Professional Documents
Culture Documents
www.alemanawaln.com
المقدمة
الحمد لله كثيرا ً كما أنعم علينا كثيراً..الحمد لله حمدا ً يوافي نعمه ويكافئ مزيده ،والصلة
والسلم على خير البرية ،المبعوث رحمة للعالمين ،سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
وبعد:
فلقد خلق الله عز وجل النسان ،وكرمه على سائر خلقه ،ونفخ فيه من روحه ،وأعد له
الجنة لتكون له دارا ً ومستقراً ،وجعل فيها من ألوان النعيم ما ل يمكن لحد أن
يتصوره..ولكي يدخل المرء هذه الجنة ،ويتمتع بنعيمها ،لبد له من اجتياز اختبار أعده الله
له.
محور هذا الختبار هو عبادته سبحانه بالغيب في ظل تمتعه بخاصية حرية الختيار ،بمعنى أنه
مخير في عبادة الله عز وجل أو عدم عبادته ،فإن هو توجه بإرادته إلى الله وقام بحقوق
عبوديته فقد نجح في الختبار وفاز بالجنة ،وإن لم يفعل فقد خاب وخسر وكانت النار هي
مثواه.
ِإنّا َجعَلْنَا مَا َعلَى اْلأَ ْرضِ زِيَنةً لَهَا لِنَْبلُوَ ُهمْ َأيّ ُهمْ أَحْسَنُ عَ َملًا[ الكهف .]7 : أما مكان الختبار فهو الرض
إنه أمر ليس بالسهل ..أن تُترك للمرء حرية الختيار في عبادة ربه وهو ل يراه ،وبخاصة أنه
قد اُبتلي بوجود نفس أمارة بالسوء ،محبة للشهوات ،وشيطان ل يريد له إل الضلل ،ودنيا
تتزين وتتبهرج له ،وتدعو بإلحاح إلى التمتع بها.
ومع كل هذه الصعوبات التي تواجه النسان أثناء قيامه بالمهمة التي خلق من أجلها إل أن
الله عز وجل قد أمده بالملئكة التي تحضه على فعل الخير ،وأرسل إليه رسل تعرفه به –
سبحانه – وتحمل معها رسائله إليه ،لتذكره بما خلق من أجله ،وتبشره بالجنة ،وتنذره من
رُ ُسلًا مُبَشّرِينَ َومُ ْنذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ َعلَى الّلهِ ُح ّجةٌ َب ْعدَ الرّ ُسلِ َوكَانَ الّلهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[ النساء.]165: النار
ومع هذه المعينات الكثيرة التي تعين المرء على عبادة ربه ،فإن الله عز وجل قد اختص
النسان بنعمة عظيمة ،وكرمه بها على سائر خلقه ،أل وهي نعمة العقل..
قال الحسن البصري :لما خلق الله عز وجل العقل قال :أقبل ،فأقبل ،ثم قال له :أدبر،
فأدبر ،وقال :ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ،إني بك أُعبد ،وبك أُعرف ،وبك آخذ ،وبك
أُعطي(.)1
شعب اليمان للبيهقي ) 4:154 ( :برقم ( – )4632دار الكتب العلمية – بيروت . 1
فبالعقل يمكن للمرء أن يتعرف على ربه ،ويستدل على وجوده ،ووحدانيته ،وسائر صفاته
العلى ،وذلك من خلل التفكر في اليات والمخلوقات التي أودع فيها سبحانه الكثير من
المعلومات عنه :إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ لَ َآيَاتٍ لِلْ ُم ْؤمِنِيَ ( )3وَفِي َخ ْلقِ ُكمْ َومَا يَبُثّ مِنْ دَاّبةٍ َآيَاتٌ ِلقَ ْومٍ يُوقِنُونَ
ف ال ّريَاحِ َآيَاتٌ لِقَ ْومٍ
( )4وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ َومَا أَنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ ِر ْزقٍ َفأَحْيَا ِب ِه الْأَ ْرضَ َب ْعدَ مَ ْوتِهَا َوتَصْرِي ِ
َيعْقِلُون [ الاثية.]5 -3 :
وكلما ازداد المرء استخداما لعقله في التفكر في الكون والنفس ازداد معرفة بربه ،وكلما
ازداد معرفة بربه ازدادت هيبته ،وإجلله ،وتعظيمه ،وحبه وخوفه منه..وهكذا حتى يصل إلى
درجة من المعرفة تجعله يتعامل مع الله ويعبده كأنه يراه ..تأمل معي قوله تعالىِ :إنّ فِي
خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ ِلأُولِي الَْألْبَابِ ( )1 9 0اّلذِينَ َيذْكُرُونَ ال ّلهَ ِقيَامًا َو ُقعُودًا وَ َعلَى
ب النّار[ آل عمران،1 9 0 :
جُنُوبِ ِهمْ َويََتفَكّرُونَ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َربّنَا مَا َخ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ
فهؤلء الذين ذكرتهم اليتان السابقتان ،عندما استخدموا عقولهم فيما خلقت من ،]1 9 1
أجله ،وتفكروا في آيات الله الدالة عليه ،ازدادوا بهذا التفكر معرفة بربهم ،ويقينا به َ ربّنَا مَا
وانعكس ذلك على عبوديتهم ومعاملتهم له ،فازدادوا له خَ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا [ آل عمران]1 9 1 :
ب النّارِ[ آل عمران.]1 9 1 ،1 9 0 :
تعظيما وخشية سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ
التفكير في الذات اللهية جاء القرآن ليقول له :لَ ْيسَ كَمِ ْث ِلهِ شَ ْيءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيُ [ الشورى:
.]1 1
كما جاءت التوجيهات النبوية لتؤكد ذلك ،كقوله صلى الله عليه وسلم " :تفكروا في خلق
الله ول تفكروا في الله "(.)1
أعظم رحلة:
...من هنا يتضح لنا أن أعظم رحلة ينبغي أن يقوم بها العبد في حياته الدنيوية هي رحلة
المعرفة والسير بقلبه إلى الله ،والقرب الدائم منه ،حتى يصل إلى مرحلة الحسان في
العبادة التي ذكرت في حديث جبريل – عليه السلم – وهي" :أن تعبد الله كأنك تراه".
ولكي ينجح الواحد منا في هذه الرحلة ،ويحدث له من خللها القرب والوصال ،لبد له من
التعرف على ربه معرفة صحيحة ،تنعكس آثارها على القلب بمزيد من معاني العبودية.
وهذه الصفحات التي بين يديك أخي القارئ ما هي إل محاولة للتعرف على رحلة المعرفة
والسير إلى الله ،والوسائل المعينة على القيام بها ،وستكون البداية بالتعرف على معنى
العبودية وجوهرها ،والطريق إلى تحقيقها ،وذلك بصفة عامة إجمالية مع إلقاء الضوء على
نقطة البداية التي ينبغي أن ننطلق منها في رحلتنا المباركة..رحلة السير إلى الله.
وسيلي ذلك – بمشيئة الله – الحديث بشيئ من التفصيل عن صور العبودية المختلفة
كالمحبة والخلص والتقوى والتوكل والتوبة والمراقبة ..
نسأل الله – عز وجل – أن ييسر لنا إتمام هذا العمل ،وأن تصحبنا فيه معيته ،ورعايته
وتوفيقه ،وأن يتقبله منا ،ويجعله حجة لنا ل علينا ،إنه ولي ذلك والقادر عليه سُ ْبحَاَنكَ لَا عِ ْلمَ لَنَا
ِإلّا مَا َعلّمْتَنَا إِّنكَ أَنْتَ اْلعَلِي ُم اْلحَكِيمُ [ البقرة. ]3 2 :
المؤلف
رواه أبو نعيم في الحلية ،وحسنه اللباني في صحيح الجامع ،ح ( . ) 2976 1
الفصل الول
معنى العبودية
تمهيد حول منزلة النسان عند الله. •
تمهيد
حول منزلة النسان عند الله
كَّرم الله عز وجل النسان تكريما عظيما ،وفضله على سائر خلقه بأن اختصه بما لم يختص
به أحد منهم ..فقد نفخ فيه – سبحانه – من روحه القدسية ،وطلب من الملئكة الطهار أن
تسجد له :إِذْ قَالَ َرّبكَ لِلْمَلَائِ َكةِ ِإنّي خَالِقٌ بَ َ
شرًا مِنْ طِيٍ ( َ )7 1فإِذَا َس ّويْتُهُ َونَ َفخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َف َقعُوا لَهُ
سَا ِجدِينَ [ ص.]7 2 ،7 1 :
هذا التكريم العظيم للنسان يعكس حب الله عز وجل الخالص له ،فالجسد الذي يحمل بين
جنبيه نفخة من روح الله القدسية لشك أن له مكانة ومنزلة عظيمة عند الله ،ولقد علمت
الملئكة بهذه المنزلة واستشعرتها فجعلت جزءا من عبادتها :دعاءها لمن في الرض ،وهي
بذلك تريد التقرب إلى إليه – سبحانه – وتطمع في نيل رضاه من خلل الدعاء والستغفار
لحبابه وَالْمَلَائِ َكةُ يُسَّبحُونَ ِبحَ ْمدِ َربّ ِهمْ َويَسَْت ْغفِرُونَ لِمَنْ فِي اْلأَ ْرضِ [ الشورى.]5 :
ويزداد تقربهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء والستغفار لمن لهم مكانة خاصة عنده من البشر :
الّذِينَ َيحْمِلُونَ اْلعَ ْرشَ َومَنْ حَ ْوَلهُ يُسَّبحُونَ ِبحَ ْمدِ َربّ ِهمْ َويُ ْؤمِنُونَ ِبهِ َويَسَْت ْغفِرُونَ لِ ّلذِينَ َآمَنُوا َربّنَا وَ ِس ْعتَ كُلّ شَ ْيءٍ رَحْ َمةً
ص َلحَ
جحِيمِ ( َ )7ربّنَا َوأَدْخِلْ ُهمْ جَنّاتِ َع ْد ٍن الّتِي وَ َع ْدتَ ُهمْ َومَنْ َ
ب الْ َ
َوعِلْمًا فَا ْغفِرْ لِ ّلذِينَ تَابُوا وَاتَّبعُوا سَبِي َلكَ وَقِ ِهمْ َعذَا َ
مِنْ َآبَائِ ِهمْ َوأَزْوَاجِ ِهمْ َوذُ ّريّاتِ ِهمْ ِإّنكَ أَنْتَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ ( )8وَ ِق ِهمُ السّيّئَاتِ َومَنْ تَقِ السّيّئَاتِ يَ ْومَِئذٍ َف َقدْ َرحِمَْتهُ وَ َذِلكَ
ُه َو الْفَ ْو ُز الْ َعظِيمُ[ غافر.]9 : 7 :
...فإن كنت في شك من هذا فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم " :لزوال الدنيا
أهون عند الله من قتل رجل مسلم"؟(.)1
الجنة تنتظرك:
ومن أعظم حب الله لعباده إعداده سبحانه الجنة لتكون دارا أبدية لهم ..يقيمون فيها إقامة
صحَافٍ
دائمة بل تعب ،ول نصب ،ول تكاليف ...بل نعيم مقيم ل يحول ول يزول يُطَافُ عَلَ ْي ِهمْ بِ ِ
مِنْ ذَ َهبٍ َوَأكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشَْتهِيهِ اْلَأنْ ُفسُ َوتَ َلذّ اْلأَعْيُنُ َوأَنُْتمْ فِيهَا خَاِلدُونَ[ الزخرف.]7 1 :
ولقد جعل سبحانه دخول هذه الجنة مشروطا بالنجاح في امتحان يُعقد على ظهر الرض
لجميع البشر ..جوهر هذا المتحان هو عبادته سبحانه بالغيب ،والقيام بحقوق العبودية له.
ولنه الرب الودود الذي يريد لعباده جميعا الخير ودخول الجنة :وَال ّلهُ يَدْعُو إِلَى اْلجَّنةِ وَالْ َم ْغفِ َرةِ بِإِ ْذِنهِ
[البقرة ، ]2 2 1 :فقد خلقهم بطريقة وهيئة وأوصاف تعينهم وتيسر لهم النجاح في امتحان
عبوديتهم له كما سيأتي بيانه في الصفحات القادمة.
فما يمكن أن يستوي النسان في مكانه الذي خلقه الله عليه " في أحسن تقويم " ول
يرتكس إلى " أسفل سافلين " ..وما يمكن أن تستقيم حياة البشر وأوضاعهم ،ول أن تصلح
ضمائرهم وأخلقهم ،ول أن يتطهر سلوكهم وأعمالهم ،ول أن يحسنوا التعامل مع الكون
ونواميسه ومدخراته ،ول مع الحياء التي بثها الله من حولهم ،وسخر لهم منها ما سخر ،ول
أن يستقر المر بينهم على أساس المساواة الكريمة والعدل الجميل ،ول أن يكف طغيان
الطغاة ،ول أن ترتفع جباه المستضعفين ،ول أن تتحقق الكرامة التي أرادها الله لهذا الكائن
الكريم ...إل أن تتمحض اللوهية لله ،ويجرد منها العبيد أجمعين ..وإل فل حد لطغيان
النسان حين يتأله ،ول حد لهوان النسان حين يتعبد لنسان مثله(.)1
فإن كان المر كذلك ،وإن كانت العبودية الحقة لله على هذه الدرجة من الهمية ،فهيا بنا
نتعرف في الصفحات القادمة على معناها وأوصافها ليتسنى لنا التحقق بها ،فنجني ثمارها
العظيمة في الدنيا والخرة.
معنى العبودية
يلحظ المتدبر ليات القرآن أن الله عز وجل عندما يمتدح أحدا ً من رسله وأنبيائه ،فإنه
سبحانه يصفه بوصف العبودية .كقوله تعالى عن نبيه داود عليه السلم :وَا ْذكُرْ عَ ْب َدنَا دَاوُودَ ذَا
الَْأْيدِ إِّنهُ أَوّابٌ [ ص.]1 7 :
وقوله تعالى عن سليمان :وَوَ َهبْنَا ِلدَاوُودَ ُسلَيْمَانَ ِنعْ َم اْلعَبْدُ ِإّنهُ أَوّابٌ [ ص. ]3 0 :
وقد تكرر وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة سُ ْبحَانَ اّلذِي أَسْرَى ِبعَ ْبدِهِ لَيْلًا مِنَ
جدِ اْلأَقْصَى اّلذِي بَا َركْنَا حَ ْوَلهُ لِنُ ِريَهُ مِنْ َآيَاتِنَا [ السراء. ]1 :
سِجدِ اْلحَرَامِ ِإلَى الْمَ ْ
سِالْمَ ْ
معنى ذلك أن العبودية هي الصفة التي يحب الله عز وجل أن تتمثل في المرء :وَا ْذكُرْ
صةٍ ِذكْرَى الدّارِ ( َ )4 6وِإنّ ُهمْ عِ ْن َدنَا
ِعبَا َدنَا ِإبْرَاهِيمَ َوإِ ْسحَاقَ َويَ ْعقُوبَ أُولِي اْلَأيْدِي وَاْلأَبْصَارِ ( )4 5إِنّا أَخْ َلصْنَا ُهمْ ِبخَالِ َ
ص َطفَيْنَ اْلأَخْيَارِ [ ص. ]4 7 -4 5 :
لَمِنَ الْمُ ْ
العبودية لبن تيمية ،ص ( – ) 34مكتبة دار الصالة – السماعيلية – مصر . 3
..هذا التراب هو التربة التي ينمو فيها النبات فيأكل منه النسان ،وينشأ من خلصته المني
والذي من خلله يتم التكاثر ،ومن ثم يتكون الجنين الذي يصبح بعد ذلك ذكرا ً أو أنثى :وَال ّلهُ
خَ َلقَ ُكمْ مِنْ تُرَابٍ ُثمّ مِنْ ُن ْطفَةٍ ُثمّ َجعَ َل ُكمْ أَزْوَاجًا[ فاطر.]1 1 :
ي واشتم رائحته لعرض عنه ولعافه ولتقززت نفسه منه ،وصدق
ولو نظر أحدنا إلى المن ّ
الله العظيم حين قالَ :ألَمْ َنخْ ُلقْ ُكمْ مِنْ مَاءٍ مَ ِهيٍ[ الرسلت.]2 0 :
..هذا الصل الحقير للنسان من شانه أن يساعده على التصاف بصفة العبودية ،فابن
التراب والماء المهين ليس له أن يتكبر أو يتعالى أو يرفع رأسه أمام سيده وخالقه.
