Professional Documents
Culture Documents
قرأت مؤخرًا مقالة حديثة للدكتور سلمان العودة عنوانها (السلم والحركات)
نشرت في موقعه الشخصي وصحيفة عكاظ ومجلة العصر ،هذه المقالة لفتت
انتباهي كثيراً كثيراً ،ليس في مسارها فقد سبقها عدة مؤشرات ومواقف تدفع
بنفس الطريق ،ولكن شدني فيها حدة الوضوح في رسالتها الضمنية.
المقالة –قطعاً -ليست مقالة عابرة ،بل هي أشبه بمانفيستو سياسي في مسيرة
الدكتور سلمان السياسية ،ولكنه مانفيستو بالمقلوب طبعاً.
المقالة تمثل العلن النهائي لطلق النتساب للسلميين ،ووضع الذات بشكل
واضح ضمن منظومة النظم الرسمية.
صحيح أنه سبق هذه المقالة مقالت ومواقف وكلمات تدفع بنفس هذا التجاه ..
لكن هذه المقالة هي الوداع الخير فعلً ..
في هذه المقالة يتحدث العودة عن الحكومات العربية المعاصرة وأنها حكومات
مظلومة شوهها السلميون بينما هي في حقيقتها نظم عربية إسلمية متدينة،
ويغمز من قناة الحركات الدعوية والصلحية بأنهم طلب سلطة يفترون على
هذه النظم المظلومة.
وتأتي حدة التعبير الذي اختاره الدكتور سلمان للتعبير عن موقفه هذا عبر
اختياره لسوأ نظام عربي وهو النظام التونسي ،وألطف حركة إسلمية وهي
حزب التجاه السلمي ،فيصور النظام التونسي بكونه نظام متدين ،ويصور
حزب التجاه السلمي المعارض بأنه طالب سلطة يكذب على هذا النظام
ويعرضه في غير حقيقته.
فإذا كان هذا هو دفاع الدكتور العودة عن أسوأ نظام عربي فكيف سيكون
موقفه من نظام مبارك والسد الخ؟! وإذا كان هذا هو موقف الدكتور العودة
من الحركة السلمية في تونس فكيف سيكون موقفه من حركة الخوان في
مصر وبقية بلدان العالم العربي؟!
لم يترك الدكتور العودة لنا مهمة القياس والستنتاج ..بل صرح بتعميم النتيجة
على كافة الحكومات العربية ،وأن كافة الحكومات العربية هي نظم متدينة
حريصة على السلم ،لكن المشكلة أن الدعاة السلميين في هذه البلدان
طلب سلطة يثيرون القلقل ويعكرون على مسار الدعوة والخير.
حسناً ..لننتقل الن لنتذكر شيئاً من التراجيديا السلمية في تونس وكيف أعاد
عرضها العودة بصورة مغايرة ..يصور الستاذ الهاشمي الحامدي في كتابه
(أشواق الحرية) الضطهاد البوليسي الذي عاناه المتدينون منذ الستينات في
تونس ،وفرض التغريب المتطرف على نواحي الحياة الثقافية ،فيقول عن
الجامعة التونسية:
(الحقيقة أن معركة الوجود السلمي في الجامعة التونسية كانت ملحمة بكل
معاني الكلمة)
ثم يروي الستاذ الهاشمي الحامدي (التونسي!) بعض تفاصيل تلك الملحمة
التي تستهدف وجود السلم ذاته فيقول في كتابه آنف الذكر:
(لم يأل محمد السعدي وزير التربية آنذاك جهداً ليجعلها فرعاً من جامعة
السوربون الباريسية ،وكانت كل شعب التعليم العالي تدرس باللغة الفرنسية
ماعدا شعبة اللغة والداب العربية بكلية الداب والدراسات السلمية بكلية
الشريعة وأصول الدين.
كل شئ كان علمانياً لئكياً في هذه الجامعة أول المر :البرامج والمناهج
والساتذة والمناخ العام ،وكان ذلك يجعل بينها وبين محيطها الجتماعي
والثقافي قطيعة بائنة ،..وهوجم التاريخ السلمي لتونس إلى درجة محزنة في
أقسام التاريخ ،واستبدل مفهوم الفتح السلمي بمصطلح الغزو العربي بكل
استتباعات المصطلح.
