Professional Documents
Culture Documents
1
حتى لنخسر رمضان
الحمد لله رب العالمين ،والصلة والسلم على المبعوث رحمة للعالمين ..
:سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد
ولن يفوت الطبيب تذكير مريضه بطريقة أخذ الدواء ؛ فهذا قبل الكل وهذا
بعده ،وذاك قبل النوم ..ثم ينصحه بالنتظام في تناوله ،وفي النهاية يطلب
.منه مراجعته بعد عدة أيام
ومن المتوقع أن أول سؤال سيسأله الطبيب لمريضه عند المقابلة الثانية
سيكون عن مدى تحسن حالته الصحية ،فإن وجد تحسنًا ملحوظًا فسيطلب
منه الستمرار على أخذ الدوية ـ كلها أو بعضها ـ مدة زمنية أخرى حتى يتم
له الشفاء ـ بإذن الله ـ وإن لم يلحظ هذا التحسن فسيتوجه إلى مريضه
بالسؤال عن مدى جديته في تناول الدواء بالطريقة الصحيحة ،فإن وجد منه
التزاما ً في هذا المر فسيتجه تفكيره نحو تغيير جرعات الدواء ،أواستبداله
بآخر ،وكيف ل وهو يعلم بأن هدف مجيء المريض إليه هو بحثه عن الشفاء
بإذن الله ،ويعلم كذلك أن الدوية ما هي إل وسائل لتحقيق هذا الهدف .
إن العلقة بين الدوية والعافية تمثل العلقة بين الوسائل والهداف ،
فالوسائل ليست مطلوبة لذاتها بل لتتحقق الهداف من خللها.
و من العجيب أن هذا التصور لتلك العلقة نمارسه بصورة تلقائية ،وفي أمور
كثيرة فيما يخص أمور دنيانا أما أمور ديننا فالمر يختلف ،بمعنى أن الهداف
في كثير من الحوال تُنسى ،وذلك حين تتحول الوسائل إلى أهداف وغايات .
1
هذه العبودية لها حقيقة ينبغي أن يعيش المرء في أجوائها ،وأن تظهر آثارها
..على سلوكه و تعاملته
فالعبودية الحقيقية تعني غلبة اليمان بالله على قلب المرء و مشاعره ،
.فيصير حبه سبحانه أحب الشياء لديه ،وخشيته أخوف الشياء عنده
يطمئن إليه ،ويثق فيه وفي قدرته الغير متناهية ،وقربه ،وعلمه وإحاطته ..
....بكل شيء ،ومن ثم يتوكل عليه ويتقيه ،ويحبه ،ويشتاق إليه ،و
فالتوكل على الله عز وجل ،ومحبته ،وخشيته دليل على قوة اليمان به
:والعبودية له
وكلما تمكن اليمان من القلب تحسن السلوك تبعا ً لذلك كما قال صلى الله
عليه و سلم ( :أل و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا
(1iفسدت فسد الجسد كله أل و هي القلب
[و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )[الحج )32 :
1
متفق عليه
1
:العبادات وسائل
فإن كانت حياة القلب باليمان هي الهدف الذي به تتحقق العبودية لله عز
!وجل فكيف يصل المسلم لهذا الهدف ؟
أرشدنا الله عز وجل إلى الوسائل التي من شأنها أن تبل ِّغنا هذا الهدف..هذه
الوسائل هي العبادات بقسميها القلبية والبدنية ( يآيها الناس اعبدوا ربكم
[الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [البقرة 21 :
وبهذا يزداد اليمان من خلل تلك الصلة ،و تظهر آثاره في دوافع المرء و
سلوكه ،فتزداد مسارعته لفعل الخير ،ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته
لفعل المعاصي أوالقتراب منها فيحقق قوله تعالى ( وأقم الصلة إن الصلة
[تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [العنكبوت 45 :
والصدقة عبادة عظيمة تقوم بمعالجة القلب من داء حب الدنيا و التعلق بها ..
