You are on page 1of 282

‫تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬

‫(اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت)‬

‫الكتاب ‪ :‬الفِقْ ُه السلميّ وأدلّتُهُ‬


‫الشّامل للدلّة الشّرعيّة والراء المذهبيّة وأهمّ النّظريّات الفقهيّة وتحقيق الحاديث‬
‫النّبويّة وتخريجها‬
‫المؤلف ‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬وَهْبَة الزّحَيِْليّ‬
‫ي وأصوله‬
‫أستاذ ورئيس قسم الفقه السلم ّ‬
‫بجامعة دمشق ‪ -‬كلّيّة الشّريعة‬
‫الناشر ‪ :‬دار الفكر ‪ -‬سوريّة ‪ -‬دمشق‬
‫الطبعة ‪ :‬الطّبعة الرّابعة المنقّحة المعدّلة بالنّسبة لما سبقها‪ ،‬وهي الطّبعة الثّانية‬
‫عشرة لما تقدّمها من طبعات مصوّرة؛ لنّ الدّار النّاشرة دار الفكر بدمشق لتعتبر‬
‫التّصوير وحده مسوّغا لتعدّد الطّبعات مالم يكن هناك إضافات ملموسة‪.‬‬
‫عدد الجزاء ‪10 :‬‬
‫ـ الكتاب مقابل على المطبوع ومرقّم آليّا ترقيما غير موافق للمطبوع‪.‬‬
‫ـ مذيّل بالحواشي دون نقصان‪.‬‬
‫نال شرف فهرسته وإعداده للشّاملة‪ :‬أبو أكرم الحلبيّ من أعضاء ملتقى أهل الحديث‬
‫ل تنسونا من دعوة في ظهر الغيب ‪...‬‬

‫وفي ذلك ضمان وثيق لحرية النسان والحفاظ على كرامته ومصالحه‪ ،‬وعدم استبداد أحد به‪ .‬أما‬
‫إعطاء سلطة التشريع والمر لحد من الناس فهو إشراك في ربوبية ال ‪ ،‬وطريق يؤدي إلى الستبداد‬
‫والطغيان والظلم والعسف وإهدار حرية النسان والضرار بمصالحه الخاصة التي ل تصطدم مع‬
‫المصالح العامة‪.‬‬
‫وقد تضافرت النصوص القرآنية الدالة على استقلل ال بهذه السلطة فيما شرع من أحكام‪ ،‬مثل قوله‬
‫تعالى‪{ :‬إنِ الحكم إلّ ل } [يوسف‪{ ]40/12:‬إنّ المر كله ل } [آل عمران‪{ ]154/3:‬فالحكم ل العلي‬
‫الكبير} [غافر‪{ ]12/40:‬وهو خير الحاكمين} [العراف‪{ ]87/7:‬وأنزلنا إليك الكتاب‪ ،‬بالحق مصدقا‬
‫لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه‪ ،‬فاحكم بينهم بما أنزل ال ‪ ،‬ول تتبع أهواءهم عما جاءك من‬
‫الحق} [المائدة‪{ ]48/5:‬ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الظالمون} [المائدة‪ ]45/5:‬أو {الكافرون}‬
‫[المائدة‪ ]44/5:‬أو {الفاسقون} [المائدة‪.]47/5:‬‬
‫المبحث الثاني ـ استخلف المة في تنفيذ الشريعة‬
‫الناس وكلء عن ال في تبليغ وتقرير وتنفيذ أحكامه‪ ،‬ورعاية تطبيقها‪ ،‬وفهم مدلولتها‪ ،‬عن طريق‬
‫سلطة الجتهاد فيما تدل عليه‪ ،‬أو تهدف إليه من غايات‪ ،‬أوتحد من حدود يلزم السير في نطاقها‪،‬‬
‫وتنظم الحياة في محورها‪ ،‬والتوكيل مفهوم من قوله تعالى‪{ :‬وإذ قال ربك للملئكة‪ :‬إني جاعل في‬
‫الرض خليفة} [البقرة‪ .]30/2:‬وإذا ورد النص القرآني دالً على استخلف بعض الرسل والنبياء‬
‫كأحسن مثال‪ ،‬فإن البشر أيضا من بعدهم هم خلفاء الرض‪{ :‬إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح}‬
‫[العراف‪{ ]69/7:‬ثم جعلناكم خلئف في الرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس‪]14/10:‬‬
‫{وهو الذي جعلكم خلئف الرض‪[ }...‬النعام‪.]165/6:‬‬
‫وما على الخليفة (‪ )1‬أو الوكيل إل أن ينفذ أوامر المستخلف له‪{ :‬إن ال يأمركم أن تؤدوا المانات‬
‫إلى أهلها‪ ،‬وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء‪{ ]58/4:‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال‬
‫وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم} [النساء‪.]59/4:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ليست الخلفة عن ال تعالى؛ لنه ليس في البشر شيء من صفات ال العظمى الذي استخلفهم‪،‬‬
‫وإنما هي خلفة الناس بعضهم عن بعض‪ ،‬فهم خلفاء الرض‪.‬‬

‫( ‪)8/261‬‬

‫وقد حددت هذه الية الخيرة مصادر التشريع في السلم التي تستقى في النهاية من مصدر واحد‪:‬‬
‫وهو الوحي اللهي‪ ،‬وهذه المصادر هي‪:‬‬
‫أولً ـ القرآن الكريم‪ .‬وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة ال تعالى‪.‬‬
‫ثانيا ـ السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند ال ‪ ،‬والعمل بها محقق طاعة الرسول صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ثالثا ـ الجتهاد الجماعي أو إجماع ذي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم‬
‫العامة‪ ،‬وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية‪ ،‬من الحكام والمراء والعلماء ورؤساء الجند وخبراء‬
‫السياسة والجتماع والقتصاد (التجارة والصناعة والزراعة والحرف الفنية والمهنية) والجماع الذي‬
‫ل بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي‪ ،‬يمثل إرادة المة العامة‪ ،‬ل سيما إذا أخذنا بقول الغزالي‬
‫الذي ل يقصر الجماع على العلماء‪ ،‬وإنما يدخل العوام معهم لينعقد الجماع‪.‬‬
‫رابعا ـ الجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين‪ :‬وهم المؤمنون بال ورسوله‪ ،‬العارفون بمدارك‬
‫الحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها‪ ،‬ووجوه دللتها على مدلولتها‪ .‬وتشمل طرق استنباط‬
‫القواعد والحكام والنظمة لديهم عدة أصول‪ ،‬كالقياس والستحسان والستصلح‪ ،‬والعرف والعادة‪،‬‬
‫وسد الذرائع‪ ،‬وقول الصحابي‪ ،‬وشرع من قبلنا‪ ،‬والستصحاب‪.‬‬

‫( ‪)8/262‬‬

‫فإن برز اختلف بين الناس أو بين المجتهدين أو العلماء المتخصصين‪ ،‬عرض المر على القواعد‬
‫العامة والمبادئ التشريعية والهداف الساسية المعلومة من القرآن والسنة على أل يتعارض الرأي‬
‫المقول به مع النصوص المحكمة أو الدلة القطعية‪ ،‬وأن يتفق الحكم المقرر مع روح السلم ومقاصد‬
‫الشريعة السلمية‪ ،‬وهذا تطبيق لقوله تعالى‪{ :‬فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم‬
‫تؤمنون بال واليوم الخر‪ ،‬ذلك خير وأحسن تأويلً} [النساء‪.]59/4:‬‬
‫ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا (‪ ، )1‬يختارهم أولو‬
‫المر بالنيابة عن المة من العلماء المختصين في موضوع النزاع‪ ،‬ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة‬
‫ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة‪ ،‬كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم‬
‫بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر رضي ال عنه للترشيح لمنصب الخلفة‪ ،‬وإتمام البيعة للمرشح من‬
‫سائر الناس‪.‬‬
‫ويؤخذ في التصويت برأي الكثرية أو الغلبية‪ ،‬عملً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر‬
‫المجتهدين حجة‪ ،‬وإن لم يكن إجماعا؛ لن الخلفة ل يشترط فيها الجماع‪ ،‬ولقول النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬يد ال مع الجماعة» «عليكم بالجماعة والعامة» «اتبعوا السواد العظم» (‪ )2‬هذا ما لم‬
‫يتبين للمام العظم رجحان رأي القلين بدليل أوضح‪ ،‬أو لمصلحة أنسب‪ ،‬وإل اتبع رأي أهل‬
‫الشورى وهو معنى (العزم) في آية‪{ :‬وشاورهم في المر} [آل عمران‪ ]159/3:‬أي ( مشاورة أهل‬
‫الرأي ثم اتباعهم ) كما قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقال لبي بكر وعمر مستشاريه‪« :‬لو‬
‫اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» (‪ ، )3‬وكما أبان عمر للرهط الستة في كيفية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪ 125‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬حديث «يد ال مع الجماعة» رواه الترمذي عن ابن عمر‪ ،‬ورواه النسائي والطبراني عن عرفجة‪،‬‬
‫وحديث «فعليكم بالجماعة» رواه أحمد‪ ،‬ورفعه الطبراني في الكبير عن ابن عمر‪ ،‬وحديث «عليكم‬
‫بالسواد العظم» رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أنس‪.‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير‪ ،420/1 :‬ط الحلبي‪.‬‬

‫( ‪)8/263‬‬

‫اختيار الخليفة من بعده‪ ،‬من الفريق الذي في صفّه عبد ال بن عمر في حالة تساوي الصوات‪ ،‬وهي‬
‫قصة الشورى أو بيعة عثمان (‪. )1‬‬
‫المبحث الثالث ـ سيادة التشريع وتعاون السلطات‬
‫إن السلطات الثلث‪ :‬التشريعية (‪ )2‬ممثلة بأولي الحل والعقد للجتهاد في استنباط الحكام من‬
‫نصوص الشريعة‪ ،‬والتنفيذية ممثلة بالحاكم العلى ووزرائه‪ ،‬والقضائية ممثلة بالقضاة‪ ،‬ليس بينها مبدأ‬
‫الفصل التام‪ ،‬ول مبدأ الندماج الوظيفي‪ ،‬فبالرغم من أن كل سلطة مستقلة في عملها عن الخرى إل‬
‫أنها تساند وتعاون السلطات الخرى‪ ،‬وهذه هي أحدث النظريات الديمقراطية التي سبق السلم‬
‫إليها‪،‬باعتبار أن هذه السلطات تخضع كلها في دولة واحد لصول شريعة سماوية تحترم مبدأ العدل‬
‫والحرية والكرامة النسانية‪ ،‬وتحارب الظلم واستبداد الحكام وتدخلهم الذي يؤثر في سير مجرى‬
‫العدالة وأعمال القضاء والتنفيذ‪ ،‬وإذا كان المام رئيسا للسلطتين التشريعية والتنفيذية فإنه مقيد بتعاليم‬
‫السلم‪ .‬وهو ل يملك التشريع وإنما له كغيره حق الجتهاد إذا توافرت فيه شروط الجتهاد‪.‬‬
‫إن احترام أحكام الشريعة هو أساس عمل كل سلطة من هذه السلطات؛ لن التشريع ل تعالى‪ ،‬وبذلك‬
‫تتحقق سيادة التشريع السلمي فوق كل وضع شخصي أو مصلحي‪ .‬وصلحية التشريع مختصة‬
‫بالكتاب والسنة أو إجماع المة‪ ،‬أو الجتهاد‪ ،‬وهذه المصادر مستقلة عن المام‪ ،‬وهوملزم بها ومنفذ‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تاريخ السلم السياسي للدكتور حسن إبراهيم‪.254/1 :‬‬
‫(‪ )2‬التشريع الحقيقي كما عرفنا هو ل عز وجل‪ ،‬وأما إطلق صفة التشريع على المجتهدين فهو من‬
‫قبيل المجاز بمعنى الكشف عن أحكام ال وإبانتها للناس‪ ،‬وتعريفهم بضوابطها وقيودها‪ ،‬وتوضيح‬
‫غاياتها‪ ،‬وإفتائهم بما يستجد من القضايا‪.‬‬

‫( ‪)8/264‬‬

‫لحكامها‪ ،‬كما أن القضاء المستقل أو الكائن بيد المام ينفذ أحكام الشريعة‪ ،‬أي أوامر ال (‪ ، )1‬ومن‬
‫أهم مبادئ السلم في هذه المصادر هو الشورى التي ل تهادن الستبداد في مختلف صوره وأشكاله‪،‬‬
‫قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما‪ :‬كتاب ال وسنتي» (‬
‫‪ )2‬وهذا أوضح نص يبين سيادة التشريع السلمي‪ ،‬ومطالبة كل مسلم بالعمل بما جاء فيهما‪ ،‬وإن‬
‫خالف إرادة الحاكم‪ ،‬إذ ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪ ،‬وإنما الطاعة في معروف‪ ..‬ويمكن‬
‫توضيح ما سبق في تحديد العلقة بين السلطات بما يأتي (‪: )3‬‬
‫إن فصل السلطات الثلث في السلم(التشريع بمعنى الجتهاد والتنفيذ والقضاء) يقوم على أساس‬
‫فصل الوظيفة التشريعية‪ ،‬أي الجتهاد عن سائر الوظائف الخرى‪ ،‬ل على أساس الفصل العضوي‪،‬‬
‫أي الشخص القائم بكل سلطة‪ .‬فالمام أو القاضي حينما يجتهد إنما يفعل ذلك ل بوصفه خليفة أو‬
‫قاضيا‪ ،‬وإنما بسبب كونه مجتهدا يستنبط الحكام الشرعية من نصوص وأصول ومبادئ الشريعة‪.‬‬
‫وكذلك فإن إدماج السلطتين القضائية والتنفيذية في شخص المام‪ ،‬أي من الناحية العضوية لم يكن‬
‫يؤثر في استقلل القضاة في مباشرة وظائفهم‪ ،‬للتزام الكل بالتشريع السلمي‪.‬‬
‫وحينئذ فل خطر من عدم وجود الفصل العضوي أو الشخصي بين السلطات‪ ،‬كما عليه الدول الحديثة؛‬
‫لن الوازع الديني هو أساس عمل المسلم‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس‪ :‬ص ‪ ،335‬ط الثالثة‪ ،‬منهاج السلم‬
‫في الحكم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪ 101‬وما بعدها‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع السلطات الثلث لستاذنا الدكتور سليمان الطماوي‪ :‬ص ‪ ،477-472‬منهاج الحكم في‬
‫السلم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪.127-101‬‬

‫( ‪)8/265‬‬

‫حاكما كان أو قاضيا أو فردا عاديا‪ .‬أما أساس الفصل الذي يرجع في الدول الحديثة لهداف ثلثة‪:‬‬
‫وهي ضمان الحرية الفردية‪ ،‬وضمان شرعية الدولة‪ ،‬وتقسيم العمل‪ ،‬فل مانع من الخذ به وبمبدأ‬
‫فصل السلطات فعلً بين أشخاص القائمين بها بناء عليه‪ ،‬في المفهوم السلمي‪ ،‬ل سيما في وقتنا‬
‫الحاضر حيث قل الوازع الديني وضعفت خشية ال تعالى‪ ،‬فوقع الظلم والتعسف والنحراف‪ ،‬كما وقع‬
‫من بعض أمراء وحكام المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس‪ ،‬مما استدعى وجود قضاء المظالم‬
‫الذي يشبه مجلس الدولة الن‪.‬‬
‫يتبين لنا أن فصل السلطة التشريعية أي الجتهاد‪ ،‬ل بمعنى الستقلل في إنشاء وتشريع الحكام عن‬
‫سائر الوظائف الخرى‪ ،‬كان هو المعروف في صدر السلم‪ .‬وأما القضاء وإن لم يستقل عن التنفيذ‬
‫في شخص الخليفة أو الوالي أحيانا‪ ،‬فهو بسبب كون القاضي مجتهدا‪ .‬كذلك القاضي غير الخليفة أو‬
‫المام مستقل في عمله عن السلطة التنفيذية‪ ،‬نظرا لنه يستقي الحكام المطبقة من المصدر اللهي ل‬
‫من السلطة التنفيذية‪.‬‬
‫لكن بين هذه السلطات تعاون وتضامن في التنفيذ دون تدخل شخصي‪ ،‬فعلى السلطة التنفيذية أن تنفذ‬
‫قرارات مجلس الشورى في المور الساسية والقضايا المبدئية أو المهمة‪ ،‬ولكن لها الحرية في اختيار‬
‫الوسائل الدارية لتنفيذ القوانين‪.‬‬

‫( ‪)8/266‬‬

‫قال الماوردي مبينا هذه المعاني بالنسبة لحد موظفي التنفيذ وهو الوالي أو المير صاحب المارة‬
‫الخاصة‪« :‬وأما نظره في المظالم‪ ،‬فإن كان مما نفذت فيه الحكام وأمضاه القضاة والحكام‪ ،‬جاز له‬
‫النظر في استيفائه معونة للمحق على المبطل‪ ،‬وانتزاعا للمحق من المعترف المماطل؛ لنه موكول‬
‫إلى المنع من التظالم والتغالب‪ ،‬ومندوب إلى الخذ بالتعاطف والتناصف‪ .‬فإن كانت المظالم مما‬
‫تستأنف فيها الحكام‪ ،‬ويبتدأ فيها القضاء‪ ،‬منع منه هذا المير؛ لنه من الحكام التي لم يتضمنها عقد‬
‫إمارته‪ ،‬وردّهم إلى حاكم بلده‪. )1( »...‬‬
‫المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع‬
‫بناء على ما سبق يتبين أن لحق لحد سوى ال في التشريع بالمعنى الحقيقي‪ ،‬سواء أكان حاكما أم‬
‫طائفة معينة‪ ،‬أم المة نفسها؛ لن إعطاء أحدهم صلحية التشريع يجعله متأثرا بالمصالح والهواء‬
‫الخاصة‪ ،‬وترك مصلحة المة العليا‪ .‬ويبدو لنا ذلك واضحا بعد انفصال السياسة عن الدين‪ ،‬وجعل‬
‫التشريع بيد المجالس النيابية‪ ،‬حتى لم نعد نشاهد نصرا حاسما محرزا‪ ،‬أو تقدما إيجابيا صالحا‪ ،‬أو‬
‫نهضة حقيقية‪ ،‬بسبب إغفال أوامر ال تعالى‪ ،‬وعدم اجتناب نواهيه‪ .‬ويؤكد القرآن الكريم على ترك‬
‫الختصاص التشريعي ل ولرسوله‪ ،‬قال ال تعالى‪ { :‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال‬
‫ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الحزاب‪{ ]36/33:‬فل وربك ل يؤمنون حتى‬
‫يحكّموك فيما شجر بينهم‪ ،‬ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت‪ ،‬ويسلّموا تسليما} [النساء‪]4/65:‬‬
‫{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور‪.]63/24:‬‬
‫والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول العظم صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكان أبو بكر‬
‫الصديق رضي ال عنه إذا ورد عليه الخصوم أو عرض له قضاء عام أو خاص‪ ،‬نظر في كتاب‬
‫ال ‪ ،‬فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به‪ ،‬وإن لم يكن في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.30‬‬

‫( ‪)8/267‬‬

‫الكتاب وعلم من سنة رسول ال في ذلك المر سنة قضى بها‪ ،‬فإن أعياه أن يجد في سنة رسول ال ‪،‬‬
‫جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم‪ ،‬فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به‪.‬‬
‫وكذلك كان يفعل عمر رضي ال عنه‪ ،‬وبقية الصحابة‪ ،‬وأقرهم على هذه الخطة المسلمون (‪ . )1‬وقد‬
‫بعث رسول ال صلّى ال عليه وسلم معاذ بن جبل رضي ال عنه قاضيا بالسلم إلى اليمن‪ ،‬فقال له‬
‫الرسول‪ :‬كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال‪ :‬أقضي بكتاب ال ‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم تجد في‬
‫كتاب ال ؟ قال‪ :‬فبسنة رسول ال ‪ ،‬قال‪ :‬فإن لم تجد في سنة رسول ال ؟ قال‪ :‬أجتهد برأيي ول آلو‬
‫(أي ل أقصر في الجتهاد) فضرب رسول ال صلّى ال عليه وسلم على صدره‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد ل‬
‫الذي وفق رسول رسول ال لما يرضي ال ورسوله (‪ . )2‬وروى مالك عن علي قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول‬
‫ال ‪ ،‬المر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال‪ :‬اجمعوا العالمِين من المؤمنين‪،‬‬
‫فاجعلوه شورى بينكم‪ ،‬ول تقضوا فيه برأي واحد (‪. )3‬‬
‫لكن المة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها هي التي تختار أولي الحل والعقد حسبما‬
‫تقتضي تطورات الظروف الجتماعية والقتصادية (‪ ، )4‬فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلء العلماء‬
‫المتخصصين الذين اختارتهم‪ ،‬وقيدتهم بمبادئ السلم وأحكامه‪ ،‬وبالمصالح العامة فيما ل نص ول‬
‫إجماع فيه من المور الدنيوية والقضايا الجتماعية المتجددة أو المتطورة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أصول الفقه السلمي للمؤلف‪ ،418/1 :‬ط دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الشوكاني في إرشاد الفحول‪ :‬ص ‪« :227‬وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض‬
‫مجموعها للحجة‪ ،‬كما أوضحت ذلك في مجموع مستقل» وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن‬
‫عدي والطبراني والبيهقي‪ ،‬وهو حديث مرسل في الصح‪.‬‬
‫(‪ )3‬أعلم الموقعين‪.73/1 :‬‬
‫(‪ )4‬مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها للستاذ علل الفاسي‪ :‬ص ‪.215‬‬

‫( ‪)8/268‬‬
‫وهذا يعني أن السيادة الصلية ل تعالى‪ ،‬فيجب الرجوع إلى تشريعه أمرا ونهيا‪ ،‬وأما السيادة العملية‬
‫فهي للمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد‪ .‬وحينئذ يجتمع هؤلء في مكان مخصص لهم‪ ،‬بدلً‬
‫من الجتماع في المسجد‪ ،‬كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس المة في عصرنا لمناقشة‬
‫شؤون المسلمين‪ ،‬بشرط مراعاة أحكام وأسس التشريع السلمي فيما يصدرون من قوانين‪.‬‬
‫وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيرا أو قاضيا‪ ،‬فله الخذ باجتهاده‬
‫فيما لم يصادم إجماع المجتهدين‪ ،‬ويكون رأيه حينئذ ملزما بصفته صاحب سلطة‪.‬‬
‫ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الجتهاد باستجماع شروطه المقررة أصوليا وأهمها معرفة اللغة‬
‫العربية ـ لغة القرآن والسنة‪ ،‬وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعة وفهم مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للجتهاد حتى تعرفه المة وترشحه‬
‫لتمثيلها‪.‬‬
‫ومجال الجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدللة أو الحكام المعلومة من الدين‬
‫بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس‪ ،‬والصيام والزكاة والحج‪ ،‬وتحريم جرائم الزنى والسرقة‬
‫والمحاربة وشرب المسكرات والقتل وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقصاص‪ ،‬وزواج المحارم‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫وأما ما يصح الجتهاد فيه‪ :‬فهو الحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدللة أو ظني أحدهما‪،‬‬
‫والحكام التي لم يرد فيها نص ول إجماع (‪ . )1‬وعلى هذا فإن التشريعات الصادرة حديثا التي ل‬
‫تخالف السلم من قبل اللجان المشرّعة‪ ،‬ل تخالف قواعد الجتهاد في الفقه السلمي (‪. )2‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن الجتهاد في الشريعة مقصور على استمداد الحكام الشرعية من مصدرها اللهي‪،‬‬
‫والحاكم هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزما‪ ،‬ل الغلبية‪ ،‬أما السلطة التشريعية في الدول الحاضرة فإن‬
‫لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد‪ ،‬وتأخذ في ذلك بمبدأ الغلبية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع أصول الفقه السلمي للمؤلف‪ ،1053/2 :‬ط دار الفكر‪.‬‬
‫(‪ )2‬السلطات الثلث‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.241‬‬

‫( ‪)8/269‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬سُلطة التّنفيذ العُليَا ـ المامَة‬


‫ال َف ْ‬
‫ويتضمن مباحث عشرة هي‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف المامة ‪:‬‬
‫المامة العظمى أو الخلفة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحدا‪ ،‬وتدل على وظيفة واحدة هي‬
‫السلطة الحكومية العليا‪ .‬وقد عرفها علماء السلم بتعاريف متقاربة في ألفاظها‪ ،‬متحدة في معانيها‬
‫تقريبا‪ ،‬علما بأنه ل تشترط صفة الخلفة‪ ،‬وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها‪ ،‬ويدير‬
‫شؤونها‪ ،‬ويدفع غائلة العداء عنها‪.‬‬
‫قال الدهلوي‪ :‬الخلفة‪ :‬هي الرياسة العامة في التصدي لقامة الدين بإحياء العلوم الدينية‪ ،‬وإقامة‬
‫أركان السلم‪ ،‬والقيام بالجهاد‪ ،‬وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة‪ ،‬وإعطائهم من‬
‫الفيء‪ ،‬والقيام بالقضاء‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬ورفع المظالم‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬إكليل الكرامة في تبيان مقاصد المامة لصديق حسن خان‪ :‬ص ‪.23‬‬

‫( ‪)8/270‬‬

‫وقال التفتازاني‪ :‬الخلفة‪ :‬رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا‪ ،‬خلفة عن النبي صلّى ال عليه وسلم (‬
‫‪. )1‬‬
‫وقال الماوردي‪ :‬المامة‪ :‬موضوعة لخلفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (‪. )2‬‬
‫وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة المامة فقال‪ :‬هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي‬
‫في مصالحهم الخروية والدنيوية الراجعة إلىها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى‬
‫اعتبارها بمصالح الخرة‪ .‬فهي (أي الخلفة) في الحقيقة‪ :‬خلفة عن صاحب الشرع في حراسة الدين‬
‫وسياسة الدنيا به (‪. )3‬‬
‫ويتبين من هذه التعاريف أن سلطة الخليفة تتناول أمور الدين‪ ،‬وسياسة الدنيا على أساس شرائع‬
‫السلم وتعاليمه؛ لن هذه التعاليم يراد بها تحقيق مصالح الناس في عالمي الدنيا والخرة‪ ،‬أي أن‬
‫العنصر العقدي والنساني أو الخلقي يسير جنبا إلى جنب مع العنصر المادي‪ ،‬ويتآزر العنصران‬
‫لقامة المجتمع الفاضل المستقر المرفه المتمكن في الرض الذي يقيم العزة والسيادة الفعلية بين‬
‫جناحيه‪ .‬وتتعاضد فيه الهداية اللهية مع الرادة البشرية والقوى العقلية عن طريق الجماع والقياس‪.‬‬
‫وبهذا تغاير الخلفة أساسا السلطات السياسية الحالية التي تسير على هدي القوانين الوضعية التي‬
‫تقتصر على تنظيم العلقات الجتماعية‪ ،‬وتقر واقع المجتمع ولو عارض الدين أو الفضيلة أحيانا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬شرح العقائد النسفية‪ ،‬الخلفة لرشيد رضا‪ :‬ص ‪.10‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطاني‪ :‬ص ‪ ،3‬ط صبيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬المقدمة‪ :‬ص ‪ ،191‬ط التجارية‪.‬‬

‫( ‪)8/271‬‬

‫المبحث الثاني ـ حكم إقامة الدولة في السلم ‪:‬‬


‫بالرغم من أن إيجاد الدولة أمر يوجبه العقل‪ ،‬ويحتمه الواقع‪ ،‬وتفرضه طبائع الحداث‪ ،‬فقد رأينا‬
‫اختلفا بسيطا غير حاد ول خطير في شأن حكم المامة وجوبا وجوازا‪ .‬قال ابن تيمية (‪ : )1‬يجب أن‬
‫يعرف أن ولية أمر الناس من أعظم واجبات الدين‪ ،‬بل ل قيام للدين إل بها‪ ،‬فإن بني آدم ل تتم‬
‫مصلحتهم إل بالجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض‪ ،‬ول بد لهم عند الجتماع من رأس‪ ،‬حتى قال النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا خرج ثلثة في سفر فليؤمروا أحدهم» (‪. )2‬‬
‫ويمكن تصنيف مذاهب الفرق السلمية في ثلثة‪ :‬مذهب اليجاب‪ ،‬ومذهب الجواز‪ ،‬ومذهب الوجوب‬
‫على ال ‪.‬‬
‫أولً ـ مذهب إيجاب المامة ‪:‬‬
‫ترى الكثرية الساحقة من علماء السلم (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إل نفرا منهم‪،‬‬
‫والخوارج ما عدا النجدات)‪ :‬أن المامة أمر واجب أو فرض محتم (‪ . )3‬قال ابن حزم‪ :‬اتفق جميع‬
‫أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب المامة‪ ،‬وأن المة واجب‬
‫عليها النقياد لمام عادل يقيم فيهم أحكام ال ‪ ،‬ويسوسهم بأحكام الشريعة التي جاء بها رسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم‪ ،‬حاشا النجدات‪ ،‬فإنهم قالوا‪:‬ل يلزم الناس فرض المامة‪ ،‬وإنما عليهم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪.161‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح العقائد النسفية للتفتازاني‪ :‬ص ‪ 142‬وما بعدها‪ ،‬مقالت السلميين واختلف المصلين‬
‫للشعري‪ ،133/2 :‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،110/2 :‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪ 271‬وما بعدها‪،‬‬
‫ط استانبول‪ ،‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.3‬‬

‫( ‪)8/272‬‬
‫أن يتعاطوا الحق بينهم (‪ . )1‬ونوع الفرضية هو الفرض الكفائي‪ ،‬قال الماوردي‪ :‬فإذا ثبت وجوب‬
‫المامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم‪ ،‬فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن‬
‫الكافة (‪. )2‬‬
‫ثم انقسم هؤلء فرقا ثلثا‪ ،‬فقال أكثر الشعرية والمعتزلة والعترة‪ :‬إنها تجب شرعا؛ لن المام يقوم‬
‫بأمور شرعية‪.‬‬
‫وقال الشيعة المامية‪ :‬تجب المامة عقلً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم‪ ،‬ويفصل بين الناس في‬
‫التنازع والتخاصم‪ ،‬ولول الولة لكان المر فوضى‪.‬‬
‫وقال الجاحظ والبلخي (الكعبي) وأبو الحسين الخياط والحسن البصري‪ :‬تجب المامة عقلً وشرعا‪.‬‬
‫أدلة هذا المذهب ‪:‬‬
‫أورد أصحاب هذه النظرية عدة براهين شرعية وعقلية وضرورات وظيفية‪.‬‬
‫‪ - ً 1‬البرهان الشرعي ‪:‬‬
‫وهو الجماع‪ :‬أجمع الصحابة والتابعون على وجوب المامة‪ ،‬إذ بادر الصحابة فور وفاة النبي صلّى‬
‫ال عليه وسلم وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة ـ سقيفة بني ساعدة‪ ،‬وبعد تشاور كبار‬
‫المهاجرين والنصار بايعوا أبا بكر الصديق رضي ال عنه قياسا على تقديم الرسول صلّى ال عليه‬
‫وسلم له لمامة الناس في الصلة أثناء مرضه الشريف‪ ،‬وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في‬
‫اليوم التالي‪ ،‬مما ينبئ أنهم مجمعون على ضرورة وجود إمام أو خليفة‪.‬‬
‫قال اليجي في المواقف وشارحه الجرجاني‪« :‬إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الول‪ ،‬بعد وفاة‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام‪ ،‬حتى قال أبو بكر رضي ال عنه في‬
‫خطبته المشهورة‪ ،‬حين وفاته عليه السلم‪ :‬أل إن محمدا قد مات‪ ،‬ول بد لهذا الدين ممن يقوم به‪،‬‬
‫فبادر الكل إلى قبوله‪ ،‬وتركوا له أهم الشياء‪ ،‬وهو دفن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ال ِفصَل في الملل والنحل‪ ،87/4 :‬المحلى‪ ،438/9 :‬مسألة ‪ ،1768‬مراتب الجماع‪:‬ص ‪.124‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.3‬‬

‫( ‪)8/273‬‬

‫يزل الناس على ذلك‪ ،‬في كل عصر إلى زماننا هذا‪ ،‬من نصب إمام متبع في كل عصر» (‪)1‬‬
‫وواضح من قول العلماء أن الجماع منصب على ضرورة وجود الحاكم‪ ،‬وليس المهم شكل الحكم‪،‬‬
‫من خلفة أو غيرها‪ ،‬مادام الشرع هو المطبق (‪. )2‬‬
‫والجماع حجة قطعية يقينية على وجوب المامة بعد الرسول صلّى ال عليه وسلم وفي كل عصر‪،‬‬
‫إذ ل يصلح الناس فوضى ل قادة ول رؤساء لهم في كل زمان‪.‬‬
‫ويؤكد هذا الجماع أو يعد مستندا له إشارات في القرآن والحديث‪ ،‬قال الماوردي (‪ : )3‬جاء الشرع‬
‫بتفويض المور إلى ولي في الدين‪ ،‬قال ال عز وجل‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا‬
‫الرسول وأولي المر منكم} (‪ )4‬ففرض علينا طاعة أولي المر فينا‪ ،‬وهم الئمة المتأمرون علينا‪.‬‬
‫وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫«سيليكم بعدي ولة‪ ،‬فيليكم البر ببره‪ ،‬والفاجر بفجوره‪ ،‬فاسمعوا لهم‪ ،‬وأطيعوا في كل ماوافق الحق‪،‬‬
‫فإن أحسنوا فلكم ولهم‪ ،‬وإن أساءوا فلكم وعليهم» ‪ .‬وهناك آيات أخرى مثل قوله تعالى‪{ :‬وأن احكم‬
‫بينهم بما أنزل ال ول تتبع أهواءهم} [المائدة‪{ ]49/5:‬وشاورهم في المر‪ ،‬فإذا عزمت فتوكل على ال‬
‫} [آل عمران‪ .]159/3:‬ومارس النبي عليه السلم سلطات سياسية ل تصدر من غير قائد دولة‪،‬‬
‫كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المواقف وشرحه‪ :‬ص ‪ 603‬وما بعدها‪ ،‬وانظر نهاية القدام للشهرستاني‪ :‬ص ‪.489‬‬
‫(‪ )2‬شكك الستاذ علي عبد الرزاق في دعوى الجماع هذه في كتابه الشاذ‪« :‬السلم وأصول الحكم»‬
‫‪ :‬ص ‪ 21‬وما بعدها‪ ،‬متعللً بعدم وجود دراسات علمية موسعة للخلفة عند السابقين‪ ،‬وأن كل‬
‫الحكومات السلمية قامت على القهر والغلبةما عدا الخلفة الراشدية‪ ،‬والحقيقية أنه بالرغم من أن‬
‫تأليف هذا الكتاب كان لظروف معينة اقتضته وهي التنديد بالخلفة العثمانية فهو إن أنكر صورة‬
‫الحكم‪ ،‬فل يستطيع إنكار ما تفرضه البداهة وطبيعة الشياء من ضرورة إقامة دولة‪ ،‬وهو ماتم عليه‬
‫الجماع بالذات‪ ،‬ل أن الجماع أمر ل بد منه لنصب كل حاكم‪ ،‬فالغلبية فيه تكفي‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحكا م السلطانية‪ :‬ص ‪.3‬‬
‫(‪ )4‬أي أن طاعة أولي المر تقتضي وجوب نصبهم وإقامتهم‪[ .‬النساء‪.]59/4:‬‬

‫( ‪)8/274‬‬

‫وتعيين الولة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها (‪. )1‬‬
‫‪ - ً 2‬البرهان العقلي ـ الشرعي ‪:‬‬
‫وهو توفير النظام ودرء الفوضى‪ ،‬أي أن الجتماع والتمدن طبيعي في البشر‪،‬وكل اجتماع يؤدي إلى‬
‫التنازع والتزاحم والختلف بسبب حب الذات والحرص على المصالح الذاتية‪ ،‬وتحقيق أكبر قدر من‬
‫المصالح الشخصية‪ ،‬والتنازع يفضي غالبا إلى الخصام والصراع والهرج والفوضى المؤذنة بهلك‬
‫البشر وانقراض النوع النساني إذا لم تنظم الحقوق وتحدد الواجبات ويفرض النظام‪ ،‬ويقوم الوازع‬
‫الرادع‪ ،‬ويتم ذلك بالسلطان‪.‬قال الماوردي (‪ : )2‬تجب المامة عند طائفة عقلً لما في طباع العقلء‬
‫من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم‪ ،‬ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم‪ ،‬ولول الولة لكانوا فوضى‬
‫مهملين‪ ،‬وهمجا مضاعين‪ ،‬وقد قال الفواه الودي ـ وهو شاعر جاهلي‪:‬‬
‫ل يصلح الناس فوضى ل سراة لهم ‪ ..... .....‬ولسراة إذا جهالهم سادوا‬
‫وهذا يعني أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق النسان تقتضي وجوب المامة أو السلطة‪.‬‬
‫‪ - ً 3‬برهان الوظيفة ‪:‬‬
‫إن قيام النسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الرض وحامل المانة‪( :‬الفروض والتكاليف الدينية)‬
‫يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل‪.‬‬
‫وهذه الواجبات ل تتحقق إل في ظل وجود دولة‪ ،‬سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج‬
‫والعمرة أم شعائر عامة كالذان والجمعة والعياد‪ ،‬أم معاملت اجتماعية كالعقود بأنواعها‪ ،‬أم تكاليف‬
‫جماعية كالجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل‬
‫الخير‪ ،‬وقمع الشر‪ ،‬ومحاربة الهواء‪.‬‬
‫وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلحية وعلى رأسها السلم ل يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها‬
‫إل في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلزم وجود الدولة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع زاد المعاد لبن القيم‪ 124/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/275‬‬

‫وغريب أن نجد فكرة سديدة تخالف هذا المنطق أو تتجافى مع هذا التصور‪ .‬قال النسفي‪« :‬والمسلمون‬
‫ل بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم‪ ،‬وإقامة حدودهم‪،‬وسد ثغورهم‪ ،‬وتجهيز جيوشهم وأخذ‬
‫صدقاتهم‪ ،‬وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق‪ ،‬وإقامة الجمع والعياد‪ ،‬وقطع المنازعات‬
‫الواقعة بين العباد‪ ،‬وقبول الشهادات القائمة على الحقوق‪ ،‬وتزويج الصغار والصغيرات الذين ل أولياء‬
‫لهم‪ ،‬وقسمة الغنائم (‪ ، )1‬أي ونحو ذلك من المور المتطلبة لوجود الحاكم» ‪.‬‬
‫وقال اليجي في المواقف (‪« : )2‬إن في نصب المام دفع ضرر مظنون‪ ،‬وإن دفع هذا الضرر‬
‫واجب شرعا‪ .‬وبيان ذلك أننا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع‪ ،‬فيما شرع من‬
‫المعاملت‪ ،‬والمناكحات‪ ،‬والجهاد‪ ،‬والحدود والمقاصات‪ ،‬وإظهار شعائر الشرع في العياد‬
‫والجماعات‪ ،‬إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا‪ ،‬وذلك المقصود ل يتم إل بإمام يكون من‬
‫قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم» ‪.‬‬
‫وهناك برهان آخر يستتبع القيام بالوظيفة المقدسة للبشر‪ :‬وهو أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة‬
‫أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر‪ ،‬ل سيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه‬
‫رئيس القبيلة بالعرف والهوى الشخصي‪ ،‬وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق‬
‫المتخاصمين‪ ،‬فلم يبق إل القضاء الذي يلجأ إلىه كل إنسان بمفرده‪.‬‬
‫ومهمة القضاء في السلم ل تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم اللهي‪ ،‬وفصل الخصومات‪ ،‬وتطبيق‬
‫أحكام الشريعة‪ ،‬وإنما يشمل كل ما من شأنه رعاية الحرمات الدينية‪ ،‬واحترام الفضيلة‪ ،‬وإقرار‬
‫المعروف‪ ،‬ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها‪.‬‬
‫فلول القضاء لستأصل البشر بعضهم‪ ،‬وهلكوا جميعا‪ ،‬فكان وجوده رحمة‪ ،‬وتنظيمه فريضة‪ ،‬وقيام‬
‫الدولة به ووجودها من أجله أمرا محتما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬شرح العقائد النسفية للتفتازاني‪ :‬ص ‪ 142‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/276‬‬

‫وإذا ل حظنا أن مهمة الدولة في السلم حراسة شؤون الدين والدنيا‪ ،‬وتحقيق السعادة للبشر في‬
‫الحياة الدنيا والخرة‪ ،‬علمنا مدى الهمية المنوطة بالدولة المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها‪ ،‬ولول‬
‫ذلك لعمت الفوضى‪ ،‬وشاع الفساد‪ ،‬وانتشر الظلم بين العباد‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن تلزم وجود الدولة مع دعوة السلم ودين السلم أمر ل يمكن فصله في مفهوم‬
‫إنسان‪ ،‬منذ أن قامت دولة المدينة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان‬
‫ثلثة‪ :‬هي الشعب‪ ،‬والقليم (الوطن) والسلطة السياسية أو السيادة (‪. )1‬‬
‫ثانيا ـ القائلون بمبدأ جواز المامة ‪:‬‬
‫قالت فئة قليلة بجواز المامة ل بوجوبها‪ ،‬وهم المحكّمة الولى والنجدات من الخوارج‪ ،‬وضرار‪،‬‬
‫وأبو بكر الصم المعتزلي‪ ،‬وهشام ال ُفوَطي‪ ،‬وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة‪ .‬قال الصم ممثلً‬
‫هذا الرأي‪ :‬لو تكافّ الناس عن التظالم لستغنوا عن المام (‪. )2‬‬
‫ويظهر من أقوال هؤلء كما أبان ابن خلدون (‪ )3‬أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل العليا‪ ،‬ويعارضون‬
‫نظام الملك أو الخلفة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات‪ ،‬والعتداء على الحقوق والستبداد‬
‫الغاشم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر بحث الدولة السلمية المستفيض للموسوعة الفقهية في الكويت‪ ،‬للمؤلف والذي سيأتي‬
‫طبعه هنا لول مرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الشهرستاني مبينا رأي هؤلء‪ :‬إن المامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت المة عن‬
‫ذلك استحقوا اللوم والعقاب‪ ،‬بل هي مبنية على معاملت الناس‪ ،‬فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على‬
‫البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن المام ومتابعته (نهاية القدام‬
‫في علم الكلم‪ :‬ص ‪.)482‬‬
‫(‪ )3‬المقدمة‪ ،‬الفصل ‪ 26‬ص ‪.192‬‬

‫( ‪)8/277‬‬

‫فهم لم يتهاونوا في شأن المامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة‪ ،‬بل قد أعلنوا وجوبها‪ ،‬فنقلوا‬
‫الوجوب من المامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه‪ ،‬أي أن على الجميع الشتراك في‬
‫تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم‪ ،‬دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة‪ .‬وهذه هي الديمقراطية‬
‫المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلسفة السياسة‪ .‬ولكن تحقيق هذا أمر متعذر‪،‬‬
‫فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فل يمكن الستغناء عنها (‪. )1‬‬
‫أدلتهم ‪:‬‬
‫استدل هؤلء المجوزون بأدلة جانبيةفحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا‪ :‬إن وجود الحكومة يتنافى‬
‫مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الجتهاد بالرأي‪ ،‬ومبدأ المساواة‪ ،‬بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم‪.‬‬
‫وإذا لم يطع الناس وقعت الفتنة والختلف‪ .‬مع أن الحاكم ليس معصوما من الخطأ‪ ،‬والشروط‬
‫المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان‪.‬‬
‫لكن الحق يقال‪ :‬إن المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الفراد‪،‬‬
‫ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما‪ ،‬ولن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين‬
‫حريات وحقوق الخرين‪ .‬ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلك وفوضى وتعرض‬
‫للخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق الخاصة‪ ،‬أو يقدمه من‬
‫ولء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس‪ :‬ص ‪ 141‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/278‬‬

‫ثالثا ‪ -‬رأي الشيعة المامية والزيدية والسماعيلية ‪:‬‬


‫اتفق الشيعة المامية والزيدية وأهل السنة والمعتزلة على وجوب المامة‪ ،‬لكن المامة والسماعيلية‬
‫قالوا بوجوبها عقلً على ال ‪ ،‬ل على المة‪.‬‬
‫وبما أن الشيعة يرون رأي المعتزلة في العقائد‪ ،‬فهذا الرأي مفرع على نظرية المعتزلة القائلة بوجوب‬
‫ل بقوله تعالى‪{ :‬كتب ربكم‬
‫فعل الصلح والصلح على ال تعالى‪ ،‬أو على ( فعل اللطف ) اللهي عم ً‬
‫على نفسه الرحمة} [النعام‪ .]54/6:‬واللطف كما قال الشريف المرتضى (‪ : )1‬هو المر الذي علم‬
‫ال تعالى من حال المكلف أنه متى وجد ذلك المر‪ ،‬كان حاله إلى قبول الطاعات والحتراز عن‬
‫المعاصي أقرب مما إذا لم يوجد ذلك المر‪ ،‬وبشرط أل ينتهي إلى حد اللجاء‪ .‬وبعبارة أخرى‪:‬‬
‫اللطف هو خلق القدرة للعبد وإكمال العقل ونصب الدلة وتهيئة وسائل فعل الطاعة‪ ،‬وترك المعصية‪.‬‬
‫أدلة الشيعة ‪:‬‬
‫استدل الشيعة على مذهبهم بعد أن قدموا له بمقدمات معينة‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن في إقامة المام منافع كثيرة‬
‫ودفع مضار متعددة‪ ،‬وبه يتم صلح المعاش والمعاد‪ ،‬كما أوضحت في الدلة العقلية السابقة‪.‬‬
‫وإذا كان ال تعالى قد خلق في النسان القوى الشهوانية والغضبية والوهمية‪ ،‬ولم يجعل له قوة‬
‫تعصمه من الزلل وتحمله على الخير‪ ،‬فقد وجب عليه أن ينصب إماما يقرب النسان من الطاعات‪،‬‬
‫ويبعده من القبائح‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الربعين في أصول الدين للرازي‪ :‬ص ‪.429‬‬

‫( ‪)8/279‬‬
‫فنصب المام إذن لطف‪ ،‬وكل لطف واجب على ال تعالى‪ ،‬فنصب المام واجب على ال تعالى‪ .‬أما‬
‫أن المامة لطف من ال في حق عباده‪ ،‬فلن وجوب إمام عادل يمنعهم من المحظورات‪ ،‬ويحثهم على‬
‫الطاعات يجعلهم أقرب إلى الطاعة‪ ،‬وأبعد عن المعصية‪ .‬ثم إن المامة من ال لطف لنها خالية من‬
‫المفاسد والقبائح (‪. )1‬‬
‫فهم يقيسون ( المامة ) على ( النبوة )‪ .‬وبما أن المام هو حجة ال على خلقه‪ ،‬أو حجة ال في‬
‫الرض‪ ،‬وبما أن إرسال الرسل هو حجة ال على عباده لقوله تعالى‪{ :‬لئل يكون للناس على ال حجة‬
‫بعد الرسل} [النساء‪ ]165/4:‬فكذلك الئمة حجة له‪ ،‬وتكون الحكمة من وجود الئمة مشابهة لحكمة‬
‫وجود الرسل‪.‬‬
‫ومعنى كون المام حجة أنه البرهان القائم على أن ال أراد أن يبلغ شرعه لعباده‪ ،‬وأنه يخاطبهم‬
‫ويكلفهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬ولول ذلك لكان للناس عذر في العصيان (‪. )2‬‬
‫ويخلصون من هذا إلى أن المامة ركن الدين وقاعدة السلم‪ ،‬ول يجوز لنبي إغفاله ول تفويضه إلى‬
‫المة‪ ،‬بل يجب عليه تعيين المام لهم‪ ،‬ويكون معصوما من الكبائر والصغائر (‪. )3‬‬
‫والئمة الذين يعترفون بهم هم علي ومن بعده‪ .‬ويستدلون بآيات وأحاديث على أن الشرع قد جاء‬
‫بتعيين هؤلء الئمة‪ ،‬لكن المامية قالوا‪ :‬جاء التعيين بالنص على علي‪ .‬وقال الزيدية‪ :‬كان التعيين‬
‫بالوصف‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نطرية المامة لدى الشيعة الثني عشرية‪ ،‬للدكتور أحمد محمود صبحي‪ :‬ص ‪ 72‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬نهاية القدام للشهرستاني‪ :‬ص ‪.485‬‬
‫(‪ )3‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬الفصل ‪.27‬‬

‫( ‪)8/280‬‬

‫نقد ومناقشة ‪:‬‬


‫نوقش مذهب الشيعة في المامة فيما يتعلق بمبدأ اللطف في وجوب المام‪ ،‬وأدلتهم النقلية والعقلية‪.‬أما‬
‫بالنسبة للّطف فكيف يتم قرب العبد من الطاعة وبعده عن المعصية بإمام غير ظاهر‪ ،‬فضلً عن كونه‬
‫غير متمكن ول قادر‪.‬قال الرازي (‪« : )1‬المام الذي تقولون بوجوبه غير ظاهر قاهر سائس‪ ،‬فل أثر‬
‫له ول خبر» إذ أنهم يقولون ( بالتقية ) وهي جواز اختفاء المام‪ .‬وقال ابن تيمية (‪ : )2‬المام الذي‬
‫تصفونه مفقود غالبا ومعدوم ل حقيقة له عند سواكم‪ ،‬ومثله ل يحصل به شيء من مقاصد المامة‪،‬‬
‫بل المام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح المة ممن ل ينفعهم بوجه‪ .‬وقال اليجي (‪ : )3‬إنما‬
‫يحصل اللطف بإمام ظاهر قاهر وأنتم ل توجبونه‪ ،‬فالذي ل توجبونه ليس بلطف‪ ،‬والذي هو لطف ل‬
‫توجبونه‪.‬‬
‫وأما أدلتهم النقلية السمعية على تعيين المام فهي محل نظر‪ ،‬قال ابن حزم (‪« : )4‬وعمدة هذه‬
‫الطوائف كلها في الحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة» ‪ .‬ومن المستحيل على الصحابة العدول‬
‫المبشر بعضهم بالجنة أن يكتموا خبرا عن الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل سيما في شأن المامة‬
‫ذات الثر الخطير والشهير‪ .‬وهل يعقل أن يتم التعيين من النبي ول يعلم المعين نفسه‪ ،‬وإذا عين‪،‬‬
‫فلماذا لم يتمسك به ويخاصم عليه‪ ،‬ويقطع دابر الخلف الذي حدث لختيار الخليفة (‪ )5‬؟!‬
‫وكذلك أدلتهم العقلية القائمة على مبدأ العصمة تحتاج إلى تأمل ودعم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الربعين في أصول الدين‪ :‬ص ‪ ،439‬ط حيدر آباد‪.‬‬
‫(‪ )2‬المنتقى من منهاج العتدال‪ :‬ص ‪.408‬‬
‫(‪ )3‬المواقف‪ :‬ص ‪.387‬‬
‫(‪ )4‬الفصل في الملل والنحل‪.94/4 :‬‬
‫(‪ )5‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬الفصل ‪.27‬‬

‫( ‪)8/281‬‬

‫أقوى‪ ،‬إذ العصمة لم تثبت إل لنبي‪ ،‬ولو كان علي كرم ال وجهه معصوما لستغنى بعصمته عن‬
‫النبي في التعليم وغيره‪ ،‬كما قال الرازي (‪ ، )1‬مع أنهم يسلمون بأنه كان محتاجا للنبي ومؤتما به‪،‬‬
‫وإل كان ذلك خروجا عن الدين‪ .‬وقال ابن حزم (‪ : )2‬إن عمدة ما احتجت به المامية أن قالوا‪ :‬ل بد‬
‫من أن يكون إمام معصوم‪ ،‬عنده جميع علم الشريعة‪ ،‬فالجواب‪ :‬أن ذلك هو النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫نفسه في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة‪ ،‬فبلغ رسول ال صلّى ال عليه وسلم قائم بعد موته إلى‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ كيفية اختيار المام (أو الحاكم العلى ) ‪:‬‬
‫طرق التعيين ‪:‬‬
‫ذكر فقهاء السلم طرقا أربعة في كيفية تعيين الحاكم العلى للدولة وهي‪ :‬النص‪ ،‬والبيعة‪ ،‬وولية‬
‫العهد‪ ،‬والقهر والغلبة‪ .‬وسنتبين أن طريقة السلم الصحيحة عملً بمبدأ الشورى ومبدأ الفروض‬
‫الكفائية هي طريقة واحدة وهي بيعة أهل الحل والعقد‪ ،‬وانضمام رضا المة باختياره‪ .‬وأما ما عدا‬
‫ذلك فمستنده ضعيف بسبب التعسف في تأويل النصوص‪ ،‬أو العتماد على نصوص واهية وأهواء‬
‫خاصة‪ ،‬أو إقرار لواقع قائم لم يجد المسلمون حكمة أو مصلحة في الثورة عليه‪ ،‬أو القضاء على‬
‫وجوده حسما للدماء ومنعا للفوضى‪ ،‬ومراعاة لظروف خارجية‪ ،‬أو رهبة من ضراوة الممسك‬
‫بالسلطة التي آلت إليه بطرق غير مشروعة كالوراثة ونحوها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نهاية العقول‪ :‬ص ‪ ،435‬مخطوط بدار الكتب المصرية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفصل في الملل والنحل‪.95/4 :‬‬

‫( ‪)8/282‬‬

‫تعيين المام بالنص ‪:‬‬


‫قال الشيعة المامية (‪ : )1‬إن نصب المام ل يكون إل بالنص أو الختيار من المة‪ ،‬ولكنهم حرصا‬
‫منهم على حصر المامة في علي بن أبي طالب رضي ال عنه نقدوا مبدأ الختيار‪ ،‬وقالوا‪ :‬يجب‬
‫على ال لطفا منه نصب إمام بنص صريح في آياته‪ ،‬وما على النبي إل أن يبلغ ما أنزل إليه‪ ،‬وقد‬
‫فعل‪ ،‬فنص على أن عليا هو الخليفة من بعده‪.‬‬
‫وأطالوا في تأييد رأيهم بأدلة نقلية وعقلية وتاريخية (‪ . )2‬أذكر بعضا منها بإجمال وردّ أهل السنة‬
‫عليها‪.‬‬
‫الدلة الواردة في القرآن والسنة ‪:‬‬
‫استدلوا باليات القرآنية الدالة على وجوب التزام أوامر ال والرسول‪ ،‬مثل‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تقدموا بين يدي ال ورسوله} [الحجرات‪{ ]1/49:‬وربك يخلق ما يشاء ويختار ‪ ،‬ما كان لهم الخِيَرة}‬
‫[القصص‪{ ]68/28:‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من‬
‫أمرهم} [الحزاب‪ ]36/33:‬فليس للناس اختيار أمام أمر ال ‪ ،‬فمن يختاره للنبوة والمامة‪ ،‬وجبت‬
‫طاعته‪ ،‬وبما أن المامة من الوظائف الدينية الموكول أمرها إلى ال ‪ ،‬فتكون مما قضى ال ورسوله‬
‫فيها بالنص‪.‬‬
‫لكن يلحظ أن هذه اليات ليست واردة في شأن المامة‪ ،‬وإنما تفيد النهي عن الجتهاد بالرأي‬
‫الشخصي حالة وجود نص على الحكم الشرعي في القرآن والسنة‪.‬‬
‫كذلك استدلوا بآيات من القرآن تفيد في زعمهم النص على إمامة علي‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬قل‪ :‬ل‬
‫أسألكم عليه أجرا إل المودة في القربى} [الشورى‪ ]23/42:‬وقرابته‪ :‬أهل بيته وهم علي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ينكر الشيعة الزيدية ومعتزلة بغداد وغيرهم وجود نص من الرسول صلّى ال عليه وسلم على‬
‫خلفة علي‪ ،‬وإن كانوا يفضلونه على غيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع نظرية المامة لدى الشيعة الثني عشرية للدكتور أحمد محمود صبحي‪ :‬ص ‪ 79‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/283‬‬

‫وفاطمة وابناهما (‪ ، )1‬لكن ثقات العلماء يبينون أن هذه الية نزلت قبل زواج علي بفاطمة‪.‬‬
‫وبرهنوا على مذهبهم من السنة بأحاديث أهمها‪:‬‬
‫‪ - 1‬حديث غدير خم ‪:‬‬
‫وهو الذي أخرجه الطبراني والنسائي وأحمد والحاكم عن زيد بن أرقم في اليوم الثامن عشر من ذي‬
‫الحجة‪ ،‬وفيه‪« :‬يا أيها الناس‪ ،‬إن ال مولي‪ ،‬وأنا مولى المؤمنين‪ ،‬وأنا أولى بهم من أنفسهم‪ ،‬فمن‬
‫كنت موله فعلي موله‪ ،‬اللهم وال من واله ‪ ،‬وعاد من عاداه‪ ،‬وانصر من نصره‪ ،‬واخذل من خذله»‬
‫‪.‬‬
‫والواقع أن هذا الحديث غير صحيح‪ ،‬قال اليجي‪ :‬ل صحة للحديث‪ ،‬إذ لم ينقله أكثر أصحاب‬
‫الحديث‪ ،‬بل إن عليا رضي ال عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬بل كان في‬
‫اليمن‪ ،‬وإن سلّم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث (‪ . )2‬وقال ابن تيمية‪ :‬مع افتراض أن النبي قاله يوم‬
‫الغدير فإنه لم يرد به الخلفة قطعا‪ ،‬ولكن الشيعة يزكون الحديث‪ ،‬ويعتبرونه صحيحا لنه يوافق‬
‫مبدأهم (‪ . )3‬وقال الباقلني‪ :‬إن لكلمة (مولى) معاني كثيرة‪ ،‬فمنها المولى بمعنى الناصر‪ ،‬ومنها‬
‫المولى بمعنى ابن العم‪ ،‬ومنها المولى بمعنى الموالي المحب‪ ،‬ومنها المولى بمعنى المكان والقرار‪،‬‬
‫ومنها المولى بمعنى المعتِق المالك للولء‪ ،‬ومنها المولى بمعنى المعتَق الذي مُلك ولؤه‪ ،‬ومنها المولى‬
‫بمعنى الجار‪ ،‬ومنها المولى بمعنى الصهر‪ ،‬ومنها المولى بمعنى الحلف‪ .‬فهذا جميع ما يحتمله قوله‬
‫مولى‪ ،‬وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة‪ .‬والذي قصده النبي بهذه الكلمة ـ‬
‫على فرض صحتها ـ يحتمل أمرين‪.‬‬
‫أحدهما ـ من كنت ناصره على دينه وحاميا عنه بظاهري وباطني وسري وعلنيتي‪ ،‬فعلي ناصره‬
‫على هذه السبيل‪.‬‬
‫والثاني ـ من كنت محبوبا عنده‪ ،‬ووليا له على ظاهري وباطني‪ ،‬فعلي موله‪ ،‬أي أن ولءه ومحبته‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 183‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المواقف‪ :‬ص ‪.405‬‬
‫(‪ )3‬المنتقى من منهاج العتدال‪ :‬ص ‪.423‬‬

‫( ‪)8/284‬‬

‫من ظاهره وباطنه واجب‪ ،‬كما أن ولئي ومحبتي على هذه السبيل واجب (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬حديث المنزلة ‪:‬‬
‫حينما خلف النبي صلّى ال عليه وسلم عليا رضي ال عنه على المدينة بعد خروجه لغزوة تبوك‪ ،‬قال‬
‫المنافقون‪ :‬إنما خلفه لنه يبغضه‪ ،‬فبلغ ذلك عليا‪ ،‬فبكى واشتكى إلى النبي صلّى ال عليه وسلم قائلً‪:‬‬
‫«أتخلفني في النساء والصبيان؟!» فرد النبي‪« :‬أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‪،‬‬
‫إل أنه ل نبي بعدي» وهذا حديث صحيح متواتر‪ .‬فسّره الشيعة بما يثبت خلفة علي؛ لن تشبيه علي‬
‫بهارون يثبت له كل منازل هارون فيما عدا النبوة‪ .‬ومن منازله‪ :‬الخوة والوزارة‪ ،‬والخلفة‪ ،‬وولية‬
‫المر بعده لو عاش بعد موسى‪ ،‬وكونه شريكا في أمره‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التمهيد‪ :‬ص ‪ 164‬وما بعدها‪ ،‬وانظر نهاية العقول للرازي‪ :‬ص ‪.263‬‬

‫( ‪)8/285‬‬

‫وقال أهل السنة‪ :‬ليس الحديث حجة في الدللة على إمامة علي‪ ،‬لكونه مخصوصا بواقعة حال معينة‪:‬‬
‫وهي الستخلف على المدينة‪ ،‬كما يستخلف كل قائد أحدا بعده في إدارة وليته حال غيبته‪ .‬ثم إن‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم قد خلف عليا في أهله‪ ،‬وليست الخلفة في الهل كالخلفة على البشر‪.‬‬
‫والستخلف المقيد بالغيبة ل يكون باقيا بعد انقضائها‪ ،‬كما لم يبق في حق هارون (‪. )1‬‬
‫وقد أجاب الباقلني عنه بأنه ل يجب أن نفهم من هذا الحديث بأنه نص على خلفته بعده؛ لن معناه‬
‫أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة‪ .‬وهذا واضح من سياق الحديث‬
‫الذي رواه سعد بن أبي وقاص قال‪ :‬إن عليا لحق بالنبي صلّى ال عليه وسلم بعد أن استخلفه‪ ،‬وقال‬
‫له‪ :‬أتتركني مع الخلف؟! فأجابه الرسول صلّى ال عليه وسلم بقوله‪« :‬أما ترضى أن تكون مني‬
‫بمنزلة هارون من موسى‪،‬إل أنه ل نبي بعدي» ‪.‬‬
‫‪ - 3‬حديث الراية يوم خيبر ‪:‬‬
‫قال النبي صلّى ال عليه وسلم محددا أوصاف علي لقيادته معركة خيبر‪« :‬لعطين الراية غدا إلى‬
‫رجل يحب ال ورسوله‪ ،‬ويحبه ال ورسوله‪ ،‬كرّار غير فرار‪ ،‬ل يرجع حتى يفتح ال على يده» وهو‬
‫حديث صحيح رواه البخاري والترمذي والحاكم‪ .‬هذه الصفات أصبحت خاصة بعلي رضي ال عنه‪،‬‬
‫مما يدل على أفضليته وبالتالي أحقيته للمامة؛ لن المامة للفضل‪ .‬ورد أهل السنة على الستدلل‬
‫به بأنه ل ملزمة بين كونه محبا ل ولرسوله ومحبوبا منهما‪ ،‬وبين كونه إماما‪ ،‬كما ل يلزم من‬
‫إثباتهما له نفيهما عن غيره (‪ ، )2‬فقد قال ال تعالى في حق أبي بكر‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا من يرتد‬
‫منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة‪ ]54/5:‬وقال في حق أهل بدر‪{ :‬إن ال يحب‬
‫الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف‪.]4/61:‬‬
‫الدلة العقلية ‪:‬‬
‫استدل الشيعة بأدلة عقلية كثيرة على وجوب النص على المام من قبل ال ‪ ،‬وهي في جملتها تتفق مع‬
‫مبدئهم في عصمة المام‪ ،‬وتوجه النقد إلى طريقة تعيينه بالختيار‪.‬‬
‫من هذه الدلة قولهم (‪ : )3‬ل يجوز إسناد أمر المامة إلى الناس؛ لنها أهم أركان الدين‪ ،‬فالذي شرع‬
‫الحكام وجب عليه النص على من ل تتم الحكام الشرعية إل بنصبه لطفا من ال ورحمة منه بعباده‪.‬‬
‫ول يترك الختيار للمة؛ لن المام خليفة ال أو لرسوله‪ ،‬وليس خليفة للمة‪.‬‬
‫ثم إن ترك المامة لختيار الناس يفضي إلى اختلف الناس وانتشار الفتن وقيام التنازع والحروب‬
‫والهرج والمرج‪ ،‬وكل ذلك فساد في الرض‪ ،‬وال ل يحب الفساد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظرية المامة‪ ،‬صبحي‪ :‬ص ‪ 225‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 231‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬صبحي ‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 89‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/286‬‬

‫وليس الختيار مضمون النتائج‪ ،‬فقد يخطئ الناس في تعيين المستحق لهذا المنصب الخطير الذي هو‬
‫نظير منصب النبوة لقيامه بحراسة شؤون الدين والدنيا؛ وذلك أن كل شخص سيختارحسب مصلحته‬
‫الشخصية ل بمقتضى المصلحة الكلية والحكمة اللهية‪ ،‬بل إنه لم يحدث أن قامت إمامة على الختيار‬
‫الحر والمشيئة المطلقة لجمهور المسلمين‪.‬‬
‫يظهر من هذه الدلة ونحوها أنها هي النتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي بوجه عام لقيامه على‬
‫مبدأ سلطة المة وأحقيتها في اختيار المام‪ .‬ول شك أن ذلك صحيح‪ ،‬ولكن الفلسقة السياسيين ما‬
‫زالوا يحاولون إصلح الخلل الواقع في النظام الديمقراطي‪ ،‬كما أن الفقهاء المسلمين وضعوا ضوابط‬
‫وشروطا دقيقة في المرشح للخلفة سأذكرها‪ ،‬وفيما الضمانة الغالبة من الوقوع في خطأ الختيار‪.‬‬
‫الدلة التاريخية ‪:‬‬
‫إن اعتقاد الشيعة بضرورة النص على المام كان رد فعل لوقائع التاريخ التي صدمت أمانيهم (‪، )1‬‬
‫وأدت إلى نكبة آل البيت التي تستثير عاطفة كل مسلم صادق بعيد عن التأثرات السياسية‪.‬‬
‫إنهم يفترضون أنه ل بد من أن يعين الرسول صلّى ال عليه وسلم خليفة من بعده‪ ،‬حتى ل تقع أمته‬
‫في بحر من الفتن والضطرابات والختلفات التي أخبر عنها بقوله‪« :‬ستفترق أمتي على ثلث‬
‫وسبعين فرقة‪ )2( »..‬ولو جاء التاريخ والحاديث المدونة بغير ذلك‪ ،‬وجب أن نتشكك في وقائع‬
‫التاريخ وصحة الحاديث‪ ،‬ونتهمها بالكتمان وتشويه الحقيقة‪.‬‬
‫وأما أهل الحل والعقد الذين يختارون المام فكانوا مرتع النزاع والخصام والخلف‪ ،‬بسبب اعتقاد كل‬
‫واحد أنه أحق بزعامة المة‪ .‬والواقع ـ كما يرون ـ أنه لم تتم بيعة لمام بالختيار أو الشورى أو‬
‫رضا المة‪ ،‬إذ عين عمر بالنص من أبي بكر‪ ،‬وعثمان بالشورى بين ستة حددهم عمر ثم صارت‬
‫القضية بولية العهد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ 99‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح عن عوف بن مالك بلفظ «تفترق أمتي‬
‫على بضع وسبعين فرقة‪. »..‬‬

‫( ‪)8/287‬‬

‫ولكن يلحظ أن التاريخ ل تتقرر أحكامه بالفتراض‪ ،‬والحتمال المنطقي‪ ،‬وإنما يعتمد الخبر والرواية‬
‫والنظر في مدى صحتها وصدقها وتمحيص الوثائق المنقولة‪ .‬وما اعتمد عليه الشيعة من أخبار ناتج‬
‫عن الفكرة المسيطرة على أذهانهم سابقا بوجوب النص‪ ،‬واستخلف علي رضي ال عنه بالذات‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬أنه لم يثبت يقينا نص صريح قطعي يدل على إمامة علي أو غيره‪ ،‬ولم يصح في ذلك‬
‫شيء عند أحد من أئمة النقل (‪. )1‬‬
‫وحبذا لو طوينا هذا الخلف السياسي القديم بين أهل السنة والشيعة‪ ،‬وأنهينا كل ما خلفه من عصبيات‬
‫موروثة وخلفات جانبية‪ ،‬وأدركنا جميعا ضرورة الحفاظ على الوحدة السلمية‪ ،‬وحدة الصف أمام‬
‫العدو الخارجي فقط‪ ،‬وأن الكل مسلمون‪ ،‬يعملون للسلم دون تفرقة بين الطوائف؛ لن الخلف بينها‬
‫ليس في الصول قطعا‪ ،‬وإنما في جوانب هي أقل من الفروع والجزئيات‪ ،‬ول يصح أن نتحمل آثار‬
‫ومخلفات الماضي السياسية‪ ،‬ول أن تبقى سببا للخلف؛ لن الدين واحد‪ ،‬والعقيدة واحدة‪ ،‬والدستور‬
‫واحد واضح في القرآن والسنة‪ ،‬وخلف الرجال ل يصح أن يشتت وحدة المة‪.‬‬
‫تعيين المام بولية العهد أو الستخلف ‪:‬‬
‫ولية العهد‪ :‬هي أن يعهد المام إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه‪ ،‬ليخلفه بعد‬
‫وفاته‪ ،‬سواء أكان قريبا أم غير قريب‪.‬‬
‫رأى الفقهاء جواز انعقاد المامة بولية العهد أو باليصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الخلفة‪،‬‬
‫وتمت له البيعة من المة‪ .‬فهي إذن بمثابة ترشيح‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪.168‬‬

‫( ‪)8/288‬‬

‫واقتراح من الخليفة السابق‪ .‬قال الماوردي (‪ : )1‬وأما انعقاد المامة بعهد من قبله‪ ،‬فهو مما انعقد‬
‫الجماع على جوازه‪ ،‬ووقع التفاق على صحته لمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما‪:‬‬
‫أحدهما ـ أن أبا بكر رضي ال عنه عهد بها إلى عمر رضي ال عنه‪ ،‬فأثبت المسلمون إمامته‬
‫بعهده‪.‬‬
‫والثاني ـ أن عمر رضي ال عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها‪ ،‬وهم أعيان‬
‫العصر‪ ،‬اعتقادا لصحة العهد بها‪.‬‬
‫وأما ضرورة توافر شروط المام الشرعي في ولي العهد فهو أمر بدهي مفروغ منه‪ ،‬ككونه أمينا‬
‫ورعا ثقة مخلصا ل ‪ ،‬ناصحا للمسلمين‪ .‬قال الماوردي (‪ : )2‬وإذا عهد المام بالخلفة إلى من يصح‬
‫العهد إليه على الشروط المعتبرة‪ ،‬كان العهد موقوفا على قبول المولى‪ .‬وتعتبر شروط المامة في‬
‫المولى من وقت العهد إليه‪ ،‬فإن كان صغيرا أو فاسقا وقت العهد لم تصح خلفته حتى يستأنف أهل‬
‫الختيار بيعته‪.‬‬
‫ويتضح ذلك من حادثتي تولية أبي بكر لعمر‪ ،‬وتولية عمر لهل الشورى‪ ،‬فقد كان معيار الختيار هو‬
‫الحرص على رعاية مصالح المة‪ ،‬وانتقاء المستوفي لشروط المامة‪.‬‬
‫وأما رضا المة بالمولّى فهو أمر أساسي أيضا كما سنعرف‪ ،‬وهو الرأي الذي قرره بعض علماء‬
‫البصرة إذ قالوا‪ :‬إن رضا أهل الختيار لبيعته شرط في لزومها للمة؛ لنها حق يتعلق بهم‪ ،‬فلم‬
‫تلزمهم إل برضا أهل الختيار منهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.8‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.9‬‬

‫( ‪)8/289‬‬

‫ولسنا مع الماوردي الذي صحح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر؛ لن بيعة عمر رضي‬
‫ال عنه لم تتوقف على رضا الصحابة (‪ ، )1‬وذلك لن المام أو أهل الشورى كانوا يمثلون في‬
‫اختيارهم المة‪ ،‬وقد تمت فعلً بيعة عمر وعثمان رضي ال عنهما برضا المة وموافقتها‪.‬‬
‫يتضح من هذا أن المامة ل تورث‪ ،‬فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن المامة ل يصح أن تورث‪.‬‬
‫قال ابن خلدون‪« :‬وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على البناء‪ ،‬فليس من المقاصد الدينية‪ ،‬إذ‬
‫هو أمر من ال يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن‪ ،‬خوفا من العبث‬
‫بالمناصب الدينية» (‪ )2‬وقال ابن حزم‪« :‬ول خلف بين أحد من أهل السلم في أنه ل يجوز‬
‫التوارث فيها» (‪. )3‬‬
‫انعقاد المامة بالقهر والغلبة ‪:‬‬
‫رأى فقهاء المذاهب الربعة وغيرهم أن المامة تنعقد بالتغلب والقهر‪ ،‬إذ يصير المتغلب إماما دون‬
‫مبايعة أو استخلف من المام السابق وإنما بالستيلء‪ ،‬وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضا فيما بعد (‬
‫‪. )4‬‬
‫قال ابن المنذر (‪ : )5‬والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن دينه ودمه وماله وعرضه‬
‫ومظلمته‪ ،‬إذا أريد ظلما‪ ،‬بغير تفصيل‪ ،‬إل أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على‬
‫استثناء السلطان‪ ،‬للثار الواردة بالمر بالصبر على جوره‪ ،‬وترك القيام عليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.8‬‬
‫(‪ )2‬المقدمة‪ ،‬الفصل ‪.30‬‬
‫(‪ )3‬الفصل في الملل والنحل‪.167/4 :‬‬
‫(‪ )4‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،111/2 :‬حاشية ابن عابدين‪ 319/3 :‬ومابعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،132-130/4‬الحكام السلطانية لبي يعلى‪ :‬ص ‪ 6‬وما بعدها‪ ،‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪:‬‬
‫‪ ،298/4‬غاية المنتهى‪.348/3 :‬‬
‫(‪ )5‬تلخيص الحبير‪ ،15/4 :‬المغني‪ 638/7 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/290‬‬

‫وعبارة الحنفية في هذا الشأن هي كما قال الدهلوي‪ :‬تنعقد الخلفة باستيلء رجل جامع للشروط على‬
‫الناس‪ ،‬وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة‪ .‬ثم إن استولى من لم يجمع الشروط (أي المطلوبة‬
‫لتولي المامة) ل ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لن خلعه ل يتصور غالبا إل بحروب ومضايقات‪،‬‬
‫وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة‪ « .‬وسئل رسول ال صلّى ال عليه وسلم عنهم‪ ،‬فقيل‪:‬‬
‫أفل ننابذهم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة‪ ،‬وقال‪ :‬إل أن تروا كفرا َبوَاحا‪ ،‬عندكم من ال فيه برهان‬
‫(‪. » )1‬‬
‫يظهر من هذا الكلم أن القهر حالة استثنائية غير متفقة مع الصل الموجب لكون السلطة قائمة‬
‫بالختيار‪ ،‬وإقرارها فيه مراعاة لحال واقعة للضرورة ومنعا من سفك الدماء‪.‬‬
‫وعبارة المالكية كما قال الدسوقي‪ :‬اعلم أن المامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلثة‪:‬‬
‫إما بإيصاء الخليفة الول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لن من اشتدت وطأته بالتغلب‪،‬‬
‫وجبت طاعته‪ ،‬ول يراعى في هذا شروط المامة؛ إذ المدار على درء المفاسد‪ ،‬وارتكاب أخف‬
‫الضررين؛ وإما ببيعة أهل الحل والعقد‪ :‬وهم من اجتمع فيهم ثلثة أمور‪ :‬العلم بشروط المام‪،‬‬
‫والعدالة‪ ،‬والرأي‪.‬‬
‫وشروط المام‪ :‬الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشيا‪ ،‬وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلت‪ .‬وبيعة‬
‫أهل الحل تكون بالحضور والمباشرة بصفقة اليد‪ ،‬وإشهاد الغائب منهم‪ .‬ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت‬
‫أمره‪ ،‬فإن أضمر خلف ذلك فسق‪ ،‬ودخل تحت قوله عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ورد ذلك في رواية للبخاري من حديث رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن‬
‫الصامت (جامع الصول‪.)166-165/1 :‬‬

‫( ‪)8/291‬‬
‫«من مات وليس في عنقه بيعة‪ ،‬مات ميتة جاهلية» (‪. )1‬‬
‫وقال ابن حجر (‪ : )2‬أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه‪ ،‬وأن طاعته‬
‫خير من الخروج عليه‪ ،‬لما في ذلك من حقن الدماء‪ ،‬وتسكين الدهماء‪ ،‬ولم يستثنوا من ذلك إل إذا وقع‬
‫من السلطان الكفر الصريح‪ ،‬فل تجوز طاعته في ذلك‪ ،‬بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه‪ ،‬لحديث‬
‫البخاري عن عبادة‪« :‬إل أن تروا كفرا بَواحا عندكم من ال فيه برهان» ‪.‬‬
‫بيعة الخليفة ‪:‬‬
‫أولً ـ طريقة بيعة الخليفة ‪:‬‬
‫لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة المامية على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة‪ ،‬أي الختيار والتفاق‬
‫بين المة وشخص الخليفة‪ ،‬فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا‪.‬‬
‫وهذه النظرية سبقت نظرية الفقيه الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أن أساس السلطة السياسية‬
‫أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم في باب المارة‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري‪.112/16 :‬‬

‫( ‪)8/292‬‬

‫وسميت عملية التعاقد هذه (بيعة) تشبيها بفعل البائع والمشتري لنهم كانوا إذا بايعوا المير وعقدوا‬
‫عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد (‪. )1‬‬
‫قال الماوردي ‪ :‬فإذا اجتمع أهل العقد والحل للختيار‪ ،‬تصفحوا أحوال أهل المامة الموجودة فيهم‬
‫شروطها‪ ،‬فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلً‪ ،‬وأكملهم شروطا‪ ،‬ومن يسرع الناس إلى طاعته‪ ،‬ول‬
‫يتوقفون عن بيعته (‪. )2‬‬
‫وأهل الحل والعقد يمثلون المة في اختيارهم الخليفة (‪ ، )3‬باعتبار أن نصب المام من الفروض‬
‫الكفائية على المة بمجموعها‪ ،‬وأن لها الحق في عزله حال فسقه‪ .‬قال الرازي واليجي وغيرهما‪ :‬إن‬
‫المة هي صاحبة الرئاسة العامة (‪ . )4‬وقال البغدادي‪ :‬قال الجمهور العظم من أصحابنا (أي أهل‬
‫السنة) ومن المعتزلة والخوارج والنجارية‪ :‬إن طريق ثبوتها (أي المامة) الختيار من المة (‪. )5‬‬
‫وهذه يدلنا على أن المة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لن حق التعيين والعزل ثابت لها‪.‬‬
‫ثانيا ـ من هم أهل الحل والعقد؟‬
‫أ ـ أهل الحل والعقد ‪:‬‬
‫هم العلماء المختصون (أي المجتهدون) والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار المام نيابة عن‬
‫المة‪ .‬قال الماوردي‪ :‬وإن لم يقم بها (أي المامة)‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،174‬الفصل ‪.29‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،5‬حجة ال البالغة للدهلوي‪.111/2 :‬‬
‫(‪ )3‬راجع النظريات السياسية للريس‪ :‬ص ‪.170‬‬
‫(‪ )4‬المواقف‪.345/8 :‬‬
‫(‪ )5‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪.279‬‬

‫( ‪)8/293‬‬

‫أحد‪ ،‬خرج من الناس فريقان‪ :‬أحدهما ـ أهل الختيار‪ ،‬حتى يختاروا إماما للمة‪ .‬والثاني ـ أهل‬
‫المامة حتى ينتصب أحدهم للمامة‪ ،‬وليس على من عدا هذين الفريقين من المة في تأخير المامة‬
‫حرج ول مأثم (‪. )1‬‬
‫ب ـ شروطهم ‪:‬‬
‫يتحدد أولو الحل والعقد بالصفات أو الشروط المطلوبة فيهم‪ ،‬وهي كما ذكر الماوردي ثلثة هي (‪: )2‬‬
‫أولً ـ العدالة الجامعة لشروطها‪ .‬والعدالة‪ :‬هي ملكة تحمل صاحبها على ملزمة التقوى والمروءة‪،‬‬
‫والمراد بالتقوى‪ :‬امتثال المأمورات الشرعية‪ ،‬واجتناب المنهيات الشرعية‪.‬‬
‫ثانيا ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق المامة على الشروط المعتبرة فيها‪.‬‬
‫ثالثا ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للمامة أصلح‪ ،‬وبتدبير المصالح أقوى وأعرف‪.‬‬
‫وهذه الشروط يقرها المنطق وتمليها المصلحة‪ ،‬وتوجبها المدنية الحقة‪ ،‬ويفهم منها أن هذه الهيئة‬
‫بمثابة مجلس الشيوخ في عرفنا الحاضر‪ ،‬على أن يكون أعضاؤه من ذوي الكفاءات العلمية‪ ،‬ل المالية‬
‫المادية‪ ،‬أو الطبقية‪ ،‬أو كونهم من أهل المدينة ل الريف‪ .‬لذا قال الماوردي‪ :‬وليس لمن كان في بلد‬
‫المام على غيره من أهل البلد فضل مزية تقدم بها على غيره (‪ . )3‬ويلحظ أن أهل الحل والعقد‬
‫في السياسة ل يقتصر على ( المجتهدين ) الذي يتولون مهمة استنباط الحكام الشرعية من مصادرها‪،‬‬
‫وإنما يشمل فئات أخرى لها ميزاتها في المجتمع‪.‬‬
‫جـ ـ عددهم ‪:‬‬
‫ل نرى مجالً صحيحا للكلم في تحديد عدد أهل الحل والعقد؛ لن المعول عليه هو ثقة المة بهم‪،‬‬
‫وكونهم يمثلون المة فيما ترغب وتريد وتتوافرفيهم شروط معينة‪ ،‬فل يمكن تحديدهم‪ .‬لكن لمجرد‬
‫العلم والطلع أذكر ما قاله الفقهاء في هذا الشأن‪ ،‬وقد استعرض الماوردي آراءهم‪ ،‬فقال (‪: )4‬‬
‫اختلف العلماء في عدد من تنعقد به المامة منهم‪ ،‬على مذاهب شتى‪:‬‬
‫‪ - 1‬قالت طائفة‪ :‬ل تنعقد إل بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاما‪ ،‬والتسليم‬
‫لمامته إجماعا‪ ،‬وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي ال عنه على الخلفة باختيار من حضرها‪،‬‬
‫ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقالت طائفة أخرى‪ :‬أقل من تنعقد به منهم المامة خمسة يجتمعون على عقدها‪ ،‬أو يعقدها‬
‫أحدهم برضا الربعة استدللً بأمرين‪:‬‬
‫أحدهما ـ أن بيعة أبي بكر رضي ال عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها‪ ،‬ثم تابعهم الناس فيها‪ ،‬وهم‬
‫عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وبشر بن سعد‪ ،‬وسالم مولى أبي حذيفة‬
‫رضي ال عنهم‪.‬‬
‫والثاني ـ أن عمر رضي ال عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لحدهم برضا الخمسة‪.‬‬
‫وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقال آخرون من علماء الكوفة‪ :‬تنعقد بثلثة يتولها أحدهم برضا الثنين ليكونوا حاكما‬
‫وشاهدين‪ ،‬كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين‪.‬‬
‫‪ - 4‬وقالت طائفة أخرى‪ :‬تنعقد بواحد؛ لن العباس قال لعلي رضوان ال عليهما‪ :‬امدد يدك أبايعك‪،‬‬
‫فيقول الناس‪ :‬عم رسول ال صلّى ال عليه وسلم بايع ابن عمه‪ ،‬فل يختلف عليك اثنان؛ ولنه (أي‬
‫إىجاب العقد) حكم‪ ،‬وحكم واحد نافذ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ 3‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬و (‪ )3‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.4‬‬
‫(‪ )4‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ 4‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/294‬‬

‫د ـ موافقة المة ‪:‬‬


‫الحقيقة أنه ل دليل من نص أو إجماع على ما قال هؤلء جميعا في تحديد العدد‪ ،‬والقضية مجرد‬
‫اجتهاد‪ ،‬فيعتبر مذهب أهل ا لسنة هو أولى الراء بالتباع‪ ،‬وهوأن تحديد العدد فيه تعسف‪ .‬وينبغي‬
‫مراعاة مبدأ الختيار والشورى من المة‪ ،‬ومثل هذه المور العامة ل تقاس على أحكام القضاة‬
‫الخاصة في قضية معينة‪ .‬فإذا عقد البيعة شخص واحد ل تنعقد حتى تتم موافقة المة ورضاها‪ .‬قال‬
‫الغزالي في بيعة أبي بكر رضي ال عنه‪ :‬ولو لم يبايعه غيرعمر‪ ،‬وبقي كافة الخلق مخالفين أو‬
‫انقسموا انقساما متكافئا ل يتميز فيه غالب عن مغلوب‪ ،‬لما انعقدت المامة (‪. )1‬‬
‫وقال المام أحمد في تفسير‪« :‬من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» ‪ :‬أتدري ما المام؟ المام‬
‫الذي يجمع عليه المسلمون‪ ،‬كلهم يقول‪ :‬هذا إمام‪ ،‬فهذا معناه (‪ . )2‬وقال ابن تيمية في مبايعة أبي‬
‫بكر‪« :‬لو قدر أن عمر وطائفة معه بايعوه‪ ،‬وامتنع سائر الصحابة عن البيعة‪ ،‬لم يصر إماما بذلك‪،‬‬
‫وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الرد على الباطنية‪ :‬ص ‪ 64‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬منهاج السنة النبوية لبن تيمية‪ ،142/1 :‬ط بولق‪.‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق‪.141/1 :‬‬

‫( ‪)8/295‬‬

‫هـ ـ وظيفة أهل الحل والعقد ‪:‬‬


‫يتبين مما ذكر أن مهمة هؤلء مقصورة على الترشيح والترجيح على وفق المصلحة والعدل‪ .‬وقد حدد‬
‫الماوردي ضوابط الختيار‪ ،‬فقال (‪ : )1‬فإذا اجتمع أهل العقد والحل للختيار‪ ،‬تصفحوا أحوال أهل‬
‫المامة الموجودة فيهم شروطها‪ ،‬فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلً‪ ،‬وأكملهم شروطا‪ ،‬ومن يسرع‬
‫الناس إلى طاعته‪ ،‬ول يتوقفون عن بيعته‪ ،‬فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الجتهاد إلى‬
‫اختياره‪ ،‬عرضوها عليه‪ ،‬فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له المامة‪ ،‬فلزم كافة المة‬
‫الدخول في بيعته والنقياد لطاعته‪ .‬وإن امتنع من المامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها؛ لنها عقد‬
‫مراضاة واختيار‪ ،‬ل يدخله إكراه ول إجبار‪ ،‬وعدل عنه إلى سواه من مستحقيها‪.‬‬
‫ثم بين الماوردي صعوبة مهمة أهل الختيار عند تكافؤ المرشحين‪ ،‬فوضع لهم الضوابط التي يتمكنون‬
‫بها من إنجاح مهمتهم‪ ،‬فقال‪ :‬فلو تكافأ في شروط المامة اثنان قدم لها اختيارا أسنهما‪ ،‬وإن لم تكن‬
‫زيادة السن مع كمال البلوغ شرطا‪ ،‬فإن بويع أصغرهما سنا جاز‪ .‬ولو كان أحدهما أعلم والخر‬
‫أشجع روعي في الختيار ما يوجبه حكم الوقت‪ .‬فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لنتشار‬
‫الثغور وظهور البغاة‪ ،‬كان الشجع أحق‪ .‬وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء‪،‬‬
‫وظهور أهل البدع‪ ،‬كان العلم أحق‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.5‬‬

‫( ‪)8/296‬‬

‫ثالثا ـ طريقة اختيار الخلفاء الراشدين ‪:‬‬


‫أذكر بإيجاز طريقة اختيار الخلفاء الربعة الراشدين لتوكيد أن البيعة من المة هي أساس التعيين‪ ،‬ل‬
‫النص‪ ،‬ول العهد‪ ،‬ول الغلبة‪ ،‬ول الوراثة ونحوها‪ .‬علما بأن النبي صلّى ال عليه وسلم لم يبين للناس‬
‫كيفية اختيار الخليفة ولم ينص على خليفة معين‪ ،‬وفي ذلك حكمة بالغة‪ ،‬هي ترك المجال مفتوحا‬
‫لرادة المة تفعل ما يحقق المصلحة دون تحديد لشكل الحكم وأساليب التعيين‪ ،‬وإنما تتصرف بكامل‬
‫حريتها وفقا لما يتناسب مع كل زمان ومكان؛ لن المهم هو قيام الحاكم بواجباته أو وظائفه الدينية‬
‫والدنيوية معا في ظل من رقابة المة‪ ،‬حتى ل يعتقد أحد من الحكام باستمداد سلطانه من ال‪ ،‬أوأنه‬
‫في مرتبة النبي الذي ل يعارض قوله أو فعله أو حكمه‪.‬‬
‫‪ - 1‬أبو بكر الصديق ‪:‬‬
‫لقد تم انتخاب أبي بكر الخليفة الول بعد رسول ال صلّى ال عليه وسلم في أحدث صورة لمؤتمر‬
‫سياسي جرى فيه نقاش حاد بين المهاجرين والنصار في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة الرسول صلّى‬
‫ال عليه وسلم وقبل دفنه‪ ،‬وكان قصدهم من النقاش هو تحقيق مصلحة السلم وخير المسلمين‪ .‬وكان‬
‫عمر هو أول من رشح أبا بكر رضي ال عنه‪ ،‬ووافقه أهل العقد والحل‪ ،‬وبايعه المسلمون جميعا‪ ،‬من‬
‫وافق منهم أو خالف في أثناء النقاش (‪ . )1‬حتى إن عليا كرم ال وجهه الذي انتابه مرض بسبب وفاة‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم بايع أبا بكر بعد برئه‪.‬‬
‫‪ - 2‬عمر بن الخطاب ‪:‬‬
‫كان اختيار عمر رضي ال عنه بترشيح من أبي بكر في صورة عهد إلى المسلمين‪ ،‬بعد استشارة أهل‬
‫الحل والعقد‪ ،‬ثم بايعه المسلمون ورضوا به‪ .‬فعندما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر سجل الجلسة في تاريخ الطبري‪ ،199/3 :‬وفي طبقات ابن سعد‪ ،179/3 :‬وصحيح‬
‫البخاري‪.7/5 :‬‬
‫( ‪)8/297‬‬

‫أحس أبو بكر بدنو أجله‪ ،‬طلب من الناس أن يؤمّروا عليهم واحدا في حال حياته‪ ،‬حتى ل يختلفوا‬
‫بعده‪ ،‬خشية على المسلمين من التفرق بعد أن بدؤوا الحرب مع فارس والروم‪ ،‬فردوا المر إليه في‬
‫أن يختار لهم من يرى فيه الخير ولهم وللدين‪ .‬فاستمهل ثم بدأ مشاوراته مع كبار الصحابة وأهل‬
‫الرأي‪ ،‬سائلً الواحد تلو الخر في ترشيح عمر‪ ،‬وكان من أشهر من استدعاهم عثمان وعبد الرحمن‬
‫بن عوف وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير وغيرهم من المهاجرين والنصار‪ ،‬فأثنوا عليه خيرا‪،‬‬
‫وتخوف بعضهم وهو ابن عوف من شدته (غلظته)‪ ،‬فأجابه أبو بكر بقوله‪ :‬ذلك لنه يراني رقيقا‪ ،‬ولو‬
‫أفضى المر إليه لترك كثيرا مما هو عليه‪ .‬وبعد أن أتم أبو بكر مشاوراته‪ ،‬أملى على عثمان عهده‬
‫إلى المسلمين‪ ،‬ثم أشرف على الناس وزوجته أسماء بنت عميس تمسكه‪ ،‬فقال‪ :‬أترضون بمن‬
‫استخلفت عليكم‪ ،‬فإني وال ما ألوت من جهد الرأي‪ ،‬ول وليت ذا قرابة؟! وإني قد استخلفت عمر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬فاسمعوا له وأطيعوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬سمعنا وأطعنا‪.‬‬
‫ثم أمر أبو بكر عثمان بتبليغ الناس وأخذ البيعة‪ ،‬فذهب ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي‪ ،‬فقال‬
‫عثمان للناس‪ :‬أتبايعون لمن في هذا الكتاب (أي لعمر)؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ .‬وبعد تمام البيعة بايعه أبو بكر‬
‫معلنا أنه لم يرد إل صلح المسلمين وإبعادهم عن الفتنة‪ ،‬وأوصاه بما هو خير (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬عثمان بن عفان ‪:‬‬
‫يبدو لنا في صورة اختيار عثمان مظهر الشورى بشكل أوضح‪ ،‬إذ أن عمر رضي ال عنه وهو‬
‫صحيح حدد لجنة الشورى في ستة ‪ :‬وهم (‪ )2‬علي والزبير بن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع طبقات ابن سعد‪ ،200 ،122/3 :‬تاريخ الطبري‪.54-51/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ السلم السياسي للدكتور حسن إبراهيم‪ 254/1 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/298‬‬

‫العوام‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وطلحة بن عبيد ال ‪ ،‬وسعد ابن أبي وقاص‪.‬‬
‫وعين لهم مدة ثلثة أيام للختيار‪ ،‬ورسم لهم خطة المشاورة‪ ،‬بالخذ برأي الكثرية‪ ،‬فإن تساووا‬
‫يرجح الجانب الذي فيه عبد ال بن عمر‪ ،‬أي في حالة تساوي الصوات‪ ،‬فإن لم يرضوا بحكم عبد ال‬
‫بن عمر‪ ،‬فليكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف‪ .‬وأمر بضرب عنق من خالف بعدئذ‪ .‬وخلف‬
‫على أصحاب الشورى أبا طلحة في خمسين من قومه من النصار‪ ،‬في أل يتركهم يمضي اليوم‬
‫الثالث حتى يؤمروا أحدهم‪ ،‬وقال له عمر قبل موته بساعة‪ :‬اللهم أنت خليفتي عليهم‪.‬‬
‫وقام أهل الشورى هؤلء بإجراء مشاورات طوال اليام الثلثة ليلً نهارا‪ ،‬وكان عبد الرحمن ـ الذي‬
‫خلع نفسه من الخلفة ـ يلقى أصحاب رسول ال ‪ ،‬ومن وافى المدينة من أمراء الجناد وأشراف‬
‫الناس‪ ،‬يشاورهم‪ ،‬فوجد الناس يجمعون على أحد اثنين‪ :‬عثمان أو علي‪ .‬إل أن أكثرية أهل الشورى‬
‫والمسلمين رغبوا بعثمان لما عرفوا فيه من لين ورحمة وأفضال على الناس بتجهيز جيش العسرة من‬
‫ماله وشراء بئر رومة وجعله سبيلً للمسلمين يسقون منه‪ .‬ثم جمع عبد الرحمن المسلمين في المسجد‪،‬‬
‫واستوثق من عثمان وعلي بالعمل بكتاب ال وسنة رسوله وسيرة الخليفتين الراشدين من قبله بالعدل‬
‫والنصاف‪ ،‬ثم بايع (أي عبد الرحمن) عثمان رضي ال عنه وتابعه المسلمون بالمبايعة‪ ،‬وفيهم علي‬
‫بن أبي طالب بعد أن تأخر عن المبايعة بسبب مرضه‪.‬‬
‫ولم تكن مبايعة عبد الرحمن محاباة ول ظلما كما قد ظن بعض الناس‪ ،‬وإنما كانت تعبيرا أمينا صادقا‬
‫عن آراء المة ومشاوراته الليالي واليام مع أكابرها ومتقدميها‪ .‬مع ما عرف من فضله ونبله وسابقته‬
‫في السلم وعلمه وزهده في الخلفة وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للمة‪ ،‬كما أبان الباقلني‬
‫( ‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع التمهيد للباقلني‪ :‬ص ‪ 208‬وما بعدها‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،78/9 :‬تاريخ الطبري‪،13/5 :‬‬
‫‪ ،41-34‬طبقات ابن سعد‪.61/3 :‬‬

‫( ‪)8/299‬‬

‫‪ - 4‬علي بن أبي طالب ‪:‬‬


‫لقد ترتب على الفتنة الكبرى بمقتل عثمان رضي ال عنه ووقوع الفوضى بالمدينة أحداث خطيرة في‬
‫تاريخ السلم أثّرت في خلفة علي رضي ال عنه تأثيرا بالغا منذ بداية عهده بها‪ .‬فلم يتوافر له‬
‫التفاق أو الجماع الشامل الذي حظي به الخلفاء السابقون‪ .‬فبايعه كبار المهاجرين والنصار في‬
‫المدينة وأهل المصار والمصريون‪ ،‬ولم يبايعه أهل الشام وبنو أمية بزعامة معاوية بن أبي سفيان‪،‬‬
‫ونقل عن طلحة والزبير أنهما بايعاه مكرهين‪ ،‬ثم خرجا من المدينة إلى مكة ثم إلى البصرة مع عائشة‬
‫مطالبين بدم عثمان رحمه ال ‪ ،‬فقاتلهما علي كرم ال وجهه يوم الجمل‪ ،‬وقتل في هذه المعركة‪ .‬ولكن‬
‫بالرغم من أن سيدنا علي كرم ال وجهه قد استنكر قتل عثمان‪ ،‬ولزم بيته‪ ،‬أصرالمهاجرون والنصار‬
‫على بيعته حسما للفتنة وصيانة لدار الهجرة‪ ،‬فطلب حينئذ منهم عقدها في المسجد علنية وعن رضا‬
‫المسلمين‪ ،‬ورضي في ذلك بعد شدة‪ ،‬وبعد أن رآه مصلحة (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن اختيار الخليفة يتم أساسا ببيعة أكثر المسلمين العامة‪،‬بعد ترشيح أولي النظر والرأي أو‬
‫أهل الحل والعقد‪ ،‬عملً بمبدأ الشورى قاعدة الحكم في السلم‪{ :‬وأمرهم شورى بينهم} [الشورى‪:‬‬
‫‪ .]42/38‬وأما العهد السابق من الخليفة فل يعدو أن يكون مجرد ترشيح ل أثر له إذا لم تنضم إليه‬
‫البيعة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر التمهيد‪ :‬ص ‪ 227‬وما بعدها‪ ،‬ابن سعد‪ 31/3 :‬وما بعدها‪ ،‬الطبري‪ 152/5 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/300‬‬

‫العامة (‪ . )1‬وهذا ماكان يفعله الناس في عهد الراشدين ومن بعدهم من خلفاء المويين‪ .‬لكن باستثناء‬
‫خلفة عمر بن عبد العزيز (‪ )2‬رحمه ال ‪ ،‬برزت صفة وراثة الحكم التي ابتكرها معاوية‪ ،‬واستمرت‬
‫سنّة متبعة دون مراعاة الشروط المطلوبة شرعا في الخليفة أحيانا‪ ،‬وحرصا على الحفاظ على وحدة‬
‫المسلمين‪ ،‬واستمرار الفتوح‪ ،‬وبقاء الدولة قوية في وجه أعداء السلم‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ شروط المام ‪:‬‬
‫اشترط العلماء في المرشح للخلفة أو الوزراة وفي أثناء عمله شروطا سبعة هي (‪: )3‬‬
‫أولً ـ أن يكون ذا ولية تامة بأن يكون مسلما‪ ،‬حرا ‪ ،‬ذكرا‪ ،‬بالغا‪ ،‬عاقلً‪.‬‬
‫أما اشتراط السلم فلنه يقوم بحراسة الدين والدنيا‪ ،‬وإذا كان السلم شرطا في جواز الشهادة‪ ،‬فهو‬
‫شرط في كل ولية عامة‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء‪:‬‬
‫‪.]141/4‬‬
‫وأما اشتراط الحرية فلنه وصف كمال‪ ،‬فل يعقل أن يكون صاحب الولية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع نظام الحكم في السلم لستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى‪ :‬ص ‪ 118‬وما بعدها‪،‬‬
‫النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس‪ :‬ص ‪.194‬‬
‫(‪ )2‬خلع عمر نفسه بعد أن قرئ كتاب العهد له من سليمان بن عبد الملك على الناس‪ ،‬فصعد المنبر‬
‫وقال‪« :‬إني وال ما استؤمرت في هذا المر‪ ،‬وأنتم بالخيار» وفي رواية أخرى‪« :‬أيها الناس‪ ،‬إني قد‬
‫ابتليت بهذا المر من غير رأي مني ول طلبة له ول مشورة من المسلمين‪ ،‬وإني قد خلعت ما في‬
‫أعناقكم من بيعتي‪ ،‬فاختاروا لنفسكم» ‪ .‬ونظرا لهذا الموقف المشرف‪ ،‬وبسبب عدالته في الحكم كان‬
‫خامس الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫(‪ )3‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،111/2 :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.4‬‬

