Professional Documents
Culture Documents
وفي ذلك ضمان وثيق لحرية النسان والحفاظ على كرامته ومصالحه ،وعدم استبداد أحد به .أما
إعطاء سلطة التشريع والمر لحد من الناس فهو إشراك في ربوبية ال ،وطريق يؤدي إلى الستبداد
والطغيان والظلم والعسف وإهدار حرية النسان والضرار بمصالحه الخاصة التي ل تصطدم مع
المصالح العامة.
وقد تضافرت النصوص القرآنية الدالة على استقلل ال بهذه السلطة فيما شرع من أحكام ،مثل قوله
تعالى{ :إنِ الحكم إلّ ل } [يوسف{ ]40/12:إنّ المر كله ل } [آل عمران{ ]154/3:فالحكم ل العلي
الكبير} [غافر{ ]12/40:وهو خير الحاكمين} [العراف{ ]87/7:وأنزلنا إليك الكتاب ،بالحق مصدقا
لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ،فاحكم بينهم بما أنزل ال ،ول تتبع أهواءهم عما جاءك من
الحق} [المائدة{ ]48/5:ومن لم يحكم بما أنزل ال فأولئك هم الظالمون} [المائدة ]45/5:أو {الكافرون}
[المائدة ]44/5:أو {الفاسقون} [المائدة.]47/5:
المبحث الثاني ـ استخلف المة في تنفيذ الشريعة
الناس وكلء عن ال في تبليغ وتقرير وتنفيذ أحكامه ،ورعاية تطبيقها ،وفهم مدلولتها ،عن طريق
سلطة الجتهاد فيما تدل عليه ،أو تهدف إليه من غايات ،أوتحد من حدود يلزم السير في نطاقها،
وتنظم الحياة في محورها ،والتوكيل مفهوم من قوله تعالى{ :وإذ قال ربك للملئكة :إني جاعل في
الرض خليفة} [البقرة .]30/2:وإذا ورد النص القرآني دالً على استخلف بعض الرسل والنبياء
كأحسن مثال ،فإن البشر أيضا من بعدهم هم خلفاء الرض{ :إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح}
[العراف{ ]69/7:ثم جعلناكم خلئف في الرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس]14/10:
{وهو الذي جعلكم خلئف الرض[ }...النعام.]165/6:
وما على الخليفة ( )1أو الوكيل إل أن ينفذ أوامر المستخلف له{ :إن ال يأمركم أن تؤدوا المانات
إلى أهلها ،وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء{ ]58/4:يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال
وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم} [النساء.]59/4:
-------------------------------
( )1ليست الخلفة عن ال تعالى؛ لنه ليس في البشر شيء من صفات ال العظمى الذي استخلفهم،
وإنما هي خلفة الناس بعضهم عن بعض ،فهم خلفاء الرض.
( )8/261
وقد حددت هذه الية الخيرة مصادر التشريع في السلم التي تستقى في النهاية من مصدر واحد:
وهو الوحي اللهي ،وهذه المصادر هي:
أولً ـ القرآن الكريم .وتطبيق ما جاء فيه محقق لطاعة ال تعالى.
ثانيا ـ السنة النبوية الصحيحة المبينة لما جاء من عند ال ،والعمل بها محقق طاعة الرسول صلّى
ال عليه وسلم .
ثالثا ـ الجتهاد الجماعي أو إجماع ذي الفكر المختصين في النظر في شؤون الناس ومصالحهم
العامة ،وإدراك قضاياهم الدينية أو الدنيوية ،من الحكام والمراء والعلماء ورؤساء الجند وخبراء
السياسة والجتماع والقتصاد (التجارة والصناعة والزراعة والحرف الفنية والمهنية) والجماع الذي
ل بد له من مستند شرعي نصي أو مصلحي ،يمثل إرادة المة العامة ،ل سيما إذا أخذنا بقول الغزالي
الذي ل يقصر الجماع على العلماء ،وإنما يدخل العوام معهم لينعقد الجماع.
رابعا ـ الجتهاد الفردي من قبل العلماء المجتهدين :وهم المؤمنون بال ورسوله ،العارفون بمدارك
الحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها ،ووجوه دللتها على مدلولتها .وتشمل طرق استنباط
القواعد والحكام والنظمة لديهم عدة أصول ،كالقياس والستحسان والستصلح ،والعرف والعادة،
وسد الذرائع ،وقول الصحابي ،وشرع من قبلنا ،والستصحاب.
( )8/262
فإن برز اختلف بين الناس أو بين المجتهدين أو العلماء المتخصصين ،عرض المر على القواعد
العامة والمبادئ التشريعية والهداف الساسية المعلومة من القرآن والسنة على أل يتعارض الرأي
المقول به مع النصوص المحكمة أو الدلة القطعية ،وأن يتفق الحكم المقرر مع روح السلم ومقاصد
الشريعة السلمية ،وهذا تطبيق لقوله تعالى{ :فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم
تؤمنون بال واليوم الخر ،ذلك خير وأحسن تأويلً} [النساء.]59/4:
ويتحدد الذين يفصلون في النزاع في صورة هيئة تحكيم أو محكمة دستورية عليا ( ، )1يختارهم أولو
المر بالنيابة عن المة من العلماء المختصين في موضوع النزاع ،ممن اشتهروا بالعلم والمعرفة
ورجاحة العقل والعدالة والتقوى والمروءة ،كما حصل في تحكيم بعض أهل الشورى الذين اختارهم
بعض الخلفاء الراشدين وهو عمر رضي ال عنه للترشيح لمنصب الخلفة ،وإتمام البيعة للمرشح من
سائر الناس.
ويؤخذ في التصويت برأي الكثرية أو الغلبية ،عملً برأي جماعة من الفقهاء القائلين بأن اتفاق أكثر
المجتهدين حجة ،وإن لم يكن إجماعا؛ لن الخلفة ل يشترط فيها الجماع ،ولقول النبي صلّى ال
عليه وسلم « :يد ال مع الجماعة» «عليكم بالجماعة والعامة» «اتبعوا السواد العظم» ( )2هذا ما لم
يتبين للمام العظم رجحان رأي القلين بدليل أوضح ،أو لمصلحة أنسب ،وإل اتبع رأي أهل
الشورى وهو معنى (العزم) في آية{ :وشاورهم في المر} [آل عمران ]159/3:أي ( مشاورة أهل
الرأي ثم اتباعهم ) كما قال النبي صلّى ال عليه وسلم ،وقال لبي بكر وعمر مستشاريه« :لو
اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» ( ، )3وكما أبان عمر للرهط الستة في كيفية
-------------------------------
( )1منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد :ص 125وما بعدها.
( )2حديث «يد ال مع الجماعة» رواه الترمذي عن ابن عمر ،ورواه النسائي والطبراني عن عرفجة،
وحديث «فعليكم بالجماعة» رواه أحمد ،ورفعه الطبراني في الكبير عن ابن عمر ،وحديث «عليكم
بالسواد العظم» رواه عبد بن حميد وابن ماجه عن أنس.
( )3تفسير ابن كثير ،420/1 :ط الحلبي.
( )8/263
اختيار الخليفة من بعده ،من الفريق الذي في صفّه عبد ال بن عمر في حالة تساوي الصوات ،وهي
قصة الشورى أو بيعة عثمان (. )1
المبحث الثالث ـ سيادة التشريع وتعاون السلطات
إن السلطات الثلث :التشريعية ( )2ممثلة بأولي الحل والعقد للجتهاد في استنباط الحكام من
نصوص الشريعة ،والتنفيذية ممثلة بالحاكم العلى ووزرائه ،والقضائية ممثلة بالقضاة ،ليس بينها مبدأ
الفصل التام ،ول مبدأ الندماج الوظيفي ،فبالرغم من أن كل سلطة مستقلة في عملها عن الخرى إل
أنها تساند وتعاون السلطات الخرى ،وهذه هي أحدث النظريات الديمقراطية التي سبق السلم
إليها،باعتبار أن هذه السلطات تخضع كلها في دولة واحد لصول شريعة سماوية تحترم مبدأ العدل
والحرية والكرامة النسانية ،وتحارب الظلم واستبداد الحكام وتدخلهم الذي يؤثر في سير مجرى
العدالة وأعمال القضاء والتنفيذ ،وإذا كان المام رئيسا للسلطتين التشريعية والتنفيذية فإنه مقيد بتعاليم
السلم .وهو ل يملك التشريع وإنما له كغيره حق الجتهاد إذا توافرت فيه شروط الجتهاد.
إن احترام أحكام الشريعة هو أساس عمل كل سلطة من هذه السلطات؛ لن التشريع ل تعالى ،وبذلك
تتحقق سيادة التشريع السلمي فوق كل وضع شخصي أو مصلحي .وصلحية التشريع مختصة
بالكتاب والسنة أو إجماع المة ،أو الجتهاد ،وهذه المصادر مستقلة عن المام ،وهوملزم بها ومنفذ
-------------------------------
( )1تاريخ السلم السياسي للدكتور حسن إبراهيم.254/1 :
( )2التشريع الحقيقي كما عرفنا هو ل عز وجل ،وأما إطلق صفة التشريع على المجتهدين فهو من
قبيل المجاز بمعنى الكشف عن أحكام ال وإبانتها للناس ،وتعريفهم بضوابطها وقيودها ،وتوضيح
غاياتها ،وإفتائهم بما يستجد من القضايا.
( )8/264
لحكامها ،كما أن القضاء المستقل أو الكائن بيد المام ينفذ أحكام الشريعة ،أي أوامر ال ( ، )1ومن
أهم مبادئ السلم في هذه المصادر هو الشورى التي ل تهادن الستبداد في مختلف صوره وأشكاله،
قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما :كتاب ال وسنتي» (
)2وهذا أوضح نص يبين سيادة التشريع السلمي ،ومطالبة كل مسلم بالعمل بما جاء فيهما ،وإن
خالف إرادة الحاكم ،إذ ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق ،وإنما الطاعة في معروف ..ويمكن
توضيح ما سبق في تحديد العلقة بين السلطات بما يأتي (: )3
إن فصل السلطات الثلث في السلم(التشريع بمعنى الجتهاد والتنفيذ والقضاء) يقوم على أساس
فصل الوظيفة التشريعية ،أي الجتهاد عن سائر الوظائف الخرى ،ل على أساس الفصل العضوي،
أي الشخص القائم بكل سلطة .فالمام أو القاضي حينما يجتهد إنما يفعل ذلك ل بوصفه خليفة أو
قاضيا ،وإنما بسبب كونه مجتهدا يستنبط الحكام الشرعية من نصوص وأصول ومبادئ الشريعة.
وكذلك فإن إدماج السلطتين القضائية والتنفيذية في شخص المام ،أي من الناحية العضوية لم يكن
يؤثر في استقلل القضاة في مباشرة وظائفهم ،للتزام الكل بالتشريع السلمي.
وحينئذ فل خطر من عدم وجود الفصل العضوي أو الشخصي بين السلطات ،كما عليه الدول الحديثة؛
لن الوازع الديني هو أساس عمل المسلم،
-------------------------------
( )1النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس :ص ،335ط الثالثة ،منهاج السلم
في الحكم لمحمد أسد :ص 101وما بعدها ،ط الولى.
( )2رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي ال عنه.
( )3راجع السلطات الثلث لستاذنا الدكتور سليمان الطماوي :ص ،477-472منهاج الحكم في
السلم لمحمد أسد :ص .127-101
( )8/265
حاكما كان أو قاضيا أو فردا عاديا .أما أساس الفصل الذي يرجع في الدول الحديثة لهداف ثلثة:
وهي ضمان الحرية الفردية ،وضمان شرعية الدولة ،وتقسيم العمل ،فل مانع من الخذ به وبمبدأ
فصل السلطات فعلً بين أشخاص القائمين بها بناء عليه ،في المفهوم السلمي ،ل سيما في وقتنا
الحاضر حيث قل الوازع الديني وضعفت خشية ال تعالى ،فوقع الظلم والتعسف والنحراف ،كما وقع
من بعض أمراء وحكام المسلمين في عهد بني أمية وبني العباس ،مما استدعى وجود قضاء المظالم
الذي يشبه مجلس الدولة الن.
يتبين لنا أن فصل السلطة التشريعية أي الجتهاد ،ل بمعنى الستقلل في إنشاء وتشريع الحكام عن
سائر الوظائف الخرى ،كان هو المعروف في صدر السلم .وأما القضاء وإن لم يستقل عن التنفيذ
في شخص الخليفة أو الوالي أحيانا ،فهو بسبب كون القاضي مجتهدا .كذلك القاضي غير الخليفة أو
المام مستقل في عمله عن السلطة التنفيذية ،نظرا لنه يستقي الحكام المطبقة من المصدر اللهي ل
من السلطة التنفيذية.
لكن بين هذه السلطات تعاون وتضامن في التنفيذ دون تدخل شخصي ،فعلى السلطة التنفيذية أن تنفذ
قرارات مجلس الشورى في المور الساسية والقضايا المبدئية أو المهمة ،ولكن لها الحرية في اختيار
الوسائل الدارية لتنفيذ القوانين.
( )8/266
قال الماوردي مبينا هذه المعاني بالنسبة لحد موظفي التنفيذ وهو الوالي أو المير صاحب المارة
الخاصة« :وأما نظره في المظالم ،فإن كان مما نفذت فيه الحكام وأمضاه القضاة والحكام ،جاز له
النظر في استيفائه معونة للمحق على المبطل ،وانتزاعا للمحق من المعترف المماطل؛ لنه موكول
إلى المنع من التظالم والتغالب ،ومندوب إلى الخذ بالتعاطف والتناصف .فإن كانت المظالم مما
تستأنف فيها الحكام ،ويبتدأ فيها القضاء ،منع منه هذا المير؛ لنه من الحكام التي لم يتضمنها عقد
إمارته ،وردّهم إلى حاكم بلده. )1( »...
المبحث الرابع ـ صاحب الحق في التشريع
بناء على ما سبق يتبين أن لحق لحد سوى ال في التشريع بالمعنى الحقيقي ،سواء أكان حاكما أم
طائفة معينة ،أم المة نفسها؛ لن إعطاء أحدهم صلحية التشريع يجعله متأثرا بالمصالح والهواء
الخاصة ،وترك مصلحة المة العليا .ويبدو لنا ذلك واضحا بعد انفصال السياسة عن الدين ،وجعل
التشريع بيد المجالس النيابية ،حتى لم نعد نشاهد نصرا حاسما محرزا ،أو تقدما إيجابيا صالحا ،أو
نهضة حقيقية ،بسبب إغفال أوامر ال تعالى ،وعدم اجتناب نواهيه .ويؤكد القرآن الكريم على ترك
الختصاص التشريعي ل ولرسوله ،قال ال تعالى { :وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الحزاب{ ]36/33:فل وربك ل يؤمنون حتى
يحكّموك فيما شجر بينهم ،ثم ل يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ،ويسلّموا تسليما} [النساء]4/65:
{فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور.]63/24:
والتزم الصحابة المهديون هذا الهدي بعد وفاة الرسول العظم صلّى ال عليه وسلم ،فكان أبو بكر
الصديق رضي ال عنه إذا ورد عليه الخصوم أو عرض له قضاء عام أو خاص ،نظر في كتاب
ال ،فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ،وإن لم يكن في
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص .30
( )8/267
الكتاب وعلم من سنة رسول ال في ذلك المر سنة قضى بها ،فإن أعياه أن يجد في سنة رسول ال ،
جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم ،فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به.
وكذلك كان يفعل عمر رضي ال عنه ،وبقية الصحابة ،وأقرهم على هذه الخطة المسلمون ( . )1وقد
بعث رسول ال صلّى ال عليه وسلم معاذ بن جبل رضي ال عنه قاضيا بالسلم إلى اليمن ،فقال له
الرسول :كيف تقضي يا معاذ إذا عرض لك قضاء؟ قال :أقضي بكتاب ال ،قال :فإن لم تجد في
كتاب ال ؟ قال :فبسنة رسول ال ،قال :فإن لم تجد في سنة رسول ال ؟ قال :أجتهد برأيي ول آلو
(أي ل أقصر في الجتهاد) فضرب رسول ال صلّى ال عليه وسلم على صدره ،وقال :الحمد ل
الذي وفق رسول رسول ال لما يرضي ال ورسوله ( . )2وروى مالك عن علي قال :قلت :يا رسول
ال ،المر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ فقال :اجمعوا العالمِين من المؤمنين،
فاجعلوه شورى بينكم ،ول تقضوا فيه برأي واحد (. )3
لكن المة بما لديها من خبرة واحتكاك بالمجتهدين فيها هي التي تختار أولي الحل والعقد حسبما
تقتضي تطورات الظروف الجتماعية والقتصادية ( ، )4فتكون إرادتها ممثلة بواسطة هؤلء العلماء
المتخصصين الذين اختارتهم ،وقيدتهم بمبادئ السلم وأحكامه ،وبالمصالح العامة فيما ل نص ول
إجماع فيه من المور الدنيوية والقضايا الجتماعية المتجددة أو المتطورة.
-------------------------------
( )1أصول الفقه السلمي للمؤلف ،418/1 :ط دار الفكر.
( )2قال الشوكاني في إرشاد الفحول :ص « :227وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض
مجموعها للحجة ،كما أوضحت ذلك في مجموع مستقل» وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن
عدي والطبراني والبيهقي ،وهو حديث مرسل في الصح.
( )3أعلم الموقعين.73/1 :
( )4مقاصد الشريعة السلمية ومكارمها للستاذ علل الفاسي :ص .215
( )8/268
وهذا يعني أن السيادة الصلية ل تعالى ،فيجب الرجوع إلى تشريعه أمرا ونهيا ،وأما السيادة العملية
فهي للمة باعتبارها التي تعين أهل الحل والعقد .وحينئذ يجتمع هؤلء في مكان مخصص لهم ،بدلً
من الجتماع في المسجد ،كما يجتمع أعضاء مجلس الشعب أو مجلس المة في عصرنا لمناقشة
شؤون المسلمين ،بشرط مراعاة أحكام وأسس التشريع السلمي فيما يصدرون من قوانين.
وإذا أصبح المجتهد الذي هو أحد هيئة أهل الحل والعقد خليفة أو وزيرا أو قاضيا ،فله الخذ باجتهاده
فيما لم يصادم إجماع المجتهدين ،ويكون رأيه حينئذ ملزما بصفته صاحب سلطة.
ويمكن لكل إنسان بلوغ درجة الجتهاد باستجماع شروطه المقررة أصوليا وأهمها معرفة اللغة
العربية ـ لغة القرآن والسنة ،وكيفية استنباط الحكم من مصادره التشريعة وفهم مقاصد الشريعة.
ويتوصل إلى ذلك بالبحث والنظر والتحصيل والممارسة الفعلية للجتهاد حتى تعرفه المة وترشحه
لتمثيلها.
ومجال الجتهاد محصور فيما ليس فيه نص قطعي الثبوت والدللة أو الحكام المعلومة من الدين
بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس ،والصيام والزكاة والحج ،وتحريم جرائم الزنى والسرقة
والمحاربة وشرب المسكرات والقتل وتوقيع العقوبات المقررة لها من جلد وقصاص ،وزواج المحارم
ونحوها.
وأما ما يصح الجتهاد فيه :فهو الحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدللة أو ظني أحدهما،
والحكام التي لم يرد فيها نص ول إجماع ( . )1وعلى هذا فإن التشريعات الصادرة حديثا التي ل
تخالف السلم من قبل اللجان المشرّعة ،ل تخالف قواعد الجتهاد في الفقه السلمي (. )2
والخلصة :أن الجتهاد في الشريعة مقصور على استمداد الحكام الشرعية من مصدرها اللهي،
والحاكم هو الذي يجعل اجتهاد الفرد ملزما ،ل الغلبية ،أما السلطة التشريعية في الدول الحاضرة فإن
لها إصدار ما تشاء من التشريعات من دون أي قيد ،وتأخذ في ذلك بمبدأ الغلبية.
-------------------------------
( )1راجع أصول الفقه السلمي للمؤلف ،1053/2 :ط دار الفكر.
( )2السلطات الثلث ،المرجع السابق :ص .241
( )8/269
( )8/270
وقال التفتازاني :الخلفة :رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا ،خلفة عن النبي صلّى ال عليه وسلم (
. )1
وقال الماوردي :المامة :موضوعة لخلفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (. )2
وحدد ابن خلدون بطريقة أخرى وظيفة المامة فقال :هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي
في مصالحهم الخروية والدنيوية الراجعة إلىها؛ إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى
اعتبارها بمصالح الخرة .فهي (أي الخلفة) في الحقيقة :خلفة عن صاحب الشرع في حراسة الدين
وسياسة الدنيا به (. )3
ويتبين من هذه التعاريف أن سلطة الخليفة تتناول أمور الدين ،وسياسة الدنيا على أساس شرائع
السلم وتعاليمه؛ لن هذه التعاليم يراد بها تحقيق مصالح الناس في عالمي الدنيا والخرة ،أي أن
العنصر العقدي والنساني أو الخلقي يسير جنبا إلى جنب مع العنصر المادي ،ويتآزر العنصران
لقامة المجتمع الفاضل المستقر المرفه المتمكن في الرض الذي يقيم العزة والسيادة الفعلية بين
جناحيه .وتتعاضد فيه الهداية اللهية مع الرادة البشرية والقوى العقلية عن طريق الجماع والقياس.
وبهذا تغاير الخلفة أساسا السلطات السياسية الحالية التي تسير على هدي القوانين الوضعية التي
تقتصر على تنظيم العلقات الجتماعية ،وتقر واقع المجتمع ولو عارض الدين أو الفضيلة أحيانا.
-------------------------------
( )1شرح العقائد النسفية ،الخلفة لرشيد رضا :ص .10
( )2الحكام السلطاني :ص ،3ط صبيح.
( )3المقدمة :ص ،191ط التجارية.
( )8/271
( )8/272
أن يتعاطوا الحق بينهم ( . )1ونوع الفرضية هو الفرض الكفائي ،قال الماوردي :فإذا ثبت وجوب
المامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم ،فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن
الكافة (. )2
ثم انقسم هؤلء فرقا ثلثا ،فقال أكثر الشعرية والمعتزلة والعترة :إنها تجب شرعا؛ لن المام يقوم
بأمور شرعية.
وقال الشيعة المامية :تجب المامة عقلً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ،ويفصل بين الناس في
التنازع والتخاصم ،ولول الولة لكان المر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي (الكعبي) وأبو الحسين الخياط والحسن البصري :تجب المامة عقلً وشرعا.
أدلة هذا المذهب :
أورد أصحاب هذه النظرية عدة براهين شرعية وعقلية وضرورات وظيفية.
- ً 1البرهان الشرعي :
وهو الجماع :أجمع الصحابة والتابعون على وجوب المامة ،إذ بادر الصحابة فور وفاة النبي صلّى
ال عليه وسلم وقبل تجهيزه وتشييعه إلى عقد اجتماع السقيفة ـ سقيفة بني ساعدة ،وبعد تشاور كبار
المهاجرين والنصار بايعوا أبا بكر الصديق رضي ال عنه قياسا على تقديم الرسول صلّى ال عليه
وسلم له لمامة الناس في الصلة أثناء مرضه الشريف ،وأقر المسلمون هذه البيعة في المسجد في
اليوم التالي ،مما ينبئ أنهم مجمعون على ضرورة وجود إمام أو خليفة.
قال اليجي في المواقف وشارحه الجرجاني« :إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الول ،بعد وفاة
النبي صلّى ال عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام ،حتى قال أبو بكر رضي ال عنه في
خطبته المشهورة ،حين وفاته عليه السلم :أل إن محمدا قد مات ،ول بد لهذا الدين ممن يقوم به،
فبادر الكل إلى قبوله ،وتركوا له أهم الشياء ،وهو دفن رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،ولم
-------------------------------
( )1ال ِفصَل في الملل والنحل ،87/4 :المحلى ،438/9 :مسألة ،1768مراتب الجماع:ص .124
( )2الحكام السلطانية :ص .3
( )8/273
يزل الناس على ذلك ،في كل عصر إلى زماننا هذا ،من نصب إمام متبع في كل عصر» ()1
وواضح من قول العلماء أن الجماع منصب على ضرورة وجود الحاكم ،وليس المهم شكل الحكم،
من خلفة أو غيرها ،مادام الشرع هو المطبق (. )2
والجماع حجة قطعية يقينية على وجوب المامة بعد الرسول صلّى ال عليه وسلم وفي كل عصر،
إذ ل يصلح الناس فوضى ل قادة ول رؤساء لهم في كل زمان.
ويؤكد هذا الجماع أو يعد مستندا له إشارات في القرآن والحديث ،قال الماوردي ( : )3جاء الشرع
بتفويض المور إلى ولي في الدين ،قال ال عز وجل{ :يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا
الرسول وأولي المر منكم} ( )4ففرض علينا طاعة أولي المر فينا ،وهم الئمة المتأمرون علينا.
وروى هشام بن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال:
«سيليكم بعدي ولة ،فيليكم البر ببره ،والفاجر بفجوره ،فاسمعوا لهم ،وأطيعوا في كل ماوافق الحق،
فإن أحسنوا فلكم ولهم ،وإن أساءوا فلكم وعليهم» .وهناك آيات أخرى مثل قوله تعالى{ :وأن احكم
بينهم بما أنزل ال ول تتبع أهواءهم} [المائدة{ ]49/5:وشاورهم في المر ،فإذا عزمت فتوكل على ال
} [آل عمران .]159/3:ومارس النبي عليه السلم سلطات سياسية ل تصدر من غير قائد دولة،
كإقامة الحدود وعقد المعاهدات وتعبئة الجيوش
-------------------------------
( )1المواقف وشرحه :ص 603وما بعدها ،وانظر نهاية القدام للشهرستاني :ص .489
( )2شكك الستاذ علي عبد الرزاق في دعوى الجماع هذه في كتابه الشاذ« :السلم وأصول الحكم»
:ص 21وما بعدها ،متعللً بعدم وجود دراسات علمية موسعة للخلفة عند السابقين ،وأن كل
الحكومات السلمية قامت على القهر والغلبةما عدا الخلفة الراشدية ،والحقيقية أنه بالرغم من أن
تأليف هذا الكتاب كان لظروف معينة اقتضته وهي التنديد بالخلفة العثمانية فهو إن أنكر صورة
الحكم ،فل يستطيع إنكار ما تفرضه البداهة وطبيعة الشياء من ضرورة إقامة دولة ،وهو ماتم عليه
الجماع بالذات ،ل أن الجماع أمر ل بد منه لنصب كل حاكم ،فالغلبية فيه تكفي.
( )3الحكا م السلطانية :ص .3
( )4أي أن طاعة أولي المر تقتضي وجوب نصبهم وإقامتهم[ .النساء.]59/4:
( )8/274
وتعيين الولة وفصل الخصومات بين الناس في الشؤون المالية والجنائية ونحوها (. )1
- ً 2البرهان العقلي ـ الشرعي :
وهو توفير النظام ودرء الفوضى ،أي أن الجتماع والتمدن طبيعي في البشر،وكل اجتماع يؤدي إلى
التنازع والتزاحم والختلف بسبب حب الذات والحرص على المصالح الذاتية ،وتحقيق أكبر قدر من
المصالح الشخصية ،والتنازع يفضي غالبا إلى الخصام والصراع والهرج والفوضى المؤذنة بهلك
البشر وانقراض النوع النساني إذا لم تنظم الحقوق وتحدد الواجبات ويفرض النظام ،ويقوم الوازع
الرادع ،ويتم ذلك بالسلطان.قال الماوردي ( : )2تجب المامة عند طائفة عقلً لما في طباع العقلء
من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ،ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ،ولول الولة لكانوا فوضى
مهملين ،وهمجا مضاعين ،وقد قال الفواه الودي ـ وهو شاعر جاهلي:
ل يصلح الناس فوضى ل سراة لهم ..... .....ولسراة إذا جهالهم سادوا
وهذا يعني أن ضرورات الحياة والحفاظ على حقوق النسان تقتضي وجوب المامة أو السلطة.
- ً 3برهان الوظيفة :
إن قيام النسان بوظيفته بكونه خليفة الدنيا في الرض وحامل المانة( :الفروض والتكاليف الدينية)
يتوقف على وجود السلطة السياسية التي تمكنه من أداء وظيفته على نحو أكمل.
وهذه الواجبات ل تتحقق إل في ظل وجود دولة ،سواء أكانت عبادات محضة كالصلوات والحج
والعمرة أم شعائر عامة كالذان والجمعة والعياد ،أم معاملت اجتماعية كالعقود بأنواعها ،أم تكاليف
جماعية كالجهاد والمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة المجتمع الفاضل والتعاون في سبيل
الخير ،وقمع الشر ،ومحاربة الهواء.
وجدير بالذكر أن كل رسالة إصلحية وعلى رأسها السلم ل يمكن أن يقر قرارها أو تظهر فائدتها
إل في سياج منيع من القوة المانعة والسطوة الرادعة التي تلزم وجود الدولة.
-------------------------------
( )1راجع زاد المعاد لبن القيم 124/2 :وما بعدها.
( )2الحكام السلطانية ،المكان السابق.
( )8/275
وغريب أن نجد فكرة سديدة تخالف هذا المنطق أو تتجافى مع هذا التصور .قال النسفي« :والمسلمون
ل بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم ،وإقامة حدودهم،وسد ثغورهم ،وتجهيز جيوشهم وأخذ
صدقاتهم ،وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق ،وإقامة الجمع والعياد ،وقطع المنازعات
الواقعة بين العباد ،وقبول الشهادات القائمة على الحقوق ،وتزويج الصغار والصغيرات الذين ل أولياء
لهم ،وقسمة الغنائم ( ، )1أي ونحو ذلك من المور المتطلبة لوجود الحاكم» .
وقال اليجي في المواقف (« : )2إن في نصب المام دفع ضرر مظنون ،وإن دفع هذا الضرر
واجب شرعا .وبيان ذلك أننا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع ،فيما شرع من
المعاملت ،والمناكحات ،والجهاد ،والحدود والمقاصات ،وإظهار شعائر الشرع في العياد
والجماعات ،إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا ،وذلك المقصود ل يتم إل بإمام يكون من
قبل الشارع يرجعون إليه فيما تعين لهم» .
وهناك برهان آخر يستتبع القيام بالوظيفة المقدسة للبشر :وهو أن مرفق القضاء الذي تقوم به الدولة
أمر ضروري لفض المنازعات الدائمة بين البشر ،ل سيما بعد زوال النظام القبلي الذي يحكم فيه
رئيس القبيلة بالعرف والهوى الشخصي ،وعدم جدوى اللجوء إلى التحكيم إذا تعذر اتفاق
المتخاصمين ،فلم يبق إل القضاء الذي يلجأ إلىه كل إنسان بمفرده.
ومهمة القضاء في السلم ل تقتصر على إقامة العدل بالمفهوم اللهي ،وفصل الخصومات ،وتطبيق
أحكام الشريعة ،وإنما يشمل كل ما من شأنه رعاية الحرمات الدينية ،واحترام الفضيلة ،وإقرار
المعروف ،ومكافحة المنكرات والفواحش بمختلف ألوانها.
فلول القضاء لستأصل البشر بعضهم ،وهلكوا جميعا ،فكان وجوده رحمة ،وتنظيمه فريضة ،وقيام
الدولة به ووجودها من أجله أمرا محتما.
-------------------------------
( )1شرح العقائد النسفية للتفتازاني :ص 142وما بعدها.
( )2المرجع السابق.
( )8/276
وإذا ل حظنا أن مهمة الدولة في السلم حراسة شؤون الدين والدنيا ،وتحقيق السعادة للبشر في
الحياة الدنيا والخرة ،علمنا مدى الهمية المنوطة بالدولة المستلزمة للسعي الفوري في إيجادها ،ولول
ذلك لعمت الفوضى ،وشاع الفساد ،وانتشر الظلم بين العباد.
والخلصة :إن تلزم وجود الدولة مع دعوة السلم ودين السلم أمر ل يمكن فصله في مفهوم
إنسان ،منذ أن قامت دولة المدينة باعتبارها أول نواة لوجود الدولة بالمعنى الحديث القائم على أركان
ثلثة :هي الشعب ،والقليم (الوطن) والسلطة السياسية أو السيادة (. )1
ثانيا ـ القائلون بمبدأ جواز المامة :
قالت فئة قليلة بجواز المامة ل بوجوبها ،وهم المحكّمة الولى والنجدات من الخوارج ،وضرار،
وأبو بكر الصم المعتزلي ،وهشام ال ُفوَطي ،وعباد بن سليمان تلميذه من المعتزلة .قال الصم ممثلً
هذا الرأي :لو تكافّ الناس عن التظالم لستغنوا عن المام (. )2
ويظهر من أقوال هؤلء كما أبان ابن خلدون ( )3أنهم ينشدون إلى تحقيق المثل العليا ،ويعارضون
نظام الملك أو الخلفة المقرون بالظلم والقهر والتمتع باللذات ،والعتداء على الحقوق والستبداد
الغاشم.
-------------------------------
( )1انظر بحث الدولة السلمية المستفيض للموسوعة الفقهية في الكويت ،للمؤلف والذي سيأتي
طبعه هنا لول مرة.
( )2قال الشهرستاني مبينا رأي هؤلء :إن المامة غير واجبة في الشرع وجوبا لو امتنعت المة عن
ذلك استحقوا اللوم والعقاب ،بل هي مبنية على معاملت الناس ،فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على
البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه استغنوا عن المام ومتابعته (نهاية القدام
في علم الكلم :ص .)482
( )3المقدمة ،الفصل 26ص .192
( )8/277
فهم لم يتهاونوا في شأن المامة إذا كان يفهم منها تنفيذ أحكام الشريعة ،بل قد أعلنوا وجوبها ،فنقلوا
الوجوب من المامة كهيئة متميزة منفصلة إلى تنفيذ القانون نفسه ،أي أن على الجميع الشتراك في
تنفيذ أحكام التشريع بأنفسهم ،دون حاجة إلى وجود قوة قاهرة مسيطرة .وهذه هي الديمقراطية
المباشرة أو الجمهورية في أكمل صورها كما يحلم بها فلسفة السياسة .ولكن تحقيق هذا أمر متعذر،
فإن اقترن وجود الدولة ببعض المساوئ فل يمكن الستغناء عنها (. )1
أدلتهم :
استدل هؤلء المجوزون بأدلة جانبيةفحواها تعداد أضرار الحكومات فقالوا :إن وجود الحكومة يتنافى
مع مبدأ الحرية الطبيعية وحق الجتهاد بالرأي ،ومبدأ المساواة ،بسبب ضرورة توفير الطاعة للحاكم.
وإذا لم يطع الناس وقعت الفتنة والختلف .مع أن الحاكم ليس معصوما من الخطأ ،والشروط
المطلوبة فيه قلما توجد في كل زمان.
لكن الحق يقال :إن المصالح التي تتوافر بوجود الحاكم أكثر بكثير من المضار التي تلحق الفراد،
ويتحمل أخف الضررين لدفع أشدهما ،ولن الحرية الحقيقية هي التي تكون في ظل النظام لتأمين
حريات وحقوق الخرين .ثم إن المفاسد التي تحدث من تنازع وتقاتل وهلك وفوضى وتعرض
للخطار الخارجية من العدو تفوق بكثير ما يفقد الشخص من بعض الحقوق الخاصة ،أو يقدمه من
ولء وطاعة أو يتحمله من تبعات ومغارم.
-------------------------------
( )1النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس :ص 141وما بعدها.
( )8/278
( )8/279
فنصب المام إذن لطف ،وكل لطف واجب على ال تعالى ،فنصب المام واجب على ال تعالى .أما
أن المامة لطف من ال في حق عباده ،فلن وجوب إمام عادل يمنعهم من المحظورات ،ويحثهم على
الطاعات يجعلهم أقرب إلى الطاعة ،وأبعد عن المعصية .ثم إن المامة من ال لطف لنها خالية من
المفاسد والقبائح (. )1
فهم يقيسون ( المامة ) على ( النبوة ) .وبما أن المام هو حجة ال على خلقه ،أو حجة ال في
الرض ،وبما أن إرسال الرسل هو حجة ال على عباده لقوله تعالى{ :لئل يكون للناس على ال حجة
بعد الرسل} [النساء ]165/4:فكذلك الئمة حجة له ،وتكون الحكمة من وجود الئمة مشابهة لحكمة
وجود الرسل.
ومعنى كون المام حجة أنه البرهان القائم على أن ال أراد أن يبلغ شرعه لعباده ،وأنه يخاطبهم
ويكلفهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه ،ولول ذلك لكان للناس عذر في العصيان (. )2
ويخلصون من هذا إلى أن المامة ركن الدين وقاعدة السلم ،ول يجوز لنبي إغفاله ول تفويضه إلى
المة ،بل يجب عليه تعيين المام لهم ،ويكون معصوما من الكبائر والصغائر (. )3
والئمة الذين يعترفون بهم هم علي ومن بعده .ويستدلون بآيات وأحاديث على أن الشرع قد جاء
بتعيين هؤلء الئمة ،لكن المامية قالوا :جاء التعيين بالنص على علي .وقال الزيدية :كان التعيين
بالوصف.
-------------------------------
( )1نطرية المامة لدى الشيعة الثني عشرية ،للدكتور أحمد محمود صبحي :ص 72ومابعدها.
( )2نهاية القدام للشهرستاني :ص .485
( )3مقدمة ابن خلدون :الفصل .27
( )8/280
( )8/281
أقوى ،إذ العصمة لم تثبت إل لنبي ،ولو كان علي كرم ال وجهه معصوما لستغنى بعصمته عن
النبي في التعليم وغيره ،كما قال الرازي ( ، )1مع أنهم يسلمون بأنه كان محتاجا للنبي ومؤتما به،
وإل كان ذلك خروجا عن الدين .وقال ابن حزم ( : )2إن عمدة ما احتجت به المامية أن قالوا :ل بد
من أن يكون إمام معصوم ،عنده جميع علم الشريعة ،فالجواب :أن ذلك هو النبي صلّى ال عليه وسلم
نفسه في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة ،فبلغ رسول ال صلّى ال عليه وسلم قائم بعد موته إلى
يوم القيامة.
المبحث الثالث ـ كيفية اختيار المام (أو الحاكم العلى ) :
طرق التعيين :
ذكر فقهاء السلم طرقا أربعة في كيفية تعيين الحاكم العلى للدولة وهي :النص ،والبيعة ،وولية
العهد ،والقهر والغلبة .وسنتبين أن طريقة السلم الصحيحة عملً بمبدأ الشورى ومبدأ الفروض
الكفائية هي طريقة واحدة وهي بيعة أهل الحل والعقد ،وانضمام رضا المة باختياره .وأما ما عدا
ذلك فمستنده ضعيف بسبب التعسف في تأويل النصوص ،أو العتماد على نصوص واهية وأهواء
خاصة ،أو إقرار لواقع قائم لم يجد المسلمون حكمة أو مصلحة في الثورة عليه ،أو القضاء على
وجوده حسما للدماء ومنعا للفوضى ،ومراعاة لظروف خارجية ،أو رهبة من ضراوة الممسك
بالسلطة التي آلت إليه بطرق غير مشروعة كالوراثة ونحوها.
-------------------------------
( )1نهاية العقول :ص ،435مخطوط بدار الكتب المصرية.
( )2الفصل في الملل والنحل.95/4 :
( )8/282
( )8/283
وفاطمة وابناهما ( ، )1لكن ثقات العلماء يبينون أن هذه الية نزلت قبل زواج علي بفاطمة.
وبرهنوا على مذهبهم من السنة بأحاديث أهمها:
- 1حديث غدير خم :
وهو الذي أخرجه الطبراني والنسائي وأحمد والحاكم عن زيد بن أرقم في اليوم الثامن عشر من ذي
الحجة ،وفيه« :يا أيها الناس ،إن ال مولي ،وأنا مولى المؤمنين ،وأنا أولى بهم من أنفسهم ،فمن
كنت موله فعلي موله ،اللهم وال من واله ،وعاد من عاداه ،وانصر من نصره ،واخذل من خذله»
.
والواقع أن هذا الحديث غير صحيح ،قال اليجي :ل صحة للحديث ،إذ لم ينقله أكثر أصحاب
الحديث ،بل إن عليا رضي ال عنه لم يكن يوم الغدير مع النبي صلّى ال عليه وسلم ،بل كان في
اليمن ،وإن سلّم فرواته لم يرووا مقدمة الحديث ( . )2وقال ابن تيمية :مع افتراض أن النبي قاله يوم
الغدير فإنه لم يرد به الخلفة قطعا ،ولكن الشيعة يزكون الحديث ،ويعتبرونه صحيحا لنه يوافق
مبدأهم ( . )3وقال الباقلني :إن لكلمة (مولى) معاني كثيرة ،فمنها المولى بمعنى الناصر ،ومنها
المولى بمعنى ابن العم ،ومنها المولى بمعنى الموالي المحب ،ومنها المولى بمعنى المكان والقرار،
ومنها المولى بمعنى المعتِق المالك للولء ،ومنها المولى بمعنى المعتَق الذي مُلك ولؤه ،ومنها المولى
بمعنى الجار ،ومنها المولى بمعنى الصهر ،ومنها المولى بمعنى الحلف .فهذا جميع ما يحتمله قوله
مولى ،وليس من معنى هذه اللفظة أن المولى إمام واجب الطاعة .والذي قصده النبي بهذه الكلمة ـ
على فرض صحتها ـ يحتمل أمرين.
أحدهما ـ من كنت ناصره على دينه وحاميا عنه بظاهري وباطني وسري وعلنيتي ،فعلي ناصره
على هذه السبيل.
والثاني ـ من كنت محبوبا عنده ،ووليا له على ظاهري وباطني ،فعلي موله ،أي أن ولءه ومحبته
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص 183وما بعدها.
( )2المواقف :ص .405
( )3المنتقى من منهاج العتدال :ص .423
( )8/284
من ظاهره وباطنه واجب ،كما أن ولئي ومحبتي على هذه السبيل واجب (. )1
- 2حديث المنزلة :
حينما خلف النبي صلّى ال عليه وسلم عليا رضي ال عنه على المدينة بعد خروجه لغزوة تبوك ،قال
المنافقون :إنما خلفه لنه يبغضه ،فبلغ ذلك عليا ،فبكى واشتكى إلى النبي صلّى ال عليه وسلم قائلً:
«أتخلفني في النساء والصبيان؟!» فرد النبي« :أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى،
إل أنه ل نبي بعدي» وهذا حديث صحيح متواتر .فسّره الشيعة بما يثبت خلفة علي؛ لن تشبيه علي
بهارون يثبت له كل منازل هارون فيما عدا النبوة .ومن منازله :الخوة والوزارة ،والخلفة ،وولية
المر بعده لو عاش بعد موسى ،وكونه شريكا في أمره.
-------------------------------
( )1التمهيد :ص 164وما بعدها ،وانظر نهاية العقول للرازي :ص .263
( )8/285
وقال أهل السنة :ليس الحديث حجة في الدللة على إمامة علي ،لكونه مخصوصا بواقعة حال معينة:
وهي الستخلف على المدينة ،كما يستخلف كل قائد أحدا بعده في إدارة وليته حال غيبته .ثم إن
النبي صلّى ال عليه وسلم قد خلف عليا في أهله ،وليست الخلفة في الهل كالخلفة على البشر.
والستخلف المقيد بالغيبة ل يكون باقيا بعد انقضائها ،كما لم يبق في حق هارون (. )1
وقد أجاب الباقلني عنه بأنه ل يجب أن نفهم من هذا الحديث بأنه نص على خلفته بعده؛ لن معناه
أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة .وهذا واضح من سياق الحديث
الذي رواه سعد بن أبي وقاص قال :إن عليا لحق بالنبي صلّى ال عليه وسلم بعد أن استخلفه ،وقال
له :أتتركني مع الخلف؟! فأجابه الرسول صلّى ال عليه وسلم بقوله« :أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى،إل أنه ل نبي بعدي» .
- 3حديث الراية يوم خيبر :
قال النبي صلّى ال عليه وسلم محددا أوصاف علي لقيادته معركة خيبر« :لعطين الراية غدا إلى
رجل يحب ال ورسوله ،ويحبه ال ورسوله ،كرّار غير فرار ،ل يرجع حتى يفتح ال على يده» وهو
حديث صحيح رواه البخاري والترمذي والحاكم .هذه الصفات أصبحت خاصة بعلي رضي ال عنه،
مما يدل على أفضليته وبالتالي أحقيته للمامة؛ لن المامة للفضل .ورد أهل السنة على الستدلل
به بأنه ل ملزمة بين كونه محبا ل ولرسوله ومحبوبا منهما ،وبين كونه إماما ،كما ل يلزم من
إثباتهما له نفيهما عن غيره ( ، )2فقد قال ال تعالى في حق أبي بكر{ :يا أيها الذين آمنوا من يرتد
منكم عن دينه فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة ]54/5:وقال في حق أهل بدر{ :إن ال يحب
الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف.]4/61:
الدلة العقلية :
استدل الشيعة بأدلة عقلية كثيرة على وجوب النص على المام من قبل ال ،وهي في جملتها تتفق مع
مبدئهم في عصمة المام ،وتوجه النقد إلى طريقة تعيينه بالختيار.
من هذه الدلة قولهم ( : )3ل يجوز إسناد أمر المامة إلى الناس؛ لنها أهم أركان الدين ،فالذي شرع
الحكام وجب عليه النص على من ل تتم الحكام الشرعية إل بنصبه لطفا من ال ورحمة منه بعباده.
ول يترك الختيار للمة؛ لن المام خليفة ال أو لرسوله ،وليس خليفة للمة.
ثم إن ترك المامة لختيار الناس يفضي إلى اختلف الناس وانتشار الفتن وقيام التنازع والحروب
والهرج والمرج ،وكل ذلك فساد في الرض ،وال ل يحب الفساد.
-------------------------------
( )1نظرية المامة ،صبحي :ص 225وما بعدها.
( )2المرجع السابق :ص 231وما بعدها.
( )3صبحي ،المرجع السابق :ص 89وما بعدها.
( )8/286
وليس الختيار مضمون النتائج ،فقد يخطئ الناس في تعيين المستحق لهذا المنصب الخطير الذي هو
نظير منصب النبوة لقيامه بحراسة شؤون الدين والدنيا؛ وذلك أن كل شخص سيختارحسب مصلحته
الشخصية ل بمقتضى المصلحة الكلية والحكمة اللهية ،بل إنه لم يحدث أن قامت إمامة على الختيار
الحر والمشيئة المطلقة لجمهور المسلمين.
يظهر من هذه الدلة ونحوها أنها هي النتقادات الموجهة للنظام الديمقراطي بوجه عام لقيامه على
مبدأ سلطة المة وأحقيتها في اختيار المام .ول شك أن ذلك صحيح ،ولكن الفلسقة السياسيين ما
زالوا يحاولون إصلح الخلل الواقع في النظام الديمقراطي ،كما أن الفقهاء المسلمين وضعوا ضوابط
وشروطا دقيقة في المرشح للخلفة سأذكرها ،وفيما الضمانة الغالبة من الوقوع في خطأ الختيار.
الدلة التاريخية :
إن اعتقاد الشيعة بضرورة النص على المام كان رد فعل لوقائع التاريخ التي صدمت أمانيهم (، )1
وأدت إلى نكبة آل البيت التي تستثير عاطفة كل مسلم صادق بعيد عن التأثرات السياسية.
إنهم يفترضون أنه ل بد من أن يعين الرسول صلّى ال عليه وسلم خليفة من بعده ،حتى ل تقع أمته
في بحر من الفتن والضطرابات والختلفات التي أخبر عنها بقوله« :ستفترق أمتي على ثلث
وسبعين فرقة )2( »..ولو جاء التاريخ والحاديث المدونة بغير ذلك ،وجب أن نتشكك في وقائع
التاريخ وصحة الحاديث ،ونتهمها بالكتمان وتشويه الحقيقة.
وأما أهل الحل والعقد الذين يختارون المام فكانوا مرتع النزاع والخصام والخلف ،بسبب اعتقاد كل
واحد أنه أحق بزعامة المة .والواقع ـ كما يرون ـ أنه لم تتم بيعة لمام بالختيار أو الشورى أو
رضا المة ،إذ عين عمر بالنص من أبي بكر ،وعثمان بالشورى بين ستة حددهم عمر ثم صارت
القضية بولية العهد.
-------------------------------
( )1المرجع نفسه :ص 99وما بعدها.
( )2رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح عن عوف بن مالك بلفظ «تفترق أمتي
على بضع وسبعين فرقة. »..
( )8/287
ولكن يلحظ أن التاريخ ل تتقرر أحكامه بالفتراض ،والحتمال المنطقي ،وإنما يعتمد الخبر والرواية
والنظر في مدى صحتها وصدقها وتمحيص الوثائق المنقولة .وما اعتمد عليه الشيعة من أخبار ناتج
عن الفكرة المسيطرة على أذهانهم سابقا بوجوب النص ،واستخلف علي رضي ال عنه بالذات.
والخلصة :أنه لم يثبت يقينا نص صريح قطعي يدل على إمامة علي أو غيره ،ولم يصح في ذلك
شيء عند أحد من أئمة النقل (. )1
وحبذا لو طوينا هذا الخلف السياسي القديم بين أهل السنة والشيعة ،وأنهينا كل ما خلفه من عصبيات
موروثة وخلفات جانبية ،وأدركنا جميعا ضرورة الحفاظ على الوحدة السلمية ،وحدة الصف أمام
العدو الخارجي فقط ،وأن الكل مسلمون ،يعملون للسلم دون تفرقة بين الطوائف؛ لن الخلف بينها
ليس في الصول قطعا ،وإنما في جوانب هي أقل من الفروع والجزئيات ،ول يصح أن نتحمل آثار
ومخلفات الماضي السياسية ،ول أن تبقى سببا للخلف؛ لن الدين واحد ،والعقيدة واحدة ،والدستور
واحد واضح في القرآن والسنة ،وخلف الرجال ل يصح أن يشتت وحدة المة.
تعيين المام بولية العهد أو الستخلف :
ولية العهد :هي أن يعهد المام إلى شخص بعينه أو بواسطة تحديد صفات معينة فيه ،ليخلفه بعد
وفاته ،سواء أكان قريبا أم غير قريب.
رأى الفقهاء جواز انعقاد المامة بولية العهد أو باليصاء إذا توافرت في ولي العهد شروط الخلفة،
وتمت له البيعة من المة .فهي إذن بمثابة ترشيح
-------------------------------
( )1مقدمة ابن خلدون :ص .168
( )8/288
واقتراح من الخليفة السابق .قال الماوردي ( : )1وأما انعقاد المامة بعهد من قبله ،فهو مما انعقد
الجماع على جوازه ،ووقع التفاق على صحته لمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:
أحدهما ـ أن أبا بكر رضي ال عنه عهد بها إلى عمر رضي ال عنه ،فأثبت المسلمون إمامته
بعهده.
والثاني ـ أن عمر رضي ال عنه عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها ،وهم أعيان
العصر ،اعتقادا لصحة العهد بها.
وأما ضرورة توافر شروط المام الشرعي في ولي العهد فهو أمر بدهي مفروغ منه ،ككونه أمينا
ورعا ثقة مخلصا ل ،ناصحا للمسلمين .قال الماوردي ( : )2وإذا عهد المام بالخلفة إلى من يصح
العهد إليه على الشروط المعتبرة ،كان العهد موقوفا على قبول المولى .وتعتبر شروط المامة في
المولى من وقت العهد إليه ،فإن كان صغيرا أو فاسقا وقت العهد لم تصح خلفته حتى يستأنف أهل
الختيار بيعته.
ويتضح ذلك من حادثتي تولية أبي بكر لعمر ،وتولية عمر لهل الشورى ،فقد كان معيار الختيار هو
الحرص على رعاية مصالح المة ،وانتقاء المستوفي لشروط المامة.
وأما رضا المة بالمولّى فهو أمر أساسي أيضا كما سنعرف ،وهو الرأي الذي قرره بعض علماء
البصرة إذ قالوا :إن رضا أهل الختيار لبيعته شرط في لزومها للمة؛ لنها حق يتعلق بهم ،فلم
تلزمهم إل برضا أهل الختيار منهم.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص .8
( )2الحكام السلطانية :ص .9
( )8/289
ولسنا مع الماوردي الذي صحح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر؛ لن بيعة عمر رضي
ال عنه لم تتوقف على رضا الصحابة ( ، )1وذلك لن المام أو أهل الشورى كانوا يمثلون في
اختيارهم المة ،وقد تمت فعلً بيعة عمر وعثمان رضي ال عنهما برضا المة وموافقتها.
يتضح من هذا أن المامة ل تورث ،فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن المامة ل يصح أن تورث.
قال ابن خلدون« :وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على البناء ،فليس من المقاصد الدينية ،إذ
هو أمر من ال يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن ،خوفا من العبث
بالمناصب الدينية» ( )2وقال ابن حزم« :ول خلف بين أحد من أهل السلم في أنه ل يجوز
التوارث فيها» (. )3
انعقاد المامة بالقهر والغلبة :
رأى فقهاء المذاهب الربعة وغيرهم أن المامة تنعقد بالتغلب والقهر ،إذ يصير المتغلب إماما دون
مبايعة أو استخلف من المام السابق وإنما بالستيلء ،وقد يكون مع التغلب المبايعة أيضا فيما بعد (
. )4
قال ابن المنذر ( : )5والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عن دينه ودمه وماله وعرضه
ومظلمته ،إذا أريد ظلما ،بغير تفصيل ،إل أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على
استثناء السلطان ،للثار الواردة بالمر بالصبر على جوره ،وترك القيام عليه.
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص .8
( )2المقدمة ،الفصل .30
( )3الفصل في الملل والنحل.167/4 :
( )4حجة ال البالغة للدهلوي ،111/2 :حاشية ابن عابدين 319/3 :ومابعدها ،مغني المحتاج:
،132-130/4الحكام السلطانية لبي يعلى :ص 6وما بعدها ،حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:
،298/4غاية المنتهى.348/3 :
( )5تلخيص الحبير ،15/4 :المغني 638/7 :وما بعدها.
( )8/290
وعبارة الحنفية في هذا الشأن هي كما قال الدهلوي :تنعقد الخلفة باستيلء رجل جامع للشروط على
الناس ،وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء بعد النبوة .ثم إن استولى من لم يجمع الشروط (أي المطلوبة
لتولي المامة) ل ينبغي أن يبادر إلى المخالفة؛ لن خلعه ل يتصور غالبا إل بحروب ومضايقات،
وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة « .وسئل رسول ال صلّى ال عليه وسلم عنهم ،فقيل:
أفل ننابذهم؟ قال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة ،وقال :إل أن تروا كفرا َبوَاحا ،عندكم من ال فيه برهان
(. » )1
يظهر من هذا الكلم أن القهر حالة استثنائية غير متفقة مع الصل الموجب لكون السلطة قائمة
بالختيار ،وإقرارها فيه مراعاة لحال واقعة للضرورة ومنعا من سفك الدماء.
وعبارة المالكية كما قال الدسوقي :اعلم أن المامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلثة:
إما بإيصاء الخليفة الول المتأهل لها؛ وإما بالتغلب على الناس؛ لن من اشتدت وطأته بالتغلب،
وجبت طاعته ،ول يراعى في هذا شروط المامة؛ إذ المدار على درء المفاسد ،وارتكاب أخف
الضررين؛ وإما ببيعة أهل الحل والعقد :وهم من اجتمع فيهم ثلثة أمور :العلم بشروط المام،
والعدالة ،والرأي.
وشروط المام :الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشيا ،وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلت .وبيعة
أهل الحل تكون بالحضور والمباشرة بصفقة اليد ،وإشهاد الغائب منهم .ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت
أمره ،فإن أضمر خلف ذلك فسق ،ودخل تحت قوله عليه الصلة والسلم:
-------------------------------
( )1ورد ذلك في رواية للبخاري من حديث رواه البخاري ومسلم والموطأ والنسائي عن عبادة بن
الصامت (جامع الصول.)166-165/1 :
( )8/291
«من مات وليس في عنقه بيعة ،مات ميتة جاهلية» (. )1
وقال ابن حجر ( : )2أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه ،وأن طاعته
خير من الخروج عليه ،لما في ذلك من حقن الدماء ،وتسكين الدهماء ،ولم يستثنوا من ذلك إل إذا وقع
من السلطان الكفر الصريح ،فل تجوز طاعته في ذلك ،بل تجب مجاهدته لمن قدر عليه ،لحديث
البخاري عن عبادة« :إل أن تروا كفرا بَواحا عندكم من ال فيه برهان» .
بيعة الخليفة :
أولً ـ طريقة بيعة الخليفة :
لقد أجمع المسلمون ما عدا الشيعة المامية على أن تعيين الخليفة يتم بالبيعة ،أي الختيار والتفاق
بين المة وشخص الخليفة ،فهي عقد حقيقي من العقود التي تتم بإرادتين على أساس الرضا.
وهذه النظرية سبقت نظرية الفقيه الفرنسي جان جاك روسو الذي افترض أن أساس السلطة السياسية
أو السيادة هو عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم.
-------------------------------
( )1رواه مسلم في باب المارة.
( )2فتح الباري.112/16 :
( )8/292
وسميت عملية التعاقد هذه (بيعة) تشبيها بفعل البائع والمشتري لنهم كانوا إذا بايعوا المير وعقدوا
عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد (. )1
قال الماوردي :فإذا اجتمع أهل العقد والحل للختيار ،تصفحوا أحوال أهل المامة الموجودة فيهم
شروطها ،فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلً ،وأكملهم شروطا ،ومن يسرع الناس إلى طاعته ،ول
يتوقفون عن بيعته (. )2
وأهل الحل والعقد يمثلون المة في اختيارهم الخليفة ( ، )3باعتبار أن نصب المام من الفروض
الكفائية على المة بمجموعها ،وأن لها الحق في عزله حال فسقه .قال الرازي واليجي وغيرهما :إن
المة هي صاحبة الرئاسة العامة ( . )4وقال البغدادي :قال الجمهور العظم من أصحابنا (أي أهل
السنة) ومن المعتزلة والخوارج والنجارية :إن طريق ثبوتها (أي المامة) الختيار من المة (. )5
وهذه يدلنا على أن المة هي مصدر السلطة التنفيذية؛ لن حق التعيين والعزل ثابت لها.
ثانيا ـ من هم أهل الحل والعقد؟
أ ـ أهل الحل والعقد :
هم العلماء المختصون (أي المجتهدون) والرؤساء ووجوه الناس الذين يقومون باختيار المام نيابة عن
المة .قال الماوردي :وإن لم يقم بها (أي المامة)
-------------------------------
( )1مقدمة ابن خلدون :ص ،174الفصل .29
( )2الحكام السلطانية :ص ،5حجة ال البالغة للدهلوي.111/2 :
( )3راجع النظريات السياسية للريس :ص .170
( )4المواقف.345/8 :
( )5أصول الدين للبغدادي :ص .279
( )8/293
أحد ،خرج من الناس فريقان :أحدهما ـ أهل الختيار ،حتى يختاروا إماما للمة .والثاني ـ أهل
المامة حتى ينتصب أحدهم للمامة ،وليس على من عدا هذين الفريقين من المة في تأخير المامة
حرج ول مأثم (. )1
ب ـ شروطهم :
يتحدد أولو الحل والعقد بالصفات أو الشروط المطلوبة فيهم ،وهي كما ذكر الماوردي ثلثة هي (: )2
أولً ـ العدالة الجامعة لشروطها .والعدالة :هي ملكة تحمل صاحبها على ملزمة التقوى والمروءة،
والمراد بالتقوى :امتثال المأمورات الشرعية ،واجتناب المنهيات الشرعية.
ثانيا ـ العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق المامة على الشروط المعتبرة فيها.
ثالثا ـ الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للمامة أصلح ،وبتدبير المصالح أقوى وأعرف.
وهذه الشروط يقرها المنطق وتمليها المصلحة ،وتوجبها المدنية الحقة ،ويفهم منها أن هذه الهيئة
بمثابة مجلس الشيوخ في عرفنا الحاضر ،على أن يكون أعضاؤه من ذوي الكفاءات العلمية ،ل المالية
المادية ،أو الطبقية ،أو كونهم من أهل المدينة ل الريف .لذا قال الماوردي :وليس لمن كان في بلد
المام على غيره من أهل البلد فضل مزية تقدم بها على غيره ( . )3ويلحظ أن أهل الحل والعقد
في السياسة ل يقتصر على ( المجتهدين ) الذي يتولون مهمة استنباط الحكام الشرعية من مصادرها،
وإنما يشمل فئات أخرى لها ميزاتها في المجتمع.
جـ ـ عددهم :
ل نرى مجالً صحيحا للكلم في تحديد عدد أهل الحل والعقد؛ لن المعول عليه هو ثقة المة بهم،
وكونهم يمثلون المة فيما ترغب وتريد وتتوافرفيهم شروط معينة ،فل يمكن تحديدهم .لكن لمجرد
العلم والطلع أذكر ما قاله الفقهاء في هذا الشأن ،وقد استعرض الماوردي آراءهم ،فقال (: )4
اختلف العلماء في عدد من تنعقد به المامة منهم ،على مذاهب شتى:
- 1قالت طائفة :ل تنعقد إل بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد ليكون الرضاء به عاما ،والتسليم
لمامته إجماعا ،وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي ال عنه على الخلفة باختيار من حضرها،
ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
- 2وقالت طائفة أخرى :أقل من تنعقد به منهم المامة خمسة يجتمعون على عقدها ،أو يعقدها
أحدهم برضا الربعة استدللً بأمرين:
أحدهما ـ أن بيعة أبي بكر رضي ال عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ،ثم تابعهم الناس فيها ،وهم
عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ،وأسيد بن حضير ،وبشر بن سعد ،وسالم مولى أبي حذيفة
رضي ال عنهم.
والثاني ـ أن عمر رضي ال عنه جعل الشورى في ستة ليعقد لحدهم برضا الخمسة.
وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة.
- 3وقال آخرون من علماء الكوفة :تنعقد بثلثة يتولها أحدهم برضا الثنين ليكونوا حاكما
وشاهدين ،كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
- 4وقالت طائفة أخرى :تنعقد بواحد؛ لن العباس قال لعلي رضوان ال عليهما :امدد يدك أبايعك،
فيقول الناس :عم رسول ال صلّى ال عليه وسلم بايع ابن عمه ،فل يختلف عليك اثنان؛ ولنه (أي
إىجاب العقد) حكم ،وحكم واحد نافذ.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص 3وما بعدها.
( )2و ( )3المرجع السابق :ص .4
( )4الحكام السلطانية :ص 4وما بعدها.