وحسمت برامج الفلسفة حسماً باتا في كل ماله علقة بال ،وتفرغت لبحث
النظريات الفلسفية الغربية المرتكزة كلها على الفكرة المادية ،واجتهد قسم علم
الجتماع في تجريب كل المدارس الجتماعية الغربية على الواقع التونسي
والعربي.
أما المتخصص في اللغة والداب العربية فقد كان عليه أن يعتمد على مراجع
كثيرة أساسية بالفرنسية ،وأن يجتاز امتحانات مشددة في آراء طائفة من
التافهين المنسوبين إلى الداب قديما وحديثا ،في حين حوصر كل الدباء
السلميين القدامى والمعاصرين.
همشت مادة التشريع السلمي في كلية القانون واعتمد القانون الغربي مرجعا
أساسيا ،وفي العلوم القتصادية اصبحت النظرية الماركسية هي الحل السحري
لكل مشاكل العالم الحديث ،أما طلب العلوم فقد قطعتهم برامجهم عن الهموم
الخرى أو حاولت ذلك ،وربما حاول بعض القائمين عليها عرض المعطيات
العلمية الجديدة باعتبارها الضربة القاضية للفكر الديني.
وفي مطلع الستينات تفاعلت هذه البرامج مع غلبة الوجود الدستوري في
صفوف الطلب .لكن الدستوريين تركوا مكانهم للتيار الكثر علمانية والكثر
وضوحا في إعلن ماديته تلك والدفاع عنها ،وكانت الماركسية اللينينية هي
شعار التيار الجديد.
وحارب الماركسيون كل العقائد الدينية بلهوادة ،واعتبروا التاريخ السلمي
لتونس حقبة منتهية عديمة الهمية في رسم مستقبل البلد ،وكانوا يطالبون
باالمضي قدما في علمنة كل برامج التعليم ،ويخطبون بالفرنسية في
الجتماعات الطلبية ،ويفطرون في شهر رمضان ،ويحاربون أي نفس
إسلمي في الوسط الطلبي.
ولم يدم هذا الوضع طويل وتفجر الصراع داميا مع التجاه السلمي منذ 26
ديسمبر 1977م معبراً عن حدة التناقض بين المشروعين.
ركز السلميون في البداية على وصل ما انقطع بين الطلب وبين الفكرة
السلمية؛ فطالبوا وأفلحوا في إيجاد مساجد باغلب الكليات والحياء الجامعية.
عندما ارتفع الذان للسنوات الولى بالحي الجامعي بباردو كان بعض الطلب
اليساريين يحتجون ،وحاول بعضهم ضرب المؤذن لصلة الفجر بإلقاء حجر
عليه من أعلى طابق بالحي ،لكن المسيرة انطلقت بتوفيق من ال إلى أهدافها.
ولول مرة في تاريخ الحركة السلمية التونسية تناولت الكلمة طالبة محجبة
شرحت ضرورة الدفاع عن الهوية السلمية للشعب مؤكدة أن السلم هو
سبيل الشعوب السلمية لتحقيق التحرر الشامل من كل ألوان التبعية
والغتراب.
إن لحديث الفتاة المحجبة المثقفة أهمية خاصة في تونس حيث قرنت التجربة
العلمانية بين تحرير المرأة ونزع الحجاب) [أشواق الحرية ،محمد الهاشمي
الحامدي ،دار القلم ،الطبعة الثانية 1990م ،ص ]143-141
طبعاً مثل هذه الشهادات تحمل معاني غزيرة جداً ،لكن لنسجل هاهنا نقطتين
هامتين:
أولهما :الوحشية التغريبية التي فرضها النظام ثقافياً وفقهياً وسياسياً.
وثانيهما :المقاومة الدينية من جهة دعاة السلم وقدرتهم على إستبقاء بعض
مظاهر التدين بعدم الستسلم.
