان يبقى من أموال بعد الصرف يحفظ في بيت المال وينفق في حينه‪.‬‬
‫فبيت المال إذن يشبه الخزانة العامة في الوقت الحاضر‪ ،‬حيث كل ما يعود للدولة من حقوق‬
‫مال ية يضاف الي ها باعتباره حقا ل ها‪ ،‬و كل ما تحتا جه الدولة من نفقات و صرف تتحمله هذه‬
‫الخزانة العامة ويضاف إليها باعتباره حقا عليها‪.‬‬
‫‪ -422‬وموارد الدولة ال سلمية أي موارد ب يت المال هي الزكاة والخراج والجز ية والعثور‬
‫والفيء وخمس الغنائم وغير ذلك مما نذكره فيما يلي تباعا‪.‬‬
‫أولً‪ :‬الزكاة[‪]13‬‬
‫‪ -423‬الزكاة مأخوذة من النماء والزيادة‪ ،‬و هي في الشري عة حق ي جب في المال‪ ،‬و هي من‬
‫فروض ال سلم وأركا نه قال تعالى‪{ :‬وآتوا الزكاة} و في الحد يث الشر يف أن ال نبي صلى ال‬
‫عليـه وسـلم بعـث معاذا إلى اليمـن وقال له "أعلمهـم أن ال افترض عليهـم صـدقة تؤخـذ مـن‬
‫أغنيائ هم فترد في فقرائ هم" وأج مع الم سلمون على وجوب ها‪ ،‬وات فق ال صحابة الكرام على قتال‬
‫مانعيها‪ .‬وعلى هذا فمن أنكر وجوبها كفر‪ ،‬ومن منعها معتقدا وجوبها وقدر المام على أخذها‬
‫منه أخذها منه جبرا وعزره على امتناعه‪ ،‬وان كان خارجا عن قبضة المام قاتله كما فعل أبو‬

‫‪192‬‬
‫ب كر ر ضي ال ع نه وقال قوله المشهور "لو منعو ني عقال كانوا يؤدو نه الى ر سول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم لقاتلتهم عليه"‪.‬‬
‫‪ -424‬و هي ت جب على كل م سلم وم سلمة‪ ،‬فاذا ملك ن صابا خاليا من د ين فعل يه زكا ته ع ند‬
‫تمام الحول سـواء أكان كـبيرا أو صـغيرا عاقلً أو مجنونا‪ ،‬ول زكاة فـي مـا ل يحول عليـه‬
‫الحول‪ ،‬وهذا فـي الماشيـة والذهـب والفضـة وقيـم عروض التجارة‪ ،‬أمـا فـي الزرع والثمار‬
‫والمعدن فل يشترط لهـا الحول‪ .‬وتجـب الزكاة فـي الذمـة بحلول الحول حتـى ولو تلف المال‬
‫بتفريط من صاحبه أو عدم تفريط‪ ،‬وذهب أبوحنيفة إلى سقوط الزكاة بتلف النصاب على كل‬
‫حال إل أن يكون المام قـد طلبهـا فمنعهـا‪ .‬ول تسـقط بالموت‪ ،‬وقال الحنفيـة بالسـقوط إل إذا‬
‫أوصـى بهـا فتجـب مـن الثلث‪ .‬والدولة السـلمية تجـبي زكاة الموال الظاهرة وهـي الماشيـة‬
‫والزروع وتقسـمها على مسـتحقيها‪ ،‬أم ‪7‬ا الموال الباطنـة كالذهـب والفضـة وعروض التجارة‬
‫فان أصحابها يخرجون زكاتها إل إذا دفعوها الى المام فإنه يقسمها على المستحقين‪ ،‬ويبدو لي‬
‫جواز قيام المام بجباية زكاة الموال الباطنة ابتداء وتقسيمها على مستحقيها‪.‬‬
‫‪ -425‬أما النصاب ومقدار الزكاة فيختلف باختلف الموال وأصنافها على النحو التالي[‪.]14‬‬
‫‪ -426‬أولً‪ :‬المواشي‪ ،‬وتشمل البل والبقر والغنم على التفصيل التالي‪:‬‬
‫نصاب البل وزكاتها‪.‬‬ ‫أ‌)‬
‫مقدار زكاتها‬ ‫عدد البل‬
‫شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز‪.‬‬ ‫‪9–5‬‬
‫والجذع من الغنم ما له ستة أشهر‪ .‬والثني منها ما استكمل سنة‪.‬‬
‫شاتان‪.‬‬ ‫‪14 – 10‬‬
‫ثلث شياه‪.‬‬ ‫‪19 – 15‬‬
‫أربع شياه‪.‬‬ ‫‪24 – 20‬‬
‫ابنة مخاض من البل وهي ما استكملت سنة‪ ،‬فان لم يجد ابنة مخاض‬ ‫‪35 – 25‬‬
‫فابن لبون ذكر‪.‬‬
‫ابنة لبون وهي ما استكملت سنتين‬ ‫‪45 – 36‬‬
‫حِقّة وهي ما استكملت ثلث سنين واستحقت الركوب وطرق الفحل‪.‬‬ ‫‪60 – 46‬‬
‫جذعة وهي ما استكملت اربع سنين‬ ‫‪75 – 61‬‬
‫بنتا لبون‪.‬‬ ‫‪90 – 76‬‬
‫حقتان‪.‬‬ ‫‪120 – 91‬‬
‫ثلث بنات لبون‪.‬‬ ‫‪139 – 121‬‬
‫حقتان وبنت لبون‪.‬‬ ‫‪149 – 140‬‬

‫‪193‬‬
‫ثلث حقاق‪.‬‬ ‫‪159 – 150‬‬
‫أربع بنات لبون‪.‬‬ ‫‪169 – 160‬‬
‫حقة وثلث بنات لبون‪.‬‬ ‫‪179 – 170‬‬
‫حقتان وبنتا لبون‪.‬‬ ‫‪189 – 180‬‬
‫ثلث حقاق وبنت لبون‪.‬‬ ‫‪199 – 190‬‬
‫أربع حقاق أوخمس بنات لبون‪.‬‬ ‫‪200‬‬

‫وعلى هذا القياس في ما زاد‪ ،‬في كل أربع ين اب نة لبون و في كل خم سين ح قة‪ .‬وذ هب الحنف ية‬
‫والثوري والنخ عي أن ال بل اذا زادت على عشر ين ومائة ا ستؤنفت الفري ضة فيكون في كل‬
‫خ مس من ال بل شاة الى خ مس وأربع ين ومائة فيكون في ها حقتان وب نت مخاض الى خم سين‬
‫ومائة وفيها ثلث حقاق ثم تستأنف الفريضة بعد ذلك فيكون في كل خمس شاة‪.‬‬
‫هذا ويشترط لزكاة البـل مـع تحقـق النصـاب ومرور الحول أن تكون سـائمة أي ترعـى الكل‬
‫لت قل مؤونت ها‪ .‬و عن مالك رح مه ال‪ :‬ال سوم ل يس بشرط لزكات ها فت جب الزكاة في المعلو فة‬
‫والعاملة هذا وليس فيما دون خمس من البل زكاة‪.‬‬

‫‪ -427‬ب) – نصاب البقر والجاموس‬


‫زكاتها‬ ‫عددها‬
‫تبيع ذ كر‪ ،‬و هو ما سنة ود خل في الثان ية فان أع طى تبي عة‬ ‫‪39 – 30‬‬
‫انثى قبلت‪.‬‬
‫مسنة انثى وهي التي لها سنتان‪ ،‬فان لم تكن‬ ‫‪59 – 40‬‬
‫في بقرة مسنة قبل منه المسن الذكر‪.‬‬
‫تبيعان‪.‬‬ ‫‪69 – 60‬‬
‫مسنة وتبيع‪.‬‬ ‫‪79 – 70‬‬
‫مسنتان‪.‬‬ ‫‪89 – 80‬‬
‫ثلثة اتبعة‪.‬‬ ‫‪99 – 90‬‬
‫مسنة وتبيعان‪.‬‬ ‫‪109 – 100‬‬
‫مسنتان وتبيع‪.‬‬ ‫‪119 – 110‬‬
‫ثلث مسنات أو أربعة أتباع‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪194‬‬
‫ثم على هذا القياس فيما زاد‪ :‬في كل ثلثين تبيع وفي كل أربعين مسنة‪ .‬هذا ويشترط في البقر‬
‫والجاموس مع الن صاب ومرور الحول ال سوم‪ ،‬و عن مالك ل يس هذا بشرط فت جب الزكاة في‬
‫المعلو فة والعاملة كقوله في ال بل‪ .‬وي ضم الجاموس الى الب قر ع ند عد الن صاب‪ ،‬ول يس في ما‬
‫دون الثلثين زكاة‪.‬‬

‫‪ -428‬ج)‪ -‬الغنم‪ ،‬ويشمل الضأن والمعز‪ ،‬ونصابها وزكاتها كما يلي‪:‬‬

‫الزكاة‬ ‫العدد‬
‫جذعة أو ثنية من المعز إل أن تكون كلها صغارا دون الجذاع والثنايا‬ ‫‪120 – 40‬‬
‫فيؤخذ منها صغيرة دون الجذعة والثنية‪.‬‬
‫شاتان‪.‬‬ ‫‪200 – 121‬‬
‫ثلث شياه‪.‬‬ ‫‪399 – 201‬‬
‫أربع شياه‪.‬‬ ‫‪400‬‬

‫ما زاد على الـ ‪ 400‬في كل مائة شاة‪.‬‬


‫هذا وإن الم عز ي ضم الى الشياه ع ند ع ّد الن صاب‪ .‬ويشترط في زكاة الغ نم ال سوم أي أن تكون‬
‫سائمة‪.‬‬

‫‪ -429‬ثانيا‪ :‬زكاة الزروع والثمار‬


‫كل ما أخرج ال عز وجل من الرض مما ييبس ويبقى مما يكال ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا‬
‫ففيه العشر إن كان سقيه من السماء أوسيحا‪ ،‬وان كان يسقى بآلة والدوالي والنواضح وما فيه‬
‫الكلف فنصف العشر‪.‬‬
‫وقال المام أ بو حني فة رح مه ال تعالى‪ :‬ت جب الزكاة في كل ما يق صد بزراع ته نماء الرض‬
‫إل الحطب والقصب والحشيش لقوله صلى ال عليه وسلم "فيما سقت السماء العشر" وهذا عام‬
‫ولن هذا يق صد بزراع ته نماء الرض فأش به ال حب‪ ،‬وان ها ت جب في القل يل والكث ير ول تق يد‬
‫بالخمسـة أوسـق‪ ،‬ولنـه ل يعتـبر لزكاة الزروع مرور الحول فل يعتـبر لهـا نصـاب‪ .‬واحتـج‬
‫القائلون بأن الزكاة ل ت جب في ما دون خم سة أو سق بالحد يث الشر يف "ل يس في ما دون خم سة‬
‫أوسق صدقة" وهو حديث صحيح وهو خاص فيجب تقديمه على الحديث الذي احتجوا به لنه‬
‫عام لن الخاص يخصـص العام‪ .‬أمـا اشتراط الحول فلن الزرع يكمـل نماؤه باسـتحصاده ل‬
‫ببقائه‪ ،‬واع تبر الحول في غ ير الزرع لن مرور الحول مظ نة لكمال النماء والن صاب اع تبر‬
‫ليبلغ المال حدا يحتمل أخذ الزكاة منه وهذا المعنى يلحظ في الزروع وغيرها[‪.]15‬‬

‫‪195‬‬
‫‪ -430‬ثالثا‪ :‬زكاة الذهـب والفضـة‪ ،‬ويشترط فـي زكاتهـا النصـاب ومرور الحول‪ ،‬ونصـاب‬
‫الفضة مائتا درهم وفيه خمسة دراهم‪ ،‬ونصاب الذهب عشرون مثقال وفيه نصف مثقال‪ .‬واذا‬
‫اتجر بالدراهم والدنانير زكاها وربحها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا‪.‬‬
‫ول يس في حلي المرأة زكاة إذا كان م ما تلب سه عادة أو تعيره‪ .‬وذ هب ب عض أ هل العلم الى أن‬
‫فيه زكاة‪.‬‬
‫‪ -431‬رابعا‪ :‬زكاة المعادن‬
‫و هي من الموال الظاهرة‪ ،‬وت جب الزكاة في جم يع الخارج من ها سواء اكا نت من المعادن‬
‫ال صلبة كالذ هب والف ضة والحد يد‪ ،‬أو المائ عة كالق ير والن فط أو كا نت تش به الح جر وتنك سر‬
‫بالطرق كالجوا هر‪ .‬ويشترط لوجوب الزكاة في ها أن تبلغ ن صابا ب عد ال سبك والت صفية‪ ،‬ومقدار‬
‫الن صاب عشرون مثقال من الذ هب ومائ تا در هم من الف ضة أو قي مة هذا الن صاب من غ ير‬
‫الذهـب والفضـة ول يشترط مرور الحول لوجوب الزكاة‪ ،‬ومقدار الزكاة ربـع العشـر‪ .‬وقال‬
‫المام أبو حنيفة رحمه ال تعالى يجب الخمس في قليل المعدن وكثيره من غير اعتبار نصاب‬
‫بناء على أنه ركاز والركاز فيه الخمس‪ ،‬ولنه ل يعتبر له حول فلم يعتبر له نصاب‪.‬‬
‫ول زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان‪ ،‬وعن المام أحمد بن حنبل أن فيه الزكاة‬
‫لنه خارج من معدن‪.‬‬
‫‪ -432‬خامسا‪ :‬الركاز‬
‫وهو كل مال وجد مدفونا من ضرب الجاهلية (قبل السلم) في أرض موات أو طريق سابل‬
‫يكون لواجده وعليه الخمس‪ ،‬لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم "وفي الركاز الخمس" ويجب‬
‫هذا الخمـس على واجده سـواء أكان مسـلما أو ذميا‪ ،‬صـغيرا أو كـبيرا عاقلً أو مجنونا لعموم‬
‫هذا الحديـث الشريـف‪ .‬ويعرف أنـه مـن ضرب الجاهليـة إذا كان عليـه علمـة تدل على ذلك‬
‫ك صورة صنم أو ا سم ملك ل هم أو تار يخ قد يم ق بل ال سلم‪ .‬ا ما إذا كان من ضرب ال سلم‬
‫بدللة ما عليه من آية قرآنية أو تاريخ هجري فهو لقطة وتسري عليها أحكامها‪.‬‬
‫هذا وان الركاز إذا عثر عليه في أرض مملوكة فهو لمالك الرض ل ح قّ فيه لواجده‪ ،‬وعلى‬
‫مالكه الخمس‪.‬‬
‫‪ -433‬سادسا‪ :‬عروض التجارة‬
‫والعروض جمع عرض وهو غير الثمان من المال على اختلف أنواعه من النبات والحيوان‬
‫والعقار وسائر الموال الخرى التي يتجر بها صاحبها بقصد الربح‪ .‬وتجب الزكاة في أموال‬
‫التجارة إذا بلغت نصابا بعد تقويمها بالذهب أو الفضة ومضى عليها حول ول يلتفت الى زيادة‬
‫الن صاب أو نق صانه خلل الحول ما دام الن صاب حا صل في أول الحول وآخره‪ .‬والنماء أي‬
‫الربح تابع لصل مال التجارة عند التقويم في نهاية الحول‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫ثانيا‪ :‬الجزية‬
‫‪ -434‬الجز ية هي المال المقدر المأخوذ من الذ مي‪ ،‬ف هي ضري بة على الرؤوس يلتزم غ ير‬
‫المسلم بأدائها الى الدولة السلمية إذا ما دخل في الذمة أي صار ذميا‪.‬‬
‫وهي ثابتة بالكتاب والسنة والجماع‪ ،‬فمن الكتاب قوله تعالى‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول‬
‫باليوم والخر ول يحرمون ما حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب‬
‫ح تى يعطوا الجز ية عن يد و هم صاغرون} و في ال سنة‪ ،‬ان ال نبي صلى ال عل يه و سلم أ خذ‬
‫الجذية من مجوس البحرين‪ .‬وأجمع المسلمون على أخذ الجزية من غير المسلم[‪.]16‬‬
‫‪ -435‬ويشترط لوجوب الجزيـة العقـل والبلوغ والذكورة فل تجـب على الصـبيان والنسـاء‬
‫والمجانين‪ ،‬كما يشترط لوجوبها السلمة من الزمانة والعمى والشيخوخة فل تجب على زمن‬
‫ول أعمى ول شيخ كبير‪ .‬ول تجب على الراهب وعند بعض الفقهاء تجب عليه مطلقا وعند‬
‫آخرين تجب عليه اذا خالط الناس أو كان قادرا على العمل‪.‬‬
‫‪ -436‬وت جب الجز ية في آ خر كل سنة وتؤ خذ في آخر ها‪ ،‬وع ند الحنف ية ت جب في أول ها‬
‫وتؤخذ في آخرها‪ .‬ومقدارها (‪ )12‬درهما على الفقير المعتل‪ ،‬و (‪ )24‬درهما على المتوسط و‬
‫(‪ )48‬درهما على الموسـر‪ ،‬وعنـد بعـض الفقهاء انهـا غيـر مقدرة وإنمـا يقدرهـا المام حسـب‬
‫اجتهاده ورأيه‪.‬‬
‫‪ -437‬وت سقط الجز ية ب عد وجوب ها إذا أ سلم الذ مي أو عجزت الدولة ال سلمية عن حما ية‬
‫الذمي ين‪ ،‬ولهذا ردّ أ بو عبيدة بن الجراح ر ضي ال ع نه الجز ية الى الذمي ين في ب عض مدن‬
‫الشام عندما عجز الجيش السلمي عن حمايتهم[‪ ]17‬وفي صلح خالد بن الوليد مع صلوبا بن‬
‫نسطونا صاحب قس الناطف في منطقة الحيرة "فان منعناكم فلنا الجزية وإل فل حتى تمنعكم"[‬
‫‪.]18‬‬

‫ثالثا‪ :‬الخراج‬
‫‪ -438‬الخراج ما ضرب على أراضي الكفار المغنومة عنوة التي تركت بيد أهلها[‪ ]19‬فهي‬
‫ضريبة مالية على الراضي المفتوحة التي تركها المسلمون بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها‪.‬‬
‫وأول مـن فعـل ذلك المام الراشـد عمـر بـن الخطاب رضـي ال عنـه‪ ،‬إذ فرض على أرض‬
‫العراق الخراج وترك ها بيد أصحابها‪ ،‬بعد مشاورة م نه للصحابة الكرام وموافقت هم على رأ يه‪.‬‬
‫والرض التي تفرض عليها ضريبة الخراج تسمى بالرض الخراجية‪.‬‬
‫‪ -439‬والخراج نوعان‪ :‬خراج وظيفـة‪ ،‬وهـو مـا يفرض على الرض بالنسـبة الى مسـاحتها‬
‫ونوع زراعتها‪ .‬وخراج مقاسمة وهو أن يكون المفروض جزء من الخارج كالخمس والسدس‬

‫‪197‬‬
‫ون حو ذلك‪ .‬والفرق ب ين النوع ين أن في خراج الوظي فة يكون الوا جب شيئا في الذ مة يتعلق‬
‫بالتمكـن مـن النتفاع بالرض ويؤخـذ مرة واحدة فـي السـنة‪ ،‬أمـا فـي خراج المقاسـمة فيكون‬
‫الواجب متعلقا بما يخرج من الرض ل بالتمكن من زراعتها‪ ،‬حتى إذا عطل الرض صاحبها‬
‫مع التمكن من النتفاع بها لم يجب عليه شيء‪ .‬كما أن خراج المقاسمة يتكرر بتكرر الخارج‬
‫من الرض‪.‬‬
‫ـى ل يكون الخراج مرهقا‬
‫ـة الرض حتـ‬
‫ـر الخراج طاقـ‬
‫ـد تقديـ‬
‫ـه عنـ‬
‫‪ -440‬والمنظور إليـ‬
‫لصـاحبها‪ ،‬وقـد نـص الفقهاء على بعـض مـا يسـترشد بـه لمعرفـة مدى طاقـة الرض لمقدار‬
‫الخراج[‪ ]20‬فمن ذلك خصوبة الرض ونوع ما يزرع فيها واثمانه وطريقة سقيها وقربها أو‬
‫بعدها عن المدن والسواق‪.‬‬
‫‪ -441‬وإذا عجز صاحب الرض عن استغلل أرضه‪ ،‬فقد ذهب الحنفية ان للمام في هذه‬
‫الحالة أن يعطيها لغيره‪ ،‬مزارعة أو أن يؤجرها أو أن يزرعها بمال بيت المال ويستوفي من‬
‫جميع ذلك ضريبة الخراج ويمسك الباقي لصاحب الرض‪ .‬وعن أبي يوسف رحمه ال تعالى‬
‫يدفع للعاجز كفايته من بيت المال قرضا ليعمل ويستغل أرضه‪ .‬وعند الشافعية والحنابلة يؤمر‬
‫صاحب الرض بإيجارها أو رفع يده عنها ول تترك بيده خرابا وان دفع خراجها لئل تصير‬
‫بالخراب أرضا ميتـة فيتضرر بيـت المال ويقـل النتاج فـي الدولة السـلمية وفـي هذا ضرر‬
‫عام‪.‬‬
‫والواقع ان الحلول التي ذكرها الفقهاء كلها سائغة ولولي المر أن يختار منها ما يراه أصلح‬
‫من غيره[‪.]21‬‬

‫رابعا‪ :‬العشور‬
‫‪ -442‬ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمنون‪ .‬فهي بالنسبة الى الذمي تفرض على‬
‫أمواله المعدة للتجارة إذا انتقل من بلد الى بلد داخل الدولة السلمية ومقدارها نصف العشر‪.‬‬
‫وهي بالنسبة للمستأمن – وهو غير المسلم إذا دخل الى دار السلم بأمان – تفرض على ما‬
‫يدخل به من مال للتجارة الى اقليم دار السلم‪ ،‬ومقدارها عشر ما يدخل به من مال كقاعدة‬
‫عامة‪ ،‬وإن كان من الجائز أن يقل عن هذا المقدار أو يزيد تبعا لقاعدة المعاملة بالمثل‪ ،‬بمعنى‬
‫أن دولة المستأمن إذا أخذت من تجار دار السلم إذا دخلوا أراضيها ضريبة أكثر من العشر‬
‫أو أقل فإن الدولة السلمية تعامل رعايا هذه الدولة بالمثل فتستوفي من أموالهم التجارية نفس‬
‫هذه الضريبة‪.‬‬
‫‪ -443‬ويشترط لوجوب هذه الضريبـة فـي مال الذمـي أن يبلغ نصـاب الزكاة وهذا مـا قاله‬
‫الحنفيـة والزيديـة وبعـض الحنابلة[‪ ]22‬وقال المام مالك‪ :‬النصـاب ليـس بشرط لوجوب هذه‬

‫‪198‬‬
‫الضريبة[‪ ]23‬وتستوفى هذه الضريبة في السنة مرة واحدة من الذمي والمستأمن إل إذا رجع‬
‫المستأمن بماله الى بلده ثم عاد بنفس ماله الى دار السلم فإنه تؤخذ منه الضريبة مرة أخرى‬
‫على نفس المال‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الغنائم‬
‫‪ -444‬والغنيمة‪ ،‬كما يقول المام ابن تيمية‪ :‬هي المال المأخوذ من الكفار بالقتال وسماها ال‬
‫تعالى أنفال لنها زيادة في أموال المسلمين[‪.]24‬‬
‫والغني مة أرب عة أ صناف‪ :‬أ سرى و سبي‪ ،‬وأرضون‪ ،‬وأموال منقولة‪ ،‬أ ما ال سرى‪ ،‬ف هم الرجال‬
‫المقاتلون مـن الكفار إذا ظفـر بهـم المسـلمون وأسـروهم والمام مخيـر فيهـم – إذا قاموا على‬
‫كفرهم – في فعل الصلح حسب اجتهاده‪ ،‬إما القتل وإما السترقاق وإما الفداء بمال أو أسرى‪،‬‬
‫أو المن بغير فداء[‪ ]25‬ولكن إذا أسلم السير سقط القتل عنه وكان المام على خياره فيه بين‬
‫الرق والمن والفداء[‪.]26‬‬
‫‪ -445‬وأمـا السـبي فهـم النسـاء والطفال وهؤلء ل يجوز قتلهـم ويكونون سـببا مسـترقا‪،‬‬
‫يقسمون مع الغنائم "الموال المنقولة" فإن فادى المام بالسبي على مال جاز ويكون مال فدائهم‬
‫مغنوما مكان هم‪ ،‬وان أراد المام أن يفادي ب هم عن أ سرى الم سلمين في أيدي العدو جاز ذلك‬
‫وعوض الغانم ين عن هم من سهم الم صالح وان أراد أل من علي هم لزم ا ستطابة نفوس الغانم ين‬
‫عنهم إما بالعفو عن حقوقهم فيهم وإما بمال يعوضهم عنهم[‪.]27‬‬
‫‪ -446‬وأما الرضون‪ ،‬فخلصة القول فيها‪ ،‬على ما ذكره المام أبو عبيد في كتابه الموال‪،‬‬
‫والماوردي في كتا به الحكام ال سلطانية[‪ :]28‬ان الرض ال تي ي ستولي علي ها الم سلمون ثل ثة‬
‫أقسام‪:‬‬
‫القسم الول – أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم وتكون أرضا عشرية أي يستوفى من زرعها‬
‫الزكاة المقررة‪.‬‬
‫القسم الثاني – أرض فتحت صلحا على خراج معلوم فهي على ما صولحوا عليه ول يلزمهم‬
‫أك ثر م نه و هي على نوع ين‪ :‬أحده ما ي صالحهم المام على أن ملك الرض للم سلمين فت صير‬
‫بهذا الصلح وقفا من دار السلم ويكون الخارج أجرة ل يسقط عنهم باسلمهم‪ .‬والنوع الثاني‬
‫أن يصـالحهم المام على أن الرض لهـم على أن يؤدوا خراجا معلوما ويجوز لهـم التصـرف‬
‫بها بالبيع ونحوه بخلف النوع الول‪.‬‬
‫القسم الثالث – أرض فتحها المسلمون بالحرب واستولوا عليها عنوة‪ ،‬فهذه اختلف فيها الفقهاء‬
‫فذ هب الشاف عي رح مه ال تعالى الى ان ها تكون غني مة كالموال المنقولة تق سم على الغانم ين‬
‫الم سلمين ب عد اخراج خم سها الى من ذكر هم ال تعالى‪ ،‬إل إذا ر غب الغانمون بترك ها لب يت‬

‫‪199‬‬
‫المال فتوقـف على مصـالح المسـلمين‪ ،‬وقال المام مالك رحمـه ال تعالى تصـير وقفا على‬
‫المسلمين ول يجوز قسمتها على الغانمين‪ .‬وقال أبو حنيفة رحمه ال تعالى‪ :‬المام فيها بالخيار‬
‫بيـن قسـمتها بيـن الغانميـن فتصـير أرضا عشريـة أو يعيدهـا الى أيدي المشركيـن أصـحابها‬
‫ال صليين بخراج يضر به علي ها فتكون أرض خراج ويكون المشركون ب ها أهل ذ مة‪ ،‬أو يقف ها‬
‫على كافة المسلمين وتصير هذه الرض من اقليم دار السلم سواء سكنها المسلمون أو أعيد‬
‫اليها المشركون لملك المسلمين لها ول يجوز التنازل عنها للمشركين‪ .‬ورجح المام أبو عبيد‬
‫أن الخيار للمام في الرض المفتو حة عنوة‪ ،‬فله أن يقسمها على الغانم ين ب عد اخراج الخ مس‬
‫من ها‪ ،‬كما له أن يجعلها موقوفة على المسلمين عامة‪ .‬ورأي الحنفية يتضمن هذا الذي رجحه‬
‫أبو عبيد وعلى هذا‪ ،‬نميل الى رأي الحنفية‪.‬‬
‫‪ -447‬أما الموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة‪ ،‬ول تقسم إل بعد انجلء الحرب وتحقق ظفر‬
‫المسلمين‪ ،‬ويجوز بعد جمعها‪ ،‬قسمتها في دار الحرب‪ ،‬كما يجوز تأخير قسمتها بعد الرجوع‬
‫الى دار ال سلم بح سب ما يراه الم ير من الم صلحة‪ .‬فاذا أرادوا ق سمتها بدأ بأ سلب القتلى‬
‫فأع طى كل قا تل سلب قتيله‪ .‬وال سلب ما كان على المقتول من لباس يق يه و ما كان م عه من‬
‫سلح يقاتل به وما كان تحته من فرس يقاتل عليه‪ .‬ثم يبدأ بعد اعطاء السلب لمستحقيه باخراج‬
‫الخمس من جميع الغنمة‪ ،‬ويوزع الى مستحقيه على ما سنذكره في باب مصارف بيت المال‬
‫ثـم يرضـخ بعـد اخراج الخمـس لهـل الرضـخ وهـم مـن ل سـهم له ممـن يكون مـع الجيـش‬
‫ال سلمي كالن ساء وال صبيان وأ هل الذ مة فير ضخ ل هم من الغني مة بح سب ما قدموه من عون‬
‫للمقاتل ين ول يبلغ بر ضخ أحد هم سهم فارس ول را جل‪ .‬وب عد الخراج الخ مس والر ضخ يق سم‬
‫الباقي من الغنيمة على المقاتلين للراجل منهم سهم واحد وللفارس ثلثة أسهم‪ .‬ويجوز لمير‬
‫الجيش أن يزيد في سهام بعض المقاتلين إذا ظهرت منهم زيادة نكاية العدو‪ ،‬أو قاموا بأعمال‬
‫سهلت نصر المسلمين‪ ،‬وهذه الزيادة المعطاة لهؤلء يجوز أن تكون من الخمس كما يجوز أن‬
‫تكون من أربعة الخماس الباقية من الغنيمة‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬الفيء‬
‫‪ -448‬الف يء هو كل مال أخذه الم سلمون من الكفار بغ ير قتال وأد خل الفقهاء في مفهو مه‬
‫الجزية والخراج والعشور‪ ،‬والمال الذي يصالح عليه العدو‪ ،‬وما يتركه المشركون بعد هربهم‬
‫أو جلئ هم‪ .‬و سمي فيئا لن ال تعالى أفاءه على الم سلمين أي رده علي هم من الكفار‪ ،‬لن ال‬
‫تعالى خلق الخلق لعباد ته وخلق المال لل ستعانة به على عباد ته‪ ،‬فالكا فر لكفره أباح ال تعالى‬
‫لعباده المؤمنين الذين يعبدونه نفس هذا الكافر وماله‪ ،‬لنه لم يستعمل ماله في عبادة ال[‪،]29‬‬
‫والصل في الفيء قول ال تعالى في سورة الحشر {وما أفاء ال على رسوله منهم فما أوجفتم‬

‫‪200‬‬
‫عل يه من خ يل ول ركاب ول كن ال ي سلط ر سله على من يشاء وال على كل ش يء قد ير‪} ..‬‬
‫فالفيء هو المال الواصل للمسلمين من المشركين بل قتال‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬الموارد الخرى‬


‫‪ -449‬ومن موارد بيت المال الموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين‬
‫ول يس له وارث مع ين‪ ،‬وكالغ صوب والعواري والودائع ال تي تعذر معر فة أ صحابها‪ ،‬واللق طة‬
‫التي لم يظهر صاحبها‪ ،‬في بعض الحالت[‪.]30‬‬
‫ومن موارد بيت المال ما يكون للدولة من أراضي تستغلها أو تؤجرها فتكون الغلة أو الجرة‬
‫لبيت المال‪ ،‬ومن ذلك ما اصطفاه عمر بن الخطاب رضي ال عنه – باستطابة نفوس الغانمين‬
‫– من أرض السواد في العراق التي كانت لكسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا‪.‬‬
‫والمام مخير بين استغللها رأسا لمصلحة بيت المال‪ ،‬كما له أن يؤجرها لمصلحة بيت المال‪،‬‬
‫وقد فعل بالول عمر بن الخطاب وبالتالي عثمان بن عفان رضي ال عنهما[‪.]31‬‬
‫ومن موارد بيت المال ما يفرضه المام في أموال الغنياء عند الضرورة لصرفه على شؤون‬
‫الدولة والرعية الضرورية عند عدم وجود مال في بيت المال‪ ،‬مثل نفقات الجند وسد حاجات‬
‫المحتاجين‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬مصارف بيت المال‬


‫‪ -450‬أولً‪ :‬الزكاة‬
‫وت صرف ل من سماهم ال تعالى في كتا به في قوله تعالى‪{ :‬ان ما ال صدقات للفقراء والم ساكين‬
‫والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل ال وابن السبيل فريضة من‬
‫ال وال عل يم حك يم} "والفقراء والم ساكين" هم المحتاجون‪" ،‬والعامل ين علي ها" هم جباة الزكاة‪،‬‬
‫"والمؤل فة قلوب هم" نوعان‪ :‬كافر ترجى بعطيته منفعة كاسلمه أو دفع مضرته‪ .‬ومسلم يرجى‬
‫حسـن اسـلمه أو اسـلم نظيره[‪" ،]32‬وفـي الرقاب" يدخـل فيـه اعانـة الرقاء الذيـن يكاتبون‬
‫ا سيادهم على مال يؤدو نه الي هم ح تى يعتقوا‪ ،‬وافتداء ال سرى وع تق الرقاب "والغارم ين" هم‬
‫الذ ين عليهم ديون في أمور مباحة ول يجدون وفاءها فيعطون وفاء ديونهم‪ ،‬أما لو استدانوها‬
‫في معصية ال فل يعطون حتى يتوبوا[‪" ]33‬وفي سبيل ال" وهم الغزاة فيعطون ما يغزون به‬
‫او تمام ما يغزون به من خيل وسلح ونفقة واجرة‪" .‬وابن السبيل" هو الغريب في البلد وليس‬
‫عنده نفقة سفره ول ما يوصله إلى بلده‪ .‬ويجوز صرف الزكاة في أحد الصناف الثمانية مع‬
‫وجودهم‪ .‬ول يجوز دفعها إلى كافر ول إلى ذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب‪.‬‬
‫‪ -451‬ثانيا‪ :‬زكاة المعادن وخمس الركاز‬

‫‪201‬‬
‫ومصـرف زكاة المعادن وخمـس الركاز مصـرف الزكاة المعتادة اي مصـرف زكاة الماشيـة‬
‫والزروع والثمار والذهب والفضة وعروض التجارة‪.‬‬
‫‪ -452‬ثالثا‪ :‬الغنيمة‬
‫الواجب في الغنيمة لبيت المال خمسها‪ ،‬ويقسم هذا الخمس على من ذكرهم ال تعالى في سورة‬
‫النفال‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬واعلموا انمـا غنمتـم مـن شيـء فإن ل خمسـه وللرسـول ولذي القربـى‬
‫واليتا مى والم ساكين وا بن ال سبيل‪ }..‬سورة النفال آ ية ‪ .41‬وكان ر سول ال صلى ال عل يه‬
‫وسلم يصرف سهم ال وسهمه في مصالح السلم وأربعة أخماس الخمس في أهلها المستحقين‬
‫ل ها مقدما لل هم فال هم والحوج فالحوج‪ ،‬دون أن يق سم بين هم أرب عة أخماس الخ مس ال سوية[‬
‫‪.]34‬‬
‫‪ -453‬رابعا‪ :‬الفيء‬
‫ويق سم على من ذكر هم ال تعالى في سورة الح شر‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ما أفاء ال على ر سوله من‬
‫أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي ل يكون دولة بين‬
‫الغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا ال إن ال شديد العقاب‪.‬‬
‫للفقراء المهاجريـن الذيـن أخرجوا مـن ديارهـم وأموالهـم يبتغون فضل مـن ال ورضوانا‬
‫وينصرون ال ورسوله أولئك هم الصادقون‪ .‬والذين تبؤوا الدار واليمان من قبلهم يحبون من‬
‫هاجـر إليهـم ول يجدون فـي صـدورهم حاجـة ممـا أوتوا ويؤثرون على أنفسـهم ولو كان بهـم‬
‫خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‪ .‬والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر‬
‫ل للذ ين آمنوا رب نا ا نك رؤوف‬
‫ل نا ولخوان نا الذ ين سبقونا باليمان ول تج عل في قلوب نا غ ّ‬
‫رحيم} سورة الحشر آية (‪.)10-9-8-7‬‬
‫وقال الفق يه الماوردي‪ :‬يؤ خذ خ مس الف يء‪ ،‬ويق سم على خم سة أ سهم مت ساوية‪ :‬سهم من ها كان‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم في حياته ينفق منه على نفسه وأزواجه ومصالحه ومصالح‬
‫المسلمين‪ ،‬وقد صار هذا السهم بعد وفاته صلى ال عليه وسلم مصروفا في مصالح المسلمين‬
‫كأرزاق الج يش واعداد ال سلح وبناء الح صون والقنا طر واعطاء روا تب القضاة والموظف ين‬
‫و ما جرى هذا المجرى من وجوه الم صالح العا مة‪ .‬وال سهم الثا ني سهم ذوي القر بى و هم ب نو‬
‫هاشم وبنو عبد المطلب ابنا عبد مناف‪ .‬والسهم الثالث لليتامى من ذوي الحاجات‪ ،‬واليتم موت‬
‫الب مع ال صغر‪ .‬وال سهم الرا بع للم ساكين و هم الذ ين ل يجدون ما يكفي هم‪ .‬وال سهم الخا مس‬
‫لبني السبيل وهم المسافرون الذين ل يجدون ما ينفقون‪ .‬واما أربعة أخماس الفيء ففيه قولن‬
‫احده ما ا نه للج يش خا صة‪ ،‬والثا ني ا نه م صروف في الم صالح العا مة‪ ،‬ومن ها ارزاق الج يش‬
‫وما يلزمه[‪.]35‬‬

‫‪202‬‬
‫والواقـع ان اليـة الكريمـة‪ ،‬كمـا يقول الفقيـه المشهور ابـن القيـم‪ :‬إن مـا أفاء ال على رسـوله‬
‫بجملته لمن ذكر في هذه اليات ولم يخص منه خمسة بالمذكورين بل عمم واطلق واستوعب‬
‫فيصرف الفيء على المذكورين كل هم‪ .‬أما ذ كر اليتامى والمساكين ونحوهم فانما يفيد العنا ية‬
‫بهم وضرورة ادخالهم في جملة المستحقين للفيء‪ ،‬وان كانوا يستحقون ايضا من خمس الغنيمة‬
‫ول يفيـد حصـر السـتحقاق بهـم‪ .‬وعلى هذا فالفيـء يسـتحقه هؤلء المذكورون والمهاجرون‬
‫والن صار الذ ين جاؤوا من بعد هم من الم سلمين الذي يقولون رب نا اغ فر ل نا ولخوان نا الذي‬
‫سبقونا باليمان‪ ..‬الخ‪ ،‬ول يدخل معهم من يلعنهم ويتبرأ منهم‪ ،‬وعلى هذا فيصرف الفيء في‬
‫جميـع مصـالح المسـلمين ومنهـا النفاق على ذوي الحاجات ودفـع الرزاق للجنـد والعلماء‬
‫والقضاة و سائر موظ في الدولة‪ ،‬ك ما يعطـى م نه الى عموم الم سلمين‪ ،‬وهذا هو المأثور عن‬
‫الخلفاء الراشد ين في سيرتهم وهدي هم ولذلك قال ع مر ر ضي ال ع نه‪" :‬ول يس أ حد أ حق بهذا‬
‫المال من احد انما هو الر جل وسابقته‪ ،‬والر جل وغناؤه‪ ،‬والر جل وبلؤه‪ ،‬والرجل وحاج ته"‪.‬‬
‫فجعل هم ع مر ر ضي ال ع نه أرب عة أق سام‪ ،‬الول‪ :‬ذوي ال سوابق الذ ين ب سابقتهم اي با سلمهم‬
‫ح صل المال‪ .‬والثا ني‪ :‬من يغ ني عن الم سلمين في جلب المنا فع ل هم كولة المور والعلماء‬
‫الذ ين يجلبون ل هم منا فع الدن يا والخرة‪ .‬والثالث‪ :‬من يبلي بلء ح سنا في د فع الضرر عن هم‬
‫كالمجاهدين في سبيل ال من الجناد والمرابطين ونحوهم‪ .‬والرابع‪ :‬ذوي الحاجات‪ .‬كما روي‬
‫عن عمر رضي ال عنه انه قال "وال لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا‬
‫المال وهو يرعى مكانه"[‪ .]36‬ويفهم من هذا كله ان عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء‬
‫فيعطون م نه ب عد سد النفقات الضرور ية للدولة كأرزاق الج ند والولة ونحو هم وهذا ما تدل‬
‫عليه الية الكريمة‪ ،‬ويقدم ذوو الحاجات على غيرهم من الفاضل بعد سد النفقات الضرور ية‬
‫للدولة‪.‬‬
‫ويلحق بالفيء ويكون مصرفه مصرف الفيء الموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات‬
‫مـن المسـلمين وليـس له وارث معيـن‪ ،‬وكالغصـوب والعواري والودائع وغيـر ذلك مـن أموال‬
‫المسلمين التي تعذر معرفة أصحابها[‪.]37‬‬

‫[‪ ]1‬تفسير القرطبي ج ‪ 7‬ص ‪.238‬‬


‫[‪ ]2‬تفسير القرطبي ج ‪ 10‬ص ‪.141‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير القرطبي ج ‪ 14‬ص ‪.23-22‬‬
‫[‪ ]4‬رد المحتار ج ‪ 3‬ص ‪.364‬‬
‫[‪ ]5‬المحلى ج ‪ 6‬ص ‪.156‬‬

‫‪203‬‬
‫[‪ ]6‬المحلى ج ‪ 6‬ص ‪.158‬‬
‫[‪ ]7‬تفسير القرطبي ج ‪ 2‬ص ‪ ،242-241‬تفسير الرازي ج ‪ 5‬ص ‪.24‬‬
‫[‪ ]8‬اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج ‪ 2‬ص ‪.284‬‬
‫[‪ ]9‬المحلى ج ‪ 6‬ص ‪.157 -156‬‬
‫[‪ ]10‬الطرق الحكمية لبن قيم الجوزية ص ‪.240 ،226‬‬
‫[‪ ]11‬تفسير القرطبي ج ‪ 16‬ص ‪.83‬‬
‫[‪ ]12‬أنظر تفصيل ذلك في كتابنا المدخل لدراسعة الشريعة السلمية‪.‬‬
‫[‪ ]13‬المغني لبن قدامة ج ‪ 2‬ص ‪ 572‬وما بعدها‪.‬‬
‫[‪ ]14‬المغني ج ‪ 2‬ص ‪ 580‬وما بعدها‪ .‬أبو يعلى الحنبلي ص ‪ 99‬وما بعدها‪ .‬الماوردي ص‬
‫‪ 109‬وما بعدها‪.‬‬
‫[‪ ]15‬المغني ج ‪ 2‬ص ‪ .696‬والوسق يقدر بستين صاعا‪ ،‬والصاع يقرب من كيلو ونصف‬
‫لنه مقدر بأربع حفنات بيدي رجل‪.‬‬
‫[‪ ]16‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪ ،496‬والجصاص ج ‪ 3‬ص ‪ ،93 – 92‬اختلف الفقهاء للطبري ص‬
‫‪.199‬‬
‫[‪ ]17‬الخراج لبي يوسف ص ‪.139‬‬
‫[‪ ]18‬تاريخ الطبري ج ‪ 4‬ص ‪.16‬‬
‫[‪ ]19‬شرح الزهار ج ‪ 1‬ص ‪.571‬‬
‫[‪ ]20‬الماوردي ص ‪ ،144 – 143‬أبو يعلى الحنبلي ص ‪.151‬‬
‫[‪ ]21‬كتابنا أحكام الذميين والمستأمنين ص ‪.167‬‬
‫[‪ ]22‬شرح السير الكبير للسرخسي ج ‪ 4‬ص ‪ ،284‬وشرح الزهار ج ‪ 1‬ص ‪ ،577‬المغني‬
‫ج ‪ 8‬ص ‪.519‬‬
‫[‪ ]23‬الموال لبي عبيد ص ‪.536 – 535‬‬
‫[‪ ]24‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.30‬‬
‫[‪ ]25‬أبو يعلى ص ‪.125‬‬
‫[‪ ]26‬الماوردي ص ‪.126‬‬
‫[‪ ]27‬الماوردي ص ‪.127 – 126‬‬
‫[‪ ]28‬الموال لبي عبيد ص ‪ ،5‬الماوردي ص ‪.133 – 132‬‬
‫[‪ ]29‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.36‬‬
‫[‪ ]30‬أنظر بحثنا في أحكام اللقطة‪.‬‬
‫[‪ ]31‬الماوردي ص ‪.186 – 185‬‬

‫‪204‬‬
‫[‪ ]32‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.48 ،34‬‬
‫[‪ ]33‬المرجع السابق ص ‪.34‬‬
‫[‪ ]34‬زاد المعاد لبن القيم ج ‪ 3‬ص ‪.222‬‬
‫[‪ ]35‬الماوردي ص ‪.123 – 122‬‬
‫[‪ ]36‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪ ،46 – 44‬زاد المعاد لبن القيم ج ‪ 3‬ص ‪– 221‬‬
‫‪.222‬‬
‫[‪ ]37‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 8‬ص ‪.277 – 276‬‬

‫المبحث السابع ‪ -‬نِظام الجهَادِ‬

‫‪ -379‬الجهاد في الل غة‪ :‬بذل الن سان جهده وطاق ته‪ ،‬و في ال صطلح الشر عي‪ :‬بذل الم سلم‬
‫طاقته وجهده في نصرة السلم ابتغاء مرضاة ال‪ ،‬ولهذا قيد الجهاد في السلم بأنه في سبيل‬
‫ال ليدل على هذا المعنـى الضروري لتحقـق الجهاد الشرعـي‪ ،‬وبهذا جاءت اليات القرآنيـة‬
‫معلنة ان جهاد المسلمين ومنه القتال‪ ،‬انما هو جهاد في سبيل ال بخلف الكافرين فان جهادهم‬
‫وقتال هم في غ ير سبيل ال‪ ،‬اي في سبيل الشيطان‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬الذ ين آمنوا يقاتلون في سبيل‬
‫ال والذ ين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} سورة الن ساء ال ية ‪ .76‬و قد ي عبر عن المع نى‬
‫الذي بيناه بعبارة‪ :‬القتال لتكون كلمة ال هي العليا‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف "سئل رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء‪ ،‬فأي ذلك في سبيل‬
‫ال؟ فقال صلى ال عل يه و سلم‪ :‬من قا تل لتكون كل مة ال هي العل يا ف هو في سبيل ال" لن‬
‫المقصود بكلمة ال السلم‪ ،‬وجعلها هي العليا اي هي النافذة الظاهرة‪ ،‬ول شك ان اظهار دين‬
‫ال مما يرضي ال تعالى‪.‬‬
‫‪ -380‬والجهاد أنواع فهناك الجهاد باللسـان بـبيان شرائع السـلم ودحـض الباطيـل المفتراة‬
‫عن السلم‪ ،‬والجهاد بالمال بإنفاقه في وجوه البر‪ ،‬ل سيما على الغزاة والمقاتلين في سبيل ال‬
‫بشراء العتاد والسلح والرزاق لهم‪ ،‬والجهاد بالنفس بمقاتلة اعداء ال‪ ،‬وإذا أطلق الجهاد فانه‬
‫يراد بـه – غالبا – الجهاد بالنفـس أي القتال كمـا أن الجهاد بالنفـس يقرن غالبا بالجهاد بالمال‪،‬‬
‫كما نلحظ ذلك في آيات القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على‬
‫تجارة تنجي كم من عذاب أل يم تؤمنون بال ور سوله وتجاهدون في سبيل ال بأموال كم وأنف سكم‬
‫ذلكـم خيـر لكـم إن كنتـم تعلمون‪ .‬يغفـر لكـم ذنوبكـم ويدخلكـم جنات تجري مـن تحتهـا النهار‬
‫وم ساكين طي بة في جنات عدن ذلك الفوز العظ يم وأخرى تحبون ها ن صر من ال وف تح قر يب‬
‫وبشر المؤمنين}‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫‪ -381‬والجهاد بالنفس بمقاتلة العداء من فروض الكفاية في الحوال العتيادية إذا حصلت‬
‫به الكفاية‪ ،‬ولكنه يصير فرض عين‪ ،‬إذا احتل الكفرة بلدا من بلد السلم أو إذا استنفر المام‬
‫المسـلمين‪ ،‬قال المام ابـن العربـي المالكـي "إذا كان النفيـر عاما لغلبـة العدو على الحوزة او‬
‫اسـتيلئه على السـارى كان النفيـر عاما ووجـب الخروج خفافا وثقالً وركبانا ورجالً عـبيدا‬
‫وأحرارا‪ ،‬من كان له أب من غ ير اذ نه ح تى يظ هر د ين ال وتح مى البي ضة وتح فظ الحوزة‪،‬‬
‫ويخزي ال العدو ويستنقذ السرى‪ .‬ول خلف في هذا"[‪.]1‬‬
‫‪ -382‬ول ما كان الجهاد من فروض ال سلم ف قد عظ مت به الو صية‪ ،‬وا مر ال تعالى بأ خذ‬
‫العدة اللز مة له قال تعالى‪{ :‬وأعدوا ل هم ما ا ستطعتم من قوة و من رباط الخ يل ترهبون به‬
‫عدو ال وعدو كم} سورة النفال ال ية‪ ،60 :‬ف كل ما به قوة وحا جة في القتال و جب تح صيله‬
‫واعداده‪ ،‬وهذا يختلف باختلف الزمان والحوال‪ ،‬ول شـك ان مـن وسـائل القوة المهمـة فـي‬
‫زماننا تعلم واتقان مختلف العلوم والفنون والصناعات اللزمة لعداد القتال‪ .‬وتعلم هذه المور‬
‫من الفروض الكفائية في المة‪ ،‬لن ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ .‬ومن المستحب لكل‬
‫م سلم ان يتعلم ما ي ستطيعه من أمور القتال‪ ،‬كالر مي والط عن وا ستعمال ال سلح مبتغيا بذلك‬
‫وجه ال تعالى ويعلمه للخرين‪ ،‬وقد أشار شيخ السلم ابن تيمية الى هذه المور فقال رحمه‬
‫ال‪" :‬وتعلم هذه الصناعة – أي صناعات الحرب وآلت القتال – هومن العمال الصالحة لمن‬
‫يبتغي بذلك وجه ال عز وجل فمن علم غيره ذلك كان شريكه في كل جهاد يجاهد به ل ينقص‬
‫أحدهما من الجر شيئا"‪ ،‬وكان سيدنا عمر رضي ال عنه يوصي المسلمين وولتهم "أن علموا‬
‫أولدكم الرمي والفروسية" وفي حديث عن النبي صلى ال عليه وسلم "‪ ...‬ومن تعلم الرمي ثم‬
‫نسيه فليس منا"‪.‬‬
‫‪ -383‬والواقع أن الجهاد ضروري لبقاء المسلمين امة قوية مرهوبة الجانب بعيدة عن أطماع‬
‫الطامعين والحاقدين من الكافرين والمافقين‪ ،‬كما أن الجهاد بنفسه دليل قاطع على ايمان المسلم‬
‫ومبادرته إلى ما يحبه ال تعالى وايثاره مرضاته وما عنده‪ ،‬ولهذا وبخ ال تعالى من يتقاعس‬
‫عن الجهاد قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل ال اثاقلتم إلى‬
‫الرض أرضيتـم بالحياة الدنيـا مـن الخرة فمـا متاع الحياة الدنيـا فـي الخرة إل قليـل} سـورة‬
‫التوبة الية‪.38 :‬‬
‫‪ -384‬ولعظيم اثر الجهاد ودللته على اليمان‪ ،‬قال الفقهاء‪ :‬المقام في ثغور المسلمين أفضل‬
‫مـن المجاورة فـي المسـاجد الثلث‪ :‬المسـجد الحرام ومسـجد الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم‪،‬‬
‫والم سجد الق صى‪ .‬وتعل يل ذلك أن الرباط من ج نس الجهاد‪ ،‬والمجاورة غايت ها أن تكون من‬
‫ج نس ال حج‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬أجعل تم سقاية الحاج وعمارة الم سجد الحرام ك من آ من بال واليوم‬
‫الخر وجاهد في سبيل ال ل يستوون عند ال} سورة التوبة الية‪ ،19 :‬وفي الصحيحين عن‬

‫‪206‬‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم انه سئل عن أي العمال افضل؟ قال صلى ال عليه وسلم "إيمان‬
‫بال ورسوله‪ .‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬ثم جهاد في سبيله‪ .‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪ :‬ثم حج مبرور"‪.‬‬
‫‪ -385‬وترك الجهاد سـبب للمذلة والهوان وضياع الديار وتسـلط الكفرة على بلد السـلم‪،‬‬
‫وهذا من العذاب الذي توعد به ال تعالى تاركي الجهاد‪ ،‬قال ربنا في القرآن الكريم {إل تنفروا‬
‫يعذبكـم عذابا أليما ويسـتبدل قوما غيركـم ول تضروه شيئا وال على كـل شيـء قديـر} سـورة‬
‫التوبة الية‪ .39 :‬قال المام العربي المالكي في تفسيره‪ :‬في هذه الية تهديد شديد ووعيد مؤكد‬
‫فـي ترك النفيـر والخروج الى الكفار لمقاتلتهـم على أن تكون كلمـة ال هـي العليـا‪ .‬أمـا نوع‬
‫العذاب‪ ،‬فقال ع نه المام ا بن العربـي‪ " :‬هو الذي فـي الدن يا باسـتيلء العدو على من يسـتولي‬
‫عل يه‪ ،‬وبالنار في الخرة"‪ .‬ووقائع التار يخ القدي مة والحدي ثة تؤ يد ما ذكره ا بن العر بي‪ ،‬ف ما‬
‫أصاب المسلمين من ذل وتسلط الكفرة عليهم ال بتركهم الجهاد المطلوب منهم‪.‬‬
‫‪ -386‬وعلى ذكر الجهاد‪ ،‬والقتال في سبيل ال‪ ،‬يقول ب عض الكتاب المحدث ين‪ :‬إن القتال في‬
‫السلم‪ ،‬أو الجهاد في السلم‪ ،‬هو دفاعي ل هجومي‪ ،‬بمعنى أنه ل يجوز للدولة السلمية ان‬
‫تهاجـم دولة غيـر اسـلمية إل إذا هاجمتهـا هذه الخيرة‪ .‬والواقـع ان هذا القول غيـر سـديد‬
‫وينقصه التحقيق والتدق يق‪ ،‬ول تدل عليه دلئل الشريعة‪ ،‬ذلك ان القتال في السلم له أسباب‬
‫منها‪ :‬رد العتداء وفي هذا قال تعالى‪{ :‬وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ال‬
‫ل يحـب المعتديـن} سـورة البقرة اليـة‪ .190 :‬ومنهـا‪ :‬القتال لنصـرة ضعفاء المسـلمين الذيـن‬
‫يتعرضون لظلم الكفرة قال تعالى‪{ :‬وما لكم ل تقاتلون في سبيل ال والمستضعفين من الرجال‬
‫والن ساء والولدان الذ ين يقولون رب نا أخرج نا من هذه القر ية الظالم أهل ها} سورة الن ساء ال ية‪:‬‬
‫‪ .75‬ومنها‪ :‬أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا السلم ومنعوا المسلمين من تولي الحكم‬
‫والسلطان لقامة شرع ال وتطبيقه في الرض‪ ،‬وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من‬
‫قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون وغيرهم بل مبرر‪ .‬والحقيقة أن القرآن والسنة النبوية يدلن‬
‫على هذا النوع من القتال‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله ل} سورة‬
‫النفال اليـة‪ ،39 :‬والفتنـة معناهـا الكفـر والشرك‪ ،‬قال المام أبـو بكـر الجصـاص فـي أحكام‬
‫القرآن في تفسير هذه ال ية‪{ :‬وقاتلو هم حتى ل تكون فت نة ويكون الد ين كله ل} يوجب فرض‬
‫قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع‪ ...‬أما الدين فهو النقياد‬
‫ل بالطاعة‪ ..‬والدين الشرعي هو النقياد ل عز وجل والستسلم له‪ ...‬ودين ال هو السلم‬
‫لقوله تعالى‪{ :‬ان الدين عند ال السلم} سورة آل عمران الية‪ ،19 :‬فقول المام الجصاص‪:‬‬
‫حتى يتركوا الك فر‪ ،‬أي كفرهم المتعلق بتشريع الحكام‪ ،‬لن التشريع من حق ال وحده‪ ،‬ف من‬
‫ناز عه ذلك ف قد ك فر وأشرك‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أم ل هم شركاء شرعوا ل هم من الد ين ما لم يأذن به‬
‫ال} سورة الشورى الية‪.21 :‬‬

‫‪207‬‬
‫ويؤيد ما قلناه أيضا قوله تعالى‪{ :‬قاتلوا الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ول يحرمون ما‬
‫حرم ال ورسوله ول يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم‬
‫صـاغرون} سـورة التوبـة اليـة‪ ،21 :‬قال المام الشافعـي‪ :‬الصـغار أن تؤخـذ منهـم الجزيـة‬
‫وتجري علي هم احكام ال سلم[‪ .]2‬فهذا صريح في ان قتال الم سلمين ان ما هو لظهار د ين ال‬
‫بتطبيق شرائعه بعد أن يتولى المسلمون الحكم والسلطان وليس المقصود قتل غير المسلمين أو‬
‫اكراههم على السلم لنه لو كان هذا هو المقصود لما شرعت الجزية ولما أقر الكافر على‬
‫كفره في دار السلم‪.‬‬
‫وفي السنة النبوية ما يؤيد ما قلناه‪ ،‬فقد وردت احاديث كثيرة عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وفيها يأمر الرسول صلى ال عليه وسلم امراء الجند عند توجيههم الى المشركين ان يدعوهم‬
‫الى السـلم فان أبوا فالى الجزيـة أي الى الخضوع الى سـلطان الدولة السـلمية فان أبوا‬
‫قاتلوهم حتى يخضعوهم قهرا لسلطان المسلمين[‪.]3‬‬
‫‪ -387‬والحقيقـة ان بدء المسـلمين لغيرهـم بالقتال إذا رفضوا السـلم أو الجزيـة‪ ،‬انمـا هـو‬
‫لمصـلحة عموم المشركيـن الذيـن يخضعون لسـلطان الكفـر‪ ،‬لن المسـلمين يريدون بهذا القتال‬
‫ر فع هذا الح كم الكا فر عن هم وإزالة شرائ عه الباطلة‪ ،‬ور فع الحوا جز عن عموم الناس لرؤ ية‬
‫السلم وشرائعه‪ ،‬فمن شاء آمن ومن شاء بقي على كفره بشرط الولء للدولة السلمية‪ .‬وهذا‬
‫كله من مصلحة المشرك ين الدنيوية والخروية‪ .‬اما الدنيوية فتظهر في تمتعهم بعدل السلم‬
‫والحافظة على أموالهم وحقوقهم‪ .‬وأما الخروية فبتهيئة سبل رؤيتهم السلم واحتمال دخولهم‬
‫فيه عن رضى واختيار ل عن جبر واكراه وفي هذا سعادتهم وفوزهم في الخرة‪.‬‬
‫والخلصة فان المسلم ل ينفك عن الجهاد في سبيل ال أبدا فهو في جهاد دائم‪ :‬يجاهد نفسه‬
‫ليحملها على الطاعة وعلى بذل المال والنفس في سبيل مرضاة ال تعالى‪ ،‬ويجاهد بلسانه‬
‫وقلمه ليبين معاني السلم ويرد على افتراءات المبطلين‪ ،‬ويجاهد في جميع أحواله‪ ،‬في‬
‫الرخاء والشدة‪ ،‬وفي حالة الضعف والقوة‪ ،‬وفي حالة الفقر والغنى‪ ،‬وبهذا قال المفسرون في‬
‫قوله تعالى‪{ :‬انفروا خفافا وثقالً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير لكم إن كنتم‬
‫تعلمون} سورة التوبة الية‪ .41 :‬والمر بالجهاد وذكر فضائلة وثوابه في الكتاب والسنة أكثر‬
‫من أن يحصر‪ ،‬بل ولم يرد في ثواب العمال وفضلها – كما يقول ابن تيمية رحمه ال – مثل‬
‫ما ورد فيه‪ .‬وتعليل ذلك ان نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا‪ ،‬ويشتمل على‬
‫جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة مثل محبة ال والخلص له والصبر والزهد‪ .‬وان‬
‫القائم به بين احدى الحسنين دائما‪ ،‬إما النصر والظفر‪ ،‬وإما الشهادة والجنة[‪.]4‬‬

‫‪208‬‬
‫[‪ ]1‬أحكام القرآن لبي العربي المالكي ج ‪ 2‬ص ‪.943‬‬
‫[‪ ]2‬مختصر المزني ج ‪ 8‬ص ‪.277‬‬
‫[‪ ]3‬صحيح مسلم ج ‪ 7‬ص ‪ ،310‬الخراج لبي يوسف ص ‪ ،190‬زاد المعاد ج ‪ 2‬ص ‪.65‬‬
‫[‪ ]4‬مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ج ‪ 8‬ص ‪353‬‬

‫المبحث الثامن ‪ -‬نِظام الجَريمَة والعقوبَة‬

‫تمهيد‬
‫‪ -379‬في كتاب ال و سنة ر سوله صلى ال عل يه و سلم احكام كثيرة تبين الفعال والتروك‬
‫المحر مة ال تي يعا قب مرتكب ها‪ .‬وهذه الحكام و ما ينب ني علي ها أو يتفرع من ها تكون ما يم كن‬
‫ت سميته بنظام الجري مة والعقو بة في ال سلم أو بالقانون الجنائي ال سلمي‪ .‬والقانون الجنائي‬
‫ال سلمي في أ صله قانون عال مي‪ ،‬ل نه جزء من الشري عة ال سلمية‪ ،‬و هي بطبيعت ها شري عة‬
‫عالم ية ل اقليم ية‪ ،‬أراد مشرع ها – وهوال جل جلله – تطبيق ها على كا فة الناس في جم يع‬
‫بقاع الرض‪ ،‬وهم مخاطبون بأحكام ها‪ ،‬مطالبون بتنفيذها‪ ،‬ول كن لعدم ول ية دار السلم على‬
‫مـا سوى اقليمهـا ف قد تعذر تطبيقهـا فـي خارج اقليم ها‪ ،‬أ ما فـي دا خل اقليـم السـلم‪ ،‬في جب‬
‫التطبيق‪ ،‬لن الولية فيها للمسلمين‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول المام ابو يوسف "ولن الشرائع هو‬
‫العموم في حق الناس كا فة إل ا نه تعذر تنفيذ ها في دار الحرب لعدم الول ية وام كن في دار‬
‫ال سلم فلزم التنفيذ فيها"[‪ ]1‬وعلى هذا فإن احكام القانون الجنائي السلمي تب طق على جم يع‬
‫الجرائم التي تقع في دار السلم بغض النظر عن جنسية مرتكبها أو ديانته‪ ،‬وهذه هي القاعدة‬
‫العامـة‪ .‬إل أن فـي بعـض جزئياتهـا اختلفا قليلً بيـن الفقهاء بالنسـبة للذمييـن‪ ،‬واختلفا أكثـر‬
‫بالنسـبة للمسـتأمنين[‪ ]2‬فمـن ذلك أن جمهور الفقهاء اسـتثنوا الذمييـن والمسـتأمنين مـن عقوبـة‬
‫شرب الخمـر باعتبار أن هم يعتقدون حل ها‪ .‬وع ند الظاهر ية ت جب علي هم عقو بة شرب الخ مر‬
‫شأنهم في ذلك شأن المسلمين[‪ .]3‬وبعد هذا التمهيد نتكلم عن الجريمة أولً ثم عن العقوبة ثانيا‪،‬‬
‫في فرعين متتاليين‪.‬‬

‫الفرع الول ‪ -‬الجريمة‬


‫تعريف الجريمة‬
‫‪ -380‬عرف فقهاء الشريعة السلمية الجرائم بأنها محظورات شرعية زجر ال تعالى عنها‬
‫بحد او تعزير[‪ ،]4‬ويفهم من هذا التعريف ان الجريمة في الصطلح الفقهي يجب أن تتوفر‬
‫فيها المور التية‪:‬‬

‫‪209‬‬
‫أن تكون من المحظورات الشرع ية‪ ،‬أي م ما ن هى ع نه الشرع ال سلمي ن هي‬ ‫أ‌)‬
‫تحريم ل نهي كراهة بدليل وجوب العقاب على مرتكب هذه المحظورات‪ ،‬والعقاب ل يجب إل‬
‫على ترك وا جب أو ف عل محرم‪ ،‬فيكون المق صود من المحظورات الشرع ية‪ :‬ترك وا جب أو‬
‫فعل محرم‪.‬‬
‫أن يكون تحريم الفعل أو الترك من قبل الشريعة السلمية فان كان من غيرها‬ ‫ب‌)‬
‫فل يعتبر المحظور جريمة‪.‬‬
‫أن يكون للمحظور عقو بة من ق بل الشرع ال سلمي سواء أكا نت هذه العقو بة‬ ‫ت‌)‬
‫مقدرة و هي ال تي ي سميها الفقهاء ب ـ "ال حد"‪ ،‬أو كان تقدير ها مفوضا الى رأي القا ضي و هي‬
‫التي يسميها الفقهاء "التعزير"‪ ،‬فاذا خل الفعل او الترك من عقوبة لم يكن جريمة‪.‬‬

‫أساس اعتبار الفعل او الترك جريمة‬


‫‪ -381‬وأ ساس اعتبار الف عل أو الترك جري مة هو ما ف يه من ضرر مح قق للفرد وللجما عة‪،‬‬
‫فكان مـن رحمـة ال تعالى بعباده أن بيـن لهـم لهـم مـا يفعلون ومـا يتركون لحفـظ مصـالحهم‬
‫وتحقيق الخير والسعادة لهم في دنياهم وآخرت هم‪ .‬واستقراء ن صوص الشريعة السلمية يدل‬
‫دللة قاطعة على أن ما حرمه السلم من فعل وترك عاقب عليه يشتمل على اضرار محققة‬
‫بالفرد والمجت مع‪ ،‬وتظ هر هذه الضرار بالم ساس بالد ين او بالع قل او بالن فس او بالعرض او‬
‫بالمال‪ ،‬وما يترتب على ذلك من فساد واخلل في المجتمع‪.‬‬

‫أنواع الجرائم‬
‫‪ -382‬الجرائم على اختلف انواعها يجمعها جامع واحد هو أنها محظورات شرعية معاقب‬
‫عليهـا‪ .‬وقـد قسـمها الفقهاء الى ثلثـة انواع بالنظـر الى نوع عقوبتهـا‪ ،‬وهـي‪ :‬جرائم الحدود‬
‫وجرائم القصاص والديات‪ ،‬وجرائم التعزير‪.‬‬

‫جرائم الحدود‬
‫‪ -383‬وهذه الجرائم هي الزنى والقذف‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والحرابة – قطع الطريق‬
‫– والردة‪ ،‬والبغي على خلف فيه[‪.]5‬‬
‫وال حد في الل غة‪ :‬الم نع‪ ،‬و في الشرع‪ :‬عقو بة مقدرة وج بت حقا ل تعالى[‪ .]6‬وب عض الفقهاء‬
‫يعرف الحد بأنه العقوبة المقدرة شرعا‪ ،‬ول يقيدها بكونها حقا ل تعالى‪ ،‬فيسمى القصاص بهذا‬
‫العتبار حدا أيضا[‪.]7‬‬

‫جرائم القصاص والديات‬

‫‪210‬‬
‫‪ -384‬وهذه هـي جرائم القتـل والجروح وقطـع الطراف‪ ،‬ويسـميها الفقهاء بالجنايات على‬
‫النفـس او مـا دون النفـس‪ .‬وعقوبـة هذه الجرائم القصـاص إذا توافرت شروطـه‪ ،‬او الديـة إذا‬
‫كا نت الجري مة غ ير عمد ية‪ ،‬او كا نت عمدا ولم تتوا فر شروط الق صاص الخرى‪ .‬و قد ت جب‬
‫الكفارة أيضا فـي جرائم القتـل‪ .‬والقصـاص معناه أن يفعـل بالجانـي مثـل فعله بالمجنـي عليـه‪،‬‬
‫فيق تل او يق طع طر فه‪ .‬وأ ما الد ية ف هي المال الوا جب في الجنا ية على الن فس او على ما دون‬
‫النفس بشروطها المقررة في الفقه السلمي‪ .‬ولولي القتيل ان يعفو عن القصاص‪ ،‬كما له ان‬
‫يعفـو عـن الديـة لنهـا حقـه‪ .‬وفـي جرائم الجراح ونحوهـا يجوز للمجنـي عليـه ان يعفـو عـن‬
‫الجاني‪ .‬واما الكفارة فهي عقوبة فيها معنى العبادة وتكون بعتق رقبة مؤمنة او بالصيام‪.‬‬

‫جرائم التعزير‬
‫‪ -385‬التعزيـر ل غة‪ :‬التأد يب‪ ،‬وشرعا‪ :‬تأد يب على معاص لم تشرع في ها عقوبات مقدرة[‪]8‬‬
‫وجرائم التعزير هي المحظورات الشرعية التي ليس لها عقو بة مقدرة من الشرع السلمي‪،‬‬
‫م ثل الخلوة بأجنب ية وأ كل الر با وخيا نة الما نة ون حو ذلك[‪ ،]9‬والمام او نائ به‪ ،‬هو الذي يقدر‬
‫عقو بة التعز ير‪ ،‬و هو في تقديره عقو بة التعز ير ل ي صدر عن الهوى وإن ما يل حظ ج سامة‬
‫الجريمة وظروفها ومقدار ضررها‪ ،‬وحال الجاني من كونه من ذوي المروءات‪ ،‬أو من ذوي‬
‫ال سوابق والجرام‪ ،‬و ما ي تم به انزجار الجا ني وعدم عود ته الى م ثل فعله في الم ستقبل[‪.]10‬‬
‫ويجب التعزير على كل بالغ عاقل إذا ارتكب شيئا من جرائم التعزير سواء كان ذكرا أو أنثى‪،‬‬
‫مسلما كان أو كافرا‪ ،‬أما الصبي العاقل فيعزر تأديبا ل عقوبة[‪.]11‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬العقوبة‬


‫تمهيد‬
‫‪ -386‬قل نا‪ :‬إن الجزاء في الشري عة ال سلمية اخروي ودنيوي[‪ ،]12‬وان ال صل في الجزاء‬
‫فـي الشريعـة هـو جزاء الخرة ولكـن مقتضيات الحياة وضرورة اسـتقرار المجتمـع وتنظيـم‬
‫علقات الفراد على نحـو واضـح وضمان حقوقهـم كـل ذلك دعـا الى أن يكون مـع الجزاء‬
‫الخروي جزاء دنيوي‪ ،‬وهذا الجزاء هو العقوبة التي توقعها الدولة على من يرتكب محرما او‬
‫يترك واجبا‪ ،‬أي يرتكب جريمة‪ ،‬وبهذا العقاب تنزجر النفوس التي لم ينفعها الوعظ والتذكير‪.‬‬
‫والحقي قة أن الشري عة ال سلمية تع نى بإ صلح الفرد ا صلحا جذريا عن طر يق تربي ته على‬
‫معا ني العقيدة ال سلمية‪ ،‬ومن ها‪ :‬مراقب ته ل وخو فه م نه واداء ما فتر ضه عل يه من ضروب‬
‫العبادات‪ ،‬وهذا كله سيجعل نف سه مطوا عة لف عل الخ ير كار هة لف عل ال شر بعيدة عن ارتكاب‬
‫الجرائم‪ ،‬وفـي هذا كله أكـبر زاجـر للنفوس‪ .‬وبالضافـة الى ذلك فان الشريعـة تهتـم بطهارة‬

‫‪211‬‬
‫المجتمـع وإزالة مفاسـده‪ ،‬ولهذا الزمـت افراده بازالة المنكـر‪ .‬ول شـك ان المجتمـع الطاهـر‬
‫العفيف سيساعد كثيرا على منع الجرام وقمع المجرمين‪ .‬وسيقوي جوانب الخير من النفوس‬
‫ويسـد منافـذ الشـر التـي تطـل منهـا النفوس الضعيفـة‪ ،‬وفـي هذا ضمان ايضا لتقويـة النفوس‬
‫واعطائها مناعة ضد الجرام‪.‬‬
‫ول كن مع هذا كله‪ ،‬ف قد ت سول للب عض نفو سهم ارتكاب الجرائم‪ .‬فكان ل بد من عقو بة عاجلة‬
‫توقعها الدولة السلمية عليهم زجرا لهم من العودة اليها وردعا للخرين الذين قد تسول لهم‬
‫انفسهم ارتكاب الجريمة‪ ،‬وفي هذا استقرار للمجتمع واشاعة للطمأنينة فيه‪ ،‬كما أن في انزال‬
‫العقاب بالمجرمين مصلحة لهم كما سنبين‪.‬‬
‫هذا وإن العقاب الدنيوي للمجرم ل يمنع العقاب الخروي ما لم تقترن به التوبة النصوح‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬إنما جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا‬
‫أو تق طع أيدي هم وأرجل هم من خلف أو ينفوا من الرض ذلك ل هم خزي في الدن يا ول هم في‬
‫الخرة عذاب عظيم} سورة المائدة الية‪ .33 :‬ومن تمام التوبة النصوح التحلل من حق الغير‬
‫إن كان اجرامـه مـس هذا الحـق‪ .‬ويؤيـد مـا قلناه ايضا الحديـث الشريـف "إن السـارق إذا تاب‬
‫سبقته يده الى الجنة‪ ،‬وان لم يتب سبقته يده الى النار"[‪ ]13‬فهذا السارق الذي قطعت يده تسبقه‬
‫يده المقطوعة الى الجنة ان تاب وإل سبقته الى النار‪.‬‬

‫تشريع العقاب من رحمة ال بعباده‬


‫‪ -387‬وتشريـع العقاب الدنيوي فـي الشريعـة السـلمية مـن مظاهـر رحمـة ال بعباده‪ ،‬ل نه‬
‫يزجر النسان عن ارتكاب الجريمة فيتخلص من الثم‪ .‬وإذا وقع في الجريمة‪ ،‬فان العقوبة في‬
‫حقه بمنزلة الكي بالنسبة للمريض المحتاج إليه‪ ،‬وبمنزلة قطع العضو المتآكل‪ ،‬فان بهذا القطع‬
‫وذلك ال كي م صلحة له وابقاء لحيا ته‪ ،‬وايقافا للمرض من ال سراية واهلك الج سم كله‪ ،‬ك ما ان‬
‫في هذا العقاب للمجرم مصلحة مؤكدة للمجتمع كما أشرنا من قبل لما يترتب عليه من اطمئنان‬
‫الناس على حياتهم وأموالهم واخافة للمجرمين‪ ،‬وهذه المصلحة العامة يهون معها الضرر الذي‬
‫يصيب المجرم بسبب ما جنت يداه‪.‬‬

‫الحزم في اقامة العقوبات الشرعية‬


‫‪ -388‬والعقوبات الشرعيـة واجبـة التطـبيق والتنفيـذ‪ ،‬ل يسـع ولي المـر التهاون فيهـا أو‬
‫تعطيلهـا لنهـا مـن شرع ال‪ ،‬وان تعطيلهـا يؤدي الى سـخط ال تعالى كمـا يؤدي الى فسـاد‬
‫المجتمـع واضطراب احواله وسـوء اوضاعـه‪ ،‬لن تعطيـل حدود ال مـن المعاصـي الكـبيرة‬
‫القبيحة‪ ،‬وظهور المعاصي من أسباب نقص الرزق‪ ،‬والخوف من العدو‪ ،‬وضنك العيش‪ .‬فاذا‬

‫‪212‬‬
‫اقي مت الحدود الشرع ية ظهرت طا عة ال ونق صت مع صيته‪ ،‬وح صل الخ ير والن صر‪ ،‬فينب غي‬
‫ان يكون ولة المور أشداء في اقامة حدود ال ل تأخذهم رأفة في الدين‪ ،‬وان يكون قصدهمه‬
‫مـن اقامتهـا رحمـة الخلق بكـف الناس عـن المنكرات ال إشفاء لغيـظ نفوسـهم ول ارادة العلو‬
‫والفساد‪ ،‬فيكون احدهم بمنزلة الوالد إذا أدب ولده‪ ،‬يؤدبه رحمة به واصلحا لحاله‪ ،‬مع أنه يود‬
‫ويؤثر ان ل يحوجه الى التأديب‪ ،‬وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه‪.‬‬

‫المساواة في اقامة العقوبات الشرعية وحرمة تعطيلها‬


‫‪ -389‬والعقوبات الشرع ية تقام على جم يع من قا مت في هم أ سبابها وشروط ها‪ ،‬ل فرق ب ين‬
‫شريف ووضيع‪ ،‬وقوي وضعيف‪ ،‬فان المحاباة في انزال العقوبات الشرعية سبب لهلك المة‬
‫جاء في الحديث الشريف ان امرأة من بني مخزوم سرقت فأهم قومها امرها فكلموا فيها اسامة‬
‫بن زيد ليكلم رسول ال صلى ال عليه وسلم في شأنها فلما فعل ذلك غضب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وقال "انما أهلك الذ ين من قبل كم انهم كانوا إذا سرق فيهم الشر يف تركوه وإذا‬
‫سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد‪ ،‬وأيم ال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[‬
‫‪ .]14‬والوا قع أن الم ساواة ب ين الرع ية في اقا مة العقوبات خ ير رادع للقوياء الذ ين قد ت سول‬
‫لهم قوتهم الجرام لما يظنونه من محاباة لهم بسبب قوتهم وعدم معاقبتهم‪ ،‬لنهم إذا رأوا هذه‬
‫المساواة الصارمة في العقاب خنسوا ولم تعد توسوس لهم انفسهم بهذا الوسواس الباطل‪ ،‬لن‬
‫قوت هم‪ ،‬و قد رأوا حزم الدولة في معاقبت هم‪ ،‬ل تخل صهم من العقاب لن قوة الدولة ا كبر من‬
‫قوتهـم‪ .‬كمـا ان الضعيـف سـيطمئن لن الدولة معـه‪ ،‬فهـو أقوى مـن أي فرد قوي‪ ،‬فل يخشـى‬
‫اعتداءه‪.‬‬
‫ولما كان المطلوب من ولي المر المسلم الحزم في انزال العقاب والمساواة بين الرعية فيه فل‬
‫يجوز لحد ان يشفع لمجرم لسقاط العقاب عنه‪ ،‬جاء في الحديث الشريف "من حالت شفاعته‬
‫دون حد من حدود ال ف قد ضاد ال في أمره" وهذه هي الشفا عة ال سيئة‪ ،‬و قد قال ال تعالى‪:‬‬
‫{من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها} سورة‬
‫النساء الية‪ ،85 :‬ول شك ان من يشفع لسقاط الحد الشرعي عن المجرم يشفع شفاعة سيئة‪.‬‬
‫وكمـا ل تجوز الشفاعـة السـيئة لسـقاط الحدود الشرعيـة ل يجوز لولي المـر أن يأخـذ مـن‬
‫المجرم مالً لتعط يل ال حد الشر عي سواء كان هذا المال لب يت المال أو لغيره‪ ،‬لنه مال خبيث‬
‫وسحت‪.‬‬

‫ابتناء العقوبات الشرعية على العدل والردع‬

‫‪213‬‬
‫‪ -390‬وجم يع العقوبات الشرع ية بن يت على ا ساسين كبيرين‪ :‬الول‪ :‬العدل والثا ني‪ :‬الردع‪.‬‬
‫ويظهر الساس الول – العدل – في أن العقوبة بقدر الجريمة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وجزاء سيئة سيئة‬
‫مثل ها} سورة الشورى ال ية‪ ،40 :‬فل يس في ها زيادة على ما ي ستحقه المجرم‪ ،‬وان ظن ب عض‬
‫الجهلء هذه الزيادة ك ما سنبينه ب عد قل يل‪ .‬ويظ هر ال ساس الثا ني – الردع – في مقدار اللم‬
‫الذي تحدثه العقوبة في المجرم وما تسببه له من فقدان حريته او بعض أعضائه‪ ،‬ول شك أن‬
‫فقده هذه الشياء يؤل مه ويخي فه فيمت نع من الجرام بدا فع من حب الذات والخوف من المؤذي‬
‫المؤلم إذا ما سولت له نفسه الجرام وزين له الشيطان مخالفة حدود السلم‪.‬‬

‫أنواع العقوبة‬
‫ـاص‪ ،‬والديات‪،‬‬
‫ـة أنواع‪ :‬الحدود‪ ،‬والقصـ‬
‫ـلمية رابعـ‬
‫ـة السـ‬
‫ـي الشريعـ‬
‫‪ -391‬العقوبات فـ‬
‫والتعزير‪ ،‬وكنا قد أشرنا إليها من قبل عند كلمنا على تقسيم الجرائم‪ ،‬فل بد من الكلم بايجاز‬
‫شديد عن كل عقوبة من هذه العقوبات من حيث دليل مشروعيتها ومقدارها‪.‬‬
‫الحدود‬ ‫أ‌)‬
‫‪ -392‬وهي العقوبات المقدرة لجرائم الحدود‪ ،‬وقد وجبت‪ ،‬كما قال الفقهاء حقا ل تعالى‪ ،‬لن‬
‫نفعها للعامة ل اختصاص لحد بها‪ ،‬وما كان نفعه عاما‪ ،‬يعتبر من حق ال‪ ،‬ولهذا نسب الى‬
‫رب الناس جميعا لعظيـم خطره وشمول نفعـه[‪ ،]15‬ولن هذه النسـبة تشعـر بلزوم العنايـة‬
‫والهتمام به وعدم التفريط فيه ولهذا ل يجوز اسقاط هذه العقوبات "الحدود" بعد ثبوت جرائمها‬
‫امام القضاء حتى ولو رضي المجني عليه بهذا السقاط‪ ،‬لتعلق حق ال بهذه العقوبات‪.‬‬
‫وجرائم الحدود ال تي ث بت في ها هذا النوع من العقوبات هي‪ :‬الز نى‪ ،‬والقذف‪ ،‬وشرب الخ مر‪،‬‬
‫والسرقة‪ ،‬والحرابة‪ ،‬والردة‪ ،‬والبغي‪.‬‬

‫‪ -393‬أولً‪ :‬عقوبة الزنا‬


‫وهو كل وطء وقع على غير نكاح ول شبهة نكاح ول ملك يمين[‪ ]16‬وعقوبته الجلد أو الرجم‪،‬‬
‫والتغريب‪.‬‬
‫أمـا الجلد فالصـل فيـه قوله تعالى‪{ :‬الزانيـة والزانـي فاجلدوا كـل واحـد منهمـا مائة جلدة ول‬
‫تأخذ كم به ما رأ فة في د ين ال إن كن تم تؤمنون بال واليوم ال خر وليش هد عذابه ما طائ فة من‬
‫المؤمن ين} سورة النور ال ية‪ ،2 :‬وجاءت ال سنة النبو ية مقررة للجلد‪ ،‬من ذلك ما روي عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم أنه أمر بجلد رجل أقر بزناه مائة جلدة وكان بكرا[‪ ]17‬ول خلف‬
‫بين الفقهاء في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنا‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫أما الرجم‪ ،‬فقد ثبت بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم وأجمع عليه الصحابة والمسلمون ولم‬
‫يشذ عن هذا الجماع إل الخوارج[‪ .]18‬والرجم معناه رجم الزاني بالحجارة أو ما يقوم مقامها‬
‫حتـى الموت‪ .‬ول يجـب الرجـم إل على المحصـن باجماع العلماء‪ .‬ومـن شروط الحصـان أن‬
‫يكون الزاني قد وطئ وطءا كاملً في نكاح تام‪.‬‬
‫أ ما التغر يب فمعناه ن في الزا ني عن البلد الذي ز نى ف يه إلى بلد غيره‪ ،‬و قد اختلف العلماء في‬
‫وجوبـه مـع الجلد‪ .‬فعنـد الحنفيـة ل تغريـب مـع الجلد إل إذا رأى المام المصـلحة فيـه فيكون‬
‫تعزيرا ل حدا‪ ،‬وهذا مذ هب الزيد ية أيضا‪ .‬وع ند الحنابلة والشافع ية ل بد من تغر يب الزا ني‬
‫غير المحصن لمدة سنة مع جلده سواء كان ذكرا أو انثى‪ .‬وقال مالك يغرب الرجل ول تغرب‬
‫المرأة وبه قال المام الوزاعي[‪.]19‬‬
‫‪ -394‬واللواط يدخـل فـي مفهوم الزنـى عنـد الجمهور كالمالكيـة والشافعيـة والحنابلة وأبـي‬
‫يوسف ومحمد صاحبي أبي حني فة‪ ،‬فيكون عقا به عقاب الزنى[‪ .]20‬ويقول المام ا بن تيمية "‬
‫والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة‪ :‬أن يقتل الثنان العلى والسفل – أي الفاعل والمفعول‬
‫به – سواء كان محصنين أو غير محصنين‪ ،‬فان أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي ال‬
‫عنهما‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل‬
‫والمفعول به"[‪.]21‬‬
‫‪ -395‬ثانيا‪ :‬عقوبة القذف‬
‫القذف شرعا التهام بالزنى‪ ،‬أي نسبة الشخص الى الزنى بشروط معينة‪ ،‬كأن يقال‪ :‬يا زاني‪،‬‬
‫أو يـا زانيـة‪ .‬وعقوب ته الجلد ثمانون جلدة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬والذيـن يرمون المحصـنات ثـم لم يأتوا‬
‫بأربعـة شهداء فاجلدوهـم ثمانيـن جلدة ول تقبلوا لهـم شهادة أبدا وأولئك هـم الفاسـقون} سـورة‬
‫النور الية‪ .4 :‬والنص وإن ورد في المحصنات لكن الحكم يثبت في المحصنين أيضا وعليه‬
‫اجماع الفقهاء[‪ .]22‬ويشترط لوجوب عقوبـة القذف شروط منهـا أن يكون القاذف بالغا عاقلً‪،‬‬
‫ـل والبلوغ‬
‫ـي العقـ‬
‫ـان هـ‬
‫ـحنا رجلً كان أو امرأة‪ .‬وشرائط الحصـ‬
‫وأن يكون المقذوف مصـ‬
‫والحر ية والع فة عن الز نى وال سلم وهذا ع ند جمهور الفقهاء‪ ،‬وع ند الظاهر ية ل يس ال سلم‬
‫شرطا للحصان‪ ،‬فمن قذف ذمية بالزنى وجب عليه الحد كما يجب لو قذف مسلمة وحجتهم‬
‫قوله تعالى‪{ :‬والذين يرمون المحصنات} وهذا عموم يدخل فيه الكافرة والمسلمة[‪.]23‬‬
‫‪ -396‬وإذا قذف الزوج زوجته بالزنى‪ ،‬وعجز عن إثبات قذفه‪ ،‬وجب عليه اللعان‪ ،‬وإذا أثبت‬
‫قذفـه بالبيئة وجـب على زوجتـه حـد الزنـى‪ .‬والصـل فـي اللعان قوله تعالى‪{ :‬والذيـن يرمون‬
‫أزواج هم ولم ي كن ل هم شهداء إل أنف سهم فشهادة أحد هم أر بع شهادات بال إ نه ل من ال صادقين‬
‫والخام سة أن لع نة ال عل يه إن كان من الكاذب ين ويدرؤوا عن ها العذاب أن تش هد أ بع شهادات‬
‫بال إنـه لمـن الكاذبيـن والخامسـة أن غضـب ال عليهـا إن كان مـن الصـادقين} سـورة النور‬

