You are on page 1of 17

‫مجدي الهللي‬

‫‪1‬‬
‫حتى لنخسر رمضان‬

‫الحمد لله رب العالمين ‪ ،‬والصلة والسلم على المبعوث رحمة للعالمين ‪..‬‬
‫‪ :‬سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ‪ ،‬أما بعد‬

‫فعندما يذهب شخص إلى الطبيب شاكيا ً من علة ما ‪ ،‬فالمتوقع أن يستمع‬


‫الطبيب إلى شكواه ثم يقوم بالكشف السريري عليه ‪ ،‬ثم يكتب له الدواء‬
‫‪ .‬الذي يراه مناسبًا لحالته‬

‫ولن يفوت الطبيب تذكير مريضه بطريقة أخذ الدواء ؛ فهذا قبل الكل وهذا‬
‫بعده ‪ ،‬وذاك قبل النوم ‪ ..‬ثم ينصحه بالنتظام في تناوله‪ ،‬وفي النهاية يطلب‬
‫‪ .‬منه مراجعته بعد عدة أيام‬

‫ومن المتوقع أن أول سؤال سيسأله الطبيب لمريضه عند المقابلة الثانية‬
‫سيكون عن مدى تحسن حالته الصحية ‪ ،‬فإن وجد تحسنًا ملحوظًا فسيطلب‬
‫منه الستمرار على أخذ الدوية ـ كلها أو بعضها ـ مدة زمنية أخرى حتى يتم‬
‫له الشفاء ـ بإذن الله ـ وإن لم يلحظ هذا التحسن فسيتوجه إلى مريضه‬
‫بالسؤال عن مدى جديته في تناول الدواء بالطريقة الصحيحة ‪ ،‬فإن وجد منه‬
‫التزاما ً في هذا المر فسيتجه تفكيره نحو تغيير جرعات الدواء ‪ ،‬أواستبداله‬
‫بآخر‪ ،‬وكيف ل وهو يعلم بأن هدف مجيء المريض إليه هو بحثه عن الشفاء‬
‫بإذن الله ‪ ،‬ويعلم كذلك أن الدوية ما هي إل وسائل لتحقيق هذا الهدف ‪.‬‬

‫إن العلقة بين الدوية والعافية تمثل العلقة بين الوسائل والهداف ‪،‬‬
‫فالوسائل ليست مطلوبة لذاتها بل لتتحقق الهداف من خللها‪.‬‬

‫و من العجيب أن هذا التصور لتلك العلقة نمارسه بصورة تلقائية ‪ ،‬وفي أمور‬
‫كثيرة فيما يخص أمور دنيانا أما أمور ديننا فالمر يختلف ‪ ،‬بمعنى أن الهداف‬
‫في كثير من الحوال تُنسى ‪،‬وذلك حين تتحول الوسائل إلى أهداف وغايات ‪.‬‬

‫حياة القلب باليمان هي الهدف ‪:‬‬


‫لقد خلقنا الله عز وجل ‪ ،‬وأسكننا الرض لنقوم بمهمة عظيمة ‪ ،‬أل وهي‬
‫ممارسة العبودية له سبحانه ( و ما خلقت الجن و النس إل ليعبدون )‬
‫[الذاريات ‪] 56 :‬‬

‫‪1‬‬
‫هذه العبودية لها حقيقة ينبغي أن يعيش المرء في أجوائها ‪ ،‬وأن تظهر آثارها‬
‫‪..‬على سلوكه و تعاملته‬

‫فالعبودية لله عز وجل معناها النكسار والستسلم التام له سبحانه ‪ ،‬وطاعة‬


‫أوامره ‪ ،‬ودوام خشيته ‪ ،‬والشعور بالحتياج المطلق ‪ ،‬والفتقار التام إليه ‪،‬‬
‫م دوام سؤاله ‪ ،‬والتمسكن بين يديه ‪ ،‬و التوكل عليه ‪ ،‬وإخلص التوجه‬ ‫ومن ث َّ‬
‫له ‪ ،‬مع حبه ‪ ،‬وإيثار محابه ومراضيه على كل شيء‪ ...‬لينعكس ذلك على‬
‫م المرء فعل كل ما يرضي موله ويستجلب به رحمته‬ ‫السلوك فيصبح ه ُّ‬
‫وفضله و جزاءه الذي وعد به عباده المتقين فيزداد سعيه لكل ما يقربه من‬
‫‪ .‬الجنة ويبعده عن النار‬

‫فالعبودية الحقيقية تعني غلبة اليمان بالله على قلب المرء و مشاعره ‪،‬‬
‫‪ .‬فيصير حبه سبحانه أحب الشياء لديه ‪ ،‬وخشيته أخوف الشياء عنده‬

‫يطمئن إليه ‪ ،‬ويثق فيه وفي قدرته الغير متناهية ‪ ،‬وقربه ‪ ،‬وعلمه وإحاطته ‪..‬‬
‫‪ ....‬بكل شيء ‪ ،‬ومن ثم يتوكل عليه ويتقيه ‪ ،‬ويحبه ‪ ،‬ويشتاق إليه ‪ ،‬و‬

‫فالتوكل على الله عز وجل‪ ،‬ومحبته ‪ ،‬وخشيته دليل على قوة اليمان به‬
‫‪ :‬والعبودية له‬

‫[وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) [المائدة ‪) 23 :‬‬

‫[فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) [التوبة ‪) 13 :‬‬

‫[و اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) [المائدة‪) 57 :‬‬

‫وكلما تمكن اليمان من القلب تحسن السلوك تبعا ً لذلك كما قال صلى الله‬
‫عليه و سلم ‪ ( :‬أل و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا‬
‫‪ (1i‬فسدت فسد الجسد كله أل و هي القلب‬

