You are on page 1of 162

‫ســـــر‬

‫نهضتنـــــــا‬
‫كيف يمكن للقرآن‬
‫أن ينهض بالمة؟‬

‫تأليف‬
‫مجدي الهللي‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫الطبعة الولى‬
‫‪1 4 2 7‬هـ ‪2 0 0 6 -‬م‬

‫رقم اليداع‪7 9 2 5 / 2 0 0 6 :‬م‬


‫بطاقة الفهرسة‬
‫فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة‬
‫لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشئون الفنية‬
‫الهللي‪ ،‬مجدي‬
‫أنه القرآن‪ /‬سر نهضتنا‪ ،‬كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالمة؟‬
‫تأليف مجدي الهللي‪ .‬ط ‪ -1‬القاهرة‬
‫مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة ‪2 0 0 6 ،‬‬
‫تدمك‪9 7 7 - 6 1 1 9 - 8 5 -9 :‬‬ ‫‪ 1 6 0‬ص‪ 2 3 ،‬سم‬
‫‪ – 2‬العنوان‬ ‫‪ -1‬القرآن والمجتمع‬
‫‪2 2 9. 4 3‬‬

‫مركز السلم‬
‫الفني‬ ‫للتجهيز‬
‫الحميد عمر‬ ‫عبد‬
‫‪01 06 96‬‬‫مؤسسة اقرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة ‪ -‬بجوار حديقة الفسطاط‬
‫القاهرة ت‪ 5326610 :‬محمول‪0101175447 -0102327302:‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪E-mail:info@iqraakotob.com‬‬
‫المقـــــــدمــة‬
‫‪3‬‬

‫المقدمــة‬
‫الحمد لله الرحيم الودود‪ ،‬والصلة والسلم على‬
‫المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فل يخفى على أحد الواقع المرير الذي تعيشه أمتنا‬
‫السلمية في هذا العصر‪ ،‬فلقد أصبحت بل قيمة ول‬
‫اعتبار‪ ،‬تكالب عليها الجميع‪ ،‬وصارت عبرة بين المم في‬
‫الذل والهوان والتخلف والظلم‪.‬‬
‫…هذا الواقع الليم دفع المخلصين من أبنائها إلى‬
‫البحث عن سبل لنهضتها وخروجها من النفق المظلم‬
‫الذي تسير فيه‪ ،‬وتعالت الصوات من هنا وهناك تنادي‬
‫بضرورة وجود مشروع للنهضة تلتف المة كلها‬
‫حوله وتتبناه‪.‬‬
‫…تعددت الطروحات والمقترحات حول نقطة البداية‬
‫لمشروع النهضة‪ ،‬فمن قائل‪ :‬نأخذ بأسباب التقدم‬
‫العلمي كما أخذ بها الغرب فنصير مثلهم‪ ،‬ومن قائل‪ :‬بل‬
‫وجودنا كقوة اقتصادية تفرض نفسها على الجميع هو‬
‫الحل المثل لعودة مجدنا مرة أخرى‪..‬‬
‫‪..‬هذه وغيرها أمثلة للرؤى التي تُطرح اليوم‪ ،‬بيد أن‬
‫أصحاب تلك الطروحات ‪-‬على أهميتها‪ -‬قد غفلوا عن‬
‫حقيقة مهمة‪ ,‬وهي أن المة السلمية ليست كبقية‬
‫المم عند الله عز وجل‪ ،‬لذا فإن سبيل نهضتها لبد أن‬
‫يختلف عن سبيل نهضة المم الخرى‪ ،‬فما يصلح لغيرنا‬
‫ليس بالضرورة يصلح لنا أو يصل بنا إلى ما وصلوا إليه‪.‬‬
‫ومما يؤكد هذا المعنى أن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬قد‬
‫ربط بين تقدمنا وعلونا كأمة إسلمية وبين إيماننا ومدى‬
‫ؤ ِمنِيَ [آل عمران‪]139:‬‬
‫ارتباطنا به‪َ .‬وأَنُتمُ الَ ْع َلوْنَ إِن كُنتُم ّم ْ‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪4‬‬

‫وليس معنى هذا أن نترك الجتهاد في تحصيل‬


‫السباب المادية‪،‬‬
‫بل المقصد هو إعادة ترتيب الولويات وعدم مقارنتنا‬
‫بالمم الخرى‬
‫في كل شيء‪.‬‬
‫فمشروع النهضة الذي ينبغي أن نتبناه جميعًا لبد أن‬
‫يكون هدفه الول إعادة المة إلى مكانتها عند الله‪ ،‬ليعيد‬
‫لها سبحانه دورها القيادي بين المم‪،‬وكيف ل‪ ،‬ومفاتيح‬
‫ستَضْ َعفُونَ‬
‫التمكين بيده وحده سبحانه َوَأوْ َرْثنَا الْ َق ْومَ اّلذِينَ كَانُوا يُ ْ‬
‫مَشَا ِرقَ الَ ْرضِ وَمَغَا ِرَبهَا اّلتِي بَارَ ْكنَا فِيهَا [العراف‪.]137:‬‬

‫وبيده وحده مقاليد النصر والسيادة َونُرِيدُ أَن نّمُنّ َعلَى‬


‫جعَ َل ُهمْ َأئِمّةً َونَجْ َعلَ ُهمُ اْلوَا ِرِثيَ [القصص‪.]5:‬‬
‫ستُضْعِفُوا فِي الَ ْرضِ َونَ ْ‬
‫اّلذِينَ ا ْ‬
‫مع الخذ في العتبار أن الجتهاد في تحصيل السباب‬
‫المادية له‬
‫دور كبير في نهضة أي أمة‪ ،‬ومع أهميته الكبرى إل أنه ل‬
‫يأتي في‬
‫المقدمة بالنسبة لنا‪.‬‬
‫ولن كيان المة يتشكل من مجموع الفراد‪ ،‬فإن‬
‫نقطة البداية وحجر الزاوية في النهضة لبد أن ينطلق‬
‫من صلح الفرد لتنصلح بذلك المة‪ ,‬فيرضى الله عنها‬
‫ويعيد لها مجدها السليب‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬وما الوسيلة التي يمكنها أن تقوم بذلك‬
‫فتسع جميع أفراد المة من شرقها إلى غربها‪ ،‬وبكل‬
‫مستوياتها‪ ،‬ول تكون في الوقت نفسه – موضع اختلف‬
‫– بل موضع إجماع من الجميع‪ ،‬سلفهم وخلفهم؟!‬
‫…من أجل الجابة عن هذا السؤال كانت تلكم‬
‫الصفحات‪ ,‬التي نسأل الله أن يلهمنا فيها الرشد‬
‫والسداد‪ ،‬ويجنبنا الزلل‪ ،‬وأن تصحبنا فيها رعايته وفضله‬
‫وتوفيقه وأن يتقبلها منا ومن كل من ساهم فيها‪ ،‬إنه نعم‬
‫المقـــــــدمــة‬
‫‪5‬‬

‫سبْحَانَكَ لَ ِع ْلمَ َلنَا إِلّ مَا عَلّ ْمَتنَا ِإنّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ‬
‫المولى ونعم النصير ُ‬
‫الْحَكِيمُ ‪.‬‬
‫الفقير إلى عفو ربه‬
‫مجدي الهللي‬
‫‪www.alemanawalan.com‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪6‬‬
‫‪‬السباب المادية‬
‫والمعنوية‪.‬‬
‫‪‬النتائج من الله ل من‬
‫السباب‪.‬‬
‫‪‬ستار السباب‪.‬‬
‫‪‬هل السباب متاحة‬
‫للجميع؟‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪8‬‬
‫الفصل الول‪ :‬السباب والنتائج‬
‫‪9‬‬

‫الســـــباب والنتائـج‬

‫السباب المادية والمعنوية‪:‬‬


‫خلق الله عز وجل الرض‪ ،‬وجعل القانون الذي‬
‫يحكمها وينظم الحياة عليها هو قانون السببية‪ ،‬فلكي‬
‫نحصل على نتيجة ما‪ ،‬لبد من اتخاذ أسباب بعينها تؤدي‬
‫إليها‪ ،‬والسباب التي من شأنها أن تؤدي إلى حدوث‬
‫النتائج تنقسم إلى قسمين‪ :‬قسم مادي‪ ،‬وقسم معنوي‪.‬‬
‫القسم المادي هو القسم الذي يتعامل مع المادة‬
‫المتعلقة بحدوث النتيجة المطلوبة‪ ،‬فالعطشان الذي‬
‫يريد أن يرتوي عليه أن يشرب الماء‪ ،‬والجائع عليه أن‬
‫يأكل ليشبع‪ ،‬والذي يريد الوصول إلى مكان ما عليه أن‬
‫يسير إليه أو يتخذ وسيلة مواصلت مناسبة تقوم‬
‫بتوصيله للمكان الذي يريد‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫وكما نرى فالقوانين المادية نتائجها في الغالب‬
‫معروفة ومحددة‪.‬‬
‫أما القسم المعنوي للقوانين فهو يتعلق بتنفيذ أمور‬
‫غير مادية تؤدي إلى تحقيق نتائج مادية ملموسة‪ ،‬أو‬
‫تنفيذ أمور مادية ليس لها علقة ظاهرية بالنتائج التي‬
‫تُحدثها‪...‬وإليك أخي القارئ أمثلة لهذا القسم‪:‬‬
‫الستغفار شيء معنوي‪ ،‬لكن الله عز وجل أخبرنا في‬
‫كتابه وعلى لسان نبيه بأن للستغفار نتائج مادية‬
‫سلِ السّمَاءَ عَ َليْكُم‬
‫كمْ ِإنّهُ كَانَ َغفّارًا ُيرْ ِ‬
‫ستَغْ ِفرُوا َربّ ُ‬
‫كقوله تعالى‪ :‬فَ ُقلْتُ ا ْ‬
‫كمْ َأ ْنهَارًا [نوح‪:‬‬ ‫جعَل لّ ُ‬
‫جنّاتٍ َويَ ْ‬
‫كمْ َ‬ ‫ّم ْدرَارًا َويُ ْمدِ ْد ُكمْ بَِأ ْموَالٍ َوَبنِيَ َويَجْعَل لّ ُ‬
‫‪.]12 :10‬‬
‫وفي الحديث‪« :‬من لزم الستغفار جعل الله له من‬
‫جا‪ ،‬ورزقه من حيث ل‬‫جا‪ ،‬ومن كل هم فر ً‬
‫كل ضيق مخر ً‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪10‬‬
‫(‪)1‬‬
‫يحتسب»‬
‫•الدعاء أمر معنوي لكنه من شأنه أن يؤدي إلى‬
‫نتائج مادية محسوسة مثل ما حدث للثلثة نفر‬
‫الذين دخلوا إلى مغارة‪ ،‬وجاءت صخرة عظيمة‬
‫فسدت عليهم باب الخروج‪ ،‬وحاولوا زحزحتها‬
‫فلم يستطيعوا‪ ،‬فما كان منهم إل أن دعوا الله‬
‫بإخلص أن يفرج عنهم كربهم‪ ,‬فاستجاب الله‬
‫(‪)2‬‬
‫لهم وأزيحت الصخرة‪ ،‬وخرجوا جميعًا‪.‬‬
‫•المرض له أسباب‪ ،‬وعندما يتناول المريض‬
‫الدواء المعالج لسبب المرض فغالبًا ما يُشفى ‪-‬‬
‫بإذن الله‪ -‬ولكن هناك أمور أخرى ليس لها‬
‫علقة بأسباب المرض من شأنها أن تؤدي إلى‬
‫الشفاء؛ كماء زمزم‪ ،‬والصدقة‪...‬‬
‫قال ‪«:‬داووا مرضاكم بالصدقة»(‪.)3‬‬
‫•ومن أمثلة السباب المعنوية كذلك صلة‬
‫الستسقاء‪ ،‬فالجو قد يكون صحوا‪ ،‬والسماء‬
‫صافية ويحتاج المسلمون إلى الماء فيخرجون‬
‫للصلة متذللين متخشعين منكسرين لله عز‬
‫وجل‪ ،‬فترى السماء الصافية وقد تلبدت بالغيوم‬
‫وتجمعت فيها السحب‪ ،‬ونزل المطر‪ ،‬كما حدث‬
‫في عهد الرسول ‪ ،‬وكما تكرر كثيًرا عبر‬
‫تاريخنا السلمي‪.‬‬
‫النتائج من الله ل من السباب‪:‬‬
‫قد يقول قائل‪ :‬إذن نركز على السباب المعنوية‬
‫باعتبار أن نتائجها كبيرة ول تكلفنا شيئًا‪ ،‬ونترك السباب‬
‫المادية‪ ..‬نترك التداوي‪ ..‬نترك الطعام‪ ..‬نترك …‪ .‬ونتجه‬
‫إلى الدعاء والصدقة والستغفار …‬
‫لو فعلنا ذلك ما تحققت نتائج‪ ،‬فالله عز وجل هو‬
‫‪1‬‬
‫() رواه أبو داود (‪ ، )1518‬وأحمد (‪ ، )2234‬وابن ماجه(‪.)3819‬‬
‫‪2‬‬
‫() انظر نص الحديث في البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() حسن ‪،‬حسنه اللباني في صحيح الجامع الصغير ح(‪.)3358‬‬
‫الفصل الول‪ :‬السباب والنتائج‬
‫‪11‬‬

‫الذي خلق السباب المادية والمعنوية‪ ،‬وهو الذي طالبنا‬


‫باتخاذ كليهما‪ ،‬على أن يكون التعامل معها باعتبار أنها ل‬
‫تملك قوة‪ ،‬ول فاعلية ذاتية تمكنها من تحقيق النتيجة‪،‬‬
‫فالمر كله مع الله‪ ،‬والسباب هي الستار الذي يتنزل من‬
‫خلله قَدَُره سبحانه…‬
‫فالله عز وجل هو الذي يروي ويشعرنا بالرواء‪ ،‬لكنه‬
‫جعل هذا المر يتحقق من خلل سبب مادي وهو شرب‬
‫الماء‪ ،‬وهو سبحانه الذي يشفي‪ ،‬وجعل ذلك من خلل‬
‫بث الفاعلية في الدواء أو في الصدقة‪ ،‬وهكذا …‬
‫ولعل عدم ملزمة النتائج للسباب في بعض الحيان‬
‫دليل يؤكد للناس هذه العقيدة‪ ،‬فالنوم سبب للراحة وفي‬
‫بعض الحيان ينام النسان طويل ً ويستيقظ وهو يشعر‬
‫ص الحديث النبوي على أن من ينام‬ ‫بالتعب ‪ ،‬بل لقد ن َّ‬
‫عن صلة الفجر‪ ,‬ولو كان نومه طويلً ‪ ,‬إل أنه يُصبح‬
‫«خبيث النفس كسلن»(‪ ،)1‬وكذلك الدواء قد ل يكون سببًا‬
‫للشفاء‪ ،‬ويظل المريض ينتقل من دواء لدواء دون نتيجة‪.‬‬
‫خطورة التعلق بالسباب‪:‬‬
‫عندما يتعامل المرء مع السباب على أنها هي التي‬
‫تستجلب له النتائج فإنه بذلك يقع في منزلق خطير‬
‫يؤدي به إلى الوقوع في دائرة الشرك بالله‪ ،‬وتتحول‬
‫خلقت إل‬‫السباب إلى جدار يحجبه عن الله‪ ،‬مع أنها ما ُ‬
‫لتكون ستاًرا يرى العبد من ورائه حكمة الله‪ ،‬ولطفه‪،‬‬
‫ورحمته‪ ،‬وقهره‪ ,‬و…‬
‫ومن مخاطر التعلق بالسباب كذلك أن الفزع‬
‫سيتملك القلب كلما نقصت السباب‪ ،‬والفرح سيملؤه‬
‫عندما تزداد‪ ،‬ويتحول العتماد عليها في تحقيق النتائج ل‬
‫على الله‪ ،‬وقد نص القرآن على حال المشركين الذين‬
‫إذا ذكر من هم دون الله من شركائهم يفرحون‬
‫حدَهُ اشْ َمأَزّتْ ُقلُوبُ اّلذِينَ لَ ُيؤْ ِمنُونَ بِالَخِرَةِ‬
‫ويستبشرون َوإِذَا ذُ ِكرَ الُ َو ْ‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪12‬‬

‫[الزمر‪.]45:‬‬ ‫شرُونَ‬
‫سَتبْ ِ‬
‫َوإِذَا ذُ ِكرَ اّلذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا ُهمْ يَ ْ‬
‫ستار السباب‪:‬‬
‫ِ‬
‫إذن فالسباب ستار لبد من إقامته ليتنزل عليه‬
‫القدر… هذا الستار يبدأ بالسباب المادية المتاحة أول‪ً،‬‬
‫ثم بالمعنوية ثانيًا‪ ,‬كما قال للرجل الذي ترك دابته‬
‫(‪)1‬‬
‫دون عقال‪« :‬اعقلها وتوكل»‪.‬‬
‫فإن اقتصر الستار على السباب المادية كان حجمه‬
‫محدودًا‬
‫ونتائجه محدودة‪.‬‬
‫وإن حاول النسان إقامته من السباب المعنوية فقط‬
‫دون استخدام السباب المادية المتاحة أمامه فهذا سوء‬
‫أدب مع الله‪ ،‬ولن يتحقق له ما يريد لنه خالف بذلك‬
‫القوانين التي وضعها الله عز وجل لقامة الحياة‬
‫والوصول إلى النتائج‪.‬‬
‫وإن جمع بين الثنين فهو بذلك يزيد من حجم الستار‬
‫فيتنزل القدر بنتائج ل حدود لها‪...‬تأمل قوله ‪« :‬لو أنكم‬
‫(‪)2‬‬
‫تتوكلون على ال حق توكله لرزقكم كما يرزق الطي تغدو خاصًا وتروح بطانًا»‪.‬‬
‫مع ملحظة أن تغدو وتروح هي السباب المطلوب‬
‫من الطير أن تفعلها وتأخذ بها فقط‪.‬‬
‫ومن المثلة التي تؤكد هذا المعنى‪ :‬شكوى الصحابة‬
‫من قلة الماء واحتياجهم للشرب والوضوء‪ ،‬فماذا فعل‬
‫؟ أقام الستار بالسباب المادية أولً‪:‬طلب الماء القليل‬
‫الموجود‪ ،‬ثم وضع يده الشريفة فيه ودعا الله بعد ذلك‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فنبع الماء من بين أصابعه‪ ،‬وشرب الجميع وتوضأوا…‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الترمذي وقال حديث حسن‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الترمذي (‪ )2345‬وقال ‪ :‬حديث حسن ‪ ،‬وأخرجه أحمد ‪ ، 1/30‬وابن‬
‫صا ‪:‬أي ضامرة البطون من الجوع ‪ ،‬وبطانًا‪ :‬أي‬ ‫ماجه (‪ .)4164‬ومعنى خما ً‬
‫ممتلئة البطون‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() روى البخاري عن ابن مسعود قال ‪ :‬بينما نحن مع رسول الله وليس‬
‫معنا ماء ‪ ،‬فقال لنا رسول الله «اطلبوا من معه فضل ماء» فأتي بماء فصبه في‬
‫إناء ‪ ،‬ثم وضع كفه فيه ‪ ،‬فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ‪.‬‬
‫الفصل الول‪ :‬السباب والنتائج‬
‫‪13‬‬

‫وكذلك ما حدث لمريم الصدِّيقة حين جاءها المخاض‬


‫وهي تستند بظهرها على جذع نخلة ل ثمر فيها‪ ،‬فطلب‬
‫الله منها أن تهز الجذع بيدها كستار مادي‪ ،‬مع توكلها‬
‫المطلق على الله عز وجل كستار معنوي‬
‫جذْعِ النّخْ َلةِ تُسَاقِطْ‬
‫ليتنزل القدر ويسقط الرطب َوهُزّي ِإَليْكِ بِ ِ‬
‫جِنيّا [مريم‪.]25:‬‬
‫عَ َليْكِ ُر َطبًا َ‬
‫وعندما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلم أن‬
‫حجّ‬‫ينادي على الناس‪،‬داعيًا إياهم إلى الحج َوَأذّن فِي النّاسِ بِالْ َ‬
‫يَ ْأتُوكَ ِرجَالً [الحج‪ .]27:‬قال عليه السلم‪ :‬يارب كيف أبلغ‬
‫الناس وصوتي ل ينفذهم؟ فقال تعالى‪ :‬ناد وعلينا البلغ‪،‬‬
‫فقام على مقامه‪ ،‬وقيل على الحجر‪ ،‬وقيل على الصفا‪،‬‬
‫وقيل على أبي قبيس‪ ،‬وقال‪ :‬يا أيها الناس إن ربكم قد‬
‫اتخذ بيتًا فحجوه‪ ،‬فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ‬
‫الصوت أرجاء الرض‪ ،‬وأسمع من في الرحام‬
‫(‪)1‬‬
‫والصلب‪..‬‬
‫فإن قلت ولماذا يُبدأ بالسباب المادية لتكوين‬
‫الستار؟‬
‫لن السباب المادية جعلها الله متاحة للجميع‪..‬‬
‫المؤمن والكافر‪ ،‬وبالتالي يمكن لي إنسان أن يحصل‬
‫على النتائج من خللها‪ ،‬ولو كانت البداية بالسباب‬
‫حرم الكافر من النتائج التي تكفل له العيش‬ ‫المعنوية ل ُ‬
‫م فإنه لن يأخذ‬ ‫وتوفر له الحتياجات الساسية‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫فرصته الكاملة في التعرف على الله وتوحيده وعبادته‪.‬‬
‫هل السباب متاحة للجميع؟!‬
‫الله عز وجل خلق الرض وقدَّر فيها القوات‬
‫والرزاق والسباب التي تيسر للناس معاشهم فيها‪،‬‬
‫حا للجميع‪ ...‬سواء‬ ‫وجعل التعامل مع أسبابها متا ً‬
‫للسائلين‪ ،‬فعلى قدر اجتهاد النسان وسعيه في الوصول‬
‫إلى مكنوناتها واستخدام أسبابها ‪ ،‬يصل إلى مبتغاه‬
‫ويحصل على نتيجة جهده وسعيه‪ ..‬يستوي في ذلك‬
‫‪1‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪.3/204‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪14‬‬

‫المؤمن والكافر وَجَ َعلَ فِيهَا َروَا ِسيَ مِن َفوْ ِقهَا َوبَارَكَ فِيهَا وَ َقدّرَ فِيهَا أَ ْقوَاتَهَا‬
‫لءِ مِنْ عَطَاءِ‬ ‫لءِ َو َهؤُ َ‬
‫سوَاءً لّلسّائِ ِليَ [فصلت‪ ,]10:‬كُلً نّ ِمدّ َهؤُ َ‬ ‫فِي أَ ْربَ َعةِ َأيّامٍ َ‬
‫َربّكَ وَمَا كَانَ َعطَاءُ َربّكَ مَحْظُورًا [السراء‪.]20:‬‬
‫هذا بالنسبة للسباب المادية‪ ،‬أما السباب المعنوية‬
‫التي تجلب الزيادة المضاعفة في النتائج فاستخدامها‬
‫مشروط باليمان بالله‪ ،‬وعدم الشرك به‪ ،‬وإخلص‬
‫م‬‫التوجه إليه… وعلى قدر ذلك يكون الستار‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫المدد اللهي‪..‬‬
‫فالمشركون إذا ما عادوا إلى الله في أي وقت‬
‫وطلبوا منه بصدق وإخلص أن ينجيهم من كرب أصابهم‬
‫صيَ لَهُ‬ ‫شيَهُم ّموْجٌ كَالظّلَلِ دَ َعوُا الَ ُمخْلِ ِ‬ ‫فإنه سبحانه سينجيهم َوإِذَا َغ ِ‬
‫ختّارٍ َكفُورٍ‬ ‫حدُ بِآيَاِتنَا إِلّ كُلّ َ‬‫صدٌ َومَا َيجْ َ‬ ‫الدّينَ فَلَمّا َنجّا ُهمْ ِإلَى اْلبَرّ فَ ِمنْهُم مّ ْقتَ ِ‬
‫[لقمان‪.]32 :‬‬
‫إذن فحصول النتائج من خلل اتخاذ السباب‬
‫المعنوية مرتبط بحال صاحبها وقت استخدامه لها‪ ،‬فعلى‬
‫قدر إيمانه بالله‪ ،‬وتعلقه به‪ ،‬وإخلص التوجه والستعانة‬
‫به –سبحانه‪ -‬يكون المدد‪ ،‬فالسباب المعنوية بمثابة‬
‫القوس في يد الضارب‪ ،‬وعلى قدر قوته في استخدامه‬
‫تكون سرعة السهم ومكان وصوله… تأمل معي مدى‬
‫استغاثة المسلمين بربهم في بدر‪ ,‬ثم انظر إلى حجم‬
‫كمْ َأنّي مُ ِمدّ ُكمْ‬ ‫سَتجَابَ لَ ُ‬
‫كمْ فَا ْ‬ ‫ستَغِيثُونَ َربّ ُ‬
‫المدد اللهي بعد ذلك ِإذْ تَ ْ‬
‫بَِألْفٍ مّنَ الْمَلئِ َكةِ مُ ْردِ ِفيَ [النفال‪.]9:‬‬
‫فالمداد ليس مرتبطًا بأشخاص بعينهم مهما كانت‬
‫سبهم‪،‬‬ ‫سابقتهم أو ن َ َ‬
‫ستَقَامُوا‬ ‫بل مرتبط بالحالة اليمانية التي هم عليها َوأَن ّلوِ ا ْ‬
‫عَلَى الطّرِيقَةِ ل ْس َق ْينَاهُم مّاءً َغدَقًا [الجن‪ ،]16:‬فعهد الله ووعده‬
‫بإمداد عباده بما يكفيهم وينصرهم ويحفظهم لن يتحقق‬
‫إل إذا أوفوا هم بعهدهم معه َوَأوْفُوا بِعَ ْهدِي أُوفِ ِبعَ ْهدِ ُكمْ‬
‫[البقرة‪ ,]40:‬فإن لم يفعلوا فالنتيجة معروفة ‪...‬لَ َينَالُ عَ ْهدِي‬
‫الفصل الول‪ :‬السباب والنتائج‬
‫‪15‬‬

‫[البقرة‪.]124:‬‬ ‫الظّالِمِيَ‬
‫وخلصة القول أن السباب ضرورية لحصول النتائج‪،‬‬
‫وأنها بذاتها ل تُحدث القدَر‪ ،‬بل تهيئ لنزوله‪.‬‬
‫والسباب نوعان مادي ومعنوي‪ ...‬المادي متاح‬
‫للجميع‪ ،‬والمعنوي قاصر على المؤمنين بالله‪ ،‬وعلى قدر‬
‫اليمان والخلص تكون النتائج المتحققة‪.‬‬
‫***‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪16‬‬
‫‪‬الوضع الخاص بأمة‬
‫السلم‪.‬‬
‫‪‬هل نترك السباب‬
‫المادية؟!‬
‫‪‬المسلم الصحيح أولً‪.‬‬
‫‪‬هل هي دعوة للتخلف؟‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪18‬‬

‫لسنا كبقية المم‬


‫تمهيد‪:‬‬
‫نهض الغرب في القرون الخيرة نهضة واسعة‪ ،‬وتسابق‬
‫أبناؤه في كشف مكنونات الرض وحسن النتفاع بها‪،‬‬
‫فاستجابت الرض لهم‪ ،‬وأعطتهم بعض أسرارها‪ ،‬فتفوقوا‬
‫على غيرهم وامتلكوا مفاتيح التقدم والثروة…‬
‫وفي المقابل نجد أن أمة السلم قد خيم عليها الجهل‬
‫والظلم والتخلف‪ ,‬وانتقلت تدريجيًا من مصاف المم‬
‫المتقدمة إلى مؤخرتها‪.‬‬
‫أصبحت أمتنا أضعف المم‪ ،‬وباتت مطمعًا للجميع‪ ,‬حتى‬
‫اليهود الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة قد استأسدوا‬
‫علينا وسامونا سوء العذاب‪.‬‬
‫هذا الوضع المرير حدا بالكثير من أبناء المة بالمناداة‬
‫بضرورة التركيز على السباب المادية‪ ،‬والسعي في نفس‬
‫التجاه الذي سلكه الغرب كي نصل إلى ما وصلوا إليه‪ ،‬فهل‬
‫هذا التصور فقط يصلح لكي يكون سبيل ً لنهضة المة‬
‫السلمية؟‬
‫الوضع الخاص بأمة السلم‪:‬‬
‫إن كان الغرب بسعيه في الرض واستفادته من خيراتها‬
‫المتاحة للجميع قد نجح في امتلك زمام التقدم والحضارة‪,‬‬
‫فإن هذا ل يعني أن نسير مثلهم في نفس الطريق‪،‬‬
‫ونعطي ذلك الولوية المطلقة‪ ،‬وذلك لجملة من السباب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إن الله تعالى قد اختص المة السلمية بنعمة‬
‫عظيمة‪ ,‬لم يختص بها أمة معها على وجه الرض أل وهي‬
‫رسالة السلم التي تُعد بمثابة رسالة هداية للبشرية جمعاء‬
‫َوكَ َذِلكَ َجعَ ْلنَاكُ ْم ُأ ّمةً َو َسطًا ّلتَكُونُوا ُشهَدَاءَ عَلَى النّاسِ [البقرة‪.]143:‬‬
‫هذه المزية العظيمة التي تجعل من أمتنا خير أمة‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪19‬‬

‫أخرجت للناس‪ ،‬وتضعها على رأس المم الخرى‪ ،‬مرتبطة‬


‫بمدى تمثل الرسالة في المة‪ ،‬وبمدى تبليغها إياها لسائر‬
‫الناس‪ ،‬فإن لم تفعل ذلك عاقبها الله عز وجل بعقوبات‬
‫كثيرة كي تفيق من سباتها وتقوم بواجبها‪ ،‬وسيستمر‬
‫العقاب طالما استمر العراض عن القيام بذلك الواجب‪،‬‬
‫وهذا هو التشخيص الحقيقي لواقعنا المرير‪.‬‬
‫فنحن الن في مظان الغضب والعقوبة اللهية بسبب‬
‫خيانتنا للمانة‪..‬ومهما اجتهدنا في تحصيل السباب المادية فلن‬
‫يُرفع عنا العقاب أو الذل والهوان إل إذا عدنا إلى ديننا أول ً …‬
‫ألم يقل ‪« :‬إذا تبايعتم بالعينة‪ ،‬وأخذت أذناب البقر‪ ،‬ورضيتم بالزرع‪ ،‬وتركتم‬
‫الهاد سلط ال عليكم ذلً ل ينعه حت ترجعوا إل دينكم»(‪.)1‬‬
‫ولقد كان ثمة أمة في الماضي خانت المانة ولم تبلغ‬
‫الرسالة‪ ,‬فحدث لها مثل ما يحدث لنا الن من عقوبات حتى‬
‫يرجعوا‪ ,‬فلما أصروا على غيهم سلب الله منهم المانة‬
‫ملها لنا‪ ...‬تلكم هي أمة بني إسرائيل سَلْ بَنِي إِ ْسرَائِيلَ َكمْ‬ ‫وح َّ‬
‫شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ [البقرة‪:‬‬ ‫آتَيْنَاهُم مّنْ آَيةٍ بَيَّنةٍ َومَن يَُبدّلْ ِنعْ َمةَ الِ مِن َب ْعدِ مَا جَاءَْتهُ َفإِنّ الَ َ‬
‫‪.]211‬‬
‫ثانيًا‪ :‬إن مصدر رفعة وعزة المة السلمية مرتبط بمدى‬
‫علقتها بربها‪ ،‬ومدى دخولها في دائرة معيته وكفايته َوأَنتُمُ‬
‫ن إِن كُنتُم مّ ْؤ ِمنِيَ [آل عمران‪.]139:‬‬
‫الَعلَ ْو َ‬
‫ويتمثل ذلك جليًا في قول عمر بن الخطاب رضي الله‬
‫عنه‪ :‬نحن قوم أعزنا الله بالسلم‪ ,‬فإن ابتغينا العزة في‬
‫غيره أذلنا الله‪.‬‬
‫وفي المقابل فإن مصدر رفعة المم الخرى في الدنيا‬
‫يكون على قدر امتلكها للسباب المادية «فقط» لنها لم‬
‫َ‬
‫تُكل ّف بما كلفنا به‪ ،‬ومن الخطأ بمكان أن نسعى للرفعة‬
‫من خلل تقليدهم والسير وراءهم َأيَبَْتغُونَ عِ ْن َد ُهمُ اْلعِزّةَ َفِإنّ العِزّةَ لِ‬
‫َجمِيعًا [النساء‪.]139:‬‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه أبو داود عن ابن عمر وصححه اللباني في صحيح الجامع(‬
‫‪.)423‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪20‬‬

‫ثالثًا‪ :‬إن باب السباب المعنوية نملكه دون غيرنا من‬


‫المم الكافرة بالله ذَِلكَ ِبَأنّ الَ َموْلَى اّلذِينَ آمَنُوا وََأنّ الْكَافِرِينَ لَ َموْلَى‬
‫لَ ُهمْ [محمد‪.]11:‬‬
‫فكيف نترك سر تفوقنا؟!‬
‫كيف نترك ما اختصنا الله به ونبحث عما في أيدي‬
‫الخرين؟‬
‫كيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ونعطيه‬
‫الولوية؟! ألم يقل سبحانه‪َ :‬قدْ كَانَ لَ ُكمْ آَيةٌ فِي فِئََت ْينِ الَْتقَتَا ِفَئةٌ ُتقَاتِلُ‬
‫فِي سَبِيلِ الِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَ َروْنَهُم مّثْلَيْ ِهمْ رَأْيَ اْلعَ ْينِ وَالُ ُيؤَّيدُ بَِنصْرِهِ مَن َيشَاءُ ِإنّ فِي‬
‫ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لُولِي الْبصَارِ‬
‫[آل عمران‪.]13:‬‬
‫رابعًا‪ :‬لو أُغلق أمامنا باب السباب المعنوية‪ ،‬وتساوينا‬
‫مع الكفار في السباق نحو امتلك السباب المادية‪،‬‬
‫فستكون النتيجة لصالحهم ل محالة‪ ،‬فكما قال الخليفة‬
‫الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪ :‬إنما تنصرون‬
‫على عدوكم بطاعتكم لله ومعصيتهم له‪ ،‬فإذا عصيتموه‬
‫تساويتم‪.‬‬
‫هذا من ناحية‪ ..‬ومن ناحية أخرى فنحن حين نترك‬
‫السباب المعنوية ونعتمد على السباب المادية فقط‪ ,‬فإننا‬
‫نتعرض للعقوبة من الله بالخذلن وتعسير المور‪ ,‬بينما هم‬
‫م ل وقد خنا‬‫لن يعاقبوا مثلنا وإن كانوا أكثر منا معصية‪ ،‬ول َ‬
‫أمانة عظيمة ائتمننا الله عليها دون غيرنا‪ .‬وهذا ما أكده‬
‫عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنهما –‬
‫قبل تحرك جيش المسلمين لملقاة الفرس في القادسية‬
‫بقوله‪ :‬ول تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا‪ ،‬فرب‬
‫قوم سلط الله عليهم من هو شر منهم‪ ،‬كما سلط على‬
‫بني اسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس‬
‫فجاسوا خلل الديار(‪.)1‬‬

‫‪1‬‬
‫() الجهاد في السلم لمحمد سعيد رمضان البوطي‪ ,‬ص ‪. 245‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪21‬‬

‫سا‪ :‬نحن مطالبون بالخذ بالسباب المادية بالقدر‬ ‫خام ً‬


‫المتاح أمامنا لقامة الستار الذي يتنزل من خلله قدر الله‬
‫وََأ ِعدّوا لَ ُهمْ مّا اسَْت َطعْتُم مّن ُقوّةٍ وَمِن رّبَاطِ اْلخَيْلِ تُ ْرهِبُونَ ِبهِ َع ُدوّ الِ َو َعدُوّ ُكمْ‬
‫[النفال‪ ,]60:‬ولسنا مطالبين أمام الله عز وجل بأكثر مما‬
‫نقدر على تحصيله من تلك السباب‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه فقد طالبنا الله ‪ -‬عز وجل‪ -‬بالخذ‬
‫بالسباب المعنوية كلها‪ ,‬من توبة وتذلل وانكسار إليه‪،‬‬
‫واستعانة به‪ ،‬وتوكل مطلق عليه‪ ،‬وليس لنا عذر في تركها‪،‬‬
‫ف ل وهي متاحة أمامنا جميعًا‪ ،‬ول يوجد ما يحول بيننا‬ ‫وكي َ‬
‫وبين الخذ بها‪ ،‬وهذا هو ترتيب دعاء المجاهدين وَمَا كَانَ قَوَْل ُهمْ‬
‫صرْنَا َعلَى اْل َقوْمِ‬
‫إِلّ أَن قَالُوا رَبّنَا ا ْغ ِفرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِ ْسرَافَنَا فِي َأ ْمرِنَا وَثَبّتْ أَ ْقدَامَنَا وَانْ ُ‬
‫الْكَا ِفرِينَ [آل عمران‪.]147:‬‬
‫تأمل معي قوله تعالى وهو يخاطب نبيه ويرشده إلى‬
‫الهتمام بالسباب المعنوية‪ ،‬وأنها هي السبب الرئيسي‬
‫لستجلب النصر‪َ :‬فإِذَا عَ َزمْتَ فََتوَكّلْ عَلَى الِ إِنّ الَ ُيحِبّ اْل ُمَتوَكّلِيَ إِن‬
‫صرُكُم مّن َب ْعدِهِ َوعَلَى الِ‬
‫خذُلْ ُكمْ َفمَن ذَا اّلذِي يَ ْن ُ‬
‫يَ ْنصُ ْر ُكمُ الُ َفلَ غَالِبَ لَ ُكمْ وَإِن َي ْ‬
‫فَلَْيَتوَكّلِ اْل ُمؤْمِنُونَ [آل عمران‪.]160 ،159 :‬‬
‫سا‪ :‬لو افترضنا أن السباب المادية هي التي تحسم‬ ‫ساد ً‬
‫الصراع‪ ،‬وتعيد لنا مجدنا السليب‪ ،‬فالوضع القائم يؤكد أن‬
‫أعداءنا لن يسمحوا لنا بامتلكها بالقدر الذي يجعلنا نتكافأ‬
‫معهم أو حتى نقترب منهم‪ ،‬فلقد أحكموا قبضتهم علينا من‬
‫كل جانب‪ ،‬وظهر استعلؤهم واستكبارهم وطغيانهم بصورة‬
‫لم يسبق لها مثيل‪ ،‬ول أمل لنا إل في الله بأن يكون معنا‬
‫ومٍ سُوءً َفلَ مَرَدّ َلهُ [الرعد‪:‬‬
‫فيحسم الصراع لصالحنا وَإِذَا أَرَادَ الُ ِب َق ْ‬
‫‪.]11‬‬
‫فالله وحده هو القادر على أن يهزمهم رغم تفوقهم‬
‫ما‪ ،‬ولعل‬‫علينا ماديًا‪ ،‬وهو القادر على قلب ميزان القوة تما ً‬
‫ما حدث في غزوتي بدر والحزاب أكبر دليل على ذلك‪.‬‬
‫ولكن الله عز وجل لن يكون معنا إل إذا فعلنا ما يرضيه‬
‫من إخلص له في التوجه والستعانة‪ ،‬ومن طاعة لوامره‪،‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪22‬‬

‫ومن جهاد في سبيله وتضحية من أجله‪ ،‬ومن تقديم حبه‬


‫ب الخرى‪ ،‬ومن بذل الجهد والخذ بالسباب‬ ‫على كل المحا ّ‬
‫المادية المتاحة أمامنا َو َعدَ الُ اّلذِينَ آمَنُوا مِنْ ُكمْ َو َعمِلُوا الصّالِحَاتِ‬
‫خ ِلفَنّ ُهمْ فِي الَرْضِ َكمَا اسَْتخْ َلفَ اّلذِينَ مِن َقبْلِ ِهمْ وَلَُيمَكَّننّ لَ ُهمْ دِيَن ُهمُ اّلذِي‬ ‫لََيسْتَ ْ‬
‫[النور‪:‬‬ ‫شرِكُونَ بِي شَ ْيئًا‬ ‫ارَْتضَى لَ ُهمْ وََليَُبدّلَنّهُم مّن َب ْعدِ َخوْفِ ِهمْ َأمْنًا َيعُْبدُونَنِي لَ يُ ْ‬
‫‪.]55‬‬
‫سابعًا‪ :‬تاريخ أمتنا يؤكد هذه الحقيقة‪ ..‬فأمة العرب التي‬
‫كانت قبل السلم في مؤخرة المم لم تنتقل إلى مقدمتها‬
‫بفضل امتلكها للسباب المادية وتفوقها بها على غيرها‪ ،‬بل‬
‫لنها دخلت في دائرة المعية والرضا اللهي‪ ،‬فأوفى الله‬
‫َ‬
‫بعهده معها‪ ،‬ومل ّكها الرض ودحر الممالك الخرى من‬
‫فرس وروم‪ ,‬والذين كانوا يمتلكون من السباب المادية ما‬
‫يفوق ما عند المة السلمية بأضعاف الضعاف وَ َمنْ َأوْفَى‬
‫ِبعَ ْهدِهِ ِمنَ الِ [التوبة‪.]111:‬‬
‫ويزداد هذا المر تأكيدًا عندما ننظر إلى المعارك السلمية‬
‫خاصة في العصور الولى التي كانت المة فيها قريبة من‬
‫الله‪ ...‬تتمتع بحمايته ونصرته وكفايته‪.‬‬
‫ففي هذه المعارك –كبدر واليرموك والقادسية – كانت‬
‫السباب المادية عند الكفار تفوق أضعاف أضعاف ما عند‬
‫المسلمين‪ ،‬ومع ذلك انتصر المسلمون انتصارات باهرة‪.‬‬
‫…لماذا؟!‬
‫فَ َلمْ َتقْتُلُو ُهمْ وَلَ ِكنّ الَ قََتلَ ُهمْ َومَا َرمَيْتَ إِذْ َرمَيْتَ‬ ‫لن الله كان معهم‬
‫وَلَ ِكنّ‬
‫الَ َرمَى [النفال‪.]17:‬‬
‫فعندما يكون الله مع الفئة المؤمنة فل قيمة أبدًا لكثرة‬
‫الكافرين عددًا أو عدة وَلَن ُتغْنِيَ عَنْ ُكمْ ِفئَتُ ُكمْ شَ ْيئًا وََلوْ َكثُ َرتْ وَأَنّ الَ مَعَ‬
‫م ْؤمِنِيَ [النفال‪.]19:‬‬
‫اْل ُ‬
‫وفي المقابل فإن التاريخ ينبئنا بأنه عندما يُخل‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪23‬‬

‫المسلمون بالشروط التي يريدها الله منهم ليُنزل عليهم‬


‫نصره‪ ,‬فإن الهزيمة ستكون حليفهم وإن كانوا أكثر عددًا‬
‫وعدة من أعدائهم‪ ،‬ولنا في غزوة حنين –عند بدايتها‪ -‬أكبر‬
‫مثال على ذلك وََي ْومَ حُنَ ْينٍ إِذْ َأعْجََبتْ ُكمْ َكثْرَتُ ُكمْ َف َلمْ ُت ْغنِ عَن ُكمْ َشيْئًا َوضَاقَتْ‬
‫عَلَيْ ُكمُ الَرْضُ ِبمَا رَحُبَتْ ُثمّ وَلّيْتُم ّمدْبِرِينَ [التوبة‪.]25:‬‬
‫بل إنه في إحدى المعارك –معركة العِقَاب(‪ –)1‬وكانت بين‬
‫المسلمين في الندلس في عهد دولة الموحدين‪ ،‬وبين‬
‫النصارى‪ ،‬فقد بلغ فيها عدد جيش المسلمين – كما تقول بعض‬
‫الروايات – خمسمائة ألف مقاتل‪ ،‬ومع ذلك فقد هُزموا هزيمة‬
‫منكرة وذبح منهم عشرات اللف‪ ،‬وذلك بسبب اتكالهم على‬
‫قوتهم‪ ،‬وكثرة خلفاتهم فيما بينهم‪.‬‬
‫هل نترك السباب المادية؟‬
‫قد يقول قائل‪ :‬ولكن هل معنى هذا أن نترك السباب‬
‫المادية‪ ،‬ونتجه للسباب المعنوية التي نعرفها ول يعرفها‬
‫غيرنا؟!‬
‫لو تركنا السباب المادية المتاحة أمامنا لظللنا في‬
‫أماكننا كما نحن ولن نتقدم قيد أنملة‪ ،‬فكما قيل سابقًا بأن‬
‫السباب المادية المتاحة هي التي تُقيم الستار وتهيئ التربة‬
‫لنزول القدر اللهي‪ ،‬أما السباب المعنوية فهي التي‬
‫تستكمل إقامة الستار وتمنحنا مزية التأييد اللهي دون‬
‫غيرنا‪ ،‬فالعداد المادي ضروري – وبالقدر المتاح أمامنا‪-‬‬
‫والعداد المعنوي ل غنى لنا عنه إن أردنا أن تعود لنا عزتنا‬
‫جح كفتنا على غيرنا‪،‬‬ ‫ومجدنا السليب‪ ،‬ولم ل وهو الذي يُر ِّ‬
‫فضل ً عن أنه قبل ذلك هو مهمة وجودنا لتحقيق عبوديتنا لله‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫إذن فالمقصد من هذا كله هو إعادة ترتيب الولويات‪،‬‬
‫وعدم مقارنتنا بالغرب‪ ،‬وأن نوقن بأن علقتنا بالله هي سر‬
‫تقدمنا‪ ،‬فإن انقطعت‪ ،‬وتخلى الله عنا‪ ،‬صار أعداؤنا أفضل‬
‫منا وإن فقناهم عددًا وعدة‪ ,‬لننا حينئذ نكون‪ :‬مغضوبًا‬
‫علينا‪ ...‬ألم يقل سبحانه لبني إسرائيل من قبل وَمَن َيحْلِلْ‬

‫‪1‬‬
‫() جمع عقبة وكانت في سنة ‪ 609‬هـ‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪24‬‬

‫عَلَ ْيهِ َغضَبِي َف َقدْ َهوَى [طه‪ .]81:‬ولقد هوينا إلى القاع بالفعل‪,‬‬
‫خنَّا‬
‫وصرنا تحت أقدام الكفار بسبب غضب الله علينا لننا ُ‬
‫أمانته‪.‬‬
‫العودة إلى الله هي البداية‪:‬‬
‫إذن فنقطة البداية التي ينبغي أل نتخطاها هي العودة‬
‫إلى الله‪.‬‬
‫… الصلح مع الله ‪ ،‬والدخول في دائرة الرضا والمعية‬
‫والولية والنصرة اللهية‪.‬‬
‫نقطة البداية هي الرتقاء بقيمة الفرد عند الله وهذا لن‬
‫يأتي إل من خلل صلحه على منهاج ربه وموله‪.‬‬
‫‪..‬صلح الفرد هو الذي سيؤدي إلى صلح المجتمع‪،‬‬
‫فصلح المة‪ ،‬ليستبدل الله بغضبه عليها رضاه ويولي عليها‬
‫خيارها‪.‬‬
‫عن قتادة قال‪ :‬قال موسى عليه السلم لربه‪ :‬يارب‬
‫أنت في السماء‪ ،‬ونحن في الرض‪ ،‬فما علمة غضبك من‬
‫رضاك؟‬
‫قال‪ :‬إذا استعملت عليكم خياركم فهو علمة رضاي‪،‬‬
‫وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علمة غضبي عليكم ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫معنى ذلك أن عزنا وتقدمنا ورفعتنا مرتبطة برضا الله‬


