Professional Documents
Culture Documents
الحلقة الثالثة
الباضية في تونس
بسم ال الرحمن الرحيم
مقدمة
أما هذه الحلقة التي أقدمها إليك اليوم ( الباضية في تونس ) فقد جمعت ما تيسر لي
من مادة تاريخية عنها ولكني كنت عزمت أن ل أتقدم لطبعها إل بعد أن أزور
الجمهورية التونسية وأشاهد بصفة خاصة الوسط والجنوب وجربة بالذات لتحقق
من كثير من المشاهد والوقائع التي كنت أتصورها على صورة ما.
وقمت فعل بهذه الزيارة مع بعض الصدقاء في الصيف الماضي 1965فسافرنا
إلى تونس العاصمة واقتضتنا ظروف خاصة أن نزور الجزائر فسافرنا إليها ورجعنا
إلى تونس عن طريق ( تقرت ) ومررنا بوادي سوف ثم ببلد الجريد إلى قابس
ومنها إلى جزيرة جربة ولكن هذه الرحلة قد استغرقت مدة الجازة وكنت مضطرا
إلى العودة.
بقيت في جربة يومين فقط فكانت زيارتي لها زيارة خاطفة لم أتمكن من تحقيق
أهدافي من هذه الزيارة ولكنني في نفس الوقت حاولت أن استفيد منها ما يمكن ،فقمت
بجولة سريعة خاطفة ،في الجزيرة لشاهد أحياءها وحاراتها وبعض مساجدها
وبعض ما بها من الثار وتمكنت من الطلع على فهرس المكتبة البارونية القيمة
وزرت العلمة الشيخ سالم بن يعقوب وفتح لي مكتبته القيمة التي تحتوي على
مجموعة ثمينة من المخطوطات نقل أكثرها بخطة حينما كان بمصر ،وقد نقلت منها
على استعجال أشياء كثيرة واستفدت من الشيخ فوائد جمة ،كما إنني اجتمعت بعدد
غير قليل من أهل الجزيرة الكرام وبالطبقة المثقفة منهم على الخص علماء
ومدرسين وطلبا وتحدثوا إلي طويل ،واستفدت منهم في جميع ميادين المعرفة فوائد
قيمة كان لها أثر كبير في نفسي .وسافرت من الجزيرة وأنا أشد رغبة وشوقا إلى
البقاء فيها ،وكنت أمني النفس بالرجوع إليها في فرصة قريبة ،ولكن ذلك لم يتحقق
لي.
ورأيت أن أنجز عملي وأخرج الكتاب على ما هو عليه ،وأنا على يقين أن صورا
قيمة كثيرة تنقصه ،ولكنني مضطر إلى إصداره على هذا الوضع لن مسودات كتاب
الباضية في الجزائر هي الخرى تتنزى في الدراج تريد الخروج ،وإذا يسر ال لي
العمل أيها القارئ الكريم فأخرجت لك هذه الحلقة فأنا أقول لك بصراحة الخ إلى
أخيه الذي ل يتكلف معه الحديث ول يستر عنه مواطن الضعف فيه ،أن هذا الكتاب
ل يعطيك الدراسة التاريخية الكاملة للمذهب الباضي في تونس ،ول يضع بين يديك
كل المعلومات التي تحتاجها عن هذه الفرقة المة السلمية الكبرى ول يعرض
عليك جميع الصور التي يحيط بها إطار واحد عن الباضية في الجمهورية التونسية
ولكنه ول شك يضع بين يديك صورا من حياة مجتمع مسلم عاش على هذا الوطن
الكريم ول يزال أبناؤه يعيشون محافظين على كثير من أخلقه ومثله.
وسوف تلحظ أيها القارئ الكريم وأنت تتنقل بين فصول الكتاب بعض العادة
والتكرار وقد يكون ذلك مما يثقل على القارئ المستعجل والباحث المتقصي الذي
تهمه الحداث المجردة وأنا أعتذر إلى هؤلء القراء الكرام ولكنني مصمم على
طريقتي في العرض ،ذلك إنني حين فكرت في إصدار هذا الكتاب وبدأت العمل فيه،
لم أتناوله بقلم المؤرخ الذي يهتم بالحداث البارزة وتسجيلها على المنهاج العلمي
لكتابة التاريخ ،ولكني تناولته بقلم من يريد أن يعرض صورة من حياة مجتمع عاش
طيلة قرون يرسمه من عدة زوايا لتكتمل الصورة العامة لذلك المجتمع بجميع
مناظرها .وهي طريقة ل شك لها عيوبها ،ولكنني مع ذلك أفضلها في عملي هذا على
السرد التاريخي الزمني المجرد الذي يعني بالسماء والرقام ،أكثر مما يعني
بالمعاني الجتماعية للتاريخ .فإذا سئمت أيها القارئ الكريم من ذلك فما عليك إل أن
تضع الكتاب على الرف وأمرك ل فيما ضاع لك من وقت ومال.
إن الكتاب لم يؤلف ليكون مرجعا يعتمد عليه الباحثون في التاريخ ،ولكنه صورة
لحياة جانب من المة المسلمة بما فيها من ألوان أضعها بين أيدي أبنائها البررة حتى
يتعرفوا على السباب الحقيقية التي انحدرت بالمة السلمية إلى ما تعانيه اليوم.
وأنا عندما أقدم هذه الصورة عن الباضية في تونس ل شك إنها صورة تنطبق على
جميع طوائف المة السلمية في مختلف البلد .ولذلك فما يهمني أن يعرف الخوة
إنني عندما أكتب عن طائفة معينة أو بلد معين فليس الغرض من ذلك إنني أعتبر أن
تلك الطائفة أو ذلك البلد هو أرفع من غيره وأكرم وإما الغرض أن يعرف أبناء المة
المسلمة بجميع طوائفها وفي جميع أماكنها انهم أمة واحدة ،لم تنفك عن الكفاح في
سبيل ال منذ أشرقت قلوبها بنور ال وإنما لم تتوقف يوما عن الجهاد رغم ما بذرته
السياسة الماكرة والشهوة الغالبة من عراقيل في طريقها.
والكاتب المسلم حين يكتب عن طائفة أو عن بلد يجب أن يحرص على الرباط المتين
الذي يربط بين المة السلمية بمختلف مذاهبها وديارها ،وأن يبعد عن قلبه وعن
إحساسه وعن شعوره معاني التفرقة والعنصرية والعصبية تلك المعاني المنتنة التي
استغلتها المصلحة الخاصة غير المؤمنة ،وقامت بها في أحداث الزمن ،مطامع
فردية ،وسجلتها في التاريخ أقلم مأجورة أو مغرورة أو مخدوعة ،على حساب
العناصر أو الجناس أو المذاهب.
وإنني وأنا أقدم للقارئ الكريم هذا الكتاب عن فرقة من فرق السلم في جزء من
وطن المة المسلمة الكبير يسرني جدا أن أعلن هنا كما أعلنت من قبل إنني ل أعتز
إل بالمة المسلمة أمة واحدة ،ول أعتز إل بالوطن المسلم وطنا واحدا وأن ما قدمته
وأقدمه من أبحاث عن طوائف صغيرة أو بلدان ضيقة فإنما أكشف عن صورة من
حياة هذه المة العظيمة في جانب من جوانبها أو قسم من أقسامها فإذا بدا للقارئ
الكريم في أثناء قراءته ما يشعر بغير هذه الحقيقة الثابتة أو أحسن أن عبارة من
العبارات تشعر بغير هذا المعنى أو تدعو إلى عنصرية أو تفرقة فليضرب بذلك
عرض الحائط فإن كيان المة المسلمة والوطن المسلم أكرم على ال وعلى الملئكة
وعلى المؤمنين وأعز من جميع الكتاب والدعاة وإنني أحسب أن إيماني بهذه الحقيقة
من وحدة المة في مذاهبها وأجناسها وأوطانها قربة أتوسل بها إلى ال تعالى.
عصمنا ال من الزيغ والزلل ووفقنا إلى خير العمل إنه نعم المولى ونعم النصير.
تونس
كلمة تونس فعل مضارع مشتق من اليناس ،وهو من النسان ،المؤالفة والملطقة،
ومن المكنة سكون القلب بها وارتياح النفس إليها .وقد أطلق المسلمون هذه الكلمة
على المدينة الصغيرة الجميلة التي تقع جنوب قرطاجنة ،على ربوة يحيط بها خندق
طبيعي هو كالحصن لها 1أما قبل الفتح السلمي ،فقد كانت هذه المـدينة تسمى
( ترشيش ) على ما يقوله المؤرخون.
وأنا في هذا الفصل ل أريد أن أتحدث عن مدينة ( ترشيش ) الصغير التي سمها
المسلمون الفاتحـون ( تونس ) .ول على هذه المدينة العظيمة التي أصبحت اليوم ،من
أعظم المدن في المغرب السلمي ،وأصبحت عاصمة يطلق اسمها على جمهورية
مزدهرة تكون جزءا هاما من المغرب السلمي ،وعضوا حيا من جسم الوطن
السلمي الفسيح الرجاء .فإن تونس هذه المدينة العظيمة الجميلة هي إحدى
العواصم السلمية التي حملت أمانة العلم وكانت مثابة لبناء المسلمين في مختلف
القطار والتي شادت معهد الزيتونة العامر وحافظت على الثقافة السلمية قرنا
طويلة – هذه المدينة ل يفي بحقها فصل في كتاب .ول يكفي للحديث عنها استطراد
في مقال .على أن الحديث عن هذه المدينة ليس من غرض هذا الكتاب ،وإنما أريد
أن يعرف القارئ الكريم إنني قد أستعمل كلمة تونس وأنا أقصد به هذا القطر المسلم
الذي يقع بين ليبيا والجزائر والبحر ،ويكون حلقة من الحلقات المترابطة ،للوطن
السلمي الشاسع ،ويسكنه قسم من المة المسلمة كافحت كثيرا لحفظ المجد
السلمي ،منذ بدأ النسان ينحرف عن دين ال إلى اليوم .ول تزال فيها بقية من
عزيمة للكفاح عن دين ال وفي سبيل ال .وهذه المة في أدوار التاريخ السلمي
وإن تفرقت بها المنازع السياسية والمذاهب الدينية والزعامات الفردية والقبلية في
كثير من الحيان إل إنها حافظت في مجموعها على الصالة السلمية واستمسكت
بعرى الدين الحنيف وسارت على هديه ول تزال فيها بقية تسير على ذلك الهدى .إلى
- -11راجع تاريخ الغرب الكبي -ص 115الزء الثان تأليف الستاذ ممد على ديوز .
أن يأذن ال بعودة المة المسلمة إلى ما كانت عليه في الصدر الول من قيادة البشرية
الحائرة وتوجيهها إلى سبيل الخلص ،خلص النسانية من أسباب الضلل.
والحقيقة أن إطلق كلمة تونس على هذا القطر ،أو هذه الجمهورية ،بهذا الوضع
الجغرافي هي تسمية متأخرة جدا .فعندما كانت الجيوش السلمية تجوب هذه البلد
فاتحة وكانت الدول السلمية تتركز هنا أو هناك من بلد المغرب .وكانت المعارك
الطاحنة تدور بين الجيوش المتقاتلة في كثير من النحاء ،لم يكن يرد اسم تونس إل
كما يرد اسم أي مدينة يقع فيها حدث من الحداث التاريخية ،التي يتناقل الناس
أخبارها .ولعل الحداث التي وقعت في تونس أو في (ترشيش) نفسها أبان الفتح ،لم
تكن أكثر من الحداث التي وقعت في غيرها من المدن والقرى في هذا القطر الكريم،
في ذلك الحين.
ومهما كان المر ،فقد أصبحت كلمة تونس تدل – فوق دللتها على هذه المدينة
الكبيرة التي أصبحت اليوم إحدى العواصم الكبرى -على حقيقة جغرافية تعني هذه
الجمهورية أو هذا القطر السلمي المجيد بحدوده التي ذكرناها سابقا.
ويعنيني في هذا الفصل أن أبين للقارئ الكريم ،إنني أريد أن أكشف عن صور
مجيدة .لحياة أمة مسلمة ،عاشتها طائفة منها ،في هذا القطر الكريم .ول تزال تعيش.
إنني أريد أن أضع بين يدي القارئ الكريم ،صورا عن حياة الباضية ،منذ الفتح
السلمي إلى الحتلل الفرنسي للقطر التونسي العزيز .وأنا عندما أتحدث عن هذه
الطائفة من المسلمين في هذا القطر من بلد السلم .ل ادعي أبدا أن هذه الطائفة
قدمت في خدمة دين ال ما لم تقدمه غيرها من الطوائف ،ول أزعم أبدا أن هذا القطر
قد أختص بأمجاد إسلمية ليس لها مثيل أو شبيه في غيره من البلد.
ذلك إنني أحسب أن المة السلمية أمة واحدة بجميع طوائفها وأن الوطن السلمي
وطن واحد بجميع أجزائه .وأن ما يقوم به الفرد أو الفرقة من المسلمين فإنما هو
راجع إلى مجد المة الكبرى وإن ما يحدث في بلد من بلد السلم – رغم انقساماته
السياسية – فإنما هو حدث في الوطن السلمي الكبير .وإن في المسلمين بجميع
فرقهم وطوائفهم وأوطانهم – من يجعل نصب عينه الدعوة إلى سبيل ال والمحافظة
على دين ال والكفاح لقامة شريعة ال ،كما أراد ال.
القيروان
القيروان مدينة إسلمية أنشأها عقبة بن نافع وهو يفتتح المغرب الكبير ،وصاحب
فكرة إنشاء هذه المدينة ،في قلب الجمهورية التونسية ،لتكون مركزا للجيوش
السلمية الفاتحة ،إنما هو معاوية بن خديج .ولكنه اختطها في موضع يسمى القرن
فلما ولى بعده عقبة لم يعجبه الموضع ،فنقلها إلى موضعها الذي أنشئت فيه.
وقواد الجيوش السلمية الفاتحة ،أرادوا أن يجعلوا من المملكة التونسية نقطة تجمع
وانطلق لها وهي تحمل الرسالة الكبرى رسالة السلم إلى هذه البلد الفسيحة
الرجاء التي تتصل بتونس من الغرب والشرق والجنوب بل والشمال بعد اجتياز
البحر .ومنذ انشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان في قلب المملكة التونسية أصبحت
مطمع أنظار المتحاربين ،ولقد استطاع السلم أن يطهر الراضي التونسية من
أدران الشرك والوثنية في مدة قصيرة غير أن سيطرة السلم على البلد وتولى
المسلمين لقضايا الحكم وتركز الدولة في القيروان .لم ييسر نشر السلم والمن
والطمأنينة بين الناس ،وذلك لعدم محافظة كثير من الحكام على تطبيق أحكام السلم
في الدماء والموال وموافق الحياة ،وحرص بعضهم على الوصول إلى الحكم
والستقرار فيه بمختلف الوسائل والسبل .وقد تعاقبت الحداث على القيروان بسرعة
وبشدة وكانت ل تستقر تحت حكم معين .فما تتولى فيها أسرة الحكم حتى تقبل عليها
حملة أخرى من أسرة ثانية فتخرجها من حكم السابقين .فكانت تتعاقب عليهم
الجيوش والدول والمارات ،جيش بعد جيش ،ودولة بعد دولة ،وإمارة بعد إمارة.
وما يقع ذلك إل بعد نكبات ،وحتى عندما يطول عليهم حكم أسرة أو دولة ،فإن المن
ل يستقر ،والسلم ل يطول ،لن الثورات ل تتوقف والحروب ل تنفك تتجدد أما من
مناهضي السرة الحاكمة ،أو الدولة القائمة ،أو حتى من العناصر المتنازعة على
الحكم من نفس الدولة ومن نفس السرة ،فيذهب نتيجة لذلك ،كثير من الرواح،
وكثير من الخيرات التي تنتجها تلك الرض الطيبة.
فكان سكان القيروان المدنيون يعانون من ذلك ،أشد الويلت والمصائب ،حتى
أصبحوا تحت أزمة نفسية مؤلمة .من ذلك الوضع المتقلب الذي ل يستقر ،وأصبحوا
ل يهتمون للداخلين أو الخارجين .ول للمنهزمين أو المنتصرين ،وبسبب الثار
المختلفة ،من نتائج الحروب المؤلمة ،واللوان المتعددة للحكومات المتعاقبة ،كان
سكان القيروان ،يتوقون إلى سنوات من الستقرار والسلم ،ولو في ظل حكم ظالم،
ولكنهم لم يظفروا بهذه المنية ،لزمنة طويلة.
والذي نريد أن نتحدث عنه في هاذ الكتاب من تاريخ القيروان الطويل الحافل المجيد،
إنما هو فترة قصيرة بمقدار ما كان لها من دخل في حياة المذهب الباضي الذي
نكتب عنه في هذه المحاولة التاريخية القصيرة .فلقد كانت القيروان من المدن التي
استقر فيها الحكم للباضية في فترتين تاريخيتين كما إن هذه المدينة العظيمة
بضواحيها كانت مقرا لكثير من علماء الباضية وأنجبت كثيرا من الفحول وتولى
فيها التدريس والفتوى إعلم منهم ،وسوف يرد ذكرها وذكر ضواحيها ل سيما
الجبال المشرفة عليها في كثير من فصول هذا الكتاب.
في مطلع القرن الثاني الهجري بدأ المذهب الباضي ينتشر بسرعة في تونس ،كما
انتشر في مصر وليبيا وبقية المغرب ،وأهم سبب لنتشاره بسرعة ،إن أتباعه والدعاة
إليه ،حافظوا على صفاء الرسالة السلمية ،فلم ينحرف عن النهج القويم الذي عرفه
الناس لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولخلفائه الراشدين .لم تلتصق به البدع
الدخيلة ،ولم يشنه ظلم الطغاة من الولدة ،فكانت المبادئ التي يدعو إليها هي المبادئ
السمحة الكريمة الصافية التي يدعو إليها السلم منذ كان محمد صلى ال عليه وسلم،
وكانت السيرة التي يسير عليها ولدته هي السيرة التي حافظ عليها المهتدون من
خلفائه عليه السلم.
ولقد كان للداعية المسلم الكبير – سلمة بن سعد – أثر كبير في نشر هذه الدعوة-
طريقا وسطا في بلدان المغرب الشاسعة ،فلم يكن طريقه في صحراء ،كما لم يكن في
الشريط الساحلي .وأعتقد إنه تجنب الطريق الساحلية ،في رحلته الطويلة ،لنشر
دعوته القويمة ،حتى ل يصطدم بأعوان الدول الظالمة التي كانت تسيطر على تلك
الجهات فيتعرض لمصائب قد تعوقه عن القيام بمهمته ،كما إنه يتجنب الطريق
الصحراوية ،لما يتعرض له من مشاق قطع الصحارى الواسعة واجتياز أخطارها،
دون أن يكون له يكون له ما يساعده على ذلك من رفقة .ثم إن معظم السكان كانوا
على المناطق الجبلية التي تخترق كل من ليبيا وتونس والجزائر .ومروره بهذه
المنطقة المتوسطة الهلة بالسكان ،ييسر له التصال بالناس – ويساعده على إيضاح
الرسالة السلمية لهم ،وتنظيمها لحياتهم – أكثر من أية جهة أخرى.
ولقد كانت المهمة الولى التي يريد أن يعطيها للناس ،هي أن يقرر في أذهانهم،
الصورة الصحيحة للسلم ،الصورة الصحيحة في اليمان والعبادة والمعاملة .ذلك
أن الناس ،تلقوا الرسالة السلمية من كتاب ال وفي سنة رسول ال صلى ال عليه
وسلم وفي سيرة أصحابه رضوان ال عليهم فآمنوا بها وأطمأنوا إليها ووثقوا بها،
فلما رأى الناس الصورة العملية ،عند كثير ممن يحكم باسم السلم ،بعيدة عما
عرفوا من السلم كون ذلك عند بعضهم رد فعل جعلهم ينحرفون أو ل يبالون .وقد
استطاع سعد بن سلمه أن يقنع الناس أن نظام السلم ،ليس هو هذا النظام الذي يقوم
عليه الولة الظالمون ومن يسير في ركابهم من قادة وجنود وأتباع ،وليس هو هذا
التنطع الذي يدعو إليه المبتدعة ممن يفرق كلمة المسلمين ويبث الشقاق بينهم ويحكم
على مخالفيهم بأحكام المشركين ،فيستبيح منهم ما يستباح من أعداء ال .ول هو في
التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة الظهور .وإنما هو في اليمان الذي يمتلئ به
قلب المؤمن ،فتستبيح من أعداء ال .ول هو في التبجح والدعوى وكثرة الجدل وحبة
الظهور .وإنما هو في اليمان الذي يمتلئ به قلب المؤمن ،فتستجيب له جوارحه،
فيكون عبدا ل ،ل يغره مظهر ،ول يخدعه منصب ،ول تغلبه نفس أمارة بالسوء،
ول يخضع لشهوة غالبة ،مهما كان الدافع إليها.
واستجاب الناس لهذه الدعوة الصافية الخالصة ،وكان سلمة ينتقل بين المدن والقرى
يوضح للناس تشريع السلم في أعداد فرص الحياة ،ونظامه في الحكم ،ومساواته
بين الناس من جميع الجناس.
ولعل السكان في القطر التونسي كانوا أكثر فهما لهذه الدعوة ،وتعلقا بها ،واستجابة
لها في ذلك الحين ،ولذلك فقد كونوا البعثة العلمية إلى البصرة ،لتتم دراستها في ذلك
المركز من مراكز الشعاع السلمي ،وسافر الطالبان النجيبان عبد لرحمن بن رستم
من القيروان وأبو داود من قبلي ،ليغترفا العلم من شيخ الباضية في العراق أبى
عبيدة مسلم بن أبي كريمة .ولقد درس الطالبان على المام الكبير خمس سنوات
كاملة ثم رجعا مع زملء لهم .فقام عبد الرحمن بكفاح سياسي بدأه في ليبيا ثم انتقل به
إلى تونس ثم انتقل به إلى الجزائر .حيث أسس الدولة الرستمية الشهيرة ،أما أبو داود
فقد انقطع عن الكفاح السياسي والعسكري إلى الكفاح العلمي والصلح الديني ،وكان
لكفاحه هذا أكبر الثر في تكوين جيل مثقف ثقافة إسلمية صحيحة ،حريص على
المحافظة على دين ال كما جاء عن رسول ال صلى ال عليه وسلم.