( )8/294
( )8/295
( )8/296
أحس أبو بكر بدنو أجله ،طلب من الناس أن يؤمّروا عليهم واحدا في حال حياته ،حتى ل يختلفوا
بعده ،خشية على المسلمين من التفرق بعد أن بدؤوا الحرب مع فارس والروم ،فردوا المر إليه في
أن يختار لهم من يرى فيه الخير ولهم وللدين .فاستمهل ثم بدأ مشاوراته مع كبار الصحابة وأهل
الرأي ،سائلً الواحد تلو الخر في ترشيح عمر ،وكان من أشهر من استدعاهم عثمان وعبد الرحمن
بن عوف وسعيد بن زيد وأسيد بن الخضير وغيرهم من المهاجرين والنصار ،فأثنوا عليه خيرا،
وتخوف بعضهم وهو ابن عوف من شدته (غلظته) ،فأجابه أبو بكر بقوله :ذلك لنه يراني رقيقا ،ولو
أفضى المر إليه لترك كثيرا مما هو عليه .وبعد أن أتم أبو بكر مشاوراته ،أملى على عثمان عهده
إلى المسلمين ،ثم أشرف على الناس وزوجته أسماء بنت عميس تمسكه ،فقال :أترضون بمن
استخلفت عليكم ،فإني وال ما ألوت من جهد الرأي ،ول وليت ذا قرابة؟! وإني قد استخلفت عمر بن
الخطاب ،فاسمعوا له وأطيعوا ،فقالوا :سمعنا وأطعنا.
ثم أمر أبو بكر عثمان بتبليغ الناس وأخذ البيعة ،فذهب ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي ،فقال
عثمان للناس :أتبايعون لمن في هذا الكتاب (أي لعمر)؟ فقالوا :نعم .وبعد تمام البيعة بايعه أبو بكر
معلنا أنه لم يرد إل صلح المسلمين وإبعادهم عن الفتنة ،وأوصاه بما هو خير (. )1
- 3عثمان بن عفان :
يبدو لنا في صورة اختيار عثمان مظهر الشورى بشكل أوضح ،إذ أن عمر رضي ال عنه وهو
صحيح حدد لجنة الشورى في ستة :وهم ( )2علي والزبير بن
-------------------------------
( )1راجع طبقات ابن سعد ،200 ،122/3 :تاريخ الطبري.54-51/4 :
( )2تاريخ السلم السياسي للدكتور حسن إبراهيم 254/1 :وما بعدها.
( )8/298
العوام ،وعبد الرحمن بن عوف ،وعثمان بن عفان ،وطلحة بن عبيد ال ،وسعد ابن أبي وقاص.
وعين لهم مدة ثلثة أيام للختيار ،ورسم لهم خطة المشاورة ،بالخذ برأي الكثرية ،فإن تساووا
يرجح الجانب الذي فيه عبد ال بن عمر ،أي في حالة تساوي الصوات ،فإن لم يرضوا بحكم عبد ال
بن عمر ،فليكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف .وأمر بضرب عنق من خالف بعدئذ .وخلف
على أصحاب الشورى أبا طلحة في خمسين من قومه من النصار ،في أل يتركهم يمضي اليوم
الثالث حتى يؤمروا أحدهم ،وقال له عمر قبل موته بساعة :اللهم أنت خليفتي عليهم.
وقام أهل الشورى هؤلء بإجراء مشاورات طوال اليام الثلثة ليلً نهارا ،وكان عبد الرحمن ـ الذي
خلع نفسه من الخلفة ـ يلقى أصحاب رسول ال ،ومن وافى المدينة من أمراء الجناد وأشراف
الناس ،يشاورهم ،فوجد الناس يجمعون على أحد اثنين :عثمان أو علي .إل أن أكثرية أهل الشورى
والمسلمين رغبوا بعثمان لما عرفوا فيه من لين ورحمة وأفضال على الناس بتجهيز جيش العسرة من
ماله وشراء بئر رومة وجعله سبيلً للمسلمين يسقون منه .ثم جمع عبد الرحمن المسلمين في المسجد،
واستوثق من عثمان وعلي بالعمل بكتاب ال وسنة رسوله وسيرة الخليفتين الراشدين من قبله بالعدل
والنصاف ،ثم بايع (أي عبد الرحمن) عثمان رضي ال عنه وتابعه المسلمون بالمبايعة ،وفيهم علي
بن أبي طالب بعد أن تأخر عن المبايعة بسبب مرضه.
ولم تكن مبايعة عبد الرحمن محاباة ول ظلما كما قد ظن بعض الناس ،وإنما كانت تعبيرا أمينا صادقا
عن آراء المة ومشاوراته الليالي واليام مع أكابرها ومتقدميها .مع ما عرف من فضله ونبله وسابقته
في السلم وعلمه وزهده في الخلفة وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للمة ،كما أبان الباقلني
( . )1
-------------------------------
( )1راجع التمهيد للباقلني :ص 208وما بعدها ،صحيح البخاري ،78/9 :تاريخ الطبري،13/5 :
،41-34طبقات ابن سعد.61/3 :
( )8/299
( )8/300
العامة ( . )1وهذا ماكان يفعله الناس في عهد الراشدين ومن بعدهم من خلفاء المويين .لكن باستثناء
خلفة عمر بن عبد العزيز ( )2رحمه ال ،برزت صفة وراثة الحكم التي ابتكرها معاوية ،واستمرت
سنّة متبعة دون مراعاة الشروط المطلوبة شرعا في الخليفة أحيانا ،وحرصا على الحفاظ على وحدة
المسلمين ،واستمرار الفتوح ،وبقاء الدولة قوية في وجه أعداء السلم.
المبحث الرابع ـ شروط المام :
اشترط العلماء في المرشح للخلفة أو الوزراة وفي أثناء عمله شروطا سبعة هي (: )3
أولً ـ أن يكون ذا ولية تامة بأن يكون مسلما ،حرا ،ذكرا ،بالغا ،عاقلً.
أما اشتراط السلم فلنه يقوم بحراسة الدين والدنيا ،وإذا كان السلم شرطا في جواز الشهادة ،فهو
شرط في كل ولية عامة ،لقوله تعالى{ :ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء:
.]141/4
وأما اشتراط الحرية فلنه وصف كمال ،فل يعقل أن يكون صاحب الولية
-------------------------------
( )1راجع نظام الحكم في السلم لستاذنا الدكتور محمد يوسف موسى :ص 118وما بعدها،
النظريات السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس :ص .194
( )2خلع عمر نفسه بعد أن قرئ كتاب العهد له من سليمان بن عبد الملك على الناس ،فصعد المنبر
وقال« :إني وال ما استؤمرت في هذا المر ،وأنتم بالخيار» وفي رواية أخرى« :أيها الناس ،إني قد
ابتليت بهذا المر من غير رأي مني ول طلبة له ول مشورة من المسلمين ،وإني قد خلعت ما في
أعناقكم من بيعتي ،فاختاروا لنفسكم» .ونظرا لهذا الموقف المشرف ،وبسبب عدالته في الحكم كان
خامس الخلفاء الراشدين.
( )3حجة ال البالغة للدهلوي ،111/2 :الحكام السلطانية للماوردي :ص .4
( )8/301
أدنى رتبة من المولى عليهم .قال الماوردي :تشترط الحرية؛ لن نقص العبد عن ولية نفسه يمنع من
انعقاد وليته على غيره ،ولن الرق لما منع من قبول الشهادة ،كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم
وانعقاد الولية (. )1
وأما الذكورة فلن عبء المنصب يتطلب قدرة كبيرة ل تتحملها المرأة عادة ،ول تتحمل المسؤولية
المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة ،قال صلّى ال عليه وسلم « :لن
يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ( )2لذا أجمع الفقهاء على كون المام ذكرا.
وأما البلوغ فأمر بدهي؛ لن الصبي ليس كفئا لمثل هذه المهام الكبرى ،فهو غير مسؤول عن أفعاله،
ول يتعلق بفعله حكم معين (. )3
وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أوعام .ول يكفي فيه الحد الدنى للمطالبة بالتكاليف
الشرعية من صلة وصيام ونحوهما ،بل ل بد فيه من رجحان الرأي ،بأن يكون صاحبه صحيح
التمييز ،جيد الفطنة بعيدا عن السهو والغفلة ،يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل،
كما قال الماوردي (. )4
ثانيا ـ العدالة :أي الديانة والخلق الفاضلة ،وهي معتبرة في كل ولية ،وهي أن يكون صادق
اللهجة ،ظاهر المانة ،عفيفا عن المحارم ،متوقيا المآثم ،بعيدا من الريب ،مأمونا في الرضا
والغضب،مستعملً لمروءة مثله في دينه ودنياه،
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص .61
( )2رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه عن أبي بكرة ،وقد سبق تخريجه في بحث
القضاء.
( )3المرجع السابق :الفصل في الملل والنحل لبن حزم.110/4 :
( )4المرجع السابق.
( )8/302
كما قال الماوردي ( . )1وفي الجملة :هي التزام الواجبات الشرعية ،والمتناع عن المنكرات
والمعاصي المحرمة في الدين.
ثالثا ـ الكفاية العلمية بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الجتهاد فيما يطرأ من نوازل
وأحداث ،أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية .وهذا الشرط متفق عليه
بين العلماء ( . )2ول يكون العالم مجتهدا إل إذا علم الحكام الشرعية وكيفية استنباطها من
مصادرها الشرعية الربعة :وهي القرآن والسنة والجماع والقياس .وأن يعرف أحوال العصر وما
طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
رابعا ـ حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والدارية ،قال الماوردي :الرأي المفضي إلى
سياسة الرعية وتدبير المصالح ( ، )3وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة
الكافية بشؤون الناس وأمور البلد وحاجات الحكم والسياسة (. )4
خامسا ـ صلبة الصفات الشخصية :بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة
(الوطن) وجهاد العدو ،وإقامة الحدود ،وإنصاف المظلوم من الظالم ،وتنفيذ الحكام السلمية (. )5
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص .62
( )2المرجع السابق :ص ،62 ،4الرشاد إلى قواطع الدلة في أصول العتقاد لمام الحرمين :ص
،426الرد على الباطنية للغزالي :ص .75
( )3الحكام السلطانية :ص .4
( )4أصول الدين للبغدادي :ص ،277المواقف لليجي ،349/8 :مقدمة ابن خلدون :ص ،161
الفصل ،26ط المهدي.
( )5المراجع السابقة ،العقائد النسفية :ص .145
( )8/303
سادسا ـ الكفاية الجسدية :وهي سلمة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما
يدرك بها .وسلمة العضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض (. )1
فإن طرأ نقص على بدن المام مما يخل بهذا الشرط ،فقد بحث الماوردي ـ مؤسس القانون
الدستوري والداري في السلم أثر ذلك على استدامة المامة مما ل نجد له مثيلً عند غيره ،فقال:
ينقسم النقص ثلثة أقسام (: )2
أحدها ـ نقص الحواس .والثاني ـ نقص العضاء .والثالث ـ نقص التصرف.
أ ـ فأما نقص الحواس فينقسم ثلثة أقسام :قسم يمنع من المامة ،وقسم ل يمنع ،وقسم مختلف فيه:
فأما القسم المانع منها فشيئان :أحدهما ـ زوال العقل ،والثاني ـ ذهاب البصر .وأما القسم الثاني من
الحواس التي ل يؤثر فقدها في المامة فشيئان أحدهما ـ الخشم في النف الذي ل يدرك به شم
الروائح .والثاني ـ فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم ،فل يؤثر هذ في عقد المامة؛ لنهما يؤثران
في اللذة ،ول يؤثران في الرأي والعمل.
وأما القسم الثالث من الحواس المختلف فيه فشيئان :الصمم والخرس :فيمنعان من ابتداء عقد المامة؛
لن كمال الوصاف بوجودهما مفقود .واختلف في الخروج بهما من المامة ،فقالت طائفة :يخرج
بهما منها ،كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التدبير والعمل ،وهو أصح المذاهب.
وقالت طائفة :ل يخرج بهما من المامة لقيام الشارة مقامهما.
وقال آخرون :إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من المامة ،وإن كان ل يحسنها خرج من المامة
بهما؛ لن الكتابة مفهومة ،والشارة موهومة.
ب ـ وأما فقد العضاء فينقسم أربعة أقسام:
أحدها ـ ما ل يؤثر على الترشيح للمامة ول على استدامتها :وهو ما ل يؤثر فقده في رأي ول
عمل ول نهوض ول يشين في المنظر ،مثل قطع الذكر والنثيين وقطع الذنين.
الثاني ـ ما يمنع من عقد المامة ومن استدامتها :وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين ،أو من
النهوض كذهاب الرجلين.
-------------------------------
( )1المراجع السابقة.
( )2انظر التفصيل في الحكام السلطانية :ص ،19-16مقدمة ابن خلدون :الفصل ،26ص .161
( )8/304
الثالث ـ ما يمنع من عقد المامة ،واختلف في أثره على استدامتها :وهو ما ذهب به بعض العمل أو
فقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرّجلين ،فذلك يمنع الترشيح للمامة .وأما
استدامتها ففي إنهاء وليته مذهبان :أحدهما :تنتهي إمامته ،والثاني ل تنتهي.
الرابع ـ ما ل يمنع من استدامة المامة ،واختلف في أثره على صلحية الترشيح ،وهو ما يؤدي إلى
تشويه الجسد ،ولكن ل يؤثر في عمل ول في نهضة كجدع النف وسمل إحدى العينين .فذلك ل يؤثر
على بقائه في المامة .واختلف في منعه من الترشيح لها على مذهبين :أحدهما يمنع ،والخر ل يمنع.
جـ ـ وأما نقص التصرف فنوعان :حجر وقهر.
فأما الحجر :فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ المور من غير تظاهر بمعصية ول
مجاهرة بمشاقة ،فل يمنع صحة وليته ،ولكن ينظر في أفعال المتسلط على أموره ،فإن وافقت أحكام
الشرع والعدل أقر عليها ،وإن خالفت أحكام الدين ومقتضى العدل ،لم يقر عليها ووجب تنحية
المتسلط .وأما القهر :فهو أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ل يقدر على الخلص منه ،فيمنع ذلك
من ترشيحه للخلفة .فإن أسر بعد انعقاد المامة له ،وجب على كافة المة استنقاذه من السر ،ول
يخلع من المامة إل إذ يئس المسلمون من استخلصه من السر.
سابعا ـ النسب وهو أن يكون المرشح للخلفة من قريش ،وهذا الشرط مختلف فيه ( ، )1أما
الشروط السابقة فمتفق عليها في الجملة.
فقال أهل السنة :يجب كونه من قريش لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :الئمة من قريش» «قدموا
قريشا ولتقدموها» «ل يزال هذا المر في هذا الحي من قريش ما استقاموا» أو «ما أقاموا الدين» (
. )2
وقال الخوارج ،والمعتزلة بعدهم :إن المامة حق لكل مسلم متى استكمل الشروط الخرى.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي :ص ،4مقدمة ابن خلدون :ص ،162الفصل ،26الملل والنحل
للشهرستاني ،199/1 :أصول الدين للبغدادي :ص ،275المواقف.392/8 :
( )2حديث «الئمة من قريش» رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب ،وأخرج مسلم
عن جابر« :الناس تبع لقريش في الخير والشر» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة« :الناس تبع
لقريش في هذا الشأن ،مسلمهم لمسلمهم ،وكافرهم لكافرهم» وروى الطبراني عن علي« :قدموا قريشا
ول تقدموها» وروى الطبراني عن ثوبان «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم( »...مجمع الزوائد:
،228/5الترغيب والترهيب.)170/3 :
( )8/305
ولكن يلحظ أن الفقهاء الشرعيين الذين نظروا إلى شرط النسب في المامة ،وفي بعض الحكام
الخاصة كالكفاءة بين الزوجين في الزواج ،ل يتنافى رأيهم مع مبدأ المساواة المقرر في السلم بين
الناس؛ لن المساواة مطلوبة فيما ثبت للفراد من الحقوق أو كلفوا به من الواجبات .وقضية المامة
والكفاءة روعي فيها
عرف الناس وعاداتهم وتوفير المصلحة التي ل يعقبها نزاع ،وكون الحق فيها مقصورا على من
حددهم الشرع لحكمة معينة (. )1
وبما أن قريشا كانت لها الصدارة بين العرب ،وتألف شؤون المدنية والجتماع ويتبعها أكثر الناس،
وكلمتها نافذة بين القبائل منذ الجاهلية ،فمن المصلحة إناطة المر العام والسياسة بها ،فإذا تغير المر
وأصبحت الغلبة لمن ترضى عنه أكثرية الناس بالنتخاب ونحوه ،فل مانع في تقديري من عقد
المامة له ،كالخلفة العثمانية ونحوها.
ومن هنا رأى ابن خلدون أن الحكمة في اختصاص قريش بهذه الميزة هي كونها صاحبة العصبية
التي تكون بها الحماية والمطالبة ،ويرتفع الخلف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب ،فتسكن إلىه
الملة وأهلها ،وينتظم حبل اللفة فيها.
وعقب الدكتور ضياء الدين الريس وغيره على ذلك بأن السلم لما لم يقر فكرة العصبية كغاية في
التشريع أو كأساس في تكوين المجتمعات،فإن المعول عليه توفير القوة والطاعة ،وبما أن ذلك لم يعد
يعتمد على العصبية كما كان في الماضي ،بل أصبح مستمدا من نظام الدولة وما تملك من جيوش،
فإن هذا الشرط لم يعد ضروريا ،ويكفي أن يختار الخليفة بالطريقة المشروعة ،وأن يحوز رضا
المسلمين.
ويلزم من هذا أن يكون الشرط الن هو أن القائم بأمور المسلمين يجب أن يكون متبوعا من الكثرة
الغالبة ،ليكون مطاعا مرضيا عنه ،ذا قوة مستمدة من الرادة العامة ،فيترتب على وجوده حصول
الوحدة ،وتنتفى دواعي الخلف (. )2
ول يجوز تعدد المام في وقت واحد ،لن ذلك يؤدي لتفريق المسلمين في أقطارهم وبلدانهم،
والواجب حفاظهم على وحدتهم الدولية ،أما تعدد الدول السلمية الن ،فهو واقع اقتضته ظروف
المجتمع الدولي القليمي ،ويمكن تحقيق الوحدة بينهم في السياسة والقتصاد والجيش والتمثيل
الخارجي.
-------------------------------
( )1قارن النظريات السياسية السلمية للدكتور الريس :ص ،254حيث اعتبر شرط النسب منافيا
لمبدأ المساواة المقرر في اليات والحاديث النبوية.
( )2النظريات السياسية ،المرجع السابق :ص ،257السلطات الثلثة للدكتور سليمان الطماوي :ص
259وما بعدها.
( )8/306
المبحث الخامس ـ وظائف المام (أو واجباته واختصاصاته )
حدد الفقهاء واجبات المام أو ظائفه بعشرة أمور أساسية ،يمكن أن يتفرع عنها عدة اختصاصات
أخرى بحسب تغير الظروف والوضاع والتطورات الحادثة ( ، )1ويمكن تصنيفها أو قسمتها إلى
وظائف دينية ووظائف سياسية.
الوظائف الدينية وهي أربعة :
أولً ـ حفظ الدين :أي المحافظة على أحكامه وحماية حدوده وعقاب مخالفيه .قال الماوردي« :حفظ
الدين على أصوله المستقرة،وما أجمع عليه سلف المة .فإن نجم مبتدع ،أو زاغ ذو شبهة عنه،
أوضح له الحجة ،وبين له الصواب ،وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ،ليكون الدين محروسا من
خلل ،والمة ممنوعة من زلل» .
ثانيا ـ جهاد العداء :أي قتال من عاند السلم بعد الدعوة حتى يسلم ،أو يدخل في الذمة ،ليقام بحق
ال تعالى في إظهاره على الدين كله .وهذا مشروط بوجود قوة للمسلمين ووجود عدوان على دعاة
السلم أو بلده ،كما سيبين في بحث السلم والحرب.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي :ص ،14ولبي يعلى :ص ،11حجة ال البالغة للدهلوي،132/2 :
غاية المنتهى.349/3 :
( )8/307
ثالثا ـ جباية الفيء والصدقات( . ) 1والمقصود بالفيء والغنائم :الموال التي تصل إلى المسلمين من
المشركين أو كانوا سبب وصولها .وأما الصدقات فهي الموال الواجبة على المسلمين نصا كالزكاة،
واجتهادا كالموال المفروضة على الغنياء إذا خل بيت المال ،واحتاجت الدولة لتجهيز الجيش ونحوه
من المصالح العامة.
رابعا ـ القيام على شعائر الدين من أذان وإقامة صلة الجمعة والجماعة والعياد ،وصيام ،وحج،
فبالنسبة للصلة يعين الخليفة المام والمؤذن ،ويصون المساجد ويرعاها ،ويؤم الناس في الصلة
الجامعة إذا حضر ،ويشرف على توقيت الصيام بدءا ونهاية ،ويعاقب من يعلن الفطار دون عذر
مقبول ،وييسر أداء فريضة الحج بتعيين ولة للسهر على أداء هذا الواجب ،والولية على الحج لتسيير
الحجيج وإقامتهم (. )2
الوظائف السياسية :بما أن الخليفة كان يجمع أحيانا بين السلطتين التنفيذية والقضائية ،فإن وظائفه
السياسية كانت تشمل التنفيذ والقضاء .أورد الماوردي ستة منها تعد في الحقيقة على سبيل المثال ل
على سبيل الحصر ،وهي (: )3
-------------------------------
( )1ذكر الماوردي :ص 121في المرجع السابق فروقا أربعة بين أموال الفيء والغنائم وبين
الصدقات :أحدها ـ أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيرا لهم ،والفيء والغنيمة مأخوذان من
الكفار انتقاما منهم .والثاني ـ أن مصرف الصدقات منصوص عليه في القرآن ليس فيه اجتهاد.
والفيء والغنيمة يصرفان بحسب اجتهاد الئمة .والثالث ـ أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد
أصحابها بقسمتها في أهلها ،ول يجوز ذلك لهل الفيء والغنيمة .والرابع ـ اختلف المصرف:
فالصدقات تصرف للصناف الثمانية في القرآن .والموال الخرى تصرف في سبيل المصالح
العامة .ويلحظ أن الفيء :هو كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال .والغنيمة :ما وصل
إلينا من أموال المشركين عنوة وبقتال.
( )2الحكام السلطانية :ص .103 ،96
( )3الحكام السلطانية للماوردي :ص ،14والسلطات الثلث للطماوي :ص 278ومابعدها.
( )8/308
أولً ـ المحافظة على المن والنظام العام في الدولة .عبر الماوردي عن ذلك بقوله :حماية البيضة
(الوطن) والذب عن الحريم(الحرمات) ليتصرف الناس في المعايش ،وينتشروا في السفار آمنين عن
تغرير بنفس أو مال ،وهذا ما يقوم به الشرطة الن.
ثانيا ـ الدفاع عن الدولة في مواجهة العداء :وعبر عنه الماوردي بقوله :تحصين الثغور بالعدة
المانعة والقوة الدافعة ،حتى ل تظهر العداء بغرة ينتهكون فيها محرما ،أو يسفكون فيها لمسلم أو
معاهد دما.
ثالثا ـ الشراف على المور العامة بنفسه .قال الماوردي :أن يباشر بنفسه مشارفة المور وتصفح
الحوال ،لينهض بسياسة المة وحراسة الملة ،ول يعول على التفويض تشاغلً بلذة أو عبادة ،فقد
يخون المين ويغش الناصح.
رابعا ـ إقامة العدل بين الناس ،وذلك على النحو التالي:
أ ـ تنفيذ الحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم التصفية ،فل يتعدى ظالم
ول يضعف مظلوم.
( )8/309
ب ـ إقامة الحدود لتصان محارم ال تعالى عن النتهاء ،وتحفظ حقوق عباده من إتلف واستهلك.
خامسا ـ إدارة المال :بتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ول تقتير ،ودفعه في
وقت ل تقديم فيه ول تأخير.
سادسا ـ تعيين الموظفين :وعبر الماوردي عن الواجب بقوله :استكفاء المناء ،وتقليد النصحاء فيما
يفوضه إلىهم من العمال ،ويكله إليهم من الموال ،لتكون العمال بالكفاء مضبوطة ،والموال
بالمناء محفوظة .فإن طرأ طارئ اتخذ الخليفة من التدابير مايحقق سعادة المة بشرطين:
الول ـ أل يخالف نصا صريحا ورد في القرآن أو السنة أو الجماع.
الثاني ـ أن تتفق التدابير مع روح الشريعة ومقاصدها العامة ،على وفق ما بينه علماء أصول الفقه،
بالحفاظ على الصول الكلية الخمسة وتوابعها :وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال (. )1
المبحث السادس ـ انتهاء ولية الحاكم :
تنتهي ولية الحاكم أو الخليفة بأحد أمور ثلثة وهي (: )2
ل ـ الموت :وهذا أمر طبيعي لزوال الولية؛ لن مدة استخلفه مؤقتة بمدة حياته .ول يحق له
أو ً
توريث وليته لحد ،وإنما الحق في التولية لهل الختيار ،ويرى الدكتور السنهوري أن روح النظام
السلمي ل تتنافى إطلقا مع توقيت الخلفة بمدة زمنية محدودة ،إذا ما تضمن عقد الخلفة ذلك ()3
.
ثانيا ـ خلع الخليفة نفسه :وهذا حق شخصي للخليفة ،حتى ل يكون مكرها على البقاء في منصبه
بالرغم من إرادته ،قال الماوردي :وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت إلى ولي عهده ،وقام خلعه مقام
موته ،أي أن المر يصبح منوطا باختيار أهل الحل والعقد؛ لن وليته مستمدة من المة ،وليست حقا
أصيلً له.
ثالثا ـ العزل لتغير حاله :والذي يتغير به حاله ،فيخرج به عن المامة شيئان :جرح في عدالته،
ونقص في بدنه.
-------------------------------
( )1راجع الموافقات للشاطبي ،10/2 :ط التجارية ،الحكام للمدي ،48/3 :ط صبيح ،المستصفى
للغزالي ،140/1 :ط التجارية.
( )2الحكام السلطانية للماوردي :ص 9وما بعدها ،19-15 ،السلطات الثلث 270 :ومابعدها.
( )3الخلفة للسنهوري :ص 190وما بعدها.
( )8/310
أما جرح العدالة فهو الفسق :وهو ارتكابه المحظورات ،وإقدامه على المنكرات ،وانقياده للهواء
والشهوات.
وأما نقص البدن فهو كما ذكر سابقا ثلثة أقسام:
أ ـ نقص الحواس ،كزوال العقل وذهاب البصر والصمم والخرس.
ب ـ نقص العضاء كذهاب اليدين ،أو ذهاب الرجلين.
جـ ـ نقص التصرف :وهو يشتمل على نوعين :أولً ـ الحجر بأن يستولي أحد أعوانه على السلطة
ويجاهر بالمعصية أو يخالف أحكام الشرع .فإن لم يخالف حكما شرعيا استنصرت المة أو الخليفة
بمن يعمل على تنحيته.وثانيا ـ السر :بأن يقع الخليفة في أسر العداء وييأس المسلمون من فكاكه
واستخلصه من السر.
وتقرير مبدأ العزل من المة دليل واضح على أن الخليفة يستمد سلطانه من المة ،وليس له ادعاء
أحقيته السلطة بتفويض من الله كما كان يزعم ملوك أوربا في القرون الوسطى .كما أنه ليس
معصوما من الخطأ ،ول حق له في التشريع وإنما ينفذ أحكام الشريعة ويجتهد في نطاقها ،وليس له
سلطة روحية كما هو الحال بالنسبة للبابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم ،فل يحل ول يحرم ول
يغفر الذنوب ول يطرد مذنبا.
( )8/311
( )8/312
السمع والطاعة فيما أحب أو كره ،إل أن يؤمر بمعصية ،فإن أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» ()1
.
ول يجوز الخروج عن الطاعة بسبب أخطاء غير أساسية ل تصادم نصا قطعيا ،سواء أكانت باجتهاد،
أم بغير اجتهاد ،حفاظا على وحدة المة وعدم تمزيق كيانها أو تفريق كلمتها ،قال عليه الصلة
والسلم« :ستكون هَنَات وهنات ـ أي غرائب وفتن وأمور محدثات ـ فمن أراد أن يفرق أمر هذه
المة وهي جميع ،فاضربوه بالسيف كائنا من كان» وقال عليه السلم أيضا« :من أتاكم وأمركم جميع
على رجل واحد ،يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» «أيما رجل خرج يفرق بين أمتي
فاضربوا عنقه» ( )2رواهما مسلم عن عرفجة.
وبديهي أن الطاعة بقدر الستطاعة لقوله تعالى{ :ل يكلف ال نفسا إل وسعها} [البقرة ]286/2:وقال
ابن عمر رضي ال عنه« :كنا إذا بايعنا رسول ال صلّى ال عليه وسلم على السمع والطاعة يقول
لنا :فيما استطعتم» (. )3
وإذا أخطأ الحاكم خطأ غير أساسي ل يمس أصول الشريعة وجب على الرعية تقديم النصح له باللين
والحكمة والموعظة الحسنة ،قال عليه الصلة والسلم« :الدين النصيحة قلنا :لمن يا رسول ال ؟ قال:
ل ولرسوله ولكتابه ولئمة المسلمين وعامتهم» ( )4وقد حض رسول ال صلّى ال عليه وسلم على
إسداء النصح والمجاهرة بقول
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن عمر ،ويلحظ أن أحاديث الطاعة في غير معصية
رويت بألفاظ :منها ما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن علي« :ل طاعة لحد في معصية ال ،
إنما الطاعة في المعروف» ومنها ما رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري« :ل
طاعة لمخلوق في معصية الخالق» .
( )2وانظر أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن الخروج عن المة وقتالهم في مجمع الزوائد222/5 :
وما بعدها .وحديث «من أتاكم »..رواه مسلم عن عرفجة بن شريح (شرح مسلم.)242/2 :
( )3رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر (جامع الصول.)168/1 :
( )4رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري.
( )8/313
الحق ،فقال« :أفضل الجهاد :كلمة حق عند سلطان جائر» (« )1من رأى منكم منكرا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان» ( . )2فإن لم ينتصح وجب
الصبر لقوله عليه السلم« :من رأى من أميره شيئا ،فكره فليصبر ،فإنه ليس أحد يفارق الجماعة
شبرا ،فيموت إل مات ميتة جاهلية» (. )3
ولكن ل تجب الطاعة عند ظهور معصية تتنافى مع تعاليم السلم القطعية الثابتة ،لقوله عليه الصلة
والسلم« :ل طاعة لحد في معصية ال ،إنما الطاعة في المعروف» «ل طاعة لمن لم يطع ال » (
. )4
وهل تعالج الخطاء الجوهرية المصادمة لصول السلم بالثورة المسلحة من قبل الشعب؟
أذكر في الموضوع حديثين وأتبعهما بآراء الفقهاء وما يستنبط منهما.
الحديث الول الذي أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الشجعي عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم
قال« :خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ،وتصلون عليهم ويصلون عليكم .وشرار أئمتكم الذي
تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم .قلنا :يا رسول ال ،أفل ننابذهم عند ذلك؟ قال :ل ،ما
أقاموا فيكم الصلة ،ل ،ما أقاموا فيكم الصلة» .
-------------------------------
( )1رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري ،ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي عن أبي
أمامة ،ورواه أحمد والنسائي والبيهقي عن طارق بن شهاب.
( )2رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الربعة عن أبي سعيد الخدري.
( )3رواه الطبراني بلفظ آخر ،وفيه متروك (مجمع الزوائد.)219/5 :
( )4سبق تخريجه قريبا.
( )8/314
والحديث الثاني الذي يرويه البخاري وغيره والذي ورد في بعض رواياته عن عبادة بن الصامت
قال« :دعانا النبي صلّى ال عليه وسلم ،فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ،وعسرنا
ويسرنا وأثرة علينا ،وأل ننازع المر أهله ،إل أن تروا كفرا َبوَاحا ( )1عندكم من ال فيه برهان» .
والمبدأ هو وحدة المامة أو الخلفة ،لحديث« :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» (. )2
وبناء عليه تجوز الثورة في حالة واحدة هي إعلن الكفر الصراح .قال الدهلوي :وبالجملة فإذا كفر
الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين ،حل قتله ،بل وجب ،وإل ل؛ وذلك لنه حينئذ فاتت
مصلحة نصبه (إقامته حاكما) ،بل يخاف مفسدته على القوم ،فصار قتاله من الجهاد في سبيل ال .
قال صلّى ال عليه وسلم « :السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ،ما لم يؤمر
بمعصية ،فإذا أمر بمعصية ،فل سمع ول طاعة (. ». )3
واستنبط بعض الكتاب المحدثين ( )4من الحديثين السابقين مبادئ أربعة بين فيها حدود الطاعة وحالة
جواز الثورة على الحكم .وهي:
أولً ـ إن للمير الذي يمثل الحكومة الشرعية في الدولة حق الطاعة من المواطنين جميعا ،بغض
النظر عن أن فريقا أو فردا منهم قد ل يحبه ،أو ل يرضى أحيانا عن سياسته في إدارة شؤون الدولة.
ثانيا ـ إذا ما أقدمت الحكومة على إصدار قوانين أو أوامر تتضمن معصية صريحة بالمعنى
الشرعي ،فإنه ل سمع ولطاعة على المواطنين بالنسبة لهذه القوانين والوامر.
-------------------------------
( )1أي ظاهرا .والمراد به كما استظهر ابن حجر في شرح البخاري هو الكفر الظاهر على حقيقته
الذي ليحتمل التأويل .فإن رأى المسلمون منكرا محققا أنكروه عليهم وقالوا الحق ،ولكن الخروج
عليهم وقتالهم حينئذ حرام ،وإن كانوا فسقة ظالمين منعا من الفتن وإراقة الدماء .وقد سبق تخريج
الحديث (جامع الصول.)166/1 :
( )2رواه البزار والطبراني في الوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد )198/5 :ورواه أيضا مسلم
عن أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي.)242/12 :
( )3حجة ال البالغة للدهلوي ،112/2 :والحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الربعة عن
ابن عمر.
( )4منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد :ص .144
( )8/315
ثالثا ـ إذا ما وقفت الحكومة موقفا تتحدى به تحديا صريحا متعمدا نصوص القرآن ،فإن هذا الموقف
يعتبر ( كفرا بواحا ً) المر الذي يستوجب نزع السلطة من يدها وإسقاطها.
رابعا ـ إن نزع السلطة هذا من يد الحكومة في غير حالة إعلن الكفر صراحة يجب أل يتم عن
طريق ثورة مسلحة من جانب أقلية من المجتمع؛ لن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قد حذرنا من
اللجوء لهذه الوسيلة ،فقال« :من حمل علينا السلح فليس منا» ( )1وقال« :من سل علينا السيف فليس
منا» ( )2والمراد بذلك البغاة :وهم فئة من الناس خارجة عن طاعة المام.
ومن المقرر فقها أن السلطة التي تملك التعيين تملك حق العزل .وهذا يعني أن أهل الشورى يقترحون
ل بالتصويت على عزل المام من
العزل ببراهين واضحة ،ثم تقوم أكثرية المة بواسطة استفتاء مث ً
منصبه.
ويرى بعض الكاتبين الجدد ضرورة عرض النزاع القائم بين أهل الشورى والمام ،على هيئة تحكيم
عليا محايدة مختصة بشؤون الدستور ،مكونة من نوابغ القضاة ،وأقطاب القانون السلمي في الدولة،
منعا من تفاقم الزمة التي ل تحل إل بذلك.
-------------------------------
( )1رواه مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر.
( )2رواه أحمد ومسلم عن سلمة بن الكوع.
( )8/316
وتأمر هذه المحكمة بإجراء استفتاء عام على خلع المام لمخالفته قصدا نصوص الشريعة .فإن منع
المام من اللجوء إلى الستفتاء ،كان لها الحق بإعلن عزله ،وأن المة في حل من بيعته ( ، )1عملً
بمبدأ «ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (. )2
آراء الفقهاء القدامى في مبدأ الخروج على الحاكم :
قال أهل الحديث والسنة بوجوب الصبر وعدم جواز الخروج على الحاكم مطلقا ،عملً بالحاديث
الواردة عن النبي صلّى ال عليه وسلم المرة بالصبر مثل «كن عبد ال المقتول ول تكن عبد ال
القاتل» ( . )3ورعاية لوحدة المة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين ،ولن كثيرا
من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج ،بل اعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين ،وبناء عليه ل
يجوز الخروج على الحاكم إل بإعلن الكفر صراحة ،فإذا كفر بإنكار أمر من ضروريات أو بدهيات
الدين،حل قتاله،بل وجب ،منعا من فساده وفوات مصلحة تعيينه ،وإل فل ،حفاظا على وحدة المة،
وعدم الفوضى .قال صلّى ال عليه وسلم « :السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ،ما لم
يؤمر بمعصية ،فإذا أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» وسئل رسول ال صلّى ال عليه وسلم عن خلع
الحكام ،فقيل :أفل ننابذهم؟ قال :ل ،ما
-------------------------------
( )1محمد أسد ،المرجع السابق :ص 145 ،127 ،123وما بعدها.
( )2رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري.
( )3أخرجه ابن أبي خيثمة والدارقطني عن عبد ال بن خباب بن الرت.
( )8/317
أقاموا فيكم الصلة .وقال« :إل أن تروا كفرا بواحا ـ أي ظاهرا ـ عندكم من ال فيه برهان» ()1
.وقال المعتزلة والخوارج والزيدية وكثيرمن المرجئة :الخروج واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل
ل بقوله تعالى{ :وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة ]2/5:وقوله{ :فقاتلوا التي
البغي ونقيم الحق ،عم ً
تبغي حتى تفيء إلى أمر ال } [الحجرات ]49/9:وقوله{ :ل ينال عهدي الظالمين} [البقرة.]124/2:
وقال أبو بكر الصم من المعتزلة :السيف واجب إذا اتفق على إمام عادل يخرجون معه لزالة أهل
البغي (. )2
وقال ابن حزم بجواز الخروج؛ لن الحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه
للحاديث المرة بالصبر؛ لن هذه الحاديث وردت في مبدأ السلم ،ولن الدليل المحرم يقدم على
المبيح عند تعارضهما ،ولقوله تعالى{ :وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ،فإن بغت
إحداهما على الخرى ،فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر ال } [الحجرات ]9/94:ولنه يجب على
المسلم إزالة المنكر ،ول طاعة في معصيته ،ومن قتل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد (. )3
-------------------------------
( )1حجة ال البالغة للدهلوي 112/2 :والحديث باللفظ الول رواه أ حمد ومسلم ،والثاني رواه
البخاري (نيل الوطار.)172/6 :
( )2مقالت السلميين واختلف المصلين للشعري 445/2 :وما بعدها.
( )3الفصل في الملل والنحل لبن حزم 171/4 :ومابعدها ،والحديث رواه أحمد وابن حبان وأبو داود
والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد بلفظ« :من قتل دون ماله فهو شهيد ،ومن قتل دون دمه فهو
شهيد ،ومن قتل دون دينه فهو شهيد ،ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وروى النسائي والضياء عن
سويد بن مقرن« :من قتل دون مظلمته فهو شهيد» .
( )8/318
ورجح الدكتور محمد يوسف موسى رأي ابن حزم؛ لن المة السلمية موصوفة بأنها آمرة
بالمعروف ناهية عن المنكر ،ترفض الظلم ،وتقيم شعائر ال ،ولكن بشرط واحد وهو أن يقدر تمام
التقدير من يرى وجوب الخروج بالقوة على خليفة يستحق العزل شرعا ضرورة صيانة وحدة المة
التي ينبغي أن تحرص عليها الحرص كله ،وضرورة تجنيبها الفتنة وإراقة الدماء بل ضرورة (. )1
وهذا الرأي قريب من رأي المعتزلة الذين يوجبون الخروج على السلطان عند القدرة والمكان (. )2
- 2مناصرة المام ومؤازرته :
على المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والزدهار في جميع المجالت
الخارجية بالجهاد في المال والنفس ،والداخلية ،بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية
والخلقية والجتماعية ،وإقامة المجتمع الخيّر ،وتنفيذ القوانين والحكام الشرعية والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة ( ، )3وتقديم النصيحة،
وبذل الجهد بتقديم الراء والفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم ،وتوعية الناس والدعوة لها
في السلم والحرب.
ومن المعلوم أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول السلم الساسية المقررة بالتضامن
بين الحكومة والفراد؛ لن في ذلك إقامة أمر ال وهدم كل ما يخالف السلم ،قال ال تعالى{ :ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،وأولئك هم المفلحون} [آل
عمران{ ]104/3:كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ،وتؤمنون
بال } [آل عمران ]110/3:وقال تعالى في شأن اليهود بسبب عدم النهي عن المنكر { :لُعن الذين
كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ،ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .كانوا ل
يتناهون عن منكر فعلوه ،لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة.]78/5:
وجعلت سمة المؤمنين الجتماعية هي القيام بهذا الواجب في قوله سبحانه{ :والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف ،وينهون عن المنكر} [التوبة.]71/9:
-------------------------------
( )1نظام الحكم في السلم ليوسف موسى :ص 158وما بعدها.
( )2مقالت السلميين.466/2 :
( )3انظر الحكام السلطانية للماوردي :ص 249-236لتفصيل كيفية المر بالمعروف والنهي عن
المنكر في حقوق ال (المجتمع) وحقوق الشخاص.
( )8/319
وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة بهذا المعنى ،من أهمها المبدأ العام وهو قوله عليه الصلة
والسلم« :كلكم راع ،وكلكم مسؤول عن رعيته ،فالمام راع وهو مسؤول عن رعيته ،والرجل راع
في أهله ومسؤول عن رعيته ،والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها )1( »...الحديث.
ن بالمعروف ،ولتنهُون عن المنكر ،أو ليوشكن
وقوله صلّى ال عليه وسلم « :والذي نفسي بيده لتأمرُ ّ
ال يبعث عليكم عقابا منه ،ثم تدعونه فل يستجيب لكم» ( )2وقال صلّى ال عليه وسلم « :يا أيها
الناس مروا بالمعروف ،وانهوا عن المنكر ،قبل أن تدعو ال فل يستجيب لكم ،وقبل أن تستغفروه فل
يغفر لكم. )3( »..
-------------------------------
( )1رواه أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
( )2رواه الترمذي ،وقال :حديث حسن.
( )3رواه الصبهاني ،عن ابن عمر (الترغيب والترهيب.)230/3 ،
( )8/320
المبحث الثامن ـ حدود سلطات المام وقواعد نظام الحكم في السلم :
تتحدد سلطات الخليفة ضمن الطار العام لدولة السلم ،وهو أنها دولة ذات فكرة ومبادئ لصلح
الحياة البشرية ( ، )1وأساس فكرتها مبادئ وغايات واضحة محددة ( ، )2تقوم على أساس اليمان
بال تعالى ،وتنظر إلى الكون والحياة والنسان على هدي هذا اليمان ،وتنشد إصلح الحياة البشرية
قاطبة على وفق منهج العقيدة السلمية ومستلزماتها ونظمها التشريعية التي ل تتأثر بأهواء
الواضعين ،ول بحدود إقليمية ضمن نطاق أرضي معين ،إل عند الضرورة ،وسيرا على منهاج
مرحلي تدريجي يوصل إلى الغاية الكبرى ،وهو وحدة المسلمين.
وما على النسان أو الخليفة إل أن يعمل في ضوء كونه مستخلفا في هذه الدنيا بأمانة ال على
الرض ،لقوله تعالى{ :وهو الذي جعلكم خلئف الرض} [النعام.]165/6:
وبما أن نظر النسان محدود ،ل يمكنه الحاطة بطبائع الشياء ومقتضيات التشريع العامة ،كان عليه
التزام التشريع اللهي الشامل الكامل.
وتشريع الله ل يميز بين صاحب السلطة وأفراد الرعية ،فكل منهم له الحق في الستمتاع بحريته
واحترام كرامته النسانية ،وإنصافه من غيره ،ومطالبته بإقامة العدل ومراعاة مبدأ المساواة.
ومن هنا تتحدد سلطات الخليفة أو الحاكم في السلم بالسس ا لتية (: )3
أولً ـ يخضع الخليفة للتشريع السلمي ،ويطالب بتنفيذ أحكامه ،وإصدار القوانين التنظيمية طبقا
لمبادئه وقواعده ،وليس له أية حصانة في هذا الشأن من دون بقية المسلمين .قال أبو بكر وتبعه من
بعده من الراشدين في أول خطبة سياسية له بعد تولي الخلفة« :أطيعوني ما أطعت ال ورسوله ،فإن
عصيت ال فل طاعة لي عليكم. »...
ثانيا ـ ليس للحاكم التشريع؛ لن التشريع في السلم كما بان سابقا ل ورسوله .ودور الخليفة مع
أولي الحل والعقد هو مجرد الجتهاد في نطاق القرآن والسنة .فل يستمد المجتهدون سلطتهم من
الخليفة ،وإنما من مؤهلتهم الذاتية .وفي هذا أكبر ضمان لشرعية الدولة؛ إذ المسلّم به أن النظم
الستبدادية تقوم على أساس أن إرادة الدولة هي القانون.
ثالثا ـ يلتزم الحاكم وأعوانه بقواعد نظام الحكم السلمي ومبادئه العامة التي حددها القرآن والسنة،
ولم يفصل في شأنها مراعاة لظروف ومقتضيات التطور ،وضمانا لقدسية المبدأ بحيث ل يقبل التغير
وهذه القواعد هي:
- 1الشورى :
إن نظام الحكم السلمي نظام شوري ،لقوله تعالى{ :وشاورهم في المر} [آل عمران]159/3:
{وأمرهم شورى بينهم} [الشورى ]38/42:وورد في السنة النبوية القولية والعملية ما يوجب المشاورة،
مثل« :استعينوا على
-------------------------------
( )1نظرية السلم السياسية للمودودي :ص 47وما بعدها.
( )2المرجع السابق.
( )3راجع السلطات الثلث للطماوي :ص 281وما بعدها ،النظريات السياسية للريس :ص 280وما
بعدها ،بحث الدولة السلمية للموسوعة الفقهية للمؤلف والتي بيانه.
( )8/321
أموركم بالمشاورة» (« )1ما تشاور قوم قط إل هدوا لرشد أمورهم» (« )2المستشار مؤتمن» ()3
وقال أبو هريرة رضي ال عنه « :لم يكن أحد أكثر مشورة من رسول ال صلّى ال عليه وسلم » (
)4وقد استشار النبي صلّى ال عليه وسلم أصحابه في وقائع كثيرة ،تطييبا لنفوس أصحابه ولرفع
أقدارهم ،قائلً :أشيروا علي أيها الناس .مثل استشارته قبيل معركة بدر لمعرفة مدى استعداد أصحابه
للقتال ،ونزوله على رأي الحُبَاب بن المنذر في اختيارالمكان الملئم لنزول الجيش وهو أدنى مقام من
ماء بدر .وكذلك بعد المعركة استشار أصحابه في شأن قبول الفداء من أسرى بدر المشركين.
وقبل موقعة أحد استشار الصحاب في شأن الخروج من المدينة ،وقبل رأي الكثرة الشباب التي
أشارت بالخروج ،وكانت العاقبة الهزيمة المعروفة.
وقال صلّى ال عليه وسلم في قصة الفك« :أشيروا علي معشر المسلمين في قوم. »...
واستشار أيضا أصحابه في رد سبي هوازن ،وفي استطابة أنفسهم بذلك ،دون تعويض عن حقهم.
وشاور النبي صلّى ال عليه وسلم أصحابه يوم الخندق في مصالحة الحزاب بثلث ثمار المدينة
عامئذ ،فأبى عليه السعدان :سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ،فترك ذلك (. )5
وفي يوم الحزاب تمت المشاورة عملً برأي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على عدم مصالحة رؤساء
غطفان لخذ شطر ثمار المدينة .ونحو ذلك كثير (. )6
-------------------------------
( )1ذكره الماوردي في أدب الدنيا والدين :ص .494
( )2ورد مرفوعا ،وورد مرسلً عن الحسن ،أخرجه عبد بن حميد والبخاري في الدب ،وابن المنذر.
( )3رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي ،ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
( )4رواه الترمذي.
( )5انظر تفسير ابن كثير 287/1 :وما بعدها 420 ،في الوقائع المذكورة ،وانظر أدب الدنيا والدين
للماوردي :ص .496
( )6راجع سيرة ابن هشام 253/2 :ومابعدها ،أحكام القرآن للجصاص ،40/2 :تفسير ابن كثير:
،420/1ط الحلبي.
( )8/322
وسار الخلفاء الراشدون على هذه السنة الحميدة ،فكانوا يجمعون رؤساء الناس ،فيستشيرونهم فيما لم
يجدوا فيه نصا من القرآن والسنة.
منها مشاورة أبي بكر في حروب الردة ،وفي جمع القرآن .ومشاورة عمر في قضية قسمة سواد
العراق بين الغانمين ،وفرض الخراج ،ونحوها .وأهل الشورى :هم أهل الراء من الناس والمتدربون
فيهم ،إذ ل يعقل ،ول يمكن مشاورة كل واحد من الناس ( ، )1ففي أمور الدين يجب أن يكون
المستشار عالما دينيا وقل ما يكون ذلك إل في عاقل .وفي أمور الدنيا أن يكون عاقلً مجربا وادّا في
المستشير (. )2
نطاقها :إن المر المطلق بالمشاورة الموجه للحكام يشمل كل القضايا الدينية والدنيوية :السياسية
والجتماعية والقتصادية والثقافية التنظيمية ،أي فيما لم يرد به نص تشريعي واضح الدللة ( )3؛
لن المر القرآني بالمشاورة غير مخصوص بأمر الدين .ول يصح أن تكون نتيجة الشورى في
المور الجتهادية الدينية والدنيوية مخالفة نصوص الشريعة أو مقاصدها العامة ومبادئها التشريعية،
لقوله تعالى { :وما كان لمؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيرَة من أمرهم،
ومن يعص ال ورسوله فقد ضل ضللً مبينا ً} [الحزاب.]36/33:
وهي مطلوبة سواء أكانت القضايا محل المشاورة عامة كاختيار الحاكم وإدارة الحكم ،وسياسة البلد،
وتنظيم الدارات ومحاسبة الولة ،وإعلن الحرب ،أم خاصة كالنظر في أحكام المعاملت والجنايات
وأحوال السرة ونحوها .وهذه
-------------------------------
( )1تفسير اللوسي.107/4 :
( )2تفسير القرطبي.250/4 :
( )3أحكام القرآن للجصاص.41/2 :
( )8/323
يجب على المام استشارة أهل العلم في شأنها ،لقوله تعالى{ :وشاورهم في المر} [آل عمران:
]159/3وقوله سبحانه :واصفا المؤمنين {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى ]38/42:وثبت في السنة
أن النبي صلّى ال عليه وسلم استشار أصحابه في مختلف شؤون المسلمين ،كما حدث في غزوات
بدر وأحد والخندق وفي صلح الحديبية.
هيئة الشورى :كان السائد لدى الخلفاء الراشدين أن الخليفة هو الذي يعين أهل المشورة ،حسبما يرى
من المصلحة ،ويعرف الكفاءات العلمية المطلوبة للمر.
وفي عصرنا الحاضر يمكن التفاق بين الحاكم ورؤساء المة على وضع مبادئ الختيار ،كالتعيين
بحسب الوظائف ذات الصفة التشريعية ،أو النتخاب على وفق ضوابط محددة تنطبق على ذوي
الختصاص والخبرة والمعرفة اللئقة.
حكم الشورى :اختلف الفقهاء في حكم الشورى :هل هي ملزمة للحاكم ،أو اختيارية ،وهل نتيجتها
ملزمة أو اختيارية أيضا؟.
قال جماعة :إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية ،تطييبا
للنفوس ورفعا للقدار ،وتألفا على الدين؛ لقوله تعالى{ :فإذا عزمت فتوكل على ال } [آل عمران:
]159/3والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين ،ولن أبا بكر حينما استشار
الناس بمحاربة المرتدين ،لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم ،وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق
بين الصلة والزكاة قائلً :وال لو منعوني عقالً كانوا يؤدونه لرسول ال لحاربتهم عليه.
( )8/324
ل بالوامر القرآنية،
وقال آخرون :إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد عم ً
ويصبح المر عديم الثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها .وقد عمل بها الرسول صلّى ال عليه وسلم
وصحابته الراشدون من بعده (. )1
ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون
( )2لتسير المور على وفق الحكمة والمصلحة ،ومنعا من الستبداد بالرأي؛ لن حكم السلم يقوم
على أصل الشورى ،وبه تميز ،وعلى نهجه سار السلف الصالح ،وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل
الشورى بأفضلية رأيه ،كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين
وجمع القرآن ،حتى شرح ال صدورهم له ،كما قال عمر رضي ال عنه .وكما فعل أيضا بإقناع
مخالفيه في قسمة سواد العراق ،حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله ،فكان الرأي مجمعا
عليه ،كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء.
أما رسول ال صلّى ال عليه وسلم فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لعتماده على الوحي ،ومع ذكل
فإنه كان يشاور أصحابه تطييبا لقلوبهم وتعليما لمن بعده ( . )3قال الحسن رضي ال عنه :علم ال
أنه ما به إليهم حاجة ،ولكنه أراد أن يستن به من بعده .وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل
على ال } [آل عمران ]159/3:أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى ،فتوكل على ال في
إمضاء أمرك
-------------------------------
( )1راجع تفسير الطبري ،346-343/7 :والقرطبي ،253-249/4 :وابن كثير118/4 ،420/1 :
عند تفسير آية {وشاورهم في المر} آل عمران ،159 :تفسير الزمخشري 357/1 :وما بعدها ،تفسير
اللوسي 106/4 :وما بعدها ،46/25 ،الجصاص ،المرجع السابق ،البيضاوي ،145/4 ،50/1 :ط
التجارية.
( )2راجع تفسير الطبري ،345/7 :ط دار المعارف.
( )3راجع الراء الربعة في تحديد المقصود من أمر النبي بالمشاورة في الحكام السلطانية
للماوردي:ص .41
( )8/325
على الرشد الصلح ،فإن ما هو أصلح لك ل يعلمه إل ال ،ل أنت ول من تشاور ،وال هو الذي
يرشدك للفضل بالوحي ،روى البيهقي عن ابن عباس قال« :أما إن ال ورسوله لغنيان عنها ،ولكن
جعلها ال تعالى رحمة لمتي ،فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ،ومن تركها لم يعدم غيا» قال ابن
عطية :والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكام ،من ل يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب،
هذا ما ل خلف فيه ،وقد مدح ال المؤمنين بقوله{ :وأمرهم شورى بينهم} [الشورى .]38/42:وقال
خوَيزمَنْداد :واجب على الولة مشاورة العلماء فيما ل يعلمون ،وما أشكل عليهم من أمور
ابن أبي ُ
الدين ،ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ،ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ،ووجوه الكتاب
والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلد وعمارتها (. )1
ويلحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية ،فإن
مجلس الشورى في السلم ليس بمشرّع ،وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم ال تعالى ،لذا
يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة .أما مجلس الشورى في النظمة الوضعية فهو مشرع ،فيلزم الحاكم
برأي الكثرية.
- 2العدل :
العدل بصفة عامة :هو تنفيذ حكم ال ،أي أن يحكم طبقا لماجاءت به الشرائع السماوية الحقة ،كما
أوحى بها ال إلى أنبيائه ورسله ،وهو واجب على كل حاكم حتى على النبياء بإجماع العلماء ،وهو
أساس نظام الحكم السلمي وغايته المقصودة ،سواء بين المسلمين ،أم بينهم وبين العداء؛ لن العدل
قوام
-------------------------------
( )1راجع تفسير القرطبي 249/4 :وما بعدها.
( )8/326
العالمين في الدنيا والخرة ،وبه قامت السموات والرضون ،وهو أساس الملك .وأما الظلم ،فهو
طريق خراب المدنيات وزوال السلطان (. )1
وقد ورد في القرآن عدة آيات تحث عليه ،وأكدت عليه أحاديث النبي صلّى ال عليه وسلم ،وطبقه
الصحابة فعلً بين الناس.
فمن اليات قوله تعالى{ :إن ال يأمر بالعدل والحسان} [النحل{ ]90/16:وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموا بالعدل} [النساء{ ]58/4:وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [النعام .]152/6:وجاء نص
خاص يوجب العدل مع العداء وهو قوله تعالى { :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين ل ،شهداء
بالقسط ،وليجرمنكم شنآن ( )2قوم على أل تعدلوا ،اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة.]8/5:
ولم يقتصر القرآن على المطالبة بالعدل ،وإنما حرم ما يقابله وهو الظلم تحريما قطعيا صريحا ،قال
ال تعالى{ :ول تحسبن ال غافلً عما يعمل الظالمون ،إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه البصار}
[إبراهيم.]42/14:
وكذلك الحاديث النبوية الثابتة أوجبت العدل وحرمت الظلم ،قال صلّى ال عليه وسلم « :لتزال هذه
المة بخيرما إذا قالت صدقت ،وإذا حكمت عدلت ،وإذا استُرحمت
-------------------------------
( )1انظر النظريات السياسية السلمية للريس :ص 280وما بعدها ،نظام الحكم في السلم ليوسف
موسى :ص ،191بحث الدولة السلمية للمؤلف ،مقدمة ابن خلدون :ص ،319الفصل .44
( )2المعنى ل يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل ،فتعتدوا عليهم ،بأن تنتصروا منهم،
وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما ل يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولد أو نساء،
أو نقض عهد ،أو ما أشبه ذلك (الكشاف.)449/1 :
( )8/327
رحمت» (« )1أحب الخلق إلى ال إمام عادل ،وأبغضهم إليه إمام جائر» (« )2يا عبادي ،إني حرمت
الظلم على نفسي ،وجعلته بينكم محرما فل تظالموا» (« )3اتقوا الظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»
( . )4
ومزية السلم في المطالبة به أنه عدل مطلق يشمل الحاكم والمحكومين والنسانية جمعاء .فهو
واجب في الحكم والدارة وفرض الضرائب وجباية المال وصرفه في مصالح الناس ،وفي توزيع
الحقوق والواجبات وإقامة العدالة الجتماعية ،وفي الشهادة والقضاء والتنفيذ وإقامة الحدود
والقصاص ،وفي القول والكتابة ،وفي القول والكتابة ،وفي نطاق السرة مع الزوجة والولد ،وفي
التعليم والتملك ،والرأي والفكر والتصرف.
العدل مع القليات الدينية والسياسية :أخصص هذا المطلب للرد على دعاوى القائلين بعدم إمكان
الحكم بتشريع السلم حماية للقليات ،مع أن السلم في ضمانه حقوق هؤلء واضح صريح متسامح
أحيانا أكثر مما يجب واقعيا ،فهم مع المسلمين سواء في الحقوق ،ول يلتزمون بكل الواجبات،
ويتركون وما يدينون ،ولهم حرية في ممارسة شعائر دينهم ،ويمتنع إكراه أحد منهم على السلم ،ول
يجوز العتداء على أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم ومعابدهم .قال صلّى ال عليه وسلم « :أل من
ظلم معاهدا ،أو نقصه حقه ،أو كلفه فوق طاقته ،أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ،فأنا خصمه يوم
القيامة» (« )5من آذى ذميا فأنا خصمه ،ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (. )6
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى بلفظ« :إن هذا المر في قريش ،ما إذا استُرحموا
رحموا ،وإذا حكموا عدلوا ،وإذا قسموا أقسطوا( »...الترغييب والترهيب.)171/3 :
( )2رواه الترمذي والطبراني في الوسط عن أبي سعيد الخدري.
( )3رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
( )4رواه مسلم وأحمد والبخاري في الدب المفرد.
( )5رواه أبو داود والبيهقي.
( )6رواه الخطيب في تاريخه عن أنس ،وهو حديث حسن.
( )8/328
- ً 3المساواة أمام القانون :العدل بمعناه الشامل يشمل هذا المبدأ الشائع الن؛ لن العدل كما تقدم
يتطلب التسوية في المعاملة وفي القضاء وفي الحقوق وملكيات الموال .عبر أبو بكر رضي ال عنه
عن ذلك بقوله« :الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ،والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ
الحق الحق منه إن شاء ال » وفي رسالة عمر المشهورة لبي موسى الشعري« :آسِ بين الناس في
وجهك وعدلك ومجلسك ،حتى ل يطمع شريف في حيفك ،ول ييأس ضعيف من عدلك» .
ولقد حمل الرسول صلّى ال عليه وسلم على محاولت التمييز بين الناس أمام القضاء والشريعة ،فقال
فيما يرويه البخاري ومسلم عن عائشة رضي ال عنها« :إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق
فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ،والذي نفس محمد بيده ،لو أن فاطمة
بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .
- ً 4حماية الكرامة النسانية :
الكرامة حق طبيعي لكل إنسان ،رعاها السلم ،واعتبرها مبدأ الحكم وأساس المعاملة ،فل يجوز
إهدار كرامة أحد ،أو إباحة دمه وشرفه ،سواء أكان محسنا أم مسيئا ،مسلما أم غير مسلم؛ لن العقاب
إصلح وزجر ،ل تنكيل وإهانة ،ول يحل شرعا السب والستهزاء والشتم وقذف العراض ،كما ل
يجوز التمثيل بأحد حال الحياة أو بعد الموت ،ولو من العداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها .ويحرم
التجويع والظماء والنهب والسلب.
وما أروع إعلن القرآن لمبدأ الكرامة النسانية في قوله تعالى{ :ولقد كرمنا بني آدم} [السراء:
]70/17وقال رسول السلم صلّى ال عليه وسلم « :إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (
. )1
-------------------------------
( )1متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي بكر (سبل السلم.)73/3 :
( )8/329
- ً 5الحرية :
الحرية ملزمة للكرامة النسانية ،فهي حق طبيعي لكل إنسان ،وهي أغلى وأثمن شيء يقدسه
ويحرص عليه،قال عمر بن الخطاب لواليه عمرو بن العاص« :متى تعبّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحرارا» وعلى الحاكم توفير الحريات بمختلف مظاهرها الدينية والفكرية والسياسية والمدنية في حدود
النظام والشريعة .وأعلن القرآن حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية القول.
حرية العقيدة :من أجل حرية العتقاد أو الحرية الدينية منع القرآن الكراه على الدين ،فقال عز
وجل{ :ل إكراه في الدين ،قد تبين الرشد من الغي} [البقرة{ ]256/2:أفأنت تكره الناس حتى يكونوا
مؤمنين} [يونس]99/10:؛ لن اعتناق السلم ينبغي أن يكون عن اقتناع قلبي واختيار حر ،ل سلطان
فيه للسيف أو الكراه من أحد .وذلك حتى تظل العقيدة قائمة في القلب على الدوام ،فإن فرضت
بالرغام والسطوة ،سهل زوالها وضاعت الحكمة من قبولها ،قال ال تعالى{ :فمن شاء فليؤمن ومن
شاء فليكفر} [الكهف.]29/18:
وتقرير حرية العقيدة يستتبع إقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية؛ لننا أمرنا بترك الذميين وما
يدينون ،ول يعتدى على كنائسهم ومعابدهم ،ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ،ول يناقشون
في عقائدهم إل باللين والخطاب الحسن ،قال ال تعالى{ :ول تجادلوا أهل الكتاب إل بالتي هي أحسن،
إل الذين
ظلموا منهم ،وقولوا :آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ،وإلهنا وإلهكم واحد ،ونحن له مسلمون}
[العنكبوت.]46/29:
( )8/330
حرية الفكر والقول :رغب السلم في التفكير والنظر الطليق والتأمل في أسرار الكون للتوصل
بالعقل والمنطق إلى إثبات الصانع وإثبات النبوة وفهم ما جاء به النبياء والرسل والفادة من كنوز
الرض ،وجعل التفكير فريضة إسلمية ،واليات القرآنية المطالبة باستخدام الفكر كثيرة ،منها قوله
سبحانه{ :قل :انظروا ماذا في السموات والرض} [يونس ]101/10:وتختتم آيات كثيرة بعد بيان
النظم السلمية في العقيدة وغيرها بأنها لقوم يعلمون ،يعقلون ،يتفكرون ،يتدبرون ،لولي اللباب،
ونحوها.