َ
حلة يسحبها ،ويمشي صفرة وعليه ُ ُ نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى المهل ّب بن أبي
َ
الخيلء ،فقال :يا أبا عبد الله ،ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله؟ فقال المهل ّب أما
مذِرة ،وآخرك جيفة قذرة ،وحشوك فيما بين ذلك تعرفني؟ فقال :بل أعرفك :أولك نطفة َ
بول وعذرة(.)1
ومع هذا الصل الحقير ،كان الحجم الصغير الذي ينسجم مع كونه عبدا :لَخَ ْلقُ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ
َأكْبَرُ مِنْ َخلْقِ النّاسِ َولَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ غافر.]5 7 :
فلو كان النسان طويل أطول من الجبال والشجار ،لكان ذلك مدعاة لعلوه وتكبرهَ :ولَا تَ ْمشِ
ق الْأَ ْرضَ َولَنْ تَبْ ُلغَ اْلجِبَالَ طُولًا [ السراء.]3 7 :
فِي الْأَ ْرضِ مَرَحًا إِّنكَ لَنْ َتخْ ِر َ
أدب الدنيا والدين للماوردي ،ص ( – ) 231دار الكتب العلمية – بيروت . 1
خلق قويا ..أقوى من كل شيئ في الرض ،هل تظنه سيلجأ يوما إلى ولو تخيلنا أن النسان ُ
ربه يطلب منه العون والمدد؟! ولماذا يفعل ذلك وهو يرى قوته تحقق له ما يريد :كَلّا إِنّ
الِْإنْسَانَ لََيطْغَى ( َ )6أنْ رَ َآهُ اسَْتغْنَى [ العلق.]7 ،6 :
إن من رحمة الله بالناس وحبه لهم أن خلقهم ضعفاء وابتلهم بالمراض ليسهل عليهم
خلقوا من أجلها ،ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث مع قوم عاد الذين القيام بالمهمة التي ُ
ابتلهم الله عز وجل بأن حباهم مزيدا من القوة فأساءوا استخدامها ،بل كانت وبال ً عليهم ً
وأنستهم حقيقتهمَ :فَأمّا عَادٌ فَاسْتَ ْكبَرُوا فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْ ِر اْلحَقّ وَقَالُوا مَنْ أَ َشدّ مِنّا قُ ّوةً أَ َوَلمْ يَرَوْا أَنّ ال ّلهَ اّلذِي
خَ َلقَ ُهمْ ُهوَ أَ َشدّ مِنْ ُهمْ قُ ّوةً [ فصلت.]1 5 :
..ومع الضعف الشديد للنسان ،واحتياجه الدائم لقوة تحميه فإنه كذلك عاجز ،ل يستطيع
إنفاذ إرادته ..يريد أن ينام سريعا فل يستطيع ..يريد أن يسهر فيغلبه النعاس ..يريد تذكر
شيء ما فل يتذكره ..يتمنى أن تلد زوجته ذكرا ً فتلد أنثى ..
كل هذا ليستشعر مدى عجزه واحتياجه لمن بيده القدرة على فعل كل شيء ،ومن يفعل ما
يريد وقتما يريد فيستسلم له ويذعن بين يديه.
ويرسل الله القاهر فوق عباده البتلءات لتظهر ضعف البشر جميعا ،كما في الحديث
القدسي " :لو أني ابتليت ابن آدم بثلث ما طأطأ رأسه لشيء قط :الفقر والمرض والموت
".
عدة دقائق لتوقفت الحياة ،ولو تخلت الكليتان عن عملهما لتسمم الدم ،ولو ،ولو ،ولو ...
إلخ.
معنى ذلك أن الجسم يحتاج إلى من يقوم عليه ويمده بما يحفظه ويكفل له الستمرار في
وظائفه ،ويدير عملياته الحيوية لينتج عن ذلك :نطق باللسان ،ورؤية بالعين ،وحركة
بالطراف ،وهضم للطعام ،وإخراج للفضلت ،وشهيق وزفير ،و ...
ومن منا يقدر أن يقوم بذلك ولو للحظة واحدة ،فنحن نضع اللقمة في الفم ول ندري ماذا
يجري لها داخل الجسم ،ولو تُرك لنا هضمها وتوزيع خلصتها وإخراج فضلتها لما استطعنا
أبداً .إذن نحن بحاجة إلى من يقوم بإدارة شئون أجسادنا وإمدادها بما يصلحها ،ويحافظ
عليها ،وذلك دونما توقف ليل ً أو نهارا ً بل ول لحظة واحدة ،ويستوي في ذلك جميع البشر،
القوي منهم والضعيف ..الغني والفقير ..
ل يملك شيئا:
وبالضافة إلى هذا كله ،فلقد خلق الله عز وجل النسان ولم يعطه أي ملك ذاتي ولو مثقال
جعُونَ [ البقرة ،]1 5 6 :وما عندنا من أموال وأولد
ذرة ،فنحن جميعا ً ملك للهِ :إنّا لِ ّلهِ َوإِنّا ِإلَيْهِ رَا ِ
وأثاث و ...فهي ملك له سبحانه ،وهبها لنا في حياتنا الدنيا ثم يؤول كل شيء إليه بعد ذلك
ث اْلأَ ْرضَ َومَنْ عَلَ ْيهَا [ مري.]4 0 :
ِإنّا َنحْنُ نَرِ ُ
فكل ما تراه عيناك ليس له إل مالك واحد هو الله سبحانه وتعالى َ وَلهُ كُلّ شَ ْيءٍ [ النمل.]9 1 :
وبالضافة إلى عدم وجود أي شيء يملكه النسان ملكا حقيقيا ،فلقد خلقه الله بل قوة ذاتية
مهما صغرت ،فالقوة كلها لله يمنح جزءا منها للناس ويسلبها منهم متى شاءَ :أنّ اْلقُ ّوةَ لِ ّلهِ
جَمِيعًا [ البقرة.]1 6 5 :
وكذلك القدرة ،فالله على كل شيء قدير ،أما النسان فل يقدر على شيء إل بما قدره له
ربه ،فل يمكن له أن يخلق ولو ذبابة :يَا أَيّهَا النّاسُ ضُ ِربَ مََثلٌ فَا ْستَ ِمعُوا لَهُ ِإنّ اّلذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ ال ّلهِ لَنْ
ف الطّالِبُ وَالْ َمطْلُوبُ [ الج.]7 3 :
ضعُ َ
َيخْ ُلقُوا ُذبَابًا َولَوِ اجْتَ َمعُوا لَهُ َوِإنْ يَسْ ُلبْ ُهمُ ال ّذبَابُ َشيْئًا لَا يَسْتَ ْن ِقذُوهُ مِ ْنهُ َ
فل ملكا ً ذاتياً ،ول قوة أو قدرة ذاتية للنسان ،ول صلحية له في هذا الكون تجعله يستطيع
أن يضر أحداً ،أو ينفعه إن أراد ذلك ..وهذا المر ينطبق على جميع الخلق بمن فيهم الرسل
والنبياء ..تأمل معي قوله سبحانه لرسوله الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم :لَ ْيسَ َلكَ مِنَ
الَْأمْرِ شَ ْيءٌ [ آل عمران.]1 2 8 :
ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث لزوجتي نوح ولوط عليهما السلم :ضَ َربَ ال ّلهُ مَثَلًا لِ ّلذِينَ كَفَرُوا
ِامْ َرأَةَ نُوحٍ وَامْ َرأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَ ْب َديْنِ مِنْ عِبَا ِدنَا صَاِلحَيْنِ َفخَانَتَاهُمَا َف َلمْ ُيغْنِيَا عَنْ ُهمَا مِنَ ال ّلهِ شَ ْيئًا وَقِيلَ ادْ ُخلَا النّارَ
َمعَ الدّاخِلِيَ [ التحري.]1 0 :
رواه الطبراني عن ابن عباس .قال الشيخ اللباني ( :ضعيف ) ،انظر حديث رقم : 2
وتأمل معي ما قاله نوح عليه السلم لربه :قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ أَ ْسَألَكَ مَا لَ ْيسَ لِي بِهِ ِع ْلمٌ َوِإلّا تَ ْغفِرْ
لِي َوتَرْحَمْنِي َأكُنْ مِنَ اْلخَاسِرِينَ [ هود.]4 7 :
...أما هذا الموقف الذي حدث مع موسى عليه السلم فهو موقف يظهر مدى شعوره
بحقيقته كعبد يتصرف فيه مول كيفما شاء :وَاخْتَارَ مُوسَى قَ ْو َمهُ سَ ْبعِيَ َرجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَ َخذَتْ ُه ُم الرّ ْجفَةُ
ضلّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ َوتَ ْهدِي مَنْ
سفَهَاءُ مِنّا إِنْ هِيَ ِإلّا فِتْنَُتكَ تُ ِ
قَالَ َربّ لَوْ شِ ْئتَ أَ ْهلَكْتَ ُهمْ مِنْ قَ ْبلُ َوإِيّايَ أَتُهْ ِلكُنَا بِمَا َفعَلَ ال ّ
تَشَاءُ أَنْتَ َولِيّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا َوأَنْتَ خَ ْي ُر الْغَافِرِينَ [ العراف.]1 5 5 :
...وتأمل حال يوسف الصديق وهو يناجي ربه ويسأله العون على كيد النسوة :قَالَ َربّ
سجْنُ أَ َحبّ ِإلَيّ مِمّا َيدْعُونَنِي ِإلَيْهِ َوإِلّا تَصْرِفْ عَنّي كَ ْيدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْ ِهنّ َوَأكُنْ مِنَ اْلجَاهِ ِليَ [ يوسف.]3 3 :
ال ّ
هذا العبد الصالح ماذا قال لربه عندما مكنه في الرضَ :ربّ َقدْ َآتَيْتَنِي مِ َن الْمُ ْلكِ َوعَلّمَْتنِي مِنْ َتأْوِيلِ
سلِمًا َوَأْلحِقْنِي بِالصّالِحِيَ [ يوسف.]1 0 1 :
الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ أَنْتَ َولِيّي فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ تَوَفّنِي مُ ْ
هذه المور ل يمكن للنسان أن يتغلب عليها ،أو إغلق البواب دونها بالسباب المادية ،ولو
أُوتي مال ً مثل مال قارون ،أو قوة وسلطانا ً بل حدود ،بل إن هذه المور ستزيده شعوراً
بالوحشة والضطراب وعدم المان.
فل سبيل لحدوث السلم الداخلي ،والشعور بالسعادة والطمأنينة والسكينة إل من خلل
م ل ومن خللها يشعر المرء بالمان وهو العيش في حقيقة العبودية والتجلبب بجلبابها ،ول ِ َ
يعيش في كنف ربه المقتدر الذي يملك كل شيء ،ويقدر على فعل أي شيء يريده،
ويستطيع أن يحفظه من كل سوء ،ويؤمن مخاوفه ،ويحميه ويستره :أَلَا ِإنّ أَوْلِيَاءَ ال ّلهِ لَا خَوْفٌ
َعلَيْ ِهمْ َولَا ُهمْ َيحْ َزنُونَ ( )6 2اّلذِينَ َآمَنُوا َوكَانُوا يَّتقُونَ [ يونس. ]6 3 ،6 2 :
فعلى سيبل المثال :الخوف على مستقبل الولد وهو أمر يتملك مشاعر الكثير من الناس
فيجعل كل همهم جمع المال ليؤمنوا لولدهم مستقبلهم ..هذا الخوف ل يتملك من يرتدي
ش الّذِينَ لَوْ تَ َركُوا مِنْ رداء العبودية لله عز وجل ،وكيف يتملكه وقد طمأنه ربه وقال لهَ :ولَْي ْ
خ َ
ضعَافًا خَافُوا َعلَيْ ِهمْ فَلْيَّتقُوا ال ّلهَ َولَْيقُولُوا قَ ْولًا َسدِيدًا [ النساء. ]9 :
خَ ْلفِ ِهمْ ُذ ّريّةً ِ
وما دام العيد يوقن أن الله هو الذي يكفل الجميع ويكلؤهم بالليل والنهار ففيم الخوف؟!
ويؤكد ابن القيم على هذا المعنى فيقول :ففي القلب َ
شعْث ل يلمه إل القبال على الله،
وفيه وحشة ل يزيلها إل النس به في خلوته.
وفيه حزن ل يذهبه إل السرور بمعرفته وصدق معاملته.
وفيه قلق ل يسكنه إل الجتماع عليه والفرار إليه.
ُ
وفيه فاقه ل يسدها إل محبته والنابة إليه ودوام ذكره ،وصدق الخلص له ،ولو أعطي الدنيا
وما فيها لم يسد تلك الفاقة منه أبدا (.)1
ويحكي عن شيخه – ابن تيمية – أنه قال مرة :ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في
صدري ،إن رحت فهي معي ل تفارقني ،إن حبسي خلوة ،وقتلي شهادة ،وإخراجي من بلدي
سياحة.
ً ً
ويستطرد ابن القيم قائل :وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط ،مع ما كان فيه من
ضيق العيش ،وخلف الرفاهية والنعيم ،بل ضدها ،ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد
والرهاق ،وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا ،وأشرحهم صدرا ،وأقواهم قلبا ،وأسرهم
نفسا ،تلوح نضرة النعيم على وجهه.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه ،وفتح لهم أبوابها في دار العمل ،فآتاهم من
روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم والمسابقة إليها (.)1
وفي كتابه – مقومات التصور السلمي – يؤكد سيد قطب – رحمه الله – على هذا المعنى
فيقول :إن الطمأنينة إلى الله ،بعد معرفته بصفاته كما يعرضها القرآن ،ل تعدلها طمأنينة،
ول يعدلها شيء من أشياء هذه الدنيا ،وإنه لتمر بالنسان أحداث ولحظات يشعر فيها بقيمة
هذه المعرفة شعورا ً كامل ً واضحا ً عميقاً ،ولكنه قد ينسى أو يغفل حتى تذكره تلك اللحظات
والحداث! وإن الرضا والنس والبشاشة والتوجه والطمأنينة والثقة والراحة التي تسكبها
تلك المعرفة لمور تذاق ول توصف ،وأقرب ما يصورها المنهج القرآني في مثل تلك
الشارات:
اّلذِينَ َآمَنُوا َوتَطْمَئِنّ ُقلُوبُ ُهمْ ِبذِكْرِ ال ّلهِ َألَا ِب ِذكْرِ ال ّلهِ تَطْمَِئ ّن الْقُلُوبُ [ الرعد.]2 8 :
يقول ابن القيم ( :وهذا – والله أعلم – هو السر في استجابة دعوة الثلثة :المظلوم
والمسافر والصائم ،للكسرة التي في قلب كل واحد منهم .فإن غربة المسافر وكسرته مما
سوَْرة النفس السبعية الحيوانية ويذلها ) (.)3يجد العبد في نفسه ،وكذلك الصوم فإنه يكسر َ
ومما يؤكد أن العبودية من ذل وانكسار ،وخضوع وتواضع هي الحالة التي يحبها الله عز وجل
من العبد ما حدث للمرأة البغي التي سقت الكلب الظمآن وما تل ذلك من مغفرة الله لها.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " :بينما كلب يطيف
بركية كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل ،فنزعت موقها فسقته ،فغُفر لها
به " (.)2
ي التي رأت الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى ما حملها على أن ( فما قام بقلب البغ ّ
غررت بنفسها في نزول البئر ،وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف ،وحملها خفها
بفيها ،وهو ملن ،حتى أمكنها الرقي من البئر ،ثم تواضعها لهذا المخلوق التي جرت عادة
الناس بضربه ،فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب ،من غير أن ترجو منه جزاء ول شكورا.
فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء ،فغفر لها ) (.)3
من هنا ندرك قول أحد الصالحين :دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها ،فما دخلت من
باب إل رأيت عليه الزحام .فلم أتمكن من الدخول ،حتى جئت باب الذل والفتقار ،فإذا هو
أقرب باب إليه وأوسعه ،ول مزاحم فيه ول معوق ..فما هو إل أن وضعت قدمي في عتبته،
فإذا هو -سبحانه -قد أخد بيدي وأدخلني عليه.
وكذلك قول أحدهم :ل طريق أقرب إلى الله من طريق العبودية ( ).
4
رواه البخاري ( ) 3467وركية :أي بئر ،وموقها :أي خفها . 2
إن الشرف العظيم للنسان أن يكون عبدا لله عز وجل ،يسأله دوما حاجته ،ويطلب منه
الحماية والنصرة ،والعون والمدد ،فإذا ما استكبر عن ذلك ،وطن أن بمقدوره العيش في
م كان العقاب الحياة دون معونة من الله فقد ظلم نفسه ،وطغى طغيانا ل حدود له ،ومن ث َ َّ
جبْ لَ ُكمْ ِإنّ اّلذِينَ يَسْتَكِْبرُونَ َعنْ ِعبَا َدتِي سََيدْ ُخلُونَ جَهَّنمَ دَاخِرِينَ
الليم في انتظارهَ :وقَالَ َربّ ُكمُ ادْعُونِي أَسَْت ِ
[غافر.]6 0 :
رواه الترمذي وقال :حديث حسن .ويذهب بنفسه أي :يرتفع ويتكبر . 1
رواه المام أحمد ،وأبو داود عن أبي هريرة ،وصححه اللباني في صحيح الجامع ،ح 2
فيكون الذنب موجبا لترتيب طاعات ،وحسنات ،ومعاملت قلبية ،من خوف الله ،والحياء
منه ،والطراق بين يديه منكسا ً رأسه خجلً ،باكياً ،نادماً ،مستقيل ً ربه ،وكل واحد من هذه
الثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة ،وكبرا ً وازدراء بالناس ،ورؤيتهم بعين الحتقار.
ول ريب أن هذا المذنب خير عند الله ،وأقرب إلى النجاة والفوز من المعجب بطاعته،
ن بها ،وبحاله على الله عز وجل وعباده ،وإن قال بلسانه خلف ذلك ،فالله الصائل بها ،الما ّ
شهيد عل ما في قلبه.
ً
..فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به ،ويعرفه قدره ،ويكفي به عباده
شره ،وينكس به رأسه ،ويستخرج منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده .فيكون
هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ،ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء
العضال (.)1
وخلصة القول أن الله عز وجل قد خلقنا بهذا التكوين وما فيه من ضعف وعجز وجهل
واحتياج ليسهل علينا أداء واجبات العبودية ،ويحدث النسجام بين ما هو مركوز في فطرتنا
وبين ما ينبغي أن نقوم به من تواضع ،وتذلل ،وانكسار ،وتضرع ،وحب ،وخشية ،وهيبة له
سبحانه ،فإذا ما تمرد المرء على ارتداء رداء العبودية فإنه بذلك يخرج من كنف ربه ورعايته،
وتكون له المعيشة الضنك في الدنيا ،والعذاب في الخرة.
الفصل الثاني
المضمون.
1اتفق العلماء على أن هناك عبادات محلها القلب من حب وخوف ورجاء وتوبة وإخلص ..وعبادات
محلها الجوارح كالصلة والصيام والذكر والحج.
وقد أدرج بعضهم القسمين تحت مسمى العبادة ،وإن كانوا قد فرقوا بينهما بعد ذلك فسموها :عبادة
القلب ،وعبادة الجوارح ،أو أعمال القلب وأعمال الجوارح ،والبعض الخر أدرج عبادات القلب تحت
مسمى (العبودية) ،وعبادات الجوارح تحت مسمى (العبادة).
والملحظ أن جوهر التقسيم واحد وإن اختلفت المسميات ،ونحن في هذا الكتاب نتبنى الرأي الثاني.
موقع اليمان أول 21 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
ومن أمثلة اختلف شرائع من قبلنا عن شريعتنا قوله تعالىَ :وعَلَى اّلذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا كُلّ ذِي ُظفُرٍ
َومِنَ الَْبقَرِ وَاْلغََنمِ حَ ّرمْنَا َعلَيْ ِهمْ ُشحُومَهُمَا ِإلّا مَا حَمَ َلتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ اْلحَوَايَا أَوْ مَا اخَْتلَطَ بِ َع ْظمٍ َذلِكَ جَ َزيْنَا ُهمْ بَِبغْيِ ِهمْ َوِإنّا
لَصَادِقُونَ [ النعام.]1 4 6 :
سئل :ما كان شريعة أيوب عليه السلم؟
وأخرج المام أحمد في الزهد أن وهب بن منبه ُ
قال :التوحيد وصلح ذات البين ،وإذا أراد أحدهم حاجة إلى الله عز وجل خر ساجدا ثم طلب
حاجته (.. )1
الزهد للمام أحمد ،ص ( – ) 42دار الكتب العلمية – بيروت . 1
أما الزكاة والصدقة فهي عبادات تُظهر مدى حبنا لله عز وجل ومدى انتصار هذا الحب على
حب المال الذي تعشقه النفس.
والصوم عبادة تُظهر مدى تضحيتنا وحبنا لله عز وجل أكثر من حبنا للطعام والشراب ..أما
الحج فيظهر مدى استسلمنا ،وانقيادنا لمره سبحانه.
والذكر كذلك :فالتسبيح يعبر عن تعظيم الله وتنزيهه ،والستغفار يُعبر عن الشعور بالتقصير
في جنبه سبحانه ،والحوقلة تُظهر الفتقار والمسكنة إليه ...وهكذا.
...فالعبادات إذن ما هي إل منظومة تُظهر معاني العبودية لله عز وجل.
ولكي تؤدي هذه العبادات دورها في إظهار العبودية ،ل بد من حضور القلب وتفاعله معها ..
حضور مشاعر الحب والخوف والرجاء ،ليزداد خللها خشوعه وخضوعه لله عز وجل كما
قال تعالى واصفا عباده الصالحينَ :وَيخِرّونَ لِ ْلأَذْقَانِ يَبْكُونَ َويَزِيدُ ُهمْ ُخشُوعًا [ السراء.]1 0 9 :
يقول د .محمد سعيد رمضان البوطي :العبادة هي الوظائف البدنية التي كلف الله عباده بها،
من صلة وصيام وحج وغيرها من العبادات .أما العبودية فهي الذل الذي يهيمن على كيان
النسان ومشاعره لخالقه ،فيقوده إلى تعظيمه ومهابته ،وإلى اللتجاء الدائم إليه بالستغفار
والدعاء والرجاء ،ومن ثم فهو ل يدين بالولء والتعظيم لي كائن غيره.
م فإن قيمة العبادة تكمن وعلقة ما بين العبادة والعبودية أن العبادة وعاء للعبودية ،ومن ث َ َّ
في القدر الذي تنطوي عليه من معنى العبودية .ذلك لن الذي يقرب العبد إلى الله تحققه
شرعت العبادات وسيلة لذلك (.)1 بمعنى العبودية له ،وإنما ُ
ويقول كذلك :ثم اعلم أن للطاعات والقربات المتنوعة التي شرعها الله وأمر بها ،ثمرة
واحدة ل ثانية لها ،وهي سر قبول الله لها وإثابته عليها ،أل وهي ثمرة الفتقار إلى الله
والتوجه إليه بذل العبودية والضراعة والنكسار.
بل المطلوب من النسان أن يكون في كل أحواله وتقلباته مستشعرا ً حقيقة الفتقار إلى
شرعت العبادات والطاعات الله متصفا ً بذل العبودية لله ،ملتصقا ً بأعتاب جوده وكرمه ،وما ُ
إل لتكون تذكرة لهذا المطلوب ،وترسيخا ً لمشاعر العبودية لله والفتقار إليه في نفس
النسان (.)2
عندما يذهب الواحد منا إلى مصلحة كمصلحة الحوال المدنية ليستخرج بطاقة للحوال
الشخصية أو مستخرجا ً رسميا ً لشهادة الميلد ،فإنه يقدم طلبه على نموذج معد لذلك،
ويستوفي الشروط المطلوبة لصحة الطلب ،ثم يكتب ما يريده بعد ذلك.
فإذا قام بتقديم طلبه على ورقة أخرى ،غير هذا النموذج ،فلن يُلتفت إلى طلبه مهما كتب
فيه.
وإن قدم النموذج المطلوب واستوفى شروطه ولكنه لم يكتب فيه شيئا مما يريد ،فسيطرح
طلبه جانبا ً من قِبل المختصين لنهم لم يعرفوا ماذا يريد.
إذن فالنموذج مطلوب ،وملؤه بالبيانات كذلك مطلوب ،ولبد من الثنين معاً.
كذلك العبادة بالجوارح والعبودية بالقلب.
فالعبادة مهمة جدا ً كشكل ونموذج طالبنا الله عز وجل أن ندخل عليه من خلله.
ولكن إذا اجتهدنا في تحصيل الشكل الظاهري لتلك العبادة ،وبالغنا في إتقانه دون أن نمله
بمعاني العبودية ،فقد ضاع تعبنا ...تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلمُ" :رب صائم ليس
له من صيامه إل الجوع ،وُرب قائم ليس له من قيامه إل السهر" (.)1
ولو قمنا بإظهار معاني العبودية لله عز وجل ولكن بشكل مبتدع مخالف للذي ارتضاه لنا
فلن يُقبل منا ،وسيَُرد علينا كما قال صلى الله عليه وسلم" :من أحدث في أمرنا هذا ما
ليس منه فهو َرد" ( ،)2فلو أن شخصا اتجه في صلته متعمدا ً لغير القبلة وكانت صلته
خاشعة متذللة متمسكنة فلن تُقبل منه ،وفي المقابل لو صلى في اتجاه القبلة ،وأتى بجميع
حركات الصلة الصحيحة وقلبه غافل لهٍ ساهٍ فما قيمة صلته؟! ألم يقل صلى الله عليه
وسلم" :إن الله ل ينظر إلى أجسادكم ،ول صوركم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم" (.)3
يقول ابن القيم :ول ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح ،من غير حضور ول مراقبة ،ول
إقبال على الله :قليل المنفعة ،دنيا وأخرى ،كثيرة المؤونة ..فهكذا العمل الخارجي
القشوري بمنزلة النخالة ،كثيرة المنظر قليلة الفائدة.
ومما يؤكد ضرورة التيان بالشكل الصحيح ،وكذلك المضمون قوله صلى الله عليه وسلم:
"من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها
خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلها لغير وقتها ولم يسبغ
لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ول ركوعها ول سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول
ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب
بها وجهه" (.)4
سنن ابن ماجه ( . ) 1680قال الشيخ اللباني ( :صحيح ) انظر حديث رقم ( )3488 1
أخرجه الطبراني بإسناد عن أنس بن مالك وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (، )1:302 4
ويقول المام البنا رحمه الله :وعمل القلب مقدم على عمل الجارحة وتحقيق الكمال في
كليهما مطلوب وإن اختلفت مرتبتا الطلب (.)5
السلمية .
أخرجه الترمذي والنسائي بنحوه من حديث الفضل بن عباس بإسناد مضطرب . 2
تصور ينشئ أثره في ضمير الفرد والجماعة ،وعمل ينشئ أثره في حياة الفرد والجماعة.
ول يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قِبَل المشرق والمغرب ..سواء في التوجيه
إلى القبلة هذه أم تلك ،أو في التسليم في الصلة يمينا ً وشمالً ،أو في سائر الظاهرة التي
يزاولها الناس في الشعائر(.)1
في ظلل القرآن لسيد قطب ( - ) 159 :1دار الشروق – القاهرة . 1
المحجة في سير الدلجة لبن رجب ،ص ( – )53دار البشائر – بيروت . 3
ول صدقة ،ولكني أحب الله ورسوله ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" :أنت مع من
أحببت".
قال أنس :ففرحنا يومئذ فرحا ً شديداً.
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم" :والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام
ما كانوا أكثر الناس صلة ول صياما ً ول اعتماراً ،ولكنهم عقلوا عن الله مواعظه ،فوجلت
قلوبهم واطمأنت إليه النفوس ،وخشعت منه الجوارح ،ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة
وبحسن الدرجة عند الناس ،وعند الله في الخرة"(.)1
والمتأمل في كتب السير والتراجم يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا أكثر صلة
وصياما ممن جاءوا من بعدهم ولم يؤثر عن أحدهم أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء كذا
وكذا سنة ،بل كانوا ينامون ويستيقظون بالليل ..يصومون ويفطرون ..يضحكون ويبكون ..
ومع ذلك كانوا أكثر الخلق بعد النبياء قربا ً من الله عز وجل وعبودية له بقلوبهم.
يقول ابن مسعود مخاطبا ً نفرا ً من التابعين :أنتم أكثر صلة من أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم ،وهم كانوا خيرا ً منكم ،قالوا :وبم ذلك؟ قال :كانوا أزهد منكم في الدنيا ،وأرغب
في الخرة(.)2
أين الثر ؟
ومع قيمة العبادة العظمى في كونها تظهر معاني العبودية لله عز وجل من ذل وافتقار
وانكسار وخضوع واستسلم ،إل أن لها دورا ً خطيرا ً كذلك في تحسين السلوك ،والستقامة
على أمر الله ،وذلك من خلل زيادة اليمان التي تصاحب تحرك القلب وتجاوب المشاعر مع
تلك العبادة ليقوم اليمان بدوره في دفع المرء للقيام بالعمال الصالحة َ :ذِلكَ َومَنْ ُي َعظّمْ َشعَائِرَ
ال ّلهِ َفِإنّهَا مِنْ َتقْوَى اْلقُلُوبِ [ الج.]3 2 :
فأسرع الناس إلى فعل الخيرات هم أكثر الناس إيمانا ً وخشية وتعبيدا ً لمشاعرهم وقلوبهم
ش ِفقُونَ ( )5 7وَالّذِينَ ُهمْ بِ َآيَاتِ َربّ ِهمْ يُ ْؤمِنُونَ ( )5 8وَاّلذِينَ ُهمْ
لله عز وجل :إِ ّن اّلذِينَ ُهمْ مِنْ خَشَْيةِ َربّ ِهمْ مُ ْ
بِ َربّ ِهمْ لَا يُشْ ِركُونَ ( )5 9وَالّذِينَ يُ ْؤتُونَ مَا َآتَوْا وَ ُقلُوبُ ُهمْ َوجِ َلةٌ َأنّ ُهمْ إِلَى َربّ ِهمْ رَا ِجعُونَ ( )6 0أُولَئِكَ يُسَا ِرعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَ ُهمْ لَهَا سَابِقُونَ [ الؤمنون.]6 1 -5 7 :
إذن فلبد أن يظهر أثر العبادة في السلوك ،فعلى سبيل المثال ِ:إنّ الصّلَاةَ تَنْهَى عَ ِن اْلفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ[ العنكبوت.]4 5 :
فإن لم تفعل الصلة ذلك فإن هذا يعني عدم زيادتها لليمان ،وعدم إظهارها لمعاني
م فقد فقدت روحها والمقصد العظم منها ،فالخشوع روح الصلة. العبودية ،ومن ث َ َّ
رواه الترمذي ( ، ) 3369وأبو داود ( ، )1449وصححه ابن حبان (. )2396 3
رواه الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهما مرفوعا ،وأورده اللباني في السلسلة 4
على خلقي ،ولم يبُت مصرا ًً على معصيتي ،وقطع نهاره في ذكري ،ورحم المسكين وابن
السبيل ،والرملة والمصاب .)1("..