ومن أعظم حالت الضطهاد الديني ذلك القانون الذي صدر عام 1981م برقم
( )108والذي اعتبر الحجاب (زي طائفي) وبالتالي تم منعه في المؤسسات
الرسمية كالجامعات والمعاهد ،وهذا القانون قانون شهير يشير له الناشطون
الحقوقيون كثيرًا في المؤتمرات الغربية ،وقد قرأت الشارة إليه كثيراً.
وقد كان الحسم في تطبيق هذا القانون يتفاوت شدة وتساهلً ،وكانت الفتيات
المتدينات يقاومن بضراوة ،وفي عام 2006م بلغ العسف والتطرف السياسي
التونسي مبلغاً شنيعاً في تطبيق هذا القانون ،وابتليت المتدينات بلءً شديداً،
حتى أن الشيخ الفقيه المعروف يوسف القرضاوي –رافع لواء فقه التيسير-
وقف في خطبة عصماء يوم الجمعة 12شوال 1427هـ في جامع عمر بن
الخطاب بالدوحة وأعلنها صريحة:
(إن الحرب التي يشعلها النظام التونسي ليست ضد الحجاب فقط؛ وإنما ضد ال
ورسوله! يعتبر النظام التونسي ارتداء الحجاب جريمة يعاقب عليها القانون،
إنهم ل يسمحون للتلميذات ول للطالبات المحجبات في الجامعات) [الخطبة
موجودة كمادة صوتية وكملخص بموقع إسلم أون لين] .
أما صلة الجمعة في تونس فهي معاناة أخرى ،بسبب أن العطلة الرسمية هي
يوم الحد ،ويوم الجمعة يوم عمل ،وحين كثر تذمر الناس من حرمانهم
والتضييق عليهم في صلة الجمعة ،لجأ النظام التونسي لستصدار فتوى من
بعض مشايخ النظام بجواز الجمع بين صلتي الجمعة والعصر!
وأما سجون النظام ومعتقلته المشهورة مثل سجن تونس ،وسجن برج
الرومي ،وسجن المهدية ،فحدث عن الشهادات التي كتبها السجناء في التضييق
عليهم في الصلوات اليومية ،وخصوصاً صلة الجماعة ،وتحديد مرات
الغتسال حتى لو كان الغسل لعذر شرعي ،فيبقى الشاب المسكين على جنابة
أياماً معدودة!
وقدمت منظمات حقوق النسان العالمية مئات التقارير التي شرحت أزمة
(التعذيب) في السجون التونسية.
هذه وقائع محدودة فقط لجزء من المعاناة السلمية التاريخية في تونس ،ثم
يأتينا الدكتور العودة اليوم –هداه ال -ويلمع الجلد ويكذب الضحية!
لنحاول أن نقرأ سويًا فقرات الدكتور العودة فقرة فقرة ،ونرى كيف استطاع
باحتراف لغوي جيد أن يصور النظم العلمانية العربية على أنها نظم متدينة
مظلومة ،وأن يصور دعاة الحركات السلمية على أنهم مجرد طلب سلطة،
وأن يغيب جذرياً أزمة النظم العلمانية العربية مع الشريعة ذاتها.
كم هو مؤلم أن يدلس الدكتور العودة على تلك الحرب الشعواء التي يقودها
النظام ضد التدين ،ثم يحتمي باحتراز فيه تذاكي مكشوف حيث يعتبر أن هذا قد
يكون حدث في صورة حوادث فردية وليست سياسة منظمة!
مكمن الخطورة أن الدكتور العودة نسب مظاهر التدين إلى رحابة النظام وليس
إلى جهود الدعاة!
فبدلً من أن يقول العودة بأنه :برغم سياسات التغريب وسلخ الهوية الوحشية
إل أن الدعاة وعامة الناس قاوموا حتى فرضوا كثيراً من مظاهر التدين ،يأتي
العودة ويقول ليس صحيحاً أن النظام نظام لديني بل هو نظام ديني يتيح
الحجاب في كل مكان!!
هذا كمن ذهب إلى تركيا وقال ليس صحيحاً أن أتاتورك أو الجيش علماني ،بل
الفتيات هناك يتحجبن والمساجد ممتلئة بالمصلين! فبدلً من أن ينسب مظاهر
التدين للدعاة وعموم المتدينين صار ينسبها للنظام الذي فشل في سحقها!