أسباب الثورات
حمل الفاتحون الول رسالة السلم إلى تونس ،كما حملوها إلى بقية البلد ،نقية
صافية ،كما جاءت في كتاب ال ،فأقبل الناس عليها ،يعتنقونها ،ويتمسكون بها في
حرص واعتزاز .ولكن لم يمض وقت طويل على انتشار السلم ،في المملكة
التونسية حتى تغيرت أنظمة الحكم عن زمن الفتح ،وانحرف الولة الظالمون،
فشوهوا الصورة الجميلة لعدالة السلم ونزاهته ،ومساواته – بين الناس في جميع
وسائل الحياة -المساواة المطلقة ،التي تجمع بين المير والفقير ،في كل الحقوق
والواجبات ،كما تجمع ببينهما في المسجد لداء الصلة .ل يطمع قوي في شئ إل أن
يكون حقا له ،ول يخشى ضعيف أن يسلب شيئا إل أن يكون ليس من حقه ،أما
الكرامة والعزة والعظمة ،فتلك حقوق طبيعية يتساوى فيها جميع المؤمنين تحت
العبودية ل ،فما يصح أن يقال فلن أعظم من فلن أو أعز منه ،الن يقال أخشى ل
واتقى ،أو أشد اتباعا لحكام ال واستمساكا بدينه ،فيكون اكرم على ال وأحق
برضاه عنه .وكرامة المؤمن عند ال ورضاه عنه هي غاية العز والعظمة.
والفراد في المة السلمية ،كما يتساوون في المسجد وفي الطواف ،وفي عرفة
وفي المشعر الحرام وفي كثير من مظاهر العبادات كذلك يتساوون في المجتمع ،فهم
كأسنان المشط ،تتكافأ دماؤهم ،ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
أما المظاهر التي ينخدع بها الناس ،كالمال والقوة والسلطة ،فل قيمة لها في نظر
المؤمن إل بمقدار ما يعود منها على المة – مجتمعا وأفرادا – من فوائد .إن
الموال ،ل قيمة لها إل بالمقدار الضروري للحياة .أو بما ينفق منها في سبيل ال،
وإن القوة ل قيمة لها إل بمقدار ما يستطيع به النسان الحياة ،أو بمقدار ما يصرف
منها في الصالح العام .أما السلطة ،فل تخلو أما أن تكون داخلة في التشريع اللهي
دون طغيان ،فهي صيانة لحقوق المة ،وحفظ توازن بين القوي والضعيف ،وتوزيع
عادل لفرض الحياة بين الناس ،وإتاحة الحياة الكريمة لكل فرد ،وتنظيم للمحافظة
على المن والسلم ،ورعاية لحدوده ،وتطبيق لحكامه ،واستمرار في الدعوة إليه
بالوسائل التي شرعها .وما إلى ذلك ،فهذه هي السيرة التي وضعها السلم لسير
الحكام .وأما أن تكون تعديا لحدود ال ،وحكما بغير ما أنزل ال ،فهي ظلم
وجبروت ،يجب أن يوقفها المؤمنون ،وإن يضربوا على يد صاحبها ،وأن يطالبوه
بالتزام حدود ال.
تلك هي الصور التي عرفها الناس ،لنظام الحياة تحت حكم السلم ،فلما انحرف
المراء والولة ،بالحكم عن طريقة البين الواضح ،وانحرف المفكرون ،بالعلم عن
مجرى السنة إلى البدعة ،وعن نصاعة الحق إلى ظلمه الشبهة – ثار الناس.
ثاروا على انحراف بأنظمة الحكم ،وثاروا على النحراف بحقائق العلم ،فحاربوا
الظلم بالسيف والقوة ،وحاربوا البدعة بالبرهان والحجة ،واثبتوا صلحية السلم
لتنظيم الحياة ،بصدق الدعوة ،وعدالة السيرة .وليست هذه الحركة الثورية ضد
النحراف في الحكم أو في العلم ،قاصرة على ليبيا أو تونس أو الجزائر ول على
الباضية.
ولكنها كانت قائمة في جميع البلد التي دخلها السلم ثم انحرف الناس عن هديه،
وحادوا عن سبيله ولقد تختلف بعض الثورات عن بعض في القوة والتجاه والغرض.
ولكن الباعث على أهم الحركات الثورية في السلم ل يبعد أن يكون سببه انحرافا
في تطبيق الحكم ،وأنا حين أقول هذا ل أنفي أنه قامت ثورات لم يدع إليها الخلص
للدين والمحافظة عليه وإنما كان سببها حب السيطرة والوصول إلى الحكم .ول سيما
في العصور المتأخرة عندما كان يتوق إلى الحكم ناس لم يتثقفوا الثقافة السلمية ،بل
لم يكن لهم في المجال العلمي نصيب.
على أن هناك ظاهرة يجب أن نشير إليها ونحن نتكلم عن نظام الحكم في السلم،
وعن أسباب الثورات الكثيرة التي قامت في البلد السلمية سيما بعد تمام دولة
الخلفاء الراشدين.
إن نظام الحكم السلمي هو النظام الذي جاءت قواعده الساسية في كتاب ال ثم
طبقه رسول ال صلى ال عليه وسلم بطريقة عملية وسار به خلفاؤه الراشدين .ثم
قامت بعد ذلك دول إسلمية كثيرة ،استطاع بعضها أن يسيطر على جميع الوطن
السلمي ،وانقسم الوطن السلمي في بعض الحايين إلى دول متعددة تحكم كل
دولة منها قسما من هذا الوطن الكبير ،ومن تلك الدول من حاول أن يسير بالنظام
السلمي في الحكم حتى كاد أن يكون امتدادا للخلفة الرشيدة .ومنا من بعد عن
أنظمة الحكم السلمي حتى كاد يخرج بها عن دائرة السلم .وإنما كان هم القائمين
بالحكم أن يصلوا أو يوصلوا إلى غايات معينة دون مراعاة للقواعد التي جعلها
السلم لبناء الحكم ،كما إنهم لم يراعوا أحكام ال في الدماء والموال والعراض.
ولكن أولئك الحكام مع ذلك البعد عن دين ال ،استطاعوا بوسائل كثيرة ،أن يضفوا
على دولهم وحكوماتهم صيغة شرعية ،وأن يجعلوها معتبرة من الدول التي تقوم
بأمر ال ،وقد توصلوا إلى إضفاء هذه الشرعية على دولهم بطرق مختلفة فمنهم من
حصل عليها بالقوة والعنف ،ومنهم من حصل عليها بالدهاء والحيلة ،ومنهم من
حصل عليها بالوعود والرشوة ،وأنا حين استعمل كلمة الرشوة في هذا المقام ،فإنما
أقصد بها ما يغدقه الحكام على رؤساء الطوائف والقبائل لينضموا إلى صفوفهم ،وما
يجازون به الشعراء والكتاب لينشروا لهم الدعاية ،ويحملوا الناس على اللتفاف
حولهم ،والسر في ركابهم .وما يمنحونه لضعاف العلماء ،ليعترفوا لهم بالمارة،
ويستخلصون منهم فتاوي توجب على المسلمين طاعتهم ،وتحرم عليهم نقدهم
ومطالبتهم بالعدل ،وتجعل الخروج عليهم باطل تحل به الدماء والموال ،وما إلى
ذلك من ألوان العقاب .ثم ما يقطعونه لصحاب المطامع من القواد والجناد ليكونوا
آلة بايديهم يضربون بها من يطالبهم بالحق أو يحاسبهم على العدل.
وقد نتج عن ذلك مباحث قيمة بين علماء الشريعة في جواز الثورة على الدولة
الظالمة وعدم جوازها .ومع أن السلم يحرم الظلم ويحاربه في جميع أشكاله
وألوانه فإن كثيرا من علماء السلم دعوا إلى الرضا بالحكم القائم اتقاء للفتنة ،وخوفا
من أن تؤدي الثورة على الظالمين إلى إراقة دماء ،والحاق مضار بالمة ،قد تكون
أعظم مما يرتكبه الظالمون في أحكامهم .وإذا كان هذا الفريق من علماء الشريعة
يرى هذا الرأي ،ويذهب هذا المذهب ،خوفا على المة ،وإشفاقا عليها ،فإن غيرهم
من العلماء يرى أن إيقاف الظلم ،وتغيير الحكم الجائر ،من أول ما يجب على المة
مهما كانت النتائج ،لن الستسلم للظلم ل يولد العدل ،ثم إن استمرار تحمل الضيم،
أو قبول الجور ،يورث الذلة ،ويربي النفوس على الخنوع ،ويجرئ الظالمين على
السترسال في طغيانهم ،ويجعل من البشر آلهة يحمون كما يريدون ،فتطول عهود
الحكم الظالم وتنشأ على ذلك أجيال فتتعوده وتعتقد إن ذلك هو الحق .ل سيما وإن
الحكام الظالمين أعرف الناس وأقدرهم على تثبيت أقدامهم في الحكم ،وتوجيهه لمن
يريدون ،وذلك بما يصطنعونه من الحواشي والتباع ،ويشترونه من الذمم
والضمائر ،وينزلونه من ألوان العقوبة على من يقاوم ظلمهم .ويطالبهم بإتباع الحق
والعدل .ولذلك فإن هذا الفريق من العلماء يرى أن ثورة المة على انحراف الدولة
مهما كانت النتائج أهون من الرضا بالحكم الجائر المسترسل الطويل.
ولو أردنا أن نعتبر كل واحد من هذين التجاهين ،مبدأ لحزب ،وبحثنا عن أحد كبار
التابعين لنجعله على راس الحزب لستطعنا أن نجعل على رأس القائمة الولى أحد
المامين الحسن أو الزهري ولجعلنا على رأس القائمة الثانية أحد السعيدين ابن
المسبب أو ابن جبير .وأنا حين أشير إلى هذين التجاهين ،اتجاه مسالمة الدولة
الظالمة الذي يمثله الحسن ،أو اتجاه مقاومتها والثورة عليها الذي يمثله ابن جبير .ل
أدخل في حسابي أولئك المنزلفين من القدماء والمحدثين ،الذين بهرهم البريق،
فاندفعوا أو يندفعون في ركاب السلطان ،وقد جعلوا علمهم ودينهم وخلقهم ثمنا لما
يحصلون عليه من متعة المال أو الشهرة أو اتجاه أو المنصب ،وسخروا ذكاءهم
وكفاءتهم وبراعتهم ،لخدمة المنحرفين عن سبيل ال ،فإن هؤلء ،وإن بلغوا في العلم
مبالغ سامقه إل إنهم ل حساب لهم في التفكير الصحيح .ذلك إنهم مالوا إلى الدنيا من
أول يوم واتخذوا مناصرة الظالمين مبدأ ثم أصبحوا يبحثون عن البراهين والحجج
ليؤيدوا ما ذهبوا إليه.
إن هذا الختلف في الرأي ،بين علماء السلم ،مراعاة لمصلحة المة ،وإشفاقا
عليها ،ل يرتفع إلى أن يكون خلفا مذهبيا بين الطوائف السلمية ،وإن كان
أصحاب كل مذهب قد يميلون إلى أحد التجاهين أكثرهما يميلون إلى التجاه الخر.
وإذا كان بعض أئمة الباضية يميلون إلى اتجاه المقاومة ،ويرون وجوب محاربة
الظلم ،ومكافحة الباطل ،ما كان إلى ذلك سبيل ،فإن عجزت المة عن مقاومة
الظالمين بالثورة الشاملة التي تقلب أنظمة الحكم ،وتبعد غير أهل الكفاءة والستقامة،
عن التصرف في مقدرات المة ،فإنه يجب أن تقوم فدائية تذكر الدول الظالمة ،أن
المة غير راضية للحكم القائم ،وإن استسلمت للقوة والقهر ،وإنها ل تزال تطالب
بتنفيذ أحكام ال ،وإن الرجوع إلى حكم السلم والتزامه والسير على منهجه ،أولى
لهما وأحق بها وإن المؤمن ل يهادن الظلم وإن غلبه الظلم .أقول إذا كان بعض الئمة
يرى هذا الرأي فإن البعض الخر يميل إلى المسالمة ،كما فعل المام الكبر جابر بن
زيد .ومنهم من يرى سلوك طريق وسط في الموضوع وذلك بالنظر إلى حالة المة
فإذا خشى إن تكون المقاومة سببا إلى فتنة تكون المضرة فيها على المة أكثر مما
يلحقها من حكم الظالمين فإن الستسلم أولى وإذا كان للمقاومة أسباب تؤيد نجاحها
وترجع صلح القائمين بعدها ففي هذه الحالة يرون إن الطاحة بالحكم الظالم أولى.
ولقد عانى المسلمون من الظلم والجبروت شيئا كثيرا في المملكة التونسية بسبب
انحراف الولة عن حكم ال ،وكان ذلك من السباب التي دفعت الناس إلى اشتعال
نار ثورات كثيرة قامت في تلك الجهات ،وطال بها المد ،وامتدت وتسلسلت مع
التاريخ ،حتى جعلت الناس مستعدين للنضمام إلى كل ناعق رسمي للوصول إلى
الحكم.
وبما أن هذا الكتاب موضوع لعطاء صور عن حياة الباضية في تونس ،فإنه من
حق القارئ الكريم علينا أن نحدثه عن الثورات التي إشترك فيها الباضية طالبين أو
مطلوبين والدوافع إليها ونتائجها .وفي الفصل التي وما بعده من الفصول سوف
يجد القارئ الكريم صور عن هذه الحياة التي تمتاز بكفاح طويل..
أبو الخطاب في القيروان
يقول أبو المباس الشماخي في كتابة القيم ( السير ) » :فزحت عاصم واخوه مكرم
إلى القيروان فدخلوها بعد حرب ،وفر حبيب إلى قابس ،ثم إلى جبل أوراس،
فاستحكمت ورفجومية على القيروان ،وعتوا وطغوا وجاروا ،وساموا الناس بسوء
العذاب ،وربطوا دوابهم في المسجد الجامع ،فخرج إليهم أبو الخطاب غضبا ل
ولدينه « .
أما كيف وردت الخبار إلى أبي الخطاب فيظهر مما يأتي:
أرسلت إليه امرأة أن لها بنتا جعلتها في مطمورة خوفا عليها من ورفجومية ،وحكى
ابن الرقيق عن ابن حسان إن رجل من الباضية دخل القيروان ،فرأى ناسا من
الورفجوميين كابروا امرأة على نفسها – ولناس ينظرون – ولم ينكروا ذلك عليهم
خوفا منهم – فترك حاجته فأتى أبا الخطاب –
ونقل آخرون إن ورفجومية أخرجوا امرأة وهي تصيح!..
يا معاشر المسلمين أغيثوني! .فلم يغثها أحد ،وبلغ الخبر أبا الخطاب.
وذكر بعض المؤرخين إن أهل القيروان بعثوا يستغيثون بابي جعفر المنصور...
وأهل القيروان وهم في هذا وهم الوضع الشاذ الذي استبيحت فيه كل الحرمات ،يحق
لهم أن يستنجدوا بأبي الخطاب وبأبي جعفر وبكل مؤمن يرجون منه النجدة ،ويأملون
فيه النقاذ .فإنه ل شر أعظم من أن تعيش أمة مسلمة صانت كلمة التوحيد ،دماءها
وأموالها وأعراضها ،تحت حكم ناس ينتسبون إلى السلم ثم هم يرتكبون من
الفواحش وألوان الظلم ،ما جاء السلم ليطهر البشرية منه .وقد اجتمع على أهل
القيروان في أحداث ورفجومية ،استباحة المساجد حتى ربطت فيها الدواب،
واستبيحت الموال والدماء بدون حساب ،وانتهكت حرمات العراض حتى أصبحت
الفاحشة تؤتي علنا ،وتقاد إليها الحرائر كرها بين الناس ،وهي حالة ل ترضاها حتى
الضمائر الوثنية فكيف والناس يعيشون في نور السلم.
وهذه الفظائع التي ارتكبها عبد الملك الورفجومي واتباعه ،جعلت أهالي القيروان
ينظرون إلى حكم المراء السابقين على ما فيه من ظلم وعدوان ،كأنه العدل المطلق.
كان أبو الخطاب المعافرى من أولئك العلماء العلم الذين يرون إنه ل يحق لمرئ
مسلم ،إن يسكت عما يرتكبه الظالمون ،باسم المارة والحكم ،فلما بايعه المسلمون ف
ليبيا إماما ،واسندوا إليه القيام بشئون الدولة في هذا الجزء من الوطن السلمي
الكبير ،أعد نفسه لحمل المانة ،وعزم أن ينتهج بالمسلمين ذلك النهج الذي سار عليه
الخلفاء الراشدون ،وسار عليه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فلما بلغه ما يقع في
القيروان من المناكر وتحقق أن الحالة بلغت من السوء إلى الحد الذي تنتهك فيه
حرمات ال ،جهارا نهارا ،دون تستر أو تأويل ،والناس خوفا على أنفسهم
وأعراضهم ينظرون ول يستطيعون أن ينكروا لما تحقق من ذلك جمع الناس وخطب
فيهم يقول :إنني أطمع الجنة لمن يستشهد في هذه الوقعة ما لم يكن مصرا على كبيرة
ولما خرج من الجتماع سل سيفه ،وكسر غمده ،كناية عن العزم الكيد على الكفاح
في سبيل ال ،ونصرة السلم ،والمحافظة على عدالته ونزاهته وصفائه .وقاد جيشه
المتطوع في سبيل ال وارتحل إلى القيروان ،فمر بقابس فجعل عليها واليا من قبله
وسار حتى بلغ القيروان فحاصرها مدة اختلف المؤرخون في تحديدها ثم لنت له،
وخرج اليه عبد الملك الورفجومي بمن معه من التباع ،وكانت معركة حاسمة
انتصر فيها أبو الخطاب ودخل القيروان ،وكان أهالي القيروان ينتظرون نهاية
الحرب في ترقب وخوف ،فقد مر بهم عد من الحروب والوقائع ،وهم يعرفون
نتائجها ،وما تسفر عنه ،ويخشون ما يقاسونه بعد كل معركة من ويلت وصائب،
وعندما كانت المعارك تدور بين أبي الخطاب وعبد الملك الورفجومي كان أهل
القيروان ينتظرون نهاية هذه الوقائع في إشفاق وخوف ،وكانوا يحبون أن أقل ما
يلحقهم من ضرر ،أن تكون الجيوش المحاصرة ،قد أتت على مزارعهم وبساتينهم،
وما فيها من ثمار وغلل ،مدة حصارهم لهذه المدينة الحصينة ،وعندما انجلت
المعركة عن هزيمة عبد الملك ،بدت لهل القيروان المفاجأة الولى ،وقد كانوا
ينتظرون ما تعودوه بع الحروب السابقة من التتبع والقتل والنتقام والغنيمة ،ولكن يدا
واحدة لم تمتد إلى سوء بع المعركة ،فكان هذا من أعجب العجب في ذلك الحين،
وعندما خرجوا إلى ساحة القتال ظهرت لهم المفاجأة الثانية ،فقد كان القتلى هناك
صرعى على أوضاع مختلفة .ولكن أحدا لم يمس ما عليهم من أسلب ،فكأنهم
نائمون في ليلة صائفة حتى وصفتهم واصفة بقولها كأنهم رقود ،أما المفاجأة الثالثة
فقد وجدوها عندما خرجوا إلى مزارعهم ،وهم يتوقعون لها كل شر ،فإذا بها لم
تمس ،ولم يتحرك فيها شئ من موضعه ،اللهم إل ما حركته عوامل الطبيعة من
وحش أو ريح.
وذاق أهل القيروان حكم السلم النظيف ،حين يطرد الباغين ويقيم حكم ال على
المسالمين فقال قائلهم ،بعد أن ذهب أبو الخطاب ،وقام أمراء آخرون يدعون الحكم
بالسلم » تشبهون دينكم بدين ابن الخطاب وأين مثل أبي الخطاب في فضله
وعدله ! « .
ولعله من المناسب إن أنقل للقارئ الكريم في ختام هذا الفصل كلمة للستاذ محمد
المرزوقي ،قال في كتابه القيم ( قابس جنة الدنيا ) ما يلي » :والظاهر أن قابس نعمت
في ظل الباضيين خلل ثلث سنوات بشيء من الطمأنينة ،وكثير من العدل
والمساواة بالحق ،والقيام على نصرته والزهد في الدنيا«
الدول الوجودة ف الشرق والغرب ،وال سباب ال ت د عت الناس إل بي عة أ ب حا ت ،هي ما ارتك به
جنود عمال العباسيي من الناكر ،حت ضج الناس بالشكوى ،واجتمعوا على أب حات ،واجبوه أن
يقوم بأمسر المامسة ،ليد عسن الناس ،عدوان أولئك الذيسن ل يهذب السسلم أيديهسم والسسنتهم،
فا ستجاب ل م على شروط شرط ها علي هم ،وقام بأمر هم ،فطرد عمال الدولة العبا سية من طرابلس،
وا ستقل ب ا وأجرى في ها أحكام ال ،و سار ب سية الهتد ين من أ مة م مد عل يه ال سلم ،ح ت بلغ ته
إليهم .فمر بقابس ،ث سار إل القيوان فحاصرها مدة طويلة حت لنت له وافتتحها.
وعندما انفتحت له أبواب القيروان ،واستسلم الجند المحاربون ،عمل أعظم عمل قام
به قائد حربي بعد النتصار ،فقد عفا عن الجميع ،والعفو عن الجميع بعد النتصار
حادثة قد يجد لها الباحث في التاريخ البشرى شبها .لكن أبا حاتم زاد عن العفو فأطلق
سراح الجند الذين كانوا يقاتلونه بعد أن زودهم الزاد الضروري وسلحهم السلح
الذي يدفعون به عن أنفسهم العدوان الفردي من النسان أو الحيوان .وأقام المام
بالقيروان مدة ليست بالطويلة .بعدما رفع عن الناس ألوان الظلم ،ورتب المور،
وأشاع المن والسلم ،وأقام قواعد العدل ،ثم انطلق راجعا إلى طرابلس مركز
المامة ،ومقر الحكم.