‫‪215‬‬
‫اليات‪ 9-6 :‬وإذا ن كل الزوج القاذف ولم يل عن حد في قول الجمهور حد القذف‪ ،‬وقال أ بو‬
‫حنيفة رحمه ال‪ :‬ل يجد ويحبسه الحاكم حتى يلعن أو يذب نفسه فيحد حد القذف‪ ،‬وإن نكلت‬
‫الزوجة وجب الحد عليها في قول مالك والشافعي‪ ،‬وقال أبو حنيفة تحبس حتى تلعن‪ .‬وعند‬
‫الحنابلة إذا نكلت الزوجة لم تحد‪ ،‬وفي حبسها حتى تلعن أو تقر روايتان[‪.]24‬‬
‫‪ -397‬ثالثا‪ :‬عقوبة الخمر‬
‫وحد الشرب ثابت بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم واجماع المسلمين‪ ،‬فقد ثبت عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬أنه ضرب في شرب الخمر بالجريد والنعال أربعين‪ ،‬وضرب أبو بكر‬
‫رضي ال عنه أربعين‪ ،‬وضرب عمر في خلفته ثمانين‪ .‬وكان علي رضي ال عنه يضرب‬
‫مرة أربع ين‪ ،‬ومرة ثمان ين‪ .‬ف من العلماء من يقول‪ :‬ي جب ضرب الثمان ين‪ ،‬ومن هم من يقول‪:‬‬
‫الواجـب اربعون‪ ،‬والزيادة يفعلهـا المام عنـد الحاجـة‪ ،‬إذا أدمـن الناس الخمـر أو كان الشارب‬
‫ممـن ل يرتدع بدونهـا ونحـو ذلك‪ ،‬فأمـا مقلة الشاربيـن وعدم اعتيادهـا مـن الشارب‪ ،‬فتكفـي‬
‫الربعون[‪ .]25‬والخمـر‪ ،‬التـي حرمهـا ال ورسـوله وأمـر النـبي صـلى ال عليـه وسـلم بجلد‬
‫شاربهـا‪ ،‬كـل شراب مسـكر مـن أي أصـل كان سـواء كان مـن الثمار أو الحبوب أو غيرهـا‪،‬‬
‫وكذلك الحشي شة يجلد صاحبها ك ما يجلد شارب الخ مر‪ ،‬ل ما ث بت في ال صحيحين عن ال نبي‬
‫صلى ال عل يه وسلم أ نه قال‪ " :‬كل م سكر حرام‪ "...‬وفي حد يث آخر "كل م سكر خ مر‪ ،‬و كل‬
‫مسكر حرام" وفي رواية اخرى "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" وفي حديث آخر "ما أسكر‬
‫كثيره فقليله حرام"[‪.]26‬‬
‫وتحر يم الخ مر ثا بت في القرآن الكر يم ك ما هو ثا بت بال سنة النبو ية‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إن ما الخ مر‬
‫والمي سر والن صاب والزلم ر جس من ع مل الشيطان فاجتنبوه لعل كم تفلحون} سورة المائدة‬
‫الية‪.90 :‬‬
‫‪ -398‬رابعا‪ :‬عقوبة السرقة‬
‫السرقة اعتداء على مال الغير بأخذه خفية ظلما بشروط معينة‪ ،‬منها‪ :‬ان يكون محرزا ول تقل‬
‫قيمتـه عـن ربـع دينار‪ .‬وعقوبتهـا قطـع اليـد قال تعالى‪{ :‬والسـارق والسـارقة فاقطعوا أيديهمـا‬
‫جزاءا بما كسبا نكالً من ال وال عزيز حكيم}[‪ ]27‬ومن صور العتداء على مال الغير التي‬
‫ل تع تبر سرقة بالمع نى ال صطلحي الفق هي وبالتالي ل ي جب في ها ق طع ال يد وإن ما ي جب في ها‬
‫التعز ير‪ ،‬خيا نة الما نة كج حد الودي عة العار ية وغير ها من المانات‪ ،‬وغ صب المال وانتها به‬
‫وخطفه من يد صاحبه‪.‬‬
‫‪ -399‬خامسا‪ :‬عقوبة قطع الطريق‬

‫‪216‬‬
‫جري مة ق طع الطر يق‪ ،‬أوالحرا بة‪ ،‬ع ند الفقهاء‪ ،‬الخروج على المارة ل خذ المال من هم مجاهرة‬
‫بالقوة والق هر‪ ،‬م ما يؤدي الى امتناع الناس عن المرور وانقطاع الطر يق‪ ،‬سواء ارت كب هذه‬
‫الجريمة فرد أو جماعة‪ ،‬بسلح أوغيره‪ ،‬ويسمى مرتكب هذه الجريمة‪ ،‬بالمحارب[‪.]28‬‬
‫والصل في عقوبتهما قوله سبحانه وتعالى‪{ :‬إنما جزاء الذ ين يحاربون ال ور سوله وي سعون‬
‫فـي الرض فسـادا أن يقتلوا أو يصـلبوا أو تقطـع أيديهـم وأرجلهـم مـن خلف أن ينفوا مـن‬
‫الرض‪ ،‬ذلك ل هم خزي في الدن يا ول هم في الخرة عذاب عظ يم‪ .‬إل الذ ين تابوا من ق بل أن‬
‫تقدروا عليهم فاعلموا أن ال غفور رحيم} سورة المائدة الية‪.34 – 33 :‬‬
‫وعقو بة قا طع الطر يق أن يق تل أو ي صلب إذا ق تل وأ خذ المال‪ .‬ويق تل بل صلب إذا ق تل ولم‬
‫يأخذ مال‪ .‬وتقطع يده ورجله من خلف إذا أخذ المال ولم يقتل‪ ،‬وينفى من الرض إذا أخاف‬
‫ال سبيل ف قط فلم يق تل ولم يأ خذ مال‪ .‬وع ند المالك ية يق تل قا طع الطر يق وجوبا إذا ق تل المج ني‬
‫عل يه‪ ،‬وإن لم يقتله ول كن أ خذ ماله ف قط‪ ،‬فإن المام مخ ير ف يه ب ين الق تل وال صلب والق طع من‬
‫خلف‪ .‬وإذا أخاف السبيل فقط فالمام مخير فيه بين القتل والصلب من خلف والنفي[‪.]29‬‬
‫‪ -400‬سادسا‪ :‬عقوبة المرتد‬
‫المرتـد لغـة‪ :‬الراجـع مطلقا‪ :‬وشرعا‪ :‬الراجـع عـن ديـن السـلم‪ ،‬والردة تكون باللفاظ‪ ،‬أو‬
‫الفعال‪ ،‬أوالعتقادات‪ .‬فتكون باللفـظ بأن يتكلم المسـلم بكلمـة الكفـر كسـب ال ورسـوله‪،‬‬
‫ل يدل على اسـتخفافه بالديـن السـلمي كالصـلة بل وضوء‬
‫وبالفعال‪ ،‬بأن يأتـي المسـلم عم ً‬
‫عمدا على وجـه السـتخفاف بالديـن‪ ،‬وكالقاء القرآن الكريـم فـي قذر عمدا‪ .‬وبالعتقادات بأن‬
‫يعتقد المسلم امورا باطلة مناقضة لما عرف من السلم بالضرورة‪ ،‬مثل انكار وجود ال‪ ،‬أو‬
‫يوم القيامة‪ ،‬أو الملئكة أو الجن‪ ،‬أو يعتقد قدك العالم‪ ،‬أو كذب الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫أو حل الز نى‪ ،‬أو يعت قد أن القرآن ل يس من ع ند ال أو أن محمدا صلى ال عل يه و سلم ل يس‬
‫خاتـم النـبياء والرسـل ونحـو ذلك‪ .‬ويشترط لوقوع الردة أن يكون المرتـد عاقلً مختارا‪ ،‬فل‬
‫تعتبر ردة المجنون ول الصبي الذي ل يعقل‪ ،‬ول السكران الذي زال عقله بالسكر ول المكره‬
‫إذا كان قلبـه مطمئنا باليمان‪.‬وليسـت الذكورة شرطا لوقوع الردة‪ ،‬وكذا البلوغ عنـد الحنفيـة‬
‫خلفا لغيرهم الذين يرون البلوغ شرطا لها[‪.]30‬‬
‫وعقوبة المرتد القتل لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وهذا الحكم‬
‫يش مل المر تد والمرتدة ع ند الجمهور‪ ،‬وقال الحنف ية‪ :‬المرتدة ل تق تل وإن ما تح بس ح تى تتوب‪.‬‬
‫أ ما امهال المر تد ق بل قتله ف قد قال الجمهور بوجوب امهاله ويعرض ال سلم عل يه لعله ير جع‬
‫عن ردته‪ ،‬فأن أبى‪ ،‬قتل‪ .‬وقال الحنفية‪ :‬المهال ليس واجبا بل مستحبا[‪.]31‬‬
‫‪ -401‬سابعا‪ :‬عقوبة البغي‬

‫‪217‬‬
‫جريمة البغي هي خروج جماعة ذات قوة وشوكة على المام بتأويل سائغ يريدون خلعه بالقوة‬
‫والعنـف‪ ،‬ويسـميهم الفقهاء‪ :‬البغاة‪ .‬والصـل فـي هذه الجريمـة وعقوبتهـا قول ال جلّ جلله‪:‬‬
‫{وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت احداهما على الخرى فقاتلوا التي‬
‫تب غي ح تى تف يء الى أ مر ال‪ }..‬سورة الحجرات ال ية‪ .9 :‬وعقو بة البغاة قتال هم إذا أظهروا‬
‫الع صيان للمام وامتنعوا عن أداء ما علي هم من حقوق وجاهروا بذلك وتهيؤوا للقتال‪ ،‬سواء‬
‫نصبوا علهيم اماما أو لم ينصبوا‪ .‬ول يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم المام من يسألهم ويكشف‬
‫لهم الصواب ويدفع ما يحتجون به وينذرهم ويخوفهم نتيجة بغيهم‪ ،‬وهذا هو ما فعله سيدنا علي‬
‫رضي ال عنه مع الخوارج فقد أرسل إليهم عبد ال بن عباس رضي ال عنهما يدعوهم الى‬
‫الطاعة والرجوع الى الجماعة‪ .‬فإذا أبوا‪ ،‬قاتلهم‪ .‬هذا ويجوز قتالهم وإن لم يبدؤوا بالقتال فعلً‪،‬‬
‫إذا ترجـح للمام أنهـم يماطلون ويسـوفون ويريدون كسـب الوقـت وتجميـع النصـار اسـتعدادا‬
‫للقتال‪ ،‬وقد يكون‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬من الحزم معاجلتهم قبل أن يستفحل شرهم وتقوى شوكتهم‬
‫فيصـعب القضاء عليهـم‪ .‬فاذا رجـع البغاة الى الطاعـة ولزوم الجماعـة لم يجـز قتالهـم لن‬
‫المق صود ح صل و هو رجوع هم الى طا عة المام‪ .‬هذا ول ش يء على من قاتل هم من إ ثم أو‬
‫ضمان أو كفارة لن ال تعالى أح ّل قتالهـم‪ .‬وكذلك ل ضمان فـي اتلف أموالهـم‪ .‬وكذلك ليـس‬
‫على أهـل البغـي ضمان مـا أتلفوه حال الحرب مـن نفـس أو مال‪ ،‬وبهذا قال الحنابلة والحنفيـة‬
‫والشافعي في أحد قوليه‪ .‬والحجة لهذا القول‪ :‬السوابق القديمة المحفوظة عن الصحابة الكرام‪،‬‬
‫و عن علي بن أ بي طالب ر ضي ال عن هم أجمع ين‪ ،‬ولن للبغاة تأويلً سائغا‪ ،‬و في تضمين هم‬
‫تنفير لهم عن الرجوع الى الطاعة ولزوم الجماعة‪ ،‬فل يجوز[‪.]32‬‬
‫القصاص والديات‬ ‫أ‌)‬
‫‪ -402‬والنوع الثا ني من أنواع العقو بة في الشري عة ال سلمية‪ :‬الق صاص والديات‪ ،‬وت جب‬
‫هذه العقوبـة فـي جرائم العتداء على النفـس أو على مـا دون النفـس‪ ،‬أي فـي جرائم القتـل‬
‫والجروح وقطع الطراف والعضاء‪ .‬وقد تجب الكفارة أيضا في جرائم القتل‪ ،‬ونتكلم عن هذه‬
‫العقوبات بايجاز فيما يلي‪:‬‬
‫القصاص في جريمة القتل‪ :‬قتل الجاني‪ .‬وهو حق لولياء القتيل‪ ،‬وهم جميع الورثة من ذوي‬
‫الن ساب وال سباب عند أك ثر الفقهاء‪ .‬والصل في وجوب الق صاص في الن فس‪ ،‬قوله سبحانه‬
‫وتعالى‪ { :‬يا أي ها الذ ين آمنوا ك تب علي كم الق صاص في القتلى‪ ،‬ال حر بال حر‪ ،‬والع بد بالع بد‪،‬‬
‫والن ثى بالن ثى} سورة البقرة ال ية‪ ،178 :‬ولوجوب الق صاص شروط‪ ،‬من ها‪ :‬أن يكون الق تل‬
‫عمدا عدوانا لقول ر سول ال صلى ال عل يه و سلم "الع مد قود" وان يكون القت يل مع صوم الدم‬
‫مطلقا أي غيـر مباح الدم‪ ،‬وان يكون كافئا للقاتـل بمعنـى أن القاتـل ل يزيـد عليـه بحريـة أو‬
‫اسلم‪ ،‬وهذا الشرط عند جمهور الفقهاء خلفا للحنفية[‪.]33‬‬

‫‪218‬‬
‫أما القصاص‪ ،‬في جرائم العتداء على ما دون النفس‪ ،‬فالصل فيه قوله تعالى‪{ :‬وكتبنا عليهم‬
‫في ها أن الن فس بالن فس والع ين بالع ين وال نف بال نف والذن بالذن وال سن بال سن والجروح‬
‫ق صاص} سـورة المائدة ال ية‪ ،45 :‬وجاءت ال سنة النبويـة أيضا بوجوب الق صاص فيمـا دون‬
‫الن فس ك ما في ق صة الرب يع ب نت الن ضر ال تي ك سرت ثن ية جار ية فأ مر ال نبي صلى ال عل يه‬
‫وسلم بالقتصاص منها‪.‬‬
‫وشروط القصاص فيما دون النفس هي شروط القصاص في النفس مع وجوب توفر شرطين‬
‫آخرين هما‪ :‬أولً‪ :‬الممائلة بين محل الجريمة وبين ما يقابلها في الجاني المراد القتصاص منه‬
‫في هذا المحل‪ .‬الثاني‪ :‬ان يكون المثل ممكن الستيفاء[‪.]34‬‬
‫‪ -403‬الدية‬
‫الدية في الشرع في باب القتل‪ :‬اسم للمال الذي يدفع لهل القتيل من قبل من يجب عليه هذا‬
‫المال‪ ،‬ويختلف مقدارها باختلف المال الذي تجب فيه‪ .‬فهي عند الحنفية‪ ،‬إذا كان القتيل ذكرا‬
‫م سلما‪ ،‬من ال بل مائة‪ ،‬و من الذ هب ألف دينار‪ ،‬و من الف ضة عشرة آلف در هم‪ ،‬و من الحلل‬
‫مائ تا حلة‪ ،‬كل ثوبان‪ :‬ازار ورداء‪ ،‬و من الب قر مائ تا بقرة‪ ،‬و من الغ نم ألف شاة‪ ،‬ود ية الن ثى‬
‫على النصف من دية الذكر‪ ،‬ودية الجنين عشر دية أمه‪.‬‬
‫وت جب الد ية في الق تل الخ طأ وش به الع مد على عاقلة الجا ني و هم الع صبة الن سبية أي أقارب‬
‫القتيل الذكور من جهة الب‪ ،‬وأضاف إليهم الحنابلة العصبة السببية المتأتية من ولء العتاقة‪،‬‬
‫وعند الحنفية عاقلة الرجل أهل ديوانه من المقاتلة فان لم يكن فقبيلته‪ .‬وتدفع الدية أقساطا في‬
‫ثلث سنوات‪ ،‬ويؤدي كل رجل من العاقلة‪ ،‬من الدية‪ ،‬المقدار الذي يطيقه‪ .‬وتجب الدية أيضا‬
‫في القتل العمد إذا اختارها أولياء القتيل على رأي من يقول‪ :‬إنهم يخيرون بين القصاص وبين‬
‫الدية وتكون في هذه الحالة في مال الجاني فقط[‪.]35‬‬
‫‪ -404‬الكفارة‬
‫وهي عتق رقبة مؤمنة أو صيام شهرين متتابعين عند عدم القدرة على العتق‪ .‬وتجب الكفارة‬
‫في القتل الخطأ بل خلف بين العلماء‪ .‬وتجب أيضا في القتل شبه العمد عند كثير من الفقهاء‬
‫كالحنفية والشافعية والحنابلة‪ .‬أما في القتل العمد‪ ،‬فقد قال بوجوبها الشافعية والزيدية‪ ،‬ولم يقل‬
‫بوجوبها الحنفية والظاهرية والحنابلة على المشهور في مذهبهم[‪.]36‬‬
‫التعزير‬ ‫ب‌)‬
‫‪ -405‬وثالث أنواع العقوبات التعزير‪ ،‬وقد عرفناه من قبل‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنه يجب في كل معصية‬
‫– ترك واجب أو فعل محرم – لم يرد في الشرع تقدير لعقوبتها‪ .‬مثل تقبيل الصبي المرد‪ ،‬أو‬
‫أكل ما ل يحل كالدم والميتة أو قذف الناس بغير الزنى‪ ،‬أو السرقة من غير حرز‪ ،‬أو سرقة‬
‫ما ل يبلغ ن صاب حد ال سرقة‪ ،‬أو خيا نة الما نة كالوكلء والشركاء إذا خانوا‪ ،‬أو ال غش في‬

‫‪219‬‬
‫ـي المكيال والميزان‪ ،‬أو شهادة الزور‪ ،‬أو الرشوة‪ ،‬أو التعزي بعزاء‬
‫ـف فـ‬
‫المعاملة‪ ،‬أو التطفيـ‬
‫الجاهلية‪ ،‬الى غير ذلك من أنواع المحرمات‪ .‬فمرتكبها يعاقب تعزيرا بقدر ما يراه ذوو الشأن‬
‫مثـل ولي المـر أوالقاضـي على حسـب كثرة هذه المحرمات فـي الناس أو قلتهـا‪ ،‬فاذا كانـت‬
‫المعصية كثيرة الوقوع في الناس زاد في العقوبة بخلف ما إذا كانت قليلة‪ .‬وعلى حسب حال‬
‫الجانـي فاذا كان مـن ذوي السـوابق والفجور زاد فـي عقوبتـه بخلف المقـل مـن ذلك‪ .‬وعلى‬
‫حسب كبر الجرم وصغره‪ ،‬فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولدهم ويتكرر ذلك منه بما ل‬
‫يعاقب به من لم يتعرض إل لمرأة واحدة او لصبي واحد‪.‬‬
‫أنواع التعزير‬
‫‪ -406‬التعز ير يكون ب كل ما ف يه ايلم‪ ،‬من قول وف عل‪ ،‬وترك قول‪ ،‬وترك ف عل‪ ،‬ف قد يعزر‬
‫الش خص بوع ظه وتوبي خه والغلظ له‪ ،‬و قد يعزر بهجره وترك ال سلم عل يه ح تى يتوب أو‬
‫يقلع عن مع صيته‪ ،‬ك ما ه جر ال نبي صلى ال عل يه و سلم وأ صحابه {الثل ثة الذ ين خلفوا} و قد‬
‫يعزر بعزله عن ولي ته‪ ،‬ك ما كان ال نبي صلى ال عل يه و سلم وأ صحابه يعزرون بذلك‪ .‬و قد‬
‫يكون التعزير بالنفي عن الوطن أو بالحبس‪ ،‬أو بالضرب‪ ،‬وقد يعزر بتسويد وجهه‪ .‬وقد يكون‬
‫بالعقوبات المال ية ك ما دلت على ذلك سنة ال نبي صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬ف قد أ مر عل يه ال صلة‬
‫والسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفه‪ ،‬وأمره لهم يوم خيبر باكفاء القدور التي طبخت فيها‬
‫لحوم الح مر واتلف هذا الل حم‪ ،‬وم ثل هد مه لم سجد الضرار‪ .‬وكذلك ف عل ع مر وعلي ر ضي‬
‫ال عنه ما ف قد أمرا بتحر يق المكان الذي يباع ف يه الخ مر‪ ،‬وم ثل أ خذ ش طر مال ما نع الزكاة‪.‬‬
‫ومثل اراقة عمر بن الخطاب رضي ال عنه اللبن المشوب بالماء المعد للبيع‪ ،‬وأخيرا قد يكون‬
‫التعزير بالقتل مثل قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين‪ ،‬وهذا مذهب المام‬
‫مالك وبعض الحنابلة[‪.]37‬‬
‫أكثر التعزير‬
‫‪ -407‬اختلف العلماء في أك ثر التعز ير على أقوال‪ :‬الول‪ :‬ع شر أ سواط‪ ،‬الثا ني‪ :‬دون أ قل‬
‫الحدود‪ ،‬إما تسعة وثلثون سوطا‪ ،‬وإما تسعة وسبعون سوطا‪ ،‬الثالث‪ :‬انه ل يقدر بذلك‪ ،‬ولكن‬
‫إن كان التعزير فيما من حبسه مقدر لم يبلغ به ذلك المقدر وان زاد على حد جنس آخر مثل‬
‫التعزير على سرقة دون النصاب ل يبلغ به قطع اليد وان ضرب السارق أكثر من حد القذف‪.‬‬
‫والتعز ير على ف عل دون الز نى ل يبلغ حد الز نى وان جاز ضر به أك ثر من حد القذف‪ .‬وهذا‬
‫القول‪ ،‬ك ما يقول ا بن تيم ية‪ :‬أعدل القوال وعل يه دلت سنة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم[‬
‫‪.]38‬‬
‫‪ -408‬وهـل يجوز التعزيـر بالقتـل؟ ذهـب المام مالك الى الجواز ووافقـه عليـه طائفـة مـن‬
‫أصحاب أحمد بن حنبل والشافعي على ذلك من حيث الجملة وان اختلفوا في بعض الجزئيات‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫فعند هم يجوز ق تل الداع ية الى البدع المخال فة للكتاب وال سنة أ ما ق تل الجا سوس الم سلم الذي‬
‫أجازه مالك وب عض الحنابلة فقـد منعـه الشافعـي‪ .‬وأبـو حنيفـة رحمـه ال تعالى يجوز التعزيـر‬
‫بالق تل في موا ضع‪ ،‬من ها‪ :‬في ما يتكرر من الجرائم إذا كان جن سه يو جب الق تل‪ ،‬ك ما يق تل من‬
‫تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لخذ المال‪ .‬ومن لم يندفع فساده في الرض إل بقتله‪ ،‬جاز‬
‫قتله‪ ،‬م ثل المفرق لجما عة الم سلمين ويدل على هذا ما جاء في الحد يث الشر يف " من أتا كم‬
‫وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"‪ ،‬وسئل رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم عمن لم ينته عن شرب الخمر‪ ،‬فقال‪" :‬من لم ينته عنها فاقتلوه" وهذا‬
‫أيضا يدل على جواز التعزير بالقتل[‪.]39‬‬
‫اعتراضات ودفعها‬
‫‪ -409‬اعترض أو يعترض البعـض على نظام الجريمـة والعقوبـة فـي الشريعـة السـلمية‬
‫باعتراضات يظنها مقبولة‪ ،‬ويخلص منها إلى أن العقوبات الشرعية ل يمكن تطبيقها في الوقت‬
‫الحاضر أو ل يمكن تطبيق أكثر عقوبات الحدود على القل‪.‬‬
‫ويقوم هذا العتراض على أن عقوبات الحدود تتض من اهدار آدم ية الش خص بجلده في الز نى‬
‫والقذف وشرب الخ مر‪ ،‬والتد خل في الحر ية الشخ صية ك ما في الز نى وشرب الخ مر‪ ،‬وق طع‬
‫العضاء في عقوبة السرقة وقطع الطريق‪ ،‬والرجم في الزنى بالنسبة للمحصن والتدخل في‬
‫حر ية العقيدة وق تل المخالف ك ما في عقو بة الردة‪ ،‬واعطاء حق العقاب للفرد ل للمجت مع في‬
‫عقوبة القصاص‪ ،‬وتحميل اقارب الجاني أو اشراكهم في دفع الدية خلفا لمبدأ شخصية العقاب‬
‫وعدم مسؤولية النسان عن جرم غيره‪.‬‬
‫والواقـع أن هذه العتراضات واهيـة ومـا قامـت عليـه أوهـى منهـا‪ ،‬وان اغتـر بهـا أصـحابها‬
‫وحسبوها حججا قوية وأدلة دامغة تبرر اعتراضهم وتعذرهم في هجر العقوبات الشرعية‪ .‬فل‬
‫بد من كشف بطلن هذه العتراضات بشيء من التوضيح والتفصيل‪.‬‬
‫‪ -410‬قولهم‪ :‬إن الجلد فيه اهدار لدمية الشخص مردود‪ ،‬لن الجاني هوالذي أهان نفسه ولم‬
‫يكرم ها‪ ،‬وعرض ها للهدار ولم ي صنها‪ ،‬فان الزا ني الذي أباح لنف سه أن يلغ في اناء غيره لم‬
‫يعد ينفعه وعظ وتوبيخ وإنما يحتاج الى تذكير بالسوط وتحسيسه باللم الجسدي ل المعنوي‪،‬‬
‫واما رجمه ان كان محصنا فلنه لم يعد صالحا للعيش في المجتمع السلمي الطاهر لنه ولغ‬
‫في إناء الغير وعنده اناء يكفيه‪ .‬وأما الجلد في القذف فانه السبيل لتبرئة المتهمة بالزنى‪ ،‬ورفع‬
‫الشكوك عنها‪ ،‬إذ ل سبيل الى ذلك إل باظهار كذب القاذف‪ ،‬بمعاقبته‪ .‬وسر المسألة ان السلم‬
‫يع نى بنظا فة المجت مع وطهار ته و سلمة العراض والخلق‪ ،‬فاذا كا نت هذه المور مطلو بة‬
‫فوسائلها مطلوبة‪ ،‬وهذا ما يقرره السلم‪ ،‬وإذا كا نت هذه المور‪ :‬من العفة وسلمة العرض‬
‫والخلق وطهارة المجتمـع غيـر مرغوبـة فوسـائلها غيـر مرغوبـة‪ ،‬وهذا مـا يقرره ضمنا‬

‫‪221‬‬
‫المعترضون على العقوبات الشرعية‪ .‬فالخلف إذن في المحافظة على هذه الغراض‪ ،‬السلم‬
‫يقول ل بد من المحافظة عليها ومن ثم أوجب التشدد على من يريد تلويث المجتمع وتفويت‬
‫هذه الغراض المهمة الشريفة عليه‪.‬‬
‫‪ -411‬أ ما ادعاؤ هم بأن هذه العقوبات تتض من التد خل في الحر ية الشخ صية ك ما في الز نى‬
‫وشرب الخمـر‪ ،‬فمردود لن الحريـة الشخصـية ل يجوز أن تؤدي الى الضرار بالمجتمـع‪،‬‬
‫فالحرية الشخصية تقف حيث تكون اداة ضرر وهدم في المجتمع‪ ،‬ول يمكن لمنصف أن يقول‬
‫إن ز نى الزا ني ن فع للمجت مع‪ ،‬فأضراره أو ضح من أن نتكلم عن ها في هذا المقام‪ .‬أ ما بالن سبة‬
‫لشرب الخمر‪ ،‬فان عقل النسان جوهرة ثمينة ل يجوز تعطيلها اختيارا فيكفي النسان تعطيل‬
‫عقله اضطرارا في النوم‪ ،‬فضلً عما في شرب الخمر من ت سهيل سبل الجرام للسكران كما‬
‫هو واضح ومعروف‪ ،‬والدولة مسؤولة عن منع الجرام في اقليمها وسد سبله‪.‬‬
‫‪ -412‬أما ادعاؤهم بقسوة بعض العقوبات لما فيها من بتر وقطع بعض العضاء فانهم قد‬
‫فاتهم مدى ترويع السارق وقاطع الطريق للمنين‪ ،‬كان عليهم أن يتصوروا فعل السارق وهو‬
‫يسير في جنح الظلم على رؤوس أقدامه فينقب الجدار ويكسر القفل ويدخل على المنين في‬
‫بيوتهم من نساء وأطفال ورجال‪ ،‬وبيده السلح يزهق روح من يقاومه‪ ،‬فيأخذ المتاع من البيت‬
‫ويخرج‪ ،‬وربما يستيقظ أهل الدار فيحصل القتل أو الفزع والهلع‪ .‬فهم لو تصوروا فظاعة جرم‬
‫السـارق لمـا أسـفوا على قطـع يده الثمـة الخبيثـة‪ .‬ومثـل هذا يقال عـن قطاع الطرق الذيـن‬
‫يترب صون بالمارة ويهاجمون هم وي سلبونهم أموال هم وأرواح هم‪ .‬ثم يقال‪ :‬إن العقو بة ي جب أن‬
‫يكون فيهـا قدر كاف مـن الردع والزجـر‪ ،‬ول شـك أن قطـع يـد السـارق او المحارب فيـه هذا‬
‫المقدار‪ ،‬أما غيرهما من العقوبات الوضعية كالحبس والغرامات فل تملك هذا القدر من الردع‪،‬‬
‫ودليل ذلك الواقع فان جرائم السرقة بازدياد ولم تقللها عقوبة الحبس‪ .‬بل إن السجن صار نزل‬
‫ل صحاب ال سوابق يترددون ال يه ويع تبرونه مأوى أمينا ل هم بل ومحل للقائ هم وتبادل خبراتهم‬
‫في عالم السرقة والجرام‪.‬‬
‫‪ -413‬أما قولهم‪ :‬إن عقوبة الردة بقتل المرتد تدخل في حرية العقيدة ومصادرة لها واكراه‬
‫للنسـان على اعتقاده مـا ل يريـد‪ ،‬فهذا القول مأخذه الجهـل فـي طبيعـة هذه العقوبـة‪ ،‬ومعنـى‬
‫الردة‪ ،‬ومع نى الكراه على تبد يل الد ين‪ .‬فالردة ك ما قل نا الرجوع عن ال سلم‪ ،‬أي ان م سلما‬
‫ير جع عن ا سلمه‪ ،‬فن حن اذن إزاء م سلم ارت كب جرما معينا ي سمى "الردة" ول سنا أمام ر جل‬
‫يهودي أو نصـراني نكر هه على تبديـل عقيدتـه‪ ،‬ومبدأ ل اكراه فـي الد ين مقرر فـي الشريعـة‬
‫ال سلمية و في نص القرآن الكر يم‪ ،‬ول يجوز الم ساس به‪ ،‬بدل يل وا ضح ان ال سلم شرع‬
‫الجزيـة‪ ،‬والجزيـة اقرار لغيـر المسـلم على دينـه‪ ،‬فلو كان هناك اكراه على تبديـل عقيدة غيـر‬
‫المسلم وتحويله بالجبر عن عقيدته لما شرعت الجزية‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫أما سبب عقوبة المرتد وجعلها القتل فيرجع الى أمرين خطيرين‪ :‬الول‪ :‬ان المسلم بردته أخل‬
‫بالتزا مه‪ ،‬لن الم سلم با سلمه يكون قد التزم أحكام ال سلم وعقيد ته فاذا ار تد كان ذلك م نه‬
‫اخللً خطيرا في اصل التزامه‪ ،‬ومن يخل بالتزامه عمدا يعاقب‪ ،‬وقد تبلغ عقوبته العدام‪ ،‬ال‬
‫يرى ان مـن تعاقـد مـع الدولة لتوريـد الطعام لفراد الجيـش ثـم أخـل بالتزامـه عمدا فـي حالة‬
‫احتياج الجيش للرزاق أن جزاءه قد يصل الى العدام؟ الثاني‪ :‬ان المرتد مع اخلله بالتزامه‬
‫يقوم بجريمة أخرى هي الستهزاء بدين الدولة والستخفاف بعقيدة سكانها المسلمين‪ ،‬وتجريء‬
‫لغيره من المنافق ين ليظهروا نفاق هم‪ ،‬وتشك يك لضعاف العقيدة في عقيدت هم‪ ،‬وهذه كل ها جرائم‬
‫خطيرة يستحق معها المرتد استئصال روحه وتخليص الناس من شره‪ .‬وإنما قل نا‪ :‬إن المرتد‬
‫من يرت كب هذه المور‪ ،‬ل نه ل يعرف ارتداده إل بالت صريح وإل لو اخ فى رد ته ل ما عرف‪.‬‬
‫ومع هذا فقد قلنا‪ :‬إنه يمهل ثلثة أيام لعطائه فرصة الرجوع عن ردته‪ ،‬وهذا المهال واجب‬
‫ع ند كث ير من الفقهاء ف هل يم كن ب عد هذا ان يقال‪ :‬عقو بة الردة قا سية أو أن في ها اكراها على‬
‫تبديل العقيدة أو أن فيها تدخل في حرية العقيدة؟‬
‫‪ -414‬وأما قولهم‪ :‬إن العقوبة في جريمة القتل‪ ،‬هي القصاص‪ ،‬اعتبرت حقا لولياء القتيل ل‬
‫للمجتمع مع أن القتل يهم المجتمع ويعتبر اعتداء عليه فيكون العقاب حقه ل حق أولياء القتيل‪،‬‬
‫فهذا القول هزيل وسطحي‪ ،‬فاول ان للمجتمع حقه في هذه العقوبة‪ ،‬ولهذا إذا عفا أولياء القتيل‬
‫عن القاتل جاز للقاضي أن يحكم عليه بعقوبة تعزيرية بالسجن أو بالضرب أو بهما‪ .‬وفي هذا‬
‫يقول ابن فرحون المالكي‪" :‬إذا عفي عن القاتل العمد على الدية فان على القاتل الدية ويستحب‬
‫له الكفارة ويضرب مائة ويحبس سنة"[‪ ]40‬لن حق اولياء القتيل في القصاص هو الغالب أي‬
‫أغلب من حق المجتمع فيه‪ ،‬ومن ثم كان لهم العفو عنه‪ ،‬كما كان لهم طلبه‪ ،‬وإذا طلبوه لم يسع‬
‫القاضي ان يعفو عنه بل ول لرئيس الدولة أن يعفو عن القاتل ما دام يمكن لحد ان يتصرف‬
‫ف يه بغ ير رضا هم‪ .‬أ ما في القوان ين الوضع ية فالنظرة تختلف‪ ،‬لن هذه القوان ين تج عل عقو بة‬
‫القا تل من حق المجت مع ل من حق أ هل القت يل‪ ،‬وبالتالي فل يتر تب على عفو هم ع نه ا سقاط‬
‫العقو بة‪ ،‬ك ما أن للمجت مع ممثل برئ يس الدولة أو غيره‪ ،‬ان يع فو عن القا تل‪ ،‬أو يبدل عقو بة‬
‫العدام بغيرها‪ .‬والنظرة الفاحصة في جريمة القتل العمد تبين ان ضرر هذه الجريمة يقع اول‬
‫وب صورة مباشرة على المج ني عل يه وأهله‪ ،‬ف هم الذ ين اكتووا بنار هذه الجري مة ولحق هم الذى‬
‫والضرر المبا شر بفقد هم عزيز هم‪ ،‬وان ضرر هم هذا والم هم وأذا هم أ شد وأك ثر بكث ير من‬
‫تضرر المجت مع وأذاه وأل مه‪ ،‬ف من ال طبيعي والعدل ان يكون حق هم في الق صاص من الجا ني‬
‫اغلب من حق المجتمع‪ ،‬ثم ان في تمكينهم من القصاص حسما للجريمة واطفاء لنار الغضب‬
‫وطلب الثأر في نفو سهم‪ ،‬و في الحيلولة بين هم وب ين ذلك ابقاء لجذور الجري مة ف قد يند فع أ هل‬
‫القتيل لقتل الجاني بعد حبسه‪ ،‬كما يحدث هذا كثيرا‪ ،‬ويقال أيضا‪ :‬إن في القصاص من القاتل‬

‫‪223‬‬
‫واعطاء حق القصاص لهل القتيل ردعا مؤثرا وزجرا كافيا لمن تسول له نفسه ازهاق روح‬
‫البريء لن النسان يحب ذاته ويحرص عليها ويخاف من فواتها‪ ،‬فينزجر عما يؤدي الى ذلك‬
‫إذا ما علم أن الق صاص من حق اولياء القتيل وأ نه ل يم كن للقا ضي‪ ،‬ول رئ يس الدولة الع فو‬
‫عنه إذا ما طلب أهل القتيل القصاص منه‪ .‬ولهذا كله رأينا أن جرائم القتل قليلة يوم كان نظام‬
‫القصاص الشرعي هو المطبق السائد في البلد السلمية‪ ،‬وان جرائم القتل ازدادت ول تزال‬
‫في ازدياد عندما نحيت عقوبة القصاص الشرعية‪ ،‬فيكف بعد هذا يمكن لمنصف ان يعترض‬
‫على عقوبة القصاص الشرعية‪ ،‬والنظر السديد يؤيدها والواقع يشهد بصحتها وبكفايتها للزجر‬
‫والردع وأثر ها في ح فظ حياة الناس و صدق ال العظ يم إذ يقول‪{ :‬ول كم في الق صاص حياة يا‬
‫أولي اللباب} سورة البقرة الية‪.179 :‬‬
‫ول بد ه نا من الشارة الى أن هذا الحجاج والمناق شة إن ما ي ساقان على سبيل التنزل وا سكات‬
‫المعترض بنفـس اعتراضـه‪ ،‬وإل فان المؤمـن بال وباليوم الخـر وبديـن السـلم ل يجوز له‬
‫العتراض على شرع ال لن العتراض عل يه نوع من الرتداد عن د ين ال سلم‪ ،‬وان من‬
‫شرط اليمان الحكـم بمـا شرعـه ال والرضـى بـه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فل وربـك ل يؤمنون حتـى‬
‫يحكموك في ما ش جر بين هم ثم ل يجدوا في أنف سهم حرجا م ما قض يت وي سلموا ت سليما} سورة‬
‫النساء الية‪.65 :‬‬
‫‪ -415‬وأمـا اعتراضهـم فـي الديـة وانهـا تحميـل لغيـر الجانـي وان هذا يناقـض مبدأ قصـر‬
‫الم سؤولية على من قام ف يه سببها‪ ،‬فالجواب أن مبدأ ق صر الم سؤولية على من قام ف يه سببها‬
‫الم ستفاد من قوله تعالى‪{ :‬ول تزر وازرة وزر أخرى} سورة فا طر ال ية‪ ،18 :‬مبدأ قائم في‬
‫الشريعة غير مسنوخ ول معطل‪ ،‬وليس في تشريع الدية مناقضة له أصل‪ ،‬لن ايجاب الدية‬
‫على العاقلة في القتل الخطأ‪ ،‬إنما كان بناء على التعاون والمواساة‪ ،‬لن المخطئ من حقه أن‬
‫يعان‪ ،‬وان أولى من يعي نه أهله واقرباؤه من ع صبته الذ ين يرثو نه ب عد مو ته‪ ،‬ف من باب الغ نم‬
‫بالغرم و جب علي هم موا ساته والشتراك م عه في الد ية‪ ،‬و في هذا الشتراك ت سهيل على أ هل‬
‫المج ني عل يه الظ فر بالد ية لن مبلغ ها كبير وامكان ادائ ها من الجا ني ضع يف‪ ،‬في ح ين ان‬
‫تحم يل العاقلة ب ها سيجعل ما ي صيب الوا حد من هم مبلغا ي سيرا ي سهل عل يه اداؤه في سهل على‬
‫أ هل القتيل الظ فر به كما قلنا‪ .‬وقد ذهب ب عض الفقهاء الى تعليل آخر في وجوب الد ية على‬
‫العاقلة خل صته أن ع صبة القا تل خ طأ مان علي هم أن يراقبوه ويوجهوه لئل ي قع في الرعو نة‬
‫والطيش فيقتل غيره خطأ‪ ،‬فاذا لم يفعلوا ذلك كان خطأ منهم وتقصيرا في واجبهم في مراقبة‬
‫بعضهم بعضا فيتحملون جزاء تقصيرهم بتحميلهم الدية مع الجاني‪.‬‬
‫الخلصة‬

‫‪224‬‬
‫والخلصة أن نظام الجزية والعقوبة نظام عادل قام على أسس متينة واحاطة تامة بما يصلح‬
‫له أمر الناس‪ ،‬وبمراعاة غرائز الناس‪ ،‬مما يؤدي الى قمع أو تقليل الجرام فيهم‪ ،‬مع عدالة‬
‫تامة في تقدير العقوبة وجعلها بقدر الجريمة‪ ،‬وفي تطبيق العقوبة على الجميع‪ .‬وقد رأينا‬
‫تهافت اعتراضات المعترضين على الحدود والقصاص والديات‪ ،‬أما التعزير فاعتراضهم عليه‬
‫قليل جدا‪ ،‬بل إن نظام التعزير مما انفردت به الشريعة السلمية‪ ،‬وهو احدث ما ينادي به في‬
‫الوقت الحاضر علماء القانون الجنائي‪ .‬وإذا علمنا ان نطاق العقوبات التعزيرية أوسع بكثير‬
‫من نطاق الحدود والقصاص علمنا مدى متانة القانون الجنائي السلمي وامتيازه على ما سواه‬
‫من القوانين الوضعية‪ ،‬ووفائه بحاجات الناس وقيامه بتوفير المن والطمئنان لهم مما ل‬
‫يجاريه في ذلك‪ ،‬ول يقاربه فيه أي قانون وضعي‪ ،‬وهذا من بعض دلئل تنزل شرعة السلم‬
‫من ال جل جلله‪.‬‬

‫[‪ ]1‬بدائع الصنائع للكاساني ج ‪ 2‬ص ‪.311‬‬


‫[‪ ]2‬الذميون‪ ،‬من رعايا الدولة السلمية‪ ،‬يحملون جنسيتها على أساس عقد الذمة وإن كانوا‬
‫غير مسلمين‪ .‬أما المستأمنون فهم غير مسلمين دخلوا دار السلم بإذن منها ليقيموا فيها مدة‬
‫ويغادروها‪.‬‬
‫[‪ ]3‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ ،39‬شرح الخرشي ج ‪ 8‬ص ‪ ،108‬كشاف القناع ج ‪ 4‬ص ‪،55‬‬
‫مغني المحتاج ج ‪ 4‬ص ‪.187‬‬
‫[‪ ]4‬الماوردي ص ‪ ،211‬أبو يعلى ص ‪.241‬‬
‫[‪ ]5‬الكاساني في بدائعه‪ ،‬وابن عابدين في حاشيته لم يذكر البغي مع جرائم الحدود‪( ،‬الكاساني‬
‫ج ‪ 7‬ص ‪ ،33‬وحاشية ابن عابدين ج ‪ 3‬ص ‪.)193‬‬
‫[‪ ]6‬الهداية ج ‪ 4‬ص ‪ ،112‬الكاساني ج ‪ 2‬ص ‪.56‬‬
‫[‪ ]7‬فتح القدير ج ‪ 4‬ص ‪ ،113‬الماوردي ص ‪.215 – 213‬‬
‫[‪ ]8‬الماوردي ص ‪ ،227‬تبصرة الحكام لبن فرحون المالكي ج ‪ 2‬ص ‪.258‬‬
‫[‪ ]9‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪ ،120 – 119‬رد المحتار لبن عابدين ج ‪ 3‬ص ‪.251‬‬
‫[‪ ]10‬تبصرة الحكام ج ‪ 2‬ص ‪ ،264‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.120‬‬
‫[‪ ]11‬الدر المختار ورد المحتار ج ‪ 3‬ص ‪.260‬‬
‫[‪ ]12‬انظر الفقرة ‪ 102‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫[‪ ]13‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.299‬‬
‫[‪ ]14‬تيسير الوصول الى جامع الصول من حديث الرسول ج ‪ 2‬ص ‪.14‬‬

‫‪225‬‬
‫[‪ ]15‬التلويح على التوضيح ج ‪ 2‬ص ‪.151‬‬
‫[‪ ]16‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪.262‬‬
‫[‪ ]17‬تيسير الوصول ج ‪ 2‬ص ‪.7‬‬
‫[‪ ]18‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،363‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪ ،157‬المبسوط ج ‪ 9‬ص ‪.36‬‬
‫[‪ ]19‬شرح الكنز للزيلعي ج ‪ 3‬ص ‪ ،174 – 173‬المبسوط ج ‪ 9‬ص ‪ ،45 – 44‬المغني ج‬
‫‪ 8‬ص ‪ ،168 – 167‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪.365 – 364‬‬
‫[‪ ]20‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ ،34‬الشرح الصغير للدردير ج ‪ 2‬ص ‪ ،393 – 390‬كشاف القناع‬
‫ج ‪.4‬‬
‫[‪ ]21‬مجموع الفتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.335 – 334‬‬
‫[‪ ]22‬تفسير القرطبي ج ‪ 12‬ص ‪.172‬‬
‫[‪ ]23‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،368‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪ ،216‬الماوردي ص ‪ ،221‬المحلى ج‬
‫‪ 11‬ص ‪.268‬‬
‫[‪ ]24‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،99‬الهداية وفتح القدير ج ‪ 3‬ص ‪ ،251 – 250‬أبو يعلى‬
‫الحنبلي ص ‪.256‬‬
‫[‪ ]25‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.337 – 336‬‬
‫[‪ ]26‬المرجع السابق ص ‪.342 – 340‬‬
‫[‪ ]27‬سورة المائدة الية‪ ،38 :‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ ،92 – 91‬شرح الخرشي ج ‪ 8‬ص ‪.104‬‬
‫[‪ ]28‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪ ،83 – 82‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪ ،288‬فتح القدير ج ‪7‬‬
‫ص ‪ 268‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،380‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ 93‬ومعنى يصلبوا‪،‬‬
‫أي يربطوا على خشبة ليشتهر أمرهم ويعرفهم الناس‪ ،‬وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلف‪ ،‬أي‬
‫تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى‪ ،‬والمراد بالنفي هنا حبس الجاني في غير بلده‪.‬‬
‫[‪ ]29‬نفس مصادر رقم ‪.279‬‬
‫[‪ ]30‬بدائع الصنائع للكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ ،134‬رد المحتار ج ‪ 3‬ص ‪ ،394 – 392‬الفتاوى‬
‫الهندية ج ‪ 2‬ص ‪ ،253‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪ ،123‬شرح الخرشي في فقه المالكية ج ‪ 8‬ص ‪،62‬‬
‫شرح الزهار في فقه الزيدية ج ‪ 4‬ص ‪.576‬‬
‫[‪ ]31‬الفتاوى الهندية ج ‪ 2‬ص ‪ ،257‬المغني ج ‪ 8‬ص ‪.125 – 123‬‬
‫[‪ ]32‬أبو يعلى الحنبلي ص ‪ ،39 – 38‬الماوردي ص ‪ ،56 – 55‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪،113‬‬
‫‪ ،140‬الهداية وفتح القدير ج ‪ 4‬ص ‪ ،411‬المغني ج ‪ ،114 – 108‬كشاف القنا ج ‪ 4‬ص ‪،99‬‬
‫مغني المحتاج ج ‪ 4‬ص ‪ ،128‬المهذب للشيرازي ج ‪ 2‬ص ‪ ،437‬شرح الزهار ج ‪ 4‬ص‬
‫‪.570‬‬

‫‪226‬‬
‫[‪ ]33‬المغني ج ‪ 7‬ص ‪ 643‬وما بعدها‪ ،‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ 232‬وما بعدها‪ ،‬الماوردي ص‬
‫‪ 222‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،332‬شرح الخرشي ج ‪ 8‬ص ‪ ،4‬مغني المحتاج ج‬
‫‪ 4‬ص ‪ ،16‬شرح فتح القدير ج ‪ 8‬ص ‪.254‬‬
‫[‪ ]34‬المغني ج ‪ 7‬ص ‪ ،707 – 702‬تفسير القرطبي ج ‪ 6‬ص ‪ ،161‬وما بعدها‪ ،‬الدر‬
‫المختار ج ‪ 5‬ص ‪ ،485‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪.297‬‬
‫[‪ ]35‬الدر المختار ورد المحتار ج ‪ 5‬ص ‪ ،517 – 504‬الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪،257 – 251‬‬
‫المغني ج ‪ 7‬ص ‪ 759‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد ج ‪ 2‬ص ‪ ،345‬المحلى لبن حزم ج ‪ 11‬ص‬
‫‪ ،58‬مختصر المزني ج ‪ 5‬ص ‪ ،141‬مغني المحتاج ج ‪ 4‬ص ‪ ،55‬شرح الزهار ج ‪ 4‬ص‬
‫‪.468‬‬
‫[‪ ]36‬المغني ج ‪ 7‬ص ‪ ،651‬وج ‪ 8‬ص ‪ ،97 – 96‬الدر المختار ج ‪ 5‬ص ‪،468 – 467‬‬
‫الكاساني ج ‪ 7‬ص ‪ ،251‬المحلى ج ‪ 10‬ص ‪ ،514‬البحر الزخار ج ‪ 5‬ص ‪ ،222‬متن‬
‫المنهاج ومغني المحتاج ج ‪ 4‬ص ‪.107‬‬
‫[‪ ]37‬مجموع الفتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.345 – 344 ،108 – 107‬‬
‫[‪ ]38‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.108‬‬
‫[‪ ]39‬المرجع السابق ص ‪.347 – 345‬‬
‫[‪ ]40‬تبصرة الحكام لبن فرحون المالكي ج ‪ 2‬ص ‪.259‬‬

‫صدُ السلم‬
‫الفصل الخامس ‪ -‬مَقا ِ‬

‫تحقيق مصالح العباد في العاجل والجل‬


‫‪ -379‬ان مقاصد السلم – التي دل استقراء نصوص الشريعة عليها – هي تحقيق مصالح‬
‫العباد ودرء المفاسد والضرار عنهم في العاجل والجل‪ ،‬وبهذا كله تتحقق لهم السعادة الحقة‬
‫في حياتهم هنا وحياتهم هناك‪ .‬وبهذا صرح المحققون من علماء السلم‪ ،‬قال المام العز بن‬
‫عبد السلم "إن الشريعة كلها مصالح‪ :‬إما درء مفاسد أو جلب مصالح"[‪ .]1‬وقال شيخ السلم‬
‫ابن تيمية "ان الشريعة السلمية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها"[‬
‫‪ ]2‬وقال تلميذه ابـن قيـم الجوزيـة "الشريعـة مبناهـا وأسـاسها على الحكـم ومصـالح العباد فـي‬
‫المعاش والمعاد و هي عدل كل ها ورح مة وم صالح كل ها وحك مة كل ها"[‪ .]3‬وقال الشا طبي في‬
‫موافقاته‪" :‬انها – أي الشريعة – وضعت لمصالح العباد"[‪.]4‬‬
‫والواقع أن ما ذكره هؤلء الئمة العلم حق ووصف ثابت للسلم تدل عليه نصوصه كما‬
‫قلنا‪ .‬ويكفي هنا أن نذكر نصا في تعليل رسالة محمد صلى ال عليه وسلم يتضمن ما قالوه‪،‬‬

‫‪227‬‬
‫قال جل جلله‪{ :‬و ما أر سلناك إل رح مة للعالم ين} وإن ما كا نت ر سالته عل يه ال صلة وال سلم‬
‫رحمة للعالم ين لنها تتض من تحقيق الم صالح للعباد في دنيا هم وآخرت هم وتدرأ عنهم المفا سد‬
‫والضرار‪.‬‬

‫أنواع مصالح العباد‬


‫‪ -380‬ومصالح العباد التي يعنى بها السلم ايجادا وحفظا‪ ،‬هي ثلثة‪ :‬المصالح الضرورية‬
‫والحاجية والتحسينية‪ ،‬وقد شرع السلم من الحكام ما يحقق هذه المصالح ويحفظها فيتحقق‬
‫للناس سعادتهم في الدنيا والخرة‪ ،‬وقد فصلنا القول في هذه المصالح فل نعيده[‪.]5‬‬

‫معيار المصلحة والمفسدة‬


‫‪ -381‬معيار المصلحة والمفسدة هو السلم‪ ،‬فما شهد له السلم بالصلح فهو المصلحة وما‬
‫ش هد له بالف ساد ف هو المف سدة‪ ،‬والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى‪ ،‬والهوى با طل ل‬
‫يصلح لتمييز الصلح من الفساد‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين‬
‫الناس بالحـق ول تتبـع الهوى فيضلك عـن سـبيل ال} سـورة ص اليـة‪ ،26 :‬فليـس هناك إل‬
‫ال حق والهوى‪ ،‬وال حق هو ما أنزله ال وف يه بيان للم صلحة والمف سدة‪ ،‬و ما عداه الهوى و هو‬
‫باطل وفيه فساد للناس‪ .‬فالمصلحة إذن في اتباع الحق المنزل من عند ال وهجر ما سواه‪.‬‬

‫عجز النسان عن إدراك المصلحة والمفسدة‬


‫‪ -382‬والنسان عاجز بطبيعته عن إدراك المصالح الحقيقية وطريق الوصول إليها في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وإذا أدرك بعض ها في الدن يا فا نه عا جز عن معر فة م صالحه في الخرة وطر يق‬
‫الوصول اليها‪ ،‬وإنما يستطيع ذلك إذا سار خلف الشريعة واستنار بنورها ووقف عند حدودها‬
‫ووزن المور بميزانها‪.‬‬

‫مصلحة النسان الحقيقية في اتباع ما أنزل ال‬


‫‪ -383‬ومصـلحة النسـان الحقيقيـة فـي اتباعـه مـا أنزل ال وإقامـة أمور الدنيـا وفـق النظام‬
‫السلمي‪ ،‬لن في ذلك تحقيقا مؤكدا لمصالحه الحقيقية وسعادته في الدن يا‪ .‬ومع هذه السعادة‬
‫الدنيو ية سعادة عظ مى له في الخرة بالظ فر برضوان ال والدخول الى دار النع يم‪ .‬وهذا من‬
‫مزا يا السـلم العظيـم‪ ،‬فان تطـبيق أحكا مه واتباع تعالي مه ومناهجـه فـي الحياة ل يفوت على‬
‫النسان الحياة الطيبة في الدنيا – كما يظن بعض الجهال – بل يحققها له على وجه سليم خال‬
‫من العثار والشطط‪ ،‬وإن هذه الحياة القائ مة على معا ني السلم تسهل له سلوك سبيل الخرة‬

‫‪228‬‬
‫بيسر وسلمة حتى توصله الى ال تعالى راضيا مرضيا‪ ،‬بخلف المعاني غير السلمية فانها‬
‫تكدر حياة النسان وتشقيه في الدنيا وتقطع صلته بال ول توصله في الخرة إل إلى النار‪.‬‬

‫مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الخرة‬


‫‪ -384‬يقول الفق يه الشا طبي‪" :‬الم صالح المجتل بة شرعا‪ ،‬والمفا سد الم ستدفعة ان ما تع تبر من‬
‫حيث تمام الحياة الدنيا للحياة الخرى‪ ،‬ل من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية او‬
‫درء مفاسدها العادية"[‪.]6‬‬
‫ومعنى هذا الكلم أن تقدير السلم لمصالح العباد وتشريعه الحكام والمناهج لتحصيلها‪ ،‬إنما‬
‫يقصد من ذلك كله تهيئتهم للظ فر بسعادة الخرة‪ .‬فم صالح الدن يا‪ ،‬في الحقيقة‪ ،‬ليست مطلو بة‬
‫لذاتهـا وإنمـا هـي وسـيلة لمصـالح الخرة‪ .‬فأي شيـء يعارض ظفره بسـعادة الخرة يجـب أن‬
‫يترك أو يؤخـر‪ ،‬وأي شيـء يؤدي الى سـعادته فـي الخرة يجـب أن يؤخـذ ويقدم‪ ،‬فل يجوز‬
‫التفريط بالخرة من اجل الدنيا ومنافعها الزائلة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فاما من طغى وآثر الحياة الدنيا‬
‫فان الجحيـم هـي المأوى‪ ،‬وامـا مـن خاف مقام ربـه ونهـى النفـس عـن الهوى فان الجنـة هـي‬
‫المأوى} سـورة النازعات اليـة‪ .37 :‬وفـي هذا المعنـى قال المام الشاطـبي فـي موافقاتـه‬
‫"والمصالح والمفاسد الخروية مقدمة في العتبار على المصالح والمقاصد الدنيوية باتفاق‪ ،‬إذ‬
‫ل يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الخرة‪ ،‬فمعلوم ان ما يخل بمصالح الخرة غير‬
‫موافق لمقصود الشارع فكان باطل"[‪ .]7‬فالممنوع إذن تقديم الدنيا على الخرة‪ ،‬وليس الممنوع‬
‫تحصـيل الدنيـا واسـتعمالها للخرة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وابتـغ فيمـا آتاك ال الدار الخرة ول تنـس‬
‫نصيبك من الدنيا} سورة القصص الية‪ ،77 :‬فالدنيا مزرعة الخرة‪ ،‬ومتاعها وسيلة للوصول‬
‫إلي ها‪ ،‬فل يجوز تخر يب المزر عة‪ ،‬ول الخروج من ها على و جه الفرار لن الن سان جاء إلي ها‬
‫ليع مل الخ ير ويتزود بزاد التقوى ويف ني عمره في ذلك‪ ،‬ول كن عل يه أن ل ين سى هذه المه مة‬
‫فيجعل الدنيا مقصودة وغايته‪ ،‬وقد أرادها ال وسيلة للخرة وخادمة لها ل مزاحمة لها‪ ،‬فاذت‬
‫تعارضت مصلحته الدنيوية مع مصلحته الخروية‪ ،‬قدم الثانية على الولى غير آسف عليها‪،‬‬
‫لنه غير مغبون ول خاسر في هذا التقديم‪ ،‬لن المصلحة الكبرى تقدم على الصغرى في نظر‬
‫السلم وفي نظر العقلء‪ ،‬ومصلحة الخرة أكبر قطعا من مصلحة الدنيا‪ ،‬لن تقييم المصلحة‬
‫إنما يكون بقدر ما فيها من لذة وراحة ومنفعة من حيث الكم والكيف‪ ،‬وبقدر دوامها للنسان‪،‬‬
‫ول شك ان مصلحة الخرة أعظم من مصلحة الدنيا من هاتين الناحيتين ذلك ان ما في الدنيا‬
‫مـن لذائذ ومنافـع وراحـة ل يقاس بمـا فـي الخرة كما ول كيفا‪ ،‬فان لذائذ الدنيـا مشوبـة‬
‫بالمنغصـات وتافهـة مـن حيـث الكـم والكيـف‪ ،‬أمـا الخرة‪ ،‬فلذائذهـا خالصـة مـن المنغصـات‬
‫والمكدرات‪ ،‬وفريدة من حيث نوعها وكيفيتها‪ ،‬وفيها ما ل عين رأت ول اذن سمعت ول خطر‬

‫‪229‬‬
‫على قلب بشر‪ ،‬وفيها رضوان ال ورؤية وجهه الكريم والقرب منه في جنات النعيم‪ ،‬وكل هذه‬
‫المور العظام ل يساوي اليسير منها كل نعيم الدنيا‪ .‬واما من حيث الدوام فان سعادة الخرة‬
‫ولذائذ ها دائ مة غ ير منقط عة‪ ،‬بين ما نع يم الدن يا ولذائذ ها منقط عة قطعا‪ ،‬ف هي ل تتجاوز ع مر‬
‫النسان‪ ،‬إذا فرضنا أن يتنعم في عمره كله‪ ،‬وأية نسبة بين سعادة مقدرة بعمر النسان القصير‬
‫المتنا هي‪ ،‬و سعادة الخرة الدائ مة لمدى غ ير متناه ية؟ فالم سلم العا قل ل يم كن أن يؤ ثر الدن يا‬
‫على الخرة أبدا‪ ،‬لن الشرع يأمـر بتقديـم الخرة‪ ،‬والحسـاب يقتضـي هذا التقديـم‪ ،‬ومصـلحة‬
‫النسان تدعو الى هذا التقديم‪ ،‬وهذا هو الحق وماذا بعد الحق إل الضلل والجهل والخسران‬
‫المبين‪.‬‬

‫[‪ ]1‬القواعد للعز بن عبد السلم ج ‪ 1‬ص ‪.9‬‬


‫[‪ ]2‬منهاج السنة النبوية لبن تيمية ج ‪ 1‬ص ‪ ،147‬ج ‪ 2‬ص ‪ ،240‬ج ‪ 3‬ص ‪.118‬‬
‫[‪ ]3‬اعلم الموقعين ج ‪ 3‬ص ‪.1‬‬
‫[‪ ]4‬الموافقات للشاطبي ج ‪ 2‬ص ‪.6‬‬
‫[‪ ]5‬راجع الفقرة (‪ )84 – 75‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫[‪ ]6‬الموافقات للشاطبي ج ‪ 2‬ص ‪.384‬‬
‫[‪ ]7‬الوافقات ج ‪ 2‬ص ‪.387‬‬

‫الباب الثاني ‪ -‬الــداعــي‬

‫تمهيد‬

‫‪ -379‬الدا عي هو المكلف شرعا بالدعوة إلى ال‪ ،‬فل بد من التعر يف به وبيان أدلة تكلي فه‪.‬‬
‫والدا عي و هو يقوم بهذا التكل يف الشر عي يحتاج الى عدة تعي نه على أداء ما كلف به وت سهل‬
‫عليه هذه المهمة العظيمة‪ .‬كما يحتاج الى نوع معين من الخلق السلمية أكثر مما يحتاجه‬
‫غيره‪ ،‬وعلى هذا سنقسم هذا الباب إلى ثلثة فصول‪:‬‬
‫الفصل الول – التعريف بالداعي‬
‫الفصل الثاني – عدة الداعي‬
‫الفصل الثالث – اخلق الداعي‬

‫الفصل الول ‪ -‬التعريف بالداعي‬

‫‪230‬‬
‫الداعي الول‬
‫‪ -379‬الداعي الول إلى ال تعالى‪ ،‬بعد أن أنعم ال علينا بالسلم‪ ،‬هو رسولنا الكريم محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى‬
‫ال بإذنه وسراجا منيرا} سورة الحزاب الية‪ .46-45 :‬وقد كرر القرآن الكريم الخطاب إلى‬
‫الر سول الكر يم صلى ال عل يه و سلم يأمره بالدعوة إلى ال وال ستمرار علي ها وعدم التحول‬
‫عنهـا‪ ،‬فمـن هذه اليات الكريمـة قوله تعالى‪{ :‬وادع إلى ربـك إنـك لعلى هدى مسـتقيم} سـورة‬
‫الحـج اليـة‪ ،67 :‬وقوله تعالى‪{ :‬وادع الى ربـك ول تكونـن مـن المشركيـن} سـورة القصـص‬
‫ال ية‪ ،87 :‬وقوله تعالى‪ { :‬قل إن ما أمرت أن أع بد ال ول أشرك به إل يه أد عو وإل يه المآب}‬
‫سورة الرعد الية‪ ،36 :‬وقد ظل صلى ال عليه وسلم يدعو إلى ربه تبارك وتعالى حتى أتاه‬
‫اليقين من ربه وصار الى جواره الكريم راضيا مرضيا فجزاه ال على المسلمين خير الجزاء‪.‬‬

‫الدعوة الى ال وظيفة رسل ال‬


‫‪ -380‬والواقع ان الدعوة إلى ال هي وظيفة رسل ال جميعا‪ ،‬ومن أجلها بعثهم ال تعالى الى‬
‫الناس‪ ،‬فكلهم بل استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسلوا اليهم إلى اليمان بال وإفراده بالعبادة على‬
‫الن حو الذي شر عه ل هم‪ ،‬قال تعالى عن نوح عل يه ال سلم‪{ :‬ل قد أر سلنا نوحا إلى قو مه فقال يا‬
‫قوم اعبدوا ال ما ل كم من إله غيره} سورة العراف ال ية‪ ،59 :‬وقال تعالى عن هود عل يه‬
‫ال سلم‪{ :‬والى عاد أخا هم هودا قال يا قوم اعبدوا ال ما ل كم من إله غيره} سورة هود ال ية‪:‬‬
‫‪ ،53‬و عن صالح قال تعالى‪{ :‬وإلى ثمود أخا هم صالحا قال يا قوم اعبدوا ال ما ل كم من إله‬
‫غيره} سورة العراف ال ية‪ ،73 :‬و عن شع يب عل يه ال سلم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإلى مد ين أخا هم‬
‫شعيبا قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ }...‬سورة العراف الية‪.85 :‬‬
‫وهكذا جميع رسل ال دعوا إلى ال‪ ،‬الى عبادته وحده‪ ،‬والتبرؤِ من عبادة ما سواه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫‪،36‬‬ ‫{ول قد بعث نا في كل أ مة ر سول أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت} سورة الن حل ال ية‪:‬‬
‫فرسل ال هم الدعاة إلى ال‪ ،‬وقد اختارهم ال لحمل دعوته وتبليغها الى الناس‪.‬‬

‫المة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة الى ال‬


‫‪ -381‬ذكر نا في الفقرة ال سابقة أن الدا عي الول إلى ال تعالى هو ر سولنا صلى ال عل يه‬
‫و سلم‪ ،‬وذكر نا اليات الكري مة ال تي تأمره عل يه ال صلة وال سلم بالدعوة الى ال‪ ،‬وهذه اليات‬
‫يد خل في ها الم سلمون جميعا‪ ،‬لن ال صل في خطاب ال لر سوله صلى ال عل يه و سلم دخول‬
‫أم ته ف يه إل ما ا ستثني‪ ،‬ول يس من هذا الم ستثنى أ مر ال تبارك وتعالى بالدعوة إل يه‪ ،‬ومع نى‬
‫ذلك أن ال تعالى أكرم هذه المة السلمية وشرفها أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة‬

‫‪231‬‬
‫الدعوة إليه‪ .‬وهذا التشريف والتكريم ل يستفاد فقط من الخطابات اللهية لرسوله بالدعوة إليه‬
‫ك ما ذكر نا وإن ما هو صريح اليات الكثيرة في القرآن‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬كن تم خ ير أ مة أخر جت‬
‫للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عـن المنكـر} سـورة آل عمران اليـة‪ ،110 :‬فهذه اليـة‬
‫الكريمـة افادت معنييـن‪ :‬الول خيريـة هذه المـة‪ ،‬والثانـي أنهـا حازت هذه الخيريـة لقيامهـا‬
‫بوظيفة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وهي وظيفة رسول ال ورسل ال جميعا‪ ،‬وأول‬
‫ما يد خل في ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر الدعوة الى ال وحده والبراءة من الشرك‬
‫بأنوا عه‪ .‬بـل إن القرآن الكريـم جعـل مـن صـفات المؤمنيـن الدعوة إلى ال‪ ،‬بخلف المنافقيـن‬
‫الذ ين ي صدون عن سبيل ال و يدعون الى غيره‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬والمنافقون والمنافقات بعض هم‬
‫أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف‪ }..‬سورة التوبة الية‪ ،67 :‬ثم قال تعالى‬
‫بعد ذلك‪{ :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}‬
‫سورة التو بة ال ية‪ .71 :‬قال القر طبي في تف سير هذه ال ية الكري مة‪( :‬فج عل ال تعالى ال مر‬
‫بالمعروف والن هي عن المن كر فر قا ب ين المؤمن ين والمنافق ين‪ ،‬فدل على أن أ خص أو صاف‬
‫المؤمنين المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ورأسها الدعاء إلى السلم)[‪ .]1‬وأضيف الى‬
‫ذلك أن ال تبارك وتعالى‪ ،‬بهذا الية‪ ،‬وصف المة السلمية بما وصف به رسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى عن رسوله‪{ :‬يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات‬
‫ويحرم عليهم الخبائث} سورة العراف الية‪.157 :‬‬

‫من هو المكلف بالدعوة الى ال‬


‫‪ -382‬ومما ذكرنا يتضح بجلء ان المكلف بالدعوة الى ال هو كل مسلم ومسلمة لن المة‬
‫السلمية تتكون منهم‪ ،‬فكل بالغ عاقل من المة السلمية – وهي المكلفة بالدعوة الى ال –‬
‫مكلف بهذا الواجـب‪ ،‬ذكرا كان أو أنثـى‪ ،‬فل يختـص العلماء‪ ،‬أو كمـا يسـميهم البعـض رجال‬
‫الدين‪ ،‬بأصل هذا الواجب‪ ،‬لنه واجب على الجميع‪ ،‬وإنما يختصون بتبليغ تفاصيله وأحكامه‬
‫ومعان يه نظرا ل سعة علم هم به ومعرفت هم بجزئيا ته‪ .‬ويز يد ال مر وضوحا – و هو أن المكلف‬
‫بالدعوة إلى ال تعالى هو كل مسلم ومسلمة – قول ربنا جل جلله‪{ :‬قل هذه سبيلي أدعو الى‬
‫ال على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان ال وما أنا من المشركين} سورة يوسف الية‪.108 :‬‬
‫فأتباع الرسول صلى ال عليه وسلم المؤمنون به‪ ،‬يدعون الى ال على بصيرة أي علم ويقين‪،‬‬
‫ك ما كان ر سولهم صلى ال عل يه وسلم يد عو إلى ال على بصيرة ويق ين‪ .‬ومعنى ذلك أن من‬
‫اللوازم الضروريـة ليمان المسـلم أن يدعـو الى ال‪ ،‬فاذا تخلف عـن الدعوة دل تخلفـه على‬
‫وجود ن قص أو خلل في ايما نه‪ ،‬ي جب تدار كه بالقيام بهذا الوا جب‪ ،‬وا جب الدعوة الى ال‪ .‬قال‬
‫المام ابن كثير في تفسير هذه الية "يقول ال تعالى الى رسوله صلى ال عليه وسلم ان يخبر‬

‫‪232‬‬
‫الناس أن هذه سبيله أي طريقته وم سلكه وسنته وهي الدعوة الى شهادة أن ل إله إل ال وحده‬
‫ل شريك له‪ ،‬يدعو إلى ال بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان‪ ،‬هو وكل من اتبعه يدعو‬
‫الى ما دعا اليه رسول ال صلى ال عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي"[‬
‫‪ .]2‬و في الحد يث الشر يف الذي رواه المام البخاري عن ا بن عباس أن ال نبي صلى ال عل يه‬
‫و سلم قال‪" :‬فليبلغ العلم الشا هد الغائب"[‪ ]3‬ويد خل في مع نى الشا هد كل م سلم علم من أ مر‬
‫السلم شيئا‪.‬‬
‫‪ -383‬والدعوة إلى ال‪ ،‬و هي وا جب على كل م سلم وم سلمة‪ ،‬ك ما قل نا‪ ،‬قد تؤدى ب صروة‬
‫فرد ية‪ ،‬وقد تؤدى ب صورة جماعية‪ ،‬وإذا أرد نا الد قة بالت عبير قل نا‪ :‬إن هذا الوا جب يؤدى على‬
‫نحوين‪ :‬الول‪ ،‬نحو فردي بأن يقوم به المسلم بصفته فردا مسلما‪ ،‬والثاني‪ ،‬يؤدى هذا الواجب‬
‫أو جانبا منـه بصـفته فردا فـي جماعـة تدعـو الى ال تعالى‪ .‬يدل على هذا كله قول ال تبارك‬
‫وتعالى‪{ :‬ولت كن من كم أ مة يدعون الى الخ ير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المن كر وأولئك‬
‫هـم المفلحون} سـورة آل عمران اليـة‪ ،104 :‬قال المام ابـن كثيـر فـي تفسـير هذه اليـة‬
‫"والمقصـود مـن هذه اليـة أن تكون فرقـة مـن هذه المـة متصـدية لهذا الشأن‪ ،‬وان كان ذلك‬
‫واجبا على كل فرد من ال مة بح سبه‪ ،‬ك ما ث بت في صحيح م سلم عن أ بي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال‬
‫ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ " :‬من رأى من كم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فان لم ي ستطع فبل سانه‪،‬‬
‫فان لم يسـتطع فبقلبـه وذلك أضعـف اليمان"‪ .‬والواقـع ان تجمـع الدعاة للقيام بواجـب الدعوة‬
‫بصورة جماعية‪ ،‬يكون ضروريا كلما كانت مهمة الدعوة جسيمة‪ ،‬كما لو أريد نشر الدعوة الى‬
‫ال في المجتمعات الوثنية الجاهلية التي عشعش فيها الشيطان وبيض وصد أهلها عن سبيل ال‬
‫وأرك سهم في حمأة الشرك ك ما في القطار الوثن ية في افريق يا ونحو ها‪ ،‬فان م ثل هذه القطار‬
‫تحتاج الى جهود كبيرة جدا ومنظمة لنشر الدعوة الى ال وتعليمهم أمور السلم مما ل يقوى‬
‫عليه جهد فرد ول جهود مبعثرة لبعض الفراد‪ .‬ويؤيد هذا التبشير بالسلم على شكل جمعي‪،‬‬
‫ما جاء في السنة النبوية‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم كان يأمر من يسلم بالتحول الى دار‬
‫الهجرة ليضم جهده الى جهود المسلمين وتوجيهها التوجيه السليم من قبل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫كمـا اننـا نجـد فـي قوله تعالى‪{ :‬وتعاونوا على البر والتقوى ول تعاونوا على الثـم والعدوان}‬
‫سورة المائدة الية‪ ،2 :‬دليل آخر على مشروعية التجمع والدعوة الجماعية‪ ،‬بل ووجوبها إذا‬
‫كان البر ل يمكـن تحصـيله بدون ذلك‪ .‬وقـد اشار المام أبـو حنيفـة‪ ،‬على مـا رواه الجصـاص‬
‫عنه‪ ،‬الى ضرورة التجمع على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتوجيه الجهود الجماعية‬
‫لتحقيق هذا المقصود‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫شبهات واعتراضات‬
‫‪ -384‬قد يتوهم البعض ان واجب الدعوة الى ال ل يلزمه‪ ،‬لنه ليس من رجال الدين‪ ،‬وإن‬
‫هذا الواجـب واجـب كفائي يجـب على العلماء فقـط ل على الجميـع بدليـل قوله تعالى‪{ :‬ولتكـن‬
‫منكـم أمـة يدعون الى الخيـر ويأمرون بالمعروف وينهون عـن المنكـر وأولئك هـم المفلحون}‬
‫سورة آل عمران الية‪.110 :‬‬
‫والجواب على ذلك أن تف سير هذه ال ية الكري مة‪ ،‬ك ما نقلناه عن ا بن كث ير‪ ،‬الفقرة ال سابقة "أن‬
‫تكون فرقـة مـن هذه المـة متصـدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كـل فرد مـن المـة‬
‫بحسبه"‪ .‬وجاء في تفسير الرازي بصدد هذه الية‪ :‬في قوله تعالى‪{ :‬منكم} قولن‪ :‬أحدهما‪ :‬أن‬
‫"من" هاهنا ليست للتبعيض لدليلين‪ :‬الول‪ :‬ان ال تعالى اوجب المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر على كل المة في قوله‪{ :‬كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن‬
‫المنكر}‪ .‬الثاني‪ :‬هو أنه ل مكلف ال ويجب عليه المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬إما بيده‬
‫أو بلسانه أو بقلبه‪ ،‬ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس‪ .‬إذا ثبت هذا فنقول‪ :‬معنى هذه‬
‫الية كونوا أمة دعاة الى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر‪ ،‬واما كلمة "من" فهي هنا‬
‫لل تبيين‪ ،‬ل للتبع يض كقوله تعالى‪{ :‬فاجتنبوا الر جس من الوثان} سورة ال حج ال ية‪ .30 :‬ثم‬
‫ذ كر الرازي القول الثا ني و هو ان " من" للتبع يض لن " في القوم من ل يقدر على الدعوة ول‬
‫على ال مر بالمعروف والنهـي عن المنكـر" ثم قال عن أصـحاب هذا القول‪ :‬ان هذا التكليـف‬
‫مختص بالعلماء لن الدعوة الى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر‪ ،‬فثبت أن‬
‫هذا التكليف متوجه على العلماء ل على الجهال‪ ،‬والعلماء بعض المة"[‪ .]4‬وبنفس هذا المعنى‬
‫وذكر القولين في هذه الية‪ ،‬جاء تفسير القرطبي وتفسير الجصاص[‪ ]5‬والواقع أن القول الذي‬
‫ذكره الرازي أصـح لمـا اسـتدل بـه أصـحابه‪ ،‬وهـو مـا ذكره ابـن كثيـر بعبارتـه الدقيقـة التـي‬
‫ذكرناهـا‪ ،‬إذ جعـل الوجوب على كـل فرد‪ ،‬مـع لزوم وجود فرقـة متصـدية لشأن الدعوة الى‬
‫الخير‪ .‬والحقيقة أن هناك شيئا من اللتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة (العلماء) التي فسر‬
‫بها أصحاب القول الثاني كلمة "ولتكن منكم أمة" الواردة في الية باعبتار أن الدعوة الى الخير‬
‫متأتـ مـن فهـم الفرض الكفائي‪ .‬فل بـد مـن‬
‫ٍ‬ ‫مشروطـة بالعلم‪ .‬والسـبب الثانـي لهذا اللتباس‬
‫توضيح هذين المرين‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫ل شك أن الدعوة الى الخير‪ ،‬وأعلها الدعوة الى ال‪ ،‬مشروط لها العلم ولكن العلم ليس شيئا‬
‫واحدا ل يتجزأ ول يتب عض وإن ما هو ب طبيعته يتجزأ ويتب عض‪ ،‬ف من علم م سألة وج هل أخرى‬
‫فهو عالم بالولى جاهل بالثانية‪ ،‬ومعنى ذلك أن يعد من جملة العلماء بالمسألة الولى‪ ،‬وبالتالي‬
‫يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة الى ما علم دون ما جهل‪ ،‬ول خلف بين الفقهاء‪ ،‬ان من جهل‬
‫شيئا أو ج هل حك مه أ نه ل يد عو ال يه‪ ،‬لن العلم ب صحة ما يد عو إل يه الدا عي شرط ل صحة‬

‫‪234‬‬
‫الدعوة‪ .‬وعلى هذا فكل مسلم يدعو الى ال بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد‪ ،‬ويكون هذا‬
‫المعنى هو المقصود من قولهم‪ :‬إن الدعوة تجب على العلماء ل على غيرهم‪ ،‬أي على من يعلم‬
‫الم سألة وحكم ها ال تي يد عو الي ها‪ ،‬سواء كان من عا مة الم سلمين أو م من نال حظا كبيرا من‬
‫العلم‪ .‬وبهذا يظهر فساد قول من قال‪ :‬إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظا كبيرا من العلم‬
‫دون سواهم‪ ،‬وقد يسمونهم برجال الدين‪ .‬لن هذه التسمية تصدق على كل مسلم فهو من رجال‬
‫السلم وليست مقصورة على فئة منهم‪ .‬أما المر الثاني الذي يسببه حصل هذا اللبس‪ ،‬وهو‬
‫مع نى الفرض الكفائي‪ ،‬فالمق صود به ا نه اذا قام به الب عض سقط التكل يف عن الب عض ال خر‬
‫وان كان واجبا على الكل‪ ،‬قال الرازي‪" :‬ثم قالوا – أي أصحاب القول الول القائلين بالوجوب‬
‫على ال كل‪ ،‬وان كل مة " من" لل تبيين ولي ست للتبع يض – ان ذلك وان كان واجبا على ال كل‪ ،‬إل‬
‫أ نه م تى قام قوم سقط التكل يف عن الباق ين‪ ،‬ونظيره قوله تعالى‪{ :‬انفروا خفافا وثقالً} وقوله‪:‬‬
‫{إل تنفروا يعذبكم عذابا أليما} فالمر عام‪ ،‬ثم اذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف‬
‫على الباق ين"[‪ .]6‬وقال الج صاص و هو يتكلم عن تف سير ال ية‪{ :‬ولت كن من كم أ مة يدعون الى‬
‫الخيـر‪ }..‬حوت هذه اليـة معنييـن‪ ،‬أحدهمـا‪ :‬وجوب المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪،‬‬
‫والخر انه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل واحد في نفسه اذا قام به غيره"[‪ ]7‬فقوله‪:‬‬
‫ليس بفرض على كل واحد في نفسه إذا قام به غيره‪ ،‬يبين المقصود من الفرض الكفائي وهو‬
‫سقوطه إذا قام به الغ ير خلفا للفرض العي ني الذي ل ي سقط إل بالقيام به من كل فرد‪ .‬وعلى‬
‫هذا فالدعوة من صفات المؤمنين كما بينا‪ ،‬ولن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بازالة‬
‫المنكر حسب استطاعته‪ ،‬فاذا حصل المقصود بفرد أو افراد لم يطالب الخرون باعادة المنكر‬
‫لزالته‪ ،‬ول يؤاخذون لنهم لم يزيلوه‪ .‬والشأن في المسلم المبادرة إلى المر بالمعروف والنهي‬
‫عـن المنكـر دون انتظار غيره فقـد ل يقوم بـه الغيـر فيقـع فـي الثـم‪ .‬والمسـلم يدعـو الى ال‬
‫باعتباره مسـلما مؤمنا بال ورسـوله‪ ،‬وقـد ذكرنـا‪ ،‬قوله تعالى‪{ :‬قـل هذه سـبيلي أدعوا الى ال‬
‫على بصيرة انا ومن اتبعني وسبحان ال وما أنا من المشركين} سورة يوسف الية‪ ،108 :‬فل‬
‫بد للمسلم أن يدعو الى ال‪ ،‬ولكن لو قدر أنه لم يدع شخصا معينا الى ال أو لم يدع في وقت‪،‬‬
‫وقام بالدعوة م سلم آ خر‪ ،‬فإن الدا عي يؤ جر دون الول‪ ،‬ول كن لو ترك الم سلم الدعوة الى ال‬
‫تركا دائما م ستمرا متعمدا فإ نه ل ينضوي ت حت مفهوم قوله تعالى‪ { :‬قل هذه سبيلي أد عو الى‬
‫ال‪ }...‬لن اتباع الرسول صلى ال عليه وسلم هم الذين يدعون الى ال‪.‬‬
‫هذا ومـن معانـي الفرض الكفائي‪ ،‬انـه متوجـه الى المسـلمين جميعا بأن يعملوا لتحقيـق هذا‬
‫الفرض‪ ،‬وعلى القادر فعل أن يقوم بهذا الفرض مباشرة‪ ،‬فيكون معنى الية‪{ :‬ولتكن منكم أمة‬
‫يدعون الى الخيـر ويأمرون بالمعروف وينهون عـن المنكـر} أن يقوم المسـلمون باعداد هذه‬
‫(المة) أي الجماعة المتصدية للدعوة الى ال وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من‬