‫فاليمان هو الدافع للستقامة وللسلوك الصحيح ( و ما كان لمؤمن و ل‬


‫مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا ً أن يكون لهم الخيرة من إمرهم )‬
‫[[الحزاب ‪36 :‬‬

‫[و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين ) [النفال ‪) 1 :‬‬

‫[و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )[الحج ‪)32 :‬‬
‫‪1‬‬
‫متفق عليه‬

‫‪1‬‬
‫‪ :‬العبادات وسائل‬

‫فإن كانت حياة القلب باليمان هي الهدف الذي به تتحقق العبودية لله عز‬
‫!وجل فكيف يصل المسلم لهذا الهدف ؟‬

‫أرشدنا الله عز وجل إلى الوسائل التي من شأنها أن تبل ِّغنا هذا الهدف‪..‬هذه‬
‫الوسائل هي العبادات بقسميها القلبية والبدنية ( يآيها الناس اعبدوا ربكم‬
‫[الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [البقرة ‪21 :‬‬

‫‪ ..‬فالعبادات أدوية ناجحة تحقق للقلب عبوديته التامة لله عز وجل‬

‫فالصلة من شأنها أن تُشعر المسلم بخضوعه وانكساره لربه‪ ،‬وهي وسيلة‬


‫عظيمة للتصال به سبحانه ‪ ،‬ومناجاته ‪ ،‬واستشعار القرب منه ‪ ،‬والنس به ‪،‬‬
‫والشوق إليه فتكون نتيجتها زيادة خضوع المشاعر لله ( و اسجد و اقترب )‬
‫[[العلق ‪ ( ، ]19:‬ويخرون للذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ً ) [السراء ‪109 :‬‬

‫وبهذا يزداد اليمان من خلل تلك الصلة ‪ ،‬و تظهر آثاره في دوافع المرء و‬
‫سلوكه ‪ ،‬فتزداد مسارعته لفعل الخير ‪ ،‬ويقوى وازعه الداخلي ومقاومته‬
‫لفعل المعاصي أوالقتراب منها فيحقق قوله تعالى ( وأقم الصلة إن الصلة‬
‫[تنهى عن الفحشاء والمنكر ) [العنكبوت ‪45 :‬‬

‫والصدقة عبادة عظيمة تقوم بمعالجة القلب من داء حب الدنيا و التعلق بها ‪..‬‬
‫أي أنها تطهر القلب وتزيده قوة ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم‬
‫[بها )[التوبة ‪103 :‬‬

‫والصيام يساعد المرء على السيطرة على نفسه و إلزامها تقوى الله ( كتب‬
‫[عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )[البقرة ‪183 :‬‬

‫والذكر يهدف إلى تذكُّر الله ‪ ..‬تذكُّر عظمته وجلله وجماله و إكرامه فيزداد‬
‫[به المرء اطمئنانا ً و ثقة وإيمانا ً ( أل بذكر الله تطمئن القلوب )[الرعد‪28 :‬‬

‫وهكذا في بقية العبادات القلبية والبدنية ‪ ،‬و التي تشكل منظومة متكاملة ‪،‬‬
‫‪ ..‬يتحقق من خلل القيام الصحيح بها الهدف العظيم من وجودنا على الرض‬

‫مركبة" تنقلنا إلى‬


‫فما من عبادة أرشدنا الله إليها إل و تُعد بمثابة وسيلة و" َ‬
‫المام في اتجاه القرب منه سبحانه حتى نصل إلى الهدف العظيم في الدنيا‬
‫( أن تعبد الله كأنك تراه ) وفي الخرة ( و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم )‬
‫[[الزمر ‪61 :‬‬

‫‪1‬‬
‫‪ :‬تهيئة الجواء لتحقيق الهدف‬

‫والمتأمل لتوجيهات الشرع يجد أنها تحثنا وتساعدنا على تهيئة الجواء‬
‫المناسبة للتفاعل القلبي مع العبادات ومن ثم زيادة اليمان من خللها ‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل المثال ‪ :‬الصلة ‪ ..‬نجد أن الشرع يحثنا على تفريغ الذهن من‬
‫الشواغل وعدم تعلق القلب بشيء من شأنه أن يمنعنا من التركيز فيها ‪ ،‬فإذا‬
‫حضر الطعام مع دخول وقت الصلة يفضل البدء بالطعام حتى يدخل المرء‬
‫‪ .‬إلى الصلة و ذهنه غير مشغول به‬

‫وكذلك عند مدافعة الخبثين ‪ ..‬قال صلى الله عليه و سلم ‪ ( :‬ل صلة بحضرة‬
‫‪ (2‬الطعام ‪ ،‬ول وهو يدافعه الخبثان‬

‫ول ينبغي للمرء أن يُسرع في خطواته إلى المسجد ليدرك الصلة ‪ ،‬بل عليه‬
‫أن يمشي في سكينة و هدوء ‪،‬فالسراع من شأنه أن يجعله يذهب إلى الصلة‬
‫‪..‬وهو مضطرب فيصعب عليه جمع قلبه‬

‫والحث على التبكير في الذهاب للمسجد قبل إقامة الصلة له دور مهم في‬
‫‪ ..‬صرف شواغل الدنيا عن الذهن‬

‫وكذلك فإن الحث على تذكر الموت قبل الصلة من شأنه أن يستجيش‬
‫‪ ..‬المشاعر نحو الرجاء و الطمع في عفو الله و الخوف والرهبة من عقوبته‬

‫يقول صلى الله عليه و سلم ‪ ( :‬اذكر الموت في صلتك ‪ ،‬فإن الرجل إذا ذكر‬
‫ل صلة رجل ل يظن أنه‬ ‫ٌّ‬
‫لحري أن يُحسن صلته ‪ ،‬و ص ِّ‬ ‫الموت في صلته‬
‫‪ ..(3‬يصلي صلة غيرها‬