قبل أن يصل المام إلى طرابلس ،بلغه أن ثورة اندلعت في القيروان وأن حكما جديدا
قد انبعث فيها .ذلك أن سكان القيروان أنفسهم أصبحوا بمعزل عن هذه الحركات ،فهم
عندما تبدأ الحداث ل ينهضون لتأييد بعضها على بعض ،وكل ما يرجونه أ ،تنتهي
بسرعة على أي شكل من الشكال ،فإن الظلم مع السلم ،أفضل من الحروب وما
يجر من النكبات .ولذلك فقد كانوا يقفون من تلك الحروب مواقف المتفرج ،ينتظرون
نهايتها ،ل يعنيهم شئ .أما أولئك الذين نشأوا في حواشي المارات الظالمة ،فإنه ل
يروق لهم ،إن ينتشر العدل ،ويسود حكم ال ،لن في انتشار العدل ،وتطبيق أحكام
ال ،حرمانا لهم مما تعودوا أن يكسبوه بالباطل .ولذلك فما اختفى أبو حاتم وجنده من
القيروان حتى اجتمع أولئك الذين ذاقوا حلوة الرغد ،واستمرأوا طعم الظلم،
واعتادوا الحكم والسيطرة والمتعة ،فقاموا بثورة يقلبون فيها نظام الحكم ،ويردونه
إلى أسوأ مما كان عليه ،وسمع أبو حاتم بالحركة فاضطر أن يعود من طرابلس إلى
القيروان ليقضي على هذه الحركة الجديدة ،وليؤدب أولئك الذين يسعون في الرض
فسادا .وقد تم له ما أراد ،وارجع المور إلى نصابها وترك على القيروان جرير بن
مسعود المديوني ،ولكنه ما كاد يتم ذلك ،حتى بلغه أن جيوشا جرارة أقبلت من
المشرق تحت قيادة يزيد بن حاتم بن قبيصة ،تريده فأسرع إلى لقائها.
فترة انتقالية
لقد كان أغلب سكان المملكة التونسية على المذهب الباضي .يقول الستاذ محمد
المرزوقي نقل عن الستاذ لوفيسكى » :إن هذا المذهب قد جاء إلى تونس من
طرابلس وانتشر انتشار واسعا في الشعوب البربرية بجهات جربة وجرجيس
وورغمة ومطماطة ونفزاوة والجريد .ويقول في مكان أخر من الكتاب » :وكان
سكان نفزاوة على المذهب الصفرى وتحولوا إلى الباضية في عهد المام عبد
الوهاب وبقي هذا المذهب هناك إلى القرن الحادي عشر م .حيث كان في بلدة فطناسة
من نفزاوة وحدها أحد عشر مسجدا اباضيا .وأما في الجريد فقد انتشرت الباضية في
زمن مبكر وكان لها قوة عتيدة خصوصا في أيام ازدهار مدينة ( درجين ) قرب
( نقطة ) وكان سكان درجين يعدون وحدهم نحو ثمانية عشر ألف فارس ،وانتشرت
الوهبية بين توزر والحامة « .ويقول بعد كلم » فكان الباضية يؤمون نفس
المساجد التي يؤمها أهل السنة ،ويملون تعاليمهم ،ويناقشون تلميذهم ،ويحدثنا مؤرخ
مغربي أن مفتيين على رأي المذهب الباضي كانا بالقيروان في النصف الثاني من
القرن التاسع م .ودامت مدينة القيروان إلى القرن الحادي عشر م مثابة الباضيين
الواردين من مختلف بقاع المغرب لتعليم العربية وأدابها .وكانت فروع من مزاته
وهوارة تسكن حصن القيروان وهي على المذهب الباضي من الوهبية في أيام بني
زيرى الصنهاجيين« .ويقول بع الكلم » .ودخلت الباضية إلى جبل وسلت حيث
كانت معروفة إلى القرن الحادي عشر كما كان هذا المذهب موجودا بين سكان
زغوان من نفوسة أثناء هذه المدة«.
لقد كانت هذه البلد وغيرها من البلد التي يسكنها الباضية في تونس تابعة
للمامات في طرابلس تبعية فعلية كما هو الشأن في القيروان وقابس ،أو تبعية محبة
وعطف وتأييد ،فلما قتل أبو حاتم الملزوزي أخر الئمة في طرابلس انتقلت المامة
إلى الجزائر وبعد أن كانت طرابلس هي مركز المامة أصبحت تاهرت هي المركز.
وهكذا انتقلت تبعية أغلب سكان تونس ل سيما سكان الوسط والجنوب إلى تبعية
المامة في تاهرت.
حين كان عبد الرحمن بن رستم واليا على القيروان ،وكانت الجيوش العباسية توالي
هجوماتها على إمامات طرابلس .كان يفكر في اطلح مكان لقامة المامة ،وكان فيما
يبدو قد استعرض الماكن المناسبة لذلك مكانا مكانا ،فتحقق أن طرابلس ل تصلح
لقامة هذا البناء ،فإنها ممر من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق ،والممر
ل يمكن أن يستقر على حال .أما القيروان التي أخرج منها عندما قتل المام أبو
الخطاب فهي الخرى ل تصلح أن تكون مركزا للمامة ،لنها هدف العباسيين من
جهة ،ومطمح طلب الحكم من جهة أخرى ،بقي عليه أن يجتاز مكانا آخر في
الجنوب التونسي أو في جبل نفوسة أو في الجزائر واستقر عزمه أن يضار الجزائر
فهي أصلح مكان ،لنها تتوسط المغرب السلمي ول،ه يجد فيها أنصارا وأعوانا
على مكافحة الظلم ،والدعوة إلى القيام بأمر ال.
وسار عبد الرحمن من القيروان إلى الجزائر بين القرى والحياء من الباضية ل
يتعرض له أحد بسوء حتى وصل جبل سوفجج واجتمع عليه الناس يطالبونه بإقامة
المامة في الجزائر بعدما قتل آخر الئمة في طرابلس .وهكذا اختيرت تاهرت لتكون
مركز المامة ومنذ قامت تاهرت كانت أغلبية المملكة التونسية في الجنوب والوسط
تابعة لهذه المامة وكان عمال الدولة الرستمية يقيمون أحكام ال في تلك البلد نيابة
عن الدولة الرستمية ولعل مركز الولة كان في قابس ونفزاوه وقفصة وغيرها من
البلد التونسية .وقد استمر الجنوب والوسط التونسي تحت حكم الدولة الرستمية إلى
أن تغلبت عليها الدولة الشيعية فخربت تاهرت وانقرضت المامة من هنالك
فأصبحت هذه البلد في بادئ أمرها شبه مستقلة يدير شؤونها مشائخ العلم من أهلها
ثم خضعت للدولة المتغلبة على أفريقيا ،أعنى أن هذه البلد التي يسكنها الباضية في
ذلك الحين ،أصبحت بعد انقراض الدولة الرستمية غير تابعة لدولة ماو لكنها في نفس
الوقت لم تؤسس دولة أو دول أو إنما كان أمرها يرجع أول المر إلى كبار مشائخ
العلم ثم فيما بعد إلى مشائخ العزابة إلى أن أنقرض الباضية في بعض تلك البلد أو
انحل مجلس العزابة – من بعض الجزاء والحقيقة أن الدول التي قامت في القيروان
أو في المهدية أو في غيرها سرعان ما وجهت حملتها الشديدة على الباضية على
الباضية ،وحاربتهم محاربة ل هوادة فيها وحاول بعض الملوك أن يحملوا الناس
على أتباع مذهب الحاكم ،وقد ارتكبت من أجل ذلك فظائع ومآسي كان لها أسوأ الثر
في تلك الجهات وقد اتخذ بعض الملوك قضية المذهبية وسيلة لبتزاز الموال،
والنتقام من الخصوم وعندما ل تتوفر لهم قضية المذهبية يتخذون وسيلة لذلك قضية
عنصرية أو أي سبب كما وقع في درجين وقصطالية بمختلف مدنها وجربة وقابس
وغيرها من البلد التي ل تنفك توجه إليها الضربات لسبب مختلف في كثير من
الحيان .وسوف نستعرض صورا من ذلك أثناء الكتاب.
بعد أن أتم دراسته واستعد للحياة التي يحياها الناس ،وأخذ من العلم ما يفتح أمامه
أفاق المعرفة فكر في الزواج ،وبحث عن امرأة تجمع بين الخصال التي يطلبها أمثاله
من خلق ودين وعلم فوجدها في فتاة من أسرة كريمة كانت تسمى الغاية لها من
الجمال والخلق والدين والعلم ما يرشحها لن تكون زوجة له فخلبها من أهلها وزفت
إليه فكانت في بيته مرجعا للمؤمنات ومرشدة هادية للفتيات وقدوة صالحة للمقتديات
الصالحات وعندما توفي أبو القاسم بقيت الغاية مقصدا لطلب العلم والدين والخلق
القويم وكان العلماء والمشائخ يزورونها ويستشيرونها ويستفتونها ويرجعون في كثير
من الحيان إلى رأيها وكثيرا ما يلجأ إليها عالم من كبار العلماء في معضلة من
معضلت علم الفقه أو علم الكلم فيقول لها ماذا كان رأي أبي القاسم أو ماذا حفظت
عن أبي القاسم في كذا وكذا فتجيبه بما حفظت عن زوجها.
كان أبو القاسم يحدث طلبه يوما ويحرضهم على الدراسة وينصحهم بالبتعاد عن
كل ما يشغلهم عن التعليم فقال لهم لن يبلغني موت الطالب خير من أن يبلغني
تزوجه ،وكانت الغاية تستمع إليه من وراء ستار فقالت له :لماذا تزوجت إذن؟ فقال
لها لو علمت مسألة ليست عندي لشددت إليها الرحال .يعني وتركتك أيتها الزوجة
المحبوبة.
يبدو إنه تزوج من الغاية بعد سنة من بلوغها فكانت تحضر دروسه من وراء ستار
وسمعته يقول لطلبه أن من يقرأ سرا في صلته ول يحرك شفتيه فإن صلته باطلة،
فأعادت صلة السنة كاملة لنها كانت تكيف ول تحرك شفتيها في قراءة السر.
هذه جوانب من حياة هذا المام العظيم أضعها بين يدي القارئ الكريم دون تنسيق أو
ترتيب ليراها على وجهها الطبيعي الذي كانت عليه فإن كل ما أريد أن أعرضه إنما
هو صور من حياة المة المسلمة المتمثلة في حياة الفراد أو الجماعات.
قلت في أول الفصل أن أبا خزر دعا إلى الثورة حين قتل أبو القاسم واستجاب له
الناس وبايعوه إمام دفاع ولكن هذه الثورة فشلت بسبب التسرع فهرب أبو خزر إلى
جبل نفوسه واعتصم به وحاول المعز بن باديس أن يصل إليه فلم يستطع وكان
الرجل يخشى أن يستعد أبو خزر من جديد وينظم صفوفه وإن يجعل مركز انطلقه
ذلك الجبل الشم الحصين وكان حريا أن ينجح في ثورته لو فعل ذلك ولذلك فقد كان
مشغول بهذا المر ولما لم يستطيع أن يصل بطريق القوة فكر في طريقة أخرى
أقرب إلى تحقيق ما يريد من الحيلولة دون قيام ثورة أباضية أخرى نبعث من مكان
حصين برجاله وجباله .يقول أبو إسحاق طفيش رحمه ال ورضى عنه » .فالتجأ إلى
جبل نفوسة فظل فيه معتصما من المعز حتى أرسل إليه والي كل القبائل التي كانت
معه بعهد المان ،فطلبه إليه ،فقدم عليه ،فأكرم وفادته«.
لقد علم المعز بن باديس إنه أخطأ في قتله أبا القاسم وإن هذه الثورة التي كان في
غنى عنها إنما قامت بسبب ذلك الخطأ ولذلك فقد غير سياسة العنف إلى سياسة اللين
فأطلق سراح أبي محمد ويسلن وعفا عن أبي نوح وأعلن المان والعفو عن أبي
خزر وجميع أتباعه في كل مواطنهم ،وهذأ الناس والقوا بالسلح واطمأن أبو خزر
فرجع إلى موطنه الحامة ودعاه إليه المعز أبو تميم وأكرم وفادته وأظهر احترامه
ورفعه فوق مرتبة من كان يحضره من العلماء .لقد كان المعز يخشى أبا خزر أن
قتله أو أطلقه ولذلك فقد أراد أن يقيده بالحسان وكان يعلم أ فشل الثورة السابقة إنما
كان صدفة بسبب التسرع .وكان السلطان الكبير ينوي النتقال إلى القاهرة ويعد نفسه
لذلك وكان يعلم إنه إذا بقى أمثال أبي خزر وأرادوا قلب نظام الحكم من بعده فإن ذلك
سوف يكون شيئا يسيرا عليهم ،في غياب السلطان وأكثر رجال الدولة .ولذلك فعندما
عزم على الرحيل دعا إليه المامين أبا خزر وأبا نوح وأخبرهما إنه منتقل إلى مصر
ليتخذ القاهرة مقرا للحكم ،وإنه في مسيرة هذا لغنى له عن كبار العلماء ،ليجل بهم
مجلسه ويرجع إليهم في مشاكله وشوراه ،ويدفع بهم سورة الجدال والمناظرة .فوافق
أبو خزر أما أبو نوح فتمارض عندما بدأ السلطان بالحيل .واكتفى المعز بأبي خزر
فانه الرجل التي تحتل شخصيته أكبر مقام في البلد ،وتسمع كلمته دون مراجعة،
وإن الناس ل يقدمون بأي خلف على الحكومة في غيابه لنهم يعرفون إنه ما أخذ إل
رهينة فلو قام اتباعه بشيء لو صل إليه الذى حتى وهو في ديار الغربة .وأمن المعز
جانب الباضية بعد موافقة أبي خزر على الرحيل ودخل أبو خزر فعل إلى مصر
وعاش هنالك عيشه رغد وهناء وكان يتمنى من حين إلى حين لو أتيح له عدد من
الطلبة الذكياء ليعلمهم ويربيهم وينفق عليهم مما أتاه ال ولكني أحسب أن هذه المنية
لم تتحقق له.
أما السلطان الذي كان يخشى على ملكه في أفريقية وكان يفكر للمحافظة عليه الليالي
الطوال ،ويعمل لترسيخ دعائمه بكل الوسائل حتى كان يوصي خليفته على أفريقية
وهو يودعه أغرب وصية يوصي بها مسلم يتولى الحكم باسم السلم .فقد كان يقول
لخليفته على أفريقية بلكين بن زيرى الصنهاجي ،ل ترفع السيف عن البربر ،ول
ترفع الجباية عن أهل البادية ،ول تول أحد من أهل بيتك وال وحده يعلم ما هو
الجواب الذي أعده المعز ليوم الحساب حين يسأل :بماذا أستحل دماء البربر ،وأموال
أهل البادية ،أما هذا السلطان فقد شاءت إرادة ال أن ل يبقى ملك دولتهم بعدهم إل
قليل ثم يقلبه عليهم من وثقوا به وسلموه إليه فنقض المعز بن باديس بيعتهم والحق
دولته بالدولة العباسية بالعراق والملك ل وحده.
قمة من قمم العلم الشامخة ،وطود من اطواد اليمان الراسخة ،يسكن ريصوا ولكنه
كان ينتقل في الجنوب التونسي من بلد إلى بلد ،يدعو إلى المحافظة على دين ال
دعوة المؤمنين المخلصين ،ينفي عنه عبث الجاهلين ،ويحارب بدع المبتدعين ،ويرد
كيد الضالين ،ويحكم بما أنزل ال عن المتخاصمين ،إنه أحد أولئك العمالقة العظام،
الذين يكافحون في سبيل ال بكل الوسائل التي وضعتها إرادة ال في يديه ،يأمر
بالمعروف ،وينهي عن المنكر ،ويبين سبل الهداية ،ويلقى الدروس ،ويجيب عن
الفتوى ،ويدعو إلى الستمساك بحبل ال المتين ،ولكنه كان في دعوته ،وفي أمره
ونهيه ،وفي دروسه وتوجيهاته ،وفي جميع مواقفه – لين الجانب ،سهل الخلق،
يتحمل ويتجمل ،ويرد بسهولة ويسر على من ينتقده بغير حق ،ويذعن ويستجيب لمن
ينتقده بحق ،ويحاول أن يرد إلى الصواب بحياء ورفق من يعترض أحكام ال
وينحرف عن سبيل المؤمنين .ويقصر نقده على مواضيع النقد ،ول يتجاوزها إلى
الجوانب الشخصية ،يتقبل العتاب ويفرج له .كان مستقرا في ريصوا وفي البلد
الصغير كان عدد من الطوائف السلمية فاجتمعت تلك الطوائف على أن تتولى كل
فرقة منها شأنا من الشئون الدينية أو الجتماعية فاسند إلى بعضها أمامه الصلة
واسند إلى البعض الخر الذان في المساجد أما الباضية فقد اسند إليهم القضاء
والحكام وكان أبو الخطاب هو الذي يتولى ذلك على جميع الفرق وكانت تلك الفرق
تعيش في انسجام ووئام.
وكانت ريصوا كبقية الجنوب التونسي تابعة للدولة الرستمية وحين انحرف اليقظان
عن سبيل المؤمنين ،وخالف السيرة التي سار عليه أسلفه في الدولة الرستمية
فخولت له نفسه أن يتوصل إلى مركز الحكم بالطرق التي يتبعها الظالمون فعمل على
اغتيال المام ليقوم هو مقامة سخط عليه الناس وحكم عليه المسلمون بالبراءة
وانتقدوه في كل مجمع ،وتجنوه وتجنبوا مساعدته والعمل تحت حكمه ،ودعا كثير
منهم إلى القتصاص منه ،أما أبو الخطاب فرغم إنه يوافق المة على النقمة من
اليقظان ،والحكم بالبراءة منه ،إل إنه كان ل يريد الخروج عليه ول يدعو إلى الثورة،
بل كان يحاول أن يهدئ الناس ،وإن يروضهم على الطاعة وإن يجمع كلمتهم ،ويوحد
صفهم .لنه كان يرى -كما يرى كثير من علماء المة – إن الحكم القائم وإن كان
ظالما أهون من الفتنة والحرب ،ولذلك فقد كان يلتزم ببيعة اليقظان آمل أن يتصلح
اليقظان أو إن يتغير الحكم تغيرا طبيعيا فيؤول إلى إمام يقوم بأمر ال .وتضافرت
السباب الداخلية والخارجية على اليقظان ،فادت إلى قتله ،وإلى انقراض الدولة
الرستمية ووقع ما كان يخشاه أبو الخطاب ويحذر منه .استولت الدولة الفاطمية على
أكثر الجهات التي كانت تابعة للدولة الرستمية كما إنها استولت على مملكة الغالبة
وفرضت الضرائب غير العادلة على الناس فكان أبو الخطاب يجمع المقادير
المقروضة من الناس ويسلمها لعوان الحكومة الظالمة فبعث إليه علماء جبل نفوسة
ينتقدون عليه عدة أمور ويطلبون منه إيضاح موقفه منها:
.1التزامه المر لليقظان.
.2تغريمه للرامل واليتامى.
ولما بلغ ما يطلب منه إخوانه من جبل نفوسة بكى وقال الحمد ل الذي جعل لي
أخوانا يعاتبونني على ما بلغهم من التقصير قبل يوم القيامة .ثم أوضح لهم موقفه
ووجهة نظره فأبان أن تغريمة للرمل واليتامى ،وجمعه الموال من الضعفاء
والفقراء وتقديمه لعوان الدولة الظالمة إنما هو مداراة عليهم ودفع للذى عنهم ورد
لما يرتكبه الظالمون مع من ل يبادر إلى إحضار ما يفرض عليه من الضرائب ،فهو
بجمعه للموال من الناس وتقديمها إلى أعوان الدولة إنما يوفر عليهم العنت والهانة
والتعذيب والمبالغة في العقوبة ،وكأنه في ذلك يستند إلى القاعدة العامة التي وضعها
بعض علماء السلم إسنادا إلى الشريعة السمحة » على العام أن ينظر للجاهل
ويتحرى له مصلحته في الدنيا والخرة « أما في التزامه احتسابا ل ل ليقظان فقد قال
لهم » :والتزامي المر ليقظان إنما التزامه احتسابا ل ل ليقظان« .فهو لم يكن ينظر
إلى شخص اليقظان وإنما كان ينظر إلى المة ويشفق عليها وهو في ذلك يذهب
مذهب كثير من علماء السلم الذين عاشوا في ظلل الدول الظالمة وأذعنوا
للسلطين الجورة خوفا من الفتنة وطلبا للسلم وحقنا للدماء.
ويبدو لي إن أبا الخطاب حسبما يفهم من سلوكه ومن لينه وحيائه وعشرته لمن ينقم
عليه وتعامله مع من يحكم عليه بالبراءة إنه كان يقدر وحدة المة المسلمة أكثر من
أي شيء فهو حريص أن تبقى المة في سلم ل ترتفع فيها دعوة إلى ثورة ول
صيحة إلى تفرقة ،لن الختلف والفتراق يؤدي بالمة إلى حالة أشنع من الحالة
التي هم عليها ،فإن الحاكم الظالم قد يمكن اصلحة حين تستقر المور وتهدأ أما
انشقاق المة واراقة الدماء بينها فإنها تؤدي ل محالة إلى القضاء عليها.
ولعل الحوادث التي وقعت بعد وصول اليقظان إلى الحكم واختلف الناس عليه ثم
قتله أثبتت مقدار بعد نظر أبي الخطاب في هذه القضية فقد جاء أبو عبد اله الحجاني
الشيعي فوجد اليقظان مجفوا مبغوضا فقتله ووجد المملكة الرستمية لقمة سائغة
فأزدردها ،ثم ارتكب من الفواحش ما كان يشفق منه أبو الخطاب فقتل دون حساب،
وانتهك الحرمات دون حياء ،وكان من أفظع الجرائم النسانية التي ارتكبها إحراقه
للمكتبة الكبرى ( المعصومة ) التي كانت تحوي الفا من المجلدات ول حول ول قوة
إل بال.
كان أبو الخطاب ذكيا وكان عالما بالشريعة السلمية وكان يفهم أسرارها فهم الفقيه
المحقق الذي ل يقف عند أقوال الفقها ،وإنما يتغلغل إلى أسرار الشريعة في
مصادرها الثابتة من الكتاب والسنة والجماع.