أو كمن جاء إلى الجزيرة العربية في عهد أبي بكر وقال ليس صحيحاً أن
قريش تناهض الموحدين؟! فبدلً من أن ينسب نجاح التوحيد إلى جهود
الموحدين صار ينسبه إلى قريش الذي سعت في طمسه.
وهكذا فمظاهر التدين التي بقيت في تونس إنما بقيت بتوفيق ال ثم بسبب جهود
الدعاة والمتدينين الذي يسعى العودة الن لتشويههم ،وليست بسبب النظام الذي
فشل في سحقها كلياً والذي يسعى العودة الن لتلميعه!
حين سمعت هذه العبارة أخذت أضحك كثيراً ..فإن أحق من ينصح بعدم الكلم
عن تونس كلمًا كلياً وهو ليس لديه إل حقيقة جزئية هو العودة ذاته ..فالعودة
زار تونس لمدة يومين في زيارة مرتبة سلفاً بين الفنادق الفارهة والشخصيات
الدبلوماسية الرفيعة ،وجاء ينتقد نزلء المعتقلت والمؤرخين والشهود
التونسيين ذاتهم بكونهم يعتمدون صورة جزئية لتكوين صورة كلية!
هذا يذكرني بشاب طريف ليحقر نفسه أبداً قرأ عرضاً ملخصاً عن كتاب
الموافقات للشاطبي فجاء ينصح أحد العلماء -الذين يدرس علم مقاصد الشريعة
منذ سنوات -بأن يتنبه لهذا العلم!
يعني صار الخلف فقط هل النظام العلماني التونسي كامل أم مقارب للكمال؟!
لنلحظ هاهنا كيف يصور العودة مشكلة النظم العربية الفاسدة بمهارة؟ إنه
يصور مشكلتها على أنها ليست مع السلم (أحكام الشريعة ،وحقوق الناس) ..
بل مشكلتها في جوهرها إنما هي مع الحركات السلمية التي تنافسها على
السلطة!
النظم العربية الفاسدة التي أقصت أحكام الشريعة وظلمت الناس في معايشهم
صارت مشكلتها ليست مع السلم وإنما مشكلتها مع المنافس السياسي فقط؟!
مايريد العودة هاهنا إيصاله هو دعوا النظم السياسية على حالها ..دع مال ل
ومالقيصر لقيصر.
هاهنا يؤكد العودة مرة أخرى أن النظم السياسية الفاسدة (التي أقصت أحكام
الشريعة وظلمت معايش الناس) ليست مشكلتها مع السلم ،وإنما مشكلتها مع
السلم السياسي فقط!
ثم يواصل العودة:
(ليس إِدّا من القول أن نصرح بأن السلم أكبر من الحركات وأبقى,
والحركات هي محاولة بشرية يعتريها الخطأ ,وتفتقر إلى التصحيح
والستدراك الدائم ,ومحاربة روح التعصب والصرار والمعان ،وقبول
المراجعة ،وتعاهد الناس بالتفريق بين التدين بالسلم الذي هو حق ال على
عباده؛ كما في محكمات الكتاب والسنة ،وبين رؤية ظرفية اجتهادية ,قد يحتشد
حولها جمع من الناس فيصيبون ويخطؤون.
السلم أكبر من الدول والحكومات و المؤسسات ،وكل أوعيته تذهب وتجيء
ويبقى السلم( ,إِنّا َنحْنُ نَ ّزلْنَا الذّكْرَ َوإِنّا َل ُه َلحَافِظُونَ) [الحجر.]9/
وللحديث أطراف ذات أهمية؛ سأستكمل عرضها في مناسبات قادمة بإذن ال).
في تقديري أن كل ما أشرت إليه سابقاً ليس بشئ بجانب فكرة خطيرة كانت
تسري في أوصال المقالة كلها ،وهي (المعيار الشكلي لشرعية الدولة) فالعودة
يقول أن الدولة مادام لها إذاعة قرآن وتسكت عن المحجبات ولديها مدرسة
دينية خاصة ملونة باللون الذي يحب ويختار ،وفي لغة خطابها السياسي
مفردات دينية ،فالحمد ل!