‫عنا‪ ،‬فإن رضي عنا تضاعفت النتائج المترتبة على الخذ‬
‫بالسباب المادية‪ ,‬وظهرت البركة في القليل المتاح…‬
‫فعشرة آلف على سبيل المثال يهزمون مائة ألف وأكثر‪،‬‬
‫وكيف ل والله يؤيد بنصره من يشاء إِن يَ ْنصُرْ ُكمُ الُ فَلَ غَالِبَ لَ ُكمْ‬
‫م ْؤمِنُونَ [آل‬ ‫خذُلْ ُكمْ َفمَن ذَا اّلذِي يَ ْنصُ ُركُم ّمنْ َب ْعدِهِ َوعَلَى الِ َفلْيََت َوكّلِ اْل ُ‬
‫وَإِن يَ ْ‬
‫عمران‪.] 160 :‬‬
‫ا َلنَ َخفّفَ الُ َعنْ ُكمْ‬ ‫وتتدرج نسبة التفوق تصاعديًا وتنازليًا‬
‫َوعَ ِلمَ َأنّ فِي ُكمْ ضَ ْعفًا [النفال‪.]66:‬‬

‫‪1‬‬
‫() العقوبات لبن أبي الدنيا‪ ,‬ص (‪.)278‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪25‬‬

‫المسلم الصحيح أولً‪:‬‬


‫فصلح الفرد أول ً ثم امتلك السباب المادية ثانيًا‪.‬‬
‫المسلم الصحيح قبل الطبيب‪ ..‬قبل المهندس‪ ..‬قبل‬
‫عالم الذرة‪..‬‬
‫ل ‪ ,‬ثم ليكن بعد ذلك في المكان‬ ‫المسلم العابد لله أو ً‬
‫الذي أقامه الله فيه‪ ،‬ليتخذ السباب المادية المتاحة أمامه‪،‬‬
‫فيبارك الله فيها ويضاعف نتائجها‪..‬‬
‫إذن فنهضة أمتنا تنطلق من صلح الفرد على أساس‬
‫السلم‪ ،‬ثم التحرك بهذا الفرد الصالح في الميادين‬
‫المختلفة والمتاحة ليكون بعد ذلك‪ :‬مسلم طبيب …مسلم‬
‫مهندس‪ ..‬مسلم مدرس‪ ..‬مسلم نجار …مسلم فلح‪.‬‬
‫ويؤكد المام حسن البنا على هذا المعنى فيقول‪ :‬إذا‬
‫وجد المؤمن الصحيح وجدت معه أسباب النجاح جمي ًعا‪.‬‬
‫المقصود بصلح الفرد‪:‬‬
‫وليس المقصد بصلح الفرد هو التركيز على أدائه‬
‫العبادات بشكلها الظاهري فقط‪ ،‬بل المقصد هو أن يكون‬
‫في القالب الذي يريده الله منه‪ ،‬فعلى قدر «العبودية» تكون‬
‫كمْ [الحجرات‪:‬‬‫ل إِنّ أَ ْك َرمَ ُكمْ عِ ْندَ الِ أَْتقَا ُ‬
‫قيمة الفرد عند الله عز وج ّ‬
‫‪.]13‬‬
‫‪ ..‬صلح الفرد يبدأ من الداخل‪ ،‬فيكون باطنه أفضل من‬
‫ظاهره‪.‬‬
‫‪ ..‬صلح الفرد يعني أن يكون الله أعز عليه وأحب إليه‬
‫من كل شيء‪.‬‬
‫‪ ..‬صلح الفرد يعني أن يَعظُم قدر الله لديه‪ ،‬وتصغر‬
‫نفسه عنده‪.‬‬
‫‪ ..‬صلح الفرد يعني زهده في الدنيا ورغبته في الخرة‪.‬‬
‫‪ ..‬صلح الفرد يعني أن تكون معاملته مع الله هي‬
‫الساس الذي يحرص عليه‪ ،‬فيخشاه ويتقيه ويطيعه ويرجوه‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪26‬‬

‫ويتوكل عليه ويستعين به في كل أموره‪ ،‬لينعكس ذلك على‬


‫تصرفاته ومعاملته مع غيره وفي جميع الدوائر التي يتعامل‬
‫فيها‪ ..‬مع أهله وزوجته وأولده‪ ..‬مع جيرانه وزملئه‪..‬مع‬
‫الناس أجمعين‪ ,‬فيكون نعم الزوج لزوجه‪ ،‬والبن لبويه‪،‬‬
‫والب لبنائه‪ ،‬والجار لجيرانه‪ ،‬والعامل في متجره‪ ،‬والداعي‬
‫ما إلى الله‪ ،‬و…‬
‫دو ً‬
‫ما في‬‫يحب في الله ويبغض في الله … يسارع دو ً‬
‫ما تراه‬‫الخيرات‪ ،‬ويجتنب كل المنكرات‪ ..‬فإن زلت قدمه يو ً‬
‫مسرعًا مهرول ً إلى موله يسترضيه ويطلب منه العفو‬
‫والصفح‪ ،‬وبصلحه هذا يمن الله عليه وعلى من حوله بما‬
‫ورد في الثر‪« :‬إن الله يصلح بصلح الرجل المسلم ولده‪،‬‬
‫وولد ولده‪ ،‬وأهل كويرته‪ ،‬ودويرات حوله»‪.‬‬
‫هل هي دعوة للتخلف؟!‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكن هذا معناه إضعاف الحافز داخل‬
‫النفس للتقدم والتفوق‪ ،‬فتقل تبعًا لذلك الكفاءات بيننا‬
‫ويزداد اعتمادنا على الحضارة الغربية والتبعية المهينة لهم‪.‬‬
‫المتأمل لما قيل سابقًا سيجد أن العكس هو الذي‬
‫سيحدث – بمشيئة الله ‪ ،-‬وإليك ‪-‬أخي القارئ‪ -‬مزيد من‬
‫وضوح الرؤية حول هذه النقطة‪:‬‬
‫أولً‪ :‬الذي يبدأ طريقه بالصلح مع الله والتربية على إيثار‬
‫محابه ومراضيه على ما تحبه نفسه وتهواه‪ ,‬فإنه لن يألو جهدًا‬
‫في ارتياد كل الماكن التي من شأنها أن ترفع شأن السلم؛‬
‫ما‪ ،‬وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه‬ ‫لنه سيحمل ه َّ‬
‫مه دائ ً‬
‫بالتركيز على التفوق المادي فقط فإنه بالفعل سيتفوق – بإذن‬
‫الله – طبقًا لقانون السببية‪ ،‬ولكن في كثير من الحيان يصبح‬
‫هذا التفوق خادًما لنفسه‪ ،‬محققًا لمجده الشخصي‪ ،‬ورفعته‬
‫على من حوله‪ ،‬من ثم ل يدخل صاحبه في دائرة الرضا اللهي‬
‫لخلله بشروطها‪ ،‬فتكون النتيجة استمرار الوضع على ما هو‬
‫حادث الن‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬البدء بالسباب المادية يمهد الطريق لظهور‬
‫مظاهر العزة الزائفة باللقاب والشهادات‪ ،‬والمناصب‪،‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪27‬‬

‫والموال وغير ذلك من أمور الدنيا‪ ،‬مما يجعل تفاضل‬


‫المسلمين فيما بينهم ونظرتهم لبعضهم البعض طبقًا لوجود‬
‫تلك المظاهر‪ ،‬وهذا من شأنه أن يبعدنا أكثر وأكثر عن‬
‫دائرة الرضا اللهي التي هي سر كل سعادة ورفعة‪.‬‬
‫وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه بإصلح نفسه من كل‬
‫ما في حقيقة فقره إلى الله‪،‬‬‫الجوانب فإنه سيعيش دو ً‬
‫ما إليه‪ ،‬وأنه به سبحانه ل بنفسه‪،‬‬
‫وشدة احتياجه دو ً‬
‫فينعكس ذلك على تعامله مع الخرين؛ فيخفض لهم جناحه‪،‬‬
‫ما أنهم جميعًا أفضل منه مهما كانت ألقابه‬ ‫بل ويستشعر دو ً‬
‫ومناصبه‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الذي يبدأ بإصلح نفسه فإنه يتحرر من أسر الناس‪،‬‬
‫وأعرافهم الخاطئة‪ ،‬ويتحرر كذلك من أسر الهتمامات الرضية‬
‫الدنيوية‪ ،‬فتسمو اهتماماته‪ ،‬وتجده يبحث عما يرضي الله‬
‫ليفعله‪ ,‬بغض النظر عن تقييم الناس لفعله‪.‬‬
‫ومن فوائد البدء بصلح الفرد وإيجاد المسلم‬
‫الصحيح أولً‪:‬‬
‫‪‬أن أساليب تربية الوالدين لبنائهما ستختلف‪،‬‬
‫فعندما يصبح الهدف هو تعبيد البناء لله عز وجل‬
‫أول ً ثم التفوق ثانيًا‪ ،‬فإن هذا من شأنه أن يجعل‬
‫محور اهتمام البيت هو الله ونيل رضاه‪ ،‬وتعظيم‬
‫قدره في النفس‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى حرص الب‬
‫على التواجد داخل بيته أطول فترة ممكنة‬
‫لممارسة دوره في قيادة أهل بيته إلى الله‪ ،‬وربط‬
‫م فإنه لن يحرص على‬ ‫حياتهم به سبحانه‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫العمل الضافي‪ ,‬أو السفر للخارج وترك الولد مع‬
‫أمهم بدعوى توفير وسائل الحياة المرفهة لهم‪,‬‬
‫وتحصيل متطلبات تعليمهم الباهظة‪ ،‬بل سيوضع‬
‫التعليم في حجمه الحقيقي‪ ،‬كخادم للهدف‬
‫الساسي وليس غاية في حد ذاته‪.‬‬
‫‪‬ومن مظاهر الهتمام بهدف إيجاد المسلم الصحيح‬
‫أول ً أن البوين سيحرصان على عدم إلحاق‬
‫أبنائهما بمدارس اللغات التي من شأنها أن تجعل‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪28‬‬

‫ولء الدارسين فيها للغة أخرى غير لغة القرآن‪،‬‬


‫وتجعلهم يعظمون شأن الحضارة الغربية ويوالونها‬
‫م يحتقرون‬ ‫ويرضون بغثها وسمينها‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫الحضارة العربية السلمية‪ ،‬وهذا واقع مشاهد‬
‫للكثير من خريجي تلك المدارس‪.‬‬
‫ن حرص الباء على إلحاق أبنائهم في تلك‬‫… نعم‪ ،‬إ ّ‬
‫المدارس ينبع من انبهارهم بالغرب وحضارته‪ ،‬وحرصهم‬
‫على سير أبنائهم في هذا الطريق ليضمنوا لهم النجاح في‬
‫حياتهم‪.‬‬
‫… هذا التصور بل شك سيحل محله التصور الصحيح‬
‫عندما يتأكد الجميع أننا لسنا كبقية المم‪ ،‬ولن نتقدم بمثل‬
‫ما تقدموا به‪ ،‬بل بالعودة إلى الله أولً ‪ ,‬ثم بالخذ بالسباب‬
‫المادية المتاحة أمامنا ثانيًا‪.‬‬
‫‪‬ومن فوائد البدء بالتربية اليمانية والتركيز على صلح‬
‫الفرد‪ ,‬أنها ستعّرِضنا للتوفيق والتأييد اللهي‪,‬‬
‫فيتضاعف أثر السباب المادية بعد ذلك‪ ،‬كما حدث‬
‫مع المسلمين الوائل الذين برعوا في شتى فروع‬
‫العلوم‪ ،‬وأقاموا صرح الحضارة السلمية العريقة‪،‬‬
‫وما كان ذلك ليحدث لول توفيق الله لهم‪ ،‬ومباركته‬
‫لجهودهم‪.‬‬
‫ومن فوائدها كذلك‪ :‬عدم التعلق بالسباب‪ ،‬بل‬
‫الجتهاد في تحصيلها‪ ،‬ثم التعلق بالله وحده في تحصيل‬
‫النتائج‪ ،‬وهذا من شأنه أن يسكب في الفرد السكينة‬
‫ل حجم السباب‬ ‫جا كلما ق َّ‬ ‫والطمأنينة فل يبدو فزع ًا منزع ً‬
‫لنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا َوِإذَا‬
‫المتاحة أمامه إِنّ ا ِ‬
‫[المعارج‪.]22-19:‬‬ ‫خ ْيرُ َمنُوعًا إِلّ الْمُصَلّيَ‬
‫مَسّهُ الْ َ‬
‫وخلصة القول‪:‬‬
‫إن سر تقدمنا مرتبط بمدى علقتنا بالله‪ ،‬وأننا لبد أن‬
‫نجتهد في الخذ بالسباب المادية بالمفهوم الذي يسود بيننا‬
‫الن‪ ,‬ولكن بعد أن نجتهد في الخذ بالسباب المعنوية التي‬
‫تُعني بصلح الفرد كأساس للنجاح في كل الميادين‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لسنا كبقية المم‬ ‫‪29‬‬

‫فالمة بحاجة إلى الربانيين أول ً ليكونوا بعد ذلك في‬


‫المكان الذي يقيمهم الله فيه‪ ..‬أما بدون رهبان الليل …‬
‫البكائين بالسحار‪ ..‬فل أمل في تقدم ول رفعة بل سيستمر‬
‫الوضع القائم وسيزداد سوءًا‪.‬‬
‫ألم يقل سبحانه‪ :‬وََل َقدْ كَتَ ْبنَا فِي الزّبُورِ مِن َب ْعدِ الذّكْرِ أَنّ الَرْضَ يَرُِثهَا‬
‫ومٍ عَاِبدِينَ [النبياء‪.]106 ،105:‬‬ ‫لغًا ّلقَ ْ‬ ‫عِبَادِيَ الصّالِحُونَ إِنّ فِي َهذَا لَبَ َ‬
‫وبهذا المفهوم انتصر المسلمون الوائل على أعدائهم‪...‬‬
‫تأمل معي ما قاله سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب‬
‫رضي الله عنهما وهو يصف له المجاهدين في معركة‬
‫القادسية‪...« :‬كانوا يُدَوُّون بالقرآن إذا ج َّ‬
‫ن عليهم الليل‬
‫ي النحل وهم آساد في النهار ل تشبههم السود‪ ،‬ول‬ ‫كدو ِ ّ‬
‫يفضل من مضى منهم من بقى إل بفضل الشهادة» ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وفي فتح أفريقية يصف عبد الله بن الزبير أحوال‬


‫المقاتلين فيها فيقول‪:‬‬
‫واستشهد الله جل جلله رجال ً من المسلمين‪ ،‬فبتنا‬
‫وباتوا‪ ،‬وللمسلمين دوي كدوي النحل‪ ،‬وبات المشركون في‬
‫ملهيهم وخمورهم‪ ،‬فلما أصبحنا زحف بعضنا على بعض‪،‬‬
‫فأفرغ الله علينا صبره‪ ،‬وأنزل علينا نصره‪ ،‬ففتحناها من‬
‫( ‪)2‬‬
‫آخر الليل‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() البداية والنهاية لبن كثير‪.7/50 ,‬‬
‫‪2‬‬
‫() كيف ننتفع بالقرآن الكريم‪ ,‬لحمد البراء الميري‪ ,‬ص (‪.)107‬‬
‫‪‬الحلقة المفقودة‪.‬‬
‫‪‬الدافع الذاتي‪.‬‬
‫‪‬ما المقصود بالقوة‬
‫الروحية؟‬
‫‪‬نحتاج إلى معجزة‪.‬‬
‫‪‬إنه القرآن العظيم‪.‬‬
‫‪‬مظاهر قوة تأثير‬
‫القرآن‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪31‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪32‬‬

‫المعجزة التي نحتاجها‬

‫الحلقة المفقودة‪:‬‬
‫كان الجهل بحقائق الدين يضرب بأطنابه في جنبات‬
‫المة‪،‬وكان من المستغرب أن يتم الحديث عن شمول‬
‫السلم‪ ،‬وأنه صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬وأنه يتناول مظاهر‬
‫الحياة جميعًا‪ ...‬ثم ظهرت الصحوة السلمية وانتشرت‬
‫الفكار الصحيحة حول السلم‪ ،‬وتناقلتها الكتب‬
‫والمحاضرات‪ ،‬وبدأت أفهام الناس تتغير حول طبيعة‬
‫الدين‪ ...‬كل هذا قد تم خلل القرن الرابع عشر الهجري‬
‫(القرن العشرين) خاصة في نصفه الخير ‪...‬‬
‫إل أنه في السنوات القليلة الماضية‪ ،‬ومع انتشار‬
‫حا‪،‬‬
‫الفضائيات والشبكة العنكبوتية ازداد المر وضو ً‬
‫وتصححت مفاهيم كثيرة في أذهان الناس‪ ،‬وإن أردت دليلً‬
‫على ذلك فاجلس مع أي مجموعة تقابلك من جيرانك أو‬
‫أقاربك أو زملئك‪ ,‬وافتح باب النقاش حول موضوع من‬
‫الموضوعات المطروحة على الساحة مثل سبب تخلف‬
‫المة‪ ،‬أو خطورة دور اليهود‪ ،‬أو المراض الجتماعية‬
‫ما رائعًا‪،‬‬
‫المنتشرة في مجتمعنا ‪ ،‬ستسمع بل شك كل ً‬
‫وحلول ً جيدة‪...‬‬
‫‪...‬إذن فما هي مشكلتنا؟‬
‫المشكلة أن هذا الفهم الجيد لقضايا المة ل يتفق في‬
‫الغالب مع سلوك هؤلء الفراد الذين يتحدثون ويشخصون‬
‫مكامن الداء‪ ،‬فالقول في واد ٍ والعمل في واد ٍ آخر‪ ،‬والفجوة‬
‫واضحة بين العلم والعمل‪ ،‬والفكر والسلوك‪ ،‬والفهم‬
‫والتطبيق‪...‬ول يُخطئ من يقول بأن الكم الهائل من برامج‬
‫الصلح التي تُقدَّم للمة عبر الفضائيات وغيرها من وسائل‬
‫العلم المختلفة تكفي لصلح الجيال حتى قيام الساعة‪..‬‬
‫إذن فالمشكلة الن ليست في التوجيهات أو النصائح‪...‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪33‬‬

‫المشكلة في التطبيق لهذه المور‪...‬‬


‫الكثير يعلم مواصفات الزوج الناجح‪ ،‬أو الب الناجح‪ ،‬أو‬
‫الجار الناجح‪ ،‬لكنه ل يستطيع أن يكون كذلك‪ ،‬وصدق من‬
‫قال‪:‬‬
‫خلف‬
‫مسافة ال ُ‬ ‫غاض الوفاء وفاض الغدر واتسعت‬
‫بين القول والعمل‬
‫فما السبب ؟!‬
‫السبب أن الفرد يسمع التوجيهات ويتمنى تنفيذها لكنه‬
‫ل يجد قوة تدفعه لتطبيقها‪..‬‬
‫‪ ...‬هو مقتنع تمام القتناع بما يسمع‪ ،‬لكنه ل ينفذ‪ ،‬وكأن‬
‫شيئًا داخليًا يثبطه ويقعده‪...‬وإذا ما وجد همة وعزيمة في‬
‫لحظة ما للتطبيق ‪ ،‬فإنه قد يفتقد تلك العزيمة والهمة في‬
‫لحظات أخرى كثيرة‪ ،‬بل في سائر حياته‪.‬‬
‫معنى ذلك أن المشكلة في هذا العصر ليست في العلم‬
‫والفهم بقدر ما هي في العمل والتطبيق‪ ،‬فصلح الفرد‬
‫الذي ينطلق من خلله مشروع نهضة المة لن يتم إل‬
‫بالعمل‪ ،‬وفي نفس الوقت هناك تثاقل شديد تجاه‬
‫العمل‪...‬فما الحل؟‬
‫محــــــــــاولت‪:‬‬
‫ومع اتجاه العلماء والمصلحين إلى مخاطبة أفراد المة‬
‫بضرورة العمل‪ ،‬وكثرة حديثهم بصيغة‪ :‬علينا أن نفعل كذا‪...‬‬
‫لبد أن نقوم بكذا وكذا‪ ،...‬إل أن الحديث في الغالب ل‬
‫يتطرق إلى كيفية استنهاض الهمم وتقوية العزائم للقيام‬
‫بهذه العمال بصورة دائمة‪.‬‬
‫‪ ...‬نعم‪ ،‬هناك محاولت تُبذل في هذا التجاه‪ ،‬ولكنها في‬
‫الغالب تعمل على شحذ همة الفراد بصورة وقتية من‬
‫خلل الحديث المؤثر الذي يخاطب المشاعر‪ ،‬ويدفع‬
‫للسلوك فتتحسن أحوال وأفعال الفرد بعد سماعه لهذا‬
‫الحديث المؤثر‪ ،‬لكنه يعود لسابق عهده بعد انتهاء تأثيره‪.‬‬
‫‪...‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى فقد ازداد في الونة‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪34‬‬

‫الخيرة الحديث عن المهارات الدارية والمتابعة كعنصر‬


‫فعال وضامن قوي لتنفيذ الواجبات‪ ،‬وبالفعل فكلما قويت‬
‫المتابعة وكانت لصيقة بالفرد ازدادت درجة تنفيذه للعمال‬
‫التي تطلب منه‪ ،‬ولكن لن الدافع للعمل في الغالب ل ينبع‬
‫من داخله فقد أصبحت العمال تُؤ َدى بل روح أو بصورة‬
‫آلية‪ ,‬مما أدى إلى تحسن الشكل دون المضمون‪ ،‬والدليل‬
‫على ذلك هو الواقع‪ ،‬والمعاملت‪ ،‬والتي تدل على أن هناك‬
‫حلقة مفقودة‪ ،‬وأن الجهد الكبير الذي يُبذل في التعليم‬
‫والتوجيه والمتابعة ل يقابله أثر إيجابي ملحوظ في‬
‫السلوك‪ ،‬كل ذلك يحدث لن الدافع الذي يدفع المرء للقيام‬
‫بالعمل دافع خارجي وليس داخليًا‪.‬‬
‫ضامن التنفيذ‪:‬‬
‫إن المعاني الصلحية الجيدة والفهم الصحيح لكثير من‬
‫مسائل الدين التي أصبحت شائعة الن بين المسلمين – مع‬
‫أهميتها – إل أنها ل تكفي وحدها لحداث التغيير داخل الفرد‬
‫م عودة المة إلى الله‪ ،‬بل لبد أن يواكبها وجود‬ ‫ومن ث َّ‬
‫ضامن وطريقة تتكفل بتنفيذها‪.‬‬
‫هذا الضامن إما خارجي أو داخلي‪.‬‬
‫الضامن الخارجي يكون من خلل التوجيه وشحذ الهمم‪،‬‬
‫وكذلك من خلل قوة المتابعة‪ ،‬وهذا وحده ل يكفي‬
‫لستمرارية الفرد في التنفيذ لنها مرتبطة باستمرار‬
‫التوجيه والمتابعة في كل وقت‪ ،‬وهذا من المستحيل‬
‫تحقيقه‪ ،‬ناهيك عن الداء الشكلي الذي سيصاحب التنفيذ‪،‬‬
‫م تظل الفجوة قائمة بين الواجب والواقع‪...‬‬ ‫ومن ث َّ‬
‫معنى ذلك أنه لبد أن يكون الضامن الذي يضمن تنفيذ‬
‫ما‬
‫التوجيهات والتوصيات نابعًا من داخل الفرد‪ ،‬دافعًا له دو ً‬
‫إلى التنفيذ طمعًا في نيل رضا الله ومثوبته‪.‬‬
‫وصدق من قال‪:‬‬
‫ما لم يكن لها من نفسها‬ ‫ل تنتهي النفس عن غيها‬
‫دافع‬
‫الدافع الذاتي‪:‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪35‬‬

‫إذن فلكي يصبح السر أفضل من العلنية‪ ،‬والعمال خير‬


‫من القوال‪..‬‬
‫‪..‬لكي نصل إلى مرحلة النتباه واليجابية والتلهف للقيام‬
‫بأي عمل يرضي الله عز وجل‪ ,‬لبد من وجود دافع داخلي‬
‫وليس خارجيًا‪ ..‬دافع يدفعنا باستمرار لفعل الصالحات‬
‫وترك المنكرات‪..‬‬
‫لبد من وجود قوة روحية تتولد باستمرار داخلنا‪ ،‬تضبط‬
‫تصرفاتنا‪ ،‬وتحثنا على فعل الخيرات وتطبيق التوصيات التي‬
‫تُلقى على مسامعنا‪..‬‬
‫ومما لشك فيه أن هذه القوة الروحية التي تحول‬
‫الواجب إلى واقع‪ ،‬وتزيل الفجوة بين العلم والعمل‪ ،‬وتدفع‬
‫الفرد إلى الفعل من تلقاء نفسه تحتاج إلى مصدر يقوم‬
‫بتوليدها باستمرار داخل كيانه‪.‬‬
‫‪...‬معنى ذلك أننا لو استطعنا الوصول لمصدر ومنبع‬
‫متجدد لتلك القوة‪ ,‬فإن هذا من شأنه أن يقلل من الجهد‬
‫المبذول‪ ،‬وفي نفس الوقت يزيد من النتاج ك ًّ‬
‫ما وكيفًا‪،‬‬
‫وهذا ما فعله محمد بنجاح باهر مع الجيل الول كما‬
‫سنبين بمشيئة الله‪.‬‬
‫فما هو هذا المصدر وأين نجده؟!‬
‫‪ ..‬لنتفق أول ً على معنى القوة الروحية‪ ،‬والمطلوب منها‬
‫ثم ننتقل بفضل الله وعونه للتعرف على مصدر توليدها‪.‬‬
‫ما المقصود بالقوة الروحية؟‬
‫المقصود بالقوة الروحية هي العزيمة التي تتولد داخل‬
‫الفرد‪ ,‬والحالة التي تسيطر عليه عندما تتجاوب مشاعره‬
‫مع أمر من المور‪ ,‬فيشعر وكأن شيئًا من داخله يدفعه‬
‫للقيام بفعل ما‪.‬‬
‫فعندما يستمع المرء إلى موعظة بليغة تتحدث عن‬
‫ضرورة النفاق في سبيل الله‪ ،‬وعن الخير والثواب الذي‬
‫يعود على المنفق في الدنيا والخرة‪ ,‬تجده وقد تجاوبت‬
‫مشاعره مع ما يسمعه‪ ،‬وتولدت داخله عزيمة تقوده ربما‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪36‬‬

‫لخراج كل ما في جيبه في تلك اللحظة‪.‬‬


‫وعندما يرى الواحد منا وهو يسير في طريقه رجل ً يقوم‬
‫بضرب ولد صغير‪ ،‬والولد يجهش بالبكاء ويسترحم المارة‬
‫ليكفوا بأس الرجل عنه‪ ,‬فإنه من المتوقع أن تستثار‬
‫المشاعر وتتولد تلك القوة والعزيمة داخل النفس لتنتج‬
‫تحركًا تجاه الحدث‪ ،‬ومحاولة لدفع الظلم عن الولد‪.‬‬
‫فالقوة الروحية إذن هي تلك الطاقة والعزيمة المتولدة‬
‫من التأثير على مشاعر النسان‪ ,‬والتي من شأنها أن تدفعه‬
‫للعمل‪.‬‬
‫‪..‬هذه القوة تتولد بالفعل داخلنا وتدفعنا للعمل‪ ،‬ولكن‬
‫ليس بصورة دائمة‪ ،‬فمشاهدة مناظر مأساوية‪ ،‬أو رؤية‬
‫فقير يتلوى من الجوع‪ ،‬أو قراءة في كتاب من كتب‬
‫الرقائق‪ ...‬كل ذلك من شأنه أن يهز مشاعرنا‪ ،‬وقد يدفعنا‬
‫للبكاء والعمل ولكن بصورة وقتية‪ ،‬يعود المرء بعد انتهاء‬
‫تأثيرها إلى سابق عهده‪.‬‬
‫المطلوب من القوة الروحية‪:‬‬
‫م القيام‬‫إذن لكي نستمر في حالة التوهج والنتباه ومن ث َّ‬
‫بالعمال المطلوبة منا بذاتية وتلقائية‪ ,‬لبد أن تتولد داخلنا تلك‬
‫القوة الروحية بصورة دائمة ومستمرة‪...‬‬
‫فكيف يتم ذلك؟!‬
‫كيف يتم ذلك وقد خلصنا مما سبق بيانه أنه لبد من أن‬
‫يكون الدافع الذي يدفع المرء للقيام بالعمل المطلوب منه‬
‫دافعًا ذاتيًا ينبع من داخله بصورة أساسية؟!‬
‫أي أن القوة الروحية المطلوبة ينبغي أن توفر باستمرار‬
‫هذا الدافع الذاتي‪..‬‬
‫معنى ذلك أننا بحاجة إلى نبع متجدد‪ ،‬ومصدر دائم لتوليد‬
‫تلك القوة والدافع الذاتي لدى الفراد‪.‬‬
‫المواصفات المطلوبة‪:‬‬
‫ولننا نتحدث عن أمر يخص نهضة المة جمعاء‪ ,‬والذي‬
‫ينطلق من صلح الفرد‪ ،‬فلبد أن يكون مصدر تحصيل تلك‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪37‬‬

‫القوة الروحية متاح للجميع‪ ...‬الرجل والمرأة‪ ،‬العالم وغير‬


‫العالم‪ ،‬العربي والعجمي‪...،‬‬
‫ولبد أن يكون هذا المصدر مجمع عليه من سائر أفراد‬
‫المة وليس محل خلف بينها‪ ،‬وأن يكون من مواصفاته‬
‫كذلك أل يمل منه أحد‪ ،‬وأن يكون لديه القدرة – بإذن الله –‬
‫على التعامل مع المستويات المختلفة لفراد المة في كل‬
‫زمان ومكان‪...‬‬
‫فما هو هذا الصدر الفريد الذي يمع بي هذا كله؟!‬
‫نحتاج إلى معجزة‪:‬‬
‫لو نظرنا إلى المواصفات التي ينبغي أن تتوافر في‬
‫المصدر المطلوب لتوليد القوة الروحية لوجدناها مواصفات‬
‫غير عادية‪ ،‬وقد يتجه التفكير إلى أن هذا المصدر شيء‬
‫خارق ل يمكن وجوده‪ ،‬فهو أقرب إلى الخيال منه إلى‬
‫الواقع‪...‬‬
‫‪...‬نعم‪ ،‬ل يوجد مصدر لديه القدرة على القيام بهذا‬
‫الدور الخطير إل إذا كان شيئًا معجًزا‪ ،‬خارقًا للعادة‪ ،‬ذا قوة‬
‫تأثيرية جبارة ومستمرة‪..‬‬
‫‪...‬نعم‪ ،‬أخي القارئ نحتاج إلى معجزة تقوم بهذا الدور‪،‬‬
‫فأين تلك المعجزة؟‬
‫لنفكر سويًا في المر‪...‬فالمة لن ينصلح حالها إل بصلح‬
‫أفرادها وعودتهم إلى الله‪ ،‬وصلح الفراد مرتبط بوجود‬
‫دافع ذاتي يدفعهم لفعل ما يكلفون به من توجيهات‬
‫وتوصيات ليصبح العمل قرينًا للعلم‪ ،‬والدافع الذاتي يحتاج‬
‫إلى مصدر لتوليده باستمرار‪ ،‬ذلك المصدر ينبغي أن يسع‬
‫الجميع وأل يختلف عليه اثنان و‪...‬‬
‫فهل سيتركنا الله هكذا دون هذا المصدر أو تلك‬
‫المعجزة؟‬
‫هل سيتركنا الله هكذا وهو الودود الرحيم الذي يريد لنا‬
‫صلّي عَ َليْ ُكمْ وَمَ َلِئكَتُهُ ِليُخْ ِر َجكُم مّنَ الظّ ُلمَاتِ إِلَى النّورِ َوكَانَ‬
‫الخير؟ هُوَ اّلذِي يُ َ‬
‫بِاْلمُؤْ ِمنِيَ َرحِيمًا [الحزاب‪.]43:‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪38‬‬

‫يقينًا أنه سبحانه ما كان ليترك عباده هكذا يتخبطون‬


‫ويدورون بل‬
‫فائدة حول أنفسهم‪ ،‬وقد كتب على نفسه الرحمة‪ ،‬وأعلمنا‬
‫أنه رءوف‪ ،‬رحيم‪ ،‬ودود‪ ،‬كريم‪...‬‬
‫من المؤكد أنه سبحانه وتعالى لن يحرمنا من تلك‬
‫المعجزة التي ستؤدي هذا العمل المطلوب وتتوافر فيها‬
‫المواصفات المشار إليها آنفًا وغيرها وغيرها‪...‬‬
‫فأين هي هذه المعجزة؟ وهل هي موجودة بالفعل أم‬
‫علينا أن نتحرق شوقًا لقدومها؟‬
‫إنه القرآن العظيم‪:‬‬
‫لو فكرنا سويًا في هذا المر‪ ،‬وتذكرنا فضل الله الدائم‬
‫على عباده‪ ،‬لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة واضحة وهي أنه لبد‬
‫وأن تكون هذه المعجزة موجودة بيننا بالفعل‪.‬‬
‫نعم‪ ...‬قد تكون كذلك لكننا ل نعرفها أو ل ندرك قيمتها‪,‬‬
‫ول نتعامل معها على حقيقتها ولكنها بالتأكيد موجودة‪...‬فما‬
‫هي تلك المعجزة؟!‬
‫لو تفكرنا في المعجزات السابقة لوجدناها مرتبطة بزمان‬
‫محدد‪ ،‬أو بحالة محددة‪،‬أو بشخص محدد كعصا موسى‪ ،‬وناقة‬
‫صالح‪ ،‬وإحياء عيسى للموتى بإذن الله‪.‬‬
‫كل هذه المعجزات مرتبطة بأصحابها من الرسل‪ ،‬إل‬
‫معجزة واحدة اختص الله بها أمتنا السلمية‪ ،‬فلم يجعلها‬
‫سبحانه وتعالى تخص زمانًا بعينه أو ترتبط بشخص الرسول‬
‫ثم تنتهي بوفاته‪ ،‬بل جعلها صالحة لكل زمان ومكان حتى‬
‫قيام الساعة‪ ...‬أل وهي القرآن العظيم‪ ...‬وقد تكفل‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬بحفظه من التحريف والتبديل لتستمر معجزته‬
‫في القيام بدورها الخطير في تغيير الفراد‪ ،‬وبث الروح‬
‫فيهم‪ ،‬وتوليد القوة الروحية والدافع الذاتي داخلهم‬
‫باستمرار في أي زمان ومكان وَ َك َذِلكَ َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ رُوحًا مّنْ َأمْرِنَا مَا‬
‫كُنتَ َتدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَ الِيَانُ وَلَكِن َجعَلْنَاهُ نُورًا نّ ْهدِي ِبهِ مَن نّشَاءُ ِمنْ عِبَا ِدنَا‬
‫[الشورى‪.] 52:‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪39‬‬

‫تعرف بنفسك على المعجزة‪:‬‬


‫لعلك أخي القارئ متعجب بأن ما نبحث عنه موجود‬
‫بيننا‪...‬‬
‫لعل الفكار تراودك من بساطة هذا الحل وسهولته‬
‫وقربه منا‪..‬‬
‫نعم‪ ،‬لك بعض العذر في ذلك‪ ،‬كيف ل وقد هجرنا هذه‬
‫المعجزة‪ ،‬وورثنا تعامل ً خاطئًا معها جعلنا نحصرها في‬
‫أذهاننا داخل نطاق التقديس الشكلي فقط‪ ،‬مما حرمنا‬
‫النتفاع بها‪ ،‬لذلك أدعوك – أخي – إلى أن تبحث في‬
‫القرآن عن اليات التي تتحدث عن القرآن وتسجلها بقلمك‬
‫ثم تنظر إليها بعد ذلك‪ ،‬وتُخرج منها مواصفات وقوة تأثير‬
‫ومجالت عمل هذا الكتاب‪...‬‬
‫ضا من حجم هذه المعجزة‪،‬‬ ‫افعل ذلك بنفسك لتدرك بع ً‬
‫ما‪.‬‬
‫وأنها هي التي نبحث عنها‪،‬وهي التي نريدها تما ً‬
‫مظاهر قوة تأثير القرآن‪:‬‬
‫لقد أنزل الله القرآن من السماء ليكون كتاب هداية‬
‫وشفاء وتقويم وتغيير لكل من يُحسن القبال عليه‪ ،‬ويدخل‬
‫في دائرة تأثير معجزته‪...‬‬
‫تأمل معي تلك الية التي تصف لنا صورة من صور تأثير‬
‫القرآن ومخاطبته للمشاعر وتوليده للقوة الروحية الُ نَزّلَ‬
‫شوْنَ َربّ ُهمْ ُثمّ َتلِيُ‬
‫خَ‬‫شعِرّ مِ ْنهُ جُلُودُ اّلذِينَ يَ ْ‬
‫حدِيثِ ِكتَابًا مّتَشَاِبهًا مّثَانِيَ َتقْ َ‬
‫سنَ الْ َ‬
‫أَحْ َ‬
‫جُلُو ُد ُهمْ وَقُلُوبُ ُهمْ إِلَى ذِكْرِ الِ [الزمر‪.]23 :‬‬
‫‪...‬هذا القرآن الذي بين أيدينا له قوة تأثير هائلة ل يمكن‬
‫للعقل أن يدرك أبعادها أو يحيط بها‪ ،‬ولقد ضرب الله لنا‬
‫بعض المثلة التي تبين ذلك لندرك قيمة المعجزة التي بين‬
‫أيدينا‪...‬انظر إلى قوله تعالى وََلوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّ َرتْ ِبهِ اْلجِبَالُ َأوْ ُق ّطعَتْ‬
‫ِبهِ الَرْضُ َأوْ كُ ّلمَ ِبهِ اْل َموْتَى [الرعد‪)1( .]31:‬وجواب الشرط محذوف‬
‫‪1‬‬
‫حا للقرآن‬ ‫() يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الية ‪ :‬يقول تعالى ماد ً‬
‫الذي أنزله على محمد ومفضًل له على سائر الكتب المنزلة قبله َولَ ْو أَنّ‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪40‬‬

‫وتقديره‪ :‬لكان هذا القرآن‪...‬‬


‫فالية تخبرنا بأن القرآن قادر – بإذن الله – على أن‬
‫يُحرك الجبال من مكانها‪ ،‬ويُقط ِّع الرض‪ ،‬ويُكلم الموتى‪...‬‬
‫فأي قوة هذه التي تستطيع أن تحرك جبل ً من مكانه‪ ،‬أو‬
‫تقطع الرض فتجعلها منفصلة عن بعضها‪ ،‬بل وتكلم الموتى‬
‫فيستجيبون؟! إنها بل شك قوة ل يمكن للعقل البشري أن‬
‫يحيط بها أو يدرك أبعادها‪.‬‬
‫فإن كانت تستطيع أن تفعل ذلك كله – بإذن الله –‬
‫فماذا عساها أن تفعل بي وبك إن دخلنا إلى دائرة تأثيرها؟!‍‬
‫لقد بلغ من قوة تأثير القرآن أنه شيَّ ب شعر رسول الله‬
‫‪ ،‬فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول لرسول الله ‪ :‬يا‬
‫رسول الله قد شبت‪ ,‬فقال ‪« :‬شيبتن هود‪ ،‬والواقعة‪ ،‬والرسلت‪ ،‬وعم‬
‫(‪)1‬‬
‫يتساءلون‪ ،‬وإذا الشمس كورت»‪.‬‬
‫هذا القرآن‪:‬‬
‫هذا القرآن جعل قلب الجبير بن مطعم كاد يطير عندما‬
‫استمع إلى بعض آياته‪ ...‬ففي البخاري عن محمد بن جبير‬
‫عن أبيه – رضي الله عنه ‪ -‬قال‪ :‬سمعت رسول الله‬
‫يقرأ في المغرب بالطور‪ ،‬وذلك أول ما وقر اليمان في‬
‫قلبي(‪ ..)2‬وفي رواية‪ :‬فلم بلغ هذه الية َأمْ خُ ِلقُوا ِمنْ َغيْرِ شَ ْيءٍ َأمْ‬
‫َأمْ عِ ْن َد ُهمْ خَزَاِئنُ رَّبكَ َأمْ‬ ‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ بَل لّ يُوقِنُونَ‬
‫ُهمُ اْلخَاِلقُونَ َأمْ خَ َلقُوا ال ّ‬
‫كاد قلبي أن يطير(‪.)3‬‬ ‫ُهمُ اْل ُمسَيْ ِطرُونَ‬

‫ت بِ ِه الْجِبَالُ أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن‬


‫قُرْآنًا ُسيّ َر ْ‬
‫أماكنها ‪ ،‬أو تقطع به الرض وتنشق ‪ ،‬أو تكلم به الموتى في قبورها ‪ ،‬لكان‬
‫هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره‪.‬‬
‫وجاء في سبب نزول هذه الية أن كفار مكة قالوا لمحمد ‪ :‬لو سيرت لنا‬
‫جبال مكة حتى تتسع ‪ ،‬فنحرث فيها ‪ ،‬أو قطعت لنا الرض كما كان سليمان‬
‫يقطع لقومه بالريح ‪ ،‬أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى‬
‫لقومه ‪ ،‬فأنزل الله هذه الية‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه الترمذي وصححه اللباني في صحيح الجامع(‪.)3723‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري رقم (‪.)3798‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البخاري رقم (‪.)4573‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪41‬‬

‫هذا القرآن وقوة تأثيره واستحواذه على المشاعر‬


‫وسيطرته عليها هو الذي جعل رسولنا يردد في قيامه‬
‫طيلة الليل قوله تعالى‪ :‬إِن ُت َعذّبْ ُهمْ َفإِنّ ُهمْ عِبَا ُدكَ وَإِن َت ْغفِرْ لَ ُهمْ َفإِّنكَ أَنتَ‬
‫اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ [المائدة‪.]118:‬‬
‫قوة تأثير هذه المعجزة الجبارة هي التي جعلت عبَّاد بن‬
‫بشر يتحمل ألم إصابته بالسهام الثلثة‪ ,‬التي أطلقها عليه‬
‫أحد المشركين وهو قائم يصلي ويتلو آيات القرآن‪ ،‬فلم‬
‫يقطع قراءته إل خشية تعرض المسلمين للخطر وذلك في‬
‫غزوة ذات الرقاع‪..‬‬
‫هذا القرآن استمع إليه نفر من النصارى الذين يبحثون‬
‫عن الهُدى فماذا حدث لهم؟‬
‫وَإِذَا َس ِمعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرّسُولِ َترَى َأعُْينَ ُهمْ َتفِيضُ ِمنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَرَفُوا مِنَ‬
‫حقّ َيقُولُونَ رَبّنَا آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّا ِهدِينَ [المائدة‪.]83:‬‬ ‫اْل َ‬
‫وليس هذا في عالم النس فقط‪ ،‬فحين استمع إليه نفر‬
‫من الجن كان قولهم‪ :‬إِنّا َس ِمعْنَا ُقرْآنًا عَجَبًا يَ ْهدِي إِلَى الرّ ْشدِ فَآمَنّا ِبهِ‪...‬‬
‫[الجن‪.]2-1 :‬‬
‫‪...‬إنه شيء ل يمكن للعقل للبشري القاصر أن يدرك أبعاده‬
‫ص ّدعًا ّمنْ‬ ‫ومدى قوة تأثيره َلوْ َأنْزَلْنَا َهذَا اْلقُرْآنَ َعلَى جَبَلٍ لّرََأيَْتهُ خَاشِعًا مَّت َ‬
‫[الحشر‪.] 21 :‬‬ ‫خَشَْيةِ الِ وَِت ْلكَ المْثَالُ َنضْ ِربُهَا لِلنّاسِ َلعَلّ ُهمْ يََتفَكّرُونَ‬
‫‪...‬إذن فالقرآن الذي بين أيدينا هو الذي تحتاج إليه المة‬
‫جمعاء‪ ،‬ليكون بمثابة المصدر والمولد للطاقة والقوة‬
‫الروحية بقدرته الفذة على التأثير في المشاعر‪.‬‬
‫‪..‬القرآن وحقائقه التي بينها رسول الله هو الذي‬
‫يصلح لكي يكون بداية قوية لنهضة المة‪ ..‬وَنَزّلْنَا عَ َل ْيكَ الْكِتَابَ‬
‫تِبْيَانًا لّكُلّ شَ ْيءٍ َو ُهدًى وَرَ ْح َمةً وَبُشْرَى لِ ْل ُمسْ ِلمِيَ [النحل‪.]89:‬‬
‫أخي‪..‬‬
‫يقول لنا ربنا‪َ :‬أوَ َلمْ يَ ْكفِ ِهمْ أَنّا أَنْ َزلْنَا عَ َل ْيكَ الْكِتَابَ ُيتْلَى َعلَيْ ِهمْ إِنّ فِي‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪42‬‬

‫[العنكبوت‪.]51:‬‬ ‫ذَِلكَ َلرَ ْح َمةً وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُيؤْمِنُونَ‬


‫فبماذا نجيبه؟!‬
‫‪ ...‬نعم يا رب يكفينا‪ ،‬يكفينا «سمعنا وأطعنا»‪.‬‬
‫ولقد أدرك المام المجدد حسن البنا رحمه الله هذه‬
‫ما‪ ،‬وجعلها غاية في حركة هذه الجماعة‪ ...‬تأمل‬
‫الحقيقة تما ً‬
‫قوله‪ :‬أنتم روح جديد يسري في جسد هذه المة ليحييها‬
‫بالقرآن‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثالث‪ :‬المعجزة التي نحتاجها‬ ‫‪43‬‬
‫‪‬أولً‪ :‬القرآن اختيار الله لعباده‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫‪‬ثانيًا‪ :‬القرآن يجمع بين الرسالة‬
‫والمعجزة‪.‬‬
‫‪‬ثالثًا‪ :‬القرآن يخاطب الفكر‬
‫والعاطفة‪.‬‬
‫‪‬رابعًا‪ :‬القرآن يولد باستمرار‬
‫القوة الروحية‪.‬‬
‫سا‪ :‬القرآن ميسر للذكر‬ ‫‪‬خام ً‬
‫والفهم‪.‬‬
‫سا‪ :‬القرآن هو الكلمة‬ ‫‪‬ساد ً‬
‫السواء التي‬
‫ل يختلف عليها اثنان‪.‬‬
‫‪‬سابعًا ‪ :‬القرآن عبادة متجددة ل‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪45‬‬

‫تُمل‪.‬‬
‫‪‬ثامنًا ‪ :‬القرآن وسيلة مجربة‪.‬‬
‫‪‬تاسعًا ‪ :‬القرآن هو وصية‬
‫الرسول × بأنه المخرج من‬
‫الفتن‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪46‬‬

‫لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬


‫تمهيد‪:‬‬
‫عندما نقول – بعون من الله – إن القرآن هو سر نهضة‬
‫هذه المة‪ ،‬وأنه مخرجها المن من النفق المظلم الذي‬
‫تسير فيه‪ ،‬وأنه قادر – بإذن الله‪ -‬على بث الروح في‬
‫سلب من‬ ‫جسدها‪ ،‬ومعالجة نقاط ضعفها‪ ،‬وإعادة ما ُ‬
‫أمجادها‪ ،‬فإن هذا القول ل يأتي من فراغ‪ ،‬بل تُؤيده شواهد‬
‫وأسباب كثيرة نذكرها لك ‪-‬أخي القارئ‪ -‬لعلها تشحذ الهمم‬
‫وتقوي العزائم للنطلق الصحيح نحو هذا الكنز المهجور‪،‬‬
‫وهي على سبيل الجمال‪:‬‬
‫أولً‪ :‬القرآن اختيار الله لعباده أجمعين‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬القرآن يخاطب الفكر والعاطفة في آن واحد‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬القرآن لديه القدرة – بإذن الله – على الستثارة‬
‫الدائمة للمشاعر والضرب على أوتار القلوب‪ ،‬وتوليد‬
‫القوة الروحية‪.‬‬
‫سا‪ :‬القرآن ميسر للذكر والفهم‪.‬‬ ‫خام ً‬
‫سا‪ :‬القرآن هو الكلمة السواء التي ل يختلف عليها‬ ‫ساد ً‬
‫اثنان‪.‬‬
‫سابعًا ‪ :‬القرآن عبادة متجددة ل تُمل‪.‬‬
‫ثامنًا ‪ :‬القرآن وسيلة مجربة‪.‬‬
‫تاسعًا ‪ :‬القرآن هو وصية الرسول بأنه المخرج من‬
‫الفتن‪.‬‬
‫ولننتقل بعد هذا الجمال إلى الحديث عن تلك السباب‬
‫بشيء من التفصيل‪.‬‬