‫‪235‬‬
‫قيام هم و هو اقا مة د ين ال ون شر دعو ته‪ ،‬فان لم يف عل الم سلمون ذلك أ ثم الجم يع‪ ،‬المتأ هل‬
‫للدعوة وغيره[‪.]8‬‬
‫ويقال أيضا‪ :‬إن الدعوة الى ال حتـى لو قلنـا‪ :‬إنهـا تجـب على البعـض دون البعـض الخـر‬
‫باعتبار انهـا مـن الفروض الكفائيـة‪ ،‬فان الشرط للخروج مـن عهدة الفرض الكفائي حصـول‬
‫الكفا ية ب من يقوم به‪ ،‬ول ما كا نت الكفا ية غ ير حا صلة‪ ،‬في جب أن يقوم بهذا الوا جب كلم م سلم‬
‫ح سب قدر ته‪ ،‬ل سيما في زمان نا ح يث ل يزال الشرك والوثن ية والجاهل ية تغ شى مجتمعات‬
‫بشر ية كثيرة في افريق يا وامري كا وغير ها من أقطار الرض المختل فة‪ ،‬ون شر الدعوة الى ال‬
‫في هذه المجتمعات الجاهل ية يحتاج الى جهود جبارة يشترك في ها جم يع الم سلمين كل ح سب‬
‫استطاعته‪ ،‬بماله او تعليمه‪ ،‬أو بفكره أو بسلطانه‪.‬‬
‫‪ -385‬و قد يتش بث الب عض‪ ،‬توهما م نه‪ ،‬بقوله تعالى‪ { :‬يا أي ها الذ ين آمنوا علي كم أنف سكم ل‬
‫يضر كم من ضل إذا اهتدي تم} سورة المائدة ال ية‪ ،105 :‬ليتخلص من وا جب الدعوة إلى ال‬
‫ويبرر قعوده وتقاعسه‪ ،‬متوهما أن هذه الية الكريمة تعفيه من تكليف الدعوة إلى ال‪ ،‬ما دام‬
‫هو في نف سه صالحا مهتديا‪ .‬إن هذا الو هم ت سرب الى الب عض في ز من ال صديق أ بي ب كر‬
‫رضـي ال عنـه فخطـب فـي الناس‪ ،‬وقال "يـا أيهـا الناس انكـم تقرؤون هذه اليـة الكريمـة‬
‫وتضعونها في غير موضعها‪{ :‬عليكم أنفسكم ل يضركم من ضل إذا اهتديتم}‪ ،‬وإني سمعت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن‬
‫يعمهم ال بعقاب"[‪.]9‬‬
‫هذا‪ ،‬ويلحظ أن في الية نفسها ما يؤكد وجوب الدعوة الى ال تعالى على كل مسلم‪ ،‬وينفي‬
‫الوهـم الذي يتشبـث بـه القاعدون‪ ،‬ذلك أن ال سـبحانه وتعالى قال فـي اليـة {إذا اهتديتـم}‬
‫والهتداء كما قال شيخ السلم ابن تيمية "إنما يتم باداء الوجب‪ .‬فاذا قام المسلم بما يجب عليه‬
‫مـن المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬كمـا قام بغيره مـن الواجبات لم يضره ضلل‬
‫الضلل"[‪.]10‬‬
‫‪ -386‬وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى‪ ،‬وهي أن الباطل انتشر في الرض‪ ،‬ولم تعد الدعوة‬
‫الى ال تن فع شيئا‪ ،‬وعلى الم سلم أن يه تم بنف سه ويدع أ مر الخلق‪ .‬والجواب على هذه الشب هة‪،‬‬
‫كما سنوضحه فيما بعد‪ ،‬أن الواجب على المسلم هوالقيام بواجب الدعوة الى ال‪ ،‬سواء حصل‬
‫المقصود واستجاب الناس أو لم يستجيبوا‪ ،‬وقد حصلت هذه الشبهة لقوام سالفين ق صّ ال لنا‬
‫من أخبارهم‪ ،‬وكيف أن الدعاة الى ال ردوا عليهم شبهتهم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإذ قالت أمة منهم لم‬
‫تعظون قوما ال مهلكهـم أو معذبهـم عذابا شديدا؟ قالوا معذرة إلى ربكـم ولعلهـم يتقون‪ .‬فلمـا‬
‫ن سوا ما ذكروا به أنجي نا الذ ين ينهون عن ال سوء وأخذ نا الذ ين ظلموا بعذاب بئ يس ب ما كانوا‬
‫يفسقون} سورة العراف الية‪ .165-164 :‬والية الكريمة تشير إلى أهل قرية صاروا ثلث‬

‫‪236‬‬
‫فرق‪ :‬فرقة ارتكبت المعاصي‪ ،‬وفرقة أنكرت عليهم ووعظت هم‪ ،‬وفر قة سكتت عنهم فلم تفعل‬
‫ولم تنـه ولكنهـا قالت للمنكرة‪{ :‬لم تعظون قوما ال مهلكهـم أو معذبهـم عذابا شديدا} أي‪ :‬لم‬
‫تنهون هؤلء و قد علم تم أن هم قد هلكوا وا ستحقوا العقو بة من ال فل فائدة في نهي كم ايا هم‪،‬‬
‫فقالت الفرقـة المنكرة‪ ،‬بالجواب الصـحيح {معذرة إلى ربكـم} أي‪ :‬فيمـا أخـذ علينـا مـن واجـب‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر فنحن نعتذر إلى ربنا ل نملك إل أن ندعو هؤلء العصاة‬
‫للقلع عن معصيتهم والنابة الى ربهم {ولعلهم يتقون} أي‪ :‬ولعل هذا النكار عليه ودعوتنا‬
‫إيا هم للنا بة الى رب هم والرجوع إل يه يدعو هم الى ال ستجابة[‪ .]11‬و في هذا اشارة الى أ نه ما‬
‫دام هناك احتمال قبول الدعوة فل بـد مـن اسـتمرار الوعـظ والرشاد والدعوة إلى ال تعالى‬
‫ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة‪.‬‬
‫‪ -387‬وقد يتشبث البعض بشبهة أخرى تقوم على فهم سقيم للية الكريمة {ل يكلف ال نفسا‬
‫إل وسـعها} سـورة البقرة اليـة‪ ،286 :‬فيتعلل بأن الدعوة إلى ال تسـبب له تعبا ونصـبا ل‬
‫يستطيع تحمله‪ ،‬والواقع أن هذه حجة ضعاف اليمان رقيقي الدين‪ ،‬فان التعب المزعوم ينالهم‬
‫في سعيهم للظ فر بمآرب الدن يا التاف هة كالح صول على ر بح مادي زه يد مثل‪ ،‬فأولى ب هم أن‬
‫يتحملوا شيئا من التعب في الدعوة الى ال وفي هذا التعب أجر عظيم لهم‪ .‬والحقيقة ان التعب‬
‫المزعوم ي سير وب سيط‪ ،‬ف هل هناك ت عب شد يد في تعل يم الجا هل أمور ال سلم‪ ،‬أو في عرض‬
‫السلم على الكافر الذي لم يسمع بالسلم؟ وهل يتعب إذا حرك لسانه بالكلم الطيب أو يتعب‬
‫فكره إذا ف كر في أمور ال سلم؟ و هل يت عب تعبا ل يطاق إذا تي سر له ال سفر الى المجتمعات‬
‫الوثنية يدعوها الى ال؟ أل ينظر الى رجال الكنيسة الذين يذهبون ويقضون السنين هناك؟ إن‬
‫الم سلم أولى من هم بالتبش ير ون شر الدعوة الى ال ب ين اولئك الوثني ين‪ ،‬وإن عل يه إذا و سوس له‬
‫الشيطان بالتعـب والرهاق أن يتذكـر قول ال تعالى‪{ :‬إن تكونوا تألمون فإنهـم يألمون كمـا‬
‫تألمون وترجون من ال ما ل يرجون} سورة النساء الية‪ .106 :‬وعليه أن يتذكر أن أصحاب‬
‫ر سول ال تحملوا كثيرا في الدعوة إلى ال والجهاد في سبيله‪ ،‬ونذ كر على سبيل المثال شيئا‬
‫من أخبارهم وجهادهم في سبيل ال‪ ،‬فقد جاء في كتب السيرة‪ ،‬ان النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫بعد أن رجع الى المدينة ومعه المسلمون بعد معركة أحد جاءه الخبر – أن أبا سفيان ومن معه‬
‫من المشركين عزموا على الرجوع الى المدينة – لستئصال من بقي من المسلمين‪ .‬فلما صلى‬
‫الر سول صلى ال عل يه و سلم ال صبح‪ ،‬أ مر بللً فنادي‪ :‬إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‬
‫يأمر كم لطلب عدو كم ول يخرج مع نا إل من ش هد القتال أ مس‪ .‬فخرج م عه سعد بن معاذ الى‬
‫داره يأمر قومه بالمسير وكلهم جريح فقال‪ :‬إن رسول ال يأمركم أن تطلبوا عدوكم‪ .‬فقال أسيد‬
‫بن حضير – وبه سبعه جراحات يريد أن يداويها – سمعا وطاعة ل ولرسوله‪ ،‬وأخذ سلحه‬
‫ولم يعرج على دواء‪ ،‬ول حق بر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ .‬وجاء سعد بن عبادة قو مع‪،‬‬

‫‪237‬‬
‫وجاء أبو قتادة الى طائفة فبادروا جميعا‪ ،‬وخرج من بني سلمة أربعون جريحا – بالطفيل بن‬
‫النعمان ثلثـة عشـر جرحا‪ ،‬وبالحارث بـن الصـمة عشـر جراحات – حتـى وافوا رسـول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال لما رآهم‪" :‬اللهم ارحم بني سلمة"[‪ .]12‬وهكذا كان صحابة رسول‬
‫ال وهذا نموذج من جهادهم في سبيل اعلء كلمة ال‪ ،‬فهل يستكثر المسلم إذا أتعب نفسه قليل‬
‫في الدعوة الى ال ون شر محا سن ال سلم وتعل يم الناس مكارم الخلق؟ ال ي ستحي من نف سه‬
‫إذا استكثر الجهد البسيط الذي يبذله في الدعوة الى ال‪ ،‬وصحابة رسول ال يخرجون جرحى‬
‫للقتال وهم يقولون‪ :‬سمعا وطاعة ل ولرسوله‪.‬‬

‫تعليل تكليف المسلم بالدعوة الى ال‬


‫‪ -388‬ذكر نا في الفقرات ال سابقة الدلة الشرع ية على وجوب الدعوة الى ال على كل م سلم‬
‫ومسلمة‪ .‬ومعنى ذلك أن السلم ل يكتفي من المسلم بأن يكون في نفسه صالحا مهتديا‪ ،‬وإنما‬
‫يريد منه أن يكون مصلحا وهاديا لغيره‪ ،‬فما تعليل ذلك؟ تعليل ذلك من وجوه‪:‬‬
‫الوجه الول – إن ال تعالى أرسل رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم إلى الناس جميعا {قل يا‬
‫أي ها الناس إ ني ر سول ال إلي كم جميعا} سورة العراف ال ية‪ ،158 :‬ور سالته عل يه ال صلة‬
‫وال سلم باق ية إلى يوم الد ين‪ .‬ومق صدها هدا ية الخلق أجمع ين ليفوزوا بال سعادة في الدار ين‪،‬‬
‫ولهذا كا نت ر سالته رح مة للعالم ين {و ما أر سلناك إل رح مة للعالم ين} سورة ال نبياء ال ية‪:‬‬
‫‪ ،107‬و قد بلّغ عل يه ال صلة وال سلم ر سالة ر به وم ضى إلى جواره الكر يم راضيا مرضيا‪،‬‬
‫فكان ل بد للمسلمين من النهوض من بعده وتبليغ دعوة السلم إلى أهل الرض ليهدوهم بها‬
‫ويخرجوهـم مـن الظلمات إلى النور‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬الر‪ .‬كتاب أنزلناه إليـك لتخرج الناس مـن‬
‫الظلمات إلى النور باذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} سورة ابراهيم الية‪.1 :‬‬
‫ف هم شهداء ال على خل قه ومبل غو ر سالته إلي هم ب عد نبيهم {وكذلك جعلنا كم أ مة و سطا لتكونوا‬
‫شهداء على الناس ويكون الرسـول عليكـم شهيدا} سـورة البقرة اليـة‪ .143 :‬إن قيام المسـلم‬
‫بالدعوة إلى ال يؤدي أعظم نفع وعون لعباد ال‪ ،‬لنه يمد إليهم يدا كريمة تنقذهم مما هم فيه‬
‫من ر جس الشرك والوثن ية‪ ،‬ويضع هم على صراط ال الم ستقيم‪ ،‬فيؤدون حق رب هم علي هم‪،‬‬
‫ويحققون الغا ية ال تي من أجل ها خلقوا {و ما خل قت ال جن وال نس إل ليعبدون} سورة الذاريات‬
‫الية‪.56 :‬‬
‫الو جه الثا ني – إن بقاء الشرك والك فر في الرض يؤ ثر عاجل أو آجل على معا ني ال سلم‬
‫القائمة في أي جانب من جوانب الرض‪ ،‬ولهذا يمنع السلم المسلم من البقاء في ديار الكفر‬
‫ويأمره بالتحول الى ديار السـلم لئل يفتتـن فـي دينـه أو يمرض قلبـه أو يسـلب إيمانـه‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬إن الذيـن توفاهـم الملئكـة ظالمـي أنفسـهم قالوا فيـم كنتـم؟ قالوا كنـا مسـتضعفين فـي‬

‫‪238‬‬
‫الرض‪ ،‬قالوا ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها‪ ،‬فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}‬
‫سورة الن ساء ال ية‪ .97 :‬وقال أ هل التف سير في هذه ال ية‪ :‬إن ها نزلت " في كل من أقام ب ين‬
‫ظهرانـي المشركيـن وهـو قادر على الهجرة وليـس متمكنـا مـن اقامـة الديـن فهـو ظالم لنفسـه‬
‫مرت كب حراما بالجماع"[‪ ]13‬وقال المام مالك "ته جر الرض ال تي ي صنع في ها المن كر جهرا‬
‫ول يسـتتر فيهـا"[‪ .]14‬وعلى هذا فقيام المسـلم بدعوة أهـل الشرك والكفـر إلى ال وإلى دينـه‪،‬‬
‫يفيده ويقيه شرور الكفر‪.‬‬
‫الو جه الثالث – د فع الهلك والعذاب عن الم سلمين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬واتقوا فت نة ل ت صيبن الذ ين‬
‫ظلموا منكـم خاصـة واعلموا أن ال شديـد العقاب} سـورة النفال اليـة‪ .25 :‬قال ابـن عباس‬
‫ر ضي ال عنه ما‪ :‬أ مر ال المؤمن ين أل يقروا المن كر ب ين أظهر هم فيعم هم العذاب أي ي صيب‬
‫الصالح والطالح‪ .‬وفي مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا‬
‫رسول ال أنهلك وفينا الصالحون؟ قال‪" :‬نعم إذا كثر الخبث"[‪.]15‬‬

‫الدعوة الى ال بقدر حال الداعي وقدرته‬


‫‪ -389‬وإذ تبين ان الدعوة إلى ال وا جب على كل م سلم‪ ،‬فان هذا الوا جب يتحدد بقدر حال‬
‫الدا عي وقدر ته‪ ،‬لن القدرة هي مناط الوجوب وقدره‪ ،‬ف من ل يقدر ل ي جب عل يه‪ ،‬و من يقدر‬
‫فالوجوب عل يه بقدر قدر ته‪ ،‬ويد خل في مفهوم القدرة العلم وال سلطان‪ .‬في جب على العالم ما ل‬
‫يجب على الجاهل‪ ،‬ويجب على ذي السلطان ما ل يجب على غيره من آحاد المسلمين‪ .‬ولهذا‬
‫فان ال سـبحانه وتعالى خـص بالنذار والوعيـد أهـل العلم وحذرهـم مـن كتمان الحـق الذي‬
‫عرفوه‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في‬
‫الكتاب أولئك يلعن هم ال ويلعن هم اللعنون إل الذ ين تابوا وأ صلحوا وبينوا فأولئك أتوب علي هم‬
‫وأ نا التواب الرح يم} سورة البقرة اليتان‪ 159 :‬و ‪ .160‬فأو جب ال تعالى على أ هل العلم أن‬
‫يـبينوا للناس مـا علموا مـن معانـي السـلم‪ ،‬وأن ينشروهـا بيـن الناس لينقذوهـم مـن أوضار‬
‫الشرك‪ .‬و كل من عرف شيئا من معا ني ال سلم ف هو عالم بهذا الش يء وعل يه تبلي غه إلى من‬
‫يجهله فليس العلم شيئا واحدا ل يتجزا ول يتبعض‪ ،‬وإنما هو قابل للتجزئة‪ ،‬وكل مسلم يعلم أنه‬
‫ل إله إل ال وان محمدا رسول ال وان الحساب في يوم القيامة حق وان القرآن كلم ال حق‪،‬‬
‫وان محمدا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وان الصلة والصيام والحج والزكاة من فرائض‬
‫السـلم‪ ،‬فعليـه أن يبلغ ما عل مه‪ ،‬أ ما يجهله فل يكلف بتبليغـه ول تعليمـه ل نه يجهله‪ ،‬وفاقـد‬
‫الشيء ل يعطيه‪.‬‬
‫والنوع الثاني من القدرة‪ ،‬وهو السلطان والتمكين في الرض‪ ،‬فقد أشار القرآن الكريم إلى هذا‬
‫النوع واوجب على اصحابه أن يستعملوا ما وهبه ال لهم من تمكين وسلطان في نشر الدعوة‬

‫‪239‬‬
‫إلى ال تعالى واعمار الرض بفضائل العمال وبعبادة ال تبارك وتعالى‪ ،‬قال عــز وجــل‬
‫{الذين إن مكناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‬
‫ول عاقبة المور} سورة الحج الية‪ ،41 :‬وقد قال أهل التفسير في المراد من أهل التمكين في‬
‫الرض‪ :‬إنهم الولة‪ ،‬ومنهم من أدخل فيهم العلماء[‪ ،]16‬والول أظهر‪ ،‬وعلى هذا فمن اتاه ال‬
‫تعالى الملك والسـلطان فعليـه أن يعمـر الرض بعبادة ال وعلى رأسـها الصـلة ويأمـر‬
‫بالمعروف وين هى عن المن كر‪ ،‬وعلى رأس المعروف الدعوة إلى ال‪ ،‬وعلى رأس الن هي عن‬
‫المنكر النهي عن الشرك بجميع أنواعه وأشكاله‪ ،‬وهذا هو مقصود الولية‪ ،‬قال شيخ السلم‬
‫ابن تيمية‪" :‬انما نصب المام ليأمر بالمعروف‪ ،‬وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولية"[‬
‫‪ .]17‬وقـد فقـه هذا المعنـى ولة المـر فـي الماضـي‪ ،‬فاسـتعملوا سـلطانهم فـي اقامـة ديـن ال‬
‫والدعوة اليه‪ .‬ك تب عمر بن عبد العزيز إلى عماله في القاليم كتابا جاء فيه "وان من طا عة‬
‫ال التي أنزل في كتابه أن يدعو الناس إلى السلم كافة‪ ..‬فادع إلى السلم وأمر به‪ ،‬فان ال‬
‫تعالى قال‪{ :‬ومن أح سن قول م من د عا إلى ال وع مل صالحا وقال إنني من المسلمين}[‪.]18‬‬
‫والحقيقة أن قيام ولي المر بواجب الدعوة إلى ال يؤدي إلى نتائج كبيرة جدا ومؤثرة جدا لنه‬
‫يملك القوة وال سلطان وبيده ال مر والن هي م ما يجعله قادرا على التنف يذ أك ثر من أي وا حد من‬
‫آحاد الرع ية‪ ،‬ولهذا جاء في ال ثر المشهور "أن ال يزع بال سلطان ما ل يزع بالقرآن"‪ .‬وبقدر‬
‫قدرة المسلم على الدعوة والتنفيذ يكون واجبة في الدعوة إلى ال ومسؤوليته عن ذلك‪.‬‬

‫الداعي يدعو إلى ال في كل وقت وفي جميع أحواله وظروفه‬


‫‪ -390‬قلنا‪ :‬إن الدعوة إلى ال واجب على المسلم فهو يؤديه بهذا العتبار‪ ...‬وواجب الدعوة‬
‫إلى ال ليس له وقت محدد كال صلة والصيام‪ ،‬ولهذا فان هذا الوا جب يؤد يه المسلم في جم يع‬
‫الحوال والظروف وفي كل وقت يتيسر له فيد اداؤه‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلم‬
‫{قال ر بي إ ني دعوت قو مي ليلً ونهارا‪ ...‬ثم إ ني أعل نت ل هم وأ سررت ل هم إ سرارا} سورة‬
‫نوح اليـة‪ ،9 ،5 :‬وكذلك كان رسـولنا محمـد صـلى ال عليـه وسـلم (يدعـو قومـه ليل ونهارا‬
‫وسـرا وجهارا ولم يشغله شيـء عـن الدعوة إلى ال تعالى)[‪ .]19‬والواقـع أن الداعـي إذا كان‬
‫صادقا في دعوته منشغلً بها ل يفكر إل فيها ول يتحرك إل من أجلها ول يبخل عليها بشيء‬
‫من جهده ووق ته‪ ،‬لم يشغله عن ها شا غل أبدا ح تى في أحرج ال ساعات وأض يق الحالت وأدق‬
‫الظروف‪ ،‬وهكذا كان رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فعندما هاجر الى المدينة ومعه أبو‬
‫بكر الصديق رضي ال عنه لقي في طريق بريدة بن الحصيب السلمي في ركب من قومه‬
‫في ما ب ين م كة والمدي نة‪ ،‬فدعا هم إلى ال سلم فأ سلموا[‪ .]20‬وهذا يدل على ا نه عل يه ال صلة‬
‫والسلم لم يغفل عن الدعوة إلى ال حتى وهو في طريقه مهاجرا إلى المدينة والقوم يطلبونه‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫ويو سف عل يه ال سلم عند ما د خل ال سجن مظلوما لم يشغله ال سجن وضي قه عن وا جب الدعوة‬
‫إلى ال ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها‪ ،‬فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا‬
‫ال به {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم ال الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إل‬
‫أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل ال بها من سلطان‪ ،‬إن الحكم إل ل أمر أل تعبدوا إل‬
‫إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس ل يعلمون} سورة يوسف الية‪ .40 ،39 :‬المطلوب من‬
‫الداعي أن يدعو إلى ال وليس المطلوب منه أن يستجيب الناس‪.‬‬
‫‪ -391‬المطلوب من الدا عي أن يد عو إلى ال‪ ،‬وهذا هو الوا جب عل يه‪ ،‬ول يس المطلوب م نه‬
‫أن يسـتجيب الناس‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومـا على الرسـول إل البلغ المـبين} سـورة العنكبوت اليـة‪:‬‬
‫‪ ،18‬فاذا كان الرسـول غيـر مكلف إل بالتبليـغ فغيره مـن احاد المـة أولى أن ل يكلف بغيـر‬
‫التبليغ‪ .‬وتعليل ذلك من وجهين‪ :‬الول‪ :‬أن القاعدة الًصولية تقول‪ :‬إن النسان ل يكلف بفعل‬
‫غيره أي ل يكلف أن يفعل غيره فعل معينا أو يترك فعلً معينا‪ ،‬لن هذا من قبيل تكليف ما ل‬
‫يطاق‪ ،‬وانمـا يكلف النسـان أن يفعـل هـو فعل معينا يتعلق بغيره وقـد يحمله على الفعـل‪،‬‬
‫كالدعوة إلى ال‪ ،‬وكالمـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬فالمسـلم مطالب ومكلف بأن يأمـر‬
‫بالمعروف‪ ،‬وقـد يسـتجيب المأمور فيكون أمـر المـر سـببا لفعـل المأمور وقـد ل يسـتجيب‬
‫المأمور‪ ،‬ولهذا مدح ال تعالى أ حد أ نبيائه بأ نه {وكان يأ مر أهله بال صلة} سورة مر يم ال ية‪:‬‬
‫‪ ،55‬فالذي يمل كه الم سلم ويكلف به أن يأ مر غيره بالمعروف ويدعوه إلى عبادة ال ول يكلف‬
‫بأن يف عل الغ ير فعل معينا‪ .‬الو جه الثانـي‪ :‬إن ال ستجابة والهدا ية ب يد ال وحده‪ ،‬ف هو الهادي‬
‫{كذلك يضـل ال مـن يشاء ويهدي مـن يشاء‪ }...‬سـورة المدثـر اليـة‪ ،31 :‬ول الحجـة على‬
‫عباده‪ ،‬ولو شاء لهدا هم أجمع ين‪ ،‬ل ي سأل ع ما يف عل و هم ي سألون‪ .‬أ ما هدا ية التبل يغ والبيان‬
‫والدعوة ف هي للر سل ول سائر الدعاة‪ ،‬ف هم المكلفون ب ها‪ ،‬قال تعالى لر سوله الكر يم صلى ال‬
‫عل يه و سلم‪{ :‬وا نك لتهدي إلى صراط م ستقيم} سورة الشورى ال ية‪ ،52 :‬مع قوله في آ ية‬
‫أخرى {إنك ل تهدي من أحببت ولكن ال يهدي من يشاء} سورة القصص الية‪.56 :‬‬

‫الستمرار على الدعوة إلى ال وان لم يستجب أحد‬


‫‪ -392‬وإذا كان المطلوب من الم سلم أن يد عو إلى ال ول يس المطلوب م نه أن يهدي الناس‪،‬‬
‫فعل يه أن ي ستمر على الدعوة بل كلل ول ملل ول فتور لن واج به البلغ وال تبيين وهذا متعلق‬
‫به فعل يه أن يؤد يه ك ما يؤدي سائر العبادات‪ ،‬وان لم ي ستجب له أ حد‪ ،‬أل ترى أن نوحا عل يه‬
‫السلم لبث في قومه يدعوهم إلى ال الف سنة إل خمسين عاما؟‬
‫وهكذا كان رسل ال يدعون أقوامهم مدة حياتهم فمنهم من استجاب له قومه أو بعضهم ومنهم‬
‫من لم ي ستجب له أ حد‪ .‬وقال المام النووي‪" :‬ل ي سقط عن المكلف ال مر بالمعروف والن هي‬

‫‪241‬‬
‫عن المنكر لكونه ل يفيد في ظنه بل يجب عليه فعله فان الذكرى تنفع المؤمنين فإن الذي عليه‬
‫المـر والنهـي ل القبول"[‪ ]21‬ووجـه الدللة بهذا القول ان الدعوة الى ال فـي رأس المـر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر فيسري عليها معنى هذا القول‪ .‬وبهذا المعنى قال السيوطي في‬
‫اشباهـه[‪ .]22‬وممـا يؤكـد وجوب السـتمرار على الدعوة إلى ال حرمـة اليأس‪ ،‬واحتمال‬
‫الجا بة‪ ،‬لن المور ب يد ال وقلوب العباد ب ين أ صبعين من أ صابع الرح من يقلب ها ك يف يشاء‬
‫فل ي ستطيع الدا عي أن يق طع بعدم الجا بة في جب عل يه ال ستمرار بالدعوة والو عظ والرشاد‬
‫حتى يقضي ال أمرا كان مفعولً‪.‬‬

‫أجر الداعي على ال ل على العباد‬


‫‪ -393‬الداعـي إلى ال يؤدي واجبا ويقوم بعبادة امتثال لمـر ال‪ ،‬والجـر على العبادة يناله‬
‫العا بد من الرب الجل يل تفضل م نه واح سانا وعلى هذا فل يطلب الدا عي من أ حد من الخلق‬
‫أجرا على دعوته ول مال ول ثناء ول جاها ول أي عوض من العواض المادية أو المعنوية‬
‫قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلم‪{ :‬فان توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إل على ال‬
‫وأمرت أن أكون من المسلمين} سورة يونس الية‪ ،72 :‬وقال عن نبينا صلى ال عليه وسلم‬
‫{ قل ل أ سألكم عل يه أجرا إل المودة في القر بي} سورة الشورى ال ية‪ ،23 :‬أي ال أن ترعوا‬
‫قراب تي مع كم فت سمحوا لي بالدعوة إلى ال تعالى ول تمنعو ني من ها ول ت صدوا الناس عن ها‪.‬‬
‫ـم جزاء ول شكورا لن‬
‫ـل ال‪ .‬يدعون الناس إلى ال ول يبغون منهـ‬
‫ـع رسـ‬
‫وهكذا شأن جميـ‬
‫أجر هم على ال الكر يم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وجاء من أق صى المدي نة ر جل ي سعى قال يا قوم اتبعوا‬
‫المرسلين اتبعوا من ل يسألكم أجرا وهم مهتدون} سورة ياسين الية‪.21 :‬‬

‫مكانة الداعي في السلم‬


‫‪ -394‬مكانة الداعي إلى ال في السلم مكانة عظيمة جدا‪ .‬فقوله في الدعوة إلى ال أح سن‬
‫القوال في ميزان ال و هو أ صدق المواز ين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬و من أح سن قول م من د عا إلى ال‬
‫وع مل صالحا وقال إن ني من الم سلمين} سورة ف صلت ال ية‪ ،33 :‬وهذه ال ية ك ما قال أ هل‬
‫التف سير‪ ،‬عا مة في من د عا إلى ال و هو في نف سه مه تد يع مل الخ ير ويؤدي الفرائض ويجت نب‬
‫المحارم[‪ .]23‬ان كلم ته فـي الدعوة إلى ال – ل سـيما ع ند الجحود وشيوع التمرد على ال –‬
‫هي أحسن كلمة تقال في الرض وصاحبها بهذه الصفة من الصلح في نفسه مع استسلمه ل‬
‫رب العالمين‪ .‬أما أجر الداعي إلى ال فأجر عظيم قال صلى ال عليه وسلم "من دعا إلى هدى‬
‫كان له من ال جر م ثل أجور من تب عه ل ين قص ذلك من أجور هم شيئا" و في حد يث آ خر أن‬

‫‪242‬‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم قال لعلي رضي ال عنه "فوال لن يهدي ال بك رجل واحدا خير‬
‫لك من حمر النعم" وفي حديث آخر "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"‪.‬‬

‫[‪ ]1‬تفسير القرطبي ج ‪ 4‬ص ‪.47‬‬


‫[‪ ]2‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.196 – 195‬‬
‫[‪ ]3‬صحيح البخاري ج ‪ 1‬ص ‪.63 – 62‬‬
‫[‪ ]4‬تفسير الرازي ج ‪ 7‬ص ‪.178 – 177‬‬
‫[‪ ]5‬أحكام القرآن للجصاص ج ‪ 2‬ص ‪ ،29‬وتفسير القرطبي ج ‪ 4‬ص ‪.165‬‬
‫[‪ ]6‬الرازي ج ‪ 7‬ص ‪.177‬‬
‫[‪ ]7‬الجصاص ج ‪ 2‬ص ‪.29‬‬
‫[‪ ]8‬قال الشيخ عبدال دراز بصدد تفسير هذه الية‪ :‬ومعنى توجه الطلب على الجميع أن‬
‫ينهضوهم لذلك ويعدوهم له ويعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق هذا المهم من المصلحة فان لم‬
‫يحصل هذا المهم من المصلحة أثم جميع المتكلفين المتأهل وغيره‪ ،‬الموافقات للشاطبي ج ‪1‬‬
‫ص ‪.176‬‬
‫[‪ ]9‬نيل المرام من تفسير آيات الحكام للسيد محمد صديق حسن خان ص ‪ ،251‬الجصاص‬
‫ج ‪ 2‬ص ‪.31‬‬
‫[‪ ]10‬الحسبة لبن تيمية‪ ،‬في مجموعة رسائله‪ ،‬ص ‪.275‬‬
‫[‪ ]11‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.257‬‬
‫[‪ ]12‬امتاع السماع للمقريزي ص ‪.167‬‬
‫[‪ ]13‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.542‬‬
‫[‪ ]14‬تفسير القرطبي ج ‪ 2‬ص ‪.391‬‬
‫[‪ ]15‬القرطبي ج ‪ 1‬ص ‪.390‬‬
‫[‪ ]16‬القرطبي ج ‪ 12‬ص ‪.73‬‬
‫[‪ ]17‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.77‬‬
‫[‪ ]18‬سورة فصلت الية‪ ،33 :‬عمر بن عبد العزيز تأليف عبدال بن عبد الحكم ص ‪.94‬‬
‫[‪ ]19‬امتاع السماع للمقريزي ص ‪.18‬‬
‫[‪ ]20‬امتاع السماع ص ‪.42‬‬
‫[‪ ]21‬شرح صحيح مسلم للنووي ج ‪ 2‬ص ‪.22‬‬
‫[‪ ]22‬الشباه والنظائر للسيوطي ص ‪.307‬‬

‫‪243‬‬
‫[‪ ]23‬تفسير ابن كثير ج ‪ 4‬ص ‪.100‬‬

‫عدّة الدّاعي ‪ -‬تمهيد‬


‫الفصل الثاني ‪ُ -‬‬

‫تمهيد‬
‫‪ -379‬يحتاج الداعي إلى ال في اداء مهمته ووظيفته‪ ،‬التي هي في الصل وظيفة رسل ال‪،‬‬
‫إلى عدة قوية من الفهم الدقيق واليمان العميق والتصال الوثيق بال تعالى‪ .‬هذه هي مقومات‬
‫عدة الداعي وأركانها وإذا فقدها لم يغن عنها شيء آخر وإذا ضعفت معانيها في نفسه فعليه أن‬
‫يقويها‪ ،‬فل بد من الكلم عنها بما يبين المقصود منها في أبحاث متتالية‪.‬‬

‫عدّة الدّاعي ‪ -‬المبحث الول ‪ -‬الفهم الدقيق‬


‫الثاني ‪ُ -‬‬

‫العلم قبل العمل‬


‫‪ -379‬العلم ق بل الع مل قال تعالى‪{ :‬فاعلم أ نه ل إله إل ال وا ستغفر لذن بك‪ }..‬سورة مح مد‬
‫الية‪ ،19 :‬فقدم العلم على العمل‪ .‬والواقع أن تقديم العلم على أي عمل ضروري للعامل حتى‬
‫يعلم ما يريد ليقصده ويعمل للوصول إليه‪ .‬وإذا كان سبق العلم لي عمل ضروريا‪ ،‬فانه أشد‬
‫ضرورة للداعي إلى ال‪ ،‬لن ما يقوم به من الدين ومنسوب إلى رب العالمين‪ .‬فيجب أن يكون‬
‫الداعـي على بصـيرة وعلم بمـا يدعـو إليـه وبشرعيـة مـا يقوله ويفعله ويتركـه فاذا فقـد العلم‬
‫المطلوب واللزم له كان جاهل بمـا يريده ووقـع فـي الخبـط والخلط والقول على ال ورسـوله‬
‫بغ ير علم فيكون ضرره أك ثر من نف عه واف ساده أك ثر من ا صلحه‪ ،‬و قد يأ مر بالمن كر وين هى‬
‫عن المعروف لجهله بما أحله الشرع وأوجبه وبما منعه وحرمه‪ .‬فيجب إذن لكل داع إلى ال‬
‫تعالى‪ :‬العلم بشرع ال وبالحلل والحرام وبما يجوز وما ل يجوز وبما يسوغ فيه الجتهاد وما‬
‫ل ي سوغ‪ ،‬و ما يحت مل وجه ين أو أك ثر و ما ل يحت مل‪ .‬والعلم ما قام عل يه الدل يل الشر عي من‬
‫كتاب ال أوسـنة رسـوله أو مـن أدلة الشرع الخرى‪ .‬وعلى المسـلم أن يسـتزيد مـن هذا العلم‬
‫الشرعي النافع ليعرف موضوع دعوته وليكون فيها على بصيرة وبينة فل يأمر إل بحق ول‬
‫ينهى إل عن باطل‪.‬‬

‫فضل العلم‬
‫‪ -380‬وف ضل العلم وأهله معروف غ ير منكور ن طق به القرآن الكر يم ور فع شأ نه وأكد ته‬
‫السنة النبوية وأمر ال بالتزود منه وطلب المزيد منه قال تعالى‪{ :‬وقل ربي زدني علما} سورة‬
‫طه الية‪{ ،114 :‬يرفع ال الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} سورة المجادلة الية‪:‬‬

‫‪244‬‬
‫‪ ،11‬و في ال سنة النبو ية " من يرد ال به خيرا يفق هه في الد ين" وا ستشهد ال تعالى بأ هل العلم‬
‫على أجل مشهود به وهو توحيد ال وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملئكة وهذه تزكية لهم‬
‫وتعديـل وتوثيـق لن ال تعالى ل يسـتشهد بمجروح قال تعالى‪{ :‬شهـد ال أنـه ل إله إل هـو‬
‫والملئكة وأولوا العلم قائما بالقسط ل إله إل هو العزيز الحكيم} سورة آل عمران الية‪.18 :‬‬
‫وأهـل العلم ل ينفعون أنفسـهم فقـط وإنمـا ينفعون غيرهـم بمـا يرشدونهـم إليـه ويدلونهـم عليـه‬
‫يوصـلونهم بـه إلى ربهـم‪ ،‬فالناس كمـا قال المام أحمـد بـن حنبـل رحمـه ال تعالى‪ :‬إلى العلم‬
‫أحوج منهم إلى الطعام والشراب لنهم يحتاجون اليهما في اليوم مرة أو مرتين‪ ،‬وحاجتهم إلى‬
‫العلم بعدد أنفاسـهم‪ ،‬ومـن أجـل هذا كله كان طلب العلم أفضـل مـن صـلة النافلة‪ ،‬وبهذا قال‬
‫الشاف عي وأ بو حني فة ومالك وغير هم من أئ مة الم سلمين‪ ،‬وجاءت ال سنة النبو ية بالبشارة ل هم‪،‬‬
‫ففيهـا‪" :‬ان العالم ليسـتغفر له مـن فـي السـماوات ومـن فـي الرض‪ ،‬وان ال تعالى وملئكتـه‬
‫يصـلون على معلمـي الناس الخيـر"[‪ ]1‬فعلى الداعـي المسـلم أن يحرص أن يكون دائما مـن‬
‫المتفقهين في الدين‪ ،‬العلماء بأحكامه المعلمين للناس الخير حتى يصيبه ما نطقت به هذه اليات‬
‫والحاديث‪.‬‬

‫الفهم الدقيق‬
‫‪ -381‬ومن العلم العزيز النادر الذي يغفل عنه الكثيرون مع دللة القرآن عليه وتصريحه به‬
‫والدعوة اليه‪ ،‬علم طريق الخرة الذي يهيج القلب ويزعجه ويدفعه إلى سلوكه‪ ،‬ويشعر صاحبه‬
‫بغربته في الدنيا وقرب رحيله عنها إلى سفر بعيد ل يرجع بعده إلى دنياه ول ينفع فيه زاد إل‬
‫التقوى ولذلك فهو دائما مشغول بإعداد هذا الزاد {وتزودوا فان خير الزاد التقوى} سورة البقرة‬
‫الية‪ ،197 :‬متطلعا إلى ما هناك‪ ،‬إلى ما يؤول إليه أمره بعد سفره البعيد‪ ،‬أيكون مصيره إلى‬
‫نار جه نم‪ ،‬و في ذلك شقاؤه العظ يم‪ ،‬أم يكون م صيره في دار النع يم بجوار الرب الكر يم؟ ا نه‬
‫لهذه العاقبـة المجهولة‪ ،‬يكون دائما بيـن الخوف والرجاء‪ ،‬ولكنـه خوف العارف ل الجاهـل‬
‫ورجاء العامـل ل الخامـل‪ ...‬ان هذا العلم هـو الذي قلّ وجوده بيـن الناس وبيـن طلب العلم‪،‬‬
‫وبدونـه ل يعتـبر العالم عالما وان حفـظ الشروح والمتون والحكام ومل رأسـه منهـا ورددهـا‬
‫على لسانه‪ ..‬ان هذا العلم هو لب العلم وغايته وكل مسلم محتاج إليه والعالم أشد حاجة إليه‪،‬‬
‫والداعي أحوج من الجميع إليه‪ ...‬ان هذا العلم هو الذي نسميه "الفهم الدقيق" وهو الذي فقهه‬
‫الصحابة الكرام وأشربت به عقولهم وقلوبهم فضنوا بوقتهم أن يذهب سدى في غير طاعة ال‬
‫ودعوة إل يه‪ ،‬فنش طت جوارح هم في العبادة والجهاد في سبيل ال والدعوة إل يه ح تى أتا هم من‬
‫ربهم اليقين‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫الفهم الدقيق يقوم على تدبر معاني القرآن‬
‫‪ -382‬ويقوم الفهـم الدقيـق على تدبر معانـي القرآن وإطالة النظـر فيهـا وترديدهـا والوقوف‬
‫عندها والتغلغل في مراميها ومقاصدها‪ ،‬فان ال تعالى أنزل كتابه ليتدبر الناس آياته ل لمجرد‬
‫أن يتلوه بل فهـم ول تدبر‪ .‬قال تعالى‪{ :‬كتاب أنزلناه إليـك مبارك ليدبروا آياتـه ولتذكـر أولوا‬
‫اللباب} سورة ص الية‪ ،29 :‬وقال تعالى‪{ :‬أفل يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} سورة‬
‫محمد الية‪ ،24 :‬ان تلوة القرآن بتدبر وامعان تعرف المسلم بالرب الذي يدعو إليه‪ ،‬وطريق‬
‫الوصول إليه‪ ،‬وما للمستجيب من الكرامة إذا قدم عليه‪ ،‬وتعرفه في مقابل ذلك ثلثة أخرى‪ :‬ما‬
‫يدعو إليه الشيطان وحزبه‪ ،‬والطريق الموصلة إليه‪ ،‬وما للمستجيب لدعوة الشيطان من الهانة‬
‫والعذاب‪ .‬ان هذه المعر فة ضرور ية للدا عي إذ ب ها تجعله كأ نه في الخرة وان كان هو في‬
‫الدنيا وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه الناس فتريه الحق حقا والباطل باطلً‬
‫وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلل والغي والرشاد وتعطيه قوة في قلبه وحياة‬
‫وسـعة وانشراحا وبهجـة وسـرورا وتعلقا بالخرة وعزوفا عـن الدنيـا‪ ،‬فيصـير هـو فـي شأن‬
‫والناس في شأن آخر[‪.]2‬‬

‫أركان الفهم الدقيق‬


‫‪ -383‬معاني الفهم الدقيق التي تكون دعائمه وأركانه كثيرة‪ ،‬وأهمها في نظرنا اثنان‪ :‬الول‪:‬‬
‫فهم الداعي غايته في الحياة ومركزه بين البشر‪ .‬الثاني‪ :‬تجافيه عن دار الغرور وتعلقه بالخرة‬
‫فلنبين المقصود من هذين الركنين‪.‬‬

‫معرفة الداعي غايته في الحياة ومركزه بين الناس‬


‫‪ -384‬ما هي غاية النسان في الحياة؟ وهل وراء هذه الغاية غاية أخرى؟‬
‫أجاب نا القرآن الكر يم على هذا الت ساؤل فج عل الناس صنفين‪ :‬ال صنف الول‪ :‬يجعلون غايت هم‬
‫ال كل والشرب والتم تع بملذ الج سد ول يس وراء هذه الغا ية عند هم غا ية أخرى‪ ،‬ف هم يهتبلون‬
‫فرص العمر وايامه ليتمتعوا ما وسعهم التمتع‪ ،‬فما بعد هذه الحياة في نظرهم الكليل وقلوبهم‬
‫الميتـة إل العدم والفناء وهؤلء شـر الخلق‪ ،‬واشقاهـم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬والذيـن كفروا يتمتعون‬
‫ويأكلون ك ما تأ كل النعام والنار مثوى ل هم} سورة مح مد ال ية‪ ،12 ":‬ف هم صاروا كالدواب‬
‫والبهائم ل يختلفون عنهـا إل فـي الصـورة والشكـل وإل فـي دخول النار‪ .‬تلك هـي غايـة هذا‬
‫الصنف اما مركزهم بين الناس‪ ،‬فهو مركز الضلل والفساد ومآلهم جميعا دخول النار قال‬
‫تعالى‪{ :‬أولئك يدعون إلى النار‪ ،‬وال يد عو إلى الج نة والمغفرة بإذ نه و يبين آيا ته للناس لعل هم‬
‫يتذكرون} سورة البقرة الية‪.221 :‬‬

‫‪246‬‬
‫ال صنف الثا ني‪ :‬و هم الذ ين عرفوا الحقي قة والغا ية‪ ،‬عرفوا أن هم خلقوا ل لعباد ته‪ ،‬وان هم إل يه‬
‫راجعون‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬و ما خل قت ال جن وال نس إل ليعبدون} سورة الذاريات ال ية‪ { ،56 :‬يا‬
‫أي ها الن سان إ نك كادح الى ر بك كدحا فملق يه} سورة النشقاق ال ية‪ ،6 :‬فغايت هم عبادة ال‬
‫وحده ومن ها الجهاد في سبيله والدعوة إل يه وعمارة الرض بف عل الخ ير وهدا ية الحيارى إلى‬
‫الحق وقيادتهم في دروب الحياة‪ ،‬تلك غايتهم في الحياة الدنيا‪ ،‬ووراؤها الغاية العظمى والعليا‪:‬‬
‫وهـي ابتغاء مرضاة ال وحده جـل جلله‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يـا أيهـا الذيـن آمنوا اركعوا واسـجدوا‬
‫واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون‪ .‬وجاهدوا في ال حق جهاده‪ ،‬هو اجتباكم وما جعل‬
‫علي كم في الد ين من حرج ملة أبي كم ابراه يم هو سماكم الم سلمين من ق بل و في هذا ليكون‬
‫الر سول شهيدا علي كم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا ال صلة وآتوا الزكاة واعت صموا بال‬
‫هو مول كم فن عم المولى ون عم الن صير} سورة ال حج ال ية‪ ،78 – 77 :‬هذه مه مة الم سلم في‬
‫الحياة وغاي ته في ها‪ ،‬عبادة ال وحده وجهاد في سبيله‪ :‬يجا هد نف سه ح تى يحمل ها على الطا عة‬
‫ويبعدهـا عـن المعصـية‪ ،‬ويجاهـد بقلمـه ولسـانه وماله ويده فـي سـبيل ال حتـى تعلو كلمةال‬
‫ويستنير البشر بنور السلم‪ .‬وقد اختار ال تعالى المسلمين لهذه المهمة الخطيرة‪ ،‬مهمة هداية‬
‫الناس وقيادتهـم للحـق واخراجهـم مـن الظلمات إلى النور‪ ،‬فل مجال للتخلي عـن هذه المهمـة‬
‫الشري فة وهذه المكر مة العظي مة ال تي أكرم ال ب ها الم سلمين‪ ،‬بل علي هم أن يقابلو ها بالر ضى‬
‫والنهوض بها وشكر ال عليها‪.‬‬

‫التجافي عن دار الغرور والتعلق بالخرة‬


‫‪ -385‬ل شيـء أفسـد للقلب مـن التعلق بالدنيـا والركون إِليهـا وإيثارهـا على الخرة فان هذا‬
‫الفساد يقعد للمسلم عن التطلع إلى الخرة والعمل لها‪ ،‬وإتعاب الجسد في سبيل ال والدعوة إليه‬
‫وهيهات لقلب فا سد مر يض أن يقوى على مهام الدعوة إلى ال‪ .‬إن الدن يا في ها قابل ية الغراء‪،‬‬
‫ولهذا وصفها رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله "ان الدنيا حلوة خضرة وان ال مستخلفكم‬
‫في ها فين ظر ك يف تعملون‪ ،‬فاتقوا الدن يا واتقواالن ساء" وحذر نا ال تعالى من الوقوع في شباك ها‬
‫والتعلق ب ها { يا أي ها الناس إن و عد ال حق فل تغرن كم الحياة الدن يا وال يغرن كم بال الغرور}‬
‫سورة فاطر الية‪ .5 :‬ووجه الغراء في الدنيا والغترار بها أن فيها مباهج وملذات يحس بها‬
‫النسان بجميع حواسه وتهواها نفسه بطبيعتها‪ ،‬وتؤثرها على ما سواها {كل بل تحبون العاجلة‬
‫وتذرون الخرة} سورة القيامة الية‪ ،21-20 :‬فاذا تركت النفس وشأنها زاد تعلقها والتصاقها‬
‫بها حتى تصبح هي كل غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم‬
‫يرد إل الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم} سورة النجم الية‪ .30-29 :‬وإذا ما وصلت النفس‬

‫‪247‬‬
‫إلى هذا الحد فقدت حاسة القبول والعتبار وعند ذاك ل يجدي معها وعظ ول تذكير‪ ،‬وبالتالي‬
‫وبالبداهة ل يصلح صاحب هذه النفس ان يكون داعيا إلى ال‪.‬‬
‫ف ما هو العلج لتخل يص القلب من ا سر الدن يا وتعل قه ب ها؟ العلج في ذلك تي قن زوال الدن يا‬
‫ومفارقتهـا وتيقـن لقاء الخرة وبقاءهـا ثـم يقارن بيـن المريـن فيؤثـر الخرة على الدنيـا‪ .‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} سورة القصص الية‪ ،60 :‬وقال تعالى‪{ :‬قل‬
‫متاع الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى ول تظلمون فتيل} سورة النساء الية‪{ ،77 :‬ما عندكم‬
‫ين فد و ما ع ند ال باق} سورة الن حل ال ية‪ ،96 :‬وان يح ضر في ذه نه هذا الذي تيق نه‪ .‬وهذه‬
‫الغاية واستحضارها في الذهن ل تكفي وحدها بل ل بد من قطع التسويف وطول المل حتى‬
‫يحس بالغربة في هذه الدنيا‪ ،‬وانه قد يرحل عنها في أية ساعة‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬إذا‬
‫أصبحت فل تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فل تحدث نفسك بالصباح‪ "..‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪" :‬ما لي وللدنيا‪ ،‬ما أنا والدنيا إلى كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"‪.‬‬
‫وإذا وسـوس له الشيطان والقـى فـي روعـه أنـه شاب قوي موفور الصـحة والعافيـة‪ ،‬فليطرد‬
‫وسواسه باستحضار الشباب الذين رحلوا وهم الن تحت الثرى‪ ،‬وإذا لج الشيطان في وسوسته‬
‫فليخرج إلى المقابر ويستنطق الراقدين كم فيهم من الشباب الذين شربوا كأس الموت مبكرين‪،‬‬
‫ثم ليرجع إلى محلته وليعد شيوخ وكهول بلده فسيجدهم أقل من عشر رجال بلده‪ ،‬ومعنى ذلك‬
‫أن الموت في الشباب كثير لم ينج منهم إل القليل وهم الكهول الحاضرون‪.‬‬
‫فاذا قصـر أمله فـي الحياة انبعـث إلى التجهـز للخرة بع مل الطاعات‪ :‬إذ ل يدري متـى ينادى‬
‫عليه بالرحيل‪.‬‬
‫فاذا تخلص الداعي المسلم من التعلق بالدنيا وأفرغ ما في قلبه من سمومها واقبل على الخرة‬
‫أ حس بغر بة شديدة في الدن يا ولكن مع خ فة في رو حه واقبال شد يد على مرا ضي ر به وعلى‬
‫رأ سها الدعوة إل يه وهدا ية الحيارى من عباده‪ ،‬ل يعي قه عن ذلك ت عب ول ن صب ول ألم ول‬
‫سـفر ول سـهر ول بذل ول تضحيـة‪ ،‬لن ذلك كله مـن الزاد المؤكـد نفعـه وفائدتـه فـي سـفره‬
‫الطو يل البع يد إلى الخرة‪ ،‬بل ا نه سيجد في تع به را حة‪ ،‬و في أل مه لذة و في بذله ربحا و في‬
‫تضحيته عوضا مضمونا‪ .‬وليس فيما أقوله خيالً أو مبالغة‪ ،‬فإن الغريب عن أهله الذي طالت‬
‫غربته وازداد شوقه إليهم سيجد لذة وهو يعد أسباب سفره إليهم وإن كان في اعداد ذلك تعب‬
‫لجسمه وسهر في ليله ومن جرب عرف‪...‬‬
‫[‪ ]1‬مدراج السالكين لبن قيم الجوزية ص ‪.470 – 469‬‬
‫[‪ ]2‬مدراج السالكين لبن القيم ج ‪ 1‬ص ‪452‬‬

‫‪248‬‬
‫عدّة الدّاعي ‪ -‬المبحث الثاني ‪ -‬اليمان العميق‬
‫الفصل الثاني ‪ُ -‬‬

‫حقيقة اليمان العميق‬


‫‪ -379‬نر يد باليمان العم يق‪ ،‬أن الدا عي الم سلم تي قن بأن ال سلم الذي هداه ال إل يه وأمره‬
‫بالدعوة إليه‪ ،‬حق خالص لنه هدى ال وماعداه باطل وضلل قطعا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قل إن هدى‬
‫ال هوالهدى} سورة البقرة ال ية‪{ ،120 :‬فماذا ب عد ال حق إل الضلل فأ نى ت صرفون} سورة‬
‫يونس الية‪ ،32 :‬وان هذا اليقين بأحقية السلم صار عند الداعي المسلم كالبدهية وكالواحد‬
‫زائد وا حد ي ساوي اثن ين‪ ،‬و من ثم ل تق بل هذه البده ية أي نقاش أوجدال أو شك أو مراج عة‬
‫أوإعادة ن ظر‪ .‬وتي قن أن أي تحول عن هذا اليق ين وم يل إلى غيره يع نى اتباع الهواء الباطلة‬
‫التي فيها الضلل وضياع اليمان قال تعالى‪{ :‬قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون ال‬
‫قـل ل أتبـع أهواءكـم قـد ضللت إذا ومـا أنـا مـن المهتديـن} سـورة النعام اليـة‪ ،56 :‬إن هذا‬
‫اليمان العم يق بأحق ية ال سلم قائم على علم قط عي بيّ نة را سخة ل شك في ها‪ ،‬وان كذب ب ها‬
‫المبطلون الضالون الذين ل يبصرون الحق المنزل من عند ال ل لخفائه ولكن لعمى أبصارهم‬
‫وموت قلوب هم فل يت صور م يل الدا عي الم سلم إلى باطل هم ول يت صور م نه ال شك في دعو ته‪،‬‬
‫كما ل يتصور ارتياب البصير في بصره إذا وجد نفسه بين العميان‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قل إني على‬
‫بي نة من ر بي وكذب تم به‪ ،‬ما عندي ما ت ستعجلون به إن الح كم إل ل ي قص ال حق و هو خ ير‬
‫الفاصلين} سورة النعام الية‪ ،57 :‬وان هذه البينة التي أقام عليها الداعي المسلم ايمانه العميق‬
‫مستمدة من ذات السلم وطبيعته ل من شيء خارج عنه‪ ،‬ولهذا فان ايمانه العميق ينبض به‬
‫كيانه كله ويسري فيه مسرى الدم ول يمكن أن يتأثر أو يضعف أو يزول لي سبب خارجي‬
‫مهما كان نوع وطبيعة هذا السبب الخارجي فهو ليس من الذين قال ال فيهم {ومن الناس من‬
‫يعبد ال على حرف فإن أصابه خي ٌر اطمأن به وإ نْ أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا‬
‫والخرة ذلك هو الخسران المبين} سورة الحج الية‪ ،11 :‬فهذا شأن المنافق أوضعيف اليمان‬
‫المرتاب كما قال عبد الرحمن بنزيد بن اسلم "هو المنافق ان صحلت له دنياه أقام على العبادة‬
‫وإن ف سدت عل يه دنياه وتغيرت انقلب فل يق يم على العبادة إل ل ما صلح من دنياه فإن ا صابته‬
‫فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر"[‪.]1‬‬
‫فايمان الداعـي العميـق ثابـت ل يتزعزع مهمـا صـادفته محنـة أو شدة ومهمـا كانـت حاله مـن‬
‫ض عف وقلة‪ ،‬ومه ما كان حال الكفرة من قوة ومن عة‪ ،‬ح تى لو ب قي وحده في الرض‪ ،‬وهكذا‬
‫كان ايمان صـحابة رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فـي جميـع أحوالهـم يوم كانوا فـي مكـة‬
‫محا صرين يعذب هم الكفرة‪ ،‬ويوم هاجروا فار ين بدين هم إلى الحب شة‪ .‬ويوم هاجروا إلى المدي نة‬
‫ويوم انتصروا في بدر وانكسروا في أحد وحوصروا في الخندق‪ ،‬انهم في جميع تلك الحوال‬

‫‪249‬‬
‫التي تقلبوا فيها لم يتزعزع ايمانهم ولم يسترب إلى قلوبهم ذرة من الشك في كونهم على الحق‬
‫ومو صولين بال حق ويدعون الى ال حق وان الكفرة في ضلل مبين قال تعالى‪{ :‬له دعوة ال حق‬
‫والذ ين يدعون من دو نه ل ي ستجيبون ل هم بش يء إل كبا سط كف يه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو‬
‫ببال غه و ما دعاء الكافر ين إل في ضلل} سورة الر عد ال ية‪ ،14 :‬ول يض عف إيمان الدا عي‬
‫ان صراف الناس ع نه وعدم اجابت هم له‪ .‬ف قد ل بث نوح عل يه ال سلم ك ما أخبر نا ال ع نه {فل بث‬
‫في هم ألف سنة إل خم سين عاما} سورة العنكبوت ال ية‪ ،14 :‬ولم يؤ من له إل القل يل‪ .‬ك ما ل‬
‫يدل ان صراف الناس ع نه ا نه مق صر في دعو ته ما دام قد أفرغ جهده فالتق صير يعرف – إن‬
‫وجد – من قلة ما يقدمه الداعي للدعوة ل من عدم اجابة المدعو‪.‬‬

‫ضرورة هذا اليمان للداعي المسلم‬


‫‪ -380‬إن مثل هذا اليمان العميق ضروري لكل مسلم‪ ،‬وهو للداعي أشد ضرورة في الوقت‬
‫الحاضـر الذي ضعفـت فيـه كلمـة السـلم وعلت فيـه كلمـة الكفـر ونضـب معيـن اليمان فـي‬
‫النفوس‪ ،‬وازدادت محـن المسـلمين‪ ،‬وصـال الكفرة عليهـم وجالوا‪ ،‬وصـارت لهـم دول كبار‬
‫تحمي هم وتقذف بالبا طل وتث ير الشبهات والشكوك حول أحق ية ال سلم‪ .‬وزاد من هذه المح نة‬
‫وجود ادعياء ال سلم وعلماء ال سوء‪ ،‬البائع ين دين هم بدنيا هم والم ستترين وراء كل مة ال سلم‬
‫يقولونها بألسنتهم ويخفون وراءها باطلً كثيفا‪ ،‬وضللً عظيما‪ .‬ومع هذا فان المسلم ول سيما‬
‫الدا عي الم سلم ال صادق ي جب أن ل تده شه هذه الم حن وهذه الحوال بل يجعل ها دافعا للمز يد‬
‫من بذل الجهد في سبيل اعلء كلمة ال وتلمس الدواء والعلج لما آل إليه أمر السلم‪ ،‬وان‬
‫ل يبقـى مفتوح العينيـن محدقا بالكفرة اعجابا بهـم واكبارا لهـم فانهـم وال على ضلل مـبين‬
‫يحتاجون إلى تقويم وتهذيب وتأديب ل إلى تعظيم وتفخيم وليستحضر الداعي المسلم في ذهنه‬
‫ما رواه البخاري وم سلم عن أ بي سعيد الخدري‪ ،‬قال حدث نا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‬
‫يوما حديثا عن الدجال‪ ،‬فكان في ما حدث نا به ا نه قال‪" :‬يأ تي الدجال و هو محرم عل يه أن يد خل‬
‫نقاب المدي نة فينزل ب عض ال سباخ[‪ ]2‬ال تي تلي المدي نة‪ ،‬فيخرج إل يه يومئذ ر جل‪ ،‬و هو خ ير‬
‫الناس أو من خير الناس فيقول‪ :‬أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫حديثه فيقول الدجال‪ :‬أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته‪ ،‬هل تشكون في المر؟ فيقولون‪ :‬ل‪ ،‬فيقتله‬
‫ثم يحييه‪ ،‬فيول‪ :‬وال ما كنت فيك أشد بصيرة مني الن‪ ،‬قال فيريد الدجال أن يقتله فل يسلط‬
‫عليـه"[‪ .]3‬وفـي هذا الحديـث الشريـف فوائد عظيمـة جدا منهـا أن الدجال ادعـى اللوهيـة‬
‫والربوب ية وفتن الناس بدعوته لما أوتيه من الخوارق ومنها انه يقتل الشخص ويحي يه ويأمر‬
‫الرض بالنبات فتنبـت ويأمـر المطـر بالنزول فينزل كمـا وردت بذلك الثار ويتبعـه دهماء‬
‫الناس وجهلتهم الخالية قلوبهم من معاني اليمان وأنواره‪ ،‬ولكن ذلك المسلم الذي يخرج له لم‬

‫‪250‬‬
‫يشك قط في أنه هو الدجال الكذاب‪ ،‬ولم تؤثر في ذلك المسلم خوارقه ول كثرة اتباعه‪ ،‬ول في‬
‫اعتزازه هـو بالسـلم لن دعوة ذلك الدجال باطلة قطعا لمخالفتهـا لمعانـي السـلم الحقـة فل‬
‫يمكن أبدا أن ينقلب الباطل حقا لي سبب خارجي مقترن به ولو كان من خوراق العادات كما‬
‫ل يمكن أبدا أن يصير السلم الحق باطل بكون المؤمن به رجل واحدا أعزل ولهذا ولما قتل‬
‫الدجال ذلك الم سلم ازداد يقينا بأ نه على ال حق وان الدجال مب طل كذاب وان خوار قه ت صديق‬
‫ل خبر الر سول صلى ال عل يه و سلم وبالتالي ي ظل ذلك الم سلم على ايما نه وان كان وحيدا ل‬
‫حول له ول قوة ول ناصرا‪...‬‬

‫ثمرات هذا اليمان ولوازمه‬


‫‪ -381‬ان لهذا اليمان العم يق لوازم وثمرات ل بد من ها وي ستحيل تخلف ها وإذا ما تخل فت أو‬
‫ضعفـت كان ذلك دليل قاطعا على عدم وجود هذا النوع مـن اليمان أو دليلً على ضحالتـه‬
‫وضع فه‪ ،‬ف ما هي هذه الثمرات واللوازم؟ الوا قع ان ها كثيرة و هي مذكورة في كتاب ال و سنة‬
‫نبيه صلى ال عل يه و سلم في باب صفات المؤمن ين ف ما على الم سلم إل أن يتلو تلك اليات‬
‫والحاديث الشريفة ويقف عند كل صفة وردت فيها ويتمعن في معناها ويتأمل في مدلولها ثم‬
‫ير جع إلى نف سه ويتفح صها وي سبر على مقدرا ما في ها من معا ني تلك ال صفة فان وجد ها ف يه‬
‫فليحمـد ال تعالى وان لم يجدهـا أو وجدهـا هزيلة فليتدارك ايمانـه ويعيـد النظـر فيـه ويقويـه‬
‫ويعمقـه ويتعاهده ويغذيـه بالغذاء اليمانـي الخاص‪ ،‬فانـه سـيثمر إن شاء ال تعالى الثمـر‬
‫المطلوب‪ ،‬وتن صبغ نف سه ب صبغة أ هل اليمان العم يق ويكفي نا ه نا أن نذ كر ب عض هذه الثمار‬
‫الطي بة لليمان العم يق وب عض لواز مه لهميت ها ونترك غير ها لمقام آ خر إذا ي سر ال تعالى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أولً‪ :‬المحبة‬
‫‪ -382‬محبـة العبـد لربـه ومحبـة الرب لعبده مـن ثمرات اليمان المنوه بـه فـي القرآن قال‬
‫تعالى‪{ :‬يحب هم ويحبو نه} سورة المائدة ال ية‪ ،54 :‬و هي من ثمرات اليمان العم يق بل هي‬
‫روح اليمان ولبـه لن اليمان يقوم على المعرفـة اليقينيـة بالرب جـل جلله كمـا قلنـا‪ ،‬ومـن‬
‫عرف ربه أحبه كما قال الحسن وكلما قويت المعرفة ازداد عمق اليمان وازدادت محبة العبد‬
‫لربه‪ .‬وقوة المعرفة إنما تكون بالفكر الصافي في صفات الرب وعظمته ونعمائه التي أعظمها‬
‫هدايته للداعي المسلم إلى اليمان به {وقالوا الحمد ال الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول أن‬
‫هدانا ال} سورة العراف الية‪ ،43 :‬وحب المسلم لربه تعالى يمتد إلى ما يحبه المحبوب جل‬
‫جلله ولهذا ي حب الم سلم نبيه محمدا صلى ال عل يه و سلم ل نه حبيب ال ور سوله إلى الناس‬
‫ومبلغهم السلم وكذلك ي حب المسلم القرآن وتعاليم السلم لنها ر سالة ال وي حب المؤمنين‬

‫‪251‬‬
‫لنهم عباد ال المطيعين الذين يقومون بعبادة مولهم‪ .‬وحب المسلم ل وما تعلق به يترك أثرا‬
‫طيبا حلوا في نفس المسلم يحس بحلوته وطيبه قال صلى ال عليه وسلم "ثلثة من كن فيه‬
‫وجد حلوة اليمان أن يكون ال ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وان يكره أن يرجع إلى الكفر‬
‫بعد أن أنقذه ال منه كما يكره أن يقذف في النار وان يحب المرء ل يحبه إل ال"‪ .‬فحب العبد‬
‫لر به ي ستلزم هذه المور قطعا ول يم كن أن تتخلف ع نه و قد يكون من المف يد أن أتب سط ولو‬
‫قليل في لوازم محبة المسلم لربه جل جلله وأجعل هذه اللوازم في فقرات زيادة في ايضاحها‬
‫وإظهارها لعظيم اهميتها‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫لوازم محبة العبد لربه‬
‫‪ -383‬قال تعالى‪ { :‬يا أي ها الذ ين آمنوا من ير تد من كم عن دي نه ف سوف يأ تي ال بقوم يحب هم‬
‫ويحبونـه‪ ،‬أذلة على المؤمنيـن أعزة على الكافريـن يجاهدون فـي سـبيل ال ول يخافون لومـة‬
‫لئم} سورة المائدة الية‪ ،54 :‬وقال تعالى‪{ :‬قل إن كنتم تحبون ال فاتبعوني يحببكم ال} سورة‬
‫آل عمران الية‪ ،31 :‬فلوازم محبة المسلم لربه في ضوء هاتين اليتين الكريمتين هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أذلة على المؤمنين‪ ،‬فالمسلم رقيق رحيم شفيق على اخيه المسلم والداعي وهو يدعو أخاه‬
‫المسلم إلى ما يرضي ال‪ ،‬يستشعر هذه الشفقة والرحمة التي تصل إلى صورة الذلة المشروعة‬
‫وسنتكلم عن هذه فيما بعد وهذه مثل قوله تعالى في صفة محمد صلى ال عليه وسلم وأصحابه‬
‫{رحماء بينهم} سورة الفتح الية‪.29 :‬‬
‫ثانيا‪ :‬أعزة على الكافريـن‪ ،‬وهذا مثـل قوله تعالى‪{ :‬محمـد رسـول ال والذيـن م عه أشداء على‬
‫الكفار‪ }...‬سـورة الفتـح اليـة‪ ،29 :‬ل يهيـن ول يسـتكين ول يشعـر بصـغار امامهـم ول فـي‬
‫غيبتهم‪ ،‬ل في ظاهره ول في باطنه‪ ،‬فهو قوي عليهم بقدر ما هو لين على المؤمنين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬يجاهدون في سبيل ال‪ ،‬والجهاد في سبيل ال يعني جهاد النفس الدائم حتى تستقيم وتثبت‬
‫وت ستمر على طا عة ال وجهاد العدو ح تى يخ نس وين كف ضرره‪ ،‬وجهاد الدعوة إلى ال ح تى‬
‫ي تم التبل يغ وال تبيين ويتي سر للناس سبل الهدا ية‪ .‬وهذا الجهاد المبذول من الدا عي الم سلم في‬
‫دعوته إلى ال تعالى يظهر ويتميز بالنشغال التام في أمور الدعوة والفتكار بها وتقليب وجوه‬
‫الرأي في وسائلها والحرص على نجاحها‪ ،‬وإيثارها على الولد والمال والنفس والراحة وحطام‬
‫الدن يا كل ها قال تعالى‪ { :‬قل إن كان آباؤ كم وأبناؤ كم واخوان كم وأزواج كم وعشيرت كم وأموال‬
‫اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من ال ورسوله وجهاد في‬
‫سبيله فتربصوا حتى يأتي ال بأمره وال ل يهي القوم الفاسقين} سورة التوبة الية‪.24 :‬‬
‫رابعا‪ :‬ل يخافون لومـة لئم‪ ،‬أي ل يردهـم عمـا هـم فيـه مـن طاعـة ال والدعوة إليـه والمـر‬
‫بالمعروف والن هي عن المن كر ل يرد هم عن ذلك راد ول ي صدهم عن ذلك صاد ول يمنع هم‬
‫منه لوم اللئمين‪ ،‬ول عذل العاذلين[‪.]4‬‬

‫‪252‬‬
‫خام سا‪ :‬متاب عة الر سول صلى ال عل يه وسلم في هديه في جم يع أحواله بالضا فة إلى طا عة‬
‫أمره والبتعاد عما نهى عنه {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} سورة الحشر‬
‫الية‪ ،7 :‬فهو قدوة الداعي إلى ال‪ .‬يقتدي به في سيرته في دعوته إلى ال خطوة خطوة {لقد‬
‫كان لكم في رسول ال أسوة حسنة} سورة الحزاب الية‪ ،21 :‬وانفع شيء للداعي المسلم أن‬
‫يتفقه في سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم وسيرته في الدعوة إلى ال منذ أن بعثه ال إلى‬
‫أن اختاره إلى جواره الكريـم‪ ،‬ووجـه هذا النفـع للداعـي أن سـيرة رسـول ال عليـه الصـلة‬
‫والسلم هي ترجمة عملية للمنهج الرباني للدعوة إليه الذي جاءت به آيات ال في قرآنه وما‬
‫من حالة قط يمر بها الداعي إلى ال إل يجد مثيلها أو شبيها لها أو قريبا منها في سيرة النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم وكيف تصرف ازاءها سيد الدعاة إلى ال‪ .‬إن التفقه في السيرة النبوية إذا‬
‫ان ضم إلى التف قه في القرآن ل سيما في ما ي خص الدعوة إلى ال‪ ،‬يج عل الدا عي على نور من‬
‫ر به وفرقان مبين يبين له ال صواب في المور المشتب هة والدقي قة‪ .‬والذي يع ين على متاب عة‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم استحضار شخصه الكريم في فكر الداعي ومصاحبته مصاحبة‬
‫روحية وجدانية وتخيل مواقفه المختلفة واستحضار صفاته الكريمة وعظيم شفقته على المة‪،‬‬
‫فان هذا ونحوه سيزيد من مح بة الم سلم لر سوله الكر يم صلى ال عل يه و سلم وكل ما ازدادت‬
‫محبته له ازداد تعلقه به ومتابعته له‪.‬‬
‫‪ -384‬ومن لوازم محبة الداعي المسلم لربه المستفادة من القرآن والسنة وطبيعة المحبة أمور‬
‫أخرى منها‪:‬‬
‫أ) الولع بذكره تعالى في كل حين فل يفتر عنه لسان الداعي ول يخلو منه قلبه فمن أحب شيئا‬
‫أكثر بالضرورة من ذكره وذكر ما يتعلق به‪ ،‬ومن هنا كان من علمات المحبين‪ ،‬الكثار من‬
‫تلوة كتا به جل جلله‪ ،‬ف هو رب يع قلوب هم وأني سهم في وحدت هم والنور الذي ين ير صدورهم‪،‬‬
‫وكذلك ذ كر ال في كل ح ين و في كل منا سبة‪ ،‬ولهذا ي ستحب للدا عي الم سلم أن يأ خذ نف سه‬
‫بأوراد الذكر التي وردت بها السنة النبوية يتلوها بعد صلة الصبح وعند النوم وعند الخروج‬
‫والدخول والكل والشرب واللباس والسفر والقامة وفي السحار‪.‬‬
‫ب) يأ نس بمناجاة ال بالخلوة ف هو ل ي ستوحش من ها ول يض يق ب ها بل ي ستغلها فر صة لهذه‬
‫المناجاة‪.‬‬
‫جـ) يتنعم بطاعته ول يستثقلها فان المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وينشط لها ولهذا كانت الصلة‬
‫قرة ع ين لر سول ال صلى ال عل يه و سلم ورا حة لنف سه الكري مة من ت عب الدن يا‪ .‬قال الجن يد‬
‫رحمه ال‪ :‬علمة المحب دوام النشاط في طاعة ال‪.‬‬
‫د) ل يتأ سف على ما يفو ته م ما سوى ال عز و جل ويع ظم تأ سفه على فوت كل ساعة خلت‬
‫عن ذكر ال وعن القيام بخدمته وطاعته‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫هـ) يؤثر ما يحبه ال على ما يحبه هو في ظاهره وباطنه‪ ،‬فان المحب الصادق يؤثر دائما ما‬
‫يحبه محبوبه‪ ،‬ول يبالي بالمشاق والتعاب في هذا اليثار‪.‬‬
‫ز) يحب لقاء ال لن المحب يحب لقاء الحبيب وبالتالي فهو ل يكره الموت إذا جاء لنه مفتاح‬
‫اللقاء وطريق الوصول إلى ال‪.‬‬
‫ح) الغيرة ل وعلمت ها الغ ضب إذا انته كت محارم ال وهكذا كان ر سول ال صلى ال عل يه‬
‫وسلم ل يغضب لنفسه وإنما يغضب لربه إذا انتهكت محارمه‪ .‬ومع هذه الغيرة حزن يصيب‬
‫المسـلم إذا رأى مخالفـة المسـلمين لشرع ال‪ ،‬روي أن أحـد الصـحابة – وأظنـه أبـا الدرداء –‬
‫دخل إلى بيته يبكي‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما يبكيك؟ قال‪ :‬دخلت المسجد فرأيت الناس ل يقيمون صلتهم‬
‫على النحو الذي شاهدته في زمن النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الخوف‬
‫‪ -385‬ومـن ثمرات اليمان العميـق ولواز مه الخوف من ال‪ .‬فإن رأس الحكمـة مخا فة ال‪.‬‬
‫ومن عرف ال خافه من خاف ال لم يخف أحدا من الناس وخافه الناس‪ .‬وبيان ذلك أن حقيقة‬
‫الخوف عبارة عـن تألم القلب بسـبب توقـع المؤلم فـي المسـتقبل‪ .‬وسـبب هذا الخوف العلم‬
‫بالمفضي إلى وقوع هذا المؤلم في المستقبل فالخوف من ال علم المسلم بما يفضي إلى عقابه‬
‫وهوعصيانه وعدم القيام بحقه تبارك وتعالى‪ .‬ويزداد هذا الخوف كلما فقه المسلم عظم الجناية‬
‫فـي مخالفـة الرب تبارك وتعالى وانـه جـل جلله لو أهلك العالميـن لم يمنعـه مـن ذلك مانـع‪.‬‬
‫وأع ظم ما يقوي جا نب الخوف في الع بد تدبر آيات الوع يد في القرآن فان ها حق و صدق‪ ،‬ل‬
‫مبالغـة فيهـا ول تخييـل‪ ،‬وان العباد مجزيون على أعمالهـم حتـى الذرة مـن الخيـر أوالشـر‬
‫يعملونها‪ .‬فاذا حصل عنده هذا اليمان العميق بأثر الذنوب ودقة الحساب وتفرد ال بالحكم يوم‬
‫الحساب ومجهولية الخاتمة‪ ،‬انبعثت في القلب الخشية من الرب جل جلله‪ ،‬وابتعد المسلم عن‬
‫مفضيات المكروه المؤلم‪ .‬ثـم ل تلبـث هذه الخشيـة وحرقـة الخوف أن تفيـض مـن القلب على‬
‫البدن‪ ،‬فل يرى المؤمن إل وجل كالمصاب الحزين ل يمزح ول يهزل ول يضحك إل تبسما‪،‬‬
‫فان الحزيـن الخائف المشدوه ل يجـد فرصـة للهزل وان وجدهـا ل يسـتطيعه ول يقدر عليـه‪.‬‬
‫وللخوف أثره القط عي فان من خاف من ش يء هرب م نه وابت عد ع نه وأ خذ الوقا ية م نه ولهذا‬
‫ـي عقارب وحيات ومؤذيات‬
‫ـة‪ .‬والذنوب والمعاصـ‬
‫ـد الهائج والنار المحرقـ‬
‫ـن السـ‬
‫ـر مـ‬
‫يفـ‬
‫ومحرقات‪ ،‬ل بد أن يفر منها كل خائف من ال ول بد أن يغلبها بالطاعات‪.‬‬
‫إن الداعي المسلم إذا ما استشعر خوف ال‪ ،‬انكف وانزجر عن المخالفات واندفع إلى ما يقي‬
‫نفسه من المؤذيات والمؤلمات في الخرة‪ ،‬وعلى رأس الوقا ية تقوى ال وفي مقدمة تقوى ال‬
‫الجهاد في سبيل ال ومنه الدعوة إليه‪ .‬وازداد بخشيته من ربه هدى ورحمة قال تعالى‪{ :‬وهدى‬
‫ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} فالهدى والرحمة للخائف ل للمن‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫ثالثا‪ :‬الرجاء‬
‫‪ -386‬ومـن ثمرات اليمان العميـق الرجاء‪ ،‬وعدم القنوط مـن رحمـة ال‪ .‬ذلك أن ال تعالى‬
‫وعد عباده المؤمنين بما وعدهم به في كتابه المجيد ومنعهم من القنوط‪ .‬والشأن في صاحب‬
‫اليمان العميق أن يؤمن بهذا الوعد الصادق من الرب القادر الرحيم‪.‬‬
‫فيحمله هذا الرجاء على تحقيق أسبابه‪ ،‬وأسبابه هي طاعة الرب ومنها الدعوة إليه‪ .‬لن حقيقة‬
‫الرجاء ارتياح القلب لنتظار ما هو محبوب للنفس عند حصول أكثر أسبابه‪ ،‬فان كان انتظاره‬
‫مع ف قد أ سبابه كان حمقا وغرورا‪ ،‬فرجاء رح مة ال وتأييده ورضوا نه يكون بتح صيل أ سباب‬
‫ذلك التي أخبرنا الرب بها ووعد عليها الرحمة والتأييد والنصر والرضوان‪ ،‬فيندفع المسلم ذو‬
‫اليمان العم يق الى تح صيل هذه ال سباب ج هد المكان بل ت سويف ول تأخ ير راجيا من ال‬
‫تعالى أن يوق فه الى ت صحيح هذه ال سباب وال ستمرار على تح صيلها وقبول ها م نه‪ .‬إن حال ته‬
‫حالة الذي نثر البذر في الرض الخصبة الجيدة وأوصل اليها الماء والسماد وظل يتعهدها الى‬
‫وقت الحصاد راجيا ال تعالى أن يحفظ زرعه ويدفع عنه الفة‪ .‬والداعي المسلم في رجاء دائم‬
‫ل يقنط أبدا لنه آمن بوعد ال للعاملين الداعين بالنصر والتأييد والثواب الجزيل فهو مضمون‬
‫النصر والتأييد من الرب الجليل‪.‬‬

‫[‪ ]1‬تفسير ابن كثير ج ‪ 3‬ص ‪.209‬‬


‫[‪ ]2‬نقاب المدينة أي طرقها وفجاجها‪ ،‬وهو جمع نقب وهو الطريق بين جبلين والسباخ جمع‬
‫سبخة وهي أرض ل تنبت لملوحتها‪.‬‬
‫[‪ ]3‬صحيح البخاري ج ‪ 9‬ص ‪ ،109‬صحيح مسلم ج ‪ 16‬ص ‪.72-71‬‬
‫[‪ ]4‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.70‬‬

‫عدّة الدّاعي ‪ -‬المبحث الثالث ‪ -‬التصال الوثيق‬


‫الفصل الثاني ‪ُ -‬‬

‫‪ -379‬معناه وآثاره‬
‫نر يد بالت صال الوث يق تعلق الدا عي الم سلم بر به وتوكله عل يه في جم يع أموره لتيق نه بأن ال‬
‫تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير والضرر والنفع والمنع والعطاء وانه ما شاء ال كان وما لم‬
‫ي شأ لم ي كن‪ ،‬وان ال تعالى يك في من يتو كل عل يه ويفوض المور إل يه {و من يتو كل على ال‬
‫ف هو ح سبه} ل سيما من يتو كل عل يه في أمور الدعوة الى ال ون صره وإعلء كلم ته وجهاد‬
‫اعدائه‪ ،‬قال تعالى حكايـة عـن موسـى وهارون‪{ :‬قال ربنـا إننـا نخاف ان يفرط علينـا أو أن‬
‫يطغى‪ ،‬قال ل تخافا إنني معكما أسمع وأرى} وهذه المعية النصر والتأييد غير مقصورة على‬

‫‪255‬‬
‫أنبيائه ورسله المتوكلين عليه في تبليغ رسالته‪ ،‬وانما هي شاملة لعباده المتقين ل سيما الدعاة‬
‫منهم الى دينه‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إن ال مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}‪.‬‬
‫‪ -380‬وحالة الدا عي الم سلم في توكله على ال و صلته به ي جب أن تكون كحالة الط فل مع‬
‫أمه ل يعرف غيرها ول يتعلق إل بها ول يفزع إل إليها ول يعتمد إل عليها وإذا نابه شيء لم‬
‫يهتف إل باسمها‪ .‬ولكن هذه الحالة ل تعني ترك السباب وإنما تعني عدم التعلق بها والركون‬
‫إليها لن التعلق يكون بمسبب السباب ال جل جلله القوي العزيز‪.‬‬
‫‪ -381‬ويزداد هذا التصال بالرب جل جلله إذا استحضر الداعي المسلم ما يعلمه ويؤمن به‬
‫يقينا وهو أن الخلق ل يملكون لنفسهم ول لغيرهم نفعا ول ضرّا وان المور كلها بل استثناء‬
‫بيد ال القوي العزيز فاذا استحضر الداعي هذه المعاني في قلبه فانه سيزهد حتما في العتماد‬
‫على أي مخلوق‪ ،‬ويتوجـه بكليتـه الى خالقـه وموله وناصـره {بـل ال مولكـم وهـو خيـر‬
‫الناصرين} {ال ولي الذين آمنوا}‪.‬‬
‫و مع اعتماد الدا عي على ال في جم يع أموره فا نه ي ثق بر به ث قة كاملة بأ نه يحف ظه وين صره‬
‫ويدفـع عنـه الشرور‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إن ال يدافـع عـن الذيـن آمنوا} {ولقـد سـبقت كلمتنـا لعبادنـا‬
‫المرسلين إنهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون}‪.‬‬
‫‪ -382‬ول كن ل يجوز للدا عي الم سلم أن يحدد ل وقتا لنزال ن صره واعان ته على اعدائه ول‬
‫نوعا معينا أو كيفية معينة لهذا النصر أو العون قال تعالى‪{ :‬إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في‬
‫الحياة الدنيا ويوم يقوم الشهاد} وقال ابن كثير في تفسير هذه الية‪" :‬المراد بالنصر النتصار‬
‫لهم ممن آذاهم‪ ،‬وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى‬
‫وزكر يا وشعي با‪ :‬سلط علي هم من أعدائ هم من أهان هم و سفك دماء هم‪ ،‬ف سلط على اليهود الذ ين‬
‫أرادوا قتل عيسى عليه السلم‪ ،‬سلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم ال تعالى عليهم‬
‫وقال السدي‪ :‬لم يبعث ال عزّ وجل رسول قط إلى قوم فيقتلونه أو قوما من المؤمنين يدعون‬
‫الى الحـق فيقتلون فيذهـب ذلك القرن حتـى يب عث ال تبارك وتعالى لهـم مـن ينصـرهم فيطلب‬
‫بدمائ هم م من ف عل ذلك ب هم في الدن يا‪ ،‬قال‪ :‬فكا نت ال نبياء والمؤمنون يقتلون في الدن يا و هم‬
‫منصورون فيها‪ ،‬وهكذا رسوله‪ :‬أمره بالهجرة ثم رجع إليها فاتحا منتصرا"[‪.]1‬‬
‫‪ -383‬و ما دام الدا عي الم سلم ين صر ال أي ين صر دي نه بالدعوة إل يه‪ ،‬فان ال تعالى نا صره‬
‫قال عز و جل {ولين صرن ال من ين صره إن ال لقوي عز يز} فعلى الدا عي أن يتي قن ذلك ول‬
‫ي شك ف يه أبدا‪ .‬قال صلى ال عل يه و سلم ع ند رجو عه من الطائف‪ ،‬و قد رده أهل ها أ سوأ رد‪،‬‬
‫وكان م عه ز يد‪ ،‬قال عل يه ال صلة وال سلم لز يد‪" :‬إن ال جا عل ل ما ترى فرجا ومخرجا‪ ،‬وان‬
‫ال تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه"[‪ ،]2‬والداعي ل ييأس أبدا لن اليأس حرام أن يتسرب الى‬

‫‪256‬‬
‫القلب الموصول بال‪ ،‬وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بال‪ ،‬قال عز من قائل {ول‬
‫تيأسوا من روح ال إنه ل ييأس من روح ال إل القوم الكافرون}‪.‬‬
‫إن هذا التصال بالرب جل جلله ضروري جدا للداعي المسلم فيه تهون عليه الصعاب‬
‫وتخف اللم وتنتزع من قلبه الخشية من الناس {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم‬
‫فاخشوهم‪ ،‬فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا ال ونعم الوكيل}‪ .‬ويحس بعزة اليمان لنه موصول‬
‫بالقوي العزيز {ول العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين ل يعلمون}‪ .‬فل يعظم في عينه‬
‫باطل ول مبطل لن الباطل وأهله من التافه الحقير فل يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين‪.‬‬
‫[‪ ]1‬تفسير ابن كثير ج ‪ ،4‬ص ‪ 83‬وقد ذكر القرطبي في تفسير هذه الية قريبا مما ذكره ابن‬
‫كثير‪ ،‬تفسير القرطبي ج ‪ ،15‬ص ‪.322‬‬
‫[‪ ]2‬امتاع السماع ص ‪.28‬‬

‫الفصل الثالث ‪ -‬أخلَق الداعي‬

‫أخلق الداعي هي أخلق السلم‬


‫‪ -379‬أخلق الداعـي المسـلم هـي أخلق السـلم التـي بينهـا ال تعالى فـي قرآنـه وفصـلها‬
‫ر سول ال صلى ال عل يه و سلم في سنته‪ ،‬وان صبغ ب ها صحابته الكرام في سلوكهم‪ .‬و هي‬
‫لزمة لكل مسلم‪ ،‬وما عليه إل أن يعرض نفسه عليها ليزن نفسه في ميزانه ليعلم ما عنده منها‬
‫وما لم يصل إليه بعد وقد ذكرنا جملة من هذه الخلق في فصل سابق‪ ،‬فارجع إليه إن شئت‬
‫ونر يد ه نا أن نذ كر ب عض تلك الخلق ال سلمية ال تي ل ها صلة وثي قة بع مل الدا عي ويحتاج‬
‫إليها حاجة ملحة تبلغ حد الضرورة إذا أراد النجاح في عمله الطيب المبرور‪.‬‬