‫( ‪)8/301‬‬

‫أدنى رتبة من المولى عليهم‪ .‬قال الماوردي‪ :‬تشترط الحرية؛ لن نقص العبد عن ولية نفسه يمنع من‬
‫انعقاد وليته على غيره‪ ،‬ولن الرق لما منع من قبول الشهادة‪ ،‬كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم‬
‫وانعقاد الولية (‪. )1‬‬
‫وأما الذكورة فلن عبء المنصب يتطلب قدرة كبيرة ل تتحملها المرأة عادة‪ ،‬ول تتحمل المسؤولية‬
‫المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لن‬
‫يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (‪ )2‬لذا أجمع الفقهاء على كون المام ذكرا‪.‬‬
‫وأما البلوغ فأمر بدهي؛ لن الصبي ليس كفئا لمثل هذه المهام الكبرى‪ ،‬فهو غير مسؤول عن أفعاله‪،‬‬
‫ول يتعلق بفعله حكم معين (‪. )3‬‬
‫وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أوعام‪ .‬ول يكفي فيه الحد الدنى للمطالبة بالتكاليف‬
‫الشرعية من صلة وصيام ونحوهما‪ ،‬بل ل بد فيه من رجحان الرأي‪ ،‬بأن يكون صاحبه صحيح‬
‫التمييز‪ ،‬جيد الفطنة بعيدا عن السهو والغفلة‪ ،‬يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل‪،‬‬
‫كما قال الماوردي (‪. )4‬‬
‫ثانيا ـ العدالة‪ :‬أي الديانة والخلق الفاضلة‪ ،‬وهي معتبرة في كل ولية‪ ،‬وهي أن يكون صادق‬
‫اللهجة‪ ،‬ظاهر المانة‪ ،‬عفيفا عن المحارم‪ ،‬متوقيا المآثم‪ ،‬بعيدا من الريب‪ ،‬مأمونا في الرضا‬
‫والغضب‪،‬مستعملً لمروءة مثله في دينه ودنياه‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة‪ ،‬وقد سبق تخريجه في بحث‬
‫القضاء‪.‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق‪ :‬الفصل في الملل والنحل لبن حزم‪.110/4 :‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/302‬‬
‫كما قال الماوردي (‪ . )1‬وفي الجملة‪ :‬هي التزام الواجبات الشرعية‪ ،‬والمتناع عن المنكرات‬
‫والمعاصي المحرمة في الدين‪.‬‬
‫ثالثا ـ الكفاية العلمية بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الجتهاد فيما يطرأ من نوازل‬
‫وأحداث‪ ،‬أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية‪ .‬وهذا الشرط متفق عليه‬
‫بين العلماء (‪ . )2‬ول يكون العالم مجتهدا إل إذا علم الحكام الشرعية وكيفية استنباطها من‬
‫مصادرها الشرعية الربعة‪ :‬وهي القرآن والسنة والجماع والقياس‪ .‬وأن يعرف أحوال العصر وما‬
‫طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية‪.‬‬
‫رابعا ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والدارية‪ ،‬قال الماوردي‪ :‬الرأي المفضي إلى‬
‫سياسة الرعية وتدبير المصالح (‪ ، )3‬وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة‬
‫الكافية بشؤون الناس وأمور البلد وحاجات الحكم والسياسة (‪. )4‬‬
‫خامسا ـ صلبة الصفات الشخصية‪ :‬بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة‬
‫(الوطن) وجهاد العدو‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬وإنصاف المظلوم من الظالم‪ ،‬وتنفيذ الحكام السلمية (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.62‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،62 ،4‬الرشاد إلى قواطع الدلة في أصول العتقاد لمام الحرمين‪ :‬ص‬
‫‪ ،426‬الرد على الباطنية للغزالي‪ :‬ص ‪.75‬‬
‫(‪ )3‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.4‬‬
‫(‪ )4‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪ ،277‬المواقف لليجي‪ ،349/8 :‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪،161‬‬
‫الفصل ‪ ،26‬ط المهدي‪.‬‬
‫(‪ )5‬المراجع السابقة‪ ،‬العقائد النسفية‪ :‬ص ‪.145‬‬

‫( ‪)8/303‬‬

‫سادسا ـ الكفاية الجسدية‪ :‬وهي سلمة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما‬
‫يدرك بها‪ .‬وسلمة العضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض (‪. )1‬‬
‫فإن طرأ نقص على بدن المام مما يخل بهذا الشرط‪ ،‬فقد بحث الماوردي ـ مؤسس القانون‬
‫الدستوري والداري في السلم أثر ذلك على استدامة المامة مما ل نجد له مثيلً عند غيره‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ينقسم النقص ثلثة أقسام (‪: )2‬‬
‫أحدها ـ نقص الحواس‪ .‬والثاني ـ نقص العضاء‪ .‬والثالث ـ نقص التصرف‪.‬‬
‫أ ـ فأما نقص الحواس فينقسم ثلثة أقسام‪ :‬قسم يمنع من المامة‪ ،‬وقسم ل يمنع‪ ،‬وقسم مختلف فيه‪:‬‬
‫فأما القسم المانع منها فشيئان‪ :‬أحدهما ـ زوال العقل‪ ،‬والثاني ـ ذهاب البصر‪ .‬وأما القسم الثاني من‬
‫الحواس التي ل يؤثر فقدها في المامة فشيئان أحدهما ـ الخشم في النف الذي ل يدرك به شم‬
‫الروائح‪ .‬والثاني ـ فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم‪ ،‬فل يؤثر هذ في عقد المامة؛ لنهما يؤثران‬
‫في اللذة‪ ،‬ول يؤثران في الرأي والعمل‪.‬‬
‫وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيه فشيئان‪ :‬الصمم والخرس‪ :‬فيمنعان من ابتداء عقد المامة؛‬
‫لن كمال الوصاف بوجودهما مفقود‪ .‬واختلف في الخروج بهما من المامة‪ ،‬فقالت طائفة‪ :‬يخرج‬
‫بهما منها‪ ،‬كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل‪ ،‬وهو أصح المذاهب‪.‬‬
‫وقالت طائفة‪ :‬ل يخرج بهما من المامة لقيام الشارة مقامهما‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من المامة‪ ،‬وإن كان ل يحسنها خرج من المامة‬
‫بهما؛ لن الكتابة مفهومة‪ ،‬والشارة موهومة‪.‬‬
‫ب ـ وأما فقد العضاء فينقسم أربعة أقسام‪:‬‬
‫أحدها ـ ما ل يؤثر على الترشيح للمامة ول على استدامتها‪ :‬وهو ما ل يؤثر فقده في رأي ول‬
‫عمل ول نهوض ول يشين في المنظر‪ ،‬مثل قطع الذكر والنثيين وقطع الذنين‪.‬‬
‫الثاني ـ ما يمنع من عقد المامة ومن استدامتها‪ :‬وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين‪ ،‬أو من‬
‫النهوض كذهاب الرجلين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر التفصيل في الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،19-16‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬الفصل ‪ ،26‬ص ‪.161‬‬

‫( ‪)8/304‬‬

‫الثالث ـ ما يمنع من عقد المامة‪ ،‬واختلف في أثره على استدامتها‪ :‬وهو ما ذهب به بعض العمل أو‬
‫فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرّجلين‪ ،‬فذلك يمنع الترشيح للمامة‪ .‬وأما‬
‫استدامتها ففي إنهاء وليته مذهبان‪ :‬أحدهما‪ :‬تنتهي إمامته‪ ،‬والثاني ل تنتهي‪.‬‬
‫الرابع ـ ما ل يمنع من استدامة المامة‪ ،‬واختلف في أثره على صلحية الترشيح‪ ،‬وهو ما يؤدي إلى‬
‫تشويه الجسد‪ ،‬ولكن ل يؤثر في عمل ول في نهضة كجدع النف وسمل إحدى العينين‪ .‬فذلك ل يؤثر‬
‫على بقائه في المامة‪ .‬واختلف في منعه من الترشيح لها على مذهبين‪ :‬أحدهما يمنع‪ ،‬والخر ل يمنع‪.‬‬
‫جـ ـ وأما نقص التصرف فنوعان‪ :‬حجر وقهر‪.‬‬
‫فأما الحجر‪ :‬فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ المور من غير تظاهر بمعصية ول‬
‫مجاهرة بمشاقة‪ ،‬فل يمنع صحة وليته‪ ،‬ولكن ينظر في أفعال المتسلط على أموره‪ ،‬فإن وافقت أحكام‬
‫الشرع والعدل أقر عليها‪ ،‬وإن خالفت أحكام الدين ومقتضى العدل‪ ،‬لم يقر عليها ووجب تنحية‬
‫المتسلط‪ .‬وأما القهر‪ :‬فهو أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ل يقدر على الخلص منه‪ ،‬فيمنع ذلك‬
‫من ترشيحه للخلفة‪ .‬فإن أسر بعد انعقاد المامة له‪ ،‬وجب على كافة المة استنقاذه من السر‪ ،‬ول‬
‫يخلع من المامة إل إذ يئس المسلمون من استخلصه من السر‪.‬‬
‫سابعا ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلفة من قريش‪ ،‬وهذا الشرط مختلف فيه (‪ ، )1‬أما‬
‫الشروط السابقة فمتفق عليها في الجملة‪.‬‬
‫فقال أهل السنة‪ :‬يجب كونه من قريش لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الئمة من قريش» «قدموا‬
‫قريشا ولتقدموها» «ل يزال هذا المر في هذا الحي من قريش ما استقاموا» أو «ما أقاموا الدين» (‬
‫‪. )2‬‬
‫وقال الخوارج‪ ،‬والمعتزلة بعدهم‪ :‬إن المامة حق لكل مسلم متى استكمل الشروط الخرى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،4‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،162‬الفصل ‪ ،26‬الملل والنحل‬
‫للشهرستاني‪ ،199/1 :‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪ ،275‬المواقف‪.392/8 :‬‬
‫(‪ )2‬حديث «الئمة من قريش» رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب‪ ،‬وأخرج مسلم‬
‫عن جابر‪« :‬الناس تبع لقريش في الخير والشر» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة‪« :‬الناس تبع‬
‫لقريش في هذا الشأن‪ ،‬مسلمهم لمسلمهم‪ ،‬وكافرهم لكافرهم» وروى الطبراني عن علي‪« :‬قدموا قريشا‬
‫ول تقدموها» وروى الطبراني عن ثوبان «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم‪( »...‬مجمع الزوائد‪:‬‬
‫‪ ،228/5‬الترغيب والترهيب‪.)170/3 :‬‬

‫( ‪)8/305‬‬

‫ولكن يلحظ أن الفقهاء الشرعيين الذين نظروا إلى شرط النسب في المامة‪ ،‬وفي بعض الحكام‬
‫الخاصة كالكفاءة بين الزوجين في الزواج‪ ،‬ل يتنافى رأيهم مع مبدأ المساواة المقرر في السلم بين‬
‫الناس؛ لن المساواة مطلوبة فيما ثبت للفراد من الحقوق أو كلفوا به من الواجبات‪ .‬وقضية المامة‬
‫والكفاءة روعي فيها‬
‫عرف الناس وعاداتهم وتوفير المصلحة التي ل يعقبها نزاع‪ ،‬وكون الحق فيها مقصورا على من‬
‫حددهم الشرع لحكمة معينة (‪. )1‬‬
‫وبما أن قريشا كانت لها الصدارة بين العرب‪ ،‬وتألف شؤون المدنية والجتماع ويتبعها أكثر الناس‪،‬‬
‫وكلمتها نافذة بين القبائل منذ الجاهلية‪ ،‬فمن المصلحة إناطة المر العام والسياسة بها‪ ،‬فإذا تغير المر‬
‫وأصبحت الغلبة لمن ترضى عنه أكثرية الناس بالنتخاب ونحوه‪ ،‬فل مانع في تقديري من عقد‬
‫المامة له‪ ،‬كالخلفة العثمانية ونحوها‪.‬‬
‫ومن هنا رأى ابن خلدون أن الحكمة في اختصاص قريش بهذه الميزة هي كونها صاحبة العصبية‬
‫التي تكون بها الحماية والمطالبة‪ ،‬ويرتفع الخلف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب‪ ،‬فتسكن إلىه‬
‫الملة وأهلها‪ ،‬وينتظم حبل اللفة فيها‪.‬‬
‫وعقب الدكتور ضياء الدين الريس وغيره على ذلك بأن السلم لما لم يقر فكرة العصبية كغاية في‬
‫التشريع أو كأساس في تكوين المجتمعات‪،‬فإن المعول عليه توفير القوة والطاعة‪ ،‬وبما أن ذلك لم يعد‬
‫يعتمد على العصبية كما كان في الماضي‪ ،‬بل أصبح مستمدا من نظام الدولة وما تملك من جيوش‪،‬‬
‫فإن هذا الشرط لم يعد ضروريا‪ ،‬ويكفي أن يختار الخليفة بالطريقة المشروعة‪ ،‬وأن يحوز رضا‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ويلزم من هذا أن يكون الشرط الن هو أن القائم بأمور المسلمين يجب أن يكون متبوعا من الكثرة‬
‫الغالبة‪ ،‬ليكون مطاعا مرضيا عنه‪ ،‬ذا قوة مستمدة من الرادة العامة‪ ،‬فيترتب على وجوده حصول‬
‫الوحدة‪ ،‬وتنتفى دواعي الخلف (‪. )2‬‬
‫ول يجوز تعدد المام في وقت واحد‪ ،‬لن ذلك يؤدي لتفريق المسلمين في أقطارهم وبلدانهم‪،‬‬
‫والواجب حفاظهم على وحدتهم الدولية‪ ،‬أما تعدد الدول السلمية الن‪ ،‬فهو واقع اقتضته ظروف‬
‫المجتمع الدولي القليمي‪ ،‬ويمكن تحقيق الوحدة بينهم في السياسة والقتصاد والجيش والتمثيل‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قارن النظريات السياسية السلمية للدكتور الريس‪ :‬ص ‪ ،254‬حيث اعتبر شرط النسب منافيا‬
‫لمبدأ المساواة المقرر في اليات والحاديث النبوية‪.‬‬
‫(‪ )2‬النظريات السياسية‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،257‬السلطات الثلثة للدكتور سليمان الطماوي‪ :‬ص‬
‫‪ 259‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/306‬‬
‫المبحث الخامس ـ وظائف المام (أو واجباته واختصاصاته )‬
‫حدد الفقهاء واجبات المام أو ظائفه بعشرة أمور أساسية‪ ،‬يمكن أن يتفرع عنها عدة اختصاصات‬
‫أخرى بحسب تغير الظروف والوضاع والتطورات الحادثة (‪ ، )1‬ويمكن تصنيفها أو قسمتها إلى‬
‫وظائف دينية ووظائف سياسية‪.‬‬
‫الوظائف الدينية وهي أربعة ‪:‬‬
‫أولً ـ حفظ الدين‪ :‬أي المحافظة على أحكامه وحماية حدوده وعقاب مخالفيه‪ .‬قال الماوردي‪« :‬حفظ‬
‫الدين على أصوله المستقرة‪،‬وما أجمع عليه سلف المة‪ .‬فإن نجم مبتدع‪ ،‬أو زاغ ذو شبهة عنه‪،‬‬
‫أوضح له الحجة‪ ،‬وبين له الصواب‪ ،‬وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود‪ ،‬ليكون الدين محروسا من‬
‫خلل‪ ،‬والمة ممنوعة من زلل» ‪.‬‬
‫ثانيا ـ جهاد العداء‪ :‬أي قتال من عاند السلم بعد الدعوة حتى يسلم‪ ،‬أو يدخل في الذمة‪ ،‬ليقام بحق‬
‫ال تعالى في إظهاره على الدين كله‪ .‬وهذا مشروط بوجود قوة للمسلمين ووجود عدوان على دعاة‬
‫السلم أو بلده‪ ،‬كما سيبين في بحث السلم والحرب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،14‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ ،11‬حجة ال البالغة للدهلوي‪،132/2 :‬‬
‫غاية المنتهى‪.349/3 :‬‬

‫( ‪)8/307‬‬

‫ثالثا ـ جباية الفيء والصدقات(‪ . ) 1‬والمقصود بالفيء والغنائم‪ :‬الموال التي تصل إلى المسلمين من‬
‫المشركين أو كانوا سبب وصولها‪ .‬وأما الصدقات فهي الموال الواجبة على المسلمين نصا كالزكاة‪،‬‬
‫واجتهادا كالموال المفروضة على الغنياء إذا خل بيت المال‪ ،‬واحتاجت الدولة لتجهيز الجيش ونحوه‬
‫من المصالح العامة‪.‬‬
‫رابعا ـ القيام على شعائر الدين من أذان وإقامة صلة الجمعة والجماعة والعياد‪ ،‬وصيام‪ ،‬وحج‪،‬‬
‫فبالنسبة للصلة يعين الخليفة المام والمؤذن‪ ،‬ويصون المساجد ويرعاها‪ ،‬ويؤم الناس في الصلة‬
‫الجامعة إذا حضر‪ ،‬ويشرف على توقيت الصيام بدءا ونهاية‪ ،‬ويعاقب من يعلن الفطار دون عذر‬
‫مقبول‪ ،‬وييسر أداء فريضة الحج بتعيين ولة للسهر على أداء هذا الواجب‪ ،‬والولية على الحج لتسيير‬
‫الحجيج وإقامتهم (‪. )2‬‬
‫الوظائف السياسية‪ :‬بما أن الخليفة كان يجمع أحيانا بين السلطتين التنفيذية والقضائية‪ ،‬فإن وظائفه‬
‫السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء‪ .‬أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال ل‬
‫على سبيل الحصر‪ ،‬وهي (‪: )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ذكر الماوردي‪ :‬ص ‪ 121‬في المرجع السابق فروقا أربعة بين أموال الفيء والغنائم وبين‬
‫الصدقات‪ :‬أحدها ـ أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيرا لهم‪ ،‬والفيء والغنيمة مأخوذان من‬
‫الكفار انتقاما منهم‪ .‬والثاني ـ أن مصرف الصدقات منصوص عليه في القرآن ليس فيه اجتهاد‪.‬‬
‫والفيء والغنيمة يصرفان بحسب اجتهاد الئمة‪ .‬والثالث ـ أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد‬
‫أصحابها بقسمتها في أهلها‪ ،‬ول يجوز ذلك لهل الفيء والغنيمة‪ .‬والرابع ـ اختلف المصرف‪:‬‬
‫فالصدقات تصرف للصناف الثمانية في القرآن‪ .‬والموال الخرى تصرف في سبيل المصالح‬
‫العامة‪ .‬ويلحظ أن الفيء‪ :‬هو كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال‪ .‬والغنيمة‪ :‬ما وصل‬
‫إلينا من أموال المشركين عنوة وبقتال‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.103 ،96‬‬
‫(‪ )3‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،14‬والسلطات الثلث للطماوي‪ :‬ص ‪ 278‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/308‬‬

‫أولً ـ المحافظة على المن والنظام العام في الدولة‪ .‬عبر الماوردي عن ذلك بقوله‪ :‬حماية البيضة‬
‫(الوطن) والذب عن الحريم(الحرمات) ليتصرف الناس في المعايش‪ ،‬وينتشروا في السفار آمنين عن‬
‫تغرير بنفس أو مال‪ ،‬وهذا ما يقوم به الشرطة الن‪.‬‬
‫ثانيا ـ الدفاع عن الدولة في مواجهة العداء‪ :‬وعبر عنه الماوردي بقوله‪ :‬تحصين الثغور بالعدة‬
‫المانعة والقوة الدافعة‪ ،‬حتى ل تظهر العداء بغرة ينتهكون فيها محرما‪ ،‬أو يسفكون فيها لمسلم أو‬
‫معاهد دما‪.‬‬
‫ثالثا ـ الشراف على المور العامة بنفسه‪ .‬قال الماوردي‪ :‬أن يباشر بنفسه مشارفة المور وتصفح‬
‫الحوال‪ ،‬لينهض بسياسة المة وحراسة الملة‪ ،‬ول يعول على التفويض تشاغلً بلذة أو عبادة‪ ،‬فقد‬
‫يخون المين ويغش الناصح‪.‬‬
‫رابعا ـ إقامة العدل بين الناس‪ ،‬وذلك على النحو التالي‪:‬‬
‫أ ـ تنفيذ الحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم التصفية‪ ،‬فل يتعدى ظالم‬
‫ول يضعف مظلوم‪.‬‬
‫( ‪)8/309‬‬

‫ب ـ إقامة الحدود لتصان محارم ال تعالى عن النتهاء‪ ،‬وتحفظ حقوق عباده من إتلف واستهلك‪.‬‬
‫خامسا ـ إدارة المال‪ :‬بتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ول تقتير‪ ،‬ودفعه في‬
‫وقت ل تقديم فيه ول تأخير‪.‬‬
‫سادسا ـ تعيين الموظفين‪ :‬وعبر الماوردي عن الواجب بقوله‪ :‬استكفاء المناء‪ ،‬وتقليد النصحاء فيما‬
‫يفوضه إلىهم من العمال‪ ،‬ويكله إليهم من الموال‪ ،‬لتكون العمال بالكفاء مضبوطة‪ ،‬والموال‬
‫بالمناء محفوظة‪ .‬فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة من التدابير مايحقق سعادة المة بشرطين‪:‬‬
‫الول ـ أل يخالف نصا صريحا ورد في القرآن أو السنة أو الجماع‪.‬‬
‫الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة‪ ،‬على وفق ما بينه علماء أصول الفقه‪،‬‬
‫بالحفاظ على الصول الكلية الخمسة وتوابعها‪ :‬وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال (‪. )1‬‬
‫المبحث السادس ـ انتهاء ولية الحاكم ‪:‬‬
‫تنتهي ولية الحاكم أو الخليفة بأحد أمور ثلثة وهي (‪: )2‬‬
‫ل ـ الموت‪ :‬وهذا أمر طبيعي لزوال الولية؛ لن مدة استخلفه مؤقتة بمدة حياته‪ .‬ول يحق له‬
‫أو ً‬
‫توريث وليته لحد‪ ،‬وإنما الحق في التولية لهل الختيار‪ ،‬ويرى الدكتور السنهوري أن روح النظام‬
‫السلمي ل تتنافى إطلقا مع توقيت الخلفة بمدة زمنية محدودة‪ ،‬إذا ما تضمن عقد الخلفة ذلك (‪)3‬‬
‫‪.‬‬
‫ثانيا ـ خلع الخليفة نفسه‪ :‬وهذا حق شخصي للخليفة‪ ،‬حتى ل يكون مكرها على البقاء في منصبه‬
‫بالرغم من إرادته‪ ،‬قال الماوردي‪ :‬وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده‪ ،‬وقام خلعه مقام‬
‫موته‪ ،‬أي أن المر يصبح منوطا باختيار أهل الحل والعقد؛ لن وليته مستمدة من المة‪ ،‬وليست حقا‬
‫أصيلً له‪.‬‬
‫ثالثا ـ العزل لتغير حاله‪ :‬والذي يتغير به حاله‪ ،‬فيخرج به عن المامة شيئان‪ :‬جرح في عدالته‪،‬‬
‫ونقص في بدنه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الموافقات للشاطبي‪ ،10/2 :‬ط التجارية‪ ،‬الحكام للمدي‪ ،48/3 :‬ط صبيح‪ ،‬المستصفى‬
‫للغزالي‪ ،140/1 :‬ط التجارية‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 9‬وما بعدها‪ ،19-15 ،‬السلطات الثلث‪ 270 :‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الخلفة للسنهوري‪ :‬ص ‪ 190‬وما بعدها‪.‬‬
‫( ‪)8/310‬‬

‫أما جرح العدالة فهو الفسق‪ :‬وهو ارتكابه المحظورات‪ ،‬وإقدامه على المنكرات‪ ،‬وانقياده للهواء‬
‫والشهوات‪.‬‬
‫وأما نقص البدن فهو كما ذكر سابقا ثلثة أقسام‪:‬‬
‫أ ـ نقص الحواس‪ ،‬كزوال العقل وذهاب البصر والصمم والخرس‪.‬‬
‫ب ـ نقص العضاء كذهاب اليدين‪ ،‬أو ذهاب الرجلين‪.‬‬
‫جـ ـ نقص التصرف‪ :‬وهو يشتمل على نوعين‪ :‬أولً ـ الحجر بأن يستولي أحد أعوانه على السلطة‬
‫ويجاهر بالمعصية أو يخالف أحكام الشرع‪ .‬فإن لم يخالف حكما شرعيا استنصرت المة أو الخليفة‬
‫بمن يعمل على تنحيته‪.‬وثانيا ـ السر‪ :‬بأن يقع الخليفة في أسر العداء وييأس المسلمون من فكاكه‬
‫واستخلصه من السر‪.‬‬
‫وتقرير مبدأ العزل من المة دليل واضح على أن الخليفة يستمد سلطانه من المة‪ ،‬وليس له ادعاء‬
‫أحقيته السلطة بتفويض من الله كما كان يزعم ملوك أوربا في القرون الوسطى‪ .‬كما أنه ليس‬
‫معصوما من الخطأ‪ ،‬ول حق له في التشريع وإنما ينفذ أحكام الشريعة ويجتهد في نطاقها‪ ،‬وليس له‬
‫سلطة روحية كما هو الحال بالنسبة للبابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم‪ ،‬فل يحل ول يحرم ول‬
‫يغفر الذنوب ول يطرد مذنبا‪.‬‬

‫( ‪)8/311‬‬

‫المبحث السابع ـ حقوق المام الحاكم ‪:‬‬


‫حدد الماوردي واجبات المسلمين نحو الحاكم بأمرين وهما‪:‬‬
‫‪ - 1‬الطاعة في غير معصية‪.‬‬
‫‪ - 2‬النصرة ما لم يتغير حاله‪ .‬فقال‪« :‬إذا قام المام بما ذكرناه من حقوق المة‪ ،‬فقد أدى حق ال‬
‫تعالى فيما لهم وعليهم‪ ،‬ووجب له عليهم حقان‪ :‬الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله» (‪. )1‬‬
‫‪ 1‬ـ حق الطاعة ‪:‬‬
‫إذا بايع أكثرية المسلمين إماما وجبت طاعته من الكل‪ ،‬لقول الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬يد ال‬
‫على الجماعة» «ومن شذ شذ في النار» «من فارق الجماعة شبرا‪ ،‬فقد خلع ربقة السلم من عنقه» (‬
‫‪. )2‬‬
‫وبذل الطاعة مشروط بقيام الحاكم بواجباته التي ذكرت سابقا‪ ،‬ومضمونها التزام أوامر الشريعة‪.‬‬
‫وحينئذ تصبح القوانين والتكاليف التي تصدر عن الحاكم واجبة التنفيذ‪ ،‬كاللزام بالتجنيد الجباري‬
‫وفرض الضرائب على الغنياء بالضافة إلى الزكاة كلما دعت حاجة البلد إلى ذلك‪.‬‬
‫ومصدر اللتزام بالطاعة آيات وأحاديث‪ ،‬منها قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين أطيعوا ال وأطيعوا الرسول‬
‫وأولي المر منكم} [النساء‪ ]59/4:‬وأولو المر‪ :‬الحكام والعلماء كما بين المفسرون والصحابة‪ .‬ومنها‬
‫قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة‬
‫عليك» (‪« )3‬على المرء المسلم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.15‬‬
‫(‪ )2‬حديث «يد ال مع الجماعة» أخرجه الترمذي عن ابن عمر‪ ،‬ورواه النسائي والطبراني عن‬
‫عرفجة‪ ،‬وحديث «من شذ» رواه الترمذي عن ابن عمر‪« :‬يد ال على الجماعة‪ ،‬ومن شذ شذ في النار‬
‫» وحديث «من فارق» رواه أحمد ورجاله ثقات بلفظ «من خرج من الجماعة قيد شبر‪ ،‬فقد خلع ربقة‬
‫السلم من رأسه» ‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البزار عن سعد بن عبادة‪ ،‬وفيه حصين بن عمر‪ ،‬وهو ضعيف جدا (مجمع الزوائد‪،‬‬
‫‪ )227/5‬وللبخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن الصامت‪« :‬با يعنا رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم على السمع والطاعة‪ ،‬في العسر واليسر والمنشط والمكره‪ ،‬وعلى أثرة علينا‪. »..‬‬

‫( ‪)8/312‬‬

‫السمع والطاعة فيما أحب أو كره‪ ،‬إل أن يؤمر بمعصية‪ ،‬فإن أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫ول يجوز الخروج عن الطاعة بسبب أخطاء غير أساسية ل تصادم نصا قطعيا‪ ،‬سواء أكانت باجتهاد‪،‬‬
‫أم بغير اجتهاد‪ ،‬حفاظا على وحدة المة وعدم تمزيق كيانها أو تفريق كلمتها‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬ستكون هَنَات وهنات ـ أي غرائب وفتن وأمور محدثات ـ فمن أراد أن يفرق أمر هذه‬
‫المة وهي جميع‪ ،‬فاضربوه بالسيف كائنا من كان» وقال عليه السلم أيضا‪« :‬من أتاكم وأمركم جميع‬
‫على رجل واحد‪ ،‬يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» «أيما رجل خرج يفرق بين أمتي‬
‫فاضربوا عنقه» (‪ )2‬رواهما مسلم عن عرفجة‪.‬‬
‫وبديهي أن الطاعة بقدر الستطاعة لقوله تعالى‪{ :‬ل يكلف ال نفسا إل وسعها} [البقرة‪ ]286/2:‬وقال‬
‫ابن عمر رضي ال عنه‪« :‬كنا إذا بايعنا رسول ال صلّى ال عليه وسلم على السمع والطاعة يقول‬
‫لنا‪ :‬فيما استطعتم» (‪. )3‬‬
‫وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي ل يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين‬
‫والحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪« :‬الدين النصيحة قلنا‪ :‬لمن يا رسول ال ؟ قال‪:‬‬
‫ل ولرسوله ولكتابه ولئمة المسلمين وعامتهم» (‪ )4‬وقد حض رسول ال صلّى ال عليه وسلم على‬
‫إسداء النصح والمجاهرة بقول‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر‪ ،‬ويلحظ أن أحاديث الطاعة في غير معصية‬
‫رويت بألفاظ‪ :‬منها ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي‪« :‬ل طاعة لحد في معصية ال ‪،‬‬
‫إنما الطاعة في المعروف» ومنها ما رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري‪« :‬ل‬
‫طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬وانظر أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن المة وقتالهم في مجمع الزوائد‪222/5 :‬‬
‫وما بعدها‪ .‬وحديث «من أتاكم‪ »..‬رواه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم‪.)242/2 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر (جامع الصول‪.)168/1 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري‪.‬‬

‫( ‪)8/313‬‬

‫الحق‪ ،‬فقال‪« :‬أفضل الجهاد‪ :‬كلمة حق عند سلطان جائر» (‪« )1‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪،‬‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان» (‪ . )2‬فإن لم ينتصح وجب‬
‫الصبر لقوله عليه السلم‪« :‬من رأى من أميره شيئا‪ ،‬فكره فليصبر‪ ،‬فإنه ليس أحد يفارق الجماعة‬
‫شبرا‪ ،‬فيموت إل مات ميتة جاهلية» (‪. )3‬‬
‫ولكن ل تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم السلم القطعية الثابتة‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬ل طاعة لحد في معصية ال ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف» «ل طاعة لمن لم يطع ال » (‬
‫‪. )4‬‬
‫وهل تعالج الخطاء الجوهرية المصادمة لصول السلم بالثورة المسلحة من قبل الشعب؟‬
‫أذكر في الموضوع حديثين وأتبعهما بآراء الفقهاء وما يستنبط منهما‪.‬‬
‫الحديث الول الذي أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الشجعي عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫قال‪« :‬خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم‪ ،‬وتصلون عليهم ويصلون عليكم‪ .‬وشرار أئمتكم الذي‬
‫تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم‪ .‬قلنا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أفل ننابذهم عند ذلك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما‬
‫أقاموا فيكم الصلة‪ ،‬ل ‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي‬
‫أمامة‪ ،‬ورواه أحمد والنسائي والبيهقي عن طارق بن شهاب‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الربعة عن أبي سعيد الخدري‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني بلفظ آخر‪ ،‬وفيه متروك (مجمع الزوائد‪.)219/5 :‬‬
‫(‪ )4‬سبق تخريجه قريبا‪.‬‬

‫( ‪)8/314‬‬

‫والحديث الثاني الذي يرويه البخاري وغيره والذي ورد في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت‬
‫قال‪« :‬دعانا النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا‪ ،‬وعسرنا‬
‫ويسرنا وأثرة علينا‪ ،‬وأل ننازع المر أهله‪ ،‬إل أن تروا كفرا َبوَاحا (‪ )1‬عندكم من ال فيه برهان» ‪.‬‬
‫والمبدأ هو وحدة المامة أو الخلفة‪ ،‬لحديث‪« :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» (‪. )2‬‬
‫وبناء عليه تجوز الثورة في حالة واحدة هي إعلن الكفر الصراح‪ .‬قال الدهلوي‪ :‬وبالجملة فإذا كفر‬
‫الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين‪ ،‬حل قتله‪ ،‬بل وجب‪ ،‬وإل ل؛ وذلك لنه حينئذ فاتت‬
‫مصلحة نصبه (إقامته حاكما)‪ ،‬بل يخاف مفسدته على القوم‪ ،‬فصار قتاله من الجهاد في سبيل ال ‪.‬‬
‫قال صلّى ال عليه وسلم «‪ :‬السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ‪ ،‬ما لم يؤمر‬
‫بمعصية‪ ،‬فإذا أمر بمعصية‪ ،‬فل سمع ول طاعة (‪. ». )3‬‬
‫واستنبط بعض الكتاب المحدثين (‪ )4‬من الحديثين السابقين مبادئ أربعة بين فيها حدود الطاعة وحالة‬
‫جواز الثورة على الحكم‪ .‬وهي‪:‬‬
‫أولً ـ إن للمير الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة حق الطاعة من المواطنين جميعا‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن أن فريقا أو فردا منهم قد ل يحبه‪ ،‬أو ل يرضى أحيانا عن سياسته في إدارة شؤون الدولة‪.‬‬
‫ثانيا ـ إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى‬
‫الشرعي‪ ،‬فإنه ل سمع ولطاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والوامر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي ظاهرا‪ .‬والمراد به كما استظهر ابن حجر في شرح البخاري هو الكفر الظاهر على حقيقته‬
‫الذي ليحتمل التأويل‪ .‬فإن رأى المسلمون منكرا محققا أنكروه عليهم وقالوا الحق‪ ،‬ولكن الخروج‬
‫عليهم وقتالهم حينئذ حرام‪ ،‬وإن كانوا فسقة ظالمين منعا من الفتن وإراقة الدماء‪ .‬وقد سبق تخريج‬
‫الحديث (جامع الصول‪.)166/1 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه البزار والطبراني في الوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد‪ )198/5 :‬ورواه أيضا مسلم‬
‫عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي‪.)242/12 :‬‬
‫(‪ )3‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،112/2 :‬والحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الربعة عن‬
‫ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )4‬منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪.144‬‬

‫( ‪)8/315‬‬

‫ثالثا ـ إذا ما وقفت الحكومة موقفا تتحدى به تحديا صريحا متعمدا نصوص القرآن‪ ،‬فإن هذا الموقف‬
‫يعتبر ( كفرا بواحا ً) المر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها وإسقاطها‪.‬‬
‫رابعا ـ إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة في غير حالة إعلن الكفر صراحة يجب أل يتم عن‬
‫طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قد حذرنا من‬
‫اللجوء لهذه الوسيلة‪ ،‬فقال‪« :‬من حمل علينا السلح فليس منا» (‪ )1‬وقال‪« :‬من سل علينا السيف فليس‬
‫منا» (‪ )2‬والمراد بذلك البغاة‪ :‬وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة المام‪.‬‬
‫ومن المقرر فقها أن السلطة التي تملك التعيين تملك حق العزل‪ .‬وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون‬
‫ل بالتصويت على عزل المام من‬
‫العزل ببراهين واضحة‪ ،‬ثم تقوم أكثرية المة بواسطة استفتاء مث ً‬
‫منصبه‪.‬‬
‫ويرى بعض الكاتبين الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والمام‪ ،‬على هيئة تحكيم‬
‫عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور‪ ،‬مكونة من نوابغ القضاة‪ ،‬وأقطاب القانون السلمي في الدولة‪،‬‬
‫منعا من تفاقم الزمة التي ل تحل إل بذلك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد ومسلم عن سلمة بن الكوع‪.‬‬

‫( ‪)8/316‬‬
‫وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع المام لمخالفته قصدا نصوص الشريعة‪ .‬فإن منع‬
‫المام من اللجوء إلى الستفتاء‪ ،‬كان لها الحق بإعلن عزله‪ ،‬وأن المة في حل من بيعته (‪ ، )1‬عملً‬
‫بمبدأ «ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (‪. )2‬‬
‫آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم ‪:‬‬
‫قال أهل الحديث والسنة بوجوب الصبر وعدم جواز الخروج على الحاكم مطلقا‪ ،‬عملً بالحاديث‬
‫الواردة عن النبي صلّى ال عليه وسلم المرة بالصبر مثل «كن عبد ال المقتول ول تكن عبد ال‬
‫القاتل» (‪ . )3‬ورعاية لوحدة المة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين‪ ،‬ولن كثيرا‬
‫من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج‪ ،‬بل اعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين‪ ،‬وبناء عليه ل‬
‫يجوز الخروج على الحاكم إل بإعلن الكفر صراحة‪ ،‬فإذا كفر بإنكار أمر من ضروريات أو بدهيات‬
‫الدين‪،‬حل قتاله‪،‬بل وجب‪ ،‬منعا من فساده وفوات مصلحة تعيينه‪ ،‬وإل فل‪ ،‬حفاظا على وحدة المة‪،‬‬
‫وعدم الفوضى‪ .‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره‪ ،‬ما لم‬
‫يؤمر بمعصية‪ ،‬فإذا أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» وسئل رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن خلع‬
‫الحكام‪ ،‬فقيل‪ :‬أفل ننابذهم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬محمد أسد‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 145 ،127 ،123‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد ال بن خباب بن الرت‪.‬‬

‫( ‪)8/317‬‬

‫أقاموا فيكم الصلة‪ .‬وقال‪« :‬إل أن تروا كفرا بواحا ـ أي ظاهرا ـ عندكم من ال فيه برهان» (‪)1‬‬
‫‪.‬وقال المعتزلة والخوارج والزيدية وكثيرمن المرجئة‪ :‬الخروج واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل‬
‫ل بقوله تعالى‪{ :‬وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة‪ ]2/5:‬وقوله‪{ :‬فقاتلوا التي‬
‫البغي ونقيم الحق‪ ،‬عم ً‬
‫تبغي حتى تفيء إلى أمر ال } [الحجرات‪ ]49/9:‬وقوله‪{ :‬ل ينال عهدي الظالمين} [البقرة‪.]124/2:‬‬
‫وقال أبو بكر الصم من المعتزلة‪ :‬السيف واجب إذا اتفق على إمام عادل يخرجون معه لزالة أهل‬
‫البغي (‪. )2‬‬
‫وقال ابن حزم بجواز الخروج؛ لن الحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه‬
‫للحاديث المرة بالصبر؛ لن هذه الحاديث وردت في مبدأ السلم‪ ،‬ولن الدليل المحرم يقدم على‬
‫المبيح عند تعارضهما‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‪ ،‬فإن بغت‬
‫إحداهما على الخرى‪ ،‬فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال } [الحجرات‪ ]9/94:‬ولنه يجب على‬
‫المسلم إزالة المنكر‪ ،‬ول طاعة في معصيته‪ ،‬ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ 112/2 :‬والحديث باللفظ الول رواه أ حمد ومسلم‪ ،‬والثاني رواه‬
‫البخاري (نيل الوطار‪.)172/6 :‬‬
‫(‪ )2‬مقالت السلميين واختلف المصلين للشعري‪ 445/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الفصل في الملل والنحل لبن حزم‪ 171/4 :‬ومابعدها‪ ،‬والحديث رواه أحمد وابن حبان وأبو داود‬
‫والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد بلفظ‪« :‬من قتل دون ماله فهو شهيد‪ ،‬ومن قتل دون دمه فهو‬
‫شهيد‪ ،‬ومن قتل دون دينه فهو شهيد‪ ،‬ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وروى النسائي والضياء عن‬
‫سويد بن مقرن‪« :‬من قتل دون مظلمته فهو شهيد» ‪.‬‬

‫( ‪)8/318‬‬

‫ورجح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لن المة السلمية موصوفة بأنها آمرة‬
‫بالمعروف ناهية عن المنكر‪ ،‬ترفض الظلم‪ ،‬وتقيم شعائر ال ‪ ،‬ولكن بشرط واحد وهو أن يقدر تمام‬
‫التقدير من يرى وجوب الخروج بالقوة على خليفة يستحق العزل شرعا ضرورة صيانة وحدة المة‬
‫التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كله‪ ،‬وضرورة تجنيبها الفتنة وإراقة الدماء بل ضرورة (‪. )1‬‬
‫وهذا الرأي قريب من رأي المعتزلة الذين يوجبون الخروج على السلطان عند القدرة والمكان (‪. )2‬‬
‫‪ - 2‬مناصرة المام ومؤازرته ‪:‬‬
‫على المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والزدهار في جميع المجالت‬
‫الخارجية بالجهاد في المال والنفس‪ ،‬والداخلية‪ ،‬بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية‬
‫والخلقية والجتماعية‪ ،‬وإقامة المجتمع الخيّر‪ ،‬وتنفيذ القوانين والحكام الشرعية والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة (‪ ، )3‬وتقديم النصيحة‪،‬‬
‫وبذل الجهد بتقديم الراء والفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم‪ ،‬وتوعية الناس والدعوة لها‬
‫في السلم والحرب‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول السلم الساسية المقررة بالتضامن‬
‫بين الحكومة والفراد؛ لن في ذلك إقامة أمر ال وهدم كل ما يخالف السلم‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ولتكن‬
‫منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬وأولئك هم المفلحون} [آل‬
‫عمران‪{ ]104/3:‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‪ ،‬وتؤمنون‬
‫بال } [آل عمران‪ ]110/3:‬وقال تعالى في شأن اليهود بسبب عدم النهي عن المنكر‪ { :‬لُعن الذين‬
‫كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم‪ ،‬ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬كانوا ل‬
‫يتناهون عن منكر فعلوه‪ ،‬لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة‪.]78/5:‬‬
‫وجعلت سمة المؤمنين الجتماعية هي القيام بهذا الواجب في قوله سبحانه‪{ :‬والمؤمنون والمؤمنات‬
‫بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف‪ ،‬وينهون عن المنكر} [التوبة‪.]71/9:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظام الحكم في السلم ليوسف موسى‪ :‬ص ‪ 158‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬مقالت السلميين‪.466/2 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 249-236‬لتفصيل كيفية المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر في حقوق ال (المجتمع) وحقوق الشخاص‪.‬‬

‫( ‪)8/319‬‬

‫وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة بهذا المعنى‪ ،‬من أهمها المبدأ العام وهو قوله عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬كلكم راع‪ ،‬وكلكم مسؤول عن رعيته‪ ،‬فالمام راع وهو مسؤول عن رعيته‪ ،‬والرجل راع‬
‫في أهله ومسؤول عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها‪ )1( »...‬الحديث‪.‬‬
‫ن بالمعروف‪ ،‬ولتنهُون عن المنكر‪ ،‬أو ليوشكن‬
‫وقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬والذي نفسي بيده لتأمرُ ّ‬
‫ال يبعث عليكم عقابا منه‪ ،‬ثم تدعونه فل يستجيب لكم» (‪ )2‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬يا أيها‬
‫الناس مروا بالمعروف‪ ،‬وانهوا عن المنكر‪ ،‬قبل أن تدعو ال فل يستجيب لكم‪ ،‬وقبل أن تستغفروه فل‬
‫يغفر لكم‪. )3( »..‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وأبو داود والترمذي عن ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الصبهاني‪ ،‬عن ابن عمر (الترغيب والترهيب‪.)230/3 ،‬‬

‫( ‪)8/320‬‬
‫المبحث الثامن ـ حدود سلطات المام وقواعد نظام الحكم في السلم ‪:‬‬
‫تتحدد سلطات الخليفة ضمن الطار العام لدولة السلم‪ ،‬وهو أنها دولة ذات فكرة ومبادئ لصلح‬
‫الحياة البشرية (‪ ، )1‬وأساس فكرتها مبادئ وغايات واضحة محددة (‪ ، )2‬تقوم على أساس اليمان‬
‫بال تعالى‪ ،‬وتنظر إلى الكون والحياة والنسان على هدي هذا اليمان‪ ،‬وتنشد إصلح الحياة البشرية‬
‫قاطبة على وفق منهج العقيدة السلمية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي ل تتأثر بأهواء‬
‫الواضعين‪ ،‬ول بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين‪ ،‬إل عند الضرورة‪ ،‬وسيرا على منهاج‬
‫مرحلي تدريجي يوصل إلى الغاية الكبرى‪ ،‬وهو وحدة المسلمين‪.‬‬
‫وما على النسان أو الخليفة إل أن يعمل في ضوء كونه مستخلفا في هذه الدنيا بأمانة ال على‬
‫الرض‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وهو الذي جعلكم خلئف الرض} [النعام‪.]165/6:‬‬
‫وبما أن نظر النسان محدود‪ ،‬ل يمكنه الحاطة بطبائع الشياء ومقتضيات التشريع العامة‪ ،‬كان عليه‬
‫التزام التشريع اللهي الشامل الكامل‪.‬‬
‫وتشريع الله ل يميز بين صاحب السلطة وأفراد الرعية‪ ،‬فكل منهم له الحق في الستمتاع بحريته‬
‫واحترام كرامته النسانية‪ ،‬وإنصافه من غيره‪ ،‬ومطالبته بإقامة العدل ومراعاة مبدأ المساواة‪.‬‬
‫ومن هنا تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في السلم بالسس ا لتية (‪: )3‬‬
‫أولً ـ يخضع الخليفة للتشريع السلمي‪ ،‬ويطالب بتنفيذ أحكامه‪ ،‬وإصدار القوانين التنظيمية طبقا‬
‫لمبادئه وقواعده‪ ،‬وليس له أية حصانة في هذا الشأن من دون بقية المسلمين‪ .‬قال أبو بكر وتبعه من‬
‫بعده من الراشدين في أول خطبة سياسية له بعد تولي الخلفة‪« :‬أطيعوني ما أطعت ال ورسوله‪ ،‬فإن‬
‫عصيت ال فل طاعة لي عليكم‪. »...‬‬
‫ثانيا ـ ليس للحاكم التشريع؛ لن التشريع في السلم كما بان سابقا ل ورسوله‪ .‬ودور الخليفة مع‬
‫أولي الحل والعقد هو مجرد الجتهاد في نطاق القرآن والسنة‪ .‬فل يستمد المجتهدون سلطتهم من‬
‫الخليفة‪ ،‬وإنما من مؤهلتهم الذاتية‪ .‬وفي هذا أكبر ضمان لشرعية الدولة؛ إذ المسلّم به أن النظم‬
‫الستبدادية تقوم على أساس أن إرادة الدولة هي القانون‪.‬‬
‫ثالثا ـ يلتزم الحاكم وأعوانه بقواعد نظام الحكم السلمي ومبادئه العامة التي حددها القرآن والسنة‪،‬‬
‫ولم يفصل في شأنها مراعاة لظروف ومقتضيات التطور‪ ،‬وضمانا لقدسية المبدأ بحيث ل يقبل التغير‬
‫وهذه القواعد هي‪:‬‬
‫‪ - 1‬الشورى ‪:‬‬
‫إن نظام الحكم السلمي نظام شوري‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وشاورهم في المر} [آل عمران‪]159/3:‬‬
‫{وأمرهم شورى بينهم} [الشورى‪ ]38/42:‬وورد في السنة النبوية القولية والعملية ما يوجب المشاورة‪،‬‬
‫مثل‪« :‬استعينوا على‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظرية السلم السياسية للمودودي‪ :‬ص ‪ 47‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع السلطات الثلث للطماوي‪ :‬ص ‪ 281‬وما بعدها‪ ،‬النظريات السياسية للريس‪ :‬ص ‪ 280‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬بحث الدولة السلمية للموسوعة الفقهية للمؤلف والتي بيانه‪.‬‬

‫( ‪)8/321‬‬

‫أموركم بالمشاورة» (‪« )1‬ما تشاور قوم قط إل هدوا لرشد أمورهم» (‪« )2‬المستشار مؤتمن» (‪)3‬‬
‫وقال أبو هريرة رضي ال عنه‪ « :‬لم يكن أحد أكثر مشورة من رسول ال صلّى ال عليه وسلم » (‬
‫‪ )4‬وقد استشار النبي صلّى ال عليه وسلم أصحابه في وقائع كثيرة‪ ،‬تطييبا لنفوس أصحابه ولرفع‬
‫أقدارهم‪ ،‬قائلً‪ :‬أشيروا علي أيها الناس‪ .‬مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه‬
‫للقتال‪ ،‬ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيارالمكان الملئم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من‬
‫ماء بدر‪ .‬وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين‪.‬‬
‫وقبل موقعة أحد استشار الصحاب في شأن الخروج من المدينة‪ ،‬وقبل رأي الكثرة الشباب التي‬
‫أشارت بالخروج‪ ،‬وكانت العاقبة الهزيمة المعروفة‪.‬‬
‫وقال صلّى ال عليه وسلم في قصة الفك‪« :‬أشيروا علي معشر المسلمين في قوم‪. »...‬‬
‫واستشار أيضا أصحابه في رد سبي هوازن‪ ،‬وفي استطابة أنفسهم بذلك‪ ،‬دون تعويض عن حقهم‪.‬‬
‫وشاور النبي صلّى ال عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الحزاب بثلث ثمار المدينة‬
‫عامئذ‪ ،‬فأبى عليه السعدان‪ :‬سعد بن عبادة وسعد بن معاذ‪ ،‬فترك ذلك (‪. )5‬‬
‫وفي يوم الحزاب تمت المشاورة عملً برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على عدم مصالحة رؤساء‬
‫غطفان لخذ شطر ثمار المدينة‪ .‬ونحو ذلك كثير (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ذكره الماوردي في أدب الدنيا والدين‪ :‬ص ‪.494‬‬
‫(‪ )2‬ورد مرفوعا‪ ،‬وورد مرسلً عن الحسن‪ ،‬أخرجه عبد بن حميد والبخاري في الدب‪ ،‬وابن المنذر‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي‪ ،‬ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الترمذي‪.‬‬
‫(‪ )5‬انظر تفسير ابن كثير‪ 287/1 :‬وما بعدها‪ 420 ،‬في الوقائع المذكورة‪ ،‬وانظر أدب الدنيا والدين‬
‫للماوردي‪ :‬ص ‪.496‬‬
‫(‪ )6‬راجع سيرة ابن هشام‪ 253/2 :‬ومابعدها‪ ،‬أحكام القرآن للجصاص‪ ،40/2 :‬تفسير ابن كثير‪:‬‬
‫‪ ،420/1‬ط الحلبي‪.‬‬

‫( ‪)8/322‬‬

‫وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة الحميدة‪ ،‬فكانوا يجمعون رؤساء الناس‪ ،‬فيستشيرونهم فيما لم‬
‫يجدوا فيه نصا من القرآن والسنة‪.‬‬
‫منها مشاورة أبي بكر في حروب الردة‪ ،‬وفي جمع القرآن‪ .‬ومشاورة عمر في قضية قسمة سواد‬
‫العراق بين الغانمين‪ ،‬وفرض الخراج‪ ،‬ونحوها‪ .‬وأهل الشورى‪ :‬هم أهل الراء من الناس والمتدربون‬
‫فيهم‪ ،‬إذ ل يعقل‪ ،‬ول يمكن مشاورة كل واحد من الناس (‪ ، )1‬ففي أمور الدين يجب أن يكون‬
‫المستشار عالما دينيا وقل ما يكون ذلك إل في عاقل‪ .‬وفي أمور الدنيا أن يكون عاقلً مجربا وادّا في‬
‫المستشير (‪. )2‬‬
‫نطاقها‪ :‬إن المر المطلق بالمشاورة الموجه للحكام يشمل كل القضايا الدينية والدنيوية‪ :‬السياسية‬
‫والجتماعية والقتصادية والثقافية التنظيمية‪ ،‬أي فيما لم يرد به نص تشريعي واضح الدللة (‪ )3‬؛‬
‫لن المر القرآني بالمشاورة غير مخصوص بأمر الدين‪ .‬ول يصح أن تكون نتيجة الشورى في‬
‫المور الجتهادية الدينية والدنيوية مخالفة نصوص الشريعة أو مقاصدها العامة ومبادئها التشريعية‪،‬‬
‫لقوله تعالى‪ { :‬وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم‪،‬‬
‫ومن يعص ال ورسوله فقد ضل ضللً مبينا ً} [الحزاب‪.]36/33:‬‬
‫وهي مطلوبة سواء أكانت القضايا محل المشاورة عامة كاختيار الحاكم وإدارة الحكم‪ ،‬وسياسة البلد‪،‬‬
‫وتنظيم الدارات ومحاسبة الولة‪ ،‬وإعلن الحرب‪ ،‬أم خاصة كالنظر في أحكام المعاملت والجنايات‬
‫وأحوال السرة ونحوها‪ .‬وهذه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير اللوسي‪.107/4 :‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي‪.250/4 :‬‬
‫(‪ )3‬أحكام القرآن للجصاص‪.41/2 :‬‬

‫( ‪)8/323‬‬
‫يجب على المام استشارة أهل العلم في شأنها‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وشاورهم في المر} [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]159/3‬وقوله سبحانه‪ :‬واصفا المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى‪ ]38/42:‬وثبت في السنة‬
‫أن النبي صلّى ال عليه وسلم استشار أصحابه في مختلف شؤون المسلمين‪ ،‬كما حدث في غزوات‬
‫بدر وأحد والخندق وفي صلح الحديبية‪.‬‬
‫هيئة الشورى‪ :‬كان السائد لدى الخلفاء الراشدين أن الخليفة هو الذي يعين أهل المشورة‪ ،‬حسبما يرى‬
‫من المصلحة‪ ،‬ويعرف الكفاءات العلمية المطلوبة للمر‪.‬‬
‫وفي عصرنا الحاضر يمكن التفاق بين الحاكم ورؤساء المة على وضع مبادئ الختيار‪ ،‬كالتعيين‬
‫بحسب الوظائف ذات الصفة التشريعية‪ ،‬أو النتخاب على وفق ضوابط محددة تنطبق على ذوي‬
‫الختصاص والخبرة والمعرفة اللئقة‪.‬‬
‫حكم الشورى‪ :‬اختلف الفقهاء في حكم الشورى‪ :‬هل هي ملزمة للحاكم‪ ،‬أو اختيارية‪ ،‬وهل نتيجتها‬
‫ملزمة أو اختيارية أيضا؟‪.‬‬
‫قال جماعة‪ :‬إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية‪ ،‬تطييبا‬
‫للنفوس ورفعا للقدار‪ ،‬وتألفا على الدين؛ لقوله تعالى‪{ :‬فإذا عزمت فتوكل على ال } [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]159/3‬والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين‪ ،‬ولن أبا بكر حينما استشار‬
‫الناس بمحاربة المرتدين‪ ،‬لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم‪ ،‬وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق‬
‫بين الصلة والزكاة قائلً‪ :‬وال لو منعوني عقالً كانوا يؤدونه لرسول ال لحاربتهم عليه‪.‬‬

‫( ‪)8/324‬‬

‫ل بالوامر القرآنية‪،‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد عم ً‬
‫ويصبح المر عديم الثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها‪ .‬وقد عمل بها الرسول صلّى ال عليه وسلم‬
‫وصحابته الراشدون من بعده (‪. )1‬‬
‫ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون‬
‫(‪ )2‬لتسير المور على وفق الحكمة والمصلحة‪ ،‬ومنعا من الستبداد بالرأي؛ لن حكم السلم يقوم‬
‫على أصل الشورى‪ ،‬وبه تميز‪ ،‬وعلى نهجه سار السلف الصالح‪ ،‬وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل‬
‫الشورى بأفضلية رأيه‪ ،‬كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين‬
‫وجمع القرآن‪ ،‬حتى شرح ال صدورهم له‪ ،‬كما قال عمر رضي ال عنه‪ .‬وكما فعل أيضا بإقناع‬
‫مخالفيه في قسمة سواد العراق‪ ،‬حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله‪ ،‬فكان الرأي مجمعا‬
‫عليه‪ ،‬كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء‪.‬‬
‫أما رسول ال صلّى ال عليه وسلم فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لعتماده على الوحي‪ ،‬ومع ذكل‬
‫فإنه كان يشاور أصحابه تطييبا لقلوبهم وتعليما لمن بعده (‪ . )3‬قال الحسن رضي ال عنه‪ :‬علم ال‬
‫أنه ما به إليهم حاجة‪ ،‬ولكنه أراد أن يستن به من بعده‪ .‬وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل‬
‫على ال } [آل عمران‪ ]159/3:‬أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى‪ ،‬فتوكل على ال في‬
‫إمضاء أمرك‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع تفسير الطبري‪ ،346-343/7 :‬والقرطبي‪ ،253-249/4 :‬وابن كثير‪118/4 ،420/1 :‬‬
‫عند تفسير آية {وشاورهم في المر} آل عمران‪ ،159 :‬تفسير الزمخشري‪ 357/1 :‬وما بعدها‪ ،‬تفسير‬
‫اللوسي‪ 106/4 :‬وما بعدها‪ ،46/25 ،‬الجصاص‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬البيضاوي‪ ،145/4 ،50/1 :‬ط‬
‫التجارية‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع تفسير الطبري‪ ،345/7 :‬ط دار المعارف‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع الراء الربعة في تحديد المقصود من أمر النبي بالمشاورة في الحكام السلطانية‬
‫للماوردي‪:‬ص ‪.41‬‬

‫( ‪)8/325‬‬

‫على الرشد الصلح‪ ،‬فإن ما هو أصلح لك ل يعلمه إل ال ‪ ،‬ل أنت ول من تشاور‪ ،‬وال هو الذي‬
‫يرشدك للفضل بالوحي‪ ،‬روى البيهقي عن ابن عباس قال‪« :‬أما إن ال ورسوله لغنيان عنها‪ ،‬ولكن‬
‫جعلها ال تعالى رحمة لمتي‪ ،‬فمن استشار منهم لم يعدم رشدا‪ ،‬ومن تركها لم يعدم غيا» قال ابن‬
‫عطية‪ :‬والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكام‪ ،‬من ل يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب‪،‬‬
‫هذا ما ل خلف فيه‪ ،‬وقد مدح ال المؤمنين بقوله‪{ :‬وأمرهم شورى بينهم} [الشورى‪ .]38/42:‬وقال‬
‫خوَيزمَنْداد‪ :‬واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل يعلمون‪ ،‬وما أشكل عليهم من أمور‬
‫ابن أبي ُ‬
‫الدين‪ ،‬ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب‪ ،‬ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح‪ ،‬ووجوه الكتاب‬
‫والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلد وعمارتها (‪. )1‬‬
‫ويلحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية‪ ،‬فإن‬
‫مجلس الشورى في السلم ليس بمشرّع ‪ ،‬وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم ال تعالى‪ ،‬لذا‬
‫يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة‪ .‬أما مجلس الشورى في النظمة الوضعية فهو مشرع‪ ،‬فيلزم الحاكم‬
‫برأي الكثرية‪.‬‬
‫‪ - 2‬العدل ‪:‬‬
‫العدل بصفة عامة‪ :‬هو تنفيذ حكم ال ‪ ،‬أي أن يحكم طبقا لماجاءت به الشرائع السماوية الحقة‪ ،‬كما‬
‫أوحى بها ال إلى أنبيائه ورسله‪ ،‬وهو واجب على كل حاكم حتى على النبياء بإجماع العلماء‪ ،‬وهو‬
‫أساس نظام الحكم السلمي وغايته المقصودة‪ ،‬سواء بين المسلمين‪ ،‬أم بينهم وبين العداء؛ لن العدل‬
‫قوام‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع تفسير القرطبي‪ 249/4 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/326‬‬

‫العالمين في الدنيا والخرة‪ ،‬وبه قامت السموات والرضون‪ ،‬وهو أساس الملك‪ .‬وأما الظلم‪ ،‬فهو‬
‫طريق خراب المدنيات وزوال السلطان (‪. )1‬‬
‫وقد ورد في القرآن عدة آيات تحث عليه‪ ،‬وأكدت عليه أحاديث النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وطبقه‬
‫الصحابة فعلً بين الناس‪.‬‬
‫فمن اليات قوله تعالى‪{ :‬إن ال يأمر بالعدل والحسان} [النحل‪{ ]90/16:‬وإذا حكمتم بين الناس أن‬
‫تحكموا بالعدل} [النساء‪{ ]58/4:‬وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [النعام‪ .]152/6:‬وجاء نص‬
‫خاص يوجب العدل مع العداء وهو قوله تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل ‪ ،‬شهداء‬
‫بالقسط‪ ،‬وليجرمنكم شنآن (‪ )2‬قوم على أل تعدلوا‪ ،‬اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة‪.]8/5:‬‬
‫ولم يقتصر القرآن على المطالبة بالعدل‪ ،‬وإنما حرم ما يقابله وهو الظلم تحريما قطعيا صريحا‪ ،‬قال‬
‫ال تعالى‪{ :‬ول تحسبن ال غافلً عما يعمل الظالمون‪ ،‬إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه البصار}‬
‫[إبراهيم‪.]42/14:‬‬
‫وكذلك الحاديث النبوية الثابتة أوجبت العدل وحرمت الظلم‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لتزال هذه‬
‫المة بخيرما إذا قالت صدقت‪ ،‬وإذا حكمت عدلت‪ ،‬وإذا استُرحمت‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر النظريات السياسية السلمية للريس‪ :‬ص ‪ 280‬وما بعدها‪ ،‬نظام الحكم في السلم ليوسف‬
‫موسى‪ :‬ص ‪ ،191‬بحث الدولة السلمية للمؤلف‪ ،‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،319‬الفصل ‪.44‬‬
‫(‪ )2‬المعنى ل يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل‪ ،‬فتعتدوا عليهم‪ ،‬بأن تنتصروا منهم‪،‬‬
‫وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما ل يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولد أو نساء‪،‬‬
‫أو نقض عهد‪ ،‬أو ما أشبه ذلك (الكشاف‪.)449/1 :‬‬

‫( ‪)8/327‬‬

‫رحمت» (‪« )1‬أحب الخلق إلى ال إمام عادل‪ ،‬وأبغضهم إليه إمام جائر» (‪« )2‬يا عبادي‪ ،‬إني حرمت‬
‫الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرما فل تظالموا» (‪« )3‬اتقوا الظلم‪ ،‬فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»‬
‫( ‪. )4‬‬
‫ومزية السلم في المطالبة به أنه عدل مطلق يشمل الحاكم والمحكومين والنسانية جمعاء‪ .‬فهو‬
‫واجب في الحكم والدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس‪ ،‬وفي توزيع‬
‫الحقوق والواجبات وإقامة العدالة الجتماعية‪ ،‬وفي الشهادة والقضاء والتنفيذ وإقامة الحدود‬
‫والقصاص‪ ،‬وفي القول والكتابة‪ ،‬وفي القول والكتابة‪ ،‬وفي نطاق السرة مع الزوجة والولد‪ ،‬وفي‬
‫التعليم والتملك‪ ،‬والرأي والفكر والتصرف‪.‬‬
‫العدل مع القليات الدينية والسياسية‪ :‬أخصص هذا المطلب للرد على دعاوى القائلين بعدم إمكان‬
‫الحكم بتشريع السلم حماية للقليات‪ ،‬مع أن السلم في ضمانه حقوق هؤلء واضح صريح متسامح‬
‫أحيانا أكثر مما يجب واقعيا‪ ،‬فهم مع المسلمين سواء في الحقوق‪ ،‬ول يلتزمون بكل الواجبات‪،‬‬
‫ويتركون وما يدينون‪ ،‬ولهم حرية في ممارسة شعائر دينهم‪ ،‬ويمتنع إكراه أحد منهم على السلم‪ ،‬ول‬
‫يجوز العتداء على أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم‪ .‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أل من‬
‫ظلم معاهدا‪ ،‬أو نقصه حقه‪ ،‬أو كلفه فوق طاقته‪ ،‬أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس‪ ،‬فأنا خصمه يوم‬
‫القيامة» (‪« )5‬من آذى ذميا فأنا خصمه‪ ،‬ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى بلفظ‪« :‬إن هذا المر في قريش‪ ،‬ما إذا استُرحموا‬
‫رحموا‪ ،‬وإذا حكموا عدلوا‪ ،‬وإذا قسموا أقسطوا‪( »...‬الترغييب والترهيب‪.)171/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الترمذي والطبراني في الوسط عن أبي سعيد الخدري‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم وأحمد والبخاري في الدب المفرد‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه أبو داود والبيهقي‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه الخطيب في تاريخه عن أنس‪ ،‬وهو حديث حسن‪.‬‬
‫( ‪)8/328‬‬

‫‪ - ً 3‬المساواة أمام القانون‪ :‬العدل بمعناه الشامل يشمل هذا المبدأ الشائع الن؛ لن العدل كما تقدم‬
‫يتطلب التسوية في المعاملة وفي القضاء وفي الحقوق وملكيات الموال‪ .‬عبر أبو بكر رضي ال عنه‬
‫عن ذلك بقوله‪« :‬الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له‪ ،‬والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ‬
‫الحق الحق منه إن شاء ال » وفي رسالة عمر المشهورة لبي موسى الشعري‪« :‬آسِ بين الناس في‬
‫وجهك وعدلك ومجلسك‪ ،‬حتى ل يطمع شريف في حيفك‪ ،‬ول ييأس ضعيف من عدلك» ‪.‬‬
‫ولقد حمل الرسول صلّى ال عليه وسلم على محاولت التمييز بين الناس أمام القضاء والشريعة‪ ،‬فقال‬
‫فيما يرويه البخاري ومسلم عن عائشة رضي ال عنها‪« :‬إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق‬
‫فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬لو أن فاطمة‬
‫بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ‪.‬‬
‫‪ - ً 4‬حماية الكرامة النسانية ‪:‬‬
‫الكرامة حق طبيعي لكل إنسان‪ ،‬رعاها السلم‪ ،‬واعتبرها مبدأ الحكم وأساس المعاملة‪ ،‬فل يجوز‬
‫إهدار كرامة أحد‪ ،‬أو إباحة دمه وشرفه‪ ،‬سواء أكان محسنا أم مسيئا‪ ،‬مسلما أم غير مسلم؛ لن العقاب‬
‫إصلح وزجر‪ ،‬ل تنكيل وإهانة‪ ،‬ول يحل شرعا السب والستهزاء والشتم وقذف العراض‪ ،‬كما ل‬
‫يجوز التمثيل بأحد حال الحياة أو بعد الموت‪ ،‬ولو من العداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها‪ .‬ويحرم‬
‫التجويع والظماء والنهب والسلب‪.‬‬
‫وما أروع إعلن القرآن لمبدأ الكرامة النسانية في قوله تعالى‪{ :‬ولقد كرمنا بني آدم} [السراء‪:‬‬
‫‪ ]70/17‬وقال رسول السلم صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (‬
‫‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكر (سبل السلم‪.)73/3 :‬‬

‫( ‪)8/329‬‬

‫‪ - ً 5‬الحرية ‪:‬‬
‫الحرية ملزمة للكرامة النسانية‪ ،‬فهي حق طبيعي لكل إنسان‪ ،‬وهي أغلى وأثمن شيء يقدسه‬
‫ويحرص عليه‪،‬قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص‪« :‬متى تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬
‫أحرارا» وعلى الحاكم توفير الحريات بمختلف مظاهرها الدينية والفكرية والسياسية والمدنية في حدود‬
‫النظام والشريعة‪ .‬وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول‪.‬‬
‫حرية العقيدة‪ :‬من أجل حرية العتقاد أو الحرية الدينية منع القرآن الكراه على الدين‪ ،‬فقال عز‬
‫وجل‪{ :‬ل إكراه في الدين‪ ،‬قد تبين الرشد من الغي} [البقرة‪{ ]256/2:‬أفأنت تكره الناس حتى يكونوا‬
‫مؤمنين} [يونس‪]99/10:‬؛ لن اعتناق السلم ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر‪ ،‬ل سلطان‬
‫فيه للسيف أو الكراه من أحد‪ .‬وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام‪ ،‬فإن فرضت‬
‫بالرغام والسطوة‪ ،‬سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬فمن شاء فليؤمن ومن‬
‫شاء فليكفر} [الكهف‪.]29/18:‬‬
‫وتقرير حرية العقيدة يستتبع إقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ لننا أمرنا بترك الذميين وما‬
‫يدينون‪ ،‬ول يعتدى على كنائسهم ومعابدهم‪ ،‬ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين‪ ،‬ول يناقشون‬
‫في عقائدهم إل باللين والخطاب الحسن‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ول تجادلوا أهل الكتاب إل بالتي هي أحسن‪،‬‬
‫إل الذين‬
‫ظلموا منهم‪ ،‬وقولوا‪ :‬آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‪ ،‬وإلهنا وإلهكم واحد‪ ،‬ونحن له مسلمون}‬
‫[العنكبوت‪.]46/29:‬‬

‫( ‪)8/330‬‬

‫حرية الفكر والقول‪ :‬رغب السلم في التفكير والنظر الطليق والتأمل في أسرار الكون للتوصل‬
‫بالعقل والمنطق إلى إثبات الصانع وإثبات النبوة وفهم ما جاء به النبياء والرسل والفادة من كنوز‬
‫الرض‪ ،‬وجعل التفكير فريضة إسلمية‪ ،‬واليات القرآنية المطالبة باستخدام الفكر كثيرة‪ ،‬منها قوله‬
‫سبحانه‪{ :‬قل‪ :‬انظروا ماذا في السموات والرض} [يونس‪ ]101/10:‬وتختتم آيات كثيرة بعد بيان‬
‫النظم السلمية في العقيدة وغيرها بأنها لقوم يعلمون‪ ،‬يعقلون‪ ،‬يتفكرون‪ ،‬يتدبرون‪ ،‬لولي اللباب‪،‬‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫ومن أجل تثبيت الدعوة إلى الفكر وإقرار أحكام العقل السديد‪ ،‬ندد ال سبحانه بالتقليد في أصول‬
‫العقائد والشرائع لتكون العقيدة عن وعي وإدراك وإذعان‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬وإذا قيل لهم‪ :‬اتبعوا ما أنزل‬
‫ال ‪ ،‬قالوا‪ :‬بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ ،‬أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئا ول يهتدون} [البقرة‪:‬‬
‫‪{ ]170/2‬أفلم يسيروا في الرض‪ ،‬فتكون لهم قلوب يعقلون بها‪ ،‬أو آذان يسمعون بها‪ ،‬فإنها ل تعمى‬
‫البصار‪ ،‬ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج‪.]46/22:‬‬
‫وحرية الفكر تستتبع حرية الرأي والنقد والقول‪ ،‬وذلك واضح من مبدأ السلم في تكوين الشخصية‬
‫الذاتية‪ ،‬والحض على صراحة القول‪ ،‬والمر بالمعروف‪ ،‬وعدم إقرار المنكر‪ ،‬والجهر بالحق دون‬
‫خشية من أحد أو مخافة لومة لئم‪ ،‬فل يكون النقد حقا فقط‪ ،‬وإنما هو واجب ديني أحيانا في ضوء‬
‫مفاهيم السلم‪ ،‬وضرورة الحفاظ على أحكامه‪ ،‬بدليل قوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الدين النصيحة‪»..‬‬
‫(‪ )1‬الحديث السابق ذكره‪ .‬وقوله‪« :‬ل تكونوا إمّعة (أي مع الناس) تقولون‪ :‬إن أحسن الناس أحسنا‪،‬‬
‫وإن ظلموا ظلمنا‪ ،‬ولكن وطّنوا أنفسكم‪ :‬إن أحسن الناس أن تحسنوا‪ ،‬وإن أساؤوا فل تظلموا» (‪)2‬‬
‫«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم عن أبي رقيّة تميم بن أوس الداري‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة‪ ،‬ورواه‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫( ‪)8/331‬‬

‫وسيرة الخلفاء الراشدين في احترام حق النقد وضرورته خير شاهد عملي على إبراز قيمته وأهميته‬
‫في السلم‪ ،‬كما قال عمر رضي ال عنه‪« :‬أيها الناس‪ ،‬من رأى فيّ اعوجاجا فليقوّمه» فيجيبه‬
‫أعرابي‪ :‬وال يا أمير المؤمنين لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا هذه‪ ،‬فيقول أمير المؤمنين‬
‫مغتبطا‪« :‬الحمد ل الذي جعل في هذه المة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه إذا اعوج» ‪ .‬وفي حادث‬
‫آخر قال رجل لعمر‪« :‬اتق ال يا أمير المؤمنين‪ ،‬فرد عليه آخر‪ :‬تقول لمير المؤمنين‪ :‬اتق ال ؟!‬
‫فقال عمر‪ :‬دعه فليقلها‪ ،‬فإنه ل خير فيكم إذا لم تقولوها‪ ،‬ول خير فينا إذا لم نسمعها منكم» ‪.‬‬
‫والحرية ل تتجزأ في مفهوم السلم‪ ،‬ول ينفصل جانب الدين فيه عن السياسة والمدنية وغيرها‪ ،‬فإن‬
‫حدث خطأ في تطبيق أحكام الدين‪ ،‬أو خلل في خط السياسة السلمية‪ ،‬أو مصادره للحقوق المدنية في‬
‫المعاملت الحرة والتصرفات الشخصية‪ ،‬كان لي مسلم توجيه النقد فيه للحاكم ورده إلى الصواب‪،‬‬
‫كما حصل من المرأة التي عارضت سيدنا عمر عندما أراد وضع حد لغلء المهور‪ ،‬وجواب عمر لها‬
‫بقوله‪« :‬أصابت امرأة وأخطأ عمر» ‪ .‬وكما حدث‬
‫مع الرسول نفسه حينما اعترض رجل بغير حق على قسمته الغنائم قائلً‪« :‬إن هذه قسمة ما عدل فيها‬
‫وما أريد بها وجه ال » فيجيب الرسول‪« :‬يرحم ال موسى‪ ،‬قد كان أوذي بأكثر من هذا فصبر» ‪.‬‬
‫ونحو ذلك كثيرفي السيرة‪.‬‬

‫( ‪)8/332‬‬

‫‪ - ً 6‬رقابة المة ومسؤولية الحاكم ‪:‬‬


‫يخضع الحاكم المسلم لرقابة المة التي ولته‪ ،‬فإن عدل ونفذ أحكام الشرع‪ ،‬وجبت طاعته‪ ،‬وإن جار‬
‫وانحرف خلعته وولت غيره‪ ،‬كما تبين سابقا‪ .‬قال اليجي (‪« : )1‬وللمة خلع المام وعزله بسبب‬
‫يوجبه» كأن يوجد ما يوجب اختلل أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين‪ .‬وقال ابن حزم بعد أن ذكر‬
‫واجبات الخليفة (‪« : )2‬فهو المام الواجب الطاعة ما قادنا بكتاب ال تعالى وسنة رسول ال صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪ .‬فإن زاغ عن شيء منهما‪ ،‬منع من ذلك‪ ،‬وأقيم عليه الحد والحق‪ ،‬فإن لم يؤمن أذاه إل‬
‫بخلعه‪ ،‬خلع وولّي غيره» ‪.‬‬
‫يظهر من هذا أن الحاكم مسؤول عن تصرفاته أمام رعيته‪ .‬كما أنه يشعر بخطورة المسؤولية العظمى‬
‫أمام ال في الدار الخرة‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل تخونوا ال والرسول وتخونوا‬
‫أماناتكم‪ ،‬وأنتم تعلمون} [النفال‪ ]27/8:‬ويقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬كلكم راع وكلكم مسؤول‬
‫عن رعيته‪ ،‬المام راع ومسؤول عن رعيته‪« )3( »...‬ما من والٍ يلي رعية من المسلمين‪ ،‬فيموت‬
‫وهو غاش لهم‪ ،‬إل حرم ال عليه الجنة» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المواقف‪.352/8 :‬‬
‫(‪ )2‬الفصل في الملل والنحل‪ ،102/4 :‬وانظر النظريات السياسية السلمية‪ :‬ص ‪.299-292‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم عن معقل بن يسار‪.‬‬

‫( ‪)8/333‬‬

‫ويشعر الخليفة بثقل هذه المسؤولية ويقدرها‪ ،‬كما يمثل لنا ذلك قول عمر رضي ال عنه‪« :‬لئن ضلت‬
‫شاة على شاطئ الفرات‪ ،‬لخشيت أن يسألني ال عنها يوم القيامة» ‪.‬‬
‫وإذا عجزت المة عن خلع الحاكم‪ ،‬كما حدث في الماضي‪ ،‬فل يعني عجزها التسليم بشرعية حكمه‪،‬‬
‫وإنما يكون السكوت إقرارا للمر الواقع‪ ،‬عملً بمبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» (‪. )1‬‬
‫علقة المام الحاكم بالناس‪ :‬تتحدد طبيعة هذه العلقة بما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬المام مستخلف عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم وعن خلفائه من بعده‪ ،‬فيتقيد بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ - 2‬المام صاحب ولية عامة على جميع من في دار السلم من مسلمين وذميين‪ ،‬فتصرفاته مقيدة‬
‫بالمصلحة العامة‪.‬‬
‫‪ - 3‬للمام حق الشراف والرقابة على جميع من دونه من الولة والوزراء والقضاة فيما وكلّهم فيه‬
‫من خدمات‪.‬‬
‫‪ - 4‬علقة المام بالمة أو بالرعية علقة خادم أمين بمخدومه‪ ،‬فعليه توفير السعادة ونشر المن‬
‫والرخاء للجميع وعليه التحلي بخصال الرحمة والخلص‪ ،‬دون إكراه ول إضرار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلطات الثلث للدكتور سليمان الطماوي‪ :‬ص ‪.283‬‬

‫( ‪)8/334‬‬

‫المبحث التاسع ـ مصدر السيادة في السلم ‪:‬‬


‫السيادة في القوانين الدستورية الحديثة يراد بها المصدر الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حق‬
‫المتثال لمره والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذه من تدبير‪ .‬والسيادة أو السلطة السياسية من‬
‫أركان قيام الدولة بالمعنى الحديث‪ ،‬وبموجبها تستطيع إصدار القوانين‪ ،‬وتقييد الحريات‪ ،‬وفرض‬
‫الضرائب‪ ،‬وزجر الجناة‪ ،‬حتى يتوافر الستقرار ويسود المن وتنعدم الفوضى‪.‬‬
‫وقد اختلفت آراء السياسيين قديما وحديثا في تحديد مصدر السيادة‪ ،‬هل هي من ال ‪ ،‬أو من شخص‬
‫الحاكم أو من المة‪.‬‬
‫فنادت جماعة بنظرية الحق اللهي المطلق لتأييد سلطان الملوك‪ ،‬وأنه حق طبيعي مقدس مستمد من‬
‫تفويض إلهي‪ ،‬فالحاكم أو الملك وكيل في تنفيذ أوامر ال وخليفة في الرض‪ ،‬مما جعله يحكم حكما‬
‫استبداديا مطلقا دون أن يكون لحد الحق في نقده‪ ،‬وسادت هذه النظرية قديما إلى نهاية القرون‬
‫الوسطى‪ ،‬وهي فترة الحكم الثيوقراطي أو التوقراطية‪ ،‬أي الستبدادي‪.‬‬
‫والسلم ل يقر هذه النظرية التي تمنح الحاكم حق الستبداد بالحكم؛ لن ال تعالى يقول لرسوله‪:‬‬
‫{فذكر إنما أنت مذكر‪ ،‬لست عليهم بمصيطر} [الغاشية‪{ ]22/88:‬وما أرسلناك عليهم حفيظا}‬
‫[الشورى‪{ ]48/42:‬وما أنت عليهم بجبار} [ق‪ ]45/50:‬ويقول الرسول صلّى ال عليه وسلم لعرابي‬
‫ارتعد منه‪« :‬لست بملك ول جبار» (‪ )1‬وقال عمر للناس‪« :‬وال ما أنا بملك فأستعبدكم بملك أو‬
‫جبرية‪ ،‬وما أنا إل أحدكم‪ ،‬منزلتي منكم كمنزلة والي اليتيم منه ومن ماله» ‪.‬‬
‫ونادى آخرون مع ظهور نظرية العقد الجتماعي لروسو بأن المة مصدر السلطات‪ ،‬أي هي التي لها‬
‫حق التشريع‪ ،‬وهي التي تعين الحكام وتمنحهم السلطة والسيادة‪ .‬ولكن هذه النظرية لم تمنع الستبداد‪،‬‬
‫وإن أخذت صفة الديمقراطية؛ لن بعض الحكام استبدوا بالسلطة متذرعين بأنهم يمثلون إرادة الشعب‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحديث ورد عن أبي هريرة وأبي ذر بلفظ‪« :‬هوّن عليك‪ ،‬فلست بملك‪ ،‬وإنما أنا ابن امرأة من‬
‫قريش تأكل القديد» (الحياء للغزالي‪ .)338/2 :‬وأخرج أبو داود عن عبد ال بن بسر‪« :‬إن ال‬
‫جعلني عبدا كريما‪ ،‬ولم يجعلني جبارا عنيدا» ‪.‬‬

‫( ‪)8/335‬‬

‫والسلم ل يقر جعل المة مصدر السلطة التشريعية؛ لن التشريع ل وحده‪ ،‬والمة وحدها صاحبة‬
‫الخلفة في الرض في تنفيذ أحكام الشريعة‪ ،‬والخليفة وأعوانه وقضاته وكلء عن المة في أمور‬
‫الدين وفي إدارة شؤونها بحسب شريعة ال ورسوله‪ ،‬ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء‪،‬‬
‫وعزله إن انحرف‪ ،‬فهو يستمد سلطانه من المة بعقد البيعة أو الوكالة‪ ،‬ويكون مصدر السيادة حينئذ‬
‫هو المة الموكل الصلي‪ ،‬ل الوكيل النائب عنها‪ .‬والمة في المجتمع المسلم أو الديمقراطية السلمية‬
‫ملتزمة بالقانون السماوي والخلقي ومقيدة بمبادئه‪ ،‬فالسيادة في السلم مبنية على حق إنساني ناشئ‬
‫عن جعل شرعي‪ .‬وبذلك تكون المة والشريعة معا هما صاحبا ( السيادة ) في الدولة السلمية‪،‬‬
‫بمعنى أن السيادة الصلية ل تعالى‪ ،‬فيرجع إليه في المر والنهي‪ ،‬والسيادة العملية مستمدة من الشعب‬
‫الذي يعين أهل الحل والعقد أصحاب الرأي والجتهاد في ضوء مبادئ الشريعة (‪ . )1‬قال المرحوم‬
‫الستاذ عبد الوهاب خلف (‪« : )2‬وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة السلمية مكان الرياسة‬
‫العليا من أية حكومة دستورية؛ لن الخليفة يستمد سلطانه من المة الممثلة في أولي الحل والعقد‪،‬‬
‫ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم‪ ،‬ولهذا قرر علماء المسلمين أن للمة‬
‫خلع الخليفة لسبب يوجبه‪ ،‬وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين » ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع النظريات السياسية السلمية للريس‪ :‬ص ‪ ،341-320‬مقاصد الشريعة السلمية‬
‫ومكارمها للستاذ علل الفاسي‪ :‬ص ‪ ،215-209‬منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪،86-77‬‬
‫نظام الحكم في السلم ليوسف موسى‪ :‬ص ‪.127-123‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪.58‬‬

‫( ‪)8/336‬‬

‫المبحث العاشر ـ تنظيم الخليفة للدولة (إدارة الدولة )‬


‫المطلب الول ـ الدارة في عهد الخلفاء ‪:‬‬
‫الخليفة رئيس الدولة العلى‪ ،‬وصاحب مسؤوليات كبرى‪ ،‬يقود المة نحو أفضل الغايات‪ ،‬ويخطط‬
‫لمسيرتها في ضوء أعدل الطرق وأصحها وأيسرها‪ .‬وبما أنه فرد ذو قدرات محدودة‪ ،‬فهو يحتاج إلى‬
‫أعوان وأنصار لتسيير الحكم في البلد‪ ،‬قال الماوردي‪« :‬إن ما وكل إلى المام من تدبير المة ل‬
‫يقدر على مباشرة جميعه إل باستنابة» (‪ )1‬ومن هؤلء العوان تتكون السلطة التنفيذية في السلم‪.‬‬
‫ولقد نقل التاريخ أن الخلفاء المسلمين أبدوا نجاحا باهرا في إدارة البلد‪ ،‬وأن السلم ابتكر وأبدع في‬
‫الحرب والدارة والسياسة‪ ،‬كما اخترع وأبدع في العلم والتشريع وأسباب المدنية (‪. )2‬‬
‫وبدأت نواة الدارة في عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم ببث الدعوة‪ ،‬وجهاد العدو‪ ،‬وأخذ الغنائم‬
‫والصدقات والجزى والعشور‪ ،‬وقسمتها بين المجاهدين وأهل البلد من المهاجرين والنصار وفقراء‬
‫المسلمين وتوزيع العمل بين عماله‪ ،‬ومعاملته لهم وللوفود والنساء (‪ ، )3‬وإرسال القضاة والمعلمين‬
‫إلى بعض البلدان كاليمن‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،20‬ط صبيح‪.‬‬
‫(‪ )2‬الدارة السلمية في عز العرب للستاذ محمد كرد علي‪ :‬ص ‪.5‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.22‬‬

‫( ‪)8/337‬‬

‫وسار أبو بكر بسيرة الرسول في الدارة السلمية‪ ،‬واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة‪،‬‬
‫والمراء الذين أمرهم‪ .‬وقام أبو عبيدة بشؤون المال‪ ،‬وعمر بأمر القضاء‪ .‬وكان الصديق يشاور أهل‬
‫الرأي والفقه فيما يعرض له من القضايا‪ .‬وقسمت جزيرة العرب إلى وليات أو عمالت كمكة‬
‫والمدينة والطائف وصنعاء‪...‬إلخ‪ .‬وقسمت الحجاز إلى ثلث وليات‪ ،‬واليمن إلى ثمان‪ ،‬والبحرين‬
‫وتوابعها ولية‪ .‬وكان أهم شاغل لبي بكر في مدة خلفته الوجيزة هو قتال المرتدين وتوطيد دعائم‬
‫السلم‪ ،‬وتثبيت أركان الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم‪ .‬وكان أيضا يهتم بمراقبة أحوال‬
‫العمال (‪ ، )1‬أي الموظفين الداريين‪ ،‬وسموا عمالهم لبيان أن العامل ليس مطلق السلطة‪.‬‬
‫ووضحت صورة التنظيم الداري في عهد عمر لتساع رقعة الدولة السلمية‪ ،‬فعين العمال الكفاء‪،‬‬
‫وراقبهم مراقبة شديدة‪ ،‬وشاطرهم أموالهم‪ ،‬وأحصى القبائل وفرض لها الفروض وأعطاها العطايا‪،‬‬
‫ودون الدواوين التي تشبه الوزارات اليوم‪ ،‬فوضع أول ديوان في السلم للخراج والموال بدمشق‬
‫والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل‪ ،‬وكان أول من استقضى القضاة‪ ،‬وأحدث التاريخ‬
‫الهجري‪ ،‬وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده‪ ،‬وحجر على أعلم قريش من المهاجرين الخروج‬
‫من البلدان إل بإذن وأجل‪ ،‬ونحو ذلك من التقسيمات والتنظيمات الدارية السديدة (‪. )2‬‬
‫وحافظ عثمان رضي ال عنه على الوضاع التي وضعها عمر‪ ،‬وعلى العمال الذين عينهم عمر مع‬
‫أناس من أهله وعشيرته في بدء وليته‪ .‬ثم ضعفت الدارة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.27-23‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.53-27‬‬

‫( ‪)8/338‬‬

‫في النصف الخير من عهد عثمان لشيخوخته‪ ،‬واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الوليات (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫وكانت طريقة علي أيضا في الدارة طريقة من سبقوه إلى المامة‪.‬‬
‫ثم تبلورت النظم الدارية في عهد المويين والعباسيين بسبب اتصالهم بالحضارات الخرى‪ ،‬وظهور‬
‫الطابع الدنيوي عليها (‪ ، )2‬مما مكّن فقهاء السلم من صياغة الحكام الدارية المناسبة‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ أقسام الوليات في رأي الماوردي ‪:‬‬
‫قسم الماوردي وليات خلفاء الخليفة أربعة أقسام (‪: )3‬‬
‫أولً ـ أصحاب الوليات العامة في العمال العامة‪ :‬وهم الوزراء؛ لنهم يستنابون في جميع المور‬
‫من غير تخصيص‪.‬‬
‫ثانيا ـ أصحاب الولية العامة في أعمال خاصة‪ :‬وهم أمراء القاليم والبلدان؛ لن اختصاصهم عام‬
‫في حدود القليم المنوط إدارته بهم‪.‬‬
‫ثالثا ـ أهل الولية الخاصة في العمال العامة‪ :‬وهم قاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور‬
‫ومستوفي الخراج وجابي الصدقات؛ لن اختصاص كل واحد خاص في جميع أعماله‪.‬‬
‫رابعا ـ ذوو الولية الخاصة في العمال الخاصة‪ :‬وهم كقاضي بلد‪ ،‬أوإقليم أو مستوفي خراجه‪ ،‬أو‬
‫الجابي صدقاته‪ ،‬أو الحامي ثغره‪ ،‬أو نقيب جنده؛ لن كل واحد خاص النظر خاص العمل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 55‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪ 65‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.19‬‬

‫( ‪)8/339‬‬

‫المطلب الثالث ـ وظائف الولة ‪:‬‬


‫كانت وظائف هؤلء الولة على النحو التالي‪:‬‬
‫أولً ـ الوزارة‪ .‬ثانيا ـ إمارة القاليم‪.‬‬
‫أولً ـ الوزارة ‪:‬‬
‫كان الصحابة أعوان الرسول صلّى ال عليه وسلم في شؤونه‪ ،‬واستمر بعضهم عونا لبعض في عهد‬
‫الخلفاء الراشدين والمويين‪ ،‬دون معرفة هذا الصطلح‪ .‬ثم استعير هذا اللفظ من الفرس في عهد‬
‫العباسيين‪.‬‬
‫وأبان الماوردي أحكام الوزارة‪ ،‬وقسمها نوعين‪:‬‬
‫‪ - 1‬وزارة تفويض‪.‬‬
‫‪ - 2‬وزارة تنفيذ (‪. )1‬‬
‫‪ - 1‬وزارة التفويض‪ :‬هي أن يستوزر المام من يفوض إليه تدبير المور برأيه‪ ،‬وإمضاءها على‬
‫اجتهاده‪ .‬فهي تشبه رئاسة الوزارة اليوم‪.‬‬
‫وهذا أخطر منصب بعد الخلفة‪ ،‬إذ يملك الوزير المفوض كل اختصاصات الخليفة كتعيين الحكام‬
‫والنظر في المظالم وقيادة الجيش وتعيين القائد وتنفيذ المور التي يراها‪ ،‬والمبدأ‪ :‬كل ما صح من‬
‫المام صح من الوزير إل ثلثة أمور هي‪:‬‬
‫أ ـ ولية العهد‪ :‬فإن للمام أن يعهد إلى من يرى‪ ،‬وليس ذلك للوزير‪.‬‬
‫ب ـ للمام أن يستعفي المة من المامة‪ ،‬وليس ذلك للوزير‪.‬‬
‫جـ ـ للمام أن يعزل من قلده الوزير‪ ،‬وليس للوزير أن يعزل من قلده المام (‪. )1‬‬
‫وما عدا هذه الثلثة تنفذ كل تصرفاته بمقتضى التفويض‪ .‬فإن حدث اختلف بينه وبين المام‪ ،‬يفضّ‬
‫على النحو التالي (‪: )2‬‬
‫إن عارضه المام في رد ما أمضاه من أحكام قضائية نفذ على وجهه‪.‬‬
‫ل بتوزيع الموال في حقوقها‪ ،‬لم يجز نقض تصرفه ول استرجاع ماوزعه‬
‫وإن كان تصرفه متص ً‬
‫برأيه‪.‬‬
‫وإن كان تصرفه في أمر عام كتقليد وال أو تجهيز جيش وتدبير حرب‪ ،‬جاز للمام معارضته بعزل‬
‫من وله‪ ،‬ورد الجيش إلى ثكناته‪ ،‬وتدبير الحرب بما هو أولى؛ لن للمام أن يستدرك ذلك من أفعال‬
‫نفسه‪ ،‬فكان أولى أن يستدركه من أفعال وزيره‪.‬‬
‫ولو قلد المام واليا على عمل‪ ،‬وقلد الوزير غيره على ذاك العمل‪ ،‬ينفذ قرار السبق في التعيين‪.‬‬
‫وأما كيفية تنسيق أو تحديد العلقة بين المام ووزير التفويض‪ ،‬فهي مايأتي (‪: )3‬‬
‫أ ـ يطالب وزير التفويض بمطالعة المام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولية وتقليد‪ ،‬لئل يصبح‬
‫باستبداده كالمام‪.‬‬
‫ب ـ يتصفح الخليفة أفعال الوزير وتدبيره المور‪ ،‬ليقر منها ماوافق الصواب‪ ،‬ويستدرك ما خالفه؛‬
‫لن تدبير المة موكول إليه‪ ،‬ومحمول على اجتهاده‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.23‬‬
‫(‪ )3‬المرجع والمكان نفسه‪.‬‬
‫(‪ )4‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.23-22‬‬

‫( ‪)8/340‬‬

‫وبما أن منصب هذه الوزارة له أهميته وخطورته‪ ،‬اشترط الفقهاء فيمن يقلدها شروط المامة نفسها‪،‬‬
‫إل النسب القرشي وحده؛ لنه يمضي الراء وينفذ الجتهاد‪ ،‬فينبغي أن يكون مجتهدا‪ .‬والسبب في‬
‫استثناء شرط النسب هو اقتصار النصوص الواردة بشأنه على المامة وحدها‪ ،‬مما دعا أبا بكر أن‬
‫يقول للنصار‪ :‬فنحن المراء وأنتم الوزراء‪.‬‬
‫وزيد شرط آخر على شروط المامة‪ :‬وهو أن يكون وزير التفويض من أهل الكفاية فيما وكل إليه من‬
‫أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما (‪. )1‬‬
‫كذلك ل يكفي للتكليف بهذه الوزارة مجرد الذن‪ ،‬بل ل بد من عقد معين صادر من الخليفة لمن يكلفه‬
‫بها‪ ،‬والعقود ل تصح إل بالقول الصريح (‪. )2‬‬
‫وبما أن لهذا الوزير صلحية عامة في العمال كالمام فل يجوز للخليفة تعيين وزيري تفويض في‬
‫وقت واحد‪ ،‬كما ل يجوز تعيين إمامين‪،‬؛ لنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل‪ ،‬لكن‬
‫إن أشرك الخليفة اثنين في النظر المشترك في المور ‪ ،‬دون أن ينفرد أحدهما بتصرف‪ ،‬بل ل بد من‬
‫اتفاقهما معا‪ ،‬فيجوز (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬وزارة التنفيذ(‪ : ) 4‬هي أقل مرتبة من وزارة التفويض؛ لن الوزير فيها ينفذ رأي المام‬
‫وتدبيره‪ ،‬وهو وسط بينه وبين الرعايا والولة‪ ،‬يؤدي عنه أوامره‪ ،‬وينفذ آراءه‪ ،‬ويمضي أحكامه‪،‬‬
‫ويبلغ من قلدهم الولية أو تجهيز الجيوش‪ ،‬ويعرض عليه ما ورد منهم‪ ،‬وتجدد من أحداث طارئة‪.‬‬
‫فليس له سلطة الستقلل بالتوجيه والرأي والجتهاد‪ ،‬وهو محدد الختصاص بأمرين‪:‬‬
‫أحدهما ـ أن يؤدي إلى الخليفة ما يبلغه من قضايا‪.‬‬
‫الثاني ـ أن يؤدى إليه أوامر الخليفة لتنفيذها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.20‬‬
‫(‪ )2‬المصدر نفسه‪ :‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )3‬المصدر نفسه‪ :‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )4‬المصدر نفسه‪ :‬ص ‪.26-24‬‬

‫( ‪)8/341‬‬

‫ويكفي في تعيينه مجرد الذن‪ ،‬ول يشترط إجراء عقد معه لتعيينه‪ .‬ول يطلب فيه الحرية‪ ،‬لنه ل‬
‫ينفرد بالولية وتقليد الوظائف لغيره‪ ،‬ول العلم‪ ،‬أي الجتهاد لنه ل يجوز له أن يحكم برأيه‪.‬‬
‫شروطه‪ :‬الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ سبعة فقط تتعلق بالخلق الفاضلة والتجربة السياسية‪:‬‬
‫‪ - 1‬المانة‪ :‬حتى ل يخون فيما قد اؤتمن عليه‪ ،‬ول يغش فيما استنصح فيه‪.‬‬
‫‪ - 2‬صدق اللهجة‪ :‬حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه‪.‬‬
‫‪ - 3‬قلة الطمع‪ :‬حتى ل يرتشي ول ينخدع‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن يكون مسالما ل عداوة ول شحناء بينه وبين الناس؛ لن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من‬
‫التعاطف‪.‬‬
‫‪ - 5‬حاضر البديهة والذاكرة حتى يؤدي إلى الخليفة وعنه؛ لنه شاهد له وعليه‪ - 6 .‬الذكاء والفطنة‬
‫حتى ل تدلس عليه المور‪ ،‬فتشتبه‪ ،‬ول تموه عليه فتلتبس‪.‬‬
‫‪ - 7‬أل يكون من أهل الهواء‪ ،‬فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل‪.‬‬
‫ول يقبل لهذا المنصب ول لوزارة التفويض والخلفة امرأة لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ما‬
‫أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (‪ )1‬ولن في هذه الوظائف من المهام الخطيرة التي تتطلب الرأي وثبات‬
‫العزم ما تضعف عنه النساء‪ .‬ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة‪ ،‬ول يجوز لوزارة‬
‫التفويض‪ .‬ويجوز تعيين وزيري تنفيذ أو أكثر‪ ،‬على عكس وزارة التفويض‪ .‬لكن يجوز للخليفة تعيين‬
‫وزيرين في مهمة وزير تفويض ووزير تنفيذ‪ ،‬فيكون وزير التفويض مطلق التصرف‪ ،‬ووزير التنفيذ‬
‫مقصورا على تنفيذ أوامر الخليفة‪.‬‬
‫الفرق بين الوزارتين‪ :‬ذكر الماوردي فروقا ثمانية بين الوزارتين‪ ،‬أربعة منها تتعلق بالشروط‪،‬‬
‫والربعة الخرى بالصلحيات‪.‬‬
‫أما الفروق العائدة للشروط والمؤهلت فهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬الحرية‪ :‬مطلوبة في وزارة التفويض‪ ،‬وغير مطلوبة في وزارة التنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 2‬السلم‪ :‬مطلوب في وزارة التفويض‪ ،‬دون التنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 3‬العلم بالحكام الشرعية (الجتهاد)‪ :‬مطلوب في وزارة التفويض ل التنفيذ ‪.‬‬
‫‪ - 4‬المعرفة بشؤون الحرب والقتصاد كالخراج‪ :‬مطلوبة في وزارة التفويض ل التنفيذ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه والنسائي عن أبي بكرة (نيل الوطار‪.)263/8 :‬‬

‫( ‪)8/342‬‬

‫وأما الفروق المتعلقة بالختصاص والصلحيات فهي‪:‬‬


‫‪ - 1‬يجوز لوزير التفويض مباشرة الحكم والنظر في المظالم‪ ،‬وليس ذلك لوزير التنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 2‬ويجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتقليد وتعيين الولة‪ ،‬وليس ذلك لوزير التنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 3‬يجوز لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب‪ ،‬وليس ذلك لوزير التنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 4‬يجوز لوزير التفويض أن يتصرف في أموال بيت المال بالجباية والصرف‪ ،‬وليس ذلك لوزير‬
‫التنفيذ‪.‬‬
‫ثانيا ـ إمارة القاليم أو البلد ‪:‬‬
‫اتسعت الدولة السلمية في عهد عمر رضي ال عنه‪ ،‬فقسمت إلى أقسام إدارية كبيرة‪ ،‬فجعلت بلد‬
‫الشام قسمين‪ ،‬وبلد فارس ثلث وليات‪،‬وأفريقيا ثلث وليات أيضا‪ .‬وكان على كل إقليم من هذه‬
‫القسام عامل (أو وال أو أمير) يؤم الناس في الصلة ويفصل في الخصومات‪ ،‬ويقود الجند في‬
‫الحرب‪ ،‬ويجمع المال‪ ،‬وكان مع الوالي عامل خاص للخراج‪.‬‬
‫وفي عهد بني أمية حيث بلغت أقصى اتساعها‪ ،‬قسمت إلى خمس وليات كبرى هي الحجاز واليمن‬
‫وتوابعها‪ ،‬ومصر بقسميها السفلي والعلوي‪ ،‬والعراقان‪ :‬العربي (بلد بابل وآشور القديمة) والعجمي‬
‫(بلد فارس)‪ ،‬وبلد الجزيرة ويتبعها أرمينية وأذربيجان‪ ،‬وأفريقية الشمالية وبلد الندلس وجزر‬
‫صقلّية‪ .‬وحافظ العرب على هذا النظام الداري في البلد التي فتحوها‪ ،‬مع إحداث تغيير جزئي فيها‬
‫اقتضته الروح العربية‪ ،‬ولكن بتقدم الدولة‪ ،‬واتساع حدودها‪ ،‬تعقّد النظام الداري جزئيا‪ ،‬وتعددت‬
‫الدواوين‪ ،‬ول سيما في عهد العباسيين الذين تأثروا بالفرس‬

‫( ‪)8/343‬‬

‫كثيرا في نظم الحكم والدارة (‪. )1‬‬


‫وأملى هذا التطور على الفقهاء ضرورة البحث في طبيعة هذه الوليات وما يلئمها من أحكام تمس‬
‫سياسة الدولة‪.‬‬
‫فقسموا‪ ،‬أي الفقهاء‪ ،‬الولية أو المارة إلى قسمين‪ :‬عامة وخاصة‪.‬‬
‫‪ - 1‬المارة العامة‪ :‬وهي التي تختص بجميع المور المتعلقة بالقليم سواء فيما يتعلق بالمن‬
‫وحاجات الدفاع‪ ،‬أم بالقضاء وشؤون المال‪ .‬وهي نوعان‪ :‬إمارة استكفاء وإمارة استيلء‪.‬‬
‫‪ )ً 1‬ـ إمارة الستكفاء(‪ : ) 2‬وهي التي يعقدها المام لشخص كفء عن رضا واختيار‪ .‬بأن يفوض‬
‫إليه الخليفة إمارة بلد أوإقليم ولية على جميع أهله‪ ،‬ونظرا في المعهود من سائر أعماله‪ ،‬فيصير عام‬
‫النظر فيما كان محدودا من عمل‪ ،‬ومعهودا من نظر‪ ،‬أي أنه مفوض الصلحية العامة في كل العمال‬
‫المسندة إليه‪ .‬وقد بقيت هذه المارة من عهد الراشدين بتعيين الولة على أقاليم مصر أو اليمن أو‬
‫الشام أو العراق‪ ،‬إلى عصر المويين والعهد الذهبي للدولة العباسية‪ .‬ثم انتشرت إمارة الستيلء مند‬
‫النصف الثاني من القرن الثالث الهجري‪ ،‬حيث وجدت الدويلت في المشرق والمغرب‪ ،‬كالدولة‬
‫البويهية والسامانية والغزنوية والسلجوقية في الشرق‪ ،‬والطولونية والخشيدية والغلبية في الغرب (‬
‫‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلطات الثلث‪.299-296 :‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 27‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬النظريات السياسية للريس‪ :‬ص ‪.234‬‬