جاءه يوما غني من بني يهراسن يخبره إن له أخا فقيرًا ممن ل يتصف بالورع ول
يتجمل بالتقوى وسأله هل يجوز له أن يعطيه زكاة ماله .ولو كان المفتي غير أبي
الخطاب لجاب دون إبطاء إنه يشترط فيمن تعطى له الزكاة الوفاء بدين ال .ولكن
أبا الخطاب لم يجب بهذا الجواب وإنما طلب من الغني أن يحضر إليه أخاه فلما
حضر اتجه إليه أبو الخطاب وقال له في لهجة قوبة :تب إلى ال .واستجاب الفقير
دون تردد فقال تبت إلى ال فالتفت أبو الخطاب إلى الغني وقال له أعطه زكاتك ثم
اتجه إلى الفقير وقال له لقد ألبسناك ثوبا هو لباس التقوى فإن تعريت منه فل قتلك إل
الجوع .والكلمات الخيرة في نظري هي أهم ما في الموضوع فلقد عمل أبو الخطاب
على استثارة ضمير الرجل الفقير بالدعوة إلى التوبة فلما استجاب له أكرمه على هذه
التوبة بإعطاء الزكاة فلما تم له ذلك أراد أن يشعره بأنه أصبح يتحلى بجمال روحي
هو جمال التقوى وإن النسان العاقل ل يتجرد مما يكسبه جمال وحبة وغنى.
ولعله من المناسب أن أختم هذا الفصل بكلمة لحدى النساء من ذرية أبي الخطاب
عبد العلى ،حين توفى أبو الخطاب بن سنتين قالت ،تلك المرأة » :مات الحق
وبقيتم يا زواغة ،بطون كالخرجة ،وعمائم كالبرقه .ونعال سلجماسية ،وأحكام
متعوجة« .
حقا إن موت أبي الخطاب قد ترك فراغا ،فإن قليل من الرجال من يمل ذلك المكان...
أبو محمد جمال المزاتي
قمة شامخة من قمم العلم والكرم ،جمع إلى غزارة العلم وفرة المال والجود بهما ،قال
فيه أو العباس الشماخي » :وهو من السباق في العلم والعمل والندى « .وهو إلى
غزارة علمه ،وسعة كرمه ،مؤمن من أخلص المؤمنين عبادة ل ،واستمساكا بدينة،
ودعوة إليه.
وكالعالم اجتماع من أكثر الناس دراسة للمجتمع ،ومعرفة بشئونه ،وعمل بما يصلح
له ،ومراعاة لمصلحة المة التي تعيش في محنة بسبب ما تعانيه من الحكام الظالمين.
والولة الذين ل يهمهم إل ما يفرضون من ضرائب ويجمعون من أموال ليسترسلوا
في عبثهم ولهوهم.
وهو وإن لم يسند إليه الحكم ولم يتول إمارة ،إل إنه كان يقوم مقام الحكام والمراء،
يفصل المنازعات ويحل المشاكل ،ويؤدب من يستحق التأديب ،ويدعو إلى العتصام
بدين ال على بصيرة.
هيأ مركزه الجتماعي والعلمي إلى أن يكون أعظم شخصية يجتمع على محبته
واحترامه وامتثال أوامره والرضا بأحكامه – الموافقون له في المذهب والمخالفون،
وكان هو يعمل على إرضائهم ،في حدود الدين .كان يصلي بالمجتمع وفيمن يصلي
بهم اتباع لبعض المذاهب التي ترى القنوات في الصلة فكان يقنت بأي القرآن الكريم
حتى يجمع بين من يرى القنوت ومن ل يراه .وكان مع هذه السهولة قويا في دين ال
ل ينفك عن المر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان وأي صورة.
مر في بعض أسفاره البعيد على مدين ،ووقف على تاجر قد أزدحم الناس عليه .وهو
يكيل لهم ،ويطفف الكيل ،فلطمه أبو محمد ،وقال له مذكرا بكتاب ال » .اوفوا الكيل
ول تكونوا من المخسرين ،وزنوا بالقسطاس المستقيم « .فرفع غليه الرجل رأسه
وهو يبتسم ابتسامه صفراء باهته وقال له :فينا وال نزلت يا مغربي .وكان أبو محمد
يقيم أحيانا بالبادية وكان إلى جواره رجل غني اليد فقير القلب تروح عليه النعام
وتغدو ،ولكن أسرته تعاني من شظف العيش وبؤس الحياة ما يعانيه الفقراء
المعدمون .فرأى أبو محمد أن الزم هذا الرجل بالنفاق أمر بالمعروف ولكن الرحل
غلبه شحه المطاع فلم يقف أبو محمد عند المر بالقول ولكنه انتقل إلى الطريقة
العلمية التي هي أجدى في كثير من الحيان ،ولقد يحسن أن أنقل لك هذه الحادثة كما
صورها أبو العباس الدرجيني بأسلوبه البليغ الرائع قال أبو العباس » :وذكر أن أبا
محمد جمال ،كان في جواره رجل من أهل البادية ،في سنة مجاعة ،وللرجل صرمة،
وقد أضربه الجوع ،وشحه المطاع مانعه أن ينحر منها ناقة فيطفئ شعت نفسه
وعياله ،فبلغ ذلك أبا محمد فجاهء فوجد في خيمة ل حراك له من ألم الجوع ،فقام أبو
محمد احتسابا في الرجل ،وفي يديه حربة ،فدخل في ابله فعمد إلى ناقة كوماء ،لم ير
في ابل الرجل أحسن ول اسمن منها ،يريد أن ينحرها ،فرآه صاحب البل فقال لعل
غيرها يا أبا محمد ،فأبى إل تلك التي قصد إليها ،فنحرها بحربته ،فلما نحره .قال لهم
قوموا وكلوا فلما أصبح أغارت عليهم غارة فاكتسحت إبل الرجل ،فلول إن ال عز
وجل لطف بهم ببركة الشيخ ،لماتوا جوعا ،فتبلغوا بشحم تلك الناقة ولحمها ،وسدوا
فاقتهم » :وواضح أن البدوي لم يستفد إل من الناقة التي نحرها أبو محمد وهذه
الظاهرة الجتماعية التي تكشف عنها هذه القصة ،قد تكون من أخلق الناس مدى
الحياة .وليس غريبا أن تجد في هذا العصر ناسا يملكون البل بالعشرات والغنام
بالمئات ،ولكنهم مع ذلك ل يحسنون غير تزيين الرض بتلك القطعان ،فهم يعيشون
عيشة فقر مؤلم ،تعيش أسرهم على شظاف وشدة ،ول تستفيد منهم المة ،ل يؤدون
حق ال ،ول حق المجتمع .ونحن في حاجة إلى علماء في فهم أبي محمد يتولون حمل
الناس على أداء الحقوق لنفسهم ومجتمعاتهم حتى بالقوة .ولكنهم ل يتجاوزون في
ذلك الحدود التي شرعها ال لصيانة أموال الناس وممتلكاتهم.
كان أبو محمد ينتجع الكل بمواشيه مع بعض أحياء مزاته.
وجاءهم جباة الضرائب الذين يجمعون الموال دون قانون أو شريعة وطالبوا
بالمقادير المفروضة ولكن أهل الحي تهاونوا ولم يهتموا بهم فقال الجباة إن بتنا
ضاعفنا عليكم وكلما بتنا ضاعفنا الضريبة عليكم ،وبقي أهل الحي على عدم
اهتمامهم وقلة اكتراثهم » ،حماقة وخرقا ل قدرة وعزا فجاء أبو محمد إلى جباة
الضرائب وقال لهم قفوا على ترع الحياء ،ول تتركوا الماشية تسرح .فإنهم سوف
يدفعون لكم ففعلوا فلما رأى القوم ماشيتهم محبوسة بادروا إلى الدفع وانصرف عنهم
الجباة فقال قائلون أن أبا محمد أعان الظلمة على المساكين والضعفاء فلما بلغه تقدهم
لسلوكه قال » :إن ل على العالم إن ينظر للجاهل ويدله على ما فيه سلمة دينه
ودنياه « .ليت أن علماء المة جميعا يفهمون هذه القاعدة الهامة ويعلمون بها في
مختلف العصور والزمان فينظرون للجهال ،ويدلونهم على ما فيه سلمة دينهم
ودنياهم .وليست أعنى بطيعة الحال حمل الناس على الرضا بالظلم ،فإن هذا ل يدع
إليه مؤمن إل إذا كان مضطرا كما كان أبو محمد وقومه وإنما أريد من العالم أن يدل
الجاهل على ما يصلح له في دينه ودنياه من جميع مشاكل الحياة.
كان أبو محمد في دقة الفهم وعرفة أسرار الشريعة والتمييز بين الحقوق في المرتبة
التي ل تداني.
ويدل على ذلك وسائلة في الحكم وإقناع الخصوم والى القارئ الكريم شاهدا على
ذلك.
أعطى رجل من مزاته مبلغا من المال إلى رجل آخر يتجر فيه وبينما كان التاجر
يدور في السواق عثر على كتاب قيم نادر هو تفسير القرآن الكريم للعلمة هود بن
محكم الهوارى فاشتراه فسمع به صاحب المال فجاءه فقال للتاجر أن الكتاب لي ولك
نصف الربح فقدر الربح بما تشاء وقال التاجر بل الكتاب لي ولك رأس مالك ووقع
بين الرجلين خلف حاد وبلغت بهما للجاجة حد العصبية فانتصر لكل واحد منهما
قومه وأصدقاؤه واقترح مقترح أن ترفع المشكلة إلى أبي محمد جمال فطلب من
التاجر أن يسلمه الكتاب فأخذه وقسمه نصفين أعطى لكل واحد منهما نصفا ثم قال
لهما على كل واحد منكما أن يستعير النصف الثاني وينسخه.
وهكذا حلت المشكلة بإرضاء الطرفين وظفرت المكتبة السلمية بنسختين.
إن الحديث عن أبي محمد ومواقفه يطول ولعل القصة التية كافية في التدليل على
غزارة علم الرجل واعتداده بنفسه وتمسكه بذاته عندما يعتمد هذا الرأي على سند
صحيح ،قال أبو العباس الدرجينى » .وذكر أن جماعة من المشايخ وجهوا نحو
طرابلس فركبوا البحر ،ونزلوا بجزيرة جربة ،وحضروا مجلسا قد حضرته فقهاء
أهل جربة ومشيختهم كابي مسور وأمثاله ،فتذاكروا في الطهارة ،حتى وردت بينهم
مسألة فوقع فيها الختلف بينهم وهو ما كان من نبات الرض من الثياب ،هل
يطهره من النجس ما يطهر الرض والنبات لنها من جنسها أم ل ،فاجمعوا على أن
الثياب كلها حكمها في ذلك إذا نجست واحد ،ل يطهرها إل الغسل بالماء ول يطهرها
سواه ،بخلف العناصر فخالفهم أبو محمد جمال وحده ،وقال لهم ،حكم الرض
ونباتها وما يعمل منها من ثياب جميعا واحد ،يطهرها تداوم الشمس والرياح عليها إذا
عرضت لها المدة الطويلة ،ما لم تبق عين النجاسة قائمة .قيل بعض أصحابه وأعلمه
بما كان من اتفاق الجميع وإن اتفاقهم هو الصواب .فأقام أبو محمد يحجج على صحة
مذهبه وقوله ولم يرجع عنه ،فقال لهم أبو مسور كفوا عنه فإن العالم كالجدل إذا
حلق ضرب« .
هذه صور من حياة عالم من علماء المة كان قدوة للمسلمين ينهج بهم نهج الحق
والستقامة ،ويخفف عنهم بكل الوسائل أذى الظالمين ،ول يبالي ما يصله بسبب ذلك
من نقد قصر أصحابه عن فهم مراميه ومقاصده فرحمه ال ورضى عنه.
أبو مسور يسجا بن يوجي اليهراسن .علم من أعلم العلم والفضل والستقامة .وجد أسرة متسلسلة
ف خدمة دين ال قرونا متتابعة ول تزال بقاياها حت الن قائمة بأمر ال.
بلغ أبو مسور درجة في العلم يقصر عنها القران ،وعمل في حقل الصلح
الجتماعي ما يعجز عنه المصلحون.
كان رحمه ال غزير المادة .لطيف المعشر ،سهل الخلق .لين العريكة ،حييا متسامحا
إلى أبعد حدود الحياء والتسامح .وكان ذكيا نافذ البصيرة .وكان مع ذلك جم التواضع
حليما .يضاف إلى ذلك سعة في المال .وسخاء في النفس ،وانطلق في اليد ،وكرم
مطبوع ،وهذه الصفات جميعا كونت له شخصية عظيمة محبوبة ،وهيأت له عند
الباضية وغير الباضية منزلة سامية ل يصلها إل النادر من الناس ،فكان ينظر إليه
كما ينظر إلى الزعيم أو الحاكم المحبوب .ينظر الناس أمره ليلبوه عن رضا وحبة.
ولكنه كان أشرف من أن يستغل محبة الناس ،وأنزه من أن ينحرف عن الحق،
وأعدل من أن يميل مع الرغبات وأحكم من أن ل يقدر عواقب المور ونتائجها.
كانت الدولة العبيدية في عصره مستولية على أغلب المملكة التونسية ،ولكن نفوذها
في مواطن الباضية كان ضئيل ل يتعدى مبالغ من المال تؤخذ منهم .وقد كان أبو
مسور هو الحاكم الفعلي كما كان الئمة من قبله .ولو شاء أن يستقل بالجنوب
التونسي عن الدولة العبيدية لسهل عليه ذلك ولكنه فضل أن يبقى على الوضع الذي
هو عليه والذي كان عليه الئمة من قبل مثل أبي القاسم وأبي محمد وغيرهم.
كان في سكان تونس عدد من مختلف الفرق السلمية ،وكان في بعض تلك الفرق
طلب زعامة يستغلون الخلف المذهبي أو الجنسي في الدعاية للوصول إلى
مراميهم الخفية ،وأغراضهم البعيدة وكان بعض أولئك الناس كثيرا ما يلقون بالكلمة
النابزه في حق أبي مسور فيتغافل ويتجاهل وينزه سمعه عن الصغاء إليهم ،ولسانه
عن مجاوبتهم .ونشط بعض الناس في ذلك وهم يقولون عنه إنه رجل غريب عن
جربة ،وماذا يحق له من الشأن ،ولو طرد لما وجد من يدعوه إلى القامة وكان يتولى
كبر ذلك خاله خلف بن أحمد النكارى ويتحدث به في المجالس ويظهر الستخفاف
والستهانة به ويحمل الناس على عصيان أمره وتناثرت هذه الخبار إلى مختلف
البلد التي يسكنها الباضية فسمع بذلك أهل جبل نفوسه كم سمع به سكان جبال
دمروا بلد الجريد ومدينة درجين وبلد اريغ ووارجلن وما إليها.
اجتمع أهل جربة ذات يوم بمختلف مذاهبهم وأجناسهم لمر هام وكان أبو مسور
يرأس المجلس وكان خلف النكاري من الحاضرين مع طائفة من أتباعة.
وبينما كان المجلس منعقدا إذ ورد رسول من زواغة البادية يحمل رسالة إلى أبي
مسور .وقرئت الرسالة فإذا فيها » وقد سمعنا يا شيخ أن النكار يعقون فيك ويهمزون
ويلمزون ،ويحاولون أذاك ،فإن صح ذلك فأعلمنا ،نلق علينا ثيابنا ونصرخك وليس
علينا غير الزر والسلح رغبة في نصرتك .وقذعا لمن يرومك ،ويحاول ضيمك«.
فالتفت أبو مسور إلى الرسول وقال له لم أسمع بهذا ول لي به علم .وانصرف
الزواغي إلى قومه مطمئنا ولم يستمر المجلس طويل حتى ورد رسول آخر من جبال
دمر يحمل كتابا إلى أبي مسور وقرئ الكتاب فإذا فيه.
» يا شيخ قد بلغنا أن النكار يتحركون ويسيئون إليك ،ويلكئون أمرك فإن صح ذلك
فعرفنا ،نصرخك بعسكر ويكون أوله عندك وأخره هنا « .وفعل أبو مسور مع هذا
الرسول الكريم ما فعله بسابقه فالتفت إليه وقال ما سمعت بهذا ول لي به علم ولكنه
ما فرغ من الكتاب الثاني حتى وافاه كتاب ثالث يحمله رسول من نفوسة كان مما
جاء فيه » فإن صح فأخبرنا نكسر غمد السيوف ونصلك والسيوف مصلته في أيدينا
« والتفت أبو مسور إلى رسول نفوسة وطمأنه كما طمأن الرسولين السابقين وأخبره
أن ما بلغهم ليس صحيحا وسافر الرسول واستمر المجلس في بحث المشاكل التي
انعقد من أجلها.
ذعر القوم الذين كانوا يحسبون أن أبا مسور رجل غري في جربة ليس له أنصار
وكانوا يعتقدون أن من اليسير طرده أو إيذاؤه على أن موقفه الحكيم معهم وتغاضيه
عن إساءتهم المتكررة ،وترفعه عن النزول إلى المستوى الذي عاملوه به ،مع ما هو
عليه من القوة جعلهم يفكرون في عظمة الرجل ويؤمنون بها ويسلمون لها .وأصبح
خلف بن أحمد النكارى يفكر بعد ذلك تفكيرا متزنا حتى إنه صار يرد الذى جين
يسمعه ويقول لمن يحاول أن يلمز أبا مسور ولو في خفاء (أبو مسور إمامنا أجمعين
لحمى لحمه ودمى دمه).
لقد كان أبو مسور عظيما حقا ،عظمة المؤمن القوي ،والعالم المتمكن وكان واسع
الطلع عالما بأسرار الشريعة وإلى القارئ الكريم أمثله مما يجيب به السائلين .سأله
يوما أحد الناس عما يقرأ عند حضره الموت ،فقال ما سألني أحد عن ذلك منذ فارقت
أبا معروف .يقرأ عند وفاة المؤمن قولة تعالى:
» يا ايتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية « .
ولعل في الحديث التي ما يكشف عن عظمة نفس أبي مسور وسعة إطلعه وعمقه
في الفهم والتحليل.
توفى له ولد عزيز عليه فاتاه المشائخ يعزونه في الفقيد الراحل ،ويواسونه في
مصابه ،ويوصونه بالصبر الجميل فقال لهم ،ما الصبر الجميل؟ تحير المشائخ في
الجواب ونظر بعضهم إلى بعض ،ولكن أحدا منهم لم يجد الجواب الذي تطمئن إليه
النفس ،إنهم كثيرا ما رددوا هذه الكلمة في أنفسهم .وأوصى بها بعضهم البعض،
وتمثلوا بقوله تعالى في الكتاب الكريم على لسان سيدنا يعقوب عليه السلم ( فصبر
جميل ) وكان لها في أنفسهم صورة واضحة ،ولكنهم لم يجدوا العبارة التي تضع هذا
المعنى في إطار يوضح صورتها الجميلة في أنفسهم ،فأرجعوا الجواب إلى الشيخ
وقالوا له الجواب من عندك يا شيخ.
قال أبو مسور ( :أن ل تظهر المصيبة على وجه المصاب ) وفكر القوم في معنى
الجملة وجدوا أن هذه الكلمة تعبير رائع صادق فصيح عن معنى الصبر الجميل
واقتنعوا بذلك فلم يناقشوا الشيخ لنهم لم يجدوا ما ينتقدونه في هذا التعريف أو في
الطار الذي وضعه للصبر الجميل .فلما رأى ما هم فيه من القتناع قال لهم وهل
أيسر من هذا ،وكأنه يقول لهم إن هذه المرتبة السامقة من الصبر الجميل ل يصل
إليها إل قليل من عباد ال المخلصين فرد المشائخ إليه الجواب فقال لهم( :ما لم يتغير
الوجه) .
وتأمل القوم هذه الجملة فوجدوا إنها غير بعيدة عن الطار الول إنها مرتبة سامقة
من اليمان والصبر والحتساب أن تنزل المصيبة على المؤمن فل يتغير به وجهه
ول تبدو عليه الكآبة.
واقتنع المشائخ بهذا التعريف أيضا .ولكن الشيخ زاد فقال لهم وهل أسهل من هذا؟
ونظر القوم بعضهم إلى بعض ثم رفعوا أبصارهم إليه وقالوا منك الجواب » .فقال ما
لم يبك « أيكون عدم البكاء عند نزول المصيبة صبرا جميل ،وفكر المشائخ طويل
في هذا الجواب ولكنهم وافقوا عليه أخيرا فلو لم يكن الصبر الجميل هو الذي منع
لمؤمنين من البكاء لتعلى نجيبهم وطال بكاؤهم ،ولكن الشيخ لم يكتف بهذا فقال لهم
وهل أسهل من هذا؟ فنظر إليه القوم مستغربين وبدأ الشك يساورهم في أن تكون
منزلة الصبر الجميل أدنى من المنزلة السابقة ولكنهم قالوا له في شبه تحد ،الجواب
من عندك.
فقال لهم ما لم يصح ،ويدع بالويل والثبور « .وكأنه أحس بدبيب الشك في نفوس
القوم ،وإنهم يترددون في قبول هذا المعنى فإن الشخص الذي تنزل به المصيبة
فيضرب لها وتنهمر عيناه بالدموع ل يعتبر صابرا صبرا جميل ،في نظرهم ولما
أحس بما يعتمل في نفوسهم شرح لهم وجهة نظرة فقال لهم.
» لن البكاء يكون من الرحمة « نعم إن البكاء ل يدل في جميع الحوال على الجزع
وقلة الصبر فإن العين وثيقة الصلة بالقلب الرقيق المفعم بالرحمة.