‫أولً‪ :‬القرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين‬


‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪47‬‬

‫الله عز وجل هو الرب الذي يُربِّي عباده ويتعاهدهم‪،‬‬


‫ويمدهم بما يحتاجون إليه من سائر المدادات كالطعام‬
‫سمَاءِ مَاءً‬
‫والشراب والهواء والحفظ والرعاية ُهوَ اّلذِي أَْنزَلَ ِمنَ ال ّ‬
‫لّكُم مّ ْنهُ شَرَابٌ َومِ ْنهُ شَجَرٌ فِيهِ ُتسِيمُونَ يُنبِتُ لَ ُكمْ ِبهِ الزّرْعَ وَالزّْيتُونَ وَالنّخِيلَ‬
‫وَالعْنَابَ وَمِن كُلّ الّث َمرَاتِ ِإنّ فِي ذَِلكَ لََيةً ّل َق ْومٍ يََتفَكّرُونَ‬
‫[النحل‪]11 ،10:‬‬

‫هذا الرب العظيم يحب عباده جميعًا ويريد لهم الخير‬


‫والنجاح في الختبار الذي نزلوا إلى الرض لتأديته‪ ...‬يريد‬
‫ة‬
‫فَر ِ‬ ‫جنَّةِ وَال ْ َ‬
‫مغْ ِ‬ ‫ه يَدْع ُو إِلَى ال ْ َ‬
‫لهم جميعًا دخول الجنة وَالل ُ‬
‫بِإِذ ْنِهِ [البقرة‪.]221:‬‬
‫وكيف ل يكون المر كذلك وقد اختص النسان لنفسه‪،‬‬
‫وكرمه على سائر خلقه وََل َقدْ َك ّرمْنَا بَنِي آ َدمَ وَ َحمَلْنَا ُهمْ فِي اْلبَرّ وَاْلبَحْرِ‬
‫وَرَزَقْنَاهُم مّنَ الطّيّبَاتِ وَ َفضّلْنَا ُهمْ عَلَى كَِثيٍ ّم ّمنْ َخ َلقْنَا َت ْفضِيلً [السراء‪.]70:‬‬
‫ولنه سبحانه هو الذي خلق النسان ويعلم عنه أكثر مما‬
‫يعلم هذا النسان عن نفسه أَلَ َيعْ َلمُ َمنْ خَ َلقَ َو ُهوَ اللّطِيفُ اْلخَِبيُ‬
‫[الملك‪ ,]14:‬فلقد علم – سبحانه‪ -‬بحاجة هذا النسان إلى دواء‬
‫يشفيه‪ ،‬ويبصره بطريق الهدى‪ ،‬ويُولد لديه الطاقة والعزيمة‬
‫للسير في هذا الطريق‪ ،‬فهيأ له دواء فريدًا يصلح له حتى‬
‫قيام الساعة‪ ...‬فكان القرآن َتنِيلٌ مّنَ الرّ ْح َمنِ الرّحِيمِ [فصلت‪.]2:‬‬
‫والمر اللفت للنتباه أن هناك العديد من اليات القرآنية‬
‫التي تؤكد لنا هذا المعنى وتخبرنا بأن القرآن «تنزيل من‬
‫رب العالمين»‪.‬‬
‫فرب العالمين‪ ،‬المربي للبشر جميعًا هو الذي أنزل لهم‬
‫القرآن‪.‬‬
‫فالقرآن هو اختيار الله لعباده أجمعين يَا َأيّهَا النّاسُ َقدْ جَاءَتْكُم‬
‫صدُورِ َو ُهدًى وَرَ ْحمَةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِيَ [يونس‪.]57:‬‬
‫مّ ْوعِ َظةٌ مّن رّبّ ُكمْ وَ ِشفَاءٌ ّلمَا فِي ال ّ‬
‫وفي هذا المعنى يقول سيد قطب – رحمه الله ‪:-‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪48‬‬

‫إن هذه البشرية – وهي من صنع الله –ل تفتح مغاليق‬


‫فطرتها إل بمفاتيح من صنع الله‪ ،‬ول تعالج أمراضها وعللها‬
‫إل بالدواء الذي يخرج من يده – سبحانه – وقد جعل في‬
‫منهجه وحده مفاتيح كل مغلق‪ ،‬وشفاء كل داء‪ :‬وَنُنَزّلُ ِمنَ‬
‫اْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِشفَاءٌ وَرَ ْح َمةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِيَ [السراء‪ ...]82 :‬إِنّ َهذَا اْلقُرْآنَ يَ ْهدِي لِلّتِي‬
‫ومُ [السراء‪.]9 :‬‬ ‫هِيَ أَ ْق َ‬
‫ولكن هذه البشرية ل تريد أن ترد اللة إلى صانعها‪ ،‬ول‬
‫أن تذهب بالمريض إلى بارئه‪ ،‬ول تسلك في أمر نفسها‪،‬‬
‫وفي أمر إنسانيتها وفي أمر سعادتها أو شقوتها‪ ،‬ما تعودت‬
‫أن تسلكه في أمر الجهزة واللت المادية الزهيدة التي‬
‫تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة‪ ...‬وهي تعلم أنها‬
‫تستدعي لصلح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع‬
‫الجهاز‪ ...‬ولكنها ل تطبق هذه القاعدة على النسان نفسه‬
‫فترده إلى المصنع الذي منه خرج‪ ،‬ول أن تستفتي المبدع‬
‫الذي أنشأ هذا الجهاز النساني العظيم الكريم الدقيق‬
‫اللطيف‪ ،‬الذي ل يعلم مساربه ومداخله إل الذي أبدعه‬
‫صدُورِ أَلَ َيعْ َلمُ َمنْ خَ َلقَ َو ُهوَ اللّطِيفُ اْلخَبِي‬
‫وأنشأه‪ :‬إِّنهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ ال ّ‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫[الملك‪]14 ،13 :‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() في ظلل القرآن‪ ..‬المقدمة‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪49‬‬

‫ثانيًا‪:‬القرآن يجمع‬
‫بين الرسالة والمعجزة‬

‫القرآن دون غيره من الكتب السماوية السابقة يجمع‬


‫بين أمرين عظيمين‪ :‬الرسالة والمعجزة‪..‬‬
‫فالرسالة القرآنية شأنها شأن الكتب السابقة تدل‬
‫الناس على الله‪ ،‬وتهديهم إلى الطريق الموصل إليه‪ ،‬وتبين‬
‫لهم العقبات والمنعطفات التي قد تقابلهم وكيف‬
‫يتجاوزونها شَ ْهرُ َر َمضَانَ اّلذِي ُأنْزِلَ فِيهِ اْلقُرْآنُ ُهدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ ّمنَ الْ ُهدَى‬
‫وَاْلفُرْقَانِ [البقرة‪.]185:‬‬
‫وَآتَيْنَاهُ الِْنجِيلَ فِيهِ ُهدًى‬ ‫ضا‬
‫ولقد كانت هذه وظيفة النجيل أي ً‬
‫وَنُورٌ‬
‫[المائدة‪.]46:‬‬
‫إِنّا أَنْزَْلنَا الّتوْرَاةَ فِيهَا ُهدًى وَنُورٌ‬ ‫وكذلك التوراة وسائر الكتب‬
‫[المائدة‪.]44:‬‬

‫ولكن هل معرفة الطريق وحدها تكفي لسلوك المرء‬


‫له‪ ،‬أليس هناك عقبات داخل النسان تحول بينه وبين‬
‫السير في طريق الهدى؟‬
‫‪ ...‬أليس الهوى وسطوته على القلب له دور كبير في‬
‫تثبيط النسان وإقعاده عن السير في طريق الله؟‬
‫من هنا تظهر عظمة القرآن وأفضليته على سائر الكتب‬
‫السابقة‪ ،‬فلقد أودع الله فيه معجزة خارقة‪ ،‬أعظم بكثير‬
‫من معجزات عيسى وموسى وصالح وسائر الرسل والنبياء‬
‫السابقين عليهم أفضل الصلوات والتسليم‪.‬‬
‫إن المعجزة القرآنية الخارقة ليست فقط في بلغته‬
‫وخلوده وحفظه من التحريف‪ ،‬وليست فقط في صلحية‬
‫القرآن لكل زمان ومكان‪ ،‬بل إنها فوق ذلك بكثير‪ ،‬فسُّر‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪50‬‬

‫المعجزة القرآنية يكمن في قدرته الفذة – بإذن الله – على‬


‫التغيير‪ ،‬وبث الروح والحياة الحقيقية‪ ،‬وتوليد الطاقة فيمن‬
‫ذِلكَ َأوْحَيْنَا ِإلَ ْيكَ رُوحًا مّنْ َأمْرِنَا [الشورى‪:‬‬ ‫يحسن القبال عليه وَ َك َ‬
‫‪.]52‬‬
‫‪ ...‬المعجزة القرآنية تقوم بتوصيل تيار الحياة إلى‬
‫القلب فيفيق من غفلته‪ ،‬ويحيا بعد موته‪ ،‬وينطلق إلى ربه‬
‫أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا َفأَحَْييْنَاهُ وَ َجعَلْنَا َلهُ نُورًا َيمْشِي ِبهِ فِي النّاسِ َكمَن مّثَ ُلهُ فِي الظّ ُلمَاتِ‬
‫لَيْسَ ِبخَا ِرجٍ مّنْهَا [النعام‪.]122:‬‬
‫ولئن كانت الرسالة القرآنية توضح للناس الطريق‬
‫الموصل إلى الله‪ ،‬فإن المعجزة القرآنية تقوم بأخذ أيديهم‬
‫إلى هذا الطريق‪ ،‬وتسير بهم‪ ،‬وتقودهم‪ ،‬وتتولى إخراجهم‬
‫من الظلم الذي يعيشون فيه إلى نور الله المبين في‬
‫الدنيا‪ ،‬والجنة في الخرة‪.‬‬
‫‪ ...‬وهناك العديد من اليات التي تبين هاتين الوظيفتين‪،‬‬
‫منها ما جاء في سورة المائدة َقدْ جَاءَكُم ّمنَ الِ نُورٌ وَ ِكتَابٌ مّبِيٌ‬
‫لمِ [المائدة‪.]16 ،15 :‬‬ ‫ضوَاَنهُ سُبُلَ السّ َ‬
‫يَ ْهدِي ِبهِ الُ َمنِ اتّبَعَ ِر ْ‬
‫فهنا توضح اليات وظيفة القرآن كرسالة هادية‪ ،‬أما‬
‫وظيفته كمعجزة فتوضحها بقية الية وَُيخْرِجُهُم ّمنَ الظّ ُلمَاتِ ِإلَى‬
‫سَتقِيمٍ [المائدة‪.]16 :‬‬
‫النّورِ ِبإِذِْنهِ وَيَ ْهدِي ِهمْ ِإلَى صِرَاطٍ مّ ْ‬
‫فالخراج من الظلم‪ ...‬من المكان الذي ألفه النسان‬
‫سر له اتخاذ‬ ‫يحتاج إلى قوة دافعة‪ ،‬وطاقة تتولد داخله تُي ِّ‬
‫قرار النهوض والخروج مما تعود عليه‪ ...‬وهذه هي وظيفة‬
‫المعجزة القرآنية‪ ،‬والتي اختصه الله بها‪ ...‬قال ‪«:‬مَا ِمنْ الْأَنْبِيَاءِ‬
‫شرُ‪ ,‬وَِإّنمَا كَانَ الّذِي أُوتِيتُ َوحْيًا َأ ْوحَاهُ اللّهُ إَِليّ‪ ,‬فََأ ْرجُو َأنْ‬
‫نَِب ّي إِل ُأ ْع ِطيَ مَا ِمثْل ُه آمَ َن َعلَيْهِ اْلبَ َ‬
‫َأكُو َن َأكَْثرَهُ ْم تَاِبعًا َيوْمَ الْقِيَامَةِ»(‪.)1‬‬
‫يعلق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث فيقول‪ :‬معناه‬
‫أن معجزة كل نبي انقرضت بموته‪ ،‬وهذا القرآن حجة باقية‬
‫على الباد ل تنقضي عجائبه‪ ،‬ول يخلق عن كثرة الرد‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (‪.)4598‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪51‬‬

‫م حجة ول معجزة أبلغ ول أنجع في العقول‬ ‫فإنه ليس ث َّ‬


‫والنفوس‬
‫من هذا القرآن‪ ,‬الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعًا‬
‫متصدع ًا من‬
‫(‪)2‬‬
‫خشية الله‪.‬‬
‫***‬

‫‪2‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪.471/ 2‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪52‬‬

‫ثالثًا‪ :‬القرآن يخاطب‬


‫الفكر والعاطفة في آن واحد‬

‫من عجائب القرآن التي ينفرد بها عن غيره أنه يخاطب‬


‫الفكر والعاطفة معًا وفي آن واحد‪ ،‬يخاطب العقل فيقنعه‬
‫بما يريد إقناعه به‪ ،‬وفي نفس الوقت يتسرب هذا الخطاب‬
‫إلى المشاعر فيستثيرها ويدفعها للتجاوب معه فتتحول‬
‫القناعة العقلية إلى إيمان قلبي‪ ،‬وهذا ل يمكن حدوثه مع‬
‫أي خطاب آخر‪.‬‬
‫فأهل الرأي إذا ما أرادوا أن يقنعوا الناس بفكرة ما‬
‫استخدموا أساليب القناع المختلفة‪ ،‬وبالفعل يقتنع العقل‪،‬‬
‫ولكن تظل هذه الفكرة حبيسة فيه‪ ،‬ول تنتقل إلى القلب‬
‫لتصبح إيمانًا يدفع للعمل بمقتضاها‪ ،‬والسبب في ذلك أنهم‬
‫لم يخترقوا القلب بفكرتهم‪ ،‬ولم يؤثروا على المشاعر وهذا‬
‫أمر بعيد المنال عنهم‪ ،‬فإمكاناتهم وإمكانات البشر جميعًا ل‬
‫تسمح بذلك‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول د‪.‬محمد عبد الله دراز – رحمه‬
‫الله‪:-‬‬
‫وفي النفس النسانية قوتان‪ :‬قوة تفكير وقوة وجدان‪،‬‬
‫وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها‪ ،‬فأما إحداهما‬
‫فتنقب عن الحق لمعرفته‪ ،‬وعن الخير للعمل به‪ ،‬وأما‬
‫الخرى فتسجل إحساسها بما في الشياء من لذة وألم‪،‬‬
‫والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى‬
‫نفسك بهذين الجناحين‪ ،‬فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية‬
‫والمتعة الوجدانية معًا‪.‬‬
‫فهل رأيت هذا التمام في كلم الناس؟‬
‫لقد عرفنا كلم العلماء والحكماء‪ ،‬وعرفنا كلم الدباء‬
‫والشعراء‪ ،‬فما وجدنا من هؤلء ول هؤلء إل غُلُوًا في‬
‫جانب‪ ،‬وقصوًرا في جانب‪ ...‬فالذي يفهمك تتناقص قوة‬
‫وجدانه‪ ،‬والذي يقع تحت تأثير لذة أو ألم يضعف تفكيره‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪53‬‬

‫وهكذا ل تقصد النفس النسانية إلى هاتين الغايتين قصدًا‬


‫واحدًا‪ ،‬وإل لكانت مقبلة مدبرة معًا‪.‬‬
‫هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي‬
‫القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب‪ :‬فإذا رأيته يتجه‬
‫إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية قلت‪:‬هذه‬
‫ثمرة الفكرة‪.‬‬
‫وإذا رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها‪ ،‬وقبضها‬
‫أو بسطها‪ ،‬واستثارة كوامن لذاتها أو ألمها‪ ،‬قلت‪ :‬هذه ثمرة‬
‫العاطفة‪ ،‬وإذا رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى‬
‫الخر‪ ...‬عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه‪..‬‬
‫وأما إن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك‬
‫هذين الطرفين معًا‪ ،‬كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة‬
‫أوراقًا وأزهاًرا وأثماًرا معًا‪ ...‬فذلك ل تظفر به في كلم‬
‫بشر‪ ،‬ول هو من سنن الله في النفس النسانية‪.‬‬
‫أما الله رب العالمين فهو الذي ل يشغله شأن عن شأن‪.‬‬
‫وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا الرّ ْح َمنُ عَ ّلمَ‬
‫[الرحمن‪.]4-1 :‬‬ ‫عَ ّل َمهُ البَيَانَ‬ ‫اْلقُرْآنَ خَ َلقَ الِْنسَانَ‬
‫وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان‪ ،‬وأن يخرج من‬
‫صا سائغًا للشاربين‪ ،‬وهذا ما تجده في‬
‫بينهما شرابًا خال ً‬
‫كتابه الكريم حيثما توجهت‪.‬‬
‫أل تراه في فسحة قصصه وأخباره ل ينسى حق العقل‬
‫من حكمة وعبرة؟‬
‫أول تراه في معمعة براهينه وأحكامه ل ينسى حظ‬‫َ‬
‫القلب من تشويق وترقيق‪ ،‬وتحذير وتنفير‪ ،‬وتهويل‬
‫وتعجيب‪ ،‬وتبكيت وتأنيب؟ يبث ذلك في مطالع آياته‬
‫ومقاطعها وتضاعيفها؟‬
‫اقرأ مثل ً قوله تعالى‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْ ُكمُ اْل ِقصَاصُ فِي‬
‫اْلقَتْلَى اْلحُرّ بِالْحُرّ وَاْلعَ ْبدُ بِاْلعَ ْبدِ وَالُنْثَى بِالُْنثَى َف َمنْ ُعفِيَ َلهُ ِمنْ أَخِيهِ شَ ْيءٌ فَاتّبَاعٌ‬
‫خفِيفٌ مّن رّبّ ُكمْ وَرَ ْح َمةٌ َف َمنِ اعَْتدَى َب ْعدَ ذَِلكَ فَ َلهُ‬ ‫بِاْل َمعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَ ْيهِ ِبإِ ْحسَانٍ ذَِلكَ َت ْ‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪54‬‬

‫َعذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة‪ ,]178:‬وانظر‪ :‬الستدراج إلى الطاعة في‬


‫افتتاح الية بقوله‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُوا" وترقيق العاطفة بين‬
‫الواترين والموتورين في قوله أَخِيهِ وقوله بِاْلمَعْرُوفِ‬
‫خفِيفٌ مّن رّبّ ُكمْ‬ ‫وقوله ِبإِ ْحسَانٍ ‪ ،‬والمتنان في قوله تعالى‪ :‬تَ ْ‬
‫وَرَ ْحمَةٌ والتهديد في ختام الية‪.‬‬
‫ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصلة‬
‫وفي مسألة دموية؟‬
‫وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الحكام حتى أحكام‬
‫اليلء والظهار‪.‬‬
‫ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟‬
‫بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن‬
‫أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق‬
‫همه ووزع أجزاء نفسه‪ ،‬لجاء بالضواء المتنافرة ولخرج‬
‫بثوب بيانه رقعًا ممزقة(‪.)1‬‬
‫ومن نماذج الخطاب المتكامل التي ل يقدر عليه إل الله‬
‫والذي يخاطب العقل والوجدان‪ ،‬ويتعرض لقضية غاية في‬
‫الحساسية دون جرح مشاعر قارئها ذكًرا كان أو أنثى قوله‬
‫تعالى‪ :‬نِسَاؤُ ُكمْ حَ ْرثٌ لّ ُكمْ َف ْأتُوا حَرْثَ ُكمْ أَنّى ِشئُْتمْ وَ َق ّدمُوا لَْنفُسِ ُكمْ وَاّتقُوا الَ‬
‫وَاعْ َلمُوا َأنّكُم مّلَقُوهُ وََبشّرِ اْل ُمؤْمِنِيَ [البقرة‪.]223:‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() النبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز ‪ 146-143‬بتصرف‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪55‬‬

‫رابعًا‪ :‬القرآن لديه القدرة – بإذن الله –‬


‫على الستثارة الدائمة للمشاعر والضرب على أوتار‬
‫القلوب وتوليد الطاقة والقوة الروحية‬

‫أودع الله في القرآن خاصية عجيبة تساعده على تفعيل‬


‫معجزته‪ ،‬والقيام بدوره الخطير في توليد القوة الروحية‬
‫الدافعة للعمل بما يدل عليه‪ ،‬هذه الخاصية هي قدرته الفذة‬
‫– بإذن الله – على الستثارة الدائمة للمشاعر‪.‬‬
‫ونلحظ هذه الخاصية في لفظه وبيانه‪.‬‬
‫فبالنسبة للفظه وتأليف حروفه وكلماته نجد أن نَظْمه‬
‫وجرسه – عندما يُقرأ بترتيل صحيح – له وقع مؤثر غاية‬
‫التأثير على النفس‪ ,‬فله جمال توقيعي يأخذ بمجامع‬
‫القلوب؛ من توزيع الحركات والسكنات‪ ،‬والمدَّات والغنات‪،‬‬
‫والتصالت والسكنات‪ ،‬ل يمكن أن تجده في غيره‪.‬‬
‫يقول محمد عبد الله دراز‪ :‬أول ما يلقيك ويسترعى‬
‫انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي‬
‫في شكله وجوهره‪.‬‬
‫دع القارئ المجوِّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله‪ ،‬ثم انتبذ‬
‫منه مكانًا قصيًا ل تسمع فيه جْرس حروفه‪ ،‬ولكن تسمع‬
‫حركاتها وسكناتها‪ ،‬ومدَّاتها وغُنَّاتها‪ ،‬واتصالتها وسكناتها‪ ،‬ثم‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪56‬‬

‫جّرِدت‬
‫الق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية‪ ،‬وقد ُ‬
‫تجريدًا أو أرسلت ساذجة في الهواء‪.‬فستجد نفسك منها‬
‫جّرِد هذا‬
‫بإزاء لحن غريب عجيب ل تجده في كلم آخر لو ُ‬
‫التجريد‪ ،‬وجوِّد هذا التجويد‪.‬‬
‫ستجد اتسا ًقا وائتلفًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه‬
‫الموسيقى والشعر‪ ،‬على أنه ليس بأنغام الموسيقى ول‬
‫بأوزان الشعر‪ ,‬ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي‬
‫تتحد الوزان فيها بيتًا بيتًا‪ ،‬وشطرًا شطًرا‪ ،‬فل يلبث سمعك‬
‫أن يمجها‪ ،‬وطبعك أن يملها‪ ،‬إذا أعيدت وكررت عليك‬
‫بتوقيع واحد‪ ،‬بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع‬
‫متجدد‪ ،‬تنتقل فيه بين أسباب وأوتار وفواصل‪ ،‬على أوضاع‬
‫مختلفة يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء‪ ،‬فل‬
‫يعروك منه على كثرة ترداده مللة ول سأم‪ .‬بل ل تفتأ‬
‫تطلب منه المزيد‪.‬‬
‫هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن ل يخفى على أحد‬
‫ممن يسمع القرآن حتى الذين ل يعرفون لغة العرب‪,‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟‬
‫ومع جماله التوقيعي يأتي جماله التنسيقي في رصف‬
‫حروفه وتأليفها من مجموعات مؤتلفة مختلفة(‪)2‬مما يزيد‬
‫من قوة تأثيره على المشاعر‪.‬‬
‫بحر ل ساحل له‪:‬‬
‫هذا من ناحية القشرة الخارجية للفظ القرآن‪ ،‬أما ما‬
‫‪1‬‬
‫() النبأ العظيم ‪.131-127‬‬
‫() يقول د‪ .‬دراز‪ :‬فإذا ما اقتربت بأذنك قليًل قليًل ‪ ،‬فطرقت سمعك‬ ‫‪2‬‬

‫جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة‪ .‬فاجأتك منه لذة‬


‫أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها‪:‬‬
‫هذا ينقر‪ ،‬وذاك يصفر‪ ،‬وثالث يهمس‪ ،‬ورابع يجهر‪ ،‬وآخر ينزلق عليه‬
‫النَفَس‪ ،‬وآخر يحتبس عنده النفس ‪ .‬وهل َّ‬
‫م جًّرا ‪ ،‬فترى الجمال‬
‫اللغوي ماثًل أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة ‪ :‬ل كركرة (إعادة‬
‫الشيء مرة بعد مرة) ول ثرثرة ‪ ،‬ول رخاوة (استرخاء ولين) ول‬
‫معاظلة(تعقيد الكلم) ول تناكر ول تنافر (تنافر بين الحروف) وهكذا‬
‫ما ليس بالحضري الفاتر ول بالبدوي الخشن ‪ ،‬بل تراه وقد‬ ‫ترى كل ً‬
‫امتزجت فيه جزالة البداوة وفخامتها برقة الحضر وسلستها ‪ ،‬وقُدّر‬
‫فيه المر تقديًرا أن ل يبغي بعضها على بعض‪ ...‬النبأ العظيم ‪– 132‬‬
‫‪.133‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪57‬‬

‫يخص بيانه ومعانيه وقوة تأثيرها على القلب فل يمكن لحد‬


‫كائنًا من كان أن يدرك أبعادها جميعًا‪ ،‬وإنما هي رشفات‬
‫نرتشفها من بحر ل ساحل له‪...‬‬
‫فالبيان القرآني يحمل شتى أنواع الساليب التي‬
‫تخاطب العاطفة‪ ,‬وتضرب على أوتار القلوب فتستثيرها‬
‫جا عنيفًا‪ ,‬فيحدث التفاعل وتتولد‬ ‫وتأخذ بمجامعها وترجها ر ً‬
‫الطاقة والقوة الروحية وتقوى العزيمة‪ ،‬وتشتد الرادة‬
‫للقيام بما تحمله اليات من توجيهات‪...‬‬
‫فتجد القرآن مليئًا بأساليب الترغيب والترهيب‪ ،‬والتشويق‪،‬‬
‫ولفت النتباه‪ ،‬وضرب المثال‪ ،‬والقصة‪ ،‬والتخيير‪ ،‬والستدراج‪،‬‬
‫والترقيق‪ ،‬والتنفير‪ ،‬والتحذير‪ ،‬والتشجيع‪ ،‬والشهاد‪،‬‬
‫والستشهاد‪ ،‬وإثارة مشاعر الغيرة والتنافس‪....‬‬
‫هذا وغيره تجده بسهولة عند قراءتك لبضع آيات من‬
‫القرآن‪ ،‬فإذا ما اجتمع في القراءة الترتيل الصحيح حيث‬
‫التأثر بالنظْم والجْرس‪ ،‬مع التدبر والفهم حيث التأثر‬
‫بالمعنى‪ ..‬تولدت القوة الروحية التي ننشدها‪.‬‬
‫فإن أردت مثال ً لتأثير التلوة الصحيحة في المعنى‪ ،‬وما‬
‫يحدثه من أثر في القلب‪ ،‬وبعد ذلك البدن في الحركة فاقرأ‬
‫[المدثر‪،]1:2 :‬‬ ‫–إن شئت‪ -‬قوله تعالى يَا َأيّهَا اْل ُمدّثّرُ ُقمْ َفأَْنذِرْ‬
‫كمْ فَآمَنّا [آل‬
‫وكذلك قوله‪ :‬رَبّنَا إِنّنَا َسمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي ِللِيَانِ أَنْ آمِنُوا ِبرَبّ ُ‬
‫عمران‪.]193 :‬‬

‫وقل مثل ذلك على إيحاءات ألفاظ‪ :‬سارعوا – سابقوا –‬


‫خروا سجدًا وبكيا‪ ،‬وأثر ذلك على القلب والبدن‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪58‬‬

‫خامسًا‪ :‬القرآن ميسر للذكر والفهم‬

‫وََل َقدْ يَسّ ْرنَا‬ ‫من المزايا العظيمة للقرآن أنه ميسر للذكر‬
‫اْلقُرْآنَ لِلذّ ْكرِ فَهَلْ مِن ّمدّكِرٍ [القمر‪.]17 :‬‬
‫ففي أي وقت بالليل أو النهار‪ ،‬وفي أي مكان طاهر‬
‫يستطيع المرءْ أن يلتقي مع القرآن‪.‬‬
‫كان من الممكن أن تكون قراءة القرآن مقصورة على‬
‫أزمنة محددة أو أماكن معينة كالمساجد مثلً‪ ،‬لكن الله عز‬
‫وجل جعل تناوله بهذا التيسير لتتاح الفرصة للجميع أن‬
‫يلتقوا به في الوقت الذي يروق لهم‪ ،‬وهذا – بل شك –‬
‫يعطي للقرآن مزية عظيمة في استيعابه لجميع الفراد‬
‫باختلف ظروفهم وأحوالهم‪.‬‬
‫خطاب للعامة وخطاب للخاصة‪:‬‬
‫ومع تيسر القرآن للقراءة في أي وقت وأي مكان فإنه‬
‫كذلك ميسر للفهم‪ ،‬فخطابه موجه للعامة والخاصة‪.‬‬
‫يقول د‪ .‬دراز‪ :‬وهاتان غايتان متباعدتان عند الناس‪ ،‬فلو‬
‫أنك خاطبت الذكياء بالواضح المكشوف الذي تخاطب به‬
‫(العامة) لنزلت بهم إلى مستوى ل يرضونه لنفسهم في‬
‫الخطاب‪.‬‬
‫ولو أنك خاطبت العامة باللمحة والشارة التي تخاطب‬
‫بها الذكياء لجئتهم من ذلك بما ل تطيقه عقولهم‪ ،‬فل غنى‬
‫لك – إن أردت أن تُعطي كلتا الطائفتين حظها كامل ً من‬
‫بيانك – أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به‬
‫الخرى‪ ،‬كما تخاطب الطفال بغير ما تخاطب به الرجال‪.‬‬
‫فأما أ َّ‬
‫ن جملة واحدة تُلقى إلى العلماء والجهلء‪ ،‬وإلى‬
‫الذكياء والغبياء‪ ،‬وإلى السوقة والملوك‪ ،‬فيراها كل منهم‬
‫مقَدّرة على مقاس عقله‪ ،‬وعلى وفق حاجته‪ ,‬فذلك ما ل‬ ‫ُ‬
‫تجده على أتمه إل في القرآن الكريم‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪59‬‬

‫فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلم بلطائف التعبير‪،‬‬


‫ويراه العامة أحسن كلم وأقربه إلى عقولهم‪ ،‬ل يلتوي على‬
‫أفهامهم‪ ،‬ول يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة‪،‬‬
‫فهو متعة العامة والخاصة على السواء‪ .‬ميسر لكل من أراد‬
‫وََل َقدْ َيسّرْنَا اْلقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن ّمدّكِرٍ [القمر‪.]17 :‬‬
‫القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى‪:‬‬
‫من وسائل تيسير القرآن للقراءة أنه كتاب موجز مع أن‬
‫ما يحتويه من معان عظيمة يحتاج عرضها إلى الكثير من‬
‫المجلدات الضخمة‪.‬‬
‫تخيل معي – أخي القارئ – أن القرآن يمل عدة‬
‫مجلدات‪ ...‬هل سيقبل عليه الناس؟ هل سيتسنى لهم‬
‫قراءته من أوله إلى آخره أم سيهابون ذلك ويتكاسلون عن‬
‫إتمامه؟!‬
‫هذا اليجاز المعجز يجمع بين القصد في اللفظ‬
‫والوفاء بالمعنى‪ ،‬وهذان ضدان ل يمكن أن يجتمعا في‬
‫أي كلم غير القرآن كما يقول د‪.‬دراز‪ :‬فالذي يعمد‬
‫إلى ادخار لفظه وعدم النفاق منه إل على حد‬
‫الضرورة ل ينفك من أن يحيف على المعنى قليل ً أو‬
‫را‪ ...‬فالحذر يأخذه من الكثار والسراف‪ ...‬يبذل‬ ‫كثي ً‬
‫جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات‬
‫التمهيد والتشويق‪ ،‬ووسائل التقرير والتثبيت‪ ،‬وما إلى‬
‫ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان‪ ،‬حتى‬
‫صا يقصر عن غايته‪ ،‬أو هيكل ً من‬
‫يخرجه ثوبًا متقل ً‬
‫العظم ل يكسوه لحم ول عصب‪ ...‬ورب حرف ينقص‬
‫من الكلم يذهب بمائه ورونقة‪ ،‬ويكسف شمس‬
‫فصاحته‪.‬‬
‫والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى‬
‫عناصره‪ ،‬وإبراز كل دقائقه ل يجد له بُدًّا من أن يمد في‬
‫نفسه مدًّا‪ ،‬لنه ل يجد في القليل من اللفظ ما يشفي‬
‫صدره‪ ،‬ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة‪ ،‬فإذا أعطى نفسه‬
‫حظه من ذلك ل يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلمه‪،‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪60‬‬

‫ويبطئ بك في الوصول إلى غايته فتح ُّ‬


‫س بقوة نشاطك‬
‫وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والضمحلل ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ ...‬فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على‬


‫تمامهما بغير‬
‫فترة ول انقطاع‪ ،‬فانظر حيث شئت من القرآن الكريم‪،‬‬
‫دّر‬
‫تجد بيانًا قد ق ِ‬
‫على حاجة النفس أحسن تقدير‪ ،‬فل تحس فيه بتخمة‬
‫السراف ول‬
‫بمخمصة التقتير‪.‬‬
‫يؤدي إليك من كل معنى صورة نقية وافية‪( :‬نقية) ل‬
‫يشوبها مما هو غريب عنها‪( ،‬وافية) ل يشذ عنها شيء من‬
‫عناصرها الصلية ولواحقها الكمالية‪ ...‬كل ذلك في أوجز‬
‫لفظ وأنقاه‪.‬‬
‫‪ ...‬ضع يدك حيث شئت من المصحف‪ ،‬وعد ما أحصته‬
‫كفك من الكلمات عدًا‪ ،‬ثم أحص عدتها من أبلغ كلم تختاره‬
‫جا عن الدفتين‪ ،‬وانظر نسبة ما حواه هذا الكلم من‬
‫خار ً‬
‫المعاني إلى ذاك‪ .‬ثم انظر‪ :‬كم كلمة تستطيع أن تسقطها‬
‫أو تبدلها من هذا الكلم دون إخلل بغرض قائله؟ وأي كلمة‬
‫تستطيع أن تسقطها أو تبدلها هناك؟‬
‫فكتاب الله – كما يقول ابن عطية – (لو نُزعت منه‬
‫لَفظة‪ ،‬ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم‬
‫توجد)‪ .‬بل هو كما وصفه الله كِتَابٌ أُحْ ِكمَتْ آيَاُتهُ ُثمّ ُفصّلَتْ مِن ّلدُنْ‬
‫حَكِيمٍ خَِبيٍ [هود‪.)2( ]1:‬‬
‫القرآن إيجاز كله‪:‬‬
‫القرآن إيجاز كله‪ ،‬سواء مواضع إجماله ومواضع‬
‫ما برفق أقل ما يمكن من‬ ‫تفصيله‪ ،‬والقرآن يستثمر دائ ً‬
‫اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني‪ ...‬أجل‪ ،‬تلك‬
‫ظاهرة بارزة فيه كله‪ ،‬يستوي فيها مواضع إجماله التي‬
‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق ‪.139،138‬‬
‫‪2‬‬
‫() النبأ العظيم‪.142،141 ,‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪61‬‬

‫يسميها الناس مقام اليجاز‪ ،‬ومواضع تفصيله التي يسمونها‬


‫مقام الطناب‪ ،‬ولذلك نسميه إيجاز كله‪ ...‬فليس فيه كلمة‬
‫إل هي مفتاح لفائدة جليلة‪ ،‬وليس فيه حرف إل جاء‬
‫لمعنى(‪.)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫()المصدر السابق ‪.159،158‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪62‬‬

‫سادسًا‪ :‬القرآن هو الكلمة السواء‬


‫التي ل يختلف عليها اثنان من المة‬

‫ل يمكن لعاقل أن يُنكر الخلفات الموجودة بين أبناء‬


‫المة السلمية‪ ،‬فمن خلف بين السنة والشيعة‪ ،‬إلى خلف‬
‫بين أبناء السنة أنفسهم‪.‬‬
‫والخلف بين الناس أمر واقع ما له من دافع‪ ,‬لختلف‬
‫البيئات والفهام والثقافات‪...‬‬
‫وهو محمود لو كان اختلف تنوع بين الطوائف‬
‫والمذاهب المختلفة حين يسعى الجميع لتكميل بعضهم‬
‫البعض‪.‬‬
‫وهو محمود لو كان خلفًا في المساحة التي يمكن‬
‫الخلف فيها‪ ،‬فالصحابة والسلف اختلفوا فيما بينهم‪ ،‬ولكن‬
‫لم يختلفوا في الكليات والصول‪ ،‬بل في الفرعيات‪.‬‬
‫وهو محمود كذلك لو لم يصاحبه تعصب واعتداد بالرأي‬
‫وتسفيه وانتقاص للمخالفين واحتقار جهودهم أو الحط من‬
‫شأنهم‪.‬‬
‫ولكن الواقع يقول غير ذلك‪ ،‬فالمة ليست على قلب‬
‫رجل واحد‪ ،‬فبعض الخلفات تجاوزت المساحة المسموح‬
‫بها بكثير‪.‬‬
‫وبعض الخلفات انتقل أصحابها من الناحية الموضوعية‬
‫إلى الناحية الشخصية‪ ،‬فعمدوا إلى تجريح الشخاص‬
‫والهيئات والتشهير بهم‪...‬‬
‫ومما يدعو للسف أن الكل يعتقد أنه على صواب‪ ،‬وأن‬
‫طريقته هي الطريقة المثلى‪.‬‬
‫فما هو الحل لهذا الوضع الذي ل يُرضي الله عز وجل‪،‬‬
‫والذي‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪63‬‬

‫شلُوا‬
‫وََلَ تَنَا َزعُوا فََتفْ َ‬ ‫بسببه تتعرض المة للخذلن والحرمان‬
‫وََت ْذهَبَ‬
‫رِيُ ُكمْ [النفال‪.]46:‬‬
‫ولقد ذهبت ريحنا بالفعل‪ ،‬وأصبحنا معَّرة المم‪ ،‬ومضرب‬
‫المثل في التخلف والنحطاط‪.‬‬
‫الكلمة السواء‪:‬‬
‫لحل لهذه المشكلة المعقدة لبد أن يكون هناك شيء‬
‫ما يحل هذا الخلف‬ ‫يجتمع عليه الجميع‪...‬يرضون به حك ً‬
‫ويصوب للجميع مواقفهم‪ ،‬فما هو هذا الشيء الذي يمكنه أن‬
‫يجمع حوله أمة تجاوز عددها المليار وثلث المليار؟!‬
‫لو بحثنا في كل شيء تحت أيدينا فلن نجد إل شيئًا‬
‫واحدًا يوافق الجميع على الحتكام إليه‪ ...‬أل وهو القرآن‪.‬‬
‫والعجيب أن الله سبحانه وتعالى سماه بالحبل‪ ,‬وكأن‬
‫قدره ووظيفته أن ينتشل الجميع ويرفعهم ويوحدهم‬
‫صمُوا ِبحَبْلِ الِ َجمِيعًا وَلَ َتفَرّقُوا‬
‫وَاعَْت ِ‬
‫[آل عمران‪.]103:‬‬
‫فحبل الله هو القرآن كما قال ابن مسعود وغيره‪.‬‬
‫‪« :‬كتاب ال هو حبل ال المدود بي‬ ‫ومما يؤكد هذا المعنى قوله‬
‫السماء إل الرض»(‪.)1‬‬
‫حا نازل ً به‬
‫فالقرآن حين يقبل عليه المرء إقبال ً صحي ً‬
‫على هواه‪ ،‬وليس نازل ً بهواه إليه‪ ،‬فإنه يزيد اليمان ويُنقص‬
‫الهوى في قلبه‪ ،‬وهذا من شأنه أن يُنهي جزءًا كبيًرا في‬
‫موضوع الخلف‪.‬‬
‫والقرآن كذلك يوضح ويبين الكثير من المور المختلف‬
‫فيها‪ ،‬ويرسم في الذهان خريطة السلم بنسبها الصحيحة‬
‫دون تفريط ول إفراط‪ ،‬فيُعطي كل ذي حق حقه‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح رواه ابن أبي شيبة ‪ ،‬وابن جرير عن أبي سعيد ‪ ،‬وصححه اللباني‬
‫في صحيح الجامع ‪ ،‬ح(‪.)4473‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪64‬‬

‫والقرآن يبني العلقة الصحيحة مع الله‪ ،‬ومع النفس‪،‬‬


‫ومع الرسل‪ ،‬ومع الملئكة‪ ،‬ومع الصالحين‪ ،‬ومع عالم الغيب‬
‫وعالم الشهادة‪ ،‬و‪...‬‬
‫وحين تنبنى العلقة الصحيحة بهذه المور يزول الكثير‬
‫من أسباب الخلف بين أبناء المة‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬عندما يقرأ المرء قوله تعالى‬
‫مخاطبًا رسوله َليْسَ َلكَ مِنَ المْرِ شَ ْيءٌ [آل عمران‪ ,]128:‬ويجد أن‬
‫المعنى الذي تحمله الية يتكرر في عشرات اليات‪ ،‬ومن‬
‫م يتحول ذلك إلى يقين في عقله‪ ،‬وإيمان في قلبه‪ ،‬فإن‬ ‫ث َّ‬
‫هذا يدفعه إلى أن ينظر إلى البشر جميعًا بنفس منظار‬
‫الية‪ ...‬ليس لهم من المر شيء مهما كان صلحهم‪.‬‬
‫‪ ...‬هذا المعنى لو استقر في عقولنا وقلوبنا فإنه سيؤدي‬
‫إلى حسم الكثير والكثير من نقاط الخلف‪ ،‬وأسباب‬
‫التشرذم والفرقة الناتجة عن تقديس البشر‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪65‬‬

‫سابعًا‪ :‬القرآن عبادة متجددة ل تُمل‬

‫ما لقرائه‪،‬‬
‫القرآن ل يبلى من كثرة الرد‪ ،‬ففيه الجديد دائ ً‬
‫ولو نهل البشر جميعًا من نبعه لما انقطع أبدًا عن التدفق‪،‬‬
‫ولما شعر أحدهم بالملل أو التكرار أو عدم وجود جديد‪ ،‬بل‬
‫العجب أننا سنفاجأ يوم القيامة بأننا ما أخذنا إل رشفات‬
‫وقطرات يسيره من نهر القرآن العظيم الفياض بالخير‪،‬‬
‫وصدق من قال بأن القرآن ل يزال بكًرا‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول د‪ .‬محمد عبد الله دراز – رحمه‬
‫الله ‪:-‬‬
‫تقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من‬
‫الشفوف‪ ،‬والملسة‪ ،‬والحكام‪ ،‬والخلو من كل غريب عن‬
‫الغرض‪ ،‬ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كد ّ خاطر ول‬
‫ما ولغات بل ترى صوًرا‬
‫استعادة حديث‪ ,‬كأنك ل تسمع كل ً‬
‫وحقائق ماثلة‪.‬‬
‫خبرا ووقفت على‬ ‫وهكذا يخيل لك أنك قد أحطت به ُ‬
‫معناه محدودًا‪...‬‬
‫هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى‬
‫جديد‪ ،‬غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة‪ .‬وكذلك حتى‬
‫ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوهًا عدة‪ ،‬كلها‬
‫ص من الماس يعطيك‬ ‫صحيح أو محتمل للصحة‪ ،‬كأنما هي ف ّ‬
‫كل ضلع منه شعاع ًا فإذا نظرت إلى أضلعه جملة بهرتك‬
‫بألوان الطيف كلها‪ ،‬فل تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع‪.‬‬
‫ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك لرأى منها أكثر‬
‫حا مع الزمان يأخذ كل منه‬
‫مما رأيت‪ .‬وهكذا تجد كتابًا مفتو ً‬
‫سر له‪ ،‬بل ترى محيطًا مترامي الطراف ل تَحدّه‬ ‫ما يُي َّ‬
‫عقول الفراد ول الجيال‪.‬‬
‫ثم يضرب الشيخ دراز مثل ً فيقول‪:‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪66‬‬

‫اقرأ قوله تعالى‪ :‬وَالُ َيرْزُقُ مَن َيشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة‪,]212:‬‬
‫وانظر هل ترى كلًما أبيين من هذا في عقول الناس‪ .‬ثم‬
‫انظر كم في هذه الكلمة من مرونة‪ ،‬فإنك لو قلت في‬
‫معناها‪:‬‬
‫‪-1‬إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب‬
‫يحاسبه ول سائل يسأله لماذا يبسط الرزق‬
‫لهؤلء ويقدره على هؤلء‪ ،‬أصبت‪.‬‬
‫‪-2‬ولو قلت‪ :‬إنه يرزق بغير تقتير ول محاسبة‬
‫لنفسه عند النفاق خوف النفاذ‪ ،‬أصبت‪.‬‬
‫‪-3‬ولو قلت‪ :‬إنه يرزق من يشاء من حيث ل‬
‫ينتظر ول يحتسب‪ ،‬أصبت‪.‬‬
‫‪-4‬ولو قلت‪ :‬أنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له‬
‫على عمله‪ ،‬أصبت‪.‬‬
‫‪-5‬ولو قلت‪ :‬يرزقه رزقًا كثيًرا ل يدخل تحت حصر‬
‫( ‪)1‬‬
‫وحساب‪ ،‬أصبت‪.‬‬
‫تقرأ فتؤجر‪:‬‬
‫وفوق هذا كله فالقرآن عبادة يُتعبد من خللها ويُتقرب‬
‫ما‬
‫إلى الله عز وجل بها‪ ،‬مما يدفع بالمسلم إليه ويحببه دو ً‬
‫في التعامل معه كباب للجر والثواب‪ ،‬وقربة إلى الله‪ ،‬وهذا‬
‫ل يتوافر في أي كتاب آخر‪.‬‬
‫وما يمكن أن يثيره من‬ ‫تأمل هذا القول لرسول الله‬
‫رغبة لقراءة القرآن‪:‬‬
‫«أيب أحدكم إذا رجع إل أهله‪ ،‬أن يد ثلثَ خِلفاتٍ عظامٍ سانٍ؟ فثلث آيات‬
‫يقرأ بن أحدكم ف صلته‪ ،‬خي له من ثلث خلفاتٍ عظامٍ سان»(‪.)2‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() النبأ العظيم‪.147 ، 146 ,‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪67‬‬

‫مجرب‬
‫ثامنًا‪ :‬القرآن وسيلة ودواء ُ‬

‫ومما يؤهل القرآن ليكون بداية صحيحة لنهضة المة‪ ،‬أنه‬


‫جّرِب من قبل‪ ...‬استعمله الجيل الول على حقيقته‬ ‫قد ُ‬
‫فصاروا من خلله – بإذن الله – خير أمة‪ ،‬وتبدل ترتيبهم بين‬
‫المم من الذيل إلى المقدمة في سنوات معدودة‪.‬‬
‫لقد كان حال أمة العرب قبل السلم أسوأ بكثير من‬
‫حالنا الن‪ ،‬ومع ذلك فقد نفع معهم القرآن وأثر فيهم‪،‬‬
‫وغيَّرهم‪ ،‬وأصلح حالهم‪ ،‬وأعاد صياغتهم من جديد‪ ،‬وهذا –‬
‫بل شك – يعطينا المل بأن القرآن يصلح معنا – بإذن الله –‬
‫ويقدر أن يفعل بنا مثل ما فعل بهم‪.‬‬
‫ويكفيك في هذا أن حزنهم الشديد على وفاة محمد‬
‫لم يكن فقط على فراقه‪ ،‬بل كان على انقطاع نزول‬
‫القرآن‪ ،‬وانفصال الرض عن السماء‪،‬‬
‫كيف ل وقد ذاقوا حلوة اليمان من خلله‪ ،‬وأدركوا قيمته‬
‫وقدرته التغييرية الفذة‪ ،‬وأنه كان يرفعهم ويرقيهم في‬
‫مدارج اليمان‪ ،‬ويزيدهم معرفة بالله‪،‬‬
‫وارتباطًا به‪...‬‬
‫تأمل معي هذه الواقعة التي تؤكد هذا المعنى‪:‬‬
‫«قال أبو بكر‪ ،‬رضي الله عنه‪ ،‬بعد وفاة رسول الله ‪،‬‬
‫لعمر‪ ،‬رضي الله عنه‪ :‬انطلق بنا إلى أم أيمن‪ ،‬نزورها كما‬
‫كان رسول الله يزورها‪ ...‬فما انتهينا إليها بكت‪ ،‬فقال‬
‫لها‪ :‬ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله ‪ ,‬فقالت‪ :‬ما‬
‫أبكى أن ل أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله ‪،‬‬
‫ولكني أبكي أن الوحي انقطع من السماء!‬
‫(‪)1‬‬
‫فهيجتهما على البكاء‪ ،‬فجعل يبكيان معها»‪.‬‬
‫فالنص – كما يقول د‪.‬فريد النصاري – دال بوضوح على‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه مسلم في فضائل الصحابة‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪68‬‬

