Professional Documents
Culture Documents
عندما يأتي شهر رمضان المبارك يتذاكر المسلمون عددا من الموضوعات التقليدية ،التي أصبحت من ثوابت هذا الشهر،
ومنها :موضوع انتصارات المسلمين في رمضان .وأدى تكرار الحديث في هذه الشأن إلى خلق وعي جماهيري تمثلت فيه
بعض عناصر السلبية ،حول العلقة بين رمضان والنتصار؛ حتى تخيل البعض أن رمضان أحد شروط النتصار ،وأن العلقة
بينهما علقة سبب ونتيجة.
وتزداد هذه الصورة الذهنية التي رسمها البعض عن النتصارات في رمضان خطورة عندما يتم عرض النتصار فقط
دون التطرق للوجه الخر وهو عدد من الهزائم التي مُني بها المسلمون في هذا الشهر؛ نظرا لنهم لم يستفيدوا من نفحات وعطاء
رمضان.
وإذا كان التاريخ ل يعني فقط سرد الحداث وما جرى فيها من وقائع ،بل ضرورة الوعي والستفادة من عبرة الحدث
لتجنب الوقوع في مثل أخطاء السابقين ،فإن هذا يدعونا إلى ضرورة التبصر والوعي بحقيقة النتصارات الرمضانية ،ووضعها
في سياقها الصحيح ،وفهمها بصورة معتدلة تكفل التفاعل الحي مع الحدث.
معارك رمضان ..حقائق وملمح
ل بد من الشارة إلى جملة من الحقائق التي تستفاد من تتبع واستقراء تاريخ الشهر الكريم مع حروب المسلمين فيه ،منها:
-أن تحديد المسلمين شهر رمضان لخوص معاركهم لم يكن أمرا مقصودا ،وإنما شاءت القدار أن تقع بعض المعارك في
رمضان لضرورات فرضتها طبيعة الصراع وأجواء الحرب .فتوقيت معركة بدر التي وقعت أحداثها في رمضان ارتبط بمرور
قافلة قريش ،وما تبعه من أحداث فرضت توقيت المعركة في هذا الوقت من رمضان؛ ولذا لم يتطرق الحديث في هذه الغزوة من
قريب أو بعيد عن ذكر أي شيء عن رمضان ،كما أن القرآن الكريم عندما تحدث عن غزوة بدر لم يهتم بذكر توقيتها ،ولم يذكر
الرسول صلى ال عليه وسلم أي فضل لوقوع هذه المعركة في رمضان ،ولم يشر من قريب أو بعيد إلى رمضان ودوره في
النتصار.
وما يمكن استفادته من ذلك أن القتال في رمضان ليس مقصدا شرعيا ،وليس من مسببات النصر ،وهو ما يوجب على
المسلمين أن يكونوا على استعداد تام وكامل بكل السباب المتاحة لديهم للدفاع عن عقيدتهم وأرضهم وثرواتهم ضد أي عدوان،
وأل يقصروا همتهم على شهر واحد من العام يكونون فيه أقرب لتحقيق النصر من غيره من الشهور ،لن ترسخ فكرة ارتباط
النصر بالزمن يشكل خطورة كبيرة على وعي المة المسلمة بالتاريخ والتعامل مع أحداثه.
-أن المسلمين في انتصاراتهم في رمضان في أغلب معاركهم لم يكونوا صائمين أثناء القتال ،وأن الشرع السلمي كان
يدعو إلى أن يفطر المسلمون حتى يمتلكوا القوة والقدرة على قتال أعدائهم؛ لن الصوم مع القتال فيه مظنة الضعف والوهن
البدني ،وفي هذه الحالة يكون الولى الفطر وليس الصوم ،وهو ما حدث في فتح مكة على سبيل المثال ،وهو ما حدث أيضا في
معركة شقحب أو مرج الصفر التي وقعت يوم السبت للول من رمضان من عام 702هـ ،واستمرت إلى اليوم الثاني بين التتار
والجيوش السلمية ،وشارك فيها شيخ السلم ابن تيمية.
يقول ابن كثير" :أفتى ابن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم ،وأفطر هو أيضا ،وكان يدور على خيام المراء والجند ،فيأكل من
شيء معه في يده ،ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل من صومهم ،فكان الناس يأكلون اقتداء به".