‫( ‪)8/344‬‬

‫وأما العمال التي كان يمارسها صاحب هذه المارة فهي سبعة (‪ )1‬وهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي‪ ،‬وتقدير أرزاق الجند‪ ،‬إل أن يكون الخليفة قدرها‪،‬‬
‫فيعمل بما قرر‪.‬‬
‫‪ - 2‬النظر في الحكام وتقليد القضاة والحكام‪.‬‬
‫‪ - 3‬جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال لها‪ ،‬وتفريق ما استحق منها‪.‬‬
‫‪ - 4‬حماية الدين والذب‪ ،‬أي الدفاع‪ ،‬عن الحريم ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل‪.‬‬
‫‪ - 5‬إقامة الحدود في حق ال وحقوق الدميين‪.‬‬
‫‪ - 6‬المامة في صلة الجمع والجماعات بنفسه أو بالستخلف عليها‪.‬‬
‫‪ - 7‬تسهيل أداء فريضة الحج كل عام‪.‬‬
‫وهناك واجب ثامن على والي البلد الساحلية أو المجاورة لحدود العدو (الثغور)‪ :‬وهو جهاد العداء‬
‫وقسمة الغنائم على وفق أحكام الشرع‪.‬‬
‫والشروط المطلوبة فيمن يعين لهذه المامة‪ :‬هي ذات الشروط المقررة في وزارة التفويض؛ لن‬
‫الفرق بينهما إقليمي بحت‪،‬فسلطة وزير التفويض عامة في كل أنحاء الدولة‪ ،‬وأما اختصاص أمير‬
‫القليم فمقيد في نطاق إقليمه‪ .‬وحينئذ يكون لوزير التفويض الحق في مراقبة أعمال ولة القاليم‪ ،‬بل‬
‫وله عزلهم أحيانا إذا كان هو الذي عينهم‪ .‬فإن عينهم الخليفة أو بإذن الخليفة فل بد من موافقة الخليفة‬
‫على العزل (‪. )2‬‬
‫ويجوز لوالي القليم أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بإذن الخليفة أو بغير إذن‪ ،‬ولكن ل يجوز له أن‬
‫يستوزر وزير تفويض إل بإذن الخليفة؛ لن وزير التنفيذ معين‪ ،‬ووزير التفويض مستبد‪ ،‬أي مستقل‬
‫الرأي (‪. )3‬‬
‫‪ )ً 2‬ـ إمارة الستيلء(‪ : ) 4‬وهي التي تعقد عن اضطرار بأن يستولي شخص على السلطة‪ ،‬كما‬
‫حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر الدويلت‪ ،‬فيقره الخليفة على إمارتها‪ ،‬ويفوض إليه تدبير‬
‫أمورها وسياستها‪ .‬ولكن يحتفظ الخليفة بما يتعلق بالدين‪ ،‬فيكون المير ـ كما قال الماوردي ـ‬
‫باستيلئه مستبدا بالسياسة والتدبير‪ ،‬والخليفة بإذنه منفذا لحكام الدين‪ ،‬ليخرج من الفساد إلى الصحة‬
‫ومن الحظر إلى الباحة‪.‬‬
‫وهذا اعتراف بالمر الواقع أو بحكم الضرورة‪ .‬أما أحكام الدين فل يجوز التهاون بها‪ ،‬قال الماوردي‬
‫بعد عبارته السابقة‪« :‬وهذا‪ ،‬وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه‪ ،‬ففيه من حفظ‬
‫القوانين الشرعية‪ ،‬وحراسة الحكام الدينية ما ل يجوز أن يترك مختلً مدخولً‪ ،‬ول فاسدا معلولً» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الماوردي‪ :‬ص ‪.28‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.28‬‬
‫(‪ )3‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.29‬‬
‫(‪ )4‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.31‬‬

‫( ‪)8/345‬‬

‫والمعنى أن الفقهاء إزاء تجزؤ الدولة والتطور الحادث أرادوا الحفاظ على مبدأ شرعية الدولة‪،‬‬
‫وشعور الناس بالتالي بأنهم يعيشون في ظل الشرعية‪ ،‬عن طريق الرتباط السمي بالخلفة‬
‫المركزية‪ ،‬فتبقى الوحدة وروح التعاون سائدة في القضايا العامة‪.‬‬
‫إل أن إقرار هذا النوع الستثنائي أو العتراف بالمر الواقع مقيد بسبعة شروط تلزم أغلبها المير‬
‫المستولي‪ ،‬ويلزم بعضها الخليفة نفسه وهي‪:‬‬
‫‪ - 1‬حفظ منصب المامة في خلفة النبوة‪ ،‬وتدبير أمور الملة‪ ،‬لحفظ أحكام وحدود الشريعة وما تفرع‬
‫عنها من حقوق‪.‬‬
‫‪ - 2‬ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد والنشقاق‪.‬‬
‫‪ - 3‬اجتماع الكلمة على اللفة والتناصر‪ ،‬ليكون للمسلمين يد على من سواهم‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن تكون عقود الوليات الدينية جائزة‪ ،‬والحكام والقضية نافذة‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن يكون استيفاء الموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن تكون الحدود مستوفاة بحق‪ ،‬وقائمة على مستحق‪.‬‬
‫‪ - 7‬أن يكون المير في حفظ الدين ورعا عن محارم ال ‪ ،‬يأمر بحقه إن أطيع‪ ،‬ويدعو إلى طاعته‬
‫إن عصي‪.‬‬
‫هذه هي شروط العتراف بالجزء المنفصل من قبل الخليفة تحفظ بها حقوق المامة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪ 32‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/346‬‬

‫الفرق بين إمارتي الستكفاء والستيلء ‪:‬‬


‫هناك أربعة فروق وهي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬إن إمارة الستكفاء تتم بعقد وتراضٍ واختيار بين الخليفة والمستكفي‪ .‬أما إمارة الستيلء فتنعقد‬
‫عن اضطرار‪.‬‬
‫‪ - 2‬إن إمارة الستيلء شاملة البلد التي غلب عليها المستولي‪ .‬وأما إمارة الستكفاء فمقصورة على‬
‫البلد التي تضمنها عهد المستكفي‪.‬‬
‫‪ - 3‬إمارة الستيلء تشتمل على النظر في جميع المور‪ :‬المعهودة والنادرة‪ .‬وإمارة الستكفاء خاصة‬
‫بالمعهود ل النادر‪.‬‬
‫‪ - 4‬يجوز لميرالستيلء تعيين وزير تفويض ووزير تنفيذ‪ ،‬ول يجوز لمير الستكفاء تعيين وزير‬
‫تفويض إل بإذن المام‪ ،‬ولكن له أن يستوزر وزير تنفيذ‪.‬‬
‫‪ - 2‬المارة الخاصة ‪:‬‬
‫وهي التي تتحدد فيها سلطات المير بصلحيات معينة‪ .‬وخصصها الماوردي بشؤون المن والدفاع‪.‬‬
‫فقال‪ :‬وهي أن يكون المير مقصور المارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة‪ ،‬أي‬
‫إقليم الدولة‪ ،‬والذب عن الحريم‪ .‬وليس له أن يتعرض للقضاء والحكام ولجباية الخراج والصدقات‪.‬‬
‫ويلحظ أن المارات كانت صدر السلم عامة‪ ،‬ثم بدأت تتخصص بتوسع الدولة وتعقد الجهاز‬
‫الداري‪ .‬فكان عمرو بن العاص صاحب ولية عامة على مصر‪ .‬ثم عين الخليفة عمر شخصا آخر‬
‫لجباية الخراج هو عبد ال بن أبي سرح‪ .‬ثم عين قاضيا في الخصومات هو كعب بن سور‪ ،‬فصارت‬
‫سلطة الوالي مقصورة على قيادة الجيش وإمامة الصلة (‪. )1‬‬
‫انتهاء ولية المام‪ :‬تنتهي ولية المام بأحد أسباب خمسة وهي ما يأتي (‪: )2‬‬
‫‪ - ً 1‬الموت‪ :‬كما تنتهي الوكالة بالموت‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬الكفر أو الردة‪ :‬إذا صدر من المام ما يجعله كافرا سواء بصريح القول أو بأي فعل أو قول‬
‫يستلزم الكفر‪ ،‬بطلت إمامته‪ .‬ولكن ل ينعزل بالفسق‪ ،‬أي بارتكاب معصية أو مخالفة شرعية‪ ،‬منعا من‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫‪ - ً 3‬زوال أهليته أو نقص في أعضائه أو حواسه بحيث يعجز عن القيام بواجبات المامة كالجنون‬
‫المطبق (زوال العقل) وزوال البصر أو السمع وقطع اليدين أو الرجلين ونحو ذلك كما تقدم‪ .‬واختلف‬
‫الفقهاء في استمرار وليته بقطع يد أو رجل فقط‪.‬‬
‫‪ - ً 4‬نقص في إمكان التصرف ‪ :‬وهو يكون بأحد أمرين‪:‬‬
‫الول ـ الحجر عليه‪ :‬كأن يستولي عليه بعض أعوانه ممن يستبد بتنفيذ المور‪ ،‬فإن كان المستولي‬
‫يحكم بأحكام الدين ومقتضى العدل‪ ،‬جاز إقراره منعا من إلحاق الفساد بالمة وتبقى إمامة المام‬
‫الصلي‪ .‬وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العدل‪ ،‬لم يجز إقراره‪ ،‬ووجب إزالة‬
‫تغلبه‪.‬‬
‫الثاني ـ القهر‪ :‬وهوأن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ل يقدر على الخلص منه‪ ،‬فيجب استنقاذه إن‬
‫أمكن‪ ،‬وإن وقع الياس من إنقاذه‪ ،‬زالت إمامته‪.‬‬
‫‪ - ً 5‬عزله من المة أو أن يعزل المام نفسه‪ :‬بأن يستقيل وكان في المة من يقوم مقامه‪ ،‬ممن‬
‫تنطبق عليه شروط المامة‪ ،‬فيعزل عن الحكم‪ .‬وإن لم يوجد في المة من يسد مسده‪ ،‬لم تقبل‬
‫استقالته‪ ،‬وللمسلمين حمله على البقاء في منصبه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظم السلمية للدكتور حسن إبراهيم‪ :‬ص ‪ ،201‬السلطات الثلث للطماوي‪ :‬ص ‪ 302‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.19-15‬‬

‫( ‪)8/347‬‬

‫صلُ الثّالث‪ :‬السّلطة القضائيّة في السلم‬


‫ال َف ْ‬
‫الكلم في هذا الفصل المتعلق بتنظيم القضاء‪ ،‬ل بموضوعاته السابقة‪ ،‬يتناول‪:‬‬
‫نشأة القضاء وتاريخه وحكمه‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬القضاء العادي وتنظيمه‪ ،‬التحكيم‪ ،‬ولية المظالم‪ ،‬نظام‬
‫الحسبة‪ ،‬الدعوى‪ ،‬الثبات‪ ،‬تنفيذ الحكام‪.‬‬
‫المبحث الول ـ نشأة القضاء وتاريخه وحكمه وأنواعه ‪:‬‬
‫القضاء لغة‪ :‬الحكم بين الناس‪ .‬والقاضي‪ :‬الحاكم‪ ،‬وشرعا‪ :‬فصل الخصومات وقطع المنازعات (‪. )1‬‬
‫وهو أمر مطلوب في السلم لقوله تعالى مخاطبا رسوله‪{ :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ال } [المائدة‪:‬‬
‫‪{ ]49/5‬فاحكم بينهم بالقسط} [المائدة‪{ ]42/5:‬إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك‬
‫ال } [النساء‪ .]105/4:‬ولقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‪ ،‬وإذا‬
‫اجتهد فأصاب فله أجران» (‪« )2‬إذا جلس الحاكم للحكم بعث ال له ملكين يسددانه ويوفقانه‪ ،‬فإن عدل‬
‫أقاما‪ ،‬وإن جار عرجا وتركاه» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،309/4 :‬الشرح الكبيرللدردير‪.129/4 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة‪ ،‬ورواه الحاكم والدارقطني من حديث‬
‫عقبة ابن عامر وأبي هريرة وعبد ال بن عمر بلفظ‪« :‬إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر‪ ،‬وإن أصاب‬
‫فله عشرة أجور» لكن في إسناده فرج بن فضالة‪ ،‬وهو ضعيف (نيل الوطار‪.)262/8 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس‪ ،‬وإسناده ضعيف (نيل الوطار‪.)262/8 :‬‬

‫( ‪)8/348‬‬

‫وحكمه شرعاً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب‪ ،‬فيجب على المام تعيين‬
‫قاض‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء‪ ]135/4:‬قال بعضهم‪« :‬القضاء‬
‫أمر من أمور الدين‪ ،‬ومصلحة من مصالح المسلمين‪ ،‬تجب العناية به؛ لن بالناس إليه حاجة عظيمة (‬
‫‪ . )1‬وهو من أنواع القربات إلى ال عز وجل‪ ،‬ولذا توله النبياء عليهم السلم‪ ،‬قال ابن مسعود‪:‬‬
‫«لن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة» ‪.‬‬
‫وحكمة تشريعه‪ :‬حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم‪ ،‬وتوفير مصالحهم‪ ،‬ورعاية حقوقهم‪ ،‬ومنع الظلم‬
‫والتظالم‪ ،‬ومحاربة الهواء ‪.‬‬
‫أهمية القضاء ‪:‬‬
‫القضاء منصب عظيم وخطير‪ ،‬وله مكانة في الدين‪ ،‬وهو وظيفة النبياء والخلفاء والعلماء‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى لنبيه داود عليه السلم‪{ :‬يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض‪ ،‬فاحكم بين الناس بالحق‪ ،‬ول‬
‫تتبع الهوى‪ ،‬فيضلك عن سبيل ال ‪ ،‬إن الذين يضلون عن سبيل ال لهم عذاب شديد بما نسوا يوم‬
‫الحساب} [ص‪.]26/38:‬‬
‫وكان الرسول صلّى ال عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس‪ ،‬فلم يكن للمسلمين‬
‫قاض سواه‪ ،‬يصدر عنه التشريع‪ ،‬ثم يشرف على تنفيذه‪ ،‬فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء‪،‬‬
‫وكان قضاؤه اجتهادا ل وحيا‪ ،‬معتمدا على ما قرره‪« :‬البينة على المدعي واليمين على من أنكر»‬
‫ويقول‪« :‬أمرت أن أحكم بالظاهر وال يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم‪ ،‬وإنكم تختصمون إلي‪،‬‬
‫ولعل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬اللباب شرح الكتاب للميداني‪.77/4 :‬‬

‫( ‪)8/349‬‬

‫بعضكم أن يكون ألحن (‪ )1‬بحجته من بعض» (‪ )2‬وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم‬
‫إلى بعض الصحابة بالقضاء‪ ،‬فبعث عليا كرم ال وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس‪ ،‬وبعث إليها‬
‫أيضا معاذ بن جبل رضي ال عنه‪ .‬وولى عتّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها‪.‬‬
‫وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج‪ ،‬فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين ل يأتيه‬
‫متخاصمان‪ ،‬لما اشتهر عنه من الحزم والشدة‪ .‬وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولية‬
‫الدارية‪ ،‬وعين القضاة في أجزاء الدولة السلمية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (‪. )3‬‬
‫فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة‪ ،‬كماكان أول من وضع الدواوين كما‬
‫عرفنا‪ ،‬وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الشعري (‪ ، )4‬وأول‬
‫من استحدث نظام السجون‪ ،‬وكان الحبس في الماضي هو ملزمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في‬
‫منزل أو مسجد‪ ،‬وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصورا في المنازعات المدنية المالية (‬
‫‪ . )5‬أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة‪ ،‬وولة القاليم ذوي الولية‬
‫العامة‪ .‬وأما ولة المارة الخاصة‪ ،‬فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق ال تعالى المحضة‬
‫كحد الزنى جلدا أو رجما‪ ،‬أو المتعلقة بحقوق الشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي أفطن بها وأبصر‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحديث الول رواه البيهقي والثاني غير ثابت بهذا اللفظ‪ ،‬والحديث الثالث رواه الجماعة عن أم‬
‫سلمة (نيل الوطار‪ ،278/8 :‬كشف الخفا‪ :‬ص ‪ 221‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )3‬القضاء في السلم لعارف النكدي‪ :‬ص ‪.79‬‬
‫(‪ )4‬أنظر أعلم الموقعين لبن قيم‪ 85/1 :‬وما بعدها‪ ،‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪.68‬‬
‫(‪ )5‬السلم والحضارة العربية للستاذ محمد كرد علي‪.154/2 :‬‬
‫(‪ )6‬الماوردي‪ ،‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.30‬‬

‫( ‪)8/350‬‬
‫وكان عثمان رضي ال عنه أول من اتخذ دارا للقضاء‪ ،‬بعد أن كان القضاء في المسجد‪.‬‬
‫وكان القضاء يقوم على أساسين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬نظام القاضي الفرد‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬عدم تدوين الحكام في سجلت؛ لنها تنفذ فورا بإشراف القاضي (‪. )1‬‬
‫وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء‪.‬‬
‫ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالعتماد على مصادر التشريع الربعة‪ :‬وهي القرآن‬
‫والسنة والجماع والقياس‪.‬‬
‫ثم تطور القضاء في عهد المويين والعباسيين باستقرار الدولة‪ ،‬فتحددت سلطات القاضي‬
‫واختصاصاته وتنوع القضاء‪ ،‬وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالبا‪ ،‬وبدأ تسجيل أحكام القضاء في‬
‫بدء العهد الموي‪ ،‬واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من توله أبو‬
‫يوسف تلميذ أبي حنيفة‪ ،‬وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة‪ ،‬ويعزلهم‪ ،‬ويراقب أعمالهم وأحكامهم‪،‬‬
‫وظهر أيضا قضاة المذاهب‪ ،‬فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي‪ ،‬ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي‪،‬‬
‫وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي‪ ،‬وفي مصر على وفق مذهب الشافعي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلطات الثلث للطماوي‪ :‬ص ‪.306‬‬

‫( ‪)8/351‬‬

‫واتسع سلطان القاضي تدريجيا‪ ،‬فأصبح ينظر بالضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى‬
‫كالوقاف وتنصيب الوصياء‪ .‬وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار‬
‫الضرب وبيت المال (‪. )1‬‬
‫وكان نظام التحكيم معمولً به بجانب القضاء‪ .‬وانفصل قضاء المظالم وولية الحسبة عن القضاء‪.‬‬
‫إل أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما توله الرسول صلّى ال عليه وسلم في المدينة‬
‫وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين‪ .‬ثم ظهر نظام الحسبة في‬
‫زمن المهدي للنظر في العتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد‬
‫فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به‪ .‬ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور‬
‫الولة والحكام واستبداد القوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد‬
‫إلى أموال الرعية‪ .‬ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق ل بد من توافر السس التالية للقضاء في‬
‫السلم ‪:‬‬
‫أولً ـ اعتماده على العقيدة والخلق‪ :‬لتربية الضمير والوجدان‪ ،‬وتهذيب النفس‪ ،‬وإعداد الوازع‬
‫الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى‪ .‬وهو مطلوب في اختيار القاضي‪ ،‬وعند رفع الدعوى‪،‬‬
‫وفي معاملة الخصوم‪ ،‬وفي إصدار الحكام وتنفيذها‪ ،‬وفي الثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫ثانيا ـ ضرورته في كل دولة‪ :‬القضاء أمر لزم لكل دولة‪ ،‬كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى ال‬
‫عليه وسلم له‪ ،‬ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه‪ .‬فهو إذن يحتل مركزا مهما في الدولة‪ ،‬ويعد‬
‫أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها‪« :‬العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في‬
‫التخاصم وإصدار الحكام‪ ،‬واستيفاء الحقوق‪.‬‬
‫ثالثا ـ استقلل السلطة القضائية والفصل بين السلطات‪ :‬كان القضاء في عهد الرسول وخلفة أبي‬
‫بكر وجزء من خلفة عمر يقوم به الولة الداريون‪ ،‬ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال‬
‫الولة‪ ،‬فعين القضاة في المدينة وسائر المدن السلمية‪ ،‬وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة‪ .‬وبه‬
‫تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ 192‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/352‬‬

‫المبحث الثاني ـ القضاء العادي وتنظيمه ‪:‬‬


‫الكلم في هذا المبحث عن شروط القاضي وواجباته وأنواع القضاة وتنظيم القضاء‪.‬‬
‫المطلب الول ـ شروط القاضي ‪:‬‬
‫القضاء ولية عامة مستمدة من الخليفة كغيره من وليات الدولة كالوزارة ونحوها‪ ،‬فل يصلح للتعيين‬
‫فيه إل من كان مستكملً أوصافا معينة مستلهمة من صنيع الخلفاء الراشدين الذين كانوا يتشددون في‬
‫اختيار القضاة طبقا لهلية معينة (‪ . )1‬وقد حدد الفقهاء هذه الشروط‪ ،‬فاتفقوا على أكثرها واختلفوا في‬
‫بعضها (‪. )2‬‬
‫أما الشروط المتفق عليها بين أئمة المذاهب فهي أن يكون القاضي عاقلً بالغا‪ ،‬حرا ‪ ،‬مسلما‪ ،‬سميعا‬
‫بصيرا ناطقا‪ ،‬عالما بالحكام الشرعية‪.‬‬
‫أولً ـ أهلية البلوغ والعقل‪ :‬حتى تتحقق فيه المسؤولية عن أقواله وأفعاله‪ ،‬وليستطيع إصدار الحكم‬
‫في الخصومات على غيره‪ ،‬قال الماوردي‪« :‬وليكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه‬
‫بالمدركات الضرورية‪ ،‬حتى يكون صحيح التمييز‪ ،‬جيد الفطنة‪ ،‬بعيدا عن السهو والغفلة‪ ،‬يتوصل‬
‫بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل» ‪.‬‬
‫ثانيا ـ الحرية‪ :‬لنه لتصح ولية العبد على الحر؛ لما فيه من نقص يمنع انعقاد وليته على غيره‪.‬‬
‫ولم يعد هذا الشرط ذا موضوع الن‪.‬‬
‫ثالثا ‪ -‬السلم‪ :‬لن القضاء ولية‪ ،‬ول ولية لغير المسلم على المسلم‪ ،‬فل تقبل شهادته عليه‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء‪ .]141/4:‬وأجاز أبو حنيفة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية لبن قيم‪ :‬ص ‪.238‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 61‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ ،2/7 :‬فتح القدير‪ 453/5 :‬ومابعدها‪،‬‬
‫‪ ،485‬الدر المختار‪ ،318 ،312/4 :‬بداية المجتهد‪ ،449/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪129/4 :‬‬
‫ومابعدها‪ ،‬تبصرة الحكام‪ ،17/1 :‬مغني المحتاج‪ 375/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ ،290/2 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ 39/9‬وما بعدها‪ ،‬أعلم الموقعين‪.105/1 :‬‬

‫( ‪)8/353‬‬

‫تقليد غير المسلم القضاء بين أهل دينه (‪. )1‬‬


‫رابعا ـ سلمة الحواس من السمع والبصر والنطق ليتمكن من أداء وظيفته‪ ،‬فيميز بين المتخاصمين‪،‬‬
‫ويعرف المحق من المبطل‪ ،‬ويجمع وسائل إثبات الحقوق‪،‬ليعرف الحق من الباطل‪.‬‬
‫خامسا ـ العلم بالحكام الشرعية‪ :‬بأن يعلم بفروع الحكام الشرعية ليتمكن من القضاء بموجبها‪.‬‬
‫وأما الشروط المختلف فيها فهي ثلثة‪ :‬العدالة‪ ،‬والذكورة‪ ،‬والجتهاد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ما يجري عليه العمل الن من تولية الذميين منصب القضاء حتى بين المسلمين مأخوذ مما قررته‬
‫ل بقبول شهادته على المسلم للضرورة‪.‬‬
‫لجنة مجلة الحكام العدلية عم ً‬

‫( ‪)8/354‬‬

‫أما العدالة (‪ : )1‬فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة‪ ،‬فل يجوز تولية الفاسق‪ ،‬ول مرفوض‬
‫الشهادة بسبب إقامة حد القذف عليه مثلً‪ ،‬لعدم الوثوق بقولهما‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا إن‬
‫جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة‪ ،‬فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات‪]6/49:‬‬
‫فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ فلن ل يكون قاضيا أولى‪.‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬الفاسق أهل للقضاء‪ ،‬فلو عين قاضيا صح قضاؤه للحاجة‪ ،‬لكن ينبغي أل يعين‪ ،‬كما في‬
‫الشهادة ينبغي أل يقبل القاضي شهادة فاسق‪ ،‬لكن لو قبل ذلك منه جاز‪ ،‬مع وقوعه في الثم‪ .‬وأما‬
‫المحدود في القذف فل يعين قاضيا ول تقبل شهادته عندهم‪.‬‬
‫وأما الذكورة‪ :‬فهي شرط أيضا عند المالكية والشافعية والحنابلة‪ ،‬فل تولى امرأة القضاء؛ لن القضاء‬
‫ولية‪ ،‬وال تعالى يقول‪{ :‬الرجال قوامون على النساء} [النساء‪ ]34/4:‬وهو يحتاج إلى تكوين رأي‬
‫سديد ناضج‪ ،‬والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع والدلة بسبب نسيانها‪ ،‬فيكون حكمها جورا‪ ،‬وهي ل‬
‫تصلح للولية العامة لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (‪. )2‬‬
‫وقال الحنفية‪ :‬يجوز قضاء المرأة في الموال‪ ،‬أي المنازعات المدنية؛ لنه تجوز شهادتها فيها‪ .‬وأما‬
‫في الحدود والقصاص‪ ،‬أي في القضاء الجنائي‪ ،‬فل تعين قاضيا؛ لنه ل شهادة لها في الجنايات‪،‬‬
‫وأهلية القضاء تلزم أهلية الشهادة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العدالة كما قال الماوردي في الحكام‪ :‬ص ‪ :62‬هي أن يكون صادق اللهجة‪ ،‬ظاهر المانة‪،‬‬
‫عفيفا عن المحارم‪،‬متوقيا المآثم‪ ،‬بعيدا عن الريب‪ ،‬مأمونا في الرضا والغصب‪ ،‬مستعملً لمروءة مثله‬
‫في دينه ودنياه» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أبي بكرة‪.‬‬

‫( ‪)8/355‬‬

‫وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء لجواز إفتائها (‪ )1‬ورد عليه الماوردي بقوله‪:‬‬
‫ول اعتبار بقول يرده الجماع مع قول ال تعالى‪{ :‬الرجال قوامون على النساء بما فضل ال بعضهم‬
‫على بعض} [النساء‪ ]34/4:‬يعني في العقل والرأي‪ ،‬فلم يجز أن يقمن على الرجال (‪. )2‬‬
‫وأما الجتهاد (‪ : )3‬فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية‪ ،‬كالقدوري‪ ،‬فل يولى‬
‫الجاهل بالحكام الشرعية ول المقلّد (‪ )4‬؛ لن ال تعالى يقول‪{ :‬وأن احكم بينهم بما أنزل ال }‬
‫[المائدة‪{ ]49/5:‬لتحكم بين الناس بما أراك ال } [النساء‪{ ]105/4:‬فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى‬
‫ال والرسول} [النساء‪ ]59/4:‬ولن الجتهاد يستطيع به المجتهد التمييز بين الحق والباطل‪ ،‬قال النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬القضاة ثلثة‪ :‬واحد في الجنة واثنان في النار‪ .‬فأما الذي في الجنة فرجل‬
‫عرف الحق‪ ،‬فقضى به‪ .‬ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار‪ ،‬ورجل قضى للناس على‬
‫جهل فهو في النار» (‪ )5‬والعامي يقضي على جهل‪.‬‬
‫وأّهلية الجتهاد تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالحكام من القرآن والسنة وإجماع المة‪ ،‬واختلف السلف‪،‬‬
‫والقياس‪ ،‬ولسان العرب‪ .‬ول يشترط الحاطة بكل القرآن والسنة أو الجتهاد في كل القضايا‪ ،‬بل‬
‫يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع النزاع المطروح أمام القاضي أو المجتهد‪.‬‬
‫وقال جمهور الحنفية‪ :‬ل يشترط كون القاضي مجتهدا‪ ،‬والصحيح عندهم أن أهلية الجتهاد شرط‬
‫الولوية والندب والستحباب‪ .‬فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء‪ ،‬ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين؛‬
‫لن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه‪ ،‬وهو يتحقق بالتقليد‬
‫والستفتاء‪ .‬لكن قالوا‪ :‬ل ينبغي أن يقلد الجاهل بالحكام‪ ،‬أي بأدلة الحكام؛ لن الجاهل يفسد أكثر‬
‫مما يصلح‪ ،‬بل يقضي بالباطل من حيث ل يشعر به‪.‬‬
‫والواقع في زماننا عدم توافر المجتهدين بالمعنى المطلق‪ ،‬فيجوز تولية غير المجتهد‪ ،‬ويولى الصلح‬
‫فالصلح من الموجودين في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة‪ .‬وهذا ما قاله الشافعية‬
‫والمام أحمد‪ ،‬وقال الدسوقي من المالكية‪ :‬والصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪.458/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )3‬الجتهاد‪ :‬عملية استنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية‪.‬‬
‫(‪ )4‬المقلد‪ :‬هو من حفظ مذهب إمامه دون معرفة بأدلته‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه ابن ماجه وأبو داود عن بُرَيدة ( نيل الوطار‪ 263/8 :‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)8/356‬‬

‫المطلب الثاني ـ واجبات القضاة ‪:‬‬


‫عرفنا سابقا أنه يلتزم القضاة وجوبا بأمور‪ ،‬وندبا أو استحبابا بأمور أخرى‪ .‬أما الواجبات المفروضة‬
‫عليهم أساسا فهي (‪: )1‬‬
‫أولً ـ بالنسبة للقانون الواجب التطبيق‪ :‬هو اللتزام بالحكام الشرعية‪ ،‬فيجب على القاضي أن يقضي‬
‫في كل حادثة بما يثبت عنده أنه حكم ال تعالى؛ إما بدليل قطعي‪ :‬وهو النص المفسر الذي ل شبهة‬
‫فيه من كتاب ال عز وجل‪ ،‬أو السنة المتواترة‪ ،‬أو المشهورة‪ ،‬أو الجماع‪.‬‬
‫وإما بدليل ظاهر للعمل كظواهر النصوص المذكورة في القرآن الكريم أو السنة المشرفة‪ ،‬أو الثابت‬
‫بالقياس الشرعي‪ ،‬في المسائل الجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء‪.‬‬
‫فإن لم يجد القاضي حكم الحادثة في المصادر الربعة (الكتاب والسنة والجماع والقياس) يجب عليه‬
‫العمل بما أداه إليه اجتهاده إن كان مجتهدا‪ .‬وإن لم يكن مجتهدا يختار قول الفقه والورع من‬
‫المجتهدين بحسب اعتقاده‪.‬‬
‫والفضل بسبب تعدد آراء الفقهاء وضع تقنين موحد للحكام الشرعية‪ ،‬كمجلة الحكام العدلية في‬
‫المعاملت المدنية‪ ،‬وكمرشد الحيران والحكام الشرعية في الحوال الشخصية لقدري باشا‪.‬‬
‫ثانيا ـ في تكوين رأي القاضي واقتناعه‪ :‬اللتزام بوسائل الثبات الشرعية كالشهادة والقرار والكتابة‬
‫واليمين والقرائن القطعية والعرفية‪ ،‬حتى يكون حكمه ـ كما هو مقرر بداهة ـ مبنيا على دليل‬
‫صحيح ل يتعرض للنقض والطعن والتهمة‪.‬‬
‫ثالثا ـ منع التهمة‪ :‬وهو أل يقضي لخصم يتهم بمحاباته بأن يكون ممن تقبل شهادته للقاضي‪ .‬فإن‬
‫كان ممن ل تقبل شهادته له ل يجوز قضاء القاضي له؛ لن القضاء له قضاء لنفسه من جهة‪ ،‬فلم يكن‬
‫القضاء مجردا‪ ،‬وإنما فيه تهمة‪ ،‬فل يصح القضاء‪ .‬وعلى هذا يجب على القاضي المتناع والتنحي‬
‫عن القضاء لنفسه أو لحد أبويه أو أجداده‪ ،‬أو لزوجته أو لولده وأحفاده‪ ،‬أو لكل من ل تجوز‬
‫شهادته لهم بسبب التهمة‪ .‬وهو رأي أكثر الفقهاء (‪. )2‬‬
‫وأما الواجبات المندوبة أو الكمالية للقاضي فهي كثيرة مستمدة في أغلبها من رسالة سيدنا عمر في‬
‫القضاء والسياسة إلى أبي موسى الشعري رضي ال عنهما‪ ،‬وهي تتوخى إقامة العدل المطلق في‬
‫أكمل وأدق صوره‪ .‬وبعض هذه الداب مستمد أيضا من كتاب علي كرم ال وجهه إلى الشتر‬
‫النخعي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،68/16 :‬البدائع‪ 5/7 :‬وما بعدها‪ ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪.327‬‬

‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،460/2 :‬فتح القدير‪ ،477/5 :‬مغني المحتاج‪ ،393/4 :‬المغني‪.107/9 :‬‬

‫( ‪)8/357‬‬

‫وهذه الداب نوعان‪ :‬عامة وخاصة (‪. )1‬‬


‫فالداب العامة‪ :‬كالمشاورة لجماعة من الفقهاء‪ ،‬والتسوية بين الخصمين في المجلس والقبال‪ ،‬ورفض‬
‫قبول الهدايا‪« :‬هدايا المراء غلول» (‪ )2‬أي خيانة‪ ،‬والمتناع عن قبول الدعوات الخاصة‪ ،‬أو العامة‬
‫إذا كان لصاحبها خصومة أو مصلحة‪.‬‬
‫والداب الخاصة‪ :‬كاتساع مكان القضاء (المحكمة)‪ ،‬وملءمته المناخ أو الطقس في الحر والبرد‪،‬‬
‫والستعانة بالمساعدين القضائيين كالكتاب والحارس‪ ،‬والمزكي‪ ،‬والترجمان‪ ،‬والمحضر (الذي يحضر‬
‫الخصوم ويبلغ الدعاوى)‪ ،‬ونائب القاضي حالة السفر أو المرض أو أداء فريضة الحج ونحوها‪،‬‬
‫ووكلء الخصومة (المحامين) ‪ .‬ومن هذه الداب‪ :‬ضرورة فهم كل ما يتعلق بالمنازعة أو الخصومة‬
‫موضوع الدعوى‪ ،‬وصفاء القاضي نفسيا بأل يكون قلقا مضطربا وقت القضاء موضوع الدعوى‪،‬‬
‫وصفاء القاضي نفسيا بأل يكون قلقا ضجرا مضطربا وقت القضاء بسبب الغضب ونحوه من كل ما‬
‫يشغل النفس من الهم والنعاس والجوع المفرط والعطش المفرط‪ ،‬والتخمة‪ ،‬والخوف‪ ،‬والمرض وشدة‬
‫الحزن والسرور‪ ،‬ومدافعة الخبثين (البول والغائط)‪ .‬ومنها العتماد على مبدأ تزكية الشهود‪ ،‬والخذ‬
‫بمبدأ مصالحة الخصمين قبل الحكم لقوله تعالى‪{ :‬والصلح خير} [النساء‪.]128/4:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع البدائع‪ ،13-9/7 :‬المبسوط‪ ،64-61/16 :‬فتح القدير‪ .470-465/5 :‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪،325-316/4‬بداية المجتهد‪ ،462/2 :‬الشرح الكبير للدردير‪ ،137/4 :‬مغني المحتاج‪ 390/4 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬المغني‪ ،45/9 :‬الحكام للماوردي‪ :‬ص ‪.72‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد الساعدي‪ ،‬وإسناده ضعيف (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)268/8 ،297/7‬‬

‫( ‪)8/358‬‬

‫وأما حقوق القضاة فمنها المادي ومنها المعنوي‪ .‬فمن الحقوق المادية‪ :‬توفير الكفاية المعيشية له‬
‫ولسرته بتخصيص مرتب كاف له‪ ،‬كيل تمتد يده إلى أموال الناس‪ ،‬ول يتطلع إلى الهدية أو الرشوة‪.‬‬
‫وقد سار النبي وخلفاؤه على هذا النهج‪ .‬ويضمن بيت المال الضرر الناشئ عن أحكام القضاة دون‬
‫عمد ول تقصير أوإهمال‪ .‬ومن الحقوق المعنوية‪ :‬توفير الستقرار للقاضي وعدم عزله إل بسبب‬
‫شرعي‪ ،‬تحقيقا للحصانة القضائية له‪ .‬وعلى الدولة حماية القاضي من أي تعرض له بسبب حكمه‪،‬‬
‫ومنع مخاصمته في الحكم‪ ،‬ومعاونته في تنفيذ أحكامه‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ أنواع القضاة واختصاصاتهم ‪:‬‬
‫قسم أقضى القضاة الماوردي قضاة زمانه بحسب عموم ول يتهم وخصوصها إلى أنواع أربعة وهي‪:‬‬
‫أولً ـ القاضي ذو الولية العامة‪ :‬وهو القاضي الذي ل تتحدد وليته بزمان ومكان معين‪ ،‬ول‬
‫بأشخاص معينين‪ ،‬وإنما له سلطة مطلقة بالنظر والتصرف فيما يختص بوليته‪ .‬واختصاصه يشمل‬
‫عشرة أمور‪ ،‬وهي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬فصل المنازعات وقطع المشاجرة والخصومات‪ ،‬إما صلحا عن تراض فيما يحل شرعا‪ ،‬أو بحكم‬
‫بات ملزم‪.‬‬
‫‪ - 2‬استيفاء الحقوق ممن مطل بها‪ ،‬وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالقرار أو البينة‬
‫ونحوهما من طرق الثبات الشرعية‪.‬‬
‫‪ - 3‬ثبوت الولية على عديم الهلية بجنون أو صغر‪ ،‬والحجر على ناقص الهلية بسبب السفه‬
‫(التبذير) والفلس‪ ،‬حفظا للموال‪ ،‬وتصحيحا للعقود‪.‬‬
‫‪ - 4‬النظر في الوقاف‪ ،‬بحفظ أصولها‪ ،‬وتنمية فروعها‪ ،‬وصرف ريعها لمستحقيها‪.‬‬
‫‪ - 5‬تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع‪.‬‬
‫‪ - 6‬تزويج اليامى بالكفاء إذا عدِمن الولياء ودعين إلى النكاح‪ ،‬وهذا مقصور عند الحنفية على‬
‫تزويج الصغار‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ 67‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/359‬‬

‫‪ - 7‬إقامة الحدود على مستحقيها‪ :‬فإن كان من حقوق ال تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب‪ .‬وإن‬
‫كان من حقوق الدميين كان موقوفا على طلب مستحقه‪.‬‬
‫‪ - 8‬النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والفنية‪ ،‬وإخراج ما ل يستحق من‬
‫الجنحة والبنية‪ ،‬وله أن ينفرد بالنظر فيها‪ ،‬وإن لم يحضره خصم‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬ل يجوز له‬
‫النظر فيها إل بدعوى من الخصم‪.‬‬
‫‪ - 9‬تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم‪.‬‬
‫‪ - 10‬التسوية في الحكم بين القوي والضعيف‪ ،‬والعدل في القضاء بين المشروف والشريف‪ ،‬ول يتبع‬
‫هواه في تقصير المحق‪ ،‬أو ممايلة المبطل‪.‬‬
‫ويلحظ أن هذه المور تتضمن بعض التوجيهات العامة بالضافة إلى تحديد الختصاصات القضائية‪.‬‬
‫ثانيا ـ القاضي خاص الولية‪ :‬وهو الذي تقتصر وليته على بعض الختصاصات المتقدمة‪ ،‬أو تكون‬
‫وليته ذات اختصاص موضوعي أضيق‪ ،‬كالحكم بالقرار دون البينة‪ ،‬أو في الديون‪ ،‬دون الحوال‬
‫الشخصية‪ ،‬أو في المقدرات الشرعية‪ ،‬فيتقيد بما خصص فيه‪ ،‬ول يتعداه إلى غيره (‪. )1‬‬
‫ثالثا ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الختصاص المكاني)‪ :‬وهو الذي يختص بالنظر في جميع‬
‫اختصاصات النوع الول‪ ،‬ولكن في بلدة معينة أو محلة معينة‪ ،‬فتنفذ أحكامه في هذا النطاق فقط (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫رابعا ـ القاضي المحدد الولية‪ :‬وهوالذي تقتصر وليته بالحكم في قضية أشخاص معينين‪ ،‬أو في‬
‫أيام محدودة‪ ،‬كيوم السبت وحده بالنسبة لجميع الدعاوى بين الخصوم‪ ،‬وتزول وليته بعدئذ (‪.)3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.69‬‬
‫(‪ )2‬المصدر والمكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.70‬‬

‫( ‪)8/360‬‬

‫المطلب الرابع ـ تنظيم القضاء ‪:‬‬


‫الكلم عن تنظيم القضاء يتناول أمورا كثيرة أهمها‪:‬‬
‫طرق تعيين القضاة وعزلهم‪ ،‬وتخصص القضاة‪ ،‬وأسلوب القضاء الفردي والجماعي ودرجات‬
‫التقاضي أو المحاكم‪.‬‬
‫والتنظيم القضائي‪ :‬هو مجموعة القواعد والحكام التي تؤدي إلى حماية الحقوق وفصل الخصومات‪.‬‬
‫طرق تعيين القضاة وعزلهم ‪:‬‬
‫القضاء ولية من الوليات المستمدة من الخليفة باعتباره ممثلً المة‪ ،‬فل بد‬
‫للقاضي من تعيين صادر عن الحاكم العلى أو نائبه‪ ،‬سواء أكان عادلً أم جائرا‪ ،‬ول يصح أن يولي‬
‫نفسه‪ ،‬أو يوليه جماعة من الرعية‪ .‬وقد بيّن الماوردي (‪ )1‬صيغة قرار التعيين الصريح أو ما يقوم‬
‫مقامه من اللفاظ الدالة على التقليد أو الستخلف أو النيابة‪ ،‬واشترط لتمام الولية أربعة شروط‬
‫مجملها‪:‬‬
‫معرفة المولي توافر الصفات اللزمة في المولّى‪ ،‬ومعرفة المولّى بصلحية المولي للتعيين‪ ،‬وتحديد‬
‫اختصاص القاضي‪ ،‬وتعيين البلد التي يقضي فيها‪.‬‬
‫وللحاكم عزل القاضي متى شاء‪ ،‬والولى أل يعزله إل بعذر‪ ،‬كما أن للقاضي عزل نفسه من القضاء‬
‫إذا شاء‪ ،‬والفضل أل يعتزل منصبه إل بعذر‪ ،‬لما في عمله من تحقيق مصلحة عامة للمسلمين‪ ،‬ول‬
‫ينعزل القاضي عند الحنفية بعزل الحاكم إل بعلمه بذلك‪ ،‬وتظل أحكامه نافذة حتى يبلغه نبأ العزل‪.‬‬
‫وتنتهي ولية القاضي كما تنتهي الوكالة العادية بأسباب أخرى كالموت والجنون المطبق‪ ،‬وإنجاز‬
‫المهمة الموكولة للشخص‪ ،‬إل في أمر واحد‪ :‬وهو أن الموكل العادي إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل‪.‬‬
‫أما ولي المر الحاكم إذا مات أو خلع فل ينعزل قضاته وولته؛ لن الحاكم ل يعمل باسمه‬
‫الشخصي‪ ،‬وإنما بالنيابة عن جماعة المسلمين‪ ،‬وولية المسلمين تظل باقية بعد موت المام (‪. )2‬‬
‫تخصص القضاة ‪:‬‬
‫يتخصص القضاة زمانا ومكانا ونوعا وموضوعا‪.‬‬
‫‪ - 1‬التخصص الزماني‪ :‬وهو أن يتخصص القاضي بالنظر في وقت معين‪ ،‬كأيام محددة في‬
‫السبوع‪ .‬وهو حالة من حالت اختصاص القاضي المحدد الولية كما بيّن الماوردي‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المصدر نفسه‪ :‬ص ‪ 65‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،66‬البدائع‪ 37/6 ،16/7 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/361‬‬

‫‪ - 2‬التخصص المكاني‪ :‬وهو تقييد القاضي بالقضاء في بلدة معينة أو أكثر‪ ،‬أو ناحية من بلد معين‪،‬‬
‫كما قلد النبي صلّى ال عليه وسلم علي بن أبي طالب قضاء اليمن‪ ،‬وقلد معاذ بن جبل القضاء في‬
‫ناحية منها‪ .‬وهذا هو اختصاص النوع الثالث من أنواع القضاة الذين ذكرهم الماوردي‪.‬‬
‫‪ - 3‬التخصص النوعي‪ :‬وهو تخصيص القاضي عند تعيينه أو بعده ببعض معين من القضايا‪ ،‬كما‬
‫هو الحادث الن في دوائر المنازعات المدنية‪ ،‬والحوال الشخصية‪ ،‬والتجارية‪ ،‬والجنائية ونحوها‪ .‬أو‬
‫تخصيصه بقضايا ل تزيد فيها المبالغ المستحقة عن قدر معين‪ .‬وقد سبق بيانه في النوع الثاني من‬
‫أنواع القضاة‪.‬‬
‫‪ - 4‬التخصص الموضوعي‪ :‬وهو القتصار على سماع دعاوى موضوعات معينة والمنع من سماع‬
‫دعاوى أخرى‪ ،‬كدعوى الوقف أو الرث‪ ،‬بسبب مضي المدة أو التقادم الطويل المد بل عذر‪ ،‬وهو‬
‫مدة ( ‪ 33‬أو ‪ )36‬سنة في الوقاف وأموال بيت المال‪ ،‬أو ‪ 15‬سنة في الحقوق الخاصة؛ لن ترك‬
‫الدعاء مع المكان يدل على عدم الحق ظاهرا‪.‬‬
‫ومنها عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن‪ ،‬في الفتى دون ‪ 18‬سنة‪ ،‬وفي الفتاة دون ‪ 16‬سنة‬
‫مثلً‪.‬‬
‫أسلوب القضاء الفردي والجماعي ‪:‬‬
‫إن أساس القضاء الذي كان سائدا في السلم هو الخذ بنظام وحدة القاضي أو القاضي الفرد كما‬
‫عرفنا‪ :‬وهو أن يفصل في الخصومات قاض واحد يعينه المام أو نائبه في بلد معين‪ .‬ول مانع عند‬
‫فقهاء الحنفية (‪ )1‬وبعض الحنابلة والشافعية من الخذ بنظام قضاء الجماعة‪ :‬وهو اشتراك أكثر من‬
‫قاض في نظر الدعاوى؛ لن القاضي نائب أو وكيل عن المام‪ ،‬وللموكل أن يوكل عنه شخصا أو‬
‫أكثر‪ ،‬وحينئذ فل بد من اشتراكهم جميعا عند النظر في الدعاوى وإصدار الحكم فيها‪ ،‬على أساس‬
‫الشورى‪.‬‬
‫وأما غير الحنفية (‪ )2‬الذين لم يجيزوا تعدد القضاة‪ ،‬فتعللوا بتعذر اتفاق القضاة في الرأي بالمجتهد‬
‫فيه‪ ،‬مما يؤدي إلى تعذر الفصل في الخصومات‪ .‬وهذا السبب يمكن التغلب عليه بالخذ برأي‬
‫الكثرية‪ ،‬ولن القضاة يستندون إلى الرأي الذي صوبه المام‪ ،‬كما قال بعض الشافعية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الفتاوى الهندية‪ ،317/3 :‬التبصرة لبن فرحون‪.37/1 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،380/4 :‬المغني‪ ،105/9 :‬حاشية الدسوقي‪.134/4 :‬‬

‫( ‪)8/362‬‬

‫درجات التقاضي أو درجات المحاكم والطعن في الحكام ‪:‬‬


‫الصل في القضاء أن يكون على درجة واحدة حسما للنزاع في أسرع وقت‪ ،‬ولكن ضمانا لسير‬
‫العدالة وإحقاق الحق‪ ،‬وبسبب قلة الورع‪ ،‬ونقص العلم‪ ،‬جرى العمل حديثا على تعدد المحاكم‪.‬‬
‫ول مانع في الفقه السلمي من مبدأ التعدد‪ ،‬بدليل أن سيدنا عليا قضى بين خصمين في اليمن‪ ،‬وأجاز‬
‫لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأتياه فأقر قضاء علي‪ .‬وقال عمر لبي‬
‫موسى الشعري في رسالته المشهورة‪« :‬ول يمنعنك قضاء قضيته بالمس‪ ،‬ثم راجعت فيه نفسك‪،‬‬
‫وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ لن الحق قديم‪ ،‬والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل»‬
‫‪.‬‬
‫وقد فصل فقهاء المذاهب الربعة هذا الموضوع في بحث الجتهاد أو نقض الحكم على النحو التالي‪:‬‬
‫إذا كان الحكم معتمدا على دليل قطعي من نص أو إجماع أوقياس جلي (‪ )1‬فل ينقض؛ لن نقضه‬
‫إهمال للدليل القطعي‪ ،‬وهو غير جائز أصلً‪.‬‬
‫وأما إذا خالف الحكم دليلً قطعيا‪ ،‬فينقض بالتفاق بين العلماء‪ ،‬سواء من قبل القاضي نفسه‪ ،‬أو من‬
‫قاضٍ آخر‪ ،‬لمخالفته الدليل‪.‬‬
‫فإن كان الحكم في غير المور القطعية‪ ،‬وإنما في مجال الجتهادات أو الدلة الظنية‪ ،‬فل ينقض (أي‬
‫بحسب نظام القضاة الفردي) حتى ل تضطرب الحكام الشرعية أو تنعدم الثقة بأحكام القضاة‪ ،‬وتبقى‬
‫الخصومات على حالها بدون فصل زمانا طويلً‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وهو ما كانت العلة فيه منصوصة‪ ،‬أو قطع بنفي تأثير الفارق بين الصل والفرع‪ ،‬كقياس‬
‫الضرب على التأفف في الحرمة‪.‬‬

‫( ‪)8/363‬‬

‫أما في أسلوب تعدد المحاكم‪ ،‬فإن الخصمين يعلمان سلفا أن الحكم لم يكتسب الدرجة القطعية‪ ،‬وإنما‬
‫يجوز استئنافه ونقضه‪ ،‬فلم تعد هناك خشية من اضطراب الحكام؛ لن الحكم لم يكتمل بعد‪ .‬ويمكن‬
‫تأييد ما ذكر بما قرر الفقهاء من جواز نقض الحكم إذا صدر سهوا‪ ،‬أو ظهر فيه خطأ (‪ . )1‬فإن‬
‫اكتسب الحكم الدرجة القطعية من محكمة النقض‪ ،‬فل ينقض الحكم السابق في حادثة مشابهة عملً‬
‫بقاعدة‪« :‬الجتهاد ل ينقض بمثله» وأصلها قول عمر‪« :‬تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي» ‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن فقهاءنا عرفوا مبدأ الطعن في الحكام‪ ،‬ول يعد تنظيم المحاكم حديثا مخالفا لمبادئ‬
‫السلم‪ ،‬وإنما يتمشى معها‪ ،‬عملً بما قرره الفقهاء فيما يجوز نقضه من الحكام أو الطعن في الحكم‬
‫بسبب التهمة الموجهة للقاضي‪ .‬وقد عرف القضاء في الندلس فعليا مبدأ القضاء بالرد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع تبصرة الحكام‪ 55/1 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ ،487/5 :‬البدائع‪ ،14/7 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪ ،396/4‬المغني‪ ،56/9 :‬العقد المنظم للحكام‪ ،192/2 :‬أصول الفقه للمؤلف ‪ 1114/2‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/364‬‬

‫صفة قضاء القاضي ‪:‬‬


‫يلحظ أخيرا أن حكم القاضي عند جمهور العلماء يعتمد الظاهر في المال وغيره من الحوال‬
‫الشخصية‪ ،‬فل يحل الحرام ول يحرم الحلل‪ ،‬ول ينشئ الحقوق وإنما يظهرها ويكشف عنها في‬
‫الوقائع‪ ،‬عملً بالحديثين السابقين‪« :‬نحن نحكم بالظاهر‪ ،‬وال يتولى السرائر» (‪« )1‬إنكم تختصمون‬
‫إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‪ ،‬فأقضي له بنح ٍو مما أسمع‪ ،‬فمن قضيت له بشيء‬
‫من حق أخيه فل يأخذه‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة من نار» (‪. )2‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ ظاهرا وباطنا؛ لن مهمته القضاء بالحق‪ .‬فلو‬
‫ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها‪ ،‬فأنكرت‪ ،‬فأقام على ادعائه شاهدي زور‪ ،‬فقضى القاضي بعقد‬
‫الزواج بينهما‪ ،‬حل للرجل الستمتاع بها‪ .‬ولو قضى القاضي بالطلق فرق بينهما‪ ،‬وإن كان الرجل‬
‫منكرا‪ .‬ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين‪ :‬أل يعلم بكون الشهود زورا‪ ،‬وأن يكون من‬
‫المور التي له فيها صلحية النشاء‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ التحكيم‬
‫التحكيم‪ :‬أن يحكم المتخاصمان شخصا آخر لفض النزاع القائم بينهما على هدى حكم الشرع‪ .‬وقد دل‬
‫على جوازه قوله تعالى‪ { :‬وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا‬
‫إصلحا يوفق ال بينهما} [النساء‪ ]35/4:‬وعن أبي شريح قال‪« :‬يا رسول ال ‪ ،‬إن قومي إذا اختلفوا‬
‫في شيء فأتوني فحكمت بينهم‪ ،‬فرضي عني الفريقان‪ ،‬فقال له الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪ :‬ما‬
‫أحسن هذا» وعمل الرسول بحكم سعد بن معاذ الذي اتفق مع يهود بني قريظة على تحكيمه فيهم‪.‬‬
‫وأجمع الصحابة على جواز التحكيم‪.‬‬
‫ويشترط في المحكّم أن يكون أهلً للشهادة رجلً كان أو امرأة‪ ،‬وأن تتوافر فيه هذه الهلية وقت‬
‫الحكم‪ ،‬وأن يكون الموضوع في غير الحدود والقصاص لختصاص المام بالنظر فيها وفي استيفائها‪،‬‬
‫فيصح التحكيم في القضايا المالية وفي الحوال الشخصية من زواج وطلق‪.‬‬
‫ويلتزم المتحاكمان بقرار المحكم عند الحنفية والحنبلية‪ .‬ولكل واحد الرجوع عن التحكيم قبل إصدار‬
‫الحكم عند الحنفية‪ .‬والراجح عند المالكية أل يشترط دوام رضائهما حتى صدور الحكم‪ ،‬فإن رجعا‬
‫معا ولم يرتضياه قبل الحكم‪ ،‬فلهما ذلك‪ .‬وإن رجع أحدهما فله ذلك عند سحنون‪،‬‬
‫وليس له حق الرجوع عند ابن الماجشون (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬لم يثبت بهذا اللفظ‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الجماعة عن أم سلمة‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر فتح القدير‪ ،498/5 :‬المبسوط‪ ،62/21 :‬تبصرة الحكام‪ ،43/1 :‬حاشية الدسوقي‪140/4 :‬‬
‫ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/365‬‬
‫المبحث الرابع ـ ولية المظالم‬
‫تعريفها ونشأتها‪ ،‬المختص بالنظر فيها‪ ،‬هيئة مجلسها‪ ،‬اختصاصاتها‪ ،‬الفرق بينها وبين القضاء‬
‫العادي‪.‬‬
‫أولً ـ تعريف ولية المظالم ونشأتها‪ :‬ولية المظالم تشبه إلى حد كبير نظام القضاء الداري ومجلس‬
‫الدولة حديثا‪ ،‬فهي أصلً للنظر في أعمال الولة والحكام ورجال الدولة مما قد يعجز عنه القضاء‬
‫العادي‪ ،‬وقد ينظر واليها في المنازعات التي عجز القضاء عن فصلها‪ ،‬أو في الحكام التي ل يقتنع‬
‫الخصوم بعدالتها‪ .‬ويجتمع فيها القضاء والتنفيذ معا (‪. )1‬‬
‫وعرفها الماوردي بقوله (‪« : )2‬نظر المظالم‪ :‬هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة‪ ،‬وزجر‬
‫المتنازعين عن التجاحد بالهيبة‪ ،‬فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ المر‪ ،‬عظيم‬
‫الهيبة‪ ،‬ظاهر العفة‪ ،‬قليل الطمع‪ ،‬كثيرالورع؛ لنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة‪ ،‬وثبت القضاة‪،‬‬
‫فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين‪ ،‬وأن يكون بجللة القدر نافذ المر في الجهتين» ‪.‬‬
‫نشأتها‪ :‬كان الرسول صلّى ال عليه وسلم في صدر السلم أول من نظر المظالم بنفسه‪ ،‬فقضى في‬
‫شِرْب بين الزبير بن العوام وأنصاري (‪ ، )3‬وأرسل عليا لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد من قبيلة‬
‫بني جذيمة بعد أن خضع أهلها وقال‪« :‬اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد» ‪.‬‬
‫ولم يُنتدب للمظالم من الخلفاء الربعة أحد؛ لن الناس كان يقودهم التناصف إلى الحق‪ ،‬ويزجرهم‬
‫الوعظ عن الظلم‪.‬‬
‫ولكن عمر رضي ال عنه كان شديد الوطأة على الولة‪ ،‬ودائم التحذير لهم‪ ،‬فأمر بالقتصاص من‬
‫عمرو بن العاص؛ لنه قال لعرابي في المسجد‪ :‬يا منافق‪ ،‬إل أن يعفو العرابي‪ ،‬واقتص من ابن‬
‫عمرو لهانته مصريا قبطيا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلطات الثلث‪ :‬ص ‪ ،313‬الماوردي‪ :‬ص ‪.73‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.73‬‬
‫(‪ )3‬الماوردي‪ :‬ص ‪.73‬‬

‫( ‪)8/366‬‬

‫وحينما تأخرت إمامة علي واختلط الناس فيها وجاروا‪ ،‬احتاجوا إلى صرامة في السياسة‪ ،‬فكان علي‬
‫رضي ال عنه أول من نظر في مظالم النا س‪ ،‬ولم يعين يوما محددا لها‪.‬‬
‫وعندما تجاهر الناس بالظلم في عهد الدولة الموية كان عبد الملك بن مروان أول من أفرد للظلمات‬
‫يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين‪.‬‬
‫ثم زاد جور الولة وظلم العتاة ولم يكفهم إل أقوى اليدي وأنفذ الوامر‪ ،‬فكان عمر بن عبد العزيز‬
‫رحمه ال أول من ندب نفسه للنظر في المظالم‪ ،‬فردها‪ ،‬وراعى السنن العادلة‪ ،‬ورد مظالم بني أمية‬
‫على أهلها‪ ،‬فلما عوتب في شدته عليهم فيها قال‪« :‬كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة ل ُوقِيته» ‪.‬‬
‫ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة‪ ،‬أولهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون وكان‬
‫آخرهم المهتدي‪ ،‬حتى عادت الملك إلى مستحقيها (‪. )1‬‬
‫وهكذا نشأ نظام المظالم واستقل عن القضاء العادي‪.‬‬
‫ثانيا ـ صفة ناظر المظالم‪ :‬كان الخليفة كما تقدم أول من نظر المظالم ومثله الوزراء والمراء‪.‬‬
‫ويصح النظر في المظالم بتقليد خاص من ولي المر لكل من توافرت فيه شروط ولية العهد‪ ،‬أو‬
‫وزارة التفويض‪ ،‬أو إمارة القاليم إذا كان نظره في المظالم عاما‪.‬‬
‫فإن اقتصرت مهمة المقلد للقضاء على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه‪ ،‬وإمضاء ما قصرت يدهم عن‬
‫إمضائه‪ ،‬جاز أن يكون ناظر المظالم دون مرتبة الوزير والمير في القدر والخطر‪ ،‬بشرط أل تأخذه‬
‫في الحق لومة لئم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 73‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/367‬‬

‫هيئة محكمة المظالم‪ :‬لبد لتكوين مجلس نظر المظالم من خمسة أصناف ل يستغني عنهم ناظر‬
‫المظالم ول ينتظم نظره إل بهم‪ ،‬وهم (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬الحماة والعوان لجذب القوي‪ ،‬وتقويم الجريء‪.‬‬
‫‪ - 2‬القضاة والحكام لستعلم ما ثبت عندهم من الحقوق‪ ،‬ومعرفة ما جرى في مجالسهم بين‬
‫الخصوم‪.‬‬
‫‪ - 3‬الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل‪ ،‬ويسألهم عما اشتبه وأعضل‪.‬‬
‫‪ - 4‬الكتّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق‪.‬‬
‫‪ - 5‬الشهود‪ :‬ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم‪ .‬فإذا استكمل مجلس المظالم بهؤلء‬
‫الصناف شرع الناظر حينئذ في النظر فيها‪.‬‬
‫ثالثا ـ اختصاصات ديوان المظالم ‪:‬‬
‫يختص ناظر المظالم باختصاصات متعددة بعضها استشاري يتعلق بمراقبة تطبيق أحكام الشرع‪،‬‬
‫وبعضها إداري يتعلق بمراقبة أعمال الموظفين ولو بدون متظلم من الناس‪ ،‬كما يظهر من‬
‫الختصاصات الثلثةالولى‪ ،‬وبعضها قضائي يتعلق بفصل الخصومات بين الحكام والرعية‪ ،‬أو بين‬
‫الرعية أنفسهم‪ .‬وهذه الختصاصات تفصيلً هي ما يأتي (‪: )2‬‬
‫أولً ـ النظر في تعدي الولة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة‪.‬‬
‫ثانيا ـ النظر في جور العمال فيما يجبونه من الموال‪ ،‬فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين‬
‫الئمة‪ ،‬فيحمل الناس عليها‪ ،‬ويأخذ العمال بها‪ ،‬وينظر فيما استزادوه‪ ،‬فإن رفعوه إلى بيت المال أمر‬
‫برده‪ ،‬وإن أخذوه لنفسهم استرجعه لربابه‪.‬‬
‫ثالثا ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛ لنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه لهم‪،‬‬
‫ويوفونه منه‪.‬‬
‫هذه القسام الثلثة ل يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم‪.‬‬
‫رابعا ـ النظر في تظلم المسترزقة (أي الموظفين والجنود) من نقص أرزاقهم أو تأخرهم عنهم‪.‬‬
‫خامسا ـ رد الغصوب‪ ،‬أي الموال المغتصبة بدون حق‪ .‬وهي نوعان‪:‬‬
‫أ ـ غصوب سلطانية‪ :‬وهي التي يأخذها الحكام أو ولة الجور من أصحابها بدون حق‪ ،‬إما بأخذها‬
‫للدولة أو لنفسهم ظلما‪ .‬وحكمها أن والي المظالم يأمر بردها إلى أصحابها إن علم بها عند ممارسة‬
‫إشرافه على الولة‪ ،‬ولو قبل التظلم إليه‪ ،‬فإذا لم يعلم بها توقف نظره فيها على تظلم أربابها‪ .‬ويمكنه‬
‫العتماد على ديوان السلطنة في إثبات حق صاحبها‪ ،‬دون حاجة لتقديم الدلة من مستحقها‪.‬‬
‫ب ـ غصوب القوياء‪ :‬وهي التي يتغلب عليها ذوو اليدي القوية من الفراد المتنفذين ذوي الوجاهة‬
‫في الدولة‪ ،‬فيتصرفون فيها تصرف الملك بالقهر والغلبة‪ .‬وهذا النوع يتوقف النظر فيه على تظلم‬
‫أربابه‪.‬‬
‫ول ينتزع من يد غاصبه إل بأحد أمور أربعة‪:‬و هي اعتراف الغاصب وإقراره أو علم والي المظالم‬
‫بها‪ ،‬أو بينة تشهد بالغصب‪ ،‬أو تظاهر الخبار‪ ،‬أي التسامع الذي ينفي عنها التواطؤ ول يختلج فيها‬
‫الشك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المصدر السابق‪ :‬ص ‪.76‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق نفسه‪ :‬ص ‪ 76‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/368‬‬
‫سادسا ـ الشراف على شؤون الوقاف وهي نوعان‪:‬‬
‫أ ـ أوقاف عامة على مصالح عامة كالمساجد والمدارس ونحوها‪ .‬وهذه ينظر في شأنها‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫فيها متظلم‪ ،‬ليصرف ريعها في سبلها‪،‬وينفذ شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلثة أوجه‪ :‬إما من‬
‫دواوين المندوبين لحراسةالحكام‪ ،‬وإما من دواوين السلطنة‪ ،‬وإما من كتب فيها قديمة يترجح ظن‬
‫صحتها‪ ،‬وإن لم يشهد الشهود بها‪.‬‬
‫ب ـ أوقاف خاصة‪ :‬وهي الموقوفة على أشخاص معينين‪ .‬فل ينظر في منازعاتها إل بتظلم‬
‫مستحقيها‪ ،‬ول يحكم بها إل بطرق الثبات العادية المقررة شرعا‪.‬‬
‫سابعا ـ تنفيذ أحكام القضاة التي عجزوا عن تنفيذها‪ ،‬لتعزز المحكوم عليه وقوة يده‪ ،‬أو لعلو قدره‬
‫وعظيم خطره‪.‬‬
‫ثامنا ـ النظر فيما عجز عنه ناظرو الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه‪،‬‬
‫والتعدي في طريق عجز عن منعه‪ ،‬والتحيف في حق لم يقدر على رده‪.‬‬
‫جمَع والعياد والحج والجهاد‪ ،‬من تقصير فيها‪ ،‬وإخلل‬
‫تاسعا ـ مراعاة العبادات الظاهرة كال ُ‬
‫بشروطها‪ ،‬فإن حقوق ال أولى أن تستوفى‪ ،‬وفروضه أحق أن تؤدى‪.‬‬
‫عاشرا ـ النظر بين المتشاجرين‪ ،‬والحكم بين المتنازعين‪ ،‬فل يخرج في النظر بينهم عن موجب‬
‫الحق ومقتضاه‪ ،‬ول يسوغ أن يحكم بينهم إل بما يحكم بها الحكام والقضاة‪.‬‬
‫رابعا ـ الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة ‪:‬‬
‫قد يثور التساؤل في تحديد جهة المحكمة المختصة بنظر النزاع‪ ،‬هل ديوان المظالم أو القضاء‬
‫العادي‪ ،‬مما يدعو إلى توضيح الفروق بينهما وهي عشرة كما أبان الماوردي (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة في ردع الخصوم ومنع الظلمة من‬
‫التسلط‪.‬‬
‫‪ - 2‬ناظر المظالم أفسح مجالً وأوسع مقالً‪.‬‬
‫‪ - 3‬سلطات ناظر المظالم أوسع في التحقيق والستدلل وطرق الثبات المعتمدة على القرائن‬
‫والمارات وشواهد الحوال‪.‬‬
‫‪ - 4‬لناظر المظالم أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب‪ ،‬ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب‪.‬‬
‫‪ - 5‬له الحق في التأني والتأجيل عند الشتباه والبهام ما ليس للحكام إذا طلب منهم أحد الخصمين‬
‫فصل الحكم وإصدار القرار‪.‬‬
‫‪ - 6‬له رد الخصوم لفصل التنازع صلحا عن تراض‪ ،‬وليس للقاضي الرد إل إذا رضي الخصمان‪.‬‬
‫‪ - 7‬له أن يفسح في ملزمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد‪ ،‬ويأذن بالكفالة فيما يسوغ فيه‬
‫التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب‪.‬‬
‫‪ - 8‬له أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين‪.‬‬
‫‪ - 9‬له إحلف الشهود عند إرتيابه بهم‪ ،‬ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشك ‪ ،‬وينفي عنه الرتياب‪،‬‬
‫وليس ذلك للحاكم العادي‪.‬‬
‫‪ - 10‬له أن يبدأ باستدعاء الشهود‪ ،‬ويسألهم عما عندهم من تنازع الخصوم‪ .‬وأما عادة القضاة فهي‬
‫تكليف المدعي إحضار بينة‪ ،‬ول يسمعونها إل بعد مسألته وطلبه‪.‬‬
‫وفيما عدا هذه المور العشرة هما متساويان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام ‪ :‬ص ‪ 79‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/369‬‬

‫المبحث الخامس ـ نظام الحسبة أو ولية الحسبة في الدارة السلمية ‪:‬‬


‫تمهيد في تاريخ الحسبة ‪:‬‬
‫ظهر في العهود السلمية الولى نظام الحسبة إلى جانب نظام القضاء العادي وولية المظالم‪ ،‬وكان‬
‫ذلك أحد أنظمة الدارة السلمية الصلية المنبثقة عن نظام الخلفة التي هي في الحقيقة نيابة عن‬
‫صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا‪.‬‬
‫ذكر ابن خلدون في مقدمته‪ :‬أن الخطط الدينية الشرعية‪ ،‬من إمامة الصلة‪ ،‬والفتيا‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والجهاد‬
‫والحسبة‪ ،‬كلها مندرجة تحت المامة الكبرى التي هي الخلفة‪ ،‬فكأنها المام الكبير‪ ،‬والصل الجامع‪،‬‬
‫وهذه كلها متفرعة عنها‪ ،‬وداخلة فيها لعموم نظر الخلفة‪ ،‬وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية‬
‫والدنيوية‪ ،‬وتنفيذ أحكام الشرع فيها على العموم (‪. )1‬‬
‫وهنا أفصل الكلم في ولية الحسبة على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ - 1‬حقيقة الحسبة‪:‬‬
‫وهي تشمل تعريف الحسبة وأساسها وغايتها‪ ،‬وقاعدتها وأصلها‪ ،‬وواضعها والفرق بين المحتسب‬
‫والمتطوع وشروطها وآدابها‪.‬‬
‫‪ - 2‬اختصاصات المحتسب‪.‬‬
‫‪ - 3‬مقارنة أوموازنة بين ولية الحسبة ونظام القضاء وولية المظالم أو نظر المظالم‪.‬‬
‫أولً ـ حقيقة الحسبة ‪:‬‬
‫تتبين حقيقة الحسبة في توضيح المور التالية‪:‬‬
‫‪ - 1‬تعريفها‪ :‬الحسبة‪ :‬هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه‪ ،‬ونهي عن المنكر إذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،195‬ط دار الشعب بالقاهرة‪.‬‬

‫( ‪)8/370‬‬

‫ظهر فعله (‪ . )1‬أو هي وظيفة دينية‪ ،‬من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬الذي هو فرض‬
‫على القائم بأمور المسلمين‪ ،‬يعيّن لذلك من يراه أهلً له‪ ،‬فيتعيّن فرضه عليه‪ ،‬ويتخذ العوان على‬
‫ذلك‪ ،‬ويبحث عن المنكرات‪ ،‬ويعزّر‪ ،‬ويؤدّب على قدرها‪ ،‬ويحمل الناس على المصالح العامة في‬
‫المدينة‪ ،‬مثل المنع من المضايقة في الطرقات‪ ،‬ومنع الحمّآلين وأهل السفن من الكثار في الحمل‪،‬‬
‫والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها‪ ،‬وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة)‬
‫( ‪. )2‬‬
‫قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية‪ :‬وأما الحكم بين الناس فيما ل يتوقف على الدعوى‪ ،‬فهو‬
‫المسمى بالحسبة‪ ،‬والمتولي له والي الحسبة‪.‬‬
‫وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولية خاصة‪ ،‬كما أفردت ولية المظالم بولية خاصة‪ ،‬والمتولي‬
‫لها يسمى والي المظالم‪ ،‬وولية المال قبضا وصرفا بولية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيرا‪،‬‬
‫وناظر البلد لحصاء المال وضبطه تسمى وليته‪ :‬ولية استيفاء‪ ،‬والمتولي لستخراجه وتحصيله ممن‬
‫هو عليه تسمى وليته ول ية السّر‪ ،‬والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق‪ ،‬والحكم في الفروج‬
‫والنكحة والطلق والنفقات‪ ،‬وصحة العقود وبطلنها‪ :‬هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي‪ .‬وبه‬
‫يتبين أن ولية الحسبة‪ :‬خاصتها المر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولة‬
‫والقضاة (‪. )3‬‬
‫يتبين من هذا أن الحسبة ل تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم‪ ،‬ويصح لي واحد من الناس‬
‫تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلً علقة غير مشروعة‬
‫مع امرأة بسبب طلقها‪ ،‬أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة‪ ،‬أو تعايش معها دون‬
‫وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما‪.‬‬
‫كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من‬
‫شخص ما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،240‬ط البابي الحلبي بمصر‪.‬‬
‫(‪ )2‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،201‬ط دار الشعب‪ 576 ،‬ط التجارية بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ )3‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ ،349 ،344‬مطبعة المدني بالقاهرة‪.‬‬

‫( ‪)8/371‬‬

‫وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والداب‪ ،‬وقد تتعلق بالجنايات أحيانا مما يحتاج إلى‬
‫سرعة في الفصل فيه‪ ،‬من أجل حماية القيم النسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل‪ ،‬فهي إذن‬
‫ضرورة اجتماعية ل بد منها تمثّل المجتمع وقيمه‪ ،‬وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر‬
‫الحديث بنظرية الدفاع الجتماعي ضد الجريمة‪ ،‬إذ لهاجانبان‪ :‬إيجابي وسلبي‪ ،‬تقمع الجريمة وتطارد‬
‫المجرمين من المجتمع دون حاجة لدعاء شخصي‪ ،‬وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها‪،‬‬
‫بالترغيب في فعل المعروف‪ ،‬والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الخلل‬
‫بأمن الجماعة واستقرارها‪ ،‬والحفاظ على العراض والحرمات‪.‬‬
‫قال ابن خلدون‪ :‬ول يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم‬
‫فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه‪ ،‬وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقا‪ ،‬بل فيما‬
‫يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين‪ ،‬وله أيضا‬
‫حمل المماطلين على النصاف‪ ،‬وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيّنة ول إنفاذ حكم‪ ،‬وكأنها أحكام يُنزّه‬
‫القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها‪ ،‬فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها‪ ،‬فوضعها على‬
‫ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء‪ .‬وقد كانت في كثير من الدول السلمية‪ ،‬مثل العبيديين بمصر‪،‬‬
‫والمغرب‪ ،‬والمويين بالندلس داخلةً في عموم ولية القاضي‪ ،‬يولّي فيها باختياره‪.‬‬

‫( ‪)8/372‬‬

‫ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلفة‪ ،‬وصار نظره عاما في أمور السياسة‪ ،‬اندرجت في‬
‫وظائف الملك وأفردت بالولية (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬أساسها‪ :‬أساس الحسبة‪ :‬قول ال تعالى‪{ :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر‪ ،‬وأولئك هم المفلحون} [آل عمران‪ ]104/3:‬وقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«من غشنا فليس منا» (‪ )2‬فهي من قواعد المور الدينية‪ ،‬وهي ولية دينية ناشئة من فريضة المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫‪ - 3‬غايتها‪ :‬غايتها أو مقصودها مثل مقصود جميع الوليات في السلم‪:‬‬
‫أن يكون الدين كله ل ‪ ،‬وأن تكون كلمة ال هي العليا‪ ،‬بتحقيق العبودية ل‪ ،‬والقيام بواجب عبادة ال ‪،‬‬
‫وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله‪ ،‬وذلك هو الخير والبر والتقوى‪ ،‬والحسنات والقربات‪ ،‬والباقيات‬
‫الصالحات‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وهذه مظاهر إيجابية المسلم‪ ،‬ليظل نقيا بنفسه‪ ،‬طاهرا مطهرا من شوائب‬
‫النحراف‪ ،‬وجميع الحسنات ل بد فيها من شيئين‪ :‬أن يراد بها وجه ال ‪ ،‬وأن تكون موافقة للشريعة‬
‫قولً وعملً‪ ،‬كلما طيبا وعملً صالحا‪.‬‬
‫والطاعة تتطلب أيضا في شطرها الثاني‪ :‬البعد عن المعاصي أو الجرائم والفواحش والمنكرات‪ ،‬لن‬
‫نقاوة المجتمع ونظافته ل تتوافر إل بالقلع عن هذه المور‪ ،‬وذلك مظهر مدني وحضاري رفيع‪،‬‬
‫كما أن للمعاصي انعكاسات سيئة على الفرد والجماعة‪ ،‬لن ال تعالى أبان لنا بنحو واضح أن‬
‫المعاصي سبب‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬المرجع والمكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬حديث صحيح أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي ال عنه‪.‬‬

‫( ‪)8/373‬‬

‫المصائب‪ ،‬فالمصيبة والجزاء من سيئات العمال‪ ،‬والطاعة سبب النعمة‪ ،‬وإحسان العمل سبب‬
‫لحسان ال ‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ‪ ،‬ويعفو عن كثير}‬
‫[الشورى‪ ]30/42:‬وقال تعالى‪{ :‬ما أصابك من حسنة فمن ال ‪ ،‬وما أصابك من سيئة فمن نفسك}‬
‫[النساء‪ ]4/79:‬وأخبر سبحانه بما عاقب به في الدنيا أهل السيئات من المم‪ ،‬كقوم نوح وعاد وثمود‪،‬‬
‫وقوم لوط وأصحاب مدين‪ ،‬وقوم فرعون‪ ،‬وأخبر أيضا بما يعاقبهم به في الخرة (‪. )1‬‬
‫ولهذا كانت الولية لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى ال ‪ ،‬ويفعل فيها الواجب بحسب المكان‪ :‬من‬
‫أفضل العمال الصالحة‪ ،‬حتى قد روى المام أحمد في مسنده عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫«إن أحب الخلق إلى ال إمام عادل‪ ،‬وأبغض الخلق إلى ال إمام جائر» (‪. )2‬‬
‫‪ - 4‬واضعها‪ :‬واضع نظام الحسبة تنفيذا لواجب أو مبدأ المر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر‬
‫في السلم وشرعه‪ :‬هو عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق‬
‫لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين‪.‬‬
‫ولكن عرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي (‪: )3‬‬
‫‪ - 5‬قاعدتها‪ :‬قاعدة الحسبة وأصلها‪ :‬هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث ال به رسله‪،‬‬
‫وأنزل به كتبه‪ ،‬ووصف به هذه المة‪ ،‬وفضّلها لجله‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،104 ،75 ،4‬ط مكة‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.7‬‬
‫(‪ )3‬تاريخ القضاء في السلم للقاضي محمود عرنوس‪ ،107 :‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،576‬ط‬
‫التجارية بمصر ‪.‬‬

‫( ‪)8/374‬‬

‫على سائرالمم التي أخرجت للناس‪ ،‬وهذا واجب على كل مسلم قادر‪ ،‬وهو فرض كفاية‪ ،‬ويصير‬
‫فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولية والسلطان‪ ،‬فعليهم من الوجوب ما ليس‬
‫على غيرهم‪ ،‬فإن مناط الوجوب‪ :‬هو القدرة‪ ،‬فيجب على القادر ما ل يجب على العاجز‪ ،‬قال ال‬
‫تعالى‪{ :‬فاتقوا ال ما استطعتم} [التغابن‪. )1( ]16/64:‬‬
‫‪ - 6‬الفرق بين المحتسب والمتطوع ‪:‬‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وإن كان واجبا عاما على كل مسلم قادر‪ ،‬كما تقدم‪ ،‬غير أن‬
‫هناك فرقا بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه ذكرها الماوردي (‪ ، )2‬ويمكن إيجازها فيما يأتي‪:‬‬
‫أحدها ـ الحسبة فرض عين على المحتسب بحكم وليته أو وظيفته المأجورة‪ ،‬فل يجوز أن يتشاغل‬
‫عنه‪ ،‬وفرض كفاية على غيره من المسلمين‪ ،‬فهي من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه‪.‬‬
‫الثاني ـ المحتسب مخصص للدعاء فيما يجب إنكاره‪ ،‬وعليه إجابة المدعي المستعدي‪ ،‬وأما غيره‬
‫فليس مخصصا لهذا‪ ،‬ول يلزمه إجابة المستعدي‪.‬‬
‫الثالث ـ على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة لينكرها على فاعلها‪ ،‬ويفحص عما ترك من‬
‫المعروف الظاهر ليأمر بإقامته‪ ،‬وليس على المتطوع بحث ول فحص‪.‬‬
‫الرابع ـ للمحتسب أن يتخذ أعوانا على إنكاره‪ ،‬وله أن يعزّر في المنكرات الظاهرة وله رزق من‬
‫بيت المال‪ ،‬وليس للمتطوع ذلك‪.‬‬
‫الخامس ـ للمحتسب الجتهاد فيما يتعلق بالعرف دون الشرع‪ ،‬كالقعود في السواق‪ ،‬وإخراج‬
‫الجنحة (القواعد البارزة) في الشوارع وليس هذا للمتطوع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية لبن القيم‪ :‬ص ‪ ،345‬ط المدني بالقاهرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،240‬ط‪ :‬البابي الحلبي‪.‬‬

‫( ‪)8/375‬‬

‫‪ - 7‬شروطها وآدابها ‪:‬‬


‫يشترط في والي الحسبة‪ :‬أن يكون حرا‪ ،‬عدلً‪ ،‬ذا رأي وصراحة وخشونة في الدين‪ ،‬وعلم بالمنكرات‬
‫الظاهرة‪ ،‬وهذه الضوابط توفر له الهيبة‪ ،‬وتعينه على قمع المنكر‪ ،‬وتجعله نافذ الكلمة‪ ،‬مسموع القول‪،‬‬
‫ل مكان للجدال فيما يأمر به أو ينهى عنه‪ ،‬لن المهم تحقيق الغاية من وجوده‪ ،‬وإظهار حرمة الشرع‪،‬‬
‫وشيوع الفضيلة‪ ،‬واحترام الخلق والداب العامة‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء وعلماء الصول في اشتراط كونه من أهل الجتهاد على قولين‪ ،‬فقال بعضهم وهو‬
‫أبو سعيد الصطخري‪ :‬يشترط‪ ،‬وله بالتالي إلزام الناس برأيه واجتهاده‪ ،‬وقال الكثرون‪ :‬ل يشترط‪،‬‬
‫فليس له إلزام الناس برأيه ومذهبه الجتهادي فيما ل نص صريح فيه‪ .‬وعلى هذا يجوز في الراجح‬
‫أن يكون المحتسب من غير أهل الجتهاد إذا كان عارفا بالمنكرات المتفق على تحريمها‪.‬‬
‫ولبد للمحتسب من الرفق في أموره كلها‪ ،‬كما قال النبي صلّى ال عليه وسلم ـ فيما رواه عبد ابن‬
‫حميد والضياء عن أنس ـ «ما كان الرفق في شيء إل زانه‪ ،‬ول نزع من شيء إل شانه» ول بد‬
‫أيضا أن يكون حليما صبورا على الذى‪ ،‬فإن لم يحلم ويصبر‪ ،‬كان مفسدا أكثر مما يصلح‪ ،‬كما قال‬
‫لقمان لبنه‪{ :‬وأمر بالمعروف وانه عن المنكر‪ ،‬واصبر على ما أصابك‪ ،‬إن ذلك من عزم المور}‬
‫[لقمان‪ ]17/31:‬ويضم المحتسب إلى أمره ونهيه الحسان إلى الغير إحسانا يحصل به مقصوده من‬
‫حصول المحبوب واندفاع المكروه‪ ،‬فإن النفوس ل تصبر على المرّ إل بنوع من الحلو (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،241‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 72‬وما بعدها‪ ،89 ،‬طبع مكة‪.‬‬

‫( ‪)8/376‬‬

‫ثانيا ـ اختصاصات المحتسب ‪:‬‬


‫يتولى المحتسب وظائف لها صلة بالقضاء والمظالم والشرطة‪ ،‬فهو ينظر في المنازعات الظاهرة التي‬
‫لتحتاج إلى أدلة إثباتية‪ ،‬كدعاوى الغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) وتطفيف المكيال والميزان‬
‫(بالزيادة له والنقص لغيره) فهو بهذا كالقاضي‪ ،‬ويؤدب مرتكبي المعاصي التي ترتكب جهرا أو تخل‬
‫بآداب السلم‪ ،‬فهو بهذا كناظر المظالم‪ .‬ويرعى النظام والداب والمن في الشوارع والسواق مما‬
‫ل تجوز مخالفته‪ ،‬فيكون بهذا كالشرطة أو النيابة العامة (‪. )1‬‬
‫وتنحصر اختصاصات المحتسب في أمرين‪:‬‬
‫أحدهما ـ المر بالمعروف‪.‬‬
‫والثاني ـ النهي عن المنكر (‪. )2‬‬
‫وذلك مما ليس من خصائص الولة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم‪ .‬وكل ما يتعلق بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر ثلثة أقسام‪:‬‬
‫أحدها ـ حقوق ال تعالى‪ :‬والمراد بحق ال تعالى‪ :‬ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص‬
‫بأحد‪ ،‬ويقابله الحق العام أو حق المجتمع في الصطلح القانوني الحديث‪ ،‬ويدخل فيه العبادات‬
‫وحقوق الجماعة‪.‬‬
‫وثانيها ـ حقوق العباد أو الدميين‪ :‬والمراد بحق العبد‪ :‬ما يتعلق به مصلحة خاصة‪ ،‬كحق الملكية‬
‫وحرمة مال الغير‪ ،‬ويقابله في عرفنا اليوم الحق الخاص‪.‬‬
‫وثالثها ـ حقوق مشتركة بين ال والعباد‪ :‬وهو ما اجتمع فيه حق ال وحق العبد‪ ،‬لكن يكون المراعى‬
‫فيه إما مصالح العباد أو مصلحة المجتمع وإما مصلحة العبد‪ ،‬مثل حق القصاص في رأي الحنفية‬
‫والمالكية‪ ،‬وحد القذف في رأي الحنفية‪ ،‬والغالب في القصاص حق العبد‪ ،‬والغالب في حد القذف حق‬
‫ال تعالى‪ ،‬أي حق الجماعة‪.‬‬
‫وأبيّن أقسام كل منهما لتتضح مهمة المحتسب‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلطات الثلث للدكتور سليمان الطماوي‪ :‬ص ‪ ،323‬مدخل الفقه السلمي للستاذ المرحوم‬
‫محمد سلم مدكور‪ :‬ص ‪.407‬‬
‫(‪ )2‬انظر الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،252-243‬الحسبة لبن تيمية‪،37-31 ،29-11 :‬‬
‫‪ ،57-52 ،49-41‬ط مكة‪ ،‬الطرق الحكمية لبن القيم‪ :‬ص ‪ ،363-349‬ط المدني بالقاهرة‪.‬‬

‫( ‪)8/377‬‬

‫‪ - 1‬المر بالمعروف ‪:‬‬


‫المعروف‪ :‬كل ما أمر به الشرع وارتضاه العقل السليم والعراف الحميدة ويكون المر بالمعروف‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫أ ـ ما يتعلق بحقوق ال الخالصة‪ :‬وهو إما أن يخص الجماعة أو يخص الفراد (أو الشخاص)‪.‬‬
‫فأما ما يخص الجماعة‪ :‬فيراقب المحتسب ترك الواجبات الدينية العامة‪ ،‬سواء أكانت من الشعائر‪،‬‬
‫كإقامة الذان للصلوات‪ ،‬وأداء صلة الجمعة والجماعة في المساجد‪ ،‬أ م من غير الشعائر‪ ،‬كترك‬
‫فريضة الصيام والصلة‪ ،‬فيأمر المقصرين بها‪ ،‬ويعاقب من لم يصل أولم يصم بالضرب والحبس‪.‬‬
‫ويلحظ أن اعتناء ولة المور بإلزام الرعية بإقامة الصلة‪ :‬أهم من كل شيء فإنها عماد الدين‪،‬‬
‫وأساسه وقاعدته‪ ،‬وكان عمر بن الخطاب رضي ال عنه يكتب إلى عماله‪« :‬أن أهم أمركم عندي‬
‫الصلة‪ ،‬فمن حفظها وحافظ عليها‪ ،‬حفظ دينه‪ ،‬ومن ضيعها كان لماسواها أشد إضاعة» ‪ .‬وأما ما‬
‫يخص الشخاص أو الفراد‪ :‬فهو زجر من يؤخر الصلة عن وقتها بل عذر شرعي‪.‬‬
‫ب ـ ما يتعلق بحقوق العباد‪ :‬وهو أيضا نوعان‪ :‬عام وخاص‪.‬‬
‫فأما الحقوق العامة‪ :‬فمثل تعطل مرافق البلد العامة من شِرْب وتهدم أسوار ومساجد‪ ،‬ومراعاة بني‬
‫السبيل‪ ،‬فيأمر بتأمين هذه المرافق وإشباعها إما من بيت المال‪ ،‬أو من أغنياء المسلمين عند عجز بيت‬
‫المال‪.‬‬
‫وأما الحقوق الخاصة‪ :‬فمثل المماطلة في أداء الحقوق والديون‪ ،‬وكفالة من تجب كفالته من الصغار‪،‬‬
‫فيأمر المحتسب بأداء الحقوق عند القدرة واليسار‪ ،‬بشرط ادعاء المستحق لها عنده وإثبات حقه‪.‬‬
‫وكذلك يأمر بالكفالة عند استيفاء شروطها‪.‬‬

‫( ‪)8/378‬‬

‫جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة‪ :‬كمطالبة الولياء بإنكاح اليامى (غير المتزوجات) من أكفائهن‬
‫إذا طلبن‪ ،‬وإلزام النساء أحكام ال ِعدَد إذا فورقن‪ ،‬وللمحتسب تأديب من خالف في العدة من النساء‪،‬‬
‫وليس له تأديب من امتنع من الولياء من تزويج اليامى‪ .‬وتكليف أرباب البهائم بإطعامها‪ ،‬وأل‬
‫يستعملوها فيما ل تطيق‪ .‬وإلزام من التقط لقيطا بحقوقه أو تسليمه لمن يقوم بها ويلتزمها‪ ،‬وتضمينه‬
‫الضالة بالتقصير في رعايتها أو تسليمها إلى غيره‪ ،‬وعدم ضمان اللقيط إذا هلك أو سلمه لغيره‪.‬‬
‫‪ - 2‬النهي عن المنكر ‪:‬‬
‫أ ـ ما يتعلق بحقوق ال تعالى‪ ،‬وتقسم ثلثة أقسام‪:‬‬
‫الول ـ العبادات‪ :‬ينكر المحتسب الخلل بشروط الصلة وآدابها وطهارتها الشرعية‪ ،‬ويؤدب‬
‫المعاند فيها‪ .‬ويردع المفطرين في رمضان بغير عذر شرعي من سفر أو مرض‪ ،‬وينكر المجاهرة‬
‫بالفطار لئل يعرض المفطر نفسه للتهمة‪ ،‬ولئل يقتدي به من ذوي الجهالة ممن ل يقدر العذر‪.‬‬
‫ويجبي الزكاة جبرا من الممتنع عن أدائها من الموال الظاهرة‪ ،‬ويعزره على الخيانة بغير عذر‪.‬‬
‫وينكر على المقصر بأداء الزكاة عن الموال الباطنة‪ ،‬ويؤدبه إن ثبت تقصيره‪.‬‬
‫كذلك ينكر التسول (السؤال) من غير حاجة‪ ،‬ويؤدب الغني بمال أو عمل‪ ،‬وينكر أيضا تصدي الجهلة‬
‫لفتاء الناس بعلم الشرع‪ ،‬ويمنعهم من ذلك منعا من التغرير والفتنة واليقاع في الضللة‪.‬‬
‫الثاني ـ المحظورات‪ :‬وهي التي نهى عنها ال ورسوله‪ .‬ووظيفة المحتسب‪ :‬أن يمنع الناس من‬
‫مواقف الريب ومظان التهمة‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬دع ما يريبك إلى ما ل يريبك» (‪ )1‬فيقدم‬
‫النكار ول يعجل بالتأديب‪ ،‬مثل اختلط النساء بالرجال في المساجد والطرقات والماكن العامة‪.‬‬
‫والمجاهرة بإظهار الخمر والمسكرات‪ ،‬أو الملهي المحرمة‪ ،‬فيريق المسكرات على المسلم‪ ،‬ويؤدب‬
‫الذمي على إظهارها‪ ،‬ويفك أدوات الملهي حتى تصير خشبا‪ ،‬ويؤدب المجاهر بها‪ ،‬ول يكسرها إن‬
‫صلح خشبها للنتفاع به لغير الملهي‪.‬‬
‫وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها‪ ،‬ول أن يهتك الستار حذرا من‬
‫الستتار بها‪ ،‬قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من أتى من هذه القاذورات شيئا‪ ،‬فليستتر بستر ال ‪،‬‬
‫فإن من يبد لنا صفحته‪ ،‬نقم حد ال تعالى عليه» (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي ال عنهما‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬حديث حسن‬
‫صحيح‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكره الماوردي في الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ .252‬وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي‬
‫رضي ال عنه عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬من أصاب حدا ف ُعجّل عقوبته في الدنيا فال‬
‫أعدل من أن يثنّي على عبده العقوبة في الخرة‪ ،‬ومن أصاب حدا فستره ال عليه وعفا عنه‪ ،‬فال‬
‫أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» ‪.‬‬

‫( ‪)8/379‬‬

‫الثالث ـ المعاملت المنكرة‪ :‬كالربا وعقود الميسر والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه‪ ،‬كالغش‬
‫والتدليس في الصناعات والبياعات‪ ،‬وبخس الكيل والميزان‪ ،‬والخيانة‪ .‬وعلى المحتسب إنكاره والمنع‬
‫منه والزجر عليه والتأديب عليه بحسب الحوال إذا كان متفقا على حظره‪ .‬وأما المختلف فيه بين‬
‫الفقهاء بالحظر والباحة‪ ،‬فل دخل له في إنكاره‪.‬‬
‫وتعد عقود الزواج المحرّمة في معنى المعاملت الممنوعة‪.‬‬
‫ب ـ وأما حقوق الدميين المحضة‪ ،‬كتعديات الجيران فيما بينهم‪ ،‬بتجاوز حد الجار أو حريم داره ‪،‬‬
‫أو تركيب الجذوع على جداره‪ ،‬أو تدلي أغصان الشجرة على دار الجار‪ ،‬ونحو ذلك مما يسمى‬
‫( التعسف في استعمال الحق ) فليس للمحتسب النظر فيها إل بادعاء شخصي من الجار‪.‬‬
‫وأما أهل الصنائع‪ :‬فيقر المحتسب المتقن لها‪ ،‬كالطبيب والمعلم أو المين كالصانع والحائك والقصار‬
‫والصباغ‪ ،‬أو المجيد كالنجار والحذّآء‪ ،‬وينكر على المقصر أو الخائن أو الرديء‪.‬‬

‫( ‪)8/380‬‬

‫جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة‪ :‬كالمنع من الشراف على منازل الناس‪ ،‬ومنع أئمة المساجد من‬
‫إطالة الصلة حتى يعجز عنها الضعفاء‪ ،‬وينقطع عنها ذوو الحاجات‪ ،‬وتنبيه القضاة الذين يحجبون‬
‫المتخاصمين من التحاكم بل عذر مشروع‪ ،‬ومنع أرباب المواشي من استعمالها فيما ل تطيق الدوام‬
‫عليه‪ ،‬ومنع أصحاب السفن من حمل ما ل تسعه ويخاف من غرقها‪ ،‬ومن السير عند اشتداد الريح‪،‬‬
‫ومن اختلط الرجال بالنساء فيها‪ ،‬ووضع حائل (حاجز) بينهم‪.‬‬
‫ويراقب المحتسب السواق والطرقات العامة‪ ،‬فيمنع إقامة المباني فيها‪ ،‬ويأمر بهدم ما بني‪ ،‬ولو كان‬
‫المبني مسجدا‪ ،‬لن مرافق الطرق للسير ل للبنية‪ .‬ويمنع أيضا وضع المتعة وآلت البناء فيها‪ ،‬كما‬
‫يمنع إخراج الجنحة والسبطة ومجاري المياه والبار الملحية ونحوها إذا أضرت بالناس‪.‬‬
‫وله منع نقل الموتى من قبورهم حتى ل تنتهك حرماتهم‪ ،‬ويمنع من خصاء البهائم والدميين ويؤدب‬
‫عليه‪ ،‬ومن التكسب بالكهانة واللهو‪ ،‬ويؤدب عليه الخذ والمعطي ونحوها من المنكرات‪.‬‬
‫ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا‪ ،‬وهي ثلثة أنواع (‪: )1‬‬
‫أحدها‪ :‬ما يكون من واحد‪ ،‬كما إذا باعه سلعة بنسيئة‪ ،‬ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدا‪ ،‬حيلة على‬
‫الربا‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬ما تكون ثنائية‪ :‬وهي أن تكون من اثنين‪ ،‬مثل أن يجمع إلى القرض بيعا أو إجارة أو مساقاة‬
‫أو مزارعة ونحو ذلك‪ ،‬وقد ثبت عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال‪« :‬ل يحل سلف وبيع‪ ،‬ول‬
‫شرطان في بيع‪ ،‬ول ربح ما لم يضمن‪ ،‬ول بيع ما ليس عندك» قال الترمذي‪ :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬ما تكون ثلثية‪ :‬وهي أن يدخل بينهما محللً للربا‪ ،‬فيشتري السلعة من آكل الربا‪ ،‬ثم يبيعها‬
‫لمعطي الربا إلى أجل‪ ،‬ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل‪.‬‬
‫ومن المنكرات‪ :‬تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق‪ ،‬فإن النبي صلّى ال عليه وسلم نهى عن ذلك‪،‬‬
‫لما فيه من تغرير البائع‪ ،‬فإنه ل يعرف السعر‪ ،‬فيشتري منه المشتري‪ ،‬بدون القيمة‪ ،‬ولذلك أثبت له‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم الخيار إذا دخل إلى السوق (‪ . )2‬وفي الحديث‪« :‬غبن المسترسل ربا» (‪)3‬‬
‫والمسترسل‪ :‬هو الذي ل يعرف قيمة السلعة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ 351‬ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،42‬الطرق الحكمية لبن القيم‪ :‬ص ‪.352‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي عن أنس وعن جابر وعن علي رضي ال عنهم‪.‬‬

‫( ‪)8/381‬‬

‫ويمنع المحتسب الحتكار لما يحتاج إليه الناس‪ ،‬روى مسلم عن معمر بن عبد ال العدوي‪ :‬أن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬ل يحتكر إل خاطئ» فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه‬
‫الناس من الطعام‪ ،‬فيحبسه عنهم‪ ،‬ويريد إغلءه عليهم هو ظالم لعموم الناس‪.‬‬
‫ولهذا كان لولي المر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل‪ ،‬عند ضرورة الناس إليه (‬
‫‪. )1‬‬
‫وأما التسعير‪ :‬فمنه ما هو ظلم محرم‪ ،‬ومنه ما هو عدل جائز (‪. )2‬‬
‫فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن ل يرضونه‪ ،‬أو منعهم مما أباح ال لهم‪،‬‬
‫فهو حرام‪ .‬وإذا تضمن العدل بين الناس‪ ،‬مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل‪،‬‬
‫ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل‪ ،‬فهو جائز‪ ،‬بل واجب‪ ،‬لما فيه من إلزامهم‬
‫بالعدل‪ ،‬ومنعهم من الظلم‪.‬‬
‫وعلى ولي المر توزيع نسب النتاج بحسب المصلحة‪ ،‬من زراعة وصناعة وتجارة وبناء وغيرها‪،‬‬
‫لن توفير الحاجيات أمر مطلوب شرعا‪ ،‬وتعلم الصناعات فرض على الكفاية‪ ،‬فلولي المر أن يلزم‬
‫الناس بما يحقق الحاجة بأجرة المثل‪ ،‬فإنه ل تتم مصلحة الناس إل بذلك‪.‬‬
‫والقاعدة العامة في هذا كما ذكر ابن تيمية في الحسبة‪ :‬أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات‬
‫والسيئات‪ ،‬أو تزاحمت‪ ،‬فإنه يجب ترجيح الراجح منها‪ .‬لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو‬
‫بميزان الشريعة‪ ،‬فمتى قدر النسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها‪ ،‬وإل اجتهد برأيه لمعرفة‬
‫الشباه والنظائر (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،41 ،29‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.354‬‬
‫(‪ )2‬الحسبة‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،43-41 ،18-17‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪ 355‬وما بعدها‪368 ،‬‬
‫ومابعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الحسبة‪ :‬ص ‪ 66‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/382‬‬

