You are on page 1of 90

‫أيــــن‬

‫المخـــــرج‬
‫فالصخرة أغلقت الغار‬

‫مجــــدي‬
‫الهـــللي‬
‫‪2‬‬
‫تقديــــــــــــــــم‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫الطبعة الولى‬
‫الترقيم الدولى‪I.S.B.N :‬‬
‫‪977-441-075-0‬‬
‫مركز السلم‬
‫للتجهيز الفني‬
‫عبد الحميد عمر‬
‫‪010696264‬‬
‫‪7‬‬

‫دار السراج‬
‫توزيع‬
‫مؤسسـة اقـــــرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫القاهرة ت‪ 25326610 :‬محمول‪0126344043 -0102327302:‬‬
‫‪Email:iqraakotob@yahoo.com‬‬
‫هل نرتدي الكفان انتظاًرا للنهاية؟!‬

‫الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في‬


‫الرض‪ ،‬القدير المقتدر‪ ،‬الذي ل يعجزه شيء في‬
‫الرض ول في السماء‪ ،‬وإذا ما أراد شيئًا فإنما‬
‫يقول له‪ :‬كن‪ .‬فيكون‪.‬‬
‫والصلة والسلم على البشير النذير محمد بن‬
‫عبد الله‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فالغالبية العظمى من المسلمين في شتى بقاع‬
‫العالم‪ ،‬يتفقون على صعوبة الوضع الذي تمر به المة‬
‫السلمية‪ ،‬وعلى كثرة الفتن التي تحيط بها‪ ،‬وعلى أن‬
‫الحال يزداد سوءًا يوًما بعد يوم‪ ،‬إل أن هذا التفاق ل‬
‫يستمر إذا ما تطرق الحديث إلى التشخيص والعلج‪.‬‬
‫بمعنى أنك إذا ما ذكَّرت محدثيك بأن هذا‬
‫الواقع الليم الذي تحياه أمتنا منذ عقود طويلة ما‬
‫هو إل نتيجة لتفشى مرض ضعف اليمان‪ ،‬والتخلي‬
‫عن حمل الرسالة التي شرف الله المة بها‪ ،‬وأنه‬
‫لن يتغير هذا الواقع إل إذا تغيرت نفوسنا‪ ،‬وامتلت‬
‫قلوبنا باليمان‪ ،‬وأن أفضل وسيلة لذلك هي‬
‫التعامل الصحيح مع القرآن‪...‬‬
‫إذا ما ذكَّرتهم بهذا الحل الذي أرشدنا إليه مالك‬
‫هذا الكون‪ ،‬ومدبَّر أمره‪ ،‬وأكد عليه رسوله ‪،‬‬
‫فإنك ل تكاد تجد آذانا مصغية لك وكأنه ينبغي علينا‬
‫أن نظل في هذا التيه‪ ،‬ونرتدي الكفان منتظرين‬
‫أن تحين نهايتنا وتقوم قيامتنا!!‬

‫‪4‬‬
‫أو ننتظر – كما يقول البعض – حتى يظهر‬
‫المهدي‪ ،‬أو ينزل المسيح !!‬
‫لقد انطبق حال المة السلمية اليوم – إلى حد‬
‫بعيد – مع حال أصحاب الغار‪ ،‬الثلثة الذي كانوا في‬
‫سفر‪ ،‬وأرادوا أن يستريحوا قليل فوجدوا غاًرا في‬
‫بطن جبل فدخلوا إليه‪ ،‬لتأتي العواصف والرياح‬
‫فتزحزح صخرة وتدحرجها حتى تقف أمام باب‬
‫الغار‪ ،‬وتسده بالكلية‪ ،‬وعبثا يحاول الثلثة أن‬
‫يزحزحوا الصخرة ولكنها لم تتحرك قيد أنملة ‪..‬‬
‫فماذا يفعلون؟!‬
‫هل دب اليأس إليهم؟! ل‪ ،‬لم يحدث هذا بل‬
‫تذكروا أن للصخرة والغار ربا هو ربهم ورب كل‬
‫شيء ومليكه ‪ ..‬تذكروا قدرته المتناهية‪ ،‬وقيوميته‬
‫الدائمة عليهم وعلى الكون كله‪ ،‬فأقبلوا عليه‬
‫متضرعين‪ ،‬متبئسين‪ ،‬منكسرين‪ ،‬وبداخلهم يقين‬
‫بأنه لن ينجيهم سواه ‪..‬‬
‫وعندما تلبست بهم هذه الحالة‪ ،‬وامتلت‬
‫قلوبهم باليمان واليقين بأنه لن ينجيهم سوى الله‬
‫تحركت الصخرة تدريجيا‪ ،‬ليخرجوا بعد ذلك من‬
‫الغار سالمين‪.‬‬
‫ونحن الن نعيش في مرحلة انطباق الصخرة‬
‫على فوهة الغار وجميعنا بداخله‪ ،‬ولقد جربنا لزاحة‬
‫تلك الصخرة حلول كثيرة فلم تنجح‪ ،‬فلماذا – إذن –‬
‫ل نفعل مثل ما فعل الثلثة ونتوجه توجها صادقا‬
‫نحو من بيده إخراجنا‪ ،‬ونسير وفق ما دلنا عليه في‬
‫كتابه‪ ،‬وعلى لسان رسوله عندما أكد على‬
‫الطريقة التي بها يمكن للمة أن تخرج من أي‬

‫‪5‬‬
‫كبوة تمر بها؟!‬
‫لماذا ل نتجه إلى المخرج الصحيح؟!‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬إن الفتن التي تمر بالمة في غاية‬
‫القسوة والخطورة‪ ،‬ولكن ل زال المل موجودًا‪،‬‬
‫والمخرج ميسًرا لنا جميعا للخروج من هذه الزمة‪،‬‬
‫وللنهوض من جديد‪ ،‬وذلك من خلل حسن التصال‬
‫بالقرآن والغتراف من منابع اليمان فيه‪ ،‬فتتغير‬
‫تبعا لذلك نفوسنا‪ ،‬ونعود فنحمل رسالتنا‪،‬‬
‫فنستدعي بذلك رضا الله عز وجل فتنفرج‬
‫الصخرة‪ ،‬وتعود أمتنا لسيرتها الولى ‪ ..‬المة‬
‫الرائدة‪ ،‬وتعتلى مقعد الستاذية للبشرية جمعاء ‪..‬‬
‫أستاذية الهداية لَّتكُونُوا ُشهَدَا َء َعلَى النّاسِ [البقرة‪.]143 :‬‬
‫وإنني – بفضل الله عز وجل وَمنَّه وكرمه – على‬
‫يقين تام بأن نهوض المة وعودة مجدها من جديد قادم‬
‫ل محالة‪ ،‬وأن القرآن هو الذي سيقودها إلى ذلك على‬
‫يد جيل رباني‪ ،‬قد سرى نور القرآن في قلبه‪ ،‬وهيمن‬
‫عليه وأشعل جذوة اليمان فيه‪ ،‬فلم يدعه يقر حتى‬
‫ينقل هذا النور إلى قلوب غيره – بإذن ربه – فتحيا‬
‫المة بالقرآن‪ ،‬وتتوحد تحت رايته‪.‬‬
‫إن هذا اليقين ل ينطلق من أحلم وأوهام‪ ،‬بل‬
‫ينطلق من الكتاب والسنة وما فيهما من أدلة تؤكد‬
‫ذلك‪ ،‬ومن خلل النموذج الفريد الذي صنعه‬
‫القرآن‪ ،‬ومن الوصايا النبوية بضرورة التمسك‬
‫بالقرآن عند حدوث الفتن‪ ،‬وأنه المخرج المن‬
‫منها‪ ،‬وينطلق كذلك من النماذج المشرقة التي‬
‫صنعها القرآن على مر التاريخ‪ ،‬خاصة تلك النماذج‬
‫التي ظهرت في العصر الحديث‪ ،‬والتي تعطي‬
‫دللة قوية بإمكانية تكرارها‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ولعلى بهذه الكلمات قد أجبتك – أخي القارئ‪-‬‬
‫على سؤالك الذي بلغني منك‪ ،‬وهو لماذا تصطبغ‬
‫الكتب والمقالت‪ -‬وبخاصة في الونة الخيرة‪-‬‬
‫لكاتب هذه السطور بالحديث عن القرآن؟‬
‫فإلى أن ننتبه جميعًا إلى هذا الحل الرباني‬
‫العظيم‪ ،‬وهذه الوصفة النبوية الكيدة‪ ،‬فسأظل –‬
‫بعون الله‪ -‬أكتب وأُذكِّر بهذا المر‪ ،‬وأتمنى أن يحذو‬
‫هذا الحذو كل من رأى بنفسه‪ ،‬وأيقن بأن القرآن‬
‫هو المخرج‪ ،‬فلعل صوتا من هذه الصوات يجد‬
‫آذانا مصغية فتلتفت إليه‪ ،‬وترى بنفسها المخرج‬
‫الرباني المن من هذا الغار المظلم‪..‬‬
‫وهذه الصفحات التي بين يديك – أخي القارئ –‬
‫تذكير بالمعاني التي ذ ُكرت في هذه السطر‪ ،‬مع‬
‫مزجها بالدلة الشرعية التي تزيدك اطمئنانًا بأن‬
‫حسن التصال‬ ‫مشكلتنا إيمانية‪ ،‬وأن حلها هو ُ‬
‫بالقرآن‪ ،‬مع بيان الوسائل العملية التي من شأنها‬
‫أن تجعلنا ننتفع بالقرآن في إنشاء اليمان وإحداث‬
‫التغيير بإذن الله‪.‬‬
‫وما تدر الشارة إليه أن بي طيات الصفحات القادمة بعضا من‬
‫الفقرات قد ت نقلها من كتاب (تقيق الوصال بي القلب والقرآن)‬
‫خاصة الفصل الول والسابع منه(‪.)1‬‬
‫أسأل الله عز وجل أن تقع هذه الصفحات‬
‫موقعها الصحيح في نفس قارئها‪ ،‬و أن تكون‬
‫وسيلة من الوسائل التي يصنع الله بها مجد المة‬
‫‪1‬‬
‫() الفصل الول بعنوان‪( :‬الصخرة أغلقت الغار فهل إلى‬
‫خروج من سبيل؟) والسابع بعنوان‪( :‬كيف يحدث الوصال بين‬
‫القلب والقرآن؟)‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫من جديد‪.‬‬
‫ول يسعنى في هذا المقام إل أن أرد المر إلى‬
‫َ‬
‫سر‬ ‫أهله‪ ،‬فأشكر الله عز وجل وأحمده أن وفقني وي ّ‬
‫لي الكتابة في هذا الموضوع مع ضعفي وقلة‬
‫ت َفِبمَا يُوحِي ِإلَيّ َربّي [سبأ‪ ،]50 :‬فلله‬
‫بضاعتي َوإِنِ ا ْهتَ َديْ ُ‬
‫وحده الفضل والمنة على أي خير تجده – أخي‪ -‬في‬
‫هذه الصفحات‪.‬‬
‫[البقرة‪.]32 :‬‬ ‫ك لَ ِعلْ َم لَنَا ِإلّ مَا َعلّمْتَنَا‬
‫سُ ْبحَاَن َ‬
‫كتبه‬
‫العبد العاجز الفقير‬
‫إلى عفو ربه ورحمته‬
‫ورضوانه‪:‬‬
‫مجــــدي الهللي‬
‫وللتواصل‪:‬‬
‫‪www.alemanawalan.com‬‬
‫‪quraaan@hotmil.com‬‬

‫‪8‬‬
‫فصيـــــــلة دم أمتنــــا‬
‫لو تأملنا المرحلة التي تعيشها أمتنا منذ عقود‬
‫طويلة لوجدناها تتشابه إلى حد كبير مع مرحلة‬
‫التيه التي مر بها بنو إسرائيل عندما رفضوا دخول‬
‫الرض المقدسة‪.‬‬
‫فبعد أن نجى الله عز وجل موسى – عليه‬
‫السلم – وقومه‪ ،‬وأغرق فرعون ومله‪ ،‬سار‬
‫موسى – عليه السلم – ببني إسرائيل متوجها نحو‬
‫الرض المقدسة‪ ،‬وطلب منهم أن يدخلوها معه‪،‬‬
‫فلما علموا أن فيها قوما أشداء خافوا من‬
‫إِنّا‬ ‫مواجهتهم‪ ،‬ورفضوا الدخول وقالوا لموسى ‪:‬‬
‫ب أَنتَ َورَّبكَ فَقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‬ ‫لَن نّ ْد ُخ َلهَا أَبَدًا مّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَ ْ‬
‫[المائدة‪.]24 :‬‬
‫فكان العقاب اللهي بأن يتيهوا في الرض‬
‫أربعين سنة ‪+‬فَإِّنهَا ُم َحرّمَ ٌة َعلَ ْيهِمْ َأرْبَ ِعيَ سََن ًة يَتِيهُو َن فِي الَ ْرضِ"‬
‫[المائدة‪.]26 :‬‬
‫والجدير بالذكر أن بني إسرائيل ظلوا خلل‬
‫هذه المدة يبحثون عن مخرج من التيه‪ ،‬وكلما‬
‫توهموا مخرجا اندفعوا إليه‪ ،‬وبذلوا فيه جهدهم‪،‬‬
‫ليفاجأوا بعد ذلك أنه سراب‪...‬‬
‫يقول ابن كثير‪ :‬فحرمها الله عليهم أربعين‬
‫سنة‪ ،‬يتيهون في الرض يصبحون كل يوم‬
‫فيسيرون ليس لهم قرار (‪.)2‬‬

‫() البداية والنهاية ‪ – 1/374‬دار الفجر للتراث – القاهرة‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ ...‬وكذلك نحن‪ ،‬فمنذ عقود طويلة والمخلصون‬
‫من أبناء أمتنا يبحثون عن مخرج للمة يُنقذها من‬
‫تيهها‪ ،‬إل أن هذا البحث – مع ما فيه من جهد‬
‫وإخلص‪ -‬تنقصه حلقة مهمة لكي تكتمل السلسلة‬
‫جا‬
‫وتظهر النتيجة المرجوة‪ ،‬وتنفرج الصخرة انفرا ً‬
‫يتيح للمة الخروج من مأزقها الراهن‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه الحلقة المفقودة تُعنى بتشخيص السبب‬
‫الرئيس لمرض أمتنا وكيفية علجه‪ ،‬وتنطلق من‬
‫مفهوم يقول بأن أمتنا ليست كبقية المم‪ ،‬وأن لها‬
‫وضعا خاصا عند الله عز وجل‪ ،‬فهي المة المكلفة‬
‫منه سبحانه بحمل رسالته الخيرة للبشرية وتبليغها‬
‫للعالمين‪َ + :‬وكَذَِلكَ جَ َعلْنَاكُ ْم ُأمّةً َو َسطًا لَّتكُونُوا ُشهَدَا َء َعلَى النّاسِ"‬
‫[البقرة‪.]143 :‬‬
‫هذا التكليف يستلزم بذل الجهد والوسع‬
‫والطاقة للنجاح في القيام به‪.‬‬
‫ل حَ ّق ِجهَادِهِ هُ َو اجَْتبَاكُمْ وَمَا جَ َع َل َعلَ ْيكُمْ فِي الدّي ِن‬
‫َوجَاهِدُوا فِي ا ِ‬
‫س ِلمِيَ مِن قَ ْبلُ وَفِي هَذَا لَِيكُونَ‬‫مِ ْن َحرَجٍ ّملّ َة أَبِيكُمْ إِْبرَاهِيمَ هُ َو َسمّاكُمُ اْلمُ ْ‬
‫ال ّرسُو ُل َشهِيدًا َعلَ ْيكُمْ وََتكُونُوا ُشهَدَاءَ َعلَى النّاسِ [الحج‪.]78 :‬‬
‫ل يرضى لعبادة الكفر‪:‬‬
‫َولَ‬ ‫إن الله عز وجل يريد الخير للناس جميعًا‬
‫َي ْرضَى ِلعِبَادِهِ اْلكُ ْفرَ [الزمر‪.]7 :‬‬
‫ومراده دخولهم جميعًا الجنة وَالُ يَ ْدعُو إِلَى اْلجَنّةِ‬
‫وَاْلمَغْ ِفرَ ِة بِِإذْنِهِ [البقرة‪ .]221 :‬لذلك كانت رسالته‬

‫‪10‬‬
‫المتتالية إليهم والتي تبشرهم بالجنة‪ ،‬وتخوفهم من‬
‫النار‪ ،‬وترسم لهم طريق الهداية إليه وإلى جنته‪.‬‬
‫ولقد اصطفى – سبحانه – أمة السلم لكي‬
‫تقوم بمهمة تبليغ رسالته الخيرة للبشرية جمعاء‪.‬‬
‫ولن القرآن هو رسالته الخيرة؛ لذلك فهو‬
‫سبحانه لن يستبدل المة السلمية بأمة أخرى في‬
‫مهمة هداية البشرية‪ ،‬وإيصال رحمته للعالمين كما‬
‫حدث من قبل مع بني إسرائيل حينما استبدل بهم‬
‫أمة السلم بعد خيانتهم للمانة‪.‬‬
‫ولقد قامت الجيال الولى للمة بأداء مهمتها‬
‫خير قيام‪ ،‬وبذلوا غاية جهدهم في تبليغ الرسالة‪،‬‬
‫وإليك أخي القارئ هذه القصة التي تؤكد هذا‬
‫المعنى‪..‬‬
‫يقول الستاذ جاسم المطوع‪:‬‬
‫في زيارة خاطفة إلى هونغ كونغ دعاني رجل‬
‫العمال الصيني (كين) إلى بيته لتناول الشاي‬
‫الصيني والعشاء‪ ،‬فلبيت الدعوة وذهبت إليه‬
‫وجلسنا جلسة ثقافية وسياحية‪ ..‬وسألت صاحبي‬
‫عن سبب دخوله في السلم‪ ،‬فقال لي‪ :‬لقد‬
‫أعلنت دخولي في السلم منذ أحد عشر عاما‬
‫وكذلك أسلمت زوجتي ودخل في السلم ولداي‪،‬‬
‫وسبب دخولي في السلم أني كنت أقرأ في تاريخ‬
‫الصين واكتشفت أن المسلمين وصلوا الصين منذ‬
‫ألف وثلثمائة عام‪ ،‬ففوجئت بهذه‬
‫المعلومة‪،‬واعتقدت أنهم وصلوا الصين وقطعوا‬
‫آلف الميال بسبب التجارة أو غيرها من المصالح‪،‬‬
‫ولكنني صدمت أكثر عندما علمت أن حضورهم‬

‫‪11‬‬
‫كان من أجل توصيل رسالة‪ ،‬فهزني هذا الموقف‬
‫كثيًرا‪ ،‬وقلت في نفسي‪ :‬يقطعون كل هذه الميال‬
‫من أجل توصيل رسالة السلم‪ ،‬ل شك أن عندهم‬
‫خيًرا كبيًرا‪ ،‬فقرأت عن السلم‪ ،‬وانشرح صدري‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فدخلت فيه والحمد لله‪..‬‬
‫‪ ..‬هكذا فهمت الجيال الولى طبيعة وظيفتها‪،‬‬
‫ثم حدث ما حدث بعد ذلك من ضعف‪ ،‬وتكالب‬
‫على الدنيا‪ ،‬وصراع من أجل الرئاسة فيها‪،‬‬
‫فانتكست المة‪ ،‬ومن ثم تركت وظيفتها ومهمتها‬
‫الساسية في هداية البشرية‪.‬‬
‫وكل يوم جديد يموت الكثيرون والكثيرون على‬
‫الضللة‪ ،‬لنهم – من ناحية‪ -‬لم يبحثوا عن الطريق‬
‫الصحيح‪ ،‬وعن غاية وجودهم في الدنيا‪ ،‬ومن ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬فإن المكلفين بتبليغ رسالة الله إليهم لم‬
‫يقوموا بذلك‪ ،‬وخانوا المانة‪ ،‬أو قصروا في أدائها‪.‬‬
‫من هنا ندرك بعضا من حكم البتلءات‬
‫والعقوبات المتتالية التي أصابت المة؛ لنها أول‪:‬‬
‫ضا‬
‫أهملت الرسالة‪ ،‬ولم تعمل بما تضمنته‪ ،‬ولنها أي ً‬
‫خانت أمانة الله في إبلغ الرسالة‪ ،‬والذي يشكل‬
‫المحور الثاني لوجودها‪.‬‬
‫فصيلة دم المة‪:‬‬
‫فإن كانت أمتنا مكلفة من الله عز وجل بحمل‬
‫رسالته للناس أجمعين‪ ،‬فإنها لن تستطيع أن تقوم‬
‫بهذه المهمة إل إذا تمثلت فيها الرسالة أول‪ ،‬وهذا‬
‫ل يمكن حدوثه بدون وجود قوة روحية هائلة تدفع‬
‫() مجلة ولدي الكويتية العدد (‪ )113‬إبريل ‪ ،2008‬ربيع الخر‬ ‫‪3‬‬