فتزيين المساجد عمل سهل يقدر عليه الجميع ،ويظنون من خلله أنهم يخدمون الدين
ويؤدون حقه عليهم ،ومن ثَم فل عليهم بعد ذلك شيء مما يقصرون فيه.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله :إن مكانة المسجد في المجتمع السلمي ،تجعله
مصدر التوجيه الروحي والمادي ،فهو ساحة للعبادة ،ومدرسة للعلم ،وندوة للدب ،لكن
الناس لما أعياهم بناء النفوس على الخلق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد
السامقة التي تضم مصلين أقزاما!!!
أما السلف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية النفوس
وتقويمها ،فكانوا أمثلة صحيحة للسلم(.)1
فقه السيرة لمحمد الغزالي ،ص ( )178بتصرف يسير – دار القلم – دمشق . 1
الفصل الثالث
•أهمية المعرفة.
الكتفاء بالله. •
ولو دققنا النظر في هذه المعاني لوجدنا أنها عبارة عن معاملة ينبغي أن يتعامل بها المرء
مع الله عز وجل ،بمعنى أنه يجب على العبد أن يعامل ربه بحب واشتياق ،وأن يعامله بصدق
موقع اليمان أول 32 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
وإخلص ،وأن يتعامل معه وهو يرهبه ويخشاه ،وأن يعامله وهو يطمع فيما عنده ،وأن يتعامل
معه بتذلل وانكسار ،وأن يتعامل معه كذلك وهو يستشعر افتقاره ،وعظيم احتياجه إليه..
هذه المعاملت ل يمكن أن تتم بصورة تلقائية إل إذا انطلقت المشاعر ،فعلى سبيل المثال:
ل يمكن لشخص أن يحب شخصا ً آخر لمجرد أنه أُمر بذلك ،فلغة القلوب ل يمكن تكلفها.
...فالقلوب بصفة عامة تحب من يحسن إليها ويكرمها ،ويحرص عليها ،ويرأف بها.
...والقلوب تخاف ممن تتأكد أنه يملك عقابها وحرمانها مما تحب.
لماذا تتجه القلوب إلى بعض المخلوقين بالتعظيم والتوقير ول تتجه إلى الخالق العظيم ذي
الجلل والكرام؟
السبب وراء ذلك هو الجهل به سبحانه ،وبمقامه الجليل ،وبقدره العظيم ،والجهل كذلك
بالطريقة التي يتعامل بها معنا من ود ،وحب ،وشفقة ..تأمل معي هذه الية التي تجيب عن
هذه السئلةَ :لأَنُْتمْ أَ َشدّ رَهَْبةً فِي ُ
صدُو ِر ِهمْ مِنَ ال ّلهِ َذِلكَ ِبأَنّ ُهمْ قَ ْومٌ لَا َيفْقَهُونَ [ الشر ،]1 3 :فعدم معرفة
هؤلء بالله جعلتهم يرهبون البشر أكثر من رهبتهم لله.
يقول صلى الله عليه وسلم" :إن الله قد أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجله الرض
وعنقه مثنية تحت العرش ،وهو يقول :سبحانك ما أعظمك ،فيرد عليه :ل يعلم ذلك من
حلف بي كاذبا"(.)1
..تخيل أنك ذهبت للسوق ودخلت دكانا من الدكاكين وقابلت فيه رجل ً يتسوق مثلما
تتسوق ،ودار بينكما حديث ومن خلله عرفت أن هذا الرجل يعمل وزيرا ً في حكومة بلدك،
هل ستسمر بالحديث معه بنفس الطريقة التي بدأت بها أم ستتغير ليكسوها الحترام
والحذر؟! ..بل شك أن معرفتك به ستدفعك إلى تغيير معاملتك له..
فطريقة المعاملة تحددها درجة المعرفة ،وكلما ازدادت المعرفة تغيرت المعاملة ،وهذا ما
حدث مع سيدنا موسى – عليه السلم – عندما رأى آثار جلل الله على الجبل الذي اندك
فخر -عليه السلم – صعقا ً فلما أفاق ماذا قال لربه؟!
فَ َلمّا أَفَاقَ قَالَ سُ ْبحَاَنكَ تُبْتُ ِإلَ ْيكَ َوأَنَا أَوّلُ الْمُ ْؤمِنِيَ [ العراف ،]1 4 3 :فإن كان هذا قوله عند رؤية أثر
جلل الله على الجبل ،فكيف لو رأي الله؟!
في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم" :إن الله ملئكة يطوفون
في الطرق يلتمسون أهل الذكر ،فإذا وجدوا قوما ً يذكرون الله عز وجل تنادوا :هلموا إلى
حاجتكم ،فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء ،قال :فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم :ما يقول
عبادي؟ قال :يقولون :يسبحونك ،ويكبرونك ،ويحمدونك ،ويمجدونك ،فيقول :هل رأوني؟
فيقولون :ل والله ما رأوك ،فيقول :كيف لو رأوني؟ قال :يقولون :لو رأوك كانوا أشد لك
عبادة ،...وأشد لك تمجيداً ،وتحميداً ،وأكثر لك تسبيحاً "...الحديث.
أهمية المعرفة:
إذن فالسبب الرئيسي لعدم معاملة الله عز وجل بما هو أهله :عدم معرفته معرفة صحيحة:
َ
حقَّ قَدْرِهِ[ النعام ،]91:وهذا ما أنكره نوح -عليه السلم -على قومه عندما ه َ ما قَدَُروا الل ّ َ وَ َ
َ
ن لِل ّهِ وَقَاًرا[ نوح ،]13:ثم بدأ في تعريفهم بربهم لعل قلوبهم تتجه م َل تَْر ُ
جو َ ما لَك ُ ْ قال لهمَ :
إليهَ :و َقدْ َخ َلقَ ُكمْ َأطْوَارًا ( َ )1 4أَلمْ تَرَوْا كَيْفَ خَ َلقَ ال ّلهُ سَ ْبعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ( )1 5وَ َج َع َل الْقَمَرَ فِي ِهنّ نُورًا وَ َجعَلَ
الشّ ْمسَ ِسرَاجًا ( )1 6وَال ّلهُ أَنْبَتَ ُكمْ مِ َن الْأَ ْرضِ نَبَاتًا ( ُ )1 7ثمّ يُعِي ُد ُكمْ فِيهَا َويُخْرِ ُج ُكمْ إِخْرَاجًا ( )1 8وَال ّلهُ َجعَلَ لَ ُكمُ
سلُكُوا مِنْهَا سُُبلًا ِفجَاجًا[ نوح.]2 0 -1 4 :
الْأَ ْرضَ بِسَاطًا ( )1 9لِتَ ْ
معنى ذلك أن نقطة البداية في طريق العبودية والسير إلى الله هي معرفته سبحانه ،وكلما
قويت تلك المعرفة ،ازدادت العبودية أكثر وأكثر ،وهذا ما يؤكده قوله تعالى :إِنّ فِي خَ ْلقِ
السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ لِأُولِي اْلأَلْبَابِ ( )1 9 0اّلذِينَ َيذْكُرُونَ ال ّلهَ ِقيَامًا َو ُقعُودًا وَ َعلَى
ب النّارِ[ آل عمران،1 9 0 :
جُنُوبِ ِهمْ َويََتفَكّرُونَ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َربّنَا مَا َخ َلقْتَ َهذَا بَاطِلًا سُ ْبحَاَنكَ َفقِنَا َعذَا َ
.]1 9 1
فهؤلء الصالحون الذين ذكرتهم اليات ،عندما تفكروا في خلق الله ،ازدادت معرفتهم به
ومن ثَم َ انعكس ذلك على تعاملهم معه بمزيد من التنزيه والخشية :سُ ْبحَانَكَ َفقِنَا َعذَابَ النّارِ
[آل عمران .]1 9 1 :يقول ابن رجب :وكلما قويت معرفة العبد لله قويت محبته له ،ومحبته
لطاعته ،وحصلت له لذة العبادات من الذكر وغيره على قدر ذلك(.)1
غاية المعرفة:
وغاية معرفة الله عز وجل في الدنيا هي الوصول إلى أن نتعامل معه -سبحانه – ونعبده
كأننا نراه ،فنناجيه من قريب ،ونتحدث معه كأننا نشاهده...
...أن نستشعر دوما قربه منا ،فنأنس به ونكثر من مناجاته ،ونتخذه صاحبا ً ورفيقا ً في الحل
والترحال.
..أن نجده دائما ً وراء كل حدث من أحداث حياتنا ،ونربط أمورنا كلها به ،مثل ما قال يوسف
– عليه السلم – لبويه وهو يخبرهم عما حدث له :وَقَالَ يَا َأبَتِ َهذَا َتأْوِيلُ رُ ْؤيَايَ مِنْ قَ ْبلُ َقدْ َجعَ َلهَا َربّي
سجْنِ وَجَاءَ بِ ُكمْ مِنَ الَْبدْوِ مِنْ بَ ْعدِ َأنْ نَ َزغَ الشّ ْيطَانُ بَيْنِي َوبَيْنَ إِخْ َوتِي إِنّ َربّي
سنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ال ّ
َحقّا وَ َقدْ أَحْ َ
َلطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ِإنّهُ ُه َو الْعَلِيمُ اْلحَكِيمُ [ يوسف.]1 0 0 :
مع أن ظاهر المر أن ملك مصر هو الذي أمر بإخراجه من السجن ،لكنه يرى المور على
حقيقتها ،وأن الله هو الذي أخرجه ،وما الملك إل ستار للقدر ،وجندي ينفذ المر اللهي...
يقول ابن رجب :الوصول إلى الله نوعان :أحدهما في الدنيا ،والثاني في الخرة .فأما
الوصول الدنيوي فالمراد به :أن القلوب تصل إلى معرفته ،فإذا عرفته أحبته وأنست به،
فوجدته منها قريباً ،ولدعائها ً مجيباً ،كما في بعض الثار :ابن آدم ،اطلبني تجدني ،فإن
وجدتني وجدت كل شيئ وإن فتك فاتك كل شيء.
وأما الوصول الخروي فالدخول إلى الجنة التي هي دار كرامة الله لوليائه ،ولكنهم في
درجاتهم متفاوتون في القرب بحسب تفاوت قلوبهم في الدنيا في القرب والمشاهدة( ).
2
أي أن الوصول الدنيوي يمثله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" :كأنك تراه" ،أما
الخروي – في الجنة – ففيها الرؤية الحقيقية والمشاهدة.
لوجدتني عنده:
استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب ،ص ( . ) 50 1
...نجده سريع الحساب يعاقب على الذنب ويعفو عن كثير ،فنسارع بالتوبة كلما وقعنا في
الخطأ.
...نجده سميعا ً قريبا ً يجيب دعاءنا في دقائق المور وتفصيلتها التي دعوناه بها ولم يعرفها
سواه فنشعر بالمان في جواره.
...نجده حين نأكل ،وحين نشرب ،وحين ننام ،وحين نستيقظ ،وحين نركب دوابنا ،فهو الذي
يطعمنا ويسقينا ،وهو الذي يتوفانا حين النوم ويوقظنا ،وهو الذي يحملنا ل الدواب...وَ َآَيةٌ لَ ُهمْ
شحُونِ[ يس.]4 1 :
َأنّا حَمَ ْلنَا ُذ ّريّتَ ُهمْ فِي اْلفُ ْلكِ الْمَ ْ
...تأمل معي أخي القارئ هذا الحديث النبوي :قال صلى الله عليه وسلم" :ما من بعير إل
وفي ذروته شيطان ،فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة الله تعالى عليكم ،ثم امتهنوها لنفسكم،
فإنما يحمل الله تعالى"(.)1
حسن ،رواه المام أحمد والحاكم ،وأورده اللباني في صحيح الجامع (. )5699 1
فما الدابة التي نركبها إل ستار وسبب ل قيمة له بدون الله عز وجل ،فهو سبحانه الذي
سخرها لنا ،وهو الذي يحركها لحظة بلحظة ،وآنا ً بآن ،وكذلك كل شيء يحدث في هذه
الحياة معنا أو مع غيرنا.
فعندما نضحك نجده من وراء الضحك حيا ً قيوما ً قد علم برغبتنا في الضحك فمكننا من ذلك:
ضحَكَ َوأَبْكَى[ النجم.]4 3 :
َ وَأّنهُ هُوَ أَ ْ
وعندما يأتينا عطاء من أحد الناس نرى أن الله عز وجل هو الذي أعطانا من خلل هذا
الشخص ،وعندما نُحرم من شيء ،أو يُضيق علينا البعض نرى حقيقة واضحة أمامنا وهي أن
الله هو الذي حرمنا ل هؤلء بسبب ذنب أذنبناه أو لحكمة يعلمها سبحانه.
نجد الله في كل خير نفعلهَ :فِإنّمَا يَسّ ْرنَاهُ بِلِسَاِنكَ لَعَلّ ُهمْ يََتذَكّرُو نَ [الدخان ،]5 8 :ولو شاء منعه
لمنعهَ :ولَئِنْ شِئْنَا لََنذْهََبنّ بِاّلذِي أَوْحَيْنَا إِلَ ْيك[ َالسراء.]8 6 :
نجد الله الهادي في كل طاعة نقوم بهاَ :وأَ ْوحَيْنَا ِإلَيْ ِهمْ ِفعْلَ اْلخَيْرَاتِ َوإِقَامَ الصّلَاةِ َوإِيتَا َء الزّكَاةِ[ النبياء:
.]7 3
جاء في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول يوم القيامة " :يا ابن آدم مرضت فلم
تعدني! قال :يا رب ،كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال :أما علمت إن عبدي فلن مرض
فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟.)1("...
وبالجملة نرى الله وراء كل حدث يحدث في الحياة...عند هبوب الريح ،وعند طلوع الشمس
وعند غروبها..عند نزول المطر..عند الكسوف والخسوف.
...كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم ذو ريح وغيم عُرف ذلك في وجهه
سّرِي عنه ،وذهب عنه ذلك ،فسألته عائشة
مطرت ُصلى الله عليه وسلم فأقبل وأدبر ،فإذا ُ
2 ّ
سلِط على أمتي"( ). -رضي الله عنها – في ذلك فقال" :إني خشيت أن يكون عذابا ُ
وكان أحد الصالحين إذا ذهب إلى المسجد ليلقي درسه ،وجد جموعا ً غفيرة من الناس
تنتظره فيناجي الله ويقول :اللهم إنك تعلم أنهم يقصدونك أنت ،ولكنهم وجدوني عندك.
الله غايتنا:
...نعم ،أخي هذه هي غاية المعرفة التي ينبغي أن نسعى إليها...أن نجد الله يتجلى بصفاته
العلى في كل شيء لينعكس ذلك على جميع تصرفاتنا ،فتصبح إرادة وجهه الكريم هي
مقصدنا في كل أعمالنا ،فعلى سبيل المثال إطعام الطعام للفقراء والمساكين وغيرهم
ينبغي أن يكون المقصود منه رضاه سبحانهِ :إنّمَا نُ ْطعِمُ ُكمْ لِوَ ْجهِ ال ّلهِ لَا نُرِيدُ مِنْ ُكمْ جَزَاءً َولَا شُكُورًا
[النسان ]9 :وتكريم أهل الصلح ينبغي أن يكون الهدف منه إجلل الله عز وجل ،كما في
الحديث" :إن من إجلل الله :إكرام ذي الشيبة المسلم ،وحامل القرآن ،غير الغالي فيه
والجافي عنه ،وإكرام السلطان المقسط"(.)1
التوحيد الخالص:
قال صلى الله عليه وسلم" :إنما أنا مبلغ ،والله يهدي ،وإنما أنا قاسم ،والله يعطي"( ).