‫أن ارتباط الصحابة‪ ،‬إنما كان بالقرآن‪ ،‬الذي هو ربط مباشر‬


‫بالله‪ ،‬ولم يكن بشخص الرسول إل من حيث هو مبلغ‬
‫عن الله(‪.)1‬‬
‫م صح أن نقول‪ :‬إن القرآن الكريم كان هو الباب‬ ‫(ومن ث ّ‬
‫المفتوح والمباشر الذي ولجه الصحابة الكرام إلى ملكوت‬
‫صنعوا على عين الله‪ ...‬إنه السبب الوثيق الذي‬
‫الله‪ ،‬حيث ُ‬
‫تعلقت به قلوبهم‪ ،‬فأوصلهم إلى مقام التوحيد (الفعلي‬
‫(‪)2‬‬
‫والحقيقي)‪.‬‬
‫ولقد دأب رسول الله على ترسيخ الرتباط بالقرآن‪،‬‬
‫باعتباره المصدر الساسي للتربية‪ ،‬والمتتبع لحاديث‬
‫الرسول يجدها شارحة للقرآن مبينة لما أُجمل فيه‪،‬‬
‫مؤكدة لمعانيه‪ ،‬وهذا ما دفع الشافعي – رحمه الله – لن‬
‫سنة هي‪ :‬فهم النبي للقرآن‪ ،‬أو نضح فهمه‬ ‫يقول بأن ال ُّ‬
‫للقرآن(‪.)3‬‬
‫أوَل يكفينا القرآن؟!‬
‫جاء بعض المسلمين إلى رسول الله بكتب قد‬
‫كتبوها‪ ،‬فيها بعض ما سمعوه من اليهود‪ .‬فقال رسول الله‬
‫«كفى بقوم حقا ‪-‬أو ضللة‪ -‬أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إل ما جاء به غيه‬
‫[العنكبوت‪:‬‬ ‫إليهم»‪ .‬فنزلت‪َ :‬أوَ َلمْ يَ ْكفِ ِهمْ أَنّا َأنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ الْكِتَابَ يُ ْتلَى عَ َليْ ِهمْ‬
‫(‪)4‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪] 51‬‬

‫وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي قلبة أن عمر بن‬


‫الخطاب رضي الله عنه مر برجل يقرأ كتابًا‪ ،‬فاستمعه‬
‫ساعة‪ ،‬فاستحسنه‪ ،‬فقال للرجل‪ :‬اكتب لي من هذا الكتاب‪،‬‬
‫ما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له‬
‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فاشترى أدي ً‬
‫في ظهره وبطنه‪ ،‬ثم أتى النبي فجعل يقرأه عليه‪،‬‬
‫وجعل وجه رسول الله × يتلون‪ ،‬فضرب رجل من النصار‬
‫‪1‬‬
‫() التوحيد والوساطة في التربية الدعوية ‪ ,‬ص (‪.)45‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق ‪ ,‬ص (‪.)46‬‬
‫‪3‬‬
‫() كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي‪ ,‬ص(‪.)45‬‬
‫‪4‬‬
‫()أخرجه الدارمي وأبو داود في مراسيله وابن أبي حاتم ‪ ...‬انظر الدر‬
‫المنثور‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪69‬‬

‫بيده الكتاب‪ ،‬قال‪ :‬ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه‬
‫رسول الله منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب‪ ،‬فقال‬
‫النبي عند ذلك‪«:‬إنا بعثت فاتًا وخاتًا‪ ،‬وأعطيت جوامع الكلم وفواته‬
‫واختصر ل الديث اختصارًا‪ ،‬فل يهلكنكم التهوكون»(‪.)1‬‬
‫وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن عمر بن الخطاب‬
‫رضي الله عنه قال‪ :‬يا رسول الله إن أهل الكتاب يحدثونا‬
‫بأحاديث قد أخذت بقلوبنا‪ ،‬وقد هممنا أن نكتبها فقال‪«:‬يا ابن‬
‫الطاب أمتهوكون أنتم كما توكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس ممد بيده لقد‬
‫(‪)2‬‬
‫جئتكم با بيضاء نقية‪ ،‬ولكن أعطيت جوامع الكلم‪ ،‬واختُصر ل الديث اختصارًا»‬
‫‪ ...‬من هذه النصوص وغيرها يتبين لنا أن رسول الله ×‬
‫لم يكن يعتمد شيئًا في تربية الصحابة غير القرآن‪ ،‬وسنته‬
‫المطهرة‪ ،‬باعتبارها شارحة له‪.‬‬
‫ومن هنا توثق ارتباط الناس بالقرآن في العهد النبوي‪،‬‬
‫ارتباطًا عمق صلة القلوب بربها‪ ،‬إلى درجة أن الصحابة‪،‬‬
‫رضوان الله عليهم‪ ،‬كانوا يتتبعون الوحي‪ ،‬تتبع الملهوف‪،‬‬
‫الحريص على الترقي في مدارج المعرفة بالله والسلوك‬
‫إليه سبحانه(‪.)3‬‬
‫تأمل معي أخي القارئ هذا الخبر الذي يبين كيف كان‬
‫حال الصحابة مع القرآن‪ ،‬وكيف كانوا يستقبلون توجيهاته‬
‫وإشاراته‪:‬‬
‫نزل رجل من العرب على عامر بن ربيعة‪ ،‬فأكرم عامر‬
‫مثواه‪ ،‬وكلم فيه رسول الله ‪ ،‬فجاء الرجل فقال‪ :‬إني‬
‫استقطعت رسول الله واديًا ما في العرب أفضل منه‪،‬‬
‫ولقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك‪ .‬فقال‬
‫عامر‪ :‬ل حاجة لي في قطيعتك‪ ،‬نزلت اليوم سورة أذهلتنا‬
‫غفْ َلةٍ مّعْ ِرضُونَ [النبياء‪.]1 :‬‬
‫عن الدنيا اقْتَ َربَ لِلنّاسِ ِحسَابُ ُهمْ َو ُهمْ فِي َ‬

‫‪1‬‬
‫() الدر المنثور ‪ 5/284‬والمتهوكون أي المتحيرون‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() التوحيد والوساطة ‪ ,‬ص (‪.)42‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪70‬‬

‫بل انظر إلى مدى تقدير اليهود للقرآن‪ ,‬بل لية واحدة‬
‫فيه وهم الذين ينكرونه ويكذبونه ويكذبون رسول الله ‪،‬‬
‫فقالوا حسدًا من عند أنفسهم‪« :‬نزلت عليكم آية لو نزلت‬
‫علينا معشر يهود لجعلنا يوم نزولها عيدًا يقصدون قوله‬
‫لمَ دِينًا‬
‫تعالى‪ :‬الَْي ْومَ أَ ْكمَلْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ وَأَْت َممْتُ عَلَيْ ُكمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ لَ ُكمُ الِ ْس َ‬
‫[المائدة‪ ,]3:‬لما فيها من فضل وتكريم‪ ،‬فهل شعرنا نحن‬
‫بهذا التكريم من الله‪ ،‬وقدرناه حق قدره‪ ،‬وقمنا بحقه؟‬
‫الجيل الفريد‪:‬‬
‫كان من نتاج ارتباط الصحابة الوثيق بالقرآن‪ ،‬والنصياع‬
‫التام له‪ ،‬والسماح لمعجزته أن تعمل داخلهم‪ ،‬أن تكونت‬
‫أمة جديدة وجيل ً فريدًا لم تر البشرية مثله حتى الن‪.‬‬
‫يقول محمد الغزالي – رحمه الله ‪ :-‬المة التي نزل‬
‫عليها القرآن فأعاد صياغتها هي المعجزة التي تشهد للنبي‬
‫عليه السلم بأنه أحسن بناء الجيال‪ ،‬وأحسن تربية المم‪،‬‬
‫وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق‪ ..‬فنحن‬
‫نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن‪ ،‬تحولوا إلى أمة تعرف‬
‫الشورى وتكره الستبداد‪ ،‬إلى أمة يسودها العدل‬
‫الجتماعي ول يُعرف فيها نظام الطبقات‪ ،‬إلى أمة تكره‬
‫التفرقة العنصرية‪ ،‬وتكره أخلق الكبرياء والترفع على‬
‫الشعوب‪.‬‬
‫ووجدنا بدويًا كربعي بن عامر يقول لقائد الفرس‪:‬‬
‫جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده‪،‬‬
‫ومن جور الديان إلى عدل السلم‪.‬‬
‫إنهم فتح جديد للعالم وحضارة جديدة أنعشت النسانية‬
‫ورفعت مكانتها‪ ،‬لن المة السلمية كانت في مستوى‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬والحضارة السلمية إنما جاءت ثمرة لبناء‬
‫القرآن للنسان‪.)1( .‬‬
‫من ثمارهم تعرفونهم‪:‬‬
‫لقد أدركت البشرية‪ ،‬وس َّ‬
‫جل التاريخ حجم التغيير الذي‬
‫‪1‬‬
‫() كيف نتعامل مع القرآن‪ ,‬ص (‪.)30‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪71‬‬

‫حدث للصحابة وذلك من خلل رصد أعمالهم‪ ,‬التي ل يمكن‬


‫أن تحدث من أُناس عاديين‪ ،‬فهي أعمال فوق طاقة البشر‪،‬‬
‫ومما يدعو للدهشة أن هذه العمال لم تكن قاصرة على‬
‫ما لهم جميعًا‪:‬‬
‫عدد محدود من الصحابة‪ ,‬بل كانت سمتًا عا ً‬
‫رجال ً ونساء‪ ...‬شبابًا وشيبًا‪.‬‬
‫فهذه امرأة تدفع إلى ابنها يوم أحد السيف‪ ،‬فلم يُطق‬
‫حمله‪ ،‬فماذا فعلت؟!‬
‫هل فرحت وحمدت الله على السلمة وعادت به إلى‬
‫دارها؟!‬
‫ل‪ ،‬لم تفعل ذلك‪ ،‬بل أحضرت نسعة (سير مضفور)‬
‫فشدت به السيف على ساعد ابنها‪ ،‬ثم أتت به النبي‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول الله هذا ابني يقاتل عنك‪ ،‬فقال النبي ‪:‬‬
‫أي بني احمل ههنا‪ ،‬أي بني احمل ههنا‪ ،‬فأصابته جراحة‪،‬‬
‫صرع فأُتي به النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬أي بني لعلك جزعت؟ قال‪:‬‬ ‫ف ُ‬
‫( ‪)1‬‬
‫ل يا رسول الله‪.‬‬
‫وعندما أراد النبي الخروج إلى تبوك دعا الناس للنفاق‬
‫وتجهيز الجيش‪ ،‬فتسابق الصحابة إلى إخراج الكثير والكثير من‬
‫الموال وكل ما يحتاجه الجيش‪ ،‬فوجد رجل ً من النصار اسمه‬
‫الحجاب ويكنى أبو عقيل أنه ل يملك شيئًا ينفقه‪ ،‬فماذا يفعل‬
‫وهو يريد أن يساهم في هذا الجهاد‪ ،‬ويُري الله من نفسه‬
‫خيًرا؟‬
‫جر‬ ‫فكر وفكر فهداه الله إلى شي عجيب‪ :‬لقد ذهب وأ َّ‬
‫نفسه (عمل بالجرة) عند البعض‪ ,‬وكان العمل هو جر‬
‫الجرير(الحبل) على ظهره‪ ,‬أما الُجرة فكانت صاعين من‬
‫تمر‪ ،‬فترك صاع ًا لهله‪ ،‬وذهب بالخر لرسول الله يقول‬
‫له‪ :‬يا رسول الله ما لي من مال غير أني أجرت نفسي من‬
‫جُر الجرير في عنقي على صاعين من تمر‪،‬‬ ‫بني فلن‪ ،‬أ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫فتركت صاعًا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى‪..‬‬
‫جدُونَ إِلّ جُ ْه َد ُهمْ‬
‫وَاّلذِينَ لَ َي ِ‬ ‫فكان وأمثاله ممن قال الله فيهم‬
‫‪1‬‬
‫() كنز العمال ‪.10/431‬‬
‫‪2‬‬
‫() الدر المنثور ‪.3/472‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪72‬‬

‫[التوبة‪.]79:‬‬
‫ولما نزلت مَن ذَا اّلذِي ُيقْرِضُ الَ َق ْرضًا َحسَنًا قال أبو‬
‫الدحداح‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن الله يريد منا القرض؟ قال‪« :‬نعم‬
‫يا أبا الدحداح» قال‪ :‬أرني يدك‪ ،‬فناوله يده‪ ،‬قال‪ :‬قد أقرضت‬
‫ربي حائطي(بستان)‪ -‬وحائطه فيه ستمائة نخلة – فجاء‬
‫يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها‪ ،‬فنادى‪ :‬يا‬
‫أم الدحداح‪ ،‬قالت‪ :‬لبيك‪ ،‬قال‪ :‬اخرجي فقد أقرضته‬
‫ربي»(‪.)1‬‬
‫وفي رواية‪ :‬يا أم الدحداح‪ ،‬اخرجي من الحائط فإني قد‬
‫بعته بنخلة في الجنة؟‬
‫فماذا قالت زوجته؟ هل لمته وعاتبته على فعله؟ هل‬
‫قالت له‪ :‬وأين سنذهب‪ ،‬لقد أفقرتنا وأفقرت عيالنا؟!!‬
‫ل‪ ،‬لم تقل له ذلك‪ ،‬بل قالت‪ :‬ربح البيع(‪.)2‬‬
‫وإن تعجب فاعجب من هذا الموقف‪:‬‬
‫أخرج ابن سعد في طبقاته عن جعفر بن عبد الله أنه‬
‫لما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول الناس‬
‫جرح أبو عقيل النيفي‪ُ ،‬رمي بسهم فوقع بين منكبيه‬ ‫ُ‬
‫شطب في غير مقتل‪ ،‬فأخرج السهم ووهن له‬ ‫وفؤاده فَ َ‬
‫جَّر إلى‬
‫شقّه اليسر لما كان فيه‪ ،‬وهذا أول النهار‪ ،‬و ُ‬
‫الّرحل‪ ،‬فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم‬
‫جرحه سمع معن بن عدي يصيح‬ ‫وأبو عقيل واهن من ُ‬
‫بالنصار‪ :‬الله الله والكََّرة على عدوكم‪.‬‬
‫قال عبد الله بن عمر‪ :‬فنهض أبو عقيل يريد قومه‪،‬‬
‫نوه‬
‫فقلت‪ :‬ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال‪ ،‬قال‪ :‬قد ّ‬
‫المنادي باسمي‪ ،‬قال ابن عمر‪ :‬فقلت‪ :‬إنما يقول يا للنصار‬
‫ل يعني الجرحى‪ ،‬قال أبو عقيل‪:‬أنا رجل من النصار وأنا‬
‫أجيبه ولو حبوا‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() حياة الصحابة ‪.2/23‬‬
‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪73‬‬

‫قال ابن عمر‪ :‬فتحّزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده‬


‫اليمنى مجّردًا ثم جعل ينادي‪ :‬يا للنصار كَّرة كيوم حنين‪.‬‬
‫فاجتمعوا ‪ -‬رحمهم الله جميعًا‪ -‬يقدمون المسلمين دُْربة من‬
‫دون عدوهم‪ ,‬حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا‬
‫واختلفت السيوف بيننا وبينهم‪.‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده‬
‫المجروحة من المنكب فوقعت الرض‪ ،‬وبه من الجراح‬
‫حا كلها قد خلصت إلى مقتل‪ ،‬وقتل عدو‬ ‫جر ً‬
‫أربعة عشر ُ‬
‫الله مسيلمة‪.‬‬
‫قال ابن عمر‪ :‬فوقعت على أبي عقيل وهو صريع بآخر‬
‫ملْتَاث‪ :‬لمن‬
‫رمق‪ ،‬فقلت‪ :‬أبا عقيل‪ ،‬فقال لبيك بلسان ُ‬
‫ُ‬
‫الدّبْرة؟ قال‪ :‬قلت أبشر‪ ،‬ورفعت صوتي‪ ،‬قد قتل عدو الله‪،‬‬
‫فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله‪ ،‬ومات يرحمه الله(‪.)1‬‬
‫‪ ....‬فماذا تقول بعد ذلك؟!‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() طبقات ابن سعد ‪.362،361 / 3‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪74‬‬

‫تاسعًا‪ :‬القرآن هو المنقذ ‪ -‬بإذن الله‪-‬‬


‫مخرج من الفتن الذي دلنا عليه رسول الله‬ ‫وال ُ‬

‫أخبرنا رسول الله بأنه ستكون هناك فترات انكسار‬


‫وهزيمة وفتن ستمر بها المة السلمية‪ ،‬وأن المم الخرى‬
‫ستتكالب عليها وتهزمها‪ ،‬وأخبرنا بأن السبب وراء ذلك‬
‫هو حب الدنيا وكراهية الموت‪ ،‬أو بمعنى آخر ضعف اليمان‬
‫وسطوة الهوى على القلب‪.‬‬
‫عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي قال‪« :‬يوشك أن تتداعى‬
‫عليكم المم كما تتداعى الكلة إل قصعتها» فقال قائل‪ :‬وقلة نحن‬
‫يومئذ؟ قال‪« :‬بل أنتم يومئذ كثي‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل‪ ،‬ولينعن ال من‬
‫صدور عدوكم الهابة منكم‪ ،‬وليقذفن ف قلوبكم الوهن» فقال قائل‪:‬وما‬
‫الوهن؟ قال‪« :‬حب الدنيا وكراهية الوت»(‪.)1‬‬
‫ولقد أخبرنا بأن المخرج من هذه الفتن وهذا الوهن‬
‫هو القرآن‪ ,‬لنه سيعالج السبب الذي من أجله ضعفت المة‬
‫وهانت على الله‪.‬‬
‫عن الحارث العور قال‪ :‬مررت في المسجد فإذا الناس‬
‫يخوضون في الحاديث‪ ،‬فدخلت ع َلَى عل َّ‬
‫ي رضي الله عنه‬
‫فقلت‪ :‬يا أمير المؤمنين أل ترى أن الناس قد خاضوا في‬
‫أو قد فعلوها؟ قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫الحاديث؟ قال‪َ :‬‬
‫يقول‪ :‬أل إنا ستكون فتنة‪.‬‬ ‫قال أما إني سمعت رسول الله‬
‫فقلت‪ :‬ما المخرج منها يا رسول الله؟‬
‫قال‪ :‬كتاب ال فيه نبأ ما كان قبلكم وخب ما بعدكم‪ ،‬وحكم ما بينكم‪ ،‬هو‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬أخرجه المام أحمد وأبو داود ‪ ،‬وصححه اللباني في السلسلة‬
‫الصحيحة ح(‪.)918‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬لماذا القرآن هو سر نهضتنا؟‬ ‫‪75‬‬

‫الفصل ليس بالزل‪ ،‬من تركه من جبار قصمه ال‪ ،‬ومن ابتغى الدى ف غيه أضله ال‪،‬‬
‫وهو حبل ال التي‪ ،‬وهو الذكر الكيم‪ ،‬وهو الصراط الستقيم‪ ،‬هو الذي ل تزيغ به‬
‫الهواء‪ ،‬ول تلتبس به اللسنة‪ ،‬ول يشبع منه العلماء‪ ،‬ول يلق على كثرة الرد‪ ،‬ول‬
‫تنقضي عجائبه‪ ،‬هو الذي ل تنته الن إذ سعته حت تقول‪ :‬إِنّا َس ِمعْنَا ُقرْآنًا عَجَبًا‬
‫صدَق‪ ،‬ومن عمل به أُجر‪ ،‬ومن حكم به‬ ‫يَ ْهدِي إِلَى الرّ ْشدِ [الجن‪ ]2 ،1 :‬من قال به َ‬
‫(‪)1‬‬
‫َعدَل‪ ،‬ومن دعا إليه هُدي إل صراط مستقيم»‬
‫ولقد أكد رسول الله على هذا المعنى في حديثه‬
‫لحذيفة بن اليمان حين أخبره بالختلف والفرقة بعده‪ ،‬فقد‬
‫قال حذيفة للرسول عليه الصلة والسلم عندما سمع ذلك‪:‬‬
‫يا رسول الله فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال‪« :‬تعلم كتاب ال‬
‫عز وجل‪ ،‬واعمل به فهو الخرج من ذلك» قال حذيفة‪ :‬فأعدت عليه‬
‫(‪)2‬‬
‫ثلثًا‪ ،‬فقال ثلثًا‪َ« :‬تعَلّم كلم ال واعمل به فهو النجاة»‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() أخرجه الترمذي ‪ ،‬والدارمي ‪ ،‬والبيهقي في الشعب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() أخرجه أبو داود ‪ ،‬والنسائي ‪ ،‬والبيهقي في الشعب ‪ ،‬والحاكم في‬
‫المستدرك وصححه ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪‬هجر القرآن‪.‬‬
‫‪‬الكتاب الوحيد‪.‬‬
‫‪‬الحاضر الغائب‪.‬‬
‫‪‬إعادةالثقة في القرآن‪.‬‬
‫‪‬التأثر هو الغاية‪.‬‬
‫‪‬خطوات عملية مقترحة‪.‬‬
‫الفصل‬
‫‪77‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪78‬‬

‫كيف يمكن للقرآن‬


‫أن ينهض بالمة؟‬

‫تأكد لدينا أن المة بحاجة إلى روح جديدة تُبث في‬


‫جسدها فتنهض بها وتدفعها للعمل والسعي في مرضاة‬
‫الله‪ ،‬وتأكد كذلك أن المصدر‬
‫الجامع المتفرد لهذه الروح هو القرآن بما يملكه من‬
‫مواصفات وخصائص ل تتوافر في غيره‪.‬‬
‫هجر القرآن‪:‬‬
‫ومع كون القرآن قادر بإذن الله على إصلحنا‪ ،‬وسد‬
‫الفجوة القائمة بين العلم والعمل‪ ،‬وبث الروح في جسد‬
‫المة إل أننا ل نرى هذا الثر في واقعنا‪ ،‬رغم مما نراه من‬
‫اهتمام كبير به من خلل المطابع الكثيرة التي تقوم‬
‫بطباعته‪ ،‬والذاعات التي تبثه ليل نهار‪ ،‬وحلقات التحفيظ‬
‫والتعليم المنتشرة في المساجد والمدارس‪ ,‬إل أن هذا كله‬
‫لم يصاحبه تعامل مع القرآن على حقيقته‪ ،‬ولم يصاحبه‬
‫استشعار لخطورة الدور الذي يستطيع أن يقوم به في‬
‫قيادة المة وتوجيه الحياة‪ ،‬فلقد هُجرت معجزته‪ ،‬وابتعد‬
‫الناس عن دائرة تأثيره‪..‬‬
‫وهذا بل شك لم يكن وليد اليوم‪ ،‬بل هو حصاد موروثات‬
‫قديمة من التعامل الخاطئ مع القرآن امتدت لعدة قرون‬
‫سابقة‪ ،‬ابتعد فيها المسلمون شيئًا فشيئًا عنه وعن دوره‬
‫حصر دوره في كونه‬ ‫في التوجيه والتأثير وقيادة الحياة‪ ،‬ف ُ‬
‫مصدًرا للتبرك‪ ،‬والجر والثواب فقط‪ ،‬وأطلق مصطلح‬
‫«أهل القرآن» على حفاظ حروفه فقط‪ ،‬وأصبح المقصد‬
‫من تعلم القرآن وتعليمه هو تعلم أحكام تلوته ومخارج‬
‫حروفه والقتصار على ذلك‪.‬‬
‫الصورة الموروثة عن القرآن‪:‬‬
‫إن أكبر عقبة تواجه المة نحو النتفاع بالقرآن هي تلك‬
‫الفصل‬
‫‪79‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫الصورة الموروثة عنه‪ ،‬فكما يقول عمر عبيد حسنة في‬


‫مقدمة كتاب كيف نتعامل مع القرآن‪:‬‬
‫إن الصورة التي طُبعت في أذهاننا في مراحل الطفولة‬
‫للقرآن أنه‪ :‬ل يُستدعى للحضور إل في حالت الحتضار‬
‫والنزع والوفاة‪ ،‬أو عند زيارة المقابر‪ ،‬أو نلجأ لقراءته عند‬
‫أصحاب المراض المستعصية‪ ،‬وهي قراءات ل تتجاوز‬
‫الشفاة‪.‬‬
‫فإذا انتقلنا إلى مراكز ودروس تعليم القرآن الكريم‪،‬‬
‫َ‬
‫رأينا أن الطريقة التي يُعل ّم بها يصعب معها استحضار‬
‫واصطحاب التدبر والتذكر والنظر‪ ،‬إن لم يكن مستحيلً‪..‬‬
‫فالجهد كله ينصب إلى ضوابط الشكل من أحكام‬
‫التجويد ومخارج الحروف‪ ،‬وكأننا نعيش المنهج التربوي‬
‫والتعليمي المعكوس‪ ...‬فالنسان في الدنيا كلها يقرأ‬
‫ليتعلم‪ ،‬أما نحن فنتعلم لنقرأ! لن الهم كله ينصرف إلى‬
‫حسن الداء‪ ...‬وقد ل يجد النسان أثناء القراءة فرصة‬
‫للانصراف إلى التدبر والتأمل‪ ،‬وغاية جهده إتقان الشكل‪،‬‬
‫وقد ل يعيب الناس عليه عدم إدراك المعنى قدر عيبهم‬
‫عدم إتقان اللفظ‪.‬‬
‫حسن‬ ‫ونحن هنا ل نهوّن من أهمية ضبط الشكل‪ ،‬و ُ‬
‫الخراج‪ ،‬وسلمة المشافهة‪ ،‬ولكننا ندعو إلى إعادة النظر‬
‫بالطريقة حتى نصل إلى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر‬
‫التي تترافق مع القراءة(‪.)1‬‬
‫الكتاب الوحيد‪:‬‬
‫من المور البديهية التي ل يختلف عليها اثنان أن الدافع‬
‫للقراءة هو المعرفة‪ ،‬فالذي يتناول بيده كتابًا أو جريدة‬
‫ليقرأ فيها‪ ,‬فإن الذي يدفعه لذلك هو المعرفة‪ ...‬معرفة ما‬
‫وراء الخبر وما يحتويه من معارف ومعلومات‪.‬‬
‫وفي المقابل فل يمكن لعاقل أن يقرأ ‪ -‬أي شيء –‬
‫بلسانه أو بعينه دون أن يُعمل عقله فيما يقرؤه‪ ،‬أو يفكر‬
‫في معانيه!!‬
‫‪1‬‬
‫() كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي ‪ ,‬ص (‪.)17‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪80‬‬

‫صا يفعل ذلك‪ ...‬ماذا تقول عنه؟ وكيف‬


‫تخيل لو أن شخ ً‬
‫يكون‬
‫تقييمك له؟!‬
‫أل توافقني في أنك ستعتبره إنسانًا غير سوي‪.‬‬
‫هذا المفهوم البدهي للقراءة قد تعارف عليه الناس في‬
‫جميع الزمان والمصار على اختلف مذاهبهم وأديانهم‪،‬‬
‫فالذي يقرأ إنما يقرأ لنه يريد أن يتعلم شيئًا من خلل هذه‬
‫القراءة‪ ,‬والذي يطلب من غيره قراءة شيء ما‪ ،‬فإنه يقينًا‬
‫يريد من وراء هذا المطلب أن يفهم المقصود من الكلم‬
‫المقروء‪.‬‬
‫هذه ‪-‬القاعدة التي ل تحتاج إلى برهان ‪ -‬تنطبق على‬
‫جميع الكتب والصحف والمجلت الموجودة على ظهر‬
‫الرض الن‪ ...‬فقط كتاب واحد ل يتم التعامل معه بنفس‬
‫الكيفية‪ ..‬كتاب واحد يتعامل معه عدد كبير من الناس‬
‫بطريقة عجيبة‪ ...‬إنهم يقرؤونه لمجرد القراءة!! ودون‬
‫إعمال عقولهم لفهم معانيه ولو بصورة إجمالية‪ ،‬بل‬
‫ويتنافسون على ذلك ول يجدون أي غضاضة في نفوسهم‬
‫جا في إظهار ذلك‬ ‫من قيامهم بهذا الفعل‪ ،‬ول يجدون حر ً‬
‫ضا‪.‬‬ ‫أي ً‬
‫أتدري أخي القارئ ما هو هذا الكتاب؟!‬
‫إنه‪ -‬للسف الشديد ‪ -‬أعظم كتاب على ظهر الرض‪...‬‬
‫الكتاب الوحيد الذي ليس فيه أي خطأ أو ريب أو باطل‪...‬‬
‫إنه القرآن الكريم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬أخي القارئ‪ ,‬القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يقرؤه‬
‫غالبية المسلمين بألفاظه فقط دون أن يفكروا في معاني‬
‫تلك اللفاظ‪ ،‬ودون أن يُعملوا عقولهم في فهمها‪ ،‬والعجيب‬
‫أنهم بذلك يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا‪.‬‬
‫لقد أنزل الله القرآن ليقرأه الناس ويتدبروا معانيه‪،‬‬
‫ويفهموا المراد منه ثم يجتهدوا في العمل به كِتَابٌ أَْن َزلْنَاهُ‬
‫ِإلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوا آيَاِتهِ وَِليَتَذَكّرَ أُولُو اللْبَابِ [ص‪.]29:‬‬

‫فهل فعل المسلمون ما أمرهم الله به؟!!‬


‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪81‬‬

‫للسف ل‪ ،‬بل فعلوا شيئًا عجيبًا لم تفعله أمة من قبل‪...‬‬


‫جعلوا عملهم مع القرآن هو القراءة‪ ،‬ولم يجعلوا القراءة‬
‫وسيلة لفهم المراد من اليات والعمل بها‪،‬وفي هذا المعنى‬
‫يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‪« :‬لقد أنزل الله‬
‫خذوا تلوته عمل»‪ ،‬وقال الفضيل بن‬ ‫القرآن ليُعمل به‪ ،‬فات َ َ‬
‫عياض‪ :‬إنما نزل القرآن ليعمل به‪ ،‬فاتخذ الناس قراءته‬
‫عمل‪.‬‬
‫ً‬
‫ولقد أدى انشغال المسلمين بألفاظ القرآن عن معانيه‬
‫إلى حرمان المة من مصدر عزها ومجدها‪ ،‬وكيف ل وهم‬
‫قد اطفأوا بهذا الفعل مصباحهم الذي ينير لهم الطريق‬
‫فتخبطوا في الظلمات‪ ،‬وسقطوا في الهاوية‪ ،‬وأصبحوا في‬
‫ذيل المم‪ ...‬ل قيمة لهم‪ ،‬ول اعتبار لوجودهم‪..‬‬
‫أمة صارت في المؤخرة‪ ،‬بينما لديها ما يعيدها إلى‬
‫الصدارة والرفعة‪ ...‬بين يديها مفتاح سعادتها‪ ،‬إل أنها تُعرض‬
‫عنه‪ ،‬وتتعامل معه تعامل ً شاذ ًا لم يحدث مع أي كتاب من‬
‫صنع البشر‪ ...‬لم يحدث مع أي صحيفة من الصحف‪ ،‬أو‬
‫حتى مع قصاصة ورقية شاردة‪.‬‬
‫أين شرفنا؟‬
‫القرآن هو شرفنا ومصدر عزنا‪ ...‬هذا هو دوره‪ ،‬وهذا هو‬
‫قدره‪ ،‬ألم يقل سبحانه‪َ :‬ل َقدْ أَْنزَلْنَا إِلَيْ ُكمْ كِتَابًا فِيهِ ذِ ْكرُ ُكمْ أَفَلَ َتعْقِلُونَ‬
‫[النبياء‪ ,]10:‬قال ابن عباس في هذه الية‪ :‬فيه شرفكم(‪.)1‬‬
‫فماذا فعلت المة بشرفها؟‬
‫للسف أضاعته وهجرته وفي نفس الوقت تدّعي أنها‬
‫ما بالغًا‪ ،‬ولعل أصدق ما ينطبق على حالنا مع‬
‫تهتم به اهتما ً‬
‫القرآن هو أننا اتخذناه مهجوًرا‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف يكون اتخاذ شيء ما بهجره؟ فكلمة‬
‫«اتخذ» توحي باليجابية‪ ،‬و«الهجر» كلمة توحي بالسلبية؟‬
‫لقد اجتمع الضدان بالفعل مع القرآن‪ ،‬فمن الناحية‬
‫ما كبيًرا فالذاعات‬
‫الشكلية اهتم المسلمون بالقرآن اهتما ً‬
‫‪1‬‬
‫() الدر المنثور ‪.4/563‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪82‬‬

‫تبث آياته ليل نهار‪ ،‬والمصاحف في كل بيت‪ ،‬وآيات القرآن‬


‫تزين الجدران‪..‬‬
‫أما من الناحية الموضوعية‪ ،‬فلقد هجر المسلمون‬
‫القرآن هجًرا كاملً‪ ...‬هجر يشمل رسالته الهادية‪ ،‬ومعجزته‬
‫التغييرية‪ ،‬وانصب اهتمامهم على شكله ولفظه فقط‪،‬‬
‫والدليل على ذلك الهجر هو الواقع‪ ،‬فكما تذكرنا حجم‬
‫التغيير الذي حدث للصحابة والذي ظهر في أعمالهم‬
‫وآثارهم «تعرفهم بسيماهم»‪ ،‬ثم قارنا حالهم بحالنا رأينا أن‬
‫واقعنا وأعمالنا وما فيها من سلبيات كثيرة تكشف لنا أن‬
‫القرآن لم يفعل معنا كما فعل معهم!!‬
‫فهل المشكلة في القرآن؟‬
‫هل توقفت معجزته عن العمل بعد الجيل الول؟!‬
‫‪ ...‬حاشاه أن يكون كذلك والله عز وجل قد تكفل‬
‫كرَ وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ [الحجر‪:‬‬
‫حنُ نَزّلْنَا الذّ ْ‬
‫بحفظه من كل جوانبه إِنّا نَ ْ‬
‫‪. ]9‬‬
‫ما‪ ،‬وبابًا‬ ‫المشكلة إذن فينا نحن‪ ،‬عندما اتخذناه تراني ً‬
‫للجر والثواب فقط‪ ،‬وتعاملنا معه بحناجرنا دون عقولنا‬
‫وقلوبنا‪ ...‬أحسنا التعامل مع لفظه‬
‫وهجرنا معجزته‪ ،‬فاجتمع فينا الضدان «اتخذنا القرآن‬
‫وهجرناه»‪ ،‬وهذا‬
‫ما ينطبق مع شكوى الرسول لربه‪ :‬وَقَالَ الرّسُولُ يَا َربّ إِنّ‬
‫َقوْمِي‬
‫خذُوا َهذَا اْلقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان‪.]30:‬‬
‫اتّ َ‬
‫هذا الوضع الشاذ الذي أحدثته المة مع كتابها ومصدر‬
‫عزها‪ ،‬وتوارثته أجيالها المتتابعة وكأنهم تواصوا به‪ ...‬هذا‬
‫الوضع يحتاج إلى وقفة حاسمة ومراجعة شديدة مع أنفسنا‬
‫لنغير الطريقة التي نتعامل بها مع القرآن ليعود إلينا شرفنا‬
‫وعزنا‪.‬‬
‫يقول محمد الغزالي – رحمه الله ‪ :-‬لبد من جعل‬
‫القرآن يتحول في حياتنا إلى طاقة متحركة‪ ...‬أما أن يوضع‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪83‬‬

‫في المتاحف أو المكاتب للبركة‪ ،‬أو أن نفتح المصحف‬


‫(‪)1‬‬
‫ونقرأ آية أو آيات وينتهي المر‪ ،‬هذا ل يجوز‪.‬‬
‫بل من العجيب أن تعلم أن لفظ يتلو القرآن يتضمن‬
‫السير وراءه واتباعه‪ ،‬وليس قراءته فقط‪ ،‬ففي اللغة تقول‪:‬‬
‫جاء فلن يتلوه فلن‪ ،‬أي جاء بعده وسار على أثره‪.‬‬
‫الحاضر الغائب‪:‬‬
‫إن القرآن أصبح اليوم بين المسلمين حاضًرا وغائبًا‪..‬‬
‫موجودًا ومفقودًا في نفس الوقت‪ ...‬فهو حاضر وموجود‬
‫بلفظه ومصاحفه وقرائه وحفاظه‪ ..‬غائب ومفقود بروحه‬
‫ومعجزته وقيادته للحياة‪.‬‬
‫فل هو حاضر معنا حضوًرا حقيقيًا‪ ،‬ول هو غائب عنا غيابًا‬
‫ما‪ ،‬وهذه أهم عقبة تواجه المة وتمنعها من النتفاع به‬‫تا ً‬
‫انتفاع ًا حقيقيًا‪ ،‬لن الكثيرين ل يرون أن هناك مشكلة مع‬
‫القرآن وذلك بسبب حضوره بيننا –كما أسلفنا‪.-‬‬
‫يقول حسن البنا رحمه الله‪ :‬لم ينزل القرآن من علياء‬
‫السماء على قلب محمد ليكون تميمة يُحتجب بها‪ ،‬أو‬
‫أورادًا تُقرأ على المقابر وفي المآتم أو ليُكتب في السطور‪،‬‬
‫ويُحفظ في الصدور‪ ،‬أو ليحمل أوراقًا ويُهمل أخلقًا‪ ،‬أو‬
‫ما‪ ...‬وإنما نزل ليهدي البشرية إلى‬ ‫ما ويُهجر أحكا ً‬ ‫ليحفظ كل ً‬
‫السعادة والخير َقدْ جَاءَكُم ّمنَ الِ نُورٌ وَكِتَابٌ مّبِيٌ يَ ْهدِي ِبهِ الُ َمنِ اتّبَعَ‬
‫لمِ وَيُخْرِ ُجهُم ّمنَ الظّ ُلمَاتِ إِلَى النّورِ ِبإِذِْنهِ وَيَ ْهدِي ِهمْ إِلَى صِرَاطٍ‬
‫ضوَاَنهُ ُسبُلَ السّ َ‬
‫ِر ْ‬
‫مّسَْتقِيمٍ [المائدة‪. 2 ]16،15:‬‬
‫( )‬

‫ويقول‪(:‬عرف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فضل‬


‫القرآن وتلوته‪ ،‬فجعلوه مصدر تشريعهم‪ ،‬ودستور‬
‫أحكامهم‪ ،‬وربيع قلوبهم‪ ،‬وورد عبادتهم‪ ،‬وفتحوا له قلوبهم‬
‫وتدبروه بأفئدتهم‪ ،‬وتشربت معانيه السامية أرواحهم‪،‬‬
‫فأثابهم الله في الدنيا سيادة العالم‪ ،‬ولهم في الخرة عظيم‬
‫الدرجات‪ ،‬وأهملنا القرآن فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من‬

‫‪1‬‬
‫() كيف نتعامل مع القرآن ‪ ,‬ص (‪.)59‬‬
‫‪2‬‬
‫() نظرات في كتاب الله ‪ ,‬ص ‪.34‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪84‬‬

‫ضعف في الدنيا ورقة في الدين) (‪.)3‬‬


‫إعادة الثقة في القرآن‪:‬‬
‫إن كان المر كذلك فلكي يتم إعادة الثقة مرة أخرى في‬
‫القرآن من حيث هو المصدر الجامع للتغيير وتوليد الطاقة‬
‫الروحية‪ ,‬فإن هذا بل شك يحتاج إلى جهد ضخم وإلى اعتناق‬
‫المصلحين في المة لهذا المشروع‪ ،‬فمع سهولة الحل‬
‫سره للجميع؛ إل أن الموروثات الخاطئة التي‬‫وبساطته وتي ُّ‬
‫توارثتها الجيال عن القرآن تجعل من الصعب على المرء أن‬
‫يتجاوزها‪ ،‬وأن تتغير نظرته للقرآن وطريقة تعامله معه‪ ،‬بل إنه‬
‫من المتوقع أن تجد الكثير من المسلمين غير مقتنع أو‬
‫متحمس لمبدأ أن القرآن هو الحل‪ ،‬وبأن مجد السلم سيعود‬
‫من جديد على يديه‪ ،‬فهم يظنون أن اهتمامهم بحفظه‪ ،‬وكثرة‬
‫قراءاته‪ ،‬وانشاء المدارس لتحفيظه‪ ،‬والتعمق قي قراءة‬
‫تفسيره‪ ،‬وافتتاح الحفلت به‪ ،‬هو أقصى ما ينبغي عليهم فعله‬
‫معه‪.‬‬
‫من هنا اشتدت الحاجة لبذل الجهد الضخم لزالة تلك‬
‫الموروثات القاصرة‪ ،‬ولتغيير تلك الساليب السائدة لنشره‬
‫وخدمته‪ ،‬ولبناء الثقة عند الناس في قيمته الحقيقية‪.‬‬
‫شرط لبد منه‪:‬‬
‫وقبل الحديث عن التصورات المقترحة لتفعيل مشروع‬
‫العودة إلى القرآن والنتفاع بقوة تأثيره الفريدة‪ ،‬والتعامل‬
‫معه على أنه بداية حقيقية لمشروع النهضة‪ ،‬فإن هناك‬
‫شرطًا لبد منه لكل من يريد اعتناق وتبني هذا المشروع أل‬
‫وهو ضرورة النتفاع والتأثر به أولً‪ ،‬وتذوق حلوة اليمان‬
‫من خلله‪ ،‬وأن يصبح بالفعل مصدًرا متفردًا للقوة الروحية‬
‫والدافع الذاتي عند من يريد نشره وإيصاله إلى غيره‪.‬‬
‫‪...‬لبد لكل من يريد أن يدل الناس عليه أن يبدأ بنفسه‬
‫أولً‪ ،‬وأن يشاهد المعجزة القرآنية وهي تعمل داخله‪ ،‬وأن‬
‫يشرق على قلبه نور القرآن وتظهر علماته عليه‪ ،‬والتي‬
‫أخبر عنها رسول الله عندما سأله أصحابه عن علمات‬
‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق ‪ ,‬ص ‪.37‬‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪85‬‬

‫دخول النور القلب وانشراحه له فقال‪« :‬النابة إل دار اللود‪،‬‬


‫والتجاف عن دار الغرور‪ ،‬والستعداد للموت قبل نزوله»(‪.)1‬‬
‫ل يُعقل أن ندل الناس على شيء ل نعرفه‪ ،‬ولم نتذوقه‪،‬‬
‫ولم نر أثره‪ ،‬فهذا إن تم فإنه يعرضنا للمقت من الله كما‬
‫أخبرنا سبحانه بذلك‪ :‬كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الِ أَن َتقُولُوا مَا لَ َت ْفعَلُونَ [الصف‪:‬‬
‫‪. ]3‬‬
‫ومن شأنه أن يجعل الكلم ل يخرج من القلب‪ ،‬فل‬
‫يتعرض للتوفيق اللهي‪ ،‬ول يُشعر مستمعه بحرارته فكما‬
‫قيل‪ :‬ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة‪.‬‬
‫انتبه‪:‬‬
‫مهما كنت أخي الحبيب‪..‬مهما كنت حافظًا للقرآن‪ ،‬أو‬
‫ما من العلماء أو داعية أو كاتبًا أو مربيًا‪ ...‬مهما كان‬
‫عال ً‬
‫ً‬
‫سنك‪ ،‬ومهما كانت مكانتك بين الناس‪ ...‬لبد لك أول من‬
‫الدخول إلى دائرة تأثير القرآن والنتفاع به ومشاهدة‬
‫معجزته في نفسك‪ ،‬ورؤية أنواره‪ ،‬وهذا ل يحتاج منك إلى‬
‫كبير عناء‪ ...‬فقط أن تستشعر حاجتك إلى القرآن ثم تقبل‬
‫عليه بشغف باحثًا عن التأثر من خلل تلوة آياته‪ ،‬وهذا ما‬
‫أوصي به نفسي وإياك‪ ،‬فعلى قدر ما سنُعطي القرآن من‬
‫أوقاتنا وعقولنا ومشاعرنا سيعطينا ويعطينا‪ ،‬وعلى قدر ما‬
‫سنتواضع أمامه‪ ،‬وندخل عليه دخول الملهوف المتشوق‬
‫لرؤية معجزته‪ ،‬الباحث عن حياة قلبه ستكون النتيجة‬
‫المبهرة بمشيئة الله‪..‬‬
‫أما إذا دخلنا عليه دخول المتردد الذي ل يستشعر‬
‫احتياجه إليه فسنبتعد كثيًرا عن دائرة معجزته‪.‬‬
‫ولنعلم جميعًا أن المداد على قدر الستعداد‪ ،‬وأن‬
‫التفاوت الحقيقي بين الناس ليس بالدرجة الولى في‬
‫المكانات‪ ،‬بل في الرغبات‪ ،‬فمن لديه رغبة أكيدة في‬
‫الوصول لشيء ما فإنه – بعون الله – يبلغه‪...‬ويؤكد هذا‬

‫‪1‬‬
‫() أخرجه الحاكم ‪ ،‬والبيهقي في الزهد‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪86‬‬

‫المعنى ابن الجوزي بقوله‪ :‬لو كانت النبوة تحصل بالجتهاد‬


‫لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض(‪.)1‬‬
‫فيقينًا لو قويت رغبتنا في النتفاع بالقرآن‪ ،‬والدخول في‬
‫دائرة تأثير معجزته‪...‬لو قويت رغبتنا واشتدت حاجتنا للقلب‬
‫الحي‪ ...‬للسعادة الحقيقية‪...‬لمعرفة الله‪...‬لجنة‬
‫الدنيا‪...‬فيقينًا سنصل إلى مقصودنا في وقت قياسي‪ ،‬وكيف‬
‫ل والله عز وجل ينتظر منا التفاتة صادقة ليُقبل‬
‫علينا‪...‬أتراه يمنعنا من جريان معجزة القرآن علينا وهو‬
‫لئِكَُتهُ لُِيخْرِجَكُم ّمنَ‬
‫يحبنا ويريد لنا الخير؟ ُهوَ اّلذِي ُيصَلّي عَلَيْ ُكمْ وَمَ َ‬
‫الظّ ُلمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِاْل ُمؤْمِنِيَ رَحِيمًا [الحزاب‪.]43:‬‬
‫كل ما هو مطلوب منا أن نحرك قدم العزم‪ ،‬ونشمر عن‬
‫ساعد الجد‪ ،‬وأن نلح على الله في الدعاء بأن يجعلنا من‬
‫أهل المعجزة القرآنية‪ ،‬ثم نقبل على القرآن باجتهاد وصدق‬
‫(‪)2‬‬
‫ننتظر الفتح منه سبحانه‪ ...‬قال ‪...« :‬ومن يتحر الي يُعطه»‬
‫أمامك عقبة‪:‬‬
‫من المور التي قد تمنع الواحد منا من استشعار حاجته‬
‫إلى المعجزة القرآنية أنه قد تعود على تدبر القرآن‬
‫ن عظيمة منه‪ ،‬فهذا من شأنه أن يُشعره‬ ‫واستخراجه لمعا ٍ‬
‫م ل يقع الحديث‬ ‫بأنه قد أدى حق القرآن‪ ،‬وانتفع به‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫عن المعجزة القرآنية موقعه الصحيح في نفسه‪ ،‬ول يتفاعل‬
‫معها‪ ،‬بل وقد يعتبر أن هذا الكلم موجهًا إلى غيره‪ ،‬لذلك‬
‫فإن من المهم أن يتأكد لدينا بأن المقصد من التعامل‬
‫الصحيح مع القرآن ليس التدبر فقط‪ ،‬بل أن يصبح القرآن‬
‫سا لتوليد القوة الروحية‪ ،‬وهذا يستلزم حصول‬ ‫مصدًرا رئي ً‬
‫التأثر وتجاوب المشاعر مع المعاني التي تفهمها عقولنا‪،‬‬
‫فهذا الذي يزيد اليمان ويولد الطاقة‪ ،‬ويسير بالقلب قُد ً‬
‫ما‬
‫م تتم يقظته وحياته‬‫نحو التحرر من أسر الهوى‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫الدائمة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() صيد الخاطر‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن ‪ ،‬صحيح الجامع ح(‪)2328‬‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪87‬‬