‫‪.1429‬‬

‫‪12‬‬
‫كّن للدين‬
‫أبناءها لمجاهدة أهوائهم وشهواتهم‪ ،‬وتم ِ‬
‫في نفوسهم‪ ...‬هذه القوة الروحية هي قوة‬
‫اليمان‪.‬‬
‫فاليمان الحي يولد داخل‬
‫سر‬
‫الفرد قوة دافعة تعينه وتي ِّ‬
‫عليه القيام بتنفيذ ما تضمنته‬
‫الرسالة‪ ،‬وتدفعه كذلك‬
‫لتوصيلها للخرين‪.‬‬
‫لذلك نجد أن الله عز وجل قد ربط بين علونا‬
‫وقيادتنا للبشرية وبين اليمان الذي تحمله صدورنا‬
‫ن كُنْتُم مّؤْمِِنيَ [آل‬
‫‪ ..‬ألم يقل سبحانه‪ :‬وَأَنْتُ ُم ا َل ْعلَ ْو َن ِإ ْ‬
‫عمران‪.]139 :‬‬
‫ل مَعَ اْلمُ ْؤمِنِيَ [النفال‪.]19 :‬‬
‫وقال‪ :‬وََأنّ ا َ‬
‫فالحماية والولية والكفاية والنصرة على قدر‬
‫اليمان‪:‬‬
‫[محمد‪:‬‬ ‫ذَلِكَ ِبأَنّ الَ َموْلَى الّذِينَ آ َمنُوا َوأَنّ الْكَا ِفرِينَ لَ مَ ْولَى َلهُمْ‬
‫‪.]11‬‬
‫[النساء‪.]141:‬‬ ‫ي سَبِيلً‬
‫ل ِل ْلكَا ِفرِي َن َعلَى اْلمُ ْؤمِنِ َ‬
‫ج َعلَ ا ُ‬
‫وَلَن َي ْ‬
‫فاليمان – إذن‪ -‬هو أهم شرط للتمكين‬
‫والستخلف في الرض‪:‬‬
‫خ ِلفَنّ ُهمْ فِي ا َلرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ستَ ْ‬‫وَ َعدَ الُ اّلذِينَ آ َمنُوا ِمنْ ُكمْ وَ َع ِملُوا الصّاِلحَاتِ َليَ ْ‬
‫خلَفَ اّلذِينَ مِن َق ْبلِ ِهمْ وََليُ َم ّكنَنّ لَ ُهمْ دِينَ ُهمُ اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُهمْ وََلُيَبدَّلنّهُم‬
‫َكمَا ا ْسَت ْ‬
‫مّن َب ْعدِ َخوْفِ ِه ْم َأ ْمنًا َي ْعُبدُوَننِي لَ يُشْرِكُونَ بِي َش ْيئًا [النور‪.]55 :‬‬

‫‪13‬‬
‫إن فصيلة دم أمتنا هي اليمان‪ ،‬ويوم أن‬
‫يضعف اليمان‪ ،‬ويتمكن الهوى وحب الدنيا من‬
‫قلوب أبنائها‪ ،‬فإنها بذلك تفقد مصدر قوتها وتميزها‬
‫على سائر المم‪ ،‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬بل إن‬
‫ضعف اليمان وغلبة الهوى من شأنه أن يستدعي‬
‫غضب الله عليها؛ لنها بهذا الضعف لن تستطيع أن‬
‫تبلغ رسالته‪ ،‬ومن ثَم فإن العقوبات ستتوالى عليها‬
‫حتى تفيق من غفلتها‪ ،‬وتعود ليمانها من جديد‪ ،‬لتنطلق‬
‫بعد ذلك حاملة الدواء الرباني‪ ،‬ورسالة الرحمة والشفاء‬
‫للمرضى والتائهين والحيارى في شتى بقاع الرض‪.‬‬
‫فعندما يضعف اليمان‪ :‬يقوى الهوى وحب‬
‫الدنيا‪ ،‬ويزداد النجذاب نحو الرض‪ ،‬ويشتد السعي‬
‫في اتجاه تحصيل الشهوات‪ ،‬ومن ثم تخبو الرغبة‬
‫في الجهاد لتبليغ الرسالة‪ ،‬فيؤدي هذا إلى استدعاء‬
‫غضب الله على المة ‪ ..‬وهذا هو واقعنا الن‪،‬‬
‫والذي ينطبق عليه قوله ‪« :‬إذا تبايعتم بالعينة‪ ،‬وأخذت أذناب‬
‫البقر‪ ،‬ورضيتم بالزرع‪ ،‬وتركتم الهاد‪ :‬سلط ال عليكم ذلً ل ينعه حت ترجعوا‬
‫إل دينكم»(‪.)4‬‬
‫إن المتأمل المتدبر لواقع المة يجد أنها في‬
‫ن الغضب اللهي‪ ،‬وإل فبماذا تفسر عدم‬ ‫مظا ّ‬
‫استجابة الدعوات المتواصلة الحارة والتي تلح‬
‫على الله بأن ينصر المة؟!‬
‫بماذا تفسر استعلء اليهود وقيامهم بإذللنا وهم‬
‫الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة؟!‬

‫‪4‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع‬
‫الصغير (‪.)423‬‬

‫‪14‬‬
‫‪..‬عن أنس بن مالك مرفوعًا‪« :‬يأت على الناس زمان‬
‫يدعو الرجل للعامة‪ ،‬فيقول ال‪ :‬ادع لاصتك أستجب‪ ،‬وأما العامة فل‪،‬‬
‫فإن عليهم غضبان»(‪.)5‬‬
‫قال‪:‬‬ ‫وعن حذيفة بن اليمان عن النبي‬
‫«والذي نفسي بيده‪ ،‬لتأمرن بالعروف‪ ،‬ولتنهون عن النكر‪ ،‬أو‬
‫ليوشكن ال أن يبعث عليكم عقابا منه ث تدعونه فل يستجاب‬
‫لكم»(‪.)6‬‬
‫مشكلتنا إيمانية‪:‬‬
‫من هنا نقول بأن مشكلة أمتنا إيمانية بالدرجة‬
‫الولى‪ ،‬ولن ينصلح حالها‪ ،‬ولن تستعيد عافيتها إل‬
‫باليمان‪ ،‬فتستبدل بذلك غضب الله برضاه‪ ،‬ومن‬
‫صرُ اْل ُمؤْمِنِيَ‬
‫م تستدعى نصره وتمكينه َوكَا َن حَقّا َعلَيْنَا نَ ْ‬ ‫ث َّ‬
‫[الروم‪.]47 :‬‬
‫وليس معنى القول بأن مشكلة أمتنا مشكلة‬
‫إيمانية هو ترك الخذ بأسباب التقدم المادية‬
‫التي أخذت بها سائر المم‪ ،‬أو ترك الجهاد لتبليغ‬
‫الدعوة وإقامة المشروع السلمي‪ ،‬بل المقصد‬
‫هو إعادة ترتيب الولويات‪ ،‬فاليمان أولً‪ ،‬ثم يلي‬
‫ذلك توجيه وتصريف الطاقة التي يولدها ذلك‬
‫اليمان في المجالت المختلفة‪ ،‬والسعي‬
‫الدؤوب لستكمال المشروع السلمي الذي يبدأ‬
‫‪5‬‬
‫() رواه ابن المبارك في الزهد (‪.)922‬‬
‫‪6‬‬
‫() حسن رواه الترمذي‪ ،‬وحسنه اللباني في صحيح الجامع (‬
‫‪.)7070‬‬

‫‪15‬‬
‫بإصلح الفرد‪ ،‬فالبيت‪ ،‬فالمجتمع‪ ،‬وينتهي‬
‫بأستاذية العالم َويَكُو َن الدّينُ كُلّهُ لِ [النفال‪.]39 :‬‬
‫مع الخذ في العتبار أن أهم عامل لنجاح هذا‬
‫المشروع هو وجود المسلم الصحيح الذي مكَّن لله‬
‫في قلبه‪ ،‬فانعكس ذلك على سائر حياته ليتحقق‬
‫سكِي وَ َمحْيَايَ َو َممَاتِي لِ َربّ‬
‫صلَتِي وَنُ ُ‬
‫فيه قوله تعالى‪ :‬قُل ِإ ّن َ‬
‫اْلعَاَلمِيَ [النعام‪.]162 :‬‬
‫ول يمكن أن يظهر هذا النموذج إل باليمان‪،‬‬
‫فاليمان هو الوقود الذي يول ِّد الطاقة الدافعة للقيام‬
‫ستَ ْأذُِنكَ‬‫بالواجبات المختلفة في أي زمان ومكان َل يَ ْ‬
‫اّلذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالِ وَاْلَيوْمِ الَخِ ِر أَن ّيجَا ِهدُوا ِبَأ ْموَالِ ِه ْم وَأَْنفُسِ ِهمْ وَالُ َعلِيمٌ‬
‫ت ُقلُوبُ ُهمْ‬‫ل وَاْلَيوْمِ الَخِ ِر وَارْتَابَ ْ‬ ‫ستَأْ ِذُنكَ اّلذِي َن لَ ُي ْؤ ِمنُونَ بِا ِ‬
‫بِاْل ُمّتقِيَ إِنّمَا يَ ْ‬
‫َف ُهمْ فِي رَْيبِ ِهمْ َيتَ َردّدُونَ [التوبة‪.]45 ،44 :‬‬
‫ولك أن تتأمل ما قاله المصلحون في هذا‬
‫الشأن ومنهم المام حسن البنا‪ ،‬فمن أقواله رحمه‬
‫الله‪ :‬إذا ُوجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل‬
‫النجاح جميعًا(‪.)7‬‬
‫واقرأ معي هذه الكلمات التي كتبها محمد‬
‫أمين المصري ‪ ..‬يقول رحمه الله‪ :‬إن محمدًا‬
‫عليه الصلة والسلم لم يعمد إلى إصلح‬
‫اقتصادي أو أخلقي أو صحي أو سياسي أو‬
‫إداري أو علمي‪.‬‬
‫ولكنه عمد إلى إصلح اليمان ‪ ..‬فكان من بعد‬
‫‪7‬‬
‫() رسالة إلى أي شيء ندعو الناس ص ‪.37‬‬

‫‪16‬‬
‫ذلك كل إصلح وكل قوة وكل خير‪ ،‬ول يصلح أمر‬
‫آخر هذه المة إل بما صلح عليه أولها‪.‬‬
‫فرجل العقيدة هو السبيل الوحيد لعلج أنواع‬
‫النحرافات؛ ذلك أن رجل العقيدة يندفع في تحقيق‬
‫أهدافه‪ ،‬وهو إنسان ملت نفسه عقيدته‪ ،‬فهو‬
‫يعيش من أجلها ويرضى بكل أذى في سبيلها ‪..‬‬
‫ويبذل فيها جهده وكل غال ورخيص‪..‬‬
‫رجل العقيدة إن لم تكن لديه الوسائل الكاملة‬
‫سعى إلى إيجادها ولو كان أمًرا مستحيلً (‪ ..)8‬إن‬
‫مثل هذا النسان يصيح بالناس ويترك فيهم‬
‫أقوى الثار ولو كان أبكما(‪.)9‬‬
‫فالوسيلة الفعالة القوية هي تكوين أمثال هؤلء‬
‫الرجال‪ ،‬والصلح الذي نرقبه ل يتم إل في إيجاد‬
‫أمثال هؤلء(‪.)10‬‬
‫شلل اليمان‪:‬‬
‫معنى ذلك أن الفرد الذي اشتعلت جذوة‬
‫جا في الدعوة‬ ‫اليمان في قلبه هو أكثر الفراد إنتا ً‬
‫وخدمة للسلم‪ ،‬ويكفيك دليل على ذلك أن زيد بن‬
‫ثابت قد تعلم السريانية في سبعة عشر يوما‪،‬‬
‫عندما أمره الرسول بتعلمها‪ ،‬بل وصار ماهًرا بها‬
‫‪ ..‬يقول زيد بن ثابت‪ :‬قال لي النبي ‪« :‬إن أكتب إل‬
‫قوم فأخاف أن يزيدوا علىّ أو يَ ْنقُصوا‪ ،‬فتعلّم السريانية» فتعلمتها‬
‫() المسؤولية لمحمد أمين المصري ص ‪.39‬‬ ‫‪8‬‬

‫() المصدر السابق ص ‪.31‬‬ ‫‪9‬‬

‫() المصدر السابق ص ‪.39‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪17‬‬
‫ما(‪.)11‬‬
‫في سبعة عشر يو ً‬
‫‪ ..‬إن الطاقة النووية – كما يقول أبو الحسن‬
‫الندوي – ل تساوي الطاقة التي يولدها اليمان في‬
‫قلب المؤمن‪.‬‬
‫‪ ..‬هذا اليمان يستطيع أن يصنع عجائب كما‬
‫صنع عجائب من قبل‪ ،‬ويحل كل مشكلت المة‬
‫أولً‪ ،‬والنسانية ثانيًا‪ ،‬لن كل مشكلت النسان‬
‫نبعت من عبادة النفس والشهوات‪ ،‬نبعت من‬
‫النانية ‪ ..‬نبعت من النظر القاصر المحدود‪ ،‬نبعت‬
‫من حب الرئاسة ‪ ..‬واليمان يستطيع أن يتغلب‬
‫على كل هذا‪ ،‬ويصنع من المة أمة جديدة(‪.)12‬‬
‫‪ ..‬روى التاريخ أن جعفر بن أبي طالب أخذ راية‬
‫رسول الله في غزوة مؤتة‪ ،‬فقاتل بها‪ ،‬حتى إذا‬
‫أرهقه القتال اقتحم عن فرسه‪ ،‬فعقرها ثم قاتل‪،‬‬
‫فقطعت يمينه‪ ،‬فأخذ الراية بيساره فقطعت‬
‫فاحتضن الراية بعضديه‪ ،‬حتى قتل‪ ،‬وله ثلث‬
‫وثلثون سنة‪ ،‬ووجد المسلمون ما بين صدره‬
‫ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة‪ ،‬ما بين ضربة‬
‫سيف وطعنه بالرمح‪ ،‬كلها من المام‪ ،‬ومات فتى‬
‫ن إلى الجنة‪ ،‬ويتغنى بنعمائها‪،‬‬‫الفتيان وهو يح ُّ‬
‫ويستهين بزخارف الدنيا‪.‬‬
‫هل يتصور هذا من غير عقيدة تتغلغل في‬
‫الحشاء؟ ونشوة إيمانية تسرى في العروق؟ ولذة‬

‫() الصابة في تمييز الصحابة لبن حجر ‪.2/491‬‬ ‫‪11‬‬

‫() نفحات اليمان للندوى ص ‪.23‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪18‬‬
‫روحية تتغلب على الشعور باللم؟!(‪.)13‬‬
‫‪ ..‬إن هذا الشلل من اليمان والحتساب‪،‬‬
‫ورجاء الجر والثواب‪ ،‬والشوق إلى الجنة‪ ،‬والحنين‬
‫إلى الشهادة‪ ،‬والحب لله ولرسوله وللمؤمنين‪ ،‬ل‬
‫زال بكرا‪ ،‬ولم يستخدم بعد‪ ،‬ولم يُقتبس منه هذا‬
‫التيار المضئ المنير ‪..‬‬
‫هذا التيار كان يستطيع أن يمل العالم كله نوًرا‬
‫وبهاءً‪ ،‬ويحل كل مشكلة‪ ،‬ولكنه شلل مظلوم ‪..‬‬
‫إنه ضائع من قرون (‪..)14‬‬
‫***‬

‫() نفحات اليمان للندوي ص ‪.53 ،52‬‬ ‫‪13‬‬

‫() نفحات اليمان للنووي ص ‪.23‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪19‬‬
‫العمود الفقري لليمـــان‬

‫مشكلة أمتنا الولى هي‪« :‬ضعف شديد في‬


‫اليمان»‪.‬‬
‫هذا هو التشخيص الصحيح للوضع القائم‪ ،‬ليبقى‬
‫السؤال عن كيفية علج هذا الضعف الحاد‪.‬‬
‫بل شك هناك وسائل كثيرة لزيادة اليمان‪،‬‬
‫فالطاعات والعمال الصالحة والقربات المختلفة‬
‫تزيد اليمان‪ ،‬ولكن تبقى أهم وأعظم وسيلة‬
‫لزيادته هي‪ :‬القرآن وَِإذَا ُتلَِيتْ َعلَ ْيهِ ْم آيَاتُهُ زَادَْتهُ ْم إِيَانًا‬
‫[النفال‪ .]2 :‬فالقرآن منبع عظيم لليمان ل مثيل له‬
‫ى‬
‫‪ ..‬أل تراه ينادي على الجميع أن هلموا إل َّ‬
‫واستكملوا نقص إيمانكم‪ ،‬فمنابعي ممتلئة وجاهزة‬
‫لمدادكم جميعًا بما تحتاجونه من إيمان رَبّنَا إِنّنَا‬
‫َسمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي ِللِيَا ِن َأ ْن آمِنُوا ِبرَّبكُمْ فَآمَنّا [آل عمران‪.]193 :‬‬
‫يقول محمد بن كعب القرظي‪« :‬المنادي هو‬
‫القرآن‪ ،‬ليس كلهم رأى النبي »(‪.)15‬‬
‫فالقرآن له قوة تأثير ضخمة على القلوب ل‬
‫‪15‬‬
‫() فضائل القرآن لبي عبيد ص ‪ ،58‬ويؤكد الطبري على ذلك‬
‫ويرد على من يقول بأن المنادي هو النبي فيقول‪ :‬وأولى‬
‫القولين في ذلك بالصواب هو قول محمد بن كعب‪ ،‬هو أن‬
‫منادي القرآن‪ ،‬لن كثيًرا ممن وصفهم الله بهذه‬ ‫يكون ال ُ‬
‫الصفة في هذه اليات ليسوا ممن رأى النبي ‪ ،‬ول عاينه‪،‬‬
‫فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى نداءه‪ ،‬ولكنه القرآن‪،‬‬
‫وهو نظير قوله جل ثناؤه مخبًرا عن الجن إذا سمعوا كلم‬
‫الله يُتلى عليهم أنهم قالوا‪ِ :‬إنّا سَ ِمعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي ِإلَى الرّشْدِ‬
‫تفسير ابن جرير ‪.213 -4/212‬‬

‫‪20‬‬
‫يناظره فيها مصدر آخر ‪ ..‬وكيف ل‪ ،‬وهو كلم رب‬
‫العالمين الذي إذا استقبلته الجبال الرواسي تصدعت‬
‫واندكت من قوة تأثيره عليها َلوْ أَْنزَلْنَا هَذَا الْ ُقرْآنَ َعلَى جََبلٍ‬
‫شيَ ِة الِ [الحشر‪.]21 :‬‬ ‫ّلرَأَيَْت ُه خَاشِعًا مّتَصَ ّدعًا مّنْ خَ ْ‬
‫فإن كان اليمان للقلب كالروح للبدن‪ ،‬فإن‬
‫القرآن يمثل العمود الفقري لهذا اليمان؛ لذلك‬
‫ك أَ ْوحَيْنَا‬
‫ليس عجبا أن يُسمى القرآن بالروح‪َ :‬وكَذَِل َ‬
‫إَِل ْيكَ رُوحًا مّ ْن َأ ْمرِنَا [الشورى‪.]52 :‬‬
‫يقول مونتاي‪ :‬إن مثل الفكر العربي السلمي‬
‫المبعد عن التأثير القرآني كمثل رجل أفرغ من‬
‫دمه(‪.)16‬‬
‫إن القرآن – كما يقول محمد إقبال‪ -‬ليس بكتاب‬
‫فحسب ‪ ..‬إنه أكثر من ذلك‪ ،‬إذا دخل القلب تغير‬
‫النسان وإذا تغير النسان تغير العالم(‪.)17‬‬
‫ويقول د‪ .‬فريد النصاري‪ :‬إنه ل شيء أقدر من‬
‫القرآن على بناء النسان‪ :‬عقيدة وعبادة وسلوكا‬
‫اجتماعيا‪.‬‬
‫إن القرآن هو مفتاح النفس النسانية‪ ،‬فمن‬
‫أخطأ القرآن فقد أخطأ المفتاح(‪.)18‬‬
‫أنتم روح جديد‪:‬‬
‫‪16‬‬
‫() قالوا عن القرآن لعماد الدين خليل ص ‪ ،287‬ملحق لكتاب‬
‫إشارات العجاز لبديع الزمان النورسي‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫() روائع إقبال للندوي ص ‪ 158‬دار القلم ‪ -‬دمشق‪.‬‬
‫() البيان الدعوي د‪ .‬فريد النصاري – ص ‪ – 260‬دار الكلمة –‬ ‫‪18‬‬

‫مصر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ولو تأملنا في دعوات المصلحين لوجدناها‬
‫تنطلق من هذا المفهوم‪.‬‬
‫فهذا إمام الدعاة في العصر الحديث حسن البنا‬
‫يخاطب من حوله وهو يعّرِفهم بمهمتهم فيقول‪:‬‬
‫أنتم روح جديد يسري في قلوب هذه المة فيحييه‬
‫بالقرآن(‪.)19‬‬
‫وهذا محمد البشير البراهيمي صديق عبد‬
‫الحميد بن باديس ورفيق كفاحه يقول عنه‪ :‬وله‬
‫في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم‪،‬‬
‫والصلح‪ ،‬والتربية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬وهو أنه‪( :‬ل فلح‬
‫للمسلمين إل بالرجوع إلى هدايته‪ ،‬والستقامة‬
‫على طريقته)‪ ،‬وهو رأي الهداة المصلحين من‬
‫قبله(‪.)20‬‬
‫وهذا أبو العلى المودودي يقول‪ :‬يا أيها‬
‫المسلمون احملوا القرآن وانهضوا‪ ،‬وحل ِّقوا فوق‬
‫العالم‪ ،‬فليس من شأننا أن نلهث وراء العالم‪ ،‬بل‬
‫علينا أن نشده إلى مبادئنا وأصولنا‪.‬‬
‫‪ ..‬إن حياتي ومماتي وقف على هذا الهدف‬
‫النبيل‪ ،‬وسوف أسير قُدُما‪،‬حتى لو لم يتقدم‬
‫معي أحد‪ ،‬وسوف أسير وحيدًا إذا لم يرافقني‬
‫أحد‪ ،‬ولو اتَّحدت الدنيا وخالفتني‪ ،‬فلن أخشى‬
‫خوض المعركة وحيدًا منفردًا(‪.)21‬‬
‫‪ ..‬هذا المعنى العظيم الذي اتفق عليه هؤلء‬
‫‪19‬‬
‫() رسالة بين المس واليوم‪.‬‬
‫() حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن ص ‪.73‬‬ ‫‪20‬‬