-أن الدرس الكبير الذي كان يربي السلم أتباعه عليه هو فقه التعامل مع النواميس الكونية ،وضرورة التوكل الصحيح
على ال ،بعيدا عن انتظار الخوارق والمعجزات لنها لن تأتي ،ولذلك كان المام الغزالي يقول" :الخروج عن سنة ال ليس شرطا
في التوكل" ،وكان آخر يقول" :ليس التوكل الخروج عن سنة ال أصل" ،ولهذا قرن القرآن الكريم في كثير من المواضع بين
الصبر والتوكل ،ومن ثم كانت الهزائم التي تعرض لها المسلمون أحد عناصر التربية اللهية لهم حتى يفقهوا التعامل مع
النواميس الكونية ويأخذوا بها.
ومن ذلك ما حدث في غزوة أُحُد التي وقعت في بداية شوال ،وتم الستعداد لها في رمضان ،ووقعت بعد خروج المسلمين
من شهر رمضان مشحونين بطاقته الروحية ،ورغم ذلك وقع ما أسماه القرآن الكريم بـ"الفشل" في أحد ،حيث إن السماء أرادت
تربية المسلمين على الخذ بالسنن الكونية في الجتماع النساني ،ومنها ضرورة العداد الجيد للمعركة ،وضرورة طاعة القائد،
وعدم تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة ،يقول المام محمد عبده رحمه ال" :رأيت النبي ،صلى ال عليه وسلم،
ليلة الخميس غرة ذي القعدة سنة 1320هـ في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول :لو خُيرت بين النصر والهزيمة
لخترت الهزيمة".
فالمنطق والتجربة التاريخية يؤكدان أن تربية المم على إقامة السنن الكونية والتعامل معها كثوابت ل تجامل أحدا حتى
النبياء ل يكون من خلل النصوص فقط ،ولكن ل بد من تربية فعلية تنقل هذه التصورات إلى حيز الواقع ،متمثلة في تجارب
عملية تظل شاهدة على صدق النصوص.
ولعل هذا الرأي يتفق مع ما قاله الصحابي الجليل عبد ال بن عباس رضي ال عنهما" :ما نصر ال رسوله في موطن
نصره يوم أحد" ،وكان مكمن النتصار الحقيقي في هذه المعركة هو ضرورة التعامل اليجابي مع السنن الكونية بمنطق أنها ل
تجامل أحدا حتى النبياء والصالحين ،ومن ثم فإن هذه النواميس ل تتعطل في شهر رمضان فتسمح للضعف والقل إعدادا
واستعدادا بأن ينتصر عندما يهل هلل رمضان.
هزائم ..في رمضان
ويشهد التاريخ أن المسلمين تعرضوا لكثير النتكاسات في معارك خاضوها في شهر رمضان ولم يستوفوها حقها من
العداد المادي والمعنوي والترابط والوحدة ،ومن ذلك ما حدث في بداية غزوة حنين التي قيل إنها وقعت في بداية شهر شوال
وإن الخروج إليها كان في 28رمضان ،حيث تعرض المسلمون لنكسار كبير في بداية المعركة حتى إنهم تركوا النبي صلى ال
عليه وسلم بمفرده أو بصحبة القليل من الرجال يواجه القبائل العربية من هوازن ،وفر الجميع ،وجاء في الصحيح أن المسلمين
لما هاجموا هوازن فرت هذه القبيلة ورأى المسلمون الغنائم فانكبوا عليها ،فعادت هوازن وكانوا من أمهر العرب في الرمي
بالسهام ،فرموهم رمية رجل واحد فانكشف المسلمون ،وكان عدد المسلمين يقارب ثلثة أضعاف هوازن.
الكثرة إذن لم تكن هي الحاكمة للمعركة بقدر ما حكمها حسن العداد والتخطيط الجيد الذي استطاع أن يحيد الكثرة الكاثرة
من المسلمين في بداية المعركة ،وضاعت وسط الضجيج المقولة التي أطلقها أحد المسلمين" :لن نغلب اليوم من قلة".
ونلحظ أن هذا السبب كان عامل رئيسيا في إعاقة دخول السلم إلى أوربا في معركة بلط الشهداء ،فالمسلمون حققوا
انتصارات على الرض الفرنسية ،ولكنهم حملوا الكثير من الغنائم مما أثقلتهم عن القتال ،وكان الحفاظ على الغنائم في مقدمة
أولويات غالبيتهم ،فكانت الهزيمة الكبيرة ،وحجب نور السلم عن أوربا لسنوات طويلة ،رغم أن المعركة وقعت في رمضان
وامتدت إلى شوال.