‫إن العلم وحده ل يكفي ليكون دافعًا للعمل‪ ،‬بل لبد أن‬
‫يمتزج بالعاطفة‪ ،‬ويؤثر في المشاعر والقرآن يفعل ذلك‬
‫بكل سهولة ويسر ‪-‬إذا ما أحسن المرء التعامل معه‪،-‬‬
‫وقراءته بالطريقة التي تخاطب الفكر والعاطفة معًا‪ ،‬والتي‬
‫دلنا عليها الله عز وجل عندما أمرنا بتدبره وترتيله‪.‬‬
‫فمخاطبة الفكر تحتاج إلى إعمال العقل عند قراءة‬
‫اليات‪ ...‬وهذا هو جوهر التدبر كِتَابٌ أَْنزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَا َركٌ لَّيدّّبرُوا آيَاِتهِ‬
‫وَلِيََت َذ ّكرَ أُولُو الْلبَابِ [ص‪.]29:‬‬
‫ومخاطبة العاطفة تحتاج إلى وسائل تستثيرها‪،‬‬
‫فبالضافة إلى أساليب القرآن المؤثرة‪ ،‬إل أن هناك أمًرا‬
‫بالغ الهمية يقوم بالطرق على المشاعر طرقًا شديدًا أل‬
‫وهو الترتيل وَرَتّلِ اْلقُرْآنَ تَرْتِيلً [المزمل‪ ,]4:‬وتحسين الصوت‬
‫(‪)1‬‬
‫بالقراءة «زينوا أصواتكم‪ ،‬فإن الصوت السن يزيد القرآن حسنًا»‬
‫فإذا ما قام المرء بقراءة القرآن قراءة هادئة بطيئة‬
‫مرتلة مع إعمال العقل فيما يقرأ‪ ,‬فسيكون لذلك أبلغ الثر‬
‫في مزج الفكر بالعاطفة والوصول لدرجة التأثر والتفاعل‬
‫م تكون الطاقة والروح الدافعة للعمل‪..‬‬‫مع القراءة‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫خصوصية الترتيل‪:‬‬
‫ولن القرآن هو الوحيد في الكتب السماوية الذي يجمع‬
‫بين الرسالة والمعجزة‪ ،‬فقد ميَّزه الله عز وجل بأن يُقرأ‬
‫مرتلً‪ ،‬فالتوراة والنجيل لم يؤمر الناس بترتيلهما‪ ،‬وكذلك‬
‫فإن القرآن كان ينزل على مراحل‪ ،‬ولم ينزل جملة واحدة‬
‫مثل التوراة‪ ،‬وذلك للقيام بدوره العظيم في إنشاء اليمان‬
‫وتثبيته في القلب وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َلوْلَ ُنزّلَ عَ َل ْيهِ اْلقُرْآنُ ُجمْ َلةً وَا ِحدَةً‬
‫َكذَِلكَ لِنُثَبّتَ ِبهِ ُفؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَ ْرتِيلً [الفرقان‪.]32:‬‬
‫ولقد كانت قراءته للقرآن قراءة هادئة بطيئة مترسلة‬
‫مرتلة‪ ،‬فقد كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول‬
‫منها‪ ،‬وقام بآية حتى الصباح‪ ،‬وكان يقف عند المعاني‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع(‪)3581‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪88‬‬

‫وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لَِتقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَى مُكْثٍ وََنزّلْنَاهُ تَنْزِيلً‬ ‫متأمل ً ومعتبًرا‬
‫[السراء‪.]106:‬‬
‫التأثر هو الغاية‪:‬‬
‫إذن فلتكن غايتنا من قراءة القرآن الوصول لدرجة‬
‫التأثر‪ ،‬فمهما فهمنا وتدبرنا اليات دون أن يصاحب ذلك‬
‫تأثر‪ ،‬فلن يفعل القرآن ما نريده منه‪ ،‬ولن نشعر بمعجزته‬
‫وهي تعمل داخلنا وتقوم بتوصيل تيار الحياة إلى قلوبنا‪.‬‬
‫ولقد تمت الشارة إلى الوسائل المعينة على الوصول‬
‫إلى درجة التأثر في غير هذه الصفحات(‪)1‬وهي باختصار ‪:‬‬
‫أن يكون هدفنا من قراءة القرآن التأثر القلبي وليس‬
‫التدبر العقلي فقط‪ ،‬وهذا يستدعي منا القراءة اليومية‬
‫للقرآن‪ ،‬وأن تكون متصلة وبمدة معتبرة‪ ،‬وأن يكون وردنا‬
‫ما محددًا وذلك بأن يكون ساعة أو‬ ‫اليومي زمنًا وليس ك ً‬
‫ساعتين‪ ،‬وأن نقرأه في مكان هادئ قدر المستطاع‪،‬‬
‫وبصوت مسموع وبترتيل‪ ،‬وأن نتباكى عند القراءة لنهيئ‬
‫مشاعرنا لسرعة الستثارة‪ ،‬ول يكن همنا هو سرعة النتهاء‬
‫من السورة أو الجزء‪...‬‬
‫وعلينا أن نقرأه ببساطة ودون تعمق وتوقف عند كل‬
‫لفظ فيه‪ ،‬بل نأخذ المعنى الجمالي الذي تدل عليه اليات‪،‬‬
‫وأن نمرر ما ل نفهمه‪ ،‬على أن نعود للتفسير في وقت آخر‬
‫غير وقت التلوة‪ ,‬حتى ل يحدث برود أو فتور في المشاعر‪،‬‬
‫م يصبح من الصعب استثارتها بعد ذلك‪.‬‬‫ومن ث َّ‬
‫وعندما يحدث التأثر مع آية أو آيات فعلينا بتكرارها‬
‫مرات ومرات طالما وُجد التجاوب والتأثر‪ ,‬لنستفيد قدر‬
‫المكان من اليمان الذي يزيد في هذه اللحظات‪ ،‬والطاقة‬
‫المتولدة الناتجة من هذه الحالة‪.‬‬
‫هذه الوسائل لو داومنا عليها لدخلنا إلى دائرة تأثير‬
‫القرآن – بإذن الله – في مدة وجيزة‪ ،‬ولشعرنا بالتغيير‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() ذكرت في كتب‪ :‬بناء اليمان من خلل القرآن‪ ,‬الطوفان قادم‪ ,‬كيف نغير‬
‫ما بأنفسنا‪ ,‬العودة إلى القرآن‪ ,‬وكيف ننتفع بالقرآن‪.‬‬
‫الفصل‬
‫‪89‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫وبروح جديدة تسري داخلنا‪ ،‬ولعدنا إلى مرحلة النتباه التي‬


‫كنا عليها عند بداية تديننا‪ ،‬ولوجدنا قلوبنا تتحرك معنا حين‬
‫نريدها‪ ،‬ولعظم قدر الله في نفوسنا ولصغرت الدنيا في‬
‫أعيننا و‪ ...‬كل ذلك وغيره سيحدث بمشيئة الله لو ثابرنا‬
‫على اتباع هذه الوسائل‪ ،‬وانشغلنا بالقرآن أكثر مما ننشغل‬
‫بأي شيء آخر خاصة في البداية‪.‬‬
‫أتأثر ولكن!!‬
‫فإن قلت إنني بالفعل أتأثر بالقرآن ولكني ل أشعر بآثار‬
‫المعجزة ول بعلمات دخول النور إلى القلب؟!‬
‫‪...‬نعم‪ ،‬يحدث هذا لنا لن تأثرنا تأثر وقتي ومحدود وغير‬
‫متواصل‪ ،‬لذلك‪ ،‬ولكي تصل المعجزة القرآنية إلى قلوبنا‬
‫فتمدها بتيار الحياة لبد وأن يستمر التأثر ويزداد وقته‬
‫ما بعد يوم‪ ،‬فتنتقل المشاعر تدريجيًا من‬‫ويطول أمده يو ً‬
‫كفة الهوى إلى كفة اليمان‪ ،‬وهكذا حتى نصل لمرحلة غلبة‬
‫م تظهر‬ ‫اليمان على الهوى‪ ،‬وتمكن النور من القلب‪ ,‬ومن ث َّ‬
‫علمات ذلك بسهولة ويسر‪ ،‬وهذا يستدعي منا أن نعطي‬
‫القرآن الكثير من الوقات خاصة في البداية‪ ،‬وأل نسمح‬
‫بمرور يوم دون اللقاء معه‪ ،‬وأل نتعجل قطف الثمرة قبل‬
‫نضجها‪ .‬ولنتذكر أن هذا هو فعل الصحابة‪ ،‬وأن رسول الله‬
‫لم يسمح لهم بالنشغال بقراءة شيء آخر غير القرآن‬
‫حتى يصفو النتاج وتطيب الثمار‪.‬‬
‫وقد كان‪ ..‬فعندما أعطوا القرآن الكثير من أوقاتهم‬
‫وانشغلوا بتلوته‪ ،‬وتعاملوا معه على حقيقته ككتاب هداية‪،‬‬
‫وكمعجزة تحيي القلوب أحسن القرآن وفادتهم ورفعهم‬
‫إلى السماء فكانوا بحق الجيل القرآني الفريد‬
‫التربة مهيأة لستقبال المشروع‪:‬‬
‫وبعد أن نتذوق حلوة اليمان من خلل القرآن‪ ،‬ونشعر‬
‫بقيمته‪ ،‬ونرى آثار معجزته في أنفسنا‪ ،‬علينا أن نقوم ببث‬
‫هذه الروح‪ ،‬والتبشير بهذا المشروع في المة‪ ،‬ومما يثلج‬
‫الصدر أن هناك بالفعل جهود مخلصة يتبناها الكثيرون من‬
‫أبناء المسلمين المخلصين في خدمة القرآن‪ ،‬فالمراكز‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪90‬‬

‫القرآنية وحلقات التعليم والحفظ‪ ،‬منتشرة في كل مكان‪.‬‬


‫‪...‬كل هذه الوسائل وغيرها تجعل التربة مهيأة أكثر من‬
‫أي وقت مضى لتفعيل مشروع القرآن‪ ،‬فالوعاء موجود‪،‬‬
‫وحب القرآن يمل القلوب‪ ،‬كل ما في المر هو تحويل‬
‫الوجهة‪ ،‬والتعامل الصحيح مع هذا الكتاب‪ ،‬وهذا بل شك‬
‫سيقَابل في البداية باعتراض من البعض الذين تعودوا على‬
‫خدمة حروف القرآن وألفاظه فقط‪ ،‬ولكن مع إلحاح‬
‫المخلصين الذين ذاقوا حلوة اليمان نتيجة تعاملهم مع‬
‫القرآن‪ ،‬وعرفوا قيمته الحقيقية من خلل تأثرهم الدائم به‪،‬‬
‫ما من يستجيب لهذه الدعوة‪ ،‬وستبدأ‬ ‫فسيكون هناك حت ً‬
‫المراكز القرآنية في تبني المشروع‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م تبدأ الثمار‬
‫اليانعة في الظهور لتكون أكبر دليل على صحة هذا التوجه‪.‬‬
‫خطوات عملية مقترحة‪:‬‬
‫بعد أن نرى المعجزة القرآنية‪ ،‬ونشعر بروحها وعلماتها‬
‫من انتباه ويقظة‪ ،‬ومن قلة رغبة في الدنيا‪ ،‬ومن تعلق‬
‫بالخرة‪ ...‬ومع استمرار هذا الشعور معنا‪ ،‬فمن المقترح أن‬
‫نقوم بهذه العمال‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أن نقوم بنشر هذا المفهوم الجديد للتعامل مع‬
‫القرآن لمن حولنا‪ ...‬للزوجة والولد والهل والمعارف‬
‫والصدقاء‪ ،‬وأن نأخذ بأيديهم حتى يصلوا إلى ما وصلنا إليه‪،‬‬
‫ليقوموا هم بعد ذلك بنشره إلى من حولهم‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬ومن الوسائل المهمة كذلك والتي من شأنها أن‬
‫تُسرع الخطى نحو انتشار روح القرآن في المة‪ :‬اهتمام‬
‫المربين بهذا المر‪ ،‬ووضعه في برامجهم التربوية‪ ،‬وبخاصة‬
‫أن القرآن تلوة وحفظًا وتفسيًرا يحتل مساحة معتبرة في‬
‫هذه البرامج‪...‬‬
‫كل ما هو مطلوب هو زيادة الهتمام به‪ ،‬وأن يكون‬
‫الهدف الذي يسعى الجميع إليه هو السعي وراء التأثر‪ ,‬مع‬
‫القراءة اليومية الطويلة ليتم من خللها توليد القوة الروحية‬
‫الدافعة للقيام بالواجبات المختلفة‪ ،‬مع الخذ في العتبار‬
‫أنه ينبغي على المربين أن يبدأوا بأنفسهم أولً‪ ،‬فهذا أمر ل‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪91‬‬

‫يصلح له إل من عايشه‪ ،‬وعاين المعجزة بنفسه‪.‬‬


‫ولو قام المربون بذلك‪ ،‬وانتشر مفهوم التعامل الصحيح‬
‫مع القرآن في المحاضن التربوية فل تسل عن النتائج‬
‫المبهرة التي ستحدث‪ ،‬ول عن الذاتية واليجابية التي‬
‫سيثمرها في الفراد‪ ،‬وسينعكس ذلك على العمل فيزداد‬
‫النتاج‪ ،‬وتزداد خطوات البناء في مشروع الصلح الشامل‬
‫المتكامل الذي تتبناه الحركة السلمية‪ ،‬ويقترب تحقيق‬
‫جعَلَ ُهمْ َأِئمّةً‬
‫ضعِفُوا فِي ا َلرْضِ وََن ْ‬
‫الوعد اللهي وَنُرِيدُ أَن ّن ُمنّ عَلَى اّلذِينَ ا ْسُت ْ‬
‫كنَ لَ ُهمْ فِي الَرْضِ [القصص‪]6 ،5:‬‬ ‫جعَلَ ُهمُ اْلوَارِِثيَ وَُنمَ ّ‬
‫وَنَ ْ‬
‫ولقد كان المام حسن البنا – رحمه الله – شديد العناية‬
‫بالقرآن وبضرورة النتفاع به كروح ودستور للحياة‪ ...‬تأمل‬
‫معي قوله‪:‬‬
‫فليس المقصود من القرآن‪ :‬مجرد التلوة‪ ،‬أو التماس‬
‫البركة‪ ،‬وهو مبارك حقًا‪ ،‬ولكن بركته الكبرى في تدبره‪،‬‬
‫وتفهم معانيه ومقاصده‪ ،‬ثم تحقيقها في العمال الدينية‬
‫والدنيوية على السواء‪ ،‬ومن لم يفعل ذلك‪ ،‬أو اكتفى بمجرد‬
‫التلوة بغير تدبر ول عمل‪ ،‬فإنه يُخشى أن يحق عليه الوعيد‬
‫الذي يرويه البخاري عن حذيفة رضي الله ‪«:‬يا معشر‬
‫القراء‪ :‬استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا‪ ،‬وإن أخذتم يمينًا‬
‫وشمال ً لقد ضللتم ضلل ً بعيدًا »(‪ ،)1‬وتحذير رسول الله‬
‫الخطير عندما نزلت عليه خواتيم سورة آل عمران‬
‫فقال‪«:‬ويل لمن لكها بين فكيه ولم يتدبرها»‪.‬‬
‫صا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬على أن يدل الناس‬ ‫ولقد كان حري ً‬
‫ويرشدهم للوسائل المعينة على فهم القرآن والتأثر به‪،‬‬
‫وفي ذلك يقول‪:‬‬
‫مكث‬‫واجتهد أن تقرأ القرآن في الصلة وغيرها على ُ‬
‫وتمهل وخشوع وتذلل‪ ،‬وأن تقف على رؤوس اليات‪،‬‬
‫وتُعطي التلوة حقها من التجويد والنغمات‪ ،‬من غير تكلف‬
‫ول تطريب‪ ،‬أو اشتغال باللفاظ عن المعاني‪ ،‬مع رفع‬

‫() نظرات في كتاب الله ‪ ,‬ص (‪.)88‬‬ ‫‪1‬‬


‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪92‬‬

‫الصوت المعتدل في التلوة العادية أو الصلة الجهرية‪ ،‬فإن‬


‫ذلك يُعين على الفهم‪ ،‬ويُثير ما غاص من شآبيب الدمع‪ ،‬وما‬
‫نفع القلب شيء أفضل من تلوة في تدبر وخشوع(‪.)1‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ومن الوسائل المهمة كذلك في تفعيل هذا‬
‫المشروع‪ :‬إقامة مراكز قرآنية نموذجية تهتم بتحقيق‬
‫المعجزة وتخريج نماذج قرآنية تمشي على الرض‪ ،‬وإليك‬
‫أخي القارئ المزيد من التفاصيل حول طبيعة ودور هذه‬
‫المراكز‪...‬‬

‫‪‬التوعية وإنشاء الرغبة‪.‬‬


‫‪‬برنامج إعداد المعلمين‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() حسن البنا ومنهجه في التفسير ‪.100/‬‬
‫الفصل‬
‫‪93‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪94‬‬

‫تصور مقترح‬
‫للمراكز القرآنية النموذجية‬

‫مما ل شك فيه أن أهم عامل يضمن نجاح المراكز‬


‫القرآنية النموذجية في أداء رسالتها المرتقبة‪ ,‬هو أن يكون‬
‫سا عرفوا معنى المعجزة القرآنية‪،‬‬
‫القائمون عليها أنا ً‬
‫وتذوقوا ثمرتها‪ ،‬وشاهدوا آثارها في أنفسهم حتى يتسنى‬
‫لهم إقامة تلك المراكز على أسس صحيحة‪ ،‬والحفاظ على‬
‫هويتها‪ ،‬ووضوح الرؤية الدائم حول الهدف من وجودها‪،‬‬
‫وطبيعة الثمار المتوقعة منها‪.‬‬
‫ويمكن أن تكون نواة المركز القرآني النموذجي شخص‬
‫واحد على القل‪ ,‬شريطة أن يكون ممن دخل إلى عالم‬
‫القرآن الحقيقي‪ ،‬ورأى آثار معجزته في نفسه‪ ،‬وأصبح‬
‫ما على تلوته آناء الليل وأطراف النهار بفهم وتأثر‪،‬‬
‫مداو ً‬
‫ولديه المكانية لتعليم غيره وشحذ همته‪ ،‬وبث روح القرآن‬
‫في قلبه بإذن الله‪ ،‬وأن يكون وقته يسمح بذلك‪.‬‬
‫التوعية وإنشاء الرغبة‪:‬‬
‫أول عمل ينبغي أن يقوم به هذا الشخص ‪-‬إذا ما أراد‬
‫تكوين مركز قرآني نموذجي ‪ -‬هو القيام بحملت توعية‬
‫للناس من حوله وتوجيههم حول طريقة النتفاع الحقيقي‬
‫بالقرآن‪ ،‬ولماذا أنزله الله عز وجل وكيفية الدخول إلى‬
‫دائرة تأثير معجزته‪ ،‬وكيف يمكن جعله قائدًا موجهًا للحياة‪،‬‬
‫مع الجابة عن التساؤلت التي يطرحها الناس في هذا‬
‫المضمار‪.‬‬
‫ويمكن القيام بهذه المهمة من خلل المحاضرات‬
‫والندوات والمنتديات‪ ..‬ومن خلل توفير الكتب والمطويات‬
‫والمواد السمعية التي تخدم هذا الموضوع‪ ،‬ومن الكتب‬
‫المفيدة في التوعية وإنشاء الرغبة للنتفاع الحقيقي‬
‫بالقرآن‪:‬‬
‫الفصل‬
‫‪95‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫أخلق حملة القرآن للجري – فضائل القرآن لبي عبيد‬


‫الهروي – التذكار في أفضل الذكار للقرطبي – تدبر القرآن‬
‫للسنيدي – كيف نتعامل مع القرآن لمحمد الغزالي –‬
‫مقدمة تفسير في ظلل القرآن لسيد قطب ‪ -‬منهج السلف‬
‫في العناية بالقرآن الكريم لبدر ناصر البدر‪.‬‬
‫ولقد يسر الله لنا بفضله وكرمه طرح هذا الموضوع في‬
‫بعض الكتب مثل‪ :‬العودة إلى القرآن – كيف نغير ما‬
‫بأنفسنا؟ – الطوفان قادم – كيف ننتفع بالقرآن – الكنز‬
‫المهجور – القرآن وقيادة الحياة‪.‬‬
‫ومن خلل حملت التوعية ستظهر‪-‬بمشيئة الله ‪-‬‬
‫نوعيات تريد أن تكون من أهل القرآن بمفهومه الصحيح‪.‬‬
‫إعداد المعلمين‪:‬‬
‫أول خطوة حقيقية ينبغي القيام بها في المركز القرآني‬
‫النموذجي – بعد التوعية – هو تأهيل الفراد الذين‬
‫سيقومون بمهمة التدريس والتوجيه والتحفيظ للطلب‬
‫الملتحقين بالمركز‪،‬وإل فكيف يقوم المعلم بدللة طلبه‬
‫على شيء لم يعرفه ولم يتذوقه‪...‬؟!‬
‫من هنا تظهر أهمية التأني وعدم الستعجال في تخريج‬
‫المعلمين المؤهلين لهذه المهمة العظيمة‪.‬‬
‫شروط اللتحاق بدورة إعداد معلمي القرآن‪:‬‬
‫‪-1‬أن تكون لدى المتقدم الرغبة في النتفاع‬
‫الحقيقي بالقرآن‪ ،‬وأن يكون مستشعًرا عظيم‬
‫حاجته إليه‪.‬‬
‫‪-2‬أن يكون ماهًرا في قراءة القرآن من حيث‬
‫النطق السليم وأحكام التلوة‪.‬‬
‫‪-3‬أن يكون حافظًا لقدر مناسب من القرآن‪.‬‬
‫برنامج إعداد المعلمين‪:‬‬
‫مدة البرنامج المقترحة‪ :‬سنتان‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪96‬‬

‫ويشمل البرنامج عدة نقاط من الضروري أن يتم السير‬


‫بها على التوازي – جنبًا إلى جنب ‪ ،-‬وهي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬وضوح الرؤية حول القرآن ودوره كرسالة ومعجزة‬
‫وكيفية النتفاع به‪.‬‬
‫وتشمل هذه النقطة العناصر التالية‪:‬‬
‫‪-1‬التعرف على الهدف السمى من نزول القرآن‪.‬‬
‫‪-2‬التعرف على جوانب الهداية في القرآن‬
‫(القرآن كرسالة)‪.‬‬
‫‪‬الجانب الول‪ :‬التعرف على الخالق وواجبنا‬
‫نحوه (من هو الله؟!)‪.‬‬
‫‪‬الجانب الثاني‪ :‬التعرف على الرسول والرسالة‬
‫(من هو الرسول؟!)‪.‬‬
‫‪‬الجانب الثالث‪ :‬التعرف على النسان (من أنا؟‬
‫)‪.‬‬
‫‪‬الجانب الرابع ‪ :‬التعرف على الشيطان (من هو‬
‫الشيطان؟!)‪.‬‬
‫‪‬الجانب الخامس‪ :‬قصة الوجود ويوم الحساب‪.‬‬
‫‪‬الجانب السادس‪ :‬معرفة السنن والقوانين‬
‫الحاكمة للكون والحياة‪.‬‬
‫‪‬الجانب السابع‪ :‬التعرف على الكون المحيط‬
‫بنا‪.‬‬
‫‪‬الجانب الثامن‪ :‬حقوق العباد بعضهم على‬
‫بعض‪.‬‬
‫‪‬الجانب التاسع‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫‪‬الجانب العاشر ‪ :‬العبرة من قصص السابقين‪.‬‬
‫‪-3‬التعرف على القرآن كمعجزة‪ :‬كيفية التغيير‬
‫القرآني‪:‬‬
‫الفصل‬
‫‪97‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫‪‬القرآن وإعادة تشكيل العقل وبناء اليقين‬


‫الصحيح‪.‬‬
‫‪‬القرآن والقلب وتعبيده لله‪.‬‬
‫‪‬القرآن وترويض النفس‪.‬‬
‫‪-4‬النموذج القرآني في الجيل الول‪:‬‬
‫‪‬الرسول والقرآن‪.‬‬
‫‪‬تحذير الرسول للصحابة من عدم النتفاع‬
‫بالقرآن كرسالة ومعجزة‪.‬‬
‫‪‬صفاء المنبع الذي نهل من الصحابة‬
‫‪‬وفاء الله بعهده للصحابة وتمكينهم في الرض‪.‬‬
‫‪‬وصايا الصحابة لمن بعدهم‪.‬‬
‫‪ -5‬تاريخ هجر القرآن‪.‬‬
‫‪ -6‬حاجتنا إلى القرآن‪.‬‬
‫‪-7‬عقبات في طريق العودة إلى القرآن‪:‬‬
‫‪‬العقبة الولى‪ :‬الهتمام بالشكل فقط‪.‬‬
‫‪‬العقبة الثانية‪ :‬ختمتان للقرآن‪.‬‬
‫‪‬العقبة الثالثة‪ :‬الخوف من تدبر القرآن‪.‬‬
‫‪‬العقبة الرابعة‪ :‬مفهوم التدبر‪.‬‬
‫‪‬العقبة الخامسة‪ :‬ضرورة ختم القرآن في مدة‬
‫محددة‪.‬‬
‫‪‬العقبة السادسة‪ :‬أمراض القلوب‪.‬‬
‫‪‬العقبة السابعة‪ :‬مفهوم حامل القرآن‪.‬‬
‫‪-8‬كيف نعود إلى القرآن؟!‬
‫‪-9‬معينات على الفهم والتأثر‪.‬‬
‫‪ ...‬هذه العناصر يمكن دراستها من خلل كتاب العودة‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪98‬‬

‫إلى القرآن‪ ،‬مع إضافة كل ما يخدمها من الكتب الخرى‪،‬‬


‫والتي تم التنويه إلى بعضها في الصفحات السابقة عند‬
‫الحديث عن التوعية‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬مداومة تلوة القرآن‪:‬‬
‫والنقطة الثانية من نقاط برنامج إعداد معلمي القرآن‪,‬‬
‫هي مداومة تلوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار‪.‬‬
‫فأهم عامل يؤهل الفرد لكي يكون من أهل القرآن‬
‫الحقيقيين هو لقاؤه المباشر والطويل مع القرآن بصفة‬
‫دائمة‪ ،‬وبالطريقة التي طالبنا الله بها (تدبًرا وترتيلً) وباتباع‬
‫هدي محمد في قراءته‪.‬‬
‫لبد أن يتعود الفرد في خلل هذه الدورة على كثرة‬
‫قراءة القرآن حتى يصل لمرحلة عدم الصبر عنه‪ ،‬وأن‬
‫يصبح وقت لقائه به أحب الوقات إليه‪ ،‬وهذا لن يتم إل إذا‬
‫ذاق حلوته‪ ،‬ودخل إلى دائرة تأثير معجزته‪ ،‬وشاهد آثارها‬
‫في ذاته بانشراح في صدره‪ ،‬وشعور بالسلم الداخلي‬
‫ما‬
‫والطمأنينة‪ ،‬وبتولد الطاقة والقوة الروحية التي تدفعه دو ً‬
‫إلى التجافي عن دار الغرور‪ ،‬والنابة إلى دار الخلود‪،‬‬
‫والستعداد للموت قبل نزوله‪.‬‬
‫وهذا بل شك يحتاج إلى دوام متابعة وتعاهد من القائم‬
‫على الدورة ‪ ،‬وأن يتأكد من قيام الفراد بالخذ بالوسائل‬
‫المعينة على الفهم والتأثر‪.‬‬
‫ولنعلم جميعًا أن محور دورة معلمي القرآن‪ ،‬بل والنجاح‬
‫في إقامة المركز القرآني النموذجي متوقف ‪ -‬بإذن الله –‬
‫على النجاح في هذه النقطة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ :‬حفظ‬
‫اليات (النقطة الرابعة التي ستأتي لحقًا)‪ ,‬والعمل بما تدل‬
‫عليه‪ ,‬يتوقف على وجود قوة دافعة تتولد داخل الفرد‬
‫وتدفعه للعمل بتلقائية‪ ،‬فإن لم توجد تلك القوة تحول المر‬
‫إلى حفظ باللسان فقط‪.‬‬
‫والمصدر الذي ل بديل عنه لتوليد تلك القوة هو‬
‫المداومة على قراءة القرآن ليل ً ونهاًرا‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬بناء اليمان من خلل القرآن‪:‬‬
‫الفصل‬
‫‪99‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫القرآن أفضل وسيلة لبناء اليمان‪ ،‬وهو خير كتاب‬


‫يؤسس العقيدة الصحيحة الصافية في النفس والتي تثمر‬
‫بدورها سلوكًا في واقع الحياة‪ ،‬لذلك فمن الضروري أن‬
‫تقوم هذه المراكز بتعليم اليمان وذلك من خلل القرآن‪,‬‬
‫كما كان يقول الصحابة رضوان الله عليهم‪« :‬فتعلمنا العلم‬
‫واليمان معًا»‪.‬‬
‫فاليمان ليس شيئًا نظريًا‪ ،‬أو قواعد تُحشى بها العقول‪،‬‬
‫بل هو حقائق تشكل جزءًا من يقين النسان‪ ،‬وتتشابك مع‬
‫مشاعره‪ ،‬فالمعرفة وحدها ل تكفي لقامة صرح اليمان‬
‫وتأسيس قاعدته في القلب‪ ،‬بل لبد من التأثر والنفعال مع‬
‫هذه المعرفة بصورة مستمرة‪ ،‬وهذا ما يقوم القرآن بفعله‬
‫بسهولة ويسر‪.‬‬
‫لقد كان القرآن في السابق ومع الجيال الولى هو‬
‫الوسيلة الساسية لبناء العقيدة الصحيحة الصافية عند‬
‫المسلم‪ ،‬ولكن بمرور الوقت‪ ،‬وابتعاد الجيال اللحقة عن‬
‫القيمة الحقيقية للقرآن‪ ،‬وهجر النتفاع به‪ ،‬تحولت العقيدة‬
‫إلى كلم نظري تمتلئ به الكتب ما بين قواعد وأصول‬
‫وشروح وحواش ومختصرات‪ ،‬مما أدى إلى تضخيم الجانب‬
‫المعرفي دون أن يصاحب ذلك إيمان حي في القلب‪،‬‬
‫فكانت النتيجة ابتعاد الواقع عن الواجب والعمل عن العلم‪.‬‬
‫وكما ورد في الثر‪ ...‬العلم علمان‪ :‬علم في القلب؛‬
‫فذاك العلم النافع‪ ،‬وعلم على اللسان؛ فذاك حجة الله‬
‫على ابن آدم‪.‬‬
‫من هنا اشتدت الحاجة إلى العودة مرة أخرى إلى‬
‫القرآن‪ ,‬لتعلم اليمان وبناء العقيدة التي تجمع بين اليقين‬
‫العقلي واليمان القلبي‪ ،‬ويظهر أثرها في السلوك العملي‬
‫بالستقامة على أمر الله‪.‬‬
‫ومن الوسائل المعينة على ذلك تتبع معنى من المعاني‬
‫اليمانية خلل رحلتنا مع تلوة القرآن كوسيلة سهلة‬
‫ومتدرجة لبناء العقيدة الصحيحة‪..‬‬
‫فعلى سبيل المثال ندرس في كتب العقيدة‪ :‬اليمان‬
‫بالغيب كموضوع محدد‪ ،‬فلماذا ل نفعل ذلك مع القرآن‪،‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪100‬‬

‫ونستقي منه حقيقة هذا المعنى اليماني ونمزج الفكر‬


‫بالعاطفة‪ ،‬ونجتهد في تجاوب المشاعر معه ليصبح إيمانًا‬
‫خا في قلوبنا‪ ,‬فينعكس على تصرفاتنا بمزيد من‬ ‫راس ً‬
‫الستقامة على أمر الله؟‬
‫وحبذا لو أعطينا كل معنى من المعاني اليمانية التي‬
‫تشكل أسس العقيدة عند المسلم مساحة كبيرة من‬
‫الوقت‪ ,‬بأن نخصص له ختمة أو أكثر من ختماتنا‪ ،‬ول ننتقل‬
‫ما‪.‬‬
‫إلى غيره حتى نتشبع منه تما ً‬
‫أما وظيفة دورة معلمي القرآن في ذلك فهي تستعرض‬
‫المعنى من الناحية النظرية‪ ,‬وطريقة عرض القرآن له‪ ،‬ثم‬
‫تطبيقات عملية على بعض اليات يستخرج من خللها‬
‫الدارسون ما يدل على المعنى اليماني‪ ،‬ويطلب منهم أن‬
‫يركزوا في وردهم اليومي على التجاوب بصفة خاصة مع‬
‫هذا المعنى‪ ،‬وأن يدوِّنوا اليات التي أثرت فيهم تأثيًرا كبيًرا‬
‫ليتم طرحها خلل الوقت المخصص في الدورة والتعليق‬
‫عليها‪.‬‬
‫ولكي تحسن استفادتنا أكثر وأكثر بهذه النقطة‪ ,‬علينا أن‬
‫نربط هذا المعنى اليماني الذي نعيشه في رحلتنا المباركة‬
‫مع القرآن بأعمال مصاحبة لها ارتباطًا وثيقًا به‪ ،‬فعندما‬
‫نبحث في القرآن ونتعرف على الله الوهاب المنعم يمكننا‬
‫أن نستصحب في هذه الفترة بعض الوسائل لترسيخ‬
‫التفاعل مع هذا المعنى ككثرة الحمد‪ ،‬وسجود الشكر‪،‬‬
‫وإحصاء النعم‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫ولقد تم شرح هذا النقطة بشيء من التفصيل في كتاب‬
‫«بناء اليمان من خلل القرآن» مع عرض عدة نماذج‬
‫مقترحة يبني بها الفرد إيمانه من خلل القرآن‪ ...‬وإليك‬
‫جا منها ننقله من الكتاب‪:‬‬ ‫أخي القارئ نموذ ً‬
‫«اليمان باليوم الخر»‬
‫اليمان بالله واليوم والخر له دور كبير في استقامة‬
‫العبد‪ ،‬فالذي يعلم أن هناك حسابًا على ما يفعله من‬
‫أخطاء‪ ،‬وأن هناك سجن يُودع فيه المجرمون‪ ،‬فإن هذا من‬
‫شأنه أن يدفعه لجتناب الوقوع في المعاصي‪ ،‬فإن زلت‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪101‬‬

‫ما سارع بالعتذار والندم وطلب العفو والصفح…‬ ‫قدمه يو ً‬


‫إذن فاليمان باليوم الخر ركن ركين من أركان اليمان‪،‬‬
‫لذلك كان ولزال المشركون ومن سار على نهجهم‬
‫يحاولون التشكيك في قضية البعث والحساب ليستمروا‬
‫سأَلُ أَيّانَ َي ْومُ اْلقِيَامَةِ‬
‫في غيهم وظلمهم بَلْ يُرِيدُ الِنْسَانُ ِلَيفْجُرَ َأمَامَهُ يَ ْ‬
‫[القيامة‪.]6،5:‬‬
‫ولهمية هذا الموضوع وضرورة اليمان الراسخ به‪ ،‬فلقد‬
‫أفرد له القرآن مساحة كبيرة وتناوله من عدة جهات‪:‬‬
‫‪..‬تناوله من جهة إثباته بالدلة العقلية الدامغة‪.‬‬
‫…وتناوله من جهة كشف أسباب تكذيب الناس به‪.‬‬
‫…وتناوله من جهة وصف أحداثه بكثير من التفصيل مع‬
‫التركيز على مخاطبة المشاعر؛ لتزداد بذلك خشية الله‬
‫والخوف منه‪ ,‬مما يدفع العبد للستقامة والمسارعة إلى‬
‫ش ِفقُونَ وَاّلذِينَ هُم بِآيَاتِ رَّب ِهمْ ُي ْؤمِنُونَ‬
‫الخيرات ِإنّ اّلذِينَ هُم مّنْ خَشَْيةِ َرّبهِم مّ ْ‬
‫ش ِركُونَ وَاّلذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوُب ُهمْ وَ ِج َلةٌ أَّن ُهمْ إِلَى َرّب ِهمْ‬
‫وَاّلذِينَ هُم ِبرَّب ِهمْ لَ يُ ْ‬
‫[المؤمنون‪.]61 :57:‬‬ ‫رَا ِجعُونَ أُولَِئكَ يُسَا ِرعُونَ فِي الْخَ ْيرَاتِ َو ُهمْ َلهَا سَاِبقُونَ‬
‫ومما لشك فيه أن حجر الزاوية ونقطة البداية في هذا‬
‫الموضوع هو إثبات البعث والمعاد‪ ,‬وهذا ما سيفرد له‬
‫الحديث في السطر القادمة بعون الله وفضله‪.‬‬
‫إثبات المعاد‪:‬‬
‫أثبت القرآن أن هناك حياة بعد الموت‪ ,‬وأن هناك بعثًا‪،‬‬
‫وحشًرا‪ ،‬وحسابًا‪ ،‬وجنة يتنعم فيها الطائعون‪ ،‬وناًرا يُعاقب‬
‫فيها العاصون‪.‬‬
‫ومن هذه الدلة‪:‬‬
‫‪-1‬إثبات صحة القرآن وصحة نسبه إلى الله عز وجل‬
‫م تثبت صحة كل ما أخبر به من غيبيات‬‫ومن ث َّ‬
‫وأحداث مستقبلية‪.‬‬
‫‪-2‬قياس الغيبي على المشهود‪:‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪102‬‬

‫فلقد دعا القرآن الناس إلى قياس الغيب على ما‬


‫يشاهدونه‪ ،‬ومن ذلك إحياء الرض البور‪.‬‬
‫فنحن نشاهد الرض البور الجرداء والتي ل أثر للزرع‬
‫فيها‪ ،‬نجدها وقد أصبحت مخضرة بالزرع بعد نزول المطر‬
‫عليها َو ِمنْ آيَاِتهِ َأّنكَ تَرَى الَرْضَ خَاشِ َعةً َفإِذَا أَنْزَْلنَا عَلَ ْيهَا اْلمَاءَ ا ْهتَ ّزتْ وَرَبَتْ ِإنّ‬
‫يءٍ َقدِيرٌ [فصلت‪.]39:‬‬ ‫حيِي اْل َموْتَى إِّنهُ عَلَى كُلّ شَ ْ‬
‫اّلذِي أَحْيَاهَا َلمُ ْ‬
‫‪ -‬وكذلك الستدلل على إمكانية ومعقولية البعث بخلق‬
‫النسان من العدم وَضَ َربَ َلنَا مَثَلً وَنَسِيَ َخ ْلقَهُ قَالَ مَن ُيحْيِي اْلعِظَامَ َوهِيَ‬
‫شَأهَا َأوّلَ مَرّةٍ وَ ُهوَ بِكُلّ َخ ْلقٍ عَلِيمٌ [يس‪.] 78،79:‬‬ ‫َرمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اّلذِي َأنْ َ‬
‫‪ -‬والستدلل بالنوم – كموتة صغرى‪ -‬على الموتة‬
‫الكبرى‪ ،‬وبالستيقاظ على البعث الُ يََتوَفّى الَْنفُسَ ِحيَ َموْتِهَا وَالّتِي‬
‫سمّى إِنّ‬ ‫سكُ الّتِي َقضَى عَلَ ْيهَا اْل َم ْوتَ وَيُرْسِلُ الُ ْخرَى ِإلَى أَجَلٍ مّ َ‬
‫َلمْ َتمُتْ فِي مَنَامِهَا فَُيمْ ِ‬
‫فِي َذِلكَ لَيَاتٍ ّلقَ ْومٍ َيَتفَكّرُونَ [الزمر‪.]42:‬‬
‫‪-3‬إثبات القدرة المطلقة لله عز وجل‪:‬‬
‫ولقد أفاض القرآن في إثبات القدرة المطلقة لله عز‬
‫م تصبح إعادته للحياة بعد الموت شيئًا يسيًرا‬ ‫وجل‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫عليه اّلذِي َجعَلَ لَكُم ّمنَ الشّجَرِ ال ْخضَرِ نَارًا َفإِذَا أَْنُتمْ مّ ْنهُ تُو ِقدُونَ َأوَ لَ ْيسَ‬
‫خ ُلقَ مِثْلَ ُهمْ بَلَى َو ُهوَ اْلخَلّقُ اْلعَلِيمُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ ِبقَادِرٍ عَلَى أَن يَ ْ‬
‫اّلذِي خَ َلقَ ال ّ‬
‫إِّنمَا َأمْرُهُ ِإذَا َأرَادَ َشيْئًا أَن َيقُولَ َلهُ ُكنْ فَيَكُونُ فَسُ ْبحَانَ اّلذِي بَِيدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَ ْيءٍ‬
‫وَإِلَ ْيهِ ُترْجَعُونَ [يس‪.]83-80 :‬‬
‫‪-4‬حدوث آيات تشبه البعث‪ ،‬أخبر عنها القرآن وأثبتها‬
‫التاريخ‪:‬‬
‫ومن ذلك قصة أهل الكهف الذين ظلوا نائمين ثلثمائة‬
‫عام ثم بعثهم الله‪ ،‬وقد تغير كل ما حولهم‪ ،‬بينما بقيت‬
‫أجسادهم كما هي لتشهد على قدرة الله سبحانه وَ َك َذِلكَ‬
‫َأعْثَ ْرنَا عَلَ ْي ِهمْ ِلَيعْ َلمُوا أَنّ َو ْعدَ الِ َحقّ وَأَنّ السّا َعةَ لَ رَيْبَ فِيهَا [الكهف‪.]21:‬‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪103‬‬

‫‪-5‬الوعد الحق‪:‬‬
‫أخبرنا القرآن في مواضع كثيرة بوعود وعدها الله عز‬
‫وجل في الماضي وحدثت بالفعل‪ ،‬وأخبر كذلك بوعده‬
‫سبحانه بيوم الحساب ومجازاة المحسنين بالجنة‪،‬‬
‫والمسيئين بالنار‪..‬فإن كان كل ما وعد به قد تحقق في‬
‫ضا أن وعده بالجزاء‬ ‫وقته وكما وعد‪ ،‬فمن المؤكد أي ً‬
‫سيتحقق َو َمنْ أَوْفَى ِب َع ْهدِهِ ِمنَ الِ [التوبة‪.]111:‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬أوحى الله عز وجل إلى أم موسى‬
‫أن تلقي موسى –عليه السلم‪ -‬في اليم‪ ،‬ووعدها بأنه‬
‫سيرده إليها وََأوْحَيْنَا إِلَى ُأمّ مُوسَى َأنْ أَ ْرضِعِيهِ َفإِذَا ِخفْتِ َعلَ ْيهِ َفأَْلقِيهِ فِي الَْيمّ وَلَ‬
‫حزَنِي ِإنّا رَادّوهُ إَِل ْيكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ اْلمُرْسَ ِليَ [القصص‪.]7:‬‬ ‫تَخَافِي وَلَ تَ ْ‬
‫وأوفى الله سبحانه وتعالى بوعده فَ َردَدْنَاهُ إِلَى ُأمّهِ كَيْ َتقَرّ‬
‫حزَنَ وَلَِتعْ َلمَ َأنّ َو ْعدَ الِ َحقّ وَلَ ِكنّ َأكْثَ َر ُهمْ لَ َيعْ َلمُونَ [القصص‪.]13:‬‬
‫عَيْنُهَا وَلَ تَ ْ‬
‫ووعد سبحانه وتعالى بنصر الروم على الفرس‬
‫فانتصروا‪ ،‬ووعد رسوله بالعودة إلى مكة مرة أخرى بعد‬
‫أن أخرجه منها قومه‪ ،‬فوفى بوعده‪ ،‬ووعد سبحانه بحفظ‬
‫القرآن من التحريف فوفى بوعده‪ ،‬ووعد سبحانه في‬
‫حقّ َفإِذَا هِيَ‬
‫مواضع كثيرة من القرآن بالبعث وَاقْتَ َربَ اْل َو ْعدُ اْل َ‬
‫شَا ِخصَةٌ َأْبصَارُ اّلذِينَ َكفَرُوا [النبياء‪ ,]97:‬وسيوفي الله بوعده‪.‬‬
‫ووعد المؤمنين بالنعيم في الجنة ِإنّ الَ اشْتَرَى مِنَ اْل ُمؤْمِنِ َ‬
‫ي‬
‫أَْنفُسَ ُهمْ وََأمْوَاَل ُهمْ ِبَأنّ لَ ُهمُ اْلجَّنةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الِ فََيقْتُلُونَ وَُيقْتَلُونَ َو ْعدًا عَلَ ْيهِ َحقّا‬
‫فِي الّتوْرَاةِ وَا ِلنْجِيلِ وَاْلقُرْآنِ َومَنْ َأوْفَى ِبعَ ْهدِهِ ِمنَ الِ فَاسْتَ ْبشِرُوا ِببَ ْيعِ ُكمُ اّلذِي بَاَيعُْتمْ ِبهِ‬
‫وَذَِلكَ ُهوَ اْل َفوْزُ اْلعَظِيمُ [التوبة‪.] 111 :‬‬
‫ووعد الكافرين بالنار النّارُ َو َع َدهَا الُ اّلذِينَ َكفَرُوا وَبِ ْئسَ اْل َمصِيُ‬
‫[الحج‪ .]72:‬وسيوفي بوعده سبحانه‪.‬‬
‫‪‬وَنَادَى َأصْحَابُ اْلجَّنةِ َأصْحَابَ النّارِ أَن َقدْ وَ َجدْنَا مَا َو َعدَنَا رَبّنَا َحقّا فَهَلْ وَجَدتّم‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪104‬‬

‫[العراف‪.]44 :‬‬ ‫مّا َو َعدَ َربّ ُكمْ َحقّا قَالُوا َن َعمْ‬


‫ولعلك تلحظ – أخي القارئ‪ -‬أن الفعال بصيغة الماضي‬
‫لتأكيد وقوعها‪.‬‬
‫‪-6‬النظام الحق العادل‪:‬‬
‫أفاض القرآن في الحديث عن النظام الذي يحكم‬
‫السماوات والرض‪ ،‬وبيَّن أنه نظام حق عادل يجري وفق‬
‫حقّ [الجاثية‪.]22:‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ بِالْ َ‬
‫سنن وقوانين وَخَ َلقَ الُ ال ّ‬
‫هذا النظام الحق الذي ينظم حركة الحياة‬
‫والموجودات‪..‬من الطبيعي أن يطبق على البشر كذلك‬
‫باعتبار أنهم جزء من هذا الكون‪ ،‬ولكن الواقع يخبرنا بأن‬
‫هناك بعض البشر يظلم والبعض يُظلم‪ ،‬وكلهم في النهاية‬
‫يموتون‪...‬البعض يرتكب أخطاء فاحشة ول تتم معاقبته‪،‬‬
‫وهذا بالطبع ينافي النظام الحق العادل الذي قامت عليه‬
‫السماوات والرض إل إذا كان هناك ملحق آخر للحياة يتم‬
‫فيه مجازاة الظالمين‪ ،‬والنتصار للمظلومين‪ ،‬ومحاسبة‬
‫المخطئين‪.‬‬
‫أعمال يُفضل القيام بها وبمثلها لتثبيت هذه العقيدة في‬
‫النفس‪:‬‬
‫‪ -1‬لكي تصبح عقيدة الجزاء راسخة في يقين العبد‬
‫وتشكل جزءًا أصيل ً من إيمانه‪ ,‬لبد من تكرار عرضها على‬
‫ما فيها‪ ،‬فترسخ في يقينه‪ ،‬وأن يتكرر كذلك‬ ‫العقل ليتفكر دو ً‬
‫عرضها على المشاعر لتستحوذ على جزء معتبر منها‬
‫فتنشئ إيمانًا‪..‬وهذا ما يفعله القرآن بكثرة عرضه لمسألة‬
‫البعث والجزاء‪ ،‬ومخاطبته للعقل‪ ،‬وإقناعه بها‪ ،‬وإلهابه‬
‫للمشاعر من خلل عرضه المتكرر لهوال يوم القيامة‪.‬‬
‫‪ ..‬من هنا كان من الضروري أن نستفيد من القرآن في‬
‫البناء الصحيح لعقيدة الجزاء‪ ،‬ول نكتفي بما عندنا من تصور‬
‫عقلي محدود‪ ،‬بل لبد أن تصبح هذه العقيدة راسخة في‬
‫عقولنا وقلوبنا‪ ،‬لتُثمر تقوى واستقامة على أمر الله‪ ،‬وهذا‬
‫يستدعي منا التركيز على المحاور الستة السابقة وغيرها‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪105‬‬