‫ة‬
‫كل ذلك و غيره يهيء المسلم للستفادة من الصلة و ما فيها من قراء ٍ‬
‫‪ ..‬للقرآن ‪ ،‬و ذكر ‪ ،‬و دعاء في تحقيق هدفها بزيادة اليمان و تحسين السلوك‬

‫‪ :‬غياب الرؤية‬

‫ل كانت‪ ،‬فإن‬‫عندما تغيب هذه الرؤية ويصبح الهدف هو أداة العبادة ‪ ،‬بأي شك ٍ‬
‫م يظل العبد في مكانه؛فل يتقدّم‬ ‫ثمرة العبادة ل تكاد تظهر للوجود‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫في مضمار سباق السائرين إلى الله‪ ،‬ول يجد حلوة اليمان‪ ،‬ول يشعر‬
‫بتحسن ملحوظ في سلوكه‪ ،‬لتكون النتيجة ‪ :‬إنسانًا ذو شخصيتين متناقضتين ؛‬
‫فقد تجده كثير الصلة والصيام والحج والعتمار‪ ،‬ومع ذلك تجده ل يؤدي‬
‫المانة‪ ،‬ول يتحرى الصدق‪ ،‬ويسيء معاملة الخرين‪ ،‬ويحسدهم على كل خير‬
‫‪2‬‬
‫رواه مسلم‬
‫‪3‬‬
‫(صحيح الجامع الصغير (‪849‬‬

‫‪1‬‬
‫يبلغهم‪ ..‬يصاب بالهلع والفزع إذا ما تعَّرضت أمواله وممتلكاته أو دنياه‬
‫‪...‬لمكروه‬

‫ستَفِد من عباداته‪ ،‬ولم‬


‫هذه المظاهر السلبية وغيرها تدل على أن صاحبها لم ي َ ْ‬
‫يتحسن إيمانه من خللها‪ ،‬وبالتالي لم ينتج منها الثر الصحيح الذي من شأنه‬
‫‪..‬أن يصلح السلوك و المعاملت‬

‫وتأكيدًا لهذا التشخيص‪ ،‬لك أخي القارئ أن تتأمل قوله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫ب قائم حظه من قيامه‬‫ب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش‪ ،‬وُر َّ‬ ‫"ُر َّ‬
‫‪"4..‬السهر‬

‫‪(5‬وكذلك قوله ( واعلموا أن الله ل يستجيب دعاء قلب غافل له‬

‫وقوله ( ليجيئن أقوام يوم القيامة و أعمالهم كجبال تهامة فيؤمر بهم إلى‬
‫النار‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول الله مصلين ؟ قال ‪ ( :‬نعم كانوا يصلون و يصومون و‬
‫‪ (6‬يأخذون هنة من الليل فإذا عُرض عليهم شيء من الدنيا وثبوا عليه‬

‫فالمقصد من العبادة ليس فقط أداؤها من الناحية الشكلية‪ ،‬بل المهم والهم‬
‫هو أداؤها بطريقة تحقق هدفها؛ فإراقة دماء الهَدْي في الحج على سبيل‬
‫المثال ليست مقصودة لذاتها‪ ،‬بل المقصود هو زيادة اليمان والتقوى من‬
‫ه التَّقْوَى‬
‫ن يَنَال ُ ُ‬
‫ها وَلَك ِ ْ‬
‫ماؤُ َ‬
‫مهَا وَل دِ َ‬ ‫ه لُ ُ‬
‫حو ُ‬ ‫خلل أداء هذه الشعيرة ﴿ل َ ْ‬
‫ن يَنَا َ‬
‫ل الل َ‬
‫منْك ُ ْ‬
‫م﴾ (الحج‪37 :‬‬ ‫( ِ‬
‫‪ :‬إحسان العمل أولً‬

‫من هنا نقول بأنه ينبغي علينا أن نهتم بتحسين العمل ليتحقق من خلله‬
‫‪..‬مقصود العبادة ‪ ،‬ويزداد اليمان في القلب‬

‫‪ :‬وفي هذا المعنى يقول الحافظ بن رجب‬

‫كان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الكثار منه ‪ ،‬فإن العمل‬
‫‪ .‬القليل مع التحسين و التقان ‪ ،‬أفضل من الكثيرمع الغفلة و عدم التقان‬

‫وقال بعضهم ‪ :‬إن الرجلين ليقومان في الصف ‪ ،‬و بين صلتهما كما بين‬
‫‪ .‬السماء و الرض‬

‫‪4‬‬
‫(صحيح الترغيب و الترهيب (‪1070‬‬
‫‪5‬‬
‫(السلسلة الصحيحة (‪594‬‬
‫‪6‬‬
‫أخرجه أبو نعيم في الحلية‬

‫‪1‬‬
‫ولهذا قال ابن عباس و غيره ‪ :‬صلة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة و‬
‫ه‬
‫‪.‬القلب سا ٍ‬
‫إن القلب هو محل نظر الله عز و جل ‪ ،‬ومن ث َّ‬
‫م فإن العمال تتفاضل عنده‬
‫سبحانه بتفاضل مافي القلوب من إيمان ومحبة و إخلص و خشية له ‪ ،‬مع‬
‫‪ ..‬الخذ في العتبار ضرورة موافقة هذه العمال للشرع‬