‫ثالثا ـ مقارنة بين الحسبة والقضاء وولية المظالم ‪:‬‬


‫تشترك هذه الوظائف العامة الثلث في مهمة القضاء بالمعنى العام‪ ،‬لكن وظيفة المظالم أعلها‪ ،‬ثم‬
‫رتبة القضاء العادي‪ ،‬ثم ولية الحسبة‪.‬‬
‫أوضح الماوردي أوجه الشبه والختلف بين هذه الوظائف (‪. )1‬‬
‫‪ - 1‬المقارنة بين الحسبة والقضاء العادي ‪:‬‬
‫هناك أوجه شبه واختلف بينهما‪.‬‬
‫فأما أوجه الشبه فمحصورة في أمرين‪:‬‬
‫الول ـ جواز الستعداء (الدعاء الشخصي) إلى المحتسب والقاضي‪ ،‬وسماع كل منهما دعوى‬
‫المستعدي (المدعي) في حقوق الدميين ضمن أنواع ثلثة من الدعاوى فيها‪ ،‬وهي المتعلقة بالبخس‬
‫والتطفيف في الكيل والوزن‪ ،‬أو بالغش والتدليس في المبيع أو الثمن‪ ،‬أوبالمطل والتأخير في الحقوق‬
‫والديون مع القدرة‪ .‬والسبب في انحصار اختصاصه بهذه الدعاوى الثلث دون ما عداها‪ :‬هو تعلقها‬
‫بمنكر ظاهر يختص بإزالته‪ ،‬لن موضوع الحسبة إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها‪ ،‬وليس‬
‫للناظر فيها أن يتجاوز ذلك إلى الحكم الناجز والفصل البات‪.‬‬
‫والثاني ـ للمحتسب كما للقاضي إلزام المدعى عليه بوفاء الحقوق التي يجوز له سماع الدعوى فيها‪،‬‬
‫متى ثبت ذلك باعتراف وإقرار‪ ،‬وكان في وسعه الوفاء بها لتمكنه وإيساره‪ ،‬لن في تأخير أدائها‬
‫منكرا هو منصوب لزالته‪.‬‬
‫وأما أوجه الخلف فهي أربعة‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ 241‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/383‬‬
‫الول ـ ليس للمحتسب سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات في العقود والمعاملت وسائر‬
‫الحقوق والمطالبات‪ ،‬فهي من اختصاص القضاء‪.‬‬
‫الثاني ـ تقتصر الدعاوى التي يسمعها المحتسب على الحقوق المعترف بها‪ ،‬فأما ما يتداخله التجاحد‬
‫والتناكر‪ ،‬فل يجوز له النظر فيه‪ ،‬لن الحاكم فيها يحتاج إلى سماع بيّنة وإحلف يمين‪ ،‬ول يجوز‬
‫للمحتسب أن يسمع بيّنة على إثبات الحق‪ ،‬ول أن يحلف يمينا على نفي الحق‪.‬‬
‫وهذان الوجهان يدلن على أن الحسبة أدنى رتبة من القضاء‪.‬‬
‫الثالث ـ للمحتسب أن ينظر فيما يختص به دون حاجة إلى م ّدعٍ متظلم‪ .‬أما القاضي فل يحق له‬
‫النظر في نزاع من دون ادعاء أو شكوى‪.‬‬
‫الرابع ـ عمل المحتسب يتسم بالشدة والسلطة والقسوة‪ ،‬لن الحسبة موضوعة للرهبة‪ .‬وأما عمل‬
‫القاضي فيتسم بالحلم والناة والوقار‪ ،‬لن القضاء موضوع للمناصفة‪.‬‬
‫وهذان الوجهان يدلن على أن الحسبة تزيد رتبة عن القضاء‪.‬‬
‫‪ - 2‬المقارنة بين الحسبة وولية المظالم ‪:‬‬
‫هناك أيضا نواحي شبه واختلف بين هذين النظامين‪.‬‬
‫أما أوجه الشبه فهي‪ :‬الول ـ موضوعهما يعتمد على الرهبة وقوة الصرامة المختصة بالسلطنة‪.‬‬
‫الثاني ـ للقائم بهما النظر في حدود اختصاصه من دون حاجة إلى متظلم‪ .‬وأما أوجه الختلف فهي‪:‬‬
‫الول ـ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة‪ ،‬والنظر في الحسبة موضوع لما لحاجة‬
‫لعرضه على القضاء‪.‬‬
‫الثاني ـ يجوز لوالي المظالم أن يحكم‪ ،‬ول يجوز لوالي الحسبة أن يحكم‪.‬‬
‫وهكذا يظهر أن المظالم والقضاء والحسبة يكمل بعضها بعضا‪ ،‬وتؤدي غاية موحدة هي تحقيق العدل‬
‫والنصاف وحفظ الحقوق والموال والدماء‪ ،‬وتطبيق أحكام الشرع المحققة لسعادة الناس في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وإقامة المجتمع النساني الفاضل‪.‬‬

‫( ‪)8/384‬‬

‫وليس للمحتسب تطبيق العقوبات الشرعية على ترك المعروف والواجبات وفعل المنكر والمحرمات‬
‫سواء أكان حدا أم تعزيرا‪ ،‬فإن ذلك من اختصاص ولي المر‪ ،‬وتكون إقامة الحدود والتعازير‪ ،‬أي‬
‫العقوبات على فعل محرم‪ ،‬أو ترك واجب على ولة المور فقط‪ ،‬لن المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر ل يتم إل بالعقوبات الشرعية‪ ،‬فإن «ال يزَع بالسلطان ما يزَع بالقرآن» أي يردع‪ ،‬والتعزير‬
‫أجناس‪ ،‬فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلم‪ ،‬ومنه ما يكون بالحبس‪ ،‬ومنه ما يكون بالنفي عن‬
‫الوطن‪ ،‬ومنه ما يكون بالضرب‪.‬‬
‫والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه‪،‬‬
‫ومذهب أحمد في مواضع‪ ،‬وأحد قولي الشافعي (‪. )1‬‬
‫والثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر ال وفي شرعه‪ ،‬فإن هذا من العدل الذي تقوم به‬
‫السماء والرض‪ ،‬كما قال ال تعالى‪:‬‬
‫{إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء‪ ،‬فإن ال كان عفوا قديرا} [النساء‪{ )2( ]4/149:‬وإن‬
‫عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‪ ،‬ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل‪{ ]126/16:‬فمن اعتدى‬
‫عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‪ ،‬واتقوا ال ‪ ،‬واعلموا أن ال مع المتقين} [البقرة‪.]194/2:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،57-46‬الطرق الحكمية‪ :‬ص ‪.391-384‬‬
‫(‪ )2‬الحسبة‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 57‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/385‬‬

‫المبحث السادس ـ أصول التقاضي‬


‫تتجلى الصورة العملية للتقاضي في مراحل ثلث‪ :‬وهي الدعوى‪ ،‬وطرق الثبات‪ ،‬والحكم النهائي‪.‬‬
‫فبها يمكن التوصل للحقوق وحسم النزاع واستقرار الوضاع الحقوقية وإنهاء العدوان‪.‬‬
‫المرحلة الولى ـ الدعوى‪ :‬تعريفها‪ ،‬مشروعيتها‪ ،‬شرائطها‪ ،‬نوعاها‪ ،‬نطاقها‪ ،‬حكمها‪.‬‬
‫الدعوى‪ :‬هي إخبار بحق لنسان على غيره عند الحاكم (‪ . )1‬أو هي قول مقبول عند القاضي يقصد‬
‫به صاحبه طلب حق له عند غيره‪ ،‬أو حمايته وإلزامه به‪ .‬بأن يقول مثلً‪ :‬لي على فلن كذا‪ ،‬أو‬
‫قضيت حق فلن‪ ،‬أو أبرأني عن حقه‪ ،‬ونحوها‪ .‬وهي الوسيلة القضائية المشروعة لطلب الحق‪ ،‬إذ ل‬
‫يجوز شرعا للمحق ممارسة أي فعل يؤدي إلى العتداء على شخص المدعى عليه‪ ،‬منعا للفوضى‬
‫واستئصالً للمنازعات‪ ،‬واستمرار التعديات‪ ،‬وإماتة الحقوق‪ ،‬ففي امتداد وجود الخصومة والمنازعة‬
‫فساد كبير‪ ،‬وال تعالى ل يحب الفساد (‪ . )2‬والصل في مشروعيتها قول النبي صلّى ال عليه وسلم‬
‫‪« :‬لو يعطى الناس بدعواهم لدعى رجال أموال قوم‪ ،‬ودماءهم‪ ،‬لكن البينة على المدعي‪ ،‬واليمين‬
‫على من أنكر» (‪. )3‬‬
‫واشترط فقهاء الحنفية لقبول الدعوى الشرائط التية (‪: )4‬‬
‫أولً ـ أهلية العقل أو التمييز‪ :‬يشترط أن يكون المدعي والمدعى عليه عاقلين‪ ،‬فل تصح دعوى‬
‫المجنون والصبي غير المميز‪ ،‬كما ل تصح الدعوى عليهما‪ ،‬فل يلزمان بالجابة على دعوى الغير‬
‫عليهما‪ ،‬ول تسمع البينة عليهما‪ .‬ويشترط توافر صفة البلوغ لممارسة أي حق عند غير الحنفية‪ ،‬أما‬
‫القاصر فيمارس الدعوى عنه وليه‪.‬‬
‫ثانيا ـ أن تكون الدعوى في مجلس القضاء؛ لن الدعوى ل تصح في غير هذا المجلس‪ ،‬أي‬
‫المحكمة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،437/4 :‬تكملة فتح القدير‪ ،137/6 :‬مغني المحتاج‪ ،461/4 :‬المغني‪.271/9 :‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،28/17 :‬المغني‪ ،272/9 :‬مغني المحتاج‪،‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي وغيره هكذا‪ ،‬وبعضه في الصحيحين عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )4‬المبسوط‪ ،39/17 :‬تكملة فتح القدير‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬و ‪ 141‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪،224 ،222/6 :‬‬
‫الدر المختار‪.438/4 :‬‬

‫( ‪)8/386‬‬

‫ثالثا ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى القاضي عند سماع الدعوى والبينة والقضاء‪،‬‬
‫فل تقبل الدعوى على غائب‪ ،‬كما ل يقضى على غائب عند الحنفية‪ ،‬سواء أكان غائبا وقت الشهادة أم‬
‫بعدها‪ ،‬وسواء أكان غائبا في مجلس القضاء‪ ،‬أم عن البلد التي فيها القاضي‪ ،‬لقول النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» (‪ )1‬وقوله لعلي حين أرسله إلى اليمن‪« : :‬ل تقض‬
‫لحد الخصمين حتى تسمع من الخر» (‪. )2‬‬
‫وقال غير الحنفية‪ :‬يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه‪ ،‬وذلك في‬
‫الحقوق المدنية‪ ،‬ل في الحدود الخالصة ل تعالى (‪ )3‬لنها مبنية على المسامحة والدرء والسقاط‪،‬‬
‫لستغنائه تعالى‪ ،‬بخلف حق النسان الخاص‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬أن يكون المدعى به شيئا معلوما‪ :‬وذلك إما بالشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من‬
‫المنقولت‪ ،‬أو ببيان حدوده إذا كان قابلً للتحديد‪ ،‬كالراضي والدور وسائر العقارات‪ ،‬أو بذكر رقم‬
‫محضر السجل العقاري في التنظيم الحديث الذي يستغنى به عن الحدود والوصاف في الماضي‪ ،‬أو‬
‫بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلً للتحديد كحجر الرحى‬
‫(الطاحونة)‪ ،‬أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به دينا كالنقود والحبوب؛ لن الدين‬
‫ل يصير معلوما إل ببيان هذه المور‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬من حديث أم سلمة الذي رواه الجماعة (نيل الوطار‪.)287/8 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن علي (نيل الوطار‪ 274/8 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )3‬البدائع‪ ،8/7 ،222/6 :‬تكملة فتح القدير‪ :‬المكان السابق‪ ،‬المبسوط‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬بداية المجتهد‪:‬‬
‫‪ ،460/2‬المهذب‪ ،3/2 :‬المغني‪.110/9 :‬‬

‫( ‪)8/387‬‬

‫والسبب في اشتراط هذا الشرط‪ ،‬أي العلم بالمدعى به‪ :‬هو أن المدعى عليه ل يلزم بإجابة دعوى‬
‫المدعي إل بعد معرفة المدعى به‪ ،‬وكذلك الشهود ل يمكنهم الشهادة على مجهول‪ ،‬ثم إن القاضي ل‬
‫يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إل إذا كان المدعى به شيئا معلوما‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬أن يكون موضوع الدعوى أمرا يمكن إلزام المدعى عليه به‪ ،‬أي أن يكون الطلب مشروعا‬
‫ملزما في مفهومنا الحاضر‪ .‬فإذا لم يكن بالمكان إلزام المدعى عليه بشيء‪ ،‬فل تقبل الدعوى‪ ،‬كأن‬
‫يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم الحاضر عند القاضي في أمر من أموره‪ ،‬أو يدعي على شخص‬
‫بطلب صدقة‪ ،‬أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل‪ ،‬فإن القاضي ل يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛‬
‫لن الوكالة عقد غير لزم للموكل‪ ،‬فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال‪ .‬ولن التبرع ل يلزم عليه‬
‫النسان‪ ،‬وبطلن العقد ل يوجب على العاقد تنفيذ أي التزام ينشئه العقد الصحيح‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت‪ :‬لن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة‪ ،‬تكون‬
‫دعوى كاذبة‪ ،‬فلو قال شخص لمن هو أكبر منه سنا‪ :‬هذا ابني‪ ،‬ل تسمع دعواه؛ لستحالة أن يكون‬
‫الكبر سنا ابنا لمن هو أصغر منه سنا‪ .‬وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير‪ :‬هذا ابني‪ ،‬ل تسمع‬
‫دعواه‪.‬‬
‫وبناء عليه تكون الدعوى نوعين‪ :‬دعوى صحيحة مقبولة‪ ،‬ودعوى فاسدة مرفوضة‪.‬‬

‫( ‪)8/388‬‬

‫فالدعوى المقبولة‪ :‬هي التي استكملت شرائط الصحة المتقدمة‪ ،‬ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها‪:‬‬
‫وهي إلزام الخصم الحضور إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي‪ ،‬وإجابته دعوى المدعي‪،‬‬
‫واليمين إذا أنكر المدعى به‪ .‬ويثبت فيها حق المدعي بطرق الثبات المشروعة‪ ،‬كالبينة (وهي الشهادة‬
‫أي الخبار في مجلس القضاء بحق شخصي على غيره)‪ ،‬ونحوها من اليمين والقرينة‪.‬‬
‫والدعوى المرفوضة أو الفاسدة الباطلة‪ :‬هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط القبول المذكورة‬
‫آنفا‪ ،‬ول تترتب عليها الحكام السابقة المقصودة من الدعاء‪ ،‬كأن يكون المدعى به مجهولً؛ لن‬
‫المجهول يتعذر إثباته بالشهادة‪ ،‬فل يمكن للشهود أن يشهدوا به‪ ،‬ول يتمكن القاضي من القضاء‬
‫بالمجهول‪.‬‬
‫واستحسن بعض شراح مجلة الحكام العدلية قسمة الدعوى ثلثة أقسام‪ :‬صحيحة وفاسدة وباطلة (‪)1‬‬
‫‪ .‬الصحيحة‪ :‬هي المستوفية جميع شرائطها وتتضمن طلبا مشروعا‪ ،‬كطلب ثمن مبيع أو استرداد‬
‫مغصوب‪ .‬والفاسدة‪ :‬هي المستوفية شرائطها الساسية ولكن ينقصها بعض النواحي الفرعية كجهالة‬
‫المدعى به‪ ،‬فل يردها القاضي فورا‪ ،‬وإنما يكلف المدعي أولً تصحيحها بتحديد مدعاه‪ .‬والدعوى‬
‫الباطلة‪ :‬هي غير المشروعة في أصلها كادعاء طلب صدقة من أحد‪ ،‬أو طلب تنفيذ عقد باطل‪ ،‬أو‬
‫إيفاد دين؛ لنه من جيران المدين‪ .‬وهذه ل يترتب عليها حكم‪ ،‬بل يردها القاضي فورا لعدم إمكان‬
‫إصلحها‪.‬‬
‫وتحديد من هو المدعي والمدعى عليه أمر ضروري في السلم‪ ،‬لمعرفة المكلف بالبينة أو اليمين‬
‫ونحوها‪ .‬وقد عرّف كل منهما بتعريفات شتى‪ ،‬منها أن المدعي‪ :‬هو من ل يجبر على الخصومة إذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المدخل الفقهي للستاذ مصطفى الزرقا‪ :‬ف‪.369/‬‬

‫( ‪)8/389‬‬

‫تركها؛ لنه طالب‪ .‬والمدعى عليه‪ :‬من يجبر على الخصومة؛ لنه مطلوب‪ .‬أو المدعي‪ :‬من يلتمس‬
‫بقوله أخذ شيء من يد غيره‪ ،‬أو إثبات حق في ذمته‪ .‬والمدعى عليه‪ :‬من ينكر ذلك (‪. )1‬‬
‫وللدعوى أهمية كبرى بدليل اتفاق الفقهاء على أن استيفاء الحقوق وتوقيع العقوبات من قصاص وحدّ‬
‫وتعزير ل يكون كقاعدة عامة إل بواسطة الدعوى‪ ،‬ول يستوفى الحق بغيرها وبغير القضاء إل في‬
‫أحوال استثنائية اضطرارية كالظفر بحق الدائن عند المدين المماطل‪.‬‬
‫ويتحدد نطاق الدعوى فيما اتفق عليه الفقهاء كما يأتي‪:‬‬
‫أولً ـ الحسبة والمظالم‪ :‬ل يشترط فيهما الدعاء‪ ،‬وإنما للمحتسب ووالي المظالم التصدي للنظر في‬
‫النزاع بمجرد اطلعه عليه‪.‬‬
‫ثانيا ـ حقوق ال تعالى‪ :‬وهي المتعلقة بمصلحة المجتمع كانتهاك الحرمات الدينية بالفطار في نهار‬
‫رمضان عمدا بغير عذر‪ ،‬والمجاهرة باللحاد‪ ،‬والخلل بنظام الزواج شرعا كزواج المسلمة بغير‬
‫مسلم‪ ،‬والعقد على المحارم من النساء‪ ،‬والعشرة الزوجية بعد الطلق البائن ثلثا‪ ،‬والعقد على المعتدة‬
‫من طلق أو وفاة‪ .‬وارتكاب الجرائم الموجبة لحد يتعلق بحق ال المحض كالزنا وشرب الخمر‬
‫ونحوهما‪ .‬هذه المور يجوز للقاضي النظر في شأنها من تلقاء نفسه إذا علم بها‪ ،‬أو ادعى أي مسلم‬
‫ولو لم يمسه المر شخصيا وإنما حسبة‪ ،‬كما تقدم في نظام الحسبة‪.‬‬
‫ثالثا ـ حقوق العباد (أي الفراد) الشخصية‪ :‬وهي التي تمس مصلحة شخصية للنسان‪ .‬وهذه ل‬
‫يختص القاضي بالنظر فيها بدون ادعاء صاحب الحق؛ لن القضاء وسيلة إلى الحق‪ ،‬وحق النسان‬
‫ل يستوفى إل بطلبه‪ .‬وتشمل هذه الحقوق ما يأتي‪:‬‬
‫أ ـ المعاملت والتصرفات المدنية من بيع وإيجار وشركة ونحوها‪.‬‬
‫ب ـ أحكام السرة المالية كالنفقة والمهر والسكنى‪.‬‬
‫وأما أحكام السرة غير المالية كادعاء النسب والبينونة والمحرمات والعشرة المحرمة‪ ،‬فل يشترط‬
‫فيها الدعوى‪.‬‬
‫جـ ـ الجرائم والعقوبات التي فيها حق للعبد‪ :‬كالقصاص والجروح وجرائم التعزير والقذف والسرقة‬
‫والحرابة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،224/6 :‬المغني لبن قدامة الحنبلي‪.271/9 :‬‬

‫( ‪)8/390‬‬

‫وحكم الدعوى المقبولة‪ :‬وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله‪ :‬ل‪ ،‬أو نعم‪ .‬فلو سكت‪ ،‬كان ذلك منه‬
‫إنكارا‪ ،‬فتقبل بينة المدعي‪ ،‬ويحكم بها على المدعى عليه‪ .‬فإذا أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى‪،‬‬
‫حكم القاضي عليه؛ لنه غير متهم في إقراره على نفسه‪ ،‬ويؤمر بأداء الحق لصاحبه‪ .‬وإن أنكر‪،‬‬
‫طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة‪ ،‬فإن أقام البينة قضى بها‪ ،‬لترجح جانب الصدق على‬
‫الكذب بالبينة‪ .‬وإن عجز المدعي عن تقدم البينة‪ ،‬وطلب يمين خصمه المدعى عليه‪ ،‬استحلفه القاضي‬
‫(‪ ، )1‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم في قصة خصمين‪« :‬ألك بينة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬فقال النبي‪ :‬فلك يمينه»‬
‫أي يمين المدعى عليه (‪. )2‬‬
‫المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق ‪:‬‬
‫إثبات الحق‪ :‬هو إقامة الحجة أمام القضاء على الحق أو حدوث الواقعة‪ .‬ول يمكن للقاضي الفصل في‬
‫أي خصومة أو قضية بمجرد الدعاء بدون إثبات بإحدى الوسائل الشرعية المتعددة وأهمها ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - ً 1‬الشهادة‪ :‬وهي شرعا إخبار صادق لثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء‪ .‬وهي حجة‬
‫المدعي لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬البينة على المدعي» (‪ )3‬وقوله أيضا لمدعٍ‪« :‬شاهداك أو‬
‫يمينه» (‪ . )4‬ونظام الشهادة محدد صراحة في القرآن الكريم‪{ :‬واستشهدوا شهيدين من رجالكم‪ ،‬فإن‬
‫لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة‪{ ]282/2:‬وأشهدوا ذوي عدل‬
‫منكم} [الطلق‪{ ]2/65:‬وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة‪{ ]282/2:‬ول يأب الشهداء‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الدر المختار‪ ،438/4 :‬اللباب شرح الكتاب‪ ،29/4 :‬تكملة فتح القدير‪ 151/6 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم والترمذي وصححه عن وائل بن حُجْر‪ ،‬في قصة الخصومة بين رجل من حضرموت‬
‫ورجل من كندة (نيل الوطار‪.)303/8 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي عن ابن عباس‪.‬‬
‫(‪ )4‬متفق عليه بين أحمد والشيخين عن الشعث بن قيس (نيل الوطار‪.)302/8 :‬‬

‫( ‪)8/391‬‬

‫إذا ما دعوا} [البقرة‪{ ]282/2:‬ول تكتموا الشهادة‪ ،‬ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة‪{ ]283/2:‬وأقيموا‬
‫الشهادة ل } [الطلق‪ .]2/65:‬والبحث في الشهادة يطول‪ ،‬أكتفي هنا بتعداد أهم شروطها؛ لن الفقهاء‬
‫اشترطوا شروطا لتحمل الشهادة وأدائها‪.‬‬
‫أما شروط تحمل الشهادة فهي ثلثة عند الحنفية (‪. )1‬‬
‫أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلً‪ ،‬أي مميزا‪ ،‬فل تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز‪.‬‬
‫ثانيها ـ أن يكون بصيرا وقت التحمل‪ ،‬فل يصح التحمل من العمى بسبب اختلط الصوات عليه‬
‫وجواز اشتباهها عليه‪ .‬وأجاز الحنابلة (‪ )2‬شهادة العمى فيما يسمع كالبيع والجارة وغيرهما إذا‬
‫عرف القاضي المتعاقدين وتيقن أنه كلمهما‪.‬‬
‫ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه‪ ،‬ل بغيره‪ ،‬إل فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس‬
‫والستفاضة‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم للشاهد‪« :‬إذا علمت مثل الشمس فاشهد‪ ،‬وإل فدع» (‪ )3‬ول‬
‫يتم العلم مثل الشمس إل بالمعاينة‪.‬‬
‫وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح‪ ،‬والنسب‪ ،‬والموت‪ ،‬ودخول الرجل على امرأته‪ ،‬وولية القاضي‪،‬‬
‫فللشاهد أن يشهد بهذه المور إذا أخبره بها من يثق به استحسانا؛ لن هذه المور يختص بمعاينة‬
‫أسبابها خواص الناس‪ ،‬ولو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع‪ ،‬لدى المر إلى الحرج وتعطيل الحكام‪.‬‬
‫والتسامع‪ :‬هو بأن يشتهر ذلك ويستفيض بين الناس‪ ،‬وتتواتر به الخبار‪ ،‬بأن يخبر الشاهد رجلن‬
‫عدلن أو رجل وامرأتان‪ ،‬ليحصل له نوع من العلم واليقين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،266/6 :‬الدر المختار‪.385/4 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ 58/9 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الخلل في الجامع بإسناده عن ابن عباس‪.‬‬

‫( ‪)8/392‬‬

‫وقال المالكية (‪ : )1‬تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة‪ :‬منها عزل قاض أو وال أووكيل‪ ،‬وكفر‪،‬‬
‫وسفه‪ ،‬ونكاح‪ ،‬ونسب‪ ،‬ورضاع‪ ،‬وبيع‪ ،‬وهبة‪ ،‬ووصية‪.‬‬
‫وأما شروط أداء الشهادة‪ :‬فكثيرة‪ ،‬منها في نفس الشهادة (‪ : )2‬وهي أن تكون بلفظ الشهادة‪ ،‬وأن‬
‫تكون موافقة للدعوى‪ ،‬ومنها في مكان الشهادة (‪ : )3‬وهي أن تكون في مجلس القضاء‪ ،‬ومنها فيما‬
‫يخص بعض الشهادات (‪ : )4‬وهي التعدد‪ ،‬أي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في الحقوق المدنية‬
‫والموال كالبيع والجارة ونحوهما‪ .‬والتفاق في الشهادة عند التعدد‪ ،‬فإن حدث اختلف في جنس‬
‫الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والخر بالميراث أو في القدر كأن يشهد أحدهما بألفين‪ ،‬والخر‬
‫بألف‪ ،‬أو في الفعل كالقتل والغصب‪ ،‬رفضت الشهادة‪.‬‬
‫ومنها وأهمها ما يشترط في الشاهد وهو سبعة شروط كما تقدم (‪: )5‬‬
‫أولها ـ أهلية العقل والبلوغ‪ :‬فل تقل شهادة المجنون والسكران والطفل‪.‬‬
‫ثانيها ـ الحرية‪ :‬فل تصح شهادة الرقيق على الحر‪.‬‬
‫ثالثها ـ السلم‪ :‬فل تقبل شهادة الكافر على مسلم؛ لنه متهم في حقه‪ ،‬وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة‬
‫الكافر في الوصية في السفر‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت‬
‫حين الوصية‪ :‬اثنان ذوا عدل منكم‪ ،‬أو آخران من غيركم} [المائدة‪.]106/5:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه‪ 198/4 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،273/6 :‬فتح القدير‪.10/6 :‬‬
‫(‪ )3‬المراجع السابقة‪ :‬البدائع‪ :‬ص ‪.279‬‬
‫(‪ )4‬المراجع السابقة‪ :‬البدائع‪ 277/6 :‬وما بعدها‪ ،‬فتح القدير‪ 52/6 :‬وما بعدها‪ ،‬الدر المختار‪:‬‬
‫‪ 504/4‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪ 267/6 :‬وما بعدها‪ ،‬بداية المجتهد‪ 451/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الدردير والدسوقي‪ ،165/4 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،427/4 :‬المغني‪.164/9 :‬‬

‫( ‪)8/393‬‬

‫رابعها ـ البصر‪ :‬فل تقبل شهادة العمى عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية‪ ،‬لنه ل بد من معرفة‬
‫المشهود له والشارة إليه عند الشهادة‪ ،‬ول يميز العمى ذلك إل بنغمة الصوت‪ ،‬وفيها شبهة؛ لن‬
‫الصوات تتشابه‪ .‬وأجاز المالكية والحنابلة وأبو يوسف شهادة العمى إذا تيقن الصوت‪ ،‬لعموم اليات‬
‫الواردة في الشهادة‪ ،‬ولن السمع أحد وسائط العلم‪.‬‬
‫خامسها ـ النطق‪ :‬فل تقبل شهادة الخرس عند الجمهور‪ ،‬وإن فهمت إشارته؛ لن الشهادة تتطلب‬
‫اليقين‪ .‬وأجاز المالكية قبول شهادة الخرس إذا فهمت إشارته؛ لنها تقوم مقام نطقه في طلقه‬
‫ونكاحه‪.‬‬
‫سادسها ـ العدالة‪ :‬فل تصح شهادة الفاسق باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى‪{ :‬وأشهدوا ذوي عدل منكم}‬
‫[الطلق‪.]2/65:‬‬
‫سابعها ـ عدم التهمة‪ :‬فترد شهادة المتهم بإجماع الفقهاء‪ .‬والتهمة‪ :‬أن يجلب الشاهد إلى المشهود له‬
‫نفعا أو ضررا بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة‪ ،‬فل تقبل شهادة الب لبنه‪ ،‬أو الم لبنها‪ ،‬ول‬
‫الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم‪ ،‬ول العدو على عدوه‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم‬
‫غمْر ـ حقد ـ‬
‫‪« :‬ل تقبل شهادة خصم ول ظنين» (‪« )1‬ل تجوز شهادة خائن ول خائنة ول ذي ِ‬
‫على أخيه‪ ،‬ول تجوز شهادة القانع لهل البيت» (‪ )2‬والقانع‪ :‬الذي ينفق على أهل البيت‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مالك في الموطأ موقوفا على عمر‪ ،‬وهو منقطع‪ ،‬ورواه آخرون مرسلً (نيل الوطار‪:‬‬
‫‪.)291/8‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر (‪.)128/4‬‬

‫( ‪)8/394‬‬
‫‪ - 2‬القرار‪ :‬وهو إخبار الشخص عن ثبوت حق للغير على نفسه‪ .‬وهو إما أن يكون بلفظ صريح‪،‬‬
‫مثل ( لفلن علي ألف درهم ) أو بلفظ ضمني‪ ،‬مثل‪ ( :‬لي عليك ألف درهم ) فيقول المخاطب‪ ( :‬قد‬
‫قضيتها ) أو ( أجلني بها ) أو ( أبرأتني منها )‪ .‬وقد اتفق الفقهاء (‪ )1‬على صحة القرار بحق من‬
‫الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره‪ .‬وشروط القرار هي ما يأتي‪:‬‬
‫أولها ـ أهلية العقل والبلوغ‪ :‬فل يصح إقرار المجنون والصبي غير البالغ‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬
‫والسلم‪« :‬رفع القلم عن ثلثة‪ :‬عن الصبي حتى يبلغ‪ ،‬وعن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن المجنون حتى‬
‫يفيق» (‪. )2‬‬
‫ثانيها ـ الطواعية أو الختيار‪ :‬فل يصح إقرار المستكره‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬إن ال تجاوز‬
‫لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (‪. )3‬‬
‫ثالثها ـ عدم التهمة‪ :‬فإن اتهم المقر بملطفة صديق أو نحوه بطل القرار‪.‬‬
‫رابعها ـ أن يكون المقر معلوما‪ :‬فلو قال رجلن‪« :‬لفلن على واحد منا ألف درهم» ل يصح‬
‫القرار‪ ،‬إذ ل فائدة من هذا القرار‪.‬‬
‫والقرار حجة قاصرة على المقر‪ ،‬ل يتعدى أثره إلى غيره‪ ،‬لقصور ولية المقر على غيره‪ ،‬فيقتصر‬
‫أثر القرار على المقر نفسه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،222/7 :‬تبيين الحقائق للزيلعي‪ ،3/5 :‬الدردير‪ ،397/3 :‬المهذب‪ ،343/2 :‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،238/2 :‬المغني‪.138/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة إل الترمذي عن السيدة عائشة رضي ال عنها‪،‬‬
‫وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه عن أبي ذر‪ ،‬ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ‪« :‬وضع عن أمتي‪. »..‬‬

‫( ‪)8/395‬‬

‫‪ - ً 3‬اليمين‪ :‬وهي الحلف بال تعالى أمام القاضي لثبات الحق أو الفعل‪ ،‬أو نفيهما‪ .‬وهي حجة‬
‫المدعى عليه‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم‪« :‬واليمين على المدعى عليه» (‪ ، )1‬فإن حلف المدعى‬
‫عليه‪ ،‬قضى القاضي بفصل الدعوى‪ ،‬وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من‬
‫إقامة البينة‪.‬‬
‫واتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف (‪ ، )2‬لقوله صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪« :‬اليمين على نية المستحلف» «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» (‪ . )3‬كما أنهم اتفقوا على‬
‫أن الشخص يحلف على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتا كان أو نفيا؛ لنه يعلم حال نفسه‪،‬‬
‫ويطلع عليها‪ ،‬فيقول في البيع مثلً حالة الثبات‪« :‬وال لقد بعت بكذا» وفي حالة النفي‪« :‬وال ما بعت‬
‫بكذا» ‪.‬‬
‫‪ - ً 4‬الكتابة‪ :‬وهي إثبات الحق بواسطة دليل كتابي معد مسبقا‪ .‬وهي حجة باتفاق الفقهاء‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة‪ ]282/2:‬والكتابة من قبيل‬
‫القرار‪ .‬وقد نص فقهاء الحنفية على أنه يعمل بدفتر السمار والصراف والبياع؛ لن كل واحد من‬
‫هؤلء ل يكتب في دفتره إل ماله وعليه (‪. )4‬‬
‫‪ - ً 5‬القرائن‪ :‬القرينة‪ :‬هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه‪ .‬وهي تتفاوت في القوة‬
‫والضعف‪ ،‬فقد تصل إلى درجة الدللة القطعية‪ ،‬كالدخان فإنه قرينة قطعية على وجود النار‪ .‬وقد‬
‫تضعف حتى تصير مجرد احتمال‪ .‬فإن كانت القرينة قطعية كانت بينة نهائية كافية للقضاء‪ ،‬كما لو‬
‫رئي شخص خارجا من دار وهو مرتبك وفي يده سكين ملوث بالدم‪ ،‬ووجد في الدار شخص مضرج‬
‫بدمائه‪ ،‬فيعتبر الخارج هو القاتل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس «أن النبي صلّى ال عليه وسلم قضى باليمين على‬
‫المدعى عليه» (نيل الوطار‪.)305/8 :‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪ ،20/3 :‬بداية المجتهد‪ ،403/1 :‬مغني المحتاج‪ ،321/4 :‬المغني‪.763/8 :‬‬
‫(‪ )3‬اللفظ الول رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة‪ ،‬والثاني رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‬
‫والترمذي‪.‬‬
‫(‪ )4‬مجمع الضمانات للبغدادي‪ :‬ص ‪ 365‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/396‬‬

‫وإذا كانت القرينة غير قطعية الدللة والبيان‪ ،‬ولكنها ظنية أغلبية كالقرائن العرفية‪ ،‬فإن الفقهاء‬
‫يعتمدونها دليلً أوليا مرجحا حجة الخصم مع يمينه‪ ،‬حتى يثبت خلفها بالبينة المعارضة‪.‬‬
‫والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملحظة الظروف المقارنة للواقعة‪ ،‬فل يمكن‬
‫حصرها وتحديدها‪ .‬ومنها الفراسة والقيافة‪ ،‬ووضع اليد‪ ،‬ووصف اللقطة‪ ،‬واللوث في الدماء‪ ،‬ودلئل‬
‫الحوال (‪. )1‬‬
‫‪ - ً 6‬العلم الشخصي للقاضي نفسه‪ :‬إذا اطلع القاضي على الحادثة‪ ،‬فهل له القضاء بعلم نفسه؟ اختلف‬
‫الفقهاء فيه‪.‬‬
‫قال متقدمو الحنفية‪ :‬يقضي القاضي بعلم نفسه‪ ،‬بالمعاينة أو بسماع القرار أو بمشاهدة الحوال على‬
‫النحو التي (‪: )2‬‬
‫له أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء وفي مكانه في الحقوق المدنية كالقرار بمال لرجل‪ ،‬أو‬
‫الحقوق الشخصية كطلق رجل امرأته‪ ،‬أو في بعض الجرائم‪ :‬وهي قذف رجل أو قتل إنسان‪ .‬ول‬
‫يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة ل عز وجل‪ ،‬إل أن في السرقة يقضي بالمال‪ ،‬ل‬
‫بحد القطع؛ لن الحدود يحتاط في درئها‪ ،‬وليس من الحتياط فيها الكتفاء بعلم القاضي‪.‬‬
‫فإن علم القاضي بالحادثة قبل أن يتسلم منصب القضاء‪ ،‬فل يقضي به عند أبي حنيفة؛ لن علمه حينئذ‬
‫ليس في معنى البينة‪ .‬ويقضي به في غير الحدود الخالصة ل عند الصاحبين‪ ،‬قياسا على جواز قضائه‬
‫فيما علمه في زمن القضاء‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬راجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لبن قيم الجوزية‪ :‬ص ‪،108 ،31،54،66 ،7 ،3‬‬
‫‪.214 ،113‬‬
‫(‪ )2‬المبسوط‪ ،93/16 :‬البدائع‪ ،7/7 :‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،332‬الدر المختار ورد المحتار‪:‬‬
‫‪.369/4‬‬

‫( ‪)8/397‬‬

‫وقال الشافعية (‪ )1‬مثل الحنفية تقريبا‪ :‬الظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل وليته أو في أثناء‬
‫وليته‪ ،‬أو في غير محل وليته‪ ،‬سواء أكان في الواقعة بينة أم ل‪ ،‬إل في حدود ال تعالى‪ ،‬فيقضي‬
‫في الموال‪ ،‬وفي القصاص وحد القذف‪ ،‬لنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان‪ ،‬فقضاؤه بعلمه‬
‫أولى‪.‬‬
‫وأما الحدود الخالصة ل كالزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر‪ ،‬فل يقضي بعلمه فيها؛ لنها تدرأ‬
‫بالشبهات‪ ،‬ويندب سترها‪.‬‬
‫وقال متأخرو الحنفية والشافعية‪ :‬المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا في زماننا لفساد‬
‫قضاة الزمان‪.‬‬
‫وقال المالكية والحنابلة (‪ : )2‬ل يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ول غيره‪ ،‬ل فيما علمه قبل الولية‬
‫ولبعدها‪ .‬ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء‪ ،‬بأن أقر الشخص بين يديه طائعا‪.‬‬
‫ودليلهم قوله صلّى ال عليه وسلم في الحديث المتقدم‪« :‬إنما أنا بشر‪ ،‬وإنكم تختصمون إلي‪ ،‬ولعل‬
‫بعضكم أن يكون ألحن ـ أي أفطن ـ بحجته من بعض‪ ،‬فأقضي بنحو مما أسمع‪ ،‬فمن قضيت له من‬
‫حق أخيه شيئا‪ ،‬فل يأخذه‪ ،‬فإنما أقطع له قطعة من النار» فدل على أنه يقضي بما يسمع‪ ،‬ل بما يعلم‪.‬‬
‫وقال النبي صلّى ال عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي السابقة‪« :‬شاهداك أو يمينه‪ ،‬ليس لك‬
‫منه إل ذاك» ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.398/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الدردير والدسوقي‪ ،154/4 :‬بداية المجتهد‪ 458/2 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 53/9 :‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/398‬‬

‫‪ - ً 7‬الخبرة والمعاينة‪ :‬الخبرة‪ :‬هي العتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي‪.‬‬
‫والمعاينة‪ :‬هي العتماد على ما يشاهده القاضي بنفسه أو بنائبه من محل النزاع الذي يختصم فيه‬
‫الخصمان‪ .‬وهذان يجوز الثبات بهما باتفاق الفقهاء‪.‬‬
‫‪ - ً 8‬كتاب القاضي إلى غيره‪ :‬اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما‬
‫ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه‪ .‬فقد يكون لمرئ حق في غير بلده‪ ،‬ول يمكنه إتيانه‬
‫والمطالبة به إل بكتاب القاضي‪ ،‬بشرط أن يشهد شاهدان عدلن على أن الكتاب المرسل هو كتاب‬
‫قاض‪ ،‬وأن يشهدهم بثبوت الحكم عنده على نحو معين‪ .‬وذلك في الحقوق المدنية كالديون‪ ،‬أو‬
‫الشخصية كالنكاح (‪. )1‬‬
‫وأجاز المام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضا (‪. )2‬‬
‫هذه هي إجمالً أهم وسائل الثبات الشرعية التي يعتمد عليها القاضي لفصل النزاع‪ ،‬ويظهر منها أن‬
‫البينة تظهر الحق باتفاق الفقهاء بشرط ثبوت عدالة الشهود عند القاضي‪ ،‬وكذلك القرار حجة مطلقة؛‬
‫لن النسان غير متهم بالقرار على نفسه كاذبا‪ .‬واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي ل بان له‪.‬‬
‫ويثبت بها عند المام مالك حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،95/16 :‬فتح القدير‪ ،477/5 :‬المهذب‪ ،304/2 :‬المغني‪ ،90/9 :‬مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.452/4‬‬
‫(‪ )2‬بداية المجتهد‪ ،458/2 :‬الدردير‪.159/4 :‬‬

‫( ‪)8/399‬‬

‫المرحلة الثالثة ـ الحكم القضائي ‪:‬‬


‫الحكم‪ :‬هو فصل الخصومة وحسم النزاع بقول أو بفعل يصدر عن القاضي بطريق اللزام‪ .‬وهو‬
‫يعتمد أساسا على حجية الثبات التي تتوافر لدى القاضي‪ .‬ويعتبر غاية القضاء ورمز العدالة‪ .‬وينبغي‬
‫ـ كما بان في آداب القاضي ـ مراعاة أمرين قبل إصداره‪.‬‬
‫أولهما ـ مصالحة الخصمين‪ :‬فل بأس للقاضي أن يرد الخصوم إلى الصلح‪ ،‬إن تأمل منهما‬
‫المصالحة لقوله تعالى‪{ :‬والصلح خير} [النساء‪ ]128/4:‬فكان طلب الصلح طلبا للخير‪ .‬وقال سيدنا‬
‫عمر‪« :‬ردوا الخصوم حتى يصطلحوا‪ ،‬فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن» ‪.‬‬
‫ثانيهما ـ مشاورة الفقهاء‪ :‬يندب للقاضي أن يجلس معه جماعة من الفقهاء يشاورهم ويستعين برأيهم‬
‫فيما يجهله من الحكام‪ ،‬أو يشكل عليه من القضايا‪ .‬قال تعالى‪{ :‬وشاورهم في المر} [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]159/3‬وعن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪« :‬ما رأيت أحدا بعد رسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫أكثر مشاورة لصحابه منه» (‪. )1‬‬
‫فإن اتفق رأي الفقهاء على أمر قضى به‪ ،‬كما فعل الراشدون‪ ،‬وإن اختلفوا أخذ بأحسن أقاويلهم‬
‫وقضى بما رآه صوابا‪ ،‬إل أن يكون غيره أفقه منه‪ ،‬فيجوز له الخذ برأيه وترك رأيه الشخصي‪.‬‬
‫وهناك أوصاف للحكم تراعى في السلم وهي‪:‬‬
‫أولً ـ المسارعة إلى إصدار الحكم بعد ثبوت الحق أمام القاضي‪ ،‬ول يجوز تأخيره إل في حالة‬
‫الريبة‪ ،‬ورجاء الصلح بين القارب‪ ،‬وإمهال المدعى عليه فترة محدودة لرد الشهادة‪.‬‬
‫ثانيا ـ إصدار الحكم حضور يا أمام الخصوم‪ .‬إذ ل يجيز الحنفية كما تقدم القضاء على الغائب إل‬
‫لضرورة أو مصلحة‪ .‬وأجاز غير الحنفية القضاء على الغائب وإصدار الحكم الغيابي على المدعى‬
‫عليه‪.‬‬
‫ثالثا ـ تعليل الحكام‪ :‬يفضل كون الحكم معللً مبينا في أسبابه التي بني عليها‪.‬‬
‫رابعا ـ تدوين الحكام‪ :‬جرى القضاة على تسجيل الحكام في سجلت بدءا من العهد الموي‪ ،‬حفاظا‬
‫عليها‪ ،‬وحرصا على تنفيذها‪.‬‬
‫تنفيذ الحكام‪ :‬اتفق الفقهاء على أمرين خطيرين في التنفيذ وهما‪:‬‬
‫‪ - 1‬حق التنفيذ منوط بالحاكم‪ ،‬أي السلطة التنفيذية في الدولة‪.‬‬
‫‪ - 2‬منع الثأر والنتقام الشخصي أوعدم وجود أي سلطة شخصية لصاحب الحق على المسؤول‪.‬‬
‫ففي نطاق العقوبات الجنائية‪ :‬الدولة هي المختصة بتطبيق العقاب الجزائي‪ ،‬سواء أكان مقدرا أم غير‬
‫مقدر‪ ،‬حدا أو تعزيرا أو قصاصا‪ .‬وذلك حفظا للنظام ومنع الفوضى ودرء الفساد وانتشار المنازعات‬
‫بين الناس وإبطال عادة الخذ بالثأر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي‪.‬‬

‫( ‪)8/400‬‬

‫فل يجوز لي إنسان عادي القيام بتنفيذ العقوبة الجنائية‪ ،‬من قصاص وجلد وقطع وحبس وتوبيخ‬
‫وتشهير أوتجريس‪ ،‬وإذا أراد ولي الدم وهو وارث القتيل ضرب رقبة القاتل‪ ،‬فيتم القصاص بإشراف‬
‫الدولة‪ ،‬دون أن يكون له الحق في إثبات الجريمة‪ ،‬وإصدار حكم القصاص‪ .‬وتمكين مستحق القصاص‬
‫من استيفائه بإشراف الحاكم منوط بكونه يحسن القتل‪ ،‬ففيه شفاء للم المصاب‪،‬دون ضرر بالجاني‪،‬‬
‫وربما يكون ذلك أدعى لرحمة صاحب الحق وعفوه عن القاتل عندما يراه تحت سلطته‪ ،‬وعلى‬
‫القاضي أن يتفقد آلة القتل منعا للتعذيب (‪ ، )1‬أي أن تدخل ولي الدم يقتصر على الدور الذي يقوم به‬
‫الجلد أو السياف‪ ،‬دون أن يكون له الحق في تسلم القاتل يفعل به كما يرى‪ ،‬كما تصور بعض‬
‫الجاهلين‪.‬‬
‫وفي نطاق القضايا المدنية‪ :‬يقتصر حق الدائن على المطالبة بحقه بالتراضي‪ ،‬أو بواسطة رفع الدعوى‬
‫إلى القضاء لستصدار حكم يجبر المدين على إيفاء دينه في حال يساره وقدرته على الوفاء بالتزامه‪.‬‬
‫وينتظر في حال إعساره وعجزه‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة‪:‬‬
‫‪.]280/2‬‬
‫وللقاضي إجبار المدين على الوفاء بدينه بأحد الوسائل التية‪ :‬الحبس‪ ،‬والحجر‪ ،‬والبيع الجبري‪.‬‬
‫أما الحبس فمشروع إذا امتنع المدين الموسر عن الوفاء بدينه‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪ « :‬ليّ‬
‫الواجد يحل عرضه وعقوبته» (‪ )2‬أي أن مماطلة الغني تجيز الطعن به ومعاقبته‪ .‬ويؤيده حديث‬
‫آخر‪« :‬مَطْل الغني ظلم» (‪. )3‬‬
‫ويظل المدين المماطل عند أبي حنيفة محبوسا حتى يوفي دينه‪ .‬وقال صاحباه وبقية أئمة المذاهب‪:‬‬
‫يحبس للتضييق عليه‪ ،‬فإذا لم يؤد الدين يحجر عليه ويباع ماله جبرا عنه‪ ،‬ويقسم بين الدائنين قسمة‬
‫غرماء‪ .‬وإذا ثبت إعساره يفرج عنه‪ .‬ونظرة الميسرة والفراج حال العسار دليل على أن الحبس‬
‫مجرد وسيلة إكراه على الوفاء بالدين‪ ،‬وليس تنفيذا على شخص المدين‪ ،‬كما هو الحال عند الرومان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر نظرية الضمان للمؤلف‪ :‬ص ‪ 299‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشريد‪ ،‬وعلقه البخاري‪ ،‬وصححه ابن حبان‪ ،‬وأخرجه‬
‫أحمد وابن ماجه والبيهقي (سبل السلم‪.)55/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الجماعة‪( :‬أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة (نيل الوطار‪.)236/5 :‬‬

‫( ‪)8/401‬‬

‫وأما الحجر على المدين (أي منعه من التصرف بماله تصرفا يضر بمصلحة الدائنين) فأجازه صاحبا‬
‫أبي حنيفة إذا كانت ديونه مستغرقة أمواله‪ ،‬أو كان يماطل في الوفاء بديونه‪ .‬وأفتى به متأخرو الحنفية‬
‫سدا للذرائع‪ ،‬أي حماية لمصلحة الدائنين من تصرفات المدين التي تضر بحقوقهم‪ ،‬وعملً بقوله صلّى‬
‫ال عليه وسلم ‪« :‬لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» ‪.‬‬
‫وأيد الحجر فقهاء المالكية والمتأخرون من فقهاء المذهب الحنبلي استحسانا‪ .‬ووافق المام الشافعي‬
‫على جواز الحجر على المدين إذا كانت ديونه مستغرقة‪ .‬وأما في حالة مماطلته فل يرى لزوما له؛‬
‫لن القاضي يستطيع الحكم عليه ببيع أمواله جبرا عنه‪ ،‬وإيفاء ديونه من ثمنها‪.‬‬
‫ول حجر على المدين المعسر‪ ،‬كما ل حبس عليه كما سبق‪ .‬وأما بيع مال المدين جبرا عنه فهو جائز‬
‫عند الفقهاء الذين أجازوا الحجر عليه في الحالتين السابقتين‪.‬‬
‫فقد أجاز صاحبا أبي حنيفة بيع أموال المدين إذا قرر القاضي الحجر عليه‪ ،‬ولم يجد مسوغا لتأجيل‬
‫البيع‪ ،‬أو متى طلب الدائنون ابتدءً ذلك‪ ،‬وأبدوا أسبابا معقولة لطلبهم‪ .‬ويقسم الثمن بين الدائنين قسمة‬
‫غرماء‪.‬‬
‫ووافق المالكية على رأي الصاحبين‪ ،‬وأجاز الشافعي والحنابلة بيع المال ابتداء للمدين الموسر دون‬
‫حجر عليه‪.‬‬
‫ويتم البيع في جميع الحوال بمعرفة القاضي وبحضور الدائنين والمدين وفي سوق السلعة‪ ،‬أو في‬
‫غير سوقها بثمن المثل‪ ،‬وبالمزاد العلني للوصول إلى أعلى سعر ممكن‪.‬‬
‫هذه هي أهم قواعد نظام القضاء في السلم‪ ،‬أوجزتها في بحث نظام الحكم في السلم‪ ،‬وقد كنت‬
‫فصّلت الكلم في القضاء وطرق إثبات الحق في الباب الخامس المتقدم‪.‬‬
‫( ‪)8/402‬‬

‫صلُ الرّابع‪ :‬الدّولة السلميّة‬


‫ال َف ْ‬
‫نشأتها‪ ،‬وظائفها‪ ،‬علقاتها الخارجية‪ ،‬حصاناتها‪ ،‬زوالها‬
‫يشتمل هذا الفصل على مبحث تمهيدي وخمسة مباحث أصلية‪:‬‬
‫المبحث التمهيدي ـ مقدمات‬
‫المطلب الول ‪:‬‬
‫أولً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار السلم ولمفهوم الدولة الحديث‪.‬‬
‫ثانيا ـ التمييز بين المفهومين‪.‬‬
‫ثالثا ـ اتجاه تطور كل من المفهومين‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬عن طريق من بحثوا في تطبيق مفهوم الدولة الحديث على مبادئ السلم السياسية والواقع‬
‫التاريخي لسيادة هذه المبادئ‪.‬‬
‫‪ - 2‬وعن طريق من بحثوا أو حاولوا تقديم صورة حديثة لهذا المصطلح للتطبيق في هذا العصر‪3 .‬‬
‫‪ -‬هل يوجب السلم إقامة دولة؟‬
‫المبحث الول ـ أركان الدولة السلمية ونشأتها وشخصيتها ‪:‬‬
‫المطلب الول‪ :‬أركان الدولة السلمية ‪:‬‬
‫الركن الول ـ الشعب ‪:‬‬
‫ل ـ موقع هذا الركن ماديا‪ ،‬وأساسيته في مفهوم الدولة السلمية‪.‬‬
‫أو ً‬
‫ثانيا ـ بيان اختلف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن السلم يقرر‬
‫«اللعنصرية» ‪.‬‬
‫الركن الثاني ـ القليم ‪:‬‬
‫ل ـ موقع هذا الركن ماديا وبيان اختلفه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن‬
‫أو ً‬
‫السلم يقرر «الل إقليمية» ‪.‬‬
‫ثانيا ـ مشمول إقليم الدولة‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما هو جزء أساسي من القليم‪:‬‬
‫أ ـ الرض‪.‬‬
‫ب ـ النهار الوطنية‪.‬‬
‫جـ ـ المياه الساحلية ـ المنطقة الملصقة ـ المتداد القاري ـ المياه الداخلية (موانئ وخلجان‬
‫وبحار داخلية)‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما هو امتداد أو ملحق بالقليم اعتبارا‪ :‬وسائل النقل الدولية‪( :‬السفن‪ ،‬القطارات‪ ،‬الطائرات)‪.‬‬
‫‪ - 3‬ما يعتبر أصلً جزءا من إقليم الدولة‪ ،‬ولكن تترتب عليه حقوق ارتفاق لدولة أو لدول أخرى‪:‬‬

‫( ‪)8/403‬‬

‫أ ـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من النهار الدولية‪.‬‬


‫ب ـ طبقات الجو عموديا وما تستتبعه من حقوق في الملحة الجوية والمواصلت والذاعات‬
‫(اللسلكية)‪.‬‬
‫‪ - 4‬القاليم المشتركة بين عدة دول‪.‬‬
‫‪ - 5‬ما ل يعتبر جزءا من القليم ول تتناوله سيادة دولة ما‪ ،‬ويمكن اعتباره امتدادا مشتركا مشاعا‬
‫لقليم كل دولة‪ ،‬وتعتبر فيه حقوق مشاعة أو مرافق مشتركة يباح فيها مال يضر بالخرين دون ما‬
‫يضر كتلويث مياه البحار والجو بالشعاع النووي وغيره‪:‬‬
‫أ ـ أعالي البحار‪.‬‬
‫ب ـ الفضاء الكوني‪.‬‬
‫الركن الثالث ـ السيادة ‪:‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 1‬نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة‪.‬‬
‫‪ - 2‬تمييز السيادة عما يشتبه بها كالسلطة الفعلية غير الصلية‪ ،‬وكحق الملكية وحقوق الرتفاق‪.‬‬
‫ل ـ موقع هذا الركن اعتباريا في الدولة السلمية وبيان اختلفه عن نظيره في المفهوم الحديث‬
‫أو ً‬
‫للدولة من حيث إن السلم يقرر أن الحاكمية ل ‪.‬‬
‫ثانيا ـ نصاب هذه الحاكمية أو حدها الدنى في التحقق‪ ،‬والفرق بينه وبين الحد الدنى في تطبيق‬
‫أحكام السلم لتحقق مفهوم دار السلم‪.‬‬
‫ثالثا ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء دار السلم؟‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ نشأة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها‬
‫أولً ـ طرق نشأة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 1‬نشوء جديد كلية‪.‬‬
‫‪ - 2‬نشوء جديد من عناصر قديمة‪.‬‬
‫ثانيا ـ العتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي‬
‫النوع الول ـ العتراف الكامل ‪:‬‬
‫‪ - 1‬بالدولة‪.‬‬
‫‪ - 2‬بالحكومة واستلزامه العتراف بالدولة‪.‬‬
‫النوع الثاني ـ العتراف الناقص أو التمهيدي ‪:‬‬
‫‪ - 1‬بالمة‪.‬‬
‫‪ - 2‬بالثورة‪.‬‬
‫‪ - 3‬بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى)‪.‬‬
‫النوع الثالث ـ العتراف بحالة الحرب‪:‬‬
‫ثالثا ـ شخصية الدولة السلمية ‪:‬‬
‫إيضاح الشخصية العتبارية للدولة‪ ،‬وبيان موقع الدولة في الذروة من أنواع الشخص العتباري‪.‬‬

‫( ‪)8/404‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬خصائص الدولة السلمية ومقارنتها بالدولة الحديثة ‪:‬‬


‫المطلب الول ـ خصائص الدولة السلمية ‪:‬‬
‫ل ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لصلح الحياة البشرية‪.‬‬
‫أو ً‬
‫ثانيا ـ كون غايتها أداء رسالة السلم وجوبا اعتقاديا‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ مقارنتها بالدولة الحديثة ‪:‬‬
‫أولً ـ بيان مدى ارتباط الدول الحديثة بالمبادئ والديان‪.‬‬
‫ثانيا ـ مقارنة بالدولة الشيوعية‪ .‬المبحث الثالث ‪ -‬وظيفة دولة السلم‪ :‬تمهيد ‪:‬‬
‫دراسة مختلف التعاريف التي وضعها العلماء في هذا الصدد‪.‬‬
‫الوظيفة الولى ـ وظيفتها في الداخل ‪:‬‬
‫أولً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات المجتمع‪.‬‬
‫‪ - 1‬المحافظة على المن والنظام‪.‬‬
‫‪ - 2‬تنظيم القضاء وإقامة العدل‪.‬‬
‫‪ - 3‬إدارة المرافق العامة‪.‬‬
‫‪ - 4‬العداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع السلحة‪.‬‬
‫ثانيا ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة السلمية وأهدافها‪:‬‬
‫‪ - 1‬تقوية وحدة المة وتعاونها وأخوة أبنائها‪.‬‬
‫‪ - 2‬تحقيق المصالح الساسية التي تدور عليها الشريعة (وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل‬
‫والمال)‪.‬‬
‫‪ - 3‬عمارة الرض‪.‬‬
‫‪ - 4‬صيانة الداب السلمية‪.‬‬
‫‪ - 5‬إقامة العدالة الجتماعية‪.‬‬
‫‪ - 6‬تحقيق الحياة الطيبة للفراد بالنظر السلمي‪.‬‬
‫‪ - 7‬تحقيق المجتمع الخيّر‪.‬‬
‫‪ - 8‬العمل باستمرار على تحقيق الفضل والصلح والمثل في جميع نواحي الحياة النسانية‪.‬‬
‫‪ - 9‬إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج‪.‬‬
‫الوظيفة الثانية ـ وظيفتها في الخارج ‪:‬‬
‫أولً ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدفاع عن أراضي السلم وتحرير شعوبه‪ ،‬وحماية أقلياته‪.‬‬
‫‪ - 2‬دعم التعاون بين أقاليم الدولة السلمية‪ ،‬وتحقيق أقصى روابط الوحدة والتنسيق بينها في‬
‫المجالت السياسية والعسكرية والقتصادية والثقافية‪ ،‬وحل خلفاتها بصورة منظّمة‪.‬‬
‫‪ - 3‬دعم السلم العالمي‪.‬‬
‫‪ - 4‬دعم مبادئ كرامة النسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع‪.‬‬

‫( ‪)8/405‬‬

‫ثانيا ـ وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة السلمية وأهدافها‪:‬‬


‫‪ - 1‬التعاون مع المخلصين من غير المسلمين؛ سواء أكانوا من أهل الكتاب أم من غير أهل الكتاب‪.‬‬
‫‪ - 2‬الدعوة إلى السلم‪.‬‬
‫‪ - 3‬دفع شبهات الكنيسة والمستشرقين والملحدة عموما‪ ،‬والشيوعيين خاصة‪.‬‬
‫المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج‬
‫ـ شرح المراد بالحصانة وتاريخ هذا الصطلح‬
‫المطلب الول ـ ما تشمله الحصانات والعفاءات ‪:‬‬
‫شخصية الدولة ـ سفنها ـ وكالتها ومؤسساتها ـ وحداتها السياسية ـ سفاراتها‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ أنواع الحصانات والعفاءات ‪:‬‬
‫أولً ـ الحصانة القضائية‪.‬‬
‫ثانيا ـ الحصانة المالية‪.‬‬
‫ثالثا ـ الستثناءات‪:‬‬
‫أ ـ النشاط التجاري ـ الملكية الخاصة‪.‬‬
‫ب ـ حالة رضا الدولة‪.‬‬
‫المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة السلمية وزوالها وآثار ذلك‬
‫المطلب الول ـ حالة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫النوع الول ‪ :‬التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬بالنقلب‪.‬‬
‫‪ - 2‬بحرب أهلية‪.‬‬
‫‪ - 3‬بالثورة ـ الفرق بين النقلب والثورة‪ .‬النوع الثاني‪ :‬التغيير في النطاق القليمي (إضافة‬
‫وانتقاصا)‪.‬‬
‫أولً ـ بما ل يمس إقليم دولة أخرى‪:‬‬
‫‪ - 1‬بالضافة‪.‬‬
‫‪ - 2‬بالستيلء على أرض غير خاضعة لدولة أخرى‪.‬‬
‫ثانيا ـ بما يمس إقليم دولة أخرى‪:‬‬
‫‪ - 1‬بطريق المعاهدة‪.‬‬
‫‪ - 2‬بطريق التقادم‪.‬‬
‫‪ - 3‬بالفتح عند قيام موجباته بالنظر السلمي (الجهاد)‪.‬‬
‫المطلب الثاني ـ زوال الدولة السلمية ‪:‬‬
‫أولً ـ الزوال الكلي بزوال واحد أو أكثر من أركان الدولة السلمية‪.‬‬
‫ثانيا ـ الزوال الجزئي بالتجزؤ وزوال وحدة السيادة‪.‬‬
‫موقف السلطة العليا الصلية في الحالت التية‪:‬‬
‫أ ـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل‪.‬‬
‫ب ـ حالة العجز عن إخضاعه وما تحتها من احتمالت‪:‬‬
‫‪ - 1‬إذا كان الجزء المنفصل معترفا بالسلطة العليا الصلية وبارتباطه بها ولو اسما‪.‬‬
‫‪ - 2‬إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا‪ ،‬بل يدعي أنه هو صاحبها‪.‬‬
‫المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خَلَفها (التعاقب )‬
‫أولً ـ أثره في المعاهدات‪.‬‬
‫ثانيا ـ أثره في ديون الدولة‪.‬‬
‫ثالثا ـ أثره في أملك الدولة‪.‬‬
‫رابعا ـ أثره في التشريع‪.‬‬
‫خامسا ـ أثره في الحكام القضائية‪.‬‬
‫سادسا ـ أثره في جنسية الفراد‪.‬‬

‫( ‪)8/406‬‬

‫المبحث التمهيدي‪ :‬مقدمات‬


‫وفيه مطلبان‪:‬‬
‫المطلب الول ‪:‬‬
‫أولً ـ المنشأ التاريخي لمفهوم دار السلم ولمفهوم الدولة الحديث ‪:‬‬
‫فقرة ‪ 1‬ـ كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة (يثرب) وما سبقها من بيعتي العقبة أساسا في نشأة‬
‫أو تكوين الدولة السلمية‪ ،‬أو دار السلم في اصطلح فقهائنا؛ إذ بذلك تميزت شخصية المسلمين‬
‫عن المشركين‪ ،‬وتوطدت لهم في المدينة الدعائم الولى للمن والستقرار‪ ،‬وبرزت السلطة السياسية‬
‫للنبي‪ ،‬وهذه السلطة تعتبر الن هي العنصر الجوهري في تكوين الدولة (‪. )1‬‬
‫وكان من مظاهر ممارسة النبي عليه السلم لتلك السلطة أنه قام بموادعة اليهود في المدينة حينما‬
‫كتب كتابا بين المهاجرين والنصار‪ ،‬وادع فيه يهود‪ ،‬وعاهدهم على دينهم وأموالهم‪ ،‬وشرط لهم‪،‬‬
‫واشترط عليهم (‪. )2‬‬
‫وبدأ التشريع القرآني ينظم أوضاع الجماعة السلمية لتدبير شؤونها وسياسة ملكها‪ ،‬وكان النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم يمارس سلطانه السياسي في تنفيذ القوانين والنظمة المشرعة‪ ،‬وتأديب العصاة‪،‬‬
‫ومعاقبة الجناة‪ ،‬وعقد التفاقات أو المعاهدات ومحاربة العداء؛ إذ أنه بعد اثني عشر شهرا من مقدمه‬
‫عليه السلم إلى المدينة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظم السياسية للدكتو ثروت بدوي‪.37/1 :‬‬
‫(‪ )2‬سيرة ابن هشام‪ :‬المجلد الول‪ ،501/‬ط الحلبي‪ .‬ولقد كان هذا التفاق على إنشاء (أمة) واحدة من‬
‫أعجب التفاقات التي عرفها التاريخ من هذا النوع‪.‬‬

‫( ‪)8/407‬‬

‫وقعت أول غزوة في السلم‪ :‬وهي غزوة البواء التي خرج فيها الرسول صلّى ال عليه وسلم يريد‬
‫قريشا‪ ،‬فوادعته بنو ضمرة بودّان (‪. )1‬‬
‫الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ السلم تمخص عنها ميلد دولة جديدة لم يعرف لهامثال‬
‫سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلح (دار السلم)‪ ،‬لن اصطلح (الدولة) لم يكن معروفا‬
‫وقتذاك‪ ،‬ولنه كان هناك تلزم بين مفهومي الدولة ودار السلم‪.‬‬
‫ويلحظ أنه تميزت دولة دار السلم في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع كل من استجاب لدعوة‬
‫السلم‪ ،‬وآمن برسالة محمد صلّى ال عليه وسلم على أساس أن حكم السلم أو شرعه يسودها‪ ،‬وإن‬
‫وليته الشخصية تمتد إلى مختلف القاليم السلمية (‪. )2‬‬
‫فقرة ‪ 2‬ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلل القرنين السادس عشر والسابع عشر‬
‫بعد أن تحطمت السلطة البابوية‪ .‬وانهار النظام القطاعي‪ ،‬أو مبدأ الزعامات القطاعية الذي كان يقوم‬
‫على الجمع بين ملكية الرض وبعض المتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلً‪ ،‬دون أن‬
‫يكون للملك سلطة حقيقية إل على أرضه التي اقتطعها لنفسه‪ .‬وقد أدى تجمع سكان القطاعات إلى ما‬
‫يدعى بالمة كالمة اليطالية والمة الفرنسية‪ ،‬ثم تولد عن ذلك ما يعرف بالدولة بوجود سلطة‬
‫سياسيةفي المجتمع‪ ،‬لن السلطة السياسية هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية‪.‬‬
‫وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة‪ ،‬وتوطدت أركانها القتصادية‪ ،‬كما حدث في‬
‫إنجلترا وفرنسا وأسبانيا‪ ،‬والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج‪ ،‬والمجر وبولندة وروسيا‪ ،‬وأصبحت‬
‫القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ول تخضع لسلطة عليا أخرى‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سيرة ابن هشام‪.590/1 :‬‬
‫(‪ )2‬أحكام القانون الدولي في الشريعة السلمية للدكتور حامد سلطان‪ :‬ص ‪.157‬‬

‫( ‪)8/408‬‬
‫وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة (‪ )1648‬م‪ ،‬وكانت مقصورة في أول المر‬
‫على دول غرب أوربا‪ ،‬ثم انضمت إليها سائر الدول المسيحية‪ ،‬غير الوربية‪ ،‬ثم اتسعت في سنة‬
‫‪ 1856‬م فشملت تركيا الدولة السلمية ودولً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (‪. )1‬‬
‫ثانيا ـ التمييز بين مفهومي دار السلم والدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ على الرغم مما كان قائما من وجود التلزم بين مفهومي دار السلم والدولة السلمية‪ ،‬فإن‬
‫دار السلم تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الرض أو القليم) (‪ )2‬وأما الدولة‬
‫السلمية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو الستقلل) والشخصية المعنوية ذات الهلية والذمة‬
‫المالية المستقلة عن ذمة أشخاص رعاياها‪ ،‬فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (‪. )3‬‬
‫وكانت الدولة السلمية مستقلة ل تخضع لي سلطة أخرى‪ ،‬كما كانت مستقلة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مبادئ القانون الدولي العام للدكتور حافظ غانم‪ :‬ص ‪ 46‬ومابعدها‪ ،‬النظم السياسية المرجع‬
‫السابق‪ :‬ص ‪ 23‬وما بعدها‪ ،‬و ‪.37‬‬
‫(‪ )2‬يتضح ذلك من مفهوم دار السلم‪ :‬وهي كما قال أبو منصور البغدادي‪ :‬كل دار ظهرت فيه‬
‫دعوة السلم من أهله بل خفير ول مجير ول بذل جزية‪ ،‬ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن‬
‫كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة (ر‪ :‬كتاب أصول الدين لبي منصور عبد القاهر‬
‫بن طاهر التميمي البغدادي المتوفى سنة ‪429‬هـ ‪ :‬ص ‪ ،270‬ور أيضا‪ :‬دار السلم ودار الحرب‪،‬‬
‫بحث المؤلف)‪.‬‬
‫(‪ )3‬ر‪ :‬المدخل إلى نظرية اللتزام العامة في الفقه السلمي للستاذ مصطفى الزرقاء‪ :‬ف ‪.187‬‬

‫( ‪)8/409‬‬

‫عن أشخاص الحكام فيها‪ ،‬وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائبا عن المة (‪ . )1‬وهذا هو‬
‫المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية‬
‫سندها ل في إنسان‪ ،‬ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والستقرار والستقلل عن‬
‫أشخاص الحكام أنفسهم (‪. )2‬‬
‫ثالثا ـ اتجاه تطور مفهومي دار السلم والدولة الحديثة ‪:‬‬
‫‪ - 4‬المبدأ أو الصل الفقهي أن تكون دولة السلم أو دار السلم موحدة السياسة وشاملة لجميع‬
‫القاليم السلمية‪ ،‬وذلك لتحقيق غاية السلم الساسية‪ :‬وهي قوة السلم والمسلمين بأن يكونوا‬
‫جميعا يدا واحدة‪ ،‬فيتجهون‪ ،‬اتجاها واحدا‪ ،‬وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع‪.‬‬
‫وقد ظلت الخلفة أو الدولة السلمية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلثة الولى‬
‫الهجرية‪ ،‬ثم تجزأت دار السلم خلفا للمبدأ السابق‪ ،‬فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية‪،‬‬
‫وانقسمت الخلفة العباسية إلى دويلت‪ :‬في العراق نفسها‪،‬وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية‪ ،‬ثم‬
‫فيما بعد في الندلس‪ ،‬فظهرت في أسبانيا الدولة الموية الثانية ( ‪ 423-317‬هـ )‪ ،‬وقامت الخلفة‬
‫الفاطمية (‪ 567-297‬هـ )‪ ،‬في المغرب‪ ،‬ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين ال سنة (‪362‬‬
‫هـ)‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر‪ :‬للتفصيل موضوع دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪ :‬ف‪.20/‬‬
‫(‪ )2‬ثروت بدوي‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 24‬وما بعدها‪ .‬ومن المعلوم الن أن من خصاص الدولة‬
‫تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية‪ ،‬ومن ثم فهي تلزم وتلتزم كالشخاص الطبيعيين‬
‫تماما‪ ،‬ويترتب على العتراف للدولة بالشخصية القانونية‪ ،‬علوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل‬
‫اللتزامات تأكيد النفصال بين الحاكم والسلطة‪ ،‬أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص‬
‫الحكام الذين يمارسون السلطة‪ ،‬وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والستقرار (ثروت بدوي‪ :‬ص ‪52‬‬
‫وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها السلم كما تقدم‪.‬‬

‫( ‪)8/410‬‬

‫وهكذا وجدت في وقت واحد ثلث خلفات إسلمية‪ :‬خليفة عباسي في العراق‪ ،‬وخليفة أموي في‬
‫الندلس‪ ،‬وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلّية‪ ،‬ثم مصر وقسم كبير من الشام (‪. )1‬‬
‫وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة السلمية هو الفتنة الولى أو الكبرى التي انتهت‬
‫بمصرع عثمان بن عفان رضي ال عنه‪ ،‬والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته‬
‫رضي ال عنهم في كربلء‪.‬‬
‫وفي وسط هذا الختلف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى‬
‫دويلت‪ ،‬انقض التتر والمغول على الخلفة العباسية في بغداد‪ ،‬فأزالوا معالمها ثم استولوا على‬
‫دمشق‪ .‬ثم جاءت الدولة العثمانية‪ ،‬فاستولت على البلد السلمية وعاصرت انسلخ الندلس وطرد‬
‫المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو‪ ،‬وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو‬
‫المشترك أيام (ملوك الطوائف)‪.‬‬
‫ثم ضعفت الدولة العثمانية‪ :‬فانقض المستعمرون الغربيون على القاليم السلمية يتقاسمونها بينهم‬
‫بالحماية أو النتداب أو الوصاية مستفيدين من الّنعَرة الوطنية (‪ )2‬وظل الحال كذلك إلى أن استقل‬
‫معظم البلد في وحدات اقليمية أو دويلت متعددة بنحو خمسين دولة إسلمية في الوقت الحاضر‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن مفهوم دار السلم اتجه خلفا للمبدأ السلمي نحو التجزؤ‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،292‬ط مصطفى محمد‪ ،‬الشرع الدولي في السلم للدكتور نجيب‬
‫الرمنازي‪ :‬ص ‪ ،158‬مقدمة كتاب السياسة لبي القاسم المغربي‪ :‬ص ‪.28‬‬
‫(‪ )2‬الكلم عن مآسي الستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم‪ ،‬وقد شاهد جيلنا الحاضر‬
‫الكثير من ويلته بتجزئة القليم الواحد إلى أوطان متعددة خاضعة تحت نفوده‪ ،‬وبذر بذور الفتن‬
‫والتفرقة بين الخوة عملً بقاعدة (فرق تسد)‪.‬‬

‫( ‪)8/411‬‬

‫والنقسام في واقع الحياة السلمية مما أدى إلى ضعف دولة السلم‪ .‬وبسط نفوذ المتسلطين عليها‪،‬‬
‫ومعاناة مختلف أشكال الستعمار القديم والجديد‪.‬‬
‫‪ - 5‬وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس القليمية الضيقة‪ ،‬دأبت على توفير أو استكمال‬
‫خصائصها أوعناصرها‪ :‬وهي النظام (‪ )1‬والسيادة (‪)2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظام‪ :‬معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ :‬وجود طبقة‬
‫من الحكام وأخرى من المحكومين‪ .‬وهذا في الحقيقة هو المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها‬
‫(راجع موجز القانون الدستوري للستاذين عثمان خليل والطماوي‪ :‬ص ‪.)14‬‬
‫(‪ )2‬السيادة‪ :‬وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة‪ ،‬ومقتضاها أن سلطة الدولة‬
‫سلطة عليا ل يسمو عليها شيء‪ ،‬ولتخضع لحد‪ ،‬ولكن تسمو فوق الجميع‪ ،‬وتفرض نفسها على‬
‫الجميع‪ .‬ومقتضاها أيضا أن سلطة الدولة سلطة أصيلة‪ ،‬أي ل تستمد أصلها من سلطة أخرى‪.‬‬
‫وللسيادة وجهان‪ :‬سيادة خارجية‪ ،‬وسيادة داخلية‪ .‬الولى خاصة بالعلقات الخارجية بين الدول‪،‬‬
‫ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لية دولة أجنبية‪ ،‬والمساواة بين جميع الدول‬
‫أصحاب السيادة‪ ،‬ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للستقلل السياسي‪ ،‬وذلك يتوفر باعتراف‬
‫الجماعة الدولية بها‪ ،‬فهي ذات دور سلبي محض‪ .‬وأما السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى‬
‫إيجابي مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا على جميع الفراد والهيئات الموجودة على إقليمها‪ ،‬وأن‬
‫إرادتها تسمو على إرادتهم جميعا‪ ،‬أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني استقللها الخارجي‪ ،‬وسمو‬
‫سلطانها في الداخل‪ ،‬وهذا يدل على أنه ل دولة بدون سيادة‪ ،‬وقد حل محل هذه الكلمة في العرف‬
‫الحديث لفظة (استقلل الدولة) (راجع ثروت بدوي‪ ،43-40/1 :‬حافظ غانم‪ :‬ص ‪ ،13‬المرجعان‬
‫السابقان)‪ .‬ويمكن القول بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الستقلل السياسي في القرآن الكريم‬
‫في قوله تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء‪ ]141/4:‬وقوله تعالى‪{ :‬ول‬
‫العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون‪ ]8/63:‬والعزة‪ :‬النفة‪ .‬ومن أّهم مقوماتها الستقلل الذي هو‬
‫من مستلزمات التمكين في الرض الذي وعد ال به المؤمنين الذي يعملون الصالحات‪.‬‬

‫( ‪)8/412‬‬

‫والشخصية القانونية (‪. )1‬‬


‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الشخصية القانونية أو المعنوية‪ :‬هي الخاصة الثانية للدولة‪ ،‬ومعناها أن الدولة وحدة قانونية‬
‫مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسون السلطة‪ ،‬وأن هذه الوحدة لهاطابع الدوام والستقرار ل‬
‫تزول بزوال الفراد الذين يباشرون الحكم‪ ،‬وإن السلطة التي تتمتع بها إنما تقوم من أجل خدمة‬
‫أغراض الجماعة‪ ،‬ل من أجل تحقيق مآرب شخصية للحاكم‪ .‬ويترتب على ذلك أن الشخص المعنوي‬
‫يلزم غيره‪ ،‬ويلتزم في ذمته كالشخاص الطبيعيين تماما‪ ،‬أي أن له أهلية التمتع بالحقوق وتحمل‬
‫اللتزامات‪ ،‬كما أشرت سابقا (ثروت بدوي‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 52‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)8/413‬‬

‫إل أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لنتقادات جوهرية‪ ،‬وهجرها الكثيرون على‬
‫اعتبار أنها ل تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي (‪ ، )1‬وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان‬
‫النتقاص من السيادة على الصعيدين‪ :‬القليمي والدولي‪ ،‬ففي مجال التعاون القليمي نما الدراك لدى‬
‫بعض الشعوب والمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية‪،‬‬
‫وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية‪ ،‬وظهرت التحادات القارّية كالتحاد المريكي الذي نشأ‬
‫في أواخر القرن الماضي‪ ،‬ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وكالتحاد الوربي الذي برز‬
‫إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الولى‪ ،‬ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية‪،‬‬
‫فنشأ المجلس الوربي سنة (‪1949‬م)‪ ،‬وعقدت اتفاقية السوق الوربية المشتركة عام (‪ 1957‬م)‪ ،‬وفي‬
‫أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (‪1955‬م) (‪. )2‬‬
‫وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق القليمي نحو الوحدة أو التحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.134‬‬
‫(‪ )2‬أحكام القانون الدولي في الشريعة‪ ،‬حامد سلطان‪ :‬ص ‪ ،153‬الحقوق الدولية العامة‪ ،‬فؤاد شباط‪:‬‬
‫ص ‪.258‬‬

‫( ‪)8/414‬‬

‫وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد‪ ،‬فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية‬
‫ل الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام‬
‫المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها‪ ،‬والذي هو يورد قيودا على تصرفات‬
‫الدول‪ ،‬ويحكم علقاتها مع الدول الخرى ومع الهيئات الدولية‪ ،‬فمثلً‪ :‬تضمّن ميثاق المم المتحدة قيدا‬
‫على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي‪ ،‬فقضى على حق‬
‫الدولة في إعلن الحرب متى شاءت‪ ،‬لن الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب‬
‫المن والسلم الدولي (‪. )1‬‬
‫والخلصة‪ :‬أن التجاه الحالي للدول نحو التجمع والتحاد يتفق مع أصل الفكرة الشرعية الداعية إلى‬
‫وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار السلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان‪ :‬ص ‪ 752‬وما بعدها‪ ،‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪:‬‬
‫ص ‪.153‬‬

‫( ‪)8/415‬‬

‫المطلب الثاني ـ نشأة مصطلح الدولة السلمية ‪:‬‬


‫‪ - 1‬السبب في إطلق مصطلح الدولة السلمية على نظم الحكم السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 6‬لم يضع العلماء المجتهدون نظرية عامة للدولة تبين أسسها النظرية أو العملية‪ ،‬وإنما كانوا‬
‫يضعون الحلول ويقدمون الراء بمناسبة كل حالة طارئة‪ ،‬كما هو الشأن في أغلب أحكام الفقه‬
‫السلمي‪ ،‬لكنهم مع ذلك يلحظ أنهم يسيرون على هدى مبادئ ونظريات عامة ثابتة‪ ،‬وهكذا فإن‬
‫الدولة السلمية قامت على دعائم جديدة مبتكرة تختلف تماما عن الدعائم التي قامت عليها بيزنطة‬
‫وفارس‪ ،‬ومنها أن السلم نبذ فكرة سيطرة الحاكم‪ ،‬وفكرة خضوع المحكومين في الشؤون الدينية‬
‫والدنيوية معا لغير مبادئ السلم‪ ،‬فال وحده هو صاحب السلطان في شؤون الخرة من ثواب أو‬
‫عقاب‪ ،‬ويقوم نظام الحكم في الشؤون الدنيوية على القواعد الشرعية في حفظ المصالح ودرء المفاسد‬
‫بحسب حال الزمان والمكان‪،‬‬
‫وعلى أسس العدل والشورى والمساواة والمعاملة بالمثل والخلق‪ ،‬وعدم التمييز بين الناس في‬
‫الجنس واللغة أو اللون أو القليم (‪. )1‬‬
‫‪ - 7‬ونلحظ أن عناصر الدولة الحديثة نفسها التي تتكون منها الن كانت متوافرة في تكوين الدولة‬
‫السلمية في الماضي (‪ : )2‬وهي الجماعة من الناس‪ ،‬والخضوع لنظام معين‪ ،‬والتسليم المحدد‪،‬‬
‫والسلطان أو السيادة‪ ،‬والشخصية المعنوية‪.‬‬
‫هذه العناصر والخصائص توافرت بذاتها في الحكومة النبوية التي أقامها الرسول صلّى ال عليه وسلم‬
‫في المدينة‪ ،‬فالمسلمون الولون من المهاجرين والنصار هم شعب الدولة‪ ،‬والشريعة السلمية هي‬
‫نظامها‪ ،‬والمدينة هي إقليمها‪ ،‬والنبي صاحب السلطان ل يشاركه فيه سلطة أخرى‪ ،‬والجماعة‬
‫السلمية تمثل الشخصية المعنوية للدولة فيكون لها حقوق‪ ،‬وعليها التزامات‪ ،‬وتظل المعاهدات التي‬
‫يعقدها الحاكم العلى نافذة المفعول ل تنتقض أو ل تنتهي بوفاته‪.‬‬
‫وكانت بيعتا العقبة الولى والثانية قبل الهجرة (‪ )3‬على اليمان بال وبرسوله‪ ،‬وعلى السمع والطاعة‬
‫للرسول عليه الصلة والسلم‪ ،‬وحمايته ونصرته هما الركيزة الولى في التفاق على تكوين دولة‬
‫المدينة (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير‪ ،217/4 :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 157‬وما بعدها‪ ،‬شرح أدب الدنيا‬
‫والدين‪ :‬ص ‪ ،488 ،240‬تفسير المنار‪ 11/3 :‬وما بعدها‪ ،‬و ‪ 199/4‬وما بعدها‪ ،‬و ‪ 188/5‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان‪ :‬ص ‪ 127‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬ر‪ :‬للتفصيل دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪.‬‬
‫(‪ )3‬حدثت البيعة الولى قبل الهجرة بسنة وثلثة أشهر‪ ،‬والثانية بعدها بعام واحد في موسم الحج‪:‬‬
‫(سيرة ابن هشام‪ :‬المجلد الول‪ ،418 ،431/‬ط الثانية للحلبي)‪.‬‬
‫(‪ )4‬على الرغم مما كانت عليه هذه الدولة من بساطة‪ ،‬فإنها كانت دولة مستوفية جميع أركانها‪ ،‬كما‬
‫كان شأن دولة مدينة روما‪ ،‬أو دولة مدينة أثينا في الزمنة القديمة (انظر مبادئ نظام الحكم في‬
‫السلم للدكتور عبد الحميد متولي‪ :‬ص ‪ 451‬و ‪.)488‬‬

‫( ‪)8/416‬‬

‫كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة بإطلق مصطلح الدولة السلمية عليها‪ ،‬ويؤكد ذلك ما‬
‫قام به النبي صلّى ال عليه وسلم من إصلحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة‪ ،‬فجمع بين‬
‫المهاجرين والنصار وآخى بينهم‪ ،‬ووادع يهود المدينة‪ ،‬وكانت هذه المعاهدة بين المسلمين وغيرهم‬
‫بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلقاتهم بغيرهم داخل المدينة وخارجها (‪ )1‬على نحو‬
‫أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق الوطني‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سيرة ابن هشام‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 501‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/417‬‬

‫وكان النبي صلّى ال عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)‪،‬‬
‫فكان عن طريق الوحي والجتهاد الخاص يضع قواعد السلوك للناس في حياتهم الجتماعية‪ ،‬ويحكم‬
‫بين الخصوم‪ ،‬ويجبي الصدقات‪،‬ويوزع الغنائم‪ ،‬ويولي المراء على القبائل والمدن ويحدد لهم‬
‫الختصاصات‪ ،‬ويرسل القضاة إلى المصار‪ ،‬ويقود المعارك‪ ،‬ويعقد عقود الصلح أو الموادعة‪.‬‬
‫أنشأ النبي صلّى ال عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيما أو جهازا إداريا بالتدريج توضحت معالمه‬
‫واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين‪ ،‬حيث أرسل المراء والعمال إلى البلد التي آمنت‬
‫برسالته‪ ،‬وكان في كل وقت شديد الحرص على مشاورة أصحابه‪ ،‬ويقوم أحد كتاب الوحي عنده‬
‫بالكتابة إلى الملوك والمراء‪ ،‬ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم‪ ،‬أو لعلقات‬
‫القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه الصلة والسلم لم يكن‬
‫رسولً فحسب‪ ،‬وإنما كان كذلك حاكما ورئيسا لدولة (‪. )1‬‬
‫‪ - 8‬واستمرت الخلفة الراشدية على السس نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة‬
‫اصلحات رائعة في عهد عمر بن الخطاب في نظام القضاء والدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة‬
‫وتحديد صلحيات الولة والعمال في المصار السلمية (‪. )2‬‬
‫إل أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الدارية بدليل قول أبي عبيدة لبي بكر‪:‬‬
‫أنا أكفيك المال‪ ،‬وقول عمر له‪ :‬وأنا أكفيك القضاء‪.‬‬
‫وكانت الخلفتان الموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة في العالم مع وضوح‬
‫التقسيمات الدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولة والمراء‪.‬‬
‫وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون‪.‬‬
‫وهكذا ظلت الدولة السلمية طوال عشرة قرون مثالً صحيحا للدولة نظمت شؤونها على نحو سليم‬
‫يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الساسية في الوقت الحاضر‪ ،‬مع ملحظة فارق التطور والتقدم‬
‫العلمي الحديث‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬عبقرية السلم في أصول الحكم للدكتور منير العجلني‪ :‬ص ‪ ،98-90‬مبادئ نظام الحكم في‬
‫السلم للدكتور عبد الحميد متولي‪ :‬ص ‪.451‬‬
‫(‪ )2‬سيرة عمر بن الخطاب للستاذين علي وناجي الطنطاوي‪ 224/1 :‬و ‪ 263‬و ‪ ،548/2‬ط الترقي‬
‫بدمشق‪ ،‬تاريخ الحضارة العربية للستاذ راتب الحسامي‪ :‬ص ‪ 54‬و ‪.86‬‬

‫( ‪)8/418‬‬

‫‪ - 2‬صلحية نظام الحكم السلمي للتطبيق في الوقت الحاضر ‪:‬‬


‫‪ - 9‬الخلفة (أو المامة أو إمارة المؤمنين) أو أي نظام شوري يجمع بين مصالح الدنيا والخرة كلها‬
‫ذات مدلول واحد ‪ ،‬ل يختلف عما هو متعارف الن من أنظمة الحكم الدستورية النيابية إل في أن‬
‫الخلفة ذات صبغة دينية وسياسية أو‬
‫رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ولجميع المسلمين في كل قطر (‪ ، )1‬فهي تقوم على أساس‬
‫الشورى أو النتخاب‪ ،‬ويلتزم فيها تطبيق شريعة السلم‪ ،‬وتسود فيها مبادئ المساواة التامة في‬
‫الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع‪ ،‬مهما اختلفت الجناس واللوان‪ ،‬وتباينت القدار‪ ،‬وتتوخى‬
‫تطبيق العدالة بحق‪ ،‬وتوفر لبنائها الحرية الكافية في القول والرأي والنقد في ظل من القيم الخلقية‬
‫الصيلة (‪. )2‬‬
‫والحاكم ليس هو صاحب السيادة‪ ،‬وإنما المة والشريعة معا هما صاحبا السيادة في الدولة السلمية (‬
‫‪. )3‬‬
‫وهذا كله من الناحيتين النظرية والعملية قابل للتطبيق في الوقت الحاضر كما طبق في عصر صدر‬
‫السلم‪ ،‬بشرط أن يتوافر لدى الناس الستعداد الكافي وحسن التفهم والدراك العقلي والتجريبي‪ ،‬مع‬
‫مراعاة وسائل التطبيق الزمنية‪ ،‬إذ أن من مبادئ الفقه السلمي المرونة ومراعاة المصالح‪ ،‬وقابلية‬
‫التطور في الحكام الفقهية الجتهادية‪ ،‬ودفع الضرر‪ ،‬وإقامة العدل ومنع العدوان‪ .‬وبالتزام هذه‬
‫المبادئ يتيسر على الناس اختيار شكل الحكم الذي يحقق تلك الهداف دون تقيد بتسمية معينة كنظام‬
‫الخلفة‪ ،‬وذلك عملً بمبدأ نفي الحرج في السلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ليس صحيحا أن نظام الخلفة والجماع الصولي ضربا من المحال كما توهم بعض رجال‬
‫القانون وذلك بدليل وقوعهما بالفعل ( قارن الدكتور متولي‪ :‬ص ‪.) 548‬‬
‫(‪ )2‬راجع نظام الحكم في السلم للدكتور عبد ال العربي‪ :‬ص ‪ 48‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس‪ :‬ص ‪.340‬‬

‫( ‪)8/419‬‬

‫‪ - 3‬هل يوجب السلم إقامة دولة؟‬


‫‪ 10‬ـ السلم نظام ديني ومدني متكامل‪ ،‬ويتلزم وجود المسلمين مع قيام‬
‫الدولة‪ ،‬ومن أهم أركان كل دولة كما أشرت سابقا وجود سلطة عامة سياسية عليا يخضع لهاجميع‬
‫الفراد المكونين للجماعة (‪. )1‬‬
‫لذلك نرى الكثرية الساحقة من علماء السلم (وهم أهل السنة والمرجئة والشيعة والمعتزلة إل قليلً‬
‫منهم‪ ،‬والخوارج ما عدا النجدات) تقرر وجوب إقامة حكومة عليا (أو إمارة أو دولة أو إمامة)‪.‬‬
‫والمراد بالوجوب هنا هو المعروف في علم أصول الفقه المرادف عند جمهور العلماء لمعنى‬
‫الفرضية‪ ،‬وقد قال العلماء فعلً‪ :‬إن المامة فرض كفاية (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظم السياسية للدكتور ثروت بدوي‪.33/1 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،129/4 :‬شرح المواقف للجرجاني‪ ،346/8 :‬شرح العقائد النسفية للتفتازاني‪ :‬ص‬
‫‪ 142‬وما بعدها‪ ،‬مقالت ا لسلميين واختلف المصلين للشعري‪ ،133/2 :‬حجة ال البالغة‬
‫للدهلوي‪ ،110/2 :‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪ 271‬وما بعدها‪ ،‬ط استانبول‪ ،‬الحكام السلطانية‬
‫للماوردي‪ :‬ص ‪ ،3‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ ،3‬نيل الوطار‪ ،256/8 :‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ 191‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،7-4‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،161‬النظريات السياسية‬
‫السلمية للريس‪ :‬ص ‪،144‬إكليل الكرامة في مقاصد المامة لصديق حسن خان‪ :‬ص ‪ 7‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/420‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬يجب أن يعرف أن ولية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل ل قيام للدين إل بها‪،‬‬
‫فإن بني آدم لتتم مصلحتهم إل بالجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض‪ ،‬ول بد لهم عند الجتماع من‬
‫رأس حتى قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا خرج ثلثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود‬
‫من حديث أبي سعيد وأبي هريرة (‪. )1‬‬
‫وقال ابن حزم‪( :‬اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب‬
‫المامة‪ ،‬وأن المة واجب عليها النقياد لمام عادل يقيم فيهم أحكام ال ‪ ،‬ويسوسهم بأحكام الشريعة‬
‫التي جاء بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم‪،‬حاشا النجدات‪ ،‬فإنهم قالوا‪ :‬ل يلزم الناس فرض المامة‬
‫وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم (‪. )2‬إل أن هؤلء الموجبين للمامة فريقان‪ :‬قال أكثر الشعرية‪،‬‬
‫والمعتزلة‪ ،‬والعترة؛ إنها تجب شرعا‪ ،‬لن المام يقوم بأمور شرعية‪ .‬وقال الشيعة المامية‪ :‬تجب‬
‫المامة عقلً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم‪ ،‬ولول‬
‫الولة لكان المر فوضى‪.‬‬
‫وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري‪ :‬تجب المامة عقلً وشرعا‪.‬‬
‫وشذ جماعة (وهم المُحكّمة الولى والنجدات من الخوارج‪ ،‬وضرار‪ ،‬وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان‬
‫الصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز المامة وأنها ل تجب‪ ،‬قال الصم‪ :‬لو تكافّ الناس عن‬
‫التظالم لستغنوا عن المام‪.‬‬
‫واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة ل مجال هنا لذكرها (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السياسة الشرعية له‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفصل في الملل والنحل‪ ،87/4 :‬وانظر المحلى‪ ،438/9 :‬م‪ 1768/‬ومراتب الجماع‪ :‬ص ‪.124‬‬
‫(‪ )3‬ر‪ :‬للتفصيل إمامة ـ المامة الكبرى‪ .‬وقد سبق إيراد هذه الدلة في فصل‪ :‬نظام الحكم في‬
‫السلم‪.‬‬

‫( ‪)8/421‬‬

‫المبحث الول ـ أركان الدولة السلمية ونشأتها وشخصيتها‬


‫المطلب الول ـ أركان الدولة السلمية ‪:‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 11‬الدولة في العرف الحديث‪ :‬مجموع كبير من الناس يقطن بصفة دائمة في إقليم جغرافي معين‪،‬‬
‫ويخضع لسلطة عليا أو تنظيم سياسي معين‪.‬‬
‫يظهر من هذا التعريف التقليدي للدولة أن عناصرها أو أركانها ثلثة‪ :‬هي الشعب أو مجموعة من‬
‫الفراد‪ ،‬والقليم‪ ،‬والسلطة الحاكمة‪ .‬ويربو عدد الدول الن على (‪ )170‬دولة‪.‬‬
‫وتتصف الدولة بوصفين أو خاصتين‪ :‬وهما السيادة والشخصية المعنوية أو القانونية‪ ،‬فالسيادة هي‬
‫المعيار التقليدي للدولة‪ ،‬أي الذي يميزها عن غيرها من الجماعات (‪. )1‬‬
‫وسأبحث هنا ركنين من أركان دولة السلم‪ :‬وهما الشعب والقليم (‪ )2‬وأبحث أيضا وصف (السيادة)‬
‫الذي يعتبره بعض فقهاء القانون الدستوري ركنا من أركان الدولة (‪. )3‬‬
‫فصارت مواضيع هذا المبحث ثلثة‪ :‬الشعب والقليم والسيادة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬النظم السياسية‪ ،‬ثروت بدوي‪ :‬ص ‪ 28‬و ‪ ،40‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 124‬و ‪،128‬‬
‫أحكام القانون الدولي في الشريعة‪ :‬ص ‪.212‬‬
‫(‪ )2‬من المعلوم أن الدولة السلمية سبقت ـ في مظهرها القانوني ـ نشوء الدول الوربية من حيث‬
‫اكتمال عنصر القليم وعنصر الشعب وعنصر الولية الذاتية فيها‪ ،‬انظر ( أحكام القانون الدولي‬
‫لحامد سلطان‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)231‬‬
‫(‪ )3‬موجز القانون الدستوري‪ ،‬عثمان خليل والطماوي‪ :‬ص ‪.14-10‬‬

‫( ‪)8/422‬‬

‫الركن الول ـ الشعب ‪:‬‬


‫ل ـ موقع هذا الركن ماديا وأساسيته في مفهوم الدولة السلمية ‪:‬‬
‫أو ً‬
‫‪ 12‬ـ الشعب أو المة في المفهوم الحديث يقوم على عنصرين‪ :‬عنصر مادي وهو الستقرار على‬
‫بقعة معينة من الرض ‪ ،‬وعنصر معنوي‪ :‬وهو الرغبة في الحياة المشتركة‪ .‬ويعتبر أول عناصر‬
‫الدولة هو العنصر النساني وهو الشعب‪ ،‬وتعد ضخامة عدد أفراد الدولة الحديثة من مميزاتها إذا‬
‫قورنت بدولة (المدينة) السياسية القديمة‪.‬‬
‫والشعب في مفهوم تكوين الدولة السلمية هو شعب دار السلم الذي يتألف من المسلمين الذين‬
‫يؤمنون برسالة السلم دينا وشرعا وعقيدة ونظاما سياسيا ومن الذميين‪ ،‬أي غير المسلمين الذين‬
‫يقيمون إقامة دائمة في دار السلم‪ ،‬فمن هؤلء جميعا يتكون شعب الدولة السلمية أو رعاياها الذين‬
‫يرتبطون في المفهوم الحديث برابطة سياسية وقانونية هي رابطة الجنسية أو الرعوية‪.‬‬
‫وتنحصر غاية المسلمين في توحيد ال والدعوة إليه وإلى تطبيق الدستور السلمي في الحياة عامة‬
‫في كل مكان‪ ،‬دون تمييز بين الناس إل على أساس العقيدة والفضيلة والكفاية والكفاح التي تجمعها‬
‫كلمة (التقوى)‪.‬‬
‫ولقد كان الهدف من تركيز هجرة المسلمين إلى المدينة وتلقيهم مع النصار هو إيجاد ركيزة الشعب‬
‫المكون للدولة السلمية الولى‪ ،‬إذ ل يمكن لدولة أن تعيش في فراغ عن السكان‪ ،‬كما أن تنفيذ‬
‫شريعة السلم أيضا يتطلب وجود المكلفين المؤمنين بها‪ .‬وقد يوجد مع شعب الدولة مؤقتا مستأمنون‬
‫أوأجانب بلغة العصر‪.‬‬

‫( ‪)8/423‬‬

‫ثانيا ـ اختلف هذا الركن عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة ‪:‬‬


‫‪ - 13‬يختلف مدلول الشعب في الدولة السلمية عن مدلوله في المفهوم الحديث للدولة‪ ،‬فالشعب أو‬
‫المة في المفهوم الحديث شعب محصور في حدود جغرافية‪ ،‬يعيش في إقليم واحد‪ ،‬تجمع بين أفراده‬
‫روابط من الدم أو الجنس أو اللون أو الصل أو اللغة أو الدين أو العادات والمصالح المشتركة (‪)1‬‬
‫أي أن الشعب يقوم في الغالب على أساس عنصري‪.‬‬
‫أما الشعب في مفهوم الدولة السلمية فإنه يقوم على أساس مبادئ وغايات أساسها ما جاء به السلم‬
‫من نظام صالح للحياة البشرية قائم على محاربة العنصرية أو القبلية أو العصبية القليمية أو القومية‪.‬‬
‫والرابطة أصلً هي الوحدة في العقيدة أي في الفكرة والوجدان‪ ،‬فكل من اعتنق السلم من أي جنس‬
‫أو لون و وطن وكل من التزم أحكام السلم من غير المسلمين وأقام في دار السلم‪ ،‬فهو أحد‬
‫مواطني دولة السلم‪ ،‬مما يدل على أن نظرة السلم إنسانية وأفقه عالمي‪ ،‬لن أساس تجمع الفراد‬
‫المكونين للدولة السلمية ليس هو الرض ول اللون ول اللغة ونحوها‪ ،‬وإنما أساس الرتباط بالدولة‬
‫هو إما القرار بعقيدة السلم أو الولء السياسي للدولة السلمية‪.‬‬
‫‪ - 14‬ومن هنا يتحدد مفهوم المة والقومية في السلم‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 125‬وما بعدها‪ ،‬ثروت بدوي‪ :‬ص ‪ ،29‬أحكام القانون الدولي‬
‫في الشريعة لسلطان‪ :‬ص ‪.215‬‬

‫( ‪)8/424‬‬
‫أما المة في مفهوم السلم فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس أو اللون أو اللغة أووحدة‬
‫المكان‪ .‬وإنما هي التي تجمع بينها رابطة العقيدة والخلق‪.‬‬
‫وأما القومية في نظر السلم فهي رابطة تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود‬
‫جغرافية متعاونة في تدبير شؤونها ومصالحها المشتركة‪ ،‬دون انعزال عن القوام الخرى التي تقيم‬
‫في رقعات أرضية أخرى‪ ،‬فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة المنتشرة في بقاع‬
‫العالم‪ ،‬وليست دعوة للنعزال أو التعصب (‪ ، )1‬وبعبارة أخرى‪ :‬هي أن القومية في كل صورها‬
‫الحديثة تتنافى مع مبادئ السلم‪ ،‬لن السلم يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس‪ ،‬ويقيم وحدة‬
‫المسلمين على أساس الخوة أو الشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلقية واحدة تسمو فوق اعتبارات‬
‫الجنس والنشأة واللغة‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل‬
‫لتعارفوا‪ .‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم} [الحجرات‪ ،]13/49:‬وقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫«ليس لحد فضل على أحد إل بدين أو تقوى‪ ،‬الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب‪ ،‬ل فضل لعربي‬
‫على عجمي‪ ،‬ول لعجمي على عربي‪ ،‬ول لبيض على أسود‪ ،‬ول لسود على أبيض إل بالتقوى» (‬
‫‪ ، )2‬وقال أيضا‪« :‬يا معشر قريش‪ ،‬إن ال قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالباء‪ ،‬أيها‬
‫الناس‪ ،‬كلكم من آدم‪ ،‬وآدم من تراب ل فخر للنساب‪ ،‬ل فضل للعربي على العجمي‪ ،‬ول للعجمي‬
‫على العربي‪ ،‬إن أكرمكم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظام الحكم في السلم للدكتور العربي‪ :‬ص ‪ ،55‬النظريات السياسية السلمية للريس‪ :‬ص‬
‫‪ ،339‬نظرية السلم السياسية للمودودي‪ :‬ص ‪ 47‬و ‪ ،52‬العرب والسلم لبي الحسن الندوي‪ :‬ص‬
‫‪ .85‬حامد سلطان ‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪111‬و ‪ 141‬و ‪ 155‬و ‪ 183‬و ‪ ،217‬نحو مجتمع إسلمي‬
‫لسيد قطب‪ :‬ص ‪ 92‬وما بعدها‪ ،‬منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد‪ :‬ص ‪ ،71‬السلم عقيدة وشريعة‬
‫للستاذ محمود شلتوت‪ :‬ص ‪ 362‬وما بعدها‪ ،‬ط ‪.1959‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد في مسنده (مجمع الزوائد‪ )266/3 :‬قال الهيثمي‪ :‬ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬

‫( ‪)8/425‬‬

‫عند ال أتقاكم» (‪ ، )1‬وفي حديث آخر‪ « :‬ليس منا من دعا إلى عصبية‪ ،‬وليس منا من قاتل على‬
‫عصبية‪ ،‬وليس منا من مات على عصبية» (‪. )2‬‬
‫وذلك يعني أن السلم هدم برج العصبية القاتلة‪ ،‬والعنصرية السقيمة البغيضة لنها تفرق الجماعات‪،‬‬
‫وتولد الحقاد والشرور والمنازعات‪ ،‬وأحل محلها النسانية العالمية‪ ،‬لنها سبيل الخاء والمحبة‬
‫والسلم (‪. )3‬‬
‫الركن الثاني ـ القليم ‪:‬‬
‫ل ـ موقع هذا الركن ماديا واختلفه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة ‪:‬‬
‫أو ً‬
‫‪ - 15‬يشمل إقليم الدولة السلمية جميع البلد السلمية‪ ،‬فهو يتحدد بحدود دار السلم مهما اتسعت‬
‫رقعتها‪ ،‬ودار السلم‪( :‬اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين) (‪ . )4‬وهذا يعني ضمنا أن حدود‬
‫إقليم الدولة السلمية ليست ثابتة أو دائمة (‪ ، )5‬إذ أنه يجب شرعا تبليغ الدعوة السلمية إلى العالم‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ مقارب لهذا (سنن أبي داود‪ ،624/2 :‬جمع الفوائد‪:‬‬
‫‪ ،398/2‬الترغيب والترهيب‪.)614 ،573/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (سنن أبي داود‪.)625/2 :‬‬
‫(‪ )3‬إذا كان نظام الدولة الحديث يقوم على أساس فكرة المة التي يرتبط أفرادها بروابط الجنس‬
‫واللغة والدين أو بالروابط القتصادية أو الجغرافية أو التاريخية‪ ،‬فإن مفهوم المة الذي يقوم عليه‬
‫نظام الدولة المسلمة أوسع مدى‪ ،‬فهي تشمل كل من آمن بالسلم أو التزم أحكام السلم‪ ،‬مهما كان‬
‫جنسه أو لونه أو أصله أو لغته‪ ،‬لن رابطة الخوة السلمية فوق رابطة الجنسية ورابطة القليمية أو‬
‫التوطن في بلد معين‪.‬‬
‫(‪ )4‬شرح السير الكبير‪ ،81/3 :‬وانظر للتفصيل دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪.‬‬
‫(‪ )5‬كان ركن القليم في دولة المدينة في عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم عبارة عن المدينة‬
‫وضواحيها‪ ،‬ثم أخد إقليم الدولة يمتد في عهده‪ ،‬ثم في عهد خلفائه على النحو المعروف‪.‬‬

‫( ‪)8/426‬‬

‫وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان السلم إلى البلد الخرى‪ ،‬فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين‬
‫اتسعت القاليم السلمية‪ .‬ول يراد بالوطن عند فقهاء السلم إل مكان إقامة الشخص الدائمة‪ ،‬أي‬
‫بلده التي يقيم فيها عادة‪ ،‬أو محل سكناه‪.‬‬
‫فإذا وقف سلطان امتداد السلم تحدد القليم تحت وطأة الضرورة والظروف بالحدود التي وقف‬
‫عندها‪ ،‬وأصبحت حدود دار السلم مقيدة من الناحية الواقعية بهذه الحدود (‪. )1‬‬
‫إل أن السلم حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها فكرة الوطن القومي‪ ،‬فإنه‬
‫ل يلغي فكرة الوطن على الطلق‪ ،‬لن تعلق النسان بوطنه أمر فطري‪ ،‬حتى إن حبه يمل نفسه‬
‫ومشاعره‪ ،‬لذا فهو أي السلم يبقي على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة‪ :‬معنى التجمع والتآخي‬
‫والتعاون والنظام والمشاركة في الفراح والحزان‪ ،‬واللتفاف مع الخوان في الوطن حول الهدف‬
‫العلى المشترك (‪ ، )2‬وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور ل رقعة من الرض نعيش‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أما من الناحية المثالية فإن إقليم الدولة السلمي غير محدود‪ ،‬شأنه شأن الخطاب التكليفي غير‬
‫محدد إطلقا بإقليم محصور معين‪ ،‬ول مقيد برابطة الجنسية أو الموطن‪ ،‬بل هو خطاب مطلق من كل‬
‫قيد‪ ،‬وموجه إلى المسلمين والبشر جميعا‪ ،‬بغض النظر عن الروابط القليمية‪ ،‬يعني أن الشريعة ليست‬
‫ذات صبغة إقليمية وإنما هي ذات صبغة عامة أو عالمية‪ .‬إل أن سلطة الدولة السلمية مقيدة في‬
‫الواقع بحدود دار السلم لعدم قدرتها على التنفيذ الجبري لحكامها في خارج دار السلمي(قارن‬
‫التشريع الجنائي السلمي‪ 278/1 :‬وما بعدها والسلم وأوضاعنا السياسية للستاذ عبد القادر عودة‪:‬‬
‫ص ‪ 221‬و ما بعدها‪ ،‬وأحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان‪ :‬ص ‪111‬و ‪ 184‬و ‪.)231‬‬
‫(‪ )2‬نحو مجتمع إسلمي لسيد قطب‪ :‬ص ‪ ،96‬السلم والحياة للدكتور محمد يوسف موسى‪ :‬ص‬
‫‪.189‬‬

‫( ‪)8/427‬‬

‫فيها‪ ،‬هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من كل جنس ولون وأرض (‪ . )1‬وكما أن ركن (الشعب)‬
‫يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن السلم يقرر (اللعنصرية) فدولة السلم‬
‫ليست دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر‪ ،‬وإنما هي دولة فكرية تمتد إلى‬
‫المدى الذي تصل إليه عقيدتها‪ ،‬دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على أساس الجنس أو اللون أو‬
‫القليم (‪ ، )2‬كذلك فإن ركن (القليم) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن‬
‫السلم يقرر مبدأ (الل إقليمية) (‪. )3‬‬
‫ثانيا ـ مشمول إقليم الدولة ‪:‬‬
‫‪ - 16‬يظهر من تعاريف الفقهاء لدار السلم أن إقليم الدولة السلمية يشمل كل موضع أو جزء من‬
‫البلد خاضع لسلطان المسلمين (‪ . )4‬وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما هو جزء أساسي من القليم ‪:‬‬
‫يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي‪ ،‬وهو مايأتي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا ويلحظ أن ارتباط الدولة بالقليم في المفهوم الجديد رابطة حديثة النشأة يرجع وجودها إلى‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬وتوثقت في القرن العشرين‪ ،‬فالقليم لم يكن عنصرا أساسيا من عناصر الدولة‬
‫عند اليونان والرومان‪ ،‬وإنما بدأت الرابطة بين الدولة وبين القليم تظهر في الدراك القانوني في‬
‫أواخر القرون الوسطى (حامد سلطان‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)228‬‬
‫(‪ )2‬بحث الفرد والدولة في الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان‪ :‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )3‬ر ‪ :‬للتفصيل دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪.‬‬
‫(‪ )4‬ر ‪ :‬دار السلم ودار الحرب‪.‬‬

‫( ‪)8/428‬‬

‫أ ـ الرض‪ :‬أي الجزء اليابس أو الرقعة التي يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو وليتهم‪،‬‬
‫سواء أكانت مدينة أو قرية أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (‪. )1‬‬
‫وكذلك يعتبر ما في باطن الرض من محتويات تابعا للدولة بدليل إيجاب الخمس للمصالح العامة فيما‬
‫يخرج من الرض من المعادن والركاز (‪ )2‬والباقي للمالك‪ .‬وهذا يعني أن ملك الرض يستتبع ملك‬
‫ما تحتها وما فوقها عملً بالقاعدة الشرعية‪( :‬من ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته)‪.‬‬
‫ب ـ النهار الوطنية‪ :‬وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار السلم كأنهار مصر‬
‫والشام والعراق ونحوها‪.‬‬
‫جـ ـ المياه الساحلية أو البحر القليمي‪ :‬وهي قسم محدد من البحر ملصق لرض الدولة التي‬
‫تنتهي حدودها إلى البحر‪.‬وتابعيتها لدار السلم بناء على مبدأ إحراز المباح‪ ،‬لن من سبق إلى مالم‬
‫يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما قال النبي صلّى ال عليه وسلم (‪. )3‬‬
‫وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملصقة أو التكميلية) (‪ )4‬تعتبر‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪ ،277/3 :‬ط الحلبي‪.‬‬
‫(‪ )2‬ر ‪ :‬زكاة‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أبو داود عن أسمر بن مضرّس بلفظ‪( :‬أتيت النبي صلّى ال عليه وسلم فبايعته‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (نيل الوطار‪.)302/5 :‬‬
‫(‪ )4‬هذه المنطقة عبارة عن قسم من أعالي البحار يجاور مباشرة البحر القليمي تمارس الدولة‬
‫الساحلية عليه بعض الختصاصات المحددة في المسائل القتصادية والمالية والجمركية‪ ،‬وفي مسائل‬
‫أمن الدولة والصحة العامة وفي الغنائم وفي الحياد (حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)402‬‬

‫( ‪)8/429‬‬

‫جزءا من دار السلم‪ .‬ومثلها أيضا المتداد القاري (‪. )1‬‬


‫وأما المياه الداخلية القائمة في داخل أراضي دار السلم فهي جزء من إقليم الدولة المسلمة بل نزاع‪،‬‬
‫لنها خاضعة لنفوذ المسلمين وتحت أيديهم‪.‬‬
‫‪ - 2‬ما هو امتداد أو ملحق بالقليم اعتباراً ‪:‬‬
‫‪ - 17‬تعتبر وسائل النقل الدولية من سفن وقطارات دولية تمر في أقاليم دولة أخرى‪ ،‬وطائرات‪،‬‬
‫جزءا ممتدا من إقليم دار السلم‪ ،‬فإن كانت هذه الوسائل حربية فتخضع لسيادة الدولة السلمية‬
‫وتطبق عليها الشريعة باتفاق الحنفية وغيرهم قياسا على اعتبارهم أرض المعسكر السلمي جزءا من‬
‫دار السلم‪ .‬فإن كانت هذه الوسائل تجارية أو مدنية‪:‬‬
‫ففي أصل المذهب الحنفي الذي يقرر أن ل ولية للسلطة المسلمة على جرائم دار الحرب‪ :‬إن كانت‬
‫في مياه أو أراض أوأجواء تابعة لدار الحرب‪ ،‬فل تخضع لسيادة الدولة السلمية‪ .‬وإن كانت في‬
‫مناطق تابعة لدار السلم‪ ،‬أو حرة غير تابعة لحد‪ ،‬كما لو كانت في وسط البحر مثلً‪ ،‬فتخضع‬
‫لسيادة الدولة السلمية وتطبق عليها الشريعة‪ .‬وبما أنه يمكن الن ممارسة ولية الدولة على هذه‬
‫الوسائط في أراضي دولة أخرى‪ ،‬فإن هذه الوسائل في جميع الحالت تخضع لسيادة الدولة المسلمة‪،‬‬
‫عملً بقاعدة‪( :‬الحكم يدور مع علته وجودا وعدما)‪.‬‬
‫وفي رأي غير الحنفية القائلين بمعاقبة رعايا الدولة السلمية على الجرائم التي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المتداد القاري‪ :‬أي الطبقات الرضية المنحدرة الواقعة في قاع أعالي البحار بجوار مياه الدولة‬
‫القليمية‪.‬واهتمام الدول بها مرجعه إلى رغبتها في استغلل الثروات الطبيعية كالبترول مثلً الموجودة‬
‫في قاع البحر الممتد أمام شواطئها خارج البحر القليمي (حافظـ غانم المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)392‬‬

‫( ‪)8/430‬‬

‫يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار السلم‪ :‬تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة السلمية مطلقا‬
‫سواء أكانت في مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار السلم أو حرة (‪. )1‬‬
‫‪ - 3‬ما هو جزء من إقليم الدولة‪ ،‬ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى ‪:‬‬
‫‪ - 18‬يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة السلمية لوليتها وسلطانها عليهما وهما‪:‬‬
‫أ ـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من النهار الدولية‪ :‬إذ أن هذا الجزء خاضع لسيادة الدولة‬
‫السلمية‪ ،‬وتمارس سلطانها عليه‪ ،‬وإن كان ل مانع عن طريق التفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع‬
‫الدول الخرى بالملحة فيه ونحوها‪ ،‬كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق‬
‫عليها بسبب الجوار ونحوه‪.‬‬
‫ب ـ طبقات الجو عموديا‪ :‬يشمل إقليم الدولة أعماق الرض والطبقات الهوائية التي تعلو إقليمها‬
‫الرضي والمائي‪ ،‬وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة اختصاصها وحقوقها على الجواء العليا‪،‬‬
‫سواء في الملحة الجوية أو المواصلت والذاعات (اللسلكية)‪ .‬والدليل الشرعي العمل بالقاعدة‬
‫الفقهية السابقة‪( :‬من ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع ملك‬
‫ما فوق الرض من طبقات الجو‪ ،‬وما تحتها من العماق‪ ،‬فيبني المالك مثلً ما شاء فيها من طباق (‬
‫‪ )2‬ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم الضرار بالخرين‪ ،‬وتأمين مصالحهم‬
‫الضرورية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬دار السلم ودار الحرب‪ :‬ف‪ 43/‬و ‪ ،113-111‬التشريع الجنائي السلمي‪.296/1 :‬‬
‫(‪ )2‬المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء‪ :‬ف‪.635/‬‬

‫( ‪)8/431‬‬

‫‪ - 4‬القاليم المشتركة بين عدة دول ‪:‬‬


‫‪ - 19‬تمارس الدولة المسلمة سيادتها على الجزاء المشتركة بينها وبين دول أخرى بحسب المعاهدة‬
‫أو التفاق المعقود‪ ،‬كما هو الحال بالنسبة إلى نظام المضايق التركية التي تشرف تركيا بموجبه على‬
‫مضايق البوسفور والدردنيل بمقتضى معاهدة مونتريه في (‪ )26‬تموز (يوليو) سنة (‪1936‬م)‪ ،‬مع‬
‫الحفاظ على مبدأ حرية الملحة للسفن التجارية‪ .‬وكما هو شأن مضيق جبل طارق وطنجة الموضوعة‬
‫في حالة حياد دائم بموجب اتفاقية تدويلها سنة (‪1923‬م) وكذلك المنطقة المحايدة بين الكويت‬
‫والسعودية في الشمال والجنوب الشرقي تحكمها التفاقيات المعقودة‪ .‬وهذا كله يعني أن سيادة الدولة‬
‫على القليم المشترك إما ناقصة أو معدومة فل تتبع دولة ما بحكم الحياد‪.‬‬
‫‪ - 5‬ما ل يعتبر جزءا من القليم ويمكن اعتباره امتدادا مشتركا مشاعا لقليم كل دولة ‪:‬‬
‫‪ - 20‬إن المناطق الحرة غير التابعة لدولة ما يمكن اعتبارها في السلم مشاعة لكل الدول على‬
‫السواء؛ لن الصل في الشياء الباحة‪ ،‬ولنها ل تخضع لحيازة أحد‪ ،‬فتنتفع بها كل الدول بشرط‬
‫عدم الضرار بالخرين كتلويث مياه البحار والجو بالغبار الذري‪ ،‬لن الضرر ممنوع شرعا لقوله‬
‫عليه الصلة والسلم‪« :‬ل ضرر ول ضرار» (‪ . )1‬وتشتمل هذه المناطق ما يأتي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده‪ ،‬وابن ماجه والدارقطني في سننهما عن ابن عباس‬
‫وعبادة (الفتح الكبير وغيره )‪.‬‬

‫( ‪)8/432‬‬

‫أ ـ أعالي البحار (‪ : )1‬الصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكا لحد (‪ )2‬لعدم الحيازة لها ‪،‬‬
‫سئل بعض فقهاء الحنفية عن البحر الملح أمن دار السلم أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من أحد‬
‫القبيلين‪ ،‬لنه ل قهر لحد عليه (‪ . )3‬ويؤيد ذلك العتماد على بعض قواعد السلم لتقرير مبدأ‬
‫حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الصل‬
‫في الشياء والعيان الباحة‪ ،‬فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول‪ ،‬إذ ل‬
‫حيازة لحدى الدول عليها فعلً أو حكما مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية البحار والسعي لتقرير‬
‫مبدأ حريتها (‪. )4‬‬
‫ب ـ الفضاء الكوني (‪ : )5‬يعتبر الفضاء الكوني أيضا حرا يجوز لكل دولة النتفاع به قياسا على‬
‫مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم الستيلء أو حيازة دولة ما له‪ ،‬ولكن مع مراعاة الشرط‬
‫السابق وهو عدم الضرار بالخرين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المقصود بأعالي البحار في العرف الحاضر‪:‬كل أجزاء البحر التي ل تدخل في البحر القليمي أو‬
‫في المياه الداخلية لدولة من الدول (حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ .)405‬ويقصد بحرية البحار‪:‬‬
‫أن يكون لكافة الدول أن تنتفع بها على قدم المساواة‪ .‬ول تخضع السفينة الموجودة في أعالي البحار‬
‫إل لختصاص الدولة التي ترفع علمها‪.‬‬
‫(‪ )2‬التشريع الجنائي السلمي لعودة‪.296/1 :‬‬
‫(‪ )3‬رد المحتار على الدر المختار‪ 267/3 :‬و ‪ ،277‬ط الحلبي‪ ،‬وانظر التفصيل في بحث دار‬
‫السلم ودار الحرب للمؤلف‪.‬‬
‫(‪ )4‬بدأ رجال الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسهم البابا في العصر الوسيط بإدخال البحار في ملكية‬
‫ملوك أوربا كي يتسنى لهم محاصرة الدولة السلمية عن طريق البحر المكتشف أو الذي سيعرف (ر‬
‫‪ :‬أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان‪ :‬ص ‪ ،243‬نظم الحكم والدارة في الشريعة‬
‫والقوانين لعلي منصور‪ :‬ص ‪.)312‬‬
‫(‪ )5‬توصلت بعض الدول الكبرى في عصرنا الحاضر إلى الفضاء الكوني بقذائف صاروخية تحمل‬
‫كواكب صناعية تدور حول الكواكب السماوية‪ ،‬وتشرف على الكرة الرضية‪ ،‬وتصور أي جزء منها‪،‬‬
‫وترسل معلومات فلكية عن الفضاء والشعة الشمسية إلى الدولة التي أطلقتها‪.‬‬

‫( ‪)8/433‬‬

‫الركن الثالث‪ :‬السيادة ‪:‬‬


‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 1‬نظرية السيادة في المفهوم الحديث للدولة والنظريات البديلة كمعيار للدولة ‪:‬‬
‫‪ - 21‬السيادة فكرة حديثة نسبيا‪ ،‬فلم تكن معروفة حتى القرن السادس عشر‪ ،‬وهي تعني مجموعة من‬
‫الختصاصات تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة‪ ،‬وتجعل منها سلطة آمرة عليا‪ .‬ولعل أهم هذه‬
‫الختصاصات هو قدرتها على فرض إرادتها على غيرها من الهيئات والفراد بأعمال من جانبها‬
‫وحدها‪ ،‬تكون نافذة من تلقاء نفسها‪ ،‬دون أي توقف على قبول المحكومين لها‪.‬‬
‫ول يصح الخلط بين السلطة السياسية والسيادة؛ إذ أن هناك فرقا بين السلطة في ذاتها وأوصاف‬
‫السلطة‪ ،‬فالسيادة في الواقع ليست إل الصفة التي تتصف بها السلطة السياسية في الدولة‪ ،‬لن السلطة‬
‫ركن من أركان الجماعة‪ ،‬أما السيادة فهي وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة‪.‬‬
‫والمعيار التقليدي للدولة هو السيادة‪ ،‬فالذي يميز الدولة عن غيرها من الجماعات هو تمتعها بالسيادة‪.‬‬
‫وللسيادة مظهران أو وجهان ذكرتهما سابقا (‪ ، )1‬وبينت أيضا أن نظرية السيادة في المفهوم الحديث‬
‫أصبحت نسبية؛ إذ أن سيادة الدولة صارت خاضعة داخليا للخير العام القومي وخارجيا للخير‬
‫المشترك الدولي‪.‬‬
‫ووجدت نظريات أخرى تحل محل نظرية السيادة المطلقة‪ ،‬منها نظرية‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬حاشية ف‪.5/‬‬

‫( ‪)8/434‬‬
‫(لباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص‬
‫آخرين ‪ ،‬وهذه القوة هي حق خاص للدولة لم تستمده من سلطة أخرى‪.‬‬
‫ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول‪ :‬أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الختصاص‪،‬‬
‫فهي السلطة الوحيدة في القليم التي تملك حق وضع دستور ينظم الدولة‪ ،‬ويحدد اختصاص سائر‬
‫الشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها‪.‬‬
‫وقال بعض فقهاء القانون الدولي‪ :‬يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في أمرين‪:‬‬
‫‪ - 1‬عمومية اختصاص الدولة‪ ،‬أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود إقليمها‪.‬‬
‫‪ - 2‬الخضوع المباشر للقانون الدولي العام‪ ،‬فتستمد منه حقوقها وواجباتها‪ ،‬وتخضع لما يقيد حريتها‬
‫في التصرف (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬تمييز السيادة عما يشتبه بها ‪:‬‬
‫‪ 22‬ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض النظمة وبعض مظاهر نشاط الدولة التي قد‬
‫تختلط أو تلتبس بها (‪. )2‬‬
‫أ ـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية ‪:‬‬
‫يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من الجائز أن تباشر دولة أو‬
‫هيئة دولية سلطة فعلية في إقليم ل يخضع لسيادتها‪ ،‬ومثالها نظامان‪:‬‬
‫‪ - 1‬اليجار‪ :‬ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءا من إقليمها لدولة أخرى‪ ،‬وتتولى الدولة المستأجرة‬
‫إدارة القليم محل اليجار‪ ،‬واستخدامه مقابل أجر معين تدفعه للدولة المؤجرة‪ ،‬كاستئجار أمريكا لمدة‬
‫(‪ )90‬عاما بعض مناطق في نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (‪1941‬م)‪.‬‬
‫‪ - 2‬الدارة‪ :‬ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة أخرى‪ ،‬وتتولى الدولة‬
‫المديرة إدارة القليم نيابة عن الدولة الولى‪ ،‬ولمصلحة هذه الدولة‪ ،‬كنظام الوصاية الدولية تحت‬
‫إشراف المم المتحدة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حافظ غانم‪ :‬ص ‪ ،137-128‬ثروت بدوي‪ :‬ص ‪ 40‬وما بعدها‪ ،‬حامد سلطان‪ :‬ص ‪ ،150‬فؤاد‬
‫شباط‪ :‬ص ‪ ،62‬المراجع السابقة‪.‬‬
‫(‪ )2‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 132‬ومابعدها‪ ،‬الشريعة والقانون الدولي‪ ،‬علي منصور ص‬
‫‪.123‬‬

‫( ‪)8/435‬‬
‫ب ـ التمييز بين السيادة والملكية ‪:‬‬
‫‪ 23‬ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها‪،‬‬
‫واعتبار هذا القليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه‪ ،‬ول يمكن تشبيه سلطات الدولة‬
‫واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد من الفراد‪ .‬فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية‬
‫الفراد أو الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة‪ ،‬وملكية الدولة لبعض الموال في داخل إقليمها‬
‫أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة القليمية‪.‬‬
‫بعد هذا التمهيد أذكر أمورا ثلثة‪:‬‬

‫( ‪)8/436‬‬

‫أولً ـ فكرة السيادة في الدولة السلمية ‪:‬‬


‫‪ 24‬ـ تتمتع الدولة السلمية بصفة السيادة في النطاقين الداخلي والخارجي بدءا من الحكومة النبوية‬
‫في المدينة وما تلها من عهود مستقلة‪ .‬ففي النطاق الداخلي‪ :‬للدولة الهيمنة التامة على جميع‬
‫الشخاص والهيئات القائمة في دار السلم‪ .‬فتلتزم الرعية بالطاعة والسمع ضمن حدود الشرع‪ .‬قال‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم ‪( :‬ل طاعة في معصية ال ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف) (‪ . )1‬وقال‬
‫الماوردي‪ :‬بعد أن ذكر ما يلزم المام من المور العامة‪( :‬وإذا قام المام بما ذكرناه من حقوق المة‪،‬‬
‫فقد أدى حق ال تعالى فيما لهم وعليهم‪ ،‬ووجب له عليهم حقان‪( :‬الطاعة والنصرة) ما لم يتغير حاله‪.‬‬
‫والذي يتغير به حاله‪ ،‬فيخرج به عن المامة شيئان‪ :‬أحدهما‪ :‬جرح في عدالته‪ .‬والثاني‪ :‬نقص بدنه‪.‬‬
‫فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين‪ :‬أحدهما‪ :‬ما تابع فيه الشهوة‪ ،‬والثاني‪ :‬ما تعلق‬
‫فيه بشبهة‪ ،‬فأما الول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح‪ :‬وهو ارتكاب للمحظورات وإقدامه على‬
‫المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى‪ ،‬فهذا فسق يمنع من انعقاد المامة ومن استدامتها‪...‬الخ) (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫وفي موضوع تقليد المارة على الجهاد‪ ،‬قال الماوردي أيضا‪ :‬وأما ما يلزمهم ‪-‬أي الجيش في حق‬
‫المير عليهم ‪ -‬فأربعة أشياء‪:‬‬
‫ـ أحدها‪ :‬التزام طاعته والدخول في وليته‪ ،‬لن وليته عليهم انعقدت وطاعته بالولية وجبت‪.‬‬
‫ـ والثاني‪ :‬أن يفوضوا المر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره‪ ،‬حتى لتختلف آراؤهم فتختلف كلمتهم‪،‬‬
‫ويفترق جمعهم‪.‬‬
‫ـ والثالث‪ :‬أن يسارعوا إلى امتثال المر والوقوف عند نهيه وزجره‪ ،‬لنهما من لوازم طاعته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم من حديث علي (شرح مسلم للنووي‪ 226/12 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،15‬وانظر الحكام السلطانية لبي يعلى‪ :‬ص ‪.30 ،8‬‬

‫( ‪)8/437‬‬

‫ـ والرابع‪ :‬أن ل ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه‪. )1( )...‬‬
‫وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره القرآن الكريم من مبدأ‬
‫توفير العزة والستقلل الكامل لدولة السلم دون السماح لية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة‬
‫التسلط عليه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء‪ . ]141/4:‬وقال‬
‫سبحانه‪{ :‬ول العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون‪ . ]63/8:‬والعزة تقتضي ـ كما ذكر سابقا ـ‬
‫الستقلل ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على المام (تحصين الثغور والحدود بالعدة المانعة‬
‫والقوة الدافعة حتى ل تظفر العداء بغرق ينتهكون بها محرما‪ ،‬أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما)‬
‫( ‪. )2‬‬
‫ثانيا ـ نصاب الحاكمية أو حدها الدنى في التحقق‪ ،‬والفرق بينه وبين الحد الدنى في تطبيق الحكام‬
‫لتحقق مفهوم دار السلم ‪:‬‬
‫‪ 25‬ـ إن السيادة الثابتة للدولة السلمية بالمعنى السابق ل تتقيد إل بقيود أو حدود الشرع أو بالتعبير‬
‫الحديث (مبدأ سيادة القانون)‪ ،‬لن من أولى واجبات الدولة السلمية (حفظ الدين على أصوله‬
‫المستقرة وما أجمع عليه سلف المة) (‪ ، )3‬والحد الدنى المطلوب شرعا لتحقيق سيادة الشرع أو‬
‫كون الحاكمية ل تعالى يتوافر بما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬إقرار عقيدة التوحيد‪ :‬إن أول مظهر للسلم هو إعلن أصول عقيدته‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.45‬‬
‫(‪ )2‬الماوردي‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،14‬الحكام السلطانية لبي يعلى‪ :‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )3‬الماوردي‪ :‬ص ‪ ،14‬أبو يعلى‪ :‬ص ‪.11‬‬

‫( ‪)8/438‬‬
‫المعروفة‪ :‬وهي اليمان بال تعالى وبملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وبالقدر خيره وشره حلوه‬
‫ومره من ال تعالى (‪. )1‬‬
‫‪ - 2‬التزام الحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع الثبوت قطعي الدللة‪،‬‬
‫كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج‪ ،‬وتحريم جرائم الحدود‪ :‬وهي الزنا والقذف‬
‫والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان‪،‬‬
‫وتحريم الربا‪ ،‬والميسر‪ ،‬وزواج المحارم‪ ،‬وزواج المسلمة بغير المسلم‪،‬وإيجاب الكفارات المقدرة‬
‫لليمان أو انتهاك حرمة بعض النظمة أوالفروض الدينية (‪. )2‬‬
‫‪ - 3‬إنفاذ الحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في السنة أو في الجماع‬
‫كنظام المواريث والسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما‪ .‬وطرق الثبات والقضاء‪،‬‬
‫ونظم السلم والحرب‪ ،‬ونحو ذلك مما يتصل بالتزام الوامر واجتناب النواهي‪.‬‬
‫‪ - 4‬احترام مبادئ السلم السياسية والمدنية والقتصادية‪ :‬كمبدأ الشورى والعدل والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والوفاء بالعهود والعقود واللتزامات‪ ،‬والحفاظ على الحقوق‪ ،‬وتحقيق المن‪ ،‬ودفع‬
‫الذى والضرر ومنع الظلم وجهاد العداء‪ ،‬وسد الذرائع إلى الفساد‪ ،‬وحماية النفس والموال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬القدر‪ :‬ل شر فيه بوجه من الوجوه‪ ،‬فإنه علم ال وقدرته وكتابته ومشيئه‪ ،‬وذلك خير محض‬
‫وكمال من كل وجه‪ ،‬ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه‪ ،‬ل في ذاته ول في أسمائه ول في‬
‫صفاته ول في أفعاله‪ ،‬وإنما يدخل الشر الجزئي الضافي في المقضي المقدر‪ ،‬ويكون شرا بالنسبة إلى‬
‫محل وخيرا بالنسبة إلى محل آخر‪ ،‬وقد يكون خيرا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه‪ ،‬كما هو شر‬
‫له من وجه‪ ،‬بل هذا هو الغالب‪ .‬وهذ ما يحقق معنى التكامل في الحياة (راجع العقيدة الواسطية لبن‬
‫تيمية)‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر كتب أصول الفقه ـ باب الجتهاد‪.‬‬

‫( ‪)8/439‬‬

‫والعراض‪ ،‬وإقرار المسؤولية الفردية وضمان العتداء أو الضرر‪ ،‬وتحريم الحتكار والغش‬
‫والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان (‪ ، )1‬وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها‬
‫ذات وظيفة اجتماعية‪ ،‬وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة‪.‬‬
‫وأما ما عدا ذلك من المور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة‪ ،‬فللعلماء المختصين الجتهاد‬
‫فيها‪ ،‬عملً بأن الصل في الشياء النافعة هو الباحة‪ ،‬وفي الشياء الضارة هو الحظر أو المنع‪،‬‬
‫ولقول الرسول عليه الصلة والسلم‪« :‬أنتم أعلم بأمر دنياكم» (‪ ، )2‬ولكن بشرط أل يصادم الجتهاد‬
‫ل من أصول الشريعة‪ ،‬أي أنه ل بد لصحة الجتهاد وسلمته من‬
‫مبدأ أساسيا من مبادئ السلم أوأص ً‬
‫أن يكون متجاوبا مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية‪ ،‬كما هو معروف في علم أصول‬
‫الفقه‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن الحد الدنى لحاكمية ال ‪ ،‬هو تطبيق الحكام القطعية والمجمع عليها وإقامة الحدود‪،‬‬
‫وأما بقية الحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه الحاكمية‪ ،‬إل أن الخلل بتطبيق الحد الدنى لتلك‬
‫الحاكمية ل يمكننا من السراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف السلم‪ ،‬لن الحكم بالتكفير والتبري‬
‫ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء‪ ،‬ولن التكفير ل يكون إل بالترك‪ ،‬اعتقادا بعدم‬
‫الصلحية أو مجاهرة بإعلن الكفر صراحة‪.‬‬
‫‪ - 26‬ويلحظ أن هذا الحد الدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الدنى المطلوب لتحقيق مفهوم‬
‫دار السلم‪ ،‬إذ يكفي لتحقيق مدلول دار السلم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 29‬و ‪ 45‬وما بعدها‪ ،‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 63‬وما بعدها و‬
‫‪ 143‬وما بعدها‪ 155 ،‬وما بعدها‪ ،‬المحلى لبن حزم‪ 440/9 :‬م‪.1772/‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم عن أنس وعائشة (شرح مسلم‪.)118/15 :‬‬

‫( ‪)8/440‬‬

‫لتتميز عن دارا لحرب‪ :‬إقامة شعائر الدين أو غالبها فيها‪ ،‬أو التمكين من أدائها‪ ،‬مثل إقامة صلة‬
‫الجمعة والجماعة والعياد وإعلن الذان (‪. )1‬‬
‫أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية ل فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪،‬‬
‫والتزام الحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى‪{ :‬وما كان لمؤمن‬
‫ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الحزاب‪{ ]36/33:‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم} [النساء‪ ، ]59/4:‬إذ بذلك يتحقق المقصود‬
‫من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح للبشرية‪.‬‬
‫ثالثا ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلد السلم؟‬
‫‪ - 27‬إن الصل العام المقرر عند علماء الشاعرة والمعتزلة والخوارج أن المامة والسلطة السياسية‬
‫في دار السلم في المشرق والمغرب السلمي واحدة (‪ )2‬لن السلم دين الوحدة‪ ،‬ولن المسلمين‬
‫أمة واحدة‪ ،‬رائدها التعاون والتضامن‪ ،‬وعدوها التفرق والتنازع والتمزق‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬إن هذه‬
‫أمتكم أمة واحدة} [النبياء‪{ ]92/21:‬إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات‪{ ]10/49:‬واعتصموا بحبل ال‬
‫جميعا ول تفرقوا‪[ }...‬آل عمران‪{ ]103/3:‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم‬
‫البينات‪ ،‬وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران‪.]105/3:‬‬
‫ويؤكد الرسول صلّى ال عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا‪ ،‬فيقول‪« :‬المسلم أخو المسلم ل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬بحث دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪ :‬ف‪.48/‬‬
‫(‪ )2‬البحر الزخار‪ ،386/5 :‬أصول الدين للبغدادي‪ :‬ص ‪.274‬‬

‫( ‪)8/441‬‬

‫يظلمه ول يخذُله ول يكذِبه» (‪« )1‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (‪« )2‬مثل المؤمنين في‬
‫توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»‬
‫(‪« )3‬إن المؤمن من أّهل اليمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لهل اليمان كما يألم الجسد لما في‬
‫الرأس» (‪. )4‬‬
‫وأجمع الصحابة يوم السقيفة لنتخاب خليفة بعد النبي صلّى ال عليه وسلم على أنه ل يجوز إمامان‬
‫في وقت واحد‪ ،‬بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب الحُبَاب بن المنذر النصاري رضي ال عنهما‬
‫حينما قال‪( :‬منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش)‪ :‬فقال‪( :‬سيفان في غمد إذن ل يصلحان)‪.‬‬
‫وقرر الفقهاء إنه ل يجوز إمامان في بلد واحد‪ ،‬حتى وإن كانت الجهات متباينة لقيام العمال مقام‬
‫المام الخر في المقصود ولفعل الصحابة (‪ )5‬الذين امتثلوا أوامر الرسول صلّى ال عليه وسلم حيث‬
‫قال‪« :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» (‪« )6‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن‬
‫يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (‪« )7‬إنه ل نبي بعدي‪ ،‬وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟ قال‪ :‬أوفوا ببيعة الول‪ ،‬ثم أعطوهم حقهم‪ ،‬وسلوا ال الذي لكم‪ ،‬فإن ال‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم عن أبي هريرة (الربعين النووية)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الشعري (الفتح الكبير والجامع‬
‫الصغير)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير (المرجعان السابقان)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد‪.)87/8 :‬‬
‫(‪ )5‬البحر الزخار‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬مقالت السلميين واختلف المصلين للشعري‪ ،133/2 :‬ف‪/‬‬
‫‪ ،180‬وانظر للتفصيل في الموسوعة الفقهية‪ :‬إمامة‪.‬‬
‫(‪ )6‬أي أبطلوا البيعة الخيرة‪ ،‬قال في النهاية‪ :‬أي أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات‪ ،‬رواه مسلم عن‬
‫أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي‪.)242/12 :‬‬
‫(‪ )7‬رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح (شرح مسلم‪.)242/12 :‬‬

‫( ‪)8/442‬‬

‫سائلهم عما استرعاهم» (‪. )1‬‬


‫قال الماوردي وتبعه أبو يعلى‪( :‬إذا عقدت المامة لمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما‪ ،‬لنه ل يجوز‬
‫أن يكون للمة إمامان في وقت واحد‪ ،‬وإن شذ قوم فجوزوه) (‪. )2‬‬
‫وقال ابن حزم‪( :‬ول يحل أن يكون في الدنيا إل إمام واحد‪ ،‬والمر للول بيعة) (‪ )3‬وأضاف أيضا‪:‬‬
‫(واتفقوا ـ أي الفقهاء ـ أنه ل يجوز على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان‪ ،‬ل متفقان‬
‫ول مفترقان‪ ،‬ول في مكانين‪ ،‬ول في مكان واحد) (‪. )4‬‬
‫‪ - 28‬وأجاز قوم تعدد الئمة عند تباعد الديار‪ ،‬وكمال الغرض المقصود بهم وهؤلء القوم‪ :‬هم (إمام‬
‫الحرمين وصاحب المواقف وأبو منصور البغدادي‪ ،‬والكرّامية وأبو الصباح السمرقندي وأصحابه‪،‬‬
‫والمامية والزيدية‪ ،‬والجاحظ‪ ،‬وعبّاد الصيمري‪ ،‬والناصر‪ ،‬والمام يحيى بن حمزة بن علي الحسيني‪،‬‬
‫والمؤيد في قول له من آل البيت) (‪. )5‬‬
‫وعباراتهم هي ما يأتي‪:‬‬
‫قال إمام الحرمين‪:‬والذي عندي أن عقد المامة لشخصين في صقع (‪)6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (شرح مسلم‪ ، 231/12 :‬جامع الصول‪.)443/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،7‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪.9‬‬
‫(‪ )3‬المحلى‪ ،439/9 :‬ف‪.1770/‬‬
‫(‪ )4‬مراتب الجماع‪ :‬ص ‪.124‬‬
‫(‪ )5‬الرشاد لمام الحرمين‪ :‬ص ‪ ،425‬ط الخانجي‪ ،‬المواقف وشرحها لليجي والجرجاني‪،353/8 :‬‬
‫أصول الدين للبغدادي‪ ،‬ص ‪ ،274‬الفصل في الملل والنحل‪ ،88/4 :‬الملل والنحل للشهرستاني‪:‬‬
‫‪ ،113/1‬البحر الزخار‪.386/5 :‬‬
‫(‪ )6‬الصقع‪ :‬بضم الصاد‪ :‬الناحية‪.‬‬

‫( ‪)8/443‬‬

‫واحد متضايق الخطط والمخالف (‪ )1‬غير جائز‪ ،‬وقد حصل الجماع عليه‪ ،‬وأما إذا بعد المدى وتخلل‬
‫بين المامين شسوع (‪ )2‬النوى‪ ،‬فللحتمال في ذلك مجال‪ ،‬وهو خارج عن القواطع (‪. )3‬‬
‫وقال صاحب المواقف‪( :‬ول يجوز العقد لمامين في صقع متضايق القطار‪ ،‬أما في متسعها بحيث ل‬
‫يسمع الواحد تدبيره فهو محل الجتهاد)‪.‬‬
‫وقال البغدادي‪( :‬ل يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة‪ ...‬إل أن يكون بين البلدين‬
‫بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الخر‪ ،‬فيجوز حينئذ لهل كل واحد منهما عقد‬
‫المامة لواحد من أهل ناحيته)‪.‬‬
‫وذكر الشهرستاني عن الكرامية‪( :‬إنهم جوزوا عقد البيعة لمامين في قطرين‪ ،‬وغرضهم إثبات إمامة‬
‫معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه‪ ،‬وإثبات أمر المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق‬
‫جماعة من الصحابة‪.)...‬‬
‫وأبان ابن حزم في كتابه‪( :‬ال ِفصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن كرام السجستاني وأبا‬
‫الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد‪ ،‬واحتج هؤلء بقول‬
‫النصار‪ ،‬أو من قال منهم يوم السقيفة‪« :‬منا أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضا بأمرعلي والحسين مع‬
‫معاوية رضي ال عنهم‪.‬‬
‫ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الئمة مع تباعد الدار‪ ،‬ثم قال‬
‫عن مذهب الزيدية‪ :‬والصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (‪. )4‬‬
‫وقال الشعري في مقالت السلميين‪( :‬وقال قائلون‪ :‬يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد‪ ،‬أحدهما‬
‫صامت والخر باطن‪ ،‬فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول الرافضة‪ .‬وجوز بعضهم ثلثة أئمة‬
‫في وقت واحد‪ ،‬أحدهم صامت‪ ،‬وأنكر أكثرهم ذلك)‪.‬‬
‫وسيأتي في بحث (زوال الدولة السلمية) أحكام الجزاء المنفصلة عن السلطة الصلية ليعرف‬
‫مصيرها وصفتها‪ :‬هل هي دولة إسلمية أو ل؟)‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬جمع مخلفة بوزن متربة‪ :‬وهي الموضع‪.‬‬
‫(‪ )2‬الشسوع‪ :‬البعيد‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي الدلة القاطعة التي تفيد اليقين بوجوب وحدة المة‪.‬‬

‫(‪ )4‬وانظر كتاب الشافعي ـ للستاذ الشيخ محمد أبو زهرة‪ :‬ص ‪.99‬‬

‫( ‪)8/444‬‬

‫المطلب الثاني ـ نشأة الدولة السلمية ‪:‬‬


‫وفيه تمهيد وثلثة فروع‪:‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫مبدأ نشوء الدولة بمجرد تكامل أركانها ‪:‬‬
‫‪ - 29‬تنشأ الدولة الحديثة باستكمال عناصر مادية مكونة لها وهي (الشعب والقليم والسلطة السياسية‬
‫الحاكمة) وباعتراف المجتمع الدولي بها‪.‬‬
‫والدولة هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية‪ ،‬فالجماعات السياسية الخرى لها نفس المقومات‬
‫الساسية التي للدولة الن‪ ،‬فهي ل تختلف عنها في الطبيعة والكُنْه‪ ،‬وإنما الفروق التي بينها هي فروق‬
‫كيفية ل تمس الجوهر‪ ،‬لذلك تقوم الدولة كغيرها من المجموعات السياسية على أساس وجود مجموعة‬
‫كبيرة من الناس يقطنون في إقليم معين‪ ،‬ويخضعون لتنظيم سياسي معين (‪ . )1‬فإذا وجدت هذه‬
‫العناصر أو الركان نشأت الدولة‪.‬‬
‫ل بمعنى الكلمة كالدولة المصرية القديمة والدولة الفارسية والدولة‬
‫وقد عرف التاريخ القديم دو ً‬
‫الرومانية‪.‬‬
‫وقامت على هذا النحو في الجزيرة العربية دولة إسلمية بزغ فجرها بعد هجرة النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم من مكة إلى المدينة سنة (‪622‬م) (‪ ، )2‬كان فيها الرسول صلّى ال عليه وسلم يباشر أعمال‬
‫الحاكم في ضوء رسالة السلم‪ ،‬ثم تتابع على حكم هذه الدولة الخلفاء الراشدون‪ ،‬فالمويون‪ ،‬ثم‬
‫العباسيون‪...‬إلخ‪ ،‬أي أن نشأة الدولة السلمية في صدر السلم تمتد بطريقة تدريجية على أساس‬
‫البيعة والعهد‪ ،‬لن سيرة النبي صلّى ال عليه وسلم وتعاليمه الدينية أوجدت نظاما اجتماعيا معينا‪،‬‬
‫وهذا النظام الجتماعي هو الذي أوجد نظام الحكومة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ثروت بدوي‪ :‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.28‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ السلم السياسي للدكتور حسن إبراهيم‪.100/1 :‬‬
‫(‪ )3‬بحث الدكتور محمد عزيز أحمد عن (مفهوم الدولة في السلم) المنشور في مجلة (المسلمون) ـ‬
‫المجلد الرابع ـ العدد السادس ـ ص ‪.59‬‬

‫( ‪)8/445‬‬

‫يبدو من ذلك أن الدولة السلمية (‪ )1‬تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر المكونة لها عادة من‬
‫إقليم وسكان وتنظيم سياسي‪ ،‬فالقليم هو دار السلم والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (‪، )2‬‬
‫والتنظيم السياسي‪ :‬هو السلطة السلمية العليا (أو الخلفة أو المامة) أي أن للدولة المسلمة تنظيمها‬
‫الحكومي الخاص‪.‬‬
‫الفرع الول ـ طرق نشأة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 30‬إن نشأة الدولة السلمية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على إحدى صورتين كغيرها من‬
‫الدول (‪. )3‬‬
‫آ ـ نشوء جديد كلية‪ :‬قد تنشأ الدولة من عناصر جديدة إما بامتلكها عنوة أو سلما أو بهجرة‬
‫مجموعة من الناس واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف‪،‬‬
‫وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬يلحظ أن اصطلحات الدين والدولة والعقيدة والسياسة ونحوها عند الغربيين يجمعها عندنا كلمة‬
‫(الدين السلمي) الذي يشمل كل هذه المصطلحات متلزمة‪ ،‬غير منفصلة ول متباعدة‪ ،‬فالعبادة‬
‫والمعاملت التجارية والقضاء والدارة والحكم والحرب والسلم كلهاتلتقي في ظل نظام واحد هو نظام‬
‫السلم‪ ،‬وتنبع من عقيدة واحدة هي عقيدة السلم‪.‬‬
‫(‪ )2‬أهل الذمة‪ :‬هم الطوائف الخرى غير المسلمة التي تقيم في دار السلمي بموجب عقد الذمة‪.‬‬
‫(‪ )3‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ 266‬وما بعدها‪ ،‬الشريعة والقانون الدولي‪ ،‬علي منصور‪ :‬ص‬
‫‪ 159‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/446‬‬
‫وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها‪ ،‬ومنها الدولة السلمية الولى في‬
‫المدينة وما جاورها‪ ،‬ثم امتدادها بطريق الفتح إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان السلمية المفتوحة‪،‬‬
‫فقد هاجر المسلمون إلى المدينة‪ ،‬ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها‪ ،‬وكونوا لنفسهم حكومة‬
‫ونظاما سياسيا خاصا يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا‪.‬‬
‫ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة‪ :‬وهذا يكون إما بالنفصال أو بالتحاد‪ ،‬وقد حدثت الحالة الولى‬
‫باستقلل الدول المنفصلة عن الخلفة العباسية‪ ،‬وتكوين دول مستقلة في الندلس والمغرب ومصر‬
‫وإيران‪ .‬ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم السلمي الحاضرة إما في‬
‫شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام الخلفة السابق‪ ،‬وإما في شكل اتحاد فعلي‪ ،‬أو دولة‬
‫تعاهدية‪ ،‬ويتم التعاهد إما بالتفاق الختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلً‪.‬‬
‫الفرع الثاني ـ العتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي ‪:‬‬
‫ماهية مبدأ العتراف ومسوغاته ‪:‬‬
‫‪ - 31‬إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور السلم‬
‫وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف‪ ،‬لذا كان مرجع تفصيل الحكام الدولية إلى القانون‬
‫الدولي العام‪ ،‬إل أن المبادئ الصلية والخلق الدولية السائدة مقررة بوضوح في السلم‪.‬‬
‫فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة‬
‫لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها‪ ،‬والعتراف بالدولة هو من جملة الحكام السلمية في العلقات‬
‫الدولية‪.‬‬

‫( ‪)8/447‬‬

‫وبما أن السلم ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علقاته مع الشعوب الخرى على‬
‫أساس أحد أمرين‪ :‬إما الدخول في السلم‪ ،‬أو المعاهدة والمان‪ ،‬فإن العتراف بوجود الدولة الخرى‬
‫غير المسلمة (دارا لحرب) أمر ل مانع منه استصلحا في مبدأ السلم وفقهه المتمثل في تقسيم العالم‬
‫إلى دارين‪ :‬دار إسلم ودار حرب‪ ،‬لن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في‬
‫الصل غير مسالمة للمسلمين ول متعاهدة معهم‪ ،‬فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة السلمية‬
‫وغيرها من دول دار الحرب‪ ،‬أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقا واحدا ينص على احترام السلم والمن‬
‫الدوليين‪ ،‬وتحريم التدخل في شؤون الدول الخرى كان ذلك اعترافا ضمنيا من الدولة السلمية‬
‫بغيرها‪ ،‬فضلً عن أن العتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة‪.‬‬
‫وهذا موافق لقوله تعالى‪{ :‬وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على ال ‪ ،‬إنه هو السميع العليم}‬
‫[النفال‪ ، ]61/8:‬وموافق أيضا لرأي الفقهاء القائلين بأن الصل في علقة المسلمين بغيرهم هو السلم‬
‫( ‪. )1‬‬
‫وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة العتراف بدولة غير مسلمة اعترافا علنيا أو ضمنيا حقوقيا أو واقعيا‬
‫بحسب الحال‪.‬‬
‫وكون الدعوة السلمية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬وبالتالي امتداد‬
‫سلطان الدولة السلمية مع انتشارها في المعمورة‪ :‬ل يعني تجاهل ظروف المكان وضرورات‬
‫الواقع ومصلحة السلم التي تجعل من دولة السلم إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر‬
‫العتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق السلم ووحي رسالته‪.‬‬
‫ويؤكد هذه المسوغات للعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الن عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو‬
‫مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى‪ ،‬وقادرة‬
‫على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام وتظهر الدول بالعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة‬
‫عضوا في الجماعة الدولية (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬جهاد أو حرب فيما سبق‪.‬‬
‫(‪ )2‬حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.268‬‬

‫( ‪)8/448‬‬

‫أنواع العتراف ‪:‬‬


‫‪ 32‬ـ للعتراف أنواع ثلثة حسبما يقرر فقهاء القانون الدولي الحديث‪ ،‬وهي‪ :‬العتراف الكامل‪،‬‬
‫والعتراف الناقص‪ ،‬والعتراف بحالة الحرب (‪. )1‬‬
‫أولً ‪ -‬العتراف الكامل ‪:‬‬
‫ل يكفي لنشوء الدولة الجديدة ـ كما تقدم ـ توافر وقائع مادية فقط (وهي الشعب والقليم والسلطة‬
‫الحاكمة) وإنما ل بد من أن يصاحب هذا النشوء إجراء قانوني هو العتراف بالدولة‪ ،‬ومقتضاه‬
‫التسليم من جانب الدول القائمة بوجود هذه الدول وقبولها كعضو في المجتمع الدولي‪ ،‬وذلك يتم بإحدى‬
‫صورتين‪:‬‬
‫أ ـ العتراف بالدولة‪ :‬يوجد هذا العتراف عادة بظهور دولة جديدة مستقلة وهو يتضمن العتراف‬
‫بكل حكومة شرعية تقوم فيها‪ ،‬ويتم إما صراحة أوعلنا بالنص عليه في معاهدة أو في وثيقة‬
‫دبلوماسية‪ ،‬وإما ضمنا بطريق التعامل مع الدولة الجديدة كتبادل التمثيل السياسي أو القنصلي‪ ،‬أو إبرام‬
‫معاهدات معها أو دعوتها لحضور المؤتمرات باعتبارها دولة مستقلة‪.‬‬
‫ب ـ العتراف بالحكومة‪ :‬محل هذا العتراف هو حكومة جديدة وجدت في دولة قديمة نتيجة ثورة‬
‫شعبية‪ ،‬أو انقلب عسكري (‪ )2‬يؤدي إلى تغيير نظام الحكم فيها‪ ،‬وإحلل حكومة جديدة محل‬
‫الحكومة القديمة (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ل مانع في السلم من اختيار الحاكم العمل بإحدى هذه الصور في ضوء تقديره للمصالح العامة‬
‫ومقتضيات السياسة الشرعية مادام كون مبدأ العتراف مسلّما به بحسب قواعد السلم كما تقدم‪.‬‬
‫(‪ )2‬تنعقد المامة عند فقهاء السلم بوجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬باختيار أهل الحل والعقد (أي بالبيعة أو‬
‫النتخاب) والثاني‪ :‬بعهد المام من قبل أو يجعل شورى بين قوم‪ .‬وروي عن المام أحمد وغيره‪ :‬أنها‬
‫تثبت بالقهر والغلبة‪ ،‬ول تفتقر إلى العقد‪ ،‬وعبارة الحنفية في ذلك‪ :‬تنعقد الخلفة باستيلء رجل جامع‬
‫للشروط على الناس وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة‪ .‬ثم إن استولى من لم يجمع الشروط ل‬
‫ينبغي أن يبادر إلى المخالعة‪ ،‬لن خلعه ل يتصور غالبا إل بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة‬
‫أشد مما يرجى من المصلحة‪ .‬وسئل رسول ال صلّى ال عليه وسلم عنهم‪ ،‬فقيل‪ :‬أفل ننابذهم؟ قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة‪ ،‬وقال‪ :‬إل أن تروا كفرا بواحا‪ ،‬وهذا من قبيل التسليم بالواقع اضطرارا‬
‫منعا للفوضى مع مخالفة مبدأ الشورى المقرر في السلم (راجع المنهاج ومغني المحتاج‪- 130/4 :‬‬
‫‪ ،132‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 4‬و ‪ ،9-8‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ ،7-6‬حجة ال البالغة‪:‬‬
‫‪ ،111/2‬وانظر إمامة أو خلفة في الموسوعة الفقهية) وإقرار الفقهاء لحالت المامة الستثنائية يدل‬
‫على جواز إقرار حالت واقعية مماثلة‪.‬‬
‫(‪ )3‬حافظ غانم‪ :‬ص ‪ ،277‬علي منصور‪ :‬ص ‪ 162‬و ‪ ،166‬المرجعان السابقان‪.‬‬

‫( ‪)8/449‬‬

‫ثانيا ـ العتراف الناقص أو التمهيدي ‪:‬‬


‫‪ - 33‬إذا لم تستكمل الدولة عناصرها‪ ،‬فمن الجائز إصدار اعتراف تمهيدي بالجماعة التي تسعى عن‬
‫طريق ثورة أو حركة انفصالية (‪ )1‬إلى إنشاء دولة مستقلة‪ ،‬ويتضمن هذا العتراف إقرار الحالة‬
‫القائمة فعلً بين جماعة الثورة والدولة الصل‪.‬‬
‫ولهذا العتراف عند فقهاء القانون صور ثلث (‪: )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ل يجوز العتراف في السلم بالجماعة الثائرة في وجه الدولة السلمية‪ ،‬كما حدث عندما‬
‫انفصلت الندلس عن الشرق لم يعترف بها خلفاء بغداد مطلقا‪ ،‬لنهم جماعة بغاة ينبغي عدم العانة‬
‫على انشقاقهم أو إنجاح ثورتهم‪ ،‬وعليه فلم يكن المويون في الندلس والدارسة في المغرب القصى‬
‫إل بغاة يجب إخضاعهم وردهم إلى التزام طاعة الخليفة أو المام‪.‬‬
‫(‪ )2‬حافظ غانم ‪ :‬ص ‪ 271‬وما بعدها‪ ،‬علي منصور‪ :‬ص ‪ 164‬وما بعدها‪ ،‬الحقوق الدولية العامة‪،‬‬
‫فؤاد شباط‪ :‬ص ‪.178-175‬‬

‫( ‪)8/450‬‬

‫أ ـ العتراف بالمة‪ :‬هذا النوع من العتراف خطوة في سبيل العتراف بالدولة‪ ،‬ويتم عادة من‬
‫الدول أصحاب المصالح مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق العتراف بلجنة قومية تشكلت في‬
‫الخارج‪ ،‬وتتعامل معها بعض الدول الجنبية‪ ،‬كأنها تمثل (المة) التي تنتسب إليها‪ ،‬وذلك مثل‬
‫اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني‪.‬‬
‫ب ـ العتراف بالثورة‪ :‬وهو يحصل إذا ما نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من‬
‫إقليمها عنها‪ ،‬ويقصد بالثورة‪ :‬الهياج المسلح الذي ل يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الهلية‪.‬‬
‫جـ ـ العتراف بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى ) ‪ :‬وهذا مثل العتراف بالمة يتم باعتراف‬
‫بعض الدول الجنبية بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية‬
‫تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلب عسكري يتسلم فيه زعيم النقلب مقاليد السلطة في‬
‫داخل البلد‪ ،‬وذلك تمهيدا لدخول تلك الحكومة إلى البلد لطرد جماعة النقلب‪ ،‬وممارسة الحكم فيها‬
‫بالسيطرة على القليم والشعب ومباشرة سائر الختصاصات المتعلقة بالحكم‪.‬‬

‫( ‪)8/451‬‬

‫ثالثا ـ العتراف بحالة الحرب ‪:‬‬


‫‪ - 34‬وهو يحصل إذا ما اتخذت الثورة شكل الحرب الهلية‪ ،‬وأصبح للثوار حكومة منظمة تباشر‬
‫سلطاتها على إقليم معين‪ ،‬وجيش يتبع قواعد الحرب‪ ،‬ويترتب على اعتبار حالة الحرب قائمة بما‬
‫يتبعها من آثار فيما يتعلق باتباع قواعد الحرب الدولية‪ ،‬والتزام الدولة المعترفة بمراعاة جانب الحياد‬
‫حتى يتقرر مصير الحرب الدائرة‪ ،‬وينتهي النضال لصالح القليم الثائر أو دولة الصل (‪. )1‬‬
‫وهذا الوضع يشبه في الفقه السلمي حالة البغاة أو دار البغي‪ ،‬فإذا تعذر على الحاكم الصلي‬
‫إخضاع البغاة‪ ،‬وظلوا مسيطرين على الماكن التي أعلنوا فيها سلطانهم كان معنى ذلك إمكان صدور‬
‫اعتراف بهم من الخرين على أساس المر الواقع‪ ،‬مع تقدير أن العتراف يسيء إلى الدولة الصل‪.‬‬
‫الفرع الثالث ـ شخصية الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 35‬تتمتع الدولة السلمية بشخصية مستقلة تعرف حديثا بالشخصية المعنوية أو العتبارية (‪)2‬‬
‫وقد أقر فقهاء السلم مدلول هذا الصطلح بدليل ما قرروه من نتائج أو خصائص بالنسبة للدولة‬
‫ونحوها وهي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حافظ غانم‪ ،‬وعلي منصور‪ ،‬المرجعان السابقان‪.‬‬
‫(‪ )2‬عرف الفقه الدولي الغربي في منتصف القرن العشرين هذا الصطلح الذي فرضه لبعض‬
‫الجهات أو المؤسسات العامة‪ ،‬واعتبر أن الدولة تتمتع بالشخصية المعنوية‪ ،‬ورتب عليها النتائج التية‪:‬‬
‫أ ـ تعد الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص الحكام‪.‬‬
‫ب ـ حقوق الدولة تظل قائمة مدة بقائها وإن تبدل ممثلوها‪ ،‬والتزاماتها التي تتعهد بها ومعاهداتها‬
‫واتفاقاتها التي تبرمها تبقى نافذة فيها‪ ،‬وملتزمة بها بالرغم من تغير ممثليها‪ ،‬أو انقراض الشخاص‬
‫الذين تعاقدوا باسمها‪.‬‬
‫جـ ـ تظل القوانين التي تصدرها الدولة قائمة ما دامت لم تلغ أو تعدل صراحة أو ضمنا (حافظ‬
‫غانم ‪ :‬ص ‪ 140‬وما بعدها‪ ،‬ثروت بدوي‪ :‬ص ‪ 52‬وما بعدها‪ ،‬موجز القانون الدستوري للدكتور‬
‫عثمان خليل والدكتور سليمان الطحاوي‪ :‬ص ‪ 12‬ومابعدها‪ ،‬حامد سلطان‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪،185‬‬
‫محاضرات في النظرية العامة للحق للدكتور شمس الدين وكيل‪ :‬ص ‪.)113‬‬

‫( ‪)8/452‬‬

‫أ ـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص الحكام‪ ،‬فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على‬
‫السلطة يمارسها بصورة مؤقتة‪ ،‬ونيابة عن المة‪ ،‬كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها‬
‫الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم (‪ ، )1‬والتي يبدو منها أنهم كانوا يمارسون السلطة من أجل‬
‫مصلحة الجماعة السلمية ل من أجل مصالحهم الشخصية‪ ،‬فالخليفة يعتبر نفسه وكيلً عن المة في‬
‫أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة بحسب شريعة ال ورسوله (‪ ، )2‬وهو لهذا يستمد سلطانه من‬
‫المة‪ ،‬ولها حق نصحه وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (‪. )3‬‬
‫وكان العمال أو الموظفون ل ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم‪ ،‬وكذا نائب القاضي ل ينعزل بعزل‬
‫القاضي ول بموته؛ لن القاضي الذي استناب غيره في‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المامة والسياسة لبن قتيبة‪ :‬ص ‪16‬و ‪.50‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ السلم السياسي لحسن إبراهيم‪ 203/1 :‬وما بعدها‪ ،‬وقال صلّى ال عليه وسلم واصفا‬
‫المارة‪« :‬إنها أمانة‪ ،‬وإنها يوم القيامة خزي وندامة‪ ،‬إل من أخذها بحقها‪ ،‬وأدى الذي عليه فيها»‬
‫رواه مسلم عن أبي ذر (شرح مسلم للنووي‪.)209/12 :‬‬
‫(‪ )3‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 15‬وما بعدها‪ ،‬حجة ال البالغة‪ ،112/2 :‬نظام الحكم في‬
‫السلم‪ ،‬يوسف موسى‪ :‬ص ‪.124‬‬

‫( ‪)8/453‬‬

‫القضاء إنما يعمل بولية المة وفي حقوقها‪ ،‬ل بولية شخصية من السلطان ول في حقه الخاص؛ لن‬
‫الخليفة أو السلطان بمنزلة رسول معبر عن المة (‪. )1‬‬
‫‪ 1/35‬ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة السلمية ثابتة لها‪ ،‬وإن تغير حكامها بدليل أن عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه أبقى الراضي المفتوحة على ملكية أهلها‪ ،‬على أن يدفعوا خراجا دائما (‪ . )2‬وأكد‬
‫معظم الفقهاء هذا المعنى‪ ،‬فقرروا أنها وقف لجماعة المسلمين‪.‬‬
‫فقال مالك‪ :‬تصير الراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفا على المسلمين حيث غنت‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬المام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين‪ ،‬فتكون أرضا عشرية‪ ،‬أو يعيدها إلى‬
‫أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها‪ ،‬فتكون أرض خراج ويكون المشركون فيها أهل ذمة‪ ،‬أو يقفها‬
‫على جميع المسلمين‪.‬‬
‫وقال الحنابلة في الرجح عندهم‪ :‬إن المام يفعل ما يراه الصلح من قسمة هذه الراضي‪ ،‬ووقفها‬
‫مقابل خراج دائم يقرر عليها كالجرة‪.‬‬
‫وكذلك الراضي المملوكة عفوا لنجلء أهلها عنها خوفا‪ :‬تصير بالستيلء عليها وقفا‪ .‬وأيضا‬
‫الراضي المستولى عليها صلحا على أن ملك الرض لنا‪ ،‬تصير بهذا الصلح وقفا من دار السلم‪،‬‬
‫وليجوز بيعها ول رهنها (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،16/7 :‬و ‪ 37/6‬وما بعدها‪ ،‬المدخل إلى نظرية اللتزام العامة في الفقه السلمي للستاذ‬
‫الزرقاء‪ :‬ص ‪ ،262‬ف ‪./186‬‬
‫(‪ )2‬شرح السير الكبير‪ ،254/3 :‬الخراج لبي يوسف‪ :‬ص ‪ 24‬و ‪ 27‬و ‪ ،35‬القسطلني شرح‬
‫البخاري‪ ،200/5 :‬الموال‪ :‬ص ‪ ،58‬فتوح البلدان للبلذري‪ :‬ص ‪.275‬‬
‫(‪ )3‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 132‬وما بعدها‪ ،‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ 130‬وما بعدها‪ ،‬وانظر‬
‫للتفصيل بحث‪ :‬أموال الحربيين للمؤلف‪ :‬ف‪.88-84/‬‬

‫( ‪)8/454‬‬

‫وقال الفقهاء أيضا‪( :‬بيت المال وارث من ل وارث له) (‪ )1‬أي أن هذا حق ثبت له‪ ،‬وبديهي أن بيت‬
‫المال من أخص حقوق الدولة‪ ،‬بل ومن أهم مقومات وجودها‪ .‬ومن الحكام الفقهية‪ :‬لبيت المال حق‬
‫الخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة له (‪. )2‬‬
‫‪ - 2/35‬وأما بالنسبة للتزامات الدولة‪ ،‬فقال عنها فقهاؤنا‪ :‬تظل قائمة‪ ،‬ففي بحثهم المعاهدات مثلً‬
‫قالوا‪ :‬تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى تنقضي مدتها‪ ،‬أو ينقضها العدو‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (‪ [ )3‬المائدة ‪ ،]1/5‬وقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المسلمون عند شروطهم‬
‫ما وافق الحق من ذلك» (‪ ، )4‬فلو مات المام الذي عقد الهدنة أو عزل لم ينتقض العهد‪ ،‬وعلى من‬
‫بعده الوفاء به‪ ،‬لن العقد السابق كان باجتهاد‪ ،‬فلم يجز نقضه باجتهاد آخر‪ ،‬كما لم يجز للحاكم نقض‬
‫أحكام من قبله باجتهاد جديد‪ ،‬بدليل إتمام علي كرم ال وجهه ما عقده لهل نجران (‪ . )5‬وهذا يدل‬
‫على أن الدولة شخص اعتباري يمثله المام ويتعاقد باسمه‪.‬‬
‫ويشير إلى ذلك أيضا أن أمان الواحد من المسلمين رجلً أو امرأة يسري على المسلمين جميعا‪ ،‬لقوله‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬يترك مال من ل وارث له في بيت المال باتفاق المذاهب الربعة‪ ،‬غير أن الحنفية والحنابلة‬
‫يقولون‪ :‬إن هذا ليس بطريق الرث‪ ،‬وإنما هو من باب رعاية المصلحة على أنه مال ضائع فيصرف‬
‫في سبيل المصالح العامة‪ .‬وقال متأخرو المالكية‪ ،‬والراجح عند الشافعية‪ :‬يكون بيت المال وارثا‬
‫بشرط كونه منتظما (شرح السراجية‪ :‬ص ‪ ،11‬نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض‪ :‬ص ‪ ،20‬ط‬
‫الثانية)‪.‬‬
‫(‪ )2‬أسنى المطالب‪ ،265/2 :‬منْح الجليل للشيخ عليش‪.584/3 :‬‬
‫(‪ )3‬المائدة‪.1 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه الحاكم عن أنس وعائشة (الفتح الكبير) ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف « المسلمون‬
‫على شروطهم‪( »..‬نيل الوطار‪.)254/5 :‬‬
‫(‪ )5‬الدر المختار‪ ،25/3 :‬البدائع‪ ،16/7 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،155‬مغني المحتاج‪،261/4 :‬‬
‫المغني‪ ،462/8 :‬البحر الزخار‪ 450/5 :‬و ‪.455‬‬

‫( ‪)8/455‬‬

‫وهم يد على من سواهم» (‪ ، )1‬هذا الحديث يدل على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين‬
‫يمثلها أحدهم ويعتبر المان الصادر منه ملزما لهم‪.‬‬
‫ومن الحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا‪( :‬إن على بيت المال نفقة من ل عائل له من‬
‫الفقراء) (‪. )2‬‬
‫وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية‪ :‬إذا أتلف الحاكم شيئا في غير حالة تطبيق العقوبات‬
‫الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة‪ ،‬فضمان المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية‬
‫معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة المسلمين‪ ،‬قال عز الدين بن عبد السلم‪« :‬إن المام أو الحاكم‬
‫إذا أتلف شيئا من النفوس أوالموال في تصرفهما للمصالح‪ ،‬فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم‬
‫والمام‪ ،‬ودون عواقلها على قول الشافعي‪ ،‬لنهما لما تصرفا للمسلمين‪ ،‬صار كأن المسلمين هم‬
‫المتلفون‪ ،‬ولن ذلك يكثر في حقهما‪ ،‬فيتضرران به‪ ،‬ويتضرر عواقلهما) (‪. )3‬‬
‫وذكر فقهاء الحنفية‪ :‬إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق ال تعالى الخالصة له (أي من حقوق‬
‫المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر‪ ،‬واستوفى الحد‪ ،‬ثم ظهر أن الشهود ساقطو‬
‫العدالة‪ ،‬كأن كانوا محدودين في قذف‪ ،‬فالضمان في بيت المال‪ ،‬لن القاضي عمل في ذلك لعامة‬
‫المسلمين لعود منفعتها إليهم‪ :‬وهو الزجر‪ ،‬فكان خطؤه عليهم‪ ،‬فيؤدى (أي تدفع الدية) من بيت مالهم‪،‬‬
‫ول يضمن القاضي في ماله الخاص (‪. )4‬‬
‫يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها المكونين لها (‪ )5‬وهذا‬
‫هو المراد بالشخصية العتبارية للدولة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا‪ .‬وفي‬
‫الصحيحين ومسند أحمد عن علي‪( :‬ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)‪( ..‬نيل الوطار‪27/7 :‬‬
‫وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،51‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،122‬المهذب‪:‬‬
‫‪.167/2‬‬
‫(‪ )3‬قواعد الحكام في مصالح النام‪ ،165/2 :‬ط الستقامة‪ .‬وانظر للتفصيل‪ :‬نظرية الضمان للدكتور‬
‫وهبة الزحيلي‪ :‬ص ‪.337‬‬
‫(‪ )4‬البدائع‪ ،16/7 :‬رد المحتار‪ ،355/4 :‬ط الحلبي‪.‬‬
‫(‪ )5‬المدخل إلى نظرية اللتزام في الفقه للستاذ الزرقاء‪ :‬ص ‪ ،263‬المرجع السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/456‬‬

‫المبحث الثاني ـ خصائص الدولة السلمية ومقارنتها بالدولة الحديثة‬


‫المطلب الول‪ -‬خصائص الدولة السلمية ‪:‬‬
‫وفيه فرعان‪:‬‬
‫ل ـ كونها دولة فكرة ومبادئ لصلح الحياة البشرية ‪:‬‬
‫أو ً‬
‫‪ - 36‬إن نظرية الدولة في السلم تقوم أساسا على أنها دولة فكرية (أي ذات منهج إلهي) مؤسسة‬
‫على مبادئ وغايات محددة واضحة (‪ )1‬تنشد إصلح الحياة البشرية قاطبة على وفق منهج العقيدة‬
‫السلمية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي لتتأثر بأهواء الواضعين‪ ،‬ول بحدود إقليمية ضمن‬
‫نطاق أرضي معين‪.‬‬
‫وإنما دستور السلم شامل لكل من آمن به من بني النسان دون اعتبار لميزات الجنس والعنصر‬
‫والقوم والوطن بالمعنى الضيق‪ ،‬كما أن الدعوة إلى إقامة دولة في ظل السلم ل تعتمد على الروابط‬
‫العنصرية والواصر التاريخية التي تعتمد عليها الدول والقوميات في بنائها الحاضر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظرية السلم السياسية للمودودي‪ :‬ص ‪ 47‬وما بعدها‪ ،‬نظرية السلم وهديه في السياسة‬
‫والقانون والدستور له أيضا‪ :‬ص ‪ 71‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/457‬‬

‫فدولة السلم إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر العقيدة السلمية‬
‫وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة‬
‫للحياة الجتماعية والقتصادية والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة‪.‬‬
‫تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب‪ :‬وهي أن السلم يريد لها النمو والزدهار‬
‫والمحافظة على كرامتها والبقاء على خيراتها ومقدراتها بأيدي أهلها الصليين‪ ،‬على النقيض تماما‬
‫مما تفعله دول الستعمار الحاضرة‪ ،‬إذ أن الرغبة في نشر فكرة السلم ل تنشئ شيئا من الشر الذي‬
‫تنشئه الرغبة في نشر نفوذ بقصد الستغلل الذي يسمونه (الستعمار) (‪ ، )1‬فالفكرة إذن هي‬
‫السلم‪ ،‬وفكرة السلم التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب ل ينشأ عنها حب استغلل‬
‫أرض الخرين‪ ،‬أو طائفة أخرى من الناس‪.‬‬
‫ثانيا ـ كون غاية الدولة أداء رسالة السلم وجوبا اعتقاديا ‪:‬‬
‫‪ - 37‬إن الغاية الجوهرية للحكم السلمي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر رسالة السلم‪،‬‬
‫وحفظ الدين والدفاع عنه‪ ،‬حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم‬
‫على الدين‪ ،‬وإنما هو الهداية وما سواها من الشهادة بالطريق الحسنى وبالقتناع الحر (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نحو مجتمع إسلمي للمرحوم الستاذ سيد قطب‪ :‬ص ‪.97‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،210/4 :‬بجيرمي المنهج‪.227/4 :‬‬

‫( ‪)8/458‬‬

‫قال الماوردي وأبو يعلى‪ :‬إن أول المور التي تلزم المام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة‪ ،‬وما‬
‫أجمع عليه سلف المة‪ ،‬فإن نجم مبتدع‪ ،‬أو زاغ ذو شبهة عنه‪ ،‬أوضح له الحجة‪ ،‬وبيّن له الصواب‪،‬‬
‫وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل‪ ،‬والمة ممنوعة من زلل) (‪. )1‬‬
‫وقال الدهلوي‪( :‬إن أمهات المقاصد أمور‪ :‬منها‪ :‬حفظ الملة بنصب الخطباء والئمة والوعاظ‬
‫والمدرسين) (‪. )2‬‬
‫وقال ابن تيمية‪( :‬إن جميع الوليات في السلم مقصودها أن يكون الدين كله ل ‪ ،‬وأن تكون كلمة ال‬
‫هي العليا‪ ،‬فإن ال سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك‪ ،‬وبه أنزل الكتب‪ ،‬وبه أرسل الرسل‪ ،‬وعليه‬
‫جاهد الرسول والمؤمنون‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون} [الذاريات‪]56/51:‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬وما أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون} [النبياء‪:‬‬
‫‪ .]25/21‬وقال‪{ :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت} (‪[ )3:‬النحل‪:‬‬
‫‪.]36/16‬‬
‫وقال ابن تيمية أيضا‪ :‬المقصود الواجب بالوليات‪ :‬إصلح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا‬
‫مبينا‪ ،‬ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا‪ ،‬وإصلح ما ل يقوم الدين إل به من أمر دنياهم‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫قسم المال بين مستحقيه‪ ،‬وعقوبات المعتدين‪ ،‬فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه‪ ،‬ولهذا كان عمر بن‬
‫الخطاب يقول‪ :‬إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم‪ ،‬ويقيموا بينكم دينكم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،14‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )2‬حجة ال البالغة‪.132/2 :‬‬
‫(‪ )3‬الحسبة‪ :‬ص ‪ ،4‬ط المدينة‪.‬‬

‫( ‪)8/459‬‬

‫فلما تغيرت الرعية من وجه‪ ،‬والرعاة من وجه تناقضت المور‪ ،‬فإذا اجتهد الراعي في إصلح دينهم‬
‫ودنياهم بحسب المكان‪ ،‬كان من أفضل أهل زمانه‪ ،‬وكان من أفضل المجاهدين في سبيل ال ‪ ،‬فقد‬
‫روي‪ :‬يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (‪. )1‬‬
‫من ذلك يتبين أن غاية الدولة السلمية إصلح الدين والدنيا وإقامة العدل وإعلء كلمة ال تعالى ‪،‬‬
‫(أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وبهذا تحقق الحكومة السلمية المثل العلى الذي ينشده السلم للبشرية‪ .‬وهو تنفيذ أحكام الشريعة‪،‬‬
‫وتمكين المسلم من أن يحيا طبقا لمتطلباتها؛ لن الدين السلمي هو أساس كل التنظيمات في الحياة‪،‬‬
‫فكلمة (دين) تشمل جميع نواحي النشاط النساني‪ ،‬سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري‪ ،‬أم‬
‫في مضار الخلق والقتصاد والجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها كلها القرآن الكريم‬
‫(‪ . )2‬وبكلمة إجمالية‪ :‬إن مهمة الدولة السلمية هي نشر الحضارة ذات الطابع النساني الرفيع‪.‬‬
‫المطلب الثاني‪ -‬مقارنة الدولة السلمية بالدولة الحديثة ‪:‬‬
‫وفيه فرعان‪:‬‬
‫الفرع الول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة بالمبادئ والديان ‪:‬‬
‫‪ 38‬ـ ل نجد الن تقسيما للدول بحسب أديانها‪ ،‬ول يهتم القانون الدولي‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السياسية الشرعية‪ :‬ص ‪ ،24‬ط دار الكتاب العربي بمصر‪.‬‬
‫(‪ )2‬بحث مفهوم الدولة في السلم‪ ،‬الدكتور محمد عزيز أحمد المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد‬
‫الرابع‪ ،‬العدد السادس‪ :‬ص ‪.59‬‬

‫( ‪)8/460‬‬

‫العام بشأن دين الدولة‪ ،‬وإنما يعترف بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي‪ ،‬لكن من المعروف‬
‫أن الدول بحسب الدين أربع مجموعات رئيسية‪)1( :‬‬
‫المجموعة الولى‪ :‬الدول النصرانية‪.‬‬
‫المجموعة الثانية‪ :‬الدول اللدينية (العلمانية) والدول الملحدة‪.‬‬
‫المجموعة الثالثة‪ :‬الدول البوذية والهندوكية والبرهمية‪.‬‬
‫المجموعة الرابعة‪ :‬الدول السلمية‪.‬‬
‫أما المجموعة الولى‪ :‬فل تكتفي بتعيين دينها‪ ،‬بل هي تصرح في دساتيرها بمذهبها أيضا‪ ،‬فهناك دول‬
‫بروتستانية‪ ،‬ودول كاثوليكية‪ ،‬ودول أرثوذكسية‪ .‬وقد صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ول سيما‬
‫دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين الكثرية وثقافتها مكانا ممتازا‪ ،‬وتعمل على حمايتهما وتطورهما‬
‫(‪ . )2‬ففي إنجلترا‪ :‬نصت المادة (‪ )7‬من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانية‬
‫بحمل السلح لحماية أرواحهم في حدود القانون‪ .‬وفي المادة (‪ )8‬من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن‬
‫يرث أو يعتلي العرش البريطاني‪ .‬وفي المادة (‪ )3‬من قانون التسوية‪ :‬على كل شخص يتولى الملك‬
‫أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ول يسمح بتاتا لغير المسيحيين ول لغير البروتستانيين أن يكونوا‬
‫أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حاميا للكنيسة البروتستانية في العالم‪.‬‬
‫وفي اليونان‪ :‬تنص المادة (‪ )1‬من دستورها على أن المذهب الرسمي لمة اليونان هو مذهب الكنيسة‬
‫الرثوذكسية الشرقية‪ .‬وفي المادة (‪ )47‬من الدستور‪ :‬كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من‬
‫أتباع الكنيسة الرثوذكسية الشرقية‪.‬‬
‫وفي الدانمرك تنص المادة (‪ )2‬البند (‪ )5‬على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة النجيلية‬
‫اللوثرية‪ .‬وفي المادة (‪ )1‬البند (‪ : )3‬إن الكنيسة النجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في‬
‫الدانمرك‪.‬‬
‫وفي إيرلندة‪ :‬ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكانا خاصا للكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر بحث (مكان السلم في مفهوم الدولة) للستاذ عبد الرحمن خضر المنشور في مجلة‬
‫(المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد الول ـ ص ‪ 67‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬راجع بحث (عنصر العقيدة في الدستور) للستاذ ظفر أحمد النصاري المنشور في مجلة‬
‫(المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد السابع‪ :‬ص ‪.64-59‬‬

‫( ‪)8/461‬‬

‫وفي النرويج‪ :‬ينص البند الثاني من المادة (‪ )12‬على أنه ستظل الكنيسة النجيلية اللوثرية هي الكنيسة‬
‫الرسمية في الدولة‪ ،‬وفي الفقرة الثانية من البند الول‪ :‬يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة‬
‫المذكورة‪.‬‬
‫وفي السويد‪ :‬في البند الثاني من المادة ( ‪ :) 4‬يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب النجيلي‬
‫الخالص‪ ،‬وفي المادة (‪ )4‬من الدستور‪ :‬يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب‬
‫النجيلي‪.‬‬
‫وفي كولومبيا‪ :‬تنص المادة (‪ )53‬من الدستور على ضرورة تحسين العلقات بين الحكومة والكنيسة‬
‫الكاثوليكية‪.‬‬
‫وفي جمهورية كوستاريكا‪ :‬تنص المادة (‪ )66‬من الدستور على أن المذهب الكاثوليكي هو المذهب‬
‫الرسمي للدولة‪.‬‬
‫وفي جمهورية السلفادور‪ :‬تقرر المادة (‪ )12‬من الدستور‪ :‬أن الدولة تعترف بالشخصية القانونية‬
‫للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان‪ .‬وفي إسبانيا‪ :‬تنص المادة (‪ )9‬على أنه يجب أن يكون‬
‫رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية‪ .‬وفي المادة (‪ : )6‬على الدولة رسميا حماية اعتناق‬
‫وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها‪.‬‬
‫وفي البرتغال‪ :‬تقول المادة (‪ )24‬البند (‪ : )2‬لما كانت الجماعات البشرية البرتغالية التي ترعاها‬
‫الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة‬
‫في تحقيق الغايات‪ ،‬فإن الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية‪ ،‬وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها‬
‫مراكز ثقافية هامة‪.‬‬
‫وفي جمهورية البارجوراي‪ :‬تنص المادة (‪ )3‬من الدستور على أن المذهب الرسمي للدولة‪ :‬هومذهب‬
‫الكنيسة الكاثوليكية الرسولية‪ .‬ويجب أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع الكنيسة المذكورة‪.‬‬
‫وفي الرجنتين‪ :‬تنص المادة (‪ )2‬على‪ :‬أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية‪.‬‬
‫وفي بورما‪ :‬تنص المادة (‪ )1‬من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة للديانة البوذية‬
‫باعتبارها دين الكثرية الساحقة‪.‬‬

‫( ‪)8/462‬‬

‫وفي بلد التايلند‪ :‬تنص المادة ‪ 7‬من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة البوذية ويقدس شعائرها (‬
‫‪. )1‬‬
‫‪ - 1/38‬وأما المجموعة الثانية‪ :‬الدول العلمانية‪ ،‬فهي قسمان ‪:‬‬
‫القسم الول‪ :‬ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) ل دينية‪ ،‬أي تقول بلزوم فصل الدين عن‬
‫الدولة‪ ،‬مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة أثر ثورة ‪ 1789‬م‪ ،‬وتبعتها في ذلك تركيا‬
‫على يد مصطفى كمال‪ .‬ومن هذا القسم حكومة الهند‪.‬‬
‫والقسم الثاني‪ :‬هو الدول الملحدة‪ :‬وهي الدول التي ل يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) بل يمنع‬
‫التبشير بالدين‪ ،‬ويجعل الدعاية ضد الديان حقا من الحقوق العامة‪ .‬وأول من أقدم على ذلك اتحاد‬
‫جمهوريات روسيا السوفياتية‪ .‬وقد انهار في عام ‪1989‬م‪.‬‬
‫‪ - 2/38‬وأما المجموعة الثالثة‪ :‬الدول البوذية والكونفوشية والهندوكية‪ ،‬فهي كاليابان وحكومة الصين‬
‫القديمة‪ .‬وأما الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الديان ومختلف المذاهب‪ .‬وبعد‬
‫الستقلل نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية‪ ،‬ونص دستور الباكستان على أنها من‬
‫الحكومات السلمية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬علق على هذه الظاهرة المير شكيب أرسلن‪ ،‬فقال في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس العدد‬
‫الثالث‪ :‬ص ‪( :54-51‬خرافة فصل الدين عن السياسة في أوربا التي ليزال يتشدق بها بعض‬
‫المضللين في الشرق‪ :‬ليس لها أصل إل بالمعنى الداري الذي هو جار أيضا في بلد السلم‪،‬‬
‫فالحكومات الكاثوليكية بأجمعها مرتبطة أشد الرتباط بالدين الكاثوليكي إل فرنسا‪ ،‬بل إن الدولة‬
‫الفرنسية التي يزعم بعضهم أنها حكومة ل دينية هي أشد الدول حماية للنصرانية عموما وللكثلكة‬
‫خصوصا‪ .‬وأما الدول البروتستانية فكلها تعلن أن ثقافتها مسيحية وأن مدنيتها إنجيلية‪ ،‬وأنها لتحيد‬
‫عن هذا الطريق‪.‬‬

‫( ‪)8/463‬‬
‫‪ - 3/38‬وأما المجموعة الرابعة فهي الدول السلمية‪ :‬والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ السلم‬
‫تحكمها‪ ،‬دون أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم‪ ،‬وإنما يشترك في إدارتها‬
‫كل مسلم كفء للدارة‪.‬‬
‫الفرع الثاني ‪ -‬مقارنة الدولة السلمية بالدولة الشيوعية ‪:‬‬
‫‪ - 39‬تلتقي الدولة السلمية والدولة الشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة هي أنهما تقومان على‬
‫أساس فكرة ودعوة‪ ،‬ل على أساس مصالح مادية أو الرتباط بحدود جغرافية إقليمية‪ ،‬أورابطة قومية‬
‫عنصرية‪ .‬فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم‪ ،‬ول مانع بالنسبة لمن يؤمن بتلك‬
‫الفكرة أن يكون مواليا لدولة أخرى‪ ،‬أي أن هناك بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجا في الولء‪.‬‬
‫المبحث الثالث ـ وظيفة دولة السلم(‪)1‬‬
‫تمهيد‪ :‬في تعريف وظيفة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 40‬امتاز السلم عما كان سائدا في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من المصالح اللذين بهما‬
‫انتظام الملة والمدن‪ ،‬وقد بعث النبي صلّى ال عليه وسلم لجلهما‪ ،‬والمام نائبه‪ ،‬فهو مسؤول عنهما (‬
‫‪. )2‬‬
‫لذلك تختلف وظيفة الدولة السلمية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في أن مهمتها الحفاظ على‬
‫أمور الدنيا والدين‪ ،‬وأنه ل فصل بين الدين والدولة كما فعل أتباع الدين المسيحي (‪ ، )3‬وأن الخليفة‬
‫أو المام كما أنه يلي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية‪ ،‬فإن له أيضا إمامة‬
‫الصلة وإمامة الحج والذن بإقامة الشعائر في المساجد‪ ،‬والخطبة في الجمع والعياد وغير هذا من‬
‫الشؤون الدينية‪ ،‬باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أكتفي هنا بذكر المبادئ العامة‪ ،‬وأحيل بالنسبة للتفاصيل على موضوعات في الموسوعة الفقهية‪:‬‬
‫إمامة‪ ،‬حقوق النسان‪ ،‬الذميون‪ ،‬المستأمنون‪ ،‬ونحو ذلك من البحوث الدستورية والقضائية‬
‫والجتماعية‪.‬‬
‫(‪ )2‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،112/2 :‬ط أولى‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال السيد المسيح عليه السلم‪( :‬دع ما لقيصر لقيصر وما ل ل )‪.‬‬
‫(‪ )4‬الماوردي وابن خلدون‪ ،‬المرجعان التيان‪ ،‬السياسة الشرعية للستاذ خلف‪ :‬ص ‪ 58‬ومابعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/464‬‬
‫‪ - 41‬ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء للخلفة‪ ،‬ومنها ما يأتي (‪: )1‬‬
‫قال الدهلوي‪ :‬الخلفة هي الرياسة العامة في التصدي لقامة الدين بإحياء العلوم الدينية‪ ،‬وإقامة أركان‬
‫السلم‪ ،‬والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة‪ ،‬وإعطائهم من الفيء‪،‬‬
‫والقيام بالقضاء‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬ورفع المظالم‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم (‪. )2‬‬
‫وقال في البحر الزخار‪ :‬المامة‪ :‬رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد (‪. )3‬‬
‫وقال الماوردي‪ :‬المامة موضوعة لخلفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (‪. )4‬‬
‫وقال السعد التفتازاني في المقاصد‪ :‬المامة‪ :‬هي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلفة عن النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم (‪ . )5‬وهذا فيما يبدو خير التعاريف‪.‬‬
‫وزاد فخر الدين الرازي قيدا آخر في التعريف‪ ،‬فقال‪ :‬هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد‬
‫من الشخاص‪ ،‬وقال‪ :‬هو احتراز عن كل المة إذا عزلوا المام لفسقه (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬للتفصيل في الموسوعة الفقهية إمامة ـ المامة الكبرى‪.‬‬
‫(‪ )2‬نقلً عن ( إكليل الكرامة في تبيان مقاصد المامة) لصديق حسن خان ص ‪.23‬‬
‫(‪ )3‬ر ‪ :‬حـ ‪.374/5‬‬
‫(‪ )4‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪.3‬‬
‫(‪ )5‬يلحظ أن الخلفة والمامة الكبرى وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة بمعنى واحد (النظريات‬
‫السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس‪ :‬ص ‪ ،103-92‬ط الثانية)‪.‬‬
‫(‪ )6‬المواقف‪ ،345/8 :‬ط المغربي سنة ‪ ،1907‬الخلفة لرشيد رضا‪ :‬ص ‪ ،10‬السياسة الشرعية‬
‫للشيخ محمد البنا‪ :‬ص ‪.14‬‬

‫( ‪)8/465‬‬

‫واعترض اليجي على هذا التعريف بأنه قد ينطبق على مقام النبوة‪ ،‬فهي (رياسة عامة في هذه‬
‫المور لشخص واحد) (‪ )1‬وقال‪ :‬الولى أن يقال‪( :‬هي خلفة الرسول صلّى ال عليه وسلم في إقامة‬
‫الدين وحفظ حوزة الملة‪ ،‬بحيث يجب اتباعه على كافة المة) (‪. )2‬‬
‫وذكر ابن خلدون‪ :‬أن الخلفة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية‬
‫والدنيوية الراجعة إليها)‪ ،‬إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الخرة‪،‬‬
‫فهي في الحقيقة‪ :‬خلفة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (‪. )3‬‬
‫وقال بعض العلماء المتأخرين‪ :‬الخلفة هي الرياسة العظمى والولية العامة الجامعة القائمة بحراسة‬
‫الدين والدنيا (‪. )4‬‬
‫وخلصة المقال‪ :‬إن وظيفة الدولة السلمية أو وظيفة الخليفة في الماضي أمران‪ :‬إقامة الدين‬
‫السلمي‪ ،‬وتنفيذ أحكامه‪ ،‬والقيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها السلم‪ .‬أو بعبارة أخرى‪:‬‬
‫الوظيفة واحدة‪ :‬هي إقامة السلم‪ .‬والسلم كما هو معروف دين ودولة في اصطلح العصر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المواقف‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفائدة في هذا التعريف أنه بعد بالمامة عن الناحية الشخصية‪ ،‬وعاد إلى وجهه نظر الماوردي‪،‬‬
‫وهو لم يختلف عنه إل في أنه وضع كلمة (إقامة) بدل (حراسة) الدين وربما كانت كلمة (إقامة)‬
‫أقوى‪ ،‬لنها تدل على التنفيذ ل مجرد الحفظ‪ ،‬إل أنه لم يفصح في مسألة سياسية الدنيا (النظريات‬
‫السياسية السلمية‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)116‬‬
‫(‪ )3‬مقدمة ابن خلدون‪ :‬ص ‪ ،191‬ط التجارية‪.‬‬
‫(‪ )4‬التراتيب الدارية للستاذ عبد الحي الكتاني‪ ،2/1 :‬ط الهلية بالرباط‪.‬‬

‫( ‪)8/466‬‬

‫تفصيل واجبات الحاكم أو وظائف الدولة ‪:‬‬


‫‪ 42‬ـ أوضح الماوردي وأبو يعلى وظائف الدولة أو واجبات المام وحدداها بعشرة أمور وهي‪)1( :‬‬
‫‪ - 1‬حفظ الدين على الصول التي أجمع عليها سلف المة‪ ،‬ليكون الدين محروسا من الخلل‪ ،‬والمة‬
‫ممنوعة من الزلل‪.‬‬
‫‪ - 2‬تنفيذ الحكام بين المتشاجرين‪ ،‬وقطع الخصام بينهم‪ ،‬حتى تظهر النصفة فل يتعدى ظالم ول‬
‫يضعف مظلوم‪.‬‬
‫‪ - 3‬حماية البيضة ( الكيان ) والذب عن الحوزة ليتصرف الناس في المعايش‪ ،‬وينتشروا في السفار‬
‫آمنين‪.‬‬
‫‪ - 4‬إقامة الحدود لتصان محارم ال عن النتهاك‪ ،‬وتحفظ حقوق عباده من إتلف واستهلك‪.‬‬
‫‪ - 5‬تحصين الثغور بالعدة المانعة‪ ،‬والقوة الدافعة‪ ،‬حتى ل يظفر العداء بغرّة ينتهكون بها محرما‪،‬‬
‫ويسفكون فيها دما لمسلم أو معاهد‪.‬‬
‫‪ - 6‬جهاد من عاند السلم بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة‪.‬‬
‫‪ - 7‬جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير عسف‪.‬‬
‫‪ - 8‬تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ول تقصير فيه ودفعه في وقت ل تقديم‬
‫فيه ول تأخير‪.‬‬
‫‪ - 9‬استكفاء المناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من العمال‪ ،‬ويكله إليهم من المور لتكون‬
‫العمال مضبوطة والموال محفوظة‪.‬‬
‫‪ - 10‬أن يباشر مشارفة المور وتصفح الحوال ليهتم بسياسة المة وحراسة الملة ‪ ،‬وليعول على‬
‫التفويض تشاغلً بلذة أو عبادة‪ ،‬فقد يخون المين‪ ،‬ويغش الناصح‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪{ :‬يا داود إنا‬
‫جعلناك خليفة في الرض فاحكم بين الناس بالحق ول تتبع الهوى} [ص‪ ]26/38:‬فلم يقتصر سبحانه‬
‫وتعالى على التفويض دون المباشرة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماردي‪ :‬ص ‪ ،14‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ ،11‬وانظر هذه الواجبات أيضا في حجة‬
‫ال البالغة للدهلوي‪ .132/2 :‬وقد عبر الماوردي عن هذه الواجبات بعبارة أخرى وحصرها في سبعة‬
‫أمور (راجع له أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين لخان زاده‪ :‬ص ‪.)236-234‬‬

‫( ‪)8/467‬‬

‫وقد قال النبي صلّى ال عليه وسلم «كلكم راع‪ ،‬وكلكم مسؤول عن رعيته» (‪. )1‬‬
‫هذه هي أهم وظائف الدولة السلمية‪ ،‬فالولى هي الوظيفة الدينية والثالثة والخامسة والسادسة هي‬
‫الوظيفة الدفاعية‪ ،‬والثانية والرابعة هي الوظيفة القضائية‪ ،‬والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية‪،‬‬
‫والتاسعة والعاشرة هي الوظيفة الدارية‪.‬‬
‫ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين‪ :‬داخلية وخارجية كما سيبين في‬
‫البحثين التاليين‪:‬‬
‫الوظيفة الولى ـ وظيفة الدولة في الداخل‬
‫هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الجتماعية بتأمين المرافق العامة للمجتمع‪ ،‬وإما الغايات‬
‫الساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة‪.‬‬
‫ويبحث ذلك في المطلبين التيين‪:‬‬
‫أولً ـ تأمين مصالح المجتمع ‪:‬‬
‫‪ - 43‬ل تختلف وظيفة الدولة السلمية عن وظائف الدولة الحديثة كما لحظنا فيما يلزم المام من‬
‫المور العشرة السابق ذكرها‪ ،‬والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها‪،‬‬
‫وهذه الوظائف تشبه حديثا ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في الوقت الحاضر‪:‬‬
‫ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقا سياسية وإدارية وحربية وقضائية (‪. )2‬‬
‫فالحقوق الدارية (‪ : )3‬هي المتعلقة بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع‬
‫ذلك من حق تعيين وعزل الموظفين‪ .‬وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من‬
‫وظائف (المام) العشرة‪ ،‬ول سيما الخيرتان منها‪ .‬قال الدهلوي‪ ( :‬إن أمهات المقاصد أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة‪ .‬ومنها‪ :‬منافع مشتركة ككري‬
‫النهار وبناء القناطر ونحو ذلك) (‪. )4‬‬
‫والحقوق القضائية كحق العفو الخاص والعام‪ ،‬وكحق التصديق على بعض الحكام‪ ،‬وهذا من حيث‬
‫المبدأ قد ذكره الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة‪ ،‬إل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي‪.)213/12 :‬‬
‫(‪ )2‬موجز القانون الدستوري للستاذين الدكتورين عثمان خليل وسليمان الطماوي‪ :‬ص ‪ 243‬ط‬
‫الرابعة‪.‬‬
‫(‪ )3‬المبحث هنا مخصص لوظائف الدولة الداخلية‪ ،‬لذا فإن الكلم عن الحقوق السياسية والحربية‬
‫محله في المبحث الخر المخصص لوظائف الدولة الخارجية‪.‬‬
‫(‪ )4‬حجة ال البالغة‪.132/2 :‬‬

‫( ‪)8/468‬‬

‫أن الفقهاء فصلوا في المر‪ ،‬فقال الحنفية‪ :‬ل يجوز شرعا للحاكم بعد رفع المر إليه العفو عن‬
‫العقوبات المقدرة (الحدود) ول الشفاعة فيها (‪ . )1‬أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو عنها‬
‫حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها‪ ،‬أو كون الحق فيها للجماعة‪ .‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ :‬يجوز للمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لدمي (‪ ، )2‬لما روي أن النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إل في الحدود » (‪. )3‬‬
‫وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض عليها في الخصومات‪.‬‬
‫وهذه هي مهمة القاضي في السلم حيث إنه يقوم بتنفيذ أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة‪ ،‬وقد بلغ‬
‫تنظيم القضاء في عهد السلم شأوا رفيعا لم يسبق إليه‪.‬‬
‫وسأفصّل الكلم هنا في أهم وظائف الدولة الداخلية الدارية والقضائية وهي ما يأتي‪:‬‬
‫‪ - 1‬المحافظة على المن والنظام‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪:‬‬
‫‪ - 44‬كان من اختصاص رجال الشرطة الدارية في العهد السلمي أمور منها (‪: )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المبسوط‪ ،113/9 :‬فتح القدير‪ ،197/4 :‬البدائع‪ ،56/7 :‬الدر المختار ورد المحتار‪.189/4 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار‪.204/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي من حديث عائشة رضي ال عنها‪ ،‬وقال‬
‫العقيلي‪ :‬له طريق وليس فيها شيء يثبت ( التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،361‬جامع الصول‪،344/4 :‬‬
‫مجمع الزوائد‪ ،282/6 :‬نيل الوطار‪.) 135/7 :‬‬
‫(‪ )4‬عبقرية السلم في أصول الحكم للدكتور منير العجلني‪ :‬ص ‪ ،370‬ط الثانية‪.‬‬

‫( ‪)8/469‬‬

‫أ ـ حفظ النظام‪ :‬وذلك بمنع الفوضى والتجمعات في الطرق والماكن العامة‪ ،‬والسهر على المواكب‪،‬‬
‫ومرافقة المير أو صاحب السلطان في تنقلته لظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي أوامره‪.‬‬
‫ب ـ حفظ المن‪ :‬وذلك بمراقبتهم الشرار والدعار واللصوص‪ ،‬وطلبهم في مظانهم‪ ،‬وأخذهم على يد‬
‫كل من يرتكب عدوانا على غيره‪ ،‬أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة‪.‬‬
‫قال الماوردي‪ :‬القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا‪ :‬أمن عام تطمئن إليه النفوس‪ ،‬وتنتشر‬
‫فيه الهمم‪ ،‬ويسكن إليه البريء‪ ،‬ويأنس به الضعيف‪ ،‬فليس لخائف راحة‪ ،‬ول لحاذر طمأنينة‪ ،‬وقد قال‬
‫بعض الحكماء‪ :‬المن أهنأ عيش‪ ،‬والعدل أقوى جيش (‪. )1‬‬
‫‪ - 45‬ولكن ل يقتصر دور الدولة السلمية على مجرد توفير وضمان المن والطمأنينة للفراد‬
‫وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي عنهم‪ ،‬والشراف على إطاعة النظمة‬
‫والحكام‪ ،‬وإنما على الدولة والفراد أن يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معا (‪ )2‬نحو إيجاد‬
‫باعث شخصي على احترام حقوق الخرين‪ ،‬والذعان للنظام المتبع‪ ،‬وذلك بالقيام بواجب المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الساسي للشريعة‪ :‬وهو إصلح المجتمع‪ ،‬أي الحياة‬
‫الجتماعية إصلحا جذريا على نحو يستقر فيه المن العام‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أدب الدنيا والدين مع شرحه‪ :‬ص ‪ ،247‬ط تركيا‪.‬‬
‫(‪ )2‬مثّل الرسول صلّى ال عليه وسلم في حديث السفينة هذا الواجب التكافلي بين الفرد والجماعة‬
‫بالنهي عن المنكر أروع تمثيل‪ ،‬فقال ‪ -‬فيما رواه البخاري والترمذي ‪ -‬عن النعمان بن بشير‪« :‬مثل‬
‫القائم على حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة‪ ،‬فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم‬
‫أسفلها‪ ،‬فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا‬
‫ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا‪ ،‬وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» (جامع‬
‫الصول‪ ،340/4 :‬الترغيب والترهيب‪.)235/3 :‬‬