‫() المصدر السابق ص ‪.90‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪22‬‬
‫المصلحون وغيرهم لم يأت من فراغ‪ ،‬فنموذج‬
‫الجيل الول يؤكده‪ ..‬هذا الجيل عندما أحسن أبناؤه‬
‫التعامل مع القرآن‪ ،‬وحين استقبلته قلوبهم الستقبال‬
‫الصحيح كانت النتيجة سريعة ومذهلة‪ ...‬سيادة الرض‬
‫في سنوات قليلة‪.‬‬
‫صنعوا ها هنا‪:‬‬
‫إنهم ُ‬
‫فإن كان التحقق باليمان‬
‫والربانية هو أهم صفات جيل‬
‫التمكين‪ ،‬فليس عجبًا أن يكون‬
‫الصحابة رضوان الله عليهم قد‬
‫تحققت فيهم هذه الصفة على خير‬
‫ما يكون‪ ،‬وأن يكون السبب‬
‫الرئيس في هذا هو القرآن‪ ،‬ولقد‬
‫تحدث الستاذ سيد قطب – رحمه‬
‫الله – عن هذا المر كثيًرا في‬
‫كتاباته‪ ،‬ومن ذلك ما قاله في آخر‬
‫كتبه «مقومات التصور السلمي»‪:‬‬
‫«لقد كنت وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة‬
‫الولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله –‬
‫سبحانه – وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم‪ ،‬فل أكاد‬
‫أدرك كيف تم هذا؟!‬
‫كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها‬
‫في قلوبهم وفي حياتهم‪ ،‬ولكني لم أكن أدرك كيف‬
‫تم هذا حتى عدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء‬
‫موضوعه الصيل‪ :‬تجلية حقيقة اللوهية وتعبيد‬
‫الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪ ..‬وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله!‬
‫أدركت – ول أقول أحطت – سر الصناعة!‬
‫صنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ‬
‫عرفت أين ُ‬
‫البشرية وكيف صنع!‬
‫صنعوا ها هنا! صنعوا بهذا القرآن! بهذا‬
‫إنهم ُ‬
‫المنهج المتجلى فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في‬
‫هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء‪،‬‬
‫وتغمر كل شيء‪ ،‬ويصدر عنها كل شيء‪ ،‬ويتصل‬
‫بها كل شيء! ويتكيف بها كل شيء ‪..‬‬
‫بهذا كله وجدت – في الرض وفي دنيا الناس‪-‬‬
‫حقيقة «الربانية» متمثلة في أناس من البشر‪..‬‬
‫وُجد «الربانيون» الموصولون بالله‪ ،‬العائشون‬
‫بالله‪ ،‬ولله‪ ،‬والذين ليس في قلوبهم وليس في‬
‫حياتهم إل الله‪..‬‬
‫وحينما وجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا‬
‫الناس‪ ،‬ووجد الربانيون الذين هم الترجمة الحية‬
‫لهذه الحقيقة ‪ ..‬حينئذ انساحت الحواجز الرضية‪،‬‬
‫والمقررات الرضية‪ ،‬والمألوفات الرضية ‪ ..‬ودبت‬
‫هذه الحقيقة على الرض ‪ ..‬وصنع الله ما صنع في‬
‫الرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد‪.‬‬
‫وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها‬
‫تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه‪ ،‬وبطلت‬
‫المألوفات التي يقيس بها الناس الحداث والشياء‬
‫‪ ..‬ووجد الواقع السلمي الجديد‪ ،‬وولد معه‬

‫‪24‬‬
‫(‪)22‬‬
‫‪..‬‬ ‫النسان الحقيقي الجديد»‬
‫القرآن مخرجنا‪:‬‬
‫من هنا نقول بأنه إذا كان القرآن قد صنع‬
‫الجيل الول‪ ،‬فإنه قادر بإذن الله أن يصنع أجيالً‬
‫وأجيال ً ربانية جديدة‪ ،‬وأن يخرج المة من أزمتها‪،‬‬
‫ويعيد لها مكانتها‪.‬‬
‫وليس هذا الكلم من قبيل الماني والحلم بل‬
‫هو حقيقة أكدها التاريخ‪ ،‬وأخبرنا بها رسول الله ‪،‬‬
‫ففي حديث حذيفة بن اليمان حين أخبره رسول‬
‫الله بما سيحدث من اختلف وفرقة بعده‪ .‬قال‬
‫حذيفة‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول الله فما تأمرني إن‬
‫أدركت ذلك‪ ،‬قال‪« :‬تعلّم كتاب ال عز وجل‪ ،‬واعمل به فهو‬
‫الخرج من ذلك»‪.‬‬
‫ثلثًا‪:‬‬ ‫قال حذيفة‪ :‬فأعدت عليه ثلثًا‪ ،‬فقال‬
‫«تعلّم كتاب ال عز وجل واعمل به فهو النجاة»(‪.)23‬‬
‫وخطب في مرجعه من حجة الوداع‪ ،‬فكان‬
‫مما قال‪« :‬كتاب ال فيه الدى والنور‪ ،‬من استمسك به‪ ،‬وأخذ به‪،‬‬
‫كان على الدى‪ ،‬ومن أخطأه ضل»(‪.)24‬‬
‫وخرج يوما على أصحابه‪ ،‬وهم جلوس‬
‫ينتظرونه‪ ،‬فلما خرج عليهم جلس معهم وقال‪:‬‬
‫‪22‬‬
‫() مقومات التصور السلمي لسيد قطب ص ‪194 ،192‬‬
‫باختصار‪.‬‬
‫‪23‬‬
‫() رواه أبو داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬والحاكم في المستدرك وصححه‬
‫ووافقه الذهبي‪ ،‬وصححه ابن حبان واللباني‪ ،‬وحسنه‬
‫الرناؤوط وغيرهم‪.‬‬
‫() رواه مسلم حديث (‪.)6177‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪25‬‬
‫«أبشروا ألستم تشهدون أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وتشهدون‬
‫أن رسول ال؟ وتشهدون أن هذا القرآن من عند ال؟»‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نعم نشهد على هذا‪.‬‬
‫قال‪« :‬أبشروا فإن هذا القرآن سببٌ من عند ال طرفه بيد ال‪،‬‬
‫وطرفه بأيديكم‪ ،‬فاستمسكوا به فل تضلوا‪ ،‬ول تلكوا بعده أبدًا»(‪.)25‬‬
‫وعندما حدثت فتنة مقتل عثمان بن عفان‬
‫ذهب عبد الرحمن ابن أبزى إلى أُبي بن كعب‬
‫ليسأله‪ :‬أبا المنذر ما المخرج؟ قال‪ :‬كتاب الله‪ ،‬ما‬
‫استبان لك فاعمل به وانتفع‪ ،‬وما اشتبه عليك فكله‬
‫إلى عالمه(‪.)26‬‬
‫جندب بن عبد الله البجلي‬‫ولما أحس الصحابي ُ‬
‫بقدوم طلحة والزبير‪ ،‬وخاف القتال‪ ،‬فخرج يريد‬
‫الحجاز‪ ،‬فتبعه قوم‪ ،‬فجعلوا يقولون‪ :‬أوصنا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اقرأوا القرآن‪ ،‬فإنه نور الليل المظلم‪ ،‬وضياء‬
‫(‪)27‬‬
‫النهار‪ ،‬فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة ‪.‬‬
‫وكان ابن عباس يقول‪ :‬من قرأ القرآن واتبع ما‬
‫فيه هداه الله من الضللة في الدنيا‪ ،‬ووقاه يوم‬
‫القيامة سوء الحساب‪ ،‬وذلك أن الله تعالى يقول‪:‬‬
‫ضلّ َو َل يَشْقَى [طه‪.)28( ]123 :‬‬
‫ل يَ ِ‬
‫َفمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ َف َ‬

‫() رواه الطبراني وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪.)34‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪26‬‬
‫() مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي ص ‪.174‬‬
‫() فهم القرآن للحارث المحاسبي ص ‪.289‬‬ ‫‪27‬‬

‫() لمحات النوار للغافقي ‪.37 ،1/36‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪26‬‬
‫أين السنة؟!‬
‫وليس معنى القول بأن القرآن هو المخرج‬
‫التقليل من شأن السنة النبوية‪ ،‬بل العكس فالقرب‬
‫الحقيقي من القرآن سيزيدنا حبًا للسنة‪ ،‬ويعيننا على‬
‫العمل بما تدل عليه‪.‬‬
‫فالسنة تشرح القرآن وتبين ما أُجمل فيه‬
‫[النحل‪:‬‬ ‫س مَا ُن ّزلَ إِلَ ْيهِمْ وََل َع ّلهُمْ َيتَ َف ّكرُونَ‬
‫وَأَْنزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذ ْكرَ لُِتبَيّ َن لِلنّا ِ‬
‫‪.]44‬‬
‫وليس أدل على أهمية التمسك بالسنة مع‬
‫القرآن من قوله ‪« :‬تركت فيكم شيئي‪ ،‬لن تضلوا بعدها‪:‬‬
‫كتاب ال‪ ،‬وسنت‪ ،‬ولن يتفرقا حت يردا علىّ الوض»(‪.)29‬‬
‫مع الخذ في العتبار أن القرآن ينفرد بإعجازه‬
‫ت الِنْسُ وَاْلجِ ّن َعلَى أَن يَأْتُوا ِبمِ ْثلِ هَذَا اْل ُقرْآ ِن لَ يَأْتُونَ‬
‫قُل لِّئنِ ا ْجَتمَعَ ِ‬
‫ضهُ ْم لَِبعْضٍ َظ ِهيًا [السراء‪.]88 :‬‬ ‫ِبمِ ْث ِلهِ وَلَ ْو كَا َن بَعْ ُ‬
‫فالقرآن الكريم أعظم معجزة نزلت من‬
‫السماء‪ ،‬والسر العظم لعجازه يكمن في قوة‬
‫تأثيره على القلوب‪ ،‬فإن كانت المعجزات السابقة‬
‫شاهد بالبصار‪ ،‬فإن معجزة القرآن تشاهد‬
‫َ‬ ‫سية تُ‬
‫ح ِّ‬
‫ِ‬
‫بالبصائر‪ ،‬ويشعر بها كل من يتعرض لها‪..‬‬
‫نعم‪ ..‬هناك أوجه إعجاز متعددة للقرآن‬
‫(العجاز البياني والعجاز التشريعي والعجاز‬
‫الغيبي والعلمي) إل أن سر إعجازه العظم – كما‬
‫يقول المام الخطابي ‪ -‬هو‪ :‬صنيعه بالقلوب‪،‬‬
‫‪29‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه الحاكم‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع ح‬
‫(‪.)2937‬‬

‫‪27‬‬
‫وتأثيره في النفوس‪.‬‬
‫فإنك ل تسمع كلما – غير القرآن – منظومًا أو‬
‫منثوًرا إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة‬
‫والحلوة في حال‪ ،‬ومن الروعة والمهابة في أخرى ما‬
‫يخلص منه إليه‪.‬‬
‫ويستطرد الخطابي قائلً‪:‬‬
‫‪ ..‬تستبشر به النفوس‪ ،‬وتنشرح له الصدور‪ ،‬حتى‬
‫إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من‬
‫شاها من الخوف والفََرق ما‬‫الوجيب والقلق‪ ،‬وتَغَ َّ‬
‫تقشعر منه الجلود‪ ،‬وتنزعج له القلوب‪ ..‬يحول بين‬
‫النفس وبين ُمضمراتها وعقائدها الراسخة فيها‪.‬‬
‫فكم من عدو للرسول من رجال العرب‬
‫وفُتَّاكها‪ ،‬أقبلوا يريدون اغتياله وقتله‪ ،‬فسمعوا آيات‬
‫القرآن‪ ،‬فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن‬
‫يتحولوا عن رأيهم الول‪ ،‬وأن يركنوا إلى مسالمته‪،‬‬
‫ويدخلوا في دينه‪ ،‬وصارت عداوتهم موالة‪،‬‬
‫وكفرهم إيمانًا(‪..)30‬‬
‫إن تأثير القرآن على القلوب ل‬
‫يوجد له نظير‪ ،‬ومن ثمَّ فإن من‬
‫يُحسن التعرض له سيكون من أكثر‬
‫سنة‪ ،‬وحرصا على‬ ‫الناس حبا لل ُّ‬
‫تطبيقها‪ ،‬وكيف ل والطاقة المتولدة‬
‫من استمرار التأثر بآيات القرآن‬
‫ستدفعه لتطبيق كل ما يستطيع‬
‫تطبيقه مما يُحبه الله ورسوله‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫() التعبير القرآني والدللة النفسية ص ‪ 109 ،108‬نقل عن‬
‫البيان في إعجاز القرآن للخطابي ص ‪.64‬‬

‫‪28‬‬
‫ُّ‬
‫السنة وأنها‬ ‫إننا نؤكد مرة أخرى على منزلة‬
‫المصدر الثاني للتشريع بل إن حبنا الشديد للسنة‬
‫يدفعنا إلى القول بأهمية العودة الصحيحة للقرآن‪،‬‬
‫ولم ل والكثير منا يشكو من عدم قدرته على‬
‫تطبيق ما يدله عليه القرآن والسنة لضعف اليمان‬
‫وغلبة الهوى‪.‬‬
‫حسن التعرض‬ ‫لذلك ل يخطئ من يقول بأن ُ‬
‫للقرآن‪ ،‬والغتراف من منابع اليمان فيه من شأنه‬
‫أن يجعلنا نقترب أكثر وأكثر من السنة‪ ،‬ويزيدنا‬
‫حرصا على التمسك بها‪.‬‬
‫القرآن والعمال الصالحة الخرى‪:‬‬
‫وليس المقصد كذلك من كثرة كلمنا عن‬
‫القرآن التقليل من شأن بقية العمال الصالحة‬
‫الخرى‪ ،‬فكل طاعة‪ ،‬وكل عمل صالح له وظيفة‬
‫في تشييد بنيان اليمان في قلب المسلم‪ ،‬ولكن‬
‫المقصد هو وضع القرآن في حجمه الصحيح‬
‫بالنسبة لتلك العمال‪.‬‬
‫فكما أن للحج أعمال ً كثيرة كالسعي والطواف‬
‫ورمي الجمار‪ ،‬إل أن أهم أعمال الحج هو الوقوف‬
‫بعرفة‪ ،‬فبه يتحقق أهم مقصود للحج من إظهار‬
‫الذل والنكسار والتَبَؤُّس والفتقار لله عز وجل‪،‬‬
‫لذلك قال ‪« :‬الج عرفة»(‪.)31‬‬
‫وكما أن للتوبة أعمال ً كثيرة كالقلع عن‬
‫الذنب‪ ،‬ورد المظالم‪ ،‬والستغفار‪ ،‬إل أن أهم عمل‬
‫‪31‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه المام أحمد‪ ،‬والحاكم‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح‬
‫الجامع ص (‪.)3172‬‬

‫‪29‬‬
‫‪:‬‬ ‫للتوبة هو الندم‪ ،‬وبدونه لن تتحقق التوبة ‪ ..‬قال‬
‫«الندم توبة»(‪.)32‬‬
‫كذلك القرآن بالنسبة لليمان‪ ،‬فكما أن كل‬
‫طاعة‪ ،‬وكل عمل صالح من شأنه أن يزيد اليمان‬
‫كالصيام والصدقة وغيرهما إل أن القرآن يُمثل‬
‫العمود الفقري لليمان‪ ،‬وبدونه ل يمكن للقلب أن‬
‫يستعيد عافيته‪ ،‬وتُبث الروح في جنباته ‪..‬‬
‫إنه كالماء فيه حياة لكل من شرب منه‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول ابن القيم‪:‬‬
‫وكل من القلب والبدن محتاج أن يتربى فينمو‬
‫ويزيد حتى يكمل ويصلح ‪ ..‬وكما أن البدن محتاج أن‬
‫يرقى بالغذية المصلحة له‪ ،‬والحمية عما يضره‪ ،‬فل‬
‫ينمو إل بإعطائه ما ينفعه ومنعه مما يضره‪ ،‬فكذلك‬
‫القلب‪ :‬ل يزكو‪ ،‬ول ينمو‪ ،‬ول يتم صلحه إل بذلك ‪..‬‬
‫ول سبيل له إلى الوصول‬
‫لذلك إل من القرآن‪ ،‬وإن‬
‫وصل إلى شيء منه من‬
‫غيره‪ ..‬فهو شيء يسير ل‬
‫يحصل له به تمام‬
‫المقصود(‪..)33‬‬
‫ويؤكد هذا المعنى قول العمش‪ :‬كان ابن‬
‫مسعود يُق ُّ‬
‫ل الصوم‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا أبا عبد الرحمن‬
‫ل الصوم‪ ،‬فقال‪ :‬أما إنه عمل صالح‪ ،‬ولكني‬ ‫إنك تُقِ ُّ‬

‫‪32‬‬
‫() أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫() إغاثة اللهفان ‪.1/76‬‬

‫‪30‬‬
‫أختار عليه قراءة القرآن‪ ،‬إذا صمت ضعفت عن‬
‫قراءة القرآن فلم أقرأ(‪..)34‬‬
‫والجدير بالذكر أن عبد الله بن مسعود – رضي‬
‫الله عنه – كان ضعيف البنية‪ ،‬لذلك كان يجد مشقة‬
‫في الجمع بين قراءة القرآن والصيام التطوعي‪ ،‬ومما‬
‫ل شك فيه أن الجمع بين المرين فيه خير كبير‪.‬‬
‫ولكن لن القرآن هو المنبع العظيم لليمان‪،‬‬
‫وهو الذي يبث الروح في بقية العمال الصالحة‪،‬‬
‫لذلك كان من الهمية بمكان أن يُعطى الولوية‪.‬‬
‫من هنا ندرك مغزى قول عبد الله بن عمرو بن‬
‫العاص ‪:‬‬
‫ما‪،‬‬
‫ما دره ً‬ ‫لو بات رجل ينفق ديناًرا ديناًرا‪ ،‬ودره ً‬
‫ل على الجياد في سبيل الله‪ ،‬حتى يصبح‬ ‫ويحم ُ‬
‫متَقَب ّلَ‬
‫ت أتلو كتاب الله حتى أصبح ُ‬ ‫ُ‬ ‫متَقبَّل ً منه‪ ،‬وب ّ‬
‫ُ‬
‫(‪)35‬‬
‫مني لم أحب أن لي عمله بعملي ‪.‬‬
‫وليس معنى هذا ترك النفاق في سبيل الله‬
‫والكتفاء بقراءة القرآن‪ ،‬بل المقصد هو الترتيب‬
‫الصحيح للولويات‪ ،‬وإعطاء القرآن المكانة الولى‬
‫فيها‪ ،‬وكيف ل والمكثر من تلوة القرآن – بفهم‬
‫وتأثر – سيجد نفسه وقد جمع خصال الخير كلها –‬
‫بإذن الله‪ -‬لنه كلما التقى بالقرآن‪ ،‬تولد داخله‬
‫إيمان جديد‪ ،‬وطاقة جديدة تدفعه لتصريفها في‬
‫أوجه البر المختلفة‪ ،‬من إنفاق‪ ،‬ودعوة‪ ،‬وصلة‬
‫للرحم‪ ،‬وخدمة للناس‪ ،‬وفوق هذا كله الشعور‬
‫() لمحات النوار للغافقي برقم (‪ ،)37‬وانظر فضائل القرآن‬ ‫‪34‬‬

‫لبي عبيد‪ ،‬وشعب اليمان للبيهقي‪.‬‬


‫‪35‬‬
‫() المصدر السابق برقم (‪ )54‬وانظر مصنف ابن أبي شيبة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بالسكينة والطمأنينة والقرب من الله عز وجل‪.‬‬
‫ولك‪ -‬أخي القارئ‪ -‬أن تعجب مثل عجبي من‬
‫قول الضحاك بن مزاحم‪ :‬لول تلوة القرآن لسرني‬
‫م؟ قال‪ :‬لن المرض‬ ‫أن أكون مريضا‪ .‬فقيل له‪ :‬ل ِ َ‬
‫يرفع عني الحرج ويُكفر عني الذنوب‪ ،‬ويجرى لي‬
‫مثْل صالح ما كنت أعمل(‪.)36‬‬
‫ِ‬
‫فهو يعلم أن أثر التلوة ل يعدله شيء من‬
‫إيمان وأمان وسكينة كما قال عبد الله بن مسعود‪:‬‬
‫إن هذا القرآن مأدبة الله فمن دخل فيه فهو‬
‫آمن(‪.)37‬‬
‫وعن فروة بن نوفل قال‪ :‬كان خباب بن الرت‬
‫ما‪ :‬يا هناه (يا هذا) تقرب إلى‬
‫لي جاًرا‪ ،‬فقال لي يو ً‬
‫الله ما استطعت‪ ،‬واعلم أنك لست تتقرب إلى الله‬
‫عز وجل بشيء هو أحب إليه من كلمه(‪.)38‬‬
‫هل أدرك المسلمون قيمة القرآن؟!‬
‫فإن كان القرآن كذلك فهل أدرك المسلمون‬
‫قيمته‪ ،‬وهل أحسنوا النتفاع به؟!‬
‫‪ ..‬هل تعاملوا معه على حقيقته كمصدر متفرد‬
‫لزيادة اليمان ومن ث َّ‬
‫م التغيير؟!‬
‫للسف لم يحدث هذا‪ ،‬بل حدث العكس‪ ،‬فلقد‬
‫انصب اهتمام الغالبية منهم – إل من رحم ربي – على‬
‫الناحية الشكلية للقرآن‪ ،‬ولم يواكب ذلك اهتمام بتدبره‬
‫‪36‬‬
‫() أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه‪ ،‬كتاب الزهد‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫() رواه الدارمي ‪ ،‬وأبي عبيد في فضائل القرآن‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫() فضائل القرآن لبي عبيد‪ ،‬والتذكار للقرطبي‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫والتأثر به‪ ،‬والغتراف من منابع اليمان التي تتفجر من‬
‫آياته وسوره‪ ،‬لتستمر المة في ضعفها وعجزها عن‬
‫النهوض من كبوتها‪ ،‬وكيف ل وقد هُجر بذلك أهم‬
‫وأعظم مصدر للمداد اليماني؟!‬
‫ومما يزيد المر صعوبة أن الكثيرين ل يعترفون‬
‫بذلك‪ ،‬بل يعتبرون أن الهتمام بالقرآن يعني الكثار‬
‫من قراءته بفهم أو بدون فهم‪ ،‬ويعني كذلك تخريج‬
‫حفَّاظ ألفاظه في أقل وقت ممكن ‪..‬‬ ‫أكبر قدر من ُ‬
‫فازداد القرآن يُتما‪ ،‬وأصبح حاضًرا وغائبًا‪ ..‬موجودًا‬
‫ومهجوًرا‪.‬‬
‫‪ ..‬صار حاضًرا بلفظه على ألسنة القَُّراء‬
‫والحفاظ‪ ،‬لكنه غائب بروحه وأنواره عن القلوب‪،‬‬
‫وأثره اليجابي في السلوك‪.‬‬
‫‪ ..‬صار موجودا بشكله من خلل المطابع‬
‫والذاعات والمدارس والكليات والمسابقات‪ ،‬لكنه‬
‫مهجور في حقيقته وتأثيره على القلوب‪ ،‬وتغييره‬
‫للخلق والسلوك‪.‬‬
‫‪ ..‬فإن قلت هلموا إلى القرآن ننتفع به‪ ،‬قيل‬
‫لك‪ :‬وماذا علينا أن نفعل مع القرآن أكثر مما‬
‫نفعل‪ ،‬فأغلب بيوت المسلمين – إن لم تكن كلها –‬
‫تحتوي على نسخة بل عدة نسخ من المصحف‪،‬‬
‫سر تجد فيها من يحفظ قدًرا من‬ ‫ُ‬
‫والكثير من ال َ‬
‫القرآن‪ ،‬والذاعات التي تبث آياته ليل نهار في‬
‫ازدياد مستمر!!‪.‬‬
‫‪ ..‬من هنا تكمن صعوبة المر‪ ،‬فمع تَي ُّ‬
‫سر‬
‫القرآن للجميع إل أن الشعور بالحتياج إليه كمصدر‬