نشأ في قبيلة بين يهراسن ثم ارتحل إلى جبل نفوسة فالتحق بمدرسة أبي معروف
الكبيرة في شورس وبقى فيها ثماني عشرة سنة يدرس حتى بلغ مرتبة أساتذته وتفوق
على بعضهم وكان في ذلك الحين فقيرا ضيق ذات اليد فكان كثيرا ما ينفع الشعير
فيشرب ماءه في وجبة ويطبخه في الوجبة الخرى .ل يتأنق ول يحتفل بالكل ول
يشغل وقته بالتوافه من المور ولما أتم دراسته وذهب إلى جربة فتح ال عليه أبواب
الرزق ،وأغدق عليه النعمة وأتاه من فضله فكان من أصبر الصابرين في الول ومن
أصدق الشاكرين في الخر .وضع ثروته تحت تصرف المة فكان ينفق منها في كل
أوجه الخير ل سيما وجه التربية والتعليم ترجم له المؤرخ الجربى حمد أبو رأس في
كتابه مونس الحبة فوهم في اسمه فذكر إنه أبو مسور يصليتين وإنما هو أبو مسور
يسجا وقد جر هذا الوهم من أبي رأس الستاذ محمد المرزوقي إلى خلط بين
شخصيتين متباعدتين فقد قال المرزوقي في تعليقه :صفحة 9من كتاب مؤنس الحبة
ما يلي:
» يؤخذ مما ورد في السير الشماخي صفحة 23إنه عمر نحو مائة سنة أو تزيد
حيث يقول – عمر حتى بلغ الغاية في السن والهرم وكان في زمن المام عبد الوهاب
وعاش بعده – ومن المعروف إن المام عبد الوهاب -توفي سنة 18فإذا قدرنا إن أبا
مسور حضر أواخر أسام المام مفتتح القرن الثالث وتوفي أوائل القرن الرابع يكون
قد عمر أكثر من مائة سنة وعاش طيلة مدة الئمة الرستمية وحضر على اضمحلل
دولتهم سنة « 296
هذا تعليق الستاذ المرزوقي والخطأ واضح في هذا التعليق فإن الشماخي ترجم لبي
مسور يصليتين النفوسى الدوناطى في صفحة 23وترجم لبى مسور يسجا بن
يوجين اليهراسن في صفحة 345والكلمة التي نقلها المرزوقي قد وردت في أبي
مسور النفوسي الدوناطى من علماء الطبقة الخامسة أي النصف الول من القرن
الثالث أما أبو مسور يسجا بن يوجين جد السرة المشهورة في جربة فهو علماء
الطبقة السابعة أي النصف الول من القرن الرابع وقد أخذ العلم عن أبي معروف من
علماء الطبقة السادسة أي النصف الثاني من القرن الثالث فأستاذ أبي مسور
اليهراسني أصغر من أبي مسور النفوسى وبينما نحو قرن من الزمان.
ويبدوان الذي جر المرزوقي إلى هذا الخطأ التاريخي إنما هو خطأ محمد أبي راس
في اسم أبي مسور.
هذه صور غير وافية عن شخصية علمية من رجال السلم أرجان يجد فيها القارئ
جوانب مشرقة تضاف إلى ما للسلم من جوانب مشرقات.
يكفيه شهرة وتعريفا إنه تلميذ المامين الكبيرين أبى القاسم وأبي خزر وإنه استلم
منهما الرسالة وقام بأمر المة بعد سفر أبى خزر إلى مصر .وعنهما أخذ العلم حتى
بلغ مبلغ الفحول ومنهما اقتبس السيرة حتى صار قدوة .وقد أوتي فصاحة وبيانا وقوة
حجة حتى شهد له بذلك أبو تميم المعز لدين ال فقال » أما أبو نوح ففتى مجادل «
قال أبو تميم هذه الكلمة وأبو نوح ل يزال فتى طرى العود ،يلتزم حلق الدرس،
ويتابع مجالس العلم ،ويترسم خطا المامين العظيمين يتلقى منها المعرفة ،ويجد فيهما
القدوة في السيرة الحسنة ،فلما قتل أبو القاسم غيلة كما مر .ودعا أبو خزر إلى
الثورة ،كان أبو نوح أنشط القائمين بالدعوة إلى الثورة وأشد المتحمسين للخذ بثأر
الشهيد ،وكان ينتقل بين البلدان بأمر من المام أبي خزر يحرض الناس ويدعوهم إلى
النضال وقد سافر إلى الجهات البعيدة مثل جبل نفوسة وكاتب بني أميه .إنه كتلة من
النشاط ل يقف ول يستقر ولما اجتمعت بعض الجموع علي أبي خزر وبدأوا فعل
ثورتهم في بغاى كان أبو نوح في مقدمة المقاتلين يركب فرسا أدهم يجول به في
الميدان.
ورغم إن أبا نوح نشأ بين حلق التعليم ولم يتدرب على القتال إل إن كتب التاريخ
أثبتت له من البطولة والشجاعة وقوة القلب والساعد ما يفتخر به أبطال الحروب
وعندما دارت الدائرة على جند أبي خزر كان أبو نوح يطير بفرسه من مكان إلى
مكان يحمي الناس وينفس عليهم الكرب .وتشتت الجموع وقتل عدد غير قليل والتجأ
أبو خزر إلى جبل نفوسة ،أما أبو نوح حتى عثرت جنوده بأبي نوح في الحالة السابقة
فالقوا عليه القبض واركبوه جمل وطافوا به في البلدان .فلما نزلوا به عند الليل بادر
إلى التيمم للصلة فقال له السجان أدخل الخباء واستريح وأزل عنك وعثاء السفر فعلم
أبو نوح إنه ل يقتل حينئذ .وبقي في الحبس أياما وكان يأتيه ناس فيقولون له لقد
تركت القوم يقعون فيكم ويتحدثون عنكم فيجيبهم قائلً :مولنا خير منكم وبلغ ذلك أبا
تميم فتخف حدته وغيظه وبعد أيام عفا عنه فكان بأتيه الرجل من حاشية المير فيقول
له يا حبيبي فيقول أبو نوح أرأيت حبيبا يأكل لحم حبيبه فيجيبه الخر نحن رجال
الملك من احبه أحببناه ومن كرهه كرهناه.
كان أبو نوح قد كتب إلى بني أميه يستنجدهم وقد أخذ كتابه إلى أبى تميم .غير إن
الكتاب لم يوقعة أبو نوح فعقد السلطان مجلسا للتشاور وكان في الحاضرين يهودي
كان هو الخر يتولى بعض مناصب الدولة فقال لهم أنا أتيكم بخطه وأخذ ورقة وقلما
ودخل على أبي نوح في صفة السف على ما وقع وقال له يحسن بك أن تكتب إلى
الملك تعتذر إليه وتطلب منه العفو فإنه ل عيب في طلب العفو من الملوك وجلس
ساعة يتحدث ثم خرج ،واقتنع أبو نوح بصواب رأي اليهود فأخذ القلم والورقة وبدأ
يكتب غير إنه لم يتم السطر الول حتى خطرت له المكيدة فقطع ما كتب وغير خطه
ل وكتب رسالة العفو وطواها وبقي ينتظر.
تغييرا كام ً
عرضت الرسالتان على المجلس الذي عقده أبو تميم فاتفقت الغلبية على أن خط
الولى غير خط الثانية وعقد أبو تميم مجلسا قضائيا لمحاكمة أبي نوح ،ووجهت إليه
فيها مختلف التهم .ولكنه استطاع أن يبرئ ساحته ببراعته وحذق مما نسب إليه.
جلس أبو تميم في مجلس حربى يدل على السخط فقد لبس لباسه الحمر وجلس تحت
قبة حمراء على السرير الحمر ووقف الحرس حوله بالحراب ثم أمر بإحضار أبي
نوح يرسف في الغلل والقيود ،فلما رأى أبو نوح هذه الهيئة أيس من الحياة،
واستعد للشهادة ،فسلم بلسان فصيح وجنان ثابت .فأطرق أبو تميم مليا ثم رفع رأسه
وقال :يا سعيد! حقا كاتبتم فينا بني أمية؟
قال أبو نوح :إن تقبل حجتي ويرفع عذرى تكلمت ،وإل فالمير يفعل ما يشاء.
قال أبو تميم بل يقبل عذرك.
وكان أبو نوح كما سبق أن قلنا فصيح اللسان ،شيق البيان واسع الطلع فقال:
كيف نكاتب بني أمية ونأمنهم ،وقد علمت ما بيننا وبينهم ،وهم الشجرة الملعونة التي
ذكر ال في القرآن.
فلما سمع أبو تميم ذلك سره وانطلق وتبسم فدفع إلى أبي نوح بالكتاب الذي وجهه إلى
بني أمية وأخذ في لطريق وقال له :أنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال أبو نوح وال ما هذا
كتاب كتبته بيدي فاختلف أهل المجلس في يمينه .قال بعضهم جعل ما زائده ،وقال
آخرون إنه ل يفطن لمثل هذا.
قال أبو تميم لو صادفتني يوم باغاي أتتركني لغيرك؟ قال أبو نوح ل!
فرجح عند أبي تميم صدق أبي نوح في جميع ما قال أو إنه تظاهر بتصديقه .ثم قال
له :إن القيود أدخلت إلى رجلك بالعلم ول تخرج إل بالعلم فقال أبو نوح :عسى ال إن
يجعل ذلك كفارة لذنوبي .فغضب أبو تميم وقال :أنحن مسيئون فيك.
قال أبو نوح ليس في ذلك ما يدل على إساءتك .إل ترى إن ال عز وجل يبتلي عباده
فيصبرون فيوجرون وليس في ذلك ما يثبت الساءة ل تبارك وتعالى فزال غضبه ثم
أن أبا نوح طلب منه العفو فعفا عنه وأعطاه مال جزيل وثيابا حسانا فرق الجميع
على الناس بعد خروجه من القصر ورآه بعض الحاشية وهو يفرق الموال فذهب
إلى أبي تميم وأخبره أن الرجل مجنون فقد جعل يبعثر الموال التي منحها فقال أبو
تميم ليس بالرجل جنة ،وإنما منتحل زعامة ورئاسة.
حرص أبو تميم بعد ذلك أن يقرب إليه أبا نوح وأن يحضره إلى مجلسه من حين إلى
آخر ،وأن يستشيره في بعض المور ،وقد سأله يوما عن مكان أبي خزر فأجابه أبو
نوح بأنه ل يعرفه فال أبو تميم تأتي به دراهمنا أينما كان فسكت أبو نوح لهذا
التحدي ولم يجب فقال أبو تميم أترانا نخشى أمره؟ قال أبو نوح إن أمنته وأمنت
الناس في جميع الجهات ل تخشى أمره .وإذا لم تفعل فإنك تخشاه وتخشى أمره
وعرف أبو تميم في هذا الجواب صدق النصيحة وإن لم يخف عليه إن أبا نوح إنما
قصد خير شيعته بذلك فبعث أبو خزر بالمان إلى جميع مواطن الباضية وبلغ خبر
ذلك إلى أبي خزر في جبل نفوسة فاستعد للرجوع .وعلم المعز برجوع أبي خزر إلى
مواطنه في الحامة فبعث إلى أبي نوح يأمره بلقاء إستاذه وصديقه وذهب أبو نوح
فاستقبل صديقه في قابس ثم دعاهما أبو تميم إليه وأكرم وفادتهما وأطهر من احترام
أبي خزر وإجلله ما لم ينله غيره وقر مجلسهما وصار ل يستغني عن رأيهما وهو
يعمل كل ذلك لينسيهما حركة الثورة وإن ل يدع في نفسيهما سببا للنتقاض عليه
ولما عزم على النتقال إلى القاهرة حرص أول ما حرص على اصطحابهما فأجاب
أبو خزر أما أبو نوح فقد أدعى المرض يوم الرحيل ولما جاءه أعوان الملك يدعونه
إلى مرافقة الملك وجدوه مصفر اللون في حالة تدعو إلى الشفاق فأخبروا الملك
بذلك فتركه وسافر ويقول المؤرخون أن أبا نوح اغتسل بماء النخالة فاصفر لونه
حتى حسبه الناس مريضا.
بعد سفر أبي خزر إلى القاهرة لم يطل المقام لبي نوح فكان ينتقل من مكان إلى
مكان يلقى دروس الوعظ والرشاد ويحث الناس على العتصام بدين ال
والستمساك به ،على إنه لم يأمن جانب الدولة العبيدية ل سيما بعد وصية المعز أبي
تميم لخليفته بلكين أبن زيرى فانتقل إلى وارجلن وكان بها في ذلك الحين المام
العظيم أبو صالح جنون بن يمريان مرجع الباضية وملذهم وأعلم علمائهم في تلك
النحاء فاستقبله استقبال الخ المحب لخيه وآواه إيواء الب لبنائه البررة العزاء
عليه وأجرى عليه من الموال والرزاق ما يستطيع أن ينفق منه أبو نوح على سعة
ورغد وعامله الباضية هنالك بما يعامل به أعاظم الرجال وكانوا يجتمعون إليه في
مسجد جنون ويستمعون إلى دروسه القيمة في شغف ورغبة وتعطش وكان طلبة
العلم ل يفارقونه ويسمرون معه إلى ساعات متأخرة من الليل .وارتفعت بينه وبين
الطلبة الكلفة حتى قال له أحدهم يوما حدثنا بكل ما حفظت فقال أبو نوح كيف أحدثكم
في ليلة واحدة بما أكلت في تعلمه اقفزة من ملح.
وبعد زمن اشتاق إلى موطنه فأراد الرجوع وحاول أبو صالح أن يثنيه عن عزمه
وعرض عليه أن يقاسمه جميع أمواله وأملكه وكان ذا ربع كثير فأصر أبو نوح
على السفر .ولما وصل إلى المملكة التونسية وجد المور قد تغيرت عما كان تغييرا
كبيرا فقد استبدت الدولة الصنهاجية بالناس وعاملتهم أقسى معاملة وحاربت من
يخالفها في المذهب بكل الوسائل ،فأسف على ذلك قال له بعض الناس ما أخرجك عن
وارجلن وقد احسنوا إليك قال حب الخوان والصحاب.
وكان يتقلب بين بلد الجربد وجبال دمر ومنطقة الحامه يدعو الناس إلى المحافظة
على دين ال وعدم الغترار بالدنيا وذهب يوما إلى درجين فاستقبله مقدمها ورحب
به أجمل ترحيب واستقبله أحسن استقبال ،فحدثه أبو نوح عن السيرة ونهاه عن
البدعه ،وأوضح له أن المؤمن ل تخدعه الدنيا ل بالمال ول بالسلطة ،فوجد عنده
حسن استماع ،واستعدادا للقبول بينما كان أبو نوح في درجين ،سمع به المنصور بن
بلكين فبعث إليه يدعوه .وقد انبعثت الشكوك من هذه الدعوة في قلب أبي نوح ولذلك
رأى أن يستشير فذهب إلى مقدم درجين وأخبره بدعوة المنصور فقال له المقدم .أن
أردت المسير إليه فل خوف عليك وأن لث ترد كفيتك أمره فسار أبو نوح إلى
المنصور فقرب مجلسه وأكرم وفادته وأبقاه بجانبه وكان كثيرا ما يرد بعض العلماء
للجدال والمناقشة في بعض مسائل التوحيد وعلم الكلم فتتحكم الشبه التي يعرضونها
على حجة أب نوح وقد ذكرت كتب التاريخ أمثلة من تلك المناقشات فإذا شاء القارئ
الكريم الطلع عليها فعليه أن يرجع إلى مظامنها في كتب التاريخ التي ترجمت
للمام أبي نوح.
عاش أبو نوح حياة حافلة بالعلم والعمل ولقد تقبلت به أحداث التاريخ وانتقل من مكان
إلى مكان فعاش في المملكة التونسية وزار بلد الباضية في الجزائر وأقام بها حينا
من الدهر وذهب إلى جبل نفوسة وتنقل بين مدنه وقراه وارتحل إلى مناطق فزان
حتى بلغ زويلة بني خطاب .وكان في جميع أحواله عندما كان تلميذا لعظم إمامين
عالمين وعندما كان داعية من دعاة الثورة على الظلم وعندما كان متنكرا في ثياب
راعي إبل وعندما كان متنقل من مكان إلى مكان للوعظ والرشاد والتعليم .كانفي
جميع هذه الحوال مثال المسلم الحريص على دينه الوفي لعقيدته المخلص في عمله
الدءوب على عمل الخير وقول الخير والكفاح من اجل الخير فرحم ال ذلك الرجل
العظيم ورضى عنه.
.
نشأ أبو صالح أبو بكر بن قاسم اليهراسني في ( ازارن ) وهي ناحية من البادية،
خصبة المراتع ،سهلة المرابع ،خضراء الوديان ،مونقة الربا تعجب أصحاب
الماشية .وقضى طفولته ،يتمتع بما يتمتع به أصحاب البادية من حرية وانطلق ،مع
جمال الطبيعة ،فاكتسب بذلك قوة في البدن والرادة ،وانطلقا ووضوحا في الخلق
والطبع ،ودربه على الحديث وفصاحة فيه.
أخذ العلم عن الشياخ الذين كانت تمتلئ بهم تلك الحياء الضاربة في بطون
الصحراء ثم التحق بمدرسة العلمة الكبير أبي الربيع سليمان بن ماطوس فاعترف
منها حتى أصبح من الفحول ،وأخذ قيما احسب عن أبن زرقون في أواخر أيامه
وأصبح علما من العلم .يرجع إليه فيما دق وجل من المور .وكان مرجعا في
جميع مشاكل الحياة سواء كانت تلك المشاكل عملية أو دينية أو اجتماعية وحتى
سياسية في بعض الحيان.
ولقد وثق فيه الناس ثقة كاملة ،فولوه من أمورهم ما ل يسند إل إلى المؤمنين الكفاء.
فكان إليه المرجع في الفتوى ولقامة الحكام ،وتأديب الجناة ،والفصل في المشاكل
والستمرار في إلقاء دروس العلم إلى مختلف الطبقات.فكان يتولى ذلك جميعا بحزم
وقوة ودارية ،ومع حرصه على إقامة العدل والمساواة بين الناس فإنه كان يرفض
الفصل في المشاكل التي يكون أحد أطرافها من صهناجه ول يتولى تأديب الجناة
منهم .ذلك إن هذه القبيلة العاتية كانت قد تولت الحكم في المملكة التونسية في ذلك
الحين فترة من الزمن .فاستبدت بالحكم .وسارت به كما شاء لها الهوى ل تتقيد
بقانون ول شريعة.
وإنني حين أقول هذا الكلم تبعا للمؤرخين استغفر ال تعالى في هذا التعميم فإنه ل
شك أن أفراد القبيلة ل يتساوون وإن فيهم ول ريب مؤمنون يحفظون عهد ال
ويحرصون على إقامة دينه ،ويعصمهم اليمان عن المشاركة في الثم ،وإنما البغي
الذي حال دون إيصال الحقوق إلى أصحابها ،والعدوان الذي سلط على الناس دون
مبرر والطغيان الذي تقوده شهوة السلطة حتى تبلغ به دعوى الربوبية إنما كان بيد
الفئة الحاكمة التي وصلت إلى السيطرة على مقدرات المة دون إن يؤهلها لذلك دينها
ول عملها ول خلقها ،وإنما أوصلتها السبل الملتوية التي تجري عليها السياسة الباغية
في كل زمان وفي كل مكان ،ويبدو مما يقصه المؤرخون أن أبا صالح اليهراسني
الذي عاش في فترة الدولة الصنهاجية وحينما تولى الحكم فيها سلطين ظلمه يعمدون
لتوطيد ملكهم بما ملكت أيديهم كان ل يستطيع أن يجري الحكام على المجرمين من
هذه القبيلة .لن التعصب القبلي والمذهبي في ذلك الحين قد بلغ أقصى ما يمكن أن
يبلغه بسبب المسلك الذي سلكه المعز بن باديس الصنهاجي.
والحقيقة أن أبا صالح لم يتولى هذه الحكام للدولة وإنما أسندها إليه العزابة .ورضى
الناس به لثقتهم فيه ورضاهم بحكمة فهو يتولها منهم رغم إنه ل يملك قوة السلطة
ول تأيد الحكام.
على أن الثورات التي كانت تندلع ألسنتها باستمرار وزحف العرب الهلليين
وإخوانهم بني سليم ،وغارات السلب والنهب التي قاموا بها .وما يصيب الحياء
الضاربة في الصحراء من ويلت ومصائب .أقلق أبا صالح فترك البادية وانتقل إلى
جربة وسكن بها واستوطنها.
كان أبو صالح عالما واسع المعرفة ومؤمنا خالص اليمان ومربيا خبيرا بأساليب
التربية السليمة ،وحاكما قوي الدارة ل تأخذه في ال لومة لئم فهو أما أن يقيم الحق
ويثبت العدل وأما أن يتخلى عن الحمم وأسبابه.
وكان حريصا على المر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على دين ال،
ومحاربة البدعة والمبتدعين ،ل يحول بينه وبين ذلك تعب ول مشقة ومع ذلك فهو
متواضع كريم النفس يعترف بالحق ويقر بالتقصير.
سمع أن بعض المبتدعين قد استقروا في جبل ( دمر ) وإنهم ينشرون بدعهم هنالك
حتى كادوا أ ،يؤثروا بها على الناس وإن يجدوا لدعاويهم إذانا .فاستدعى إليه ولده
ويسلن وأمره أن يصحبه في رحلته إليهم على كبر سنة وضعف بدنه وتغلب
الشيخوخة والهرم عليه وكانت جبال (دمر) وعرة المسالك صعبة المراقي .قال
التيجاني (!) يصف قسما منها » :وهو جبل مرتفع في السماء قد سهلت فيه طرق
ضيقة ل يسلكها السالك إل على غرر وقد أهلها على سلوكها فهم يتنازلون فيها
تنازي العصم ،وكذلك غنمهم وابلهم ،يسلك البعير منها مسالك ل يستطيع الدمي
سلوكها إل بالحيلة «.فلما بلغ القرية وهي في قمة الجبل قصد رئيس الجبل زيري بن
كملين .فاستقبله الرجل بالترحاب ولكن الشيخ عجل عليه باللوم والتوبيخ وأنبه على
تسامحه مع هؤلء المبتدعة الذين يزرعون البدعة ،فيقودون الناس إلى النحراف
عن دين ال .ولكن مقدم (دمر) كما يسمى حينئذ أعتذر بأنه ليس لديه من العلم ما يقف
به في وجه أولئك الناس ،وإنه ليس في دمر من يستطيع الرد على أولئك الذين وجدوا
الجو خاليا فباضوا وأصفروا بحجة العلم وبرهان القناع ،وإنه كان من واجب العلماء
في جربة وغيرها من البلد المجاورة إنه يزوروهم وإن يعلموهم ،وإن يردوا عنهم
السنة السوء ،فاجاب الشيخ إنما منع العلماء من تكرار الزيارة ما كان عليه أهل جبل
دمر في ذلك الحين من ضعف اقتصادي بسبب الجفاف من جهة والضرائب المتتابعة
من جهة أخرى فمجيء العلماء إليهم يكبدهم نفقات قد ل تتيسر لهم فقال زيرى إذا
أشفقتم علينا من الناحية القتصادية فهل جئتم إلينا وحملتم معكم أزوادكم فقمتم
بواجب المر بالمعروف وانهي عن المنكر وتعليم الجاهل ورد البدعة واحياء السنة
ولم ترزأوا الناس شيئا في أموالهم .فأعجب الشيخ بجواب زيرى بن كملين مقدم جبل
دمر واعترف إن هذا القول حق وإن العلماء مقصرون وإن الحجة قامت عليهم وإن
أداء مهمته العظيمة .كانت تتعاقب عليه حلقات من الطلبة مختلفة المستويات وكانت
اكبر الحلقات مستوى فيها ابنه أبو محمد ويسلن وأبو يخلف النفوس وكان أبو يخلف
فقيها حاذقا ذكيا كثير الحفظ متقنا لمسائل الطهارات ضابطا لصولها و فروعها فكان
أبو صالح يحيل عليه السئلة التي ترد في الحيض و الطهارات ،فيجيب أبو يخلف
في حياء و أدب بما عنده من علم ثم يعتذر في تواضع .و هكذا ل يستنكف كل من
العالمين عن العتراف بالقصور ول يستنكف كل من العالمين عن العتراف
بالقصور و ل يستبد به الغرور الذي يصيب بعض المتعلمين في العصر الحاضر
فيأنف أن يسترشد من هو أعلم منه وأهدى .و لقد كان إلى هذا الخلق القويم شديدا في
أمر ال ينكل بالعصاة و المجرمين ،و ل تأخذه بهم رأفة في دين ال و حينما كان
بالبادية قد أعد خشبة ثقيلة فيها سلسل من الحديد ،يربطهم فيها عند الليل لئل يهربوا
قبل أن يجرى عليهم الدب او تؤخذ منهم الحقوق و عندما انتقل إلى جربة ألقى تلك
الخشاب بما فيها من حلق الحديد في بئر خوفا أن تستغل في غير حق أو تستعمل في
غير ما وضعت له .و عاقب فتى ممن درس على أبى مسور فشدد في عقابه فذهب
الفتى إلى شيخه أبو مسور يشكو إليه قسوة أبى صالح فقال أبو مسور للفتى وطن
نفسك على ما تلقى من أبى صالح ،فإن المؤمن كالحديدة المحماة تحرق ما يقع عليها
أو تقع عليه .
