You are on page 1of 87

‫الشيخ العلمة‬

‫علي يحي معمر‬

‫الحلقة الثالثة‬

‫الباضية في تونس‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة‬

‫عندما وضعت تخطيطا لصدار كتاب ( الباضية في موكب التاريخ ) لم أقدر‬


‫لنجاز عملي زمنا محددا وإنما كنت اجمع المادة التاريخية من مصادرها التي تتيسر‬
‫لي سواء كانت في الكتب أو عند الرجال أو على الثار‪ .‬وكنت وضعت في تخطيطي‬
‫ال اجهز أية حلقة من حلقاته للنشر إل بعد زيارة للموطن الذي أتحدث عنه‪ .‬ولقد يسر‬
‫ال لي العمل فأصدرت الحلقة الولى على الصورة التي رآها القراء الكرام وهي اقل‬
‫مما قدرته في نفسي ودون ما يتطلبه الموضوع مني وخير مما زعمه ناس في ليبيا‬
‫حسبوا إن تأليف الكتب ل يقدم عليه شخص إل بعد أن يأذنوا له‪ ،‬لن النتاج مقصور‬
‫على أقلمهم السيالة‪ .‬ثم أصدرت في نفس الوقت قسمين من الحلقة الثانية وقد جرى‬
‫الحديث فيهما عن الباضية في ليبيا التي أتيح لي الطلع على كثير من البلد فيها‬
‫والتصال بكثير من الشخصيات ودراسة عدد غير قليل من الكتب ل سيما كتب‬
‫النوازل كاللقط والمعلقات وغيرها‪ ،‬وقد اضطر إلى إعادة قراءة بعض هذه الكتب‬
‫عدة مرات لستخلص حادث تاريخي‪ .‬وقد يسر ال لي العمل فأخرجته على ما رآه‬
‫القارئ الكريم‪ ،‬وأنا اليوم أتمنى لو يتاح لي من الوقت ما استطيع فيه إعادة هذه‬
‫الحلقات من جديد لن ملحظات كثيرة بدت لي من بعد وأوه لو تناولتها مرة أخرى‬
‫على أن هذه المنية هي أمنية كل مؤلف فيما أحسب لطبيعة النقص البشري‪ ،‬وقد بقي‬
‫القسم الثالث من هذه الحلقة وهو يتناول الحديث عن الباضية في العهدين العثماني‬
‫واليطالي جمعت له ما تيسر لدى من مادة تاريخية ول زلت أجمع وعندما تتم لي‬
‫الصورة التي أرتضيها سوف يخرج هذا القسم إن شاء ال‪.‬‬

‫أما هذه الحلقة التي أقدمها إليك اليوم ( الباضية في تونس ) فقد جمعت ما تيسر لي‬
‫من مادة تاريخية عنها ولكني كنت عزمت أن ل أتقدم لطبعها إل بعد أن أزور‬
‫الجمهورية التونسية وأشاهد بصفة خاصة الوسط والجنوب وجربة بالذات لتحقق‬
‫من كثير من المشاهد والوقائع التي كنت أتصورها على صورة ما‪.‬‬
‫وقمت فعل بهذه الزيارة مع بعض الصدقاء في الصيف الماضي ‪ 1965‬فسافرنا‬
‫إلى تونس العاصمة واقتضتنا ظروف خاصة أن نزور الجزائر فسافرنا إليها ورجعنا‬
‫إلى تونس عن طريق ( تقرت ) ومررنا بوادي سوف ثم ببلد الجريد إلى قابس‬
‫ومنها إلى جزيرة جربة ولكن هذه الرحلة قد استغرقت مدة الجازة وكنت مضطرا‬
‫إلى العودة‪.‬‬
‫بقيت في جربة يومين فقط فكانت زيارتي لها زيارة خاطفة لم أتمكن من تحقيق‬
‫أهدافي من هذه الزيارة ولكنني في نفس الوقت حاولت أن استفيد منها ما يمكن‪ ،‬فقمت‬
‫بجولة سريعة خاطفة‪ ،‬في الجزيرة لشاهد أحياءها وحاراتها وبعض مساجدها‬
‫وبعض ما بها من الثار وتمكنت من الطلع على فهرس المكتبة البارونية القيمة‬
‫وزرت العلمة الشيخ سالم بن يعقوب وفتح لي مكتبته القيمة التي تحتوي على‬
‫مجموعة ثمينة من المخطوطات نقل أكثرها بخطة حينما كان بمصر‪ ،‬وقد نقلت منها‬
‫على استعجال أشياء كثيرة واستفدت من الشيخ فوائد جمة‪ ،‬كما إنني اجتمعت بعدد‬
‫غير قليل من أهل الجزيرة الكرام وبالطبقة المثقفة منهم على الخص علماء‬
‫ومدرسين وطلبا وتحدثوا إلي طويل‪ ،‬واستفدت منهم في جميع ميادين المعرفة فوائد‬
‫قيمة كان لها أثر كبير في نفسي‪ .‬وسافرت من الجزيرة وأنا أشد رغبة وشوقا إلى‬
‫البقاء فيها‪ ،‬وكنت أمني النفس بالرجوع إليها في فرصة قريبة‪ ،‬ولكن ذلك لم يتحقق‬
‫لي‪.‬‬

‫ورأيت أن أنجز عملي وأخرج الكتاب على ما هو عليه‪ ،‬وأنا على يقين أن صورا‬
‫قيمة كثيرة تنقصه‪ ،‬ولكنني مضطر إلى إصداره على هذا الوضع لن مسودات كتاب‬
‫الباضية في الجزائر هي الخرى تتنزى في الدراج تريد الخروج‪ ،‬وإذا يسر ال لي‬
‫العمل أيها القارئ الكريم فأخرجت لك هذه الحلقة فأنا أقول لك بصراحة الخ إلى‬
‫أخيه الذي ل يتكلف معه الحديث ول يستر عنه مواطن الضعف فيه‪ ،‬أن هذا الكتاب‬
‫ل يعطيك الدراسة التاريخية الكاملة للمذهب الباضي في تونس‪ ،‬ول يضع بين يديك‬
‫كل المعلومات التي تحتاجها عن هذه الفرقة المة السلمية الكبرى ول يعرض‬
‫عليك جميع الصور التي يحيط بها إطار واحد عن الباضية في الجمهورية التونسية‬
‫ولكنه ول شك يضع بين يديك صورا من حياة مجتمع مسلم عاش على هذا الوطن‬
‫الكريم ول يزال أبناؤه يعيشون محافظين على كثير من أخلقه ومثله‪.‬‬
‫وسوف تلحظ أيها القارئ الكريم وأنت تتنقل بين فصول الكتاب بعض العادة‬
‫والتكرار وقد يكون ذلك مما يثقل على القارئ المستعجل والباحث المتقصي الذي‬
‫تهمه الحداث المجردة وأنا أعتذر إلى هؤلء القراء الكرام ولكنني مصمم على‬
‫طريقتي في العرض‪ ،‬ذلك إنني حين فكرت في إصدار هذا الكتاب وبدأت العمل فيه‪،‬‬
‫لم أتناوله بقلم المؤرخ الذي يهتم بالحداث البارزة وتسجيلها على المنهاج العلمي‬
‫لكتابة التاريخ‪ ،‬ولكني تناولته بقلم من يريد أن يعرض صورة من حياة مجتمع عاش‬
‫طيلة قرون يرسمه من عدة زوايا لتكتمل الصورة العامة لذلك المجتمع بجميع‬
‫مناظرها‪ .‬وهي طريقة ل شك لها عيوبها‪ ،‬ولكنني مع ذلك أفضلها في عملي هذا على‬
‫السرد التاريخي الزمني المجرد الذي يعني بالسماء والرقام‪ ،‬أكثر مما يعني‬
‫بالمعاني الجتماعية للتاريخ‪ .‬فإذا سئمت أيها القارئ الكريم من ذلك فما عليك إل أن‬
‫تضع الكتاب على الرف وأمرك ل فيما ضاع لك من وقت ومال‪.‬‬
‫إن الكتاب لم يؤلف ليكون مرجعا يعتمد عليه الباحثون في التاريخ‪ ،‬ولكنه صورة‬
‫لحياة جانب من المة المسلمة بما فيها من ألوان أضعها بين أيدي أبنائها البررة حتى‬
‫يتعرفوا على السباب الحقيقية التي انحدرت بالمة السلمية إلى ما تعانيه اليوم‪.‬‬
‫وأنا عندما أقدم هذه الصورة عن الباضية في تونس ل شك إنها صورة تنطبق على‬
‫جميع طوائف المة السلمية في مختلف البلد‪ .‬ولذلك فما يهمني أن يعرف الخوة‬
‫إنني عندما أكتب عن طائفة معينة أو بلد معين فليس الغرض من ذلك إنني أعتبر أن‬
‫تلك الطائفة أو ذلك البلد هو أرفع من غيره وأكرم وإما الغرض أن يعرف أبناء المة‬
‫المسلمة بجميع طوائفها وفي جميع أماكنها انهم أمة واحدة‪ ،‬لم تنفك عن الكفاح في‬
‫سبيل ال منذ أشرقت قلوبها بنور ال وإنما لم تتوقف يوما عن الجهاد رغم ما بذرته‬
‫السياسة الماكرة والشهوة الغالبة من عراقيل في طريقها‪.‬‬
‫والكاتب المسلم حين يكتب عن طائفة أو عن بلد يجب أن يحرص على الرباط المتين‬
‫الذي يربط بين المة السلمية بمختلف مذاهبها وديارها‪ ،‬وأن يبعد عن قلبه وعن‬
‫إحساسه وعن شعوره معاني التفرقة والعنصرية والعصبية تلك المعاني المنتنة التي‬
‫استغلتها المصلحة الخاصة غير المؤمنة‪ ،‬وقامت بها في أحداث الزمن‪ ،‬مطامع‬
‫فردية‪ ،‬وسجلتها في التاريخ أقلم مأجورة أو مغرورة أو مخدوعة‪ ،‬على حساب‬
‫العناصر أو الجناس أو المذاهب‪.‬‬

‫وإنني وأنا أقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب عن فرقة من فرق السلم في جزء من‬
‫وطن المة المسلمة الكبير يسرني جدا أن أعلن هنا كما أعلنت من قبل إنني ل أعتز‬
‫إل بالمة المسلمة أمة واحدة‪ ،‬ول أعتز إل بالوطن المسلم وطنا واحدا وأن ما قدمته‬
‫وأقدمه من أبحاث عن طوائف صغيرة أو بلدان ضيقة فإنما أكشف عن صورة من‬
‫حياة هذه المة العظيمة في جانب من جوانبها أو قسم من أقسامها فإذا بدا للقارئ‬
‫الكريم في أثناء قراءته ما يشعر بغير هذه الحقيقة الثابتة أو أحسن أن عبارة من‬
‫العبارات تشعر بغير هذا المعنى أو تدعو إلى عنصرية أو تفرقة فليضرب بذلك‬
‫عرض الحائط فإن كيان المة المسلمة والوطن المسلم أكرم على ال وعلى الملئكة‬
‫وعلى المؤمنين وأعز من جميع الكتاب والدعاة وإنني أحسب أن إيماني بهذه الحقيقة‬
‫من وحدة المة في مذاهبها وأجناسها وأوطانها قربة أتوسل بها إلى ال تعالى‪.‬‬

‫عصمنا ال من الزيغ والزلل ووفقنا إلى خير العمل إنه نعم المولى ونعم النصير‪.‬‬
‫تونس‬
‫كلمة تونس فعل مضارع مشتق من اليناس‪ ،‬وهو من النسان‪ ،‬المؤالفة والملطقة‪،‬‬
‫ومن المكنة سكون القلب بها وارتياح النفس إليها‪ .‬وقد أطلق المسلمون هذه الكلمة‬
‫على المدينة الصغيرة الجميلة التي تقع جنوب قرطاجنة‪ ،‬على ربوة يحيط بها خندق‬
‫طبيعي هو كالحصن لها ‪ 1‬أما قبل الفتح السلمي‪ ،‬فقد كانت هذه المـدينة تسمى‬
‫( ترشيش ) على ما يقوله المؤرخون‪.‬‬

‫وأنا في هذا الفصل ل أريد أن أتحدث عن مدينة ( ترشيش ) الصغير التي سمها‬
‫المسلمون الفاتحـون ( تونس )‪ .‬ول على هذه المدينة العظيمة التي أصبحت اليوم‪ ،‬من‬
‫أعظم المدن في المغرب السلمي‪ ،‬وأصبحت عاصمة يطلق اسمها على جمهورية‬
‫مزدهرة تكون جزءا هاما من المغرب السلمي‪ ،‬وعضوا حيا من جسم الوطن‬
‫السلمي الفسيح الرجاء‪ .‬فإن تونس هذه المدينة العظيمة الجميلة هي إحدى‬
‫العواصم السلمية التي حملت أمانة العلم وكانت مثابة لبناء المسلمين في مختلف‬
‫القطار والتي شادت معهد الزيتونة العامر وحافظت على الثقافة السلمية قرنا‬
‫طويلة – هذه المدينة ل يفي بحقها فصل في كتاب‪ .‬ول يكفي للحديث عنها استطراد‬
‫في مقال‪ .‬على أن الحديث عن هذه المدينة ليس من غرض هذا الكتاب‪ ،‬وإنما أريد‬
‫أن يعرف القارئ الكريم إنني قد أستعمل كلمة تونس وأنا أقصد به هذا القطر المسلم‬
‫الذي يقع بين ليبيا والجزائر والبحر‪ ،‬ويكون حلقة من الحلقات المترابطة‪ ،‬للوطن‬
‫السلمي الشاسع‪ ،‬ويسكنه قسم من المة المسلمة كافحت كثيرا لحفظ المجد‬
‫السلمي‪ ،‬منذ بدأ النسان ينحرف عن دين ال إلى اليوم‪ .‬ول تزال فيها بقية من‬
‫عزيمة للكفاح عن دين ال وفي سبيل ال‪ .‬وهذه المة في أدوار التاريخ السلمي‬
‫وإن تفرقت بها المنازع السياسية والمذاهب الدينية والزعامات الفردية والقبلية في‬
‫كثير من الحيان إل إنها حافظت في مجموعها على الصالة السلمية واستمسكت‬
‫بعرى الدين الحنيف وسارت على هديه ول تزال فيها بقية تسير على ذلك الهدى‪ .‬إلى‬

‫‪ - -11‬راجع تاريخ الغرب الكبي ‪ -‬ص ‪ 115‬الزء الثان تأليف الستاذ ممد على ديوز ‪.‬‬
‫أن يأذن ال بعودة المة المسلمة إلى ما كانت عليه في الصدر الول من قيادة البشرية‬
‫الحائرة وتوجيهها إلى سبيل الخلص‪ ،‬خلص النسانية من أسباب الضلل‪.‬‬
‫والحقيقة أن إطلق كلمة تونس على هذا القطر‪ ،‬أو هذه الجمهورية‪ ،‬بهذا الوضع‬
‫الجغرافي هي تسمية متأخرة جدا‪ .‬فعندما كانت الجيوش السلمية تجوب هذه البلد‬
‫فاتحة وكانت الدول السلمية تتركز هنا أو هناك من بلد المغرب‪ .‬وكانت المعارك‬
‫الطاحنة تدور بين الجيوش المتقاتلة في كثير من النحاء‪ ،‬لم يكن يرد اسم تونس إل‬
‫كما يرد اسم أي مدينة يقع فيها حدث من الحداث التاريخية‪ ،‬التي يتناقل الناس‬
‫أخبارها‪ .‬ولعل الحداث التي وقعت في تونس أو في (ترشيش) نفسها أبان الفتح‪ ،‬لم‬
‫تكن أكثر من الحداث التي وقعت في غيرها من المدن والقرى في هذا القطر الكريم‪،‬‬
‫في ذلك الحين‪.‬‬

‫ومهما كان المر‪ ،‬فقد أصبحت كلمة تونس تدل – فوق دللتها على هذه المدينة‬
‫الكبيرة التي أصبحت اليوم إحدى العواصم الكبرى‪ -‬على حقيقة جغرافية تعني هذه‬
‫الجمهورية أو هذا القطر السلمي المجيد بحدوده التي ذكرناها سابقا‪.‬‬

‫ويعنيني في هذا الفصل أن أبين للقارئ الكريم‪ ،‬إنني أريد أن أكشف عن صور‬
‫مجيدة‪ .‬لحياة أمة مسلمة‪ ،‬عاشتها طائفة منها‪ ،‬في هذا القطر الكريم‪ .‬ول تزال تعيش‪.‬‬

‫إنني أريد أن أضع بين يدي القارئ الكريم‪ ،‬صورا عن حياة الباضية‪ ،‬منذ الفتح‬
‫السلمي إلى الحتلل الفرنسي للقطر التونسي العزيز‪ .‬وأنا عندما أتحدث عن هذه‬
‫الطائفة من المسلمين في هذا القطر من بلد السلم‪ .‬ل ادعي أبدا أن هذه الطائفة‬
‫قدمت في خدمة دين ال ما لم تقدمه غيرها من الطوائف‪ ،‬ول أزعم أبدا أن هذا القطر‬
‫قد أختص بأمجاد إسلمية ليس لها مثيل أو شبيه في غيره من البلد‪.‬‬
‫ذلك إنني أحسب أن المة السلمية أمة واحدة بجميع طوائفها وأن الوطن السلمي‬
‫وطن واحد بجميع أجزائه‪ .‬وأن ما يقوم به الفرد أو الفرقة من المسلمين فإنما هو‬
‫راجع إلى مجد المة الكبرى وإن ما يحدث في بلد من بلد السلم – رغم انقساماته‬
‫السياسية – فإنما هو حدث في الوطن السلمي الكبير‪ .‬وإن في المسلمين بجميع‬
‫فرقهم وطوائفهم وأوطانهم – من يجعل نصب عينه الدعوة إلى سبيل ال والمحافظة‬
‫على دين ال والكفاح لقامة شريعة ال‪ ،‬كما أراد ال‪.‬‬

‫القيروان‬
‫القيروان مدينة إسلمية أنشأها عقبة بن نافع وهو يفتتح المغرب الكبير‪ ،‬وصاحب‬
‫فكرة إنشاء هذه المدينة‪ ،‬في قلب الجمهورية التونسية‪ ،‬لتكون مركزا للجيوش‬
‫السلمية الفاتحة‪ ،‬إنما هو معاوية بن خديج‪ .‬ولكنه اختطها في موضع يسمى القرن‬
‫فلما ولى بعده عقبة لم يعجبه الموضع‪ ،‬فنقلها إلى موضعها الذي أنشئت فيه‪.‬‬
‫وقواد الجيوش السلمية الفاتحة‪ ،‬أرادوا أن يجعلوا من المملكة التونسية نقطة تجمع‬
‫وانطلق لها وهي تحمل الرسالة الكبرى رسالة السلم إلى هذه البلد الفسيحة‬
‫الرجاء التي تتصل بتونس من الغرب والشرق والجنوب بل والشمال بعد اجتياز‬
‫البحر‪ .‬ومنذ انشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان في قلب المملكة التونسية أصبحت‬
‫مطمع أنظار المتحاربين‪ ،‬ولقد استطاع السلم أن يطهر الراضي التونسية من‬
‫أدران الشرك والوثنية في مدة قصيرة غير أن سيطرة السلم على البلد وتولى‬
‫المسلمين لقضايا الحكم وتركز الدولة في القيروان‪ .‬لم ييسر نشر السلم والمن‬
‫والطمأنينة بين الناس‪ ،‬وذلك لعدم محافظة كثير من الحكام على تطبيق أحكام السلم‬
‫في الدماء والموال وموافق الحياة‪ ،‬وحرص بعضهم على الوصول إلى الحكم‬
‫والستقرار فيه بمختلف الوسائل والسبل‪ .‬وقد تعاقبت الحداث على القيروان بسرعة‬
‫وبشدة وكانت ل تستقر تحت حكم معين‪ .‬فما تتولى فيها أسرة الحكم حتى تقبل عليها‬
‫حملة أخرى من أسرة ثانية فتخرجها من حكم السابقين‪ .‬فكانت تتعاقب عليهم‬
‫الجيوش والدول والمارات‪ ،‬جيش بعد جيش‪ ،‬ودولة بعد دولة‪ ،‬وإمارة بعد إمارة‪.‬‬
‫وما يقع ذلك إل بعد نكبات‪ ،‬وحتى عندما يطول عليهم حكم أسرة أو دولة‪ ،‬فإن المن‬
‫ل يستقر‪ ،‬والسلم ل يطول‪ ،‬لن الثورات ل تتوقف والحروب ل تنفك تتجدد أما من‬
‫مناهضي السرة الحاكمة‪ ،‬أو الدولة القائمة‪ ،‬أو حتى من العناصر المتنازعة على‬
‫الحكم من نفس الدولة ومن نفس السرة‪ ،‬فيذهب نتيجة لذلك‪ ،‬كثير من الرواح‪،‬‬
‫وكثير من الخيرات التي تنتجها تلك الرض الطيبة‪.‬‬
‫فكان سكان القيروان المدنيون يعانون من ذلك‪ ،‬أشد الويلت والمصائب‪ ،‬حتى‬
‫أصبحوا تحت أزمة نفسية مؤلمة‪ .‬من ذلك الوضع المتقلب الذي ل يستقر‪ ،‬وأصبحوا‬
‫ل يهتمون للداخلين أو الخارجين‪ .‬ول للمنهزمين أو المنتصرين‪ ،‬وبسبب الثار‬
‫المختلفة‪ ،‬من نتائج الحروب المؤلمة‪ ،‬واللوان المتعددة للحكومات المتعاقبة‪ ،‬كان‬
‫سكان القيروان‪ ،‬يتوقون إلى سنوات من الستقرار والسلم‪ ،‬ولو في ظل حكم ظالم‪،‬‬
‫ولكنهم لم يظفروا بهذه المنية‪ ،‬لزمنة طويلة‪.‬‬
‫والذي نريد أن نتحدث عنه في هاذ الكتاب من تاريخ القيروان الطويل الحافل المجيد‪،‬‬
‫إنما هو فترة قصيرة بمقدار ما كان لها من دخل في حياة المذهب الباضي الذي‬
‫نكتب عنه في هذه المحاولة التاريخية القصيرة‪ .‬فلقد كانت القيروان من المدن التي‬
‫استقر فيها الحكم للباضية في فترتين تاريخيتين كما إن هذه المدينة العظيمة‬
‫بضواحيها كانت مقرا لكثير من علماء الباضية وأنجبت كثيرا من الفحول وتولى‬
‫فيها التدريس والفتوى إعلم منهم‪ ،‬وسوف يرد ذكرها وذكر ضواحيها ل سيما‬
‫الجبال المشرفة عليها في كثير من فصول هذا الكتاب‪.‬‬

‫دخول المذهب الباضي إلى تونس‬

‫في مطلع القرن الثاني الهجري بدأ المذهب الباضي ينتشر بسرعة في تونس‪ ،‬كما‬
‫انتشر في مصر وليبيا وبقية المغرب‪ ،‬وأهم سبب لنتشاره بسرعة‪ ،‬إن أتباعه والدعاة‬
‫إليه‪ ،‬حافظوا على صفاء الرسالة السلمية‪ ،‬فلم ينحرف عن النهج القويم الذي عرفه‬
‫الناس لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولخلفائه الراشدين‪ .‬لم تلتصق به البدع‬
‫الدخيلة‪ ،‬ولم يشنه ظلم الطغاة من الولدة‪ ،‬فكانت المبادئ التي يدعو إليها هي المبادئ‬
‫السمحة الكريمة الصافية التي يدعو إليها السلم منذ كان محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وكانت السيرة التي يسير عليها ولدته هي السيرة التي حافظ عليها المهتدون من‬
‫خلفائه عليه السلم‪.‬‬

