You are on page 1of 67

‫د‪ .

‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫رحلة المعرفة والسير إلى‬


‫الله‬
‫[‪]1‬‬
‫حقيقة العبودية‬
‫الدكتور‬
‫مجدي الهللي‬

‫‪www.alemanawaln.com‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪1‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫المقدمة‬
‫الحمد لله كثيرا ً كما أنعم علينا كثيراً‪..‬الحمد لله حمدا ً يوافي نعمه ويكافئ مزيده‪ ،‬والصلة‬
‫والسلم على خير البرية‪ ،‬المبعوث رحمة للعالمين‪ ،‬سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪،‬‬
‫وبعد‪:‬‬

‫فلقد خلق الله عز وجل النسان‪ ،‬وكرمه على سائر خلقه‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وأعد له‬
‫الجنة لتكون له دارا ً ومستقراً‪ ،‬وجعل فيها من ألوان النعيم ما ل يمكن لحد أن‬
‫يتصوره‪..‬ولكي يدخل المرء هذه الجنة‪ ،‬ويتمتع بنعيمها‪ ،‬لبد له من اجتياز اختبار أعده الله‬
‫له‪.‬‬
‫محور هذا الختبار هو عبادته سبحانه بالغيب في ظل تمتعه بخاصية حرية الختيار‪ ،‬بمعنى أنه‬
‫مخير في عبادة الله عز وجل أو عدم عبادته‪ ،‬فإن هو توجه بإرادته إلى الله وقام بحقوق‬
‫عبوديته فقد نجح في الختبار وفاز بالجنة‪ ،‬وإن لم يفعل فقد خاب وخسر وكانت النار هي‬
‫مثواه‪.‬‬

‫‪ِ‬إنّا َجعَلْنَا مَا َعلَى اْلأَ ْرضِ زِيَنةً لَهَا لِنَْبلُوَ ُهمْ َأيّ ُهمْ أَحْسَنُ عَ َملًا‪[ ‬الكهف ‪.]7 :‬‬ ‫أما مكان الختبار فهو الرض‬

‫إنه أمر ليس بالسهل ‪ ..‬أن تُترك للمرء حرية الختيار في عبادة ربه وهو ل يراه‪ ،‬وبخاصة أنه‬
‫قد اُبتلي بوجود نفس أمارة بالسوء‪ ،‬محبة للشهوات‪ ،‬وشيطان ل يريد له إل الضلل‪ ،‬ودنيا‬
‫تتزين وتتبهرج له‪ ،‬وتدعو بإلحاح إلى التمتع بها‪.‬‬
‫ومع كل هذه الصعوبات التي تواجه النسان أثناء قيامه بالمهمة التي خلق من أجلها إل أن‬
‫الله عز وجل قد أمده بالملئكة التي تحضه على فعل الخير‪ ،‬وأرسل إليه رسل تعرفه به –‬
‫سبحانه – وتحمل معها رسائله إليه‪ ،‬لتذكره بما خلق من أجله‪ ،‬وتبشره بالجنة‪ ،‬وتنذره من‬
‫‪‬رُ ُسلًا مُبَشّرِينَ َومُ ْنذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ َعلَى الّلهِ ُح ّجةٌ َب ْعدَ الرّ ُسلِ َوكَانَ الّلهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‪[ ‬النساء‪.]165:‬‬ ‫النار‬

‫ومع هذه المعينات الكثيرة التي تعين المرء على عبادة ربه‪ ،‬فإن الله عز وجل قد اختص‬
‫النسان بنعمة عظيمة‪ ،‬وكرمه بها على سائر خلقه‪ ،‬أل وهي نعمة العقل‪..‬‬
‫قال الحسن البصري‪ :‬لما خلق الله عز وجل العقل قال‪ :‬أقبل‪ ،‬فأقبل‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أدبر‪،‬‬
‫فأدبر‪ ،‬وقال‪ :‬ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك‪ ،‬إني بك أُعبد‪ ،‬وبك أُعرف‪ ،‬وبك آخذ‪ ،‬وبك‬
‫أُعطي(‪.)1‬‬

‫شعب اليمان للبيهقي ‪ ) 4:154 ( :‬برقم ( ‪ – )4632‬دار الكتب العلمية – بيروت ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪2‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فبالعقل يمكن للمرء أن يتعرف على ربه‪ ،‬ويستدل على وجوده‪ ،‬ووحدانيته‪ ،‬وسائر صفاته‬
‫العلى‪ ،‬وذلك من خلل التفكر في اليات والمخلوقات التي أودع فيها سبحانه الكثير من‬
‫المعلومات عنه‪ :‬إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ لَ َآيَاتٍ لِلْ ُم ْؤمِنِيَ ( ‪ )3‬وَفِي َخ ْلقِ ُكمْ َومَا يَبُثّ مِنْ دَاّبةٍ َآيَاتٌ ِلقَ ْومٍ يُوقِنُونَ‬
‫ف ال ّريَاحِ َآيَاتٌ لِقَ ْومٍ‬
‫( ‪ )4‬وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ َومَا أَنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ ِر ْزقٍ َفأَحْيَا ِب ِه الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَ ْوتِهَا َوتَصْرِي ِ‬
‫َيعْقِلُون ‪[ ‬الاثية‪.]5 -3 :‬‬

‫وكلما ازداد المرء استخداما لعقله في التفكر في الكون والنفس ازداد معرفة بربه‪ ،‬وكلما‬
‫ازداد معرفة بربه ازدادت هيبته‪ ،‬وإجلله‪ ،‬وتعظيمه‪ ،‬وحبه وخوفه منه‪..‬وهكذا حتى يصل إلى‬
‫درجة من المعرفة تجعله يتعامل مع الله ويعبده كأنه يراه ‪ ..‬تأمل معي قوله تعالى‪ِ :‬إنّ فِي‬
‫خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ ِلأُولِي الَْألْبَابِ ( ‪ )1 9 0‬اّلذِينَ َيذْكُرُونَ ال ّلهَ ِقيَامًا َو ُقعُودًا وَ َعلَى‬
‫ب النّار‪[ ‬آل عمران‪،1 9 0 :‬‬
‫جُنُوبِ ِهمْ َويََتفَكّرُونَ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َربّنَا مَا َخ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ‬
‫فهؤلء الذين ذكرتهم اليتان السابقتان‪ ،‬عندما استخدموا عقولهم فيما خلقت من‬ ‫‪،]1 9 1‬‬
‫أجله‪ ،‬وتفكروا في آيات الله الدالة عليه‪ ،‬ازدادوا بهذا التفكر معرفة بربهم‪ ،‬ويقينا به ‪َ ‬ربّنَا مَا‬
‫وانعكس ذلك على عبوديتهم ومعاملتهم له‪ ،‬فازدادوا له‬ ‫خَ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا ‪[ ‬آل عمران‪]1 9 1 :‬‬
‫ب النّارِ‪[ ‬آل عمران‪.]1 9 1 ،1 9 0 :‬‬
‫تعظيما وخشية ‪ ‬سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ‬

‫العقل والوحي ‪:‬‬


‫خلق من أجلها هي استخدام عقله‬ ‫إذن فنقطة البداية لنجاح النسان في المهمة التي ُ‬
‫استخداما ً صحيحاً‪ ،‬والتعرف به على الله عز وجل‪ ،‬وعلى قدر المعرفة تكون المعاملة‬
‫والعبودية له سبحانه ‪ِ ‬إنّمَا يَخْشَى ال ّلهَ مِنْ عِبَا ِدهِ اْلعُلَمَاءُ ‪[ ‬فاطر‪ ،]2 8 :‬فكلما ازداد المرء عبودية ازداد‬
‫اقترابا ً من ربه ‪ِ ‬إنّ َأكْرَمَ ُكمْ عِ ْندَ ال ّلهِ أَْتقَا ُكمْ ‪[ ‬الجرات‪.]1 3 :‬‬
‫مع الخذ في العتبار أن العقل يحتاج إلى دليل يوجهه الوجهة الصحيحة لهذه المعرفة‪ ،‬يحتاج‬
‫كذلك إلى ضابط يضبط أفكاره ‪ ،‬ويكبح جماح ظنونه وأوهامه‪.‬‬
‫من هنا تظهر القيمة العظمى للوحي اللهي ‪ ..‬القرآن الكريم‪ ،‬وحقائقه التي بينها رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فالقرآن هو أعظم دليل يدل على الله عز وجل ‪ ‬يَا أَيّهَا النّاسُ َقدْ‬
‫جَا َء ُكمْ بُرْهَانٌ مِنْ َربّ ُكمْ َوَأنْزَلْنَا ِإلَيْ ُكمْ نُورًا مُبِينًا ‪[ ‬النساء‪. ]1 7 4 :‬‬
‫وهو الذي يكبح جماح العقل إذا ما انطلق بفكره في التعرف على ربه‪ ،‬ويضع له حدودا‬
‫يحذره من تجاوزها حتى ل يضل‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ :‬إذا ما أراد العقل أن ينطلق في‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪3‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫التفكير في الذات اللهية جاء القرآن ليقول له‪  :‬لَ ْيسَ كَمِ ْث ِلهِ شَ ْيءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيُ ‪[ ‬الشورى‪:‬‬
‫‪.]1 1‬‬
‫كما جاءت التوجيهات النبوية لتؤكد ذلك‪ ،‬كقوله صلى الله عليه وسلم‪ " :‬تفكروا في خلق‬
‫الله ول تفكروا في الله "(‪.)1‬‬
‫أعظم رحلة‪:‬‬
‫‪ ...‬من هنا يتضح لنا أن أعظم رحلة ينبغي أن يقوم بها العبد في حياته الدنيوية هي رحلة‬
‫المعرفة والسير بقلبه إلى الله‪ ،‬والقرب الدائم منه‪ ،‬حتى يصل إلى مرحلة الحسان في‬
‫العبادة التي ذكرت في حديث جبريل – عليه السلم – وهي‪" :‬أن تعبد الله كأنك تراه"‪.‬‬
‫ولكي ينجح الواحد منا في هذه الرحلة‪ ،‬ويحدث له من خللها القرب والوصال‪ ،‬لبد له من‬
‫التعرف على ربه معرفة صحيحة‪ ،‬تنعكس آثارها على القلب بمزيد من معاني العبودية‪.‬‬
‫وهذه الصفحات التي بين يديك أخي القارئ ما هي إل محاولة للتعرف على رحلة المعرفة‬
‫والسير إلى الله‪ ،‬والوسائل المعينة على القيام بها‪ ،‬وستكون البداية بالتعرف على معنى‬
‫العبودية وجوهرها‪ ،‬والطريق إلى تحقيقها‪ ،‬وذلك بصفة عامة إجمالية مع إلقاء الضوء على‬
‫نقطة البداية التي ينبغي أن ننطلق منها في رحلتنا المباركة‪..‬رحلة السير إلى الله‪.‬‬
‫وسيلي ذلك – بمشيئة الله – الحديث بشيئ من التفصيل عن صور العبودية المختلفة‬
‫كالمحبة والخلص والتقوى والتوكل والتوبة والمراقبة ‪..‬‬
‫نسأل الله – عز وجل – أن ييسر لنا إتمام هذا العمل‪ ،‬وأن تصحبنا فيه معيته‪ ،‬ورعايته‬
‫وتوفيقه‪ ،‬وأن يتقبله منا‪ ،‬ويجعله حجة لنا ل علينا‪ ،‬إنه ولي ذلك والقادر عليه ‪ ‬سُ ْبحَاَنكَ لَا عِ ْلمَ لَنَا‬
‫ِإلّا مَا َعلّمْتَنَا إِّنكَ أَنْتَ اْلعَلِي ُم اْلحَكِيمُ ‪[ ‬البقرة‪. ]3 2 :‬‬
‫المؤلف‬

‫رواه أبو نعيم في الحلية‪ ،‬وحسنه اللباني في صحيح الجامع ‪ ،‬ح ( ‪. ) 2976‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪4‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الفصل الول‬

‫معنى العبودية‬
‫تمهيد حول منزلة النسان عند الله‪.‬‬ ‫•‬

‫تكوين النسان‪.‬‬ ‫•‬

‫هذه هي حقيقتك‪.‬‬ ‫•‬

‫السعادة الحقيقة‪.‬‬ ‫•‬

‫التمرد على العبودية‪.‬‬ ‫•‬

‫طغيان الطاعة‪.‬‬ ‫•‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪5‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫تمهيد‬
‫حول منزلة النسان عند الله‬
‫كَّرم الله عز وجل النسان تكريما عظيما‪ ،‬وفضله على سائر خلقه بأن اختصه بما لم يختص‬
‫به أحد منهم ‪ ..‬فقد نفخ فيه – سبحانه – من روحه القدسية‪ ،‬وطلب من الملئكة الطهار أن‬
‫تسجد له‪  :‬إِذْ قَالَ َرّبكَ لِلْمَلَائِ َكةِ ِإنّي خَالِقٌ بَ َ‬
‫شرًا مِنْ طِيٍ ( ‪َ )7 1‬فإِذَا َس ّويْتُهُ َونَ َفخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َف َقعُوا لَهُ‬
‫سَا ِجدِينَ ‪[ ‬ص‪.]7 2 ،7 1 :‬‬
‫هذا التكريم العظيم للنسان يعكس حب الله عز وجل الخالص له‪ ،‬فالجسد الذي يحمل بين‬
‫جنبيه نفخة من روح الله القدسية لشك أن له مكانة ومنزلة عظيمة عند الله‪ ،‬ولقد علمت‬
‫الملئكة بهذه المنزلة واستشعرتها فجعلت جزءا من عبادتها‪ :‬دعاءها لمن في الرض‪ ،‬وهي‬
‫بذلك تريد التقرب إلى إليه – سبحانه – وتطمع في نيل رضاه من خلل الدعاء والستغفار‬
‫لحبابه ‪‬وَالْمَلَائِ َكةُ يُسَّبحُونَ ِبحَ ْمدِ َربّ ِهمْ َويَسَْت ْغفِرُونَ لِمَنْ فِي اْلأَ ْرضِ ‪[ ‬الشورى‪.]5 :‬‬
‫ويزداد تقربهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء والستغفار لمن لهم مكانة خاصة عنده من البشر‪ :‬‬
‫الّذِينَ َيحْمِلُونَ اْلعَ ْرشَ َومَنْ حَ ْوَلهُ يُسَّبحُونَ ِبحَ ْمدِ َربّ ِهمْ َويُ ْؤمِنُونَ ِبهِ َويَسَْت ْغفِرُونَ لِ ّلذِينَ َآمَنُوا َربّنَا وَ ِس ْعتَ كُلّ شَ ْيءٍ رَحْ َمةً‬
‫ص َلحَ‬
‫جحِيمِ ( ‪َ )7‬ربّنَا َوأَدْخِلْ ُهمْ جَنّاتِ َع ْد ٍن الّتِي وَ َع ْدتَ ُهمْ َومَنْ َ‬
‫ب الْ َ‬
‫َوعِلْمًا فَا ْغفِرْ لِ ّلذِينَ تَابُوا وَاتَّبعُوا سَبِي َلكَ وَقِ ِهمْ َعذَا َ‬
‫مِنْ َآبَائِ ِهمْ َوأَزْوَاجِ ِهمْ َوذُ ّريّاتِ ِهمْ ِإّنكَ أَنْتَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ ( ‪ )8‬وَ ِق ِهمُ السّيّئَاتِ َومَنْ تَقِ السّيّئَاتِ يَ ْومَِئذٍ َف َقدْ َرحِمَْتهُ وَ َذِلكَ‬
‫ُه َو الْفَ ْو ُز الْ َعظِيمُ‪[ ‬غافر‪.]9 : 7 :‬‬
‫‪ ...‬فإن كنت في شك من هذا فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم‪ " :‬لزوال الدنيا‬
‫أهون عند الله من قتل رجل مسلم"؟(‪.)1‬‬

‫الجنة تنتظرك‪:‬‬
‫ومن أعظم حب الله لعباده إعداده سبحانه الجنة لتكون دارا أبدية لهم ‪ ..‬يقيمون فيها إقامة‬
‫صحَافٍ‬
‫دائمة بل تعب‪ ،‬ول نصب‪ ،‬ول تكاليف ‪ ...‬بل نعيم مقيم ل يحول ول يزول ‪‬يُطَافُ عَلَ ْي ِهمْ بِ ِ‬
‫مِنْ ذَ َهبٍ َوَأكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشَْتهِيهِ اْلَأنْ ُفسُ َوتَ َلذّ اْلأَعْيُنُ َوأَنُْتمْ فِيهَا خَاِلدُونَ‪[ ‬الزخرف‪.]7 1 :‬‬
‫ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مشروطا بالنجاح في امتحان يُعقد على ظهر الرض‬
‫لجميع البشر ‪ ..‬جوهر هذا المتحان هو عبادته سبحانه بالغيب ‪ ،‬والقيام بحقوق العبودية له‪.‬‬

‫صحيح ‪ ،‬أورده اللباني في صحيح الجامع ‪ ،‬ح ( ‪. ) 5077‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪6‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ولنه الرب الودود الذي يريد لعباده جميعا الخير ودخول الجنة‪ :‬وَال ّلهُ يَدْعُو إِلَى اْلجَّنةِ وَالْ َم ْغفِ َرةِ بِإِ ْذِنهِ ‪‬‬
‫[البقرة‪ ، ]2 2 1 :‬فقد خلقهم بطريقة وهيئة وأوصاف تعينهم وتيسر لهم النجاح في امتحان‬
‫عبوديتهم له كما سيأتي بيانه في الصفحات القادمة‪.‬‬

‫العبودية والتكريم ‪:‬‬


‫ولقد خلق الله عز وجل الرض بما فيها للنسان‪ :‬هُوَ اّلذِي خَ َلقَ لَ ُكمْ مَا فِي اْلأَ ْرضِ جَمِيعًا‪[ ‬البقرة‪:‬‬
‫‪.]2 9‬‬
‫مستخلف فيها‪ ،‬عليه أن يُعمرها‪ ،‬ويكتشف مكنوناتها ويسخرها‬ ‫مسخرة له‪...‬فهو ُ‬‫وجعلها ُ‬
‫لخدمة مهمته ووظيفته عليها‪ُ  :‬ه َو الّذِي َج َعلَ لَ ُك ُم الْأَ ْرضَ َذلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا َو ُكلُوا مِنْ رِزْ ِقهِ ‪[ ‬اللك‪:‬‬
‫‪.]1 5‬‬
‫ومما تجدر الشارة إليه أنه ليس هناك تعارض بين قيام المرء بحقوق العبودية لله‪ ،‬وبين‬
‫قيامه بدوره العظيم في الرض كمستخلف فيها‪ ،‬وسيد لها‪ ،‬فالنسان – كما يقول المام‬
‫محمد عبده – عبد لله‪ ،‬وسيد لما سواه‪.‬‬
‫بمعنى أنه كلما تحقق النسان بصفات العبودية لله‪ ،‬تحرر من العبودية لما سواه‪ ،‬وأدرك‬
‫قيمته في الكون‪ ،‬وأصبحت الرض بمن عليها خادمة له‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬وهذا من شأنه أن‬
‫يجعل النسان يطلق قواه الكامنة‪ ،‬فيحسن القيام بواجب الستخلف في الرض‪.‬‬
‫يقول محمد إقبال ‪:‬‬
‫إن المؤمن إذا عرف قيمة نفسه اقتنص هذا العالم ‪ ،‬واقتنص هذه الرض والسماء في بعض‬
‫ما يقتنص(‪.)1‬‬
‫كل هذا مرتبط بمدى تحققه وارتدائه لرداء العبودية لربه‪.‬‬
‫وليس أدل على صحة هذا الكلم من الجيل الول – صحابة رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم – الذين جمعوا بين المرين بنجاح منقطع النظير ‪ ...‬كانوا يعيشون في حقيقة‬
‫عبوديتهم لربهم من تواضع وذل وانكسار له سبحانه‪ ،‬وفي الوقت نفسه كانوا يدركون‬
‫قيمتهم في هذه الرض‪ ،‬وأنهم قادتها وأسيادها‪ ،‬فاستجابت لهم الرض وفتحت لهم أذرعها‬
‫فتمكنوا منها‪ ،‬وسادوا العالم‪ ،‬في سنوات معدودة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وليس ذلك فحسب‪ ،‬بل كانت عبوديتهم الحقة لربهم وحده دافعا عظيما لتحركهم الدائم‬
‫وجهادهم الطويل لتحرير الناس من العبودية لغير الله‪ ،‬ولعل ما قاله ربعي بن عامر – رضي‬
‫الله عنه ‪ -‬لرستم قائد الفرس ما يؤكد هذا المعنى عندما سأله‪ :‬ما الذي جاء بكم؟ فأجابه‪:‬‬
‫الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى‬
‫سعتها‪ ،‬ومن جور الديان إلى عدل السلم‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى أيضا يقول سيد قطب – رحمه الله ‪:-‬‬

‫روائع إقبال ‪ ،‬ص ( ‪ ) 139‬لبي الحسن الندوي ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪7‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فما يمكن أن يستوي النسان في مكانه الذي خلقه الله عليه " في أحسن تقويم " ول‬
‫يرتكس إلى " أسفل سافلين " ‪ ..‬وما يمكن أن تستقيم حياة البشر وأوضاعهم‪ ،‬ول أن تصلح‬
‫ضمائرهم وأخلقهم‪ ،‬ول أن يتطهر سلوكهم وأعمالهم‪ ،‬ول أن يحسنوا التعامل مع الكون‬
‫ونواميسه ومدخراته‪ ،‬ول مع الحياء التي بثها الله من حولهم‪ ،‬وسخر لهم منها ما سخر‪ ،‬ول‬
‫أن يستقر المر بينهم على أساس المساواة الكريمة والعدل الجميل‪ ،‬ول أن يكف طغيان‬
‫الطغاة‪ ،‬ول أن ترتفع جباه المستضعفين‪ ،‬ول أن تتحقق الكرامة التي أرادها الله لهذا الكائن‬
‫الكريم ‪ ...‬إل أن تتمحض اللوهية لله‪ ،‬ويجرد منها العبيد أجمعين ‪ ..‬وإل فل حد لطغيان‬
‫النسان حين يتأله‪ ،‬ول حد لهوان النسان حين يتعبد لنسان مثله(‪.)1‬‬
‫فإن كان المر كذلك ‪ ،‬وإن كانت العبودية الحقة لله على هذه الدرجة من الهمية‪ ،‬فهيا بنا‬
‫نتعرف في الصفحات القادمة على معناها وأوصافها ليتسنى لنا التحقق بها‪ ،‬فنجني ثمارها‬
‫العظيمة في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫خصائص التصور السلمي لسيد قطب – دار الشروق – ص ‪. 181‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪8‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫معنى العبودية‬
‫يلحظ المتدبر ليات القرآن أن الله عز وجل عندما يمتدح أحدا ً من رسله وأنبيائه‪ ،‬فإنه‬
‫سبحانه يصفه بوصف العبودية‪ .‬كقوله تعالى عن نبيه داود عليه السلم‪  :‬وَا ْذكُرْ عَ ْب َدنَا دَاوُودَ ذَا‬
‫الَْأْيدِ إِّنهُ أَوّابٌ ‪[ ‬ص‪.]1 7 :‬‬
‫وقوله تعالى عن سليمان‪  :‬وَوَ َهبْنَا ِلدَاوُودَ ُسلَيْمَانَ ِنعْ َم اْلعَبْدُ ِإّنهُ أَوّابٌ ‪[ ‬ص‪. ]3 0 :‬‬
‫وقد تكرر وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة ‪ ‬سُ ْبحَانَ اّلذِي أَسْرَى ِبعَ ْبدِهِ لَيْلًا مِنَ‬
‫جدِ اْلأَقْصَى اّلذِي بَا َركْنَا حَ ْوَلهُ لِنُ ِريَهُ مِنْ َآيَاتِنَا ‪[ ‬السراء‪. ]1 :‬‬
‫سِ‬‫جدِ اْلحَرَامِ ِإلَى الْمَ ْ‬
‫سِ‬‫الْمَ ْ‬
‫معنى ذلك أن العبودية هي الصفة التي يحب الله عز وجل أن تتمثل في المرء ‪  :‬وَا ْذكُرْ‬
‫صةٍ ِذكْرَى الدّارِ ( ‪َ )4 6‬وِإنّ ُهمْ عِ ْن َدنَا‬
‫ِعبَا َدنَا ِإبْرَاهِيمَ َوإِ ْسحَاقَ َويَ ْعقُوبَ أُولِي اْلَأيْدِي وَاْلأَبْصَارِ ( ‪ )4 5‬إِنّا أَخْ َلصْنَا ُهمْ ِبخَالِ َ‬
‫ص َطفَيْنَ اْلأَخْيَارِ ‪[ ‬ص‪. ]4 7 -4 5 :‬‬
‫لَمِنَ الْمُ ْ‬

‫جوهر العبادة ‪:‬‬


‫معَبَّد‬
‫العبد عكس الحر وهو المملوك لسيده‪ ،‬وأصل العبودية‪ :‬الخضوع والتذلل ( ) فالطريق ُ‬
‫‪1‬‬

‫إذا كان مذلل بكثرة الوطء (‪.)2‬‬


‫فالعبودية إذن صفة ينبغي أن يعيش المرء حقيقتها‪ ،‬وأن تظهر صورة تعامله مع ربه من ذل‬
‫م‬
‫ب عظي ٌ‬‫وانكسار وخضوع وافتقار‪ ،‬وطاعة وهيبة وإجلل‪ ،‬وتعلق تام به‪ ،‬وفوق هذا كله‪ :‬ح ٌ‬
‫له ‪ ..‬يقول شيخ السلم ابن تيمية‪ " :‬فمن خضع لنسان مع بغض له ل يكون عابدا ً له ‪ ،‬ولو‬
‫أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا ً له "(‪.)3‬‬

‫تكوين النسان ‪:‬‬


‫المر اللفت للنتباه أن الله عز وجل قد خلق النسان وكونه بطريقة تتناسب مع حقيقته‬
‫كعبد حتى ل يجد صعوبة في ارتداء رداء العبودية‪ ،‬فجعل أصله من التراب ولم يجعله من‬
‫معدن نفيس كالذهب والفضة‪ ،‬فالتراب هو أقل الشياء وأوضعها ‪..‬‬

‫لسان العرب لبن منظور ( ‪ – ) 3:271‬دار صادر بيروت ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر السابق ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫العبودية لبن تيمية ‪ ،‬ص (‪ – ) 34‬مكتبة دار الصالة – السماعيلية – مصر ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪9‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫‪ ..‬هذا التراب هو التربة التي ينمو فيها النبات فيأكل منه النسان‪ ،‬وينشأ من خلصته المني‬
‫والذي من خلله يتم التكاثر‪ ،‬ومن ثم يتكون الجنين الذي يصبح بعد ذلك ذكرا ً أو أنثى‪ :‬وَال ّلهُ‬
‫خَ َلقَ ُكمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ ُن ْطفَةٍ ُثمّ َجعَ َل ُكمْ أَزْوَاجًا‪[ ‬فاطر‪.]1 1 :‬‬
‫ي واشتم رائحته لعرض عنه ولعافه ولتقززت نفسه منه‪ ،‬وصدق‬
‫ولو نظر أحدنا إلى المن ّ‬
‫الله العظيم حين قال‪َ :‬ألَمْ َنخْ ُلقْ ُكمْ مِنْ مَاءٍ مَ ِهيٍ‪[ ‬الرسلت‪.]2 0 :‬‬
‫‪ ..‬هذا الصل الحقير للنسان من شانه أن يساعده على التصاف بصفة العبودية‪ ،‬فابن‬
‫التراب والماء المهين ليس له أن يتكبر أو يتعالى أو يرفع رأسه أمام سيده وخالقه‪.‬‬
‫َ‬
‫حلة يسحبها‪ ،‬ويمشي‬ ‫صفرة وعليه ُ‬ ‫ُ‬ ‫نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى المهل ّب بن أبي‬
‫َ‬
‫الخيلء‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا عبد الله‪ ،‬ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهل ّب أما‬
‫مذِرة‪ ،‬وآخرك جيفة قذرة‪ ،‬وحشوك فيما بين ذلك‬ ‫تعرفني؟ فقال‪ :‬بل أعرفك‪ :‬أولك نطفة َ‬
‫بول وعذرة(‪.)1‬‬
‫ومع هذا الصل الحقير‪ ،‬كان الحجم الصغير الذي ينسجم مع كونه عبدا‪ :‬لَخَ ْلقُ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ‬
‫َأكْبَرُ مِنْ َخلْقِ النّاسِ َولَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‪[ ‬غافر‪.]5 7 :‬‬
‫فلو كان النسان طويل أطول من الجبال والشجار‪ ،‬لكان ذلك مدعاة لعلوه وتكبره‪َ  :‬ولَا تَ ْمشِ‬
‫ق الْأَ ْرضَ َولَنْ تَبْ ُلغَ اْلجِبَالَ طُولًا ‪[ ‬السراء‪.]3 7 :‬‬
‫فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا إِّنكَ لَنْ َتخْ ِر َ‬

