You are on page 1of 2

‫معارك رمضان‪ ..

‬بي النصر والزية‬


‫(ذكرى بدر أول معركة كبرى للمسلمين‪ 17 :‬من رمضان ‪2‬هـ)‬
‫مصطفى عاشور‬

‫عندما يأتي شهر رمضان المبارك يتذاكر المسلمون عددا من الموضوعات التقليدية‪ ،‬التي أصبحت من ثوابت هذا الشهر‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬موضوع انتصارات المسلمين في رمضان‪ .‬وأدى تكرار الحديث في هذه الشأن إلى خلق وعي جماهيري تمثلت فيه‬
‫بعض عناصر السلبية‪ ،‬حول العلقة بين رمضان والنتصار؛ حتى تخيل البعض أن رمضان أحد شروط النتصار‪ ،‬وأن العلقة‬
‫بينهما علقة سبب ونتيجة‪.‬‬
‫وتزداد هذه الصورة الذهنية التي رسمها البعض عن النتصارات في رمضان خطورة عندما يتم عرض النتصار فقط‬
‫دون التطرق للوجه الخر وهو عدد من الهزائم التي مُني بها المسلمون في هذا الشهر؛ نظرا لنهم لم يستفيدوا من نفحات وعطاء‬
‫رمضان‪.‬‬
‫وإذا كان التاريخ ل يعني فقط سرد الحداث وما جرى فيها من وقائع‪ ،‬بل ضرورة الوعي والستفادة من عبرة الحدث‬
‫لتجنب الوقوع في مثل أخطاء السابقين‪ ،‬فإن هذا يدعونا إلى ضرورة التبصر والوعي بحقيقة النتصارات الرمضانية‪ ،‬ووضعها‬
‫في سياقها الصحيح‪ ،‬وفهمها بصورة معتدلة تكفل التفاعل الحي مع الحدث‪.‬‬
‫معارك رمضان‪ ..‬حقائق وملمح‬
‫ل بد من الشارة إلى جملة من الحقائق التي تستفاد من تتبع واستقراء تاريخ الشهر الكريم مع حروب المسلمين فيه‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪-‬أن تحديد المسلمين شهر رمضان لخوص معاركهم لم يكن أمرا مقصودا‪ ،‬وإنما شاءت القدار أن تقع بعض المعارك في‬
‫رمضان لضرورات فرضتها طبيعة الصراع وأجواء الحرب‪ .‬فتوقيت معركة بدر التي وقعت أحداثها في رمضان ارتبط بمرور‬
‫قافلة قريش‪ ،‬وما تبعه من أحداث فرضت توقيت المعركة في هذا الوقت من رمضان؛ ولذا لم يتطرق الحديث في هذه الغزوة من‬
‫قريب أو بعيد عن ذكر أي شيء عن رمضان‪ ،‬كما أن القرآن الكريم عندما تحدث عن غزوة بدر لم يهتم بذكر توقيتها‪ ،‬ولم يذكر‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم أي فضل لوقوع هذه المعركة في رمضان‪ ،‬ولم يشر من قريب أو بعيد إلى رمضان ودوره في‬
‫النتصار‪.‬‬
‫وما يمكن استفادته من ذلك أن القتال في رمضان ليس مقصدا شرعيا‪ ،‬وليس من مسببات النصر‪ ،‬وهو ما يوجب على‬
‫المسلمين أن يكونوا على استعداد تام وكامل بكل السباب المتاحة لديهم للدفاع عن عقيدتهم وأرضهم وثرواتهم ضد أي عدوان‪،‬‬
‫وأل يقصروا همتهم على شهر واحد من العام يكونون فيه أقرب لتحقيق النصر من غيره من الشهور‪ ،‬لن ترسخ فكرة ارتباط‬
‫النصر بالزمن يشكل خطورة كبيرة على وعي المة المسلمة بالتاريخ والتعامل مع أحداثه‪.‬‬
‫‪ -‬أن المسلمين في انتصاراتهم في رمضان في أغلب معاركهم لم يكونوا صائمين أثناء القتال‪ ،‬وأن الشرع السلمي كان‬