‫‪33‬‬
‫ل غنى عنه لتوليد اليمان وبث الروح إلى القلب‬
‫يكاد يكون منعدما‪.‬‬
‫جا‬
‫‪ ..‬إن حالنا ينطبق مع حال من يحتاج احتيا ً‬
‫سا إلى الماء ليروى ظمأه‪ ،‬فيبحث عنه لهثًا في‬‫ما ً‬
‫كل مكان على الرغم من كونه موجودًا بين أمتعته‬
‫وفي متناول يده‪ ،‬لكنه ل يصدق ذلك‪.‬‬
‫وانطبق حالنا مع قول الشاعر‪:‬‬
‫قرب الدليل وما إليه‬ ‫ومن العجائب والعجائب‬
‫وصول‬ ‫جمة‬
‫والماء فوق ظهورها‬ ‫كالعيس في البيداء‬
‫محمول‬ ‫يقتلها الظما‬
‫يشكونا‪:‬‬ ‫الرسول‬
‫ومما يلفت النتباه أن رسولنا قد اشتكانا لله‬
‫عز وجل بخصوص هذا الوضع الشاذ الذي نفعله مع‬
‫ب ِإنّ قَ ْومِي اّتخَذُوا هَذَا الْ ُقرْآنَ َم ْهجُورًا‬
‫القرآن‪ :‬وَقَالَ ال ّرسُولُ يَا َر ّ‬
‫[الفرقان‪.]30 :‬‬
‫ولو تأملنا هذه الشكوى لوجدنا أمًرا عجيبًا‪ :‬فلو‬
‫كانت الية لم تتضمن كلمة «اتخذوا» أي كانت‬
‫بمعنى‪ :‬يا رب إن قومي هجروا القرآن لكان المراد‬
‫ما عن حياتهم‪ ،‬فل تجد‬ ‫سا أبعدوا القرآن تما ً‬
‫بها أنا ً‬
‫فيها أي مساحة لقراءته أو سماعه أو إذاعته أو‬
‫العمل به‪.‬‬
‫لكن وجود كلمة «اتخذوا» مع كلمة «مهجورا»‬
‫أعطت لمفهوم الهجر بُعدًا آخر‪ ،‬ودلت على أن‬
‫سا تعاملوا مع القرآن‪ ،‬وبذلوا فيه‬
‫الشكوى تخص أنا ً‬
‫مجهودا‪ ،‬إل أنهم في نفس الوقت – رغم هذا‬

‫‪34‬‬
‫المجهود – قد هجروا القرآن‪ ،‬وذلك حين ابتعدوا‬
‫عن أهم جانب فيه أل وهو تأثيره المتفرد على‬
‫القلوب وتبديل ما بها من ظلمات الهوى إلى نور‬
‫اليمان‪ ،‬فلم يشفع لهم اهتمامهم بلفظه وحروفه‬
‫في الخروج من دائرة شكوى الرسول بهجر‬
‫القرآن‪.‬‬
‫فحين اكتفينا بالتعامل مع القرآن باللسنة‬
‫والحناجر‪ ،‬ولم نجتهد في الوصول به إلى العقول‬
‫والقلوب فإننا بذلك قد حرمنا أنفسنا من أهم‬
‫جانب فيه‪ ،‬ومن سر إعجازه العظم ‪ ..‬فكانت‬
‫المحصلة أننا اتخذنا القرآن مهجورا؛ لينتج عن ذلك‬
‫الهجر هبوطنا لهذا الدرك‪ ،‬ليصدق فينا قول رسول‬
‫الله ‪« :‬إن ال يرفع بذا الكتاب أقوامًا‪ ،‬ويضع به آخرين»(‪.)39‬‬
‫يقول ابن باديس في تفسيره لقوله تعالى‬
‫خذُوا َهذَا اْلقُرْآنَ مَهْجُورًا‬
‫وَقَالَ الرّسُولُ يَا َربّ إِنّ َق ْومِي اتّ َ‬
‫[الفرقان‪.]30 :‬‬
‫في شكوى النبي من هجر القرآن دليل على‬
‫أن ذلك من أصعب المور عليه‪ ،‬وأبغضها لديه‪،‬‬
‫وفي حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير‬
‫للهاجرين‪ ،‬بإنزال العقاب بهم‪ ،‬إجابة لشكوى‬
‫نبيهم(‪.)40‬‬
‫فما الحل في هذه الشكالية؟!‬

‫‪39‬‬
‫() رواه مسلم (‪.)1894‬‬
‫‪40‬‬
‫() حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن لعماد عبد الكريم‬
‫ص ‪ -75 ،74‬دار التوزيع والنشر السلمية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫‪ ..‬مشكلتنا إيمانية‪ ،‬وحلها غاية في السهولة‬
‫حسن القبال على القرآن وتغيير طريقتنا في‬ ‫وهو ُ‬
‫التعامل معه‪..‬‬
‫والقرآن بين أيدينا‪ ،‬جاهز لتغييرنا‪ ،‬وإمدادنا‬
‫بإيمان متدفق ليس له حدود‪ ،‬ومن ثم القضاء على‬
‫الوهن والضعف الذي أصابنا وجعلنا معرة المم‪.‬‬
‫سر لجميع أفراد المة إل أن‬ ‫مي َّ‬
‫ومع ذلك الحل ال ُ‬
‫الكثير من أبنائها غير مصدق لهذه الحقيقة‪ ،‬ويرى‬
‫أن هذا الكلم فيه مبالغة‪ ،‬وأن غاية الجهد والخدمة‬
‫للقرآن هي الكثار من الكتاتيب والمدارس‬
‫ح َّفاظ حروفه في‬ ‫والكليات لتخريج أكبر قدر من ُ‬
‫أقل وقت ممكن‪ ،‬وحث الناس على كثرة قراءته‬
‫والجتهاد في ختمه مرات ومرات – خاصة في‬
‫شهر رمضان – لنيل أكبر قدر من الحسنات فقط‪.‬‬
‫فإن ذكَّرتهم بأهمية التدبر والتأثر بالقرآن قال‬
‫بعضهم‪ :‬نريد أكبر قدر من الحسنات‪ ..‬نريد دخول‬
‫الجنة‪ ،‬والتدبر يعطلنا عن كثرة القراءة(‪.)41‬‬
‫وقال البعض الخر‪ :‬فلتكن هناك ختمة للقراءة‬
‫السريعة التي تهتم بتحصيل أكبر قدر من الحسنات‬
‫دون فهم أو تأثر‪ ،‬وختمة للفهم والتأثر‪ ،‬ول بأس –‬
‫على حد قولهم – من أن نمكث مع ختمة التدبر‬
‫سنوات وسنوات(‪.)42‬‬
‫() من يقرأ القرآن بل فهم ول تأثر نحسب أنه مأجور –‬ ‫‪41‬‬

‫بإذن الله – ولكنه – بل شك – لن ينتفع بالقرآن في‬


‫توليد اليمان‪ ،‬وإحداث التغيير الذي تحتاجه المة الن‬
‫أكثر من أي وقت مضى‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫() تم – بفضل الله – مناقشة هذه الراء بشيء من التفصيل‬
‫في كتب‪ :‬العودة إلى القرآن – إنه القرآن سر نهضتنا –‬

‫‪36‬‬
‫‪ ..‬كل هذا وغيره يتردد بين الكثير من‬
‫المسلمين‪ ،‬مما جعل أمر العودة الحقيقية إلى‬
‫القرآن‪ ،‬والنتفاع به لحل مشكلتنا اليمانية من‬
‫الصعوبة بمكان‪.‬‬
‫ولكن حيث أنه ل بديل للمة عن هذا الحل‪ ،‬فل‬
‫بد أن يستمر ويستمر التذكير بقيمة القرآن‪،‬‬
‫وبالهدف السمى لنزوله‪ ،‬والذي لو اتضح أمامنا‬
‫بصورة جلية‪ ،‬وأصبح إيمانًا مستقًرا في قلوبنا‪ ،‬فإنه‬
‫– بل شك – سيولد داخلنا الدافع القوي للقبال‬
‫على القرآن بصورة صحيحة لنلتمس منه الهدى‬
‫والنور‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ ،‬سيتحول اهتمامنا نحو‬
‫تحقيق الهدف الذي من أجله نزل القرآن‪،‬‬
‫وسنطوع الوسائل المختلفة – من قراءة وسماع‬
‫وحفظ – لتحقيق هذا الهدف‪ ،‬فاليمان بالقرآن‬
‫والثقة الكبيرة فيه كمصدر متفرد للهداية واليمان‬
‫والتغيير هو نقطة البداية الصحيحة نحو العودة‬
‫الحقيقية إليه‪ ،‬والنتفاع به‪.‬‬
‫فكما يقول المام البخاري‪ :‬ل يجد طعمه إل من‬
‫آمن به(‪.)43‬‬
‫ويقول مالك بن دينار‪ :‬أقسم لكم ل يؤمن عبد‬
‫بهذا القرآن إل صدع قلبه(‪.)44‬‬
‫فالذي يؤمن بالقرآن ل يسعه إل أن يتعامل معه‬
‫حا الّذِينَ آَت ْينَا ُهمُ الْ ِكتَابَ َيتْلُوَنهُ َحقّ تِلَ َوِتهِ أُوَلِئكَ يُ ْؤ ِمنُونَ ِبهِ‬
‫تعامل صحي ً‬

‫تحقيق الوصال بين القلب والقرآن‪.‬‬


‫‪43‬‬
‫() التبيان في أقسام القرآن لبن القيم ص ‪.205‬‬
‫‪44‬‬
‫() الدر المنثور للسيوطي ‪.6/298‬‬

‫‪37‬‬
‫[البقرة‪.]121 :‬‬

‫‪ ..‬هذا التعامل الصحيح لبد وأن يظهر أثره في‬


‫السلوك كما قال ‪« :‬ما آمن بالقرآن من استحل مارمه»(‪.)45‬‬
‫‪ ..‬فإن قلت‪ :‬ولكننا نؤمن بالقرآن ومع ذلك ل‬
‫نجد طعمه ول تأثيره في السلوك‪.‬‬
‫ليس المقصد من اليمان بالقرآن هو مجرد‬
‫اليمان بأنه «كلم الله‪ ،‬المنزل على محمد ‪،‬‬
‫المتعبد بتلوته»(‪ .)46‬بل المقصد ‪ -‬بالضافة لهذا‪:-‬‬
‫اليمان بقيمته وعظيم شأنه‪ ،‬وأنه نزل من السماء‬
‫ليهدي الناس إلى الله‪ ،‬ويأخذ بأيديهم إليه فَآمِنُوا بِالِ‬
‫وَ َرسُوِلهِ وَالنّورِ الّذِي أَْنزَلْنَا [التغابن‪.]8 :‬‬
‫بهذا اليمان تعامل الصحابة مع القرآن‪ .‬يقول عبد‬
‫الله بن عمر ‪ :‬لقد عشنا برهة من الدهر وأحدنا‬
‫يُؤتى اليمان قبل القرآن‪ ،‬وتنزل السورة على محمد‬
‫‪ ،‬فيُتَعلم حللها وحرامها‪ ،‬وأمرها وزجرها‪ ،‬وما ينبغي‬
‫أن يقف عنده منها‪ ،‬ثم لقد رأيت رجال يؤتى أحدهم‬
‫القرآن قبل اليمان‪ ،‬فيقرأ من بين فاتحته إلى‬
‫خاتمته‪ ،‬ما يدري ما آمره ول زاجره‪ ،‬ول ما ينبغي أن‬
‫يقف عنده‪ ،‬وينثره نثر الدقل(‪ – )47‬وفي رواية‪( :‬وكل‬
‫حرف منه ينادي‪ :‬أنا رسول ال إليك لتعمل ب وتتعظ بواعظي) (‪.)48‬‬

‫‪45‬‬
‫() رواه الترمذي في فضائل القرآن ح (‪.)2918‬‬
‫‪46‬‬
‫() مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص ‪.21‬‬
‫‪47‬‬
‫() الدقل‪ :‬ردئ التمر‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫() رواه الحاكم في المستدرك ‪ ،1/91‬وقال صحيح على شرط‬
‫الشيخين‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫جندب بن عبد الله‬
‫ويؤكد على هذا المعنى الصحابي ُ‬
‫بقوله‪:‬‬
‫حزاورة(‪ )49‬فتعلمنا‬
‫كنا مع النبي ونحن غلمان َ‬
‫اليمان قبل القرآن‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن فازددنا‬
‫إيمانًا(‪.)50‬‬
‫البداية الصحيحة‬
‫إن اليمان بقيمة الشيء – أي شيء – هو الذي‬
‫يولد النبهار به‪ ،‬والستسلم له‪ ،‬وفتح منافذ‬
‫الستماع والتلقي منه‪ ،‬و العكس صحيح فعدم‬
‫اليمان بالشيء يدفع لغلق منافذ الستماع له‪،‬‬
‫وعدم الكتراث به‪.‬‬
‫بمثل هذا تحدث عيسى عليه السلم لبني‬
‫إسرائيل‪... :‬قَدْ جِ ْئُتكُمْ بِآَيةٍ مّن رّّبكُمْ َأنّي َأ ْخلُ ُق َلكُم مّنَ الطّيِ‬
‫َكهَيَْئةِ الطّ ْيرِ فَأَن ُفخُ فِيهِ َفَيكُونُ طَ ْيرًا بِِإ ْذنِ الِ وَُأْب ِرئُ ا َل ْكمَهَ وَالَْبرَصَ وَُأحْيِي‬
‫اْلمَ ْوتَى بِِإ ْذ ِن الِ وَأُنَبُّئكُ ْم ِبمَا تَ ْأ ُكلُونَ وَمَا تَ ّد ِخرُونَ فِي بُيُوِتكُ ْم ِإنّ فِي ذَِلكَ‬
‫لََيةً ّلكُ ْم إِن كُنْتُم مّؤْ ِمنِيَ [آل عمران‪.]49 :‬‬
‫أرأيت أخي القارئ بماذا ختمت الية؟!‬
‫ك لَيَ ًة ّلكُ ْم إِن ُكنْتُم مّؤْمِنِيَ ‪ ،‬فإن لم تكونوا‬
‫ِإنّ فِي ذَِل َ‬
‫مؤمنين بي كرسول فلن تستقبلوا هذه اليات‬
‫حا‪.‬‬ ‫استقبال صحي ً‬
‫ونفس المر بالنسبة للقرآن فإن لم يزدد‬
‫‪49‬‬
‫() حزاورة جمع حزير أي ممتلئ القوة‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫() رواه ابن ماجه والبيهقي‪ ،‬وانظر فضائل القرآن‬
‫للمستغفري ‪.1/275‬‬

‫‪39‬‬
‫اليمان بقيمة القرآن‪ ،‬وبالهدف من نزوله‪ ،‬وبأنه‬
‫قادر – بإذن الله – على انتشالنا من الضياع‬
‫والوحل الذي نغوص فيه‪ ...‬إن لم يحدث هذا فإن‬
‫أي كلم يقال عن تدبر القرآن‪ ،‬والتمهل في‬
‫حفظه‪ ،‬وضرورة التخلق بأخلقه لن يجد الستجابة‬
‫الكافية في نفوس مستمعيه‪..‬‬
‫ويؤكد صاحب الظلل على هذا المعنى في تفسيره‬
‫لقوله تعالى على لسان الرسول ‪ِ :‬إنْ أَنَا إِلّ َنذِيرٌ‬
‫شيٌ ّلقَ ْومٍ ّي ْؤمِنُونَ [العراف‪ ]188 :‬فيقول‪:‬‬
‫وََب ِ‬
‫الرسول نذير وبشير للناس جميعا‪ .‬ولكن‬
‫الذين «ّي ْؤمِنُونَ » هم الذين ينتفعون بما معه من‬
‫النذارة والبشارة‪ ،‬فهم الذين يفقهون حقيقة ما‬
‫معه‪ ،‬وهم الذين يدركون ما وراء هذا الذي جاء به‪.‬‬
‫‪ ..‬إن الكلمة ل تعطي مدلولها الحقيقي إل‬
‫للقلب المفتوح لها‪ ،‬والعقل الذي يستشرفها‬
‫ويتقبلها‪ ،‬وإن هذا القرآن ل يفتح كنوزه‪ ،‬ول يكشف‬
‫أسراره‪ ،‬ول يعطي ثماره‪ ،‬إل لقوم يؤمنون‪.‬‬
‫ولقد ورد عن بعض صحابة رسول الله ‪« :‬كنا‬
‫نؤتى اليمان قبل القرآن‪ »..‬وهذا اليمان هو الذي‬
‫كان يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق‪،‬‬
‫ويدركون معانيه وأهدافه ذلك الدراك‪ ،‬ويصنعون به‬
‫تلك الخوارق التي صنعوها في أقصر وقت من‬
‫الزمان‪.‬‬
‫‪ ..‬ولئن كان القرآن هو الذي أخذ بأرواحهم إلى‬
‫اليمان‪ ،‬فلقد كان اليمان هو الذي فتح لهم في‬

‫‪40‬‬
‫القرآن ما ل يفتحه إل اليمان(‪.)51‬‬
‫من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة‬
‫للنتفاع بالقرآن هي العمل على زيادة اليمان به‬
‫في القلوب‪ .‬فكما مر علينا قول المام البخاري‪ :‬ل‬
‫يجد طعمه إل من آمن به‪.‬‬
‫فكلما ازداد اليمان والثقة في قيمة القرآن‬
‫وأثره العظيم في الشفاء والتغيير‪ ،‬ازدادت الرغبة‬
‫في القبال عليه‪ ،‬والنجذاب نحوه‪ ،‬والنشغال به‪.‬‬
‫كيف نُقوِّي إيماننا بالقرآن؟!‬

‫لعل ما قيل في الصفحات السابقة يُأجج لدينا‬


‫مشاعر الرغبة في النتفاع بالقرآن‪ ،‬ولكن من‬
‫المتوقع أن هذه المشاعر الحارة سرعان ما تخفت‬
‫وتبرد بمرور اليام‪ ،‬ونعود لسابق عهدنا مع‬
‫القرآن‪..‬‬
‫والسبب في ذلك هو تمكن ورسوخ مفهوم‬
‫التعامل مع القرآن بالطريقة التي ورثناها‬
‫ومارسناها لسنوات طوال‪.‬‬
‫فالذي يأكل بيده اليسرى ثلثين عاما يصبح من‬
‫الصعب عليه أن يعتاد الكل بيده اليمنى إل بعد‬
‫عظيم جهد‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم إذا ذكَّرته بأهمية استعمال يده اليمنى‬
‫في الطعام والشراب‪ ،‬فمن المتوقع أن يستجيب‬

‫() في ظلل القرآن ‪.1410 /3‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪41‬‬
‫لك ويأكل أمامك بيده اليمنى‪ ،‬لكنه بعد ذلك يجد‬
‫نفسه تلقائيًا يعود للكل بيده اليسرى‪..‬‬
‫وهذا هو المتوقع مع القرآن‪ ،‬فالسنوات‬
‫الطويلة التي قضيناها في التعامل السطحي مع‬
‫القرآن‪ ،‬جعلتنا نألف ونتعود على هذه الطريقة‪،‬‬
‫لذلك من المتوقع ‪ -‬بعد التذكرة التي تضمنتها هذه‬
‫الصفحات‪ -‬أن نجتهد في تفهم القرآن وتدبره‬
‫والتأثر به عدة أيام‪ ،‬ثم بعد ذلك نعود لسابق‬
‫عهدنا‪ ،‬وقديم ممارستنا‪ ،‬خاصة أن الشيطان‬
‫سيجتهد في الحيلولة بيننا وبين تدبر القرآن والتأثر‬
‫به لعلمه بأن ذلك هو أيسر طريق للربانية‪.‬‬
‫لذلك لبد من دوام التذكرة‪ ،‬وتعميق الشعور‬
‫بالحتياج للقرآن‪ ،‬والتغذية المستمرة لمشاعر‬
‫الرغبة في التعامل معه كأعظم وسيلة لزيادة‬
‫اليمان‪ ،‬وإحداث الشفاء والتغيير بإذن الله‪..‬‬
‫وهناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تُغذَّى‬
‫مشاعر الرغبة في النتفاع الحقيقي بالقرآن‪،‬‬
‫وتُقوى اليمان به‪ ،‬والثقة فيه‪.‬‬
‫هذه الوسائل هي‪:‬‬
‫أولً‪ :‬تزكية الشعور بالخطار التي تواجه المة‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التعرف على أوصاف القرآن من القرآن‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬القراءة في الكتب التي أبرزت قيمة‬
‫القرآن الحقيقية‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬التعرف على النماذج القرآنية وعلى‬
‫رأسها محمد ‪ ،‬وجيل الصحابة من بعده‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫هذا على سبيل الجمال‪ ،‬وإليك أخي القارئ‬
‫بعض التفصيل حولها‪.‬‬
‫أولً‪ :‬تزكية الشعور بالخطار التي تواجه‬
‫المة‪:‬‬
‫إن الوضع الحالي للمة ل يخفى على أحد‪ ،‬وما‬
‫س‬
‫من يوم ينشق فجره إل وتحمل أخباره مآ ٍ‬
‫جديدة للمسلمين‪..‬‬
‫هذا الوضع البائس الذي تعيش فيه أمتنا منذ‬
‫قرون من شأنه – لو تأمله أي غيور على دينه – أن‬
‫يؤجج في نفسه الشعور بالخطر على المة‪،‬‬
‫سن من وضعها‬ ‫والرغبة في عمل أي شيء يُح َّ‬
‫ويرفع عنه الحرج في مسؤوليته تجاهها‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬الكثير يشعر بالحباط لقسوة الواقع‪،‬‬
‫ولكن من المفترض أنه بعد قناعتنا بأن مشكلتنا‬
‫إيمانية‪ ،‬وأن حلها بالعودة إلى القرآن‪ ،‬فإن المل‬
‫في التغيير والصلح ل بد وأن يحدونا‪ ،‬ويجعلنا‬
‫نطمع في نهوض المة وعودة مجدها من جديد‪،‬‬
‫ولم ل والحل بين أيدينا‪ ،‬ويسعنا جميعا‪.‬‬
‫‪ ..‬وإن كنا في السابق نشعر بالضيق الشديد‪،‬‬
‫بل والحباط في بعض الحيان عندما تشتد المحن‬
‫بإخواننا المسلمين‪ ،‬وبخاصة عندما يستغيثون بنا‬
‫فل نستطيع أن نفعل لهم شيئًا‪ ،‬إل أننا الن وبعد‬
‫أن تأكدنا من المخرج الصحيح‪ ،‬والحل الكيد الذي‬
‫يخلصنا من هذا الذل‪ ،‬نريد من كل واحد منا أن‬
‫يجعل ما يسمعه ويقرؤه من أخبار عن إخوانه‬
‫المضطهدين في كل مكان‪ ،‬بمثابة الوقود الذي‬