أي أنها تطهر القلب وتزيده قوة ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم
[بها )[التوبة 103 :
والصيام يساعد المرء على السيطرة على نفسه و إلزامها تقوى الله ( كتب
[عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )[البقرة 183 :
والذكر يهدف إلى تذكُّر الله ..تذكُّر عظمته وجلله وجماله و إكرامه فيزداد
[به المرء اطمئنانا ً و ثقة وإيمانا ً ( أل بذكر الله تطمئن القلوب )[الرعد28 :
وهكذا في بقية العبادات القلبية والبدنية ،و التي تشكل منظومة متكاملة ،
..يتحقق من خلل القيام الصحيح بها الهدف العظيم من وجودنا على الرض
1
:تهيئة الجواء لتحقيق الهدف
والمتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحثنا وتساعدنا على تهيئة الجواء
المناسبة للتفاعل القلبي مع العبادات ومن ثم زيادة اليمان من خللها ،فعلى
سبيل المثال :الصلة ..نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من
الشواغل وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها ،فإذا
حضر الطعام مع دخول وقت الصلة يفضل البدء بالطعام حتى يدخل المرء
.إلى الصلة و ذهنه غير مشغول به
وكذلك عند مدافعة الخبثين ..قال صلى الله عليه و سلم ( :ل صلة بحضرة
(2الطعام ،ول وهو يدافعه الخبثان
ول ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلة ،بل عليه
أن يمشي في سكينة و هدوء ،فالسراع من شأنه أن يجعله يذهب إلى الصلة
..وهو مضطرب فيصعب عليه جمع قلبه
والحث على التبكير في الذهاب للمسجد قبل إقامة الصلة له دور مهم في
..صرف شواغل الدنيا عن الذهن
وكذلك فإن الحث على تذكر الموت قبل الصلة من شأنه أن يستجيش
..المشاعر نحو الرجاء و الطمع في عفو الله و الخوف والرهبة من عقوبته
يقول صلى الله عليه و سلم ( :اذكر الموت في صلتك ،فإن الرجل إذا ذكر
ل صلة رجل ل يظن أنه ٌّ
لحري أن يُحسن صلته ،و ص ِّ الموت في صلته
..(3يصلي صلة غيرها
ة
كل ذلك و غيره يهيء المسلم للستفادة من الصلة و ما فيها من قراء ٍ
..للقرآن ،و ذكر ،و دعاء في تحقيق هدفها بزيادة اليمان و تحسين السلوك
:غياب الرؤية
ل كانت ،فإنعندما تغيب هذه الرؤية ويصبح الهدف هو أداة العبادة ،بأي شك ٍ
م يظل العبد في مكانه؛فل يتقدّم ثمرة العبادة ل تكاد تظهر للوجود ،ومن ث َّ
في مضمار سباق السائرين إلى الله ،ول يجد حلوة اليمان ،ول يشعر
بتحسن ملحوظ في سلوكه ،لتكون النتيجة :إنسانًا ذو شخصيتين متناقضتين ؛
فقد تجده كثير الصلة والصيام والحج والعتمار ،ومع ذلك تجده ل يؤدي
المانة ،ول يتحرى الصدق ،ويسيء معاملة الخرين ،ويحسدهم على كل خير
2
رواه مسلم
3
(صحيح الجامع الصغير (849
1
يبلغهم ..يصاب بالهلع والفزع إذا ما تعَّرضت أمواله وممتلكاته أو دنياه
...لمكروه
وتأكيدًا لهذا التشخيص ،لك أخي القارئ أن تتأمل قوله صلى الله عليه وسلم:
ب قائم حظه من قيامهب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ،وُر َّ "ُر َّ
"4..السهر
وقوله ( ليجيئن أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى
النار ،قالوا :يا رسول الله مصلين ؟ قال ( :نعم كانوا يصلون و يصومون و
(6يأخذون هنة من الليل فإذا عُرض عليهم شيء من الدنيا وثبوا عليه
فالمقصد من العبادة ليس فقط أداؤها من الناحية الشكلية ،بل المهم والهم
هو أداؤها بطريقة تحقق هدفها؛ فإراقة دماء الهَدْي في الحج على سبيل
