Professional Documents
Culture Documents
فقه التغيير
بين
2
3
المقدمة
إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بال من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا ،من يهده ال فل مضل له ومن يضلل فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل ال
وحده ل شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
حقّ تُقاتِهِ ول تَمو ُتنّ إلّ وأنتُم مّسلِمونَ
يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقواْ ال َ
ق مِنها
خلَ َ
خَلقَكُم من نَفسٍ واحِدةِ و َ
س اتّقو ْا ربّكُم الذي َ
[آل عمران .]102:يا أيّها النّا ُ
زَوجَها و َبثّ مِنهُما رِجالً كَثيرا ونِساءً واتّقو ْا الَ الذي تَساءَلونَ ب ِه والرْحا َم إنّ الَ
كانَ عَليكُم رَقيبا[ النساء .]1:يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَو ًل سَديدا يُصلِح
رسُولَهُ فَقد فَازَ فَوزا عَظيما[ الحزاب:
لَكُم أعمالَكُم و َي ْغفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُطِعِ الَ و َ
.]71-70
أما بعد ،فإن أصدق الحديث كتاب ال ،وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى ال عليه
ل ضللة في
وسلم ،وشر المور محدثاتها ،وكلّ محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة ،وك ّ
النار .أما بعد:
فإن أهمية العمل الصالح في السلم -عقيدة وشريعة وتزكية – لثره اليجابي
على حياة الفرد والمجتمع ،سواء كان ذلك في الدنيا أم في الخرة ،ففي معرض
الستخلف والتمكين والمن السياسي ،قال تعالىَ :وعَدَ اللّهُ الّذِينَ آ َمنُوا ِمنْكُمْ َوعَ ِملُوا
ن لَهُمْ دِينَهُمْ
ف الّذِينَ ِمنْ َق ْبلِهِمْ َوَليُمَ ّكنَ ّ
خلَ َ
ستَ ْ
خلِ َفنّهُم فِي ال ْرضِ كَمَا ا ْ
الصّالِحَاتِ َل َيسْتَ ْ
شيْئًا وَ َمنْ
شرِكُونَ بِي َ
خوْفِهِ ْم أَ ْمنًا يَ ْعبُدُو َننِي َل ُي ْ
الّذِي ا ْرتَضَى لَهُمْ َوَليُبَ ّدَلنّهُ ْم ِمنْ بَ ْعدِ َ
سقُونَ[ النور.]55:
َك َف َر بَعْدَ َذِلكَ َفأُ ْوَل ِئكَ هُ ْم ا ْلفَا ِ
وفي معرض المن الجتماعي والفوز والنجاح يوم القيامة ،قال تعالى :من عَمِلَ
ن مَا
حسَ ِ
جرَهُمْ ِبأَ ْ
جزِ َينّهُ ْم أَ ْ
ط ّيبَةً َوَلنَ ْ
حيَا ًة َ
ح ِييَنّ ُه َ
صَالِحًا ِمنْ ذَ َك ٍر أَ ْو أُنثَى وَ ُهوَ ُمؤْ ِمنٌ َفلَنُ ْ
علَيْهِم
كَانُوا يَعْ َملُونَ[ النحل .]97:وقال تعالىَ :ولَ ْو َأنّ أَهْ َل ا ْلقُرَى آ َمنُواْ وَا ّتقَواْ َل َفتَحْنَا َ
سبُونَ[ العراف.]96:
ت ّمنَ السّمَاء وَا َل ْرضِ َولَكِن كَ ّذبُواْ َفأَخَ ْذنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَ ْك ِ
َبرَكَا ٍ
لذلك فقد سعى النبياء وورثتهم من العلماء المصلحين منذ فجر التاريخ للعمل على
تحقيق هذه المعاني في أقوامهم.
4
وفي أواخر القرن الماضي ظهر مصطلحان جديدان في ساحة العمل السلمي ،هما
مصطلحا" :شرك القصور" و"شرك القبور"؛ هذان المصطلحان لم يكونا سوى صياغة جديدة
معاصرة يسعى من خللها صانعوها إلى حسم الخلف الدائر بين المسلمين لستئناف الحياة
السلمية وتطبيق حكم ال في الرض.
ففي حين رأى فيه السواد العظم ،أن نواة التغيير تبدأ من الفرد ثم الجماعة فالدولة
حسب السنن الكونية التي ل تتبدل ول تتحول؛ فقد رأى البعض أنها تبدأ بإيجاد الخليفة المسلم
أولً ،باعتبار الخلفة هي القضية المصيرية للمة ،ورتبوا على هذا القول أمورا منها :القول
بأن الدين ل يقوم بدون دولة ول بدون سلطة ،وأن سياسة تغيير ما بالنفس وإصلح الفرد
والمجتمع ،ليست سياسة ترقيع ل تقدم ول تؤخر في حسم الصراع مع الباطل ،وتطيل من
عمره ،بل ذهبوا إلى رمي مخالفيهم بأنهم " يؤذون هذا الدين من حيث ل يشعرون بل
يطعنونه الطعنة النجلء بمثل هذه الهتمامات الجانبية الهزيلة" على حد زعمهم.
ثم تطور المر بهم إلى القول بأن شرك الحاكمية هو منبع المنكرات كلها،
باعتباره المنكر الكبر والشر العظم ،يقول أحد المنظرين لهذا الفكر:
"فأما المجتمعات الجاهلية التي ل تتحاكم إلى شريعة ال ،فالمنكر الكبر فيها
والهم ،هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات :هو رفض ألوهية ال برفض شريعته
للحياة ...وهذا المنكر الكبير الساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه النكار
قبل الدخول في المنكرات الجزئية التي هي تبع لهذا المنكر الكبر وفرع عنه وعرض
له ...إنه ل جدوى من ضياع الجهد ..جهد الخيرين الصالحين من الناس ..في
مقاومة المنكرات الجزئية ،الناشئة بطبيعتها من المنكر الول :منكر الجرأة على ال
وادعاء خصائص اللوهية ،ورفض ألوهية ال برفض شريعته للحياة ..ل جدوى
من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الول وثمراته النكده
بل جدال"أهـ.
وأمام هذا الغلو في دور الخليفة في التغيير على حساب دور الفرد ثم المجتمع ،رد
علماء السلف من السواد العظم على أصحاب هذا الرأي ،واعتبروه بعيدا عن أمر ال
5
تعالى في كتابه ،وعن سيرة الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم وهديه ،كما سيأتي
بيانه لحقا.
لذا ،فإنني في هذا الكتاب سأبرهن على أن نظرية إيجاد الخليفة المسلم قبل تحقق عملية
التغيير الشاملة لما في أنفس عموم الناس ،فكرة بعيدة عن الواقع ،وليس لها علقة بالشرع
السلمي فحسب ،بل بالشرائع السماوية كلها ،ومخالفة لسنن ال الكونية التي ل تتحول ول
تتبدل ،وأن جذورها تعود إلى الماضي القديم منذ أن بدأ الصراع بين الخير والشر ،وأول
من حمل لواء هذا الصراع هو إبليس عليه اللعنة ،ومن ثم نقله إلى شياطين النس والجن،
ن
ن آذَا َ
ضّلّن ُه ْم َو ُل َمّنَيّن ُه ْم وَل ُم َرّن ُه ْم َفَلُيَبّت ُك ّ
وعلى رأس شياطين النس اليهود ،قال تعالىَ :و ُل ِ
سرَانًا
س َر ُخ ْ
ن الّل ِه َف َق ْد َخ ِ
ن دُو ِ
ن َوِليّا ِم ْ
شْيطَا َ
ن َيّت ِخ ْذ ال ّ
ق الّل ِه َو َم ْ
ن َخْل َ
ا َلْنعَا ِم وَل ُم َرّن ُه ْم َفَلُي َغّي ُر ّ
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم
ُمبِينًا [ النساء .]119:فهذه السنة في التغيير المنطلقة من قوله تعالىِ :إ ّ
س ِه ْم؛ هي من خلق ال ،وقد توعد إبليس بالعمل على تغييرها في الناس
َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
بمساعدة شياطين النس والجن.
وعليه فإنني سأقدم للقارئ الكريم الرد على أهم الشبهات التي يتمسك بها القائلون
بتغيير المجتمع من خلل تغيير الولة أو أنظمة الحكم "شرك القصور" على حساب الدعوة
لتغيير ما بالنفس كإنكار عموم الشرك وغيره ،وقد سموه "شرك القبور" تصغيرا له ،وهذه
الشبهات هي:
الشبهة الولى :تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية -شرك القصور -هذا الزمان
أو ًل وجعله على أول سلم الولويات في العمل لجل التغيير.
الشبهة الثاني ًة :هل شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك الكبر كما يقول
البعض؟
الشبهة الثالثة :فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك الحاكمية أنه البدعة الكبرى
والشرك العظم لنه العظم درجة ,إنما قصدنا أن هذه البدعة لم توجد في التاريخ السلمي
من قبل؟
الشبهة الرابعة :إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة شرك القصور ،هي الكبر
باعتبار أنها ل أصل لها في التاريخ السلمي ،من الناحيتين السلوكية والتشريعية.
6
الشبهة الخامسة :إذا أراد المخالف أن هذه البدعة؛ بدعـة شرك القصور ،هـي
الكبر والعظم ،لنه لول مرة فـي التاريخ تعيش المة هذه الحالـة من التجزئة
والتعدديـة الدولية.
الشبهة السادسة :لو قال المخالف :لقد نظرت إلى سيرة سلف المة من العلماء,
فوجدتهم قد ركزوا في دعوتهم على أكبر النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة في زمانهم,
كالنحراف في عقيدة السماء والصفات ,والقدر ,والوعد والوعيد ,ونحو ذلك من العقائد التي
ص بها زمان دون آخر ,وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة هذا العصر الكثر شيوعا ،هي
اخت ّ
بدعة الحاكمية لغير ال ,وأنها الشرك الكبر ,جعلت محاربتها من أولويات العمل السلمي.
الشبهة السابعة :لو قال المخالف :إن إقامة الحدود على الرعية ،مقدم على إصلحها
– أي أن لها الولوية -لما في ذلك من زجر للعصاة والمجرمين ،وبالتالي يستقيم المجتمع،
ن[ البقرة .]179:ولقول الرسول
ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ
ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي الْلبَا ِ
لقوله تعالىَ :وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ
صلى ال عليه وسلم" :حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن يمطروا أربعين
صباحا" ( .)1
الشبهة الثامنة :فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة الكبرى والشرك العظم للعتبارات
التي ذكرتم ،إنما اعتبرنا ذلك لن إقامة الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته،
فباستقامتة وصلح حاله يصلح المجتمع ،وبفساد حاله يفسد المجتمع؛ لدوره الساسي في
التغيير.
والحمد ل رب العالمين.
المؤلف
تخريج الشيخ اللباني( :ن هـ) عن أبي هريرة .تحقيق الشيخ اللباني( :حسن) ،انظر حديث 1
7
الشبهات التي يحتج بها من يقول بتغيير المجتمع
عن طريق تغيير الولة أو أنظمة الحكم
من خلل اطلعي على الموضوعات المتعلقة بفقه التغيير فقد رصدت العديد من
الشبهات التي استدل بها فريق من الناس على أن طريق التغيير ل يكون إل من خلل
التركيز على تغيير الولة الظلمة أو النظمة القائمة على الحكم بغير ما انزل ال ،وقد بلغت
ثماني شبهات ،وهي:
الشبهة الولى :تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية -شرك القصور -هذا الزمان
أول وجعله على أول سلم الولويات في العمل لجل التغيير.
مناقشة هذه الرؤية من السيرة النبوية:
.1هل الشرك يقتصر على شرك القصور "الحاكمية" ،أم أن شرك الحاكمية
أنواع عديدة؟ جواب ذلك :الشرك غير مقتصر على شرك القصور
"الحاكمية" ،وشرك الحاكمية أنواع عديدة ،فهناك قطاعات كبيرة من المسلمين
أفرادا وجماعات غارقة في كثير من أصناف الشرك مثل ،شرك الربوبية،
شرك اللوهية ،شرك السماء والصفات ،الشرك اللفظي ،والشرك العملي،
وشرك في الولء والبراء ...الخ.
.2حين بدأ الرسول – صلى ال عليه وسلّم -دعوته ،بدأ ببناء المجتمع المسلم
من خلل تربية الفراد والسر المسلمة ،وأول ما بدأ به هو محاربة أصناف
الشرك المتمثلة في التصورات الخاطئة عن ال تعالى وأسمائه وصفاته ،وكل
ما يتفرع عن ل إله إل ال من عقائد ،وغرس فيهم كذلك أن الحكم ل تعالى
مرحلة أولى ضرورية تسبق استلم زمام المور لتحكيم شرع ال على العباد
وإقامة الحدود والسياسات الشرعية المتعلقة بالمجتمعات السلمية وغير
ك
سَت ْغ ِف ْر ِل َذ ْنِب َ
عَل ْم َأّن ُه َل ِإَل َه ِإ ّل الّل ُه وَا ْ
السلمية .لذا كان نزول قوله تعالى :فَا ْ
ت وَالّل ُه َي ْعَل ُم ُمَت َقّلَب ُك ْم َو َم ْثوَا ُك ْم[ محمد ،]19:كان متقدما في
ن وَاْل ُم ْؤ ِمنَا ِ
َوِلْل ُم ْؤ ِمنِي َ
العهد المكي .هذا في الجانب العقدي ،أما في الجانب الشعائري فقد أقام
الرسول صلى ال عليه وسلّم ،ذلك في الفراد جميعا – سوى النفاق -في
ل يتخلف عن
مرحلة سبقت مرحلة استلم الحكم ،بحيث ل نجد فيهم رج ً
8
ل معلوم النفاق!! وأما الخلق والتربية
صلة الفجر والعشاء جماعة إل رج ً
والتزكية ،فكان لها كذلك الحظ والنصيب الوافر ،ومما ركز الشرع على
محاربته :صفات المنافقين من الكذب والخيانة وإخلف الوعد.