‫الضعيف العاجز ‪:‬‬


‫ضعِيفًا‪‬‬
‫ومع الصل الحقير‪ ،‬والحجم الصغير‪ ،‬فإن الضعف صفة أصيلة في النسان‪ :‬وَ ُخلِقَ اْلإِنْسَانُ َ‬
‫[النساء‪.]2 8 :‬‬
‫كمْ مَا فِي اْلأَ ْرضِ جَمِيعًا ‪[ ‬البقرة‪ ،]2 9 :‬إل‬
‫فمع أن كل ما في الرض مخلوق للنسان‪  :‬هُوَ اّلذِي خَ َلقَ لَ ُ‬
‫أنه ليس القوى فيها‪ ،‬فهناك من المخلوقات من هو أقوى منه في البنيان أو في التحمل‬
‫والبطش و ‪...‬‬
‫وجوانب ضعف النسان كبيرة ومتعددة‪ ،‬فهو ل يمكنه أن يتحمل اللم ول الجوع ول العطش‪،‬‬
‫بل إنه ل يستطيع مقاومة سلطان النوم فترة طويلة‪.‬‬
‫قوة إبصاره وسمعه وبطشه محدودة ‪ ..‬ل يمكنه أن يحمي نفسه من هجمة حيوان مفترس‬
‫أو حتى لدغة حشرة صغيرة‪.‬‬
‫‪ ..‬ضعيف أمام رغبات نفسه من حب للشهوات‪ ،‬ونفور من التكاليف والمشاق‪.‬‬
‫‪ ...‬هذا الضعف المتعدد الجوانب من شأنه أن يجعله دوما بحاجة إلى مصدر للقوة يلجأ إلي‬
‫ليحتمي به ويدفع عنه كل ما يثير مخاوفه ويعكر صفوه‪.‬‬

‫أدب الدنيا والدين للماوردي ‪ ،‬ص (‪ – ) 231‬دار الكتب العلمية – بيروت ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪10‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫خلق قويا ‪ ..‬أقوى من كل شيئ في الرض‪ ،‬هل تظنه سيلجأ يوما إلى‬ ‫ولو تخيلنا أن النسان ُ‬
‫ربه يطلب منه العون والمدد؟! ولماذا يفعل ذلك وهو يرى قوته تحقق له ما يريد‪  :‬كَلّا إِنّ‬
‫الِْإنْسَانَ لََيطْغَى ( ‪َ )6‬أنْ رَ َآهُ اسَْتغْنَى ‪[ ‬العلق‪.]7 ،6 :‬‬
‫إن من رحمة الله بالناس وحبه لهم أن خلقهم ضعفاء وابتلهم بالمراض ليسهل عليهم‬
‫خلقوا من أجلها‪ ،‬ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث مع قوم عاد الذين‬ ‫القيام بالمهمة التي ُ‬
‫ابتلهم الله عز وجل بأن حباهم مزيدا من القوة فأساءوا استخدامها‪ ،‬بل كانت وبال ً عليهم‬ ‫ً‬
‫وأنستهم حقيقتهم‪َ  :‬فَأمّا عَادٌ فَاسْتَ ْكبَرُوا فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْ ِر اْلحَقّ وَقَالُوا مَنْ أَ َشدّ مِنّا قُ ّوةً أَ َوَلمْ يَرَوْا أَنّ ال ّلهَ اّلذِي‬
‫خَ َلقَ ُهمْ ُهوَ أَ َشدّ مِنْ ُهمْ قُ ّوةً ‪[ ‬فصلت‪.]1 5 :‬‬
‫‪ ..‬ومع الضعف الشديد للنسان‪ ،‬واحتياجه الدائم لقوة تحميه فإنه كذلك عاجز‪ ،‬ل يستطيع‬
‫إنفاذ إرادته ‪ ..‬يريد أن ينام سريعا فل يستطيع ‪ ..‬يريد أن يسهر فيغلبه النعاس ‪ ..‬يريد تذكر‬
‫شيء ما فل يتذكره ‪ ..‬يتمنى أن تلد زوجته ذكرا ً فتلد أنثى ‪..‬‬
‫كل هذا ليستشعر مدى عجزه واحتياجه لمن بيده القدرة على فعل كل شيء‪ ،‬ومن يفعل ما‬
‫يريد وقتما يريد فيستسلم له ويذعن بين يديه‪.‬‬
‫ويرسل الله القاهر فوق عباده البتلءات لتظهر ضعف البشر جميعا‪ ،‬كما في الحديث‬
‫القدسي‪ " :‬لو أني ابتليت ابن آدم بثلث ما طأطأ رأسه لشيء قط‪ :‬الفقر والمرض والموت‬
‫"‪.‬‬

‫الجاهل الفقير ‪:‬‬


‫ومن سمات النسان كذلك أنه جاهل بعواقب المور‪ ،‬وعدم علمه الغيب‪ ،‬ول حتى ما‬
‫سيحدث بعد جزء من الثانية ‪ ..‬فهو ل يدري حين ينام هل سيستيقظ أم ل‪ ،‬وإذا ما استيقظ‬
‫هل يكون معافى أم مريضاً‪.‬‬
‫هل العملية الجراحية التي ستُجرى له ستنجح أم ل؟!‬
‫هل هذا الطعام الذي يأكله سيسبب له مرضا أم ل ؟!‬
‫هل ‪ ..‬هل ؟! ‪َ ‬ومَا َتدْرِي نَ ْفسٌ مَاذَا تَكْسِبُ َغدًا َومَا َتدْرِي نَ ْفسٌ ِبَأيّ أَ ْرضٍ تَمُوتُ ‪[ ‬لقمان‪.]3 4 :‬‬
‫ومع عجزه وضعفه وجهله الملزم له‪ ،‬فهو كذلك ل يستطيع أن يتولى إدارة شئون جسمه‬
‫وتدبير أموره ولو للحظة واحده‪.‬‬
‫فالقلب يحتاج إلى تعهد دائم ومطلق ليستمر في الخفقان وضخ الدم إلى جميع أنحاء‬
‫الجسم‪ ،‬والدم يحتاج لن يظل في درجة معينة من السيولة لو انخفضت لحدثت جلطات‬
‫وانسدت الشرايين‪ ،‬ولو زادت لحدث نزيف‪.‬‬
‫شل‬‫‪ ...‬العضلت تحتاج دوما ً إلى من يتعاهد انقباضها وانبساطها‪ ،‬ولو لم يحدث ذلك ل ُ‬
‫الجسم‪.‬‬
‫‪ ...‬الرئتان ‪ ..‬الكليتان ‪ ..‬المخ ‪ ..‬جهاز الهضم والمتصاص ‪ ..‬جهاز الخراج ‪ ..‬جهاز المناعة ‪..‬‬
‫الغدد‪ ،‬بل كل خلية من خليا الجسم البالغ عددها عدة تريليونات تحتاج إلى إمداد مستمر‪،‬‬
‫وإل توقفت عن العمل ‪ ..‬كل ذلك ينبغي أن يتم بصورة دائمة‪ ،‬فلو توقف إمداد المخ بالدم‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪11‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫عدة دقائق لتوقفت الحياة‪ ،‬ولو تخلت الكليتان عن عملهما لتسمم الدم‪ ،‬ولو‪ ،‬ولو‪ ،‬ولو ‪...‬‬
‫إلخ‪.‬‬
‫معنى ذلك أن الجسم يحتاج إلى من يقوم عليه ويمده بما يحفظه ويكفل له الستمرار في‬
‫وظائفه‪ ،‬ويدير عملياته الحيوية لينتج عن ذلك‪ :‬نطق باللسان‪ ،‬ورؤية بالعين‪ ،‬وحركة‬
‫بالطراف‪ ،‬وهضم للطعام‪ ،‬وإخراج للفضلت‪ ،‬وشهيق وزفير‪ ،‬و ‪...‬‬
‫ومن منا يقدر أن يقوم بذلك ولو للحظة واحدة‪ ،‬فنحن نضع اللقمة في الفم ول ندري ماذا‬
‫يجري لها داخل الجسم‪ ،‬ولو تُرك لنا هضمها وتوزيع خلصتها وإخراج فضلتها لما استطعنا‬
‫أبداً‪ .‬إذن نحن بحاجة إلى من يقوم بإدارة شئون أجسادنا وإمدادها بما يصلحها‪ ،‬ويحافظ‬
‫عليها‪ ،‬وذلك دونما توقف ليل ً أو نهارا ً بل ول لحظة واحدة‪ ،‬ويستوي في ذلك جميع البشر‪،‬‬
‫القوي منهم والضعيف ‪ ..‬الغني والفقير ‪..‬‬

‫ل يملك شيئا‪:‬‬
‫وبالضافة إلى هذا كله‪ ،‬فلقد خلق الله عز وجل النسان ولم يعطه أي ملك ذاتي ولو مثقال‬
‫جعُونَ ‪[ ‬البقرة‪ ،]1 5 6 :‬وما عندنا من أموال وأولد‬
‫ذرة‪ ،‬فنحن جميعا ً ملك لله‪ِ  :‬إنّا لِ ّلهِ َوإِنّا ِإلَيْهِ رَا ِ‬
‫وأثاث و ‪ ...‬فهي ملك له سبحانه‪ ،‬وهبها لنا في حياتنا الدنيا ثم يؤول كل شيء إليه بعد ذلك ‪‬‬
‫ث اْلأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا ‪[ ‬مري‪.]4 0 :‬‬
‫ِإنّا َنحْنُ نَرِ ُ‬
‫فكل ما تراه عيناك ليس له إل مالك واحد هو الله سبحانه وتعالى ‪َ ‬وَلهُ كُلّ شَ ْيءٍ ‪[ ‬النمل‪.]9 1 :‬‬
‫وبالضافة إلى عدم وجود أي شيء يملكه النسان ملكا حقيقيا‪ ،‬فلقد خلقه الله بل قوة ذاتية‬
‫مهما صغرت‪ ،‬فالقوة كلها لله يمنح جزءا منها للناس ويسلبها منهم متى شاء‪َ  :‬أنّ اْلقُ ّوةَ لِ ّلهِ‬
‫جَمِيعًا ‪[ ‬البقرة‪.]1 6 5 :‬‬
‫وكذلك القدرة‪ ،‬فالله على كل شيء قدير‪ ،‬أما النسان فل يقدر على شيء إل بما قدره له‬
‫ربه‪ ،‬فل يمكن له أن يخلق ولو ذبابة‪  :‬يَا أَيّهَا النّاسُ ضُ ِربَ مََثلٌ فَا ْستَ ِمعُوا لَهُ ِإنّ اّلذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ ال ّلهِ لَنْ‬
‫ف الطّالِبُ وَالْ َمطْلُوبُ ‪[ ‬الج‪.]7 3 :‬‬
‫ضعُ َ‬
‫َيخْ ُلقُوا ُذبَابًا َولَوِ اجْتَ َمعُوا لَهُ َوِإنْ يَسْ ُلبْ ُهمُ ال ّذبَابُ َشيْئًا لَا يَسْتَ ْن ِقذُوهُ مِ ْنهُ َ‬
‫فل ملكا ً ذاتياً‪ ،‬ول قوة أو قدرة ذاتية للنسان‪ ،‬ول صلحية له في هذا الكون تجعله يستطيع‬
‫أن يضر أحداً‪ ،‬أو ينفعه إن أراد ذلك ‪ ..‬وهذا المر ينطبق على جميع الخلق بمن فيهم الرسل‬
‫والنبياء ‪ ..‬تأمل معي قوله سبحانه لرسوله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم‪  :‬لَ ْيسَ َلكَ مِنَ‬
‫الَْأمْرِ شَ ْيءٌ ‪[ ‬آل عمران‪.]1 2 8 :‬‬
‫ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث لزوجتي نوح ولوط عليهما السلم‪  :‬ضَ َربَ ال ّلهُ مَثَلًا لِ ّلذِينَ كَفَرُوا‬
‫ِامْ َرأَةَ نُوحٍ وَامْ َرأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَ ْب َديْنِ مِنْ عِبَا ِدنَا صَاِلحَيْنِ َفخَانَتَاهُمَا َف َلمْ ُيغْنِيَا عَنْ ُهمَا مِنَ ال ّلهِ شَ ْيئًا وَقِيلَ ادْ ُخلَا النّارَ‬
‫َمعَ الدّاخِلِيَ ‪[ ‬التحري‪.]1 0 :‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪12‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫هذه هي حقيقتك ‪:‬‬


‫هذه هي حقيقتك أيها النسان‪ :‬أصلك حقير‪ ،‬حجمك صغير‪ ،‬جاهل بالغيب وعواقب المور‪،‬‬
‫ضعيف تحتاج إلى قوة تحميك‪ ،‬عاجز ل تستطيع إنفاذ إرادتك ‪ ..‬فقير فقرا ً مطلقا ً وذاتياً‪،‬‬
‫تحتاج دوما ً إلى من يقيم حياتك‪ ،‬ليس لك من المر شيء ‪ ..‬ل تملك شيئا ‪ ..‬ل قوة لك ‪ ..‬ل‬
‫قدرة لك ‪ ..‬فأنت ل شيء ولن تكون شيئا ً بدون ربك‪ ،‬ولقد خلقك الله عز وجل بهذه‬
‫م تنجح في‬ ‫السمات رحمة بك‪ ،‬لكي يسهل عليك ارتداء رداء العبودية له سبحانه‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫الختبار وتدخل الجنة‪ .‬وكيف ل يكون المر كذلك وأنت بهذه الصفات تحتاج دوما إلى من‬
‫يحميك‪ ،‬ويطعمك ويسقيك‪ ،‬بحاجة إلى من تعتمد عليه في تصريف أمورك ‪ ..‬بحاجة إلى من‬
‫يعلم ما خفي عنك فيوجهك لما فيه مصلحتك ‪ ..‬بحاجة إلى من يمدك بالقوة والقدرة والمال‬
‫والصحة والولد و‪ ..‬والذي يملك هذا كله هو الله وحده ل شريك له‪ ،‬فله ملك السماوات‬
‫والرض‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬ومحيط‪ ،‬وعليم ‪ ..‬يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا ‪ ..‬يصحبنا‬
‫في حلنا وترحالنا ‪ ..‬قريب مجيب ‪ ..‬يحبنا ويريد لنا الخير‪ ،‬وينتظر منا التفاتة صادقة ليقبل‬
‫علينا ويصلح شأننا‪ِ  :‬إنّ ال ّلهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ َرحِيمٌ ‪[ ‬البقرة‪.]1 4 3 :‬‬
‫تأمل معي قوله سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي كلكم ضال إل من هديته‪،‬‬
‫فاستهدوني أهدكم‪ ،‬يا عبادي كلكم جائع إل من أطعمته‪ ،‬فاستطعموني أطعمكم‪ ،‬يا عبادي‬
‫كلكم عار إل من كسوته‪ ،‬فاستكسوني أكسكم ‪.)1( " ..‬‬
‫فإن كنا جميعا ل نساوي شيئا بدون الله‪ ،‬وأنه ل يوجد مصدر يمدنا بالحياة والقوة والهداية‬
‫والعصمة سواه فماذا عسانا أن نفعل معه؟! وما هي الصورة الصحيحة التي تستلزم علينا‬
‫أن نعامله بها؟!!‬
‫أليس من الطبيعي أن نتذلل دوما ً له‪ ،‬ونظهر له سبحانه عظيم فقرنا واحتياجنا له؟!‬
‫أل ينبغي أن نتمسكن بين يديه‪ ،‬ونعترف أمامه بمدى حقارتنا‪ ،‬وضعفنا‪ ،‬وعجزنا‪ ،‬وأننا ل شيء‬
‫بدونه؟!‬
‫ولقد كان هذا بالفعل حال الرسل والنبياء مع ربهم ‪ ..‬كانوا يعيشون في حقيقة عبوديتهم‬
‫بكل ما تحمله هذه الحقيقة من معان ‪ ..‬تأمل معي ما قاله رسولنا الكريم صلى الله عليه‬
‫وسلم في دعائه لربه عشية عرفة‪:‬‬
‫" أنا البائس الفقير‪ ،‬المستغيث‪ ،‬المستجير‪ ،‬الوجل‪ ،‬المشفق‪ ،‬المقر‪ ،‬المعترف بذنبه‪ ،‬أسألك‬
‫مسألة المسكين‪ ،‬وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل‪ ،‬وأدعوك دعاء الخائف الضرير‪ ،‬دعاء‬
‫من خضعت لك رقبته‪ ،‬وفاضت لك عيناه‪ ،‬وذل لك جسده‪ ،‬ورغم أنفه لك " (‪.)2‬‬
‫‪ ..‬وهذا إبراهيم عليه السلم يقول لبيه‪َ  :‬ومَا أَمْ ِلكُ َلكَ مِنَ ال ّلهِ مِنْ شَ ْيءٍ‪[ ‬المتحنة‪. ]4 :‬‬

‫رواه مسلم ( ‪.) 2577‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه الطبراني عن ابن عباس ‪ .‬قال الشيخ اللباني ‪ ( :‬ضعيف ) ‪ ،‬انظر حديث رقم ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 1186‬في ضعيف الجامع ‪.‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪13‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وتأمل معي ما قاله نوح عليه السلم لربه‪  :‬قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ أَ ْسَألَكَ مَا لَ ْيسَ لِي بِهِ ِع ْلمٌ َوِإلّا تَ ْغفِرْ‬
‫لِي َوتَرْحَمْنِي َأكُنْ مِنَ اْلخَاسِرِينَ ‪[ ‬هود‪.]4 7 :‬‬
‫‪ ...‬أما هذا الموقف الذي حدث مع موسى عليه السلم فهو موقف يظهر مدى شعوره‬
‫بحقيقته كعبد يتصرف فيه مول كيفما شاء‪  :‬وَاخْتَارَ مُوسَى قَ ْو َمهُ سَ ْبعِيَ َرجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَ َخذَتْ ُه ُم الرّ ْجفَةُ‬
‫ضلّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ َوتَ ْهدِي مَنْ‬
‫سفَهَاءُ مِنّا إِنْ هِيَ ِإلّا فِتْنَُتكَ تُ ِ‬
‫قَالَ َربّ لَوْ شِ ْئتَ أَ ْهلَكْتَ ُهمْ مِنْ قَ ْبلُ َوإِيّايَ أَتُهْ ِلكُنَا بِمَا َفعَلَ ال ّ‬
‫تَشَاءُ أَنْتَ َولِيّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا َوأَنْتَ خَ ْي ُر الْغَافِرِينَ ‪[ ‬العراف‪.]1 5 5 :‬‬
‫‪ ...‬وتأمل حال يوسف الصديق وهو يناجي ربه ويسأله العون على كيد النسوة‪  :‬قَالَ َربّ‬
‫سجْنُ أَ َحبّ ِإلَيّ مِمّا َيدْعُونَنِي ِإلَيْهِ َوإِلّا تَصْرِفْ عَنّي كَ ْيدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْ ِهنّ َوَأكُنْ مِنَ اْلجَاهِ ِليَ ‪[ ‬يوسف‪.]3 3 :‬‬
‫ال ّ‬
‫هذا العبد الصالح ماذا قال لربه عندما مكنه في الرض‪َ  :‬ربّ َقدْ َآتَيْتَنِي مِ َن الْمُ ْلكِ َوعَلّمَْتنِي مِنْ َتأْوِيلِ‬
‫سلِمًا َوَأْلحِقْنِي بِالصّالِحِيَ ‪[ ‬يوسف‪.]1 0 1 :‬‬
‫الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ أَنْتَ َولِيّي فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ تَوَفّنِي مُ ْ‬

‫العبودية والفطرة ‪:‬‬


‫من فضل الله على عباده أن جعل معاني العبودية مركوزة فيهم‪ ،‬ومهما حاول المرء إظهار‬
‫استغنائه عن ربه‪ ،‬ومهما اغتر بما حباه الله عز وجل من إمكانات إل أنه يظهر على حقيقته‬
‫كعبد ضعيف أمام الشدائد ‪ ..‬حينئذ تراه يتجه بكليته إلى الله يطلب منه النجاة والحماية‪  :‬هُوَ‬
‫الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَرّ وَالَْبحْرِ َحتّى إِذَا كُنُْتمْ فِي اْلفُ ْلكِ وَجَ َريْنَ بِ ِهمْ بِرِيحٍ طَيَّبةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَ ُهمُ‬
‫الْمَ ْوجُ مِنْ كُلّ مَكَانٍ َوظَنّوا َأنّ ُهمْ أُحِيطَ بِ ِهمْ دَعَوُا ال ّلهَ ُمخْلِصِيَ لَ ُه الدّينَ لَئِنْ َأنْجَيْتَنَا مِنْ َه ِذهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ ‪‬‬
‫[يونس‪.]2 2 :‬‬
‫فالشدائد والبتلءات رحمة من الله عز وجل بالناس‪ ،‬ووسيلة يأخذهم بها إلى حظيرة‬
‫ضرّعُونَ ‪[ ‬النعام‪.]4 2 :‬‬
‫العبودية‪َ  :‬فأَ َخ ْذنَا ُهمْ بِالَْبأْسَاءِ وَالضّرّاءِ َلعَلّ ُهمْ يَتَ َ‬

‫السعادة الحقيقية ‪:‬‬


‫من هنا ندرك سر شعور النسان الذي ل يعيش في حقيقة العبودية بأن هناك شيئا ما ينقصه‬
‫مهما كان معه من إمكانات‪.‬‬
‫‪ ...‬فتجده كثيرا ً ما يمر بلحظات يتملكه فيها الخوف من المستقبل المجهول‪ ،‬خاصة على‬
‫أولده من بعده‪.‬‬
‫‪ ..‬في صدره ضيق ووحشة مهما بدا عليه من مظاهر الفرح والسعادة ‪..‬‬
‫تأتيه أوقات يشعر فيها بضعفه وعجزه واحتياجه إلى قوة تحميه ‪..‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪14‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫هذه المور ل يمكن للنسان أن يتغلب عليها‪ ،‬أو إغلق البواب دونها بالسباب المادية ‪ ،‬ولو‬
‫أُوتي مال ً مثل مال قارون ‪ ،‬أو قوة وسلطانا ً بل حدود‪ ،‬بل إن هذه المور ستزيده شعوراً‬
‫بالوحشة والضطراب وعدم المان‪.‬‬
‫فل سبيل لحدوث السلم الداخلي‪ ،‬والشعور بالسعادة والطمأنينة والسكينة إل من خلل‬
‫م ل ومن خللها يشعر المرء بالمان وهو‬ ‫العيش في حقيقة العبودية والتجلبب بجلبابها‪ ،‬ول ِ َ‬
‫يعيش في كنف ربه المقتدر الذي يملك كل شيء‪ ،‬ويقدر على فعل أي شيء يريده‪،‬‬
‫ويستطيع أن يحفظه من كل سوء‪ ،‬ويؤمن مخاوفه‪ ،‬ويحميه ويستره‪  :‬أَلَا ِإنّ أَوْلِيَاءَ ال ّلهِ لَا خَوْفٌ‬
‫َعلَيْ ِهمْ َولَا ُهمْ َيحْ َزنُونَ ( ‪ )6 2‬اّلذِينَ َآمَنُوا َوكَانُوا يَّتقُونَ ‪[ ‬يونس‪. ]6 3 ،6 2 :‬‬
‫فعلى سيبل المثال‪ :‬الخوف على مستقبل الولد وهو أمر يتملك مشاعر الكثير من الناس‬
‫فيجعل كل همهم جمع المال ليؤمنوا لولدهم مستقبلهم ‪ ..‬هذا الخوف ل يتملك من يرتدي‬
‫ش الّذِينَ لَوْ تَ َركُوا مِنْ‬ ‫رداء العبودية لله عز وجل‪ ،‬وكيف يتملكه وقد طمأنه ربه وقال له‪َ  :‬ولَْي ْ‬
‫خ َ‬
‫ضعَافًا خَافُوا َعلَيْ ِهمْ فَلْيَّتقُوا ال ّلهَ َولَْيقُولُوا قَ ْولًا َسدِيدًا ‪[ ‬النساء‪. ]9 :‬‬
‫خَ ْلفِ ِهمْ ُذ ّريّةً ِ‬
‫وما دام العيد يوقن أن الله هو الذي يكفل الجميع ويكلؤهم بالليل والنهار ففيم الخوف؟!‬
‫ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول‪ :‬ففي القلب َ‬
‫شعْث ل يلمه إل القبال على الله‪،‬‬
‫وفيه وحشة ل يزيلها إل النس به في خلوته‪.‬‬
‫وفيه حزن ل يذهبه إل السرور بمعرفته وصدق معاملته‪.‬‬
‫وفيه قلق ل يسكنه إل الجتماع عليه والفرار إليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وفيه فاقه ل يسدها إل محبته والنابة إليه ودوام ذكره‪ ،‬وصدق الخلص له‪ ،‬ولو أعطي الدنيا‬
‫وما فيها لم يسد تلك الفاقة منه أبدا (‪.)1‬‬

‫عجزي كنزي ‪:‬‬


‫معنى ذلك أن خير أوقات المرء هي تلك الوقات التي يحدث فيها سلم داخلي بين جوهر‬
‫حقيقته كعبد وبين ما يعيشه من معاني العبودية ‪..‬‬
‫يقول ابن عطاء‪ :‬خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك‪ ،‬وترد فيه إلى وجود ذلتك‪.‬‬
‫وفي نفس المعنى يقول ابن تيمية ‪ :‬من أراد السعادة البدية فليلزم عتبة العبودية‪.‬‬
‫فبالعبودية يدخل المرء جنة الدنيا ونعيمها الذي ل يشبهه أي نعيم آخر‪.‬‬
‫‪ ...‬يقول ابن القيم‪ :‬فمحبة الله تعالى‪ ،‬ومعرفته‪ ،‬ودوام ذكره‪ ،‬والسكون إليه‪ ،‬والطمأنينة‬
‫إليه‪ ،‬وإفراده بالحب‪ ،‬والخوف‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والتوكل‪ ،‬والمعاملة‪ ،‬بحيث يكون هو وحده‬
‫المستولي على هموم العبد وعزماته‪ ،‬وإرادته‪ ،‬هو جنة الدنيا‪ ،‬والنعيم الذي ل يشبهه نعيم‪،‬‬
‫وقرة عين المحبين‪ ،‬وحياة العارفين‪.‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين ‪ ،‬ص ( ‪. ) 567 ، 566‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪15‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ويحكي عن شيخه – ابن تيمية – أنه قال مرة‪ :‬ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في‬
‫صدري‪ ،‬إن رحت فهي معي ل تفارقني‪ ،‬إن حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬وإخراجي من بلدي‬
‫سياحة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ويستطرد ابن القيم قائل‪ :‬وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط‪ ،‬مع ما كان فيه من‬
‫ضيق العيش‪ ،‬وخلف الرفاهية والنعيم‪ ،‬بل ضدها‪ ،‬ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد‬
‫والرهاق‪ ،‬وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا‪ ،‬وأشرحهم صدرا‪ ،‬وأقواهم قلبا‪ ،‬وأسرهم‬
‫نفسا‪ ،‬تلوح نضرة النعيم على وجهه‪.‬‬
‫فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ‪ ،‬وفتح لهم أبوابها في دار العمل‪ ،‬فآتاهم من‬
‫روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم والمسابقة إليها (‪.)1‬‬
‫وفي كتابه – مقومات التصور السلمي – يؤكد سيد قطب – رحمه الله – على هذا المعنى‬
‫فيقول‪ :‬إن الطمأنينة إلى الله‪ ،‬بعد معرفته بصفاته كما يعرضها القرآن‪ ،‬ل تعدلها طمأنينة‪،‬‬
‫ول يعدلها شيء من أشياء هذه الدنيا‪ ،‬وإنه لتمر بالنسان أحداث ولحظات يشعر فيها بقيمة‬
‫هذه المعرفة شعورا ً كامل ً واضحا ً عميقاً‪ ،‬ولكنه قد ينسى أو يغفل حتى تذكره تلك اللحظات‬
‫والحداث! وإن الرضا والنس والبشاشة والتوجه والطمأنينة والثقة والراحة التي تسكبها‬
‫تلك المعرفة لمور تذاق ول توصف‪ ،‬وأقرب ما يصورها المنهج القرآني في مثل تلك‬
‫الشارات‪:‬‬
‫‪ ‬اّلذِينَ َآمَنُوا َوتَطْمَئِنّ ُقلُوبُ ُهمْ ِبذِكْرِ ال ّلهِ َألَا ِب ِذكْرِ ال ّلهِ تَطْمَِئ ّن الْقُلُوبُ ‪[ ‬الرعد‪.]2 8 :‬‬