ومن أجل تثبيت الدعوة إلى الفكر وإقرار أحكام العقل السديد ،ندد ال سبحانه بالتقليد في أصول
العقائد والشرائع لتكون العقيدة عن وعي وإدراك وإذعان ،فقال سبحانه{ :وإذا قيل لهم :اتبعوا ما أنزل
ال ،قالوا :بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ،أو لو كان آباؤهم ل يعقلون شيئا ول يهتدون} [البقرة:
{ ]170/2أفلم يسيروا في الرض ،فتكون لهم قلوب يعقلون بها ،أو آذان يسمعون بها ،فإنها ل تعمى
البصار ،ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج.]46/22:
وحرية الفكر تستتبع حرية الرأي والنقد والقول ،وذلك واضح من مبدأ السلم في تكوين الشخصية
الذاتية ،والحض على صراحة القول ،والمر بالمعروف ،وعدم إقرار المنكر ،والجهر بالحق دون
خشية من أحد أو مخافة لومة لئم ،فل يكون النقد حقا فقط ،وإنما هو واجب ديني أحيانا في ضوء
مفاهيم السلم ،وضرورة الحفاظ على أحكامه ،بدليل قوله صلّى ال عليه وسلم « :الدين النصيحة»..
( )1الحديث السابق ذكره .وقوله« :ل تكونوا إمّعة (أي مع الناس) تقولون :إن أحسن الناس أحسنا،
وإن ظلموا ظلمنا ،ولكن وطّنوا أنفسكم :إن أحسن الناس أن تحسنوا ،وإن أساؤوا فل تظلموا» ()2
«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (. )3
-------------------------------
( )1رواه مسلم عن أبي رقيّة تميم بن أوس الداري.
( )2رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان.
( )3رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري ،ورواه أحمد وابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة ،ورواه
غيرهم.
( )8/331
وسيرة الخلفاء الراشدين في احترام حق النقد وضرورته خير شاهد عملي على إبراز قيمته وأهميته
في السلم ،كما قال عمر رضي ال عنه« :أيها الناس ،من رأى فيّ اعوجاجا فليقوّمه» فيجيبه
أعرابي :وال يا أمير المؤمنين لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا هذه ،فيقول أمير المؤمنين
مغتبطا« :الحمد ل الذي جعل في هذه المة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه إذا اعوج» .وفي حادث
آخر قال رجل لعمر« :اتق ال يا أمير المؤمنين ،فرد عليه آخر :تقول لمير المؤمنين :اتق ال ؟!
فقال عمر :دعه فليقلها ،فإنه ل خير فيكم إذا لم تقولوها ،ول خير فينا إذا لم نسمعها منكم» .
والحرية ل تتجزأ في مفهوم السلم ،ول ينفصل جانب الدين فيه عن السياسة والمدنية وغيرها ،فإن
حدث خطأ في تطبيق أحكام الدين ،أو خلل في خط السياسة السلمية ،أو مصادره للحقوق المدنية في
المعاملت الحرة والتصرفات الشخصية ،كان لي مسلم توجيه النقد فيه للحاكم ورده إلى الصواب،
كما حصل من المرأة التي عارضت سيدنا عمر عندما أراد وضع حد لغلء المهور ،وجواب عمر لها
بقوله« :أصابت امرأة وأخطأ عمر» .وكما حدث
مع الرسول نفسه حينما اعترض رجل بغير حق على قسمته الغنائم قائلً« :إن هذه قسمة ما عدل فيها
وما أريد بها وجه ال » فيجيب الرسول« :يرحم ال موسى ،قد كان أوذي بأكثر من هذا فصبر» .
ونحو ذلك كثيرفي السيرة.
( )8/332
( )8/333
ويشعر الخليفة بثقل هذه المسؤولية ويقدرها ،كما يمثل لنا ذلك قول عمر رضي ال عنه« :لئن ضلت
شاة على شاطئ الفرات ،لخشيت أن يسألني ال عنها يوم القيامة» .
وإذا عجزت المة عن خلع الحاكم ،كما حدث في الماضي ،فل يعني عجزها التسليم بشرعية حكمه،
وإنما يكون السكوت إقرارا للمر الواقع ،عملً بمبدأ «الضرورات تبيح المحظورات» (. )1
علقة المام الحاكم بالناس :تتحدد طبيعة هذه العلقة بما يأتي:
- 1المام مستخلف عن رسول ال صلّى ال عليه وسلم وعن خلفائه من بعده ،فيتقيد بالكتاب والسنة.
- 2المام صاحب ولية عامة على جميع من في دار السلم من مسلمين وذميين ،فتصرفاته مقيدة
بالمصلحة العامة.
- 3للمام حق الشراف والرقابة على جميع من دونه من الولة والوزراء والقضاة فيما وكلّهم فيه
من خدمات.
- 4علقة المام بالمة أو بالرعية علقة خادم أمين بمخدومه ،فعليه توفير السعادة ونشر المن
والرخاء للجميع وعليه التحلي بخصال الرحمة والخلص ،دون إكراه ول إضرار.
-------------------------------
( )1السلطات الثلث للدكتور سليمان الطماوي :ص .283
( )8/334
( )8/335
والسلم ل يقر جعل المة مصدر السلطة التشريعية؛ لن التشريع ل وحده ،والمة وحدها صاحبة
الخلفة في الرض في تنفيذ أحكام الشريعة ،والخليفة وأعوانه وقضاته وكلء عن المة في أمور
الدين وفي إدارة شؤونها بحسب شريعة ال ورسوله ،ولها حق نصحه وتوجيهه وتقويمه إن أساء،
وعزله إن انحرف ،فهو يستمد سلطانه من المة بعقد البيعة أو الوكالة ،ويكون مصدر السيادة حينئذ
هو المة الموكل الصلي ،ل الوكيل النائب عنها .والمة في المجتمع المسلم أو الديمقراطية السلمية
ملتزمة بالقانون السماوي والخلقي ومقيدة بمبادئه ،فالسيادة في السلم مبنية على حق إنساني ناشئ
عن جعل شرعي .وبذلك تكون المة والشريعة معا هما صاحبا ( السيادة ) في الدولة السلمية،
بمعنى أن السيادة الصلية ل تعالى ،فيرجع إليه في المر والنهي ،والسيادة العملية مستمدة من الشعب
الذي يعين أهل الحل والعقد أصحاب الرأي والجتهاد في ضوء مبادئ الشريعة ( . )1قال المرحوم
الستاذ عبد الوهاب خلف (« : )2وهذه الرياسة العليا مكانتها من الحكومة السلمية مكان الرياسة
العليا من أية حكومة دستورية؛ لن الخليفة يستمد سلطانه من المة الممثلة في أولي الحل والعقد،
ويعتمد في بقاء هذا السلطان على ثقتهم به ونظره في مصالحهم ،ولهذا قرر علماء المسلمين أن للمة
خلع الخليفة لسبب يوجبه ،وإن أدى إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين » .
-------------------------------
( )1راجع النظريات السياسية السلمية للريس :ص ،341-320مقاصد الشريعة السلمية
ومكارمها للستاذ علل الفاسي :ص ،215-209منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد :ص ،86-77
نظام الحكم في السلم ليوسف موسى :ص .127-123
( )2السياسة الشرعية :ص .58
( )8/336
( )8/337
وسار أبو بكر بسيرة الرسول في الدارة السلمية ،واحتفظ بالعمال الذين استعملهم صاحب الشريعة،
والمراء الذين أمرهم .وقام أبو عبيدة بشؤون المال ،وعمر بأمر القضاء .وكان الصديق يشاور أهل
الرأي والفقه فيما يعرض له من القضايا .وقسمت جزيرة العرب إلى وليات أو عمالت كمكة
والمدينة والطائف وصنعاء...إلخ .وقسمت الحجاز إلى ثلث وليات ،واليمن إلى ثمان ،والبحرين
وتوابعها ولية .وكان أهم شاغل لبي بكر في مدة خلفته الوجيزة هو قتال المرتدين وتوطيد دعائم
السلم ،وتثبيت أركان الدولة بإظهار قوة المسلمين لمن خالفهم .وكان أيضا يهتم بمراقبة أحوال
العمال ( ، )1أي الموظفين الداريين ،وسموا عمالهم لبيان أن العامل ليس مطلق السلطة.
ووضحت صورة التنظيم الداري في عهد عمر لتساع رقعة الدولة السلمية ،فعين العمال الكفاء،
وراقبهم مراقبة شديدة ،وشاطرهم أموالهم ،وأحصى القبائل وفرض لها الفروض وأعطاها العطايا،
ودون الدواوين التي تشبه الوزارات اليوم ،فوضع أول ديوان في السلم للخراج والموال بدمشق
والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل ،وكان أول من استقضى القضاة ،وأحدث التاريخ
الهجري ،وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده ،وحجر على أعلم قريش من المهاجرين الخروج
من البلدان إل بإذن وأجل ،ونحو ذلك من التقسيمات والتنظيمات الدارية السديدة (. )2
وحافظ عثمان رضي ال عنه على الوضاع التي وضعها عمر ،وعلى العمال الذين عينهم عمر مع
أناس من أهله وعشيرته في بدء وليته .ثم ضعفت الدارة
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص .27-23
( )2المرجع السابق :ص .53-27
( )8/338
في النصف الخير من عهد عثمان لشيخوخته ،واشتغل بعض كبار العمال بأطماعهم في الوليات ()1
.
وكانت طريقة علي أيضا في الدارة طريقة من سبقوه إلى المامة.
ثم تبلورت النظم الدارية في عهد المويين والعباسيين بسبب اتصالهم بالحضارات الخرى ،وظهور
الطابع الدنيوي عليها ( ، )2مما مكّن فقهاء السلم من صياغة الحكام الدارية المناسبة.
المطلب الثاني ـ أقسام الوليات في رأي الماوردي :
قسم الماوردي وليات خلفاء الخليفة أربعة أقسام (: )3
أولً ـ أصحاب الوليات العامة في العمال العامة :وهم الوزراء؛ لنهم يستنابون في جميع المور
من غير تخصيص.
ثانيا ـ أصحاب الولية العامة في أعمال خاصة :وهم أمراء القاليم والبلدان؛ لن اختصاصهم عام
في حدود القليم المنوط إدارته بهم.
ثالثا ـ أهل الولية الخاصة في العمال العامة :وهم قاضي القضاة ونقيب الجيوش وحامي الثغور
ومستوفي الخراج وجابي الصدقات؛ لن اختصاص كل واحد خاص في جميع أعماله.
رابعا ـ ذوو الولية الخاصة في العمال الخاصة :وهم كقاضي بلد ،أوإقليم أو مستوفي خراجه ،أو
الجابي صدقاته ،أو الحامي ثغره ،أو نقيب جنده؛ لن كل واحد خاص النظر خاص العمل.
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص 55ومابعدها.
( )2المرجع نفسه :ص 65وما بعدها.
( )3الحكام السلطانية :ص .19
( )8/339
( )8/340
وبما أن منصب هذه الوزارة له أهميته وخطورته ،اشترط الفقهاء فيمن يقلدها شروط المامة نفسها،
إل النسب القرشي وحده؛ لنه يمضي الراء وينفذ الجتهاد ،فينبغي أن يكون مجتهدا .والسبب في
استثناء شرط النسب هو اقتصار النصوص الواردة بشأنه على المامة وحدها ،مما دعا أبا بكر أن
يقول للنصار :فنحن المراء وأنتم الوزراء.
وزيد شرط آخر على شروط المامة :وهو أن يكون وزير التفويض من أهل الكفاية فيما وكل إليه من
أمري الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما (. )1
كذلك ل يكفي للتكليف بهذه الوزارة مجرد الذن ،بل ل بد من عقد معين صادر من الخليفة لمن يكلفه
بها ،والعقود ل تصح إل بالقول الصريح (. )2
وبما أن لهذا الوزير صلحية عامة في العمال كالمام فل يجوز للخليفة تعيين وزيري تفويض في
وقت واحد ،كما ل يجوز تعيين إمامين،؛ لنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل ،لكن
إن أشرك الخليفة اثنين في النظر المشترك في المور ،دون أن ينفرد أحدهما بتصرف ،بل ل بد من
اتفاقهما معا ،فيجوز (. )3
- 2وزارة التنفيذ( : ) 4هي أقل مرتبة من وزارة التفويض؛ لن الوزير فيها ينفذ رأي المام
وتدبيره ،وهو وسط بينه وبين الرعايا والولة ،يؤدي عنه أوامره ،وينفذ آراءه ،ويمضي أحكامه،
ويبلغ من قلدهم الولية أو تجهيز الجيوش ،ويعرض عليه ما ورد منهم ،وتجدد من أحداث طارئة.
فليس له سلطة الستقلل بالتوجيه والرأي والجتهاد ،وهو محدد الختصاص بأمرين:
أحدهما ـ أن يؤدي إلى الخليفة ما يبلغه من قضايا.
الثاني ـ أن يؤدى إليه أوامر الخليفة لتنفيذها.
-------------------------------
( )1المرجع نفسه :ص .20
( )2المصدر نفسه :ص .21
( )3المصدر نفسه :ص .26
( )4المصدر نفسه :ص .26-24
( )8/341
ويكفي في تعيينه مجرد الذن ،ول يشترط إجراء عقد معه لتعيينه .ول يطلب فيه الحرية ،لنه ل
ينفرد بالولية وتقليد الوظائف لغيره ،ول العلم ،أي الجتهاد لنه ل يجوز له أن يحكم برأيه.
شروطه :الشروط المطلوبة في وزير التنفيذ سبعة فقط تتعلق بالخلق الفاضلة والتجربة السياسية:
- 1المانة :حتى ل يخون فيما قد اؤتمن عليه ،ول يغش فيما استنصح فيه.
- 2صدق اللهجة :حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ويعمل على قوله فيما ينهيه.
- 3قلة الطمع :حتى ل يرتشي ول ينخدع.
- 4أن يكون مسالما ل عداوة ول شحناء بينه وبين الناس؛ لن العداوة تصد عن التناصف وتمنع من
التعاطف.
- 5حاضر البديهة والذاكرة حتى يؤدي إلى الخليفة وعنه؛ لنه شاهد له وعليه - 6 .الذكاء والفطنة
حتى ل تدلس عليه المور ،فتشتبه ،ول تموه عليه فتلتبس.
- 7أل يكون من أهل الهواء ،فيخرجه الهوى من الحق إلى الباطل.
ول يقبل لهذا المنصب ول لوزارة التفويض والخلفة امرأة لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :ما
أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ( )1ولن في هذه الوظائف من المهام الخطيرة التي تتطلب الرأي وثبات
العزم ما تضعف عنه النساء .ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة ،ول يجوز لوزارة
التفويض .ويجوز تعيين وزيري تنفيذ أو أكثر ،على عكس وزارة التفويض .لكن يجوز للخليفة تعيين
وزيرين في مهمة وزير تفويض ووزير تنفيذ ،فيكون وزير التفويض مطلق التصرف ،ووزير التنفيذ
مقصورا على تنفيذ أوامر الخليفة.
الفرق بين الوزارتين :ذكر الماوردي فروقا ثمانية بين الوزارتين ،أربعة منها تتعلق بالشروط،
والربعة الخرى بالصلحيات.
أما الفروق العائدة للشروط والمؤهلت فهي:
- 1الحرية :مطلوبة في وزارة التفويض ،وغير مطلوبة في وزارة التنفيذ.
- 2السلم :مطلوب في وزارة التفويض ،دون التنفيذ.
- 3العلم بالحكام الشرعية (الجتهاد) :مطلوب في وزارة التفويض ل التنفيذ .
- 4المعرفة بشؤون الحرب والقتصاد كالخراج :مطلوبة في وزارة التفويض ل التنفيذ.
-------------------------------
( )1رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه والنسائي عن أبي بكرة (نيل الوطار.)263/8 :
( )8/342
( )8/343
( )8/344
وأما العمال التي كان يمارسها صاحب هذه المارة فهي سبعة ( )1وهي:
- 1النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في النواحي ،وتقدير أرزاق الجند ،إل أن يكون الخليفة قدرها،
فيعمل بما قرر.
- 2النظر في الحكام وتقليد القضاة والحكام.
- 3جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال لها ،وتفريق ما استحق منها.
- 4حماية الدين والذب ،أي الدفاع ،عن الحريم ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل.
- 5إقامة الحدود في حق ال وحقوق الدميين.
- 6المامة في صلة الجمع والجماعات بنفسه أو بالستخلف عليها.
- 7تسهيل أداء فريضة الحج كل عام.
وهناك واجب ثامن على والي البلد الساحلية أو المجاورة لحدود العدو (الثغور) :وهو جهاد العداء
وقسمة الغنائم على وفق أحكام الشرع.
والشروط المطلوبة فيمن يعين لهذه المامة :هي ذات الشروط المقررة في وزارة التفويض؛ لن
الفرق بينهما إقليمي بحت،فسلطة وزير التفويض عامة في كل أنحاء الدولة ،وأما اختصاص أمير
القليم فمقيد في نطاق إقليمه .وحينئذ يكون لوزير التفويض الحق في مراقبة أعمال ولة القاليم ،بل
وله عزلهم أحيانا إذا كان هو الذي عينهم .فإن عينهم الخليفة أو بإذن الخليفة فل بد من موافقة الخليفة
على العزل (. )2
ويجوز لوالي القليم أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بإذن الخليفة أو بغير إذن ،ولكن ل يجوز له أن
يستوزر وزير تفويض إل بإذن الخليفة؛ لن وزير التنفيذ معين ،ووزير التفويض مستبد ،أي مستقل
الرأي (. )3
)ً 2ـ إمارة الستيلء( : ) 4وهي التي تعقد عن اضطرار بأن يستولي شخص على السلطة ،كما
حدث في العصر العباسي الثاني ـ عصر الدويلت ،فيقره الخليفة على إمارتها ،ويفوض إليه تدبير
أمورها وسياستها .ولكن يحتفظ الخليفة بما يتعلق بالدين ،فيكون المير ـ كما قال الماوردي ـ
باستيلئه مستبدا بالسياسة والتدبير ،والخليفة بإذنه منفذا لحكام الدين ،ليخرج من الفساد إلى الصحة
ومن الحظر إلى الباحة.
وهذا اعتراف بالمر الواقع أو بحكم الضرورة .أما أحكام الدين فل يجوز التهاون بها ،قال الماوردي
بعد عبارته السابقة« :وهذا ،وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ،ففيه من حفظ
القوانين الشرعية ،وحراسة الحكام الدينية ما ل يجوز أن يترك مختلً مدخولً ،ول فاسدا معلولً» .
-------------------------------
( )1الماوردي :ص .28
( )2المرجع السابق :ص .28
( )3المصدر السابق :ص .29
( )4المصدر السابق :ص .31
( )8/345
والمعنى أن الفقهاء إزاء تجزؤ الدولة والتطور الحادث أرادوا الحفاظ على مبدأ شرعية الدولة،
وشعور الناس بالتالي بأنهم يعيشون في ظل الشرعية ،عن طريق الرتباط السمي بالخلفة
المركزية ،فتبقى الوحدة وروح التعاون سائدة في القضايا العامة.
إل أن إقرار هذا النوع الستثنائي أو العتراف بالمر الواقع مقيد بسبعة شروط تلزم أغلبها المير
المستولي ،ويلزم بعضها الخليفة نفسه وهي:
- 1حفظ منصب المامة في خلفة النبوة ،وتدبير أمور الملة ،لحفظ أحكام وحدود الشريعة وما تفرع
عنها من حقوق.
- 2ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد والنشقاق.
- 3اجتماع الكلمة على اللفة والتناصر ،ليكون للمسلمين يد على من سواهم.
- 4أن تكون عقود الوليات الدينية جائزة ،والحكام والقضية نافذة.
- 5أن يكون استيفاء الموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستبيحه آخذها.
- 6أن تكون الحدود مستوفاة بحق ،وقائمة على مستحق.
- 7أن يكون المير في حفظ الدين ورعا عن محارم ال ،يأمر بحقه إن أطيع ،ويدعو إلى طاعته
إن عصي.
هذه هي شروط العتراف بالجزء المنفصل من قبل الخليفة تحفظ بها حقوق المامة.
-------------------------------
( )1المصدر السابق :ص 32ومابعدها.
( )8/346
( )8/347
( )8/348
وحكمه شرعاً أنه فريضة محكمة من فروض الكفايات باتفاق المذاهب ،فيجب على المام تعيين
قاض ،لقوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء ]135/4:قال بعضهم« :القضاء
أمر من أمور الدين ،ومصلحة من مصالح المسلمين ،تجب العناية به؛ لن بالناس إليه حاجة عظيمة (
. )1وهو من أنواع القربات إلى ال عز وجل ،ولذا توله النبياء عليهم السلم ،قال ابن مسعود:
«لن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة» .
وحكمة تشريعه :حاجة الناس إليه لفض منازعاتهم ،وتوفير مصالحهم ،ورعاية حقوقهم ،ومنع الظلم
والتظالم ،ومحاربة الهواء .
أهمية القضاء :
القضاء منصب عظيم وخطير ،وله مكانة في الدين ،وهو وظيفة النبياء والخلفاء والعلماء ،قال ال
تعالى لنبيه داود عليه السلم{ :يا داود إنا جعلناك خليفة في الرض ،فاحكم بين الناس بالحق ،ول
تتبع الهوى ،فيضلك عن سبيل ال ،إن الذين يضلون عن سبيل ال لهم عذاب شديد بما نسوا يوم
الحساب} [ص.]26/38:
وكان الرسول صلّى ال عليه وسلم في دولة المدينة يتولى بنفسه القضاء بين الناس ،فلم يكن للمسلمين
قاض سواه ،يصدر عنه التشريع ،ثم يشرف على تنفيذه ،فكان يجمع بين التشريع والتنفيذ والقضاء،
وكان قضاؤه اجتهادا ل وحيا ،معتمدا على ما قرره« :البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
ويقول« :أمرت أن أحكم بالظاهر وال يتولى السرائر» «إنما أنا بشر مثلكم ،وإنكم تختصمون إلي،
ولعل
-------------------------------
( )1اللباب شرح الكتاب للميداني.77/4 :
( )8/349
بعضكم أن يكون ألحن ( )1بحجته من بعض» ( )2وباتساع الدولة عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم
إلى بعض الصحابة بالقضاء ،فبعث عليا كرم ال وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ،وبعث إليها
أيضا معاذ بن جبل رضي ال عنه .وولى عتّاب بن أسيد أمر مكة وقضاءها بعد فتحها.
وسار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج ،فتولى عمر القضاء في عهد أبي بكر فظل سنتين ل يأتيه
متخاصمان ،لما اشتهر عنه من الحزم والشدة .وتم في عهد عمر بأمره فصل القضاء عن الولية
الدارية ،وعين القضاة في أجزاء الدولة السلمية في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر (. )3
فكان عمر هو أول من وضع أساس السلطة القضائية المتميزة ،كماكان أول من وضع الدواوين كما
عرفنا ،وأول من وضع دستور القضاء في رسالته المشهورة إلى أبي موسى الشعري ( ، )4وأول
من استحدث نظام السجون ،وكان الحبس في الماضي هو ملزمة المتهم من قبل المدعي أو غيره في
منزل أو مسجد ،وكان قضاء القضاة المستقلين عن الخليفة محصورا في المنازعات المدنية المالية (
. )5أما الجنايات الموجبة للقصاص أو الحدود فبقيت في يد الخليفة ،وولة القاليم ذوي الولية
العامة .وأما ولة المارة الخاصة ،فلهم فقط حق استيفاء الحدود المتعلقة بحقوق ال تعالى المحضة
كحد الزنى جلدا أو رجما ،أو المتعلقة بحقوق الشخاص إن طلب طالب منهم ذلك (. )6
-------------------------------
( )1أي أفطن بها وأبصر.
( )2الحديث الول رواه البيهقي والثاني غير ثابت بهذا اللفظ ،والحديث الثالث رواه الجماعة عن أم
سلمة (نيل الوطار ،278/8 :كشف الخفا :ص 221وما بعدها).
( )3القضاء في السلم لعارف النكدي :ص .79
( )4أنظر أعلم الموقعين لبن قيم 85/1 :وما بعدها ،الحكام السلطانية للماوردي :ص .68
( )5السلم والحضارة العربية للستاذ محمد كرد علي.154/2 :
( )6الماوردي ،المصدر السابق :ص .30
( )8/350
وكان عثمان رضي ال عنه أول من اتخذ دارا للقضاء ،بعد أن كان القضاء في المسجد.
وكان القضاء يقوم على أساسين:
الول :نظام القاضي الفرد.
الثاني :عدم تدوين الحكام في سجلت؛ لنها تنفذ فورا بإشراف القاضي (. )1
وكان للقضاة أجور من بيت مال المسلمين منذ عهد عمر مقابل تفرغهم للقضاء.
ويتم إصدار الحكم باجتهاد القاضي وفراسته بالعتماد على مصادر التشريع الربعة :وهي القرآن
والسنة والجماع والقياس.
ثم تطور القضاء في عهد المويين والعباسيين باستقرار الدولة ،فتحددت سلطات القاضي
واختصاصاته وتنوع القضاء ،وكان القضاة مستقلين في أعمالهم غالبا ،وبدأ تسجيل أحكام القضاء في
بدء العهد الموي ،واستحدث في عهد العباسيين منصب قاضي القضاة الذي كان أول من توله أبو
يوسف تلميذ أبي حنيفة ،وكان بمثابة وزير العدل يعين القضاة ،ويعزلهم ،ويراقب أعمالهم وأحكامهم،
وظهر أيضا قضاة المذاهب ،فوجد في كل إقليم قاضٍ مذهبي ،ففي العراق يعمل بالمذهب الحنفي،
وفي الشام والمغرب على وفق المذهب المالكي ،وفي مصر على وفق مذهب الشافعي.
-------------------------------
( )1السلطات الثلث للطماوي :ص .306
( )8/351
واتسع سلطان القاضي تدريجيا ،فأصبح ينظر بالضافة إلى المنازعات المدنية في أمور إدارية أخرى
كالوقاف وتنصيب الوصياء .وقد يجمع القاضي بين القضاء والشرطة والمظالم والحسبة ودار
الضرب وبيت المال (. )1
وكان نظام التحكيم معمولً به بجانب القضاء .وانفصل قضاء المظالم وولية الحسبة عن القضاء.
إل أن القضاء العادي كان أسبق نشأة من غيره عندما توله الرسول صلّى ال عليه وسلم في المدينة
وهو يفترض وجود اعتداء على حق شخصي وقيام خصومة بين شخصين .ثم ظهر نظام الحسبة في
زمن المهدي للنظر في العتداءات الواقعة على المصالح العامة التي تمس أمن الجماعة وإن لم يوجد
فيها مدعٍ شخصي لحماية حق خاص به .ثم وجد قضاء المظالم لحماية الحقوق والحريات من جور
الولة والحكام واستبداد القوياء حينما توسعت الدولة وضعف الوازع الديني وامتدت أطماع القواد
إلى أموال الرعية .ومن أجل إقرار العدالة وإحقاق الحق ل بد من توافر السس التالية للقضاء في
السلم :
أولً ـ اعتماده على العقيدة والخلق :لتربية الضمير والوجدان ،وتهذيب النفس ،وإعداد الوازع
الديني والخلقي المهيمن على سير الدعوى .وهو مطلوب في اختيار القاضي ،وعند رفع الدعوى،
وفي معاملة الخصوم ،وفي إصدار الحكام وتنفيذها ،وفي الثبات الشرعي والتزام أحكام الشريعة
ونحوها.
ثانيا ـ ضرورته في كل دولة :القضاء أمر لزم لكل دولة ،كما اتضح من ممارسة الرسول صلّى ال
عليه وسلم له ،ومتابعة الخلفاء سنته واهتمامهم بتنظيمه .فهو إذن يحتل مركزا مهما في الدولة ،ويعد
أحد سلطاتها الضرورية لوجودها وبقائها« :العدل أساس الملك» بل ويستمد قوته من الدولة في
التخاصم وإصدار الحكام ،واستيفاء الحقوق.
ثالثا ـ استقلل السلطة القضائية والفصل بين السلطات :كان القضاء في عهد الرسول وخلفة أبي
بكر وجزء من خلفة عمر يقوم به الولة الداريون ،ثم أمر عمر بفصل أعمال القضاة عن أعمال
الولة ،فعين القضاة في المدينة وسائر المدن السلمية ،وجعل سلطة القضاء تابعة له مباشرة .وبه
تحقق فصل السلطة القضائية عن بقية سلطات الدولة.
-------------------------------
( )1مقدمة ابن خلدون :ص 192وما بعدها.
( )8/352
( )8/353
( )8/354
أما العدالة ( : )1فهي شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة ،فل يجوز تولية الفاسق ،ول مرفوض
الشهادة بسبب إقامة حد القذف عليه مثلً ،لعدم الوثوق بقولهما ،قال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ،فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات]6/49:
فإذا لم تقبل الشهادة من امرئ فلن ل يكون قاضيا أولى.
وقال الحنفية :الفاسق أهل للقضاء ،فلو عين قاضيا صح قضاؤه للحاجة ،لكن ينبغي أل يعين ،كما في
الشهادة ينبغي أل يقبل القاضي شهادة فاسق ،لكن لو قبل ذلك منه جاز ،مع وقوعه في الثم .وأما
المحدود في القذف فل يعين قاضيا ول تقبل شهادته عندهم.
وأما الذكورة :فهي شرط أيضا عند المالكية والشافعية والحنابلة ،فل تولى امرأة القضاء؛ لن القضاء
ولية ،وال تعالى يقول{ :الرجال قوامون على النساء} [النساء ]34/4:وهو يحتاج إلى تكوين رأي
سديد ناضج ،والمرأة قد يفوتها شيء من الوقائع والدلة بسبب نسيانها ،فيكون حكمها جورا ،وهي ل
تصلح للولية العامة لقوله صلّى ال عليه وسلم « :لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (. )2
وقال الحنفية :يجوز قضاء المرأة في الموال ،أي المنازعات المدنية؛ لنه تجوز شهادتها فيها .وأما
في الحدود والقصاص ،أي في القضاء الجنائي ،فل تعين قاضيا؛ لنه ل شهادة لها في الجنايات،
وأهلية القضاء تلزم أهلية الشهادة.
-------------------------------
( )1العدالة كما قال الماوردي في الحكام :ص :62هي أن يكون صادق اللهجة ،ظاهر المانة،
عفيفا عن المحارم،متوقيا المآثم ،بعيدا عن الريب ،مأمونا في الرضا والغصب ،مستعملً لمروءة مثله
في دينه ودنياه» .
( )2رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن أبي بكرة.
( )8/355
وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شيء لجواز إفتائها ( )1ورد عليه الماوردي بقوله:
ول اعتبار بقول يرده الجماع مع قول ال تعالى{ :الرجال قوامون على النساء بما فضل ال بعضهم
على بعض} [النساء ]34/4:يعني في العقل والرأي ،فلم يجز أن يقمن على الرجال (. )2
وأما الجتهاد ( : )3فهو شرط عند المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية ،كالقدوري ،فل يولى
الجاهل بالحكام الشرعية ول المقلّد ( )4؛ لن ال تعالى يقول{ :وأن احكم بينهم بما أنزل ال }
[المائدة{ ]49/5:لتحكم بين الناس بما أراك ال } [النساء{ ]105/4:فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى
ال والرسول} [النساء ]59/4:ولن الجتهاد يستطيع به المجتهد التمييز بين الحق والباطل ،قال النبي
صلّى ال عليه وسلم « :القضاة ثلثة :واحد في الجنة واثنان في النار .فأما الذي في الجنة فرجل
عرف الحق ،فقضى به .ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ،ورجل قضى للناس على
جهل فهو في النار» ( )5والعامي يقضي على جهل.
وأّهلية الجتهاد تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالحكام من القرآن والسنة وإجماع المة ،واختلف السلف،
والقياس ،ولسان العرب .ول يشترط الحاطة بكل القرآن والسنة أو الجتهاد في كل القضايا ،بل
يكفي معرفة ما يتعلق بموضوع النزاع المطروح أمام القاضي أو المجتهد.
وقال جمهور الحنفية :ل يشترط كون القاضي مجتهدا ،والصحيح عندهم أن أهلية الجتهاد شرط
الولوية والندب والستحباب .فيجوز تقليد غير المجتهد للقضاء ،ويحكم بفتوى غيره من المجتهدين؛
لن الغرض من القضاء هو فصل الخصائم وإيصال الحق إلى مستحقه ،وهو يتحقق بالتقليد
والستفتاء .لكن قالوا :ل ينبغي أن يقلد الجاهل بالحكام ،أي بأدلة الحكام؛ لن الجاهل يفسد أكثر
مما يصلح ،بل يقضي بالباطل من حيث ل يشعر به.
والواقع في زماننا عدم توافر المجتهدين بالمعنى المطلق ،فيجوز تولية غير المجتهد ،ويولى الصلح
فالصلح من الموجودين في العلم والديانة والورع والعدالة والعفة والقوة .وهذا ما قاله الشافعية
والمام أحمد ،وقال الدسوقي من المالكية :والصح أن يصح تولية المقلد مع وجود المجتهد.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد.458/2 :
( )2الحكام السلطانية :ص .61
( )3الجتهاد :عملية استنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
( )4المقلد :هو من حفظ مذهب إمامه دون معرفة بأدلته.
( )5رواه ابن ماجه وأبو داود عن بُرَيدة ( نيل الوطار 263/8 :وما بعدها).
( )8/356
( )2بداية المجتهد ،460/2 :فتح القدير ،477/5 :مغني المحتاج ،393/4 :المغني.107/9 :
( )8/357
( )8/358
وأما حقوق القضاة فمنها المادي ومنها المعنوي .فمن الحقوق المادية :توفير الكفاية المعيشية له
ولسرته بتخصيص مرتب كاف له ،كيل تمتد يده إلى أموال الناس ،ول يتطلع إلى الهدية أو الرشوة.
وقد سار النبي وخلفاؤه على هذا النهج .ويضمن بيت المال الضرر الناشئ عن أحكام القضاة دون
عمد ول تقصير أوإهمال .ومن الحقوق المعنوية :توفير الستقرار للقاضي وعدم عزله إل بسبب
شرعي ،تحقيقا للحصانة القضائية له .وعلى الدولة حماية القاضي من أي تعرض له بسبب حكمه،
ومنع مخاصمته في الحكم ،ومعاونته في تنفيذ أحكامه.
المطلب الثالث ـ أنواع القضاة واختصاصاتهم :
قسم أقضى القضاة الماوردي قضاة زمانه بحسب عموم ول يتهم وخصوصها إلى أنواع أربعة وهي:
أولً ـ القاضي ذو الولية العامة :وهو القاضي الذي ل تتحدد وليته بزمان ومكان معين ،ول
بأشخاص معينين ،وإنما له سلطة مطلقة بالنظر والتصرف فيما يختص بوليته .واختصاصه يشمل
عشرة أمور ،وهي (: )1
- 1فصل المنازعات وقطع المشاجرة والخصومات ،إما صلحا عن تراض فيما يحل شرعا ،أو بحكم
بات ملزم.
- 2استيفاء الحقوق ممن مطل بها ،وإيصالها إلى مستحقيها بعد ثبوت استحقاقها بالقرار أو البينة
ونحوهما من طرق الثبات الشرعية.
- 3ثبوت الولية على عديم الهلية بجنون أو صغر ،والحجر على ناقص الهلية بسبب السفه
(التبذير) والفلس ،حفظا للموال ،وتصحيحا للعقود.
- 4النظر في الوقاف ،بحفظ أصولها ،وتنمية فروعها ،وصرف ريعها لمستحقيها.
- 5تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع.
- 6تزويج اليامى بالكفاء إذا عدِمن الولياء ودعين إلى النكاح ،وهذا مقصور عند الحنفية على
تزويج الصغار.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص 67وما بعدها.
( )8/359
- 7إقامة الحدود على مستحقيها :فإن كان من حقوق ال تعالى تفرد باستيفائه من غير طالب .وإن
كان من حقوق الدميين كان موقوفا على طلب مستحقه.
- 8النظر في مصالح عمله من الكف عن التعدي في الطرقات والفنية ،وإخراج ما ل يستحق من
الجنحة والبنية ،وله أن ينفرد بالنظر فيها ،وإن لم يحضره خصم .وقال أبو حنيفة :ل يجوز له
النظر فيها إل بدعوى من الخصم.
- 9تصفح شهوده وأمنائه واختيار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم والتعويل عليهم.
- 10التسوية في الحكم بين القوي والضعيف ،والعدل في القضاء بين المشروف والشريف ،ول يتبع
هواه في تقصير المحق ،أو ممايلة المبطل.
ويلحظ أن هذه المور تتضمن بعض التوجيهات العامة بالضافة إلى تحديد الختصاصات القضائية.
ثانيا ـ القاضي خاص الولية :وهو الذي تقتصر وليته على بعض الختصاصات المتقدمة ،أو تكون
وليته ذات اختصاص موضوعي أضيق ،كالحكم بالقرار دون البينة ،أو في الديون ،دون الحوال
الشخصية ،أو في المقدرات الشرعية ،فيتقيد بما خصص فيه ،ول يتعداه إلى غيره (. )1
ثالثا ـ القاضي عام النظر خاص العمل (الختصاص المكاني) :وهو الذي يختص بالنظر في جميع
اختصاصات النوع الول ،ولكن في بلدة معينة أو محلة معينة ،فتنفذ أحكامه في هذا النطاق فقط ()2
.
رابعا ـ القاضي المحدد الولية :وهوالذي تقتصر وليته بالحكم في قضية أشخاص معينين ،أو في
أيام محدودة ،كيوم السبت وحده بالنسبة لجميع الدعاوى بين الخصوم ،وتزول وليته بعدئذ (.)3
-------------------------------
( )1المصدر السابق :ص .69
( )2المصدر والمكان السابق.
( )3المصدر السابق :ص .70
( )8/360
( )8/361
- 2التخصص المكاني :وهو تقييد القاضي بالقضاء في بلدة معينة أو أكثر ،أو ناحية من بلد معين،
كما قلد النبي صلّى ال عليه وسلم علي بن أبي طالب قضاء اليمن ،وقلد معاذ بن جبل القضاء في
ناحية منها .وهذا هو اختصاص النوع الثالث من أنواع القضاة الذين ذكرهم الماوردي.
- 3التخصص النوعي :وهو تخصيص القاضي عند تعيينه أو بعده ببعض معين من القضايا ،كما
هو الحادث الن في دوائر المنازعات المدنية ،والحوال الشخصية ،والتجارية ،والجنائية ونحوها .أو
تخصيصه بقضايا ل تزيد فيها المبالغ المستحقة عن قدر معين .وقد سبق بيانه في النوع الثاني من
أنواع القضاة.
- 4التخصص الموضوعي :وهو القتصار على سماع دعاوى موضوعات معينة والمنع من سماع
دعاوى أخرى ،كدعوى الوقف أو الرث ،بسبب مضي المدة أو التقادم الطويل المد بل عذر ،وهو
مدة ( 33أو )36سنة في الوقاف وأموال بيت المال ،أو 15سنة في الحقوق الخاصة؛ لن ترك
الدعاء مع المكان يدل على عدم الحق ظاهرا.
ومنها عدم سماع دعوى الزوجية بسبب صغر السن ،في الفتى دون 18سنة ،وفي الفتاة دون 16سنة
مثلً.
أسلوب القضاء الفردي والجماعي :
إن أساس القضاء الذي كان سائدا في السلم هو الخذ بنظام وحدة القاضي أو القاضي الفرد كما
عرفنا :وهو أن يفصل في الخصومات قاض واحد يعينه المام أو نائبه في بلد معين .ول مانع عند
فقهاء الحنفية ( )1وبعض الحنابلة والشافعية من الخذ بنظام قضاء الجماعة :وهو اشتراك أكثر من
قاض في نظر الدعاوى؛ لن القاضي نائب أو وكيل عن المام ،وللموكل أن يوكل عنه شخصا أو
أكثر ،وحينئذ فل بد من اشتراكهم جميعا عند النظر في الدعاوى وإصدار الحكم فيها ،على أساس
الشورى.
وأما غير الحنفية ( )2الذين لم يجيزوا تعدد القضاة ،فتعللوا بتعذر اتفاق القضاة في الرأي بالمجتهد
فيه ،مما يؤدي إلى تعذر الفصل في الخصومات .وهذا السبب يمكن التغلب عليه بالخذ برأي
الكثرية ،ولن القضاة يستندون إلى الرأي الذي صوبه المام ،كما قال بعض الشافعية.
-------------------------------
( )1الفتاوى الهندية ،317/3 :التبصرة لبن فرحون.37/1 :
( )2مغني المحتاج ،380/4 :المغني ،105/9 :حاشية الدسوقي.134/4 :
( )8/362
( )8/363
أما في أسلوب تعدد المحاكم ،فإن الخصمين يعلمان سلفا أن الحكم لم يكتسب الدرجة القطعية ،وإنما
يجوز استئنافه ونقضه ،فلم تعد هناك خشية من اضطراب الحكام؛ لن الحكم لم يكتمل بعد .ويمكن
تأييد ما ذكر بما قرر الفقهاء من جواز نقض الحكم إذا صدر سهوا ،أو ظهر فيه خطأ ( . )1فإن
اكتسب الحكم الدرجة القطعية من محكمة النقض ،فل ينقض الحكم السابق في حادثة مشابهة عملً
بقاعدة« :الجتهاد ل ينقض بمثله» وأصلها قول عمر« :تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي» .
والخلصة :إن فقهاءنا عرفوا مبدأ الطعن في الحكام ،ول يعد تنظيم المحاكم حديثا مخالفا لمبادئ
السلم ،وإنما يتمشى معها ،عملً بما قرره الفقهاء فيما يجوز نقضه من الحكام أو الطعن في الحكم
بسبب التهمة الموجهة للقاضي .وقد عرف القضاء في الندلس فعليا مبدأ القضاء بالرد.
-------------------------------
( )1راجع تبصرة الحكام 55/1 :وما بعدها ،فتح القدير ،487/5 :البدائع ،14/7 :مغني المحتاج:
،396/4المغني ،56/9 :العقد المنظم للحكام ،192/2 :أصول الفقه للمؤلف 1114/2ومابعدها.
( )8/364
( )8/365
المبحث الرابع ـ ولية المظالم
تعريفها ونشأتها ،المختص بالنظر فيها ،هيئة مجلسها ،اختصاصاتها ،الفرق بينها وبين القضاء
العادي.
أولً ـ تعريف ولية المظالم ونشأتها :ولية المظالم تشبه إلى حد كبير نظام القضاء الداري ومجلس
الدولة حديثا ،فهي أصلً للنظر في أعمال الولة والحكام ورجال الدولة مما قد يعجز عنه القضاء
العادي ،وقد ينظر واليها في المنازعات التي عجز القضاء عن فصلها ،أو في الحكام التي ل يقتنع
الخصوم بعدالتها .ويجتمع فيها القضاء والتنفيذ معا (. )1
وعرفها الماوردي بقوله (« : )2نظر المظالم :هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة ،وزجر
المتنازعين عن التجاحد بالهيبة ،فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر نافذ المر ،عظيم
الهيبة ،ظاهر العفة ،قليل الطمع ،كثيرالورع؛ لنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة ،وثبت القضاة،
فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين ،وأن يكون بجللة القدر نافذ المر في الجهتين» .
نشأتها :كان الرسول صلّى ال عليه وسلم في صدر السلم أول من نظر المظالم بنفسه ،فقضى في
شِرْب بين الزبير بن العوام وأنصاري ( ، )3وأرسل عليا لدفع دية القتلى الذين قتلهم خالد من قبيلة
بني جذيمة بعد أن خضع أهلها وقال« :اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد» .
ولم يُنتدب للمظالم من الخلفاء الربعة أحد؛ لن الناس كان يقودهم التناصف إلى الحق ،ويزجرهم
الوعظ عن الظلم.
ولكن عمر رضي ال عنه كان شديد الوطأة على الولة ،ودائم التحذير لهم ،فأمر بالقتصاص من
عمرو بن العاص؛ لنه قال لعرابي في المسجد :يا منافق ،إل أن يعفو العرابي ،واقتص من ابن
عمرو لهانته مصريا قبطيا.
-------------------------------
( )1السلطات الثلث :ص ،313الماوردي :ص .73
( )2الحكام السلطانية :ص .73
( )3الماوردي :ص .73
( )8/366
وحينما تأخرت إمامة علي واختلط الناس فيها وجاروا ،احتاجوا إلى صرامة في السياسة ،فكان علي
رضي ال عنه أول من نظر في مظالم النا س ،ولم يعين يوما محددا لها.
وعندما تجاهر الناس بالظلم في عهد الدولة الموية كان عبد الملك بن مروان أول من أفرد للظلمات
يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين.
ثم زاد جور الولة وظلم العتاة ولم يكفهم إل أقوى اليدي وأنفذ الوامر ،فكان عمر بن عبد العزيز
رحمه ال أول من ندب نفسه للنظر في المظالم ،فردها ،وراعى السنن العادلة ،ورد مظالم بني أمية
على أهلها ،فلما عوتب في شدته عليهم فيها قال« :كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة ل ُوقِيته» .
ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة ،أولهم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم المأمون وكان
آخرهم المهتدي ،حتى عادت الملك إلى مستحقيها (. )1
وهكذا نشأ نظام المظالم واستقل عن القضاء العادي.
ثانيا ـ صفة ناظر المظالم :كان الخليفة كما تقدم أول من نظر المظالم ومثله الوزراء والمراء.
ويصح النظر في المظالم بتقليد خاص من ولي المر لكل من توافرت فيه شروط ولية العهد ،أو
وزارة التفويض ،أو إمارة القاليم إذا كان نظره في المظالم عاما.
فإن اقتصرت مهمة المقلد للقضاء على تنفيذ ما عجز القضاة عن تنفيذه ،وإمضاء ما قصرت يدهم عن
إمضائه ،جاز أن يكون ناظر المظالم دون مرتبة الوزير والمير في القدر والخطر ،بشرط أل تأخذه
في الحق لومة لئم.
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص 73وما بعدها.
( )8/367
هيئة محكمة المظالم :لبد لتكوين مجلس نظر المظالم من خمسة أصناف ل يستغني عنهم ناظر
المظالم ول ينتظم نظره إل بهم ،وهم (: )1
- 1الحماة والعوان لجذب القوي ،وتقويم الجريء.
- 2القضاة والحكام لستعلم ما ثبت عندهم من الحقوق ،ومعرفة ما جرى في مجالسهم بين
الخصوم.
- 3الفقهاء ليرجع إليهم فيما أشكل ،ويسألهم عما اشتبه وأعضل.
- 4الكتّاب ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق.
- 5الشهود :ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم .فإذا استكمل مجلس المظالم بهؤلء
الصناف شرع الناظر حينئذ في النظر فيها.
ثالثا ـ اختصاصات ديوان المظالم :
يختص ناظر المظالم باختصاصات متعددة بعضها استشاري يتعلق بمراقبة تطبيق أحكام الشرع،
وبعضها إداري يتعلق بمراقبة أعمال الموظفين ولو بدون متظلم من الناس ،كما يظهر من
الختصاصات الثلثةالولى ،وبعضها قضائي يتعلق بفصل الخصومات بين الحكام والرعية ،أو بين
الرعية أنفسهم .وهذه الختصاصات تفصيلً هي ما يأتي (: )2
أولً ـ النظر في تعدي الولة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة.
ثانيا ـ النظر في جور العمال فيما يجبونه من الموال ،فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين
الئمة ،فيحمل الناس عليها ،ويأخذ العمال بها ،وينظر فيما استزادوه ،فإن رفعوه إلى بيت المال أمر
برده ،وإن أخذوه لنفسهم استرجعه لربابه.
ثالثا ـ تصفح أعمال كتاب الدواوين؛ لنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه لهم،
ويوفونه منه.
هذه القسام الثلثة ل يحتاج والي المظالم في تصفحها إلى متظلم.
رابعا ـ النظر في تظلم المسترزقة (أي الموظفين والجنود) من نقص أرزاقهم أو تأخرهم عنهم.
خامسا ـ رد الغصوب ،أي الموال المغتصبة بدون حق .وهي نوعان:
أ ـ غصوب سلطانية :وهي التي يأخذها الحكام أو ولة الجور من أصحابها بدون حق ،إما بأخذها
للدولة أو لنفسهم ظلما .وحكمها أن والي المظالم يأمر بردها إلى أصحابها إن علم بها عند ممارسة
إشرافه على الولة ،ولو قبل التظلم إليه ،فإذا لم يعلم بها توقف نظره فيها على تظلم أربابها .ويمكنه
العتماد على ديوان السلطنة في إثبات حق صاحبها ،دون حاجة لتقديم الدلة من مستحقها.
ب ـ غصوب القوياء :وهي التي يتغلب عليها ذوو اليدي القوية من الفراد المتنفذين ذوي الوجاهة
في الدولة ،فيتصرفون فيها تصرف الملك بالقهر والغلبة .وهذا النوع يتوقف النظر فيه على تظلم
أربابه.
ول ينتزع من يد غاصبه إل بأحد أمور أربعة:و هي اعتراف الغاصب وإقراره أو علم والي المظالم
بها ،أو بينة تشهد بالغصب ،أو تظاهر الخبار ،أي التسامع الذي ينفي عنها التواطؤ ول يختلج فيها
الشك.
-------------------------------
( )1المصدر السابق :ص .76
( )2المصدر السابق نفسه :ص 76ومابعدها.
( )8/368
سادسا ـ الشراف على شؤون الوقاف وهي نوعان:
أ ـ أوقاف عامة على مصالح عامة كالمساجد والمدارس ونحوها .وهذه ينظر في شأنها ،وإن لم يكن
فيها متظلم ،ليصرف ريعها في سبلها،وينفذ شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلثة أوجه :إما من
دواوين المندوبين لحراسةالحكام ،وإما من دواوين السلطنة ،وإما من كتب فيها قديمة يترجح ظن
صحتها ،وإن لم يشهد الشهود بها.
ب ـ أوقاف خاصة :وهي الموقوفة على أشخاص معينين .فل ينظر في منازعاتها إل بتظلم
مستحقيها ،ول يحكم بها إل بطرق الثبات العادية المقررة شرعا.
سابعا ـ تنفيذ أحكام القضاة التي عجزوا عن تنفيذها ،لتعزز المحكوم عليه وقوة يده ،أو لعلو قدره
وعظيم خطره.
ثامنا ـ النظر فيما عجز عنه ناظرو الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه،
والتعدي في طريق عجز عن منعه ،والتحيف في حق لم يقدر على رده.
جمَع والعياد والحج والجهاد ،من تقصير فيها ،وإخلل
تاسعا ـ مراعاة العبادات الظاهرة كال ُ
بشروطها ،فإن حقوق ال أولى أن تستوفى ،وفروضه أحق أن تؤدى.
عاشرا ـ النظر بين المتشاجرين ،والحكم بين المتنازعين ،فل يخرج في النظر بينهم عن موجب
الحق ومقتضاه ،ول يسوغ أن يحكم بينهم إل بما يحكم بها الحكام والقضاة.
رابعا ـ الفرق بين نظر المظالم ونظر القضاة :
قد يثور التساؤل في تحديد جهة المحكمة المختصة بنظر النزاع ،هل ديوان المظالم أو القضاء
العادي ،مما يدعو إلى توضيح الفروق بينهما وهي عشرة كما أبان الماوردي (: )1
- 1لناظر المظالم من فضل الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة في ردع الخصوم ومنع الظلمة من
التسلط.
- 2ناظر المظالم أفسح مجالً وأوسع مقالً.
- 3سلطات ناظر المظالم أوسع في التحقيق والستدلل وطرق الثبات المعتمدة على القرائن
والمارات وشواهد الحوال.
- 4لناظر المظالم أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب ،ويأخذ من بان عدوانه بالتقويم والتهذيب.
- 5له الحق في التأني والتأجيل عند الشتباه والبهام ما ليس للحكام إذا طلب منهم أحد الخصمين
فصل الحكم وإصدار القرار.
- 6له رد الخصوم لفصل التنازع صلحا عن تراض ،وليس للقاضي الرد إل إذا رضي الخصمان.
- 7له أن يفسح في ملزمة الخصمين إذا وضحت أمارات التجاحد ،ويأذن بالكفالة فيما يسوغ فيه
التكفل لينقاد الخصوم إلى التناصف ويعدلوا عن التجاحد والتكاذب.
- 8له أن يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين.
- 9له إحلف الشهود عند إرتيابه بهم ،ويستكثر من عددهم ليزول عنه الشك ،وينفي عنه الرتياب،
وليس ذلك للحاكم العادي.
- 10له أن يبدأ باستدعاء الشهود ،ويسألهم عما عندهم من تنازع الخصوم .وأما عادة القضاة فهي
تكليف المدعي إحضار بينة ،ول يسمعونها إل بعد مسألته وطلبه.
وفيما عدا هذه المور العشرة هما متساويان.
-------------------------------
( )1الحكام :ص 79وما بعدها.
( )8/369
( )8/370
ظهر فعله ( . )1أو هي وظيفة دينية ،من باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،الذي هو فرض
على القائم بأمور المسلمين ،يعيّن لذلك من يراه أهلً له ،فيتعيّن فرضه عليه ،ويتخذ العوان على
ذلك ،ويبحث عن المنكرات ،ويعزّر ،ويؤدّب على قدرها ،ويحمل الناس على المصالح العامة في
المدينة ،مثل المنع من المضايقة في الطرقات ،ومنع الحمّآلين وأهل السفن من الكثار في الحمل،
والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها ،وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة (المارّة)
( . )2
قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية :وأما الحكم بين الناس فيما ل يتوقف على الدعوى ،فهو
المسمى بالحسبة ،والمتولي له والي الحسبة.
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولية خاصة ،كما أفردت ولية المظالم بولية خاصة ،والمتولي
لها يسمى والي المظالم ،وولية المال قبضا وصرفا بولية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيرا،
وناظر البلد لحصاء المال وضبطه تسمى وليته :ولية استيفاء ،والمتولي لستخراجه وتحصيله ممن
هو عليه تسمى وليته ول ية السّر ،والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق ،والحكم في الفروج
والنكحة والطلق والنفقات ،وصحة العقود وبطلنها :هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي .وبه
يتبين أن ولية الحسبة :خاصتها المر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولة
والقضاة (. )3
يتبين من هذا أن الحسبة ل تتوقف على رفع الدعوى من أحد الخصوم ،ويصح لي واحد من الناس
تبليغ المحتسب بوجود منكر في زمان أو مكان أو لدى شخص معين يقيم مثلً علقة غير مشروعة
مع امرأة بسبب طلقها ،أو وجود رضاع مشترك بينه وبينها من أم واحدة ،أو تعايش معها دون
وجود عقد زواج صحيح يربط بينهما.
كما أن للمحتسب أن يتصدى بنفسه لمر بمعروف أو منع منكر واقع دون انتظار دعوى مرفوعة من
شخص ما.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي :ص ،240ط البابي الحلبي بمصر.
( )2مقدمة ابن خلدون :ص ،201ط دار الشعب 576 ،ط التجارية بالقاهرة.
( )3الطرق الحكمية في السياسة الشرعية :ص ،349 ،344مطبعة المدني بالقاهرة.
( )8/371
وتكون الحسبة على هذا النحو متعلقة بالنظام العام والداب ،وقد تتعلق بالجنايات أحيانا مما يحتاج إلى
سرعة في الفصل فيه ،من أجل حماية القيم النسانية أو الدينية وتكوين المجتمع الفاضل ،فهي إذن
ضرورة اجتماعية ل بد منها تمثّل المجتمع وقيمه ،وهي أسبق إلى معرفة ما يسمى في العصر
الحديث بنظرية الدفاع الجتماعي ضد الجريمة ،إذ لهاجانبان :إيجابي وسلبي ،تقمع الجريمة وتطارد
المجرمين من المجتمع دون حاجة لدعاء شخصي ،وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها،
بالترغيب في فعل المعروف ،والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الخلل
بأمن الجماعة واستقرارها ،والحفاظ على العراض والحرمات.
قال ابن خلدون :ول يتوقف حكم المحتسب على تنازع أو استعداء (أي ادعاء) بل له النظر والحُكم
فيما يصل إلى علمه من المنكرات ويرفع إليه ،وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقا ،بل فيما
يتعلق بالغش والتدليس (إخفاء العيوب بحيلة) في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين ،وله أيضا
حمل المماطلين على النصاف ،وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بيّنة ول إنفاذ حكم ،وكأنها أحكام يُنزّه
القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها ،فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها ،فوضعها على
ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء .وقد كانت في كثير من الدول السلمية ،مثل العبيديين بمصر،
والمغرب ،والمويين بالندلس داخلةً في عموم ولية القاضي ،يولّي فيها باختياره.
( )8/372
ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلفة ،وصار نظره عاما في أمور السياسة ،اندرجت في
وظائف الملك وأفردت بالولية (. )1
- 2أساسها :أساس الحسبة :قول ال تعالى{ :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر ،وأولئك هم المفلحون} [آل عمران ]104/3:وقول النبي صلّى ال عليه وسلم :
«من غشنا فليس منا» ( )2فهي من قواعد المور الدينية ،وهي ولية دينية ناشئة من فريضة المر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
- 3غايتها :غايتها أو مقصودها مثل مقصود جميع الوليات في السلم:
أن يكون الدين كله ل ،وأن تكون كلمة ال هي العليا ،بتحقيق العبودية ل ،والقيام بواجب عبادة ال ،
وعبادته تكون بطاعته وطاعة رسوله ،وذلك هو الخير والبر والتقوى ،والحسنات والقربات ،والباقيات
الصالحات ،والعمل الصالح ،وهذه مظاهر إيجابية المسلم ،ليظل نقيا بنفسه ،طاهرا مطهرا من شوائب
النحراف ،وجميع الحسنات ل بد فيها من شيئين :أن يراد بها وجه ال ،وأن تكون موافقة للشريعة
قولً وعملً ،كلما طيبا وعملً صالحا.
والطاعة تتطلب أيضا في شطرها الثاني :البعد عن المعاصي أو الجرائم والفواحش والمنكرات ،لن
نقاوة المجتمع ونظافته ل تتوافر إل بالقلع عن هذه المور ،وذلك مظهر مدني وحضاري رفيع،
كما أن للمعاصي انعكاسات سيئة على الفرد والجماعة ،لن ال تعالى أبان لنا بنحو واضح أن
المعاصي سبب
-------------------------------
( )1مقدمة ابن خلدون ،المرجع والمكان السابق.
( )2حديث صحيح أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي ال عنه.
( )8/373
المصائب ،فالمصيبة والجزاء من سيئات العمال ،والطاعة سبب النعمة ،وإحسان العمل سبب
لحسان ال ،قال ال تعالى{ :وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ،ويعفو عن كثير}
[الشورى ]30/42:وقال تعالى{ :ما أصابك من حسنة فمن ال ،وما أصابك من سيئة فمن نفسك}
[النساء ]4/79:وأخبر سبحانه بما عاقب به في الدنيا أهل السيئات من المم ،كقوم نوح وعاد وثمود،
وقوم لوط وأصحاب مدين ،وقوم فرعون ،وأخبر أيضا بما يعاقبهم به في الخرة (. )1
ولهذا كانت الولية لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى ال ،ويفعل فيها الواجب بحسب المكان :من
أفضل العمال الصالحة ،حتى قد روى المام أحمد في مسنده عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال:
«إن أحب الخلق إلى ال إمام عادل ،وأبغض الخلق إلى ال إمام جائر» (. )2
- 4واضعها :واضع نظام الحسبة تنفيذا لواجب أو مبدأ المر بالمعروف والنهي عن المنكر المقرر
في السلم وشرعه :هو عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،فإنه كان يقوم بنفسه بمراقبة أحوال السوق
لمنع الغش ويتعسس في الليل لتفقد أحوال المسلمين ومقاومة الظلمة والمنحرفين وتعقب المجرمين.
ولكن عرفت التسمية في عهد الخليفة العباسي (: )3
- 5قاعدتها :قاعدة الحسبة وأصلها :هو المر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث ال به رسله،
وأنزل به كتبه ،ووصف به هذه المة ،وفضّلها لجله
-------------------------------
( )1الحسبة لبن تيمية :ص ،104 ،75 ،4ط مكة.
( )2المرجع السابق :ص .7
( )3تاريخ القضاء في السلم للقاضي محمود عرنوس ،107 :مقدمة ابن خلدون :ص ،576ط
التجارية بمصر .
( )8/374
على سائرالمم التي أخرجت للناس ،وهذا واجب على كل مسلم قادر ،وهو فرض كفاية ،ويصير
فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولية والسلطان ،فعليهم من الوجوب ما ليس
على غيرهم ،فإن مناط الوجوب :هو القدرة ،فيجب على القادر ما ل يجب على العاجز ،قال ال
تعالى{ :فاتقوا ال ما استطعتم} [التغابن. )1( ]16/64:
- 6الفرق بين المحتسب والمتطوع :
المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإن كان واجبا عاما على كل مسلم قادر ،كما تقدم ،غير أن
هناك فرقا بين المحتسب والمتطوع من تسعة أوجه ذكرها الماوردي ( ، )2ويمكن إيجازها فيما يأتي:
أحدها ـ الحسبة فرض عين على المحتسب بحكم وليته أو وظيفته المأجورة ،فل يجوز أن يتشاغل
عنه ،وفرض كفاية على غيره من المسلمين ،فهي من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه.
الثاني ـ المحتسب مخصص للدعاء فيما يجب إنكاره ،وعليه إجابة المدعي المستعدي ،وأما غيره
فليس مخصصا لهذا ،ول يلزمه إجابة المستعدي.
الثالث ـ على المحتسب أن يبحث عن المنكرات الظاهرة لينكرها على فاعلها ،ويفحص عما ترك من
المعروف الظاهر ليأمر بإقامته ،وليس على المتطوع بحث ول فحص.
الرابع ـ للمحتسب أن يتخذ أعوانا على إنكاره ،وله أن يعزّر في المنكرات الظاهرة وله رزق من
بيت المال ،وليس للمتطوع ذلك.
الخامس ـ للمحتسب الجتهاد فيما يتعلق بالعرف دون الشرع ،كالقعود في السواق ،وإخراج
الجنحة (القواعد البارزة) في الشوارع وليس هذا للمتطوع.
-------------------------------
( )1الطرق الحكمية لبن القيم :ص ،345ط المدني بالقاهرة.
( )2الحكام السلطانية :ص ،240ط :البابي الحلبي.