‫أولً‪ :‬الصدق‬
‫‪ -380‬فـي كتاب ال تعالى آيات كثيرة تتحدث عـن الصـدق وفضيلتـه وتأمـر المؤمنيـن بأن‬
‫يكونوا مع ال صادقين { يا أي ها الذ ين آمنوا اتقوا ال وكونوا مع ال صادقين} سورة التو بة ال ية‪:‬‬
‫‪ ،119‬وأنه في يوم القيامة ينفع العبد وينجيه من سخط ال ويؤدي به إلى الجنان {هذا يوم ينفع‬
‫الصـادقين صـدقهم لهـم جنات تجري مـن تحتهـا النهار‪ ،‬خالديـن فيهـا أبدا رضـي ال عنهـم‬
‫ورضوا ع نه ذلك الفوز العظ يم} سورة المائدة ال ية‪ .119 :‬وحقي قة ال صدق ح صول الش يء‬
‫وتمامـه وكمال قوتـه واجتماع أجزائه‪ .‬هكذا قال ابـن قيـم الجوزيـة فـي مدارجـه‪ .‬ويكون فـي‬
‫القصد والقول والعمل‪ ،‬ومعناه في القصد كمال العزم وقوة الرادة على السير إلى ال وتجاوز‬
‫العوائق ويكون ذلك بالمبادرة الى أداء ما افترضه ال عليه وفي مقدمته الجهاد في سبيله ومنه‬

‫‪257‬‬
‫الدعوة إلى ال‪ ،‬والصدود عن كل معوق أو مثبط والنصراف عنهم والنفرة منهم لنهم أناس‬
‫في غفلة يعيشون ول يعلمون إل ظاهرا من الحياة الدنيا‪ ،‬ذلك مبلغهم من العلم وهو في حقيقته‬
‫الجهالة والهوى‪ .‬والحقيقـة أن قلب الصـادق شديـد الحسـاسية ل يحتمـل هؤلء المثبطيـن ولهذا‬
‫فهو يضيق بهم ول يستطيع مجاورتهم ول مصاحبتهم ول مجالستهم‪ .‬انه ينشرح صدره ويهش‬
‫لمن يشوقه الى السراع في سيره الى ال والدعوة إليه‪ .‬أما صدق القول‪ ،‬فمعناه نطق اللسان‬
‫بالحق والصواب فل ينطق بالباطل اي باطل كان‪ .‬ويكون الصدق في العمال بأن تكون وفق‬
‫المناهج الشرعية والمتابعة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإذا ما تحقق للمسلم الصدق في‬
‫القول والق صد والع مل أدى به ذلك الى در جة أخرى في ال صديقية و هي ال تي أ مر ال عباده‬
‫المؤمنين بطلبها‪ ،‬موجها جل جلله الخطاب الى رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم {وقل ربي‬
‫ادخل ني مد خل صدق وأخرج ني مخرج صدق واج عل لي من لد نك سلطانا ن صيرا} ومع نى‬
‫مد خل ال صدق ومخر جه أن يكون دخول الم سلم في أي ش يء ومباشر ته لي ع مل وخرو جه‬
‫م نه وتر كه له بال ول بمع نى أن أفعاله وترو كه مو صولة بال ومو صلة إل يه‪ ،‬م ستعينا على‬
‫أدائها بال ومقصوده مرضاه ال فغايته هي ال وحده {قل إن صلتي ونسكي ومحياي ومماتي‬
‫ل رب العالميـن} فاذا بلغ المسـلم هذه الدرجـة مـن الصـديقية لم يعـد فـي نظره غرض مقبول‬
‫لرغبته في الحياة إل إذا كان بقاؤه فيها وسيلة لمرضاة ال فاذا فاته هذا الغرض أو لم يستطع‬
‫رغب عن الحياة وأحب الموت‪.‬‬
‫روي عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أنه قال "لول ثلث لما أحببت البقاء لول أن أحمل‬
‫على جياد الخ يل في سبيل ال‪ ،‬ومكابدة الل يل‪ ،‬ومجال سة أقوام ينتقون أطا يب الكلم ك ما ينت قى‬
‫أطايب التمر ويريد المام عمر بهذه الثلث التي ذكرها‪ :‬الجهاد والصلة والعلم النافع‪ .‬وكلها‬
‫ترضي الرب عزّ وجل"[‪.]1‬‬
‫‪ -381‬والداعي المسلم الصادق يظهر أثر صدقه في وجهه وصوته فقد كان صلى ال عليه‬
‫و سلم يتحدث الى من ل يعرفو نه فيقولون‪ :‬وال ما هو بو جه كذاب ول صوت كذاب[‪ .]2‬ول‬
‫شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعي وصوته يؤثر في المخاطب ويحمله ذلك على قبول‬
‫قوله واحترامـه إل إذا كان عمـى القلب قـد بلغ منـه مبلغا عظيما‪ .‬ومهمـا يكـن مـن أمـر فان‬
‫ال صدق والنفاق أ ساسه الكذب‪ .‬فك يف يم كن أن يكون الدا عي كذابا؟ والكذب يهدي إلى الفجور‬
‫كما قال الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف يمكن أن يكون الفاجر داعيا إلى ال؟‬

‫ثانيا‪ :‬الصبر‬
‫‪ -382‬الصبر من فروض ال سلم‪ .‬و هو نصف اليمان‪ .‬وذكره القرآن الكر يم في أك ثر من‬
‫ثمانين موضعا أمر به {واستعينوا بالصبر والصلة} ونهيا عن ضده {فاصبر كما صبر أولو‬

‫‪258‬‬
‫العزم من الرسل ول تستعجل لهم} ومحبة لهله {وال يحب الصابرين} ومعيته تعالى لهم {إن‬
‫ال مع الصابرين} وعاقبته خير {وان تصبروا خير لكم} وجزاؤه عظيم {إنما يوفى الصابرون‬
‫أجرهـم بغيـر حسـاب} وأهـل الصـبر هـم المنتفعون باليات والعظات {إن فـي ذلك ليات لكـل‬
‫صبار شكور} و هو سبب لدخول الجنان {سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} وبال صبر‬
‫اليقين تنال المامة في الدين {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}‬
‫هذا بعض ما في القرآن الكريم عن الصبر‪ .‬وفي السنة النبوية آحاديث كثيرة في الصبر‪ ،‬منها‬
‫" ما أع طي أ حد عطاء خيرا له وا سع من ال صبر" "عجبا ل مر المؤ من‪ ،‬ان أمره كله له خ ير‪،‬‬
‫ول يس ذلك ل حد إل للمؤ من ان أ صابته سراء ش كر فكان خيرا له‪ ،‬وإن ا صابته ضراء صبر‬
‫فكان خيرا له"‪.‬‬
‫‪ -383‬وال صبر ل غة‪ :‬الح بس وال كف‪ ،‬وشرعا‪ :‬هو على ثل ثة أنواع‪ :‬صبر على طا عة ال‪،‬‬
‫وصبر عن معصية ال‪ ،‬وصبر على المصائب والبلء‪.‬‬
‫أمـا الصـبر على طاعـة ال‪ ،‬فيكون بالمحافظـة عليهـا دوما والخلص فيهـا ووقوعهـا على‬
‫مقتضـى الشرع‪ .‬وممـا يعيـن على تحصـيله المعرفـة بال وحقـه على العباد‪ ،‬وحسـن الجزاء‬
‫للمطيعين‪ .‬واما الصبر على المعصية فيكون بهجر السيئات والفرار من المعاصي والدوام على‬
‫هذا الفرار وذلك الهجر ومما يعين على تحصيل هذا الصبر استحضار الخوف من عذاب ال‪،‬‬
‫وأعلى من هذا ا ستحضار الحياء من ال والمح بة له‪ ،‬مع ا ستحضار ثمرة هذا ال صبر و هي‬
‫ابقاء اليمان وتقوي ته وإنماؤه لن المع صية تن قص اليمان أو تضع فه أو تكدره أو تذ هب نوره‬
‫وبهاءه‪.‬‬
‫أمـا الصـبر على البلء والمصـائب‪ ،‬فيكون بترك التسـخط واحتمال المؤلم المكروه وترك‬
‫الشكوى للناس فإن الصبر الجميل ينافيه الشكوى للمخلوق أما الشكوى ل فل ينافيه‪ ،‬قال تعالى‬
‫عن يعقوب عل يه ال سلم‪{ :‬إن ما أش كو ب ثي وحز ني إلى ال} وقال عن أيوب {ر بِ إ ني م سنيَ‬
‫الضر وأنت أرحم الراحمين} مع قوله تعالى عنه في آية أخرى {إنا وجدناه صابرا نعم العبد‬
‫إ نه أواب} وم ما ي ستدعي هذا ال صبر ا ستحضار ن عم ال ال تي ل ت عد ول تح صى فتهون على‬
‫الم صاب م صيبته وي قل وقع ها على نف سه ويكون مثله م ثل من يع طى ألف دينار ويف قد فل سا‬
‫واحدا‪ .‬ومما يعين أيضا على الصبر على البلء تذكر الجزاء العظيم للصابرين‪.‬‬

‫الصبر بال ول‬


‫‪ -384‬والصبر بأنواعه إنما هو بال بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون ال‪،‬‬
‫فال هو المصبر له‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬واصبر وما صبرك إل بال} وصبر المسلم ل أي أن المسلم‬
‫يصـبر طاعـة ومرضاة له فالباعـث على صـبره محبـة ال وطلب مرضاتـه وهذا النوع مـن‬

‫‪259‬‬
‫الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على البتلء لن في‬
‫الول اختيارا وإيثارا ومحبة‪ ،‬أما الثاني فهو صبر ضرورة ول اختيار للصابر‪.‬‬

‫حاجة النسان الى الصبر‬


‫‪ -385‬الصبر من الصفات اللزمة لكل إنسان‪ ،‬إذ بدونه ل يستطيع بلوغ ما يريد لن المراد‬
‫ل ينال غالبا إل بتحمـل المكاره وحبـس النفـس عليهـا‪ .‬وهذا مطرد فـي جميـع أمور الحياة‪،‬‬
‫فالطالب يحبـس نفسـه على المذاكرة والدرس وكـف نفسـه عمـا تهواه مـن لذة وراحـة حتـى‬
‫يستوعب الدروس لينجح في المتحان‪ ،‬وكذلك التاجر‪ ،‬وكذلك أي صاحب غرض يريد نواله‪.‬‬
‫و ما يقال عن الفراد يقال عن ال مم‪ ،‬فال مة ال تي تر يد بلوغ ما ت صبو إل يه تحتاج الى صبر‬
‫عظيـم وتحمـل للمشاق‪ ،‬والنت صار فـي الحروب يكون بجا نب الذي يملك أ سبابه و من أعظـم‬
‫أ سبابه ال صبر‪ ،‬فال صبر إذن ضروري ل كل إن سان في الحياة وإل صار هشا سريع النك سار‬
‫ـعاب‬
‫ـات والمشقات والصـ‬
‫ـا مملوءة بالمنغصـ‬
‫ـي الحياة‪ ،‬فإنهـ‬
‫ـا فـ‬
‫أمام الحداث ومـا أكثرهـ‬
‫والمؤلمات‪ ،‬فاذا لم يقابلها بشيء من الصبر انكسر وتفتت وتمزقت شخصيته في دروب الحياة‬
‫فتسحقه القدام وتلقيه بعيدا عن طريق المارين‪.‬‬
‫‪ -386‬وإذا كان الصـبر لي انسـان مـن لوازم بقائه وسـيره فـي الحياة وبلوغ مـا يريـد‪ ،‬فان‬
‫ال صبر أ شد ضرورة للم سلم من غيره‪ ،‬لن الم سلم مطلوب م نه أن يح بس نف سه ويكفّ ها عن‬
‫المع صية‪ ،‬و في المعا صي لذة للن فس ي صعب علي ها فراق ها‪ ،‬فيحتاج الى قدر كبير من ض بط‬
‫النفس ومن الرادة القوية التي تكف النفس وتمنعها من مقارفة الخطيئة‪.‬‬
‫ومطلوب من المسلم أيضا فعل الطاعات وهذا يقتضيه أن يحبس نفسه عليها وهو الصبر على‬
‫الطاعة‪ ،‬وهو مطالب أيضا بأن يصبر على المقدر ول يجزع لئل يتحمل اثما ووزرا بالضافة‬
‫الى ضياع الجر والثواب‪.‬‬

‫ضرورة الصبر الى المسلم‬


‫‪ -387‬وإذا كان الصبر ضروريا لي انسان‪ ،‬ل سيما للمسلم‪ ،‬فإن الصبر للداعي المسلم أشد‬
‫ضرورة له مـن غيره‪ ،‬لنـه يعمـل فـي ميدانيـن ميدان نفسـه‪ ،‬يجاهدهـا ويحملهـا على الطاعـة‬
‫ويمنع ها من المع صية وميدان خارج نف سه‪ ،‬و هو ميدان الدعوة الى ال‪ ،‬ومخاط بة الناس في‬
‫موضوعها‪ ،‬فيحتاج الى قدر كبير من الصبر في المجالين‪ .‬مجال النفس ومجال الدعوة‪ ،‬حتى‬
‫ي ستطيع تجاوز العقبات وتح مل الذى‪ ،‬فان ف قد ال صبر ق عد أوان سحب من الميدان و حق عل يه‬
‫الحساب وفاته الثواب‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫‪ -388‬البتلء ل بد منه‬
‫والبتلء ل بد منه‪ ،‬فل بد من الصبر لجتياز المتحان بنجاح‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أحسب الناس أن‬
‫يتركوا أن يقولوا آمنـا وهـم ل يفتنون؟ ولقـد فتنـا الذيـن مـن قبلهـم فليعلمـن ال الذيـن صـدقوا‬
‫وليعلمن الكاذبين}‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ما كان ال ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} قال‬
‫تعالى‪{ :‬أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء‬
‫وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر ال أل إن نصر ال قريب} فالبتلء‬
‫من سنة ال في الحياة يبتلي عباده بمن يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء ليظهر ما في نفوسهم من‬
‫إيمان ونفاق وهذا البتلء يكون بأشياء كثيرة على رأسـها التكاليـف الشرعيـة فهـي ابتلء‬
‫وامتحان وقد يكون في تزا حم محبوبات الرب مع محبوبات الن فس‪ ،‬فإذا آثر محبوبات ال عزّ‬
‫وجـل على محبوبات النفـس‪ ،‬اجتاز هذا المتحان وال رسـب وفشـل‪ ،‬وقـد يكون البتلء فـي‬
‫المصـائب واللم التـي يصـاب بهـا كالمرض وفقـد العزة وتلف الموال‪ ،‬فإذا صـبر وسـلم‬
‫واسترجع ولم يجزع أثابه ال ثواب الصابرين‪ ،‬وكان في هذا المتحان من الناجحين‪ ،‬وإل كان‬
‫من الخاسرين‪.‬‬

‫ابتلء الدعاة الى ال‬


‫‪ -389‬وإذا كان البتلء ممـا قضـت بـه سـنة ال فـي الحياة‪ ،‬فإن ابتلء الدعاة الى ال ممـا‬
‫جرت به السنة اللهية أيضا فهم يبتلون بأذى الكفرة والمارقين بالقول والكيد واليد‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ول مبدل لكلمات‬
‫ال ول قد جاءك م ن بأ المر سلين} سورة النعام ال ية‪ ،34 :‬وقال تعالى‪{ :‬ول قد نعلم أ نك يض يق‬
‫صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‪ .‬واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} سورة‬
‫الحجر الية‪.99-97 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬فا صبر إن و عد ال حق ول ي ستخفنك الذ ين ل يوقنون}‪ .‬ومع نى ي ستخفنك[‪:]3‬‬
‫يحملونـك على الخفـة والطيـش بعدم الصـبر‪ ،‬والدعاة إلى ال يكيـد لهـم أهـل الباطـل ويفترون‬
‫علي هم الكذب ويؤذون هم بأنواع الذى لنهـم قوم يجهلون وضالون‪ .‬و قد أوذي أ صحاب ال نبي‬
‫صلى ال عليه وسلم في مكة أشد الذى وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يأمرهم بالصبر‬
‫"صـبرا آل ياسـر إن موعدكـم الجنـة" فعلى الداعـي المسـلم أن يقابـل الذى الذي يلقاه بالصـبر‬
‫الجميل‪ ،‬كما فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم وصحابته الكرام ومن قبلهم رسل ال‪ ،‬فان‬
‫هذا الصبر مما ينعقد عليه عزم المؤمنين وتتوجه إليه إرادتهم {واصبر على ما أصابك إن ذلك‬

‫‪261‬‬
‫من عزم المور} وقال تعالى‪{ :‬لتبلون في أموال كم وأنف سكم ولت سمعن من الذ ين أوتوا الكتاب‬
‫من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا‪ ،‬وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم المور}‪.‬‬

‫استدعاء البلء ودفعه‬


‫‪ -390‬وإذا كان البلء والبتلء مما يصيب الدعاة إلى ال‪ ،‬وبهذا جرت سنة ال‪ ،‬فهل معنى‬
‫ذلك أن على الداعـي المسـلم أن يسـتدعي البلء ويعمـل على وقوعـه ول يجوز له دفعـه؟ فـي‬
‫الم سألة تف سير وتوض يح لن هذه الم سألة م ما ي قع في ها الشتباه والخلط ب سبب سوء الف هم ل‬
‫بسبب سوء النية والقصد‪ .‬ولتوضيح هذه المسألة أذكر ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬المطلوب من الداعي المسلم أن يدعوالى ال على بصيرة بالوسائل والكيفيات المشروعة‬
‫التي بين ها القرآن الكريم وطبقها الرسول الكر يم صلى ال عل يه وسلم‪ ،‬فاذا أدت هذه الوسائل‬
‫الى أذى يصيب الداعي فعليه أن يتقبله بالصبر ل بالجزع‪ ،‬وبالثبات ل بالفرار‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إذا كان للداعـي المسـلم مندوحـة مـن الذى‪ ،‬أي يسـتطيع أن يتوقاه ول يجـب عليـه ان‬
‫يقابله‪ ،‬فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والحوال‪ ،‬فقد يباح له البتعاد عنه وعدم مباشرة‬
‫ما يستدعيه وقد يجب عليه البتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه لن البتلء صعب على النفس‬
‫فل يجوز الحرص عليه ول الرغبة فيه لن فيه فتنة مجولة العاقبة‪ .‬وقد يحس المسلم من نفسه‬
‫القدرة على الثبات ومـن ثـم ل يبالي بالبتلء بـل ربمـا رغـب فيـه إمـا طمعا بثواب ال‪ ،‬وإمـا‬
‫لتد خل و سوسة الشيطان ليقال ع نه‪ :‬ما أثب ته و ما أ صبره على البلء‪ ،‬فاذا نزل البلء‪ ،‬ض عف‬
‫عن الحتمال وو قع في الفتتان ور سب في المتحان ك ما روي عن أحد هم ا نه قال‪ :‬يا رب‬
‫امتحنـي بمـا شئت فأنـا راض بقدرك صـابر على ابتلئك‪ ،‬فابتله ال باحتباس البول‪ ،‬فأخـذ‬
‫يصيح ويولول ويطوف على الولد ويقول لهم‪ :‬ارموا عمكم الكذاب بالحجارة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬ل ينبغـي للمسـلم أن يتعرض لمـا ل يطيقـه مـن البلء‪ ،‬فيرسـب فـي المتحان‪ ،‬جاء فـي‬
‫الحديـث الشريـف "ل ينبغـي للمؤمـن أن يذل نفسـه قالوا وكيـف يذل نفسـه يـا رسـول ال؟ قال‬
‫يتحمل من البلء ما ل يطيق"[‪.]4‬‬

‫رابعا‪ :‬من الدعية المأثورة أن يسأل المسلم ربه العفو والعافية‪.‬‬


‫والعاف ية يد خل في ها المعافاة من البتلء والمؤذيات وهذا يدل على أن التخلص والخلص من‬
‫أذى أهل الباطل ممدوح ومحود غير مذموم‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫خامسا‪ :‬وفي وصيته عليه الصلة والسلم لسامة بن زيد وقد جعله أميرا على الجيش لغزو‬
‫الروم قبل وفاته عليه الصلة والسلم بأيام‪ ،‬قال له "ول تمنوا لقاء العدو فإنكم ل تدرون لعلكم‬
‫تبتلون بهم‪ ،‬ولكن قولوا اللهم اكفناهم وأكفف بأسهم"[‪.]5‬‬
‫وقال ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم‪{ :‬وكفى ال المؤمنين القتال} وهذا يشعر بأن عدم‬
‫احتياج المؤمنيـن للقتال لكفايـة ال تعالى يعتـبر مـن نعمـة ال على المؤنيـن‪ ،‬والقتال فيـه أذى‬
‫ونصب وألم فلو كان تعريض المسلم نفسه للبتلء والذى مطلوبا لذاته لما كان عدم الحتياج‬
‫اليه مما يمن ال به على المؤمنين‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬ايذاء أ هل البا طل للمؤمن ين غ ير مطلوب قطعا بل هو من سيئات أ هل البا طل‪ ،‬ل نه‬
‫ايذاء ل هل ال حق‪ ،‬فك يف ي سوغ ت سليم الم سلم نف سه للمب طل يؤذ يه ويهي نه ويذله؟ أل يكون في‬
‫هذا الت سليم اعا نة على وقوع ما ي سخط ال تعالى‪ ،‬والقاء للن فس في التهل كة والمها نة والذلة؟‬
‫وكل هذا ل يجوز‪.‬‬

‫سـابعا‪ :‬أذِن ال للمكره أن يقول كلمـة الكفـر تخليصـا لنفسـه مـن الذى والتلف وهذا يدل على‬
‫إباحة دفع الذى وأن للمسلم أن ل يساعد على وقوعه عليه‪.‬‬

‫ثامنا‪ :‬ع ند ان سحاب خالد بن الول يد ب من م عه من ج ند الم سلمين في معر كة مؤ تة ودخول هم‬
‫المدي نة المنورة‪ ،‬ج عل الناس يحثون على الج يش التراب ويقولون‪ :‬يا فرار‪ ،‬فرر تم في سبيل‬
‫ال‪ ،‬فيقول ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪" :‬لي سوا بالفرار ولكن هم الكرار إن شاء ال تعالى"‬
‫ووجه الدللة في هذا الخبر أن خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين انسحبوا من ملقاة العدو‬
‫تخلصـا مـن الذى والضرر‪ .‬فعابهـم المسـلمون فـي المدينـة ووصـفوهم بالفرار‪ ،‬ولكـن سـيد‬
‫العارفين نبينا محمد صلى ال عليه وسلم نظر إلى غير ما ينظرون ورأى في انسحابهم الناجح‬
‫نوعا من النصر لتخلصهم من القتل ومن أذى المشركين واحتمال أسرهم وأن انسحابهم كتحول‬
‫الجند في ساحة المعركة من جهة أخرى‪ .‬فدل ذلك على أن دفع البل ء أمر مطلوب إذا أمكن‬
‫المسلم دفعه وان تسليم المسلم نفسه للذى والضرر حيث يمكنه الخلص ليس بالمر الممدوح‬
‫بل ول المشروع‪.‬‬
‫تا سعا‪ :‬ها جر الم سلمون من م كة الى الحبشة فرارا بدينهم وتخل صا من أذى قر يش‪ .‬فدل ذلك‬
‫على جواز د فع البلء والذى وعدم ال ستسلم له بح جة تح مل الذى في سبيل ال‪ .‬لن ن فس‬
‫المسلم ليست ملكه وإنما هي ملك ال‪ ،‬فل يجوز اتلفها بل فائدة تعود الى السلم‪ ،‬وليس من‬
‫الفائدة أن يقول الناس‪ :‬مـا أثبـت هذا الداعـي واجرأه على تحمـل الذى فـي سـبيل ال‪ .‬بـل قـد‬

‫‪263‬‬
‫يكون تحمـل الذى بهذا الدافـع ولهذا الغرض رياء وطلبا للسـمعة والجاه عنـد الناس‪ ،‬وهذا ل‬
‫يجوز‪.‬‬
‫عاشرا‪ :‬إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم لم ير بأ سا من عون ع مه أ بي طالب وكان على‬
‫د ين قو مه في د فع ما ي ستطيعه من أذى قر يش ع نه ول ما ما تت خدي جة وع مه في عام وا حد‬
‫سماه "عام الحزن" وقال "ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب" لنه لم يكن في‬
‫عشريته وأعمامه حامٍ له‪ ،‬ول ذاب عنه غيره[‪.]6‬‬
‫وعندما رجع عليه الصلة والسلم من الطائف وانتهى الى حراء بعث رجل من خزاعة الى‬
‫المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه‪ ،‬فأجاره‪ ،‬ودخل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫مكة فأقام بها وجعل يدعو الى ال[‪.]7‬‬
‫وجه الدللة في هذه الثار أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رضي بحماية عمه أبي طالب‬
‫له ودفعه الذى عنه‪ .‬وكذلك دخوله عليه الصلة والسلم بجوار المطع مِ‪ ،‬فدل ذلك على جواز‬
‫د فع البلء والذى عن الدا عي ولو عن طر يق حما ية المشرك وعدم ا ستحباب ت سليم الم سلم‬
‫نف سه ل هل البا طل‪ .‬وكذلك ف عل أ صحاب ر سول ال الذ ين هاجروا الى الحب شة فعند ما رجعوا‬
‫الى مكة "لم يدخل منهم أحد إل بجوار أو متخفيا"[‪ ،]8‬ويجب أن يعلم هنا أن الداعي المسلم في‬
‫رغبته وسعيه لدفع الذى عن نفسه إنما يقصد التمكين وإيجاد الجو المناسب لدعوته الى ال‪،‬‬
‫يوضح ذلك ما جاء في السيرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يخرج الى القبائل أيام‬
‫المو سم ويدعو ها الى ال سلم ويقول " من ر جل يحمل ني الى قو مه فيمنع ني ح تى أبلغ ر سالة‬
‫ربي‪ ،‬فانَ قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي"[‪.]9‬‬

‫خلصة القول في استدعاء البلء ودفعه‬


‫‪ -391‬ومـن هذا العرض الذي قدمتـه والنصـوص التـي ذكرتهـا مـن القرآن الكريـم والسـنة‬
‫النبوية الشريفة‪ ،‬والسوابق القديمة في سيرة النبي الكريم صلى ال عليه وسلم وأصحابه الكرام‬
‫وهم أفقه المسلمين بشريعة السلم‪ ،‬يتبين لنا بكل وضوح ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬الذى أوالضرر الذي يل حق الدا عي الم سلم هو بمنزلة المراض والم صائب ال تي تنزل‬
‫على النسان‪ ،‬فكما انه ل يحبها ول يرغب فيها ول يريد ايقاعها على نفسه‪ ،‬ول يقدح ذلك في‬
‫ايمانه‪ ،‬فكذلك ل يقدح في ايمانه عدم محبته ول رغبته في وقوع أذى أهل الباطل عليه وعدم‬
‫استدعاء الضرر على نفسه‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إن احتمال وقوع الذى والضرر بـه ل يقعـد بـه عـن دعوتـه الى ال‪ ،‬ولكـن الداعـي ل‬
‫يسـتدعي الذى لنفسـه‪ .‬بـل يعمـل على عدم وقوعـه وإذا وقـع عمـل على دفعـه بكـل وسـيلة‬
‫مشروعة في ضوء ما جاء في القرآن والسنة‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫ثالثا‪ :‬إذا وقـع الضرر والذى على الداعـي المسـلم بالرغـم مـن التزامـه بالسـير المشروع فـي‬
‫الدعوة الى ال فعليـه أن يسـتعين بال ويصـبر الصـبر الجميـل وليعلم أن المور كلهـا بيـد ال‬
‫تعالى وإن ما شاء ال كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ل حول ول قوة إل بال‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الرحمة‬
‫‪ -392‬من اخلق الداعي الضرورية‪ :‬الرحمة‪ ،‬وقبل أن أبين أهميتها للداعي‪ ،‬أذكر ما ورد‬
‫في السنة النبوية[‪.]10‬‬
‫قال صـلى ال عليـه وسـلم‪" :‬ل يُرحـم مـن ل يرحـم الناس" "ل تنزع الرحمـة إل مـن شقـي"‬
‫"الراحمون يرحمهم ال تعالى‪ ،‬ارحموا من في الرض يرحمكم من في السماء" "قبل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم الحسن بن علي رضي ال عنهما وعنده القرع بن حابس‪ .‬فقال القرع‪:‬‬
‫إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا فنظر إليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم قال من‬
‫ل يَرحم ل يُرحم" "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش‬
‫الرض"‪.‬‬
‫‪ -393‬و من صفات وأخلق الم صطفى صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬رحم ته وشفق ته على أم ته قال‬
‫تعالى‪{ :‬ل قد جاء كم ر سول من أنف سكم عز يز عل يه ما عن تم حر يص علي كم بالمؤمن ين رؤوف‬
‫رحيم}‪ .‬ومن شفقته صلى ال عليه وسلم دللته لمته على ما يبعدهم عن النار وقد مثل ذلك‬
‫بم ثل بل يغ‪ ،‬قال صلى ال عل يه و سلم‪" :‬إن ما مثلي وم ثل أم تي كم ثل ر جل ا ستوقد نارا فجعلت‬
‫الدواب والفراش يقعن فيه‪ ،‬فأنا آخذ بحجزكم وانتم تقتحمون فيه"[‪.11‬‬

‫ضرورة الرحمة للداعي‬


‫‪ -394‬إن الداعي ل بد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة على الناس وارادة الخير لهم‬
‫والن صح ل هم‪ .‬و من شفق ته علي هم دعوت هم الى ال سلم‪ ،‬لن في هذه الدعوة نجات هم من النار‬
‫وفوزهـم برضوان ال تعالى‪ .‬أن يحـب لهـم مـا يحـب لنفسـه وأعظـم مـا يحبـه لنفسـه اليمان‬
‫والهدى‪ ،‬فهو يحب ذلك اليهم أيضا‪ .‬إن الوالد من شفقته على أولده يحرص على إبعادهم عن‬
‫الهل كة ويت عب نف سه في سبيل ذلك‪ ،‬وأ ية هل كة أع ظم من الضلل والتمرد على ال؟ والدا عي‬
‫بدعوته إنما يسعى لتخليص المتمردين العصاة من الهلك المحقق والخسران المبين‪.‬‬
‫إن الداعي الرحيم ل يكف عن دعوته ول يسأم من الرد والعراض لنه يعلم خطورة عاقبة‬
‫المعرض ين الع صاة‪ ،‬وان إعراض هم ب سبب جهل هم‪ ،‬ف هو ل ين فك عن اقناع هم وإرشاد هم‪ ،‬و قد‬
‫ذكر نا في شف قة ر سول ال صلى ال عل يه و سلم الم ثل الذي ضر به لنف سه الكري مة مع أم ته‪،‬‬
‫وهكذا كان النبياء رحماء بمن أرسلوا إليهم مشفقون عليهم من العذاب‪ ،‬قال تعالى حكاية عن‬

‫‪265‬‬
‫نوح عليه السلم {لقد أرسلنا نوحا الى قومه يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ ،‬إني أخاف‬
‫عليكم عذاب يوم عظيم} سورة العراف الية‪ 56 :‬فقوله عليه السلم {إني أخاف عليكم عذاب‬
‫يوم عظ يم} ل ي صدر إل عن قلب رح يم وشف قة ظاهرة علي هم وكذلك قوله عل يه ال سلم‪ ،‬و قد‬
‫رموه بالضللة {يا قوم ليس بي ضللة ولكني رسول من رب العالمين‪ ،‬أبلغكم رسالت ربي‬
‫وأن صح ل كم واعلم من ال ما ل تعلمون‪ .‬أوعجب تم ان جاء كم ذ كر من رب كم على ر جل من كم‬
‫لينذر كم ولتتقوا ولعل كم ترحمون} سورة العراف ال ية‪ .63-61 :‬فجواب نوح عل يه ال سلم‬
‫مشحون بالرحمة والشفقة عليهم واللطف في مخاطبتهم‪ ،‬ولم يغضبه كلمهم لنهم قوم يجهلون‬
‫ولن الداعي الرحيم ل يغضب لنفسه قط‪ .‬وهكذا كان خلق رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫ف ما كان يغ ضب لنف سه‪ ،‬وإن ما يغ ضب إذا انته كت حرمات ال‪ .‬ثم في جواب نوح أ نه ين صح‬
‫لهم‪ ،‬أي يخلص في القول النافع المفيد لهم‪ ،‬بالرغم من قولهم الباطل فيه ويبين لهم أنه رسول‬
‫من رب العالمين ليعلموا أن ما يخبرهم به هو الحق الصريح الواجب قبوله‪ ،‬وفي قبوله رحمة‬
‫بهم‪ ،‬دليل على ما كان في قلبه عليه السلم من عظيم الرحمة بقومه‪.‬‬

‫الرحمة تهون على الداعي على ما يلقاه من الجهلء‪.‬‬


‫‪ -395‬والرحمة تهون على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة‪ ،‬لنه ينظر اليهم من‬
‫مسـتوى عالٍ رفيـع أوصـله إل يه إيما نه و صلته بر به‪ ،‬ولذا ف هو ينظـر الي هم كصـغار يعبثون‬
‫والشأن في الصغار الطفال العبث والجهل وعدم ادراك ما ينفعهم ولذلك ل يعجب الداعي من‬
‫مقابلة نصحه لهم بالعراض والصدود والذى كما يفعل الطفل إذا نصحته أو أبعدته مثل عن‬
‫مـس النار و الشيـء المؤذي فانـه يصـيح ويغضـب وربمـا آذاك‪ .‬إن الداعـي ل يعجـب مـن‬
‫صدودهم كما قلت‪ ،‬ولذلك فهو يعيد الكرة معهم‪ ،‬ويتحمل أذاهم ويدعو لهم بالهداية وهكذا كان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يكرر دعوته الى قريش ويتحمل أذاهم ويقول "اللهم أهد قومي‬
‫فانهم ل يعلمون"‪ .‬إن النسان ذا القلب الرحيم ل يستكثر على الصغير أن يصدر منه الصدود‬
‫عن الناصح والذى له لنه جاهل ومن ثم يشفق عليه ذو القلب الرحيم ول يؤاخذه على اساءته‬
‫إليه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}‪.‬‬

‫الرحمة تثمر العفو والصفح‬


‫‪ -396‬وما دام الداعي المسلم ينظر الى من يدعوهم نظرة الرحمة والشفقة عليهم فانه يعفو‬
‫ويصفح عنهم في حق نفسه قال تعالى‪{ :‬خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} وإذا‬
‫كان هذا هو شأن الدا عي الم سلم بالن سبة ل من يدعو هم ويحت مل صدور الذى من هم فان ع فو‬

‫‪266‬‬
‫الداعـي وصـفحه عن أصـحابه أوسـع قال تعالى‪{ :‬فاعـف عنهـم واسـتغفر لهـم وشاورهـم فـي‬
‫المر}‪.‬‬

‫الفظاظة تؤدي إلى انفضاض الناس‬


‫‪ -397‬والدا عي المحروم من الرح مة الغل يظ القلب ل ين جح في عمله ول يق بل الناس عل يه‬
‫وإن كان ما يقوله حقا و صدقا‪ .‬هذه هي طبي عة الناس ينفرون من الغ يظ الخ شن القا سي ول‬
‫يقبلون قوله لن قبول القول النا صح ي ستلزم إقبال قلب المن صوح إل يه ول يح صل هذا القبال‬
‫مع خشونة الطبع وغلظة القلب قال تعالى‪{ :‬فبما رحمة من ال ل نت لهم ولو ك نت فظا غليظ‬
‫القلب لنفضوا من حولك} فإذا كان هذا يمكن أن يقع بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫لو ح صل ما ذكر ته ال ية الكري مة‪ ،‬والر سول ل ين طق إل بال حق ومؤ يد بال حق‪ ،‬فك يف يم كن‬
‫تصور تخلف النفضاض عن الداعي إذا كان فظا غليظ القلب؟‬
‫فليتـق ربهـم الدعاة الى ال‪ ،‬وليتكلفوا الرحمـة والرفـق إن لم يكونوا رحماء حتـى يكتسـبوها‬
‫ويألفوهـا‪ ،‬ول يكونوا منفرديـن عـن السـلم بسـوء أخلقهـم وغلظـة قلوبهـم وخشونـة طبعهـم‬
‫وبذاءة كلمهم‪ ،‬فان عجزوا عن اكتساب الرحمة وحمل نفوسهم على أخلق السلم فمن الخير‬
‫لهم وللدعوة ترك الدعوة والنصراف الى علج نفوسهم‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬التواضع‬
‫التكبر حماقة وجهل‬
‫‪ -398‬التكبر حماقة وجهل ودليل قاطع على جهل المتكبر بربه وبنفسه‪ ،‬فلو عرف ربه لعلم‬
‫أن الكـبرياء ل وحده قال رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم قال ال عزّ وجـل "العـز إزاري‬
‫وال كبرياء ردائي ف من ينازع ني في وا حد منه ما ف قد عذب ته"[‪ ]12‬ولو عرف المت كبر نف سه وان‬
‫أوله نطفة قذرة وآخره جيفة قذرة لخجل من نفسه ووقف عند حده قال محمد بن الحسين بن‬
‫علي كما ذكر صاحب "الحياء"‪ :‬ما دخل قلب امرئ شيء من التكبر قط إل نقص من عقله‬
‫بقدر ما دخل من ذلك قل أوكثر‪.‬‬

‫جزاء المتكبرين‬
‫‪ -399‬مـن جزاء المتكـبر حرمانـه مـن التعاظ والنتفاع بآيات ال لن تكـبره يمنعـه مـن‬
‫الن صياع لل حق‪ ،‬فيط بع ال على قل به وي صرفه عن آيا ته‪ ،‬ونتيج ته الخي بة والف شل و سخط ال‬
‫تعالى‪ ،‬ودخول جهنم داخرا‪ ،‬وفقده ما يناله المتواضعون لربهم من نعيم الخرة وبهذه المعاني‬
‫نطق القرآن والسنة النبوية‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الرض بغير‬

‫‪267‬‬
‫ال حق} {كذلك يط بع ال على كل قلب مت كبر جبار} {وا ستفتحوا وخاب كل جبار عن يد} {إ نه ل‬
‫يحـب المسـتكبرين} {إن الذيـن يسـتكبرون عـن عبادتـي سـيدخلون جهنـم داخريـن} {تلك الدار‬
‫الخرة نجعلها للذين ل يريدون علوا في الرض ول فسادا والعاقبة للمتقين}‪.‬‬
‫و في ال سنة النبو ية قال ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪" :‬ل يزال الر جل يذ هب بنف سه ح تى‬
‫يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم" ومعنى يذهب بنفسه يرتفع ويتكبر‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم "ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"‪ .‬أل أخبركم بأهل النار‪" :‬كل عتلٍ‬
‫جوّاظ مستكبر"‪.‬‬

‫النهي عن الكبر‬
‫‪ -400‬و ما ذكرناه من ن صوص كل ها تتض من الن هي عن ال كبر‪ ،‬و قد جاءت ن صوص أخرى‬
‫فيها النهي الصريح عن التكبر منها قوله تعالى‪{ :‬ول تصعر خدك للناس ول تمش في الرض‬
‫مرحا إن ال ل يحب كل مختال فخور}‪.‬‬

‫حقيقة الكبر‬
‫‪ -401‬جاء في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه "الكبر بطر الحق وغمط الناس"‬
‫أي ردّ الحق واحتقار الناس‪ .‬فحقيقة الكبر استعظام المتكبر نفسه واستصغار قدر غيره فيدفعه‬
‫ذلك الى رذائل ومهلكات‪.‬‬
‫فالمت كبر يرد ال حق ول يقبله ول يذ عن إل يه قال تعالى‪{ :‬وجحدوا ب ها وا ستيقنتها أنف سهم ظلما‬
‫وعلوا}‪ .‬ول يعترف بخطئه ول تقصـيره ول سـوء عمله لنـه معجـب بنفسـه‪ ،‬وفـي الحديـث‬
‫الشريف‪" :‬ثلث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه"‪.‬‬
‫والمت كبر يحت قر الناس ول يرى ل هم قدرا وي ستنكف أن ي سألهم ع ما يجهله ول يق بل تعل يم من‬
‫يعلمه‪ ،‬ول يقبل نصيحة ناصح‪ ،‬لنه ل يراه شيئا ويرى أن على الناس أن يلهجوا بالثناء عليه‪.‬‬
‫يأنف من مجالستهم ومحادثتهم‪ ،‬يرى أنه هو الناجي وهم الهلكى‪ .‬إلى غير ذلك من آثار الكبر‬
‫وافعال المتكبرين‪.‬‬

‫سبب الكبر‬
‫‪ -402‬وسبب الكبر عجب النسان بنفسه لعلمه أو ماله أو جاهه أوحسبه أو نسبه أو سلطانه‬
‫وغ ير ذلك م ما يد عو إلى العجاب بالن فس ناسـيا هذا المعجـب أن ال تعالى هو المنعـم بهذه‬
‫الشياء وان لو شاء ل سلبها م نه‪ ،‬فيؤدي به هذا العجاب إلى ا ستعظام نف سه ورؤ ية قدره فوق‬
‫اقدار الناس فيحتقرهم ويزدريهم‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫علج الكبر‬
‫‪ -403‬وعلج هذا الداء العضال الصـعب – الكـبر – واكتسـاب حقيقـة التواضـع‪ ،‬يكون‬
‫بالمعر فة اليقين ية‪ :‬معر فة المت كبر لر به ولنف سه‪ .‬فيعرف أن ال كبرياء هي ل وحده ح صرا ول‬
‫يجوز مطلقا لي ان سان أن ي سمح لذرة من ال كبر ان تت سرب إلى قل به فان ها جرثو مة خطرة‬
‫فتاكة كثيرة التوالد تطمس نور اليمان وتكدر العمال وتحبطها‪ .‬وان يعرف المتكبر قدر نفسه‬
‫فهو نشأ من نطفة قذرة ثم يصير جيفة قذرة‪ ،‬وان كل ما عنده من علم ومال وجاه وسلطان هو‬
‫محض عطاء ال له‪ ،‬وان لو شاء ال لسلبه ذلك كله‪ ،‬وان ليس له من نفسه إل العدم‪ .‬ثم يأتي‬
‫المتكبر على أسباب اعجابه بنفسه ثم الى تكبره‪ ،‬سببا سببا‪ ،‬فينقضه‪ .‬فالعلم الذي عنده قليل جدا‬
‫بالن سبة إلى ما يجهله {و ما أوتي تم من العلم إل قليل} وهناك من هو أعلم م نه {وفوق كل ذي‬
‫علم عليم} فلم العجب والكبرياء؟ وان العلم الحقيقي هو الذي يثمر المعرفة بالرب جل جلله‪،‬‬
‫ويحجز النفس عن الرذائل والحماقات مثل الكبر‪ ،‬ويروضها على الفضائل مثل التواضع‪ .‬أما‬
‫العبادة ال تي يقوم ب ها المت كبر والتقوى والورع فل ت صلح سببا للعجاب بالن فس والدلل ب ها‬
‫على ال والتكبر على الخلق‪ .‬فما يدري هذا المسكين أن عبادته مقبولة وانه من الصالحين عند‬
‫ال وخاتم ته مجهولة وتزك ية الن فس ممنو عة {فل تزكوا أنف سكم هو أعلم ب من ات قى}‪ .‬والعبادة‬
‫هي حق ال على العبد ول يحق للعبد أن يمن بها على ال ول أن يتكبر على الغير لقيامه بما‬
‫هو حق ال عل يه‪ ،‬وال هو الذي مك نه من ها وهداه إلي ها {وقالوا الح مد ل الذي هدا نا لهذا و ما‬
‫كنـا لنهتدي لول أن هدانـا ال} وأي تقوى هذه التـي ل تقـي صـاحبها مـن منازعـة ال حقـه‬
‫الخالص في ال كبرياء‪ ،‬ول تع صم صاحبها من التمرغ في رذيلة أخر جت ابل يس من ملكوت‬
‫ال سماوات وجعل ته طريدا ملعونا إلى يوم الد ين؟ يوم امت نع عن ال سجود لدم ت كبرا م نه عل يه‬
‫واعجابا بنفسه حيث قال {أنا خير منه}‪ .‬وهكذا القول في المال والسلطان والجاه وقوة النصار‬
‫والتباع والتعزز بالحسـاب والنسـاب فكلهـا مـن الباطيـل وإيحاءات مـن الشيطان الرجيـم‪.‬‬
‫فالمال غاد ورائح‪ ،‬والسلطان ل يبقى فاليام دول والجاه مثله‪ .‬وقوة النصار والتباع ل تغني‬
‫من ال شيئا {يوم حن ين إذ أعجبت كم كثرت كم فلم ت غن عنكم شيئا} والتعزز بالح ساب والن ساب‬
‫يعنـي تشبـث وتعزز بعظام باليـة ان بقيـت العظام!! ومـا يغنـي الباء الصـالحون عـن البناء‬
‫الطالحين {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت خير الحاكمين‪.‬‬
‫قال يا نوح إنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فل تسألن ما ليس لك به علم اني أعظك أن‬
‫تكون مـن الجاهليـن‪ .‬قال رب إنـي أعوذ بـك أن أسـألك مـا ليـس لي بـه علم وأل تغفـر لي‬
‫وترحمني أكن من الخاسرين}‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫التواضع‬
‫‪ -404‬وإذ قد بينا الكبر وأسبابه وبعض عواقبه وآثاره‪ ،‬ظهرت لنا حقيقة التواضع‪ ،‬فهو ضد‬
‫ال كبر و هو ثمرة المعر فة بال وبالن فس فل يم كن أبدا أن يتكبر ول يتواضع إن سان عرف ر به‬
‫وعرف قدر نف سه‪ ،‬وعلى هذا فاذا كان المت كبر جاهل بر به فالمتوا ضع عارف بر به‪ ،‬وإذا كان‬
‫المت كبر محتقرا غيره يرا هم كالذباب وكالعب يد فإن المتوا ضع يف قه جيدا قول أ بي ب كر ال صديق‬
‫ر ضي ال ع نه "ل يحتقرن أ حد أحدا من الم سلمين فان صغير الم سلمين ع ند ال كبير"‪ .‬وإذا‬
‫كان المت كبر ي ستنكف عن مجال سة ال صالحين والفقراء والضعفاء بالر غم من أن أحد هم يعدل‬
‫ملء الرض من أمثاله فان المتوا ضع يف قه جيدا مع نى قوله تعالى {وا صبر نف سك مع الذ ين‬
‫يدعون ربهـم بالغداة والعشـي يريدون وجهـه ول تعـد عيناك عنهـم} وقـد قال المفسـرون فـي‬
‫أ سباب نزول ها ان قريشا قالت للر سول صلى ال عل يه و سلم‪ :‬إ نا ل نر ضى أن نكون أتباعا‬
‫لهؤلء من ضعفاء الم سلمين م ثل صهيب وعمار وبلل وخباب فاطرد هم ع نك ول تبق هم في‬
‫مجلسك إذا دخلنا عليك‪ ،‬فاذا فرغنا وخرجنا فادخلهم إن شئت‪ .‬فأنزل تعالى هذه الية واتبعها‬
‫بآ ية عن اولئك المت كبرين المتعجرف ين الذ ين طلبوا طرد الضعفاء من مجلس ر سول ال فقال‬
‫تعالى عن هم‪{ :‬ول ت طع من أغفل نا قل به عن ذكر نا وات بع هواه وكان أمره فرطا}[‪ .]13‬ويف قه‬
‫المتوا ضع جيدا مع نى قول ال تعالى‪{ :‬واخ فض جنا حك ل من اتب عك من المؤمن ين} وإذا كان‬
‫المت كبر يج حد ال حق ويرده ول يذ عن له فان الم سلم المتوا ضع يف قه جيدا مع نى قول العارف‬
‫المتواضـع الفضيـل بـن عياض رحمـه ال تعالى وقـد سـئل عـن التواضـع فقال‪ :‬التواضـع أن‬
‫تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من أجهل الناس قبلته‪.‬‬

‫حاجة الداعي الى التواضع‬


‫‪ -405‬والدا عي الى ال أحوج من غيره الى خلق التوا ضع‪ ،‬ف هو يخالط الناس ويدعو هم الى‬
‫الحق والى أخلق السلم فكيف يكون عاريا من التواضع‪ ،‬وهو من ركائز أخلق السلم؟ ثم‬
‫إن من طبي عة الناس ال تي جبل هم ال علي ها ان هم ل يقبلون قول من ي ستطيل علي هم ويحتقر هم‬
‫ويسـتصغرهم ويتكـبر عليهـم‪ ،‬وان كان مـا يقوله حقا وصـدقا‪ ،‬هكذا جبلت طبائع الناس فانهـم‬
‫ينفرون عن المت كبر ويغلقون قلوب هم دون كل مه ووع ظه وارشاده‪ .‬فل ي صل الي ها من قوله‬
‫شيء بل قد يكون ذلك سببا الى كرههم الحق منه ومن غيره‪ .‬فعلى الداعي أن يفقه هذا المر‬
‫جيدا ولي تق ال ر به ول يكون سببا لنفرة الناس من الدعوة إلى ال‪ .‬ونز يد ه نا شيئا آ خر له‬
‫علقة بالموضوع وله أهميته البالغة ذلك أن من طبائع الناس أنهم ل يحبون من يكثر الحديث‬
‫عن نفسه ويكثر الثناء عليها ويكثر من قول أنا‪ ،‬أنا‪ ،‬ولهذا فعلى الداعي أن يحذر ذلك وأن ل‬
‫يد عي شيئا يدل على تعاليه كأن ينسب الى نفسه المزيد من العلم أو الفصاحة أو المعرفة‪ .‬إن‬

‫‪270‬‬
‫على الدا عي أن يعرف أن جم يع ما عنده هو م حض ف ضل ال عل يه فليتحدث الى الناس و هو‬
‫بهذا اليقيـن وبهذا الشعور يتحدث اليهـم بفضـل ال ل بفضـل نفسـه فاذا عرف الناس منـه ذلك‬
‫فتحوا له قلوب هم أو على ال قل لم يغلقو ها دون كل مه في قع في ها من معان يه الطي بة الناف عة ما‬
‫يشاء ال وقوعه‪ ،‬وال المستعان‪.‬‬
‫‪ -406‬ومن التواضع العظيم الذي قد يغفل عنه الداعي وهو مهم وضروري طاعة من أمره‬
‫الشرع بطاع ته كالم ير و من يتولى شؤو نه أو تعلي مه‪ ،‬وأن ل ي ستنكف عن هذه الطا عة ول‬
‫ي حس منها بغضا ضة ول يمن عه من ها كبر خ في في نف سه فيرفضها وي ستثقلها أو يتهرب منها‬
‫بتأويلت فا سدة هي في حقيقت ها من ايحاءات الشيطان كأن يقول‪ :‬هذا الم ير أو المعلم غ ير‬
‫صالح ول كفء أو صغير أو أنا أعلم منه وأكفأ أو هذا المعلم ل يصلح أو المعلم غير صالح‬
‫ول كفء أو صغير أو أنا أعلم منه وأك فأ أو هذا المعلم ل ي صلح للتعليم ونحو ذلك‪ ،‬وليتذ كر‬
‫جيدا تأميـر رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم أسـامة بـن زيـد وكان شابا على جيـش كان فيـه‬
‫سادات المهاجرين والنصار ومشايخهم وكبارهم‪ ،‬قال صاحب امتاع السماع في هذه الحادثة‪:‬‬
‫"ثم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم – يوم الثلثاء لثلث بقين من صفر – أسامة بن زيد‪،‬‬
‫قال‪ :‬يا أسامة‪ ،‬سر على اسم ال وبركته حتى تنتهي الى موت أبيك فأوطئهم الخيل‪ ،‬وقد وليتك‬
‫هذا الجيش‪ ...‬فلما كان يوم الربعاء ابتدأ مرض رسول ال صلى ال عليه وسلم فصدع وحم‪.‬‬
‫وعقد يوم الخميس لسامة لواء بيده وقال‪ :‬يا أسامة‪ ،‬اغز باسم ال في سبيل ال فقاتلوا من كفر‬
‫بال اغزوا ول تغدروا ول تقتلوا وليدا ول امرأة ول تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬فانكـم ل تدرون لعلكـم‬
‫تبتلون بهم‪ ،‬ولكنكم قولوا اللهم اكفناهم‪ ،‬واكفف بأسهم عنا فان لقوكم قد أجلبوا وضجوا فعليكم‬
‫بالسـكينة والصـمت ول تنازعوا فتفشلوا فتذهـب ريحكـم‪ ،‬وقولوا اللهـم إنـا عبادك نواصـينا‬
‫ونواصيهم بيدك‪ ،‬وانما تغلبهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة"[‪ ]14‬ثم يذكر صاحب امتاع‬
‫ال سماع أن ب عض الناس تكلموا عن تأم ير أ سامة على الج يش باعتباره شابا ل خبرة له وإن‬
‫هذا الجيش يضم المهاجرين والنصار وان عمر بن الخطاب رد على هذا الكلم على من تكلم‬
‫به وأ خبر ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بهذا الذي قاله الب عض‪ ،‬وان ر سول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم غضب لذلك غضبا شديدا وأنه عليه الصلة والسلم خرج وقد عصب على رأسه‬
‫عصابة ثم صعد المنبر فحمد ال وأثنى عليه ثم قال"أما بعد أيها الناس‪ ،‬فما مقالة بلغتني عن‬
‫بعضكم في تأميري اسامة؟ وال لئن قلتم في أمارته لقد قلتم في أمارة أبيه من قبله وأنه لخليق‬
‫للمارة وان كان أبوه لخليقا لها"[‪ .]15‬وقد ذكرت معظم ما ورد في قصة تأمير أسامة لما في‬
‫هذا من دللت وعبر وعظات واحكام‪ ،‬وأخيرا فان الداعي الفقيه يزداد تواضعا ل تعالى كلما‬
‫و فق في دعو ته ون جح في م ساعيه ون صره ال على اعدائه‪ .‬وهكذا كان ر سول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقد دخل مكة فاتحا وهو منكس الرأس تواضعا لربه واعترافا له بفضله‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫خامسا‪ :‬المخالطة والعزلة‬
‫أيهما أفضل المخالطة أم العزلة؟‬
‫‪ -407‬أيه ما أف ضل للم سلم المخال طة مع الناس أم العزلة عن هم؟ قال بعض هم العزلة أف ضل‪،‬‬
‫وقال أكثرهم‪ :‬المخالطة أفضل‪ ،‬والصواب أن يقال‪ :‬الفضل للمسلم أحبهما الى ال تعالى‪ ،‬فاذا‬
‫كا نت المخال طة أ حب الى ال بالن سبة لهذا الم سلم نظرا لظروف حاله ومكا نه وزما نه‪ ،‬ف هي‬
‫أفضـل فـي ح قه‪ ،‬وإذا كانـت العزلة بالنسـبة إل يه أحـب الى ال لظروف حاله وزمانـه ومكانـه‬
‫فالعزلة أفضل في حقه‪.‬‬

‫المخالطة ل بد منها‬
‫‪ -408‬والمخالطـة ل بـد منهـا فان النسـان اجتماعـي بطبعـه ل يسـتطيع العيـش بمفرده ولو‬
‫استطاعه لكان أمرا شاذا ل يستطيع جميع الناس متابعته عليه‪ .‬هذا في أمور الدنيا وحوائجها‬
‫أما بالنسبة لمور الدين فكذلك الحال فان من فرائض السلم ومستحباته ما ل يمكن تأديته إل‬
‫بالمخالطة مع الناس وتعاونهم‪ ،‬مثل صلة الجمعة والعيدين‪ ،‬وتشييع الجنائز وعيادة المرضى‬
‫وتعلم أمور الدين وتعليمها الى غير ذلك من المطلوبات التي تستلزم المخالطة‪.‬‬

‫المخالطة واجبة على الداعي‬


‫‪ -409‬الدعوة الى ال من وجائب السلم ومن وسائلها مخالطة الناس فتكون المخالطة واجبة‬
‫لن مـا ل يؤدي الواجـب إل به ف هو واجـب‪ ،‬والوا قع أن طبي عة السـلم تقتضـي المخال طة‪،‬‬
‫فالسلم ليس معنى خاصا بالفرد بل هو أيضا عمل المسلم خارج نفسه‪ ،‬ورسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم منذ أن أكرمه ال بالنبوة وأمره بالتبليغ عاش مع الناس وخالطهم وغشي مجالسهم‬
‫يدعوهم الى ال ويحذرهم مما هم فيه وكذلك فعل أصحابه الكرام خالطوا الناس وبثوا فيهم ما‬
‫تعلموه من ر سول ال صلى ال عل يه و سلم من الهدى والعلم والد ين‪ .‬و ما روي عن ب عض‬
‫التابعيـن مـن اسـتحباب العزلة وكراهيـة المخالطـة فهـو أمـر يتعلق بأحوال طارئة وظروف‬
‫استثنائية فليس ما ذكروه هو القاعدة التي يستهدي بها المسلمون من بعدهم لن وجوب الدعوة‬
‫الى ال أمر ثابت في الشرع‪ ،‬والمخالطة هي المقدمة الى الدعوة‪ .‬فل يمكن التخلي عنها‪ .‬بل‬
‫إن هذا الوجوب أصبح أشد في زماننا من أي زمان مضى‪ ،‬لما غشي البشر من غاشية رهيبة‬
‫قا سية من الماد ية ال صماء ال سوداء ال تي حج بت عن هم أنوار ال حق وقط عت صلتهم بال عز‬
‫و جل‪ ،‬م ما ج عل لزاما على كل م سلم أن ي سهم في الدعوة الى ال بقدر طاق ته وبأي نوع من‬
‫أنواع القدرة يستطيعه وهذا يستلزم مخالطة الناس ليدعوهم الى ال‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫حدود المخالطة الواجبة‬
‫‪ -410‬والمخالطـة الواجبـة هـي مـا كانـت ضروريـة لعمال الدعوة الى ال تعالى أو أداء‬
‫فروض السـلم الخرى‪ ،‬فاذا خلت مـن هذا المقصـود‪ ،‬زالت عنهـا صـفة الوجوب وصـارت‬
‫مباحة أو مكروهة أو حراما‪ ،‬فالمباحة كالمخالطة لغرض تحصيل مباح دنيوي والمكروهة إذا‬
‫فو تت على الدا عي فائدة أخرو ية إذا حمّل ته اثما‪ .‬وعلى هذا فان المأمول من الدا عي أن تكون‬
‫مخالطته كلها بدافع من الدعوة الى ال‪ ،‬فاذا زار شخصا أو تعارف معه أو صادقه أو رافقه أو‬
‫آخاه أو غ شي مجل سا أو تكلم في ج مع فا نه ي صدر عن رغ بة في الدعوة الى ال أو بالعداد‬
‫والتهيئة لها‪.‬‬

‫الحب في ال والبغض في ال‬


‫‪ -411‬والداعي في مخالطته للناس يقيم علقاته معهم على أساس الحب في ال والبغض في‬
‫ال‪ .‬والمقصـود بهذه العبارة أن المسـلم ل يحـب الشخـص إل لطاعتـه لربـه ومسـارعته الى‬
‫مرضاته‪ ،‬ول يبغضه إل لعصيانه ومخالفته أمر ربه وكلما اشتدت محبة المسلم لربه اشتدت‬
‫محبته لحباب ال حتى تصير موالة ونصرة وذبا عنهم بالنفس والمال وليس هذا الذي نقوله‬
‫خيال أو مبالغة فان من أحب انسانا أحب من يحبه محبوبه‪ ،‬ومن يحب محبوبه يقوم بخدمته‬
‫ويثني عليه‪ ،‬فإذا كان هذا معروفا بين الناس فالشأن أعظم في مسألة محبة المسلم لربه وآثارها‬
‫في مح بة احباب ال وأوليائه‪ .‬وإذا اجت مع في الش خص طاعات و سيئات أح به الم سلم لطاع ته‬
‫وأبغضه لسيئاته‪.‬‬

‫المختارون لصحبة الداعي‬


‫‪ -412‬وما دام الداعي يحب في ال ويبغض في ال فمن البديهي أنه يختار لصحبته ورفقته‬
‫وأخو ته‪ ،‬المطيع ين ل القائم ين ب حق العبود ية ل‪ ،‬ف هم ن عم الرف يق له ون عم الخوة له‪ ،‬يش تد‬
‫ارتبا طه ب هم‪ ،‬ويع تز ب هم ويحا فظ على أخوت هم‪ ،‬وير فض م صاحبة ومواددة الع صاة والف ساق‬
‫المعرضيـن عـن أوامـر ربهـم قال تعالى‪{ :‬فأعرض عمـن تولى عـن ذكرنـا ولم يرد إل الحياة‬
‫الدنيا} وهو إذ يرفض مصاحبة ومخالطة العصاة والفساق ل ينفك عن دعوتهم الى ال والدعاء‬
‫لهم بالهداية والرحمة والرشاد‪.‬‬

‫سلوك الداعي مع من يصاحب ومن ل يصاحب‬

‫‪273‬‬
‫‪ -413‬والدا عي يعرف حقوق ال صحبة ويح مل نف سه على الوفاء بهذه الحقوق ومن ها موا ساته‬
‫لصحابه وقضاء حوئجهم وسكوته عن عيوبهم فالنسان ل يخلو من عيب‪ ،‬إل إذا وجب عليه‬
‫النطق بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويتحمل اساءتهم في حق نفسه‪ ،‬ويقبل اعذارهم‪،‬‬
‫فالمؤمن الكريم يحضر في نفسه محاسن أخيه‪ ،‬والمنافق اللئيم يحضر في نفسه معايب أخيه‪،‬‬
‫قال عبدال بن المبارك رحمه ال تعالى‪" :‬المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات"‪.‬‬
‫‪ -414‬أ ما سلوكه مع من ل ي صاحبه ول يراف قه لف سقه وع صيانه‪ ،‬ف هو سلوك المؤ من‪ :‬فل‬
‫يخاصـمهم {وإذا خاطبهـم الجاهلون قالوا سـلما} ولكـن ينصـحهم ويعظهـم‪ ،‬وقـد يضطـر الى‬
‫هجر هم ومقاطعت هم إذا كا نت مع صيتهم تقت ضي اله جر والمقاط عة‪ ،‬ك ما لو كانوا يدعون الى‬
‫بدعة في الدين‪ ،‬أو يفرقون صفوف المسلمين أو يكيدون لهم أو يعملون للحاق الذى بهم‪ ،‬أو‬
‫يسعون لظلمهم والبغي عليهم‪ ،‬فإنه في هذه الحالة وبعد العذار لهم وافراغ الجهد في نصحهم‪،‬‬
‫إذا لم يكفوا ع ما هم ف يه‪ ،‬يض طر الى هجر هم ومقاطعت هم وعدم الكلم مع هم زجرا ل هم عن‬
‫بغيهم وكيدهم وعدوانهم وبدعتهم حتى يتحاشاهم الناس ويعرفونهم فيحذروهم‪ ،‬بل وللداعي ان‬
‫ل يرد عليهـم السـلم إذا سـلّموا‪ ،‬امعانا فـي زجرهـم واظهارا لنكار عملهـم‪ ،‬ويعلل المامـا‬
‫الغزالي عدم رد السلم عليهم مع أن ردّه واجب بقوله "ورد السلم وان كان واجبا فانه يسقط‬
‫بأدنـى غرض فيـه مصـلحة‪ ،‬حتـى يسـقط بكون النسـان فـي الحمام وقضاء حاجتـه‪ ،‬وغرض‬
‫الز جر أ هم من هذه الغراض لن ف يه زجرا وتنفيرا ع نه"[‪ ]16‬وبهذا المع نى أيضا قال ش يخ‬
‫السلم ابن تيمية[‪.]17‬‬

‫عزلة الداعي‬
‫‪ -415‬وإذا كا نت المخال طة من مقدمات الدعوة الى ال تعالى‪ ،‬وان الدا عي ل ي ستغني عن ها‬
‫ك ما قل نا فا نه مع ذلك يحتاج الى ش يء من العزلة والوحدة والنفراد بنف سه ل نه ك ما قال ش يخ‬
‫ال سلم ا بن تيم ية‪" :‬ل بد للع بد من أوقات ينفرد ب ها بنف سه في دعائه وذكره و صلته وتفكره‬
‫ومحاسبة نفسه واصلح قلبه"[‪ ]18‬ويلحظ في هذه العزلة شيئان‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن تكون في الوقات ال تي ندب الشرع ف يه الى نوع مع ين من العبادة كالعتكاف في‬
‫رمضان وقيام الليل والصلة فيه والجلوس في المساجد انتظارا للصلة‪ ،‬فإن في هذه الوقات‬
‫والقيام فيهـا بعبادة ال بالصـلة والذكـر والدعاء نوعا ممتازا مـن العزلة والخلوة المشروعـة‪،‬‬
‫وهي على قصرها ذات أثر بليغ جدا‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬إذا احتاج الداعي إلى عزلة أكثر مما ورد في النوع الول‪ ،‬كأن يخلو في بيته أياما لما‬
‫يح سه من حا جة الى هذه الخلوة للرا حة وال ستجمام ومراج عة الح ساب مع نف سه‪ ،‬وتدارك ما‬
‫فاتـه‪ ،‬فل بأس فـي ذلك بشرط أن يكون قصـده مـن ذلك اعداد نفسـه وتهيئتهـا الى المزيـد مـن‬

‫‪274‬‬
‫الدعوة الى ال‪ ،‬فيكون مثله في هذه الحالة م ثل المجا هد الذي يتحول عن ميدان القتال ليش حذ‬
‫سيفه أو يعلف فرسه أو يصلح رمحه أو يداوي جرحه وقلبه معلق بالجهاد ونيته الرجوع إليه‬
‫من قريب فهو في جهاد في الحالتين‪ ،‬والعمال بالنيات وال المستعان‪.‬‬
‫‪ -416‬هذا وإن للداعي عزلة أخرى من نوع آخر‪ ،‬وهي غياب فكره عن الحاضرين مع بقاء‬
‫جسمه معهم‪ ،‬وهذه العزلة يحتاجها كلما وجد نفسه مضطرا بين قوم سوء ومجلس غيبة وكلم‬
‫با طل ل ي ستطيع الخروج م نه‪ ،‬ول تحو يل مجراه ال خبيث‪ ،‬فيغ يب ع نه برو حه ويب قى ج سده‬
‫معهم‪.‬‬
‫‪ -417‬وهناك عزلة ثالثة للداعي‪ ،‬وهي مفارقة الكفرة والتحول عنهم الى غيرهم إذا بدا له أن‬
‫بذل الج هد مع هم ع بث أو ل يجدي أو أن احتمال اجابت هم في الو قت الحا ضر احتمال ضع يف‬
‫أو أن أذاهم ل يطاق فيتحول عنهم الى غير هم ويوجه جهده اليهم فيدعوهم الى ال تعالى لن‬
‫جهـد الداعـي محدود ووقتـه محدود فاذا لم يجـد الجابـة عنـد قوم تحول الى غيرهـم واعتزل‬
‫الول ين بل وله أن يعتزل الجم يع الى ح ين و قد ي ستأنس لهذا بقوله تعالى حكا ية عن إبراه يم‬
‫عل يه ال سلم {وأعتزل كم و ما تدعون من دون ال}‪ .‬وبقوله تعالى حكا ية عن نبيه مو سى عل يه‬
‫السـلم {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} وقوله تعالى عـن أهـل الكهـف‪{ :‬وإذ اعتزلتموهـم ومـا‬
‫يعبدون إل ال فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيء لكم من أمركم مرفقا} وال‬
‫سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬

‫[‪ ]1‬مدارج السالكين ج ‪ ،2‬ص ‪.282-281‬‬


‫[‪ ]2‬تذكرة الداعي للبهي الخولي‪.‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير ابن كثير ج ‪ ،3‬ص ‪.70‬‬
‫[‪ ]4‬امتاع السماع‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫[‪ ]5‬سيرة ابن هشام‪ ،‬ص ‪.330‬‬
‫[‪ ]6‬امتاع السماع‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫[‪ ]7‬امتاع السماع‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫[‪ ]8‬سيرة ابن هشام ج ‪ ،1‬ص ‪.388‬‬
‫[‪ ]9‬امتاع السماع‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫[‪ ]10‬تيسير الوصول ج ‪ ،2‬ص ‪.116-12‬‬
‫[‪ ]11‬رواه المام مسلم في صحيحه ج ‪ ،5‬ص ‪ .911‬الحجز جمع حجزة وهي معقد الزرار‬
‫والسراويل والتقحم‪ :‬الوقوع في المور الشاقة من غير تثبيت‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫[‪ ]12‬رواه مسلم‪ ،‬رياض الصالحين للنووي‪ ،‬ص ‪.216‬‬
‫[‪ ]13‬شمائل الرسول صلى ال عليه وسلم لبن كثير‪ ،‬ص ‪.104-103‬‬
‫[‪ ]14‬امتاع السماع‪ ،‬ص ‪.537-536‬‬
‫[‪ ]15‬سيرة ابن هشام‪ ،‬ص ‪ ،258-257‬وامتاع السماع‪ ،‬ص ‪.537‬‬
‫[‪ ]16‬احياء علوم الدين للغزالي ج ‪ ،2‬ص ‪.149‬‬
‫[‪ ]17‬مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية ج ‪ ،8‬ص ‪.218-216‬‬
‫[‪ ]18‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪.637‬‬

‫الباب الثالث ‪ -‬ال َمدْعُو‬

‫تمهيد‬

‫‪ -586‬تكلم نا في الباب الول عن موضوع الدعوة – ال سلم – ثم تكلم نا في الباب الثا ني‬
‫عن الداعي الذ ين يؤمن بالسلم ويد عو إليه‪ .‬والشخص الذي يدعى الى السلم هو المد عو‬
‫وهو ما نتكلم عنه في هذا الباب والكلم عن المدعو يستلزم التعريف به وبيان ما له وما عليه‬
‫وأصناف المدعوين وعلى هذا سنقسم هذا الباب الى فصلين‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬التعريف بالمدعو وما له وما عليه‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أصناف المدعوين‪.‬‬

‫الباب الثالث ‪ -‬ال َمدْعُو‬

‫الفصل الول ‪ -‬التعريف بالمدعو َومَالَهُ وما عَلَيه‬

‫من هو المدعو؟‬
‫‪ -586‬النسان أي إنسان كان‪ ،‬هو المدعو الى ال تعالى‪ ،‬لن السلم رسالة ال الخالدة بعث‬
‫ال به محمدا صلى ال عليه وسلم الى الناس أجمعين قال تعالى‪{ :‬قل يا أيها الناس إني رسول‬
‫ال إليكم جميعا} وقوله تعالى‪{ :‬وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا} وهذا العموم بالنسبة‬
‫للمدعو ين ل ي ستثنى م نه أي ان سان مخا طب بال سلم ومكلف بقبوله والذعان له و هو البالغ‬
‫العا قل مه ما كان جن سه ونو عه ولو نه ومهن ته واقلي مه وكو نه ذكرا أو أن ثى الى غ ير ذلك من‬
‫الفروق بيـن البشـر‪ .‬ولذلك كان ممـن آمـن بمحمـد صـلى ال عليـه وسـلم العربـي كأبـي بكـر‪،‬‬

‫‪276‬‬
‫والحبشي كبلل‪ ،‬والرومي كصهيب‪ ،‬والفارسي كسلمان‪ ،‬والمرأة كخديجة‪ ،‬والصبي كعلي بن‬
‫أبي طالب‪ ،‬والغني كعثمان بن عفان‪ ،‬والفقير كعمار‪.‬‬
‫‪ -587‬وعلى هذا فالدعوة الى ال عا مة لجم يع الب شر ولي ست خا صة بج نس دون ج نس‪ ،‬أو‬
‫طبقة دون طب قة‪ ،‬أو فئة دون فئة‪ ،‬ولهذا يخاطب القرآن البشر بصفتهم الدمية قال تعالى‪ { :‬يا‬
‫أيها الناس اعبدوا ربكم} { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} وعلى الداعي أن يفقه عموم‬
‫دعوته الى ال ويحرص على ايصالها لكل انسان يستطيع الوصول اليه وهذا ل يناقض ابتداء‬
‫الداعي بالقربين اليه فيدعوهم قبل البعيدين لن لكل إنسان الحق في ايصال الدعوة اليه‪ ،‬فليس‬
‫البعد بأولى من القرب‪ ،‬بل القرب أولى لسهولة تبلي غه واحتمال صيرورته داعيا أيضا بعد‬
‫اسـلمه فيسـهل ايصـال الدعوة الى البعيديـن‪ ،‬ولهذا جاء فـي القرآن الكريـم‪{ :‬وأنذر عشيرتـك‬
‫القربين} وهذا وإن كان خطابا لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولكنه يشمل معناه الدعاة الى‬
‫ال فعليهم أن ينذروا القربين اليهم مبتدئين بأفراد أسرهم وأقاربهم ومن يعرفونهم بل ان دعوة‬
‫الهل وأفراد السرة أوجب من غيرهم لن الداعي ان كان رب أسرة فإنه مسؤول عنهم "كلكم‬
‫راع وم سؤول عن رعي ته" وهذه الم سؤولية تش مل القيام بشؤون هم الماد ية من توف ير الطعام‬
‫والشراب والسكن ونحو ذلك من الشياء المادية كما تشمل شؤونهم الدينية بتعليمهم ما يلزمهم‬
‫مـن أمور السـلم ودعوتهـم اليـه‪ .‬قال تعالى مثنيا على أحـد رسـله الكرام‪{ :‬وكان يأمـر أهله‬
‫بالصـلة}‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬قوا أنفسـكم وأهليكـم نارا} ووقايتهـم مـن النار تكون بدعوتهـم الى‬
‫السلم وطاعة أوامر ال وترك نواهيه‪.‬‬

‫حقوق المدعو‬
‫‪ -588‬ومـن حـق المدعـو أن يؤتـى ويدعـى‪ ،‬أي أن الداعـي يأتيـه ويدعوه الى ال تعالى ول‬
‫يجلس الدا عي في بي ته وينت ظر مج يء الناس ال يه وهكذا كان يف عل الدا عي الول نبي نا الكر يم‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يأتي مجالس قريش ويدعوهم ويخرج الى القبائل في منازلها في موسم‬
‫قدومهـا مكـة ويدعوهـم ويذهـب الى ملقاة مـن يقدم الى مكـة يدعوه‪ .‬فقـد جاء فـي سـيرة ابـن‬
‫هشام‪" :‬فكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم‪ ،‬إذا كانت‪ ،‬على قبائل‬
‫العرب يدعوهم الى ال‪ ،‬ويخبرهم انه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن‬
‫ال ما بعثه به فيقف على منازل القبائل من العرب فيقول‪" :‬يا بني فلن اني رسول ال إليكم‬
‫يأمركـم أن تعبدوا ال ول تشركوا بـه شيئا وأن تخلعوا مـا تعبدون مـن دونـه هذه النداد وأن‬
‫تؤمنوا بي وت صدقوا بي وتمنعو ني ح تى أب ين عن ال ما بعث ني به‪ ...‬وكان صلى ال عل يه‬
‫و سلم ل ي سمع بقادم الى م كة من العرب له ا سم وشرف إل ت صدى له فدعاه الى ال وعرض‬
‫عليه ما عنده"[‪ .]1‬ولم يكتف صلى ال عليه وسلم بأهل مكة ومن كان يأتيها وإنما يذهب الى‬

‫‪277‬‬
‫خارج ها ذ هب الى الطائف يد عو أهل ها (فل ما انت هى الى الطائف ع مد الى ن فر من ثق يف هم‬
‫يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم فجلس اليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فدعاهم الى ال‪.)..‬‬
‫‪ -589‬ونسأل هنا لماذا كان المدعو يؤتى ويدعى ول يأتي؟ والجواب على ذلك من وجوه‪:‬‬
‫الوجـه الول‪ :‬إن وظيفـة الرسـول الكريـم صـلى ال عليـه وسـلم التبليـغ قال تعالى‪{ :‬يـا أيهـا‬
‫الر سول بلغ ما أنزل إل يك من ر بك} وقال تعالى‪{ :‬و ما على الر سول إل البلغ ال مبين}‪ .‬وهذا‬
‫التبل يغ قد ي ستلزم نقلة الر سول صلى ال عل يه و سلم الى مكان من يراد تبلي غه لحتمال عدم‬
‫و صول خبر الدعوة ال يه أو أن ها و صلته ب صورة غ ير صحيحة‪ ،‬أو و صلته ب صورة صحيحة‬
‫ولكن لم ينهض فيأتي إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليسمع منه فلجل هذه الحتمالت‬
‫كان الرسول عليه الصلة والسلم يأتي الى أماكن الناس لتبليغهم الدعوة الى ال‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬شفقته صلى ال عليه وسلم على عباد ال وحرصه على هدايتهم وتخليصهم من‬
‫الكفر كل ذلك كان يحمله على الذهاب اليهم في أماكنهم ومنازلهم ويبلغهم الدعوة الى ال‪.‬‬
‫الو جه الثالث‪ :‬إن البع يد عن ال سلم قل به مر يض‪ ،‬ومر ضى القلوب ل يعرفون مرض هم ول‬
‫يح سون به فل يشعرون بالحا جة الى عل جه فل بد من اخبار هم بمرض هم من ق بل الر سل‬
‫الكرام ول ينتظرون مجيئهـم اليهـم ليخـبروهم بـل يذهبون اليهـم ويخـبرونهم بالمرض والعلج‬
‫لن من أعراض مرضهم إعراضهم عن الدعوة والمجيء الى صاحبها‪.‬‬
‫‪ -590‬وعلى الداعي المسلم أن يقتدي برسول ال صلى ال عليه وسلم فينتقل الى الناس في‬
‫أماكن هم ومجال سهم وقرا هم ويبلغ هم ال سلم ويدعو هم الى ال تعالى و يا حبذا لو توزع الدعاة‬
‫الى القرى والمحلت وتفرغ كل وا حد من هم الى ج هة‪ ،‬و في هذا المع نى يقول المام الغزالي‬
‫"يتكفل كل عالم باقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلّم أهله دينهم‪ ،‬وتمييز ما يضرهم‬
‫ع ما ينفع هم‪ ،‬و ما يشقي هم عما ي سعدهم‪ ،‬ول ينب غي أن ي صبر الى أن يسأل ع نه‪ ،‬بل ينب غي أن‬
‫يتصدى الى دعوة الناس الى نفسه فإنهم ورثة النبياء والنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل‬
‫كانوا ينادونهـم فـي مجامعهـم ويدورون على أبواب دورهـم فـي البتداء ويطلبون واحدا واحدا‬
‫فيرشدون هم وهذا فرض ع ين على العلماء كا فة وعلى ال سلطين كا فة أن يرتبوا في كل قر ية‬
‫و في كل محلة فقي ها متدينا يعلم الناس دين هم فان الخلق ل يولدون إل جهال فل بد من تبل يغ‬
‫الدعوة اليهم في الصل والفرع"[‪.]2‬‬

‫ل يستهان بأي إنسان‬


‫‪ -591‬ل يجوز للداعـي أن يسـتصغر شأن أي إنسـان أو أن يسـتهين بـه فل يدعوه‪ ،‬لن مـن‬
‫حق كل انسان أن يدعى‪ ،‬وقد يكون هذا الذي ل يقيم له الداعي وزنا سيكون له عند ال وزن‬
‫كبير بخدمته للسلم والدعوة إليه وهكذا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعو كل إنسان‬

‫‪278‬‬
‫يلقاه أو يذ هب إل يه‪ .‬جاء في ال سيرة النبو ية أن الر سول صلى ال عل يه و سلم ب عد أن عرض‬
‫نفسه الكريمة على قبائل العرب التي وافت الموسم في مكة وكان ذلك قبل الهجرة بنحو ثلث‬
‫سنوات‪ ،‬ولم يستجب له منهم أحد‪ ،‬لقي ستة نفر من الخزرج عند العقبة من منى وهم يحلقون‬
‫رؤوسـهم‪ ،‬فجلس إليهـم رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فدعاهـم الى ال وقرأ عليهـم القرآن‬
‫فاستجابوا ل ولر سوله وآمنوا ثم رجعوا الى قومهم بالمدي نة وذكروا لهم رسول ال صلى ال‬
‫عل يه و سلم "ودعو هم الى ال سلم فف شا في هم ح تى لم ي بق دار من دور الن صار إل في ها ذ كر‬
‫رسول ال صلى ال عل يه وسلم"[‪ ]3‬فر سول ال صلى ال عل يه وسلم لم ي ستصغر شأن أولئك‬
‫ال ستة وهم يحلقون رؤوسهم بعد أن لم يستجب له أحد من القبائل النازلة حوالي مكة ولم ي قل‬
‫في نفسه الكريمة‪ :‬أي أمل في هؤلء المشغولين بحلق رؤوسهم‪ .‬ثم إن أولئك الستة كانوا هم‬
‫الدعاة الول إلى ال سلم في المدي نة‪ ،‬فعلى الدا عي أن يقتدي بهدي ر سول ال صلى ال عل يه‬
‫وسلم‪ ،‬ول يستهين بأحد فيزهذ في دعوته فقد يكون الخير الكثير على يد هذا الذي ل يرى فيه‬
‫خيرا الن‪.‬‬

‫واجبات المدعو‬
‫‪ -592‬وإذا كان من حق المدعو أن يؤتى ويدعى‪ ،‬وأن ل يستهان به ول يستصغر شأنه‪ ،‬فإن‬
‫عليه أن يستجيب إذا ما دعي إلى ال‪ ،‬لنه يُدعى الى الخير والحق ويستجيب لنداء ربه جل‬
‫جلله‪ .‬و من بيان الوا قع الذي قد ي ستفيد م نه الدا عي‪ ،‬ويطرد ع نه اليأس ويب قي أما مه ال مل‪،‬‬
‫نقول‪ :‬إن الناس لي سوا سواء في ال ستجابة الى ال حق وقبول الدعوة‪ ،‬فمن هم ال سريع جدا في‬
‫ال ستجابة ومن هم البط يء جدا ومن هم ب ين هذ ين الحد ين في درجات كثيرة جدا ت ستعصي على‬
‫العدّ والح صاء‪ .‬ف من الناس من يؤ من حال وبدون تردد أو تل كؤ أو تع ثر ح تى كأ نه ينت ظر‬
‫سماع الدعوة ليؤمن‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ايمان أبي بكر الصديق وايمان السحرة بموسى‪ .‬أما ايمان‬
‫أبي بكر فقد أخبر عنه رسولنا الكريم صلى ال عليه وسلم إذ قال "ما دعوت أحدا الى السلم‬
‫إل كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد ال ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة‪ ،‬ما عكم – أي ما‬
‫تلبث – حين ذكرته له وما تردد فيه"[‪ ]4‬أما ايمان السحرة فأعني بهم السحرة الذين جاء بهم‬
‫فرعون م صر لبطال معجزة مو سى عل يه ال سلم‪ .‬وأخبر نا ال تعالى بق صتهم وايمان هم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين‪ ،‬قالوا آمنا برب‬
‫العالم ين رب موسى وهارون‪ ،‬قال آمنتم له ق بل أن آذن ل كم‪ ،‬انه ل كبيركم الذي علم كم السحر‬
‫فلسوف تعلمون‪ ،‬لقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف ولصلبنكم أجمعين قالوا ل ضير إنا إلى‬
‫ربنا منقلبون‪ ،‬إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} فأولئك السحرة جاؤوا‬
‫لينصـروا باطـل فرعون وكفره ويقاوموا دعوة موسـى نـبي ال‪ ،‬ولكـن مـا ان رأوا المعجزة‬

‫‪279‬‬
‫وعلموا أن ها لي ست من ال سحر الذي تعلموه‪ ،‬وان ما هي من ع ند ال ودل يل صدق نبيه الكر يم‬
‫مو سى عل يه ال سلم‪ ،‬أقول ما ان رأو ذلك ح تى آمنوا حال وأعلنوا ايمان هم صراحة ب ما يدل‬
‫على عظم اليمان وقوة نوره الذي دخل قلوبهم وبدد كل باطل فيها حتى هتفت ألسنتهم وقالوا‪:‬‬
‫{آمنا برب العالمين‪ ،‬رب موسى وهارون} ولما هددهم اللعين بما هددهم به قالوا {ل ضير} أي‬
‫ل ضرر علي نا في ما يلحق نا من عذاب الدن يا فان عذا بك ساعة فن صبر ل ها ثم نل قى ال رب نا‬
‫مؤمنيـن ونحـن نرجـو أن يغفـر خطايانـا السـابقة فاننـا بادرنـا الى اليمان عنـد ظهور معجزة‬
‫موسى عليه السلم‪.‬‬
‫هذان مثلن لل ستجابة ال سريعة لدعوة ال تكون ع ند ب عض الناس أ ما المثلة على ال ستجابة‬
‫البطيئة فهي كثيرة نكتفي منها بما قصه ال علينا من أخبار قوم نوح فانه لبث فيهم ألف سنة‬
‫إل خمسـين عاما ومـع هذا لم يؤمـن له إل القليـل كمـا جاء فـي القرآن الكريـم‪ .‬وأبـو سـفيان‬
‫والطلقاء لم يؤمنوا بال سلم و نبي ال سلم مح مد صلى ال عل يه و سلم إل ب عد ف تح م كة وب عد‬
‫عداوة شديدة ومحاربة دا مت عشرين سنة‪ .‬وهناك من ل ي ستجيب الى دعوة ال ويموت و هو‬
‫كافر‪ ،‬نعوذ بال من الخذلن‪.‬‬
‫‪ -593‬و من واجبات المد عو ب عد أن هداه ال الى ال سلم أن يقوم ب حق ال سلم فيق يم أمور‬
‫حيا ته و سلوكه على منا هج ال سلم ويع بد ال على الن حو الذي أ مر به وبينّه في قرآ نه وعلى‬
‫لسان رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم حتى ل يكون في اسلمه شوب نفاق‪ ،‬يقول‪ :‬إنه من‬
‫المسلمين‪ ،‬ولكنه ل يؤدي حقوق السلم‪.‬‬

‫[‪ ]1‬سيرة ابن هشام ج ‪ ،2‬ص ‪.32-31‬‬


‫[‪ ]2‬احياء علوم الدين للغزالي ج ‪ 3‬ص ‪.45‬‬
‫[‪ ]3‬امتاع السماع للمقريزي ص ‪.33-32‬‬
‫[‪ ]4‬سيرة ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.268‬‬