‫‪43‬‬
‫حسن التعامل مع القرآن‪،‬‬‫يولد فيه الرغبة الكيدة ل ُ‬
‫والكثار من القبال عليه ودعوة الناس إليه‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التعرف على أوصاف القرآن من‬
‫القرآن‪:‬‬
‫كلما تعرف المرء على جوانب فاعلية الدواء‬
‫الذي سيستخدمه فإن ذلك من شأنه أن يزيد ثقته‬
‫فيه‪..‬‬
‫من هنا تبرز أهمية التعرف على القرآن‪ ،‬وأوصافه‬
‫التي ُوصف بها‪.‬‬
‫َ‬
‫فكما يقول الحارث المحاسبي‪ :‬لقد عظ ّم الله‬
‫عز وجل القرآن وسماه‪ :‬برهانا‪ ،‬ونورا‪ ،‬ورحمة‪،‬‬
‫وموعظة‪ ،‬ومجيدا‪ ،‬وبصائر‪ ،‬وهدى‪ ،‬وفرقانا‪ ،‬وشفاء‬
‫لما في الصدور‪ ،‬وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين‬
‫فيقبلوا عليه منبهرين‪ ،‬ومقدرين‪ ،‬ومتدبرين‪،‬‬
‫فينالوا به شفاء قلوبهم‪.‬‬
‫وأخبرنا كذلك عن قوة تأثيره ليزدادوا ثقة فيه‪..‬‬
‫وأخبرنا أنه أحسن من أي حديث ومن كل‬
‫ص ِبمَا َأ ْوحَيْنَا إِلَ ْيكَ هَذَا‬
‫ص َعلَ ْيكَ َأحْسَنَ اْلقَصَ ِ‬
‫قصص َنحْ ُن َنقُ ّ‬
‫اْل ُقرْآنَ [يوسف‪.]3 :‬‬
‫ثم أخبرنا عز وجل أنه قد وصل إلى منتهى‬
‫الحكمة فقال‪ِ :‬حكْمَ ٌة بَاِلغَ ٌة َفمَا ُتغْنِ النّ ُذرُ [القمر‪.]5 :‬‬
‫وأخبرنا أنه ل يفنى ول ينفد قُل لّوْ كَانَ اْلبَ ْحرُ ِمدَادًا لّكَلِمَاتِ‬
‫ج ْئنَا ِب ِمثْ ِلهِ َم َددًا [الكهف‪]109 :‬‬ ‫َربّي َلَنفِدَ اْلبَ ْحرُ َقبْلَ أَن تَن َفدَ َكلِمَاتُ رَبّي وََلوْ ِ‬

‫‪44‬‬
‫(‪.)52‬‬
‫‪ ..‬ويمكننا أن نتعرف على أوصاف القرآن من‬
‫خلل تلوتنا له‪ ،‬وجمع اليات التي تحدثت عنه‪،‬‬
‫وكتابتها‪ ،‬والتأمل فيها لتزداد الثقة في هذا الكتاب‬
‫العظيم‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬القراءة في الكتب التي أبرزت قيمة‬
‫القرآن الحقيقية‪:‬‬
‫هناك كتب كثيرة تحدثت عن القرآن ‪ ..‬البعض‬
‫منها تناول الجانب اللفظي للقرآن‪ ،‬واهتم به دون‬
‫التركيز على أثره وقدرته الفذة على زيادة اليمان‬
‫ضا كتب عديدة‬ ‫وإحداث التغيير‪ ،‬كما أن هناك أي ً‬
‫تحدثت عن القرآن وقدره العظيم‪ ،‬وكيفية النتفاع‬
‫الحقيقي به ‪ ..‬فعلينا – أخي القارئ‪ -‬أن نهتم‬
‫بقراءة تلك الخيرة حتى يزداد إيماننا وثقتنا في‬
‫القرآن‪ ،‬ومن ثم تزداد رغبتنا في القبال عليه‪،‬‬
‫والنتفاع الحقيقي به‪.‬‬
‫وإليك أخي القارئ قائمة بأسماء بعض هذه‬
‫الكتب‪:‬‬
‫‪ -‬كيف نتعامل مع القرآن؟ لمحمد الغزالي‪.‬‬
‫‪ -‬تدبر القرآن لسلمان بن عمر السنيدي‪.‬‬
‫‪ -‬مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي‪.‬‬
‫‪ -‬المدخل إلى الدراسات القرآنية لبي الحسن‬
‫الندوي‪.‬‬

‫() فهم القرآن للمحاسبى ص ‪ ،282‬دار الكندي‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫‪45‬‬
‫‪ -‬أخلق حملة القرآن لبي بكر الجرى‪.‬‬
‫‪ -‬النبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز‪.‬‬
‫‪ -‬التذكار في أفضل الذكار للمام القرطبي‪.‬‬
‫‪ -‬نظرات في كتاب الله لحسن البنا – جمع‬
‫عصام تليمة‪.‬‬
‫‪ -‬جيل قرآني فريد من كتاب معالم في الطريق‬
‫لسيد قطب‪.‬‬
‫‪ -‬مقومات التصور السلمي لسيد قطب‪.‬‬
‫‪ -‬مقدمة تفسير في ظلل القرآن لسيد قطب‪.‬‬
‫‪ -‬فضائل القرآن لبي عبيد الهروي‪.‬‬
‫فضائل القرآن للفريابي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قاعدة في فضائل القرآن لبن تيمية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫منهج السلف في العناية بالقرآن الكريم لبدر‬ ‫‪-‬‬
‫بن ناصر البدر‪.‬‬
‫خواطر تربوية من القرآن الكريم د‪ .‬محمد‬ ‫‪-‬‬
‫بديع‪.‬‬
‫كتاب آداب تلوة القرآن من كتاب إحياء علوم‬ ‫‪-‬‬
‫الدين لبي حامد الغزالي‪.‬‬
‫بلغ الرسالة القرآنية د‪.‬فريد النصاري‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فهم القرآن للحارث المحاسبي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المبادئ الساسية لفهم القرآن لبي العلى‬ ‫‪-‬‬
‫المودودي‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -‬صحابة رسول الله وجهودهم في تعليم‬
‫القرآن الكريم لنس كرزون‪.‬‬
‫‪ -‬حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن لعماد‬
‫محمود عبد الكريم‪.‬‬
‫ولقد أكرم الله عز وجل كاتب هذه السطور‪،‬‬
‫وتفضل عليه بما ل يستحقه‪ ،‬بأن ي َّ‬
‫سر له الكتابة‬
‫في هذا الموضوع في عدة كتب هي‪:‬‬
‫‪ -‬العودة إلى القرآن لماذا وكيف؟‬
‫‪ -‬إنه القرآن سر نهضتنا‪.‬‬
‫‪ -‬بناء اليمان من خلل القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬كيف نغير ما بأنفسنا؟‬
‫‪ -‬الطوفان قادم ‪ ..‬الله أو الدمار‪.‬‬
‫‪ -‬عودة المجد‪ ..‬وَهْم أم حقيقة؟‪.‬‬
‫‪ -‬تحقيق الوصال بين القلب والقرآن‪.‬‬
‫‪ -‬الجيل الموعود بالنصر والتمكين‪.‬‬
‫‪ -‬حقيقة العبودية‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ننتفع بالقرآن؟‬
‫‪ -‬وصايا العلماء والمربين للنتفاع بالقرآن‬
‫الكريم‪.‬‬
‫فلك أخي القارئ أن تقرأ من هذه الكتب ما‬
‫تشاء حتى تقوى رغبتك وتشتد حاجتك إلى القرآن‪.‬‬
‫رابعًا‪ :‬التعرف على النماذج القرآنية‪:‬‬
‫من وسائل تقوية اليمان بالقرآن التعرف على‬

‫‪47‬‬
‫النماذج العظيمة التي صنعها القرآن على مر‬
‫العصور‪.‬‬
‫ولعل أهم قدوة في ذلك‪ :‬رسولنا محمد ‪ ،‬ثم‬
‫صحابته الكرام الذين قال عنهم المام القرافي‪:‬‬
‫معجزة إل أصحابه‬ ‫لو لم يكن لرسول الله‬
‫لكفوه في إثبات نبوته(‪.)53‬‬
‫فعلينا أن نتعرف على علقة الرسول‬
‫بالقرآن وكيفية تعامله معه‪ ،‬ووصاياه نحوه ‪..‬‬
‫وعلينا كذلك أن نتعرف على أثر القرآن على‬
‫الصحابة‪ ،‬وكيفية تناولهم له‪ ،‬وتوجيهاتهم لمن‬
‫بعدهم‪.‬‬
‫وهناك نماذج قرآنية في العصر الحديث تعطينا‬
‫المل في إمكانية تكرارها بيننا‪ ،‬فعلينا أن نتعرف‬
‫عليها وعلى أثر القرآن فيها‪.‬‬
‫ومن هذه النماذج‪ :‬محمد إقبال‪ ،‬وبديع الزمان‬
‫النورسي‪ ،‬وحسن البنا‪ ،‬وعبد الحميد بن باديس‪،‬‬
‫وسيد قطب‪ ،‬وأبو الحسن الندوي‪ ،‬وأبو العلى‬
‫المودودي‪.‬‬
‫***‬

‫‪53‬‬
‫() صحابة رسول الله وجهودهم في تعليم القرآن الكريم د‪.‬‬
‫أنس كرزون نقل عن الفروق للقرافي ‪.4/170‬‬

‫‪48‬‬
‫وسائل معينة على النتفاع بالقرآن‬

‫وبالتوازي مع استخدام الوسائل السابقة في‬


‫زيادة اليمان بالقرآن علينا أن نبدأ التعامل الجديد‬
‫معه بأن يكون هدفنا هو تفهمه والتأثر به حتى يزداد‬
‫اليمان في قلوبنا ويضعف الهوى ومن ثم يحدث‬
‫التغيير‪.‬‬
‫وبل شك أن أهم وسيلة للنتفاع بالقرآن هي‬
‫وجود الرغبة الصادقة في النتفاع بالقرآن‪..‬‬
‫هذه الرغبة علينا أن نترجمها بالدعاء واللحاح‬
‫على الله عز وجل بأن يفتح لنا أبواب الفهم والتأثر‬
‫بالقرآن‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول الحارث المحاسبي‪:‬‬
‫فإن طلبت الفهم بصدق أقبل الله عليك‬
‫بالمعونة ‪..‬‬
‫َ‬
‫واعلم أنه ل يثقل فهم كلمه إل على من تعط ّل‬
‫قلبه أل يسمع‪ ،‬فإن علم – سبحانه – من التالي‬
‫مه للفهم‪،‬‬ ‫لكتابه صدق ضميره‪ ،‬وعنايته بجمع ه ّ‬
‫أفهمه ‪ ..‬أل تسمعه يقول‪ :‬إِن َي ْعلَمِ الُ فِي ُقلُوِبكُمْ خَ ْيرًا‬
‫يّؤِْتكُمْ خَ ْيرًا ّممّا ُأخِذَ مِ ْنكُمْ وََيغْ ِف ْر َلكُمْ [النفال‪.]70 :‬‬
‫فإذا أقبلت على الله تعالى بصدق نية ورغبة‬
‫لفهم كتابه‪ ،‬متوكل عليه أنه هو الذي يفتح لك‬
‫الفهم – ل على نفسك – لم يخيبك من الفهم‬
‫والعقل عنه إن شاء الله(‪.)54‬‬
‫() فهم القرآن للحارث المحاسبي ص ‪.324‬‬ ‫‪54‬‬

‫‪49‬‬
‫اصدق الله يصدقك‪:‬‬
‫أخي‪ :‬الكثير منا يدعي أنه يريد تَفهُّم القرآن‪،‬‬
‫والتأثر به‪ ،‬والغتراف من منابع إيمانه‪ ،‬وشفاء‬
‫أمراض قلبه من خلله‪.‬‬
‫ولكن كما نعلم‪ :‬فالبيَّنة على من ادعى‪..‬‬
‫فما هي بينتك في هذا الدعاء؟!‬
‫إن أعظم بينة هي اللحاح على الله بأن يفتح‬
‫لنا أبواب رحمته‪ ،‬ليحدث الوصال بين القلب‬
‫والقرآن‪.‬‬
‫‪ ..‬أو بعبارة أخرى‪:‬‬
‫علينا أن نكون صادقين مع الله حينما نقدم له‬
‫طلب النتفاع بالقرآن‪ ،‬وأهم مظهر لذلك هو أن‬
‫ندعوه – سبحانه – دعاء المضطر الذي يخرج‬
‫دعاؤه من أعماق أعماق قلبه‪ ،‬كالذي تتقاذفه‬
‫المواج في البحر‪ ،‬فأخذ يصارع الغرق‪ ،‬وليس لديه‬
‫شيء يتعلق به إل أمله في الله بأن يستجيب‬
‫تضرعه‪ ،‬وينقذه من الموت‪.‬‬
‫واعلم – أخي – أن مفتاح‬
‫الجابة هو التضرع والحرقة‬
‫واستشعار الحتياج الماسّ لله‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫يقول ابن رجب‪ :‬وعلى قدر الحرقة والفاقة تكون‬
‫إجابة الدعاء(‪.)55‬‬
‫‪55‬‬
‫() الذل والنكسار لبن رجب‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪« :‬إن ال ل يستجيب دعاء من‬ ‫وتذكر ‪ -‬أخي‪ -‬قوله‬
‫قلب غافل له»(‪.)56‬‬
‫وعلينا أل نكتفي بالدعاء والستغاثة مرة أو‬
‫مرتين‪ ،‬بل ل بد من اللحاح واللحاح على الله‬
‫بدعاء المضطر مرات ومرات حتى ينفتح الباب‪.‬‬
‫فالله عز وجل يسمع دعاءنا‪ ،‬ويقدر على إجابته‬
‫– وإجابة جميع الخلئق – من أول مرة‪ ،‬ولكنه يريد‬
‫أن يرى منا الصدق في الطلب‪ ،‬وأننا جادون فيما‬
‫ندَّعى‪ ،‬لذلك فهو قد يؤخر الجابة اختباًرا لنا‪ ،‬فإن‬
‫تركنا الباب‪ ،‬وأوقفنا التضرع والدعاء كان ذلك‬
‫علمة وبيَّنة على عدم صدقنا في أننا بحاجة ماسة‬
‫لجابة ما نطلبه من الله‪ ،‬وأن المر ل يعدو أن‬
‫ل طارئة عشنا معها‪ ،‬وتأثرنا بها‬ ‫يكون ردة فعل لحا ٍ‬
‫تأثًرا لحظيًا‪ ،‬لذلك يقول ‪« :‬يُستجاب لحدكم ما ل يعجل‪،‬‬
‫يقول‪ :‬دعوت فلم يُستجب ل»(‪.)57‬‬
‫ولنعلم جميعًا بأننا لو وصلنا‬
‫لحالة الضطرار والحرقة عند‬
‫الدعاء مرات ومرات‪ ،‬فإن‬
‫الباب – يقينًا – سيُفتح‪،‬‬
‫والشيطان سيخنس‪ ،‬وشمس‬
‫القرآن ستشرق في قلوبنا بنور‬
‫ربها‪.‬‬
‫ومن أهم أوقات اللحاح على الله ودعائه دعاء‬
‫المضطر‪ ،‬هو ذلك الوقت الذي يسبق قراءة‬
‫‪56‬‬
‫() رواه المام أحمد والترمذي‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫القرآن‪ ،‬فاللحاح الحارّ في هذا الوقت من شأنه‬
‫أن يهيئ القلب لستقبال القرآن استقبال ً صحي ً‬
‫حا‪:‬‬
‫ي لَهُ الدّينَ [غافر‪،13 :‬‬
‫خلِصِ َ‬
‫وَمَا يَتَ َذ ّك ُر ِإلّ مَن يُنِيبُ فَا ْدعُوا الَ ُم ْ‬
‫‪.]14‬‬
‫ومنها كذلك تلك الوقات التي تستغلق فيها‬
‫أبواب فهم اليات علينا‪.‬‬
‫يذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في سياق‬
‫هجرة عمر بن الخطاب مع عياش ابن ربيعة‪،‬‬
‫وهشام بن العاص – رضي الله عنهم – (ولقد‬
‫ما عن الهجرة‪ ،‬واستطاع أبو‬ ‫حبس الكفار هشا ً‬
‫شا إلى مكة بعد حيلة ماكرة‬ ‫جهل أن يرد عيا ً‬
‫وخطة غادرة ‪ )..‬وقد كان شائعًا بين المسلمين أن‬
‫الله ل يقبل ممن افتتن توبة‪ ،‬وكانوا يقولون ذلك‬
‫لنفسهم حتى قدم رسول الله المدينة‪ ،‬وأنزل‬
‫سهِ ْم لَ َتقَْنطُوا مِن ّر ْحمَ ِة الِ‬ ‫الله‪ُ :‬ق ْل يَا عِبَا ِديَ الّذِي َن َأ ْسرَفُوا َعلَى َأنْفُ ِ‬
‫ب َجمِيعًا إِنّهُ ُهوَ الْ َغفُو ُر ال ّرحِي ُم وَأَنِيبُوا إِلَى رَّبكُمْ‬ ‫ل يَ ْغ ِفرُ الذّنُو َ‬
‫ِإ ّن ا َ‬
‫صرُو َن وَاتِّبعُوا َأحْسَ َن مَا‬ ‫وََأ ْسلِمُوا َلهُ مِن قَ ْبلِ أَن يَأْتَِيكُمُ اْلعَذَابُ ثُ ّم َل تُنْ َ‬
‫أُْن ِز َل إِلَ ْيكُم مّن رّّبكُم مّن َق ْبلِ أَن يَأْتَِيكُمُ الْعَذَابُ َبغْتَ ًة وَأَنْتُ ْم لَ َتشْ ُعرُونَ‬
‫[الزمر‪.]55-53 :‬‬
‫قال عمر‪ :‬وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن‬
‫العاص‪.‬‬
‫قال هشام‪ :‬فلما أتتني جعلت أقرؤها بذى طوى‬
‫أصعد بها وأصوب‪ ،‬ول أفهمها حتى قلت‪ :‬اللهم‬
‫فهمنيها‪ ،‬فألقى الله في قلبي أنها إنما أُنزلت فينا‬
‫وفيما كنا نقول في أنفسنا‪ ،‬ويقال فينا‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫قال‪ :‬فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت‬
‫برسول الله بالمدينة(‪.)58‬‬
‫فإذا عزم المر‪:‬‬
‫تنقل إلينا كتب السيرة في قصة إسلم أسيد‬
‫بن حضير‪ ،‬قول أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير‬
‫عندما رأى أُسيدًا يقبل عليهما بوجه غاضبًا‪« :‬أصدق‬
‫ال فيه»‪.‬‬
‫فلما صدق مصعب الله في أسيد‪ :‬انفتح قلبه‪،‬‬
‫وانشرح صدره‪ ،‬وانفرجت أساريره‪ ،‬ودخل في‬
‫السلم‪.‬‬
‫وهذا هو بيت القصيد‪ :‬أن نصدق الله في طلب‬
‫النتفاع الحقيقي بالقرآن‪.‬‬
‫ل َلكَانَ‬
‫‪ ..‬ألم يقل سبحانه‪ :‬فَِإذَا َعزَمَ ال ْمرُ َفلَ ْو صَدَقُوا ا َ‬
‫خَ ْيرًا ّلهُمْ [محمد‪.]21 :‬‬
‫فالمر قد عزم الن‪ ،‬ول يبقى إل الصدق مع‬
‫الله‪ ،‬ودوام اللحاح عليه‪ ،‬وأن يكون حالنا معه –‬
‫سبحانه – كحال الطفل الذي يريد حاجة من أبيه‪،‬‬
‫فل تجده ييأس أبدًا من طلب حاجته رغم رفض‬
‫أبيه المتكرر ‪ ،‬ويظل الطفل في إلحاحه المستمر‬
‫ويظل أبوه يرفضه حتى يتحول الرفض إلى‬
‫استجابة أمام ذلك السيل من اللحاح‪..‬‬
‫ولله المثل العلى‪ ،‬فلنصدق الله في طلبنا‪،‬‬
‫‪58‬‬
‫() هجر القرآن لمحمد فتحي ص ‪ ، 157 ،156‬نقل عن البداية‬
‫والنهاية لبن كثير (‪.)137 ،3/136‬‬