‫أهمية العبودية ‪:‬‬


‫إذن فالعبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها متمثلة في عباده‪ ،‬وعلى قدر‬
‫تمثلها فيهم يكون رضاه عنهم‪ ،‬وقربه منهم‪.‬‬
‫‪ ..‬ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم‪ " :‬ما من حالة يكون العبد عليها أحب‬
‫إلى الله من أن يراه ساجدا يُعفر وجهه في التراب " (‪.)2‬‬
‫بل إن أي وقت يحدث فيه للعبد انكسار فإن الله عز وجل يعامله في هذا الوقت معاملة‬
‫خاصة‪ ،‬فالمريض ‪ -‬على سبيل المثال – يكسره المرض‪ ،‬ولو كان من كان في ظلمه‬
‫وطغيانه‪ ،‬فإذا كان مؤمنا كان الله عنده‪ ،‬لنه سبحانه يكون قريبا ً من المنكسرة قلوبهم‪ ،‬كما‬
‫في الحديث القدسي‪ " :‬يا ابن آدم‪ ،‬مرضت فلم تعدني‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬كيف أعودك‪ ،‬وأنت‬
‫رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت إن عبدي فلن مرض فلم تعده‪ ،‬أما علمت أنك لو عدته‬
‫لوجدتني عنده "‪.‬‬

‫الوابل الصيب ‪ ،‬ص ( ‪ ) 98 - 96‬بتصرف – مكتبة المؤيد – الرياض ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه الطبراني في الوسط بإسناد حسن ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪16‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫يقول ابن القيم‪ ( :‬وهذا – والله أعلم – هو السر في استجابة دعوة الثلثة‪ :‬المظلوم‬
‫والمسافر والصائم‪ ،‬للكسرة التي في قلب كل واحد منهم‪ .‬فإن غربة المسافر وكسرته مما‬
‫سوَْرة النفس السبعية الحيوانية ويذلها ) (‪.)3‬‬‫يجد العبد في نفسه‪ ،‬وكذلك الصوم فإنه يكسر َ‬
‫ومما يؤكد أن العبودية من ذل وانكسار‪ ،‬وخضوع وتواضع هي الحالة التي يحبها الله عز وجل‬
‫من العبد ما حدث للمرأة البغي التي سقت الكلب الظمآن وما تل ذلك من مغفرة الله لها‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪ " :‬بينما كلب يطيف‬
‫بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل‪ ،‬فنزعت موقها فسقته‪ ،‬فغُفر لها‬
‫به " (‪.)2‬‬
‫ي التي رأت الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى ما حملها على أن‬ ‫( فما قام بقلب البغ ّ‬
‫غررت بنفسها في نزول البئر‪ ،‬وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف‪ ،‬وحملها خفها‬
‫بفيها‪ ،‬وهو ملن‪ ،‬حتى أمكنها الرقي من البئر‪ ،‬ثم تواضعها لهذا المخلوق التي جرت عادة‬
‫الناس بضربه‪ ،‬فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب‪ ،‬من غير أن ترجو منه جزاء ول شكورا‪.‬‬
‫فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء‪ ،‬فغفر لها ) (‪.)3‬‬
‫من هنا ندرك قول أحد الصالحين‪ :‬دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها‪ ،‬فما دخلت من‬
‫باب إل رأيت عليه الزحام‪ .‬فلم أتمكن من الدخول‪ ،‬حتى جئت باب الذل والفتقار‪ ،‬فإذا هو‬
‫أقرب باب إليه وأوسعه‪ ،‬ول مزاحم فيه ول معوق ‪ ..‬فما هو إل أن وضعت قدمي في عتبته‪،‬‬
‫فإذا هو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قد أخد بيدي وأدخلني عليه‪.‬‬
‫وكذلك قول أحدهم‪ :‬ل طريق أقرب إلى الله من طريق العبودية ( )‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫التمرد على العبودية ‪:‬‬


‫ولن العبودية هي الحالة التي يحب الله عز وجل أن يراها بادية على خلقه‪ ،‬وعلى قدر‬
‫تمثلها فيهم تكون وليته ونصرته لهم‪  :‬أَلَ ْيسَ ال ّلهُ بِكَافٍ عَ ْب َدهُ ‪[ ‬الزمر‪ ،]3 6 :‬ففي المقابل فإن من‬
‫أكثر المور التي تغضبه سبحانه هو تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية‪ ،‬واستبداله برداء‬
‫العز والكبر ‪ ..‬ففي الحديث ‪ " :‬العز إزاري‪ ،‬والكبرياء ردائي‪ ،‬فمن ينازعني عذبته " (‪.)5‬‬
‫فالكبر مناف للعبودية‪ ،‬لذلك فهو من أكبر الذنوب وأخطرها‪ ،‬وصاحبه يحرم من المعية‬
‫والتوفيق والولية والنصرة اللهية‪َ  :‬سأَصْرِفُ َعنْ َآيَاتِ َي الّذِينَ يَتَكَبّرُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْ ِر اْلحَقّ ‪[ ‬العراف‪:‬‬
‫‪.]1 4 6‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين ‪ ،‬ص ( ‪. ) 170 - 169‬‬ ‫‪3‬‬

‫رواه البخاري ( ‪ ) 3467‬وركية ‪ :‬أي بئر ‪ ،‬وموقها ‪ :‬أي خفها ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين ‪ ،‬ص ( ‪. ) 188‬‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه ‪ ،‬ص (‪. )229‬‬ ‫‪4‬‬

‫رواه مسلم (‪. )2620‬‬ ‫‪5‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪17‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫إن الشرف العظيم للنسان أن يكون عبدا لله عز وجل ‪ ،‬يسأله دوما حاجته‪ ،‬ويطلب منه‬
‫الحماية والنصرة‪ ،‬والعون والمدد‪ ،‬فإذا ما استكبر عن ذلك‪ ،‬وطن أن بمقدوره العيش في‬
‫م كان العقاب‬ ‫الحياة دون معونة من الله فقد ظلم نفسه‪ ،‬وطغى طغيانا ل حدود له‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫جبْ لَ ُكمْ ِإنّ اّلذِينَ يَسْتَكِْبرُونَ َعنْ ِعبَا َدتِي سََيدْ ُخلُونَ جَهَّنمَ دَاخِرِينَ ‪‬‬
‫الليم في انتظاره‪َ  :‬وقَالَ َربّ ُكمُ ادْعُونِي أَسَْت ِ‬
‫[غافر‪.]6 0 :‬‬

‫طغيان الطاعة ‪:‬‬


‫هناك أسباب كثيرة لرتداء العبد رداء العزة والكبر‪ ،‬وتمرده على رداء العبودية‪ ،‬لعل من‬
‫أهمها وأخطرها على المسلم‪ :‬الشعور بالعزة والرفعة على غيره بما حباه الله من‬
‫المكانات‪ ،‬وبما أكرمه وهداه إلى فعل الطاعات‪ ،‬فينخدع بذلك‪ ،‬ويظن أن عنده شيئا ذاتيا‬
‫يملكه ليس عند غيره‪ ،‬فيتكبر به ويتعاظم في نفسه فتصبح هذه المكانات وتلك الطاعات‬
‫التي أكرمه الله بأدائها حجة عليه ل له ‪ ...‬قال صلى الله عليه وسلم‪ " :‬ل يزال الرجل يذهب‬
‫(‪.)1‬‬
‫بنفسه حتى يُكتب في الجبارين‪ ،‬فيصيبه ما أصابهم "‬
‫بل إن صاحب الذنب المنكسر الذي يرى نفسه أقل الناس شأنا قد يكون عند الله أفضل‬
‫منه‪.‬‬
‫‪ ...‬تأمل معي – أخي القارئ – هذا الحديث‪ :‬قال صلى الله عليه وسلم‪ " :‬كان رجلن في‬
‫بني إسرائيل متواخيان‪ ،‬وكان أحدهما مذنبا ‪ ،‬والخر مجتهدا في العبادة ‪ ،‬وكان ل يزال‬
‫المجتهد يرى الخر على الذنب‪ ،‬فيقول‪ :‬أقصر‪ .‬فوجده يوما ً على ذنب‪ ،‬فقال له‪ :‬أقصر‪.‬‬
‫ي رقيبا؟ فقال‪ :‬والله ل يغفر الله لك‪ ،‬أو ل يدخلك الله الجنة‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬خل ِّني وربي ‪ ،‬أبُعِثْت عل َّ‬
‫فقُبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين‪ ،‬فقال لهذا المجتهد‪ :‬أكنت بي عالماً‪ ،‬أو كنت على‬
‫ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب‪ :‬اذهب فادخل الجنة برحمتي‪ ،‬وقال للخر‪ :‬اذهبوا به إلى‬
‫النار " (‪.)2‬‬
‫ويؤكد على هذا المعنى ابن عطاء الله بقوله‪ :‬معصية أورثت ذل ً وانكساراً‪ ،‬خيٌر من طاعة‬
‫أورثت عزا ً واستكباراً‪.‬‬
‫وكذلك قال بعض السلف – كما ينقل عنهم ابن القيم‪ :-‬إن العبد قد يعمل الذنب فيدخل به‬
‫الجنة‪ ،‬ويعمل الطاعة فيدخل بها النار‪ .‬قالوا‪ :‬كيف ذلك؟ قال‪ :‬يعمل الذنب فل يزال نصب‬
‫عينيه‪ ،‬إن قام‪ ،‬وإن قعد‪ ،‬وإن مشى‪ ،‬ذكر ذنبه‪ ،‬فيحدث له انكساراً‪ ،‬وتوبة‪ ،‬واستغفاراً‪ ،‬وندما‪ً،‬‬
‫فيكون ذلك سبب نجاته‪.‬‬
‫ويعمل الحسنة فل تزال نصب عينيه‪ ،‬إن قام‪ ،‬وإن قعد‪ ،‬وإن مشى‪ ،‬كلما ذكرها أورثته عجباً‬
‫وكبرا ً ومنة‪ ،‬فتكون سبب هلكه‪.‬‬

‫رواه الترمذي وقال ‪ :‬حديث حسن ‪ .‬ويذهب بنفسه أي‪ :‬يرتفع ويتكبر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه المام أحمد ‪ ،‬وأبو داود عن أبي هريرة ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع ‪ ،‬ح‬ ‫‪2‬‬

‫رقم (‪. )4455‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪18‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فيكون الذنب موجبا لترتيب طاعات‪ ،‬وحسنات‪ ،‬ومعاملت قلبية‪ ،‬من خوف الله‪ ،‬والحياء‬
‫منه‪ ،‬والطراق بين يديه منكسا ً رأسه خجلً‪ ،‬باكياً‪ ،‬نادماً‪ ،‬مستقيل ً ربه‪ ،‬وكل واحد من هذه‬
‫الثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة‪ ،‬وكبرا ً وازدراء بالناس‪ ،‬ورؤيتهم بعين الحتقار‪.‬‬
‫ول ريب أن هذا المذنب خير عند الله‪ ،‬وأقرب إلى النجاة والفوز من المعجب بطاعته‪،‬‬
‫ن بها‪ ،‬وبحاله على الله عز وجل وعباده‪ ،‬وإن قال بلسانه خلف ذلك‪ ،‬فالله‬ ‫الصائل بها‪ ،‬الما ّ‬
‫شهيد عل ما في قلبه‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ ..‬فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به‪ ،‬ويعرفه قدره‪ ،‬ويكفي به عباده‬
‫شره‪ ،‬وينكس به رأسه‪ ،‬ويستخرج منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده‪ .‬فيكون‬
‫هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة‪ ،‬ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء‬
‫العضال (‪.)1‬‬
‫وخلصة القول أن الله عز وجل قد خلقنا بهذا التكوين وما فيه من ضعف وعجز وجهل‬
‫واحتياج ليسهل علينا أداء واجبات العبودية‪ ،‬ويحدث النسجام بين ما هو مركوز في فطرتنا‬
‫وبين ما ينبغي أن نقوم به من تواضع‪ ،‬وتذلل‪ ،‬وانكسار‪ ،‬وتضرع‪ ،‬وحب‪ ،‬وخشية‪ ،‬وهيبة له‬
‫سبحانه‪ ،‬فإذا ما تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية فإنه بذلك يخرج من كنف ربه ورعايته‪،‬‬
‫وتكون له المعيشة الضنك في الدنيا‪ ،‬والعذاب في الخرة‪.‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين ‪ ،‬ص (‪. )170‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪19‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الفصل الثاني‬

‫بين العبادة والعبودية‬


‫ل بديل عن التباع‪.‬‬ ‫•‬

‫بين الشكل والمضمون‪.‬‬ ‫•‬

‫العبادة المؤثرة‪.‬‬ ‫•‬

‫المشاعر أولً‪.‬‬ ‫•‬

‫خطورة الهتمام بالشكل دون‬ ‫•‬

‫المضمون‪.‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪20‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫(‪)1‬‬ ‫بين العبادة والعبودية‬


‫لو تأملنا في معاني العبودية لله عز وجل من ذل وانكسار‪ ،‬وحب وخوف ورجاء‪ ،‬لوجدنا أنها‬
‫عبارة عن مشاعر ووجدانات ولن القلب هو الذي تجتمع فيه مشاعر النسان ووجداناته‬
‫فالعبودية إذن محلها القلب‪ ،‬وبالتالي فإن أكثر الناس عبودية لله عز وجل هو أعظمهم تعبيدا‬
‫لقلبه‪ ،‬وتوجيها ً لمشاعره نحوه سبحانه حتى يصير حبه أحب الشياء إليه‪ ،‬وخشيته أخوف‬
‫الشياء عنده ‪  ...‬وَاّلذِينَ َآمَنُوا أَ َشدّ ُحبّا لِ ّلهِ ‪[ ‬البقرة‪.]1 6 5 :‬‬
‫ومع كون العبودية محلها القلب إل أن آثارها قد تظهر على الجوارح‪ ،‬فالخلص عبادة قلبية‬
‫تظهرها الجوارح على صورة إخفاء العمال‪ ،‬والهرب من مواطن الشهرة‪ ،‬وعدم تزكية‬
‫النفس أو المباهاة بها ‪...‬‬
‫والتواضع عبادة قلبية تظهر آثارها على أفعال صاحبها بخفض الجناح للمؤمنين‪ ،‬والمشي‬
‫على الرض هونا‪ ،‬وعدم الستنكاف من الجلوس مع الفقراء والمساكين ‪...‬‬

‫العبادة والعبودية ‪:‬‬


‫منذ بدء الخليقة وهبوط آدم – عليه السلم – على الرض‪ ،‬وحتى قيام الساعة فإن المطلوب‬
‫من النسان في كل زمان ومكان أن يكون عبدا ً لله عز وجل‪.‬‬
‫خلق جميع البشر من أجل القيام بها فترة وجودهم على الرض وذلك‬ ‫هذه هي الوظيفة التي ُ‬
‫من سن البلوغ حتى نهاية الجل‪  :‬يَا أَيّهَا النّاسُ اعُْبدُوا َربّ ُك ُم الّذِي َخ َلقَ ُكمْ وَالّذِينَ مِنْ قَ ْبلِ ُكمْ َلعَلّ ُكمْ تَّتقُونَ ‪‬‬
‫[البقرة‪.]2 1 :‬‬
‫‪..‬المطلوب من الجميع أن يتجه بمشاعره نحو الله ‪ ...‬أن يحبه ويخافه ويتذلل وينكسر إليه و‬
‫‪...‬‬
‫هذه العبودية المطلوبة من البشر جميعا تحتاج بل شك إلى مظاهر تظهرها‪ ،‬وأعمال‬
‫بالجوارح تُعبر عنها ‪ ...‬من هنا كانت الشرائع السماوية التي تحدد للناس أشكال العمال‬
‫التي ينبغي عليهم أن يقوموا بها إظهارا ً لعبوديتهم لله عز وجل‪.‬‬
‫والملحظ أن الشرائع السماوية مختلفة في بعض أعمالها وهيئاتها إل أنها تشترك جميعها‬
‫في كونها تعبر عن معاني العبودية لله عز وجل‪ ،‬والتي ل ينبغي أن تختلف من شخص لخر‬
‫مهما كان وضعه أو مكانه أو زمانه الذي يحيا فيه‪.‬‬

‫‪ 1‬اتفق العلماء على أن هناك عبادات محلها القلب من حب وخوف ورجاء وتوبة وإخلص ‪ ..‬وعبادات‬
‫محلها الجوارح كالصلة والصيام والذكر والحج‪.‬‬
‫وقد أدرج بعضهم القسمين تحت مسمى العبادة‪ ،‬وإن كانوا قد فرقوا بينهما بعد ذلك فسموها‪ :‬عبادة‬
‫القلب‪ ،‬وعبادة الجوارح‪ ،‬أو أعمال القلب وأعمال الجوارح‪ ،‬والبعض الخر أدرج عبادات القلب تحت‬
‫مسمى (العبودية)‪ ،‬وعبادات الجوارح تحت مسمى (العبادة)‪.‬‬
‫والملحظ أن جوهر التقسيم واحد وإن اختلفت المسميات‪ ،‬ونحن في هذا الكتاب نتبنى الرأي الثاني‪.‬‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪21‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ومن أمثلة اختلف شرائع من قبلنا عن شريعتنا قوله تعالى‪َ  :‬وعَلَى اّلذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا كُلّ ذِي ُظفُرٍ‬
‫َومِنَ الَْبقَرِ وَاْلغََنمِ حَ ّرمْنَا َعلَيْ ِهمْ ُشحُومَهُمَا ِإلّا مَا حَمَ َلتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ اْلحَوَايَا أَوْ مَا اخَْتلَطَ بِ َع ْظمٍ َذلِكَ جَ َزيْنَا ُهمْ بَِبغْيِ ِهمْ َوِإنّا‬
‫لَصَادِقُونَ ‪[ ‬النعام‪.]1 4 6 :‬‬
‫سئل‪ :‬ما كان شريعة أيوب عليه السلم؟‬
‫وأخرج المام أحمد في الزهد أن وهب بن منبه ُ‬
‫قال‪ :‬التوحيد وصلح ذات البين‪ ،‬وإذا أراد أحدهم حاجة إلى الله عز وجل خر ساجدا ثم طلب‬
‫حاجته (‪.. )1‬‬

‫ل بديل عن التباع ‪:‬‬


‫قد يقول قائل‪ :‬ولماذا ل يُترك الناس للتعبير عن عبوديتهم لله عز وجل حسب ما يرون؟‬
‫لو تُرك للناس تحديد العمال التي يظهرون من خللها عبوديتهم لله عز وجل لحدث اختلف‬
‫كبير بينهم‪ ،‬ولتشدد البعض وتسيب البعض الخر‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬قد يرى إنسان أن إظهار المسكنة لله عز وجل يستلزم أن يظل واقفا‬
‫تحت أشعة الشمس فترة طويلة من الوقت‪ ،‬أو أل ينام أو يأكل أو يتزوج‪.‬‬
‫وقد يرى بعض الناس مثل أنه ما دام القلب متجها إلى الله فليس من الضروري القيام‬
‫بأعمال أو طاعات له سبحانه ‪ ، ...‬وهكذا‪.‬‬
‫من هنا تظهر قيمة اللتزام بالعبادات والشرائع التي جاءت بها الرسل والتي شرعها الله عز‬
‫وجل لعباده‪ ،‬وهو أعلم بهم‪ ،‬وبما يناسبهم من أعمال تُعبر عما في قلوبهم تجاهه سبحانه‪.‬‬
‫بل إن من أهم نظاهر العبودية النقياد والستسلم لله عز وجل وطاعة رسوله‪ُ  :‬قلْ ِإنْ كُنُْتمْ‬
‫ُتحِبّونَ ال ّلهَ فَاتّبِعُونِي ُيحْبِبْ ُكمُ ال ّلهُ ‪[ ‬آل عمران‪.]3 1 :‬‬

‫قيمة عبادات الجوارح‪:‬‬


‫إذن فالعبادة التي نؤديها بالجوارح ما هي إل شكل ووعاء يتم من خلله إظهار العبودية لله‬
‫عز وجل من ذل وانكسار وافتقار‪ ،‬وحب وخوف ورجاء‪ ،‬وخضوع واستكانة‪.‬‬
‫فالصلة بالهيئة التي طالبنا الله بها تُظهر التواضع والنكسار والذل والخضوع له سبحانه ‪. . .‬‬
‫تأمل معي هيئة السجود وما فيها من معاني الذل والخضوع ‪ ...‬قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬‬
‫أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ‪ ،‬فأكثروا من الدعاء " (‪.)2‬‬

‫الزهد للمام أحمد ‪ ،‬ص ( ‪ – ) 42‬دار الكتب العلمية – بيروت ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه مسلم ( ‪. ) 50 - 49 : 2‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪22‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫أما الزكاة والصدقة فهي عبادات تُظهر مدى حبنا لله عز وجل ومدى انتصار هذا الحب على‬
‫حب المال الذي تعشقه النفس‪.‬‬
‫والصوم عبادة تُظهر مدى تضحيتنا وحبنا لله عز وجل أكثر من حبنا للطعام والشراب ‪ ..‬أما‬
‫الحج فيظهر مدى استسلمنا‪ ،‬وانقيادنا لمره سبحانه‪.‬‬
‫والذكر كذلك‪ :‬فالتسبيح يعبر عن تعظيم الله وتنزيهه‪ ،‬والستغفار يُعبر عن الشعور بالتقصير‬
‫في جنبه سبحانه‪ ،‬والحوقلة تُظهر الفتقار والمسكنة إليه ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫‪ ...‬فالعبادات إذن ما هي إل منظومة تُظهر معاني العبودية لله عز وجل‪.‬‬
‫ولكي تؤدي هذه العبادات دورها في إظهار العبودية‪ ،‬ل بد من حضور القلب وتفاعله معها ‪..‬‬
‫حضور مشاعر الحب والخوف والرجاء‪ ،‬ليزداد خللها خشوعه وخضوعه لله عز وجل كما‬
‫قال تعالى واصفا عباده الصالحين‪َ  :‬وَيخِرّونَ لِ ْلأَذْقَانِ يَبْكُونَ َويَزِيدُ ُهمْ ُخشُوعًا ‪[ ‬السراء‪.]1 0 9 :‬‬
‫يقول د‪ .‬محمد سعيد رمضان البوطي‪ :‬العبادة هي الوظائف البدنية التي كلف الله عباده بها‪،‬‬
‫من صلة وصيام وحج وغيرها من العبادات‪ .‬أما العبودية فهي الذل الذي يهيمن على كيان‬
‫النسان ومشاعره لخالقه‪ ،‬فيقوده إلى تعظيمه ومهابته‪ ،‬وإلى اللتجاء الدائم إليه بالستغفار‬
‫والدعاء والرجاء‪ ،‬ومن ثم فهو ل يدين بالولء والتعظيم لي كائن غيره‪.‬‬
‫م فإن قيمة العبادة تكمن‬ ‫وعلقة ما بين العبادة والعبودية أن العبادة وعاء للعبودية‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫في القدر الذي تنطوي عليه من معنى العبودية‪ .‬ذلك لن الذي يقرب العبد إلى الله تحققه‬
‫شرعت العبادات وسيلة لذلك (‪.)1‬‬ ‫بمعنى العبودية له‪ ،‬وإنما ُ‬
‫ويقول كذلك‪ :‬ثم اعلم أن للطاعات والقربات المتنوعة التي شرعها الله وأمر بها‪ ،‬ثمرة‬
‫واحدة ل ثانية لها‪ ،‬وهي سر قبول الله لها وإثابته عليها‪ ،‬أل وهي ثمرة الفتقار إلى الله‬
‫والتوجه إليه بذل العبودية والضراعة والنكسار‪.‬‬
‫بل المطلوب من النسان أن يكون في كل أحواله وتقلباته مستشعرا ً حقيقة الفتقار إلى‬
‫شرعت العبادات والطاعات‬ ‫الله متصفا ً بذل العبودية لله‪ ،‬ملتصقا ً بأعتاب جوده وكرمه‪ ،‬وما ُ‬
‫إل لتكون تذكرة لهذا المطلوب‪ ،‬وترسيخا ً لمشاعر العبودية لله والفتقار إليه في نفس‬
‫النسان (‪.)2‬‬

‫بين الشكل والمضمون‪:‬‬


‫من هنا يتبين لنا أن القيمة العظمى للعبادة هي إظهارها لمعاني العبودية لله عز وجل‪ ،‬مع‬
‫الخذ في العتبار أنه ل يجوز ابتداع شكل آخر غير الشكال التي طالبنا الله بها وبينها لنا‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فالطرق إلى الله كلها مسدودة إل الطريق الذي يقف‬
‫عليه محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫وإليك أخي القارئ مثال ً يوضح أهمية الشكل ونسبته في المضمون‪:‬‬

‫شرح الحكم العطائية ( ‪ – ) 3:142‬دار القلم – دمشق ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫شرح الحكم العطائية ( ‪. ) 3:151‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪23‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫عندما يذهب الواحد منا إلى مصلحة كمصلحة الحوال المدنية ليستخرج بطاقة للحوال‬
‫الشخصية أو مستخرجا ً رسميا ً لشهادة الميلد‪ ،‬فإنه يقدم طلبه على نموذج معد لذلك‪،‬‬
‫ويستوفي الشروط المطلوبة لصحة الطلب‪ ،‬ثم يكتب ما يريده بعد ذلك‪.‬‬
‫فإذا قام بتقديم طلبه على ورقة أخرى‪ ،‬غير هذا النموذج‪ ،‬فلن يُلتفت إلى طلبه مهما كتب‬
‫فيه‪.‬‬
‫وإن قدم النموذج المطلوب واستوفى شروطه ولكنه لم يكتب فيه شيئا مما يريد‪ ،‬فسيطرح‬
‫طلبه جانبا ً من قِبل المختصين لنهم لم يعرفوا ماذا يريد‪.‬‬
‫إذن فالنموذج مطلوب‪ ،‬وملؤه بالبيانات كذلك مطلوب‪ ،‬ولبد من الثنين معاً‪.‬‬
‫كذلك العبادة بالجوارح والعبودية بالقلب‪.‬‬
‫فالعبادة مهمة جدا ً كشكل ونموذج طالبنا الله عز وجل أن ندخل عليه من خلله‪.‬‬
‫ولكن إذا اجتهدنا في تحصيل الشكل الظاهري لتلك العبادة‪ ،‬وبالغنا في إتقانه دون أن نمله‬
‫بمعاني العبودية‪ ،‬فقد ضاع تعبنا ‪ ...‬تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم‪ُ" :‬رب صائم ليس‬
‫له من صيامه إل الجوع‪ ،‬وُرب قائم ليس له من قيامه إل السهر" (‪.)1‬‬
‫ولو قمنا بإظهار معاني العبودية لله عز وجل ولكن بشكل مبتدع مخالف للذي ارتضاه لنا‬
‫فلن يُقبل منا‪ ،‬وسيَُرد علينا كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬من أحدث في أمرنا هذا ما‬
‫ليس منه فهو َرد" (‪ ،)2‬فلو أن شخصا اتجه في صلته متعمدا ً لغير القبلة وكانت صلته‬
‫خاشعة متذللة متمسكنة فلن تُقبل منه‪ ،‬وفي المقابل لو صلى في اتجاه القبلة‪ ،‬وأتى بجميع‬
‫حركات الصلة الصحيحة وقلبه غافل لهٍ ساهٍ فما قيمة صلته؟! ألم يقل صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬إن الله ل ينظر إلى أجسادكم‪ ،‬ول صوركم‪ ،‬ولكن ينظر إلى قلوبكم" (‪.)3‬‬
‫يقول ابن القيم‪ :‬ول ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح‪ ،‬من غير حضور ول مراقبة‪ ،‬ول‬
‫إقبال على الله‪ :‬قليل المنفعة‪ ،‬دنيا وأخرى‪ ،‬كثيرة المؤونة ‪ ..‬فهكذا العمل الخارجي‬
‫القشوري بمنزلة النخالة‪ ،‬كثيرة المنظر قليلة الفائدة‪.‬‬
‫ومما يؤكد ضرورة التيان بالشكل الصحيح‪ ،‬وكذلك المضمون قوله صلى الله عليه وسلم‪:‬‬
‫"من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها‬
‫خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلها لغير وقتها ولم يسبغ‬
‫لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ول ركوعها ول سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول‬
‫ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب‬
‫بها وجهه" (‪.)4‬‬

‫سنن ابن ماجه ( ‪ . ) 1680‬قال الشيخ اللباني ‪ ( :‬صحيح ) انظر حديث رقم ( ‪)3488‬‬ ‫‪1‬‬

‫في صحيح الجامع ‪.‬‬


‫صحيح البخاري ( ‪. ) 2499‬‬ ‫‪2‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين ‪ ،‬ص (‪. )153‬‬ ‫‪3‬‬

‫أخرجه الطبراني بإسناد عن أنس بن مالك وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (‪، )1:302‬‬ ‫‪4‬‬