و يبدو أن الفتى لم يتعظ بعقاب أبي صالح و ل بدرس أبي مسور فعاد إلى ما ارتكب
فأعادالشيخ تأديبه بما عرف عنه من الشدة في دين ال فذهب هذه المرة إلى زكرياء .
يشكو إليه ما يلقى من أبي صالح و كان ينتظر أن يقف أبو زكرياء إلى جانبه .وأن
يطلب من أبي صالح أن يلجأ إلى العنف في تأديب هذا الرجل و لكن ابا زكرياء حين
سمع منه ذلك .تجهم وجهه و بدا الغضب عليه ،و قال له في قوة ،أرجو أن ل
يؤاخذ ال أبا صالح فيما ترك من تمام أدبك .فإن أباك ذكر أنك تنتف لحيته و هكذا
تعاون المشائخ على تأديب العصاة و اتفقوا على أسلوب أبى صالح و طريقته .
و أبو صالح مع هذه الشدة التي يستعملها مع العصاة المتقدمين في السن فقد كان
رحيما رقيق القلب واسع الصدر ل يلجأ إلى الشدة إل للضرورة و يستعمل وسائل
التربية القناعية ما لم تدع الضرورة إلى غيرها .
كان موضوع الدرس في يوم من اليام ( اللباس في الصلة ) و بينما كان الشيخ
منهمكا في تقرير الدرس و إيضاح جوانبه أراد أحد الطلب أن يداعب الشيخ فقال له
:هل تجوز الصلة بثوب واحد ؟ و أجاب الشيخ على الفور .نعم تجوز إذا كان
الثوب طاهرا ساترا للعورة – و ابتسم الطالب في خبث و قال أرأيت إن كان الثوب
شاشية ( )1فقال الشيخ في بساطة نعم تجوز الصلة بها أذا كانت طاهرة ساترة
للعورة ،و ضحك التلميذ و استمر الشيخ في الدرس دون أن يغضب كما قد يفعل
أكثر المدرسين الذين يضيقون بشقاوة الطلب و شقاوتهم .
ناول في يوم من اليام كتابا لحد الطلب المجيدين وأمره أن يقرأ درسا معينا ؟ و بدأ
الطالب القراءة و استمر فيها و كان إلى جانبه زميل له دونه في العلم و الفهم و لكنه
كان يتظاهر بالمعرفة و كان ل يفتأ يصحح للول قراءته فأراد الشيخ أن يلقنه درسا
تأديبا لينا فقال للتلميذ الذي بيده الكتاب أعط الكتاب لمن هو أحسن قراءة منك و أشار
إلى زميله فسلم له الكتاب وأراد القراءة فلم يستطع و بان له ضعفه بالنسبة إلى زميله
و اكتفى الشيخ بهذا الدرس العملي في تربية التلميذ المنتفخ الذي غلبه حب الظهور
على نفسه .
هذه أمثلة من أساليب التربية عند الشيخ بالنسبة لفراد الشعب و لطلبة العلم و بقى
علينا أن نذكر أمثلة من قصصه للمشاكل و حكمه بين الناس و إيصاله للحقوق إلى
أصحابها .
عندما كان الشيخ بجربة باع رجل لرجل سلعة اتفقا على تحديد ثمنها بستين غير
أنهما لم يبينا العملة فلما أراد المشترى أن يدفع الثمن قال البائع العملة ذهب .و قال
المشترى بل نحاس و تخاصما و ارتفعا إلى أبي صالح فقال أبو صالح أن العرف
الجاري في جربة التعامل بحناديس النحاس فعلى البائع أن يقبل هذه العملة أو أن
يأخذ سلعته.
ووردت عليه يوما قضية أخرى فقد كان لنكارى على اباضى دين مقداره دينار واحد
فمات الباضي ولم يخلف شيئا غير شاة واحدة فجاء صاحب الدين إلى ولد المدين
الميت وطلب إليه أداء دينه فقال الولد دونك الشاة فبعها وخذ مالك وقال صاحب الدين
بل بع شاتك واعطني مالي فارتفعا إلى أبي صالح فقال أبو صالح الباضي بع شاتك
وأعط للرجل ماله .فقال بعض الحاضرين ممن تلب عليه العصبية المذهبية أن أبا
صالح أعان النكارى على الباضي فأجابهم رحمة ال بأن الحكم ل يختلف باختلف
مذاهب المتخاصمين.
وقال أبو محمد ويسلن لو أن العواطف تؤثر على أبي لثرت عليه في هذه القضية
لنه يستطيع أن يستند إلى قول مشهور في الفقه وهو أن الوارث ل يلزمه شيء من
ديون الميت إذا تبرأ من التركة فلو شاء ل ستند على هذا القول واعتمده وحكم
للباضي .قال أبو العباس الدرجيني .إذا لم يخلف المدين إل معينا فعلى الحاكم أن
يجتهد في النداء حتى يبلغ أقصى ثمنه في الوقت ثم يقضي الدين وهو الصواب إنشاء
ال لئل يقوم غيره من أصحاب الديون على الوارث.
كان رجل في جبال دمر يكنس مر بداله بجانب منزله فرمى حجرا وراء جدار فوقع
على رجل فمات ،ونتجت عن ذلك مشكلة تعددت فيها الراء والنظرات ،وأخيرا
رفعوها إلى أبي صالح فحكم فيها بالدية على عشيرة الرامي وسمع بذلك مقدم جبال
دمر زيرى بن كملين ففرح بهذا الحكم أيما فرح لنه كان يأخذ الثلث من الدية على
عادتهم وزعم زيرى وقومه أن هذه السيرة أخذوها عن السلف من الئمة .فغضب
عليهم أبو صالح وأنكر عليهم إنكارا شديدا وأفهمهم أن هذه العادة تخالف أحكام
السلم ،وأقنعهم أن هذه السيرة ل يمكن أن تكون من الئمة لنها مخالفة لشريعة ال
وما كان الئمة ليعملوا عمل يخالف شريعة ال لم يزل بهم حتى أبطلها فيهم.
وكان أبو صالح يجمع إلى غزارة المادة في العلم والقوة في دين ال ،والشدة على
العصارة واللين والمحبة في معاملة التلميذ ،عاطفة فياضة وقلبا رحيما بكل ما خلق
ال .وهو في هذا شبيه بالعلمة أبي مهاصر موسى بن جعفر .فقد غاب عن أهله
لشأن من الشؤون وترك فيهم ناقة مصراه فلما رجع بعد أيام وجد أن أهله لم ينزعوا
الصرار عن الناقة ،حتى أثر فيها الخيط وتقيح موضعه فغضب غضبا شديدا لهذا
الهمال وجعل ينزع الخيط عن الناقة والقيح يقطر عليه فجاء ولده ويسلن يبعد
إكمال الشيخ حتى ل ينزل عليها الصديد ،فانتهره الب وهو يفك الخيط ويجعل على
موضع التقييح بعض الدوية التي تجففه.
وكان كثيرا ما يلجأ إلى التربية العلمية وهو يتولى إيضاح بعض الحكام لولده
ويسلن بدون أن يشعره بذلك.
طلب مرة من ويسلن أن يصحبه في رحلة قصيرة فركب الب اتانا فارهة وكان
الولد المؤدب العالم بسير إلى جانب أبيه فلما كان ببعض الطريق طلب من ويسلن
أن يقتطع غصنا من شجرة برية يناوله أياه ليسوق الحمارة ففعل ويسلن فلما ناوله
القضيب الجديد رمى بقضيب كان في يده وقال لو يسلن هذا هو المال الذي يسميه
العلماء متروكا ويحل أخذه.
وفي سيرهما ذلك وجدا شاة على آخر رمق ل يعرفان لمن هي فقال لولده اذبحها يا
ويسلن فتردد الولد وتحرج فنزل الشيخ عن الدابة وذبح الشاه وقال لولده انتم اهل
هذا الزمان ،ل تصلحون لشيء ،ول تجزون عن احد في كبيرة ول صغيرة .وهو
بذلك يريد أن يعرف ولده متى يجب عليه التحرج ومتى يجب عليه القيام بواجبه من
المحافظة على أموال المسلمين أن تضيع.
فقد كان رحمه ال شديد العناية بأحوال الناس كثير الحرص على أموالهم شديد التفهم
لمشاكلهم وكان يريد من العالم أن يفهم أسرار الدين الحنيف فيعرف متى يجب عليه
العمل ومتى يجب عليه التوقف.
زاره فتيان وشكوا إليه أباهم وذكروا له أن أباهم يفرق الموال ويبعثرها دون حساب
فبعث إليه فحضر الرجل فأخبره بشكوى أولده فقال الرجل إنني أمرؤ قد ارتكبت
بعض المعاصي أول عهدي وقد من ال على فتبت فأنا ادفع كفارات عن آثامي
السابقات ثم عقب على ذلك فقال أيريدون أن أكون من أولئك الذين هددهم القرآن
الكريم لنهم يكنزون الذهب والفضة ،فاستحسن الشيخ جواب العامي ووجد أن الحق
بجانبه فتركه.
وكان رحمه ال جم العبادة كثير الصلة محافظا على الطهارة في جميع أحواله زاره
بعض المشائخ في مرضه الخير ،وكان في عريش خارج البيت ،وكان بقربه محل
للوضوء ،فجعل المشائخ يحذرون أن يمس الثرى ثيابهم ولحظ الشيخ منهم ذلك فقال
لهم ل تحذروا على ثيابكم فإنني لم آت ذلك بنجاسة قط.
وكان من عادته بعد أن يؤدي ما اعتاد من النوافل أن يدعو إليه أحد طلبته فيأمره
بقراءة أي السجدة كلها فيسجدها واحدة واحدة قبل أن ينام .
وكان رحمه ال عليه عفيف اللسان كثير الدب جم الحياء لم تسمع منه كلمة ( شر )
في حياته الطويلة إل مرتين .سئل في الولى عن بئر في بستان لغير مالكه هل هي
عيب فقال شر العيوب ،وسئل مرة أخرى عن رجل وكل رجل أن يزوجه فزوجه
أربع نسوة مرة واحدة فقال هو شر الوكلء.
ولعله من المناسب أن أختم هذا الفصل بالكلمة التية التي رواها عنه طلبه كان
رحمه ال أن يقول » :يأتي على الناس زمان يود الرجل من يأكل طعامه فل يجده
ويود من يستشيره فل يجده ل لقلة الناس بل لقلة الفضلء منهم ،فمن أدرك ذلك
الزمن منكم فليتمسك بما حفظ من دينه دين ال عز وجل.
وليعض عليه بالنواجذ « .ويبدو لي إننا ادركنا هذا الزمان حقا فإن المواكلة أصبحت
لغير ال وإن الستشارة أصبحت في اكثر الحيان التماسا للعصبية والفتنة أما النازلة
فقد قل من يفهمها ويرشد إلى الخلص منها فل حول ول قوة إل بال إنا ل وإنا إليه
راجعون.
أبو زكرياء فصيل أبي مسور
قال فيه أبو العباس الدرجين ( الطيب موردا و مرعى ،الكري أصل و فرعا ،ورث الجد عن أماد
عاش أبو زكريا في القرن الرابع ،ولد في أوائله و توفى في أواخره ،و عده أبو عبد
ال محمد بن زكرياء الباروني من علماء الطبقة الثامنة أي النصف الثاني من القرن
الرابع .
كانت جربة في هذا العهد شبه مستقلة ،فلقد احتلها العبيديون سنة 311و أخرجهم
منها أبو يزيد بن كيداد سنة 331ثم قتل أبو يزيد سنة 335فخرج منها أنصاره
ومنذ ذلك الحين بقيت جربة مستقلة يتولى شئونها شيوخ العزابة كأبي زكرياء فصيل
وأبي عمرو و النميلي و غيرهم إلى سنة 431حين احتلها من جديد المعز بن باديس
.
و يبدو أن أبا زكرياء فصيل لم يهتم بالشئون السياسية ،و لم يوجه عنايته إلى أنظمة
الحكم ،و لم يدع إلى محاسبة الدول الظالمة .وإنما كان يهمه أن يعيش أهل الجزيرة
في أمن و هدوء و سلم ،ولذلك فقد كان رفيقا في معاملة الولة و رجال الحكم على
البلدان المجاورة ،يظهر لهم الحترام .و ل يتدخل في شؤونهم وإذا ورد أحدهم إلى
الجزيرة سعى في إكرامه و احترامه ،وتلطف معه حتى يأمن شرهم و ل يستفزهم
إلى العدوان ،و كان موقفه هذا عكس موقف العلمة أبي عمرو النميلي الذي كان من
أشد الناس نقمة على الظلم و الظالمين ينتقد انحراف الدول الحاكمة في ذلك الحين و
يوضح بعدها عن المنهج السلمي في دروسه العامة والخاصة ويرى أن ذلك مخالفة
لدين ال و المخالفة لدين ال منكر يجب على المؤمن أن ينهى عنه و أن يبرأ من
فاعله .
قال أبو العباس الدرجيني حين ترجم لبى زكرياء فصيل«
وكان أبو زكرياء ربما عامل ابن ويمى وأشباهه بالكرام ،وقابلهم بغطعام الطعام،
فإذا فعل شيئا من ذلك تبرع بإطعام مثله ،فالول وقاية للعرض ،وابقاء الحرمة،
والثاني تكفير عن الول « ويدل على موقف أبي زكريا من الحكام الظالمين ما ذكره
أكثر المؤرخين الذين ترجموا له .فقد كان أهالي جربة كما أشرت آنفا مستقلين او
شبه مستقلين عن الدولة الحاكمة سواء في ذلك الدولة العبيدية في آخر أيامها والدولة
الصنهاجية في أول أيامها غير أن الدولة الصنهاجية وقد كثرت عليها الفتن من كل
الجهات والجوانب كانت في حاجة دائمة إلى مزيد من المال ولذلك فما تتهيأ لهما
فرصة للستقرار حتى توجه ولدتها إلى جباية الضرائب ممن يدين لها بالطاعة
واخضاع من ل يدين لها بالطاعة واستباحة أموالهم وفرض الضرائب عليهم .وفي
احى هذه الفترات بعد الزحفة الهللية أمرت عاملها على القيروان أن يتوجه إلى
احتلل جربة واستباحتها وغنيمة اكثر ما يمكن من الموال واستعد عامل القيروان
الذي تسميه المصادر التاريخية التي بين يدي ابن ويمى المزاتي وكان فاسقا جائرا
واتجه إلى جربة في جيش كثيف ولكن هذا العامل كان كثيرا ما يزور جربة زيارات
عادية فيلقي من أبي زكريا الكرام والحترام ولذلك فعندما أمر باحتلل الجزيرة
بعث إلى ابن أبي مسور يخبره أنه مكلف من طرف الدولة باحتلل الجزيرة ويطلب
إليه أن ينحاز بأهله وأقاربه وبني يهراسن إلى المسجد حتى ل ينالهم أذى من الجيش
الغازي .ودخل ابن ويمى الجزيرة وارتكب فيها من الفاعيل ما كان حريا أن يرتكبه
أمثاله من الفساق الذين يتعاونون مع الحكومات الظالمة في قهر الشعوب والتسلط
عليها .ولما أتم المجزرة التي استعد لها وجميع من الموال ما أمكن أن يجمعه ذهب
إلى ابن أبي مسور أن مقدار الضريبة التي يستطيع بنو يهراسن قوم أبي مسور أن
يدفعوها إليه وأخبره العالم الجليل إنهم ضعفاء وإنهم ل يستطيعون أن يدفعوا أكثر من
دينارين فرضى بذلك ودفع ابن أبي مسور له دينارين من ماله الخاص فقبلهما ابن
ويمي وهو يقول لقد أفسد أهل جربة الرعية على السلطان.
ذكر هذه القصة أكثر المؤرخين الذين تحدثوا عن أبي زكرياء فصيل واعتبروها من
كراماته فلوله للقى بنو يهراسن ما لقاه غيرهم من ابن ويمى وجنده ولقد قرأت
القصة متأملتها مرارا وراجعتها في غير مصدر من مصادر التاريخ التي لدى وكانت
أسئلة كثيرة حائرة تثور في ذهني كلما عدت إلى التأمل فيها.
إن الموقف المسالم للحكام الظالمين عندما يتغلبون على المة هو الموقف الذي وقفه
كثير من علماء المة ،بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الرضا بالحكم الظالم أولى من
الثورة عليه لما تجره من النكبات .ومع إنني أعلم هذا ولست أجد شيئا انتقده على
مسلك أبي زكريا مع الحكام الظالمين ،وملطفته لهم وإكرامه إياهم ،ومحاولة عدم
الصطدام معهم ،إل إنني غير مطمئن لهذا الموقف الخير منه رضى ال عنه .لقد
عاشت جربة كما قلت أنفا مستقلة أو شبه مستقلة عن الدولة العبيدية ،والصنهاجية في
اكثر الحيان وكانت غير خاضعة لها .اللهم إل في مبالغ من المال تدفعها في بعض
الحيان .فلماذا يهادن أبو زكرياء عوامل الظلم ،ويسالم أيدي العدوان ،وينفصل
بمسلكه عن علما عصره ،أمثال أبي عمرو النملي وابن صالح اليهراسني ،وأبي
موسى الزواغي وأبي محمد كموس ،وأبي بكر ،وغيرهم ،ويرضى أن يرتكب
الظالمون الفواحش في جربة ،في الحين الذي ينفصل هو بآله من بني يهراسن مثل
فل يمسهم سوء وهل لنجاة بني يهراسن دون إخوانهم من أهل جربة قيمة ،وهل يمكن
إن يصدق أبو زكرياء وعد ابن ويمي ،فل يفعل شيئا إل أن يخرج باله إلى المسجد
ليقيهم سطوة المعتدين .ألم يخامره شك في أن طلب ابن ويمي له بانفصاله ل يقصد به
تكريم أبي مسور وإنما يقصد به أضعاف صف المقاومة في جربة وتفريق الكلمة.
إنها خواطر كانت تتعاقب في ذهني وأنا أمر بأحداث هذه القصة فأردت إثباتها هنا
وهي ل تعني شيئا وأحسب أن القراء الكرام سوف يمرون بها ساخرين .فإن أحداث
التاريخ لم تتوقف في يوم من اليام تنتظر ما تكتبه عنها أقلم الجيال القادمة.
كان أبو زكرياء جبل من جبال العلم ،ومؤمنا شديد اليمان ،وحبا للسلم مخلصا في
حبه وكان يتمسك بالواضح في دين ال ويصر على العمل بالعزيمة ،ول يميل إلى
الفتوى بالرخصة ويحشد جميع قواة للعلم والتعليم فكان يقول » :منزل التلميذ كشجر
الخروب ل ينبت بجانبه شئ وإن نبت كان ضعيفا ،« .ويقصد بذلك أن العناية الكاملة
يجب أن تصرف إلى التلميذ وإلى تعليمهم وتربيهم وإن الهتمام والشتغال يجب أن
يصرف إليهم.
كان يقول هذا لهله وأقاربه والقائمين على شئون التعليم ،حتى تنصرف إلى الطلب
جميع الجهود وتبذل في سبيلهم كل المساعي.
لقد تأسست كثير من المدارس على نفقة العلماء ورعايتهم في كثير من البلد ولقد
قصر بعضهم جهده على التعليم وبذل فيه كل قوة غير أن أبا زكرياء قد يكون فريدا
في مسلكه واهتمامه بقضية التعليم ورعايته لها وحدبه عليها ومع قيامه بالتدريس
وبجلب المدرسين المساعدين إلى مدرسته والنفاق عليهم ماديا حتى يتمكنوا من أداء
واجبهم والنفاق على القسام الداخلية بتوفير المسكن والمأكل لجميع الطلب الذين
يأتون من البلد البعيدة وكانت جربة تغص بهم .مع كل ذلك كان أبو زكرياء يبتكر
الوسائل في تحبيب العلم إلى الطلب ل سيما الصغار والجدد منهم .وكثرا ما كان
يعقب التلميذ على الواحهم ودفاترهم وكتبهم بعد خروجهم فيضع فيها مبالغ من المال
رغبة في إخفاء الصدقة من جهة ،وتشجيعا ومساعدة للطلب من جهة أخرى وكان
الطلب حين يجدون ذلك وهم ل يعرفون مصدرها ول سببها يأتون بها إلى الشيخ
أبي زكرياء فيخبرونه بأنهم وجدوا تلك الموال في أدواتهم الدراسية دون أن يعرفوا
من فعل ذلك فيجيبهم أبو زكرياء بأنها أموال ساقها ال إليهم ويحل لهم النتفاع بها.
فلما توفى أبو زكريا رحمه ال انقطع ذلك المدد المادي عن الطلبة فعلموا أنه من فعل
أبي زكرياء.