3
حسن ،رواه أبو داود ،وحسنه اللباني في صحيح الجامع ( . ) 2199 1
2أخرجه أبو نعيم ،وعبد الرزاق في مصنفه ( ، )5:156وقال الشيخ اللباني في تعليقه على فقه
السيرة للشيخ محمد الغزالي ( : )1:165ضعيف .
3صحيح رواه الطبراني ،وصححه اللباني في صحيح الجامع (. )2347
4صحيح الجامع (. )5554
موقع اليمان أول 38 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال" :اللهم أنت عضدي ونصيري ،بك أحول ،وبك
أصول ،وبك أقاتل"(.)5
فهذه الحاديث تدل على الحقيقة التي ينبغي أن نشاهدها من وراء أحداث الحياة :فَ َلمْ تَقْتُلُو ُهمْ
َولَ ِكنّ ال ّلهَ قََتلَ ُهمْ َومَا َرمَيْتَ إِذْ َرمَيْتَ َولَكِنّ ال ّلهَ َرمَى[ النفال.]1 7 :
وَهُوَ اّلذِي كَفّ َأْيدِيَ ُهمْ َعنْ ُكمْ َوَأْيدِيَ ُكمْ َعنْ ُهمْ بَِبطْنِ مَ ّكةَ مِنْ بَ ْعدِ َأنْ أَ ْظفَ َر ُكمْ عَ َليْ ِهمْ[ الفتح.]2 4 :
وهذا هو العلم النافع ،والتوحيد الخالص ،الذي ينبغي أن نسعى جميعا ً إلى تحصيله :فَاعْ َلمْ أَّنهُ لَا
ِإلَهَ ِإلّا ال ّلهُ[ ممد.]1 9 :
إنه العلم بالله ،وربط أحداث الحياة – مهما تنوعت – به سبحانه :شَ ِهدَ ال ّلهُ َأنّهُ لَا إَِلهَ ِإلّا هُوَ
وَالْمَلَائِ َكةُ َوأُولُو الْعِ ْلمِ قَائِمًا بِاْلقِسْطِ لَا إَِلهَ إِلّا هُوَ اْلعَزِيزُ اْلحَكِيمُ[ آل عمران.]1 8 :
وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء :الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل ،والعاقل ينظر ماذا
يفعل الله به.
ويقول سيد قطب" :شهادة أن ل إله إل الله" ..تتطلب أن يصل الحساس بوجود الله –
سبحانه – ووحدانيته حد اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة ،فهي رؤية ومشاهدة
لهذه الحقيقة – بآثارها – في أغوار النفس المكنونة ،وفي صفحة الكون المنشورة..رؤية
واضحة ،ومشاهدة مستيقنة ،تقوم عليها "شهادة"(.)2
..يتكلم بحساب ،فهو يعلم أن الكلمة التي تخرج من فمه يسمعها ربه قبل أن يسمعها
الناس.
رواه أبو داود ( ، )2632والترمذي ( ، )3584وقال :حديث حسن . 5
..ينفق النفقة ول يهمه كثيرا ً من يأخذها – مادام أنه في الظاهر يدل على أنه محتاج – لنه
صدَقَاتِ[ التوبة.]1 0 4 :
يعلم أنها تقع في يد الله أول :أَلمْ َيعْلَمُوا َأنّ ال ّلهَ ُهوَ َيقْبَ ُل التّ ْوبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ َوَيأْ ُخذُ ال ّ
فالله هو الحاضر معه في كل صفقة أو بيعة يجريها ،أنها تتم معه – سبحانه – أولًِ :إنّ اّلذِينَ
سهِ َومَنْ أَوْفَى بِمَا عَا َهدَ َعلَ ْيهُ ال ّلهَ فَسَيُ ْؤتِيهِ
يُبَايِعُوَنكَ إِنّمَا يُبَاِيعُونَ ال ّلهَ َيدُ ال ّلهِ فَ ْوقَ َأْيدِي ِهمْ َفمَنْ نَ َكثَ َفِإنّمَا يَنْ ُكثُ َعلَى نَفْ ِ
أَجْرًا َعظِيمًا[ الفتح.]1 0 :
..ل يهمه كثيرا ً رضا الناس عنه أو سخطهم عليه ،فليس هذا مطمعه ول ما يسعى إليه ،بل
مطمعه في رضاه سبحانه ،كما قال الشاعر:
ب
ضا ُم ِغ َ َ وَلَيْت َ َ حلُو وَال َ فَلَيْت َ َ
ضى َوالنَا ُ ك تَْر َ مرِيــــَرة حيَاة َ ك تَ ْ
ب ن خرا ُ ن العالمي َ و بيني وبي َ مٌر ت الّذي بَيْني وَبَيْن َ َ
ك ع َا ِ وَلَي ْ َ
وك ُ ُّ من َ ص َّ
بب تَُرا ُل الذي فَوْقَ التَّرا ِ َ ن
ل هَي ّ ٌك الوُد ّ فالك ُ ح ِ إذا َ
..ينتظر الفرصة التي يخلو فيها المكان ،وتهدأ الصوات ليخلو بربه ،ويبث إليه أشواقه،
ويعرض عليه شكايته ،ويطلب منه حاجته..
قال أحمد بن عاصم النطاكي :من عرف الله عز وجل اكتفى به ،ومن لم يعرفه اكتفى
بخلقه دونه ،فطال غمه ،وكثرت شكايته(.)1
..كان ابن عطاء يقول في مناجاته :ماذا وجد من فقدك ،وما الذي فقد من وجدك..لقد خاب
من رضي بدونك بدلً ،ولقد خسر من بغى عنك متحولً.
المعرفة المؤثرة:
استنشاق نسيم النس للحافظ ابن رجب ،ص ( – ) 81-80المكتب السلمي –بيروت . 1
فإن قلت :ولكننا نعرف الله عز وجل ،ونعرف قدرته وعظمته وفضله علينا ومع ذلك ل
نتعامل معه بما يستحقه -سبحانه – ول نشعر بقربه ول نأنس به...؟!
..نعم ،أغلبنا يشتكي من جفاء في علقته ومعاملته مع الله ،مع ما ندعي من معرفته سبحانه
وأن المر كله بيده ،والسبب في ذلك هو أن المعرفة المطلوبة والتي من شأنها أن تغير
طريقة المعاملة ،وتحسن العلقة بين العبد وربه ،لبد لها أن تكون معرفة قوية ترسخ في
يقين النسان وتؤثر في قلبه ،أو بعبارة أخرى :تؤثر في مشاعره باعتبار أن القلب هو مجمع
م تشكل هذه المعرفة جزءا ً أصيل ً من إيمانه ،مثل ما قال المشاعر داخل النسان ،ومن ث َ َّ
الله عز وجلَ :ولَِيعْ َل َم اّلذِينَ أُوتُوا الْعِ ْلمَ َأّنهُ اْلحَقّ مِنْ َرّبكَ فَيُ ْؤمِنُوا ِبهِ فَُتخِْبتَ َلهُ قُلُوبُ ُهمْ[ الج.]5 4 :
أما المعرفة المحدودة العابرة فل يمكنها أن تؤثر تأثيرا ً مستمرا ً في حياة العبد ،والدليل على
ذلك أننا عندما نسمع محاضرة عن فضل الله علينا وتوالي نعمه وإمداده ،فإن المشاعر تتجه
بالحب إليه سبحانه ،ثم بعد ذلك تخفت حرارة تلك المشاعر بانتهاء أثر الكلم الذي سمعناه،
وهذا هو الفارق بين الحال والمقام.
"فالحال" هو الحالة الشعورية العابرة التي تنتاب المرء عندما تُستثار مشاعره في اتجاه ما.
...هذه الحالة سرعان ما تزول وذلك بعودة المشاعر إلى حالتها الولى ،فنجد الشخص يتأثر
بالموعظة ويبكي وينتحب ثم بعد ذلك يعود إلى سابق عهده من النشغال بالدنيا والغفلة عن
الخرة ،فإذا استمر الطرق على المشاعر في اتجاه ما كالخوف أو الحب..استمرت الحالة
الشعورية للشخص ،وشيئا فشيئا يستقر "الحال" في المشاعر ليصبح "مقاما" ،أي تُشكل
هذه الحالة جزءا ً ثابتا ً من المشاعر ،ويسهُل استثارتها بأدنى مؤثر ،وتصبح منطلقا دائما
للسلوك.
وهذا هو الفارق بين اليمان الصيل الثابت الذي يستقر في القلب وتصدقه العمال ،وبين
اليمان اللحظي العابر الذي يُنتج أعمال ً آنية وغير مستمرة.
يقول الحسن :ليس اليمان بالتحلي ول بالتمني ،ولكن ما وقر في القلب وصدقته
العمال(..)1
معنى هذا أننا بحاجة إلى أن نجعل معرفتنا بالله تستقر في القلب وترسخ فيه وتنمو شيئا
فشيئا حتى تشكل الجزء الكبر من المشاعر ،فيصير حبه سبحانه أحب الشياء لدينا وخشيته
أخوف الشياء عندنا ،وهكذا في بقية المشاعر فتظهر تبعا ً لذلك الثمار الطيبة لهذه المعرفة
النافعة كما قال صلى الله عليه وسلم" :ثلث من كُن فيه وجد حلوة اليمان ،أن يكون الل ُ
ه
شعب اليمان للبيهقي (. )1:80 1
ه أحب إليه مما سواهما ،وأن يحب المرء ل يحبه إل لله ،وأن يكره أن يعود في الكفر ورسول ُ
بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار"( ).
1
فإذا ما اكتفت المعرفة بمخاطبة العقل فقط ،ولم تصل إلى المشاعر ،ولم يستقر مدلولها
فيها ،ستظل هذه المعرفة حبيسة العقل ،ولن تظهر ثمارها في السلوك.
نور اليمان:
من هنا يتضح لنا أنه لكي نتعامل مع الله عز وجل بما يستحق أن نعامله به لبد أن نعرفه
أولً ،وأن تنتقل هذه المعرفة من العقل إلى القلب ،وأن تكون مستمرة حتى يرسخ مدلولها
في مشاعر النسان وقلبه وتصبح إيمانا ً راسخا ً فتشكل بذلك منطلقا ً للسلوك.
وكلما ازدادت مساحة المعرفة المؤثرة ،ازداد انجذاب المشاعر لله عز وجل ،وتمكن اليمان
من القلب ،وتجلت فيه أنواره ،وظهر أثر ذلك على معاملة المرء لربه ،فيعبده وكأنه يراه،
فيكتفي به ،ويوحد معاملته معه ،ويربط جميع أحداث حياته به سبحانه.
تأمل معي – أخي القارئ – ما قاله حارثة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يؤكد هذا
المعنى:
عن الحارث بن مالك النصاري أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له" :كيف أصبحت
يا حارثة؟ "قال :أصبحت مؤمنا ً حقاً .قال" :انظر ما تقول ،فإن لكل قول حقيقة ،فما حقيقة
إيمانك؟ قال :عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ،وكأني أنظر إلى
عرش ربي بارزاً ،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ،وكأني أنظر إلى أهل النار
يتضاغون فيها ،قال" :يا حارثة عرفت فالزم"( ،)2وفي رواية" :أصبت فالزم ،مؤمن نور الله
قلبه"(.)3
ويقول ابن رجب :غاية الحاصل للقلوب في الدنيا هو تجلي أنوار اليمان في القلب ،وحتى
يصير الغيب كأنه شهادة(.)4
مفتاح المعرفة:
فإن قلت :وما هي الوسائل التي يمكنها أن تفعل ذلك وتصل بنا إلى هذه الفاق؟!
كيف يمكن للنسان أن يتعرف على ربه معرفة يقينية تؤثر في المشاعر ،بالرغم من أنه ل
يراه ،ولن يمكنه أن يراه في حياته الدنيا؟!
..نعم ،الله عز وجل ل تدركه البصار ،ول يمكن لحد من البشر أن يراه :لَا ُتدْ ِر ُكهُ اْلَأبْصَارُ وَهُوَ
ُيدْرِكُ اْلأَبْصَارَ [ النعام ، ]1 0 3 :وفي الوقت نفسه فإنه يتحتم على العبد أن يعرف ربه لكي
يعبده عبادة صحيحة ،تليق به سبحانه وتعالى ..فما السبيل إلى ذلك؟!
السبيل إلى معرفة الله عز وجل هو استخدام النعمة العظيمة التي أكرم الله بها النسان
واختصه بها ،أل وهي نعمة العقل..هذا العقل به من المكانات والقدرات ما ل يمكن تصوره،
والتي يستطيع النسان – أي إنسان – حين يستخدمها أن يصل إلى معرفة الله عز وجل
لدرجة لم يصل إليها مخلوق من قبل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :لما خلق الله العقل
قال له :قم فقام ،ثم قال له :أدبر فأدبر ،ثم قال له :أقبل فأقبل ،ثم قال له :اقعد فقعد،
قال :ما خلقت خلقا ً هو خير منك ،ول أفضل منك ،ول أحسن منك ،بك آخذ وبك أُعطي، ثم ُُ
ُ
وبك أعرف ،وبك أعاقب ،بك الثواب وعليك العقاب"( ).
1
وليس أدل على أن العقل هو مفتاح المعرفة ،وأنه من خلله يمكن للمرء الوصول إلى
معرفة الله لدرجة لم يصل إليها مخلوق قط مما حدث في قصة آدم – عليه السلم –
وإخباره سبحانه وتعالى للملئكة أنه سيخلق مخلوقا ً جديدا ً يعبده بالغيب في الرض ،فماذا
ك الدّمَاءَ َونَحْنُ نُسَّبحُ ِبحَ ْمدِكَ َوُن َقدّسُ َلكَ [ البقرة .]3 0 :فكان
سفِ ُ
سدُ فِيهَا َويَ ْ
قالوا له :قَالُوا َأَتجْعَلُ فِيهَا مَنْ ُيفْ ِ
الجواب من الله :إِنّي أَعْ َلمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ البقرة .]3 0 :ثم كان البيان العملي الذي ظهرت من
خلله القدرات العقلية لهذا المخلوق :وَ َع ّلمَ َآ َدمَ اْلأَسْمَاءَ كُلّهَا ُثمّ َعرَضَ ُهمْ عَلَى الْ َملَائِ َكةِ َفقَالَ أَنْبِئُونِي
ت الْعَلِيمُ اْلحَكِيمُ ( )3 2قَالَ يَا َآ َدمُ
ِبأَسْمَاءِ هَ ُؤلَاءِ إِنْ كُنُْتمْ صَادِ ِقيَ ( )3 1قَالُوا سُ ْبحَانَكَ لَا ِع ْلمَ لَنَا إِلّا مَا عَلّمْتَنَا ِإنّكَ َأنْ َ
َأنْبِئْ ُهمْ ِبأَسْمَائِ ِهمْ فَلَمّا أَنَْبأَ ُهمْ ِبأَسْمَائِ ِهمْ قَالَ َأَلمْ أَقُلْ لَ ُكمْ ِإنّي أَعْ َلمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َوأَعْ َلمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا كُنُْتمْ
تَكْتُمُونَ [ البقرة.]3 3 -3 1 :
إذن فالوظيفة الساسية للعقل هي استخدامه في معرفة الله عز وجل ومن ث َ َّ
م عبادته.
1أخرجه البيهقي في الشعب ( . )4633وجاء في التعليق عليه :هذا من قول الحسن و غيره مشهور
و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد غير قوي ،وقال السيوطي :وقال السيوطي
أخرجه عبد الله ابن المام أحمد عن الحسن مرسل بطريق جيد السناد.