‫و لئن كان السير إلى الله و القرب منه إنما يكون بالقلوب ‪ ،‬فإن وسائل ذلك‬
‫هي العبادات و العمال الصالحة التي دلنا عليها القرآن و السنة ‪ ،‬و لكي تتم‬
‫الستفادة من هذه الوسائل في تحقيق الهدف لبد من تحسينها والهتمام‬
‫م‬
‫بتفاعل القلب معها ‪ ،‬أما إذا تم التعامل معها على أنها غايات فسيصبح ه ّ‬
‫المرء إتيانها و الكثار منها بأي شكل كان دون النظر لحضور القلب وانتفاعه‬
‫بها ‪ ،‬فيؤدي هذا إلى غياب الثر اليجابي للعبادات والعمال الصالحة في حياة‬
‫‪ .‬الفرد‬

‫سل الواقع‬

‫ة مفقودةً بين‬‫ولعل الواقع الحالي للمسلمين خير دليل على أن هناك حلق ً‬
‫العبادات وأثرها؛ فعلى الرغم من كثرة عدد المصلين في المساجد‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من كثرة المتطوعين بالصيام والصدقات‪ ،‬والمتنفلين بالحج والعمرات‪،‬‬
‫إل أننا ل نرى الثر المتوقع لهذه العبادات‪ ...‬فما أسهل أن تجد مصليًا يكذب‬
‫من أجل تحقيق مصلحة أو دفع مضرة! وما أكثر أن تجد قارئًا للقرآن متقنًا‬
‫‪.‬لتلوته يسيء معاملة أهله ويذيقهم الويلت تلو الويلت!‪ ...‬وما أكثر وما أكثر‬

‫إن وجود هذا النفصال بين العبادات وأثرها مردُّه – بالساس ‪ -‬لتعام ٍ‬
‫ل غير‬
‫صحيح مع العبادات بحيث يفرغها من مضمونها الحقيقي‪ ،‬ويقصرها فقط على‬
‫‪ :‬الناحية الشكلية‪ ،‬ولعل من أسباب هذا التعامل‬

‫تسليط الضوء على الحاديث الواردة في فضائل العمال ‪ ،‬و عدم ربطها ‪-‬‬
‫‪ ..‬بمقاصدها في تحقيق العبودية و زيادة اليمان‬

‫كذلك فإن من أسباب هذا التعامل ‪ :‬سهولة القيام بالطاعات من الناحية ‪-‬‬
‫الشكلية فقط‪ ..‬فالجتهاد في تحقيق التجاوب القلبي مع البدني يحتاج إلى‬
‫‪.‬جهد – قد ل يريد الكثيرون بذله‪ -‬وبالتالي يستسهلون ذلك التعامل الخاطئ‬

‫‪1‬‬
‫ضا‪ :‬الشعور بالرضا عن النفس عند إنجاز (ك َ ّ‬
‫م) معتبر من ‪-‬‬ ‫ومنها أي ً‬
‫العبادات‪ ،‬فالملحظ أنه كلما نجح المرء في النتهاء من أداء عمل شعر‬
‫‪.‬بالرضا عن نفسه‪ ،‬وهذا الشعور يدفعه دفعًا إلى الستمرار في هذا الطريق‬

‫و لعل أبلغ مثال يؤكد هذا المر هو تلوة القرآن في رمضان ‪ ،‬فالتسابق في‬
‫إنجاز أكبر عدد من الختمات دون فهم و ل تدبر من أسبابه الشعور بالزهو و‬
‫الرضا عن النفس كلما ختم المسلم ختمة فيدفعه ذلك للبدء في ختمة أخرى‬
‫‪ ...‬وسرعة النتهاء منها ‪ ،‬وهكذا‬

‫تحصيل الثواب‬

‫ولئن كانت أسباب اهتمامنا بالقيام بظاهر العبادة دون جوهرها كثيرةً و‬
‫متعددةً‪ ،‬إل أن أهم تلك السباب هي الرغبة في تحصيل الثواب المترتب‬
‫عليها؛ فعلى سبيل المثال قراءة القرآن‪ ،‬هذه العبادة العظيمة التي من‬
‫ي القلب وتنيره وتشفيَه من أسقامه‪ ،‬قد تحوَّلت على ألسن‬ ‫شأنها أن تحي َ‬
‫الكثير من المسلمين إلى ألفاظ تُقرأ بل فهم ول تدبر ول تأثر‪ ،‬بل أصبحت‬
‫الغاية من التلوة هي قطع المسافة بين فاتحة المصحف وخاتمته في أقل‬
‫ن؛ أمل ً في تحصيل الثواب‪ ،‬وذلك عمل ً بقوله‪ -‬صلى الله عليه‬‫وقت ممك ٍ‬
‫وسلم‪" :-‬من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة و الحسنة بعشر أمثالها ل‬
‫‪"7‬أقول (ألم) حرف‪ ،‬ولكن (ألف) حرف‪ ،‬و(لم) حرف‪ ،‬و(ميم) حرف‬

‫و مما يثير العجب أن هناك العديد من اليات والحاديث التي تتحدث عن تدبر‬
‫القرآن لتحصيل العلم والهداية والشفاء‪ ،‬وتذم من يقرؤه بل فهم أو تدبر‬
‫ك لِيَدَّبَُّروا آيَات ِ ِه﴾ ــ(ص‪ :‬من الية‪،)29‬‬
‫مبَاَر ٌ‬‫ك ُ‬ ‫ب أَنَزلْنَاهُ إِلَي ْ َ‬‫كقوله تعالى‪ ﴿ :‬كِتَا ٌ‬
‫ب أقْفَال ُ َها﴾ (محمد‪ ،)24 :‬وقوله‪﴿ :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م عَلَى قُلُو ٍ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن الْقُْرآ َ‬ ‫وقوله‪﴿ :‬أفَل يَتَدَبَُّرو َ‬
‫َ‬
‫ما َوعُ ْ‬
‫ميَانًا﴾ (الفرقان‪73 :‬‬ ‫خُّروا عَلَيْهَا ُ‬
‫ص ًّ‬ ‫م يَ ِ‬‫م لَ ْ‬
‫ت َرب ِّهِ ْ‬ ‫‪ ((.‬وَال ّذِي َ‬
‫ن إِذ َا ذُكُِّروا بِآيَا ِ‬
‫وتأمل قوله صلى الله عليه و سلم لعبدالله بن عمرو بن العاص و هو يوضح‬
‫له سبب نهيه لقراءة القرآن في أقل من ثلثة أيام ‪ ( :‬ل يفقهه من يقرؤه في‬
‫‪ (.8‬أقل من ثلث‬