المثال ليست مقصودة لذاتها ،بل المقصود هو زيادة اليمان والتقوى من
ه التَّقْوَى
ن يَنَال ُ ُ
ها وَلَك ِ ْ
ماؤُ َ
مهَا وَل دِ َ ه لُ ُ
حو ُ خلل أداء هذه الشعيرة ﴿ل َ ْ
ن يَنَا َ
ل الل َ
منْك ُ ْ
م﴾ (الحج37 : ( ِ
:إحسان العمل أولً
من هنا نقول بأنه ينبغي علينا أن نهتم بتحسين العمل ليتحقق من خلله
..مقصود العبادة ،ويزداد اليمان في القلب
كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الكثار منه ،فإن العمل
.القليل مع التحسين و التقان ،أفضل من الكثيرمع الغفلة و عدم التقان
وقال بعضهم :إن الرجلين ليقومان في الصف ،و بين صلتهما كما بين
.السماء و الرض
4
(صحيح الترغيب و الترهيب (1070
5
(السلسلة الصحيحة (594
6
أخرجه أبو نعيم في الحلية
1
ولهذا قال ابن عباس و غيره :صلة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة و
ه
.القلب سا ٍ
إن القلب هو محل نظر الله عز و جل ،ومن ث َّ
م فإن العمال تتفاضل عنده
سبحانه بتفاضل مافي القلوب من إيمان ومحبة و إخلص و خشية له ،مع
..الخذ في العتبار ضرورة موافقة هذه العمال للشرع
و لئن كان السير إلى الله و القرب منه إنما يكون بالقلوب ،فإن وسائل ذلك
هي العبادات و العمال الصالحة التي دلنا عليها القرآن و السنة ،و لكي تتم
الستفادة من هذه الوسائل في تحقيق الهدف لبد من تحسينها والهتمام
م
بتفاعل القلب معها ،أما إذا تم التعامل معها على أنها غايات فسيصبح ه ّ
المرء إتيانها و الكثار منها بأي شكل كان دون النظر لحضور القلب وانتفاعه
بها ،فيؤدي هذا إلى غياب الثر اليجابي للعبادات والعمال الصالحة في حياة
.الفرد
سل الواقع
ة مفقودةً بينولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلق ً
العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد ،وعلى
الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات ،والمتنفلين بالحج والعمرات،
إل أننا ل نرى الثر المتوقع لهذه العبادات ...فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب
من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة! وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا
.لتلوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلت تلو الويلت! ...وما أكثر وما أكثر
إن وجود هذا النفصال بين العبادات وأثرها مردُّه – بالساس -لتعام ٍ
ل غير
صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي ،ويقصرها فقط على
:الناحية الشكلية ،ولعل من أسباب هذا التعامل
تسليط الضوء على الحاديث الواردة في فضائل العمال ،و عدم ربطها -
..بمقاصدها في تحقيق العبودية و زيادة اليمان
كذلك فإن من أسباب هذا التعامل :سهولة القيام بالطاعات من الناحية -
الشكلية فقط ..فالجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى
.جهد – قد ل يريد الكثيرون بذله -وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ
1
ضا :الشعور بالرضا عن النفس عند إنجاز (ك َ ّ
م) معتبر من - ومنها أي ً
العبادات ،فالملحظ أنه كلما نجح المرء في النتهاء من أداء عمل شعر
.بالرضا عن نفسه ،وهذا الشعور يدفعه دفعًا إلى الستمرار في هذا الطريق
و لعل أبلغ مثال يؤكد هذا المر هو تلوة القرآن في رمضان ،فالتسابق في
إنجاز أكبر عدد من الختمات دون فهم و ل تدبر من أسبابه الشعور بالزهو و