‫وقال اللباني في ضعيف الترغيب والترهيب (‪ : ) 56 : 1‬ضعيف جدا ‪.‬‬


‫موقع اليمان أول‬ ‫‪24‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ويقول المام البنا رحمه الله‪ :‬وعمل القلب مقدم على عمل الجارحة وتحقيق الكمال في‬
‫كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب (‪.)5‬‬

‫النسبة بين الشكل والمضمون‪:‬‬


‫إذا كان الشكل مهما وضروريا للدخول على الله عز وجل إل أن الهم والهم هو مدى‬
‫خلق النسان‪.‬‬‫إظهاره معانى العبودية‪ ،‬والتي من أجلها ُ‬
‫ومما يؤكد ذلك أن الله عز وجل قد بيَّن لنا في كتابه أن المقصود العظم من العبادة هو‬
‫زيادة عبودية القلب له سبحانه‪ ،‬تأمل معي قوله تعالى‪  :‬يَا أَيّهَا النّاسُ اعُْبدُوا َربّ ُك ُم الّذِي َخ َلقَ ُكمْ‬
‫وَاّلذِينَ مِنْ قَ ْبلِ ُكمْ لَعَلّ ُكمْ تَتّقُونَ ‪[ ‬البقرة‪ ،]2 1 :‬وقوله‪ :‬لَنْ يَنَالَ ال ّلهَ ُلحُومُهَا َولَا ِدمَاؤُهَا َولَكِنْ يَنَاُلهُ الّتقْوَى مِنْ ُكمْ‪‬‬
‫[الج‪.]3 7 :‬‬
‫فإراقة الدماء في الحج ليست غاية في حد ذاتها بل هي شكل يُعبر عن التقوى ‪ ...‬فما قيمة‬
‫إراقتها دون أن يصاحبها زيادة في التقوى؟!‬
‫ُ‬
‫وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال‪ :‬إنما الصلة تَمسكن وتواضع وتضرع وتَأوُه‬
‫وتنادُم وتضع يديك فتقول‪ :‬اللهم اللهم‪ .‬فمن لم يفعل فهي خداج" (‪.)2‬‬
‫لبد إذن من أن يوضع الشكل ‪ -‬مع أهميته القصوى – في حجمه الصحيح‪ ،‬فوظيفته‬
‫الساسية إظهار العبودية وزيادتها في قلب العبد‪..‬‬
‫ش ِرقِ وَالْمَغْ ِربِ‬
‫فإن كنت في شك من هذا فتدبر معي قوله تعالى‪ :‬لَ ْيسَ الْبِرّ أَنْ تُ َولّوا وُجُوهَ ُكمْ قِبَلَ الْمَ ْ‬
‫َولَ ِك ّن الْبِرّ مَنْ َآمَنَ بِال ّلهِ وَالْيَ ْومِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِ َكةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّيَ وَ َآتَى الْمَالَ عَلَى ُحّبهِ ذَوِي الْقُ ْربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِيَ‬
‫وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِ ِليَ وَفِي الرّقَابِ َوأَقَامَ الصّلَاةَ وَ َآتَى ال ّزكَاةَ وَالْمُوفُونَ ِبعَ ْهدِ ِهمْ إِذَا عَا َهدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الَْبأْسَاءِ‬
‫صدَقُوا َوأُولَئِكَ ُهمُ الْمُّتقُونَ‪[ ‬البقرة‪.]1 7 7 :‬‬
‫ي الَْبأْسِ أُولَِئكَ اّلذِينَ َ‬
‫وَالضّرّاءِ وَ ِح َ‬
‫فهذه الية الجامعة قد نزلت بعد تحويل القبلة تجاه الكعبة‪ ،‬وما صاحب ذلك من جدل طويل‬
‫من اليهود وغيرهم‪ ..‬نزلت هذه الية لتضع المر في حجمه الصحيح عند المسلم‪ ،‬وأن‬
‫المقصد الهم من العبادات هو اليمان الذي يزيد في القلب فينعكس أثره على العمال‪.‬‬
‫ولصاحب الظلل تعليق على هذه الية فيقول ‪ -‬رحمه الله‪ :-‬إنه ليس المقصد من تحويل‬
‫القبلة‪ ،‬ول من شعائر العبادة على الطلق‪ ،‬أن يولي الناس وجوههم قِبل المشرق والمغرب‬
‫‪ ..‬نحو بيت المقدس أو نحو البيت الحرام ‪ ..‬وليست غاية البر – وهو الخير جملة – هي تلك‬
‫الشعائر الظاهرة‪ ،‬فهي في ذاتها ‪ -‬مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة‬
‫من السلوك – ل تحقق البر‪ ،‬ول تُنشئ الخير ‪ ..‬إنما البر تصور وشعور‪ ،‬وأعمال وسلوك‪،‬‬
‫رسالة التعاليم ‪ ،‬من مجموعة رسائل المام الشهيد حسن البنا – دار التوزيع والنشر‬ ‫‪5‬‬

‫السلمية ‪.‬‬

‫أخرجه الترمذي والنسائي بنحوه من حديث الفضل بن عباس بإسناد مضطرب ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وخداج أي ناقصة ‪.‬‬


‫موقع اليمان أول‬ ‫‪25‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة‪ ،‬وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة‪.‬‬
‫ول يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قِبَل المشرق والمغرب ‪ ..‬سواء في التوجيه‬
‫إلى القبلة هذه أم تلك‪ ،‬أو في التسليم في الصلة يمينا ً وشمالً‪ ،‬أو في سائر الظاهرة التي‬
‫يزاولها الناس في الشعائر(‪.)1‬‬

‫العبادة المؤثرة ‪:‬‬


‫مما ل شك فيه أن قيام الجوارح بالعبادة مع حضور القلب وتحركه معها له أثر كبير في‬
‫زيادة اليمان والعبودية في القلب‪ ،‬وفي المقابل فإن تحرك الجوارح بالعبادة دون تحريك‬
‫القلب قليل النفع‪ ،‬ضعيف الثر‪ ،‬فالرجلن قد يكون مقامهما في صف الصلة واحدا ً ولكن‬
‫بين صلتهما كما بين السماء والرض‪ ،‬وليس ذلك لتفاوتهما في حركات الجوارح‪ ،‬ولكن‬
‫لتفاوت ما في قلبيهما من الخشوع والذل والنكسار لله عز وجل‪.‬‬
‫معنى ذلك أن مجرد الكثار من العبادة بالجوارح ليس دليل على قرب صاحبه من الله ‪ ،‬بل‬
‫دليل القرب هو مقدار العبودية في القلب والتي ل يعلم مقدارها إل الله عز وجل ‪ ‬إِنّ َأكْ َرمَ ُكمْ‬
‫ِع ْندَ ال ّلهِ َأتْقَا ُكمْ ‪[ ‬الجرات‪. ]1 3 :‬‬
‫والدليل على ذلك الثلثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يسألون‬
‫ُ‬
‫عن عبادته صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فلما أُخبروا بها كأنهم تقال ّوها(أي عدُّوها قليلة)‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ .‬قال‬
‫أحدهم‪ :‬أما أنا فأصلي الليل أبداً‪ ،‬وقال الخر‪ :‬وأنا أصوم الدهر ول أُفطر‪ ،‬وقال الخر‪ :‬وأنا‬
‫أعتزل النساء فل أتزوج أبداً‪ ،‬فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬أنتم الذين قلتم‬
‫كذا وكذا؟ أما والله إني لخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلي وأرقد‪ ،‬وأتزوج‬
‫النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني"(‪.)2‬‬
‫هنا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي الليل أو يصوم الدهر كله‪ ،‬ومع‬
‫ذلك كان أكثر الخلق خشية وتقوى لله عز وجل‪ ،‬بالرغم من وجود من يصلي الليل ويصوم‬
‫الدهر كله‪.‬‬
‫وقس على ذلك ما وُصف به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأنه"ما سبقكم أبو بكر بكثرة‬
‫صلة ول صيام‪ ،‬ولكن بشيء وقر في صدره"(‪.)3‬‬
‫وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال‪ :‬متى‬
‫الساعة يا رسول الله؟ قال‪" :‬وما أعددت لها؟" قال‪ :‬ما أعددت لها من كبير صلة ول صيام‬

‫في ظلل القرآن لسيد قطب ( ‪ - ) 159 :1‬دار الشروق – القاهرة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫صحيح البخاري ( ‪. ) 4675‬‬ ‫‪2‬‬

‫المحجة في سير الدلجة لبن رجب ‪ ،‬ص (‪ – )53‬دار البشائر – بيروت ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪26‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ول صدقة‪ ،‬ولكني أحب الله ورسوله‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬أنت مع من‬
‫أحببت"‪.‬‬
‫قال أنس‪ :‬ففرحنا يومئذ فرحا ً شديداً‪.‬‬
‫ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام‬
‫ما كانوا أكثر الناس صلة ول صياما ً ول اعتماراً‪ ،‬ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه‪ ،‬فوجلت‬
‫قلوبهم واطمأنت إليه النفوس‪ ،‬وخشعت منه الجوارح‪ ،‬ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة‬
‫وبحسن الدرجة عند الناس‪ ،‬وعند الله في الخرة"(‪.)1‬‬
‫والمتأمل في كتب السير والتراجم يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا أكثر صلة‬
‫وصياما ممن جاءوا من بعدهم ولم يؤثر عن أحدهم أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء كذا‬
‫وكذا سنة‪ ،‬بل كانوا ينامون ويستيقظون بالليل ‪ ..‬يصومون ويفطرون ‪ ..‬يضحكون ويبكون ‪..‬‬
‫ومع ذلك كانوا أكثر الخلق بعد النبياء قربا ً من الله عز وجل وعبودية له بقلوبهم‪.‬‬
‫يقول ابن مسعود مخاطبا ً نفرا ً من التابعين‪ :‬أنتم أكثر صلة من أصحاب محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وهم كانوا خيرا ً منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬وبم ذلك؟ قال‪ :‬كانوا أزهد منكم في الدنيا‪ ،‬وأرغب‬
‫في الخرة(‪.)2‬‬

‫أين الثر ؟‬
‫ومع قيمة العبادة العظمى في كونها تظهر معاني العبودية لله عز وجل من ذل وافتقار‬
‫وانكسار وخضوع واستسلم‪ ،‬إل أن لها دورا ً خطيرا ً كذلك في تحسين السلوك‪ ،‬والستقامة‬
‫على أمر الله‪ ،‬وذلك من خلل زيادة اليمان التي تصاحب تحرك القلب وتجاوب المشاعر مع‬
‫تلك العبادة ليقوم اليمان بدوره في دفع المرء للقيام بالعمال الصالحة ‪َ :‬ذِلكَ َومَنْ ُي َعظّمْ َشعَائِرَ‬
‫ال ّلهِ َفِإنّهَا مِنْ َتقْوَى اْلقُلُوبِ ‪[ ‬الج‪.]3 2 :‬‬
‫فأسرع الناس إلى فعل الخيرات هم أكثر الناس إيمانا ً وخشية وتعبيدا ً لمشاعرهم وقلوبهم‬
‫ش ِفقُونَ ( ‪ )5 7‬وَالّذِينَ ُهمْ بِ َآيَاتِ َربّ ِهمْ يُ ْؤمِنُونَ ( ‪ )5 8‬وَاّلذِينَ ُهمْ‬
‫لله عز وجل‪  :‬إِ ّن اّلذِينَ ُهمْ مِنْ خَشَْيةِ َربّ ِهمْ مُ ْ‬
‫بِ َربّ ِهمْ لَا يُشْ ِركُونَ ( ‪ )5 9‬وَالّذِينَ يُ ْؤتُونَ مَا َآتَوْا وَ ُقلُوبُ ُهمْ َوجِ َلةٌ َأنّ ُهمْ إِلَى َربّ ِهمْ رَا ِجعُونَ ( ‪ )6 0‬أُولَئِكَ يُسَا ِرعُونَ فِي‬
‫الْخَيْرَاتِ وَ ُهمْ لَهَا سَابِقُونَ ‪[ ‬الؤمنون‪.]6 1 -5 7 :‬‬
‫إذن فلبد أن يظهر أثر العبادة في السلوك‪ ،‬فعلى سبيل المثال ‪ِ:‬إنّ الصّلَاةَ تَنْهَى عَ ِن اْلفَحْشَاءِ‬
‫وَالْمُنْكَرِ‪[ ‬العنكبوت‪.]4 5 :‬‬
‫فإن لم تفعل الصلة ذلك فإن هذا يعني عدم زيادتها لليمان‪ ،‬وعدم إظهارها لمعاني‬
‫م فقد فقدت روحها والمقصد العظم منها‪ ،‬فالخشوع روح الصلة‪.‬‬ ‫العبودية‪ ،‬ومن ث َ َّ‬

‫رواه ابن السني وابن شاهين والديلمي عن علي ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫حياة الصحابة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪27‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫المشاعر أول ً ‪:‬‬


‫من هنا تتضح لنا أهمية العبودية وتمكن اليمان من القلب لتأتي العبادة فتعبر عنه‪ ،‬وتزيده‬
‫م انعكاسا ً على السلوك‪ ،‬ومما يؤكد هذا المعنى أن التربية الربانية‬ ‫رسوخا ً في القلب ومن ث َ َّ‬
‫للجيل الول كانت تركز على العبودية وزيادة اليمان في القلب أول ً قبل تشريع العبادة‪،‬‬
‫فكما قيل بأن السلم بدأ مشاعر ثم شعائر ثم شرائع‪.‬‬
‫إنه لمر عجيب أن تُفرض الصلة في رحلة السراء والمعراج‪ ،‬ويفرض الصيام وسائر‬
‫التشريعات في المدينة بعد سنوات من البعثة ‪ ..‬فما كان الذي يفعله المسلمون الوائل في‬
‫مكة إذن؟‬
‫ماذا كان يفعل الواحد منهم عندما يستيقظ من نومه ولم يكن عليه ساعتها تكاليف يؤديها أو‬
‫محظورات يجتنبها؟!‬
‫نعم‪ ،‬كان هذا هو الواقع الذي عاشه المسلمون الوائل ‪ ..‬ومع عدم وجود تكاليف إل أنه كان‬
‫يتم في هذه الفترة أخطر مرحلة من مراحل بناء الفرد المسلم‪ ،‬وهي مرحلة تأسيس‬
‫القاعدة اليمانية‪ ،‬وارتداء رداء العبودية لله عز وجل ‪ ..‬مرحلة تعبيد المشاعر له سبحانه‪،‬‬
‫لتأتي الشعائر بعد ذلك فتُحسن التعبير عن هذه المشاعر‪.‬‬
‫تقول السيدة عائشة رضي الله عنها‪ :‬أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل‪ ،‬فيها ذكر‬
‫الجنة والنار‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى السلم نزل الحلل والحرام‪ ،‬ولو نزل أول المر‪ :‬ل‬
‫تزنوا لقالوا‪ :‬ل ندع الزنا أبداً‪ ،‬ولو نزل أول المر ل تشربوا الخمر لقالوا‪ :‬ل نترك الخمر أبدا‬
‫‪ ..‬أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب ‪ ‬بَلِ السّا َعةُ مَوْ ِعدُ ُهمْ وَالسّاعَةُ أَدْهَى َوَأمَرّ ‪‬‬
‫[القمر‪ ،]4 6 :‬وهي من سورة القمر‪ ،‬وما نزلت البقرة والنساء إل وأنا عنده في المدينة(‪.)1‬‬
‫ويؤكد على هذا المعنى جندب بن عبد الله ‪ -‬رضي الله عنه – بقوله‪ :‬كنا مع النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم فتيان حزاير(‪ ،)2‬فتعلمنا اليمان قبل القرآن‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا(‪.)3‬‬
‫وليس معنى هذا أن نترك العبادة‪ ،‬أو نقول‪ :‬لبد أن نفعل مثل ما فُعل مع الصحابة‪ ،‬فلقد‬
‫اكتمل التشريع كما قال تعالي‪  :‬الْيَ ْومَ أَكْ َملْتُ لَ ُكمْ دِينَ ُكمْ َوَأتْمَمْتُ عَ َليْ ُكمْ ِنعْمَتِي وَ َرضِيتُ لَ ُكمُ اْلإِسْلَامَ دِينًا ‪‬‬
‫[الائدة‪.]3 :‬‬
‫فنحن مطالبون بأداء كل ما افترضه الله علينا‪ ،‬ومع ذلك فلبد من التركيز على القلب‬
‫وزيادة اليمان والعبودية لله فيه‪ ،‬وأن نعطي هذا القدر الكافي من الهتمام‪ ،‬وبخاصة في‬
‫بداية تكوين الفرد المسلم‪ ،‬لتصبح العبادة مؤثرة تُزيد العبودية في القلب‪ ،‬ومن ثَم تُقرب‬
‫صاحبها إلى الله أكثر وأكثر‪.‬‬

‫صحيح البخاري ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫جمع حزير ‪ ،‬وهو الشاب الممتلئ نشاطا وقوة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫رواه ابن ماجه بسند صحيح ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪28‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫تربية البناء على العبودية‪:‬‬


‫ولعلنا من ذلك نستخلص طريقة تربوية في تربية أبنائنا على العبودية لله عز وجل قبل سن‬
‫التكليف‪ ،‬فمع تحبيبهم والعمل على تعويدهم على أداء العبادات إل أن الجهد الكبر ينبغي أن‬
‫ينصب على تعريفهم بالله عز وجل‪ ،‬وتعظيم قدره في نفوسهم‪ ،‬وتعريفهم بأنفسهم‪ ،‬وأنهم‬
‫ل شيء بدون ربهم ‪ ..‬انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجه عبد الله بن‬
‫عباس رضي الله عنهما لذلك بقوله‪" :‬يا غلم إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك‪ ،‬احفظ‬
‫الله تجده تجاهك‪ .‬إذا سألت فاسأل الله‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن بالله‪ ،‬واعلم أن المة لو‬
‫اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه الله لك‪ ،‬ولو اجتمعوا على أن‬
‫يضروك بشيء لم يضروك إل بشيء قد كتبه الله عليك‪ُ ،‬رفِعت القلم‪ ،‬وجفت الصحف"(‪.)1‬‬

‫اقتران العبادة والعبودية‪:‬‬


‫إن الطاعات التي فرضها الله علينا كلها أنوار‪ ،‬ووسائل يتقرب من خللها العبد إلى الله عز‬
‫وجل قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬الصلة نور‪ ،‬والصدقة برهان‪ ،‬والصبر ضياء"(‪ .)2‬ول يمكن‬
‫أن يتقرب العبد إلى ربه إل من خللها‪ ،‬فهي تعد بمثابة المركبات التي تتحرك بمن يركبها‬
‫فتقربه إلى موله ‪ ..‬هذه المركبات تحتاج إلى وقود يُحركها ويدفعها للمام وإل لما تحركت ‪..‬‬
‫وهنا يأتي الدور العظيم لمعاني العبودية والتي تُعد بمثابة الوقود لهذه المركبات‪.‬‬
‫فالدعاء على سبيل المثال وسيلة وطاعة يتقرب بها العبد إلى ربه كما قال صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬الدعاء هو العبادة"(‪.)3‬‬
‫هذا الدعاء يحتاج إلى تضرع وحضور قلب حتى يتقبله الله عز وجل كما طالبنا سبحانه‬
‫وتعالى بذلك‪  :‬ادْعُوا َربّ ُكمْ تَضَرّعًا وَ ُخفَْيةً ‪[ ‬العراف‪.]5 5 :‬‬
‫وإذا غاب الوقود توقفت المركبة بصاحبها‪ ،‬فظل مكانه كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪" :‬وأعلموا أن الله ل يقبل الدعاء من قلب غافل له"(‪.)4‬‬
‫فلبد إذن من الثنين معا‪ :‬المركبة والوقود ‪..‬الشكل والمضمون ‪ ..‬العبادة والعبودية‪ ،‬وكلما‬
‫جدْ وَاقْتَ ِربْ ‪[ ‬العلق‪ ..]1 9 :‬والحديث‬
‫اقترن الثنان معا ً ازداد القرب من الله عز وجل‪ :‬وَا ْس ُ‬
‫القدسي الذي يجمع كل ذلك‪ :‬إنما أتقبل الصلة ممن تواضع بها لعظمتي‪ ،‬ولم يستطل بها‬

‫صحيح ‪ ،‬سنن الترمذي (‪. ) 2440‬‬ ‫‪1‬‬

‫صحيح مسلم (‪. )328‬‬ ‫‪2‬‬

‫رواه الترمذي ( ‪ ، ) 3369‬وأبو داود (‪ ، )1449‬وصححه ابن حبان (‪. )2396‬‬ ‫‪3‬‬

‫رواه الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهما مرفوعا ‪ ،‬وأورده اللباني في السلسلة‬ ‫‪4‬‬

‫الصحيحة (‪. )594‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪29‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫على خلقي‪ ،‬ولم يبُت مصرا ًً على معصيتي‪ ،‬وقطع نهاره في ذكري‪ ،‬ورحم المسكين وابن‬
‫السبيل‪ ،‬والرملة والمصاب ‪.)1("..‬‬

‫خطورة الهتمام بالشكل دون المضمون‪:‬‬


‫مما يدعو للسف أن كثيرا ً من المسلمين قد أصبح اهتمامه بالشكل دون المضمون ‪ ..‬يهتم‬
‫ويجتهد ويبالغ ويدقق في دقائق الشكل‪ ،‬ول يفكر في المضمون بنفس الطريقة‪ ،‬بل قد ل‬
‫ضل العلم لنه وسيلة عظيمة لمعرفة‬ ‫يفكر فيه أساسا ‪ ..‬فعلى سبيل المثال‪ :‬العلم‪ ،‬فلقد فُ ِّ‬
‫الله وخشيته وتقواه‪َ  :‬ولَِيعْ َلمَ اّلذِينَ أُوتُوا اْلعِ ْلمَ أَّن ُه الْحَقّ مِنْ َربّكَ َفيُ ْؤمِنُوا بِهِ فَُتخْبِتَ لَهُ ُقلُوبُ ُهمْ ‪[ ‬الج‪،]5 4 :‬‬
‫وإذا لم يُثمر ذلك فهذا هو العلم الذي تعوذ َّ منه النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقد كان يقول‪:‬‬
‫"اللهم إني أعوذ بك من علم ل ينفع‪ ،‬ومن قلب ل يخشع‪ ،‬ومن نفس ل تشبع‪ ،‬ومن دعوة ل‬
‫يستجاب لها"(‪.)2‬‬
‫وقديما ً حذر المام ابن الجوزي من النشغال بصورة العلم دون فهم مقصوده‪ ،‬فقال‪ :‬رأيت‬
‫أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم‪ ،‬دون فهم حقيقته ومقصوده‪.‬‬
‫فالقارئ مشغول بالروايات‪ ،‬عاكف على الشواذ‪ ،‬يرى أن المقصود نفس التلوة‪ ،‬ول يتلمح‬
‫عظمة المتكلم‪ ،‬ول زجر القرآن ووعده ‪ ..‬وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه‪ ،‬فتراه‬
‫يترخص في الذنوب‪ ،‬ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ(‪.)3‬‬

‫زخرفة المساجد ‪:‬‬


‫والمثال الخر يدل على الهتمام بالشكل دون المضمون‪ :‬هيئة المساجد‪ :‬فالمساجد هي‬
‫م فينبغي لمن يدخلها من العباد ويصلي فيها لله أن يُظهر استكانته‪،‬‬‫من ث َ َّ‬
‫بيوت الله‪ ،‬و ِ‬
‫وخضوعه وذله لصاحب البيت الذي هو ربه وولي نعمته‪.‬‬
‫هذه الحالة ينبغي أن تنسجم معها هيئة تلك المساجد‪ ،‬لكن الحادث غير ذلك‪ ،‬فقد بالغ الناس‬
‫في زخرفتها‪ ،‬وفرشها‪ ،‬وإضاءتها وتزيينها‪ ،‬يقول أبو الدرداء‪ :‬إذا حليتم مصاحفكم‪ ،‬وزوقتم‬
‫مساجدكم فالدمار عليكم(‪.)4‬‬
‫فزخرفة المساجد تعكس انشغال الناس عن حقيقة العبودية واهتمامهم بالشكل دون‬
‫المضمون‪ ،‬مما يعرضهم إلى مقت الله عز وجل‪ ،‬وما يؤكد هذا المعنى ما رواه المام أحمد‬
‫في الزهد عن أبي حصين قال‪ :‬كان يقال‪ :‬إذا ساء عمل أمة زينوا مساجدهم(‪.)5‬‬

‫رواه البزار ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه مسلم ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫صيد الخاطر لبن الجوزي ‪ ،‬ص (‪. )552‬‬ ‫‪3‬‬

‫فضائل القرآن للفرياني ‪ ،‬ص (‪ – )248‬مكتبة الرشد ‪ -‬الرياض‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الزهد للمام أحمد ‪ ،‬ص (‪.)86‬‬ ‫‪5‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪30‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فتزيين المساجد عمل سهل يقدر عليه الجميع‪ ،‬ويظنون من خلله أنهم يخدمون الدين‬
‫ويؤدون حقه عليهم‪ ،‬ومن ثَم فل عليهم بعد ذلك شيء مما يقصرون فيه‪.‬‬
‫يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله‪ :‬إن مكانة المسجد في المجتمع السلمي‪ ،‬تجعله‬
‫مصدر التوجيه الروحي والمادي‪ ،‬فهو ساحة للعبادة‪ ،‬ومدرسة للعلم‪ ،‬وندوة للدب‪ ،‬لكن‬
‫الناس لما أعياهم بناء النفوس على الخلق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد‬
‫السامقة التي تضم مصلين أقزاما!!!‬
‫أما السلف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية النفوس‬
‫وتقويمها‪ ،‬فكانوا أمثلة صحيحة للسلم(‪.)1‬‬

‫فقه السيرة لمحمد الغزالي ‪ ،‬ص (‪ )178‬بتصرف يسير – دار القلم – دمشق ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪31‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الفصل الثالث‬

‫الطريق إلى تحقيق العبودية‬


‫لماذا ل تتجه القلوب إلى الله‪.‬‬ ‫•‬

‫•أهمية المعرفة‪.‬‬
‫الكتفاء بالله‪.‬‬ ‫•‬

‫المعرفة المؤثرة‪.‬‬ ‫•‬

‫مجالت استخدام العقل‪.‬‬ ‫•‬

‫دليل المعرفة‪.‬‬ ‫•‬

‫الطريق إلى تحقيق العبودية‬


‫كان الحديث في الصفحات السابقة عن حقيقة العبودية وأنها تعني ذل العبد وانكساره لربه‪،‬‬
‫وارتباط حياته به‪ ،‬وافتقاره التام إليه‪ ،‬مع حبه وخشيته ودوام النابة والستعانة به ‪..‬‬

‫ولو دققنا النظر في هذه المعاني لوجدنا أنها عبارة عن معاملة ينبغي أن يتعامل بها المرء‬
‫مع الله عز وجل‪ ،‬بمعنى أنه يجب على العبد أن يعامل ربه بحب واشتياق‪ ،‬وأن يعامله بصدق‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪32‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وإخلص‪ ،‬وأن يتعامل معه وهو يرهبه ويخشاه‪ ،‬وأن يعامله وهو يطمع فيما عنده‪ ،‬وأن يتعامل‬
‫معه بتذلل وانكسار‪ ،‬وأن يتعامل معه كذلك وهو يستشعر افتقاره‪ ،‬وعظيم احتياجه إليه‪..‬‬
‫هذه المعاملت ل يمكن أن تتم بصورة تلقائية إل إذا انطلقت المشاعر‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪:‬‬
‫ل يمكن لشخص أن يحب شخصا ً آخر لمجرد أنه أُمر بذلك‪ ،‬فلغة القلوب ل يمكن تكلفها‪.‬‬

‫‪ ...‬فالقلوب بصفة عامة تحب من يحسن إليها ويكرمها‪ ،‬ويحرص عليها‪ ،‬ويرأف بها‪.‬‬

‫‪ ...‬والقلوب تخاف ممن تتأكد أنه يملك عقابها وحرمانها مما تحب‪.‬‬

‫‪ ...‬والقلوب تفتقر وتتجه إلى من يملك احتياحها وما تريد‪.‬‬

‫‪ ...‬والقلوب تطمئن وتسكن لمن تشعر بالحماية والمن في جواره‪.‬‬

‫‪ ...‬والقلوب تستعين بمن تراه قادرا ً على أن يفعل ما تريد ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬

‫لماذا ل تتجه القلوب إلى الله؟‬


‫فإن كان المر كذلك فلماذا ل تتجه القلوب إلى الله وتتعامل معه بما هو أهله مع أنه سبحانه‬
‫وتعالى يحسن إليها ويكرمها‪ ،‬ويملك احتياجاتها كلها‪ ،‬وهو القادر على فعل أي شيء‪،‬‬
‫ويستطيع عقابها وحرمانها مما تحبه؟‪..‬‬