‫ما بعض الصحابة يقرءون القرآن فقال لهم‪:‬‬‫ورأى صلى الله عليه وسلم يو ً‬
‫"الحمد لله‪ ..‬كتاب الله واحد‪ ،‬وفيكم الخيار‪ ،‬وفيكم الحمر والسود‪ ..‬اقرءوا‬

‫‪7‬‬
‫(صحيح الجامع الصغير (‪6469‬‬
‫‪8‬‬
‫(صحيح الجامع الصغير (‪1157‬‬

‫‪1‬‬
‫القرآن‪ ،‬اقرءوا قبل أن يأتي أقوام يقرءونه ‪،‬يقيمون حروفه كما يقام السهم‬
‫‪"9‬ل يجاوز تراقيَهم‪ ،‬يتعجلون أجره ول يتأجلونه‬

‫ومن أقواله‪ -‬صلى الله عليه وسلم‪" :-‬إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم‬
‫‪"10‬القرآن على لسانه فلم يَدْرِ ما يقول فلينصرف‪ ،‬فليضطجع‬

‫ض‬ ‫َ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫ن ِفي َ ْ‬‫وعندما نزلت آيات سورة آل عمران‪﴿ :‬إ ِ َّ‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫موَا ِ‬
‫س َ‬ ‫خل ِ‬
‫َ‬ ‫ف اللَّي ْل والنَّهار ليَا ٍ ُ‬
‫ب﴾ (آل عمران‪ )190 :‬قال صلى الله‬ ‫ت لولِي اللْبَا ِ‬ ‫ِ َ َ ِ‬ ‫ختِل ِ‬
‫وَا ْ‬
‫‪11‬‬
‫من قرأ هذه اليات ثم لم يتفكر بها‬ ‫"عليه وسلم‪" :‬ويل ل َ‬
‫وتأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ستكون في أمتي اختلف وفرقة‪،‬‬
‫‪"12‬قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل‪ ،‬يقرءون القرآن ل يجاوز تراقيَهم‬

‫وأقوال الصحابة في ضرورة تدبر القرآن كثيرة‪ ،‬منها قول عبد الله بن‬
‫مسعود‪" :‬ل تهُذُّوا القرآن هذ َّ الشعر‪ ،‬ول تنثروه نثر الدقل‪ ،‬وقفوا عند عجائبه‪،‬‬
‫م أحدكم من السورة آخرها‬ ‫ركوا به القلوب‪ ،‬ول يكن ه ُّ‬ ‫"وح ّ ِ‬
‫وقول علي بن أبي طالب‪" :‬ل خير في قراءة ليس فيها تدبر"‪ ،‬وقول الحسن‬
‫"بن علي‪" :‬اقرأ القرآن ما نهاك‪ ،‬فإذا لم ينهك فلست تقرؤه‬

‫وقال رجل لبن عباس‪ :‬إني سريع القراءة‪ ،‬وإني أقرأ القرآن في ثلث‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪""13‬لن اقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أح ُّ‬
‫ب إل َّ‬
‫ي من أن أقرأ كما تقول‬

‫و هذه السيدة عائشة رضي الله عنها تسمع رجل ً يقرأ القرآن قراءة سريعة ‪،‬‬
‫‪ . 14‬فقالت ‪ :‬ما قرأ هذا و ما سكت‬

‫إذن فالنصوص التي تؤكد ضرورة تدبر القرآن وتفهمه وترتيله كثيرة‪ ،‬فلماذا ل‬
‫يتم التركيز إل على الحاديث التي تسرد الثواب المترتب على القراءة فقط‬
‫!دون غيرها؟‬

‫ل شك أن من أهداف تلوة القرآن تحصيل الجر‪ ،‬ولكن من خلل القراءة‪..‬‬


‫المتدبرة التي تزيد اليمان وتُذ ِكّر القارئ بما ينبغي عليه فعله أو تركه فيصير‬
‫‪.‬القرآن حجة له ل عليه‬
‫‪9‬‬
‫رواه ابن حبان في صحيحه‬
‫‪10‬‬
‫(صحيح الجامع الصغير (‪717‬‬
‫‪11‬‬
‫رواه ابن حبان في صحيحه‬
‫‪12‬‬
‫رواه المام أحمد في مسنده‬
‫‪13‬‬
‫فضائل القرآن لبي عبيد الهروي‬
‫‪14‬‬
‫(الزهد لبن المبارك (‪1197‬‬

‫‪1‬‬
‫يقول ابن القيم‪" :‬لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لشتغلوا بها عن‬
‫كل ما سواها؛ فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم‪ ،‬وأنفع للقلب‪،‬‬
‫‪"15‬وأدعى إلى حصول اليمان وتذوق حلوة القرآن‬