والمتدبر للقرآن الكريم يجد فيه الكثير من اليات التي تحث القارئ على استخدام عقله
للستدلل على وجود الله وعلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى :وَهُوَ اّلذِي ُيحْيِي َويُمِيتُ َوَلهُ اخِْتلَافُ
اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَفَلَا تَ ْعقِلُونَ[ الؤمنون ،]8 0 :وقوله :وَفِي اْلأَ ْرضِ ِق َطعٌ مَُتجَاوِرَاتٌ وَ َجنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ َز ْرعٌ َوَنخِيلٌ
صنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَا ِحدٍ َونُفَضّلُ َبعْضَهَا َعلَى بَ ْعضٍ فِي اْلُأكُلِ ِإنّ فِي َذِلكَ لَ َآيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ [ الرعد:
صِنْوَانٌ وَغَ ْيرُ ِ
خلق من أجله فقد هوى وأصبح من أشر
بل ويؤكد علينا أن من ل يستخدم عقله فيما ُ ،]4
ص ّم الْبُ ْك ُم الّذِينَ لَا َيعْقِلُونَ [ النفال.]2 2 :
الدوابِ :إنّ شَرّ الدّوَابّ عِ ْندَ ال ّلهِ ال ّ
ويذكرنا بأن أهل النار سيتأكدون من هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الوانَ :وقَالُوا لَوْ كُنّا نَسْ َمعُ
سعِيِ [ اللك.]1 0 :
صحَابِ ال ّ
أَوْ َن ْعقِلُ مَا كُنّا فِي أَ ْ
فإن قلت :وكيف لنا أن نستخدم عقولنا في معرفة الله ،وبخاصة أنه ل يمكن لحد من
الخلق أن يحيط به علما؟!
..نعم ،الله عز وجل ل يمكن لحد أن يحيط به علماً ،فل يعرف الله إل الله :الرّحْمَنُ فَا ْسأَلْ بِهِ
خَبِيًا[ الفرقان ،]5 9 :وكما في الحديث" :ل أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وفي
الوقت نفسه فإن معاملة الله بما يليق بجلله ،وإظهار صورة العبودية الحقة له لن تتم إل
من خلل معرفته..
فكيف يستطيع العبد معرفة ربه وهو ل يراه ،ول يحيط به علماً؟!
لبد أن يكون الله عز وجل قد أتاح لنا طرقا ً ووسائل نتعرف عليه من خللها ،ولم ل وهو
الرءوف الرحيم الذي يريد بعباده الخيرُ :ه َو الّذِي يُصَلّي َعلَيْ ُكمْ َومَلَائِكَُتهُ لُِيخْرِجَ ُكمْ مِنَ الظّلُمَاتِ ِإلَى النّورِ
َوكَانَ بِالْمُ ْؤمِنِيَ َرحِيمًا[ الحزاب.]4 3 :
موقع اليمان أول 44 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
..نعم ،لقد أتاح الله عز وجل لعباده جزءا ً من المعلومات عنه سبحانه وتعالى لكي يتمكنوا
م يتمكنون من عبادته كما أمرهم ،ولقد من معرفته بالدرجة التي تتحملها عقولهم ،ومن ث َ َّ
أودع – سبحانه – هذه المعلومات في كونه ومخلوقاته :أَوََلمْ يَكْفِ بِ َربّكَ َأنّهُ عَلَى كُلّ شَ ْيءٍ شَهِيدٌ
[فصلت.]5 3 :
فكل ما يحدث في الحياة ،وكل مخلوق من مخلوقات الله يُعد بمثابة آية ودليل على الله،
وما على البشر إل أن يستخدموا عقولهم ،ويتعرفوا على ربهم من خلل التفكر في تلك
المخلوقات :إِنّ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَاْلفُ ْلكِ الّتِي َتجْرِي فِي الَْبحْرِ بِمَا يَ ْنفَ ُع النّاسَ
سخّرِ
ب الْمُ َ
سحَا ِ
ف ال ّريَاحِ وَال ّ
َومَا َأنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ مَاءٍ َفأَحْيَا ِبهِ اْلأَ ْرضَ َب ْعدَ مَوْتِهَا َوبَثّ فِيهَا مِنْ كُلّ دَاّبةٍ َوتَصْرِي ِ
بَيْنَ السّمَاءِ وَاْلأَ ْرضِ لَآَيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ[ البقرة.]1 6 4 :
ارأيت أخي القارئ بماذا ختمت الية :لَآَيَاتٍ لِقَ ْومٍ َيعْقِلُونَ :ليات ودلئل ورسائل تعريف بالله
لمن يستخدمون عقولهم في التفكير في هذه المخلوقات.
فالحكمة الساسية من خلق العقل بما يحتويه من إمكانات جبارة هي إستخدامه في التعرف
على الله ،وذلك من خلل التفكر في مخلوقاته ،وقراءة ما تحتويه من رسائل تعريف بالله
عز وجلَ :آيَاِتهِ يُرِي ُكمُ الْبَ ْرقَ خَوْفًا َوطَ َمعًا َويُنَزّلُ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَُيحْيِي بِ ِه اْلأَ ْرضَ بَ ْعدَ مَ ْوتِهَا إِنّ فِي َذلِكَ لَ َآيَاتٍ ِلقَ ْومٍ
َيعْقِلُونَ [ الروم.]2 4 :
تجليات الرب:
إن كل شيء يحدث حولنا ما هو إل آيات ودلئل ووسائل تعرفنا بالله عز وجل ،وما الحياة
التي نعيش أحداثها المتعاقبة إل مشهد عظيم تتجلى فيه دلئل وحدانية الله وقيوميته،
وقدرته ،وعزته ،ولطفه ،وحكمته ،ورحمته ،وعدله ،والسعيد من استخدم عقله في المهمة
خلق من أجلها ،وأحسن قراءة الرسائل اللهية ،وتحليل أحداث الحياة فيزداد معرفة التي ُ
بربه ومن ثم تتحسن معاملته له فيزداد له حبا ً وخشية وإنابة وتوكلً :سَنُرِي ِهمْ َآيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي
َأنْفُسِ ِهمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَ ُهمْ أَّنهُ اْلحَقّ أَوََلمْ يَكْفِ بِ َربّكَ َأنّهُ َعلَى كُلّ شَ ْيءٍ شَهِيدٌ [ فصلت.]5 3 :
وصدق من قال:
حاكمية الوحي:
ومع أهمية العقل في التفكر في الكون وأحداث الحياة والستدلل من خللها على الله عز
وجل ،إل أن العقل قد يسير وراء ظنونه وأوهامه ،فينحرف عن الوجهة الصحيحة ،ويسلك
سبل الضلل..
من هنا تأتي أهمية الوحي وما له من حاكمية على العقل ،فيكبح جماح شطحاته ،ويصحح
تصوراته ،ويضعه على الطريق الصحيح.
فهذه القضية – قضية اللوهية – الدليل الهادي فيها هو دليل الوحي .وما لم يستصحبه
العقل ،فهو عرضة للوهام والتخليطات بين الصحيح فيها وغير الصحيح .مما يفسد العقل
ذاته ،ويفسد استقامته على الطريق(.)1
(إن كل ما ينشئه العقل البشري من عند نفسه عن هذه الحقيقة – حقيقة اللوهية -إنما
هو ظن وخرص ،فهو لم ير الله ،ول يمكن أن يراه في الحياة الدنيا ،والحقيقة اللهية أكبر
من هذا العقل ،ومن هذا الكون .فل سبيل لمعرفتها إل عن طريق ما يعرفنا صاحبها –
سبحانه وتعالى – في حدود ما يعلم هو أن العقل البشري قادر على تصوره وإدراكه)( ).
2
(إن القرآن وهو يصحح صورة اللوهية في عقول البشر ،كان يصحح في الوقت ذاته منهج
التفكير العقلي بجملته ،ويُعلم النسان كيف يفكر تفكيرا ً صحيحا ،فيعتمد على عقله فيما هو
من شئون العقل ،ويستصحب دليل الوحي فيما وراء ذلك ليهتدي العقل بهذا الدليل
القطعي ،ول يعتمد على الظن في قضية كبرى كهذه القضية)(.)3
2
المصدر السابق .
المصدر السابق . 3
والمتدبر ليات القرآن يجدها في مواضع كثيرة تحث الناس على النتفاع باليات والرسائل
م عبوديته..تأمل قوله اللهية والعتبار بها؛ لنها الطريق الكيد لمعرفة الله عز وجل ومن ث َ َّ
تعالى :إِنّ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ لَ َآيَاتٍ لِلْ ُم ْؤمِنِيَ ( )3وَفِي َخ ْلقِ ُكمْ َومَا يَبُثّ مِنْ دَاّبةٍ َآيَاتٌ ِلقَ ْومٍ يُوقِنُونَ ( )4
وَاخِْتلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ َومَا أَنْزَلَ ال ّلهُ مِنَ السّمَاءِ مِنْ ِر ْزقٍ َفأَ ْحيَا بِ ِه اْلأَ ْرضَ بَ ْعدَ مَ ْوتِهَا َوتَصْرِيفِ ال ّريَاحِ َآيَاتٌ ِلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ
( )5تِ ْلكَ َآيَاتُ ال ّلهِ نَتْلُوهَا َعلَ ْيكَ بِاْلحَقّ فَِبَأيّ َحدِيثٍ َب ْعدَ ال ّلهِ وَ َآيَاِتهِ يُ ْؤمِنُون [ َالاثية.]6 -3 :
وفي مقابل الحث القرآني على النتفاع باليات والستدلل من خللها على أسماء الله
وصفاته ،نجد الترهيب الشديد لمن كذب بهذه اليات أو غفل عنها ولم يعتبر بهاَ :ومَنْ َأظْ َلمُ
مِمّنْ ُذكّرَ بِآَيَاتِ َرّبهِ ثُمّ أَعْ َرضَ عَنْهَا ِإنّا مِ َن الْمُجْ ِرمِيَ مُنَْتقِمُونَ[ السجدة.]2 2 :
وما أكثر اليات التي يغفل عنها الناسَ :و َكأَيّنْ مِنْ َآيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ يَمُرّونَ َعلَيْهَا وَ ُهمْ عَنْهَا
ُمعْرِضُونَ[ يوسف.]1 0 5 :
..جاء في بعض الثار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه" :أدرك لي لطيف الفطنة ،وخفي
اللطف ،فإني أُحب ذلك ،قال :يا رب ما لطيف الفطنة؟ قال :إن وقعت عليك ذبابة فاعلم
أني أنا أوقعتها فاسألني رفعها .قال :وما خفي اللطف؟ قال :إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا
ذكرتك بها"(.)1
عبادة التفكر:
من هنا ندرك أهمية عبادة التفكر ،وندرك مغزى قول الحسن البصري :تفكر ساعة خير من
م زيادة العبودية له، قيام ليلة( ،)2باعتبار أن التفكر يقود إلى زيادة المعرفة بالله ،ومن ث َ َّ
وحسن التعامل معه ،ومما يؤكد هذا المعنى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما نزلت
هذه الية :إِنّ فِي خَ ْلقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخِْتلَافِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ ِلأُولِي اْلأَلْبَابِ [ آل عمران ،]1 9 0 :على
النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي ،فأتاه بلل يؤذنه للصلة ،فرآه يبكي ،فقال :يا رسول
الله ،تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ،فقال" :يا بلل ،أفل أكون عبداً
شكوراً ،ومالي ل أبكي وقد نزل علي الليلةِ :إنّ فِي َخلْقِ السّمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ وَاخْتِلَافِ اللّ ْيلِ وَالنّهَارِ لَ َآيَاتٍ
ِلأُولِي الَْألْبَابِ ثم قال :ويل لمن قرأ هذه الية ثم لم يتفكر بها"(.)3
دليل المعرفة:
1إغاثة اللهفان لبن القيم ( )1:54طبعة المكتب السلمي .
2إحياء علوم الدين ( - )5:5دار الحديث – القاهرة .
3رواه ابن حاتم وابن حبان في صحيحيهما .قال شعيب الرنؤوط :إسناده صحيح على شرط مسلم
.وقال الشيخ اللباني :حسن .
ومع أن الكون هو الوسيلة الساسية لمعرفة الله عز وجل إل أن هذه الوسيلة تحتاج إلى
دليل يدل عليها ،ويفك شفرتها ،ويبين كيفية التعامل معها..
إن الذي يتعامل مع جهاز كهربائي يحتاج إلى وجود الدليل الخاص به بجواره ليتمكن من
استخدمه الستخدام المثل ،فكيف بالكون وما فيه من بليين المخلوقات المختلفة في
أشكالها وأحجامها ،وطرق معيشتها ،وبيئاتها؟!
لبد وأن يكون هذا الدليل قد جاء من عند الله فل يختلف عليه أحد ،ول يتشكك فيه أحد.
ومن هنا يأتي دور القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل إلى الناس كدليل يدلهم عليه
ويعرفهم به :يَا أَيّهَا النّاسُ َقدْ جَا َء ُكمْ بُرْهَانٌ مِنْ َربّ ُكمْ َوأَنْ َزلْنَا ِإلَيْ ُكمْ نُورًا مُبِينًا[ النساء.]1 7 4 :
فل يعرف الله إل الله ،وهو سبحانه قد تولى تعريف نفسه إلى عباده بالقدر الذي تتحمله
ختمت بالقرآن.
عقولهم وذلك من خلل رسائله لهم ،والتي ُ
فآيات القرآن تعرفنا بالله عز وجل ،وتدلنا كذلك على كيفية التطبيق العملي لهذه المعرفة
سأَلْ بِهِ خَبِيًا[ الفرقان .]5 9 :وقد أورد ابن كثير عن شمر
في الكون..ألم يقل سبحانه :الرّحْمَنُ فَا ْ
بن عطية أنه قال في تفسيره لهذه الية :هذا القرآن خبير به( ،)1وهذا ما أكده ابن عباس
بقوله" :عرفت ربي بربي ،ولول ربي ما عرفت ربي" ،أي :هو الذي عرفني بنفسه من خلل
حديثه عن نفسه في كتابه ،ولول هذا الوحي الذي أنزله الله لما عرفت الله(.)2
طريقة فريدة:
والمتدبر ليات القرآن يجد فيها طريقة فريدة في تعريف الناس بربهم وبأسمائه وصفاته،
وآثارها في الكون والنفس مع ربط المعرفة بأحداث الحياة قدر المستطاع ،لينتقل القارئ
بسهولة من آيات الله المقروءة في كتابه إلى آيات الله المرئية في كونه ،فيحدث لديه
النسجام بين الثنين ويتأكد مدلولهما في يقينه ،فإذا ما صاحب ذلك تأثر وتجاوب قلبي شكل
هذا المدلول إيمانا يظهر أثره في السلوك.
أسماء الله الحسنى لعمر الشقر ،ص ( – ) 11دار النفائس – الردن . 2
واليات التي تقرر حقائق المعرفة بالله عز وجل كثيرة..هذه اليات كثيرا ً ما نجدها تنتهي
بالحث على استخدام العقل والتفكر والنظر في الكون لرؤية تلك الحقائق رأي العين :أَ َوَلمْ
يَ ْهدِ لَ ُهمْ َكمْ أَهْ َلكْنَا مِنْ قَبْ ِل ِهمْ مِ َن اْلقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِ ِهمْ ِإنّ فِي َذِلكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْ َمعُونَ ( )2 6أَ َولَمْ يَرَوْا َأنّا
صرُونَ[ السجدة.]2 7 ،2 6 :
نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى اْلأَ ْرضِ اْلجُرُزِ فَُنخْ ِرجُ ِبهِ َزرْعًا َت ْأكُلُ مِ ْنهُ أَْنعَامُ ُهمْ َوأَْنفُسُ ُهمْ أَفَلَا يُبْ ِ
فعلى سبيل المثال قوله تعالىَ :وَأنْزَلَ اّلذِينَ ظَاهَرُو ُهمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِي ِهمْ وَ َق َذفَ فِي ُقلُوبِ ِهمُ
الرّعْبَ فَرِيقًا َتقْتُلُونَ َوَتأْسِرُونَ فَرِيقًا ( َ )2 6وأَوْ َرثَ ُكمْ أَ ْرضَ ُهمْ وَ ِديَارَ ُهمْ َوَأمْوَالَ ُهمْ َوأَ ْرضًا َلمْ َتطَئُوهَا َوكَانَ ال ّلهُ عَلَى كُلّ
شَ ْيءٍ َقدِيرًا[ الحزاب.]2 7 ،2 6 :
فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع ،وهو التعقيب الذي يرد المر كله إلى الله ،وقد مضى
السياق في عرض المعركة كلها يرد المر كله إلى الله ،ويسند الفعال فيها إلى الله
مباشرة ،تثبيتا ً لهذه الحقيقة الكبيرة التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالحداث الواقعة،
وبالقرآن بعد الحداث ،ليقوم عليها التصور السلمي في النفوس.