‫لماذا تتجه القلوب إلى بعض المخلوقين بالتعظيم والتوقير ول تتجه إلى الخالق العظيم ذي‬
‫الجلل والكرام؟‬
‫السبب وراء ذلك هو الجهل به سبحانه‪ ،‬وبمقامه الجليل‪ ،‬وبقدره العظيم‪ ،‬والجهل كذلك‬
‫بالطريقة التي يتعامل بها معنا من ود‪ ،‬وحب‪ ،‬وشفقة‪ ..‬تأمل معي هذه الية التي تجيب عن‬
‫هذه السئلة‪َ  :‬لأَنُْتمْ أَ َشدّ رَهَْبةً فِي ُ‬
‫صدُو ِر ِهمْ مِنَ ال ّلهِ َذِلكَ ِبأَنّ ُهمْ قَ ْومٌ لَا َيفْقَهُونَ ‪[ ‬الشر‪ ،]1 3 :‬فعدم معرفة‬
‫هؤلء بالله جعلتهم يرهبون البشر أكثر من رهبتهم لله‪.‬‬

‫يقول صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجله الرض‬
‫وعنقه مثنية تحت العرش‪ ،‬وهو يقول‪ :‬سبحانك ما أعظمك‪ ،‬فيرد عليه‪ :‬ل يعلم ذلك من‬
‫حلف بي كاذبا"(‪.)1‬‬

‫المعاملة على قدر المعرفة‪:‬‬


‫‪ 1‬صحيح ‪ ،‬أخرجه الحاكم والطبراني في الوسط ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع الصغير (‬
‫‪. ) 1714‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪33‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫‪ ..‬تخيل أنك ذهبت للسوق ودخلت دكانا من الدكاكين وقابلت فيه رجل ً يتسوق مثلما‬
‫تتسوق‪ ،‬ودار بينكما حديث ومن خلله عرفت أن هذا الرجل يعمل وزيرا ً في حكومة بلدك‪،‬‬
‫هل ستسمر بالحديث معه بنفس الطريقة التي بدأت بها أم ستتغير ليكسوها الحترام‬
‫والحذر؟!‪ ..‬بل شك أن معرفتك به ستدفعك إلى تغيير معاملتك له‪..‬‬
‫فطريقة المعاملة تحددها درجة المعرفة‪ ،‬وكلما ازدادت المعرفة تغيرت المعاملة‪ ،‬وهذا ما‬
‫حدث مع سيدنا موسى – عليه السلم – عندما رأى آثار جلل الله على الجبل الذي اندك‬
‫فخر ‪ -‬عليه السلم – صعقا ً فلما أفاق ماذا قال لربه؟!‬
‫‪ ‬فَ َلمّا أَفَاقَ قَالَ سُ ْبحَاَنكَ تُبْتُ ِإلَ ْيكَ َوأَنَا أَوّلُ الْمُ ْؤمِنِيَ ‪[ ‬العراف‪ ،]1 4 3 :‬فإن كان هذا قوله عند رؤية أثر‬
‫جلل الله على الجبل‪ ،‬فكيف لو رأي الله؟!‬

‫لمعرفة الجابة عن هذا السؤال لنقرأ ونتأمل في هذا الحديث الشريف‪:‬‬

‫في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن الله ملئكة يطوفون‬
‫في الطرق يلتمسون أهل الذكر‪ ،‬فإذا وجدوا قوما ً يذكرون الله عز وجل تنادوا‪ :‬هلموا إلى‬
‫حاجتكم‪ ،‬فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء‪ ،‬قال‪ :‬فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم‪ :‬ما يقول‬
‫عبادي؟ قال‪ :‬يقولون‪ :‬يسبحونك‪ ،‬ويكبرونك‪ ،‬ويحمدونك‪ ،‬ويمجدونك‪ ،‬فيقول‪ :‬هل رأوني؟‬
‫فيقولون‪ :‬ل والله ما رأوك‪ ،‬فيقول‪ :‬كيف لو رأوني؟ قال‪ :‬يقولون‪ :‬لو رأوك كانوا أشد لك‬
‫عبادة‪ ،...‬وأشد لك تمجيداً‪ ،‬وتحميداً‪ ،‬وأكثر لك تسبيحاً‪ "...‬الحديث‪.‬‬

‫أهمية المعرفة‪:‬‬
‫إذن فالسبب الرئيسي لعدم معاملة الله عز وجل بما هو أهله‪ :‬عدم معرفته معرفة صحيحة‪:‬‬
‫َ‬
‫حقَّ قَدْرِهِ‪[ ‬النعام‪ ،]91:‬وهذا ما أنكره نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على قومه عندما‬ ‫ه َ‬ ‫ما قَدَُروا الل ّ َ‬ ‫‪‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ن لِل ّهِ وَقَاًرا‪[ ‬نوح‪ ،]13:‬ثم بدأ في تعريفهم بربهم لعل قلوبهم تتجه‬ ‫م َل تَْر ُ‬
‫جو َ‬ ‫ما لَك ُ ْ‬ ‫قال لهم‪َ  :‬‬
‫إليه‪َ  :‬و َقدْ َخ َلقَ ُكمْ َأطْوَارًا ( ‪َ )1 4‬أَلمْ تَرَوْا كَيْفَ خَ َلقَ ال ّلهُ سَ ْبعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ( ‪ )1 5‬وَ َج َع َل الْقَمَرَ فِي ِهنّ نُورًا وَ َجعَلَ‬
‫الشّ ْمسَ ِسرَاجًا ( ‪ )1 6‬وَال ّلهُ أَنْبَتَ ُكمْ مِ َن الْأَ ْرضِ نَبَاتًا ( ‪ُ )1 7‬ثمّ يُعِي ُد ُكمْ فِيهَا َويُخْرِ ُج ُكمْ إِخْرَاجًا ( ‪ )1 8‬وَال ّلهُ َجعَلَ لَ ُكمُ‬
‫سلُكُوا مِنْهَا سُُبلًا ِفجَاجًا‪[ ‬نوح‪.]2 0 -1 4 :‬‬
‫الْأَ ْرضَ بِسَاطًا ( ‪ )1 9‬لِتَ ْ‬

‫معنى ذلك أن نقطة البداية في طريق العبودية والسير إلى الله هي معرفته سبحانه‪ ،‬وكلما‬
‫قويت تلك المعرفة‪ ،‬ازدادت العبودية أكثر وأكثر‪ ،‬وهذا ما يؤكده قوله تعالى‪ :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ‬
‫السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ لِأُولِي اْلأَلْبَابِ ( ‪ )1 9 0‬اّلذِينَ َيذْكُرُونَ ال ّلهَ ِقيَامًا َو ُقعُودًا وَ َعلَى‬
‫ب النّارِ‪[ ‬آل عمران‪،1 9 0 :‬‬
‫جُنُوبِ ِهمْ َويََتفَكّرُونَ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َربّنَا مَا َخ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ‬
‫‪.]1 9 1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪34‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فهؤلء الصالحون الذين ذكرتهم اليات‪ ،‬عندما تفكروا في خلق الله‪ ،‬ازدادت معرفتهم به‬
‫ومن ثَم َ انعكس ذلك على تعاملهم معه بمزيد من التنزيه والخشية‪  :‬سُ ْبحَانَكَ َفقِنَا َعذَابَ النّارِ ‪‬‬
‫[آل عمران‪ .]1 9 1 :‬يقول ابن رجب‪ :‬وكلما قويت معرفة العبد لله قويت محبته له‪ ،‬ومحبته‬
‫لطاعته‪ ،‬وحصلت له لذة العبادات من الذكر وغيره على قدر ذلك(‪.)1‬‬

‫غاية المعرفة‪:‬‬
‫وغاية معرفة الله عز وجل في الدنيا هي الوصول إلى أن نتعامل معه ‪ -‬سبحانه – ونعبده‬
‫كأننا نراه‪ ،‬فنناجيه من قريب‪ ،‬ونتحدث معه كأننا نشاهده‪...‬‬

‫‪...‬أن نستشعر دوما قربه منا‪ ،‬فنأنس به ونكثر من مناجاته‪ ،‬ونتخذه صاحبا ً ورفيقا ً في الحل‬
‫والترحال‪.‬‬
‫‪..‬أن نجده دائما ً وراء كل حدث من أحداث حياتنا‪ ،‬ونربط أمورنا كلها به‪ ،‬مثل ما قال يوسف‬
‫– عليه السلم – لبويه وهو يخبرهم عما حدث له‪ :‬وَقَالَ يَا َأبَتِ َهذَا َتأْوِيلُ رُ ْؤيَايَ مِنْ قَ ْبلُ َقدْ َجعَ َلهَا َربّي‬
‫سجْنِ وَجَاءَ بِ ُكمْ مِنَ الَْبدْوِ مِنْ بَ ْعدِ َأنْ نَ َزغَ الشّ ْيطَانُ بَيْنِي َوبَيْنَ إِخْ َوتِي إِنّ َربّي‬
‫سنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ال ّ‬
‫َحقّا وَ َقدْ أَحْ َ‬
‫َلطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ِإنّهُ ُه َو الْعَلِيمُ اْلحَكِيمُ ‪[ ‬يوسف‪.]1 0 0 :‬‬

‫مع أن ظاهر المر أن ملك مصر هو الذي أمر بإخراجه من السجن‪ ،‬لكنه يرى المور على‬
‫حقيقتها‪ ،‬وأن الله هو الذي أخرجه‪ ،‬وما الملك إل ستار للقدر‪ ،‬وجندي ينفذ المر اللهي‪...‬‬
‫يقول ابن رجب‪ :‬الوصول إلى الله نوعان‪ :‬أحدهما في الدنيا‪ ،‬والثاني في الخرة‪ .‬فأما‬
‫الوصول الدنيوي فالمراد به‪ :‬أن القلوب تصل إلى معرفته‪ ،‬فإذا عرفته أحبته وأنست به‪،‬‬
‫فوجدته منها قريباً‪ ،‬ولدعائها ً مجيباً‪ ،‬كما في بعض الثار‪ :‬ابن آدم‪ ،‬اطلبني تجدني‪ ،‬فإن‬
‫وجدتني وجدت كل شيئ وإن فتك فاتك كل شيء‪.‬‬

‫وأما الوصول الخروي فالدخول إلى الجنة التي هي دار كرامة الله لوليائه‪ ،‬ولكنهم في‬
‫درجاتهم متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدنيا في القرب والمشاهدة( )‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫أي أن الوصول الدنيوي يمثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬كأنك تراه"‪ ،‬أما‬
‫الخروي – في الجنة – ففيها الرؤية الحقيقية والمشاهدة‪.‬‬

‫لوجدتني عنده‪:‬‬
‫استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب ‪ ،‬ص ( ‪. ) 50‬‬ ‫‪1‬‬

‫المحجة في سير الدلجة للحافظ ابن رجب ‪ ،‬ص ( ‪. ) 80‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪35‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫إذن فغاية المعرفة أن نجد الله عز وجل‪ ..‬نجد صفاته‬


‫العلى تتجلى في أحداث حياتنا‪َ  :‬ومَنْ َيعْمَلْ سُوءًا أَوْ َيظْ ِلمْ َنفْ َ‬
‫سهُ ثُمّ يَسَْت ْغفِرِ ال ّلهَ َيجِدِ‬
‫ال ّلهَ َغفُورًا رَحِيمًا‪[ ‬النساء‪.]1 1 0 :‬‬

‫‪...‬نجده قريبا ً فنأنس به ونناجيه‪.‬‬


‫‪...‬نجده حكيما ً في كل مشيئة يشاؤها لنا فنرضى بقضائه‪.‬‬

‫‪...‬نجده سريع الحساب يعاقب على الذنب ويعفو عن كثير‪ ،‬فنسارع بالتوبة كلما وقعنا في‬
‫الخطأ‪.‬‬

‫‪...‬نجده لطيفا ً في قدره‪.‬‬

‫‪...‬نجده سميعا ً قريبا ً يجيب دعاءنا في دقائق المور وتفصيلتها التي دعوناه بها ولم يعرفها‬
‫سواه فنشعر بالمان في جواره‪.‬‬

‫‪...‬نجده قهارا ً ينفذ مشيئته فنستسلم له‪.‬‬

‫‪ ...‬نجده قادرا ً مقتدرا ً فنستعين به دوما ً على تنفيذ كل ما نريد‪.‬‬

‫‪...‬نجده حليما ً ستيرا ً فنحبه ونستحي منه‪.‬‬

‫سُّر إليه بخصوصياتنا‪.‬‬


‫‪...‬نجده معنا في كل وقت وحين‪ ،‬فنكلمه ونبث إليه أشواقنا‪ ،‬ون ُ ِ‬

‫‪...‬نجده حين نأكل‪ ،‬وحين نشرب‪ ،‬وحين ننام‪ ،‬وحين نستيقظ‪ ،‬وحين نركب دوابنا‪ ،‬فهو الذي‬
‫يطعمنا ويسقينا‪ ،‬وهو الذي يتوفانا حين النوم ويوقظنا‪ ،‬وهو الذي يحملنا ل الدواب‪...‬وَ َآَيةٌ لَ ُهمْ‬
‫شحُونِ‪[ ‬يس‪.]4 1 :‬‬
‫َأنّا حَمَ ْلنَا ُذ ّريّتَ ُهمْ فِي اْلفُ ْلكِ الْمَ ْ‬
‫‪...‬تأمل معي أخي القارئ هذا الحديث النبوي‪ :‬قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬ما من بعير إل‬
‫وفي ذروته شيطان‪ ،‬فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة الله تعالى عليكم‪ ،‬ثم امتهنوها لنفسكم‪،‬‬
‫فإنما يحمل الله تعالى"(‪.)1‬‬

‫حسن ‪ ،‬رواه المام أحمد والحاكم ‪ ،‬وأورده اللباني في صحيح الجامع (‪. )5699‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪36‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فما الدابة التي نركبها إل ستار وسبب ل قيمة له بدون الله عز وجل‪ ،‬فهو سبحانه الذي‬
‫سخرها لنا‪ ،‬وهو الذي يحركها لحظة بلحظة‪ ،‬وآنا ً بآن‪ ،‬وكذلك كل شيء يحدث في هذه‬
‫الحياة معنا أو مع غيرنا‪.‬‬

‫فعندما نضحك نجده من وراء الضحك حيا ً قيوما ً قد علم برغبتنا في الضحك فمكننا من ذلك‪:‬‬
‫ضحَكَ َوأَبْكَى‪[ ‬النجم‪.]4 3 :‬‬
‫‪َ ‬وَأّنهُ هُوَ أَ ْ‬

‫وعندما يأتينا عطاء من أحد الناس نرى أن الله عز وجل هو الذي أعطانا من خلل هذا‬
‫الشخص‪ ،‬وعندما نُحرم من شيء‪ ،‬أو يُضيق علينا البعض نرى حقيقة واضحة أمامنا وهي أن‬
‫الله هو الذي حرمنا ل هؤلء بسبب ذنب أذنبناه أو لحكمة يعلمها سبحانه‪.‬‬

‫نجد الله في كل خير نفعله‪َ  :‬فِإنّمَا يَسّ ْرنَاهُ بِلِسَاِنكَ لَعَلّ ُهمْ يََتذَكّرُو ‪‬نَ [الدخان‪ ،]5 8 :‬ولو شاء منعه‬
‫لمنعه‪َ  :‬ولَئِنْ شِئْنَا لََنذْهََبنّ بِاّلذِي أَوْحَيْنَا إِلَ ْيك‪[ َ‬السراء‪.]8 6 :‬‬

‫نجد الله الهادي في كل طاعة نقوم بها‪َ  :‬وأَ ْوحَيْنَا ِإلَيْ ِهمْ ِفعْلَ اْلخَيْرَاتِ َوإِقَامَ الصّلَاةِ َوإِيتَا َء الزّكَاةِ‪[ ‬النبياء‪:‬‬
‫‪.]7 3‬‬

‫نجد الله عند المريض‪...‬يشمله بعطفه ورفقه ورعايته الخاصة‪.‬‬

‫جاء في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول يوم القيامة‪ " :‬يا ابن آدم مرضت فلم‬
‫تعدني! قال‪ :‬يا رب‪ ،‬كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت إن عبدي فلن مرض‬
‫فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟‪.)1("...‬‬

‫وبالجملة نرى الله وراء كل حدث يحدث في الحياة‪...‬عند هبوب الريح‪ ،‬وعند طلوع الشمس‬
‫وعند غروبها‪..‬عند نزول المطر‪..‬عند الكسوف والخسوف‪.‬‬

‫‪...‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم ذو ريح وغيم عُرف ذلك في وجهه‬
‫سّرِي عنه‪ ،‬وذهب عنه ذلك‪ ،‬فسألته عائشة‬
‫مطرت ُ‬‫صلى الله عليه وسلم فأقبل وأدبر‪ ،‬فإذا ُ‬
‫‪2‬‬ ‫ّ‬
‫سلِط على أمتي"( )‪.‬‬‫‪ -‬رضي الله عنها – في ذلك فقال‪" :‬إني خشيت أن يكون عذابا ُ‬

‫رواه مسلم ( ‪. ) 2569‬‬ ‫‪1‬‬

‫متفق عليه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪37‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وكان أحد الصالحين إذا ذهب إلى المسجد ليلقي درسه‪ ،‬وجد جموعا ً غفيرة من الناس‬
‫تنتظره فيناجي الله ويقول‪ :‬اللهم إنك تعلم أنهم يقصدونك أنت‪ ،‬ولكنهم وجدوني عندك‪.‬‬

‫الله غايتنا‪:‬‬
‫‪...‬نعم‪ ،‬أخي هذه هي غاية المعرفة التي ينبغي أن نسعى إليها‪...‬أن نجد الله يتجلى بصفاته‬
‫العلى في كل شيء لينعكس ذلك على جميع تصرفاتنا‪ ،‬فتصبح إرادة وجهه الكريم هي‬
‫مقصدنا في كل أعمالنا‪ ،‬فعلى سبيل المثال إطعام الطعام للفقراء والمساكين وغيرهم‬
‫ينبغي أن يكون المقصود منه رضاه سبحانه‪ِ :‬إنّمَا نُ ْطعِمُ ُكمْ لِوَ ْجهِ ال ّلهِ لَا نُرِيدُ مِنْ ُكمْ جَزَاءً َولَا شُكُورًا‪‬‬
‫[النسان‪ ]9 :‬وتكريم أهل الصلح ينبغي أن يكون الهدف منه إجلل الله عز وجل‪ ،‬كما في‬
‫الحديث‪" :‬إن من إجلل الله‪ :‬إكرام ذي الشيبة المسلم‪ ،‬وحامل القرآن‪ ،‬غير الغالي فيه‬
‫والجافي عنه‪ ،‬وإكرام السلطان المقسط"(‪.)1‬‬

‫شعِيَ‪[ ‬النبياء‪ ]9 0 :‬وهكذا في سائر العمال‪.‬‬


‫وكذلك في الدعاء‪َ  :‬وَيدْعُونَنَا رَغَبًا وَ َرهَبًا َوكَانُوا لَنَا خَا ِ‬
‫قال محمد بن إسحاق‪ :‬بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجراً‬
‫إلى الله يريد المدينة قال‪" :‬الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً‪ .‬اللهم أعني على هول‬
‫الدنيا‪ ،‬وبوائق الدهر‪ ،‬ومصائب الليالي واليام‪ .‬اللهم اصحبني في سفري‪ ،‬واخلفني في‬
‫أهلي‪ ،‬وبارك لي فيما رزقتني‪ ،‬ولك فذل ِّلْني‪ ،‬وعلى صالح خلق فقوّمني‪ ،‬وإليك رب فحببني‪،‬‬
‫ل علي‬‫وإلى الناس فل تكلني‪ .‬رب المستضعفين وأنت ربي‪ ،‬أعوذ بوجهك الكريم الذي تُح َّ‬
‫غضبك‪ ،‬وتنزل بي سخطك‪ .‬أعوذ بك من زوال نعمتك‪ ،‬وفجأة نقمتك‪ ،‬وتحول عافيتك‪ ،‬وجميع‬
‫سخطك‪ .‬لك العتبى حتى ترضى‪ ،‬ول حول ول قوة إل بك"(‪.)2‬‬

‫التوحيد الخالص‪:‬‬
‫قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنما أنا مبلغ‪ ،‬والله يهدي‪ ،‬وإنما أنا قاسم‪ ،‬والله يعطي"( )‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫وقال يوما لصحابه‪" :‬ما أنا حملتكم‪ ،‬ولكن الله حملكم‪.)4("...‬‬

‫حسن ‪ ،‬رواه أبو داود ‪ ،‬وحسنه اللباني في صحيح الجامع ( ‪. ) 2199‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬أخرجه أبو نعيم ‪ ،‬وعبد الرزاق في مصنفه (‪ ، )5:156‬وقال الشيخ اللباني في تعليقه على فقه‬
‫السيرة للشيخ محمد الغزالي (‪ : )1:165‬ضعيف ‪.‬‬
‫‪ 3‬صحيح رواه الطبراني ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪. )2347‬‬
‫‪ 4‬صحيح الجامع (‪. )5554‬‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪38‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال‪" :‬اللهم أنت عضدي ونصيري‪ ،‬بك أحول‪ ،‬وبك‬
‫أصول‪ ،‬وبك أقاتل"(‪.)5‬‬

‫فهذه الحاديث تدل على الحقيقة التي ينبغي أن نشاهدها من وراء أحداث الحياة‪ :‬فَ َلمْ تَقْتُلُو ُهمْ‬
‫َولَ ِكنّ ال ّلهَ قََتلَ ُهمْ َومَا َرمَيْتَ إِذْ َرمَيْتَ َولَكِنّ ال ّلهَ َرمَى‪[ ‬النفال‪.]1 7 :‬‬

‫‪ ‬وَهُوَ اّلذِي كَفّ َأْيدِيَ ُهمْ َعنْ ُكمْ َوَأْيدِيَ ُكمْ َعنْ ُهمْ بَِبطْنِ مَ ّكةَ مِنْ بَ ْعدِ َأنْ أَ ْظفَ َر ُكمْ عَ َليْ ِهمْ‪[ ‬الفتح‪.]2 4 :‬‬

‫وهذا هو العلم النافع‪ ،‬والتوحيد الخالص‪ ،‬الذي ينبغي أن نسعى جميعا ً إلى تحصيله‪ :‬فَاعْ َلمْ أَّنهُ لَا‬
‫ِإلَهَ ِإلّا ال ّلهُ‪[ ‬ممد‪.]1 9 :‬‬

‫إنه العلم بالله‪ ،‬وربط أحداث الحياة – مهما تنوعت – به سبحانه‪ :‬شَ ِهدَ ال ّلهُ َأنّهُ لَا إَِلهَ ِإلّا هُوَ‬
‫وَالْمَلَائِ َكةُ َوأُولُو الْعِ ْلمِ قَائِمًا بِاْلقِسْطِ لَا إَِلهَ إِلّا هُوَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ‪[ ‬آل عمران‪.]1 8 :‬‬

‫وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء‪ :‬الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل‪ ،‬والعاقل ينظر ماذا‬
‫يفعل الله به‪.‬‬
‫ويقول سيد قطب‪" :‬شهادة أن ل إله إل الله"‪ ..‬تتطلب أن يصل الحساس بوجود الله –‬
‫سبحانه – ووحدانيته حد اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة‪ ،‬فهي رؤية ومشاهدة‬
‫لهذه الحقيقة – بآثارها – في أغوار النفس المكنونة‪ ،‬وفي صفحة الكون المنشورة‪..‬رؤية‬
‫واضحة‪ ،‬ومشاهدة مستيقنة‪ ،‬تقوم عليها "شهادة"(‪.)2‬‬

‫‪...‬معنى ذلك أن عمى القلب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا‪.‬‬


‫الكتفاء بالله‪:‬‬
‫فإذا ما وجد المرء ربه‪ ،‬وربط أحداث حياته كلها به‪ ،‬فإن هذا من شأنه أن يجعله يوحد‬
‫معاملته‪ ،‬ويجعلها مع الله‪..‬‬

‫فهو يدعو ويجاهد من أجل أن يراه الله فيحبه ويرضى عنه‪...‬‬

‫‪ ..‬يتكلم بحساب‪ ،‬فهو يعلم أن الكلمة التي تخرج من فمه يسمعها ربه قبل أن يسمعها‬
‫الناس‪.‬‬
‫رواه أبو داود (‪ ، )2632‬والترمذي (‪ ، )3584‬وقال ‪ :‬حديث حسن ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫مقومات التصور السلمي ص (‪. )192‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪39‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫‪..‬ينفق النفقة ول يهمه كثيرا ً من يأخذها – مادام أنه في الظاهر يدل على أنه محتاج – لنه‬
‫صدَقَاتِ‪[ ‬التوبة‪.]1 0 4 :‬‬
‫يعلم أنها تقع في يد الله أول‪ :‬أَلمْ َيعْلَمُوا َأنّ ال ّلهَ ُهوَ َيقْبَ ُل التّ ْوبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ َوَيأْ ُخذُ ال ّ‬

‫فالله هو الحاضر معه في كل صفقة أو بيعة يجريها‪ ،‬أنها تتم معه – سبحانه – أولً‪ِ :‬إنّ اّلذِينَ‬
‫سهِ َومَنْ أَوْفَى بِمَا عَا َهدَ َعلَ ْيهُ ال ّلهَ فَسَيُ ْؤتِيهِ‬
‫يُبَايِعُوَنكَ إِنّمَا يُبَاِيعُونَ ال ّلهَ َيدُ ال ّلهِ فَ ْوقَ َأْيدِي ِهمْ َفمَنْ نَ َكثَ َفِإنّمَا يَنْ ُكثُ َعلَى نَفْ ِ‬
‫أَجْرًا َعظِيمًا‪[ ‬الفتح‪.]1 0 :‬‬
‫‪..‬ل يهمه كثيرا ً رضا الناس عنه أو سخطهم عليه‪ ،‬فليس هذا مطمعه ول ما يسعى إليه‪ ،‬بل‬
‫مطمعه في رضاه سبحانه‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬

‫ب‬
‫ضا ُ‬‫م ِغ َ‬ ‫َ‬ ‫وَلَيْت َ َ‬ ‫حلُو وَال َ‬ ‫فَلَيْت َ َ‬
‫ضى َوالنَا ُ‬ ‫ك تَْر َ‬ ‫مرِيــــَرة‬ ‫حيَاة َ‬ ‫ك تَ ْ‬
‫ب‬ ‫ن خرا ُ‬ ‫ن العالمي َ‬ ‫و بيني وبي َ‬ ‫مٌر‬ ‫ت الّذي بَيْني وَبَيْن َ َ‬
‫ك ع َا ِ‬ ‫وَلَي ْ َ‬
‫وك ُ ُّ‬ ‫من َ‬ ‫ص َّ‬
‫ب‬‫ب تَُرا ُ‬‫ل الذي فَوْقَ التَّرا ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ل هَي ّ ٌ‬‫ك الوُد ّ فالك ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫إذا َ‬
‫‪..‬ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان‪ ،‬وتهدأ الصوات ليخلو بربه‪ ،‬ويبث إليه أشواقه‪،‬‬
‫ويعرض عليه شكايته‪ ،‬ويطلب منه حاجته‪..‬‬

‫‪...‬يسارع في استرضائه‪ ،‬إذا ما وقع منه تقصير أو تجاوز‪.‬‬

‫إنه باختصار قد اكتفى بالله واستغنى به عمن سواه‪.‬‬

‫قال أحمد بن عاصم النطاكي‪ :‬من عرف الله عز وجل اكتفى به‪ ،‬ومن لم يعرفه اكتفى‬
‫بخلقه دونه‪ ،‬فطال غمه‪ ،‬وكثرت شكايته(‪.)1‬‬

‫وهذه هي الحياة الحقيقية‪..‬الحياة مع الله‪..‬‬

‫‪..‬كان ابن عطاء يقول في مناجاته‪ :‬ماذا وجد من فقدك‪ ،‬وما الذي فقد من وجدك‪..‬لقد خاب‬
‫من رضي بدونك بدلً‪ ،‬ولقد خسر من بغى عنك متحولً‪.‬‬

‫خذ ِ الله صاحبا‪ ،‬ودع الناس جانباً(‪.)2‬‬


‫وهذا إبراهيم بن ادهم يقول‪ :‬ات ِ‬

‫المعرفة المؤثرة‪:‬‬

‫استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب ‪ ،‬ص ( ‪– ) 81-80‬المكتب السلمي –بيروت ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب ‪ ،‬ص ( ‪. )77‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪40‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫فإن قلت‪ :‬ولكننا نعرف الله عز وجل‪ ،‬ونعرف قدرته وعظمته وفضله علينا ومع ذلك ل‬
‫نتعامل معه بما يستحقه ‪ -‬سبحانه – ول نشعر بقربه ول نأنس به‪...‬؟!‬