‫مما أثبت به القرآن البعث والجزاء‪ ,‬وذلك من خلل رحلتنا‬


‫المباركة مع القرآن وحبذا لو أفردنا ختمة أو أكثر لهذا‬
‫الموضوع المهم‪ ،‬مع الجتهاد في تجاوب المشاعر قدر‬
‫المكان مع الحقائق التي تظهرها اليات‪.‬‬
‫‪ -2‬تخصيص وقت للتفكر في آيات الله المبثوثة في‬
‫الكون والستدلل من خللها على قدرة الله المطلقة‪،‬‬
‫وعلى أن هناك نظام عادل ودقيق يحكم حركة الشياء‬
‫والمخلوقات‪ ،‬وأنه من اللزم أن يُطبق هذا النظام على‬
‫البشر وهذا يستدعي وجود ملحق للحياة بعد الموت…‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضِ وَاخِْتلَفِ اللّيْلِ‬ ‫تأمل معي قوله تعالى‪ِ :‬إنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫وَالنّهَارِ لَيَاتٍ لُولِي الْلبَابِ اّلذِينَ َيذْكُرُونَ الَ قِيَامًا وَ ُقعُودًا َوعَلَى جُنُوبِ ِهمْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضِ رَبّنَا مَا خَ َلقْتَ َهذَا بَا ِطلً سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَابَ‬ ‫وَيََتفَكّرُونَ فِي َخ ْلقِ ال ّ‬
‫النّارِ [آل عمران‪ ]191 ،190:‬فهؤلء الصالحون قد قادهم التفكير‬
‫في ملكوت السماوات والرض إلى الوصول إلى حقيقة‬
‫عذَابَ النّارِ ‪.‬‬ ‫رَبّنَا مَا َخ َلقْتَ َهذَا بَاطِلً ‪ ،‬وأن هناك حسابًا سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َ‬
‫‪-3‬اللتزام بدعاء الستفتاح عند قيام الليل والذي كان‬
‫رسول الله يقوله إذا قام الليل يتهجد‪« :‬اللهم لك المد أنت نور‬
‫السماوات والرض ومن فيهن‪ ،‬ولك المد أنت قيّوم السماوات والرض ومن فيهن‪،‬‬
‫ولك المد أنت رب السماوات والرض ومن فيهن‪ ،‬ولك المد لك مُلك السماوات‬
‫والرض ومن فيهن‪ ،‬ولك المد أنت مَلك السماوات والرض ومن فيهن‪ ،‬ولك المد‬
‫أنت الق‪ ،‬ووعدك الق‪ ،‬وقولك الق‪ ،‬ولقاؤك حق‪ ،‬والنة حق‪ ،‬والنار حق‪ ،‬والنبيون‬
‫حق‪ ،‬وممد حق‪ ،‬والساعة حق‪.)1(»...‬‬
‫رابعًا‪ :‬ومن النقاط الساسية في برنامج دورة إعداد‬
‫المعلمين‪:‬‬
‫مدارسة وحفظ الجزاء الثلثة الخيرة‪:‬‬
‫حفظ آيات القرآن وسوره له دور كبير في تيسير‬
‫النتفاع بالقرآن‪ ،‬وكيف ل والحافظ يمكن أن يتلو القرآن‬
‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪106‬‬

‫في أي مكان ل يتيسر فيه وجود المصحف‪ ،‬وكذلك يقوم به‬


‫في الصلة‪.‬‬
‫ومع هذه الهمية فإن حفظ اليات لبد أن يكون‬
‫بالطريقة التي كان يفعلها الصحابة‪ ,‬فهم يمثلون الجيل‬
‫القرآني الذي تربى على يد رسول الله ‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م فهم‬
‫النموذج الصحيح الذي ينبغي أن يُحتذى به‪.‬‬
‫سلمي التابعي والذي تتلمذ‬ ‫يقول أبو عبد الرحمن ال ُّ‬
‫على يد كبار الصحابة‪:‬‬
‫إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا‬
‫عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الخرى حتى يعلموا ما‬
‫فيهن من العمل‪ ،‬فتعلمنا العلم والعمل جميعًا‪ ،‬وأنه سيرث‬
‫القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء‪ ،‬ل يجاوز هذا‪،‬‬
‫وأشار إلى حنكه(‪.)1‬‬
‫وفي رواية أخرى يقول أبو عبد الرحمن‪«:‬حدثنا الذين‬
‫كانوا يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان‪ ،‬وعبد الله بن‬
‫مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات‬
‫لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»(‪.)2‬‬
‫وغير ذلك من الخبار الكثيرة التي وصلت إلينا‪ ,‬والتي‬
‫م ِ الحفظ الذي يحفظونه‬ ‫تؤكد عدم حرص الصحابة على ك ّ‬
‫بقدر حرصهم على فهم اليات وتطبيق ما فيها من عمل‬
‫تدل عليه‪ ،‬ويكفي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظل‬
‫يحفظ سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة‪ ,‬أما ابنه عبد‬
‫الله فحفظها في ثماني سنوات(‪...)3‬‬
‫علينا إذن أن نتبنى هذه الطريقة‪ ،‬وأل يكون همنا من‬
‫الحفظ عدد الجزاء التي سنحفظها‪ ،‬بل ما تحمله اليات‬
‫من معان إيمانية‪ ،‬وحقائق عقدية‪ ،‬وأحكام شرعية‪،‬‬
‫وواجبات عملية‪ ،‬وهذا – بل شك – سيثمر حفظًا قد يكون‬

‫() فضائل القرآن للفريابي‪ ,‬ص ‪.241‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫() حديث القرآن عن القرآن لمحمد الراوي‪ ,‬ص ‪.185‬‬
‫‪3‬‬
‫() انظر شعب اليمان للبيهقي رقم (‪.)1957( ، )1955‬‬
‫الفصل‬
‫‪107‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫قليلً‪ ،‬ولكن سيكون معه خير كثير ونفع عظيم‪ ،‬فمع اليمان‬
‫ما من خلل القرآن‪ ،‬ومع الطاقة والقوة‬
‫الذي سيزيد دو ً‬
‫الروحية المتولدة من القراءة اليومية ‪ ،‬سيصبح من السهل‬
‫علينا تعلم اليات وتطبيق ما فيها من عمل‪.‬‬
‫ويُقترح لدورة إعداد المعلمين حفظ ومدارسة الجزاء‬
‫الثلثة الخيرة من القرآن مع التركيز على هذه الجوانب‪:‬‬
‫تعلم النطق السليم لليات‪ ،‬وأحكام الترتيل‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫الحقائق اليمانية التي تدل عليها اليات‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫معنى ما أُشكل فهمه منها‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫‪ -4‬معايشة الجواء التي نزلت فيها ومعرفة سبب‬
‫النزول‪.‬‬
‫معرفة الحكام الشرعية التي تتضمنها‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫‪ -6‬استخلص واجبات عملية تدل عليها‪ ،‬وحبذا لو‬
‫كانت الواجبات قليلة حتى يتسنى القيام بها‬
‫والتعود عليها‪ ،‬مع التأكيد بأننا ينبغي أل ننتقل‬
‫إلى آيات أخرى حتى نطبق تلك الواجبات‪ ,‬ولو‬
‫استغرق ذلك بضعة أيام أو أسبوع‪.‬‬
‫ومما يجدر الشارة إليه أن معرفة غريب القرآن‪،‬‬
‫وسبب نزول اليات‪ ،‬والحكام التي تدل عليها موجود –‬
‫بفضل الله – في الكثير من كتب التفاسير حيث يمكن‬
‫للقائمين على الدورة اعتماد بعضها في مجال الحفظ‪.‬‬
‫ُ‬
‫يبقى تعل ّم الحقائق اليمانية التي تدل عليها اليات –‬
‫وهو أهم جانب ‪...-‬هذه الحقائق تدور أغلبها حول جوانب‬
‫الهداية في القرآن وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬التعرف على الله عز وجل‪ ،‬والتعرف كذلك على‬
‫واجبات العبودية نحوه سبحانه‪.‬‬
‫والرسالة‪.‬‬ ‫‪ -2‬التعرف على الرسول‬
‫‪ -3‬التعرف على النسان(عقله – قلبه – نفسه)‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪108‬‬

‫‪ -4‬التعرف على الدنيا وكيف أنها دار امتحان‪ ،‬والتعرف‬


‫على يوم الحساب والجنة والنار(قصة الوجود)‪.‬‬
‫‪ -5‬التعرف على الشيطان وأساليب خداعه ووسوسته‬
‫للنسان‪.‬‬
‫‪ -6‬التعرف على السنن والقوانين الحاكمة للكون‬
‫والحياة‪.‬‬
‫‪ -7‬التعرف على الكون المحيط بنا (عبوديته – علقته‬
‫بالبشر‪.)....‬‬
‫‪ -8‬التعرف على حقوق العباد بعضهم على بعض‪.‬‬
‫‪ -9‬التعرف على فقه الدعوة‪ ،‬ولماذا ل يتبع الناس‬
‫الحق‪..‬‬
‫‪ -10‬التعرف على قصص السابقين وأخذ العبرة منها‪.‬‬
‫على أن يكون تناول هذه الجوانب تناول ً يمزج الفكر‬
‫بالعاطفة من خلل عرض الحقيقة اليمانية‪ ,‬ومزجها‬
‫بوسائل التأثير المختلفة كالقصة والمثل والموعظة‪.‬‬
‫نموذج لستخراج الجوانب اليمانية من اليات‪ ،‬وكذلك‬
‫الواجبات العملية‪..‬‬
‫سورة الليل‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫‪‬وَاللّيْلِ إِذَا َيغْشَى وَالنّهَارِ إِذَا َتجَلّى وَمَا خَ َلقَ الذّ َكرَ وَالُنْثَى ِإنّ َسعْيَ ُكمْ‬
‫وََأمّا مَن‬ ‫َفسَنَُيسّرُهُ لِلُْيسْرَى‬ ‫صدّقَ بِاْلحُسْنَى‬
‫َفَأمّا مَنْ َأعْطَى وَاّتقَى وَ َ‬ ‫شتّى‬
‫لَ َ‬
‫وَمَا ُيغْنِي َع ْنهُ مَاُلهُ إِذَا َترَدّى‬ ‫حسْنَى فَسَُنيَسّ ُرهُ ِل ْلعُسْرَى‬
‫وَ َك ّذبَ بِالْ ُ‬ ‫بَخِلَ وَاسَْتغْنَى‬
‫لهَا إِلّ‬
‫صَ‬‫َفأَنذَرْتُ ُكمْ نَارًا تَ َلظّى لَ َي ْ‬ ‫وَِإنّ لَنَا لَلخِرَةَ وَالُولَى‬ ‫ِإنّ َعلَيْنَا لَلْ ُهدَى‬
‫َومَا ل َحدٍ‬ ‫جنّبُهَا الْتقَى اّلذِي ُيؤْتِي مَاَلهُ َيتَزَكّى‬
‫وَسَيُ َ‬ ‫اّلذِي َك ّذبَ وََتوَلّى‬ ‫ال ْشقَى‬
‫سوْفَ َي ْرضَى ‪.‬‬
‫وَلَ َ‬ ‫جزَى إِلّ ابِْتغَاءَ وَجْهِ رَّبهِ ال ْعلَى‬
‫عِندَهُ مِن ّن ْع َمةٍ تُ ْ‬
‫هذه السورة تركز بشكل كبير على التعرف على الله‬
‫عز وجل‪ ،‬وأنه يملك كل شيء في هذا الكون ويقوم عليه‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪109‬‬

‫بنفسه‪ ...‬يدير حركة الحياة فيه‪ ،‬ويجازي المحسن بإحسانه‬


‫والمسيء بإساءته‪..‬‬
‫وتركز كذلك على السنة الجتماعية والقاعدة العريضة‬
‫التي ن َّ‬
‫صها‪« :‬البداية من العبد»‪...‬‬
‫والسنن الجتماعية تشبه المعادلت الرياضية أي أنها‬
‫نتائج تترتب على بدايات‪ ...‬كمثال قوله تعالى‪ :‬إِن َت ْنصُرُوا الَ‬
‫س ُهمْ [الحشر‪.]19 :‬‬ ‫يَ ْنصُ ْر ُكمْ [محمد‪ ]7 :‬وقوله‪َ :‬نسُوا الَ َفَأنْسَا ُهمْ أنفُ َ‬
‫كذلك تركز السورة وتحث على النفاق وصنائع‬
‫المعروف دون انتظار المقابل‪ ،‬ولكن ابتغاء وجه الله‪.‬‬
‫‪ ‬وَاللّيْلِ إِذَا َيغْشَى وَالنّهَارِ إِذَا َتجَلّى وَمَا خَ َلقَ الذّ َكرَ وَالُنْثَى‬
‫من هو ال؟!‪ :‬الخالق المبدع الذي خلق الذكر والنثى بهذا‬
‫التقان والجمال والحكمة‪ ،‬خلق في الذكر ما يُعينه على‬
‫ممارسة مهامه في الحياة‪ ،‬وفي النثى ما يؤهلها للقيام‬
‫بدورها كزوجة وأم‪.‬‬
‫الكون المحيط ‪ :‬كون مطيع لربه‪ ..‬ففي كل يوم يغشى‬
‫ما أو يتأخر‪ ،‬وفي كل‬
‫الليل الكون بظلمته‪ ..‬لم يعترض يو ً‬
‫يوم يتجلى النهار بنوره وضيائه على الرض‪.‬‬
‫إِنّ َسعْيَ ُكمْ َلشَتّى‬
‫من هو النسان؟‪ :‬الناس يتفاوتون في أعمالهم واتجاهاتهم‪،‬‬
‫فمن عامل للدنيا‪ ،‬ومن عامل للخرة‪.‬‬
‫سرَى‬
‫حسْنَى فَسَُنيَسّ ُرهُ ِللْيُ ْ‬
‫صدّقَ بِالْ ُ‬
‫َفأَمّا َمنْ َأعْطَى وَاّتقَى َو َ‬
‫من هو النسان؟!‪ :‬لديه قابلية للعطاء والتقوى والتصديق‬
‫بالمعاد‪ ...‬التقوى هي اللجام الذي يلجم به نفسه‪ ،‬وهي‬
‫الدافع الذي يدفعه للنفاق‪.‬‬
‫السنن الجتماعية‪ :‬هنا سنة مكتملة‪ :‬فالعطاء والتقوى‬
‫والتصديق أسباب ومقدمات لتيسير المور‪ ،‬وأنه سبحانه‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪110‬‬

‫ينتظر من عباده قيامهم بهذه الشياء لييسر لهم أمورهم‪،‬‬


‫فهو الحي القيوم سريع الحساب‪.‬‬
‫‪‬وََأمّا مَن َبخِلَ وَاسَْتغْنَى وَ َك ّذبَ بِاْلحُسْنَى َفسَنَُيسّرُهُ لِ ْلعُسْرَى‬
‫من هو النسان؟!‪ :‬النسان عندما يترك نفسه بدون تزكية‪،‬‬
‫فإن لديه القابلية للبخل والستغناء عن الله والتكذيب‬
‫بالمعاد‪.‬‬
‫السنن الجتماعية‪ :‬هذا النسان بأفعاله ينطبق عليه قوانين‬
‫المنع والتعسير‪ ،‬والله عز وجل ل يظلم الناس شيئًا ولكن‬
‫الناس هم الذين يظلمون أنفسهم‪ ...‬فالنسان هو النسان‪,‬‬
‫يمكنه أن يعيش في سعادة وتيسير إذا ما ألجم نفسه‬
‫بالتقوى وأنفق من ماله‪ ،‬ويمكنه أن يعيش في ضنك‬
‫وتعسير إذا ما أطلق الزمام لنفسه وسار وراء هواها وظن‬
‫أن بمقدوره الستغناء عن الله‪.‬‬
‫من هو ال؟‪ :‬هو مدبر المور‪ ،‬بيده مقاليد كل شيء‪ ،‬وبيده‬
‫حزن (المكان‬ ‫تيسير المور ‪-‬أي أمور‪ -‬إن شاء جعل ال َ‬
‫المرتفع)‪ ،‬سهل ً منبسطًا هينًا‪.‬‬
‫وتيسير العسير لديه يسير‪ ،‬وهو العدل يجازي بالحسان‬
‫ما‪.‬‬
‫إحسانًا‪ ،‬ويزيد عليه منة وغفرانًا وتيسيًرا وإكرا ً‬
‫سر أمورهم ويضيق‬ ‫وكذلك بيده أن يعاقب البخلء فيُع ِّ‬
‫عليهم‪ ،‬حتى يعودوا إليه ويطرقوا بابه‪ ...‬وهو سبحانه إذ‬
‫يبين لنا حال الفريقين ينبهنا – رحمة بنا وحبًا لنا – إلى ما‬
‫فيه الخير والصلح لنا‪ ...‬فاليات تحمل لنا رسالة تقول‪:‬‬
‫سر لكم أموركم‬ ‫ُ‬
‫أنفقوا وتصدقوا – من رزقي ومالي – أي ِّ‬
‫وأسهلها لكم وأوسع عليكم‪ ،‬ول تبخلوا فأعاقبكم بالتضييق‬
‫والتعسير‪ ،‬فالبداية منكم‪.‬‬
‫‪‬من المناسب هنا أن يتم عرض نماذج قصصية‬
‫للتيسير اللهي للمنفق‪ ،‬وكذلك التعسير للبخيل‪:‬‬
‫كقصة الرجل الذي سمع صوتًا في سحابة يأمرها‬
‫بالمطار على أرض فلن‪ ،‬وتتحرك السحابة إلى‬
‫الفصل‬
‫‪111‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫مكان ما وتمطر فيه‪ ..‬وكان ذلك بسبب دوام‬


‫وكثرة إنفاق صاحب الرض‪.‬‬
‫والصحابة‬ ‫‪‬وكذلك ضرب نماذج لنفاق الرسول‬
‫وعلى رأسهم أبو بكر الصديق‪...‬‬
‫‪‬وَمَا ُيغْنِي َع ْنهُ مَاُلهُ ِإذَا َترَدّى‬
‫من هو النسان؟‪ :‬ضعيف‪ ،‬مسكين‪ ،‬قليل الحيلة‪ ،‬ضيق الفق‪،‬‬
‫فهو يظن أن أمواله تنفعه‪ ،‬أو تصرف عنه الذى والهم‪،‬‬
‫فتراه يهلك نفسه في جمع المال وكنزه‪ ،‬بينما يكتشف‬
‫الحقيقة المرة يوم القيامة وأنها ل تغني عنه شيئًا إذا ما‬
‫وقع في النار وتردى فيها‪ ،‬فهيهات أن ينجيه ماله‪..‬‬
‫ونموذج طغيان المال يتمثل في صاحب الجنتين‪،‬‬
‫وقارون‪ ،‬فهل نفعهما المال؟!‬
‫‪ِ‬إنّ َعلَيْنَا لَلْ ُهدَى‬

‫من هو ال؟!‪ :‬الله سبحانه هو الهادي‪ ،‬هو الذي يبين لعباده –‬


‫بفضله وكرمه – طريق الخير والهدى الذي يوصل إلى جنته‬
‫ورضوانه‪.‬‬
‫والية تؤكد وتجزم بأن الهداية من عند الله وحده‪ ،‬ومع‬
‫من عنده رغبة‬ ‫ذلك فلبد أن نوقن بأن الله عز وجل يهدي َ‬
‫في الهداية‪ ،‬ويريدها ويبحث عنها (البداية من العبد)‪.‬‬
‫أما من ل يريدها ول يبحث عنها فما أبعد الهداية عنه‬
‫فَ َكفَرُوا وََتوَّلوْا وَاسَْتغْنَى الُ ‪.‬‬

‫‪‬وحبذا لو تم عرض قصة فرعون والسحرة؛ فقد‬


‫رأوا جميعًا اليات وانقلب العصا إلى حية عظيمة‪،‬‬
‫فكانت النتيجة إيمان السحرة‪ ،‬وكفر فرعون‪،‬‬
‫فالسحرة رأوا آية تدل على الله‪ ،‬فرغبوا في الله‬
‫فهداهم‪ ،‬وفرعون رأى آية تدل على الله فخاف‬
‫على ملكه وسلطانه واستغنى عن الله‪ ،‬فتركه الله‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪112‬‬

‫لضلله وكفره‪.‬‬
‫‪‬وَِإنّ َلنَا َللَخِرَةَ وَالُولَى‬

‫من هو ال؟‪ :‬هو مالك الملك‪ ،‬يؤتيه من يشاء‪ ،‬وينزعه ممن‬


‫ما – حاشاه – فالبداية‬ ‫يشاء‪ ...‬نعم‪ ،‬ل ينزعه من أحد ظل ً‬
‫ما تكون من العبد َذِلكَ ِبأَنّ الَ َلمْ َيكُ مُغَيّرًا ّن ْع َمةً أَْن َعمَهَا عَلَى َق ْومٍ َحتّى‬ ‫دو ً‬
‫س ِهمْ [النفال‪.]53:‬‬
‫ُيغَيّرُوا مَا ِبأَْنفُ ِ‬
‫يملك سبحانه الدنيا‪ ،‬ويملك الخرة‪ ...‬يدبر المر‪ ،‬وبيده‬
‫مقاليد المور‪.‬‬
‫‪َ ‬فأَْنذَ ْرتُ ُكمْ نَارًا تَ َلظّى‬
‫من هو ال؟!‪ :‬يحب عباده ويشفق عليهم من أن يدخلوا‬
‫النار‪ ،‬لذلك فهو يحذرهم منها‪ ،‬ويهول لهم شأنها فهي‬
‫«تلظى»‪ ,‬وهذا يدل على استمرارية استعارها والتهابها‪...‬‬
‫كل ذلك ليجتنبوا كل ما يوقعهم فيها‪.‬‬
‫لهَا إِلّ ال ْشقَى‬
‫َ‪‬ل َيصْ َ‬
‫من هو النسان؟!‪ :‬قد يصل في شقاقه وعصيانه لله ورسوله‬
‫إلى درجة الشقاء – نسأل الله العافية‪.-‬‬
‫من هو ال؟!‪ :‬الله الودود الذي يطمئن عباده بأن النار لن‬
‫تكون إل للشقياء المكذبين‪.‬‬
‫‪‬وَسَُيجَنّبُهَا الْتقَى اّلذِي ُيؤْتِي مَاَلهُ َيتَزَكّى‬
‫من هو النسان؟‪ :‬كما أنه قد يكون‪ -‬بأفعاله شقيًا أو أشقى‪-‬‬
‫فقد يكون تقيًا أو أتقى (أي شديد التقوى)‪ ,‬وهنا تعطيه الية‬
‫المان من النار(سيجنبها)‪ ,‬ثم تعرف الية بأهم سمة للتقى‬
‫ما في تزكية نفسه من خلل دوام‬ ‫بأنه الذي يسعى دو ً‬
‫إنفاقه‪ ،‬فالفعال في الية بصيغة المضارع (يؤتي – يتزكى)‬
‫ما إلى‬
‫وهي تدل على استمرارية النفاق لحاجة النفس دو ً‬
‫التزكية‪.‬‬
‫الفصل‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬
‫‪113‬‬

‫وفي الية دللة واضحة على أن ثمرة التقوى الحقيقية‬


‫هي دوام النفاق‪ ،‬ودللة كذلك على أن من أهم وسائل‬
‫تزكية النفس دوام النفاق‪.‬‬
‫‪‬من المناسب أن يُذكر هنا حديث مثل المنفق‬
‫جبَّتا الحديد (القصة)‪.‬‬
‫والمتصدق و ُ‬
‫السنن الجتماعية‪ :‬في اليات الربع السابقة تتحقق‬
‫السنة الجتماعية (البداية من العبد)‪:‬‬
‫‪ -‬ناًرا تلظى‪ ..‬من يصلها؟ الشقى الذي كذب وتولى‪.‬‬
‫‪ -‬سيجنبها ؟ التقى الذي يؤتي ماله يتزكى‪.‬‬
‫قصة الوجود‪ :‬الدنيا مكان للختبار والمتحان‪ ،‬والخرة دار‬
‫للجزاء‪ ،‬وأن النجاح في مادة العطاء (المال) يتحقق بإنفاقه‬
‫في أوجه الخير‪ ،‬والرسوب في هذه المادة يتحقق بالبخل‬
‫وعدم النفاق‪.‬‬
‫وكذلك من كذب وتولى عن الله وعن النفاق فالنار‬
‫مصيره‪.‬‬
‫ومن يتقى الله ويزكي نفسه ويداوم على النفاق‬
‫فسيجنبه الله دخول النار ويكرمه بالجنة فضل ً منه وكر ً‬
‫ما‬
‫سوْفَ يَ ْرضَى ‪.‬‬
‫وَمَا ل َحدٍ عِ ْن َدهُ مِن ّن ْعمَةٍ ُتجْزَى إِلّ ابِْتغَاءَ وَ ْجهِ رَّبهِ العْلَى وََل َ‬
‫واجبات العبودية‪ :‬من حق الله على عباده أن تكون أعمالهم‬
‫ابتغاء وجهه العلى‪ ،‬فعليهم أن ينفقوا أموالهم ول ينتظروا‬
‫أي مقابل ممن يعطونهم‪ ،‬بل يكون هدفهم أن يراهم الله‬
‫وهم ينفقون فيرضى عنهم‪.‬‬
‫من هو ال؟‪ :‬الكريم المعطي الذي يُرضي عباده‪ ...‬فالذي‬
‫ينفق من ماله ابتغاء رضاه سبحانه عنه‪ ،‬فهذا ل يرضيه‬
‫ضا‪ ...‬هذا‬
‫المال‪ ،‬فلو جازاه الله بزيادة أمواله لنفقها أي ً‬
‫العبد الصالح سيرضيه الله بما يرضيه‪ ...‬سيرضيه بالسعادة‬
‫والطمأنينة والرضى عن الله ومعرفته والنس به في الدنيا‪،‬‬
‫والقرب في الخرة‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪114‬‬

‫دروس مستفادة‪:‬‬
‫‪-1‬النفاق في سبيل الله وسيلة أكيدة لتيسير‬
‫المور وفتح المغاليق وتفريج الكروب‪.‬‬
‫‪-2‬النفاق وسيلة عظيمة لتزكية النفس‪.‬‬
‫‪-3‬البخل والشح سبب لضيق الصدر والمعيشة‬
‫الضنك وتعسير المور‪.‬‬
‫ما تكون من العبد في تحصيل الهداية‬ ‫‪-4‬البداية دو ً‬
‫أو السعادة أو الشقاء في الدنيا‪ ،‬والجنة والنار‬
‫في الخرة‪.‬‬
‫واجبات عملية‪:‬‬
‫‪-1‬التعود على النفاق بصفة مستمرة‪ ،‬وحبذا لو‬
‫كانت الصدقة يومية‪ ،‬وكلما بكرنا بها كانت‬
‫الفائدة أعم وأوسع‪ ,‬فما من يوم ينشق فجره‬
‫إل وملكان يناديان يُسمعان جميع الخلئق إل‬
‫الثقلين ويقول أحدهما‪« :‬اللهم أعط منفقًا خلفًا»‬
‫ويقول الخر‪« :‬اللهم أعط مسكًا تلفًا»‪.‬‬
‫وحبذا لو خصصنا صندوقًا للصدقة نضع فيه ما نتصدق به‬
‫كل يوم‪ ،‬ثم نعطي ما فيه للمحتاجين كل عدة أيام‪.‬‬
‫سره‬‫‪-2‬النفاق قبل أي أمر نريد إنجازه وتَي َ ّ‬
‫مثل‪:‬إنهاء معاملة رسمية – إصلح بين الناس –‬
‫قبل الختبارات‪...‬‬
‫ضا عند الوقوع في أي ذنب أو‬ ‫‪-3‬النفاق أي ً‬
‫تقصير‪ ،‬لن الذنب يوقع العبد في دائرة‬
‫الغضب اللهي ويجعله عرضة للعقوبة‪ ،‬أما‬
‫الصدقة فهي تطفئ غضب الرب وبالتالي‬
‫تتوقف العقوبة «صدقة السّر تطفئ غضب الرب» كما‬
‫(‪)1‬‬
‫ورد في الحديث‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير ح(‪.)3759‬‬
‫الفصل‬
‫‪115‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫كلمة أخيرة‪ :‬عاش الصحابة مع سورة الليل وتعلموا منها‬


‫أهمية النفاق فكان من سماتهم الساسية كثرة النفاق بل‬
‫(‪)1‬‬
‫حساب‪ ...‬إنفاق من ل يخشى الفقر‪.‬‬
‫مسابقات واختبارات‪:‬‬
‫ومما يساعد على ترسيخ هذه الطريقة والتعود عليها أن‬
‫نربط التشجيع والجوائز لمن يتفوق في استخراج ما في‬
‫اليات من معان إيمانية‪ ،‬وأعمال سلوكية‪ ،‬بجوار الحفظ‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪:‬‬
‫لو أجرينا مسابقة حول سورة النبأ فيمكن تضمينها‬
‫التي‪:‬‬
‫‪-1‬تناولت السورة إثبات حقيقة حدوث البعث‬
‫واليوم الخر بأدلة عقلية منظورة‪ ...‬اذكرها‪.‬‬
‫‪-2‬تناولت السورة مظاهر عديدة للقدرة المطلقة‬
‫لله عز وجل‪ ...‬ما هي؟!‬
‫‪-3‬تناولت السورة مظاهر كثيرة تبين مدى حب‬
‫سا منها‪.‬‬
‫الله لعباده‪ ...‬اذكر خم ً‬
‫‪-4‬اذكر معاني الكلمات التية‪ :‬المعصرات –‬
‫مرصادًا – دهاقًا – ثجا ً‬
‫جا‪.‬‬
‫‪-5‬أشارت السورة إلى حقيقة إيمانية عظيمة‬
‫وهي أن الدنيا دار امتحان‪ ...‬اذكر اليات التي‬
‫تدل على ذلك‪ ،‬مع التعليق عليها‪.‬‬
‫‪-6‬أكمل حتى نهاية السورة‪ :‬إن للمتقين‬
‫مفاًزا‪.....‬‬
‫‪-7‬اذكر بع ً‬
‫ضا من العمال التي يمكننا أن نقوم بها‬
‫من خلل دراستك للسورة‪.‬‬
‫التقييم‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫() يمكن الرجوع إلى كتاب «حياة الصحابة» للكاندهلوي – باب إنفاق الصحابة‬
‫خا‪.‬‬
‫– ونتعرف على أخبارهم في النفاق ليزداد المعنى رسو ً‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪116‬‬

‫خلل مدة الدورة وما سيتم فيها من معايشة‬


‫لفرادها‪ ،‬والتعامل معهم في النقاط الربع‪( :‬وضوح‬
‫الرؤية حول القرآن – المداومة والكثار من تلوة‬
‫القرآن – بناء اليمان من خلل القرآن – مدارسة‬
‫وحفظ الجزاء الثلثة الخيرة)‪ ،‬ومع الختبارات‬
‫والتقويم المستمر لهذه النقاط ستظهر بوضوح‬
‫مستويات الفراد ومدى تفاعلهم مع القرآن‪ ،‬والتغيير‬
‫الذي سيطرأ عليهم‪ ،‬والذي سيظهر بوضوح في‬
‫التعامل مع الدنيا (تجاف)‪ ،‬والخرة (إنابة)‪ ،‬والموت‬
‫(استعداد)‪.‬‬
‫وسيظهر كذلك التفاعل والتغيير من خلل السئلة التي‬
‫يطرحونها‪ ،‬والخواطر اليمانية التي تسيطر عليهم‪،‬‬
‫ويتحدثون بها‪.‬‬
‫وبعد نهاية مدة الدورة من المتوقع أن نجد أمامنا هذه‬
‫الصناف‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬أفراد تأثروا وانتفعوا بالقرآن‪ ،‬إل أنه لم‬
‫يهيمن عليهم هيمنة تامة ولم يصلوا لمرحلة مداومة تلوته‬
‫وعدم إمكانية الصبر عن تلوته بفهم وتأثر‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م لم‬
‫يُحدث تغييرات جوهرية فيهم‪.‬‬
‫هؤلء من الصعب أن يقوموا بمهمة التدريس للفراد‬
‫الجدد‪ .‬ويكفي ما وصلوا إليه من حبهم للقرآن‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬أفراد تأثروا وانفعلوا وهيمن عليهم‬
‫القرآن هيمنة صحيحة‪ ،‬وأحدث فيهم التغيير المطلوب‪ ،‬لكن‬
‫ليست لديهم المكانية لنقل المعلومة‪ ،‬والتدريس‪ ،‬والتأثير‬
‫في الناس‪.‬‬
‫هؤلء يمكن الستفادة بهم في العمال الدارية الخاصة‬
‫بالمراكز القرآنية‪.‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬مثل الصنف الثاني‪ ،‬ولكن لديهم‬
‫المكانية لتعليم الخرين‪.‬‬
‫هؤلء يتم تقسيمهم لقسمين حسب المستوى‪:‬‬
‫الفصل‬
‫‪117‬‬
‫السادس‪ :‬تصور مقترح للمراكز القرآنية‬

‫قسم منهم (الكفأ والكثر تأثًرا وتغيًُّرا) يقوم بمهمة‬


‫إعداد المدرسين الجدد‪ ،‬والشراف الكامل على دورة‬
‫جديدة لعداد المعلمين‪.‬‬
‫والقسم الخر يتولى الشراف والتدريس على الحلقات‬
‫القرآنية‪.‬‬
‫الحلقات القرآنية‪:‬‬
‫يقوم بالشراف عليها وإدارتها أحد الذين تخرجوا من‬
‫دورة إعداد المعلمين وتمت إجازتهم لدارة حلقة قرآنية‪.‬‬
‫مع الخذ في العتبار أن هذه الحلقة ينبغي أل تكتفي‬
‫بالتحفيظ فقط‪ ،‬بل هي نموذج مصغر لدورة إعداد‬
‫المعلمين‪.‬‬
‫فيتم فيها توضيح الرؤيا حول طبيعة القرآن كرسالة‬
‫ومعجزة وكيفية النتفاع به بصورة مبسطة‪.‬‬
‫ويتم فيها متابعة القراءة اليومية للقرآن بفهم وتأثر‪.‬‬
‫ويتم فيها طرح المواضيع اليمانية ليتم بناء اليمان من‬
‫خلل القرآن – كما أسلفنا – ويتم فيها كذلك مدارسة آيات‬
‫القرآن وحفظها بطريقة «اليمان قبل القرآن» والتي تمت‬
‫الشارة إليها سابقًا‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وحبذا لو كانت البداية من الجزء الثلثين‪.‬‬
‫صغار السن والقرآن‪:‬‬
‫بالنسبة للصغار فالتجارب تقول بأنهم يمكنهم أن يدركوا‬
‫المعنى العام لليات بصورة مبسطة‪ ,‬وذلك من سن‬
‫الخامسة أو السادسة‪ ،‬مثلما لديهم المقدرة على التعلم‬
‫في المدرسة والحضانة‪ ،‬وكذلك فهم الفلم الكرتونية‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫‪...‬نعم‪ ،‬علينا أن نخاطبهم على قدر عقولهم ومستوى‬
‫فهمهم‪ ،‬فإدراكهم محدود‪ ،‬ولكن مع هذا الدراك المحدود‬
‫‪1‬‬
‫() نسأل الله عز وجل أن يتم علينا فضله ويكرمنا بالنتهاء من كتابة خواطر‬
‫إيمانية للجزء الثلثين‪ ,‬يتناول جوانب الهداية العشرة والدروس المستفادة‬
‫والواجبات العملية ‪ ،‬يستأنس بها المعلم في حلقته القرآنية‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪118‬‬

‫فإن فطرتهم السليمة تؤهلهم لقبول الحقائق اليمانية‬


‫بسهولة ويسر‪ ،‬فلنستفد من ذلك في غرس المعاني التي‬
‫نريدها ليتعلموا اليمان قبل القرآن‪ ،‬وعلينا أل ّ نسرف في‬
‫كم الحفظ الذي يأخذونه‪ ،‬فيكفي بضع آيات كل عدة أيام‬
‫تُشرح لهم بطريقة مبسطة‪ ،‬وتُعّرِفهم بربهم وبنبيهم‪،‬‬
‫وبأنفسهم‪ ،‬وبعدوهم‪ ،‬وبدنياهم‪ ،‬وآخرتهم‪ ،...‬وليأخذوا منها‬
‫الجانب العملي البسيط ثم يُتابعوا بعد ذلك في أدائه‪.‬‬
‫وشيئًا فشيئًا‪ ،‬وبتكرار المعاني في اليات‪ ،‬سيزداد كم‬
‫الحفظ المصاحب للمعنى ليتخرجوا بعد ذلك حفاظًا للقرآن‬
‫كله أو بعضه‪ ،‬حاملين له حمل ً حقيقيًا‪.‬‬
‫معنى ذلك أننا إذا ما بدأنا مع الولد من سن الخامسة‬
‫أو السادسة في الجزء الثلثين فقد نستمر معهم فيه‬
‫سنتين أو أكثر‪ ،‬نُعل ِّمهم فيه اليمان‪ ،‬ونربطهم بالله عز‬
‫وجل‪ ،‬فإذا ما حفظوا اليات رسخت المعاني داخلهم أكثر‬
‫وأكثر فيزداد إيمانهم‪ ،‬ويعظم قدر الله في نفوسهم‪.‬‬
‫ولقد كانت هذه الطريقة السائدة في عهد النبي‬
‫يقول جندب بن عبد الله‪ :‬كنا مع النبي ونحن فتيان‬
‫حزاير فتعلمنا اليمان قبل القرآن‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن فازددنا‬
‫إيمانًا(‪ ،)1‬وهذا ما جعلهم يمكثون مدة طويلة في حفظ‬
‫السورة كما قال ابن تيمية‪.‬‬
‫‪...‬ومن المناسب استخدام أساليب التشويق والثارة‬
‫في تعليمهم اليمان ليزداد حبهم لله ولكتابه مثل‪ :‬القصة –‬
‫ضرب المثال – الناشيد – التشجيع – المسابقات –‬
‫الرحلت – المواد العلمية خاصة المرئية‪.‬‬
‫وحبذا لو تم اختيار المدرسين – الذين اجتازوا الدورة –‬
‫ممن لديهم المكانات والمواهب التي تؤهلهم للتعامل مع‬
‫هذا السن دون تذمر أو تضجر‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() رواه ابن ماجه بإسناد حسن ‪ ،‬وحزاير جمع حزير ‪ ،‬وهو الشاب الممتلئ‬
‫نشاطًا وقوة‪.‬‬
‫‪‬قراءتين للقرآن‪.‬‬
‫‪‬أيهما أفضل؟‬
‫‪‬الحد القصى لختم القرآن‪.‬‬
‫‪‬المقصود بــ (اقرأ وارق)‪.‬‬
‫‪‬الشيطان والقرآن‪.‬‬
‫‪‬الذي يتعتع له أجران‪.‬‬
‫‪‬التعمق في التدبر‪.‬‬
‫‪‬التلقي المباشر من القرآن‪.‬‬
‫‪‬المحافظة على الحفظ‪.‬‬
‫‪‬تأثر غير العرب بالقرآن‪.‬‬
‫‪‬الذنوب وأمراض القلوب‪.‬‬
‫‪‬ل أجد أثًرا!!‬
‫‪‬مكانة السنة‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪120‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪121‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫تســــــــاؤلت وردود‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫ما للفائدة‪ ،‬فقد تم إلحاق هذا الفصل بالكتاب‬ ‫وإتما ً‬
‫والذي يحوي ردودًا على بعض التساؤلت‪ ,‬التي من المتوقع‬
‫أن تقفز إلى أذهان البعض حول طريقة التعامل مع القرآن‪,‬‬
‫وكيفية تحويل الوجهة نحو النتفاع الحقيقي به‪ ،‬خاصة أن‬
‫تاريخ هجر القرآن كرسالة هادية ومعجزة تغييرية يمتد إلى‬
‫م فليس من السهل على النفس‬ ‫عدة قرون سابقة‪ ،‬ومن ث ّ‬
‫النتقال مما ألفته وتعودت عليه من القراءة السريعة‪ ,‬أو‬
‫العابرة إلى القراءة الهادئة المترسلة المتباكية التي تراعي‬
‫الفهم والتأثر‪.‬‬
‫وقبل أن نبدأ في سرد تلك التساؤلت والجابة عنها‪،‬‬
‫نجد أنه من الضروري التذكير بأمر هام وهو أننا في هذه‬
‫الصفحات نتحدث عن القرآن كنقطة بداية لمشروع نهضة‬
‫المة جمعاء‪ ،‬وكيفية سد الفجوة بين العلم والعمل من‬
‫خلله‪ ،‬وإيقاد شعلة اليمان في القلب‪ ،‬والوصول لحالة‬
‫النتباه واليقظة‪ ،‬وتوليد الدافع الذاتي والطاقة الروحية‬
‫باستمرار‪.‬‬
‫وهذا بل شك ل يمكن حدوثه من خلل الطريقة التي‬
‫نتعامل بها حاليًا مع القرآن والتي تهتم بالشكل فقط‪.‬‬
‫السؤال الول‬
‫قراءتان للقــــــــــرآن‬
‫‪‬سمعنا وقرأنا أن بعض السلف كان يخصص‬
‫ختمتين للقرآن‪ ...‬ختمة للقراءة السريعة من‬
‫أجل تحصيل الجر والثواب‪ ،‬وختمة للتدبر‬
‫فلماذا ل نفعل ذلك فنجمع بين المرين سويًا؟!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫هذا السؤال من أكثر السئلة شيوعًا‪ ،‬والجابة عليه‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪122‬‬

‫تتضمن عدة نقاط‪.‬‬


‫أولً‪ :‬نحن هنا نتحدث عن النطلقة الحقيقية لمشروع‬
‫نهضة المة‪ ,‬الذي يتمثل في كيفية الستفادة من القرآن‬
‫كمصدر دائم ومتفرد لتوليد القوة الروحية في كيان‬
‫المسلم‪ ،‬ومن البديهي أن الذي يقرأ قراءة سريعة بغية‬
‫تحصيل أكبر قدر من الحسنات فقط لن يتم له الفهم أو‬
‫التأثر‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م ل يتحقق له النتفاع الحقيقي بالقرآن‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬نحن نحتاج إلى المعجزة القرآنية وقدرتها على‬
‫التأثير في مشاعر النسان وقلبه‪ ،‬وتوليد القوة الروحية‬
‫فيه‪ ،‬وكل ذلك يستدعي استمرارية تعُّرض القلب للقرآن‪،‬‬
‫أي تكرار القراءة اليومية‪ ،‬فإذا ما جعلنا ختمة التدبر‬
‫مفتوحة الزمن‪ ،‬ل نلتزم بها كل يوم فإننا بذلك نكون قد‬
‫م ل يمكن بأي حال من‬ ‫فقدنا أهم مزية للقرآن‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫الحوال أن يصبح القرآن هو المخرج مما نحن فيه‪ ،‬وكيف ل‬
‫وقد ابتعد المرء عن الستفادة من دوره الخطير في‬
‫التغيير‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬إن كان الماء هو مادة الغيث الذي يسقي الرض‬
‫فيحييها بعد موتها‪ ،‬وينبت فيها الزرع‪ ،‬فإن القرآن هو مادة‬
‫الغيث الذي يسقي القلب بأسباب حياته‪ ،‬فينبت فيه‬
‫اليمان‪ ،‬كما ورد في الدعاء‪« :‬اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا» وربيع‪:‬‬
‫أي غيث‪.‬‬
‫فإن لم تتعرض الرض للماء باستمرار فإنها لن تُنبت‬
‫شيئًا‪ ،‬وكذلك القلب إن لم يتعرض للقرآن باستمرار فلن‬
‫ينبت فيه اليمان الحي اليقظ‪ ،‬ولن تظهر ثماره المرجوة‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬إن فعلنا – كما يقول السائل ‪-‬هذا فمن المتوقع‬
‫أن نكون الختمة السريعة هي الغالبة علينا لنها ل تكلفنا‬
‫شيئًا‪ ،‬ولنها تشعرنا بالرضا عن النفس وتحقيق الذات وذلك‬
‫كلما انتهينا من قراءة سورة أو جزء من القرآن‪ ..‬أما ختمة‬
‫التدبر فهي تحتاج إلى إعداد ذهني وقلبي وقراءة هادئة‬
‫مترسلة و‪ ،.....‬وهذا بلشك ل يُريح النفس وستحاول‬
‫التهرب منه‪ ،‬والتسويف في القيام به باعتبار أن هناك بابًا‬
‫آخر للقراءة السريعة المريحة مفتوح أمامها‪.‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪123‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫صا من‬
‫أما إذا أغلق هذا الباب فلن تجد النفس منا ً‬
‫القراءة الهادئة التي تبحث عن الفهم والتأثر‪.‬‬
‫سا‪ :‬لم يرد عن رسول الله ول عن صحابته‬ ‫خام ً‬
‫الكرام أنهم كانوا يخصصون ختمة للتدبر وختمة للقراءة‬
‫السريعة‪ ،‬بل هي ختمة واحدة تبحث عن الفهم والتأثر‪..‬‬
‫ومعلوم أن رسول الله قدوتنا‪ ،‬وفعل الصحابة هو‬
‫النموذج الصحيح الذي أقره رسول الله ‪.‬‬
‫سا يقرأ‬
‫قيل للسيدة عائشة رضي الله عنها‪ :‬إن أنا ً‬
‫أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلثًا ‪ ،‬فقالت‪ :‬قرؤوا ولم‬
‫يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة‬ ‫يقرؤوا ‪ ،‬كان رسول الله‬
‫البقرة‪ ،‬وسورة آل عمران‪ ،‬وسورة النساء ل يمر بآية فيها‬
‫استبشار إل دعا الله تعالى ورغب‪ ،‬ول يمر بآية فيها تخويف‬
‫(‪)1‬‬
‫إل دعا واستعاذ‪.‬‬
‫وسأل رجل زيد بن ثابت‪ :‬كيف ترى قراءة القرآن في‬
‫سبع؟ فقال زيد‪ :‬حسن‪ ،‬ولئن اقرأه في نصف شهر أو‬
‫عشرين أحب إل َّ‬
‫ي لكي أتدبره‬
‫(‪)2‬‬
‫وأقف عليه‪.‬‬
‫وعن ابن جمرة قال‪ :‬قلت لبن عباس‪ :‬إني سريع‬
‫القراءة وإني اقرأ القرآن في ثلث‪ ،‬فقال‪ :‬لن أقرأ البقرة‬
‫(‪)3‬‬
‫في ليلة فأدَّبرها وأرتلها أحب إل َّ‬
‫ي من أن أقرأ كما تقول‪.‬‬
‫السؤال الثاني‬
‫أيهما أفضـــــــــل؟!‬
‫‪ ‬من الملحظ أن الكثير من المسلمين عندما‬
‫يدخل عليه شهر رمضان تراه وقد شمر عن‬
‫ساعديه محاول ً تحصيل أكبر قدر من الحسنات‬
‫من خلل أدائه لعبادات كثيرة‪ ،‬ويأتي على‬
‫رأسها قراءة القرآن‪ ،‬فتجده وقد حدد لنفسه‬
‫هدفًا بأن يختم القرآن عدة مرات خلل هذا‬