‫الفصل الثاني ‪ -‬أصناف المدعوين ‪ -‬تمهيد‬

‫في كل مجتمع يوجد سادة واشراف لهم نفوذ فيه وقد يكون بأيديهم السلطان وهؤلء هم‬
‫الصنف الول من المدعوين ويسميهم القرآن "المل" وازاء هؤلء يوجد جمهور الناس‬
‫وعامتهم‪ ،‬وهؤلء هم الصنف الثاني من المدعوين‪ ،‬فاذا ما استجاب الناس الى الدعوة الى ال‬
‫ودخل اليمان في قلوبهم وصارت الغلبة للمؤمنين وصار المجتمع اسلميا أمكن عند ذاك‬
‫ظهور صنف آخر يظهر السلم رياء ونفاقا ويبطن الكفر وهؤلء هم المنافقون وهم الصنف‬

‫‪280‬‬
‫الثالث من أصناف المدعوين‪ ،‬كما أن من دخل في السلم قد يكون اسلمه ضعيفا وإيمانه‬
‫رقيقا مما يجعل انزلقه الى المعاصي سهل وهؤلء هم العصاة ويكونون الصنف الرابع من‬
‫أصناف المدعوين‪ ،‬ول بد من الكلم عن هذه الصناف في المباحث التالية‬

‫الفصل الثاني ‪ -‬أصناف المدعوين ‪ -‬المبحث الول ‪ -‬المل‬

‫تعريف المل‬
‫‪ -586‬يستعمل القرآن الكر يم كلمة "المل" في قصصه عن الرسل الكرام وما جرى لهم مع‬
‫أقوام هم "والمل" ك ما يقول المف سرون‪ :‬هم أشراف القوم وقادت هم ورؤ ساؤهم و ساداتهم[‪ ]1‬ف هم‬
‫اذن البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه الذين يعتبرهم الناس اشرافا وسادة‪ ،‬أويعتبرون‬
‫حسب مفاهيم المجتمع وقيمه اشراف المجتمع وسادته‪ ،‬ومن ثم يستحقون – في عرف الناس –‬
‫قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه‪ ،‬وقد يباشرون ذلك فعلً‪ .‬واطلق كلمة المل على هؤلء‬
‫فـي القرآن الكريـم بهذا المعنـى‪ ،‬هـو مـن قبيـل بيان الواقـع ل مـن قبيـل بيان اسـتحقاقهم فعلً‬
‫للشرف وال سيادة والقيادة والرئا سة‪ .‬ويش به هذا الطلق ما ورد في ر سائل ال نبي صلى ال‬
‫عليه وسلم الى رؤساء فارس والروم ومصر‪ ،‬فقد جاء في بعض هذه الرسائل مخاطبة الرسول‬
‫الكريـم صـلى ال عليـه وسـلم الى رئيـس الروم بعبارة "إلى عظيـم الروم" فاطلق هذه العبارة‬
‫على رئيس الروم من قبيل بيان واقعه وهو انه عظيم في نظر الروم لرئاسته لهم‪ ،‬وليس بيانا‬
‫لستحقاقه هذا الوصف‪.‬‬

‫المل والدعوة الى ال‬


‫‪ -587‬والوصـف الغالب على المل مـن كـل قوم معاداتهـم للدعوة الى ال تعالى‪ ،‬فقـد قاوموا‬
‫دعوة الر سل الكرام الى ال تعالى‪ ،‬وكانوا هم الذ ين يتولون كبر المقاو مة الثي مة للدعوة الى‬
‫ال ويقودون حملة الكذب والفتراء والتضليـل ضـد انـبياء ال تعالى‪ ،‬يدل على ذلك قول ربنـا‬
‫تبارك وتعالى‪{ :‬و ما أر سلنا في قر ية من نذ ير إل قال مترفو ها إ نا ب ما أر سلتم به كافرون‪.‬‬
‫وقالوا نحـن أكثـر أموال وأولدا ومـا نحـن بمعذبيـن} سـورة سـبأ اليتان‪ ،35-34 :‬يخـبر ال‬
‫سبحانه وتعالى في هذه الية الكريمة رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم مسليا له أنه ما أرسل‬
‫من ر سول الى قر ية إل قال مترفو ها – و هم أولو القوة والحش مة والثروة والترف والريا سة‬
‫وقادة الناس في الشر – ل نؤمن به ول نتبعه[‪ ]2‬وقال تعالى عن سيدنا نوح عليه السلم‪{ :‬لقد‬
‫أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم‬
‫عظيـم‪ .‬فقال المل مـن قومـه إنـا لنراك فـي ضلل مـبين} سـورة العراف اليتان‪،60-59 :‬‬
‫فالمل من قوم نوح هم الذين تصدوا للدعوة الى ال‪ ،‬وهم الذين نسبوا نبيهم الى الضلل المبين‬

‫‪281‬‬
‫وهذا مـن أعظـم الظلم والصـد عـن سـبيل ال إذ يوصـف الحـق الذي جاء بـه نوح مـن ربـه‬
‫بالضلل‪ ،‬ول كن هذا هو من طق المل وكذلك كان مو قف المل من قر يش من دعوة ر سول ال‬
‫صـلى ال عليـه وسـلم قاوموا هذه الدعوة المباركـة‪ ،‬وآذوا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫ورموه بالكذب وتآمروا بـه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وعجبوا أن جاءهـم منذر منهـم وقال الكافرون هذا‬
‫سـاحر كذاب‪ ،‬أجعـل اللهـة إلها واحدا إن هذا لشيـء عجاب‪ .‬وانطلق المل منهـم أن امشوا‬
‫وا صبروا على آلهت كم ان هذا لش يء يراد‪ .‬ما سمعنا بهذا في الملة الخرة إن هذا إل اختلق}‬
‫سـورة ص اليات‪ 7 – 4 :‬والمل فـي اليـة الكريمـة هـم سـادة قريـش وقادتهـا ورؤسـاؤها‬
‫وكبراؤ ها‪ ،‬قالوا لقوم هم‪ :‬ا ستمروا على دين كم ول ت ستجيبوا ل ما يدعو كم إل يه مح مد صلى ال‬
‫عليه وسلم من التوحيد[‪.]3‬‬
‫وفي السيرة النبوية الشيء الكثير عن موقف المل من قريش وغيرهم من الدعوة الى ال التي‬
‫بلغهم إياها الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من ذلك ما ذكره ابن هشام في سيرته من أن‬
‫الرسـول صـلى ال عليـه وسـلم كان يخرج الى القبائل ويدعوهـا الى ال تعالى‪ ،‬وكان يمشـي‬
‫وراءه أبـو لهـب وهـو مـن أشراف قريـش ويقول للناس "‪ ...‬فل تطيعوه ول تسـمعوا منـه"[‪]4‬‬
‫وكذلك عندما خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم الى الطائف واجتمع بنفر منهم "وهم يومئذ‬
‫سادة ثقيف وأشرافها" ردوه أقبح رد ولم يكتفوا بذلك وإنما "اغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه‬
‫ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس"[‪.]5‬‬

‫أسباب عداوة المل للدعوة الى ال‬


‫‪ -588‬من التأمل في اليات المسوقة في قصص النبياء وما جرى لهم مع أقوامهم تظهر لنا‬
‫أسباب مخاصمة المل للرسل الكرام وعداوتهم لهم ورفضهم دعوتهم‪ ،‬ومن أهم هذه السباب‬
‫ال كبر الذي تغل غل في نفو سهم وحب هم الريا سة والجاه‪ ،‬والجهلت ال تي ح سبوها أدلة ويقينيات‪.‬‬
‫ونتكلم فيما يلي عن كل سبب مع ما ورد بشأنه من آيات وآثار‪.‬‬

‫أولً‪ :‬الكبر‬
‫‪ -589‬ال كبر خلق ذم يم وآ فة عظي مة م ستقرة في الن فس‪ ،‬وتظ هر آثاره في الخارج بأشكال‬
‫مختل فة وموا قف متعددة‪ ،‬و من آثاره عدم رؤية ال حق في غالب الحيان أو رؤي ته ول كن الكبر‬
‫يم نع من العتراف به والنقياد له ك ما يم نع العتراف بالف ضل لولي الف ضل ويم نع المت كبر‬
‫من الرؤية الصحيحة لقدر نفسه فيراها فوق أقدار الناس فيستنكف أن يكون معهم أو تابعا لحد‬
‫منهم‪ ،‬وقد يقترن الحسد مع الكبر فيزيد من آثاره سوءا وصدودا عن الحق وجحدا له ومحاربة‬
‫لهله وعداوة لهم‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫‪ -590‬ومن اليات الدالة على صفة الكبر في المل وما أدت إليه من نتائج غاية في السوء‬
‫والقبح قوله تعالى‪:‬‬
‫{وجحدوا بهـا واسـتيقنتها أنفسـهم ظلما وعلوا‪ }...‬ففرعون وقومـه أنكروا نبوة موسـى‬ ‫‪-1‬‬
‫عل يه ال سلم مع أن نفو سهم أيق نت ب ها‪ ،‬وكان الحا مل ل هم على انكار ها ظلم هم وت كبرهم على‬
‫موسى عليه السلم‪.‬‬
‫{لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم‬ ‫‪-2‬‬
‫عذاب يوم عظيم‪ ،‬قال المل من قومه انا لنراك في ضلل مبين} فالمل بدل من رؤيتهم الحق‬
‫الذي جاءهـم بـه نوح رأوه ضلل‪ ،‬ونوره ظلما‪ ،‬وادعوا ان هذا الضلل بيـن‪ ،‬أي‪ :‬ظاهـر‬
‫واضح‪ ،‬وهو في الحقيقة دليل على عماهم وعدم رؤيتهم الحق الذي أدي بهم الى هذا الدعاء‬
‫وبالتالي الى هلكهم‪ ،‬قال تعالى مخبرا عن عاقبتهم {وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أنهم كانوا قوما‬
‫عمين} سورة العراف الية‪.60 :‬‬
‫وقال تعالى مخبرا عن المل من قوم عاد وما قالوه لنبيهم هود‪{ :‬قال المل الذين كفروا‬ ‫‪-3‬‬
‫من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} والمقصود بالسفاهة الحمق وخفة العقل‪،‬‬
‫فالمل من قوم عاد يرون ما يدعو هم ال يه نبيهم حمقا وخ فة ع قل ولو كان عند هم ب صر حد يد‬
‫لرأوا ان ما يدعوهم اليه هو الحق الصريح‪.‬‬
‫ما بينه ال تعالى عن المل من قريش وكيف أنهم وصفوا دعوة الرسول صلى ال عليه‬ ‫‪-4‬‬
‫و سلم بالكذب والختلق قال تعالى م خبرا عن هم‪ { :‬ما سمعنا بهذا في الملة الخرة ان هذا إل‬
‫اختلق} وكيف أنهم وصفوه بالسحر والجنون قبحهم ال تعالى‪.‬‬
‫قال تعالى مخبرا عن المل من قوم نوح {فقال المل الذين كفروا من قومه ما نراك إل‬ ‫‪-5‬‬
‫بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل‬
‫نظنكـم كاذبيـن} سـورة هود اليـة‪ ،27 :‬فالمل مـن قوم نوح يقولون مـا نراك اتبعـك إل أراذل‬
‫القوم – وهم الفقراء والضعفاء وأصحاب الحرف الخسيسة – ولم يتبعك السادة والشراف ول‬
‫القادة الرؤ ساء فك يف نكون مع هم ومثل هم في متابع تك؟ ثم يقولون وهؤلء الراذل اتبعوك بل‬
‫إعمال فكر‪ ،‬ول روية‪ ،‬ول تأمل لنهم من الراذل‪ ،‬ل من السادة والشراف ثم يضيفون الى‬
‫ذلك بأنهـم ل يرون لرسـول ال ول لتباعـه أي فضـل عليهـم‪ ،‬ثـم ينتهون الى القول بأنـه مـن‬
‫الكاذبيـن‪ .‬وهذا كله مـن نتائج كـبرهم النفسـي الذي جعلهـم يقلبون الحقائق ويأنفون عـن الحـق‬
‫بحجة أن الراذل ابتعوه‪ ،‬وفاتهم ان الحق في نفسه يبقى حقا سواء اتبعه الضعفاء والفقراء أو‬
‫القادة والرؤ ساء وان أتباع ال حق في الحقي قة هم الشراف ولو كانوا فقراء‪ ،‬وان الراذل في‬
‫الحقيقة هم المعاندون المخالفون للحق وان كانوا في أعين الناس من الشراف‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫وقال تعالى‪ { :‬ثم أر سلنا مو سى وأخاه هارون بآيات نا و سلطان مبين‪ .‬إلى فرعون وملئه‬ ‫‪-6‬‬
‫فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا‬
‫من المهلكين} وفرعون ملؤه‪ ،‬استكبروا عن اتباع الحق فجحدوا وجاؤوا بهذه الجهالت تبريرا‬
‫لكفرهم‪ ،‬وفرعون هذا هو الذي أدى به كبره الى ادعاء اللوهية وشيء من الربوبية قال تعالى‬
‫مخبرا عنه {ما علمت لكم من إله غيري} {أنا ربكم العلى}‪.‬‬
‫وفي السيرة النبوية أن المل من قريش قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم ل نرضى‬ ‫‪-7‬‬
‫أن نكون مـع هؤلء يعنون ضعفاء المسـلمين مثـل صـهيب وعمار وبلل وخباب – فاطردهـم‬
‫عنك ول تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك فاذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا‪،‬‬
‫فأدخلهـم ان شئت فأنزل ال تعالى‪{ :‬واصـبر نفسـك مـع الذيـن يدعون ربهـم بالغداة والعشـي‬
‫يريدون وجهه ول تعد عيناك عنهم} وقال تعالى عن أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين طلبوا‬
‫ما طلبوا {ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}[‪.]6‬‬
‫وقال تعالى عن المت كبرين عن ر سالة ال سلم واليمان بمح مد صلى ال عل يه و سلم‪:‬‬ ‫‪-8‬‬
‫{وقالوا لول نزّل هذا القرآن على ر جل من القريت ين عظ يم‪ ،‬أ هم يق سمون رح مة ر بك‪ ،‬ن حن‬
‫قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا‪ }...‬سورة الزمر الية‪ ،31 :‬ومعنى هذه الية الكريمة‪،‬‬
‫ان المعترضين على القرآن الكريم‪ ،‬المتكبرين عن اليمان به والتصديق بنبوة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم قالوا‪ :‬هل كان انزال القرآن على رجل كبير في أعينهم من القريتين‪ :‬مكة والطائف‬
‫و عن ا بن عباس يعنون بالر جل العظ يم جبارا من جبابرة قر يش[‪ ]7‬ف هم بدا فع كبرهم النف سي‬
‫يستصغرون شأن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول يرونه أهل للرسالة وأنهم أو غيرهم من‬
‫ال كبراء هم الم ستحقون للر سالة وتنزل الو حي‪ ،‬ورد ال علي هم قول هم بأن ال مر ب يد ال وال‬
‫أعلم حيث يجعل رسالته‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬حب الرياسة والجاه‬


‫‪" -591‬والمل" يحبون الرياسـة والجاه والتسـلط على رقاب العباد ولذلك فهـم يعارضون كـل‬
‫دعوة تسلبهم مكانتهم بين الناس وتجعلهم تابعين كبقية الناس‪ .‬وهم يتصورون أن قبولهم الدعوة‬
‫الى ال يسلبهم جاههم وسلطانهم ولذلك يقاومونها ويعادونها ويأتون بالباطيل لتبرير عداوتهم‪،‬‬
‫ومـن اليات الدالة على حبهـم للرياسـة والجاه وأن هذا الحـب كان مـن أسـباب رفضهـم دعوة‬
‫الحق الى ال تعالى‪ :‬ما يأتي‪:‬‬
‫في قصة نوح عليه السلم قال تعالى‪{ :‬فقال المل الذين كفروا من قومه ما هذا إل بشر‬ ‫‪-1‬‬
‫مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء ال لنزل ملئكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الولين} سورة‬
‫المؤمنون الية‪.24 :‬‬

‫‪284‬‬
‫"فالمل" دفاعا عن رياستهم على الناس وتسلطهم عليهم يقولون‪ :‬إن نوحا بدعوته هذه يريد أن‬
‫يتفضـل عليكـم‪ ،‬أي يترفـع ويتعاظـم عليكـم ويترأس عليكـم‪ .‬ويريـد المل بهذا الدعاء صـرف‬
‫الناس عن نوح عليه السلم لتبقى سيطرتهم ورياستهم عليهم‪ .‬والحقيقة أن رسل ال ل يريدون‬
‫علوا في الرض ول ف سادا ول ريا سة ول تعاظما وإن ما هم بطبي عة دعوت هم ي صيرون أئ مة‬
‫للناس وتصير لهم الرياسة ولكن ليست هي مثل رياسة أولئك المل المتكبرين على ال‪.‬‬
‫قال تعالى عن فرعون وملئه‪ { :‬ثم بعث نا من بعد هم مو سى وهارون إلى فرعون وملئه‬ ‫‪-2‬‬
‫بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين‪ .‬فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين‪.‬‬
‫قال مو سى أتقولون لل حق ل ما جاء كم أ سحر هذا ول يفلح ال ساحرون‪ .‬قالوا أجئت نا لتلفت نا ع ما‬
‫وجد نا عل يه آباء نا وتكون لك ما ال كبرياء في الرض و ما ن حن لك ما بمؤمن ين} سورة يو نس‬
‫اليات‪.78-76 :‬‬
‫ـم برروا‬
‫ـن ثـ‬
‫ـق والنقياد له وكانوا قوما مجرميـ‬
‫ـن اتباع الحـ‬
‫ـتكبروا عـ‬
‫ففرعون وملؤه اسـ‬
‫اسـتكبارهم عـن الحـق بالدعاء بأن موسـى وهارون يريدان ثنيهـم عـن الديـن الذي كان عليـه‬
‫آباؤهـم أو أنهمـا يريدان أن تكون لهمـا الكـبرياء أي العظمـة والرياسـة فـي الرض‪ .‬فأسـباب‬
‫رفض فرعون وملئه دعوة الحق ترجع الى الكبر وإلى حب الرياسة والعلو في الرض ولهذا‬
‫اتهموا موسى وهارون بحب الرياسة لن فرعون يظن أن القصد من دعوتهما هو ذلك أو أن‬
‫مآل دعوتهما ذهاب رياسته على الناس‪.‬‬
‫وقال تعالى عن المل من قريش {وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن‬ ‫‪-3‬‬
‫هذا لشيء يراد} هذا بعض ما قاله المل من قريش‪ ،‬ومعناه كما جاء في تفسير القرطبي‪" :‬إن‬
‫هذا لش يء يراد‪ :‬كل مة تحذ ير‪ ،‬أي إن ما ير يد مح مد صلى ال عل يه و سلم ب ما يقول النقياد له‬
‫ليعلو علينا ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد فاحذروا أن تطيعوه"[‪.]8‬‬
‫وفي تفسير ابن كثير في معنى قوله تعالى‪{ :‬إن هذا لشيء يراد}‪ :‬قال ابن جرير في معنى هذه‬
‫ال ية‪ :‬إن المل قالوا إن هذا الذي يدعو نا إل يه مح مد صلى ال عل يه و سلم من التوح يد لش يء‬
‫ير يد به الشرف علي كم وال ستعلء وان يكون له من كم أتباع ول سنا نجي به[‪ .]9‬ومع نى ذلك كله‬
‫أن المل من قريش حرصا منهم على الرياسة والجاه رفضوا دعوة السلم لظنهم انها تفقدهم‬
‫جاههم وسلطانهم علىالناس‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الجهالة‬
‫‪" -592‬والمل" غارق في الجهالة‪ ،‬ول يش عر بجهال ته ف هو يك فر بر به ويرد دعو ته الكري مة‬
‫التـي بعـث بهـا رسـله الى الناس ويصـفها بأنهـا ضلل ويرمـي مبلغيهـا وهـم الرسـل الكرام‬
‫بال سفاهة وخ فة الع قل‪ .‬ويؤلب الدهماء علي هم ويك يد ضد هم ويعادي هم وي ستغرب من دعوت هم‬

‫‪285‬‬
‫ويدعي أن آية كذب الرسول أنه من البشر‪ ،‬وأنهم أي المل أولى بالرسالة ممن أرسلوا‪ ،‬لنهم‬
‫– المل – أك ثر مال وأ عز نفرا‪ ،‬وأن الر سل الكرام يريدون تحويل هم عن ملة آبائ هم ويأتون هم‬
‫بدين جديد ما سمعوا به من قبل وأنهم – أي المل – يسخرون ويستهزئون بالمؤمنين زاعمين‬
‫أنهــم ل يفهمون ول يعلمون ولهذا ااتبعوا الدعوة الى ال واتبعوا رســل ال بل رؤيــة ول‬
‫تمحيص ول تأمل بينما هم لم يفعلوا ذلك لنهم سادة أشراف يفهمون ويعقلون ويدركون‪.‬‬
‫وانهـم يحسـبون النـبياء الكرام مفسـدين فـي الرض‪ ،‬وانهـم – أي المل – هـم المصـلحون‬
‫المدافعون عن دين الناس وحقوقهم‪ ،‬وانهم في سبيل هذا الدفاع سيحاربون النبياء والدعاة الى‬
‫ال تعالى‪ .‬وهذه بعض آثار جهالتهم وحماقاتهم اخبرنا ال تعالى بها في آيات كثيرة‪ ،‬وهي من‬
‫أ سباب ضلل هم وحماقات هم‪ ،‬و هي من أ سباب ضلل هم وعدم انتفاع هم بهدى ال تعالى‪ ،‬ف من‬
‫ذلك‪:‬‬
‫قال تعالى عن قوم نوح {فقال المل الذ ين كفروا من قو مه ما نراك إل بشرا مثل نا و ما‬ ‫‪-1‬‬
‫نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين}‬
‫فهم لجهالتهم‪ ،‬يقولون لنبيهم نوح عليه السلم‪ :‬لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من‬
‫دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا ولم يتبعك الشراف ول الرؤساء منا‪ .‬وهذا كله‬
‫من جهالتهم وإل لو كان لهم عقل لعلموا أن ل بد أن يكون الرسول من البشر حتى يمكن أن‬
‫يخاطبهـم ويمكـن لهـم أن يفهموه كمـا أنهـم لو كان لهـم عقـل سـليم لعلموا أن الحرمان والفقـر‬
‫والضعف ل علقة لشيء منها في أمور الديانة وأن الضعفاء والفقراء باتباعهم الحق يبرهنون‬
‫على حسن ادراكهم وصفاء نفوسهم‪.‬‬
‫وقال تعالى عن قوم ثمود و ما قالوه ل نبيهم صالح {قال المل الذ ين ا ستكبروا من قو مه‬ ‫‪-2‬‬
‫للذ ين ا ستضعفوا ل من آ من من هم أتعلمون أن صالحا مر سل من ر به؟ قالوا إنّا ب ما أر سل به‬
‫مؤمنون‪ .‬قال الذيـن اسـتكبروا إنـا بالذي آمنتـم بـه كافرون} سـورة العراف اليـة‪،76-75 :‬‬
‫فالمل من ثمود كانوا م صرين على جهالت هم وانكار هم نبوة صالح عل يه ال سلم وان ما سألوا‬
‫المؤمنين سؤال متكبر جاهل ل سؤال متفهم متواضع‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬وكذلك ما أر سلنا من قبلك في قر ية من نذ ير إل قال مترفو ها إ نا وجد نا‬ ‫‪-3‬‬
‫آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمترفون هم (المل) وجوابهم على دعوة رسل ال‬
‫أن هم وجدوا آباء هم على ملة ود ين وان هم مقتفون أثر هم ل يحيدون عن ذلك وهذا من جهل هم‪،‬‬
‫لن الباطل ل يتابع وأن الحق أحق أن يت بع‪ ،‬وهذا التقليد الذم يم للباطل القد يم الذي كان عل يه‬
‫الباء والجداد من أعظم أسباب التمرد على الحق‪ .‬قال تعالى في داء التقليد الذميم‪{ :‬وإذا قيل‬
‫لهم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئا ول‬
‫يهتدون} سورة البقرة الية‪.170 :‬‬

‫‪286‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وقال المل مـن قوم فرعون أتذر موسـى وقومـه ليفسـدوا فـي الرض‬ ‫‪-4‬‬
‫ويذرك وآلهتـك‪ ،‬قال سـنقتل أبناءهـم ونسـتحي نسـاءهم وإنـا فوقهـم قاهرون} سـورة العراف‬
‫ال ية‪" .127 :‬المل" من قوم فرعون يع تبرون مو سى نبي ال والدا عي إل يه وأتبا عه المؤمن ين‬
‫مفسـدين فـي الرض ويؤلبون فرعون على مقاومتهـم والقضاء عليهـم‪ .‬إن جهلهـم مـع كـبرهم‬
‫وحبهم للرياسة والجاه جعلهم يعتبرون موسى مفسدا في الرض‪.‬‬

‫المل هم المل في كل مكان وزمان‬


‫‪ -593‬والمل بأوصافهم وأخلقهم التي بينها القرآن الكريم يوجدون في كل مجتمع وفي كل‬
‫مكان وزمان ولهذا ف هم يقفون غالبا فـي و جه كل دعوة الى ال تعالى ويحاربون ها بدا فع من‬
‫الكبر الذي يغشى نفوسهم وبدافع حب الرياسة على الناس وخوفهم من أن تسلبهم هذه الدعوة‬
‫الصـلحية مركزهـم ومكانتهـم وترفهـم‪ .‬وممـا يدل على بقاء المل فـي كـل زمان ومكان‬
‫معارض ين ل كل دعوة طي بة خيرة تر يد ال صلح واي صال الناس الى خالق هم‪ ،‬ان الدوا فع ال تي‬
‫دفعت المل من القوام الماضية الى محاربة رسل ال والدعوة إليه‪ ،‬هي نفسها توجد في نفوس‬
‫الكـبراءس والمترفيـن‪ ،‬فالكـبر يعلق فـي النفوس المريضـة والحرص على الرياسـة والجاه‬
‫والمنزلة موجود في النفوس وإن ما ينق مع باليمان‪ ،‬والج هل يخيّم على م ثل هذه النفوس ال تي‬
‫تعشـق العلو فـي الرض والترف فـي الحياة‪ ،‬وإذا مـا دخـل أصـل اليمان فـي نفوس السـادة‬
‫والكـبراء والشراف‪ ،‬فان هذا اليمان يبقـى ضعيفا غالبا ل يقوى على منعهـم مـن الصـد عـن‬
‫سبيل ال ول عن محار بة الدعاة الى ال تعالى بشبهات واهية من جنس شبهات المل القدامى‬
‫الذين حاربوا رسل ال وصدوا عن دعوتهم المباركة وقد تنبه المفسرون الى أن (المل) يبقون‬
‫معارضين للدعوة الى ال‪ .‬جاء في تفسير ابن كثير بصدد قوله تعالى‪{ :‬قال المل من قومه إنا‬
‫لنراك في ضلل مبين} قال‪ :‬وهكذا حال الفجار انما يرون البرار في ضلله[‪ .]10‬وقال أيضا‬
‫فـي مكان آ خر من تفسـيره‪ :‬ثـم الواقـع غالبا أن مـن يت بع الحـق ضعفاء الناس‪ ،‬والغالب على‬
‫الشراف والكبراء مخالفته[‪ ]11‬ومثله جاء في تفسير القرطبي[‪.]12‬‬
‫[‪ ]1‬تفسير القرطبي ج ‪ 3‬ص ‪ ،234‬ج ‪ 12‬ص ‪ ،121‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.223‬‬
‫[‪ ]2‬تفسير ابن كثير ج ‪ 3‬ص ‪.540‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير ابن كثير ج ‪ 4‬ص ‪.27‬‬
‫[‪ ]4‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.32‬‬
‫[‪ ]5‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.28-27‬‬
‫[‪ ]6‬شمائل الرسول صلى ال عليه وسلم لبن كثير ص ‪.104-103‬‬
‫[‪ ]7‬تفسير ابن كثير ج ‪ 4‬ص ‪.127-126‬‬

‫‪287‬‬
‫[‪ ]8‬تفسير القرطبي ج ‪ 15‬ص ‪.152-151‬‬
‫[‪ ]9‬تفسير ابن جرير ج ‪ 4‬ص ‪.27‬‬
‫[‪ ]10‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.440‬‬
‫[‪ ]11‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.441‬‬
‫[‪ ]12‬تفسير القرطبي ج ‪ 15‬ص ‪.150‬‬

‫الفصل الثاني ‪ -‬أصناف المدعوين ‪ -‬المبحث الثاني ‪ -‬جمهور الناس‬

‫تعريف جمهور الناس‬


‫‪ -586‬نريـد مـن قولنـا جمهور الناس معظمهـم‪ ،‬لن جمهور كـل شيـء معظمـه وأكثره‪،‬‬
‫والمق صود بمع ظم الناس ما عدا (المل) و قد تكلم نا عن هم و هم عادة قلة‪ ،‬أ ما ما عدا هم ف هم‬
‫أكثريـة الناس فـي أي مجتمـع بشري وهؤلء الجمهور يكونون عادة مرؤوسـين للمل وتابعيـن‬
‫لهم‪ .‬كما يكونون غالبا فقراء وضعفاء ويباشرون مختلف العمال والحرف‪.‬‬

‫الجمهور أسرع من غيرهم الى الستجابة‬


‫‪ -587‬الجمهور أ سرع من غير هم الى ال ستجابة الى ال حق ف هم أتباع ر سل ال‪ ،‬ي صدقونهم‬
‫ويؤمنون بهم قبل غيرهم‪ ،‬كما قال هرقل لبي سفيان يوم اجتمع به في الشام لما سمع هرقل‬
‫بأنه من مكة فأراد أن يسأل عن أخبار النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال هرقل‪ :‬أشراف الناس‬
‫يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان بل ضعفاؤهم‪ ،‬فقال هرقل‪ :‬هم أتباع الرسل[‪ ]1‬والواقع‬
‫أن أتباع ر سل ال كانوا من جمهور الناس و قد ذكر نا في بحث نا عن (المل) ك يف قالوا لنوح‬
‫عليه السلم {وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا‪ }..‬وقول (المل) من ثمود كما حكاه ال جل‬
‫جلله عن هم {قال المل الذ ين ا ستكبروا من قو مه للذ ين ا ستضعفوا ل من آ من من هم أتعلمون أن‬
‫صالحا مرسل من ربه‪ ،‬قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون‪ }...‬وكذلك كان أتباع نبينا محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم في مكة من الضعفاء وقد نالهم من المشركين أذى كثير[‪ .]2‬والجمهور في كل‬
‫وقت أسرع من غيرهم الى قبول الحق‪ ،‬قال ابن كثير في تفسيره "ثم الواقع غالبا أن يتبع الحق‬
‫ضعفاء الناس"[‪.]3‬‬

‫تعليل سرعة استجابة الجمهور للحق‬


‫‪ -588‬وتعل يل سرعة ا ستجابة الجمهور لل حق‪ ،‬وقبول الدعوة الى ال أن هم خالون من موا نع‬
‫القبول الموجودة في (المل) كحب الرياسة والتسلط‪ ،‬والنفة من النقياد للغير لكبرهم النفسي‬

‫‪288‬‬
‫وبالتالي يكونون أسـرع الى الجابـة للحـق والنقياد له مـن غيرهـم‪ ،‬وهذا التعليـل أشار اليـه‬
‫القرطبي في تفسيره‪ ،‬والواقع أن الكبر وحب الرياسة والنغماس في الترف ونحو ذلك مما ل‬
‫ينفك عنه (المل) غالبا‪ ،‬يجعل انفكاكهم عن هذه الموانع صعبا وبالتالي تكون قلوبهم في أكنّة ل‬
‫تتأثـر بال حق وعلى عيون هم غشاوة ل ترى ال حق واضحا جليا فتند فع الى معادا ته عن ج هل‬
‫وبدافع الحرص على مكانتهم كما بينا هذا من قبل‪.‬‬

‫احتمال تأثر الجمهور بالمل‬


‫‪ -589‬ومـع أن الجمهور مهيـأ لسـتجابة السـريعة أكثـر مـن غيره وأن فرص اليمان أمامـه‬
‫كثيرة وأن فطرته سليمة فان هناك احتمال لتأثر الجمهور بمكائد "المل" والسير وراء تضليلهم‬
‫وأكاذيبهـم كمـا حصـل لقوم فرعون‪ ،‬فقـد تابعوه على باطله وناصـروه عليـه قال تعالى عنـه‬
‫وعنهم {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} وفي تفسير ابن كثير استخف عقولهم‬
‫فدعا هم الى الضللة فا ستجابوا له[‪ .]4‬والظا هر أن فت نة فرعون كا نت عظي مة ف قد ج مع ب ين‬
‫الملك والرئاسـة والعوان والموال‪ ،‬مـع فراغ قلوب قومـه مـن العلم النافـع والهدى العاصـم‬
‫والعقل الراجح فوقعوا في فتنته وأباطيله التي كان يحتج بها في رد دعوة موسى عليه السلم‬
‫{فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} كما أخبر ال عنهم‪.‬‬
‫ـم الجمهور {ولو ترى إذ الظالمون‬
‫ـبراء للضعفاء وهـ‬
‫ـادة والكـ‬
‫ـن اغواء السـ‬
‫وقال تعالى عـ‬
‫موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لول‬
‫أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم‬
‫بل كنتم مجرمين‪ .‬وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن‬
‫نك فر بال ونج عل له أندادا وأ سروا الندا مة ل ما رأوا العذاب وجعل نا الغلل في أعناق الذ ين‬
‫كفروا هل يجزون إل ما كانوا يعملون} سورة سبأ اليات‪ ،33-31 :‬في هذه اليات الكري مة‬
‫ي خبر ال تعالى عن تمادي الكفار في طغيان هم وعناد هم وإ صرارهم على عدم اليمان بالقرآن‬
‫وب ما أ خبر به ثم ي خبر سبحانه وتعالى عن أحوال هم ال تي سيصيرون الي ها يوم القيا مة ومن ها‬
‫وقوف هم ب ين يدي رب هم يتراجعون الكلم في ما بين هم باللوم والعتاب والخ صام ب عد أن كانوا في‬
‫الدنيا متناصرين‪ .‬ومن هذه المحاججة والمراجعة في اللوم والعتاب قول الذين استضعفوا منهم‬
‫وهم التباع للذين استكبروا منهم وهم قادتهم وسادتهم ورؤساؤهم {لول أنتم لكنا مؤمنين}‪ .‬أي‬
‫لول أنتم كنتم تصدونا عن الهدى لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به من الحق فيقول الذين‬
‫استكبروا وهم القادة ورؤساؤهم {أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟} أي نحن ما فعلنا‬
‫بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ول برهان وخالفتم الدلة والبراهين والحجج‬
‫التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم الدنيا وما وعدناكم به وكنتم مجرمين باتباعكم إيانا‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫فيقول المسـتضعفون وهـم الجمهور مـن الكفار للمل المسـتكبرين مـن الكفار {بـل مكـر الليـل‬
‫والنهار} أي مكركم بالليل والنهار أي كنتم تمكرون بنا ليل ونهارا وتغروننا وتمنوننا بالماني‬
‫الباطلة وتخبرون نا أن كم على ال حق‪ ،‬وأن دعوة الر سل باطلة فاذا جم يع ما ذكرتموه ل نا با طل‬
‫وكذب وكنتـم تأمروننـا أن نكفـر بال ونجعـل له أندادا أي نظراء وآلهـة معـه وتقيموا لنـا شبها‬
‫لثبات باطل كم لضلل نا وإغوائ نا وهكذا فان كم أي ها ال كبراء المجرمون بدعائ كم ل نا الى الك فر‬
‫وتزيينكم لنا الباطل اتبعناكم وصرنا من الكافرين‪ .‬ثم يخبر ال تعالى عنهم أنهم أسروا الندامة‬
‫ل ما رأوا العذاب أي أظهروا جميعا الندم ال سادة والتباع‪ ،‬كل ندم على ما سلف م نه ول كن ل‬
‫ينفع هم الندم ولهذا تو ضع في أعناق هم ال سلسل أي تج مع أيدي هم مع أعناق هم جزاء أعمال هم‬
‫وتكذيبهم‪ .‬للقادة عذاب بحسبهم وللتباع عذاب بحسبهم[‪.]5‬‬

‫لماذا يتأثر الجمهور بالمل‬


‫‪ -590‬قلنا‪ :‬إن الجمهور أكثر استجابة للحق من غيرهم‪ ،‬وقلنا‪ :‬هناك احتمال لتأثر الجمهور‬
‫بالمل وباطله فلماذا يكون هذا التأثر بالباطل مع وضوح الحق وعدم وجود الموانع للستجابة‬
‫عند الجمهور؟ الجواب عن ذلك يرجع الى جملة أسباب‪:‬‬
‫‪ -591‬أولً‪ :‬الخوف‪ ،‬فل شـك أن المل الكافـر وبيده القوة والنفوذ والمال يسـتطيع أن يرهـب‬
‫الجمهور ويخوف هم إن خرجوا عن الك فر الذي هم ف يه‪ .‬وهذا الخوف يث بط اله مم والعزائم ع ند‬
‫أكثر الجمهور طلبا لسلمة أنفسهم من الذى‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فما آمن لموسى إل ذرية من قومه‬
‫على خوف من فرعون وملئ هم أن يفتن هم وإن فرعون لعال في الرض وإ نه ل من الم سرفين}‬
‫سورة يو نس ال ية‪ ،83 :‬فالخوف من ب طش فرعون وملئه م نع أك ثر الجمهور من اليمان به‬
‫ولم يؤمن به إل قلة منهم وهم خائفون أن يصيبهم بطش فرعون صحيح ان قلة من الجمهور‬
‫ل يخيفهم التهديد والوعيد بانزال العذاب الشديد أن آمنوا بالحق فيعلنوا إيمانهم غير هيابين ول‬
‫وجلين كما حصل لسحرة موسى عندما أعلنوا إيمانهم بموسى وبدعوته الحق وبربهم سبحانه‬
‫وتعالى ولم يلتفتوا الى تهديـد فرعون لهـم بالصـلب والقتـل وقالوا له {ل ضيـر إنـا الى ربنـا‬
‫منقلبون‪ ،‬إ نا نط مع أن يغ فر ل نا رب نا خطايا نا أن ك نا أول المؤمن ين} وكذلك أ صحاب الخدود‬
‫آمنوا بالر غم من العذاب الشد يد ول كن هؤلء قلة من الجمهور والكث ير من هم يتأثرون بالخوف‬
‫من المل فل يقدمون على اليمان ثم يطول علي هم ال مد ويألفون الفكر فيرضو نه طائع ين بعد‬
‫أن كانوا له كاره ين فيعم هم العذاب‪ ،‬وم ما يش ير أيضا إلى أ ثر الخوف في م نع الجمهور من‬
‫اتباع ال حق قوله تعالى‪{ :‬وتلك عاد جحدوا بآيات رب هم وع صوا ر سله واتبعوا أ مر كل جبار‬
‫عنيد}‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫‪ -592‬ثانيا‪ :‬الغراء بالمال وحطام الدنيـا‪ ،‬فإن المل يملكون ذلك ويلوحون بـه الى الجمهور‬
‫إن تابعوهم على باطلهم ورضوا بقيادتهم لهم وقد يشير الى ذلك قوله تعالى عن قوم نوح‪ ،‬قال‬
‫ربنا عز شأنه‪{ :‬قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إل خسارا} فانهم‬
‫اتبعوا ساداتهم وكبراءهم أصحاب الرئاسة والموال على أمل الحصول على شيء من أموالهم‬
‫وفي قوله تعالى حكا ية عن فرعون {ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك م صر‬
‫وهذه النهار تجري مـن تحتـي أفل تبصـرون} اشارة‪ ،‬على مـا أفهمـه‪ ،‬الى اغراء فرعون‬
‫للجمهور بما يملكه من مال وأسباب الحياة المادية وانه يعطيها من يوافقه على باطله أو يهيء‬
‫له فرصة الستفادة منها‪ .‬وفي السيرة النبوية أن اشراف قريش عرضوا على رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم المال الكثير يعطونه له إذا ترك دعوته‪ ،‬مما يدل على أن (المل) يغرون الناس‬
‫بالمال اعطاء أو منعا لصدهم عن الدعوة الى ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الشبهات‪ ،‬والمل ل يكتفي بالقوة والبطش والتخويف لصد الجمهور عن دعوة الحق وانما‬
‫يسلك معهم سبيل الشبهات وهذه الشبهات أنواع كثيرة منها رمي الداعي الى ال بالجنون‬
‫والضلل والسفاهة وقد ذكرنا بعض اليات الكريمة عن قوم نوح وهود ومنها {قال المل من‬
‫قومه انا لنراك في ضلل مبين} وعن هود‪{ :‬قال المل الذين كفروا من قومه انا لنراك في‬
‫سفاهة وانا لنظنك من الكاذبين}‪ .‬ومن شبهاتهم قولهم أن الرسول بشر وما ينبغي في زعمهم‬
‫أن يكون الرسول من البشر {فقال المل الذين كفروا من قومه ما نراك إل بشرا مثلنا} ومن‬
‫شبهاتهم أن المل في مقاومتهم دعوة الحق يريدون حماية عقيدة الناس ومصالحهم ودفع الفساد‬
‫عنهم‪ ،‬قال تعالى عن مثل هذه الشبهة القديمة في المل المتجددة في كل زمان‪{ :‬وقال فرعون‬
‫ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الرض الفساد} ومثل‬
‫هذا كان يقول المل من قريش من أن الرسول صلى ال عليه وسلم يريد افساد عقيدتهم وتسفيه‬
‫آلهتهم ولهذا فهم يقاومونه‪ .‬ومن شبهاتهم أن لهم الموال الكثيرة والجاه والسلطان وأن هذا‬
‫دليل على أحقيتهم وصلحهم ولهذا فهم خير من الداعي ولو كان رسول‪ .‬قال تعالى‪{ :‬ونادى‬
‫فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفل تبصرون‪.‬‬
‫أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ول يكاد يبين} ففرعون يعتز بملكه وسلطانه وثراه ومنعته‬
‫ويوهم الجمهور أنه وهذه منزلته أحق بالحق من موسى الذي ليس عنده شيء مما عند فرعون‬
‫الذي ل يكاد يفصح عن مقصده وغرضه‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وما أرسلنا في قرية من نذير إل قال‬
‫مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون‪ ،‬وقالوا نحن أكثر أموال وأولدا وما نحن بمعذبين} فهم‬
‫يستدلون بما أعطاهم ال من أموال وأولد على صلحهم ونجاتهم من العذاب وجهلوا سنة ال‬
‫في العطاء والمنع فال تعالى يعطي المال لمن يحب ولمن ل يحب فل يكون المال دليل على‬
‫صلح الشخص ورضى ال عنه‪ .‬وهذه الشبهات على بطلنها فإنها تؤثر في الجمهور لن من‬

‫‪291‬‬
‫يسمع يضل‪ ،‬ولن المل يلقيها بأسلوب ناعم مزخرف ليزيد من تضليله وإغرائه للجمهور‬
‫بالمال وإخافته لهم بالقوة‪ .‬والنسان يحب الحياة والتمتع فيها ويخاف الذى والحرمان‪ ،‬فتتجمع‬
‫الشبهات مع هذه الغرائز النسانية فيقع التأثير في أكثر الجمهور ول ينجو منه إل القليل منهم‪،‬‬
‫ومع هذا يبقى أكثر أتباع الرسل الكرام من الجمهور ل من المل‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------‬‬
‫‪-----‬‬
‫[‪ ]1‬من حديث طويل رواه المام البخاري في صحيحه ج ‪ 1‬ص ‪.9-7‬‬
‫[‪ ]2‬سيرة ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.339‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.442‬‬
‫[‪ ]4‬تفسير ابن كثير ج ‪ 4‬ص ‪.130‬‬
‫[‪ ]5‬تفسير ابن كثير ج ‪ 3‬ص ‪ ،539‬تفسير القرطبي ج ‪ 14‬ص ‪.304-303‬‬

‫المبحث الثالث ‪ -‬المنافقون‬

‫تعريف المنافق‬
‫‪ -586‬المنافق في الصطلح الشرعي هو الذي يظهر غير ما يبطنه ويخفيه‪ ،‬فإن كان الذي‬
‫يخفيه التكذيب بأصول اليمان فهو المنافق الخالص وحكمه في الخرة حكم الكافر وقد يزيد‬
‫عل يه في العذاب لخدا عه المؤمن ين ب ما يظهره ل هم من ال سلم قال تعالى‪{ :‬إن المنافق ين في‬
‫الدرك السفل من النار} وإن كان الذي يخفيه غير الكفر بال وكتابه ورسوله وإنما هو شيء‬
‫من المع صية ل ف هو الذي ف يه شع بة أو أك ثر من ش عب النفاق‪ .‬والذي نر يد أن نتكلم ع نه في‬
‫هذا الب حث هو المنافق الخالص الذي يخ في كفره وتكذيبه ل ولكتابه ولر سوله‪ .‬ومع هذا فاننا‬
‫سنذكر بعض صفات هؤلء المافقين ليتعظ ويعتبر المسلم فقد يكون فيه من صفات المنافقين‬
‫وهو ل يشعر ولنه من الجائز أن يجتمع مع السلم بعض شعب النفاق‪.‬‬

‫أين يوجد المنافق؟‬


‫‪ -587‬عندما تنتصر الدعوة الى ال في المجتمع الكافر وتعلو كلمة ال ويدخل الناس في دين‬
‫ال أفواجا وت ستأصل قوة الك فر ويذ هب سلطان الكافر ين وتكون القوة والمن عة للم سلمين ع ند‬
‫ذاك يمكـن أن يوجـد المنافقون الذيـن لم يؤمنوا مـع المؤمنيـن ولم يبقوا على كفرهـم ظاهريـن‬
‫معروف ين مع الكافر ين خوفا من سطوة الم سلمين فيبطنوا الك فر ويظهروا ال سلم‪ .‬وعلى هذا‬
‫فالنفاق ل يوجـد إذا كانـت الغلبـة والسـطوة والسـلطة للكفار لنـه ل خوف فـي هذه الحالة مـن‬
‫إظهار الكفر والتمرد على السلم ولهذا لم يكن أحد من المسلمين منافقا في مكة قبل الهجرة‬

‫‪292‬‬
‫الى المدينة لن المسلمين كانوا قلة مستضعفين ل حول لهم ول قوة ول سلطان وإنما السلطان‬
‫لكفار قريش‪ ،‬ولكن بعد أن هاجر النبي صلى ال عليه وسلم والمسلمون الى المدينة‪ ،‬وصار‬
‫للمسلمين قوة وسلطان وانتشر السلم في المدينة ظهر النفاق والمنافقون‪.‬‬

‫أساس النفاق‬
‫‪ -588‬وأساس النفاق الكفر والجبن‪ ،‬أما الكفر فهو ما يبطنه المنافق‪ ،‬وأما الجبن فهو الذي‬
‫يجعل المنافق يظهر خلف ما يبطنه من الكفر ولهذا ل يكون المنافق إل جبانا خوارا ضعيف‬
‫القلب يحسن الكيد والمواربة والعمل في الظلم وإذا لقي المؤمنين أظهر لهم نفسه كأنه مؤمن‬
‫{وإذا لقوا الذ ين آمنوا قالوا آم نا وإذا خلوا إلى شياطين هم قالوا إ نا مع كم إن ما ن حن م ستهزئون}‬
‫فهـم لجبنهـم يقولون‪ :‬إننـا مؤمنون‪ ،‬وإذا خلوا الى قرنائهـم مـن المنافقيـن والكاذبيـن قالوا نحـن‬
‫نستهزيء بالمؤمنين بقولنا لهم أننا مؤمنون‪.‬‬

‫المنافق أسوأ من الكافر‬


‫‪ -589‬والمنافق أضر وأسوأ من الكافر لنه ساواه في الكفر وامتاز عليه بالخداع والتضليل‬
‫وامكان ت سلله في صفوف الم سلمين فيكون ايذاؤه شديدا والحذر م نه قليل بخلف الكا فر الذي‬
‫ل يحصل فيه الشتباه ول يمكن أن يخدع المسلمين بحقيقته الظاهرة‪.‬‬

‫علمات النفاق‬
‫‪ -590‬وإذا كان النفاق يقوم على الكفر الباطن‪ ،‬والصل خفاء ما في القلوب‪ ،‬فان السبيل الى‬
‫معر فة المنا فق هو ظهور علمات النفاق عل يه فاذا ما ظهرت هذه العلمات حذره الم سلمون‬
‫وتوقوا شره سواء أكان من المنافقين الخالصين‪ ،‬أي الذين يخفون تكذيب ال ورسوله‪ ،‬أو كان‬
‫من الذين عندهم أصل التصديق بال ورسوله ولكن شاب تصديقه بعض معاني النفاق واتصف‬
‫بب عض صفات المنافق ين ف من ظهرت عل يه صفات المنافق ين عو مل معاملة المنافق ين بقدر ما‬
‫ظهر فيه من صفاتهم سواء أكان عنده أصل اليمان بال ورسوله أو لم يكن عنده هذا الصل‪.‬‬
‫‪ -591‬وعلمات المنا فق تعرف من كتاب ال و سنة ر سوله ل ب ما يتعارف عل يه الناس ف قد‬
‫يعتـبرون بعـض هذه العلمات مـن لوازم المجاملة أو مـن حسـن الداب والخلق وكـل هذه‬
‫التبريرات لصفات النفاق والمنافقين ل تغير من الحقيقة شيئا لن العبرة بالمسميات ل بالسماء‬
‫فان حقي قة الش يء تب قى هي هي وان غ ير الناس ا سم هذا الش يء ف ما هي علمات المنا فق‬
‫وصفاته؟‬

‫علمات المنافق وصفاته‬

‫‪293‬‬
‫‪ -592‬أولً‪ :‬مرض القلب‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬في قلوبهم مرض فزادهم ال مرضا ولهم عذاب أليم‬
‫ب ما كانوا يكذبون} ومرض القلب نوع من الف ساد ي صيب القلب فيخ تل ادراك صاحبه واراد ته‬
‫ح تى ل يرى الحق أو يراه على خلف ما هو عل يه وتخ تل اراد ته بح يث يب غض ال حق النا فع‬
‫ويحب الباطل الضار‪ .‬ومريض القلب يؤذيه مال يؤذي صحيح القلب فأدنى شيء يثير شهوته‪،‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬ول تخضعـن بالقول فيطمـع الذي فـي قلبـه مرض} فالخضوع بالقول يثيـر شهوة‬
‫صاحب القلب الفا سد المر يض‪ .‬بين ما صاحب القلب ال صحيح لو تعر ضت له امرأة لم يلت فت‬
‫إليها وقصة يوسف عليه السلم معروفة‪ ،‬وكذلك الحال في الشبهات فأدنى شبهة تثير الشكوك‬
‫في صاحب القلب المريض وأدنى فتنة تزلزل قدميه وترده على عقبيه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ليجعل ما‬
‫يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض‪ }...‬والمنافق له النصيب الكبر من مرض القلب إذا‬
‫كان منافقا خالصا وله نصيب غير قليل إذا كان عنده أصل اليمان ولكنه متصف بصفات أهل‬
‫النفاق‪.‬‬
‫‪ -593‬ثانيا‪ :‬الف ساد في الرض‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإذا ق يل ل هم ل تف سدوا في الرض قالوا إن ما‬
‫نحـن مصـلحون أل إنهـم هـم المفسـدون ولكـن ل يشعرون} فهـم يفسـدون ول يشعرون أنهـم‬
‫مف سدون بل ويح سبون أنف سهم من الم صلحين والف ساد هو الك فر قول وعمل وع مل المع صية‬
‫والمر بها‪ .‬لن من عصي ال في الرض أو أمر بالمعصية فقد أفسد في الرض لن صلح‬
‫الرض بالطاعة وفسادها بالمعصية‪ .‬وفساد المنافقين كفرهم وشكهم وتكذيبهم ومخادعتهم ال‬
‫ورسوله والمؤمنين‪ ،‬وموالتهم لعداء الدين ومحاربتهم لولياء ال والداعين إليه الى غير ذلك‬
‫مما يتبين من صفاتهم‪.‬‬
‫‪ -594‬ثالثا‪ :‬رمي هم المؤمن ين بال سفه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وإذا ق يل ل هم آمنوا ك ما آ من الناس‪ ،‬قالوا‬
‫أنؤ من ك ما آ من ال سفهاء أل إن هم هم ال سفهاء ول كن ل يعلمون} وال سفيه هو الجا هل الضع يف‬
‫الرأي القل يل المعر فة بموا ضع الم صالح والمضار[‪ .]1‬ول كن الحقي قة ك ما أ خبر ال تعالى أن هم‬
‫هم السفهاء فالسفاهة محصورة فيهم وبأمثالهم من الكفرة ولكن من تمام جهلهم أنهم ل يعرفون‬
‫ما فيهم من الضللة والجهالة‪.‬‬
‫‪ -595‬رابعا‪ :‬اللدد في الخصومة والعزة بالثم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومن الناس من يعجبك قوله في‬
‫الحياة الدن يا ويش هد ال على ما في قل به و هو ألد الخ صام‪ .‬وإذا تولى سعى في الرض ليف سد‬
‫فيها ويهلك الحرث والنسل وال ل يحب الفساد‪ .‬وإذا قيل له اتق ال أخذته العزة بالثم فحسبه‬
‫جه نم ولبئس المهاد} سورة البقرة اليات‪ .206-204 :‬فالمنا فق يأ تي بالقول الج يد يتمشدق به‬
‫ويلوي لسانه به ويظهر السلم ويشهد ال والمؤمنين أن الذي في قلبه موافق للسانه وهو ألد‬
‫الخ صام أي أعوج في خ صامه وو جه هذا العوج أن يكذب ويزور عن ال حق ويفتري ويف جر‪،‬‬
‫كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم "آية المنافق ثلث إذا حدث كذب‬

‫‪294‬‬
‫وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"‪ .‬وهو مع هذا يقصد الفساد في الرض فليس له همة إل في‬
‫الفساد في الرض واهلك ما ينفع الناس من حرث ونسل‪ ،‬وإذا قيل له‪ :‬اتق ال واترك ما أنت‬
‫فيه من قول فاجر وسعي فاسد وارجع الى الحق‪ ،‬امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالثم‬
‫أي بسبب ما اشتمل عليه من الثام‪.‬‬
‫‪ -596‬خامسا‪ :‬موالة الكافرين والتربص بالمؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬بشر المنافقين بأن لهم عذابا‬
‫أليما‪ .‬الذيـن يتخذون الكافريـن أولياء مـن دون المؤمنيـن أيبتغون عندهـم العزة فان العزة ل‬
‫جميعا‪ ...‬الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من ال قالوا ألم نكن معكم‪ ،‬وإن كان للكافرين‬
‫نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فال يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل ال‬
‫للكافريـن على المؤمنيـن سـبيل} سـورة النسـاء اليات‪ .140 ،138 ،137 :‬المنافـق يوالي‬
‫الكافر ين اي ين صرهم ويود هم ويقول إذا خل ب هم‪ :‬إ ني مع كم‪ ،‬ف هو في الحقي قة من هم‪ .‬و من‬
‫صفات المنافق ين ان هم ينتظرون زوال دولة الم سلمين وظهور الكفار علي هم وذهاب دين هم فان‬
‫كان للمسـلمين نصـر وغلبـة قال لهـم المنافقون ألم نكـن معكـم‪ .‬وإن كان للكافريـن غلبـة على‬
‫الم سلمين قالوا ل هم ألم ن ساعدكم في البا طن‪ .‬فالمنافقون ي صانعون الكفار والم سلمين وإن كان‬
‫ودهم وميلهم مع الكفار ولكن ل يريدون الظهور معهم علنية ول تحمل ما يتحملون من جهد‬
‫في محاربة المسلمين‪.‬‬
‫ـن‬
‫ـن اداء العبادات‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إن المنافقيـ‬
‫ـل عـ‬
‫ـادسا‪ :‬الخداع والرياء والتكاسـ‬
‫‪ -597‬سـ‬
‫يخادعون ال و هو خادع هم وإذا قاموا الى ال صلة قاموا ك سالى يرؤون الناس ول يذكرون ال‬
‫إل قليل‪ .‬مذبذبيـن بيـن ذلك ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء ومـن يضلل ال فلن تجـد له سـبيل}‬
‫سورة النساء الية‪ .142 :‬من صفات المنافقين الخداع يخادعون ال ويخادعون الناس أما وجه‬
‫مخادعتهم ال تعالى فهو اعتقادهم أن أمرهم كما راج بين الناس وجرت عليهم أحكام السلم‬
‫فـي الظاهـر‪ ،‬وخفـت حقيقتهـم على الناس فكذلك يظنون يكون حكمهـم عنـد ال يوم القيامـة‪،‬‬
‫فيروج أمرهـم ويخفـى عنـد ال كمـا راج وخفـي على الناس‪ .‬وهذا محـض الجهـل لن ال ل‬
‫يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء‪ .‬ومن صفاتهم تثاقلهم عن العبادات فهم اذا تذكروا‬
‫الصـلة وقاموا اليهـا قاموا كسـالى ل يحبونهـا ول يريدونهـا وانمـا يفعلونهـا على وجـه الرياء‬
‫للناس ولهذا فهم ل يذكرون ال إل قليل‪ .‬جاء في الحديث قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"تلك صلة المنا فق‪ .‬تلك صلة المنا فق‪ .‬تلك صلة المنا فق‪ .‬يجلس ير قب الش مس ح تى إذا‬
‫كا نت ب ين قر ني الشيطان قام فن قر أربعا‪ .‬ل يذ كر ال في ها إل قليلً"‪ .‬والمنافقون متحيرون فل‬
‫هم من المؤمنين ظاهرا وباطنا ول مع الكافرين‪.‬‬
‫‪ -598‬سابعا‪ :‬التحا كم الى الطاغوت‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ألم تر الى الذ ين يزعمون أن هم آمنوا ب ما‬
‫أنزل إليـك ومـا أنزل مـن قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقـد أمروا أن يكفروا بـه‬

‫‪295‬‬
‫ويريـد الشيطان أن يضلهـم ضلل بعيدا‪ .‬وإذا قيـل لهـم تعالوا الى مـا أنزل ال والى الرسـول‬
‫رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا‪ .‬فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك‬
‫يحلفون بال إن أردنـا إل احسـانا وتوفيقا‪ .‬اولئك الذيـن يعلم ال مـا فـي قلوبهـم فأعرض عنهـم‬
‫وعظ هم و قل ل هم في أنف سهم قول بليغا} سورة الن ساء اليتان‪ .60-59 :‬من صفات المنافق ين‬
‫زعمهم أنهم يؤمنون بما أنزل ال على رسوله محمد صلى ال عليه وسلم وما أنزل ال على‬
‫رسله من قبله ومع هذا الزعم بألسنتهم يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وهو الباطل وهو ما‬
‫عدا الكتاب وال سنة‪ .‬و قد أمر هم ال تعالى بالبراءة م نه وير يد الشيطان أن يضل هم ضلل بعيدا‬
‫في دفعهم الى التحاكم الى ما عدا الكتاب والسنة فكيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بسبب نفاقهم‬
‫وتمرد هم على أوا مر ال‪ ،‬ثم جاؤوا الى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم يحلفون بال أن هم ما‬
‫قصـدوا بالتحاكـم الى الطاغوت إل الحسـان والتوفيـق الى الصـلح والخيـر ومصـانعة أهـل‬
‫البا طل‪ .‬اوأولئك المنحرف ين عن د ين ال و عن شريع ته يعلم ال ما في قلوب هم من المرض‬
‫والنفاق‪ ،‬فأعرض عنهم أي ل تعنفهم على ما في قلوبهم ولكن انههم عما في قلوبهم من النفاق‬
‫وانصحهم بكلم بليغ رادع لهم‪.‬‬
‫‪ -599‬ثامنا‪ :‬الفسـاد بيـن المؤمنيـن‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬لو خرجوا فيكـم مـا زادوكـم إل خبال‬
‫ولوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم وال عليم بالظالمين} سورة التوبة الية‪:‬‬
‫‪ .47‬ويحرص المنافقون على اضعاف الم سلمين وتفر يق صفوفهم واشغال هم في ما بين هم‪ .‬وهذه‬
‫الية الكريمة تبين هذه المعاني وغيرها‪ .‬فقد يحزن المسلمون على عدم انضمام بعض الناس‬
‫الي هم وعدم الع مل مع هم ظنا من هم أن هم من هم وأن هم ينفعون هم إذا خرجوا مع هم‪ .‬ول كن ال يعلم‬
‫غيـر ذلك يعلم أنهـم لو خرجوا مـع الم سلمين ل ما زادوهـم إل خبال أي فسـادا بالنمي مة وايقاع‬
‫الختلف ب ين الم سلمين و بث الراج يف ولوضعوا خلل الم سلمين أي ل سرعوا في ما بين هم‬
‫بالنميمـة والبغضاء والفتنـة‪ .‬وفـي المسـلمين سـماعون لولئك المنافقيـن أي مطيعون لهـم‬
‫ومسـتجيبون لحديثهـم وكلمهـم يسـتنصحونهم أو يسـألونهم لن المسـلمين ل يعلمون حالهـم‪،‬‬
‫فيؤدي ذلك الى وقوع الشر بين المؤمنين[‪.]2‬‬
‫‪ -600‬تاسعا‪ :‬الكذب والخوف وكره المسلمين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ويحلفون بال انهم لمنكم وما هم‬
‫منكـم ولكنهـم قوم يفرقون‪ .‬لو يجدون ملجـأ أو مغارات أو مدخل لولوا إليـه وهـم يجمحون}‬
‫سورة التوبة اليتان‪ .57-56:‬فمن صفات المنافقين الكذب والحلف عليه جاء في الحديث "آية‬
‫النا فق ثلث إذا حدث كذب وإذا و عد أخلف وإذا ائت من خان" و في روا ية "وإذا خا صم ف جر"‬
‫و في ال ية الكري مة أخبار عن المنافق ين ان هم يحلفون بال أن هم من الم سلمين‪ ،‬والحقي قة خلف‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن هم قوم يفرقون أي يخافون فالدا فع ل هم على الكذب أن هم يخافون أن ينك شف كفر هم‬
‫فيعاقبهم المسلمون فهم من كرههم للمسلمين ل يودون مخالطتهم ول رؤيتهم ولهذا فهم في هم‬

‫‪296‬‬
‫وحزن كلما رأوا السلم وأهله في عز ونصر‪ ،‬لن هذا يسوؤهم ويحزنهم ولو رأوا ملجأ أي‬
‫حصنا أو مغارات أو مدخل وهو النفق في الرض لسرعوا في ذهابهم اليها ليغيبوا عنكم ول‬
‫يروكم‪.‬‬
‫‪ -601‬عاشرا‪ :‬يعيبون أهل الحق‪ ،‬ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومنهم‬
‫من يلمزك في ال صدقات فإن أعطوا من ها رضوا وان لم يعطوا من ها إذا هم ي سخطون} سورة‬
‫التوبة الية‪ .58 :‬ومن صفات المنافقين الطعن في أهل الحق وفي أعمالهم الحقة العادلة لن‬
‫المنافق ين ل يحبون ال حق والعدل‪ ،‬ورضا هم و سخطهم لنف سهم‪ ،‬فان أعطوا شيئا م ما يريدون‪،‬‬
‫رضوا‪ ،‬وإن لم يعطوا‪ ،‬سخطوا أو غضبوا ورموا أ هل الحق بالظلم والح يف وهذا كان ديدن هم‬
‫مع رسول ال صلى ال عليه وسلم وهذا ما تخبرنا به هذه الية الكريمة‪ .‬فقد كان من المنافقين‬
‫من يلمز أي يعيب رسول ال صلى ال عليه وسلم ويطعن عليه في قسم الصدقات أي الزكاة‬
‫على الم ستحقين فإذا أعطوا منهـا رضوا وسـكتوا وإن لم يعطوا منهـا غضبوا و سخطوا‪ ،‬وهذا‬
‫شأن المنافقين في كل زمان يرضون على الشخص إذا أعطاهم ما يأملون ويسخطون عليه إذا‬
‫لم يعط هم ما يأملون و هم في رضا هم و سخطهم ينظرون الى أنف سهم ول ينظرون إلىال حق‬
‫والعدل‪.‬‬
‫‪ -602‬حادي ع شر‪ :‬ال مر بالمن كر والن هي عن المعروف‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬المنافقون والمنافقات‬
‫بعض هم من ب عض يأمرون بالمن كر وينهون عن المعروف ويقبضون أيدي هم‪ ،‬ن سوا ال فن سيهم‬
‫ن المنافقين هم الفاسقون} سورة التوبة الية‪ ،67 :‬ومن صفات المنافقين أنهم يأمرون بالمنكر‪،‬‬
‫إّ‬
‫وينهون عن المعروف لن نفوسهم المريضة لم تعد ترغب في رؤية الخير يعمله الناس‪ .‬فهم‬
‫يحبون أن يشيع الشر والمنكر بين الناس فهذا هو الذي تهواه نفوسهم ويشفي حقدهم وغيظهم‬
‫على أ هل ال حق‪ ،‬وح تى يت ساووا مع الناس في ف عل القبائح و مع هذه ال صفة الخبي ثة ل ينفقون‬
‫فيما يحبه الهل فهم بخلء في النفاق وفي فعل الخير وفي المر به والدللة عليه‪.‬‬
‫‪ -603‬ثا ني ع شر‪ :‬الغدر وعدم الوفاء بالع هد قال تعالى‪{ :‬ومن هم من عا هد ال لئن آتا نا من‬
‫فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين‪ .‬فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون‪.‬‬
‫فأعقب هم نفا قا في قلوب هم الى يوم يلقو نه ب ما أخلفوا ال ما وعدوه وب ما كانوا يكذبون} سورة‬
‫التوبة اليات‪ ،77-75 :‬ومن صفات المنافقين الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد حتى مع ال‬
‫جل جلله بخلف المؤ من فان الكل مة تلز مه‪ ،‬فل يغدر ول يخون وي في بعهده مع الناس و مع‬
‫ال تعالى‪ .‬وهذه الية الكريمة تبين أن من المنافقين من أعطى ال عهده وميثاقه لئن أغناه من‬
‫فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين فما وفى بما قال ول صدق فيما ادعى‪ ،‬فأعقبهم‬
‫هذا الصنيع نفاقا سكن وثبت في قلوبهم الى يوم يلقون ال عز وجل يوم القيامة[‪.]3‬‬

‫‪297‬‬
‫‪ -604‬ثالث ع شر‪ :‬يعيبون المؤمن ين وي سخرون من هم ول يرضي هم من هم ش يء‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{الذي يلمزون المطوع ين من المؤمن ين في ال صدقات والذ ين ل يجدون ال جهد هم في سخرون‬
‫منهم سخر ال منهم ولهم عذاب أليم} سورة التوبة الية‪.79 :‬‬
‫مـن صـفات المنافقيـن عيبهـم الدائم للمؤمنيـن‪ ،‬وطعنهـم فيهـم‪ ،‬ول يرضيهـم منهـم شيـء‪ .‬فإن‬
‫ت صدق أحد المؤمن ين بالمال الكثير قالوا عنه هذا مراء‪ .‬وان ت صدق بالقليل ل نه ل ي جد أك ثر‬
‫منه‪ ،‬قالوا ان ال لغني عن صدقة هذا‪ .‬ومع عيبهم هذا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم‬
‫ويضحكون منهم‪.‬‬
‫‪ -605‬رابـع عشـر‪ :‬تواصـيهم بترك الجهاد‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬فرح المخلفون بمقعدهـم خلف‬
‫ر سول ال وكرهوا أن يجاهدوا بأموال هم وأنف سهم في سبيل ال وقالوا ل تنفروا في ال حر قل‬
‫نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} سورة التوبة الية‪ .81 :‬من صفات المنافق عدم المعرفة‬
‫عدم الفقـه فهـو يترك اليمان بال ويفرح بقعوده عـن الجهاد فـي سـبيله ويوصـي غيره مـن‬
‫المنافقين بعدم الجهاد لما فيه من المشقة كالحر وينسى هذا المنافق أن نار جهنم أشدّ حرا من‬
‫هذا وأن العاقل من يعمل ما ينجيه منها‪.‬‬
‫خامس عشر‪ :‬الضرار بالمؤمنين وتسترهم بفعل ظاهره مشروع‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬والذين اتخذوا‬
‫مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب ال ورسوله من قبل‪،‬‬
‫وليحلفن إن أردنا إل الحسنى وال يشهد إنهم لكاذبون‪ .‬ل تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى‬
‫من أول يوم أحق أن تقوم فيه‪ ،‬فيه رجال يحبون أن يتطهروا وال يحب المطهرين} سورة‬
‫التوبة الية‪ .108-107 :‬تشير الية الى بعض صنيع المنافقين في عهد النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬فقد بنوا مسجدا ضرارا لمسجد قباء أي ضررا لهل مسجد قباء وهم المؤمنون‪ ،‬وكفروا‬
‫بالنبي صلى ال عليه وسلم وإرصادا لمن حارب ال ورسوله أي انتظارا وترقبا لمن حارب‬
‫ال ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار‪ .‬وهذا هو مقصودهم من بناء هذا المسجد‪ ،‬وان حلفوا‬
‫كاذبين إنهم إنما أرادوا ببنائه الحسنى أي الخير والرفق بالمسلمين ليصلي فيه ذو العلة‬
‫والحاجة وال يشهد إنهم لكاذبون فيما يحلفون عليه‪ .‬وقد كان من خبر هذا المسجد أن ال عز‬
‫وجل أمر النبي صلى ال عليه وسلم أن يهدمه ول يصلي فيه‪ .‬وان مسجد قباء الذي أسس‬
‫على التقوى وطلب رضاء ال هو الذي يستحق أن يصلي فيه المسلمون ويجتمعون فيه على‬
‫الخير‪" .‬وهذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلئم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها‬
‫اعداء هذا الدين‪ .‬تتخذ في صورة نشاط ظاهره للسلم وباطنه لسحق السلم‪ ،‬أو تشويهه‬
‫وتمويهه وتمييعه‪ .‬وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لفتة الدين عليها لتختفي وراءها وهي‬
‫ترمي هذا الدين‪ .‬وتتخذ في صورة تشكيلت وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن السلم‪...‬‬
‫ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وانزال اللفتات الخادعة عنها وبيان‬

‫‪298‬‬
‫حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها‪ .‬ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.]4["..‬‬
‫‪--------------------------------------------------------‬‬
‫‪-----------------------------------------------‬‬
‫[‪ ]1‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.50‬‬
‫[‪ ]2‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.361‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪ ،173‬تفسير القرطبي ج ‪ 8‬ص ‪.210‬‬
‫[‪ ]4‬في ظلل القرآن ج ‪ 11‬ص ‪.36-35‬‬

‫المبحث الرابع ‪ -‬العصاة‬

‫تعريفهم‬
‫‪ -586‬نريد بالعصاة‪ ،‬كصنف من أصناف الناس‪ ،‬من كان عندهم أصل اليمان وهو القرار‬
‫بشهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسـول ال‪ ،‬ولكنهـم ل يقومون بحقوق هذه الشهادة‪ ،‬فهـم‬
‫يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه‪ .‬ومنهم المكثر من المعاصي ومنهم المقل‬
‫ومنهم بين ذلك على درجات كثيرة جدا ومتنوعة جدا ل يحصيها إل ال تعالى‪.‬‬

‫المسلم غير معصوم من المعصية‬


‫‪ -587‬والمسـلم غيـر معصـوم مـن المعصـية‪ ،‬جاء فـي الحديـث‪" :‬كـل ابـن آدم خطاء وخيـر‬
‫الخطائ ين التوابون"‪ .‬وتعل يل ذلك أن ن فس الن سان قابلة لرتكاب المع صية ك ما هي قابلة لف عل‬
‫الطا عة‪ ،‬والمطلوب من الم سلم أن يحرص على طا عة ال وعدم مع صيته قال تعالى‪{ :‬ون فس‬
‫وما سواها فألهمها فجور ها وتقوا ها‪ ،‬قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}‪ .‬وإذا و قع في‬
‫معصية فعليه أن يسارع الى التوبة ويقلع عن معصيته وينيب الى ربه‪.‬‬

‫أسباب العصيان‬
‫‪ -588‬وقـد يرد الى الذهـن هذا السـؤال‪ :‬لماذا يعصـي المسـلم أوامـر الشرع السـلمي و هو‬
‫مؤ من بال وبر سوله وباليوم ال خر‪ ،‬ومؤ من بأن مع صية الخالق جل جلله تؤدي الى سخطه‬
‫وعذابه؟ والجواب على ذلك‪ :‬أن اليمان قد يضعف في قلب المسلم فتغلبه شهوته ويقبل اغراء‬
‫الشيطان فيرت كب المع صية لن العقاب على الذنوب ش يء موعود به في الخرة‪ ،‬ولذائذ الدن يا‬
‫المحرمـة شيـء حاضـر‪ ،‬والنفـس مجبولة على التأثـر بالحاضـر ل بالغائب‪ ،‬وإن كانـت عاقبـة‬
‫الحا ضر مرة‪ ،‬وعاق بة الغائب حلوة‪ ،‬ول يمنع ها من هذا التأ ثر إل اليمان القوي المن ير الذي‬

‫‪299‬‬
‫يجعل الغائب كالحاضر فيكون التأثر به ل بالحاضر المحسوس فعل‪ .‬قال تعالى‪{ :‬بل تؤثرون‬
‫الحياة الدنيا} فالنسان بطبيعته يؤثر اللذة العاجلة وان كانت تافهة على اللذة الجلة وان كانت‬
‫جسـيمة‪ ،‬ومـع ضعـف اليمان يقوى هذا الطبـع وهذه الجبلة فـي النسـان‪ ،‬فيسـتسهل ارتكاب‬
‫المخالفـة ابتغاء اللذة العاجلة‪ ،‬أو دفـع المشقـة العاجلة‪ ،‬ل سـيما مـع أمـل البقاء والتوبـة فـي‬
‫المستقبل وتسكين النفس بأمل عفو ال تعالى‪.‬‬

‫جهل العاصي‬
‫‪ -589‬العا صي جا هل قطعا‪ ،‬فلول جهله ل ما ع صى ال تعالى‪ .‬قال رب نا جل جلله‪{0 :‬إن ما‬
‫التوبة على ال للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب ال عليهم وكان‬
‫ال عليما حكيما} سورة الن ساء ال ية‪ .17 :‬قال مجا هد وغ ير وا حد من أ هل العلم‪ :‬كل من‬
‫عصى ال خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب‪ .‬وقال قتادة عن أبي العالية أنه كان‬
‫يحدث أن أ صحاب ر سول ال صلى ال عل يه و سلم كانوا يقولون‪ :‬كل ذ نب ا صابه ع بد ف هو‬
‫جهالة‪ .‬و عن مجاهـد أيضا قال‪ :‬كـل عامـل بمعصـية ال فهـو جاهـل حيـن عملهـا‪ .‬وعـن ابـن‬
‫عباس‪ :‬من جهالته عمل السوء[‪.]1‬‬
‫وو جه ج هل العا صي‪ ،‬ا نه يج هل قدر ر به و ما ي جب له من طا عة ل حق ربوبي ته والوهي ته‬
‫وعظم ته وكمال أنعا مه على عبده وكمال ف قر الع بد له‪ ،‬وعدم خفاء ش يء على ال تعالى م ما‬
‫ع مل الخلق‪ ،‬وان هم مجزيون على أعمال هم‪ .‬و من ج هل العا صي‪ ،‬جهله بضرر الذنوب‪ .‬وكان‬
‫ينبغي أن ينفر منها أشد من نفرته من الحيات والعقارب ول يلمسها ول يضعها على جسمه‪،‬‬
‫ولكن العاصي من جهله يقبل عليها ويباشرها‪ .‬ومن جهله ان يؤثر العاجلة على الخرة‪ ،‬وما‬
‫ن سبة العاجلة و ما في ها من لذائذ الى نع يم الخرة ال كن سبة ما يعلق بال صبع إذا غم سها في‬
‫الب حر الى مائه‪ ،‬و من جهله الت سويف وطول ال مل وتأج يل التو بة‪ ،‬ولم يعلم أن الموت أقرب‬
‫الى النسان من شراك نعله‪ ،‬وانه ل يستأذنه إذا حان الجل‪ .‬ومن جهله أن يتعب كثيرا ويترك‬
‫لذائذ كثيرة في سبيل ظفره بر بح آ جل في الدن يا‪ ،‬ولو ع قل لف عل للخرة ما يفعله لنوال هذا‬
‫الر بح‪ .‬ال ترى الطالب يح بس نف سه في بي ته يقرأ ويدرس أياما وأ سابيع لين جح في المتحان‬
‫وان فات ته ب عض اللذات‪ .‬والتا جر ير كب الخطار ويفارق أهله ويق طع الفيا في والقفار لير بح‬
‫شيئا من المال‪ .‬فلماذا ل يعمل للخرة كما يعمل في هذه الحوال‪ ،‬ثم أليس من جهل العاصي‬
‫أنه إذا سمع قول طبيب يخبره أنه إذا شرب كذا أو أكل كذا‪ ،‬مات أو كان على خطر شديد فانه‬
‫يت بع ن صيحة ال طبيب ويف طم نف سه م ما نهاه ع نه‪ ،‬مع أن قول ال طبيب يحت مل الخ طأ‪ .‬بين ما ما‬
‫أخبر نا به الر سول صلى ال عل يه و سلم من وع يد ال وعذا به ل من تخ طى حدوده‪ ،‬هو خبر‬
‫صدق ويقين قطعا‪ ،‬فلماذا ل يأخذ بقول الرسول صلى ال عليه وسلم ويأخذ بقول الطبيب لول‬

‫‪300‬‬
‫جهله وجهالته؟ ومن جهل العاصي اتكاله على عفو ال ورحمته ونسي ان رحمة ال قريب من‬
‫المح سنين‪ ،‬وان العارف ين يؤتون ما آتوا وقلوب هم وجلة ان ل يق بل من هم‪ ،‬وان الرا جي حقا من‬
‫قام بالسـباب وانتظـر رحمـة العليـم العلم‪ ،‬كالذي يحرث الرض ويلقـي البذر ويقوم بالسـقي‬
‫ويتعهـد الزرع ويرجـو أن يحفـظ ال زرعـه ويجنبـه الفات‪ .‬أمـا الحمـق المغرور فهـو الذي‬
‫يترك أرضه تملها الشواك والدغال ول يلقي فيها بذرا ويرجو أن ينبتها ال له‪.‬‬

‫الوقاية من المعاصي‬
‫‪ -590‬العلج من ارتكاب المعا صي أو الم يل الي ها‪ ،‬وان ك نا قد أشر نا ال يه ب عض الشارة‪،‬‬
‫سنتكلم عنه إن شاء ال تعالى ‪ -‬عند كلمنا عن أساليب الدعوة في الباب الرابع‪ .‬ويكفينا هنا‬
‫أن نقول ان الوقاية خير من العلج‪ ،‬كما قالوا‪ ،‬وهو يصدق في الوقاية من أمراض البدن ومن‬
‫أمراض القلب‪ ،‬والمعاصـي هـي سـبب مرض القلب ونتائج مرض القلب فكيـف يتقـي مـن‬
‫المعاصي؟ في كل نفس استعداد وقابلية لرتكاب المعاصي {ونفس وما سواها فألهمها فجورها‬
‫وتقواها} فالنفس تحمل جراثيم المعاصي‪ ،‬وهذه الجراثيم تكون مقهورة مغلوبة ما دام القلب في‬
‫صـحة وعافيـة معمورا باليمان‪ .‬فاذا ضعـف لي سـبب كان‪ ،‬ووجدت هذه الجراثيـم المناخ‬
‫الملئم انتعشـت ونمـت وظهرت فعاليتهـا‪ .‬كمـا يحصـل لجراثيـم الجسـم‪ .‬ومـن المناخ الملئم‬
‫لجراثيـم المعاصـي كـل المهيجات للمعصـية مـن المرئيات والملموسـات والمسـموعات‬
‫والمطعومات‪ ،‬والقراءات‪ .‬لكل واحد من هذه الميهجات‪ ،‬إذا أهاج شهوتك‪ ،‬دفعك نحو المعصية‬
‫وأن ساك ذ كر ال‪ .‬ف من المناخ الملئم لجراث يم المعا صي‪ ،‬الن ساء الكا سيات العاريات‪ ،‬والغناء‬
‫الفاحش القبيح‪ ،‬والمخالطات المحرمة‪ ،‬وارتياد محلت أهل الغفلة‪ ،‬وسماع كلم أهل الدنيا‪ ،‬كل‬
‫هذا وأمثاله يقوي جرثومـة المعصـية حتـى تكون هـي القاهرة الغالبـة بعـد أن كانـت مقهورة‬
‫مغلوبة وبالتالي يواقع المعصية وينغمس فيها‪ .‬أما المناخ الملئم لضعاف جرثومة المعصية‪،‬‬
‫فهو كل شيء يقوي فيه معاني اليمان والعلم الحق بال واليوم الخر ويبصرك طريق الخرة‪.‬‬
‫فصحبتك للطيبين العاملين للسلم الداعين الى ال من أكبر الحصون لنفسك وليمانك وبالتالي‬
‫لضعاف جرثو مة المع صية‪ .‬وأخيرا‪ ،‬فان من الوقا ية أن ل ي ستصغر الم سلم ذنبا مه ما كان‬
‫صغيرا فان الحزمة من الحطب تتكون من عيدان‪ .‬وأن ل يعرض نفسه الى ما يضعف ايمانه‬
‫ويقوي فيـه جرثومـة المعصـية اعتمادا منـه على قوتـه وعافيتـه فليـس مـن العقـل أن يعرض‬
‫النسان نفسه لجرثومة السل ويغشى محلت المسلولين بحجة أنه قوي صحيح البدن‪.‬‬

‫موقف الداعي من العصاة‬

‫‪301‬‬
‫الداعي ينظر الى العصاة نظرة اشفاق ورحمة فهو يراهم كالواقفين على حافة واد عميق‬
‫سحيق في ليلة ظلماء‪ .‬يخاف عليهم من السقوط‪ ،‬ويعمل جهده لتخليصهم من الهلك‪ .‬وهو في‬
‫سبيل هذه الغاية‪ ،‬يتجاوز عن تجاوزهم افتخارا على حقه إن كانت معصيتهم في حقه ول‬
‫يعيرهم ول يشمت بهم‪ ،‬ول يحتقرهم افتخارا بنفسه عليهم وادلل بطاعته‪ ،‬ولكن له أن‬
‫يستصغرهم لمعصيتهم وتجاوزهم حدود الشرع‪ ،‬وان يغضب لهذا التجاوز‪ ،‬قالت عائشة رضي‬
‫ال عنها‪ ( :‬ما انتقم رسول ال صلى ال عليه وسلم لنفسه قط ول نيل منه شيء فانتقم لنفسه‬
‫إل أن تنتهك محارم ال‪ .‬فاذا انتهكت محارم ال لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقهم ل)‪ .‬ومن‬
‫محارم ال التي يغضب لها المسلم‪ ،‬محاربة العصاة الدعوة الى ال والصد عن سبيله والحاق‬
‫الذى بالدعاة حتى يمتنعوا عن القيام بواجب الدعوة‪ ،‬ففي هذه الحوال ونحوها يجوز للداعي‬
‫أن يسلك مع هؤلء العصاة ما يكف به ضررهم عن الدعوة والدعاة بالقدر الذي يبيحه الشرع‪،‬‬
‫على أن ل يتجاوز هذا القدر‪ ،‬وان يتوسل بالسهل فالسهل من وسائل كف ضررهم‪ ،‬مع‬
‫رغبته التامة في هدايتهم وصلحهم‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------‬‬
‫‪--‬‬
‫[‪ ]1‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.463‬‬

‫الباب الرابع ‪ -‬أساليب الدعوة ووسائلها‬

‫تمهيد‬

‫‪ -586‬الدعوة الى ال تحتاج الى علم وكفاءة معينـة على التبليـغ والتأثيـر والسـتفادة مـن‬
‫الظروف والحوال ومعر فة الن فس الن سانية‪ .‬أ ما العلم ف قد تكلم نا ع نه في ما يت صل بموضوع‬
‫الدعوة‪ ،‬أي السـلم‪ .‬وهنـا نتكلم عـن العلم الذي يتصـل بكيفيـة مباشرة التبليـغ وإزالة العوائق‬
‫عنـه‪ ،‬وهذه هـي أسـاليب الدعوة‪ ،‬كمـا نتكلم عمـا يسـتعين بـه الداعـي لتبليـغ الدعوة مـن أشياء‬
‫وأمور وهذه هي وسائل الدعوة‪ .‬فاذا فقه الداعي ذلك كله أمكنه أن يكون على قدر من الكفاءة‬
‫لتبليغ معاني الدعوة الى ال تعالى‪ ،‬وكل ميسر لما خلق له‪ ،‬والمور كلها بيد ال‪.‬‬
‫وعلى هذا سنقسم هذا الباب الى ثلثة فصول‪:‬‬
‫الفصل الول – مصادر هذه الساليب والوسائل ومدى الحاجة إليها‪.‬‬
‫الفصل الثاني – أساليب الدعوة‪.‬‬
‫الفصل الثالث – وسائل الدعوة‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫الفصل الول ‪ -‬مَصادر أساليب الدّعوة ووَسائِلها ومدى الحاجة إليها‬

‫تعداد المصادر‬
‫‪ -586‬م صادر أ ساليب الدعوة وو سائلها هي‪ :‬القرآن الكر يم‪ ،‬ال سنة النبو ية المطهرة‪ ،‬سيرة‬
‫السـلف الصـالح‪ ،‬اسـتنباطات الفقهاء‪ ،‬التجارب‪ ،‬ونتكلم فيمـا يلي بشيـء مـن اليجاز عـن كـل‬
‫مصدر للتعريف به‪.‬‬