الرضا عن النفس كلما ختم المسلم ختمة فيدفعه ذلك للبدء في ختمة أخرى
...وسرعة النتهاء منها ،وهكذا
تحصيل الثواب
ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرةً و
متعددةً ،إل أن أهم تلك السباب هي الرغبة في تحصيل الثواب المترتب
عليها؛ فعلى سبيل المثال قراءة القرآن ،هذه العبادة العظيمة التي من
ي القلب وتنيره وتشفيَه من أسقامه ،قد تحوَّلت على ألسن شأنها أن تحي َ
الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بل فهم ول تدبر ول تأثر ،بل أصبحت
الغاية من التلوة هي قطع المسافة بين فاتحة المصحف وخاتمته في أقل
ن؛ أمل ً في تحصيل الثواب ،وذلك عمل ً بقوله -صلى الله عليهوقت ممك ٍ
وسلم" :-من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها ل
"7أقول (ألم) حرف ،ولكن (ألف) حرف ،و(لم) حرف ،و(ميم) حرف
و مما يثير العجب أن هناك العديد من اليات والحاديث التي تتحدث عن تدبر
القرآن لتحصيل العلم والهداية والشفاء ،وتذم من يقرؤه بل فهم أو تدبر
ك لِيَدَّبَُّروا آيَات ِ ِه﴾ ــ(ص :من الية،)29
مبَاَر ٌك ُ ب أَنَزلْنَاهُ إِلَي ْ َكقوله تعالى ﴿ :كِتَا ٌ
ب أقْفَال ُ َها﴾ (محمد ،)24 :وقوله﴿ : َ َ َ
م عَلَى قُلُو ٍ نأ ْ ن الْقُْرآ َ وقوله﴿ :أفَل يَتَدَبَُّرو َ
َ
ما َوعُ ْ
ميَانًا﴾ (الفرقان73 : خُّروا عَلَيْهَا ُ
ص ًّ م يَ ِم لَ ْ
ت َرب ِّهِ ْ ((.وَال ّذِي َ
ن إِذ َا ذُكُِّروا بِآيَا ِ
وتأمل قوله صلى الله عليه و سلم لعبدالله بن عمرو بن العاص و هو يوضح
له سبب نهيه لقراءة القرآن في أقل من ثلثة أيام ( :ل يفقهه من يقرؤه في
(.8أقل من ثلث
ما بعض الصحابة يقرءون القرآن فقال لهم:ورأى صلى الله عليه وسلم يو ً
"الحمد لله ..كتاب الله واحد ،وفيكم الخيار ،وفيكم الحمر والسود ..اقرءوا
7
(صحيح الجامع الصغير (6469
8
(صحيح الجامع الصغير (1157
1
القرآن ،اقرءوا قبل أن يأتي أقوام يقرءونه ،يقيمون حروفه كما يقام السهم
"9ل يجاوز تراقيَهم ،يتعجلون أجره ول يتأجلونه
ومن أقواله -صلى الله عليه وسلم" :-إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم
"10القرآن على لسانه فلم يَدْرِ ما يقول فلينصرف ،فليضطجع
ض َ ق ال َّ ن ِفي َ ْوعندما نزلت آيات سورة آل عمران﴿ :إ ِ َّ
ت َوالْر ِ
موَا ِ
س َ خل ِ
َ ف اللَّي ْل والنَّهار ليَا ٍ ُ
ب﴾ (آل عمران )190 :قال صلى الله ت لولِي اللْبَا ِ ِ َ َ ِ ختِل ِ
وَا ْ
11
من قرأ هذه اليات ثم لم يتفكر بها "عليه وسلم" :ويل ل َ
وتأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم" :ستكون في أمتي اختلف وفرقة،
"12قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل ،يقرءون القرآن ل يجاوز تراقيَهم
وأقوال الصحابة في ضرورة تدبر القرآن كثيرة ،منها قول عبد الله بن
مسعود" :ل تهُذُّوا القرآن هذ َّ الشعر ،ول تنثروه نثر الدقل ،وقفوا عند عجائبه،
م أحدكم من السورة آخرها ركوا به القلوب ،ول يكن ه ُّ "وح ّ ِ
وقول علي بن أبي طالب" :ل خير في قراءة ليس فيها تدبر" ،وقول الحسن
"بن علي" :اقرأ القرآن ما نهاك ،فإذا لم ينهك فلست تقرؤه
وقال رجل لبن عباس :إني سريع القراءة ،وإني أقرأ القرآن في ثلث ،فقال:
""13لن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أح ُّ
ب إل َّ
ي من أن أقرأ كما تقول