‫ولقد كان للداعية المسلم الكبير – سلمة بن سعد – أثر كبير في نشر هذه الدعوة‪-‬‬
‫طريقا وسطا في بلدان المغرب الشاسعة‪ ،‬فلم يكن طريقه في صحراء‪ ،‬كما لم يكن في‬
‫الشريط الساحلي‪ .‬وأعتقد إنه تجنب الطريق الساحلية‪ ،‬في رحلته الطويلة‪ ،‬لنشر‬
‫دعوته القويمة‪ ،‬حتى ل يصطدم بأعوان الدول الظالمة التي كانت تسيطر على تلك‬
‫الجهات فيتعرض لمصائب قد تعوقه عن القيام بمهمته‪ ،‬كما إنه يتجنب الطريق‬
‫الصحراوية‪ ،‬لما يتعرض له من مشاق قطع الصحارى الواسعة واجتياز أخطارها‪،‬‬
‫دون أن يكون له يكون له ما يساعده على ذلك من رفقة‪ .‬ثم إن معظم السكان كانوا‬
‫على المناطق الجبلية التي تخترق كل من ليبيا وتونس والجزائر‪ .‬ومروره بهذه‬
‫المنطقة المتوسطة الهلة بالسكان‪ ،‬ييسر له التصال بالناس – ويساعده على إيضاح‬
‫الرسالة السلمية لهم‪ ،‬وتنظيمها لحياتهم – أكثر من أية جهة أخرى‪.‬‬
‫ولقد كانت المهمة الولى التي يريد أن يعطيها للناس‪ ،‬هي أن يقرر في أذهانهم‪،‬‬
‫الصورة الصحيحة للسلم‪ ،‬الصورة الصحيحة في اليمان والعبادة والمعاملة‪ .‬ذلك‬
‫أن الناس‪ ،‬تلقوا الرسالة السلمية من كتاب ال وفي سنة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم وفي سيرة أصحابه رضوان ال عليهم فآمنوا بها وأطمأنوا إليها ووثقوا بها‪،‬‬
‫فلما رأى الناس الصورة العملية‪ ،‬عند كثير ممن يحكم باسم السلم‪ ،‬بعيدة عما‬
‫عرفوا من السلم كون ذلك عند بعضهم رد فعل جعلهم ينحرفون أو ل يبالون‪ .‬وقد‬
‫استطاع سعد بن سلمه أن يقنع الناس أن نظام السلم‪ ،‬ليس هو هذا النظام الذي يقوم‬
‫عليه الولة الظالمون ومن يسير في ركابهم من قادة وجنود وأتباع‪ ،‬وليس هو هذا‬
‫التنطع الذي يدعو إليه المبتدعة ممن يفرق كلمة المسلمين ويبث الشقاق بينهم ويحكم‬
‫على مخالفيهم بأحكام المشركين‪ ،‬فيستبيح منهم ما يستباح من أعداء ال‪ .‬ول هو في‬
‫التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة الظهور‪ .‬وإنما هو في اليمان الذي يمتلئ به‬
‫قلب المؤمن‪ ،‬فتستبيح من أعداء ال‪ .‬ول هو في التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة‬
‫الظهور‪ .‬وإنما هو في اليمان الذي يمتلئ به قلب المؤمن‪ ،‬فتستجيب له جوارحه‪،‬‬
‫فيكون عبدا ل‪ ،‬ل يغره مظهر‪ ،‬ول يخدعه منصب‪ ،‬ول تغلبه نفس أمارة بالسوء‪،‬‬
‫ول يخضع لشهوة غالبة‪ ،‬مهما كان الدافع إليها‪.‬‬
‫واستجاب الناس لهذه الدعوة الصافية الخالصة‪ ،‬وكان سلمة ينتقل بين المدن والقرى‬
‫يوضح للناس تشريع السلم في أعداد فرص الحياة‪ ،‬ونظامه في الحكم‪ ،‬ومساواته‬
‫بين الناس من جميع الجناس‪.‬‬
‫ولعل السكان في القطر التونسي كانوا أكثر فهما لهذه الدعوة‪ ،‬وتعلقا بها‪ ،‬واستجابة‬
‫لها في ذلك الحين‪ ،‬ولذلك فقد كونوا البعثة العلمية إلى البصرة‪ ،‬لتتم دراستها في ذلك‬
‫المركز من مراكز الشعاع السلمي‪ ،‬وسافر الطالبان النجيبان عبد لرحمن بن رستم‬
‫من القيروان وأبو داود من قبلي‪ ،‬ليغترفا العلم من شيخ الباضية في العراق أبى‬
‫عبيدة مسلم بن أبي كريمة‪ .‬ولقد درس الطالبان على المام الكبير خمس سنوات‬
‫كاملة ثم رجعا مع زملء لهم‪ .‬فقام عبد الرحمن بكفاح سياسي بدأه في ليبيا ثم انتقل به‬
‫إلى تونس ثم انتقل به إلى الجزائر‪ .‬حيث أسس الدولة الرستمية الشهيرة‪ ،‬أما أبو داود‬
‫فقد انقطع عن الكفاح السياسي والعسكري إلى الكفاح العلمي والصلح الديني‪ ،‬وكان‬
‫لكفاحه هذا أكبر الثر في تكوين جيل مثقف ثقافة إسلمية صحيحة‪ ،‬حريص على‬
‫المحافظة على دين ال كما جاء عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أسباب الثورات‬
‫حمل الفاتحون الول رسالة السلم إلى تونس‪ ،‬كما حملوها إلى بقية البلد‪ ،‬نقية‬
‫صافية‪ ،‬كما جاءت في كتاب ال‪ ،‬فأقبل الناس عليها‪ ،‬يعتنقونها‪ ،‬ويتمسكون بها في‬
‫حرص واعتزاز‪ .‬ولكن لم يمض وقت طويل على انتشار السلم‪ ،‬في المملكة‬
‫التونسية حتى تغيرت أنظمة الحكم عن زمن الفتح‪ ،‬وانحرف الولة الظالمون‪،‬‬
‫فشوهوا الصورة الجميلة لعدالة السلم ونزاهته‪ ،‬ومساواته – بين الناس في جميع‬
‫وسائل الحياة‪ -‬المساواة المطلقة‪ ،‬التي تجمع بين المير والفقير‪ ،‬في كل الحقوق‬
‫والواجبات‪ ،‬كما تجمع ببينهما في المسجد لداء الصلة‪ .‬ل يطمع قوي في شئ إل أن‬
‫يكون حقا له‪ ،‬ول يخشى ضعيف أن يسلب شيئا إل أن يكون ليس من حقه‪ ،‬أما‬
‫الكرامة والعزة والعظمة‪ ،‬فتلك حقوق طبيعية يتساوى فيها جميع المؤمنين تحت‬
‫العبودية ل‪ ،‬فما يصح أن يقال فلن أعظم من فلن أو أعز منه‪ ،‬الن يقال أخشى ل‬
‫واتقى‪ ،‬أو أشد اتباعا لحكام ال واستمساكا بدينه‪ ،‬فيكون اكرم على ال وأحق‬
‫برضاه عنه‪ .‬وكرامة المؤمن عند ال ورضاه عنه هي غاية العز والعظمة‪.‬‬
‫والفراد في المة السلمية‪ ،‬كما يتساوون في المسجد وفي الطواف‪ ،‬وفي عرفة‬
‫وفي المشعر الحرام وفي كثير من مظاهر العبادات كذلك يتساوون في المجتمع‪ ،‬فهم‬
‫كأسنان المشط‪ ،‬تتكافأ دماؤهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم‪.‬‬
‫أما المظاهر التي ينخدع بها الناس‪ ،‬كالمال والقوة والسلطة‪ ،‬فل قيمة لها في نظر‬
‫المؤمن إل بمقدار ما يعود منها على المة – مجتمعا وأفرادا – من فوائد‪ .‬إن‬
‫الموال‪ ،‬ل قيمة لها إل بالمقدار الضروري للحياة‪ .‬أو بما ينفق منها في سبيل ال‪،‬‬
‫وإن القوة ل قيمة لها إل بمقدار ما يستطيع به النسان الحياة‪ ،‬أو بمقدار ما يصرف‬
‫منها في الصالح العام‪ .‬أما السلطة‪ ،‬فل تخلو أما أن تكون داخلة في التشريع اللهي‬
‫دون طغيان‪ ،‬فهي صيانة لحقوق المة‪ ،‬وحفظ توازن بين القوي والضعيف‪ ،‬وتوزيع‬
‫عادل لفرض الحياة بين الناس‪ ،‬وإتاحة الحياة الكريمة لكل فرد‪ ،‬وتنظيم للمحافظة‬
‫على المن والسلم‪ ،‬ورعاية لحدوده‪ ،‬وتطبيق لحكامه‪ ،‬واستمرار في الدعوة إليه‬
‫بالوسائل التي شرعها‪ .‬وما إلى ذلك‪ ،‬فهذه هي السيرة التي وضعها السلم لسير‬
‫الحكام‪ .‬وأما أن تكون تعديا لحدود ال‪ ،‬وحكما بغير ما أنزل ال‪ ،‬فهي ظلم‬
‫وجبروت‪ ،‬يجب أن يوقفها المؤمنون‪ ،‬وإن يضربوا على يد صاحبها‪ ،‬وأن يطالبوه‬
‫بالتزام حدود ال‪.‬‬
‫تلك هي الصور التي عرفها الناس‪ ،‬لنظام الحياة تحت حكم السلم‪ ،‬فلما انحرف‬
‫المراء والولة‪ ،‬بالحكم عن طريقة البين الواضح‪ ،‬وانحرف المفكرون‪ ،‬بالعلم عن‬
‫مجرى السنة إلى البدعة‪ ،‬وعن نصاعة الحق إلى ظلمه الشبهة – ثار الناس‪.‬‬
‫ثاروا على انحراف بأنظمة الحكم‪ ،‬وثاروا على النحراف بحقائق العلم‪ ،‬فحاربوا‬
‫الظلم بالسيف والقوة‪ ،‬وحاربوا البدعة بالبرهان والحجة‪ ،‬واثبتوا صلحية السلم‬
‫لتنظيم الحياة‪ ،‬بصدق الدعوة‪ ،‬وعدالة السيرة‪ .‬وليست هذه الحركة الثورية ضد‬
‫النحراف في الحكم أو في العلم‪ ،‬قاصرة على ليبيا أو تونس أو الجزائر ول على‬
‫الباضية‪.‬‬
‫ولكنها كانت قائمة في جميع البلد التي دخلها السلم ثم انحرف الناس عن هديه‪،‬‬
‫وحادوا عن سبيله ولقد تختلف بعض الثورات عن بعض في القوة والتجاه والغرض‪.‬‬
‫ولكن الباعث على أهم الحركات الثورية في السلم ل يبعد أن يكون سببه انحرافا‬
‫في تطبيق الحكم‪ ،‬وأنا حين أقول هذا ل أنفي أنه قامت ثورات لم يدع إليها الخلص‬
‫للدين والمحافظة عليه وإنما كان سببها حب السيطرة والوصول إلى الحكم‪ .‬ول سيما‬
‫في العصور المتأخرة عندما كان يتوق إلى الحكم ناس لم يتثقفوا الثقافة السلمية‪ ،‬بل‬
‫لم يكن لهم في المجال العلمي نصيب‪.‬‬
‫على أن هناك ظاهرة يجب أن نشير إليها ونحن نتكلم عن نظام الحكم في السلم‪،‬‬
‫وعن أسباب الثورات الكثيرة التي قامت في البلد السلمية سيما بعد تمام دولة‬
‫الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫إن نظام الحكم السلمي هو النظام الذي جاءت قواعده الساسية في كتاب ال ثم‬
‫طبقه رسول ال صلى ال عليه وسلم بطريقة عملية وسار به خلفاؤه الراشدين‪ .‬ثم‬
‫قامت بعد ذلك دول إسلمية كثيرة‪ ،‬استطاع بعضها أن يسيطر على جميع الوطن‬
‫السلمي‪ ،‬وانقسم الوطن السلمي في بعض الحايين إلى دول متعددة تحكم كل‬
‫دولة منها قسما من هذا الوطن الكبير‪ ،‬ومن تلك الدول من حاول أن يسير بالنظام‬
‫السلمي في الحكم حتى كاد أن يكون امتدادا للخلفة الرشيدة‪ .‬ومنا من بعد عن‬
‫أنظمة الحكم السلمي حتى كاد يخرج بها عن دائرة السلم‪ .‬وإنما كان هم القائمين‬
‫بالحكم أن يصلوا أو يوصلوا إلى غايات معينة دون مراعاة للقواعد التي جعلها‬
‫السلم لبناء الحكم‪ ،‬كما إنهم لم يراعوا أحكام ال في الدماء والموال والعراض‪.‬‬
‫ولكن أولئك الحكام مع ذلك البعد عن دين ال‪ ،‬استطاعوا بوسائل كثيرة‪ ،‬أن يضفوا‬
‫على دولهم وحكوماتهم صيغة شرعية‪ ،‬وأن يجعلوها معتبرة من الدول التي تقوم‬
‫بأمر ال‪ ،‬وقد توصلوا إلى إضفاء هذه الشرعية على دولهم بطرق مختلفة فمنهم من‬
‫حصل عليها بالقوة والعنف‪ ،‬ومنهم من حصل عليها بالدهاء والحيلة‪ ،‬ومنهم من‬
‫حصل عليها بالوعود والرشوة‪ ،‬وأنا حين استعمل كلمة الرشوة في هذا المقام‪ ،‬فإنما‬
‫أقصد بها ما يغدقه الحكام على رؤساء الطوائف والقبائل لينضموا إلى صفوفهم‪ ،‬وما‬
‫يجازون به الشعراء والكتاب لينشروا لهم الدعاية‪ ،‬ويحملوا الناس على اللتفاف‬
‫حولهم‪ ،‬والسر في ركابهم‪ .‬وما يمنحونه لضعاف العلماء‪ ،‬ليعترفوا لهم بالمارة‪،‬‬
‫ويستخلصون منهم فتاوي توجب على المسلمين طاعتهم‪ ،‬وتحرم عليهم نقدهم‬
‫ومطالبتهم بالعدل‪ ،‬وتجعل الخروج عليهم باطل تحل به الدماء والموال‪ ،‬وما إلى‬
‫ذلك من ألوان العقاب‪ .‬ثم ما يقطعونه لصحاب المطامع من القواد والجناد ليكونوا‬
‫آلة بايديهم يضربون بها من يطالبهم بالحق أو يحاسبهم على العدل‪.‬‬
‫وقد نتج عن ذلك مباحث قيمة بين علماء الشريعة في جواز الثورة على الدولة‬
‫الظالمة وعدم جوازها‪ .‬ومع أن السلم يحرم الظلم ويحاربه في جميع أشكاله‬
‫وألوانه فإن كثيرا من علماء السلم دعوا إلى الرضا بالحكم القائم اتقاء للفتنة‪ ،‬وخوفا‬
‫من أن تؤدي الثورة على الظالمين إلى إراقة دماء‪ ،‬والحاق مضار بالمة‪ ،‬قد تكون‬
‫أعظم مما يرتكبه الظالمون في أحكامهم‪ .‬وإذا كان هذا الفريق من علماء الشريعة‬
‫يرى هذا الرأي‪ ،‬ويذهب هذا المذهب‪ ،‬خوفا على المة‪ ،‬وإشفاقا عليها‪ ،‬فإن غيرهم‬
‫من العلماء يرى أن إيقاف الظلم‪ ،‬وتغيير الحكم الجائر‪ ،‬من أول ما يجب على المة‬
‫مهما كانت النتائج‪ ،‬لن الستسلم للظلم ل يولد العدل‪ ،‬ثم إن استمرار تحمل الضيم‪،‬‬
‫أو قبول الجور‪ ،‬يورث الذلة‪ ،‬ويربي النفوس على الخنوع‪ ،‬ويجرئ الظالمين على‬
‫السترسال في طغيانهم‪ ،‬ويجعل من البشر آلهة يحمون كما يريدون‪ ،‬فتطول عهود‬
‫الحكم الظالم وتنشأ على ذلك أجيال فتتعوده وتعتقد إن ذلك هو الحق‪ .‬ل سيما وإن‬
‫الحكام الظالمين أعرف الناس وأقدرهم على تثبيت أقدامهم في الحكم‪ ،‬وتوجيهه لمن‬
‫يريدون‪ ،‬وذلك بما يصطنعونه من الحواشي والتباع‪ ،‬ويشترونه من الذمم‬
‫والضمائر‪ ،‬وينزلونه من ألوان العقوبة على من يقاوم ظلمهم‪ .‬ويطالبهم بإتباع الحق‬
‫والعدل‪ .‬ولذلك فإن هذا الفريق من العلماء يرى أن ثورة المة على انحراف الدولة‬
‫مهما كانت النتائج أهون من الرضا بالحكم الجائر المسترسل الطويل‪.‬‬
‫ولو أردنا أن نعتبر كل واحد من هذين التجاهين‪ ،‬مبدأ لحزب‪ ،‬وبحثنا عن أحد كبار‬
‫التابعين لنجعله على راس الحزب لستطعنا أن نجعل على رأس القائمة الولى أحد‬
‫المامين الحسن أو الزهري ولجعلنا على رأس القائمة الثانية أحد السعيدين ابن‬
‫المسبب أو ابن جبير‪ .‬وأنا حين أشير إلى هذين التجاهين‪ ،‬اتجاه مسالمة الدولة‬
‫الظالمة الذي يمثله الحسن‪ ،‬أو اتجاه مقاومتها والثورة عليها الذي يمثله ابن جبير‪ .‬ل‬
‫أدخل في حسابي أولئك المنزلفين من القدماء والمحدثين‪ ،‬الذين بهرهم البريق‪،‬‬
‫فاندفعوا أو يندفعون في ركاب السلطان‪ ،‬وقد جعلوا علمهم ودينهم وخلقهم ثمنا لما‬
‫يحصلون عليه من متعة المال أو الشهرة أو اتجاه أو المنصب‪ ،‬وسخروا ذكاءهم‬
‫وكفاءتهم وبراعتهم‪ ،‬لخدمة المنحرفين عن سبيل ال‪ ،‬فإن هؤلء‪ ،‬وإن بلغوا في العلم‬
‫مبالغ سامقه إل إنهم ل حساب لهم في التفكير الصحيح‪ .‬ذلك إنهم مالوا إلى الدنيا من‬
‫أول يوم واتخذوا مناصرة الظالمين مبدأ ثم أصبحوا يبحثون عن البراهين والحجج‬
‫ليؤيدوا ما ذهبوا إليه‪.‬‬
‫إن هذا الختلف في الرأي‪ ،‬بين علماء السلم‪ ،‬مراعاة لمصلحة المة‪ ،‬وإشفاقا‬
‫عليها‪ ،‬ل يرتفع إلى أن يكون خلفا مذهبيا بين الطوائف السلمية‪ ،‬وإن كان‬
‫أصحاب كل مذهب قد يميلون إلى أحد التجاهين أكثرهما يميلون إلى التجاه الخر‪.‬‬
‫وإذا كان بعض أئمة الباضية يميلون إلى اتجاه المقاومة‪ ،‬ويرون وجوب محاربة‬
‫الظلم‪ ،‬ومكافحة الباطل‪ ،‬ما كان إلى ذلك سبيل‪ ،‬فإن عجزت المة عن مقاومة‬
‫الظالمين بالثورة الشاملة التي تقلب أنظمة الحكم‪ ،‬وتبعد غير أهل الكفاءة والستقامة‪،‬‬
‫عن التصرف في مقدرات المة‪ ،‬فإنه يجب أن تقوم فدائية تذكر الدول الظالمة‪ ،‬أن‬
‫المة غير راضية للحكم القائم‪ ،‬وإن استسلمت للقوة والقهر‪ ،‬وإنها ل تزال تطالب‬
‫بتنفيذ أحكام ال‪ ،‬وإن الرجوع إلى حكم السلم والتزامه والسير على منهجه‪ ،‬أولى‬
‫لهما وأحق بها وإن المؤمن ل يهادن الظلم وإن غلبه الظلم‪ .‬أقول إذا كان بعض الئمة‬
‫يرى هذا الرأي فإن البعض الخر يميل إلى المسالمة‪ ،‬كما فعل المام الكبر جابر بن‬
‫زيد‪ .‬ومنهم من يرى سلوك طريق وسط في الموضوع وذلك بالنظر إلى حالة المة‬
‫فإذا خشى إن تكون المقاومة سببا إلى فتنة تكون المضرة فيها على المة أكثر مما‬
‫يلحقها من حكم الظالمين فإن الستسلم أولى وإذا كان للمقاومة أسباب تؤيد نجاحها‬
‫وترجع صلح القائمين بعدها ففي هذه الحالة يرون إن الطاحة بالحكم الظالم أولى‪.‬‬
‫ولقد عانى المسلمون من الظلم والجبروت شيئا كثيرا في المملكة التونسية بسبب‬
‫انحراف الولة عن حكم ال‪ ،‬وكان ذلك من السباب التي دفعت الناس إلى اشتعال‬
‫نار ثورات كثيرة قامت في تلك الجهات‪ ،‬وطال بها المد‪ ،‬وامتدت وتسلسلت مع‬
‫التاريخ‪ ،‬حتى جعلت الناس مستعدين للنضمام إلى كل ناعق رسمي للوصول إلى‬
‫الحكم‪.‬‬
‫وبما أن هذا الكتاب موضوع لعطاء صور عن حياة الباضية في تونس‪ ،‬فإنه من‬
‫حق القارئ الكريم علينا أن نحدثه عن الثورات التي إشترك فيها الباضية طالبين أو‬
‫مطلوبين والدوافع إليها ونتائجها‪ .‬وفي الفصل التي وما بعده من الفصول سوف‬
‫يجد القارئ الكريم صور عن هذه الحياة التي تمتاز بكفاح طويل‪..‬‬
‫أبو الخطاب في القيروان‬

‫يقول أبو المباس الشماخي في كتابة القيم ( السير ) ‪ » :‬فزحت عاصم واخوه مكرم‬
‫إلى القيروان فدخلوها بعد حرب‪ ،‬وفر حبيب إلى قابس‪ ،‬ثم إلى جبل أوراس‪،‬‬
‫فاستحكمت ورفجومية على القيروان‪ ،‬وعتوا وطغوا وجاروا‪ ،‬وساموا الناس بسوء‬
‫العذاب‪ ،‬وربطوا دوابهم في المسجد الجامع‪ ،‬فخرج إليهم أبو الخطاب غضبا ل‬
‫ولدينه « ‪.‬‬
‫أما كيف وردت الخبار إلى أبي الخطاب فيظهر مما يأتي‪:‬‬
‫أرسلت إليه امرأة أن لها بنتا جعلتها في مطمورة خوفا عليها من ورفجومية‪ ،‬وحكى‬
‫ابن الرقيق عن ابن حسان إن رجل من الباضية دخل القيروان‪ ،‬فرأى ناسا من‬
‫الورفجوميين كابروا امرأة على نفسها – ولناس ينظرون – ولم ينكروا ذلك عليهم‬
‫خوفا منهم – فترك حاجته فأتى أبا الخطاب –‬
‫ونقل آخرون إن ورفجومية أخرجوا امرأة وهي تصيح!‪..‬‬
‫يا معاشر المسلمين أغيثوني! ‪ .‬فلم يغثها أحد‪ ،‬وبلغ الخبر أبا الخطاب‪.‬‬
‫وذكر بعض المؤرخين إن أهل القيروان بعثوا يستغيثون بابي جعفر المنصور‪...‬‬
‫وأهل القيروان وهم في هذا وهم الوضع الشاذ الذي استبيحت فيه كل الحرمات‪ ،‬يحق‬
‫لهم أن يستنجدوا بأبي الخطاب وبأبي جعفر وبكل مؤمن يرجون منه النجدة‪ ،‬ويأملون‬
‫فيه النقاذ‪ .‬فإنه ل شر أعظم من أن تعيش أمة مسلمة صانت كلمة التوحيد‪ ،‬دماءها‬
‫وأموالها وأعراضها‪ ،‬تحت حكم ناس ينتسبون إلى السلم ثم هم يرتكبون من‬
‫الفواحش وألوان الظلم‪ ،‬ما جاء السلم ليطهر البشرية منه‪ .‬وقد اجتمع على أهل‬
‫القيروان في أحداث ورفجومية‪ ،‬استباحة المساجد حتى ربطت فيها الدواب‪،‬‬
‫واستبيحت الموال والدماء بدون حساب‪ ،‬وانتهكت حرمات العراض حتى أصبحت‬
‫الفاحشة تؤتي علنا‪ ،‬وتقاد إليها الحرائر كرها بين الناس‪ ،‬وهي حالة ل ترضاها حتى‬
‫الضمائر الوثنية فكيف والناس يعيشون في نور السلم‪.‬‬
‫وهذه الفظائع التي ارتكبها عبد الملك الورفجومي واتباعه‪ ،‬جعلت أهالي القيروان‬
‫ينظرون إلى حكم المراء السابقين على ما فيه من ظلم وعدوان‪ ،‬كأنه العدل المطلق‪.‬‬
‫كان أبو الخطاب المعافرى من أولئك العلماء العلم الذين يرون إنه ل يحق لمرئ‬
‫مسلم‪ ،‬إن يسكت عما يرتكبه الظالمون‪ ،‬باسم المارة والحكم‪ ،‬فلما بايعه المسلمون ف‬
‫ليبيا إماما‪ ،‬واسندوا إليه القيام بشئون الدولة في هذا الجزء من الوطن السلمي‬
‫الكبير‪ ،‬أعد نفسه لحمل المانة‪ ،‬وعزم أن ينتهج بالمسلمين ذلك النهج الذي سار عليه‬
‫الخلفاء الراشدون‪ ،‬وسار عليه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فلما بلغه ما يقع في‬
‫القيروان من المناكر وتحقق أن الحالة بلغت من السوء إلى الحد الذي تنتهك فيه‬
‫حرمات ال‪ ،‬جهارا نهارا‪ ،‬دون تستر أو تأويل‪ ،‬والناس خوفا على أنفسهم‬
‫وأعراضهم ينظرون ول يستطيعون أن ينكروا لما تحقق من ذلك جمع الناس وخطب‬
‫فيهم يقول ‪ :‬إنني أطمع الجنة لمن يستشهد في هذه الوقعة ما لم يكن مصرا على كبيرة‬
‫ولما خرج من الجتماع سل سيفه‪ ،‬وكسر غمده‪ ،‬كناية عن العزم الكيد على الكفاح‬
‫في سبيل ال‪ ،‬ونصرة السلم‪ ،‬والمحافظة على عدالته ونزاهته وصفائه‪ .‬وقاد جيشه‬
‫المتطوع في سبيل ال وارتحل إلى القيروان‪ ،‬فمر بقابس فجعل عليها واليا من قبله‬
‫وسار حتى بلغ القيروان فحاصرها مدة اختلف المؤرخون في تحديدها ثم لنت له‪،‬‬
‫وخرج اليه عبد الملك الورفجومي بمن معه من التباع‪ ،‬وكانت معركة حاسمة‬
‫انتصر فيها أبو الخطاب ودخل القيروان‪ ،‬وكان أهالي القيروان ينتظرون نهاية‬
‫الحرب في ترقب وخوف‪ ،‬فقد مر بهم عد من الحروب والوقائع‪ ،‬وهم يعرفون‬
‫نتائجها‪ ،‬وما تسفر عنه‪ ،‬ويخشون ما يقاسونه بعد كل معركة من ويلت وصائب‪،‬‬
‫وعندما كانت المعارك تدور بين أبي الخطاب وعبد الملك الورفجومي كان أهل‬
‫القيروان ينتظرون نهاية هذه الوقائع في إشفاق وخوف‪ ،‬وكانوا يحبون أن أقل ما‬
‫يلحقهم من ضرر‪ ،‬أن تكون الجيوش المحاصرة‪ ،‬قد أتت على مزارعهم وبساتينهم‪،‬‬
‫وما فيها من ثمار وغلل‪ ،‬مدة حصارهم لهذه المدينة الحصينة‪ ،‬وعندما انجلت‬
‫المعركة عن هزيمة عبد الملك‪ ،‬بدت لهل القيروان المفاجأة الولى‪ ،‬وقد كانوا‬
‫ينتظرون ما تعودوه بع الحروب السابقة من التتبع والقتل والنتقام والغنيمة‪ ،‬ولكن يدا‬
‫واحدة لم تمتد إلى سوء بع المعركة‪ ،‬فكان هذا من أعجب العجب في ذلك الحين‪،‬‬
‫وعندما خرجوا إلى ساحة القتال ظهرت لهم المفاجأة الثانية‪ ،‬فقد كان القتلى هناك‬
‫صرعى على أوضاع مختلفة‪ .‬ولكن أحدا لم يمس ما عليهم من أسلب‪ ،‬فكأنهم‬
‫نائمون في ليلة صائفة حتى وصفتهم واصفة بقولها كأنهم رقود‪ ،‬أما المفاجأة الثالثة‬
‫فقد وجدوها عندما خرجوا إلى مزارعهم‪ ،‬وهم يتوقعون لها كل شر‪ ،‬فإذا بها لم‬
‫تمس ‪ ،‬ولم يتحرك فيها شئ من موضعه‪ ،‬اللهم إل ما حركته عوامل الطبيعة من‬
‫وحش أو ريح‪.‬‬
‫وذاق أهل القيروان حكم السلم النظيف‪ ،‬حين يطرد الباغين ويقيم حكم ال على‬
‫المسالمين فقال قائلهم‪ ،‬بعد أن ذهب أبو الخطاب‪ ،‬وقام أمراء آخرون يدعون الحكم‬
‫بالسلم » تشبهون دينكم بدين ابن الخطاب وأين مثل أبي الخطاب في فضله‬
‫وعدله ! « ‪.‬‬
‫ولعله من المناسب إن أنقل للقارئ الكريم في ختام هذا الفصل كلمة للستاذ محمد‬
‫المرزوقي‪ ،‬قال في كتابه القيم ( قابس جنة الدنيا ) ما يلي‪ » :‬والظاهر أن قابس نعمت‬
‫في ظل الباضيين خلل ثلث سنوات بشيء من الطمأنينة‪ ،‬وكثير من العدل‬
‫والمساواة بالحق‪ ،‬والقيام على نصرته والزهد في الدنيا«‬

‫عبد الرحمن بن رستم‬


‫حج عبد الرحمن بن رستم وهو صبي مع أبويه من فارس إلى البلد المقدسة‪ ،‬فلما‬
‫كان بمكة المكرمة توفى أبوه وتزوجت أمه رجل من القيروان‪.‬‬
‫كان صبيا يطل الذكاء من عينيه وتبدو النجابة على مخائله‪ ،‬ويطالعك الظروف‬
‫والدب وخفة الروح في حركاته وسلوكه‪ ،‬فاحبه زوج أمه وسهر على تربية‪ .‬رجع‬
‫ذلك القيرواني الكريم إلى بلده يحمل معه أسرة متكونة من شخصين هما عبد‬
‫الرحمان وأمه‪ ،‬واستقر بهم المقام في القيروان وطاب‪ ،‬وكان الصبي من عشاق‬
‫المعرفة‪ ،‬فتندرج في المدارس البسيطة الموجودة في هذه القرية الناشئة حتى لم يجد‬
‫عند مدارسها مزيدا‪ .‬ولم تكن تلك المدارس الصغيرة والدروس المتقطعة في تلك‬
‫القرية الناشئة لتطفئ غلته‪ ،‬وتروى ظمأه‪ ،‬فإن القيروان حينئذ كانت أشبه بقلعة حربية‬
‫منها بعاصمة علمية‪ ،‬وكانت أمه وزوجها ل يفتئان يحرضانه على المزيد من طلب‬
‫العلم‪ .‬واتصل به سعد بن سلمة وحدثه عن المعاهد العلمية في الشرق السلمي‪.‬‬
‫ولذلك فقد كان يشغله التفكير في الطريق الذي يسلكه ليستكمل دراسته‪ ،‬والمكان الذي‬
‫يقصده ليحقق فيه غايته‪ ،‬والعدة التي يجب أن يستكملها ليصل إلى أمله الغالي في‬
‫دراسته العلمية الطويلة‪ ،‬وترامى إلى سمعه الشهيرة الذائعة للمعاهد العلمية في‬
‫العراق‪ ،‬وبلغه ما تتمتع به البصرة من شهرة تطغى على بقية العواصم السلمية‬
‫لذلك الحين وحدثه متحدثون عن فطاحل العلماء من بقية التابعيين وتابعي التابعيين‬
‫الذين تزدان بهم حلق الدراسة‪.‬‬
‫كان عبد الرحمن يؤمن أن الفتى الذي يريد طلب العلم ل تصده العقبات‪ ،‬ول ترده‬
‫الصعاب‪ ،‬فإن الرادة القوية والعزيمة الصادقة‪ ،‬والرغبة الملحة‪ ،‬كفيلة أن تقرب‬
‫المسافات البعيدة‪ ،‬وتيسر الطرق الصعبة‪ ،‬وتبعد التفكير في النفقات للزمن الطويل‬
‫وما يحتاج إليه النسان في كثيرة الستعداد وإحضار الموال‪ ،‬وصمم الفتى الغض‬
‫الهاب‪ ،‬الطرى العود على السفر بعد أن أذنت له أمه‪.‬‬
‫اتخذ الهبة ليلتحق بالعراق‪ ،‬ويستقر في البصرة تلك العاصمة العلمية التي قيل فيها‬
‫» باض العلم في المدينة‪ ،‬وفرخ في البصرة‪ ،‬وطار إلى عمان « أنه يريد أن يعيش‬
‫في ذلك العش الذي فرخ فيه العلم فإن طارت منه طيور إلى عمان فهو سوف يتخذ‬
‫لنفسه مطارا ويختار لحياته مسبحا‪ ،‬وسار الفتى وهو ما يزال في غضارة الصبا حتى‬
‫وصل البصرة‪ ،‬واتصل بالزملء وطلب العلم من مختلف بلد العالم السلمي‪،‬‬
‫أولئك الزملء الذين يقصدون البصرة كما قصدها هو‪ ،‬وحدثهم وحدثوه‪ ،‬وناقشهم‬
‫وناقشوه‪ ،‬وفاضلوا بين مجالس العلم‪ ،‬وبين المشائخ والعلماء‪ ،‬حسب مداركهم وحسب‬
‫منازعهم‪ .‬وأراد عبد الرحمن أن يتأكد من موقفه‪ ،‬ومن سلمة اختياره‪ ،‬فجال بين‬
‫المساجد ودور العلم‪ ،‬واستمع إلى كبار تابعي التابعيين‪ ،‬وهم يشرحون كتاب ال وسنة‬
‫رسوله ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وانتقل من حلقة إلى حلقة‪ ،‬ومن عالم إلى عالم‪ ،‬حتى‬
‫حضر دروسا على أولئك العلم الدين يقومون بالدفاع عن دين ال في حرص‬
‫وأمانة‪ ،‬واختار من بينهم واحد ليتلقى عنه العلم‪ .‬ويقتبس منه نور الهداية‪.‬‬
‫اختار مجلس أبى عبيدة مسلم من أبي كريمة مولى بني تميم ذلك المام العظيم الذي‬
‫يطارده طغيان الحجاج وأعوانه‪ ،‬ويضيق عليه الخناق‪ ،‬ويحاول أن يحول دونه ودون‬
‫إبلغ رسالة السلم إلى المسلمين‪.‬‬
‫اختار عبد الرحمن هذا المام استاذا له ليتلقى عنه رسالة الدين وفنون المعارف‬
‫السلمية‪ ،‬لنه يمتاز عن غيره من إعلم تابعي التابعي الذين كانوا يتولون التدريس‬
‫في تلك البقاع – بروحه الحية المتحررة التي لم يستطيع الطغيان إن يطفئ فيها جذوة‬
‫الكفاح‪ ،‬ومناصرة الحق‪ ،‬والدعوة إلى تحطيم النظمة الفاسدة التي أقامتها دول‬
‫انحرفت عن السلم في نظام الحكم‪.‬‬
‫واستقبله أبو عبيدة كما يستقبل الب الحنون العطوف ولذا بارا عزيزا واحتفى به‬
‫احتفاء كريما‪ ،‬وأضفي عليه من حبه ورعايته الشيء الكثير‪ ،‬وذلك لسباب كثيرة‬
‫منها ما طالع منه من أدب جم‪ ،‬وذكاء وقاد‪ ،‬وفهم كثير‪ ،‬واستعداد للتلقى‪ ،‬ولطف في‬
‫السلوك‪ ،‬ورغبة حقيقية في العلم‪ .‬ومنها أنه كان أصغر طلبه المغاربة سنا‪ ،‬ومنها إن‬
‫هذا الفتى قد وجد من عنت الدهر ما أحس معه اللم والمرارة وهو صغير‪ ،‬فقد تكبد‬
‫مشقة السفر من فارس إلى مكة المكرمة مع أبويه ليؤديا فريضة الحج‪ ،‬فتوفى أبوه‬
‫في هذا الموسم الذي يعج بالناس من كل جنس‪ ،‬ل يهتم الشخص منهم إل بنفسه‪،‬‬
‫وعلقته بربه‪ ،‬وترك للقدر مصير أرملة وطفل صغير في محنة الغربة البعيدة في‬
‫ذلك الحين الذي تعز فيه وسائل النقل واسبابه‪ .‬وقد إنحلت هذه المشكلة بطريقة لم‬
‫يفكر فيها ل هو ول أمه‪ ،‬فقد انقضى موسم الحج وبدأ الناس يعودون إلى بلدهم‬
‫وكانت الرملة العاجز تفكر في مصيرها ومصير ولدها وتدرس لطريقة التي تمكنها‬
‫من الرجوع إلى بلده‪ .‬ولكن تفكيرها الطويل ودراستها للمواقف وانشغالها به لم‬
‫يوصلها إلى حل‪ .‬وإنما جاءها الحل لحكمة يعلمها ال بطريقة لم تفكر فيها وإنما‬
‫ساقها القدر إليها‪ .‬فقد تقدم إليها رجل من المغرب يخطبها لنفسه‪ ،‬ويعدها إن يربط‬
‫مصيره بمصيرها إن شاءت‪ ،‬ويعمل على إسعادها وإسعاد ولدها الحبيب‪ .‬وافقت‬
‫على هذه الرغبة الكريمة‪ ،‬وعقد عليها القيرواني‪ ،‬وتم الزفاف‪ ،‬وبدل من أن تولى‬
‫وجهها إلى مطلع الشمس حيث تعود بطفلها الحبيب إلى الرض الحبيبة أرض‬
‫الوطن‪ ،‬أرض فارس!‪ ..‬بدل من ذلك اتجهت إلى مغرب الشمس‪ ،‬إلى تلك البلد التي‬
‫كانت موضوعا ل ينتهي للحديث والخيال والقصص الصدق والكاذب‪ .‬وسار الولد‬
‫وراء أمه إلى حيث يقدر لهما الحياة‪ ،‬وهو يبكي أبا عزيزا فقده بين يدي ال في منازل‬
‫الوحي‪ ،‬ووطنا حبيبا ولد فيه‪ ،‬واتخذ فيه ملعب الصبا ومسارح الطفولة‪ ،‬سار الفتى‪،‬‬
‫وطال به المسير‪ ،‬يقطع أرضا بعد أرض ويجتاز فلة بع فلة‪ ،‬حتى بلغ بعد عناء‬
‫ومشقه‪ ،‬مقر السرة الجديدة في القيروان‪ .‬المقر الذي أراد الفاتحون أن يكون مركز‬
‫الدولة في أفريقيا‪.‬‬
‫وشب الطفل في البيت الجديد والوطن الجديد تحت رعاية الب الجديد حتى اشتد‬
‫ساعده ونضج تفكيره وفاق القران علما وعمل‪ ،‬وضاقت دور التعليم عن مواهبه‪،‬‬
‫فبدأ يرنو إلى بعيد حتى يسرت له أسباب الرحيل إلى البصرة إلى مطلع الشمس إلى‬
‫ذلك البلد القريب من وطنه الحبيب‪ .‬وبقد كان وهو يفكر في السفر إلى البصرة‪ ،‬يذكر‬
‫المسافات الشاسعة التي قطعها حين ورد إلى القيروان‪ ،‬ولكن كان يهون عليه سلوك‬
‫ذلك الطرق ويخفف من متاعبه‪ ،‬أول الغاية الكبرى التي وضعها بين عينيه‪ ،‬من‬
‫الورود إلى منابع العلم الصافية أما ثانيا فقد كان يداعب خياله أمل في أنه حين يصل‬
‫إلى العراق سوف يكون قريبا من فارس فيتنطس أخبار الوطن ولعله يعرف مآل‬
‫ثروة أبيه وأملكه ولعله يجد وسيلة للحياة الكريمة في الوطن العزيز‪ .‬فلما وصل‬
‫البصرة‪ ،‬واستقر به المقام‪ ،‬وتلقى الدروس الولى على أبي عبيدة‪ .‬تفتح عقله الكبير‬
‫لحقائق أكبر مما كان يفكر فيه‪ .‬وعلم أن المؤمن حيثما كان في بلد السلم فهو في‬
‫وطنه‪ ،‬فهو ليس فارسيا ول قيروانيا ول بصريا‪ ،‬ولكنه مسلم يمكنه أن يعيش في أي‬
‫جزء من العالم السلمي الفسيح‪ ،‬أما المكان الذي يجب إن يستقر به أي مكان يحتاج‬
‫إليه للقيام برسالته‪ ،‬والستمرار في دعوته‪ ،‬والكفاح من اجل إقامة دين ال‪ ،‬ومقاومة‬
‫أولئك الذين يدعون زورا إنهم يحكمون بالسلم‪ .‬إنه يجب أن يعد نفسه للكفاح في‬
‫سبيل ال أما المكان الذي يعيش فيه فليس بذي أهمية‪ ،‬لن القدار هي التي سوف‬
‫تسوقه إليه‪ .‬على أن المؤمن ليس له وطن‪ ،‬فهو في رحلة طويلة في هذه الحياة من‬
‫أجل مثل أعلى وغاية أسمى‪ ،‬وليس له أن يقيم إقامة الخالدين‪ .‬إنه يجب عليه أن‬
‫يكون مستعدا في كل حين لتحمل أعباء الرسالة في أي مكان‪ .‬وإل فإن إيمانه بال‬
‫وطلبه للعلم‪ ،‬وتحمله للمشاق ل يكون ذا جدوى‪.‬‬
‫اقتنع عبد الرحمن بهذه المبادئ‪ ،‬ووعى حقائقها واستقرت في ذهنه فمضى في‬
‫دراسته خمس سنوات كاملة في ذلك المعهد العظيم الذي انتج عقول وخرج فحول‬
‫وتكونت له أواصر صداقة وحبة وتفاهم مع بعض الزملء‪ ،‬واشترك معهم في التجاه‬
‫والتفكير والعمل‪ ،‬وبحثوا منهاج حياتهم وكفاحهم للمستقبل‪ ،‬ودرسوا الموطن الذي‬
‫سوف يركزون فيه نضالهم‪ ،‬ويبدأون منه انطلقهم‪ ،‬من اجل الحق وإعلء كلمة ال‪،‬‬
‫وتعاهدوا على إن يتآزروا ويتعاونوا ويعيشوا كتلة واحدة ما أمكنهم ذلك‪ .‬ولم يحاول‬
‫واحد منهم أن يدعو بقية الزملء إلى مواطنه ليتخذوا منه قاعدة إنطلق للكفاح فيكون‬
‫قد استغل عواطفهم ولكنهم درسوا موضوعهم على ضوء الحداث السياسية لذلك‬
‫الحين‪ ،‬واستقر رأيهم أن تكون طرابلس من بلد المغرب هي منطلق الدعوة مبدأ‬
‫الكفاح‪.‬‬
‫ولما تأكد المام العظيم من نضوج هؤلء الفتية في دينهم وأخلقهم وعقولهم أذن لهم‬
‫في السفر والبدء في المعركة الطويلة‪ ،‬لتثبيت دعائم الحكم السلمي‪ .‬فغن سهاما‬
‫كثيرة توجه إليه منها ما يصطبغ بلون السياسة‪ ،‬ومنها ما يصطبغ بلون العقيدة‪ ،‬ومنها‬
‫ما يصبغ بألوان أخرى على إنه وهو يوصيهم وصاياه الخيرة اخبرهم أن عبد‬
‫الرحمن بن رستم الفارسي قد بلغ درجة الجتهاد في العلم فيحق له أن يفتى بما سمع‬
‫منه وما لم يسمع ولم ير لغير عبد الرحمن من أفراد البعثة العلمية هذه الدرجة العلمية‬
‫فقد أوصى بعضهم أن يفتوا بما سمعوا بما سمعوا منه فقط أما البعض الخر فقد‬
‫أوصاهم أن ل يتقدموا للفتوى ل بما سمعوا ول بما لم يسمعوا‪ ،‬وقد أوصى المجموعة‬
‫إذا تمكنت من القيام بأمر المة أن تولى المامة لبي الخطاب عبد العلى بن السمح‬
‫المعافرى‪ .‬فهذا أقوى المجموعة شخصية وأصلبهم إرادة وأمضاهم عزيمة وأقدرهم‬
‫على قيادة الجماهير‪.‬‬
‫وتحقق رأى المام في المجموعة‪ ،‬قد بدأوا حياتهم في طرابلس وعرضوا المامة‬
‫على عبد الرحمن بن رستم فامتنع منها واحتج بوصية المام ابن عبيدة فبايعوا أبا‬
‫الخطاب إماما‪ ،‬وعندما فتح أبو الخطاب مدينة القيروان‪ ،‬وطرد منها ورفجومية‪،‬‬
‫ترك عليها عبد الرحمن بن رستم الفارسي واليا‪ .‬ومن أولى من عبد الرحمن بولية‬
‫القيروان وهو الذي نشأ فيها ودرس في معاهدها وشب في مغانيها‪.‬‬
‫قال أبو العباس الشماخي‪ » :‬ثم ارتحل من القيروان – أي أبو الخطاب – وولى عليها‬
‫عبد الرحمن بن رستم أحد حملة العلم من المشرق المتقدم ذكرهم‪ ،‬ورتب عبد‬
‫الرحمن العمال على مداين أفريقيا ونواحيها ‪ « .‬وسار عبد الرحمن في القيروان‬
‫سيره مؤمن يوجهه الدين القويم والعلم الغزير والضمير الحي‪ ،‬حتى تغلبت عليه‬
‫قوات الدولة العباسية وأخرجته من القيروان فارتحل إلى الجزائر حيث كان له هنالك‬
‫شأن سوف نتحدث عنه في الحلقة التية من الكتاب إن شاء ال‪.‬‬
‫أبو حاتم الملزوزي‬
‫أ بو حا ت اللزوزي هو المام الثالث الذي باي عه ال سلمون ف طرابلس‪ ،‬بي عة م ستقلة عن غي ها من‬