‫أولًَ‪ :‬القرآن الكريم‬


‫‪ -587‬في القرآن الكريم آيات كثيرة تتعلق بأخبار الرسل الكرام وما جرى لهم مع أقوامهم‪.‬‬
‫وما خاطب ال تعالى به خاتمهم سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم من أمور الدعوة إليه‪ .‬وهذه‬
‫اليات الكريمة يستفاد منها أصول أساليب الدعوة ووسائلها‪ ،‬التي يجب أن يفقهها المسلم كما‬
‫يتف قه أمور الد ين الخرى‪ ،‬لن ال جل جلله ما ق صها علي نا وأخبر نا ب ها ال لن ستفيد من ها‬
‫ونتزود مـن معانيهـا مـا يعيننـا على الدعوة الى ال تعالى‪ ،‬ونلتزم بنهجهـا‪ .‬قال ربنـا تبارك‬
‫وتعالى‪{ :‬وكل نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة‬
‫وذكرى للمؤمنيـن} سـورة هود اليـة‪ .120 :‬قال ابـن كثيـر فـي تفسـير هذه اليـة‪" :‬كـل أخبار‬
‫نق صها عل يك من أنباء الر سل المتقدم ين من قبلك مع أمم هم وك يف جرى ل هم من المحاجات‬
‫والخصومات وما احتمله ال نبياء من التكذ يب والذى وك يف ن صر ال حز به المؤمن ين وخذل‬
‫اعداءه الكافر ين‪ .‬كل هذا م ما نث بت به فؤادك يا مح مد أي قل بك ليكون لك م من م ضى من‬
‫اخوانك المرسلين أسوة"[‪.]1‬‬
‫ول شك أن الم سلمين يقتدون بر سولهم صلى ال عل يه و سلم وفي ما كان يتأ سى به من سيرة‬
‫المرسلين في أمور الدعوة الى ال‪ .‬قال تعالى‪{ :‬لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب‪ .‬ما‬
‫كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}‬
‫سورة يوسف الية‪ .111 :‬ففي قصص السابقين من أمم الرض وما جرى عليهم وما جرى‬
‫لنبيائهم معهم عبرة وموعظة لصحاب العقول السليمة وهداية ورحمة للمؤمنين بال ورسوله‬
‫فهم الذين يعتبرون بما قصه ال عن الماض ين ويتعظون به لن اليمان قد فتح قلوبهم للحق‬
‫وارهف حسهم لمواضع العبرة ومعاني الموعظة‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬أولئك الذين هدى ال فبهداهم‬
‫اقتده} سورة النعام الية‪ 90 :‬فهذه الية الكريمة تشير الى لزوم القتداء بنهج رسل ال في‬
‫الدعوة إليه‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬السنة النبوية‬

‫‪303‬‬
‫‪ -588‬وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تتعلق بأمور الدعوة ووسائلها‪ .‬كما أن السيرة النبوية‬
‫المطهرة ومـا جرى لرسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم فـي مكـة والمدينـة‪ ،‬وكيفيـة معالجتـه‬
‫للحداث والظروف التـي واجهتـه‪ ،‬كـل ذلك يعطينـا مادة غزيرة جدا فـي أسـاليب الدعوة‬
‫ووسائلها‪ ،‬لن الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم مرّ بمختلف الظروف والحوال التي يمكن‬
‫أن يمر بها الداعي في كل زمان ومكان‪ ،‬فما من حالة يكون فيها الداعي‪ ،‬أو أحداث تواجهه‪،‬‬
‫ال ويوجد نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريب منها في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيستفيد‬
‫الداعـي منهـا ال حل الصـحيح والموقـف السـليم الذي يجـب أن يق فه إذا ما ف قه معانـي ال سيرة‬
‫النبوية‪ ،‬وقد يكون من حكمة ال ولطيف لطف ال أن جعل رسوله الكريم يمر بما مر به من‬
‫ظروف وأحوال حتى يعرف الدعاة المسلمون كيف يتصرفون وكيف يسلكون في أمور الدعوة‬
‫في مختلف الظروف اقتداء بسيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فال سيرة النبو ية والتوجيهات النبو ية الكري مة ت طبيقات عمل ية ل ما أ مر ال به ر سوله في أمور‬
‫الدعوة وتبليغ الرسالة‪ ،‬وما ألهم رسوله في هذا المجال‪ ،‬فل يجوز للداعي أن يغفل عن سيرة‬
‫النبي الكريم صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬سيرة السلف الصالح‬


‫‪ -589‬وفي سيرة سلفنا الصالح من الصحابة الكرام والتابعين لهم باحسان‪ ،‬سوابق مهمة في‬
‫أمور الدعوة يسـتفيد منهـا الدعاة الى ال‪ ،‬لن السـلف الصـالح كانوا أعلم مـن غيرهـم بمراد‬
‫الشارع وفقه الدعوة الى ال‪ ،‬وما زال أهل العلم يستدلون بسيرتهم‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬استنباطات الفقهاء‬


‫‪ -590‬الفقهاء يعنون باستنباط الحكام الشرعية العملية من أدلتها الشرعية‪ ،‬ومن هذه الحكام‬
‫مـا يتعلق بأمور الدعوة الى ال‪ ،‬مثـل أحكام المـر بالمعروف والنهـي عـن المنكـر‪ ،‬والجهاد‬
‫والح سبة‪ ،‬و قد افردوا لهذه الحكام أبوابا خا صة في كتب هم الفقه ية‪ .‬و ما قرروه من اجتهادات‬
‫في أمور الدعوة ومجال ها‪ ،‬حك مه ح كم اجتهادات هم الخرى‪ ،‬ال تي ي جب اتباع ها أو يندب لن‬
‫الوسائل والساليب في الدعوة من أمور الدين مثل مسائل العبادات والمعاملت‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬التجارب‬
‫‪ -591‬التجر بة معلم ج يد للن سان ل سيما ل من يع مل مع الناس‪ ،‬وللدا عي تجارب كثيرة في‬
‫مجال الدعوة هي حصيلة عمله المباشر مع الناس ومباشرته للوسائل فعل في ضوء ما فهمه‬
‫من الم صادر ال سابقة‪ ،‬لن الت طبيق قد يظ هر له و جه خطئه فيتجن به في الم ستقبل‪ ،‬و قد يكون‬

‫‪304‬‬
‫الثمن غاليا ولكن ما يتعلمه من التجارب أغلى من الثمن المدفوع إذا انتفع من التجارب حقا‪،‬‬
‫وهذا هو المأمول من المؤمن فان المؤمن ل يلدغ من جحر مرتين‪ ...‬وكما أن الداعي يستفيد‬
‫مـن تجاربـه الخاصـة‪ ،‬يسـتفيد أيضا مـن تجارب الخريـن فـي مجال الوسـائل والسـاليب فان‬
‫الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت‪...‬‬

‫ضرورة الستمساك بالنهج الصحيح في الوسائل والساليب‬


‫‪ -592‬النهـج الصـحيح فـي الوسـائل والسـاليب هـو المسـتقى مـن المصـادر التـي بيناهـا‪،‬‬
‫والسـتمساك بهذا النهـج ضروري لكـل داع ولزم له وواجـب عليـه لن السـلم يقضـي بـه‪،‬‬
‫والواجب على المسلم ان يتمسك بما يقضي به الدين‪ ،‬كما أن التزام هذا النهج الصحيح يقرب‬
‫من الغا ية ويو صل الى المراد ولو ب عد ح ين بخلف غيره من المنا هج فا نه خ طأ ويب عد عن‬
‫الغاية ول يوصل الى المطلوب‪ .‬ثم ان المطلوب من الداعي ان يحرص على طاعة ال واتباع‬
‫الصـواب وعدم الوقوع فـي الخطـأ او فـي العصـيان‪ ،‬وهذا المطلوب مـن الداعـي إنمـا يكون‬
‫باللتزام بالنهج الصحيح الذي جاءت به المصادر‪ .‬فإذا ما قام الداعي بما هو مطلوب منه لم‬
‫يكن مسؤول عن نتيجة عمله من حيث بلوغ الغاية والوصول الى المراد لن ال تعالى يقول‪:‬‬
‫{فاتقوا ال ما ا ستطعتم} والح ساب إن ما يكون على مشروع ية ع مل الن سان و هل أدى كل ما‬
‫عل يه من وا جب؟ وإذا تبين هذا ال مر ووعاه الدا عي وفق هه لم ي كن له أن يخرج على الن هج‬
‫ال صحيح بح جة صعوبته أو طوله أوعدم قبول الناس له‪ ،‬أو تعجل من الدا عي لبلوغ الغا ية أو‬
‫انسياقا منه وراء عاطفة نبيلة دينية حسنة ورغبة صادقة في العمل والجهاد والشهادة في سبيل‬
‫ال‪ ،‬لن الخطأ ل يصير صوابا بالنيات الحسنة والعواطف النبيلة‪ ،‬وان الوصول الى المقصود‬
‫ل يكون بالسـير على مـا ل يؤدي اليـه وان كان السـائر جـد حريـص على الوصـول‪ .‬ويكفـي‬
‫للتدل يل على ما أقول ان أذكر أن احكام الشري عة ما نزلت دف عة واحدة‪ ،‬وان الدعوة السلمية‬
‫ما سارت وراء رغبات المتحمسين وعواطف الصادقين المتعجلين‪ .‬فالقتال ما شرع في مكة‪،‬‬
‫وكان جواب ال نبي صلى ال عل يه و سلم للمتعجل ين‪ :‬ان ا صبروا‪ .‬و صلح الحديب ية لم تت سع له‬
‫صدور كثير من المسلمين بالرغم من صدقهم وعمق ايمانهم واستعدادهم للقتال وللستشهاد‪،‬‬
‫ولكن اتسع له صدر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬لن المسألة ليست مسألة استعداد للموت‬
‫وال صدق في هذا ال ستعداد وإن ما الم سألة هي لزوم ال سير على الن هج ال صحيح‪ ،‬ف هو وحده‬
‫المو صل الى المراد وبلوغ الغا ية على الو جه المطلوب‪ .‬ولهذا نزل القرآن وا صفا ذلك ال صلح‬
‫بالف تح ال مبين‪ .‬فعلى الدا عي ان ل يتأ ثر بالعوا طف والق صود الطي بة والحماس لخد مة ال سلم‬
‫عند تعين الوسيلة والسلوب‪ ،‬وليدع النظر السديد يعين الوسائل والساليب في ضوء ما جاء‬
‫في المصادر التي ذكرناها‪ .‬إن الحماس والعاطفة والرغبة في العمل يجب أن يوجه ذلك كله‬

‫‪305‬‬
‫لتحقيق وتنفيذ السلوب الصحيح والوسيلة الصحيحة بعد تقريرهما‪ ،‬ل أن يوجه ذلك للتشكيك‬
‫في السلوب الصحيح والتجديف بعيدا عن الوسائل الصحيحة‪ ،‬والجدل العقيم‪.‬‬

‫نتائج الخروج عن النهج الصحيح‬


‫‪ -593‬والخروج عـن النهـج الصـحيح فـي السـلوب والوسـيلة يؤدي الى الفشـل وعدم بلوغ‬
‫الغاية وان ظن الخارج أنه قارب أن يصلها وحتى لو وصلها فعلً‪ ،‬فإنه سرعان ما يدفع عنها‬
‫وير مى بعيدا عن ها‪ .‬وفضلً عن ذلك فان الخروج عن الن هج ال صحيح يؤدي غالبا الى لحوق‬
‫الذى بالعامليـن وضياع الجهود بل طائل كالذي يقيـم البناء على غيـر أسـس سـليمة أو بمواد‬
‫غ ير صالحة‪ .‬فان بناءه الى الزوال مع احتمال انهدا مه على ساكنيه‪ .‬إن هذه النتائج ت قع حتما‬
‫وإن كان الداعي حسن النية والقصد‪ ،‬لن النتائج في الدنيا تترتب على أسبابها ومقدماتها بغض‬
‫الن ظر عن نيات أ صحابها‪ ..‬وعلى سبيل التمث يل او التدل يل على ما نقول‪ ،‬إن من ن هج الدعوة‬
‫الصـحيح حسـن الخلق والترفـق‪ ،‬فان عدم الداعـي ذلك بأن كان فظا غليـظ القلب كان سـببا‬
‫لنصراف الناس عنه وإن كان محقا في دعوته مخلصا في عمله‪ ،‬إذ ليس هو بأحسن حالً من‬
‫ر سول ال صلى ال عل يه و سلم الذي خاط به ر به بقوله‪{ :‬ولو ك نت فظا غل يظ القلب لنفضوا‬
‫من حولك}‪ .‬وأخيرا فان الخروج على الن هج ال صحيح قد يكون من المعا صي ال تي ي قع في ها‬
‫الداعي‪ ،‬لن النهج الصحيح في الدعوة من الدين ومخالفة أحكام الدين في أمور الدعوة الى ال‬
‫معصية يسأل عنها المسلم‪.‬‬

‫صعوبة اللتزام بالنهج الصحيح‬


‫‪ -594‬والحقيقة ان اللتزام بالنهج الصحيح ليس بالمر اليسير‪ ،‬لنه يقتضي أن يحيط الداعي‬
‫بمعاني النهج الصحيح وحضورها في ذهنه بحيث تصدر أفعاله بموجبها بسهولة ويسر ثم عليه‬
‫أن يط بق ما فه مه من هذه المعا ني على الجزئيات ال تي يباشر ها أو يواجه ها و هي كثيرة جدا‬
‫وي صعب عد ها وح صرها‪ ،‬وكثيرا ما تختلط هذه الجزئيات ببعض ها وتدق الفروق في ما بين ها‪.‬‬
‫وكثيرا ما ينسى الداعي معاني المنهج الصحيح‪ ،‬وكثيرا أيضا ما يصعب عليه استنباط الحلول‬
‫الجديدة من هذه المعا ني الكثيرة‪ ،‬ان م ثل الدا عي في هذه الحالة – حالة الت طبيق – م ثل القائد‬
‫العسكري فقد يستوعب أساليب الحرب والقتال والخطط العسكرية وقواعدها استيعابا جيدا جدا‬
‫ول كن هذا ل يكف يه ع ند الت طبيق إذ ل بد له من كفاءة وقدرة على ح سن ال ستفادة م ما تعل مه‬
‫لوضع الخطة الملئمة والسلوب الصحيح للحالة التي يواجهها في ضوء ما تعلمه‪ .‬وصعوبة‬
‫الت طبيق بالن سبة للدا عي أ شد بكث ير م ما هي بالن سبة للقائد الع سكري‪ ،‬لن القائد ي جد ب ين يد يه‬
‫جنودا مطيعين ينفذون ما يأمرهم به القائد‪ ،‬أما الداعي فهو يواجه أناسا جاهلين بربهم متمردين‬

‫‪306‬‬
‫عليه نافرين من الحق مقبل ين على الدنيا معادين للدا عي أوعلى القل ل يهتمون بما يدعوهم‬
‫إل يه من الخ ير ول يح سون بحا جة إل يه‪ .‬أ ضف الى ذلك أن أحوال الناس وأهواء هم مختل فة‬
‫متضاربة وأمراضهم كثيرة متنوعة وكل ذلك يجعل مهمة الداعي في تطبيق ما تعلمه صعبة‬
‫وليست يسيرة‪ .‬ومع هذا كله فإنه من الممكن تذليل هذه الصعوبة جهد المكان وهذا ما نبينه‬
‫في الفقرة التالية‪:‬‬

‫تيسير اللتزام بالنهج الصحيح‬


‫والذي يسهل اللتزام بالنهج الصحيح ويعين عليه أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -595‬أولً‪ :‬الفهم الدقيق الجيد لمعاني النهج الصحيح بطول التأمل وتكرار هذه المعاني التي‬
‫جاءت في الم صادر ال تي ذكرنا ها‪ ،‬بح يث ت صبح كأن ها تجري في د مه وحاضرة في ذه نه‪،‬‬
‫ولهذا ل يجوز للدا عي أن ي مل من ترداد وإعادة قراءة ما ورد في م صادر الدعوة مع التأ مل‬
‫الطويل عند القراءة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تقوى ال‪ ،‬فان تقوى ال تنور قلب المسلم وتقوي فيه قوة الدراك والرؤية فيبصر الحق‬
‫واضحا جليا ويعرف الو سائل وال ساليب ال صحيحة المنا سبة ل ما ي مر به من ظروف وأحوال‬
‫وأشخاص‪ ،‬والتي قد تشتبه بغيرها فيشتبه عليه الصحيح من الوسائل والساليب‪ ،‬لنه ل يكفي‪،‬‬
‫كما قلنا ان يعرف الوسائل والساليب بصورة عامة أو بتفصيل وإنما يجب ان يعرف ما يجب‬
‫تطـبيقه منهـا بالنسـبة لهذا الشخـص أوبالنسـبة لهذه الحالة او الظرف‪ .‬وكثيرا مـا تتعارض‬
‫مـبررات تطـبيق وسـيلة معينـة تعارض معانـي هذه الحالة المعينـة أو الظرف المعيـن‪ ،‬فيحتاج‬
‫الداعي الى بصيرة نافذة تدرك الوسيلة المناسبة او تستخرجها من مجموع الوسائل الصحيحة‬
‫عن طريق المزج او الستنباط اوالقياس قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا ال يجعل لكم‬
‫فرقانا ويك فر عن كم سيئاتكم ويغ فر ل كم وال ذو الف ضل العظ يم} سورة النفال ال ية‪ 29 :‬و قد‬
‫جاء في تف سير هذه ال ية‪" :‬يج عل ل كم فرقانا أي ف صلً ب ين ال حق والبا طل‪ ،‬فان من ات قى ال‬
‫بف عل أوامره وترك زواجره و فق لمعر فة ال حق من البا طل‪ ،‬فكان ذلك سبب ن صره ونجا ته‬
‫ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة"[‪ ]2‬وقال تعالى‪{ :‬واتقوا ال ويعلمكم ال} قال ابن‬
‫كثير في تفسيره‪ :‬ويعلمكم ال كقوله‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا ال يج عل لكم فرقانا} يريد‬
‫رحمة ال بقوله هذا إن معناها مثل معنى هذه الية[‪.]3‬‬
‫ثالثا‪ :‬اللتجاء الدائم الى ال تعالى والنطراح ب ين يد يه والتو سل إل يه ليعل مه ويفه مه‪ .‬ل قد كان‬
‫المام ابن تيمية يخرج الى الصحراء ويضع خده على التراب ويقول "يا معلم ابراهيم علمني"‬
‫يكررها مرارا ويكرر هذه الحالة مرارا كما ذكر تلميذه ابن القيم‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫رابعا‪ :‬تطه ير قل به من جراث يم الرياء تطهيرا كاملً‪ .‬بتجر يد الخلص ل رب العالم ين بح يث‬
‫ل يب قى ف يه أي تل فت الى الناس وطلب ال سمعة عند هم أو طلب مرضات هم على ح ساب الن هج‬
‫الصحيح للدعوة‪ .‬إن الداعي قد ينحرف عن النهج الصحيح لما يسمعه من ضجيج الناس ومن‬
‫صياحهم او من رغبة أصحابه في التساهل في معاني النهج الصحيح‪ .‬والذي يعينه على الثبات‬
‫وال ستقامة وعدم الخروج على الن هج ال صحيح اخل صه الكا مل التام الذي يجعله ل يلت فت إلى‬
‫أي داع من دوا عي الخروج‪ .‬إن تجريد الخلص صعب جدا لن جراثيم الرياء خفية ودقيقة‬
‫قد يحملها الداعي ول يحس بها كما يحمل الصحيح جراثيم المرض ول يحس بها‪ ،‬ولهذا يمكن‬
‫أن تؤثر فيه أو تضعف مقاومته لدواعي الخروج عن النهج الصحيح وال المستعان‪.‬‬
‫[‪ ]1‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪.465‬‬
‫[‪ ]2‬تفسير ابن كثير ج ‪ 2‬ص ‪ 301‬و ‪.302‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪33‬‬

‫الفصل الثاني ‪ -‬أسَاليبُ الدّعوَة ‪ -‬المبحث الول ‪ -‬الداء والدواء‬

‫تمهيد‬
‫‪ -586‬تقوم أسـاليب الدعوة الناجحـة على تشخيـص الداء فـي المدعويـن ومعرفـة الدواء‪،‬‬
‫والتأكيـد على ذلك‪ ،‬وإزاحـة الشبهات التـي تمنـع المدعويـن مـن رؤيـة الداء والحسـاس بـه‪،‬‬
‫وترغيبهم في استعمال الدواء وترهيبهم من تركه‪ .‬ثم تعهد المستجيبين منهم بالتربية والتعليم‬
‫لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم وكل هذا نبينه في المباحث التالية‪:‬‬

‫المبحث الول ‪ -‬الداء والدواء‬


‫تحديد أصل الداء والدواء‬
‫‪ -587‬إن طبيب البدان يشخص الداء أولً ثم يعين العلج ثانيا‪ ،‬وهذا هو السلوب الصحيح‬
‫في المعالجة‪ .‬والداعي الى ال تعالى طبيب القلوب والرواح فعليه أن يسلك نفس هذا السلوب‬
‫فـي معالجـة الرواح فيشخـص الداء أول ثـم يعيـن العلج ثانيا‪ ،‬ول يقـف عنـد أعراض الداء‬
‫محاولً علجها تاركا أصلها وعلتها‪ .‬فما أصل داء البشر وما هو أصل الدواء؟‬

‫أصل داء البشر وأصل دوائهم‬


‫‪ -588‬وأصـل داء الناس فـي القديـم والحديـث جهلهـم بربهـم وشرودهـم عنـه أو كفرهـم بـه‬
‫ورفضهم الدخول في العبودية الكاملة له‪ ،‬والسير على النهج الذي جاء به محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم من ربه واغترارهم بالدنيا وركونهم اليها وغفلتهم عن الخرة اوانكارهم لها‪ .‬هذه هي‬

‫‪308‬‬
‫مقومات الداء‪ ،‬وهي تجتمع مع الكفر بال‪ ،‬وتتفرق مع أصل اليمان به‪ ،‬كما نجده في ضعاف‬
‫العقيدة من المسلمين‪ .‬فإذا وجد أصل الداء بكل مقوماته وجدت الشرور والمفاسد بكل صنوفها‬
‫وأنواعها‪ ،‬وإذا وجدت بعضها وجد من الشرور والمفاسد بقدرها‪.‬‬
‫أمـا أصـل الدواء لهذا الداء فهـو اليمان بال ربا وإلها ل إله غيره‪ ،‬والكفـر بالطاغوت بكـل‬
‫أنوا عه ومظاهره والقبال على ال وعدم الركون الى الدن يا‪ ،‬قال تعالى عن نوح عل يه ال سلم‪:‬‬
‫{لقد أرسلنا نوحا الى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب‬
‫يوم عظ يم} وكذلك قال سيدنا مح مد صلى ال عل يه و سلم لرؤ ساء قر يش و قد جاؤوا الى أ بي‬
‫طالب يسألونه ماذا يريد منهم محمد صلى ال عليه وسلم فقال الرسول الكريم‪" :‬تقولون‪ :‬ل إله‬
‫إل ال وتخلعون ما تعبدون من دو نه"[‪ ]1‬وهكذا قالت ر سل ال جميعا بل ا ستثناء‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ل أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت}‪.‬‬
‫{ولقد بعثتا في كل أمة رسو ً‬

‫التأكيد على معاني العقيدة السلمية‬


‫‪ -589‬وإذ قد تبين لنا أصل الداء وأصل الدواء فعلى الداعي المسلم في دعوته الى ال تعالى‬
‫أن يؤكد على معاني العقيدة السلمية‪ .‬فهي الدواء لصل الداء الذي بيناه‪ ،‬فيؤكد على اليمان‬
‫بال ربا وإلها‪ ،‬وعلى اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم نبيا ورسولً وعلى البعث بعد الموت‬
‫بالروح والجسد وعلى ضرورة العمل الصالح للنجاة من العذاب في الخرة‪.‬‬
‫فالعقيدة ال سلمية وتجل ية معاني ها وأ صولها و ما ت ستلزمه وتتضم نه هي ال ساس في دعوة‬
‫الدا عي و ما يؤ كد عل يه دائما ول يغ فل ع نه مطلقا‪ ،‬لن ها هي ال صل في دعو ته‪ ،‬و ما عداه‬
‫فروع‪ ،‬فإذا اسـتقام له هذا الصـل واسـتجاب له المدعوون بعـد كفرهـم‪ ،‬سـهل عليـه اقناعهـم‬
‫بمعاني السلم وفروعه المختلفة‪ ،‬وإذا رفضوه رفضوا سائر فروعه ومعانيه‪ .‬وهذا هو النهج‬
‫الصـحيح الذي دل عليـه القرآن الكريـم وسـار عليـه النـبي الكريـم صـلى ال عليـه وسـلم‪ .‬فان‬
‫القرآن ظل يتنزل في م كة بال سور واليات في بيان أ صول العقيدة ومعاني ها م ثل اليمان بال‬
‫ووحدانيتـه فـي الربوبيـة واللوهيـة واليمان بيوم الحسـاب ومآل الناس الى الجنـة والنار‪،‬‬
‫وضرورة اليمان بالر سول صلى ال عل يه و سلم والقيام بالع مل ال صالح المشروع‪ .‬ف من ذلك‬
‫قوله تعالى‪ { :‬قل أغ ير ال أت خذ وليا فا طر ال سموات والرض و هو يُطعِم ول يُطعَم قل إ ني‬
‫أمرت أن أكون أول من أسلم ول تكونن من المشركين‪ .‬قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب‬
‫يوم عظ يم‪ .‬من ي صرف ع نه يومئذ ف قد رح مه وذلك الفوز ال مبين‪ .‬وان يم سسك ال ب ضر فل‬
‫كاشف له إل هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} سورة النعام اليات‪17-14 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم‬
‫من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الرحام ما نشاء إلى أجل مسمى‬

‫‪309‬‬
‫ثم نخرجكم طفلً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى أرذل العمر لكيل يعلم‬
‫من ب عد علم شيئا وترى الرض هامدة فإذا أنزل نا علي ها الماء اهتزت ور بت وأنب تت من كل‬
‫زوج به يج‪ .‬ذلك بأن ال هو ال حق وأ نه يح يي المو تى وا نه على كل ش يء قد ير‪ .‬وان ال ساعة‬
‫آت ية ل ر يب في ها وان ال يب عث من في القبور} سورة ال حج اليات‪ 7-5 :‬وقال تعالى‪ { :‬من‬
‫ع مل صالحا من ذ كر أو أن ثى و هو مؤ من فلنحيي نه حياة طي بة ولنجزين هم أجر هم بأح سن ما‬
‫كانوا يعملون} سورة النحل الية‪.97 :‬‬
‫وهذا النهـج القرآنـي فـي التأكيـد على العقيدة السـلمية ظـل مسـتمرا حتـى بعـد الهجرة الى‬
‫المدينـة‪ ،‬فكانـت اليات تنزل ببيانهـا‪ ،‬او تختـم آيام المعاملت بأصـول العقيدة كاليمان بال‬
‫واليوم ال خر‪ .‬والتأك يد على العقيدة و هو الن هج ال سليم كما قل نا‪ ،‬لزم أيضا للدا عي في دعو ته‬
‫بالنسـبة لضعاف العقيدة مـن المسـلمين الذيـن يظهـر ضعـف عقيدتهـم بعصـيان أوامـر الشرع‬
‫وا ستثقال تكالي فه والتخ بط في كث ير من دروب الغوا ية والضلل‪ .‬بل إن هذا الن هج لزم ح تى‬
‫بالنسبة للمسلمين الذين ل يظهر عليهم عصيان ظاهر‪ ،‬لن هذا التأكيد على العقيدة وتذكيرهم‬
‫بمعانيها يقيهم النحراف والعصيان‪.‬‬

‫اعتراض ودفعه‬
‫‪ -590‬و قد يعترض علي نا بأن في دعوة ال نبياء لقوام هم إنكارا من هم لب عض مفا سدهم‪ .‬ك ما‬
‫في قصة لوط وشعيب عليهما السلم‪ ،‬فكيف يقال إن التأكيد يكون على معاني العقيدة أولً فإذا‬
‫ح صلت ال ستجابة انت قل الدا عي الى الفروع؟ والجواب على ذلك أن التأك يد على العقيدة معناه‬
‫ج عل معا ني العقيدة في المقام الول وعدم ن سيانها ابدا‪ ،‬ور بط المفا سد الخطيرة في المجت مع‬
‫بمعانـي العقيدة وبيان انهـا بعـض آثار التمرد على ال‪ .‬هذا هـو المقصـود ممـا قلناه مـن لزوم‬
‫التأكيد على العقيدة‪ ،‬وليس المقصود اغفال ما يراه الداعي من مفاسد خطيرة في المجتمع‪ .‬يدل‬
‫على ذلك ما جاء في القرآن الكر يم عن لوط عل يه ال سلم‪{ :‬كذ بت قوم لوط المر سلين إذ قال‬
‫ل هم أخو هم لوط أل تتقون‪ .‬إ ني ل كم ر سول أم ين‪ .‬فاتقوا ال وأطيعون‪ .‬و ما أ سألكم عل يه من‬
‫أجر إن أجري إل على رب العالم ين‪ .‬أتأتون الذكران من العالم ين وتذرون ما خلق ربكم من‬
‫أزواجكـم بـل أنتـم قوم عادون} سـورة الشعراء اليات‪ .166-160 :‬فلوط عل يه السـلم بدأهـم‬
‫بالمر بتقوى ال وأعلمهم بأنه رسول ال وان من حق الرسول ان يطاع فيما يخبرهم به من‬
‫مناهج العبادة ل وحده‪ ،‬ثم اتبع ذلك ان بيّن لهم بعض مفاسدهم المخالفة لمر ال‪.‬‬
‫وعن شع يب عليه ال سلم‪ ،‬قال ربنا تعالى‪{ :‬والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا ال ما‬
‫ل كم من إله غيره قد جاءت كم بي نة من رب كم فأوفوا الك يل والميزان ول تبخ سوا الناس أشياء هم‬

‫‪310‬‬
‫ول تف سدوا في الرض بعد إصلحها ذل كم خ ير لكم إن كنتم مؤمن ين} سورة العراف ال ية‪:‬‬
‫‪.85‬‬
‫فشعيب عليه السلم بدأهم بعبادة ال وحده ثم بيّن لهم ان ما جاء به من ال هو الحق الواضح‬
‫ال مبين الذي ي ستلزم وفاء الك يل والميزان وعدم ظلم الناس وارتكاب الف ساد في الرض‪ ،‬فهذا‬
‫هو الخير لهم إن كانوا مؤمنين بال ورسوله‪.‬‬
‫فلوط وشعيـب عليهمـا السـلم بينـا لقوميهمـا أن ل إله إل ال‪ ،‬ثـم زادا على ذلك أن ذكروهمـا‬
‫ببعض نتائج تمردهم على ال ومنها سوء أفعالهم كاللواط والتطفيف‪ .‬ومثل هذا ما نزل بمكة‬
‫بشأن المطففين قال تعالى‪{ :‬ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو‬
‫وزنوهـم يخسـرون أل يظـن أولئك أنهـم مبعوثون ليوم عظيـم يوم يقوم الناس لرب العالميـن}‬
‫سورة المطففين اليات‪.5-1 :‬‬
‫فربـط التطفيـف والنهـي عنـه بأصـل مـن أصـول العقيدة وهـو يوم الحسـاب وقيام الناس لرب‬
‫العالمين‪.‬‬

‫ابتعاد الداعي عن النهج الصحيح‬


‫‪ -591‬و قد يبت عد الدا عي عن الن هج ال صحيح فل يه تم بأمور العقيدة‪ ،‬ويهوى الخوض في ما‬
‫يهواه الناس ول يكلفهـم شيئا‪ ،‬كالخوض فيمـا تعورف عليـه مـن أمور مـا يسـمى بالسـياسة‬
‫ل بعيدا عن مفاهيم العقيدة وشمولها‪ ،‬كل ذلك يفعله الداعي‬
‫والثرثرة فيها‪ ،‬وتحليل المور تحلي ً‬
‫ا ستجابة لرغبات الناس او لرغ بة في نف سه هو‪ ،‬وهذا الن هج خ طأ لن الدا عي ل يأ تي بش يء‬
‫جد يد ل يعر فه الناس‪ ،‬بل قد يناقشو نه في ما يقوله ويدع يه‪ ،‬فين جر الدا عي إلى أمور بعيدة عن‬
‫أ صل الداء والدواء‪ ،‬و هو النحراف عن العقيدة ال سلمية ولزوم تعم يق معاني ها في النفوس‪،‬‬
‫ونتيجة ذلك بقاء أصل الداء والسير في البناء من السطح أو بل أساس‪.‬‬

‫الكليات ل الجزئيات‬
‫‪ -592‬وما دام أصل المر وسنامه التأكيد على أصل الداء والدواء‪ ،‬فعلى الداعي أن ل يبدد‬
‫جهوده فـي الجزئيات واسـتئصالها‪ ،‬إن كان فـي ذلك تعويـق له عـن غرس معانـي العقيدة‬
‫ال سلمية في النفوس ودعو ته إلى ال‪ .‬ودليل نا على ذلك أن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‬
‫كان يرى ال صنام تلوث ب يت ال‪ ،‬وتح يط به و هي ت طل بعيون ها الجامدة القبي حة‪ ،‬و هو عل يه‬
‫الصلة والسلم ل يرفع يده لتحطيمها‪ ،‬ول يأمر أصحابه بتكسيرها‪ ،‬ولو أراد لمر‪ ،‬ولو أمر‬
‫لن فذ الم سلمون ما يأمر هم به‪ ،‬ولك نه لم يف عل ذلك عل يه ال صلة وال سلم‪ ،‬لن الم سألة لي ست‬
‫مسألة تكسير أصنام آنذاك‪ ،‬وإنما هي تكسير اقفال القلوب حتى تفقه الحق ثم يأتي اليوم الذي‬

‫‪311‬‬
‫تخر فيه تلك الصنام تحت ضربات المؤمنين‪ .‬وقد كان ذلك في يوم فتح مكة‪ ،‬فكان صلى ال‬
‫عليه وسلم يشير بعصاه الى الصنام وهو يقول‪" :‬لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان‬
‫زهوقا" فتخر الى الرض مكسرة محطمة‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ -‬إزالة الشبهات‬

‫ماهية الشبهات؟‬
‫‪ -586‬المق صود بالشب هة ه نا‪ :‬ما يث ير ال شك والرتياب في صدق الدا عي و أحق ية ما يد عو‬
‫إليه‪ ،‬فيمنع ذلك من رؤية الحق والستجابة له أو تأخير هذه الستجابة‪ ،‬وغالبا ترتبط الشبهة‬
‫بعادة مورو ثة أو م صلحة قائ مة أو ريا سة دنيو ية أو حم ية جاهل ية‪ ،‬فتؤ ثر الشب هة ب سبب هذه‬
‫المور في النفوس الضعيفة المتصلة بهذه الشياء‪ ،‬وتتعلق بها وتحسبها حجة وبرهانا تدفع به‬
‫الحق وتخاصم الدعاة الى ال تعالى‪.‬‬

‫مصدر الشبهات‬
‫‪ -587‬والغالب أن "المل" هم الذ ين يثيرون الشبهات ويزينون ها للناس ويشيعون ها في ما بين هم‬
‫ويكررونها على مسامعهم حتى تألفها نفوس البسطاء من عامة الناس‪ ،‬ويأخذون في ترديدها‪،‬‬
‫ثـم تصـديقها‪ ،‬ثـم تبنيهـا واعتبارهـا كالحقائق الثابتـة وعنـد ذاك يندفعون الى الدفاع عنهـا‬
‫ومخاصمة الحق وأهله من أجلها‪ ،‬والمل منهم يضحكون ويسخرون فقد حققوا ما يريدون‪.‬‬

‫ل خلص من الشبهات ول تبديل فيها‬


‫‪ -588‬وليعلم الدا عي ان إثارة الشبهات في وجه الدعوة الى ال أمر قديم مضت به سنة ال‬
‫في العباد وشنش نة قدي مة متوار ثة ب ين أ هل البا طل فل ي ستغرب من ها الدا عي ول يض يق ب ها‪،‬‬
‫وهـي فـي جوهرهـا ل تتغيـر ول تتبدل وإنمـا الذي يتغيـر فيهـا السـلوب والكيفيـة‪ ،‬قال تعالى‬
‫مخاطبا نبيه الكريم محمدا صلى ال عليه وسلم ‪{ :‬ما يقال لك إل ما قد قيل للرسل من قبلك}‬
‫سورة ف صّلت الية‪ .42 :‬والذي قيل للرسل الكرام هو الباطل الذي كان في حق الناس شبهات‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ما أتى الذين من قبلهم من رسول إل قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم‬
‫قوم طاغون} سورة الذاريات اليات‪ 53-52 :‬فالقوام قبل قريش اتهموا الرسل الكرام بالسحر‬
‫والجنون‪ ،‬وكذلك فعلت قريش لتنفير الناس من الداعي الى ال محمد صلى ال عليه وسلم ومن‬
‫دعوته‪.‬‬
‫فإذا ف قه الدا عي هذه الحقي قة ووعا ها جيدا زال ع نه الع جب والح نق والغ ضب إذا ات هم بالت هم‬
‫الباطلة أو أثيرت الشكوك والريب حول دعوته‪ ،‬لنه ليس أحسن حالً من رسل ال ول أفصح‬

‫‪312‬‬
‫بيانا من هم ول أك ثر إخل صا من هم ول أك ثر تأييدا من ال تعالى من هم‪ ،‬و مع هذا كله أثار أ هل‬
‫البا طل ما أثاروه من الشبهات حول هم م ما ق صه ال تعالى علي نا في اخبار هم‪ .‬ثم إن الدا عي‬
‫بفقهـه هذه الحقيقـة يعلم مدى مـا يبلغ الضلل بالنسـان بحيـث يجعله يخاصـم رسـل ال الذيـن‬
‫يريدون شفاءه مـن المراض وخلصـه مـن النيران وادخاله فـي الجنان‪ .‬وأخيرا فان فقـه هذه‬
‫المور لز مة ل كل م سلم بل ا ستثناء ليم يز ال خبيث من الط يب‪ ،‬وح تى ل يتأ ثر بهذه الشبهات‬
‫فينساق وراءها ويصير – من حيث ل يشعر – مع العداء ضد الدعاة الى ال تعالى‪.‬‬

‫أنواع الشبهات‬
‫‪ -589‬والشبهات أنواع‪ ،‬منها ما يتعلق بالداعي‪ ،‬ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة‪ ،‬ومنها ما‬
‫يتعلق بعموم المدعوين‪.‬‬
‫فالذي يتعلق بالدا عي يتم ثل بالط عن في شخ صه و سيرته و سلوكه وإل صاق الت هم به‪ ،‬ورم يه‬
‫بالسـفه والجهالة والضللة والجنون والفتراء الى غيـر ذلك ممـا يكون المقصـود منـه تنفيـر‬
‫الناس منه وعدم الثقة به‪.‬‬
‫والذي يتعلق بموضوع الدعوة‪ ،‬يتمثل اتهامها بالبتداع والخروج على مألوفات الناس وتقاليدهم‬
‫ونظامهم الموروث‪ ،‬مما يراد به تنفير الناس من الدعوة إلى ال وصدهم عن سبيله‪.‬‬
‫والذي يتعلق بالمدعو ين يتم ثل بإظهار الحرص على م صالحهم وملت هم ود ين آبائ هم والحفاظ‬
‫على نعيمهم وحياتهم المطمئنة مما يقصد منه اثارة حماس الناس ضد الدعاة الى ال‪.‬‬

‫موقف الداعي من الشبهات‬


‫‪ -590‬والداعي إزاء هذه الشبهات مضطر الى تفنيدها واظهار زيفها وبطلنها‪ ،‬لنها موانع‬
‫تمنع من رؤية الحق في حق ضعاف البصر والبصيرة‪ ،‬كما تمنع الحساس بالداء والحاجة الى‬
‫الدواء‪ .‬وتكون الزالة بالحجة والبرهان‪ ،‬ولكن بصراحة ووضوح وحسن بيان مع أدب بالقول‬
‫ورفق في الخطاب دون ان تستنفز الداعي أكاذيب المفترين فيحمله ذلك على النتصار لنفسه‬
‫والغضب لها والنطق بما ل يجوز‪ .‬نحن نعلم أن هذا شيء ثقيل على نفس الداعي‪ ،‬ولكنه ل بد‬
‫منه‪ ،‬ول سبيل غيره‪ ،‬ويهون إن شاء ال بكمال التجرد الى ال واحتساب ما يلقاه من أذى عند‬
‫ال‪ .‬إن مه مة الدا عي إزاء الشبهات وازالت ها مه مة ال طبيب العالم النا صح الشف يق‪ ،‬ل ت ستنفزه‬
‫صيحات المرضى وكرههم رؤية الطبيب‪ ،‬بل ول يمنعه شتمهم له وطعنهم به من الستمرار‬
‫على معالجت هم‪ ،‬ل نه يعلم أن هذه المور من هم هي ب عض أعراض أمراض هم‪ .‬وال طبيب إن ما‬
‫يريد علجهم ل النتقام منهم‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫وال سلوب الج يد في إزالة الشبهات يعر فه الدا عي من ق صص ال نبياء وموقف هم من الشبهات‬
‫التي أثارها المبطلون‪ ،‬وهذا ما نذكر شيئا عنه في الفقرات التالية‪:‬‬

‫أمثلة على شبهات أهل الباطل والرد عليها‬


‫‪ -591‬أولً‪ :‬الطعن بالدعاة‪:‬‬
‫يحرص (المل) واتباعهـم على ابعاد الناس عـن الدعاة الى ال تعالى بالطعـن فـي أشخاصـهم‬
‫وامانت هم وعقول هم‪ ،‬وهذا ما فعله ا سلفهم مع ر سل ال تعالى ف قد اتهمو هم بال سحر والجنون‬
‫والضلل‪ .‬قال تعالى‪{ :‬كذلك ما أ تى الذ ين من قبل هم من ر سول إل قالوا ساحر أو مجنون‪.‬‬
‫أتوا صوا به بل هم قوم طاغون} وقال مشر كو العرب عن نبي نا مح مد صلى ال عل يه و سلم‪:‬‬
‫{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب}‪ .‬وكان رسل ال يردون على‬
‫هذا الفتراء ويزيلون ما يتولد عنه من شبهات‪ ،‬بنفيه عن أنفسهم بأسلوب عالٍ رفيع واضح مع‬
‫شف قة على اولئك المفتر ين‪ .‬قال تعالى عن قوم نوح و ما رموه به وأ سلوب رده علي هم‪{ :‬قال‬
‫المل من قو مه إ نا لنراك في ضلل مبين قال يا قوم ل يس بي ضللة ولك ني ر سول من رب‬
‫العالم ين أبلغ كم ر سالت ر بي وأن صح ل كم وأعلم من ال ما ل تعلمون‪ .‬أو عجب تم أن جاء كم‬
‫ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} سورة العراف اليات‪-60 :‬‬
‫‪.63‬‬
‫ويلحظ في رد نوح عليه السلم أنه خاطبهم بقوله "يا قوم" فهم قومه ولم يتبرأ من انت سابه ِ‬
‫إلي هم‪ ،‬و من شأن هذا الخطاب أن ي ساعد على ايقاف لجاجت هم بالبا طل ثم بيّن لهم أ نه ليس به‬
‫ضللة ك ما يدعون ومع نى ذلك أن هم يكذبون أو يجهلون‪ ،‬فعلي هم أن يقلعوا عن كذب هم وجهل هم‬
‫ثم بيّن لهم حقيقة أمره وهي انه رسول ال ومن شأن رسل ال الصدق فيما يقولون ويبلغون‬
‫عن ال تعالى‪ .‬ثم بيّن لهم أنه يريد تبليغهم رسالة ال وينصح لهم ويريد الخير لهم‪ ،‬وانه على‬
‫علم من أمر ال ل يعلمونه‪ ،‬ومن حق الناصح أن يطاع ويسمع منه‪ ،‬ثم بيّن لهم ان ل داعي‬
‫لعجب هم أن جاءت هم ر سالة ال على ل سان ر جل منهم يعرف هم ويعرفو نه وينذر هم عاقبة ما هم‬
‫فيه‪ ،‬ويدعوهم الى تقوى ربهم وخالقهم فعسى أن تصيبهم رحمة ال في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫وبمثـل هذا السـلوب الرفيـع المؤثـر رد هود عليـه السـلم على افتراءات وشبهات قومـه‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬وإلى عاد أخاهم هودا‪ ،‬قال يا قوم اعبدوا ال ما لكم من إله غيره أفل تتقون‪ .‬قال المل‬
‫الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين‪ .‬قال يا قوم ليس بي سفاهة‬
‫ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالت ربي وأنا لكم ناصح أمين‪ .‬أو عجبتم أن جاءكم‬
‫ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم‪ }...‬سورة العراف اليات‪.69-65 :‬‬
‫‪ -592‬ثانيا‪ :‬الفساد في الرض وطلب الرئاسة على الناس‪:‬‬

‫‪314‬‬
‫و من شبهات هم ال تي يثيرون ها حول الدا عي ا نه ير يد العلو في الرض والريا سة على الناس‪،‬‬
‫وتغيير عقائدهم وتقاليدهم الموروثة وان ما جاء به بدعة مضرة ودعوة مفرقة ما سمعوا مثلها‬
‫مـن قبـل‪ ،‬وانهـا تؤدي الى الفسـاد فـي الرض فيجـب أن يقاوم الداعـي ودعوتـه‪ ،‬ويمنـع مـن‬
‫ال ستمرار في ها‪ ،‬قال تعالى حكا ية عن أقوام نوح وعاد وثمود و ما قالوه لر سلهم‪ ،‬و ما أجابت هم‬
‫به رسلهم لتفنيد هذه الشبهات الباطلة‪ ...{ :‬قالوا إن انتم إل بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما‬
‫كان يع بد آباؤ نا فأتو نا ب سلطان مبين‪ .‬قالت ل هم ر سلهم ان ن حن إل ب شر مثل كم ول كن ال ي من‬
‫على مـن يشاء مـن عباده‪ ،‬ومـا كان لنـا ان نأتيكـم بسـلطان إل بإذن ال وعلى ال فليتوكـل‬
‫المؤمنون} سورة ابراهيم اليات‪ 11-10 :‬وقال تعالى‪{ :‬وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما‬
‫هذا إل رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم‪ ،‬وقالوا ما هذا إل إفك مفترى‪ ،‬وقال الذين‬
‫كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إل سحر مبين} سورة سبأ الية‪" .43 :‬فالمل" أثاروا في الناس‬
‫شب هة التقل يد والحرص على د ين الباء‪ ،‬وان ر سل ال يريدون صرفهم عن ذلك‪ .‬وقال تعالى‬
‫عن قوم نوح‪{ :‬فقال المل الذين كفروا من قومه ما هذا إل بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم‬
‫ولو شاء ال لنزل ملئكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الولين} سورة المؤمنون اليات‪.24-23 :‬‬
‫ف هم يزعمون أن نوحا عليه السلم يريد اكت ساب المنزلة العالية فيهم والريا سة عليهم واظهار‬
‫الفضل لنفسه بدعوته هذه‪ ،‬لن أهل الباطل يقيسون أهل الحق بموازينهم المعوجة ويحسبون أن‬
‫غرض الدعاة الى ال هو غرض أهل الباطل‪ ،‬من طلب العلو في الرض والتسلط على رقاب‬
‫الناس كما قال فرعون وملؤه لموسى‪{ :‬قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما‬
‫الكبرياء في الرض}‪ .‬ثم احتج قوم نوح بأنه بشر مثلهم ول يستحق – بزعمهم أن يكون مبلغا‬
‫عـن ال – وان ال تعالى لو أراد تبليغهـم بشيـء لنزل عليهـم ملئكـة‪ .‬وشبهتهـم هذه التـي‬
‫أثاروها مثل شبهة قريش‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وقالوا لول أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي المر‬
‫ثم ل ينظرون‪ .‬ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلً وللبسنا عليهم ما يلبسون} سورة النعام اليات‪:‬‬
‫‪ .9-8‬أي لو أنزل ال ملكا لجعله بصورة ر جل منهم حتى يبلغ هم‪ ،‬وعند ذلك يثيرون ن فس‬
‫الشبهة‪.‬‬
‫وقد قال تعالى في قصة موسى عليه ال سلم‪{ :‬وقال المل من قوم فرعون اتذر موسى وقومه‬
‫ليفسدوا في الرض ويذرك وآلهتك‪ ،‬قال سنقتل ابناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون‪.‬‬
‫قال مو سى لقو مه ا ستعينوا بال وا صبروا ان الرض ل يورث ها من يشاء من عباده والعاق بة‬
‫للمتقين} سورة العراف اليات‪" .128-127 :‬فالمل" أثاروا حفيظة فرعون على موسى عليه‬
‫السلم بادعائهم ان موسى يريد الفساد في الرض‪ ،‬فل يصح تركه يستمر في دعوته والظاهر‬
‫أيضا أن هم أرادوا ب ما آثاروه من هذه الشب هة الباطلة ال تبرير للتنك يل بمو سى و من م عه من‬
‫المؤمنين‪ ،‬وليجدوا تأييدا من اتباعهم الضالين‪ .‬والظاهر أيضا ان هذا الدعاء من أهل الباطل‬

‫‪315‬‬
‫وما عزم عليه فرعون من تقتيل اتباع موسى قد بلغهم‪ ،‬فقال لهم موسى عليه السلم استعينوا‬
‫بال واصـبروا‪ ،‬وبيّن لهـم أن العاقبـة دائما تكون للمتقيـن‪ .‬أمـا جواب موسـى لشبهات فرعون‬
‫وطعونه في موسى فقد بيّنها ال تعالى في آيات أخرى مثل قوله عن موسى‪{ :‬وقال موسى يا‬
‫فرعون إ ني ر سول ال من رب العالم ين‪ .‬حق يق على أن ل أقول على ال إل ال حق قد جئت كم‬
‫ببيّنة من ربكم‪ }....‬سورة العراف اليات‪.105-104 :‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وكذلك ما أر سلنا من قبلك في قر ية من نذ ير إل قال مترفو ها إ نا وجد نا آباء نا‬
‫على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم‪ ،‬قالوا إنا بما‬
‫أر سلتم به كافرون} سورة الزخرف اليات‪ .24-23 :‬فأ هل الترف "المل" يثيرون في الناس‬
‫شبهة التقليد ويغرونهم على ضرورة التمسك بدين آبائهم وبالتالي ضرورة مقاومة الدعوة الى‬
‫ال‪ .‬فيرد عليهم الرسل الكرام برد منطقي سليم {أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}‬
‫أي أن الحق هو الواجب التباع وان كان مخالفا لما كان عليه آباؤكم‪ ،‬والحق هو ما جئتكم به‬
‫من ربكم فانظروه وقارنوه مع ما عندكم يتبين لكم صدق ما أقول‪ .‬فينقطع أهل الباطل عن هذا‬
‫الرد ويقولون انهم كافرون بالذي جاء به‪.‬‬
‫‪ -593‬ثالثا‪ :‬رميهم الدعاة بالتصال المشبوه وان دعوتهم من خرافات الماضين‪:‬‬
‫ومـن أسـاليب المبطليـن فـي اثارة الشبهات حول الداعـي‪ ،‬زعمهـم انـه متصـل بقوم معينيـن‬
‫يساعدونه على التلفيق والقيام بهذه الدعوة‪ ،‬وان دعوته ل صلة لها بالدين ول بال‪ ،‬وإنما هي‬
‫من خرافات الماضين‪ ،‬يريد بها الوصول الى ما يريده بمن يعينه عليها‪ .‬قال ربنا تعالى عن‬
‫قر يش و ما أثاروه من شبهات كاذ بة حول دعوة ال سلم و نبيه عل يه ال صلة وال سلم‪{ :‬وقال‬
‫الذيـن كفروا إن هذا إل إفـك افتراه وأعانـه عليـه قوم آخرون فقـد جاؤوا ظلما وزورا‪ ،‬وقالوا‬
‫أساطير الولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلً‪ .‬قل أنزله الذي يعلم السر في السموات‬
‫والرض انه كان غفورا رحيما} سورة الفرقان اليات‪.6-4 :‬‬
‫‪ -594‬رابعا‪ :‬الداعي رجل مغمور‪:‬‬
‫ومن شبهاتهم ان الداعي رجل مغمور ل هو في العير ول في النفير‪ ،‬وليس هو من المثقفين‬
‫الكبار ول من الغنياء المعروف ين ول من ذوي المنا صب والجاه في المجت مع‪ ،‬ويرتبون على‬
‫ذلك انهم أولى بكل خير وبكل دعوة الى الصلح‪ ،‬فلو كان ما يدعو اليه الداعي صلحا وحقا‬
‫لجاء بهذه الدعوة غيره من أشراف المجت مع‪ .‬قال تعالى حكا ية عن مشر كي العرب في ما قالوه‬
‫لسيدنا محمد صلى ال عليه وسلم {وقالوا لول أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‪.‬‬
‫أ هم يق سمون رح مة ر بك‪ ،‬ون حن ق سمنا بين هم معيشت هم في الحياة الدن يا ورفع نا بعض هم فوق‬
‫ب عض درجات ليت خذ بعض هم بعضا سخريا ورح مة ر بك خ ير م ما يجمعون} سورة الزخرف‬
‫اليات‪ 32-31 :‬فال تعالى أعلم حيث يجعل رسالته فهو الحكيم العليم‪ .‬وقال تعالى‪{ :‬وقالوا‬

‫‪316‬‬
‫ن حن أك ثر أموالً وأولدا و ما ن حن بمعذب ين قل إن ر بي يب سط الرزق ل من يشاء ويقدر ول كن‬
‫أكثر الناس ل يعلمون‪ ،‬وما أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل‬
‫صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون‪ .‬والذين يسعون في آياتنا‬
‫معاجزيـن أولئك فـي العذاب محضرون} سورة سـبأ ال ية‪ 38 :‬فأهـل البا طل يحتجون بكثرة‬
‫الموال والولد والن صار على أحقيت هم ب كل دعوة الى ال صلح‪ ،‬وان هم لهذا أ هل للفوز من‬
‫أي عذاب‪ .‬فبين ل هم القرآن العظ يم أن ال يب سط الرزق ل من يشاء ويضي قه لحك مة بال غة‪ ،‬وان‬
‫الموال والولد ل تقرب عند ال وإنما الذي يقرب هو العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -595‬خامسا‪ :‬اتباع الداعي أناس مغمورون‪:‬‬
‫ومـن شبهاتهـم حول الدعوة‪ ،‬ان أتباع الداعـي الى ال أناس مغمورون فقراء جهال اصـحاب‬
‫حرف خ سيسة‪ ،‬ق صار ن ظر ورأي‪ ،‬وان الدعاة واتباع هم ل ي ستحقون ارشاد الناس الى الخ ير‬
‫ول قيادتهـم الى الهدى‪ ،‬ولهذا كله فإن "المل" هـم وحدهـم المسـتحقون لقيادة الناس الى الخيـر‪،‬‬
‫ول يم كن أن يكونوا اتباعا للدا عي الى ال لن هم أ هل ن ظر ورأي خلف أولئك الفقراء الذ ين‬
‫اتبعوا الداعي بل بيّنة وبرهان‪ .‬قال تعالى عن قوم نوح‪{ :‬فقال المل الذين كفروا من قومه ما‬
‫نراك إل بشرا مثلنا‪ ،‬وما نراك اتبعك إل الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من‬
‫فضل بل نظنكم كاذبين} فيجيبهم نوح عليه السلم بما قصه ال علينا‪{ :‬قال يا قوم أرأيتم إن‬
‫كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون‪.‬‬
‫ويا قوم ل أسألكم عليه مال إن أجري إل على ال وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملقوا ربهم‬
‫ولك ني أرا كم قوما تجهلون‪ .‬و يا قوم من ين صرني من ال إن طردت هم أفل تذكرون‪ .‬ول أقول‬
‫لكـم عندي خزائن ال ول أعلم الغيـب ول أقول إنـي ملك ول أقول للذيـن تزدري أعينكـم لن‬
‫يؤتي هم ال خيرا‪ .‬ال أعلم ب ما في أنف سهم إ ني إذا ل من الظالم ين} سورة هود اليات‪31-28 :‬‬
‫يبين لهم نوح عليه السلم انه على بيّنة من ربه أي على يقين وأمر واضح جلي ونبوة صادقة‪.‬‬
‫وإذا كان ذلك قد خ في علي كم ولم تهتدوا إل يه وبادر تم الى التكذ يب فك يف نكره كم على قبول‬
‫الدعوة‪ .‬والشأن فـي قبولهـا القتناع والقبول الختياري‪ ،‬لن الكراه فـي الديـن ممنوع‪ .‬وأمـا‬
‫بشأن أتباع نوح عليـه السـلم وكونهـم مـن الفقراء والضعفاء فيقول نوح عليـه السـلم‪ ،‬بأنـه‬
‫رسول ال يدعو الناس الى عبادة ال وحده‪ ،‬ل فرق في دعوته بين شريف ووضيع‪ ،‬ول بين‬
‫غني وفقير‪ ،‬فكلهم أهل لن يدعوهم ومطالب بأن يدعوهم‪ ،‬فمن استجاب منهم له قبله وصار‬
‫مـن أتباعـه ول يمكنـه أبدا أن يطردهـم مـن مجلسـه بحجـة أنهـم فقراء ضعفاء وان الشراف‬
‫يأنفون من هم و من حضور مجلس يضم هم‪ .‬ك ما ل يم كن أن يقول ل هم ل يس ل كم ع ند ال ثواب‬
‫على أعمالكم‪ ،‬وقد آمنوا برسالة ربهم فال أعلم بما في نفوسهم‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫والوا قع ان أ هل البا طل – ل سيما المل من هم – يضيقون ذرعا بالفقراء والضعفاء ويأنفون ان‬
‫يكونوا مثلهم أتباعا للدعاة الى ال ولذلك فهم يطلبون إبعادهم من مجلسهم‪ ،‬وكذلك فعل اشراف‬
‫قريـش‪ ،‬طلبوا مـن رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم ان يطردهـم مـن مجلسـه فأنزل ال جـل‬
‫جلله‪{ :‬وا صبر نف سك مع الذ ين يدعون رب هم بالغداة والع شي يريدون وج هه ول ت عد عيناك‬
‫عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}‬
‫سورة الك هف ال ية‪ 28 :‬فل يجوز اتباع أ صحاب الهواء والغافلة قلوب هم عن ذ كر ال في ما‬
‫يقترحونه ويطلبونه من باطل ومنه إبعاد المؤمنين الصادقين لكونهم من الفقراء والمستضعفين‪.‬‬
‫‪ -596‬هذه ب عض شبهات أ هل البا طل ال تي ذكر ها ال تعالى في ق صص ال نبياء في القرآن‬
‫العظ يم‪ ،‬ويجمع ها جا مع وا حد هو الط عن بالدا عي والدعوة وتحر يض الدهماء والعا مة على‬
‫مخاصـمة الدعوة ليخلوا الجـو "للمل" الكافـر الضال فيبقوا على باطلهـم وتسـلطهم على رقاب‬
‫الخلق‪.‬‬

‫ابتعاد الداعي عن الشبهات‬


‫‪ -597‬وإذا كان أهـل الباطـل يثيرون الشبهات ويفترون الكاذيـب فـي وجـه الدعوة وضـد‬
‫الدا عي‪ ،‬فعلى الدا عي ان يبت عد عن موا ضع الشبهات ح تى ل يتعلق المبطلون ب ها ويتخذون ها‬
‫تكأة لفترائهم‪ .‬وقد دل القرآن الكريم على ضرورة البتعاد عما قد يتشبث به أهل الباطل في‬
‫إثارتهم الشبهات‪ ،‬ومن هذه الدللت القرآنية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬كان رسـل ال جميعا يقولون لقوامهـم‪ :‬ل نريـد منكـم على دعوتنـا مالً‪ ،‬ول أجرا‪ ،‬لن‬
‫أجرنا على ال وحده‪ .‬قال تعالى عن نوح عليه السلم‪{ :‬ويا قوم ل أسألكم عليه مالً إن أجري‬
‫إل على ال‪ }...‬وقال تعالى عن نبينا محمد صلى ال عليه وسلم‪{ :‬قل ما سألتكم من أجر فهو‬
‫ل كم إن أجري إل على ال وهوعلى كل ش يء شه يد} سورة سبأ ال ية‪ 50 :‬و جه الدللة بهذه‬
‫ال ية وال تي قبل ها وغير ها مثل ها‪ ،‬ان الر سل الكرام لو طلبوا مالً أوأجرا على دعوت هم لتعلق‬
‫أهل الباطل بذلك وجعلوه شبهة يثيرونها ليصدوا الناس عن الدعوة والدعاة فيقولون‪ :‬إن هؤلء‬
‫طلب مال‪...‬‬
‫ثانيا‪ :‬قال تعالى‪{ :‬ومـا كنـت تتلو مـن قبله مـن كتاب ول تخطـه بيمينـك إذا لرتاب المبطلون}‬
‫سورة العنكبوت الية‪ 48 :‬وجه الدللة ان ال تعالى أبعد رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم‬
‫عن تعلم الكتابة والقراءة دفعا لما قد يتشبث به المبطلون فيدّعون ان ما جاء به تعلمه من كتب‬
‫ن الداعي يترك بعض ما فيه فائدة لدفع ضرر الشبهة‬
‫قديمة قرأها واستنسخها‪ ،‬بل يمكن القول ا ّ‬
‫الباطلة‪ ،‬لن تعلم القراءة والكتا بة فيه ما ن فع‪ ،‬ول كن د فع ضرر الشب هة الباطلة أك ثر نفعا‪ ،‬فقدم‬
‫الدفع على هذا النفع‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫ثالثا‪ :‬قال تعالى‪ { :‬قل لو شاء ال ما تلو ته علي كم ول أدرا كم به ف قد لب ثت في كم عمرا من قبله‬
‫أفل تعقلون} سورة يونس الية‪ .16 :‬وجه الدللة ان رسول ال صلى ال عليه وسلم ما بلغ‬
‫بالوحي إل بعد بلوغه الربعين من عمره المبارك‪ ،‬ليكون ذلك أدفع للشبهة وأدحض لقول أهل‬
‫الباطـل‪ ،‬فقـد لبـث فيهـم رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم هذه المدة الطويلة وخـبروه وعرفوا‬
‫سـيرته الطيبـة وأخلقـه القويمـة وامانتـه وصـدقه فل يعقـل ان يكذب على ال بعـد هذا العمـر‬
‫الطو يل فيد عي الر سالة وإذا كان ال مر كذلك وإن صدقه ظا هر‪ ،‬فادعاء الكفرة ا نه ساحر او‬
‫مجنون او كاذب‪ ،‬ادعاء باطـل وشبهـة مدحوضـة‪ .‬ويمكـن هنـا أن نقول مـا قلناه مـن أن دفـع‬
‫الشبهة مقدم على جلب بعض النفع‪ ،‬ذلك ان رسول ال صلى ال عليه وسلم مضى أكثر عمره‬
‫حتى بلغ بالرسالة‪ .‬ول شك ان بعثته قبل الربع ين كان يمكن أن يكون في ها مزيد في الدعوة‬
‫الى ال‪ ،‬ولكـن شاءت حكمـة ال أل يجعـل بعثتـه إل بعـد بلوغـه الربعيـن مـن عمره المبارك‬
‫الميمون وإن فات بعض النفع والخير لتأخر بعثته ليدفع الشبهة ويدحض ادعاءات أهل الباطل‬
‫كما هو واضح من سياق الية الكريمة‪ .‬وهكذا يجب على الداعي الفقيه أن يترك بعض ما فيه‬
‫فائدة ونفع ليدفع شبهات أهل الباطل وما يترتب عليه من ضرر‪ .‬وسبب ذلك كله أن الشبهة إذا‬
‫أثيرت بيـن الناس وشاعـت فل بـد أن تترك أثرا فـي النفوس ل سـيما الضعيفـة والجاهلة‬
‫والمتربصة‪ ،‬ويصعب عند ذاك مكافحتها والقضاء عليها إل بجهد كبير‪ ،‬فكل ما يمنع حدوث‬
‫الشبهات او اعطاء ها ما ت ستند إل يه مطلوب من الدا عي ملحظ ته واعتباره وأخذه وان فوت‬
‫عليـه بعـض الفوائد‪ ،‬لن القاعدة تقول "درء المفاسـد أولى مـن جلب المنافـع" ويدفـع أعظـم‬
‫الضررين بتحمل أقلهما‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬وقد قال تعالى عن رسولنا الكريم صلى ال عليه وسلم {وما علمناه الشعر وما ينبغي له‬
‫إن هو إل ذكر وقرآن مبين} فمنع ال تعالى رسوله من تعلم الشعر وانشائه حتى ل يكون ذلك‬
‫وسيلة بيد أهل الباطل يبنون عليها شبهاتهم الباطلة‪.‬‬
‫والواقع أن الدعاة الى ال محتاجون أكثر من غيرهم الى البتعاد عن كثير من المباح الذي قد‬
‫يتشبث به أهل الباطل ويجعلونه مثارا لشبهاتهم وللصد عن سبيل ال‪ .‬ولكن يجب التنبه لما‬
‫يجب توقيه دفعا للشبهة‪ ،‬وما يجب مباشرته لنه من الدعوة وان ظن أنه من الشبهة‪ ،‬وهذا‬
‫موضع دقيق يكثر فيه الخطأ‪ ،‬ويحتاج الى تفصيل يكفينا منه هنا‪ ،‬أن نقول‪ :‬يسع الداعي أن‬
‫يترك ما يخص نفسه وحظوظه المباحة دفعا هنا للشبهة‪ ،‬وقد يجب أو يندب هذا الترك‪ ،‬ول‬
‫يسع الداعي أن يترك ما يخص صميم الدعوة او ما يتصل بها اتصالً مباشرا‪ ،‬أو يتعلق‬
‫بنهجها وأسلوبها‪ ،‬ل يجوز مثلً ترك دعوة المير والدخول عليه لهذا الغرض بحجة دفع شبهة‬
‫تقول الناس أنه من بطانة المير أو أنه يداهن المير‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫المبحث الثالث ‪ -‬الترغيب والترهيب‬

‫معناهما وأهميتهما‬
‫‪ -586‬نقصـد بالترغيـب كـل مـا يشوق المدعـو الى السـتجابة وقبول الحـق والثبات عليـه‪.‬‬
‫ونق صد بالتره يب كل ما يخ يف ويحذر المد عو من عدم ال ستجابة أو ر فض ال حق أو عدم‬
‫الثبات عل يه ب عد قبوله‪ .‬والمل حظ أن القرآن الكر يم مملوء ب ما ير غب الناس في قبول دعوة‬
‫السلم والتحذير من رفضها‪ ،‬مما يدل دللة قاطعة على أهمية هذا السلوب‪ :‬أسلوب الترغيب‬
‫والترهيب في الدعوة الى ال تعالى‪ ،‬وعدم اهماله من قبل الداعي المسلم‪.‬‬

‫بم يكون الترغيب والترهيب؟‬


‫‪ -587‬والصل في الترغيب أن يكون في نيل رضى ال ورحمته وجزيل ثوابه في الخرة‪،‬‬
‫وان يكون الترهيب بالتخويف من غضب ال وعذابه في الخرة وهذا هو نهج رسل ال الكرام‬
‫كما بينه القرآن الكريم وجاءت به السنة النبوية المطهرة‪.‬‬
‫فمن اليات القرآنية قوله تعالى‪:‬‬
‫عن نوح عل يه ال سلم {أو عجب تم ان جاء كم ذ كر من رب كم على ر جل من كم لينذر كم‬ ‫‪-1‬‬
‫ولتتقوا ولعلكم ترحمون} سورة العراف الية‪.63 :‬‬
‫و عن نوح عل يه ال سلم {إ نا أر سلنا نوحا إلى قو مه أن أنذر قو مك من ق بل أن يأتي هم‬ ‫‪-2‬‬
‫عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين‪ .‬ان اعبدوا ال واتقوه واطيعون‪ .‬يغفر لكم من ذنوبكم‬
‫ويؤخر كم إلى أ جل م سمى إن أ جل ال إذا جاء ل يؤ خر لو كن تم تعلمون} سورة نوح اليات‪:‬‬
‫‪.3-1‬‬
‫وقال تعالى عن ر سوله مح مد صلى ال عل يه و سلم {فآمنوا بال ور سوله والنور الذي‬ ‫‪-3‬‬
‫أنزلنا وال بما تعملون خبير‪ .‬يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بال ويعمل‬
‫صالحا يك فر ع نه سيآته ويدخله جنات تجري من تحت ها النهار خالد ين في ها أبدا ذلك الفوز‬
‫العظيم} سورة التغابن الية‪.9-8 :‬‬
‫{إن ال يد خل الذ ين آمنوا وعملوا ال صالحات جنات تجري من تحت ها النهار‪ .‬والذ ين‬ ‫‪-4‬‬
‫كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل النعام والنار مثوى لهم} سورة محمد الية‪.12 :‬‬
‫و في ال سنة النبو ية كان صلى ال عل يه و سلم ي عد المبايع ين له بالج نة من ذلك ما قاله‬ ‫‪-5‬‬
‫عليه الصلة والسلم لصحاب بيعة العقبة الولى "فان وفيتم فلكم الجنة"[‪.]1‬‬
‫‪ -588‬ومع أن الصل في الترغيب والترهيب يكون بالجزاء في الخرة‪ ،‬فانه يجوز أن يكون‬
‫ب ما ي صيب المدعو ين في الدن يا من خ ير في حالة ا ستجابتهم و ما ي صيبهم من شر في حالة‬

‫‪320‬‬
‫رفض هم‪ ،‬على أن ل يغ فل الدا عي أبدا عن الترغيب والتره يب بالجزاء في الخرة‪ .‬و من أدلة‬
‫هذا الجواز ما يأتي‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬و عد ال الذ ين آمنوا من كم وعملوا ال صالحات لي ستخلفنهم في الرض ك ما‬ ‫‪-1‬‬
‫استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا‪}...‬‬
‫سورة النور الية‪.55 :‬‬
‫وقال تعالى حكايـة عـن قوم نوح عليـه السـلم لقومـه‪{ :‬فقلت اسـتغفروا ربكـم إنـه كان‬ ‫‪-2‬‬
‫غفارا‪ ،‬يرسـل السـماء عليكـم مدرارا ويمددكـم بأموال وبنيـن ويجعـل لكـم جنات ويجعـل لكـم‬
‫أنهارا} سورة نوح الية‪.11-10 :‬‬
‫مـا قاله رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم عندمـا جاء أشراف قريـش عمـه أبـا طالب‬ ‫‪-3‬‬
‫ليحدثوه بشأن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم وطلبوا منه أن يكل مه لي كف عنهم ويكفوا ع نه‪،‬‬
‫فب عث إل يه أ بو طالب فجاءه‪ ،‬فقال‪ :‬يا ا بن أ خي هؤلء اشراف قو مك قد اجتمعوا لك ليعطوك‬
‫وليأخذوا منك‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم "يا عم‪ ،‬كلمة واحدة تعطونيها‪ ،‬تملكون بها‬
‫العرب وتدين لكم بها العجم" فقال أبو جهل‪ :‬نعم وأبيك وعشر كلمات‪ .‬فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬تقولون ل إله إل ال وتخلعون ما تعبدون من دونه"[‪.]2‬‬

‫من أساليب الترغيب والترهيب‬


‫‪ -589‬ومن أساليب الترغيب والترهيب تذكير القوم بما هم عليه من نعم‪ ،‬وان من شأن ذلك‬
‫أن يدعوهم الى طاعة ال الذي أنعم عليهم بهذه النعم‪ ،‬والتحذير من فقدهم لها إذا امتنعوا من‬
‫الستجابة وكفروا بال‪ ،‬ومع زوال النعم نزول العذاب‪ .‬ومن اليات الكريمة المبيّنة لهذا النوع‬
‫من السلوب‪ ،‬قوله تعالى‪:‬‬
‫عن هود عل يه ال سلم‪{ :‬واذكروا إذ جعل كم خلفاء من ب عد قوم نوح وزاد كم في الخلق‬ ‫‪-1‬‬
‫بسطة فاذكروا آلء ال لعلكم تفلحون} سورة العراف الية‪.69 :‬‬
‫وقال تعالى عن هود عل يه ال سلم أيضا‪{ :‬واتقوا الذي أمد كم ب ما تعلمون‪ .‬أمد كم بأنعام‬ ‫‪-2‬‬
‫وبنيـن وجنات وعيون‪ .‬إنـي أخاف عليكـم عذاب يوم عظيـم} سـورة الشعراء اليات‪-131 :‬‬
‫‪.135‬‬
‫وقال تعالى عـن صـالح عليـه السـلم‪{ :‬واذكروا إذ جعلكـم خلفاء بعـد عاد وبوأكـم فـي‬ ‫‪-3‬‬
‫الرض تتخذون مـن سـهولها قصـورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلء ال ول تعثوا فـي‬
‫الرض مفسدين} سورة العراف الية‪.73 :‬‬
‫وقال تعالى عن قريش‪{ :‬ليلف قريش ايلفهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا‬ ‫‪-4‬‬
‫البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫من لوازم الترغيب والترهيب‬
‫‪ -590‬ولما كان النسان يعيش في الدنيا ويشاهدها ويحس بها ويتعرض لغراءاتها مما قد‬
‫يجره إلى الركون إليها والتعلق بها ونسيان الخرة‪ ،‬فل بد إذن من تنفير المدعوين من إيثارها‬
‫على الخرة ل مـن الفرار منهـا جملة واحدة‪ ،‬مـع بيان حقيقتهـا وقيمتهـا وقدرهـا بالنسـبة الى‬
‫الخرة ونعيم ها‪ .‬و قد ب ين ذلك كله القرآن الكر يم خ ير بيان م ما يج عل أ يّ م سلم عا قل يؤ ثر‬
‫الخرة على الدن يا‪ ،‬بل ويج عل المد عو غير المسلم منجذب إلى هذه الحقائق في مواز نة الدن يا‬
‫مع الخرة وقد يجره ذلك إلى اليمان لما يحسه من صدق هذا البيان والتصوير لقيمة الدنيا‪.‬‬
‫ومن اليات القرآنية في هذا الباب قوله تعالى‪{ :‬إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء‬
‫فاختلط بـه نبات الرض ممـا يأكـل الناس والنعام حتـى إذا أخذت الرض زخرفهـا وازّينـت‬
‫ل أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالمس‪،‬‬
‫وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا لي ً‬
‫كذلك نفصـل اليات لقوم يتفكرون} وقال تعالى‪{ :‬اعملوا أنمـا الحياة الدنيـا لعـب ولهـو وزينـة‬
‫وتفاخر بينكم وتكاثر في الموال والولد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا‬
‫ثم يكون حطاما و في الخرة عذاب شد يد ومغفرة من ال ورضوان و ما الحياة الدن يا إل متاع‬
‫الغرور}‪.‬‬
‫وفي السنة النبوية المطهرة تحذير من الدنيا وإيثارها على الخرة وقيمتها بالنسبة للخرة‪ ،‬من‬
‫ذلك الحديث الشريف "إن الدنيا حلوة خضرة وإن ال تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف‬
‫تعملون‪ ،‬فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"‪ .‬وكان صلى ال عليه وسلم يقول "اللهم ل عيش إل عيش‬
‫الخرة" وقال صلى ال عليه وسلم في بيان قدر الدنيا بالنسبة للخرة "ما الدنيا في الخرة إل‬
‫مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع"‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------‬‬
‫‪-----------------------------------------------‬‬
‫[‪ ]1‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪ ،41‬ومثل هذا أيضا في ج ‪ 2‬ص ‪ 55‬من هذه السيرة‪.‬‬
‫[‪ ]2‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.27‬‬

‫المبحث الرابع‪ :‬التربية والتعليم‬


‫ضرورة التعليم‬
‫‪ -586‬فإذا حصلت الستجابة وقبل المدعو الدعوة الى ال‪ ،‬وهداه ال وشرح صدره للسلم‪،‬‬
‫و جب على الدا عي أن يتعهده ب ما يك فل له المنا عة ضد الداء القد يم‪ ،‬ويب صره بمعالم الد ين‪،‬‬
‫ويثبتـه عليـه وذلك بتعليمـه معالم السـلم ومعانيـه وأفكاره‪ ،‬فل يجوز للداعـي أن يترك‬

‫‪322‬‬
‫المستجدين وشأنهم بمجرد أنهم قبلوا السلم وصاروا من عداد المسلمين‪ ،‬فقد تبقى فيهم بقايا‬
‫كثيرة أو قليلة مـن دائهـم القديـم‪ :‬الشرك بأنواعـه‪ ،‬ممـا يعرضهـم إلى النتكاس والرجوع عـن‬
‫السلم‪ ،‬أو السير على غير هدى ويحسبون أنهم مهتدون‪.‬‬
‫‪ -587‬وفي السنة النبوية سوابق قديمة تدل علىهذا النهج القويم في الدعوة الى ال‪ ،‬أي تعليم‬
‫من يقبل السلم‪ ،‬فقد ثبت في السنة المطهرة‪ ،‬انه عندما أسلم عمير بن وهب‪ ،‬قال صلى ال‬
‫عليـه وسـلم لصـحابه "فقهوا أخاكـم فـي دينـه‪ ،‬واقرئوه القرآن"[‪ .]1‬ويسـتدل بهذا الخـبر‪ ،‬على‬
‫ضرورة تعليم من يدخل في السلم وان من يعرف معاني السلم أو بعضها عليه أن يعلمها‬
‫غيره من المسلمين الجدد‪ .‬وفي السنة أيضا‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم أرسل مصعب بن‬
‫عم ير ليعلم م سلمي المدي نة القرآن‪ ،‬و قد ظل م صعب يعلم القرآن ويد عو الى ال سلم ح تى لم‬
‫يبق دار من دور النصار إل وفيها مسلمون[‪ .]2‬وعندما أسلم بنو المصطلق أرسل صلى ال‬
‫ل يعلمهم أمور السلم[‪.]3‬‬
‫عليه وسلم إليهم رسو ً‬
‫‪ -588‬ومما يدل على حرص رسول ال صلى ال عليه وسلم على تعليم الناس أمور السلم‬
‫ما رواه أبو رفاعة تميم بن أسيد رضي ال عنه‪ .‬قال‪ :‬انتهيت إلى رسول ال صلى ال عليه‬
‫و سلم و هو يخ طب‪ ،‬فقلت‪ :‬يا ر سول ال ر جل غر يب جاء ي سأل عن دي نه ل يدري ما دي نه‪،‬‬
‫ي ر سول ال صلى ال عل يه و سلم وترك خطب ته ح تى انت هى إلي فأ تى بكر سي فق عد‬
‫فأق بل عل ّ‬
‫عليه وجعل يعلمني مما علمه ال ثم أتى خطبته فأتمها"[‪.]4‬‬
‫فلول أن تعليم الناس أمور السلم أمر ضروري ول يحتمل التأخير لما ترك رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم خطبته ونزل لتعليم السائل‪.‬‬
‫ـم‬
‫ـم بحدود ال ول يكتفوا منهـ‬
‫ـلم ويعرفوهـ‬
‫فعلى الدعاة إلى ال أن يعلموا الناس أحكام السـ‬
‫بالعاطفة الطيبة وترديد بعض الكلمات الحقة‪ .‬وان السلم صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬فإن هذه‬
‫العمومات ل تكفـي بـل ل بـد مـن معرفـة تفصـيل السـلم بالقدر المسـتطاع‪ .‬إن نشـر مفاهيـم‬
‫السـلم واجـب على كـل مسـلم فمـن كان عنده علم‪ ،‬فل يجوز له كتمانـه ل سـيما عنـد شيوع‬
‫الجهل وظهور البدع‪ ،‬قال ابن كثير رحمه ال تعالى "فالواجب على العلماء الكشف عن معاني‬
‫كلم ال وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وإذ أخذ ال ميثاق‬
‫الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليل فبئس‬
‫ما يشترون} ثم قال ابن كثير رحمه ال‪ :‬فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عما ذمهم ال تعالى به‬
‫وان نأتمر بما أمر نا به من تعلم كتاب ال المنزل الينا وتعلي مه وتفه مه وتفهي مه"[‪ .]5‬ول شك‬
‫ان هذا الواجـب على الدعاة أوجـب لن الشأن فـي الدعاة انهـم يدعون الى ال على بصـيرة‬
‫وعلم‪ ،‬فعلي هم تب صير غير هم وتعليم هم ول يبخلوا ب ما عند هم من علم فان ك تم العلم ل يجوز‬
‫قال تعالى‪{ :‬إن الذ ين يكتمون ما أنزل نا من البينات والهدى من ب عد ما بيناه للناس في الكتاب‬

‫‪323‬‬
‫أولئك يلعنهـم ال ويلعنهـم اللعنون إل الذيـن تابوا أصـلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهـم وأنـا‬
‫التواب الرحيم}‪.‬‬

‫التربية مع التعليم‬
‫‪ -589‬ول يكفي ان يقوم الداعي المسلم بتعليم المستجيب معاني السلم وإنما عليه أن يحمله‬
‫على الع مل ب ها و صياغة سلوكه بموجب ها ومقتضا ها‪ ،‬وهذا هو ما نريده بالترب ية مع العلم‪...‬‬
‫وهكذا كان ن هج الم سلمين الول ين‪ ،‬قال عبدال بن م سعود ر ضي ال ع نه كان الر جل م نا إذا‬
‫تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن‪ .‬وقال أبو عبد الرحمن السلمي‪:‬‬
‫حدث نا الذ ين كانوا يقرئون نا ان هم كانوا ي ستقرئون من ال نبي صلى ال عل يه و سلم‪ .‬وكانوا إذا‬
‫تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل‪ ،‬فتعلمنا القرآن والعمل جميعا[‪.]6‬‬

‫ضرورة التربية على معاني السلم‬


‫‪ -590‬وتربية المسلم على معاني السلم وصياغة سلوكه وفق هذه المعاني‪ ،‬أمر ضروري‬
‫ل غنى للمسلم عنه‪ ،‬ومن ثم وجب على الداعي الهتمام به وجعله في مقدمة ما يحرص عليه‪.‬‬
‫إن حفظ معاني السلم فقط دون أن تمس هذه المعاني القلب ودون أن ينصبغ بها السلوك‪ ،‬ل‬
‫يفيد في التقويم ول في صلح المسلم‪ .‬إن من حفظ مناهج الرياضة في تقوية الجسد‪ ،‬ويذكرها‬
‫إذا سئل عن ها‪ ،‬أو يردد ها بنف سه دون أن يطبق ها فعلً على نف سه‪ ،‬ل يكت سب صحة جيدة ول‬
‫جسما قويا‪ ،‬وكذا من يعرف السلم ويحفظ معانيه دون أن يربي نفسه عليها‪ .‬وفضلً عن ذلك‬
‫فان من يتعلم ول يع مل ب ما تعلم يكون عر ضة للنزلق والنقلب ع ند أول فت نة أو امتحان‪.‬‬
‫وما أكثر فتن الدنيا واختباراتها‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومن الناس من يعبد ال على حرف فان اصابه‬
‫خيـر اطمأن بـه وان أصـابته فتنـة انقلب على وجهـه خسـر الدنيـا والخرة ذلك هـو الخسـران‬
‫ال مبين}‪ .‬ولهذا كا نت الفترة المك ية متميزة بالترب ية على معا ني ال سلم وف قه ا صوله العظي مة‬
‫ال تي تقوم علي ها العقيدة ال سلمية‪ ،‬وبتلك الترب ية العمي قة ال صارمة صفت نفوس أولئك الكرام‬
‫وامتلت بحقائق السلم وصاروا طليعة السلم الولى وكتيبته المظفرة‪ ،‬ومكنتهم تلك التربية‬
‫من تحمل ما ل يطيقه غيرهم من المحن في سبيل ال ونصرة دينه ونشره في الفاق‪.‬‬

‫من معالم التربية‬


‫‪ -591‬و من معالم الترب ية وأ صولها شد الم سلم إلى غا ية عل يا ينق ضي عمره ول ينت هي من‬
‫التحل يق إلي ها وال سير الحث يث إلي ها‪ ،‬هذه الغا ية هي ال جل جلله ونوال رضاه والتلذذ بذكره‬
‫والتنعم بعبادته‪ ،‬والتطلع إلى ما عنده‪ .‬إن هذه الغاية العليا ل تضيق بالراغبين فيها‪ ،‬المتطلعين‬

‫‪324‬‬
‫إليها‪ ،‬ومن ثم فل يمكن أن يكون تحاسد في طلبها ول تباغض‪ ،‬وإنما أنس ومحبة وتنافس‪.‬‬
‫و هي ب عد ذلك ل تنال بالما ني الفار غة مع القعود والك سل فان من ير يد الو صول إلى م كة‬
‫فعل يه أن يعزم على ال سفر والرح يل ومفار قة ال هل والو طن و حث ال سير والتزود ول كن الزاد‬
‫هنا زاد التقوى‪ ،‬وجعل حياة المسلم كلها ل رب العالمين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قل إن صلتي ونسكي‬
‫ومحياي ومما تي ل رب العالم ين} وكان صلى ال عل يه و سلم يذ كر الم سلمين بهذه المعا ني‪،‬‬
‫وبهذه الغاية العليا‪ ،‬وبالتزود من زاد التقوى‪ ،‬حتى إن أول خطبة خطبها في المدينة كانت في‬
‫الحث على تقوى ال والتعلق بالخرة[‪.]7‬‬
‫من وسائل التربية‬
‫ل وفهما‪ ،‬وفتح‬
‫‪ -592‬ومن وسائل التربية المؤثرة جدا التصال بكتاب ال العظيم تلوة وتأم ً‬
‫منافـذ القلب إلى هذا الروح العظيـم‪ :‬القرآن‪ ،‬لتنسـاب أنواره إلى كيان المسـلم فتزيـل ادواءه‬
‫وظلمتـه‪ ،‬وتبعـث فيـه الحياة الحقيقيـة‪ ،‬فإن القرآن‪ ،‬كمـا وصـفه ال تعالى‪ ،‬نور وهدى وشفاء‬
‫وروح‪ ،‬ول يبقى مع النور ظلمة‪ ،‬ول مع الهدى شك ول مع الشفاء داء‪ ،‬ول مع الروح موت‪،‬‬
‫قال تعالى‪{:‬آلم‪ .‬ذلك الكتاب ل ريب فيه هدى للمتقين}‪{.‬وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة‬
‫للمؤمنيـن}‪{.‬وكذلك أوحينـا إليـك روحا مـن أمرنـا‪.}....‬وكذلك ينبغـي التصـال الدائم بالسـيرة‬
‫النبو ية الكري مة و سيرة أ صحابه الكرام ح تي ي صبح الم سلم كأ نه يع يش هناك مع ر سول ال‬
‫وصـحبه متخطيا حدود الزمـن مسـلحا برو حه للحاق بهـم والتأسـي بسـيرتهم‪ .‬إن على الداعـي‬
‫المسلم أن يعين المستجيبين على هذا النمط من التربية وبهذا السلوب وغيره حتى يثبتوا على‬
‫السلم ويكونوا دعاة إلى ال‪ ،‬فان السلم يحتاج إلى المزيد من الدعاة الفاهمين‪.‬‬
‫‪--------------------------------------------------------‬‬
‫‪-----------------------------------------------‬‬
‫[‪ ]1‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.308‬‬
‫[‪ ]2‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.308‬‬
‫[‪ ]3‬إمتاع السماع ص ‪.34‬‬
‫[‪ ]4‬رياض الصالحين ص ‪.268‬‬
‫[‪ ]5‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.3‬‬
‫[‪ ]6‬تفسير ابن كثير ج ‪ 1‬ص ‪.3‬‬
‫[‪ ]7‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.118‬‬