‫( ‪)8/470‬‬

‫والعدل بين الناس‪ ،‬وصيانة الحريات الساسية بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الخرين‪ .‬وكل فرد‬
‫يعتبر مسؤولً بنفسه عن المر بالمعروف‪ ،‬فإن قصر فهوآثم مخطئ‪ ،‬ويكفل هذا الصل اليوم ما‬
‫يسمى بحرية النقد‪ ،‬ويقال له في الصطلح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (‪. )1‬‬
‫لكن السلم اعتبر ذلك واجبا‪ ،‬وبين أن النقد له حدود تقيده في السلم حتى يكون نقدا بناء غير‬
‫هدام‪ .‬قال النووي في المنهاج‪ ( :‬ومن فروض الكفاية‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق‬
‫الشارح بقوله‪ :‬يجب على المام أن ينصب محتسبا (‪ )2‬يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (‪. )3‬‬
‫وقال الماوردي‪ :‬أكد ال زواجره بإنكار المنكرين لها‪ ،‬فأوجب المر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي‬
‫عن المنكر ـ الحرام (‪ . )4‬هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء‪ ،‬إل أن جمهورهم قالوا‪ :‬هو فرض‬
‫كفاية كالجهاد‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬هو فرض عين على المستطيع كالحج (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬التشريع الجنائي السلمي للستاذ عبد القادر عودة‪ 86/1 :‬و ‪.491‬‬
‫(‪ )2‬يميز بين الحسبة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الثاني واجب ديني‪ ،‬وأما الحسبة فهي‬
‫نظام واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم يقوم بالرقابة والضبط والردع‪ ،‬وله قواعد وأصول‬
‫ثابتة في السلم غايته تحقيق واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ر ‪ :‬الحكام السلطانية‬
‫للماوردي‪ :‬ص ‪ 231‬ومابعدها‪ ،‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ 268‬حيث قال كلهما‪ :‬الحسبة هي أمر بالمعروف‬
‫إذا ظهر تركه‪ ،‬ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله‪ ،‬الحسبة لبن تيمية‪ :‬ص ‪ ،8‬إحياء علوم الدين‪:‬‬
‫‪ ،274/2‬ط العثمانية ـ عبقرية السلم في أصول الحكم‪ :‬ص ‪ 335‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )3‬المنهاج مع مغني المحتاج‪ ،211/4 :‬الحسبة لبن تيمية‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )4‬أدب الدنيا والدين‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.156‬‬
‫(‪ )5‬المحلى‪ ،440/9 :‬تفسير الكشاف‪ ،340/1 :‬تفسير ابن كثير‪ ،390/1 :‬تفسير الرازي‪،19/3 :‬‬
‫تفسير اللوسي‪ ،21/4 :‬إحياء علوم الدين‪ ،869/2 :‬أحكام الجصاص‪ 35/2 :‬وما بعدها و ‪ ،592‬ط‬
‫البهية المصرية‪ ،‬تفسير الطبري‪ ،38/4 :‬ط الثانية‪ ،‬الحلبي‪ ،‬تفسير القرطبي‪ 165/4 :‬طبعة مصورة‪.‬‬

‫( ‪)8/471‬‬

‫‪ - 46‬والمر بالمعروف‪ :‬هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله‪،‬أو فعله طبقا لقواعد السلم‪ .‬والنهي‬
‫عن المنكر‪ :‬هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه‪ ،‬أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقا لما رسمه السلم (‬
‫‪. )1‬‬
‫والمعروف‪ :‬هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقا لنصوص الشريعة السلمية‪ ،‬ومبادئها العامة‬
‫وروحها (‪ ، )2‬كالتخلق بالخلق الفاضلة والعفو عند المقدرة‪ ،‬والصلح بين المتخاصمين وإيثار‬
‫الخرة على الدنيا‪ ،‬والحسان إلى الفقراء والمساكين‪ ،‬وإقامة المعاهد والملجئ والمستشفيات ونصرة‬
‫المظلوم والتسوية بين الخصوم في الحكم‪ ،‬والدعوة إلى الشورى‪ ،‬والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ‬
‫مشيئتها‪ ،‬وصرف الموال العامة في مصارفها‪ ،‬إلى غير ذلك (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬السلم وأوضاعنا السياسية للستاذ عودة‪ :‬ص ‪.71‬‬
‫(‪ )2‬وبعبارة أخرى‪ :‬المعروف‪ :‬هو كل هذه الصول الكلية التي فرضها السلم لصالح المجتمع‬
‫السلمي‪ ،‬وكل ما يُبنى علىها مما تعرفه العقول الراجحة والفطر السليمة (ر ‪ :‬تفسير المنار‪،27/4 :‬‬
‫التفسير الواضح‪ 30/9 :‬و ‪ 61/10‬و ‪ ،58/14‬نظام الحكم في السلم للدكتور عبد ال العربي‪ :‬ص‬
‫‪ 45‬و ‪.)61‬‬
‫(‪ )3‬التشريع الجنائي السلمي‪.492/1 :‬‬

‫( ‪)8/472‬‬

‫والمنكر‪ :‬هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف (‪ ، )1‬فمن رأى‬
‫صبيا أو مجنونا يشرب خمرا فعليه أن يمنعه ويريق خمره‪ ،‬ومن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو يأتي‬
‫بهيمة‪ ،‬فعليه أن يمنع ذلك (‪ ، )2‬وعرف الغزالي المنكر‪ :‬بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وبعبارة أخرى‪ :‬المنكر‪ :‬هو كل مانهت عنه أصول الشرع الكلية‪ ،‬وكل ما يقاس عليها في إلحاق‬
‫الذى بالمجتمع مما تنكره العقول والفطر السليمة (الدكتور العربي‪ ،‬المكان السابق)‪.‬‬
‫(‪ )2‬التشريع الجنائي‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬إحياء علوم الدين للغزالي‪ ،285/2 :‬ط العثمانية‪ .‬قال الغزالي‪ :‬وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا‬
‫(أي محذور الوقوع) لن المنكر أعم من المعصية‪ ،‬إذ من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه‬
‫أن يريق خمره ويمنعه‪ ،‬وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه‪.‬‬

‫( ‪)8/473‬‬

‫‪ - 47‬وقد أوجب ال على الحكومة والفراد القيام بواجب المر والنهي‪ ،‬لن في ذلك إقامة أمر ال‬
‫وهدم كل ما يخالف السلم‪ ،‬ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة السلم‬
‫بالقضاء على الشرك ومظاهره‪ ،‬والتمكين لدين ال الحنيف‪،‬قال ال تعالى‪{ :‬ولتكن منكم أمة يدعون‬
‫إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬وأولئك هم المفلحون} [آل عمران‪{ ]104/3:‬الذين‬
‫إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر‪ ،‬ول عاقبة‬
‫المور} [سورةالحج‪{ ]41/22:‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‬
‫وتؤمنون بال } [آل عمران‪{ ]110/3:‬لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن‬
‫مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‪ ،‬كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}‬
‫[المائدة‪.]79-78/5:‬‬
‫وحرض القرآن الكريم أيضا على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة‪.]71/9:‬‬
‫وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم‪ ،‬فقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬كلكم راع‪ ،‬وكلكم مسؤول عن رعيته‪،‬‬
‫فالمام راع ومسؤول عن رعيته» (‪« ، )1‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪،‬‬
‫فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان» (‪« )2‬إن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الصول‪ ،444/4 :‬الفتح الكبير‪،‬‬
‫مجمع الزوائد‪.)207/5 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (جامع الصول‪:‬‬
‫‪.)228/1‬‬
‫( ‪)8/474‬‬

‫الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم ال بعقاب» (‪« ، )1‬أفضل الجهاد كله حق‬
‫عند سلطان وأمير جائر» (‪« ، )2‬والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر‪ ،‬أو‬
‫ليوشكن ال أن يبعث عليكم عقابا منه‪ ،‬ثم تدعونه فل يستجيب لكم» (‪. )3‬‬
‫هذه اليات القرآنية والحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة السلمية ليست سلبية‪ ،‬وإنما لها غاية‬
‫إيجابية أيضا‪ ،‬أي ليس من مقاصدها المنع من العدوان‪ ،‬وحفظ حرية الناس فقط‪ ،‬بل إن هدفها السمى‬
‫هو نظام العدالة الجتماعية الذي جاء به كتاب ال ‪ ،‬وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع المنكرات‬
‫التي منعها ال تعالى‪ .‬قال ابن تيمية‪ :‬إن صلح المعاش والمعاد في طاعة ال ورسوله‪ ،‬ول يتم ذلك‬
‫إل بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وبه صارت هذه المة خير أمة أخرجت للناس (‪. )4‬‬
‫‪ - 48‬ووسائل دفع المنكر كثيرة ‪،‬منها التعريف والبيان‪ ،‬والوعظ والرشاد ‪ ،‬والدعوة والتبليغ‪،‬‬
‫والتربية والتعليم‪ ،‬والتعنيف‪ ،‬والتغيير باليد‪ ،‬والتهديد بالضرب والقتل‪ ،‬والستعانة بالغير‪ ،‬والقوة‬
‫السياسية‪ ،‬والرأي العام والنفوذ‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي وأبو داود من حديث قيس بن أبي حازم عن أبي بكر (جامع الصول‪)233/1 :‬‬
‫وذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ 75‬بلفظ ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن‬
‫يعمهم ال بعقاب منه)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ لبي داود(جامع الصول‪:‬‬
‫‪.)235/1‬‬
‫(‪ )3‬رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال‪« :‬حديث حسن غريب» ورواه ابن ماجه من حديث‬
‫حديث عمرو بن أبي عمرو (جامع الصول‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬تخريج أحاديث إحياء علوم الدين‬
‫للعراقي‪ 270/2 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )4‬السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪.73‬‬

‫( ‪)8/475‬‬

‫الجتماعي بحسب الظروف والحوال (‪. )1‬‬


‫وعلى الدولة المساهمة البناءة في هذا المضمار‪ ،‬فتخصص لزالة المنكر ما يعرف في السلم‬
‫بالمحتسب‪ ،‬وهو المسلم المكلف (البالغ العاقل) القادر على المر بالمعروف ودفع المنكر ورفع الظلم‬
‫مما ليس من خصائص الولة والقضاة وأّهل الديوان ونحوهم (‪ . )2‬قال ابن تيمية‪( :‬وجميع الوليات‬
‫السلمية إنما مقصودها المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬سواء في ذلك ولية الحرب الكبرى‬
‫مثل نيابة السلطنة‪ ،‬والصغرى مثل ولية الشرطة وولية الحكم‪ ،‬أو ولية المال وهي ولية الدواوين‪،‬‬
‫وولية الحسبة (‪.) )3‬‬
‫وهناك مسألة فلسفية بحثها العلماء وهي أنه هل وجوب النهي عن المنكر بالعقل أو بالشرع(‪.)4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين‪ ،277/2 :‬ط العثمانية‪ ،‬مختصر منهاج القاصدين‪ :‬ص ‪ 127‬وما بعدها‪ ،‬ط‬
‫الثانية‪ ،‬التشريع الجنائي السلمي‪ 505/1 :‬وما بعدها‪ ،‬نظرية السلم السياسية للمودودي‪ :‬ص ‪45‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬إحياء علوم الدين‪ ،274/2 :‬الحكام السلطانية للماوردي وأبي يعلى ‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬التراتيب‬
‫الدارية للكتاني‪ ،284/1 :‬منير العجلني‪ :‬ص ‪.342‬‬
‫(‪ )3‬الحسبة له‪ :‬ص ‪.8‬‬
‫(‪ )4‬قال بعض المتكلمين‪( :‬وجب ذلك بالعقل وقال آخرون‪ :‬وجب ذلك بالشرع دون العقل) (ر ‪:‬‬
‫للتفصيل أدب الدنيا والدين مع شرحه‪ :‬ص ‪ 158‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)8/476‬‬

‫‪ - 2‬تنظيم القضاء وإقامة العدل ‪:‬‬


‫‪ - 49‬إن غاية الدولة السلمية هي تحقيق مصالح الناس ورفع الضرر عنهم‪ ،‬وذلك بإقامة التوازن‬
‫والعدل فيما بينهم‪ ،‬ومنع تعدي بعضهم على بعض‪.‬‬
‫وبما أن تنظيم القضاء ونصب القضاة مظهر من مظاهر إقامة العدل‪ ،‬كان من‬
‫أعظم الواجبات التي اهتم بها فقهاء السلم وخلفاؤه‪ ،‬فأبانوا شروطه‪ ،‬ووضعوا خطته وحددوا طرق‬
‫الفصل بين الناس تحديدا دقيقا‪ ،‬وكان اختيار الخليفة للقاضي مثلً فذا من أمثلة الحفاظ على مصالح‬
‫الناس (‪ ، )1‬لن غاية القضاء التي يمتاز بها في السلم هي إقامة العدل باعتبار أن العدل هوقوام‬
‫العالمين‪ ،‬ل تصلح الدنيا والخرة إل به (‪ ، )2‬فكان العدل هو شعار فض الخصومات والمنازعات‬
‫بين الناس‪ .‬ومن أهم ضوابط العدل هو تنفيذ أحكام شريعة ال دون تفرقة بين الحاكم والمحكومين‪،‬‬
‫لن الكل خاضعون لحكم ال ‪.‬‬
‫فمن تنظيمات القضاء السلمي أنه خصص للنظر في محاكمة أصحاب النفوذ والولة وعمال الدولة‬
‫ما يعرف المظالم (‪ )3‬التي تشبه (مجلس الدولة) في بعض اختصاصاته الن (‪ . )4‬قال المرجاني في‬
‫وفية السلم (‪ : )5‬النظر في المظالم وظيفة أوسع من وظيفة القاضي ممتزجة من السطوة السلطانية‪،‬‬
‫ونصفة القضاء‪ ،‬بعلو بيّن‪ ،‬وعظيم رغبة تقمع الظالم من الخصمين‪ ،‬وتزجر المتعدي‪ ،‬ويمضي ما‬
‫عجز القضاة ومن دونهم عن إمضائه‪ ،‬ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد القرائن والمارات‬
‫وتأخير الحكم إلى استجلء الحق وحمل الخصم على الصلح‪ ،‬واستحلف الشهود‪ ،‬وكان الخلفاء‬
‫يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي بال ‪ ،‬وربما سلموها إلى قضاتهم‪ .‬وعلق الستاذ الكتاني على ذلك‬
‫بقوله‪ :‬هذه الوظيفة كان يليها المصطفى صلّى ال عليه وسلم بنفسه؛ لنه كان ينتقد أحكام قضاته‬
‫وعماله ويناقشهم (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص‪ 20 :‬و ‪ ،152‬وباب القضاء في كتب الفقه‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.156‬‬
‫(‪ )3‬قال الماوردي في الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ :73‬نظر المظالم‪ :‬هو قود المتظالمين إلى التناصف‬
‫بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة‪.‬‬
‫(‪ )4‬التراتيب الدارية للكتاني‪ ،266/1 :‬النظريات السياسية السلمية للدكتور الريس‪ :‬ص ‪.67‬‬
‫(‪ )5‬ص‪.366 :‬‬
‫(‪ )6‬التراتيب الدارية‪ ،‬المكان السابق‪.‬‬

‫( ‪)8/477‬‬

‫وقال الماوردي‪« :‬والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام‪ ،‬فالقسم الول‪ :‬النظر في‬
‫تعدي الولة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة‪ ،‬فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي ل يقف‬
‫على ظلمة متظلم‪ ،‬فيكون لسيرة الولة متصفحا‪ ،‬وعن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا‪ ،‬ويكفهم‬
‫أن عسفوا‪ ،‬ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (‪. )1‬‬
‫‪ - 50‬إل أنه لم يكن للقضاة في السلم غير النظر في المسائل المدنية (أو نظام الموال) والحوال‬
‫الشخصية‪ .‬أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة الحدود والنظر في المظالم‪ ،‬فكان من اختصاص‬
‫الخلفاء والمراء إل في عهد معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة‬
‫إلى قاض خاص‪.‬‬
‫ول مانع شرعا من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ الحكام‪ ،‬ويضمن‬
‫لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس (‪ . )2‬وهو أمر ضروري في كل عصر يقل فيه الورع‪،‬‬
‫وتكثر الهواء وتزداد الخصومات‪ ،‬وتراعى فيه تطورات الزمن‪.‬‬
‫‪ - 51‬ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل المطلق في كل الحكام‬
‫العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والدارة‪ ،‬ل في مجال القضاء فقط‪،‬قال ال عز وجل‪{ :‬إن‬
‫ال يأمر بالعدل} [النحل‪{ ]90/16:‬وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء‪{ ]58/4:‬وإذا قلتم‬
‫فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [النعام‪{ ]152/6:‬ول يجرمنكم شنآن قوم على أل تعدلوا‪ ،‬اعدلوا هوأقرب‬
‫للتقوى} [المائدة‪.]8/5:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،76‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية للستاذ خلف‪ :‬ص ‪ 49‬وما بعدها‪ ،‬عبقرية السلم في أصول الحكم لمنير‬
‫العجلني‪ :‬ص ‪ 440‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/478‬‬

‫وقال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أحب الناس إلى ال يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا‪ :‬إمام عادل‪،‬‬
‫وأبغض الناس إلى ال تعالى‪ ،‬وأبعدهم منه مجلسا‪ :‬إمام جائر» (‪ ، )1‬وقال عليه الصلة والسلم‬
‫أيضا‪« :‬ل تقدس أمة ل يقضى فيها بالحق‪ ،‬ول يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُ َتعْتَع» (‪« )2‬يوم‬
‫من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (‪. )3‬‬
‫وقال الماوردي ‪ :‬اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة‪ ،‬وجملة أمورها ملتئمة‬
‫ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت‪ ،‬وهي دين متبع‪ ،‬وسلطان قاهر‪ ،‬وعدل شامل‪ ،‬وأمن‬
‫عام‪ ،‬وخصب دائم‪ ،‬وأمل فسيح (‪. )4‬‬
‫جمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم السلمي‪ ،‬حتى مع العداء‪ ،‬قال‬
‫والخلصة‪ :‬أن العدل هو ِ‬
‫الفخر الرازي‪( :‬اجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل) (‪ ، )5‬واستشهد باليات‬
‫المذكورة ونحوها‪ ،‬والعدل ـ كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم ال ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي والطبراني في الوسط من حديث أبي سعيد الخدري (جامع الصول‪.)447/4 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الطبراني ورجاله ثقات من حديث معاوية بن أبي سفيان (مجمع الزوائد‪.)209/5 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني في الكبير والوسط من حديث ابن عباس‪ ،‬قال الهيثمي‪ :‬وفيه سعد أبو غيلن‬
‫الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وله ألفاظ أخرى (ر‪ :‬التلخيص الحبير‪ ،183/4 :‬مجمع الزوائد‪:‬‬
‫ص ‪.)193/5‬‬
‫(‪ )4‬أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين للعلمة أويس وفا الرزنجاني العريف بخان زاده ص‬
‫‪ ،226‬وقال في الشرح المذكور‪ :‬ص ‪ ،240‬العدل مصدر بمعنى العدالة‪ :‬وهو العتدال والستقامة‬
‫والميل إلى الحق‪ .‬وفي الشريعة عبارة عن الستقامة على طريق الحق بالجتناب عما هو محظور‬
‫دينه‪ ،‬وفي اصطلح الفقهاء‪ :‬من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه‪ ،‬واجتنب الفعال‬
‫الخسيسة كالكل في الطريق والبول‪.‬‬
‫(‪ )5‬التفسير الكبير‪.355/3 :‬‬

‫( ‪)8/479‬‬

‫‪ - 3‬إدارة المرافق العامة ‪:‬‬


‫‪ - 52‬إن طريقة إدارة المرافق العامة في السلم كالمساجد والمدارس والمشافي والجسور والبريد‬
‫والدفاع والعشور (الجمارك) والري وتوريد المياه ونحوها‪ :‬تلتقي مع الطريقة المتبعة الن وهي‬
‫طريقة الستغلل المباشر‪ .‬ومقتضاها أن تقوم الدولة نفسها (أو المديرية والمدينة الن‪ ،‬أو المارة أو‬
‫الولية في الماضي) بإدارة المرافق العامة مستعينة بأموالها وموظفيها‪ ،‬ومستخدمة في ذلك وسائل‬
‫القانون العام‪ ،‬وهذه هي الطريقة التي تدار بها جميع المرافق العامة الدارية في الوقت الحاضر (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫والدارة السلمية كانت في الماضي كما تقدم على طريقة جعل الوزارة قسمين‪ :‬وزارة تفويض‬
‫ووزارة تنفيذ (‪ . )2‬والمارة على البلد نوعين‪ :‬إمارة خاصة‪ ،‬وإمارة عامة (‪. )3‬‬
‫أما وزارة التفويض‪ :‬فهي أن يستوزر المام من يفوض إليه تدبير الموربرأيه وإمضاءها على‬
‫اجتهاده ‪ .‬وكان وزير التفويض يوجه سياسة الدولة ويولي الموظفين ويعزلهم ويجبي الموال وينفقها‪،‬‬
‫ويسير الجيوش ويجهزها‪ ،‬ويجلس للمظالم ويفصل فيها (‪. )4‬‬
‫وأما وزارة التنفيذ أو بالمعنى الدق (إدارة التنفيذ)‪ :‬فهي لتنفيذ ما يصدر عن المام لتدبير سياسة‬
‫الدولة في الداخل والخارج‪ ،‬ويعتبر وزير التنفيذ وسيطا بين السلطان وبين الرعايا والولة يؤدي عنه‬
‫ما أمر‪ ،‬وينفذ ما طلب‪ ،‬ويمضي ما حكم‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مبادئ القانون الداري للدكتور سليمان الطماوي‪ :‬ص ‪ ،65‬ط ‪1955‬م‪.‬‬
‫(‪ )2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ ،26-20‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪.15-13‬‬
‫(‪ )3‬الماوردي المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،30-27‬وأبو يعلى‪ :‬ص ‪.21-17‬‬
‫(‪ )4‬منير العجلني‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.226‬‬

‫( ‪)8/480‬‬

‫ويخبر بتقليد الولة وتجهيز الجيوش والحماة‪ ،‬ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث مل ّم ليعمل‬
‫فيه بما يؤمر به‪:‬‬
‫وأما المارة الخاصة‪ :‬فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان الدولة‪ ،‬وحماية حدود‬
‫البلد‪.‬‬
‫وأما المارة العامة فهي نوعان‪ :‬إمارة استكفاء‪ ،‬وإمارة استيلء‪ .‬فإمارة الستكفاء تعقد برضا الخليفة‬
‫واختياره‪ ،‬وصاحبها ينظر في سبعة أمور‪ :‬هي النظر في تدبير الجيش والحكام وتقليد القضاة‬
‫والحكام‪ ،‬وجباية الخراج‪ ،‬وقبض الصدقات وتقليد العمال‪ ،‬وحمايةالحريم والدفاع عن البلد ومراعاة‬
‫الدين من تغيير أو تبديل‪ ،‬وإقامة الحدود في حق ال تعالى ‪ ،‬وحقوق الناس خاصة‪ ،‬والمامة في‬
‫الجمع والجماعات‪ ،‬وتسيير الحجيج‪.‬‬
‫وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في ظل سلطان الدولة‪.‬‬
‫وأول من وضع الديوان في السلم عمر بن الخطاب رضي ال عنه (‪. )1‬‬
‫‪ - 53‬ويلحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في السلم ملزمتها للصبغة الدينية‪ ،‬فكان الوالي‬
‫مسؤولً عن رعاية أركان السلم‪ ،‬بل إن ولية المراء كانت تسمى (إمارة الصلة والخراج)‬
‫أو(المارة على الصلة) ولم يكن القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط‪ ،‬وإنما كانت تعني‬
‫الولية عليهم في جميع المور‪ ،‬فعندما كان النبي صلّى ال عليه وسلم يرسل شخصا إلى القبائل‬
‫ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن‪ ،‬كان يعني بذلك إدارة مصالح القبيلة في كل شؤونها (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الماوردي‪ :‬ص ‪ ،211-191‬أبو يعلى‪ :‬ص ‪.241-221‬‬
‫(‪ )2‬منير العجلني‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪ ،282‬النظم السلمية للدكتور صبحي الصالح‪ :‬ص ‪.308‬‬

‫( ‪)8/481‬‬
‫‪ - 4‬العداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع السلحة ‪:‬‬
‫‪ - 54‬إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته ـ هو الدفاع‬
‫عن كيان الدولة وتحصين الثغور‪ ،‬وحماية الرعية‪ ،‬وإعداد العدة الملئمة والقوة الضاربة وتدريب‬
‫المقاتلة‪ ،‬وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام السلح المناسب للزمان والمكان‪ ،‬فقد كان النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم بوصفه القيادي أو كونه حاكما بالضافة إلى كونه رسولً مبلغا عن ال يقوم بإعداد‬
‫المسلمين لخوض معارك القتال‪ ،‬مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على العداء في غالبية المعارك‬
‫التي اشترك فيها أو أعد لها‪.‬‬
‫وعني المسلمون الوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلت القتال كالسيوف والرماح والنبال‬
‫والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدربا وتمرسا واقتناء وتعلما‪.‬‬
‫وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلتها‪ ،‬ويحصنون الثغور من‬
‫أجل الحفاظ على المة ورد العدوان عنها‪ ،‬كما هومعروف من تاريخ الفتوحات السلمية‪.‬‬
‫والسلم دستور المسلمين يفرض دائما التزام الحذر من العدو‪ ،‬والستعداد للقائه وإعداد الجنود‬
‫والسلحة الملئمة للرهاب وخوض المعارك‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‬
‫فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعا} [النساء‪{ ]71/4:‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل‬
‫ترهبون به عدو ال وعدوكم‪ ،‬وآخرين من دونهم ل تعلمونهم ال يعلمهم} [النفال‪.]60/8:‬‬

‫( ‪)8/482‬‬

‫فهذه الية أمر إيجابي بالعداد الملئم لكل القوى المادية والمعنوية التي يتحقق بها إرهاب العدو‪ .‬وقد‬
‫أمر الرسول صلّى ال عليه وسلم بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلح‪ ،‬قال سلمة بن الكوع‪:‬‬
‫«مرّ رسول ال صلّى ال عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون (‪ )1‬بالسوق‪ ،‬فقال‪ :‬ارموا يا بني‬
‫إسماعيل‪ ،‬فإن أباكم كان راميا‪ ،‬ارموا وأنا مع بني فلن‪ . )2( »...‬وعن عقبة بن عامر قال‪ :‬سمعت‬
‫النبي صلّى ال عليه وسلم يقول‪« :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‪ ،‬أل إن القوة الرمي‪ ،‬أل إن القوة‬
‫الرمي» وقال‪« :‬من علم الرمي ثم تركه‪ ،‬فليس منا» (‪. )3‬‬
‫‪ - 55‬وأمر عليه الصلة والسلم أيضا بصناعة السلح وحث عليه‪ ،‬فقال‪« :‬إن ال يدخل بالسهم‬
‫الواحد ثلثة نفر الجنة‪ :‬صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير‪ ،‬والذي يجهز به في سبيل ال ‪ ،‬والذي‬
‫يرمي به في سبيل ال ‪. )4( » ..‬‬
‫وشجع الرسول صلّى ال عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية فقال‪« :‬لسَبْق إل‬
‫في خف أو نصل أوحافر» (‪. )5‬‬
‫جعْل من غير المتسابقين كالمام يجعله للسابق‪ ،‬وقال جمهور‬
‫واتفق الفقهاء على جواز السباق على ُ‬
‫الفقهاء‪ :‬يجوز الجُعل أيضا من إحدى المتسابقين (‪ . )6‬واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع‪،‬‬
‫ول سيما صناعة السلحة من‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي يترامون‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري عن سلمة بن الكوع (نيل الوطار‪.)84/8 :‬‬
‫(‪ )3‬رواهما أحمد ومسلم عن عقبة (نيل الوطار‪.)85/8 :‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن عقبة بن عامر (نيل الوطار‪ ،‬المكان السابق)‪.‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن أبي هريرة ولم يذكر فيه ابن ماجه‪ :‬أو نصل (نيل‬
‫الوطار‪.)77/8 :‬‬
‫(‪ )6‬البدائع‪ ،206/6 :‬مغني المحتاج‪ 313/4 :‬وما بعدها‪ ،‬المهذب‪ 415/1 :‬وما بعدها‪ .‬المغني‪:‬‬
‫‪ 654/8‬وما بعدها‪ ،‬نيل الوطار‪.78/8 :‬‬

‫( ‪)8/483‬‬

‫فروض الكفايات على جماعة المسلمين (‪ . )1‬قال ابن تيمية‪( :‬ومع أنه يجوز تولية غير الهل‬
‫للضرورة إذا كان أصلح الموجود‪ ،‬فيجب مع ذلك السعي في إصلح الحوال حتى يكمل في الناس ما‬
‫ل بد لهم من أمور الوليات والمارات ونحوها‪ ،‬كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه‪ ،‬وإن‬
‫كان في الحال ل يطلب منه إل ما يقدر عليه؛ وكما يجب الستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل‬
‫في وقت سقوطه للعجز‪ ،‬فإن ما ليتم الواجب إل به فهو واجب) (‪. )2‬‬
‫فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق العسكري بحسب متطلبات‬
‫كل زمان ومكان من تسابق في آلت الحرب وإنتاجها‪ ،‬وتهيئة عُدَد القتال‪ ،‬وتمرن على استعمالها‪،‬‬
‫وحمل السلحة بمختلف أنواعها‪ ،‬وإنشاء الصناعات الحربية‪ ،‬ومداومة على التدرب‪ ،‬ونحو ذلك من‬
‫كل ما فيه إعداد يرهب العداء‪ ،‬ويوفر القوة الكافية للمسلمين‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المؤمن‬
‫القوي خير وأحب إلى ال من المؤمن الضعيف» (‪. )3‬‬
‫ثانيا ـ اللتزام بخصائص الدولة السلمية وتحقيق أهدافها ‪:‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 56‬عرفنا أن الدولة السلمية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل اللهي‪ ،‬ويمكن إجمال‬
‫خصائصها الولية في ثلثة (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪ ،213/4 :‬نهايةا لمحتاج‪ ،194/7 :‬رد المحتار على الدر المختار‪ ،40/1 :‬ط‬
‫الميرية‪ ،‬غاية المنتهى‪ ،441/1 :‬الطرق الحكمية لبن قيم ص‪ ،247 :‬ط أنصار السنة المحمدية‪،‬‬
‫الشرح الكبير للدردير‪.174/2 :‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم‪.)215/16 :‬‬
‫(‪ )4‬نظرية السلم السياسية للمودودي‪ :‬ص ‪ 31‬و ‪ 44‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/484‬‬

‫‪ - 1‬الحاكم الحقيقي فيها هو ال عز وجل‪ ،‬والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية‪ ،‬وليس لحد من‬
‫الناس نصيب من الحاكمية‪ ،‬وإنما الحاكم هم رعايا ال ينوبون عن المة في تنفيذ شريعة الله التي‬
‫ارتضاها للناس دستورا دائما وحكما فصلً كما قال تعالى‪{ :‬إن الحكم إل ل } [النعام‪{ ]57/6:‬أل له‬
‫الحكم وهو أسرع الحاسبين} [النعام‪.]62/6:‬‬
‫‪ - 2‬ليس لحد من دون ال وظيفة تشريعية بغير ما شرع ال للمسلمين لقوله سبحانه‪{ :‬ومن لم يحكم‬
‫بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون} [المائدة‪.]44/5:‬‬
‫‪ - 3‬وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة ال ‪ ،‬والحكم بما أنزل ال وتطبيق ما جاء به النبي من‬
‫عند ربه‪ ،‬واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى‪ { :‬إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين‬
‫الناس بما أراك ال } [النساء‪.]105/4:‬‬
‫وغاية الدولة السلمية وهدفها السمى هو تحقيق نظام العدالةالجتماعية الذي أمر به ال تعالى‪ ،‬أي‬
‫إقامة نظام النسانية العادل على أساس ما أنزل‪ ،‬وأبانه رسول ال ‪ ،‬قال عليه السلم‪« :‬تركت فيكم‬
‫أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما‪ :‬كتاب ال وسنة رسوله» (‪. )1‬‬
‫ومجمل القول‪ :‬إن الدولة السلمية مقيدة بشريعة ال القائمة على العدل والخير والقوة والنظام‬
‫والدعوة إلى القرار بعقيدة التوحيد‪ ،‬واليمان بجميع الرسل والنبياء‪ .‬قال عليه السلم‪« :‬إن أحسن‬
‫الحديث كتاب ال ‪ ،‬وأحسن الهدي هدي محمد صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪)2( »...‬‬
‫‪.‬‬
‫والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات التية‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مالك في الموطأ بلغا (جامع الصول‪.)186/1 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي ال عنه (جامع الصول‪.)197/1 :‬‬

‫( ‪)8/485‬‬

‫‪ - 1‬تقوية وحدة المة وتعاونها وأخوة أبنائها ‪:‬‬


‫‪ - 57‬علمنا مما سبق أن المسلمين إخوة وأمة واحدة مهما نأت بهم الديار‪ ،‬ومقتضى ذلك أنه يجب‬
‫عليهم جميعا المشاركة في اللم‪ ،‬والسعي لتحقيق المال الكبرى‪ ،‬والتعاون البناء في سبيل خير‬
‫الجماعة‪ ،‬والحفاظ على وحدة المة‪ ،‬وتنمية الروابط المشتركة فيما بينها‪ ،‬وعلى الدولة التي تمثل‬
‫المسلمين أن تسعى دائما لشد أزر عُرَى التضامن الخوي‪ ،‬ودعم وحدة المة وتعاون أفرادها في‬
‫شتى الميادين السياسية والجتماعية والقتصادية والعسكرية تنفيذا لقوله تعالى‪{ :‬إن هذه أمتكم أمة‬
‫واحدة} [النبياء‪{ ]92/21:‬واعتصموا بحبل ال جميعا ولتفرقوا واذكروا نعمة ال عليكم إذ كنتم أعداء‬
‫فألف بين قلوبكم‪ ،‬فأصبحتم بنعمته إخوانا‪ ،‬وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ‪ ،‬كذلك يبين ال‬
‫لكم آياته لعلكم تهتدون} [آل عمران‪{ ]103/3:‬إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات‪{ ]10/49:‬محمد رسول‬
‫ال والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح‪.]29/48:‬‬
‫فبالوحدة تتوصل الدولة المسلمة إلى نهضة حيوية شاملة في جميع مرافق الحياة وتصبح عزيزة‬
‫الجانب مرهوبة السلطان‪.‬‬
‫ولقد حذر السلم من التفرق والفتن والختلف‪ ،‬وذكّر المسلمين في كل آونة بأنهم إخوة في السراء‬
‫والضراء للحفاظ على الوحدة المنشودة‪ ،‬فقال‪« :‬المسلم أخو المسلم ليظلمه‪ ،‬وليخذله‪ ،‬وليكذبه‪،‬‬
‫وليحقره‪ « )1( »..‬المؤمن للمؤمن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب‪ 609/3 :‬ومابعدها‪ ،‬شرح مسلم‪)139/6 :‬‬
‫وفي رواية أخرى لمسلم عن الزهري عن سالم عن أبيه‪ « :‬المسلم أخو المسلم ليظلمه وليُسلمه‪ ،‬من‬
‫كان في حاجة أخيه كان ال في حاجته‪ ،‬ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج ال عنه بها كربة من كرب‬
‫يوم القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلما ستره ال يوم القيامة » ( شرح مسلم‪.)134/16 :‬‬

‫( ‪)8/486‬‬
‫كالبنيان يشد بعضه بعضا» (‪« )1‬انصر أخاك ظالما أو مظلوما‪ ،‬قيل‪ :‬كيف أنصره ظالما؟ قال‪:‬‬
‫تحجزه عن الظلم‪ ،‬فإن ذلك نصره» (‪. )2‬‬
‫ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر السلم في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين‬
‫متآخين‪ ،‬فبدأ الرسول صلّى ال عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين (‪ ، )3‬ثم حقق لهم معنى‬
‫الخاء الكبر الدائم فيما بينهم‪ ،‬وصار العرب بفضل السلم كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية‬
‫قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والحقاد والحن القديمة‪{ :‬وألّف بين قلوبهم‪ ،‬لو أنفقت ما في الرض‬
‫جميعا ما ألّفت بين قلوبهم‪ ،‬ولكن ال ألّف بينهم‪ ،‬إنه عزيز حكيم} [النفال‪.]63/8:‬‬
‫ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلم إل بوحدة الصف وتوحيد الهدف‪،‬‬
‫ل في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين‬
‫كما حصل مث ً‬
‫جالوت‪ ،‬وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلد المشرق وفتح بيت المقدس‪.‬‬
‫ومن مزايا الخاء والتحاد السلمي أنه يحقق للمسلمين تساميا فوق العتبارات القليمية الضيقة‪ .‬أما‬
‫الدول الحاضرة مثلً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين‪،‬‬
‫وتحت شعار قومية واحدة‪ ،‬مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الشعري (الفتح الكبير)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم‪.138/16 :‬‬
‫(‪ )3‬مجمع الزوائد‪.171/8 :‬‬

‫( ‪)8/487‬‬

‫‪ - 2‬تحقيق المصالح الساسية التي تدور عليها الشريعة ‪:‬‬


‫‪ - 58‬إن من أول واجبات الدولة رعاية المصالح أو المقاصد التي تقوم عليها الشريعة وتستهدف‬
‫تحقيقها‪ :‬وهي المحافظة على الصول الكلية الخمسة المعروفة بالضروريات‪ ،‬والتي لم تبح في ملة‬
‫من الملل‪ :‬وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال‪ .‬وسميت بالضروريات لنه يتوقف عليها حياة‬
‫الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت‪ ،‬اختل نظام الحياة في الدنيا وضاع النعيم‪ ،‬واستحق العقاب في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وقد حافظت الشريعة على هذه الصول من ناحيتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬تحقيقها وإيجادها‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬المحافظة على بقائها‪.‬‬
‫فتحقيق مبدأ الدين مثلً بالتيان بأركان السلم الخمسة‪ ،‬والمحافظة عليه بمجاهدة من يريد إبطاله‪،‬‬
‫وعقوبة المرتد عنه بالقتل إن لم يتب ‪.‬‬
‫والنفس تتحقق وتوجد بالتزاوج الذي يؤدي إلى بقاء النوع النساني‪ ،‬والمحافظة على بقائها تكون‬
‫بفرض العقوبة على قاتلها وهو القصاص‪ .‬فقد شرع القصاص للحفاظ على النفوس والدماء‪ ،‬لن‬
‫القصاص مقررللحياة التي هي من أجلّ المنافع‪.‬‬
‫والعقل إذا وهبه ال للنسان يحافظ عليه بإباحة كل ما يكفل سلمته‪ ،‬وتحريم ما يفسده أو يضعف‬
‫قوته كشرب الخمر والمسكرات وتعاطي المخدرات‪ ،‬وإقامة الحد على الشارب وتعزير متناول‬
‫الحشيشة والفيون ونحوهما لغير حاجة طبية‪.‬‬
‫والنسل شرع لقامته استحلل ال ُبضْع (‪ )1‬بطريق مشروع‪ ،‬وللمحافظة عليه شرع حد الزنى وحد‬
‫القذف لصيانة العراض والكرامات‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البضع‪ ،‬بضم الباء جمعه إبضاع‪ :‬يطلق على الفرج والجماع ويطلق على التزويج أيضا كالنكاح‬
‫يطلق على العقد والجماع (ر‪ :‬المصباح المنير)‪.‬‬

‫( ‪)8/488‬‬

‫والمال شرع ليجاده السعي في طلب الرزق والمعاملت بين الناس‪ ،‬وللمحافظة عليه شرع حد‬
‫السرقة بقطع اليد‪ ،‬وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (‪. )1‬‬
‫قال الغزالي جامعا المقاصد المذكورة ( إن مقصود الشرع من الخلق خمسة‪ :‬وهو أن يحفظ عليهم‬
‫دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم‪ ،‬فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة فهي مصلحة‪ ،‬وكل‬
‫ما يفوت هذه الصول فهو مفسدة‪ ،‬ودفعها مصلحة)( ‪. )2‬‬
‫وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الساسية للفراد تعتبر من الدعائم الولى للحكم السلمي‬
‫التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية‪ ،‬قال الرسول صلّى ال عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع‪:‬‬
‫«أيها الناس‪ ،‬إن دماءكم وأموالكم‪ ،‬وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في‬
‫بلدكم هذا» (‪« )3‬كل المسلم على المسلم حرام‪ :‬دمه وماله وعرضه» (‪. )4‬‬
‫‪ - 59‬وبالمناسبة أبيّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند‬
‫التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل إلى المال‪ ،‬إذ أن السلم راعى مصلحة‬
‫الفرد ومصلحة الجماعة‪ ،‬وأقام توازنا فعالً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل‬
‫الجتماعي‪ ،‬فلم يسمح السلم للفرد في الحالت العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى‬
‫حدوده‪ ،‬ول للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬الموافقات للشاطبي‪ 8/2 :‬وما بعدها‪ ،‬فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت‪ 63/3 :‬التقرير‬
‫والتحبير‪ ،144/3 :‬شرح العضد على مختصر المنتهى‪ ،240/2 :‬روضة الناظر‪ ،414/1 :‬المدخل‬
‫إلى مذهب أحمد‪ :‬ص ‪ ،137‬شرح السنوي‪ ،63/3 :‬البهاج شرح المنهاج‪.38/3 :‬‬
‫(‪ )2‬المستصفى‪ ،140/1 :‬ط التجارية‪ ،‬وانظر مثل ذلك في الحكام للمدي‪ 55-54/3 :‬أعلم‬
‫الموقعين‪.14/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد ال ـ أطول الحاديث (ر‪ :‬شرح مسلم‪:‬‬
‫‪ ،167/11 ،182/8‬مجمع الزوائد‪ 265/3 :‬جمع الفوائد‪ 472/1 :‬وما بعدها)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي ال عنه (شرح مسلم‪ ،120/16 :‬الترغيب والترهيب‪:‬‬
‫‪ 309/3‬وما بعدها)‪.‬‬

‫( ‪)8/489‬‬

‫كذلك ل تضيع في نظام السلم شخصية الفرد‪ ،‬ول تهدر مصلحة الجماعة‪ ،‬لن غاية حياة النسان‬
‫حقيقة في السلم هي غاية الجماعة بعينها‪ ،‬أي تنفيذ القانون اللهي في الدنيا وابتغاء وجهه في‬
‫الخرة كما ذكرت‪ .‬وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلميا بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين‬
‫معا حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة‪.‬‬
‫ودليل ذلك أن السلم حرم كل ما يؤدي إلى الستغلل والخلل بتوازن الثروات مثل الربا‬
‫والحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس (‪ )1‬وإنقاص المكيال والميزان واكتناز‬
‫الذهب والفضة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وألزم الغنياء بالنفاق على الفقراء‪ ،‬وأجاز للدولة في مال الغنياء فرض ما يكفي من التكاليف‬
‫المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلد‪.‬‬
‫ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم‪ ،‬إذ ل ضرر ول ضرار في السلم‪،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪« :‬من ضارّ أضر ال به‪،‬ومن شاقّ شاق ال عليه» (‪. )2‬‬
‫وطلب من ولي المر الهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪ ،220 ،212 ،189/5 :‬سنن أبي داود‪ 270/2 :‬ط الحلبي‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود‪.)283/2 :‬‬

‫( ‪)8/490‬‬

‫في المصار والطواف بالليل (‪ )1‬ومشاطرة الولة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (‪. )2‬‬
‫وأجيز لولي المر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة كما فعل الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان النصاري ليذائه قائلً له‪« :‬أنت مضار»‬
‫(‪ ، )3‬وكما فعل عمر بالسماح لرجل يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض‬
‫محمد بن مسلمة قائلً له‪« :‬وال ليمرن به ولو على بطنك» (‪. )4‬‬
‫‪ - 3‬عمارة الرض ‪:‬‬
‫‪ - 60‬إن ال سبحانه استخلف البشر في الرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلل كنوزه‬
‫وثرواته‪ ،‬والناس في ذلك شركاء‪ ،‬والمسلمون ينفذون أمر ال ومقاصده‪ ،‬قال ال تعالى {هو أنشأكم من‬
‫الرض واستعمركم فيها} [هود‪ ]61/11:‬والستعمار‪ :‬معناه التمكين والتسلط‪ ،‬كما هو واضح من قوله‬
‫سبحانه‪{ :‬ولقد مكنّاكم في الرض‪ ،‬وجعلنا لكم فيها معايش قليلً ما تشكرون} [العراف‪.]10/7:‬‬
‫وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الرض جميعا} [البقرة‪{ ]29/2:‬وسخّر لكم ما في السموات‬
‫وما في الرض جميعا منه} [الجاثية‪{ ]13/45:‬الذي جعل لكم الرض فراشا والسماء بناء} [البقرة‪:‬‬
‫‪{ .]22/2‬الذي جعل لكم الرض مهدا‪ ،‬وسلك فيها سُبلً‪،‬وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من‬
‫نبات شتى} [طه‪{ ]53/20:‬هو الذي جعل لكم الرض ذلولً فامشوا في مناكبها‪ ،‬وكلوا من رزقه‪،‬‬
‫وإليه النشور} [الملك‪.]15/67:‬‬
‫واللم في (لكم) تفيد الختصاص على جهة النتفاع للمخاطبين‪ ،‬أي أن ذلك مختص بكم‪ ،‬مما يدل‬
‫على أن النتفاع بجميع مخلوقات الرض‪ ،‬وما فيها من خيرات مأذون فيه‪ ،‬بل مطلوب شرعا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سيرة عمر بن الخطاب للستاذ علي الطنطاوي وأخيه‪ ،309 ،201/1 :‬السياسة الشرعية لبن‬
‫تيمية‪ :‬ص ‪.141‬‬
‫(‪ )2‬التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،254‬السياسة الشرعية لبن تيمية ص ‪ 45‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين‪ ،‬وأخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب (سنن أبي‬
‫داود‪ ،283/2 :‬الحكام السلطانية لبي يعلى‪ :‬ص ‪.)285‬‬
‫(‪ )4‬الموطأ‪ 218/2 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/491‬‬

‫واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا‬
‫من فروض الكفاية (‪ ، )1‬لن كل فرد من الفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه (‪. )2‬‬
‫وخصصوا بابا معينا للكلم عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلح الراضي المتروكة) كما‬
‫فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز‪ ،‬ووضع المام أبو يوسف كتابه‬
‫(الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الرض وطرق الري من النهار الكبرى وموارد‬
‫بيت المال من خراج ونحوه (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪ 40/1 :‬الطرق الحكمية لبن قيم ص ‪ ،247‬غاية المنتهى‪ ،441/1 :‬الشرح الكبير‬
‫للدردير‪.174/2 :‬‬
‫(‪ )2‬سمع النبي صلّى ال عليه وسلم عليا رضي ال عنه يقول‪ :‬اللهم ل تحوجني إلى أحد من خلقك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ل تقل هكذا‪ ،‬ليس من أحد إل وهو محتاج إلى الناس‪ ،‬قال‪ :‬فكيف أقول؟ قال‪ :‬قل‪ :‬اللهم‬
‫لتحوجني إلى شرار خلقك‪ .‬قلت ‪ :‬يا رسول ال ومن شر خلقه؟ قال‪ :‬الذين إذا أعطوا أمنوا‪ ،‬وإذا‬
‫منعوا عابوا‪ .‬وسمع صلّى ال عليه وسلم أبا بكر رضي ال عنه يقول‪ :‬اللهم إني أسألك الصبر‪ .‬فقال‪:‬‬
‫سألت ال البلء‪ ،‬فسله العافية‪ .‬وسمع المام أحمد بن حنبل رجلً يقول‪ :‬اللهم لتحوجني إلى أحد من‬
‫خلقك‪ .‬فقال‪ :‬هذا رجل تمنى الموت (مغني المحتاج‪.)213/4 :‬‬
‫(‪ )3‬انظر فيه مثلً‪ :‬ص ‪ 102-91‬و ‪ 109‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/492‬‬

‫وحض السلم عموما على الضرب في الرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها‪،‬‬
‫والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر‪ ،‬والنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس‬
‫المشروع في كسبها‪ ،‬والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لن معنى استخلف ال للبشر‬
‫وخلفتهم عن ال في الرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة‪ ،‬ولن السيطرة على الرض‬
‫بتمكين ال للبشرتقتضي استغلل كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع‪ ،‬وإحياء الضرع‪ ،‬وتشجير‬
‫الشجار‪ ،‬واستخراج المعادن والزيوت‪ ،‬واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن‬
‫والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة ال وقدرته لنه هو مانح الحياة لكل‬
‫الموجودات‪.‬‬
‫‪ - 61‬وذلك على النقيض تماما من التجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية‬
‫النسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها‪ ،‬ولتقدمه العلمي والتقني والفني‪ ،‬مما يؤدي إلى عبادة المادة‬
‫ويورث النسانية كثيرا من القلقل والضطرابات‪ ،‬والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة‪.‬‬
‫لذا فإن عمارة الرض واستغللها يتقيدان في السلم بإطاعة ال والهتداء بهديه والمتناع عما نهى‬
‫عنه‪ ،‬والعتقاد بأن الناس جميعا شركاء في منتجات الطبيعة المباحة‪ ،‬فكان ل بد لهم من التراحم‬
‫والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص‪ ،‬أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر‬
‫بل والدين أيضا‪.‬‬
‫ومن ثم فليس في السلم مجال للحقد أو الستئثار أو الستعمار بالمعنى الشائع اليوم‪ ،‬أو حجر‬
‫الخرين عن النتفاع الحر بالرض‪ ،‬لن البشر هم خلق ال‪ ،‬وأحب خلق ال إلى ال أنفعهم لعياله (‬
‫‪ . )1‬فل معنى لستغلل جنس من‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال عليه الصلة والسلم «الخلق كلهم عيال ال ‪ ،‬فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» رواه البزار‬
‫والطبراني (مجمع الزوائد‪ ،191/8 :‬الفتح الكبير) وهو ضعيف‪.‬‬

‫( ‪)8/493‬‬

‫الجناس‪ ،‬أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ومن آياته أن خلقكم من تراب‪ ،‬ثم إذا‬
‫أنتم بشر تنتشرون} [الروم‪{ . ]20/30:‬ألم أعهد إليكم يا بني آدم أل تعبدوا الشيطان‪ ،‬إنه لكم عدو‬
‫مبين} [يس‪.]60/36:‬‬
‫قال الماوردي‪( :‬القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا‪ :‬خصب دار تتسع النفوس به في‬
‫الحوال وتشترك فيه ذوو الكثار والقلل‪ ،‬لكون السعار رخيصة فيقل في الناس الحسد‪ ،‬وينتفي‬
‫عنهم تباغض العدم‪ ،‬وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل‪ ،‬وذلك من أقوى الدواعي‬
‫لصلح الدنيا‪ ،‬وانتظام أحوالها‪ ،‬ولن الخصب يؤول إلى الغنى‪ ،‬والغنى يورث المانة والسخاء) (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ - 4‬صيانة الداب السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 62‬إن صيانة مقاصد الشريعة الساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية دائمة لها في‬
‫المجتمع‪ ،‬لن للخلق السائدة تأثيرا كبيرا على الشخاص وانعكاسا مباشرا في السلوك والتصرفات‪،‬‬
‫لذا كان الدين والخلق أمرين متلزمين في السلم‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (‬
‫‪ )2‬وذلك حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة‪ ،‬وإل فسدت الجماعة‪،‬‬
‫وأصابها الوهن والنحلل‪ ،‬واختل المن واضطراب النظام‪.‬‬
‫ومن أصول الخلق السلمية‪ :‬إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف‪ ،‬وتحريم كل ذرائع الفساد‬
‫والشر‪ .‬قال ابن تيمية‪( :‬إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو‪ ،‬كما يدل عليه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،..‬والشر والمعصية ينبغي حسم‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أدب الدنيا والدين مع شرحه‪ :‬ص ‪.249‬‬
‫(‪ )2‬رواه الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك (الفتح الكبير)‪.‬‬

‫( ‪)8/494‬‬

‫مادته‪ ،‬وسد ذريعته (‪ )1‬ودفع ما يفضي إليه‪ ،‬إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة‪ )2( ..‬وقال القرافي‪( :‬إن‬
‫الذريعة هي الوسيلة‪ ،‬فكما أن وسيلة المحرم محرمة‪ ،‬فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (‬
‫‪. )3‬‬
‫وتلزم الدولة السلمية شرعا بالحفاظ على الداب وحماية الخلق‪ ،‬ومنع المعاصي وردع الفساق‬
‫وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة السلمية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات‬
‫وأسباب الفوضى والنحراف‪ .‬قال الماوردي‪( :‬الذي يلزم المام إقامة الحدود لتصان محارم ال تعالى‬
‫عن النتهاك‪ ،‬وتحفظ حقوق عبادة من إتلف واستهلك) (‪ ، )4‬وقال علي بن أبي طالب رضي ال‬
‫عنه‪( :‬ل بد للناس من إمارة برّة كانت أو فاجرة‪ ،‬فقيل‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ :‬هذه البرة قد عرفناها‪ ،‬فما‬
‫بال الفاجرة؟ فقال‪ :‬يقام بها الحدود‪ ،‬وتأمن بها السبل‪،‬ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (‪. )5‬‬
‫‪ - 5‬إقامة العدالة الجتماعية ‪:‬‬
‫‪ - 63‬على الدولة أيضا تحقيق التكافل الجتماعي بين الناس‪ ،‬لنها مسؤولة عن الرعية وعن‬
‫ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره‪ ،‬وتحقيق التعاون على البر والتقوى من استيفاء الحقوق‬
‫وإعطاء المستحقين ونحوه (‪ ، )6‬قال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬المؤمن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الذريعة‪ :‬الوسيلة‪.‬‬
‫(‪ )2‬السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪ 68‬و ‪ 140‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬الفروق‪ 33/2 :‬وانظر أيضا أعلم الموقعين لبن قيم‪.147/3 :‬‬
‫(‪ )4‬الحكام السلطانية ص ‪ 14‬وقد سبق ذكره‪.‬‬
‫(‪ )5‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪ 63‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )6‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.47‬‬

‫( ‪)8/495‬‬

‫للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (‪« . )1‬من ترك كَلّ أو ضَياعا فأنا وليه» (‪« )2‬ليس المؤمن‬
‫بالذي يشبع وجاره يجوع إلى جنبه» (‪« )3‬إن ال فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي‬
‫يسع فقراءهم‪ ،‬ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إل بما يصنع أغنياؤهم‪ ،‬أل وإن ال يحاسبهم‬
‫حسابا شديدا‪ ،‬ويعذبهم عذابا أليما» (‪« )4‬أيما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد‬
‫برئت منهم ذمة ال تبارك وتعالى» (‪. )5‬‬
‫‪ - 64‬ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها‪ :‬تهيئة سبل الكسب المشروع‪ ،‬ووسائل العمل‬
‫الشريف مع تكافؤ الفرص‪ ،‬وتحقيق الحاجات الساسية من مسكن ومأكل وملبس أولً‪ .‬ومن عجز عن‬
‫العمل فنفقته على أقاربه الموسرين‪ ،‬فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال‪ ،‬كما هو معروف عند الفقهاء‪.‬‬
‫قال الماوردي‪( :‬القاعدة الثالثة مما يصلح به حال النسان في الدنيا‪ :‬المادة الكافية؛ لن حاجة النسان‬
‫لزمة ل يعرى منها بشر‪ ،‬قال ال تعالى في النبياء‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب بلفظ «من ترك كل فإلي» ورواه‬
‫أحمد والبيهقي بلفظ «ومن ترك كلً فإلى ال ورسوله» (صحيح البخاري‪ 273/8 :‬جامع الصول‬
‫‪ ،384/10‬شرح مسلم ‪ ،61/11‬الفتح الكبير)‪.‬‬
‫كلً‪ :‬أي ثقلً فيشمل الدين والعيال‪ .‬والضياع‪ :‬اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية‬
‫الصغار والزمنى الذين ل يقومون بحاجة أنفسهم‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البيهقي عن ابن عباس وكذا رواه الطبراني وأبو يعلى عنه ورجاله ثقات (مجمع الزوائد‪:‬‬
‫‪.)167/8‬‬
‫(‪ )4‬رواه الطبراني في الوسط والصغير‪ ،‬وروي على علي بن أبي طالب رضي ال عنه وهو أشبه‬
‫(الترغيب والترهيب‪ ،538/1 :‬مجمع الزوائد‪.)62/3 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد والحاكم وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة‪ ،‬والول مختلف فيه‪ ،‬والثاني قال‬
‫عنه ابن حزم‪ :‬إنه مجهول‪ ،‬وقال غيره‪ :‬معروف ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة واحتج به‬
‫النسائي (نيل الوطار‪.)221/5 :‬‬

‫( ‪)8/496‬‬

‫{وما جعلناهم جسدا ل يأكلون الطعام وماكانوا خالدين } [النبياء‪ .]8/21:‬فإذا عدم المادة التي هي‬
‫قوام نفسه لم تدم له حياة‪ ،‬ولم تستقم له دنيا‪ ،‬وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه‬
‫والختلل في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله‪ ،‬ويختل‬
‫باختلله) (‪. )1‬‬
‫وقد أطلق القرآن للنسان حرية الستمتاع بالطيبات المباحة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬كلوا من طيبات ما رزقناكم}‬
‫[طه‪{ ]81/20:‬يا أيها الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ما أحل ال لكم} [المائدة‪.]87/5:‬‬
‫ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين إلى حد الكفاية‪ ،‬قال‬
‫النووي‪( :‬من فروض الكفاية‪ :‬دفع ضرر المسلمين ككسوة عار‪ ،‬وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت‬
‫مال) وتساءل شارح المنهاج (هل يكفي سد الضروة‪ ،‬أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه‬
‫النفقة؟ قال‪ :‬فيه وجهان‪ :‬قيل‪ :‬ما يسد الرمق ‪ ،‬والوجه ما يحقق الكفاية) (‪ . )2‬وقال ابن حزم‪:‬‬
‫(فرض على الغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها‪ ،‬ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات‬
‫بهم‪ ،‬ول في سائر أموال المسلمين‪ ،‬فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي ل بد منه‪ ،‬ومن اللباس في‬
‫الشتاء والصيف بمثل ذلك‪ ،‬وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (‪. )3‬‬
‫فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الجتماعية بين الفقراء والغنياء رعاية للمصلحة العامة‪ ،‬وله أن‬
‫يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أدب الدنيا والدين مع شرحه‪ :‬ص ‪.363‬‬
‫(‪ )2‬المنهاج مع مغني المحتاج‪.212/4 :‬‬
‫(‪ )3‬المحلى‪ ،452/6 :‬م ‪.725‬‬

‫( ‪)8/497‬‬
‫الغنياء بحسب الحاجة بالضافة إلى فريضة الزكاة (‪ . )1‬لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن في المال‬
‫حقا سوى الزكاة» (‪ )2‬وليس هنا مجال التفصيل (‪. )3‬‬
‫وهذا المبدأ في السلم شامل لكل المواطنين‪ ،‬سواء أكانوا مسلمين أم ذميين كما أوضح الفقهاء (‪)4‬‬
‫بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من أهل الذمة‪ ،‬وفرض له من بيت المال ما‬
‫يكفيه‪ ،‬وقال للخازن‪( :‬انظر هذا وضرباءه‪ ،‬فوال ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته‪ ،‬ثم نخذله عند الهرم) (‬
‫‪ . )5‬وجاء في كتاب خالد بن الوليد لهل الحيرة‪( :‬وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل‪ ،‬أو‬
‫أصابته آفة من الفات أو كان غنيا فافتقر‪ ،‬وصار أهل دينه يتصدقون عليه‪ ،‬طُرحت جزيته‪ ،‬وعيل‬
‫من بيت مال المسلمين وعياله‪ ،‬ما أقام بدار الهجرة ودار السلم) (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬العتصام للشاطبي‪ ،121/2 :‬المستصفى للغزالي‪ 142-140/1 :‬ط التجارية‪ ،‬تفسير القرطبي‪:‬‬
‫‪.232/2‬‬
‫(‪ )2‬رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس‪ ،‬وقال‪ :‬إسناده ليس بذاك‪ ،‬وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه‬
‫قال‪( :‬في مالك حق سوى الزكاة) ثم قال‪ :‬وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول‪:‬‬
‫في المال حق سوى الزكاة‪ ،‬ثم ذكر أنه ل خلف في هذا إل عن الضحاك بن مزاحم وهو ليس بحجة‬
‫(التلخيص الحبير‪ :‬ص ‪ ،177‬أحكام القرآن للجصاص‪ ،153/1 :‬سنن الترمذي باب الزكاة‪ 21/3 :‬ط‬
‫حمص)‪.‬‬
‫(‪ )3‬ر ‪ :‬زكاة‪ ،‬ضريبة‪.‬‬
‫(‪ )4‬مغني المحتاج‪ ،‬المكان السابق‪ ،‬نهاية المحتاج‪.194/7 :‬‬
‫(‪ )5‬منتخب كنز العمال من مسند أحمد‪ ، 309/2 :‬الخراج لبي يوسف‪ :‬ص ‪.126‬‬
‫(‪ )6‬الخراج‪ :‬ص ‪.144‬‬

‫( ‪)8/498‬‬

‫‪ - 6‬تحقيق الحياة الطيبة للفراد بالنظر السلمي ‪:‬‬


‫‪ 65‬ـ إن من أهم أصول النظام الجتماعي السلمي هو تحقيق الحياة الطيبة الكريمة للناس‪ ،‬الجامعة‬
‫بين خيري الدنيا والخرة‪ ،‬والقائمة على أساس العمل الصالح ماديا ومعنويا ؛ إذ أن صلح العمل‬
‫يرتد أثره بالخير الكامل والسعادة والنعيم على الفرد والمجتمع‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪{ :‬من عمل صالحا‬
‫من ذكر أو أنثى وهو مؤمن‪ ،‬فلنحيينه حياة طيبة‪ ،‬ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل‪:‬‬
‫‪ . ]97/16‬والمقصود بالحياة الطيبة‪ :‬توفر السعادة والرخاء والقناعة والغنى عن الغير والتجاه إلى ا‬
‫ل سبحانه‪ ،‬والبعد عن الضنك والتعب‪ ،‬قال عبد ال التستري‪( :‬الحياة الطيبة‪ :‬هي أن ينزع عن العبد‬
‫تدبيره‪ ،‬ويرد تدبيره إلى الحق)وقيل‪ :‬هي الستغناء عن الخلق والفتقار إلى الحق‪.‬‬
‫قال ابن كثير في تفسير الية السابقة‪( :‬هذا وعد من ال تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع‬
‫لكتاب ال تعالى‪ ،‬وسنة نبيه صلّى ال عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم‪ ،‬وقلبه مؤمن بال‬
‫ورسوله‪ ،‬وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند ال بأن يحييه ال حياة طيبة في الدنيا وأن‬
‫يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الخرة‪ ،‬والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت (‪. )1‬‬
‫عن أنس بن مالك قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن ال ل يظلم المؤمن حسنة يعطى‬
‫بها في الدنيا‪ ،‬ويثاب عليها في الخرة‪ .‬وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا‪ ،‬حتى إذا أفضى إلى‬
‫الخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» (‪ )2‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن ال طيب ل يقبل إل‬
‫طيبا» (‪. )3‬‬
‫‪ - 66‬وطريق تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا يتجلى من خلل النظرة إلي المال والعمل‪ .‬أما نظرة‬
‫السلم إلى المال فهو أنه مال ال ‪ .‬وأما نظرته إلى العمل فهو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير القرآن العظيم‪.585/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم وأحمد (فيض القدير والفتح الكبير)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم وأحمد وابن عدي والترمذي عن أبي هريرة (كشف الخفا للعجلوني)‪.‬‬

‫( ‪)8/499‬‬

‫وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق‪ ،‬وقد حث القرآن عليه في قوله تعالى‪{ :‬فامشوا في مناكبها وكلوا‬
‫من رزقه وإليه النشور} [الملك‪ ]15/67:‬وطالبت السنة بإتقان العمال‪« :‬إن ال تعالى يحب إذا عمل‬
‫أحدكم عملً أن يتقنه» (‪ )1‬وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية وعزة النفس‪ ،‬جاء في‬
‫الحاديث‪« :‬لن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب‪ ،‬فيبيع‪ ،‬فيأكل‪ ،‬ويتصدق خير له من أن‬
‫يسأل الناس» (‪ « )2‬اطلبوا الحوائج بعزة النفس‪ ،‬فإن المور تجري بالمقادير» (‪« )3‬اليد العليا خير‬
‫من اليد السفلى» (‪« )4‬ليس الغنى عن كثرة العرض‪ ،‬ولكن الغنى غنى النفس» (‪« )5‬ل تحل الصدقة‬
‫لغني ول لذي مِرّة سوي» (‪. )6‬‬
‫وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في السلم‪ ،‬فمعناه العمل اليجابي لنفع الخرين ولو بترك‬
‫السعادة الشخصية أو هو القتصار على السبل المشروعة المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي‬
‫وتنازع المصالح‪ ،‬قال شراح حديث‪« :‬ازهد في الدنيا يحبك ال ‪ ،‬وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»‬
‫(‪ : )7‬الزهد‪ :‬هو العراض عن الشيء لستصغاره وارتفاع الهمة عنه لحتقاره‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬قل‬
‫متاع‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي في شعب اليمان عن عائشة‪ ،‬قال السيوطي‪ :‬حديث ضعيف (فيض القدير شرح‬
‫الجامع الصغير)‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب‪.)592/1 :‬‬
‫(‪ )3‬ذكره تمام في فوائده وابن عساكر في تاريخه عن عبد ال بن بسر (فيض القدير شرح الجامع‬
‫الصغير والفتح الكبير)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر‪( :‬شرح مسلم‪ ،124/7 :‬الترغيب‬
‫والترهيب‪.)585/1 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب المرجع السابق‪:‬‬
‫‪.)589/1‬‬
‫(‪ )6‬رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلم (مجمع الزوائد‪.)91/3 :‬‬
‫(‪ )7‬حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي‬
‫(الربعين النووية)‪.‬‬

‫( ‪)8/500‬‬

‫الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى} [النساء‪ ]77/4:‬قيل للزهري‪ :‬ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث‬
‫اللّمة ول قشف الهيئة‪ ،‬ولكنه صرف النفس عن الشهوة‪ .‬وقال ابن السّماك‪ :‬الزاهد‪ :‬هو الذي إذا‬
‫أصاب الدنيا لم يفرح‪ ،‬وإذا أصابته لم يحزن‪ ،‬يضحك في المل‪ ،‬ويبكي في الخل‪ ،‬أي عند ذكر ال في‬
‫الخلوة (‪. )1‬‬
‫‪ - 67‬ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه والرخاء القتصادي‬
‫بتشجيع وسائل النتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي أفضل المكاسب في السلم‪ ،‬كما أنها‬
‫تفتح مجالت المل والعمل لستنزاف البطالة‪ ،‬وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الخلقي‪،‬‬
‫وتوفر للمواطنين الثقة والمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة‪ ،‬وتحد من سلطان الطماع‬
‫الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة‪ ،‬وتزيل كل منافذ الفتنة والغراء والنحراف‪ ،‬وتقمع كل‬
‫طرق الشر والفساد‪ ،‬كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين وعهود القوة والزدهار في الدول‬
‫السلمية المتتابعة‪.‬‬
‫‪ - 7‬تحقيق المجتمع الخير (‪:)Welfare state‬‬
‫‪ - 68‬إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير‪ ،‬والعمل اليجابي على تحقيق مقتضيات‬
‫الخير للمجتمع‪ ،‬وتحقيق الفلح له في كل آفاق الحياة‪ .‬وهذا ما يحاول الفقه السياسي في الغرب أن‬
‫يصل إليه بما يسميه( دولة الفاهية ) قال تعالى‪{ :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران‪:‬‬
‫‪{ ]104/3‬فاستبقوا الخيرات} [البقرة‪{ ]148/2:‬ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في‬
‫الخيرات} [آل عمران‪{ ]114/3:‬إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تذكرة الدعاة للبهي الخولي‪ :‬ص ‪.145‬‬

‫( ‪)8/501‬‬

‫خاشعين} [النبياء‪ .]90/21:‬ونطاق العمل اليجابي في سبيل خير الرعية ل حدود له‪ ،‬فهو يشمل مثلً‬
‫حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج‪ ،‬والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما‬
‫يتطلبه من مرافق‪ ،‬وتنمية عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه السلم‪،‬‬
‫وتأهيل الناس كافة للعمل والنتاج‪ ،‬تحقيقا لتكافؤ الفرص في الكسب‪ ،‬ثم بعد ذلك كفالة كل عاجز عن‬
‫الكسب صونا لدميته وكرامته النسانية‪ ،‬والعمل على بث مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى ل‬
‫تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها فيما بينها ‪ ،‬كما جاء في التوجيه القرآني‪{ :‬كيل يكون دولة بين‬
‫الغنياء منكم} [الحشر‪ ،]7/59:‬وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير التي تتناسب مع‬
‫الحتياجات المتطورة للبشرية (‪. )1‬‬
‫‪ - 8‬العمل المستمر على تحقيق الفضل في جميع نواحي الحياة البشرية ‪:‬‬
‫‪ - 69‬ل يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلح النواحي القتصادية أو الهتمام بمطالب الحياة‬
‫المادية فحسب كما تقول الشيوعية‪ ،‬وإنما مهمتها شاملة لكل جوانب الحياة النسانية الفكرية والنفسية‬
‫والسياسية والخلقية‪ ،‬لن السلم دين الفطرة (‪ )2‬والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه النواحي‬
‫متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة‪ ،‬وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد العمران وترتاح النفوس‬
‫بتقوية العنصر الخلقي الذي يحمي القيم القتصادية وغيرها‪ ،‬لن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير‬
‫السلم ليست أشياء منفصلة عن المظاهر المادية للحياة النسانية‪،‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر في ذلك نظام الحكم في السلم للدكتور محمد عبد ال العربي‪ :‬ص ‪.60‬‬
‫(‪ )2‬عن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ما من مولود إل يولد‬
‫على الفطرة‪ ،‬ثم يقول‪ :‬اقرؤوا { فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ‪ ،‬ذلك الدين القيم}‬
‫رواه مسلم والموطأ والترمذي وأبو داود (جامع الصول‪.)178/1 :‬‬

‫( ‪)8/502‬‬

‫ولن المقصد من رسالة السلم هوإيجاد المجتمع الصالح الذي ل يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع‬
‫مستوى المعيشة فقط‪ ،‬وإنما ل بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم سلوك‬
‫الفراد‪ ،‬وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والخرة مع الشعور بالرتياح والطمأنينة ل‬
‫بالقهر والقسر‪.‬‬
‫وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائما لتحقيق الفضل والصلح لمواطنيها في‬
‫مختلف جوانب الحياة النسانية المادية والدبية‪ ،‬فتقيم أركان السلم وتنشر المن وتدفع خطر‬
‫العداء‪ ،‬وتسارع إلى إحراز التفوق في كل مجالت التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء‬
‫القتصادي‪ ،‬وتطوير النتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي يريد‬
‫السلم إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية‪ ،‬قال ال عز وجل {وابتغ فيماآتاك ال الدار الخرة ول‬
‫تنس نصيبك من الدنيا‪ ،‬وأحسن كما أحسن ال إليك‪ ،‬ول تبغ الفساد في الرض‪ ،‬إن ال ل يحب‬
‫المفسدين} [القصص‪.]77/28:‬‬
‫وجاء في الثر‪« :‬اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا‪ ،‬واعمل لخرتك كأنك تموت غدا» (‪. )1‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فيض القدير‪.12/2 :‬‬

‫( ‪)8/503‬‬

‫‪ - 9‬إعداد الدعاة لنشر الدعوة في الداخل والخارج ‪:‬‬


‫‪ - 70‬إن الغاية السامية التي تعمل من أجلها الدولة الفاضلة‪ :‬هي توحيد ال عز وجل وجمع الناس‬
‫على اليمان به‪ ،‬وتطهير الرض من كل رجس وشرك‪ ،‬حتى تكون كلمة ال هي العليا‪ ،‬ويكون الدين‬
‫كله ل ‪ .‬ويجب على الدولة تحقيق ذلك بكل الوسائل وإقامة النظم ا لسياسية والتشريعية والعملية التي‬
‫تكفل استقرار الناس في ظلل هذه الغاية (‪ . )1‬والوصول إلى تلك الغاية بتنظيم الدولة طرق الدعوة‬
‫إلى السلم‪ ،‬وإعداد الدعاة الكفياء المزودين بالعلم والخلق قياما بمهمة النبياء‪ ،‬واقتداء برسول ال‬
‫صلّى ال عليه وسلم المبلغ عن ربه رسالة السماء‪ ،‬قال تعالى مبينا تلك المهمة‪{ :‬إنما أنت منذر‪ ،‬ولكل‬
‫قوم هاد } [الرعد‪{ ]7/13:‬ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجاد لهم بالتي هي أحسن}‬
‫[النحل‪{ ]125/16:‬يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته‪ ،‬وال‬
‫يعصمك من الناس} [المائدة‪.]67/5:‬‬
‫والسبب في إيجاب القيام بالدعوة هوأن السلم رسالة اجتماعية إصلحية ودعوة عالمية كبرى بعث‬
‫بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم لتكون نظام النسانية الكامل في حياتها الروحية والمادية‪ ،‬في كل‬
‫زمان ومكان (‪ . )2‬فالناس جميعا مخاطبون بتعاليمها والستجابة لنظامها (‪ ، )3‬بدليل قوله تعالى‪:‬‬
‫{وما أرسلناك إل كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سبأ‪{ ]28/34:‬وما أرسلناك إلرحمة للعالمين} [النبياء‪:‬‬
‫‪{ ]107/21‬قل يا أيها الناس إني رسول ال إليكم جميعا} [العراف‪.]158/7:‬‬
‫وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلّى ال عليه وسلم بعث كتبه يدعو بها إلى ال ملوك‬
‫الفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم‪ ،‬وكان بعد تفقيه أصحابه وتعليمهم يرسل‬
‫الدعاة والمعلمين لشرع ال إلى مختلف القبائل التي تُسلم لرشادها إلى قواعد السلم ولتفقيهها في‬
‫أمور الدين‪ .‬هذا‪ ..‬بالضافة إلى القضاة والفقهاء لتولي الوليات والبلدان الكبرى (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تذكرة الدعاة للبهي الخولي‪ :‬ص ‪ ،42‬ط دار الكتاب العربي‪.1951 :‬‬
‫(‪ )2‬تذكرة الدعاة للخولي‪ :‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )3‬أعلم الموقعين‪ ،211/2 :‬تحقيق محي الدين عبد الحميد‪ ،‬تفسير المنار‪.467/6 :‬‬
‫(‪ )4‬تفسير ابن كثير‪ 254/2 :‬وما بعدها‪ ،‬ط الحلبي‪ ،‬سيرة ابن هشام‪ :‬المجلد‪ ،590/2 :‬ط الحلبي‪،‬‬
‫التراتيب الدارية للكتاني‪ 194/1 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/504‬‬

‫وفي آخر مراحل حياته عليه الصلة والسلم أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب‬
‫التبليغ‪ ،‬وأمر أن يبلّغ الشاهد الغائب‪.‬‬
‫وبما أن الرسول صلّى ال عليه وسلم هو السوة الحسنة‪ ،‬فكان لزاما على المسلمين حكاما ورعية‬
‫القيام بتبليغ الدعوة السلمية وإعداد الدعاة لها سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه‪ ،‬وذلك‬
‫بتخصيص فئة متعلمة تدرس الشريعة‪ ،‬وتتمثلها‪ ،‬وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الجنبية‪ ،‬ثم‬
‫ترسل إلى سائر البلد للدعوة في سبيل ال (‪ )1‬مع دعمها بكتب ومنشورات مبسطة عن السلم في‬
‫عقائده وعباداته‪ ،‬وأحواله المدنية والشخصية‪ ،‬وقانونه الجزائي والدولي‪ ،‬وهذا من فروض الكفاية على‬
‫المة السلمية‪ ،‬كما أرشد القرآن إليه في قوله عز شأنه‪{ :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‪،‬‬
‫ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران‪ ]104/3:‬والخير‪ :‬هو السلم وشرائعه التي‬
‫شرعها ال لعباده‪{ ،‬فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين‪ ،‬ولينذروا قومهم إذا رجعوا‬
‫إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة‪.]122/9:‬‬
‫قال النووي‪( :‬ومن فروض الكفاية‪ :‬القيام بإقامة الحجج وحل المشكلت في الدين‪ ،‬وبعلوم الشرع‬
‫كتفسير وحديث‪ ،‬والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء) (‪ . )2‬فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب‬
‫الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف‪ ،‬لن المخاطب باليات القرآنية السابقة هم كل المسلمين‪،‬‬
‫فهم المكلفون أن يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة‪ ،‬فهنا فريضتان‪ :‬إحداهما على جميع‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬سأتكلم عن واجب نشر الدعوة خارج الدولة في المبحث ا لثاني‪.‬‬
‫(‪ )2‬المنهاج مع مغني المحتاج‪ 210/4 :‬وانظر مثل ذلك في غاية المنتهى عند الحنابلة‪441/1 :‬‬
‫والشرح الكبير للدردير عند المالكية‪ ،174/2 :‬تفسير القرطبي‪ ،165/4 :‬نسخة مصورة عن طبعة‬
‫دار الكتب‪ ،‬تفسير الطبري‪ ،38/4 :‬ط الثانية الحلبي‪.‬‬

‫( ‪)8/505‬‬

‫المسلمين الذين تمثلهم دولتهم‪ ،‬والثانية على الجماعة التي يختارونها للدعوة‪ .‬وقال الماوردي ـ فيما‬
‫سبق ذكره ـ‪ :‬إن أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه (‪ . )1‬وقال الحنفية ‪( :‬إن الجهاد الذي‬
‫هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول) (‪. )2‬‬
‫‪ - 71‬والمقصود من الدعوة في العرف‪ :‬هو حث الناس على الخير والهدى‪ ،‬والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬وهي ثلثة أنواع‪:‬‬
‫النوع الول‪ :‬دعوة المة المحمدية جميع المم إلى السلم وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى‬
‫ودين الحق‪ .‬وهذا واجب هذه المة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬وبحكم وصف المؤمنين‬
‫الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى‪{ :‬الذين إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة‬
‫وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج‪.]41/22:‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير‪ ،‬لقوله سبحانه‪{ :‬فلول نفَر من كل فرقة منهم‬
‫طائفة‪[ }..‬التوبة‪ ]122/9:‬الية‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬ما يكون بين الفراد بعضهم مع بعض بالدللة على الخير والترغيب فيه والنهي عن‬
‫الشر والتحذير منه (‪ ، )3‬لقوله عز وجل‪{ :‬والعصر إن النسان لفي خسر‪ ،‬إل الذين آمنوا وعملوا‬
‫الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر‪{ ]3-1/103:‬ومن أحسن قولً ممن دعا إلى‬
‫ال } [فصلت‪ ]33/41:‬أي إلى دين ال ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي ص ‪ 14‬ولبي يعلى ص ‪.11‬‬
‫(‪ )2‬العناية بهامش شرح فتح القدير‪ 279/4 :‬وانظر أحكام القرآن للجصاص‪ 592 ،35/2 :‬ط البهية‬
‫المصرية‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع تفسير المنار‪ 27/4 :‬وما بعدها‪ ،‬هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ‪ :‬ص ‪ 17‬ط العثمانية‬
‫المصرية‪.‬‬

‫( ‪)8/506‬‬

‫‪ - 72‬وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد‬
‫المعلم والمحتسب المر بالمعروف والناهي عن المنكر‪ ،‬وهي خمس عشرة صفة (‪. )1‬‬
‫‪ - 1‬العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح‪ .‬وبالقدر الكافي من الحكام‬
‫الشرعية‪ ،‬وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها‪.‬‬
‫‪ - 2‬العمل بعلمه‪ ،‬فل يكذب فعله قوله‪ ،‬ول يخالف ظاهره باطنه‪ ،‬بل ل يأمر بالشيء ما لم يكن هو‬
‫أول عامل به‪.‬‬
‫‪ - 3‬الحلم وسعة الصدر‪ ،‬فكمال العلم بالحلم‪ ،‬ولين الكلم مفتاح القلوب‪.‬‬
‫‪ - 4‬الشجاعة‪ ،‬حتى ل يهاب أحد في الجهر بالحق‪ ،‬ول تأخذه في نصرة ال لومة لئم ‪.‬‬
‫‪ - 5‬العفة واليأس مما في أيدي الناس‪.‬‬
‫‪ - 6‬القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (‪. )2‬‬
‫‪ - 7‬قوة البيان وفصاحة اللسان وإل كان النفع بعيدا‪.‬‬
‫‪ - 8‬اللمام بالتي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تفسير الكشاف‪ ، 340/1 :‬تفسير المنار‪ ،48-26/4 :‬الحياء للغزالي‪ 49/1 :‬وما بعدها و ‪274/2‬‬
‫وما بعدها‪ ،‬أدب الدنيا والدين ص ‪ ،119-108‬منهاج القاصدين‪ :‬ص ‪ 15‬وما بعدها و ‪ 130‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ‪ :‬ص ‪ ،104-12‬تذكرة الدعاة للخولي‪ :‬ص ‪ 35‬وما بعدها‬
‫و ‪.249‬‬
‫(‪ )2‬من الصعب في وقتنا تحقيق الزهد بالدنيا بالمعنى الشائع لننا محاطون بزينة الدنيا ومغرياتها من‬
‫المال والنساء والجاه والبناء وغير ذلك‪ ،‬وقد قرر الرسول صلّى ال عليه وسلم هذه الحقيقة الواقعية‬
‫فقال‪« :‬إن الدنيا حلوة خضرة‪ ،‬وإن ال مستخلفكم فيها‪ ،‬فينظر كيف تعملون فيها» (تذكرة الدعاة‪ :‬ص‬
‫‪.)148‬‬

‫( ‪)8/507‬‬

‫العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلدهم وأخلقهم أو ما يعبر عنه‬
‫في العرف بحالتهم الجتماعية‪ ،‬ومعرفة التاريخ العام‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬وعلم تقويم البلدان‪ ،‬وعلم‬
‫الخلق‪ ،‬ومعرفة الملل والنحل ومذاهب المم‪ ،‬والعلم بلغات المم التي تراد دعوتها وعلى الجتماع‬
‫الذي يبحث فيه عن أحوال المم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في‬
‫مقدمة ابن خلدون‪.‬‬
‫‪ - 9‬قوة الثقة بال في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة‪ ،‬مهما طال به العلج وعظمت‬
‫المصاعب‪.‬‬
‫‪ - 10‬التواضع ومجانبة العجب‪.‬‬
‫‪ - 11‬أن ل يبخل بتعليم‪ ،‬ول يمتنع من إفادة ما يعلم‪ ،‬فإن البخل به ظلم ولؤم‪ ،‬والمنع منه حسد وإثم‪.‬‬
‫‪ - 12‬الوقار والرزانة بالمساك عن فضول الكلم‪ ،‬وعن كثرة الشارة والحركة فيما يستغنى عن‬
‫الحركة فيه‪ ،‬والصغاء عند الستفهام‪ ،‬والتوقف عند الجواب‪ ،‬وعدم التسرع والمبادرة في جميع‬
‫المور‪.‬‬
‫‪ - 13‬أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي المور‪.‬‬
‫‪ - 14‬الصبر في مقام الدعوة إلى ال تعالى‪ ،‬فهو وصف النبياء والمرسلين صلوات ال وسلمه‬
‫عليهم أجمعين‪.‬‬
‫‪ - 15‬التقوى والمانة والتحرز بطاعة ال تعالى عن مساخطه‪،‬ويعبر عن ذلك في العرف‪ :‬العدالة‬
‫والقدوة الحسنة‪.‬‬

‫( ‪)8/508‬‬

‫الوظيفة الثانية ـ وظيفة الدولة الخارجية ‪:‬‬


‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 73‬إن اختصاص الدولة السلمية في نطاق العلقات الخارجية يشبه في كثير من الوجوه‬
‫اختصاص الدولة الحديثة‪ ،‬لنها دولة ذات فكرة إنسانية سامية تنشد تحقيقها على صعيد مفتوح وفي‬
‫ظل من المن والسلم‪ ،‬وعلى أساس من الستقلل الداخلي والخارجي ضمن إطار التعاون الواجب مع‬
‫الدول الخرى في سبيل خير البشرية (‪. )1‬‬
‫ومنهج السلم في علقاته الدولية يقوم على مبدأ التوفيق بين ضرورات الواقع وبين مثالية المبدأ‬
‫والمسعى الذي يحقق الغاية المنشودة من رسالته‪ ،‬فهو ل يستطيع تجاهل ظروف وضرورات الحياة‬
‫الدولية لما لها من ثقل تفرض به نفسها على الحداث والمتطلبات الداخلية‪ ،‬ول يمكنه أصلً التخلي‬
‫عن واجب التبليغ ونشر المبادئ والتضحية في سبيل المبدأ وإثبات الخصائص الذاتية التي يتمتع بها‪،‬‬
‫وإعلم الناس بمحتواها‪ ،‬ومحاولة تنفيذها وتحقيق الهداف المطلوبة بالسياسة والحكمة والناة ‪،‬‬
‫ومواتاة الفرصة المناسبة‪.‬‬
‫والبحث هنا يتناول وظيفتين أساسيتين للدولة السلمية وهما الوظيفة المتجاوبة مع ضرورات الحياة‬
‫الدولية‪ ،‬والوظيفة الصلية التي تحقق أهداف الدولة وخصائصها الذاتية‪ ،‬وذلك في مطلبين‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬جهاد‪.‬‬

‫( ‪)8/509‬‬

‫المطلب الول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية ‪:‬‬
‫‪ 74‬ـ ل تصادم بين الفكرة السلمية المتطلعة إلى المتداد أو النتشار وبين المبادئ الدولية القائمة‬
‫الن على أساس العتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة‪ ،‬ومساواتها بين الدول في المبادئ‬
‫الخلقية أو السلمية‪ ،‬وعدم خضوعها للقضاء الجنبي والدفاع عن نفسها للحفاظ على وجودها‬
‫وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها‪.‬‬
‫وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي التية‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدفاع عن أراضي السلم وتحرير شعوبه وحماية أقلياته ‪:‬‬
‫‪ - 75‬هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها‪ ،‬لما لها من حق‬
‫الحياة والبقاء كالشخاص العاديين تماما‪ ،‬ولما يفرضه الواجب من حماية التباع والرعايا ولو في‬
‫خارج إقليم الدولة‪.‬‬
‫ووسيلة السلم في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض ضرورية تفرضها‬
‫الحداث وأهمها‪. )1( :‬‬
‫أ ـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي دار السلم‪ ،‬قال‬
‫تعالى {وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم} [البقرة‪{ ، ]190/2:‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون‬
‫الدين كله ل ‪ ،‬فإن انتهوا فإن ال بما يعملون بصير} [النفال‪{ ]39/8:‬وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة‪،‬‬
‫ويكون الدين ل‪ ،‬فإن انتهوا فل عدوان إل على الظالمين} [البقرة‪ { ، ]193/2:‬أذن للذين يقاتَلون بأنهم‬
‫ظُلموا‪ ،‬وإن ال على نصرهم لقدير} [الحج‪.]39/22:‬‬
‫الجهاد حق وعدل وواجب مقدس‪ ،‬ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلده وأهله وإعلء‬
‫كلمة ال (أي كلمة السلم والمسلمين) فهو منافق‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬للتفصيل والمقارنة في الموسوعة الفقهية‪ :‬جهاد‪.‬‬

‫( ‪)8/510‬‬

‫في شرعة القرآن‪ ،‬قال تعالى { وليعلم الذين نافقوا‪ ،‬وقيل لهم‪ :‬تعالوا قاتلوا في سبيل ال‪ ،‬أو ادفعوا (‬
‫‪ ، )1‬قالوا‪ :‬لو نعلم قتالً لتبعناكم‪ ،‬هم للكفر يومئذ أقرب منهم لليمان‪ ،‬يقولون بأفواههم ما ليس في‬
‫قلوبهم وال أعلم بما يكتمون} [آل عمران‪.]167/3:‬‬
‫ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقا العداد دائما للجهاد وعدم التقاعس عنه إذا وجدت مقتضياته‪،‬‬
‫وتهيأت إمكاناته‪ ،‬وقد ذكرت سابقا عبارة الماوردي وغيره في هذا الشأن حيث جعل من واجبات‬
‫المام تحصين الثغور وحماية البلد‪ ،‬وجهاد العداء بعد الدعوة إلى السلم‪.‬‬
‫ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين‪ ،‬أو إغاثة المستضعفين المسلمين‪ ،‬أو حماية‬
‫القليات في بلد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق‪ ،‬وذلك عند القدرة والمكان‪ ،‬قال ال عز وجل‪:‬‬
‫{وما لكم ل تقاتلون في سبيل ال ‪ ،‬والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا‬
‫أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء‪{ ]75/4:‬وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل على‬
‫قوم بينكم وبينهم ميثاق} [النفال‪.]8/72:‬‬
‫‪ - 2‬دعم التعاون بين أقاليم الدولة السلمية ‪:‬‬
‫‪ - 76‬يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن السلم والمسلمين ضرورة التعاون البنّاء بين جميع بلد‬
‫السلم‪ ،‬كما كان عليه حال المة السلمية في عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم وما تله من عهود‬
‫موحدة ‪ ،‬وذلك في مختلف المجالت السياسية والعسكريةوالقتصادية والجتماعية والثقافية‪ ،‬إذ إن‬
‫روابط الخاء والوحدة في عقيدة اليمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون على الخير في‬
‫السراء والضراء‪.‬‬
‫وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة والتفوق والسيادة‪ ،‬وترتد آثاره الحميدة على البلد بالخير‬
‫والسعادة وتحقيق الماني والمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد‪ .‬وبغير ذلك‬
‫تسوء الحوال وتؤول الوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الن من ويلته بسبب‬
‫التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق‪.‬‬
‫ومن المعروف أن السلم يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا‪ ،‬وأن‬
‫الواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وتعاونوا على البر والتقوى‪،‬‬
‫ول تعاونوا على الثم والعدوان} [المائدة‪{ ]2/5:‬واعتصموا بحبل ال جميعا ول تفرقوا} [آل عمران‪:‬‬
‫‪{ ]103/3‬ولتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [النفال‪. ]46/8:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي دافعو ا عن النفس والهل والوطن (ر ‪ :‬التفاسير)‪.‬‬

‫( ‪)8/511‬‬

‫فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة والعصبيات المغلقة المورثة‬
‫للمنازعات والخلفات الجزئية؛ لن رابطة الخوة القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلقات الجنسية‬
‫( التجنس ) ومضايقات العنصرية‪ ،‬ولن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد‪.‬‬
‫‪ - 77‬وهذا في الدرجة الولى من وظائف الدولة‪ ،‬لن الوامر السابقة في القرآن الموجبة للتعاون‬
‫تخاطب ولة المر والفراد على حد سواء (‪ ، )1‬وما يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل‬
‫المقاصد وتأمين المصالح‪.‬‬
‫ومن صور التعاون في المجالت التي ذكرناها قيام أجزاء البلد بتوحيد الجهد لنشاء المشاريع‬
‫الصناعية والنتاجية والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والمية‪ ،‬وتنسيق الخطط‬
‫الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلت التي تمس مصالح المسلمين‪.‬‬
‫وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلد في رد العدوان ودفع الخطار‪ ،‬وتسوية المنازعات وترميم‬
‫الحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والقتصادية ونحو ذلك‪ ،‬ففي ماضي المسلمين كان تجهيز‬
‫الجيوش وإمداد المقاتلة‪ ،‬يتم بالتعاون بين أقطار السلم‪ ،‬كما كان توزيع الغنائم شاملً للمسلمين‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا هو المفهوم من عموم الخطاب فيها‪ ،‬فآية المائدة مثلً صدرت بقوله سبحانه‪{ :‬ول يجرمنكم‬
‫شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام} [المائدة‪ ]2/5:‬وذلك موجه لرسول ال صلّى ال عليه وسلم‬
‫القائد وللمؤمنين‪ ،‬ثم قال سبحانه‪{ :‬وتعاونوا على البر‪[ }...‬المائدة‪ ]2/5:‬أي أن ال يأمر المؤمنين‬
‫ولسيما أصحاب السلطة بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر‪ ،‬وترك المنكرات وهو التقوى‪،‬‬
‫وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم (تفسير ابن كثير‪.)6/2 :‬‬

‫( ‪)8/512‬‬

‫‪ - 3‬دعم السلم العالمي ‪:‬‬


‫‪ 78‬ـ استأصل السلم جذور الحقاد والعداوات البشرية‪ ،‬فقضى على الفوارق الجنسية ( التجنس )‬
‫والعصبية وتناحر الطبقات‪ ،‬وأحل محلها روح المحبة والنسانية والتعاون والتسامح‪ ،‬كما أنه انتزع‬
‫من فكرة القومية تلك (النانية) الطاغية التي من شأنها أن تخلق منافسة بين القوميات المتباينة (‪، )1‬‬
‫وبالتالي نشوب حروب طاحنة بسبب التنازع على الستئثار بخيرات الرض‪ .‬ثم دعا السلم بعدئذ‪،‬‬
‫ليس إلى إقامة سلم عالمي فحسب‪ ،‬بل إلى تعايش ودي يدعم السلم‪ ،‬ويتجاوز حدود المسالمة إلى‬
‫المودة والمصاهرة‪ ،‬والشتراك في القرابات واختلط الدماء‪ ،‬وإيجاد زمالة عالمية في ظل المبدأ‬
‫النساني الرفيع‪ :‬وهو اعتبار الجنس البشري من أب وأم واحدة‪ ،‬وأنهم أبناء أسرة واحدة ينبغي‬
‫التراحم بين أفرادها‪ ،‬وشيوع اللفة والعدالة في أوساطها للعمل من أجل خير المجموع‪.‬‬
‫‪ - 79‬وهذا ما قرره القرآن الكريم بأجلى بيان في قوله سبحانه‪{ :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر‬
‫وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا‪ ،‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم‪ ،‬إن ال عليم خبير } [الحجرات‪:‬‬
‫‪.]13/49‬‬
‫وتتوارد اليات القرآنية في الدعوة إلى السلم ونبذ العدوان كما في قوله عز وجل‪{ :‬وإن جنحوا للسلم‬
‫فاجنح لها‪،‬وتوكل على ال } [النفال‪{ ]61/8:‬يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‪ ،‬ول تتبعوا‬
‫خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين} [البقرة‪{ .]208/2:‬ول تقولوا لمن ألقى إليكم السلم‪ :‬لست مؤمنا‬
‫تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء‪{ .]94/4:‬فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلَم‪ ،‬فما جعل‬
‫ال لكم عليهم سبيلً} [النساء‪{ ]4/90:‬ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‪ ،‬ولم يخرجوكم من‬
‫دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم‪ ،‬إن ال يحب المقسطين} [الممتحنة‪.]8/60:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نظام الحكم في السلم للدكتور عبد ال العربي‪ :‬ص ‪.56‬‬

‫( ‪)8/513‬‬

‫ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع‪ ،‬فينهى عن العدوان في قوله تعالى‪{ :‬وقاتلوا في سبيل‬
‫ال الذين يقاتلونكم‪ ،‬ولتعتدوا إن ال ل يحب المعتدين} [البقرة‪ ]190/2:‬وفي هذا إشارة إلى تحريم‬
‫العدوان والقتصار على حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (‪. )1‬‬
‫وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال‪ ،‬ومطالبة بالحرص على السلم‪ ،‬قال النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬أيها الناس‪ ،‬ل تتمنوا لقاء العدو‪ ،‬وسلوا ال العافية‪ ،‬فإذا لقيتموهم فاصبروا‪ ،‬واعلموا أن‬
‫الجنة تحت ظلل السيوف» (‪« . )2‬تألفوا الناس‪ ،‬وتأنوا بهم ول تغيروا عليهم حتى تدعوهم‪ ،‬فما على‬
‫الرض من أهل بيت من مدر‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬للتفصيل في الموسوعة الفقهية جهاد‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ومسلم وأحمد (شرح مسلم‪ ،46/12 :‬جامع الصول‪ ،185/3 :‬منتخب كنز العمال‬
‫من مسند أحمد‪.)323/2 :‬‬

‫( ‪)8/514‬‬

‫ول وبر إل أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم‪ ،‬وتقتلوا رجالهم» (‪)1‬‬
‫«الخلق كلهم عيال ال ‪ ،‬فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (‪. )2‬‬
‫‪ - 80‬وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلم العالمي‪ ،‬سواء أكان التهديد‬
‫قريبا من حدودها أم بعيدا عن أراضيها‪ ،‬لن انفجار الحرب ـ ل سيما في عصرنا الحاضر ـ‬
‫يعرّض العالم كله إلى هزات عنيفة‪ ،‬ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها‪ ،‬ولن السلم‬
‫يكره إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إل للضرورة كما يبين من كلم فقهائنا في الواجب‬
‫التي عند بحث حماية الكرامة النسانية‪.‬‬
‫‪ - 4‬دعم مبادئ كرامة النسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع ‪:‬‬
‫‪ - 81‬السلم ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية حتى تتحقق به‬
‫الحياة الطيبة‪ ،‬وتتوافر للناس سعادة الدنيا والخرة‪ ،‬لذا فإنه يقيم نظامه الجتماعي على أسس ثابتة‬
‫أهمها ما يأتي‪:‬‬
‫أ ـ حماية الكرامة النسانية‪ :‬أعلن السلم مبدأ كرامة النسان‪ ،‬فهو أكرم مخلوق على الرض‪،‬‬
‫والكرامة حق طبيعي لكل إنسان‪ ،‬فل يجوز إهدار كرامته‪ ،‬أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسنا أم‬
‫مسيئا‪ ،‬مسلما أم غيرمسلم‪ ،‬لن العقاب إصلح وزجر‪ ،‬ل تنكيل وإهانة‪ ،‬ول يحل شرعا السب والشتم‬
‫والستهزاء‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬شرح السير الكبير‪.59/1 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه البزار والطبراني في الكبير والوسط من حديث ابن مسعود (مجمع الزوائد ‪ )191/8‬وقد‬
‫سبق تخريجه وفيه عمير‪ ،‬وهو أبو هارون القرشي متروك‪.‬‬

‫( ‪)8/515‬‬

‫وقذف العراض‪ ،‬كما ل يجوز التمثيل (‪ )1‬بأحد ولو من العداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها‪ ،‬ويحرم‬
‫التجويع والظماء والنهب والسلب‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ولقد كرّمنا بني آدم‪ ،‬وحملناهم في البر والبحر‪،‬‬
‫ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلً} [السراء‪.]70/17:‬‬
‫وقال الرسول صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (‪« )2‬المؤمن‬
‫أعظم حرمة من الكعبة» (‪« )3‬ما شيء أكرم على ال يوم القيامة من ابن آدم» (‪. )4‬‬
‫ولقد قرر فقهاؤنا أن الصل في الناس حقن الدماء‪ ،‬فقال الحنفية‪( :‬الدمي معصوم ليتمكن من حمل‬
‫أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره) وقال مالك‪( :‬ل ينبغي لمسلم أن يهريق دمه‬
‫إل في حق‪ ،‬ول يهريق دما إل بحق) (‪ . )5‬وقال الحنابلة‪( :‬إن الصل في الدماء الحظر إل بيقين‬
‫الباحة) (‪ )6‬وقال الشافعية (‪( : )7‬قتل الدمي عمدا بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر‪ ،‬وأما قتل الكفار‬
‫فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد)‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬قال عليه الصلة والسلم «ولتمثلوا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة (جامع‬
‫الصول‪.)201/3 :‬‬
‫(‪ )2‬سبق تخريجه (مجمع الزوائد‪.)284/6 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه ابن ماجه بسند لين عن ابن عمر‪ ،‬ولبن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى ال عليه‬
‫وسلم نظر إلى الكعبة فقال‪« :‬ما أعظمك وأعظم حرمتك‪ ،‬والمسلم أعظم حرمة منك‪ ،‬قد حرم ال دمه‬
‫وماله وعرضه‪ ،‬وأن يظن به ظن السوء» (كشف الخفا للعجلوني)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الطبراني من حديث عبد ال بن عمرو‪ ،‬وهو حديث غريب جدا (تفسير ابن كثير‪.)52/3 :‬‬
‫(‪ )5‬اختلف الفقهاء للطبري ـ تحقيق شخت‪ :‬ص ‪.195‬‬
‫(‪ )6‬القواعد لبن رجب‪ :‬ص ‪.338‬‬
‫(‪ )7‬مغني المحتاج‪ 2/4 :‬و ‪ 210‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬لقتل مؤمن أعظم عند ال من زوال‬
‫الدنيا وما فيها» رواه أبو داود بإسناد صحيح‪.‬‬