‫يدعو إلى أن يفطر المسلمون حتى يمتلكوا القوة والقدرة على قتال أعدائهم؛ لن الصوم مع القتال فيه مظنة الضعف والوهن‬
‫البدني‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون الولى الفطر وليس الصوم‪ ،‬وهو ما حدث في فتح مكة على سبيل المثال‪ ،‬وهو ما حدث أيضا في‬
‫معركة شقحب أو مرج الصفر التي وقعت يوم السبت للول من رمضان من عام ‪702‬هـ‪ ،‬واستمرت إلى اليوم الثاني بين التتار‬
‫والجيوش السلمية‪ ،‬وشارك فيها شيخ السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫يقول ابن كثير‪" :‬أفتى ابن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم‪ ،‬وأفطر هو أيضا‪ ،‬وكان يدور على خيام المراء والجند‪ ،‬فيأكل من‬
‫شيء معه في يده‪ ،‬ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل من صومهم‪ ،‬فكان الناس يأكلون اقتداء به"‪.‬‬
‫‪ -‬أن الدرس الكبير الذي كان يربي السلم أتباعه عليه هو فقه التعامل مع النواميس الكونية‪ ،‬وضرورة التوكل الصحيح‬
‫على ال‪ ،‬بعيدا عن انتظار الخوارق والمعجزات لنها لن تأتي‪ ،‬ولذلك كان المام الغزالي يقول‪" :‬الخروج عن سنة ال ليس شرطا‬
‫في التوكل"‪ ،‬وكان آخر يقول‪" :‬ليس التوكل الخروج عن سنة ال أصل"‪ ،‬ولهذا قرن القرآن الكريم في كثير من المواضع بين‬
‫الصبر والتوكل‪ ،‬ومن ثم كانت الهزائم التي تعرض لها المسلمون أحد عناصر التربية اللهية لهم حتى يفقهوا التعامل مع‬
‫النواميس الكونية ويأخذوا بها‪.‬‬
‫ومن ذلك ما حدث في غزوة أُحُد التي وقعت في بداية شوال‪ ،‬وتم الستعداد لها في رمضان‪ ،‬ووقعت بعد خروج المسلمين‬
‫من شهر رمضان مشحونين بطاقته الروحية‪ ،‬ورغم ذلك وقع ما أسماه القرآن الكريم بـ"الفشل" في أحد‪ ،‬حيث إن السماء أرادت‬
‫تربية المسلمين على الخذ بالسنن الكونية في الجتماع النساني‪ ،‬ومنها ضرورة العداد الجيد للمعركة‪ ،‬وضرورة طاعة القائد‪،‬‬
‫وعدم تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة‪ ،‬يقول المام محمد عبده رحمه ال‪" :‬رأيت النبي‪ ،‬صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ليلة الخميس غرة ذي القعدة سنة ‪1320‬هـ في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول‪ :‬لو خُيرت بين النصر والهزيمة‬
‫لخترت الهزيمة"‪.‬‬
‫فالمنطق والتجربة التاريخية يؤكدان أن تربية المم على إقامة السنن الكونية والتعامل معها كثوابت ل تجامل أحدا حتى‬
‫النبياء ل يكون من خلل النصوص فقط‪ ،‬ولكن ل بد من تربية فعلية تنقل هذه التصورات إلى حيز الواقع‪ ،‬متمثلة في تجارب‬
‫عملية تظل شاهدة على صدق النصوص‪.‬‬
‫ولعل هذا الرأي يتفق مع ما قاله الصحابي الجليل عبد ال بن عباس رضي ال عنهما‪" :‬ما نصر ال رسوله في موطن‬
‫نصره يوم أحد"‪ ،‬وكان مكمن النتصار الحقيقي في هذه المعركة هو ضرورة التعامل اليجابي مع السنن الكونية بمنطق أنها ل‬