‫الفصل الثالث ‪َ -‬وسَائل الدّعوَة ‪ -‬المبحث الول ‪ -‬الوسائل الخارجية للدعوة‬

‫‪325‬‬
‫تمهيد‬
‫‪ -586‬نر يد بالوسائل ما ي ستعين به الدا عي على تبليغ الدعوة الى ال على ن حو نا فع مث مر‪.‬‬
‫هي نوعان‪ :‬و سائل تتعلق باتخاذ ال سباب لتهيئة المجال الج يد الم ساعد لتبل يغ الدعوة الى ال‪،‬‬
‫ونسـميها بالوسـائل الخارجيـة للدعوة‪ .‬ووسـائل تتعلق بمهمـة تبليـغ الدعوة بصـورة مباشرة‬
‫ونسميها وسائل تبليغ الدعوة‪ .‬وعلى هذا نقسم هذا الفصل إلى مبحثين‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬للوسائل الخارجية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬لوسائل تبليغ الدعوة‪.‬‬

‫المبحث الول ‪ -‬الوسائل الخارجية للدعوة‬


‫أساسها‬
‫‪ -587‬أساس هذه الوسائل النظرة الصحيحة لواقع الحياة وجريان احداثها وفق قانون السباب‬
‫والمسـببات‪ .‬وهذه الوسـائل كثيرة‪ ،‬نذكـر منهـا الحذر‪ ،‬والسـتعانة أو يكون قريبا منهـا‪ :‬ونتكلم‬
‫فيما يلي عن هذه الوسائل في فروع ثلث‪.‬‬

‫الفرع الول ‪ -‬الحذر‬


‫معناه‬
‫‪ -588‬الحذر فـي اللغـة‪ :‬الخفيـة والتحرز والتيقـظ‪ ،‬ورجـل حذر‪ ،‬أي‪ :‬متيقـظ فهـو متحرز‬
‫ومتأهب لما يخاف أن يفاجأ به من مكروه[‪.]1‬‬

‫الحذر ممدوح غير مذموم‬


‫‪ -589‬ومن تعريفه باللغة يتبين لنا أنه يقوم على أساس المعرفة وأخذ الحيطة‪ .‬فالحذر يعرف‬
‫مدى ضرر المكروه المتوقع حصوله‪ ،‬فيخاف من وقوعه خوفا يدفعه إلى أخذ الحيطة والتحرز‬
‫مباشرة السـباب لمنـع وقوعـه أو لدفعـه إذا وقـع أو لتقليـل أضراره وأذاه‪ ،‬فهـو ليـس بخوف‬
‫مشوب باسـتسلم وقعود وانخلع الفؤاد واضطراب الفكـر وتشوش البال واليأس مـن الخلص‬
‫والسـتسلم له قبـل الوقوع‪ .‬ولهذا فالحذر‪ ،‬بالمعنـى الذي بيناه‪ ،‬محمود غيـر مذموم وهـو مـن‬
‫صفات أهل اليمان والعقل السليم والفهم الدقيق لسنن ال في الكون‪ ،‬ل من صفات أهل الطيش‬
‫والحماقـة والجهالة وقصـر النظـر‪ ،‬فهؤلء ل يعرفون الحذر ول تتسـع له عقولهـم لنهـم ل‬
‫ينظرون إلى أبعد من أنوفهم‪ ،‬ول يحسون بالمكروه المتوقع الحصول إل إذا وقع فعلً‪ ،‬أما قبل‬
‫وقوعه فهم عنه لهون ساهون سادرون‪ ،‬ومن ثم يفاجؤون به فيدهشهم ويبهرهم‪ .‬والفرق دائما‬
‫بين العاقل وبين الجاهل‪ ،‬ان الول يعرف الخطر قبل وقوعه والمكروه قبل حلوله فيتخذ العدة‬

‫‪326‬‬
‫لملقاته ودفعه‪ .‬أما الثاني فل يحس به أصلً إل إذا وقع ومن ثم ل يتخذ من السباب ما يدفعه‬
‫أو يتوقاه‪ .‬ولهذا الفرق يح سب الجا هل ما يفعله الر جل الحذر نوعا من الخوف الذي ل مبرر‬
‫له‪ ،‬ونوعا من الج بن ل يت فق مع اليمان‪ .‬وكثيرا ما يتأثر الرجل الحذر بأقوال الجهال فيترك‬
‫ما يدعو إليه الحذر ويتجاهل الخطر وان تحققت مقدماته فعلى الداعي المسلم أن ل يلتفت إلى‬
‫أقوال هؤلء‪ .‬إن م ثل الحذر ك صاحب ال سفينة ي سير في الب حر على ضوء ما تش ير به حالة‬
‫الجـو فـي ضوء قواعـد علم الفلك والنواء‪ .‬ويأخـذ الحذر المطلوب لتقلبات الجـو وحتـى إذا لم‬
‫يحدث المتوقع فل ضرر عليه فيما يأخذ من الحيطة‪ .‬ومثل الجاهل الحمق‪ ،‬مثل الذي يسير‬
‫في المح يط في مر كب صغير ول يلت فت الى ما تش ير إل يه الخبار العلم ية عن حالة ال جو‬
‫المتوق عة‪ ،‬بل يبلغ به الج هل إلى مخال فة ذلك‪ ،‬و سرعان ما يع طب به مرك به وتتك سر الوا حه‬
‫فيغرق ب ما ف يه ومن ف يه‪ ،‬وان كا نت نيته ح سنة وقصده مرضاة ال تعالى‪ ،‬و قد يكون مأجورا‬
‫في الخرة‪ ،‬ولكن أمور الدنيا تجري وفق السباب والمسببات ل وفق القصود والنيات‪.‬‬

‫دليل مشروعية الحذر من القرآن الكريم‬


‫‪ -590‬قال تعالى‪{ :‬وإذا كنـت فيهـم فاقمـت لهـم الصـلة فلتقـم طائفـة منهـم معـك وليأخذوا‬
‫أسـلحتهم‪ ،‬فإذا سـجدوا فليكونوا مـن ورائكـم ولتأت طائفـة أخرى لم يصـلوا فليصـلوا معـك‬
‫وليأخذوا حذر هم وأ سلحتهم‪ ،‬و ّد الذ ين كفروا لو تغفلون عن أ سلحتكم وامتعت كم فيميلون علي كم‬
‫ميلة واحدة‪ ،‬ول جناح علي كم ان كان ب كم أذى من م طر أو كن تم مر ضى أن تضعوا أ سلحتكم‬
‫وخذوا حذركم إن ال أعدّ للكافرين عذابا مهينا} سورة النساء الية‪.102 :‬‬
‫وهذه اليـة الكريمـة تدل دللة صـريحة قاطعـة على وجوب أخـذ الحذر‪ ،‬بـل وتـبين للمسـلمين‬
‫كيف ية الحذر م ما يدل على أهمي ته‪ ،‬فال مر بأ خذ ال سلحة‪ ،‬وال مر بأن يكون ب عض الم سلمين‬
‫وراء المصـلين يحمونهـم مـن العدو‪ ،‬وتقسـيم المسـلمين إلى طائفتيـن‪ ،‬طائفـة تصـلي وطائفـة‬
‫تحرس‪ ،‬وال مر بأ خذ الحذر‪ ،‬وبيان أن الكفار يرغبون أن يترك الم سلمون الحذر وأ خذ أ سبابه‬
‫حتى يستأصلوا المسلمين مرة واحدة‪ ،‬كل ذلك دليل على وجوب الحيطة والتحرز‪ ،‬وأخذ الحذر‬
‫من المكروه المتو قع‪ .‬وأن قل ه نا ب عض ما ذكره المام القر طبي في تف سيره ليطلع القارئ أن‬
‫علماءنـا رحمهـم ال تعالى أدركوا أهميـة الحذر ودعوا إليـه اسـتجابة لمـر ال وفهما لمعانـي‬
‫كتابه‪.‬‬
‫قال المام القرطـبي رحمـه ال تعالى‪" :‬وليأخذوا أسـلحتهم" "وليأخذوا حذرهـم وأسـلحتهم"‪ .‬هذه‬
‫وصية بالحذر وأخذ السلح لئل ينال العدو أمله ويدرك فرصته‪ .‬ثم قال رحمه ال‪" :‬ود الذين‬
‫كفروا" أي تمنى واحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلح ليصلوا الى مقصودهم فبين ال تعالى‬

‫‪327‬‬
‫بهذا و جه الحك مة في ال مر بأ خذ ال سلح‪ ،‬وذ كر الحذر في الطائ فة الثان ية دون الولى لن ها‬
‫أولى بأخذ الحذر‪.‬‬
‫وفي هذه الية أدلّ دليل على تعاطي السباب واتخاذ كل ما ينجي ذوي اللباب ويوصل الى‬
‫ال سلمة ويبلغ دار الكرا مة‪ ،‬ثم قال رح مه ال‪" :‬وخذوا حذر كم" أي كونوا متيقظ ين‪ ،‬وضع تم‬
‫ال سلح أو لم تضعوه‪ .‬وهذا يدل على تأك يد التأ هب والحذر من العدو في كل الحوال وترك‬
‫الستسلم‪ ،‬إن الجيش ما جاءه مصاب قط إل من تفريط في حذر[‪.]2‬‬
‫‪ -591‬وقال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا‪ }...‬سورة‬
‫النساء الية‪ 71 :‬هذا خطاب للمؤمنين وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل ال وحماية‬
‫الشرع‪ ،‬وأمـر لهـل الطاعـة بالقيام بإحياء دينهـم‪ ،‬وإعلء دعوتـه‪ .‬وأمرهـم ال تعالى ان ل‬
‫يقتحموا على عدو هم على جهالة ح تى يتح سسوا ما عند هم ويعلموا ك يف يردون علي هم‪ ،‬فذلك‬
‫أثبت لهم[‪.]3‬‬

‫دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية‬


‫‪ -592‬وفي السنة النبوية شواهد كثيرة على مشروعية الحذر ولزومه بالنسبة للمسلم ول سيما‬
‫للداعي الذي يتعرض لمكائد الكفار والمنافقين‪ ،‬نذكر منها ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬عن عائشة أم المؤمنين قالت‪ :‬أتانا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالهاجرة‪ ،‬في ساعة‬
‫كان ل يأ تي في ها‪ ،‬قالت‪ :‬فل ما رآه أ بو ب كر قال‪ :‬ما جاء ر سول ال صلى ال عل يه و سلم هذه‬
‫الساعة إل لمر حدث‪ ،‬قالت‪ :‬فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وليس عند أبي بكر إل أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر‪ ،‬فقال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ :‬أخرج عنى من عندك‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول ال إنما هما ابنتاي‪ ،‬فداك أبي وأمي‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إن ال أذن لي في الخروج والهجرة[‪ .]4‬وفي اخبار هذه الحادثة أن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم خرج وأبو بكر من باب صغير في ظهر بيت أبي بكر ومضيا إلى غار بجبل ثور فلم‬
‫ي صعدا الغار ح تى قطرت قد ما ر سول ال صلى ال عل يه و سلم دما‪ ...‬و قد ن سج العنكبوت‬
‫وعشعشـت حمامتان على باب الغار[‪ .]5‬ففـي هذا الخـبر والذي قبله دليـل قاطـع على وجوب‬
‫الحذر‪ ،‬ويظهر ذلك من‪( :‬أ) مجيء النبي صلى ال عليه وسلم الى بيت أبي بكر في الهاجرة‬
‫حيث ينقطع سير الناس عادة في الطريق أو يقل‪( .‬ب) طلبه صلى ال عليه وسلم من أبي بكر‬
‫أن يخرج من داره من فيها ممن يخشى اطلعه على ما يقوله النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما‬
‫أعلمه أبو بكر بأنهما ابنتاه لم ير بأسا من بقائهما‪( .‬ج) خروجهما من باب في ظهر دار أبي‬
‫بكر فلم يخرجا من الباب الصلي للدار‪( .‬هـ) اختفاؤه صلى ال عليه وسلم في الغار وتحمله‬
‫النصب للوصول إليه حتى ان قدميه الشريفتين قطرتا دما‪( .‬و) أمر ال تعالى العنكبوت بنسج‬

‫‪328‬‬
‫خيوطـه‪ ،‬وتعشيـش الحمامتيـن ليكون ذلك داعيا لصـرف انظار المشركيـن عـن وجودهمـا فـي‬
‫الغار‪.‬‬
‫‪ -593‬ثانيا‪ :‬وفي السنة النبوية أيضا أن قريشا عندما عزمت على ق تل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أتى جبريل عليه السلم رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬ل تبيت هذه الليلة‬
‫على فراشك الذي كنت تبيت عليه‪ .‬فلما كانت عتمة الليل‪ ،‬اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى‬
‫ينام فيثبون عليه‪ ،‬فلما رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك قال لعلي بن أبي طالب‪" :‬نم‬
‫على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الخضر‪ ،‬فنم فيه فإنه لن يصل إليك شيء تكرهه‬
‫منهم" ثم خرج عليهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده‪ ،‬وأخذ ال‬
‫تعالى على أبصارهم عنه فل يرونه‪ ،‬فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم‪.]6["..‬‬
‫‪ -594‬ثالثا‪ :‬وكان أصـحاب رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم إذا صـلوا ذهبوا فـي الشعاب‬
‫واستخفوا بصلتهم من قومهم[‪ ]7‬يوم كانوا في مكة‪.‬‬

‫الحاجة الى الحذر‬


‫‪ -595‬وإذا كان الحذر مشروعا‪ ،‬ف هل يحتاج إل يه الدا عي‪ ،‬و هل ي جب عل يه إذا كان محتاجا‬
‫إليه؟ الجواب نعم قد يحتاج إليه الداعي‪ ،‬كما لو كان في مجتمع كافر مثل المجتمعات الوثنية‬
‫في افريقيا وآسيا‪ .‬والمل في هذه المجتمعات يكيدون للداعي إلى ال ويعرقلون سعيه في نشر‬
‫السلم أو يريدون البطش به‪ .‬وقد يكون الخذ بالحذر في هذه الحالة وامثالها واجبا عليه‪ ،‬لن‬
‫تركه قد يفضي إلى التهلكة‪ ،‬وقطع جهاد الداعي في سبيل ال‪ ،‬والقاء النفس بالتهلكة مع إمكان‬
‫الحتراز ل يجوز‪ ،‬فيكون الخذ بأسباب دفعها واجب‪ ،‬كما ان بقاء الداعي وحريته في الرواح‬
‫والمجيـء على نحـو مـن النحاء ومـا يتبـع ذلك مـن نشـر السـلم خيرا كثيرا يفوت إذا هلك‬
‫بسبب ترك الحذر‪ ،‬فيلزمه الحذر لهذه الغاية‪.‬‬

‫الحذر والتوكل على ال‬


‫‪ -596‬وي جب أن يكون واضحا تماما أن ال خذ بالحذر وأ سباب الحي طة واليق ظة والتحرز ل‬
‫يعنـي عدم الثقـة بال ول ينافـي التوكـل عليـه‪ ،‬لن الحذر مـن السـباب‪ ،‬ومباشرة السـباب ل‬
‫تنافـي التوكـل‪ ،‬ولكـن ل يجوز أبدا الطمئنان والركون إليهـا والتعلق بهـا‪ ،‬لن السـباب‬
‫والمسـببات بيـد ال وحده‪ .‬فهـو الذي يهيـء السـبب وهـو الذي يوفـق إليـه ويدل عليـه ويجعله‬
‫مفضيا إلى نتيجته‪ ،‬ولو شاء لسلبه ما به صار سببا‪ ،‬فما شاء ال كان وما لم يشأ لم يكن‪ ،‬بل‬
‫ان المسلم يباشر السباب لن ال أمر بها ودعا إليها‪ ،‬ولكن يبقى القلب معتمدا على ال وحده‪،‬‬
‫متلفتا إليـه متعلقا بـه كأن صـاحبه لم يباشـر أي سـبب أصـلً‪ ،‬ومثاله مثال الزارع فـي أرض‬

‫‪329‬‬
‫الديم‪ ،‬ينثر الزرع ويتعهده‪ ،‬واعتماده على ال وحده ل على ما باشره من أسباب‪ ،‬وهذه كانت‬
‫حالة سيد المتوكلين رسولنا صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد باشر السباب في هجرته كما بينا ودخل‬
‫مع صاحبه أبي بكر إلى الغار أخذا بالحيطة والحذر ولكن اعتماده ما كان على ما باشره من‬
‫أ سباب وإن ما كان اعتماده على ال وحده‪ ،‬ولهذا ل ما ش عر أ بو ب كر بالقلق على حياة ر سول ال‬
‫صلى ال عل يه و سلم وظ هر عل يه الحزن من أ جل ر سول ال صلى ال عل يه و سلم قال له‬
‫الرسول الكريم كما أخبرنا ال‪{ :‬ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه ل تحزن إن ال‬
‫مع نا} فكان ن ظر ر سول ال واعتماده على مع ية ال له ما بالن صر والح فظ والتأي يد ل على ما‬
‫باشره من السباب‪.‬‬

‫أنواع الحذر‬
‫‪ -597‬والحذر أنواع مـن جهـة مـا يحذره الداعـي المسـلم‪ ،‬فهناك حذره مـن الوقوع فـي‬
‫المع صية‪ ،‬وحذره من ال هل والولد‪ ،‬وحذره من اتباع الهوى‪ ،‬وحذره نم المنافق ين والكافر ين‪،‬‬
‫ول بد من كلمة قصيرة عن هذه النواع‪.‬‬

‫الحذر من المعاصي‬
‫‪ -598‬قال تعالى‪{ :‬ويحذركم ال نفسه} أي يحذركم عقابه بأن تباشروا المعاصي وما يسخط‬
‫الرب جل جلله في حل علي كم عذا به أو تفقدوا ن صره وتأييده والدا عي إلى ال يحذر أن ي حل‬
‫عليه غضب ال أو يقطع عنه مدده وعونه ونصره وتأييده وحفظه‪ .‬ولهذا فهو دائم التعلق بال‬
‫شديد الحذر من الوقوع فيما يغضب ال تعالى‪ .‬فهو دائم المراقبة لربه دائم التفتيش في زوايا‬
‫نفسه لئل ينبت فيها شيء من الرياء – وما أصعب التوقي منه – أو طلب السمعة عند الناس‬
‫أو العجاب بالنفس وبالتعالي على الخلق والمن بما يقوم به من أمور الدعوة إلى غير ذلك من‬
‫اقذار المعاصي القلبية‪ .‬فان ال تعالى ل تخفى عليه خافية قال جل جلله {واعلموا أن ال يعلم‬
‫ما في أنفسكم فاحذروه} سورة البقرة الية‪.235 :‬‬

‫الحذر من الهل والولد‬


‫‪ -599‬وال هل والولد مجب نة مبخلة ك ما جاء في ب عض الثار‪ ،‬لن حب الم سلم لهله وولده‬
‫قد يقعد به عن الجهاد في سبيل ال ويحبب إليه المتناع عن البذل حيث يحب ال منه البذل‪.‬‬
‫وقد يمنعونه فعلً عن الجهاد وعن العمل ليوفر لهم الراحة والطمأنينة في زعمهم وقد يستجيب‬
‫لهم فيكون فعلهم هذا فعل العداء‪ ،‬والعدو يستحق الحذر والفلت من مكيدته‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولدكم عدوا لكم فاحذروهم}[‪ ]8‬ووجه عدواتهم كما يقول‬

‫‪330‬‬
‫ا بن العر بي المال كي‪" :‬إن العدو لم ي كن عدوا لذا ته وإن ما عدوا بفعله‪ ،‬فإذا ف عل الزوج والولد‬
‫فعل العدو كان عدوا‪ ،‬ول فعل أقبح من الحيلولة بين العبد والطاعة" وقال أهل التفسير‪ :‬إن هذه‬
‫اليـة نزلت فـي عوف بـن مالك الشجعـي كان ذا أهـل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليـه‬
‫ورققوه‪ ،‬فقالوا إلى من تتركنا؟ فيرق لهم ويقيم عندهم"[‪ ،]9‬فليحذر الداعي المسلم جهالة الهل‬
‫والولد وتثبيطهم له عن الجهاد في سبيل ال والدعوة‪ ،‬فهم مجبنة مبخلة كما قلنا‪.‬‬

‫الحذر من اتباع الهوى‬


‫‪ -600‬وليحذر الداعـي مـن النزلق إلى متابعـة الهوى وترك الحـق بحجـة تكثيـر سـواد‬
‫المسـتجيبين أو بحجـة قبول الدعوة وانتشارهـا فان دعوة ال ليسـت بحاجـة إلى تكثيـر سـواد‬
‫اتباعها عن طريق الخيانة وارضهائهم بالباطل وبما يسخط ال تعالى‪ ،‬قال ربنا تبارك وتعالى‬
‫لرسوله الكريم صلى ال عليه وسلم‪{ :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ال ول تتبع اهواءهم واحذرهم‬
‫أن يفتنوك عن بعض ما أنزل ال إليك} سورة المائدة الية‪ 49 :‬وقد جاء في تفسير هذه الية‬
‫أن جما عة من أحبار اليهود تآمروا في ما بين هم على أن يأتوا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‬
‫ويلوحوا له با سلمهم إذا ا ستجاب ل ما يطلبون‪ ،‬فأتوا الر سول عل يه ال صلة وال سلم وقالوا له‪:‬‬
‫لقد علمت مكانتنا في قومنا‪ ،‬واننا إذا أسلمنا أسلمت يهود كلها وان لنا خصومة مع بني فلن‪،‬‬
‫ونريـد أن نحاكمهـم إل يك فاحكـم لنـا عليهـم‪ ،‬فان فعلت ذلك أ سلمنا وأسـلمت يهود معنـا‪ ،‬فأ بى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك وأنزل ال تعالى هذه الية"[‪.]10‬‬

‫الحذر من المنافقين والكفار‬


‫‪ -601‬المنافقون أصناف شتى منهم المنافق الخالص ومنهم من فيه شوب نفاق يلوث اسلمه‬
‫ومن هم ب ين هؤلء وأولئك‪ .‬وضرر المنافق ين في الم سلمين عظ يم و قد يكون أك ثر من ضرر‬
‫الكفار لظهور هؤلء وخفاء اولئك‪ ،‬فعلى الدا عي الم سلم أن يحذر هم فل ي سمع لقول هم ول ي ثق‬
‫بهم ويسد المنافذ في وجوههم ويحبط مكائدهم‪ .‬قال تعالى في أوصاف المنافقين ووجوب الحذر‬
‫منهم‪{ :‬وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل‬
‫صـيحة عليهـم‪ ،‬هـم العدو فاحذرهـم قاتلهـم ال أنـى يؤفكون} سـورة المنافقون اليـة‪ 4 :‬ويقول‬
‫المام القر طبي في تف سير هذه ال ية‪ :‬و في قوله تعالى‪{ :‬فاحذر هم} وجهان أحده ما فاحذر أن‬
‫تثق بقولهم أو تميل الى كلمهم‪ ،‬الثاني فاحذر مما يلتهم لغرائك‪ ،‬وتخذيلهم لصحابك[‪.]11‬‬

‫وسائل الحذر‬

‫‪331‬‬
‫‪ -602‬وسـائل الحذر كثيرة‪ ،‬تختلف باختلف مـا يحذر منـه وباختلف الظروف والحوال‪.‬‬
‫ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال وهي التي وردت فيها الثار – ويجوز القياس عليها عند‬
‫الحاجة – وهذه الوسائل يأخذها الداعي في المجتمعات الوثنية كما لو ذهب الى بلدان افريقية‬
‫الوثني يعلم الناس هناك السلم‪ .‬ومن هذه الوسائل‪:‬‬
‫‪ -603‬أولً‪ :‬البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة الى ال حذرا من العداء‪ ،‬وهذا الحذر لزم في‬
‫المجتمعات الوثنية والكافرة التي يضيق المل فيها من انتشار السلم كما في البلد الوثنية في‬
‫افريقيـا‪ ،‬ودليـل هذا الحذر مـا جاء فـي السـيرة‪" :‬فلمـا أسـلم أبـو بكـر رضـي ال عنـه أظهـر‬
‫ا سلمه‪ ...‬فج عل يد عو الى ال والى ال سلم من و ثق به من قو مه م من يغشاه ويجلس إل يه"[‬
‫‪.]12‬‬
‫‪ -604‬ثانيا‪ :‬بالتخفـي والسـتتار‪ ،‬احباطا لكيـد الكافريـن وابعاد أذاهـم عـن الداعـي الى ال‪،‬‬
‫ودليلنا على ذلك اختفاء رسول ال صلى ال عليه وسلم وصاحبه الصديق في الغار‪.‬‬
‫‪ -605‬ثالثا‪ :‬اعتزال القوم والختفاء عن هم ودليل نا على ذلك فت ية أ هل الك هف وفي هم قال ال‬
‫تعالى‪{ :‬وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون ال فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته‬
‫ويهيء لكم من أمركم مرفقا}‪.‬‬
‫وإذا جاز هذا النوع مـن العتزال جاز مـا دونـه كالهجـر وعدم المخالطـة والتوقـف عـن نشـر‬
‫الدعوة الى ح ين‪ ،‬نزولً ع ند ح كم الضرورة‪ ،‬و في هذه الحالة ينب غي للدا عي أن ينش غل بنف سه‬
‫ويقبـل على عبادة ربـه ويتأمـل فـي أمور الدعوة والفتكار فيهـا‪ ،‬الى أن يزول مـا دعاه الى‬
‫العتزال‪.‬‬
‫‪ -606‬رابعا‪ :‬الخروج الى الم حل الم ين تخل صا من أذى الكافر ين ودليل نا على ذلك خروج‬
‫المسلمين الى الحبشة[‪ .]13‬والواقع أن الخروج من أرض الكفرة حيث يتجه كيدهم الى البطش‬
‫بالداعـي الى ال‪ ،‬أمـر ذكره ال تعالى دون إنكار ممـا يدل على مشروعيتـه فـي حـق الدعاة‬
‫الم سلمين‪ ،‬قال رب نا تبارك وتعالى‪{ :‬وجاء ر جل من أق صى المدي نة ي سعى قال يا مو سى إن‬
‫المل يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إ ني لك من النا صحين‪ ،‬فخرج من ها خائفا يتر قب قال رب‬
‫نجني من القوم الظالمين} سورة القصص الية‪.21-20 :‬‬
‫‪ -607‬خامسا‪ :‬عدم إظهار المسلم اسلمه إذا كان في هذا الظهار تنكيل الكفرة بالمسلم‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬وقال رجـل مؤمـن مـن آل فرعون يكتـم إيمانـه أتقتلون رجلً أن يقول ربـي ال وقـد‬
‫جاء كم بالبينات من رب كم} سورة غا فر ال ية‪ 27 :‬و قد قص ال علي نا خبر ذلك المؤ من الذي‬
‫كان يكتم إيمانه دون انكار فدل على جواز كتم اليمان عند الضرورة ومن باب اولى جواز أن‬
‫يكتم الداعي الى ال صفته عن الكفار‪ .‬بل ويجوز أن يكتم اسمه‪ ،‬ودليلنا على ذلك أن رسول‬
‫ال صلى ال عل يه و سلم ع ند م سيره الى بدر ذ هب هو وأ بو ب كر ر ضي ال ع نه بعيدا عن‬

‫‪332‬‬
‫الم سلمين فو قف على ش يخ من العرب و سأل عن قر يش فل ما أجا به سألهما م من انت ما فقال‬
‫رسـول ال نحـن مـن ماء[‪ ]14‬وممـا يدل أيضا على جواز اخفاء المسـلم إيمانـه‪ ،‬أن مسـلمي‬
‫المدي نة واعدوا ر سول ال صلى ال عل يه و سلم المج يء الى العق بة في م نى خارج م كة‪ ،‬و قد‬
‫جاء في اخبار هذه الحادثة ما يرويه واحد من الذين حضروا العقبة وبايعوا رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وهو كعب بن مالك‪ ،‬قال "وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ثم‬
‫قال‪ :‬فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة‬
‫ونحن ثلثة وسبعون رجلً ومعنا امرأتان‪ ...‬قال فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم حتى جاءنا معه العباس‪.]15[...‬‬
‫‪ -608‬سادسا‪ :‬التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة‪ ،‬قال تعالى عن يعقوب عليه السلم‪:‬‬
‫{وقال يا بنّي ل تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من ال من‬
‫شيء إن الحكم إل ل عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون} سورة يوسف الية‪.67 :‬‬
‫‪ -609‬سابعا‪ :‬اخفاء الداعي قصده وتفاصيل ما يريده‪ ،‬جاء في السيرة النبوية "وكان رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قلما يخرج في غروة إل كنى عنها وأخبر انه يريد غير الوجه الذي‬
‫يقصد له إل ما كان في غزوة تبوك فانه بينها للناس لبعد الشقة"[‪.]16‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬الستعانة بالغير‬


‫الستعانة بأهل الخير والكفاءة‬
‫‪ -610‬الدا عي حر يص على إي صال الدعوة إلى الناس‪ ،‬و من أ جل هذا ي ستعين ب كل و سيلة‬
‫مشروعة لتحقيق ما يرحص عليه‪ ،‬ومن الوسائل المشروعة استعانته بأهل الخير والكفاءة‪ ،‬قال‬
‫تعالى عـن موسـى عليـه السـلم‪{ :‬واجعـل لي وزيرا مـن أهلي هارون أخـي أشدد بـه أزري‬
‫وأشر كه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك ك نت بنا بصيرا} سورة طه اليات‪:‬‬
‫‪ .35-29‬فموسى عليه السلم طلب من ربه أن يساعده بأخيه هارون لنه كما قال تعالى في‬
‫بيان سبب ذلك الطلب "وأ خي هارون هو أف صح م ني ل سانا فأر سله م عي ردءا ي صدقني إ ني‬
‫أخاف أن يكذبون" ومعنـى ردءا أي‪ :‬وزيرا ومعينا ومقوّيا لمري يصـدقني فيمـا أقوله‪ ،‬ويـبين‬
‫عني ما أكلمهم به فانه أفصح مني لسانا ويفهم عني مال يفهمون فالداعي المسلم ل يتردد أبدا‬
‫في الستعانة بكفاءة غيره من المسلمين وقدرته في مجال الدعوة وسيكون مسرورا جدا إذا ما‬
‫وجد مسلما ذا قدرة وكفاءة وأمانة في أمور الدعوة مع رغبته في السهام في هذا المجال‪ ،‬وإذا‬
‫ما أحس الداعي بضيق في صدره من عمل المسلم الكفء في الدعوة إلى ال‪ ،‬فان إخلصه ل‬

‫‪333‬‬
‫بد أن يكون مشوبا ب حب ال سمعة والرياء فلي سارع الى تنق ية اخل صه‪ ،‬وف سح المجال للك فء‬
‫الِمين بالسهام في جهاد الدعوة الى ال تعالى‪.‬‬

‫الستعانة لغرض الحماية‬


‫‪ -611‬ويجوز للداعي المسلم أن يستعين بالمسلمين لحمايته ممن يريد ايذاءه أو منعه من تبليغ‬
‫السلم ودليلنا على ذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يعرض نفسه‪ ،‬في الموا سم‪،‬‬
‫على قبائل العرب يدعوهم الى ال ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه – أي‬
‫يحموه – حتى يبين عن ال ما بعثه به فكان صلى ال عليه وسلم يقف على منازل القبائل من‬
‫العرب ويقول‪ " :‬يا ب ني فلن إ ني ر سول ال إلي كم‪ ،‬يأمر كم أن تعبدوا ال ول تشركوا به شيئا‬
‫وان تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه النداد‪ ،‬وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى‬
‫أبين عن ال ما بعثني به"[‪ ]17‬وفي بيعة العقبة الكبرى قال صلى ال عليه وسلم "أبايعكم على‬
‫أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"[‪.]18‬‬

‫استعانة الداعي بغير المسلم‬


‫‪ -612‬قد يحتاج الدا عي إلى حما ية المشرك م من ير يد إيذاءه أو من عه من تبل يغ الدعوة ف هل‬
‫يجوز للدا عي أن يطلب هذه الحما ية من غ ير الم سلم‪ ،‬أو يقبل ها إذا عرض ها عل يه؟ وإذا كان‬
‫الجواب باليجاب فما شروط طلبها أو قبولها؟ ثم هل يجوز للداعي أن يستعين بغير المسلم في‬
‫بعض أمور الدعوة؟ هذا ما نجيب عنه في الفقرات التالية‪.‬‬

‫جواز الستعانة بغير المسلم لغرض حماية الداعي‬


‫‪ -613‬يجوز للداعي أن يقبل حماية غير المسلم له ومنع الذى عنه وتمكينه من الدعوة الى‬
‫ال‪ ،‬كما يجوز للداعي أن يطلب هذه الحماية منه‪ .‬ودليلنا على ذلك ما يأتي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬من الثا بت أن أ با طالب كان يح مي ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ويمن عه من قر يش‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم حريصا على بقاء عمه أبي طالب على موقفه هذا وعدم تخليه عنه‬
‫وقد رفض أبو طالب فعلً التخلي عن ابن أخيه بالرغم من اغراء قريش وتهديدها‪ .‬بل ذهب‬
‫إلى أبعد من ذلك‪ ،‬فقام في بني هاشم وبني المطلب "فدعاهم الى ما هو عليه من منع رسول‬
‫ال صلى ال عل يه والقيام دو نه‪ ...‬الخ"[‪ ]19‬ول ما مات أ بو طالب نالت قر يش من ر سول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب حتى قال صلى ال عليه وسلم‬
‫"ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب"[‪ ]20‬وسمى رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم العام الذي ماتت فيه خديجة رضي ال عنها وأبو طالب عام الحزن[‪.]21‬‬

‫‪334‬‬
‫ثانيا‪ :‬خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم‬
‫من قو مه ورجاء أن يقبلوا م نه ما جاء هم به من ال عزّ وجلّ‪ ،‬هذا ما رواه ا بن هشام في‬
‫سيرته[‪.]22‬‬
‫ثالثا‪ :‬و في امتاع ال سماع للمقريزي "ويقال‪ :‬إن ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ل ما عاد من‬
‫الطائف وانتهى الى حراء بعث رجلً من خزاعة الى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة‬
‫ربه فأجاره"[‪.]23‬‬
‫رابعا‪ :‬عندما رجع المسلمون المهاجرون الى الحبشة ظنا منهم أن أهل مكة أسلموا "ولم يدخل‬
‫منهم أحد إل بجواز أو مستخفيا"[‪ ]24‬أي بجوار مشرك ليمنعه من ايذاء أو اعتداء قريش‪.‬‬
‫خام سا‪ :‬عرض ا بن الدغ نة على أ بي ب كر جواره‪ ،‬فقبله أ بو ب كر‪ ،‬فقال ا بن الدغ نة‪ :‬يا مع شر‬
‫قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فل يعرضن له أحد إل بخير[‪.]25‬‬

‫تعليل جواز الستعانة بغير المسلم‬


‫‪ -614‬الخبار التي ذكرناها صريحة في الدللة على جواز قبول أو طلب حماية غير المسلم‬
‫فمـا تعليـل ذلك؟ تعليـل ذلك أن الدعوة الى ال تحتاج الى جـو هادئ خالٍ مـن المضايقات‬
‫والعقبات في طريق الدعوة‪ ،‬وخال من العتداءات على الداعي ومنعه من التبليغ‪ ،‬لن الدعوة‬
‫الى ال كالبذر وكالبناء‪ ،‬والبذر ل ينبـت فـي العاصـير والرياح‪ ،‬والبناء ل يقوم فـي الهياج‬
‫وانشغال البناة في مدافعة الذى والعتداء عن أنفسهم‪ ،‬ولهذا لما توفر للدعوة السلمية الجو‬
‫الهادئ بعد صلح الحديبية‪ ،‬دخل في السلم مثل من كان في السلم قبل ذلك الصلح أو أكثر[‬
‫‪ .]26‬فالغرض من قبول حماية غير المسلم هو تمكين الداعي من القيام بنشر السلم والدعوة‬
‫الى ال تعالى‪ ،‬ول يس الغرض من ها التم تع بالحياة والرا حة في ها ول مداه نة المشرك ين‪ ،‬ول يس‬
‫في قبول هذه الحماية شيء‪ ،‬وإنما هي تشبه قيام المشرك برفع الذى عن طريق المسلم أو رد‬
‫العتداء عنه أو حراسته‪ ،‬فهذه المور مقبولة من المشرك فكذا قبول حمايته‪.‬‬

‫شروط قبول حماية غير المسلم‬


‫‪ -615‬ويشترط لقبول حما ية غ ير الم سلم أو طلب هذه الحما ية أن ل يكون ذلك على ح ساب‬
‫معاني السلم أو التنازل عن شيء منها‪ ،‬ولهذا لما قال أبو طالب للنبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫"فأبق عل يّ وعلى نفسك‪ ،‬ول تحملني من المر ما ل أطيق" قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬يا عم‬
‫وال لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا المر حتى يظهره ال‬
‫أو أهلك فيه ما تركته" ثم استعبر رسول ال صلى ال عليه وسلم وبكى ثم قام‪ .‬فلما ولى ناداه‬
‫أ بو طالب فقال‪" :‬اق بل يا ا بن أ خي ثم قال‪ :‬اذ هب يا ا بن أ خي ف قل ما أحب بت فوال ل أ سلمك‬

‫‪335‬‬
‫لش يء أبدا"[‪ .]27‬وكذلك رد أ بو ب كر جوار بن الدغ نة ل ما طلب م نه أن ل ي صلي في م سجده‬
‫عند باب داره في بني جمح[‪.]28‬‬
‫‪ -616‬ويجوز قبول حمايـة غيـر المسـلم وإن كان الغرض الول منهـا الخلص مـن ايذاء‬
‫الكفرة وبطشهم‪ ،‬لن بقاء المسلم حيا يعطيه فرصا في المستقبل للقيام بواجب الدعوة الى ال‪.‬‬
‫دليل نا على ذلك ما جاء في سيرة ا بن هشام‪" :‬فل ما رأى ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ما‬
‫يصيب اصحابه من البلء‪ ،‬وما هو فيه من العافية لمكانه من ال‪ ،‬ومن عمه أبي طالب وأنه ل‬
‫يقدر على أن يمنع هم م ما هم ف يه من البلء‪ ،‬قال ل هم‪" :‬لو خرج تم الى أرض الحب شة فإن ب ها‬
‫ملكا ل يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل ال لكم فرجا مما أنتم فيه"[‪.]29‬‬

‫الستعانة بغير المسلم في بعض المور‬


‫‪ -617‬ويجوز للدا عي أن ي ستعين بغ ير الم سلم في ب عض المور وإن اقت ضى ذلك اطل عه‬
‫على بعض ماله صلة بعمل الداعي في مجال دعوته الى ال تعالى دليلنا على ذلك‪:‬‬
‫أولً‪ :‬جاء في حديث الهجرة الى المدينة أن أبا بكر قال للنبي صلى ال عليه وسلم‪" :‬يا نبي ال‬
‫إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا‪ ،‬فاستأجر عبد ال بن اريقط‪ ،‬رجلً من بني الديل بن‬
‫بكر وكان مشركا‪ ،‬يدلهما على الطريق‪ ،‬فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما"[‬
‫‪.]30‬‬
‫ثانيا‪ :‬وفي بي عة العقبة الكبرى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء ومعه العباس بن عبد‬
‫المطلب‪ ،‬وهو يومئذ على دين قومه "إل أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له"[‪.]31‬‬
‫ثالثا‪" :‬وكانت خزا عة مسلمهم ومشرك هم عي بة ن صح ر سول ال صلى ال عل يه و سلم بتها مة‪،‬‬
‫صفقهم معه ل يخفون عنه شيئا كان بها"[‪.]32‬‬
‫‪ -618‬فهذه الخبار صريحة في الدللة على جواز ال ستعانة بغ ير الم سلم في ب عض المور‬
‫التي لها علقة بالدعوة‪ ،‬ولكن يشترط لهذه الستعانة التوثق من المشرك والطمئنان الى عدم‬
‫خيانتـه للمسـلم أو كشـف مـا اطلع عليـه‪ ،‬وهذه أمور تقديريـة متروكـة لتقديـر الداعـي المسـلم‬
‫وفطن ته ومدى الحا جة الى ولوج هذا الم سلك‪ .‬ومو قف المشرك المف يد للم سلم وكت مه ما يطلع‬
‫عل يه من شؤو نه‪ ،‬قد ير جع الى قراب ته من الم سلم أو لجم يل أ سداه إل يه الم سلم‪ ،‬أو ل صدق‬
‫معاملته معه‪ ،‬أو لحسن أخلقه وسيرته كما قال ابن الدغنة لبي بكر رضي ال عنه قبل أن‬
‫يعلن جواره له "فوال انـك لتزيـن العشيرة وتعيـن على النوائب وتفعـل المعروف وتكسـب‬
‫المعدوم ار جع وأ نت في جواري"[‪ ]33‬ول ضيـر على الم سلم إذا ا ستفاد من المو قف المف يد‬
‫الحميد الذي يقفه منه المشرك لي سبب من السباب‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫الفرع الثالث ‪ -‬النظام‬
‫أهمية النظام‬
‫‪ -619‬النظام و سيلة جيدة ل بد من ها لح سن ا ستخدام الجهود وتوجيه ها على ن حو مث مر في‬
‫مجال الدعوة إلى ال‪ ،‬وبالتالي زيادة فرص النجاح للداعـي فـي بلوغـه هدفـه‪ .‬وبدون النظام‬
‫تنبع ثر الجهود ويكون ال سير على غ ير هدى‪ ،‬وال سلم هو د ين النظام‪ .‬فال صلة تؤدي بنظام‬
‫من جهة الوقت ومتابعة المأموم للمام وكذا في العبادات الخرى مثل الحج والصيام والزكاة‪.‬‬

‫حاجة الداعي الى النظام‬


‫‪ -620‬والدا عي المسلم يحتاج الى تنظ يم وق ته‪ ،‬فان الوقت هو الحياة‪ ،‬وهو رأس ماله وعليه‬
‫أن يجعـل شعاره الحديـث الشريـف‪" :‬مـن اسـتوى يوماه فهـو مغبون" فل بـد إذن مـن حسـاب‬
‫الداعي أن يكون غده خيرا من يومه الحاضر‪ ،‬ويومه خيرا من أمسه وهذه الخيرية تقوم على‬
‫مقدار ما يقدمه من جهود وجهاد في سبيل الدعوة إلى ال وما يحققه من هداية في الناس‪ ،‬فان‬
‫هداية شخص وتخليصه من النار خير للداعي من حمر النعم‪ .‬وتنظيم وقت الداعي يقوم على‬
‫تقسيم يومه الى اجزاء وتخصيص كل جزء الى اداء ما عليه من واجبات فجزء لنفسه وجزء‬
‫لهله وجزء لعبادة ربـه وجزء للدعوة الى ال‪ .‬وحذار أن ينفـق أوقاتـه فيمـا ل فائدة فيـه‪ ،‬فان‬
‫الواجبات أكثـر مـن الوقات‪ ،‬ولنـه معرض للموت فـي كـل لحظـة‪ ،‬فمـن الحزم المبادرة إلى‬
‫استغلل كل دقيقة في وقته في أداء واجب أو مستحب أو مندوب‪.‬‬

‫حاجة الجماعة الى النظام‬


‫‪ -621‬الدعوة الى ال تعالى قد تكون جماعية كما أشرنا الى هذا من قبل قال تعالى‪{ :‬ولتكن‬
‫منكـم أمـة يدعون إلى الخيـر ويأمرون بالمعروف وينهون عـن المنكـر وأولئك هـم المفلحون}‬
‫سورة آل عمران الية‪ 104 :‬والمة معناها الجماعة‪ ،‬فإذا ما كانت الدعوة الى ال جماعية كما‬
‫لو قام نفر من المسلمين بنشر السلم في المجتمعات الوثنية كمجاهل افريقيا فعليهم أن يرعوا‬
‫قواعد النظام التي أمر بها السلم حتى تثمر جهودهم ول تضيع‪ ،‬فإن القليل من العمل بنظام‬
‫والدوام عل يه خ ير من الكث ير مع الفو ضى والنقطاع‪ .‬و من مظا هر الع مل الجما عي تشك يل‬
‫الجمعيات الدينية التي تنشر محاسن السلم وتعلم الناس أمور الدين والعبادة‪.‬‬

‫معالم النظام الجماعي في الشريعة السلمية‬


‫‪ -622‬ومعالم النظام في الشريعية السلمية للعمل الجماعي في مجال الدعوة الى ال كثيرة‬
‫ويجب مراعاتها والهتمام بها‪ ،‬فمن هذه المعالم‪:‬‬

‫‪337‬‬
‫أولً‪ :‬ل بد ل كل جما عة من رئ يس‪ ،‬تلك حقي قة قررت ها الشري عة وأمرت ب ها ويؤيد ها الوا قع‬
‫ويدركهـا العقـل السـليم‪ ،‬ولهذا جاء فـي الحديـث الشريـف "إذا خرج ثلثـة فـي سـفر فليؤمروا‬
‫أحد هم" و في حد يث آ خر "ل ي حل لثل ثة يكونون بفلة من الرض إل أمروا علي هم أحد هم"‬
‫ويقول المام ابن تيمية تعليقا على هذا الحديث "فأوجب صلى ال عليه وسلم تأمير الواحد في‬
‫الجتماع القليـل العارض فـي السـفر‪ ،‬تنـبيها بذلك على سـائر أنواع الجتماع‪ .‬ولن ال تعالى‬
‫أوجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ول يتم ذلك إل بالقوة والمارة"[‪ ]34‬والمقصود من‬
‫المارة تحق يق طا عة ال ور سوله وتنف يذ أوامره‪ ،‬قال ا بن تيم ية "فالوا جب اتخاذ المارة دينا‬
‫وقر بة يتقرب ب ها الى ال‪ .‬فان التقرب ال يه بطاع ته وطا عة ر سوله من أف ضل القربات‪ ،‬وإن ما‬
‫يفسد فيها حال أكثر الناس لبتغاء الرئاسة أو المال بها"[‪.]35‬‬
‫ثانيا‪ :‬في بيعة العقبة الثانية‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "اخرجوا إليّ منكم اثني عشر‬
‫نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم"[‪.]36‬‬
‫ثالثا‪ :‬كان صلى ال عليه وسلم كلما خرج من المدينة لغزوة ونحوها يعين من ينوب عنه على‬
‫المدينة‪.‬‬

‫المقصود من المارة‬
‫‪ -721‬والمقصود من اتخاذ المير أو الرئيس للجمع القليل أو الكثير‪ ،‬جريان أمور المجتمعين‬
‫على نسق واحد ورأي واحد‪ .‬ول يتحقق هذا المقصود إل بطاعة الجماعة للرئيس عند اختلف‬
‫الراء‪ ،‬وإل لم ي كن للمرة مع نى ول فائدة‪ ،‬جاء في الحد يث الذي رواه عبادة بن ال صامت‪:‬‬
‫بايعنـا رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم على السـمع والطاعـة فـي عسـرنا ويسـرنا ومنشطنـا‬
‫ومكره نا وأثرة علي نا وألّ ننازع ال مر أهله وأن نقول ال حق أين ما ك نا ل نخاف في ال لو مة‬
‫لئم"[‪ .]37‬والطا عة تكون في المعروف ل في المع صية‪ .‬جاء في الحديث الشريف "ل طا عة‬
‫لمخلوق في معصية الخالق"‪.‬‬

‫ضرورة الطاعة‬
‫‪ -722‬والطاعة للرئيس ضرورية في كل عمل‪ ،‬وهي أشد ضرورة لعمل الجماعة التي تدعو‬
‫الى ال وتقوم بنشر السلم‪ .‬ولهذا فقد بلغ من فقه الصحابة الكرام للطاعة أنهم كانوا في حفر‬
‫الخندق حول المدي نة ي ستأذنون ر سول ال صلى ال عل يه و سلم إذا أراد أحد هم الذهاب لقضاء‬
‫حاجته بخلف المنافقين المندسين في صفوف المسلمين‪ ،‬فقد كانوا يتسللون لواذاًَ ول يستأذنون‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ابن هشام ويتسللون – أي المنافقون – الى أهلهم بغير علم‬
‫من ر سول ال صلى ال عل يه و سلم ول اذن‪ .‬وكان الر جل من الم سلمين إذا ناب ته النائ بة من‬

‫‪338‬‬
‫الحا جة ال تي ل بد له من ها يذ كر ذلك لر سول ال صلى ال عل يه و سلم وي ستأذن في اللحوق‬
‫لحاجته فيأذن له‪ ،‬فإذا قضى حاجته رجع الى ما كان فيه من عمل رغبة في الخير واحتسابا‬
‫له‪ ،‬فأنزل ال تعالى فـي أولئك المؤمنيـن‪{ :‬إنمـا المؤمنون الذيـن آمنوا بال ور سوله وإذا كانوا‬
‫م عه على أ مر جا مع لم يذهبوا ح تى ي ستأذنوه‪ ،‬إن الذ ين ي ستأذنونك أولئك الذ ين يؤمنون بال‬
‫ورسـوله‪ ،‬فإذا اسـتأذنوك لبعـض شأنهـم فأذن لمـن شئت منهـم واسـتغفر لهـم ال إن ال غفور‬
‫رحيم} سورة النور الية‪.]38[ 62 :‬‬

‫الطاعة والمشاورة‬
‫‪ -723‬ول يعني قولنا بلزوم الطاعة ترك المشاورة‪ ،‬فإن الرئيس يجب عليه أن يشاور أفراد‬
‫الجما عة‪ ،‬وقد قال العلماء‪" :‬لم يكن أحد أكثر مشورة لصحابه من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم"[‪ ]39‬كما أن لي فرد أن يبدي رأيه وعلى الرئيس أن يسمعه – وإذا كان صوابا أخذ به‬
‫– يدل على ذلك ما جاء في السيرة النبوية "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إلى مكة‬
‫ير يد العمرة في ال سنة ال سادسة للهجرة‪ ،‬فا ستعدت قر يش لمن عه من الدخول‪ ،‬فأراد صلى ال‬
‫عل يه وسلم أن يرسل عمر بن الخطاب إليهم ليخبرهم بقصد رسول ال صلى ال عل يه وسلم‬
‫وأ نه جاء لزيارة الب يت ل للقتال فقال ع مر ر ضي ال ع نه‪ :‬يا ر سول ال أخاف قريشا على‬
‫نف سي ول يس بم كة من ب ني عدي بن ك عب أ حد يمنع ني‪ ،‬و قد عر فت قر يش عداو تي إيا ها‬
‫وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني‪ :‬عثمان بن عفان‪ .‬فدعا رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه الى أبي سفيان واشراف قريش يخبرهم أنه لم يأتِ لحرب‬
‫وإنما جاء زائرا البيت ومعظما لحرمته"[‪.]40‬‬

‫يسع الفرد ما ل يسع الجماعة‬


‫‪ -724‬ولي كن معلوما أن ما يسع الفرد قد ل ي سع الجما عة أن تفعله يدل على ذلك ق صة أبي‬
‫بصير الذي أسلم وجاء الى المسلمين – وهم في الحديبية وقد أبرموا الصلح مع قريش – يريد‬
‫أن يؤووه ويحموه من قر يش‪ ،‬فأ بى الم سلمون ذلك لرتباط هم بمعاهدة الحديب ية ال تي أ مر ب ها‬
‫ر سول ال صلى ال عل يه و سلم‪ ،‬فأ خذ المشركون أ با ب صير‪ ،‬ولك نه انفلت من هم وأ خذ يق طع‬
‫الطريق على قوافل قريش‪ ،‬وكان فعله مؤثرا ومضايقا للمشركين‪ ،‬ونافعا للمسلمين‪ ،‬وسائغا له‬
‫أن يفعله‪ ،‬بينما ما كان هذا الفعل سائغا لجماعة المسلمين وإن كان الفعل مفيدا للمسلمين‪ .‬وقد‬
‫فقه المسلمون هذا المعنى فلم يطلبوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يشتركوا مع أبي‬
‫ب صير في عمله النافع لنهم أفراد في جما عة المسلمين يلتزمون بما تلتزم به الجما عة‪ .‬بينما‬
‫كان أبو بصير مسلما سائبا والفرد السائب يسعه ما ل يسع الفرد في الجماعة‪ .‬وعندما أرسل‬

‫‪339‬‬
‫رسـول ال صـلى ال عليـه وسـلم حذيفـة بـن اليمان ليطلع على مـا عنـد المشركيـن فـي حرب‬
‫الخندق‪ ،‬قال حذيفة‪ :‬لقد امكنني أن أقتل أبا سفيان ولكن لم أفعل لن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم أمرني أن ل أحدث شيئا حتى آتيه[‪.]41‬‬

‫ليس كل مسلم يصلح للعمل مع غيره‬


‫‪ -725‬الع مل مع الغ ير لن شر ال سلم والدعوة الى ال تحتاج الى ف قه دق يق و صبر جم يل‪،‬‬
‫وترو يض للن فس على الطا عة وقدر كبير من ض بط الن فس ونكران الذات والتوا ضع والقابل ية‬
‫على النسجام مع سير المشتركين معه في العمل لنشر السلم‪ ،‬وقبول الرأي المخالف لرأيه‬
‫إذا أقرته الجماعة أو اختاره الرئيس الى غير ذلك من المعاني اللزمة لي عمل جماعي‪ .‬وقد‬
‫يكون‪ ،‬وال أعلم‪ ،‬في قوله تعالى‪{ :‬ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير} سورة آل عمران الية‪:‬‬
‫‪ 104‬نوع من الت نبيه الى هذا المع نى فالدعوة الى الخ ير وعلى رأ سها الدعوة الى ال‪ ،‬واج بة‬
‫على كل م سلم جهـد ا ستطاعته وب صفته فردا مسـلما وهذا يدل عليـه قوله تعالى‪{ :‬والمؤمنون‬
‫والمؤمنات بعض هم أولياء ب عض} سورة التو بة ال ية‪ 71 :‬وقوله تعالى‪ { :‬قل هذه سبيلي أد عو‬
‫الى ال على ب صيرة أ نا و من اتبع ني} سورة يو سف ال ية‪ .108 :‬و في آ ية {ولت كن من كم أ مة‬
‫يدعون الى الخ ير‪ }....‬تكل يف "أ مة" من الم سلمين أي جما عة بالدعوة الى ال وهذا وال أعلم‬
‫في المور التي تستلزم توحيد الجهود وقدرات أفرادها على العمل الجماعي‪ .‬ولهذا كله فليس‬
‫كل مسلم يصلح للعمل الجماعي لنه ليس كل مسلم فيه المعاني اللزمة لهذا العمل‪ .‬فقد يكون‬
‫صالحا في نف سه ولك نه ل يف قه مع نى النظام والطا عة‪ ،‬ف هو يع تبر النظام تقييدا على حري ته‬
‫ونوعا مـن التعسـف‪ ،‬ويعتـبر الطاعـة مذلة واسـتكانة ل متابعـة لمـر ال وإطاعـة له كمتابعـة‬
‫المأموم لمامـه فـي الصـلة يتابعـه تنفيذا لمـر الشرع‪ ،‬وليسـلم له الجـر والثواب‪ ،‬ومثـل هذا‬
‫المسلم قد ينفع منفردا ولكنه يضر إذا عمل مع غيره‪ .‬وقد يكون قدوة سيئة لمن يعمل معه من‬
‫أفراد الجماعـة فـي إخلله بالنظام وعدم التزامـه بمقتضيات الطاعـة‪ .‬فيختـل الصـف وتتفرق‬
‫الراء وتعـم الفوضـى والضطراب ويكثـر الخروج مـن الجماعـة فيقول الناس جماعـة سـوء‪،‬‬
‫واختلف بسبب أهواء ودعاة شر يريدون اصلح الناس وينسون اصلح نفوسهم‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫فتنـة شديدة للدعوة الى ال وتنفيرا عمليا للناس مـن السـلم‪ .‬إن الماكنـة العظيمـة ل يمكـن ان‬
‫تؤدي عملها وتحقق غرضها إل إذا سارت جميع أجزائها بانتظام فإذا أريد للة منها السراع‬
‫مع قدرت ها على ال سراع بخلف ما يقتض يه سير الماك نة فان هذه اللة ب سرعتها ت ضر ول‬
‫ل ما ج يد ونا فع في سارع ال يه خلفا ل سير‬
‫تن فع‪ .‬وكذلك الفرد في الجما عة‪ ،‬قد يت صور أن عم ً‬
‫الجما عة ومقتضيات هذا ال سير‪ ،‬في قع الضطراب ويح صل الضرر من ح يث أراد ذلك الفرد‬

‫‪340‬‬
‫النفع‪ ،‬وقد يكون هذا الفرد حسن النية والقصد وراغبا في الجر‪ ،‬ولكن نتائج العمال في الدنيا‬
‫كما قلنا أكثر من مرة مبنية على المقدمات والسباب التي تتبعها النتائج والمسببات‪.‬‬

‫ما يجب على الرئيس‬


‫‪ -726‬وعلى رئيس الجماعة أن يرفق بمن معه‪ ،‬ويشعرهم بعطفه ورعايته ول يغلظ عليهم‪.‬‬
‫ولكن الترفق ل يعني اعطاءهم ما يخالف الشرع ول أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه‬
‫إذا كان ذلك منهـم ل يـبيحه الشرع‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولو اتبـع الحـق اهواءهـم لفسـدت السـموات‬
‫والرض ومـن فيهـن} سـورة المؤمنون اليـة‪ 71 :‬وقال تعالى للصـحابة الكرام‪{ :‬واعلموا أن‬
‫فيكم رسول ال لو يطيعكم في كثير من المر لعنتم} سورة الحجرات الية‪ 49 :‬وإنما الحسان‬
‫إليهم يكون كما يقول ابن تيمية‪ :‬بفعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه‪ ،‬لكن‬
‫ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه‪.‬‬
‫‪ -727‬كمـا يجـب على الرئيـس أن يسـعى الى بقاء عزيمتهـم على العمـل فـي الدعوة الى ال‬
‫تعالى وان يم نع عن هم المثبطات والمفترات و ما يو هن عزائم هم وي فت في أعضاد هم‪ .‬ويدل‬
‫على ذلك ما جاء في السنة النبوية في خبر نقض بني قريظة معاهدتها مع رسول ال صلى ال‬
‫عل يه و سلم في و قت كان ف يه الم سلمون محا صرين في المدي نة وراء الخندق الذي حفروه ف قد‬
‫جاء في هذا الحادث أن ال نبي صلى ال عل يه و سلم ل ما جاءه خبر ن قض ب ني قري ظة عهد ها‬
‫معه‪ ،‬بعث عليه الصلة والسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد ال بن رواحة وخوات بن‬
‫جـبير وقال لهـم‪" :‬انطلقوا حتـى تنظروا أحـق مـا بلغنـا عـن هؤلء القوم أم ل‪ ،‬فإن كان حقا‬
‫فالحنوا لي لحنا ول تفتوا فـي أعضاد الناس‪ ،‬وإن كانوا على الوفاء فيمـا بين نا وبينهـم فاجهروا‬
‫به للناس"[‪.]42‬‬
‫وعلى الرئيس أن يعهد لكل واحد ما يقدر عليه وهو فيه أكفأ من غيره‪ .‬والصل الجامع في‬
‫هذا الباب قوله تعالى‪{ :‬إن خير من استأجرت القوي المين} سورة القصص الية‪ 26 :‬والقوة‬
‫تختلف باختلف العمل‪ ،‬فيعهد لكل عمل اصلح الموجودين له دليلنا على ذلك تأمير خالد بن‬
‫الوليد على المسلمين في قتال المشركين من قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبي بكر‬
‫رضي ال عنه حتى أن خالدا رضي ال عنه كانت تصدر منه بعض العمال بتأويل يبرأ منه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ومع هذا يبقيه على المرة‪ ،‬كما في عمله في بني جذيمة حيث‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"[‪ .]43‬وفي‬
‫الذان أمر صلى ال عليه وسلم بللً أن يؤذن وقال لعبد ال بن زيد الذي رأى رؤيا الذان‪:‬‬
‫"فانه – أي بلل – اندى صوتا منك"[‪ ]44‬ويجوز للرئيس أن يعرض العمل على الفراد‬
‫ويدعو من يقدر عليه ويدل على نفسه‪ ،‬ثم يختار الرئيس من يراه قديرا عليه‪ ،‬دليلنا على ذلك‬

‫‪341‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم في غزوة أحد قال‪" :‬من يأخذ هذا السيف بحقه‪ ،‬فقام إليه‬
‫رجل‪ .‬فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فأعطاه إياه"[‪.]45‬‬

‫[‪ ]1‬انظر لسان العرب ج ‪ 5‬حرف الراء‪.‬‬


‫[‪ ]2‬تفسير القرطبي ج ‪ 5‬ص ‪.373-371‬‬
‫[‪ ]3‬تفسير القرطبي ج ‪ 5‬ص ‪.273‬‬
‫[‪ ]4‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪ ،97‬وامتاع السماع ص ‪.39‬‬
‫[‪ ]5‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪ ،98‬وامتاع السماع ص ‪.40‬‬
‫[‪ ]6‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.95‬‬
‫[‪ ]7‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.275‬‬
‫[‪ ]8‬تفسير القرطبي ج ‪ 18‬ص ‪ 141‬والية في سورة التغابن‪.‬‬
‫[‪ ]9‬تفسير القرطبي ص ‪.140‬‬
‫[‪ ]10‬القرطبي ج ‪ ،6‬ص ‪ ،212‬ومعنى يفتنوك أي يصدوك‪.‬‬
‫[‪ ]11‬القرطبي ج ‪ ،18‬ص ‪.126‬‬
‫[‪ ]12‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.268‬‬
‫[‪ ]13‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.342‬‬
‫[‪ ]14‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.255‬‬
‫[‪ ]15‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.49‬‬
‫[‪ ]16‬سيرة ابن هشام ج ‪ 4‬ص ‪.129‬‬
‫[‪ ]17‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.32-31‬‬
‫[‪ ]18‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.50‬‬
‫[‪ ]19‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.281‬‬
‫[‪ ]20‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.236‬‬
‫[‪ ]21‬امتاع السماع ص ‪.27‬‬
‫[‪ ]22‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.28‬‬
‫[‪ ]23‬امتاع السماع ص ‪.28‬‬
‫[‪ ]24‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.288‬‬
‫[‪ ]25‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.396‬‬
‫[‪ ]26‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪.278‬‬

‫‪342‬‬
‫[‪ ]27‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.278‬‬
‫[‪ ]28‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.396‬‬
‫[‪ ]29‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.343‬‬
‫[‪ ]30‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.98‬‬
‫[‪ ]31‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.49‬‬
‫[‪ ]32‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪ .45‬ومعنى عيبة نصح رسول ال‪ :‬أي موضع سره‪ .‬صفقهم معه‬
‫أي هواهم له‪ ،‬واجتماعهم عليه‪.‬‬
‫[‪ ]33‬ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪.396‬‬
‫[‪ ]34‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.930‬‬
‫[‪ ]35‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.391‬‬
‫[‪ ]36‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.51‬‬
‫[‪ ]37‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.63‬‬
‫[‪ ]38‬ابن هشام ‪ 390‬ص ‪.170‬‬
‫[‪ ]39‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪.169‬‬
‫[‪ ]40‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪.271‬‬
‫[‪ ]41‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪.187-186‬‬
‫[‪ ]42‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪.176‬‬
‫[‪ ]43‬ابن هشام ج ‪ 4‬ص ‪.44‬‬
‫[‪ ]44‬ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.129‬‬
‫[‪ ]45‬ابن هشام ج ‪ 3‬ص ‪.10‬‬

‫المبحث الثاني‪ -‬وسائل تبليغ الدعوة‬

‫تمهيد‬
‫‪ -721‬تبليـغ الدعوة الى ال تكون بالقول وبالعمـل وبسـيرة الداعـي التـي تجعله قدوة حسـنة‬
‫لغيره فتجذبهم الى السلم‪ ،‬ونتكلم عن هذه الوسائل في ثلثة فروع متتالية‪:‬‬

‫الفرع الول ‪ -‬التبليغ بالقول‬


‫اهمية القول في التبليغ‬
‫‪ -722‬القول هو الصل في تبليغ الدعوة الى ال فالقرآن – وفيه معاني الدعوة الى ال – هو‬
‫قول رب العالمين نزل به الروح المين على محمد صلى ال عليه وسلم ليكون به التبليغ قال‬

‫‪343‬‬
‫تبارك وتعالى‪{ :‬وإن أ حد من المشرك ين ا ستجارك فأجره ح تى ي سمع كلم ال} سورة التو بة‬
‫ال ية‪ 6 :‬وكان تبل يغ ر سول ال لر سالة ر به للناس بالقول‪ ،‬قال تعالى مخاطبا ر سوله وآمرا له‬
‫أن يقول للناس‪{ :‬قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} سورة يونس الية‪{ 108 :‬قل يا‬
‫أي ها الناس إ ني ر سول ال إلي كم جميعا} سورة العراف ال ية‪ .158 :‬وكذلك أ مر ال ر سله‬
‫أجمعين بتبليغ أقوامهم رسالة ربهم بالقول المبين قال تعالى‪{ :‬لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا‬
‫قوم اعبدوا ال ما لكم من إليه غيره} سورة العراف الية‪{ 59 :‬وقال موسى يا فرعون إني‬
‫رسول من رب العالمين} سورة العراف الية‪ 104 :‬فل يجوز للداعي أن يغفل مكانة القول‬
‫في تبليغ الدعوة ول أثر الكلمة الطيبة في النفوس‪ .‬فالقول اذن هوالوسيلة الصيلة في ايصال‬
‫الحق للناس‪.‬‬

‫الضوابط العامة في القول‬


‫‪ -723‬يجـب أن يكون القول واضحا بينا ل غموض فيـه ول إبهام‪ ،‬مفهوما عنـد السـامع لن‬
‫الغرض مـن الكلم ايصـال المعانـي المطلوبـة الى مـن يكلمـه الداعـي فيجـب أن يكون الكلم‬
‫واضحا غا ية الوضوح‪ ،‬ولهذا أر سل ال ر سله بأل سنة أقوام هم ح تى يفهموا ما يدعون هم إل يه‬
‫ويستطيعون بيانه إليهم قال تعالى‪{ :‬وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه ليبين لهم}‪ .‬وجعل‬
‫ال تعالى وظيفة الرسل الكرام التبليغ المبين الواضح لتقوم الحجة على المخاطبين‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ومـا على الرسـول إل البلغ المـبين} ومقياس الوضوح ليـس نفـس الداعـي وفهمـه فقـد يكون‬
‫الكلم واضحا بالن سبة له غامضا بالن سبة إلي هم‪ .‬وكذلك ل يس المقياس وضوح القول بذا ته ف قد‬
‫يكون الكلم واضحا بنفسه ولكنه غير واضح بالنسبة إليهم‪ .‬فالمقياس إذن هو أن يكون واضحا‬
‫عندهم وهذا هو الذي يشير اليه قوله تعالى‪{ :‬وما أرسلنا من رسول إل بلسان قومه ليبين لهم}‬
‫فالبيان لهم‪ ،‬ل للداعي ول للكلم بذاته‪ .‬وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضي ال تعالى‬
‫عن ها قالت‪ :‬كان كلم ر سول ال صلى ال عل يه و سلم كلما ف صلً أي بينا ظاهرا يفه مه كل‬
‫من يسمعه"[‪.]1‬‬
‫‪ -724‬ويجـب ان يكون الكلم خاليا مـن اللفاظ المسـتحدثة التـي تحتمـل حقا وباطلً وخطـأ‬
‫وصوابا‪ .‬وعلى الداعي ان يحرص على استعمال اللفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة‬
‫وعنـد علماء المسـلمين لن هذه اللفاظ تكون محددة المعنـى واضحـة المفهوم خاليـة مـن أي‬
‫مع نى با طل قد يعلق في ذ هن المد عو‪ .‬و قد أشار القرآن الكر يم إلى ضرورة هذا الن هج في‬
‫الكلم قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} لن في كلمة (راعنا) في‬
‫ل سان اليهود مع نى باطلً كانوا يق صدونه عند مخاطبت هم ر سول ال صلى ال عل يه وسلم بهذه‬
‫الكلمة فأمر ال المسلمين أن يتركوها ويستعملوا كلمة انظرنا بدلً منها حتى ل يتحجج اليهود‬

‫‪344‬‬
‫فيستعملوا كلمة راعنا يريدون بها الشتيمة والتنقيص‪ .‬وإذا اضطر الداعي الى استعمال بعض‬
‫اللفاظ المستحدثة فعليه أن يبين مقصوده منها حتى ل يتبادر الى الذهان المعاني الباطلة التي‬
‫تحملها هذه اللفاظ أوالتي يفهمها الناس منها‪.‬‬

‫الضوابط العامة للقائل‬


‫‪ -733‬ي جب أن يتأ نى الدا عي في الكلم فل ي سرع بل يتم هل ح تى ي ستوعب ال سامع كل مه‬
‫ويفهمه‪ ،‬جاء في الحديث الذي رواه البخاري "ان النبي صلى ال عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة‬
‫أعادها ثلثا حتى تفهم عنه"[‪.]2‬‬
‫‪ -734‬وعلى الداعـي أن يبتعـد عن التفا صح والتعا ظم والتكلف فـي نط قه جاء فـي الحد يث‬
‫الشريف عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال "هلك المتنطعون قالها ثلثا"[‪ .]3‬والتنطع‬
‫في الكلم التفا صح ف يه والتع مق ف يه‪ ،‬و في حد يث آ خر‪" :‬إن أبغض كم إل يّ وأبعد كم م ني يوم‬
‫القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"[‪.]4‬‬
‫‪ -735‬أن يبتعـد الداعـي عـن روح السـتعلء على المدعـو واحتقاره وتحديـه وإظهار فضله‬
‫عليه‪ ،‬وإنما عليه أن يكلمه بروح الناصح الشفيق المخلص المتواضع الذي يدل غيره على ما‬
‫ينفعه ويعرفه به‪ ،‬على الداعي أن يكلمه كمبلغ له معاني رسالة ال ل ان يكلمه كمبلغ له فضله‬
‫وعلمه‪ .‬إن ملحظة هذه المور ضرورية جدا للداعي وإذا لم يراعها انقطع ما بين قوله وبين‬
‫قلب المدعو فل يتأثر بشيء مما يسمع بل وينفر المدعو ول يطيق سماع قول الداعي وإن كان‬
‫حقا‪.‬‬
‫‪ -736‬وعلى الدا عي أن يتل طف بالقول‪ ،‬في ستعمل في كل مه وخطا به ما يث ير رغ بة المد عو‬
‫الى السماع ويقمع ف يه نوازع الج هل والنفور‪ .‬وفي القرآن الكريم كثير من اليات التي تشير‬
‫الى هذا التلطف المفيد‪ ،‬قال تعالى عن ابراهيم عليه السلم‪{ :‬إذ قال لبيه يا أبت لم تعبد ما ل‬
‫ي سمع ول يب صر ول يغ ني ع نك شيئا} سورة مر يم ال ية‪ 42 :‬فذ كر ابراه يم عل يه ال سلم في‬
‫خطابه لبيه رابطة البوة التي من شأنها أن تجعل البن حريصا على مصلحة الب‪ ،‬وتجعل‬
‫الب جديرا بأن ي صغي الى خطاب اب نه وقال تعالى عن هود عل يه ال سلم‪{ :‬وإلى عاد أخا هم‬
‫هودا قال يا قوم اعبدوا ال ما ل كم من إله غيره أفل تتقون} سورة العراف ال ية‪ 65 :‬فهود‬
‫عل يه ال سلم خاطب هم بكل مة يا قوم لن هذا الخطاب اد عى الى ا ستجابتهم والى تح سيسهم بأن‬
‫من يخاطبهم هو منهم في النسب وانه يريد الخير لهم‪ .‬وفي السنة النبوية ما يدل أيضا على ما‬
‫قلناه فقد ذكر ابن هشام في سيرته أن النبي صلى ال عليه وسلم أتى الى بطن من بطون كلب‬
‫في منازلهم يقال لهم (بنو عبدال) فدعاهم الى ال وعرض عليهم نفسه حتى أنه كان يقول لهم‬

‫‪345‬‬
‫" يا ب ني عبدال ان ال عز و جل قد أح سن ا سم أبي كم"[‪ .]5‬أي فاح سنوا الجا بة واقبلوا الدعوة‬
‫وآمنوا بال ورسوله‪.‬‬
‫‪ -737‬وعلى هذا يجوز للداعي أن يستثير في خطابه همم المدعوين بما يذكرهم به من طيب‬
‫أصـلهم وكرم عائلتهـم وشرف نسـبهم وان ذلك ل يتفـق وجريهـم مـع العصـاة وانعماسـهم فـي‬
‫الرذائل والشهوات‪ ،‬وان اللئق ب هم أن يكونوا مع الخيار المطيع ين ل‪ ،‬فهذا ونحوه سائغ إن‬
‫شاء ال ل نرى ف يه شيئا على أل ي سرف ف يه الدا عي وان يكون ق صده م نه التشو يق والح مل‬
‫على الطاعة ل المداهنة والنفاق‪ ،‬والعمال بالنيات‪.‬‬
‫‪ -738‬والتلطـف فـي القول ل يعنـي المداهنـة والنفاق ول اخفاء الحـق او تحسـين الباطـل‬
‫اوالرضى به‪ ،‬وإنما هو تشويق للمدعو لقبول الحق واعانته على هذا القبول وليس فيه إخفاء‬
‫مرض المدعو‪ ،‬فان الداعي كالطبيب فكما ان الطبيب ل يخفي على المريض علته وضرورة‬
‫العلج له فكذلك الداعي قال تعالى حكاية عن بعض رسله‪{ :‬ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا‬
‫إليـه يرسـل السـماء عليكـم مدرارا ويزدكمـك قوة إلى قوتكـم ول تتولوا مجرميـن} سـورة هود‬
‫اليـة‪ 52 :‬وقال تعالى عـن صـالح ومـا قال لقومـه‪{ :‬فاتقوا ال وأطيعون‪ ،‬ول تطيعوا أمـر‬
‫المسرفين‪ .‬الذين يفسدون في الرض ول يصلحون} سورة الشعراء الية‪.153-150 :‬‬

‫أنواع القول‬
‫‪ -739‬والقول فـي مجال التبليـغ أنواع‪ ،‬منهـا‪ :‬الخطبـة‪ ،‬والدرس‪ ،‬والمحاضرة والناقشـة‬
‫والتحد يث أمرا بمعروف أو نهيا عن من كر والكتا بة فان ها أيضا من القول باعتبار ها أداة من‬
‫أدوات التبليغ وتؤدي ما يؤدي إليه القول بالنسبة لمن ل يمكن للداعي المشافهة معهم‪.‬‬

‫الخطبة‬
‫‪ -740‬وهي وسيلة جيدة للتبليغ وتكون عادة لجمع من الناس قد ل يعرفهم الداعي أو يعرف‬
‫بعضهم فقط‪ .‬ويشترط للخطبة الناجحة أن يكون لدى الداعي معنى أو معان معينة يريد بيانها‬
‫ولفت النظار إليها‪ .‬ومن المستحسن أن يكون موضوع الخطبة مما له علقة في أحوال الناس‬
‫مع ربط ذلك بمعاني العقيدة السلمية‪ ،‬كأن يكون الذين يخطب فيهم ممن تكثر فيهم العصبية‬
‫القبلية‪ ،‬فيحدثهم عن أضرارها وحكم السلم فيها‪ ،‬وان المؤمن ل ينصر قريبه إل بالحق‪ ،‬وان‬
‫على الم سلم أن ير ضى ب ما ق ضى به ال سلم من التآ خي بال سلم ون بذ الع صبية الجاهل ية‪.‬‬
‫وعلى الداعي الخطيب ان يلحظ في خطبته المور التالية‪:‬‬

‫‪346‬‬
‫الستشهاد باليات القرآن ية والحاديث النبوية والتطبيقات العملية لها من قبل الر سول‬ ‫‪-1‬‬
‫الكريم والرسل الكرام صلوات ال وسلمه عليهم‪ .‬والصحابة الكرام‪ ،‬فان ذكر التطبيق يجعل‬
‫معنى الية والحديث مشهودا محسوسا‪.‬‬
‫يسـتعين بالقصـص الوادرة فـي الكتاب والسـنة ول بأس مـن تصـوير المعانـي بشكـل‬ ‫‪-2‬‬
‫ق صص وضرب المثال ك ما في الحد يث الشر يف‪" :‬أرأي تم لو أن في باب أحد كم نهرا يغت سل‬
‫فيه في اليوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا ل يا رسول ال‪ ،‬قال كذلك الصلة"‪.‬‬
‫ان ل يطيـل فـي الخطبـة‪ ،‬جاء فـي الحديـث الشريـف "ان طول صـلة الرجـل وقصـر‬ ‫‪-3‬‬
‫خطب ته مئ نة من فق هه‪ ،‬فأطيلوا ال صلة واق صروا الخط بة"[‪ ]6‬وهذا الحد يث ورد في خط بة‬
‫الجمعة فيقاس عليها سائر الخطب إل إذا اقتضت الضرورة اطالتها‪.‬‬
‫أن ل يكثر الخطب مخافة السآمة‪ ،‬يدل على ذلك أن أبا وائل شفيق بن سلمة‪ ،‬قال‪ :‬كان‬ ‫‪-4‬‬
‫ا بن م سعود ر ضي ال ع نه يذكر نا في كل خم يس مرة‪ .‬فقال له ر جل‪ :‬يا ا با ع بد الرح من‬
‫لوددت ا نك ذكرت نا كل يوم‪ .‬فقال‪ :‬أ ما ا نه يمنع ني من ذلك كراه ية ان امل كم وا ني اتخول كم‬
‫بالموعظة كما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا[‪.]7‬‬
‫أن يكون كلم الدا عي ب سيطا واضحا لن الذ ين ي سمعونه لي سوا في م ستوى وا حد من‬ ‫‪-5‬‬
‫العلم والقدرة على فهم الخطاب‪ .‬فإذا اختار السلوب البسيط الواضح والعبارات القصيرة انتفع‬
‫بها الجميع وفهمها الجميع‪.‬‬
‫من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يذكر الناس بربهم‪ ،‬ويبين لهم‪ ،‬وينذرهم وان ل‬ ‫‪-6‬‬
‫يقصد المباراة في خطبه‪ ،‬ول مدح الناس وقولهم‪ :‬ما أعلمه وأقدره على الخطب‪ .‬وإنما يقصد‬
‫ن شر معا ني الدعوة الى ال‪ ،‬فإذا رأى حا جة الى ما بي نه في مكان مع ين إلى اعاد ته في مكان‬
‫آخر اعاده وكرره‪ .‬ودليلنا على ذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يكرر دعوته الى‬
‫ال‪ ،‬ويقول للناس‪ :‬اعبدوا ال وحده واتركوا ما دونه‪ .‬كما أنه عليه الصلة والسلم كان يكرر‬
‫في خطبته في المسلمين لزوم التقوى والعمل للخرة‪ ،‬وفي القرآن الكريم تكرير لقصة موسى‬
‫عليه السلم وتكرير لكثير من أصول العقيدة ومعانيها‪.‬‬
‫من المفيد للخطيب أن يبدأ خطبته بما يجلب انتباه السامعين من حادثة صادفها أو قصة‬ ‫‪-7‬‬
‫قرأهـا‪ ،‬أو خاطـر انقدح فـي نفسـه‪ ،‬فإذا مـا جلب انتباه السـامعين مضـى الخطيـب فـي كلمـه‬
‫مترسلً مشوقا ومنذرا‪.‬‬
‫على الداعـي أن يتفرس فـي نفوس الحاضريـن وأي مرض يغلب عليهـم وأي شيـء‬ ‫‪-8‬‬
‫يحتاجو نه أك ثر من غيره‪ ،‬فيبدأ به ويرب طه بالعقيدة ال سلمية فإذا كانوا بحا جة إلى التخو يف‬
‫والترهيـب لمـا يلمسـه فيهـم مـن الجرأة على المخالفات الشرعيـة ذكـر لهـم اليات والحاديـث‬
‫الواردة فـي ذلك وخوفهـم مـن طول المـل وأن الحزم يقضـي بأخـذ العدة قبـل حلول الجـل‪،‬‬

‫‪347‬‬
‫والعدة هي تقوى ال فإنها خير ما يتزود به المسافر الى ال {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}‬
‫وان لذة المعصية وهي قصيرة تعقبها مرارة الندم والعذاب مدة طويلة‪ .‬والعاقل من صبر نفسه‬
‫عن لذة حرام ل تدوم ليظ فر بلذة حلل تدوم ولين جو من عذاب دائم مق يم‪ .‬وإذا رأى في القوم‬
‫الذ ين يخ طب في هم شعورا باليأس والقنوط و صعوبة الرجوع الى ال ذكر هم بعظ يم رح مة ال‬
‫وان ال يقبل التائبين الصادقين وقال فيهم‪{ :‬قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا‬
‫من رح مة ال إن ال يغ فر الذنوب جميعا} ويذ كر ل هم ق صة القا تل مائة ن فس وك يف أن الفق يه‬
‫دلّه على طريق التوبة إلى ال والتحول الى القرية الصالحة‪.‬‬
‫على الداعي أن يحذر من ذكر اليات والحاديث التي قد يساء فهمها دون شرح وبيان‬ ‫‪-9‬‬
‫ل ها م ثل قوله صلى ال عل يه و سلم " من قال ل إله إل ال خال صا من قل به د خل الج نة"‪ .‬فعلى‬
‫الخطيب أن يشرح الحديث حتى يفهمه السامعون الفهم الصحيح‪.‬‬
‫وعلى الداعي أن ل يسرع في كلمه ول يرفع صوته بل حاجة‪.‬‬ ‫‪-10‬‬
‫ي ستحسن أن تكون الخط بة ارتجالً ل في ور قة مكتو بة وان تكون معاني ها حاضرة‬ ‫‪-11‬‬
‫في ذهنه‪ ،‬أي‪ :‬أعدها من قبل‪.‬‬

‫الدرس‬
‫‪ -741‬الغالب فـي الدرس أن يكون شرحا ليـة مـن القرآن‪ ،‬أو لحديـث رسـول ال صـلى ال‬
‫عليه وسلم أو بيانا لمسألة أو مسائل من الفقه كما أن الغالب في الدرس أن يحضره عدد قليل‬
‫من الناس جاؤوا قاصدين سماع الدرس مما يعطي فرصة طيبة للداعي أن يتعرف عليهم عن‬
‫كثب ويوثق علقته بهم‪ .‬ويشترط للداعي في درسه أن يحضر مادته مسبقا تحضيرا جيدا وأن‬
‫ل يستطرد كثيرا وهو يلقي موضوعه لن الستطراد يبعد السامع عن أصل الموضوع ويبعث‬
‫في نف سه ال سآمة‪ .‬و في تف سير القرآن ي ستحسن أن يكون بالقرآن نف سه ف ما أجمله القرآن في‬
‫موضع فصله في موضع آخر‪ ،‬فإن لم يجد هذا البيان في القرآن تحول إلى السنة فإن لم يجد‬
‫ف في أقوال المف سرين من ال صحابة والتابع ين وكذلك يف عل في تف سيره الحد يث النبوي وع ند‬
‫كلمه في الفقه السلمي يستحسن أن يبين الحكم الفقهي الراجح إن كان من ذوي القدرة على‬
‫تمي يز القوال الفقه ية الراج حة من المرجو حة فإن لم ي ستطع ذلك فعل يه أن يبين الح كم وفقا‬
‫لتجاه أحد المذاهب السلمية دون أن يذكر الخلفات الفقهية في كل مسألة يتعرض لها لن‬
‫ذكر هذا الخلف يشتت أذهان السامعين‪.‬‬