.3لوضع النقاط على الحروف يقصد صاحب هذه الفكار بشرك القصور شرك
الدساتير والنظمة ،ل شرك الحاكمية بعمومه ،لن شرك الحاكمية له تعلق
بكل أصناف الشرك السابقة الذكر ،فمن اعتقد أن فلنا يعلم الغيب فقد وقع في
شرك الحاكمية من جهة انه ترك حكم ال تعالى أنه ل يعلم الغيب إل ال،
ومن دعا غير ال فقد أشرك في الحاكمية ،من جهة أنه عارض حكم ال
تعالى في سلب إجابة الدعاء عن المدعو غير ال ،ومن عطل ونفى صفات
ال تعالى فقد أشرك في حاكمية ال تعالى من جهة انه خالف حكم ال تعالى
سنَى فَا ْدعُو ُه ِبهَا[ العراف،]180:
سمَاء اْل ُح ْ
في أن له أسماء وصفات َ وِلّل ِه ا َل ْ
وغير ذلك .وكذا من استغاث بغير ال فقد أشرك في حكم ال تعالى في
ربوبيته ،لنه عارض حكم ال تعالى في سلب النفع والضر عن غير ال
تعالى إل فيما يقدر عليه المخلوق ،وكذلك الحال فيمن عطل حكم ال تعالى
فيما بيّنه وفصّله من حدود شرعية فقد أشرك في حاكمية ال تعالى لنه
عارض حكم ال تعالى في ذلك .إذن يوجد قسمان لشرك الحاكمية:
الول :بين العباد جميعا ،رعاة ورعية من جهة ،وبين ال تعالى من جهة ثانية.
والثاني :شرك يتعلق فيما بين العباد أنفسهم كالحكام والتشريعات التي سنّتها النظمة
لضبط العلقة القائمة فيما بينهم ،خالفت بذلك ما ثبت من تشريعات إلهية مخالفة صريحة،
أدت إلى تعطيلها ،عدا كثيرا من القوانين الوضعية التي وضعت دون مخالفة ول تعطيل
لنصوص الشرع ،وخاصة فيما يتعلق بالمصالح المرسلة والمور الحادثة التكنولوجية.
إذن فلندقق النظر في سيرة الرسول – صلى ال عليه وسلّم -لننظر ،ضد أي من
الشركين بدأ المعركة؟ فهل بدأ محاربة الشرك الثاني المتعلق بالجنايات وأحكامها "الحدود"؟
علما أن هذه الحكام مبسوطة في كتب الفقه ل العقيدة ،عدا ما هو متعلق بالسياسـة
الشرعية.
9
هذا من جانب ،ومن جانب آخر أتساءل – عاكسا المر -بأي التوحيدين بدأ الرسول
صلى ال عليه وسلّم دعوته؟ هل بدأ بإقامة التوحيد الول أم التوحيد الثاني؟.
ل شك أخي الكريم أن كل مسلم يعلم يقينا ل ظنا أن هدي الرسول – صلى ال عليه
ي ل لبس فيه ،أنه من الناحية الولى ،أقام التوحيد فيما يضبط
وسلّم -في ذلك واضح جل ّ
العلقة بين العباد وخالقهم .ومن ناحية ثانية ،لبد أن يتأخر تفعيل وإقامة التوحيد الثاني لحين
استلم الحكم لتعلقه المباشر فيما بين العباد ،الذي يحتاج إلى حاكم وخليفة يقيم ذلك فيهم
يرضون بحكمه وقضائه ،وخاصة أن معظم مفردات هذا التوحيد الثاني هي من أبواب الفقه
(حد السرقة ،حد الخمر ،القذف والزنا ،والتعازير).
إذن مما سبق ثبت أن محاربة شرك القبور على حد تعبيرهم -الشرك الول كما مر
معك سابقا -يسبق محاربة الشرك الثاني "شرك القصور".
وجدير بالملحظة ،أن تحقيق القضاء على شرك القصور ،إنما هو نتيجة طبيعية حتمية
تكون بعد تحقيق محاربة الشرك الول والقضاء عليه ،ول يحتاج بعد ذلك إلى هذه الجهود
الذهنية والعملية المبالغ فيها التي صرفت الناس والدعاة عن الواجب الول ،وبعثرت الجهود
وشتتتها ،تلك التي كانت ستصب حتما لصالح التجاه الول ،فأطالت بذلك أمد الصراع مع
شرك القصور من جهة ،وأخرت حسم الموقف مع الشرك الول – القبور كما يزعمون -
من جهة أخرى.
ومن الدلة على ضرورة هذا الترتيب في بناء أو إعادة بناء المة من جديد قول
ن عُرى السلم عُروة عُروة فكلما انتقضت
ضّ
الرسول – صلى ال عليه وسلّم " :-لَتنق َ
ن الصلة "(.)2
ن نقضا الحُكم وآخره ّ
عُروة تشبث الناس بالتي تليها فأوله ّ
فإذا أردنا إعادة بناء عرى السلم إلى ما كانت عليه ،لبد من البدء ببناء عروة
الصلة ،ثم يليها في البناء عرى السلم تترى ،حتى نصل إلى عروة الحكم ،وهذا قانون
معلوم بالضرورة عقلً ،إذ أن أول قطعة تفك من السلح آخر قطعة تركب.
وهل يعقل أن نقيم سقف البناء قبل إقامة دعائمه؟!! وهل تقام الدعائم قبل الساس؟!!
وهل يعقل كذلك أن تسقط دعائم البناء ويبقى السقف قائما؟!!
تخريج اللباني( :حم حب ك) عن أبي أمامة .تحقيق اللباني( :صحيح) انظر حديث رقم( : 2
10
فإذا كانت الحياة والعيش ل تستقيم تحت سقف بناء ل جدر له ،ول أبواب وشبابيك،
فكيف تطيب الحياة والعيش تحت عروة الحكم – على افتراض وقوع ذلك -دون وجود
باقي العرى الخرى في المجتمع؟!
وإذا كان المر هو استحالة وضع عُروة الحكم قبل عرى السلم الخرى ،فكيف
يتصور عاقل أن توضع هذه العروة ،بمعناها الثاني – في أول سلم الولويات في العمل
شهِي ٌد [ق.]37:
س ْم َع َو ُه َو َ
ب َأ ْو َأْلقَى ال ّ
ن َل ُه َقْل ٌ
ك َل ِذ ْكرَى ِلمَن كَا َ
ن فِي َذِل َ
السلمي؟ ِإ ّ
الشبهة الثانيةً :هل شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك الكبر كما يقول
البعض؟
جوابه :أن الشرك إما أن يلحق ضرره بالفرد أو بالجماعة ،أو بالفرد والجماعة على
الترتيب.
المر الول :هل شرك القصور -الشرك الثاني -أخطر على العبد ،أم أنه الشرك
الول -شرك العباد مع ال -؟
الجابة :يجب العلم أن غاية العبد أن يُسلم أمره ل تعالى ،فيخرج نفسه من ظلمات
الشرك إلى نور التوحيد لينجو من عذاب جهنم .وهذا أول عمل للنبياء جميعا؛ إنقاذ ما يمكن
إنقاذه من البشر من الكفر إلى اليمان ،ولو لم يتحقق التمكين في الرض لهذه الجماعة
المؤمنة التي اتبعت النبياء.
إذن فهل القضاء علـى شرك القصور يعني بالضرورة القضـاء على الشرك الول
-شرك ما بين العبد وربه -؟
الجواب :ل ،لن أنبياء ومرسلين لم يستطيعوا القضاء على هذا الشرك في نفوس
أصحابه ،رغم ما معهم من التأييد والبرهان الرباني.
إذن فالشرك الول هو أخطر على العبد من الشرك الثاني ،لنه لو مات موحدا ل
تعالى تحت راية طاغوتية وأحكام كفرية – كموت النجاشي في قومه -فاز ونجا ،ولو مات
العبد مشركا بال تعالى الشرك الول ،يعني فيما بينه وبين ال تعالى ،ولو في ظل خلفة
ي بن خلف .-
راشدة ،ل يغنيه ذلك من ال شيئا ،وكان خالدا في جهنم -كأب ّ
إذن البدعة الكبرى والشرك العظم بالنسبة للفرد هو الشرك الول وليس شرك
القصور ،وهذا ل يعني أن الفرد الموحّد ل يمكن أن يتأثر بشرك القصور ول يصيبه ظلم،
11
ل يوم القيامة من أولئك
لكن هذا الظلم الواقع عليه يستدرك ويرفع عنه ،ويأخذ حقه كام ً
الظالمين والطواغيت .في حين أن العبد المشرك الذي استظل بخلفة راشدة ل يستطيع النجاة
مما استحق من عقوبة بسبب ما اقترفت يداه من شرك يوم القيامة ،أي :ل تنفعه الخلفة
الراشدة لعدم تحقق التوحيد فيه أصل!!!
وعليه فقد اتضح لنا أن الشرك الول يعد الخطر على العبد ,ويعتبر البدعة الكبرى
والعظمى بالنسبة له.
المر الثاني :هل شرك القصور -الشرك الثاني -أخطر على الجماعة ،أم أنه الشرك
الول -شرك العباد مع ال -؟
وللجابة :أقول سائلً ،هل يعني بالضرورة أن يكون أثر شرك القصور سيئا من
الناحية المادية ،على المجتمع الذي يسود فيه؟
لماذا هذا السؤال؟ لننا نرى أن البلد الرأسمالية – منها ،السويد ,سويسرا ,انجلترا,
وحتى أمريكا – على الرغم من وقوعها في هذا الشرك إل أن الحياة المادية التي يتمتع بها
المجتمع الغربي أصبحت حلما تحلم به كثير من المجتمعات السلمية هذا الزمان.
لماذا إذن شرك القصور عندنا له أثر سيء على المجتمع بينما عند الغرب ,ل يظهر
منه ذلك – وأقصد ماديا ل روحيا -؟ إذن ل بد من توفر عوامل أخرى تضاف إلى شرك
القصور ليعطي أثرا سيئا على مجتمعه ,وليس هو بذاته ،ومنها (اللأخلقيات).
لذلك نستطيع القول ,إذا اجتمع شرك القصور مع الخلقيات – حب العدل والصدق,
والمواطنة ,والمانة ,والوفاء بالعهد ,واليثار ,والتكافل الجتماعي ,وما شابه ذلك – يعطي
غالبا حياة مادية كريمة للمجتمع ,وإذا افترقا أدى ذلك إلى عكس ذلك.
فبتحقيق التوحيد الول ,توحيد ما بين العبد وربه ,نصل في المجتمع إلى النتائج التالية:
-1حياة روحية كريمة ,واطمئنان نفسي.
-2النجاة من النار.
-3حياة مادية كريمة في ظل التوحيد الثاني توحيد القصور إذا وجدت الخلقيات ،أو
التوحيد الثاني مع عدم وجود الخلقيات. حياة مادية سيئة في ظل
-4حياة مادية كريمة ,تحت أحكام الشرك الثاني شرك القصور مع وجود الخلقيات
أو حياة مادية سيئة تحت أحكام شرك القصور مع عدم وجود الخلقيات.
12
أما نتائج تحقيق التوحيد الثاني توحيد القصور ،على حساب التوحيد الول توحيد العبد
لربه على المجتمع هي:
•حياة مادية كريمة مع وجود الخلقيات ،أو حياة مادية سيئة مع عدم وجود
الخلقيات.
•حياة روحية ميتة.
•الخلود في جهنم.
فالسؤال ,أي النتيجتين أقوم وأسلم للمجتمع يا أولي اللباب؟؟!!! وكيف يجرؤ شخص
بعد هذا البيان أن يتقول على الشرع بالظن ,قائل أن شرك القصور هو البدعة الكبرى
والشرك العظم؟ فهل عندكم من علم بهذا من الكتاب والسنة ما يدل على حسن فهمكم؟
فإن قلتم نعم وأوردتم لنا آيات الحاكمية – وهي على العموم ول يجوز حملها على
الخصوص كما مر معنا سابقا إل بتفصيل – باعتبارها من العبودية والعبادة ،كقوله تعالى :
ن اْل ُح ْك ُم ِإ ّل ِلّل ِه َأ َم َر َأ ّل َت ْعُبدُوْا ِإ ّل ِإيّا ُه[ يوسف.]40:
ِإ ِ
قلنا لكم :وكذلك الدعاء ورد في الكتاب والسنة على أنه العبادة وأنه من العبادة .كقوله
ن الّل ِه َوَأ ْدعُو َربّي
ن مِن دُو ِ
عَت ِزُل ُك ْم َومَا َت ْدعُو َ
تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلمَ :وَأ ْ
ق
س َح َ
ن الّل ِه َو َه ْبنَا َل ُه ِإ ْ
ن مِن دُو ِ
عَت َزَل ُه ْم َومَا َي ْعُبدُو َ
ش ِقيّا َ فَلمّا ا ْ
ن ِب ُدعَاء َربّي َ
عسَى َأ ّل َأكُو َ
َ
ب َو ُكلّا َج َعْلنَا َنِبيّا[ مريم.]49:
َوَي ْعقُو َ
وقول الرسول صلى ال عليه وسلّم" :الدعاء هو العبادة"(.) 3
وبهذا يكون شرك دعاء غير ال هو البدعة الكبرى والشرك العظم .إذن فأي الشركين
أكبر ،شرك القصور أم شرك الدعاء والحجة فيهما واحدة؟ وإذا أوردتم قول ال تعالىَ :و ُه َو
ض ِإَل ٌه َو ُه َو اْل َحكِي ُم اْل َعلِي ُم[ الزخرف ،]84:للتدليل على زعمكم،
سمَاء ِإَل ٌه َوفِي ال ْر ِ
اّلذِي فِي ال ّ
أي أن ال تعالى هو المعبود في الرض كما هو في السماء.
قلنا لكم أن هذه آية عامة تدل على جميع مظاهر العبودية ومن ضمنها التوحيد الول,
توحيد العبد لربه ,والتوحيد الثاني ,توحيد القصور ,ولهذا يحق لنا أن نزعم بهذه الية كذلك،
أن التوحيد الول هو الهم ،وعنه ينتج أن الشرك الول هو البدعة الكبرى والشرك العظم.
أخرجه الترمذي :وقال :حسن صحيح ،وقال الشيخ اللباني في صحيح الترمذي :صحيح، 3
13
ن ا ْحكُم َب ْيَنهُم ِبمَآ أَن َز َل الّل ُه َو َل َتّتِب ْع َأ ْهوَاء ُه ْم وَا ْح َذ ْر ُه ْم أَن
وإذا أوردتم قوله تعالىَ :وَأ ِ
ض ُذنُوِب ِه ْم
عَل ْم َأّنمَا ُيرِي ُد الّل ُه أَن ُيصِيَبهُم ِبَب ْع ِ
ك َفإِن َت َوّل ْوْا فَا ْ
ض مَا أَن َز َل الّل ُه ِإَل ْي َ
ك عَن َب ْع ِ
َي ْفِتنُو َ
ن[ المائدة .]49:فليس في الية ما يدل على أن الحكم بما انزل ال
سقُو َ
س َلفَا ِ
ن النّا ِ
ن َكثِيرًا ّم َ
َوِإ ّ
بين العباد هو العظم ,غير التأكيد على الحكم بما انزل ال والتحذير من مخالفته .وعليك
أخي القارئ أن تستعرض آيات الحاكمية في نفسك ,فهل تجد فيها ما يدل على ما يزعمون؟
14
الشبهة الثالثة :فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك الحاكمية أنه البدعة الكبرى
والشرك العظم لنه العظم درجة ,إنما قصدنا أن هذه البدعة لم توجد في التاريخ
السلمي من قبل؟
قلت :جواب ذلك من وجوه:
-1الخطأ اللغوي الذي وقعتم فيه ,فكلمة البدعة الكبرى والشرك العظم إذا أطلقت ل تدل
على مرادكم هذا ,إذن لزمكم تقييد اللفظ وتوضيحه.