‫‪)( 1‬أخرجه المام أحمد ‪ ،‬وأبو يعلى ‪ ،‬وابن المبارك في الزهد‪.‬‬


‫‪ )(2‬مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ‪ ,‬ص (‪.)149‬‬
‫‪ )( 3‬فضائل القرآن لبي عبيد الهروي‪ ,‬ص (‪.)157‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪124‬‬

‫الشهر دون الهتمام بفهم ما يقرأ فضل ً عن‬


‫التأثر به‪ ...‬فهل الفضل له أن يفعل ذلك‪ ،‬أم‬
‫أن القراءة الهادئة المتأنية التي تبحث عن‬
‫الفهم والتدبر والتأثر دون النظر لعدد الختمات‬
‫هي الفضل؟!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫يجيب عن هذا التساؤل المام ابن القيم في كتابه زاد‬
‫المعاد فيقول رحمه الله‪:‬‬
‫وقد اختلف الناس في الفضل‪ :‬الترتيل وقلة القراءة‪ ،‬أو‬
‫السرعة مع كثرة القراءة‪ ،‬أيهما أفضل‪ ...‬على قولين‪:‬‬
‫فذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما‬
‫وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من‬
‫سرعة القراءة مع كثرتها‪ .‬واحتج أرباب هذا القول بأن‬
‫المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به‪،‬‬
‫وتلوته وحفظه وسيلة إلى معانيه‪ ،‬كما قال بعض السلف‪:‬‬
‫نزل القرآن ليعمل به‪ ،‬فاتخذوا تلوته عملً‪ ،‬ولهذا كان أهل‬
‫القرآن هم العالمون به‪ ،‬والعاملون بما فيه‪ ،‬وإن لم‬
‫يحفظوه عن ظهر قلب‪ ،‬وأما من حفظه ولم يفهمه ولم‬
‫يعمل بما فيه فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة‬
‫السهم‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬ولن اليمان أفضل العمال‪ ،‬وفهم القرآن‬
‫وتدبره هو الذي يُثمر اليمان‪ ،‬وأمامجرد التلوة من غير‬
‫فهم ول تدبر‪ ،‬فيفعلها البُّر والفاجر‪ ،‬والمؤمن والمنافق‪ ،‬كما‬
‫قال النبي ‪«:‬ومثل النافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريانة‪ ،‬ريها طيب وطعمها مر»‬
‫[رواه البخاري]‪.‬‬
‫والناس في هذا أربع طبقات‪ ,‬الولى‪ :‬أهل القرآن‬
‫واليمان‪ ،‬وهم أفضل الناس‪ .‬والثانية‪ :‬من عَدِم القرآن‬
‫واليمان‪ .‬والثالثة‪ :‬من أُوتي قرآنا‪ ،‬ولم يُؤت إيمانًا‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬من أُوتي إيمانًا ولم يؤت قرآنًا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فكما أن من أُوتي إيمانًا بل قرآن أفضل ممن‬
‫ما في‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أوتي قرآنًا بل إيمان‪ ،‬فكذلك من أوتي تدبرا‪ ،‬وفه ً‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪125‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫التلوة أفضل ممن أُوتي كثرة قراءة وسرعتها بل تدبر‪.‬‬


‫وهذا هدي النبي ‪ ،‬فإنه كان يرتل السورة حتى تكون‬
‫أطول من أطول منها‪ ،‬وقام بآية حتى الصباح‪.‬‬
‫وقال أصحاب الشافعي رحمه الله‪ :‬كثرة القراءة أفضل‪،‬‬
‫واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ‪«:‬من قرأ حرفًا من كتاب ال فله به حسنة‪ ،‬والسنة بعشر أمثالا‪ ،‬ل‬
‫أقول ال حرف ولكن ألف حرف‪ ،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف» [رواه الترمذي]‪.‬‬
‫قالوا ولن عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة ‪،)(1‬‬
‫وذكروا آثاًرا عن كثير من السلف في كثرة القراءة‪.‬‬
‫والصواب في المسألة أن يُقال‪ :‬إن ثواب الترتيل‬
‫ل وأرفع قدًرا‪ ،‬وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا‪،‬‬‫والتدبر أج ّ‬
‫فالول‪ :‬كمن تصدق بجوهرة عظيمة‪ ،‬أو أعتق عبدًا قيمته‬
‫نفيسة جدًا‪ ،‬والثاني‪ :‬كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم‪ ،‬أو‬
‫أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة‪ ،‬وفي صحيح البخاري‬
‫سا عن قراءة النبي ‪ ،‬فقال‪ :‬كان‬ ‫عن قتادة قال‪ :‬سألت أن ً‬
‫يمد مدًا‪.‬‬
‫وقال شعبة‪ :‬حدثنا أبو جمرة‪ ،‬قال‪ :‬قلت لبن عباس‪:‬‬
‫إني رجل سريع القراءة‪ ،‬وربما قرأت القرآن في ليلة مرة‬
‫أو مرتين‪ ،‬فقال ابن عباس‪ :‬لن أقرأ سورة واحدة أعجب‬
‫إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل‪ ،‬فإن كنت فاعل ً ولبد‪،‬‬
‫فاقرأ قراءة تُسمع أذنيك ويعيها القلب‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود‪ :‬ل تَهُذُّوا القرآن هذ َّ الشعر‪ ،‬ول تنثروه‬
‫نثر الدقل‪ ،‬وقفوا عند عجائبه‪ ،‬وحركوا به القلوب‪ ،‬ول يك ُّ‬
‫ن‬
‫هم أحدكم آخر السورة‪....‬‬
‫انتهى كلمه رحمه الله‪ ،‬ولعلك أخي القارئ قد أدركت‬

‫‪ )1‬هذا الثر ضعفه الترمذي ‪ ،‬ووافقه اللباني ‪ ،‬ومما يؤكد ذلك أي ً‬


‫(‬
‫ضا أن‬
‫الخبار الكثيرة الواردة عن الصحابة تؤكد أنهم كانوا يقرأون القرآن بترتيل‬
‫وترسل ‪ ،‬وكانوا يوصون من بعدهم بذلك ‪ ..‬قال اللباني ‪ :‬ولقد أحسن المام‬
‫الترمذي برواية هذا الخبر والذي بعده «خبر عثمان بن عفان وخبر سعيد ابن‬
‫جبير» بصيغة التضعيف ‪ ،‬لن الركعة مهما طالت ل يمكن أن يقرأ فيها القرآن‬
‫في‬ ‫الكريم كامًل ‪ ،‬فضًل عما في ذلك من مخالفته لسنة رسول الله‬
‫الركوع والسجود والقيام ‪ ،‬وحاشا لسيدنا عثمان أن يفعل مثل ذلك‪ ,‬ضعيف‬
‫الترمذي لللباني ص (‪.)357‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪126‬‬

‫الفرق بين الطريقتين‪.‬‬


‫أين الثمرة؟‬
‫هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد جربنا القراءة‬
‫السريعة‪ ،‬وكان هم الواحد منا النتهاء من ختم القرآن‪ ،‬بل‬
‫وكان بعضنا يتنافس في عدد المرات التي يختمه فيها‬
‫خاصة في رمضان‪ ،‬فأي استفادة حقيقية استفدناها من‬
‫ذلك؟ وماذا غيّر فينا القرآن؟!‬
‫إن القرآن باللسان فقط دون مشاركة العقل بالفهم‪،‬‬
‫والقلب بالتأثر‪ ،‬كالنخالة كبيرة الحجم قليلة الفائدة‪.‬‬
‫‪ :‬ل خير في قراءة ليس‬ ‫يقول علي ابن أبي طالب‬
‫فيها تدبر‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري‪ :‬كيف يرق قلبك وإنما همك آخر‬
‫السورة؟!‬
‫ويؤكد على هذا المعنى الجري في كتابه «أخلق حملة‬
‫القرآن» فيقول‪:‬‬
‫والقليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب‬
‫إلي من قراءة‬
‫الكثير من القرآن بغير تدبر ول تفكر فيه‪ ،‬وظاهر القرآن‬
‫يدل على ذلك‪ ،‬والسنة‪ ،‬وقول أئمة المسلمين‪.‬‬
‫ولقد سئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران‪،‬‬
‫ورجل قرأ البقرة قراءتهما واحدة وركوعهما‪ ,‬وجلوسهما‪...‬‬
‫أيهما أفضل؟ قال‪ :‬الذي قرأ البقرة‪ ،‬ثم قرأ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لَِتقْرَأَهُ‬
‫عَلَى النّاسِ عَلَى مُكْثٍ [السراء‪. 1 ]106:‬‬
‫( )‬

‫الحافز القوي‪:‬‬
‫إن كان الهدف من قراءة القرآن هو تحصيل الحسنات‬
‫فقط لبحثنا عن أعمال أخرى أكثر ثوابًا منه‪ ,‬ول يستغرق‬

‫‪1‬‬
‫() أخلق حملة القرآن للجري ‪.83‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪127‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫أداؤها وقتًا طويل ً كالتسبيح مثلً (‪ .)2‬ولكن أمر القرآن غير‬


‫ذلك‪ ,‬فلقد أنزله الله ليكون وسيلة للهداية والتغيير‪ ,‬وما‬
‫الجر والثواب المترتب على قراءته إل حافز يشحذ همة‬
‫المسلم لكي يقبل على القرآن‪ ,‬فينتفع من خلل هذا‬
‫القبال باليمان المتولد من الفهم والتأثر‪ ،‬فينصلح حاله‬
‫ويقترب من ربه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬الب الذي يُحفِّز ابنه على مذاكرة دروسه‬
‫من خلل رصد الجوائز له‪...‬‬
‫يقينًا إن هدفه من خلل رصده لهذه الجوائز هو انتفاع‬
‫ابنه بالمذاكرة‪ ،‬وليس مقصده مجرد جلوسه أمام الكتاب‬
‫دون مذاكرة حقيقية‪.‬‬
‫ولله المثل العلى‪ ،‬فلنه سبحانه يحب عباده ويريد لهم‬
‫الخير أنزل إليهم هذا الكتاب الذي يجمع بين الرسالة‬
‫م يستمر‬‫والمعجزة‪ ...‬ولكي يستمر تعاملهم معه ومن ث َّ‬
‫انتفاعهم بما يُحدثه هذا الكتاب من تغيير في داخلهم‬
‫يدفعهم لسلوك طريق الهدى‪ ,‬كانت الحوافز الكثيرة التي‬
‫تُرغّبهم وتحببهم في دوام القبال عليه‪ ،‬ومنها أن لهم بكل‬
‫حرف يقرؤونه عشر حسنات‪.‬‬
‫أيهما أحب إلى الله؟!‬
‫ولنسأل أنفسنا هذا السؤال‪ :‬أيهما أحب إلى الله‪ :‬أن‬
‫نقرأ القرآن كثيًرا‪ ،‬بألسنتنا فقط دون تفهم لخطابه‪ ،‬ول‬
‫تجاوب معه‪ ،‬أم القراءة الهادئة المرتلة التي يفهم من‬
‫خللها القارئ مراد الله من خطابه ويتأثر به‪.‬‬
‫أليس الحب إلى الله هي الصورة الثانية‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م يكون‬
‫الجر والثواب مصاحبًا لها أكثر وأكثر من الصورة الولى؟!‬
‫هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر‪ ،‬فإن القراءة الهادئة‬
‫المرتلة بفهم وتأثر تزيد اليمان‪ ،‬وتولد الطاقة والقوة‬
‫الدافعة للقيام بالعمال الصالحة‪ ،‬فيترتب على القيام بهذه‬

‫‪«:‬من قال سبحان ال وبمده ‪ ،‬ف يوم مائة مرة ‪ُ ،‬حطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد‬ ‫() قال‬ ‫‪2‬‬

‫البحر» متفق عليه‪.‬‬


‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪128‬‬

‫العمال الجر والثواب الكبير‪ ،‬وهذا ل يحدث مع القراءة‬


‫السريعة‪ ...‬قراءة الحنجرة فقط‪.‬‬
‫رمضان والقرآن‪:‬‬
‫فإن قلت‪ :‬لنجعل القراءة الهادئة المتأنية التي تراعي‬
‫الفهم والتأثر في غير رمضان‪ ،‬أما خلل هذا الشهر فينبغي‬
‫أن ننتهز فرصة مضاعفة ثواب العمال فيه فنقرأ أكبر قدر‬
‫ممكن من القرآن‪...‬‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬رمضان فرصة عظيمة للنطلقة القوية‪ ،‬وذوق‬
‫حلوة اليمان من خلل القرآن‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬رمضان يصلح كنقطة بداية لمن يشكو عدم‬
‫وجود همة ورغبة في التعامل مع القرآن بتدبر وتأثر‪..‬‬
‫أما أن يكون التعامل مع القرآن في رمضان بطريقة‬
‫م ل تراعي الهدف الذي‬ ‫تبحث عن الجر فقط‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫نرجوه فهذا معناه أن نظل في أماكننا ندور في حلقة‬
‫مفرغة حول أنفسنا‪ ،‬فقراءة القرآن بفهم وتأثر ينبغي أن‬
‫تصاحبنا طيلة العام‪ ،‬بل إن الحاجة إليها تشتد أكثر وأكثر‬
‫في شهر رمضان باعتبار أنه فرصة جيدة ومناخ مناسب‬
‫لحياء القلب باليمان‪ ،‬ولنعلم جميعًا أننا لو ختمنا القرآن‬
‫في رمضان ختمة واحدة‪ ...‬بتفهم وتأثر فإن أثرها‪ ،‬والثواب‬
‫المترتب عليها سيكون‪ -‬بمشيئة الله‪ -‬أفضل من عشرات‬
‫الختمات بدون فهم وتأثر‪.‬‬
‫يقول ابن القيم‪:‬‬
‫لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لشتغلوا بها‬
‫عن كل ما سواها‪ ،‬فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير‬
‫تدبر وتفهم‪ ،‬وأنفع للقلب‪ ،‬وأدعى إلى حصول اليمان وذوق‬
‫(‪)1‬‬
‫حلوة القرآن‪...‬‬
‫السؤال الثالث‬
‫الحد القصى لختم القرآن‬

‫‪1‬‬
‫() مفتاح دار السعادة ‪.1/553‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪129‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫‪‬بلغنا أنه ينبغي للمسلم أن يختم القرآن على‬


‫ما‪ ،‬ولو‬
‫الكثر مرة كل شهر أو كل أربعين يو ً‬
‫تأخر عن ذلك لصبح هاجًرا للقرآن‪.‬‬
‫فإن فعلنا ذلك فقد يدفعنا هذا المر إلى سرعة‬
‫قراءة القرآن للنتهاء من ختمة في المدة المحددة‪،‬‬
‫م فلن نردد الية التي تؤثر فينا‪ ،‬ولن نتوقف‬ ‫ومن ث َّ‬
‫عند المعاني العظيمة التي يولدها التدبر والتأثر‪...‬‬
‫فكيف نوفِّق بين المرين؟‬
‫الجواب‪:‬‬
‫من الضروري – إن أردنا النتفاع بالقرآن – أن ننشغل‬
‫بتلوته‪ ،‬وأل يمر يوم ل نقرأه فيه مهما كانت الظروف‪ ،‬بل‬
‫إننا نطمع أن نصل لمرحلة تلوته آناء الليل وأطراف النهار‪،‬‬
‫وأل نستطيع الصبر عنه‪ ،‬وأل نشبع منه كما كان حال‬
‫الصحابة رضوان الله عليهم‪.‬‬
‫ومع هذا النشغال فل ينبغي علينا أن نشغل أذهاننا بمدة‬
‫ختمه‪ ،‬فل يوجد دليل صريح يبين الحد القصى لختم‬
‫القرآن‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكنه لما سأله عبد الله بن عمرو بن‬
‫العاص‪ :‬في كم يقرأ القرآن؟ قال‪«:‬ف أربعي يومًا»(‪.)1‬‬
‫يقول محمد أبو شهبة – رحمه الله – في رده على هذه‬
‫المسألة‪:‬‬
‫وليس في الحديث ما يدل على كراهة الختم في أكثر‬
‫من أربعين‪ ،‬والعبارة ليست حاصرة حتى يكون ما عداها‬
‫( ‪)2‬‬
‫ليس من سنته‪.‬‬
‫ومما يؤكد ذلك هو فعل الصحابة رضوان الله عليهم‪.‬‬
‫أخرج ابن أبي داود عن مكحول قال‪ :‬كان أقوياء‬
‫أصحاب رسول الله يقرءون القرآن في سبع‪ ،‬وبعضهم‬
‫‪1‬‬
‫() حسن ‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وأورده اللباني في صحيح الجامع ح(‪، )1261‬‬
‫والسلسلة الصحيحة(‪.)1512‬‬
‫‪2‬‬
‫() المدخل لدراسة القرآن لمحمد أبو شهبة‪ ,‬ص (‪.)438‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪130‬‬

‫في شهر‪ ،‬وبعضهم في شهرين‪ ،‬وبعضهم في أكثر من ذلك‪.‬‬


‫(‪)1‬‬

‫وليس معنى هذا هو التراخي في ختم القرآن‪ ،‬بل إننا‬


‫نطمع في أن يكون الغالب علينا ختمة في سبع أو عشر‬
‫كما كان حال الكثير من الصحابة‪ ،‬ولكن دون وجود سيف‬
‫على رقابنا يدفعنا لسرعة القراءة من أجل النتهاء في‬
‫الوقت المحدد‪.‬‬
‫أخي القارئ‪:‬‬
‫هب أنك قد تأثرت تأثًرا شديدًا بآية من اليات‪ ،‬وعشت‬
‫معها‪ ،‬وأردت أن تكررها مرات ومرات كي تستفيد من اليمان‬
‫الذي يزداد في هذه الفترة‪ ...‬ماذا تفعل حينئذ وأنت تشعر أنك‬
‫مطالب بالنتهاء من كم محدد من القرآن‪ ..‬أليس من المتوقع‬
‫أن تترك ترديد الية وتكرارها من أجل النتهاء من السورة أو‬
‫الجزء؟‬
‫إنك إن فعلت ذلك تكون قد فوّت على نفسك فرصة‬
‫عظيمة لزيادة اليمان وتنوير القلب‪ ،‬وطرد الهوى‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م‬
‫التغيير والستقامة على أمر الله‪.‬‬
‫تأمل معي هذا الخبر الذي يحدثنا عن حال أحد الصحابة‬
‫وهو تميم الداري – رضي الله عنه – مع القرآن وكيف كان‬
‫يفعل مع الية التي تؤثر فيه‪.‬‬
‫عن مسروق قال‪ :‬قال رجل من أهل مكة‪ :‬هذا مقام‬
‫أخيك تميم الداري‪ ،‬لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو كاد أن‬
‫يصبح يقرأ آية من كتاب الله‪ ،‬يركع ويسجد ويبكي أَمْ حَسِبَ‬
‫جعَلَ ُهمْ كَاّلذِينَ آمَنُوا َو َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ َسوَاءً مّحْيَا ُهمْ‬
‫اّلذِينَ اجْتَرَحُوا السّيّئَاتِ أَن نّ ْ‬
‫كمُونَ [الجاثية‪. 2 ]21:‬‬ ‫وَ َممَاتُ ُهمْ سَاءَ مَا َيحْ ُ‬
‫()‬

‫السؤال الرابع‬
‫ما المقصود بـ «اقرأ وارق »؟‬
‫‪1‬‬
‫() التقان في علوم القرآن للسيوطي ‪.1/104‬‬
‫‪2‬‬
‫() دموع القراء لمحمد شومان‪ ,‬ص (‪.)75‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪131‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫‪‬قال رسول الله ‪«:‬يُقال لصاحب القرآن‪ :‬اقرأ‬


‫وارق ورتِّل‪ ،‬كما كنت تُرتل في دار الدنيا‪ ،‬فإن‬
‫منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها»(‪.)1‬‬
‫هل المقصد بذلك القارئ من المصحف‪ ،‬أم الحافظ‬
‫قلب؟!!‬ ‫الذي يقرأ عن ظهر‬
‫الجواب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬حفظ ألفاظ القرآن ل يدل على ما في القلب من‬
‫إيمان‪ ،‬والدليل على ذلك أن هناك اللف من حفاظ‬
‫القرآن‪ ،‬ممن حفظوه إجباريًا في المدارس أو الجامعات أو‬
‫الكتاتيب‪ ،‬تجد أن سلوكهم يبتعد كثيًرا عما يرضي الله‪...‬‬
‫فهل هؤلء الذين يجهلون على الناس‪ ،‬ويرتكبون ما يغضب‬
‫الله‪ ،‬ويتركون بعض أوامره‪ ..‬هل سيقال للواحد منهم اقرأ‬
‫وارق ورتل‪...‬؟!!‬
‫إن هذا الفهم يتنافى مع أصول التفاضل بين الناس التي‬
‫أخبرنا الله عنها أنها مرتبطة باليمان والتقوى إِنّ َأكْ َرمَ ُكمْ عِ ْندَ‬
‫كمْ [الحجرات‪.]13:‬‬
‫الِ أَْتقَا ُ‬
‫ثانيًا‪ :‬الحاديث الواردة في فضل حفظ القرآن – كله أو‬
‫بعضه – مرتبطة بالعمل به‪،‬وفي المقابل نجد الوعيد‬
‫الشديد لمن يحمل القرآن ول يعمل به‪.‬‬
‫روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي‬
‫وفيها‪..« :‬فانطلقنا حت أتينا على رجل مضطجع على قفاه‪ ،‬ورجل قائم على رأسه‬
‫بفهر أو صخرة‪ ،‬يشدخ به رأسه‪ ،‬فإذا ضربه تدهده الجر‪ ،‬فانطلق إليه ليأخذه فل يرجع‬
‫إل هذا حت يلتئم رأسه‪ ،‬وعاد رأسه كما هو‪ ،‬فعاد إليه فضربه‪ ،‬قلت‪ :‬من هذا؟ قال‪:‬‬
‫انطلق‪»...‬‬

‫وفي آخر الحديث‪«:‬والذي رأيته يُشدخ ف رأسه فرجل علمه ال القرآن‪،‬‬


‫(‪)2‬‬
‫فنام عنه بالليل‪ ،‬ول يعمل فيه بالنهار‪ ،‬يُفعل به إل يوم القيامة‪»...‬‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع(‪.)8122‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري في كتاب الجنائز‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪132‬‬

‫إن الفضل العظيم لحفظ القرآن مرتبط ارتباطًا وثيقًا‬


‫بالعمل به‪ ،‬فإن لم يُعمل به كان وبال ً على صاحبه‪ ،‬كيف ل‬
‫وهو يتلو على الناس آيات ل يعمل بها‪ ،‬فيصير ما يقوله في‬
‫واد‪ ،‬وما يفعله في واد آخر‪ ،‬فيصدق عليه قوله ‪«:‬أكثر منافقي‬
‫أمت قراؤها»(‪.)1‬‬
‫‪ ...‬من هنا ندرك تأنِّي الصحابة رضوان الله عليهم في‬
‫حفظ القرآن لدرجة أن عمر بن الخطاب ظل اثنتي عشرة‬
‫سنة يحفظ سورة البقرة‪ ،‬أما ابنه عبد الله فقد حفظها في‬
‫ثماني سنوات‪.‬‬
‫وهذا أبو عبد الرحمن السلمي – وهو من كبار التابعين –‬
‫وكان ممن تتلمذ على يد كبار الصحابة كعبد الله بن مسعود‬
‫يقول‪ :‬إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا‬
‫تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الخرى حتى‬
‫يعلموا ما فيهن من العمل‪ ،‬فتعلمنا العلم والعمل جميعًا‪،‬‬
‫وإنه سيرث القرآن من بعدنا قوم يشربونه شرب الماء‪ ،‬ل‬
‫يجاوز هذا وأشار إلى حنكه(‪.)2‬‬
‫وجمع أبو موسى الشعري الذين قرأوا القرآن وهم‬
‫قريب من ثلثمائة‪ ،‬فعظّم القرآن وقال‪:‬‬
‫إن هذا القرآن كائن لكم ذخًرا وكائن عليكم وزرا‪،‬‬
‫فاتبعوا القرآن ول يتبعكم‪ ،‬فإنه من اتبع القرآن هبط به‬
‫ج به في قفاه فقذفه‬‫على رياض الجنة‪ ،‬ومن اتبعه القرآن ز ّ‬
‫( ‪)3‬‬
‫في النار‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬لو كان هذا المر الوارد في الحديث مرتبطًا بحفظ‬
‫اللفاظ‪ ...‬أتظن أن الصحابة سيفوِّتون هذه الفرصة لعلو‬
‫المنزلة‪ ،‬وهم الذين عايشوا القرآن‪ ،‬وصاحبوا رسول الله‬
‫ما لمراد أقواله ‪.‬‬ ‫‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م فهم أكثر الناس فه ً‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه المام أحمد والطبراني ‪ ،‬والبيهقي ‪ ،‬وصححه اللباني في‬
‫صحيح الجامع (‪ )1203‬والصحيحة(‪.)750‬‬
‫‪2‬‬
‫() فضائل القرآن للفرياني ‪.241/‬‬
‫‪3‬‬
‫()أخلق حملة القرآن لجري ‪.20/‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪133‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫لو تأملنا سيرتهم سنجد أمًرا عجيبًا‪ ...‬سنجد أنهم كانوا‬


‫يتسابقون على كثرة قراءة القرآن أكثر من تسابقهم في‬
‫حفظه‪ ،‬بل إن الحفاظ بينهم كانوا قلة‪.‬‬
‫يقول عبد الله بن عمر‪ :‬كنا صدر هذه المة‪ ،‬وكان‬
‫الرجل من خيار أصحاب رسول الله ما معه إل السورة‬
‫من القرآن أو شبه ذلك‪ ،‬وكان القرآن ثقيل ً عليهم‪ ،‬ورزقوا‬
‫العمل به‪ ،‬وإن آخر هذه المة يخفف عليهم حفظ القرآن‬
‫حتى يقرأه الصبي والعجمي فل يعملون به(‪.)1‬‬
‫والعجيب أنه قد مات الكثير من الصحابة – بل من‬
‫العشرة المبشرين بالجنة – دون أن يتموا حفظ القرآن‪.‬‬
‫أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال‪:‬‬
‫قُتِل عمر ولم يجمع القرآن(‪.)2‬‬
‫ويقول الحسن البصري‪ :‬إن رسول الله توفي وما‬
‫استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله تعالى‬
‫ما له‪ ،‬ومتابعة لنفسهم‬
‫عليهم إل النفر القليل‪ ،‬استعظا ً‬
‫بحفظ تأويله والعمل بمحكمه(‪.)3‬‬
‫وليس معنى هذا هو إهمال الحفظ‪ ،‬بل معناه الجتهاد‬
‫في العمل بما تدل عليه اليات المحفوظة‪ ،‬وعدم‬
‫الستعجال في الحفظ حتى ل يتم إهمال الفهم والعمل‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬الحديث يؤكد على أهمية التأثر بقراءة القرآن‪،‬‬
‫فدرجات الجنة مرتبطة باليمان‪ ،‬ولن كل آية في القرآن‬
‫تحمل نوًرا يزيد اليمان في القلب حين يدخله لذلك كلما‬
‫صل ما فيها من إيمان ارتقى في الجنة‬ ‫تأثر القارئ بآية وح َّ‬
‫درجة‪ ،‬وهذا هو أهم ما يرمي إليه الحديث‪ ،‬فيقال له يوم‬
‫القيامة اقرأ كما كنت تقرأ في الدنيا بترتيل وتفهم وتأثر‪,‬‬
‫فيزداد إيمانك‪ ,‬وترتفع به في الجنة بحسب ما حصلت من‬
‫إيمان في الدنيا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() أخلق حملة القرآن ‪.49/‬‬
‫‪2‬‬
‫() طبقات ابن سعد ‪.3/224‬‬
‫‪3‬‬
‫() الحسن البصري لبن الجوزي(‪.)98‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪134‬‬

‫ولو قرأ المرء القرآن سواء كان عن ظهر قلب أو من‬


‫المصحف دون تأثر وكان همه نهاية السورة أو الورد‪ ،‬ومن‬
‫م لم يزدد بقراءته إيمانًا فهيهات أن يكون داخل ً في دائرة‬
‫ث ّ‬
‫هذا الحديث‪.‬‬
‫من المخاطب؟‪:‬‬
‫وخلصة القول أن المخاطب بهذا الحديث هو من يقرأ‬
‫القرآن سواء عن ظهر قلب‪ ،‬أو من المصحف شريطة‬
‫تفهمه وتأثر بآياته‪ ،‬وبهذا ندرك سر انشغال الصحابة بكثرة‬
‫ضا سر حثه ومتابعته‬ ‫التلوة بتفهم وترتيل‪ ،‬وندرك أي ً‬
‫للصحابة في قراءة القرآن‪ ،‬أكثر من متابعته لحفظهم‪،‬‬
‫ويكفيك أن الله عز وجل طالب نبيه في أكثر من موضع‬
‫بأن يتلو القرآن إِّنمَا ُأمِرْتُ أَنْ َأعُْبدَ َربّ َهذِهِ الَْب ْلدَةِ اّلذِي حَ ّرمَهَا وََلهُ كُلّ‬
‫س ِلمِيَ وَأَنْ أَتْ ُلوَ اْلقُرْآنَ [النمل‪ ]92،91:‬وقوله‪:‬‬ ‫شَ ْيءٍ وَُأمِ ْرتُ أَنْ أَكُونَ ِمنَ اْلمُ ْ‬
‫‪‬وَرَتّلِ اْلقُرْآنَ تَرْتِيلً [المزمل‪.]4:‬‬
‫وليس ذلك فحسب بل نجد القرآن في مواضع أخرى‬
‫يحدد مهمات الرسول والتي تبدأ بتلوة اليات على من‬
‫ُهوَ اّلذِي َبعَثَ فِي ا ُلمّيّيَ رَسُولً مّنْ ُهمْ يَ ْتلُو عَلَ ْي ِهمْ آيَاِتهِ وَيُزَكّي ِهمْ وَُيعَ ّلمُ ُهمُ‬ ‫حوله‬
‫الْكِتَابَ وَاْلحِ ْك َمةَ [الجمعة‪.]2:‬‬
‫نجده يستثير الهمم لكثرة‬ ‫فإذا ما انتقلنا إلى أحاديثه‬
‫قراءة القرآن تأمل قوله «اقرؤوا القرآن‪ ،‬فإنه يأت يوم القيامة شفيعًا‬
‫لصحابه‪.)1( »...‬‬
‫وقوله‪« :‬اقرؤوا القرآن واعملوا به‪ ،‬ول تفوا عنه‪ ،‬ول تغلو فيه‪ ،‬ول تأكلوا به‪،‬‬
‫ول تستكثروا به» (‪.)2‬‬
‫هذه الحاديث وغيرها‪ ،‬وتعامل الصحابة مع القرآن على‬
‫حقيقته ككتاب هداية‪ ،‬وتغيير‪ ،‬ومنبع لليمان يرفع صاحبه‬
‫عند الله كلما تزود منه‪...‬هذا كله جعلهم يتسابقون لقراءته‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح رواه المام أحمد ‪ ،‬والطبراني ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح‬
‫الجامع(‪ )1168‬والصحيحة (‪.)260‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪135‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫أكثر من حفظه‪ ،‬لن الحفظ يتطلب العمل بكل ما تحمله‬


‫اليات‪ ،‬وهذا يحتاج إلى جهد ضخم‪ ،‬ويحتاج كذلك إلى قوة‬
‫إيمانية متدفقة باستمرار تدفعهم إلى هذا العمل‪ ،‬وهذا هو‬
‫المقصد من قول ابن عمر وجندب ابن عبد الله أنهم قد‬
‫تعلموا اليمان قبل القرآن‪ ...‬فتعلم اليمان إنما يكون‬
‫بكثرة التلوة‪ ،‬وتعلم القرآن يكون بحفظ آياته وتعلم ما فيها‬
‫من علم‪ ،‬والقيام بما تدل عليه من عمل‪.‬‬
‫وعندما تعلموا اليمان بكثرة التلوة الصحيحة ساعدهم‬
‫ذلك على تطبيق ما تدل عليه اليات التي يحفظونها‪،‬‬
‫فزادهم هذا التطبيق إيمانًا‪..‬‬
‫يقول جندب بن عبد الله‪ :‬كنا مع النبي ونحن فتيان‬
‫حزاير‪ ،‬فتعلمنا اليمان قبل القرآن‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن‬
‫فازددنا إيمانًا(‪.)1‬‬
‫ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عمر بقوله‪ :‬لقد‬
‫عشنا برهة من دهرنا‪ ،‬وأحدنا يؤتى اليمان قبل القرآن‪،‬‬
‫فتتنزل السورة على محمد فنتعلم حللها وحرامها‪،‬‬
‫وأمرها وزجرها‪ ،‬وما ينبغي أن نقف عليه منها‪ ،‬ثم رأيت‬
‫رجال ً يؤتى أحدهم القرآن قبل اليمان‪ ,‬فيقرأ ما بين فاتحته‬
‫إلى خاتمته ما يدري أمره ول زجره‪ ،‬ول ما ينبغي أن يقف‬
‫عنده‪ ،‬فينثره نثر الدقل؟ (‪.)2‬‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬استطاع البعض منهم أن يستكمل الحفظ‪ ،‬ولكن‬
‫كانوا جميعًا يكثرون من التلوة بآدابها الصحيحة التي من‬
‫شأنها أن تزيد اليمان‪ ،‬وترفع صاحبها عند الله‪.‬‬
‫عن أبي الدراء قال‪ :‬سمعت رسول الله يقول‪« :‬من قرأ‬
‫القرآن ف سبع ليال كُتب من الخبتي» قلنا‪ :‬فمن قرأه في خمس يا‬
‫رسول الله؟ قال‪« :‬إن أخاف أن يعجلكم عن التّفهم‪ ،‬إل أن تصبوا على‬

‫‪1‬‬
‫() رواه ابن ماجه بإسناد حسن ‪ ،‬وحزاير جمع حزير ‪ ،‬وهو الشاب الممتلئ‬
‫نشاطًا وقوة وجلدًا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫()أخرجه الحاكم ‪ ،‬وصححه على شرط الشيخين ‪ ،‬والدقل رديء التمر‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪136‬‬

‫مباكرة الليل‪ ،‬فمن فعل كُتب من القربي» قلنا‪ :‬ففي ثلث يا رسول‬
‫الله؟ قال‪« :‬ل أراكم تطيقون ذلك‪ ،‬إل أن يبدأ أحدكم بالسورة وأكب هه أن ل‬
‫يبلغ آخرها» قلنا‪ :‬فإن أطقناه على تَفَهُّم وترتيل‪ .‬قال‪« :‬فذلك‬
‫الهد من عباده النبيي» قلنا‪ :‬ففي أقل من ثلث يا رسول الله؟‬
‫(‪)1‬‬
‫قال‪«:‬ل تقرؤوه ف أقل من ثلث»‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() أورده الغافقي في كتاب لمحات النوار (‪.)1802‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪137‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫السؤال الخامس‬
‫الشيطان والقــــــــرآن‬
‫‪‬كلما هممت بقراءة القرآن‪ ،‬وفتحت المصحف‬
‫أجد النعاس يغلبني‪ ،‬فإذا ما قاومته وقرأت أجد‬
‫نفسي وقد شردت بفكري في أودية الدنيا‪،‬‬
‫وتذكرت أموًرا لم تخطر على بالي منذ فترة‬
‫طويلة‪...‬فماذا أفعل لجمع عقلي ومشاعري‬
‫مع القراءة؟!!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫السبب الرئيسي وراء هذا كله هو الشيطان‪ ،‬فهو لن‬
‫يتركنا نتعامل تعامل ً صحي ً‬
‫حا مع القرآن وننتفع به‪ ،‬فهو يوقن‬
‫بأن الهدى واليمان والتغيير يتحقق من خلل فهم القرآن‬
‫والتأثر به‪ ،‬فالشيطان هو العدو المبين للبشر‪ ،‬وهدفه الدائم‬
‫هو إضلل الناس جميعًا‪..‬‬
‫ولعلمه بقدر القرآن‪ ،‬ومدى قوة تأثير معجزته لمن‬
‫يتعرض لها باستمرار‪ ،‬فإنه يعمل جاهدًا على صرف الناس‬
‫عن قراءة القرآن حتي يسهل عليه إضللهم‪ ،‬وقد قالها‬
‫سَتقِيمَ [العراف‪,]16:‬‬
‫ما بكل وضوح لَ ْق ُعدَنّ لَ ُهمْ صِرَا َطكَ اْلمُ ْ‬ ‫قدي ً‬
‫والقرآن خير ما يدل على الصراط المستقيم ويأخذ بيد من‬
‫يتمسك به إلى هذا الصراط حتى يصل به إلى منتهاه وَأَنّ‬
‫إِلَى رَّبكَ اْلمُنتَهَى [النجم‪.]42 :‬‬
‫فإن جاهد البعض الشيطان وبدأ في القراءة‪ ،‬فإنه ل‬
‫يتركه ليفلت منه ويمسك بحبل القرآن‪ ،‬بل يعمل جاهدًا‬
‫على أن يصرف ذهنه عن فهم ما تضمنته اليات من معان‬
‫هادية‪ ،‬ومدخله لذلك هو تزيينه فوائد القراءة السريعة وما‬
‫سيجني من ورائها من حسنات كثيرة‪.‬‬
‫فإن جاهده القارئ‪ ،‬واجتهد أن يُعمل عقله فيما يقرأ‪،‬‬
‫حاول أن يجعل عقله يشرد مع كلمة من كلمات القرآن‬
‫الذي يقرؤه‪ ،‬فيذ ِكّره من خللها بموقف من مواقفه‬
‫السابقة‪ ،‬فينشغل لسانه بالقراءة‪ ،‬أما عقله ففي واد آخر‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪138‬‬

‫فإن جاهده القارئ‪ ،‬ولم يسمح بشرود ذهنه مع القراءة‪،‬‬


‫فإنه يدخل عليه من باب التعمق في فهم كل كلمة يقرؤها‪،‬‬
‫ليصبح القرآن بذلك مخاطبًا لعقله فقط‪ ،‬دون أن يؤثر في‬
‫م تصبح ثمرة قراءته زيادة معارفه العقلية دون‬‫قلبه‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫زيادة لليمان في قلبه‪.‬‬
‫وهكذا يجتهد الشيطان في صد الناس عن النتفاع‬
‫بالقرآن‪..‬‬
‫والعجيب أن العبادة الوحيدة التي أمرنا الله عز وجل أن‬
‫نستعيذ به من الشيطان قبل القيام بها هي تلوة القرآن‬
‫َفإِذَا َقرَْأتَ اْلقُرْآنَ فَاسَْت ِعذْ بِالِ ِمنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ [النحل‪.]98:‬‬
‫فقبل أن يشرع الواحد منا في الذكر أو الصيام أو أداء‬
‫العمرة‪ ،‬أو إخراج الصدقة‪ ،‬فإنه غير مطالب بأن يستعيذ‬
‫بالله من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫‪ ...‬إنه أمر يلفت النتباه‪ ..‬لماذا القرآن دون غيره من‬
‫العبادات؟!‬
‫أليس في هذا المر دللة على قيمة القرآن ودوره‬
‫م فالشيطان يجتهد في‬‫الخطير في الهداية والتغيير‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫إبعاد الناس عنه؟!‬
‫يقول ابن هبيرة‪ :‬ومن مكايد الشيطان تنفير عباد الله‬
‫عن تدبر القرآن‪ ،‬لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر(‪.)1‬‬
‫من هنا تتضح لنا أهمية الستعاذة بالله من الشيطان‬
‫قبل التلوة‪ ،‬فجوهر الستعاذة هو طلب حماية الله لنا من‬
‫الشيطان‪ ،‬واستدعاء معونته سبحانه في صرف هذا العدو‪.‬‬
‫لذلك علينا – كي نتغلب على هذه العقبة – أن نهرع إلى‬
‫الله‪ ،‬ونلح عليه في الدعاء بأن يصرف عنا الشيطان وذلك‬
‫قبل الشروع في قراءة القرآن‪ ،‬وكذلك كلما شردت أذهاننا‬
‫خلل القراءة‪.‬‬
‫ضا فإن اللتزام بالوسائل النبوية في قراءة القرآن لها‬
‫أي ً‬

‫‪1‬‬
‫() تدبر القرآن للسنيدي‪ ,‬ص (‪.)48‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪139‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫دور كبير في جمع العقل والمشاعر مع القراءة؛ ومن ذلك‬


‫النشغال بالقرآن‪ ،‬والتهيئة الذهنية من خلل الوضوء والسواك‬
‫والقراءة في مكان هادئ قدر المستطاع‪ ،‬والتهيئة القلبية‬
‫ضا القراءة من المصحف‪ ،‬وبترتيل‪،‬‬ ‫بالتباكي مع القراءة‪ ،‬وأي ً‬
‫ضا الفهم الجمالي لليات‪ ،‬والتجاوب مع‬ ‫وبصوت مسموع‪ ،‬وأي ً‬
‫الخطاب القرآني بالرد على السئلة‪ ,‬وسؤال الله الجنة‬
‫والستعاذه من النار‪ ،‬وأخيًرا ترديد الية التي تؤثر في القلب‪..‬‬
‫وقبل هذا كله علينا أل نستجيب لوساوس الشيطان‬
‫بترك القراءة‪ ،‬بل نقاوم ونقاوم ونستعين بالله عليه‪.‬‬
‫السؤال السادس‬
‫«الذي يتعتع له أجران»‬
‫‪ ‬هناك بعض الحاديث التي يظن البعض أنها‬
‫تدعو لقراءة القرآن لمجرد القراءة – دون تدبر‬
‫– كقوله ‪«:‬لاهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البرة‪ ،‬والذي‬
‫يقرؤه ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»(‪.)1‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫المتأمل للحديث السابق ل يجد فيه ما يدل على ما‬
‫فهمه صاحب السؤال‪ ،‬بل العكس‪.‬‬
‫فالحديث يبين أهمية تعلم أحكام التلوة‪ ,‬والتي تعتبر‬
‫حا ضروريًا للنتفاع بالقرآن‪...‬‬
‫مفتا ً‬
‫فتلوة القرآن حق تلوته – كما يقول أبو حامد الغزالي‬
‫– هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب‪ ،‬فحظ اللسان‬
‫تصحيح الحروف بالترتيل‪ ،‬وحظ العقل تفسير المعاني‪،‬‬
‫وحظ القلب التعاظ والتأثر بالنزعاج والئتمار‪ ...‬فاللسان‬
‫( ‪)2‬‬
‫يرتل‪ ،‬والعقل يترجم‪ ،‬والقلب يتعظ‪.‬‬
‫ولن الترتيل علم يحتاج إلى ممارسة لفترة ليست‬
‫بالقصيرة كي يتقنه النسان‪،‬فإن من المتوقع أل يصبر عليه‬
‫الكثيرون حتى يتعلموه ويتقنوه‪ ،‬لذلك كان التشجيع النبوي‬
‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫() إحياء علوم الدين ‪.442 /1‬‬ ‫‪2‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪140‬‬

‫ن له أجرين حتى يستمر في التعلم ول يتركه‪،‬‬ ‫للمبتدئ بأ ّ‬


‫م تحسن استفادته بالقرآن‪.‬‬ ‫ومن ث ّ‬
‫أما الفهم والتأثر فليس له علقة بالتعتعة‪ ،‬أي أن الماهر‬
‫بالقرآن‪ ،‬والذي يتعتع فيه عليهما أن يفهما ما يقرآنه‬
‫ويجتهدا في التأثر به‪ ..‬فالحديث يقول‪« :‬والذي يقرؤه ويتعتع فيه»‬
‫والمتبادر للذهن عند سماع كلمة «يقرأ» هو‪ :‬إعمال العقل‬
‫ن‪ ،‬ولقد مر علينا‬ ‫في اللفاظ لدراك ما ترمي إليه من معا ٍ‬
‫ذلك في الفصل الخامس بشيء من التفصيل‪.‬‬

‫السؤال السابع‬
‫التعمــق في التدبـــــر‬
‫‪‬تدبر القرآن يجعلني أقف كثيًرا عند كل كلمة‬
‫وكل آية‪ ،‬مما يجعلني ل أتجاوز بضع آيات في‬
‫لقائي بالقرآن‪ ،‬وهذا المر يسبب لي ضيقًا في‬
‫نفسي‪ ،‬وشعوًرا بصعوبة المر‪.‬‬
‫فماذا أفعل؟!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫غاية التدبر هو إدراك المعنى الذي ترمي إليه الية‪،‬‬
‫والتدبر وحده ل يكفي لنشاء وإنبات وزيادة اليمان في‬
‫القلب‪ ،‬وإل لقرأنا القرآن بدون ترتيل‪ ،‬وبأعيننا فقط مثلما‬
‫نقرأ في أي كتاب‪ ،‬ولكن لن غاية التلوة هي الفهم والتأثر‪،‬‬
‫كانت الوسيلة هي التدبر والترتيل‪ ،‬مع الخذ في العتبار‬
‫بأن التأثر الذي يول ِّد اليمان لبد وأن يمر من بوابة الفهم‬
‫جمِيَ َفقَرَأَهُ عَلَ ْيهِم مّا كَانُوا ِبهِ‬
‫كما قال تعالى‪ :‬وََلوْ نَزّْلنَاهُ َعلَى َب ْعضِ العْ َ‬
‫مُ ْؤمِنِيَ [الشعراء‪.]199 ، 198:‬‬
‫ولكن الوصول لدرجة التأثر يستدعي استمرارية‬
‫القراءة‪ ،‬والسماح لليات بأن تنساب داخل القلب‪ ،‬ويتصاعد‬
‫تأثيرها شيئًا فشيئًا‪ ،‬فيستمر الطرق على المشاعر حتى‬
‫تصل لدرجة التجاوب والتأثر‪ ،‬وهذا يستلزم عدم التوقف‬
‫عند كل كلمة وإل لما حدث التأثر‪.‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪141‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫علينا – إذ ًا‪ -‬أن نقرأ اليات ونفهم ما تدل عليه بصورة‬


‫إجمالية‪ ،‬وأن نمرر ما ل نفهمه من آيات حتى يتسنى لنا‬
‫بلوغ مرحلة التأثر‪ ,‬التي يحتاج الوصول إليها كثرة مرور‬
‫اليات على المشاعر‪ ،‬ودوام الطرق عليها‪ ..‬وهذا ما أوصى‬
‫به عندما رأى بعض الصحابة يختلفون فيما بينهم في‬
‫معنى آية من اليات فقال لهم‪«:‬إن القرآن ل ينل يُكذب بعضه بعضًا‪،‬‬
‫بل يصدق بعضه بعضا‪ ،‬فما عرفتم منه فاعملوا به‪ ،‬وما جهلتم فردوه إل عاله»(‪.)1‬‬
‫وقال عبد الله بن مسعود‪ :‬إن للقرآن مناًرا كمنار‬
‫الطريق‪ ،‬فما عرفتم منه فتمسكوا به‪ ،‬وما يشبه – أو قال‬
‫ُ‬
‫شبّه عليكم – فكلوه إلى عالمه (‪.)2‬‬
‫انتبه‪:‬‬
‫وفي المقابل فإننا حين نقف عند كل كلمة ونحاول سبر‬
‫ما‬
‫أغوارها‪ ،‬والغوص في معانيها فإننا بل شك سنفهم فه ً‬
‫عميقًا‪ ،‬ولكن دون تأثر‪ ،‬ولن نتجاوز في القراءة بضع آيات‬
‫م يؤدي‬ ‫ولن نشعر من خلل القراءة بحلوة اليمان‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫ذلك بنا إلى الفتور والضيق بل والستجابة للحاح النفس ‪-‬‬
‫ومن ورائها الشيطان ‪ -‬بالعودة إلى الطريقة القديمة التي‬
‫تبحث عن النتهاء من قراءة أكبر قدر ممكن دون تدبر ول‬
‫تأثر‪.‬‬
‫‪ ...‬إذ ًا فالمطلوب تدبر عام وإجمالي لليات‪ ،‬وأل نقف‬
‫عند كل كلمة ل نعرف معناها‪ ،‬بل نعمل على إدراك المعنى‬
‫العام من السياق حتى يستمر انسياب اليات داخلنا‬
‫ويتصاعد تأثيرها شيئًا فشيئًا على المشاعر فيحدث التأثر‪.‬‬
‫ماذا أفعل إن لم أتأثر؟‪:‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكني قد أقوم بذلك ول أتأثر باليات‪ ،‬فهل‬
‫أقوم بإعادة اليات التي لم أتأثر بها؟!‬
‫التأثر هو رقة القلب‪ ،‬وانفعال المشاعر مع القراءة‪ ،‬وهو‬