‫‪53‬‬
‫ولنلح عليه في الطلب‪ ،‬فإن تأخرت الجابة فعلينا‬
‫أل نيأس‪ ،‬فربنا – سبحانه وتعالى – أكرم الكرمين‪،‬‬
‫وأجود الجودين‪ ،‬وهو ينتظر منا أي التفاتة صادقة‬
‫نحوه ليقبل علينا‪ ،‬فإن تأخر المداد‪ ،‬فلحكمة‬
‫يعلمها هو‪ ،‬ولخير كبير ينتظرنا شريطة أل نبرح‬
‫بابه‪ ،‬وأن نستمر في اللحاح عليه‪ ،‬مع إظهار‬
‫عظيم افتقارنا وحاجتنا إلى جوده‪.‬‬

‫‪ ...‬أخي‪:‬‬
‫أتظن أنك إن مَّرغت وجهك في‬
‫التراب‪ ،‬فاختلط به دمعك‪ ،‬واشتد‬
‫نحيبك وتضرعك إلى الله في طلبك‬
‫للوصال بين قلبك والقرآن‪ ...،‬أتظن‬
‫أن ربك سيُعرض عنك‪ ،‬أو يرفض‬
‫طلبك؟!‬

‫قبل أن تبدأ القراءة‪:‬‬


‫فإن كان اللحاح على الله عز وجل هام‬
‫ومحوري في النتفاع بالقرآن‪ ،‬إل أنه فوق ذلك له‬
‫دور كبير في تهيئة القلب لستقبال القرآن وذلك‬
‫قبل بدء التلوة ‪..‬‬
‫فلنحرص – أخي – على ذلك حتى تتعرض‬
‫قلوبنا سريعًا لنوار القرآن‪..‬‬
‫اطرق باب القرآن بأدب‪:‬‬
‫علينا حين نقبل على القرآن أن نطرق بابه‬
‫بأدب التلميذ الذي يريد أن يتعلم من أستاذه‬

‫‪54‬‬
‫العظيم‪ ،‬فينصت له‪ ،‬ول يحاول أن يجادله بما لديه‬
‫مسبقة‪ ،‬بل يستسلم له‬ ‫من تصورات وأفكار ُ‬
‫استسلم النهم للمعرفة والشفاء‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول أبو العلى‬
‫المودودي‪:‬‬
‫يجب – كخطوة أولى – على كل من يريد فهم‬
‫القرآن‪ ،‬أن يخلى ذهنه ما أمكن من جميع ما‬
‫استقر فيه من قبل من التصورات والنظريات‪ ..‬ثم‬
‫يكب على دراسته بقلب مفتوح وأُذن واعية وقصد‬
‫نزيه لفهمه‪.‬‬
‫أما الذين يدرسونه واضعين طائفة من‬
‫التصورات في أذهانهم مقدما‪ ،‬فما يقرؤون بين‬
‫دفتيه إل تصوراتهم أنفسهم‪ ،‬ول يجدون شيئًا من‬
‫رائحة القرآن ‪ .‬ول يصلح هذا المنهج لدراسة أي‬
‫كتاب من الكتب‪ ،‬فكيف بالقرآن الذي ل يفتح كنوز‬
‫معانيه أبدا للذين يدرسونه باتباع مثل هذا‬
‫المنهج(‪.)59‬‬
‫ويقول عبد الكريم الخطيب‪ :‬فالقرآن الكريم‪ ،‬ل‬
‫يُقبل إل على من يُقبل عليه‪ ،‬ول يمنح خيره وبركته‬
‫إل لمن يعرف قدره‪ ،‬ويطرق بابه في أدب وولء‬
‫وخشوع(‪.)60‬‬
‫ويؤكد سيد قطب على هذا المعنى‪ ،‬ويعتبره‬
‫‪59‬‬
‫() المبادئ الساسية لفهم القرآن لبي العلى المودودي‪-‬‬
‫دار القلم – ص ‪.49 ،48‬‬
‫‪60‬‬
‫() مقالت السلميين في رمضان لمحمد موسى الشريف‬
‫ص ‪.444‬‬

‫‪55‬‬
‫من أهم العوامل التي جعلت الصحابة ينتفعون‬
‫بالقرآن‪ ،‬ويرتفعون به إلى السماء‪ ..‬يقول رحمه‬
‫الله‪:‬‬
‫وقد نجح الصحابة في التعامل مع القرآن‪،‬‬
‫والتفاعل به‪ ،‬لنهم كانوا حريصين على أل يستقوا‬
‫إل من نبعه الرباني الصافي‪ ،‬ولن الرجل منهم‬
‫كان يخلع على عتبة القرآن كل ماضيه‪ ،‬ويدخل‬
‫عالم القرآن بدون مقررات مسبقة‪ ،‬لتتم صياغته‬
‫صياغة قرآنية فريدة‪ ،‬ولنهم تلقوه للتنفيذ والعمل‬
‫ل للثقافة والمتاع‪ ،‬أو التذوق والطلع(‪.)61‬‬
‫الكثار من تلوة القرآن‪:‬‬
‫اعلم أخي بأننا كلما أقبلنا على القرآن كلما‬
‫أعطانا من خيره‪ ،‬وكلما ازدادت فترات لقائنا به‬
‫كلما ازددنا له فهما‪ ،‬وتأثًرا‪ ،‬وإيمانًا‪...‬‬
‫فلنجتهد في ذلك‪ ،‬ولنُطِل فترة المكث معه‪ ،‬ول‬
‫يكن همنا وقت القراءة‪ :‬متى سننتهي من الجزء أو‬
‫السورة بل ليكن كل منا‪:‬‬
‫متى سأتأثر؟ متى سأبكي؟ متى سيقشعر‬
‫جلدي؟! متى سيَوْجل قلبي؟!‬
‫يقول عبد الله بن مسعود‪ :‬اقرؤوا القرآن‬
‫وحركوا به القلوب‪ ،‬ول يكن هم أحدكم آخر‬
‫السورة(‪.)62‬‬
‫ومما يساعد على الوصول لهذه الهداف هو‬
‫‪61‬‬
‫() معالم في الطريق لسيد قطب‪.‬‬
‫() شعب اليمان للبيهقي (‪.)2042‬‬ ‫‪62‬‬

‫‪56‬‬
‫إطالة فترة المكث مع القرآن وعدم قطع القراءة‬
‫بأي أمر من المور ‪-‬ما أمكن ذلك‪ -‬حتى ل نخرج‬
‫من جو القرآن‪ ،‬وسلطان الستعاذة‪ ،‬خاصة في‬
‫البداية‪ ،‬ويُفضل أن يكون اللقاء بالقرآن في مكان‬
‫هادئ ‪-‬قدر المستطاع‪ -‬وبعيدًا عن الضوضاء‬
‫ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن‪ ،‬ول‬
‫ننس الوضوء والسواك قبل القراءة‪.‬‬
‫القراءة من المصحف وبصوت مسموع‬
‫وبترتيل‪:‬‬
‫َ‬
‫فالترتيل له وظيفة كبيرة في الط ّْرق على‬
‫م استثارتها وتجاوبها مع الفهم‬ ‫المشاعر ومن ث َّ‬
‫الذي سيولده التدبر‪ ،‬لينشأ بذلك اليمان حينما‬
‫يتعانق الفهم مع التأثر‪.‬‬
‫وهنا تبرز أهمية تعلم أحكام التلوة حتى تتحقق‬
‫الفائدة من الترتيل‪ .‬فل بد وأن يجتهد كل منا في‬
‫تعلم أحكام التلوة والنطق الصحيح لليات في‬
‫أسرع وقت حتى يتسنى له النتفاع بالقرآن‪.‬‬
‫أما القراءة من المصحف فلها فوائد عظيمة‬
‫في عدم شرود الذهن‪ ،‬ومن ثم حدوث الفهم‬
‫والتأثر‪.‬‬
‫ومع الترتيل علينا أن نجتهد في تحسين أصواتنا‬
‫بالقرآن ما أمكن‪ ،‬فالصوت الحسن يزيد من تأثير‬
‫القرآن على المشاعر‪ ،‬لذلك قال ‪« :‬حسنوا القرآن‬
‫بأصواتكم فإن الصوت السن يزيد القرآن حُسنا»(‪.)63‬‬

‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)3145‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪57‬‬
‫القراءة بصوت حزين‪:‬‬
‫ومع القراءة الهادئة المرتلة علينا أن نجتهد في‬
‫حزن‪ ،‬فإن الصوت الحزين له تأثير‬ ‫صبغ قراءتنا بال ُ‬
‫عجيب وسريع على المشاعر ‪ .‬يقول ‪« :‬أحسن الناس‬
‫قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يشى ال»(‪.)64‬‬
‫وقال‪« :‬نزل القرآن با ُلزْن‪ ،‬فما قُرئ القرآن بشيء أفضل من‬
‫ا ُلزْن»(‪.)65‬‬
‫وكان عمر بن الخطاب يدعو أبا موسى‬
‫الشعري في المسجد فيقول له‪ :‬يا أبا موسى‬
‫ذكرنا ربنا فيقرأ لهم بصوت حزين(‪.)66‬‬
‫ومن نصائح حذيفة بن اليمان‪ :‬اقرأوا القرآن‬
‫(‪)67‬‬
‫حْزن‪ ،‬ول تجفوا عنه‪ ،‬وتعاهدوه‪ ،‬ورتلوه ترتيل ‪.‬‬ ‫ب ُ‬
‫الفهم الجمالي لليات‪:‬‬
‫وذلك من خلل إعمال العقل في تفهم‬
‫الخطاب‪ ،‬وهذا يستلزم منا التركيز التام مع‬
‫القراءة‪.‬‬
‫واعلم – أخي‪ -‬أنه ل يمكن النتفاع بالقرآن في‬
‫تحصيل العلم واليمان وإحداث التغيير بدون هذه‬
‫الخطوة ‪..‬‬

‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)194‬‬ ‫‪64‬‬

‫‪65‬‬
‫() رواه الطبراني في الوسط‪.‬‬
‫() لمحات النوار للغافقي ‪ 1/456‬برقم (‪.)567‬‬ ‫‪66‬‬

‫() المصدر السابق برقم (‪.)566‬‬ ‫‪67‬‬

‫‪58‬‬
‫فل بديل عن تدبر اليات وفهم الخطاب اللهي‪،‬‬
‫والحد الدنى المطلوب من كل مسلم هو الفهم‬
‫الجمالي لليات‪ ،‬فإذا ما شرد الذهن وتجول في‬
‫ميادين الدنيا وقت القراءة‪ ،‬فعلينا أن نعود مرة‬
‫أخرى لقراءة تلك اليات التي شردنا فيها‪ ،‬حتى‬
‫يرى الله منا حرصا على تفهم خطابه‪ ،‬فيُفهَّمه لنا‪،‬‬
‫ويصرف عنا الشيطان ‪..‬‬
‫وليس معنى إعمال العقل في تفهم الخطاب‬
‫أن نقف عند كل كلمة ونتكلف في معرفة معناها‬
‫وما وراءها‪ ،‬بل يكفي المعنى الجمالي الذي تدل‬
‫عليه الية حتى يتسنى لنا السترسال في القراءة‬
‫م التصاعد التدريجي لحركة المشاعر فتصل‬‫ومن ث َّ‬
‫إلى التأثر والنفعال في أسرع وقت‪.‬‬
‫ول بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا‬
‫لجلء شبهة أو معرفة معنى دقَّ علينا فهمه‪ ،‬وإن‬
‫كان من الفضل الرجوع إليه بعد انتهاء القراءة‬
‫حتى ل نخرج من جو القرآن والنفعالت‬
‫الوجدانية التي نعيش في رحابها إل إذا ألحت‬
‫علينا كلمة نريد معرفة معناها في التو‬
‫واللحظة(‪.)68‬‬
‫التعامل مع القرآن على أنك المخاطب به‪:‬‬
‫هناك حلوة كبيرة يجدها المتدبر للقرآن حين‬
‫يتعامل مع اليات على أنها تخاطبه‪ ،‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ :‬عندما يقرأ‪َ .‬و َل َتمْشِ فِي الَ ْرضِ َم َرحًا ‪ ،‬أَلَ ْم َترَ‬
‫‪68‬‬
‫() من المقترح القراءة في المصحف الذي يوجد على‬
‫هامشه معاني الكلمات أو استصحاب كتاب «كلمات القرآن‬
‫تفسير وبيان» لمحمد حسنين مخلوف‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ت ثُمّ اْن ُظرْ أَنّى‬
‫ك كَ ْيفَ مَدّ ال ّظلّ ‪ ،‬اْن ُظرْ َك ْيفَ نَُبيّ ُن َلهُمُ الَيَا ِ‬
‫إِلَى رَّب َ‬
‫ُيؤْ َفكُونَ ‪ ..‬ويتعامل معها على أنها خطاب من الله‬
‫إليه‪ ،‬فإن استقباله لها سيختلف كثيًرا‪ ،‬وسينعكس‬
‫ذلك على طريقة تعامله مع القرآن‪ ،‬وقبل ذلك مع‬
‫ربه‪ ،‬وسيزداد شعوره بالدفء والسكينة كلما التقى‬
‫بالقرآن‪ ..‬وأنقل لك أخي القارئ تجربة محمد‬
‫إقبال في هذا الشأن‪.‬‬
‫يقول أبو الحسن الندوي‪ :‬لقد كانت قراءة‬
‫محمد إقبال للقرآن قراءة تختلف عن قراءة‬
‫الناس‪ ،‬ولهذه القراءة الخاصة فضل كبير في‬
‫تذوقه للقرآن‪ ،‬واستطعامه إياه‪.‬‬
‫وقد حكى قصته لقراءة القرآن‪ ،‬قال‪« :‬قد كنت‬
‫تعمدت أن أقرأ القرآن بعد صلة الصبح كل يوم‪،‬‬
‫وكان أبي يراني‪ ،‬فيسألني‪ :‬ماذا أصنع؟ فأجيبه‪:‬‬
‫أقرأ القرآن‪ ،‬وظل على ذلك ثلث سنوات متتاليات‬
‫يسألني سؤاله‪ ،‬فأجيبه جوابي‪ ،‬وذات يوم قلت له‪:‬‬
‫ما بالك يا أبي! تسألني نفس السؤال وأجيبك‬
‫جوابًا واحدًا‪ ،‬ثم ل يمنعك ذلك عن إعادة السؤال‬
‫من غدٍ؟ فقال‪ :‬إنما أردت أن أقول لك‪ :‬يا ولدي؛‬
‫اقرأ القرآن كأنما نَُّزل عليك‪ .‬ومنذ ذلك اليوم بدأت‬
‫أتفهم القرآن وأقبل عليه‪ ،‬فكان من أنواره ما‬
‫اقتبست‪ ،‬ومن درره ما نظمت»(‪.)69‬‬
‫ترديد وتكرار الية أو اليات التي يحدث معها‬
‫تجاوب وتأثر قلبي‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫() روائع إقبال لبي الحسن الندوي‪ – 39 ،38 /‬دار القلم –‬
‫دمشق‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫بالمداومة على الوسائل السابقة ستأتي – بل شك‬
‫– لحظات يتجاوب فيها القلب مع آية أو آيات متتاليات‬
‫فيتأثر بها‪ ،‬وينفعل معها‪ ،‬وهذا يعني دخول نور هذه الية‬
‫القلب‪ ،‬وهزها للمشاعر‪ ،‬وتزويدها للقلب باليمان‪ ،‬وبث‬
‫الروح فيه ‪ ..‬وهذا هو ما نريده‪ ،‬ونبحث عنه‪.‬‬
‫من هنا ظهرت الحاجة إلى استثمار تلك‬
‫الفرصة العظيمة‪ ،‬والسماح لكبر قدر من النور‬
‫ليدخل القلب‪ ،‬وذلك من خلل ترديد الية – أو‬
‫اليات – التي أثرت فينا ويستمر الترديد والتكرار‬
‫حتى يتوقف التأثر والنفعال‪ ،‬فكما قيل‪« :‬الية مثل‬
‫التمرة‪ ،‬كلما مضغتها استخرجت حلوتها»‪.‬‬
‫هذه الوسائل النبوية المجربة لو داومنا‬
‫وثابرنا عليها‪ ،‬فلنبشر جميعًا بقرب شروق‬
‫شمس القرآن داخل قلوبنا‪ ،‬لتبدأ معها حياة‬
‫جديدة تكسوها السكينة والطمأنينة‪ ،‬وروح‬
‫جديدة وثابة وتواقة لفعل الخير‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫العمـــل بالقـــــــــرآن‬

‫مما ل شك فيه أن طول المكث مع القرآن‪،‬‬


‫وقراءته بتفهم وترتيل وصوت حزين من شأنه أن‬
‫يجلب التأثر والنفعال وقت القراءة‪.‬‬
‫ومهما كانت مساحة هذا التأثر والنفعال إل أن‬
‫استمرار حدوثه يوما بعد يوم معناه استمرار تغذية‬
‫القلب باليمان‪ ..‬فإذا ما استمر اليمان في ازدياد؛‬
‫وقوي الدافع داخل المرء للقيام‬
‫َ‬ ‫تولدت الرغبة‬
‫بأعمال البر المختلفة في شتى المجالت‪ ،‬فالطاقة‬
‫اليمانية التي يولدها التأثر المستمر ل تدع صاحبها‬
‫يقر حتى يُفرغها‪.‬‬
‫معنى ذلك أن من يترك نفسه للقرآن‪ ،‬ويطيل‬
‫فترة مكوثه معه فإن ثمة تغيُّرات حقيقية ستحدث‬
‫له‪ ،‬وسيلحظها كل من يتعامل معه‪ ،‬خاصة في‬
‫الوقت الذي يلي لقاءه بالقرآن‪.‬‬
‫ومما يؤكد ذلك أن رسول الله الذي كان‬
‫أجود الناس‪ ،‬إل أن هذا الجود كان يزداد بعد قراءته‬
‫للقرآن‪ .‬فعن ابن عباس رضي الله عنهما‪ -‬قال‪:‬‬
‫«كان النبي أجود الناس بالخير‪ ،‬وأجود ما يكون‬
‫في شهر رمضان‪ ،‬لن جبريل كان يلقاه في كل‬
‫ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ‪ ،‬يعرض عليه‬
‫رسول الله القرآن‪ ،‬فإذا لقيه جبريل كان أجود‬
‫بالخير من الريح المرسلة»(‪.)70‬‬
‫ويعلق ابن حجر في فتح الباري على هذا‬
‫‪70‬‬
‫() رواه مسلم‪.)4997( :‬‬

‫‪62‬‬
‫الحديث فيقول‪:‬‬
‫وفيه أن مداومة التلوة توجب زيادة الخير(‪.)71‬‬
‫وهذا الصحابي عامر بن ربيعة يأتيه ضيف‬
‫فيكرمه‪ ،‬فيذهب الرجل إلى رسول الله ويطلب‬
‫ضا فأعطاه رسول الله ‪ ،‬فذهب‬ ‫منه أن يعطيه أر ً‬
‫إلى عامر ليخبره ويقول له‪ :‬إني استقطعت رسول‬
‫الله واديًا ما في العرب أفضل منه‪ ،‬ولقد أردت‬
‫أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك‪.‬‬
‫فقال له عامر‪ :‬ل حاجة لي في قطيعتك‪ ،‬نزلت‬
‫اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا ا ْقَترَبَ لِلنّاسِ ِحسَاُب ُهمْ وَ ُهمْ فِي‬
‫َغ ْف َلةٍ ّم ْعرِضُونَ [النبياء‪.)72( ]1 :‬‬
‫فقراءة القرآن لها تأثير مباشر وسريع في‬
‫تحسين السلوك‪..‬‬
‫وقد أخبرني أحد هؤلء الذين بدأوا في التعامل‬
‫الصحيح مع القرآن بأن زوجته صارحته بأنها إذا ما‬
‫أرادت منه الموافقة على أحد الطلبات فإنها تطلبه‬
‫منه بعد انتهائه من قراءته للقرآن لعلمها بحالته‬
‫النفسية اليجابية‪ ،‬وشعوره بالسعادة في هذا‬
‫الوقت‪.‬‬
‫العمل بما دلت عليه اليات‪:‬‬
‫حدثه القرآن في‬
‫ومع ذلك الثر العظيم الذي ي ُ‬
‫القلب والذي من خلله يتغير السلوك إل أنه من‬

‫‪71‬‬
‫() فتح الباري ‪.54 /9‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪ -164 /3‬مكتبة العبيكان‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫‪63‬‬
‫المناسب أن نجتهد – قدر المستطاع‪ -‬في تطبيق‬
‫المعاني التي دلت عليها اليات‪ ،‬خاصة تلك التي‬
‫تجاوبنا وتأثرنا بها‪.‬‬
‫مع الخذ في العتبار أن يظل هذا التطبيق في‬
‫حدود الستطاعة حتى ل يكون هذا مدخل للشيطان‬
‫بترك القراءة تحت دعوى «تطبيق ما مضى أول»‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال عندما يقرأ المرء قوله‬
‫تعالى‪ِ :‬إنّ الَ لَ ُيحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالً َفخُورًا [النساء‪]36 :‬‬
‫ثم أسقط هذا المعنى على نفسه‪ ،‬وفتش فيها‪،‬‬
‫فوجد أنه متلبس بهذا الخلق‪ ،‬كأن يكون كثير‬
‫الحديث عن إنجازاته‪ ،‬والمباهاة بقدراته و‪....‬؛‬
‫فتألم من ذلك وأراد أن يغير هذا الخلق السيئ‪...‬‬
‫فهل يتوقف عن قراءة القرآن حتى ينتهي من علج‬
‫نفسه من هذا السلوك؟!‬
‫الجواب هو‪ :‬عدم توقفه عن القراءة اليومية‬
‫للقرآن‪ ،‬لنه من خلله يتزود باليمان الذي يدفعه –‬
‫بعون الله‪ -‬لتغيير هذا الخلق‪ ،‬وغيره مما تدل عليه‬
‫اليات‪.‬‬
‫وفي نفس الوقت عليه أن يجتهد – بقدر‬
‫المستطاع‪ -‬في تغيير هذا الخلق‪ ،‬ويداوم على‬
‫محاسبة نفسه ويجاهدها في اللتزام بالتواضع‬
‫ونكران الذات‪.‬‬
‫ومما يساعده على الستمرار في جهاد نفسه‬
‫هو كثرة تلوته للقرآن‪ ،‬لنه سيجد آيات عديدة‪،‬‬
‫وفي سور مختلفة تذكره بخطورة العجاب‬
‫بالنفس‪ ،‬وتستحثه على التواضع‪ ،‬فالقرآن يكرر‬
‫المعاني بأساليب مختلفة وََل َقدْ صَرّفْنَاهُ بَيَْن ُهمْ لَِيذّكّرُوا‬