هكذا صار وصف السلمية والشرعية بكل بساطة! يعني حتى لو كانت الدولة
تقصي أحكام الشريعة وتبغي على الناس في معايشهم لكنها تعتني بهذه
الديكورات الدينية فلمبرر لمعارضتها سياسياً!
أحب فقط أن أشير هاهنا إلى موقف وجداني أدركني وأنا أقرأ كلم العودة في
مديح النظام السياسي التونسي وذم الحركة السلمية في تونس ،وال العظيم
أنني حين قرأت كلمه هذا وتذكرت ماكتبه المؤرخون عن الضطهاد
الجحيمي الذي عاناه السلميون في تونس أنه خنقتني العبرة وكدت أتمزق
مرارة ..وأخذت أردد لكم ال يا أغصان تونس ويافعيها الذين ذهبت أعماركم
في سجون ومعتقلت النظام ..لكم ال يافتيات تونس اللئي سححن دموع
الكبت على عتبات الجامعات والمعاهد ..وال إننا نعتذر لكم من كلم صاحبنا
العودة ،ووال إنه ليمثلنا ،بل نحن مع معاناتكم روحاً وفكراً وحديثاً ..ولن
يذهب ال جهودكم ومحنتكم سدى ..ومعاذ ال أن ننسب منجزاتكم الدعوية إلى
النظم العلمانية ..
بال عليك حاول أن تتذكر تلك الوضاع الجحيمية التي مر بها السلميون في
تونس على يدي جلوزة النظام ..وحاول أن تتذكر تلك الشهادات التي سجلها
الدعاة السلميون في تونس والتي لزالت تروى وتكتب إلى اليوم ..ثم اقرأ
كلم الدكتور العودة في تصوير المر على نقيض ماهو عليه ،وأخبرني إن
كنت تستطيع أن تحتفظ بدموعك ..
وحين يلحظ القارئ المحايد مستوى الحفاوة الدبلوماسية التي يقابل بها العودة
بين الحكومات العربية اليوم ،ومستوى الهتمام الذي توفره له شبكة ، MBC
ثم يقارنها بكلمه في العتذار للحكومات ،والثناء على الوليد البراهيم ،ولوم
الشعوب والتجاه السلمي؛ فليس من الصعوبة إدراك العلقة بين الحفاوة
الدبلوماسية ونمط الفكر الديني الجديد للدكتور سلمان وفقه ال.
وهناك مجموعة من النقاد السلفيين يخطؤون كثيرا حين يقولون "هناك تيار
ديني جديد يقوده القرضاوي والعودة" ..أنا شخصياً أتوتر وأنفعل حين أسمع
مثل هذا الربط ..مثل هذا الربط يتضمن إساءة كبيرة جداً للشيخ القرضاوي ..
فالقرضاوي وإن كان المرء يخالفه في عدد وافر من ترجيحاته الفقهية إل أنه
ليمكن بأي حال من الحوال إنزاله إلى مرتبة الدكتور العودة ..فالقرضاوي
يتفجر حمية وغيرة ..وفيه من الدفاع عن الخيار والصالحين في كل مكان
ماليعلمه إل ال ..وله في نقد النظم العربية الفاسدة المواقف المشهودة ..
والقرضاوي إذا أباح شيئاً تحمس له ،وإذا حرم شيئا تحمس له أيضاً ،فهو
غيور على المباح وعلى الحرام كلهما ..أما العودة فإنه إذا أباح شيئا سفّه من
يحرمه ،وإذا صرح بتحريم شئ مل عقل المستمع بما يوهن إرادته لمر ال
ورسوله من التعلل بالختلفات .
فالقرضاوي وإن خالفه الباحث في عدد من خياراته الفقهية إل أنه مثال للعالم
المجاهد المستقل عن النظم الفاسدة ..لكن العودة اختار طريقاً آخر –وهذا حقه
طبعاً -وهو أن يكون جزءاً من النظم الرسمية العربية.