‫‪1‬‬
‫() رواه المام أحمد وابن ماجه‪.‬‬
‫() فضائل القرآن لبي عبيد‪ ,‬ص (‪.)99‬‬ ‫‪2‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪142‬‬

‫نادر الحدوث في البداية لبتعاد القلوب مدة طويلة عن‬


‫القرآن‪ ،‬لذلك علينا أن نصبر ول نمل‪ ،‬ول نقوم بإعادة ما لم‬
‫نتأثر به‪ ،‬بل نسترسل في القراءة‪ ،‬ونلتزم بالوسائل النبوية‬
‫المشار إليها سلفًا مع دعاء الله بأن يفتح قلوبنا لغيث‬
‫القرآن‪.‬‬
‫فإن فعلنا ذلك فستأتي تلك اللحظات السعيدة‪ ...‬إنها‬
‫لحظات التأثر معلنة فتح قلوبنا لنور القرآن‪ ،‬فإذا داومنا‪،‬‬
‫وأكثرنا من التلوة ازدادت أوقات التأثر ورقة القلب حتى‬
‫تصل إلى ما وصل إليه أبو بكر الصديق‪ ...‬فقد كان إذا بدأ‬
‫قراءة القرآن ل يملك دمعه‪.‬‬
‫أخرج المام مسلم في صحيحه عن عائشة قالت‪ :‬لما‬
‫دخل رسول الله × بيتي قال‪«:‬مروا أبا بكر فليصل بالناس‪ ,‬قالت‪:‬‬
‫فقلت يا رسول الله‪ ،‬إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن‬
‫ل يملك دمعه‪...‬‬
‫فلنصبر ولنصبر حتى يأتي التأثر‪ ،‬ومن المعينات التي‬
‫تستجلبه وتستدعيه‪ :‬دعاء الله بإلحاح أن يرزقنا فهم اليات‬
‫والتأثر بها‪ ،‬وكذلك التباكي له دور كبير في استجلب التأثر‪,‬‬
‫وتحسين الصوت بالقراءة قدر المستطاع‪ ،‬والستفادة من‬
‫جا للمشاعر مثل سماع خبر أو رؤية‬ ‫أي وقت نجد فيه تأج ً‬
‫منظر مؤثر‪ ..‬ففي هذا الوقت تكون المشاعر مهيأة‬
‫لستقبال القرآن والتأثر به أكثر من أي وقت آخر‪...‬‬
‫ومع هذا كله يبقى النشغال بالقرآن وطول المكث معه‬
‫أكبر عامل يستدعي التأثر ويطيل زمنه‪.‬‬
‫السؤال الثامن‬
‫التلقي المباشر من القرآن‬
‫‪‬هناك خطورة شديدة من التلقي المباشر من‬
‫القرآن‪ ,‬وما حدث للخوارج يشهد بذلك‪ ...‬فماذا‬
‫نفعل؟!! هل نترك التدبر؟!!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬هناك خطورة شديدة لمن يستنبط الحكام‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪143‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫الشرعية من القرآن بمفرده دون أن يكون مؤهل ً لذلك‪..‬‬


‫فاستنباط الحكام من القرآن وظيفة العلماء المختصين‬
‫والمؤهلين‪ ،‬أما من هم دونهم فعليهم أن يرجعوا إلى كتب‬
‫التفسير والفقه لمعرفة ما تدل عليه اليات من أحكام‬
‫شرعية‪.‬‬
‫‪ ..‬أما التدبر‪ ..‬أما الروح‪ ..‬أما الطاقة الروحية فلن تتولد‬
‫إل باللقاء المباشر مع القرآن من قِبَل العامة والخاصة‪.‬‬
‫إذن فل تعارض بين المرين‪..‬‬
‫ومما يؤكد هذا المعنى أن الله أمر الجميع بتدبر القرآن‬
‫– كل حسب مستواه – فكيف نؤمر بشيء ل نستطيعه؟!‬
‫إن الجانب التشريعي في القرآن ل يتجاوز جزءًا من‬
‫عشرة أجزاء من آيات القرآن‪ ،‬ونحن نُسل ِّم بأن هذا الجزء‬
‫من اختصاص العلماء وفيه ورد النهي الشديد «ومن قال ف القرآن‬
‫برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(‪.)1‬‬
‫أما بقية الجزاء التسعة فالمجال مفتوح للجميع‪.‬‬
‫هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى يبقى أهم ضابط للتلقي‬
‫المباشر من القرآن‪ ,‬وهو معرفة معاني اللفاظ الغريبة‬
‫حتى يستقيم الفهم‪ ،‬ولعل في عصرنا هذا قد تيسر وجود‬
‫المصاحف التي كتب على هامشها معاني الكلمات الغريبة‪,‬‬
‫فيتمكن القارئ من فهم معناها وهو يقرأ دون أن يقطع‬
‫القراءة‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م ل ينقطع حبل تأثره‪.‬‬
‫السؤال التاسع‬
‫المحافظة على الحفــــــــظ‬
‫‪‬بفضل الله حفظت القرآن‪ ،‬ولخوفي من‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الترمذي(‪ ,)4023‬وقال حديث حسن‪.‬‬
‫يقول الدكتور يوسف القرضاوي في بيان معنى التحذير الوارد في الحديث ‪:‬‬
‫والجواب عن الحديث – إن صح – أنه محمول على وجهين‪ ,‬الول ‪ :‬أن يُراد‬
‫بالرأي الهوى ‪ ،‬فهو يجر القرآن جًرا لتأييد ما يهواه وما يميل إليه‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬أن يكون معنى الحديث ‪ :‬أن يهجم على تفسير القرآن دون أن‬
‫يتأهل له بما يلزم من أدوات التفسير‪ ،‬وشروط المفسرين‪ ,‬انظر‪ :‬كيف‬
‫نتعامل مع القرآن العظيم‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪144‬‬

‫نسيانه أصبح كل همي هو كيفية المحافظة‬


‫على هذا الحفظ‪ ،‬مما يضطرني للقراءة‬
‫السريعة بغية المراجعة وتثبيت الحفظ‪ ،‬مع‬
‫العلم بأنني ل أراعي التدبر أو التأثر في هذه‬
‫القراءة‪ ...‬فماذا أفعل؟!!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫حفظ القرآن وسيلة لتيسير النتفاع به‪ ،‬وليس غاية في‬
‫حد ذاته‪ ،‬وإل لندفع الصحابة للحفظ – كما أسلفنا – ومع‬
‫ذلك فله أهميته العظيمة في القيام بالقرآن في الصلة‪،‬‬
‫وفي المامة بالناس‪ ،‬ومن الخطورة بمكان أن تصبح‬
‫م الحافظ منصبًا على كيفية‬ ‫الوسيلة غاية‪ ،‬ويكون ه ّ‬
‫المحافظة على حفظه‪ ،‬مع الخذ في العتبار بأن الذي يزيد‬
‫اليمان‪ ،‬ويرفع الدرجات عند الله‪ ،‬ويغير في سلوك الفرد‬
‫هو تدبر القرآن والتأثر به سواء كانت القراءة من المصحف‬
‫أو عن ظهر قلب‪ ،‬فإن لم يصاحب القراءة ذلك‪ ..‬كانت‬
‫الخطورة بأن يصبح القرآن حجة علينا ل لنا‪.‬‬
‫من هنا كان من الضروري اللقاء المباشر مع القرآن‪،‬‬
‫وحبذا لو كانت القراءة من المصحف حيث التركيز أشد‪،‬‬
‫والتأثر أسرع استجلبًا‪....‬‬
‫وعندما ننشغل بكثرة تلوة القرآن فإن هذا يؤدي إلى‬
‫تثبيت الحفظ‪ ،‬وكيف ل والتدبر وهيمنة اليات على العقل‬
‫والمشاعر‪ ،‬وكثرة تكرارها من شأنه أن يجعل المرء في‬
‫حالة من النتباه والتركيز‪ ,‬ومن ث َّ‬
‫م يثبت حفظه أكثر وأكثر‪.‬‬
‫ول بأس من تخصيص وقت للمراجعة – غير وقت‬
‫القراءة المباشرة من المصحف‪ -‬على أن يكون الحد‬
‫الدنى للقراءة هو فهم ما نقرأ كما قال ابن عباس لبي‬
‫جمرة‪ ..‬إن كنت فاعل ً (للقراءة السريعة) فاقرأ قراءة‬
‫(‪)1‬‬
‫تسمعها أذنك ويعيها قلبك‪.‬‬
‫ذّر نفسي وإياك أن يطغى ذلك على وقت‬ ‫ولكن أح ِ‬
‫القراءة اليومية من المصحف‪ ,‬والتي تهدف إلى التدبر‬
‫() فتح الباري ‪.110 /9‬‬ ‫‪1‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫تساؤلت وردود‬
‫‪145‬‬

‫والتأثر ومن ث َّ‬


‫م زيادة اليمان وتوليد القوة الروحية‪.‬‬

‫السؤال العاشر‬
‫تأثر غير العرب بالقرآن‬
‫‪‬إن كان الفهم ضروريًا للتأثر ومن ث َّ‬
‫م زيادة‬
‫اليمان‪ ،‬فكيف نفسر تأثر غير الناطقين‬
‫بالعربية بالقرآن؟!!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬اليمان محله القلب‪ ،‬ومن تعريفات القلب أنه‬
‫مجمع المشاعر داخل النسان‪ ،‬واليمان ينشأ في القلب‬
‫ويستحوذ على جزء من المشاعر عندما يتم التجاوب بين‬
‫حقّ مِن‬
‫الفكر(الفهم) والعاطفة (التأثر)‪‬وَلَِيعْ َلمَ اّلذِينَ أُوتُوا اْلعِ ْلمَ أَّنهُ الْ َ‬
‫رّّبكَ فَُي ْؤمِنُوا ِبهِ فَُتخْبِتَ َلهُ قُلُوبُ ُهمْ [الحج‪.]54:‬‬
‫فل بديل عن الفهم‪ ،‬ول بديل عن تجاوب المشاعر مع‬
‫هذا الفهم إن أردنا زيادة اليمان في القلب‪ ،‬والذي يؤكد‬
‫جمِيَ َفقَرَأَهُ َعلَيْهِم مّا‬
‫هذا المعنى قوله تعالى وََلوْ َنزّلْنَاهُ عَلَى َبعْضِ ال ْع َ‬
‫كَانُوا ِبهِ مُ ْؤمِنِيَ [الشعراء‪.]199 ، 198:‬‬
‫فاليات تدل دللة واضحة أن السبب الساسي لعدم‬
‫إيمان هؤلء هو عدم فهمهم للخطاب القرآني لنهم أعاجم‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬أما بخصوص تأثر غير الناطقين بالعربية بسماع‬
‫القرآن‪ ،‬فهذا أمر حقيقي ومتكرر‪ ،‬ومنشأ هذا التأثر ليس‬
‫جا عن فهمهم لمعاني القرآن وتجاوب مشاعرهم معها‪,‬‬ ‫نات ً‬
‫لنهم ل يعرفون اللغة العربية‪ ،‬وإنما ينشأ هذا التأثر من وقع‬
‫نظم القرآن وجرسه في نفوسهم‪ ،‬والذي سماه الشيخ‬
‫محمد عبد الله دراز بالقشرة الخارجية للقرآن‪ ،‬أو الجمال‬
‫التوقيعي في لغة القرآن ‪ -‬كما مر علينا في الفصل الرابع‬
‫‪ ...-‬هذا التأثر له دور كبير في استجلب السكينة اللحظية‬
‫التي يشعر بها هؤلء‪ ،‬لكنه كما –أسلفنا – ل ينشئ اليمان‪.‬‬
‫السؤال الحادي عشر‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪146‬‬

‫الذنـــوب وأمراض القلـــــــــوب‬


‫‪‬كيف أدخل إلى القرآن‪ ،‬والذنوب تتلبس بي‪،‬‬
‫والهوى يخنقني‪ ،‬والمراض تمل قلبي؟!‬
‫أليس من الضروري أن أتطهر من هذا كله أول ً قبل‬
‫الدخول لعالم القرآن؟!!‬
‫الجواب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إن كان المر كذلك‪ ،‬فما هو دور القرآن إذن؟!!‪،‬‬
‫صدُورِ‬
‫ألم يصفه الله عز وجل بأنه دواء‪ ،‬وأنه وَ ِشفَاءٌ ّلمَا فِي ال ّ‬
‫[يونس‪.]57:‬‬
‫فمن خصائص المعجزة القرآنية أنها دواء لمراض‬
‫سمَاءِ مَاءً‬
‫القلوب‪ ،‬ومطهرة للذنوب‪ ،‬وطاردة للهوى أَنْزَلَ مِنَ ال ّ‬
‫فَسَالَتْ َأوْدَِيةٌ ِب َقدَ ِرهَا فَاحَْتمَلَ السّيْلُ زََبدًا رّابِيًا [الرعد‪.]17:‬‬
‫‪ ...‬القرآن غيث للقلب‪ ،‬كما أن الماء غيث للرض‪...‬‬
‫ومهما أجدبت الرض فإن استمرار تعرضها للماء يجعلها‬
‫تنبت الزرع‪.‬‬
‫‪ ...‬نعم‪ ،‬النبات يكون في البداية ضعيفًا لكن شيئًا فشيئًا‬
‫ض َبعْدَ مَ ْوِتهَا قَ ْد َبّينّا لَكُمُ ا َليَاتِ لَعَلّكُمْ‬
‫حيِي الَ ْر َ‬
‫ل يُ ْ‬
‫يزداد ويزداد اعْ َلمُوا َأنّ ا َ‬
‫َتعْقِلُونَ [الحديد‪.]17:‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول مالك بن دينار‪ :‬إن القرآن ربيع‬
‫المؤمن‪ ،‬كما أن الغيث ربيع الرض‪ ،‬فقد ينزل الغيث من‬
‫ش‪ ،‬فتكون فيه الحبّة‪ ،‬فل‬ ‫ح َّ‬
‫السماء إلى الرض فيصيب ال ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫يمنعها نَتن موضعها أن تهتز وتخضر‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هل هذا ما حدث مع الصحابة؟!! هل طُلب منهم‬
‫تطهير قلوبهم أول ً قبل التعامل مع القرآن‪.‬؟!!‬
‫أم أنهم تعاملوا معه مباشرة‪ ،‬فقام القرآن بتطهير‬
‫قلوبهم‪ ،‬وإنبات اليمان فيها‪ ،‬وطرد الهوى منها شيئًا فشيئًا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() العقوبات لبن أبي الدنيا‪ ,‬ص (‪.)66‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪147‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫ثالثًا‪ :‬ومتى يظن المرء أنه قد أصلح نفسه وطهَّر‬


‫ما‪ ،‬كيف ل‬ ‫قلبه؟!‪ ..‬إنه إن ظن ذلك فقد خسر خسرانًا عظي ً‬
‫وعلى المسلم أن يديم إساءة الظن بنفسه‪ ،‬وأن يجاهد‬
‫هواه حتى يأتيه الموت‪..‬‬
‫سئلت السيدة عائشة‪ :‬متى يكون الرجل مسيئًا؟ قالت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫إذا ظن أنه محسن‪.‬‬
‫معنى ذلك أننا إن سلمنا بما يطرحه السائل فلن نتعامل‬
‫مع القرآن طيلة حياتنا‪.‬‬
‫أخي القارئ‪:‬‬
‫أقبل على القرآن ول تخف‪ ،‬واترك زمامك له فسيقوم بأداء‬
‫دوره الذي يعرفه جيدًا في تطهير قلبك وتنويره‪ ،‬وملئه‬
‫باليمان‪ ،‬شريطة أن تُقبل عليه إقبال الملهوف‪ ،‬الباحث عن‬
‫النور واليمان‪ ،‬وأن تعطيه الكثير من وقتك‪ ،‬وأل تستعجل‬
‫ما ستظهر لو داومت على تعريض قلبك للقرآن‬ ‫الثمرة‪ ،‬فحت ً‬
‫من خلل الفهم والتأثر والتباكي مع القراءة‪.‬‬
‫حزن‪ ،‬ول تجفوا عنه‪،‬‬
‫يقول حذيفة‪ :‬اقرؤوا القرآن ب ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫وتعاهدوه‪ ،‬ورتلوه ترتيل‪.‬‬
‫السؤال الثاني عشر‬
‫ل أجـــــــــد أثــــــــــــًرا‬
‫‪‬حاولت أكثر من مرة أن أقرأ القرآن بتدبر‬
‫وتأثر‪ ،‬ولكني لم أجد ما تتحدثون عنه من‬
‫تغيير‪ ،‬وحلوة اليمان‪ ،‬و‪ ،...‬مما دفعني للعودة‬
‫إلى ما ألفته من قراءة سريعة بغية تحصيل‬
‫أكبر قدر من الحسنات‪ ،‬وللمحافظة على‬
‫حفظي للقرآن‪ ...‬ومع ذلك فإني أشعر بين‬
‫الفينة والفينة بتأنيب الضمير‪ ،‬والشعور‬
‫بالتقصير تجاه القرآن‪ ،‬والخوف من أن يكون‬
‫شيء مهم قد فاتني‪ ...‬فماذا أفعل؟!‬

‫() لمحات النوار للغافقي‪ ,‬ص (‪.)566‬‬ ‫‪1‬‬


‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪148‬‬

‫الجواب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أهم عامل من عوامل النجاح في النتفاع بالقرآن‬
‫ككتاب هداية وتغيير‪ ،‬ومنبع دائم لليمان يتزود منه القلب‬
‫كلما تعرض له هو وجود الرغبة الجارفة للنتفاع به‪،‬‬
‫واستشعار الحاجة الماسة إليه‪ ،‬وإلى الثمرة الناشئة من‬
‫دوام القبال عليه من‪ :‬قلب سليم‪ ،‬وإيمان حي‪ ،‬وتعرف‬
‫م السير إليه‪ ،‬والوصول إلى‬‫حقيقي على الله‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫معرفته للدرجة التي تمكِّن صاحبه من أن يعبده – سبحانه –‬
‫كأنه يراه‪.‬‬
‫فعلى قدر هذه الرغبة‪ ،‬وهذا الحتياج يكون الإمداد من‬
‫الله «فالمداد على قدر الستعداد» تأمل معي قوله تعالى‪:‬‬
‫سَتقِيمَ [التكوير‪.]28:27:‬‬
‫إِنْ ُهوَ إِلّ ذِ ْكرٌ لّ ْلعَاَلمِيَ ِل َمنْ شَا َء مِنْ ُكمْ أَن يَ ْ‬
‫فاليات تخبرنا بوضوح بأن القرآن هو طريق الستقامة‬
‫لجميع الناس‪ ،‬ولكن لن ينتفع به إل من يريد الستقامة‬
‫ويبحث عنها‪ ،‬ويرغب فيها‪ ...‬ويؤكد هذا قوله ‪« :‬ومن يتحرّ‬
‫(‪)1‬‬
‫الي يعطه»‪.‬‬
‫ولقد أكد على هذا المعنى المام البخاري في صحيحه عند‬
‫س ُه ِإلّ‬
‫تعليقه على قوله تعالى‪ِ :‬إنّ ُه َل ُقرْآنٌ َك ِريٌ فِي ِكتَابٍ مّ ْكنُونٍ َل َيمَ ّ‬
‫ط ّهرُونَ [الواقعة‪]79 -77:‬‬
‫الْ ُم َ‬
‫قال‪ :‬ل يجد طعمه إل من آمن به‪.‬‬
‫لبد من القتناع بأهمية القرآن‪ ،‬ودوره في التغيير‪ ،‬ولبد‬
‫كذلك من استشعار الحاجة إليه‪.‬‬
‫وبدون القناعة الكيدة‪ ،‬والرغبة الجارفة‪ ،‬والحتياج‬
‫الماس للقرآن‪ ،‬فلن تكون هناك النتيجة المرجوة والثمرة‬
‫المنتظرة من هذا الكتاب‪.‬‬
‫جاء في الثر عن أبي الدرداء قال‪ :‬لما أهبط الله آدم‬
‫إلى الرض قال له‪ :‬يا آدم أحبني‪ ،‬وحببني إلى خلقي‪ ،‬ولن‬
‫صا على‬
‫تستطيع أن تفعل ذلك إل بي‪ ،‬ولكن إذا رأيتك حري ً‬
‫‪1‬‬
‫() حسن أورده اللباني في صحيح الجامع (‪.)2328‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫تساؤلت وردود‬
‫‪149‬‬

‫ذلك أعنتك عليه‪ ،‬فإن فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة‬


‫( ‪)1‬‬
‫وقرة العين والطمأنينة‪.‬‬
‫فالدخول والنتفاع بالقرآن لن يكون إل بالله‪ ،‬والله عز‬
‫صا‬
‫وجل لن يفتح قلوبنا للقرآن إل إذا رأى منا رغبة وحر ً‬
‫أكيدين على ذلك‪.‬‬
‫لذلك من أقبل على القرآن يقرؤه بتدبر من باب‬
‫التجربة ففي الغالب لن يجد الثمرة المرجوة‪.‬‬
‫‪...‬إذ ًا فبداية الحل تكمن في وجود الرغبة والشعور‬
‫بالحتياج‪ ،‬وعلينا أن نترجم هذا الشعور باللحاح على الله‬
‫أن يفتح قلوبنا لتلقي غيث القرآن‪ ...‬فالدعاء له دور كبير‬
‫في تيسير هذا المر‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬القرآن هو غيث القلوب‪ ،‬ولكي يؤتي ثماره لبد من‬
‫كثرة تعرض القلب له‪ ،‬والستمرار على ذلك مدة طويلة‪،‬‬
‫حتى يجد القرآن ثغرة يدخل منها إلى القلب فينبت فيه‬
‫اليمان‪ ،‬وشيئًا فشيئًا تزداد الثغرات وينفتح القلب‬
‫وينشرح‪...‬‬
‫لبد إذن من الستمرارية وعدم اليأس‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬ل ينبغي علينا أن نغفل دور الشيطان‪ ،‬وعمله‬
‫الدؤوب لصدنا عن النتفاع بالقرآن‪ ،‬فمن المتوقع أنه‬
‫سيحشد كل جنوده ‪ ،‬ويستخدم كل أساليبه مع كل من يحاول‬
‫النتفاع بالقرآن‪ ،‬وستكون الفترة الولى هي أشد الفترات‬
‫التي سيحاربنا فيها الشيطان‪ ،‬ومن أبوابه المتوقعة التي‬
‫سيعمل على أن يدخل منها الوسوسة لنا بمثل هذه‬
‫الخواطر‪«:‬أين الثمرة التي قالوا عنها‪ ..‬إنه كلم مبالغ فيه»‪.‬‬
‫ويكفيك في هذا قوله تعالى‪ِ :‬إنّ اّلذِينَ َتوَّلوْا مِنْ ُكمْ َي ْومَ اْلَتقَى‬
‫سبُوا [آل عمران‪ ,]155:‬فهؤلء‬ ‫ج ْمعَانِ إِّنمَا اسْتَزَلّ ُهمُ الشّ ْيطَانُ بَِب ْعضِ مَا كَ َ‬
‫اْل َ‬
‫دخل عليهم الشيطان من باب أنهم ل يصلحون للجهاد‬
‫بسبب ما فعلوه من ذنوب!!!‬

‫() استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب‪ ،‬ص (‪.)127‬‬ ‫‪1‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪150‬‬

‫رابعًا‪ :‬أفي الله شك؟‬


‫لقد أخبرنا الله عز وجل عن دور القرآن المتفرد في‬
‫التغيير‪ ،‬ولقد رأينا أثره على جيل الصحابة‪ ،‬وبما أن القرآن‬
‫الذي معنا هو القرآن الذي كان معهم‪ ...‬فلماذا التردد‪..‬‬
‫أقبل يا أخي على القرآن‪ ...‬أقبل ول تخف ول تتردد‪.‬‬
‫أعط القرآن الكثير من وقتك‪ ..‬هيئ قلبك قبل اللقاء به‬
‫ولو بالتباكي ‪-‬كحد أدنى‪ -‬عند القراءة‪ ،‬وكلما وجدت الباب‬
‫مغلقًا اهرع إلى مولك وألح عليه في الدعاء حتى يفتح لك‬
‫ولي أبواب رحمته‪ ،‬ويصل غيث القرآن إلى قلوبنا فيحييها‪.‬‬
‫سا‪ :‬وأخيًرا اترك نفسك للقرآن‪ ...‬ل تدخل على‬
‫خام ً‬
‫القرآن دخول من يريد إثبات صحة آرائه وتصوراته‪ ..‬دع‬
‫القرآن ينزل على هواك‪ ،‬ول تدع هواك ينزل على القرآن‪.‬‬
‫وتذكر وصية أبي الدرداء ونصيحته‪ :‬اعطوا القرآن‬
‫خزائمكم فإنه يحمل على القصد والسهولة‪ ،‬ويجنب الجور‬
‫والحزونة‪..‬‬
‫والخزامة هي الحلقة التي توضع في أنف البعير‪ ،‬ثم‬
‫يُربط فيها الحبل لتنقاد من خلله‪...‬‬
‫فلنترك أمر قيادتنا للقرآن وسنجد الخير الكثير بإذن‬
‫الله‪.‬‬

‫السؤال الثالث عشر‬


‫مكانــــــة الســــــــــنة‬
‫‪‬أين السنة في مشروع نهضة المة؟ وهل ما‬
‫قيل عن دور القرآن في نهضة المة يعني‬
‫سنَّة؟!‬ ‫الكتفاء به وترك ال ُ‬
‫الجواب‪:‬‬
‫أولً‪ :‬السنة صنو القرآن‪ ،‬وشارحة له‪ ،‬ومبينة لما أجمل‬
‫فيه‪ ،‬وهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وَأَنْزَْلنَا إَِل ْيكَ‬
‫الذّكْرَ لِتُبَّينَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَ ْي ِهمْ وََلعَلّ ُهمْ يََتفَكّرُونَ [النحل‪.]44:‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪151‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫وقال ‪«:‬أل إن أوتيت الكتاب ومثله معه‪ ،‬أل يوشك رجل شبعان على أريكته‬
‫يقول‪ :‬عليكم بذا القرآن‪ ،‬فما وجدت فيه من حلل فأحلوه‪ ،‬وما وجدت فيه من حرام‬
‫(‪)1‬‬
‫فحرموه‪»...‬‬
‫فالحديث يدل دللة واضحة على أهمية السنة وأنها‬
‫شارحة للقرآن‪ ،‬وأنه ل يجوز لحد أن يستخرج الحكام‬
‫الشرعية من القرآن دون الرجوع للسنة‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬نحن في هذه الصفحات نبحث عن معجزة تجمع‬
‫المة‪ ،‬ويكون من شأنها توليد الدافع الذاتي والقوة الروحية‬
‫باستمرار‪ ،‬وهذا ل يتوافر إل في القرآن كما أسلفنا‪.‬‬
‫‪ ...‬نعم‪ ،‬نحتاج للقراءة في السُّنَّة كثيًرا لتأكيد المعاني‬
‫التي دلت عليها آيات القرآن‪ ،‬وضبط الفهم‪ ،‬وفتح آفاق‬
‫جديدة للعمل الصالح‪ ،‬وكذلك التعرف على نماذج عملية‬
‫تطبيقية ليات القرآن‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى القرآن هو المصدر المتفرد الذي يولد‬
‫سخ اليمان‪.‬‬
‫الطاقة باستمرار‪ ،‬ويُر ِّ‬
‫ثالثًا‪ :‬القرآن والسنة يشكلن سويًا منهج حياة‪ ...‬فالقرآن‬
‫يضع الدستور والقوانين‪ ،‬والسنة تشرحها‪ ،‬ولكن يقف‬
‫ضعف اليمان والعزيمة عائقًا أمام تطبيق القرآن والسنة‬
‫في واقع الحياة‪ ...‬وهنا يظهر دور القرآن المتفرد كمعجزة‬
‫تغييرية‪.‬‬
‫‪ ...‬ويؤكد الدكتور يوسف القرضاوي على منزلة السنة‬
‫فيقول‪:‬‬
‫القرآن الكريم هو الية العظمى‪ ،‬والمعجزة الكبرى‬
‫لمحمد ‪ ،‬وهو الكتاب المحفوظ الخالد‪ ..‬وهو المصدر‬
‫الول المقطوع بثبوته من أوله إلى آخره‪ ،‬وبه يحتج على‬
‫كل مصادر السلم وأدلته الخرى‪ ،‬ول يستدل بها عليه‪.‬‬
‫وتأتي السنة النبوية مصدًرا تاليًا للقرآن‪ ،‬مبينًا له‪ ،‬كما‬

‫‪1‬‬
‫() صحيح ‪ ،‬رواه المام أحمد وأبو داود وصححه اللباني في صحيح الجامع ح(‬
‫‪.)2643‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪152‬‬

‫[النحل‪:‬‬ ‫قال تعالى لرسوله‪ :‬وَأَنْزَْلنَا إَِل ْيكَ الذّكْرَ ِلتُبَّينَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَ ْي ِهمْ‬
‫‪ ,]44‬فالرسول هو المبين للقرآن بقوله وعمله وتقريره‪.‬‬
‫وبهذا نعلم أن السنة هي التفسير العملي للقرآن‪،‬‬
‫ضا – للسلم‪ ،‬فقد كان‬ ‫والتطبيق الواقعي – والمثالي أي ً‬
‫ما‪.‬‬‫النبي هو القرآن مفسًرا‪ ،‬والسلم مجس ً‬
‫فمن أراد أن يعرف المنهج العملي للسلم بخصائصه‬
‫وأركانه‪ ،‬فليعرفه مفصل ً مجسدًا في السنة النبوية القولية‬
‫والعملية والتقريرية‪ ،‬فكلمة (السنة) تعني‪ :‬الطريق أو‬
‫المنهج‪ ،‬وهو تُمثل (الحكمة) النبوية في بيان القرآن‪ ،‬وشرح‬
‫حقائق السلم‪ ،‬وتعليمه للمة‪ ،‬فقد أنزل الله على رسوله‬
‫شعب مهمته في‬ ‫(الكتاب والحكمة)‪ ,‬كما جعل ذلك من ُ‬
‫تكوين المة َل َقدْ َمنّ الُ عَلَى اْلمُؤمِنِيَ ِإذْ َبعَثَ فِي ِهمْ رَسُولً ّمنْ أَْنفُسِ ِهمْ يَ ْتلُو‬
‫عَلَ ْي ِهمْ آيَاِتهِ وَيُزَكّي ِهمْ وَُيعَ ّلمُ ُهمُ الْكِتَابَ وَاْلحِ ْكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ َلفِي ضَلَلٍ مّبِيٍ‬
‫[آل عمران‪.)1( ]164:‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() كيف نتعامل مع السنة النبوية ليوسف القرضاوي ‪ ,‬ص ‪ – 26،25‬بتصرف‬
‫يسير‪.‬‬
‫الفصل السابع‪:‬‬
‫‪153‬‬
‫تساؤلت وردود‬

‫وفي النهاية‬
‫أخي‪ :‬إن كان القرآن هو سر نهضتنا فهو يحتاج‬
‫بالضرورة إلى من يحمله ويبلغه للناس‪.‬‬
‫لذلك فإن كل ما قيل في الصفحات السابقة متوقف‬
‫على من يتبناه‪،‬ولكن ل يمكننا أن نحمله ونتبناه إل إذا بدأنا‬
‫بأنفسنا‪ ،‬وذقنا حلوة التغيير من خلل القرآن‪ ،‬وشعرنا‬
‫بالقوة الروحية والدافع الذاتي الدائم المتولد من لقائنا‬
‫معه‪.‬‬
‫فل تتعجل ‪-‬أخي‪ -‬دعوة غيرك إلى ذلك إل بعد أن يتمثل فيك‬
‫أول ً وترى بنفسك أثر المعجزة القرآنية‪ ،‬وهذا ل يحتاج إلى وقت‬
‫طويل‪ ،‬شريطة أن تشتد رغبتك‪ ،‬وتواظب على الوسائل‬
‫المذكورة آنفًا وغيرها مما يفتح الله به عليك للوصول إلى مرحلة‬
‫التأثر المستمر‪ ،‬وأن تتواصى بذلك مع من معك‪ ،‬وأن تلح دوًما‬
‫على ربك بأن يكرمك ويكرمني ويكرم جميع المسلمين بالدخول‬
‫إلى عالم القرآن‪ ،‬والنتفاع الحقيقي بمعجزته‪.‬‬
‫مناشدة‬
‫أخي الحبيب‪:‬‬
‫‪ ...‬ناشدتــك الله‬
‫بان تأخذ موضوع القرآن مأخذ الجد‪.‬‬
‫‪ ...‬ناشدتُّــك الله‬
‫أن تخصص له على القل ساعة يوميًا تقرؤه‬
‫وترتيل وتباك‪.‬‬ ‫بتفهم‬
‫‪ ...‬ناشدتُّــك الله‬
‫أن تفعل ذلك وتصبر عليه فالمة في‬
‫والقرآن جاهز لتغييري‬ ‫انتظارك‪،‬‬
‫وتغييرك‪.‬‬
‫ل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‬ ‫وص ِّ‬
‫(والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول‬
‫أن هدانا الله)‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪154‬‬

‫أهـــم المراجــــــــــع‬
‫‪−‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪−‬التقان في علوم القرآن – دار الندوة الجديدة –‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪−‬إحياء علوم الدين – أبو حامد الغزالي – دار الحديث‬
‫القاهرة ‪ -‬ط ‪ 1412-1‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬أخلق حملة القرآن – أبو بكر الجري – دار الكتاب‬
‫العربي – لبنان‪.‬‬
‫‪ −‬آداب الشيخ الحسن بن أبي الحسن البصري – ابن‬
‫الجوزي – دار المعراج – الرياض – ط ‪1414 – 1‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬استنشاق نسيم النس – ابن رجب – المكتب‬
‫السلمي – دار الخاني – ط ‪ 1411 – 1‬هـ‬
‫‪−‬البداية والنهاية – الحافظ ابن كثير‪ -‬مكتبة العبيكان –‬
‫السعودية – ط ‪ 1417 – 2‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬تدبر القرآن – سلمان بن عمر السنيدي – المنتدى‬
‫السلمي – ط ‪1422 – 1‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬تفسير القرآن العظيم –الحافظ ابن كثير – مكتبة‬
‫العبيكان – المكتبة العصرية – بيروت – ط ‪1417 – 2‬هـ‬
‫‪ −‬التوحيد والوساطة في التربية الدعوية – د‪.‬فريد‬
‫النصاري – دار الكلمة – المنصورة – مصر‪.‬‬
‫‪−‬الجهاد في السلم – د‪.‬محمد سعيد رمضان البوطي‬
‫– دار الفكر – دمشق‪.‬‬
‫‪−‬حديث القرآن عن القرآن – محمد الراوي – مكتبة‬
‫العبيكان – الرياض – ط ‪ 1415 – 1‬هـ‬
‫‪−‬حسن البنا ومنهجه في التفسير ‪ -‬دار التوزيع والنشر‬
‫السلمية – القاهرة‪.‬‬
‫‪−‬حياة الصحابة – محمد يوسف الكاندهلوي – شركة‬
‫الرياض – السعودية – ط ‪ 1998 -1‬هـ‬
‫‪−‬الدر المنثور في التفسير المأثور – جلل الدين‬
‫المــــــــــراجـع‬
‫‪155‬‬

‫السيوطي – دار الكتب العلمية – بيروت – ط ‪2000 -1‬‬


‫م‪.‬‬
‫‪−‬دموع القراء – محمد شومان الرملي – دار النفائس‬
‫– الردن – ط ‪ 2003 – 1‬م‪.‬‬
‫‪−‬زاد المعاد في هدى خير العباد – ابن القيم – مؤسسة‬
‫الرسالة – بيروت‪.‬‬
‫‪−‬سلسلة الحاديث الصحيحة – محمد ناصر الدين‬
‫اللباني – مكتبة المعارف – الرياض – ‪1415‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬شعب اليمان – البيهقي – دار الكتب العلمية –‬
‫بيروت – ط ‪1410 – 1‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬صحيح الجامع الصغير وزيادته – محمد ناصر الدين‬
‫اللباني – المكتب السلمي ‪ -‬دمشق – ط ‪– 3‬‬
‫‪1408‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬الطبقات الكبرى – ابن سعد – دار الكتب العلمية –‬
‫بيروت – ط ‪ 1410 – 1‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬العقوبات ابن أبي الدنيا – دار ابن حزم – بيروت‪.‬‬
‫‪ −‬فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر‬
‫العسقلني – دار الكتب العلمية – بيروت – ط ‪– 1‬‬
‫‪1410‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬فتح الرحمن في بيان هجر القرآن – محمد فتحي‪،‬‬
‫محمود الملح – دار طيبة الخضراء – مكة‪.‬‬
‫‪ −‬فضائل القرآن ‪ -‬أبو عبيد بن سلم الهروي – تحقيق‬
‫مروان العطية – دار ابن كثير – دمشق – ط ‪– 2‬‬
‫‪1420‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬فضائل القرآن – أبي بكر الفريابي – تحقيق‬
‫د‪.‬يوسف عثمان – مكتبة الرشد – الرياض – ط ‪– 2‬‬
‫‪1421‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬في ظلل القرآن – سيد قطب – دار الشروق –‬
‫القاهرة – ط ‪1408 – 15‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬كيف نتعامل مع السنة النبوية – د‪.‬يوسف القرضاوي‬
‫– دار الشروق – القاهرة – ط ‪ 2000 – 1‬م‪.‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪156‬‬

‫‪ −‬كيف نتعامل مع القرآن؟ ‪ -‬محمد الغزالي – دار‬


‫الوفاء – المنصورة – مصر – ط ‪1412 – 2‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬كيف ننتفع بالقرآن الكريم – أحمد البراء الميري –‬
‫مؤسسة الريان بيروت‪.‬‬
‫‪−‬لمحات النوار ونفحات الزهار وري الظمآن –‬
‫الغافقي – دار البشائر السلمية – بيروت – ط ‪– 1‬‬
‫‪ 1997‬م‪.‬‬
‫‪ −‬مختصر قيام الليل – محمد بن نصر المروزي –‬
‫مؤسسة الرسالة – ط ‪1414 – 2‬هـ‪.‬‬
‫‪−‬المدخل لدراسة القرآن الكريم – محمد أبو شهبة –‬
‫طبعة خاصة بالمؤلف‪.‬‬
‫‪−‬مفتاح دار السعادة – ابن القيم – دار ابن عفان –‬
‫خبر – السعودية – ط ‪1416 – 1‬هـ‪.‬‬ ‫ال ُ‬
‫‪ −‬النبأ العظيم – د‪.‬محمد عبد الله دراز – دار طيبة –‬
‫الرياض – ط ‪1421 – 2‬هـ‪.‬‬
‫‪ −‬نظرات في كتاب الله للمام الشهيد حسن البنا‪-‬‬
‫جمع عصام تليمة‪ -‬دار التوزيع والنشر السلمية‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫***‬
‫المــــــــــراجـع‬
‫‪157‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪158‬‬

‫الفهرس‬
‫الصف‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬
‫المقدمة‪3 ....................................................‬‬
‫الفصل الول‬
‫السباب والنتائج‬
‫‪9‬‬ ‫السباب المادية والمعنوية‪..............................‬‬
‫‪10‬‬ ‫النتائج من الله ل من السباب‪.........................‬‬
‫‪11‬‬ ‫خطورة التعلق بالسباب‪................................‬‬
‫‪12‬‬ ‫ستار السباب‪.............................................‬‬
‫‪14‬‬ ‫هل السباب متاحة للجميع‪..............................‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫لسنا كبقية المم‬
‫‪19‬‬ ‫تمهيد‪.................................................. ......‬‬
‫‪19‬‬ ‫الوضع الخاص بأمة السلم‪.............................‬‬
‫‪24‬‬ ‫هل نترك السباب المادية؟‪.............................‬‬
‫‪25‬‬ ‫العودة إلى الله هي البداية‪.............................‬‬
‫‪26‬‬ ‫المسلم الصحيح أولً ‪................................. ....‬‬
‫‪26‬‬ ‫المقصود بصلح الفرد‪...................................‬‬
‫‪27‬‬ ‫هل هي دعوة للتخلف؟‪..................................‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫المعجزة التي نحتاجها‬
‫الحلقة المفقودة‪33 ..........................................‬‬
‫محاولت‪34 ...................................................‬‬
‫‪159‬‬
‫الفهـــــــــرس‬

‫الصف‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬
‫‪35‬‬ ‫ضامن التنفيذ‪................................ ..............‬‬
‫‪36‬‬ ‫الدافع الذاتي‪..............................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫ما المقصود بالقوة الروحية؟‪...........................‬‬
‫‪37‬‬ ‫المطلوب من القوة الروحية‪...........................‬‬
‫‪38‬‬ ‫نحتاج إلى معجزة‪....................................... ..‬‬
‫‪39‬‬ ‫إنه القرآن العظيم‪........................................‬‬
‫‪40‬‬ ‫مظاهر قوة تأثير القرآن‪................................‬‬
‫‪42‬‬ ‫هذا القرآن‪.................................................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫لماذا القرآن هو سر نهضتنا‬
‫‪47‬‬ ‫تمهيد ‪................................................. ......‬‬
‫‪48‬‬ ‫أولً‪ :‬القرآن اختيار الله لعباده أجمعين‪...............‬‬
‫‪50‬‬ ‫ثانيًا‪ :‬القرآن يجمع بين الرسالة والمعجزة‪...........‬‬
‫‪53‬‬ ‫ثالثًا‪ :‬القرآن يخاطب الفكر والعاطفة في آن واحد‬
‫‪56‬‬ ‫رابعًا‪ :‬القرآن يولّد باستمرار القوة الروحية‪..........‬‬
‫‪59‬‬ ‫خامسًا‪ :‬القرآن ميسر للذكر والفهم‪..................‬‬
‫سادسًا‪ :‬القرآن هو الكلمة السواء التي ل يختلف‬
‫‪63‬‬ ‫عليها اثنان من المة‪.........................................‬‬
‫‪66‬‬ ‫مل‪..................‬‬ ‫سابعًا‪ :‬القرآن عبادة متجددة ل ت ُ َ‬
‫‪68‬‬ ‫مجَّرب‪....................‬‬ ‫ثامنًا ‪ :‬القرآن وسيلة ودواء ُ‬
‫تاسعًا‪ :‬القرآن هو المنقذ –بإذن الله‪ -‬والمخرج من‬
‫الفتن الذي دلنا عليه رسول الله ‪75 ...................‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫كيف يمكن للقرآن أن ينهض بالمة؟‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪160‬‬

‫الصف‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬
‫‪79‬‬ ‫هجر القرآن‪......................................... .......‬‬
‫‪80‬‬ ‫الصورة الموروثة عن القرآن‪...........................‬‬
‫‪80‬‬ ‫الكتاب الوحيد‪.............................................‬‬
‫‪82‬‬ ‫أين شرفنا؟‪................................. ...............‬‬
‫‪84‬‬ ‫الحاضر الغائب‪............................................‬‬
‫‪85‬‬ ‫إعادة الثقة في القرآن‪..................................‬‬
‫‪86‬‬ ‫شرط لبد منه‪............................................ .‬‬
‫‪88‬‬ ‫أمامك عقبة‪...............................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫خصوصية الترتيل‪.........................................‬‬
‫‪89‬‬ ‫التأثر هو الغاية‪............................................‬‬
‫‪91‬‬ ‫أتأثر ولكن!!‪...............................................‬‬
‫‪91‬‬ ‫التربة مهيأة لستقبال المشروع‪.......................‬‬
‫‪92‬‬ ‫خطوات عملية مقترحة‪..................................‬‬
‫الفصل السادس‬
‫تصور مقترح للمراكز القرآنية النموذجية‬
‫‪97‬‬ ‫التوعية وإنشاء الرغبة‪...................................‬‬
‫‪98‬‬ ‫إعداد المعلمين‪...........................................‬‬
‫‪99‬‬ ‫برنامج إعداد المعلمين‪..................................‬‬
‫أول ً ‪ :‬وضوح الرؤية حول القرآن ودوره كرسالة‬
‫‪99‬‬ ‫ومعجزة‪....................................................‬‬
‫‪10‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬مداومة تلوة القرآن‪.............................‬‬
‫‪1‬‬
‫‪10‬‬
‫ثالثًا‪ :‬بناء اليمان من خلل القرآن‪....................‬‬
‫‪2‬‬
‫رابعًا‪ :‬مدارسة وحفظ الجزاء الثلثة الخيرة‪10 ........‬‬
‫‪161‬‬
‫الفهـــــــــرس‬

‫الصف‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬
‫‪9‬‬
‫‪11‬‬
‫التقييم‪......................................................‬‬
‫‪9‬‬
‫‪12‬‬
‫الحلقات القرآنية‪.........................................‬‬
‫‪1‬‬
‫‪12‬‬
‫صغار السن والقرآن‪.....................................‬‬
‫‪1‬‬
‫الفصل السابع‬
‫تساؤلت وردود‬
‫‪12‬‬
‫تمهيد‪.................................................. ......‬‬
‫‪5‬‬
‫‪12‬‬
‫السؤال الول‪ :‬قراءتان للقرآن‪........................‬‬
‫‪5‬‬
‫‪12‬‬
‫‪8‬‬
‫السؤال الثاني‪ :‬أيهما أفضل؟!‪.........................‬‬
‫‪13‬‬
‫السؤال الثالث‪ :‬الحد القصى لختم القرآن‪..........‬‬
‫‪3‬‬
‫السؤال الرابع‪ :‬ما المقصود بـ «اقرأ وارق»؟‪........‬‬
‫‪13‬‬
‫‪5‬‬
‫‪14‬‬
‫السؤال الخامس‪ :‬الشيطان والقرآن‪.................‬‬
‫‪1‬‬
‫‪14‬‬
‫السؤال السادس‪ :‬الذي يتعتع له أجران‪..............‬‬
‫‪3‬‬
‫‪14‬‬
‫السؤال السابع‪ :‬التعمق في التدبر‪....................‬‬
‫‪4‬‬
‫‪14‬‬ ‫السؤال الثامن‪ :‬التلقي المباشر من القرآن‪.........‬‬
‫إنه القــــرآن ‪ ..‬سر نهضتنا‬
‫‪162‬‬

‫الصف‬ ‫الموضوع‬
‫حة‬
‫‪7‬‬
‫‪14‬‬
‫السؤال التاسع‪ :‬المحافظة على الحفظ‪..............‬‬
‫‪8‬‬
‫‪14‬‬
‫السؤال العاشر‪ :‬تأثر غير العرب بالقرآن‪............‬‬
‫‪9‬‬
‫‪15‬‬
‫السؤال الحادي عشر‪ :‬الذنوب وأمراض القلوب‪....‬‬
‫‪0‬‬
‫‪15‬‬
‫السؤال الثاني عشر‪ :‬ل أجد أثًرا‪.......................‬‬
‫‪2‬‬
‫‪15‬‬
‫السؤال الثالث عشر‪ :‬مكانة السنة‪....................‬‬
‫‪5‬‬
‫‪15‬‬
‫وفي النهاية‪................................................‬‬
‫‪8‬‬
‫‪15‬‬
‫مناشدة‪.................................... .................‬‬
‫‪8‬‬
‫‪15‬‬
‫أهم المراجع‪...............................................‬‬
‫‪9‬‬
‫‪16‬‬
‫الفهرس‪....................................................‬‬
‫‪3‬‬
‫***‬

You might also like