‫‪64‬‬
‫[الفرقان‪.]50 :‬‬
‫‪ ..‬الخلصة هي‪ :‬عدم ترك القراءة بل الكثار‬
‫منها‪ ،‬وفي نفس الوقت عدم إهمال العمل بما‬
‫دلت عليه اليات في حدود المستطاع‪.‬‬
‫إن القرآن هو رسالة من الله إلى كل واحد منا‪،‬‬
‫لذلك عليه أن يديم قراءتها ويطبق ما يقدر على‬
‫تطبيقه منها‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى يقول الحسن البصري‪ :‬إنكم‬
‫مل‪،‬‬ ‫ج َ‬‫اتخذتم قراءة القرآن مراحل‪ ،‬وجعلتم الليل َ‬
‫فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحله‪ ،‬وإن من كان‬
‫قبلكم رأوه رسائل من ربهم‪ ،‬فكانوا يتدبرونها‬
‫بالليل وينفذونها بالنهار‪.‬‬
‫وينقل لنا المام حسن البنا وصية من وصايا‬
‫المام محمد عبده لبعض تلميذه يقول فيها‪« :‬وأدم‬
‫قراءة القرآن‪ ،‬وفهم أوامره ونواهيه‪ ،‬ومواعظه‬
‫وعبره‪ ،‬كما كان يُتلى على المؤمنين أيام الوحي‪،‬‬
‫وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إل لفهم لفظ‬
‫غاب عنك مراد العرب منه‪ ،‬أو ارتباط مفرد بآخر‬
‫خفِي عليك متصله‪ ،‬ثم اذهب إلى ما يُشخصك‬ ‫َ‬
‫القرآن إليه‪ ،‬واحمل نفسك على ما يحمل عليه»‪.‬‬
‫ويعلق البنا على هذه الوصية فيقول‪:‬‬
‫ولشك أن من أخذ بهذه الطريقة سيجد أثرها‬
‫ملَكة تجعل الفهم من سجيته‪،‬‬ ‫بعد حين في نفسه َ‬
‫ونورا يستضيء به في دنياه وآخرته إن شاء‬
‫الله(‪.)73‬‬

‫() حسن البنا ومنهجه في تفسير القرآن الكريم ص ‪.98 ،97‬‬ ‫‪73‬‬

‫‪65‬‬
‫ليس كتابا نظريا‪:‬‬
‫يقول المودودي‪ :‬ومهما يتخذ النسان من‬
‫التدابير ويستخدم من الوسائل لفهم القرآن‪ ،‬فإنه‬
‫ل يصل إلى جوهر القرآن وروحه كما ينبغي‪ ،‬مادام‬
‫هو ل يعمل وفق ما جاء به القرآن‪.‬‬
‫إن القرآن ليس يحوي نظريات مجردة‪ ،‬وأفكاًرا‬
‫سا على الريكة‪...‬‬
‫محضة‪ ،‬حتى تدرسه جال ً‬
‫كما أنه ليس كتابًا يبحث في اللهوت‪ ،‬فتحل‬
‫جميع أسراره ومكوناته في المعاهد والزوايا‪..‬‬
‫إن هذا الكتاب كتاب دعوة وحركة‪ ،‬وبمجرد‬
‫نزوله أخرج رجل ً وادعا‪ ،‬دمثا‪ ،‬سليم الفطرة‪ ،‬كريم‬
‫الشيم‪ ،‬ومحبا النعزال‪ ،‬وأوقفه في مواجهة العالم‬
‫الذي كان قد انصرف عن الحق‪ ،‬وجعله يقارع‬
‫الباطل‪ ،‬ويحارب أئمة الكفر‪ ،‬وقادة الفسق‪ ،‬وروَّد‬
‫الضلل‪.‬‬
‫‪ ..‬إن هذا الكتاب انتزع كل روح سعيدة‪ ،‬وكل‬
‫نفس زكية من كل بيت‪ ،‬وجمعها تحت لواء صاحب‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫‪ ..‬إن هذا الكتاب هو الذي قام بتوجيه الحركة‬
‫السلمية خلل مدة ثلث وعشرين سنة‪ ،‬والتي‬
‫بدأت عملها من صرخة فرد واحد‪ ،‬وانتهت في‬
‫نهاية المطاف إلى إقامة الخلفة اللهية في‬
‫الرض‪..‬‬
‫‪ ..‬وهذا الكتاب هو الذي تولى وضع مخططات‬
‫الهدم‪ ،‬ومشاريع البناء في كل مرحلة من‬

‫‪66‬‬
‫المراحل‪ ،‬وفي كل خطوة من الخطوات خلل‬
‫المعركة المديدة الضارية بين الحق والباطل‪.‬‬
‫إذن فكيف يتأتى لك اليوم أن يتجلى لك جميع‬
‫ما يضمر هذا الكتاب من أسرار وحقائق‪ ،‬بمجرد‬
‫أن تمر على حروفه‪ ،‬وتنطق بكلماته(‪.)74‬‬
‫شعور التلقي للتنفيذ‪:‬‬
‫من هنا نقول بأنه من الضروري – إن أردنا‬
‫النتفاع بالقرآن‪ -‬أن نقبل عليه بشعور التلقي‬
‫للتنفيذ والعمل‪ ،‬ل بشعور الدراسة والمتاع كما‬
‫يقول سيد قطب‪ ..‬نرجع إليه لنعرف ماذا يطلب‬
‫منا أن نكون‪ ،‬لنكون‪ ،‬وفي الطريق سنلتقي‬
‫بالجمال الفني في القرآن‪ ،‬وبالقصص الرائع في‬
‫القرآن‪ ،‬وبمشاهد القيامة في القرآن‪ ،‬وبالمنطق‬
‫الوجداني في القرآن‪ ،‬وبسائر ما يطلبه أصحاب‬
‫الدراسة والمتاع‪ ،‬ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن‬
‫يكون هو هدفنا الول‪..‬‬
‫إن هدفنا الول أن نعرف‪ :‬ماذا يريد منا القرآن‬
‫أن نعمل؟!‬
‫ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن‬
‫نتصوره؟!‬
‫كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله؟!‬
‫كيف يريد القرآن أن تكون أخلقنا وأوضاعنا‪،‬‬
‫ونظامنا الواقعي في الحياة(‪)75‬؟!‬
‫‪74‬‬
‫() المبادئ الساسية لفهم القرآن لبي العلى المودودي‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫() معالم في الطريق لسيد قطب ص ‪.23 ،22‬‬

‫‪67‬‬
‫واعلم – أخي‪ -‬أنه‪( :‬سيظل هنالك حاجز‬
‫سميك بين قلوبنا وبين القرآن‪ ،‬طالما نتلوه أو‬
‫نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية ل علقة لها‬
‫بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجهنا‪..‬‬
‫سا ووقائع وأحداثا‬‫بينما اليات نزلت لتواجه نفو ً‬
‫(‪)76‬‬
‫حية‪ ،‬ذات كينونة واقعية حية) ‪..‬‬
‫(ولن ننتفع بالقرآن حتى نقرأ لنلتمس عنده‬
‫توجيهات حياتنا في يومنا وفي غدنا‪ ،‬كما كانت‬
‫الجماعة المسلمة الولى تتلقاه لتلتمس عنده‬
‫التوجيه الحاضر في شؤون حياتها الواقعة‪.‬‬
‫وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما‬
‫نريد‪ ،‬وسنجد فيه عجائب ل تخطر على البال‬
‫الساهي!‬
‫سنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض‬
‫وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق‪ ،‬وتقول لنا‪ :‬هذا‬
‫فافعلوه وهذا ل تفعلوه‪ .‬وتقول لنا حديثا طويل‬
‫مفصل في كل ما يعرض لنا من الشؤون‪ ..‬وسنجد‬
‫عندئذ في القرآن متاعًا وحياة‪ ،‬وسندرك معنى‬
‫قوله تعالى‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِ وَلِلرّسُولِ إِذَا‬
‫كمْ [النفال‪ ]24 :‬فهي دعوة للحياة‪..‬‬
‫َدعَاكُم ِلمَا يُحْيِي ُ‬
‫(‪)77‬‬
‫للحياة الدائمة المتجددة) ‪.‬‬
‫***‬

‫() في ظلل القرآن ‪ .348 /1‬باختصار‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫() في ظلل القرآن ‪.261 /1‬‬ ‫‪77‬‬

‫‪68‬‬
‫حفـــــظ القـــــــــــرآن‬

‫يسعى الكثير من المسلمين المتمسكين بالدين‬


‫إلى حفظ القرآن ‪-‬بعضه أو كله‪ -‬وهذا أمر طيب‪،‬‬
‫ولكن لكي يصبح هذا الحفظ حجة لنا‪ ،‬ووسيلة‬
‫عظيمة لزيادة النتفاع بالقرآن في تحقيق اليمان‬
‫وإحداث التغيير بإذن الله‪ ،‬ينبغي أن يسير حفظ‬
‫اليات متوازيًا مع فهم معناها‪ ،‬ومعرفة ما دلت‬
‫عليه من أحكام وتوجيهات عملية يتم اللتزام بها‬
‫عدة أيام قبل النتقال إلى حفظ آيات جديدة‪..‬‬
‫وذلك هو منهج الجيل الول في حفظ اليات‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولماذا ل نكثر من الحفظ كما نكثر‬
‫من القراءة؟!‬
‫جاءك الجواب بأن أمر الحفظ يختلف عن أمر‬
‫القراءة؟!‬
‫بمعنى أن الهدف من الكثار من القراءة هو‬
‫التزود الدائم باليمان‪ ،‬واستمرار التذكرة‪،‬‬
‫والتبصرة‪ ،‬وتقوية الرغبة والدافع لفعل الخيرات‬
‫وترك المنكرات‪.‬‬
‫أما الحفظ فلبد وأن يواكبه الفهم والعلم‬
‫والعمل لن صاحبه سيحمله بصورة دائمة‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬سورة الليل يمكن حفظ‬
‫ألفاظها في دقائق‪ ،‬ولكن هل يمكن أن نُطلق على‬
‫من حفظها في هذه الدقائق أنه يحمل سورة‬
‫الليل‪ ،‬وأن الخلق التي دلت عليها السورة صارت‬

‫‪69‬‬
‫تتمثل فيه؟!‬
‫إن سورة الليل تحث على كثرة ودوام النفاق‬
‫ظ ألفاظها شخص ل ينفق‬ ‫ف َ‬
‫ح ِ‬ ‫في سبيل الله‪ ،‬فإذا َ‬
‫من ماله إل اليسير‪ ،‬ثم بدأ بعدها في حفظ سورة‬
‫أخرى دون أي محاولة منه لتغيير سلوكه‪ ،‬وجهاد‬
‫نفسه وحثها على دوام النفاق في سبيل الله‪..‬‬
‫مى حامل لسورة الليل؟!‬ ‫فهل هذا الشخص يُس َّ‬
‫وماذا يكون وضعه عندما يقرأ مع نفسه أو يؤم‬
‫الناس بسورة الليل؟!‬
‫أل يخشى على نفسه من أن ينطبق عليه‬
‫وصف من يقول ول يفعل؟!‬
‫من هنا يتضح لنا أهمية التمهل في الحفظ‬
‫ظ جديد إل بعد أن يمارس‬
‫وعدم النتقال إلى حف ٍ‬
‫المرء ما دلت عليه اليات ولو لبضعة أيام‪.‬‬
‫ومما يلفت النتباه أنه مع انشغال الصحابة‬
‫الشديد بالقرآن‪ ،‬واجتهادهم في كثرة تلوته بالليل‬
‫ما وترتيلً‪ -‬إل أنهم لم يتنافسوا فيما‬
‫والنهار – تفه ً‬
‫بينهم على حفظه‪.‬‬
‫فالتمهل‪ ،‬وعدم السراع هو سمة الصحابة في‬
‫حفظ القرآن‪ ،‬ويكفيك في هذا قول التابعي أبي‬
‫عبد الرحمن ال ُّ‬
‫سلمي‪:‬‬
‫حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن كعثمان بن‬
‫عفان‪ ،‬وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما‪،‬‬
‫وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر‬
‫آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم‬

‫‪70‬‬
‫والعمل‪ ،‬قالوا‪ :‬فتعلمنا العلم والعمل جميعا(‪.)78‬‬
‫ولهذا – كما يقول ابن تيمية‪ -‬كانوا يبقون مدة‬
‫في حفظ السورة‪.‬‬
‫‪ ..‬قال أنس‪ :‬كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل‬
‫(‪)79‬‬ ‫عمران ج َّ‬
‫ل في أعيننا‪.‬‬
‫ويقول عبد الله بن عمر‪ :‬كنا صدر هذه المة‪،‬‬
‫وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله ما‬
‫معه إل السورة من القرآن أو شبه ذلك‪ ،‬وكان‬
‫القرآن ثقيل عليهم‪ ،‬ورزقوا العمل به‪ ،‬وإن آخر‬
‫خفف عليهم القرآن‪ ،‬حتى يقرأه الصبي‬ ‫هذه المة ي ُ‬
‫(‪)80‬‬
‫والعجمي فل يعملون به ‪.‬‬
‫وسوف تسألون‪:‬‬
‫‪ ..‬لقد كان الصحابة يعلمون تمام العلم أن‬
‫حفظ شيء من القرآن معناه العمل به وأنهم‬
‫سيسألون عنه يوم القيامة‪ ...‬أي أن الحفظ كان‬
‫مرادفًا للعمل عندهم‪.‬‬
‫يقول أبو الدرداء‪ :‬أخاف أن يقال لي يوم‬
‫القيامة علمت أم جهلت؟‬
‫فأقول‪ :‬علمت‪.‬‬
‫فل تبقى آية في كتاب الله آمرة أو زاجرة إل‬
‫وتسألني فريضتها‪.‬‬
‫() مقدمة في أصول التفسير لبن تيمية ص ‪.75 ،74‬‬ ‫‪78‬‬

‫‪79‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫() أخلق حملة القرآن للجري‪ ،‬والجامع لحكام القرآن‬
‫للقرطبي (‪.)30 /1‬‬

‫‪71‬‬
‫تسألني المرة‪ :‬هل ائتمرت؟!‬
‫وتسألني الزاجرة‪ :‬هل ازدجرت؟!‬
‫فأعوذ بالله من علم ل ينفع‪ ،‬ومن دعاء ل‬
‫يسمع(‪.)81‬‬
‫فلنحذر الوعيد‪:‬‬
‫وأتركك أخي القارئ مع هذا الحديث النبوي‬
‫الصحيح لتتأمله وتتفكر في معانيه‪ :‬قال ‪« :‬أكثر‬
‫منافقي أمت قراؤها»(‪.)82‬‬
‫وليس معنى هذا هو إهمال الحفظ بل المقصد‬
‫هو التمهل فيه حتى ل نكون ممن يقول ول يفعل‪.‬‬
‫وليكن – على سبيل القتراح‪ -‬الحفظ كل‬
‫أسبوع خمس آيات وقراءة تفسيرها‪ ،‬والجتهاد في‬
‫تطبيقها‪ ،‬والتخلق بأخلقها‪.‬‬
‫قال أبو العالية‪ :‬تعلموا القرآن خمس آيات‬
‫خمس آيات‪ ،‬إنه أحفظ لكم‪ ،‬وكان جبريل صلوات‬
‫الله عليه كان ينزل بخمس آيات متواليات(‪.)83‬‬
‫مراجعة المحفوظ‪:‬‬
‫ومع التمهل في الحفظ لبد من مراجعة ما تم‬
‫حفظه حتى ل يُنسى‪ ،‬ولكن ينبغي علينا ونحن‬
‫‪81‬‬
‫() حديث القرآن عن القرآن لمحمد الراوي ص ‪ ،46‬مكتبة‬
‫العبيكان‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه المام أحمد‪ ،‬والطبراني‪ ،‬وصححه اللباني‬
‫في صحيح الجامع (‪ ،)1203‬والصحيحة (‪.)750‬‬
‫‪83‬‬
‫() فضائل القرآن للمستغفري ‪.1/321‬‬

‫‪72‬‬
‫نراجع اليات أن ننتبه إلى أن هذه اليات‪ :‬قرآن‬
‫ينبغي تفهمه وتدبره‪ ،‬وهذا يستدعي عدم السراع‬
‫في القراءة‪ ،‬وإعمال العقل لفهم المعنى‪.‬‬
‫‪ ..‬روى الزهري أن عبد الله بن عباس كان‬
‫يُقرئ عبد الرحمن ابن عوف في خلفة عمر بن‬
‫الخطاب‪ ..‬قال عبد الله بن عباس‪ :‬لم أر أحدًا يجد‬
‫من القشعريرة ما يجد عبد الرحمن عند‬
‫القراءة(‪.)84‬‬
‫***‬

‫() مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ص ‪.145‬‬ ‫‪84‬‬

‫‪73‬‬
‫الدعوة إلى العودة للقرآن‬

‫ومن الوسائل الهامة لفهم القرآن‪ ،‬والتفاعل‬


‫معه‪ ،‬والنتفاع به‪ :‬دعوة الناس إلى العودة‬
‫الحقيقية إليه‪.‬‬
‫فهذا القرآن كما يقول سيد قطب‪ :‬ل يدرك‬
‫أسراره قاعد‪ ،‬ول يعلم مدلولته إل إنسان يؤمن‬
‫به‪ ،‬ويتحرك به(‪.)85‬‬
‫الجهاد الحقيقي‪:‬‬
‫إن الجهاد الحقيقي الذي تحتاجه المة الن هو‬
‫بذل غاية الجهد في إعادة المسلمين إلى دينهم‪،‬‬
‫وتغيير ما بأنفسهم – بإذن الله – وهذا لن يتم إل‬
‫بالعودة الصحيحة إلى القرآن‪ ،‬والغتراف من منابع‬
‫اليمان فيه‪.‬‬
‫من كل َمن أدرك بنفسه قيمة‬ ‫وهذا يستلزم ِ‬
‫القرآن‪ ،‬أن يبذل غاية جهده في دللة الناس على‬
‫هذا الكنز المهجور‪ ،‬وأن يستخدم في ذلك كل‬
‫الوسائل الممكنة على أن تكون بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪ ،‬وأن يتذكر أنه كان مثلهم قبل‬
‫أن يمن الله عليه ويُريه حقيقة القرآن‪.‬‬
‫واعلم أخي أنك أكثر المستفيدين من حديثك‬
‫عن القرآن مع الخرين‪ ،‬ولم ل وحديثك يجدد في‬
‫قلبك مشاعر الرغبة في النتفاع بالقرآن‪ ،‬ويؤكد‬

‫() في ظلل القرآن ‪.2038 /4‬‬ ‫‪85‬‬

‫‪74‬‬
‫المعاني في نفسك‪ ،‬ويكون سببا في اشتداد حذرك‬
‫وخوفك من عدم تطبيق ما تنادي به‪ ،‬ويكشف لك‬
‫م تشتد‬‫جوانب الضعف في فهمك للمر ومن ث َّ‬
‫رغبتك في جبرها‪.‬‬
‫يقول أبو العلى المودودي‪:‬‬
‫ل تستطيع أن تفهم مطالب القرآن وتدرك‬
‫كّم هذا الكتاب‪،‬‬ ‫معانيه البعيدة الغور إل حين تُح ِ‬
‫وتبدأ بالدعوة إلى الله(‪.)86‬‬
‫ومع هذا كله نعود فنؤكد بأنه ولكي يُؤتي هذا‬
‫المر أُكله لبد وأن يبدأ الداعية مع نفسه أول رحلة‬
‫العودة إلى القرآن‪ ،‬فيرى ببصيرته معجزته تعمل‬
‫فيه‪ ،‬وأنواره تسكب السكينة في قلبه‪ ،‬وتُغيَّر‬
‫موازين القوى داخله‪ ،‬فينتصر إيمانه‪ ،‬وينهزم هواه‪،‬‬
‫ويشعر بأنه قد ولد من جديد‪.‬‬
‫وهذا لن يتم لنا – أخي – إل إذا أقبلنا على‬
‫القرآن كإقبال الظمآن إذا ما رأى الماء‪ ،‬وداومنا‬
‫على اللقاء به مستصحبين الوسائل التي من شأنها‬
‫أن تُعَّرض قلوبنا لنواره – والتي مرت علينا آنفا‪.‬‬
‫حاجة المسلمين إلى القرآن‬
‫إن الناس – كما يقول د‪ .‬فريد النصاري‪ -‬في‬
‫حاجة شديدة إلى القرآن الكريم‪ ،‬ينزل عليهم مرة‬
‫أخرى من جديد! عبر (بعثة) تحيى فيهم كل موات!‬
‫ينزل عليهم‪ ،‬عبر الدعاة إلى الله‪ ،‬الدعاة‬
‫الربانيين‪ ،‬المتفاعلين به‪ ،‬المستمدين لنوره‪،‬‬
‫والمتكلمين بمفاهيمه‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫() المبادئ الساسية لفهم القرآن‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫يتنزل على نوازلهم وقضاياهم‪ ،‬وسائر شؤونهم‬
‫النفسية والجتماعية‪ ،‬يتحرك به الدعاة في كل‬
‫مكان‪ ،‬على أنه (رسالة الله) إليكم! أنتم أيها‬
‫الناس! فردًا فردًا‪ ،‬وأسرة أسرة‪ ،‬ومؤسسة‬
‫مؤسسة‪.‬‬
‫يجب أن يكون هو حديثهم الذي ل يسأمون‬
‫منه‪ ،‬واشتغالهم الذي ل يفترون عنه‪ ..‬إن أغلب‬
‫المسلمين اليوم ل يعرفون القرآن! نعم‪ ،‬ها هو ذا‬
‫المصحف في كل مكان‪ ،‬ولكن قل من يعرف‬
‫(القرآن)! ومن هنا وجب على الدعاة أن يقوموا‬
‫بالتعريف به‪ ،‬فمن عرف القرآن عرف الله‪ ،‬ووصل‬
‫إلى غاية (الرسالة)!‬
‫إن القرآن رسالة ‪ ..‬والدعوة إلى الله إنما هي‬
‫تبليغ هذه الرسالة وإنما يتم (التبليغ) بإتمام‬
‫اليصال إلى المحل المرسل إليه ‪ ..‬وإل فل تبليغ!‬
‫وكل داعية خال من الحرارة الوجدانية تجاه القرآن‬
‫هو آلة معطلة مقفلة غير صالحة للتبليغ(‪.)87‬‬
‫***‬