-2هل يعني بالضرورة وقوع المر لول مرة في التاريخ ،يدل على أنه العظم والكبر,
ن بعد عد ٍم هل يعني انه الشرك العظم،
فمثل شرك الحلف بغير ال إذا انتشر في زما ٍ
وشتم الدين والنبي كذلك على رأيكم فقد انتشر هذا الزمان بعد عدم ،فهل يعني انه
الشرك العظم والكبر مع أنه من الشرك الكبر؟! ونحن نعلم أن الشرك الكبر هو
أن تجعل ل ندا وهو خلقك.
-3هناك من الشرك ما وقع في المة من بعد عدم ،كدعاء غير ال والستغاثة بهم،
وادعاء علم الغيب لشخاص وغير ذلك مما ل زال منتشرا في المة ،فهل يعني ذلك
انه الشرك الكبر والعظم؟! وهنا إذا كان المر كذلك يحق لنا أن نرشح هذه
الصناف من الشرك للولوية ،وعلى أنها الكبر والعظم باعتبارها هي القدم ول
تزال معششة بين ظهرانينا ،ولكن ليس هكذا تحسب المور .إذن فقد ثبت بعد هذا
البيان تهافت هذه الشبهة.
15
الشبهة الرابعة :إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة شرك القصور ،هي الكبر
باعتبار أنها ل أصل لها في التاريخ السلمي ،من الناحيتين السلوكية والتشريعية.
-1الناحية السلوكية:
فجواب ذلك:
إن من يقرأ التاريخ السلمي سيجد فيه ما يدل على تكرار مثل ما نراه من انحراف
عن منهج ال هذه اليام والخروج عن شريعة السلم ،ووجود مساحات شاسعة من البلد
السلمية تضم فيها شرار الخلق المستحقين للجهاد والغزو.
وللتدليل على ذلك ،سأحيل المطلع إلى عالم ثقة ،جاهد بلسانه وقلمه وسيفه في سبيل
دعوة الحق ،إنه شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى .إذ يقول عن واقع العالم السلمي
في عصره ،في "مجموع الفتاوى" ..." :وأما بلد إفريقية فأعرابها غالبون عليها ،وهم من
شر الخلق بل هم مستحقون للجهاد والغزو".
ويقول عن بلد المغرب القصى" :فمع استيلء النصارى على أكثر بلدهم ل يقولون
بجهاد النصارى هناك ،بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم".
ويقول" :وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة ،وفيهم من
البدع والضلل والفجور ما ل يعلمه إل ال وأهل اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون،
وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل السلم بهذه البلد ،ل سيما وقد غلب فيهم
الرفض"( ،) 4انتهى.
والملحظ من كلم شيخ السلم ابن تيمية هذا أنه لم يبق من رقعة السلم المترامية
الطراف في زمانه إل ما استثناه هو من بلد الشام وبلد مصر بمساحة إجمالية تصل إلى
حوالـي ثمانية بالمائة فقط من كامل مساحة رقعة العالم السلمي وقتئذ .واعتبر ابن تيمية
– رحمه ال -دولة المماليك هي دولة السلم ،الواجب عزها ونصرها ،ووصفها بأنها
كتيبة السلم بعزها يعز السلم وبذلها يذل السلم.
وحتى ل نظلم الواقع السلمي ،فإن مستوى دولة المماليك لم يكن كدرجة الخلفاء
الراشدين ول حتى بمستوى الدولة الموية أو العباسية من ناحية اللتزام العام بأحكام السلم
16
والخلق السلمية ،فقد وجد فيها من الفساد السياسي والخلقي والجتماعي والتشريعي
ما يشابه ما نراه من فساد في الدول السلمية في عصرنا هذا ،بل يزيد أحيانا.
وتكفينا هنا بعض الشارات الدالة على ذلك؛ لن هذا المر مبسوط في كتبه
المتخصصة في دراسة التاريخ.
أ -مدة الحكم وتغير السلطين :حكمت دولة المماليك من ( 1250م1517 -م) ،أي
267سنة ،تغيرت فيها السلطين إحدى وستين مرة ،خلل هذه الفترة ،حكمت أول امرأة
في السلم "شجرة الدر" قرابة أربعة أشهر في عام 1250م .والملحظ في هذه الفترة مع
السف كثرة تغير السلطان قتلً.
ففي سنة 1421م ،حكم كل من السلطان أحمد بن شيخ وططر ومحمد بن ططر ،ثلثة
سلطين في سنة واحدة .أما عدد المرات التي تغير فيها السلطان مرتين في السنة فقد
تكررت إحدى عشرة مرة.
ب -الظاهر بيبرس يقتل قطز :في سنة 698هـ ،وبعد انتصار قطز في معركة عين
جالوت التي أنهت الخطر التتري على المة السلمية وقتئذ ،قام بيبرس بقتله في مكيدة
دبرها له قبل وصوله إلى مصر.
ج -سجن ابن تيمية :تم اعتقال ابن تيمية رحمه ال وسجنه على يد الولة والسلطين،
على أثر فتوى شرعية واتهامات أخرى باطلة نسبت إليه ظلما ،وقد كانت وفاته في سجن
القلعة في دمشق عند المماليك.
ل صالحا كثير
د -انتشار الخمور :يقول ابن كثير عن الملك المظفر قطز" :كان رج ً
الصلة في الجماعة ول يتعاطى المسكر ،ول شيئا مما يتعاطاه الملوك"( ،) 5انتهى.
ويقول أبو شامة شهاب الدين المقدسي في ترجمة السلطان نور الدين محمود زنكي:
"فهو الذي حدد للملوك اتباع سنة العدل والنصاف وترك المحرمات من المأكل والمشرب
والملبس وغير ذلك ،فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية ه ّم أحدهم بطنه وفرجه ل يعرف معروفا
ول ينكر منكرا ،حتى جاء بدولته ،فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم بذلك أتباعه
وذويه ،فاقتدى به غيره منهم"( ،) 6انتهى.
17
ل عن كتاب "البرق الشامي" " :وهو– أي نور الدين زنكي -
ويقول أبو شامة كذلك ناق ً
الذي أعاد رونق السلم وقد غلب الكفر وبلغ الضر.) 7("...
هـ -الترف وكنز الموال :فقد كانت ظاهرة عامة اشتهر بها المراء ،راجع في ذلك
ما ضبط عند المير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة زمن خليل بن قلون "وما ضبط
عند نائب السلطة "سلر" زمن السلطان الناصر قلوون من الموال والتحف ما لم يسمع
بمثله في الملوك ،إذ تضمنت القوائم التي كتبها أحد القضاة الذين ندبوا لجرد هذه التركة
جميع ما اشتملت ،واستغرق جردها أربعة أيام"(.) 8
ارجع إلى هذا المصدر واقرأ لتجد ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والماس
واللؤلؤ والياقوت والزمرد والدراهم والدنانير وغير ذلك من الواني الذهبية والفضية والقبية
الحريرية الملونة والمغراة بسنجاب ,والسروج الذهبية ,والخيول والبغال والجمال ،أما الغنام
ل عن الملك والضياع والمعاصر والشون
والبقار فهي أكثر من أن تحصى ,فض ً
والمراكب والعبيد والخدم والمماليك والجواري .هذا على سبيل المثال.
أما عن المراسم وموسيقى الجيش ,ووصف القلع وما بداخلها وطريقة الخدمة فيها
وملبس المراء والجند وصفتها ,والشارات ذوات الرواح من الحيوانات والطيور وصفتها,
ومراسم الدخول على المراء والسلطين ،وصفة مراكب السلطان والمراء والجند وما
تزين به ,وصفة مجالس المراء في بيوتهم ومن يجلس عن يمينه وعن شماله ,وصفة
ل عن
المراسم المتخذة في رحلة الصيد وطريقة الخدمة ...وغير ذلك مما يطول ذكره فض ً
تفصيله ,فعن كل هذا ,ستفاجأ أخي القارئ أن ما تراه هذه اليام من مراسم يقل عن ما كان
موجودا ,وللتأكد من ذلك راجع ما كتب عن المماليك في هذا الباب فيما ذكرت لك من
المراجع.
على سبيل المثال أذكر ما قاله ابن كثير في مراسم الحتفال بتنصيب السلطان الملك
الظاهر ,بعد اعترافه بقتل الملك المظفر قطز ,حيث قال ابن كثير ..." :ولقبوه الملك
الظاهر -أي ركن الدين بيبرس البندقداري – فجلس على سرير المملكة وحكمه ,ودقت
البشائر وضربت الطبول والبوقات ,وصفرت الشغابة ,وزعقت الشاووشية بين يديه ,وكان
18
يوما مشهودا وتوكل على ال واستعان به ,ثم دخل مصر والعساكر في خدمته ,فدخل قلعة
الجبل وجلس على كرسيها ,فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل ,وكان شهما شجاعا,
أقامه ال للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والمر العسير" (.)9
قلت :انظر كيف يثني عليه لما فيه صلح المة ،مع كل ما ذكر عنه من فساد ،إذ
العبرة عند أهل العلم النجباء غلبة المصلحة العامة وإن وجد فساد شخصي.
-2تحكيم الدساتير والقوانين الوضعية:
سألقي الضوء على مثالين اثنين من الدول في التاريخ السلمي التي حكمت بالدساتير
والقوانين الوضعية ،هما:
أ -دولة المماليك وتطبيق القوانين غير السلمية (الياسة):
وهي نقطة مثيرة للجدل والستغراب ,لذلك سأتركك أخي القارئ مع المؤرخين
والكتاب كي يحدثوك عن هذه النقطة.
يقول احمد بن علي المقريزي" :درب أرقطاي ,هذا الدرب بحارة الروم ...وهو
أرقطاي المير سيف الدين الحاج أرقطاي ,أحد مماليك الملك الأشرف خليل بن قلوون
وصار إلى أخيه الملك الناصر محمد فجعله جمدارا ،وكان هو والمير ايتمش نائب الكرك
بينهما أخوة ولهما معرفة بلسان الترك القيجاقي ,ويرجع إليهما في "الياسة" يعني اليسق التي
هي شريعة جنكيزخان ,التي تقول العامة وأهل الجهل في زماننا :هذا حكم السياسة ...
يريدون حكم الياسة"(.)10
ويقول جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي التابكي" :قلت :كان الملك
الظاهر -رحمه ال – يسير على قاعدة ملوك التتار ,وغالب أحكام جنكيزخان من
أمر"اليسق والتورا" ,واليسق هو الترتيب ,والتورا :المذهب باللغة التركية ,وأصل لفظ اليسق
(سي يسا) ,وهي لفظة مركبة من كلمتين ,صدر الكلمة :سي بالعجمة ,وعجزها يسا بالتركي,
لن (سي) بالعجمي ,ثلثة ,ويسا بالمغلي الترتيب ,فكأنه قال :التراتيب الثلثة ,وسبب هذه
الكلمة أن جنكيزخان ,ملك المغل كان قسم ممالكه في أولده الثلثة ,وجعلها ثلثة أقسام
وأوصاهم بوصايا لم يخرج عنها الترك إلى يومنا هذا مع كثرتهم واختلف أديانهم فصاروا
في كتابه "المواعظ والعتبار – "الخطط المقريزية" (الجزء الثاني ,صفحة ,359طبعة دار 10
الكتب ,بيروت).
19
يقولون :سي يسا (يعني التراتيب الثلثة التي رتبها جنكيزخان) ,فصارت الترك يقولون"سي
يسا" فثقل ذلك على العامة فحرفوها على عادة تحاريفهم ,وقالوا سياسة" .ثم إن الترك أيضا
حذفوا صدر الكلمة فقالوا :يسا مدة طويلة ,ثم قالوا :يسق واستمر ذلك إلى يومنا هذا" (،)11
انتهى.
ويقول أبو شامة" :وكان نور الدين لما صارت له الموصل قد أمر كمشتكين شحنة
الموصل ,أن ل يعمل شيئا إل بالشرع إذا أمر القاضي والنواب كلهم شيئا إل بأمر الشيخ
عمر المل ,وقال وكان ل يعمل إل بالسياسة -أي الشيخ عمر -وبطلت الشحنكية في أكابر
الدولة ,وقالوا لمكمشتكين قد كثر الدعّار وأرباب الفساد ,ول يجيء من هذا شيء إل بالقتل
والصلب ,فلو كتبت إلى نور الدين ,وقلت له في ذلك ,فكتب إلى نور الدين وقال له :إن
الدعّار والمفسدين وقطاع الطرق قد كثروا ويحتاج إلى نوع من سياسة (أي ياسة) فمثل هذا
ل يجيء إل بقتل وصلب وضرب ,وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجيء يشهد له ,قال:
فقلب نور الدين كتابه وكتب على ظهره أن ال تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم
وشرع لهم شريعة ,وهو أعلم بما يصلحهم ,وأن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه
الكمال فيها ,ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه ,فما لنا حاجة إلى زيادة
على ما شرعه ال تعالى" (.)12
ويقول أبو شامة وهو يصف حياة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي" :قال
ابن الثير وما عُد له ،أنه لم يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه العصار على
الظنة والتهمة ,بل يطلب الشهود على المتهم ,فان قامت البينة الشرعية ,عاقبه العقوبة
الشرعية من غير تعدّ ,فدفع ال بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير وليته مع
شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والخذ بالظنة ,وأمنت بلده مع سعتها وقل المفسدون
ببركة العدل واتباع الشرع المطهر"( ،)13انتهى.
"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة " (ص )255-254في طبعة مصورة عن طبعة دار 11
الكتب.
"الروضتين في أخبار الدولتين" (ج ,1ص - )13طبعة دار الجبل.
12
20
ويقول أبو شامة عن صلح الدين لمّا اكتشف سنة 569هـ أمر الفتنة التي دبرها
أنصار الفاطميين من الجند لعادة ملكهم" :ثم أمر السلطان – يعني صلح الدين – بإحضار
مقدميهم واعتقالهم لقامة السياسة فيهم"(.)14
ويقول ابن فضل ال العمري من بين الوصايا الموجهة لوالي الحرب" :وليخلص من
الحقوق ما رفع إليه ,ويطالب به من مطل به ,وقد أوجب الحق عليه ,وليتفقد أرباب النحل
لزيفهم المردود ,وليقم عليهم السياسة ,إذا لم تمض عليهم الحدود" ( ،)15انتهى.