‫الدول الوجودة ف الشرق والغرب‪ ،‬وال سباب ال ت د عت الناس إل بي عة أ ب حا ت‪ ،‬هي ما ارتك به‬

‫جنود عمال العباسيي من الناكر‪ ،‬حت ضج الناس بالشكوى‪ ،‬واجتمعوا على أب حات‪ ،‬واجبوه أن‬

‫يقوم بأمسر المامسة‪ ،‬ليد عسن الناس‪ ،‬عدوان أولئك الذيسن ل يهذب السسلم أيديهسم والسسنتهم‪،‬‬

‫فا ستجاب ل م على شروط شرط ها علي هم‪ ،‬وقام بأمر هم‪ ،‬فطرد عمال الدولة العبا سية من طرابلس‪،‬‬

‫وا ستقل ب ا وأجرى في ها أحكام ال‪ ،‬و سار ب سية الهتد ين من أ مة م مد عل يه ال سلم‪ ،‬ح ت بلغ ته‬

‫الآ سي ال ت كا نت ت قع ف القيوان‪ ،‬وا ستنجد به الناس لر فع الظلم عن هم فج هز جي شا كثي فا وات ه‬

‫إليهم‪ .‬فمر بقابس‪ ،‬ث سار إل القيوان فحاصرها مدة طويلة حت لنت له وافتتحها‪.‬‬

‫وعندما انفتحت له أبواب القيروان‪ ،‬واستسلم الجند المحاربون‪ ،‬عمل أعظم عمل قام‬
‫به قائد حربي بعد النتصار‪ ،‬فقد عفا عن الجميع‪ ،‬والعفو عن الجميع بعد النتصار‬
‫حادثة قد يجد لها الباحث في التاريخ البشرى شبها‪ .‬لكن أبا حاتم زاد عن العفو فأطلق‬
‫سراح الجند الذين كانوا يقاتلونه بعد أن زودهم الزاد الضروري وسلحهم السلح‬
‫الذي يدفعون به عن أنفسهم العدوان الفردي من النسان أو الحيوان‪ .‬وأقام المام‬
‫بالقيروان مدة ليست بالطويلة‪ .‬بعدما رفع عن الناس ألوان الظلم‪ ،‬ورتب المور‪،‬‬
‫وأشاع المن والسلم‪ ،‬وأقام قواعد العدل‪ ،‬ثم انطلق راجعا إلى طرابلس مركز‬
‫المامة‪ ،‬ومقر الحكم‪.‬‬
‫قبل أن يصل المام إلى طرابلس‪ ،‬بلغه أن ثورة اندلعت في القيروان وأن حكما جديدا‬
‫قد انبعث فيها‪ .‬ذلك أن سكان القيروان أنفسهم أصبحوا بمعزل عن هذه الحركات‪ ،‬فهم‬
‫عندما تبدأ الحداث ل ينهضون لتأييد بعضها على بعض‪ ،‬وكل ما يرجونه أ‪ ،‬تنتهي‬
‫بسرعة على أي شكل من الشكال‪ ،‬فإن الظلم مع السلم‪ ،‬أفضل من الحروب وما‬
‫يجر من النكبات‪ .‬ولذلك فقد كانوا يقفون من تلك الحروب مواقف المتفرج‪ ،‬ينتظرون‬
‫نهايتها‪ ،‬ل يعنيهم شئ‪ .‬أما أولئك الذين نشأوا في حواشي المارات الظالمة‪ ،‬فإنه ل‬
‫يروق لهم‪ ،‬إن ينتشر العدل‪ ،‬ويسود حكم ال‪ ،‬لن في انتشار العدل‪ ،‬وتطبيق أحكام‬
‫ال‪ ،‬حرمانا لهم مما تعودوا أن يكسبوه بالباطل‪ .‬ولذلك فما اختفى أبو حاتم وجنده من‬
‫القيروان حتى اجتمع أولئك الذين ذاقوا حلوة الرغد‪ ،‬واستمرأوا طعم الظلم‪،‬‬
‫واعتادوا الحكم والسيطرة والمتعة‪ ،‬فقاموا بثورة يقلبون فيها نظام الحكم‪ ،‬ويردونه‬
‫إلى أسوأ مما كان عليه‪ ،‬وسمع أبو حاتم بالحركة فاضطر أن يعود من طرابلس إلى‬
‫القيروان ليقضي على هذه الحركة الجديدة‪ ،‬وليؤدب أولئك الذين يسعون في الرض‬
‫فسادا‪ .‬وقد تم له ما أراد‪ ،‬وارجع المور إلى نصابها وترك على القيروان جرير بن‬
‫مسعود المديوني‪ ،‬ولكنه ما كاد يتم ذلك‪ ،‬حتى بلغه أن جيوشا جرارة أقبلت من‬
‫المشرق تحت قيادة يزيد بن حاتم بن قبيصة‪ ،‬تريده فأسرع إلى لقائها‪.‬‬
‫فترة انتقالية‬

‫لقد كان أغلب سكان المملكة التونسية على المذهب الباضي‪ .‬يقول الستاذ محمد‬
‫المرزوقي نقل عن الستاذ لوفيسكى‪ » :‬إن هذا المذهب قد جاء إلى تونس من‬
‫طرابلس وانتشر انتشار واسعا في الشعوب البربرية بجهات جربة وجرجيس‬
‫وورغمة ومطماطة ونفزاوة والجريد‪ .‬ويقول في مكان أخر من الكتاب‪ » :‬وكان‬
‫سكان نفزاوة على المذهب الصفرى وتحولوا إلى الباضية في عهد المام عبد‬
‫الوهاب وبقي هذا المذهب هناك إلى القرن الحادي عشر م‪ .‬حيث كان في بلدة فطناسة‬
‫من نفزاوة وحدها أحد عشر مسجدا اباضيا‪ .‬وأما في الجريد فقد انتشرت الباضية في‬
‫زمن مبكر وكان لها قوة عتيدة خصوصا في أيام ازدهار مدينة ( درجين ) قرب‬
‫( نقطة ) وكان سكان درجين يعدون وحدهم نحو ثمانية عشر ألف فارس‪ ،‬وانتشرت‬
‫الوهبية بين توزر والحامة ‪ « .‬ويقول بعد كلم » فكان الباضية يؤمون نفس‬
‫المساجد التي يؤمها أهل السنة‪ ،‬ويملون تعاليمهم‪ ،‬ويناقشون تلميذهم‪ ،‬ويحدثنا مؤرخ‬
‫مغربي أن مفتيين على رأي المذهب الباضي كانا بالقيروان في النصف الثاني من‬
‫القرن التاسع م‪ .‬ودامت مدينة القيروان إلى القرن الحادي عشر م مثابة الباضيين‬
‫الواردين من مختلف بقاع المغرب لتعليم العربية وأدابها‪ .‬وكانت فروع من مزاته‬
‫وهوارة تسكن حصن القيروان وهي على المذهب الباضي من الوهبية في أيام بني‬
‫زيرى الصنهاجيين« ‪ .‬ويقول بع الكلم‪ » .‬ودخلت الباضية إلى جبل وسلت حيث‬
‫كانت معروفة إلى القرن الحادي عشر كما كان هذا المذهب موجودا بين سكان‬
‫زغوان من نفوسة أثناء هذه المدة‪«.‬‬

‫لقد كانت هذه البلد وغيرها من البلد التي يسكنها الباضية في تونس تابعة‬
‫للمامات في طرابلس تبعية فعلية كما هو الشأن في القيروان وقابس‪ ،‬أو تبعية محبة‬
‫وعطف وتأييد‪ ،‬فلما قتل أبو حاتم الملزوزي أخر الئمة في طرابلس انتقلت المامة‬
‫إلى الجزائر وبعد أن كانت طرابلس هي مركز المامة أصبحت تاهرت هي المركز‪.‬‬
‫وهكذا انتقلت تبعية أغلب سكان تونس ل سيما سكان الوسط والجنوب إلى تبعية‬
‫المامة في تاهرت‪.‬‬
‫حين كان عبد الرحمن بن رستم واليا على القيروان‪ ،‬وكانت الجيوش العباسية توالي‬
‫هجوماتها على إمامات طرابلس‪ .‬كان يفكر في اطلح مكان لقامة المامة‪ ،‬وكان فيما‬
‫يبدو قد استعرض الماكن المناسبة لذلك مكانا مكانا‪ ،‬فتحقق أن طرابلس ل تصلح‬
‫لقامة هذا البناء‪ ،‬فإنها ممر من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق‪ ،‬والممر‬
‫ل يمكن أن يستقر على حال‪ .‬أما القيروان التي أخرج منها عندما قتل المام أبو‬
‫الخطاب فهي الخرى ل تصلح أن تكون مركزا للمامة‪ ،‬لنها هدف العباسيين من‬
‫جهة‪ ،‬ومطمح طلب الحكم من جهة أخرى‪ ،‬بقي عليه أن يجتاز مكانا آخر في‬
‫الجنوب التونسي أو في جبل نفوسة أو في الجزائر واستقر عزمه أن يضار الجزائر‬
‫فهي أصلح مكان‪ ،‬لنها تتوسط المغرب السلمي ول‪،‬ه يجد فيها أنصارا وأعوانا‬
‫على مكافحة الظلم‪ ،‬والدعوة إلى القيام بأمر ال‪.‬‬
‫وسار عبد الرحمن من القيروان إلى الجزائر بين القرى والحياء من الباضية ل‬
‫يتعرض له أحد بسوء حتى وصل جبل سوفجج واجتمع عليه الناس يطالبونه بإقامة‬
‫المامة في الجزائر بعدما قتل آخر الئمة في طرابلس‪ .‬وهكذا اختيرت تاهرت لتكون‬
‫مركز المامة ومنذ قامت تاهرت كانت أغلبية المملكة التونسية في الجنوب والوسط‬
‫تابعة لهذه المامة وكان عمال الدولة الرستمية يقيمون أحكام ال في تلك البلد نيابة‬
‫عن الدولة الرستمية ولعل مركز الولة كان في قابس ونفزاوه وقفصة وغيرها من‬
‫البلد التونسية‪ .‬وقد استمر الجنوب والوسط التونسي تحت حكم الدولة الرستمية إلى‬
‫أن تغلبت عليها الدولة الشيعية فخربت تاهرت وانقرضت المامة من هنالك‬
‫فأصبحت هذه البلد في بادئ أمرها شبه مستقلة يدير شؤونها مشائخ العلم من أهلها‬
‫ثم خضعت للدولة المتغلبة على أفريقيا‪ ،‬أعنى أن هذه البلد التي يسكنها الباضية في‬
‫ذلك الحين‪ ،‬أصبحت بعد انقراض الدولة الرستمية غير تابعة لدولة ماو لكنها في نفس‬
‫الوقت لم تؤسس دولة أو دول أو إنما كان أمرها يرجع أول المر إلى كبار مشائخ‬
‫العلم ثم فيما بعد إلى مشائخ العزابة إلى أن أنقرض الباضية في بعض تلك البلد أو‬
‫انحل مجلس العزابة – من بعض الجزاء والحقيقة أن الدول التي قامت في القيروان‬
‫أو في المهدية أو في غيرها سرعان ما وجهت حملتها الشديدة على الباضية على‬
‫الباضية‪ ،‬وحاربتهم محاربة ل هوادة فيها وحاول بعض الملوك أن يحملوا الناس‬
‫على أتباع مذهب الحاكم‪ ،‬وقد ارتكبت من أجل ذلك فظائع ومآسي كان لها أسوأ الثر‬
‫في تلك الجهات وقد اتخذ بعض الملوك قضية المذهبية وسيلة لبتزاز الموال‪،‬‬
‫والنتقام من الخصوم وعندما ل تتوفر لهم قضية المذهبية يتخذون وسيلة لذلك قضية‬
‫عنصرية أو أي سبب كما وقع في درجين وقصطالية بمختلف مدنها وجربة وقابس‬
‫وغيرها من البلد التي ل تنفك توجه إليها الضربات لسبب مختلف في كثير من‬
‫الحيان‪ .‬وسوف نستعرض صورا من ذلك أثناء الكتاب‪.‬‬

‫أبو القاسم يزيد بن مخلد‬


‫نشأ أبو القاسم يزيد بن مخلد اليهراسني في وسط القطر التونسي فقد ولد في الحامة‪،‬‬
‫تلك البلدة الجميلة الغنية بمناظرها الطبيعية الشهيرة بأنواع من أجود الفاكهة والثمار‪،‬‬
‫وقد أصبحت اليوم منتزها يقصدها الناس للسياحة والستشفاء بمياهها المعدنية‬
‫المتدفقة باستمرار‪ .‬ورغم إن الحامة لم تجد من الدول التونسية وسياحتها ما وجدته‬
‫قربص‪ ،‬إل إنها ل تقل عنها وعن غيرها من الحمامات زوارا ‪ .‬تلك الحمامات التي‬
‫يؤمها الناس للستراحة والستجمام واستشفاء‪ .‬في هذه المدينة أو القرية التي تقع‬
‫قرب قابس من جهة الغرب‪ ،‬والتي كانت في يوم من اليام نقطة تجمع وارتكاز‬
‫للباضية‪ .‬في هذه المدينة أو القرية تكون الرجل العظيم أبو القاسم يزيد بن مخلد‪ ،‬وقد‬
‫بدأ عهد طفولته في الدراسة حتى ظهر على جميع القران وتفوق على كل الزملء‪،‬‬
‫وتيسرت له سبل الحياة فاجتمع لديه من المال ما جعل مركزه في المقدمة بين‬
‫المؤمنين الغنياء‪ .‬وأوتى من الذكاء واللمعية‪ ،‬وطهارة السريرة‪ ،‬وشجاعة القلب‪،‬‬
‫وقوة الرادة وصدق العزيمة‪ ،‬ما ل يتحلى به إل القليل من الناس في قليل من‬
‫الزمنة‪ .‬درس علم الكلم على علمة زمانه حسنون أما بقية العلوم فقد درسها على‬
‫العلمة الكبير أبى الربيع سليمان بن زرقون‪ .‬وبلغ في العلوم شاوا سبق به أساتذته‬
‫فاعتبر من كبار الئمة الذين بلغوا درجة الجتهاد وحسب من الئمة العشرة‬
‫المجتهدين الذين أتي كل واحد منهم بأقوال‪.‬‬
‫سافر من الحامة إلى سجلماسة للدراسة‪ .‬وامضي هنالك فترة صالحة من شبابه في‬
‫الكفاح من أجل المعرفة‪ ،‬ولما رجع بعد أن بلغ ما بلغ‪ ،‬اتجهت اليه النظار‪ ،‬ورافقه‬
‫المام أبو خرز يغل بن أيوب فكانا يدرسا الكتب مجتمعين وفي أكثر الحيان كان أبو‬
‫القاسم يقرأ‪ ،‬وأبو خرز يستمع‪ ،‬وقد يقوم أبو خرز لشأن من شئوونه فيمضي أبو‬
‫القاسم في القراءة‪ ،‬فإذا رجع أبو خزر رجع أبو القاسم فأعاد قراءة ما قرأه بع أبي‬
‫خرز ويقول له لي مرتان ولك مرة واحدة‪ .‬ثم يستمر في القراءة‪.‬‬
‫كان أبو القاسم من علماء الطبقة السابعة يعني النصف الول من القرن الرابع في‬
‫أواخر عهد الدولة العبيدية وفي عهد أعظم ملوكها المعز لدين ال الفاطمي وكان‬
‫أعظم شخصية أباضية في ذلك العصر‪ ،‬تلتف حوله الجموع‪ ،‬ويستجيب له الناس‪،‬‬
‫وينزلونه منزلة المام‪ ،‬وكان موطنه كما أسلفت نقطة ارتكاز يتوسط الماكن العمرة‬
‫الباضية‪ ،‬وكان كثير من الناس يعتقد أنه يعمل للقضاء على الدولة الفاطمية‪ ،‬ويحذر‬
‫منه اتباعهم‪ ،‬ويرفعون فيه الوشايات إلى المعز لدين ال‪ .‬وعندما أكثر الناس الحديث‬
‫عن أبي القاسم ومطامحه في مجلس المعز اشتاق أن يراه فبعث إليه وحادثه وناقشه‬
‫في كثير من المور‪ .‬وعقد له مجالس المناظرة‪ ،‬فأعجب به كل العجاب‪ ،‬حتى قال‬
‫فيه كلمته المشهورة لما سئل عنه وعن زميله أبي خزر وأبي نوح ( أبو القاسم لم تلد‬
‫العرب مثله‪ ،‬وأبو خرز عالم ورع‪ ،‬وأبو نوح فتى مجادل)‪.‬‬
‫وكان المعز يطلب من أبي القاسم أن يحضر مجالسه ويستشيرهن ويحترمه ويأخذ‬
‫برأيه وبلغ عنده منزلة كبرى‪ .‬ل يرد له طلبا حتى أن أبا تميم غضب مرة على أهل‬
‫الحامة‪ ،‬فبعث فرقة من الجيش ل تزال العقاب بها وزود الفرقة برايته الحمراء التي‬
‫يسميها راية السخط دللة على الغضب وإرادة النتقام‪ ،‬فسمع أبو القاسم بذلك فجاء‬
‫إلى المعز وطلب منه أن يرجع عن عزمه ذلك‪ ،‬فاستجاب الملك الكبير لطلب العالم‬
‫الكبير وسلم إليه الراية البيضاء التي تدل على الرضا‪ ،‬وقال له الحق بالجيش قبل أن‬
‫يصل إلى البلد فينفذ المر‪ ،‬وأخذ أبو القاسم الراية ولحق بالجند قبل أن يصلوا إلى‬
‫الحامة بمسافة قريبة فسلم إليهم الراية البيضاء وبلغهم أوامر الملك بالعدول عما عزم‬
‫عليه‪ ،‬ورجع الجند بعد أن كادوا ينزلون بالناس البرياء ألوانا من العذاب‪ .‬وكان أبو‬
‫القاسم يظهر في مجلس المعز بمظهر المؤمن المعتز بإيمانه القوي في شخصيته ل‬
‫يتملقه ول يتصاغر له ول يخاطبه بغير ما يخاطب به الفرد العادي من المسلمين‬
‫ولذلك فقد كان المعز يحترمه وكان الحواشي والتباع ل يستطيعون أن ينطقوا‬
‫بحضوره فإذا غاب سلقوه بالسنة حداد‪.‬‬
‫كان يوما في مجلس المعز وطلب منه أن يريه سيف رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ذا الفقار وكبر على المعز أن يرد طلب أبي القاسم فقام وأحضر السيف الكريم وسلمه‬
‫لبى القاسم فقلبه بين يديه ثم سله من غمده وهزه ثم أعاده في غمده وأرجعه إلى‬
‫صاحبه قال المعز » لم آمنه على نفسي حين سل السيف حتى أرجعه إلي‪« .‬‬
‫قال أبو إسحاق طفيش رحمه ال ورضي عنه‪ » .‬ولكن وزراء المعز كانوا يحفظونه‬
‫على أبي القاسم حسدا من عقد أنفسهم من بعد ما تبين لهم مكانتهم لدى ملكهم‪،‬‬
‫وتقديمه عليهم فاتهموه بمحاولة الستلل عن المعز‪ ،‬وما أشد هؤلء الظلمة أنصاتا‬
‫للحواشي في هذا الباب‪ ،‬وما أٍرعهم شكا في صدق المخلص البريء‪ ،‬مع رأوا من‬
‫جلل الرجل ومكانته‪ ،‬فقد لفقوا عليه تهمة الستقلل ودبروا له مكيدة النفصال عن‬
‫مملكة المعز بقومه‪ ،‬وله من القوة والنفوذ ما يبلغه ذلك لو شاء‪ ،‬حتى تخوف المعز‬
‫من أبي القاسم‪ ،‬وعمرت نفسه بذلك فكتب إلى عامله بالحامة يأمره بقتل أبي القاسم‬
‫اغتيال‪« .‬‬
‫وتقول كتب التاريخ أن عامل المعز على الحامة‪ ،‬كان من أصدقاء أبي القاسم‪،‬‬
‫والمعجبين به‪ ،‬وكان يرى أن قتل مثل هذا الرجل العظيم خسارة‪ ،‬ولذلك فقد حاول أن‬
‫يجد له سبيل إلى النجاة فاقترح عليه أن يحج‪ ،‬فلم يوافق أبو القاسم وقال له لقد‬
‫حججت‪ ،‬فقال العامل أنكم معشر الباضية تكثرون من الحج‪ ،‬فقال أبو القاسم » ليس‬
‫ل على أن أحج مرتين « فاقترح عليه أن يقوم بجولة لزيارة الخوان في جبل نفوسه‬
‫فلم يواف‪ ،‬فاقترح عليه أن يزور الخوان في وارجلن فأصر أبو القاسم على البقاء‪،‬‬
‫وقال له‪ ،‬ل أخرج وأنا حي لقد بذل العامل ما في وسعه ليجد سبيل ينجو به أبو القاسم‬
‫من القتل أو أن يقتل على يد غير يده‪ .‬ولكن أبا القاسم الذي فهم ما يريده العامل‬
‫الصديق‪ ،‬لم يرد أن يفر‪ ،‬فهو رجل لم يرتكب إثما‪ ،‬ولم يقم بأي عمل يستحق عليه‬
‫غضب السلطان‪ ،‬فإذا شاء هذا السلطان أن يلطخ يديه بدم بريء فما أحوج أبا القاسم‬
‫إلى الشهادة‪ ،‬وحين تحقق العامل أن أبا القاسم مصر على البقاء‪ ،‬مهما كانت‬
‫الظروف‪ ،‬وإنه ل يريد أن يخرج من بلده‪ ،‬ليعيش عيشه اللجئين‪ .‬أراد يبدى له عذره‬
‫في موقفه الذي سيقفه منه‪ ،‬فأراه ثلث رسائل من السلطان يأمر فيها بقتله‪ ،‬وفي‬
‫الخيرة منها يقول له ‪ :‬أما رأس أبي القاسم وأما رأسك‪.‬‬
‫عرف أبو القاسم أن هذه الساعة في آخر ما بقي له في الحياة فطلب إلى العامل أن‬
‫يمهله مقدار ما يصلي ركعتين وبعد أن ختم أعماله المجيده بأفضل ما يتقرب به‬
‫المؤمن إلى ربه استعد للحصول على الشهادة‪ ،‬وتوارى العامل حين دخل الجند لتنفيذ‬
‫أوامر السلطان فاستقبلهم أبو القاسم استقبال العزل للشجاع واستطاع أن يتغلب على‬
‫الدفعة الولى ويستخلص منهم سلحا ووقعت بينه وبينهم معركة حامية سقط فيها‬
‫عدد ن القتلى والجرحى ثم تغلبت الكثيرة واستشهد أبو القاسم في دار العامل رحمه‬
‫ال ورضى عنه‪.‬‬
‫وكان السلطان يعرف أن هذه الحادثة ل يمكن أن تذهب دون أن يكون لها آثار‪ ،‬وكان‬
‫يعتقد أن العلمة أبا محمد ويسلن تلميذ أبي القاسم هو الشخصية التي سوف تتحرك‬
‫وتقود الجماهير فألقى عليه القبض وأودعه السجن‪.‬‬
‫وبلغ مقتل أبي القاسم مبلغا كبيرا في نفوس جميع الذين يعرفونه من الباضية‬
‫وغيرهم ولذلك فما سمع الناس به حتى تحركوا للثورة‪.‬‬
‫وقامت ثورة واسعة النطاق وهددت دولة السلطان الظالم وكادت تقوض أركانه‪،‬‬
‫وخشى هو عاقبة عمله فكان يرسل إلى القائمين بالثورة يتنازل لهم عن بعض‬
‫الجهات من المملكة ليقيموا بها دولة‪ .‬ولكن الثائرين الذين كان يقودهم أبو خرز لم‬
‫يكونوا طلب دولة‪ ،‬أو راغبين في الوصول إلى الحكم‪ ،‬ولكنهم كانوا يريدون أن‬
‫يقف هذا الظلم عن الناس‪ ،‬وأن يتذكر السلطان أنه حين منح الحكم إنما أخذه بأمانة‬
‫ال وحقه على أن يرعى حقوق الناس وأن يحفظ منهم ولهم ما حفظته الشريعة‬
‫القومية‪ ،‬وكأنما كانت هذه الثورة لتي قادها أبو خزر بسبب مقتل أبي القاسم واعتقال‬
‫أبي محمد بداية تجرأ بها الناس على السلطان الواسع النفوذ فتبعتها ثورات متلحقات‬
‫بمختلف المقاصد والنوايا حتى قضت على الدولة على الدولة التي لم يحترم سلطينها‬
‫حقوق الناس‪ ،‬ولم يحافظوا على أحكام ال‪.‬‬
‫كان أبو القاسم غنيا ذا مال كثير‪ ،‬وكان ينفق إنفاق من يغرف من بحر‪ ،‬حتى ذهب‬
‫العذال إلى أبيه يقولون له أن ابنك هذا ل شك مجنون‪ ،‬فهو يعلم ويطعم ويعطي فوق‬
‫ذلك من أمواله الشيء الكثير‪ .‬انه لم يكتف بأن يعلم مجانا ل يتقاضى عن مجهوده‬
‫العملي شيئا حتى كان ينفق على طلبه ما يحتاجون إليه من غذاء وكساء‪ ،‬ثم هو ل‬
‫يقتصر على هذا المجهود العظيم في التعليم والطعام‪ ،‬حتى يبذل لهم ولغيرهم من‬
‫المحتاجين ما يرومون من أموال‪ .‬ولقد كان أبو القاسم بمنزلة المام للباضية وكانت‬
‫مدارسه عامرة بمجموع من الطلبة من مختلف الجهات‪.‬‬