( )8/375
( )8/376
( )8/377
( )8/378
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة :كمطالبة الولياء بإنكاح اليامى (غير المتزوجات) من أكفائهن
إذا طلبن ،وإلزام النساء أحكام ال ِعدَد إذا فورقن ،وللمحتسب تأديب من خالف في العدة من النساء،
وليس له تأديب من امتنع من الولياء من تزويج اليامى .وتكليف أرباب البهائم بإطعامها ،وأل
يستعملوها فيما ل تطيق .وإلزام من التقط لقيطا بحقوقه أو تسليمه لمن يقوم بها ويلتزمها ،وتضمينه
الضالة بالتقصير في رعايتها أو تسليمها إلى غيره ،وعدم ضمان اللقيط إذا هلك أو سلمه لغيره.
- 2النهي عن المنكر :
أ ـ ما يتعلق بحقوق ال تعالى ،وتقسم ثلثة أقسام:
الول ـ العبادات :ينكر المحتسب الخلل بشروط الصلة وآدابها وطهارتها الشرعية ،ويؤدب
المعاند فيها .ويردع المفطرين في رمضان بغير عذر شرعي من سفر أو مرض ،وينكر المجاهرة
بالفطار لئل يعرض المفطر نفسه للتهمة ،ولئل يقتدي به من ذوي الجهالة ممن ل يقدر العذر.
ويجبي الزكاة جبرا من الممتنع عن أدائها من الموال الظاهرة ،ويعزره على الخيانة بغير عذر.
وينكر على المقصر بأداء الزكاة عن الموال الباطنة ،ويؤدبه إن ثبت تقصيره.
كذلك ينكر التسول (السؤال) من غير حاجة ،ويؤدب الغني بمال أو عمل ،وينكر أيضا تصدي الجهلة
لفتاء الناس بعلم الشرع ،ويمنعهم من ذلك منعا من التغرير والفتنة واليقاع في الضللة.
الثاني ـ المحظورات :وهي التي نهى عنها ال ورسوله .ووظيفة المحتسب :أن يمنع الناس من
مواقف الريب ومظان التهمة ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :دع ما يريبك إلى ما ل يريبك» ( )1فيقدم
النكار ول يعجل بالتأديب ،مثل اختلط النساء بالرجال في المساجد والطرقات والماكن العامة.
والمجاهرة بإظهار الخمر والمسكرات ،أو الملهي المحرمة ،فيريق المسكرات على المسلم ،ويؤدب
الذمي على إظهارها ،ويفك أدوات الملهي حتى تصير خشبا ،ويؤدب المجاهر بها ،ول يكسرها إن
صلح خشبها للنتفاع به لغير الملهي.
وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها ،ول أن يهتك الستار حذرا من
الستتار بها ،قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :من أتى من هذه القاذورات شيئا ،فليستتر بستر ال ،
فإن من يبد لنا صفحته ،نقم حد ال تعالى عليه» (. )2
-------------------------------
( )1رواه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي ال عنهما ،وقال الترمذي :حديث حسن
صحيح.
( )2ذكره الماوردي في الحكام السلطانية :ص .252وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم عن علي
رضي ال عنه عن النبي صلّى ال عليه وسلم قال« :من أصاب حدا ف ُعجّل عقوبته في الدنيا فال
أعدل من أن يثنّي على عبده العقوبة في الخرة ،ومن أصاب حدا فستره ال عليه وعفا عنه ،فال
أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه» .
( )8/379
الثالث ـ المعاملت المنكرة :كالربا وعقود الميسر والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه ،كالغش
والتدليس في الصناعات والبياعات ،وبخس الكيل والميزان ،والخيانة .وعلى المحتسب إنكاره والمنع
منه والزجر عليه والتأديب عليه بحسب الحوال إذا كان متفقا على حظره .وأما المختلف فيه بين
الفقهاء بالحظر والباحة ،فل دخل له في إنكاره.
وتعد عقود الزواج المحرّمة في معنى المعاملت الممنوعة.
ب ـ وأما حقوق الدميين المحضة ،كتعديات الجيران فيما بينهم ،بتجاوز حد الجار أو حريم داره ،
أو تركيب الجذوع على جداره ،أو تدلي أغصان الشجرة على دار الجار ،ونحو ذلك مما يسمى
( التعسف في استعمال الحق ) فليس للمحتسب النظر فيها إل بادعاء شخصي من الجار.
وأما أهل الصنائع :فيقر المحتسب المتقن لها ،كالطبيب والمعلم أو المين كالصانع والحائك والقصار
والصباغ ،أو المجيد كالنجار والحذّآء ،وينكر على المقصر أو الخائن أو الرديء.
( )8/380
جـ ـ ما يتعلق بالحقوق المشتركة :كالمنع من الشراف على منازل الناس ،ومنع أئمة المساجد من
إطالة الصلة حتى يعجز عنها الضعفاء ،وينقطع عنها ذوو الحاجات ،وتنبيه القضاة الذين يحجبون
المتخاصمين من التحاكم بل عذر مشروع ،ومنع أرباب المواشي من استعمالها فيما ل تطيق الدوام
عليه ،ومنع أصحاب السفن من حمل ما ل تسعه ويخاف من غرقها ،ومن السير عند اشتداد الريح،
ومن اختلط الرجال بالنساء فيها ،ووضع حائل (حاجز) بينهم.
ويراقب المحتسب السواق والطرقات العامة ،فيمنع إقامة المباني فيها ،ويأمر بهدم ما بني ،ولو كان
المبني مسجدا ،لن مرافق الطرق للسير ل للبنية .ويمنع أيضا وضع المتعة وآلت البناء فيها ،كما
يمنع إخراج الجنحة والسبطة ومجاري المياه والبار الملحية ونحوها إذا أضرت بالناس.
وله منع نقل الموتى من قبورهم حتى ل تنتهك حرماتهم ،ويمنع من خصاء البهائم والدميين ويؤدب
عليه ،ومن التكسب بالكهانة واللهو ،ويؤدب عليه الخذ والمعطي ونحوها من المنكرات.
ويمنع المحتسب سائر الحيل المحرمة على أكل الربا ،وهي ثلثة أنواع (: )1
أحدها :ما يكون من واحد ،كما إذا باعه سلعة بنسيئة ،ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدا ،حيلة على
الربا.
وثانيها :ما تكون ثنائية :وهي أن تكون من اثنين ،مثل أن يجمع إلى القرض بيعا أو إجارة أو مساقاة
أو مزارعة ونحو ذلك ،وقد ثبت عن النبي صلّى ال عليه وسلم أنه قال« :ل يحل سلف وبيع ،ول
شرطان في بيع ،ول ربح ما لم يضمن ،ول بيع ما ليس عندك» قال الترمذي :حديث صحيح.
وثالثها :ما تكون ثلثية :وهي أن يدخل بينهما محللً للربا ،فيشتري السلعة من آكل الربا ،ثم يبيعها
لمعطي الربا إلى أجل ،ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل.
ومن المنكرات :تلقي السلع قبل أن تجيء إلى السوق ،فإن النبي صلّى ال عليه وسلم نهى عن ذلك،
لما فيه من تغرير البائع ،فإنه ل يعرف السعر ،فيشتري منه المشتري ،بدون القيمة ،ولذلك أثبت له
النبي صلّى ال عليه وسلم الخيار إذا دخل إلى السوق ( . )2وفي الحديث« :غبن المسترسل ربا» ()3
والمسترسل :هو الذي ل يعرف قيمة السلعة.
-------------------------------
( )1الطرق الحكمية :ص 351ومابعدها.
( )2الحسبة لبن تيمية :ص ،42الطرق الحكمية لبن القيم :ص .352
( )3رواه البيهقي عن أنس وعن جابر وعن علي رضي ال عنهم.
( )8/381
ويمنع المحتسب الحتكار لما يحتاج إليه الناس ،روى مسلم عن معمر بن عبد ال العدوي :أن النبي
صلّى ال عليه وسلم قال« :ل يحتكر إل خاطئ» فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه
الناس من الطعام ،فيحبسه عنهم ،ويريد إغلءه عليهم هو ظالم لعموم الناس.
ولهذا كان لولي المر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل ،عند ضرورة الناس إليه (
. )1
وأما التسعير :فمنه ما هو ظلم محرم ،ومنه ما هو عدل جائز (. )2
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن ل يرضونه ،أو منعهم مما أباح ال لهم،
فهو حرام .وإذا تضمن العدل بين الناس ،مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل،
ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل ،فهو جائز ،بل واجب ،لما فيه من إلزامهم
بالعدل ،ومنعهم من الظلم.
وعلى ولي المر توزيع نسب النتاج بحسب المصلحة ،من زراعة وصناعة وتجارة وبناء وغيرها،
لن توفير الحاجيات أمر مطلوب شرعا ،وتعلم الصناعات فرض على الكفاية ،فلولي المر أن يلزم
الناس بما يحقق الحاجة بأجرة المثل ،فإنه ل تتم مصلحة الناس إل بذلك.
والقاعدة العامة في هذا كما ذكر ابن تيمية في الحسبة :أنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات
والسيئات ،أو تزاحمت ،فإنه يجب ترجيح الراجح منها .لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو
بميزان الشريعة ،فمتى قدر النسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ،وإل اجتهد برأيه لمعرفة
الشباه والنظائر (. )3
-------------------------------
( )1الحسبة لبن تيمية :ص ،41 ،29الطرق الحكمية :ص .354
( )2الحسبة ،المرجع السابق :ص ،43-41 ،18-17الطرق الحكمية :ص 355وما بعدها368 ،
ومابعدها.
( )3الحسبة :ص 66ومابعدها.
( )8/382
( )8/383
الول ـ ليس للمحتسب سماع الدعاوى الخارجة عن ظواهر المنكرات في العقود والمعاملت وسائر
الحقوق والمطالبات ،فهي من اختصاص القضاء.
الثاني ـ تقتصر الدعاوى التي يسمعها المحتسب على الحقوق المعترف بها ،فأما ما يتداخله التجاحد
والتناكر ،فل يجوز له النظر فيه ،لن الحاكم فيها يحتاج إلى سماع بيّنة وإحلف يمين ،ول يجوز
للمحتسب أن يسمع بيّنة على إثبات الحق ،ول أن يحلف يمينا على نفي الحق.
وهذان الوجهان يدلن على أن الحسبة أدنى رتبة من القضاء.
الثالث ـ للمحتسب أن ينظر فيما يختص به دون حاجة إلى م ّدعٍ متظلم .أما القاضي فل يحق له
النظر في نزاع من دون ادعاء أو شكوى.
الرابع ـ عمل المحتسب يتسم بالشدة والسلطة والقسوة ،لن الحسبة موضوعة للرهبة .وأما عمل
القاضي فيتسم بالحلم والناة والوقار ،لن القضاء موضوع للمناصفة.
وهذان الوجهان يدلن على أن الحسبة تزيد رتبة عن القضاء.
- 2المقارنة بين الحسبة وولية المظالم :
هناك أيضا نواحي شبه واختلف بين هذين النظامين.
أما أوجه الشبه فهي :الول ـ موضوعهما يعتمد على الرهبة وقوة الصرامة المختصة بالسلطنة.
الثاني ـ للقائم بهما النظر في حدود اختصاصه من دون حاجة إلى متظلم .وأما أوجه الختلف فهي:
الول ـ النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاة ،والنظر في الحسبة موضوع لما لحاجة
لعرضه على القضاء.
الثاني ـ يجوز لوالي المظالم أن يحكم ،ول يجوز لوالي الحسبة أن يحكم.
وهكذا يظهر أن المظالم والقضاء والحسبة يكمل بعضها بعضا ،وتؤدي غاية موحدة هي تحقيق العدل
والنصاف وحفظ الحقوق والموال والدماء ،وتطبيق أحكام الشرع المحققة لسعادة الناس في الدنيا
والخرة ،وإقامة المجتمع النساني الفاضل.
( )8/384
وليس للمحتسب تطبيق العقوبات الشرعية على ترك المعروف والواجبات وفعل المنكر والمحرمات
سواء أكان حدا أم تعزيرا ،فإن ذلك من اختصاص ولي المر ،وتكون إقامة الحدود والتعازير ،أي
العقوبات على فعل محرم ،أو ترك واجب على ولة المور فقط ،لن المر بالمعروف والنهي عن
المنكر ل يتم إل بالعقوبات الشرعية ،فإن «ال يزَع بالسلطان ما يزَع بالقرآن» أي يردع ،والتعزير
أجناس ،فمنه ما يكون بالتوبيخ والزجر بالكلم ،ومنه ما يكون بالحبس ،ومنه ما يكون بالنفي عن
الوطن ،ومنه ما يكون بالضرب.
والتعزير بالعقوبات المالية مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه،
ومذهب أحمد في مواضع ،وأحد قولي الشافعي (. )1
والثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر ال وفي شرعه ،فإن هذا من العدل الذي تقوم به
السماء والرض ،كما قال ال تعالى:
{إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ،فإن ال كان عفوا قديرا} [النساء{ )2( ]4/149:وإن
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ،ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل{ ]126/16:فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ،واتقوا ال ،واعلموا أن ال مع المتقين} [البقرة.]194/2:
-------------------------------
( )1الحسبة لبن تيمية :ص ،57-46الطرق الحكمية :ص .391-384
( )2الحسبة ،المرجع السابق :ص 57وما بعدها.
( )8/385
( )8/386
ثالثا ـ أن تكون دعوى المدعي على خصم حاضر لدى القاضي عند سماع الدعوى والبينة والقضاء،
فل تقبل الدعوى على غائب ،كما ل يقضى على غائب عند الحنفية ،سواء أكان غائبا وقت الشهادة أم
بعدها ،وسواء أكان غائبا في مجلس القضاء ،أم عن البلد التي فيها القاضي ،لقول النبي صلّى ال
عليه وسلم « :فإنما أقضي له بحسب ما أسمع» ( )1وقوله لعلي حين أرسله إلى اليمن« : :ل تقض
لحد الخصمين حتى تسمع من الخر» (. )2
وقال غير الحنفية :يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة على صحة دعواه ،وذلك في
الحقوق المدنية ،ل في الحدود الخالصة ل تعالى ( )3لنها مبنية على المسامحة والدرء والسقاط،
لستغنائه تعالى ،بخلف حق النسان الخاص.
رابعا :أن يكون المدعى به شيئا معلوما :وذلك إما بالشارة إليه عند القاضي إذا كان الشيء من
المنقولت ،أو ببيان حدوده إذا كان قابلً للتحديد ،كالراضي والدور وسائر العقارات ،أو بذكر رقم
محضر السجل العقاري في التنظيم الحديث الذي يستغنى به عن الحدود والوصاف في الماضي ،أو
بكشف يجريه القاضي أو من ينوب عنه إذا لم يكن المدعى به قابلً للتحديد كحجر الرحى
(الطاحونة) ،أو ببيان جنسه ونوعه وقدره وصفته إذا كان المدعى به دينا كالنقود والحبوب؛ لن الدين
ل يصير معلوما إل ببيان هذه المور.
-------------------------------
( )1من حديث أم سلمة الذي رواه الجماعة (نيل الوطار.)287/8 :
( )2رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن علي (نيل الوطار 274/8 :وما بعدها).
( )3البدائع ،8/7 ،222/6 :تكملة فتح القدير :المكان السابق ،المبسوط ،المكان السابق ،بداية المجتهد:
،460/2المهذب ،3/2 :المغني.110/9 :
( )8/387
والسبب في اشتراط هذا الشرط ،أي العلم بالمدعى به :هو أن المدعى عليه ل يلزم بإجابة دعوى
المدعي إل بعد معرفة المدعى به ،وكذلك الشهود ل يمكنهم الشهادة على مجهول ،ثم إن القاضي ل
يتمكن من إصدار الحكم أو القضاء بالدعوى إل إذا كان المدعى به شيئا معلوما.
خامسا :أن يكون موضوع الدعوى أمرا يمكن إلزام المدعى عليه به ،أي أن يكون الطلب مشروعا
ملزما في مفهومنا الحاضر .فإذا لم يكن بالمكان إلزام المدعى عليه بشيء ،فل تقبل الدعوى ،كأن
يدعي إنسان أنه وكيل هذا الخصم الحاضر عند القاضي في أمر من أموره ،أو يدعي على شخص
بطلب صدقة ،أو بتنفيذ مقتضى عقد باطل ،فإن القاضي ل يسمع دعواه هذه إذا أنكر الخصم ذلك؛
لن الوكالة عقد غير لزم للموكل ،فيمكنه عزل مدعي الوكالة في الحال .ولن التبرع ل يلزم عليه
النسان ،وبطلن العقد ل يوجب على العاقد تنفيذ أي التزام ينشئه العقد الصحيح.
سادسا :أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت :لن دعوى ما يستحيل وجوده حقيقة أو عادة ،تكون
دعوى كاذبة ،فلو قال شخص لمن هو أكبر منه سنا :هذا ابني ،ل تسمع دعواه؛ لستحالة أن يكون
الكبر سنا ابنا لمن هو أصغر منه سنا .وكذا إذا قال لمعروف النسب من الغير :هذا ابني ،ل تسمع
دعواه.
وبناء عليه تكون الدعوى نوعين :دعوى صحيحة مقبولة ،ودعوى فاسدة مرفوضة.
( )8/388
فالدعوى المقبولة :هي التي استكملت شرائط الصحة المتقدمة ،ويتعلق بها أحكامها المقصودة منها:
وهي إلزام الخصم الحضور إلى ساحة المحكمة بواسطة أعوان القاضي ،وإجابته دعوى المدعي،
واليمين إذا أنكر المدعى به .ويثبت فيها حق المدعي بطرق الثبات المشروعة ،كالبينة (وهي الشهادة
أي الخبار في مجلس القضاء بحق شخصي على غيره) ،ونحوها من اليمين والقرينة.
والدعوى المرفوضة أو الفاسدة الباطلة :هي التي لم يتوافر فيها شرط من شروط القبول المذكورة
آنفا ،ول تترتب عليها الحكام السابقة المقصودة من الدعاء ،كأن يكون المدعى به مجهولً؛ لن
المجهول يتعذر إثباته بالشهادة ،فل يمكن للشهود أن يشهدوا به ،ول يتمكن القاضي من القضاء
بالمجهول.
واستحسن بعض شراح مجلة الحكام العدلية قسمة الدعوى ثلثة أقسام :صحيحة وفاسدة وباطلة ()1
.الصحيحة :هي المستوفية جميع شرائطها وتتضمن طلبا مشروعا ،كطلب ثمن مبيع أو استرداد
مغصوب .والفاسدة :هي المستوفية شرائطها الساسية ولكن ينقصها بعض النواحي الفرعية كجهالة
المدعى به ،فل يردها القاضي فورا ،وإنما يكلف المدعي أولً تصحيحها بتحديد مدعاه .والدعوى
الباطلة :هي غير المشروعة في أصلها كادعاء طلب صدقة من أحد ،أو طلب تنفيذ عقد باطل ،أو
إيفاد دين؛ لنه من جيران المدين .وهذه ل يترتب عليها حكم ،بل يردها القاضي فورا لعدم إمكان
إصلحها.
وتحديد من هو المدعي والمدعى عليه أمر ضروري في السلم ،لمعرفة المكلف بالبينة أو اليمين
ونحوها .وقد عرّف كل منهما بتعريفات شتى ،منها أن المدعي :هو من ل يجبر على الخصومة إذا
-------------------------------
( )1المدخل الفقهي للستاذ مصطفى الزرقا :ف.369/
( )8/389
تركها؛ لنه طالب .والمدعى عليه :من يجبر على الخصومة؛ لنه مطلوب .أو المدعي :من يلتمس
بقوله أخذ شيء من يد غيره ،أو إثبات حق في ذمته .والمدعى عليه :من ينكر ذلك (. )1
وللدعوى أهمية كبرى بدليل اتفاق الفقهاء على أن استيفاء الحقوق وتوقيع العقوبات من قصاص وحدّ
وتعزير ل يكون كقاعدة عامة إل بواسطة الدعوى ،ول يستوفى الحق بغيرها وبغير القضاء إل في
أحوال استثنائية اضطرارية كالظفر بحق الدائن عند المدين المماطل.
ويتحدد نطاق الدعوى فيما اتفق عليه الفقهاء كما يأتي:
أولً ـ الحسبة والمظالم :ل يشترط فيهما الدعاء ،وإنما للمحتسب ووالي المظالم التصدي للنظر في
النزاع بمجرد اطلعه عليه.
ثانيا ـ حقوق ال تعالى :وهي المتعلقة بمصلحة المجتمع كانتهاك الحرمات الدينية بالفطار في نهار
رمضان عمدا بغير عذر ،والمجاهرة باللحاد ،والخلل بنظام الزواج شرعا كزواج المسلمة بغير
مسلم ،والعقد على المحارم من النساء ،والعشرة الزوجية بعد الطلق البائن ثلثا ،والعقد على المعتدة
من طلق أو وفاة .وارتكاب الجرائم الموجبة لحد يتعلق بحق ال المحض كالزنا وشرب الخمر
ونحوهما .هذه المور يجوز للقاضي النظر في شأنها من تلقاء نفسه إذا علم بها ،أو ادعى أي مسلم
ولو لم يمسه المر شخصيا وإنما حسبة ،كما تقدم في نظام الحسبة.
ثالثا ـ حقوق العباد (أي الفراد) الشخصية :وهي التي تمس مصلحة شخصية للنسان .وهذه ل
يختص القاضي بالنظر فيها بدون ادعاء صاحب الحق؛ لن القضاء وسيلة إلى الحق ،وحق النسان
ل يستوفى إل بطلبه .وتشمل هذه الحقوق ما يأتي:
أ ـ المعاملت والتصرفات المدنية من بيع وإيجار وشركة ونحوها.
ب ـ أحكام السرة المالية كالنفقة والمهر والسكنى.
وأما أحكام السرة غير المالية كادعاء النسب والبينونة والمحرمات والعشرة المحرمة ،فل يشترط
فيها الدعوى.
جـ ـ الجرائم والعقوبات التي فيها حق للعبد :كالقصاص والجروح وجرائم التعزير والقذف والسرقة
والحرابة.
-------------------------------
( )1البدائع ،224/6 :المغني لبن قدامة الحنبلي.271/9 :
( )8/390
وحكم الدعوى المقبولة :وجوب الجواب على المدعى عليه بقوله :ل ،أو نعم .فلو سكت ،كان ذلك منه
إنكارا ،فتقبل بينة المدعي ،ويحكم بها على المدعى عليه .فإذا أقر المدعى عليه بموضوع الدعوى،
حكم القاضي عليه؛ لنه غير متهم في إقراره على نفسه ،ويؤمر بأداء الحق لصاحبه .وإن أنكر،
طلب القاضي من المدعي إثبات حقه بالبينة ،فإن أقام البينة قضى بها ،لترجح جانب الصدق على
الكذب بالبينة .وإن عجز المدعي عن تقدم البينة ،وطلب يمين خصمه المدعى عليه ،استحلفه القاضي
( ، )1لقول النبي صلّى ال عليه وسلم في قصة خصمين« :ألك بينة؟ قال :ل ،فقال النبي :فلك يمينه»
أي يمين المدعى عليه (. )2
المرحلة الثانية ـ طرق إثبات الحق :
إثبات الحق :هو إقامة الحجة أمام القضاء على الحق أو حدوث الواقعة .ول يمكن للقاضي الفصل في
أي خصومة أو قضية بمجرد الدعاء بدون إثبات بإحدى الوسائل الشرعية المتعددة وأهمها ما يأتي:
- ً 1الشهادة :وهي شرعا إخبار صادق لثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القضاء .وهي حجة
المدعي لقوله صلّى ال عليه وسلم « :البينة على المدعي» ( )3وقوله أيضا لمدعٍ« :شاهداك أو
يمينه» ( . )4ونظام الشهادة محدد صراحة في القرآن الكريم{ :واستشهدوا شهيدين من رجالكم ،فإن
لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة{ ]282/2:وأشهدوا ذوي عدل
منكم} [الطلق{ ]2/65:وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة{ ]282/2:ول يأب الشهداء
-------------------------------
( )1راجع الدر المختار ،438/4 :اللباب شرح الكتاب ،29/4 :تكملة فتح القدير 151/6 :وما بعدها.
( )2رواه مسلم والترمذي وصححه عن وائل بن حُجْر ،في قصة الخصومة بين رجل من حضرموت
ورجل من كندة (نيل الوطار.)303/8 :
( )3رواه البيهقي عن ابن عباس.
( )4متفق عليه بين أحمد والشيخين عن الشعث بن قيس (نيل الوطار.)302/8 :
( )8/391
إذا ما دعوا} [البقرة{ ]282/2:ول تكتموا الشهادة ،ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة{ ]283/2:وأقيموا
الشهادة ل } [الطلق .]2/65:والبحث في الشهادة يطول ،أكتفي هنا بتعداد أهم شروطها؛ لن الفقهاء
اشترطوا شروطا لتحمل الشهادة وأدائها.
أما شروط تحمل الشهادة فهي ثلثة عند الحنفية (. )1
أولها ـ أن يكون الشاهد عاقلً ،أي مميزا ،فل تصح شهادة المجنون والصبي غير المميز.
ثانيها ـ أن يكون بصيرا وقت التحمل ،فل يصح التحمل من العمى بسبب اختلط الصوات عليه
وجواز اشتباهها عليه .وأجاز الحنابلة ( )2شهادة العمى فيما يسمع كالبيع والجارة وغيرهما إذا
عرف القاضي المتعاقدين وتيقن أنه كلمهما.
ثالثها ـ معاينة المشهود به بنفسه ،ل بغيره ،إل فيما تصح فيه الشهادة بالتسامع من الناس
والستفاضة ،لقوله صلّى ال عليه وسلم للشاهد« :إذا علمت مثل الشمس فاشهد ،وإل فدع» ( )3ول
يتم العلم مثل الشمس إل بالمعاينة.
وتصح الشهادة بالتسامع في النكاح ،والنسب ،والموت ،ودخول الرجل على امرأته ،وولية القاضي،
فللشاهد أن يشهد بهذه المور إذا أخبره بها من يثق به استحسانا؛ لن هذه المور يختص بمعاينة
أسبابها خواص الناس ،ولو لم يقبل فيها الشهادة بالتسامع ،لدى المر إلى الحرج وتعطيل الحكام.
والتسامع :هو بأن يشتهر ذلك ويستفيض بين الناس ،وتتواتر به الخبار ،بأن يخبر الشاهد رجلن
عدلن أو رجل وامرأتان ،ليحصل له نوع من العلم واليقين.
-------------------------------
( )1البدائع ،266/6 :الدر المختار.385/4 :
( )2المغني 58/9 :وما بعدها.
( )3رواه الخلل في الجامع بإسناده عن ابن عباس.
( )8/392
وقال المالكية ( : )1تجوز شهادة التسامع في عشرين حالة :منها عزل قاض أو وال أووكيل ،وكفر،
وسفه ،ونكاح ،ونسب ،ورضاع ،وبيع ،وهبة ،ووصية.
وأما شروط أداء الشهادة :فكثيرة ،منها في نفس الشهادة ( : )2وهي أن تكون بلفظ الشهادة ،وأن
تكون موافقة للدعوى ،ومنها في مكان الشهادة ( : )3وهي أن تكون في مجلس القضاء ،ومنها فيما
يخص بعض الشهادات ( : )4وهي التعدد ،أي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في الحقوق المدنية
والموال كالبيع والجارة ونحوهما .والتفاق في الشهادة عند التعدد ،فإن حدث اختلف في جنس
الشهادة كأن يشهد أحدهما بالبيع والخر بالميراث أو في القدر كأن يشهد أحدهما بألفين ،والخر
بألف ،أو في الفعل كالقتل والغصب ،رفضت الشهادة.
ومنها وأهمها ما يشترط في الشاهد وهو سبعة شروط كما تقدم (: )5
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ :فل تقل شهادة المجنون والسكران والطفل.
ثانيها ـ الحرية :فل تصح شهادة الرقيق على الحر.
ثالثها ـ السلم :فل تقبل شهادة الكافر على مسلم؛ لنه متهم في حقه ،وأجاز الحنفية والحنبلية شهادة
الكافر في الوصية في السفر ،لقوله تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية :اثنان ذوا عدل منكم ،أو آخران من غيركم} [المائدة.]106/5:
-------------------------------
( )1الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 198/4 :وما بعدها.
( )2البدائع ،273/6 :فتح القدير.10/6 :
( )3المراجع السابقة :البدائع :ص .279
( )4المراجع السابقة :البدائع 277/6 :وما بعدها ،فتح القدير 52/6 :وما بعدها ،الدر المختار:
504/4وما بعدها.
( )5البدائع 267/6 :وما بعدها ،بداية المجتهد 451/2 :وما بعدها ،الدردير والدسوقي ،165/4 :مغني
المحتاج ،427/4 :المغني.164/9 :
( )8/393
رابعها ـ البصر :فل تقبل شهادة العمى عند أبي حنيفة ومحمد والشافعية ،لنه ل بد من معرفة
المشهود له والشارة إليه عند الشهادة ،ول يميز العمى ذلك إل بنغمة الصوت ،وفيها شبهة؛ لن
الصوات تتشابه .وأجاز المالكية والحنابلة وأبو يوسف شهادة العمى إذا تيقن الصوت ،لعموم اليات
الواردة في الشهادة ،ولن السمع أحد وسائط العلم.
خامسها ـ النطق :فل تقبل شهادة الخرس عند الجمهور ،وإن فهمت إشارته؛ لن الشهادة تتطلب
اليقين .وأجاز المالكية قبول شهادة الخرس إذا فهمت إشارته؛ لنها تقوم مقام نطقه في طلقه
ونكاحه.
سادسها ـ العدالة :فل تصح شهادة الفاسق باتفاق العلماء؛ لقوله تعالى{ :وأشهدوا ذوي عدل منكم}
[الطلق.]2/65:
سابعها ـ عدم التهمة :فترد شهادة المتهم بإجماع الفقهاء .والتهمة :أن يجلب الشاهد إلى المشهود له
نفعا أو ضررا بسبب القرابة أو الخصومة أو العداوة ،فل تقبل شهادة الب لبنه ،أو الم لبنها ،ول
الخصم لخصمه كالوكيل والموصى عليه وهو اليتيم ،ول العدو على عدوه ،لقوله صلّى ال عليه وسلم
غمْر ـ حقد ـ
« :ل تقبل شهادة خصم ول ظنين» (« )1ل تجوز شهادة خائن ول خائنة ول ذي ِ
على أخيه ،ول تجوز شهادة القانع لهل البيت» ( )2والقانع :الذي ينفق على أهل البيت.
-------------------------------
( )1أخرجه مالك في الموطأ موقوفا على عمر ،وهو منقطع ،ورواه آخرون مرسلً (نيل الوطار:
.)291/8
( )2رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر (.)128/4
( )8/394
- 2القرار :وهو إخبار الشخص عن ثبوت حق للغير على نفسه .وهو إما أن يكون بلفظ صريح،
مثل ( لفلن علي ألف درهم ) أو بلفظ ضمني ،مثل ( :لي عليك ألف درهم ) فيقول المخاطب ( :قد
قضيتها ) أو ( أجلني بها ) أو ( أبرأتني منها ) .وقد اتفق الفقهاء ( )1على صحة القرار بحق من
الحر البالغ العاقل المختار غير المتهم في إقراره .وشروط القرار هي ما يأتي:
أولها ـ أهلية العقل والبلوغ :فل يصح إقرار المجنون والصبي غير البالغ ،لقوله عليه الصلة
والسلم« :رفع القلم عن ثلثة :عن الصبي حتى يبلغ ،وعن النائم حتى يستيقظ ،وعن المجنون حتى
يفيق» (. )2
ثانيها ـ الطواعية أو الختيار :فل يصح إقرار المستكره ،لقوله عليه الصلة والسلم« :إن ال تجاوز
لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (. )3
ثالثها ـ عدم التهمة :فإن اتهم المقر بملطفة صديق أو نحوه بطل القرار.
رابعها ـ أن يكون المقر معلوما :فلو قال رجلن« :لفلن على واحد منا ألف درهم» ل يصح
القرار ،إذ ل فائدة من هذا القرار.
والقرار حجة قاصرة على المقر ،ل يتعدى أثره إلى غيره ،لقصور ولية المقر على غيره ،فيقتصر
أثر القرار على المقر نفسه.
-------------------------------
( )1البدائع ،222/7 :تبيين الحقائق للزيلعي ،3/5 :الدردير ،397/3 :المهذب ،343/2 :مغني
المحتاج ،238/2 :المغني.138/5 :
( )2رواه المام أحمد وأصحاب السنن الربعة إل الترمذي عن السيدة عائشة رضي ال عنها،
وصححه الحاكم وأخرجه ابن حبان.
( )3رواه ابن ماجه عن أبي ذر ،ورواه البيهقي عن ابن عمر بلفظ« :وضع عن أمتي. »..
( )8/395
- ً 3اليمين :وهي الحلف بال تعالى أمام القاضي لثبات الحق أو الفعل ،أو نفيهما .وهي حجة
المدعى عليه ،لقوله عليه الصلة والسلم« :واليمين على المدعى عليه» ( ، )1فإن حلف المدعى
عليه ،قضى القاضي بفصل الدعوى ،وتنتهي الخصومة بين طرفي الدعوى إلى أن يتمكن المدعي من
إقامة البينة.
واتفق الفقهاء على أن اليمين في الدعاوى تكون بحسب نية المستحلف ( ، )2لقوله صلّى ال عليه
وسلم « :اليمين على نية المستحلف» «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» ( . )3كما أنهم اتفقوا على
أن الشخص يحلف على البت (وهو القطع والجزم) في فعله إثباتا كان أو نفيا؛ لنه يعلم حال نفسه،
ويطلع عليها ،فيقول في البيع مثلً حالة الثبات« :وال لقد بعت بكذا» وفي حالة النفي« :وال ما بعت
بكذا» .
- ً 4الكتابة :وهي إثبات الحق بواسطة دليل كتابي معد مسبقا .وهي حجة باتفاق الفقهاء ،لقوله
تعالى { :يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة ]282/2:والكتابة من قبيل
القرار .وقد نص فقهاء الحنفية على أنه يعمل بدفتر السمار والصراف والبياع؛ لن كل واحد من
هؤلء ل يكتب في دفتره إل ماله وعليه (. )4
- ً 5القرائن :القرينة :هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه .وهي تتفاوت في القوة
والضعف ،فقد تصل إلى درجة الدللة القطعية ،كالدخان فإنه قرينة قطعية على وجود النار .وقد
تضعف حتى تصير مجرد احتمال .فإن كانت القرينة قطعية كانت بينة نهائية كافية للقضاء ،كما لو
رئي شخص خارجا من دار وهو مرتبك وفي يده سكين ملوث بالدم ،ووجد في الدار شخص مضرج
بدمائه ،فيعتبر الخارج هو القاتل.
-------------------------------
( )1متفق عليه بين أحمد والشيخين عن ابن عباس «أن النبي صلّى ال عليه وسلم قضى باليمين على
المدعى عليه» (نيل الوطار.)305/8 :
( )2البدائع ،20/3 :بداية المجتهد ،403/1 :مغني المحتاج ،321/4 :المغني.763/8 :
( )3اللفظ الول رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة ،والثاني رواه أحمد ومسلم وابن ماجه
والترمذي.
( )4مجمع الضمانات للبغدادي :ص 365وما بعدها.
( )8/396
وإذا كانت القرينة غير قطعية الدللة والبيان ،ولكنها ظنية أغلبية كالقرائن العرفية ،فإن الفقهاء
يعتمدونها دليلً أوليا مرجحا حجة الخصم مع يمينه ،حتى يثبت خلفها بالبينة المعارضة.
والقرائن تعتمد على ذكاء القاضي وفراسته واجتهاده بملحظة الظروف المقارنة للواقعة ،فل يمكن
حصرها وتحديدها .ومنها الفراسة والقيافة ،ووضع اليد ،ووصف اللقطة ،واللوث في الدماء ،ودلئل
الحوال (. )1
- ً 6العلم الشخصي للقاضي نفسه :إذا اطلع القاضي على الحادثة ،فهل له القضاء بعلم نفسه؟ اختلف
الفقهاء فيه.
قال متقدمو الحنفية :يقضي القاضي بعلم نفسه ،بالمعاينة أو بسماع القرار أو بمشاهدة الحوال على
النحو التي (: )2
له أن يقضي بعلم حدث له زمن القضاء وفي مكانه في الحقوق المدنية كالقرار بمال لرجل ،أو
الحقوق الشخصية كطلق رجل امرأته ،أو في بعض الجرائم :وهي قذف رجل أو قتل إنسان .ول
يجوز قضاؤه بعلم نفسه في جرائم الحدود الخالصة ل عز وجل ،إل أن في السرقة يقضي بالمال ،ل
بحد القطع؛ لن الحدود يحتاط في درئها ،وليس من الحتياط فيها الكتفاء بعلم القاضي.
فإن علم القاضي بالحادثة قبل أن يتسلم منصب القضاء ،فل يقضي به عند أبي حنيفة؛ لن علمه حينئذ
ليس في معنى البينة .ويقضي به في غير الحدود الخالصة ل عند الصاحبين ،قياسا على جواز قضائه
فيما علمه في زمن القضاء.
-------------------------------
( )1راجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لبن قيم الجوزية :ص ،108 ،31،54،66 ،7 ،3
.214 ،113
( )2المبسوط ،93/16 :البدائع ،7/7 :مختصر الطحاوي :ص ،332الدر المختار ورد المحتار:
.369/4
( )8/397
وقال الشافعية ( )1مثل الحنفية تقريبا :الظهر أن القاضي يقضي بعلمه قبل وليته أو في أثناء
وليته ،أو في غير محل وليته ،سواء أكان في الواقعة بينة أم ل ،إل في حدود ال تعالى ،فيقضي
في الموال ،وفي القصاص وحد القذف ،لنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان ،فقضاؤه بعلمه
أولى.
وأما الحدود الخالصة ل كالزنا والسرقة والحرابة وشرب المسكر ،فل يقضي بعلمه فيها؛ لنها تدرأ
بالشبهات ،ويندب سترها.
وقال متأخرو الحنفية والشافعية :المفتى به عدم جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا في زماننا لفساد
قضاة الزمان.
وقال المالكية والحنابلة ( : )2ل يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ول غيره ،ل فيما علمه قبل الولية
ولبعدها .ولكن يجوز له أن يقضي بما علمه في مجلس القضاء ،بأن أقر الشخص بين يديه طائعا.
ودليلهم قوله صلّى ال عليه وسلم في الحديث المتقدم« :إنما أنا بشر ،وإنكم تختصمون إلي ،ولعل
بعضكم أن يكون ألحن ـ أي أفطن ـ بحجته من بعض ،فأقضي بنحو مما أسمع ،فمن قضيت له من
حق أخيه شيئا ،فل يأخذه ،فإنما أقطع له قطعة من النار» فدل على أنه يقضي بما يسمع ،ل بما يعلم.
وقال النبي صلّى ال عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي السابقة« :شاهداك أو يمينه ،ليس لك
منه إل ذاك» .
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.398/4 :
( )2الدردير والدسوقي ،154/4 :بداية المجتهد 458/2 :وما بعدها ،المغني 53/9 :ومابعدها.
( )8/398
- ً 7الخبرة والمعاينة :الخبرة :هي العتماد على رأي المختصين في حقيقة النزاع بطلب القاضي.
والمعاينة :هي العتماد على ما يشاهده القاضي بنفسه أو بنائبه من محل النزاع الذي يختصم فيه
الخصمان .وهذان يجوز الثبات بهما باتفاق الفقهاء.
- ً 8كتاب القاضي إلى غيره :اتفق الفقهاء على أن القاضي له أن يقضي بكتاب قاض آخر إليه فيما
ثبت عنده في الحقوق المالية للحاجة إليه .فقد يكون لمرئ حق في غير بلده ،ول يمكنه إتيانه
والمطالبة به إل بكتاب القاضي ،بشرط أن يشهد شاهدان عدلن على أن الكتاب المرسل هو كتاب
قاض ،وأن يشهدهم بثبوت الحكم عنده على نحو معين .وذلك في الحقوق المدنية كالديون ،أو
الشخصية كالنكاح (. )1
وأجاز المام مالك أن يحكم القاضي بكتاب قاضٍ في الحدود والقصاص أيضا (. )2
هذه هي إجمالً أهم وسائل الثبات الشرعية التي يعتمد عليها القاضي لفصل النزاع ،ويظهر منها أن
البينة تظهر الحق باتفاق الفقهاء بشرط ثبوت عدالة الشهود عند القاضي ،وكذلك القرار حجة مطلقة؛
لن النسان غير متهم بالقرار على نفسه كاذبا .واليمين تسقط بها دعوى المدعي الذي ل بان له.
ويثبت بها عند المام مالك حق المدعي الذي أنكره عليه خصمه.
-------------------------------
( )1المبسوط ،95/16 :فتح القدير ،477/5 :المهذب ،304/2 :المغني ،90/9 :مغني المحتاج:
.452/4
( )2بداية المجتهد ،458/2 :الدردير.159/4 :
( )8/399
( )8/400
فل يجوز لي إنسان عادي القيام بتنفيذ العقوبة الجنائية ،من قصاص وجلد وقطع وحبس وتوبيخ
وتشهير أوتجريس ،وإذا أراد ولي الدم وهو وارث القتيل ضرب رقبة القاتل ،فيتم القصاص بإشراف
الدولة ،دون أن يكون له الحق في إثبات الجريمة ،وإصدار حكم القصاص .وتمكين مستحق القصاص
من استيفائه بإشراف الحاكم منوط بكونه يحسن القتل ،ففيه شفاء للم المصاب،دون ضرر بالجاني،
وربما يكون ذلك أدعى لرحمة صاحب الحق وعفوه عن القاتل عندما يراه تحت سلطته ،وعلى
القاضي أن يتفقد آلة القتل منعا للتعذيب ( ، )1أي أن تدخل ولي الدم يقتصر على الدور الذي يقوم به
الجلد أو السياف ،دون أن يكون له الحق في تسلم القاتل يفعل به كما يرى ،كما تصور بعض
الجاهلين.
وفي نطاق القضايا المدنية :يقتصر حق الدائن على المطالبة بحقه بالتراضي ،أو بواسطة رفع الدعوى
إلى القضاء لستصدار حكم يجبر المدين على إيفاء دينه في حال يساره وقدرته على الوفاء بالتزامه.
وينتظر في حال إعساره وعجزه ،لقوله تعالى{ :وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة} [البقرة:
.]280/2
وللقاضي إجبار المدين على الوفاء بدينه بأحد الوسائل التية :الحبس ،والحجر ،والبيع الجبري.
أما الحبس فمشروع إذا امتنع المدين الموسر عن الوفاء بدينه ،لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ليّ
الواجد يحل عرضه وعقوبته» ( )2أي أن مماطلة الغني تجيز الطعن به ومعاقبته .ويؤيده حديث
آخر« :مَطْل الغني ظلم» (. )3
ويظل المدين المماطل عند أبي حنيفة محبوسا حتى يوفي دينه .وقال صاحباه وبقية أئمة المذاهب:
يحبس للتضييق عليه ،فإذا لم يؤد الدين يحجر عليه ويباع ماله جبرا عنه ،ويقسم بين الدائنين قسمة
غرماء .وإذا ثبت إعساره يفرج عنه .ونظرة الميسرة والفراج حال العسار دليل على أن الحبس
مجرد وسيلة إكراه على الوفاء بالدين ،وليس تنفيذا على شخص المدين ،كما هو الحال عند الرومان.
-------------------------------
( )1انظر نظرية الضمان للمؤلف :ص 299وما بعدها.
( )2رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشريد ،وعلقه البخاري ،وصححه ابن حبان ،وأخرجه
أحمد وابن ماجه والبيهقي (سبل السلم.)55/3 :
( )3رواه الجماعة( :أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة (نيل الوطار.)236/5 :
( )8/401
وأما الحجر على المدين (أي منعه من التصرف بماله تصرفا يضر بمصلحة الدائنين) فأجازه صاحبا
أبي حنيفة إذا كانت ديونه مستغرقة أمواله ،أو كان يماطل في الوفاء بديونه .وأفتى به متأخرو الحنفية
سدا للذرائع ،أي حماية لمصلحة الدائنين من تصرفات المدين التي تضر بحقوقهم ،وعملً بقوله صلّى
ال عليه وسلم « :لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» .
وأيد الحجر فقهاء المالكية والمتأخرون من فقهاء المذهب الحنبلي استحسانا .ووافق المام الشافعي
على جواز الحجر على المدين إذا كانت ديونه مستغرقة .وأما في حالة مماطلته فل يرى لزوما له؛
لن القاضي يستطيع الحكم عليه ببيع أمواله جبرا عنه ،وإيفاء ديونه من ثمنها.
ول حجر على المدين المعسر ،كما ل حبس عليه كما سبق .وأما بيع مال المدين جبرا عنه فهو جائز
عند الفقهاء الذين أجازوا الحجر عليه في الحالتين السابقتين.
فقد أجاز صاحبا أبي حنيفة بيع أموال المدين إذا قرر القاضي الحجر عليه ،ولم يجد مسوغا لتأجيل
البيع ،أو متى طلب الدائنون ابتدءً ذلك ،وأبدوا أسبابا معقولة لطلبهم .ويقسم الثمن بين الدائنين قسمة
غرماء.
ووافق المالكية على رأي الصاحبين ،وأجاز الشافعي والحنابلة بيع المال ابتداء للمدين الموسر دون
حجر عليه.
ويتم البيع في جميع الحوال بمعرفة القاضي وبحضور الدائنين والمدين وفي سوق السلعة ،أو في
غير سوقها بثمن المثل ،وبالمزاد العلني للوصول إلى أعلى سعر ممكن.
هذه هي أهم قواعد نظام القضاء في السلم ،أوجزتها في بحث نظام الحكم في السلم ،وقد كنت
فصّلت الكلم في القضاء وطرق إثبات الحق في الباب الخامس المتقدم.
( )8/402
( )8/403
( )8/404
( )8/405
( )8/406
( )8/407
وقعت أول غزوة في السلم :وهي غزوة البواء التي خرج فيها الرسول صلّى ال عليه وسلم يريد
قريشا ،فوادعته بنو ضمرة بودّان (. )1
الهجرة إذن كانت نقطة تحول في تاريخ السلم تمخص عنها ميلد دولة جديدة لم يعرف لهامثال
سابق بين العرب أطلق عليها الفقهاء اصطلح (دار السلم) ،لن اصطلح (الدولة) لم يكن معروفا
وقتذاك ،ولنه كان هناك تلزم بين مفهومي الدولة ودار السلم.
ويلحظ أنه تميزت دولة دار السلم في بدء تكوينها بأنها دولة متحدة تجمع كل من استجاب لدعوة
السلم ،وآمن برسالة محمد صلّى ال عليه وسلم على أساس أن حكم السلم أو شرعه يسودها ،وإن
وليته الشخصية تمتد إلى مختلف القاليم السلمية (. )2
فقرة 2ـ وأما مفهوم الدولة الحديث فقد ظهر في أوربا خلل القرنين السادس عشر والسابع عشر
بعد أن تحطمت السلطة البابوية .وانهار النظام القطاعي ،أو مبدأ الزعامات القطاعية الذي كان يقوم
على الجمع بين ملكية الرض وبعض المتيازات كقيادة الجيش أو جمع الضرائب مثلً ،دون أن
يكون للملك سلطة حقيقية إل على أرضه التي اقتطعها لنفسه .وقد أدى تجمع سكان القطاعات إلى ما
يدعى بالمة كالمة اليطالية والمة الفرنسية ،ثم تولد عن ذلك ما يعرف بالدولة بوجود سلطة
سياسيةفي المجتمع ،لن السلطة السياسية هي الصورة الحديثة للجماعة السياسية.
وهكذا توالى ظهور الدول الحديثة ذات القومية الواحدة ،وتوطدت أركانها القتصادية ،كما حدث في
إنجلترا وفرنسا وأسبانيا ،والبرتغال والسويد والدانمرك والنرويج ،والمجر وبولندة وروسيا ،وأصبحت
القاعدة أن تتمتع الدول بالسيادة ول تخضع لسلطة عليا أخرى.
-------------------------------
( )1سيرة ابن هشام.590/1 :
( )2أحكام القانون الدولي في الشريعة السلمية للدكتور حامد سلطان :ص .157
( )8/408
وتحددت فكرة العائلة الدولية منذ مؤتمر وستفاليا سنة ( )1648م ،وكانت مقصورة في أول المر
على دول غرب أوربا ،ثم انضمت إليها سائر الدول المسيحية ،غير الوربية ،ثم اتسعت في سنة
1856م فشملت تركيا الدولة السلمية ودولً أخرى غير مسيحية كاليابان والصين (. )1
ثانيا ـ التمييز بين مفهومي دار السلم والدولة السلمية :
3ـ على الرغم مما كان قائما من وجود التلزم بين مفهومي دار السلم والدولة السلمية ،فإن
دار السلم تتميز بارتكازها على أساس العنصر المادي (أي الرض أو القليم) ( )2وأما الدولة
السلمية فتتميز بما لها من صفة السيادة (أو الستقلل) والشخصية المعنوية ذات الهلية والذمة
المالية المستقلة عن ذمة أشخاص رعاياها ،فلها مالية مستقلة عن أموالهم تتمثل في بيت المال (. )3
وكانت الدولة السلمية مستقلة ل تخضع لي سلطة أخرى ،كما كانت مستقلة
-------------------------------
( )1مبادئ القانون الدولي العام للدكتور حافظ غانم :ص 46ومابعدها ،النظم السياسية المرجع
السابق :ص 23وما بعدها ،و .37
( )2يتضح ذلك من مفهوم دار السلم :وهي كما قال أبو منصور البغدادي :كل دار ظهرت فيه
دعوة السلم من أهله بل خفير ول مجير ول بذل جزية ،ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن
كان فيهم ذمي ولم يقهر أهل البدعة فيها أهل السنة (ر :كتاب أصول الدين لبي منصور عبد القاهر
بن طاهر التميمي البغدادي المتوفى سنة 429هـ :ص ،270ور أيضا :دار السلم ودار الحرب،
بحث المؤلف).
( )3ر :المدخل إلى نظرية اللتزام العامة في الفقه السلمي للستاذ مصطفى الزرقاء :ف .187
( )8/409
عن أشخاص الحكام فيها ،وكان يعد الحاكم بمثابة أمين على السلطة ونائبا عن المة ( . )1وهذا هو
المعنى الذي يرمز إليه فقهاء القانون الوضعي القائلون بأن الدولة توجد حينما تجد السلطة السياسية
سندها ل في إنسان ،ولكن في شخص معنوي مجرد له طابع الدوام والستقرار والستقلل عن
أشخاص الحكام أنفسهم (. )2
ثالثا ـ اتجاه تطور مفهومي دار السلم والدولة الحديثة :
- 4المبدأ أو الصل الفقهي أن تكون دولة السلم أو دار السلم موحدة السياسة وشاملة لجميع
القاليم السلمية ،وذلك لتحقيق غاية السلم الساسية :وهي قوة السلم والمسلمين بأن يكونوا
جميعا يدا واحدة ،فيتجهون ،اتجاها واحدا ،وتسوسهم سياسة واحدة تحقق الخير والمصلحة للجميع.
وقد ظلت الخلفة أو الدولة السلمية بناء على ذلك موحدة الصف طوال القرون الثلثة الولى
الهجرية ،ثم تجزأت دار السلم خلفا للمبدأ السابق ،فقامت دول إقليمية في عهد الدولة العباسية،
وانقسمت الخلفة العباسية إلى دويلت :في العراق نفسها،وإيران والشام ومصر وشمالي إفريقية ،ثم
فيما بعد في الندلس ،فظهرت في أسبانيا الدولة الموية الثانية ( 423-317هـ ) ،وقامت الخلفة
الفاطمية ( 567-297هـ ) ،في المغرب ،ثم انتقلت إلى مصر في عهد المعز لدين ال سنة (362
هـ).
-------------------------------
( )1ر :للتفصيل موضوع دار السلم ودار الحرب للمؤلف :ف.20/
( )2ثروت بدوي ،المرجع السابق :ص 24وما بعدها .ومن المعلوم الن أن من خصاص الدولة
تمتعها بالشخصية المعنوية أو بالشخصية القانونية ،ومن ثم فهي تلزم وتلتزم كالشخاص الطبيعيين
تماما ،ويترتب على العتراف للدولة بالشخصية القانونية ،علوة على أهلية التمتع بالحقوق وتحمل
اللتزامات تأكيد النفصال بين الحاكم والسلطة ،أي أن الدولة وحدة قانونية مستقلة عن أشخاص
الحكام الذين يمارسون السلطة ،وأن هذه الوحدة لها طابع الدوام والستقرار (ثروت بدوي :ص 52
وما بعدها) وهذه المعاني سبق إليها السلم كما تقدم.
( )8/410
وهكذا وجدت في وقت واحد ثلث خلفات إسلمية :خليفة عباسي في العراق ،وخليفة أموي في
الندلس ،وخليفة فاطمي في إفريقية وجنوبي إيطاليا وصقلّية ،ثم مصر وقسم كبير من الشام (. )1
وكان من أهم عوامل التجزئة وفصم عرى الوحدة السلمية هو الفتنة الولى أو الكبرى التي انتهت
بمصرع عثمان بن عفان رضي ال عنه ،والفتنة الثانية التي انتهت بقتل الحسين بن علي وآل بيته
رضي ال عنهم في كربلء.
وفي وسط هذا الختلف بين أهل السنة والشيعة وتشعب الراء وتعدد الفرق وانقسام المسلمين إلى
دويلت ،انقض التتر والمغول على الخلفة العباسية في بغداد ،فأزالوا معالمها ثم استولوا على
دمشق .ثم جاءت الدولة العثمانية ،فاستولت على البلد السلمية وعاصرت انسلخ الندلس وطرد
المسلمين منها ومن سائر أوربا بسبب ضعفهم أمام العدو ،وطلبهم النصرة بل الحماية من العدو
المشترك أيام (ملوك الطوائف).
ثم ضعفت الدولة العثمانية :فانقض المستعمرون الغربيون على القاليم السلمية يتقاسمونها بينهم
بالحماية أو النتداب أو الوصاية مستفيدين من الّنعَرة الوطنية ( )2وظل الحال كذلك إلى أن استقل
معظم البلد في وحدات اقليمية أو دويلت متعددة بنحو خمسين دولة إسلمية في الوقت الحاضر.
والخلصة :إن مفهوم دار السلم اتجه خلفا للمبدأ السلمي نحو التجزؤ
-------------------------------
( )1مقدمة ابن خلدون :ص ،292ط مصطفى محمد ،الشرع الدولي في السلم للدكتور نجيب
الرمنازي :ص ،158مقدمة كتاب السياسة لبي القاسم المغربي :ص .28
( )2الكلم عن مآسي الستعمار الغربي في هذا الصدد يتسع لمؤلف ضخم ،وقد شاهد جيلنا الحاضر
الكثير من ويلته بتجزئة القليم الواحد إلى أوطان متعددة خاضعة تحت نفوده ،وبذر بذور الفتن
والتفرقة بين الخوة عملً بقاعدة (فرق تسد).
( )8/411
والنقسام في واقع الحياة السلمية مما أدى إلى ضعف دولة السلم .وبسط نفوذ المتسلطين عليها،
ومعاناة مختلف أشكال الستعمار القديم والجديد.
- 5وأما الدول الحديثة فإنها بعد أن قامت على أساس القليمية الضيقة ،دأبت على توفير أو استكمال
خصائصها أوعناصرها :وهي النظام ( )1والسيادة ()2
-------------------------------
( )1النظام :معناه ائتمار الجماعة بأمر فئة منها وخضوعها لقراراتها .أو بعبارة أخرى :وجود طبقة
من الحكام وأخرى من المحكومين .وهذا في الحقيقة هو المظهر الداخلي لسيادة الدولة وسلطانها
(راجع موجز القانون الدستوري للستاذين عثمان خليل والطماوي :ص .)14
( )2السيادة :وصف أو خاصية تنفرد بها السلطة السياسية في الدولة ،ومقتضاها أن سلطة الدولة
سلطة عليا ل يسمو عليها شيء ،ولتخضع لحد ،ولكن تسمو فوق الجميع ،وتفرض نفسها على
الجميع .ومقتضاها أيضا أن سلطة الدولة سلطة أصيلة ،أي ل تستمد أصلها من سلطة أخرى.
وللسيادة وجهان :سيادة خارجية ،وسيادة داخلية .الولى خاصة بالعلقات الخارجية بين الدول،
ومقتضاها عدم خضوع الدولة صاحبة السيادة الخارجية لية دولة أجنبية ،والمساواة بين جميع الدول
أصحاب السيادة ،ومن ثم فالسيادة الخارجية مراد فة للستقلل السياسي ،وذلك يتوفر باعتراف
الجماعة الدولية بها ،فهي ذات دور سلبي محض .وأما السيادة الداخلية أوالنظام كما ذكرت فلها معنى
إيجابي مضمونه أن الدولة تتمتع بسلطة عليا على جميع الفراد والهيئات الموجودة على إقليمها ،وأن
إرادتها تسمو على إرادتهم جميعا ،أي أن سيادة الدولة الكاملة تعني استقللها الخارجي ،وسمو
سلطانها في الداخل ،وهذا يدل على أنه ل دولة بدون سيادة ،وقد حل محل هذه الكلمة في العرف
الحديث لفظة (استقلل الدولة) (راجع ثروت بدوي ،43-40/1 :حافظ غانم :ص ،13المرجعان
السابقان) .ويمكن القول بوجود أساس لمبدأ السيادة الخارجية أو الستقلل السياسي في القرآن الكريم
في قوله تعالى{ :ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء ]141/4:وقوله تعالى{ :ول
العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون ]8/63:والعزة :النفة .ومن أّهم مقوماتها الستقلل الذي هو
من مستلزمات التمكين في الرض الذي وعد ال به المؤمنين الذي يعملون الصالحات.
( )8/412
( )8/413
إل أن نظريةالسيادة المطلقة تعرضت في العصر الحديث لنتقادات جوهرية ،وهجرها الكثيرون على
اعتبار أنها ل تتفق مع الظروف الحالية للمجتمع الدولي ( ، )1وبرز اتجاه معاصر نحو إمكان
النتقاص من السيادة على الصعيدين :القليمي والدولي ،ففي مجال التعاون القليمي نما الدراك لدى
بعض الشعوب والمم بوجوب التجمع في صور تغاير صورة الدولة بعناصرها التكوينية الحالية،
وبوجوب التعديل في عنصر السيادة الذاتية ،وظهرت التحادات القارّية كالتحاد المريكي الذي نشأ
في أواخر القرن الماضي ،ثم تجدد تنظيمه بعد الحرب العالمية الثانية ،وكالتحاد الوربي الذي برز
إلى حيز التحقيق العملي بعد الحرب العالمية الولى ،ثم بدت أهم مظاهره بعد الحرب العالمية الثانية،
فنشأ المجلس الوربي سنة (1949م) ،وعقدت اتفاقية السوق الوربية المشتركة عام ( 1957م) ،وفي
أعقاب الحرب العالمية الثانية وقعت روسيا والدول الشيوعية ميثاق وارسو سنة (1955م) (. )2
وهكذا تتجه الدول الحديثة في النطاق القليمي نحو الوحدة أو التحاد لتقوية شأنها ودعم نفوذها.
-------------------------------
( )1حافظ غانم ،المرجع السابق :ص .134
( )2أحكام القانون الدولي في الشريعة ،حامد سلطان :ص ،153الحقوق الدولية العامة ،فؤاد شباط:
ص .258
( )8/414
وعلى الصعيد الدولي طرأ على مفهوم السيادة قيد جديد ،فأصبحت الدول من الناحية النظرية القانونية
ل الواقعية الفعلية غير مطلقة التصرف في ميدان العلقات الدولية لخضوعها للقانون الدولي العام
المفروض على الدول بناء على اعتبارات تعلو على إرادتها ،والذي هو يورد قيودا على تصرفات
الدول ،ويحكم علقاتها مع الدول الخرى ومع الهيئات الدولية ،فمثلً :تضمّن ميثاق المم المتحدة قيدا
على مبدأ السيادة المطلقة في مظهرها الخارجي ،فقضى على حق
الدولة في إعلن الحرب متى شاءت ،لن الميثاق يقوم على فكرة نبذ الحروب ووجوب استتباب
المن والسلم الدولي (. )1
والخلصة :أن التجاه الحالي للدول نحو التجمع والتحاد يتفق مع أصل الفكرة الشرعية الداعية إلى
وحدة السلطة أو السيادة في جميع أقاليم دار السلم.
-------------------------------
( )1القانون الدولي العام للدكتور حامد سلطان :ص 752وما بعدها ،حافظ غانم ،المرجع السابق:
ص .153
( )8/415
( )8/416
كانت إذن الحكومة النبوية في المدينة جديرة بإطلق مصطلح الدولة السلمية عليها ،ويؤكد ذلك ما
قام به النبي صلّى ال عليه وسلم من إصلحات اجتماعية وسياسية عقب الهجرة مباشرة ،فجمع بين
المهاجرين والنصار وآخى بينهم ،ووادع يهود المدينة ،وكانت هذه المعاهدة بين المسلمين وغيرهم
بمثابة الدستور الذي نظم شؤون المسلمين وعلقاتهم بغيرهم داخل المدينة وخارجها ( )1على نحو
أشبه ما يسمى اليوم بالميثاق الوطني.
-------------------------------
( )1سيرة ابن هشام ،المرجع السابق :ص 501وما بعدها.
( )8/417
وكان النبي صلّى ال عليه وسلم يمارس شؤون السلطات الثلث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)،
فكان عن طريق الوحي والجتهاد الخاص يضع قواعد السلوك للناس في حياتهم الجتماعية ،ويحكم
بين الخصوم ،ويجبي الصدقات،ويوزع الغنائم ،ويولي المراء على القبائل والمدن ويحدد لهم
الختصاصات ،ويرسل القضاة إلى المصار ،ويقود المعارك ،ويعقد عقود الصلح أو الموادعة.
أنشأ النبي صلّى ال عليه وسلم بهذه التصرفات تنظيما أو جهازا إداريا بالتدريج توضحت معالمه
واستكملت عناصر بنيانه قبل وفاته بسنتين ،حيث أرسل المراء والعمال إلى البلد التي آمنت
برسالته ،وكان في كل وقت شديد الحرص على مشاورة أصحابه ،ويقوم أحد كتاب الوحي عنده
بالكتابة إلى الملوك والمراء ،ويتخصص بعض الكتاب لحوائج الناس أو لمنازعاتهم ،أو لعلقات
القبائل وتوزيع الحقوق فيما بينهما ونحو ذلك مما يثبت أن الرسول عليه الصلة والسلم لم يكن
رسولً فحسب ،وإنما كان كذلك حاكما ورئيسا لدولة (. )1
- 8واستمرت الخلفة الراشدية على السس نفسها التي قامت عليها الحكومة النبوية مع إضافة
اصلحات رائعة في عهد عمر بن الخطاب في نظام القضاء والدارة بوضع الدواوين وتعيين القضاة
وتحديد صلحيات الولة والعمال في المصار السلمية (. )2
إل أنه في عهد أبي بكر فصلت السلطة القضائية عن السلطة الدارية بدليل قول أبي عبيدة لبي بكر:
أنا أكفيك المال ،وقول عمر له :وأنا أكفيك القضاء.
وكانت الخلفتان الموية والعباسية رمز قوة الدولة وصاحبة الكلمة النافذة في العالم مع وضوح
التقسيمات الدارية للدولة وتعيين اختصاصات الولة والمراء.