‫تجامل أحدا حتى النبياء والصالحين‪ ،‬ومن ثم فإن هذه النواميس ل تتعطل في شهر رمضان فتسمح للضعف والقل إعدادا‬
‫واستعدادا بأن ينتصر عندما يهل هلل رمضان‪.‬‬
‫هزائم‪ ..‬في رمضان‬
‫ويشهد التاريخ أن المسلمين تعرضوا لكثير النتكاسات في معارك خاضوها في شهر رمضان ولم يستوفوها حقها من‬
‫العداد المادي والمعنوي والترابط والوحدة‪ ،‬ومن ذلك ما حدث في بداية غزوة حنين التي قيل إنها وقعت في بداية شهر شوال‬
‫وإن الخروج إليها كان في ‪ 28‬رمضان‪ ،‬حيث تعرض المسلمون لنكسار كبير في بداية المعركة حتى إنهم تركوا النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم بمفرده أو بصحبة القليل من الرجال يواجه القبائل العربية من هوازن‪ ،‬وفر الجميع‪ ،‬وجاء في الصحيح أن المسلمين‬
‫لما هاجموا هوازن فرت هذه القبيلة ورأى المسلمون الغنائم فانكبوا عليها‪ ،‬فعادت هوازن وكانوا من أمهر العرب في الرمي‬
‫بالسهام‪ ،‬فرموهم رمية رجل واحد فانكشف المسلمون‪ ،‬وكان عدد المسلمين يقارب ثلثة أضعاف هوازن‪.‬‬
‫الكثرة إذن لم تكن هي الحاكمة للمعركة بقدر ما حكمها حسن العداد والتخطيط الجيد الذي استطاع أن يحيد الكثرة الكاثرة‬
‫من المسلمين في بداية المعركة‪ ،‬وضاعت وسط الضجيج المقولة التي أطلقها أحد المسلمين‪" :‬لن نغلب اليوم من قلة"‪.‬‬
‫ونلحظ أن هذا السبب كان عامل رئيسيا في إعاقة دخول السلم إلى أوربا في معركة بلط الشهداء‪ ،‬فالمسلمون حققوا‬
‫انتصارات على الرض الفرنسية‪ ،‬ولكنهم حملوا الكثير من الغنائم مما أثقلتهم عن القتال‪ ،‬وكان الحفاظ على الغنائم في مقدمة‬
‫أولويات غالبيتهم‪ ،‬فكانت الهزيمة الكبيرة‪ ،‬وحجب نور السلم عن أوربا لسنوات طويلة‪ ،‬رغم أن المعركة وقعت في رمضان‬
‫وامتدت إلى شوال‪.‬‬
‫فرقة= هزيمة‬
‫ونشير هنا إلى مقولة خالدة للمام علي بن أبي طالب قال فيها‪" :‬إن هؤلء انتصروا باجتماعهم على باطلهم‪ ،‬وخذلتم بتفرقكم‬
‫عن حقكم"‪ ،‬وتشير الخبرة التاريخية هنا إلى أن فُرقة المسلمين كانت سببا رئيسيا في هزائمهم‪ ،‬حتى وإن كانوا في رمضان؛ ومن‬
‫ذلك الهزيمة القاسية التي تعرض لها الجيش العثماني في (‪ 20‬رمضان ‪1094‬هـ= ‪ 12‬ديسمبر ‪1683‬م) أمام أسوار فيينا‪ ،‬تلك‬
‫المعركة الفاصلة التي غيرت مجرى التاريخ الوربي بل العالمي‪ ،‬حيث كانت فيينا آخر ما وصل إليه المسلمون من فتوحات في‬
‫أوربا‪ ،‬وكان سبب الهزيمة الرئيسي هو الخيانة التي قام بها القائد القرمي "مراد كيراي" للجيش العثماني‪ ،‬عندما ترك الجيش‬
‫البولوني والنمساوي يعبران الجسر المنصوب على نهر الدونة ليقوما بفك الحصار عن فيينا‪ ،‬وكانت تلك أكبر خيانة في التاريخ‬
‫العثماني‪ .‬ويذكر بعض المؤرخين أن غالبية الجيش في تلك الليلة المباركة الرمضانية قضى وقته في اللهو‪ ،‬واقترف بعضهم‬
‫الذنوب الكبيرة‪ ،‬ولعل هذا ما حجب النصر عنهم؛ لن النصر يتنزل على التقى والقوى معا‪.‬‬