..وهكذا تصبح الحداث مادة للتربية ،ويصبح القرآن دليل ً وترجمانا ً للحياة وأحداثها(.)2
مقومات التصور السلمي ص (. )192 - 191 1
التدبر والعتبار:
إذن فالقرآن هو الدليل الذي أنزله الله عز وجل ليدل الناس عليه ويقودهم إلى معرفتهَ :هذَا
بَصَائِرُ مِنْ َربّ ُكمْ َو ُهدًى وَ َرحْ َمةٌ لِقَ ْومٍ يُ ْؤمِنُونَ[ العراف.]2 0 3 :
هذا الدليل يقوم بدور عظيم في تعريف الناس بربهم – بالقدر الذي تتحمله عقولهم –
ويعلمهم كيف يستدلون عليه سبحانه من خلل مخلوقاته ،ومن خلل أحداث الحياة التي تمر
بهم..ول يكتفي القرآن بعرض صفات الله وآثاره مرة أو مرتين ،بل يعرضها مرات ومرات
بأساليب مختلفة لترسخ -من خلل التكرار – في العقل الباطن للقارئ ،وتشكل جزءاً
رئيسيا ً من يقينه ،وهذا ل يوجد في أي كتاب آخر سوى القرآن..مَا تَرَى فِي خَ ْل ِق الرّحْمَنِ مِنْ َتفَا ُوتٍ
يٌ [اللك.]4 ،3 :
صرُ خَاسِئًا وَ ُهوَ حَسِ
فَارْ ِج ِع الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ ُفطُورٍ ( ُ )3ثمّ ارْ ِج ِع الْبَصَرَ كَ ّرتَيْنِ يَ ْنقَلِبْ إِلَ ْيكَ الْبَ َ
ومع التكرار في عرض حقائق المعرفة بالله عز وجل تأتي لغة الخطاب المعجز الذي ل
يخاطب العقل فقط كما يحدث في الكثير من الكتب التي تعرض الحقائق العلمية – مثل –
والتي من شأنها أن تُضخم العقل دون أن يواكب ذلك تأثير واضح على المشاعر ،مما يجعلها
ضعيفة الثر على السلوك..فالمتأمل لخطاب القرآن يجده يمزج الفكر بالعاطفة..يستثير
كوامن العقل ،ويستجيش المشاعر في وقت واحد مما يزيد اليمان ويولد الطاقة ،ويدفع
صاحبه للقيام بمقتضى ذلك اليمان من أعمال البر المختلفة.
تأمل معي هذه اليات وما فيها من حقائق تخاطب العقل وتستثير العاطفةُ :ه َو الّذِي يُرِي ُكمُ
سحَابَ الّثقَالَ ( َ )1 2ويُسَّبحُ الرّ ْعدُ بِحَ ْم ِدهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَِتهِ َويُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ
الْبَ ْرقَ خَ ْوفًا َوطَ َمعًا َويُنْشِئُ ال ّ
بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَ ُهمْ ُيجَادِلُونَ فِي ال ّلهِ وَ ُهوَ َشدِيدُ الْ ِمحَالِ[ الرعد.]1 3 ،1 2 :
ومما يساعد العبد كذلك على تحويل الحقائق التي يطرحها القرآن إلى إيمان يرسخ في
القلب القيام بقراءة القرآن بالطريقة التي أمرنا الله بها :وَ َرتّلِ اْلقُرْ َآنَ تَ ْرتِيل ًا [الزمل ]4 :فترتيل
القرآن والتغني به وتحسين الصوت عند تلوته مع فهم المراد منه له دور كبير في استثارة
م زيادة اليمان في القلب.المشاعر ومزج الفكر بالعاطفة ومن ث َ َّ
المحاور الخمسة في القرآن – للشيخ محمد الغزالي ،ص (. )120 1
ألوان العبودية:
عندما تستثار العاطفة تجاه قضية ما فإن هذا يعني دخول صاحبها في حالة إيمانية (الحال)،
فإذا ما استمر الطرق على مشاعره في نفس التجاه تحول الحال إلى مقام ،أو بمعنى آخر
صدِّق هذا اليمان ،وهذاوقر اليمان بهذه القضية في القلب ،وهذا من شأنه أن يثمر سلوكا ً ي ُ َ
ما يفعله القرآن بمزجه الدائم بين الفكر والعاطفة ،وبشدة طرقه على المشاعر ،وتكرار
هذا الطرق ،أي أنه يُنشئ اليمان في القلب ويجعل المشاعر تتجه إلى الله .مع الخذ في
العتبار أن القرآن يفعل ذلك مع كل ما ينبغي اليمان به ،فعلى سبيل المثال :ل يكتفي
القرآن بتوجيه مشاعر الخوف فقط من الله بل يوجه جميع المشاعر من حب وخوف ورجاء
وطمع وفرح وسكينة إليه سبحانه ،أي أن القرآن يُنشئ اليمان في القلب بقاعدته العريضة،
ويجعل صاحبه يتقلب في جميع صور العبودية لله عز وجل حسب الظرف القائم أمامه ،فهو
أمام السراء تجده يشعر بالمتنان تجاه ربه ،وأمام الضراء تجده راضيا ً مستسلماً
للقضاء..يعيش دوما في حالة الفتقار إلى الله والنكسار الدائم له ،والشعور بأنه ل قيام له
ول حياة ول رشاد إل به سبحانه.
" والمنهج القرآني يزحم الشعور النساني بحقيقة اللوهية ،ويأخذ على النفس أقطارها
جميعا بهذه الحقيقة وهو يتحدث عن ذات الله – سبحانه – وصفاته ،وآثار قدرته وإبداعه،
فتتمثل في الضمير البشري تلك الحقيقة ..حقيقة الذات الخالقة لكل شيء ،المالكة لكل
شيء ،المحيطة بكل شيء ،المهيمنة على كل شيء ،المدبرة لكل شيء ،المؤثرة في كل
شيء ،وتشغل مشاعر النسان وحسه ،وضميره وعقله وكيانه كله بهذه الحقيقة وخصائصها،
وقدرتها وقوتها ،ورحمتها ورعايتها ،وجللها ومهابتها ،وأنسها وقربها ،وإحاطتها بالكون
والناس في كل وضع وفي كل حال ،بحيث تستشعر النفس – كما هو المر في الواقع – أن
ل ملجأ من الله إل إليه ،وأن ليس مهرب منه ول فوت ،وأن ليس سواه عون ول سند ،وأن
ليس هناك وجود لشيء – قائم بذاته – إل ذات الله سبحانه ،القوامة على جميع الخلئق
الفانية.
وهذا هو الشعور القوي الغامر الحي الذي يخرج به النسان من قراءة القرآن الكريم..
منهج فريد:
والمنهج القرآني في التعريف بحقيقة اللوهية منهج فريد..إنه يوقع على أوتار النفس
البشرية جميعها ،ويدخل عليها من منافذها كلها ،يوقع على أوتار الخوف والحذر والرجاء
والطمأنينة ،وعلى أوتار المهابة والجلل والنس والود ،وعلى أوتار القهر والجبروت والرأفة
والرحمة ،وعلى أوتار النقمة والعذاب والنعمة والعطاء ،وعلى أوتار المغايرة الكاملة بين
اللوهية والعبودية مع النس ،والقرب بين الله وعباده ،ويخاطب وجدان الجمال بما في
موقع اليمان أول 51 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
الكون والنفس من ألوان وأطياف ،كما يخاطب وجدان المجهول بالغيب وما وراء الستار
من قدر الله(.)1
وشهادة أن ل إله إل الله..تتطلب أن يصل الحساس بوجود الله – سبحانه – ووحدانيته حد
اليقين الناشئ من مثل الرؤية والمشاهدة ،فهي رؤية ومشاهدة لهذه الحقيقة بآثارها في
أغوار النفس المكنونة ،وفي صفحات الكون المنشورة..رؤية واضحة ومشاهدة مستيقنة،
تقوم عليها شهادة(.")2
المنة الكبرى:
إن حقيقة اللوهية – كما يجلوها المنهج القرآني – ذات أثُر إيجابي في ضمائر المؤمنين
وعقولهم ،وفي واقعهم وحياتهم ،بقدر ما هي في ذاتها حق ،وبقدر ما هي ذات بهاء وجمال
وكمال.
ولئن امتن الله على عباده أن خلقهم ،ورزقهم ،وكفلهم..فإن جلء حقيقة اللوهية في
القرآن على هذا النحو – وجلء سائر الحقائق الخرى -لهو المنة الكبرى التي تعدل..بل
ترجح كل تلك المنن.
..ول عجب أن يذكر -سبحانه – في مقدمة اللء في سورة الرحمن ،والتي عدد فيها آلءه
في النفس والفاق وفي الدنيا والخرة ،نعمة تعليم القرآن(.)3
نموذج ل يُنسى:
وقبل أن نختم الحديث في هذا الفصل نسوق كلما للشهيد سيد قطب حول النموذج الذي
صنعه القرآن ،والذي تمثل في الجيل الول ،وكيف وصلوا إلى معرفة الله وتحققوا بصفات
الربانيين..يقول رحمه الله:
لقد كنت -وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الولى – أقف أمام شعور الجماعة الولى
بوجود الله – سبحانه -وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم ،فل أكاد أُدرك كيف تم هذا؟ كيف
أصبحت حقيقة اللوهية حاضرة في قلوبهم وفي حياتهم على هذا النحو العجيب؟ كيف
امتلت قلوبهم وحياتهم بهذه الحقيقة هذا المتلء؟ كيف أصبحت هذه الحقيقة تأخذ عليهم
الفجاج والمسالك والتجاهات والفاق ،بحيث تواجههم حيثما اتجهوا ،وتكون معهم أينما كانوا
وكيفما كانوا؟
كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم ..ولكني لم أكن
أُدرك كيف تم هذا؟! حتى ع ُدت إلى القرآن أقرأه على ضوء موضوعه الصيل وهو:
لقد وُجدت هذه الحقيقة في نفوس الناس وفي حياتهم كما لم توجد من قبل قط في
نفوس الناس وفي حياتهم..وُجدت بكل مقوماتها ،وبكل إيحاءاتها ،وبكل تأثيراتها..وُجدت حية
فاعلة قوية شاملة..تتعامل مع الناس -كما تتعامل مع الوجود كله -ويتعامل معها الناس -
كما يتعامل معها الوجود كله.
الله هو الول والخر .والله هو الظاهر والباطن .والله هو الخالق والرازق .والله هو
المسيطر والمدبر .والله هو الرافع والخافض .والله هو المعز المذل .والله هو القابض
والباسط .والله هو المحيي والمميت .والله هو النافع والضار .والله هو المنتقم الجبار .والله
هو الغفور الودود .والله هو العلي الكبير .والله هو القريب المجيب .والله هو الذي يحول بين
المرء وقلبه .والله هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .والله هو العليم بذات
الصدور .وهو معهم أينما كانوا .وعنده مفاتح الغيب ل يعلمها إل هو .وهو الذي ينزل الغيث
من بعد ما قنطوا وينشر رحمته .وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي .ل ملجأ من الله إل إليه .وما لهم من دونه
من وال ،وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.
حقيقة الربانية:
بهذا كله وُجدت -في الرض وفي دنيا الناس -حقيقة أخرى "..حقيقة الربانية " متمثلة في
ناس من البشر .وُجد " الربانيون " الموصولون بالله العائشون بالله ولله..الذين ليس في
قلوبهم وليس في حياتهم إل الله ،الذين فرغت قلوبهم من حظ أنفسهم ،ولم يعد لهم حظ
إل في الله ،ولله.
وُجدت حقيقة " الربانية " هذه في الناس ،حينما وُجدت حقيقة اللوهية بصورتها في عالم
الناس .حينما وُجدت بهذه القوة ،وبهذا الوضوح ،وبهذا العمق وبهذا الشمول ،وبهذه الحاطة
التي تحجب كل وجود غيرها ،وتكشف كل مؤثر سواها ،وترد المر كله – كما هو في حقيقته
-لله.
وحينما ُوجدت حقيقة " الربانية " هذه في دنيا الناس ،ووجد " الربانيون " الذين هم الترجمة
الحية لهذه الحقيقة..حينئذ انساحت الحواجز الرضية ،والمقررات الرضية ،والمألوفات
الرضية ..ودبت هذه الحقيقة على الرض ،حرة من الحواجز..حرة من المقررات..حرة من
المألوفات ،وصنع الله ما صنع في الرض ،وفي حياة الناس ،بتلك الحفنة من العباد ،الذين
تمثلت فيهم تلك الحقيقة الكبيرة ،التي ليس ورائها حقيقة إل ما اتصل بها واستُمد منها
فأصبح له وجود مؤثر في هذا الوجود.
وبطلت الحواجز التي اعتاد عليها الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه.
وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الحداث والشياء .بطلت المقررات التي كان
الناس يحكمونها في الوضاع والحداث .وثبتت هذه القيمة الجديدة – في عالم الواقع – لنها
وحدها القيمة ذات الوجود الحقيقي الكبير!
الفصل الرابع
وأخيراً. •
نقطة البداية
خلصنا مما سبق بيانه أنه لكي يُحقق المرء في نفسه صفات العبودية لله عز وجل ،ويرتدي
رداءها لبد له من معرفة عميقة به سبحانه..
هذه المعرفة تحتاج إلى معلومات..هذه المعلومات بثها الله عز وجل في الكون المحيط بنا،
من مخلوقات تراها أعيننا ،ومن أحداث تمر بنا في حياتنا.
كما أرسل سبحانه وتعالى لعباده دليل ً يدل عليه ،ويقود من يستخدمه إلى معرفته ،وإلى
النتفاع بآياته المبثوثة في كونه..هذا الدليل هو الكتاب الخالد..القرآن الكريمَ :قدْ جَا َء ُكمْ مِنَ
ال ّلهِ نُورٌ َوكِتَابٌ مُِبيٌ ( )1 5يَ ْهدِي ِبهِ ال ّلهُ مَنِ اتَّبعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلَامِ َويُخْ ِرجُ ُهمْ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ ِبإِذِْنهِ َويَ ْهدِي ِهمْ
صرَاطٍ مُسَْتقِيمٍ[ الائدة.]1 6 ،1 5 :
ِإلَى ِ
...كل ذلك يفعله القرآن وأكثر وأكثرِ :إنّ َهذَا اْلقُرْ َآنَ يَ ْهدِي لِلّتِي ِهيَ أَقْ َومُ[ السراء.]9 :
...إذن فنقطة البداية في رحلة المعرفة والسير إلى الله هي اتخاذ الدليل الذي يدلنا على
الله ويعرفنا به...وهذا هو دور القرآن.