وكذلك كان شأن الدولة العثمانية عدة قرون.
وهكذا ظلت الدولة السلمية طوال عشرة قرون مثالً صحيحا للدولة نظمت شؤونها على نحو سليم
يتضمن كل ما تتطلبه مقومات الدولة الساسية في الوقت الحاضر ،مع ملحظة فارق التطور والتقدم
العلمي الحديث.
-------------------------------
( )1عبقرية السلم في أصول الحكم للدكتور منير العجلني :ص ،98-90مبادئ نظام الحكم في
السلم للدكتور عبد الحميد متولي :ص .451
( )2سيرة عمر بن الخطاب للستاذين علي وناجي الطنطاوي 224/1 :و 263و ،548/2ط الترقي
بدمشق ،تاريخ الحضارة العربية للستاذ راتب الحسامي :ص 54و .86
( )8/418
( )8/419
( )8/420
قال ابن تيمية :يجب أن يعرف أن ولية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل ل قيام للدين إل بها،
فإن بني آدم لتتم مصلحتهم إل بالجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ،ول بد لهم عند الجتماع من
رأس حتى قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :إذا خرج ثلثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود
من حديث أبي سعيد وأبي هريرة (. )1
وقال ابن حزم( :اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب
المامة ،وأن المة واجب عليها النقياد لمام عادل يقيم فيهم أحكام ال ،ويسوسهم بأحكام الشريعة
التي جاء بها رسول ال صلّى ال عليه وسلم،حاشا النجدات ،فإنهم قالوا :ل يلزم الناس فرض المامة
وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم (. )2إل أن هؤلء الموجبين للمامة فريقان :قال أكثر الشعرية،
والمعتزلة ،والعترة؛ إنها تجب شرعا ،لن المام يقوم بأمور شرعية .وقال الشيعة المامية :تجب
المامة عقلً فقط للحاجة إلى زعيم يمنع التظالم ويفصل بين الناس في التنازع والتخاصم ،ولول
الولة لكان المر فوضى.
وقال الجاحظ والبلخي والكعبي وأبو الحسن الخياط والحسن البصري :تجب المامة عقلً وشرعا.
وشذ جماعة (وهم المُحكّمة الولى والنجدات من الخوارج ،وضرار ،وأبو بكر عبد الرحمن بن كيسان
الصم المعتزلي وهشام الفُوطَي) فقالوا بجواز المامة وأنها ل تجب ،قال الصم :لو تكافّ الناس عن
التظالم لستغنوا عن المام.
واستدل كل فريق على رأيه بأدلة مطولة ل مجال هنا لذكرها (. )3
-------------------------------
( )1السياسة الشرعية له ،المكان السابق.
( )2الفصل في الملل والنحل ،87/4 :وانظر المحلى ،438/9 :م 1768/ومراتب الجماع :ص .124
( )3ر :للتفصيل إمامة ـ المامة الكبرى .وقد سبق إيراد هذه الدلة في فصل :نظام الحكم في
السلم.
( )8/421
( )8/422
( )8/423
( )8/424
أما المة في مفهوم السلم فليست هي التي تربط بين أفرادها وحدة الجنس أو اللون أو اللغة أووحدة
المكان .وإنما هي التي تجمع بينها رابطة العقيدة والخلق.
وأما القومية في نظر السلم فهي رابطة تنظيمية تؤلف بين جماعة تعيش في رقعة ذات حدود
جغرافية متعاونة في تدبير شؤونها ومصالحها المشتركة ،دون انعزال عن القوام الخرى التي تقيم
في رقعات أرضية أخرى ،فهي دعوة للتعارف والتآلف بين القوميات المتعددة المنتشرة في بقاع
العالم ،وليست دعوة للنعزال أو التعصب ( ، )1وبعبارة أخرى :هي أن القومية في كل صورها
الحديثة تتنافى مع مبادئ السلم ،لن السلم يقرر مبدأ المساواة التامة بين الناس ،ويقيم وحدة
المسلمين على أساس الخوة أو الشتراك في عقيدة واحدة ونظرة أخلقية واحدة تسمو فوق اعتبارات
الجنس والنشأة واللغة ،قال ال تعالى{ :يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا .إن أكرمكم عند ال أتقاكم} [الحجرات ،]13/49:وقال رسول ال صلّى ال عليه وسلم :
«ليس لحد فضل على أحد إل بدين أو تقوى ،الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب ،ل فضل لعربي
على عجمي ،ول لعجمي على عربي ،ول لبيض على أسود ،ول لسود على أبيض إل بالتقوى» (
، )2وقال أيضا« :يا معشر قريش ،إن ال قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالباء ،أيها
الناس ،كلكم من آدم ،وآدم من تراب ل فخر للنساب ،ل فضل للعربي على العجمي ،ول للعجمي
على العربي ،إن أكرمكم
-------------------------------
( )1نظام الحكم في السلم للدكتور العربي :ص ،55النظريات السياسية السلمية للريس :ص
،339نظرية السلم السياسية للمودودي :ص 47و ،52العرب والسلم لبي الحسن الندوي :ص
.85حامد سلطان ،المرجع السابق :ص 111و 141و 155و 183و ،217نحو مجتمع إسلمي
لسيد قطب :ص 92وما بعدها ،منهاج السلم في الحكم لمحمد أسد :ص ،71السلم عقيدة وشريعة
للستاذ محمود شلتوت :ص 362وما بعدها ،ط .1959
( )2رواه أحمد في مسنده (مجمع الزوائد )266/3 :قال الهيثمي :ورجاله رجال الصحيح.
( )8/425
عند ال أتقاكم» ( ، )1وفي حديث آخر « :ليس منا من دعا إلى عصبية ،وليس منا من قاتل على
عصبية ،وليس منا من مات على عصبية» (. )2
وذلك يعني أن السلم هدم برج العصبية القاتلة ،والعنصرية السقيمة البغيضة لنها تفرق الجماعات،
وتولد الحقاد والشرور والمنازعات ،وأحل محلها النسانية العالمية ،لنها سبيل الخاء والمحبة
والسلم (. )3
الركن الثاني ـ القليم :
ل ـ موقع هذا الركن ماديا واختلفه عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة :
أو ً
- 15يشمل إقليم الدولة السلمية جميع البلد السلمية ،فهو يتحدد بحدود دار السلم مهما اتسعت
رقعتها ،ودار السلم( :اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين) ( . )4وهذا يعني ضمنا أن حدود
إقليم الدولة السلمية ليست ثابتة أو دائمة ( ، )5إذ أنه يجب شرعا تبليغ الدعوة السلمية إلى العالم،
-------------------------------
( )1رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ مقارب لهذا (سنن أبي داود ،624/2 :جمع الفوائد:
،398/2الترغيب والترهيب.)614 ،573/3 :
( )2رواه أبو داود عن جبير بن مطعم (سنن أبي داود.)625/2 :
( )3إذا كان نظام الدولة الحديث يقوم على أساس فكرة المة التي يرتبط أفرادها بروابط الجنس
واللغة والدين أو بالروابط القتصادية أو الجغرافية أو التاريخية ،فإن مفهوم المة الذي يقوم عليه
نظام الدولة المسلمة أوسع مدى ،فهي تشمل كل من آمن بالسلم أو التزم أحكام السلم ،مهما كان
جنسه أو لونه أو أصله أو لغته ،لن رابطة الخوة السلمية فوق رابطة الجنسية ورابطة القليمية أو
التوطن في بلد معين.
( )4شرح السير الكبير ،81/3 :وانظر للتفصيل دار السلم ودار الحرب للمؤلف.
( )5كان ركن القليم في دولة المدينة في عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم عبارة عن المدينة
وضواحيها ،ثم أخد إقليم الدولة يمتد في عهده ،ثم في عهد خلفائه على النحو المعروف.
( )8/426
وعندئذ تنتقل الحدود بانتقال سلطان السلم إلى البلد الخرى ،فكلما اتسع نطاق سلطان المسلمين
اتسعت القاليم السلمية .ول يراد بالوطن عند فقهاء السلم إل مكان إقامة الشخص الدائمة ،أي
بلده التي يقيم فيها عادة ،أو محل سكناه.
فإذا وقف سلطان امتداد السلم تحدد القليم تحت وطأة الضرورة والظروف بالحدود التي وقف
عندها ،وأصبحت حدود دار السلم مقيدة من الناحية الواقعية بهذه الحدود (. )1
إل أن السلم حين يزيل الحواجز الجغرافية أو العنصرية التي تقوم عليها فكرة الوطن القومي ،فإنه
ل يلغي فكرة الوطن على الطلق ،لن تعلق النسان بوطنه أمر فطري ،حتى إن حبه يمل نفسه
ومشاعره ،لذا فهو أي السلم يبقي على المعنى الطيب وحده لهذه الفكرة :معنى التجمع والتآخي
والتعاون والنظام والمشاركة في الفراح والحزان ،واللتفاف مع الخوان في الوطن حول الهدف
العلى المشترك ( ، )2وبالتالي فالوطن فكرة في الشعور ل رقعة من الرض نعيش
-------------------------------
( )1أما من الناحية المثالية فإن إقليم الدولة السلمي غير محدود ،شأنه شأن الخطاب التكليفي غير
محدد إطلقا بإقليم محصور معين ،ول مقيد برابطة الجنسية أو الموطن ،بل هو خطاب مطلق من كل
قيد ،وموجه إلى المسلمين والبشر جميعا ،بغض النظر عن الروابط القليمية ،يعني أن الشريعة ليست
ذات صبغة إقليمية وإنما هي ذات صبغة عامة أو عالمية .إل أن سلطة الدولة السلمية مقيدة في
الواقع بحدود دار السلم لعدم قدرتها على التنفيذ الجبري لحكامها في خارج دار السلمي(قارن
التشريع الجنائي السلمي 278/1 :وما بعدها والسلم وأوضاعنا السياسية للستاذ عبد القادر عودة:
ص 221و ما بعدها ،وأحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان :ص 111و 184و .)231
( )2نحو مجتمع إسلمي لسيد قطب :ص ،96السلم والحياة للدكتور محمد يوسف موسى :ص
.189
( )8/427
فيها ،هذه الفكرة يجتمع في ظلها الناس من كل جنس ولون وأرض ( . )1وكما أن ركن (الشعب)
يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن السلم يقرر (اللعنصرية) فدولة السلم
ليست دولة عنصرية محدودة بحدود أرض القوم والجنس والعنصر ،وإنما هي دولة فكرية تمتد إلى
المدى الذي تصل إليه عقيدتها ،دون أن يكون هناك امتيازات تقوم على أساس الجنس أو اللون أو
القليم ( ، )2كذلك فإن ركن (القليم) يختلف عن نظيره في المفهوم الحديث للدولة من حيث إن
السلم يقرر مبدأ (الل إقليمية) (. )3
ثانيا ـ مشمول إقليم الدولة :
- 16يظهر من تعاريف الفقهاء لدار السلم أن إقليم الدولة السلمية يشمل كل موضع أو جزء من
البلد خاضع لسلطان المسلمين ( . )4وبناء عليه يكون مشمول إقليم الدولة ما يأتي:
- 1ما هو جزء أساسي من القليم :
يشمل إقليم الدولة كل ما يدخل في تكوينها الجغرافي أو الطبيعي ،وهو مايأتي:
-------------------------------
( )1هذا ويلحظ أن ارتباط الدولة بالقليم في المفهوم الجديد رابطة حديثة النشأة يرجع وجودها إلى
القرن التاسع عشر ،وتوثقت في القرن العشرين ،فالقليم لم يكن عنصرا أساسيا من عناصر الدولة
عند اليونان والرومان ،وإنما بدأت الرابطة بين الدولة وبين القليم تظهر في الدراك القانوني في
أواخر القرون الوسطى (حامد سلطان ،المرجع السابق :ص .)228
( )2بحث الفرد والدولة في الشريعة للدكتور عبد الكريم زيدان :ص .14
( )3ر :للتفصيل دار السلم ودار الحرب للمؤلف.
( )4ر :دار السلم ودار الحرب.
( )8/428
أ ـ الرض :أي الجزء اليابس أو الرقعة التي يعيش عليها المسلمون وتخضع لسلطانهم أو وليتهم،
سواء أكانت مدينة أو قرية أو صحراء أوغابة أو جبل أو جزيرة (. )1
وكذلك يعتبر ما في باطن الرض من محتويات تابعا للدولة بدليل إيجاب الخمس للمصالح العامة فيما
يخرج من الرض من المعادن والركاز ( )2والباقي للمالك .وهذا يعني أن ملك الرض يستتبع ملك
ما تحتها وما فوقها عملً بالقاعدة الشرعية( :من ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته).
ب ـ النهار الوطنية :وهي التي تمر من منبعها إلى مصبها في أراضي دار السلم كأنهار مصر
والشام والعراق ونحوها.
جـ ـ المياه الساحلية أو البحر القليمي :وهي قسم محدد من البحر ملصق لرض الدولة التي
تنتهي حدودها إلى البحر.وتابعيتها لدار السلم بناء على مبدأ إحراز المباح ،لن من سبق إلى مالم
يسبق إليه أحد من المباحات فهو له كما قال النبي صلّى ال عليه وسلم (. )3
وفي حكم ذلك ما يعرف بالمنطقة المجاورة (أو الملصقة أو التكميلية) ( )4تعتبر
-------------------------------
( )1رد المحتار ،277/3 :ط الحلبي.
( )2ر :زكاة.
( )3رواه أبو داود عن أسمر بن مضرّس بلفظ( :أتيت النبي صلّى ال عليه وسلم فبايعته ،فقال :من
سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) (نيل الوطار.)302/5 :
( )4هذه المنطقة عبارة عن قسم من أعالي البحار يجاور مباشرة البحر القليمي تمارس الدولة
الساحلية عليه بعض الختصاصات المحددة في المسائل القتصادية والمالية والجمركية ،وفي مسائل
أمن الدولة والصحة العامة وفي الغنائم وفي الحياد (حافظ غانم ،المرجع السابق :ص .)402
( )8/429
( )8/430
يرتكبونها في أي مكان عند عودتهم لدار السلم :تخضع هذه الوسائل لسيادة الدولة السلمية مطلقا
سواء أكانت في مناطق تابعة لدار الحرب أو لدار السلم أو حرة (. )1
- 3ما هو جزء من إقليم الدولة ،ولكن عليه حقوق ارتفاق لدولة أخرى :
- 18يشمل هذا العنصر منطقتين تعتبران من إقليم الدولة السلمية لوليتها وسلطانها عليهما وهما:
أ ـ الجزء الواقع في إقليم الدولة من النهار الدولية :إذ أن هذا الجزء خاضع لسيادة الدولة
السلمية ،وتمارس سلطانها عليه ،وإن كان ل مانع عن طريق التفاق أو التبادل ونحوهما من انتفاع
الدول الخرى بالملحة فيه ونحوها ،كما هو الشأن في نطاق الملكية الخاصة بتقرير حقوق ارتفاق
عليها بسبب الجوار ونحوه.
ب ـ طبقات الجو عموديا :يشمل إقليم الدولة أعماق الرض والطبقات الهوائية التي تعلو إقليمها
الرضي والمائي ،وذلك يكسب الدولة الحق في مباشرة اختصاصها وحقوقها على الجواء العليا،
سواء في الملحة الجوية أو المواصلت والذاعات (اللسلكية) .والدليل الشرعي العمل بالقاعدة
الفقهية السابقة( :من ملك شيئا ملك ما هو من ضروراته) والملكية عامة كانت أو خاصة تستتبع ملك
ما فوق الرض من طبقات الجو ،وما تحتها من العماق ،فيبني المالك مثلً ما شاء فيها من طباق (
)2ويمارس عليها كل ما يكون له من حقوق بشرط عدم الضرار بالخرين ،وتأمين مصالحهم
الضرورية.
-------------------------------
( )1ر :دار السلم ودار الحرب :ف 43/و ،113-111التشريع الجنائي السلمي.296/1 :
( )2المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء :ف.635/
( )8/431
( )8/432
أ ـ أعالي البحار ( : )1الصل في الشريعة أن البحار العامة ليست ملكا لحد ( )2لعدم الحيازة لها ،
سئل بعض فقهاء الحنفية عن البحر الملح أمن دار السلم أو دار الحرب؟ فأجاب بأنه ليس من أحد
القبيلين ،لنه ل قهر لحد عليه ( . )3ويؤيد ذلك العتماد على بعض قواعد السلم لتقرير مبدأ
حرية البحار مثل مبدأ العدالة ومبدأ المساواة وقاعدة الحيازة الفعلية أو الحيازة الحكمية وأن الصل
في الشياء والعيان الباحة ،فالعدالة والمساواة تقضيان بجعل البحار مشاعة لجميع الدول ،إذ ل
حيازة لحدى الدول عليها فعلً أو حكما مما يوجب رفض القول بمبدأ ملكية البحار والسعي لتقرير
مبدأ حريتها (. )4
ب ـ الفضاء الكوني ( : )5يعتبر الفضاء الكوني أيضا حرا يجوز لكل دولة النتفاع به قياسا على
مبدأ حرية البحار العامة السابق ذكره لعدم الستيلء أو حيازة دولة ما له ،ولكن مع مراعاة الشرط
السابق وهو عدم الضرار بالخرين.
-------------------------------
( )1المقصود بأعالي البحار في العرف الحاضر:كل أجزاء البحر التي ل تدخل في البحر القليمي أو
في المياه الداخلية لدولة من الدول (حافظ غانم ،المرجع السابق :ص .)405ويقصد بحرية البحار:
أن يكون لكافة الدول أن تنتفع بها على قدم المساواة .ول تخضع السفينة الموجودة في أعالي البحار
إل لختصاص الدولة التي ترفع علمها.
( )2التشريع الجنائي السلمي لعودة.296/1 :
( )3رد المحتار على الدر المختار 267/3 :و ،277ط الحلبي ،وانظر التفصيل في بحث دار
السلم ودار الحرب للمؤلف.
( )4بدأ رجال الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسهم البابا في العصر الوسيط بإدخال البحار في ملكية
ملوك أوربا كي يتسنى لهم محاصرة الدولة السلمية عن طريق البحر المكتشف أو الذي سيعرف (ر
:أحكام القانون الدولي في الشريعة لحامد سلطان :ص ،243نظم الحكم والدارة في الشريعة
والقوانين لعلي منصور :ص .)312
( )5توصلت بعض الدول الكبرى في عصرنا الحاضر إلى الفضاء الكوني بقذائف صاروخية تحمل
كواكب صناعية تدور حول الكواكب السماوية ،وتشرف على الكرة الرضية ،وتصور أي جزء منها،
وترسل معلومات فلكية عن الفضاء والشعة الشمسية إلى الدولة التي أطلقتها.
( )8/433
( )8/434
(لباند) وأساسها أن ما يميز الدولة هو ما تملكه من قوة للجبر والقهر تباشرها على أشخاص
آخرين ،وهذه القوة هي حق خاص للدولة لم تستمده من سلطة أخرى.
ومنها نظرية (بلنيك) وهي تقول :أن ما يميز الدولة هو كونها تملك اختصاص إعطاء الختصاص،
فهي السلطة الوحيدة في القليم التي تملك حق وضع دستور ينظم الدولة ،ويحدد اختصاص سائر
الشخاص والهيئات الموجودين على إقليمها.
وقال بعض فقهاء القانون الدولي :يمكن وضع معيار آخر مزدوج للدولة يتلخص في أمرين:
- 1عمومية اختصاص الدولة ،أي أن الدولة تتمتع باختصاص عام في حدود إقليمها.
- 2الخضوع المباشر للقانون الدولي العام ،فتستمد منه حقوقها وواجباتها ،وتخضع لما يقيد حريتها
في التصرف (. )1
- 2تمييز السيادة عما يشتبه بها :
22ـ يميز فقهاء القانون الدولي بين السيادة وبين بعض النظمة وبعض مظاهر نشاط الدولة التي قد
تختلط أو تلتبس بها (. )2
أ ـ التمييز بين السيادة والسلطة الفعلية :
يجب التمييز بين السيادة كحق قانوني وبين مباشرة السلطة الفعلية إذ من الجائز أن تباشر دولة أو
هيئة دولية سلطة فعلية في إقليم ل يخضع لسيادتها ،ومثالها نظامان:
- 1اليجار :ومقتضاه أن تؤجر الدولة جزءا من إقليمها لدولة أخرى ،وتتولى الدولة المستأجرة
إدارة القليم محل اليجار ،واستخدامه مقابل أجر معين تدفعه للدولة المؤجرة ،كاستئجار أمريكا لمدة
( )90عاما بعض مناطق في نيوفوندلند وبرمودا من إنجلترا بموجب اتفاقية سنة (1941م).
- 2الدارة :ومقتضاه أن تتنازل دولة عن إدارة جزء من إقليمها إلى دولة أخرى ،وتتولى الدولة
المديرة إدارة القليم نيابة عن الدولة الولى ،ولمصلحة هذه الدولة ،كنظام الوصاية الدولية تحت
إشراف المم المتحدة.
-------------------------------
( )1حافظ غانم :ص ،137-128ثروت بدوي :ص 40وما بعدها ،حامد سلطان :ص ،150فؤاد
شباط :ص ،62المراجع السابقة.
( )2حافظ غانم ،المرجع السابق :ص 132ومابعدها ،الشريعة والقانون الدولي ،علي منصور ص
.123
( )8/435
ب ـ التمييز بين السيادة والملكية :
23ـ للسيادة في القانون الدولي مدلول قانوني مبناه اعتبار الدولة أعلى سلطة في داخل إقليمها،
واعتبار هذا القليم النطاق الذي تباشر الدولة سلطتها فيه ،ول يمكن تشبيه سلطات الدولة
واختصاصاتها بالملكية الخاصة لفرد من الفراد .فالقانون الداخلي لكل دولة يختص بتنظيم ملكية
الفراد أو الملكية العامة بتأثير مبادئ ونظريات معينة ،وملكية الدولة لبعض الموال في داخل إقليمها
أو في أقاليم دولة أخرى شيء مختلف عن السيادة القليمية.
بعد هذا التمهيد أذكر أمورا ثلثة:
( )8/436
( )8/437
ـ والرابع :أن ل ينازعوه في الغنائم إذا قسمها ويرضوا منه. )1( )...
وأما مظهر السيادة في المجال الدولي أو الخارجي فإن ذلك واضح مما قرره القرآن الكريم من مبدأ
توفير العزة والستقلل الكامل لدولة السلم دون السماح لية سلطة أخرى بانتقاصه أو محاولة
التسلط عليه ،قال تعالى{ :ولن يجعل ال للكافرين على المؤمنين سبيلً} [النساء . ]141/4:وقال
سبحانه{ :ول العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون . ]63/8:والعزة تقتضي ـ كما ذكر سابقا ـ
الستقلل ومن مستلزمات ذلك أوجب الفقهاء على المام (تحصين الثغور والحدود بالعدة المانعة
والقوة الدافعة حتى ل تظفر العداء بغرق ينتهكون بها محرما ،أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما)
( . )2
ثانيا ـ نصاب الحاكمية أو حدها الدنى في التحقق ،والفرق بينه وبين الحد الدنى في تطبيق الحكام
لتحقق مفهوم دار السلم :
25ـ إن السيادة الثابتة للدولة السلمية بالمعنى السابق ل تتقيد إل بقيود أو حدود الشرع أو بالتعبير
الحديث (مبدأ سيادة القانون) ،لن من أولى واجبات الدولة السلمية (حفظ الدين على أصوله
المستقرة وما أجمع عليه سلف المة) ( ، )3والحد الدنى المطلوب شرعا لتحقيق سيادة الشرع أو
كون الحاكمية ل تعالى يتوافر بما يأتي:
- 1إقرار عقيدة التوحيد :إن أول مظهر للسلم هو إعلن أصول عقيدته
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص .45
( )2الماوردي ،المرجع السابق :ص ،14الحكام السلطانية لبي يعلى :ص .11
( )3الماوردي :ص ،14أبو يعلى :ص .11
( )8/438
المعروفة :وهي اليمان بال تعالى وبملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر وبالقدر خيره وشره حلوه
ومره من ال تعالى (. )1
- 2التزام الحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو التي ثبتت بدليل قطع الثبوت قطعي الدللة،
كوجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج ،وتحريم جرائم الحدود :وهي الزنا والقذف
والسرقة وشرب الخمر والمحاربة (أوقطع الطريق) وإيجاب العقاب المقرر لها وللقتل العمد العدوان،
وتحريم الربا ،والميسر ،وزواج المحارم ،وزواج المسلمة بغير المسلم،وإيجاب الكفارات المقدرة
لليمان أو انتهاك حرمة بعض النظمة أوالفروض الدينية (. )2
- 3إنفاذ الحكام الشرعية المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم أو في السنة أو في الجماع
كنظام المواريث والسرة ومبادئ التعامل من رضا واختيار ونحوهما .وطرق الثبات والقضاء،
ونظم السلم والحرب ،ونحو ذلك مما يتصل بالتزام الوامر واجتناب النواهي.
- 4احترام مبادئ السلم السياسية والمدنية والقتصادية :كمبدأ الشورى والعدل والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ،والوفاء بالعهود والعقود واللتزامات ،والحفاظ على الحقوق ،وتحقيق المن ،ودفع
الذى والضرر ومنع الظلم وجهاد العداء ،وسد الذرائع إلى الفساد ،وحماية النفس والموال
-------------------------------
( )1القدر :ل شر فيه بوجه من الوجوه ،فإنه علم ال وقدرته وكتابته ومشيئه ،وذلك خير محض
وكمال من كل وجه ،ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه ،ل في ذاته ول في أسمائه ول في
صفاته ول في أفعاله ،وإنما يدخل الشر الجزئي الضافي في المقضي المقدر ،ويكون شرا بالنسبة إلى
محل وخيرا بالنسبة إلى محل آخر ،وقد يكون خيرا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه ،كما هو شر
له من وجه ،بل هذا هو الغالب .وهذ ما يحقق معنى التكامل في الحياة (راجع العقيدة الواسطية لبن
تيمية).
( )2انظر كتب أصول الفقه ـ باب الجتهاد.
( )8/439
والعراض ،وإقرار المسؤولية الفردية وضمان العتداء أو الضرر ،وتحريم الحتكار والغش
والتدليس والتطفيف في الكيل والميزان ( ، )1وعدم إهدار حرمة الملكية الخاصة مع مراعاة كونها
ذات وظيفة اجتماعية ،وتقييد جمع المال وإنفاقه بالقيود المشروعة.
وأما ما عدا ذلك من المور غير المنصوص عليها صراحة في الشريعة ،فللعلماء المختصين الجتهاد
فيها ،عملً بأن الصل في الشياء النافعة هو الباحة ،وفي الشياء الضارة هو الحظر أو المنع،
ولقول الرسول عليه الصلة والسلم« :أنتم أعلم بأمر دنياكم» ( ، )2ولكن بشرط أل يصادم الجتهاد
ل من أصول الشريعة ،أي أنه ل بد لصحة الجتهاد وسلمته من
مبدأ أساسيا من مبادئ السلم أوأص ً
أن يكون متجاوبا مع روح الشريعة وأصولها ومقاصدها التشريعية ،كما هو معروف في علم أصول
الفقه.
والخلصة :إن الحد الدنى لحاكمية ال ،هو تطبيق الحكام القطعية والمجمع عليها وإقامة الحدود،
وأما بقية الحكام الفرعية الثابتة فهي مكملة لهذه الحاكمية ،إل أن الخلل بتطبيق الحد الدنى لتلك
الحاكمية ل يمكننا من السراع بالحكم بالتكفير وإزالة وصف السلم ،لن الحكم بالتكفير والتبري
ليس بالهين ويحتاج إلى احتياط كما قرر الفقهاء ،ولن التكفير ل يكون إل بالترك ،اعتقادا بعدم
الصلحية أو مجاهرة بإعلن الكفر صراحة.
- 26ويلحظ أن هذا الحد الدنى للحاكمية القانونية يختلف عن الحد الدنى المطلوب لتحقيق مفهوم
دار السلم ،إذ يكفي لتحقيق مدلول دار السلم
-------------------------------
( )1الحسبة لبن تيمية :ص 29و 45وما بعدها ،السياسة الشرعية لبن تيمية :ص 63وما بعدها و
143وما بعدها 155 ،وما بعدها ،المحلى لبن حزم 440/9 :م.1772/
( )2أخرجه مسلم عن أنس وعائشة (شرح مسلم.)118/15 :
( )8/440
لتتميز عن دارا لحرب :إقامة شعائر الدين أو غالبها فيها ،أو التمكين من أدائها ،مثل إقامة صلة
الجمعة والجماعة والعياد وإعلن الذان (. )1
أما كون الحاكمية أو السيادة القانونية ل فمعناه تطبيق شريعته وإطاعة أوامره ،واجتناب نواهيه،
والتزام الحكام الواضحة الصريحة في القرآن الكريم والسنة النبوية لقوله تعالى{ :وما كان لمؤمن
ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرهم} [الحزاب{ ]36/33:يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم} [النساء ، ]59/4:إذ بذلك يتحقق المقصود
من إنزال الشرائع السماوية وتوفير النظام الصالح للبشرية.
ثالثا ـ هل يشترط وحدة السلطة على كافة أجزاء بلد السلم؟
- 27إن الصل العام المقرر عند علماء الشاعرة والمعتزلة والخوارج أن المامة والسلطة السياسية
في دار السلم في المشرق والمغرب السلمي واحدة ( )2لن السلم دين الوحدة ،ولن المسلمين
أمة واحدة ،رائدها التعاون والتضامن ،وعدوها التفرق والتنازع والتمزق ،قال ال تعالى{ :إن هذه
أمتكم أمة واحدة} [النبياء{ ]92/21:إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات{ ]10/49:واعتصموا بحبل ال
جميعا ول تفرقوا[ }...آل عمران{ ]103/3:ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات ،وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران.]105/3:
ويؤكد الرسول صلّى ال عليه وسلم على مبدأ الوحدة هذا ،فيقول« :المسلم أخو المسلم ل
-------------------------------
( )1ر :بحث دار السلم ودار الحرب للمؤلف :ف.48/
( )2البحر الزخار ،386/5 :أصول الدين للبغدادي :ص .274
( )8/441
يظلمه ول يخذُله ول يكذِبه» (« )1المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (« )2مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»
(« )3إن المؤمن من أّهل اليمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم لهل اليمان كما يألم الجسد لما في
الرأس» (. )4
وأجمع الصحابة يوم السقيفة لنتخاب خليفة بعد النبي صلّى ال عليه وسلم على أنه ل يجوز إمامان
في وقت واحد ،بدليل ما أجاب به عمر بن الخطاب الحُبَاب بن المنذر النصاري رضي ال عنهما
حينما قال( :منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش) :فقال( :سيفان في غمد إذن ل يصلحان).
وقرر الفقهاء إنه ل يجوز إمامان في بلد واحد ،حتى وإن كانت الجهات متباينة لقيام العمال مقام
المام الخر في المقصود ولفعل الصحابة ( )5الذين امتثلوا أوامر الرسول صلّى ال عليه وسلم حيث
قال« :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما» (« )6من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن
يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (« )7إنه ل نبي بعدي ،وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون،
قالوا :فما تأمرنا؟ قال :أوفوا ببيعة الول ،ثم أعطوهم حقهم ،وسلوا ال الذي لكم ،فإن ال
-------------------------------
( )1رواه مسلم عن أبي هريرة (الربعين النووية).
( )2رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الشعري (الفتح الكبير والجامع
الصغير).
( )3رواه مسلم وأحمد في مسنده عن النعمان بن بشير (المرجعان السابقان).
( )4رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد.)87/8 :
( )5البحر الزخار ،المكان السابق ،مقالت السلميين واختلف المصلين للشعري ،133/2 :ف/
،180وانظر للتفصيل في الموسوعة الفقهية :إمامة.
( )6أي أبطلوا البيعة الخيرة ،قال في النهاية :أي أبطلوا دعوته واجعلوه كمن مات ،رواه مسلم عن
أبي سعيد الخدري (شرح مسلم للنووي.)242/12 :
( )7رواه مسلم من حديث عرفجة بن شريح (شرح مسلم.)242/12 :
( )8/442
( )8/443
واحد متضايق الخطط والمخالف ( )1غير جائز ،وقد حصل الجماع عليه ،وأما إذا بعد المدى وتخلل
بين المامين شسوع ( )2النوى ،فللحتمال في ذلك مجال ،وهو خارج عن القواطع (. )3
وقال صاحب المواقف( :ول يجوز العقد لمامين في صقع متضايق القطار ،أما في متسعها بحيث ل
يسمع الواحد تدبيره فهو محل الجتهاد).
وقال البغدادي( :ل يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة ...إل أن يكون بين البلدين
بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الخر ،فيجوز حينئذ لهل كل واحد منهما عقد
المامة لواحد من أهل ناحيته).
وذكر الشهرستاني عن الكرامية( :إنهم جوزوا عقد البيعة لمامين في قطرين ،وغرضهم إثبات إمامة
معاويةفي الشام باتفاق جماعة من أصحابه ،وإثبات أمر المؤمنين علي بالمدينة والعراقين باتفاق
جماعة من الصحابة.)...
وأبان ابن حزم في كتابه( :ال ِفصَل في الملل والنحل) والبغدادي أن (محمد ابن كرام السجستاني وأبا
الصبح السمرقندي وأصحابهما أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد ،واحتج هؤلء بقول
النصار ،أو من قال منهم يوم السقيفة« :منا أمير ومنكم أمير» واحتجوا أيضا بأمرعلي والحسين مع
معاوية رضي ال عنهم.
ونقل المرتضى صاحب البحر الزخار رأي الباقين القائلين بجواز تعدد الئمة مع تباعد الدار ،ثم قال
عن مذهب الزيدية :والصح الجواز مع تباين الديار لكمال المصلحة (. )4
وقال الشعري في مقالت السلميين( :وقال قائلون :يجوز أن يكون إمامان في وقت واحد ،أحدهما
صامت والخر باطن ،فإذا مات الباطن خلفه الصامت وهذا قول الرافضة .وجوز بعضهم ثلثة أئمة
في وقت واحد ،أحدهم صامت ،وأنكر أكثرهم ذلك).
وسيأتي في بحث (زوال الدولة السلمية) أحكام الجزاء المنفصلة عن السلطة الصلية ليعرف
مصيرها وصفتها :هل هي دولة إسلمية أو ل؟).
-------------------------------
( )1جمع مخلفة بوزن متربة :وهي الموضع.
( )2الشسوع :البعيد.
( )3أي الدلة القاطعة التي تفيد اليقين بوجوب وحدة المة.
( )4وانظر كتاب الشافعي ـ للستاذ الشيخ محمد أبو زهرة :ص .99
( )8/444
( )8/445
يبدو من ذلك أن الدولة السلمية ( )1تنشأ كغيرها من الدول باجتماع العناصر المكونة لها عادة من
إقليم وسكان وتنظيم سياسي ،فالقليم هو دار السلم والسكان هم المسلمون وأهل الذمة (، )2
والتنظيم السياسي :هو السلطة السلمية العليا (أو الخلفة أو المامة) أي أن للدولة المسلمة تنظيمها
الحكومي الخاص.
الفرع الول ـ طرق نشأة الدولة السلمية :
- 30إن نشأة الدولة السلمية بتوافر العناصر المادية السابقة يتم على إحدى صورتين كغيرها من
الدول (. )3
آ ـ نشوء جديد كلية :قد تنشأ الدولة من عناصر جديدة إما بامتلكها عنوة أو سلما أو بهجرة
مجموعة من الناس واستقرارها على إقليم غير مأهول أو مسكون بقبائل متأخرة أو بشعب ضعيف،
وتوفر الرغبة لديهم في تكوين تنظيم سياسي مستقل.
-------------------------------
( )1يلحظ أن اصطلحات الدين والدولة والعقيدة والسياسة ونحوها عند الغربيين يجمعها عندنا كلمة
(الدين السلمي) الذي يشمل كل هذه المصطلحات متلزمة ،غير منفصلة ول متباعدة ،فالعبادة
والمعاملت التجارية والقضاء والدارة والحكم والحرب والسلم كلهاتلتقي في ظل نظام واحد هو نظام
السلم ،وتنبع من عقيدة واحدة هي عقيدة السلم.
( )2أهل الذمة :هم الطوائف الخرى غير المسلمة التي تقيم في دار السلمي بموجب عقد الذمة.
( )3حافظ غانم ،المرجع السابق :ص 266وما بعدها ،الشريعة والقانون الدولي ،علي منصور :ص
159وما بعدها.
( )8/446
وهذه ظاهرة تاريخية يمكن إرجاع نشوء أغلب الدول القديمة إليها ،ومنها الدولة السلمية الولى في
المدينة وما جاورها ،ثم امتدادها بطريق الفتح إلى أنحاء الجزيرة العربية والبلدان السلمية المفتوحة،
فقد هاجر المسلمون إلى المدينة ،ثم فتحوا بلدان الجزيرة العربية وغيرها ،وكونوا لنفسهم حكومة
ونظاما سياسيا خاصا يعتمد على أسس جديدة من حراسة الدين وسياسة الدنيا.
ب ـ نشوء الدولة من عناصر قديمة :وهذا يكون إما بالنفصال أو بالتحاد ،وقد حدثت الحالة الولى
باستقلل الدول المنفصلة عن الخلفة العباسية ،وتكوين دول مستقلة في الندلس والمغرب ومصر
وإيران .ويمكن حدوث الحالة الثانية باتحاد دولتين أو أكثر من دول العالم السلمي الحاضرة إما في
شكل دولة واحدة كما كان عليه الوضع أثناء نظام الخلفة السابق ،وإما في شكل اتحاد فعلي ،أو دولة
تعاهدية ،ويتم التعاهد إما بالتفاق الختياري أو الصلح مع أهل بلد كبير على عقد الذمة مثلً.
الفرع الثاني ـ العتراف وأنواعه ونتائجها في المجال الدولي :
ماهية مبدأ العتراف ومسوغاته :
- 31إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور السلم
وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف ،لذا كان مرجع تفصيل الحكام الدولية إلى القانون
الدولي العام ،إل أن المبادئ الصلية والخلق الدولية السائدة مقررة بوضوح في السلم.
فمن أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة
لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها ،والعتراف بالدولة هو من جملة الحكام السلمية في العلقات
الدولية.
( )8/447
وبما أن السلم ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علقاته مع الشعوب الخرى على
أساس أحد أمرين :إما الدخول في السلم ،أو المعاهدة والمان ،فإن العتراف بوجود الدولة الخرى
غير المسلمة (دارا لحرب) أمر ل مانع منه استصلحا في مبدأ السلم وفقهه المتمثل في تقسيم العالم
إلى دارين :دار إسلم ودار حرب ،لن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في
الصل غير مسالمة للمسلمين ول متعاهدة معهم ،فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة السلمية
وغيرها من دول دار الحرب ،أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقا واحدا ينص على احترام السلم والمن
الدوليين ،وتحريم التدخل في شؤون الدول الخرى كان ذلك اعترافا ضمنيا من الدولة السلمية
بغيرها ،فضلً عن أن العتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة.
وهذا موافق لقوله تعالى{ :وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكل على ال ،إنه هو السميع العليم}
[النفال ، ]61/8:وموافق أيضا لرأي الفقهاء القائلين بأن الصل في علقة المسلمين بغيرهم هو السلم
( . )1
وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة العتراف بدولة غير مسلمة اعترافا علنيا أو ضمنيا حقوقيا أو واقعيا
بحسب الحال.
وكون الدعوة السلمية ذات نزعة عالمية من طريق الحكمة والموعظة الحسنة ،وبالتالي امتداد
سلطان الدولة السلمية مع انتشارها في المعمورة :ل يعني تجاهل ظروف المكان وضرورات
الواقع ومصلحة السلم التي تجعل من دولة السلم إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر
العتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق السلم ووحي رسالته.
ويؤكد هذه المسوغات للعتراف أنه عند الفقهاء الدوليين الن عمل حر تقر بمقتضاه دولة أو
مجموعة من الدول وجود جماعة لها تنظيم سياسي في إقليم معين مستقلة عن كل دولة أخرى ،وقادرة
على الوفاء بالتزامات القانون الدولي العام وتظهر الدول بالعتراف نيتها في اعتبار هذه الدولة
عضوا في الجماعة الدولية (. )2
-------------------------------
( )1ر :جهاد أو حرب فيما سبق.
( )2حافظ غانم ،المرجع السابق :ص .268
( )8/448
( )8/449
( )8/450
أ ـ العتراف بالمة :هذا النوع من العتراف خطوة في سبيل العتراف بالدولة ،ويتم عادة من
الدول أصحاب المصالح مع بعض الشعوب الموالية لها عن طريق العتراف بلجنة قومية تشكلت في
الخارج ،وتتعامل معها بعض الدول الجنبية ،كأنها تمثل (المة) التي تنتسب إليها ،وذلك مثل
اعتراف الدول العربية وبعض الدول الصديقة بمنظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني.
ب ـ العتراف بالثورة :وهو يحصل إذا ما نشبت ثورة في داخل دولة ما بقصد انفصال جزء من
إقليمها عنها ،ويقصد بالثورة :الهياج المسلح الذي ل يبلغ في الجسامة مبلغ الحرب الهلية.
جـ ـ العتراف بالحكومة في الخارج (حكومة المنفى ) :وهذا مثل العتراف بالمة يتم باعتراف
بعض الدول الجنبية بحكومة تدعي أنها ذات الصفة الشرعية
تتكون خارج إقليم الدولة نتيجة وقوع انقلب عسكري يتسلم فيه زعيم النقلب مقاليد السلطة في
داخل البلد ،وذلك تمهيدا لدخول تلك الحكومة إلى البلد لطرد جماعة النقلب ،وممارسة الحكم فيها
بالسيطرة على القليم والشعب ومباشرة سائر الختصاصات المتعلقة بالحكم.
( )8/451
( )8/452
أ ـ إنهم عرفوا فكرة الدولة مستلقة عن أشخاص الحكام ،فكان الحاكم أو الخليفة يعد بمثابة أمين على
السلطة يمارسها بصورة مؤقتة ،ونيابة عن المة ،كما يتضح من الخطب السياسية التي كان يلقيها
الخلفاء الراشدون بمجرد انعقاد البيعة لهم ( ، )1والتي يبدو منها أنهم كانوا يمارسون السلطة من أجل
مصلحة الجماعة السلمية ل من أجل مصالحهم الشخصية ،فالخليفة يعتبر نفسه وكيلً عن المة في
أمور الدين وفي إدارة شؤون الدولة بحسب شريعة ال ورسوله ( ، )2وهو لهذا يستمد سلطانه من
المة ،ولها حق نصحه وعزله من منصبه إن وجد ما يوجب العزل (. )3
وكان العمال أو الموظفون ل ينعزلون بموت السلطان الذي عينهم ،وكذا نائب القاضي ل ينعزل بعزل
القاضي ول بموته؛ لن القاضي الذي استناب غيره في
-------------------------------
( )1المامة والسياسة لبن قتيبة :ص 16و .50
( )2تاريخ السلم السياسي لحسن إبراهيم 203/1 :وما بعدها ،وقال صلّى ال عليه وسلم واصفا
المارة« :إنها أمانة ،وإنها يوم القيامة خزي وندامة ،إل من أخذها بحقها ،وأدى الذي عليه فيها»
رواه مسلم عن أبي ذر (شرح مسلم للنووي.)209/12 :
( )3الحكام السلطانية للماوردي :ص 15وما بعدها ،حجة ال البالغة ،112/2 :نظام الحكم في
السلم ،يوسف موسى :ص .124
( )8/453
القضاء إنما يعمل بولية المة وفي حقوقها ،ل بولية شخصية من السلطان ول في حقه الخاص؛ لن
الخليفة أو السلطان بمنزلة رسول معبر عن المة (. )1
1/35ـ ب ـ وتظل حقوق الدولة السلمية ثابتة لها ،وإن تغير حكامها بدليل أن عمر بن الخطاب
رضي ال عنه أبقى الراضي المفتوحة على ملكية أهلها ،على أن يدفعوا خراجا دائما ( . )2وأكد
معظم الفقهاء هذا المعنى ،فقرروا أنها وقف لجماعة المسلمين.
فقال مالك :تصير الراضي التي استولى عليها المسلمون عنوة وقفا على المسلمين حيث غنت.
وقال أبو حنيفة :المام فيها بالخيار بين قسمتها بين الغانمين ،فتكون أرضا عشرية ،أو يعيدها إلى
أيدي المشتركين بخراج يضربه عليها ،فتكون أرض خراج ويكون المشركون فيها أهل ذمة ،أو يقفها
على جميع المسلمين.
وقال الحنابلة في الرجح عندهم :إن المام يفعل ما يراه الصلح من قسمة هذه الراضي ،ووقفها
مقابل خراج دائم يقرر عليها كالجرة.
وكذلك الراضي المملوكة عفوا لنجلء أهلها عنها خوفا :تصير بالستيلء عليها وقفا .وأيضا
الراضي المستولى عليها صلحا على أن ملك الرض لنا ،تصير بهذا الصلح وقفا من دار السلم،
وليجوز بيعها ول رهنها (. )3
-------------------------------
( )1البدائع ،16/7 :و 37/6وما بعدها ،المدخل إلى نظرية اللتزام العامة في الفقه السلمي للستاذ
الزرقاء :ص ،262ف ./186
( )2شرح السير الكبير ،254/3 :الخراج لبي يوسف :ص 24و 27و ،35القسطلني شرح
البخاري ،200/5 :الموال :ص ،58فتوح البلدان للبلذري :ص .275
( )3الحكام السلطانية للماوردي :ص 132وما بعدها ،ولبي يعلى :ص 130وما بعدها ،وانظر
للتفصيل بحث :أموال الحربيين للمؤلف :ف.88-84/
( )8/454
وقال الفقهاء أيضا( :بيت المال وارث من ل وارث له) ( )1أي أن هذا حق ثبت له ،وبديهي أن بيت
المال من أخص حقوق الدولة ،بل ومن أهم مقومات وجودها .ومن الحكام الفقهية :لبيت المال حق
الخذ بالشفعة بسبب الشركة في ملكية العقار المبيع إن وجد في ذلك المصلحة له (. )2
- 2/35وأما بالنسبة للتزامات الدولة ،فقال عنها فقهاؤنا :تظل قائمة ،ففي بحثهم المعاهدات مثلً
قالوا :تبقى المعاهدة نافذة يلزمنا الوفاء بها حتى تنقضي مدتها ،أو ينقضها العدو ،لقوله تعالى{ :يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ( [ )3المائدة ،]1/5وقوله صلّى ال عليه وسلم « :المسلمون عند شروطهم
ما وافق الحق من ذلك» ( ، )4فلو مات المام الذي عقد الهدنة أو عزل لم ينتقض العهد ،وعلى من
بعده الوفاء به ،لن العقد السابق كان باجتهاد ،فلم يجز نقضه باجتهاد آخر ،كما لم يجز للحاكم نقض
أحكام من قبله باجتهاد جديد ،بدليل إتمام علي كرم ال وجهه ما عقده لهل نجران ( . )5وهذا يدل
على أن الدولة شخص اعتباري يمثله المام ويتعاقد باسمه.
ويشير إلى ذلك أيضا أن أمان الواحد من المسلمين رجلً أو امرأة يسري على المسلمين جميعا ،لقوله
صلّى ال عليه وسلم « :المسلمون تتكافأ دماؤهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم،
-------------------------------
( )1يترك مال من ل وارث له في بيت المال باتفاق المذاهب الربعة ،غير أن الحنفية والحنابلة
يقولون :إن هذا ليس بطريق الرث ،وإنما هو من باب رعاية المصلحة على أنه مال ضائع فيصرف
في سبيل المصالح العامة .وقال متأخرو المالكية ،والراجح عند الشافعية :يكون بيت المال وارثا
بشرط كونه منتظما (شرح السراجية :ص ،11نظام المواريث للشيخ عبد العظيم فياض :ص ،20ط
الثانية).
( )2أسنى المطالب ،265/2 :منْح الجليل للشيخ عليش.584/3 :
( )3المائدة.1 :
( )4رواه الحاكم عن أنس وعائشة (الفتح الكبير) ورواه الترمذي عن عمرو بن عوف « المسلمون
على شروطهم( »..نيل الوطار.)254/5 :
( )5الدر المختار ،25/3 :البدائع ،16/7 :القوانين الفقهية :ص ،155مغني المحتاج،261/4 :
المغني ،462/8 :البحر الزخار 450/5 :و .455
( )8/455
وهم يد على من سواهم» ( ، )1هذا الحديث يدل على وجود شخصية اعتبارية لجماعة المسلمين
يمثلها أحدهم ويعتبر المان الصادر منه ملزما لهم.
ومن الحكام الفقهية في هذا الشأن ما قاله فقهاؤنا( :إن على بيت المال نفقة من ل عائل له من
الفقراء) (. )2
وقالوا في نطاق المسؤولية المدنية والجنائية :إذا أتلف الحاكم شيئا في غير حالة تطبيق العقوبات
الشرعية أثناء قيامه بمصلحة من المصالح العامة ،فضمان المتلفات على الدولة باعتبارها شخصية
معنوية يمثلها الحاكم نياية عن جماعة المسلمين ،قال عز الدين بن عبد السلم« :إن المام أو الحاكم
إذا أتلف شيئا من النفوس أوالموال في تصرفهما للمصالح ،فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم
والمام ،ودون عواقلها على قول الشافعي ،لنهما لما تصرفا للمسلمين ،صار كأن المسلمين هم
المتلفون ،ولن ذلك يكثر في حقهما ،فيتضرران به ،ويتضرر عواقلهما) (. )3
وذكر فقهاء الحنفية :إذا أخطأ القاضي في حق من حقوق ال تعالى الخالصة له (أي من حقوق
المجتمع) كأن قضى بحد زنا أو سرقة أو شرب خمر ،واستوفى الحد ،ثم ظهر أن الشهود ساقطو
العدالة ،كأن كانوا محدودين في قذف ،فالضمان في بيت المال ،لن القاضي عمل في ذلك لعامة
المسلمين لعود منفعتها إليهم :وهو الزجر ،فكان خطؤه عليهم ،فيؤدى (أي تدفع الدية) من بيت مالهم،
ول يضمن القاضي في ماله الخاص (. )4
يظهر من كل ذلك أن الدولة لها أهلية وجوب كاملة وذمة مستقلة عن أفرادها المكونين لها ( )5وهذا
هو المراد بالشخصية العتبارية للدولة.
-------------------------------
( )1أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا .وفي
الصحيحين ومسند أحمد عن علي( :ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)( ..نيل الوطار27/7 :
وما بعدها).
( )2السياسة الشرعية لبن تيمية :ص ،51الحكام السلطانية للماوردي :ص ،122المهذب:
.167/2
( )3قواعد الحكام في مصالح النام ،165/2 :ط الستقامة .وانظر للتفصيل :نظرية الضمان للدكتور
وهبة الزحيلي :ص .337
( )4البدائع ،16/7 :رد المحتار ،355/4 :ط الحلبي.
( )5المدخل إلى نظرية اللتزام في الفقه للستاذ الزرقاء :ص ،263المرجع السابق.
( )8/456
( )8/457
فدولة السلم إذن دولة ذات فكرة ومنهج موضوعي ورسالة دائمة مهمتها نشر العقيدة السلمية
وتصحيح مفاهيم الناس نحو عالم الغيب وعالم الشهادة بتقديم الحلول السليمة ووضع المناهج السديدة
للحياة الجتماعية والقتصادية والعمرانية على نمط يحقق الخير والرفاه والسعادة للفرد والجماعة.
تتضح بذلك الغاية السامية للمسلمين أمام الشعوب :وهي أن السلم يريد لها النمو والزدهار
والمحافظة على كرامتها والبقاء على خيراتها ومقدراتها بأيدي أهلها الصليين ،على النقيض تماما
مما تفعله دول الستعمار الحاضرة ،إذ أن الرغبة في نشر فكرة السلم ل تنشئ شيئا من الشر الذي
تنشئه الرغبة في نشر نفوذ بقصد الستغلل الذي يسمونه (الستعمار) ( ، )1فالفكرة إذن هي
السلم ،وفكرة السلم التي تقوم مقام فكرة الوطن في معناها الطيب ل ينشأ عنها حب استغلل
أرض الخرين ،أو طائفة أخرى من الناس.
ثانيا ـ كون غاية الدولة أداء رسالة السلم وجوبا اعتقاديا :
- 37إن الغاية الجوهرية للحكم السلمي هي أن تقوم الدولة بمختلف أجهزتها بنشر رسالة السلم،
وحفظ الدين والدفاع عنه ،حتى إن الفقهاء صرحوا بأن المقصود بالجهاد ليس قتل الناس أو إكراههم
على الدين ،وإنما هو الهداية وما سواها من الشهادة بالطريق الحسنى وبالقتناع الحر (. )2
-------------------------------
( )1نحو مجتمع إسلمي للمرحوم الستاذ سيد قطب :ص .97
( )2مغني المحتاج ،210/4 :بجيرمي المنهج.227/4 :
( )8/458
قال الماوردي وأبو يعلى :إن أول المور التي تلزم المام هو (حفظ الدين على أصوله المستقرة ،وما
أجمع عليه سلف المة ،فإن نجم مبتدع ،أو زاغ ذو شبهة عنه ،أوضح له الحجة ،وبيّن له الصواب،
وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل ،والمة ممنوعة من زلل) (. )1
وقال الدهلوي( :إن أمهات المقاصد أمور :منها :حفظ الملة بنصب الخطباء والئمة والوعاظ
والمدرسين) (. )2
وقال ابن تيمية( :إن جميع الوليات في السلم مقصودها أن يكون الدين كله ل ،وأن تكون كلمة ال
هي العليا ،فإن ال سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك ،وبه أنزل الكتب ،وبه أرسل الرسل ،وعليه
جاهد الرسول والمؤمنون ،قال ال تعالى{ :وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون} [الذاريات]56/51:
وقال تعالى{ :وما أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فاعبدون} [النبياء:
.]25/21وقال{ :ولقد بعثنا في كل أمة رسولً أن اعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت} ([ )3:النحل:
.]36/16
وقال ابن تيمية أيضا :المقصود الواجب بالوليات :إصلح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا
مبينا ،ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا ،وإصلح ما ل يقوم الدين إل به من أمر دنياهم ،وهو نوعان:
قسم المال بين مستحقيه ،وعقوبات المعتدين ،فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ،ولهذا كان عمر بن
الخطاب يقول :إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ،ويقيموا بينكم دينكم.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي :ص ،14ولبي يعلى :ص .11
( )2حجة ال البالغة.132/2 :
( )3الحسبة :ص ،4ط المدينة.
( )8/459
فلما تغيرت الرعية من وجه ،والرعاة من وجه تناقضت المور ،فإذا اجتهد الراعي في إصلح دينهم
ودنياهم بحسب المكان ،كان من أفضل أهل زمانه ،وكان من أفضل المجاهدين في سبيل ال ،فقد
روي :يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة (. )1
من ذلك يتبين أن غاية الدولة السلمية إصلح الدين والدنيا وإقامة العدل وإعلء كلمة ال تعالى ،
(أي تطبيق تعاليمه في القرآن والسنة) والمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبهذا تحقق الحكومة السلمية المثل العلى الذي ينشده السلم للبشرية .وهو تنفيذ أحكام الشريعة،
وتمكين المسلم من أن يحيا طبقا لمتطلباتها؛ لن الدين السلمي هو أساس كل التنظيمات في الحياة،
فكلمة (دين) تشمل جميع نواحي النشاط النساني ،سواء في مجال التنظيم السياسي للجنس البشري ،أم
في مضار الخلق والقتصاد والجتماع والسياسة والثقافة والتربية التي يتضمنها كلها القرآن الكريم
( . )2وبكلمة إجمالية :إن مهمة الدولة السلمية هي نشر الحضارة ذات الطابع النساني الرفيع.
المطلب الثاني -مقارنة الدولة السلمية بالدولة الحديثة :
وفيه فرعان:
الفرع الول ـ بيان مدى ارتباط الدولة الحديثة بالمبادئ والديان :
38ـ ل نجد الن تقسيما للدول بحسب أديانها ،ول يهتم القانون الدولي
-------------------------------
( )1السياسية الشرعية :ص ،24ط دار الكتاب العربي بمصر.
( )2بحث مفهوم الدولة في السلم ،الدكتور محمد عزيز أحمد المنشور في مجلة (المسلمون) المجلد
الرابع ،العدد السادس :ص .59
( )8/460
العام بشأن دين الدولة ،وإنما يعترف بالدولة الموزعة في العالم على أساس إقليمي ،لكن من المعروف
أن الدول بحسب الدين أربع مجموعات رئيسية)1( :
المجموعة الولى :الدول النصرانية.
المجموعة الثانية :الدول اللدينية (العلمانية) والدول الملحدة.
المجموعة الثالثة :الدول البوذية والهندوكية والبرهمية.
المجموعة الرابعة :الدول السلمية.
أما المجموعة الولى :فل تكتفي بتعيين دينها ،بل هي تصرح في دساتيرها بمذهبها أيضا ،فهناك دول
بروتستانية ،ودول كاثوليكية ،ودول أرثوذكسية .وقد صرحت دساتير معظم الدول الحديثة ول سيما
دساتير أمم الغرب بأنها تعطي لدين الكثرية وثقافتها مكانا ممتازا ،وتعمل على حمايتهما وتطورهما
( . )2ففي إنجلترا :نصت المادة ( )7من وثيقة الحقوق على أنه يسمح لرعايا الكنيسة البروتستانية
بحمل السلح لحماية أرواحهم في حدود القانون .وفي المادة ( )8من الوثيقة المذكورة لكاثوليكي أن
يرث أو يعتلي العرش البريطاني .وفي المادة ( )3من قانون التسوية :على كل شخص يتولى الملك
أن يكون من رعايا كنيسة انجلترا ول يسمح بتاتا لغير المسيحيين ول لغير البروتستانيين أن يكونوا
أعضاء في مجلس اللوردات ويعتبر ملك بريطانيا حاميا للكنيسة البروتستانية في العالم.
وفي اليونان :تنص المادة ( )1من دستورها على أن المذهب الرسمي لمة اليونان هو مذهب الكنيسة
الرثوذكسية الشرقية .وفي المادة ( )47من الدستور :كل من يعتلي عرش اليونان يجب أن يكون من
أتباع الكنيسة الرثوذكسية الشرقية.
وفي الدانمرك تنص المادة ( )2البند ( )5على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة النجيلية
اللوثرية .وفي المادة ( )1البند ( : )3إن الكنيسة النجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها في
الدانمرك.
وفي إيرلندة :ينص الدستور على أن الدولة تعطي مكانا خاصا للكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة.
-------------------------------
( )1انظر بحث (مكان السلم في مفهوم الدولة) للستاذ عبد الرحمن خضر المنشور في مجلة
(المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد الول ـ ص 67وما بعدها.
( )2راجع بحث (عنصر العقيدة في الدستور) للستاذ ظفر أحمد النصاري المنشور في مجلة
(المسلمون) المجلد الخامس ـ العدد السابع :ص .64-59
( )8/461
وفي النرويج :ينص البند الثاني من المادة ( )12على أنه ستظل الكنيسة النجيلية اللوثرية هي الكنيسة
الرسمية في الدولة ،وفي الفقرة الثانية من البند الول :يجب أن يكون الملك من أتباع الكنيسة
المذكورة.
وفي السويد :في البند الثاني من المادة ( :) 4يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب النجيلي
الخالص ،وفي المادة ( )4من الدستور :يجب أن يكون أعضاء المجلس الوطني من أتباع المذهب
النجيلي.
وفي كولومبيا :تنص المادة ( )53من الدستور على ضرورة تحسين العلقات بين الحكومة والكنيسة
الكاثوليكية.
وفي جمهورية كوستاريكا :تنص المادة ( )66من الدستور على أن المذهب الكاثوليكي هو المذهب
الرسمي للدولة.
وفي جمهورية السلفادور :تقرر المادة ( )12من الدستور :أن الدولة تعترف بالشخصية القانونية
للكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها غالبية السكان .وفي إسبانيا :تنص المادة ( )9على أنه يجب أن يكون
رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية .وفي المادة ( : )6على الدولة رسميا حماية اعتناق
وممارسة شعائر المذهب الكاثوليكي باعتباره المذهب الرسمي لها.
وفي البرتغال :تقول المادة ( )24البند ( : )2لما كانت الجماعات البشرية البرتغالية التي ترعاها
الكنيسة الكاثوليكية عبر البحار تعتبر أداة لنشر المدنية والنفوذ القومي ومراكز لتدريب الرجال للخدمة
في تحقيق الغايات ،فإن الدولة تعترف لها بالشخصية القانونية ،وعليها حمايتها ومساعدتها باعتبارها
مراكز ثقافية هامة.
وفي جمهورية البارجوراي :تنص المادة ( )3من الدستور على أن المذهب الرسمي للدولة :هومذهب
الكنيسة الكاثوليكية الرسولية .ويجب أن يكون رئيس الجمهورية من أتباع الكنيسة المذكورة.
وفي الرجنتين :تنص المادة ( )2على :أن على الحكومة الفدرالية أن تحمي الكنيسة الرسولية.
وفي بورما :تنص المادة ( )1من الدستور على أن الدولة تعترف بالمكانة الخاصة للديانة البوذية
باعتبارها دين الكثرية الساحقة.
( )8/462
وفي بلد التايلند :تنص المادة 7من الدستور على أن الملك يعتنق الديانة البوذية ويقدس شعائرها (
. )1
- 1/38وأما المجموعة الثانية :الدول العلمانية ،فهي قسمان :
القسم الول :ما يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) ل دينية ،أي تقول بلزوم فصل الدين عن
الدولة ،مثل فرنسا التي كانت أول من ابتدعت هذه البدعة أثر ثورة 1789م ،وتبعتها في ذلك تركيا
على يد مصطفى كمال .ومن هذا القسم حكومة الهند.
والقسم الثاني :هو الدول الملحدة :وهي الدول التي ل يكتفي دستورها بالقول بأنها (علمانية) بل يمنع
التبشير بالدين ،ويجعل الدعاية ضد الديان حقا من الحقوق العامة .وأول من أقدم على ذلك اتحاد
جمهوريات روسيا السوفياتية .وقد انهار في عام 1989م.
- 2/38وأما المجموعة الثالثة :الدول البوذية والكونفوشية والهندوكية ،فهي كاليابان وحكومة الصين
القديمة .وأما الهند فهي خليط من الهندوس والمجوس وسائر الديان ومختلف المذاهب .وبعد
الستقلل نص دستور الدولة الهندية على أن الدولة علمانية ،ونص دستور الباكستان على أنها من
الحكومات السلمية.
-------------------------------
( )1علق على هذه الظاهرة المير شكيب أرسلن ،فقال في مجلة (المسلمون) المجلد الخامس العدد
الثالث :ص ( :54-51خرافة فصل الدين عن السياسة في أوربا التي ليزال يتشدق بها بعض
المضللين في الشرق :ليس لها أصل إل بالمعنى الداري الذي هو جار أيضا في بلد السلم،
فالحكومات الكاثوليكية بأجمعها مرتبطة أشد الرتباط بالدين الكاثوليكي إل فرنسا ،بل إن الدولة
الفرنسية التي يزعم بعضهم أنها حكومة ل دينية هي أشد الدول حماية للنصرانية عموما وللكثلكة
خصوصا .وأما الدول البروتستانية فكلها تعلن أن ثقافتها مسيحية وأن مدنيتها إنجيلية ،وأنها لتحيد
عن هذا الطريق.