‫بعد أن أتم دراسته واستعد للحياة التي يحياها الناس‪ ،‬وأخذ من العلم ما يفتح أمامه‬
‫أفاق المعرفة فكر في الزواج‪ ،‬وبحث عن امرأة تجمع بين الخصال التي يطلبها أمثاله‬
‫من خلق ودين وعلم فوجدها في فتاة من أسرة كريمة كانت تسمى الغاية لها من‬
‫الجمال والخلق والدين والعلم ما يرشحها لن تكون زوجة له فخلبها من أهلها وزفت‬
‫إليه فكانت في بيته مرجعا للمؤمنات ومرشدة هادية للفتيات وقدوة صالحة للمقتديات‬
‫الصالحات وعندما توفي أبو القاسم بقيت الغاية مقصدا لطلب العلم والدين والخلق‬
‫القويم وكان العلماء والمشائخ يزورونها ويستشيرونها ويستفتونها ويرجعون في كثير‬
‫من الحيان إلى رأيها وكثيرا ما يلجأ إليها عالم من كبار العلماء في معضلة من‬
‫معضلت علم الفقه أو علم الكلم فيقول لها ماذا كان رأي أبي القاسم أو ماذا حفظت‬
‫عن أبي القاسم في كذا وكذا فتجيبه بما حفظت عن زوجها‪.‬‬
‫كان أبو القاسم يحدث طلبه يوما ويحرضهم على الدراسة وينصحهم بالبتعاد عن‬
‫كل ما يشغلهم عن التعليم فقال لهم لن يبلغني موت الطالب خير من أن يبلغني‬
‫تزوجه‪ ،‬وكانت الغاية تستمع إليه من وراء ستار فقالت له‪ :‬لماذا تزوجت إذن؟ فقال‬
‫لها لو علمت مسألة ليست عندي لشددت إليها الرحال‪ .‬يعني وتركتك أيتها الزوجة‬
‫المحبوبة‪.‬‬
‫يبدو إنه تزوج من الغاية بعد سنة من بلوغها فكانت تحضر دروسه من وراء ستار‬
‫وسمعته يقول لطلبه أن من يقرأ سرا في صلته ول يحرك شفتيه فإن صلته باطلة‪،‬‬
‫فأعادت صلة السنة كاملة لنها كانت تكيف ول تحرك شفتيها في قراءة السر‪.‬‬
‫هذه جوانب من حياة هذا المام العظيم أضعها بين يدي القارئ الكريم دون تنسيق أو‬
‫ترتيب ليراها على وجهها الطبيعي الذي كانت عليه فإن كل ما أريد أن أعرضه إنما‬
‫هو صور من حياة المة المسلمة المتمثلة في حياة الفراد أو الجماعات‪.‬‬

‫أبو خزر يغل بن أيوب‬


‫أبو خزر يغل بن أيوب اشتهر بابن زلتاف وزلتاف اسم أمة‪ ،‬مواطنة الحامة‪،‬‬
‫وعصره القرن الرابع‪ ،‬وزميله واستاذه أبو القاسم يزيد بن مخلد‪ ،‬وقد بلغ في العلم‬
‫درجة الجتهاد‪ ،‬وانفرد بأراء في علم الكلم‪ ،‬اعتبر من اجلها إماما‪.‬‬
‫عاش أبو خزر في الفترة المضطربة الهائجة من القرن الرابع‪ ،‬فقد جمح السلطان‬
‫بالمعز لدين ال الفاطمي فاستحل لتوطيد ملكه دماء الناس وأموالهم‪ ،‬واستغل الخلف‬
‫المذهبي لذلك ابشع استغلل‪ ،‬وأطلق أيدي الجند والعامة ترتكب ما تشاء من المناكر‬
‫في كل مخالف لمذهب السلطان‪ .‬وأصاب الباضية من هذا البلء والذى كثير مثلما‬
‫أصاب غيرهم من الفرق السلمية الخرى‪.‬‬
‫وكان العامة يهيجون ويتهيئون للثورة ولكن المامين أبا القاسم وأبا خزر يهدئانهم‬
‫ويدعوانهم إلى السكينة والعتصام بالصبر فلما تجرأ المعز وقتل أبا القاسم يزيد بن‬
‫مخلد نفذ صبرا أبي خزر ودعا إلى الثورة غير أن كثيرا من العلماء كانوا غير‬
‫موافقين على اتخاذ هذه الخطوة‪ ،‬من هؤلء أبو محمد ويسلن وأبو صالح اليهراسني‬
‫وكان هذا الفريق من العلماء يرون أن الصبر على الظلم أهون من الحرب وأقل شرا‪.‬‬
‫لكن أبا خزر صمم‪ ،‬وصمم معه المتحمسون من الشباب‪ .‬وقد درس الموضوع واتخذ‬
‫الخطوات التي رآها لزمة لبدء الثورة فبعث أبا نوح سعيد بن زنغيل إلى جبل نفوسة‬
‫وجربة‪ ،‬فاستشارهم وطلب مهم المساعدة فأجابه أهل الجبل بأنهم مهددون كل يوم‬
‫بالفتن والحروب‪ ،‬ولكنهم مع ذلك سيقفون معهم إذا تم لهم القيام ووعده أهل جربة‬
‫بأنهم على استعداد‪ .‬وبعث أبا محمد جمال إلى بلد الزاب واريغ ووارجلن فتحمس‬
‫القوم وجمعوا عدتهم وعددهم وبدأوا الثورة من فورهم‪.‬‬
‫كان العلماء والعيان قد بايعوا أبا خزر إمام دفاع فلما سمع المعز لدين ال بذلك‬
‫وإن أبا خزر بدأ يستعد للقيام بثورة شاملة فبعث إلى الجيل وجربة ووادي أريغ‬
‫والزاب ووارجلن وإنه أرسل إلى الدولة الموية في الندلس يطلب منها النجدة‬
‫والمساعدة‪ .‬لماس مع المعز الفاطمي بهذه الحركة خشي أن تقضى عليه فبعث إلى‬
‫خزر يعرض عليه صلحا وذلك بأن يتخلى له عن مواطن الباضية من بلد الجريد‬
‫وجبال دمر وجربة‪ .‬وهم أبو خزر أن يقبل هذا الصلح ويوافق عليه ولكن المتحمسين‬
‫ممن كان معه لم يرضهم ذلك إنهم يريدون القضاء على الدولة العبيدية التي ارتكبت‬
‫فيهم أقبح أنواع الظلم ولكي ل يتركوا مجال للصلح بدأوا المناوشات الحربية وهجم‬
‫أهل وارجلن ومن معهم قبل أن تنظم الصفوف وتتوحد القيادة‪ ،‬ووجدها المعز‬
‫فرصة ذهبية لخماد هذه الثورة فقد استطاع أن يغري بعض القادة بالرشاوى وإن‬
‫يوجه ضربة قاسية إلى مبدأ الثورة فأثخن في القتل وتفرقت الجموع التي كانت تتهيأ‬
‫للثورة‪ .‬وطارد المعز أنصار الثورة في كل مكان فتنكر أبو نوح في ثياب راعي إبل‬
‫حتى وقعت عليه أعين الجند فحملوه إلى السلطان وهرب أبو خزر إلى المعقل‬
‫الحصين جبل نفوسه فبقي فيه أن أرسل إليه المعز بالمان فقدم عليه‪.‬‬
‫أخذ أبو خزر العلم عن العلمة الكبير أبي الربيع سليمان بن زرقون‪ ،‬وكانت تربطه‬
‫بالمام أبي القاسم أمتن روابط الصداقة والمحبة والعجاب‪ ،‬وقد كان يقتدي به في‬
‫سلوكه وأخلقه‪ ،‬ويساعده في أعماله‪ ،‬وينوب عنه في أداء واجباته‪ ،‬ويرافقه في‬
‫دراسته الطويلة‪ ،‬وبلغ في العلم والزهد مرتبة شهد له بها جميع الناس حتى قال عنه‬
‫المعز لدين ال الفاطمي » أنه رجل علم وورع « كان أبو القاسم يقوم عند الباضية‬
‫مقام المام يتولى فصل المشاكل‪ .‬وفض المنازعات‪ ،‬والرشاد إلى أقوم الطرق‪،‬‬
‫والشراف على مصالح الناس الجتماعية‪ ،‬والصلة بهم‪ ،‬فإذا غاب قام أبو خزر بتلك‬
‫المهمات فهو له بمثابة الوزير‪ .‬وقد ذكر المؤرخون أن أبا القاسم تأخر عن حضور‬
‫الصلة في المسجد في يوم من اليام فأقيمت الصلة‪ .‬وتقدم أبو خزر ليؤم الناس‬
‫فأحس بحضور أبي القاسم فتأخر وترك له المحراب والمامة‪.‬‬

‫قلت في أول الفصل أن أبا خزر دعا إلى الثورة حين قتل أبو القاسم واستجاب له‬
‫الناس وبايعوه إمام دفاع ولكن هذه الثورة فشلت بسبب التسرع فهرب أبو خزر إلى‬
‫جبل نفوسه واعتصم به وحاول المعز بن باديس أن يصل إليه فلم يستطع وكان‬
‫الرجل يخشى أن يستعد أبو خزر من جديد وينظم صفوفه وإن يجعل مركز انطلقه‬
‫ذلك الجبل الشم الحصين وكان حريا أن ينجح في ثورته لو فعل ذلك ولذلك فقد كان‬
‫مشغول بهذا المر ولما لم يستطيع أن يصل بطريق القوة فكر في طريقة أخرى‬
‫أقرب إلى تحقيق ما يريد من الحيلولة دون قيام ثورة أباضية أخرى نبعث من مكان‬
‫حصين برجاله وجباله‪ .‬يقول أبو إسحاق طفيش رحمه ال ورضى عنه‪ » .‬فالتجأ إلى‬
‫جبل نفوسة فظل فيه معتصما من المعز حتى أرسل إليه والي كل القبائل التي كانت‬
‫معه بعهد المان‪ ،‬فطلبه إليه‪ ،‬فقدم عليه‪ ،‬فأكرم وفادته‪«.‬‬
‫لقد علم المعز بن باديس إنه أخطأ في قتله أبا القاسم وإن هذه الثورة التي كان في‬
‫غنى عنها إنما قامت بسبب ذلك الخطأ ولذلك فقد غير سياسة العنف إلى سياسة اللين‬
‫فأطلق سراح أبي محمد ويسلن وعفا عن أبي نوح وأعلن المان والعفو عن أبي‬
‫خزر وجميع أتباعه في كل مواطنهم‪ ،‬وهذأ الناس والقوا بالسلح واطمأن أبو خزر‬
‫فرجع إلى موطنه الحامة ودعاه إليه المعز أبو تميم وأكرم وفادته وأظهر احترامه‬
‫ورفعه فوق مرتبة من كان يحضره من العلماء‪ .‬لقد كان المعز يخشى أبا خزر أن‬
‫قتله أو أطلقه ولذلك فقد أراد أن يقيده بالحسان وكان يعلم أ فشل الثورة السابقة إنما‬
‫كان صدفة بسبب التسرع‪ .‬وكان السلطان الكبير ينوي النتقال إلى القاهرة ويعد نفسه‬
‫لذلك وكان يعلم إنه إذا بقى أمثال أبي خزر وأرادوا قلب نظام الحكم من بعده فإن ذلك‬
‫سوف يكون شيئا يسيرا عليهم‪ ،‬في غياب السلطان وأكثر رجال الدولة‪ .‬ولذلك فعندما‬
‫عزم على الرحيل دعا إليه المامين أبا خزر وأبا نوح وأخبرهما إنه منتقل إلى مصر‬
‫ليتخذ القاهرة مقرا للحكم‪ ،‬وإنه في مسيرة هذا لغنى له عن كبار العلماء‪ ،‬ليجل بهم‬
‫مجلسه ويرجع إليهم في مشاكله وشوراه‪ ،‬ويدفع بهم سورة الجدال والمناظرة‪ .‬فوافق‬
‫أبو خزر أما أبو نوح فتمارض عندما بدأ السلطان بالحيل‪ .‬واكتفى المعز بأبي خزر‬
‫فانه الرجل التي تحتل شخصيته أكبر مقام في البلد‪ ،‬وتسمع كلمته دون مراجعة‪،‬‬
‫وإن الناس ل يقدمون بأي خلف على الحكومة في غيابه لنهم يعرفون إنه ما أخذ إل‬
‫رهينة فلو قام اتباعه بشيء لو صل إليه الذى حتى وهو في ديار الغربة‪ .‬وأمن المعز‬
‫جانب الباضية بعد موافقة أبي خزر على الرحيل ودخل أبو خزر فعل إلى مصر‬
‫وعاش هنالك عيشه رغد وهناء وكان يتمنى من حين إلى حين لو أتيح له عدد من‬
‫الطلبة الذكياء ليعلمهم ويربيهم وينفق عليهم مما أتاه ال ولكني أحسب أن هذه المنية‬
‫لم تتحقق له‪.‬‬
‫أما السلطان الذي كان يخشى على ملكه في أفريقية وكان يفكر للمحافظة عليه الليالي‬
‫الطوال‪ ،‬ويعمل لترسيخ دعائمه بكل الوسائل حتى كان يوصي خليفته على أفريقية‬
‫وهو يودعه أغرب وصية يوصي بها مسلم يتولى الحكم باسم السلم‪ .‬فقد كان يقول‬
‫لخليفته على أفريقية بلكين بن زيرى الصنهاجي‪ ،‬ل ترفع السيف عن البربر‪ ،‬ول‬
‫ترفع الجباية عن أهل البادية‪ ،‬ول تول أحد من أهل بيتك وال وحده يعلم ما هو‬
‫الجواب الذي أعده المعز ليوم الحساب حين يسأل‪ :‬بماذا أستحل دماء البربر‪ ،‬وأموال‬
‫أهل البادية‪ ،‬أما هذا السلطان فقد شاءت إرادة ال أن ل يبقى ملك دولتهم بعدهم إل‬
‫قليل ثم يقلبه عليهم من وثقوا به وسلموه إليه فنقض المعز بن باديس بيعتهم والحق‬
‫دولته بالدولة العباسية بالعراق والملك ل وحده‪.‬‬

‫أبو الخطاب وسيل بن سنتين‬

‫قمة من قمم العلم الشامخة‪ ،‬وطود من اطواد اليمان الراسخة‪ ،‬يسكن ريصوا ولكنه‬
‫كان ينتقل في الجنوب التونسي من بلد إلى بلد‪ ،‬يدعو إلى المحافظة على دين ال‬
‫دعوة المؤمنين المخلصين‪ ،‬ينفي عنه عبث الجاهلين‪ ،‬ويحارب بدع المبتدعين‪ ،‬ويرد‬
‫كيد الضالين‪ ،‬ويحكم بما أنزل ال عن المتخاصمين‪ ،‬إنه أحد أولئك العمالقة العظام‪،‬‬
‫الذين يكافحون في سبيل ال بكل الوسائل التي وضعتها إرادة ال في يديه‪ ،‬يأمر‬
‫بالمعروف‪ ،‬وينهي عن المنكر‪ ،‬ويبين سبل الهداية‪ ،‬ويلقى الدروس‪ ،‬ويجيب عن‬
‫الفتوى‪ ،‬ويدعو إلى الستمساك بحبل ال المتين‪ ،‬ولكنه كان في دعوته‪ ،‬وفي أمره‬
‫ونهيه‪ ،‬وفي دروسه وتوجيهاته‪ ،‬وفي جميع مواقفه – لين الجانب‪ ،‬سهل الخلق‪،‬‬
‫يتحمل ويتجمل‪ ،‬ويرد بسهولة ويسر على من ينتقده بغير حق‪ ،‬ويذعن ويستجيب لمن‬
‫ينتقده بحق‪ ،‬ويحاول أن يرد إلى الصواب بحياء ورفق من يعترض أحكام ال‬
‫وينحرف عن سبيل المؤمنين‪ .‬ويقصر نقده على مواضيع النقد‪ ،‬ول يتجاوزها إلى‬
‫الجوانب الشخصية‪ ،‬يتقبل العتاب ويفرج له‪ .‬كان مستقرا في ريصوا وفي البلد‬
‫الصغير كان عدد من الطوائف السلمية فاجتمعت تلك الطوائف على أن تتولى كل‬
‫فرقة منها شأنا من الشئون الدينية أو الجتماعية فاسند إلى بعضها أمامه الصلة‬
‫واسند إلى البعض الخر الذان في المساجد أما الباضية فقد اسند إليهم القضاء‬
‫والحكام وكان أبو الخطاب هو الذي يتولى ذلك على جميع الفرق وكانت تلك الفرق‬
‫تعيش في انسجام ووئام‪.‬‬
‫وكانت ريصوا كبقية الجنوب التونسي تابعة للدولة الرستمية وحين انحرف اليقظان‬
‫عن سبيل المؤمنين‪ ،‬وخالف السيرة التي سار عليه أسلفه في الدولة الرستمية‬
‫فخولت له نفسه أن يتوصل إلى مركز الحكم بالطرق التي يتبعها الظالمون فعمل على‬
‫اغتيال المام ليقوم هو مقامة سخط عليه الناس وحكم عليه المسلمون بالبراءة‬
‫وانتقدوه في كل مجمع‪ ،‬وتجنوه وتجنبوا مساعدته والعمل تحت حكمه‪ ،‬ودعا كثير‬
‫منهم إلى القتصاص منه‪ ،‬أما أبو الخطاب فرغم إنه يوافق المة على النقمة من‬
‫اليقظان‪ ،‬والحكم بالبراءة منه‪ ،‬إل إنه كان ل يريد الخروج عليه ول يدعو إلى الثورة‪،‬‬
‫بل كان يحاول أن يهدئ الناس‪ ،‬وإن يروضهم على الطاعة وإن يجمع كلمتهم‪ ،‬ويوحد‬
‫صفهم‪ .‬لنه كان يرى‪ -‬كما يرى كثير من علماء المة – إن الحكم القائم وإن كان‬
‫ظالما أهون من الفتنة والحرب‪ ،‬ولذلك فقد كان يلتزم ببيعة اليقظان آمل أن يتصلح‬
‫اليقظان أو إن يتغير الحكم تغيرا طبيعيا فيؤول إلى إمام يقوم بأمر ال‪ .‬وتضافرت‬
‫السباب الداخلية والخارجية على اليقظان‪ ،‬فادت إلى قتله‪ ،‬وإلى انقراض الدولة‬
‫الرستمية ووقع ما كان يخشاه أبو الخطاب ويحذر منه‪ .‬استولت الدولة الفاطمية على‬
‫أكثر الجهات التي كانت تابعة للدولة الرستمية كما إنها استولت على مملكة الغالبة‬
‫وفرضت الضرائب غير العادلة على الناس فكان أبو الخطاب يجمع المقادير‬
‫المقروضة من الناس ويسلمها لعوان الحكومة الظالمة فبعث إليه علماء جبل نفوسة‬
‫ينتقدون عليه عدة أمور ويطلبون منه إيضاح موقفه منها‪:‬‬
‫‪.1‬التزامه المر لليقظان‪.‬‬
‫‪.2‬تغريمه للرامل واليتامى‪.‬‬
‫ولما بلغ ما يطلب منه إخوانه من جبل نفوسة بكى وقال الحمد ل الذي جعل لي‬
‫أخوانا يعاتبونني على ما بلغهم من التقصير قبل يوم القيامة‪ .‬ثم أوضح لهم موقفه‬
‫ووجهة نظره فأبان أن تغريمة للرمل واليتامى‪ ،‬وجمعه الموال من الضعفاء‬
‫والفقراء وتقديمه لعوان الدولة الظالمة إنما هو مداراة عليهم ودفع للذى عنهم ورد‬
‫لما يرتكبه الظالمون مع من ل يبادر إلى إحضار ما يفرض عليه من الضرائب‪ ،‬فهو‬
‫بجمعه للموال من الناس وتقديمها إلى أعوان الدولة إنما يوفر عليهم العنت والهانة‬
‫والتعذيب والمبالغة في العقوبة‪ ،‬وكأنه في ذلك يستند إلى القاعدة العامة التي وضعها‬
‫بعض علماء السلم إسنادا إلى الشريعة السمحة » على العام أن ينظر للجاهل‬
‫ويتحرى له مصلحته في الدنيا والخرة « أما في التزامه احتسابا ل ل ليقظان فقد قال‬
‫لهم‪ » :‬والتزامي المر ليقظان إنما التزامه احتسابا ل ل ليقظان‪« .‬فهو لم يكن ينظر‬
‫إلى شخص اليقظان وإنما كان ينظر إلى المة ويشفق عليها وهو في ذلك يذهب‬
‫مذهب كثير من علماء السلم الذين عاشوا في ظلل الدول الظالمة وأذعنوا‬
‫للسلطين الجورة خوفا من الفتنة وطلبا للسلم وحقنا للدماء‪.‬‬
‫ويبدو لي إن أبا الخطاب حسبما يفهم من سلوكه ومن لينه وحيائه وعشرته لمن ينقم‬
‫عليه وتعامله مع من يحكم عليه بالبراءة إنه كان يقدر وحدة المة المسلمة أكثر من‬
‫أي شيء فهو حريص أن تبقى المة في سلم ل ترتفع فيها دعوة إلى ثورة ول‬
‫صيحة إلى تفرقة‪ ،‬لن الختلف والفتراق يؤدي بالمة إلى حالة أشنع من الحالة‬
‫التي هم عليها‪ ،‬فإن الحاكم الظالم قد يمكن اصلحة حين تستقر المور وتهدأ أما‬
‫انشقاق المة واراقة الدماء بينها فإنها تؤدي ل محالة إلى القضاء عليها‪.‬‬
‫ولعل الحوادث التي وقعت بعد وصول اليقظان إلى الحكم واختلف الناس عليه ثم‬
‫قتله أثبتت مقدار بعد نظر أبي الخطاب في هذه القضية فقد جاء أبو عبد اله الحجاني‬
‫الشيعي فوجد اليقظان مجفوا مبغوضا فقتله ووجد المملكة الرستمية لقمة سائغة‬
‫فأزدردها‪ ،‬ثم ارتكب من الفواحش ما كان يشفق منه أبو الخطاب فقتل دون حساب‪،‬‬
‫وانتهك الحرمات دون حياء‪ ،‬وكان من أفظع الجرائم النسانية التي ارتكبها إحراقه‬
‫للمكتبة الكبرى ( المعصومة ) التي كانت تحوي الفا من المجلدات ول حول ول قوة‬
‫إل بال‪.‬‬
‫كان أبو الخطاب ذكيا وكان عالما بالشريعة السلمية وكان يفهم أسرارها فهم الفقيه‬
‫المحقق الذي ل يقف عند أقوال الفقها‪ ،‬وإنما يتغلغل إلى أسرار الشريعة في‬
‫مصادرها الثابتة من الكتاب والسنة والجماع‪.‬‬
‫جاءه يوما غني من بني يهراسن يخبره إن له أخا فقيرًا ممن ل يتصف بالورع ول‬
‫يتجمل بالتقوى وسأله هل يجوز له أن يعطيه زكاة ماله‪ .‬ولو كان المفتي غير أبي‬
‫الخطاب لجاب دون إبطاء إنه يشترط فيمن تعطى له الزكاة الوفاء بدين ال‪ .‬ولكن‬
‫أبا الخطاب لم يجب بهذا الجواب وإنما طلب من الغني أن يحضر إليه أخاه فلما‬
‫حضر اتجه إليه أبو الخطاب وقال له في لهجة قوبة‪ :‬تب إلى ال‪ .‬واستجاب الفقير‬
‫دون تردد فقال تبت إلى ال فالتفت أبو الخطاب إلى الغني وقال له أعطه زكاتك ثم‬
‫اتجه إلى الفقير وقال له لقد ألبسناك ثوبا هو لباس التقوى فإن تعريت منه فل قتلك إل‬
‫الجوع‪ .‬والكلمات الخيرة في نظري هي أهم ما في الموضوع فلقد عمل أبو الخطاب‬
‫على استثارة ضمير الرجل الفقير بالدعوة إلى التوبة فلما استجاب له أكرمه على هذه‬
‫التوبة بإعطاء الزكاة فلما تم له ذلك أراد أن يشعره بأنه أصبح يتحلى بجمال روحي‬
‫هو جمال التقوى وإن النسان العاقل ل يتجرد مما يكسبه جمال وحبة وغنى‪.‬‬
‫ولعله من المناسب أن أختم هذا الفصل بكلمة لحدى النساء من ذرية أبي الخطاب‬
‫عبد العلى‪ ،‬حين توفى أبو الخطاب بن سنتين قالت‪ ،‬تلك المرأة ‪ » :‬مات الحق‬
‫وبقيتم يا زواغة‪ ،‬بطون كالخرجة‪ ،‬وعمائم كالبرقه‪ .‬ونعال سلجماسية‪ ،‬وأحكام‬
‫متعوجة‪« .‬‬
‫حقا إن موت أبي الخطاب قد ترك فراغا‪ ،‬فإن قليل من الرجال من يمل ذلك المكان‪...‬‬
‫أبو محمد جمال المزاتي‬