ويؤكد على هذا المعنى ابن القيم – رحمه الله – فيقول :ل شيء أنفع للقلب من قراءة
القرآن بالتدبر والتفكر؛ فإنه جامع لجميع منازل السائرين ،وأحوال العاملين ،ومقامات
العارفين ،وهو الذي يورث المحبة والشوق ،والخوف والرجاء ،والنابة والتوكل ،والرضا،
والتفويض ،والشكر والصبر ،وسائر الحوال التي بها حياة القلب وكماله(.)1
ولكي يقوم القرآن بهذا الدور لبد وأن نتعامل معه على حقيقته...على أنه أعظم وسيلة
تعرف بالله وتُنشئ اليمان في القلب...تأمل معي تعليق المام البخاري على قوله تعالى :
سهُ إِلّا الْ ُمطَهّرُون[ َالواقعة.]7 9 -7 7 :
ِإنّهُ َلقُرْ َآنٌ كَ ِريٌ ( )7 7فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( )7 8لَا يَمَ ّ
لبد إذن من القتناع بأهمية القرآن في بناء اليمان وتحقيق العبودية..هذه القناعة ستثمر
بمشيئة الله رغبة ،وعلى قدر الرغبة والعزم يكون المدد من الله ،فالمداد على قدر
الستعداد ،وكما قال صلى الله عليه وسلم" :ومن يتحر الخير يُعطه "(.)1
وجاء في الثر عن أبي الدرداء قال :لما أهبط الله آدم إلى الرض قال له :يا آدم أحبني
وحببني إلى خلقي ،ولن تستطيع أن تفعل ذلك إل بي ،ولكن إذا رأيتك حريصا ً على ذلك
أعنتك عليه ،فإذا فعلت ذلك فخذ به اللذة والنظرة وقرة العين والطمأنينة(.)2
فالرغبة والحرص هما مفتاح النتفاع بالقرآن ،ومفتاح لكل خير..ألم يقل سبحانهِ :إنْ هُوَ إِلّا
ِذكْرٌ لِ ْلعَالَمِيَ ( )2 7لِمَنْ شَاءَ مِنْ ُكمْ َأنْ يَسَْتقِيم[ َالتكوير.]2 8 ،2 7 :
وسائل معينة:
ومع الرغبة والحرص هناك بعض الوسائل التي من شأنها أن تسرع الخطى بنا للدخول إلى
عالم القرآن والغتراف من معينه...هذه الوسائل يمكن أن نستخلصها من التفكر في هدفنا
من التعامل مع القرآن ،أل وهو التعرف على الله عز وجل وإنشاء اليمان في القلب وبث
الروح فيه ،فالمعرفة تستدعي فهما ً لليات ،واستمرارا ً لقراءتها والتعامل معها حتى يرسخ
مدلولها في العقل ،وتستدعي كذلك تجاوب المشاعر معها حتى تثمر إيمانا ً في القلب..هذا
اليمان لن يستقر في القلب ،ولن يشكل جزءا ً أصيل ً من المشاعر إل إذا حدث تكرار
وإستمرارية في الطرق على تلك المشاعر.
إذن فقد وضحت أمامنا الوسائل...مداومة على القراءة اليومية وبأكبر وقت ممكن...قراءة
في مكان هادئ قدر المستطاع يستجمع فيه المرء شوارد فكره ليستعين بذلك على التركيز
مع اليات وفهمها...
أيضا ً لبد من تهيئة المشاعر واستجماعها مع القراءة وذلك يمكن حدوثه من خلل التباكي
مع القرآن وتكلف الحزن...
وكذلك فإن القراءة الجهرية والترتيل وتحسين الصوت لهما أثر كبير في استثارة المشاعر
وعدم شرود الذهن.
وكما نُعمل عقولنا في أي شيء نقرؤه ،علينا أن نفعل ذلك مع القرآن ،فإذا ما حدث تأثر
بآية من اليات علينا أن نُكثر من ترديدها ليستقر مدلولها في عقولنا ،وينمو اليمان بها في
قلوبنا..وشيئا فشيئا ينتقل هذا اليمان من الحال إلى المقام.
استنشاق نسيم النس لبن رجب الحنبلي ،ص (. )127 2
التدبر والترتيل:
والمر اللفت للنتباه أن الله عز وجل قد أمرنا بأمرين في كيفية التعامل مع القرآن.
المر الول :تدبره عند قراءته :أَفَلَا يََت َدبّرُونَ اْلقُرْ َآنَ[ ممد.]2 4 :
والمر الثاني :ترتيلهَ :و َرتّ ِل اْلقُرْ َآنَ تَ ْرتِيلًا[ الزمل.]4 :
فالتدبر يخاطب العقل ،والترتيل يخاطب المشاعر ،فإذا ما قمنا بتنفيذ هذين المرين في
م زيادة اليمان في القلبنفس الوقت فسيؤدي ذلك إلى مزج الفكر بالعاطفة ،ومن ث َ َّ
فنحقق قوله تعالىَ :وإِذَا تُلَِيتْ عَلَيْ ِهمْ َآيَاُتهُ زَا َدتْ ُهمْ إِيَانًا[ النفال.]2 :
ولعلك تلحظ – أخي القارئ – أن الوسائل التي ذ ُكرت في السطر السابقة ما هي إل
معينات تعين المرء على تنفيذ هذين المرين فيحدث الفهم والتأثر ،وبه تتحق بإذن الله :
يَتْلُونَهُ حَقّ تِلَا َوِتهِ[ البقرة ]1 2 1 :وكيف والمرء قد يشعر أحيانا أن أحكام التجويد تدفعه دفعا ً إلى
العمل كما هو الحال عندما يسمع الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الظهار
الشفوي التام الذي ينبه إلى سرعة التنفيذ دون بطء :يَا أَيّهَا الْ ُمدّثّرُ ( ُ )1قمْ َفَأْنذِرْ[ الدثر.]2 ،1 :
وإليك أخي القارئ بعضا من التفصيل حول هذه الوسائل – والتي تحدثنا عنها بإجمال في
السطر السابقة – مع ذكر أمثلة تؤكدها من السنة المطهرة وفعل الصحابة رضوان الله
عليهم.
عندما ل نداوم على قراءته كل يوم فسيصعب علينا النتفاع بما فيه...قال صلى الله عليه
وسلم " :تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده ،لهو أشد تفصيا ً من قلوب الرجال من البل
في عُقلها"(.)1
فلكي يسهل على اللسان قراءته ،وعلى العقل فهمه ،وعلى القلب التأثر به لبد من مداومة
تلوته وعدم جفائه ولو يوما..قال صلى الله عليه وسلم" :اقرؤوا القرآن واعملوا به ،ول
تجفوا عنه"(.)2
عن الحسن البصري قال :قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه :لو أن قلوبنا
طهرت ما شبعنا من كلم ربنا ،وإني لكره أن يأتي علي يوم ل أنظر في المصحف ،وما
خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه(.)3 مات عثمان رضي الله عنه حتى ُ
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال :كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل البيت
نشر المصحف فقرأ فيه(.)4
وجاء ذكر ذلك أيضا في المر بالنصات وليس بالسكوت عند سماع القرآن لن الفرق بينهما
ُوا [العراف ]2 0 4 :وقد فهمت الجن ذلك فنصح بعضهم بعضا ً ليس فقط
كبير :فَاسْتَ ِمعُوا َلهُ َوأَنْصِت
ُوا [الحقاف.]2 9 :
ضرُوهُ قَالُوا أَنْصِت
بالسماع ول بالسكوت ولكن :فَ َلمّا حَ َ
وهذه الوسيلة من أهم الوسائل التي تُسرع بنا الخطى نحو النتفاع بالقرآن والتأثر به ،وكيف
َى [العلى.]1 0 :
ل وقد قال تعالى :سََي ّذكّرُ مَنْ َيخْش
وقالَ :ف َذكّرْ بِالْقُ ْر َآنِ مَنْ َيخَافُ َوعِيدِ[ ق.]4 5 :
والمقصد منها تهيئة المشاعر لسرعة الستثارة والتجاوب مع اليات ،ويمكن أن يتم ذلك من
خلل القراءة بتباكي وتحزن وتخشع(أي تكلف ذلك) قال صلى الله عليه وسلم" :اتلوا
القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا"(.)1
وقال " :أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله "(.)2
ومما لشك فيه أن المداومة على القراءة بتباك وتحزن لها دور كبير في تحريك القلب
وتأثره بالقرآن.
رواه ابن ماجه ( )1337وسنده جيد كما ذكر العراقي في تخريج الحياء . 1
حسنا "(.)1
وقال :حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن ُ
..ومعنى ذلك أن تدبر القرآن أمر لبد منه :كِتَابٌ أَنْ َزلْنَاهُ إِلَ ْيكَ مُبَارَكٌ لَِيدّبّرُوا َآيَاتِهِ َولِيََتذَكّرَ أُولُو اْلأَلْبَابِ
[ص.]2 9 :
وقال الحسن بن علي :اقرأ القرآن ما نهاك ،فإن لم ينهك فلست تقرأه.
أي إن لم تعش مع القرآن وتفهم خطابه وما يأمرك به وينهاك فأنت بذلك ل تقرؤه قراءة
صحيحة.
ولن القرآن حمال أوجه ،فيمكن للجميع أن يتدبروه ويفهموه بقدر مستوى إدراكهم...
...نعم ،سيتفاوت الفهم من شخص لخر ،ما بين فهم عميق أو سطحي أو متوسط ،لكن
ليست العبرة بعمق الفهم ،ولكن بالتأثر المصاحب لهذا الفهم ،والذي من خلله يزداد
اليمان ،وينتبه القلب ،وهذا أمر متاح للجميع بإذن الله.
فن قلت :ولكني أجد بعض الكلمات التي ل أفهم معناها ،وبعض اليات ل أستطيع تدبرها،
فماذا أفعل؟!
علينا أن نمرر مال نفهمه من آيات ونكتفي بالمعنى الجمالي وذلك وقت القراءة سواء كان
ذلك في الصلة أو خارجها ،وهذا ما دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " :إن
صحيح ،رواه الدارمي في سننه ،وصححه اللباني في صحيح الجامع ( . ) 3145 1
القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً ،بل يصدق بعضه بعضاً ،فما عرفتم منه فاعملوا به ،وما
جهلتم فردوه إلى عالمه"(.)1
فلنسترسل في القراءة ولنُعمل عقولنا في فهم ما نقرأ ببساطة ودون تكلف ،ولنمرر ما ل
نفهمه ،حتى نسمح لليات أن تنساب داخلنا ويتصاعد تأثيرها شيئا ً فشيئا ً حتى نصل لمرحلة
التأثر.
ويمكننا بعد ذلك أن نعود للتفسير لفهم ما أُشكل علينا فهمه ،ومعرفة الحكام التي دلت
عليها اليات ،ولكن في وقت آخر غير وقت القراءة.
سابعاً :التجاوب مع القراءة:
القرآن خطاب من الله عز وجل يخاطبنا من خلله ،فعلينا أن نتجاوب مع هذا الخطاب ،فإن
كان هناك سؤال أجبنا عليه ،وإن كان هناك أمر بالستغفار أو التسبيح استغفرنا وسبحنا،
وعندما نجد حديثا عن النار نستعيذ منها ،وإن كان الحديث عن الجنة نتشوق إليها ونسأل
الله أن يجعلنا من أهلها.
عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال :صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات ليلة فافتتح بالبقرة فقرأها ،ثم افتتح بالنساء فقرأها ،ثم افتتح آل عمران فقرأها ،يقرأ
مترسلً ،إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ،وإذا مر بسؤال سأل ،وإذا مر بتعوذ تعوذ ،ثم ركع(.)2
وكان صلى الله عليه وسلم يمشي ذات ليلة في طرقات المدينة فسمع من يقرأ :هَلْ أَتَاكَ
حدِيثُ اْلغَاشَِيةِ[ الغاشية ]1 :فبكى وقال :نعم يا رب قد أتاني.
َ
وعن نافع قال :كان ابن عمر يقرأ في صلته ،فيمر بالية فيها ذكر الجنة فيقف ويسأل
الجنة ،ويدعو ويبكي ،ويمر بالية فيها ذكر النار فيقف ويستجير بالله عز وجل(.)3
حسن ،رواه المام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه . 1
من هنا كان علينا استثمار تلك الفرصة العظيمة والسماح لكبر قدر من النور ليدخل القلب،
وذلك من خلل ترديد الية – أو اليات – التي أثرت فينا...قال أبو ذر رضي الله عنه :قام
النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبحِ :إنْ تُ َع ّذبْ ُهمْ َفِإنّ ُهمْ عِبَادُكَ َوِإنْ تَ ْغفِرْ لَ ُهمْ َفِإّنكَ أَنْتَ
()
الْعَزِي ُز اْلحَكِيمُ[ الائدة. 1 ]1 1 8 :
وعن مسروق قال :قال لي رجل من أهل مكة :هذا مقام أخيك تميم الداري ،لقد رأيته ذات
ب اّلذِينَ ليلة حتى أصبح أو كاد يصبح يقرأ آية من كتاب الله ،يركع ويسجد ويبكيَ :أمْ حَ ِ
س َ
جعَلَ ُهمْ كَاّلذِينَ َآمَنُوا وَعَ ِملُوا الصّاِلحَاتِ َسوَاءً َمحْيَا ُهمْ َومَمَاتُ ُهمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ الاثية:
اجْتَ َرحُوا السّيّئَاتِ أَنْ َن ْ
()2
. ]2 1
***
وأخيرًا
بالمداومة على هذه الوسائل يدخل نور القرآن إلى القلب شيئا ً فشيئا ً ،وتدب الحياة في
جنباته ،ويصبح في حالة دائمة ،من التذكر والنتباه ،وليس ذلك فحسب بل ستزداد يوما بعد
يوم المعرفة بالله عز وجل ،وستكون بعون الله معرفة مؤثرة تُنشئ اليمان في القلب
وترسخه فيه ،لينعكس ذلك على معاملت المرء مع ربه فيزداد له حبا ً وشوقا ً وخشية وإنابة
وتوكلً..
أخي الحبيب:
إن القرآن يُعد بمثابة الغيث لقلوبنا ،فإن أردنا حياة حقيقية فما علينا إل أن نجعلها تتعرض
لهذا الغيث المبارك ما استطعنا إلى ذلك سبيلً ،بأن نقترب دوما منه ،ول نجفو عنه ،وأن
نمكث معه أطول فترة ممكنة ،وأن نقرأه بالطريقة التي أمرنا الله بها ،وفصلها لنا رسولنا
محمد صلى الله عليه وسلم..فإن فعلنا ذلك فسيستمر إمداده لقلوبنا – بإذن الله –
فيطهرها ،وينورها ،ويبذر فيها بذور المعرفة ،ويربيها ويغذيها حتى تنبت وتُثمر الثمار
المباركة.
جاء في الحديث " :مثل القرآن ومثل الناس كمثل الرض والغيث ،بينما الرض ميتة هامدة،
إذ أرسل الله عليها الغيث فاهتزت ،ثم يرسل الوابل فتهتز وتربو ،ثم ل يزال يرسل أودية
حتى تبذر وتنبت ويزهو نباتها ،ويخرج الله ما فيها من زينتها ومعايش الناس والبهائم ،وكذلك
فعل هذا القرآن بالناس "(.)1
سنا التعامل مع القرآن ،واتخذناه دليل ً في
كل ذلك أخي الحبيب سيتحقق بمشيئة الله إن أح َّ
رحلتنا المباركة..رحلة المعرفة والسير إلى الله.
رواه أبو نعيم والديلمي عن أبي سعيد – انظر كنز العمال – (. )2457 1
الفهرس
الموضوع
المقدمة
الفصل الول
معنى العبودية
العبادة والعبودية
ل بديل عن التباع
موقع اليمان أول 65 www.alemanawaln.com
د .مجدي الهللي حقيقة العبودية
الفصل الثالث
الطريق إلى تحقيق العبودية
حاكمية الوحي
التفكير يقود إلى المعرفة
دليل المعرفة
التدبر والعتبار
ألوان العبودية
منهج القرآن في التعريف بالله
نموذج ل يُنسى
الفصل الرابع
نقطة البداية في رحلة المعرفة
الفهرس