و هذه السيدة عائشة رضي الله عنها تسمع رجل ً يقرأ القرآن قراءة سريعة ،
. 14فقالت :ما قرأ هذا و ما سكت
إذن فالنصوص التي تؤكد ضرورة تدبر القرآن وتفهمه وترتيله كثيرة ،فلماذا ل
يتم التركيز إل على الحاديث التي تسرد الثواب المترتب على القراءة فقط
!دون غيرها؟
1
يقول ابن القيم" :لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لشتغلوا بها عن
كل ما سواها؛ فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم ،وأنفع للقلب،
"15وأدعى إلى حصول اليمان وتذوق حلوة القرآن
أين الثمرة؟
م الواحد منا النتهاء من ختم القرآن ،بللقد جَّربنا القراءة السريعة ،وكان هَ ُّ
ة في رمضان ،فأي استفادة كان بعضنا يتنافس في عدد مرات الختم ،خاص ً
سن حدث في حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غيَّر فينا القرآن؟! ُّ
أي تح ُّ
أخلقنا ومعاملتنا نتيجة كثرة القراءة باللسان والحناجر فقط؟
:إحسان ثم إكثار
ليس معنى هذا الكلم هو الزهد في الجر والثواب المترتب على أداء
العبادات ،بل المقصد هو إحسان العبادة أولً ،مع الجتهاد في حضور العقل
وتفاعل القلب معها ،ثم لنكثر منها بعد ذلك ما شئنا ،فنجمع بين المرين
.وننال الخيرين
بل إن الثواب المترتب على العمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحضور القلب أثناء..
...القيام بها
يقول ابن القيم" :وكل قول رتَّب الشارع ما رتَّب عليه من الثواب ،إنما هو
القول التام ،كقول الرسول صلى الله عليه وسلم" :من قال في يوم :سبحان
َ
حط ّت عنه خطاياه ،أو غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد الله وبحمده مائة مرة ُ
البحر" ،وليس هذا مترتبًا على قول اللسان فقط ..نعم ،من قالها بلسانه
ضا عن تدبرها ،ولم يواطئ قلبه لسانه ،ول عرف قدرها غافل ً عن معناها معر ً
َّ
حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه؛ فإن وحقيقتها ،راجيًا مع ذلك ثوابهاُ ،
العمال ل تتفاضل بصورها وعددها ،وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب،
فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والرض،
والرجلن يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلتهما ما بين السماء
.16والرض
الفهم الصحيح أولً
إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات ،وأنها وسائل ل غنى عنها لحياء القلب
باليمان ،هو الخطوة الولى على طريق الستفادة الحقيقية من تلك
15
مفتاح دار السعادة لبن القيم
16
مدارج السالكين لبن القيم
1
العبادات ،وسيكون من نتاج ذلك الفهم -بإذن الله -البحث عن كيفية إحسان
.العبادة
م هو حضور القلب فيها ،وهذا يستدعي التبكير إلى ففي الصلة :سيكون اله ُّ
المسجد ،والتفكر في اليات المقروءة ،والطمئنان في الركوع والسجود،
....وكثرة المناجاة والدعاء والتبتل و
سيقرنه الذاكر بالتفكر فيه ،فيستغفر مستحضًرا ذنوبه وتقصيره وفي الذكرُ :
من عصاه ،وسيقرن ما على ما أسلف ،مستحضًرا عظمة َ في جنب الله ،ناد ً
التسبيح متفكًرا في مظاهر عظمة الله وقدرته وإبداعه ،كما يقول الحسن
البصري" :إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على
"17.الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة
إذا أسقطنا هذا المفهوم على رمضان فإن تعاملنا معه سيختلف عن ذي قبل
.و سنجتهد في النتفاع الحقيقي به