‫أين الثمرة؟‬

‫م الواحد منا النتهاء من ختم القرآن‪ ،‬بل‬‫لقد جَّربنا القراءة السريعة‪ ،‬وكان هَ ُّ‬
‫ة في رمضان‪ ،‬فأي استفادة‬ ‫كان بعضنا يتنافس في عدد مرات الختم‪ ،‬خاص ً‬
‫سن حدث في‬ ‫حقيقية استفدناها من ذلك؟! ماذا غيَّر فينا القرآن؟! ُّ‬
‫أي تح ُّ‬
‫أخلقنا ومعاملتنا نتيجة كثرة القراءة باللسان والحناجر فقط؟‬

‫‪:‬إحسان ثم إكثار‬

‫ليس معنى هذا الكلم هو الزهد في الجر والثواب المترتب على أداء‬
‫العبادات‪ ،‬بل المقصد هو إحسان العبادة أولً‪ ،‬مع الجتهاد في حضور العقل‬
‫وتفاعل القلب معها‪ ،‬ثم لنكثر منها بعد ذلك ما شئنا‪ ،‬فنجمع بين المرين‬
‫‪.‬وننال الخيرين‬

‫بل إن الثواب المترتب على العمال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحضور القلب أثناء‪..‬‬
‫‪...‬القيام بها‬

‫يقول ابن القيم‪" :‬وكل قول رتَّب الشارع ما رتَّب عليه من الثواب‪ ،‬إنما هو‬
‫القول التام‪ ،‬كقول الرسول صلى الله عليه وسلم‪" :‬من قال في يوم‪ :‬سبحان‬
‫َ‬
‫حط ّت عنه خطاياه‪ ،‬أو غُفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد‬ ‫الله وبحمده مائة مرة ُ‬
‫البحر"‪ ،‬وليس هذا مترتبًا على قول اللسان فقط‪ ..‬نعم‪ ،‬من قالها بلسانه‬
‫ضا عن تدبرها‪ ،‬ولم يواطئ قلبه لسانه‪ ،‬ول عرف قدرها‬ ‫غافل ً عن معناها معر ً‬
‫َّ‬
‫حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه؛ فإن‬ ‫وحقيقتها‪ ،‬راجيًا مع ذلك ثوابها‪ُ ،‬‬
‫العمال ل تتفاضل بصورها وعددها‪ ،‬وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب‪،‬‬
‫فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والرض‪،‬‬
‫والرجلن يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلتهما ما بين السماء‬
‫‪.16‬والرض‬
‫الفهم الصحيح أولً‬

‫إن الفهم الصحيح لمقاصد العبادات‪ ،‬وأنها وسائل ل غنى عنها لحياء القلب‬
‫باليمان‪ ،‬هو الخطوة الولى على طريق الستفادة الحقيقية من تلك‬

‫‪15‬‬
‫مفتاح دار السعادة لبن القيم‬
‫‪16‬‬
‫مدارج السالكين لبن القيم‬

‫‪1‬‬
‫العبادات‪ ،‬وسيكون من نتاج ذلك الفهم‪ -‬بإذن الله‪ -‬البحث عن كيفية إحسان‬
‫‪.‬العبادة‬

‫م هو حضور القلب فيها‪ ،‬وهذا يستدعي التبكير إلى‬ ‫ففي الصلة‪ :‬سيكون اله ُّ‬
‫المسجد‪ ،‬والتفكر في اليات المقروءة‪ ،‬والطمئنان في الركوع والسجود‪،‬‬
‫‪....‬وكثرة المناجاة والدعاء والتبتل و‬

‫سيقرنه الذاكر بالتفكر فيه‪ ،‬فيستغفر مستحضًرا ذنوبه وتقصيره‬ ‫وفي الذكر‪ُ :‬‬
‫من عصاه‪ ،‬وسيقرن‬ ‫ما على ما أسلف‪ ،‬مستحضًرا عظمة َ‬ ‫في جنب الله‪ ،‬ناد ً‬
‫التسبيح متفكًرا في مظاهر عظمة الله وقدرته وإبداعه‪ ،‬كما يقول الحسن‬
‫البصري‪" :‬إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على‬
‫‪"17.‬الذكر حتى استنطقوا القلوب فنطقت بالحكمة‬

‫حتى ليضيع علينا رمضان‬

‫إذا أسقطنا هذا المفهوم على رمضان فإن تعاملنا معه سيختلف عن ذي قبل‬
‫‪.‬و سنجتهد في النتفاع الحقيقي به‬

‫إن هذا الشهر يمثل فرصة ذهبية لحياء القلب وعمارته باليمان وانطلقه في‬
‫رحلة السير إلى الله‪ ،‬لما قد اجتمع فيه من عبادات متنوعة مثل الصيام‪،‬‬
‫والصلة‪ ،‬والقيام ‪،‬وتلوة القرآن‪ ،‬والصدقة‪ ،‬والعتكاف‪ ،‬والذكر‪ ،‬والعتمار‪،‬‬
‫‪....‬و‬

‫ما في إحياء‬‫هذه العبادات إذا ما أحسنَّا التعامل معها فإن أثرها سيكون عظي ً‬
‫‪".‬القلب وتنويره وتأهيله للنطلق في أعظم رحلة‪" :‬رحلة السير إلى الله‬

‫أما إن تم التعامل معها بصورة شكلية محضة فسيبقى الحال‬


‫على ما هو عليه‪ ..‬ستبقى الخلق هي الخلق‪ ،‬والنفوس هي‬
‫النفوس‪ ،‬والهتمامات هي الهتمامات‪ ...‬والواقع هو الواقع ‪ ،‬و‬
‫ستستمر الشكوى بعد رمضان من الفتور و ضعف الهمة و‬
‫‪..‬التثاقل نحو الرض‬