‫( ‪)8/516‬‬

‫ب ـ مبدأ العدالة ‪:‬‬


‫‪ - 82‬إن العدالة المطلقة في السلم مبدأ من مبادئ نظام الحكم السلمي‪ ،‬وأساس كل علقة إنسانية‬
‫سواء بين الصدقاء أم العداء؛ لن العدل قوام العالمين في الدنيا والخرة‪ ،‬وبالعدل قامت السموات‬
‫والرض‪ ،‬والعدل أساس الملك‪ ،‬وأما الظلم فهو طريق خراب المدنيات وزوال السلطان‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫{إن ال يأمر بالعدل والحسان } [النحل‪ ]90/16:‬وقال صلّى ال عليه وسلم في الحديث القدسي عن‬
‫رب العزة‪« :‬يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي‪ ،‬وجعلته بينكم محرما‪ ،‬فل تظالموا» (‪. )1‬‬
‫ومن أخص الحالت التي ينبغي فيها العدل‪ :‬حالة الحكم والشهادة والقضاء بين الناس‪ ،‬وفي ميدان‬
‫الحكم والدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس (أي في الميدان الدستوري‬
‫والداري والمالي) وفي نطاق السرة والتربية والتعليم‪ ،‬وقال تعالى‪{ :‬وإذا حكمتم بين الناس أن‬
‫تحكموا بالعدل} [النساء‪{ ]58/4:‬ول يجرمنكم شنآن قوم على أن ل تعدلوا‪ ،‬اعدلوا هو أقرب للتقوى}‬
‫[المائدة‪{ ]8/5:‬ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على أنفسكم أو الوالدين‬
‫والقربين} [النساء‪.]135/4:‬‬
‫جـ ـ الحرية ‪:‬‬
‫‪ - 83‬الحرية‪ :‬هي أعلى ما يشعر به المرء في هذا الوجود‪ ،‬فهي ملزمة لكرامته النسانية‪ ،‬وقد أقر‬
‫السلم مبدأ الحرية في أعدل مظاهرها‪ ،‬قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص‪( :‬متى تعبدتم‬
‫الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) (‪ )2‬وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول‪.‬‬
‫فمن أجل تقرير حرية العتقاد منع الكراه على الدين‪{ :‬ل إكره في الدين‪ ،‬قد تبين الرشد من الغي}‬
‫[البقرة‪ ]256/2:‬وجعل قبول اعتناق السلم منوطا بالختيار الحر والقتناع الذاتي بعد استخدام الفكر‬
‫والعقل السليم وتجنب التقليد ومحاكاة الخرين بدون حجة‪ ،‬عملً بقوله تعالى‪{ :‬أولم يتفكروا في‬
‫أنفسهم} [الروم‪{ ]8/30:‬قل‪ :‬انظروا ما ذا في السموات والرض } [يونس‪{ ]101/10:‬وما يذكّ ُر إل‬
‫أولو اللباب} [آل عمران‪.]3/7:‬‬
‫وتحريضا على التفكير والنظر الطليق ندد ال سبحانه بالتقليد في العقائد وتعطيل العقول فقال‪{ :‬وإذا‬
‫قيل لهم‪ :‬اتبعوا ما أنزل ال ‪ ،‬قالوا‪ :‬بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا‪ ،‬أولو كان أباؤهم ل يعقلون شيئا ول‬
‫يهتدون} [البقرة‪{ ]170/2:‬أفلم يسيروا في الرض‪ ،‬فتكون لهم قلوب يعقلون بها‪ ،‬أو آذان يسمعون‬
‫بها‪ ،‬فإنها ل تعمى البصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج‪.]46/22:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر الغفاري (الربعين النووية)‪.‬‬
‫(‪ )2‬سيرة عمر بن الخطاب للستاذ الطنطاوي وأخيه‪.240/1 :‬‬

‫( ‪)8/517‬‬

‫والنقد البناء ليس حقا فقط‪ ،‬وإنما هو واجب ديني أحيانا ل سيما عند المساس بالمصالح العامة‬
‫والخلق ‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬الدين النصيحة‪ .‬قلنا ‪ :‬لمن؟ قال‪:‬ل ولكتابه ولرسوله ولئمة‬
‫المسلمين وعامتهم» (‪ )1‬واعتبر المر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول السلم كما تقدم‪،‬‬
‫وأن الشورى أساس الحكم والدارة السياسية والحربية‪ ،‬وأن الجتهاد في أمور الدنيا حق مطلق‪ ،‬وأما‬
‫في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة الصحيحة‪ ،‬يعني أن للفرد الحرية في المور‬
‫الدنيوية بإبداء ما شاء من الراء فيها‪ ،‬وأما المور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ‬
‫في غير موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري ( الربعين النووية )‪.‬‬

‫( ‪)8/518‬‬
‫د ـ المساواة الكاملة بين الناس ‪:‬‬
‫‪ - 84‬إن مبدأ المساواة في السلم عام شامل دون قيود ول استثناءات‪ ،‬وأساس في نظام الحكم‬
‫السلمي‪ ،‬وكان ذلك المبدأ جديدا بالنسبة للعرب‪ ،‬بل وكان يتعارض مع الشعور القبلي السائد (‪، )1‬‬
‫فقررت الشريعة المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة‬
‫والحقوق السياسية بين الفراد‪ ،‬والجماعات‪ ،‬والجناس‪ ،‬وبين الحاكمين والمحكومين‪ ،‬ل فضل لرجل‬
‫على آخر إل بالتقوى والعمل الصالح ‪ ،‬ودون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة (أي في الغنى‬
‫والفقر) أو القوة والضعف‪ ،‬أو الحسب والنسب‪ .‬الناس جميعا في الشريعة متساوون على اختلف‬
‫شعوبهم وقبائلهم‪ ،‬كما هم متساوون في وحدة الصل البشري (‪ )2‬و بدليل قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الناس‬
‫إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‪ ،‬وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا‪ ،‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم} [الحجرات‪:‬‬
‫‪ ]13/49‬وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى ال عليه وسلم في قوله‪« :‬الناس سواء كأسنان المُشط» (‪)3‬‬
‫‪« .‬أيها الناس ‪ ،‬إن ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪،‬كلكم لدم وآدم من تراب‪ ،‬إنّ أكرمكم عند ال أتقاكم‪،‬‬
‫وليس لعربي على أعجمي فضل إل بالتقوى» (‪« )4‬كرم الرجل‪ :‬دينه‪ ،‬ومروءته‪ ،‬وعقله وحسبه‬
‫وخلقه» (‪. )5‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مبادئ نظام الحكم في السلم للدكتور عبد الحميد متولي‪ :‬ص ‪ )2( .822‬تفسير ابن كثير‪:‬‬
‫‪ ،218/4‬تفسير الخازن‪ ،190/6 :‬التشريع الجنائي السلمي ‪ ،316/1 :‬الديمقراطية السلمية‬
‫للدكتور عثمان خليل ص ‪ ،35‬مبادئ نظام الحكم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.827‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن لل والديلمي عن سهل بن سعد‪ ،‬والحسن بن سفيان وأبو بشر الدولبي والعسكري‬
‫في المثال عن أنس (كشف الخفا للعجلوني وغيره)‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه البيهقي عن جابر بن عبد ال وقال‪ :‬في إسناده بعض من يجهل‪ ،‬ولحمد عن أبي نضرة في‬
‫معناه (الترغيب والترهيب‪ ،612/3 :‬مجمع الزوائد‪.)273-266/3 :‬‬
‫(‪ )5‬رواه أحمد والطبراني في الوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد‪.)251/10 :‬‬

‫( ‪)8/519‬‬

‫وطبق الرسول عليه الصلة والسلم المبدأ أولً على نفسه‪ ،‬فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو‬
‫شتمه أو أخذ منه ماله بغير حق (‪ ، )1‬وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين‪ ،‬وكان‬
‫الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد توليه الخلفة‪ .‬وكان‬
‫هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديما نحو السلم الكثير من الشعوب الخرى‪ ،‬كما لحظ بعض‬
‫المستشرقين (‪. )2‬‬
‫ول شك أن تحقيق ا لمساواة منوط باختصاص الحكومات ل باختصاص الفراد‪ ،‬لحتياج المبدأ إلى‬
‫سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز‪ ،‬ومع تجرد عن الهواء والغايات الشخصية‪ ،‬قال‬
‫عثمان بن عفان رضي ال عنه‪( :‬ما يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (‪. )3‬‬
‫‪ - 85‬والخلصة‪ :‬أن السلم يحرص على حماية حقوق النسان سواء في دار السلم أم في‬
‫دارالحرب‪ ،‬ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة النسانية والحرية والعدالة والخاء والتعاون والمساواة‬
‫بين كل الناس‪ ،‬فتتعاون الدولة السلمية مع غيرها عند الدخول في علقات تجارية ونحوها مع‬
‫البلدان الخرى‪ ،‬أو أثناء القامة بدار الحرب‪ ،‬أو وقت الحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح‪ ،‬أو عند اجتياز‬
‫الحربيين لبلدنا وتمتعهم بالمان فيها‪.‬‬
‫وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس‪ ،‬فقد فقدت المبادئ‬
‫المذكورة كثيرا من معانيها‪ ،‬وأصبحت معاييرها مضطربة‪ ،‬وصار وجودها في المواثيق والذهان‬
‫مقصورا على الناحية النظرية والمزايدات العلمية أو الدعائية في هيئة المم وتوابعها‪ .‬أما في‬
‫الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف القوى دائما هي القائمة فعلً‪ ،‬بل إن بعض تلك الدول‬
‫تمارس أبشع ألوان التمييز العنصري في داخل بلدها أو في مستعمراتها في إفريقية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬هذا معنى حديث رواه الفضل بن عباس (الكامل لبن الثير‪.)154/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الدكتور عبد الحميد متولي‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.823‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه رزين عن يحيى بن سعيد رحمه ال (جامع الصول‪ )469/4 :‬ويزع‪ :‬يردع‪.‬‬

‫( ‪)8/520‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة السلمية وأهدافها ‪:‬‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫‪ - 86‬إن حفاظ السلم على السلم العالمي ودعمه‪ ،‬وحرصه على نشر دعوته السلمية‪ ،‬وفكرته عن‬
‫وحدة البشرية تجعل منه نظاما عالميا صالحا للهتداء بتعاليمه في المجتمع‪ ،‬إذ إن نظرته النسانية‬
‫للناس تتخطى حدود القوميات الضيقة‪ ،‬وعصبيات الجنس واللون والوطن‪ ،‬ولن اعتقاده بوحدة الدين‬
‫في أصل الرسالت السماوية يشيع جوا وديا من التسامح‪.‬‬
‫وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية العقيدة والدعوة والعبادة‪،‬‬
‫أو دفع الظلم عن المستضعفين‪ ،‬أو إزالة الفتنة والفساد في الرض‪ ،‬لذا فإن السلم يقاوم حروب‬
‫العدوان أو حروب الستعمار من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم‪.‬‬
‫وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم سعادة النسان‬
‫ويحقق الخير للبشرية‪.‬‬
‫ويتجلى ذلك من كلمنا عن وظائف الدولة التية في النطاق الخارجي‪:‬‬

‫( ‪)8/521‬‬

‫‪ - 1‬التعاون مع المخلصين من غير المسلمين ‪:‬‬


‫‪ - 87‬ل حرج في السلم من قيام الدولة المسلمة بالتعاون مع المخلصين من غير المسلمين‪ ،‬سواء‬
‫أكانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أتباع الديانات الخرى‪ ،‬وذلك من أجل تحقيق الخير المشترك‬
‫والدفاع عن المصالح العامة‪ ،‬والتعاون على إقامة العدل‪ ،‬ونشر المن وصيانة الدماء أن تسفك‪،‬‬
‫وحماية الحرمات أن تنتهك‪ ،‬ولو على شروط يبدوفيها بعض الجحاف‪ ،‬عملً بالمثل الرائع الذ ي‬
‫وضعه لنا الرسول صلّى ال عليه وسلم في صلح الحديبية‪« :‬وال ل تدعوني قريش إلى خُطة‬
‫يسألوني فيها صلة الرحم ويعظمون فيها حرمات ال إل أعطيتهم إياها» (‪. )1‬‬
‫والدليل أن القرآن حدد لنا أسلوب الدعوة ومنهاجها‪ ،‬فجعلها دعوة بالحجة والبرهان في قوله تعالى ‪:‬‬
‫{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل‪ ]125/16:‬وطالبنا بحماية المشركين عبدة‬
‫الوثان ورعايتهم حين إقامتهم بدار السلم‪ ،‬وانتقالهم إلى مأمنهم في قوله سبحانه‪{ :‬وإن أحد من‬
‫المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلم ال ثم أبلغه مأمنه} [التوبة‪ . ]6/9:‬وكذلك حدد القرآن‬
‫علقة المسلمين بغيرهم فجعلها مبادلة سلم بسلم قي قوله تعالى‪{ :‬وإن جنحوا للسّلْم فاجنح لها وتوكل‬
‫على ال } [النفال‪{ .]61/8:‬فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلَم فما جعل ال لكم عليهم‬
‫سبيلً} [النساء‪.]90/4:‬‬
‫بل ندب القرآن المسلمين إلى أن يكون موقفهم من غير المسلمين موقف بر ورحمة وعدل وقسط قي‬
‫قوله عز وجل‪{ :‬ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم‬
‫وتقسطوا إليهم إن ال يحب المقسطين} [الممتحنة‪.]8/60:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪ ،34/8 :‬سنن أبي داود‪.113/3 :‬‬
‫( ‪)8/522‬‬

‫‪ - 88‬ومما يلقي الضوء على أنه ل مانع شرعا من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف السلم‬
‫من الديانات الخرى‪ .‬وخلصة القول‪ :‬إن علقته بالديانات السماوية إما علقة تصديق وإقرار كلي‬
‫في صورتها الولى‪ ،‬أو علقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها‬
‫الحالية‪ .‬وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة‪ ،‬وكل شريعة وملة‪ ،‬حتى الديانات الوثنية تتحدد علقة‬
‫السلم بها بطابع النصاف والتبصر والمحاجة والقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (‪. )1‬‬
‫إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما‬
‫جاء في قوله تعالى‪{ :‬شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‪ ،‬والذي أوحينا إليك‪ ،‬وما وصينا به‬
‫إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه‪[ }...‬الشورى‪ ]13/42:‬قال الدهلوي‪( :‬اعلم‬
‫أن أصل الدين واحد اتفق عليه النبياء عليهم السلم‪ ،‬وإنما الختلف في الشرائع والمناهج‪...‬الخ) (‬
‫‪. )2‬‬
‫وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬مثلي ومثل النبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إل‬
‫موضع لبنة‪ ،‬فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له‪ ،‬ويقولون‪ :‬هل وضعت هذه اللبنة‪ .‬فأنا اللبنة وأنا‬
‫خاتم النبيين» (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬انظر بحث الدكتور محمد عبد ال دراز (موقف السلم من الديان الخرى وعلقته بها) الذي‬
‫قدمه إلى الندوة العالمية للسلميات في لهور ـ باكستان في يناير (كانون الثاني) عام ‪ 1958‬وهو‬
‫منشور في مجلة (لواء السلم) العدد الحادي عشر‪ .‬السنة الحادية عشرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬حجة ال البالغة‪.68/1 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري‪.)25/5 :‬‬

‫( ‪)8/523‬‬

‫وانطلقا من وحدة الصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى اليمان كما حكى القرآن‪{ :‬بلى من‬
‫أسلم وجهه ل ‪ ،‬وهو محسن‪ ،‬فله أجره عند ربه‪ ،‬ول خوف عليهم ولهم يحزنون} [البقرة‪. ]112/2:‬‬
‫{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بال واليوم الخر وعمل صالحا فلهم‬
‫أجرهم عند ربهم‪ ،‬ول خوف عليهم ولهم يحزنون} (‪. )1:‬‬
‫وبالرغم من أن السلم أو القرآن جاء {مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة‪]48/5:‬‬
‫فإنه ل يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على السلم لقوله تعالى‪{ :‬قل‪ :‬يا أهل الكتاب تعالوا إلى‬
‫كلمة سواء بيننا وبينكم‪ :‬أل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا‪ ،‬ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون‬
‫ال ‪ ،‬فإن تولوا فقولوا‪ ،‬اشهدوا بأنا مسلمون} (‪. )2‬‬
‫‪ - 89‬وأما غير أهل الكتاب فتحدد علقة السلم بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير‬
‫والسنة الصالحة‪ .‬وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة‪.‬‬
‫ويمكن التعاون معهم سلميا بدليل أن الرسول صلّى ال عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬فقال عن المجوس‪« :‬سنوا بهم سنة أهل الكتاب» (‪ )3‬واستعان الرسول صلّى ال عليه‬
‫وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد ال بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين‪ ،‬بأن استأجره ليرشده‬
‫مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه (‪ . )4‬وكذلك طلب الرسول‬
‫عليه الصلة والسلم من سراقة بن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البقرة‪ 62 :‬ـ ومثلها في في آل عمرن‪.114-113 :‬‬
‫(‪[ )2‬آل عمران‪ ]64/3:‬وآيات أخرى مثل‪ { :‬ل إكراه في الدين } [البقرة‪.]256/2:‬‬
‫(‪ )3‬رواه الشافعي عن عمر رضي ال عنه (نيل الوطار‪.)56/8 :‬‬
‫(‪ )4‬سيرة ابن هشام‪ :‬المجلد الول‪.488 :‬‬

‫( ‪)8/524‬‬

‫جعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء المان الذي أمنه عليه‪ ،‬والستغفار الذي سأله‬
‫مالك بن ُ‬
‫منه (‪. )1‬‬
‫واستعار الرسول صلّى ال عليه وسلم أيضا يوم حنين أدرعا من من صفوان بن أمية وهو يومئذ‬
‫مشرك (‪ )2‬واستعان كذلك في هذه المعركة للشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألّفهم من‬
‫الغنائم (‪. )3‬‬
‫وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الستعانة بالكفار والمشركين في القتال (‬
‫‪ )4‬مستدلين باستعانته صلّى ال عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم (‪ ، )5‬وباستعانته صلّى‬
‫ال عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين‪ ،‬وبإخباره صلّى ال عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين‬
‫مصالحة الروم‪ ،‬ويغزون جميعا عدوا وراء المسلمين‪.‬‬
‫وأجمع الفقهاء على جواز الستعانة بالمنافقين والفساق‪ ،‬لستعانته صلّى ال عليه وسلم بعبد ال بن‬
‫أبي وأصحابه (‪. )6‬‬
‫والخلصة‪ :‬إن السلم ل يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لقامة علقات طيبة مع غير المسلمين‬
‫لتحقيق التعاون البنّآء في سبيل الخير والعدل والبر والمن وحماية الحرمات ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.489‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.440/2 :‬‬
‫(‪ )3‬سبل السلم‪.50/4 :‬‬
‫(‪ )4‬ر ‪ :‬للتفصيل ‪ /‬جهاد‪ ،‬علما بأن السيادة والراية تكون للمسلمين ل لغيرهم‪.‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلً (نيل الوطار‪)223/7 :‬‬
‫والرضخ‪ :‬العطية القليلة بشيء من الغنيمة‪.‬‬
‫(‪ )6‬نيل الوطار‪ 223/7 :‬وما بعدها‪ ،‬سبل السلم‪ ،49/4 :‬البدائع‪ ،101/7 :‬مغني المحتاج‪،222/4 :‬‬
‫البحر الزخار‪ ،389/5 :‬الميزان للشعراني‪ ،181/2 :‬الفصاح لبن هبيرة‪ :‬ص ‪.438‬‬

‫( ‪)8/525‬‬

‫‪ - 2‬الدعوة إلى السلم ‪:‬‬


‫‪ - 90‬ليس السلم فاترا ول منطويا على نفسه‪ ،‬كما زعم بعض الكتاب الغربيين‪ ،‬وإنما الدعوة إلى‬
‫الحق والخير وعقيدة التوحيد ركن أصيل من أركان السلم‪ ،‬والنشاط في هذه الدعوة فريضة مستمرة‬
‫في كل زمان ومكان‪ ،‬فيأمر ال نبيه بتبليغ رسالته‪ ،‬كما تبين في وظيفة إعداد الدعاة (‪ ، )1‬وبأن يبذل‬
‫جهده في هذا التبليغ‪ ،‬فقال سبحانه‪{ :‬وجاهدهم به جهادا كبيرا} [الفرقان‪ ]52/25:‬وكان برسل الدعاة‬
‫إلى الفاق كما أوضحت‪ ،‬والقرآن يحرّض المؤمنين على هذه الدعوة‪{ :‬ومن أحسن قولً ممن دعا إلى‬
‫ال } [فصلت‪ ]33/41:‬بل يجعل الفلح في الدار الخرة وقفا على هؤلء الدعاة‪{ :‬ولتكن منكم أمة‬
‫يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬وأولئك هم المفلحون} [آل عمران‪:‬‬
‫‪{ ]104/3‬والعصر إن النسان لفي خسر‪ ،‬إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق‬
‫وتواصوا بالصبر} [العصر‪.]3-1/103:‬‬
‫‪ - 91‬وواجب الدولة السلمية أصيل أيضا في هذا المجال‪ ،‬باعتبار أن ولي المر يمثل جانب‬
‫الخلفة عن الرسول عليه السلم في هذا الشأن‪ ،‬كما كان يفعل الخلفاء الراشدون ومن بعدهم‪ .‬خطب‬
‫عمر بن الخطاب رضي ال عنه فقال في خطبته‪( :‬إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم‪ ،‬ول‬
‫ليأخذوا أموالكم‪ ،‬ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم‪ ،‬فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي‪ ،‬أقصه‬
‫منه‪ ،‬فقال عمرو بن العاص‪ :‬لو أن رجلً أدّب بعض رعيته‪ ،‬أتقصه منه؟ قال‪ :‬إي والذي نفسي بيده‬
‫إل أ ُقصّه‪ ،‬وقد رأيت رسول ال صلّى ال عليه وسلم أقص من نفسه) (‪. )2‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬ف‪.70/‬‬
‫(‪ )2‬جامع الصول‪ ،467/4 :‬سيرة عمر بن الخطاب‪.226/1 :‬‬

‫( ‪)8/526‬‬

‫وقال ابن قيم‪ :‬الدعوة إلى ال والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪{ :‬قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعني‪ ،‬وسبحان ال وما أنا من المشركين}‬
‫[يوسف‪. )1( ]108 /12:‬‬
‫وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى ال عليه وسلم من الحكام والفراد‬
‫لعموم الخطاب فيها‪ ،‬وهي قوله عز شأنه‪{ :‬وأوحي إلي هذا القرآن لنذركم به ومن بلغ} [النعام‪:‬‬
‫‪ .]19/6‬أي لنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم‪ ،‬فالنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه‬
‫السامع‪ ،‬ويؤكده قول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬نضّر ال امرءا سمع مقالتي‪ ،‬فوعاها‪ ،‬فأداها إلى‬
‫من لم يسمعها‪ ،‬فرب حامل فقه غير فقيه‪ ،‬ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (‪ )2‬فمهمة الفقيه‬
‫الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي وإدراك‪ ،‬لذا قال عليه الصلة والسلم‪« :‬ما عُبد ال‬
‫بشيء أفضل من الفقه في الدين‪ ،‬ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد‪ ،‬ولكل شيء عماد‪،‬‬
‫وعماد الدين الفقه) (‪. )3‬‬
‫‪ - 3‬دفع شبهات أعداء السلم ‪:‬‬
‫‪ - 92‬إن من أهم واجبات ولة المور هو المحافظة على الدين وعقائده‪ ،‬وإيضاح الشبهات وحل‬
‫المشكلت ورد المفتريات وتزييف البدع‪ ،‬كما ذكر الماوردي في واجبات المام التي بينتها سابقا‪.‬‬
‫وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلد السلم قياما بالواجب الكفائي‪ .‬قال النووي‬
‫في منهاجه‪( :‬ومن فروض الكفاية‪ :‬القيام بإقامة الحجج العلمية (‪ )1‬وحل المشكلت في الدين ودفع‬
‫الشبهة) (‪ )2‬وأضاف الشارح‪ :‬وأما الن وقد ثارت البدعة ول سبيل إلى تركها تلتطم‪ ،‬فل بد من‬
‫إعداد مايدعى به إلى الملك الحق‪ ،‬وتحل به الشبهة‪ ،‬فصار الشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من‬
‫فروض الكفايات ‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أعلم الموقعين‪ ،8/1 :‬ط السعادة‪.‬‬
‫(‪ )2‬حديث متواتر رواه الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي ال عنه وغيره‬
‫(النظم المتناثر من الحديث المتواتر للعلمة جعفر الحسني الكتاني)‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه الطبراني في الوسط والبيهقي في شعب اليمان عن أبي هريرة (الفتح الكبير)‪.‬‬

‫( ‪)8/527‬‬

‫المبحث الرابع ـ حصانات الدولة وإعفاءاتها في الخارج ‪:‬‬


‫‪ - 93‬المراد بالحصانة‪ :‬احترام شخصية الدولة وتوابعها وعدم العتداء على أحد ممثليها أوإخضاعها‬
‫لولية المحاكم في الدول الخرى وإعفاؤها من الضرائب الشخصية المباشرة ‪.‬‬
‫ومبنى الحصانة احترام سيادة الدول‪ ،‬وقد وجدت الحصانات من قديم قبل ظهور الدولة الحديثة‪،‬‬
‫وكانت تستند إلى قواعد المجاملة‪ ،‬ثم أضحت اليوم تستند إلى قواعد القانون الدولي والعراف الدولية‪.‬‬
‫والكلم عن هذا الفصل في مطلبين‪:‬‬
‫المطلب الول ‪ -‬ما تشمله الحصانات والعفاءات ‪:‬‬
‫‪ - 94‬تشمل الحصانات والعفاءات المقررة للدولة بحسب قواعد العرف والمجاملة والمبادئ‬
‫والخلق السلمية ما يأتي‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وهي البراهين القاطعة الدالة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب له من الصفات وما‬
‫يستحيل عليه منها وعلى إثبات النبوات وصدق الرسل‪ ،‬وما ورد به الشرع من الحساب والمعاد‬
‫والميزان وغير ذلك‪.‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪.210/4 :‬‬

‫( ‪)8/528‬‬

‫أ ـ شخصية الدولة‪ :‬ل يتعرض لشؤون دولة أخرى غير مسلمة ما لم يوجد منها عدوان على‬
‫المسلمين أو بلدهم ومصالحهم‪ ،‬إذ القتال لمن قاتلنا ول عدوان إل على الظالمين (‪ ، )1‬قال تعالى‪:‬‬
‫{وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ال ل يحب المعتدين} [البقرة‪ ]190/2:‬والصل في‬
‫علقات المسلمين بغيرهم هو السلم ل الحرب (‪. )2‬‬
‫ول تخضع شخصية الدولة غير المسلمة في بلدها أو أحد ممثليها لقضاء إسلمي أو نظام ضريبي؛‬
‫إذ ل سلطان للدولة السلمية على دار الحرب‪.‬‬
‫أما إذا كان رئيس الدولة الجنبية (‪ )3‬أو رجال حاشيته في بلد السلم‪ ،‬فإن الشريعة السلمية‬
‫تطبق عليه ويخضعون للقضاء السلمي‪ ،‬خلفا لما يقضي به العرف الدولي الحاضر؛ لن الشريعة‬
‫ل تفرق بين الحاكم والمحكومين‪ ،‬و المستأمن في بلدنا قد التزم بدخوله دارنا أحكام السلم‪ ،‬ول‬
‫حرج من محاكمة غير المسلم الذي ارتكب جريمة في دار السلم؛ لن العدل أساس الحكم في‬
‫الشريعة حتى مع العداء‪ ،‬وأما الخوف من اتخاذ التهام ذريعة للضغط فهو خوف في غير محله‪،‬‬
‫لوجود وسائل ضغط أخرى أسرع وأجدى من التهام (‪ )4‬إل أن أبا حنيفة ل يرى معاقبة المستأمن‬
‫في دار السلم على جريمة تمس حقوق الجماعة‪ ،‬أما الجريمة التي تمس حق الفراد فيعاقب عليها (‬
‫‪ ، )5‬فإن لم تقع جريمة في دار السلم من رئيس الدولة الجنبية فهو في أمان ل يجوز التعرض‬
‫لشخصه وماله وأسرته وأتباعه أو حاشيته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رسالة القتال لبن تيمية‪ 1 :‬ص ‪ ،118‬زاد المعاد لبن قيم‪.58/2 :‬‬
‫(‪ )2‬ر ‪ :‬جهاد‪.‬‬
‫(‪ )3‬الدولة الجنبية‪ :‬هي الدولة المحاربة التي تقوم في دار الحرب‪ ،‬أما الدول السلمية فل تعتبر‬
‫إحداها أجنبية بالنسبة للخرى‪.‬‬
‫(‪ )4‬التشريع الجنائي السلمي‪.325-323/1 :‬‬
‫(‪ )5‬ر ‪ :‬للتفصيل في هذا المبحث‪ :‬دار السلم ودار الحرب والتمثيل السياسي في السلم للمؤلف‪.‬‬

‫( ‪)8/529‬‬

‫ب ـ السفن والطائرات‪ :‬تتمتع السفن والطائرات الجنبية بالمان في دار السلم ما لم تقع حوادث‬
‫مخالفة منها‪ ،‬فعندئذ تخضع للقضاء السلمي‪.‬‬
‫جـ ـ الوكالت والمؤسسات‪ :‬يطبق الحكم السابق على الوكالت والمؤسسات الجنبية مثل مكاتب‬
‫الطيران والمدارس والمشافي والبعثات التعليمية ومراكز البحوث العلمية وشركات الستثمار ونحوها‬
‫من المؤسسات ذات النفع العام بسبب الصفة الدينية أو العلمية أو النسانية أو الرياضية المقامة في بلد‬
‫إسلمي‪.‬‬
‫د ـ الوحدات السياسية‪ :‬كالمكاتب والبعثات السياسية ووزير الخارجية والوفود التجارية وممثلي‬
‫الدارات والمصالح الجنبية يعتبر لها من الحصانة الشخصية والمالية في حدود ما يقضي به المان‬
‫على النحو السابق (‪. )1‬‬
‫هـ ـ السفارات‪ :‬إن مقر السفارة الجنبية له نفس حصانة الرسل والسفراء بحكم المان (‪ . )2‬أما‬
‫السفارات السلمية وممثلوها فل تعتبر في بلد السلم مستأمنة بحال‪ ،‬وإنما يطبق عليها سائر‬
‫الحكام المطبقة على المسلمين المقيمين في دار السلم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬أمان والموضوعين السابقين‪.‬‬
‫(‪ )2‬ر ‪ :‬التمثيل السياسي‪.‬‬

‫( ‪)8/530‬‬

‫المطلب الثاني ‪ -‬أنواع الحصانات والعفاءات ‪:‬‬


‫‪ - 95‬تتمتع الدولة الجنبية وممثلوها وتوابعها بالحصانات المقررة للرسل والسفراء وهي الحصانة‬
‫الشخصية والمالية‪،‬فالولى تقضي بحرمة التعرض للنفوس‬
‫والسرة والحواشي والتباع عملً بالمان‪ .‬والثانية تقضي بعدم إخضاع الموال المملوكة للدول‬
‫الجنبية والمخصصة لغراض عامة والموجودة في دار السلم للنظام الضريبي؛ لن فرض‬
‫الضريبة خاضع لتقدير ولي المر فله أن يقرر شمول الضريبة أو حصرها في نطاق معين‪.‬‬
‫أما الحصانة القضائية فهذه مما يختلف فيها السلم عن العرف الدولي القائم‪ ،‬فل يعفى الجانب‬
‫المستأمنون من تطبيق الشريعة أو من الخضوع للقضاء المحلي (‪. )1‬‬
‫ثالثا ـ الستثناءات ‪:‬‬
‫‪ - 96‬قد ل تطبق الحصانة المذكورة استثناء في بعض الحوال وهي ما يأتي‪:‬‬
‫أ ‪ -‬النشاط التجاري والملكية الخاصة‪ :‬إذا قامت الدولة الجنبية بنشاط خاص في مجال التجارة أو‬
‫الصناعة‪ ،‬أو كان لها ملكيات خاصة في أراضي دار السلم‪ ،‬فيمكن إخضاع ذلك النشاط أو الملكية‬
‫للنظام الضريبي المطبق على جميع المواطنين باعتبار أن الدولة غير ممثلة بشخصها المعنوي الذي‬
‫يتطلب إعفاءات خاصة بقصد التعاون في الحقل الدولي‪ ،‬ولن طرح الضريبة في السلم مرجعه‬
‫تقدير ولي المر كما ذكرت‪ ،‬وأن الصل هو عموم الحكم في التطبيق‪.‬‬
‫ب ـ حالة رضا الدولة‪ :‬كذلك ترتفع الحصانة بداهة في حالة موافقة الدولة أو قبولها إخضاع أموالها‬
‫وممتلكاتها وتصرفاتها للنظام الضريبي القليمي‪ ،‬باعتبار أن مبدأ الرضا الذي هو في الصل شرط‬
‫في كل التزام أمر قائم‪ ،‬وحيث وجد الرضا لم يبق نزاع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬ر ‪ :‬للتفصيل التمثيل السياسي‪.‬‬

‫تعليق المستخدم ‪:‬ثالثا ‪ -‬الستثناءات‪:‬‬


‫الظاهر أنّ هذا مطلبا ثالثا للمبحث فليتنبه لذلك‪.‬‬
‫*أبو أكرم الحلبيّ‪.‬‬

‫( ‪)8/531‬‬

‫المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة السلمية وزوالها وآثار ذلك ‪:‬‬
‫‪ - 97‬قد تطرأ تغيرات على الدولة السلمية كغيرها من الدول في العادة‪ ،‬فتؤثر في تكوينها السياسي‬
‫أو القليمي‪ ،‬مع بقاء كيانها الصلي في سلطة المسلمين‪ ،‬وقد تزول الدولة من بعض أقاليمها زوالً‬
‫جزئيا أو كليا باغتصاب العدو لقطعة من الرض أو احتللها عنوة‪.‬‬
‫وهذا من ما يبحث في المطلبين التاليين‪:‬‬
‫المطلب الول‪ -‬تغير حالة الدولة السلمية ‪:‬‬
‫تغير حالة الدولة له نوعان‪:‬‬
‫‪ - 98‬النوع الول ـ التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي ‪:‬‬
‫قد يحدث تغير في نظام الحكم الداخلي أو التكوين الدستوري للدولة السلمية مع بقاء شخصية الدولة‬
‫واستمرار التزاماتها بالنسبة للدول الخرى‪ .‬ويتم ذلك بإحدى حالت ثلث‪:‬‬
‫‪ - 1‬النقلب‪ :‬هو استيلء جماعة مسلحة ذات قوة ومنعة على سلطة الحكم وإبعاد الحكام السابقين‪.‬‬
‫وقد أشرت في بحث العتراف بالدولة إلى أن المامة قد يتوصل لها استثناء بالقهر والغلبة‪ ،‬ومعناه ـ‬
‫كما قال الدهلوي (‪ : )1‬استيلء رجل جامع لشروط المامة على الناس‪ ،‬وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء‬
‫بعد خلفة النبوة‪ .‬ثم إن استولى من لم يجمع الشروط ل ينبغي أن يبادر إلى المخالعة؛ لن خلعه ل‬
‫يتصور غالبا إل بحروب ومضايقات‪،‬وفيها من المفسدة أشد مما يجري من المصلحة‪« ،‬سئل رسول‬
‫ال صلّى ال عليه وسلم عنهم‪ :‬فقيل‪ :‬أفل ننابذهم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصلة وقال‪ :‬إل أن تروا‬
‫كفرا بواحا (‪ )2‬عندكم من ال فيه برهان (‪. )3‬‬
‫‪ -2‬الحرب الهلية‪ :‬قد تتقاتل فئتان من المسلمين‪ ،‬فتتغلب إحداهما على الحكم‪ ،‬فينعقد لها بالقهر‬
‫والغلبة أمر السلطة العليا‪ ،‬كما في حالة النقلب السابقة‪.‬‬
‫‪ - 3‬الثورة‪ :‬الثورة تختلف عن النقلب‪ ،‬إذ النقلب وثبة من داخل القوة المسلحة أو الجيش غالبا‪،‬‬
‫أما الثورة فنطاقها أوسع‪ ،‬إذ هي شعبية نابعة من سخط الجماعة على الحكام‪ .‬وقد أجاز فقهاء السلم‬
‫الخروج على الحكام في بعض الحالت (‪ . )4‬قال الدهلوي مضيفا إلى عبارته السابقة‪( :‬وبالجملة فإذا‬
‫كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب‪،‬وإل ل‪ ،‬وذلك لنه حينئذ (‪)5‬‬
‫فاتت مصلحة نصبه (‪ ، )6‬بل يخاف مفسدته على القوم‪ ،‬فصار قتاله من الجهاد في سبيل ال ‪ ،‬قال‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية‪ ،‬فإذا‬
‫أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» (‪ )7‬أي أن مبدأ الثورة هو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حجة ال البالغة‪.111/2 :‬‬
‫(‪ )2‬أي ظاهرا‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي دليل من القرآن والسنة (ر ‪ :‬شرح مسلم‪.)243/12 :‬‬
‫(‪ )4‬ويرى المام زيد الخروج على أئمة الجور للدعوة إلى نفس المام الخارج‪ ،‬كما فعل هو بالكوفة‬
‫حيث خرج في أيام هشام بن عبد الملك (تاريخ الفقه السلمي للدكتور علي حسن عبد القادر‪ :‬ص‬
‫‪.)183‬‬
‫(‪ )5‬أي عند كفره‪.‬‬
‫(‪ )6‬أي إقامته حاكما‪.‬‬
‫(‪ )7‬حجة ال البالغة‪.112/2 :‬‬

‫( ‪)8/532‬‬

‫ويلحظ أنه قدم وأخر في عبارة الحديث الذي رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد‬
‫ال بن عمر بلفظ « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره‪ ،‬إل أن يؤمر بمعصية فإن‬
‫أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» (جامع الصول‪ ،454/4 :‬شرح مسلم‪ .)226/12 :‬قاعدة أو حديث‬
‫«ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (‪. )1‬‬
‫النوع الثاني ـ التغيير في النطاق القليمي ‪:‬‬
‫‪ - 99‬إن التغييرات التي تطرأ على إقليم الدولة‪ ،‬فتؤدي إلى اتساعه أو نقصه تحدث إما من أراض‬
‫مباحة ل صلة لها بدولة أخرى‪ ،‬أو مما يمس إقليم دولة أخرى بالحرب ونحوها‪.‬‬
‫أولً ـ التغيير بما ل يمس إقليم دولة أخرى ‪:‬‬
‫قد يحدث التغيير في إقليم الدولة إما بالضافة أو بالستيلء‪:‬‬
‫‪ - 1‬التغيير بالضافة (‪ : )2‬قد تكون طبيعية بظهور جزر جديدة في وسط البحر القليمي‪ ،‬أو النهر‬
‫الكبير القليمي‪ ،‬أو بسبب تراكم الطمي في مصب نهر من النهار الكبرى عند شواطئ الدولة أو‬
‫الدلتا التي تتكون عند مصب النهار‪ ،‬وقد تكون صناعية بردم الماء في منطقة نهرية أو بحرية‬
‫إقليمية‪ ،‬كما لو بنت الدولة حاجزا للمواج في بحرها القليمي أو أقامت فيه منشآت لموانيها‪.‬‬
‫إذا حدث مثل هذا في دار السلم كان جزءا منها باللتحاق‪ ،‬إذ أن له حكم المباح‪ ،‬وقد قرر ذلك أبو‬
‫يوسف في كتابه (الخراج) حينما تكلم عن الجزائر التي تتكون في دجلة والفرات ينضب عنها الماء‪،‬‬
‫وقال‪ :‬هذا مثل الرض الموات‪ ،‬ولمن‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين‪ ،‬ورواه أبو داود والنسائي عن علي بلفظ « طاعة‬
‫لحد في معصية ال ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف» ورواه أحمد عن أنس بلفظ «ل طاعة لمن لم يطع‬
‫ال» (شرح مسلم‪ ،227/12 :‬فيض القدير‪ ،‬الفتح الكبير)‪.‬‬
‫(‪ )2‬الضافة في القانون الدولي‪ :‬معناها اكتساب الدولة للملحقات الطبيعية لقليمها دون حاجة إلى أن‬
‫تقوم بعمل أو إجراء خاص لدخالها في اختصاصها (ر ‪ :‬مبادئ القانون الدولي للدكتور حافظ غانم‪:‬‬
‫ص ‪.)330‬‬

‫( ‪)8/533‬‬

‫جاورها أن يحصنها ويزرع فيها إذا كان ذلك ل يضر بأحد‪ ،‬وإن كان يضر أحدا منع من ذلك‪ ،‬ولم‬
‫يترك يحصنها ول يزرع فيها‪ ،‬ويحدث فيها حدثا إل بإذن المام (‪ . )1‬ويرشد إليه قوله صلّى ال‬
‫عليه وسلم ‪« :‬من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (‪. )2‬‬
‫وحكم ابن نجيم بإباحة النهر إذا لم يعرف حاله‪ :‬هل هو مباح أو مملوك تطبيقا لقاعدة (الصل في‬
‫الشياء الباحة) (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬التغيير الستيلء (‪ : )4‬للدولة السلمية الستيلء الفعلي بواسطة عمالها وولتها على أرض‬
‫مباحة غير خاضعة لدولة أخرى‪ ،‬لن من استولى على مال مباح غير مملوك لحد يملكه كمن‬
‫استولى على الحطب والحشيش والصيد (‪. )5‬‬
‫ثانيا ـ التغيير بما يمس إقليم دولة أخرى ‪:‬‬
‫‪ - 100‬لهذا التغيير أحوال ثلث هي‪:‬‬
‫‪ -1‬بطريق المعاهدة‪ :‬إن الصلح أو التفاق الصريح أو الضمني مبدأ مقرر في السلم سواء في وقت‬
‫السلم أم في وقت الحرب‪ ،‬وهو من خصائص الخليفة أو المام العظم‪ ،‬الذي ينوب عن الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويعتبر تصرف الرسول فيه بطريق المامة والسياسة ل بطريق التبليغ‬
‫والفتوى (‪. )6‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الخراج‪ :‬ص ‪ 91‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب‪ ،‬وقد سبق تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )3‬الشباه والنظائر لبن نجيم‪.97/1 :‬‬
‫(‪ )4‬الستيلء في القانون الدولي‪ :‬إدخال الدولة لبعض القاليم غير التابعة لدولة ما في حيازتها‬
‫بغرض مباشرة اختصاصاتها القليمية عليها (حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.)323‬‬
‫(‪ )5‬البدائع‪.128/7 :‬‬
‫(‪ )6‬الفروق للقرافي‪.207/1 :‬‬

‫( ‪)8/534‬‬

‫وبالصلح يمكن تغيير وصف البلد‪ ،‬فتنتقل من كونها بلدا للحربيين إلى أن تصبح جزءا من دار‬
‫السلم إما بسبب اعتناق أهلها السلم أو بقبولهم عقد الذمة‪ .‬ومن ذلك الراضي التي يستولي عليها‬
‫المسلمون صلحا‪ ،‬وتتم المصالحة على أن ملك الرض لنا فتصير بهذا الصلح وقفا من دار السلم (‬
‫‪ . )1‬ويشمل هذا القسم أيضا حالت التنازل (‪ )2‬ومبادلة أرض بأخرى مقايضة‪ ،‬أو عن طريق صفقة‬
‫بيع لقاء عوض معين‪ ،‬والستفتاء الشعبي الناجم من حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أو بإرادته‬
‫الحرة‪ ،‬إل أن الستفتاء نادر الوقوع لن الشعب المسلم قد فوض الحاكم بانتخابه أن يفعل ما يراه‬
‫محققا للعدالة وللمصلحة العامة (‪. )3‬‬
‫‪ - 2‬بطريق التقادم (‪ : )4‬ل يعتبر التقادم سببا صحيحا من أسباب كسب الملكية أو الحقوق عموما‪،‬‬
‫(إذ ل يجوز لحد أن يأخذ مال أحد بل سبب شرعي) وإنما هو فقط مانع للقاضي من سماع الدعوى‬
‫بالحق‪ ،‬حماية لمبدأ الستقرار في الوضاع الحقوقية وتجنبا لثارة المشكلت في الثبات ونحوه‪،‬‬
‫ومدة التقادم في الموال العامة المانعة من سماع الدعوى به هي ‪ 36‬سنة (‪ )5‬ويمكن الخذ بهذا المبدأ‬
‫في العلقات الدولية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ 123‬ولبي يعلى‪ :‬ص ‪ 132‬وانظر أموال الحربيين للمؤلف‪.‬‬
‫(‪ )2‬التنازل أي تخلي الدولة عن جزء من إقليمها نتيجة لمعاهدة أو اتفاق دولي أو تصريح صادر من‬
‫الدولة صاحبة الشأن‪.‬‬
‫(‪ )3‬قال الماوردي في الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪( 45‬وأما ما يلزم الرعية في حق المير عليهم فأربعة‬
‫أشياء‪ ،‬أحدها‪ :‬التزام طاعته والدخول في وليته‪ ،‬لن وليته عليهم انعقدت وطاعته بالولية وجبت‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬أن يفوضوا المر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لتختلف آراؤهم‪ ،‬فتختلف كلمتهم ويفترق‬
‫جمعهم‪.)...‬‬
‫(‪ )4‬التقادم في اصطلح القانونيين‪ :‬اكتساب القليم عن طريق مباشرة الختصاص عليه على نحو‬
‫مستمر وغير متنازع فيه خلل فترة من الزمن تكفي لتولد الشعور بأن الوضع القائم يتفق مع حكم‬
‫القانون (حافظ غانم‪ ،‬المرجع السابق ص ‪.)332‬‬
‫(‪ )5‬ر‪ :‬الدر المختار ورد المحتار‪ 356/4 :‬وما بعدها‪ ،‬مذكرة عن المعاملت للستاذ زيد البياني‪:‬‬
‫ص ‪ 17‬وما بعدها‪ ،‬المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء‪ :‬ف ‪ ،102‬المدخل إلى نظرية اللتزام العامة‬
‫في الفقه السلمي للستاذ الزرقاء‪ :‬ف ‪.156 /‬‬

‫( ‪)8/535‬‬

‫‪ - 3‬بالفتح عند قيام موجباته (الجهاد ) ‪ :‬الفتح هو الستيلء عنوة على إقليم تابع لدولة أخرى‪ ،‬والفتح‬
‫مشروع في السلم عند قيام المسوغ الشرعي له‪ ،‬وهو دفع العتداء‪ ،‬ل من أجل الغلب والسيطرة أو‬
‫للمخالفة في الدين‪ ،‬أو لستغلل الشعوب واستعمارها بالمعنى الحاضر‪ ،‬أو لفرض أي شكل من‬
‫أشكاله‪ ،‬أو بسبب التميز العنصري الممقوت القائم في بعض الدول الحديثة‪.‬‬

‫( ‪)8/536‬‬

‫المطلب الثاني ـ زوال الدولة السلمية ‪:‬‬


‫‪ - 101‬تفنى الدولة أو تزول بزوال أحد عناصرها الثلثة السابق ذكرها وهي‪ :‬السكان والقليم‬
‫والسلطة أو السيادة‪ ،‬إل أن زوال السكان بالهجرة وبالكوارث الطبيعية‪ ،‬وزوال القليم بحادث طبيعي‬
‫كزلزال أو طوفان شيء نادر الوقوع‪ ،‬والغالب هو زوال السيادة والستقلل بالضم إلى دولة أخرى أو‬
‫الحماية أو بالنتداب أو بالوصاية عليها‪ .‬ويقابل هذا المعنى إجمالً في الفقه السلمي بحث تحول أو‬
‫تغير وصف الدار من دار إسلم إلى دار حرب‪ ،‬وفيه اختلف الفقهاء‪:‬‬
‫فقال أبو حنيفة والزيدية‪ ،‬ل يتحقق اختلف الدارين إل بتوافر شروط ثلثة هي‪:‬‬
‫‪ - 1‬ظهور أحكام الكفر ونفاذه فيها وحدها‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن تكون متاخمة لدار الكفر أو الحرب‪.‬‬
‫‪ - 3‬أل يبقى مسلم ول ذمي آمنا بالمان السابق قبل استيلء الكفار‪ ،‬وإنما يصير تحقق المان‬
‫والستقرار منوطا بسلطة غير إسلمية‪ .‬وقال الصاحبان وجمهور الفقهاء‪ :‬ينقلب وصف الدار‬
‫أويتحول من دار إسلم إلى دار حرب بإجراء أحكام الشرك فقط (‪. )1‬‬
‫وهذا يدل على أن زوال الدولة السلمية يحدث بزوال سيادة الحكام والسلطة السلمية وهو المر‬
‫الغالب كما أشرت‪.‬‬
‫وللزوال أو التوارث أو الفناء حالتان ‪:‬‬
‫أولً ـ الزوال الكلي ‪:‬‬
‫‪ - 102‬قد تزول الدولة زوالً تاما أو كليا بزوال أحد أركانها المشار إليها سابقا‪ ،‬وذلك إما بالختيار‬
‫كاتفاق الدول السلمية المتجزئة على إقامة وحدة سياسية فيما بينها (بالندماج أو اللتحاق أو‬
‫التحاد) وإما بالجبار كالنقسام أو النفصال‪ ،‬كانفصال الدولة الموية في الندلس عن الخلفة‬
‫العباسية في بغداد‪ ،‬أو الفتح أو الستيلء أو التحاد الجبري‪ ،‬ويترتب على هذا الزوال القضاء على‬
‫شخصية الدولة‪.‬‬
‫ويلحظ أنه بالرغم من زوال الدولة السلمية في قطر ما‪ ،‬فإنه قد يبقى القليم دارا إسلمية إذا كانت‬
‫أحكام السلم ما زالت مطبقة فيها‪ ،‬كما حدث في بعض أجزاء الهند‪ ،‬وفلسطين لنفاذ أحكام الشريعة‬
‫فيها‪ ،‬ولن القاضي فيها مسلم بالرغم من تعيينه من قبل سلطة غير إسلمية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،130/7 :‬وانظر التفصيل في دار السلم ودار الحرب للمؤلف‪ :‬ف‪ 34/‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/537‬‬

‫ثانيا ـ الزوال الجزئي ‪:‬‬


‫‪ - 103‬قد يحدث زوال جزئي يطرأ على بعض أنحاء الدولة نتيجة تجزئة السلطة وانفصال بعض‬
‫أجزاء إقليم الدولة الصلية وانضمامه إلى سلطة دولة أخرى‪ ،‬وذلك يصادم الصل المقرر في‬
‫السلم‪ :‬وهو وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار السلم‪ ،‬كما بينت سابقا في بحث ركن أو‬
‫صفة السيادة‪ .‬ول يترتب على هذا الزوال القضاء على شخصية الدولة بعكس حالة الزوال الكلي‪،‬‬
‫وإنما يقتصر المر على انتقال جزء من القليم لدولة أخرى‪.‬‬
‫ويتحدد موقف السلطة الصلية (المامة أو الخلفة وما في معناهما) من الجزء المنفصل في ضوء‬
‫الحالتين التيتين‪:‬‬
‫أ ـ حالة إمكان إخضاع الجزء المنفصل‪.‬‬
‫‪ 104‬ـ إذا انفصل جزء من دار السلم وأراد جماعة فيه تكوين حكومة خاصة بهم‪ ،‬دعاهم الخليفة‬
‫إلى التزام الطاعة والنضمام إلى دار العدل أو الرجوع إلى رأي الجماعة‪ ،‬فإن أبوا ذلك قاتلهم أهل‬
‫العدل حتى يهزموهم أو يقتلوهم أو يردوهم قهرا إلى الطاعة‪ ،‬قال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا بويع‬
‫لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» (‪ )1‬وقال أيضا‪« :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن‬
‫يشق عصاكم‪ ،‬أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (‪. )2‬‬
‫فإن تم إخضاع الجزء المنفصل‪ ،‬كان هو المراد‪ ،‬وتحقق الحفاظ على مبدأ الوحدة السلمية‪.‬‬
‫ب ـ حالة العجز عن إخضاع الجزء المنفصل‪.‬‬
‫‪ - 105‬إذا تعذر على الحاكم الصلي إخضاع الجزء المنفصل ‪ ،‬كما حدث بين الخلفة في بغداد‬
‫وبين إمارة المويين في الندلس‪ ،‬أصبح الواقع القائم في علقات المسلمين ببعضهم هو الذي يفرض‬
‫وجوده في ضوء الحتمالت التالية‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم‪.)242/12 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم‪.)242/12 :‬‬

‫( ‪)8/538‬‬

‫‪ - 1‬إذا كان الجزء المنفصل معترفا بالسلطة الصلية ولو اسما‪ ،‬ولكنه انفصل إداريا‪ ،‬كما حدث في‬
‫العصر العباسي الثاني ـ عصر نفوذ التراك‪ ،‬حيث ظهرت بعض الدويلت الصغيرة المتنافسة‪،‬‬
‫كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية (‪ ، )1‬فإنه يظل معتبرا من دار السلم‪ ،‬ول‬
‫يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ ل مانع فقها ‪ -‬كما ذكرت في بحث السيادة ‪ -‬من تعدد السلطات الدارية‬
‫لمصلحة أخذا برأي بعض العلماء‪ ،‬وكانت الوليات السلمية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريبا‪،‬‬
‫ولكن مع الحفاظ على مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة‪ ،‬والبقاء على روابط أوثق من ناحيتي‬
‫الدفاع والوضع المالي‪.‬‬
‫‪ - 2‬إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا‪ ،‬بل يدعي أنه هو صاحبها‪ ،‬فإن كان الجزء‬
‫المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلد السلمية الباقية تحت سلطة الحاكم الصلي‪ ،‬فهوزوال‬
‫جزئي لبعض أجزاء الدولة‪ ،‬وينتظر الوقت المناسب لعادة إخضاعه إلى الصل‪ .‬وهذا كان حال بلد‬
‫فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة المراء ـ حيث قامت فيها عدة دول‬
‫كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة‪ ،‬ولكن لم يترتب على النشقاق زوال الدولة العباسية إل‬
‫بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة (‪ 656‬هـ) (‪. )2‬‬
‫وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف (‪ 897-422‬هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلفة الموية في‬
‫الندلس ‪ ،‬فانقسمت الدولة السلمية إلى دويلت عديدة‪ ،‬حتى كان لكل مدينة تقريبا أميرها المستقل‪،‬‬
‫مما أدى إلى فقدان البلد نهائيا وسقوطها بيد السبان‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تاريخ السلمي السياسي لحسن إبراهيم‪.1/3 :‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.26/3 :‬‬

‫( ‪)8/539‬‬

‫وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الصل أو مساويا له‪ ،‬فيمكن اعتباره (دولة إسلمية) (‪ )1‬إذا‬
‫توافرت جميع عناصر الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة‪ ،‬ولكنها ل تمثل (الدولة السلمية)‬
‫بمفهومها العام‪ ،‬لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلد‪ ،‬كما تقضي بذلك مبادئ السلم‪.‬‬
‫وفي الماضي شهدت البلد تجزئة سياسية من هذا النوع‪ ،‬ل سيما عند إحياء الخلفة الموية في‬
‫الندلس سنة (‪ 300‬هـ )‪ ،‬بعد أن كان أمراء بني أمية فيها يلقبون أنفسهم بلقب (المير) أو نحوه‪.‬‬
‫وحينئذ أصبح في العالم السلمي في ذلك الوقت ثلث خلفات‪ :‬الخلفة العباسية في بغداد‪ ،‬والخلفة‬
‫الفاطمية في المهدية بتونس‪ ،‬والخلفة الموية في قرطبة‪.‬‬
‫‪ - 106‬والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا النقسام ويعتبرون المويين في الندلس والدارسة في‬
‫المغرب القصى بغاة يحاربون‪ ،‬فإنهم في الواقع لم يحكموا بزوال الصفة السلمية عن الجزاء‬
‫المنفصلة‪ ،‬وإنما هي بلد إسلم‪ ،‬لن البغاة ليسوا كفارا‪ ،‬وإنما يطبقون الحكام الشرعية مع تأويل‬
‫بعضها‪ .‬وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلمية) ينقصها‬
‫النضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في القرون الثلثة الهجرية الولى التي‬
‫وصفها الرسول صلّى ال عليه وسلم بأنها (خير القرون)‪.‬‬
‫ولكن الذي ل شك فيه أنه نجم عن هذا النقسام السياسي ضعف الدولة السلمية وزوالها التدريجي‬
‫لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بالتنكير الذي يدل على وحدات جزئية‪.‬‬

‫( ‪)8/540‬‬

‫المطلب الثالث ـ أثر تغير حالة الدولة أو زوالها في خلفها (التعاقب )‬


‫‪ - 107‬لم يتعرض الفقهاء المسلمون عموما لتفصيل الحكام الناجمة عن زوال الدولة السلمية‬
‫زوالً كليا أو جزئيا (‪ )1‬أو بسب التعاقب بين سيادتين‪ :‬سيادة الدولة القديمة وسيادة الدولة الجديدة‬
‫التي حلت محل السيادة القديمة‪.‬‬
‫وفي حال زوال الدولة غير السلمية لتحل محلها دولة إسلمية قرر الفقهاء أن بلد تلك الدولة تصبح‬
‫غنيمة تؤول ملكيتها للدولة المسلمة‪،‬وحينئذ إما أن توزع على المسلمين كالغنائم الحربية‪ ،‬أو تترك‬
‫الراضي بيد أهلها مقابل خراج يؤدونه عنها كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق (‪. )2‬‬
‫وعلى كل فيمكن بحث الثار المترتبة على تحول الدولة وزوالها في النواحي التالية بالهتداء بالحكام‬
‫العامة في الفقه السلمي على الوجه التي‪:‬‬
‫أولً ‪ -‬بالنسبة للمعاهدات ‪:‬‬
‫‪ - 108‬أ ـ إذا كان زوال الدولة السلمية كليا بضمها إلى دولة أخرى‪ ،‬فإن المعاهدات التي كانت‬
‫قد أبرمتها تصبح منتهية ما لم تكن محققة لمصلحة أو لغراض إنسانية وتحترمها الدولة الوارثة‪ ،‬كما‬
‫أقر الرسول صلّى ال عليه وسلم حلف الفضول النساني الذي عقد في الجاهلية بحضوره لحماية‬
‫الفضيلة ورعاية الجار وإكرام الضيف وعدم سفك الدماء ونصرة المظلوم (‪. )3‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬حسن إبراهيم‪ ،‬المرجع السابق‪ 253/3 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬كل ما ذكروه كما عرفنا هو بحث كيفية التحول أو التغير من دار إسلم إلى دار حرب وبحث‬
‫إمكان تملك العدو بلد السلم بالقهر والستيلء أو عدم إمكانه (ر‪ :‬أموال الحربيين للمؤلف)‪.‬‬
‫(‪ )3‬سيرة ابن هشام‪ :‬مجلد ‪ 33/1‬وما بعدها‪.‬‬

‫( ‪)8/541‬‬
‫والسبب في انتهاء تلك المعاهدات هو انتهاء الشخصية المعنوية للدولة الزائلة عملً بالحكم الفقهي‬
‫ل تنتهي بموت الموكل (‪ . )1‬وبما أن‬
‫المقرر في نطاق العقود المدنية الخاصة‪ ،‬وهوأن الوكالة مث ً‬
‫عاقد المعاهدة نائب أو ممثل عن الدولة‪ ،‬فإن المعاهدة التي كان أبرمها تنتهي بزوال شخصيتها التي‬
‫عقدت المعاهدة من أجلها‪.‬‬
‫ب ـ وأما في حال الزوال الجزئي‪ ،‬فإن المعاهدة تظل قائمة مع دولة الصل لبقاء شخصيتها الدولية‪.‬‬
‫وهذا شبيه بما قرره فقهاؤنا من بقاء عقد الصلح أو الموادعة بالرغم من موت العاقد أو عزله (‪. )2‬‬
‫ثانيا ـ بالنسبة للديون ‪:‬‬
‫‪ - 109‬في حالة الزوال الكلي تتحمل مبدئيا الدولة الجديدة التزامات وديون الدولة القديمة تطبيقا‬
‫للقاعدة السلمية المعروفة وهي (الغرم بالغنم) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الديون السابقة مثلً‬
‫ثقيلة العبء‪ ،‬وموارد الدولة القديمة ل تكفي لتسديدها ‪،‬فل يمكن مطالبة الدولة الجديدة بتحمل كل تلك‬
‫الديون دفعا للضرر عنها إذ ل ضرر ول ضرار‪ ،‬ويستحسن تسوية المر باتفاقات مع الدائنين كما‬
‫يحدث في حالة تصفية أموال المفلس مثلً‪.‬‬
‫ب ـ وأما في حالة الزوال الجزئي‪ ،‬فإن الدولة الصلية هي المسؤولة عن الديون لبقاء شخصيتها‬
‫الدولية‪ ،‬ولن ذمتها المالية ضمان عام لجميع الديون بغض النظر عن أوضاع جزء معين من أجزاء‬
‫الدولة أو مواردها المالية من أية جهة كانت‪.‬‬
‫لكن تقضي العدالة ـ في تقديري ـ أن تتحمل الدولة الوارثة جزءا من هذه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.38/6 :‬‬
‫(‪ )2‬المغني‪ ،462/8 :‬مغني المحتاج‪ ،261/4 :‬البحر الزخار‪ 450/5 :‬و ‪ .455‬الديون إذا كان الجزء‬
‫المنضم إليها كبيرا‪ ،‬أو كانت الديون من أجل هذا الجزء المضموم‪.‬‬

‫( ‪)8/542‬‬

‫ثالثا ـ بالنسبة لملك الدولة العامة ‪:‬‬


‫‪ - 110‬أ ـ إذا زالت الدولة كليا‪ ،‬انتقلت كل حقوقها المالية وأملكها العامة والخاصة إلى الدولة‬
‫الوارثة‪ ،‬لن الذمة المالية الخاصة بالدولة تلزم شخصيتها‪ ،‬وتتبع المسؤول عنها‪.‬‬
‫ب ـ وأما إذا كان زوال الدولة جزئيا بانتقال جزء من اقليمها لدولة أخرى‪ ،‬فتنتقل الملك العامة‬
‫والخاصة بذلك الجزء المنضم المملوكة له إلى الدولة الوارثة‪.‬‬
‫رابعا ـ بالنسبة للتشريع ‪:‬‬
‫‪ - 111‬يسري تشريع الدولة الوارثة وأنظمتها السياسية والدارية والقضائية والمالية لزوال سلطة‬
‫الدولة المورثة؛ لن القوانين النافذة فرع عن وجود السلطة‪ ،‬والسلطة تتبع القليم‪ ،‬وإذا زال القليم لم‬
‫يبق مجال للسلطة‪ ،‬لكن يستثنى من ذلك عادة الحكام الخاصة بالعقائدوالوضاع الدينية والحوال‬
‫الشخصية‪ ،‬فهذه تظل القوانين السابقة فيها هي المطبقة منعا من المشكلت ورعاية لمبدأ الحرية الدينية‬
‫ما لم يتصادم ذلك مع النظام العام‪.‬‬
‫خامسا ـ بالنسبة للحكام القضائية ‪:‬‬
‫‪ - 112‬إن إصدار وتنفيذ الحكام القضائية مدنية أو جزائية مرهون بإرادة السلطة الضامة أو‬
‫الوارثة‪ ،‬لعدم وجود سلطة للدولة المورثة‪ ،‬وقد قرر فقهاؤنا أن العقاب والجزاء والفصل في‬
‫الخصومات منوط بولي المر الحاكم‪ .‬هذا مع احترام المبادئ المسلم بها قانونا كحماية الحقوق‬
‫المكتسبة ورعاية مبادئ الحق والعدالة ‪ ،‬وعدم الخلل بالمن والنظام واحترام العراف الدولية في‬
‫القضاء والتنفيذ‪.‬‬
‫سادسا ـ بالنسبة لجنسية الفراد ‪:‬‬
‫‪ - 113‬يفقد أفراد الدولة الزائلة جنسيتهم القديمة بداهة بزوال دولتهم ويكتسبون جنسية الدولةالضامة‬
‫باستثناء العناصر الخطرة‪ ،‬لن الجنسية علقة قانونية تنشئها الدولة بالتشريع‪ ،‬إل أن التشريع ل يهمل‬
‫إرادة الفرد دائما‪ ،‬لذا فإنه قد يمكن تخيير الفراد بين الحتفاظ بجنسيتهم القديمة أو قبول الجنسية‬
‫الجديدة‪.‬‬

‫( ‪)8/543‬‬

‫أهم المراجع لهذا الفصل‬


‫أ ـ تفسير القرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف ‪:‬‬
‫‪ - 1‬تفسير الكشاف للزمخشري‪ ،‬طبع البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 2‬أحكام القرآن لبن العربي‪ ،‬طبع البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 3‬تفسير ابن كثير ‪ ،‬ط الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 4‬تفسير المنار لرشيد رضا‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.‬‬
‫‪ - 5‬جامع الصول لبن الثير‪ ،‬مطبعة السنة المحمدية بمصر‪.‬‬
‫‪ - 6‬مجمع الزوائد لبي بكر الهيثمي‪ ،‬مكتبة القدسي بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ - 7‬نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫‪ - 8‬تلخيص الحبير لبن حجر‪ ،‬شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة وأحيانا التلخيص الحبير‪ ،‬طبع‬
‫الهند‪.‬‬
‫‪ - 9‬نيل الوطار للشوكاني‪ ،‬المطبعة العثمانية المصرية‪.‬‬
‫‪ - 10‬سبل السلم للصنعاني‪ ،‬ط البابي الحلبي‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الفقه السلمي ‪:‬‬
‫‪ - 1‬الخراج لبي يوسف‪ ،‬المطبعة السلفية بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ - 2‬شرح السير الكبير للسرخسي‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫‪ - 3‬البدائع للكاساني‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫‪ - 4‬فتح القدير مع الهداية‪ ،‬ط مصطفى محمد بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ - 5‬رد المحتار مع الدر المختار‪ ،‬ط البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 6‬حجة ال البالغة للدهلوي‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫‪ - 7‬الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي‪ ،‬ط البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 8‬القوانين الفقهية لبن جُ َزيْ‪ ،‬ط فاس‪.‬‬
‫‪ - 9‬مغني المحتاج للخطيب الشربيني‪ ،‬ط البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 10‬الحكام السلطانية للماوردي‪ ،‬ط صبيح بمصر‪.‬‬
‫‪ - 11‬الحكام السلطانية لبي يعلى‪ ،‬ط البابي الحلبي‪.‬‬
‫‪ - 12‬القواعد لبن رجب‪ ،‬ط الصدق الخيرية بمصر‪.‬‬
‫‪ - 13‬المغني لبن قدامة الحنبلي‪ ،‬ط الثالثة بمصر‪.‬‬
‫‪ - 14‬الحسبة في السلم لبن تيمية‪ ،‬المكتبة العلمية بالمدينة‪.‬‬
‫‪ - 15‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪ ،‬ط الثالثة بدار الكتاب العربي بمصر‪.‬‬
‫‪ - 16‬المحلى لبن حزم‪ ،‬ط المام بمصر‪.‬‬
‫‪ - 17‬البحر الزخار لبن المرتضى‪ ،‬ط الولى‪.‬‬
‫‪ - 18‬الخلف في الفقه للطوسي‪ ،‬ط الثانية‪.‬‬

‫( ‪)8/544‬‬
‫جـ ـ المؤلفات الحديثة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬السياسة الشرعية للشيخ عبد الوهاب خلف‪ ،‬ط السلفية بمصر‪.‬‬
‫‪ - 2‬النظريات السياسية السلمية د‪ :‬ضياء الدين الريس‪ ،‬ط ثانية‪.‬‬
‫‪ - 3‬مبادئ القانون الدولي العام د‪ :‬حافظ غانم‪ ،‬ط ثانية‪.‬‬
‫‪ - 4‬الشريعة السلمية والقانون الدولي العام‪ ،‬ونظم الحكم والدارة في السلم والقوانين الوضعية‬
‫للستاذ علي منصور‪ ،‬طبع القاهرة‪.‬‬
‫‪ - 5‬أحكام القانون الدولي في الشريعة السلمية د‪ :‬حامد سلطان‪ ،‬طبع النهضة العربية‪.‬‬
‫‪ - 6‬النظم السياسية د‪ :‬ثروت بدوي‪ ،‬طبع دار النهضة العربية‪.‬‬
‫‪ - 7‬الخلفة والمامة د‪ :‬عبد الكريم الخطيب‪ ،‬دار الفكر العربي بمصر‪.‬‬
‫‪ - 8‬نظام الحكم في السلم د ‪ :‬محمد يوسف موسى‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫‪ - 9‬السلطات الثلث ‪ ،‬د سليمان محمد الطماوي‪ ،‬طبع معهد الدراسات العربية العالية بمصر‪.‬‬
‫‪ - 10‬نقض كتاب السلم وأصول الحكم‪ ،‬للشيخ محمد الخضر حسين‪ ،‬المطبعة السفلية بمصر‪.‬‬
‫‪ - 11‬نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ :‬محمد عبد ال العربي‪ ،‬دار الفكر بلبنان‪.‬‬
‫‪ - 12‬المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم‪ ،‬د‪ :‬محمد عزيز شكري‪ ،‬دار الكتاب بدمشق‪.‬‬
‫‪ - 13‬منهاج السلم في الحكم‪ ،‬محمد أسد‪ ،‬دار العلم للمليين‪.‬‬
‫‪ - 14‬السلم وأوضاعنا القانونية‪ ،‬السلم وأوضاعنا السياسية‪ ،‬عبد القادر عودة‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫‪ - 15‬نظرية السلم وهديه في السياسةوالقانون والدستور لبي العلى المودودي دار الفكر بدمشق‪.‬‬
‫‪ - 16‬نحو مجتمع إسلمي‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ - 17‬موجز القانون الدستوري د‪ :‬عثمان خليل وسليمان الطماوي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ط الرابعة‪.‬‬
‫‪ - 18‬عبقرية السلم في أصول الحكم‪ ،‬د‪ :‬منير العجلني‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪.‬‬
‫‪ - 19‬النظم السلمية‪ ،‬د‪ :‬صبحي الصالح‪ ،‬دار العلم للمليين‪.‬‬
‫‪ - 20‬الشرع الدولي في السلم د‪ :‬نجيب الرمنازي‪ ،‬مطبعة ابن زيدون بدمشق‪.‬‬
‫‪ - 21‬المجتمع النساني في ظل السلم‪ ،‬للشيخ محمد أبو زهرة‪ ،‬دار الفكر بلبنان‪.‬‬
‫‪ - 22‬مجموعة الوثائق السياسية د‪ :‬محمد حميد ال ‪ ،‬ط الثانية‪.‬‬
‫‪ - 23‬مبادئ القانون الدولي العام في السلم‪ ،‬د‪ :‬محمد عبد ال دراز‪ ،‬مطبعة الزهر‪.‬‬
‫‪ - 24‬التشريع الجنائي السلمي‪ ،‬عبد القادر عودة‪ ،‬الطبعة الثانية بدار العروبة في مصر‪.‬‬
‫‪ - 25‬السلم وأصول الحكم ـ بحث الخلفة والحكومة في السل م ـ للستاذ علي عبد الرازق‪،‬‬
‫الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ - 26‬مبادئ نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ :‬عبد الحميد متولي ‪ ،‬طبع دار المعارف بمصر سنة ‪.1966‬‬

‫( ‪)8/545‬‬

‫‪................................‬بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحيمِ‪................................‬‬


‫‪...........................‬شرعة حقوق النسان في السلم (‪.........................)1‬‬
‫الحمد ل والصلة والسلم على رسول ال‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإن الدول العضاء في منظمة المؤتمر السلمي إيمانا منها بال رب العالمين‪ ،‬الذي خلق‬
‫النسان في أحسن تقويم‪ ،‬وكرمه فجعله في الرض خليفة ووكل إليه عمارتها وإصلحها‪ ،‬وحمّله‬
‫أمانة التكاليف اللهية لخيره وتكريما لنسانيته‪ ،‬وسخر له ما في السموات وما في الرض جميعا‪.‬‬
‫وتصديقا برسالة محمد صلّى ال عليه وسلم الذي أرسله ال بالهدى والرحمة ودين الحق لتحرير‬
‫النسان من الستبداد والستغلل والطغيان‪ ،‬وتحقيق المساواة بين البشر كافة فل فضل لحد على أحد‬
‫إل بالتقوى‪ ،‬وإلغاء الفوارق العنصرية واللونية والطبقية واستئصال كل ما يزرع الفرقة والحقد‬
‫والكراهية بين الناس الذين خلقهم ال من نفس واحدة‪.‬‬
‫وانطلقا من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء السلم والتي دعت البشر كافة أ ل يعبدوا إلّ‬
‫ال ول يشركوا به شيئا‪ ،‬ول يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون ال‪ ،‬مما أدى إلى انتفاء عبودية‬
‫النسان للنسان وتعزيز حريّة البشر وضمان كرامتهم‪.‬‬
‫وتأكيدا للدور الحضاري للمة السلمية وتجديدا لتاريخها وتعزيزا لكونها أمة وسطا تدعو إلى عالم‬
‫متوازن يصل الرض بالسماء والدنيا بالخرة والعلم باليمان‪.‬‬
‫وإسهاما بالتصدي لمشكلت الحضارة بتقديم أنجح الحلول لها مستمدة من مبادئ الشريعة السلمية‪.‬‬
‫واستكمالً للجهود البشرية المتعددة في رعاية حقوق النسان في العصور الحديثة وبخاصةما صدر‬
‫عن الجمعية العامة للمم المتحدة من إعلن واتفاقيات هدفت إلى حماية النسان وتوفير حريته‬
‫وضمان حقوقه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أقر مؤتمر القمة السلمي هذا المشروع بعد إجراء تعديلت طفيفة عليه‪ ،‬وكنت المشارك في‬
‫إعداده من الناحية الشرعية‪ ،‬مع أساتذة دكاترة آخرين؛ وهم عدنان الخطيب‪ ،‬وشكري فيصل ورفيق‬
‫جويجاتي‪ ،‬بتكليف من وزارة الوقاف السورية بدمشق عام ‪1401‬هـ ‪1980 /‬م‪.‬‬
‫( ‪)8/546‬‬

‫ويقينا منا بأنّ البشرية على ما بلغت من شأوٍ بعيد في مدارج العلم المادي لتزال في حاجة ماسة إلى‬
‫سند إيماني لحضارتها ينمّي الوازع الذاتي ويقظة الضمير‪.‬‬
‫نعلن ما يلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬الحقوق الساسية‬
‫المادة الولى‬
‫أ ـ البشر في كل أقطارهم أسرة واحدة‪ ،‬مخلوقون من نفس واحدة‪ ،‬متساوون في الكرامة النسانية‬
‫وفي أصل التكليف والمسؤولية‪ ،‬وأكرمهم عند ال أتقاهم وأنفعهم لعباده‪ .‬ب ـ ل تمييز بين الناس‬
‫بسبب اختلف العرق أو اللغة أو الديار أو الجنس أو العقيدة (‪ )1‬أو النتماء السياسي أو الوضع‬
‫الجتماعي‪.‬‬
‫المادة الثانية‬
‫يولد النسان حرا‪ ،‬ول عبودية لغير ال تعالى‪ ،‬وليس لمخلوق أن يستعبده‪ ،‬أو يذله أو يستغله‪.‬‬
‫المادة الثالثة‬
‫أ ـ حق الحياة مكفول بالشريعة لكل إنسان‪ ،‬وعلى الفراد والمجتمعات والدولة حماية هذا الحق من‬
‫كل اعتداء‪.‬‬
‫ب ـ يُحرّم اللجوء إلى أية وسيلة تفضي لفناء النوع البشري كليا أو جزئيا‪.‬‬
‫جـ ـ استمرار الحياة البشرية أحد أصول السلم ل يجوز تعطيله بمناهضة الزواج ول النتقاص‬
‫منه بمنع النجاب‪ ،‬ول إباحة الجهاض لغير ضرورة شرعية‪.‬‬
‫د ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمنا على نفسه وأهله وسمعته الجتماعية وماله متحررا من كل‬
‫أنواع الخوف‪.‬‬
‫المادة الرابعة‬
‫أ ـ التدين حق لكل إنسان‪ ،‬ول إكراه في الدين‪ .‬فل يجوز حرمانه منه‪ ،‬ول ممارسة أي ضغط عليه‬
‫للتخلي عنه‪.‬‬
‫ب ـ يتعين على المسلم ـ وقد اهتدى إلى السلم باليمان بوجود ال والعتراف بوحدانيته ـ‬
‫الثبات عليه‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي في الحقوق النسانية‪ ،‬وأكرمهم عند ال أتقاهم‪.‬‬
‫( ‪)8/547‬‬

‫‪ - 2‬الحقوق السياسية‬
‫المادة الخامسة‬
‫أ ـ حرية الرأي والتعبير عنه بالوسائل المشروعة مصونة‪ ،‬ولكل إنسان حق ممارستها في حدود‬
‫مبادئ الشريعة وقيم الخلق‪.‬‬
‫ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة بالحكمة إلى الخير والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وله أن‬
‫يشترك مع غيره من الفراد والجماعات في ممارسة هذا الحق والدفاع عنه لصالح المجتمع وخيره‪.‬‬
‫المادة السادسة‬
‫لكل إنسان الحق في‪:‬‬
‫أ ـ أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقا للنظمة المقررة بمقتضى‬
‫الشريعة‪.‬‬
‫ب ـ أن يشارك في إدارة الشؤون العامة لبلده‪ ،‬بصورة مباشرة أو غير مباشرة‪.‬‬
‫جـ ـ أن يتقلد الوظائف العامة وفق الضوابط المشروعة‪.‬‬
‫‪ - 3‬حقوق السرة‬
‫المادة السابعة‬
‫أ ـ السرة عماد المجتمع المسلم‪ ،‬والزواج أساس وجودها‪ ،‬وهو واجب (‪ )1‬على الرجال والنساء‪،‬‬
‫يرغّب السلم في ممارسته ول يحول دون التمتع به أي قيد منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إل‬
‫لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة‪.‬‬
‫ب ـ على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج‪ ،‬وتيسير وسائله‪.‬‬
‫جـ ـ التراضي أساس في عقد الزواج‪ ،‬وإنهاؤه ل يكون إل وفق أحكام الشريعة‪.‬‬
‫المادة الثامنة‬
‫أ ـ المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في النسانية‪ ،‬ولها من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات‪.‬‬
‫ب ـ الرجل قيّم على السرة ومسؤول عنها‪ ،‬وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة‬
‫وتحتفظ باسمها ونسبها‪.‬‬
‫المادة التاسعة‬
‫أ ـ لكل طفل‪ ،‬منذ ولدته‪ ،‬حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية والرعاية المادية‬
‫والدبية‪.‬‬
‫ب ـ على المجتمع والدولة حماية المومة وتعهدها برعاية خاصة‪.‬‬
‫جـ ـ من حق الب أن يختار لطفله التربية الملئمة في ضوء القيم الخلقية والسلمية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أي وجوبا اجتماعيا عاما في الجملة‪ ،‬وإن كان هو تفصيلً مباحا أو مندوبا أو واجبا بحسب‬
‫الحوال المبينة فقها‪.‬‬

‫( ‪)8/548‬‬

‫‪ - 4‬حق النتماء والجنسية‬


‫المادة العاشرة‬
‫حق النسان في النتماء لبيه وقومه غير قابل للنكار أو السقاط‪.‬‬
‫المادة الحادية عشرة‬
‫حق النسان في التمتع بجنسية بلده مصون‪ ،‬ول يجوز حرمانه منه تعسفا‪ .‬وله حق تغيير الجنسية‪.‬‬
‫‪ -5‬حقوق التعليم والتربية‬
‫المادة الثانية عشرة‬
‫أ ـ طلب العلم فريضة على كل إنسان‪.‬‬
‫ب ـ التعليم واجب على المجتمع والدولة‪ ،‬وعليهما تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق‬
‫مصلحة الجماعة‪ ،‬ويتيح للنسان معرفة دين ال تعالى‪ ،‬وحقائق الكون وتسخير الطبيعة لصالح‬
‫البشرية وغيرها‪ .‬وهو إلزامي في مراحله الولى على القل‪.‬‬
‫المادة الثالثة عشرة‬
‫على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة‪ ،‬من أسرة ومدرسة وجامعة وأجهزة إعلم وغيرها‪ ،‬أن‬
‫تعمل على تربية النسان دينيا ودنيويا تربية كاملة ومتوازنة بحيث تقوّي إيمانه بال تعالى وتنمّي‬
‫شخصيته‪ ،‬وتعزز احترامه للحقوق وقيامه بالواجبات‪.‬‬
‫‪ - 6‬حقوق العمل والضمان الجتماعي‬
‫المادة الرابعة عشرة‬
‫أ ـ العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه‪ ،‬وللنسان حرية اختيار العمل المشروع الذي‬
‫يلئمه‪.‬‬
‫ب ـ على العامل إتقان عمله والخلص فيه‪ ،‬وله حقه في الجر العادل الكافي مقابل عمله‪ ،‬وله‬
‫الحق في كل الضمانات المتعلقة بالسلمة والمن‪.‬‬
‫جـ ـ إذا اختلف العمال وأرباب العمل فمن حقهم على الدولة والقضاء التدخل دون تمييز‪ ،‬لرفع‬
‫الظلم وإقرار الحق‪.‬‬
‫المادة الخامسة عشرة‬
‫لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الضمان الجتماعي بأنواعه المختلفة‪ ،‬بما يمكن له من العيش‬
‫الكريم في الغذاء والكساء والعلج والتعليم‪.‬‬

‫( ‪)8/549‬‬

‫‪ - 7‬حقوق الكسب والنتفاع والملكية الدبية‬


‫المادة السادسة عشرة‬
‫ش ول يضرّ بفرد أو جماعة‪ .‬المادة‬
‫لكل إنسان الحق في الكسب المشروع‪ ،‬على أل يحتكر ول يغ ّ‬
‫السابعة عشرة‬
‫أ ـ لكل إنسان الحق في النتفاع من ثمرات النتاج النساني في ميادين العلم النظرية والتطبيقية‪.‬‬
‫ب ـ ولكل إنسان الحق في النتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الدبي أو الفني على أل ينافي هذا‬
‫النتاج مبادئ الشريعة وقيم الخلق‪.‬‬
‫جـ ـ على الدولة حماية هذه الحقوق‪.‬‬
‫‪ - 8‬حقوق التقاضي‬
‫المادة الثامنة عشرة‬
‫أ ـ حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع‪.‬‬
‫ب ـ الناس سواسية أمام الشرع‪ ،‬يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم‪.‬‬
‫المادة التاسعة عشرة‬
‫الصل في النسان البراءة‪ ،‬والمتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تتوافر له فيها كل‬
‫ضمانات الدفاع‪ ،‬والشبهة تُفسّر لصالحه‪.‬‬
‫المادة العشرون‬
‫ـ مسؤولية النسان عن أفعاله في أساسها شخصية‪ ،‬ول جريمة ول عقوبة إلّ بنص‪.‬‬
‫ب ـ ل يجوز‪ ،‬بغير موجب شرعي‪ ،‬القبض على إنسان أو تقييد حريته أو نفيه أو تعريضه للتعذيب‬
‫البدني أو النفسي‪ ،‬أو لي معاملة منافية للكرامة النسانية‪ .‬وكل تدبير أو نص يجيز ذلك يُعد هدرا‬
‫للحق النساني ومنافيا للشرع اللهي‪.‬‬
‫المادة الحادية والعشرون‬
‫أ ـ لكل إنسان الحق في العتراف له بشخصيته الشرعية من حيث أهليته لللزام والتزام‪.‬‬
‫ب ـ لكل إنسان حقه في الستقلل بحياته الخاصة وأسرته وماله واتصالته الجتماعية‪ ،‬ول يجوز‬
‫التجسس عليه أو الساءة إلى سمعته‪ .‬ويجب على الدولة حمايته من كل تدخل تعسفي‪.‬‬
‫‪ - 9‬حق التنقل واللجوء‬
‫المادة الثانية والعشرون‬
‫أ ـ لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل بلده أو خارجها مع مراعاة الضوابط‬
‫المشروعة لذلك‪.‬‬
‫ب ـ للمضطهد حق اللجوء إلى دولة أخرى‪ ،‬وعلى الدولة التي لجأ إليها أن تجيره حتى يبلغ مأمنه‪.‬‬
‫‪ - 10‬حقوق وواجبات أثناء الحروب‬
‫المادة الثالثة والعشرون‬
‫في حالة الحرب ل يجوز قتل الطفال والنساء والشيوخ والمنقطعين للعبادة وغيرهم ممن ل مشاركة‬
‫لهم في القتال‪ ،‬ول يقطع الشجر ول تُنهب الموال ول تُخرب المنشآت المدنية ول يُمثّل بالقتيل‪.‬‬
‫وللجريح الحق في أن يداوى وللسير أن يُطعم ويؤوى‪.‬‬
‫‪ - 11‬حرمة الميت‬
‫المادة الرابعة والعشرون‬
‫حرمة الموت واجبة شرعا‪ ،‬وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمان الميت ودفنه وتنفيذ وصاياه وفقا‬
‫لحكام دينه‪ ،‬ومنع التشهير به‪.‬‬

‫( ‪)8/550‬‬

‫‪ - 12‬حدود هذه الوثيقة الشرعية وتفسيرها‬


‫المادة الخامسة والعشرون‪.‬‬
‫أ ـ كل الحقوق والحريات والواجبات المقررة في هذه الوثيقة مقيدة بأحكام الشريعة السلمية‬
‫ومقاصدها‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشريعة السلمية بمصادرها الساسية المعتمدة هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة‬
‫من مواد هذه الوثيقة‪ .‬ويرجع عند الختلف إلى أهل العلم المتخصصين‪.‬‬
‫انتهى الجزء الثامن‬
‫و يليه الجزء التاسع‬
‫و أوله الحوال الشخصية‬

‫( ‪)8/551‬‬

‫‪.....................................‬ال ِفقْ ُه السلميّ وأدلّتُهُ‪................................‬‬


‫‪.........................................‬الجزء التاسع‪.....................................‬‬
‫شخْصيّة‬
‫سمُ السّادسُ‪ :‬الحوال ال ّ‬
‫الق ْ‬
‫خطة البحث‪ :‬يشتمل هذا القسم على ستة أبواب‪:‬‬
‫الباب الول ـ الزواج وآثاره‪.‬‬
‫الباب الثاني ـ انحلل الزواج وآثاره‪ ،‬وفيه فصول أربعة عن الطلق‪ ،‬والخلع‪ ،‬والتفريق القضائي‪،‬‬
‫والعدة‪.‬‬
‫الباب الثالث ـ حقوق الولد‪ :‬من نسب‪ ،‬ورضاع‪ ،‬وحضانة‪ ،‬وولية‪ ،‬ونفقات الزوجة والولد‪.‬‬
‫الباب الرابع ـ الوصايا‪.‬‬
‫الباب الخامس ـ الوقف‪.‬‬
‫الباب السادس ـ الميراث أو الفرائض‬
‫تمهيد‬
‫المقصود بالحوال الشخصية‪ :‬الحوال الشخصية اصطلح قانوني أجنبي يقابل الحوال المدنية أو‬
‫المعاملت المدنية‪ ،‬وقسم الجنايات‪ .‬وقد اشتهر في الجامعات‪ ،‬وأصبح عنوان التأليف في أحكام‬
‫السرة‪.‬‬
‫ويراد به الحكام التي تتصل بعلقة النسان بأسرته‪ ،‬بدءا بالزواج‪ ،‬وانتهاء بتصفية التركات أو‬
‫الميراث‪ ،‬وهي تشمل ما يأتي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أحكام الهلية والولية والوصاية على الصغير‪ ،‬وقد بحثت في النظريات الفقهية‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أحكام السرة من خطبة وزواج وحقوق الزوجين من مهر ونفقة‪ ،‬وحقوق الولد من نسب‬
‫ورضاع ونفقات‪ ،‬وانحلل الزواج بإرادة الزوج كالطلق والخلع‪ ،‬أو بالتفريق القضائي كاليلء‬
‫واللعان والظهار‪ ،‬والتفريق للعيب والغيبة والضرر وعدم النفاق‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬أحكام أموال السرة من ميراث‪ ،‬ويسمى فقها ( الفرائض )‪ ،‬ووصايا وأوقاف ونحوها مما يعد‬
‫تصرفا مضافا لما بعد الموت‪.‬‬
‫وقد حددت المادة (‪ )13‬من قانون القضاء في مصر‪ ،‬رقم (‪ )147‬لسنة (‪1949‬م) ما يعد من الحوال‬
‫الشخصية‪،‬وهي الفئات الثلث السابقة‪ ،‬وصدرت قوانين الحوال الشخصية في سورية وتونس‬
‫والردن والعراق والمغرب القصى متضمنة أحكام الزواج والهلية والوصاية على الصغير‬
‫والوصية‪ ،‬والرث‪ ،‬إل أن قانون العراق المشتمل على أحكام المذهبين السني والجعفري لم يتضمن‬
‫كل أحكام الحوال الشخصية‪ ،‬وهو فيما عدا المذهب الجعفري اختصار لكتاب الحكام الشرعية في‬
‫الحوال الشخصية لقدري باشا على مذهب الحنفية‪ .‬وصدر في مصر قوانين خاصة بالميراث عام (‬
‫‪1943‬م)‪ ،‬والوقف عام ( ‪1946‬م )‪ ،‬والوصية عام (‪1946‬م)‪ ،‬وأخيرا صدر قانون في الحوال‬
‫الشخصية في أواخر السبعينات في عهد السادات‪.‬‬

‫( ‪)9/1‬‬

‫البَاب الوّل‪ :‬الزّواج وآثاره‬


‫فيه فصول سبعة‪:‬‬
‫الفصل الول ـ مقدمات الزواج‪ :‬النظر والخطبة‪.‬‬
‫الفصل الثاني ـ تكوين الزواج ـ معناه وحكمه‪ ،‬وأركانه وشروطه‪ ،‬وأنواعه وحكم كل نوع‪ ،‬وما‬
‫يستحب فيه‪.‬‬
‫الفصل الثالث ـ المحرّمات من النساء‪.‬‬
‫الفصل الرابع ـ الهلية والولية والوكالة في الزواج‪.‬‬
‫الفصل الخامس ـ الكفاءة في الزواج‪.‬‬
‫الفصل السادس ـ آثار الزواج ـ المهر وأحكامه‪ ،‬الخلوة وأحكامها‪ ،‬المتعة المادية بعد الطلق أو قبل‬
‫الدخول‪.‬‬
‫الفصل السابع ـ حقوق الزواج وواجباته‪.‬‬
‫وأبحث هذه الفصول في المذاهب تباعا‪.‬‬
‫صلُ الوّل‪ :‬مقدّمات الزّواج‬
‫ال َف ْ‬
‫الخطبة‪ :‬معناها‪ ،‬حكمتها‪ ،‬أنواعها‪ ،‬ما يترتب على الخطبة‪ ،‬الخطبة على الخطبة‪ ،‬مقومات المرأة‬
‫المخطوبة‪ ،‬من تباح خطبتها‪ ،‬خطبة المعتدة‪ ،‬رؤية المخطوبة‪ ،‬مقدار ما يباح النظر إليه‪ ،‬وقت الرؤية‬
‫وشرطها‪ ،‬تحريم الخلوة بالمخطوبة‪ ،‬العدول عن الخطبة وأثره‪.‬‬
‫( ‪)9/2‬‬

‫أولً ـ أنواع مقدمات الزواج‪ :‬ذكر ابن رشد (‪ )1‬أربع مقدمات للزواج هي حكم الزواج شرعا‪ ،‬وحكم‬
‫خُطْبة العقد‪،‬والخِطْبة على الخطبة‪ ،‬والنظر إلى المخطوبة قبل التزويج‪ ،‬وسأبحث المرين الولين في‬
‫بحث تكوين الزواج‪ ،‬وأما المران الخران فمحل بحثهما هنا‪.‬‬
‫والسبب في عناية الشرع بهذه المقدمات‪ :‬هوا لحرص على إقامة الزواج على أمتن السس‪ ،‬وأقوى‬
‫المبادئ‪ ،‬لتتحقق الغاية الطيبة منه‪ ،‬وهي الدوام والبقاء‪ ،‬وسعادة السرة‪ ،‬والستقرار ومنع التصدع‬
‫الداخلي‪ ،‬وحماية هذه الرابطة من النزاع والخلف‪ ،‬لينشأ الولد في جو من الحب واللفة والود‬
‫والسكينة واطمئنان كل طرف إلى الخر‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا‬
‫لتسكنوا إليها‪ ،‬وجعل بينكم مودة ورحمة‪ ،‬إن في ذلك ليات لقوم يتفكرون} [الروم‪.]21/30:‬‬
‫خطْبة‪ :‬الخطبة‪ :‬هي إظهار الرغبة في الزواج بامرأة معينة‪ ،‬وإعلم المرأة وليها‬
‫ثانيا ـ معنى ال ِ‬
‫بذلك‪ .‬وقد يتم هذا العلم مباشرة من الخاطب‪ ،‬أو بواسطة أهله‪.‬‬
‫فإن وافقت المخطوبة أو أهلها‪ ،‬فقد تمت الخطبة بينهما‪ ،‬وترتبت عليها أحكامها وآثارها الشرعية التي‬
‫سأذكرها‪.‬‬
‫ثالثا ـ حكمة الخطبة‪ :‬الخطبة كغيرها من مقدمات الزواج طريق لتعرّف كل من الخاطبين على‬
‫الخر‪ ،‬إذ أنها السبيل إلى دراسة أخلق الطرفين وطبائعهما وميولهما‪ ،‬ولكن بالقدر المسموح به‬
‫شرعا‪ ،‬وهو كاف جدا‪ ،‬فإذا وجد التلقي والتجاوب أمكن القدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة‬
‫في الحياة‪ ،‬واطمأن الطرفان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلم وأمان‪ ،‬وسعادة ووئام‪ ،‬وطمأنينة‬
‫وحب‪ ،‬وهي غايات يحرص عليها كل الشبان والشابات والهل من ورائهم‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬بداية المجتهد‪.2/2 :‬‬

‫( ‪)9/3‬‬

‫رابعا ـ أنواع الخطبة‪ :‬الخطبة إما أن تكون بإبداء الرغبة فيه صراحة‪ ،‬كأن يقول الخاطب‪ :‬أريد‬
‫الزواج من فلنة‪ ،‬وإما أن تكون مفهومة ضمنا أو بالتعريض والقرائن‪ ،‬بمخاطبة المرأة مباشرة‪ ،‬كأن‬
‫يقول لها‪ :‬إنك جديرة بالزواج‪ ،‬أو يسعد بك صاحب الحظ‪ ،‬أو أبحث عن فتاة لئقة مثلك‪ ،‬ونحوها‪.‬‬
‫خامسا ـ ما يترتب على الخطبة‪ :‬الخطبة مجرد وعد بالزواج‪ ،‬وليست زواجا (‪ ، )1‬فإن الزواج ل‬
‫يتم إل بانعقاد العقد المعروف‪ ،‬فيظل كل من الخاطبين أجنبيا عن الخر‪ ،‬ول يحل له الطلع إل على‬
‫المقدار المباح شرعا وهو الوجه والكفان‪ ،‬كما سيأتي‪ .‬نص قانون الحوال الشخصية السوري (م ‪)2‬‬
‫على ما يلي‪ :‬الخطبة والوعد بالزواج وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الهدية‪ ،‬ل تكون زواجا‪.‬‬
‫سادسا ـ الخطبة على الخطبة‪ :‬يترتب على الخطبة أيضا حرمة التقدم لخطبة المرأة ممن كان يعلم‬
‫بتمام خطبتها لغيره‪ ،‬فقد أجمع العلماء على تحريم الخطبة الثانية على الخطبة الولى إذا كان قد تم‬
‫التصريح بالجابة‪ ،‬ولم يأذن الخاطب الول‪ ،‬ولم يترك الخطبة‪ ،‬فإن خطب الثاني وتزوج والحال هذه‬
‫فقد عصى‪ ،‬باتفاق العلماء؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬ل يبع أحدكم على بيع أخيه (‪ ، )2‬ول‬
‫خطْبة أخيه‪ ،‬إل أن يأذن له» (‪ ، )3‬وفي رواية البخاري‪« :‬نهى أن يبيع الرجل على بيع‬
‫يخطب على ِ‬
‫أخيه‪ ،‬وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله‪ ،‬أو يأذن له الخاطب» (‪. )4‬‬
‫هذا النهي صريح في تحريم الخطبة الثانية بعد تمام الموافقة على الخطبة الولى لخطيب آخر‪ ،‬لما‬
‫فيها من إيذاء الخاطب الول‪ ،‬وتوريث عداوته‪ ،‬وزرع الضغينة في نفسه‪ ،‬فإن عدل أحد الطرفين أو‬
‫أذن لغيره بالتقدم للخطبة‪ ،‬جاز ذلك‪.‬‬
‫أما إن لم تتم الخطبة الولى‪ ،‬وكان المر في حال مشاورة أو تردد‪ ،‬فالصح عدم التحريم‪ ،‬ولكن تكره‬
‫عند الحنفية الخطبة‪ ،‬لطلق الحاديث السابقة الواردة‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬إن ما يشيع بين الناس من أن قراءة الفاتحة تبيح كل شيء هو غلط محض‪ ،‬ومنكر قبيح وجهل‬
‫بأحكام الدين‪ ،‬فذلك كله مجرد وعد ل عقد‪ ،‬والعقد وحده هو الذي يبيح ما كان محرما قبله‪.‬‬
‫(‪ )2‬ولكن استثني من ذلك بيع المزايدة‪ :‬وهو البيع ممن يزيد‪ ،‬فليس من المنهي عنه‪ ،‬وهذه حالة‬
‫المزاد العلني اليوم (سبل السلم‪.)23/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد ومسلم عن ابن عمر (نيل الوطار‪ ،168-167/5:‬سبل السلم‪.)113 ،23-22/3 :‬‬
‫(‪ )4‬ورواه أيضا ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني‪.‬‬

‫( ‪)9/4‬‬

‫في النهي عن الخطبة على خطبة الغير‪ ،‬والبيع على البيع أو السوم على السوم‪ ،‬أي بعد التفاق على‬
‫البيع وقبل عقده‪.‬‬
‫وأباح الجمهور الخطبة الثانية؛ لن فاطمة بنت قيس خطبها ثلثة‪ :‬وهم معاوية‪ ،‬وأبو جهم بن حذافة‪،‬‬
‫وأسامة بن زيد‪ ،‬بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص ابن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه‪ ،‬فجاءت إلى‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأخبرته بذلك‪ ،‬فقال‪« :‬أما أبو جهم فل يضع عصاه عن عاتقه‪ ،‬وأما‬
‫معاوية فصعلوك ل مال له‪ ،‬أنكحي أسامة بن زيد» (‪ )1‬فهذا يدل على جواز تقدم أكثر من خطيب إذا‬
‫لم تقبل المرأة الخطبة‪ ،‬لكن يظهر أن ذلك إذا لم يعلم الخاطب أن غيره قد تقدم لخطبة تلك المرأة‪ ،‬مما‬
‫يدل على رجحان الرأي الول‪.‬‬
‫وعلى كل حال فالدب السلمي يقضي بالتريث إلى أن تنتهي فترة التردد والمفاوضات والمشاورات‬
‫التي تحدث عادة‪ ،‬حفاظا على صلة الود والمحبة بين الناس‪ ،‬وبعدا عن إيجاد العداوة وزرع الحقاد‬
‫في النفوس‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس‪ ،‬وهي امرأة قرشية أخت الضحاك بن قيس‪ ،‬وهي من‬
‫المهاجرات الول‪ ،‬كانت ذات جمال وفضل وكمال (سبل السلم‪.)129/3 :‬‬

‫( ‪)9/5‬‬

‫سابعا ـ مقومات المرأة المخطوبة ‪:‬‬


‫حرص السلم على ديمومة الزواج بالعتماد على حسن الختيار‪ ،‬وقوة الساس الذي يحقق الصفاء‬
‫والوئام‪ ،‬والسعادة والطمئنان‪ ،‬وذلك بالدين والخلق‪ ،‬فالدين يقوى مع مضي العمر‪ ،‬والخلق يستقيم‬
‫بمرور الزمن وتجارب الحياة‪ ،‬أما الغايات الخرى التي يتأثر بها الناس من مال وجمال وحسب‪ ،‬فهي‬
‫وقتية الثر‪ ،‬ول تحقق دوام الرتباط‪ ،‬وتكون غالبا مدعاة للتفاخر والتعالي‪ ،‬واجتذاب أو لفت أنظار‬
‫الخرين‪.‬‬
‫لذا قال عليه الصلة والسلم‪« :‬تنكح المرأة لربع‪ :‬لمالها‪ ،‬ولحسبها‪ ،‬ولجمالها‪ ،‬ولدينها‪ ،‬فاظفر بذات‬
‫الدين‪ ،‬ترِبت يداك» (‪ )1‬أي أن الذي يرغب في الزواج ويدعو الرجال إليه عادة أحد هذه الخصال‬
‫الربع‪ ،‬وآخرها عندهم ذات الدين‪ ،‬فأمرهم النبي صلّى ال عليه وسلم بأنه إذا وجدوا ذات الدين‪ ،‬فل‬
‫يعدلوا عنها‪ ،‬وإل أصيب الرجل بالفلس والفقر‪.‬‬
‫ثم نهى صلّى ال عليه وسلم صراحة عن زواج المرأة لغير دينها‪ ،‬وحذر من عاقبة المال والجمال‪،‬‬
‫فقال‪« :‬ل تنكحوا النساء لحسنهن‪ ،‬فلعله يرديهن‪ ،‬ول لمالهن فلعله يطغيهن‪ ،‬وانكحوهن للدين‪ ،‬ولمة‬
‫سوداء خرقاء ذات دين أفضل» (‪. )2‬‬
‫وورد في صفة خير النساء‪« :‬قيل‪ :‬يا رسول ال ‪،‬أي النساء خير؟ قال‪ :‬التي تسره إن نظر‪ ،‬وتطيعه‬
‫إن أمر‪ ،‬ول تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» (‪ )3‬وللبيئة تأثير كبير‪ ،‬فل يغترن الشاب بجمال في‬
‫بيئة ذات تربية وضيعة‪ ،‬روى الدارقطني والديلمي عن أبي سعيد مرفوعا أن رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم قال‪« :‬إياكم وخضراء ال ّدمَن‪ ،‬قالوا‪ :‬وما خضراء الدمن يا رسول ال ؟ قال‪ :‬المرأة الحسناء‬
‫في المنبت السوء» لكن قال الدارقطني‪ :‬ل يصح من وجه‪.‬‬
‫وحسن اختيار المرأة ذو هدفين‪ ،‬إسعاد الرجل‪ ،‬وتنشئة الولد نشأة صالحة تتميز بالستقامة وحسن‬
‫الخلق‪ ،‬لذا قال عليه الصلة والسلم‪« :‬تخيروا لنطفكم‪ ،‬فانكحوا الكفاء‪ ،‬وانكحوا إليهم» (‪. )4‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين أصحاب الكتب السبعة (أحمد والكتب الستة) عن أبي هريرة‪ .‬والحسب‪ :‬هو الفعل‬
‫الجميل للرجل وآبائه (سبل السلم‪.)111/3 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث عبد ال بن عمرو مرفوعا (المرجع السابق)‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه النسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي ال عنه (المرجع السابق)‪.‬‬
‫(‪ )4‬حديث صححه الحاكم عن عائشة‪ ،‬ورواه الحاكم وابن ماجه والبيهقي والدارقطني‪ ،‬وقال عنه أبو‬
‫حاتم الرازي‪ :‬ليس له أصل‪ ،‬وقال ابن الصلح‪ :‬له أسانيد فيها مقال‪.‬‬