إن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لحياء القلب وعمارته باليمان وانطلقه في
رحلة السير إلى الله ،لما قد اجتمع فيه من عبادات متنوعة مثل الصيام،
والصلة ،والقيام ،وتلوة القرآن ،والصدقة ،والعتكاف ،والذكر ،والعتمار،
....و
ما في إحياءهذه العبادات إذا ما أحسنَّا التعامل معها فإن أثرها سيكون عظي ً
".القلب وتنويره وتأهيله للنطلق في أعظم رحلة" :رحلة السير إلى الله
:الغنيمة الباردة
17
إحياء علوم الدين
1
و لعل من أهم المور التي تُعين المسلم بإذن الله على الستفادة من
رمضان هو إدراكه أن هذا الشهر يُعد بمثابة ( الغنيمة الباردة ) التي يمكنه
من خللها إيقاظ اليمان و تجديده في قلبه و التزود بالتقوى ،وأن هذه
الغنيمة ل يمكن إدراكها من خلل القيام بأشكال العبادات دون تحرك القلب
معها ،و هذا يستدعي منه تفرغا ً – إلى حد ما – من الشواغل التي تشوش
.على عقله ،و تصرفه عن الحضور التجاوب القلبي مع الداء البدني للعبادات
و يحتاج المر كذلك إلى عدم إجهاد البدن قدر المستطاع ،فكلما أُجهد البدن
.ثقلت العبادة وغاب أثرها على القلب
و مما يدعو للسف أن البعض يظن أن قيامه بنوافل العبادات – كصلة القيام
– و هو في حالة من الجهاد البدني و الشعور الشديد بالتعب أفضل من عدم
قيامه بها ،لنه لو تركها و أخلد للراحة بصورة مؤقتة فستفوته تلك النافلة مع
الجماعة ،و هذا – بل شك – نتيجة لغياب الفهم الصحيح لحقيقة العبودية ،و
لقد مر علينا قوله صلى الله عليه وسلم ( :إذا قام أحدكم من الليل
فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف ،فليضطجع ) و
ليس معنى هذا هو سرعة الستسلم للشعور بالتعب و الجهاد ،و لكن لبد
من إعطاء البدن حقه من الراحة حتى نستطيع – بعون الله – القيام بالعبادة
.و عقولنا و قلوبنا حاضرة معها قدر المستطاع
فماذا تقول عمن يدخل إلى الصلة و هو شارد الذهن و يغلبه النعاس فيبدأ
الصلة وراء المام برفع يديه بالتكبير ثم يفاجأ بالتسليم ؟! هل بهذا الشكل
!يزداد اليمان و التقوى؟
فإن قلت :و لكن ماذا أفعل و في رمضان تزداد العمال الخدمية و
الجتماعية مما يؤثر بالسلب على إتقان العبادة ؟
إن الحركة وسط الناس مطلوبة لتوجيههم و دعوتهم إلى الله ،و
مساعدتهم ،و إسداء الخير لهم ،و لكي يستفيد المسلم من هذه الحركة لبد
و أن تنطلق من إيمان حي ،و نفس مزكاة ،فإن لم يحدث هذا كانت النتيجة
1
سلبية كما قال صلى الله عليه و سلم ( :مثل الذي يعلم الناس الخير ،و
(18ينسى نفسه ،مثل الفتيلة تضيء للناس و تحرق نفسها
وشهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلب باليمان ،و ترويض النفس و
تزكيتها ،فإن ضاعت من المسلم هذه الفرصة فأي حال سيكون عليه قلبه و
إيمانه ؟
من هنا نقول أنه ينبغي علينا الستفادة من شهر رمضان على المستوى
الفردي أكثر من المستوى الجتماعي حتى نستطيع أداء واجباتنا الجتماعية
..طيلة العام
وليس معنى هذا هو العتكاف التام عن الناس طيلة الشهر ،و لكن المقصد
هو تخفيف الجرعة ،و هذا يستدعي منا إنهاء ما يمكن إنهاؤه من واجبات
اجتماعية وخدمية قبل قدوم رمضان أو بعد رحيله ،و القلل قدر المستطاع
من الزيارات العائلية ،والفطارات المجمعة ،و كيف ل و شهر رمضان
(.أياما ً معدودات ) سرعان ما تنقضي
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل عام العشر ..