كذلك يقول الدكتور السيد الباز" :ومن أهم قواعد الحكم في الدولة المملوكية إعداد طبقة
للعتماد عليها في الحرب والدارة ,تألفت هذه الطبقة من المماليك المجلوبين صغار السن
من بلد القبجاق واستقروا في الطباق حيث تلقوا التدريب الحربي والتعليم الديني ,وخضعوا
لما فرض عليهم من أساليب التدريب والتأديب ,وهي ل تخرج كثيرا عن التقاليد المعروفة
عند التتار ,فعلى الرغم من أن هؤلء المماليك نشئوا بدار السلم ,إل أنهم احتاجوا في
ذات أنفسهم إلى الرجوع إلى حكـم الياسة .فسار السلطان "الظاهـر بيبرس" على هذه
القاعدة فيما يتعلق بالنظم الحربية وإنزال العقوبـات الصارمة لمن يرتكب جرائم ,إذا ل
تكفي الحدود الشرعية فـي ردعهم ,فمن بين الوصايـا الموجهة لوالي الحرب وصية
بمكافحة الخمر والحشيش وتفقد أرباب النحل وإقامة حكم السياسة إذا لم تكف الحدود
الشرعية"( ،)16انتهى.
ويقول دوروتيا كرافولسكي( ..." :)17وهكذا فان اعتناق مغول القبيلة الذهبية للسلم،
يظهر وكأنه النتيجة المنطقية لكون الياسة ولو في بعض شرائعها موافقة للشريعة المحمدية,
ثم أن دفاع العمري عن الياسة لن فيها "ما يوافق الشريعة" يشكل دفاعا مستترا عن المماليك
بمصر الذين كانوا يطبقون بعض أحكام الياسة في أوساطها" ( ،)18انتهى.
كتاب "التعريف في المصطلح الشريف" ,تحقيق د .سمير ألدروبي( ,ص .)134 15
محقق كتاب "مسالك البصار في ممالك المصار -دولة المماليك الولى". 17
في مقدمته لكتاب ابن فضل ال العمري المتوفى سنة 749هـ1349 ,م في كتابه "مسالك 18
البصار في ممالك المصار ،دولة المماليك الولى ,نشر المركز السلمي للبحوث (ص .)31
21
قلت :نلحظ مما سبق ذكره أن مجموعة القوانين والتقاليد التي وضعها جنكيزخان
لتنظيم النواحي السياسية والحربية والقتصادية والجتماعية لم تطبقها دولة المماليك جميعا،
سوى ما يتعلق منها بالعساكر والجند وما يقع بينهم من نزاع وخلف ,وما يترتب على ذلك
الخلف والنزاع من عقوبات لتأديبهم وأخذهم بالنظام.
وقد بينت لنا كتب التاريخ بعض تلك القوانين الصارمة في حق المخالف ,إذ نص هذا
القانون الجنكيزخاني على عقوبة القتل لجرائم الزنا ,واللواط والقتل والسرقة ,والكذب
والتجسس ,والسحر أو تعمد إخفاء مملوك أو محاولة إطعام أسير دون إذن وليه .وحرّم هذا
القانون غسل الثياب وأوجب لبسها حتى تبلى ,وألزم القانون نساء العساكر القيام بأعمال
الرجال في السخرة طيلة مدة غيابهم ,وألزمهم عند رأس كل سنة بعرض سائر بناتهن
البكار ليختار منهن السلطان لنفسه وأولده ,وغير ذلك (.)19
لم يكن قصدي قط ،من التطرق إلى هذه النحرافات في الدولة المملوكية ،بيان ما
فيها من فساد ,فان بحث هذا المر يطول ,إنما جاءت في معرض الرد على الشبهة ،ثم أخذ
العبرة من التاريخ الماضي لمعاشنا.
وهنا ل بد من سؤال يفرض نفسه ,كيف أثنى ابن تيمية عليها ,وعليها ما عليها من
انتقادات حتى وصلت إلى قضية التشريع والحتكام إلى الياسة (اليسق) فيما يختص بأمر
الجند بحجة أن أحكام الشريعة ل تكفي في ردعهم وتأديبهم؟
إن ابن تيمية رحمه ال ,قد أفضى إلى ما قدم وبالعودة إلى أقواله في الصفحات القليلة
الماضية ,التي بين وعرض فيها أحوال العالم السلمي في عصره ,يتضح للقارئ أن دولة
المماليك هي أفضل ما وجد في عصره خدمة للدين والشريعة ,كونها الحاضنة لبقية السلم
وشرائعه ،والقل بعداعن المحجة البيضاء والطريق الواضح من غيرها من الدول السلمية
المنتشرة وقتئذ ،فقد شهد لها ابن تيمية ،كما يجب على كل منصف ،هذه الشهادة لفقهه
الشرعي الثاقب ،ولفهم الواقع الذي يعيش ,إذ انه كان واقعيا يطبق القواعد الصولية
المعروفة .وللسف فإن البعض حين عرضت عليه هذه الحقائق ،قال" :أخطأ ابن تيمية".
فكان رحمه ال ,يفرق بين أفضل الخيرين فيفضل الول منهما ,ويفرق بين أسوأ
الشرين ,فيختار القل منهما ويتعامل معه مضطرا ,وقد يدافع عنه ويأمر الناس بالدفاع عنه
22
والوقوف إلى جانبه كما حصل معه رحمه ال في وقوفه مع المماليك ضد التتر الذين سعوا
في الرض فسادا ،رغم أنهم أعلنوا إسلمهم وتردد كثير من العلماء في إعطاء فتوى تقضي
بوجوب محاربتهم ،ولكن فقه المام ابن تيمية أصدر فيهم فتواه المعروفة التي رفع ال تعالى
بها شرهم عن بقية السلم في مصر وبقية بلد الشام.
لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى" :ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر
إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين" ( ،)20فكانت مواقفه العملية مبنية على أصوله
العلمية.
وقد تعلم تلميذه ابن القيم منه هذا المنهج القويم ،وأفتى به ،حيث قال في شروط النكار
ودرجاته:
"النكار له شروطه:
المثال الول :أن النبي صلى ال عليه وسلم شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل
بإنكاره من المعروف ما يحبه ال ورسوله ،فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه
وأبغض إلى ال ورسوله ،فإنه ل يسوغ إنكاره ،وان كان ال يبغضه ويمقت أهله وهذا
كالنكار على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر .وقد
استأذن الصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في قتال المراء الذين يؤخرون الصلة
عن وقتها وقالوا :أفل نقاتلهم؟ فقال" :ل ما أقاموا الصلة" ،وقال" :من رأى من أميره ما
يكرهه ،فليصبر ول ينزعن يدا من طاعته "(.)21
"ومن تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار ،رآها من إضاعة هذا
الصل ،وعدم الصبر على منكر ،فطلب إزالته فتولد منه ما هو اكبر منه .فقد كان رسول
ال صلى ال عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ،ول يستطيع تغييرها ،بل لما فتح ال مكة
وصارت دار إسلم ،عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ،ومنعه من ذلك مع
قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك ،لقرب عهدهم
"صحيح الجامع الصغير لللباني" .ورواية الشيخان عن ابن عباس قال :قال رسول ال صلى 21
ال عليه وسلم" :من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجاهلية فيموت
إل مات ميتة جاهلية".
23
بالسلم ،وكونهم حديثي عهد بكفر ،ولهذا لم يأذن في النكار على المراء باليد ،لما يترتب
عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء".
وعن درجات النكار يقول:
"فإنكار المنكر أربع درجات:
الولى :أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية :أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة :أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة :أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج ،كان إنكارك عليهم من عدم الفقه
والبصيرة ،إل إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى ال ورسوله ،كرمي النشاب وسباق الخيل
ونحو ذلك ،وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية ،فإن نقلتهم
عنه إلى طاعة ال فهو المراد ،وإل كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم
ل بكتب المجون
ل لهم عن ذلك ،وكما إذا كان الرجل مشتغ ً
من ذلك ،فكان ما هم فيه شاغ ً
ونحوها ،وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر ،فدعه وكتبه الولى،
وهذا باب واسع.
وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس ال روحه ونور ضريحه يقول :مررت أنا
وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر ،فأنكر عليهم من كان معي،
فأنكرت عليه وقلت له :إنما حرم ال الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة ،وهؤلء
يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال فدعهم" ( ،)22انتهى.
وإذا حق لبي بكر الصديق ومن معه من الصحابة رضي ال عنهم جميعا ،أن
يتعاطفوا مع الروم حين هزمهم الفرس ،لنهم القرب إلى ديننا من الفرس وأنزل ال تعالى
ن ا ْحكُم
في ذلك قرآنا يتلى مؤيدا موقف الصحابة -رضي ال عنهم -كما في قوله تعالىَ :وَأ ِ
ك َفإِن
ض مَا أَن َز َل الّل ُه ِإَل ْي َ
ك عَن َب ْع ِ
َب ْيَنهُم ِبمَآ أَن َز َل الّل ُه َو َل َتّتِب ْع َأ ْهوَاء ُه ْم وَا ْح َذ ْر ُه ْم أَن َي ْفِتنُو َ
ن[ المائدة:
سقُو َ
س َلفَا ِ
ن النّا ِ
ن َكثِيرًا ّم َ
ض ُذنُوِب ِه ْم َوِإ ّ
عَل ْم َأّنمَا ُيرِي ُد الّل ُه أَن ُيصِيَبهُم ِبَب ْع ِ
َت َوّل ْوْا فَا ْ
24
ض ِع
ن فِي ِب ْ
سَي ْغِلبُو َ
غَلِب ِه ْم َ
ن َب ْع ِد َ
ض َو ُه ْم ِم ْ
ت الرّو ُم فِي َأ ْدنَى ال ْر ِ
غِلَب ْ
،]49وقوله تعالى :الم ُ
ن َيشَا ُء َو ُه َو
ص ُر َم ْ
ص ِر الّل ِه يَن ُ
ن ِ بَن ْ
ح اْل ُم ْؤ ِمنُو َ
ن َب ْع ُد َوَي ْو َمِئ ٍذ َي ْف َر ُ
ن َق ْب ُل َو ِم ْ
ن ِلّل ِه ال ْم ُر ِم ْ
سنِي َ
ِ
اْل َعزِي ُز ال ّرحِي ُم[ الروم .]5-1:وأجاز الرسول -صلّى ال عليه وسلم -رهان أبي بكر لقريش
على هذا المر -وكان ذلك قبل تحريمه.)23( -
إذا كان المر كذلك ،فمن باب أولى أن يتعاطف ابن تيمية مع دولة المماليك ،بل يدافع
عنها بنفسه وماله ،رغم ما صدر منها في حقه ما أودعه هو وأصحابه السجن عدة مرات
حيث مات رحمه ال تعالى في سجن القلعة سنة ( 728هـ) ،وبقي فيه ابن قيم الجوزية بعد
موت شيخه ثم أفرج عنه بعد ذلك.
أقول :ما أحوجنا في هذه السنوات الخدّاعات لفقه هذا المام الكبير؟
فأي الدول السلمية هي الكثر تطبيقا لشعائر ديننا والخلص لقضايانا ،لنوليها جل
اهتمامنا وعطفنا؟ (.)24
وأي البلد السلمية البعد عن ديننا والسوأ علينا من غيرها لنحذّر الناس منها فضل
عن عدم التعاطف معها؟ أين نحن من فقه الواقع المزعوم وأين نحن من فقه الواقع
المظلوم؟؟
وطرف)؟؟!! ،بل مع النظمة المعتدلة
أم نريدها صراعا مع النظمة القائمة عن(جنب
التي ل زال فيها بقية من خير ،وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ،المستهدفة بكل معنى
الكلمة مع السف.
وماذا ستكون النتيجة بعد ذلك إل ما رأيناه بأم أعيننا ول زلنا نراه من تجاربنا التي
لدغنا منها اللدغات تلو اللدغات.
ويعتبر!!
ولكن هيهات هيهات لمن يصحو
ب -الخلفة العثمانية وتطبيق الدستور الوضعي والقوانين غير السلمية:
أما قصة تغيير الدستور السلمي والقوانين السلمية في زمن الخلفة العثمانية فقد
كانت أول محاولة لتغيير الدستور سنة ،)25(1839حيث تضمنت أفكارا أوروبية مع محاولة
مراعاة السلم .واستمرت محاولت يهود الدونمة بواسطة عملئهم وعلى رأسهم مدحت
لعل جاهلً بالواقع يقول :إن كل الأنظمة في الشر سواء ،والرد عليه بعد صفحات. 24
25
باشا الذي تولى مقاليد الصدارة العظمى في دولة الخلفة تغيير الدستور ،فألف لجنة تضم
مدنيين وعلماء وعسكريين لوضع مشروع دستور الدولة.
وبعد مصاعب بالغة أقرت اللجنة المشروع مستوحى من الدستور البلجيكي ،وقد نشر
تحت اسم "قانون أساس" في 23/12/1876م ،فأصبح دستور الدولة الرسمي ،أي صار
الدستور البلجيكي مع مراعاة بعض النواحي السلمية دستورا للدولة السلمية.
ولكن السلطان عبد الحميد والعلماء وكبار المسلمين لم يضعوه موضع التنفيذ وقاوموه
حتى ثار "حزب تركيا الفتاة" على السلطان سنة ،1908فأعلنوا الدستور في 21/7/1908م
في سالونيك( .)26حيث نرى أن الخليفة لم يستطع أن يبعد الدستور المنحرف عن الدولة لن
أكثر المتنفذين من الشعب كانوا يريدونه.
"هذا من الناحية الدستورية ،أما من ناحية الحكام الشرعية التي يحكم فيها القضاة فان
تغييرها إلى قوانين بدأ قبل ذلك ،فإنه منذ عام 1856م ،بدأت الحركة لخذ القوانين الغربية
...ففي سنة 1857م سنت الدولة قانون الجزاء العثماني ،وفي سنة 1858م سنت قانون
الحقوق والتجارة ،وفي سنة 1870م جعلت المحاكم قسمين :محاكم شرعية ،ومحاكم نظامية،
ووضع لها نظام ،ثم في سنة 1877م وضعت لئحة تشكيل المحاكم النظامية .وفي سنة
1878م وضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية ،وصدرت فيها الفتوى من شيخ
السلم وفتاوى العلماء بجواز أخذها لنها ل تخالف السلم.)27( "...