( )8/463
- 3/38وأما المجموعة الرابعة فهي الدول السلمية :والملحوظ من هذه التسمية أن مبادئ السلم
تحكمها ،دون أن يكون هناك طبقة دينية لها اختصاصات معينة في الحكم ،وإنما يشترك في إدارتها
كل مسلم كفء للدارة.
الفرع الثاني -مقارنة الدولة السلمية بالدولة الشيوعية :
- 39تلتقي الدولة السلمية والدولة الشتراكية ـ الشيوعية في طبيعة واحدة هي أنهما تقومان على
أساس فكرة ودعوة ،ل على أساس مصالح مادية أو الرتباط بحدود جغرافية إقليمية ،أورابطة قومية
عنصرية .فكل من الدولتين تتوخى نشر فكرتها في أرجاء العالم ،ول مانع بالنسبة لمن يؤمن بتلك
الفكرة أن يكون مواليا لدولة أخرى ،أي أن هناك بالنسبة للشخص صاحب الفكرة ازدواجا في الولء.
المبحث الثالث ـ وظيفة دولة السلم()1
تمهيد :في تعريف وظيفة الدولة السلمية :
- 40امتاز السلم عما كان سائدا في الجاهلية العربية بحمايته نوعين من المصالح اللذين بهما
انتظام الملة والمدن ،وقد بعث النبي صلّى ال عليه وسلم لجلهما ،والمام نائبه ،فهو مسؤول عنهما (
. )2
لذلك تختلف وظيفة الدولة السلمية عن سائر الدول الدستورية البرلمانية في أن مهمتها الحفاظ على
أمور الدنيا والدين ،وأنه ل فصل بين الدين والدولة كما فعل أتباع الدين المسيحي ( ، )3وأن الخليفة
أو المام كما أنه يلي سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ وسائر الشؤون الدنيوية ،فإن له أيضا إمامة
الصلة وإمامة الحج والذن بإقامة الشعائر في المساجد ،والخطبة في الجمع والعياد وغير هذا من
الشؤون الدينية ،باعتبار أن الغاية من إقامته أن يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا (. )4
-------------------------------
( )1أكتفي هنا بذكر المبادئ العامة ،وأحيل بالنسبة للتفاصيل على موضوعات في الموسوعة الفقهية:
إمامة ،حقوق النسان ،الذميون ،المستأمنون ،ونحو ذلك من البحوث الدستورية والقضائية
والجتماعية.
( )2حجة ال البالغة للدهلوي ،112/2 :ط أولى.
( )3قال السيد المسيح عليه السلم( :دع ما لقيصر لقيصر وما ل ل ).
( )4الماوردي وابن خلدون ،المرجعان التيان ،السياسة الشرعية للستاذ خلف :ص 58ومابعدها.
( )8/464
- 41ويعرف هذا الواجب من تعاريف العلماء للخلفة ،ومنها ما يأتي (: )1
قال الدهلوي :الخلفة هي الرياسة العامة في التصدي لقامة الدين بإحياء العلوم الدينية ،وإقامة أركان
السلم ،والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش والفروض للمقاتلة ،وإعطائهم من الفيء،
والقيام بالقضاء ،وإقامة الحدود ،ورفع المظالم ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عن النبي
صلّى ال عليه وسلم (. )2
وقال في البحر الزخار :المامة :رياسة عامة لشخص مخصوص بحكم الشرع ليس فوقها يد (. )3
وقال الماوردي :المامة موضوعة لخلفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا (. )4
وقال السعد التفتازاني في المقاصد :المامة :هي رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلفة عن النبي
صلّى ال عليه وسلم ( . )5وهذا فيما يبدو خير التعاريف.
وزاد فخر الدين الرازي قيدا آخر في التعريف ،فقال :هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد
من الشخاص ،وقال :هو احتراز عن كل المة إذا عزلوا المام لفسقه (. )6
-------------------------------
( )1ر :للتفصيل في الموسوعة الفقهية إمامة ـ المامة الكبرى.
( )2نقلً عن ( إكليل الكرامة في تبيان مقاصد المامة) لصديق حسن خان ص .23
( )3ر :حـ .374/5
( )4الحكام السلطانية :ص .3
( )5يلحظ أن الخلفة والمامة الكبرى وإمارة المؤمنين ألفاظ مترادفة بمعنى واحد (النظريات
السياسية السلمية للدكتور ضياء الدين الريس :ص ،103-92ط الثانية).
( )6المواقف ،345/8 :ط المغربي سنة ،1907الخلفة لرشيد رضا :ص ،10السياسة الشرعية
للشيخ محمد البنا :ص .14
( )8/465
واعترض اليجي على هذا التعريف بأنه قد ينطبق على مقام النبوة ،فهي (رياسة عامة في هذه
المور لشخص واحد) ( )1وقال :الولى أن يقال( :هي خلفة الرسول صلّى ال عليه وسلم في إقامة
الدين وحفظ حوزة الملة ،بحيث يجب اتباعه على كافة المة) (. )2
وذكر ابن خلدون :أن الخلفة هي (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية
والدنيوية الراجعة إليها) ،إذ أن أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الخرة،
فهي في الحقيقة :خلفة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به (. )3
وقال بعض العلماء المتأخرين :الخلفة هي الرياسة العظمى والولية العامة الجامعة القائمة بحراسة
الدين والدنيا (. )4
وخلصة المقال :إن وظيفة الدولة السلمية أو وظيفة الخليفة في الماضي أمران :إقامة الدين
السلمي ،وتنفيذ أحكامه ،والقيام بسياسة الدولة في الحدود التي رسمها السلم .أو بعبارة أخرى:
الوظيفة واحدة :هي إقامة السلم .والسلم كما هو معروف دين ودولة في اصطلح العصر.
-------------------------------
( )1المواقف ،المكان السابق.
( )2الفائدة في هذا التعريف أنه بعد بالمامة عن الناحية الشخصية ،وعاد إلى وجهه نظر الماوردي،
وهو لم يختلف عنه إل في أنه وضع كلمة (إقامة) بدل (حراسة) الدين وربما كانت كلمة (إقامة)
أقوى ،لنها تدل على التنفيذ ل مجرد الحفظ ،إل أنه لم يفصح في مسألة سياسية الدنيا (النظريات
السياسية السلمية ،المرجع السابق :ص .)116
( )3مقدمة ابن خلدون :ص ،191ط التجارية.
( )4التراتيب الدارية للستاذ عبد الحي الكتاني ،2/1 :ط الهلية بالرباط.
( )8/466
( )8/467
وقد قال النبي صلّى ال عليه وسلم «كلكم راع ،وكلكم مسؤول عن رعيته» (. )1
هذه هي أهم وظائف الدولة السلمية ،فالولى هي الوظيفة الدينية والثالثة والخامسة والسادسة هي
الوظيفة الدفاعية ،والثانية والرابعة هي الوظيفة القضائية ،والسابعة والثامنة هي الوظيفة المالية،
والتاسعة والعاشرة هي الوظيفة الدارية.
ويمكن تصنيف هذه الوظائف على نحو آخر وتقسيمها إلى وظيفتين :داخلية وخارجية كما سيبين في
البحثين التاليين:
الوظيفة الولى ـ وظيفة الدولة في الداخل
هذه الوظيفة تقتضيها إما الضرورات الجتماعية بتأمين المرافق العامة للمجتمع ،وإما الغايات
الساسية التي تتوخاها الدولة صاحبة الرسالة.
ويبحث ذلك في المطلبين التيين:
أولً ـ تأمين مصالح المجتمع :
- 43ل تختلف وظيفة الدولة السلمية عن وظائف الدولة الحديثة كما لحظنا فيما يلزم المام من
المور العشرة السابق ذكرها ،والتي يهمنا منها هنا بكلمة إجمالية النظر في أمور الدنيا وتدبيرها،
وهذه الوظائف تشبه حديثا ما تختص به السلطتان التنفيذية والقضائية في الوقت الحاضر:
ومن المعروف أن للسلطة التنفيذية حقوقا سياسية وإدارية وحربية وقضائية (. )2
فالحقوق الدارية ( : )3هي المتعلقة بتنفيذ القوانين وإدارة الدولة ومختلف مرافقها العامة مع ما يتبع
ذلك من حق تعيين وعزل الموظفين .وهذه الحقوق تعرّض فقهاؤنا لها فيما ذكره الماوردي من
وظائف (المام) العشرة ،ول سيما الخيرتان منها .قال الدهلوي ( :إن أمهات المقاصد أمور ،منها:
تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء وإقامة الحدود والحسبة .ومنها :منافع مشتركة ككري
النهار وبناء القناطر ونحو ذلك) (. )4
والحقوق القضائية كحق العفو الخاص والعام ،وكحق التصديق على بعض الحكام ،وهذا من حيث
المبدأ قد ذكره الماوردي في الوظيفة الثانية والرابعة ،إل
-------------------------------
( )1رواه مسلم عن ابن عمر (شرح مسلم للنووي.)213/12 :
( )2موجز القانون الدستوري للستاذين الدكتورين عثمان خليل وسليمان الطماوي :ص 243ط
الرابعة.
( )3المبحث هنا مخصص لوظائف الدولة الداخلية ،لذا فإن الكلم عن الحقوق السياسية والحربية
محله في المبحث الخر المخصص لوظائف الدولة الخارجية.
( )4حجة ال البالغة.132/2 :
( )8/468
أن الفقهاء فصلوا في المر ،فقال الحنفية :ل يجوز شرعا للحاكم بعد رفع المر إليه العفو عن
العقوبات المقدرة (الحدود) ول الشفاعة فيها ( . )1أما العقوبات التعزيرية فيجوز للحاكم العفو عنها
حسبما يرى من المصلحة في حال عفو صاحب الحق عنها ،أو كون الحق فيها للجماعة .وبعبارة
أخرى :يجوز للمام ترك التعزير إذا لم يتعلق به حق لدمي ( ، )2لما روي أن النبي صلّى ال عليه
وسلم قال« :أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إل في الحدود » (. )3
وأما السلطة القضائية فهي التي تفسر القانون وتطبقه على الوقائع التي تعرض عليها في الخصومات.
وهذه هي مهمة القاضي في السلم حيث إنه يقوم بتنفيذ أحكام الشريعة بكل دقة وأمانة ،وقد بلغ
تنظيم القضاء في عهد السلم شأوا رفيعا لم يسبق إليه.
وسأفصّل الكلم هنا في أهم وظائف الدولة الداخلية الدارية والقضائية وهي ما يأتي:
- 1المحافظة على المن والنظام ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
- 44كان من اختصاص رجال الشرطة الدارية في العهد السلمي أمور منها (: )4
-------------------------------
( )1المبسوط ،113/9 :فتح القدير ،197/4 :البدائع ،56/7 :الدر المختار ورد المحتار.189/4 :
( )2الدر المختار.204/3 :
( )3رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي من حديث عائشة رضي ال عنها ،وقال
العقيلي :له طريق وليس فيها شيء يثبت ( التلخيص الحبير :ص ،361جامع الصول،344/4 :
مجمع الزوائد ،282/6 :نيل الوطار.) 135/7 :
( )4عبقرية السلم في أصول الحكم للدكتور منير العجلني :ص ،370ط الثانية.
( )8/469
أ ـ حفظ النظام :وذلك بمنع الفوضى والتجمعات في الطرق والماكن العامة ،والسهر على المواكب،
ومرافقة المير أو صاحب السلطان في تنقلته لظهار هيبته ودفع الناس عنه وتلقي أوامره.
ب ـ حفظ المن :وذلك بمراقبتهم الشرار والدعار واللصوص ،وطلبهم في مظانهم ،وأخذهم على يد
كل من يرتكب عدوانا على غيره ،أو يقدم على عمل من شأنه إثارة الناس وتهييج الفتنة.
قال الماوردي :القاعدة الرابعة من القواعد التي تصلح بها الدنيا :أمن عام تطمئن إليه النفوس ،وتنتشر
فيه الهمم ،ويسكن إليه البريء ،ويأنس به الضعيف ،فليس لخائف راحة ،ول لحاذر طمأنينة ،وقد قال
بعض الحكماء :المن أهنأ عيش ،والعدل أقوى جيش (. )1
- 45ولكن ل يقتصر دور الدولة السلمية على مجرد توفير وضمان المن والطمأنينة للفراد
وصيانة حياتهم وأموالهم ودفع العدوان الداخلي والخارجي عنهم ،والشراف على إطاعة النظمة
والحكام ،وإنما على الدولة والفراد أن يخطوا خطوة إيجابية بالتضامن والتكافل معا ( )2نحو إيجاد
باعث شخصي على احترام حقوق الخرين ،والذعان للنظام المتبع ،وذلك بالقيام بواجب المر
بالمعروف والنهي عن المنكر ليتحقق المقصد الساسي للشريعة :وهو إصلح المجتمع ،أي الحياة
الجتماعية إصلحا جذريا على نحو يستقر فيه المن العام
-------------------------------
( )1أدب الدنيا والدين مع شرحه :ص ،247ط تركيا.
( )2مثّل الرسول صلّى ال عليه وسلم في حديث السفينة هذا الواجب التكافلي بين الفرد والجماعة
بالنهي عن المنكر أروع تمثيل ،فقال -فيما رواه البخاري والترمذي -عن النعمان بن بشير« :مثل
القائم على حدود ال والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة ،فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم
أسفلها ،فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم ،فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا
ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» (جامع
الصول ،340/4 :الترغيب والترهيب.)235/3 :
( )8/470
والعدل بين الناس ،وصيانة الحريات الساسية بدافع ذاتي ومحبة خالصة لمصالح الخرين .وكل فرد
يعتبر مسؤولً بنفسه عن المر بالمعروف ،فإن قصر فهوآثم مخطئ ،ويكفل هذا الصل اليوم ما
يسمى بحرية النقد ،ويقال له في الصطلح الحديث حق الدفاع الشرعي العام (. )1
لكن السلم اعتبر ذلك واجبا ،وبين أن النقد له حدود تقيده في السلم حتى يكون نقدا بناء غير
هدام .قال النووي في المنهاج ( :ومن فروض الكفاية :المر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعلق
الشارح بقوله :يجب على المام أن ينصب محتسبا ( )2يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (. )3
وقال الماوردي :أكد ال زواجره بإنكار المنكرين لها ،فأوجب المر بالمعروف ـ الواجب ـ والنهي
عن المنكر ـ الحرام ( . )4هذا الحكم بالوجوب باتفاق الفقهاء ،إل أن جمهورهم قالوا :هو فرض
كفاية كالجهاد .وقال بعضهم :هو فرض عين على المستطيع كالحج (. )5
-------------------------------
( )1التشريع الجنائي السلمي للستاذ عبد القادر عودة 86/1 :و .491
( )2يميز بين الحسبة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الثاني واجب ديني ،وأما الحسبة فهي
نظام واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم يقوم بالرقابة والضبط والردع ،وله قواعد وأصول
ثابتة في السلم غايته تحقيق واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ر :الحكام السلطانية
للماوردي :ص 231ومابعدها ،ولبي يعلى :ص 268حيث قال كلهما :الحسبة هي أمر بالمعروف
إذا ظهر تركه ،ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله ،الحسبة لبن تيمية :ص ،8إحياء علوم الدين:
،274/2ط العثمانية ـ عبقرية السلم في أصول الحكم :ص 335وما بعدها).
( )3المنهاج مع مغني المحتاج ،211/4 :الحسبة لبن تيمية ،المكان السابق.
( )4أدب الدنيا والدين ،المرجع السابق :ص .156
( )5المحلى ،440/9 :تفسير الكشاف ،340/1 :تفسير ابن كثير ،390/1 :تفسير الرازي،19/3 :
تفسير اللوسي ،21/4 :إحياء علوم الدين ،869/2 :أحكام الجصاص 35/2 :وما بعدها و ،592ط
البهية المصرية ،تفسير الطبري ،38/4 :ط الثانية ،الحلبي ،تفسير القرطبي 165/4 :طبعة مصورة.
( )8/471
- 46والمر بالمعروف :هو الترغيب في كل ما ينبغي قوله،أو فعله طبقا لقواعد السلم .والنهي
عن المنكر :هو الترغيب في ترك ما ينبغي تركه ،أو تغيير ما ينبغي تغييره طبقا لما رسمه السلم (
. )1
والمعروف :هو كل قول أو فعل ينبغي قوله أوفعله طبقا لنصوص الشريعة السلمية ،ومبادئها العامة
وروحها ( ، )2كالتخلق بالخلق الفاضلة والعفو عند المقدرة ،والصلح بين المتخاصمين وإيثار
الخرة على الدنيا ،والحسان إلى الفقراء والمساكين ،وإقامة المعاهد والملجئ والمستشفيات ونصرة
المظلوم والتسوية بين الخصوم في الحكم ،والدعوة إلى الشورى ،والخضوع لرأي الجماعة وتنفيذ
مشيئتها ،وصرف الموال العامة في مصارفها ،إلى غير ذلك (. )3
-------------------------------
( )1السلم وأوضاعنا السياسية للستاذ عودة :ص .71
( )2وبعبارة أخرى :المعروف :هو كل هذه الصول الكلية التي فرضها السلم لصالح المجتمع
السلمي ،وكل ما يُبنى علىها مما تعرفه العقول الراجحة والفطر السليمة (ر :تفسير المنار،27/4 :
التفسير الواضح 30/9 :و 61/10و ،58/14نظام الحكم في السلم للدكتور عبد ال العربي :ص
45و .)61
( )3التشريع الجنائي السلمي.492/1 :
( )8/472
والمنكر :هو كل معصية حرمتها الشريعة سواء أوقعت من مكلف أم غير مكلف ( ، )1فمن رأى
صبيا أو مجنونا يشرب خمرا فعليه أن يمنعه ويريق خمره ،ومن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو يأتي
بهيمة ،فعليه أن يمنع ذلك ( ، )2وعرف الغزالي المنكر :بأنه كل محذور الوقوع في الشرع (. )3
-------------------------------
( )1وبعبارة أخرى :المنكر :هو كل مانهت عنه أصول الشرع الكلية ،وكل ما يقاس عليها في إلحاق
الذى بالمجتمع مما تنكره العقول والفطر السليمة (الدكتور العربي ،المكان السابق).
( )2التشريع الجنائي ،المكان السابق.
( )3إحياء علوم الدين للغزالي ،285/2 :ط العثمانية .قال الغزالي :وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا
(أي محذور الوقوع) لن المنكر أعم من المعصية ،إذ من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه
أن يريق خمره ويمنعه ،وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه.
( )8/473
- 47وقد أوجب ال على الحكومة والفراد القيام بواجب المر والنهي ،لن في ذلك إقامة أمر ال
وهدم كل ما يخالف السلم ،ومن أهم واجبات الدولة ـ كما ذكر الماوردي وغيره ـ إقامة السلم
بالقضاء على الشرك ومظاهره ،والتمكين لدين ال الحنيف،قال ال تعالى{ :ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،وأولئك هم المفلحون} [آل عمران{ ]104/3:الذين
إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ،ول عاقبة
المور} [سورةالحج{ ]41/22:كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بال } [آل عمران{ ]110/3:لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ،كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}
[المائدة.]79-78/5:
وحرض القرآن الكريم أيضا على ضرورة تعاون المؤمنين في القيام بهذا الواجب ،فقال سبحانه:
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة.]71/9:
وأيدت السنة النبوية ذلك المفهوم ،فقال صلّى ال عليه وسلم « :كلكم راع ،وكلكم مسؤول عن رعيته،
فالمام راع ومسؤول عن رعيته» (« ، )1من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه،
فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان» (« )2إن
-------------------------------
( )1رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر (جامع الصول ،444/4 :الفتح الكبير،
مجمع الزوائد.)207/5 :
( )2رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (جامع الصول:
.)228/1
( )8/474
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم ال بعقاب» (« ، )1أفضل الجهاد كله حق
عند سلطان وأمير جائر» (« ، )2والذي نفسي بيده لتأمرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ،أو
ليوشكن ال أن يبعث عليكم عقابا منه ،ثم تدعونه فل يستجيب لكم» (. )3
هذه اليات القرآنية والحاديث النبوية تدل على أن غاية الدولة السلمية ليست سلبية ،وإنما لها غاية
إيجابية أيضا ،أي ليس من مقاصدها المنع من العدوان ،وحفظ حرية الناس فقط ،بل إن هدفها السمى
هو نظام العدالة الجتماعية الذي جاء به كتاب ال ،وغايتها في ذلك النهي عن جميع أنواع المنكرات
التي منعها ال تعالى .قال ابن تيمية :إن صلح المعاش والمعاد في طاعة ال ورسوله ،ول يتم ذلك
إل بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وبه صارت هذه المة خير أمة أخرجت للناس (. )4
- 48ووسائل دفع المنكر كثيرة ،منها التعريف والبيان ،والوعظ والرشاد ،والدعوة والتبليغ،
والتربية والتعليم ،والتعنيف ،والتغيير باليد ،والتهديد بالضرب والقتل ،والستعانة بالغير ،والقوة
السياسية ،والرأي العام والنفوذ
-------------------------------
( )1رواه الترمذي وأبو داود من حديث قيس بن أبي حازم عن أبي بكر (جامع الصول)233/1 :
وذكره ابن تيمية في السياسة الشرعية :ص 75بلفظ ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن
يعمهم ال بعقاب منه).
( )2رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ لبي داود(جامع الصول:
.)235/1
( )3رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان وقال« :حديث حسن غريب» ورواه ابن ماجه من حديث
حديث عمرو بن أبي عمرو (جامع الصول ،المكان السابق ،تخريج أحاديث إحياء علوم الدين
للعراقي 270/2 :وما بعدها).
( )4السياسة الشرعية :ص .73
( )8/475
( )8/476
( )8/477
وقال الماوردي« :والذي يختص بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام ،فالقسم الول :النظر في
تعدي الولة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة ،فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي ل يقف
على ظلمة متظلم ،فيكون لسيرة الولة متصفحا ،وعن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا ،ويكفهم
أن عسفوا ،ويستبدل بهم إن لم ينصفوا» (. )1
- 50إل أنه لم يكن للقضاة في السلم غير النظر في المسائل المدنية (أو نظام الموال) والحوال
الشخصية .أما القضاء الجزائي في الجرائم وإقامة الحدود والنظر في المظالم ،فكان من اختصاص
الخلفاء والمراء إل في عهد معاوية حيث تخلى عن حق النظر في بعض المسائل الجزائية المحدودة
إلى قاض خاص.
ول مانع شرعا من وضع نظام للسلطة القضائية يحدد اختصاصاتها ويكفل تنفيذ الحكام ،ويضمن
لرجالها حريتهم في إقامة العدل بين الناس ( . )2وهو أمر ضروري في كل عصر يقل فيه الورع،
وتكثر الهواء وتزداد الخصومات ،وتراعى فيه تطورات الزمن.
- 51ومن المعلوم أن القرآن والسنة النبوية أكدا على ضرورة التزام العدل المطلق في كل الحكام
العامة والخاصة وفي مختلف أحوال الحكم والدارة ،ل في مجال القضاء فقط،قال ال عز وجل{ :إن
ال يأمر بالعدل} [النحل{ ]90/16:وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء{ ]58/4:وإذا قلتم
فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [النعام{ ]152/6:ول يجرمنكم شنآن قوم على أل تعدلوا ،اعدلوا هوأقرب
للتقوى} [المائدة.]8/5:
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية :ص ،76ولبي يعلى :ص .61
( )2السياسة الشرعية للستاذ خلف :ص 49وما بعدها ،عبقرية السلم في أصول الحكم لمنير
العجلني :ص 440وما بعدها.
( )8/478
وقال النبي صلّى ال عليه وسلم « :أحب الناس إلى ال يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا :إمام عادل،
وأبغض الناس إلى ال تعالى ،وأبعدهم منه مجلسا :إمام جائر» ( ، )1وقال عليه الصلة والسلم
أيضا« :ل تقدس أمة ل يقضى فيها بالحق ،ول يأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُ َتعْتَع» (« )2يوم
من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة» (. )3
وقال الماوردي :اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير جميع أحوالها منتظمة ،وجملة أمورها ملتئمة
ستة أشياء هي قواعدها وأصولها وإن تفرعت ،وهي دين متبع ،وسلطان قاهر ،وعدل شامل ،وأمن
عام ،وخصب دائم ،وأمل فسيح (. )4
جمَاع واجبات الدولة والغاية العامة للحكم السلمي ،حتى مع العداء ،قال
والخلصة :أن العدل هو ِ
الفخر الرازي( :اجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل) ( ، )5واستشهد باليات
المذكورة ونحوها ،والعدل ـ كما أجمع العلماء ـ هو تنفيذ حكم ال .
-------------------------------
( )1رواه الترمذي والطبراني في الوسط من حديث أبي سعيد الخدري (جامع الصول.)447/4 :
( )2رواه الطبراني ورجاله ثقات من حديث معاوية بن أبي سفيان (مجمع الزوائد.)209/5 :
( )3رواه الطبراني في الكبير والوسط من حديث ابن عباس ،قال الهيثمي :وفيه سعد أبو غيلن
الشيباني ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وله ألفاظ أخرى (ر :التلخيص الحبير ،183/4 :مجمع الزوائد:
ص .)193/5
( )4أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين للعلمة أويس وفا الرزنجاني العريف بخان زاده ص
،226وقال في الشرح المذكور :ص ،240العدل مصدر بمعنى العدالة :وهو العتدال والستقامة
والميل إلى الحق .وفي الشريعة عبارة عن الستقامة على طريق الحق بالجتناب عما هو محظور
دينه ،وفي اصطلح الفقهاء :من اجتنب الكبائر ولم يصر على الصغائر وغلب ثوابه ،واجتنب الفعال
الخسيسة كالكل في الطريق والبول.
( )5التفسير الكبير.355/3 :
( )8/479
( )8/480
ويخبر بتقليد الولة وتجهيز الجيوش والحماة ،ويعرض عليه ماورد منهم وتجدد من حدث مل ّم ليعمل
فيه بما يؤمر به:
وأما المارة الخاصة :فهي لتدبير الجيوش وسياسة الرعية والدفاع عن كيان الدولة ،وحماية حدود
البلد.
وأما المارة العامة فهي نوعان :إمارة استكفاء ،وإمارة استيلء .فإمارة الستكفاء تعقد برضا الخليفة
واختياره ،وصاحبها ينظر في سبعة أمور :هي النظر في تدبير الجيش والحكام وتقليد القضاة
والحكام ،وجباية الخراج ،وقبض الصدقات وتقليد العمال ،وحمايةالحريم والدفاع عن البلد ومراعاة
الدين من تغيير أو تبديل ،وإقامة الحدود في حق ال تعالى ،وحقوق الناس خاصة ،والمامة في
الجمع والجماعات ،وتسيير الحجيج.
وتختص دواوين الدولة أو إدارة المصالح بقضاء مصالح الناس الذين يعيشون في ظل سلطان الدولة.
وأول من وضع الديوان في السلم عمر بن الخطاب رضي ال عنه (. )1
- 53ويلحظ أن أهم ما يميز إدارة المرافق العامة في السلم ملزمتها للصبغة الدينية ،فكان الوالي
مسؤولً عن رعاية أركان السلم ،بل إن ولية المراء كانت تسمى (إمارة الصلة والخراج)
أو(المارة على الصلة) ولم يكن القصد من ذلك إمامة الناس في الصلوات فقط ،وإنما كانت تعني
الولية عليهم في جميع المور ،فعندما كان النبي صلّى ال عليه وسلم يرسل شخصا إلى القبائل
ليفقهها في أمور الدين ويعلمها القرآن ،كان يعني بذلك إدارة مصالح القبيلة في كل شؤونها (. )2
-------------------------------
( )1الماوردي :ص ،211-191أبو يعلى :ص .241-221
( )2منير العجلني ،المرجع السابق :ص ،282النظم السلمية للدكتور صبحي الصالح :ص .308
( )8/481
- 4العداد لحماية الدولة والدعوة لتدريب الشعب وتصنيع السلحة :
- 54إن من أول واجبات الدولة ـ كما ذكرت (عند الماوردي وغيره) فيما عرضته ـ هو الدفاع
عن كيان الدولة وتحصين الثغور ،وحماية الرعية ،وإعداد العدة الملئمة والقوة الضاربة وتدريب
المقاتلة ،وتعلم فنون الحرب وكيفية استخدام السلح المناسب للزمان والمكان ،فقد كان النبي صلّى ال
عليه وسلم بوصفه القيادي أو كونه حاكما بالضافة إلى كونه رسولً مبلغا عن ال يقوم بإعداد
المسلمين لخوض معارك القتال ،مما مكنه من تحقيق النصر المؤزر على العداء في غالبية المعارك
التي اشترك فيها أو أعد لها.
وعني المسلمون الوائل من أجل الجهاد بأسلحة الحرب وآلت القتال كالسيوف والرماح والنبال
والدروع والمغافر ونحوها مما كان في الماضي تدربا وتمرسا واقتناء وتعلما.
وكان الخلفاء يحضون الناس على التدرب على مختلف فنون الحرب وآلتها ،ويحصنون الثغور من
أجل الحفاظ على المة ورد العدوان عنها ،كما هومعروف من تاريخ الفتوحات السلمية.
والسلم دستور المسلمين يفرض دائما التزام الحذر من العدو ،والستعداد للقائه وإعداد الجنود
والسلحة الملئمة للرهاب وخوض المعارك ،قال ال تعالى{ :يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم
فانفروا ثُباتٍ أو انفروا جميعا} [النساء{ ]71/4:وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو ال وعدوكم ،وآخرين من دونهم ل تعلمونهم ال يعلمهم} [النفال.]60/8:
( )8/482
فهذه الية أمر إيجابي بالعداد الملئم لكل القوى المادية والمعنوية التي يتحقق بها إرهاب العدو .وقد
أمر الرسول صلّى ال عليه وسلم بالتدرب على فنون القتال واستعمال السلح ،قال سلمة بن الكوع:
«مرّ رسول ال صلّى ال عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون ( )1بالسوق ،فقال :ارموا يا بني
إسماعيل ،فإن أباكم كان راميا ،ارموا وأنا مع بني فلن . )2( »...وعن عقبة بن عامر قال :سمعت
النبي صلّى ال عليه وسلم يقول« :وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ،أل إن القوة الرمي ،أل إن القوة
الرمي» وقال« :من علم الرمي ثم تركه ،فليس منا» (. )3
- 55وأمر عليه الصلة والسلم أيضا بصناعة السلح وحث عليه ،فقال« :إن ال يدخل بالسهم
الواحد ثلثة نفر الجنة :صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير ،والذي يجهز به في سبيل ال ،والذي
يرمي به في سبيل ال . )4( » ..
وشجع الرسول صلّى ال عليه وسلم كل أنواع السباق الحربي والرياضة الحربية فقال« :لسَبْق إل
في خف أو نصل أوحافر» (. )5
جعْل من غير المتسابقين كالمام يجعله للسابق ،وقال جمهور
واتفق الفقهاء على جواز السباق على ُ
الفقهاء :يجوز الجُعل أيضا من إحدى المتسابقين ( . )6واعتبر الفقهاء تعلم مختلف الحرف والصنائع،
ول سيما صناعة السلحة من
-------------------------------
( )1أي يترامون.
( )2رواه أحمد والبخاري عن سلمة بن الكوع (نيل الوطار.)84/8 :
( )3رواهما أحمد ومسلم عن عقبة (نيل الوطار.)85/8 :
( )4رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن عقبة بن عامر (نيل الوطار ،المكان السابق).
( )5رواه أحمد وأصحاب السنن الربعة عن أبي هريرة ولم يذكر فيه ابن ماجه :أو نصل (نيل
الوطار.)77/8 :
( )6البدائع ،206/6 :مغني المحتاج 313/4 :وما بعدها ،المهذب 415/1 :وما بعدها .المغني:
654/8وما بعدها ،نيل الوطار.78/8 :
( )8/483
فروض الكفايات على جماعة المسلمين ( . )1قال ابن تيمية( :ومع أنه يجوز تولية غير الهل
للضرورة إذا كان أصلح الموجود ،فيجب مع ذلك السعي في إصلح الحوال حتى يكمل في الناس ما
ل بد لهم من أمور الوليات والمارات ونحوها ،كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه ،وإن
كان في الحال ل يطلب منه إل ما يقدر عليه؛ وكما يجب الستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل
في وقت سقوطه للعجز ،فإن ما ليتم الواجب إل به فهو واجب) (. )2
فدل ذلك كله على أنه على المسلمين تعلم كل ما يؤدي إلى التقوية والتفوق العسكري بحسب متطلبات
كل زمان ومكان من تسابق في آلت الحرب وإنتاجها ،وتهيئة عُدَد القتال ،وتمرن على استعمالها،
وحمل السلحة بمختلف أنواعها ،وإنشاء الصناعات الحربية ،ومداومة على التدرب ،ونحو ذلك من
كل ما فيه إعداد يرهب العداء ،ويوفر القوة الكافية للمسلمين ،قال صلّى ال عليه وسلم « :المؤمن
القوي خير وأحب إلى ال من المؤمن الضعيف» (. )3
ثانيا ـ اللتزام بخصائص الدولة السلمية وتحقيق أهدافها :
تمهيد :
- 56عرفنا أن الدولة السلمية دولة فكرية ذات ارتباط وثيق بالعدل اللهي ،ويمكن إجمال
خصائصها الولية في ثلثة (. )4
-------------------------------
( )1مغني المحتاج ،213/4 :نهايةا لمحتاج ،194/7 :رد المحتار على الدر المختار ،40/1 :ط
الميرية ،غاية المنتهى ،441/1 :الطرق الحكمية لبن قيم ص ،247 :ط أنصار السنة المحمدية،
الشرح الكبير للدردير.174/2 :
( )2السياسة الشرعية :ص .21
( )3رواه مسلم عن أبي هريرة (شرح مسلم.)215/16 :
( )4نظرية السلم السياسية للمودودي :ص 31و 44وما بعدها.
( )8/484
- 1الحاكم الحقيقي فيها هو ال عز وجل ،والسلطة الحقيقية مختصة بالذات العلية ،وليس لحد من
الناس نصيب من الحاكمية ،وإنما الحاكم هم رعايا ال ينوبون عن المة في تنفيذ شريعة الله التي
ارتضاها للناس دستورا دائما وحكما فصلً كما قال تعالى{ :إن الحكم إل ل } [النعام{ ]57/6:أل له
الحكم وهو أسرع الحاسبين} [النعام.]62/6:
- 2ليس لحد من دون ال وظيفة تشريعية بغير ما شرع ال للمسلمين لقوله سبحانه{ :ومن لم يحكم
بما أنزل ال فأولئك هم الكافرون} [المائدة.]44/5:
- 3وظيفة الدولة تقتصر على تنفيذ شريعة ال ،والحكم بما أنزل ال وتطبيق ما جاء به النبي من
عند ربه ،واستحقاقها الطاعة مرهون بذلك لقوله تعالى { :إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك ال } [النساء.]105/4:
وغاية الدولة السلمية وهدفها السمى هو تحقيق نظام العدالةالجتماعية الذي أمر به ال تعالى ،أي
إقامة نظام النسانية العادل على أساس ما أنزل ،وأبانه رسول ال ،قال عليه السلم« :تركت فيكم
أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما :كتاب ال وسنة رسوله» (. )1
ومجمل القول :إن الدولة السلمية مقيدة بشريعة ال القائمة على العدل والخير والقوة والنظام
والدعوة إلى القرار بعقيدة التوحيد ،واليمان بجميع الرسل والنبياء .قال عليه السلم« :إن أحسن
الحديث كتاب ال ،وأحسن الهدي هدي محمد صلّى ال عليه وسلم ،وشر المور محدثاتها)2( »...
.
والدولة من أجل ذلك تلتزم بالواجبات التية:
-------------------------------
( )1أخرجه مالك في الموطأ بلغا (جامع الصول.)186/1 :
( )2أخرجه البخاري عن ابن مسعود رضي ال عنه (جامع الصول.)197/1 :
( )8/485
( )8/486
كالبنيان يشد بعضه بعضا» (« )1انصر أخاك ظالما أو مظلوما ،قيل :كيف أنصره ظالما؟ قال:
تحجزه عن الظلم ،فإن ذلك نصره» (. )2
ومن زاوية التاريخ نرى أنه قد انتصر السلم في جميع عهوده التي كان المسلمون فيها متحدين
متآخين ،فبدأ الرسول صلّى ال عليه وسلم بالمؤاخاة الفعلية بين المسلمين ( ، )3ثم حقق لهم معنى
الخاء الكبر الدائم فيما بينهم ،وصار العرب بفضل السلم كتلة واحدة بعد أن كانوا في الجاهلية
قبائل متفرقة تمزقهم العداوات والحقاد والحن القديمة{ :وألّف بين قلوبهم ،لو أنفقت ما في الرض
جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ،ولكن ال ألّف بينهم ،إنه عزيز حكيم} [النفال.]63/8:
ولم يتمكن المسلمون من القضاء على أعدائهم بعد النبي عليه السلم إل بوحدة الصف وتوحيد الهدف،
ل في وقعة اليرموك وفي حرب المغول والتتر وانتصار المسلمين في موقعة عين
كما حصل مث ً
جالوت ،وفي معركة حطين وطرد الصليبيين من بلد المشرق وفتح بيت المقدس.
ومن مزايا الخاء والتحاد السلمي أنه يحقق للمسلمين تساميا فوق العتبارات القليمية الضيقة .أما
الدول الحاضرة مثلً فإنها تسعى لتحقيق ما يعرف بالوحدة الوطنية المقيدة داخل نطاق أرضي معين،
وتحت شعار قومية واحدة ،مع وجود فجوات وحزازات داخلية متعددة.
-------------------------------
( )1رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى الشعري (الفتح الكبير).
( )2رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس (الفتح الكبير) وانظر شرح مسلم.138/16 :
( )3مجمع الزوائد.171/8 :
( )8/487
( )8/488
والمال شرع ليجاده السعي في طلب الرزق والمعاملت بين الناس ،وللمحافظة عليه شرع حد
السرقة بقطع اليد ،وتحريم الغش والربا وضمان المتلفات عند أخذ المال بالباطل (. )1
قال الغزالي جامعا المقاصد المذكورة ( إن مقصود الشرع من الخلق خمسة :وهو أن يحفظ عليهم
دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ،فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة فهي مصلحة ،وكل
ما يفوت هذه الصول فهو مفسدة ،ودفعها مصلحة)( . )2
وعلى هذا فإن المحافظة على هذه الحقوق الساسية للفراد تعتبر من الدعائم الولى للحكم السلمي
التي تتضمن قواعد تنظيم الحياة المدنية ،قال الرسول صلّى ال عليه وسلم في خطبته بحجة الوداع:
«أيها الناس ،إن دماءكم وأموالكم ،وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في
بلدكم هذا» (« )3كل المسلم على المسلم حرام :دمه وماله وعرضه» (. )4
- 59وبالمناسبة أبيّن أنه للدولة دور مهم في تحقيق التوازن بين المصالح الفردية والجماعية عند
التعارض في سبيل الحصول على الحقوق المادية أو التوصل إلى المال ،إذ أن السلم راعى مصلحة
الفرد ومصلحة الجماعة ،وأقام توازنا فعالً بين المصلحتين على وجه يحقق التضامن والتكافل
الجتماعي ،فلم يسمح السلم للفرد في الحالت العادية بالطغيان على حساب المجموع أو يتعدى
حدوده ،ول للجماعة أن تسحق مصلحة الفرد لحساب المجتمع.
-------------------------------
( )1ر :الموافقات للشاطبي 8/2 :وما بعدها ،فواتح الرحموت شرح مسلّم الثبوت 63/3 :التقرير
والتحبير ،144/3 :شرح العضد على مختصر المنتهى ،240/2 :روضة الناظر ،414/1 :المدخل
إلى مذهب أحمد :ص ،137شرح السنوي ،63/3 :البهاج شرح المنهاج.38/3 :
( )2المستصفى ،140/1 :ط التجارية ،وانظر مثل ذلك في الحكام للمدي 55-54/3 :أعلم
الموقعين.14/3 :
( )3رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث جابر بن عبد ال ـ أطول الحاديث (ر :شرح مسلم:
،167/11 ،182/8مجمع الزوائد 265/3 :جمع الفوائد 472/1 :وما بعدها).
( )4رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي ال عنه (شرح مسلم ،120/16 :الترغيب والترهيب:
309/3وما بعدها).
( )8/489
كذلك ل تضيع في نظام السلم شخصية الفرد ،ول تهدر مصلحة الجماعة ،لن غاية حياة النسان
حقيقة في السلم هي غاية الجماعة بعينها ،أي تنفيذ القانون اللهي في الدنيا وابتغاء وجهه في
الخرة كما ذكرت .وبهذا يتحقق التوازن المطلوب إسلميا بين الفردية والجماعية رعاية للمصلحتين
معا حتى يقوى الفرد ويدعم بالتالي الجماعة العامة.
ودليل ذلك أن السلم حرم كل ما يؤدي إلى الستغلل والخلل بتوازن الثروات مثل الربا
والحتكار والميسر والغش والرشوة والتغرير والغبن والتدليس ( )1وإنقاص المكيال والميزان واكتناز
الذهب والفضة ونحو ذلك.
وألزم الغنياء بالنفاق على الفقراء ،وأجاز للدولة في مال الغنياء فرض ما يكفي من التكاليف
المالية لتأمين حاجيات الدفاع عن البلد.
ومنع تعدي المالك على الناس وإلحاق الضرر بهم ،إذ ل ضرر ول ضرار في السلم،وقال عليه
الصلة والسلم« :من ضارّ أضر ال به،ومن شاقّ شاق ال عليه» (. )2
وطلب من ولي المر الهتمام بأمر الرعية كما كان يفعل سيدنا عمر بالتنقل
-------------------------------
( )1نيل الوطار ،220 ،212 ،189/5 :سنن أبي داود 270/2 :ط الحلبي.
( )2رواه أبو داود عن أبي صِرْمة (سنن أبي داود.)283/2 :
( )8/490
في المصار والطواف بالليل ( )1ومشاطرة الولة والعمال أموالهم التي جمعوها بدون حق (. )2
وأجيز لولي المر التدخل في الملكيات الخاصة لدفع الضرر أو لجلب مصلحة عامة كما فعل الرسول
صلّى ال عليه وسلم بأمر مالك النخل بقلع نخلة من بستان النصاري ليذائه قائلً له« :أنت مضار»
( ، )3وكما فعل عمر بالسماح لرجل يقال له الضحاك بن خليفة بإمرار خليج من الماء في أرض
محمد بن مسلمة قائلً له« :وال ليمرن به ولو على بطنك» (. )4
- 3عمارة الرض :
- 60إن ال سبحانه استخلف البشر في الرض بقصد عمارة الكون وإنمائه واستغلل كنوزه
وثرواته ،والناس في ذلك شركاء ،والمسلمون ينفذون أمر ال ومقاصده ،قال ال تعالى {هو أنشأكم من
الرض واستعمركم فيها} [هود ]61/11:والستعمار :معناه التمكين والتسلط ،كما هو واضح من قوله
سبحانه{ :ولقد مكنّاكم في الرض ،وجعلنا لكم فيها معايش قليلً ما تشكرون} [العراف.]10/7:
وقوله عز شأنه {هو الذي خلق لكم ما في الرض جميعا} [البقرة{ ]29/2:وسخّر لكم ما في السموات
وما في الرض جميعا منه} [الجاثية{ ]13/45:الذي جعل لكم الرض فراشا والسماء بناء} [البقرة:
{ .]22/2الذي جعل لكم الرض مهدا ،وسلك فيها سُبلً،وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من
نبات شتى} [طه{ ]53/20:هو الذي جعل لكم الرض ذلولً فامشوا في مناكبها ،وكلوا من رزقه،
وإليه النشور} [الملك.]15/67:
واللم في (لكم) تفيد الختصاص على جهة النتفاع للمخاطبين ،أي أن ذلك مختص بكم ،مما يدل
على أن النتفاع بجميع مخلوقات الرض ،وما فيها من خيرات مأذون فيه ،بل مطلوب شرعا.
-------------------------------
( )1سيرة عمر بن الخطاب للستاذ علي الطنطاوي وأخيه ،309 ،201/1 :السياسة الشرعية لبن
تيمية :ص .141
( )2التلخيص الحبير :ص ،254السياسة الشرعية لبن تيمية ص 45وما بعدها.
( )3رواه محمد الباقر عن أبيه علي زين العابدين ،وأخرجه أبو داود عن سمرة بن جندب (سنن أبي
داود ،283/2 :الحكام السلطانية لبي يعلى :ص .)285
( )4الموطأ 218/2 :وما بعدها.
( )8/491
واعتبر الفقهاء تعلم أصول الحراثة والزراعة ونحوها مما تتم به المعايش التي بها قوام الدين والدنيا
من فروض الكفاية ( ، )1لن كل فرد من الفراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه (. )2
وخصصوا بابا معينا للكلم عن (إحياء الموات) أو بتعبيرنا (استصلح الراضي المتروكة) كما
فصلوا في بحث (الزكاة) أحكام المعادن الجامدة والسائلة والركاز ،ووضع المام أبو يوسف كتابه
(الخراج) لهارون الرشيد أبان فيه كيفية استثمار الرض وطرق الري من النهار الكبرى وموارد
بيت المال من خراج ونحوه (. )3
-------------------------------
( )1رد المحتار 40/1 :الطرق الحكمية لبن قيم ص ،247غاية المنتهى ،441/1 :الشرح الكبير
للدردير.174/2 :
( )2سمع النبي صلّى ال عليه وسلم عليا رضي ال عنه يقول :اللهم ل تحوجني إلى أحد من خلقك،
فقال :ل تقل هكذا ،ليس من أحد إل وهو محتاج إلى الناس ،قال :فكيف أقول؟ قال :قل :اللهم
لتحوجني إلى شرار خلقك .قلت :يا رسول ال ومن شر خلقه؟ قال :الذين إذا أعطوا أمنوا ،وإذا
منعوا عابوا .وسمع صلّى ال عليه وسلم أبا بكر رضي ال عنه يقول :اللهم إني أسألك الصبر .فقال:
سألت ال البلء ،فسله العافية .وسمع المام أحمد بن حنبل رجلً يقول :اللهم لتحوجني إلى أحد من
خلقك .فقال :هذا رجل تمنى الموت (مغني المحتاج.)213/4 :
( )3انظر فيه مثلً :ص 102-91و 109وما بعدها.
( )8/492
وحض السلم عموما على الضرب في الرض (أي السفر التجاري) والسعي الحثيث في مناكبها،
والتنقيب عن موارد الرزق في البر والبحر ،والنشاء والتعمير وتوفير أسباب المعيشة والتنافس
المشروع في كسبها ،والتسابق في الخيرات كلها دنيوية أم أخروية؛ لن معنى استخلف ال للبشر
وخلفتهم عن ال في الرض يتطلب إطاعة المستخلف إطاعة كاملة ،ولن السيطرة على الرض
بتمكين ال للبشرتقتضي استغلل كل أوجه الخير فيها من استنبات الزرع ،وإحياء الضرع ،وتشجير
الشجار ،واستخراج المعادن والزيوت ،واستثمار المناجم والمحاجر والمقالع وإقامة المساكن
والمصانع والقرى والمدن حتى يعرف بكل ذلك ونحوه عظمة ال وقدرته لنه هو مانح الحياة لكل
الموجودات.
- 61وذلك على النقيض تماما من التجاه المادي القاتم الذي يوجه الناس نحو الشعور بألوهية
النسان لسيطرته على الطبيعة ومواردها ،ولتقدمه العلمي والتقني والفني ،مما يؤدي إلى عبادة المادة
ويورث النسانية كثيرا من القلقل والضطرابات ،والعداوة والبغضاء والحروب المدمرة.
لذا فإن عمارة الرض واستغللها يتقيدان في السلم بإطاعة ال والهتداء بهديه والمتناع عما نهى
عنه ،والعتقاد بأن الناس جميعا شركاء في منتجات الطبيعة المباحة ،فكان ل بد لهم من التراحم
والتعاون في العمل والنتاج (العطاء) بدون تخصيص ،أو تمييز البشر في الجنس أو اللون أو العنصر
بل والدين أيضا.
ومن ثم فليس في السلم مجال للحقد أو الستئثار أو الستعمار بالمعنى الشائع اليوم ،أو حجر
الخرين عن النتفاع الحر بالرض ،لن البشر هم خلق ال ،وأحب خلق ال إلى ال أنفعهم لعياله (
. )1فل معنى لستغلل جنس من
-------------------------------
( )1قال عليه الصلة والسلم «الخلق كلهم عيال ال ،فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» رواه البزار
والطبراني (مجمع الزوائد ،191/8 :الفتح الكبير) وهو ضعيف.
( )8/493
الجناس ،أو بلد من البلدان لجنس آخر أو بلد آخر ،قال تعالى{ :ومن آياته أن خلقكم من تراب ،ثم إذا
أنتم بشر تنتشرون} [الروم{ . ]20/30:ألم أعهد إليكم يا بني آدم أل تعبدوا الشيطان ،إنه لكم عدو
مبين} [يس.]60/36:
قال الماوردي( :القاعدة الخامسة من القواعد التي تصلح بها الدنيا :خصب دار تتسع النفوس به في
الحوال وتشترك فيه ذوو الكثار والقلل ،لكون السعار رخيصة فيقل في الناس الحسد ،وينتفي
عنهم تباغض العدم ،وتتسع النفوس في التوسع وتكثر المواساة والتواصل ،وذلك من أقوى الدواعي
لصلح الدنيا ،وانتظام أحوالها ،ولن الخصب يؤول إلى الغنى ،والغنى يورث المانة والسخاء) ()1
.
- 4صيانة الداب السلمية :
- 62إن صيانة مقاصد الشريعة الساسية السابق ذكرها تتطلب من الدولة حماية دائمة لها في
المجتمع ،لن للخلق السائدة تأثيرا كبيرا على الشخاص وانعكاسا مباشرا في السلوك والتصرفات،
لذا كان الدين والخلق أمرين متلزمين في السلم ،قال صلّى ال عليه وسلم «الخلق وعاء الدين» (
)2وذلك حتى يتكاتف الدين والخلق في تكوين الشخصية المسلمة المستقيمة ،وإل فسدت الجماعة،
وأصابها الوهن والنحلل ،واختل المن واضطراب النظام.
ومن أصول الخلق السلمية :إباحة كل وسائل الفضيلة والمعروف ،وتحريم كل ذرائع الفساد
والشر .قال ابن تيمية( :إن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو ،كما يدل عليه الكتاب
والسنة ،..والشر والمعصية ينبغي حسم
-------------------------------
( )1أدب الدنيا والدين مع شرحه :ص .249
( )2رواه الحكيم الترمذي عن أنس بن مالك (الفتح الكبير).
( )8/494
مادته ،وسد ذريعته ( )1ودفع ما يفضي إليه ،إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة )2( ..وقال القرافي( :إن
الذريعة هي الوسيلة ،فكما أن وسيلة المحرم محرمة ،فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج (
. )3
وتلزم الدولة السلمية شرعا بالحفاظ على الداب وحماية الخلق ،ومنع المعاصي وردع الفساق
وقمع المنكرات وتأديب العصاة حتى تكون الحياة السلمية نظيفة من الشوائب بعيدة عن المكدرات
وأسباب الفوضى والنحراف .قال الماوردي( :الذي يلزم المام إقامة الحدود لتصان محارم ال تعالى
عن النتهاك ،وتحفظ حقوق عبادة من إتلف واستهلك) ( ، )4وقال علي بن أبي طالب رضي ال
عنه( :ل بد للناس من إمارة برّة كانت أو فاجرة ،فقيل :يا أمير المؤمنين :هذه البرة قد عرفناها ،فما
بال الفاجرة؟ فقال :يقام بها الحدود ،وتأمن بها السبل،ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء) (. )5
- 5إقامة العدالة الجتماعية :
- 63على الدولة أيضا تحقيق التكافل الجتماعي بين الناس ،لنها مسؤولة عن الرعية وعن
ضرورة إقامة العدل ومنع الظلم وغيره ،وتحقيق التعاون على البر والتقوى من استيفاء الحقوق
وإعطاء المستحقين ونحوه ( ، )6قال النبي صلّى ال عليه وسلم « :المؤمن
-------------------------------
( )1الذريعة :الوسيلة.
( )2السياسة الشرعية :ص 68و 140وما بعدها.
( )3الفروق 33/2 :وانظر أيضا أعلم الموقعين لبن قيم.147/3 :
( )4الحكام السلطانية ص 14وقد سبق ذكره.
( )5السياسة الشرعية لبن تيمية :ص 63وما بعدها.
( )6المرجع السابق :ص .47
( )8/495
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (« . )1من ترك كَلّ أو ضَياعا فأنا وليه» (« )2ليس المؤمن
بالذي يشبع وجاره يجوع إلى جنبه» (« )3إن ال فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي
يسع فقراءهم ،ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إل بما يصنع أغنياؤهم ،أل وإن ال يحاسبهم
حسابا شديدا ،ويعذبهم عذابا أليما» (« )4أيما أهل عَرْصة ـ بقعة ـ أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد
برئت منهم ذمة ال تبارك وتعالى» (. )5
- 64ووسائل الدولة لتأمين معيشة رعاياها كثيرة أهمها :تهيئة سبل الكسب المشروع ،ووسائل العمل
الشريف مع تكافؤ الفرص ،وتحقيق الحاجات الساسية من مسكن ومأكل وملبس أولً .ومن عجز عن
العمل فنفقته على أقاربه الموسرين ،فإن لم يوجدوا فعلى بيت المال ،كما هو معروف عند الفقهاء.
قال الماوردي( :القاعدة الثالثة مما يصلح به حال النسان في الدنيا :المادة الكافية؛ لن حاجة النسان
لزمة ل يعرى منها بشر ،قال ال تعالى في النبياء:
-------------------------------
( )1سبق تخريجه.
( )2رواه البخاري ومسلم ورواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب بلفظ «من ترك كل فإلي» ورواه
أحمد والبيهقي بلفظ «ومن ترك كلً فإلى ال ورسوله» (صحيح البخاري 273/8 :جامع الصول
،384/10شرح مسلم ،61/11الفتح الكبير).
كلً :أي ثقلً فيشمل الدين والعيال .والضياع :اسم ما هو في معرض أن يضيع إن لم يتعهد كالذرية
الصغار والزمنى الذين ل يقومون بحاجة أنفسهم.
( )3رواه البيهقي عن ابن عباس وكذا رواه الطبراني وأبو يعلى عنه ورجاله ثقات (مجمع الزوائد:
.)167/8
( )4رواه الطبراني في الوسط والصغير ،وروي على علي بن أبي طالب رضي ال عنه وهو أشبه
(الترغيب والترهيب ،538/1 :مجمع الزوائد.)62/3 :
( )5رواه أحمد والحاكم وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة ،والول مختلف فيه ،والثاني قال
عنه ابن حزم :إنه مجهول ،وقال غيره :معروف ووثقه ابن سعد وروى عنه جماعة واحتج به
النسائي (نيل الوطار.)221/5 :
( )8/496
{وما جعلناهم جسدا ل يأكلون الطعام وماكانوا خالدين } [النبياء .]8/21:فإذا عدم المادة التي هي
قوام نفسه لم تدم له حياة ،ولم تستقم له دنيا ،وإذا تعذر شيء منها عليه لحقه من الوهن في نفسه
والختلل في دنياه بقدر ما تعذر من المادة عليه؛ لن الشيء القائم بغيره يكمل بكماله ،ويختل
باختلله) (. )1
وقد أطلق القرآن للنسان حرية الستمتاع بالطيبات المباحة ،قال تعالى{ :كلوا من طيبات ما رزقناكم}
[طه{ ]81/20:يا أيها الذين آمنوا ل تحرموا طيبات ما أحل ال لكم} [المائدة.]87/5:
ويعبر الفقهاء عن واجب الدولة بتأمين العاجزين عن العمل بدفع ضرر المسلمين إلى حد الكفاية ،قال
النووي( :من فروض الكفاية :دفع ضرر المسلمين ككسوة عار ،وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت
مال) وتساءل شارح المنهاج (هل يكفي سد الضروة ،أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه
النفقة؟ قال :فيه وجهان :قيل :ما يسد الرمق ،والوجه ما يحقق الكفاية) ( . )2وقال ابن حزم:
(فرض على الغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائها ،ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات
بهم ،ول في سائر أموال المسلمين ،فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي ل بد منه ،ومن اللباس في
الشتاء والصيف بمثل ذلك ،وبمسكن يكنّهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة) (. )3
فعلى الحاكم إذن تحقيق العدالة الجتماعية بين الفقراء والغنياء رعاية للمصلحة العامة ،وله أن
يتوصل لهذه الغاية بما يفرضه من تكاليف وضرائب على
-------------------------------
( )1أدب الدنيا والدين مع شرحه :ص .363
( )2المنهاج مع مغني المحتاج.212/4 :
( )3المحلى ،452/6 :م .725
( )8/497
الغنياء بحسب الحاجة بالضافة إلى فريضة الزكاة ( . )1لقوله صلّى ال عليه وسلم « :إن في المال
حقا سوى الزكاة» ( )2وليس هنا مجال التفصيل (. )3
وهذا المبدأ في السلم شامل لكل المواطنين ،سواء أكانوا مسلمين أم ذميين كما أوضح الفقهاء ()4
بدليل أن سيدنا عمر بن الخطاب أسقط الجزية عن شيخ من أهل الذمة ،وفرض له من بيت المال ما
يكفيه ،وقال للخازن( :انظر هذا وضرباءه ،فوال ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ،ثم نخذله عند الهرم) (
. )5وجاء في كتاب خالد بن الوليد لهل الحيرة( :وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ،أو
أصابته آفة من الفات أو كان غنيا فافتقر ،وصار أهل دينه يتصدقون عليه ،طُرحت جزيته ،وعيل
من بيت مال المسلمين وعياله ،ما أقام بدار الهجرة ودار السلم) (. )6
-------------------------------
( )1العتصام للشاطبي ،121/2 :المستصفى للغزالي 142-140/1 :ط التجارية ،تفسير القرطبي:
.232/2
( )2رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس ،وقال :إسناده ليس بذاك ،وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه
قال( :في مالك حق سوى الزكاة) ثم قال :وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم كلهم يقول:
في المال حق سوى الزكاة ،ثم ذكر أنه ل خلف في هذا إل عن الضحاك بن مزاحم وهو ليس بحجة
(التلخيص الحبير :ص ،177أحكام القرآن للجصاص ،153/1 :سنن الترمذي باب الزكاة 21/3 :ط
حمص).
( )3ر :زكاة ،ضريبة.
( )4مغني المحتاج ،المكان السابق ،نهاية المحتاج.194/7 :
( )5منتخب كنز العمال من مسند أحمد ، 309/2 :الخراج لبي يوسف :ص .126
( )6الخراج :ص .144
( )8/498
( )8/499
وسيلة القادر عليه لتحصيل الرزق ،وقد حث القرآن عليه في قوله تعالى{ :فامشوا في مناكبها وكلوا
من رزقه وإليه النشور} [الملك ]15/67:وطالبت السنة بإتقان العمال« :إن ال تعالى يحب إذا عمل
أحدكم عملً أن يتقنه» ( )1وبضرورة الحفاظ على الكرامة الشخصية وعزة النفس ،جاء في
الحاديث« :لن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب ،فيبيع ،فيأكل ،ويتصدق خير له من أن
يسأل الناس» ( « )2اطلبوا الحوائج بعزة النفس ،فإن المور تجري بالمقادير» (« )3اليد العليا خير
من اليد السفلى» (« )4ليس الغنى عن كثرة العرض ،ولكن الغنى غنى النفس» (« )5ل تحل الصدقة
لغني ول لذي مِرّة سوي» (. )6
وأما المقصود من الزهد المرغب فيه في السلم ،فمعناه العمل اليجابي لنفع الخرين ولو بترك
السعادة الشخصية أو هو القتصار على السبل المشروعة المتميزة بالقناعة عند اصطدام المساعي
وتنازع المصالح ،قال شراح حديث« :ازهد في الدنيا يحبك ال ،وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»
( : )7الزهد :هو العراض عن الشيء لستصغاره وارتفاع الهمة عنه لحتقاره ،لقوله تعالى{ :قل
متاع
-------------------------------
( )1رواه البيهقي في شعب اليمان عن عائشة ،قال السيوطي :حديث ضعيف (فيض القدير شرح
الجامع الصغير).
( )2رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب والترهيب.)592/1 :
( )3ذكره تمام في فوائده وابن عساكر في تاريخه عن عبد ال بن بسر (فيض القدير شرح الجامع
الصغير والفتح الكبير).
( )4رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر( :شرح مسلم ،124/7 :الترغيب
والترهيب.)585/1 :
( )5رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة (الترغيب المرجع السابق:
.)589/1
( )6رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه ابن لهيعة وفيه كلم (مجمع الزوائد.)91/3 :
( )7حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي
(الربعين النووية).
( )8/500
الدنيا قليل والخرة خير لمن اتقى} [النساء ]77/4:قيل للزهري :ما الزهد؟ قال أما إنه ليس تشعيث
اللّمة ول قشف الهيئة ،ولكنه صرف النفس عن الشهوة .وقال ابن السّماك :الزاهد :هو الذي إذا
أصاب الدنيا لم يفرح ،وإذا أصابته لم يحزن ،يضحك في المل ،ويبكي في الخل ،أي عند ذكر ال في
الخلوة (. )1
- 67ودور الدولة في تحقيق الحياة الطيبة يظهر في محاولتها توفير الرفاه والرخاء القتصادي
بتشجيع وسائل النتاج من صناعة وتجارة وزراعة التي هي أفضل المكاسب في السلم ،كما أنها
تفتح مجالت المل والعمل لستنزاف البطالة ،وتوسع دائرة التعليم والتثقيف الديني ـ الخلقي،
وتوفر للمواطنين الثقة والمن والطمأنينة بردع العدو وتأديب العصاة ،وتحد من سلطان الطماع
الطاغية وتحارب الوسائل غير المشروعة ،وتزيل كل منافذ الفتنة والغراء والنحراف ،وتقمع كل
طرق الشر والفساد ،كما يتجلى ذلك في سيرة الخلفاء الراشدين وعهود القوة والزدهار في الدول
السلمية المتتابعة.