‫قمة شامخة من قمم العلم والكرم‪ ،‬جمع إلى غزارة العلم وفرة المال والجود بهما‪ ،‬قال‬
‫فيه أو العباس الشماخي ‪ » :‬وهو من السباق في العلم والعمل والندى ‪ « .‬وهو إلى‬
‫غزارة علمه‪ ،‬وسعة كرمه‪ ،‬مؤمن من أخلص المؤمنين عبادة ل‪ ،‬واستمساكا بدينة‪،‬‬
‫ودعوة إليه‪.‬‬
‫وكالعالم اجتماع من أكثر الناس دراسة للمجتمع‪ ،‬ومعرفة بشئونه‪ ،‬وعمل بما يصلح‬
‫له‪ ،‬ومراعاة لمصلحة المة التي تعيش في محنة بسبب ما تعانيه من الحكام الظالمين‪.‬‬
‫والولة الذين ل يهمهم إل ما يفرضون من ضرائب ويجمعون من أموال ليسترسلوا‬
‫في عبثهم ولهوهم‪.‬‬
‫وهو وإن لم يسند إليه الحكم ولم يتول إمارة‪ ،‬إل إنه كان يقوم مقام الحكام والمراء‪،‬‬
‫يفصل المنازعات ويحل المشاكل‪ ،‬ويؤدب من يستحق التأديب‪ ،‬ويدعو إلى العتصام‬
‫بدين ال على بصيرة‪.‬‬
‫هيأ مركزه الجتماعي والعلمي إلى أن يكون أعظم شخصية يجتمع على محبته‬
‫واحترامه وامتثال أوامره والرضا بأحكامه – الموافقون له في المذهب والمخالفون‪،‬‬
‫وكان هو يعمل على إرضائهم‪ ،‬في حدود الدين‪ .‬كان يصلي بالمجتمع وفيمن يصلي‬
‫بهم اتباع لبعض المذاهب التي ترى القنوات في الصلة فكان يقنت بأي القرآن الكريم‬
‫حتى يجمع بين من يرى القنوت ومن ل يراه‪ .‬وكان مع هذه السهولة قويا في دين ال‬
‫ل ينفك عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان وأي صورة‪.‬‬
‫مر في بعض أسفاره البعيد على مدين‪ ،‬ووقف على تاجر قد أزدحم الناس عليه‪ .‬وهو‬
‫يكيل لهم‪ ،‬ويطفف الكيل‪ ،‬فلطمه أبو محمد‪ ،‬وقال له مذكرا بكتاب ال‪ » .‬اوفوا الكيل‬
‫ول تكونوا من المخسرين‪ ،‬وزنوا بالقسطاس المستقيم‪ « .‬فرفع غليه الرجل رأسه‬
‫وهو يبتسم ابتسامه صفراء باهته وقال له‪ :‬فينا وال نزلت يا مغربي‪ .‬وكان أبو محمد‬
‫يقيم أحيانا بالبادية وكان إلى جواره رجل غني اليد فقير القلب تروح عليه النعام‬
‫وتغدو‪ ،‬ولكن أسرته تعاني من شظف العيش وبؤس الحياة ما يعانيه الفقراء‬
‫المعدمون‪ .‬فرأى أبو محمد أن الزم هذا الرجل بالنفاق أمر بالمعروف ولكن الرحل‬
‫غلبه شحه المطاع فلم يقف أبو محمد عند المر بالقول ولكنه انتقل إلى الطريقة‬
‫العلمية التي هي أجدى في كثير من الحيان‪ ،‬ولقد يحسن أن أنقل لك هذه الحادثة كما‬
‫صورها أبو العباس الدرجيني بأسلوبه البليغ الرائع قال أبو العباس‪ » :‬وذكر أن أبا‬
‫محمد جمال‪ ،‬كان في جواره رجل من أهل البادية‪ ،‬في سنة مجاعة‪ ،‬وللرجل صرمة‪،‬‬
‫وقد أضربه الجوع‪ ،‬وشحه المطاع مانعه أن ينحر منها ناقة فيطفئ شعت نفسه‬
‫وعياله‪ ،‬فبلغ ذلك أبا محمد فجاهء فوجد في خيمة ل حراك له من ألم الجوع‪ ،‬فقام أبو‬
‫محمد احتسابا في الرجل‪ ،‬وفي يديه حربة‪ ،‬فدخل في ابله فعمد إلى ناقة كوماء‪ ،‬لم ير‬
‫في ابل الرجل أحسن ول اسمن منها‪ ،‬يريد أن ينحرها‪ ،‬فرآه صاحب البل فقال لعل‬
‫غيرها يا أبا محمد‪ ،‬فأبى إل تلك التي قصد إليها‪ ،‬فنحرها بحربته‪ ،‬فلما نحره‪ .‬قال لهم‬
‫قوموا وكلوا فلما أصبح أغارت عليهم غارة فاكتسحت إبل الرجل‪ ،‬فلول إن ال عز‬
‫وجل لطف بهم ببركة الشيخ‪ ،‬لماتوا جوعا‪ ،‬فتبلغوا بشحم تلك الناقة ولحمها‪ ،‬وسدوا‬
‫فاقتهم‪ » :‬وواضح أن البدوي لم يستفد إل من الناقة التي نحرها أبو محمد وهذه‬
‫الظاهرة الجتماعية التي تكشف عنها هذه القصة‪ ،‬قد تكون من أخلق الناس مدى‬
‫الحياة‪ .‬وليس غريبا أن تجد في هذا العصر ناسا يملكون البل بالعشرات والغنام‬
‫بالمئات‪ ،‬ولكنهم مع ذلك ل يحسنون غير تزيين الرض بتلك القطعان‪ ،‬فهم يعيشون‬
‫عيشة فقر مؤلم‪ ،‬تعيش أسرهم على شظاف وشدة‪ ،‬ول تستفيد منهم المة‪ ،‬ل يؤدون‬
‫حق ال‪ ،‬ول حق المجتمع‪ .‬ونحن في حاجة إلى علماء في فهم أبي محمد يتولون حمل‬
‫الناس على أداء الحقوق لنفسهم ومجتمعاتهم حتى بالقوة‪ .‬ولكنهم ل يتجاوزون في‬
‫ذلك الحدود التي شرعها ال لصيانة أموال الناس وممتلكاتهم‪.‬‬
‫كان أبو محمد ينتجع الكل بمواشيه مع بعض أحياء مزاته‪.‬‬
‫وجاءهم جباة الضرائب الذين يجمعون الموال دون قانون أو شريعة وطالبوا‬
‫بالمقادير المفروضة ولكن أهل الحي تهاونوا ولم يهتموا بهم فقال الجباة إن بتنا‬
‫ضاعفنا عليكم وكلما بتنا ضاعفنا الضريبة عليكم‪ ،‬وبقي أهل الحي على عدم‬
‫اهتمامهم وقلة اكتراثهم‪ » ،‬حماقة وخرقا ل قدرة وعزا فجاء أبو محمد إلى جباة‬
‫الضرائب وقال لهم قفوا على ترع الحياء‪ ،‬ول تتركوا الماشية تسرح‪ .‬فإنهم سوف‬
‫يدفعون لكم ففعلوا فلما رأى القوم ماشيتهم محبوسة بادروا إلى الدفع وانصرف عنهم‬
‫الجباة فقال قائلون أن أبا محمد أعان الظلمة على المساكين والضعفاء فلما بلغه تقدهم‬
‫لسلوكه قال‪ » :‬إن ل على العالم إن ينظر للجاهل ويدله على ما فيه سلمة دينه‬
‫ودنياه‪ « .‬ليت أن علماء المة جميعا يفهمون هذه القاعدة الهامة ويعلمون بها في‬
‫مختلف العصور والزمان فينظرون للجهال‪ ،‬ويدلونهم على ما فيه سلمة دينهم‬
‫ودنياهم‪ .‬وليست أعنى بطيعة الحال حمل الناس على الرضا بالظلم‪ ،‬فإن هذا ل يدع‬
‫إليه مؤمن إل إذا كان مضطرا كما كان أبو محمد وقومه وإنما أريد من العالم أن يدل‬
‫الجاهل على ما يصلح له في دينه ودنياه من جميع مشاكل الحياة‪.‬‬
‫كان أبو محمد في دقة الفهم وعرفة أسرار الشريعة والتمييز بين الحقوق في المرتبة‬
‫التي ل تداني‪.‬‬
‫ويدل على ذلك وسائلة في الحكم وإقناع الخصوم والى القارئ الكريم شاهدا على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أعطى رجل من مزاته مبلغا من المال إلى رجل آخر يتجر فيه وبينما كان التاجر‬
‫يدور في السواق عثر على كتاب قيم نادر هو تفسير القرآن الكريم للعلمة هود بن‬
‫محكم الهوارى فاشتراه فسمع به صاحب المال فجاءه فقال للتاجر أن الكتاب لي ولك‬
‫نصف الربح فقدر الربح بما تشاء وقال التاجر بل الكتاب لي ولك رأس مالك ووقع‬
‫بين الرجلين خلف حاد وبلغت بهما للجاجة حد العصبية فانتصر لكل واحد منهما‬
‫قومه وأصدقاؤه واقترح مقترح أن ترفع المشكلة إلى أبي محمد جمال فطلب من‬
‫التاجر أن يسلمه الكتاب فأخذه وقسمه نصفين أعطى لكل واحد منهما نصفا ثم قال‬
‫لهما على كل واحد منكما أن يستعير النصف الثاني وينسخه‪.‬‬
‫وهكذا حلت المشكلة بإرضاء الطرفين وظفرت المكتبة السلمية بنسختين‪.‬‬
‫إن الحديث عن أبي محمد ومواقفه يطول ولعل القصة التية كافية في التدليل على‬
‫غزارة علم الرجل واعتداده بنفسه وتمسكه بذاته عندما يعتمد هذا الرأي على سند‬
‫صحيح‪ ،‬قال أبو العباس الدرجينى‪ » .‬وذكر أن جماعة من المشايخ وجهوا نحو‬
‫طرابلس فركبوا البحر‪ ،‬ونزلوا بجزيرة جربة‪ ،‬وحضروا مجلسا قد حضرته فقهاء‬
‫أهل جربة ومشيختهم كابي مسور وأمثاله‪ ،‬فتذاكروا في الطهارة‪ ،‬حتى وردت بينهم‬
‫مسألة فوقع فيها الختلف بينهم وهو ما كان من نبات الرض من الثياب‪ ،‬هل‬
‫يطهره من النجس ما يطهر الرض والنبات لنها من جنسها أم ل‪ ،‬فاجمعوا على أن‬
‫الثياب كلها حكمها في ذلك إذا نجست واحد‪ ،‬ل يطهرها إل الغسل بالماء ول يطهرها‬
‫سواه‪ ،‬بخلف العناصر فخالفهم أبو محمد جمال وحده‪ ،‬وقال لهم‪ ،‬حكم الرض‬
‫ونباتها وما يعمل منها من ثياب جميعا واحد‪ ،‬يطهرها تداوم الشمس والرياح عليها إذا‬
‫عرضت لها المدة الطويلة‪ ،‬ما لم تبق عين النجاسة قائمة‪ .‬قيل بعض أصحابه وأعلمه‬
‫بما كان من اتفاق الجميع وإن اتفاقهم هو الصواب‪ .‬فأقام أبو محمد يحجج على صحة‬
‫مذهبه وقوله ولم يرجع عنه‪ ،‬فقال لهم أبو مسور كفوا عنه فإن العالم كالجدل إذا‬
‫حلق ضرب‪« .‬‬
‫هذه صور من حياة عالم من علماء المة كان قدوة للمسلمين ينهج بهم نهج الحق‬
‫والستقامة‪ ،‬ويخفف عنهم بكل الوسائل أذى الظالمين‪ ،‬ول يبالي ما يصله بسبب ذلك‬
‫من نقد قصر أصحابه عن فهم مراميه ومقاصده فرحمه ال ورضى عنه‪.‬‬

‫أبو مسور اليهراسنى‬

‫أبو مسور يسجا بن يوجي اليهراسن‪ .‬علم من أعلم العلم والفضل والستقامة‪ .‬وجد أسرة متسلسلة‬

‫ف خدمة دين ال قرونا متتابعة ول تزال بقاياها حت الن قائمة بأمر ال‪.‬‬

‫بلغ أبو مسور درجة في العلم يقصر عنها القران‪ ،‬وعمل في حقل الصلح‬
‫الجتماعي ما يعجز عنه المصلحون‪.‬‬
‫كان رحمه ال غزير المادة‪ .‬لطيف المعشر‪ ،‬سهل الخلق‪ .‬لين العريكة‪ ،‬حييا متسامحا‬
‫إلى أبعد حدود الحياء والتسامح‪ .‬وكان ذكيا نافذ البصيرة‪ .‬وكان مع ذلك جم التواضع‬
‫حليما‪ .‬يضاف إلى ذلك سعة في المال‪ .‬وسخاء في النفس‪ ،‬وانطلق في اليد‪ ،‬وكرم‬
‫مطبوع‪ ،‬وهذه الصفات جميعا كونت له شخصية عظيمة محبوبة‪ ،‬وهيأت له عند‬
‫الباضية وغير الباضية منزلة سامية ل يصلها إل النادر من الناس‪ ،‬فكان ينظر إليه‬
‫كما ينظر إلى الزعيم أو الحاكم المحبوب‪ .‬ينظر الناس أمره ليلبوه عن رضا وحبة‪.‬‬
‫ولكنه كان أشرف من أن يستغل محبة الناس‪ ،‬وأنزه من أن ينحرف عن الحق‪،‬‬
‫وأعدل من أن يميل مع الرغبات وأحكم من أن ل يقدر عواقب المور ونتائجها‪.‬‬
‫كانت الدولة العبيدية في عصره مستولية على أغلب المملكة التونسية‪ ،‬ولكن نفوذها‬
‫في مواطن الباضية كان ضئيل ل يتعدى مبالغ من المال تؤخذ منهم‪ .‬وقد كان أبو‬
‫مسور هو الحاكم الفعلي كما كان الئمة من قبله‪ .‬ولو شاء أن يستقل بالجنوب‬
‫التونسي عن الدولة العبيدية لسهل عليه ذلك ولكنه فضل أن يبقى على الوضع الذي‬
‫هو عليه والذي كان عليه الئمة من قبل مثل أبي القاسم وأبي محمد وغيرهم‪.‬‬
‫كان في سكان تونس عدد من مختلف الفرق السلمية‪ ،‬وكان في بعض تلك الفرق‬
‫طلب زعامة يستغلون الخلف المذهبي أو الجنسي في الدعاية للوصول إلى‬
‫مراميهم الخفية‪ ،‬وأغراضهم البعيدة وكان بعض أولئك الناس كثيرا ما يلقون بالكلمة‬
‫النابزه في حق أبي مسور فيتغافل ويتجاهل وينزه سمعه عن الصغاء إليهم‪ ،‬ولسانه‬
‫عن مجاوبتهم‪ .‬ونشط بعض الناس في ذلك وهم يقولون عنه إنه رجل غريب عن‬
‫جربة‪ ،‬وماذا يحق له من الشأن‪ ،‬ولو طرد لما وجد من يدعوه إلى القامة وكان يتولى‬
‫كبر ذلك خاله خلف بن أحمد النكارى ويتحدث به في المجالس ويظهر الستخفاف‬
‫والستهانة به ويحمل الناس على عصيان أمره وتناثرت هذه الخبار إلى مختلف‬
‫البلد التي يسكنها الباضية فسمع بذلك أهل جبل نفوسه كم سمع به سكان جبال‬
‫دمروا بلد الجريد ومدينة درجين وبلد اريغ ووارجلن وما إليها‪.‬‬
‫اجتمع أهل جربة ذات يوم بمختلف مذاهبهم وأجناسهم لمر هام وكان أبو مسور‬
‫يرأس المجلس وكان خلف النكاري من الحاضرين مع طائفة من أتباعة‪.‬‬
‫وبينما كان المجلس منعقدا إذ ورد رسول من زواغة البادية يحمل رسالة إلى أبي‬
‫مسور‪ .‬وقرئت الرسالة فإذا فيها » وقد سمعنا يا شيخ أن النكار يعقون فيك ويهمزون‬
‫ويلمزون‪ ،‬ويحاولون أذاك‪ ،‬فإن صح ذلك فأعلمنا‪ ،‬نلق علينا ثيابنا ونصرخك وليس‬
‫علينا غير الزر والسلح رغبة في نصرتك‪ .‬وقذعا لمن يرومك‪ ،‬ويحاول ضيمك‪«.‬‬
‫فالتفت أبو مسور إلى الرسول وقال له لم أسمع بهذا ول لي به علم‪ .‬وانصرف‬
‫الزواغي إلى قومه مطمئنا ولم يستمر المجلس طويل حتى ورد رسول آخر من جبال‬
‫دمر يحمل كتابا إلى أبي مسور وقرئ الكتاب فإذا فيه‪.‬‬
‫» يا شيخ قد بلغنا أن النكار يتحركون ويسيئون إليك‪ ،‬ويلكئون أمرك فإن صح ذلك‬
‫فعرفنا‪ ،‬نصرخك بعسكر ويكون أوله عندك وأخره هنا‪ « .‬وفعل أبو مسور مع هذا‬
‫الرسول الكريم ما فعله بسابقه فالتفت إليه وقال ما سمعت بهذا ول لي به علم ولكنه‬
‫ما فرغ من الكتاب الثاني حتى وافاه كتاب ثالث يحمله رسول من نفوسة كان مما‬
‫جاء فيه » فإن صح فأخبرنا نكسر غمد السيوف ونصلك والسيوف مصلته في أيدينا‬
‫« والتفت أبو مسور إلى رسول نفوسة وطمأنه كما طمأن الرسولين السابقين وأخبره‬
‫أن ما بلغهم ليس صحيحا وسافر الرسول واستمر المجلس في بحث المشاكل التي‬
‫انعقد من أجلها‪.‬‬
‫ذعر القوم الذين كانوا يحسبون أن أبا مسور رجل غري في جربة ليس له أنصار‬
‫وكانوا يعتقدون أن من اليسير طرده أو إيذاؤه على أن موقفه الحكيم معهم وتغاضيه‬
‫عن إساءتهم المتكررة‪ ،‬وترفعه عن النزول إلى المستوى الذي عاملوه به‪ ،‬مع ما هو‬
‫عليه من القوة جعلهم يفكرون في عظمة الرجل ويؤمنون بها ويسلمون لها‪ .‬وأصبح‬
‫خلف بن أحمد النكارى يفكر بعد ذلك تفكيرا متزنا حتى إنه صار يرد الذى جين‬
‫يسمعه ويقول لمن يحاول أن يلمز أبا مسور ولو في خفاء (أبو مسور إمامنا أجمعين‬
‫لحمى لحمه ودمى دمه)‪.‬‬
‫لقد كان أبو مسور عظيما حقا‪ ،‬عظمة المؤمن القوي‪ ،‬والعالم المتمكن وكان واسع‬
‫الطلع عالما بأسرار الشريعة وإلى القارئ الكريم أمثله مما يجيب به السائلين‪ .‬سأله‬
‫يوما أحد الناس عما يقرأ عند حضره الموت‪ ،‬فقال ما سألني أحد عن ذلك منذ فارقت‬
‫أبا معروف‪ .‬يقرأ عند وفاة المؤمن قولة تعالى‪:‬‬
‫» يا ايتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية « ‪.‬‬
‫ولعل في الحديث التي ما يكشف عن عظمة نفس أبي مسور وسعة إطلعه وعمقه‬
‫في الفهم والتحليل‪.‬‬
‫توفى له ولد عزيز عليه فاتاه المشائخ يعزونه في الفقيد الراحل‪ ،‬ويواسونه في‬
‫مصابه‪ ،‬ويوصونه بالصبر الجميل فقال لهم‪ ،‬ما الصبر الجميل؟ تحير المشائخ في‬
‫الجواب ونظر بعضهم إلى بعض‪ ،‬ولكن أحدا منهم لم يجد الجواب الذي تطمئن إليه‬
‫النفس‪ ،‬إنهم كثيرا ما رددوا هذه الكلمة في أنفسهم‪ .‬وأوصى بها بعضهم البعض‪،‬‬
‫وتمثلوا بقوله تعالى في الكتاب الكريم على لسان سيدنا يعقوب عليه السلم ( فصبر‬
‫جميل ) وكان لها في أنفسهم صورة واضحة‪ ،‬ولكنهم لم يجدوا العبارة التي تضع هذا‬
‫المعنى في إطار يوضح صورتها الجميلة في أنفسهم‪ ،‬فأرجعوا الجواب إلى الشيخ‬
‫وقالوا له الجواب من عندك يا شيخ‪.‬‬
‫قال أبو مسور‪ ( :‬أن ل تظهر المصيبة على وجه المصاب ) وفكر القوم في معنى‬
‫الجملة وجدوا أن هذه الكلمة تعبير رائع صادق فصيح عن معنى الصبر الجميل‬
‫واقتنعوا بذلك فلم يناقشوا الشيخ لنهم لم يجدوا ما ينتقدونه في هذا التعريف أو في‬
‫الطار الذي وضعه للصبر الجميل‪ .‬فلما رأى ما هم فيه من القتناع قال لهم وهل‬
‫أيسر من هذا‪ ،‬وكأنه يقول لهم إن هذه المرتبة السامقة من الصبر الجميل ل يصل‬
‫إليها إل قليل من عباد ال المخلصين فرد المشائخ إليه الجواب فقال لهم‪( :‬ما لم يتغير‬
‫الوجه) ‪.‬‬
‫وتأمل القوم هذه الجملة فوجدوا إنها غير بعيدة عن الطار الول إنها مرتبة سامقة‬
‫من اليمان والصبر والحتساب أن تنزل المصيبة على المؤمن فل يتغير به وجهه‬
‫ول تبدو عليه الكآبة‪.‬‬
‫واقتنع المشائخ بهذا التعريف أيضا‪ .‬ولكن الشيخ زاد فقال لهم وهل أسهل من هذا؟‬
‫ونظر القوم بعضهم إلى بعض ثم رفعوا أبصارهم إليه وقالوا منك الجواب‪ » .‬فقال ما‬
‫لم يبك « أيكون عدم البكاء عند نزول المصيبة صبرا جميل‪ ،‬وفكر المشائخ طويل‬
‫في هذا الجواب ولكنهم وافقوا عليه أخيرا فلو لم يكن الصبر الجميل هو الذي منع‬
‫لمؤمنين من البكاء لتعلى نجيبهم وطال بكاؤهم‪ ،‬ولكن الشيخ لم يكتف بهذا فقال لهم‬
‫وهل أسهل من هذا؟ فنظر إليه القوم مستغربين وبدأ الشك يساورهم في أن تكون‬
‫منزلة الصبر الجميل أدنى من المنزلة السابقة ولكنهم قالوا له في شبه تحد‪ ،‬الجواب‬
‫من عندك‪.‬‬
‫فقال لهم ما لم يصح‪ ،‬ويدع بالويل والثبور‪ « .‬وكأنه أحس بدبيب الشك في نفوس‬
‫القوم‪ ،‬وإنهم يترددون في قبول هذا المعنى فإن الشخص الذي تنزل به المصيبة‬
‫فيضرب لها وتنهمر عيناه بالدموع ل يعتبر صابرا صبرا جميل‪ ،‬في نظرهم ولما‬
‫أحس بما يعتمل في نفوسهم شرح لهم وجهة نظرة فقال لهم‪.‬‬
‫» لن البكاء يكون من الرحمة « نعم إن البكاء ل يدل في جميع الحوال على الجزع‬
‫وقلة الصبر فإن العين وثيقة الصلة بالقلب الرقيق المفعم بالرحمة‪.‬‬
‫نشأ في قبيلة بين يهراسن ثم ارتحل إلى جبل نفوسة فالتحق بمدرسة أبي معروف‬
‫الكبيرة في شورس وبقى فيها ثماني عشرة سنة يدرس حتى بلغ مرتبة أساتذته وتفوق‬
‫على بعضهم وكان في ذلك الحين فقيرا ضيق ذات اليد فكان كثيرا ما ينفع الشعير‬
‫فيشرب ماءه في وجبة ويطبخه في الوجبة الخرى‪ .‬ل يتأنق ول يحتفل بالكل ول‬
‫يشغل وقته بالتوافه من المور ولما أتم دراسته وذهب إلى جربة فتح ال عليه أبواب‬
‫الرزق‪ ،‬وأغدق عليه النعمة وأتاه من فضله فكان من أصبر الصابرين في الول ومن‬
‫أصدق الشاكرين في الخر‪ .‬وضع ثروته تحت تصرف المة فكان ينفق منها في كل‬
‫أوجه الخير ل سيما وجه التربية والتعليم ترجم له المؤرخ الجربى حمد أبو رأس في‬
‫كتابه مونس الحبة فوهم في اسمه فذكر إنه أبو مسور يصليتين وإنما هو أبو مسور‬
‫يسجا وقد جر هذا الوهم من أبي رأس الستاذ محمد المرزوقي إلى خلط بين‬
‫شخصيتين متباعدتين فقد قال المرزوقي في تعليقه‪ :‬صفحة ‪ 9‬من كتاب مؤنس الحبة‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫» يؤخذ مما ورد في السير الشماخي صفحة ‪ 23‬إنه عمر نحو مائة سنة أو تزيد‬
‫حيث يقول – عمر حتى بلغ الغاية في السن والهرم وكان في زمن المام عبد الوهاب‬
‫وعاش بعده – ومن المعروف إن المام عبد الوهاب‪ -‬توفي سنة ‪ 18‬فإذا قدرنا إن أبا‬
‫مسور حضر أواخر أسام المام مفتتح القرن الثالث وتوفي أوائل القرن الرابع يكون‬
‫قد عمر أكثر من مائة سنة وعاش طيلة مدة الئمة الرستمية وحضر على اضمحلل‬
‫دولتهم سنة ‪« 296‬‬
‫هذا تعليق الستاذ المرزوقي والخطأ واضح في هذا التعليق فإن الشماخي ترجم لبي‬
‫مسور يصليتين النفوسى الدوناطى في صفحة ‪ 23‬وترجم لبى مسور يسجا بن‬
‫يوجين اليهراسن في صفحة ‪ 345‬والكلمة التي نقلها المرزوقي قد وردت في أبي‬
‫مسور النفوسي الدوناطى من علماء الطبقة الخامسة أي النصف الول من القرن‬
‫الثالث أما أبو مسور يسجا بن يوجين جد السرة المشهورة في جربة فهو علماء‬
‫الطبقة السابعة أي النصف الول من القرن الرابع وقد أخذ العلم عن أبي معروف من‬
‫علماء الطبقة السادسة أي النصف الثاني من القرن الثالث فأستاذ أبي مسور‬
‫اليهراسني أصغر من أبي مسور النفوسى وبينما نحو قرن من الزمان‪.‬‬
‫ويبدوان الذي جر المرزوقي إلى هذا الخطأ التاريخي إنما هو خطأ محمد أبي راس‬
‫في اسم أبي مسور‪.‬‬
‫هذه صور غير وافية عن شخصية علمية من رجال السلم أرجان يجد فيها القارئ‬
‫جوانب مشرقة تضاف إلى ما للسلم من جوانب مشرقات‪.‬‬

‫أبو نوح سعيد بن زنغيل‬

‫يكفيه شهرة وتعريفا إنه تلميذ المامين الكبيرين أبى القاسم وأبي خزر وإنه استلم‬
‫منهما الرسالة وقام بأمر المة بعد سفر أبى خزر إلى مصر‪ .‬وعنهما أخذ العلم حتى‬
‫بلغ مبلغ الفحول ومنهما اقتبس السيرة حتى صار قدوة‪ .‬وقد أوتي فصاحة وبيانا وقوة‬
‫حجة حتى شهد له بذلك أبو تميم المعز لدين ال فقال » أما أبو نوح ففتى مجادل «‬
‫قال أبو تميم هذه الكلمة وأبو نوح ل يزال فتى طرى العود‪ ،‬يلتزم حلق الدرس‪،‬‬
‫ويتابع مجالس العلم‪ ،‬ويترسم خطا المامين العظيمين يتلقى منها المعرفة‪ ،‬ويجد فيهما‬
‫القدوة في السيرة الحسنة‪ ،‬فلما قتل أبو القاسم غيلة كما مر‪ .‬ودعا أبو خزر إلى‬
‫الثورة‪ ،‬كان أبو نوح أنشط القائمين بالدعوة إلى الثورة وأشد المتحمسين للخذ بثأر‬
‫الشهيد‪ ،‬وكان ينتقل بين البلدان بأمر من المام أبي خزر يحرض الناس ويدعوهم إلى‬
‫النضال وقد سافر إلى الجهات البعيدة مثل جبل نفوسة وكاتب بني أميه‪ .‬إنه كتلة من‬
‫النشاط ل يقف ول يستقر ولما اجتمعت بعض الجموع علي أبي خزر وبدأوا فعل‬
‫ثورتهم في بغاى كان أبو نوح في مقدمة المقاتلين يركب فرسا أدهم يجول به في‬
‫الميدان‪.‬‬
‫ورغم إن أبا نوح نشأ بين حلق التعليم ولم يتدرب على القتال إل إن كتب التاريخ‬
‫أثبتت له من البطولة والشجاعة وقوة القلب والساعد ما يفتخر به أبطال الحروب‬
‫وعندما دارت الدائرة على جند أبي خزر كان أبو نوح يطير بفرسه من مكان إلى‬
‫مكان يحمي الناس وينفس عليهم الكرب‪ .‬وتشتت الجموع وقتل عدد غير قليل والتجأ‬
‫أبو خزر إلى جبل نفوسة‪ ،‬أما أبو نوح حتى عثرت جنوده بأبي نوح في الحالة السابقة‬
‫فالقوا عليه القبض واركبوه جمل وطافوا به في البلدان‪ .‬فلما نزلوا به عند الليل بادر‬
‫إلى التيمم للصلة فقال له السجان أدخل الخباء واستريح وأزل عنك وعثاء السفر فعلم‬
‫أبو نوح إنه ل يقتل حينئذ‪ .‬وبقي في الحبس أياما وكان يأتيه ناس فيقولون له لقد‬
‫تركت القوم يقعون فيكم ويتحدثون عنكم فيجيبهم قائلً‪ :‬مولنا خير منكم وبلغ ذلك أبا‬
‫تميم فتخف حدته وغيظه وبعد أيام عفا عنه فكان بأتيه الرجل من حاشية المير فيقول‬
‫له يا حبيبي فيقول أبو نوح أرأيت حبيبا يأكل لحم حبيبه فيجيبه الخر نحن رجال‬
‫الملك من احبه أحببناه ومن كرهه كرهناه‪.‬‬
‫كان أبو نوح قد كتب إلى بني أميه يستنجدهم وقد أخذ كتابه إلى أبى تميم‪ .‬غير إن‬
‫الكتاب لم يوقعة أبو نوح فعقد السلطان مجلسا للتشاور وكان في الحاضرين يهودي‬
‫كان هو الخر يتولى بعض مناصب الدولة فقال لهم أنا أتيكم بخطه وأخذ ورقة وقلما‬
‫ودخل على أبي نوح في صفة السف على ما وقع وقال له يحسن بك أن تكتب إلى‬
‫الملك تعتذر إليه وتطلب منه العفو فإنه ل عيب في طلب العفو من الملوك وجلس‬
‫ساعة يتحدث ثم خرج‪ ،‬واقتنع أبو نوح بصواب رأي اليهود فأخذ القلم والورقة وبدأ‬
‫يكتب غير إنه لم يتم السطر الول حتى خطرت له المكيدة فقطع ما كتب وغير خطه‬
‫ل وكتب رسالة العفو وطواها وبقي ينتظر‪.‬‬
‫تغييرا كام ً‬
‫عرضت الرسالتان على المجلس الذي عقده أبو تميم فاتفقت الغلبية على أن خط‬
‫الولى غير خط الثانية وعقد أبو تميم مجلسا قضائيا لمحاكمة أبي نوح‪ ،‬ووجهت إليه‬
‫فيها مختلف التهم‪ .‬ولكنه استطاع أن يبرئ ساحته ببراعته وحذق مما نسب إليه‪.‬‬
‫جلس أبو تميم في مجلس حربى يدل على السخط فقد لبس لباسه الحمر وجلس تحت‬
‫قبة حمراء على السرير الحمر ووقف الحرس حوله بالحراب ثم أمر بإحضار أبي‬
‫نوح يرسف في الغلل والقيود‪ ،‬فلما رأى أبو نوح هذه الهيئة أيس من الحياة‪،‬‬
‫واستعد للشهادة‪ ،‬فسلم بلسان فصيح وجنان ثابت‪ .‬فأطرق أبو تميم مليا ثم رفع رأسه‬
‫وقال‪ :‬يا سعيد! حقا كاتبتم فينا بني أمية؟‬
‫قال أبو نوح‪ :‬إن تقبل حجتي ويرفع عذرى تكلمت‪ ،‬وإل فالمير يفعل ما يشاء‪.‬‬
‫قال أبو تميم بل يقبل عذرك‪.‬‬
‫وكان أبو نوح كما سبق أن قلنا فصيح اللسان‪ ،‬شيق البيان واسع الطلع فقال‪:‬‬
‫كيف نكاتب بني أمية ونأمنهم‪ ،‬وقد علمت ما بيننا وبينهم‪ ،‬وهم الشجرة الملعونة التي‬
‫ذكر ال في القرآن‪.‬‬
‫فلما سمع أبو تميم ذلك سره وانطلق وتبسم فدفع إلى أبي نوح بالكتاب الذي وجهه إلى‬
‫بني أمية وأخذ في لطريق وقال له‪ :‬أنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال أبو نوح وال ما هذا‬
‫كتاب كتبته بيدي فاختلف أهل المجلس في يمينه‪ .‬قال بعضهم جعل ما زائده‪ ،‬وقال‬
‫آخرون إنه ل يفطن لمثل هذا‪.‬‬
‫قال أبو تميم لو صادفتني يوم باغاي أتتركني لغيرك؟ قال أبو نوح ل!‬
‫فرجح عند أبي تميم صدق أبي نوح في جميع ما قال أو إنه تظاهر بتصديقه‪ .‬ثم قال‬
‫له‪ :‬إن القيود أدخلت إلى رجلك بالعلم ول تخرج إل بالعلم فقال أبو نوح‪ :‬عسى ال إن‬
‫يجعل ذلك كفارة لذنوبي‪ .‬فغضب أبو تميم وقال‪ :‬أنحن مسيئون فيك‪.‬‬
‫قال أبو نوح ليس في ذلك ما يدل على إساءتك‪ .‬إل ترى إن ال عز وجل يبتلي عباده‬
‫فيصبرون فيوجرون وليس في ذلك ما يثبت الساءة ل تبارك وتعالى فزال غضبه ثم‬
‫أن أبا نوح طلب منه العفو فعفا عنه وأعطاه مال جزيل وثيابا حسانا فرق الجميع‬
‫على الناس بعد خروجه من القصر ورآه بعض الحاشية وهو يفرق الموال فذهب‬
‫إلى أبي تميم وأخبره أن الرجل مجنون فقد جعل يبعثر الموال التي منحها فقال أبو‬
‫تميم ليس بالرجل جنة‪ ،‬وإنما منتحل زعامة ورئاسة‪.‬‬
‫حرص أبو تميم بعد ذلك أن يقرب إليه أبا نوح وأن يحضره إلى مجلسه من حين إلى‬
‫آخر‪ ،‬وأن يستشيره في بعض المور‪ ،‬وقد سأله يوما عن مكان أبي خزر فأجابه أبو‬
‫نوح بأنه ل يعرفه فال أبو تميم تأتي به دراهمنا أينما كان فسكت أبو نوح لهذا‬
‫التحدي ولم يجب فقال أبو تميم أترانا نخشى أمره؟ قال أبو نوح إن أمنته وأمنت‬
‫الناس في جميع الجهات ل تخشى أمره‪ .‬وإذا لم تفعل فإنك تخشاه وتخشى أمره‬
‫وعرف أبو تميم في هذا الجواب صدق النصيحة وإن لم يخف عليه إن أبا نوح إنما‬
‫قصد خير شيعته بذلك فبعث أبو خزر بالمان إلى جميع مواطن الباضية وبلغ خبر‬
‫ذلك إلى أبي خزر في جبل نفوسة فاستعد للرجوع‪ .‬وعلم المعز برجوع أبي خزر إلى‬
‫مواطنه في الحامة فبعث إلى أبي نوح يأمره بلقاء إستاذه وصديقه وذهب أبو نوح‬
‫فاستقبل صديقه في قابس ثم دعاهما أبو تميم إليه وأكرم وفادتهما وأطهر من احترام‬
‫أبي خزر وإجلله ما لم ينله غيره وقر مجلسهما وصار ل يستغني عن رأيهما وهو‬
‫يعمل كل ذلك لينسيهما حركة الثورة وإن ل يدع في نفسيهما سببا للنتقاض عليه‬
‫ولما عزم على النتقال إلى القاهرة حرص أول ما حرص على اصطحابهما فأجاب‬
‫أبو خزر أما أبو نوح فقد أدعى المرض يوم الرحيل ولما جاءه أعوان الملك يدعونه‬
‫إلى مرافقة الملك وجدوه مصفر اللون في حالة تدعو إلى الشفاق فأخبروا الملك‬
‫بذلك فتركه وسافر ويقول المؤرخون أن أبا نوح اغتسل بماء النخالة فاصفر لونه‬
‫حتى حسبه الناس مريضا‪.‬‬
‫بعد سفر أبي خزر إلى القاهرة لم يطل المقام لبي نوح فكان ينتقل من مكان إلى‬
‫مكان يلقى دروس الوعظ والرشاد ويحث الناس على العتصام بدين ال‬
‫والستمساك به‪ ،‬على إنه لم يأمن جانب الدولة العبيدية ل سيما بعد وصية المعز أبي‬
‫تميم لخليفته بلكين أبن زيرى فانتقل إلى وارجلن وكان بها في ذلك الحين المام‬
‫العظيم أبو صالح جنون بن يمريان مرجع الباضية وملذهم وأعلم علمائهم في تلك‬
‫النحاء فاستقبله استقبال الخ المحب لخيه وآواه إيواء الب لبنائه البررة العزاء‬
‫عليه وأجرى عليه من الموال والرزاق ما يستطيع أن ينفق منه أبو نوح على سعة‬
‫ورغد وعامله الباضية هنالك بما يعامل به أعاظم الرجال وكانوا يجتمعون إليه في‬
‫مسجد جنون ويستمعون إلى دروسه القيمة في شغف ورغبة وتعطش وكان طلبة‬
‫العلم ل يفارقونه ويسمرون معه إلى ساعات متأخرة من الليل‪ .‬وارتفعت بينه وبين‬
‫الطلبة الكلفة حتى قال له أحدهم يوما حدثنا بكل ما حفظت فقال أبو نوح كيف أحدثكم‬
‫في ليلة واحدة بما أكلت في تعلمه اقفزة من ملح‪.‬‬
‫وبعد زمن اشتاق إلى موطنه فأراد الرجوع وحاول أبو صالح أن يثنيه عن عزمه‬
‫وعرض عليه أن يقاسمه جميع أمواله وأملكه وكان ذا ربع كثير فأصر أبو نوح‬
‫على السفر‪ .‬ولما وصل إلى المملكة التونسية وجد المور قد تغيرت عما كان تغييرا‬
‫كبيرا فقد استبدت الدولة الصنهاجية بالناس وعاملتهم أقسى معاملة وحاربت من‬
‫يخالفها في المذهب بكل الوسائل‪ ،‬فأسف على ذلك قال له بعض الناس ما أخرجك عن‬
‫وارجلن وقد احسنوا إليك قال حب الخوان والصحاب‪.‬‬
‫وكان يتقلب بين بلد الجربد وجبال دمر ومنطقة الحامه يدعو الناس إلى المحافظة‬
‫على دين ال وعدم الغترار بالدنيا وذهب يوما إلى درجين فاستقبله مقدمها ورحب‬
‫به أجمل ترحيب واستقبله أحسن استقبال‪ ،‬فحدثه أبو نوح عن السيرة ونهاه عن‬
‫البدعه‪ ،‬وأوضح له أن المؤمن ل تخدعه الدنيا ل بالمال ول بالسلطة‪ ،‬فوجد عنده‬
‫حسن استماع‪ ،‬واستعدادا للقبول بينما كان أبو نوح في درجين‪ ،‬سمع به المنصور بن‬
‫بلكين فبعث إليه يدعوه‪ .‬وقد انبعثت الشكوك من هذه الدعوة في قلب أبي نوح ولذلك‬
‫رأى أن يستشير فذهب إلى مقدم درجين وأخبره بدعوة المنصور فقال له المقدم‪ .‬أن‬
‫أردت المسير إليه فل خوف عليك وأن لث ترد كفيتك أمره فسار أبو نوح إلى‬
‫المنصور فقرب مجلسه وأكرم وفادته وأبقاه بجانبه وكان كثيرا ما يرد بعض العلماء‬
‫للجدال والمناقشة في بعض مسائل التوحيد وعلم الكلم فتتحكم الشبه التي يعرضونها‬
‫على حجة أب نوح وقد ذكرت كتب التاريخ أمثلة من تلك المناقشات فإذا شاء القارئ‬
‫الكريم الطلع عليها فعليه أن يرجع إلى مظامنها في كتب التاريخ التي ترجمت‬
‫للمام أبي نوح‪.‬‬
‫عاش أبو نوح حياة حافلة بالعلم والعمل ولقد تقبلت به أحداث التاريخ وانتقل من مكان‬
‫إلى مكان فعاش في المملكة التونسية وزار بلد الباضية في الجزائر وأقام بها حينا‬
‫من الدهر وذهب إلى جبل نفوسة وتنقل بين مدنه وقراه وارتحل إلى مناطق فزان‬
‫حتى بلغ زويلة بني خطاب‪ .‬وكان في جميع أحواله عندما كان تلميذا لعظم إمامين‬
‫عالمين وعندما كان داعية من دعاة الثورة على الظلم وعندما كان متنكرا في ثياب‬
‫راعي إبل وعندما كان متنقل من مكان إلى مكان للوعظ والرشاد والتعليم‪ .‬كانفي‬
‫جميع هذه الحوال مثال المسلم الحريص على دينه الوفي لعقيدته المخلص في عمله‬
‫الدءوب على عمل الخير وقول الخير والكفاح من اجل الخير فرحم ال ذلك الرجل‬
‫العظيم ورضى عنه‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫أبو صالح اليهراسني‬