26
الشبهة الخامسة :إذا أراد المخالف أن هذه البدعة ،بدعة شرك القصور ،هي الكبر
والعظم ،لنه لول مرة في التاريخ تعيش المة هذه الحالة من التجزئة والتعددية الدولية.
"لول مرة في التاريخ":
كثيرا ما نسمع هذه الجملة تصف أحداثا في معرض الذم ،تخرج من أفواه غير العلماء
للتدليل على قبح فعل ما والتنفير منه ،وبغض النظر عن الدوافع المشبوهة لدى البعض ممن
يقف وراء إطلق هذه الكلمة ،إل أننا نحسن الظن بكثير من قائليها.
وسأضرب لذلك مثل:
حين استعانت السعودية بالقوات الدولية في حربها ضد النظام الشتراكي في العراق،
وقف من وقف من العلماء واصفا الحدث على أنه الول في التاريخ ،ونحن نعلم والعقلء
معنا أن هذا افتراء على التاريخ ،وقد حدث مثل هذا في القرن الماضي.
نعود إلى موضوعنا لنرى عجبا في واقع المة السلمية من ناحية التجزئة والتفرقة
التي مرت بها ،فما أن انتهت الخلفة الموية ،سنة ( 132هـ) ،الموافق ( 750م) وبداية
الخلفة العباسية وانتهاء ما يسمى بالعصر الذهبي193 ،هـ809 /م ،حتى بدأت الدولة
السلمية بالتجزئة ،ولكي تعرف أخي القارئ مدى التجزئة في العالم السلمي وقتئذ ،فإنني
أقدم لك هذه الرقام التي توصلت إليها من خلل حسبة بسيطة أخذت مني القليل من البحث
في "أطلس تاريخ السلم" ،للمؤلف الدكتور حسين مؤنس.
عرض الطلس بالشرح والخرائط تاريخ السلم منذ ظهور السلم إلى آخر القرن
الرابع عشر الهجري ,ثم لخص ذلك في جداول تاريخية من صفحة ( ,)42 -35وضع فيه
السنوات على الخط العامودي والقاليم على الخط الفقي .وفيما يلي بيان عدد الدويلت
السلمية في السنوات المختارة:
ففي سنة ( 873م) ،وجدت عشر دويلت – هذا الرقم سيتضاعف لمن أراد التدقيق -
وهي:
-3الدارسة-ويليلي. -2الرستميون -تاهرت في بلد المغرب -1 :الغاربة
-2الصفاريون. -1 :بنو طاهر(الطاهريون) في خراسان
:الطولونيون. في مصر
:الزيديون. في اليمن
27
في ما وراء النهر والترك :السامانيون.
:المويون. في الندلس
وثورة الترك :تركيا.
وفي عام ( 1180م) ،وجدت خمس عشرة دولة ،منبها على أن هذا العدد إنما هو جزء
يسير من الواقع ،لكن تكفينا منه الشارة ،وهي:
-1الغزنويون في أفغانستان.
-2المويون في الندلس ،علما أن الندلس كانت مقسمة.
-3السلجوقيون في بغداد.
-4السلجوقيون في الروم.
-5الموحدون في المغرب.
-6اليوبيون في مصر والشام.
-7التابكة في أذريبجان.
-8التابكة في أربيل.
-9التابكة في الجزيرة.
-10التابكة في سنجار.
-11التابكة في فاس.
-12التابكة في الموصل.
-13الحشاشون.
-14بنو حماد في المغرب.
-15الغوريون في أفغانستان والهند.
وعن عالم التفرقة في العالم السلمي ،يحدثنا المؤرخ عبد الغني بن سعيد الزدي في
وقت مبكر بعد وفاة المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ( سنة 247هـ) تحت عنوان" :ملوك
مصر بعد ضعف الخلفة العباسية" ،يقول" :وفي خلفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي ال عنه افتتحت الديار المصرية والبلد الشامية على يد عمرو بن العاص ولم تزل
في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلفة العباسية
بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين .وتغلب على النواحي
28
كل متملك لها ،فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام ،ثم دولة الخشيد ،وبعده كافور
أبو المسك .ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب ،فملكها من غير
ممانع ،وأسس القاهرة ،وذلك في سنة إحدى وستين وثلثمائة.
وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت
وسكن بالقصرين وادعى الخلفة لنفسه دون العباسيين .وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين
ومائتين .فظهر عبد ال بن عبيد الملقب بالمهدي ،وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين
العبيديين الروافض باليمن ،وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين ،فحج تلك السنة واجتمع
بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله ،فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى
المغرب فنما شأنه وشأن أولده من بعده ،إلى إن حضر المعز لدين ال أبو تميم معد بن
اسمعي بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين ،إلى أن
ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور" (.)28
وهنا تبرز مسألة وهي :عند غياب الدولة السلمية الم أو المام العظم ,هل يثبت
للدول القائمة حكمها فتصح لهم البيعة ويكون الجهاد ماضيا معهم وبإذنهم ,وتكون
علقاتهم مع الغير لها صبغة شرعية؟
وقد أجبنا على هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا وفضيلة الشيخ أبو حمزة سمير مراد
حفظه ال "مسائل في الجهاد" في المسألة الرابعة .ولكن نختصر منه ما يفيدنا في إعداد
مسائل هذا الكتاب.
"قبل الجابة على هذا التساؤل ل بد من التنبيه أن ثمّة فرقا بين حالتي القدرة والعجز
عند تطبيق المر والنهي ,قال المام ابن تيمية رحمه ال تعالى" :ومن هنا يتبين سقوط كثير
من هذه الشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الصل لعدم إمكان البلغ الذي تقوم به حجة
ال في الوجوب أو التحريم ,فان العجز مسقط للمر والنهي وان كان واجبا في الصل" (.)29
وبمعنى آخر ثمّة فرق بين حالي الختيار والضطرار ,ومن لم يفرق بينهما "فقد جهل
غفُو ٌر َرحِي ٌم
ن َ
عَل ْي ِه ِإ َّ
غ َو َل عَا ٍد َفلَا ِإ ْث َم َ
غ ْي َر بَا ٍ
ط ّر َ
ضُ
نا ْ
المعقول والمنقول" لقوله تعالىَ :ف َم ْ
ض ُط ِر ْرُت ْم ِإَل ْي ِه[ النعام.]119 :
عَل ْي ُك ْم ِإلّا مَا ا ْ
ص َل َل ُك ْم مَا َح ّر َم َ
[البقرة .]173:وقوله تعالىَ :و َق ْد َف ّ
"المتوارين الذين اختفوا خوفا من الحجاج"( ،ج 1ص ،)26 -25ط1410 ،1/هـ ،دار القلم- 28
29
فالمسألة بين يدي البحث هي فرع عن أصل وهو حكم عقد المامة.
فمن المعلوم أن "المامة موضوعة لخلفة النبوة في حراسة "الدين وسياسة الدنيا,
وعقدها لمن يقوم بها في المة واجب بالجماع وإن شذ عنهم الصم" (.)30
وإن لهذه المامة شروطا وأحكاما ,ومن أحكامها:
* حكم تعدد الئمة وفيه عدة أقوال:
القول الول :قول الكرامية بجواز ذلك مطلقا.
القول الثاني :قول الجمهور :عدم جواز تعدد المام العظم محتجين بقوله صلى ال
عليه وسلم" :إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما"( .)31وقوله صلى ال عليه وسلم" :من
أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"(.)32
وقوله صلى ال عليه وسلم" :ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن
استطاع ,فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر "(.)33
القول الثالث :يصح للضطرار ,وله ثلث صور:
الصورة الولى :التباعد في القطار ،ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الئمة لتباعد
القطار :الشوكاني ( ،)34وابن كثير( ،)35والقرطبي( ،)36وأحمد بن غنيم بن سالم المالكي(،)37
والستاذ أبو اسحق :ونقل عنه كل من ابن كثير في قوله السابق ،والنووي في "روضة
الطالبين"(.)38
الصورة الثانية :التغلب ،ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الئمة للتغلب :إبراهيم
(.)10/47 38
30
ي( ،)40ومحمد بن عبد الوهاب(.)41
بن محمد بن سالم بن ضويان ( ،)39والصّنعان ّ
الصورة الثالثة :العجز أو المعصية أو غير ذلك ،ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد
الئمة للعجز أو المعصية أو غير ذلك :ابن تيمية" :والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد
والباقون نوابه ,فإذا فرض أن المة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها أو عجز من
الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة ,لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ,ويستوفي
الحقوق.)42(" ...
* أقوال الفقهاء في ذكر صور لتعدد الئمة في التاريخ السلمي:
-محمد بن عبد الوهاب" :لن الناس من زمن طويل قبل المام احمد إلى يومنا هذا
ما اجتمعوا على إمام واحد" (.)43
-الصّنعانيّ" :إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلد السلمية من أثناء الدولة
العباسية ,بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم" (.)44
-ابن كثير" :قلت :وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق ,والفاطميين
بمصر ,والمويين بالمغرب.)45("...
-الشوكاني" :وأما بعد انتشار السلم واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم انه قد
صار في كل قطر أو أقطار الولية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الخر كذلك" (.)46
-ابن تيمية" :ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة – أي
ل وجهادا عن شرق الرض
المماليك – هي أقوم الطوائف بدين السلم علما .عم ً
ومغربها ...وسكان اليمن ضعاف عاجزون عن الجهاد ,أو مضيعون له ,وهم مضيعون لمن
ملك هذه البلد ... ،وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة... ،
31
وأهل اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون ,وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت
لغير أهل السلم بهذه البلد ... ،وأما بلد أفريقية فأعرابها غالبون عليها ,وهم من شر
الخلق ...،وأما المغرب القصى فمع استيلء الفرنج على أكثر بلدهم ,ل يقومون بجهاد
النصارى هناك ,بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم .فهذا
وغيره مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة السلم ,وعزهم عز
السلم ,وذلهم ذل السلم.)47("...،
قلت :وبالنظر إلى مقاصد التشريع ,التي تبين لنا مدى أهمية المن والمان ,وأن من
مقاصد الدولة السلمية حفظ البلد والعباد والدين ,ولو فرض تطبيق القول بعدم جواز كون
الدويلت السلمية دويلت صحيحة ,وعدم جواز تطبيق كونها دو ًل لها أحكام الدولة الم,
لتنازع الناس نزاعا ل انقطاع له ,من أجل تحقيق الوجود الصحيح للدولة الم ,المر الذي
يؤدي إلى ضياع البلد والعباد ,وانتهاك الحرمات والعراض ,واستحلل الموال بغير وجه
حق ,مما يجعل هذا القول محض خطأ ونحن في قولنا بأن هذه الدويلت لها – كل واحدة
على حدة – حكم الدولة الم ,حسما لمادة النزاع والفساد ,نحن بهذا نُعمل قواعد الشرع التي
منها- :
-1الضرر يُزال" ،عموم البلوى يرفع الحكم أو يخففه".
-2تحقيق المقاصد أولى من النظر إلى الوسائل؛ لنه بإعمال هذه القواعد في إثبات
شرعية هذه الدول على وجه الجمال ,ينتج لنا ما يحفظ الضرورات الخمس التي جاءت كل
أمة بحفظها ،وال أعلم.
ع وفسادٍ ,والشرع جاء بعصمة
فالقول بخلف ما قلنا ,مُجانب للصواب ,مؤ ٍد إلى ضيا ٍ
مال الرجل ودمه وعرضه ,فكيف بدماء أناس مسلمين وذميين وغيرهم وأموالهم
وأعراضهم ,إذ القائل بغير ما قلنا ,فكأنما يُهدر ويُبيح كل ما ذكرنا ,المر الذي يصادم قواعد
الشرع مطلقا" ،انتهى الملخص.
من الجهل أن يظن بنا البعض ،أننا نرضى من خلل عرضنا لما سلف ،بحالة
الخروج عن شرع ال ،أو حالة الشرذمة والتجزئة التي نعيشها هذه اليام ،أو تكريس هذا
الواقع والدعوة إليه ،إنما يأتي عرض هذه المسألة من باب العلم بالواقع الصحيح ،وذلك لن
32
معرفته ومعرفة الحكام الشرعية ضرورة شرعية للحكم والقضاء ،فالخطأ في فهم الواقع أو
تجاهله عند إصدار الفتاوى في النوازل يؤدي بنا إلى المهالك ،تماما كالذي يفتي وهو يجهل
الحكام الشرعية .يقول ال تعالى :يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَولً سَديدا
يُصلِح لَكُم أعمالَكُم و َي ْغفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُطِعِ الَ و َرسُولَهُ فَقد فَازَ فَوزا عَظيما
[الحزاب ،]71-70:فالقول السديد هو الموافق والمطابق للواقع الذي به يصلح ال أعمالنا
ب َهذَا حَل ٌل َو َهذَا َحرَا ٌم ِلَت ْفَترُوا
سَنُت ُك ْم اْل َك ِذ َ
ف َأْل ِ
ص ُ
ويغفر لنا ذنوبنا .قال تعالىَ :و َل َتقُولُوا ِلمَا َت ِ
ن[ النحل.]116:
ب َل ُي ْفِلحُو َ
علَى الّل ِه اْل َك ِذ َ
ن َ
ن َي ْفَترُو َ
ن اّلذِي َ
ب ِإ ّ
علَى الّل ِه اْل َك ِذ َ
َ
33
الشبهة السادسة :لو قال المخالف :لقد نظرت إلى سيرة سلف المة من العلماء,
فوجدتهم قد ركزوا في دعوتهم على أكبر النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة في
زمانهم ,كالنحراف في عقيدة السماء والصفات ,والقدر ,والوعد والوعيد ,ونحو ذلك من
ص بها زمان دون آخر ,وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة العصر الكثر
العقائد التي اخت ّ
شيوعا ،هي بدعة الحاكمية لغير ال ,وأنها الشرك الكبر ,جعلت محاربتها من أولويات
العمل السلمي.
جواب ذلك:
-1أن ما قام العلماء بإنكاره قديما ,ل يزال ممتدا حديثا ,لكن قد يق ّل وقد يكثر ,وعلى سبيل
المثال نجد أن معتقدات الصوفيّة قد كثرت حتى تسربل بها غالب أفراد المة في
الباكستان وأفغانستان خاصّة ودول الجمهوريّات السلمية في التّحاد السوفيتي سابقا
وإيران وبلد المغرب العربي عامّة ,ونجد كذلك نسبتها عالية في كل من مصر
والسودان والعراق وبنسبة أقل في بلد الشام.