- 7تحقيق المجتمع الخير (:)Welfare state
- 68إن من أهم وظائف الدولة الخيرة الدعوة إلى الخير ،والعمل اليجابي على تحقيق مقتضيات
الخير للمجتمع ،وتحقيق الفلح له في كل آفاق الحياة .وهذا ما يحاول الفقه السياسي في الغرب أن
يصل إليه بما يسميه( دولة الفاهية ) قال تعالى{ :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} [آل عمران:
{ ]104/3فاستبقوا الخيرات} [البقرة{ ]148/2:ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في
الخيرات} [آل عمران{ ]114/3:إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا
-------------------------------
( )1تذكرة الدعاة للبهي الخولي :ص .145
( )8/501
خاشعين} [النبياء .]90/21:ونطاق العمل اليجابي في سبيل خير الرعية ل حدود له ،فهو يشمل مثلً
حماية الرعية من كل عدوان في الداخل والخارج ،والعمل على بث العمران في أرجاء الدولة بكل ما
يتطلبه من مرافق ،وتنمية عناصر الثروة القومية في سبيل القضاء على الفقر الذي يبغضه السلم،
وتأهيل الناس كافة للعمل والنتاج ،تحقيقا لتكافؤ الفرص في الكسب ،ثم بعد ذلك كفالة كل عاجز عن
الكسب صونا لدميته وكرامته النسانية ،والعمل على بث مصادر الثروة في ثنايا المجتمع حتى ل
تنحصر في أيدي فئة قليلة تتداولها فيما بينها ،كما جاء في التوجيه القرآني{ :كيل يكون دولة بين
الغنياء منكم} [الحشر ،]7/59:وغير ذلك من كل ما دعا إليه القرآن من وجوه الخير التي تتناسب مع
الحتياجات المتطورة للبشرية (. )1
- 8العمل المستمر على تحقيق الفضل في جميع نواحي الحياة البشرية :
- 69ل يقتصر دور الدولة المسلمة على إصلح النواحي القتصادية أو الهتمام بمطالب الحياة
المادية فحسب كما تقول الشيوعية ،وإنما مهمتها شاملة لكل جوانب الحياة النسانية الفكرية والنفسية
والسياسية والخلقية ،لن السلم دين الفطرة ( )2والفطرة البشرية تتطلب العناية بجميع هذه النواحي
متضامنة مع بعضها كي تزدهر الحضارة ،وتحفظ الحياة الكريمة ويزداد العمران وترتاح النفوس
بتقوية العنصر الخلقي الذي يحمي القيم القتصادية وغيرها ،لن الحقائق والقيم الذاتية في تقدير
السلم ليست أشياء منفصلة عن المظاهر المادية للحياة النسانية،
-------------------------------
( )1انظر في ذلك نظام الحكم في السلم للدكتور محمد عبد ال العربي :ص .60
( )2عن أبي هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :ما من مولود إل يولد
على الفطرة ،ثم يقول :اقرؤوا { فطرة ال التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق ال ،ذلك الدين القيم}
رواه مسلم والموطأ والترمذي وأبو داود (جامع الصول.)178/1 :
( )8/502
ولن المقصد من رسالة السلم هوإيجاد المجتمع الصالح الذي ل يكتفي بتوفير وسائل العيش أورفع
مستوى المعيشة فقط ،وإنما ل بد للدولة من العمل على ترقية الوجدان والحياة الخلقية لتقويم سلوك
الفراد ،وتسديد نشاطهم العملي الذي يبوئهم خيري الدنيا والخرة مع الشعور بالرتياح والطمأنينة ل
بالقهر والقسر.
وعلى الدولة ـ باعتبارها حكومة القرآن ـ أن تسعى دائما لتحقيق الفضل والصلح لمواطنيها في
مختلف جوانب الحياة النسانية المادية والدبية ،فتقيم أركان السلم وتنشر المن وتدفع خطر
العداء ،وتسارع إلى إحراز التفوق في كل مجالت التقدم والمدنية والسبق العلمي وإشاعة الرخاء
القتصادي ،وتطوير النتاج والصناعة وأساليب الحياة الحديثة حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي يريد
السلم إقامته من الناحيتين الدينية والدنيوية ،قال ال عز وجل {وابتغ فيماآتاك ال الدار الخرة ول
تنس نصيبك من الدنيا ،وأحسن كما أحسن ال إليك ،ول تبغ الفساد في الرض ،إن ال ل يحب
المفسدين} [القصص.]77/28:
وجاء في الثر« :اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ،واعمل لخرتك كأنك تموت غدا» (. )1
-------------------------------
( )1فيض القدير.12/2 :
( )8/503
( )8/504
وفي آخر مراحل حياته عليه الصلة والسلم أشهد ربه في حجة الوداع وغيرها على قيامه بواجب
التبليغ ،وأمر أن يبلّغ الشاهد الغائب.
وبما أن الرسول صلّى ال عليه وسلم هو السوة الحسنة ،فكان لزاما على المسلمين حكاما ورعية
القيام بتبليغ الدعوة السلمية وإعداد الدعاة لها سواء في داخل إقليم الدولة أم في خارجه ،وذلك
بتخصيص فئة متعلمة تدرس الشريعة ،وتتمثلها ،وتصبح القدوة الصالحة ثم تتعلم اللغات الجنبية ،ثم
ترسل إلى سائر البلد للدعوة في سبيل ال ( )1مع دعمها بكتب ومنشورات مبسطة عن السلم في
عقائده وعباداته ،وأحواله المدنية والشخصية ،وقانونه الجزائي والدولي ،وهذا من فروض الكفاية على
المة السلمية ،كما أرشد القرآن إليه في قوله عز شأنه{ :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير،
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [آل عمران ]104/3:والخير :هو السلم وشرائعه التي
شرعها ال لعباده{ ،فلول نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ،ولينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة.]122/9:
قال النووي( :ومن فروض الكفاية :القيام بإقامة الحجج وحل المشكلت في الدين ،وبعلوم الشرع
كتفسير وحديث ،والفروع ـ الفقهية ـ بحيث يصلح للقضاء) ( . )2فإذا لم تقم جماعة بهذا الواجب
الكفائي أثم كل المسلمين كما هو معروف ،لن المخاطب باليات القرآنية السابقة هم كل المسلمين،
فهم المكلفون أن يختاروا منهم طائفة تقوم بهذه الفريضة ،فهنا فريضتان :إحداهما على جميع
-------------------------------
( )1سأتكلم عن واجب نشر الدعوة خارج الدولة في المبحث ا لثاني.
( )2المنهاج مع مغني المحتاج 210/4 :وانظر مثل ذلك في غاية المنتهى عند الحنابلة441/1 :
والشرح الكبير للدردير عند المالكية ،174/2 :تفسير القرطبي ،165/4 :نسخة مصورة عن طبعة
دار الكتب ،تفسير الطبري ،38/4 :ط الثانية الحلبي.
( )8/505
المسلمين الذين تمثلهم دولتهم ،والثانية على الجماعة التي يختارونها للدعوة .وقال الماوردي ـ فيما
سبق ذكره ـ :إن أول واجبات الخليفة حفظ الدين والدعوة إليه ( . )1وقال الحنفية ( :إن الجهاد الذي
هو فرض كفاية هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول) (. )2
- 71والمقصود من الدعوة في العرف :هو حث الناس على الخير والهدى ،والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ليفوز بسعادة الدنيا والخرة ،وهي ثلثة أنواع:
النوع الول :دعوة المة المحمدية جميع المم إلى السلم وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى
ودين الحق .وهذا واجب هذه المة بمقتضى جعلها خير أمة أخرجت للناس ،وبحكم وصف المؤمنين
الذين أذن لهم في القتال في قوله تعالى{ :الذين إن مكّناهم في الرض أقاموا الصلة وآتوا الزكاة
وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج.]41/22:
النوع الثاني :دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير ،لقوله سبحانه{ :فلول نفَر من كل فرقة منهم
طائفة[ }..التوبة ]122/9:الية.
النوع الثالث :ما يكون بين الفراد بعضهم مع بعض بالدللة على الخير والترغيب فيه والنهي عن
الشر والتحذير منه ( ، )3لقوله عز وجل{ :والعصر إن النسان لفي خسر ،إل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر{ ]3-1/103:ومن أحسن قولً ممن دعا إلى
ال } [فصلت ]33/41:أي إلى دين ال .
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي ص 14ولبي يعلى ص .11
( )2العناية بهامش شرح فتح القدير 279/4 :وانظر أحكام القرآن للجصاص 592 ،35/2 :ط البهية
المصرية.
( )3راجع تفسير المنار 27/4 :وما بعدها ،هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ :ص 17ط العثمانية
المصرية.
( )8/506
- 72وكيفية إعداد الدولة الدعاة تعرف مما ذكره العلماء عن أوصاف وآداب ووظائف المرشد
المعلم والمحتسب المر بالمعروف والناهي عن المنكر ،وهي خمس عشرة صفة (. )1
- 1العلم بالقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح .وبالقدر الكافي من الحكام
الشرعية ،وأسرار التشريع مع الصدق في نشرها.
- 2العمل بعلمه ،فل يكذب فعله قوله ،ول يخالف ظاهره باطنه ،بل ل يأمر بالشيء ما لم يكن هو
أول عامل به.
- 3الحلم وسعة الصدر ،فكمال العلم بالحلم ،ولين الكلم مفتاح القلوب.
- 4الشجاعة ،حتى ل يهاب أحد في الجهر بالحق ،ول تأخذه في نصرة ال لومة لئم .
- 5العفة واليأس مما في أيدي الناس.
- 6القناعة في الدنيا والرضا منها باليسير (. )2
- 7قوة البيان وفصاحة اللسان وإل كان النفع بعيدا.
- 8اللمام بالتي:
-------------------------------
( )1تفسير الكشاف ، 340/1 :تفسير المنار ،48-26/4 :الحياء للغزالي 49/1 :وما بعدها و 274/2
وما بعدها ،أدب الدنيا والدين ص ،119-108منهاج القاصدين :ص 15وما بعدها و 130وما
بعدها ،هداية المرشدين للشيخ علي محفوظ :ص ،104-12تذكرة الدعاة للخولي :ص 35وما بعدها
و .249
( )2من الصعب في وقتنا تحقيق الزهد بالدنيا بالمعنى الشائع لننا محاطون بزينة الدنيا ومغرياتها من
المال والنساء والجاه والبناء وغير ذلك ،وقد قرر الرسول صلّى ال عليه وسلم هذه الحقيقة الواقعية
فقال« :إن الدنيا حلوة خضرة ،وإن ال مستخلفكم فيها ،فينظر كيف تعملون فيها» (تذكرة الدعاة :ص
.)148
( )8/507
العلم بحال من توجه إليهم الدعوة في شؤونهم واستعدادهم وطبائع بلدهم وأخلقهم أو ما يعبر عنه
في العرف بحالتهم الجتماعية ،ومعرفة التاريخ العام ،وعلم النفس ،وعلم تقويم البلدان ،وعلم
الخلق ،ومعرفة الملل والنحل ومذاهب المم ،والعلم بلغات المم التي تراد دعوتها وعلى الجتماع
الذي يبحث فيه عن أحوال المم في بداوتها وحضارتها وأسباب ضعفها وقوتها على نحو ما في
مقدمة ابن خلدون.
- 9قوة الثقة بال في وعده وكمال الرجاء في حصول الفائدة ،مهما طال به العلج وعظمت
المصاعب.
- 10التواضع ومجانبة العجب.
- 11أن ل يبخل بتعليم ،ول يمتنع من إفادة ما يعلم ،فإن البخل به ظلم ولؤم ،والمنع منه حسد وإثم.
- 12الوقار والرزانة بالمساك عن فضول الكلم ،وعن كثرة الشارة والحركة فيما يستغنى عن
الحركة فيه ،والصغاء عند الستفهام ،والتوقف عند الجواب ،وعدم التسرع والمبادرة في جميع
المور.
- 13أن يكون كبير الهمة عالي النفس يستصغر ما دون النهاية من معالي المور.
- 14الصبر في مقام الدعوة إلى ال تعالى ،فهو وصف النبياء والمرسلين صلوات ال وسلمه
عليهم أجمعين.
- 15التقوى والمانة والتحرز بطاعة ال تعالى عن مساخطه،ويعبر عن ذلك في العرف :العدالة
والقدوة الحسنة.
( )8/508
( )8/509
المطلب الول ـ وظيفة تقوم على اعتبار ضرورات الحياة الدولية :
74ـ ل تصادم بين الفكرة السلمية المتطلعة إلى المتداد أو النتشار وبين المبادئ الدولية القائمة
الن على أساس العتراف بحرية الدولة في تصرفاتها المشروعة ،ومساواتها بين الدول في المبادئ
الخلقية أو السلمية ،وعدم خضوعها للقضاء الجنبي والدفاع عن نفسها للحفاظ على وجودها
وحماية أراضيها وشعبها من أي خطر يتهددها.
وتتجلى وظائف الدولة المسلمة في هذا المضمار في النواحي التية:
- 1الدفاع عن أراضي السلم وتحرير شعوبه وحماية أقلياته :
- 75هذا حق طبيعي ومنطقي لكل دولة من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها ،لما لها من حق
الحياة والبقاء كالشخاص العاديين تماما ،ولما يفرضه الواجب من حماية التباع والرعايا ولو في
خارج إقليم الدولة.
ووسيلة السلم في حماية وجوده وأهله هو الجهاد الذي يستخدم من أجل أغراض ضرورية تفرضها
الحداث وأهمها. )1( :
أ ـ دفع العدوان عن الدين والنفس والعرض والمال أو الدولة وأراضي الوطن أي دار السلم ،قال
تعالى {وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم} [البقرة{ ، ]190/2:وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة ويكون
الدين كله ل ،فإن انتهوا فإن ال بما يعملون بصير} [النفال{ ]39/8:وقاتلوهم حتى ل تكون فتنة،
ويكون الدين ل ،فإن انتهوا فل عدوان إل على الظالمين} [البقرة { ، ]193/2:أذن للذين يقاتَلون بأنهم
ظُلموا ،وإن ال على نصرهم لقدير} [الحج.]39/22:
الجهاد حق وعدل وواجب مقدس ،ومن تركه أو تخلف عن واجبه في الدفاع عن بلده وأهله وإعلء
كلمة ال (أي كلمة السلم والمسلمين) فهو منافق
-------------------------------
( )1ر :للتفصيل والمقارنة في الموسوعة الفقهية :جهاد.
( )8/510
في شرعة القرآن ،قال تعالى { وليعلم الذين نافقوا ،وقيل لهم :تعالوا قاتلوا في سبيل ال ،أو ادفعوا (
، )1قالوا :لو نعلم قتالً لتبعناكم ،هم للكفر يومئذ أقرب منهم لليمان ،يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم وال أعلم بما يكتمون} [آل عمران.]167/3:
ومن واجبات الدولة كما أبنت سابقا العداد دائما للجهاد وعدم التقاعس عنه إذا وجدت مقتضياته،
وتهيأت إمكاناته ،وقد ذكرت سابقا عبارة الماوردي وغيره في هذا الشأن حيث جعل من واجبات
المام تحصين الثغور وحماية البلد ،وجهاد العداء بعد الدعوة إلى السلم.
ب ـ نصرة المظلوم فردا أو جماعة من المؤمنين ،أو إغاثة المستضعفين المسلمين ،أو حماية
القليات في بلد أخرى من العسف وانتقاص الحقوق ،وذلك عند القدرة والمكان ،قال ال عز وجل:
{وما لكم ل تقاتلون في سبيل ال ،والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا
أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء{ ]75/4:وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إل على
قوم بينكم وبينهم ميثاق} [النفال.]8/72:
- 2دعم التعاون بين أقاليم الدولة السلمية :
- 76يتطلب الواجب السابق بالدفاع عن السلم والمسلمين ضرورة التعاون البنّاء بين جميع بلد
السلم ،كما كان عليه حال المة السلمية في عهد الرسول صلّى ال عليه وسلم وما تله من عهود
موحدة ،وذلك في مختلف المجالت السياسية والعسكريةوالقتصادية والجتماعية والثقافية ،إذ إن
روابط الخاء والوحدة في عقيدة اليمان يتمخض عنها الحب والمساواة والتعاون على الخير في
السراء والضراء.
وبهذا وحده يتحقق للمسلمين العزة والمنعة والتفوق والسيادة ،وترتد آثاره الحميدة على البلد بالخير
والسعادة وتحقيق الماني والمال المرجوة وتوفير سبل الحياة الحرة الكريمة لكل بلد .وبغير ذلك
تسوء الحوال وتؤول الوضاع إلى الضياع والوهن والتخلف الذي نعاني الن من ويلته بسبب
التقاطع والتدابر والتمزق والتفرق.
ومن المعروف أن السلم يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ،وأن
الواصر القائمة بينهم أعظم حافز على التضامن والتكاتف ،قال تعالى{ :وتعاونوا على البر والتقوى،
ول تعاونوا على الثم والعدوان} [المائدة{ ]2/5:واعتصموا بحبل ال جميعا ول تفرقوا} [آل عمران:
{ ]103/3ولتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [النفال. ]46/8:
-------------------------------
( )1أي دافعو ا عن النفس والهل والوطن (ر :التفاسير).
( )8/511
فبالتعاون يتمكن المسلمون في العالم من تجاوز الحدود والقيود الضيقة والعصبيات المغلقة المورثة
للمنازعات والخلفات الجزئية؛ لن رابطة الخوة القائمة بينهم أقوى وأصلب من العلقات الجنسية
( التجنس ) ومضايقات العنصرية ،ولن مصيرهم وأهدافهم في الحقيقة واحد.
- 77وهذا في الدرجة الولى من وظائف الدولة ،لن الوامر السابقة في القرآن الموجبة للتعاون
تخاطب ولة المر والفراد على حد سواء ( ، )1وما يتحقق عن طريق الدولة أهم وألزم لتحصيل
المقاصد وتأمين المصالح.
ومن صور التعاون في المجالت التي ذكرناها قيام أجزاء البلد بتوحيد الجهد لنشاء المشاريع
الصناعية والنتاجية والزراعية والمساهمة في تثقيف الجيل ومحو الجهل والمية ،وتنسيق الخطط
الفنية والعلمية والسياسية إزاء مشكلة من المشكلت التي تمس مصالح المسلمين.
وفي أوقات الشدة والمحن تتعاون البلد في رد العدوان ودفع الخطار ،وتسوية المنازعات وترميم
الحداث والتغلب على الكوارث الطبيعية والقتصادية ونحو ذلك ،ففي ماضي المسلمين كان تجهيز
الجيوش وإمداد المقاتلة ،يتم بالتعاون بين أقطار السلم ،كما كان توزيع الغنائم شاملً للمسلمين.
-------------------------------
( )1هذا هو المفهوم من عموم الخطاب فيها ،فآية المائدة مثلً صدرت بقوله سبحانه{ :ول يجرمنكم
شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام} [المائدة ]2/5:وذلك موجه لرسول ال صلّى ال عليه وسلم
القائد وللمؤمنين ،ثم قال سبحانه{ :وتعاونوا على البر[ }...المائدة ]2/5:أي أن ال يأمر المؤمنين
ولسيما أصحاب السلطة بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر ،وترك المنكرات وهو التقوى،
وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم (تفسير ابن كثير.)6/2 :
( )8/512
( )8/513
ويؤكد القرآن أن هذه الحقائق في حال النزاع ،فينهى عن العدوان في قوله تعالى{ :وقاتلوا في سبيل
ال الذين يقاتلونكم ،ولتعتدوا إن ال ل يحب المعتدين} [البقرة ]190/2:وفي هذا إشارة إلى تحريم
العدوان والقتصار على حدود الضرورة بالدفاع عن النفس (. )1
وفي السنة النبوية تحديد واضح لغاية القتال ،ومطالبة بالحرص على السلم ،قال النبي صلّى ال عليه
وسلم « :أيها الناس ،ل تتمنوا لقاء العدو ،وسلوا ال العافية ،فإذا لقيتموهم فاصبروا ،واعلموا أن
الجنة تحت ظلل السيوف» (« . )2تألفوا الناس ،وتأنوا بهم ول تغيروا عليهم حتى تدعوهم ،فما على
الرض من أهل بيت من مدر
-------------------------------
( )1ر :للتفصيل في الموسوعة الفقهية جهاد.
( )2رواه البخاري ومسلم وأحمد (شرح مسلم ،46/12 :جامع الصول ،185/3 :منتخب كنز العمال
من مسند أحمد.)323/2 :
( )8/514
ول وبر إل أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم ،وتقتلوا رجالهم» ()1
«الخلق كلهم عيال ال ،فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» (. )2
- 80وعلى الدولة المسلمة التقيد بهذه التعاليم لحماية ودعم مبدأ السلم العالمي ،سواء أكان التهديد
قريبا من حدودها أم بعيدا عن أراضيها ،لن انفجار الحرب ـ ل سيما في عصرنا الحاضر ـ
يعرّض العالم كله إلى هزات عنيفة ،ويبعد أن تكون دولة فيه بمأمن من لظاها وآثامها ،ولن السلم
يكره إراقة الدماء في أي مكان وبالنسبة لكل إنسان إل للضرورة كما يبين من كلم فقهائنا في الواجب
التي عند بحث حماية الكرامة النسانية.
- 4دعم مبادئ كرامة النسان والعدالة والحرية والمساواة في العالم أجمع :
- 81السلم ـ كما هو معروف ـ نظام عام للبشرية في أصل رسالته السماوية حتى تتحقق به
الحياة الطيبة ،وتتوافر للناس سعادة الدنيا والخرة ،لذا فإنه يقيم نظامه الجتماعي على أسس ثابتة
أهمها ما يأتي:
أ ـ حماية الكرامة النسانية :أعلن السلم مبدأ كرامة النسان ،فهو أكرم مخلوق على الرض،
والكرامة حق طبيعي لكل إنسان ،فل يجوز إهدار كرامته ،أو إباحة دمه وشرفه سواء أكان محسنا أم
مسيئا ،مسلما أم غيرمسلم ،لن العقاب إصلح وزجر ،ل تنكيل وإهانة ،ول يحل شرعا السب والشتم
والستهزاء
-------------------------------
( )1شرح السير الكبير.59/1 :
( )2رواه البزار والطبراني في الكبير والوسط من حديث ابن مسعود (مجمع الزوائد )191/8وقد
سبق تخريجه وفيه عمير ،وهو أبو هارون القرشي متروك.
( )8/515
وقذف العراض ،كما ل يجوز التمثيل ( )1بأحد ولو من العداء أثناء الحرب أو بعد انتهائها ،ويحرم
التجويع والظماء والنهب والسلب ،لقوله تعالى{ :ولقد كرّمنا بني آدم ،وحملناهم في البر والبحر،
ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلً} [السراء.]70/17:
وقال الرسول صلّى ال عليه وسلم « :إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» (« )2المؤمن
أعظم حرمة من الكعبة» (« )3ما شيء أكرم على ال يوم القيامة من ابن آدم» (. )4
ولقد قرر فقهاؤنا أن الصل في الناس حقن الدماء ،فقال الحنفية( :الدمي معصوم ليتمكن من حمل
أعباء التكاليف وإباحة القتل عارض سمح به لدفع شره) وقال مالك( :ل ينبغي لمسلم أن يهريق دمه
إل في حق ،ول يهريق دما إل بحق) ( . )5وقال الحنابلة( :إن الصل في الدماء الحظر إل بيقين
الباحة) ( )6وقال الشافعية (( : )7قتل الدمي عمدا بغير حق أكبر الكبائر بعد الكفر ،وأما قتل الكفار
فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد).
-------------------------------
( )1قال عليه الصلة والسلم «ولتمثلوا» رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث بريدة (جامع
الصول.)201/3 :
( )2سبق تخريجه (مجمع الزوائد.)284/6 :
( )3رواه ابن ماجه بسند لين عن ابن عمر ،ولبن أبي شيبة عن ابن عباس أن النبي صلّى ال عليه
وسلم نظر إلى الكعبة فقال« :ما أعظمك وأعظم حرمتك ،والمسلم أعظم حرمة منك ،قد حرم ال دمه
وماله وعرضه ،وأن يظن به ظن السوء» (كشف الخفا للعجلوني).
( )4رواه الطبراني من حديث عبد ال بن عمرو ،وهو حديث غريب جدا (تفسير ابن كثير.)52/3 :
( )5اختلف الفقهاء للطبري ـ تحقيق شخت :ص .195
( )6القواعد لبن رجب :ص .338
( )7مغني المحتاج 2/4 :و 210قال صلّى ال عليه وسلم « :لقتل مؤمن أعظم عند ال من زوال
الدنيا وما فيها» رواه أبو داود بإسناد صحيح.
( )8/516
( )8/517
والنقد البناء ليس حقا فقط ،وإنما هو واجب ديني أحيانا ل سيما عند المساس بالمصالح العامة
والخلق ،قال صلّى ال عليه وسلم « :الدين النصيحة .قلنا :لمن؟ قال:ل ولكتابه ولرسوله ولئمة
المسلمين وعامتهم» ( )1واعتبر المر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول السلم كما تقدم،
وأن الشورى أساس الحكم والدارة السياسية والحربية ،وأن الجتهاد في أمور الدنيا حق مطلق ،وأما
في القضايا الدينية فهو مقيد في حدود القرآن والسنة الصحيحة ،يعني أن للفرد الحرية في المور
الدنيوية بإبداء ما شاء من الراء فيها ،وأما المور ذات الصبغة الدينية (أو الشرعية) فلكل مجتهد ـ
في غير موضع النص ـ أن يجتهد برأيه في حدود أصول الدين الكلية.
-------------------------------
( )1رواه مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري ( الربعين النووية ).
( )8/518
د ـ المساواة الكاملة بين الناس :
- 84إن مبدأ المساواة في السلم عام شامل دون قيود ول استثناءات ،وأساس في نظام الحكم
السلمي ،وكان ذلك المبدأ جديدا بالنسبة للعرب ،بل وكان يتعارض مع الشعور القبلي السائد (، )1
فقررت الشريعة المساواة التامة في الحقوق والواجبات وأمام القانون والقضاء وفي المسؤوليات العامة
والحقوق السياسية بين الفراد ،والجماعات ،والجناس ،وبين الحاكمين والمحكومين ،ل فضل لرجل
على آخر إل بالتقوى والعمل الصالح ،ودون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة (أي في الغنى
والفقر) أو القوة والضعف ،أو الحسب والنسب .الناس جميعا في الشريعة متساوون على اختلف
شعوبهم وقبائلهم ،كما هم متساوون في وحدة الصل البشري ( )2و بدليل قوله تعالى{ :يا أيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ،وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ،إن أكرمكم عند ال أتقاكم} [الحجرات:
]13/49وهذا المفهوم أكده الرسول صلّى ال عليه وسلم في قوله« :الناس سواء كأسنان المُشط» ()3
« .أيها الناس ،إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد،كلكم لدم وآدم من تراب ،إنّ أكرمكم عند ال أتقاكم،
وليس لعربي على أعجمي فضل إل بالتقوى» (« )4كرم الرجل :دينه ،ومروءته ،وعقله وحسبه
وخلقه» (. )5
-------------------------------
( )1مبادئ نظام الحكم في السلم للدكتور عبد الحميد متولي :ص )2( .822تفسير ابن كثير:
،218/4تفسير الخازن ،190/6 :التشريع الجنائي السلمي ،316/1 :الديمقراطية السلمية
للدكتور عثمان خليل ص ،35مبادئ نظام الحكم ،المرجع السابق :ص .827
( )3أخرجه ابن لل والديلمي عن سهل بن سعد ،والحسن بن سفيان وأبو بشر الدولبي والعسكري
في المثال عن أنس (كشف الخفا للعجلوني وغيره).
( )4رواه البيهقي عن جابر بن عبد ال وقال :في إسناده بعض من يجهل ،ولحمد عن أبي نضرة في
معناه (الترغيب والترهيب ،612/3 :مجمع الزوائد.)273-266/3 :
( )5رواه أحمد والطبراني في الوسط عن أبي هريرة (مجمع الزوائد.)251/10 :
( )8/519
وطبق الرسول عليه الصلة والسلم المبدأ أولً على نفسه ،فأعد نفسه للقوَد (القصاص) ممن جلده أو
شتمه أو أخذ منه ماله بغير حق ( ، )1وكذلك فعل أبو بكر وعمر وبقية الخلفاء الراشدين ،وكان
الخليفة الراشدي يعلن مبدأ المساواة بصراحة في أول خطبة سياسية يلقيها بعد توليه الخلفة .وكان
هذا المبدأ أهم المبادئ التي جذبت قديما نحو السلم الكثير من الشعوب الخرى ،كما لحظ بعض
المستشرقين (. )2
ول شك أن تحقيق ا لمساواة منوط باختصاص الحكومات ل باختصاص الفراد ،لحتياج المبدأ إلى
سلطان يقرره وقوة تحميه وتنفذ محتواه دون تحيز ،ومع تجرد عن الهواء والغايات الشخصية ،قال
عثمان بن عفان رضي ال عنه( :ما يزع السلطان أكثر مما يزعهم القرآن) (. )3
- 85والخلصة :أن السلم يحرص على حماية حقوق النسان سواء في دار السلم أم في
دارالحرب ،ويحترم في الواقع مفاهيم الكرامة النسانية والحرية والعدالة والخاء والتعاون والمساواة
بين كل الناس ،فتتعاون الدولة السلمية مع غيرها عند الدخول في علقات تجارية ونحوها مع
البلدان الخرى ،أو أثناء القامة بدار الحرب ،أو وقت الحتكاك بالشعوب أثناء الفتوح ،أو عند اجتياز
الحربيين لبلدنا وتمتعهم بالمان فيها.
وهذا على عكس ما عليه الوضع الدولي الحاضر عند النظر إلى الواقع الملموس ،فقد فقدت المبادئ
المذكورة كثيرا من معانيها ،وأصبحت معاييرها مضطربة ،وصار وجودها في المواثيق والذهان
مقصورا على الناحية النظرية والمزايدات العلمية أو الدعائية في هيئة المم وتوابعها .أما في
الواقع فإن مصالح الدول الكبرى أو الطرف القوى دائما هي القائمة فعلً ،بل إن بعض تلك الدول
تمارس أبشع ألوان التمييز العنصري في داخل بلدها أو في مستعمراتها في إفريقية.
-------------------------------
( )1هذا معنى حديث رواه الفضل بن عباس (الكامل لبن الثير.)154/2 :
( )2الدكتور عبد الحميد متولي ،المرجع السابق :ص .823
( )3أخرجه رزين عن يحيى بن سعيد رحمه ال (جامع الصول )469/4 :ويزع :يردع.
( )8/520
المطلب الثاني :وظيفة تقوم على اعتبار خصائص الدولة السلمية وأهدافها :
تمهيد :
- 86إن حفاظ السلم على السلم العالمي ودعمه ،وحرصه على نشر دعوته السلمية ،وفكرته عن
وحدة البشرية تجعل منه نظاما عالميا صالحا للهتداء بتعاليمه في المجتمع ،إذ إن نظرته النسانية
للناس تتخطى حدود القوميات الضيقة ،وعصبيات الجنس واللون والوطن ،ولن اعتقاده بوحدة الدين
في أصل الرسالت السماوية يشيع جوا وديا من التسامح.
وأما تشريع الجهاد فيه فهو في حدود الضرورة أو الحاجة كالدفاع عن حرية العقيدة والدعوة والعبادة،
أو دفع الظلم عن المستضعفين ،أو إزالة الفتنة والفساد في الرض ،لذا فإن السلم يقاوم حروب
العدوان أو حروب الستعمار من أجل فتح مناطق النفوذ أو السيطرة على أسواق العالم.
وعلى الدولة المسلمة أن تتعاون مع غيرها من الدول المخلصة في كل مجال يخدم سعادة النسان
ويحقق الخير للبشرية.
ويتجلى ذلك من كلمنا عن وظائف الدولة التية في النطاق الخارجي:
( )8/521
- 88ومما يلقي الضوء على أنه ل مانع شرعا من التعاون مع غير المسلمين تحديد موقف السلم
من الديانات الخرى .وخلصة القول :إن علقته بالديانات السماوية إما علقة تصديق وإقرار كلي
في صورتها الولى ،أو علقة تصديق في بعض أجزائها وتصحيح لما طرأ عليها في صورتها
الحالية .وهذا هو شأنه أمام كل رأي وعقيدة ،وكل شريعة وملة ،حتى الديانات الوثنية تتحدد علقة
السلم بها بطابع النصاف والتبصر والمحاجة والقناع والتحليل كما هو شأن القرآن معها (. )1
إن أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يلتقون مع المسلمين في وحدة المصدر الديني وأصول العقيدة كما
جاء في قوله تعالى{ :شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ،والذي أوحينا إليك ،وما وصينا به
إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه[ }...الشورى ]13/42:قال الدهلوي( :اعلم
أن أصل الدين واحد اتفق عليه النبياء عليهم السلم ،وإنما الختلف في الشرائع والمناهج...الخ) (
. )2
وقال صلّى ال عليه وسلم « :مثلي ومثل النبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إل
موضع لبنة ،فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ،ويقولون :هل وضعت هذه اللبنة .فأنا اللبنة وأنا
خاتم النبيين» (. )3
-------------------------------
( )1انظر بحث الدكتور محمد عبد ال دراز (موقف السلم من الديان الخرى وعلقته بها) الذي
قدمه إلى الندوة العالمية للسلميات في لهور ـ باكستان في يناير (كانون الثاني) عام 1958وهو
منشور في مجلة (لواء السلم) العدد الحادي عشر .السنة الحادية عشرة.
( )2حجة ال البالغة.68/1 :
( )3رواه البخاري عن أبي هريرة (صحيح البخاري.)25/5 :
( )8/523
وانطلقا من وحدة الصل الديني سارع بعض أهل الكتاب إلى اليمان كما حكى القرآن{ :بلى من
أسلم وجهه ل ،وهو محسن ،فله أجره عند ربه ،ول خوف عليهم ولهم يحزنون} [البقرة. ]112/2:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بال واليوم الخر وعمل صالحا فلهم
أجرهم عند ربهم ،ول خوف عليهم ولهم يحزنون} (. )1:
وبالرغم من أن السلم أو القرآن جاء {مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة]48/5:
فإنه ل يكرَه أحد من أهل الكتاب وغيرهم على السلم لقوله تعالى{ :قل :يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم :أل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا ،ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون
ال ،فإن تولوا فقولوا ،اشهدوا بأنا مسلمون} (. )2
- 89وأما غير أهل الكتاب فتحدد علقة السلم بدياناتهم باستبقاء ما فيها من عناصر الحق والخير
والسنة الصالحة .وتنحية ما فيها من عناصر الباطل والشر والبدعة.
ويمكن التعاون معهم سلميا بدليل أن الرسول صلّى ال عليه وسلم قبل المعاهدة معهم وعاملهم معاملة
أهل الكتاب ،فقال عن المجوس« :سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ( )3واستعان الرسول صلّى ال عليه
وسلم أثناء هجرته إلى المدينة بعبد ال بن أرقط (أو أريقط) وهو من المشركين ،بأن استأجره ليرشده
مع صاحبه أبي بكر على الطرق الخفية إلى المدينة بعد أن اطمأن إليه ( . )4وكذلك طلب الرسول
عليه الصلة والسلم من سراقة بن
-------------------------------
( )1البقرة 62 :ـ ومثلها في في آل عمرن.114-113 :
([ )2آل عمران ]64/3:وآيات أخرى مثل { :ل إكراه في الدين } [البقرة.]256/2:
( )3رواه الشافعي عن عمر رضي ال عنه (نيل الوطار.)56/8 :
( )4سيرة ابن هشام :المجلد الول.488 :
( )8/524
جعْشم أن يعمي الخبر عنه وعن صاحبه لقاء المان الذي أمنه عليه ،والستغفار الذي سأله
مالك بن ُ
منه (. )1
واستعار الرسول صلّى ال عليه وسلم أيضا يوم حنين أدرعا من من صفوان بن أمية وهو يومئذ
مشرك ( )2واستعان كذلك في هذه المعركة للشتراك في الجهاد بجماعة من المشركين تألّفهم من
الغنائم (. )3
وبناء عليه أجاز فقهاء الحنفية والشافعية والزيدية والهادوية الستعانة بالكفار والمشركين في القتال (
)4مستدلين باستعانته صلّى ال عليه وسلم بيهود بني قينقاع وأنه رضخ لهم ( ، )5وباستعانته صلّى
ال عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين ،وبإخباره صلّى ال عليه وسلم أنه ستقع من المسلمين
مصالحة الروم ،ويغزون جميعا عدوا وراء المسلمين.
وأجمع الفقهاء على جواز الستعانة بالمنافقين والفساق ،لستعانته صلّى ال عليه وسلم بعبد ال بن
أبي وأصحابه (. )6
والخلصة :إن السلم ل يتوانى لحظة واحدة عن سعيه لقامة علقات طيبة مع غير المسلمين
لتحقيق التعاون البنّآء في سبيل الخير والعدل والبر والمن وحماية الحرمات ونحو ذلك.
-------------------------------
( )1المرجع السابق :ص .489
( )2المرجع السابق.440/2 :
( )3سبل السلم.50/4 :
( )4ر :للتفصيل /جهاد ،علما بأن السيادة والراية تكون للمسلمين ل لغيرهم.
( )5أخرجه أبو داود في المراسيل وأخرجه الترمذي عن الزهري مرسلً (نيل الوطار)223/7 :
والرضخ :العطية القليلة بشيء من الغنيمة.
( )6نيل الوطار 223/7 :وما بعدها ،سبل السلم ،49/4 :البدائع ،101/7 :مغني المحتاج،222/4 :
البحر الزخار ،389/5 :الميزان للشعراني ،181/2 :الفصاح لبن هبيرة :ص .438
( )8/525
( )8/526
وقال ابن قيم :الدعوة إلى ال والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين وأتباعه من العالمين ،كما قال
تعالى{ :قل هذه سبيلي أدعو إلى ال على بصيرة أنا ومن اتبعني ،وسبحان ال وما أنا من المشركين}
[يوسف. )1( ]108 /12:
وهناك آية أخرى توضح واجب الدعوة على أتباع الرسول صلّى ال عليه وسلم من الحكام والفراد
لعموم الخطاب فيها ،وهي قوله عز شأنه{ :وأوحي إلي هذا القرآن لنذركم به ومن بلغ} [النعام:
.]19/6أي لنذركم وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم ،فالنذار مباشرة للسامع ولمن بلغه
السامع ،ويؤكده قول النبي صلّى ال عليه وسلم « :نضّر ال امرءا سمع مقالتي ،فوعاها ،فأداها إلى
من لم يسمعها ،فرب حامل فقه غير فقيه ،ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ( )2فمهمة الفقيه
الخطيرة تتمثل في الدعوة والتبليغ عن وعي وإدراك ،لذا قال عليه الصلة والسلم« :ما عُبد ال
بشيء أفضل من الفقه في الدين ،ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد ،ولكل شيء عماد،
وعماد الدين الفقه) (. )3
- 3دفع شبهات أعداء السلم :
- 92إن من أهم واجبات ولة المور هو المحافظة على الدين وعقائده ،وإيضاح الشبهات وحل
المشكلت ورد المفتريات وتزييف البدع ،كما ذكر الماوردي في واجبات المام التي بينتها سابقا.
وطريق ذلك إعداد العلماء المختصين وبث الدعاة في بلد السلم قياما بالواجب الكفائي .قال النووي
في منهاجه( :ومن فروض الكفاية :القيام بإقامة الحجج العلمية ( )1وحل المشكلت في الدين ودفع
الشبهة) ( )2وأضاف الشارح :وأما الن وقد ثارت البدعة ول سبيل إلى تركها تلتطم ،فل بد من
إعداد مايدعى به إلى الملك الحق ،وتحل به الشبهة ،فصار الشتغال بأدلة المعقول وحل الشبهة من
فروض الكفايات .
-------------------------------
( )1أعلم الموقعين ،8/1 :ط السعادة.
( )2حديث متواتر رواه الترمذي وغيره من أصحاب السنن عن ابن مسعود رضي ال عنه وغيره
(النظم المتناثر من الحديث المتواتر للعلمة جعفر الحسني الكتاني).
( )3رواه الطبراني في الوسط والبيهقي في شعب اليمان عن أبي هريرة (الفتح الكبير).
( )8/527
( )8/528
أ ـ شخصية الدولة :ل يتعرض لشؤون دولة أخرى غير مسلمة ما لم يوجد منها عدوان على
المسلمين أو بلدهم ومصالحهم ،إذ القتال لمن قاتلنا ول عدوان إل على الظالمين ( ، )1قال تعالى:
{وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ال ل يحب المعتدين} [البقرة ]190/2:والصل في
علقات المسلمين بغيرهم هو السلم ل الحرب (. )2
ول تخضع شخصية الدولة غير المسلمة في بلدها أو أحد ممثليها لقضاء إسلمي أو نظام ضريبي؛
إذ ل سلطان للدولة السلمية على دار الحرب.
أما إذا كان رئيس الدولة الجنبية ( )3أو رجال حاشيته في بلد السلم ،فإن الشريعة السلمية
تطبق عليه ويخضعون للقضاء السلمي ،خلفا لما يقضي به العرف الدولي الحاضر؛ لن الشريعة
ل تفرق بين الحاكم والمحكومين ،و المستأمن في بلدنا قد التزم بدخوله دارنا أحكام السلم ،ول
حرج من محاكمة غير المسلم الذي ارتكب جريمة في دار السلم؛ لن العدل أساس الحكم في
الشريعة حتى مع العداء ،وأما الخوف من اتخاذ التهام ذريعة للضغط فهو خوف في غير محله،
لوجود وسائل ضغط أخرى أسرع وأجدى من التهام ( )4إل أن أبا حنيفة ل يرى معاقبة المستأمن
في دار السلم على جريمة تمس حقوق الجماعة ،أما الجريمة التي تمس حق الفراد فيعاقب عليها (
، )5فإن لم تقع جريمة في دار السلم من رئيس الدولة الجنبية فهو في أمان ل يجوز التعرض
لشخصه وماله وأسرته وأتباعه أو حاشيته.
-------------------------------
( )1رسالة القتال لبن تيمية 1 :ص ،118زاد المعاد لبن قيم.58/2 :
( )2ر :جهاد.
( )3الدولة الجنبية :هي الدولة المحاربة التي تقوم في دار الحرب ،أما الدول السلمية فل تعتبر
إحداها أجنبية بالنسبة للخرى.
( )4التشريع الجنائي السلمي.325-323/1 :
( )5ر :للتفصيل في هذا المبحث :دار السلم ودار الحرب والتمثيل السياسي في السلم للمؤلف.
( )8/529
ب ـ السفن والطائرات :تتمتع السفن والطائرات الجنبية بالمان في دار السلم ما لم تقع حوادث
مخالفة منها ،فعندئذ تخضع للقضاء السلمي.
جـ ـ الوكالت والمؤسسات :يطبق الحكم السابق على الوكالت والمؤسسات الجنبية مثل مكاتب
الطيران والمدارس والمشافي والبعثات التعليمية ومراكز البحوث العلمية وشركات الستثمار ونحوها
من المؤسسات ذات النفع العام بسبب الصفة الدينية أو العلمية أو النسانية أو الرياضية المقامة في بلد
إسلمي.
د ـ الوحدات السياسية :كالمكاتب والبعثات السياسية ووزير الخارجية والوفود التجارية وممثلي
الدارات والمصالح الجنبية يعتبر لها من الحصانة الشخصية والمالية في حدود ما يقضي به المان
على النحو السابق (. )1
هـ ـ السفارات :إن مقر السفارة الجنبية له نفس حصانة الرسل والسفراء بحكم المان ( . )2أما
السفارات السلمية وممثلوها فل تعتبر في بلد السلم مستأمنة بحال ،وإنما يطبق عليها سائر
الحكام المطبقة على المسلمين المقيمين في دار السلم.
-------------------------------
( )1ر :أمان والموضوعين السابقين.
( )2ر :التمثيل السياسي.
( )8/530
( )8/531
المبحث الخامس ـ تغير حالة الدولة السلمية وزوالها وآثار ذلك :
- 97قد تطرأ تغيرات على الدولة السلمية كغيرها من الدول في العادة ،فتؤثر في تكوينها السياسي
أو القليمي ،مع بقاء كيانها الصلي في سلطة المسلمين ،وقد تزول الدولة من بعض أقاليمها زوالً
جزئيا أو كليا باغتصاب العدو لقطعة من الرض أو احتللها عنوة.
وهذا من ما يبحث في المطلبين التاليين:
المطلب الول -تغير حالة الدولة السلمية :
تغير حالة الدولة له نوعان:
- 98النوع الول ـ التغيير الكياني في التنظيم السياسي الداخلي :
قد يحدث تغير في نظام الحكم الداخلي أو التكوين الدستوري للدولة السلمية مع بقاء شخصية الدولة
واستمرار التزاماتها بالنسبة للدول الخرى .ويتم ذلك بإحدى حالت ثلث:
- 1النقلب :هو استيلء جماعة مسلحة ذات قوة ومنعة على سلطة الحكم وإبعاد الحكام السابقين.
وقد أشرت في بحث العتراف بالدولة إلى أن المامة قد يتوصل لها استثناء بالقهر والغلبة ،ومعناه ـ
كما قال الدهلوي ( : )1استيلء رجل جامع لشروط المامة على الناس ،وتسلطه عليهم كسائر الخلفاء
بعد خلفة النبوة .ثم إن استولى من لم يجمع الشروط ل ينبغي أن يبادر إلى المخالعة؛ لن خلعه ل
يتصور غالبا إل بحروب ومضايقات،وفيها من المفسدة أشد مما يجري من المصلحة« ،سئل رسول
ال صلّى ال عليه وسلم عنهم :فقيل :أفل ننابذهم؟ قال :ل ،ما أقاموا فيكم الصلة وقال :إل أن تروا
كفرا بواحا ( )2عندكم من ال فيه برهان (. )3
-2الحرب الهلية :قد تتقاتل فئتان من المسلمين ،فتتغلب إحداهما على الحكم ،فينعقد لها بالقهر
والغلبة أمر السلطة العليا ،كما في حالة النقلب السابقة.
- 3الثورة :الثورة تختلف عن النقلب ،إذ النقلب وثبة من داخل القوة المسلحة أو الجيش غالبا،
أما الثورة فنطاقها أوسع ،إذ هي شعبية نابعة من سخط الجماعة على الحكام .وقد أجاز فقهاء السلم
الخروج على الحكام في بعض الحالت ( . )4قال الدهلوي مضيفا إلى عبارته السابقة( :وبالجملة فإذا
كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب،وإل ل ،وذلك لنه حينئذ ()5
فاتت مصلحة نصبه ( ، )6بل يخاف مفسدته على القوم ،فصار قتاله من الجهاد في سبيل ال ،قال
صلّى ال عليه وسلم « :السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية ،فإذا
أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» ( )7أي أن مبدأ الثورة هو
-------------------------------
( )1حجة ال البالغة.111/2 :
( )2أي ظاهرا.
( )3أي دليل من القرآن والسنة (ر :شرح مسلم.)243/12 :
( )4ويرى المام زيد الخروج على أئمة الجور للدعوة إلى نفس المام الخارج ،كما فعل هو بالكوفة
حيث خرج في أيام هشام بن عبد الملك (تاريخ الفقه السلمي للدكتور علي حسن عبد القادر :ص
.)183
( )5أي عند كفره.
( )6أي إقامته حاكما.
( )7حجة ال البالغة.112/2 :
( )8/532
ويلحظ أنه قدم وأخر في عبارة الحديث الذي رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد
ال بن عمر بلفظ « على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ،إل أن يؤمر بمعصية فإن
أمر بمعصية فل سمع ول طاعة» (جامع الصول ،454/4 :شرح مسلم .)226/12 :قاعدة أو حديث
«ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (. )1
النوع الثاني ـ التغيير في النطاق القليمي :
- 99إن التغييرات التي تطرأ على إقليم الدولة ،فتؤدي إلى اتساعه أو نقصه تحدث إما من أراض
مباحة ل صلة لها بدولة أخرى ،أو مما يمس إقليم دولة أخرى بالحرب ونحوها.
أولً ـ التغيير بما ل يمس إقليم دولة أخرى :
قد يحدث التغيير في إقليم الدولة إما بالضافة أو بالستيلء:
- 1التغيير بالضافة ( : )2قد تكون طبيعية بظهور جزر جديدة في وسط البحر القليمي ،أو النهر
الكبير القليمي ،أو بسبب تراكم الطمي في مصب نهر من النهار الكبرى عند شواطئ الدولة أو
الدلتا التي تتكون عند مصب النهار ،وقد تكون صناعية بردم الماء في منطقة نهرية أو بحرية
إقليمية ،كما لو بنت الدولة حاجزا للمواج في بحرها القليمي أو أقامت فيه منشآت لموانيها.
إذا حدث مثل هذا في دار السلم كان جزءا منها باللتحاق ،إذ أن له حكم المباح ،وقد قرر ذلك أبو
يوسف في كتابه (الخراج) حينما تكلم عن الجزائر التي تتكون في دجلة والفرات ينضب عنها الماء،
وقال :هذا مثل الرض الموات ،ولمن
-------------------------------
( )1رواه أحمد والحاكم عن عمران بن حصين ،ورواه أبو داود والنسائي عن علي بلفظ « طاعة
لحد في معصية ال ،إنما الطاعة في المعروف» ورواه أحمد عن أنس بلفظ «ل طاعة لمن لم يطع
ال» (شرح مسلم ،227/12 :فيض القدير ،الفتح الكبير).
( )2الضافة في القانون الدولي :معناها اكتساب الدولة للملحقات الطبيعية لقليمها دون حاجة إلى أن
تقوم بعمل أو إجراء خاص لدخالها في اختصاصها (ر :مبادئ القانون الدولي للدكتور حافظ غانم:
ص .)330
( )8/533
جاورها أن يحصنها ويزرع فيها إذا كان ذلك ل يضر بأحد ،وإن كان يضر أحدا منع من ذلك ،ولم
يترك يحصنها ول يزرع فيها ،ويحدث فيها حدثا إل بإذن المام ( . )1ويرشد إليه قوله صلّى ال
عليه وسلم « :من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (. )2
وحكم ابن نجيم بإباحة النهر إذا لم يعرف حاله :هل هو مباح أو مملوك تطبيقا لقاعدة (الصل في
الشياء الباحة) (. )3
- 2التغيير الستيلء ( : )4للدولة السلمية الستيلء الفعلي بواسطة عمالها وولتها على أرض
مباحة غير خاضعة لدولة أخرى ،لن من استولى على مال مباح غير مملوك لحد يملكه كمن
استولى على الحطب والحشيش والصيد (. )5
ثانيا ـ التغيير بما يمس إقليم دولة أخرى :
- 100لهذا التغيير أحوال ثلث هي:
-1بطريق المعاهدة :إن الصلح أو التفاق الصريح أو الضمني مبدأ مقرر في السلم سواء في وقت
السلم أم في وقت الحرب ،وهو من خصائص الخليفة أو المام العظم ،الذي ينوب عن الرسول
صلّى ال عليه وسلم ،ويعتبر تصرف الرسول فيه بطريق المامة والسياسة ل بطريق التبليغ
والفتوى (. )6
-------------------------------
( )1الخراج :ص 91وما بعدها.
( )2رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب ،وقد سبق تخريجه.
( )3الشباه والنظائر لبن نجيم.97/1 :
( )4الستيلء في القانون الدولي :إدخال الدولة لبعض القاليم غير التابعة لدولة ما في حيازتها
بغرض مباشرة اختصاصاتها القليمية عليها (حافظ غانم ،المرجع السابق :ص .)323
( )5البدائع.128/7 :
( )6الفروق للقرافي.207/1 :
( )8/534
وبالصلح يمكن تغيير وصف البلد ،فتنتقل من كونها بلدا للحربيين إلى أن تصبح جزءا من دار
السلم إما بسبب اعتناق أهلها السلم أو بقبولهم عقد الذمة .ومن ذلك الراضي التي يستولي عليها
المسلمون صلحا ،وتتم المصالحة على أن ملك الرض لنا فتصير بهذا الصلح وقفا من دار السلم (
. )1ويشمل هذا القسم أيضا حالت التنازل ( )2ومبادلة أرض بأخرى مقايضة ،أو عن طريق صفقة
بيع لقاء عوض معين ،والستفتاء الشعبي الناجم من حق الشعب في تقرير مصيره بنفسه أو بإرادته
الحرة ،إل أن الستفتاء نادر الوقوع لن الشعب المسلم قد فوض الحاكم بانتخابه أن يفعل ما يراه
محققا للعدالة وللمصلحة العامة (. )3
- 2بطريق التقادم ( : )4ل يعتبر التقادم سببا صحيحا من أسباب كسب الملكية أو الحقوق عموما،
(إذ ل يجوز لحد أن يأخذ مال أحد بل سبب شرعي) وإنما هو فقط مانع للقاضي من سماع الدعوى
بالحق ،حماية لمبدأ الستقرار في الوضاع الحقوقية وتجنبا لثارة المشكلت في الثبات ونحوه،
ومدة التقادم في الموال العامة المانعة من سماع الدعوى به هي 36سنة ( )5ويمكن الخذ بهذا المبدأ
في العلقات الدولية.
-------------------------------
( )1الحكام السلطانية للماوردي :ص 123ولبي يعلى :ص 132وانظر أموال الحربيين للمؤلف.
( )2التنازل أي تخلي الدولة عن جزء من إقليمها نتيجة لمعاهدة أو اتفاق دولي أو تصريح صادر من
الدولة صاحبة الشأن.
( )3قال الماوردي في الحكام السلطانية :ص ( 45وأما ما يلزم الرعية في حق المير عليهم فأربعة
أشياء ،أحدها :التزام طاعته والدخول في وليته ،لن وليته عليهم انعقدت وطاعته بالولية وجبت،
والثاني :أن يفوضوا المر إلى رأيه ويكلوه إلى تدبيره حتى لتختلف آراؤهم ،فتختلف كلمتهم ويفترق
جمعهم.)...
( )4التقادم في اصطلح القانونيين :اكتساب القليم عن طريق مباشرة الختصاص عليه على نحو
مستمر وغير متنازع فيه خلل فترة من الزمن تكفي لتولد الشعور بأن الوضع القائم يتفق مع حكم
القانون (حافظ غانم ،المرجع السابق ص .)332
( )5ر :الدر المختار ورد المحتار 356/4 :وما بعدها ،مذكرة عن المعاملت للستاذ زيد البياني:
ص 17وما بعدها ،المدخل الفقهي العام للستاذ الزرقاء :ف ،102المدخل إلى نظرية اللتزام العامة
في الفقه السلمي للستاذ الزرقاء :ف .156 /
( )8/535
- 3بالفتح عند قيام موجباته (الجهاد ) :الفتح هو الستيلء عنوة على إقليم تابع لدولة أخرى ،والفتح
مشروع في السلم عند قيام المسوغ الشرعي له ،وهو دفع العتداء ،ل من أجل الغلب والسيطرة أو
للمخالفة في الدين ،أو لستغلل الشعوب واستعمارها بالمعنى الحاضر ،أو لفرض أي شكل من
أشكاله ،أو بسبب التميز العنصري الممقوت القائم في بعض الدول الحديثة.
( )8/536
( )8/537
( )8/538
- 1إذا كان الجزء المنفصل معترفا بالسلطة الصلية ولو اسما ،ولكنه انفصل إداريا ،كما حدث في
العصر العباسي الثاني ـ عصر نفوذ التراك ،حيث ظهرت بعض الدويلت الصغيرة المتنافسة،
كالسامانية والبويهية والحمدانية والغزنوية والسلجوقية ( ، )1فإنه يظل معتبرا من دار السلم ،ول
يعترف بالزوال الجزئي؛ إذ ل مانع فقها -كما ذكرت في بحث السيادة -من تعدد السلطات الدارية
لمصلحة أخذا برأي بعض العلماء ،وكانت الوليات السلمية في الغالب تشبه هذا الوضع تقريبا،
ولكن مع الحفاظ على مبدأ تولية وعزل الوالي من قبل الخليفة ،والبقاء على روابط أوثق من ناحيتي
الدفاع والوضع المالي.
- 2إذا كان الجزء المنفصل غير معترف بالسلطة العليا ،بل يدعي أنه هو صاحبها ،فإن كان الجزء
المنفصل أصغر من غيره في مقابل بقية البلد السلمية الباقية تحت سلطة الحاكم الصلي ،فهوزوال
جزئي لبعض أجزاء الدولة ،وينتظر الوقت المناسب لعادة إخضاعه إلى الصل .وهذا كان حال بلد
فارس وما جاورها في العصر العباسي الثالث ـ عصر إمرة المراء ـ حيث قامت فيها عدة دول
كالطاهرية والصفارية والسامانية والديالمة ،ولكن لم يترتب على النشقاق زوال الدولة العباسية إل
بعد سقوط بغداد بيد التتر والمغول سنة ( 656هـ) (. )2
وكذلك كان حال دور ملوك الطوائف ( 897-422هـ) الذين توزعوا أجزاء الخلفة الموية في
الندلس ،فانقسمت الدولة السلمية إلى دويلت عديدة ،حتى كان لكل مدينة تقريبا أميرها المستقل،
مما أدى إلى فقدان البلد نهائيا وسقوطها بيد السبان.
-------------------------------
( )1تاريخ السلمي السياسي لحسن إبراهيم.1/3 :
( )2المرجع السابق.26/3 :
( )8/539
وإن كان الجزء المنفصل أكبر من الصل أو مساويا له ،فيمكن اعتباره (دولة إسلمية) ( )1إذا
توافرت جميع عناصر الدولة من شعب وإقليم وسلطة أو سيادة ،ولكنها ل تمثل (الدولة السلمية)
بمفهومها العام ،لعدم وجود وحدة السيادة على جميع أنحاء البلد ،كما تقضي بذلك مبادئ السلم.
وفي الماضي شهدت البلد تجزئة سياسية من هذا النوع ،ل سيما عند إحياء الخلفة الموية في
الندلس سنة ( 300هـ ) ،بعد أن كان أمراء بني أمية فيها يلقبون أنفسهم بلقب (المير) أو نحوه.
وحينئذ أصبح في العالم السلمي في ذلك الوقت ثلث خلفات :الخلفة العباسية في بغداد ،والخلفة
الفاطمية في المهدية بتونس ،والخلفة الموية في قرطبة.
- 106والفقهاء وإن كانوا متبرمين بهذا النقسام ويعتبرون المويين في الندلس والدارسة في
المغرب القصى بغاة يحاربون ،فإنهم في الواقع لم يحكموا بزوال الصفة السلمية عن الجزاء
المنفصلة ،وإنما هي بلد إسلم ،لن البغاة ليسوا كفارا ،وإنما يطبقون الحكام الشرعية مع تأويل
بعضها .وحينئذ يمكن وصف كل حكومة من الحكومات القائمة فيها بأنها (دولة إسلمية) ينقصها
النضمام مع بعضها وتكوين الوحدة المنشودة التي كانت قائمة في القرون الثلثة الهجرية الولى التي
وصفها الرسول صلّى ال عليه وسلم بأنها (خير القرون).
ولكن الذي ل شك فيه أنه نجم عن هذا النقسام السياسي ضعف الدولة السلمية وزوالها التدريجي
لفقدانها قوة الوحدة وتعاون الجماعة.
-------------------------------
( )1بالتنكير الذي يدل على وحدات جزئية.
( )8/540
( )8/541
والسبب في انتهاء تلك المعاهدات هو انتهاء الشخصية المعنوية للدولة الزائلة عملً بالحكم الفقهي
ل تنتهي بموت الموكل ( . )1وبما أن
المقرر في نطاق العقود المدنية الخاصة ،وهوأن الوكالة مث ً
عاقد المعاهدة نائب أو ممثل عن الدولة ،فإن المعاهدة التي كان أبرمها تنتهي بزوال شخصيتها التي
عقدت المعاهدة من أجلها.
ب ـ وأما في حال الزوال الجزئي ،فإن المعاهدة تظل قائمة مع دولة الصل لبقاء شخصيتها الدولية.
وهذا شبيه بما قرره فقهاؤنا من بقاء عقد الصلح أو الموادعة بالرغم من موت العاقد أو عزله (. )2
ثانيا ـ بالنسبة للديون :
- 109في حالة الزوال الكلي تتحمل مبدئيا الدولة الجديدة التزامات وديون الدولة القديمة تطبيقا
للقاعدة السلمية المعروفة وهي (الغرم بالغنم) ويستثنى من ذلك ما إذا كانت الديون السابقة مثلً
ثقيلة العبء ،وموارد الدولة القديمة ل تكفي لتسديدها ،فل يمكن مطالبة الدولة الجديدة بتحمل كل تلك
الديون دفعا للضرر عنها إذ ل ضرر ول ضرار ،ويستحسن تسوية المر باتفاقات مع الدائنين كما
يحدث في حالة تصفية أموال المفلس مثلً.
ب ـ وأما في حالة الزوال الجزئي ،فإن الدولة الصلية هي المسؤولة عن الديون لبقاء شخصيتها
الدولية ،ولن ذمتها المالية ضمان عام لجميع الديون بغض النظر عن أوضاع جزء معين من أجزاء
الدولة أو مواردها المالية من أية جهة كانت.
لكن تقضي العدالة ـ في تقديري ـ أن تتحمل الدولة الوارثة جزءا من هذه
-------------------------------
( )1البدائع.38/6 :
( )2المغني ،462/8 :مغني المحتاج ،261/4 :البحر الزخار 450/5 :و .455الديون إذا كان الجزء
المنضم إليها كبيرا ،أو كانت الديون من أجل هذا الجزء المضموم.
( )8/542
( )8/543
( )8/544
جـ ـ المؤلفات الحديثة :
- 1السياسة الشرعية للشيخ عبد الوهاب خلف ،ط السلفية بمصر.
- 2النظريات السياسية السلمية د :ضياء الدين الريس ،ط ثانية.
- 3مبادئ القانون الدولي العام د :حافظ غانم ،ط ثانية.
- 4الشريعة السلمية والقانون الدولي العام ،ونظم الحكم والدارة في السلم والقوانين الوضعية
للستاذ علي منصور ،طبع القاهرة.
- 5أحكام القانون الدولي في الشريعة السلمية د :حامد سلطان ،طبع النهضة العربية.
- 6النظم السياسية د :ثروت بدوي ،طبع دار النهضة العربية.
- 7الخلفة والمامة د :عبد الكريم الخطيب ،دار الفكر العربي بمصر.
- 8نظام الحكم في السلم د :محمد يوسف موسى ،الطبعة الثانية.
- 9السلطات الثلث ،د سليمان محمد الطماوي ،طبع معهد الدراسات العربية العالية بمصر.
- 10نقض كتاب السلم وأصول الحكم ،للشيخ محمد الخضر حسين ،المطبعة السفلية بمصر.
- 11نظام الحكم في السلم ،د :محمد عبد ال العربي ،دار الفكر بلبنان.
- 12المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم ،د :محمد عزيز شكري ،دار الكتاب بدمشق.
- 13منهاج السلم في الحكم ،محمد أسد ،دار العلم للمليين.
- 14السلم وأوضاعنا القانونية ،السلم وأوضاعنا السياسية ،عبد القادر عودة ،الطبعة الثانية.
- 15نظرية السلم وهديه في السياسةوالقانون والدستور لبي العلى المودودي دار الفكر بدمشق.
- 16نحو مجتمع إسلمي ،سيد قطب ،الطبعة الولى.
- 17موجز القانون الدستوري د :عثمان خليل وسليمان الطماوي ،دار الفكر العربي ،ط الرابعة.
- 18عبقرية السلم في أصول الحكم ،د :منير العجلني ،دار الكتاب الجديد.
- 19النظم السلمية ،د :صبحي الصالح ،دار العلم للمليين.
- 20الشرع الدولي في السلم د :نجيب الرمنازي ،مطبعة ابن زيدون بدمشق.