كان أبو بكر الزواغي من أشد القائمين على الظلم المنتقدين على الوضع الفاسد الذي
كانت المة السلمية تعيشه في ذلك الحين فكان يقول في مجالسه ( لسنا في ظهور
ول دفاع ول شراء ول كتمان ولكن زماننا سائب) .
وبلغت الكلمة إلى أبي زكرياء فخشي أن يفهم الناس أن الزمان السائب مسلك خامس
من مسالك الدين فقال للذين نقلوا إليه كلمة أبي بكر أخبروا أبا بكر أن مسالك الدين
أربعة فقط الظهور والدفاع والشراء والكتمان.
وأبو بكر الزواغي يعلم ان مسالك الدين أربعة ونحن أيضا نعلم ذلك ولكن كلمة
الزمن السائب تجد مكانها في بعض الحوال واحسب أن هذا العصر الذي نعيش فيه
هو الخر داخل في الزمن السائب على أن الوضع الذي كانت عليه جربة في عصر
أبي زكرياء وأبي بكر يحتاج إلى تفكير لدخاله في مسلك من مسالك الدين فإ ،جربة
في ذلك الحين لم تكن خاضعة لدولة عادلة ول ظالمة وليس في حال ثورة فعلية على
عهد ظالم وليس فيها فدائيون يحاربون ألوان الظلم والجبروت ،والناس مع هذه الحالة
المائجة ل يحرصون على أداء شعائرهم والمحافظة على دينهم واجتناب ما نهي ال
عنه .إ،ها على كل حال صورة من صور الحياة في عهود الكتمان ذلك لن جربة لو
فكرت في تكوين دولة عادلة وبايعت إماما في ذلك العهد لتجهت إليها الضربات من
كل جانب وتخطفها الظالمون من كل سبيل ولذلك فقد كانت تلك الحياة التي عبر عنها
العلمة أبو بكر بأنها حالة سائبة هي صورة من الصور التي تعيشها المة تحت
الحكم الظالم ل تريد شيئا إل أن ينجو من العبث والعيث.
لقد عاش أبو زكرياء للعلم ولتصحيح عقائد الناس وأعمالهم في شئونهم الدينية وعاش
على كرمه وإحسانه ومؤاساته ونفقاته عدد غير قليل من الناس وحين توفى ترك
للمة ولديه النجيين زكرياء ويونس قال عنهما أبو العباس الدرجيني ( :لكل واحد
منهما سجايا جود كالسحاب ،وذكاء كالشهاب ،وحسن سلوك الطريقة ،وحفظ العلول
على الحقيقة ،والتمسك من عرى التقوى بالسباب الوثيقة ) .فرحم ال الجميع.
أبو عمر النميلي
ولد أبو عمرو النميلي 311من الهجرة النبوية في جزيرة جربة ،فنشأ في عصر
متناقض .فبينما كانت الجزيرة تعج بالعلماء العلم وكانت البيئة التي يعيش فيها
والسرة التي يتربى بين يديها تسير على سمت السلم هديه ،مستقيمة كاملة
الستقامة ،محافظة على الدين شديدة المحافظة ،متمسكة بهدى السلم شديدة
التمسك ،بينما كانت سيرة الناس في جربة هذه السيرة التي جاء بها السلم .كانت
البيئة الخرى الحاكمة ظالمة شديدة الظلم ،متغطرسة شديدة التغطرس ،متجبرة
شديدة التجبر ،ل تختار لمناصب الدولة إل أولئك الفراد القوياء في غير دين،
القساة في غير لطف ،الذين يفعلون ما يطلب إليهم دون رجوع إلى دين أو ضمير.
وكان الناس ساخطين على هذا الوضع ،ناقمين على هذه السيرة ثائرين على هذه
الحكام.
نشأ أبو عمرو بين هذين التيارين المختلفين فتأثر في دينه وأخلقه وسلوكه بأسرته
ومجتمعيه ،فشب مؤمنا قوي اليمان حريصا على الستقامة شديدة الحرص ،داعيا
إلى الهتداء بهدى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ناقما على الظلم والظالمين ،ثائرا
على من يخالف السلم في أحكامه ومبادئه ،داعيا إلى الضرب على أيدي الطغاة.
وكان ل ينفك عن هذه الدعوة في دروسه وفي أحاديثه أينما سار وأينما كان .وليس
هذا شأن أبي عمر وحده ،ولكنه شأن جمع من العلماء في جربة وفي غيرها وإن كان
الوضع في جربة من الناحية السياسية خيرا منه في بقية البلدان.
ولد أبو عمرو في السنة التي احتل فيها الفاطميون جربة على يد علي بن سليمان
الداعي ولقد ارتكبوا فيها من المناكر ما اعتادوا أن يرتكبوه في كل بلد احتلوه وبقيت
الجزيرة خاضعة لحكمهم في الظاهر إلى السنة 331حين احتلها أبو يزيد بن كيداد
وطرد منها حكام الدولة الفاطمية وارتكب فيها من الفاعيل ما ل يرتكبه مؤمن ( فإن
اليمان قيد الفتك ) أو كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم .إل أن أبا يزيد شغل
بمحاربة الدولة الفاطمية حتى قتل سنة 335وبذلك بقيت جربة مستقلة عن حكم أبي
يزيد الذي قتل وعن الدولة الفاطمية الذين خرجوا بسبب انتصار أبي يزيد عليهم.
وهكذا استقرت فيها المور ورجع الحكم إلى مشائخ العزابة الذين يتولون رعاية
شؤونها بحكم ال وذاق الناس حلوة اليمان في هذا العهد ،وتمتعوا بعدالة السلم
التي يجريها علماء السلم وكان أبو عمرو النميلي ضمن مجموعة العلماء الذين
يديرون أمر الجزيرة وتولون شؤونها ،وكافحوا حرصا على أن يحتفظ الناس بعزة
السلم فل تستعبدهم القوة ،ول تغرهم الشهرة .ول يجرفهم تيارات النحراف ،وإن
يتخلقوا بأخلق السلم .فكانوا يتولون ذلك منهم ،بالموعظة الحسنة ،والقدوة
الصالحة ،والبيان الفصيح الصريح ،وإيضاح سيرة المسلمين المهتدين في عهد النبوة
وما تله من عهود إلى عصرهم وهم في كل ذلك ل يتحرجون عن نقدهم لمسلك
الحكومات الظالمة التي كانت تجاورهم وازدهر الجانب العلمي هنالك فتألفت الجمعية
العلمية في غار أمجماج وكان أبو عمرو أحد أعضائها ،والفت الديون المعروف الذي
تحدثنا عنه في بعض حلقات هذا الكتاب.
وهكذا بينما كانت بقية البلد في الجنوب التونسي تعاني من الفتن المتعاقبة والنزاع
المستمر والظلم الذي ينزل عليهم متتابع من الحكام أشد ما تعانيه أمه في عهد حكم
فاسد كانت جربة آمنة مطمئنة مستترة تنشر العلم وتكون الجمعيات وتشتغل بتأليف
أضخ الدواوين إلى سنة 431حين جهز المعز بن باديس الصنهاجي جيشا واحتل
جربة وارتكب فيها أفظع جريمة يرتكبها قائد حربي .فقد جمع إليه أكبر طبقة من
العلماء العلم وأمر بقتلهم معتقدا إنه بقتل أولئك العلماء يستطيع أن يضمن طاعة
جربة أول وأن يحول سكانها من المذهب الباضي إلى المذهب المالكي كما كان
يحاول أن يفعل ذلك في بقية المملكة فقد أجهد نفسه وأجهد الناس معه على أن
يجمعهم جميعا على المذهب المالكي واشتد في التنكيل بكل من يخالفه.
وكان من العلماء الذين دعاهم إليه أبو عمر النميلي وقد بلغ مائة وعشرين سنة من
عمره المبارك قضاها في نشر العلم بين تدريس وتأليف وفي محاربة المنكر في شتى
صورة وألوانه.
وأمر المعز بن باديس وهو منتش بالنصر الذي أحرزه على اخوته المسلمين بأبي
عمرو فذبح كما تذبح الغنام ولم يشفع له عند الطاغية ابن باديس ل جللة العلم ول
قار السن .ول حتى انتظار الجل القريب للشيخ الفاني وهكذا كتب لبي عمرو أن
تختتم أعماله المجيدة في سبيل ال بالشهادة بعد أن حمل رسالته قرنا كامل من الزمان
روي ابن عباس عن رسول ال صلى ال عليه وسلم إنه قال » :أفضل العمال كلمة
حق يقتل عليها صاحبها عند سلطان جائر « .صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم.
أخذ المبادئ الولى في اللغة العربية وفي الشريعة السلمية عن علماء مزاته
وحضر مجالس أبي عبد ال محمد بن بكر حين كان يرتب نظام الحلقة فكان عبد
السلم ممن وضع لها الساس وأحكم لها الحراس كما يقول أبو العباس الدرجيني
أما دراسته فقد كانت على العلمة الكبير أبي نوح سعيد بن زنغيل .ومن أبي نوح أخذ
مع العلم ما كان يتمتع به إستاذه الكبير من حيوية ونشاط واستعداد للكفاح.
لقد درس على ابي نوح سعيد بن زنغيل وسبقه على هذا المجلس المام الكبير أبو
عبد ال محمد بن بكر وعندما كان أبو الخطاب طالبا في حلقة الدرس كان أبو عبد ال
قد بدأ يشتهر وتتجمع عليه حلق التلميذ والعلماء ولما انفصل عبد السلم عن مدرسة
أبي نوح ارتحل إلى كنومه والتحق بحلقة أبى عبد ال فدرس ودرس ،وكان ضمن
العلماء الذين يحضرون على أبي عبد ال العلمة أبو محمد يوجين اليفرني كان عبد
السلم بن منظور مجرا مشغوفا بالمذاكرة يطيل حتى أوقظك لصلة الفجر .ويستمر
عبد السلم في المذاكرة إلى هزيع من الليل وما يكاد يلمس جنبه الفراش حتى يرن
في إذنه صوت أبي محمد يوجين في حنان وإعزاز يا عبد السلم يا بني قم ،فإنما نال
الصالحون ما نالوا بترك اللذات ،والنوم من اللذات « .فيتمطى الفتى في مكانه ،وإن
أو صاله ل تزال عالقة بالفراش ولكنه سرعان ما يثب لئل يغلبه سلطان النعاس،
فيأخذ البريق ،وما أن يتوظأ ويستقبل القبلة ويصلي ل ما يشاء حتى تكون بقايا النوم
والكسل قد طارت من عينيه فيأخذ كتبه ويعتزل في زاوية على نور مصباح هزيل
من الزيت ثم يستمر في الدراسة في جو السحر الهادئ اللطيف.
مكث أبو عبد ال محمد بن بكر في كنومه مدة رآها كافية لصلح الوضع فقد استقام
الناس وحرصوا على التمسك بالدين وبدأ نظام العزابة يوجه المة إلى الخير وترتبت
الحلقة وأحس الناس كبارا وصغارا رغبة ملحة في التعليم فاطمأن المام عليها وأراد
الرتحال إلى بلد أخرى محتاجة إلى جهوده المباركة .وكان عبد السلم قد أصبح ذا
كفاءة للرشاد والتوجيه ،والدعوة إلى سبيل ال والتدريس في العلوم اللغوية
والشرعية التي يحتاج إليها الناس وكان يفكر في الرجوع إلى موطنه ليقوم بالكفاح
في سبيل ال ،ولكن المام الكبر أبا عبد ال صاحب نظام العزابة دعاه إليه ،لما رآه
فيه من حيوية ونشاط ومحبة للعمل ،ومداومته عليه وقال له لقد رأيت إنه انتقل إلى
وادي أريغ ومعى الدارسون والمدرسون لنجعل تلك البلد مركزا للدعوة زمنا،
وأرى أن تنتقل معي لن من يقصده الناس بحاجاتهم كمن دخل الحرب ل غناء به
عمن يعينه ويؤيده ،ويرعاه ويرفده .ويداوي جراحه ،وإل كان هلكه وشيكا .وأمتثل
عبد السلم لمر المام ،وهل كان يسعه غير المتثال وسافر معه واطمأن به المقام
وكان الساعد اليمن لبي عبد ال يتولى عنه كثيرا من شئون الطلبة والناس وقد رأى
أبو عبد ال أن يقيده بالزواج فاستشاره في ذلك وخطب له ابنه أبي القاسم فتزوجها
وأقام مع المام يساعده ثم حن إلى أهله وبلده فاستأذنه في زيارتهم.
لما وصل وطنه اجتمع عليه قومه أهل عشيرته وقالوا له أن تركتنا فما نحن بتاركيك
أقم بيننا وقم بما كان يقوم به أبوك من التعليم والتوجيه والصلح والكنت مسئول
بين يدي ال عنا وخائنا لمانته فينا فإننا في أشد الحاجة إليك وليس لناغني عنك،
فأجاب رغبتهم وعزم على القامة بينهم ففرحوا بذلك ولكي يوثقوه بهم خطبوا فتاة
وافر الجمال والدب والدين هي زينب بنت فذهب إلى أبي عبد ال وأخبره بما جد من
أمره وبعزمه على طلق ابنة أبي القاسم واضطراره إلى فراقها وبأنه جاء معه
ببعض الصداق والباقي سوف يدفعه متى تيسرت له الحوال فلما علم أبو القاسم والد
الفتاة استحيا إن يأخذ عرضا من أعراض الدنيا من أبي الخطاب وقال لبي عبد ال
بن بكر معاذ ال أن آخذ عرضا من أعراض الدنيا فقد جمعتنا من قبل المحبة في ال
وحين شاءت إرادة ال الفراق فاشهدوا إني تحملت عنه جميع ما لها بذمته ومع هذا
الموقف النبيل من أبي القاسم أراد أبو الخطاب أن يطمئن فحضرت إليه الزوجة
السابقة وتسامحا عما مضى من حياتها وجعلته في حل مما لها عليه .وقد حاول المام
أبو عبد ال هذه المرة أيضا أن يثنى عزم صديقه وتلميذه عن الذهاب ولكن الرجل
صمم فإن إثقال وضعت في عنقه.
وشاءت ظروف الحياة القاسية أن ل يطمئن المقام به في موطنه فقد تعاونت عوامل
الفتن والظلم والجفاف على الناس واضطرت قبيلة مزاته أن ترتحل إلى طرابلس
طلبا لخصب الحياة فاقمت هنالك ما أقامت وحين همت بالرجوع إلى موطنها عرج
أبو الخطاب عبد السلم بأهله على جبل نفوسه وطاب له المقام هنالك فترة من الزمن
انتهز فيها الفرصة لداء فريضة الحج ولما رجع من بيت ال ارتحل من جبل نفوسة
واختار لمقامه قلعة بني درجين قرب نفطة وكانت حينئذ مدينة عامرة بالعلم رخية
الحياة قوية مهيبة الجانب تعد نجوا من عشرين ألف فارس وهي قوة لها حساب في
ذلك العصر.
لطمأنت الحياة بأبي الخطاب في درجين ولم يكن ينقصه شئ إل إنه لم يرزق أولدا
ذكورا وإنما رزق عددا من البنات من زوجته الثانية زينب بنت أبي الحسن وعندما
يجمعها السمر كان كثيرا ما يقول لها في مداعبة ورجاء أن تفهم ما يرمى إليه (يوشك
أن يغلب بنو العم على بناتك يا زينب) وهو يقصد أن أولئك البنات عندما يكبرن
يخطبهن أبناء العم فيتزوجن ول يبقى للبيت غيرها .وما أشد وحشة بيت ل يسكنه
غير شيخين هرمين وكانت الزوجة الوفية المحبة تفهم ما يرمى إليه زوجها من وراء
كلمه وتتمنى أن يكون لبناتها أخ ولكن ما حيلتها هي ،إن ال هو الذي يهب الذكور
والناث وأشرق ذهنها بومضة وهي تفكر في إسعاد زوجها.
وقع في ليبيا قحط وجفاف استمر عدة سنوات مع فساد في الحكم وظلم من الحكام
فهاجر اكثر الناس سنة 430وأرخو فيما بعد بهذا العام وسمره عام ( فرورا )
وقدمت أسرة من تلك السر التي خاجرت طلبا للمعيشة إلى درجين وسكنت في
جوار أبي الخطاب وكانت للسرة فتاة مشرقة الجمال صبية أديبة نشيطة وكانت
زينب تنظر إليها وتعجب بها وأحبتها فخطبتها لبعلها الشيخ وهي تدعو ال تعالى أن
يرحم زوجها فيهب له ولدا تقر به عينه ولبناتها أخا يلجأن إليه إذا ضاقت بهن سبل
الحياة.
وتزوج الشيخ هذه الفتاة ،ولكن أقامتهم بعد ذلك في درجين لم تطل .فقد بدأ للدولة
الصنهاجية أن تقضي على هذه القوة الموجودة في درجين فجهزت جيشا كثيفا على
حين غفلة ولم يسمع أهل درجين حتى وجدوا جيشا كثيفا يحيط بالقلعة من جميع
الجهات وطال الحصار واضطر أهل القلعة إلى فتح البواب والحرب بما أمكن،
يقول أبو العباس الشماخي » فنزل عسكر صنهاجة على قلعة درجين فحاصرها
حصارا شديدا فلما اشتد عليهم الحصار خرجوا عليه خروج رجل واحد يقاتلون،
فقتلوا عن أخرهم ،واستبيح ما في القلعة « .كان أبو الخطاب غائبا عند وقوع هذه
الحداث فما كان يخطر له أن الدولة التي يطلب منها الحماية هي التي تتولى العدوان
فلما عاد وجد ان القلعة قد استبيحت وأن أهله حفظهم بعض أهل المروءة ممن كان
في الجيش وسمع أخوانه بنكبة درجين فاسفوا أن ينحدر الظلم بأصحاب الحكم إلى
هذا القرار ،وبعثوا وفدا منهم يطلب إلى أبي الخطاب الرحيل إلى آجلو والقامة فيه
فارتحل بأهله إلى اجلو وهنالك ولدت زوجته الخيرة مولودها البكر وكان ذكرا فلما
بشروه بذلك قال لهم » :إن ولد الشيخ يتيم « يعني أن الشيخ الهرم على حافة القبر
وإن أولده في هذه السن هم كاليتام لنه مهما يطل عمر أبيهم فمدته قصيرة ول بد
أن يتركهم ،وسمى الولد سعيدا ومن هذا الولد تناسلت ذرية أب الخطاب عبد السلم
ابن منظور.
يبدو أني أطلت الحديث عن حياة الشيخ الخاصة بما لم أتعود مثله في أحاديثي عن
العلم الذين ذكرتهم في هذا الكتاب .وقد ساقني إلى ذلك تربط الحداث وتناسقها.
كان عبد السلم عالما غزير المادة مستقل برأيه ل يقلد غيره إذا بدت لهالحجة
واتضح له البرهان وكانت له أراء خاصة لم يقل بها غيره من الفقهاء فيما أعلم ،مر
يوما على أهل أمسنان فأخبروه أن رجل منهم أقر على نفسه بالزنا فأمرهم أن
يحضروه ولما اعترف الرجل على نفسه بارتكاب الفاحشة أمرهم أن يأخذوه إلى
مزبلة وأن يرجموه وحضر وقت صلة الظهر وكان اليوم جمعة فخطب فيهم وصلى
بهم صلة الجمعة ثم ثم قال لهم إن الكتمان يأخذ من الظهور وأن الظهور ل يأخذ من
الكتمان وهذا يعني أن المة المسلمة حين تكون ضعيفة مغلوبة على أمرها تنفذ ما
تستطيع من أحكام ال أما إذا كانت الدولة مسلمة قادرة على تنفيذ الحكام فإنها ل
يجوز لها أن تتخلى عن تنفيذ أحكام ال .وهي نظرة اجتهادية لم أعلمها لغيره من
الفقهاء.
وكان شديد الورع كثير الحتياط اشترى يوما ما عددا من الخرفان من رجل في
السوق فلما أراد دفع الثمن مد البائع يده وقال له ( أرا) يعني هات وهي لهجة بربرية
خاصة بصنهاجة .فخشي الشيخ أن يكون الرجل من صنهاجة وصنهاجة في ذلك
الحين ل تتورع عن أموال الناس ودمائهم فدفع الثمن لصاحب الخرفان وتصدق بها
على الفقراء والمساكين تحرجا من رزق صنهاجة لتجبرهم وغضبهم للناس أموالهم.
وإنني استغفر ال من التعميم في هذا الحكم فلست اعتقد أن صنهاجة كلها على خلق
واحد.
حين ارتحل أبو الخطاب من درجين إلى أجلو احب أن يزور أريغ وأن يستمع
بصحبه أبي عبدال أياما فلما وصله وجده مريضا على فراش الموت فجعل يتأسف
ويظهر الجزع على فراقه فقال له الشيخ أقصر عن هذا يا عبد السلم وعليك بالدعاء
وجعل يكررها حتى فاضت روحه المطمئنة إلى ربها راضية مرضية.
فكان أبو الخطاب يقول مثلى مثل من يسير في شدة الحر قاصدا شجرة يتفيأ ظللها
فلما وصلها اقتلعت فأضحى ضاحيا..
هذه صور من حياة علم من أعلم السلم عاش في كفاح مستمر وقد تنقلت به
الظروف الحياة من مكان إلى مكان مثل للمؤمن يلتزم السير على الجادة مهما تقلبت
به الحوال ،فرحم ال أولئك العلم الذين اصلحوا أنفسهم عند فساد الناس.
نشأ أبو محمد عبد ال بن مانوج كما نشأ فتيان قبيلته في البادية صحيح البنية ،قوي
افرادة ،قويم الخلق ،صريحا فصيحا صدوقا ،ولم يتح له في صغره أن يدرس فشب
أميا ل يعرف القراءة ول الكتابة ،وإنما أخذ مبادئ دينه بطريقة التلقين ،فحفظ بعض
السور القصار من كتاب ال وتعلم الحكام العملية للسلم دون تعمق أو فلسفة ،إنه
صورة من أولئك المسلمين الوائل الذين يفدون على رسول ال صلى ال عليه وسلم
فيقرون بكلمة التوحيد فيبين لهم صلى ال عليه وسلم باوجز عبارة ما يطلب منهم أو
يحرم عليهم فيستمسكون بذلك ويعضون عليه بالنواجذ.
كان أبو محمد عبدال بن مانوج يشتغل بتربية الماشية كما يشتغل اكثر سكان البادية.