-2لم يكن منهج علماء السلف السكوت عن النحرافات المنتشرة في زمانهم حتى تشيع
في المة ،بل كان هديهم التحذير من النحرافات ومحاربتها وهي في مهدها ،فهذا ابن
عباس يحذر عمر رضي ال عنه ،من خطر من دخل السلم من علوج المجوس
الذين بدأوا في النتشار في المدينة .وهذا علي وابن عباس رضي ال عنهما يناظران
الخوارج في أفكارهم قبل سعة انتشارها .وكم سجّل لنا التاريخ مواقف سلف المة في
التصدي لحركة الترجمة عن كتب اليونان الفلسفية قبل امتدادها في طول العالم
السلمي وعرضه!!! فاقرأ إن شئت ما ورد عن الئمة الربعة ومن قبلهم في النهي
عن ذلك وليس هذا بحثه.
-3أما عن النحرافات التشريعية في الدويلت السلمية ،ففي الماضي كان غالب
الدويلت المنشقة عن سلطان المة باطنية خارجة عن السلم أصل ،كما يوجد في
هذا الزمان (للتأكد راجع واقع العالم السلمي أيام ابن تيمية كما مر معك سابقا).
وكذلك في المقابل قد وجد من الدول السلمية قديما ،ما يمثل دولة السلم بمساحة تقل
عن ثمانية في المائة من كامل مساحة العالم السلمي وقتئذٍ ،كما هو الحال في دولة
المماليك ،وقد انتشرت فيها الفكار الصوفية ،والنحرافات العقدية التي سجن ابن تيمية بسبب
34
إنكارها ومحاربتها ،كما وقع فيها من النحراف في التشريع كتحكيم الياسة (اليسق) فيما
يتعلق منها بأحكام الجند وتأديبهم ،كما مر معك سابقا.
وفي المقابل نجد في هذا الزمان من الدويلت السلمية (السعودية) التي ل تقل
مساحتها عن مساحة دولة المماليك قديما ول تزيد في انحرافاتها عن انحراف دولة المماليك
سواء في الجانب التشريعي أو الجانب السلوكي الخلقي ،أما في الجانب الدعوي والدفاع
عن السلم وصفاء العقيدة ونقائها فقد سبقت الدولة السعودية كل سابق ،ومن أراد التفاعل
مع هذه النقطة بالذات قبل ردها عليه:
أول :أن يراجع تاريخ العالم السلمي ،ليلحظ ما وصل إليه من النحرافات ،وأن
ينظر إلى واقعه الذي يعيشه في هذا الزمان بعين العقل ل العاطفة ،بعيدا عن كل مظاهر
الطبل العلمي المغرض المشبوه الذي يقلب الحقائق ويزور التاريخ.
ثانياً :عليه أن يتذكر كيف أن الحرب النفسية امتدت إلى عقول قطاعات من المة في
زمن عثمان رضي ال عنه ،رغم أنه خير البشر يمشي في زمانه على الرض ،حتى
أظهرته الظالم المستبد ،وقتل متهما بالفسق والظلم بل كفره البعض ،فكيف يكون الحال مع
ولة أمور لن يصلوا إلى عشر معشار عثمان رضي ال عنه في الفضل والستقامة والعدل
والمنزلة عند ال تعالى؟! لنتذكر هذا جيدا.
لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى" :ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر
إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين "(.)48
وبناء على ما سبق ذكره ،نلحظ ما يلي:
•أن واقعنا المعاصر لم يكن حالة ل نظير لها في التاريخ السلمي كما أراد المخالف،
ل من الناحية التشريعية ول من الناحية السلوكية بشكل عام.
•ونلحظ كذلك وجود دويلت إسلمية معاصرة ،تقترب في الفضل من دولة المماليك،
بل إن دولة المماليك تقل عن بعضها في الجانب التشريعي والسلوكي والدعوي وجهاد
الكلمة.
•ونلحظ كذلك أن كثيرا من العقائد والفكار التي عملت المة قديماً على إنكارها
ومحاربتها ،ل زالت منتشرة في مساحات شاسعة من بلد المة السلمية ،وعليه يحق
35
لنا في المقابل أن نجعل من محاربة هذه الفكار المخالفة والدخيلة على السلم،
والواسعة النتشار ،على أول سلم الوليات في العمل السلمي.
•وعلى فرض أن هذه البدعة بدعة شرك القصور هي البدعة العظم والنحراف الكبر
في هذا الزمان ،إل أنه ل بد من مراعاة الولويات التي قبلها ،لن تحقيق الستخلف
له شروطه ،فانتفاء هذه الشروط أو بعضا منها يؤدي إلى انتفاء حصول المشروط أي
تحقق الخلفة .إذن ل مناص أمامنا من التدرج للوصول إلى نصرة ال تعالى لنا ،ابتداء
باليمان والعمل الصالح ثم محاربة كل مظاهر الشرك وتوحيد ال تعالى في عبادته كما
مر معنا سابقا في شرح قوله تعالى" :وعد ال الذين آمنوا منكم"...الية.
•إن كثيرا من المسلمين اليوم ينطلق في حكمه وبالتالي في تعامله مع النظمة القائمة من
خلل نظرة البيض والسود فقط ،فالبيض عندهم يمثل الخلفة الراشدة فقط ،والسود
ما دون الخلفة الراشدة ،وقد تناسوا أن هناك نحو ( )2000لون واقعة ما بين البيض
والسود تميز بالعين المجردة.
فبنظرتهم هذه المخالفة للسلم ،قد عطلوا من القواعد الصولية الهامة الكثير :منها
قاعدة" :معرفة أفضل الخيرين وأسوأ الشرين" ،وقاعدة" :دفع المفسدة العظمى بالصغرى"،
وقاعدة" :درء المفاسد أولى من جلب المنافع" ،وقاعدة" :الضرورات تبيح المحظورات"،
وقاعدة" :عموم البلوى" ،وقاعدة" :الحكم مناط بالقدرة" .وليس هذا فقط ،بل تركوا قول
الرسول صلى ال عليه وسلم المحكم" :سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يصدق فيها
الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها المين وينطق فيها
الرويبضة! قيل :وما الرويبضة؟ قال :الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"(.)49
فالرسول صلى ال عليه وسلم يخبرنا بوجود الصادقين والمناء ،فكما أننا متفقون على
وجود بعض النظمة الخائنة لدينها ولُمتها ولوطنها ،والتي طالما صفق لها الغثاء من الناس
وخدعوا بما صاحوا به ونادوا من بيانات كاذبة ضد إسرائيل ،فانطبق عليهم شطر الحديث
"يصدق الكاذب ويؤتمن الخائن"؛ فكذلك يوجد في الواقع الصنف الخر من النظمة من
الصادقين والمناء ،لكننا عمّينا عن رؤيتهم ومعرفتهم ،لننا غثاء حملنا تيار فكري جارف،
"السلسلة الصحيحة" ( ،)4/508و"صحيح ابن ماجة" لللباني ،رقم ( ،)2/1339( ،)4036بدون 49
كلمة (يتكلم)..
36
يقول لنا عنهم خون وكذبة ،فنردد معه ،ونقول نعم هم كذلك ،وقد وصل المر بالبعض من
هؤلء الغثاء ،أن قدم روحه في هذا السبيل الغثائي بكل إخلص ،وهذا يكشف لنا عن مدى
تقدم علم الجاسوسية المتصهين ،وذراعه القوى الاشتراكي( ،)50ول حول ول قوة إل بال
العلي العظيم.
() 51
احتمالت تقسيمات النظمة حسب أمانتهم أو خيانتهم
•وبسبب تسرب بعض الفكار الموجهة المسمومة إلى عقول المسلمين اليوم التي تقف
خلفها مراكز توجيه متخصصة ،فانه يوجد من التصنيفات الجاهزة وقوالب العمالة
والتخوين لصاحب الخلفة الراشدة المنتظرة – كما أخبر بها الرسول صلى ال عليه
وسلم في آخر الزمان -ما يؤلب الغثاء من الناس عليه وعلى خلفته ،في ظل سيطرة
الصهيونية والشتراكية على وسائل العلم ،وعدم وعي المسلمين بواقعهم ،حيث ل
يفرقون بين العدو والصديق ،بل ينحازون إلى العدو ضد الصديق ،وصدق قول ال
تعالى فينا :وفيكم سماعون لهم.
•على المة أن تتعلم فقه الواقع تعلما ،كما تتعلم القراءة والكتابة ،لن كثيرا من هذه
القلم ،جاهدت في سبيل الشيطان وهي تظن أنها تحسن صنعا ،فليتها ما تعلمت
وكتبت ما ظنته علما وبقيت على جهلها البسيط وأميّتها ،فالجهل المركب أخطر على
أما حزب التحرير ،فإننا نعتقد جازمين أن نوايا أفراده صالحة ،ولكنهم أقنعوا بمفاهيم ونظريات 50
وتحليلت سياسية عكست الواقع ،ومهدت للمد الشتراكي في بلد السلم ،حين ألصقوا كل
جرائم الشتراكية بالرأسمالية.
هذا التقسيم يراد به النظمة في الدول العربية والسلمية بدرجة أولى. 51
37
المجتمع وأشنع ،لن صاحب الجهل البسيط يشعر بتقصيره تجاه واجب طلب العلم.
أما الخر فأنّا له ذلك وهو يعتقد أنه على الحق.
38
هل البروتوكولت من وضع اليهود؟
يذهب البعض إلى التشكيك في نسبة البروتوكولت لليهود لغايات وأسباب متعددة؛ وإن
كان هذا الزعم الغريب ملفتا للنظر ،ويضع علمات استفهام حول أصحابه ،إل أننا
مضطرون للرد عليه مهما كانت قسوته أو مجافاته للحق.
فقد رد القرآن الكريم على ادعاءات وشبهات الكافرين بالحجة الساطعة ،وبين لهم سوء
ظنونهم ومساوئ اعتقاداتهم في العديد من المواضع القرآنية.
فمثلً ،هل يعقل أن تصل الدرجة في البعض أن يشك في أن ال تعالى خير من
ن[ النمل ،]59:وقال :
ش ِركُو َ
الرباب والنداد ؟ حتى قال ال تعالى رادا عليهم :آلّل ُه َخ ْي ٌر َأمّا ُي ْ
ن َخ ْي ٌر َأ ِم الّل ُه اْلوَا ِح ُد اْل َقهّا ُر[ يوسف.]39:
ب ّمَت َف ّرقُو َ
َأَأ ْربَا ٌ
إذن ل بد من مواجهة الشبهات والتضليلت مهما كانت سخيفة وساقطة من أساسها،
وذلك لقامة الحجة على أصحابها وحماية الفراد من النسياق خلف زخرفها والفتتان بها،
ن َل ُه ْم [التوبة.]47:
سمّاعُو َ
قال ال تعالى واصفا حال البعض مع المنافقينَ :وفِي ُك ْم َ
يقول البريطان مُصدّر الطبعة الخامسة النجليزية للبروتوكولت الصادرة عام :1921
"إن نفاد طبعة أخرى أيضا من هذا الكتاب ليدل على أنه لم ينقص تلهف الناس على استقبال
أخبار بروتوكولت صهيون ،وأنه ليزداد وضوحا كل يوم أن سياسة البروتوكولت الن
تطبق بعنف على الأمميين ،لن حكوماتهم كما يفخر المستر إسرائيل زانجفيل مطوقة
باليهود ووكلئهم .إن العالم مدين للستاذ البروفيسور سرجي نيلوس بنشر هذا الكتاب
المفزع للعالم سنة 1901م ...ويزعم اليهود ضرورة ،أن البروتوكولت مزيفة ،ولكن
الحرب العظمى ليست زورا ،ول مصير روسيا زورا ،وبهذين المرين تنبأ حكماء صهيون
منذ أمد طويل يرجع إلى سنة 1901م" ،انتهى.
ويتجلى تطبيق ما ورد في البروتوكولت عند قراءة الساليب المستخدمة في الحرب
الثورية الشيوعية اليهودية على الأمميين لتحقيق أهدافهم.
قال محمد خليفة التونسي" :وكذلك تنبه بعض الكتاب الذين قارنوا بين تلك الفظائع
البلشفية والبروتوكولت الصهيونية فسموا البروتوكولت "النجيل البلشفي" لما لحظوا بينهما
من توافق عجيب .كما لحظ كاتب إنجليزي مناورات اليهود للتشكيك في نسبة الكتاب إليهم،
ففند مزاعمهم بحجج كثيرة :من بين ذلك التوافق العجيب بين نبوءات البروتوكولت في سنة
39
1901وتلك الويلت التي رمى بها اليهود العالم كفتنة البلشفية اليهودية وغيرها من الفتن في
روسيا وسائر البلد الوروبية "(.)52
بمعنى آخر إذا كان الخطر الشيوعي حقيقة قائمة ليس خيالً ،وإذا كانت الشيوعية من
صنع اليهود ،وإذا كان ما ورد في البروتوكولت من أساليب ثورية يوافق تماما ما تقوم به
الحرب الثورية الشيوعية ،فقد دل ذلك كله على أن البروتوكولت هي حقيقة واقعة يقف
خلفها اليهود بل ريب ،وهاك المثال التالي:
يعتبر اليهود الحريات السياسية ضرورة ووسيلة مرحلية فقط ،ل حقيقة واقعة،
يطالبون بها ويسخرونها لصالحهم إذا كانوا خارج الحكم -باعتبارها طعما لجذب العامة .-
ولكن يحرمونها الشعوب المقهورة بعد توليهم أو وكلئهم للحكم.
يقول البروتوكول الول (" :)53أن الحرية السياسية ليست حقيقة ،بل فكرة .ويجب أن
يعرف النسان كيف يسخر هذه الفكرة عندما تكون ضرورية ،فيتخذها طعما لجذب العامة
إلى صفه ،إذا كان قد قرر أن ينتزع سلطة منافس له".
وفي البروتوكول الثاني والعشرين يقرر اليهود بعد استلمهم الحكم نسف الحريات
جميعا كحرية " نشر العقيدة والمساواة ونحوها" ( .)54بل بعد استلم الحكم يصير الناس سخرة
وعبيدا(.)55
هذا هو موقف اليهود من الحريات السياسية قبل سيطرتهم على السلطات وبعد ذلك،
فهل اختلف الموقف الشتراكي من الحريات السياسية عن موقف اليهود هذا.
للجابة على ذلك:
يجب التذكير بأن البروتوكولت إنما وضعها اليهود لتكون في غاية السرية ،وليست
قابلة للنشر ،إنما نشرت رغما عنهم ،لذلك فقد عكست الخلق الحقيقية والنوايا السيئة لليهود
تجاه العالم ،بخلف موقف إسرائيل اليجابي المعلن تجاه هذه الحريات ،إذ به تخادع الرأي
العام العالمي لتنال الدعم والتأييد الدولي لقضاياه ،بينما مباديء الماركسية الشيوعية صيغت
مقدمة كتاب "الخطر اليهودي ،بروتوكولت حكماء صهيون"( ،ص .)35 52
برتوكول رقم (( )5ص .)175وبروتوكول رقم (( )23ص ،)245وغيره. 55
40
صياغة لتكون علنية تخاطب الجماهير والعمال والمثقفين ،لذلك ظهرت منافقة مخادعة
مضللة للشعوب.