‫نشأ أبو صالح أبو بكر بن قاسم اليهراسني في ( ازارن ) وهي ناحية من البادية‪،‬‬
‫خصبة المراتع‪ ،‬سهلة المرابع‪ ،‬خضراء الوديان‪ ،‬مونقة الربا تعجب أصحاب‬
‫الماشية‪ .‬وقضى طفولته‪ ،‬يتمتع بما يتمتع به أصحاب البادية من حرية وانطلق‪ ،‬مع‬
‫جمال الطبيعة‪ ،‬فاكتسب بذلك قوة في البدن والرادة‪ ،‬وانطلقا ووضوحا في الخلق‬
‫والطبع‪ ،‬ودربه على الحديث وفصاحة فيه‪.‬‬
‫أخذ العلم عن الشياخ الذين كانت تمتلئ بهم تلك الحياء الضاربة في بطون‬
‫الصحراء ثم التحق بمدرسة العلمة الكبير أبي الربيع سليمان بن ماطوس فاعترف‬
‫منها حتى أصبح من الفحول‪ ،‬وأخذ قيما احسب عن أبن زرقون في أواخر أيامه‬
‫وأصبح علما من العلم‪ .‬يرجع إليه فيما دق وجل من المور‪ .‬وكان مرجعا في‬
‫جميع مشاكل الحياة سواء كانت تلك المشاكل عملية أو دينية أو اجتماعية وحتى‬
‫سياسية في بعض الحيان‪.‬‬
‫ولقد وثق فيه الناس ثقة كاملة‪ ،‬فولوه من أمورهم ما ل يسند إل إلى المؤمنين الكفاء‪.‬‬
‫فكان إليه المرجع في الفتوى ولقامة الحكام‪ ،‬وتأديب الجناة‪ ،‬والفصل في المشاكل‬
‫والستمرار في إلقاء دروس العلم إلى مختلف الطبقات‪.‬فكان يتولى ذلك جميعا بحزم‬
‫وقوة ودارية‪ ،‬ومع حرصه على إقامة العدل والمساواة بين الناس فإنه كان يرفض‬
‫الفصل في المشاكل التي يكون أحد أطرافها من صهناجه ول يتولى تأديب الجناة‬
‫منهم‪ .‬ذلك إن هذه القبيلة العاتية كانت قد تولت الحكم في المملكة التونسية في ذلك‬
‫الحين فترة من الزمن‪ .‬فاستبدت بالحكم‪ .‬وسارت به كما شاء لها الهوى ل تتقيد‬
‫بقانون ول شريعة‪.‬‬
‫وإنني حين أقول هذا الكلم تبعا للمؤرخين استغفر ال تعالى في هذا التعميم فإنه ل‬
‫شك أن أفراد القبيلة ل يتساوون وإن فيهم ول ريب مؤمنون يحفظون عهد ال‬
‫ويحرصون على إقامة دينه‪ ،‬ويعصمهم اليمان عن المشاركة في الثم‪ ،‬وإنما البغي‬
‫الذي حال دون إيصال الحقوق إلى أصحابها‪ ،‬والعدوان الذي سلط على الناس دون‬
‫مبرر والطغيان الذي تقوده شهوة السلطة حتى تبلغ به دعوى الربوبية إنما كان بيد‬
‫الفئة الحاكمة التي وصلت إلى السيطرة على مقدرات المة دون إن يؤهلها لذلك دينها‬
‫ول عملها ول خلقها‪ ،‬وإنما أوصلتها السبل الملتوية التي تجري عليها السياسة الباغية‬
‫في كل زمان وفي كل مكان‪ ،‬ويبدو مما يقصه المؤرخون أن أبا صالح اليهراسني‬
‫الذي عاش في فترة الدولة الصنهاجية وحينما تولى الحكم فيها سلطين ظلمه يعمدون‬
‫لتوطيد ملكهم بما ملكت أيديهم كان ل يستطيع أن يجري الحكام على المجرمين من‬
‫هذه القبيلة‪ .‬لن التعصب القبلي والمذهبي في ذلك الحين قد بلغ أقصى ما يمكن أن‬
‫يبلغه بسبب المسلك الذي سلكه المعز بن باديس الصنهاجي‪.‬‬
‫والحقيقة أن أبا صالح لم يتولى هذه الحكام للدولة وإنما أسندها إليه العزابة‪ .‬ورضى‬
‫الناس به لثقتهم فيه ورضاهم بحكمة فهو يتولها منهم رغم إنه ل يملك قوة السلطة‬
‫ول تأيد الحكام‪.‬‬
‫على أن الثورات التي كانت تندلع ألسنتها باستمرار وزحف العرب الهلليين‬
‫وإخوانهم بني سليم‪ ،‬وغارات السلب والنهب التي قاموا بها‪ .‬وما يصيب الحياء‬
‫الضاربة في الصحراء من ويلت ومصائب‪ .‬أقلق أبا صالح فترك البادية وانتقل إلى‬
‫جربة وسكن بها واستوطنها‪.‬‬
‫كان أبو صالح عالما واسع المعرفة ومؤمنا خالص اليمان ومربيا خبيرا بأساليب‬
‫التربية السليمة‪ ،‬وحاكما قوي الدارة ل تأخذه في ال لومة لئم فهو أما أن يقيم الحق‬
‫ويثبت العدل وأما أن يتخلى عن الحمم وأسبابه‪.‬‬
‫وكان حريصا على المر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على دين ال‪،‬‬
‫ومحاربة البدعة والمبتدعين‪ ،‬ل يحول بينه وبين ذلك تعب ول مشقة ومع ذلك فهو‬
‫متواضع كريم النفس يعترف بالحق ويقر بالتقصير‪.‬‬
‫سمع أن بعض المبتدعين قد استقروا في جبل ( دمر ) وإنهم ينشرون بدعهم هنالك‬
‫حتى كادوا أ‪ ،‬يؤثروا بها على الناس وإن يجدوا لدعاويهم إذانا‪ .‬فاستدعى إليه ولده‬
‫ويسلن وأمره أن يصحبه في رحلته إليهم على كبر سنة وضعف بدنه وتغلب‬
‫الشيخوخة والهرم عليه وكانت جبال (دمر) وعرة المسالك صعبة المراقي‪ .‬قال‬
‫التيجاني (!) يصف قسما منها‪ » :‬وهو جبل مرتفع في السماء قد سهلت فيه طرق‬
‫ضيقة ل يسلكها السالك إل على غرر وقد أهلها على سلوكها فهم يتنازلون فيها‬
‫تنازي العصم‪ ،‬وكذلك غنمهم وابلهم‪ ،‬يسلك البعير منها مسالك ل يستطيع الدمي‬
‫سلوكها إل بالحيلة‪ «.‬فلما بلغ القرية وهي في قمة الجبل قصد رئيس الجبل زيري بن‬
‫كملين‪ .‬فاستقبله الرجل بالترحاب ولكن الشيخ عجل عليه باللوم والتوبيخ وأنبه على‬
‫تسامحه مع هؤلء المبتدعة الذين يزرعون البدعة‪ ،‬فيقودون الناس إلى النحراف‬
‫عن دين ال‪ .‬ولكن مقدم (دمر) كما يسمى حينئذ أعتذر بأنه ليس لديه من العلم ما يقف‬
‫به في وجه أولئك الناس‪ ،‬وإنه ليس في دمر من يستطيع الرد على أولئك الذين وجدوا‬
‫الجو خاليا فباضوا وأصفروا بحجة العلم وبرهان القناع‪ ،‬وإنه كان من واجب العلماء‬
‫في جربة وغيرها من البلد المجاورة إنه يزوروهم وإن يعلموهم‪ ،‬وإن يردوا عنهم‬
‫السنة السوء‪ ،‬فاجاب الشيخ إنما منع العلماء من تكرار الزيارة ما كان عليه أهل جبل‬
‫دمر في ذلك الحين من ضعف اقتصادي بسبب الجفاف من جهة والضرائب المتتابعة‬
‫من جهة أخرى فمجيء العلماء إليهم يكبدهم نفقات قد ل تتيسر لهم فقال زيرى إذا‬
‫أشفقتم علينا من الناحية القتصادية فهل جئتم إلينا وحملتم معكم أزوادكم فقمتم‬
‫بواجب المر بالمعروف وانهي عن المنكر وتعليم الجاهل ورد البدعة واحياء السنة‬
‫ولم ترزأوا الناس شيئا في أموالهم‪ .‬فأعجب الشيخ بجواب زيرى بن كملين مقدم جبل‬
‫دمر واعترف إن هذا القول حق وإن العلماء مقصرون وإن الحجة قامت عليهم وإن‬
‫أداء مهمته العظيمة‪ .‬كانت تتعاقب عليه حلقات من الطلبة مختلفة المستويات وكانت‬
‫اكبر الحلقات مستوى فيها ابنه أبو محمد ويسلن وأبو يخلف النفوس وكان أبو يخلف‬
‫فقيها حاذقا ذكيا كثير الحفظ متقنا لمسائل الطهارات ضابطا لصولها و فروعها فكان‬
‫أبو صالح يحيل عليه السئلة التي ترد في الحيض و الطهارات ‪ ،‬فيجيب أبو يخلف‬
‫في حياء و أدب بما عنده من علم ثم يعتذر في تواضع ‪ .‬و هكذا ل يستنكف كل من‬
‫العالمين عن العتراف بالقصور ول يستنكف كل من العالمين عن العتراف‬
‫بالقصور و ل يستبد به الغرور الذي يصيب بعض المتعلمين في العصر الحاضر‬
‫فيأنف أن يسترشد من هو أعلم منه وأهدى ‪ .‬و لقد كان إلى هذا الخلق القويم شديدا في‬
‫أمر ال ينكل بالعصاة و المجرمين ‪ ،‬و ل تأخذه بهم رأفة في دين ال و حينما كان‬
‫بالبادية قد أعد خشبة ثقيلة فيها سلسل من الحديد ‪ ،‬يربطهم فيها عند الليل لئل يهربوا‬
‫قبل أن يجرى عليهم الدب او تؤخذ منهم الحقوق و عندما انتقل إلى جربة ألقى تلك‬
‫الخشاب بما فيها من حلق الحديد في بئر خوفا أن تستغل في غير حق أو تستعمل في‬
‫غير ما وضعت له ‪ .‬و عاقب فتى ممن درس على أبى مسور فشدد في عقابه فذهب‬
‫الفتى إلى شيخه أبو مسور يشكو إليه قسوة أبى صالح فقال أبو مسور للفتى وطن‬
‫نفسك على ما تلقى من أبى صالح ‪ ،‬فإن المؤمن كالحديدة المحماة تحرق ما يقع عليها‬
‫أو تقع عليه ‪.‬‬
‫و يبدو أن الفتى لم يتعظ بعقاب أبي صالح و ل بدرس أبي مسور فعاد إلى ما ارتكب‬
‫فأعادالشيخ تأديبه بما عرف عنه من الشدة في دين ال فذهب هذه المرة إلى زكرياء ‪.‬‬
‫يشكو إليه ما يلقى من أبي صالح و كان ينتظر أن يقف أبو زكرياء إلى جانبه ‪ .‬وأن‬
‫يطلب من أبي صالح أن يلجأ إلى العنف في تأديب هذا الرجل و لكن ابا زكرياء حين‬
‫سمع منه ذلك ‪ .‬تجهم وجهه و بدا الغضب عليه ‪ ،‬و قال له في قوة ‪ ،‬أرجو أن ل‬
‫يؤاخذ ال أبا صالح فيما ترك من تمام أدبك ‪ .‬فإن أباك ذكر أنك تنتف لحيته و هكذا‬
‫تعاون المشائخ على تأديب العصاة و اتفقوا على أسلوب أبى صالح و طريقته ‪.‬‬
‫و أبو صالح مع هذه الشدة التي يستعملها مع العصاة المتقدمين في السن فقد كان‬
‫رحيما رقيق القلب واسع الصدر ل يلجأ إلى الشدة إل للضرورة و يستعمل وسائل‬
‫التربية القناعية ما لم تدع الضرورة إلى غيرها ‪.‬‬
‫كان موضوع الدرس في يوم من اليام ( اللباس في الصلة ) و بينما كان الشيخ‬
‫منهمكا في تقرير الدرس و إيضاح جوانبه أراد أحد الطلب أن يداعب الشيخ فقال له‬
‫‪ :‬هل تجوز الصلة بثوب واحد ؟ و أجاب الشيخ على الفور ‪ .‬نعم تجوز إذا كان‬
‫الثوب طاهرا ساترا للعورة – و ابتسم الطالب في خبث و قال أرأيت إن كان الثوب‬
‫شاشية (‪ )1‬فقال الشيخ في بساطة نعم تجوز الصلة بها أذا كانت طاهرة ساترة‬
‫للعورة ‪ ،‬و ضحك التلميذ و استمر الشيخ في الدرس دون أن يغضب كما قد يفعل‬
‫أكثر المدرسين الذين يضيقون بشقاوة الطلب و شقاوتهم ‪.‬‬
‫ناول في يوم من اليام كتابا لحد الطلب المجيدين وأمره أن يقرأ درسا معينا ؟ و بدأ‬
‫الطالب القراءة و استمر فيها و كان إلى جانبه زميل له دونه في العلم و الفهم و لكنه‬
‫كان يتظاهر بالمعرفة و كان ل يفتأ يصحح للول قراءته فأراد الشيخ أن يلقنه درسا‬
‫تأديبا لينا فقال للتلميذ الذي بيده الكتاب أعط الكتاب لمن هو أحسن قراءة منك و أشار‬
‫إلى زميله فسلم له الكتاب وأراد القراءة فلم يستطع و بان له ضعفه بالنسبة إلى زميله‬
‫و اكتفى الشيخ بهذا الدرس العملي في تربية التلميذ المنتفخ الذي غلبه حب الظهور‬
‫على نفسه ‪.‬‬

‫هذه أمثلة من أساليب التربية عند الشيخ بالنسبة لفراد الشعب و لطلبة العلم و بقى‬
‫علينا أن نذكر أمثلة من قصصه للمشاكل و حكمه بين الناس و إيصاله للحقوق إلى‬
‫أصحابها ‪.‬‬
‫عندما كان الشيخ بجربة باع رجل لرجل سلعة اتفقا على تحديد ثمنها بستين غير‬
‫أنهما لم يبينا العملة فلما أراد المشترى أن يدفع الثمن قال البائع العملة ذهب ‪ .‬و قال‬
‫المشترى بل نحاس و تخاصما و ارتفعا إلى أبي صالح فقال أبو صالح أن العرف‬
‫الجاري في جربة التعامل بحناديس النحاس فعلى البائع أن يقبل هذه العملة أو أن‬
‫يأخذ سلعته‪.‬‬
‫ووردت عليه يوما قضية أخرى فقد كان لنكارى على اباضى دين مقداره دينار واحد‬
‫فمات الباضي ولم يخلف شيئا غير شاة واحدة فجاء صاحب الدين إلى ولد المدين‬
‫الميت وطلب إليه أداء دينه فقال الولد دونك الشاة فبعها وخذ مالك وقال صاحب الدين‬
‫بل بع شاتك واعطني مالي فارتفعا إلى أبي صالح فقال أبو صالح الباضي بع شاتك‬
‫وأعط للرجل ماله‪ .‬فقال بعض الحاضرين ممن تلب عليه العصبية المذهبية أن أبا‬
‫صالح أعان النكارى على الباضي فأجابهم رحمة ال بأن الحكم ل يختلف باختلف‬
‫مذاهب المتخاصمين‪.‬‬
‫وقال أبو محمد ويسلن لو أن العواطف تؤثر على أبي لثرت عليه في هذه القضية‬
‫لنه يستطيع أن يستند إلى قول مشهور في الفقه وهو أن الوارث ل يلزمه شيء من‬
‫ديون الميت إذا تبرأ من التركة فلو شاء ل ستند على هذا القول واعتمده وحكم‬
‫للباضي‪ .‬قال أبو العباس الدرجيني‪ .‬إذا لم يخلف المدين إل معينا فعلى الحاكم أن‬
‫يجتهد في النداء حتى يبلغ أقصى ثمنه في الوقت ثم يقضي الدين وهو الصواب إنشاء‬
‫ال لئل يقوم غيره من أصحاب الديون على الوارث‪.‬‬
‫كان رجل في جبال دمر يكنس مر بداله بجانب منزله فرمى حجرا وراء جدار فوقع‬
‫على رجل فمات‪ ،‬ونتجت عن ذلك مشكلة تعددت فيها الراء والنظرات‪ ،‬وأخيرا‬
‫رفعوها إلى أبي صالح فحكم فيها بالدية على عشيرة الرامي وسمع بذلك مقدم جبال‬
‫دمر زيرى بن كملين ففرح بهذا الحكم أيما فرح لنه كان يأخذ الثلث من الدية على‬
‫عادتهم وزعم زيرى وقومه أن هذه السيرة أخذوها عن السلف من الئمة‪ .‬فغضب‬
‫عليهم أبو صالح وأنكر عليهم إنكارا شديدا وأفهمهم أن هذه العادة تخالف أحكام‬
‫السلم‪ ،‬وأقنعهم أن هذه السيرة ل يمكن أن تكون من الئمة لنها مخالفة لشريعة ال‬
‫وما كان الئمة ليعملوا عمل يخالف شريعة ال لم يزل بهم حتى أبطلها فيهم‪.‬‬
‫وكان أبو صالح يجمع إلى غزارة المادة في العلم والقوة في دين ال‪ ،‬والشدة على‬
‫العصارة واللين والمحبة في معاملة التلميذ‪ ،‬عاطفة فياضة وقلبا رحيما بكل ما خلق‬
‫ال‪ .‬وهو في هذا شبيه بالعلمة أبي مهاصر موسى بن جعفر‪ .‬فقد غاب عن أهله‬
‫لشأن من الشؤون وترك فيهم ناقة مصراه فلما رجع بعد أيام وجد أن أهله لم ينزعوا‬
‫الصرار عن الناقة‪ ،‬حتى أثر فيها الخيط وتقيح موضعه فغضب غضبا شديدا لهذا‬
‫الهمال وجعل ينزع الخيط عن الناقة والقيح يقطر عليه فجاء ولده ويسلن يبعد‬
‫إكمال الشيخ حتى ل ينزل عليها الصديد‪ ،‬فانتهره الب وهو يفك الخيط ويجعل على‬
‫موضع التقييح بعض الدوية التي تجففه‪.‬‬
‫وكان كثيرا ما يلجأ إلى التربية العلمية وهو يتولى إيضاح بعض الحكام لولده‬
‫ويسلن بدون أن يشعره بذلك‪.‬‬
‫طلب مرة من ويسلن أن يصحبه في رحلة قصيرة فركب الب اتانا فارهة وكان‬
‫الولد المؤدب العالم بسير إلى جانب أبيه فلما كان ببعض الطريق طلب من ويسلن‬
‫أن يقتطع غصنا من شجرة برية يناوله أياه ليسوق الحمارة ففعل ويسلن فلما ناوله‬
‫القضيب الجديد رمى بقضيب كان في يده وقال لو يسلن هذا هو المال الذي يسميه‬
‫العلماء متروكا ويحل أخذه‪.‬‬
‫وفي سيرهما ذلك وجدا شاة على آخر رمق ل يعرفان لمن هي فقال لولده اذبحها يا‬
‫ويسلن فتردد الولد وتحرج فنزل الشيخ عن الدابة وذبح الشاه وقال لولده انتم اهل‬
‫هذا الزمان‪ ،‬ل تصلحون لشيء ‪ ،‬ول تجزون عن احد في كبيرة ول صغيرة‪ .‬وهو‬
‫بذلك يريد أن يعرف ولده متى يجب عليه التحرج ومتى يجب عليه القيام بواجبه من‬
‫المحافظة على أموال المسلمين أن تضيع‪.‬‬
‫فقد كان رحمه ال شديد العناية بأحوال الناس كثير الحرص على أموالهم شديد التفهم‬
‫لمشاكلهم وكان يريد من العالم أن يفهم أسرار الدين الحنيف فيعرف متى يجب عليه‬
‫العمل ومتى يجب عليه التوقف‪.‬‬
‫زاره فتيان وشكوا إليه أباهم وذكروا له أن أباهم يفرق الموال ويبعثرها دون حساب‬
‫فبعث إليه فحضر الرجل فأخبره بشكوى أولده فقال الرجل إنني أمرؤ قد ارتكبت‬
‫بعض المعاصي أول عهدي وقد من ال على فتبت فأنا ادفع كفارات عن آثامي‬
‫السابقات ثم عقب على ذلك فقال أيريدون أن أكون من أولئك الذين هددهم القرآن‬
‫الكريم لنهم يكنزون الذهب والفضة‪ ،‬فاستحسن الشيخ جواب العامي ووجد أن الحق‬
‫بجانبه فتركه‪.‬‬
‫وكان رحمه ال جم العبادة كثير الصلة محافظا على الطهارة في جميع أحواله زاره‬
‫بعض المشائخ في مرضه الخير‪ ،‬وكان في عريش خارج البيت‪ ،‬وكان بقربه محل‬
‫للوضوء‪ ،‬فجعل المشائخ يحذرون أن يمس الثرى ثيابهم ولحظ الشيخ منهم ذلك فقال‬
‫لهم ل تحذروا على ثيابكم فإنني لم آت ذلك بنجاسة قط‪.‬‬
‫وكان من عادته بعد أن يؤدي ما اعتاد من النوافل أن يدعو إليه أحد طلبته فيأمره‬
‫بقراءة أي السجدة كلها فيسجدها واحدة واحدة قبل أن ينام ‪.‬‬
‫وكان رحمه ال عليه عفيف اللسان كثير الدب جم الحياء لم تسمع منه كلمة ( شر )‬
‫في حياته الطويلة إل مرتين‪ .‬سئل في الولى عن بئر في بستان لغير مالكه هل هي‬
‫عيب فقال شر العيوب‪ ،‬وسئل مرة أخرى عن رجل وكل رجل أن يزوجه فزوجه‬
‫أربع نسوة مرة واحدة فقال هو شر الوكلء‪.‬‬
‫ولعله من المناسب أن أختم هذا الفصل بالكلمة التية التي رواها عنه طلبه كان‬
‫رحمه ال أن يقول‪ » :‬يأتي على الناس زمان يود الرجل من يأكل طعامه فل يجده‬
‫ويود من يستشيره فل يجده ل لقلة الناس بل لقلة الفضلء منهم‪ ،‬فمن أدرك ذلك‬
‫الزمن منكم فليتمسك بما حفظ من دينه دين ال عز وجل‪.‬‬
‫وليعض عليه بالنواجذ‪ « .‬ويبدو لي إننا ادركنا هذا الزمان حقا فإن المواكلة أصبحت‬
‫لغير ال وإن الستشارة أصبحت في اكثر الحيان التماسا للعصبية والفتنة أما النازلة‬
‫فقد قل من يفهمها ويرشد إلى الخلص منها فل حول ول قوة إل بال إنا ل وإنا إليه‬
‫راجعون‪.‬‬
‫أبو زكرياء فصيل أبي مسور‬
‫قال فيه أبو العباس الدرجين ( الطيب موردا و مرعى ‪ ،‬الكري أصل و فرعا ‪ ،‬ورث الجد عن أماد‬