يتولى رعايتها بنفسه ،ويتبعها بشخصية ويهش عليها بعصاه ،وذات يوم – بينما
كانت غنمة منتشرة في سهل أخضر تنتقي العشب وتقطف منه الطري الشهي ،وقد
بدا عليها أثر حسن الرعاية ووضح السمن .وهو يسوقها تارة ويتقدمها أخرى مغتبطا
مسرورا – مر به شيخ من شيوخ لماية فسلم عليه وحدثه مليا ثم أشار إلى الغنم وقال
لبي محمد نعم الغنم التي ترعاها لحية وسر أبو محمد بهذا الطراء ولكن الشيخ
الوقور لم يقف عند ها الحد فاردف يقول :وبئست اللحية التي ترعى الغنم .وذهب
الشيخ لكن الكلمة الحكيمة التي ألقاها في أذنه بقيت مجلجلة تدوي في أعماقه ،وشغل
ذهنه وفكر فيها تفكير الرجل الحريص على سعادته في مستقبله ،وتحقق أن اللحية
التي تقضى عمرها ترعى الغنم ل تزيد أن تكون شاة من الغنم ،ولذلك فقد قرر أن
يغير مجرى حياته حتى بعد أن اجتاز مرحلة الطفولة والشباب ودخل مرحلة الكهولة
فإن تقدمه في العمر لم يقف حاجزا دون المل الذي انبثق في قلبه وعاد بالغنم إلى
الحي بعد هون من الليل وفي الصباح أخبر أهل الحي بما صمم عليه ،لقد ترك الغنم
لمن يريد أن يرعى الغنم.
كانت جربة أقرب مكان علمي إليه وكانت المدارس منتشرة فيها دائبة الحركة في
التربية والتعليم وكانت المساجد في كل ناحية من نواحيها عامرة بالمصلين وبحلق
الدروس المتعاقبة وبالوعظ والرشاد .فاختار أبو محمد عبد ال هذه الجزيرة لتكون
محل دراسته وسافر إليها واستقر بها وكان يعمل التلميذ الجاد الراغب القوي العزيمة
فكان ل يقتصر على مدرسة ول يختص بمدرس ولكنه كان يطلب العلم من معادنه
جميعا فكان يحضر مجالس أبي صالح ،ومجالس أبي موسى .فيلتقط ما ينثره أولئك
العلم من علم وحكمة ومكث على هذه الحال زمنا حتى ظن أنه أبعد الجهل عن
نفسه وبلغ في العلم مبلغا فرجع إلى قبيلته الضاربة في شعاب البادية واستقبله الناس
بالترحاب ،وفرحوا بمقدمه أيى فرح ،فقد أصبح حيهم يأوي عالما وجاء الشيخ
اللمائي إلى الحي وسلم على أبي محمد وناقشه في مسائل من العلم وعرف أن أبا
محمد لم يبلغ الدرجة التي يؤملها له ولذلك فقد قال له وهو يودعه :أن جميع البل
تبرك لحمل الثقال ولكن التفاضل بينهما إنما يكون بإيصال الحمال إلى الغاية..
وذهب الشيخ وبقي أبو محمد يفكر في الموضوع إنه قضى وقتا صالحا في الدراسة
وتحصل على مبلغ من العلم ولكن هل يكفيه هذا المبلغ إنه ل يزال في حاجة إلى
المزيد وقرر أ ،يعود إلى الجزيرة العامرة بالعلم والصلح وعاد واستمر في دراسته
زمنا حسبه كافيا لدراك الغاية فرجع أيضا إلى حيه ذلك الحي الذي يقتعد رأس شعبة
خصبة تسرح فيها النعام .وفرح القوم به كما فرحوا أول مرة واجتمعوا لتحيته
ولسماع الحكمة منه وحضر الشيخ فيمن حضر من الناس واستمع إلى درس أبي
محمد ثم ناقشه في أصول وفروع من العلم فلم يطمئن له ولذاكرته ولذلك قال له وهو
يودعه أن جميع الغدران تمسك الماء ولكن التفاضل في طول البقاء .واستجاب أبو
محمد لنصيحة الرجل للمرة الثالثة وذهب إلى جربة وبقي فيها حتى اعترف له
العلماء وحتى بلغ درجة الجتهاد وحتى اختير عضوا في جمعية العلماء التي الفت
الموسوعة العلمية المعروفة بالديوان في خمسة وعشرين جزءا وتعتبر من أهم
الفقهية والتشريعية السلمية ولو لم يؤلف علماء الباضية غيرها ل غنت.
كان رحمه ال نير البصيرة ،قويا في الحق ،مخلصا النصيحة ل وللمسلمين ،ذافهم
صحيح لدين ال وللمقاصد التشريعية في السلم ،مجتهدا في العبادة يحمل نفسه على
العزيمة والعمل الشاق شديد الحتياط في الطهارة ،حتى إنه لما كان بالبادية اتخذ
خيمة خاصة بالستحمام وكان له في كل جهة من جهاتها مستحم حتى يتقي الريح.
ولما كبر أصيب بمرض في عينيه يضره استعمال الماء فكان يغتسل ويتوظأ لجميع
أعضائه ما عدا وجهه فإنه يتيمم له فقيل له يكفيك التيمم فقال تلك مسألة العاجز وكأنه
كان ينظر إلى قوله صلى ال عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فقد
استطاع الشيخ في تلك الحالت أن يغسل جميع بدنه ما عدا الوجه وأن يتوظأ لجميع
أعضائه ما عدا الوجه فاستجاب لمر الشريعة أما العضو الذي لم يستطع أن يغسله
فقد تيمم له حتى يخرج من الخلف.
تذاكر – مع أبي عمران موسى بن زكرياء أحد زملئه في تأليف الديوان – ما ابتلى
به الناس في ذلك الحين من ضيق المور وكثرة الريب وما يدخل على الناس من ذلك
مما يعلمون ومما ل يعلمون من الشبه والريبة .قال أبو عمران إنما نعيش اليوم،
بحمل الشياء على احسن وجوهها قال أبو محمد إنما يصح ذلك في أحوال
الطهارات ،أما في الموال فل فأستحسن أبو عمران هذا الجواب من أبي محمد
ووافقه عليه.
سئل يوما ما العبادة؟ فقال :العبادة هي النية والخلص ،ل ما يتخيله الناس من كثرة
العمل والجتهاد ،إل إذا صحب ذلك النية والخلص فإن الكثرة حينئذ تكون أفضل.
ثم ضرب للسائل مثل فقال :إل ترى ولدي داود يقيم افتنه وهو يحفظ ما بين دفتي
المصحف.
ويعلق أبو عباس على هذا فيقول » :وأكثر قصده في ذلك ما يقذع به ابنه عما هو
ليس بسببه ،وكان ينهي عن معاضدة داود ومساعدته خوفا أن يصيبهم ما أصابه ،فلم
يزل متكدر النفس من اجله لسلوكه عن طريقة ابيه حتى عادت عليه بركة الشيخ
فالمهمة ال الرشد ،وتاب عما كان عليه وحسنت توبته« .
كان ما كسن بن الخير شابا قوي الذاكرة حاد الذكاء راغبا في العلم ،فمر وهو في
طريقة إلى جربة للدراسة بأبي محمد فرأى أن يسأله النصيحة في موضوع الدراسة
فقال له :إنني مبتدئ في الدراسة فبأي مادة أبتدئ أبعلم الكلم أم بعلم الفقه؟ فقال أبو
محمد وقد توسم في الفتى الذكاء ،والرغبة أدرس الجميع فقال ماكسن :فإن قصر
فهمي فقال أبو محمد فدينك علم الفقه.
زاره عبود بن منار المزاتي فرحب به وقال له يا عبود! إنك عظيم القدر عندي فما
حالك وكان عبود متوسط الحال صاحب أنعام وحبوب.
فأجاب عبود إنني بخير ولكن ركبتني ديون.
فغضب أبو محمود وقال له :أعليك الدين وتزورني؟ أبعد عني ..وهذا الغضب من
أبي محمد في محله فإن استطاعة عبود أن يتخلص منها .وخرج عبود محرجا إلى
أهله ودعا إليه صديقه الحميم على بن يخلف وقص عليه القصة ثم قال له بادرني يا
علي بمن يخلصني من هذا الدين .واهتم على بالموضوع في الحال واحضر إليه من
اشترى منه عبدا وقطعيا من الغنم وكمية من الحبوب ودفع الديون التي عليه ولم يلبث
بعد ذلك إل قليل حتى غارت على حيه غارة من أولئك الناس الذين لم يتخلصوا من
عادات الجاهلية ودافع عبود عن نفسه وماله حتى قتل رحمه.
لقد طالت الحياة بأبي محمد وامتد به العمر وفي أواخر عمره امسك عن الفتوى فلما
قيل له في ذلك أجاب :أن بعض العلماء يقول إذا علم العالم من نفسه ضعف العقل فل
يفتي وأنا أخذ بهذا .واترك الناس قبل أن يتركوني ولعل خير ما نختم به هذا الفصل
ما يلي:
زاره عمروس بن عبد ال الزواغي فسأله عن حاله فأعلمه إنه صالح الحال فكان مما
قال له :يا عمروس :إجعل تقوى ال جنة ،فإنه خير جنة ،وأحسن معاشرتك للناس.
فقال عمروس وأي الناس! فتبسم أبو محمد ابتسامة إعجاب وفرح وقال أحسنت
وفهمت! ..الناس هم الصالحون« .
فرحم ال أولئك الناس.
أسرة يخلف بن يخلف
واشتهر الرجل بالعلم والصلح بين الناس فأصبح ملجأ لهم في جميع مشاكل الحياة.
حدث أبو عبد اله بن بهلول النفطي قال :ورد على شيخنا أبي علي بن عمران النفطي
بعض الزوار ،فأخذ جلساؤه من أهل نفطة في ذكر مناقب يخلف العزابي وبنيه وأهل
بيته فأوسعوا في القول ،والزائر الغريب يستحسن ويستغرب حتى قال أحد الجلساء
للشيخ – يعني أبا على النفطى – أترى يا سيدي إنه يرجى لهم خير عند ال لهذه
الوصاف وهم على ذلك المذهب؟ فلم يجبه بغير الصمت ،فقال الزائر للشيخ يا
سيدي وما مذهبهم؟
قال أبو علي مذهبهم الصلح .فانقطع بجوابه الكلم.
قال أبو العباس أحمد بن سعيد الدرجيني المنحدر من هذه السللة الطيبة العريقة في
السلم حدثني من ل اتهم إنه كان جماعة من البربر وجماعة من العرب من قبائل
مختلفة ومذاهب متفرقة ،يقصدون الشيخ يخلف فيجمعون عنده أفواجا يقضي بينهم
في الجراحات وغيرها ،ل يرغب عنه أحد لمخالفة مذهبه ،ول يرد عليه قوله ،وأما
سكان الحاضرة – أي نفطة – فمفتقرون إلى علمه.
لقد بارك ال في يخلف ،وبارك في بنيه ،فكان يخلف علما ومرجعا في العلم
والصلح ،أما ولده أبو الحسن علي بن يخلف فقد قدم للسلم أجل خدمة يقدمها
الدعاة إلى دين ال وبلغ بمفرده ما عجزت عنه الجيوش الفاتحة.
كان أبو الحسن بن يخلف يشتغل بالتجارة واقتضته ظروف العمل أن يسافر إلى وسط
أفريقيا فأختار عاصمة نالي مقرا لتجارته وكان سكان تلك الجهات أما وثنيين وأما
من أتباع المسيحية المحرفة .فاشتهر بين السكان بطيبة خلقه وحسن معاملته
وحرصه على المانة واستمساكه الوثيق بدينه ذلك الدين الذي كان غريبا بين سكان
تلك الجهات ،ووثق به الناس وأحبوه واشتهر اسمه وحسن معاملته حتى بلغ سمع
الملك فأحضره إليه وأختبره بطريقته الخاصة حتى صدق ما عرف عنه فاستخلصه
لنفسه وأصبح يستشيره في أموره وبلغ عنده منزله لم يبلغها أحد من وزرائه.
ولقد استطاع المسلم العامل بالسلم أن يؤثر على ذلك الملك فاسلم الملك وأسلمت
الحاشية وبدأ السلم ينتشر ويسري في عاصمة مالي ثم فيما جاورها من مدن وبلد
إنه الداعية المؤمن الذي حمل بمفرده مشعل السلم إلى بلد تعشش فيها الوثنية
فاستضاءت بذلك المشعل واقتبست من ذلك النور واليه والي أمثاله من الرواد الول
يرجع الفضل في انتشار السلم في ربوع أفريقيا السوداء.
ولقد كان أبو الحسن يشبه أباه في دينه وخلقه وعلمه ورحابة صدره وسعة احتماله،
كان القاضي عمر بن زرعة النفطي يقول :ما رأيت مثل على بن يخلف أحدا من
الناس فمن عجيب ما رأيت منه أن أبا القاسم القمودي كان من مشائخ المتصوفين،
قدم من توزر ومعه طلبته ،فأكرمه طلبة نفطة وصوفيتهم ،فأحتفلت في إكرامه ،وقلت
ل ينبغي أن يتغيب أبو الحسن عن مثل هذا الحضور ،فأحضرته وقد حضروا فلما
حضر قال ابن القمودي من هذا الجالس معنا ،قلت أنه الفقيه أبو الحسن علي بن
العذابي فقال أهو من بغضة على ،فلما قال ذلك رأيت ظلمة حالت بيني وبينه ،وندمت
على الشتعال بإكرامه ،وإذ فعلت ،فلم جنيت على نفسي وعلى صاحبي؟ وما كان
أغناني أنا وصاحبي عن هذا الحضور ،فلما سمع على منه هذا قال :من أنبأك هذا يا
شيخ؟ قال :كذا يذكرون عنكم فقال هل رأيت أحدا يسمى ابنه باسم عدوه؟ قال ل قال
كان أبي من فقهاء الباضية ،وقد سماني عليا ،قال ثم أخذ معه في مذاكرة تشفي
الصدر حتى استمال قلبه ،وملك لبه ،فجعلت تلك الظلمة تنجلي حتى صرت في
ابتهاج عظيم ،ولم يفترقا حتى قال له يا أبا الحسن أريد أن ل تفارقني مدة إقامتي بهذا
البلد ،وانفصل ابن القمودى يحمده ويحمد مذهبه.
إن هذه القصة مع القصة التي ذكرها أكثر المؤرخين عن سبب دخول السلم إلى
أفريقيا الوسطى تدلن دللة واضحة أن السلم قد هذب من من أخلق هذا الرجل
وجعل منه إنسانا تتمثل فيه أسمى صفات النسانية التي تدعو إليها الديان السماوية
حتى أصبح مثل حيا للمؤمن الذي يهدي بخلقه وسلوكه قبل أن يهدي بمقاله وبيانه،
ولو لم يكن الرجل متصفا بما أوصى به السلم فتجلت فيه الثقة والمانة وحسن
المعاملة والصدق فيها حينما كان في مالي ،وتحلى بالصبر على الذى وضبط
النفس ،والتحمل حينما قابله ابن القمودي بتلك الفظاظة لنقلبت صفحات من التاريخ.
لو غضب بمزة ابن الفظاظة وعامله بنفس السلوب من الخشونة والزدراء
لنقطعت الصلة بين الرجلين وربما نشأت عن ذلك فتنة .ولعل أكثر الفتن التي وقعت
وتقع بين طوائف المسلمين إنما سببها طيش بعض المنتسبين إلى العلم وعدم فهمهم
لروح السلم ،وتغلب الغرور والطيش وضيق الصدر عليهم .وتحكم العصبية
المذهبية فيهم.
وكما انجب يخلف ولده عليا فإن عليا قد أ،جب علما من أعلم السلم هو الو الربيع
سليمان بن علي بن يخلف .كان سليمان شاعراً مطبوعا يجيد الزجل أو الشعر باللغة
الدارجة كما يجيد الشعر باللغة البربرية إل إن شعره باللغة الفصحى ل يتسامى إلى
درجة شعر ولده سعيد أو حفيده احمد ذلك إن دراسته للغة العربية لم تطل ،فقد انقطع
للعلوم الشرعية وتخصص فيها فكانت ل تشذ عليه مسألة من مسائل الفروع
والصول في المذهب الباضي وكان يتقن الفرائض ويجيد حسبتها هذه مرتبته
العلمية أما مرتبته الدينية والخلقية فهي مرتبة المؤمنين الحريصين على إيمانهم
وأخلقهم.
وكان إلى علمه وخلقه ونزاهته ،كريما مطبوعا على الكرم فلم يبق من ماله الكثير
غير شيء قليل وكان بعض الصدقاء ينصحونه بأن يبقى لولده فكان يقول لهم أما
أولياء ال منهم فإن ال ل يتخلى عنهم وأما العصاة منهم فأنا أحق بمالي ولما كبر قل
ماله وضاقت ذات يده ،فجاءه صديقه الحميم بياضة بن عزون فقال له يا شيخ عن
مالك قد قل ،ومؤنتك قد كثرت ،فهل لك في خمسين ويبة تمرا أو مائة من عندي في
كل عام تستعين بها على أضيافك وأضياف المسجد وضعفاء أهل الدعوة ،فقال له ل
وال ،إن فيما بقي لكفاية أؤدي منها حقوق من ذكرت ولو على عسر ،ولكن إن كنت
فاعل فقم بحقوقهم كما قام بها غيرك ،تول ذلك بنفسك ومالك.
كان أبو الربيع سليمان يعيش في زمن مضطرب بالفتنة ،مشحون بالعصبية قد انفلت
زمام الناس ،وبعدوا عن جادة اليمان .وفي أواخر أيامه أوقد بعض دعاة العصبية
نار الفتنة في كنومة وتألب سكانها على الباضية فأخرجوهم منها ولحق الشيخ
بإخوانه فلما رآه بعض المتعصبين من النكار صاح إذا تركتم فقيه القوم يخرج سالما
فما فعلتم شيئا وتواثب إليه الناس فطعنه أحدهم طعنة ظنها قاتلة ولما ذهب المعتدون
تولى أصهار الشيخ إسعافه وعلجه فأطال ال عمره وأبقاه لحمل رسالة السلم
والصلح لقد كانت البلد في ذلك الحين تعاني من الظلم وفساد الحكم وانتشار الفتنة
واصطراع العصبية وتغلب الفساد الشيء الكثير ،وكانت الدولة ذي ذلك الحين
تفرض على سكان منطقة الجريد وما يتبعها من الواحات .إن يزرعوا أراضيهم
ويقوموا بخدمة مزارعهم وحقوقهم مناصفة فتأخذ نصف النتاج من جميع غلل
الزراعة كالحبوب والتمر ثم يخرج المتقون منهم من أنصبتهم فريضة الزكاة فل
يبقى لهم إل مقدار الثلث من نتائج مجهوداتهم فكان أبو البيع يجيز للناس ولنفسه إن
يخفوا ما استطاعوا من أموالهم حتى ل تأخذ الدولة نصفه كأنها صاحبة الرض
والعشر ضريبة على الفلح ويقول أن الدولة ليس لها أن تأخذ إل ما قدره الشرع
الكريم أما إن تسن من نفسها تشريعا تستبيح به أموال الناس ،وتغتصب حقوقهم فذلك
ليس من حقها .فإذا تغلبت هي بالقوة فإن للمزارع أن يسلك معها بالحيلة وإن يحفظ
أمواله بأي طريقه ل تعرضه للعقوبة والمهانة.
حدثتك إليها القارئ الكريم عن ثلثة أعلم من هذه السرة الكريمة ولقد أنجب أبو
الربيع ولدا سار في نفس النهج وسلك نفس الطريق سماه أبو سعيدا وكان سعيد هذا
مع إيمانه وعلمه وعمله شاعرا مجيدا وأنجب أبو عثمان سعيد بن سليمان بن علي بن
يخلف ولدا كان غرة في جبين الدهر من أولئك البطال الذين ل يجود بهم الزمان إل
في فترات طويلة من التاريخ ذلك هو أبو العباس احمد ين سعيد بن سليمان بن علي
بن يخلف الدرجيني صاحب الطبقات.
ويكفي دليل وبرهانا على علم الرجل وأخلقه ودينه واحترامه لحملة مشعل الهداية
ما ورد في أول الكتاب عندما تحدث عن الطبقة الولى ما قال عندما ذكر محتويات
الكتاب » :فالذين اشتملت عليهم الخمسون الولى من المائة الولى :هم أصحاب
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وفضائلهم أشهر ،ومزاياهم أظهر فل يحتاج إلى
تعدادهم ،إذ هم نجوم الهدى ،ومصابيح الدجى ،وعلى مكانتهم ومنزلتهم وفضلهم فل
بد من تقديم ذكرهم جملة إذ هم الئمة والقدوة والسلف .والصدر الول ،ولئل يكون
السكوت عن ذكرهم أعراضا ،والتجاوز عن شرفهم غمضا أو إغماضا « .وأعاد
نفس المعنى عندما بدأ في التفصل فقال » :الطبقة الولى هم أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم .وفضائلهم أشهر ،ومزاياهم اظهر ،فل يحتاج إلى تسميتهم،
لنهم رضوان ال عليهم ،تحصل من سيرهم وأخبارهم في الدواوين ومن آثارهم
محفوظا في صدور الراوين ما اغنى عن كليف تصنيف ،وانتحال تأليف ،وحسبهم ما
قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يشقى من رآني وقوله عليه السلم أفضل
أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأحاديث كثيرة في فضائلهم فإذا ثبت هذا
فاعلم إن من الصحابة من لم يخالفنا في تقديمهم مخالف ،فقد امتلت بذكر فضائلهم
الصحائف ،ومنهم من لم ينل حظا في النصاف عند آهل الخلف ،وهم معدودون
عندنا في جملة الكابر والسلف فلنذكر منهم من أمكن ذكره ،ووجب علينا وإن
عاب الغير شكره« .
بعد هذه المقدمة القيمة ذكرا أبو العباس بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه
وسلم ممن تناولتهم السنة الهواء وأقلم المغرضين من أحلس السياسة فأوضح
رحمه ال ورضى عنه عدالتهم ونزاهتهم وثقة رسول ال صلى ال عليه وسلم وكبار
أصحابه فيهم وحكم فيهم بالحكم العام الذي ينطبق على جميع أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم .والدراس للتاريخ السلمي في المغرب السلمي ل يمكن أن
يستوفي معلوماته دون الطلع على هذا الكتاب القيم فرحم ال أبا العباس.