فرقة= هزيمة
ونشير هنا إلى مقولة خالدة للمام علي بن أبي طالب قال فيها" :إن هؤلء انتصروا باجتماعهم على باطلهم ،وخذلتم بتفرقكم
عن حقكم" ،وتشير الخبرة التاريخية هنا إلى أن فُرقة المسلمين كانت سببا رئيسيا في هزائمهم ،حتى وإن كانوا في رمضان؛ ومن
ذلك الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش العثماني في ( 20رمضان 1094هـ= 12ديسمبر 1683م) أمام أسوار فيينا ،تلك
المعركة الفاصلة التي غيرت مجرى التاريخ الوربي بل العالمي ،حيث كانت فيينا آخر ما وصل إليه المسلمون من فتوحات في
أوربا ،وكان سبب الهزيمة الرئيسي هو الخيانة التي قام بها القائد القرمي "مراد كيراي" للجيش العثماني ،عندما ترك الجيش
البولوني والنمساوي يعبران الجسر المنصوب على نهر الدونة ليقوما بفك الحصار عن فيينا ،وكانت تلك أكبر خيانة في التاريخ
العثماني .ويذكر بعض المؤرخين أن غالبية الجيش في تلك الليلة المباركة الرمضانية قضى وقته في اللهو ،واقترف بعضهم
الذنوب الكبيرة ،ولعل هذا ما حجب النصر عنهم؛ لن النصر يتنزل على التقى والقوى معا.
-أن شهر رمضان لم يمنع المسلمين من أل يقاتلوا بعضهم بعضا ،ولم تكن روحانياته عائقا دون إراقة الدم المسلم بل
مبرر في ساحات الحرب الطاحنة والبأس الشديد ،ومن ذلك الحروب الطاحنة التي وقعت في شهر رمضان بين العثمانيين والدولة
الصفوية ،وهي الحرب التي كان قتلها باللف ،ومن ذلك معركة "شماهي" في القفقاس في ( 11رمضان 986هـ= 1نوفمبر
1578م) التي قتل فيها حوالي 15ألف قتيل صفوي ،وآلف من الجنود العثمانيين ،ومعركة "شماهي الثانية" في ليلة القدر (27
رمضان 986هـ= 16من ديسمبر 1578هـ) التي قتل فيها 30ألف شخص من الجانبين ،ومعركة "بول شكسته" في (19
رمضان 1094هـ= 19سبتمبر 1683م) التي قتل فيها 15ألف عثماني.
الدعاء بعد العداد
-يظن البعض أنه ما دام رمضان هو شهر إجابة الدعاء ،فإن الواجب على المسلمين أن يأخذوا أنفسهم بكثرة الدعاء على
عدوهم باعتباره السبب الرئيس في النصر؛ ولذا رأينا في عصورنا المتأخرة -زمانا وصفةً -وجبات الدعاء المتنوعة على
العداء ،التي تجمع بين القتل والتشريد ،وأن يجعلهم غنيمة للمسلمين هم ونساءهم وأموالهم دون قتال ،وغالى البعض في الدعاء،
وكلما اقترن الدعاء بالخوارق وعدم تكلف المسلم عناء التغيير ارتفع الصوت بالتأمين والبتهال.
وتؤكد خبرة التاريخ وقبلها السيرة النبوية ،أن المسلمين كانوا يؤثرون الجانب العملي على الجلوس ووضع الذقون على
راحات اليدي انتظارا للنصر ،فكان الدعاء هو آخر ما يتم أخذه من أسباب النصر؛ فالرسول صلى ال عليه وسلم ،كان آخر
شيء قام به بعد الستعداد الكامل للمعركة في بدر الكبرى هو الدعاء والبتهال بنفسه هو إلى ال عز وجل أن ينزل عليهم
النصر ،فلم يجمع الجيش للدعاء خلفه؛ ولذا كان الخذ بالسباب مقدما على الدعاء.
وبلغ السخف ببعض المسلمين عند لقاء العداء أنهم كانوا يحتمون بأهل القبور؛ ظنا منهم أن عندهم النصر المبين ،يقول
الستاذ رشيد رضا في تفسير المنار" :ألم يتعلم المسلمون أن الستعداد بالفعل مقدم على الدعاء بالقول؟! ،ألم يروا أن سلفهم كانوا
ينصرون أيام لم يكونوا يقولون" :اللهم نكس أعلمهم ،اللهم زلزل الرض من تحت أقدامهم ،اللهم يتّم أطفالهم ،اللهم اجعلهم غنيمة
للمسلمين"؛ فهم بعد اللهج بهذه الكلمات غير منصورين في جهة من الجهات ،فالعمل العمل ،والستعداد الستعداد ،والهبة الهبة،
﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل﴾ ول قوة إل بالعلم والمال ،ول مال إل بالعدل ،ول عدل مع حكم الستبداد،
ثم يكون بعد كمال الستعداد يكون الذكر والستمداد ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا ال كثيرا لعلكم تفلحون﴾ هذا
هو هدي السلم".