‫الباء ‪ ،‬وأورثه نباء البناء ‪).‬‬

‫عاش أبو زكريا في القرن الرابع ‪ ،‬ولد في أوائله و توفى في أواخره ‪ ،‬و عده أبو عبد‬
‫ال محمد بن زكرياء الباروني من علماء الطبقة الثامنة أي النصف الثاني من القرن‬
‫الرابع ‪.‬‬
‫كانت جربة في هذا العهد شبه مستقلة ‪ ،‬فلقد احتلها العبيديون سنة ‪ 311‬و أخرجهم‬
‫منها أبو يزيد بن كيداد سنة ‪ 331‬ثم قتل أبو يزيد سنة ‪ 335‬فخرج منها أنصاره‬
‫ومنذ ذلك الحين بقيت جربة مستقلة يتولى شئونها شيوخ العزابة كأبي زكرياء فصيل‬
‫وأبي عمرو و النميلي و غيرهم إلى سنة ‪ 431‬حين احتلها من جديد المعز بن باديس‬
‫‪.‬‬
‫و يبدو أن أبا زكرياء فصيل لم يهتم بالشئون السياسية ‪ ،‬و لم يوجه عنايته إلى أنظمة‬
‫الحكم ‪ ،‬و لم يدع إلى محاسبة الدول الظالمة ‪ .‬وإنما كان يهمه أن يعيش أهل الجزيرة‬
‫في أمن و هدوء و سلم ‪ ،‬ولذلك فقد كان رفيقا في معاملة الولة و رجال الحكم على‬
‫البلدان المجاورة ‪ ،‬يظهر لهم الحترام ‪ .‬و ل يتدخل في شؤونهم وإذا ورد أحدهم إلى‬
‫الجزيرة سعى في إكرامه و احترامه ‪ ،‬وتلطف معه حتى يأمن شرهم و ل يستفزهم‬
‫إلى العدوان ‪ ،‬و كان موقفه هذا عكس موقف العلمة أبي عمرو النميلي الذي كان من‬
‫أشد الناس نقمة على الظلم و الظالمين ينتقد انحراف الدول الحاكمة في ذلك الحين و‬
‫يوضح بعدها عن المنهج السلمي في دروسه العامة والخاصة ويرى أن ذلك مخالفة‬
‫لدين ال و المخالفة لدين ال منكر يجب على المؤمن أن ينهى عنه و أن يبرأ من‬
‫فاعله ‪.‬‬
‫قال أبو العباس الدرجيني حين ترجم لبى زكرياء فصيل«‬
‫وكان أبو زكرياء ربما عامل ابن ويمى وأشباهه بالكرام‪ ،‬وقابلهم بغطعام الطعام‪،‬‬
‫فإذا فعل شيئا من ذلك تبرع بإطعام مثله‪ ،‬فالول وقاية للعرض‪ ،‬وابقاء الحرمة‪،‬‬
‫والثاني تكفير عن الول « ويدل على موقف أبي زكريا من الحكام الظالمين ما ذكره‬
‫أكثر المؤرخين الذين ترجموا له‪ .‬فقد كان أهالي جربة كما أشرت آنفا مستقلين او‬
‫شبه مستقلين عن الدولة الحاكمة سواء في ذلك الدولة العبيدية في آخر أيامها والدولة‬
‫الصنهاجية في أول أيامها غير أن الدولة الصنهاجية وقد كثرت عليها الفتن من كل‬
‫الجهات والجوانب كانت في حاجة دائمة إلى مزيد من المال ولذلك فما تتهيأ لهما‬
‫فرصة للستقرار حتى توجه ولدتها إلى جباية الضرائب ممن يدين لها بالطاعة‬
‫واخضاع من ل يدين لها بالطاعة واستباحة أموالهم وفرض الضرائب عليهم‪ .‬وفي‬
‫احى هذه الفترات بعد الزحفة الهللية أمرت عاملها على القيروان أن يتوجه إلى‬
‫احتلل جربة واستباحتها وغنيمة اكثر ما يمكن من الموال واستعد عامل القيروان‬
‫الذي تسميه المصادر التاريخية التي بين يدي ابن ويمى المزاتي وكان فاسقا جائرا‬
‫واتجه إلى جربة في جيش كثيف ولكن هذا العامل كان كثيرا ما يزور جربة زيارات‬
‫عادية فيلقي من أبي زكريا الكرام والحترام ولذلك فعندما أمر باحتلل الجزيرة‬
‫بعث إلى ابن أبي مسور يخبره أنه مكلف من طرف الدولة باحتلل الجزيرة ويطلب‬
‫إليه أن ينحاز بأهله وأقاربه وبني يهراسن إلى المسجد حتى ل ينالهم أذى من الجيش‬
‫الغازي‪ .‬ودخل ابن ويمى الجزيرة وارتكب فيها من الفاعيل ما كان حريا أن يرتكبه‬
‫أمثاله من الفساق الذين يتعاونون مع الحكومات الظالمة في قهر الشعوب والتسلط‬
‫عليها‪ .‬ولما أتم المجزرة التي استعد لها وجميع من الموال ما أمكن أن يجمعه ذهب‬
‫إلى ابن أبي مسور أن مقدار الضريبة التي يستطيع بنو يهراسن قوم أبي مسور أن‬
‫يدفعوها إليه وأخبره العالم الجليل إنهم ضعفاء وإنهم ل يستطيعون أن يدفعوا أكثر من‬
‫دينارين فرضى بذلك ودفع ابن أبي مسور له دينارين من ماله الخاص فقبلهما ابن‬
‫ويمي وهو يقول لقد أفسد أهل جربة الرعية على السلطان‪.‬‬
‫ذكر هذه القصة أكثر المؤرخين الذين تحدثوا عن أبي زكرياء فصيل واعتبروها من‬
‫كراماته فلوله للقى بنو يهراسن ما لقاه غيرهم من ابن ويمى وجنده ولقد قرأت‬
‫القصة متأملتها مرارا وراجعتها في غير مصدر من مصادر التاريخ التي لدى وكانت‬
‫أسئلة كثيرة حائرة تثور في ذهني كلما عدت إلى التأمل فيها‪.‬‬
‫إن الموقف المسالم للحكام الظالمين عندما يتغلبون على المة هو الموقف الذي وقفه‬
‫كثير من علماء المة‪ ،‬بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الرضا بالحكم الظالم أولى من‬
‫الثورة عليه لما تجره من النكبات‪ .‬ومع إنني أعلم هذا ولست أجد شيئا انتقده على‬
‫مسلك أبي زكريا مع الحكام الظالمين‪ ،‬وملطفته لهم وإكرامه إياهم‪ ،‬ومحاولة عدم‬
‫الصطدام معهم‪ ،‬إل إنني غير مطمئن لهذا الموقف الخير منه رضى ال عنه‪ .‬لقد‬
‫عاشت جربة كما قلت أنفا مستقلة أو شبه مستقلة عن الدولة العبيدية‪ ،‬والصنهاجية في‬
‫اكثر الحيان وكانت غير خاضعة لها‪ .‬اللهم إل في مبالغ من المال تدفعها في بعض‬
‫الحيان‪ .‬فلماذا يهادن أبو زكرياء عوامل الظلم‪ ،‬ويسالم أيدي العدوان‪ ،‬وينفصل‬
‫بمسلكه عن علما عصره‪ ،‬أمثال أبي عمرو النملي وابن صالح اليهراسني‪ ،‬وأبي‬
‫موسى الزواغي وأبي محمد كموس‪ ،‬وأبي بكر‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ويرضى أن يرتكب‬
‫الظالمون الفواحش في جربة‪ ،‬في الحين الذي ينفصل هو بآله من بني يهراسن مثل‬
‫فل يمسهم سوء وهل لنجاة بني يهراسن دون إخوانهم من أهل جربة قيمة‪ ،‬وهل يمكن‬
‫إن يصدق أبو زكرياء وعد ابن ويمي‪ ،‬فل يفعل شيئا إل أن يخرج باله إلى المسجد‬
‫ليقيهم سطوة المعتدين‪ .‬ألم يخامره شك في أن طلب ابن ويمي له بانفصاله ل يقصد به‬
‫تكريم أبي مسور وإنما يقصد به أضعاف صف المقاومة في جربة وتفريق الكلمة‪.‬‬
‫إنها خواطر كانت تتعاقب في ذهني وأنا أمر بأحداث هذه القصة فأردت إثباتها هنا‬
‫وهي ل تعني شيئا وأحسب أن القراء الكرام سوف يمرون بها ساخرين‪ .‬فإن أحداث‬
‫التاريخ لم تتوقف في يوم من اليام تنتظر ما تكتبه عنها أقلم الجيال القادمة‪.‬‬

‫كان أبو زكرياء جبل من جبال العلم‪ ،‬ومؤمنا شديد اليمان‪ ،‬وحبا للسلم مخلصا في‬
‫حبه وكان يتمسك بالواضح في دين ال ويصر على العمل بالعزيمة‪ ،‬ول يميل إلى‬
‫الفتوى بالرخصة ويحشد جميع قواة للعلم والتعليم فكان يقول‪ » :‬منزل التلميذ كشجر‬
‫الخروب ل ينبت بجانبه شئ وإن نبت كان ضعيفا‪ ،« .‬ويقصد بذلك أن العناية الكاملة‬
‫يجب أن تصرف إلى التلميذ وإلى تعليمهم وتربيهم وإن الهتمام والشتغال يجب أن‬
‫يصرف إليهم‪.‬‬
‫كان يقول هذا لهله وأقاربه والقائمين على شئون التعليم‪ ،‬حتى تنصرف إلى الطلب‬
‫جميع الجهود وتبذل في سبيلهم كل المساعي‪.‬‬

‫لقد تأسست كثير من المدارس على نفقة العلماء ورعايتهم في كثير من البلد ولقد‬
‫قصر بعضهم جهده على التعليم وبذل فيه كل قوة غير أن أبا زكرياء قد يكون فريدا‬
‫في مسلكه واهتمامه بقضية التعليم ورعايته لها وحدبه عليها ومع قيامه بالتدريس‬
‫وبجلب المدرسين المساعدين إلى مدرسته والنفاق عليهم ماديا حتى يتمكنوا من أداء‬
‫واجبهم والنفاق على القسام الداخلية بتوفير المسكن والمأكل لجميع الطلب الذين‬
‫يأتون من البلد البعيدة وكانت جربة تغص بهم‪ .‬مع كل ذلك كان أبو زكرياء يبتكر‬
‫الوسائل في تحبيب العلم إلى الطلب ل سيما الصغار والجدد منهم‪ .‬وكثرا ما كان‬
‫يعقب التلميذ على الواحهم ودفاترهم وكتبهم بعد خروجهم فيضع فيها مبالغ من المال‬
‫رغبة في إخفاء الصدقة من جهة‪ ،‬وتشجيعا ومساعدة للطلب من جهة أخرى وكان‬
‫الطلب حين يجدون ذلك وهم ل يعرفون مصدرها ول سببها يأتون بها إلى الشيخ‬
‫أبي زكرياء فيخبرونه بأنهم وجدوا تلك الموال في أدواتهم الدراسية دون أن يعرفوا‬
‫من فعل ذلك فيجيبهم أبو زكرياء بأنها أموال ساقها ال إليهم ويحل لهم النتفاع بها‪.‬‬
‫فلما توفى أبو زكريا رحمه ال انقطع ذلك المدد المادي عن الطلبة فعلموا أنه من فعل‬
‫أبي زكرياء‪.‬‬
‫كان أبو بكر الزواغي من أشد القائمين على الظلم المنتقدين على الوضع الفاسد الذي‬
‫كانت المة السلمية تعيشه في ذلك الحين فكان يقول في مجالسه ( لسنا في ظهور‬
‫ول دفاع ول شراء ول كتمان ولكن زماننا سائب‪) .‬‬
‫وبلغت الكلمة إلى أبي زكرياء فخشي أن يفهم الناس أن الزمان السائب مسلك خامس‬
‫من مسالك الدين فقال للذين نقلوا إليه كلمة أبي بكر أخبروا أبا بكر أن مسالك الدين‬
‫أربعة فقط الظهور والدفاع والشراء والكتمان‪.‬‬
‫وأبو بكر الزواغي يعلم ان مسالك الدين أربعة ونحن أيضا نعلم ذلك ولكن كلمة‬
‫الزمن السائب تجد مكانها في بعض الحوال واحسب أن هذا العصر الذي نعيش فيه‬
‫هو الخر داخل في الزمن السائب على أن الوضع الذي كانت عليه جربة في عصر‬
‫أبي زكرياء وأبي بكر يحتاج إلى تفكير لدخاله في مسلك من مسالك الدين فإ‪ ،‬جربة‬
‫في ذلك الحين لم تكن خاضعة لدولة عادلة ول ظالمة وليس في حال ثورة فعلية على‬
‫عهد ظالم وليس فيها فدائيون يحاربون ألوان الظلم والجبروت‪ ،‬والناس مع هذه الحالة‬
‫المائجة ل يحرصون على أداء شعائرهم والمحافظة على دينهم واجتناب ما نهي ال‬
‫عنه‪ .‬إ‪،‬ها على كل حال صورة من صور الحياة في عهود الكتمان ذلك لن جربة لو‬
‫فكرت في تكوين دولة عادلة وبايعت إماما في ذلك العهد لتجهت إليها الضربات من‬
‫كل جانب وتخطفها الظالمون من كل سبيل ولذلك فقد كانت تلك الحياة التي عبر عنها‬
‫العلمة أبو بكر بأنها حالة سائبة هي صورة من الصور التي تعيشها المة تحت‬
‫الحكم الظالم ل تريد شيئا إل أن ينجو من العبث والعيث‪.‬‬
‫لقد عاش أبو زكرياء للعلم ولتصحيح عقائد الناس وأعمالهم في شئونهم الدينية وعاش‬
‫على كرمه وإحسانه ومؤاساته ونفقاته عدد غير قليل من الناس وحين توفى ترك‬
‫للمة ولديه النجيين زكرياء ويونس قال عنهما أبو العباس الدرجيني ‪ ( :‬لكل واحد‬
‫منهما سجايا جود كالسحاب‪ ،‬وذكاء كالشهاب‪ ،‬وحسن سلوك الطريقة‪ ،‬وحفظ العلول‬
‫على الحقيقة‪ ،‬والتمسك من عرى التقوى بالسباب الوثيقة‪ ) .‬فرحم ال الجميع‪.‬‬
‫أبو عمر النميلي‬

‫ولد أبو عمرو النميلي ‪ 311‬من الهجرة النبوية في جزيرة جربة‪ ،‬فنشأ في عصر‬
‫متناقض‪ .‬فبينما كانت الجزيرة تعج بالعلماء العلم وكانت البيئة التي يعيش فيها‬
‫والسرة التي يتربى بين يديها تسير على سمت السلم هديه‪ ،‬مستقيمة كاملة‬
‫الستقامة‪ ،‬محافظة على الدين شديدة المحافظة‪ ،‬متمسكة بهدى السلم شديدة‬
‫التمسك‪ ،‬بينما كانت سيرة الناس في جربة هذه السيرة التي جاء بها السلم‪ .‬كانت‬
‫البيئة الخرى الحاكمة ظالمة شديدة الظلم‪ ،‬متغطرسة شديدة التغطرس‪ ،‬متجبرة‬
‫شديدة التجبر‪ ،‬ل تختار لمناصب الدولة إل أولئك الفراد القوياء في غير دين‪،‬‬
‫القساة في غير لطف‪ ،‬الذين يفعلون ما يطلب إليهم دون رجوع إلى دين أو ضمير‪.‬‬
‫وكان الناس ساخطين على هذا الوضع‪ ،‬ناقمين على هذه السيرة ثائرين على هذه‬
‫الحكام‪.‬‬
‫نشأ أبو عمرو بين هذين التيارين المختلفين فتأثر في دينه وأخلقه وسلوكه بأسرته‬
‫ومجتمعيه‪ ،‬فشب مؤمنا قوي اليمان حريصا على الستقامة شديدة الحرص‪ ،‬داعيا‬
‫إلى الهتداء بهدى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ناقما على الظلم والظالمين‪ ،‬ثائرا‬
‫على من يخالف السلم في أحكامه ومبادئه‪ ،‬داعيا إلى الضرب على أيدي الطغاة‪.‬‬
‫وكان ل ينفك عن هذه الدعوة في دروسه وفي أحاديثه أينما سار وأينما كان‪ .‬وليس‬
‫هذا شأن أبي عمر وحده‪ ،‬ولكنه شأن جمع من العلماء في جربة وفي غيرها وإن كان‬
‫الوضع في جربة من الناحية السياسية خيرا منه في بقية البلدان‪.‬‬
‫ولد أبو عمرو في السنة التي احتل فيها الفاطميون جربة على يد علي بن سليمان‬
‫الداعي ولقد ارتكبوا فيها من المناكر ما اعتادوا أن يرتكبوه في كل بلد احتلوه وبقيت‬
‫الجزيرة خاضعة لحكمهم في الظاهر إلى السنة ‪ 331‬حين احتلها أبو يزيد بن كيداد‬
‫وطرد منها حكام الدولة الفاطمية وارتكب فيها من الفاعيل ما ل يرتكبه مؤمن ( فإن‬
‫اليمان قيد الفتك ) أو كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬إل أن أبا يزيد شغل‬
‫بمحاربة الدولة الفاطمية حتى قتل سنة ‪ 335‬وبذلك بقيت جربة مستقلة عن حكم أبي‬
‫يزيد الذي قتل وعن الدولة الفاطمية الذين خرجوا بسبب انتصار أبي يزيد عليهم‪.‬‬
‫وهكذا استقرت فيها المور ورجع الحكم إلى مشائخ العزابة الذين يتولون رعاية‬
‫شؤونها بحكم ال وذاق الناس حلوة اليمان في هذا العهد‪ ،‬وتمتعوا بعدالة السلم‬
‫التي يجريها علماء السلم وكان أبو عمرو النميلي ضمن مجموعة العلماء الذين‬
‫يديرون أمر الجزيرة وتولون شؤونها‪ ،‬وكافحوا حرصا على أن يحتفظ الناس بعزة‬
‫السلم فل تستعبدهم القوة‪ ،‬ول تغرهم الشهرة‪ .‬ول يجرفهم تيارات النحراف‪ ،‬وإن‬
‫يتخلقوا بأخلق السلم‪ .‬فكانوا يتولون ذلك منهم‪ ،‬بالموعظة الحسنة‪ ،‬والقدوة‬
‫الصالحة‪ ،‬والبيان الفصيح الصريح‪ ،‬وإيضاح سيرة المسلمين المهتدين في عهد النبوة‬
‫وما تله من عهود إلى عصرهم وهم في كل ذلك ل يتحرجون عن نقدهم لمسلك‬
‫الحكومات الظالمة التي كانت تجاورهم وازدهر الجانب العلمي هنالك فتألفت الجمعية‬
‫العلمية في غار أمجماج وكان أبو عمرو أحد أعضائها‪ ،‬والفت الديون المعروف الذي‬
‫تحدثنا عنه في بعض حلقات هذا الكتاب‪.‬‬
‫وهكذا بينما كانت بقية البلد في الجنوب التونسي تعاني من الفتن المتعاقبة والنزاع‬
‫المستمر والظلم الذي ينزل عليهم متتابع من الحكام أشد ما تعانيه أمه في عهد حكم‬
‫فاسد كانت جربة آمنة مطمئنة مستترة تنشر العلم وتكون الجمعيات وتشتغل بتأليف‬
‫أضخ الدواوين إلى سنة ‪ 431‬حين جهز المعز بن باديس الصنهاجي جيشا واحتل‬
‫جربة وارتكب فيها أفظع جريمة يرتكبها قائد حربي‪ .‬فقد جمع إليه أكبر طبقة من‬
‫العلماء العلم وأمر بقتلهم معتقدا إنه بقتل أولئك العلماء يستطيع أن يضمن طاعة‬
‫جربة أول وأن يحول سكانها من المذهب الباضي إلى المذهب المالكي كما كان‬
‫يحاول أن يفعل ذلك في بقية المملكة فقد أجهد نفسه وأجهد الناس معه على أن‬
‫يجمعهم جميعا على المذهب المالكي واشتد في التنكيل بكل من يخالفه‪.‬‬
‫وكان من العلماء الذين دعاهم إليه أبو عمر النميلي وقد بلغ مائة وعشرين سنة من‬
‫عمره المبارك قضاها في نشر العلم بين تدريس وتأليف وفي محاربة المنكر في شتى‬
‫صورة وألوانه‪.‬‬
‫وأمر المعز بن باديس وهو منتش بالنصر الذي أحرزه على اخوته المسلمين بأبي‬
‫عمرو فذبح كما تذبح الغنام ولم يشفع له عند الطاغية ابن باديس ل جللة العلم ول‬
‫قار السن‪ .‬ول حتى انتظار الجل القريب للشيخ الفاني وهكذا كتب لبي عمرو أن‬
‫تختتم أعماله المجيدة في سبيل ال بالشهادة بعد أن حمل رسالته قرنا كامل من الزمان‬
‫روي ابن عباس عن رسول ال صلى ال عليه وسلم إنه قال‪ » :‬أفضل العمال كلمة‬
‫حق يقتل عليها صاحبها عند سلطان جائر‪ « .‬صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫أبو الخطاب عبد السلم بن منظور‬

‫أخذ المبادئ الولى في اللغة العربية وفي الشريعة السلمية عن علماء مزاته‬
‫وحضر مجالس أبي عبد ال محمد بن بكر حين كان يرتب نظام الحلقة فكان عبد‬
‫السلم ممن وضع لها الساس وأحكم لها الحراس كما يقول أبو العباس الدرجيني‬
‫أما دراسته فقد كانت على العلمة الكبير أبي نوح سعيد بن زنغيل‪ .‬ومن أبي نوح أخذ‬
‫مع العلم ما كان يتمتع به إستاذه الكبير من حيوية ونشاط واستعداد للكفاح‪.‬‬
‫لقد درس على ابي نوح سعيد بن زنغيل وسبقه على هذا المجلس المام الكبير أبو‬
‫عبد ال محمد بن بكر وعندما كان أبو الخطاب طالبا في حلقة الدرس كان أبو عبد ال‬
‫قد بدأ يشتهر وتتجمع عليه حلق التلميذ والعلماء ولما انفصل عبد السلم عن مدرسة‬
‫أبي نوح ارتحل إلى كنومه والتحق بحلقة أبى عبد ال فدرس ودرس‪ ،‬وكان ضمن‬
‫العلماء الذين يحضرون على أبي عبد ال العلمة أبو محمد يوجين اليفرني كان عبد‬
‫السلم بن منظور مجرا مشغوفا بالمذاكرة يطيل حتى أوقظك لصلة الفجر‪ .‬ويستمر‬
‫عبد السلم في المذاكرة إلى هزيع من الليل وما يكاد يلمس جنبه الفراش حتى يرن‬
‫في إذنه صوت أبي محمد يوجين في حنان وإعزاز يا عبد السلم يا بني قم‪ ،‬فإنما نال‬
‫الصالحون ما نالوا بترك اللذات‪ ،‬والنوم من اللذات‪ « .‬فيتمطى الفتى في مكانه‪ ،‬وإن‬
‫أو صاله ل تزال عالقة بالفراش ولكنه سرعان ما يثب لئل يغلبه سلطان النعاس‪،‬‬
‫فيأخذ البريق‪ ،‬وما أن يتوظأ ويستقبل القبلة ويصلي ل ما يشاء حتى تكون بقايا النوم‬
‫والكسل قد طارت من عينيه فيأخذ كتبه ويعتزل في زاوية على نور مصباح هزيل‬
‫من الزيت ثم يستمر في الدراسة في جو السحر الهادئ اللطيف‪.‬‬
‫مكث أبو عبد ال محمد بن بكر في كنومه مدة رآها كافية لصلح الوضع فقد استقام‬
‫الناس وحرصوا على التمسك بالدين وبدأ نظام العزابة يوجه المة إلى الخير وترتبت‬
‫الحلقة وأحس الناس كبارا وصغارا رغبة ملحة في التعليم فاطمأن المام عليها وأراد‬
‫الرتحال إلى بلد أخرى محتاجة إلى جهوده المباركة‪ .‬وكان عبد السلم قد أصبح ذا‬
‫كفاءة للرشاد والتوجيه‪ ،‬والدعوة إلى سبيل ال والتدريس في العلوم اللغوية‬
‫والشرعية التي يحتاج إليها الناس وكان يفكر في الرجوع إلى موطنه ليقوم بالكفاح‬
‫في سبيل ال‪ ،‬ولكن المام الكبر أبا عبد ال صاحب نظام العزابة دعاه إليه‪ ،‬لما رآه‬
‫فيه من حيوية ونشاط ومحبة للعمل‪ ،‬ومداومته عليه وقال له لقد رأيت إنه انتقل إلى‬
‫وادي أريغ ومعى الدارسون والمدرسون لنجعل تلك البلد مركزا للدعوة زمنا‪،‬‬
‫وأرى أن تنتقل معي لن من يقصده الناس بحاجاتهم كمن دخل الحرب ل غناء به‬
‫عمن يعينه ويؤيده‪ ،‬ويرعاه ويرفده‪ .‬ويداوي جراحه‪ ،‬وإل كان هلكه وشيكا‪ .‬وأمتثل‬
‫عبد السلم لمر المام‪ ،‬وهل كان يسعه غير المتثال وسافر معه واطمأن به المقام‬
‫وكان الساعد اليمن لبي عبد ال يتولى عنه كثيرا من شئون الطلبة والناس وقد رأى‬
‫أبو عبد ال أن يقيده بالزواج فاستشاره في ذلك وخطب له ابنه أبي القاسم فتزوجها‬
‫وأقام مع المام يساعده ثم حن إلى أهله وبلده فاستأذنه في زيارتهم‪.‬‬

‫لما وصل وطنه اجتمع عليه قومه أهل عشيرته وقالوا له أن تركتنا فما نحن بتاركيك‬
‫أقم بيننا وقم بما كان يقوم به أبوك من التعليم والتوجيه والصلح والكنت مسئول‬
‫بين يدي ال عنا وخائنا لمانته فينا فإننا في أشد الحاجة إليك وليس لناغني عنك‪،‬‬
‫فأجاب رغبتهم وعزم على القامة بينهم ففرحوا بذلك ولكي يوثقوه بهم خطبوا فتاة‬
‫وافر الجمال والدب والدين هي زينب بنت فذهب إلى أبي عبد ال وأخبره بما جد من‬
‫أمره وبعزمه على طلق ابنة أبي القاسم واضطراره إلى فراقها وبأنه جاء معه‬
‫ببعض الصداق والباقي سوف يدفعه متى تيسرت له الحوال فلما علم أبو القاسم والد‬
‫الفتاة استحيا إن يأخذ عرضا من أعراض الدنيا من أبي الخطاب وقال لبي عبد ال‬
‫بن بكر معاذ ال أن آخذ عرضا من أعراض الدنيا فقد جمعتنا من قبل المحبة في ال‬
‫وحين شاءت إرادة ال الفراق فاشهدوا إني تحملت عنه جميع ما لها بذمته ومع هذا‬
‫الموقف النبيل من أبي القاسم أراد أبو الخطاب أن يطمئن فحضرت إليه الزوجة‬
‫السابقة وتسامحا عما مضى من حياتها وجعلته في حل مما لها عليه‪ .‬وقد حاول المام‬
‫أبو عبد ال هذه المرة أيضا أن يثنى عزم صديقه وتلميذه عن الذهاب ولكن الرجل‬
‫صمم فإن إثقال وضعت في عنقه‪.‬‬
‫وشاءت ظروف الحياة القاسية أن ل يطمئن المقام به في موطنه فقد تعاونت عوامل‬
‫الفتن والظلم والجفاف على الناس واضطرت قبيلة مزاته أن ترتحل إلى طرابلس‬
‫طلبا لخصب الحياة فاقمت هنالك ما أقامت وحين همت بالرجوع إلى موطنها عرج‬
‫أبو الخطاب عبد السلم بأهله على جبل نفوسه وطاب له المقام هنالك فترة من الزمن‬
‫انتهز فيها الفرصة لداء فريضة الحج ولما رجع من بيت ال ارتحل من جبل نفوسة‬
‫واختار لمقامه قلعة بني درجين قرب نفطة وكانت حينئذ مدينة عامرة بالعلم رخية‬
‫الحياة قوية مهيبة الجانب تعد نجوا من عشرين ألف فارس وهي قوة لها حساب في‬
‫ذلك العصر‪.‬‬
‫لطمأنت الحياة بأبي الخطاب في درجين ولم يكن ينقصه شئ إل إنه لم يرزق أولدا‬
‫ذكورا وإنما رزق عددا من البنات من زوجته الثانية زينب بنت أبي الحسن وعندما‬
‫يجمعها السمر كان كثيرا ما يقول لها في مداعبة ورجاء أن تفهم ما يرمى إليه (يوشك‬
‫أن يغلب بنو العم على بناتك يا زينب) وهو يقصد أن أولئك البنات عندما يكبرن‬
‫يخطبهن أبناء العم فيتزوجن ول يبقى للبيت غيرها‪ .‬وما أشد وحشة بيت ل يسكنه‬
‫غير شيخين هرمين وكانت الزوجة الوفية المحبة تفهم ما يرمى إليه زوجها من وراء‬
‫كلمه وتتمنى أن يكون لبناتها أخ ولكن ما حيلتها هي‪ ،‬إن ال هو الذي يهب الذكور‬
‫والناث وأشرق ذهنها بومضة وهي تفكر في إسعاد زوجها‪.‬‬
‫وقع في ليبيا قحط وجفاف استمر عدة سنوات مع فساد في الحكم وظلم من الحكام‬
‫فهاجر اكثر الناس سنة ‪ 430‬وأرخو فيما بعد بهذا العام وسمره عام ( فرورا )‬
‫وقدمت أسرة من تلك السر التي خاجرت طلبا للمعيشة إلى درجين وسكنت في‬
‫جوار أبي الخطاب وكانت للسرة فتاة مشرقة الجمال صبية أديبة نشيطة وكانت‬
‫زينب تنظر إليها وتعجب بها وأحبتها فخطبتها لبعلها الشيخ وهي تدعو ال تعالى أن‬
‫يرحم زوجها فيهب له ولدا تقر به عينه ولبناتها أخا يلجأن إليه إذا ضاقت بهن سبل‬
‫الحياة‪.‬‬
‫وتزوج الشيخ هذه الفتاة‪ ،‬ولكن أقامتهم بعد ذلك في درجين لم تطل‪ .‬فقد بدأ للدولة‬
‫الصنهاجية أن تقضي على هذه القوة الموجودة في درجين فجهزت جيشا كثيفا على‬
‫حين غفلة ولم يسمع أهل درجين حتى وجدوا جيشا كثيفا يحيط بالقلعة من جميع‬
‫الجهات وطال الحصار واضطر أهل القلعة إلى فتح البواب والحرب بما أمكن‪،‬‬
‫يقول أبو العباس الشماخي » فنزل عسكر صنهاجة على قلعة درجين فحاصرها‬
‫حصارا شديدا فلما اشتد عليهم الحصار خرجوا عليه خروج رجل واحد يقاتلون‪،‬‬
‫فقتلوا عن أخرهم‪ ،‬واستبيح ما في القلعة‪ « .‬كان أبو الخطاب غائبا عند وقوع هذه‬
‫الحداث فما كان يخطر له أن الدولة التي يطلب منها الحماية هي التي تتولى العدوان‬
‫فلما عاد وجد ان القلعة قد استبيحت وأن أهله حفظهم بعض أهل المروءة ممن كان‬
‫في الجيش وسمع أخوانه بنكبة درجين فاسفوا أن ينحدر الظلم بأصحاب الحكم إلى‬
‫هذا القرار‪ ،‬وبعثوا وفدا منهم يطلب إلى أبي الخطاب الرحيل إلى آجلو والقامة فيه‬
‫فارتحل بأهله إلى اجلو وهنالك ولدت زوجته الخيرة مولودها البكر وكان ذكرا فلما‬
‫بشروه بذلك قال لهم‪ » :‬إن ولد الشيخ يتيم « يعني أن الشيخ الهرم على حافة القبر‬
‫وإن أولده في هذه السن هم كاليتام لنه مهما يطل عمر أبيهم فمدته قصيرة ول بد‬
‫أن يتركهم‪ ،‬وسمى الولد سعيدا ومن هذا الولد تناسلت ذرية أب الخطاب عبد السلم‬
‫ابن منظور‪.‬‬