ففي الوقت الذي وعدت الجماهير الساذجة نظريا بالحريات السياسية والديمقراطية
وحقوق النسان إن هي ظفرت بالسلطة ،نجدها في الجانب العملي الواقعي بعد السيطرة على
الحكم ،قد حرمت الجماهير من أبسط الحريات العامة وحقوق النسان ،حتى أنها قد حولت
البلد إلى نصفين ،نصف للقبور وللمقابر الجماعية ،والنصف الخر للسجون النفرادية
وغير النفرادية.
كيف ظهرت البروتوكولت؟
يقول البروفسور سرجي نيلوس في مقدمة كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون"" :لقد
تسلمت من صديق( )56شخصي -هو الن ميت -مخطوطا يصف بدقة ووضوح عجيبين
خطة وتطورا لمؤامرة عالمية مشئومة ،موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى
التفكك والنحلل المحتوم .هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات ( 1901م) ،وهي
بالتأكيد صورة حقة في النقل من وثائق أصليـة ،سرقتها سيدة فرنسية ،من أحـد الكابر
ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء الماسونية الحرة ،وقد تمت السرقة في نهايـة
اجتماع سري بهذا الرئيس في فرنسا ،حيث وكر "المؤتمر الماسوني اليهودي" ،وللذين
يريدون أن يروا ويسمعوا ،أخاطر بنشر هذا المخطوط تحت عنوان" :بروتوكولت حكماء
صهيون" ،انتهى.
ومن المثير أن البروفيسور سرجي نيلوس بعد الطلع على أسرار هذا المخطط
اليهودي الجرامي كان قد تنبأ بسقوط روسيا بيد اليهود قبل سقوطها على يد اليهود البلشفة
الشيوعيين حين قال" :ولنؤجل ساعة انهيار روسيا"( .)57وقال عن حركة الفعى اليهودية:
"ولكن السهام تشير إلى حركتها التالية نحو موسكو وكييف وأودسا" ( .)58فهل كان سرجي
كاهنا أم يعلم الغيب أم أنها القراءة الصحيحة للواقع؟!
هو أليكس نيقول نيفتش كبير جماعة أعيان روسيا الشرقية .كما جاء في الحاشية. 56
41
تنص البروتوكولت صراحة في مواطن عديدة منها على أنها من وضع اليهود ،وهذا
ملخص لتلك المواطن وموضعها من الكتاب (رقم الصفحة /رقم البروتوكول) :59
•ورد ذكر الشعب المختار الدال على اليهود في المواضع التالية،)76/5 ( ،)77/5 ( :
( .)230/20 ( ،)154/13 ( ،)158/14 ( ،)154/14 ( ،)132/11
•ورد ذكر َملِك إسرائيل في المواضع التالية( ،)245/23 ( ،)197/17 ( ،)184/15 ( :
.)250/24 ( ،)250/24
•ورد قولهم عن الجيال القادمة أنها "ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى" في
الموضع.)155/14 ( :
قلت :وأقوى الدلة على تجريم المتهم على الطلق ،اعترافه الصريح الواضح .فلم
يصر البعض على عدم نسبة هذا الكتاب إلى اليهود ول يعترفون بأنه من وضعهم ،أو أنهم
وضعوه للدعاية فقط كقول حزب التحرير؟ وما حكم التستر على الجاني؟ أل يخشى من ينفي
نسبة البروتوكولت إلى اليهود اللعن من ال؟
فقد "لعن ال من آوى محدثا"( - )60أي :لعن ال من تستر على صاحب جريمة
مطلوب للعدالة -فكيف بمن يتستر على المصدر الول للجرائم "وعلى مفسدي العالم
ومحركي الفتن فيه وجلديه"()61؟
وكذلك الحال بمن يتستر على جرائم الشيوعية اليهودية بمختلف أسمائها ،التي سجلت
الرقم القياسي العالمي في حملت الإبادة والدمار وأعمال السلب والنهب وغيره.
42
الشبهة السابعة :لو قال المخالف :إن إقامة الحدود على الرعية ،مقدم على إصلحها
– أي أن لها الولوية -لما في ذلك من زجر للعصاة والمجرمين ،وبالتالي يستقيم
ن[ البقرة.]179:
ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ
ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي اْلَأْلبَا ِ
المجتمع ،لقوله تعالىَ :وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ
ولقول الرسول صلى ال عليه وسلم" :حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن
يمطروا أربعين صباحا"( .)62
الجواب:
ن تفيدنا فقط في
ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ
ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي اْلَأْلبَا ِ
-إن الية الكريمةَ :وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ
ردع القتلة ،إذا أرادوا القتل الحرام لخوفهم على أنفسهم من القتل بالقصاص الشرعي الذي ل
يحابي أحدا ،فلو لم يصن الشرع الحكيم حق المقتول ظلما ،لسعى أهل المقتول إلى أخذ حقهم
بأيديهم ،وبالتالي ،ولسوء تقدير المخلوق بما ينفعه أو يضره ،فقد يتجاوز في النتقام إلى
انتهاك حقوق أخرى للقاتل ،فيقوم أهل القاتل من باب النتقام لرد حقوقهم إلى ممارسة القتل
مرة أخرى ،وهكذا تهدر أنفس كثيرة في المجتمع ،لذلك وبوجود هذا القصاص الشرعي
العادل يحيا المجتمع.
قال القرطبي" :ولكم في القصاص حياة" هذا من الكلم البليغ الوجيز كما تقدم .ومعناه:
ل يقتل بعضكم بعضا; رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك .والمعنى :أن القصاص إذا أقيم
وتحقق الحكم فيه ازدجـر من يريد قتل آخر ,مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً .وكانت
العرب إذا قتل الرجل الخر حمي قبيلهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير;
فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا القتتال; فلهم في ذلك حياة .اتفق أئمة الفتوى
على أنه ل يجوز لحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ,وليس للناس أن يقتص بعضهم
من بعض; وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك; ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض
أيدي الناس بعضهم عن بعض" انتهى.
ص َحيَا ٌة) يقول تعالى ،وفي شرع القصاص
وقال ابن كثير" :وقولهَ ( :وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ
لكم ،وهو قتل القاتل حكمة عظيمة ،وهي بقاء المهج وصونها ،لنه إذا علم القاتل أنه يقتل،
انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس ،وفي الكتب المتقدمة( :القتل أنفى للقتل)،
تخريج الشيخ اللباني( :ن هـ) عن أبي هريرة .تحقيق الشيخ اللباني( :حسن) انظر حديث 62
43
فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة" .قال أبو العالية
جعل ال القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل .وكذا روي عن
مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان".
قلت :وعلى الرغم من إقرار تطبيق الحكام الشرعية في القصاص والحدود الخرى
في النظام ،لبد أن يكون المجتمع صالحا بعمومه أولً ،لكي ينعكس ذلك إيجابا على المجتمع،
لن السلطة التنفيذية في الجهاز الحكومي هم من البشر وليسوا ملئكة ،يعتريهم ما يعتريهم
من شبهات وشهوات تضعف نفوسهم عن متابعة تطبيق الحكم كما يريدهم ال تعالى بعيدين
عن تأثير العلقات الجتماعية والمحسوبيات وقبول الرشاوى والهدايا التي تضعف أمر
مراقبة أمر ال تعالى ،فلكي يكون الجهاز التنفيذي قويا وصلبا ل يتأثر بمثل هذه
الضغوطات ،وجب رفع درجة اليمان عنده ،وبالتالي وجب إصلح المجتمع الذي سيفرزه،
فنكون بذلك عدنا إلى سنة ال تعالى الكونية في الصلح من جديد.
لذلك فقد رأينا وقوع كثير من النحرافات والتساهل في تطبيق أحكام القصاص
والحدود في أنظمة الحكم السلمية المختلفة ،وقد ضربنا لذلك مثالين اثنين في التاريخ
السلمي ،كما مر معك من قريب.
تنبيه :الصلح مقصوده موافقة الظاهر للباطن ،فالمتناع عن ارتكاب الجريمة ل يعني
بالضرورة صلح الممتنع عنها ،أو حصول التغيير اليجابي بقلبه .وسيأتي بيان معنى
التغيير من كلم ابن تيمية لحقا ،لذلك لو فرضنا أن نظاما صارما طبق الحكام والحدود،
على أفراد المجتمع وخضعوا لها في الظاهر ،بل هم لها كارهون ،فإن ذلك ل يعتبر من باب
تغيير ما بالنفس الذي يترتب عليه تغيير المجتمع ،حتى تخضع لها قلوبهم" .فإن ما في
النفس مما يناقض محبة ال و التوكل عليه و الخلص له و الشكر له يعاقب عليه لن هذه
المور كلها واجبة .فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه
الواجبات " (.)63
فل بد إذن من وجود فئة من الناس سيخضعون للنظام ظاهرا دون قلوبهم ،وآخرون
ل يخضعون ل ظاهرا ول باطنا ،وقسم ثالث هم المؤمنون الذين وقعوا في الذنوب فأتبعوا
أمرهم توبة وندما .فالمطلوب من الصالحين تجاههم جميعا العمل على تخفيض نسبتهم في
44
المجتمع بالمر بالمعروف (بالمعروف) والنهي عن المنكر (بل منكر) حتى تقل نسبتهم
ويظهر الصلح في المجتمع ويعم .لذلك ستساهم إقامة الحدود في جعل فئة المتمردين عليها
ظاهرا وباطنا في حدودها الدنيا فقط ،بحيث ينظر الناس إلى أهلها بازدراء ،فيقل نقل العدوى
منهم إلى غيرهم إلى حده الدنى ،بذلك يبقى المجتمع سليما معافى.
أما بالنسبة للحديث الشريف" :حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن يمطروا
أربعين صباحاً" ،فهو ل يصلح للستدلل على ما نحن فيه ،ول يوجد فيه ولو دللة ظنية
تفيد بأن إصلح النظم أولى من إصلح المجتمع ،فإن معناه الواضح ل يتعدى تسمية فوائده
الدنيوية على المجتمع ،ولو صح الستدلل بالحديث ،لكان من الولى الستدلل بما هو أكثر
ش ْه ٍر [القدر .]3:وكقوله صلى
ف َ
ن َأْل ِ
خْي ٌر ِم ْ
منه فائدة على المجتمع ،كقوله تعالىَ :لْيَل ُة اْلَق ْد ِر َ
ال عليه وسلم" :من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" .وأمثال ذلك
في القرآن والسنة كثير.
ففي الية من الخير الخروي لفراد المجتمع ،ما هو أعظم فائدة من أن يمطروا
أربعون يوما ،ومن قال بعكس ذلك فقد جهل المعقول والمنقول .فهل يقدم خير دنيوي (مطر)
على خير أخروي (عبادة ألف شهر)؟ وعليه وباستخدام نفس الطريقة في الستدلل ،نقول أن
الدعوة إلى إقامة ليلة القدر مقدم على إصلح النظام بإقامة الحدود .ولكننا ل نعتبر هذا
الستدلل موفقا البتة.
45
الشبهة الثامنة :فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة الكبرى والشرك العظم للعتبارات
التي ذكرتم ،إنما اعتبرنا ذلك لن إقامة الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته،
فباستقامته وصلح حاله يصلح المجتمع ،وبفساد حاله يفسد المجتمع؛ لدوره الساسي في
التغيير.
يفهم من ظاهر النص العربي هذا ،أنه متى وجد الحاكم الصالح في الحكم ،صلح
المجتمع والعكس صحيح .فهل مفهوم هذه الشبهة سليم؟
قبل البدء بالجابة على هذا السؤال ،علينا أن نتذكر حقيقة شرعية ،أن اللتزام بالسلم
ل يصح إل إذا كان خالصا ل تعالى ،فإيمان المصالح والمنافع ،وإيمان الكراه والقهر
ن[ البينة ،]5:ومخالف لقول
ن َل ُه الدّي َ
مخالف لقوله تعالىَ :ومَا ُأ ِمرُوا ِإ ّل ِلَي ْعُبدُوا الّل َه ُم ْخِلصِي َ
الرسول صلى ال عليه وسلم" :إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت
هجرته إلى ال ورسوله ،فهجرته إلى ال ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو
امرأة ينكحها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه".
فمن تظاهر بالسلم طلبا لمنفعة أو دفعا لمفسدة ،فقد نافق ومن نافق دخل النار،
ومقصود الشريعة إخراج الناس من ظلمات النار إلى نور اليمان ،فعلينا أن نتذكر هذا خلل
المناقشة.
وللخطورة البالغة لهذه الشبهة ،خصصت الفصل التالي للرد عليها.
46
سنة ال تعالى في التغيير
ه ْم [البينة]5:
سِ
ِبأَن ُف ِ حتّى ُي َغّيرُوا مَا
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َ
ِإ ّ
"وقد ذكرت في غير هذا الموضع ،أن مصير المر إلى المُلوك ونوابهم من الولة،
والقضاة والمراء ،ليس لنقص فيهم فقط ،بل لنقص في الراعي والرعية جميعا ،فإنه "كما
ن
سبُو َ
ن َب ْعضًا ِبمَا كَانُوْا َي ْك ِ
ض الظّاِلمِي َ
ك ُن َولّي َب ْع َ
تكونوا يول عليكم" ،وقد قال ال تعالىَ :و َك َذِل َ
[النعام "]129:ابن تيمية(.)64
"وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"،
وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم
س ِه ْم [البينة ،]5:وإلى
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ
الصحيح تحقيقا لقوله تعالىِ :إ ّ
ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين ( )65بقوله" :أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على
أرضكم" .وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام
بواسطة النقلبات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر؛ فهي مخالفة لنصوص
الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس ،وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء
عزِي ٌز[ الحج ،]40:الشيخ اللباني(.)66
ي َ
ن الّل َه َل َق ِو ّ
ص ُر ُه ِإ ّ
ن الّل ُه مَن يَن ُ
ص َر ّ
عليهاَ :وَليَن ُ
"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما
يريد أن يكون حيثما يكون ،وهذا خطا فللبيئة التأثير في الحاكم ،وفي نظام الحكم أكثر مما
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر
للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة ،وهذا من معاني قول ال عز وجلِ :إ ّ
س ِه ْم ."محب الدين الخطيب( .)67
مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ
قال الشيخ اللباني رحمه ال :وهو الستاذ حسن الهضيبي -رحمه ال.- 65
"العقيدة الطحاوية" ،شرح وتعليق ،ط /المكتب السلمي ( 1978ص .)47 66
47
بين يدي الموضوع
يذهب البعض إلى أن الصلح المنشود ،وإقامة الدين في الرض منوط بالحاكم
واستقامته ،فباستقامة الحاكم وصلح حاله يصلح المجتمع ،وبانحرافه وفساد حاله يفسد
المجتمع ،أو لنهم يتصورون أن له دورًا أساسيا في التغيير.