فكم أتمنى مراعاة حرمة الشيخ القرضاوي وحفظ جهوده وصدعه بالحق في
مواقف كثيرة ،ومافيه من الحمية والغيرة ل ورسوله وللدعاة في كل مكان
بعدم ربطه بالعودة..
وحين قرأت لول مرة مقالة العودة هذه أعترف لكم أنني كنت أغلي ،وأنني لم
أستطع أن أمسك بأحاسيسي بتاتاً ،فموضوع (تلميع النظم الفاسدة ،والتجني
على السلميين) هو الموضوع الوحيد الذي لأستطيع فيه لملمة مشاعري
إطلقاً ..وحين حادثت أحد الصدقاء بالكارثة التي كتبها العودة قال لي
صاحبي هناك عدة تفسيرات مطروحة ..قلت له وماهي:
قال :ربما أن العودة يريد أن يكون "محايداً وغير منحاز" ..فقلت له :من
ليرى في النظم الفاسدة إل إذاعة القرآن والشكليات الدينية في البيانات
الرسمية ،بينما ليرى في الحركات السلمية إل أنهم طلب سلطة يعانون من
التعصب والصرار والمعان والتشنج في الجتهاديات ..فهذا وال قمة
النحياز .
فقال لي :ربما يريد أن يكون "إيجابياً" وهو دوماً يرفع شعار اليجابية ..فقلت
له :من يشتم الحركات السلمية بالجملة ويكذب الضحايا؛ فهذا علقته
باليجابية كعلقة الليبراليين باحترام الرأي الخر!
فقال لي صاحبي :إذن أنت جامي تنتقد الدعاة ونحن أمام جامية جديدة ..فقلت
له هذا صحيح نحن أمام جامية جديدة لكنها جامية زين العابدين بن علي
ومبارك والسد! جامية الفنادق الفارهة وردهات الدبلوماسيين ..ياسيدي ..
أحق الناس بوصف الجامية من يلمع النظم الفاسدة ويتجنى على السلميين..
على أية حال ..الحديث يطول حول هذا الموضوع ..وكل الذي أردت
الوصول إليه أن الدكتور العودة تحول كلياً من منهج (الصلح السلمي
للحكومات) إلى منهج (الصلح الحكومي للسلم) ..
تحول العودة من طريق الضغط على الحكومات العربية للحكم بالشريعة في
كل مجالت الحياة السياسية والقتصادية والجتماعية والعلمية ..إلى
طريق إنتاج نمط مدجن من التدين يتناسب مع مصالح اللعبين الكبار ..أو
كما يقول العودة بلغته الدبلوماسية (باعتماد مدرسة إسلمية قد تكون ملونة
باللون الذي يحب ويختار ،ولكنها تستجيب لحاجة التدين في النفوس) ..هكذا
بكل وضوح حتى يصير الدين ألعوبة في أيدي الملوك يصيغ منه كل منهم
اللون الذي يحب ويختار! ليصبح عندنا إسلمات بعدد الحكام العرب فإسلم
لزين العابدين بن علي ..وإسلم لنظام حسني مبارك ..وإسلم لنظام الملكيات
الخليجية ..ولعزاء للحركات السلمية طالبة السلطة والمتشنجة في
الجتهاديات ..
إنه نمط مدجن من التدين يدع مال ل ومالقيصر لقيصر ..إسلم أليف ليؤذي
مشاعر الحكام العرب ..إسلم ليتم اعتماده عبر الكتاب والسنة بل عبر
جامعة الدول العربية ..
والجميع بات يعرف اليوم أن ثمة سياسيين كبار يرقبون مسيرة العودة ..مرة
عن بعد ..ومرة بالثناء المعسول والتظاهر بالدهشة من عبقرية كلم العودة ..
ومرة بالدعم غير المباشر ..ومرات أخرى بالوسائل السياسية الخاصة التي
يجهلها البسطاء أمثالنا ..
ومع ذلك سيظل آخر انحراف يمكن أن يتقبله النسان السوي هو (تلميع النظم
الفاسدة ،والتجني على السلميين) ..
ابوعمر
نجد الخير 28ربيع الثاني 1430هـ