‫‪..‬نعم‪ ،‬أغلبنا يشتكي من جفاء في علقته ومعاملته مع الله‪ ،‬مع ما ندعي من معرفته سبحانه‬
‫وأن المر كله بيده‪ ،‬والسبب في ذلك هو أن المعرفة المطلوبة والتي من شأنها أن تغير‬
‫طريقة المعاملة‪ ،‬وتحسن العلقة بين العبد وربه‪ ،‬لبد لها أن تكون معرفة قوية ترسخ في‬
‫يقين النسان وتؤثر في قلبه‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪ :‬تؤثر في مشاعره باعتبار أن القلب هو مجمع‬
‫م تشكل هذه المعرفة جزءا ً أصيل ً من إيمانه‪ ،‬مثل ما قال‬ ‫المشاعر داخل النسان‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫الله عز وجل‪َ  :‬ولَِيعْ َل َم اّلذِينَ أُوتُوا الْعِ ْلمَ َأّنهُ اْلحَقّ مِنْ َرّبكَ فَيُ ْؤمِنُوا ِبهِ فَُتخِْبتَ َلهُ قُلُوبُ ُهمْ‪[ ‬الج‪.]5 4 :‬‬

‫أما المعرفة المحدودة العابرة فل يمكنها أن تؤثر تأثيرا ً مستمرا ً في حياة العبد‪ ،‬والدليل على‬
‫ذلك أننا عندما نسمع محاضرة عن فضل الله علينا وتوالي نعمه وإمداده‪ ،‬فإن المشاعر تتجه‬
‫بالحب إليه سبحانه‪ ،‬ثم بعد ذلك تخفت حرارة تلك المشاعر بانتهاء أثر الكلم الذي سمعناه‪،‬‬
‫وهذا هو الفارق بين الحال والمقام‪.‬‬

‫"فالحال" هو الحالة الشعورية العابرة التي تنتاب المرء عندما تُستثار مشاعره في اتجاه ما‪.‬‬

‫‪...‬هذه الحالة سرعان ما تزول وذلك بعودة المشاعر إلى حالتها الولى‪ ،‬فنجد الشخص يتأثر‬
‫بالموعظة ويبكي وينتحب ثم بعد ذلك يعود إلى سابق عهده من النشغال بالدنيا والغفلة عن‬
‫الخرة‪ ،‬فإذا استمر الطرق على المشاعر في اتجاه ما كالخوف أو الحب‪..‬استمرت الحالة‬
‫الشعورية للشخص‪ ،‬وشيئا فشيئا يستقر "الحال" في المشاعر ليصبح "مقاما"‪ ،‬أي تُشكل‬
‫هذه الحالة جزءا ً ثابتا ً من المشاعر‪ ،‬ويسهُل استثارتها بأدنى مؤثر‪ ،‬وتصبح منطلقا دائما‬
‫للسلوك‪.‬‬

‫وهذا هو الفارق بين اليمان الصيل الثابت الذي يستقر في القلب وتصدقه العمال‪ ،‬وبين‬
‫اليمان اللحظي العابر الذي يُنتج أعمال ً آنية وغير مستمرة‪.‬‬

‫فما يستقر في القلب من معان إيمانية يُسمى "مقاما"‪.‬‬

‫يقول الحسن‪ :‬ليس اليمان بالتحلي ول بالتمني‪ ،‬ولكن ما وقر في القلب وصدقته‬
‫العمال(‪..)1‬‬
‫معنى هذا أننا بحاجة إلى أن نجعل معرفتنا بالله تستقر في القلب وترسخ فيه وتنمو شيئا‬
‫فشيئا حتى تشكل الجزء الكبر من المشاعر‪ ،‬فيصير حبه سبحانه أحب الشياء لدينا وخشيته‬
‫أخوف الشياء عندنا‪ ،‬وهكذا في بقية المشاعر فتظهر تبعا ً لذلك الثمار الطيبة لهذه المعرفة‬
‫النافعة كما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬ثلث من كُن فيه وجد حلوة اليمان‪ ،‬أن يكون الل ُ‬
‫ه‬
‫شعب اليمان للبيهقي (‪. )1:80‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪41‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ه أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل لله‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر‬ ‫ورسول ُ‬
‫بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار"( )‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫فإذا ما اكتفت المعرفة بمخاطبة العقل فقط‪ ،‬ولم تصل إلى المشاعر‪ ،‬ولم يستقر مدلولها‬
‫فيها‪ ،‬ستظل هذه المعرفة حبيسة العقل‪ ،‬ولن تظهر ثمارها في السلوك‪.‬‬
‫نور اليمان‪:‬‬
‫من هنا يتضح لنا أنه لكي نتعامل مع الله عز وجل بما يستحق أن نعامله به لبد أن نعرفه‬
‫أولً‪ ،‬وأن تنتقل هذه المعرفة من العقل إلى القلب‪ ،‬وأن تكون مستمرة حتى يرسخ مدلولها‬
‫في مشاعر النسان وقلبه وتصبح إيمانا ً راسخا ً فتشكل بذلك منطلقا ً للسلوك‪.‬‬
‫وكلما ازدادت مساحة المعرفة المؤثرة‪ ،‬ازداد انجذاب المشاعر لله عز وجل‪ ،‬وتمكن اليمان‬
‫من القلب‪ ،‬وتجلت فيه أنواره‪ ،‬وظهر أثر ذلك على معاملة المرء لربه‪ ،‬فيعبده وكأنه يراه‪،‬‬
‫فيكتفي به‪ ،‬ويوحد معاملته معه‪ ،‬ويربط جميع أحداث حياته به سبحانه‪.‬‬

‫تأمل معي – أخي القارئ – ما قاله حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يؤكد هذا‬
‫المعنى‪:‬‬

‫عن الحارث بن مالك النصاري أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له‪" :‬كيف أصبحت‬
‫يا حارثة؟ "قال‪ :‬أصبحت مؤمنا ً حقاً‪ .‬قال‪" :‬انظر ما تقول‪ ،‬فإن لكل قول حقيقة‪ ،‬فما حقيقة‬
‫إيمانك؟ قال‪ :‬عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري‪ ،‬وكأني أنظر إلى‬
‫عرش ربي بارزاً‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل النار‬
‫يتضاغون فيها‪ ،‬قال‪" :‬يا حارثة عرفت فالزم"(‪ ،)2‬وفي رواية‪" :‬أصبت فالزم‪ ،‬مؤمن نور الله‬
‫قلبه"(‪.)3‬‬
‫ويقول ابن رجب‪ :‬غاية الحاصل للقلوب في الدنيا هو تجلي أنوار اليمان في القلب‪ ،‬وحتى‬
‫يصير الغيب كأنه شهادة(‪.)4‬‬

‫مفتاح المعرفة‪:‬‬
‫فإن قلت‪ :‬وما هي الوسائل التي يمكنها أن تفعل ذلك وتصل بنا إلى هذه الفاق؟!‬

‫متفق عليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه الطبراني في الكبير ‪ ..‬انظر مجمع الزوائد (‪. )1:75‬‬ ‫‪2‬‬

‫رواه البزار عن أنس بن مالك ‪ ..‬انظر المصر السابق ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫استنشاق نسيم النس ‪ ،‬ص (‪. )98‬‬ ‫‪4‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪42‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫كيف يمكن للنسان أن يتعرف على ربه معرفة يقينية تؤثر في المشاعر‪ ،‬بالرغم من أنه ل‬
‫يراه‪ ،‬ولن يمكنه أن يراه في حياته الدنيا؟!‬

‫‪..‬نعم‪ ،‬الله عز وجل ل تدركه البصار‪ ،‬ول يمكن لحد من البشر أن يراه‪  :‬لَا ُتدْ ِر ُكهُ اْلَأبْصَارُ وَهُوَ‬
‫ُيدْرِكُ اْلأَبْصَارَ ‪[ ‬النعام‪ ، ]1 0 3 :‬وفي الوقت نفسه فإنه يتحتم على العبد أن يعرف ربه لكي‬
‫يعبده عبادة صحيحة‪ ،‬تليق به سبحانه وتعالى ‪..‬فما السبيل إلى ذلك؟!‬

‫السبيل إلى معرفة الله عز وجل هو استخدام النعمة العظيمة التي أكرم الله بها النسان‬
‫واختصه بها‪ ،‬أل وهي نعمة العقل‪..‬هذا العقل به من المكانات والقدرات ما ل يمكن تصوره‪،‬‬
‫والتي يستطيع النسان – أي إنسان – حين يستخدمها أن يصل إلى معرفة الله عز وجل‬
‫لدرجة لم يصل إليها مخلوق من قبل‪.‬‬

‫‪..‬هذه المعرفة تمكنه من معاملته وعبادته سبحانه كأنه يراه‪.‬‬

‫عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪" :‬لما خلق الله العقل‬
‫قال له‪ :‬قم فقام‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أدبر فأدبر‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أقبل فأقبل‪ ،‬ثم قال له‪ :‬اقعد فقعد‪،‬‬
‫قال‪ :‬ما خلقت خلقا ً هو خير منك‪ ،‬ول أفضل منك‪ ،‬ول أحسن منك‪ ،‬بك آخذ وبك أُعطي‪،‬‬ ‫ثم ُُ‬
‫ُ‬
‫وبك أعرف‪ ،‬وبك أعاقب‪ ،‬بك الثواب وعليك العقاب"( )‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وليس أدل على أن العقل هو مفتاح المعرفة‪ ،‬وأنه من خلله يمكن للمرء الوصول إلى‬
‫معرفة الله لدرجة لم يصل إليها مخلوق قط مما حدث في قصة آدم – عليه السلم –‬
‫وإخباره سبحانه وتعالى للملئكة أنه سيخلق مخلوقا ً جديدا ً يعبده بالغيب في الرض‪ ،‬فماذا‬
‫ك الدّمَاءَ َونَحْنُ نُسَّبحُ ِبحَ ْمدِكَ َوُن َقدّسُ َلكَ ‪[ ‬البقرة‪ .]3 0 :‬فكان‬
‫سفِ ُ‬
‫سدُ فِيهَا َويَ ْ‬
‫قالوا له‪  :‬قَالُوا َأَتجْعَلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ‬
‫الجواب من الله‪  :‬إِنّي أَعْ َلمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‪[ ‬البقرة‪ .]3 0 :‬ثم كان البيان العملي الذي ظهرت من‬
‫خلله القدرات العقلية لهذا المخلوق‪  :‬وَ َع ّلمَ َآ َدمَ اْلأَسْمَاءَ كُلّهَا ُثمّ َعرَضَ ُهمْ عَلَى الْ َملَائِ َكةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي‬
‫ت الْعَلِيمُ اْلحَكِيمُ ( ‪ )3 2‬قَالَ يَا َآ َدمُ‬
‫ِبأَسْمَاءِ هَ ُؤلَاءِ إِنْ كُنُْتمْ صَادِ ِقيَ ( ‪ )3 1‬قَالُوا سُ ْبحَانَكَ لَا ِع ْلمَ لَنَا إِلّا مَا عَلّمْتَنَا ِإنّكَ َأنْ َ‬
‫َأنْبِئْ ُهمْ ِبأَسْمَائِ ِهمْ فَلَمّا أَنَْبأَ ُهمْ ِبأَسْمَائِ ِهمْ قَالَ َأَلمْ أَقُلْ لَ ُكمْ ِإنّي أَعْ َلمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوأَعْ َلمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنُْتمْ‬
‫تَكْتُمُونَ ‪[ ‬البقرة‪.]3 3 -3 1 :‬‬
‫إذن فالوظيفة الساسية للعقل هي استخدامه في معرفة الله عز وجل ومن ث َ َّ‬
‫م عبادته‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البيهقي في الشعب (‪ . )4633‬وجاء في التعليق عليه ‪ :‬هذا من قول الحسن و غيره مشهور‬
‫و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد غير قوي ‪ ،‬وقال السيوطي ‪ :‬وقال السيوطي‬
‫أخرجه عبد الله ابن المام أحمد عن الحسن مرسل بطريق جيد السناد‪.‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪43‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫والمتدبر للقرآن الكريم يجد فيه الكثير من اليات التي تحث القارئ على استخدام عقله‬
‫للستدلل على وجود الله وعلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى‪ :‬وَهُوَ اّلذِي ُيحْيِي َويُمِيتُ َوَلهُ اخِْتلَافُ‬
‫اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَفَلَا تَ ْعقِلُونَ‪[ ‬الؤمنون‪ ،]8 0 :‬وقوله‪  :‬وَفِي اْلأَ ْرضِ ِق َطعٌ مَُتجَاوِرَاتٌ وَ َجنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ َز ْرعٌ َوَنخِيلٌ‬
‫صنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَا ِحدٍ َونُفَضّلُ َبعْضَهَا َعلَى بَ ْعضٍ فِي اْلُأكُلِ ِإنّ فِي َذِلكَ لَ َآيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ ‪[ ‬الرعد‪:‬‬
‫صِنْوَانٌ وَغَ ْيرُ ِ‬
‫خلق من أجله فقد هوى وأصبح من أشر‬
‫بل ويؤكد علينا أن من ل يستخدم عقله فيما ُ‬ ‫‪،]4‬‬
‫ص ّم الْبُ ْك ُم الّذِينَ لَا َيعْقِلُونَ ‪[ ‬النفال‪.]2 2 :‬‬
‫الدواب‪ِ  :‬إنّ شَرّ الدّوَابّ عِ ْندَ ال ّلهِ ال ّ‬

‫ويذكرنا بأن أهل النار سيتأكدون من هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الوان‪َ  :‬وقَالُوا لَوْ كُنّا نَسْ َمعُ‬
‫سعِيِ ‪[ ‬اللك‪.]1 0 :‬‬
‫صحَابِ ال ّ‬
‫أَوْ َن ْعقِلُ مَا كُنّا فِي أَ ْ‬

‫مجالت استخدام العقل‪:‬‬


‫خلق من‬‫أودع الله عز وجل في عقل النسان إمكانات هائلة تمكنه من القيام بالمهمة التي ُ‬
‫أجلها‪ ،‬ومما يؤكد على وجود هذه المكانات تلك الختراعات التي اخترعها العقل البشري‬
‫في شتى المجالت مما أفاد البشرية كثيراً‪ ،‬ويسر على الناس سبل الحياة‪ ،‬وهذا إن دل‬
‫على شيء فإنما يدل على أننا لو أحسنا استخدام عقولنا في اتجاه معرفة الخالق سبحانه‬
‫وتعالى لرتفعنا إلى آفاق ع ُلى‪ ،‬ولتمكنا – بإذن الله – من عبادته وكأننا نراه‪..‬‬

‫فإن قلت‪ :‬وكيف لنا أن نستخدم عقولنا في معرفة الله‪ ،‬وبخاصة أنه ل يمكن لحد من‬
‫الخلق أن يحيط به علما؟!‬

‫‪..‬نعم‪ ،‬الله عز وجل ل يمكن لحد أن يحيط به علماً‪ ،‬فل يعرف الله إل الله‪ :‬الرّحْمَنُ فَا ْسأَلْ بِهِ‬
‫خَبِيًا‪[ ‬الفرقان‪ ،]5 9 :‬وكما في الحديث‪" :‬ل أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وفي‬
‫الوقت نفسه فإن معاملة الله بما يليق بجلله‪ ،‬وإظهار صورة العبودية الحقة له لن تتم إل‬
‫من خلل معرفته‪..‬‬

‫فكيف يستطيع العبد معرفة ربه وهو ل يراه‪ ،‬ول يحيط به علماً؟!‬

‫سبل لمعرفته سبحانه وإل لما استطعنا القيام بحقوق العبودية‪..‬‬


‫لبد أن تكون هناك ُ‬

‫لبد أن يكون الله عز وجل قد أتاح لنا طرقا ً ووسائل نتعرف عليه من خللها‪ ،‬ولم ل وهو‬
‫الرءوف الرحيم الذي يريد بعباده الخير‪ُ  :‬ه َو الّذِي يُصَلّي َعلَيْ ُكمْ َومَلَائِكَُتهُ لُِيخْرِجَ ُكمْ مِنَ الظّلُمَاتِ ِإلَى النّورِ‬
‫َوكَانَ بِالْمُ ْؤمِنِيَ َرحِيمًا‪[ ‬الحزاب‪.]4 3 :‬‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪44‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫‪..‬نعم‪ ،‬لقد أتاح الله عز وجل لعباده جزءا ً من المعلومات عنه سبحانه وتعالى لكي يتمكنوا‬
‫م يتمكنون من عبادته كما أمرهم‪ ،‬ولقد‬ ‫من معرفته بالدرجة التي تتحملها عقولهم‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫أودع – سبحانه – هذه المعلومات في كونه ومخلوقاته‪ :‬أَوََلمْ يَكْفِ بِ َربّكَ َأنّهُ عَلَى كُلّ شَ ْيءٍ شَهِيدٌ ‪‬‬
‫[فصلت‪.]5 3 :‬‬

‫وتسكينة أبدا ً شاهد‬ ‫***‬ ‫ولله في كل تحريكة‬


‫تدل على أنه الواحد‬ ‫***‬ ‫وفي كل شيء له آية‬

‫فكل ما يحدث في الحياة‪ ،‬وكل مخلوق من مخلوقات الله يُعد بمثابة آية ودليل على الله‪،‬‬
‫وما على البشر إل أن يستخدموا عقولهم‪ ،‬ويتعرفوا على ربهم من خلل التفكر في تلك‬
‫المخلوقات‪ :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَاْلفُ ْلكِ الّتِي َتجْرِي فِي الَْبحْرِ بِمَا يَ ْنفَ ُع النّاسَ‬
‫سخّرِ‬
‫ب الْمُ َ‬
‫سحَا ِ‬
‫ف ال ّريَاحِ وَال ّ‬
‫َومَا َأنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ مَاءٍ َفأَحْيَا ِبهِ اْلأَ ْرضَ َب ْعدَ مَوْتِهَا َوبَثّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَاّبةٍ َوتَصْرِي ِ‬
‫بَيْنَ السّمَاءِ وَاْلأَ ْرضِ لَآَيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ‪[ ‬البقرة‪.]1 6 4 :‬‬

‫ارأيت أخي القارئ بماذا ختمت الية‪ :‬لَآَيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ‪ :‬ليات ودلئل ورسائل تعريف بالله‬
‫لمن يستخدمون عقولهم في التفكير في هذه المخلوقات‪.‬‬
‫فالحكمة الساسية من خلق العقل بما يحتويه من إمكانات جبارة هي إستخدامه في التعرف‬
‫على الله‪ ،‬وذلك من خلل التفكر في مخلوقاته‪ ،‬وقراءة ما تحتويه من رسائل تعريف بالله‬
‫عز وجل‪َ  :‬آيَاِتهِ يُرِي ُكمُ الْبَ ْرقَ خَوْفًا َوطَ َمعًا َويُنَزّلُ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَُيحْيِي بِ ِه اْلأَ ْرضَ بَ ْعدَ مَ ْوتِهَا إِنّ فِي َذلِكَ لَ َآيَاتٍ ِلقَ ْومٍ‬
‫َيعْقِلُونَ ‪[ ‬الروم‪.]2 4 :‬‬

‫تجليات الرب‪:‬‬
‫إن كل شيء يحدث حولنا ما هو إل آيات ودلئل ووسائل تعرفنا بالله عز وجل‪ ،‬وما الحياة‬
‫التي نعيش أحداثها المتعاقبة إل مشهد عظيم تتجلى فيه دلئل وحدانية الله وقيوميته‪،‬‬
‫وقدرته‪ ،‬وعزته‪ ،‬ولطفه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬ورحمته‪ ،‬وعدله‪ ،‬والسعيد من استخدم عقله في المهمة‬
‫خلق من أجلها‪ ،‬وأحسن قراءة الرسائل اللهية‪ ،‬وتحليل أحداث الحياة فيزداد معرفة‬ ‫التي ُ‬
‫بربه ومن ثم تتحسن معاملته له فيزداد له حبا ً وخشية وإنابة وتوكلً‪  :‬سَنُرِي ِهمْ َآيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي‬
‫َأنْفُسِ ِهمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَ ُهمْ أَّنهُ اْلحَقّ أَوََلمْ يَكْفِ بِ َربّكَ َأنّهُ َعلَى كُلّ شَ ْيءٍ شَهِيدٌ ‪[ ‬فصلت‪.]5 3 :‬‬

‫وصدق من قال‪:‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪45‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫من المل العلى إليك رسائل‬ ‫تأمل سطور الكائنات فإنها‬


‫أل كل شيء خل الله باطل‬ ‫خط فيها لو تأملت خطها‬‫وقد ُ‬
‫فصامتها يهدي ومن هو قائل‬ ‫تشير بإثبات الصفات لربها‬

‫حاكمية الوحي‪:‬‬
‫ومع أهمية العقل في التفكر في الكون وأحداث الحياة والستدلل من خللها على الله عز‬
‫وجل‪ ،‬إل أن العقل قد يسير وراء ظنونه وأوهامه‪ ،‬فينحرف عن الوجهة الصحيحة‪ ،‬ويسلك‬
‫سبل الضلل‪..‬‬
‫من هنا تأتي أهمية الوحي وما له من حاكمية على العقل‪ ،‬فيكبح جماح شطحاته‪ ،‬ويصحح‬
‫تصوراته‪ ،‬ويضعه على الطريق الصحيح‪.‬‬

‫ويؤكد على هذا المعنى سيد قطب – رحمه الله ‪ -‬فيقول‪:‬‬

‫فهذه القضية – قضية اللوهية – الدليل الهادي فيها هو دليل الوحي‪ .‬وما لم يستصحبه‬
‫العقل‪ ،‬فهو عرضة للوهام والتخليطات بين الصحيح فيها وغير الصحيح‪ .‬مما يفسد العقل‬
‫ذاته‪ ،‬ويفسد استقامته على الطريق(‪.)1‬‬

‫(إن كل ما ينشئه العقل البشري من عند نفسه عن هذه الحقيقة – حقيقة اللوهية ‪ -‬إنما‬
‫هو ظن وخرص‪ ،‬فهو لم ير الله‪ ،‬ول يمكن أن يراه في الحياة الدنيا‪ ،‬والحقيقة اللهية أكبر‬
‫من هذا العقل‪ ،‬ومن هذا الكون‪ .‬فل سبيل لمعرفتها إل عن طريق ما يعرفنا صاحبها –‬
‫سبحانه وتعالى – في حدود ما يعلم هو أن العقل البشري قادر على تصوره وإدراكه)( )‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫(إن القرآن وهو يصحح صورة اللوهية في عقول البشر‪ ،‬كان يصحح في الوقت ذاته منهج‬
‫التفكير العقلي بجملته‪ ،‬ويُعلم النسان كيف يفكر تفكيرا ً صحيحا‪ ،‬فيعتمد على عقله فيما هو‬
‫من شئون العقل‪ ،‬ويستصحب دليل الوحي فيما وراء ذلك ليهتدي العقل بهذا الدليل‬
‫القطعي‪ ،‬ول يعتمد على الظن في قضية كبرى كهذه القضية)(‪.)3‬‬

‫التفكر يقود إلى المعرفة‪:‬‬


‫معنى ذلك أن توجيه العقل للتفكر في خلق الله والعتبار بأحداث الحياة‪ ،‬وربطها به‬
‫سبحانه‪ ،‬هو الطريق الساسي للمعرفة‪َ  :‬ويُرِي ُكمْ َآيَاِتهِ َفَأيّ َآيَاتِ ال ّلهِ تُنْكِرُونَ‪[ ‬غافر‪.]8 1 :‬‬

‫مقومات التصور السلمي ص (‪. )292‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬
‫المصدر السابق ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪46‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫والمتدبر ليات القرآن يجدها في مواضع كثيرة تحث الناس على النتفاع باليات والرسائل‬
‫م عبوديته‪..‬تأمل قوله‬ ‫اللهية والعتبار بها؛ لنها الطريق الكيد لمعرفة الله عز وجل ومن ث َ َّ‬
‫تعالى‪ :‬إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ لَ َآيَاتٍ لِلْ ُم ْؤمِنِيَ ( ‪ )3‬وَفِي َخ ْلقِ ُكمْ َومَا يَبُثّ مِنْ دَاّبةٍ َآيَاتٌ ِلقَ ْومٍ يُوقِنُونَ ( ‪)4‬‬
‫وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ َومَا أَنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ ِر ْزقٍ َفأَ ْحيَا بِ ِه اْلأَ ْرضَ بَ ْعدَ مَ ْوتِهَا َوتَصْرِيفِ ال ّريَاحِ َآيَاتٌ ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ‬
‫( ‪ )5‬تِ ْلكَ َآيَاتُ ال ّلهِ نَتْلُوهَا َعلَ ْيكَ بِاْلحَقّ فَِبَأيّ َحدِيثٍ َب ْعدَ ال ّلهِ وَ َآيَاِتهِ يُ ْؤمِنُون‪ [ َ‬الاثية‪.]6 -3 :‬‬

‫وفي مقابل الحث القرآني على النتفاع باليات والستدلل من خللها على أسماء الله‬
‫وصفاته‪ ،‬نجد الترهيب الشديد لمن كذب بهذه اليات أو غفل عنها ولم يعتبر بها‪َ  :‬ومَنْ َأظْ َلمُ‬
‫مِمّنْ ُذكّرَ بِآَيَاتِ َرّبهِ ثُمّ أَعْ َرضَ عَنْهَا ِإنّا مِ َن الْمُجْ ِرمِيَ مُنَْتقِمُونَ‪[ ‬السجدة‪.]2 2 :‬‬

‫وما أكثر اليات التي يغفل عنها الناس‪َ  :‬و َكأَيّنْ مِنْ َآيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ يَمُرّونَ َعلَيْهَا وَ ُهمْ عَنْهَا‬
‫ُمعْرِضُونَ‪[ ‬يوسف‪.]1 0 5 :‬‬
‫‪..‬جاء في بعض الثار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه‪" :‬أدرك لي لطيف الفطنة‪ ،‬وخفي‬
‫اللطف‪ ،‬فإني أُحب ذلك‪ ،‬قال‪ :‬يا رب ما لطيف الفطنة؟ قال‪ :‬إن وقعت عليك ذبابة فاعلم‬
‫أني أنا أوقعتها فاسألني رفعها‪ .‬قال‪ :‬وما خفي اللطف؟ قال‪ :‬إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا‬
‫ذكرتك بها"(‪.)1‬‬

‫عبادة التفكر‪:‬‬
‫من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر‪ ،‬وندرك مغزى قول الحسن البصري‪ :‬تفكر ساعة خير من‬
‫م زيادة العبودية له‪،‬‬ ‫قيام ليلة(‪ ،)2‬باعتبار أن التفكر يقود إلى زيادة المعرفة بالله‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫وحسن التعامل معه‪ ،‬ومما يؤكد هذا المعنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما نزلت‬
‫هذه الية‪ :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ ِلأُولِي اْلأَلْبَابِ‪ [ ‬آل عمران‪ ،]1 9 0 :‬على‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي‪ ،‬فأتاه بلل يؤذنه للصلة‪ ،‬فرآه يبكي‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬
‫الله‪ ،‬تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‪ ،‬فقال‪" :‬يا بلل‪ ،‬أفل أكون عبداً‬
‫شكوراً‪ ،‬ومالي ل أبكي وقد نزل علي الليلة‪ِ :‬إنّ فِي َخلْقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ‬
‫ِلأُولِي الَْألْبَابِ‪ ‬ثم قال‪ :‬ويل لمن قرأ هذه الية ثم لم يتفكر بها"(‪.)3‬‬

‫دليل المعرفة‪:‬‬
‫‪ 1‬إغاثة اللهفان لبن القيم (‪ )1:54‬طبعة المكتب السلمي ‪.‬‬
‫‪ 2‬إحياء علوم الدين (‪ - )5:5‬دار الحديث – القاهرة ‪.‬‬
‫‪ 3‬رواه ابن حاتم وابن حبان في صحيحيهما ‪ .‬قال شعيب الرنؤوط ‪ :‬إسناده صحيح على شرط مسلم‬
‫‪ .‬وقال الشيخ اللباني ‪ :‬حسن ‪.‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪47‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ومع أن الكون هو الوسيلة الساسية لمعرفة الله عز وجل إل أن هذه الوسيلة تحتاج إلى‬
‫دليل يدل عليها‪ ،‬ويفك شفرتها‪ ،‬ويبين كيفية التعامل معها‪..‬‬

‫إن الذي يتعامل مع جهاز كهربائي يحتاج إلى وجود الدليل الخاص به بجواره ليتمكن من‬
‫استخدمه الستخدام المثل‪ ،‬فكيف بالكون وما فيه من بليين المخلوقات المختلفة في‬
‫أشكالها وأحجامها‪ ،‬وطرق معيشتها‪ ،‬وبيئاتها؟!‬