‫المحاضرة‬

‫‪348‬‬
‫‪ -742‬والغالب فـي المحاضرة أنهـا تعالج موضوعا معينا باسـتقصاء وإحاطـة وذكـر الدلة‬
‫والبراهين‪ ،‬وذكر ما قيل حول الموضوع‪ ،‬والصواب من هذه القوال‪ ،‬والمحاضرة الناجحة ما‬
‫كانـت تهدف إلى هدف معيـن ومحدد وتجلي هذا الهدف وتـبينه البيان الشافـي المقنـع‪ .‬ويجـب‬
‫على المحاضر أن يكون دقيقا في كلمه ل يلقي القول جزافا ول يكثر من العبارات العاطفية‪،‬‬
‫لن مجال ها ال صلي الخط بة ول يس المحاضرة وأن يشرك ال سامعين م عه في الو صول إلى ما‬
‫يريده بأن يبين مقدمات النتي جة ال تي و صل إلي ها في بح ثه فإذا ما ا ستطاع اقناع هم ب ها كان‬
‫وصولهم إلى النتيجة مي سورا‪ .‬وعلى المحاضر أن يقيم المقدمات لما يريد الوصول إليه على‬
‫مسائل واضحة جلية مشهورة وأن يتجنب المسائل الدقيقة والمشتبهة والتي تقبل الخذ والرد‪،‬‬
‫أوال تي هي في نف سها تحتاج إلى إثبات‪ ،‬و من هذه الم سائل ما تعورف على ت سميته بالمعا ني‬
‫الفل سفية‪ ،‬فإذا أراد المحا ضر أن يعرض ب عض الحقائق الدين ية وأ صول العقيدة ال سلمية م ثل‬
‫الب عث ب عد الموت فيكف يه أن يل فت النظار الى ما نشاهده من موت وب عث في عالم الحيوان‬
‫والنبات وأن يضرب المثلة على ذلك لتقريـب هذه الحقيقـة الى الذهان‪ .‬وهذا النهـج ورد فـي‬
‫القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى‪{ :‬ومن آياته أنك ترى الرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء‬
‫اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} فالحياة بعد الموت أثر‬
‫مشاهد محسوس‪ ،‬أرض ميتة ل نبت فيها ول حياة ينزل ال عليها المطر فتهيج ويخرج منها‬
‫نبات حي بألوا نه المختل فة وطعو مه المتنو عة‪ ،‬ان ال الذي أح يا هذه الرض هو الذي يح يي‬
‫الموتى بعد أن خلقهم من ماء مهين من نطفة نعرفها ونراها‪ ،‬فإن العادة كما هو معلوم أسهل‬
‫من البتداء قال تعالى‪{ :‬وضرب ل نا مثلً ون سي خل قه قال من يح يي العظام و هي رم يم؟ قل‬
‫يحيي ها الذي أنشأ ها أول مرة و هو ب كل خلق عل يم}‪ .‬وهذا وعلى الدا عي في محاضر ته أن ل‬
‫يكون جافا بل عليه أن يضفي على محاضرته شيئا من التحريك العاطفي الوجداني بما يذكره‬
‫من حقائق ال سلم ومعا ني العقيدة ال سلمية‪ .‬وهذا التحر يك الوجدا ني يقوم على أ ساس اثارة‬
‫ما في النفوس من معاني اليمان‪.‬‬

‫المناقشة والجدل‬
‫‪ -743‬الناقشة والجدل يكونان بين شخصين أو أكثر يعرض كل جانب وجهة نظره فيما يراه‬
‫ويعتقده من أمور‪ .‬والدا عي عند ما يد عو غيره الى ال قد ل يق بل المد عو دعو ته فيق بل على‬
‫جدال الداعي ومناقشته‪ .‬وقد ذكر القرآن الكريم بعض صور المناقشات التي جرت بين الرسل‬
‫الكرام وبين أقوامهم من ذلك قوله تعالى‪{ :‬لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا ال ما‬
‫لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‪ .‬قال المل من قومه إنا لنراك في ضلل‬
‫مبين‪ ،‬قال يا يوم ليس بي ضللة ولكني رسول من رب العالمين‪ .‬أبلغكم رسالت ربي وأنصح‬

‫‪349‬‬
‫ل كم وأعلم من ال ما ل تعلمون أو عجب تم أن جاء كم ذ كر من رب كم على ر جل من كم لينذر كم‬
‫ولتتقوا ولعلكـم ترحمون}‪ .‬فالمدعـو فـي مناقشتـه وجداله مـع الداعـي قـد يصـل الى حـد اتهام‬
‫الداعي بالضلل المبين‪ ،‬فل يعجب الداعي من ضلل المدعو ول يخرجه عن هدوئه واتزانه‬
‫وشفق ته عل يه ك ما هو وا ضح من جواب نوح عل يه ال سلم‪ .‬فعلى الدا عي أن يل حظ ذلك دائما‬
‫وان يكون كلمه في الجدال والناقشة بالحسنى وبالكلم الطيب والدب الجم والتواضع والهدوء‬
‫وعدم رفع الصوت وعدم اغاظة المقابل والستهزاء به وليبق كلمه معه على مستواه العالي‬
‫الرف يع الرق يق الل ين المحبوب الخالي من الفظا ظة والخشو نة‪ ،‬ول كن ف يه قوة القناع ووضوح‬
‫الحـق‪ ،‬ومثـل هذا يسـتفاد مـن قوله تعالى‪{ :‬ادع الى سـبيل ربـك بالحكمـة والموعظـة الحسـنة‬
‫وجادلهم بالتي هي أحسن} فإذا أصر المدعو على باطله ولج في عناده وأصبح الكلم معه عبثا‬
‫فليقطع الداعي الجدل معه ويذكر قول ال تعالى‪{ :‬قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم‬
‫فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل} وقوله تعالى‪:‬‬
‫{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وهذا المسلك هو قطع الجدل مسلك‬
‫سديد‪ ،‬لن ب عض الناس ل ين فع مع هم الجدل لن هم ل يريدون من جدل هم الو صول الى ال حق‬
‫وإن ما يريدون المكابرة والعناد والجحود قال تعالى‪{ :‬ولو نزل نا عل يك كتابا في قرطاس فلم سوه‬
‫ن هذا إل سحر مبين}‪.‬‬
‫بأيديهم لقال الذين كفروا إ ْ‬

‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬


‫‪ -744‬وال مر بالمعروف والن هي عن المنكر غالبا ما يكون بالقول‪ ،‬كما أ نه قد يكون بدعوة‬
‫غير المسلم الى السلم‪ .‬أو بدعوة المسلم العاصي الى طاعة ال سبحانه وتعالى والقلع عن‬
‫مخالفة شرعه‪ ،‬كما أن هذا المر والنهي بأنواعه قد يكون موجها الى شخص بعينه أو الى عدة‬
‫أشخاص أو الى طائ فة من الناس أو بش كل دعوة عا مة الى الناس لتباع ما جاء به ال سلم‬
‫وترك ما يخالفه‪ .‬والقواعد الجامعة في هذا الباب والتي يجب أن يفقهها الداعي هي ما يلي‪:‬‬

‫قواعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬


‫‪ -745‬القاعدة الولى‪ :‬ل بد من العلم بالمعروف الذي يد عو إل يه وبالمن كر الذي ين هى ع نه‪.‬‬
‫جاء عن ب عض السلف "ل يأ مر بالمعروف وين هى عن المن كر إل من كان فقيها في ما يأ مر به‬
‫فقيها فيما ينهى عنه" وهذا واضح فكما أن من يعالج المريض يحتاج الى فهم بالمرض والدواء‬
‫أي يكون طبيبا جيدا فكذلك الداعي ويستفاد ذلك من قوله تعالى‪{ :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى ال‬
‫على بصيرة أنا ومن اتبعني} والبصيرة تشمل ما قلناه‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫‪ -746‬القاعدة الثانية‪ :‬الرفق‪ ،‬والصل فيه الكتاب والسنة قال تعالى مخاطبا موسى وهارون‬
‫ل لينا لعله يتذكر أو يخشى} سورة طه‬
‫عليهما السلم‪{ :‬اذهبا الى فرعون إنه طغى فقول له قو ً‬
‫الية‪ 24 :‬والقول اللين الذي أشارت اليه هذه الية الكريمة ذكره ال تعالى في سورة النازعات‬
‫قال تعالى‪{ :‬فقل هل لك الى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى} فهذا الخطاب صريح في بيان‬
‫ال حق ولك نه رق يق ل ي جد المب طل ف يه إثارة لنف سه المثقلة بالبا طل‪ .‬ثم يبلغ الل ين والر فق في‬
‫الخطاب الى مدى أبعد من ذلك فيقول موسى كما حكاه ال تعالى عنه‪{ :‬إنا قد أوحي إلينا أن‬
‫العذاب على من كذب وتولى} فهذا تحذير لطيف وصادق الى فرعون إذ لم يوجه موسى عليه‬
‫السلم العذاب الى فرعون مباشرة وإنما قال‪{ :‬على من كذب وتولى} وهذا فيه ما فيه من لين‬
‫القول والتل طف في التحذ ير‪ .‬وإذا كان ال تعالى قد أ مر مو سى عل يه ال سلم بالقول الل ين مع‬
‫ع صمته وح فظ ال له فغيره أولى بال خذ بالل ين والتل طف في الخطاب فان القائل بالل ين ل يس‬
‫بافضل من موسى والمقول له ليس بأخبث من فرعون‪ .‬وفي السنة النبوية "ما كان الرفق في‬
‫ش يء إل زا نه ول كان الع نف في ش يء إل شا نه" "ان ال ي حب الر فق في ال مر كله ويع طي‬
‫عل يه ما ل يع طي على الع نف" ول شك أن القول الل ين في الدعوة وال مر بالمعروف والن هي‬
‫عن المنكر يدخل في مفهوم الرفق المأمور به‪ .‬ول شك أن الداعي المسلم قد يخرج في بعض‬
‫الحيان عن هذا النهج اللين في المر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن عليه دائما أن يحمل‬
‫نفسه عليه لنه هو السبيل القويم الذي دلت عليه السنة النبوية وطبقه الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم فعلً فمن هذه التطبيقات ما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي ال عنه قال "بينما‬
‫أن أ صلي مع ر سول ال صلى ال عل يه و سلم اذ ع طس ر جل من القوم فقلت‪ :‬يرح مك ال‪،‬‬
‫فرما ني القوم بأب صارهم‪ ،‬فقلت‪ :‬واث كل أ ّميَاه ما شأن كم تنظرون ال يّ؟ فجعلوا يضربون بأيدي هم‬
‫على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني‪ ،‬لكني سكت‪ ،‬فلما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫فبأبي هو وأمي‪ ،‬ما رأيت معلما قبله ول بعده أحسن تعليما منه فوال ما كهرني ول ضربني‬
‫ول شتمني قال "ان هذه الصلة ل يصلح فيها شيء من كلم الناس انما هي التسبيح والتكبير‬
‫وقراءة القرآن أو كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم"[‪.]8‬‬
‫‪ -747‬القاعدة الثالثـة‪ :‬النظـر الى المصـالح والمفاسـد‪ ،‬ومعنـى ذلك‪ :‬أن يكون قول المـر‬
‫بالمعروف والنا هي عن المن كر بف قه ون ظر في ما ي صلح من ذلك و ما ل ي صلح و ما يقدر عل يه‬
‫وما ل يقدر عليه فإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيما يأمر به او ما ينهى عنه نظر‪ :‬فإن كان‬
‫فيما يقوله أمرا ونهيا مصالح أعظم من المفسدة التي تحصل في أمره ونهيه وجب عليه المر‬
‫والنهي وان كان العكس أي المفاسد أعظم لم يجب عليه بل قد يحرم[‪.]9‬‬
‫‪ -748‬القاعدة الرابعـة‪ :‬اختلط المعروف بالمنكـر‪ ،‬الداعـي بالنسـبة لنواع المعروف يدعـو‬
‫الي ها دعوة مطل قة وكذا بالن سبة لنواع المن كر ين هى عن ها نهيا مطلقا‪ .‬ول كن بالن سبة لش خص‬

‫‪351‬‬
‫معيـن أو طائفـة معينـة إذا كانوا جامعيـن بيـن معروف ومنكـر‪ ،‬وهـم إمـا أن يفعلوهمـا معا أو‬
‫يتركوه ما معا فعلى الدا عي أن ين ظر فان كان م صلحة المعروف أ كبر وأر جح أ مر به وإن‬
‫جاؤوا بالمنكـر المغمور فـي الخيـر‪ .‬وإن كان الشـر أكثـر نهـى عنـه وإن فات الخيـر الكثيـر‬
‫المغمور فيـه‪ .‬وإذا اشتبـه المـر على الداعـي توقـف حتـى يتـبين له المـر فل يقدم ال بعلم‬
‫واخلص‪.‬‬
‫‪ -749‬القاعدة الخامسة‪ :‬التبليغ حسب المكان‪ ،‬وليس من شروط أداء واجب التبليغ ان يصل‬
‫أ مر ال مر ون هي النا هي الى كل إن سان مكلف في العالم اذ ل يس هذا من شرط تبل يغ الر سالة‬
‫فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل يشترط ان يتمكن المكلفون من وصول ذلك اليهم ثم اذا‬
‫فرطوا فلم يسعوا في وصوله اليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه فان التفريط منهم ل منه[‪.]10‬‬

‫الكتابة‬
‫‪ -750‬الكتا بة و هي من أنواع القول في الدعوة الى ال ك ما أشر نا من ق بل‪ .‬والكتا بة إ ما أن‬
‫تكون كتا بة ر سائل الى من ير يد الدا عي دعوت هم الى ال سلم ون بذ ما يخال فه وإ ما أن تكون‬
‫بتأل يف الك تب والبحاث والمقالت في المجلت وغير ها‪ .‬وكل ها و سيلة جيدة للدعوة الى ال‪،‬‬
‫ف قد كان ر سول ال صلى ال عل يه و سلم يأ مر بكتا بة الرسائل الى حكام البلد غ ير ال سلمية‬
‫يدعو هم في ها الى ال واعتناق د ين ال سلم كر سائله عل يه ال صلة وال سلم الى ك سرى في‬
‫العراق‪ ،‬وهر قل في الشام‪ ،‬والمقو قس في م صر‪ ،‬وكذلك علماء ال سلم ير سلون الر سائل الى‬
‫الحكام المسلمين يدعونهم فيها الى ما أمرهم ال به مثل رسالة الوزاعي الى الوالي العباسي‬
‫في الشام حول أ هل الذ مة ولزوم رعا ية حق هم المشروع‪ .‬وتأل يف الك تب في معا ني ال سلم‬
‫وكتا بة البحاث والمقالت والر سائل‪ ،‬من الو سائل المفيدة جدا في الدعوة الى ال ل سيما إذا‬
‫ترجمت الى لغات من يراد تعريفهم بالسلم ودعوتهم إليه فيمكن بهذه الوسيلة تبليغ السلم‬
‫الى مليين الناس الذين ل يعرفون اللغة العربية ولم تصلهم معاني السلم‪ .‬ويلحظ في كتابة‬
‫الرسـائل والبحاث والكتـب أنهـا توجـه الى العموم يقرؤهـا كثيـر مـن الناس على اختلف‬
‫م ستوياتهم في العلم والف هم في جب على الدا عي أن يكتب ها بأ سلوب ب سيط مفهوم وا ضح يدر كه‬
‫أ قل الناس قدرة على ف هم الخطاب وان تكون المعا ني ال تي يبين ها م ما ل ي سع أي إن سان ير يد‬
‫ال سلم أن يجهل ها‪ .‬وأن تكون خال ية من ذ كر الم سائل الدقي قة والخلف ية وان تكون مخت صرة‬
‫دون اخلل بالمعنى ومقتضيات التفهيم‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪ -‬التبليغ بالعمل‬

‫‪352‬‬
‫‪ -751‬المقصود بالعمل‪ :‬نريد بالعمل هنا في مجال التبليغ إزالة المنكر فعلً وهذا هو الغالب‬
‫ويجوز أن ل يكون في العمل إزالة منكر وإنما فيه إقامة معروف مثل بناء مسجد أو مدرسة‬
‫أو نحو ذلك مما يسهل أو يحقق اقامة شرع ال في جانب من جوانبه ويكون هذا العمل كدعوة‬
‫صامتة الى السلم ووسيلة فعالة من وسائل نشر الدعوة الى ال‪.‬‬

‫القواعد العامة إزالة المنكر‬


‫‪ -752‬والصل في إزالة المنكر قوله صلى ال عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان" وإزالة المنكر فعلً إزالة لما‬
‫يمنع الخير أوالحق فان المنكر في الرض يدفع من الحق بقدره أو أكثر‪ ،‬فكان زواله أو إزالته‬
‫تيسيرا لتحقيق الحق والخير بين الناس وكان هو من تمام المر بالمعروف ووجه من وجوهه‪.‬‬

‫القواعد العامة في إزالة المنكر‬


‫‪ -753‬ذكر نا في باب ال مر بالمعروف والن هي عن المن كر القوا عد العا مة وهذه ت سري ه نا‬
‫أيضا فل بد من فقه وعلم بما يراد إزالته من المنكر من جهة كونه منكرا تجب إزالته‪ ،‬وكذلك‬
‫الرفق في إزالته‪ ،‬لن المقصود إزالة المنكر فعلً وليس المقصود النتقام ونحو ذلك فقد روى‬
‫البخاري أن اعرابيا بال فـي المسـجد فقام الناس ليقعوا فيـه فقال النـبي صـلى ال عليـه وسـلم‬
‫"دعوه وأريقوا على بوله سـجلً مـن ماء او ذنوبا مـن ماء فانمـا بعثتـم ميسـرين ولم تبعثوا‬
‫معسرين"‪.‬‬
‫وتجب ملحظة المصالح والمفاسد وتزاحمها قبل القدام على إزالة منكر بعينه ليعرف الداعي‬
‫ما يترتب عليه من أضرار او منافع‪ ،‬وكذلك ملحظة ما جاء في القاعدة الرابعة من اختلط‬
‫المعروف والمن كر في ش خص ما‪ ،‬وأ نه إ ما أن يفعله ما‪ ،‬وإ ما أن يتركه ما سوية‪ ،‬و ما يتر تب‬
‫على الزالة في هذه الحالة في حق هذا الشخص المعين‪.‬‬

‫‪ -754‬ونضيف هنا الى القواعد العامة في إزالة المنكر ما يأتي‪:‬‬


‫القاعدة الولى‬
‫أن تكون عند المزيل القدرة الكافية على هذه الزالة‪ .‬ول شك في تفاوت الدعاة في هذه القدرة‬
‫وأعظمهم قدرة المير أي من بيده السلطة والمر والنهي‪ ،‬ولهذا فهو مسؤول أكثر من غيره‬
‫عن إزالة المنكر في بيته لنه مسلط شرعا على هذه الزالة وله الولية على بيته فيكون قادرا‬
‫على الزالة‪ ،‬وبالتالي ت جب عليه إل إذا عارضها معارض شر عي في ب عض جزئيات المنكر‬

‫‪353‬‬
‫من جهة ما قد عسى أن يترتب على إزالة هذه الجزئية من مفاسد أكبر من المصالح في ضوء‬
‫القواعد السابقة‪.‬‬
‫‪ -755‬فإذا عدم الداعـي القدرة على الزالة اواسـتطاع الزالة ولكـن يترتـب على ذلك منكـر‬
‫أ كبر أو يلح قه ضرر ج سيم‪ ،‬و من الضرر تعط يل عمله ال مبرور في الدعوة الى ال‪ ،‬ومن عه‬
‫النتقال الى الزالة بالقول فإذا لم يسـتطعه ايضا لهذه المحاذيـر انتقـل الى التغييـر بالقلب كمـا‬
‫جاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه‪.‬‬
‫‪ -756‬و من ت طبيقات هذه القاعدة إقرار ال نبي صلى ال عل يه و سلم لع بد ال بن اب يّ وأمثاله‬
‫من ائ مة النفاق ل ما ل هم من اعوان‪ ،‬فازالة منكره بنوع من عقا به ت ستلزم إزالة معروف أ كبر‬
‫من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه[‪.]11‬‬
‫القاعدة الثانية‬
‫‪ -757‬كره المنكـر ل رخصـة فيـه وإزالتـه حسـب القدرة‪ .‬وممـا يجـب أن يعلم جيدا أن كره‬
‫المنكـر يجـب أن يكون تاما كاملً‪ ،‬لن الصـل فـي المؤمـن أن يكون حبـه موافقا لحـب ال‪.‬‬
‫وبغضه موافقاص لما يبغضه ال‪ ،‬وأي نقص في هذه الموافقة في جانبيها أو في أحد جانبيها‬
‫حرده نقص اليمان قطعا‪ .‬لن بغض المنكر في القلب ل ضرر فيه مطلقا فمن لم يفعله أي لم‬
‫يكره المن كر بقل به كان ذلك دليلً على ض عف إيما نه بل وموت قل به وعدم ايما نه لن الحد يث‬
‫ورد في آخره "ليس وراء ذلك من اليمان حبة خردل"‪ .‬بعد أن ذكر مراتب تغيير المنكر باليد‬
‫واللسان والقلب‪ .‬أما إزالة المنكر باليد أي‪ :‬فعلً فهذه تكون بحسب القوة والقدرة فان ال تعالى‬
‫ل يكلف نفسـا إل وسـعها‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فاتقوا ال مـا اسـتطعتم}‪ .‬ومتـى كانـت كراهيـة القلب‬
‫للمن كر كاملة واراد ته للتغ ير كاملة وف عل الم سلم من ها بح سب قدر ته‪ ،‬أو لم يف عل لعجزه‪ ،‬فإ نه‬
‫يعطى ثواب الفعل‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‬
‫‪ -758‬الستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر‪ ،‬والصل في ذلك مشروعية تأليف القلوب حتى‬
‫تقبل الخير وتقلع عن الشر‪ ،‬ولو كان هذا التأليف بمال يبذل‪ ،‬وقد روي عن المام الفقيه عمر‬
‫بن عبد العزيز أنه قال "وال ما استطيع أن أخرج لهم شيئا من أمر الدين إل ومعه طرف من‬
‫الدن يا ا ستلين به قلوب هم خوفا أن ينخرق عل يّ من هم ما ل طا قة لي به"[‪ ]12‬وعلى هذا يجوز‬
‫للداعي أن يعوض المتلبس بالمنكر بشيء مباح جزاء تركه أو تغييره فعلً كما لو كان له ولد‬
‫أو صـديق يلعـب القمار فيعوضـه بتخصـيص جائزة له على سـبق غيره فـي مباح كركـض أو‬
‫فرو سية أو ر مي‪ ،‬أو ح فظ ما ي ستحب حف ظه‪ .‬وإذا كان متلب سا بمن كر ارتياد المل هي عو ضه‬
‫بالسفرات البريئة‪ ،‬أو كان ميالً الى الرشوة أوالتساهل في أكل مال الغير عوضه بزيادة أجرته‬
‫أو راتبه ونحو ذلك‪.‬‬

‫‪354‬‬
‫الفرع الثالث ‪ -‬التبليغ بالسيرة الحسنة‬
‫أهمية السيرة الحسنة‬
‫‪ -759‬من الو سائل المه مة جدا في تبل يغ الدعوة الى ال وجذب الناس الى ال سلم‪ ،‬ال سيرة‬
‫الطي بة للدا عي وأفعاله الحميدة و صفاته العال ية وأخل قه الزاك ية م ما يجعله قدوة طي بة وأ سوة‬
‫حسـنة لغيره‪ ،‬ويكون بهـا كالكتاب المفتوح يقرأ فيـه الناس معانـي السـلم فيقبلون عليهـا‬
‫وينجذبون اليها‪ ،‬لن التأثر بالفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلم فقط‪.‬‬
‫‪ -760‬إن السلم انتشر في كثير من بلد الدنيا بالسيرة الطيبة للم سلمين التي كانت تجلب‬
‫أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق السلم فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته‬
‫الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للسلم يستدل بها غير المسلم على أحقية السلم وانه من‬
‫عند ال‪ ،‬ل سيما إذا كان سليم الفطرة سليم العقل‪.‬‬
‫‪ -761‬ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه واليمان بما‬
‫يدعو إليه أن خديجة بنت خويلد رضي ال عنها عندما أخبرها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بمـا حدث له فـي غار حراء قالت له "ابشـر وال ل يخزيـك أبدا انـك لتصـل الرحـم وتصـدق‬
‫الحد يث وتح مل ال كل وتع ين على نوائب الد هر – في أو صاف أ خر جميلة عدت ها من أخل قه‬
‫تصديقا منها له واعانة على الحق"[‪.]13‬‬
‫وروي أيضا أن أعرابيا جاء الى ال نبي صلى ال عل يه و سلم فقال له‪ :‬من أ نت؟ قال أ نا مح مد‬
‫بن ع بد ال؟ قال العرا بي أأ نت الذي يقال ع نك ا نك كذاب؟ فقال أ نا الذي يزعمون ني كذلك‬
‫فقال العرابي‪ :‬ليس هذا الوجه وجه كذاب‪ ،‬وما الذي تدعو إليه؟ فذكر له رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ما يدعو إليه من أمور السلم فقال له العرابي آمنت بك وأشهد أن ل إله إل ال‬
‫وأش هد أن محمدا ر سول ال‪ .‬فالعرا بي ا ستدل ب سمت ر سول ال ووج هه المن ير الكر يم الذي‬
‫يكون عليه أهل الصدق والخلق الكريمة‪ ،‬استدل بذلك على صدقه فيما يدعو إليه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪.‬‬

‫أصول السيرة الحسنة‬


‫‪ -762‬وأصـول السـيرة الحسـنة التـي بهـا يكون الداعـي المسـلم قدوة طيبـة لغيره ترجـع الى‬
‫أ صلين كبيرين‪ :‬ح سن الخلق‪ ،‬ومواف قة الع مل للقول‪ .‬فإذا تح قق هذان ال صلن ح سنت سيرة‬
‫الدا عي وكا نت سيرته الطي بة صامتة الى السـلم‪ .‬وإن فا ته هذان ال صلن ساءت سيرته‬
‫وصارت دعوته صامتة منفرة عن السلم‪ ،‬فليتق الداعي ربه في هذا المر الخطير ول يكون‬
‫منفرا عن دين ال بسيرته وهو يريد الدعوة إليه بقوله‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫الصل الول للسيرة الحسنة‬
‫‪ -763‬الصل الول هو حسن الخلق وقد تكلمنا في فصل سابق عن نظام الخلق كما تكلمنا‬
‫عن أخلق الداعي فل نعيدهما هنا وإنما نحيل عليهما وما ذكرناه هناك يقال هنا في تجلية هذا‬
‫الصـل‪ .‬ونحـب أن نكرر ونذكـر هنـا بخلق الصـبر والعفـو فان الداعـي ل بـد أن يكون حليما‬
‫صـبورا على الذى لنـه ل بـد أن يحصـل له أذى أومضايقات فان لم يحلم ويصـبر كان كمـا‬
‫يقول ابن تيمية "ما يفسد أكثر مما يصلح" ولهذا قال تعالى‪{ :‬خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض‬
‫عن الجاهل ين} {وأ مر بالمعروف وا نه عن المن كر وا صبر على ما أ صابك إن ذلك من عزم‬
‫المور} ولهذا أمر ال الرسل – وهم أئمة المرين بالمعروف والناهين عن المنكر – بالصبر‬
‫قال تعالى‪{ :‬فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} بل إن الصبر مقرون بتبليغ الرسالة مما‬
‫يدل على أهميتـه ولزو مه للداعـي الى ال تعالى فان أول ما أنزل على نبينـا محمـد صـلى ال‬
‫عليه وسلم بعد أن بلغ الرسالة سورة {يا أيها المدثر} وفيها {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر‬
‫وثيا بك فط هر والر جز فاه جر ول تم نن ت ستكثر ولر بك فا صبر} سورة المد ثر اليات‪7-1 :‬‬
‫فافتتـح آيات الرسـال الى الخلق بالمـر بالنذارة وختمهـا بالمـر بالصـبر ونفـس النذار أمـر‬
‫بالمعروف ونهي عن المنكر فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر[‪.]14‬‬
‫والحقيقة أن الداعي بسماحته وعفوه وإعراضه عن الجاهلين وصبره على أذاهم ينال منهم مال‬
‫يناله بدون هذه الصفات بل أقول ل بد أن تحملهم هذه الصفات العالية الى قبول الحق ولو بعد‬
‫حين إل من سبق عليه الكتاب ول حول ول قوة إل بال‪.‬‬

‫الصل الثاني للسيرة الحسنة‬


‫‪ -764‬والصل الثاني موافقة العمل للقول فليحذر الداعي من مخالفة أفعاله لقواله فإن النفس‬
‫مجبولة على عدم النتفاع بكلم من ل يعمل بعلمه ول يوافق فعله قوله ولهذا قال شعيب عليه‬
‫السلم لقومه كما جاء في القرآن الكريم {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} ولهذا حذرنا‬
‫ال سبحانه من مخال فة أفعال نا لقوال نا قال تعالى‪ { :‬يا أي ها الذ ين آمنوا لم تقولون ما ل تفعلون‬
‫كبر مقتا عند ال أن تقولوا ما ل تفعلون} فليحمل الداعي نفسه دائما على موافقة أفعاله لقواله‬
‫فان هذا ادعى للقبال عليه وقبول قوله‪.‬‬

‫[‪ ]1‬رياض الصالحين ص ‪.296‬‬


‫[‪ ]2‬رياض الصالحين ص ‪.296‬‬

‫‪356‬‬
‫[‪ ]3‬تيسير الوصول ج ‪ 3‬ص ‪.317‬‬
‫[‪ ]4‬رياض الصالحين ص ‪ :274‬والثرثار هو كثير الكلم تكلفا‪ ،‬والمتشدق المتطاول على‬
‫الناس بكلمه ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلمه‪ .‬المتفيهق هو الذي يمل فمه بالكلم‬
‫ويتوسع فيه ويغرب به تكبرا وارتفاعا واظهارا للفضيلة على غيره‪.‬‬
‫[‪ ]5‬سيرة ابن هشام ج ‪ 2‬ص ‪.33‬‬
‫[‪ ]6‬رياض الصالحين ص ‪.297‬‬
‫[‪ ]7‬رياض الصالحين ص ‪ .297‬ويتخولنا معناها يتعهدنا‪.‬‬
‫[‪ ]8‬رياض الصالحين ص ‪.298-297‬‬
‫[‪ ]9‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.128‬‬
‫[‪ ]10‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.126-125‬‬
‫[‪ ]11‬فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.131‬‬
‫[‪ ]12‬سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬تأليف عبد ال بن الحكم ص ‪.60‬‬
‫[‪ ]13‬إمتاع السماع ص ‪.14 – 3‬‬
‫[‪ ]14‬مجموع فتاوى ابن تيمية ج ‪ 28‬ص ‪.137-136‬‬

‫الخاتمة‬

‫‪ -733‬هذا ما ي سره ال تعالى في بيان أ صول الدعوة الى ال تبارك وتعالى فان كان صوابا‬
‫فهو محض فضل ال عل يّ‪ ،‬وان كان فيه خطأ أو زلل فاستغفر ال تعالى وال ورسوله بريئان‬
‫منه‪ ،‬فإني‪ ،‬كما قال ربنا تبارك وتعالى على لسان أحد أنبيائه الكرام {إن أريد إل الصلح ما‬
‫استطعت وما توفيقي إل بال عليه توكلت وإليه أنيب} وأخيرا‪ ،‬فإني أسأل ال تعالى‪ ،‬وهو خير‬
‫م سؤول‪ ،‬أن ين فع بهذه الف صول كاتب ها وقارئ ها‪ ،‬وأن يجعل نا من الذ ين قال ال تعالى في هم {إن‬
‫الذيـن آمنوا وعملوا الصـالحات يهديهـم ربهـم بايمانهـم‪ ،‬تجري مـن تحتهـم النهار فـي جنات‬
‫النعيم‪ ،‬دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلم وآخر دعواهم أن الحمد ل رب العالمين}‬
‫سـورة يونـس اليـة‪ .10-9 :‬وال المسـتعان ول حول ول قوة إل بال وصـلى ال على سـيدنا‬
‫محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫الفهرست‬

‫الفهرست‬

‫‪357‬‬
‫تمهيد ومنهج البحث‬
‫فقرة ‪ -1‬تمهيد‪ -2 ،‬منهج البحث‬

‫الباب الول‬
‫موضوع الدعوة‬
‫فقرة ‪ -3‬تمهيد‪ ،‬تقسيم الباب الى خمسة فصول‬

‫الفصل الول‬
‫‪ -4‬تعر يف ال سلم – التعر يف الول ‪ -5‬التعر يف الثا ني ‪ -6‬المع نى الخاص لل سلم ‪-7‬‬
‫التعريـف الثالث ‪ -8‬التعريـف الرابـع ‪ -9‬التعريـف الخامـس ‪ -12 -10‬تفصـيل التعريـف‬
‫الخامـس ‪ -13‬التعريـف السـادس ‪ -14‬تعاريـف أخرى للسـلم ‪ -15‬ل تناقـض ول اختلف‬
‫‪ -16‬المقصود من تعدد التعاريف ‪ -17‬التعريف المختار‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫أركان السلم‬
‫‪ -18‬تمهيد‪ :‬تعداد الركان وتقسيم الفصل إلى ثلثة مباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الركن الول‬
‫شهادة أن ل إله إل ال‬
‫‪ -19‬معنـى الشهادة ‪ -20‬معنـى الله ‪ -21‬معنـى كلمـة التوحيـد ‪ -22‬توحيـد اللوهيـة ‪-23‬‬
‫أساس العبادة ‪ -24‬زيادة معاني العبودية ‪ -25‬متى يتحرر العبد العبودية لغير ال ‪ 25‬مكرر‬
‫– توح يد الربوب ية ‪ -26‬دلئل توح يد الربوب ية ‪ -27‬القرآن يقرر توح يد الربوب ية في النفوس‬
‫‪ -28‬توح يد الربوب ية ي ستلزم توح يد اللوه ية ‪ -29‬العلوم الحدي ثة وعقيدة التوح يد ‪ -30‬مكا نة‬
‫التوحيد في السلم‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫الركن الثاني‬
‫شهادة أن محمدا رسول ال‬
‫رسـل ال كثيرون ‪ -33‬تـبرير إرسـال الرسـل ‪ -34‬ختـم‬ ‫‪ -31‬معنى هذه الشهادة ‪-32‬‬
‫الرسالت ‪ -35‬أدلة نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ‪ -36‬دليل العجاز ‪ -37‬تحدي القرآن‬

‫‪358‬‬
‫للمخالف ين ‪ -38‬تح قق شروط تحدي القرآن للمخالف ين ‪ -39‬التحدي ودلل ته ‪ -40‬ا ستمرار‬
‫التحدي ودللته ‪ -41‬انكار نبوة محمد صلى ال عليه وسلم تنقيص لعقل النسان ‪ -42‬اثبات‬
‫نبوة محمد صلى ال عليه وسلم اثبات لسائر النبوات ‪ -44 -43‬مقتضى اليمان بنبوة محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم ولوازمه ‪ -45‬واجبنا نحو الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ -46‬التحرز من‬
‫خلط ما ل بما للرسول من حق‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الركن الثالث‬
‫العمل الصالح‬
‫‪ -47‬ماهية العمل الصالح ‪ -48‬مكانة العمل الصالح في السلم ‪ -49‬اعتناق السلم شرط‬
‫لقبول العمـل ‪ -50‬البتداع مرفوض فـي السـلم ‪ -51‬تنوع العمال الصـالحة ‪ -52‬أهميـة‬
‫العبادات فـي السـلم ‪ -53‬أهميـة الصـلة ‪ -54‬الدلئل على أهم ية ال صلة من القرآن ‪-55‬‬
‫الدلئل من ال سنة ‪ -56‬أ سرار ال صلة ‪ -57‬بق ية العبادات ‪ -58‬أي العمال ال صالحة أف ضل‬
‫‪ -59‬أثر العبادات في صلح الفرد والمجتمع‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫خصائص السلم‬
‫‪ -60‬تمهيد‪ :‬تعداد هذه الخصائص‪ ،‬وتقسيم الفصل إلى خمسة مباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الخصيصة الولى‬
‫أنه من عند ال‬
‫‪ -61‬م صادر ال سلم ‪ -62‬الدلئل على أن ال سلم من ع ند ال ‪ -63‬القرآن وا جب التباع‬
‫‪ -64‬ال سنة واج بة التباع ‪ -65‬ما يتر تب على كون ال سلم من ع ند ال‪ :‬كماله وخلوه من‬
‫النقائص ‪ -66‬احترامه من قبل المؤمنين‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫الخصيصة الثانية‬
‫الشمول‬
‫‪ -67‬السلم نظام شامل لجميع شؤون الحياة ‪ -68‬أنواع أحكام السلم بالن سبة لما تتعلق به‬
‫‪ -71 -69‬مقارنة بين شمول الشريعة وشمول القوانين الوضعية‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫الخصيصة الثالثة‬
‫العموم‬
‫‪ -72‬السلم عام للبشر جميعا ‪ -74-73‬لماذا كانت الشريعة السلمية خاتمة الشرائع؟ ‪-75‬‬
‫‪ -84‬الدليـل الول‪ :‬مكانـة المصـلحة فـي الشريعـة ‪ -99 -85‬الدليـل الثانـي‪ :‬مبادئ الشريعـة‬
‫وطبيعـة أحكامهـا‪ ،‬القواعـد والمبادئ العامـة‪ ،‬الحكام التفصـيلية ‪ -101 -100‬الدليـل الثالث‪:‬‬
‫مصادر الحكام‪.‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫الخصيصة الرابعة‬
‫الجزاء في السلم‬
‫‪ -102‬أحكام السلم ليست نصائح وإرشادات – الجزاء في السلم الصل فيه أنه أخروي –‬
‫نطاق الجزاء وا سع وشا مل – الجزاء في الدن يا ل يم نع الجزاء في الخرة – ما يتر تب على‬
‫الجزاء من خضوع المسلم لحكام الشريعة‪.‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫الخصيصة الخامسة‬
‫المثالية والواقعية‬
‫‪ -103‬تمهيد وتقسيم المبحث إلى مطلبين‪.‬‬

‫المطلب الول‬
‫المثالية‬
‫‪ -104‬المقصـود بالمثاليـة‪ :‬العتدال والشمول ‪ -105‬أولً‪ :‬العتدال‪ ،‬المقصـود بـه ‪-106‬‬
‫العتدال مطلوب في العبادات ‪ -107‬تعذيب الجسد وتحميله ما ل يطيق وحرمانه من الطيبات‬
‫ليس من السلم ‪ -108‬يسوغ أو يندب أو يجب أخذ المسلم نفسه بالشدة ‪ -109‬ثانيا‪ :‬الشمول‬
‫ومعناه‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫الواقعية‬

‫‪360‬‬
‫‪ -111 -110‬تتجلى الواقعيـة فـي السـلم بوضعـه مسـتويين للكمال‪ ،‬أعلى وأدنـى‪ .‬وبإيجاد‬
‫المخارج المشرو عة للم سلم في أوقات الشدة والض يق ‪ -112‬المثال ية والواقع ية تتيحان للم سلم‬
‫تحقيق الكمال المقدور له بيسر واعتدال‪.‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫أنظمة السلم‬
‫‪ -114‬تمهيد وتقسيم الفصل الى ثمانية مباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫نظام الخلق في السلم‬
‫‪ -115‬تعريـف الخلق ‪ -117 -116‬أهميـة الخلق ‪ -118‬مكانـة الخلق فـي السـلم‬
‫‪ -119‬خصـائص نظام الخلق فـي السـلم ‪ -121 -120‬الخصـيصة الولى‪ :‬التعميـم‬
‫والتف صيل في الخلق ‪ -122‬أمثلة من القرآن الكر يم على تف صيل الخلق ‪ -123‬أمثلة من‬
‫السـنة النبويـة على تفصـيل الخلق ‪ -124‬الخصـيصة الثانيـة‪ :‬شمول الخلق لجميـع أفعال‬
‫النسـان الخاصـة بنفسـه أو المتعلقـة بغيره سـواء أكان الغيـر فردا أو جماعـة أو دولة ‪-125‬‬
‫الخ صيصة الثال ثة‪ :‬لزوم ها في الو سائل والغايات ‪ -126‬الخ صيصة الراب عة‪ :‬صلة الخلق‬
‫باليمان وتقوى ال ‪ -127‬الخصيصة الخامسة‪ :‬الجزاء‪ ،‬وقد يكون في الدنيا ‪ -128‬هل يمكن‬
‫اكتساب الخلق؟ ‪ -129‬كيف يتحقق تقويم الخلق أو اكتسابها؟ وسائل تقويمها‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫النظام الجتماعي في السلم‬
‫‪ -134 -130‬تمه يد ويش مل‪ :‬ضرورة المجت مع للن سان‪ ،‬وضرورة النظام للمجت مع‪ ،‬والنظام‬
‫يم كن أن يكون صالحا أو فا سدا‪ ،‬وهذا ال صلح والف ساد ينع كس على أفراد المجت مع لذا ل بد‬
‫من التحري عن ال ساس ال صالح لبناء المجت مع الذي ي سره ل نا ال سلم‪ ،‬وتق سيم المب حث إلى‬
‫مطلبين‪.‬‬

‫المطلب الول‬
‫أساس نظام المجتمع في السلم‬
‫‪ -135‬أ ساس نظام المجت مع هو العقيدة ال سلمية ‪ -138 -136‬نتائج اتخاذ العقيدة ال سلمية‬
‫أساسا لنظام المجتمع (الرباط اليماني‪ ،‬زوال العصبية‪ ،‬التقوى ميزان التفاضل)‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫خصائص النظام الجتماعي في السلم‬
‫‪ -139‬خصـائص النظام الجتماعـي مشتقـة مـن أسـاسه أو قائمـة عليـه ‪ -140‬أولً‪ :‬مراعاة‬
‫الخلق ‪ -141‬ثانيا‪ :‬اللتزام بمعانـي العدالة ‪ -152 -142‬ثالثا‪ :‬العنايـة بالسـرة (الزواج‬
‫واجراءاتـه‪ ،‬حقوق الزوجـة وحقوق الزوج‪ ،‬تعدد الزوجات والصـل فيـه الباحـة‪ ،‬الطلق‬
‫والجراءات ال تي ت سبق الو صول إل يه من أ مر للم سلم بالمعاشرة بالمعروف ثم التأد يب عن‬
‫طريق الوعظ والنصح والهجر في المضجع والضرب ثم الطلق والكيفية التي يشترط ايقاعه‬
‫ب ها‪ ،‬حقوق ال صغار في ال سرة‪ ،‬حقوق البو ين على أولده ما‪ ،‬التضا من ب ين أفراد ال سرة)‬
‫‪ -153‬رابعا‪ :‬تحد يد مر كز المرأة في المجت مع ‪ -154‬مر كز المرأة في المجت مع ق بل ال سلم‬
‫‪ -155‬مر كز المرأة في المجت مع ال سلمي ‪ -156‬أولً‪ :‬حقوق المرأة ( حق الحياة‪ ،‬التكر يم‪،‬‬
‫الكسـب بالطرق المشروعـة‪ ،‬المهـر والنفقـة‪ ،‬الحضانـة‪ ،‬تعلم العلوم النافعـة‪ ،‬الحقوق السـياسية‬
‫ورأي نا في ذلك) ‪ -157‬ثانيا‪ :‬واجبات المرأة ‪ -158‬ثالثا‪ :‬الوظي فة ال تي اخت صت ب ها ‪-159‬‬
‫رابعا‪ :‬الداب التي تلتزم بها‪.‬‬
‫‪ -162 -160‬الخصيصة الخامسة‪ :‬تحميل الفرد مسؤولية اصلح المجتمع وواجب الفرد في‬
‫اصـلح المجتمـع والدلة على ذلك مـن القرآن الكريـم والسـنة النبو ية ‪ -164‬تعليـل مسـؤولية‬
‫الفرد عن اصـلح المجت مع ‪ -164‬أولً‪ :‬الفرد يتأثـر بالمجتمـع ‪ -165‬ثانيا‪ :‬ضرورة قيام‬
‫المجتمع الصالح ‪ -168 -166‬النجاة من العقاب الجماعي والدلة على ذلك من الكتاب والسنة‬
‫‪ -169‬ميزان صلح المجتمع وفساده‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫نظام الفتاء‬
‫‪ -170‬تمه يد ‪ -171‬وا جب العلماء تعل يم الناس ما يحتاجو نه من أمور دين هم ‪ -172‬وا جب‬
‫الجاهل أن يسأل العلماء عن أمور دينه ‪ -173‬سؤال الجاهل وجواب العالم يكون نظام الفتاء‬
‫‪ -174‬الفتاء في اللغة ‪ -175‬الفتاء في الصطلح ‪ -176‬منهج البحث وتقسيم المبحث إلى‬
‫أربعة مطالب‪.‬‬

‫المطلب الول‬
‫المستفتي‬
‫‪ -177‬من هو المستفتي ‪ -179 -178‬الصنف الول‪ :‬المحرم عليه الستفتاء ‪-181 -180‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬من يجب عليهم الستفتاء ‪ -184 -182‬من يجوز لهم الستفتاء وأقوال العلماء‬

‫‪362‬‬
‫في ذلك ‪ -186 -185‬على المستفتي أن يسأل الصالح للفتاء‪ ،‬وأن يرحل الى حيث يجد من‬
‫يفتيه ‪ -187‬استفتاء الصلح وقولي العلماء في ذلك ‪ -188‬الراجح من القولين ‪ -189‬من هو‬
‫الصلح وقولي العلماء في ذلك ‪ -190‬الراجح استفتاء الورع ‪ -191‬استفتاء المستفتي لكثر‬
‫من واحد وأقوال العلماء في ذلك ‪ -192‬الراجح في ذلك‪ :‬التفصيل ‪ -194 -193‬هل تجوز‬
‫إعادة الستفتاء وما نرجحه في ذلك ‪ -195‬كيفية الستفتاء أو صيغته ‪ -197 -196‬الستفتاء‬
‫بموجب مذهب معين وأقوال العلماء في ذلك ‪ -198‬القول الراجح في هذه المسألة ‪ -199‬هل‬
‫للمستفتي مطالبة مفتيه بالدليل؟ والقوال في ذلك ‪ -200‬أدب المستفتي مع المفتي‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫المفتي‬
‫‪ -201‬شروط المفتـي ‪ -202‬الشرط الول‪ :‬السـلم ‪ -203‬الشرط الثانـي‪ :‬البلوغ والعقـل‬
‫‪ -204‬الشرط الثالث‪ :‬العدالة ‪ -205‬الشرط الرابـع‪ :‬الجتهاد ‪ -206‬أقسـام المجتهديـن ‪-207‬‬
‫المجت هد المطلق ‪ -208‬المجت هد في مذ هب مع ين والحالت في ذلك ‪ -209‬المجت هد في نوع‬
‫من العلم ‪ -210‬المجتهد في مسألة أو مسائل معينة ‪ -211‬الخلصة والترجيح ‪ -212‬شروط‬
‫أخرى مثـل‪ :‬اليقظـة وجودة الذهـن والمعرفـة بالناس ومكرهـم وخداعهـم‪ ،‬وأن يكون على قدر‬
‫كبير من الزهد والورع ‪ -213‬وجوب وجود المفتي وحرمة السكن في مكان ل يوجد فيه من‬
‫يبين أحكام الد ين ‪ -214‬ي جب الع مل على ايجاد المفت ين على جما عة الم سلمين ‪ -215‬على‬
‫ولي المر المسلم واجب القيام بتهيئة الوسائل الضرورية لذلك ‪ -216‬لولي المر منع المفتي‬
‫الما جن والجا هل من الفتاء ‪ -217‬يجوز للمف تي أن يأ خذ كفاي ته من ب يت المال ‪ -218‬هل‬
‫يضمن المفتي بفتواه؟ ‪ -223 -219‬واجبات المفتي وآدابه‪.‬‬

‫المطلب الثالث‬
‫الفتاء‬
‫‪ -224‬تعريفه ‪ -225‬أول من قام به ‪ -226‬الفتاء بعد النبي صلى ال عليه وسلم ‪ -227‬من‬
‫له حق الفتاء ‪ -228‬العامي إذا عرف حكم مسألة فهل له أن يفتي من سأله عنها؟ ‪ -229‬هل‬
‫يفتي العامي بما يجده في كتب الحديث؟ ‪ -230‬هل يشترط إذن المام للقيام بالفتاء؟ ‪-231‬‬
‫التصدي للفتاء ‪ -232‬خلوص النية والقصد عند الفتاء ‪ -233‬على من يجب الفتاء؟ ‪-234‬‬
‫على من يحرم الفتاء؟ ‪ -235‬على من يكره الفتاء؟ الفتاء بالن سبة للقا ضي وأقوال الفقهاء‬
‫في ذلك ‪ -236‬الراجح من هذه القوال ‪ -238 -237‬تهيب السلف الصالح من الفتاء ووجود‬
‫الجرأة على الفتاء أيضا في السلف الصالح والتوفيق بين المرين ‪ -239‬الحالت التي يجوز‬

‫‪363‬‬
‫في ها المتناع عن الفتاء ‪ -240‬جواز أ خذ الجرة على الفتاء ‪ -241‬جواز الفتاء ل من ل‬
‫تقبل شهادته للمفتي‪.‬‬

‫المطلب الرابع‬
‫الفتوى‬
‫‪ -242‬تعريف الفتوى ‪ -245 -243‬الساس الذي يجب أن تقوم عليه الفتوى ‪-248 -246‬‬
‫تعلق الفتوى بموضوع السـتفتاء وجواز الزيادة فيهـا على موضوعهـا ‪ -249‬وضوح الفتوى‬
‫‪ -252 -250‬اليجاز والطالة في الفتوى ‪ -253‬جواز ذكر دليل الفتوى ‪ -254‬جواز تغير‬
‫الفتوى بتغ ير المكان والزمان إذا كان الح كم الشر عي مبنيا على العرف وتغيره ‪ -255‬جواز‬
‫التشدد في عبارة الفتوى عند الحاجة‪ ،‬كما يجوز الحلف على ثبوت الحكم الشرعي الوارد فيها‬
‫‪ -258 -256‬ما يراعي في كتابة الفتوى أوالنطق بها ‪ -259‬العمل بالفتوى ‪ -260‬الفرق بين‬
‫الفتوى والحكم‪.‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫نظام الحسبة‬
‫‪ -261‬تمهيد ‪ -262‬منهج البحث وتقسيم المبحث الى خمسة مطالب‪:‬‬

‫المطلب الول‬
‫التعريف بالحسبة ومشروعيتها‬
‫ومكانتها في السلم‬
‫‪ -263‬معنا ها في الل غة ‪ -264‬معنا ها في ال صطلح ‪ -266 -265‬دل يل مشروعيت ها من‬
‫الكتاب والسـنة ‪ -267‬مدى مشروعيتهـا ‪ -268‬مكانـة الحسـبة فـي السـلم ‪ -269‬حكمـة‬
‫مشروعيتها ‪ -270‬أركان الحسبة‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫المحتسب‬
‫‪ -271‬من هو المحتسب ‪ -272‬الفرق بين المحتسب والمتطوع ‪ -273‬رأينا في هذه الفروق‬
‫‪ -274‬ول ية المحت سب ‪ -275‬مق صود هذه الول ية ‪ -277 -276‬ول ية المحت سب وول ية‬
‫القاضـي‪ ،‬أوجـه التفاق وأوجـه الختلف ‪ -288 -278‬شروط المحتسـب المتفـق عليهـا‬
‫والمختلف فيها وما نرى في ذلك ‪ -292 -289‬آداب المحتسب‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫المحتسب عليه‬
‫‪ -293‬التعريف به وبشرطه ‪ -299 -294‬أنواع المحسب عليهم‪ :‬القارب‪ ،‬غير المسلمين‪،‬‬
‫المراء‪ ،‬القضاة‪ ،‬أصحاب المهن المختلفة‪.‬‬

‫المطلب الرابع‬
‫موضوع الحسبة‬
‫‪ -300‬المن كر هو موضوع الح سبة ‪ -301‬المق صد بالمن كر ‪ -303 -302‬من يملك إعطاء‬
‫وصف المنكر؟ ‪ -304‬شروط المنكر ‪ -305‬أن يكون ظاهرا ‪ -306‬أن يكون قائما في الحال‬
‫‪ -307‬عدم الخلف ف يه ‪ -308‬ات ساع موضوع الح سبة ‪ -313 -309‬أمثلة على ات ساع‬
‫ل في العتقادات‪ ،‬ثانيا في العبادات‪ ،‬ثالثا في المعاملت‪ ،‬رابعا فيما يتعلق‬
‫موضوع الحسبة‪ :‬أو ً‬
‫بالطرق والدروب‪ ،‬خامسـا فيمـا يتعلق بالحرف والصـناعات‪ ،‬سـادسا فيمـا يتعلق بالخلق‬
‫والفضيلة‪.‬‬

‫المطلب الخامس‬
‫الحتساب‬
‫‪ -314‬مع نى الحت ساب ‪ -315‬ما ي تم به الحت ساب ‪ -316‬مرا تب الحت ساب ‪ -317‬ف قه‬
‫الحتساب ‪ -318‬القاعدة الولى‪ :‬النكار القلبي ‪ -320 -319‬القاعدة الثانية‪ :‬تحصيل مصلحة‬
‫أو دفع مفسدة‪ ،‬وما ينبني عليها من عدم جواز الخروج على السلطان بالقوة ان ظهر منه شيء‬
‫من الفسوق ‪ -322 -321‬القاعدة الثالثة‪ :‬الخذ بالرفق ما أمكن‪ ،‬وجواز الستعاضة عن ذلك‬
‫ع ند الضرورة ‪ -323‬م تى ي جب الحت ساب ‪ -325 -324‬هل يشترط النتفاع بالحت ساب‬
‫لوجو به؟ والرأي الرا جح في ذلك ‪ -326‬م تى ي ستحب الحت ساب ‪ -328 -327‬م تى يحرم‬
‫الحت ساب ‪ -329‬الشرط في مباشرة الحت ساب‪ ،‬في ال حق الخاص‪ :‬ظهور المن كر ويتح قق‬
‫بالعلم‪ .‬في الحق العام‪ :‬المشاهدة والعلم الشخصي ‪ -330‬الحتساب في الوقت الحاضر‪.‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫نظام الحكم‬
‫‪ -331‬تمه يد ‪ -332‬المق صود بنظام الح كم ‪ -333‬هل يو جد نظام ح كم في ال سلم؟ ‪-334‬‬
‫مقومات نظام الحكم في السلم‪ ،‬وتقسيم المبحث إلى أربعة مطالب‪.‬‬

‫المطلب الول‬

‫‪365‬‬
‫الخليفة‬
‫‪ -335‬تعريف الخليفة ‪ -336‬أدلة وجوب نصب المام من القرآن والسنة والجماع والمعقول‬
‫‪ -337‬مـن يملك حـق انتخاب الخليفـة؟ ‪ -338‬أسـاس حـق المـة فـي انتخاب الخليفـة ‪-339‬‬
‫المر كز القانو ني للخلي فة ‪ -340‬ك يف تختار ال مة الخلي فة؟ ‪ -341‬أ هل الع قد وال حل ‪-342‬‬
‫معرفة أهل العقد والحل في الوقت الحاضر ‪ -343‬ولية العهد وهل يصبح ولي العهد خليفة‬
‫بهـا أم باختيار المـة؟ ‪ -344‬شروط الخليفـة‪ :‬السـلم والذكورة والعلم بالحكام الشرعيـة‬
‫والعدالة والقرشية وما دار حول هذا الشرط من نقاش والرأي في ذلك ‪ -345‬عزل الخليفة ول‬
‫بد من وجود المبرر الشرعي وهو خروجه عن مقتضى وكالته عن المة خروجا يبرر عزله‬
‫‪ -346‬تنفيذ العزل شريطة عدم ترتب مفسدة أعظم على العزل‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫الشورى‬
‫‪ -347‬أدلة وجوب ها من الكتاب وال سنة الفعل ية ‪ -348‬ترك المشاورة مو جب لعزل رئ يس‬
‫الدولة ‪ -349‬تعليل أهمية المشاورة ‪ -350‬في أي شيء تجري الشورى ‪ -351‬أهل الشورى‬
‫‪ -352‬الخلف بين رئيس الدولة وأهل الشورى ‪ -353‬الخذ برأي رئيس الدولة إذا لم يظهر‬
‫الرأي الش به بكتاب ال و سنة ر سوله صلى ال عل يه و سلم ‪ -354‬أدلة ال خذ برأي رئ يس‬
‫الدولة وإن خالف رأي الكثرية ‪ -355‬اعتراضات ودفعها ‪ -356‬حق الفراد في إبداء آرائهم‬
‫‪ -357‬حدود حرية الرأي ‪ -358‬تنظيم الشورى في الوقت الحاضر‪.‬‬

‫المطلب الثالث‬
‫الخضوع لسلطان السلم‬
‫‪ -359‬تمه يد ‪ -360‬سلطان ال مة مق يد غ ير مطلق ‪ -361‬سلطان الخلي فة مق يد غ ير مطلق‬
‫‪ -362‬ما يترتب على تقييد سلطان المة والخليفة ‪ -363‬الجدية والمساواة في تنفيذ شرع ال‬
‫‪ -364‬الدولة السلمية دولة قانونية ‪ -365‬الحكم الحقيقي فيها ل‪.‬‬

‫المطلب الرابع‬
‫مقاصد الحكم في السلم‬
‫‪ -366‬الحكم وسيلة ل غاية ‪ -367‬مقاصد الحكم ‪ -371 -368‬المقصد الول‪ :‬حراسة الدين‪:‬‬
‫حف ظه وتنفيذه ‪ -372‬المق صد الثا ني‪ :‬سياسة الدن يا به ‪ -375 -373‬إقا مة العدل ب ين الناس‬

‫‪366‬‬
‫ووا جب الخلي فة سلوك ال سبل المحق قة لذلك ‪ -376‬إشا عة ال من وال ستقرار ‪ -377‬تهيئة ما‬
‫يحتاجه الناس ‪ -378‬استثمار خيرات البلد‪.‬‬

‫المبحث السادس‬
‫النظام القتصادي‬
‫‪ -381 -379‬تمهيد ويشمل تنظيم السلم لنشاط النسان القتصادي وإقامته ذلك على أساس‬
‫من العقيدة السلمية وتقسيم المبحث إلى ثلثة مطالب‪.‬‬

‫المطلب الول‬
‫الفرع الول‬
‫الساس الفكري للنظام القتصادي السلمي‬
‫‪ -382‬العقيدة ال سلمية هي ال ساس الفكري للنظام القت صادي ال سلمي ‪ -389 -383‬من‬
‫معاني العقيدة السلمية ولوازمها التي لها علقة في موضوع النظام القتصادي‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫خصائص النظام القتصادي السلمية‬
‫ـي الخلق ‪-393‬‬
‫ـة ‪ -392‬مراعاة معانـ‬
‫ـد ‪ -391‬أولً‪ :‬مراعاة الفطرة البشريـ‬
‫‪ -390‬تمهيـ‬
‫التأكيد على سد حاجات الفراد والوسائل التي قررها السلم لتحقيق ذلك ‪ -400 -394‬حث‬
‫ال سلم على الع مل والك سب‪ ،‬على الدولة تهيئة سبل العمل للقادر ين عل يه‪ ،‬على أفراد ال سرة‬
‫النفاق على الفرد إذا عجـز‪ ،‬فاذا لم يجـد أنفـق عليـه مـن الزكاة‪ ،‬فاذا لم تـف أنفـق عليـه مـن‬
‫الموارد الخرى لبيـت المال‪ ،‬فاذا لم يكـن وجـب على الغنياء‪ ،‬ويجوز لولي المـر فرض‬
‫الضرائب العادلة بقدر الحاجة‪.‬‬

‫المطلب الثاني‬
‫المبادئ العامة في النظام القتصادي السلمي‬
‫‪ -401‬تمهيد ويشمل ذكر أهم هذه المبادئ‪ ،‬وتقسيم المطلب إلى ثلثة فروع‪.‬‬

‫الفرع الول‬
‫حرية العمل‬
‫‪ -402‬الحـث على العمـل ومباركـة العامـل على جهده وكسـبه الحلل ‪ -403‬جعـل السـلم‬
‫المع ين خيرا من المعان‪ ،‬والع مل و سيلة للح صول على ثواب ال ‪ -404‬اختيار الع مل متروك‬

‫‪367‬‬
‫للفرد مع جواز تد خل الدولة لل حد من الحر ية القت صادية إذا أضرت بالمجموع ‪ -405‬اقرار‬
‫المناف سة الحرة في إطار الخلق ال سلمية ‪ -406‬التفاوت في الرباح و في ثمرات العمال‬
‫نظرا لختلف المواهب والكفاءات‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫حق الملكية الفردية‬
‫‪ -407‬إقرار ال سلم حق الملك ية الفرد ية والدلة الشرع ية على ذلك ‪ -408‬ل تفر قه في هذا‬
‫ال حق ب ين مال ومال ‪ -409‬ال حث على عدم الم ساس بملك الغ ير‪ -410 .‬حق الملك ية غ ير‬
‫مطلق بل هو مقيد ‪ -411‬اشتراط السلم ليعترف بهذا الحق بأن ينشأ عن سبب شرعي مع‬
‫ذكـر السـباب الشرعيـة للتملك ‪ -412‬تحديـد السـلم وسـائل تنميـة المال وتثميره‪ ،‬كمـا بيـن‬
‫الحقوق في هذا المال وواجب أدائها ‪ -413‬ضرورة العتدال في النفاق وعلى المباحات فقط‬
‫‪ -414‬جواز نزع الملكية الخاصة عند الضرورة مع التعويض العادل على صاحب الملك‪.‬‬

‫الفرع الثالث‬
‫حق الرث‬
‫‪ -417 -415‬إقرار ال سلم حق الرث على أ ساس من الفطرة والعدل واحترام إرادة المالك‬
‫‪ -418‬مبدأ الرث يد فع إلى المز يد من بذل النشاط ويح قق الضمان الجتما عي دا خل ال سرة‬
‫‪ -419‬الميراث يفتت الثروات ويمنع تكدسها ‪ -420‬مبدأ الرث في السلم روعي فيه القرابة‬
‫والحاجة‪.‬‬

‫المطلب الثالث‬
‫بيت المال‪ :‬موارده ومصارفه‬
‫الفرع الول‪ :‬موارد بيت المال‬
‫‪ -422 -421‬تمهيد ويتضمن تنظيم عمر بن الخطاب رضي ال عنه لجباية الموال وانفاقها‪،‬‬
‫وبيان موارد بيـت المال ‪ -433 -423‬الزكاة وأدلة وجوبهـا وأنصـبتها حسـب الموال‬
‫والحيوانات والزروع والمعادن وعروض التجارة والذهـب والفضـة ‪ -437 -434‬الجزيـة‪:‬‬
‫تعريفهـا وأدلة ثبوتهـا وشروط وجوبهـا ومقدارهـا وسـقوطها ‪ -441 -438‬الخراج‪ ،‬تعريفـه‬
‫ونوعيه وما ينظر إليه عند تقديره‪ ،‬وما يعمل بالرض إذا عجز صاحبها عن استغللها ‪-442‬‬
‫‪ -443‬العشور تعريف ها وشروط وجوب ها ‪ -447 -444‬الغنائم‪ ،‬تعريف ها وأ صنافها وآراء‬

‫‪368‬‬
‫الفقهاء في ق سمة هذه ال صناف ‪ -448‬الف يء‪ ،‬تعري فه و سبب ت سميته ودليله الشر عي ‪-449‬‬
‫الموارد الخرى لبيت المال‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫مصارف بيت المال‬
‫‪ -450‬أولً‪ :‬الزكاة وت صرف للنواع التي حددت ها ال ية الكري مة ‪ -451‬ثانيا‪ :‬زكاة المعادن‬
‫وخ مس الركاز‪ ،‬وت صرف في م صرف الزكاة ‪ -452‬ثالثا‪ :‬الغني مة وي صرف خم سها لب يت‬
‫المال ويع طي للنواع ال تي ذكرت ها آ ية النفال ‪ -453‬رابعا‪ :‬الف يء ويق سم ح سب آ ية سورة‬
‫الحشر‪ ،‬وأن عموم المسلمين لهم نصيب من مال الفيء ويقدم ذو الحاجات على غيرهم‪.‬‬

‫المبحث السابع‬
‫نظام الجهاد‬
‫‪ -454‬الجهاد لغـة وشرعا ‪ -455‬أنواع الجهاد باللسـان والمال والنفـس ‪ -456‬الجهاد بالنفـس‬
‫فرض كفا ية في الحوال العاد ية‪ ،‬وي صير فرض ع ين إذا اح تل الكفار بلدا من بلد الم سلمين‬
‫‪ -457‬وجوب اعداد القوة اللزمـة ماديـة كانـت أو معنويـة ‪ -458‬ضرورة الجهاد لبقاء أمـة‬
‫المسـلمين ‪ -459‬المرابطـة أفضـل مـن المجاورة ‪ -460‬ترك الجهاد سـبب للمذلة والهوان‬
‫‪ -461‬الجهاد هل هو دفا عي أم هجومي؟ مع ذكر أهم أسبابه في السلم ‪ -462‬البدء بقتال‬
‫المشركين لمصلحة عمومهم ‪ -463‬المسلم في جهاد دائم‪.‬‬

‫المبحث الثامن‬
‫نظام الجريمة والعقوبة‬
‫‪ -464‬تمهيـد ويتضمـن بيان عالميـة القانون الجزائي السـلمي وإرادة الشارع تطـبيقه على‬
‫الناس كافـة وبشكـل خاص فـي دار السـلم مـع اختلفات يسـيرة للفقهاء حول بعـض الحكام‬
‫وهل تطبق على الذمي والمستأمن أم ل؟‬

‫الفرع الول‬
‫الجريمة‬
‫‪ -465‬تعر يف الجري مة والمور التي ي جب أن تتو فر فيها لعتبار ها جري مة في ال صطلح‬
‫الفقهـي ‪ -466‬أسـاس اعتبار الفعـل أو الترك جريمـة هـو مـا فيـه مـن ضرر محقـق للفرد‬
‫‪ -468‬جرائم الحدود‬ ‫وللجما عة ‪ -467‬أنواع الجرائم وتق سيم الفقهاء ل ها إلى ثل ثة أنواع‬
‫‪ -469‬جرائم القصاص ‪ -470‬جرائم التعزير‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫الفرع الثاني‬
‫العقوبة‬
‫‪ -471‬تمه يد‪ :‬ال صل في الجزاء هو جزاء الخرة‪ ،‬ل كن مقتضيات الحياة وضرورة تنظ يم‬
‫المجتمـع دعـت الى أن يكون مـع الجزاء الخروي جزاء دنيويا‪ ،‬والعقاب الدنيوي ل يمنـع‬
‫‪-473‬‬ ‫الخروي إل إذا اقترن بالتو بة الن صوح ‪ -472‬تشر يع العقاب من رح مة ال بعباده‬
‫وجوب الحزم في إقامة العقوبات الشرعية ‪ -474‬وجوب المساواة في إقامة العقوبات الشرعية‬
‫‪ -476‬أنواع العقو بة‬ ‫وحر مة تعطيل ها ‪ -475‬ابتناء العقوبات الشرع ية على العدل والردع‬
‫‪ -477‬الحدود ‪ -478‬عقوبة الزنى ‪ -479‬عقوبة اللواط ‪ -480‬القذف ‪ -481‬اللعان ‪-482‬‬
‫عقوبة الخمر ‪ -483‬عقوبة السرقة ‪ -484‬عقوبة قطع الطريق ‪ -485‬عقوبة المرتد ‪-486‬‬
‫عقو بة الب غي ‪ -487‬الق صاص والديات ‪ -488‬الكفارة ‪ -489‬التعز ير ‪ -490‬الد ية ‪-491‬‬
‫أنواع التعزير ‪ -492‬أكثر التعزير ‪ -493‬هل يجوز التعزير بالقتل؟ ‪ -494‬اعتراضات على‬
‫الحدود ودفعها ‪ -495‬رد قولهم‪ :‬إن الجلد فيه إهدار لدمية الشخص ‪ -496‬رد دعواهم أن‬
‫هذه العقوبات تتض من التد خل في الحر ية الشخ صية ‪ -497‬رد دعوا هم ق سوة ب عض ب عض‬
‫العقوبات ‪ -498‬رد دعواهم أن عقوبة الردة تعد تدخلً في حرية العقيدة ومصادرة لها ‪-499‬‬
‫العقوبة في جريمة القتل حق لولياء القتيل‪ ،‬وللمجتمع حق في هذه العقوبة ‪ -500‬اعتراضهم‬
‫على تحميل الدية لغير الجاني وجوابه ‪ -501‬الخلصة في نظام الجريمة والعقوبة‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫مقاصد السلم‬
‫‪ -502‬تحق يق م صالح العباد في العا جل وال جل ‪ -503‬أنواع م صالح العباد ‪ -504‬معيار‬
‫المصـلحة والمفسـدة ‪ -505‬عجـز النسـان عـن إدراك المصـلحة والمفسـدة ‪ -506‬مصـلحة‬
‫النسان الحقيقية في اتباع ما أنزل ال ‪ -507‬مصالح الدنيا معتبرة بمصالح الخرة‪.‬‬

‫الباب الثاني‬
‫عدة الداعي‬
‫‪ -508‬تمهيد ويتضمن تقسيم الباب الى ثلثة فصول‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫التعريف بالداعي‬

‫‪370‬‬
‫‪ -509‬الداعي الول محمد صلى ال عليه وسلم ‪ -510‬الدعوة الى ال وظيفة رسل ال ‪-511‬‬
‫المة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة الى ال ‪ -512‬من هو المكلف بالدعوة الى ال ‪-513‬‬
‫ـة ‪ -514‬شبهات‬
‫ـورة جماعيـ‬
‫ـد تؤدي بصـ‬
‫ـة‪ ،‬وقـ‬
‫ـورة فرديـ‬
‫ـد تؤدي بصـ‬
‫الدعوة الى ال قـ‬
‫واعتراضات ‪ -515‬بيان مع نى ال ية‪ { :‬يا أيها الذ ين آمنوا عليكم أنف سكم ل يضر كم من ضل‬
‫إذا اهتديتـم} ‪ -516‬شبهـة انتشار الباطـل فـي الرض وعدم جدوى الدعوة الى ال‪ ،‬وجوابهـا‬
‫‪ -517‬شبهـة أخرى حول فهـم اليـة‪{ :‬ل يكلف ال نفسـا إل وسـعها} وجوابهـا ‪ -518‬تعليـل‬
‫تكل يف الم سلم بالدعوة الى ال ‪ -519‬الدعوة الى ال بقدر حال الدا عي وقدر ته ‪ -520‬الدا عي‬
‫يدعو الى ال في كل وقت‪ ،‬وفي جميع أحواله وظروفه ‪ -521‬المطلوب من الداعي أن يدعو‬
‫الى ال‪ ،‬ول يس المطلوب م نه أن ي ستجيب الناس ‪ -522‬ال ستمرار في الدعوة الى ال وإن لم‬
‫يستجب أحد ‪ -523‬أجر الداعي على ال ل على العباد ‪ -524‬مكانة الداعي في السلم‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫عدة الداعي‬
‫‪ -525‬تمهيد ويتضمن تقسيم الفصل الى ثلثة مباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الفهم الدقيق‬
‫‪ -526‬العلم قبل العمل ‪ -527‬فضل العلم ‪ -528‬الفهم الدقيق ‪ -529‬الفهم الدقيق يقوم على‬
‫تدبر معاني القرآن ‪ -530‬أركان الفهم الدقيق ‪ -531‬معرفة الداعي غايته في الحياة ومركزه‬
‫بين الناس ‪ -532‬التجافي عن دار الغرور والتعلق بالخرة‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫اليمان العميق‬
‫‪ -533‬حقي قة اليمان العم يق ‪ -534‬ضرورة هذا اليمان للدا عي المسلم ‪ -535‬ثمرات هذا‬
‫اليمان ولوازمه ‪ -536‬المحبة ‪ -538 -537‬لوازم محبة العبد لربه ‪ -539‬الخوف ‪-540‬‬
‫الرجاء‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫التصال الوثيق‬
‫‪ -541‬معناه وآثاره ‪ -542‬حالة الداعي المسلم في توكله على ال ‪ -543‬استحضار الداعي‬
‫أن الخلق ل يملكون لنف سهم ول لغير هم نفعا ول ضرا ‪ -544‬ل يجوز للدا عي أن يحدد ل‬

‫‪371‬‬
‫وقتا لنزال نصره ‪ -545‬على الداعي أن يتيقن نصر ال له ‪ -546‬اتصال الداعي بربه يهون‬
‫عليه الصعاب‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫أخلق الداعي‬
‫‪ -547‬أخلق الدا عي هي أخلق ال سلم ‪ -548‬ال صدق وحقيق ته ‪ -549‬ظهور أ ثر ال صدق‬
‫في وجه وصوت الداعي ‪ -550‬الصبر من فروض السلم ‪ -551‬معنى الصبر لغة وشرعا‬
‫‪ -552‬ال صبر بال ول ‪ -553‬حا جة الن سان إلى ال صبر ‪ -554‬ال صبر أ شد ضرورة للم سلم‬
‫‪ -555‬ضرورة الصـبر إلى المسـلم ‪ -556‬البتلء ل بـد منـه ‪ -557‬ابتلء الدعاة إلى ال‬
‫‪ -558‬ا ستدعاء البلء ودف عه ‪ -559‬خل صة القول في ا ستدعاء البلء ودف عه ‪ -560‬الرح مة‬
‫‪ -561‬الرح مة من أخلق الم صطفى وأم ته ‪ -562‬ضرورة الرح مة للدا عي ‪ -563‬الرح مة‬
‫تهون على الدا عي ما يلقاه من الجهلء ‪ -564‬الرح مة تث مر الع فو وال صفح ‪ -565‬الفظا ظة‬
‫تؤدي الى انفضاض الناس ‪ -566‬الت كبر حما قة وج هل ‪ -567‬جزاء المت كبرين ‪ -568‬الن هي‬
‫عن الكبر ‪ -569‬حقيقة الكبر ‪ -570‬سبب الكبر ‪ -571‬علج الكبر ‪ -572‬التواضع ‪-573‬‬
‫حا جة الدا عي الى التوا ضع ‪ -574‬من التوا ضع طا عة من أ مر الشرع بطاع ته ‪ -575‬أيه ما‬
‫أف ضل المخال طة أم العزلة؟ ‪ -576‬المخال طة ل بد من ها ‪ -577‬المخال طة واج بة على الدا عي‬
‫‪ -578‬حدود المخالطـة الواجبـة ‪ -579‬الحـب فـي ال والبغـض فـي ال ‪ -580‬المختارون‬
‫لصحبة الداعي ‪ -582 -581‬سلوك الداعي مع من يصاحب ومن ل يصاحب ‪-585 -583‬‬
‫عزلة الداعي وأنواعها‪.‬‬

‫الباب الثالث‬
‫المدعو‬
‫‪ -586‬تمهيد ويتضمن تقسيم الباب إلى فصلين‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫التعريف بالمدعو وماله وما عليه‬
‫‪ -587‬من هو المد عو ‪ -588‬الدعوة الى ال عا مة إلى جم يع الب شر ‪ -589‬حقوق المد عو‬
‫‪ -590‬لماذا كان المدعو يؤتى ويدعى ‪ -591‬على الداعي المسلم القتداء برسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ -592‬ل يستهان بأي انسان ‪ -594 -593‬واجبات المدعو‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫‪372‬‬
‫أصناف المدعوين‬
‫‪ -595‬تمه يد ويتض من تق سيم المدعو ين إلى أرب عة أ صناف‪ ،‬وإفراد كل صنف بمب حث على‬
‫حدة‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫المل‬
‫‪ -596‬تعريف المل ‪ -597‬المل والدعوة الى ال ‪ -598‬أسباب عداوة المل للدعوة الى ال‬
‫‪ -599‬أولً‪ :‬الكبر ‪ -600‬اليات الدالة على ذلك ‪ -601‬ثانيا‪ :‬حب الرئاسة والجاه واليات‬
‫‪ -603‬المل هم المل في كل‬ ‫الدالة على ذلك ‪ -602‬ثالثا‪ :‬الجهالة واليات الدالة على ذلك‬
‫مكان وزمان‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫جمهور الناس‬
‫‪ -604‬تعريف جمهور الناس ‪ -605‬الجمهور أسرع من غيرهم إلى الستجابة ‪ -606‬تعليل‬
‫سرعة استجابة الجمهور للحق ‪ -607‬احتمال تأثر الجمهور بالمل ‪ -608‬لماذا يتأثر الجمهور‬
‫بالمل ‪ -609‬الخوف ‪ -610‬الغراء بالمال وحطام الدنيا ‪ -611‬الشبهات‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫المنافقون‬
‫‪ -612‬تعريف المنافق ‪ -613‬أين يوجد المنافق ‪ -614‬أساس المنافق ‪ -615‬المنافق أسوأ من‬
‫‪-618‬‬ ‫‪ -617‬علمات المنافـق تعرف مـن الكتاب والسـنة‬ ‫الكافـر ‪ -616‬علمات النفاق‬
‫علمات المنا فق و صفاته أولً‪ :‬مرض القلب ‪ -619‬ثانيا‪ :‬الف ساد في الرض ‪ -620‬ثالثا‪:‬‬
‫رمي هم المؤمن ين بال سفه ‪ -621‬رابعا‪ :‬اللدد في الخ صومة ‪ -622‬خام سا‪ :‬موالة الكافر ين‬
‫‪ -624‬سـابعا‪ :‬التحاكـم إلى‬ ‫والتربـص بالمسـلمين ‪ -623‬سـادسا‪ :‬الخداع والرياء والتكاسـل‬
‫الطاغوت ‪ -625‬ثامنا‪ :‬الف ساد ب ين المؤمن ين ‪ -626‬تا سعا‪ :‬الكذب والخوف وكره الم سلمين‬
‫‪ -627‬عاشرا‪ :‬السخط لحظ النفس ‪ -628‬حادي عشر‪ :‬المر بالمنكر والنهي عن المعروف‬
‫‪ -629‬ثاني عشر‪ :‬الغدر وعدم الوفاء بالعهد ‪ -630‬ثالث عشر‪ :‬عيبهم المؤمنين والسخرية‬
‫ب هم ‪ -631‬را بع ع شر‪ :‬توا صيهم بترك الجهاد ‪ -632‬خا مس ع شر‪ :‬الضرار بالمؤمن ين‬
‫وتسترهم بفعل ظاهره مشروع‪.‬‬

‫المبحث الرابع‬

‫‪373‬‬
‫العصاة‬
‫‪ -633‬تعريفهم ‪ -634‬المسلم غير معصوم من المعصية ‪ -635‬أسباب العصيان ‪ -636‬جهاد‬
‫العاصي ‪ -637‬الوقاية من المعاصي ‪ -638‬موقف الداعي من العصاة‪.‬‬

‫الباب الرابع‬
‫أساليب الدعوة ووسائلها‬
‫‪ -639‬تمهيد ويتضمن تقسيم الباب إلى ثلثة فصول‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫مصادر أساليب الدعوة ووسائلها‬
‫ومدى الحاجة إليها‬
‫‪ -640‬تعداد الم صادر ‪ -641‬أولً‪ :‬القرآن الكر يم ‪ -642‬ثانيا‪ :‬ال سنة النبو ية ‪ -643‬ثالثا‪:‬‬
‫‪ -645‬خامسـا‪ :‬التجارب ‪-646‬‬ ‫سـيرة السـلف الصـالح ‪ -644‬رابعا‪ :‬اسـتنباطات الفقهاء‬
‫ضرورة ال ستمساك بالن هج الصحيح في الو سائل وال ساليب ‪ -647‬نتائج الخروج عن الن هج‬
‫الصحيح ‪ -648‬صعوبة اللتزام بالنهج الصحيح ‪ -649‬تيسير اللتزام بالنهج الصحيح‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫أساليب الدعوة‬
‫‪ -650‬تمهيد ويتضمن تقسيم الفصل إلى أربعة مباحث‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الداء والدواء‬
‫‪ -651‬تحد يد أ صل الداء والدواء ‪ -652‬أ صل داء الب شر وأ صل دوائ هم ‪ -653‬التأك يد على‬
‫معانـي العقيدة السـلمية ‪ -654‬اعتراض ودفعـه ‪ -655‬ابتعاد الداعـي عـن النهـج الصـحيح‬
‫‪ -656‬الكليات ل الجزئيات‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫إزالة الشبهات‬
‫‪ -657‬ماهية الشبهات ‪ -658‬مصدر الشبهات ‪ -659‬ل خلص من الشبهات ول تبديل فيها‬
‫‪ -660‬أنواع الشبهات ‪ -661‬مو قف الدا عي من الشبهات ‪ -662‬أمثلة على شبهات أ هل‬
‫البا طل والرد علي ها‪ ،‬أولً‪ :‬الط عن بالدعاة ‪ -663‬ثانيا‪ :‬الف ساد في الرض وطلب الرئا سة‬

‫‪374‬‬
‫‪ -665‬رابعا‪ :‬الدا عي ر جل مغمور ‪-666‬‬ ‫‪ -664‬ثالثا‪ :‬رمي هم الدعاة بالت صال المشبوه‬
‫خامسا‪ :‬أتباع الداعي أناس مغمورون ‪ -667‬شبهات أهل الباطل يجمعها جامع الطعن بالداعي‬
‫والدعوة ‪ -668‬ابتعاد الدا عي عن الشبهات ‪ -669‬الدعاة بحا جة إلى البتعاد عن كث ير من‬
‫المباح حتى ل يكون مثارا للشبهة ضدهم‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الترغيب والترهيب‬
‫‪ -670‬معناه ما وأهميته ما ‪ -671‬بم يكون الترغ يب والتره يب ‪ -672‬ال صل فيه ما يكون‬
‫بالجزاء فـي الخرة‪ ،‬ويجوز أن يكون بمـا يصـيب المدعويـن فـي الدنيـا ‪ -673‬مـن أسـاليب‬
‫الترغ يب والتره يب ‪ -674‬من لوازم الترغ يب والتره يب ‪ -675‬التحذ ير من الدن يا و من‬
‫إيثارها على الخرة‪.‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫التربية والتعليم‬
‫‪ -676‬ضرورة التعليم ‪ -677‬الدليل على ذلك من السنة النبوية ‪ -678‬حرص الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم على تعليم الناس ‪ -679‬التربية مع التعليم ‪ -680‬ضرورة التربية على معاني‬
‫السـلم ‪ -681‬مـن معالم التربيـة ‪ -682‬مـن وسـائل التربيـة‪ :‬التصـال بكتاب ال ‪-683‬‬
‫التصال بالسيرة النبوية الكريمة‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫وسائل الدعوة‬
‫‪ -684‬تمهيد ويتضمن المقصود من الوسائل وتقسيم الفصل إلى مبحثين‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫الوسائل الخارجية للدعوة‬
‫‪ -685‬أساسها وتقسيمها إلى ثلثة فروع‪.‬‬

‫الفرع الول‬
‫الحذر‬
‫‪ -689 -688‬دل يل مشروع ية الحذر من‬ ‫‪ -686‬معناه ‪ -687‬الحذر ممدوح غ ير مذموم‬
‫القرآن الكريم ‪ -692 -690‬دليل مشروعية الحذر من السنة النبوية ‪ -693‬الحاجة إلى الحذر‬

‫‪375‬‬
‫‪ -694‬الحذر والتوكل على ال ‪ -695‬أنواع الحذر ‪ -696‬الحذر من المعاصي ‪ -697‬الحذر‬
‫من ال هل والولد ‪ -698‬الحذر من اتباع الهوى ‪ -699‬الحذر من المنافق ين والكفار ‪-700‬‬
‫وسائل الحذر ‪ -701‬البدء بمكاشفة الموثوقين بالدعوة ‪ -702‬التخفي والستتار ‪ -703‬اعتزال‬
‫القوم والختفاء عنهم ‪ -704‬الخروج إلى المحل المين ‪ -705‬عدم إظهار المسلم إسلمه إذا‬
‫كان فيه تنكيل الكفرة به ‪ -706‬التفرق وعدم إظهار ما يلفت نظر الكفرة ‪ -707‬إخفاء الداعي‬
‫قصده وتفاصيل ما يريد‪.‬‬

‫الفرع الثاني‬
‫الستعانة بالغير‬
‫‪ -708‬الستعانة بأهل الخير والكفاءة ‪ -709‬الستعانة لغرض الحماية ‪ -710‬استعانة الداعي‬
‫بغ ير الم سلم ‪ -711‬جواز ال ستعانة بغ ير الم سلم لغرض حما ية الدا عي ‪ -712‬تعل يل جواز‬
‫الستعانة بغ ير المسلم ‪ -714 -713‬شروط قبول حما ية غير المسلم ‪ -715‬الستعانة بغ ير‬
‫المسلم في بعض المور ‪ -716‬ما يشترط لهذه الستعانة‪.‬‬

‫الفرع الثالث‬
‫النظام‬
‫‪ -717‬أهمية النظام ‪ -718‬حاجة الداعي إلى النظام ‪ -719‬حاجة الجماعة إلى النظام ‪-720‬‬
‫معالم النظام الجماعـي فـي الشريعـة السـلمية ‪ -721‬المقصـود مـن المارة ‪ -722‬ضرورة‬
‫الطاعة ‪ -723‬الطاعة والمشاورة ‪ -724‬يسع الفرد ما ل يسع الجماعة ‪ -725‬ليس كل مسلم‬
‫يصلح للعمل مع غيره ‪ -728 -726‬ما يجب على الرئيس من رفق وعطف وتشجيع لمن هم‬
‫تحت إمرته‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫وسائل تبليغ الدعوة‬
‫‪ -729‬تمهيد ويتضمن تقسيم المبحث إلى ثلثة فروع‪.‬‬
‫الفرع الول‪:‬التبل يغ بالقول‪ -730:‬أهم ية القول في التبل يغ ‪ -732 -731‬الضوا بط العا مة في‬
‫القول ‪ -738 -733‬الضوا بط العا مة للقائل ‪ -739‬أنواع القول ‪ -740‬الخط بة ‪ -741‬الدرس‬
‫‪ -742‬المحاضرة ‪ -743‬المناقشة والجدل ‪ -744‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪-745‬‬
‫‪ -749‬قواعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر (خمس قواعد) ‪ -750‬الكتابة‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫الفرع الثا ني‪:‬التبل يغ بالع مل‪ -751 :‬المق صود بالع مل ‪ -752‬ال صل في إزالة المن كر ‪-753‬‬
‫القواعد العامة في إزالة المنكر ‪ -758 -754‬ما يضاف إلى القواعد العامة‪.‬‬
‫الفرع الثالث‪:‬التبل يغ بال سيرة الح سنة‪ -761 -759 :‬أهم ية ال سيرة الح سنة وأثر ها في ك سب‬
‫النصـار للدعوة ‪ -762‬أصـول السـيرة الحسـنة ‪ -763‬الصـل الثانـي‪ :‬موافقـة العمـل للقول‬
‫‪ -765‬الخاتمة‪.‬‬

‫‪377‬‬

You might also like