‫يبدو أني أطلت الحديث عن حياة الشيخ الخاصة بما لم أتعود مثله في أحاديثي عن‬
‫العلم الذين ذكرتهم في هذا الكتاب‪ .‬وقد ساقني إلى ذلك تربط الحداث وتناسقها‪.‬‬
‫كان عبد السلم عالما غزير المادة مستقل برأيه ل يقلد غيره إذا بدت لهالحجة‬
‫واتضح له البرهان وكانت له أراء خاصة لم يقل بها غيره من الفقهاء فيما أعلم‪ ،‬مر‬
‫يوما على أهل أمسنان فأخبروه أن رجل منهم أقر على نفسه بالزنا فأمرهم أن‬
‫يحضروه ولما اعترف الرجل على نفسه بارتكاب الفاحشة أمرهم أن يأخذوه إلى‬
‫مزبلة وأن يرجموه وحضر وقت صلة الظهر وكان اليوم جمعة فخطب فيهم وصلى‬
‫بهم صلة الجمعة ثم ثم قال لهم إن الكتمان يأخذ من الظهور وأن الظهور ل يأخذ من‬
‫الكتمان وهذا يعني أن المة المسلمة حين تكون ضعيفة مغلوبة على أمرها تنفذ ما‬
‫تستطيع من أحكام ال أما إذا كانت الدولة مسلمة قادرة على تنفيذ الحكام فإنها ل‬
‫يجوز لها أن تتخلى عن تنفيذ أحكام ال‪ .‬وهي نظرة اجتهادية لم أعلمها لغيره من‬
‫الفقهاء‪.‬‬

‫وكان شديد الورع كثير الحتياط اشترى يوما ما عددا من الخرفان من رجل في‬
‫السوق فلما أراد دفع الثمن مد البائع يده وقال له ( أرا) يعني هات وهي لهجة بربرية‬
‫خاصة بصنهاجة‪ .‬فخشي الشيخ أن يكون الرجل من صنهاجة وصنهاجة في ذلك‬
‫الحين ل تتورع عن أموال الناس ودمائهم فدفع الثمن لصاحب الخرفان وتصدق بها‬
‫على الفقراء والمساكين تحرجا من رزق صنهاجة لتجبرهم وغضبهم للناس أموالهم‪.‬‬
‫وإنني استغفر ال من التعميم في هذا الحكم فلست اعتقد أن صنهاجة كلها على خلق‬
‫واحد‪.‬‬
‫حين ارتحل أبو الخطاب من درجين إلى أجلو احب أن يزور أريغ وأن يستمع‬
‫بصحبه أبي عبدال أياما فلما وصله وجده مريضا على فراش الموت فجعل يتأسف‬
‫ويظهر الجزع على فراقه فقال له الشيخ أقصر عن هذا يا عبد السلم وعليك بالدعاء‬
‫وجعل يكررها حتى فاضت روحه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية‪.‬‬
‫فكان أبو الخطاب يقول مثلى مثل من يسير في شدة الحر قاصدا شجرة يتفيأ ظللها‬
‫فلما وصلها اقتلعت فأضحى ضاحيا‪..‬‬
‫هذه صور من حياة علم من أعلم السلم عاش في كفاح مستمر وقد تنقلت به‬
‫الظروف الحياة من مكان إلى مكان مثل للمؤمن يلتزم السير على الجادة مهما تقلبت‬
‫به الحوال‪ ،‬فرحم ال أولئك العلم الذين اصلحوا أنفسهم عند فساد الناس‪.‬‬

‫أبو محمد عبد ال بن مانوج اللمائي‬

‫نشأ أبو محمد عبد ال بن مانوج كما نشأ فتيان قبيلته في البادية صحيح البنية‪ ،‬قوي‬
‫افرادة‪ ،‬قويم الخلق‪ ،‬صريحا فصيحا صدوقا‪ ،‬ولم يتح له في صغره أن يدرس فشب‬
‫أميا ل يعرف القراءة ول الكتابة‪ ،‬وإنما أخذ مبادئ دينه بطريقة التلقين‪ ،‬فحفظ بعض‬
‫السور القصار من كتاب ال وتعلم الحكام العملية للسلم دون تعمق أو فلسفة‪ ،‬إنه‬
‫صورة من أولئك المسلمين الوائل الذين يفدون على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فيقرون بكلمة التوحيد فيبين لهم صلى ال عليه وسلم باوجز عبارة ما يطلب منهم أو‬
‫يحرم عليهم فيستمسكون بذلك ويعضون عليه بالنواجذ‪.‬‬
‫كان أبو محمد عبدال بن مانوج يشتغل بتربية الماشية كما يشتغل اكثر سكان البادية‪.‬‬
‫يتولى رعايتها بنفسه‪ ،‬ويتبعها بشخصية ويهش عليها بعصاه‪ ،‬وذات يوم – بينما‬
‫كانت غنمة منتشرة في سهل أخضر تنتقي العشب وتقطف منه الطري الشهي‪ ،‬وقد‬
‫بدا عليها أثر حسن الرعاية ووضح السمن‪ .‬وهو يسوقها تارة ويتقدمها أخرى مغتبطا‬
‫مسرورا – مر به شيخ من شيوخ لماية فسلم عليه وحدثه مليا ثم أشار إلى الغنم وقال‬
‫لبي محمد نعم الغنم التي ترعاها لحية وسر أبو محمد بهذا الطراء ولكن الشيخ‬
‫الوقور لم يقف عند ها الحد فاردف يقول‪ :‬وبئست اللحية التي ترعى الغنم‪ .‬وذهب‬
‫الشيخ لكن الكلمة الحكيمة التي ألقاها في أذنه بقيت مجلجلة تدوي في أعماقه‪ ،‬وشغل‬
‫ذهنه وفكر فيها تفكير الرجل الحريص على سعادته في مستقبله‪ ،‬وتحقق أن اللحية‬
‫التي تقضى عمرها ترعى الغنم ل تزيد أن تكون شاة من الغنم‪ ،‬ولذلك فقد قرر أن‬
‫يغير مجرى حياته حتى بعد أن اجتاز مرحلة الطفولة والشباب ودخل مرحلة الكهولة‬
‫فإن تقدمه في العمر لم يقف حاجزا دون المل الذي انبثق في قلبه وعاد بالغنم إلى‬
‫الحي بعد هون من الليل وفي الصباح أخبر أهل الحي بما صمم عليه‪ ،‬لقد ترك الغنم‬
‫لمن يريد أن يرعى الغنم‪.‬‬
‫كانت جربة أقرب مكان علمي إليه وكانت المدارس منتشرة فيها دائبة الحركة في‬
‫التربية والتعليم وكانت المساجد في كل ناحية من نواحيها عامرة بالمصلين وبحلق‬
‫الدروس المتعاقبة وبالوعظ والرشاد‪ .‬فاختار أبو محمد عبد ال هذه الجزيرة لتكون‬
‫محل دراسته وسافر إليها واستقر بها وكان يعمل التلميذ الجاد الراغب القوي العزيمة‬
‫فكان ل يقتصر على مدرسة ول يختص بمدرس ولكنه كان يطلب العلم من معادنه‬
‫جميعا فكان يحضر مجالس أبي صالح‪ ،‬ومجالس أبي موسى‪ .‬فيلتقط ما ينثره أولئك‬
‫العلم من علم وحكمة ومكث على هذه الحال زمنا حتى ظن أنه أبعد الجهل عن‬
‫نفسه وبلغ في العلم مبلغا فرجع إلى قبيلته الضاربة في شعاب البادية واستقبله الناس‬
‫بالترحاب‪ ،‬وفرحوا بمقدمه أيى فرح‪ ،‬فقد أصبح حيهم يأوي عالما وجاء الشيخ‬
‫اللمائي إلى الحي وسلم على أبي محمد وناقشه في مسائل من العلم وعرف أن أبا‬
‫محمد لم يبلغ الدرجة التي يؤملها له ولذلك فقد قال له وهو يودعه‪ :‬أن جميع البل‬
‫تبرك لحمل الثقال ولكن التفاضل بينهما إنما يكون بإيصال الحمال إلى الغاية‪..‬‬
‫وذهب الشيخ وبقي أبو محمد يفكر في الموضوع إنه قضى وقتا صالحا في الدراسة‬
‫وتحصل على مبلغ من العلم ولكن هل يكفيه هذا المبلغ إنه ل يزال في حاجة إلى‬
‫المزيد وقرر أ‪ ،‬يعود إلى الجزيرة العامرة بالعلم والصلح وعاد واستمر في دراسته‬
‫زمنا حسبه كافيا لدراك الغاية فرجع أيضا إلى حيه ذلك الحي الذي يقتعد رأس شعبة‬
‫خصبة تسرح فيها النعام‪ .‬وفرح القوم به كما فرحوا أول مرة واجتمعوا لتحيته‬
‫ولسماع الحكمة منه وحضر الشيخ فيمن حضر من الناس واستمع إلى درس أبي‬
‫محمد ثم ناقشه في أصول وفروع من العلم فلم يطمئن له ولذاكرته ولذلك قال له وهو‬
‫يودعه أن جميع الغدران تمسك الماء ولكن التفاضل في طول البقاء‪ .‬واستجاب أبو‬
‫محمد لنصيحة الرجل للمرة الثالثة وذهب إلى جربة وبقي فيها حتى اعترف له‬
‫العلماء وحتى بلغ درجة الجتهاد وحتى اختير عضوا في جمعية العلماء التي الفت‬
‫الموسوعة العلمية المعروفة بالديوان في خمسة وعشرين جزءا وتعتبر من أهم‬
‫الفقهية والتشريعية السلمية ولو لم يؤلف علماء الباضية غيرها ل غنت‪.‬‬

‫كان رحمه ال نير البصيرة‪ ،‬قويا في الحق‪ ،‬مخلصا النصيحة ل وللمسلمين‪ ،‬ذافهم‬
‫صحيح لدين ال وللمقاصد التشريعية في السلم‪ ،‬مجتهدا في العبادة يحمل نفسه على‬
‫العزيمة والعمل الشاق شديد الحتياط في الطهارة‪ ،‬حتى إنه لما كان بالبادية اتخذ‬
‫خيمة خاصة بالستحمام وكان له في كل جهة من جهاتها مستحم حتى يتقي الريح‪.‬‬
‫ولما كبر أصيب بمرض في عينيه يضره استعمال الماء فكان يغتسل ويتوظأ لجميع‬
‫أعضائه ما عدا وجهه فإنه يتيمم له فقيل له يكفيك التيمم فقال تلك مسألة العاجز وكأنه‬
‫كان ينظر إلى قوله صلى ال عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فقد‬
‫استطاع الشيخ في تلك الحالت أن يغسل جميع بدنه ما عدا الوجه وأن يتوظأ لجميع‬
‫أعضائه ما عدا الوجه فاستجاب لمر الشريعة أما العضو الذي لم يستطع أن يغسله‬
‫فقد تيمم له حتى يخرج من الخلف‪.‬‬

‫تذاكر – مع أبي عمران موسى بن زكرياء أحد زملئه في تأليف الديوان – ما ابتلى‬
‫به الناس في ذلك الحين من ضيق المور وكثرة الريب وما يدخل على الناس من ذلك‬
‫مما يعلمون ومما ل يعلمون من الشبه والريبة‪ .‬قال أبو عمران إنما نعيش اليوم‪،‬‬
‫بحمل الشياء على احسن وجوهها قال أبو محمد إنما يصح ذلك في أحوال‬
‫الطهارات‪ ،‬أما في الموال فل فأستحسن أبو عمران هذا الجواب من أبي محمد‬
‫ووافقه عليه‪.‬‬

‫سئل يوما ما العبادة؟ فقال‪ :‬العبادة هي النية والخلص‪ ،‬ل ما يتخيله الناس من كثرة‬
‫العمل والجتهاد‪ ،‬إل إذا صحب ذلك النية والخلص فإن الكثرة حينئذ تكون أفضل‪.‬‬
‫ثم ضرب للسائل مثل فقال‪ :‬إل ترى ولدي داود يقيم افتنه وهو يحفظ ما بين دفتي‬
‫المصحف‪.‬‬
‫ويعلق أبو عباس على هذا فيقول‪ » :‬وأكثر قصده في ذلك ما يقذع به ابنه عما هو‬
‫ليس بسببه‪ ،‬وكان ينهي عن معاضدة داود ومساعدته خوفا أن يصيبهم ما أصابه‪ ،‬فلم‬
‫يزل متكدر النفس من اجله لسلوكه عن طريقة ابيه حتى عادت عليه بركة الشيخ‬
‫فالمهمة ال الرشد‪ ،‬وتاب عما كان عليه وحسنت توبته‪« .‬‬
‫كان ما كسن بن الخير شابا قوي الذاكرة حاد الذكاء راغبا في العلم‪ ،‬فمر وهو في‬
‫طريقة إلى جربة للدراسة بأبي محمد فرأى أن يسأله النصيحة في موضوع الدراسة‬
‫فقال له‪ :‬إنني مبتدئ في الدراسة فبأي مادة أبتدئ أبعلم الكلم أم بعلم الفقه؟ فقال أبو‬
‫محمد وقد توسم في الفتى الذكاء‪ ،‬والرغبة أدرس الجميع فقال ماكسن‪ :‬فإن قصر‬
‫فهمي فقال أبو محمد فدينك علم الفقه‪.‬‬
‫زاره عبود بن منار المزاتي فرحب به وقال له يا عبود! إنك عظيم القدر عندي فما‬
‫حالك وكان عبود متوسط الحال صاحب أنعام وحبوب‪.‬‬
‫فأجاب عبود إنني بخير ولكن ركبتني ديون‪.‬‬

‫فغضب أبو محمود وقال له‪ :‬أعليك الدين وتزورني؟ أبعد عني‪ ..‬وهذا الغضب من‬
‫أبي محمد في محله فإن استطاعة عبود أن يتخلص منها‪ .‬وخرج عبود محرجا إلى‬
‫أهله ودعا إليه صديقه الحميم على بن يخلف وقص عليه القصة ثم قال له بادرني يا‬
‫علي بمن يخلصني من هذا الدين‪ .‬واهتم على بالموضوع في الحال واحضر إليه من‬
‫اشترى منه عبدا وقطعيا من الغنم وكمية من الحبوب ودفع الديون التي عليه ولم يلبث‬
‫بعد ذلك إل قليل حتى غارت على حيه غارة من أولئك الناس الذين لم يتخلصوا من‬
‫عادات الجاهلية ودافع عبود عن نفسه وماله حتى قتل رحمه‪.‬‬

‫لقد طالت الحياة بأبي محمد وامتد به العمر وفي أواخر عمره امسك عن الفتوى فلما‬
‫قيل له في ذلك أجاب‪ :‬أن بعض العلماء يقول إذا علم العالم من نفسه ضعف العقل فل‬
‫يفتي وأنا أخذ بهذا‪ .‬واترك الناس قبل أن يتركوني ولعل خير ما نختم به هذا الفصل‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫زاره عمروس بن عبد ال الزواغي فسأله عن حاله فأعلمه إنه صالح الحال فكان مما‬
‫قال له‪ :‬يا عمروس ‪ :‬إجعل تقوى ال جنة‪ ،‬فإنه خير جنة‪ ،‬وأحسن معاشرتك للناس‪.‬‬
‫فقال عمروس وأي الناس! فتبسم أبو محمد ابتسامة إعجاب وفرح وقال أحسنت‬
‫وفهمت! ‪ ..‬الناس هم الصالحون‪« .‬‬
‫فرحم ال أولئك الناس‪.‬‬
‫أسرة يخلف بن يخلف‬

‫يخلف بن يخلف النفوسي التميجاري جد أسرة كريمة متسلسلة في العلم والعمل‬


‫والصلح‪ ،‬وهو وإن كان من تميجار‪ ،‬في أواسط جبل نفوسة إل إنه استقر في‬
‫الجنوب التونسي‪ ،‬فكانت إقامته بنفطة‪ ،‬وسكنى بنيه بدرجين ذلك الحصن الذي كان‬
‫معقل من معاقل العلم والصلح والستقامة حتى دهمته الحوادث السود والفتن‬
‫العمياء فلم تزل تتعاقب عليه بالنكبات حتى خربت ما جاوره‪.‬‬
‫كان العلمة يخلف في مرتبة من العلم يقل فيها النظير وكان من الذكاء واللمعية‬
‫والفطنة بحيث يكون ظنه كالرؤية والسماع‪ ،‬وكان من نفاذ البصيرة وصواب الرأي‬
‫في المنزلة التي رضى بها عنه المسلمون موافقين ومخالفين‪ ،‬وكان من دقة الحكم‬
‫وتحرير الفتوى وتحقيق الحجة في الدرجة التي أجمع الناس على قبولها من جميع‬
‫الفرق والمذاهب في بلد نفطة والجريد فكانت جميع المشاكل والمنازعات ترفع إليه‬
‫فيقضى فيها بحكم ال ويفصل بين الناس فيتبعون حكمه برضاء وتسليم‪.‬‬

‫واشتهر الرجل بالعلم والصلح بين الناس فأصبح ملجأ لهم في جميع مشاكل الحياة‪.‬‬
‫حدث أبو عبد اله بن بهلول النفطي قال‪ :‬ورد على شيخنا أبي علي بن عمران النفطي‬
‫بعض الزوار‪ ،‬فأخذ جلساؤه من أهل نفطة في ذكر مناقب يخلف العزابي وبنيه وأهل‬
‫بيته فأوسعوا في القول‪ ،‬والزائر الغريب يستحسن ويستغرب حتى قال أحد الجلساء‬
‫للشيخ – يعني أبا على النفطى – أترى يا سيدي إنه يرجى لهم خير عند ال لهذه‬
‫الوصاف وهم على ذلك المذهب؟ فلم يجبه بغير الصمت‪ ،‬فقال الزائر للشيخ يا‬
‫سيدي وما مذهبهم؟‬
‫قال أبو علي مذهبهم الصلح‪ .‬فانقطع بجوابه الكلم‪.‬‬
‫قال أبو العباس أحمد بن سعيد الدرجيني المنحدر من هذه السللة الطيبة العريقة في‬
‫السلم حدثني من ل اتهم إنه كان جماعة من البربر وجماعة من العرب من قبائل‬
‫مختلفة ومذاهب متفرقة‪ ،‬يقصدون الشيخ يخلف فيجمعون عنده أفواجا يقضي بينهم‬
‫في الجراحات وغيرها‪ ،‬ل يرغب عنه أحد لمخالفة مذهبه‪ ،‬ول يرد عليه قوله‪ ،‬وأما‬
‫سكان الحاضرة – أي نفطة – فمفتقرون إلى علمه‪.‬‬

‫لقد بارك ال في يخلف‪ ،‬وبارك في بنيه‪ ،‬فكان يخلف علما ومرجعا في العلم‬
‫والصلح‪ ،‬أما ولده أبو الحسن علي بن يخلف فقد قدم للسلم أجل خدمة يقدمها‬
‫الدعاة إلى دين ال وبلغ بمفرده ما عجزت عنه الجيوش الفاتحة‪.‬‬
‫كان أبو الحسن بن يخلف يشتغل بالتجارة واقتضته ظروف العمل أن يسافر إلى وسط‬
‫أفريقيا فأختار عاصمة نالي مقرا لتجارته وكان سكان تلك الجهات أما وثنيين وأما‬
‫من أتباع المسيحية المحرفة‪ .‬فاشتهر بين السكان بطيبة خلقه وحسن معاملته‬
‫وحرصه على المانة واستمساكه الوثيق بدينه ذلك الدين الذي كان غريبا بين سكان‬
‫تلك الجهات‪ ،‬ووثق به الناس وأحبوه واشتهر اسمه وحسن معاملته حتى بلغ سمع‬
‫الملك فأحضره إليه وأختبره بطريقته الخاصة حتى صدق ما عرف عنه فاستخلصه‬
‫لنفسه وأصبح يستشيره في أموره وبلغ عنده منزله لم يبلغها أحد من وزرائه‪.‬‬
‫ولقد استطاع المسلم العامل بالسلم أن يؤثر على ذلك الملك فاسلم الملك وأسلمت‬
‫الحاشية وبدأ السلم ينتشر ويسري في عاصمة مالي ثم فيما جاورها من مدن وبلد‬
‫إنه الداعية المؤمن الذي حمل بمفرده مشعل السلم إلى بلد تعشش فيها الوثنية‬
‫فاستضاءت بذلك المشعل واقتبست من ذلك النور واليه والي أمثاله من الرواد الول‬
‫يرجع الفضل في انتشار السلم في ربوع أفريقيا السوداء‪.‬‬
‫ولقد كان أبو الحسن يشبه أباه في دينه وخلقه وعلمه ورحابة صدره وسعة احتماله‪،‬‬
‫كان القاضي عمر بن زرعة النفطي يقول‪ :‬ما رأيت مثل على بن يخلف أحدا من‬
‫الناس فمن عجيب ما رأيت منه أن أبا القاسم القمودي كان من مشائخ المتصوفين‪،‬‬
‫قدم من توزر ومعه طلبته‪ ،‬فأكرمه طلبة نفطة وصوفيتهم‪ ،‬فأحتفلت في إكرامه‪ ،‬وقلت‬
‫ل ينبغي أن يتغيب أبو الحسن عن مثل هذا الحضور‪ ،‬فأحضرته وقد حضروا فلما‬
‫حضر قال ابن القمودي من هذا الجالس معنا‪ ،‬قلت أنه الفقيه أبو الحسن علي بن‬
‫العذابي‍ فقال أهو من بغضة على‪ ،‬فلما قال ذلك رأيت ظلمة حالت بيني وبينه‪ ،‬وندمت‬
‫على الشتعال بإكرامه‪ ،‬وإذ فعلت‪ ،‬فلم جنيت على نفسي وعلى صاحبي؟ وما كان‬
‫أغناني أنا وصاحبي عن هذا الحضور‪ ،‬فلما سمع على منه هذا قال‪ :‬من أنبأك هذا يا‬
‫شيخ؟ قال‪ :‬كذا يذكرون عنكم فقال هل رأيت أحدا يسمى ابنه باسم عدوه؟ قال ل ‍ قال‬
‫كان أبي من فقهاء الباضية‪ ،‬وقد سماني عليا‪ ،‬قال ثم أخذ معه في مذاكرة تشفي‬
‫الصدر حتى استمال قلبه‪ ،‬وملك لبه‪ ،‬فجعلت تلك الظلمة تنجلي حتى صرت في‬
‫ابتهاج عظيم‪ ،‬ولم يفترقا حتى قال له يا أبا الحسن أريد أن ل تفارقني مدة إقامتي بهذا‬
‫البلد‪ ،‬وانفصل ابن القمودى يحمده ويحمد مذهبه‪.‬‬
‫إن هذه القصة مع القصة التي ذكرها أكثر المؤرخين عن سبب دخول السلم إلى‬
‫أفريقيا الوسطى تدلن دللة واضحة أن السلم قد هذب من من أخلق هذا الرجل‬
‫وجعل منه إنسانا تتمثل فيه أسمى صفات النسانية التي تدعو إليها الديان السماوية‬
‫حتى أصبح مثل حيا للمؤمن الذي يهدي بخلقه وسلوكه قبل أن يهدي بمقاله وبيانه‪،‬‬
‫ولو لم يكن الرجل متصفا بما أوصى به السلم فتجلت فيه الثقة والمانة وحسن‬
‫المعاملة والصدق فيها حينما كان في مالي‪ ،‬وتحلى بالصبر على الذى وضبط‬
‫النفس‪ ،‬والتحمل حينما قابله ابن القمودي بتلك الفظاظة لنقلبت صفحات من التاريخ‪.‬‬
‫لو غضب بمزة ابن الفظاظة وعامله بنفس السلوب من الخشونة والزدراء‬
‫لنقطعت الصلة بين الرجلين وربما نشأت عن ذلك فتنة‪ .‬ولعل أكثر الفتن التي وقعت‬
‫وتقع بين طوائف المسلمين إنما سببها طيش بعض المنتسبين إلى العلم وعدم فهمهم‬
‫لروح السلم‪ ،‬وتغلب الغرور والطيش وضيق الصدر عليهم‪ .‬وتحكم العصبية‬
‫المذهبية فيهم‪.‬‬
‫وكما انجب يخلف ولده عليا فإن عليا قد أ‪،‬جب علما من أعلم السلم هو الو الربيع‬
‫سليمان بن علي بن يخلف‪ .‬كان سليمان شاعراً مطبوعا يجيد الزجل أو الشعر باللغة‬
‫الدارجة كما يجيد الشعر باللغة البربرية إل إن شعره باللغة الفصحى ل يتسامى إلى‬
‫درجة شعر ولده سعيد أو حفيده احمد ذلك إن دراسته للغة العربية لم تطل‪ ،‬فقد انقطع‬
‫للعلوم الشرعية وتخصص فيها فكانت ل تشذ عليه مسألة من مسائل الفروع‬
‫والصول في المذهب الباضي وكان يتقن الفرائض ويجيد حسبتها هذه مرتبته‬
‫العلمية أما مرتبته الدينية والخلقية فهي مرتبة المؤمنين الحريصين على إيمانهم‬
‫وأخلقهم‪.‬‬
‫وكان إلى علمه وخلقه ونزاهته‪ ،‬كريما مطبوعا على الكرم فلم يبق من ماله الكثير‬
‫غير شيء قليل وكان بعض الصدقاء ينصحونه بأن يبقى لولده فكان يقول لهم أما‬
‫أولياء ال منهم فإن ال ل يتخلى عنهم وأما العصاة منهم فأنا أحق بمالي ولما كبر قل‬
‫ماله وضاقت ذات يده‪ ،‬فجاءه صديقه الحميم بياضة بن عزون فقال له يا شيخ عن‬
‫مالك قد قل‪ ،‬ومؤنتك قد كثرت‪ ،‬فهل لك في خمسين ويبة تمرا أو مائة من عندي في‬
‫كل عام تستعين بها على أضيافك وأضياف المسجد وضعفاء أهل الدعوة‪ ،‬فقال له ل‬
‫وال‪ ،‬إن فيما بقي لكفاية أؤدي منها حقوق من ذكرت ولو على عسر‪ ،‬ولكن إن كنت‬
‫فاعل فقم بحقوقهم كما قام بها غيرك‪ ،‬تول ذلك بنفسك ومالك‪.‬‬
‫كان أبو الربيع سليمان يعيش في زمن مضطرب بالفتنة‪ ،‬مشحون بالعصبية قد انفلت‬
‫زمام الناس‪ ،‬وبعدوا عن جادة اليمان‪ .‬وفي أواخر أيامه أوقد بعض دعاة العصبية‬
‫نار الفتنة في كنومة وتألب سكانها على الباضية فأخرجوهم منها ولحق الشيخ‬
‫بإخوانه فلما رآه بعض المتعصبين من النكار صاح إذا تركتم فقيه القوم يخرج سالما‬
‫فما فعلتم شيئا وتواثب إليه الناس فطعنه أحدهم طعنة ظنها قاتلة ولما ذهب المعتدون‬
‫تولى أصهار الشيخ إسعافه وعلجه فأطال ال عمره وأبقاه لحمل رسالة السلم‬
‫والصلح لقد كانت البلد في ذلك الحين تعاني من الظلم وفساد الحكم وانتشار الفتنة‬
‫واصطراع العصبية وتغلب الفساد الشيء الكثير‪ ،‬وكانت الدولة ذي ذلك الحين‬
‫تفرض على سكان منطقة الجريد وما يتبعها من الواحات‪ .‬إن يزرعوا أراضيهم‬
‫ويقوموا بخدمة مزارعهم وحقوقهم مناصفة فتأخذ نصف النتاج من جميع غلل‬
‫الزراعة كالحبوب والتمر ثم يخرج المتقون منهم من أنصبتهم فريضة الزكاة فل‬
‫يبقى لهم إل مقدار الثلث من نتائج مجهوداتهم فكان أبو البيع يجيز للناس ولنفسه إن‬
‫يخفوا ما استطاعوا من أموالهم حتى ل تأخذ الدولة نصفه كأنها صاحبة الرض‬
‫والعشر ضريبة على الفلح ويقول أن الدولة ليس لها أن تأخذ إل ما قدره الشرع‬
‫الكريم أما إن تسن من نفسها تشريعا تستبيح به أموال الناس‪ ،‬وتغتصب حقوقهم فذلك‬
‫ليس من حقها‪ .‬فإذا تغلبت هي بالقوة فإن للمزارع أن يسلك معها بالحيلة وإن يحفظ‬
‫أمواله بأي طريقه ل تعرضه للعقوبة والمهانة‪.‬‬

‫حدثتك إليها القارئ الكريم عن ثلثة أعلم من هذه السرة الكريمة ولقد أنجب أبو‬
‫الربيع ولدا سار في نفس النهج وسلك نفس الطريق سماه أبو سعيدا وكان سعيد هذا‬
‫مع إيمانه وعلمه وعمله شاعرا مجيدا وأنجب أبو عثمان سعيد بن سليمان بن علي بن‬
‫يخلف ولدا كان غرة في جبين الدهر من أولئك البطال الذين ل يجود بهم الزمان إل‬
‫في فترات طويلة من التاريخ ذلك هو أبو العباس احمد ين سعيد بن سليمان بن علي‬
‫بن يخلف الدرجيني صاحب الطبقات‪.‬‬
‫ويكفي دليل وبرهانا على علم الرجل وأخلقه ودينه واحترامه لحملة مشعل الهداية‬
‫ما ورد في أول الكتاب عندما تحدث عن الطبقة الولى ما قال عندما ذكر محتويات‬
‫الكتاب‪ » :‬فالذين اشتملت عليهم الخمسون الولى من المائة الولى‪ :‬هم أصحاب‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفضائلهم أشهر‪ ،‬ومزاياهم أظهر فل يحتاج إلى‬
‫تعدادهم‪ ،‬إذ هم نجوم الهدى‪ ،‬ومصابيح الدجى‪ ،‬وعلى مكانتهم ومنزلتهم وفضلهم فل‬
‫بد من تقديم ذكرهم جملة إذ هم الئمة والقدوة والسلف‪ .‬والصدر الول‪ ،‬ولئل يكون‬
‫السكوت عن ذكرهم أعراضا‪ ،‬والتجاوز عن شرفهم غمضا أو إغماضا‪ « .‬وأعاد‬
‫نفس المعنى عندما بدأ في التفصل فقال‪ » :‬الطبقة الولى هم أصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬وفضائلهم أشهر‪ ،‬ومزاياهم اظهر‪ ،‬فل يحتاج إلى تسميتهم‪،‬‬
‫لنهم رضوان ال عليهم‪ ،‬تحصل من سيرهم وأخبارهم في الدواوين ومن آثارهم‬
‫محفوظا في صدور الراوين ما اغنى عن كليف تصنيف‪ ،‬وانتحال تأليف‪ ،‬وحسبهم ما‬
‫قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يشقى من رآني وقوله عليه السلم أفضل‬
‫أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأحاديث كثيرة في فضائلهم فإذا ثبت هذا‬
‫فاعلم إن من الصحابة من لم يخالفنا في تقديمهم مخالف‪ ،‬فقد امتلت بذكر فضائلهم‬
‫الصحائف‪ ،‬ومنهم من لم ينل حظا في النصاف عند آهل الخلف‪ ،‬وهم معدودون‬
‫عندنا في جملة الكابر والسلف فلنذكر منهم من أمكن ذكره‪ ،‬ووجب علينا وإن‬
‫عاب الغير شكره‪« .‬‬
‫بعد هذه المقدمة القيمة ذكرا أبو العباس بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ممن تناولتهم السنة الهواء وأقلم المغرضين من أحلس السياسة فأوضح‬
‫رحمه ال ورضى عنه عدالتهم ونزاهتهم وثقة رسول ال صلى ال عليه وسلم وكبار‬
‫أصحابه فيهم وحكم فيهم بالحكم العام الذي ينطبق على جميع أصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬والدراس للتاريخ السلمي في المغرب السلمي ل يمكن أن‬
‫يستوفي معلوماته دون الطلع على هذا الكتاب القيم فرحم ال أبا العباس‪.‬‬

You might also like