‫‪ :‬الغنيمة الباردة‬

‫‪17‬‬
‫إحياء علوم الدين‬

‫‪1‬‬
‫و لعل من أهم المور التي تُعين المسلم بإذن الله على الستفادة من‬
‫رمضان هو إدراكه أن هذا الشهر يُعد بمثابة ( الغنيمة الباردة ) التي يمكنه‬
‫من خللها إيقاظ اليمان و تجديده في قلبه و التزود بالتقوى‪ ،‬وأن هذه‬
‫الغنيمة ل يمكن إدراكها من خلل القيام بأشكال العبادات دون تحرك القلب‬
‫معها ‪ ،‬و هذا يستدعي منه تفرغا ً – إلى حد ما – من الشواغل التي تشوش‬
‫‪.‬على عقله ‪ ،‬و تصرفه عن الحضور التجاوب القلبي مع الداء البدني للعبادات‬

‫و يحتاج المر كذلك إلى عدم إجهاد البدن قدر المستطاع ‪ ،‬فكلما أُجهد البدن‬
‫‪ .‬ثقلت العبادة وغاب أثرها على القلب‬

‫و مما يدعو للسف أن البعض يظن أن قيامه بنوافل العبادات – كصلة القيام‬
‫– و هو في حالة من الجهاد البدني و الشعور الشديد بالتعب أفضل من عدم‬
‫قيامه بها ‪ ،‬لنه لو تركها و أخلد للراحة بصورة مؤقتة فستفوته تلك النافلة مع‬
‫الجماعة ‪ ،‬و هذا – بل شك – نتيجة لغياب الفهم الصحيح لحقيقة العبودية ‪ ،‬و‬
‫لقد مر علينا قوله صلى الله عليه وسلم ‪ ( :‬إذا قام أحدكم من الليل‬
‫فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف ‪ ،‬فليضطجع ) و‬
‫ليس معنى هذا هو سرعة الستسلم للشعور بالتعب و الجهاد ‪ ،‬و لكن لبد‬
‫من إعطاء البدن حقه من الراحة حتى نستطيع – بعون الله – القيام بالعبادة‬
‫‪.‬و عقولنا و قلوبنا حاضرة معها قدر المستطاع‬

‫و لك – أخي القارئ – أن تتأمل قوله تعالى ( ياأيها الذين آمنوا ل تقربوا‬


‫الصلة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [النساء ‪ ] 43 :‬ففي مرحلة‬
‫التدرج في تحريم شرب الخمر‪ ،‬كان التوجيه بعدم شربها قبل الصلة حتى ل‬
‫تُذهب العقل فل يدري المصلي ما يقول ‪ ،‬أي أن التركيز في الصلة و فهم ما‬
‫‪ .‬يقوله المرء أو يسمعه أمر ضروري يتحقق من خلله مقصودها‬

‫فماذا تقول عمن يدخل إلى الصلة و هو شارد الذهن و يغلبه النعاس فيبدأ‬
‫الصلة وراء المام برفع يديه بالتكبير ثم يفاجأ بالتسليم ؟! هل بهذا الشكل‬
‫!يزداد اليمان و التقوى؟‬

‫‪ :‬في رمضان العمل مع أنفسنا أهم واجباتنا‬

‫فإن قلت ‪ :‬و لكن ماذا أفعل و في رمضان تزداد العمال الخدمية و‬
‫الجتماعية مما يؤثر بالسلب على إتقان العبادة ؟‬

‫إن الحركة وسط الناس مطلوبة لتوجيههم و دعوتهم إلى الله ‪ ،‬و‬
‫مساعدتهم ‪ ،‬و إسداء الخير لهم ‪ ،‬و لكي يستفيد المسلم من هذه الحركة لبد‬
‫و أن تنطلق من إيمان حي ‪ ،‬و نفس مزكاة ‪ ،‬فإن لم يحدث هذا كانت النتيجة‬

‫‪1‬‬
‫سلبية كما قال صلى الله عليه و سلم ‪ ( :‬مثل الذي يعلم الناس الخير‪ ،‬و‬
‫‪ (18‬ينسى نفسه ‪،‬مثل الفتيلة تضيء للناس و تحرق نفسها‬

‫و يقول الرافعي ‪ :‬إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة لمن‬


‫‪..‬حولك و تترك الفوضى في قلبك‬

‫وشهر رمضان فرصة عظيمة لشحن القلب باليمان‪ ،‬و ترويض النفس و‬
‫تزكيتها ‪ ،‬فإن ضاعت من المسلم هذه الفرصة فأي حال سيكون عليه قلبه و‬
‫إيمانه ؟‬

‫فمن لم يحيي قلبه في رمضان فمتى يحييه؟ و من لم يتزود‬


‫باليمان في رمضان فمتى يتزود؟‬

‫من هنا نقول أنه ينبغي علينا الستفادة من شهر رمضان على المستوى‬
‫الفردي أكثر من المستوى الجتماعي حتى نستطيع أداء واجباتنا الجتماعية‬
‫‪ ..‬طيلة العام‬

‫وليس معنى هذا هو العتكاف التام عن الناس طيلة الشهر ‪ ،‬و لكن المقصد‬
‫هو تخفيف الجرعة ‪ ،‬و هذا يستدعي منا إنهاء ما يمكن إنهاؤه من واجبات‬
‫اجتماعية وخدمية قبل قدوم رمضان أو بعد رحيله ‪ ،‬و القلل قدر المستطاع‬
‫من الزيارات العائلية ‪ ،‬والفطارات المجمعة ‪ ،‬و كيف ل و شهر رمضان‬
‫‪ (.‬أياما ً معدودات ) سرعان ما تنقضي‬