‫وكيف بأحداث الحياة المتشابكة والتي تكون مبهمة أحيانا؟!‬ ‫‪..‬‬


‫إذن فمن الضروري وجود دليل يدلنا على كيفية التفكر والعتبار بمخلوقات الله وأحداث‬
‫الحياة والستدلل من خللها على الله عز وجل‪.‬‬

‫لبد وأن يكون هذا الدليل قد جاء من عند الله فل يختلف عليه أحد‪ ،‬ول يتشكك فيه أحد‪.‬‬

‫ومن هنا يأتي دور القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل إلى الناس كدليل يدلهم عليه‬
‫ويعرفهم به‪ :‬يَا أَيّهَا النّاسُ َقدْ جَا َء ُكمْ بُرْهَانٌ مِنْ َربّ ُكمْ َوأَنْ َزلْنَا ِإلَيْ ُكمْ نُورًا مُبِينًا‪[ ‬النساء‪.]1 7 4 :‬‬

‫فل يعرف الله إل الله‪ ،‬وهو سبحانه قد تولى تعريف نفسه إلى عباده بالقدر الذي تتحمله‬
‫ختمت بالقرآن‪.‬‬
‫عقولهم وذلك من خلل رسائله لهم‪ ،‬والتي ُ‬

‫فآيات القرآن تعرفنا بالله عز وجل‪ ،‬وتدلنا كذلك على كيفية التطبيق العملي لهذه المعرفة‬
‫سأَلْ بِهِ خَبِيًا‪[ ‬الفرقان‪ .]5 9 :‬وقد أورد ابن كثير عن شمر‬
‫في الكون‪..‬ألم يقل سبحانه‪ :‬الرّحْمَنُ فَا ْ‬
‫بن عطية أنه قال في تفسيره لهذه الية‪ :‬هذا القرآن خبير به(‪ ،)1‬وهذا ما أكده ابن عباس‬
‫بقوله‪" :‬عرفت ربي بربي‪ ،‬ولول ربي ما عرفت ربي"‪ ،‬أي‪ :‬هو الذي عرفني بنفسه من خلل‬
‫حديثه عن نفسه في كتابه‪ ،‬ولول هذا الوحي الذي أنزله الله لما عرفت الله(‪.)2‬‬

‫طريقة فريدة‪:‬‬
‫والمتدبر ليات القرآن يجد فيها طريقة فريدة في تعريف الناس بربهم وبأسمائه وصفاته‪،‬‬
‫وآثارها في الكون والنفس مع ربط المعرفة بأحداث الحياة قدر المستطاع‪ ،‬لينتقل القارئ‬
‫بسهولة من آيات الله المقروءة في كتابه إلى آيات الله المرئية في كونه‪ ،‬فيحدث لديه‬
‫النسجام بين الثنين ويتأكد مدلولهما في يقينه‪ ،‬فإذا ما صاحب ذلك تأثر وتجاوب قلبي شكل‬
‫هذا المدلول إيمانا يظهر أثره في السلوك‪.‬‬

‫تفسير القرآن العظيم ( ‪ – ) 3:304‬مكتبة العبيكان – الرياض ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫أسماء الله الحسنى لعمر الشقر ‪ ،‬ص ( ‪ – ) 11‬دار النفائس – الردن ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪48‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫حمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ‪[ ‬اللك‪ ]3 :‬فهنا‬


‫تأمل معي قوله تعالى‪ :‬اّلذِي خَ َلقَ سَ ْبعَ َسمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي َخلْقِ الرّ ْ‬
‫تعرفنا الية بالله وأنه هو الخالق القدير‪ ،‬وبعد ذلك تدعونا لكي نتأكد بأنفسنا من هذه‬
‫سيٌ‪[ ‬اللك‪:‬‬‫ك الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَ ِ‬
‫الحقيقة‪ :‬فَارْ ِجعِ الْبَصَرَ َهلْ تَرَى مِنْ ُفطُورٍ ( ‪ُ )3‬ثمّ ارْ ِجعِ الْبَصَرَ كَ ّرتَيْنِ يَ ْنقَ ِلبْ ِإلَيْ َ‬
‫‪.]4 ،3‬‬

‫واليات التي تقرر حقائق المعرفة بالله عز وجل كثيرة‪..‬هذه اليات كثيرا ً ما نجدها تنتهي‬
‫بالحث على استخدام العقل والتفكر والنظر في الكون لرؤية تلك الحقائق رأي العين‪ :‬أَ َوَلمْ‬
‫يَ ْهدِ لَ ُهمْ َكمْ أَهْ َلكْنَا مِنْ قَبْ ِل ِهمْ مِ َن اْلقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ ِهمْ ِإنّ فِي َذِلكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْ َمعُونَ ( ‪ )2 6‬أَ َولَمْ يَرَوْا َأنّا‬
‫صرُونَ‪[ ‬السجدة‪.]2 7 ،2 6 :‬‬
‫نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى اْلأَ ْرضِ اْلجُرُزِ فَُنخْ ِرجُ ِبهِ َزرْعًا َت ْأكُلُ مِ ْنهُ أَْنعَامُ ُهمْ َوأَْنفُسُ ُهمْ أَفَلَا يُبْ ِ‬

‫يقول سيد قطب – رحمه الله‪:-‬‬


‫ويشعر المتدبر لهذا القرآن أن هذا موضوعه‪ ،‬وأن هذه غايته‪ ،‬وكل آية فيه‪ ،‬وكل فقرة‪ ،‬وكل‬
‫توجيه فيه‪ ،‬وكل تعليم‪..‬هو في الحقيقة جانب من جوانب التعريف بالله‪..‬تعريف الناس‬
‫بحقيقة ذاته سبحانه‪ ،‬وحقيقة صفاته‪ ..‬على قدر ما يعلم سبحانه أنهم يدركون منها‬
‫ويطيقون(‪.)1‬‬

‫فعلى سبيل المثال قوله تعالى‪َ  :‬وَأنْزَلَ اّلذِينَ ظَاهَرُو ُهمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِي ِهمْ وَ َق َذفَ فِي ُقلُوبِ ِهمُ‬
‫الرّعْبَ فَرِيقًا َتقْتُلُونَ َوَتأْسِرُونَ فَرِيقًا ( ‪َ )2 6‬وأَوْ َرثَ ُكمْ أَ ْرضَ ُهمْ وَ ِديَارَ ُهمْ َوَأمْوَالَ ُهمْ َوأَ ْرضًا َلمْ َتطَئُوهَا َوكَانَ ال ّلهُ عَلَى كُلّ‬
‫شَ ْيءٍ َقدِيرًا‪[ ‬الحزاب‪.]2 7 ،2 6 :‬‬

‫يءٍ َقدِيرًا‪ ‬فيقول‪:‬‬


‫يعلق سيد قطب ‪ -‬رحمه الله – على قوله‪َ  :‬وكَانَ ال ّلهُ عَلَى كُلّ شَ ْ‬

‫فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع‪ ،‬وهو التعقيب الذي يرد المر كله إلى الله‪ ،‬وقد مضى‬
‫السياق في عرض المعركة كلها يرد المر كله إلى الله‪ ،‬ويسند الفعال فيها إلى الله‬
‫مباشرة‪ ،‬تثبيتا ً لهذه الحقيقة الكبيرة التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالحداث الواقعة‪،‬‬
‫وبالقرآن بعد الحداث‪ ،‬ليقوم عليها التصور السلمي في النفوس‪.‬‬

‫‪..‬وهكذا تصبح الحداث مادة للتربية‪ ،‬ويصبح القرآن دليل ً وترجمانا ً للحياة وأحداثها(‪.)2‬‬
‫مقومات التصور السلمي ص (‪. )192 - 191‬‬ ‫‪1‬‬

‫في ظلل القرآن ( ‪. ) 5:2849‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪49‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫التدبر والعتبار‪:‬‬
‫إذن فالقرآن هو الدليل الذي أنزله الله عز وجل ليدل الناس عليه ويقودهم إلى معرفته‪َ  :‬هذَا‬
‫بَصَائِرُ مِنْ َربّ ُكمْ َو ُهدًى وَ َرحْ َمةٌ لِقَ ْومٍ يُ ْؤمِنُونَ‪[ ‬العراف‪.]2 0 3 :‬‬

‫هذا الدليل يقوم بدور عظيم في تعريف الناس بربهم – بالقدر الذي تتحمله عقولهم –‬
‫ويعلمهم كيف يستدلون عليه سبحانه من خلل مخلوقاته‪ ،‬ومن خلل أحداث الحياة التي تمر‬
‫بهم‪..‬ول يكتفي القرآن بعرض صفات الله وآثاره مرة أو مرتين‪ ،‬بل يعرضها مرات ومرات‬
‫بأساليب مختلفة لترسخ ‪ -‬من خلل التكرار – في العقل الباطن للقارئ‪ ،‬وتشكل جزءاً‬
‫رئيسيا ً من يقينه‪ ،‬وهذا ل يوجد في أي كتاب آخر سوى القرآن‪..‬مَا تَرَى فِي خَ ْل ِق الرّحْمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ‬
‫يٌ [اللك‪.]4 ،3 :‬‬
‫صرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ حَسِ ‪‬‬
‫فَارْ ِج ِع الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ ُفطُورٍ ( ‪ُ )3‬ثمّ ارْ ِج ِع الْبَصَرَ كَ ّرتَيْنِ يَ ْنقَلِبْ إِلَ ْيكَ الْبَ َ‬

‫ومع التكرار في عرض حقائق المعرفة بالله عز وجل تأتي لغة الخطاب المعجز الذي ل‬
‫يخاطب العقل فقط كما يحدث في الكثير من الكتب التي تعرض الحقائق العلمية – مثل –‬
‫والتي من شأنها أن تُضخم العقل دون أن يواكب ذلك تأثير واضح على المشاعر‪ ،‬مما يجعلها‬
‫ضعيفة الثر على السلوك‪..‬فالمتأمل لخطاب القرآن يجده يمزج الفكر بالعاطفة‪..‬يستثير‬
‫كوامن العقل‪ ،‬ويستجيش المشاعر في وقت واحد مما يزيد اليمان ويولد الطاقة‪ ،‬ويدفع‬
‫صاحبه للقيام بمقتضى ذلك اليمان من أعمال البر المختلفة‪.‬‬

‫يقول محمد الغزالي – رحمه الله‪:-‬‬


‫هذا الكتاب يعرف الناس بربهم على أساس من إثارة العقل‪ ،‬وتعميق النظر‪ ،‬ثم يحول هذه‬
‫المعرفة إلى مهابة لله‪ ،‬ويقظة في الضمير‪ ،‬ووجل من التقصير‪ ،‬واستعداد للحساب(‪.)1‬‬

‫تأمل معي هذه اليات وما فيها من حقائق تخاطب العقل وتستثير العاطفة‪ُ  :‬ه َو الّذِي يُرِي ُكمُ‬
‫سحَابَ الّثقَالَ ( ‪َ )1 2‬ويُسَّبحُ الرّ ْعدُ بِحَ ْم ِدهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَِتهِ َويُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ‬
‫الْبَ ْرقَ خَ ْوفًا َوطَ َمعًا َويُنْشِئُ ال ّ‬
‫بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ ُهمْ ُيجَادِلُونَ فِي ال ّلهِ وَ ُهوَ َشدِيدُ الْ ِمحَالِ‪[ ‬الرعد‪.]1 3 ،1 2 :‬‬

‫ومما يساعد العبد كذلك على تحويل الحقائق التي يطرحها القرآن إلى إيمان يرسخ في‬
‫القلب القيام بقراءة القرآن بالطريقة التي أمرنا الله بها‪ :‬وَ َرتّلِ اْلقُرْ َآنَ تَ ْرتِيل ‪ً‬ا [الزمل‪ ]4 :‬فترتيل‬
‫القرآن والتغني به وتحسين الصوت عند تلوته مع فهم المراد منه له دور كبير في استثارة‬
‫م زيادة اليمان في القلب‪.‬‬‫المشاعر ومزج الفكر بالعاطفة ومن ث َ َّ‬

‫المحاور الخمسة في القرآن – للشيخ محمد الغزالي ‪ ،‬ص (‪. )120‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪50‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫ألوان العبودية‪:‬‬
‫عندما تستثار العاطفة تجاه قضية ما فإن هذا يعني دخول صاحبها في حالة إيمانية (الحال)‪،‬‬
‫فإذا ما استمر الطرق على مشاعره في نفس التجاه تحول الحال إلى مقام‪ ،‬أو بمعنى آخر‬
‫صدِّق هذا اليمان‪ ،‬وهذا‬‫وقر اليمان بهذه القضية في القلب‪ ،‬وهذا من شأنه أن يثمر سلوكا ً ي ُ َ‬
‫ما يفعله القرآن بمزجه الدائم بين الفكر والعاطفة‪ ،‬وبشدة طرقه على المشاعر‪ ،‬وتكرار‬
‫هذا الطرق‪ ،‬أي أنه يُنشئ اليمان في القلب ويجعل المشاعر تتجه إلى الله‪ .‬مع الخذ في‬
‫العتبار أن القرآن يفعل ذلك مع كل ما ينبغي اليمان به‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ :‬ل يكتفي‬
‫القرآن بتوجيه مشاعر الخوف فقط من الله بل يوجه جميع المشاعر من حب وخوف ورجاء‬
‫وطمع وفرح وسكينة إليه سبحانه‪ ،‬أي أن القرآن يُنشئ اليمان في القلب بقاعدته العريضة‪،‬‬
‫ويجعل صاحبه يتقلب في جميع صور العبودية لله عز وجل حسب الظرف القائم أمامه‪ ،‬فهو‬
‫أمام السراء تجده يشعر بالمتنان تجاه ربه‪ ،‬وأمام الضراء تجده راضيا ً مستسلماً‬
‫للقضاء‪..‬يعيش دوما في حالة الفتقار إلى الله والنكسار الدائم له‪ ،‬والشعور بأنه ل قيام له‬
‫ول حياة ول رشاد إل به سبحانه‪.‬‬

‫منهج القرآن في التعريف بالله‪:‬‬


‫ولقد أفاض سيد قطب – رحمه الله – في كتابه مقومات التصور السلمي في بيان منهج‬
‫القرآن في التعريف بالله‪ ،‬وتحويل هذه المعرفة إلى إيمان حي يدفع للسلوك القويم فكان‬
‫مما قاله‪:‬‬

‫" والمنهج القرآني يزحم الشعور النساني بحقيقة اللوهية‪ ،‬ويأخذ على النفس أقطارها‬
‫جميعا بهذه الحقيقة وهو يتحدث عن ذات الله – سبحانه – وصفاته‪ ،‬وآثار قدرته وإبداعه‪،‬‬
‫فتتمثل في الضمير البشري تلك الحقيقة‪ ..‬حقيقة الذات الخالقة لكل شيء‪ ،‬المالكة لكل‬
‫شيء‪ ،‬المحيطة بكل شيء‪ ،‬المهيمنة على كل شيء‪ ،‬المدبرة لكل شيء‪ ،‬المؤثرة في كل‬
‫شيء‪ ،‬وتشغل مشاعر النسان وحسه‪ ،‬وضميره وعقله وكيانه كله بهذه الحقيقة وخصائصها‪،‬‬
‫وقدرتها وقوتها‪ ،‬ورحمتها ورعايتها‪ ،‬وجللها ومهابتها‪ ،‬وأنسها وقربها‪ ،‬وإحاطتها بالكون‬
‫والناس في كل وضع وفي كل حال‪ ،‬بحيث تستشعر النفس – كما هو المر في الواقع – أن‬
‫ل ملجأ من الله إل إليه‪ ،‬وأن ليس مهرب منه ول فوت‪ ،‬وأن ليس سواه عون ول سند‪ ،‬وأن‬
‫ليس هناك وجود لشيء – قائم بذاته – إل ذات الله سبحانه‪ ،‬القوامة على جميع الخلئق‬
‫الفانية‪.‬‬
‫وهذا هو الشعور القوي الغامر الحي الذي يخرج به النسان من قراءة القرآن الكريم‪..‬‬

‫منهج فريد‪:‬‬
‫والمنهج القرآني في التعريف بحقيقة اللوهية منهج فريد‪..‬إنه يوقع على أوتار النفس‬
‫البشرية جميعها‪ ،‬ويدخل عليها من منافذها كلها‪ ،‬يوقع على أوتار الخوف والحذر والرجاء‬
‫والطمأنينة‪ ،‬وعلى أوتار المهابة والجلل والنس والود‪ ،‬وعلى أوتار القهر والجبروت والرأفة‬
‫والرحمة‪ ،‬وعلى أوتار النقمة والعذاب والنعمة والعطاء‪ ،‬وعلى أوتار المغايرة الكاملة بين‬
‫اللوهية والعبودية مع النس‪ ،‬والقرب بين الله وعباده‪ ،‬ويخاطب وجدان الجمال بما في‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪51‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الكون والنفس من ألوان وأطياف‪ ،‬كما يخاطب وجدان المجهول بالغيب وما وراء الستار‬
‫من قدر الله(‪.)1‬‬

‫القرآن وشهادة التوحيد‪:‬‬


‫"‪..‬ولقد جلى القرآن للناس حقيقة اللوهية من خلل آثار فاعليتها المتجلية في الكون‬
‫والحياة المصرفة لقدار العباد‪ ،‬وعرض لهم من هذه الثار في النفس والفاق ما يمل‬
‫الكينونة البشرية بالجلل والحب‪ ،‬وبالخشية والتقوى‪ ،‬وبالرجاء والثقة‪ ،‬وبالنس والقرب‪،‬‬
‫وبالحذر واليقظة‪ ،‬وبالشعور الدائم بوجود الله – سبحانه – وحضوره‪ ،‬بحيث ل يملك القلب‬
‫المؤمن أن ينسى‪ ،‬أو أن يغفل عن ذلك الوجود وعن هذا الحضور لحظة في أي وضع وفي‬
‫أي حال‪.‬‬

‫وشهادة أن ل إله إل الله‪..‬تتطلب أن يصل الحساس بوجود الله – سبحانه – ووحدانيته حد‬
‫اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة‪ ،‬فهي رؤية ومشاهدة لهذه الحقيقة بآثارها في‬
‫أغوار النفس المكنونة‪ ،‬وفي صفحات الكون المنشورة‪..‬رؤية واضحة ومشاهدة مستيقنة‪،‬‬
‫تقوم عليها شهادة(‪.")2‬‬

‫المنة الكبرى‪:‬‬
‫إن حقيقة اللوهية – كما يجلوها المنهج القرآني – ذات أثُر إيجابي في ضمائر المؤمنين‬
‫وعقولهم‪ ،‬وفي واقعهم وحياتهم‪ ،‬بقدر ما هي في ذاتها حق‪ ،‬وبقدر ما هي ذات بهاء وجمال‬
‫وكمال‪.‬‬

‫إن الضمير البشري ل يستقيم بغير هذه الحقيقة‪.‬‬

‫إن العقل البشري ل يستقيم بغير هذه الحقيقة‪.‬‬

‫إن الحياة البشرية ل تستقيم بغير هذه الحقيقة‪.‬‬

‫ولئن امتن الله على عباده أن خلقهم‪ ،‬ورزقهم‪ ،‬وكفلهم‪..‬فإن جلء حقيقة اللوهية في‬
‫القرآن على هذا النحو – وجلء سائر الحقائق الخرى ‪ -‬لهو المنة الكبرى التي تعدل‪..‬بل‬
‫ترجح كل تلك المنن‪.‬‬

‫مقومات التصور السلمي ص (‪. )191 - 190‬‬ ‫‪1‬‬

‫مقومات التصور السلمي ص (‪. )192‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪52‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫‪ ..‬ول عجب أن يذكر ‪ -‬سبحانه – في مقدمة اللء في سورة الرحمن‪ ،‬والتي عدد فيها آلءه‬
‫في النفس والفاق وفي الدنيا والخرة‪ ،‬نعمة تعليم القرآن(‪.)3‬‬

‫نموذج ل يُنسى‪:‬‬
‫وقبل أن نختم الحديث في هذا الفصل نسوق كلما للشهيد سيد قطب حول النموذج الذي‬
‫صنعه القرآن‪ ،‬والذي تمثل في الجيل الول‪ ،‬وكيف وصلوا إلى معرفة الله وتحققوا بصفات‬
‫الربانيين‪..‬يقول رحمه الله‪:‬‬

‫لقد كنت ‪ -‬وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الولى – أقف أمام شعور الجماعة الولى‬
‫بوجود الله – سبحانه ‪ -‬وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم‪ ،‬فل أكاد أُدرك كيف تم هذا؟ كيف‬
‫أصبحت حقيقة اللوهية حاضرة في قلوبهم وفي حياتهم على هذا النحو العجيب؟ كيف‬
‫امتلت قلوبهم وحياتهم بهذه الحقيقة هذا المتلء؟ كيف أصبحت هذه الحقيقة تأخذ عليهم‬
‫الفجاج والمسالك والتجاهات والفاق‪ ،‬بحيث تواجههم حيثما اتجهوا‪ ،‬وتكون معهم أينما كانوا‬
‫وكيفما كانوا؟‬

‫كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم‪ ..‬ولكني لم أكن‬
‫أُدرك كيف تم هذا؟! حتى ع ُدت إلى القرآن أقرأه على ضوء موضوعه الصيل وهو‪:‬‬

‫( تجلية حقيقة اللوهية‪ ،‬وتعبيد الناس لها وحدها‬


‫بعد أن يعرفوها‪.) ..‬‬
‫وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله! أدركت ول أقول – أحطت – سر الصناعة! عرفت أين‬
‫صنعوا ها هنا بهذا القرآن! بهذا‬
‫صنع! إنهم ُ‬
‫صنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف ُ‬
‫ُ‬
‫المنهج المتجلي فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل‬
‫شيء‪ ،‬وتغمر كل شيء‪ ،‬ويصدر عنها كل شيء‪ ،‬ويتصل بها كل شيء‪ ،‬ويتكيف بها كل شيء‪.‬‬

‫لقد وُجدت هذه الحقيقة في نفوس الناس وفي حياتهم كما لم توجد من قبل قط في‬
‫نفوس الناس وفي حياتهم‪..‬وُجدت بكل مقوماتها‪ ،‬وبكل إيحاءاتها‪ ،‬وبكل تأثيراتها‪..‬وُجدت حية‬
‫فاعلة قوية شاملة‪..‬تتعامل مع الناس ‪ -‬كما تتعامل مع الوجود كله ‪ -‬ويتعامل معها الناس ‪-‬‬
‫كما يتعامل معها الوجود كله‪.‬‬

‫الله هو الول والخر‪ .‬والله هو الظاهر والباطن‪ .‬والله هو الخالق والرازق‪ .‬والله هو‬
‫المسيطر والمدبر‪ .‬والله هو الرافع والخافض‪ .‬والله هو المعز المذل‪ .‬والله هو القابض‬
‫والباسط‪ .‬والله هو المحيي والمميت‪ .‬والله هو النافع والضار‪ .‬والله هو المنتقم الجبار‪ .‬والله‬

‫المصدر السابق ص ( ‪. ) 332‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪53‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫هو الغفور الودود‪ .‬والله هو العلي الكبير‪ .‬والله هو القريب المجيب‪ .‬والله هو الذي يحول بين‬
‫المرء وقلبه‪ .‬والله هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‪ .‬والله هو العليم بذات‬
‫الصدور‪ .‬وهو معهم أينما كانوا‪ .‬وعنده مفاتح الغيب ل يعلمها إل هو‪ .‬وهو الذي ينزل الغيث‬
‫من بعد ما قنطوا وينشر رحمته‪ .‬وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل‪.‬‬
‫ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‪ .‬ل ملجأ من الله إل إليه‪ .‬وما لهم من دونه‬
‫من وال‪ ،‬وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً‪.‬‬

‫وهكذا‪..‬وهكذا‪..‬جعلت هذه الحقيقة تمل على الناس حياتهم‪ ،‬وتواجههم في كل درب‪،‬‬


‫وتتراءى لهم في كل صوب‪ ،‬وتأخذ على أنفسهم أقطارها‪ ،‬وتعايشهم وتساكنهم بالليل‬
‫والنهار‪ ،‬وبالغدو والسحار‪ ،‬وحين يستغشون ثيابهم‪ ،‬وحين تهجس سرائرهم‪ ،‬وحين يستخفون‬
‫من الناس‪ .‬بل حين يستخفون من نفوسهم التي بين جنوبهم‪.‬‬

‫حقيقة الربانية‪:‬‬
‫بهذا كله وُجدت ‪ -‬في الرض وفي دنيا الناس ‪ -‬حقيقة أخرى‪ "..‬حقيقة الربانية " متمثلة في‬
‫ناس من البشر‪ .‬وُجد " الربانيون " الموصولون بالله العائشون بالله ولله‪..‬الذين ليس في‬
‫قلوبهم وليس في حياتهم إل الله‪ ،‬الذين فرغت قلوبهم من حظ أنفسهم‪ ،‬ولم يعد لهم حظ‬
‫إل في الله‪ ،‬ولله‪.‬‬
‫وُجدت حقيقة " الربانية " هذه في الناس‪ ،‬حينما وُجدت حقيقة اللوهية بصورتها في عالم‬
‫الناس‪ .‬حينما وُجدت بهذه القوة‪ ،‬وبهذا الوضوح‪ ،‬وبهذا العمق وبهذا الشمول‪ ،‬وبهذه الحاطة‬
‫التي تحجب كل وجود غيرها‪ ،‬وتكشف كل مؤثر سواها‪ ،‬وترد المر كله – كما هو في حقيقته‬
‫‪ -‬لله‪.‬‬

‫وحينما ُوجدت حقيقة " الربانية " هذه في دنيا الناس‪ ،‬ووجد " الربانيون " الذين هم الترجمة‬
‫الحية لهذه الحقيقة‪..‬حينئذ انساحت الحواجز الرضية‪ ،‬والمقررات الرضية‪ ،‬والمألوفات‬
‫الرضية‪ ..‬ودبت هذه الحقيقة على الرض‪ ،‬حرة من الحواجز‪..‬حرة من المقررات‪..‬حرة من‬
‫المألوفات‪ ،‬وصنع الله ما صنع في الرض‪ ،‬وفي حياة الناس‪ ،‬بتلك الحفنة من العباد‪ ،‬الذين‬
‫تمثلت فيهم تلك الحقيقة الكبيرة‪ ،‬التي ليس ورائها حقيقة إل ما اتصل بها واستُمد منها‬
‫فأصبح له وجود مؤثر في هذا الوجود‪.‬‬

‫وبطلت الحواجز التي اعتاد عليها الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه‪.‬‬

‫وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الحداث والشياء‪ .‬بطلت المقررات التي كان‬
‫الناس يحكمونها في الوضاع والحداث‪ .‬وثبتت هذه القيمة الجديدة – في عالم الواقع – لنها‬
‫وحدها القيمة ذات الوجود الحقيقي الكبير!‬

‫ووُجد الواقع السلمي الجديد‪..‬وولد معه النسان الحقيقي الجديد(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬مقومات التصور السلمي ص (‪. )194 - 193‬‬


‫موقع اليمان أول‬ ‫‪54‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الفصل الرابع‬

‫نقطة البداية في رحلة‬


‫المعرفة‬
‫التمسك بالدليل هو البداية‪.‬‬ ‫•‬

‫وسائل معينة‪.‬‬ ‫•‬

‫وأخيراً‪.‬‬ ‫•‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪55‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫نقطة البداية‬
‫خلصنا مما سبق بيانه أنه لكي يُحقق المرء في نفسه صفات العبودية لله عز وجل‪ ،‬ويرتدي‬
‫رداءها لبد له من معرفة عميقة به سبحانه‪..‬‬

‫هذه المعرفة تحتاج إلى معلومات‪..‬هذه المعلومات بثها الله عز وجل في الكون المحيط بنا‪،‬‬
‫من مخلوقات تراها أعيننا‪ ،‬ومن أحداث تمر بنا في حياتنا‪.‬‬

‫كما أرسل سبحانه وتعالى لعباده دليل ً يدل عليه‪ ،‬ويقود من يستخدمه إلى معرفته‪ ،‬وإلى‬
‫النتفاع بآياته المبثوثة في كونه‪..‬هذا الدليل هو الكتاب الخالد‪..‬القرآن الكريم‪َ  :‬قدْ جَا َء ُكمْ مِنَ‬
‫ال ّلهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مُِبيٌ ( ‪ )1 5‬يَ ْهدِي ِبهِ ال ّلهُ مَنِ اتَّبعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلَامِ َويُخْ ِرجُ ُهمْ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ ِبإِذِْنهِ َويَ ْهدِي ِهمْ‬
‫صرَاطٍ مُسَْتقِيمٍ‪[ ‬الائدة‪.]1 6 ،1 5 :‬‬
‫ِإلَى ِ‬