الواخر من رمضان ،و في العام الذي تُوفي فيه اعتكف عشرين
يوما ً ..أي ثلثي الشهر ،فماذا تقول بعد ذلك وأي حجة ستسوقها
لتبرر لنفسك عدم التركيز في العبادة وتحصيل الزاد من خلل
!منظومة العبادات في شهر رمضان؟
:البنا يؤكد
18
(صحيح الجامع الصغير (5837
1
إليك أسوق -أخي القارئ -كلمة للمام المجدد حسن البنا – رحمه الله – ..
و التي كانت جزءا ً من درسه السبوعي المعروف بـ ( حديث الثلثاء ) يؤكد
:فيها على هذا المعنى فيقول
أيها الخوة الفضلء :أحييكم بتحية السلم ،تحية من عند الله مباركة طيبة ،
:فسلم الله عليكم و رحمته و بركاته
في هذه الليلة التي تجاوز ختام شعبان نختم هذه السلسلة من الحاديث
حول نظرات في القرآن – كتاب الله تبارك و تعالى – و إن شاء الله في
العشر الول من شوال نعود إليها ،و نستفتح بذلك موسما ً جديدا ً من مواسم
المحاضرات ،و سيكون موضوعها إن شاء الله ( نظرات في السيرة النبوية
( و التاريخ السلمي
:أيها الخوان
لقد تحدثنا طويل ً عن عاطفة الحب و التآخي التي ألف الله بها بين قلوبنا ،و
التي كان من أبرز آثارها هذا الجتماع على الله ،وإذا كنا سنُحرم هذا اللقاء
أربعة أسابيع أو اكثر فليس معنى هذا أن تخمد العاطفة أو تخبو ،أو ننسى أبداً
ما كانت تفيض به قلوبنا و مشاعرنا في هذا المجلس الطيب من أسمى
معاني العزة و التآخي في الله ،بل أنا أعتقد أنها ستظل متمثلة و مشتعلة
في نفوسنا حتى نحظى بلقاء كريم بعد هذه الجازة إن شاء الله ،فإذا جاء
أحدكم يصلي العشاء ليلة الربعاء لي رجاء أن يدعو لخوانه بالخير ،فل
تنسوا هذا ،ثم أحب أن تتذكروا أننا إذا كانت عاطفتنا ستتعطّش إلى هذا
اللقاء خلل هذه السابيع ،فأحب أن تعلموا بأنها ستروى من معين أفضل و
أكمل و أعلى ،و هو التصال بالله تبارك و تعالى ،و هو خير ما يتمناه مؤمن
...(19لنفسه في الدنيا و الخرة
19
مقالت السلميين في رمضان لمحمد موسى الشريف نقل ً عن حديث الثلثاء لحسن البنا (خواطر حول
( شهر الصيام
1
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذا الشهر الكريم وأن نكون ممن
.غفر لهم وأعتقهم من النار ،والحمدلله رب العالمين
..وص ِّ
ل اللهم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين
1
i
الفهرس