‫لقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل عام العشر ‪..‬‬
‫الواخر من رمضان ‪ ،‬و في العام الذي تُوفي فيه اعتكف عشرين‬
‫يوما ً ‪..‬أي ثلثي الشهر ‪ ،‬فماذا تقول بعد ذلك وأي حجة ستسوقها‬
‫لتبرر لنفسك عدم التركيز في العبادة وتحصيل الزاد من خلل‬
‫!منظومة العبادات في شهر رمضان؟‬

‫إن التخطيط الجيد لتنفيذ العمال الجتماعية ‪ ،‬والمساعدات الخيرية ‪،‬‬


‫والحرص الشديد على الوقت وتنظيمه يساعد بإذن الله على تحقيق مصلحة‬
‫الفقراء دون الخلل ببرنامج الستفادة الحقيقية من رمضان وبهذا نجمع‬
‫‪ .‬الخيرين‬

‫‪ :‬البنا يؤكد‬

‫‪18‬‬
‫(صحيح الجامع الصغير (‪5837‬‬

‫‪1‬‬
‫إليك أسوق ‪ -‬أخي القارئ ‪ -‬كلمة للمام المجدد حسن البنا – رحمه الله – ‪..‬‬
‫و التي كانت جزءا ً من درسه السبوعي المعروف بـ ( حديث الثلثاء ) يؤكد‬
‫‪ :‬فيها على هذا المعنى فيقول‬

‫أيها الخوة الفضلء ‪ :‬أحييكم بتحية السلم ‪ ،‬تحية من عند الله مباركة طيبة ‪،‬‬
‫‪ :‬فسلم الله عليكم و رحمته و بركاته‬

‫في هذه الليلة التي تجاوز ختام شعبان نختم هذه السلسلة من الحاديث‬
‫حول نظرات في القرآن – كتاب الله تبارك و تعالى – و إن شاء الله في‬
‫العشر الول من شوال نعود إليها ‪ ،‬و نستفتح بذلك موسما ً جديدا ً من مواسم‬
‫المحاضرات ‪ ،‬و سيكون موضوعها إن شاء الله ( نظرات في السيرة النبوية‬
‫( و التاريخ السلمي‬

‫جه إلى‬‫هذا أيها الخوان و رمضان شهر شعور و روحانية و تو ُّ‬


‫الله ‪ ،‬و أنا أحفظ فيما حفظت أن السلف الصالح كانوا إذا أقبل‬
‫دع بعضهم بعضا ً حتى يلتقوا في صلة العيد ‪ ،‬و كان‬‫رمضان و َّ‬
‫شعورهم ‪ :‬هذا شهر العبادة و شهر الصيام و القيام ‪ ،‬فنريد أن‬
‫نخلو فيه لربنا ‪ ،‬و الحقيقة أيها الخوان ‪ ،‬إني حاولت أن أوجد‬
‫فرصة نقضي فيها حديث الثلثاء في رمضان فلم أجد الوقت‬
‫الملئم ‪ ،‬فإذا كنا قد قضينا معظم العام في نظرات في القرآن‬
‫‪ ..‬فأنا أحب أن نقضي رمضان في تطبيق هذه النظرات‬

‫‪ :‬أيها الخوان‬

‫لقد تحدثنا طويل ً عن عاطفة الحب و التآخي التي ألف الله بها بين قلوبنا ‪ ،‬و‬
‫التي كان من أبرز آثارها هذا الجتماع على الله ‪ ،‬وإذا كنا سنُحرم هذا اللقاء‬
‫أربعة أسابيع أو اكثر فليس معنى هذا أن تخمد العاطفة أو تخبو‪ ،‬أو ننسى أبداً‬
‫ما كانت تفيض به قلوبنا و مشاعرنا في هذا المجلس الطيب من أسمى‬
‫معاني العزة و التآخي في الله ‪ ،‬بل أنا أعتقد أنها ستظل متمثلة و مشتعلة‬
‫في نفوسنا حتى نحظى بلقاء كريم بعد هذه الجازة إن شاء الله‪ ،‬فإذا جاء‬
‫أحدكم يصلي العشاء ليلة الربعاء لي رجاء أن يدعو لخوانه بالخير ‪ ،‬فل‬
‫تنسوا هذا ‪ ،‬ثم أحب أن تتذكروا أننا إذا كانت عاطفتنا ستتعطّش إلى هذا‬
‫اللقاء خلل هذه السابيع ‪ ،‬فأحب أن تعلموا بأنها ستروى من معين أفضل و‬
‫أكمل و أعلى ‪ ،‬و هو التصال بالله تبارك و تعالى ‪ ،‬و هو خير ما يتمناه مؤمن‬
‫‪...(19‬لنفسه في الدنيا و الخرة‬
‫‪19‬‬
‫مقالت السلميين في رمضان لمحمد موسى الشريف نقل ً عن حديث الثلثاء لحسن البنا (خواطر حول‬
‫( شهر الصيام‬

‫‪1‬‬
‫وفي الختام نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذا الشهر الكريم وأن نكون ممن‬
‫‪ .‬غفر لهم وأعتقهم من النار ‪ ،‬والحمدلله رب العالمين‬

‫‪..‬وص ِّ‬
‫ل اللهم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين‬

‫‪1‬‬
‫‪i‬‬

‫الفهرس‬

‫حياة القلب باليمان هي الهدف‬


‫العبادات وسائل‬
‫تهيئة الجواء لتحقيق الهدف‬
‫غياب الرؤية‬
‫إحسان العمل أولً‬
‫سل الواقع‬
‫تحصيل الثواب‬
‫أين الثمرة؟‬
‫إحسان ثم إكثار‬
‫الفهم الصحيح أولً‬
‫حتى ل يضيع علينا رمضان‬
‫الغنيمة الباردة‬
‫في رمضان العمل مع أنفسنا أهم واجباتنا‬
‫البنا يؤكد‬
‫الفهرس‬

You might also like