‫التمسك بالدليل هو البداية‪:‬‬


‫إن القرآن الذي بين أيدينا وتراه أعيننا قادر ‪ -‬بإذن الله – على أن يعرفنا بربنا معرفة يقينية‪،‬‬
‫وأن يُنشئ اليمان بقاعدته العريضة في قلوبنا‪ ،‬وأن يجعلنا نربط حياتنا به سبحانه‪ ،‬وأن‬
‫يعلمنا كيف نعتبر بآياته المنظورة‪ ،‬وكيف نستدل من خللها على الله عز وجل فتزداد بذلك‬
‫م المعاملة والقرب‪.‬‬ ‫المعرفة ومن ث َ َّ‬

‫‪...‬كل ذلك يفعله القرآن وأكثر وأكثر‪ِ :‬إنّ َهذَا اْلقُرْ َآنَ يَ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ أَقْ َومُ‪[ ‬السراء‪.]9 :‬‬

‫‪...‬إذن فنقطة البداية في رحلة المعرفة والسير إلى الله هي اتخاذ الدليل الذي يدلنا على‬
‫الله ويعرفنا به‪...‬وهذا هو دور القرآن‪.‬‬
‫ويؤكد على هذا المعنى ابن القيم – رحمه الله – فيقول‪ :‬ل شيء أنفع للقلب من قراءة‬
‫القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين‪ ،‬وأحوال العاملين‪ ،‬ومقامات‬
‫العارفين‪ ،‬وهو الذي يورث المحبة والشوق‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬والنابة والتوكل‪ ،‬والرضا‪،‬‬
‫والتفويض‪ ،‬والشكر والصبر‪ ،‬وسائر الحوال التي بها حياة القلب وكماله(‪.)1‬‬

‫ولكي يقوم القرآن بهذا الدور لبد وأن نتعامل معه على حقيقته‪...‬على أنه أعظم وسيلة‬
‫تعرف بالله وتُنشئ اليمان في القلب‪...‬تأمل معي تعليق المام البخاري على قوله تعالى‪ :‬‬
‫سهُ إِلّا الْ ُمطَهّرُون‪[ َ‬الواقعة‪.]7 9 -7 7 :‬‬
‫ِإنّهُ َلقُرْ َآنٌ كَ ِريٌ ( ‪ )7 7‬فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( ‪ )7 8‬لَا يَمَ ّ‬

‫يقول‪" :‬ل يجد طعمه إل من آمن به‪".‬‬

‫خبر – السعودية ‪.‬‬


‫مفتاح دار السعادة لبن القيم ( ‪ – ) 1:553‬دار ابن عفان – ال ُ‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪56‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫لبد إذن من القتناع بأهمية القرآن في بناء اليمان وتحقيق العبودية‪..‬هذه القناعة ستثمر‬
‫بمشيئة الله رغبة‪ ،‬وعلى قدر الرغبة والعزم يكون المدد من الله‪ ،‬فالمداد على قدر‬
‫الستعداد‪ ،‬وكما قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬ومن يتحر الخير يُعطه "(‪.)1‬‬
‫وجاء في الثر عن أبي الدرداء قال‪ :‬لما أهبط الله آدم إلى الرض قال له‪ :‬يا آدم أحبني‬
‫وحببني إلى خلقي‪ ،‬ولن تستطيع أن تفعل ذلك إل بي‪ ،‬ولكن إذا رأيتك حريصا ً على ذلك‬
‫أعنتك عليه‪ ،‬فإذا فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة وقرة العين والطمأنينة(‪.)2‬‬
‫فالرغبة والحرص هما مفتاح النتفاع بالقرآن‪ ،‬ومفتاح لكل خير‪..‬ألم يقل سبحانه‪ِ  :‬إنْ هُوَ إِلّا‬
‫ِذكْرٌ لِ ْلعَالَمِيَ ( ‪ )2 7‬لِمَنْ شَاءَ مِنْ ُكمْ َأنْ يَسَْتقِيم‪[ َ‬التكوير‪.]2 8 ،2 7 :‬‬

‫وسائل معينة‪:‬‬
‫ومع الرغبة والحرص هناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تسرع الخطى بنا للدخول إلى‬
‫عالم القرآن والغتراف من معينه‪...‬هذه الوسائل يمكن أن نستخلصها من التفكر في هدفنا‬
‫من التعامل مع القرآن‪ ،‬أل وهو التعرف على الله عز وجل وإنشاء اليمان في القلب وبث‬
‫الروح فيه‪ ،‬فالمعرفة تستدعي فهما ً لليات‪ ،‬واستمرارا ً لقراءتها والتعامل معها حتى يرسخ‬
‫مدلولها في العقل‪ ،‬وتستدعي كذلك تجاوب المشاعر معها حتى تثمر إيمانا ً في القلب‪..‬هذا‬
‫اليمان لن يستقر في القلب‪ ،‬ولن يشكل جزءا ً أصيل ً من المشاعر إل إذا حدث تكرار‬
‫وإستمرارية في الطرق على تلك المشاعر‪.‬‬

‫إذن فقد وضحت أمامنا الوسائل‪...‬مداومة على القراءة اليومية وبأكبر وقت ممكن‪...‬قراءة‬
‫في مكان هادئ قدر المستطاع يستجمع فيه المرء شوارد فكره ليستعين بذلك على التركيز‬
‫مع اليات وفهمها‪...‬‬

‫أيضا ً لبد من تهيئة المشاعر واستجماعها مع القراءة وذلك يمكن حدوثه من خلل التباكي‬
‫مع القرآن وتكلف الحزن‪...‬‬

‫وكذلك فإن القراءة الجهرية والترتيل وتحسين الصوت لهما أثر كبير في استثارة المشاعر‬
‫وعدم شرود الذهن‪.‬‬

‫وكما نُعمل عقولنا في أي شيء نقرؤه‪ ،‬علينا أن نفعل ذلك مع القرآن‪ ،‬فإذا ما حدث تأثر‬
‫بآية من اليات علينا أن نُكثر من ترديدها ليستقر مدلولها في عقولنا‪ ،‬وينمو اليمان بها في‬
‫قلوبنا‪..‬وشيئا فشيئا ينتقل هذا اليمان من الحال إلى المقام‪.‬‬

‫حسن ‪ :‬صحيح الجامع الصغير ( ‪. ) 2328‬‬ ‫‪1‬‬

‫استنشاق نسيم النس لبن رجب الحنبلي ‪ ،‬ص (‪. )127‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪57‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫بهذه الوسائل السهلة يمكننا بمشيئة الله النتفاع بالقرآن‪.‬‬

‫التدبر والترتيل‪:‬‬
‫والمر اللفت للنتباه أن الله عز وجل قد أمرنا بأمرين في كيفية التعامل مع القرآن‪.‬‬

‫المر الول‪ :‬تدبره عند قراءته‪  :‬أَفَلَا يََت َدبّرُونَ اْلقُرْ َآنَ‪[ ‬ممد‪.]2 4 :‬‬

‫والمر الثاني‪ :‬ترتيله‪َ  :‬و َرتّ ِل اْلقُرْ َآنَ تَ ْرتِيلًا‪[ ‬الزمل‪.]4 :‬‬

‫فالتدبر يخاطب العقل‪ ،‬والترتيل يخاطب المشاعر‪ ،‬فإذا ما قمنا بتنفيذ هذين المرين في‬
‫م زيادة اليمان في القلب‬‫نفس الوقت فسيؤدي ذلك إلى مزج الفكر بالعاطفة‪ ،‬ومن ث َ َّ‬
‫فنحقق قوله تعالى‪َ  :‬وإِذَا تُلَِيتْ عَلَيْ ِهمْ َآيَاُتهُ زَا َدتْ ُهمْ إِيَانًا‪[ ‬النفال‪.]2 :‬‬

‫ولعلك تلحظ – أخي القارئ – أن الوسائل التي ذ ُكرت في السطر السابقة ما هي إل‬
‫معينات تعين المرء على تنفيذ هذين المرين فيحدث الفهم والتأثر‪ ،‬وبه تتحق بإذن الله‪ :‬‬
‫يَتْلُونَهُ حَقّ تِلَا َوِتهِ‪[ ‬البقرة‪ ]1 2 1 :‬وكيف والمرء قد يشعر أحيانا أن أحكام التجويد تدفعه دفعا ً إلى‬
‫العمل كما هو الحال عندما يسمع الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الظهار‬
‫الشفوي التام الذي ينبه إلى سرعة التنفيذ دون بطء‪ :‬يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ( ‪ُ )1‬قمْ َفَأْنذِرْ‪[ ‬الدثر‪.]2 ،1 :‬‬

‫هكذا كان يفعل الصحابة‪:‬‬


‫إن كان الجيل الول قد نجح نجاحا ً باهرا ً في معرفة الله والتحقق بصفات الربانيين‪ ،‬والعيش‬
‫في حقيقة العبودية‪ ،‬فإن العامل الساسي لهذا النجاح هو القرآن كما أسلفنا‪ ،‬فلقد كانوا‬
‫يتعاملون معه على حقيقته‪ ،‬وكان أستاذهم ومربيهم محمد صلى الله عليه وسلم يتابعهم في‬
‫ذلك‪ ،‬ويرشدهم إلى الوسائل النافعة المعينة على فهمه والتأثر به‪.‬‬

‫وإليك أخي القارئ بعضا من التفصيل حول هذه الوسائل – والتي تحدثنا عنها بإجمال في‬
‫السطر السابقة – مع ذكر أمثلة تؤكدها من السنة المطهرة وفعل الصحابة رضوان الله‬
‫عليهم‪.‬‬

‫أولً‪ :‬النشغال بالقرآن وتلوته كل يوم‪:‬‬


‫فمن البديهي أننا ما دمنا نحتاج إلى معرفة الله عز وجل‪ ،‬ودوام ربط أحداث الحياة به‪،‬‬
‫والتجلبب الدائم بجلباب العبودية‪ ،‬فهذا يستدعي تلوة القرآن كل يوم‪ ،‬وبقدر مناسب‪ ،‬وكلما‬
‫أعطينا للقرآن وقتا ً أطول من يومنا كان المردود أكثر إيجابية بمشيئة الله‪ ،‬وفي المقابل‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪58‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫عندما ل نداوم على قراءته كل يوم فسيصعب علينا النتفاع بما فيه‪...‬قال صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ " :‬تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده‪ ،‬لهو أشد تفصيا ً من قلوب الرجال من البل‬
‫في عُقلها"(‪.)1‬‬

‫فلكي يسهل على اللسان قراءته‪ ،‬وعلى العقل فهمه‪ ،‬وعلى القلب التأثر به لبد من مداومة‬
‫تلوته وعدم جفائه ولو يوما‪..‬قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬اقرؤوا القرآن واعملوا به‪ ،‬ول‬
‫تجفوا عنه"(‪.)2‬‬
‫عن الحسن البصري قال‪ :‬قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‪ :‬لو أن قلوبنا‬
‫طهرت ما شبعنا من كلم ربنا‪ ،‬وإني لكره أن يأتي علي يوم ل أنظر في المصحف‪ ،‬وما‬
‫خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه(‪.)3‬‬ ‫مات عثمان رضي الله عنه حتى ُ‬

‫وعن ابن عباس رضي الله عنه قال‪ :‬كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل البيت‬
‫نشر المصحف فقرأ فيه(‪.)4‬‬

‫ثانيا ‪ :‬التهيئة الذهنية‪:‬‬


‫والمقصد منها تهيئة الذهن لفهم القرآن وعدم الشرود أو التيه في أودية الدنيا‪ ،‬وهذا‬
‫يستدعي منا أن نقرأ القرآن في مكان هادئ قدر المستطاع دون وجود ما يشوش علينا‬
‫صفاء أذهاننا‪ ،‬ومما يؤكد ذلك المعنى ما رواه أبو داود بسند صحيح عن أبي سعيد قال‪:‬‬
‫اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف‬
‫الستر وقال‪ " :‬أل إن كلكم مناج ربه فل يؤذين بعضكم بعضاً‪ ،‬ول يرفع بعضكم على بعض‬
‫في القراءة "‪.‬‬

‫وجاء ذكر ذلك أيضا في المر بالنصات وليس بالسكوت عند سماع القرآن لن الفرق بينهما‬
‫ُوا [العراف‪ ]2 0 4 :‬وقد فهمت الجن ذلك فنصح بعضهم بعضا ً ليس فقط‬
‫كبير‪ :‬فَاسْتَ ِمعُوا َلهُ َوأَنْصِت ‪‬‬
‫ُوا [الحقاف‪.]2 9 :‬‬
‫ضرُوهُ قَالُوا أَنْصِت ‪‬‬
‫بالسماع ول بالسكوت ولكن‪ :‬فَ َلمّا حَ َ‬

‫ثالثاً‪ :‬التهيئة القلبية‪:‬‬

‫متفق عليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫صحيح الجامع ( ‪. ) 1168‬‬ ‫‪2‬‬

‫حياة الصحابة (‪. )3:168‬‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪59‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وهذه الوسيلة من أهم الوسائل التي تُسرع بنا الخطى نحو النتفاع بالقرآن والتأثر به‪ ،‬وكيف‬
‫َى [العلى‪.]1 0 :‬‬
‫ل وقد قال تعالى‪  :‬سََي ّذكّرُ مَنْ َيخْش ‪‬‬

‫وقال‪َ  :‬ف َذكّرْ بِالْقُ ْر َآنِ مَنْ َيخَافُ َوعِيدِ‪[ ‬ق‪.]4 5 :‬‬

‫والمقصد منها تهيئة المشاعر لسرعة الستثارة والتجاوب مع اليات‪ ،‬ويمكن أن يتم ذلك من‬
‫خلل القراءة بتباكي وتحزن وتخشع(أي تكلف ذلك) قال صلى الله عليه وسلم‪" :‬اتلوا‬
‫القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"(‪.)1‬‬

‫وقال‪ " :‬أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله "(‪.)2‬‬

‫وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ينصحنا قائلً‪:‬‬

‫"اقرؤوا القرآن وحركوا به القلوب‪ ،‬ول يكن هم أحدكم آخر السورة"(‪.)3‬‬

‫ومما لشك فيه أن المداومة على القراءة بتباك وتحزن لها دور كبير في تحريك القلب‬
‫وتأثره بالقرآن‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬القراءة من المصحف‪:‬‬


‫فالقراءة من المصحف لها فوائد عظيمة في عدم شرود الذهن‪ ،‬ومن ثم حدوث الفهم‬
‫والتأثر‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم‪ " :‬من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف‬
‫"(‪.)4‬‬
‫خامساً‪ :‬الجهر بالقراءة والترتيل وتحسين‬
‫الصوت‪:‬‬
‫فهذه الوسائل لها دور كبير في استجلب التأثر‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم‪ " :‬ما أذن الله‬
‫لشيء كما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به "(‪.)5‬‬

‫رواه ابن ماجه (‪ )1337‬وسنده جيد كما ذكر العراقي في تخريج الحياء ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫صحيح الجامع الصغير ( ‪. ) 194‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 3‬شعب اليمان للبيهقي (‪. )2042‬‬


‫‪ 4‬حسن ‪ ،‬رواه أبو نعيم في الحلية ‪ ،‬والبيهقي في شعب اليمان ‪ ،‬وحسنه اللباني في صحيح الجامع‬
‫( ‪. ) 6289‬‬
‫‪ 5‬رواه البخاري ( ‪ ، ) 5024‬ومسلم ( ‪. ) 792‬‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪60‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫حسنا "(‪.)1‬‬
‫وقال‪ :‬حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن ُ‬

‫صدَقَاتُ لِ ْل ُفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيِ ‪[ ‬التوبة‪]6 0 :‬‬


‫وكاد ابن مسعود يُقرئ القرآن رجلً‪ ،‬فقرأ الرجل‪  :‬إِنّمَا ال ّ‬
‫مرسلة‪ ،‬فقال ابن مسعود‪ :‬ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬كيف‬
‫صدَقَاتُ لِ ْل ُفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِيِ‪[ ‬التوبة‪ ]6 0 :‬فمدها(‪.)2‬‬
‫أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال أقرأنيها‪ :‬إِنّمَا ال ّ‬

‫سادساً‪ :‬فهم ما نقرأ‪:‬‬


‫فمما ل شك فيه أن تدبر العقل لليات والجتهاد في فهمها يشكل المحور الساسي للنتفاع‬
‫بالقرآن‪ ،‬فبدونه لن تتم التذكرة ومن ثم التأثر واليقظة‪ :‬لَِن ْ‬
‫جعَلَهَا لَ ُكمْ َت ْذكِ َرةً َوتَعِيَهَا أُ ُذنٌ وَاعَِيةٌ‪‬‬
‫[الاقة‪.]1 2 :‬‬

‫‪..‬ومعنى ذلك أن تدبر القرآن أمر لبد منه‪ :‬كِتَابٌ أَنْ َزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَارَكٌ لَِيدّبّرُوا َآيَاتِهِ َولِيََتذَكّرَ أُولُو اْلأَلْبَابِ‪‬‬
‫[ص‪.]2 9 :‬‬

‫وقال الحسن بن علي‪ :‬اقرأ القرآن ما نهاك‪ ،‬فإن لم ينهك فلست تقرأه‪.‬‬
‫أي إن لم تعش مع القرآن وتفهم خطابه وما يأمرك به وينهاك فأنت بذلك ل تقرؤه قراءة‬
‫صحيحة‪.‬‬
‫ولن القرآن حمال أوجه‪ ،‬فيمكن للجميع أن يتدبروه ويفهموه بقدر مستوى إدراكهم‪...‬‬

‫‪...‬نعم‪ ،‬سيتفاوت الفهم من شخص لخر‪ ،‬ما بين فهم عميق أو سطحي أو متوسط‪ ،‬لكن‬
‫ليست العبرة بعمق الفهم‪ ،‬ولكن بالتأثر المصاحب لهذا الفهم‪ ،‬والذي من خلله يزداد‬
‫اليمان‪ ،‬وينتبه القلب‪ ،‬وهذا أمر متاح للجميع بإذن الله‪.‬‬

‫فن قلت‪ :‬ولكني أجد بعض الكلمات التي ل أفهم معناها‪ ،‬وبعض اليات ل أستطيع تدبرها‪،‬‬
‫فماذا أفعل؟!‬

‫علينا أن نمرر مال نفهمه من آيات ونكتفي بالمعنى الجمالي وذلك وقت القراءة سواء كان‬
‫ذلك في الصلة أو خارجها‪ ،‬وهذا ما دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله‪ " :‬إن‬

‫صحيح ‪ ،‬رواه الدارمي في سننه ‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع ( ‪. ) 3145‬‬ ‫‪1‬‬

‫السلسلة الصحيحة ( ‪. ) 2237‬‬ ‫‪2‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪61‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً‪ ،‬بل يصدق بعضه بعضاً‪ ،‬فما عرفتم منه فاعملوا به‪ ،‬وما‬
‫جهلتم فردوه إلى عالمه"(‪.)1‬‬

‫فلنسترسل في القراءة ولنُعمل عقولنا في فهم ما نقرأ ببساطة ودون تكلف‪ ،‬ولنمرر ما ل‬
‫نفهمه‪ ،‬حتى نسمح لليات أن تنساب داخلنا ويتصاعد تأثيرها شيئا ً فشيئا ً حتى نصل لمرحلة‬
‫التأثر‪.‬‬

‫ويمكننا بعد ذلك أن نعود للتفسير لفهم ما أُشكل علينا فهمه‪ ،‬ومعرفة الحكام التي دلت‬
‫عليها اليات‪ ،‬ولكن في وقت آخر غير وقت القراءة‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬التجاوب مع القراءة‪:‬‬
‫القرآن خطاب من الله عز وجل يخاطبنا من خلله‪ ،‬فعلينا أن نتجاوب مع هذا الخطاب‪ ،‬فإن‬
‫كان هناك سؤال أجبنا عليه‪ ،‬وإن كان هناك أمر بالستغفار أو التسبيح استغفرنا وسبحنا‪،‬‬
‫وعندما نجد حديثا عن النار نستعيذ منها‪ ،‬وإن كان الحديث عن الجنة نتشوق إليها ونسأل‬
‫الله أن يجعلنا من أهلها‪.‬‬

‫عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال‪ :‬صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقرأها‪ ،‬ثم افتتح بالنساء فقرأها‪ ،‬ثم افتتح آل عمران فقرأها‪ ،‬يقرأ‬
‫مترسلً‪ ،‬إذا مر بآية فيها تسبيح سبح‪ ،‬وإذا مر بسؤال سأل‪ ،‬وإذا مر بتعوذ تعوذ‪ ،‬ثم ركع(‪.)2‬‬

‫وكان صلى الله عليه وسلم يمشي ذات ليلة في طرقات المدينة فسمع من يقرأ‪ :‬هَلْ أَتَاكَ‬
‫حدِيثُ اْلغَاشَِيةِ‪[ ‬الغاشية‪ ]1 :‬فبكى وقال‪ :‬نعم يا رب قد أتاني‪.‬‬
‫َ‬

‫وعن نافع قال‪ :‬كان ابن عمر يقرأ في صلته‪ ،‬فيمر بالية فيها ذكر الجنة فيقف ويسأل‬
‫الجنة‪ ،‬ويدعو ويبكي‪ ،‬ويمر بالية فيها ذكر النار فيقف ويستجير بالله عز وجل(‪.)3‬‬

‫ثامناً‪ :‬ترديد الية التي تؤثر في القلب‪:‬‬


‫بالمداومة على الوسائل السابقة ستأتي ‪ -‬بل شك – لحظات يتجاوب فيها القلب مع آية من‬
‫اليات‪ ،‬ويتأثر بها‪ ،‬وهذا يعني دخول نور هذه الية إليه‪ ،‬وهزها للمشاعر‪ ،‬وبث الروح‬
‫فيه‪...‬وهذا هو ما نريده‪.‬‬

‫حسن ‪ ،‬رواه المام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫رواه مسلم (‪. )1764‬‬ ‫‪2‬‬

‫الزهد للمام أحمد (‪. )1:193‬‬ ‫‪3‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪62‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫من هنا كان علينا استثمار تلك الفرصة العظيمة والسماح لكبر قدر من النور ليدخل القلب‪،‬‬
‫وذلك من خلل ترديد الية – أو اليات – التي أثرت فينا‪...‬قال أبو ذر رضي الله عنه‪ :‬قام‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح‪ِ :‬إنْ تُ َع ّذبْ ُهمْ َفِإنّ ُهمْ عِبَادُكَ َوِإنْ تَ ْغفِرْ لَ ُهمْ َفِإّنكَ أَنْتَ‬
‫()‬
‫الْعَزِي ُز اْلحَكِيمُ‪[ ‬الائدة‪. 1 ]1 1 8 :‬‬

‫وعن مسروق قال‪ :‬قال لي رجل من أهل مكة‪ :‬هذا مقام أخيك تميم الداري‪ ،‬لقد رأيته ذات‬
‫ب اّلذِينَ‬ ‫ليلة حتى أصبح أو كاد يصبح يقرأ آية من كتاب الله‪ ،‬يركع ويسجد ويبكي‪َ :‬أمْ حَ ِ‬
‫س َ‬
‫جعَلَ ُهمْ كَاّلذِينَ َآمَنُوا وَعَ ِملُوا الصّاِلحَاتِ َسوَاءً َمحْيَا ُهمْ َومَمَاتُ ُهمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‪[ ‬الاثية‪:‬‬
‫اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪]2 1‬‬

‫***‬

‫‪ 1‬رواه ابن ماجه (‪ ، )1389‬والنسائي (‪ ، )1:177‬والحاكم (‪ )1:241‬وصححه ‪ ،‬ووافقه الذهبي ‪ ،‬وقال‬


‫اللباني ‪ :‬حسن ‪.‬‬
‫‪ 2‬الزهد لعبد الله بن المبارك (‪. )1:31‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪63‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫وأخيرًا‬
‫بالمداومة على هذه الوسائل يدخل نور القرآن إلى القلب شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬وتدب الحياة في‬
‫جنباته‪ ،‬ويصبح في حالة دائمة‪ ،‬من التذكر والنتباه‪ ،‬وليس ذلك فحسب بل ستزداد يوما بعد‬
‫يوم المعرفة بالله عز وجل‪ ،‬وستكون بعون الله معرفة مؤثرة تُنشئ اليمان في القلب‬
‫وترسخه فيه‪ ،‬لينعكس ذلك على معاملت المرء مع ربه فيزداد له حبا ً وشوقا ً وخشية وإنابة‬
‫وتوكلً‪..‬‬

‫أخي الحبيب‪:‬‬
‫إن القرآن يُعد بمثابة الغيث لقلوبنا‪ ،‬فإن أردنا حياة حقيقية فما علينا إل أن نجعلها تتعرض‬
‫لهذا الغيث المبارك ما استطعنا إلى ذلك سبيلً‪ ،‬بأن نقترب دوما منه‪ ،‬ول نجفو عنه‪ ،‬وأن‬
‫نمكث معه أطول فترة ممكنة‪ ،‬وأن نقرأه بالطريقة التي أمرنا الله بها‪ ،‬وفصلها لنا رسولنا‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم‪..‬فإن فعلنا ذلك فسيستمر إمداده لقلوبنا – بإذن الله –‬
‫فيطهرها‪ ،‬وينورها‪ ،‬ويبذر فيها بذور المعرفة‪ ،‬ويربيها ويغذيها حتى تنبت وتُثمر الثمار‬
‫المباركة‪.‬‬

‫جاء في الحديث‪ " :‬مثل القرآن ومثل الناس كمثل الرض والغيث‪ ،‬بينما الرض ميتة هامدة‪،‬‬
‫إذ أرسل الله عليها الغيث فاهتزت‪ ،‬ثم يرسل الوابل فتهتز وتربو‪ ،‬ثم ل يزال يرسل أودية‬
‫حتى تبذر وتنبت ويزهو نباتها‪ ،‬ويخرج الله ما فيها من زينتها ومعايش الناس والبهائم‪ ،‬وكذلك‬
‫فعل هذا القرآن بالناس "(‪.)1‬‬
‫سنا التعامل مع القرآن‪ ،‬واتخذناه دليل ً في‬
‫كل ذلك أخي الحبيب سيتحقق بمشيئة الله إن أح َّ‬
‫رحلتنا المباركة‪..‬رحلة المعرفة والسير إلى الله‪.‬‬

‫والله المستعان وعليه التكلن‪...‬‬

‫وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‬


‫والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول أن هدانا الله‪.‬‬

‫رواه أبو نعيم والديلمي عن أبي سعيد – انظر كنز العمال – (‪. )2457‬‬ ‫‪1‬‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪64‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬


‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫الفهرس‬
‫الموضوع‬
‫المقدمة‬
‫الفصل الول‬
‫معنى العبودية‬

‫تمهيد‪ :‬حول منزلة النسان عند الله‬


‫معنى العبودية‬
‫تكوين النسان‬
‫الضعيف العاجز‬
‫الجاهل الفقير‬
‫ل يملك شيئا‬
‫هذه هي حقيقتك‬
‫السعادة الحقيقة‬
‫عجزي كنزي‬
‫أهمية العبودية‬
‫التمرد على العبودية‬
‫طغيان الطاعة‬
‫الفصل الثاني‬
‫بين العبادة والعبودية‬

‫العبادة والعبودية‬
‫ل بديل عن التباع‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪65‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫قيمة عبادات الجوارح‬


‫بين الشكل والمضمون‬
‫النسبة بين الشكل والمضمون‬
‫العبادة المؤثرة‬
‫أين الثر؟‬
‫المشاعر أول‬
‫اقتران العبادة بالعبودية‬
‫خطورة الهتمام بالشكل دون المضمون‬
‫زخرفة المساجد‬

‫الفصل الثالث‬
‫الطريق إلى تحقيق العبودية‬

‫لماذا ل تتجه القلوب إلى الله ؟‬


‫المعاملة على قدر المعرفة‬
‫أهمية المعرفة‬
‫غاية المعرفة‬
‫لوجدتني عنده‬
‫الكتفاء بالله‬
‫المعرفة المؤثرة‬
‫نور اليمان‬
‫مفتاح المعرفة‬
‫مجالت استخدام العقل‬
‫موقع اليمان أول‬ ‫‪66‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬
‫د‪ .‬مجدي الهللي‬ ‫حقيقة العبودية‬

‫حاكمية الوحي‬
‫التفكير يقود إلى المعرفة‬
‫دليل المعرفة‬
‫التدبر والعتبار‬
‫ألوان العبودية‬
‫منهج القرآن في التعريف بالله‬
‫نموذج ل يُنسى‬

‫الفصل الرابع‬
‫نقطة البداية في رحلة المعرفة‬

‫التمسك بالدليل هو البداية‬


‫وسائل معينة‬
‫هكذا كان الصحابة‬
‫وأخيرا ً‬

‫الفهرس‬

‫موقع اليمان أول‬ ‫‪67‬‬ ‫‪www.alemanawaln.com‬‬

You might also like