- 21المجتمع النساني في ظل السلم ،للشيخ محمد أبو زهرة ،دار الفكر بلبنان.
- 22مجموعة الوثائق السياسية د :محمد حميد ال ،ط الثانية.
- 23مبادئ القانون الدولي العام في السلم ،د :محمد عبد ال دراز ،مطبعة الزهر.
- 24التشريع الجنائي السلمي ،عبد القادر عودة ،الطبعة الثانية بدار العروبة في مصر.
- 25السلم وأصول الحكم ـ بحث الخلفة والحكومة في السل م ـ للستاذ علي عبد الرازق،
الطبعة الولى.
- 26مبادئ نظام الحكم في السلم ،د :عبد الحميد متولي ،طبع دار المعارف بمصر سنة .1966
( )8/545
ويقينا منا بأنّ البشرية على ما بلغت من شأوٍ بعيد في مدارج العلم المادي لتزال في حاجة ماسة إلى
سند إيماني لحضارتها ينمّي الوازع الذاتي ويقظة الضمير.
نعلن ما يلي:
- 1الحقوق الساسية
المادة الولى
أ ـ البشر في كل أقطارهم أسرة واحدة ،مخلوقون من نفس واحدة ،متساوون في الكرامة النسانية
وفي أصل التكليف والمسؤولية ،وأكرمهم عند ال أتقاهم وأنفعهم لعباده .ب ـ ل تمييز بين الناس
بسبب اختلف العرق أو اللغة أو الديار أو الجنس أو العقيدة ( )1أو النتماء السياسي أو الوضع
الجتماعي.
المادة الثانية
يولد النسان حرا ،ول عبودية لغير ال تعالى ،وليس لمخلوق أن يستعبده ،أو يذله أو يستغله.
المادة الثالثة
أ ـ حق الحياة مكفول بالشريعة لكل إنسان ،وعلى الفراد والمجتمعات والدولة حماية هذا الحق من
كل اعتداء.
ب ـ يُحرّم اللجوء إلى أية وسيلة تفضي لفناء النوع البشري كليا أو جزئيا.
جـ ـ استمرار الحياة البشرية أحد أصول السلم ل يجوز تعطيله بمناهضة الزواج ول النتقاص
منه بمنع النجاب ،ول إباحة الجهاض لغير ضرورة شرعية.
د ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمنا على نفسه وأهله وسمعته الجتماعية وماله متحررا من كل
أنواع الخوف.
المادة الرابعة
أ ـ التدين حق لكل إنسان ،ول إكراه في الدين .فل يجوز حرمانه منه ،ول ممارسة أي ضغط عليه
للتخلي عنه.
ب ـ يتعين على المسلم ـ وقد اهتدى إلى السلم باليمان بوجود ال والعتراف بوحدانيته ـ
الثبات عليه.
-------------------------------
( )1أي في الحقوق النسانية ،وأكرمهم عند ال أتقاهم.
( )8/547
- 2الحقوق السياسية
المادة الخامسة
أ ـ حرية الرأي والتعبير عنه بالوسائل المشروعة مصونة ،ولكل إنسان حق ممارستها في حدود
مبادئ الشريعة وقيم الخلق.
ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة بالحكمة إلى الخير والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وله أن
يشترك مع غيره من الفراد والجماعات في ممارسة هذا الحق والدفاع عنه لصالح المجتمع وخيره.
المادة السادسة
لكل إنسان الحق في:
أ ـ أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وتقويمهم وفقا للنظمة المقررة بمقتضى
الشريعة.
ب ـ أن يشارك في إدارة الشؤون العامة لبلده ،بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
جـ ـ أن يتقلد الوظائف العامة وفق الضوابط المشروعة.
- 3حقوق السرة
المادة السابعة
أ ـ السرة عماد المجتمع المسلم ،والزواج أساس وجودها ،وهو واجب ( )1على الرجال والنساء،
يرغّب السلم في ممارسته ول يحول دون التمتع به أي قيد منشؤه العرق أو اللون أو الجنسية إل
لضرورة تقتضيها أحكام الشريعة.
ب ـ على الدولة والمجتمع إزالة العوائق أمام الزواج ،وتيسير وسائله.
جـ ـ التراضي أساس في عقد الزواج ،وإنهاؤه ل يكون إل وفق أحكام الشريعة.
المادة الثامنة
أ ـ المرأة شقيقة الرجل ومساوية له في النسانية ،ولها من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات.
ب ـ الرجل قيّم على السرة ومسؤول عنها ،وللمرأة شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة
وتحتفظ باسمها ونسبها.
المادة التاسعة
أ ـ لكل طفل ،منذ ولدته ،حق على والديه ومجتمعه ودولته في الحضانة والتربية والرعاية المادية
والدبية.
ب ـ على المجتمع والدولة حماية المومة وتعهدها برعاية خاصة.
جـ ـ من حق الب أن يختار لطفله التربية الملئمة في ضوء القيم الخلقية والسلمية.
-------------------------------
( )1أي وجوبا اجتماعيا عاما في الجملة ،وإن كان هو تفصيلً مباحا أو مندوبا أو واجبا بحسب
الحوال المبينة فقها.
( )8/548
( )8/549
( )8/550
( )8/551
( )9/1
أولً ـ أنواع مقدمات الزواج :ذكر ابن رشد ( )1أربع مقدمات للزواج هي حكم الزواج شرعا ،وحكم
خُطْبة العقد،والخِطْبة على الخطبة ،والنظر إلى المخطوبة قبل التزويج ،وسأبحث المرين الولين في
بحث تكوين الزواج ،وأما المران الخران فمحل بحثهما هنا.
والسبب في عناية الشرع بهذه المقدمات :هوا لحرص على إقامة الزواج على أمتن السس ،وأقوى
المبادئ ،لتتحقق الغاية الطيبة منه ،وهي الدوام والبقاء ،وسعادة السرة ،والستقرار ومنع التصدع
الداخلي ،وحماية هذه الرابطة من النزاع والخلف ،لينشأ الولد في جو من الحب واللفة والود
والسكينة واطمئنان كل طرف إلى الخر ،قال ال تعالى{ :ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا
لتسكنوا إليها ،وجعل بينكم مودة ورحمة ،إن في ذلك ليات لقوم يتفكرون} [الروم.]21/30:
خطْبة :الخطبة :هي إظهار الرغبة في الزواج بامرأة معينة ،وإعلم المرأة وليها
ثانيا ـ معنى ال ِ
بذلك .وقد يتم هذا العلم مباشرة من الخاطب ،أو بواسطة أهله.
فإن وافقت المخطوبة أو أهلها ،فقد تمت الخطبة بينهما ،وترتبت عليها أحكامها وآثارها الشرعية التي
سأذكرها.
ثالثا ـ حكمة الخطبة :الخطبة كغيرها من مقدمات الزواج طريق لتعرّف كل من الخاطبين على
الخر ،إذ أنها السبيل إلى دراسة أخلق الطرفين وطبائعهما وميولهما ،ولكن بالقدر المسموح به
شرعا ،وهو كاف جدا ،فإذا وجد التلقي والتجاوب أمكن القدام على الزواج الذي هو رابطة دائمة
في الحياة ،واطمأن الطرفان إلى أنه يمكن التعايش بينهما بسلم وأمان ،وسعادة ووئام ،وطمأنينة
وحب ،وهي غايات يحرص عليها كل الشبان والشابات والهل من ورائهم.
-------------------------------
( )1بداية المجتهد.2/2 :
( )9/3
رابعا ـ أنواع الخطبة :الخطبة إما أن تكون بإبداء الرغبة فيه صراحة ،كأن يقول الخاطب :أريد
الزواج من فلنة ،وإما أن تكون مفهومة ضمنا أو بالتعريض والقرائن ،بمخاطبة المرأة مباشرة ،كأن
يقول لها :إنك جديرة بالزواج ،أو يسعد بك صاحب الحظ ،أو أبحث عن فتاة لئقة مثلك ،ونحوها.
خامسا ـ ما يترتب على الخطبة :الخطبة مجرد وعد بالزواج ،وليست زواجا ( ، )1فإن الزواج ل
يتم إل بانعقاد العقد المعروف ،فيظل كل من الخاطبين أجنبيا عن الخر ،ول يحل له الطلع إل على
المقدار المباح شرعا وهو الوجه والكفان ،كما سيأتي .نص قانون الحوال الشخصية السوري (م )2
على ما يلي :الخطبة والوعد بالزواج وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الهدية ،ل تكون زواجا.
سادسا ـ الخطبة على الخطبة :يترتب على الخطبة أيضا حرمة التقدم لخطبة المرأة ممن كان يعلم
بتمام خطبتها لغيره ،فقد أجمع العلماء على تحريم الخطبة الثانية على الخطبة الولى إذا كان قد تم
التصريح بالجابة ،ولم يأذن الخاطب الول ،ولم يترك الخطبة ،فإن خطب الثاني وتزوج والحال هذه
فقد عصى ،باتفاق العلماء؛ لقوله صلّى ال عليه وسلم « :ل يبع أحدكم على بيع أخيه ( ، )2ول
خطْبة أخيه ،إل أن يأذن له» ( ، )3وفي رواية البخاري« :نهى أن يبيع الرجل على بيع
يخطب على ِ
أخيه ،وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله ،أو يأذن له الخاطب» (. )4
هذا النهي صريح في تحريم الخطبة الثانية بعد تمام الموافقة على الخطبة الولى لخطيب آخر ،لما
فيها من إيذاء الخاطب الول ،وتوريث عداوته ،وزرع الضغينة في نفسه ،فإن عدل أحد الطرفين أو
أذن لغيره بالتقدم للخطبة ،جاز ذلك.
أما إن لم تتم الخطبة الولى ،وكان المر في حال مشاورة أو تردد ،فالصح عدم التحريم ،ولكن تكره
عند الحنفية الخطبة ،لطلق الحاديث السابقة الواردة
-------------------------------
( )1إن ما يشيع بين الناس من أن قراءة الفاتحة تبيح كل شيء هو غلط محض ،ومنكر قبيح وجهل
بأحكام الدين ،فذلك كله مجرد وعد ل عقد ،والعقد وحده هو الذي يبيح ما كان محرما قبله.
( )2ولكن استثني من ذلك بيع المزايدة :وهو البيع ممن يزيد ،فليس من المنهي عنه ،وهذه حالة
المزاد العلني اليوم (سبل السلم.)23/3 :
( )3رواه أحمد ومسلم عن ابن عمر (نيل الوطار ،168-167/5:سبل السلم.)113 ،23-22/3 :
( )4ورواه أيضا ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني.
( )9/4
في النهي عن الخطبة على خطبة الغير ،والبيع على البيع أو السوم على السوم ،أي بعد التفاق على
البيع وقبل عقده.
وأباح الجمهور الخطبة الثانية؛ لن فاطمة بنت قيس خطبها ثلثة :وهم معاوية ،وأبو جهم بن حذافة،
وأسامة بن زيد ،بعد أن طلقها أبو عمرو بن حفص ابن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه ،فجاءت إلى
رسول ال صلّى ال عليه وسلم ،فأخبرته بذلك ،فقال« :أما أبو جهم فل يضع عصاه عن عاتقه ،وأما
معاوية فصعلوك ل مال له ،أنكحي أسامة بن زيد» ( )1فهذا يدل على جواز تقدم أكثر من خطيب إذا
لم تقبل المرأة الخطبة ،لكن يظهر أن ذلك إذا لم يعلم الخاطب أن غيره قد تقدم لخطبة تلك المرأة ،مما
يدل على رجحان الرأي الول.
وعلى كل حال فالدب السلمي يقضي بالتريث إلى أن تنتهي فترة التردد والمفاوضات والمشاورات
التي تحدث عادة ،حفاظا على صلة الود والمحبة بين الناس ،وبعدا عن إيجاد العداوة وزرع الحقاد
في النفوس.
-------------------------------
( )1رواه مسلم عن فاطمة بنت قيس ،وهي امرأة قرشية أخت الضحاك بن قيس ،وهي من
المهاجرات الول ،كانت ذات جمال وفضل وكمال (سبل السلم.)129/3 :
( )9/5
( )9/6
ويمكن تلخيص ضوابط مقومات المرأة المخطوبة على النحو التي كما أبان الشافعية والحنابلة
وغيرهم ( ، )1فقالوا:يستحب ما يلي:
ً - 1أن تكون المرأة ديّنة ،للحديث السابق« :فعليك بذات الدين» .
ً - 2أن تكون ولودا ،لحديث« :تزوجوا الودود الولود ،فإني مكاثر بكم المم يوم القيامة» (. )2
ويعرف كون البكر ولودا بكونها من نساء يعرفن بكثرة الولد.
ً - 3أن تكون بكرا ،لقوله صلّى ال عليه وسلم لجابر« :فهل بكرا تلعبها وتلعبك؟» (. )3
ً - 4وأن تكون من بيت معروف بالدين والقناعة؛ لنه مظنّة دينها وقناعتها.
ً - 5وأن تكون حسيبة :وهي النسيبة ،أي طيبة الصل ،ليكون ولدها نجيبا ،فإنه ربما أشبه أهلها
ونزع إليها ،لحديث «ولحسبها» .
ول ينبغي تزوج بنت زنا ولقيطة ومن ل يعرف أبوها ،أي أن الزواج حينئذ مكروه .مباح غير حرام،
وأما آية { :الزاني لينكح إل زانية[ }..النور ]3/24:فمنسوخة ،أو شأنه ذلك.
-------------------------------
( )1كشاف القناع ،8-7/5 :مغني المحتاج 126/3 :ومابعدها ،الشرح الصغير.341/2 :
( )2رواه سعيد بن منصور في سننه ،وأبو داود والنسائي والحاكم وصحح إسناده عن معقل بن يسار.
( )3متفق عليه.
( )9/7
ً - 6وأن تكون جميلة؛ لنها أسكن لنفسه ،وأغض لبصره ،وأكمل لمودته ،ولذلك جاز النظر قبل
الزواج ،ولحديث أبي هريرة السابق« :قيل :يا رسول ال ،أي النساء خير؟ »...لكن كره الشافعية
خطبة المرأة الفائقة الجمال.
ً - 7وأن تكون أجنبية غير ذات قرابة قريبة؛ لن ولدها يكون أنجب ،وقد قيل« :إن الغرائب أنجب،
وبنات العم أصبر» ولنه ل يأمن الطلق ،فيفضي مع
القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها ،واستدل الرافعي لذلك تبعا للوسيط بحديث« :ل تنكحوا
القرابة القريبة ،فإن الولد يخلق ضاويا» أي نحيفا ،وذلك لضعف الشهوة.
ً - 8أل يزيد على واحدة إن حصل بها العفاف ،لما فيه من التعرض للمحرم ،قال ال تعالى{ :ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} [النساء ]129/4:وقال صلّى ال عليه وسلم « :من كان
له امرأتان ،فمال إلى إحداهما ،جاء يوم القيامة ،وشقه مائل» (. )1فالصل وحدة الزوجية ل التعدد.
ويكره الزواج بالزانية أي المشهورة بالزنا ،وإن لم يثبت عليها الزنا.
ثامنا ـ من تباح خطبتها :
الخطبة ـ كما هو واضح ـ مقدمة الزواج ووسيلته ،فإذا كان الزواج بالمرأة ممنوعا شرعا ،كانت
خطبتها ممنوعة أيضا ،وإذا كان الزواج بها مباحا شرعا ،كانت خطبتها مباحة أيضا .وقد يوجد مانع
شرعي مؤقت من الخطبة والزواج ،لذا يشترط لباحة الخطبة شرطان:
الشرط الول ـ أل يحرم الزواج بها شرعاً(: ) 2
بأن كانت من المحارم المحرمة تحريما مؤبدا ،كالخت والعمة والخالة ،أو تحريما مؤقتا ،كأخت
الزوجة ،وزوجة الغير ،لما في حالت المؤبد من الضرر بالولد والضرر الجتماعي ،ولما في
المؤقت من النزاع والفساد.
-------------------------------
( )1رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الربعة).
( )2البدائع.268 ،256/2 :
( )9/8
خطبة المعتدة :من حالت التحريم المؤقت :أن تكون معتدة ،أي في أثناء العدة من زواج سابق (: )1
فإنه يحرم باتفاق الفقهاء الخطبة الصريحة أوالمواعدة للمعتدة مطلقا ،سواء أكانت بسبب عدة الوفاة ،أم
عدة الطلق الرجعي أم البائن ،لمفهوم قوله تعالى{ :ول جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة
النساء ،أوأكننتم في أنفسكم ،علم ال أنكم ستذكرونهن ،ولكن ل تواعدوهن سرا ،إل أن تقولوا قولً
معروفا} [البقرة.]235/2:
والتصريح :ما يقطع بالرغبة في الزواج ،مثل :أريد أن أتزوجك ،وإذا انقضت عدتك تزوجتك.
وسبب تحريم الخطبة بطريق التصريح :أنه ربما تكذب في انقضاء العدة ،ولن في خطبتها اعتداء
على حق المُطلّق ،والعتداء على حق الغير حرام شرعا ،لقوله تعالى{ :ول تعتدوا ،إن ال ل يحب
المعتدين} [البقرة.]190/2:
وأما الخطبة بطريق التعريض :وهو القول المفهم للمقصود وليس بنص فيه ،ومنه الهدية ،أو هو ما
يحتمل الرغبة في الزواج وعدمها ،كقوله لها :أنت جميلة ،ورب راغب فيك ،ومن يجد مثلك ،ولست
بمرغوب عنك ،أو عسى أن ييسر ال لي أمرأة صالحة ،أو نحو ذلك:
أ ـ فإن كان سبب العدة وفاة الزوج ،جازت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لنتهاء الزوجية بالوفاة ،فل يكون
في خطبتها اعتداء على حق الزوج ول إضرار به.
ب ـ وإن كان سبب العدة هو الطلق:
-------------------------------
( )1الدر المختار ،738 ،380/2 :أحكام القرآن للجصاص 422/1 :وما بعدها ،البدائع 268/2 :وما
بعدها ،مختصر الطحاوي :ص ،178الشرح الصغير 343/2 :وما بعدها ،القوانين الفقهية :ص
،205المهذب ،47/2 :مغني المحتاج 135/3 :وما بعدها ،كشاف القناع.17/5 :
( )9/9
فإن كان الطلق رجعيا ،حرمت الخطبة باتفاق الفقهاء؛ لن لمن طلّقها الحق في مراجعتها أثناء العدة،
فتكون خطبتها اعتداء على حقه ،فهي زوجة أو في معنى الزوجة.
وإن كان الطلق بائنا بينونة صغرى أو كبرى ،ففي خطبة المعتدة ممن طلّقها بالتعريض رأيان:
رأي الحنفية :تحريم الخطبة؛ لن لمُطلّقها في حالة البينونة الصغرى أن يعقد عليها مرة أخرى قبل
انقضاء العدة ،كما بعدها ،فلو أبيحت خطبتها ،لكان في ذلك اعتداء على حقوقه ،ومع له من العودة
إلى زوجته مرة أخرى ،كالمطلقة الرجعية .وأما في حالة البينونة الكبرى فتمنع الخطبة في العدة
بطريق التعريض ،كيل تكذب المرأة في الخبار بانتهاء عدتها ،ولئل يظن أن هذا الخاطب كان سببا
في تصدع العلقة الزوجية السابقة .وأما آية {ول جناح عليكم} [البقرة ]235/2:فهي خاصة بالمعتدات
للوفاة بدليل الية التي قبلها{ :والذين يتوفون} [البقرة.]234/2:
رأي الجمهور :جواز الخطبة ،لعموم الية السابقة{ :ول جناح عليكم فيما عرّضتم به[ }...البقرة:
]235/2وقوله{ :إل أن تقولوا قولً معروفا} [البقرة ]235/2:أي ل تواعدوهن إل بالتعريض دون
التصريح ،ولنقطاع سلطنة الزوج عن البائن ،فالطلق البائن بنوعيه يقطع رابطة الزوجية ،فل يكون
في خطبتها تعريضا اعتداء على حق المُطلّق ،فتشبه المعتدة بسبب الوفاة.
( )9/10
وأرجح مذهب الجمهور في البينونة الكبرى إذ ل ضغينة في نفس الزوج وقد أكمل الطلق ،وأرجح
مذهب الحنفية في البينونة الصغرى .وإذا عقد على المعتدة زواج في العدة ،ودخل الزوج بها ،فسخ
الزواج بالتفاق ،لنهي ال عنه ،وتأبد تحريمها عليه عند مالك وأحمد والشعبي ،فل يحل نكاحها أبدا،
وبه قضى عمر؛ لنه استحل ما ل يحل ،فعوقب بحرمانه ،كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.
وقال الحنفية والشافعية :يفسخ النكاح ،فإذا انتهت العدة ،جاز لهذا الزوج أن يخطبها مرة أخرى
ويتزوجها ،ولم يتأبد التحريم؛ لن الصل أنها ل تحرم إل أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو
سنة أو إجماع ،ول دليل من هذا.
الشرط الثاني ـ أل تكون المخطوبة مخطوبة سابقا لخاطب آخر :إذ ل تحل خطبة المخطوبة (، )1
للحديث السابق« :ل يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن» .وقد فصّلت
القول في البند السادس السابق في الخطبة على الخطبة،وظاهر النهي في هذا الحديث وغيره يدل على
التحريم ،ولنه نهي عن الضرار بالنسان ،فكان مقتضاه التحريم كالنهي عن أكل ماله ،وسفك دمه.
فإن فعل ،فزواجه عند الجمهور صحيح وعليه الثم ،ول يفرق بين الزوجين عند الجمهور ،كالخطبة
في العدة؛ لن النهي ليس متوجها إلى نفس العقد ،بل هو متوجه إلى أمر خارج عن حقيقته ،فل
يقتضي بطلن العقد ،كالتوضؤ بماء مغصوب.
وروي عن مالك وداود :أنه ل يصح؛ لنه نكاح منهي عنه ،فكان باطلً كنكاح الشغار .والمعتمد عند
المالكية :أنه إذا رفعت الحادثة لحاكم ،وثبت عنده العقد على المخطوبة ببينة أوإقرار ،وجب عليه
فسخه قبل الدخول بطلقة بائنة.
-------------------------------
( )1مختصر الطحاوي :ص ،178المهذب ،47/2 :القوانين الفقهية :ص ،205الشرح الصغير:
342/2وما بعدها ،المغني.607/6 :
( )9/11
( )9/12
واللئق بمحاسن الشريعة سد الباب والعراض عن مواطن الشبهات من دخول القارب غير المحارم
كالخ وابن العم على بعضهم ،والخلوة بالمرأة الجنبية ،لقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :من كان
يؤمن بال واليوم الخر ،فل يخلون بامرأة ليس معها ذو مَحْرم منها ،فإن ثالثهما الشيطان» ( )1وقوله
عليه الصلة والسلم« :إياكم والدخول على النساء ،فقال رجل من النصار :يا رسول ال ،أفرأيت
حمْو؟ قال :الحمو :الموت» ( )2ومعنى الحمو :يقال :هو أخو الزوج وما أشبه من أقارب الزوج
ال َ
كابن العم ونحوه.
وصرح الشافعية أنه يحرم أيضا النظر إلى الوجه والكفين من كل يد ،من رؤوس الصابع إلى
المعصم عند خوف فتنة تدعو إلى الختلء بالمرأة لجما ع أو مقدماته بل جماع ،وكذا عند المن من
الفتنة فيما يظهر له من نفسه من غير شهوة على الصحيح ،لتفاق المسلمين على منع النساء من
الخروج سافرات الوجوه .ولو نظر إلى الوجه والكفين بشهوة :وهي قصد التلذذ بالنظر المجرد وأمن
الفتنة ،حرم قطعا.
من يحل له النظر :يحل نظر الصبي غير البالغ والمجنون والمستكره ،لعدم الشهوة ،ولقوله تعالى في
آية سورة النور [{ :]31/24:أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} .
ويحل النظر منها بعين غير أولي الربة،لقوله تعالى في سورة النور[{ :]31/24:ول يبدين زينتهن إل
لبعولتهن} { ...أو التابعين غير أولي الربة} والمراد بالربة هنا :الحاجة إلى النساء ،والمراد
بالتابعين :الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ،من غير أن تكون لهم لنساء ،ول ميل لهن.
-------------------------------
( )1رواه أحمد عن جابر ،وفي معناه حديث متفق عليه عن ابن عباس (نيل الوطار.)111/6 :
( )2رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه عن عقبة بن عامر (المرجع السابق).
( )9/13
واختلف السلف وأئمة المذاهب في تعيين المراد بغيرأولي الربة من الرجال ،فقال ابن عباس :هو
المخنث :الذي ل يقوم عليه آلة .وقال مجاهد وقتادة :الذي ل أرب له في النساء.
وذهب الشافعية إلى أن المخنث :وهو المتشبه بالنساء ،والمجبوب :وهو مقطوع الذكر فقط ،والخصي:
وهو من بقي ذكره دون أنثييه ،والخنثى المشكل ،حكمهم حكم الرجل العادي.
ومذهب الحنفية كالشافعية في المخنث :ل يجوز له النظر ،بدليل ما روته عائشة ،قالت :كان يدخل
على أزواج النبي صلّى ال عليه وسلم مخنث ،فكانوا يعدونه من غير أولي الربة ،قالت :فدخل
رسول ال صلّى ال عليه وسلم ذات يوم ،وهو ينعت امرأة ،قال :إذا أقبلت أقبلت بأربع ،وإذا أدبرت
أدبرت بثمان ،فقال :أرى هذا يعرف ما ههنا ،ل يدخل عليكن ،فحجبوه (. )1
هذا يدل على أن النبي حظر دخول المخنث على نسائه؛ لنه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال
الجانب ،وقد نهى الرجل أن يصف امرأته لغيره ( ، )2فكيف إذا وصفها غيرهُ من الرجال؟!.
-------------------------------
( )1أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم(نيل الوطار )115/6 :والمراد بالربع :طيات
البطن من كثرة السمن ،ولكل طية طرفان ،فإذا رآهن الرائي من جهة البطن وجدهن أربعا ،وإذا
رآهن من جهة الظهر وجدهن ثماني .والمقصود أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها
طيات ،وذلك ل يكون إل للسمينة من النساء ،وجرت عادة الرجال غالبا في الرغبة فيمن تكون بتلك
الصفة.
والمخنث :هو الذي يلين في قوله ،ويتكسر في مشيته ،ويتثنى فيها كالنساء ،وقد يكون خلقة ،وقد
يكون تصنعا من الفسقة ،ومن كان ذلك فيه خلقة ،فالغالب من حاله أنه ل أرب له في النساء.
( )2روى البخاري ومسلم (الشيخان) عن ابن مسعود رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلّى ال
عليه وسلم« :ل تباشر المرأة ُالمرأةَ ،فتصفها لزوجها ،كأنه ينظر إليها» ( رياض الصالحين :ص
.) 567
( )9/14
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن المجبوب والكبير والعنّين من أولي الربة ،ومثلهم من ذهبت شهوته
لمرض ل يرجى برؤه ،ودليلهم نفس قصة المخنث السابقة التي يفهم منها أن الشريعة رخصت في
ذلك للحاجة الماسة إليه ،ولقصد نفي الحرج به.
والراجح أن المراد بغير أولي الربة :كل من ليس له حاجة إلى النساء وأمنت من جهته الفتنة ونقل
أوصاف النساء للجانب ،ويشمل الشيخ الذي فنيت شهوته ،والبله الذي ل يدري من أمر النساء شيئا،
والمجبوب ،والخصي ،والممسوح ،والعنّين ،وخادم القوم للعيش ،والمخنث الذي ل يصف المرأة
لغيره ،وليتعين ذلك بنوع من هذه النواع .فإذا كان أحد هؤلء أعرف بالنساء وأقدر على وصفهن،
منع من النظر.
ويحل للرجل بغير شهوة النظر من محرمه النثى من نسب أورضاع أو مصاهرة ما عدا ما بين
السرة والركبة ،فيجوز النظر إلى السرة والركبة؛ لنهما ليسا بعورة بالنسبة لنظر المَحْرَم ،ويحرم
نظر ما بين السرة والركبة منها إجماعا ،ويحتاط في قرابة الرضاع.
ويحل نظر رجل إلى رجل ،وامرأة إلى امرأة إل ما بين سرة وركبة.
النظر للمرأة لحاجة :يباح للضرورة أو للحاجة وبقدر الحاجة نظر الرجل للمرأة الجنبية في أحوال
الخطبة والمعاملة في بيع وإجارة وقرض ونحوها ،والشهادة ،والتعليم ،والستطباب ،وخدمة مريض
أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما ،والتخليص من غرق وحرق ونحوهما ،وكذا عند الحنابلة
حلق عانة من ل يحسن حلق عانته ،ونحوها؛ وذلك بقدر الحاجة؛ لن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها،
فينظر عند الشافعية في المعاملة إلى الوجه فقط ،وعند الحنابلة :إلى الوجه والكفين ،ول يزاد على
النظرة الواحدة إل أن يحتاج إلى ثانية للتحقق ،فيجوز.
( )9/15
وليكن النظر في أحوال الحاجة هذه مع حضور محرم أو زوج؛ لنه ل يأمن مع الخلوة مواقعة
المحظور ،ويستر منها ما عدا موضع الحاجة؛ لنها على الصل في التحريم.
والشرع أباح التعرف على المخطوبة من ناحيتين فقط:
الولى ـ عن طريق إرسال امرأة يثق الخاطب بها تنظر إليها ،وتخبره بصفتها ،روى أنس أنه صلّى
شمّي معاطفها» ( )1وفي
ال عليه وسلم « بعث أم سُليم إلى امرأة ،فقال :انظري إلى عُرْقوبها ،و َ
رواية «شمي عوارضها» :وهي السنان التي في عرض الفم ،وهي ما بين الثنايا والضراس،
والمراد اختبار رائحة النكهة .وأما المعاطف فهي ناحيتا العنق ،والعرقوب :عصب غليظ فوق العقب،
والنظر إلى العرقوب لمعرفة الدمامة والجمال في الرجلين.
وللمرأة أن تفعل مثل ذلك بإرسال رجل ،فلها أن تنظر إلى خاطبها ،فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها.
الثانية ـ النظر مباشرة من الخاطب للمخطوبة للتعرف على حالة الجمال وخصوبة البدن ،فينظر إلى
الوجه والكفين والقامة ،إذ يدل الوجه على الجمال ،والكفان على الخصوبة والنحافة ،والقامة على
الطول والقصر.
-------------------------------
( )1أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي ،وفيه كلم (سبل السلم ،113/3 :نيل الوطار:
)110/6استنكره أحمد ،والمشهور أنه مرسل.
( )9/16
ودل الشرع على جواز رؤية من يريد الرجل خطبتها .روى جابر عن رسول ال صلّى ال عليه
وسلم قال« :إذا خطب أحدكم المرأة ،فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها ،فليفعل» ،
قال جابر« :فخطبت جارية ،فكنت أتخبأ لها ،حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها ،فتزوجتها» ()1
.
وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة ،فقال النبي صلّى ال عليه وسلم « :انظر إليها ،فإنه أحرى أن
يؤدم بينكما» ( )2أرشد النبي صلّى ال عليه وسلم المغيرة إلى رؤية خطيبته قبل الخطبة ،لما في
النظر من فائدة هي صلح حال الزوجين وتحقيق اللفة والمودة بينهما.
حمَيد أو حميدة ،قال :قال رسول ال صلّى ال عليه وسلم « :إذا خطب أحدكم امرأة فل
وعن أبي ُ
خطْبة ،وإن كانت ل تعلم» (. )3
جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها ل ِ
وعن محمد بن الحنفية عند عبد الرزاق وسعيد بن منصور« :أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم،
فذكر له صغرها ،فقال :أبعث بها إليك ،فإن رضيت فهي امرأتك ،فأرسل بها إليه ،فكشف عن ساقها،
فقالت :لول أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك» .والظاهر أنها صارت امرأته بقول علي.
عاشرا ـ مقدار ما يباح النظر إليه (: )4
يرى أكثر الفقهاء أن للخاطب أن ينظر إلى من يريد خطبتها إلى الوجه والكفين فقط؛ لن رؤيتهما
تحقق المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمهما ،فيدل الوجه على الجمال أو ضده لنه مجمع
المحاسن ،والكفان على خصوبة البدن أو عدمها.
وأجاز أبو حنيفة النظر إلى قدميها.
وأجاز الحنابلة النظر إلى ما يظهر عند القيام بالعمال وهي ستة أعضاء :الوجه والرقبة واليد والقدم
والرأس والساق؛ لن الحاجة داعية إلى ذلك ،ولطلق الحاديث السابقة« :انظر إليها» ولفعل عمر
السابق ،وفعل جابر أيضا ،وهذا هو الرأي الراجح لدي ولكن ل أفتي به.
وقال الوزاعي :ينظر إلى مواضع اللحم.
وقال داود الظاهري :يجوز النظر إلى جميع البدن ،لظاهر حديث «انظر إليها» وهذا منكر وشذوذ،
يؤدي إلى الفساد.
-------------------------------
( )1رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات ،وصححه الحاكم (سبل السلم.)113-112/3 :
( )2رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الربعة) (نيل الوطار 109/6 :وما بعدها ،سبل السلم:
)113/3ويؤدم ،يصلح ويؤلف .والمقصود أن تحصل الموافقة والملءمة بينكما.
( )3رواه أحمد عن موسى بن عبد ال عن أبي حميد (نيل الوطار.)110/6 :
( )4المراجع السابقة في البند التاسع.
( )9/17
وللزوج النظر إلى جميع بدن زوجته في حال حياتها ،ولها أيضا النظر إلى جميع بدن زوجها ،حتى
نظر الفرج ،لكن يكره لكل منهما نظر الفرج من الخر.
حادي عشر ـ وقت الرؤية وشرطها :
قال الشافعية ( : )1ينبغي أن يكون نظر الخاطب إلى المرأة قبل الخطبة ،وأن تكون خفية بغير علم
المرأة أو ذويها ،مراعاة لكرامة المرأة وأسرتها ،فإذا أعجبته تقدم لخطبتها من غير إيذاء لها وإحراج
لسرتها ،وهذا هو المعقول ،والراجح عملً بظاهر الحاديث التي تدل على أنه يجوز النظر إليها،
سواء أكان ذلك بإذنها أم ل.
وقال المالكية ( : )2يجوز نظر وجه الزوجة وكفيها خاصة قبل العقد ،ليعلم بذلك حقيقة أمرها بعلم
منها أو وليها ،ويكره استغفالها .والنظر يكون بنفسه أو وكيله إن لم يكن على وجه التلذذ بها ،وإل
منع كما يمنع ما زاد على الوجه والكفين لنه عورة.
الثاني عشر ـ تحريم الخلوة بالمخطوبة :
بينا أن الخطبة ليست زواجا ،وإنما هي مجرد وعد بالزواج ،فل يترتب عليها شيء من أحكام
الزواج ،ول الخلوة بالمرأة أو معاشرتها بانفراد؛ لنها ما تزال أجنبية عن الخاطب ،وقد نهى الرسول
صلّى ال عليه وسلم في الحاديث السابقة عن الخلوة بالجنبية وعن الجلوس معها إل مع محرم
كأبيها أو أخيها أوعمها ،ومن تلك الحاديث« :ل يخلون رجل بامرأة ل تحل له ،فإن ثالثهما الشيطان،
إل مَحْرمٌ» (. )3
وفي هذا القدر أمان وضمان و ُبعْد عن التعرض لمخاطر الحتمالت في المستقبل من فسخ الخطوبة
وغيره ،وبه يتحقق المطلوب بالجلوس والتحدث إلى المرأة عند وجود محرم لها ،وهذا هو الموقف
الحكيم المعتدل دون إفراط ول تفريط.
وأما المعاشرة قبل الزواج والذهاب معا إلى الماكن العامة وغيرها،فهو كله ممنوع شرعا ،بل إنه ل
يحقق الغاية المرجوة ،إذ كل منهما يظهر بغير حقيقته ،كما قيل( :كل خاطب كاذب) .ولن الخاطب
قد يتعجل المور ،وقد يستجيب النسان لتلبية الغريزة ،ويضعف عن مقاومتها في حال النفراد
بالمرأة ،فيقع الضرر بها ،وتتأثر سمعتها عند العدول عن الخطبة.
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.128/3 :
( )2الشرح الصغير ،340/2 :القوانين الفقهية :ص ،194-193مواهب الجليل.404/3 :
( )3رواه أحمد والشيخان عن عامر بن ربيعة (نيل الوطار.)111/6 :
( )9/18
( )9/19
( )9/20
وأخذ القانون المغربي بمذهب المالكية ،والقانون الردني بمذهب الحنفية ،فصرح أنه يجري على
هدايا الخطبة حكم الهبة .وسكوت القانون السوري يتضمن العمل برأي الحنفية ،إذ نص في المادة (
)305على أن «كل ما لم يرد عليه نص في هذا القانون ،يرجع فيه إلى القول الرجح في المذهب
الحنفي» .وجاء في (م4/ف :)3تجري على الهدايا أحكام الهبة.
والراجح لدي أن المرأة تستحق جميع ما قدم لها قبل العقد من هدايا ،بدليل ما رواه الخمسة إل
الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده :أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم قال« :أيما امرأة
نكحت على صداق أو حِبَاء (عطاء) أو عِدَة قبل عصمة النكاح ،فهو لها ،وما كان بعد عصمة النكاح
فهو لمن أعطيه» ( )1وذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو عبيد ومالك ،والهادوية من
الزيدية.
التعويض عن الضرر :أما التعويض عن الضرار المادية أو المعنويةالتي تترتب على فسخ الخطبة،
كشراء بعض المتعة واللبسة ،أو ترك وظيفة أو تفويت خاطب آخر ،أو الساءة لسمعتها بمجرد
العدول عن خطبة طال أمدها كأربع سنوات مثلً ،فلم ينص عليه فقهاؤنا القدامى.
ويمكن إقراره في الفقه الحديث عملً بقواعد الشريعة العامة ،كقاعدة تحريم التغرير وإيجابه الضمان،
وقاعدة ( ل ضرر ول ضرار ) وما يترتب عليها من تطبيق نظرية التعسف في استعمال الحق التي
أخذ بها المالكية والحنابلة ،وراعاها أبو حنيفة في حقوق العلو والجوار.
كما يمكن تأصيل التعويض عن ضرر العدول بمبدأ اللتزام في الفقه المالكي في مشهور القوال:
وهو أنه في الوعد بشيء يقضى بتنفيذ الوعد إن كان مبنيا على سبب ودخل الموعود بالسبب ،أي
فيجب الوفاء بالوعد المعلق على سبب ،وباشر
-------------------------------
( )1نيل الوطار. 174/6 :
( )9/21
الموعود السبب ونفذه .مثل :اشتر سلعة أو تزوج امرأة ،وأنا أسلفك ،فإذا تزوج فعلً وجب عليه
إقراضه .أما مجرد الوعد فل يلزم الوفاء به ،بل الوفاء به من مكارم الخلق.
والذي استقر عليه القضاء المصري الن :ما قررته محكمة النقض سنة (1939م ) وهو ما يلي:
- 1الخطبة ليست بعقد ملزم.
- 2مجرد العدول عن الخطبة ل يكون سببا موجبا للتعويض.
- 3إذا اقترن بالعدول عن الخطبة أفعال أخرى ،ألحقت ضررا بأحد الخطيبين ،جاز الحكم
بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية ،أي الخطأ الذي سبب ضررا بالغير.
وهذا يتفق مع قواعد الشريعة السلمية ،وعلى هذا يفرق بين حالتين:
الولى ـ إذا كان للعادل دخل في الضرر الذي لحق الخر بسبب عدوله ،كأن يطلب الخاطب إعداد
جهاز خاص ،أو يطلب من المخطوبة ترك وظيفتها ،فتتركها بناء على رغبته ،أو تطلب المخطوبة
إعداد الخاطب مسكنا خاصا ،فيجوز الحكم بالتعويض عن الضرر لعدوله عن الخطبة ،لتسبب العادل
في الضرر وتغريره الطرف الخر.
الثانية ـ أل يكون للعادل دخل في الضرر الذي لحق الطرف الخر بسبب العدول ،فل يحكم
بالتعويض على العادل ،إذ لم يوجد منه سبب الضمان من ضرر أو تغرير.
( )9/22
( )9/23
هل يراد شرعا بالنكاح الوطء أو العقد؟ النكاح عند أهل الصول واللغة حقيقة في الوطء ،مجاز في
العقد ،فحيث جاء في الكتاب أو السنة مجردا عن القرائن يراد به الوطء ،كما في قوله تعالى{ :ول
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} [النساء ]22/4:فتحرم مزنية الب على البن ،أي على فروعه،
وتكون حرمتها على الفروع ثاتبة بالنص القرآني .وأما حرمة التي عقد عليها عقدا صحيحا على
الفروع فبالجماع .ولو قال لزوجته :إن نكحتك فأنت طالق ،تعلق الشرط بالوطء ،وكذا لو أبانها قبل
الوطء ،ثم تزوجها ،تطلق بالوطء ،ل بالعقد .أما نكاح المرأة الجنبية فيراد به العقد؛ لن وطأها لما
حرم عليه شرعا ،كانت الحقيقة مهجورة ،فتعين المجاز .والنكاح عند الفقهاء ومنهم مشايخ المذاهب
الربعة :حقيقة في العقد ،مجاز في الوطء؛ لنه المشهور في القرآن والخبار ،وقد قال الزمخشري
وهو من علماء الحنفية :ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إل قوله تعالى{ :حتى تنكح زوجا
غيره} [البقرة ]230/2:لخبر الصحيحين« :حتى تذوقي عسيلته» فالمراد به العقد ،والوطء مستفاد من
هذا الخبر.
الحكم الشرعي للزواج :
الزواج مشروع بالكتاب والسنة والجماع:
أما الكتاب :فقوله ال تعالى{ :فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث ورباع} [النساء]3/4:
الية ،وقوله{ :وأنكحوا اليامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور.]32/24:
وأما السنة :فقول النبي صلّى ال عليه وسلم « :يا معشر الشباب ،من استطاع منكم الباءة ،فليتزوج،
فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ،ومن لم يستطع فعليه بالصوم ،فإنه له وجاء» ( )1والباءة :مؤن
الزواج وواجباته .وآي قرآنية وأخبار سوى ذلك كثيرة.
وأجمع المسلمون على أن الزواج مشروع.
-------------------------------
( )1متفق عليه بين البخاري ومسلم عن عبد ال بن مسعود (سبل السلم.)109/3 :
( )9/24
وحكمة مشروعيته :إعفاف المرء نفسه وزوجه عن الوقوع في الحرام ،وحفظ النوع النساني من
الزوال والنقراض ،بالنجاب والتوالد ،وبقاء النسل وحفظ النسب ،وإقامة السرة التي بها يتم تنظيم
المجتمع ،وإيجاد التعاون بين أفرادها ،فمن المعروف أن الزواج تعاون بين الزوجين لتحمل أعباء
الحياة ،وعقد
مودة وتعاضد بين الجماعات ،وتقوية روابط السر ،وبه يتم الستعانة على المصالح.
وأما نوع أو صفة الزواج شرعاً بحسب طلب الشارع فعله أو تركه ،فيعرف عند الفقهاء بحسب
أحوال الناس (: )1
- 1الفرضية :يكون الزواج عند عامة الفقهاء فرضا إذا تيقن النسان الوقوع في الزنا لو لم يتزوج،
وكان قادرا على نفقات الزواج من مهر ونفقة الزوجة ،وحقوق الزواج الشرعية ،ولم يستطع
الحتراز عن الوقوع في الفاحشة بالصوم ونحوه؛ لنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام ،وما
ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،وطريقه الزواج.
ول فرق بين الفرضية والوجوب عند الجمهور.
ورأى الحنفية :أن الزواج واجب إذا خاف المرء الوقوع في الفاحشة بعدم الزواج خوفا دون اليقين،
وكان قادرا على مؤن الزواج ،من مهر ونفقة ،وليخاف ظلم المرأة ول التقصير في حقها.
- 2التحريم :يحرم الزواج إذا تيقن الشخص ظلم المرأة والضرار بها إذا تزوج ،بأن كان عاجزا
عن تكاليف الزواج ،أو ل يعدل إن تزوج بزوجة أخرى؛ لن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وإذا تعارض ما يجعل الزواج فرضا وما يجعله حراما بأن تيقن أنه سيقع في الزنا إن لم يتزوج،
وتيقن أيضا أنه سيظلم زوجته ،كان الزواج حراما؛ لنه إذا
-------------------------------
( )1تبيين الحقائق ،95/2 :فتح القدير ،342/2 :الدر المختار ،358/2 :البدائع ،228/2 :الشرح
الصغير ،330/2 :القوانين الفقهية :ص ،193بداية المجتهد ،2/2 :المهذب 33/2 :وما بعدها ،مغني
المحتاج 125/3 :وما بعدها ،المغني 446/6 :وما بعدها ،كشاف القناع.4/5 :
( )9/25
اجتمع الحلل والحرام ،غلب الحرام الحلل ،ولقوله تعالى{ :وليستعفف الذين ليجدون نكاحا حتى
يغنيهم ال من فضله} [النور ]33/24:ولحديث «يا معشر الشباب» السابق الذي يرشد إلى الصوم
لعصمة النفس من الشهوات .وربما قيل :يفضل الزواج حينئذ؛ لن الرجل بعد الزواج تلين طباعه،
عقَده ،ولن في عدم الزواج غلبة الظن في الوقوع بالزنا.
وترتقي معاملته ،وتخف قسوته وتزول ُ
- 3الكراهة :يكره الزواج إذا خاف الشخص الوقوع في الجور والضرر خوفا ل يصل إلى مرتبة
اليقين إن تزوج ،لعجزه عن النفاق ،أوإساءة العشرة ،أو فتور الرغبة في النساء .وتكون الكراهة عند
الحنفية تحريمية أو تنزيهية بحسب قوة الخوف وضعفه .ويكره عند الشافعية لمن به علة كهرم أو
مرض دائم أو تعنين دائم ،أو كان ممسوحا ،ويكره أيضا عندهم نكاح بعد خطبة على خطبة غيره إن
عُرّض فيها بالجابة ،ونكاح المحلل إذا لم يشرط في العقد مايخل بمقصوده ،ونكاح الغرور كأن غرر
الزوج بإسلم امرأة أو بحريتها أو بنسب معين.
- 4الستحباب أو الندب في حال العتدال :يستحب عند الجمهور غير الشافعي الزواج إذا كان
الشخص معتدل المزاج ،بحيث ل يخشى الوقوع في الزنا إن لم يتزوج ،ول يخشى أن يظلم زوجته
إن تزوج .وحالة العتدال هذه هي الغالبة عند أكثر الناس.
( )9/26
ودليل كون الزواج سنة الحديث السابق« :يا معشر الشباب» وحديث الرهط الثلثة الذين عزموا على
أمور ،الول ـ أن يصلي الليل أبدا ،والثاني ـ أن يصوم الدهر أبدا ،والثالث ـ أن يعتزل النساء فل
يتزوج أبدا ،فقال النبي صلّى ال عليه وسلم « :أما وال ،إني لخشاكم ل ،وأتقاكم له ،ولكني أصوم
وأفطر ،وأصلي وأرقد ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنتي ،فليس مني» (. )1
ويؤيده أن الرسول صلّى ال عليه وسلم تزوج وداوم عليه ،وكذلك أصحابه تزوجوا وداوموا عليه،
وتابعهم المسلمون في الزواج ،والمداومة والمتابعة دليل السنية.
وهذا الرأي هو المختار.
وقال الشافعي :إن الزواج في هذه الحالة مباح ،يجوز فعله وتركه ،وإن التفرغ للعبادة أو الشتغال
بالعلم أفضل من الزواج؛ لن ال تعالى مدح يحيى عليه السلم بقوله{ :وسيدا وحصورا} [آل عمران:
]39/3والحصور :الذي ل يأتي النساء مع القدرة على إتيانهن ،فلو كان الزواج أفضل لما مدح
بتركه .ورد هذا بأنه شرع من قبلنا ،وشريعتنا على خلفه.
وقال ال تعالى { :زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين } [آل عمران ]14/3:وهذا في معرض
الذم.
وإنما لم يجب لقوله تعالى { :فانكحوا ماطاب لكم من النساء } [النساء ]3/4:إذ الواجب ليتعلق
بالستطابة ،ولقوله تعالى { :مثنى وثلث ورباع } [النساء ]3/4:ول يجب العدد بالجماع ،ولقوله:
{ أو ما ملكت أيمانكم } [النساء.]3/4:
ورد السبكي التعليل الول :بأنه ليس المراد بالية المستطاب ،وإنما المراد الحلل؛ لن في النساء
محرمات بآية { حرمت عليكم أمهاتكم[ }...النساء ]23/4:الية.
-------------------------------
( )1أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس بن مالك رضي ال عنه (جامع الصول.)201/1 :
( )9/27
إعفاف الوالد :تحقيقا للترغيب الشرعي في الزواج قال الشافعية على المشهور ( : )1يلزم الولد ذكرا
كان أو أنثى إعفاف الب والجداد؛ لنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة ،ولئل يعرضهم
للزنا المفضي إلى الهلك ،وذلك ل يليق بحرمة البوة ،وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها
شرعا ،والعفاف :بأن يعطيه مهر امرأة حرة تعفه ،أو يقول :تزوج وأعطيك المهر ،أو يزوجه بإذنه
ويدفع المهر.
ويجب تجديد العفاف إذا ماتت الزوجة ،أو انفسخ النكاح برده منها ،أو فسخ الزوج النكاح بعيب في
الزوجة ،وكذا إذ ا طلق بعذر في الصح.
وإنما يجب العفاف بشرطين:
الول ـ لمن كان فاقد المهر في الواقع .ول يلزم العفاف إذا كان الب قادرا على المهر بالكسب.
الثاني ـ للمحتاج إلى الزواج :بأن تتوق نفسه إلى الوطء ،وإن لم يخف الزنا ،أو كان عنده من ل
تعفه كصغيرة وعجوز شوهاء .ويحرم طلب الزواج ممن لم يضر به العزوبة ،ولم يشق عليه الصبر.
ولو احتاج لعقد النكاح ل للتمتع ،بل للخدمة لنحو مرض ،وجب إعفافه إذا تعينت الحاجة إليه ،لكن ل
يسمى إعفافا.
هل الزواج عبادة؟ الزواج عند الشافعية من العمال الدنيوية كالبيع ونحوه ،وهو ليس بعبادة ،بدليل
صحته من الكافر ،ولو كان عبادة لما صح منه ،والقصد منه قضاء شهوة النفس ،والعمل بالعبادة عمل
ل تعالى ،والعمل ل تعالى أفضل من العمل للنفس.
ورد ذلك بأنه إنما صح من الكافر ،وإن كان عبادة ،لما فيه من عمارة الدنيا ،كعمارة المساجد
والجوامع ،فإن هذه تصح من المسلم ،وهي منه عبادة ،ومن الكافر وليست منه عبادة ،ويدل لكونه
عبادة أمر النبي صلّى ال عليه وسلم ،والعبادة تتلقى من الشرع ،فالزواج من قبيل
-------------------------------
( )1مغني المحتاج.213-211/3 :
( )9/28
العبادة ،لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة التي منها تحصين النفس وإيجاد النسل ،وقال عنه النبي
صلّى ال عليه وسلم « :وفي بُضع أحدكم صدقة» (. )1
ونظرا لضعف هذه الدلة التي ذكرت للشافعي ،قال المام النووي - :وهو من العلماء العزاب -إن
لم يتعبد فاقد الحاجة للنكاح ،واجد الهبة (وهي مؤن الزواج من مهر وكسوة ونفقة يومه) ،فالنكاح له
أفضل من تركه في الصح ،كيل تفضي به البطالة والفراغ إلى الفواحش .وقال :النكاح مستحب
لمحتاج إليه يجد أهبته ،فإن فقدها استحب تركه ،ويكسر شهوته بالصوم ،فإن لم يحتج كره إن فقد
الهبة ،وإل فل يكره له لقدرته عليه.
وقال الظاهرية :إن الزواج في حالة العتدال هذه فرض ،متى كان النسان قادرا عليه ،وعلى مؤنه
المطلوبة ،بدليل ظواهر اليات السابقة{ :فانكحوا ما طاب[ }...النساء{ ]3/4:وأنكحوا اليامى منكم}
[النور ]32/24:والحاديث المتقدمة « :من استطاع منكم الباءة فليتزوج » والمر يفيد الوجوب،
فيكون الزواج واجبا .ورد عليهم بأن هذا الوجوب مصروف إلى الندب والستحباب بدليل قوله:
{مثنى وثلث ورباع} [النساء ]3/4:وقوله{ :أو ما ملكت أيمانكم} [النساء ]3/4:ولن النبي صلّى ال
عليه وسلم لم يحتم الزواج على كل واحد.
عكّاف بن َودَاعة« :أنه أتى النبي
ويؤيد هذا الرأي ما رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن عبد البر عن َ
صلّى ال عليه وسلم ،فقال له :ألك زوجة يا عكاف؟ قال :ل ،قال :ول جارية؟ قال :ل ،قال :وأنت
صحيح موسر؟ قال :نعم ،والحمد ل ،فقال :فأنت إذن من إخوان الشياطين :إن كنت من رهبان
النصارى ،فالحق بهم ،وإن كنت منا فاصنع كما نصنع ،فإن سنتنا النكاح ،شراركم عزّابكم ،وإن أرذل
موتاكم عزابكم» (. )2
ورد بأن إيجاب الزواج على شخص ل يستلزم إيجابه على الناس جميعا؛ لن سبب وجوبه وجد في
حقه ،دون غيره من الناس.
-------------------------------
( )1من حديث أبي ذر عند مسلم ،ومطلعه :ذهب أهل الدثور بالجور.
( )2قال الهيثمي :وفيه راوً لم يسم ،وبقية رجاله ثقات.
( )9/29
( )9/30
الول ـ في قوله تعالى{ :وامرأةً مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ،إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة
لك من دون المؤمنين} [الحزاب ]50/33:والخصوصية للنبي في صحة الزواج بدون مهر ،ل
باستعمال لفظ الهبة.
والثاني ـ قول الرسول صلّى ال عليه وسلم لرجل لم يملك مالً يقدمه مهرا« :قد ملكتكها بما معك
من القرآن» ( . )1وهذا هو الراجح لدي؛ لن العبرة في العقود للمعاني ل لللفاظ والمباني.
- 2وقال الشافعية والحنابلة :ل ينعقد الزواج بها ،ول ينعقد إل بلفظ النكاح أو التزويج ،لورودهما
في القرآن كما تقدم ،فيلزم القتصار عليهما ،ول يصح أن ينعقد بغيرهما من اللفاظ؛ لن الزواج عقد
يعتبر فيه النية مع اللفظ الخاص به ،وآية{ :إن وهبت نفسها للنبي} [الحزاب ]50/33:من
خصوصيات النبي صلّى ال عليه وسلم .وحديث «ملكتكها» إما وهم من الراوي ،أو أن الراوي رواه
بالمعنى ،ظنا منه ترادف هذا اللفظ مع لفظ الزواج ،وبتقدير صحة الرواية ،فهي معارضة برواية
الجمهور« :زوجتكها» .
وخلصة المذاهب ما يأتي:
ينعقد الزواج عند الحنفية ( )2بكل لفظ يدل على تمليك العيان في الحال ،كلفظ الهبة والتمليك
والصدقة والعطية والقرض والسلَم والستئجار ( )3والصلح والصرف ،والجعل والبيع والشراء،
بشرط نية أو قرينة ،وفهم الشهود المقصود .ول ينعقد بقوله :تزوجت نصفك على الصح احتياطا،
بل ل بد أن يضيفه إلى كلها أو ما يعبر به عن الكل ،ومنه الظهر والبطن على الشبه.
وينعقد عند المالكية ( )4بلفظ التزويج والتمليك ،وما يجري مجراهما كالبيع والهبة والصدقة والعطية،
ول يشترط ذكر المهر ،لنعقاد العقد ،وإن كان ل بد منه ،فيكون شرطا لصحة العقد كالشهود ،إل إذا
كان بلفظ الهبة ،واللفاظ أربعة :الول ـ ما ينعقد به الزواج مطلقا سواء سمى العاقد صداقا أم ل
وهو
-------------------------------
( )1متفق عليه عن سهل بن سعد (نيل الوطار.)170/6 :
( )2الدر المختار وحاشية ابن عابدين 369 ،365-364/2 :وما بعدها.
( )3بأن جعلت المرأة بدلً ،مثل :استأجرت دارك بنفسي أو ببنتي عند قصد النكاح ،بخلف الجارة
مثل :آجرتك نفسي بكذا.
( )4شرح الرسالة ،26/2 :الشرح الكبير ،221/2 :الشرح الصغير.350/2 :
( )9/32
أنكحت وزوجت ،والثاني ـ ماينعقد به إن سمى صداقا وإل فل ،وهو وهبت فقط ،والثالث ـ ما فيه
التردد ،وهو كل لفظ يقتضي البقاء مدة الحياة ،مثل :بعت لك ابنتي بصداق قدره كذا ،أو ملكتك إياها
أو أحللت أو أعطيت أو منحتك إياها .قيل :ينعقد به إن سمى صداقا ،وقيل :لينعقد به مطلقا .والرابع
ـ ما ل ينعقد به اتفاقا :وهو كل لفظ ل يقتضي البقاء مدة الحياة كالحبس والوقف والجارة والعارة
والعمرى أي أعمرتك ،وهوالراجح.
وينعقد الزواج عند الشافعية والحنابلة ( )1بلفظ التزويج والنكاح فقط ،دون ماعداهما كالهبة والتمليك
والجارة ،اقتصارا على المذكور في القرآن.
المعاطاة :اتفق الفقهاء على عدم انعقاد الزواج بالتعاطي ،احتراما لمر الفروج ،وخطورتها وشدة
حرمتها ( ، )2فل يصح العقد عليها إل بلفظ صريح أو كناية عند الحنفية والمالكية ،وبلفظ صريح
عند الشافعية والحنابلة كما تقدم .ول ينعقد الزواج على المختار عند الحنفية بالقرار ،أي أن القرار
ليس من صيغ العقد ،فلو قالت امرأة :أقر بأنك زوجي ،ولم تكن قد حدثت زوجية بينها وبين الرجل،
فإنه ل يصح ،لن القرار إظهار لما هو ثابت وليس بإنشاء.
اللفاظ المصحفة ( : )3ل ينعقد الزواج عند الحنفية باللفاظ المصحفة ،مثل (تجوزت) أو جوزت
أوزوزت،بدل «تزوجت» لعدم القصد الصحيح ،لكن لو اتفق قوم على النطق بهذه الغلطة ،بحيث إنهم
يطلبون بها الدللة على حل الستمتاع ،وتصدر عن قصد واختيار منهم ،فينعقد بها الزواج؛ لنه
والحالة هذه
-------------------------------
( )1المهذب ،41/2 :مغني المحتاج ،139/3 :كشاف القناع ،37/5 :المغني.532/6 :
( )2الدر المختار وابن عابدين 372/2 :وما بعدها.
( )3التصحيف :هو تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المقصود من الوضع اللغوي.
( )9/33
يكون وضعا جديدا منهم ( ، )1أي أن اللفظ أصبح دالً على الزواج عرفا ،فينعقد به الزواج ،فل يفهم
العاقدان والشهود من تلك اللفاظ إل أنها عبارة عن التزويج ،ول يقصد منها إل ذلك المعنى بحسب
العرف.
وقال الشافعية :ينعقد الزواج باللفاظ المحرفة مثل :جوزتك موكلتي.
اللفاظ غير العربية :اتفق أكثر الفقهاء على أن الجنبي غير العربي العاجز عن النطق بالعربية يصح
انعقاد زواجه بلغته التي يفهمها ويتكلم بها؛ لن العبرة في العقود للمعاني ،ولنه عاجز عن العربية،
فسقط عنه النطق بالعربية كالخرس .وعليه أن يأتي بمعنى التزويج أو النكاح بلسانه ،بحيث يشتمل
على معنى اللفظ العربي.
أما إذا كان العاقد يحسن التكلم بالعربية :فيجوز عند الجمهور في الصح عند الشافعية النطق بكل لغة
يمكن التفاهم بها؛ لن المقصود هو التعبير عن الرادة ،وذلك واقع في كل لغة ،ولنه أتى بلفظه
الخاص ،فانعقد به ،كما ينعقد بلفظ العربية.
وقال الحنابلة :ل يجوز الزواج إل بالعربية لمن قدر عليها ،فمن قدر على لفظ الزواج بالعربية ،لم
يصح بغيرها؛ لنه عدل عن لفظي ( النكاح والتزويج ) مع القدرة عليهما ،فلم يصح ،كما لم يصح
بألفاظ الهبة والبيع والحلل (. )2
وقد أخذ القانون السوري (م )6برأي الجمهور ،فنص على أنه :يكون اليجاب والقبول في الزواج
باللفاظ التي تفيد معناه لغة أو عرفا.
-------------------------------
( )1الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 370/2 :وما بعدها.
( )2ابن عابدين ،371/2 :مغني المحتاج ،140/3 :كشاف القناع ،39-38/5 :المغني 533/6 :وما
بعدها.
( )9/34
( )9/35
وتوجيه ذلك عند الحنفية ( : )1أن قول الرجل يتضمن توكيل المرأة في أن تزوجه بنفسها ،فقولها:
زوجتك نفسي ،قام مقام اليجاب والقبول .والتوجيه عند المالكية أن صيغة المر تعتبر إيجابا للعقد
عرفا ،ول تعتبر توكيلً ضمنيا .وهذا القول أوجه.وعبارة المالكية :ينعقد النكاح باليجاب
والستيجاب ،أي طلب اليجاب.
د ـ أما انعقاد الزواج بلفظ الستفهام مثل قول رجل لخر :زوجتني ابنتك؟ فقال الخر :زوجت ،أو
قال :نعم ،فل يكون عند الحنفية زواجا ،ما لم يقل الموجب بعدئذ :قبلت؛ لن قوله :زوجتني؟ استفهام
أو استخبار ،وليس بعقد ،بخلف صيغة المر :زوجني ،فإنه توكيل ضمني ،كما عرفنا.
والخلصة :ل ينعقد الزواج عند الشافعية إل بصيغة الماضي ،ومن مادة الزواج والنكاح ،وينعقد عند
المالكية والحنفية بالماضي والمضارع والمر ،إذا دلت القرينة أو دللة الحال على أنه لليجاب ،ل
للوعد.
ول يشترط عند الجمهور غيرالحنابلة تقديم اليجاب على القبول ،بل يندب ،بأن يقول الولي :زوجتك
إياها أو أنكحتك .وقال الحنابلة :إذا تقدم القبول على اليجاب ،لم يصح ،سواء أكان بلفظ الماضي:
تزوجت ،أم بلفظ الطلب :زوجني.
-------------------------------
( )1وهذا مقتضى الستحسان عندهم الذي تركوا به القياس لما روي «أن بللً رضي ال عنه خطب
إلى قوم من النصار ،فأبوا أن يزوجوه ،فقال :لول أن رسول ال صلّى ال عليه وسلم أمرني أن
أخطب إليكم ،لما خطبت ،فقالوا له :ملكت» ولم ينقل أن بللً أعاد القول :ولو فعل لنقل.
( )9/36
( )9/37
( )9/38
( )9/39
( )9/40