‫() البيان الدعوى د‪ .‬فريد النصاري‪ 253 -251 :‬باختصار‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫‪76‬‬
‫هل تكفي‬
‫العودة إلى القرآن لنهضة المة؟!‬

‫المة السلمية الن في حالة من التفكك‬


‫والضياع لم يسبق لها مثيل‪.‬‬
‫ولقد نجح أعداؤها في إضعاف بنيتها الساسية‪،‬‬
‫وهدم جزء كبير من منظومة القيم والخلق‬
‫داخلها‪ ،‬واستخدموا‪ -‬ول يزالون يستخدمون‪ -‬في‬
‫ذلك وسائل عديدة مثل العلم الفاسد الماجن‬
‫الذي يغسل العقول ويوجه الهتمامات نحو‬
‫سفاسف المور‪ ،‬والنشغال بتحصيل الشهوات‪.‬‬
‫ومع العلم الفاسد يأتي التعليم الذي يهدم‬
‫أكثر مما يبني‪.‬‬
‫فنتج عن ذلك أن غلب على أفراد المة ضعف‬
‫ضعُف اليمان‪ ،‬واشتعلت‬‫البنية التربوية الصحيحة‪ ،‬و َ‬
‫الشهوات‪ ،‬وزاد النبهار بالحضارة الغربية‪.‬‬
‫وعندما هبت ريح طيبة تجذب الناس إلى الدين‪،‬‬
‫حدث أن انصب التعامل معها على الناحية الشكلية‬
‫أكثر من الموضوعية‪.‬‬
‫فانتشر غطاء الرأس عند النساء‪ ،‬وزاد عدد‬
‫المصلين في المساجد‪ ،‬وازدحمت البلد الحرام‬
‫بالمعتمرين والحجاج‪ ،‬وكثر عدد المتطوعين‬
‫بالصيام والقيام‪.‬‬
‫ومع ذلك كله لم تتغير الخلق كثيًرا‪ ،‬فالثرة ‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫وحب الدنيا‪ ،‬والتعلق بها هو السمة الغالبة على‬
‫مجتمعاتنا‪.‬‬
‫ميدان المعركة‪:‬‬
‫لقد نجح أعداء السلم في تغيير المة تغييًرا‬
‫سلبيًا‪ ،‬وإضعاف سلطان الدين في نفوس أبنائها‪،‬‬
‫وساهموا – بمكر شديد‪ -‬في تحويل مفهوم اللتزام‬
‫بالسلم إلى الناحية الشكلية؛ لذا كان التحدي‬
‫الكبر الذي يواجه العاملين للسلم الن هو كيفية‬
‫إصلح ما تهدم في الكيان الداخلي المسلم‪ ،‬وتقوية‬
‫سلطان الدين في نفسه‪ ،‬وإعادة بناء منظومة‬
‫القيم والخلق داخله‪.‬‬
‫‪ ..‬وإن هذا لهو الجهاد العظيم الذي تحتاجه‬
‫المة الن أكثر من أي وقت مضى‪.‬‬
‫‪ ..‬نعم‪ ،‬إن المر ليس سهلً‪ ،‬فمعاول الهدم‬
‫كثيرة‪ ،‬والتحديات عظيمة‪ ،‬ولكن ليس لنا طريق‬
‫سوى ذلك إن أردنا صلحا حقيقيًا لهذه المة‪.‬‬
‫‪ ..‬لبد من البدء بأنفسنا‬
‫وإقامة السلم فيها أول‪ ،‬ثم‬
‫النتقال إلى المجتمع والعمل‬
‫على تغييره تغييًرا حقيقيًا‪.‬‬
‫إن المسلمين في هذا العصر ومع انتشار‬
‫الفضائيات ل تنقصهم المعرفة بقدر ما ينقصهم‬
‫اليمان والقوة الروحية التي تتغلب على أهوائهم‪،‬‬
‫وتدفعهم للقيام بمقتضيات ما عرفوه‪.‬‬
‫من هنا تبرز أهمية العمل على زيادة اليمان‬

‫‪78‬‬
‫في قلوبهم بالدرجة التي تمكنهم من التضحية‬
‫بمحابهم وشهواتهم من أجل رضا الله عز وجل‪..‬‬
‫وأعظم وسيلة لزيادة اليمان هي القرآن كما‬
‫أسلفنا‪.‬‬
‫فإذا ما استطاع العاملون للسلم والدعاة إلى‬
‫الله أن يقدموا القرآن للناس على حقيقته‪،‬‬
‫ويجتهدوا في إزالة كل ما علق بالذهان من‬
‫تصورات خاطئة عن طريقة التعامل معه‪ ،‬ويقوموا‬
‫بتوجيههم نحو كيفية النتفاع الحقيقي به‪ ،‬فإن هذا‬
‫من شأنه أن يكون له أبلغ الثر في التغيير‬
‫الحقيقي للمسلمين‪.‬‬
‫المشروع السلمي‪:‬‬
‫إن مشروع الصلح السلمي الذي يتبناه‬
‫العاملون للسلم والذي يبدأ بإصلح الفرد فالبيت‬
‫فالمجتمع فالمة‪ ...‬روحه الحقيقية هي التربية‬
‫والتكوين‪.‬‬
‫والتربية والتكوين في حاجة ماسة إلى قوة‬
‫دافعة‪ ،‬ودافع ذاتي دائم‪ ..‬وهذه هي وظيفة القرآن‬
‫المتفردة‪.‬‬
‫بمعنى أن القرآن هو روح هذا المشروع‬
‫الصلحي الضخم‪ ،‬وهو كذلك يسع جميع الدعاة‬
‫وكل من يريد خدمة السلم شريطة أن يبدأ بنفسه‬
‫أول‪ ،‬وأن يتعاون مع العاملين للسلم – قدر‬
‫استطاعته‪ -‬في استكمال بناء المشروع السلمي‪.‬‬
‫جهد البشر‪:‬‬

‫‪79‬‬
‫ونؤكد هنا مرة أخرى بأن هذا الدين لن يقام –‬
‫كامل‪ -‬مرة أخرى في حياة الناس إل بجهد البشر‪،‬‬
‫فلن تنزل الخوارق من السماء للتمكين لهذا الدين‬
‫بينما الناس غرقى في بحر شهواتهم‪.‬‬
‫فلبد من جهد يبذل في كل مناحي الحياة‬
‫ويركز على التربية الصحيحة لفراد المة‪.‬‬
‫هذا الجهد لبد وأن يبذله أُناس مؤمنون‬
‫صالحون وََلقَدْ َكتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن َبعْدِ ال ّذ ْكرِ َأ ّن الَ ْرضَ َيرُِثهَا‬
‫لغًا لّ َقوْ ٍم عَابِدِينَ [النبياء‪،105 :‬‬ ‫عِبَا ِديَ الصّاِلحُونَ ِإنّ فِي هَذَا َلَب َ‬
‫‪.]106‬‬
‫أي أن هذا الدين لن يقام بأمر الله إل من خلل‬
‫جهد بشري يبذله مؤمنون صالحون‪.‬‬
‫فل بديل عن بذل الجهد في إصلح المجتمع‪،‬‬
‫على أن تكون جذوة اليمان قد اشتعلت في قلوب‬
‫أصحاب هذا الجهد‪ ،‬مع التأكيد بأن اليمان الحي‬
‫مصدره الول هو القرآن‪.‬‬
‫معنى ذلك أن القرآن هو المصدر الساسي‬
‫للطاقة‪ ،‬والوقود المحرك لمشروع النهضة‪ ،‬ولن‬
‫ينجح هذا المشروع بدون العودة إلى القرآن‪.‬‬
‫كلمات مضيئة‪:‬‬
‫إن الروح التي يبثها القرآن في القلوب هو أهم‬
‫ما يحتاجه العاملون للسلم الن أكثر من أي وقت‬
‫مضى‪.‬‬
‫‪ ..‬يحتاجونه لنفسهم أول ً لتقوى عزائمهم‪،‬‬

‫‪80‬‬
‫ويشتد عودهم‪ ..‬وتحتاجه المة لكي تستيقظ من‬
‫رقادها‪.‬‬
‫من هنا ندرك مغزى قول المام حسن البنا‪:‬‬
‫أنتم لستم جمعية خيرية‪ ،‬ول حزبًا سياسيًا‪ ،‬ول‬
‫هيئة موضعية لغراض محدودة المقاصد‪...‬‬
‫ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه المة‬
‫فيحييه بالقرآن‪.‬‬
‫ونور جديد يُشرق فيبدد ظلم المادة بمعرفة‬
‫داو يعلو مرددًا دعوة الرسول (‪.)88‬‬
‫ٍ‬ ‫الله‪ .‬وصوت‬
‫وقول سيد قطب‪:‬‬
‫لقد عاد هذا الدين غريبًا كما بدأ‪ ..‬فمن هم يا‬
‫ترى أولئك «الغرباء» الذين يحملون راية التوحيد‬
‫الخالص ليبدأوا الجولة الثانية كما بدأ أصحاب‬
‫رسول الله الجولة الولى؟‬
‫خرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى‬ ‫لي ُ‬
‫عبادة الله الواحد؟‬
‫إن الراية تنتظر العصبة المؤمنة‪ ..‬وهذا القرآن‬
‫حاضر‪..‬‬
‫وريح الجنة تفوح من بعيد‪ ..‬ل‪ ..‬بل من قريب‪..‬‬
‫(‪)89‬‬

‫***‬

‫() رسالة بين المس واليوم ص ‪.110‬‬ ‫‪88‬‬

‫‪89‬‬
‫() مقومات التصور السلمي ص ‪ 188‬باختصار‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫القـــرآن ينادينــــــــا‬

‫وقبل أن أختم هذه الصفحات أطمع منك يا‬


‫أخي أن تقرأ هذه الكلمات‪ ،‬واضعًا مشاعرك بين‬
‫يدي عقلك‪ ،‬وأن تستشعر أنها موجهة إليك‪..‬‬
‫وأبدؤها بموقف حدث لي‪ ،‬ففي يوم من اليام‬
‫كنت أنظر في كتاب من كتب التراث‬
‫فاستوقفني أثر جاء فيه‪ :‬أن عبد الله بن عمرو‬
‫بن العاص قال‪ :‬ل تقوم الساعة حتى يرجع‬
‫القرآن من حيث نزل‪ ،‬له دوىٌّ كدوى النحل‪،‬‬
‫فيقول الرب‪ :‬مالك؟ فيقول‪ :‬يا رب أُتلى ول‬
‫يُعمل بي‪ ،‬ثلث مرات(‪.)90‬‬
‫امتلكتني حينئذ مشاعر الخوف‪ ،‬وامتلكني‬
‫ى ويقول‪:‬‬
‫شعور بأن القرآن ينادي عل َّ‬
‫‪«..‬هل أستحق منك هذه المعاملة مع أن هدفي‬
‫إسعادك‪ ،‬وإدخال السرور والبهجة على قلبك‬
‫ومساعدتك على مواجهة الحياة بحلوها ومرها؟!‬
‫‪ ..‬أأكون في بيتك وتهجرني كل هذا الهجر؟!‬
‫‪ ..‬أحين أكون بين يديك ل يصير نصيبي منك إل‬
‫حنجرتك؟!‬
‫‪ ..‬أتسمع آياتي تتلى ول تنصت لها؟!‬
‫‪ ..‬أتدري ماذا سأقول لربك يوم القيامة؟!‬
‫‪ ..‬هيا بادر قبل فوات الوان‪ ،‬واجعلني حجة لك‬
‫() مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر ص ‪.179‬‬ ‫‪90‬‬

‫‪82‬‬
‫ل عليك»‪.‬‬
‫ثم استشعرت بعد ذلك‬
‫وكأن القرآن يوجه رسالة‬
‫إلى المة كلها‪ ..‬إلى‬
‫المسلمين في كل مكان‬
‫يقول فيها‪:‬‬
‫أيها المسلمون في كل مكان‪ :‬سارعوا بالعودة‬
‫ى والنتفاع بي قبل أن تضيع منكم الفرصة‪،‬‬ ‫إل َّ‬
‫ويشتد بكم الندم‪.‬‬
‫ى إقبال ً صادقًا حتى تتعرضوا‬
‫‪ ..‬أقبلوا عل َّ‬
‫لمعجزتي‪ ،‬ويدخل نوري إلى قلوبكم‪.‬‬
‫‪ ..‬اتركوا أنفسكم لي‪ ،‬وسيروا معي حيث‬
‫سرت‪ ،‬فسأكون لكم – بإذن الله – نعم القائد الذي‬
‫يقودكم إلى العيش السعيد في الدنيا‪ ،‬والنعيم‬
‫المقيم في الخرة‪.‬‬
‫‪ ..‬انشغلوا بي‪ ،‬وأكثروا تلوتي‪ ،‬وتدبروا آياتي‪،‬‬
‫واعملوا بما أدلكم عليه قدر استطاعتكم‪.‬‬
‫‪ ..‬اصحبوني في حلكم وترحالكم بالتلوة‬
‫ى عهد بأل أخذلكم‪ ،‬وأل‬‫والتدبر والتأثر‪ ،‬ولكم عل َّ‬
‫أترككم تواجهون الصعاب بمفردكم‪ ،‬بل سأكون‬
‫معكم نعم الصديق لصديقه‪ ،‬وسأصحبكم في‬
‫قبوركم لتستأنسوا بي في وحدتكم حين يتخلى‬
‫عنكم الجميع‪ ،‬وستجدونني أمامكم يوم القيامة‬
‫أحاج عنكم حتى أرفعكم في الجنة درجات‬
‫ودرجات‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ ..‬هل تريدون أن تكونوا‬
‫ربانيين؟! ها أنا ذا وسيلتكم‬
‫إلى ذلك‪ ..‬فأنا حبل الله‬
‫المتين‪ ،‬من استمسك بي‬
‫ارتفع إلى السماء وتخلص‬
‫من جاذبية الطين واقترب‬
‫من موله‪.‬‬
‫‪ ..‬إياكم ثم إياكم أن تستجيبوا لوساوس‬
‫الشيطان بأنكم ل تصلحون لتدبري وفهم آياتي‪،‬‬
‫فيقينًا أن كل مسلم عاقل يقدر على فهمي –‬
‫ولو بشكل إجمالي – ومن ثم الهتداء بهداي‪،‬‬
‫والتأثر بمواعظي‪ ،‬فلقد أودع الله في آياتي‬
‫القدرة على التأثير على الحجارة إن خاطبتها‪،‬‬
‫ة‬
‫ب خلقها ربي لتكون أوعي ً‬
‫فكيف بقلو ٍ‬
‫لمعرفته؟!‬
‫‪ ..‬قد يتأخر المداد من ربكم لحكمة منه‬
‫سبحانه‪ ،‬فل تيأسوا‪ ،‬وأيقنوا بأن نوري قادم إلى‬
‫قلوبكم ل محالة طالما اشتد عزمكم‪ ،‬وتاقت‬
‫أنفسكم للدخول إلى مأدبتي‪ ،‬وتذوق حلوتي‪.‬‬
‫‪ ..‬عاهدوني أن ترتلوا آياتي بترسل وتؤدة‪،‬‬
‫وتدبر‪،‬‬
‫وصوت حزين ‪ ..‬حركوا بها قلوبكم‪ ،‬وترنموا بها في‬
‫لياليكم‪،‬‬
‫ول يكن همكم سرعة النتهاء من وردكم‪.‬‬
‫‪ ..‬سارعوا إلى حملي‪ ،‬فأمتكم في حالة من‬
‫الضياع والتفكك والتشرذم لم يسبق لها مثيل‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫فلقد طال سباتها‪ ،‬واشتد مرضها‪ ،‬ول علج لها إل‬
‫من خللي ‪ ..‬فأنا الكلمة السواء التي ل يختلف‬
‫عليها اثنان‪ ،‬ومن خللي تنغلق أبواب الشيطان‬
‫والشبهات والشهوات أمامكم‪ ،‬فيسهل توحدكم‬
‫والتفافكم حول رايتي‪.‬‬
‫‪ ..‬إن المستضعفين من إخوانكم المسلمين في‬
‫كل مكان ينتظرون الفرج‪ ،‬فاحملوا مصباحي‪،‬‬
‫واجمعوا الناس حول نوري‪ ،‬وناولوا دوائي كل‬
‫شاردٍ وغافل‪.‬‬
‫وأبشروا بالنصر‪ ،‬فما أسرع تنزله على جيل‬
‫القرآن‪.‬‬
‫‪ ..‬يقينا لو أحسنتم التمسك بي‪ ،‬سيعود لكم‬
‫مجدكم الزائل‪ ،‬ودياركم المسلوبة ‪ ..‬ستعود‬
‫القدس ويافا وحيفا وعكا ‪ ..‬ستعود كشمير‬
‫والندلس‪ ،‬وسترتفع راية التوحيد على روما‪،‬‬
‫وستعود أمتكم أمة واحدة ‪ ..‬دستورها واحد‪،‬‬
‫وغايتها واحدة‪ ،‬وخليفتها واحد‪..‬‬
‫‪..‬واعلموا أن استمرار عزكم ومجدكم – بعد‬
‫تحققه – مرهون بتمسككم بي‪ ،‬فل ترتكبوا أخطاء‬
‫من سبقكم حين تركوني وانشغلوا بغيري‪.‬‬
‫أنفذوا وصية نبيكم بالتمسك بي‪ ،‬واجعلوني‬
‫وصيتكم لبنائكم وكل من حولكم تفوزوا بخيَري‬
‫ضلّ‬
‫ل يَ ِ‬
‫الدنيا والخرة ‪ ..‬ألم يقل ربي َفمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ َف َ‬
‫شقَى [طه‪]123 :‬؟!‬‫َولَ يَ ْ‬
‫هذا ندائي إليكم‪ ،‬فهل من مجيب؟!‬

‫‪85‬‬
***

86
‫الفهـــــرس‬

‫‪87‬‬
‫هل نرتدي الكفان انتظاًرا للنهاية؟!‪........‬‬
‫لماذا ل نتجه إلى المخرج الصحيح‪..............‬‬

‫فصيلة دم أمتنا‬
‫ل يرضى لعبادة الكفر‪...........................‬‬
‫فصيلة دم المة‪....................................‬‬
‫مشكلتنا إيمانية‪....................................‬‬
‫شلل اليمان‪18.............................. .........‬‬

‫العمود الفقري لليمان‬


‫أنتم روح جديد‪22.....................................‬‬
‫صنعوا ها هنا‪.................................‬‬‫إنهم ُ‬
‫القرآن مخرجنا ‪.....................................‬‬
‫أين السنة؟!‪............................ ............‬‬
‫القرآن والعمال الصالحة الخرى‪..............‬‬
‫هل أدرك المسلمون قيمة القرآن؟!‪...........‬‬
‫الرسول يشكونا‪...................................‬‬
‫فما الحل في هذه الشكالية؟!‪.................‬‬
‫البداية الصحيحة‪40...................................‬‬
‫كيف نقوي إيماننا بالقرآن‬
‫أولً‪ :‬تزكية الشعور بالخطار التي تواجه المة ‪44‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التعرف على أوصاف القرآن من القرآن‪45‬‬
‫ثالثًا‪ :‬القراءة في الكتب التي أبرزت قيمة القرآن‬

‫‪88‬‬
‫‪47................................... ....................‬‬
‫رابعًا‪ :‬التعرف على النماذج القرآنية ‪49..........‬‬

‫وسائل معينة على النتفاع بالقرآن‬


‫اصدق الله يصدقك‪52............................ ....‬‬
‫فإذا عزم المر‪........................ ............‬‬
‫قبل أن تبدأ القراءة‪56....................... ........‬‬
‫اطرق باب القرآن بأدب‪57.........................‬‬
‫الكثار من تلوة القرآن‪..........................‬‬
‫القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل‬
‫‪59................................... ....................‬‬
‫القراءة بصوت حزين‪60.............................‬‬
‫الفهم الجمالي لليات‪............................‬‬
‫التعامل مع القرآن على أنك المخاطب به‪....‬‬
‫ترديد وتكرار الية أو اليات التي يحدث معها تجاوب‬
‫وتأثر قلبي‪...............................................‬‬

‫العمل بالقرآن‬
‫العمل بما دلت عليه اليات‪65......................‬‬
‫ليس كتابًا نظريا‪68...................................‬‬
‫شعور التلقي للتنفيذ‪69..............................‬‬

‫حفظ القرآن‬
‫وسوف تسألون‪74................................ ....‬‬
‫فلنحذر الوعيد ‪75.................................... .‬‬
‫مراجعة المحفوظ ‪76................................‬‬

‫‪89‬‬
‫الدعوة إلى العودة للقرآن‬
‫الجهاد الحقيقي‪77....................................‬‬
‫حاجة المسلمين إلى القرآن‪78....................‬‬

‫هل تكفي العودة إلى القرآن لنهضة المة‬


‫ميدان المعركة‪81................................. ....‬‬
‫المشروع السلمي‪82...............................‬‬
‫جهد البشر‪83................................ ..........‬‬
‫كلمات مضيئة‪84...................... ................‬‬
‫القرآن ينادينا‪86.............................. ........‬‬
‫الفهرس‪91........................................ .....‬‬

‫***‬

‫‪90‬‬

You might also like