‫‪ -‬أن شهر رمضان لم يمنع المسلمين من أل يقاتلوا بعضهم بعضا‪ ،‬ولم تكن روحانياته عائقا دون إراقة الدم المسلم بل‬
‫مبرر في ساحات الحرب الطاحنة والبأس الشديد‪ ،‬ومن ذلك الحروب الطاحنة التي وقعت في شهر رمضان بين العثمانيين والدولة‬
‫الصفوية‪ ،‬وهي الحرب التي كان قتلها باللف‪ ،‬ومن ذلك معركة "شماهي" في القفقاس في (‪ 11‬رمضان ‪986‬هـ=‪ 1‬نوفمبر‬
‫‪ 1578‬م) التي قتل فيها حوالي ‪ 15‬ألف قتيل صفوي‪ ،‬وآلف من الجنود العثمانيين‪ ،‬ومعركة "شماهي الثانية" في ليلة القدر (‪27‬‬
‫رمضان ‪986‬هـ= ‪ 16‬من ديسمبر ‪1578‬هـ) التي قتل فيها ‪ 30‬ألف شخص من الجانبين‪ ،‬ومعركة "بول شكسته" في (‪19‬‬
‫رمضان ‪1094‬هـ= ‪ 19‬سبتمبر ‪1683‬م) التي قتل فيها ‪ 15‬ألف عثماني‪.‬‬
‫الدعاء بعد العداد‬
‫‪ -‬يظن البعض أنه ما دام رمضان هو شهر إجابة الدعاء‪ ،‬فإن الواجب على المسلمين أن يأخذوا أنفسهم بكثرة الدعاء على‬
‫عدوهم باعتباره السبب الرئيس في النصر؛ ولذا رأينا في عصورنا المتأخرة ‪-‬زمانا وصفةً‪ -‬وجبات الدعاء المتنوعة على‬
‫العداء‪ ،‬التي تجمع بين القتل والتشريد‪ ،‬وأن يجعلهم غنيمة للمسلمين هم ونساءهم وأموالهم دون قتال‪ ،‬وغالى البعض في الدعاء‪،‬‬
‫وكلما اقترن الدعاء بالخوارق وعدم تكلف المسلم عناء التغيير ارتفع الصوت بالتأمين والبتهال‪.‬‬
‫وتؤكد خبرة التاريخ وقبلها السيرة النبوية‪ ،‬أن المسلمين كانوا يؤثرون الجانب العملي على الجلوس ووضع الذقون على‬
‫راحات اليدي انتظارا للنصر‪ ،‬فكان الدعاء هو آخر ما يتم أخذه من أسباب النصر؛ فالرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كان آخر‬
‫شيء قام به بعد الستعداد الكامل للمعركة في بدر الكبرى هو الدعاء والبتهال بنفسه هو إلى ال عز وجل أن ينزل عليهم‬
‫النصر‪ ،‬فلم يجمع الجيش للدعاء خلفه؛ ولذا كان الخذ بالسباب مقدما على الدعاء‪.‬‬
‫وبلغ السخف ببعض المسلمين عند لقاء العداء أنهم كانوا يحتمون بأهل القبور؛ ظنا منهم أن عندهم النصر المبين‪ ،‬يقول‬
‫الستاذ رشيد رضا في تفسير المنار‪" :‬ألم يتعلم المسلمون أن الستعداد بالفعل مقدم على الدعاء بالقول؟!‪ ،‬ألم يروا أن سلفهم كانوا‬
‫ينصرون أيام لم يكونوا يقولون‪" :‬اللهم نكس أعلمهم‪ ،‬اللهم زلزل الرض من تحت أقدامهم‪ ،‬اللهم يتّم أطفالهم‪ ،‬اللهم اجعلهم غنيمة‬
‫للمسلمين"؛ فهم بعد اللهج بهذه الكلمات غير منصورين في جهة من الجهات‪ ،‬فالعمل العمل‪ ،‬والستعداد الستعداد‪ ،‬والهبة الهبة‪،‬‬
‫﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل﴾ ول قوة إل بالعلم والمال‪ ،‬ول مال إل بالعدل‪ ،‬ول عدل مع حكم الستبداد‪،‬‬
‫ثم يكون بعد كمال الستعداد يكون الذكر والستمداد ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا ال كثيرا لعلكم تفلحون﴾ هذا‬
‫هو هدي السلم"‪.‬‬

You might also like