‫( ‪)9/6‬‬

‫ويمكن تلخيص ضوابط مقومات المرأة المخطوبة على النحو التي كما أبان الشافعية والحنابلة‬
‫وغيرهم (‪ ، )1‬فقالوا‪:‬يستحب ما يلي‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن تكون المرأة ديّنة‪ ،‬للحديث السابق‪« :‬فعليك بذات الدين» ‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أن تكون ولودا‪ ،‬لحديث‪« :‬تزوجوا الودود الولود‪ ،‬فإني مكاثر بكم المم يوم القيامة» (‪. )2‬‬
‫ويعرف كون البكر ولودا بكونها من نساء يعرفن بكثرة الولد‪.‬‬
‫ً‪ - 3‬أن تكون بكرا‪ ،‬لقوله صلّى ال عليه وسلم لجابر‪« :‬فهل بكرا تلعبها وتلعبك؟» (‪. )3‬‬
‫ً‪ - 4‬وأن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة؛ لنه مظنّة دينها وقناعتها‪.‬‬
‫ً‪ - 5‬وأن تكون حسيبة‪ :‬وهي النسيبة‪ ،‬أي طيبة الصل‪ ،‬ليكون ولدها نجيبا‪ ،‬فإنه ربما أشبه أهلها‬
‫ونزع إليها‪ ،‬لحديث «ولحسبها» ‪.‬‬
‫ول ينبغي تزوج بنت زنا ولقيطة ومن ل يعرف أبوها‪ ،‬أي أن الزواج حينئذ مكروه‪ .‬مباح غير حرام‪،‬‬
‫وأما آية‪ { :‬الزاني لينكح إل زانية‪[ }..‬النور‪ ]3/24:‬فمنسوخة‪ ،‬أو شأنه ذلك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬كشاف القناع‪ ،8-7/5 :‬مغني المحتاج‪ 126/3 :‬ومابعدها‪ ،‬الشرح الصغير‪.341/2 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه سعيد بن منصور في سننه‪ ،‬وأبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده عن معقل بن يسار‪.‬‬
‫(‪ )3‬متفق عليه‪.‬‬

‫( ‪)9/7‬‬

‫ً‪ - 6‬وأن تكون جميلة؛ لنها أسكن لنفسه‪ ،‬وأغض لبصره‪ ،‬وأكمل لمودته‪ ،‬ولذلك جاز النظر قبل‬
‫الزواج‪ ،‬ولحديث أبي هريرة السابق‪« :‬قيل‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أي النساء خير؟‪ »...‬لكن كره الشافعية‬
‫خطبة المرأة الفائقة الجمال‪.‬‬
‫ً‪ - 7‬وأن تكون أجنبية غير ذات قرابة قريبة؛ لن ولدها يكون أنجب‪ ،‬وقد قيل‪« :‬إن الغرائب أنجب‪،‬‬
‫وبنات العم أصبر» ولنه ل يأمن الطلق‪ ،‬فيفضي مع‬
‫القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها‪ ،‬واستدل الرافعي لذلك تبعا للوسيط بحديث‪« :‬ل تنكحوا‬
‫القرابة القريبة‪ ،‬فإن الولد يخلق ضاويا» أي نحيفا‪ ،‬وذلك لضعف الشهوة‪.‬‬
‫ً‪ - 8‬أل يزيد على واحدة إن حصل بها العفاف‪ ،‬لما فيه من التعرض للمحرم‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬ولن‬
‫تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء‪ ]129/4:‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من كان‬
‫له امرأتان‪ ،‬فمال إلى إحداهما‪ ،‬جاء يوم القيامة‪ ،‬وشقه مائل» (‪. )1‬فالصل وحدة الزوجية ل التعدد‪.‬‬
‫ويكره الزواج بالزانية أي المشهورة بالزنا‪ ،‬وإن لم يثبت عليها الزنا‪.‬‬
‫ثامنا ـ من تباح خطبتها ‪:‬‬
‫الخطبة ـ كما هو واضح ـ مقدمة الزواج ووسيلته‪ ،‬فإذا كان الزواج بالمرأة ممنوعا شرعا‪ ،‬كانت‬
‫خطبتها ممنوعة أيضا‪ ،‬وإذا كان الزواج بها مباحا شرعا‪ ،‬كانت خطبتها مباحة أيضا‪ .‬وقد يوجد مانع‬
‫شرعي مؤقت من الخطبة والزواج‪ ،‬لذا يشترط لباحة الخطبة شرطان‪:‬‬
‫الشرط الول ـ أل يحرم الزواج بها شرعاً(‪: ) 2‬‬
‫بأن كانت من المحارم المحرمة تحريما مؤبدا‪ ،‬كالخت والعمة والخالة‪ ،‬أو تحريما مؤقتا‪ ،‬كأخت‬
‫الزوجة‪ ،‬وزوجة الغير‪ ،‬لما في حالت المؤبد من الضرر بالولد والضرر الجتماعي‪ ،‬ولما في‬
‫المؤقت من النزاع والفساد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الربعة)‪.‬‬
‫(‪ )2‬البدائع‪.268 ،256/2 :‬‬

‫( ‪)9/8‬‬
‫خطبة المعتدة‪ :‬من حالت التحريم المؤقت‪ :‬أن تكون معتدة‪ ،‬أي في أثناء العدة من زواج سابق (‪: )1‬‬
‫فإنه يحرم باتفاق الفقهاء الخطبة الصريحة أوالمواعدة للمعتدة مطلقا‪ ،‬سواء أكانت بسبب عدة الوفاة‪ ،‬أم‬
‫عدة الطلق الرجعي أم البائن‪ ،‬لمفهوم قوله تعالى‪{ :‬ول جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة‬
‫النساء‪ ،‬أوأكننتم في أنفسكم‪ ،‬علم ال أنكم ستذكرونهن‪ ،‬ولكن ل تواعدوهن سرا‪ ،‬إل أن تقولوا قولً‬
‫معروفا} [البقرة‪.]235/2:‬‬
‫والتصريح‪ :‬ما يقطع بالرغبة في الزواج‪ ،‬مثل‪ :‬أريد أن أتزوجك‪ ،‬وإذا انقضت عدتك تزوجتك‪.‬‬
‫وسبب تحريم الخطبة بطريق التصريح‪ :‬أنه ربما تكذب في انقضاء العدة‪ ،‬ولن في خطبتها اعتداء‬
‫على حق المُطلّق‪ ،‬والعتداء على حق الغير حرام شرعا‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬ول تعتدوا‪ ،‬إن ال ل يحب‬
‫المعتدين} [البقرة‪.]190/2:‬‬
‫وأما الخطبة بطريق التعريض‪ :‬وهو القول المفهم للمقصود وليس بنص فيه‪ ،‬ومنه الهدية‪ ،‬أو هو ما‬
‫يحتمل الرغبة في الزواج وعدمها‪ ،‬كقوله لها‪ :‬أنت جميلة‪ ،‬ورب راغب فيك‪ ،‬ومن يجد مثلك‪ ،‬ولست‬
‫بمرغوب عنك‪ ،‬أو عسى أن ييسر ال لي أمرأة صالحة‪ ،‬أو نحو ذلك‪:‬‬
‫أ ـ فإن كان سبب العدة وفاة الزوج‪ ،‬جازت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لنتهاء الزوجية بالوفاة‪ ،‬فل يكون‬
‫في خطبتها اعتداء على حق الزوج ول إضرار به‪.‬‬
‫ب ـ وإن كان سبب العدة هو الطلق‪:‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،738 ،380/2 :‬أحكام القرآن للجصاص‪ 422/1 :‬وما بعدها‪ ،‬البدائع‪ 268/2 :‬وما‬
‫بعدها‪ ،‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،178‬الشرح الصغير‪ 343/2 :‬وما بعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص‬
‫‪ ،205‬المهذب‪ ،47/2 :‬مغني المحتاج‪ 135/3 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪.17/5 :‬‬

‫( ‪)9/9‬‬

‫فإن كان الطلق رجعيا‪ ،‬حرمت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لن لمن طلّقها الحق في مراجعتها أثناء العدة‪،‬‬
‫فتكون خطبتها اعتداء على حقه‪ ،‬فهي زوجة أو في معنى الزوجة‪.‬‬
‫وإن كان الطلق بائنا بينونة صغرى أو كبرى‪ ،‬ففي خطبة المعتدة ممن طلّقها بالتعريض رأيان‪:‬‬
‫رأي الحنفية‪ :‬تحريم الخطبة؛ لن لمُطلّقها في حالة البينونة الصغرى أن يعقد عليها مرة أخرى قبل‬
‫انقضاء العدة‪ ،‬كما بعدها‪ ،‬فلو أبيحت خطبتها‪ ،‬لكان في ذلك اعتداء على حقوقه‪ ،‬ومع له من العودة‬
‫إلى زوجته مرة أخرى‪ ،‬كالمطلقة الرجعية‪ .‬وأما في حالة البينونة الكبرى فتمنع الخطبة في العدة‬
‫بطريق التعريض‪ ،‬كيل تكذب المرأة في الخبار بانتهاء عدتها‪ ،‬ولئل يظن أن هذا الخاطب كان سببا‬
‫في تصدع العلقة الزوجية السابقة‪ .‬وأما آية {ول جناح عليكم} [البقرة‪ ]235/2:‬فهي خاصة بالمعتدات‬
‫للوفاة بدليل الية التي قبلها‪{ :‬والذين يتوفون} [البقرة‪.]234/2:‬‬
‫رأي الجمهور‪ :‬جواز الخطبة‪ ،‬لعموم الية السابقة‪{ :‬ول جناح عليكم فيما عرّضتم به‪[ }...‬البقرة‪:‬‬
‫‪ ]235/2‬وقوله‪{ :‬إل أن تقولوا قولً معروفا} [البقرة‪ ]235/2:‬أي ل تواعدوهن إل بالتعريض دون‬
‫التصريح‪ ،‬ولنقطاع سلطنة الزوج عن البائن‪ ،‬فالطلق البائن بنوعيه يقطع رابطة الزوجية‪ ،‬فل يكون‬
‫في خطبتها تعريضا اعتداء على حق المُطلّق‪ ،‬فتشبه المعتدة بسبب الوفاة‪.‬‬

‫( ‪)9/10‬‬

‫وأرجح مذهب الجمهور في البينونة الكبرى إذ ل ضغينة في نفس الزوج وقد أكمل الطلق‪ ،‬وأرجح‬
‫مذهب الحنفية في البينونة الصغرى‪ .‬وإذا عقد على المعتدة زواج في العدة‪ ،‬ودخل الزوج بها‪ ،‬فسخ‬
‫الزواج بالتفاق‪ ،‬لنهي ال عنه‪ ،‬وتأبد تحريمها عليه عند مالك وأحمد والشعبي‪ ،‬فل يحل نكاحها أبدا‪،‬‬
‫وبه قضى عمر؛ لنه استحل ما ل يحل‪ ،‬فعوقب بحرمانه‪ ،‬كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله‪.‬‬
‫وقال الحنفية والشافعية‪ :‬يفسخ النكاح‪ ،‬فإذا انتهت العدة‪ ،‬جاز لهذا الزوج أن يخطبها مرة أخرى‬
‫ويتزوجها‪ ،‬ولم يتأبد التحريم؛ لن الصل أنها ل تحرم إل أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو‬
‫سنة أو إجماع‪ ،‬ول دليل من هذا‪.‬‬
‫الشرط الثاني ـ أل تكون المخطوبة مخطوبة سابقا لخاطب آخر‪ :‬إذ ل تحل خطبة المخطوبة (‪، )1‬‬
‫للحديث السابق‪« :‬ل يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن» ‪ .‬وقد فصّلت‬
‫القول في البند السادس السابق في الخطبة على الخطبة‪،‬وظاهر النهي في هذا الحديث وغيره يدل على‬
‫التحريم‪ ،‬ولنه نهي عن الضرار بالنسان‪ ،‬فكان مقتضاه التحريم كالنهي عن أكل ماله‪ ،‬وسفك دمه‪.‬‬
‫فإن فعل‪ ،‬فزواجه عند الجمهور صحيح وعليه الثم‪ ،‬ول يفرق بين الزوجين عند الجمهور‪ ،‬كالخطبة‬
‫في العدة؛ لن النهي ليس متوجها إلى نفس العقد‪ ،‬بل هو متوجه إلى أمر خارج عن حقيقته‪ ،‬فل‬
‫يقتضي بطلن العقد‪ ،‬كالتوضؤ بماء مغصوب‪.‬‬
‫وروي عن مالك وداود‪ :‬أنه ل يصح؛ لنه نكاح منهي عنه‪ ،‬فكان باطلً كنكاح الشغار‪ .‬والمعتمد عند‬
‫المالكية‪ :‬أنه إذا رفعت الحادثة لحاكم‪ ،‬وثبت عنده العقد على المخطوبة ببينة أوإقرار‪ ،‬وجب عليه‬
‫فسخه قبل الدخول بطلقة بائنة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مختصر الطحاوي‪ :‬ص ‪ ،178‬المهذب‪ ،47/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،205‬الشرح الصغير‪:‬‬
‫‪ 342/2‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪.607/6 :‬‬

‫( ‪)9/11‬‬

‫تاسعا ـ رؤية المخطوبة ‪:‬‬


‫حرمة النظر إلى الجنبية‪ :‬يحرم نظر كبير بالغ‪ ،‬ولو شيخا وعاجزا عن الوطء‪ ،‬عاقل مختار‪ ،‬ولو‬
‫لغير شهوة أوعند عدم الفتنة إلى عورة امرأة أجنبية (غير محرم)‪ ،‬والعورة‪ :‬هي ما عدا الوجه‬
‫والكفين (‪ )1‬؛ لن النظر مظنة الفتنة‪ ،‬ومحرك للشهوة‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬قل للمؤمنين يغضوا من‬
‫أبصارهم‪ ،‬ويحفظوا فروجهم‪ ،‬ذلك أزكى لهم‪[ }...‬النور‪ ]30/24:‬وقوله صلّى ال عليه وسلم لعلي بن‬
‫أبي طالب‪« :‬يا علي ل تُتْبع النظرةَ النظرة‪ ،‬فإنما لك الولى‪ ،‬وليست لك الخِرة» (‪ )2‬وقوله صلّى‬
‫ال عليه وسلم «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة‪ ،‬ثم يغض بصره إل أخلف ال له عبادة‪ ،‬يجد‬
‫حلوتها في قلبه» (‪ )3‬وقوله أيضا في الحديث القدسي‪« :‬النظرة سهم من سهام إبليس‪ ،‬من تركها من‬
‫مخافتي‪ ،‬أبدلته إيمانا يجد حلوته في قلبه» (‪. )4‬‬
‫والصح عند الشافعية‪ :‬أن المراهق وهو من قارب الحُُلمْ حكمه في نظره للجنبية كالبالغ‪ ،‬فيلزم‬
‫الحتجاب منه‪ ،‬كالمجنون في ذلك لظهوره على العورات‪ .‬ويحرم نظر أمرد (وهو الشاب الذي لم‬
‫تنبت لحيته) بشهوة أو بغيرها في الصح المنصوص عند الشافعية‪ ،‬وأجاز الحنابلة النظر إلى الغلم‬
‫بغير شهوة؛ لنه ذكر أشبه الملتحي‪ ،‬ما لم يخف ثوران الشهوة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الكتاب مع اللباب‪ ،162/4 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،194-193‬مغني المحتاج‪ 128/3 :‬وما بعدها‪،‬‬
‫كشاف القناع‪ ،15-9/5 :‬المغني‪ ،563-552/6 :‬أحكام القرآن لبن العربي‪ ،1362/3 :‬أحكام القرآن‬
‫للجصاص‪ ،318/3 :‬الشرح الصغير‪ 288/1 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن بُريدة (نيل الوطار‪.)111/6 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه الطبراني والحاكم عن ابن مسعود (النفحات السلفية شرح الحاديث القدسية‪ :‬ص ‪.)103‬‬

‫( ‪)9/12‬‬
‫واللئق بمحاسن الشريعة سد الباب والعراض عن مواطن الشبهات من دخول القارب غير المحارم‬
‫كالخ وابن العم على بعضهم‪ ،‬والخلوة بالمرأة الجنبية‪ ،‬لقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬من كان‬
‫يؤمن بال واليوم الخر‪ ،‬فل يخلون بامرأة ليس معها ذو مَحْرم منها‪ ،‬فإن ثالثهما الشيطان» (‪ )1‬وقوله‬
‫عليه الصلة والسلم‪« :‬إياكم والدخول على النساء‪ ،‬فقال رجل من النصار‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬أفرأيت‬
‫حمْو؟ قال‪ :‬الحمو‪ :‬الموت» (‪ )2‬ومعنى الحمو‪ :‬يقال‪ :‬هو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج‬
‫ال َ‬
‫كابن العم ونحوه‪.‬‬
‫وصرح الشافعية أنه يحرم أيضا النظر إلى الوجه والكفين من كل يد‪ ،‬من رؤوس الصابع إلى‬
‫المعصم عند خوف فتنة تدعو إلى الختلء بالمرأة لجما ع أو مقدماته بل جماع‪ ،‬وكذا عند المن من‬
‫الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح‪ ،‬لتفاق المسلمين على منع النساء من‬
‫الخروج سافرات الوجوه‪ .‬ولو نظر إلى الوجه والكفين بشهوة‪ :‬وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد وأمن‬
‫الفتنة‪ ،‬حرم قطعا‪.‬‬
‫من يحل له النظر‪ :‬يحل نظر الصبي غير البالغ والمجنون والمستكره‪ ،‬لعدم الشهوة‪ ،‬ولقوله تعالى في‬
‫آية سورة النور [‪{ :]31/24:‬أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} ‪.‬‬
‫ويحل النظر منها بعين غير أولي الربة‪،‬لقوله تعالى في سورة النور[‪{ :]31/24:‬ول يبدين زينتهن إل‬
‫لبعولتهن} ‪{ ...‬أو التابعين غير أولي الربة} والمراد بالربة هنا‪ :‬الحاجة إلى النساء‪ ،‬والمراد‬
‫بالتابعين‪ :‬الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم‪ ،‬من غير أن تكون لهم لنساء‪ ،‬ول ميل لهن‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد عن جابر‪ ،‬وفي معناه حديث متفق عليه عن ابن عباس (نيل الوطار‪.)111/6 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه عن عقبة بن عامر (المرجع السابق)‪.‬‬

‫( ‪)9/13‬‬

‫واختلف السلف وأئمة المذاهب في تعيين المراد بغيرأولي الربة من الرجال‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬هو‬
‫المخنث‪ :‬الذي ل يقوم عليه آلة‪ .‬وقال مجاهد وقتادة‪ :‬الذي ل أرب له في النساء‪.‬‬
‫وذهب الشافعية إلى أن المخنث‪ :‬وهو المتشبه بالنساء‪ ،‬والمجبوب‪ :‬وهو مقطوع الذكر فقط‪ ،‬والخصي‪:‬‬
‫وهو من بقي ذكره دون أنثييه‪ ،‬والخنثى المشكل‪ ،‬حكمهم حكم الرجل العادي‪.‬‬
‫ومذهب الحنفية كالشافعية في المخنث‪ :‬ل يجوز له النظر‪ ،‬بدليل ما روته عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬كان يدخل‬
‫على أزواج النبي صلّى ال عليه وسلم مخنث‪ ،‬فكانوا يعدونه من غير أولي الربة‪ ،‬قالت‪ :‬فدخل‬
‫رسول ال صلّى ال عليه وسلم ذات يوم‪ ،‬وهو ينعت امرأة‪ ،‬قال‪ :‬إذا أقبلت أقبلت بأربع‪ ،‬وإذا أدبرت‬
‫أدبرت بثمان‪ ،‬فقال‪ :‬أرى هذا يعرف ما ههنا‪ ،‬ل يدخل عليكن‪ ،‬فحجبوه (‪. )1‬‬
‫هذا يدل على أن النبي حظر دخول المخنث على نسائه؛ لنه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال‬
‫الجانب‪ ،‬وقد نهى الرجل أن يصف امرأته لغيره (‪ ، )2‬فكيف إذا وصفها غيرهُ من الرجال؟!‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم(نيل الوطار‪ )115/6 :‬والمراد بالربع‪ :‬طيات‬
‫البطن من كثرة السمن‪ ،‬ولكل طية طرفان‪ ،‬فإذا رآهن الرائي من جهة البطن وجدهن أربعا‪ ،‬وإذا‬
‫رآهن من جهة الظهر وجدهن ثماني‪ .‬والمقصود أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها‬
‫طيات‪ ،‬وذلك ل يكون إل للسمينة من النساء‪ ،‬وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك‬
‫الصفة‪.‬‬
‫والمخنث‪ :‬هو الذي يلين في قوله‪ ،‬ويتكسر في مشيته‪ ،‬ويتثنى فيها كالنساء‪ ،‬وقد يكون خلقة ‪ ،‬وقد‬
‫يكون تصنعا من الفسقة‪ ،‬ومن كان ذلك فيه خلقة‪ ،‬فالغالب من حاله أنه ل أرب له في النساء‪.‬‬
‫(‪ )2‬روى البخاري ومسلم (الشيخان) عن ابن مسعود رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال‬
‫عليه وسلم‪« :‬ل تباشر المرأة ُالمرأةَ‪ ،‬فتصفها لزوجها‪ ،‬كأنه ينظر إليها» ( رياض الصالحين‪ :‬ص‬
‫‪.) 567‬‬

‫( ‪)9/14‬‬

‫وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المجبوب والكبير والعنّين من أولي الربة‪ ،‬ومثلهم من ذهبت شهوته‬
‫لمرض ل يرجى برؤه‪ ،‬ودليلهم نفس قصة المخنث السابقة التي يفهم منها أن الشريعة رخصت في‬
‫ذلك للحاجة الماسة إليه‪ ،‬ولقصد نفي الحرج به‪.‬‬
‫والراجح أن المراد بغير أولي الربة‪ :‬كل من ليس له حاجة إلى النساء وأمنت من جهته الفتنة ونقل‬
‫أوصاف النساء للجانب‪ ،‬ويشمل الشيخ الذي فنيت شهوته‪ ،‬والبله الذي ل يدري من أمر النساء شيئا‪،‬‬
‫والمجبوب‪ ،‬والخصي‪ ،‬والممسوح‪ ،‬والعنّين‪ ،‬وخادم القوم للعيش‪ ،‬والمخنث الذي ل يصف المرأة‬
‫لغيره‪ ،‬وليتعين ذلك بنوع من هذه النواع‪ .‬فإذا كان أحد هؤلء أعرف بالنساء وأقدر على وصفهن‪،‬‬
‫منع من النظر‪.‬‬
‫ويحل للرجل بغير شهوة النظر من محرمه النثى من نسب أورضاع أو مصاهرة ما عدا ما بين‬
‫السرة والركبة‪ ،‬فيجوز النظر إلى السرة والركبة؛ لنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المَحْرَم‪ ،‬ويحرم‬
‫نظر ما بين السرة والركبة منها إجماعا‪ ،‬ويحتاط في قرابة الرضاع‪.‬‬
‫ويحل نظر رجل إلى رجل‪ ،‬وامرأة إلى امرأة إل ما بين سرة وركبة‪.‬‬
‫النظر للمرأة لحاجة‪ :‬يباح للضرورة أو للحاجة وبقدر الحاجة نظر الرجل للمرأة الجنبية في أحوال‬
‫الخطبة والمعاملة في بيع وإجارة وقرض ونحوها‪ ،‬والشهادة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والستطباب‪ ،‬وخدمة مريض‬
‫أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما‪ ،‬والتخليص من غرق وحرق ونحوهما‪ ،‬وكذا عند الحنابلة‬
‫حلق عانة من ل يحسن حلق عانته‪ ،‬ونحوها؛ وذلك بقدر الحاجة؛ لن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها‪،‬‬
‫فينظر عند الشافعية في المعاملة إلى الوجه فقط‪ ،‬وعند الحنابلة‪ :‬إلى الوجه والكفين‪ ،‬ول يزاد على‬
‫النظرة الواحدة إل أن يحتاج إلى ثانية للتحقق‪ ،‬فيجوز‪.‬‬

‫( ‪)9/15‬‬

‫وليكن النظر في أحوال الحاجة هذه مع حضور محرم أو زوج؛ لنه ل يأمن مع الخلوة مواقعة‬
‫المحظور‪ ،‬ويستر منها ما عدا موضع الحاجة؛ لنها على الصل في التحريم‪.‬‬
‫والشرع أباح التعرف على المخطوبة من ناحيتين فقط‪:‬‬
‫الولى ـ عن طريق إرسال امرأة يثق الخاطب بها تنظر إليها‪ ،‬وتخبره بصفتها‪ ،‬روى أنس أنه صلّى‬
‫شمّي معاطفها» (‪ )1‬وفي‬
‫ال عليه وسلم « بعث أم سُليم إلى امرأة‪ ،‬فقال‪ :‬انظري إلى عُرْقوبها‪ ،‬و َ‬
‫رواية «شمي عوارضها» ‪ :‬وهي السنان التي في عرض الفم‪ ،‬وهي ما بين الثنايا والضراس‪،‬‬
‫والمراد اختبار رائحة النكهة‪ .‬وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق‪ ،‬والعرقوب‪ :‬عصب غليظ فوق العقب‪،‬‬
‫والنظر إلى العرقوب لمعرفة الدمامة والجمال في الرجلين‪.‬‬
‫وللمرأة أن تفعل مثل ذلك بإرسال رجل‪ ،‬فلها أن تنظر إلى خاطبها‪ ،‬فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها‪.‬‬
‫الثانية ـ النظر مباشرة من الخاطب للمخطوبة للتعرف على حالة الجمال وخصوبة البدن‪ ،‬فينظر إلى‬
‫الوجه والكفين والقامة‪ ،‬إذ يدل الوجه على الجمال‪ ،‬والكفان على الخصوبة والنحافة‪ ،‬والقامة على‬
‫الطول والقصر‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي‪ ،‬وفيه كلم (سبل السلم‪ ،113/3 :‬نيل الوطار‪:‬‬
‫‪ )110/6‬استنكره أحمد‪ ،‬والمشهور أنه مرسل‪.‬‬

‫( ‪)9/16‬‬
‫ودل الشرع على جواز رؤية من يريد الرجل خطبتها‪ .‬روى جابر عن رسول ال صلّى ال عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬إذا خطب أحدكم المرأة‪ ،‬فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها‪ ،‬فليفعل» ‪،‬‬
‫قال جابر‪« :‬فخطبت جارية‪ ،‬فكنت أتخبأ لها‪ ،‬حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها‪ ،‬فتزوجتها» (‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة‪ ،‬فقال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬انظر إليها‪ ،‬فإنه أحرى أن‬
‫يؤدم بينكما» (‪ )2‬أرشد النبي صلّى ال عليه وسلم المغيرة إلى رؤية خطيبته قبل الخطبة‪ ،‬لما في‬
‫النظر من فائدة هي صلح حال الزوجين وتحقيق اللفة والمودة بينهما‪.‬‬
‫حمَيد أو حميدة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬إذا خطب أحدكم امرأة فل‬
‫وعن أبي ُ‬
‫خطْبة‪ ،‬وإن كانت ل تعلم» (‪. )3‬‬
‫جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها ل ِ‬
‫وعن محمد بن الحنفية عند عبد الرزاق وسعيد بن منصور‪« :‬أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم‪،‬‬
‫فذكر له صغرها‪ ،‬فقال‪ :‬أبعث بها إليك‪ ،‬فإن رضيت فهي امرأتك‪ ،‬فأرسل بها إليه‪ ،‬فكشف عن ساقها‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬لول أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك» ‪ .‬والظاهر أنها صارت امرأته بقول علي‪.‬‬
‫عاشرا ـ مقدار ما يباح النظر إليه (‪: )4‬‬
‫يرى أكثر الفقهاء أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه والكفين فقط؛ لن رؤيتهما‬
‫تحقق المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمهما‪ ،‬فيدل الوجه على الجمال أو ضده لنه مجمع‬
‫المحاسن‪ ،‬والكفان على خصوبة البدن أو عدمها‪.‬‬
‫وأجاز أبو حنيفة النظر إلى قدميها‪.‬‬
‫وأجاز الحنابلة النظر إلى ما يظهر عند القيام بالعمال وهي ستة أعضاء‪ :‬الوجه والرقبة واليد والقدم‬
‫والرأس والساق؛ لن الحاجة داعية إلى ذلك‪ ،‬ولطلق الحاديث السابقة‪« :‬انظر إليها» ولفعل عمر‬
‫السابق‪ ،‬وفعل جابر أيضا‪ ،‬وهذا هو الرأي الراجح لدي ولكن ل أفتي به‪.‬‬
‫وقال الوزاعي‪ :‬ينظر إلى مواضع اللحم‪.‬‬
‫وقال داود الظاهري‪ :‬يجوز النظر إلى جميع البدن‪ ،‬لظاهر حديث «انظر إليها» وهذا منكر وشذوذ‪،‬‬
‫يؤدي إلى الفساد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات‪ ،‬وصححه الحاكم (سبل السلم‪.)113-112/3 :‬‬
‫(‪ )2‬رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الربعة) (نيل الوطار‪ 109/6 :‬وما بعدها‪ ،‬سبل السلم‪:‬‬
‫‪ )113/3‬ويؤدم‪ ،‬يصلح ويؤلف‪ .‬والمقصود أن تحصل الموافقة والملءمة بينكما‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد عن موسى بن عبد ال عن أبي حميد (نيل الوطار‪.)110/6 :‬‬
‫(‪ )4‬المراجع السابقة في البند التاسع‪.‬‬

‫( ‪)9/17‬‬

‫وللزوج النظر إلى جميع بدن زوجته في حال حياتها‪ ،‬ولها أيضا النظر إلى جميع بدن زوجها‪ ،‬حتى‬
‫نظر الفرج‪ ،‬لكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الخر‪.‬‬
‫حادي عشر ـ وقت الرؤية وشرطها ‪:‬‬
‫قال الشافعية (‪ : )1‬ينبغي أن يكون نظر الخاطب إلى المرأة قبل الخطبة‪ ،‬وأن تكون خفية بغير علم‬
‫المرأة أو ذويها‪ ،‬مراعاة لكرامة المرأة وأسرتها‪ ،‬فإذا أعجبته تقدم لخطبتها من غير إيذاء لها وإحراج‬
‫لسرتها‪ ،‬وهذا هو المعقول‪ ،‬والراجح عملً بظاهر الحاديث التي تدل على أنه يجوز النظر إليها‪،‬‬
‫سواء أكان ذلك بإذنها أم ل‪.‬‬
‫وقال المالكية (‪ : )2‬يجوز نظر وجه الزوجة وكفيها خاصة قبل العقد‪ ،‬ليعلم بذلك حقيقة أمرها بعلم‬
‫منها أو وليها‪ ،‬ويكره استغفالها‪ .‬والنظر يكون بنفسه أو وكيله إن لم يكن على وجه التلذذ بها‪ ،‬وإل‬
‫منع كما يمنع ما زاد على الوجه والكفين لنه عورة‪.‬‬
‫الثاني عشر ـ تحريم الخلوة بالمخطوبة ‪:‬‬
‫بينا أن الخطبة ليست زواجا‪ ،‬وإنما هي مجرد وعد بالزواج‪ ،‬فل يترتب عليها شيء من أحكام‬
‫الزواج‪ ،‬ول الخلوة بالمرأة أو معاشرتها بانفراد؛ لنها ما تزال أجنبية عن الخاطب‪ ،‬وقد نهى الرسول‬
‫صلّى ال عليه وسلم في الحاديث السابقة عن الخلوة بالجنبية وعن الجلوس معها إل مع محرم‬
‫كأبيها أو أخيها أوعمها‪ ،‬ومن تلك الحاديث‪« :‬ل يخلون رجل بامرأة ل تحل له‪ ،‬فإن ثالثهما الشيطان‪،‬‬
‫إل مَحْرمٌ» (‪. )3‬‬
‫وفي هذا القدر أمان وضمان و ُبعْد عن التعرض لمخاطر الحتمالت في المستقبل من فسخ الخطوبة‬
‫وغيره‪ ،‬وبه يتحقق المطلوب بالجلوس والتحدث إلى المرأة عند وجود محرم لها‪ ،‬وهذا هو الموقف‬
‫الحكيم المعتدل دون إفراط ول تفريط‪.‬‬
‫وأما المعاشرة قبل الزواج والذهاب معا إلى الماكن العامة وغيرها‪،‬فهو كله ممنوع شرعا‪ ،‬بل إنه ل‬
‫يحقق الغاية المرجوة‪ ،‬إذ كل منهما يظهر بغير حقيقته‪ ،‬كما قيل‪( :‬كل خاطب كاذب)‪ .‬ولن الخاطب‬
‫قد يتعجل المور‪ ،‬وقد يستجيب النسان لتلبية الغريزة‪ ،‬ويضعف عن مقاومتها في حال النفراد‬
‫بالمرأة‪ ،‬فيقع الضرر بها‪ ،‬وتتأثر سمعتها عند العدول عن الخطبة‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.128/3 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الصغير‪ ،340/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،194-193‬مواهب الجليل‪.404/3 :‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد والشيخان عن عامر بن ربيعة (نيل الوطار‪.)111/6 :‬‬

‫( ‪)9/18‬‬

‫الثالث عشر ـ العدول عن الخطبة وأثره ‪:‬‬


‫بما أن الخطبة ليست زواجا‪ ،‬وإنما هي وعد بالزواج‪ ،‬فيجوز في رأي أكثر الفقهاء للخاطب أو‬
‫المخطوبة العدول عن الخطبة (‪ )1‬؛ لنه ما لم يوجد العقد فل إلزام ول التزام‪ .‬ولكن يطلب أدبيا أل‬
‫ينقض أحدهما وعده إل لضرورة أو حاجة شديدة‪ ،‬مراعاة لحرمة البيوت وكرامة الفتاة‪ .‬وينبغي الحكم‬
‫على المخطوبة بالموضوعية المجردة‪ ،‬ل بالهوى أو بدون مسوغ معقول‪ ،‬فل يعدل الخاطب عن‬
‫عزمه الذي شاءه؛ لن عدوله هو نقض للعهد أو الوعد‪ ،‬ويستحسن شرعا وعرفا التعجيل في العدول‬
‫إذا بدا سبب واضح يقتضي ذلك‪ ،‬قال ال تعالى‪{ :‬وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولً} [السراء‪:‬‬
‫‪ ]34/17‬وقال صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة‪ :‬اصدقوا إذا‬
‫حدثتم‪ ،‬وأوفوا إذا وعدتم‪ ،‬وأدّوا إذا ائتمنتم‪ ،‬واحفظوا فروجكم‪ ،‬وغضوا أبصاركم‪ ،‬وكفوا أيديكم» (‪)2‬‬
‫‪.‬‬
‫حكم انفساخ الخطبة أو أثره‪ :‬ل يترتب على انفساخ الخطبة أي أثر ما دام لم يحصل عقد‪.‬‬
‫وأما ما قدمه الخاطب من مهر‪ :‬فله أن يسترده‪ ،‬سواء أكان قائما أم هالكا أم مستهلكا‪ ،‬وفي حال‬
‫الهلك أو الستهلك يرجع بقيمته إن كان قيميا‪ ،‬وبمثله إن كان مثليا‪ ،‬أيا كان سبب العدول‪ ،‬من جانب‬
‫الخاطب أو من جانب المخطوبة‪ .‬وهذا متفق عليه فقها (‪. )3‬‬
‫ولكن فصّل القانون السوري (م ‪ )4‬بين حالة كون العدول من جهة الخاطب‪ ،‬وحالة كونه من جهة‬
‫المخطوبة‪ ،‬أخذا بعرف الناس اليوم‪ .‬ففي الحالة الولى‪ :‬إذا اشترت المرأة جهازا تخير بين إعادة مثل‬
‫المهر أو تسليم الجهاز‪.‬‬
‫وفي الحالة الثانية‪ :‬يجب عليها إعادة المهر أو قيمته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نصت المادة (‪ )3‬من قانون الحوال الشخصية السوري‪« :‬لكل من الخاطب والمخطوبة العدول‬
‫عن الخطبة» ‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي عن عبادة بن الصامت‪ ،‬وهو صحيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬نصت المادة الثامنة من قانون حقوق العائلة العثماني على مايلي‪ « :‬إذا امتنع أحد الزوجين ‪ -‬أي‬
‫الخاطبين ‪ -‬أو توفي بعد الرضا بالزواج‪ ،‬فإن كان ما أعطاه الخاطب من أصل المهر موجودا‪ ،‬يجوز‬
‫استرداده عينا‪ ،‬وإن كان قد تلف يجوز استرداده بدلً » ‪.‬‬

‫( ‪)9/19‬‬

‫هدايا الخطبة‪ :‬أما رد الهدايا ففيه آراء فقهية‪:‬‬


‫‪ - 1‬قال الحنفية (‪ : )1‬هدايا الخطبة هبة‪ ،‬وللواهب أن يرجع في هبته إل إذا وجد مانع من موانع‬
‫الرجوع بالهبة كهلك الشيء أو استهلكه أو وجود الزوجية‪ .‬فإذا كان ما أهداه الخاطب موجودا فله‬
‫استرداده‪ .‬وإذا كان قد هلك أو استهلك أو حدث فيه تغيير‪ ،‬كأن ضاع الخاتم‪ ،‬وأكل الطعام‪ .‬وصنع‬
‫القماش ثوبا‪ ،‬فل يحق للخاطب استرداد بدله‪.‬‬
‫‪ - 2‬وذكر المالكية (‪ : )2‬أن الهدايا قبل عقد الزواج أو فيه تتشطر بين المرأة والرجل‪ ،‬سواء‬
‫اشترطت‪ ،‬أو لم تشترط؛ لنها مشترطة حكما‪.‬‬
‫‪ - 3‬وفصل الحنابلة (‪ )3‬بين أن يكون العدول من جهة الخاطب أو من جهة المخطوبة‪ ،‬فإذا عدل‬
‫الخاطب‪ ،‬فل يرجع بشيء ولو كان موجودا‪ .‬وإذا عدلت المخطوبة‪ ،‬فللخاطب أن يسترد الهدايا‪ ،‬سواء‬
‫أكانت قائمة أم هالكة‪ ،‬فإن هلكت أو استهلكت وجبت قيمتها‪ .‬وهذا حق وعدل‪ ،‬لنه وهب بشرط بقاء‬
‫العقد‪ ،‬فإن زال العقد‪ ،‬فله الرجوع‪ ،‬فأشبه بذلك‪.‬‬
‫‪ - 4‬ورأى الشافعية (‪ : )4‬أن للخاطب الرجوع بما أهداه؛ لنه إنما أنفق لجل تزوجها‪ ،‬فيرجع إن‬
‫بقي‪ ،‬وببدله إن تلف‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬رد المحتار‪.599/2 :‬‬
‫(‪ )2‬الشرح الصغير‪.456/2 :‬‬
‫(‪ )3‬منار السبيل‪.198/2 :‬‬
‫(‪ )4‬إعانة الطالبين‪ ،‬كتاب الهبة ‪.156/3‬‬

‫( ‪)9/20‬‬
‫وأخذ القانون المغربي بمذهب المالكية‪ ،‬والقانون الردني بمذهب الحنفية‪ ،‬فصرح أنه يجري على‬
‫هدايا الخطبة حكم الهبة‪ .‬وسكوت القانون السوري يتضمن العمل برأي الحنفية‪ ،‬إذ نص في المادة (‬
‫‪ )305‬على أن «كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون‪ ،‬يرجع فيه إلى القول الرجح في المذهب‬
‫الحنفي» ‪ .‬وجاء في (م‪4/‬ف ‪ :)3‬تجري على الهدايا أحكام الهبة‪.‬‬
‫والراجح لدي أن المرأة تستحق جميع ما قدم لها قبل العقد من هدايا‪ ،‬بدليل ما رواه الخمسة إل‬
‫الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‪ :‬أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال‪« :‬أيما امرأة‬
‫نكحت على صداق أو حِبَاء (عطاء) أو عِدَة قبل عصمة النكاح‪ ،‬فهو لها‪ ،‬وما كان بعد عصمة النكاح‬
‫فهو لمن أعطيه» (‪ )1‬وذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد ومالك‪ ،‬والهادوية من‬
‫الزيدية‪.‬‬
‫التعويض عن الضرر‪ :‬أما التعويض عن الضرار المادية أو المعنويةالتي تترتب على فسخ الخطبة‪،‬‬
‫كشراء بعض المتعة واللبسة‪ ،‬أو ترك وظيفة أو تفويت خاطب آخر‪ ،‬أو الساءة لسمعتها بمجرد‬
‫العدول عن خطبة طال أمدها كأربع سنوات مثلً‪ ،‬فلم ينص عليه فقهاؤنا القدامى‪.‬‬
‫ويمكن إقراره في الفقه الحديث عملً بقواعد الشريعة العامة‪ ،‬كقاعدة تحريم التغرير وإيجابه الضمان‪،‬‬
‫وقاعدة ( ل ضرر ول ضرار ) وما يترتب عليها من تطبيق نظرية التعسف في استعمال الحق التي‬
‫أخذ بها المالكية والحنابلة‪ ،‬وراعاها أبو حنيفة في حقوق العلو والجوار‪.‬‬
‫كما يمكن تأصيل التعويض عن ضرر العدول بمبدأ اللتزام في الفقه المالكي في مشهور القوال‪:‬‬
‫وهو أنه في الوعد بشيء يقضى بتنفيذ الوعد إن كان مبنيا على سبب ودخل الموعود بالسبب‪ ،‬أي‬
‫فيجب الوفاء بالوعد المعلق على سبب‪ ،‬وباشر‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬نيل الوطار‪. 174/6 :‬‬

‫( ‪)9/21‬‬

‫الموعود السبب ونفذه‪ .‬مثل‪ :‬اشتر سلعة أو تزوج امرأة‪ ،‬وأنا أسلفك‪ ،‬فإذا تزوج فعلً وجب عليه‬
‫إقراضه‪ .‬أما مجرد الوعد فل يلزم الوفاء به‪ ،‬بل الوفاء به من مكارم الخلق‪.‬‬
‫والذي استقر عليه القضاء المصري الن‪ :‬ما قررته محكمة النقض سنة (‪1939‬م ) وهو ما يلي‪:‬‬
‫‪ - 1‬الخطبة ليست بعقد ملزم‪.‬‬
‫‪ - 2‬مجرد العدول عن الخطبة ل يكون سببا موجبا للتعويض‪.‬‬
‫‪ - 3‬إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى‪ ،‬ألحقت ضررا بأحد الخطيبين‪ ،‬جاز الحكم‬
‫بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية‪ ،‬أي الخطأ الذي سبب ضررا بالغير‪.‬‬
‫وهذا يتفق مع قواعد الشريعة السلمية‪ ،‬وعلى هذا يفرق بين حالتين‪:‬‬
‫الولى ـ إذا كان للعادل دخل في الضرر الذي لحق الخر بسبب عدوله‪ ،‬كأن يطلب الخاطب إعداد‬
‫جهاز خاص‪ ،‬أو يطلب من المخطوبة ترك وظيفتها‪ ،‬فتتركها بناء على رغبته‪ ،‬أو تطلب المخطوبة‬
‫إعداد الخاطب مسكنا خاصا‪ ،‬فيجوز الحكم بالتعويض عن الضرر لعدوله عن الخطبة‪ ،‬لتسبب العادل‬
‫في الضرر وتغريره الطرف الخر‪.‬‬
‫الثانية ـ أل يكون للعادل دخل في الضرر الذي لحق الطرف الخر بسبب العدول‪ ،‬فل يحكم‬
‫بالتعويض على العادل‪ ،‬إذ لم يوجد منه سبب الضمان من ضرر أو تغرير‪.‬‬

‫( ‪)9/22‬‬

‫صلُ الثّاني‪ :‬تكوين الزّواج‬


‫ال َف ْ‬
‫وفيه مباحث خمسة‪:‬‬
‫المبحث الول ـ تعريف الزواج وحكمه في الشرع ‪:‬‬
‫تعريف الزواج(‪ : )1‬النكاح لغة‪ :‬الضم والجمع‪ ،‬أو عبارة عن الوطء والعقد جميعا‪ ،‬وهو في الشرع‪:‬‬
‫عقد التزويج‪ ،‬والزواج شرعا‪ :‬عقد يتضمن إباحة الستمتاع بالمرأة‪ ،‬بالوطء والمباشرة والتقبيل‬
‫والضم وغير ذلك‪ ،‬إذا كانت المرأة غير َمحْرم بنسب أو رضاع أو صهر‪ .‬أوهو عقد وضعه الشارع‬
‫ليفيد ملك استمتاع الرجل بالمرأة‪ ،‬وحل استمتاع المرأة بالرجل‪ .‬أي أن أثر هذا العقد بالنسبة للرجل‬
‫يفيد الملك الخاص به فل يحل لحد غيره‪ ،‬وأما أثره بالنسبة للمرأة فهو حل الستمتاع ل الملك‬
‫الخاص بها‪ ،‬وإنما يجوز أن تتعدد الزوجات فيصبح الملك حقا مشتركا بينهن‪ ،‬أي أن تعدد الزواج‬
‫ممنوع شرعا‪ ،‬وتعدد الزوجات جائز شرعا‪.‬‬
‫وعرفه الحنفية بقولهم‪ :‬عقد يفيد ملك المتعة قصدا‪ ،‬أي حل استمتاع الرجل من امرأة‪ ،‬لم يمنع من‬
‫نكاحها مانع شرعي‪ ،‬بالقصد المباشر‪.‬‬
‫خرج بكلمة ( المرأة )‪ :‬الذكر والخنثى المشكل لجواز ذكورته‪ ،‬وخرج بقوله «ما لم يمنع من نكاحها‬
‫ما نع شرعي» ‪ :‬المرأة الوثنية‪ ،‬والمحارم‪ ،‬والجنّية‪ ،‬وإنسان الماء‪ ،‬لختلف الجنس؛ لن قوله تعالى‪:‬‬
‫{وال جعل لكم من أنفسكم أزواجا} [النحل‪ ]72/16:‬أوضح المراد من قوله تعالى‪{ :‬فانكحوا ما طاب‬
‫لكم من النساء} [النساء‪ ]3/4:‬وهو النثى من بنات آدم‪ ،‬فل يثبت حل غيرها بل دليل‪ ،‬ولن الجن‬
‫يتشكّلون بصور شتى‪ ،‬فقد يكون ذكرا تشكّل بشكل أنثى‪.‬‬
‫وخرج بكلمة (قصدا) حل الستمتاع ضمنا بواسطة شراء أمة للتسري‪ .‬ووضع بعضهم كلمة (بطريق‬
‫الصالة) بدل كلمة (قصدا)‪.‬‬
‫وعرفه أيضا بعض الحنفية بأنه عقد وضع لتمليك منافع ال ُبضْع‪ ،‬أي الفرج‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬فتح القدير مع العناية‪ 339/2 :‬وما بعدها‪ ،‬تبيين الحقائق‪ 94/4 :‬وما بعدها‪ ،‬اللباب‪ ،3/3 :‬الدر‬
‫المختار‪ ،357-355/2 :‬الشرح الصغير‪ 332/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،123/3 :‬المغني‪:‬‬
‫‪ ،445/6‬كشاف القناع‪.3/5 :‬‬

‫( ‪)9/23‬‬

‫هل يراد شرعا بالنكاح الوطء أو العقد؟ النكاح عند أهل الصول واللغة حقيقة في الوطء‪ ،‬مجاز في‬
‫العقد‪ ،‬فحيث جاء في الكتاب أو السنة مجردا عن القرائن يراد به الوطء‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬ول‬
‫تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء‪ ]22/4:‬فتحرم مزنية الب على البن‪ ،‬أي على فروعه‪،‬‬
‫وتكون حرمتها على الفروع ثاتبة بالنص القرآني‪ .‬وأما حرمة التي عقد عليها عقدا صحيحا على‬
‫الفروع فبالجماع‪ .‬ولو قال لزوجته‪ :‬إن نكحتك فأنت طالق‪ ،‬تعلق الشرط بالوطء‪ ،‬وكذا لو أبانها قبل‬
‫الوطء‪ ،‬ثم تزوجها‪ ،‬تطلق بالوطء‪ ،‬ل بالعقد‪ .‬أما نكاح المرأة الجنبية فيراد به العقد؛ لن وطأها لما‬
‫حرم عليه شرعا‪ ،‬كانت الحقيقة مهجورة‪ ،‬فتعين المجاز‪ .‬والنكاح عند الفقهاء ومنهم مشايخ المذاهب‬
‫الربعة‪ :‬حقيقة في العقد‪ ،‬مجاز في الوطء؛ لنه المشهور في القرآن والخبار‪ ،‬وقد قال الزمخشري‬
‫وهو من علماء الحنفية‪ :‬ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إل قوله تعالى‪{ :‬حتى تنكح زوجا‬
‫غيره} [البقرة‪ ]230/2:‬لخبر الصحيحين‪« :‬حتى تذوقي عسيلته» فالمراد به العقد‪ ،‬والوطء مستفاد من‬
‫هذا الخبر‪.‬‬
‫الحكم الشرعي للزواج ‪:‬‬
‫الزواج مشروع بالكتاب والسنة والجماع‪:‬‬
‫أما الكتاب‪ :‬فقوله ال تعالى‪{ :‬فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع} [النساء‪]3/4:‬‬
‫الية‪ ،‬وقوله‪{ :‬وأنكحوا اليامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور‪.]32/24:‬‬
‫وأما السنة‪ :‬فقول النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬يا معشر الشباب‪ ،‬من استطاع منكم الباءة‪ ،‬فليتزوج‪،‬‬
‫فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬ومن لم يستطع فعليه بالصوم‪ ،‬فإنه له وجاء» (‪ )1‬والباءة‪ :‬مؤن‬
‫الزواج وواجباته‪ .‬وآي قرآنية وأخبار سوى ذلك كثيرة‪.‬‬
‫وأجمع المسلمون على أن الزواج مشروع‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عبد ال بن مسعود (سبل السلم‪.)109/3 :‬‬

‫( ‪)9/24‬‬

‫وحكمة مشروعيته‪ :‬إعفاف المرء نفسه وزوجه عن الوقوع في الحرام‪ ،‬وحفظ النوع النساني من‬
‫الزوال والنقراض‪ ،‬بالنجاب والتوالد‪ ،‬وبقاء النسل وحفظ النسب‪ ،‬وإقامة السرة التي بها يتم تنظيم‬
‫المجتمع‪ ،‬وإيجاد التعاون بين أفرادها‪ ،‬فمن المعروف أن الزواج تعاون بين الزوجين لتحمل أعباء‬
‫الحياة‪ ،‬وعقد‬
‫مودة وتعاضد بين الجماعات‪ ،‬وتقوية روابط السر‪ ،‬وبه يتم الستعانة على المصالح‪.‬‬
‫وأما نوع أو صفة الزواج شرعاً بحسب طلب الشارع فعله أو تركه‪ ،‬فيعرف عند الفقهاء بحسب‬
‫أحوال الناس (‪: )1‬‬
‫‪ - 1‬الفرضية‪ :‬يكون الزواج عند عامة الفقهاء فرضا إذا تيقن النسان الوقوع في الزنا لو لم يتزوج‪،‬‬
‫وكان قادرا على نفقات الزواج من مهر ونفقة الزوجة‪ ،‬وحقوق الزواج الشرعية‪ ،‬ولم يستطع‬
‫الحتراز عن الوقوع في الفاحشة بالصوم ونحوه؛ لنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام‪ ،‬وما‬
‫ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬وطريقه الزواج‪.‬‬
‫ول فرق بين الفرضية والوجوب عند الجمهور‪.‬‬
‫ورأى الحنفية‪ :‬أن الزواج واجب إذا خاف المرء الوقوع في الفاحشة بعدم الزواج خوفا دون اليقين‪،‬‬
‫وكان قادرا على مؤن الزواج‪ ،‬من مهر ونفقة‪ ،‬وليخاف ظلم المرأة ول التقصير في حقها‪.‬‬
‫‪ - 2‬التحريم‪ :‬يحرم الزواج إذا تيقن الشخص ظلم المرأة والضرار بها إذا تزوج‪ ،‬بأن كان عاجزا‬
‫عن تكاليف الزواج‪ ،‬أو ل يعدل إن تزوج بزوجة أخرى؛ لن ما أدى إلى الحرام فهو حرام‪.‬‬
‫وإذا تعارض ما يجعل الزواج فرضا وما يجعله حراما بأن تيقن أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج‪،‬‬
‫وتيقن أيضا أنه سيظلم زوجته‪ ،‬كان الزواج حراما؛ لنه إذا‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬تبيين الحقائق‪ ،95/2 :‬فتح القدير‪ ،342/2 :‬الدر المختار‪ ،358/2 :‬البدائع‪ ،228/2 :‬الشرح‬
‫الصغير‪ ،330/2 :‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،193‬بداية المجتهد‪ ،2/2 :‬المهذب‪ 33/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني‬
‫المحتاج‪ 125/3 :‬وما بعدها‪ ،‬المغني‪ 446/6 :‬وما بعدها‪ ،‬كشاف القناع‪.4/5 :‬‬

‫( ‪)9/25‬‬

‫اجتمع الحلل والحرام‪ ،‬غلب الحرام الحلل‪ ،‬ولقوله تعالى‪{ :‬وليستعفف الذين ليجدون نكاحا حتى‬
‫يغنيهم ال من فضله} [النور‪ ]33/24:‬ولحديث «يا معشر الشباب» السابق الذي يرشد إلى الصوم‬
‫لعصمة النفس من الشهوات‪ .‬وربما قيل‪ :‬يفضل الزواج حينئذ؛ لن الرجل بعد الزواج تلين طباعه‪،‬‬
‫عقَده‪ ،‬ولن في عدم الزواج غلبة الظن في الوقوع بالزنا‪.‬‬
‫وترتقي معاملته‪ ،‬وتخف قسوته وتزول ُ‬
‫‪ - 3‬الكراهة‪ :‬يكره الزواج إذا خاف الشخص الوقوع في الجور والضرر خوفا ل يصل إلى مرتبة‬
‫اليقين إن تزوج‪ ،‬لعجزه عن النفاق‪ ،‬أوإساءة العشرة‪ ،‬أو فتور الرغبة في النساء‪ .‬وتكون الكراهة عند‬
‫الحنفية تحريمية أو تنزيهية بحسب قوة الخوف وضعفه‪ .‬ويكره عند الشافعية لمن به علة كهرم أو‬
‫مرض دائم أو تعنين دائم‪ ،‬أو كان ممسوحا‪ ،‬ويكره أيضا عندهم نكاح بعد خطبة على خطبة غيره إن‬
‫عُرّض فيها بالجابة‪ ،‬ونكاح المحلل إذا لم يشرط في العقد مايخل بمقصوده‪ ،‬ونكاح الغرور كأن غرر‬
‫الزوج بإسلم امرأة أو بحريتها أو بنسب معين‪.‬‬
‫‪ - 4‬الستحباب أو الندب في حال العتدال‪ :‬يستحب عند الجمهور غير الشافعي الزواج إذا كان‬
‫الشخص معتدل المزاج‪ ،‬بحيث ل يخشى الوقوع في الزنا إن لم يتزوج‪ ،‬ول يخشى أن يظلم زوجته‬
‫إن تزوج‪ .‬وحالة العتدال هذه هي الغالبة عند أكثر الناس‪.‬‬

‫( ‪)9/26‬‬

‫ودليل كون الزواج سنة الحديث السابق‪« :‬يا معشر الشباب» وحديث الرهط الثلثة الذين عزموا على‬
‫أمور‪ ،‬الول ـ أن يصلي الليل أبدا‪ ،‬والثاني ـ أن يصوم الدهر أبدا‪ ،‬والثالث ـ أن يعتزل النساء فل‬
‫يتزوج أبدا‪ ،‬فقال النبي صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬أما وال ‪ ،‬إني لخشاكم ل ‪ ،‬وأتقاكم له‪ ،‬ولكني أصوم‬
‫وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي‪ ،‬فليس مني» (‪. )1‬‬
‫ويؤيده أن الرسول صلّى ال عليه وسلم تزوج وداوم عليه‪ ،‬وكذلك أصحابه تزوجوا وداوموا عليه‪،‬‬
‫وتابعهم المسلمون في الزواج‪ ،‬والمداومة والمتابعة دليل السنية‪.‬‬
‫وهذا الرأي هو المختار‪.‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬إن الزواج في هذه الحالة مباح‪ ،‬يجوز فعله وتركه‪ ،‬وإن التفرغ للعبادة أو الشتغال‬
‫بالعلم أفضل من الزواج؛ لن ال تعالى مدح يحيى عليه السلم بقوله‪{ :‬وسيدا وحصورا} [آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]39/3‬والحصور‪ :‬الذي ل يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن‪ ،‬فلو كان الزواج أفضل لما مدح‬
‫بتركه‪ .‬ورد هذا بأنه شرع من قبلنا‪ ،‬وشريعتنا على خلفه‪.‬‬
‫وقال ال تعالى‪ { :‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } [آل عمران‪ ]14/3:‬وهذا في معرض‬
‫الذم‪.‬‬
‫وإنما لم يجب لقوله تعالى‪ { :‬فانكحوا ماطاب لكم من النساء } [النساء‪ ]3/4:‬إذ الواجب ليتعلق‬
‫بالستطابة‪ ،‬ولقوله تعالى‪ { :‬مثنى وثلث ورباع } [النساء‪ ]3/4:‬ول يجب العدد بالجماع‪ ،‬ولقوله‪:‬‬
‫{ أو ما ملكت أيمانكم } [النساء‪.]3/4:‬‬
‫ورد السبكي التعليل الول‪ :‬بأنه ليس المراد بالية المستطاب‪ ،‬وإنما المراد الحلل؛ لن في النساء‬
‫محرمات بآية { حرمت عليكم أمهاتكم‪[ }...‬النساء‪ ]23/4:‬الية‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي ال عنه (جامع الصول‪.)201/1 :‬‬

‫( ‪)9/27‬‬

‫إعفاف الوالد‪ :‬تحقيقا للترغيب الشرعي في الزواج قال الشافعية على المشهور (‪ : )1‬يلزم الولد ذكرا‬
‫كان أو أنثى إعفاف الب والجداد؛ لنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة‪ ،‬ولئل يعرضهم‬
‫للزنا المفضي إلى الهلك‪ ،‬وذلك ل يليق بحرمة البوة‪ ،‬وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها‬
‫شرعا‪ ،‬والعفاف‪ :‬بأن يعطيه مهر امرأة حرة تعفه‪ ،‬أو يقول‪ :‬تزوج وأعطيك المهر‪ ،‬أو يزوجه بإذنه‬
‫ويدفع المهر‪.‬‬
‫ويجب تجديد العفاف إذا ماتت الزوجة‪ ،‬أو انفسخ النكاح برده منها‪ ،‬أو فسخ الزوج النكاح بعيب في‬
‫الزوجة‪ ،‬وكذا إذ ا طلق بعذر في الصح‪.‬‬
‫وإنما يجب العفاف بشرطين‪:‬‬
‫الول ـ لمن كان فاقد المهر في الواقع‪ .‬ول يلزم العفاف إذا كان الب قادرا على المهر بالكسب‪.‬‬
‫الثاني ـ للمحتاج إلى الزواج‪ :‬بأن تتوق نفسه إلى الوطء‪ ،‬وإن لم يخف الزنا‪ ،‬أو كان عنده من ل‬
‫تعفه كصغيرة وعجوز شوهاء‪ .‬ويحرم طلب الزواج ممن لم يضر به العزوبة‪ ،‬ولم يشق عليه الصبر‪.‬‬
‫ولو احتاج لعقد النكاح ل للتمتع‪ ،‬بل للخدمة لنحو مرض‪ ،‬وجب إعفافه إذا تعينت الحاجة إليه‪ ،‬لكن ل‬
‫يسمى إعفافا‪.‬‬
‫هل الزواج عبادة؟ الزواج عند الشافعية من العمال الدنيوية كالبيع ونحوه‪ ،‬وهو ليس بعبادة‪ ،‬بدليل‬
‫صحته من الكافر‪ ،‬ولو كان عبادة لما صح منه‪ ،‬والقصد منه قضاء شهوة النفس‪ ،‬والعمل بالعبادة عمل‬
‫ل تعالى‪ ،‬والعمل ل تعالى أفضل من العمل للنفس‪.‬‬
‫ورد ذلك بأنه إنما صح من الكافر‪ ،‬وإن كان عبادة‪ ،‬لما فيه من عمارة الدنيا‪ ،‬كعمارة المساجد‬
‫والجوامع‪ ،‬فإن هذه تصح من المسلم‪ ،‬وهي منه عبادة‪ ،‬ومن الكافر وليست منه عبادة‪ ،‬ويدل لكونه‬
‫عبادة أمر النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬والعبادة تتلقى من الشرع‪ ،‬فالزواج من قبيل‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬مغني المحتاج‪.213-211/3 :‬‬

‫( ‪)9/28‬‬

‫العبادة‪ ،‬لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة التي منها تحصين النفس وإيجاد النسل‪ ،‬وقال عنه النبي‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪« :‬وفي بُضع أحدكم صدقة» (‪. )1‬‬
‫ونظرا لضعف هذه الدلة التي ذكرت للشافعي‪ ،‬قال المام النووي‪ - :‬وهو من العلماء العزاب ‪ -‬إن‬
‫لم يتعبد فاقد الحاجة للنكاح‪ ،‬واجد الهبة (وهي مؤن الزواج من مهر وكسوة ونفقة يومه)‪ ،‬فالنكاح له‬
‫أفضل من تركه في الصح‪ ،‬كيل تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش‪ .‬وقال‪ :‬النكاح مستحب‬
‫لمحتاج إليه يجد أهبته‪ ،‬فإن فقدها استحب تركه‪ ،‬ويكسر شهوته بالصوم‪ ،‬فإن لم يحتج كره إن فقد‬
‫الهبة‪ ،‬وإل فل يكره له لقدرته عليه‪.‬‬
‫وقال الظاهرية‪ :‬إن الزواج في حالة العتدال هذه فرض‪ ،‬متى كان النسان قادرا عليه‪ ،‬وعلى مؤنه‬
‫المطلوبة‪ ،‬بدليل ظواهر اليات السابقة‪{ :‬فانكحوا ما طاب‪[ }...‬النساء‪{ ]3/4:‬وأنكحوا اليامى منكم}‬
‫[النور‪ ]32/24:‬والحاديث المتقدمة‪ « :‬من استطاع منكم الباءة فليتزوج » والمر يفيد الوجوب‪،‬‬
‫فيكون الزواج واجبا‪ .‬ورد عليهم بأن هذا الوجوب مصروف إلى الندب والستحباب بدليل قوله‪:‬‬
‫{مثنى وثلث ورباع} [النساء‪ ]3/4:‬وقوله‪{ :‬أو ما ملكت أيمانكم} [النساء‪ ]3/4:‬ولن النبي صلّى ال‬
‫عليه وسلم لم يحتم الزواج على كل واحد‪.‬‬
‫عكّاف بن َودَاعة‪« :‬أنه أتى النبي‬
‫ويؤيد هذا الرأي ما رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن َ‬
‫صلّى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال له‪ :‬ألك زوجة يا عكاف؟ قال ‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬ول جارية؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬وأنت‬
‫صحيح موسر؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬والحمد ل ‪ ،‬فقال‪ :‬فأنت إذن من إخوان الشياطين‪ :‬إن كنت من رهبان‬
‫النصارى‪ ،‬فالحق بهم‪ ،‬وإن كنت منا فاصنع كما نصنع‪ ،‬فإن سنتنا النكاح‪ ،‬شراركم عزّابكم‪ ،‬وإن أرذل‬
‫موتاكم عزابكم» (‪. )2‬‬
‫ورد بأن إيجاب الزواج على شخص ل يستلزم إيجابه على الناس جميعا؛ لن سبب وجوبه وجد في‬
‫حقه‪ ،‬دون غيره من الناس‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬من حديث أبي ذر عند مسلم‪ ،‬ومطلعه‪ :‬ذهب أهل الدثور بالجور‪.‬‬
‫(‪ )2‬قال الهيثمي‪ :‬وفيه راوً لم يسم‪ ،‬وبقية رجاله ثقات‪.‬‬

‫( ‪)9/29‬‬

‫المبحث الثاني ـ أركان الزواج ‪:‬‬


‫تمهيد‪ :‬الركن عند الحنفية‪ :‬ما يتوقف عليه وجود الشيء‪ ،‬ويكون جزءا داخلً في حقيقته‪ .‬والشرط‬
‫عندهم‪ :‬ما يتوقف عليه وجود الشيء‪ ،‬ولم يكن جزءا من حقيقته‪ .‬والركن عند الجمهور‪ :‬ما به قوام‬
‫الشيء ووجوده‪ ،‬فل يتحقق إل به‪ ،‬أو ما ل بد منه‪ ،‬وبعبارتهم الشهيرة‪ :‬هو ما ل توجد الماهية‬
‫الشرعية إل به‪ ،‬أو ما تتوقف عليه حقيقة الشيء‪ ،‬سواء أكان جزءا منه أم خارجا عنه‪.‬‬
‫والشرط عندهم‪ :‬ما يتوقف عليه وجود الشيء‪ ،‬وليس جزءا منه‪.‬‬
‫فاليجاب والقبول ركن بالتفاق‪ ،‬لن بهما يترتبط أحد العاقدين بالخر‪ ،‬والرضا شرط‪.‬‬
‫وركن الزواج عند الحنفية‪ :‬اليجاب والقبول فقط‪ ،‬وأركان الزواج عند الجمهور أربعة‪ :‬صيغة (وهي‬
‫اليجاب والقبول) وزوجة‪ ،‬وزوج‪ ،‬وولي وهما العاقدان‪ .‬وأما المعقود عليه فهو الستمتاع الذي‬
‫يقصده الزوجان من الزواج‪ .‬وأما المهر فل يتوقف عليه العقد‪ ،‬وإنما هو شرط كالشهود‪ ،‬بدليل جواز‬
‫نكاح التفويض‪ ،‬وأما الشهود فشرط أيضا‪ .‬وجعل الشهود والمهر ركنا مجرد اصطلح لبعض الفقهاء‪.‬‬
‫واليجاب عند الحنفية‪ :‬ما يصدر أولً من أحد العاقدين‪ ،‬سواء أكان الزوج أم الزوجة‪ .‬والقبول‬
‫عندهم‪ :‬ما يصدر ثانيا من الطرف الخر‪.‬‬
‫واليجاب عند الجمهور‪ :‬هو اللفظ الصادر من قبل الولي أو من يقوم مقامه كوكيل؛ لن القبول إنما‬
‫يكون لليجاب‪ ،‬فإذا وجد قبله لم يكن قبولً لعدم معناه‪ .‬والقبول‪ :‬هو اللفظ الدال على الرضا بالزواج‬
‫الصادر من الزوج‪.‬‬
‫فإذا قال الرجل للمرأة‪ :‬زوجيني نفسك‪ ،‬فقالت‪ :‬قبلت‪ ،‬كان الول عند الحنفية إيجابا‪ ،‬والثاني قبولً‪.‬‬
‫وعند الجمهور بالعكس؛ لن ولي المرأة هو الذي يملّك الزوج حق الستمتاع‪ ،‬فكلمه هو اليجاب‪،‬‬
‫والرجل يتملك ذلك‪ ،‬فكلمه هو القبول‪ .‬وقد نص القانون السوري (م ‪ )5‬على أنه‪ :‬ينعقد الزواج‬
‫بإيجاب من أحد العاقدين‪ ،‬وقبول من الخر‪.‬‬

‫( ‪)9/30‬‬

‫صيغة الزواج ‪:‬‬


‫أولً ـ ألفاظ الزواج ‪:‬‬
‫الزواج عقد مدني ل شكليات فيه‪ ،‬والعقد‪ :‬ربط أجزاء التصرف‪ ،‬أي اليجاب والقبول شرعا‪ .‬والمراد‬
‫بالعقد هنا هو المعنى المصدري وهو الرتباط‪ ،‬والشرع يحكم بأن اليجاب والقبول موجودان حسا‪،‬‬
‫يرتبطان ارتباطا حكميا‪.‬‬
‫وكل من اليجاب والقبول قد يكون لفظا‪ ،‬وقد يكون كتابة أو إشارة‪ ،‬وألفاظ اليجاب والقبول‪ ،‬منها ما‬
‫هو متفق على انعقاد الزواج به‪ ،‬ومنها ما هو متفق على عدم انعقاد الزواج به‪ ،‬ومنها ما هو مختلف‬
‫فيه (‪. )1‬‬
‫أما اللفاظ التي اتفق الفقهاء على انعقاد الزواج بها‪ :‬فهي لفظ‪ :‬أنكحت وزوجت‪ ،‬لورودهما في نص‬
‫القرآن في قوله تعالى‪{ :‬زوجناكها} [الحزاب‪ ]37/33:‬وقوله‪{ :‬ول تنكحوا ما نكح آباؤكم} [النساء‪:‬‬
‫‪.]22/4‬‬
‫وأما اللفاظ التي اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بها‪ :‬فهي التي ل تدل على تمليك العين في‬
‫الحال ول على بقاء الملك مدة الحياة‪ ،‬وهي‪ :‬الباحة والعارة والجارة والمتعة والوصية والرهن‬
‫والوديعة ونحوها‪.‬‬
‫وأما اللفاظ التي اختلفوا في انعقاد الزواج بها‪ :‬فهي لفظ البيع‪ ،‬ولفظ الهبة‪ ،‬ولفظ الصدقة‪ ،‬أو العطية‬
‫ونحوها مما يدل على تمليك العين في الحال‪ ،‬وبقاء الملك مدة الحياة‪:‬‬
‫‪ - 1‬قال الحنفية‪ ،‬والمالكية على الراجح‪ :‬ينعقد الزواج بها بشرط نية أو قرينة تدل على الزواج‪،‬‬
‫كبيان المهر وإحضار الناس‪ ،‬وفهم الشهود المقصود؛ لن المطلوب التعرف على إرادة العاقدين‪،‬‬
‫وليس للفظ اعتبار‪ ،‬وقد ورد في الشرع ما يدل على الزواج بلفظ الهبة والتمليك‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار‪ ،372-361/2 :‬البدائع‪ 229/2 :‬ومابعدها‪ ،‬اللباب‪ ،3/3 :‬مواهب الجليل‪-419/3 :‬‬
‫‪ ،423‬الشرح الكبير‪ ،221/2 :‬الشرح الصغير‪ 334/2 :‬ومابعدها‪ ،‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،195‬مغني‬
‫المحتاج‪ ،139/3 :‬المهذب‪ ،41/2 :‬بداية المجتهد‪ ،4/2 :‬كشاف القناع‪.36/5 :‬‬
‫( ‪)9/31‬‬

‫الول ـ في قوله تعالى‪{ :‬وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي‪ ،‬إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة‬
‫لك من دون المؤمنين} [الحزاب‪ ]50/33:‬والخصوصية للنبي في صحة الزواج بدون مهر‪ ،‬ل‬
‫باستعمال لفظ الهبة‪.‬‬
‫والثاني ـ قول الرسول صلّى ال عليه وسلم لرجل لم يملك مالً يقدمه مهرا‪« :‬قد ملكتكها بما معك‬
‫من القرآن» (‪ . )1‬وهذا هو الراجح لدي؛ لن العبرة في العقود للمعاني ل لللفاظ والمباني‪.‬‬
‫‪ - 2‬وقال الشافعية والحنابلة‪ :‬ل ينعقد الزواج بها‪ ،‬ول ينعقد إل بلفظ النكاح أو التزويج‪ ،‬لورودهما‬
‫في القرآن كما تقدم‪ ،‬فيلزم القتصار عليهما‪ ،‬ول يصح أن ينعقد بغيرهما من اللفاظ؛ لن الزواج عقد‬
‫يعتبر فيه النية مع اللفظ الخاص به‪ ،‬وآية‪{ :‬إن وهبت نفسها للنبي} [الحزاب‪ ]50/33:‬من‬
‫خصوصيات النبي صلّى ال عليه وسلم ‪ .‬وحديث «ملكتكها» إما وهم من الراوي‪ ،‬أو أن الراوي رواه‬
‫بالمعنى‪ ،‬ظنا منه ترادف هذا اللفظ مع لفظ الزواج‪ ،‬وبتقدير صحة الرواية‪ ،‬فهي معارضة برواية‬
‫الجمهور‪« :‬زوجتكها» ‪.‬‬
‫وخلصة المذاهب ما يأتي‪:‬‬
‫ينعقد الزواج عند الحنفية (‪ )2‬بكل لفظ يدل على تمليك العيان في الحال‪ ،‬كلفظ الهبة والتمليك‬
‫والصدقة والعطية والقرض والسلَم والستئجار (‪ )3‬والصلح والصرف‪ ،‬والجعل والبيع والشراء‪،‬‬
‫بشرط نية أو قرينة‪ ،‬وفهم الشهود المقصود‪ .‬ول ينعقد بقوله‪ :‬تزوجت نصفك على الصح احتياطا‪،‬‬
‫بل ل بد أن يضيفه إلى كلها أو ما يعبر به عن الكل‪ ،‬ومنه الظهر والبطن على الشبه‪.‬‬
‫وينعقد عند المالكية (‪ )4‬بلفظ التزويج والتمليك‪ ،‬وما يجري مجراهما كالبيع والهبة والصدقة والعطية‪،‬‬
‫ول يشترط ذكر المهر‪ ،‬لنعقاد العقد‪ ،‬وإن كان ل بد منه‪ ،‬فيكون شرطا لصحة العقد كالشهود‪ ،‬إل إذا‬
‫كان بلفظ الهبة‪ ،‬واللفاظ أربعة‪ :‬الول ـ ما ينعقد به الزواج مطلقا سواء سمى العاقد صداقا أم ل‬
‫وهو‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬متفق عليه عن سهل بن سعد (نيل الوطار‪.)170/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار وحاشية ابن عابدين‪ 369 ،365-364/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬بأن جعلت المرأة بدلً‪ ،‬مثل‪ :‬استأجرت دارك بنفسي أو ببنتي عند قصد النكاح‪ ،‬بخلف الجارة‬
‫مثل‪ :‬آجرتك نفسي بكذا‪.‬‬
‫(‪ )4‬شرح الرسالة‪ ،26/2 :‬الشرح الكبير‪ ،221/2 :‬الشرح الصغير‪.350/2 :‬‬
‫( ‪)9/32‬‬

‫أنكحت وزوجت‪ ،‬والثاني ـ ماينعقد به إن سمى صداقا وإل فل‪ ،‬وهو وهبت فقط‪ ،‬والثالث ـ ما فيه‬
‫التردد‪ ،‬وهو كل لفظ يقتضي البقاء مدة الحياة‪ ،‬مثل‪ :‬بعت لك ابنتي بصداق قدره كذا‪ ،‬أو ملكتك إياها‬
‫أو أحللت أو أعطيت أو منحتك إياها‪ .‬قيل‪ :‬ينعقد به إن سمى صداقا‪ ،‬وقيل‪ :‬لينعقد به مطلقا‪ .‬والرابع‬
‫ـ ما ل ينعقد به اتفاقا‪ :‬وهو كل لفظ ل يقتضي البقاء مدة الحياة كالحبس والوقف والجارة والعارة‬
‫والعمرى أي أعمرتك‪ ،‬وهوالراجح‪.‬‬
‫وينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة (‪ )1‬بلفظ التزويج والنكاح فقط‪ ،‬دون ماعداهما كالهبة والتمليك‬
‫والجارة‪ ،‬اقتصارا على المذكور في القرآن‪.‬‬
‫المعاطاة‪ :‬اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بالتعاطي‪ ،‬احتراما لمر الفروج‪ ،‬وخطورتها وشدة‬
‫حرمتها (‪ ، )2‬فل يصح العقد عليها إل بلفظ صريح أو كناية عند الحنفية والمالكية‪ ،‬وبلفظ صريح‬
‫عند الشافعية والحنابلة كما تقدم‪ .‬ول ينعقد الزواج على المختار عند الحنفية بالقرار‪ ،‬أي أن القرار‬
‫ليس من صيغ العقد‪ ،‬فلو قالت امرأة‪ :‬أقر بأنك زوجي‪ ،‬ولم تكن قد حدثت زوجية بينها وبين الرجل‪،‬‬
‫فإنه ل يصح‪ ،‬لن القرار إظهار لما هو ثابت وليس بإنشاء‪.‬‬
‫اللفاظ المصحفة (‪ : )3‬ل ينعقد الزواج عند الحنفية باللفاظ المصحفة‪ ،‬مثل (تجوزت) أو جوزت‬
‫أوزوزت‪،‬بدل «تزوجت» لعدم القصد الصحيح‪ ،‬لكن لو اتفق قوم على النطق بهذه الغلطة‪ ،‬بحيث إنهم‬
‫يطلبون بها الدللة على حل الستمتاع‪ ،‬وتصدر عن قصد واختيار منهم‪ ،‬فينعقد بها الزواج؛ لنه‬
‫والحالة هذه‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬المهذب‪ ،41/2 :‬مغني المحتاج‪ ،139/3 :‬كشاف القناع‪ ،37/5 :‬المغني‪.532/6 :‬‬
‫(‪ )2‬الدر المختار وابن عابدين‪ 372/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )3‬التصحيف‪ :‬هو تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المقصود من الوضع اللغوي‪.‬‬

‫( ‪)9/33‬‬

‫يكون وضعا جديدا منهم (‪ ، )1‬أي أن اللفظ أصبح دالً على الزواج عرفا‪ ،‬فينعقد به الزواج‪ ،‬فل يفهم‬
‫العاقدان والشهود من تلك اللفاظ إل أنها عبارة عن التزويج‪ ،‬ول يقصد منها إل ذلك المعنى بحسب‬
‫العرف‪.‬‬
‫وقال الشافعية‪ :‬ينعقد الزواج باللفاظ المحرفة مثل‪ :‬جوزتك موكلتي‪.‬‬
‫اللفاظ غير العربية‪ :‬اتفق أكثر الفقهاء على أن الجنبي غير العربي العاجز عن النطق بالعربية يصح‬
‫انعقاد زواجه بلغته التي يفهمها ويتكلم بها؛ لن العبرة في العقود للمعاني‪ ،‬ولنه عاجز عن العربية‪،‬‬
‫فسقط عنه النطق بالعربية كالخرس‪ .‬وعليه أن يأتي بمعنى التزويج أو النكاح بلسانه‪ ،‬بحيث يشتمل‬
‫على معنى اللفظ العربي‪.‬‬
‫أما إذا كان العاقد يحسن التكلم بالعربية‪ :‬فيجوز عند الجمهور في الصح عند الشافعية النطق بكل لغة‬
‫يمكن التفاهم بها؛ لن المقصود هو التعبير عن الرادة‪ ،‬وذلك واقع في كل لغة‪ ،‬ولنه أتى بلفظه‬
‫الخاص‪ ،‬فانعقد به‪ ،‬كما ينعقد بلفظ العربية‪.‬‬
‫وقال الحنابلة‪ :‬ل يجوز الزواج إل بالعربية لمن قدر عليها‪ ،‬فمن قدر على لفظ الزواج بالعربية‪ ،‬لم‬
‫يصح بغيرها؛ لنه عدل عن لفظي ( النكاح والتزويج ) مع القدرة عليهما‪ ،‬فلم يصح‪ ،‬كما لم يصح‬
‫بألفاظ الهبة والبيع والحلل (‪. )2‬‬
‫وقد أخذ القانون السوري (م ‪ )6‬برأي الجمهور‪ ،‬فنص على أنه‪ :‬يكون اليجاب والقبول في الزواج‬
‫باللفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفا‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬الدر المختار مع حاشية ابن عابدين‪ 370/2 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )2‬ابن عابدين‪ ،371/2 :‬مغني المحتاج‪ ،140/3 :‬كشاف القناع‪ ،39-38/5 :‬المغني‪ 533/6 :‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬

‫( ‪)9/34‬‬

‫ثانيا ـ صيغة الفعل ‪:‬‬


‫قد تكون صيغة اليجاب والقبول بلفظ الماضي أو بلفظ المضارع أو بلفظ المر‪ ،‬واتفق الفقهاء على‬
‫انعقاد الزواج بصيغة الماضي‪ ،‬واختلفوا في المضارع والمر (‪. )1‬‬
‫أ ـ ينعقد الزواج بصيغة الفعل الماضي‪ :‬كأن يقول ولي المرأة للرجل‪ :‬زوجتك ابنتي فلنة على مهر‬
‫كذا‪ ،‬فقال الزوج‪ :‬قبلت أورضيت؛ لن المقصود بهذه الصيغة إنشاء العقد في الحال‪ ،‬فينعقد بها العقد‬
‫من غير توقف على نية أو قرينة‪.‬‬
‫ب ـ وأما العقد بصيغة المضارع‪ :‬مثل أن يقول الرجل للمرأة في مجلس العقد‪ :‬أتزوجك على مهر‬
‫قدره كذا‪ ،‬فقالت‪ :‬أقبل أو أرضى‪ ،‬صح العقد عند الحنفية والمالكية إذا كانت هناك قرينة تدل على‬
‫إرادة إنشاء العقد في الحال‪ ،‬ل للوعد في المستقبل‪ ،‬كأن يكون المجلس مهيئا لجراء عقد الزواج‪،‬‬
‫فوجود هذه الهيئة ينفي إرادة الوعد أو المساومة‪ ،‬ويدل على إرادة التنجيز؛ لن الزواج بعكس البيع‬
‫يكون مسبوقا بالخطبة‪.‬‬
‫فإن لم يكن المجلس مهيئا لنجاز العقد‪ ،‬ولم توجد قرينة دالة على قصد إنشاء الزواج في الحال‪ ،‬فل‬
‫ينعقد العقد‪.‬‬
‫ول ينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة بصيغة المضارع‪ ،‬وإنما ل بد عندهم من لفظ بصيغة الماضي‬
‫مشتق من النكاح أوالزواج‪ ،‬بأن يقول الزوج‪ :‬تزوجت أو نكحت أو قبلت نكاحها أو تزويجها‪ ،‬ول‬
‫يصح بكناية‪ :‬كأحللتك ابنتي‪ ،‬إذ ل اطلع للشهود على النية‪ .‬ولو قال ولي المرأة‪ :‬زوجتك‪ ،‬فقال‬
‫الزوج‪ :‬قبلت‪ ،‬لم ينعقد الزواج لدى الشافعية على المذهب‪ ،‬وينعقد عند الجمهور غير الشافعية‪.‬‬
‫جـ ـ ويصح العقد عند الحنفية والمالكية بصيغة المر‪ :‬كأن يقول الرجل لمرأة‪ :‬زوجيني نفسك‪،‬‬
‫وقصد بذلك إنشاء الزواج‪ ،‬ل الخطوبة‪ ،‬فقالت المرأة‪ :‬زوجتك نفسي‪ ،‬تم الزواج بينهما‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،231/2 :‬الدر المختار ورد المحتار‪ 378/2 :‬وما بعدها‪ ،‬الشرح الكبير مع حاشية‬
‫الدسوقي‪ 220/2 :‬وما بعدها‪ ،‬مغني المحتاج‪ ،141-139/3 :‬كشاف القناع‪ ،37/5 :‬المغني‪-532/6 :‬‬
‫‪.534‬‬

‫( ‪)9/35‬‬

‫وتوجيه ذلك عند الحنفية (‪ : )1‬أن قول الرجل يتضمن توكيل المرأة في أن تزوجه بنفسها‪ ،‬فقولها‪:‬‬
‫زوجتك نفسي‪ ،‬قام مقام اليجاب والقبول‪ .‬والتوجيه عند المالكية أن صيغة المر تعتبر إيجابا للعقد‬
‫عرفا‪ ،‬ول تعتبر توكيلً ضمنيا‪ .‬وهذا القول أوجه‪.‬وعبارة المالكية‪ :‬ينعقد النكاح باليجاب‬
‫والستيجاب‪ ،‬أي طلب اليجاب‪.‬‬
‫د ـ أما انعقاد الزواج بلفظ الستفهام مثل قول رجل لخر‪ :‬زوجتني ابنتك؟ فقال الخر‪ :‬زوجت‪ ،‬أو‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فل يكون عند الحنفية زواجا‪ ،‬ما لم يقل الموجب بعدئذ‪ :‬قبلت؛ لن قوله‪ :‬زوجتني؟ استفهام‬
‫أو استخبار‪ ،‬وليس بعقد‪ ،‬بخلف صيغة المر‪ :‬زوجني‪ ،‬فإنه توكيل ضمني‪ ،‬كما عرفنا‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬ل ينعقد الزواج عند الشافعية إل بصيغة الماضي‪ ،‬ومن مادة الزواج والنكاح‪ ،‬وينعقد عند‬
‫المالكية والحنفية بالماضي والمضارع والمر‪ ،‬إذا دلت القرينة أو دللة الحال على أنه لليجاب‪ ،‬ل‬
‫للوعد‪.‬‬
‫ول يشترط عند الجمهور غيرالحنابلة تقديم اليجاب على القبول‪ ،‬بل يندب‪ ،‬بأن يقول الولي‪ :‬زوجتك‬
‫إياها أو أنكحتك‪ .‬وقال الحنابلة‪ :‬إذا تقدم القبول على اليجاب‪ ،‬لم يصح‪ ،‬سواء أكان بلفظ الماضي‪:‬‬
‫تزوجت‪ ،‬أم بلفظ الطلب‪ :‬زوجني‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬وهذا مقتضى الستحسان عندهم الذي تركوا به القياس لما روي «أن بللً رضي ال عنه خطب‬
‫إلى قوم من النصار‪ ،‬فأبوا أن يزوجوه‪ ،‬فقال‪ :‬لول أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أمرني أن‬
‫أخطب إليكم‪ ،‬لما خطبت‪ ،‬فقالوا له‪ :‬ملكت» ولم ينقل أن بللً أعاد القول‪ :‬ولو فعل لنقل‪.‬‬

‫( ‪)9/36‬‬

‫ثالثا ـ انعقاد الزواج بعاقد واحد ‪:‬‬


‫قال الحنفية (‪ : )1‬ينعقد الزواج بعاقد واحد إذا كانت له ولية من الجانبين‪ ،‬سواء أكانت وليته أصلية‬
‫كولية القرابة‪ ،‬أم طارئة كولية الوكالة‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬بأن كان العاقد وليا من الجانبين كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة‪ ،‬والخ‬
‫إذا زوج بنت أخيه من ابن أخيه الصغير‪.‬‬
‫ل ووليا كابن العم إذا تزوج بنت عمه من نفسه‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أو كان أصي ً‬
‫ً‪ - 3‬أو كان وكيلً من الجانبين‪.‬‬
‫ً‪ - 4‬أو كان رسولً من الجانبين‪.‬‬
‫ً‪ - 5‬أو كان أصيلً من جانب‪ ،‬ووكيلً من جانب آخر‪ ،‬كأن توكل امرأة رجلً ليزوجها من نفسه‪ ،‬أو‬
‫وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه‪.‬‬
‫وأجاز الشافعي انعقاد الزواج في الحالة الولى ـ حالة الولي من الجانبين ـ كالجد يزوج بنت ابنه‬
‫من ابن ابنه (‪. )2‬‬
‫وأجاز المالكية (‪ )3‬لبن العم ووكيل الولي والحاكم أن يزوج المرأة من نفسه‪.‬‬
‫ول ينعقد الزواج بعاقد فضولي واحد‪ ،‬ولو بعبارتين؛ لن تعدد العاقد شرط في كل العقود‪،‬سواء أكان‬
‫التعدد حقيقة بأن يكون هناك شخصان يصدر منهما اليجاب والقبول‪ ،‬أم حكما بأن يكون هناك شخص‬
‫واحد له صفة شرعية وولية من الجانبين‪ .‬وينعقد العقد فيما لو قال فضولي‪ :‬زوجت فلنةمن فلن‪،‬‬
‫وهما غائبان‪ ،‬فقبل فضولي آخر عن الزوج‪.‬‬
‫وأدلة انعقاد الزواج بعاقد واحد استثناءً من مبدأ تعدد العاقد‪:‬‬
‫أولً ـ ما رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال لم حكيم‪ :‬أتجعلين أمرك إليّ؟ قالت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فقد تزوجتك‪ .‬فهذا دليل الحالة الخيرة وهو أن يكون العاقد أصيلً من جانب ووكيلً من جانب‪.‬‬
‫ثانيا ـ ما رواه أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي قال لرجل‪« :‬أترضى أن أزوجك فلنة؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬وقال للمرأة‪ :‬أترضين أن أزوجك فلنا؟ قالت‪ :‬نعم فزوج أحدهما صاحبه» فهذا دليل الحالة‬
‫الثالثة‪ :‬وهوأن يكون وكيلً من الجانبين‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬يقاس على المذكور في الحديثين السابقين بقية الحالت‪ ،‬لشتراكها في المعنى‪ ،‬وهو أن للعاقد‬
‫في الجميع صفة شرعية عند إجراء العقد‪ ،‬إما الولية على الغير أو الوكالة عن الغير أو الصالة عن‬
‫النفس‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪.233 ،231/2 :‬‬
‫(‪ )2‬ول يزوج ابن العم نفسه‪ ،‬بل يزوجه ابن عم في درجته‪ ،‬فإن فقد فالقاضي (مغني المحتاج‪:‬‬
‫‪.)163/3‬‬
‫(‪ )3‬القوانين الفقهية‪ :‬ص ‪ ،200‬الشرح الكبير‪.233/2 :‬‬

‫( ‪)9/37‬‬

‫رابعا ـ انعقاد الزواج بالكتابة والشارة ‪:‬‬


‫ينعقد الزواج أحيانا بالكتابة أو الشارة على التفصيل التي (‪: )1‬‬
‫‪ - ًَ 1‬الناطق في حال الحضور‪ :‬إن كان العاقدان حاضرين معا في مجلس العقد وكانا قادرين على‬
‫النطق‪ :‬فل يصح بالتفاق الزواج بينهما بالكتابةأو الشارة‪ ،‬ولو كانت الكتابة بينة واضحة‪ ،‬والشارة‬
‫مفهمة في الدللة على إنشاء الزواج‪ ،‬للستغناء عنها بالنطق‪ ،‬ولن اللفظ هو الصل في التعبير عن‬
‫الرادة‪ ،‬ول يلجأ إليه إل عند الضرورة‪ ،‬ول ضرورة هنا‪ ،‬ولنه ل يتيسر للشهود سماع كلم‬
‫العاقدين في حال الكتابة‪.‬‬
‫‪ - ً 2‬الناطق في حال الغيبة‪ :‬إذا كان أحد العاقدين غائبا عن مجلس العقد‪ :‬ينعقد الزواج عند الحنفية‬
‫بالكتابة أو إرسال رسول‪ ،‬إذا حضر شاهدان عند وصول الكتاب أو الرسول؛ لن الكتاب من الغائب‬
‫خطابه‪ ،‬قال الحنفية (‪« : )2‬الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر» ‪.‬‬
‫مثال الكتاب‪ :‬أن يكتب رجل لخطيبته‪ :‬تزوجتك أو زوجيني نفسك‪ ،‬فقالت المرأة في مجلس وصول‬
‫الكتاب‪ :‬قبلت الزواج‪ ،‬بحضور شاهدين‪ ،‬صح الزواج؛ لن سماع الشاهدين شطري العقد (اليجاب‬
‫والقبول) شرط لصحة الزواج‪.‬‬
‫ومثال إرسال الرسول‪ :‬أن يرسل الخاطب إلى خطيبته الغائبة عن المجلس شخصا يبلغها اليجاب‬
‫مشافهة‪ ،‬فإذا قبلت في مجلس بلوغ الرسالة بحضور شاهدين‪ ،‬تم الزواج‪.‬‬
‫وقال المالكية والشافعية والحنابلة‪ :‬ل ينعقد الزواج بكتابة في غيبة أو حضور؛ لن الكتابة كناية‪ ،‬فلو‬
‫قال الولي لغائب‪ :‬زوجتك ابنتي‪ ،‬أو قال‪ :‬زوجتها من فلن‪ ،‬ثم كتب‪ ،‬فبلغه الكتاب‪ ،‬أي الخبر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫قبلت‪ ،‬لم يصح العقد‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،231/2 :‬مغني المحتاج‪ ،141/3 :‬المحرر في الفقه الحنبلي‪ ،15/2 :‬كشاف القناع‪:‬‬
‫‪ ،39/5‬مواهب الجليل للحطاب‪ 228/4 :‬وما بعدها‪ ،‬قال الدردير في الشرح الصغير‪ :350/2 :‬ول‬
‫تكفي الشارة ول الكتابة إل لضرورة خرس‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفتاوى الخانية‪.482/1 :‬‬

‫( ‪)9/38‬‬

‫‪ - ً 3‬الخرس‪ :‬إذا كان أحد العاقدين أخرس أو معتقل اللسان‪:‬‬


‫أ ـ فإن كان قادرا على الكتابة‪ ،‬انعقد الزواج بها كما ينعقد بالشارة‪ ،‬بالتفاق حتى عند الشافعية؛‬
‫لنها ضرورة‪ ،‬لكن في الرواية الظاهرة عند الحنفية‪ :‬ل ينعقد بالشارة‪ ،‬وإنما ينعقد بالكتابة في حال‬
‫القدرة عليها؛ لن الكتابة أقوى في الدللة على المراد‪ ،‬وأبعد عن الحتمال من الشارة‪ .‬وعلى كل‬
‫حال‪ :‬الكتابة بالتفاق أولى من الشارة؛ لنها بمنزلة الصريح في الطلق والقرار‪.‬‬
‫ب ـ وإن كان الخرس أو نحوه عاجزا عن الكتابة‪ :‬انعقد الزواج بالشارة المفهمة المعلومة بالتفاق؛‬
‫لنها حينئذ الوسيلة المتعينة للتعبير عن الرادة‪.‬‬
‫والخلصة‪ :‬ينعقد نكاح الخرس بكتابته أو إشارته عند الفقهاء وتتعين الكتابة عند الحنفية إذا قدر‬
‫عليها‪.‬‬
‫وقد نص القانون السوري (م ‪ )7‬على أنه‪ :‬يجوز أن يكون اليجاب والقبول بالكتابةإذا كان أحد‬
‫الطرفين غائبا عن المجلس‪.‬‬
‫ونصت المادة (‪ )10‬على أنه‪ :‬يصح اليجاب أو القبول من العاجز عن النطق بالكتابة إذا كان يكتب‪،‬‬
‫وإل فبإشارته المفهمة‪.‬‬
‫وجاء في المادة (‪ )128‬من لئحة ترتيب المحاكم الشرعية بمصر‪« :‬إقرار الخرس يكون بإشارته‬
‫المعهودة‪ ،‬ول يعبر إقراره بالشارة إذا كان يمكنه القرار بالكتابة» ‪.‬‬

‫( ‪)9/39‬‬

‫المبحث الثالث ـ شروط الزواج ‪:‬‬


‫أنواع الشروط‪ :‬بينت سابقا أن الشرط‪ :‬هو ما يتوقف عليه وجود الشيء‪ ،‬ويكون خارجا عن حقيقته‪.‬‬
‫وشروط كل عقد‪ ،‬ومنها الزواج‪ ،‬أربعة أنواع‪ :‬شروط النعقاد‪ :‬وشروط الصحة‪ ،‬وشروط النفاذ‪،‬‬
‫وشروط اللزوم‪.‬‬
‫وشروط النعقاد‪ :‬هي التي يلزم توافرها في أركان العقد‪ ،‬أو في أسسه‪ .‬وإذا تخلف شرط منها‪ ،‬كان‬
‫العقد باطلً بالتفاق‪.‬‬
‫وشروط الصحة‪ :‬هي التي يلزم توافرها لترتب الثر الشرعي على العقد‪ .‬فإذا تخلف شرط منها‪ ،‬كان‬
‫العقد عند الحنفية فاسدا‪ ،‬وعند الجمهور باطلً‪.‬‬
‫وشروط النفاذ‪ :‬هي التي يتوقف عليها ترتب أثر العقد عليه بالفعل‪ ،‬بعد انعقاده وصحته‪ .‬فإذا تخلف‬
‫شرط منها‪ ،‬كان العقد عند الحنفية والمالكية موقوفا‪.‬‬
‫وشروط اللزوم‪ :‬هي التي يتوقف عليها استمرار العقد وبقاؤه‪ .‬فإذا تخلف شرط منها‪ ،‬كان العقد‬
‫(جائزا) أو (غير لزم)‪ :‬وهو الذي يجوز لحد العاقدين أو لغيرهما فسخه‪.‬‬
‫والعقد الباطل‪ :‬ل يترتب عليه أي أثر من آثار العقد الصحيح‪ ،‬فالزواج الباطل ل يترتب عليه شيء‬
‫من آثار الزواج‪ ،‬ولو بعد الدخول‪ ،‬ويعتبر في منزلة العدم‪ .‬فل يثبت به النسب من الب‪ ،‬ول تجب‬
‫بعده العدة على المرأة‪ ،‬مثل الزواج بإحدى المحارم كالخت والبنت‪ ،‬والزواج بالمرأة المتزوجة برجل‬
‫آخر‪.‬‬
‫والعقد الفاسد‪ :‬يثبت له عند الحنفية بعض آثار العقد الصحيح‪ ،‬فالزواج الفاسد يثبت به آثار الدخول‬
‫بالزوجة‪ ،‬فيثبت به النسب‪ ،‬وتجب بالتفريق أو المتاركة العدة على المرأة‪ ،‬مثل الزواج بغير شهود‪،‬‬
‫والزواج المؤقت‪ ،‬والزواج بالخت على أختها في عصمة الزوج‪ ،‬أو في أثناء العدة‪.‬‬

‫( ‪)9/40‬‬

‫شروط انعقاد الزواج ‪:‬‬


‫يشترط لنعقاد الزواج شروط في العاقدين ـ الرجل والمرأة‪ ،‬وشروط في الصيغة ـ اليجاب‬
‫والقبول (‪. )1‬‬
‫أولً ـ شروط العاقدين ‪:‬‬
‫يشترط في عاقدي الزواج شرطان‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أهلية التصرف‪ :‬أن يكون العاقد لنفسه أو لغيره أهلً لمباشرة العقد‪ ،‬وذلك بالتمييز فقط‪ ،‬فإذا كان‬
‫غير مميز كصبي لم يبلغ السابعة ومجنون‪ ،‬لم ينعقد الزواج؛ ويكون باطلً؛ لعدم توافر الرادة‬
‫والقصد الصحيح المعتبر شرعا‪.‬‬
‫ول يشترط البلوغ لنعقاد الزواج وصحته‪ ،‬وإنما هو شرط لنفاذ العقد عند الحنفية‪.‬‬
‫وأجاز الشافعية للولي من أب أو جد تزويج صغير مميز ولو أكثر من واحدة إن رآه الولي مصلحة؛‬
‫لن تزويجه بالمصلحة؛ وقد تقتضي ذلك (‪ . )2‬وأجاز الحنابلة (‪ )3‬أيضا للب خاصة تزويج ابنه‬
‫الصغير أو المجنون ولو كان كبيرا‪ ،‬روى الثرم‪« :‬أن ابن عمر زوج ابنه وهوصغير‪ ،‬فاختصموا‬
‫إلى زيد فأجازاه جميعا» وللب أن يزوج الصغير بأكثر من واحدة إن رأى فيه مصلحة‪ .‬وأجاز‬
‫المالكية (‪ )4‬للب والوصي والحاكم تزويج المجنون والصغير لمصلحة كالخوف من الزنا أو‬
‫الضرر‪ ،‬أو ممن تحفظ له ماله‪ ،‬والصداق على الب‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬سماع كلم الخر‪ :‬أن يسمع كل من العاقدين لفظ الخر‪ ،‬ولو حكما كالكتاب إلى امرأة غائبة‪،‬‬
‫ويفهم أن المقصود منه إنشاء الزواج‪ ،‬ليتحقق رضاهما به‪ .‬والدق أن يعتبر هذا شرطا في صيغة‬
‫العقد‪.‬ول يشترط عند الحنفية توافر حقيقة الرضا‪ ،‬فيصح الزواج مع الكراه والهزل‪.‬‬
‫ثانيا ـ شروط المرأة ‪:‬‬
‫يشترط في المرأة لجل عقد الزواج شرطان‪:‬‬
‫ً‪ - 1‬أن تكون أنثى محققة النوثة‪ :‬فل ينعقد الزواج على الرجل أو الخنثى المشكل‪ :‬وهو الذي ل‬
‫يستبين أمره‪ ،‬أهو رجل أم أنثى‪ ،‬ويكون الزواج على خنثى باطلً‪.‬‬
‫ً‪ - 2‬أل تكون محرّمة على الرجل تحريما قاطعا ل شبهة فيه‪ :‬فل ينعقد الزواج بالمحارم كالبنت‬
‫والخت والعمة والخالة‪ ،‬والمتزوجة بزوج آخر‪ ،‬والمعتدة‪ ،‬والمرأة المسلمة بغير المسلم‪ ،‬والزواج في‬
‫كل هذه الحالت باطل‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫(‪ )1‬البدائع‪ ،232/2 :‬الدر المختار ورد المحتار‪.373 ،367 ،366/2 :‬‬
‫(‪ )2‬مغني المحتاج‪ ،169/3 :‬المهذب‪.40/2 :‬‬
‫(‪ )3‬كشاف القناع‪.44-43/5 :‬‬
‫(‪ )4‬الشرح الصغير‪.396/2 :‬‬
)9/41 (

You might also like