وحال هؤلء كمن يزعم أن لدى الحاكم عصا سحرية يستطيع بها أن يكون كما يريد
أن يكون حيثما يكون ،وهذا في اعتقادنا مخالف للقرآن والسنة ولسيرة الرسول صلى ال
عليه وسلم ،إذ بين القرآن الكريم وصحيح السنة وسيرة الرسول صلى ال عليه وسلم ،أن
إقامة الدين في النفس ،شرط لتحقيق التغيير المنشود فـي المجتمع والتأييـد بالنصر
والتمكين.
س ِه ْم[ البينة.]5:
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ
قال تعالىِ :إ ّ
ض َكمَا
سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ
ت َلَي ْ
ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ
ع َد الّل ُه اّلذِي َ
وقال تعالىَ :و َ
ن َب ْع ِد َخ ْوِف ِه ْم َأ ْمنًا
ن َل ُه ْم دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ
ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ
ن ِم ْ
ف اّلذِي َ
سَت ْخَل َ
اْ
ن[ النور.]55:
سقُو َ
ك ُه ْم اْلفَا ِ
ك َفُأ ْوَلِئ َ
ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ
ش ْيئًا َو َم ْ
ن بِي َ
ش ِركُو َ
َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ
وقد ل يعلم أصحاب هذا التجاه ،أن سنة ال تعالى في تغيير المجتمعات -من الخير
إلى الشر أو العكس -من السنن الكونية النافذة في الخلق ،التي ل تتبدل ول تتحول لي
سبب من السباب ،سواء كان ذلك لقرابة أو نسب أو جاه أو سلطان أو حتى لقربى من ال
تعالى ،فمن الغريب أن البعض يظن هذا الظن السيئ بال تعالى بالرغم من التأكيدات القرآنية
على هذا الثابت الكوني في عدة مواضع من كتاب ال تعالى منها:
ل [الحزاب.]62:
سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ً
ن َت ِج َد ِل ُ
ن َق ْب ُل َوَل ْ
ن َخَلوْا ِم ْ
سّن َة الّل ِه فِي اّلذِي َ
ُ •
ل [فاطر:
سّن ِة الّل ِه َت ْحوِي ً
ن َت ِج َد ِل ُ
سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ًل َوَل ْ
ن َت ِج َد ِل ُ
ن َفَل ْ
سّن َة ا َل ّولِي َ
ن إ ّل ُ
َ •ف َه ْل َي ْن ُظرُو َ
.]43
ل [فاطر.]23:
سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ً
ن َت ِج َد ِل ُ
ن َق ْب ُل َوَل ْ
ت ِم ْ
سّن َة الّل ِه اّلتِي َق ْد َخَل ْ
ُ •
ل لنصرة النبي صلى
فلو كان لهذه السنة أن تتبدل أو تتحول لتبدلت أو تحولت ولو قلي ً
ال عليه وسلم في أكثر من موقف كان أحوج ما يكون لها ،سواء في بداية الدعوة في مكة
حين كانت مرحلة الضعف المتمثلة بالصبر واحتمال أذى المشركين ،أو في حالة القوة في
48
المدينة المنورة في مواقف متعددة ،كغزوة أحد( )68وغزوة حنين( .)69وما جاء في قصة
زوجة نوح عليه السلم وولده ،وزوجة لوط عليه السلم ،ما يدل على أن القرابة والنسب ل
يوقفان سنة ال تعالى.
ن
ن ِم ْ
ع ْب َد ْي ِ
ت َ
ح َوِا ْم َرَأ َة لُو ٍط كَا َنتَا َت ْح َ
ن َك َفرُوا ِا ْم َرَأ َة نُو ٍ
ل ِلّلذِي َ
ب الّل ُه َمَث ً
ض َر َ
قال تعالىَ :
ن[ التحريم:
ش ْيئًا َوقِي َل ا ْد ُخلَا النّا َر َم َع الدّا ِخلِي َ
ن الّل ِه َ
ع ْن ُهمَا ِم ْ
ن َفخَاَنتَا ُهمَا َفَل ْم ُي ْغِنيَا َ
عبَا ِدنَا صَاِل َح ْي ِ
ِ
.]10
ت َأ ْح َك ُم
ق َوَأ ْن َ
ك اْل َح ّ
ع َد َ
ن َو ْ
ن َأ ْهلِي َوِإ ّ
ن ا ْبنِي ِم ْ
ب ِإ ّ
ح َرّب ُه َفقَا َل َر ّ
وقال تعالىَ :ونَادَى نُو ٌ
ح فَل
غ ْي ُر صَاِل ٍ
ع َم ٌل َ
ك ِإّن ُه َ
ن َأ ْهِل َ
س ِم ْ
ح ِإّن ُه َل ْي َ
ن[ هود .]45:فجاء الجواب :قَا َل يَا نُو ُ
اْلحَا ِكمِي َ
ن[ هود.]46:
ن اْلجَا ِهلِي َ
ن ِم ْ
ن َتكُو َ
ك َأ ْ
ع ُظ َ
عْل ٌم ِإنّي َأ ِ
ك ِب ِه ِ
س َل َ
ن مَا َل ْي َ
سَأْل ِ
َت ْ
وليعلم أولئك البعض ،ممن قل اعتبارهم لسنن ال تعالى في خلقه ،أن ما ذهبوا إليه من
تصورات في طريق التغيير المنشود ،سيؤدي إلى النشغال بالحاكم ،وتركيز الصراع مع
النظام السياسي القائم وإسقاطه ،فينتج عن ذلك ازدياد الفساد والفساد في الناس لتوقف مسيرة
المر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر الحكام.
فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم بالمحكوم من أهم الساليب
المستخدمة من قبل الصهيونية وذراعها القوى "الشتراكية" للسيطرة على العالم ،والرافضة
القائمة على تصدير الثورة .فمن خلل الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها
بواسطة عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم ،يقودون الثورة ويركبون الموجة،
ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة ،مهما كان دينها أو عرقها .وللتدليل على ذلك نقرأ في
"بروتوكولت حكماء صهيون" ما يلي:
"وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة من أجل أوتقراطيتنا ،أن تعرفنا
لملكنا التوقراطي( )70يمكننا أن نتحقق منه قبل إلغاء الدساتير ،أعني بالضبط أن تعرف أن
حكمنا سيبدأ في اللحظة ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم الخلفات وتعذبوا تحت إفلس
كما في قوله تعالى :أَوََلمّا أَصَابَتْ ُكمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَ ْبتُمْ ِمثْلَيْهَا قُ ْلتُمْ أَنّى َهذَا ُقلْ ُهوَ ِمنْ عِ ْندِ 68
عَنْ ُكمْ شَيْئًا وَضَا َقتْ عَلَ ْيكُمْ ا ْلأَرْضُ ِبمَا َرحُ َبتْ ثُمّ وَلّيْ ُتمْ مُدْ ِبرِينَ[ التوبة.]25:
الوتوقراطية نظام الحاكم الفرد المستبد المطلق. 70
49
حكامهم (وهذا ما سيكون مدبرا على أيدينا) فيصرخون هاتفين :اخلعوهم وأعطونا حاكما
عالميا واحدا يستطيع أن يوحدنا ،ويمحق كل أسباب الخلف ،وهي الحدود والقوميات
والديان والديون ونحوها ...حاكما يستطيع أن يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن
يوجدا في ظل رؤسائنا وملوكنا وممثلينا .ولكنكم تعلمون علما دقيقا وافيا أنه لكي يصرخ
الجمهور بمثل هذا الرجاء ،لبد أن يستمر في كل البلد اضطراب العلقات القائمة بين
الشعوب والحكومات ،فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهادا أيضا" (.)71
"إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين (غير اليهود) مع قوة الرعاع العمياء،
غير أننا قد اتخذنا كل الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث .فقد أقمنا بين القوتين
سدا قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى ،وهكذا تبقى قوة الشعب سندا إلى
جانبنا ،سنكون وحدنا قادتها ،وسنوجهها لبلوغ أغراضنا" (.)72
وتقول أيضا:
"ولكي يكون الملك( )73محبوبا ومعظما من كل رعاياه – يجب أن يخاطبهم جهارا
مرات كثيرة .فمثل هذه الجراءات ستجعل القوتين في انسجام ،أعني قوة الشعب وقوة الملك
ل منهما في خوف دائم من
اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية (غير اليهودية) بإبقائنا ك ً
الخرى .ولقد كان لزاما علينا أن نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى ،لنهما حين
انفصلتا وقعتا تحت نفوذنا" (.)74
وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير المنشود يكون بتغيير النفس
أول( ،)75علينا أن نتذكر حقيقة شرعية ،أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصا ل
تعالى ،فإيمان المصالح والمنافع ،وإيمان الكراه والقهر مخالف لقوله تعالىَ :ومَا ُأ ِمرُوا إ ّل
ن[ البينة ،]5:ومخالف لقول الرسول صلى ال عليه وسلم" :إنما العمال
ِلَي ْعُبدُوا الّل َه ُم ْخِلصِي َ
المقصود بالملك (ملك إسرائيل بعد تتويجه لحكم العالم) ،أو أي حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون 73
50
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله ،فهجرته إلى ال
ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فمن تظاهر بالسلم طلبا لمنفعة أو دفعا لمفسدة ،أو تزلفا لحاكم ،فقد نافق ومن نافق
خسر خسرانا مبينا ،ومقصود الشريعة إخراج الناس من ظلمات النار إلى نور اليمان ،فعلينا
أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية.
51
اليات
ورد في القرآن الكريم ،العديد من اليات الدالة على إثبات التعاضد وتركيز العمل على
إصلح الرعية والنشغال بذلك ،منها:
أول -إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما صالحا ،وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما
فاسدا:
ورد هذا المفهوم الجلي في العديد من المواضع من كتاب ال تعالى منها:
ن[ النعام.]129:
سبُو َ
ن َب ْعضًا ِبمَا كَانُوْا َي ْك ِ
ض الظّاِلمِي َ
ك ُن َولّي َب ْع َ
-1قوله تعالىَ :و َك َذِل َ
تدل الية على أن ال تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع بعضا في الحكم ،فإذا علمنا أن
الحاكم هو إفراز من المجتمع ،وأن المجتمع يُسوّد على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه
وغاياته ،دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول( :إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما
صالحا ،وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسدا)(.) 76
ينقل القرطبي قول ابن زيد وابن عباس في تفسير هذه الية قائلً" :قال ابن زيد :نُسلّط
بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله ،وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط ال
عليه ظالما آخر .ويدخل في الية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس
في تجارته أو السارق وغيرهم.
وقال ابن عباس :إذا رضي ال عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط ال عن قوم
ولى أمرهم شرارهم" ( ،)77انتهى.
قال ابن أبي العز الحنفي" :وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلنه يترتب على الخروج
من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم بل في الصبر على جورهم تكفير
قد يقول قائل :لم ل يتغلب حاكم ظالم فاسد على مجتمع صالح بعملية انقلبية ثورية أو بعمل 76
جاسوسي منظم يتظاهر فيه صاحبه بالسير لتحقيق أهداف وغايات المجتمع المستهدف؟ قلت:
إمكانية نجاح هذا الرجل الفاسد المنافق واردة ،فإذا حصل ذلك دل المر على نقص في
المجتمع ،ودليل نقصه ،ضعف الوعي بصفات المنافقين وأعمالهم الجاسوسية التي بينها ال
تعالى في كتابه الكريم ،أو تساهل بها طمعا في استغلل ما ينتج عنه .ومن التغيير بما في
النفس ،معرفة مكر الماكرين ودراية ما يخططون ويتآمرون ،فمن نام عن هذا ،فقد أساء
معرفة سنن ال تعالى .ومن وقع في ذلك فل يلومن إل نفسه فإن العدو يقظان.
"تفسير القرطبي" (ج 7ص .)85 77
52
السيئات ومضاعفة الجور ،فإن ال ما سلّطهم علينا إل لفساد أعمالنا ،والجزاء من جنس
العمل ،فعلينا الجتهاد في الستغفار والتوبة وإصلح العمل ،قال تعالىَ :ومَا َأصَاَبكُم مّن
ن َب ْعضًا
ض الظّاِلمِي َ
ك ُن َولّي َب ْع َ
ت َأ ْيدِي ُك ْم َوَي ْعفُو عَن َكثِي ٍر[ الشورىَ .]30:و َك َذِل َ
سَب ْ
ّمصِيَب ٍة َفِبمَا َك َ
[النعام ،]129:فإذا أراد الرعية أن يتخلّصوا من ظلم المير فليتركوا الظلم"(.)78
وقال الشيخ اللباني رحمه ال" :وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين
هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" ،وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى
ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم الصحيح تحقيقا لقوله تعالىِ :إ ّ
س ِه ْم[ البينة ،]5:وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين( )79بقوله" :أقيموا دولة
ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ
السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم" .وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو
الثورة بالسلح على الحكام .بواسطة النقلبات العسكرية ( ،)80فإنها مع كونها من بدع
العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس ،وكذلك
عزِي ٌز
ي َ
ن الّل َه َل َق ِو ّ
ص ُر ُه ِإ ّ
ن الّل ُه مَن يَن ُ
ص َر ّ
فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليهاَ :وَليَن ُ
[الحج.]40:
وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة إلى الملك ،قال ابن تيمية" :وقد
ذكرت في غير هذا الموضع ،أن مصير المر إلى المُلوك ونوابهم من الولة ،والقضاة
والمراء ،ليس لنقص فيهم فقط ،بل لنقص في الراعي والرعية جميعا ،فإنه" :كما تكونوا
ن َب ْعضًا ،)82("رحمه ال.
ض الظّاِلمِي َ يول عليكم"( )81وقد قال ال تعالىَ :و َك َذِل َ
ك ُن َولّي َب ْع َ
قلت :تعليقا على قول ابن عباس رضي ال عنه ،ومتى يرضى ال تعالى من قوم
فيولي أمرهم خيارهم؟ ل شك إذا كانوا صالحين .ومتى يسخط ال على قوم فيولي أمرهم
قال اللباني رحمه ال :وهو الستاذ حسن الهضيبي -رحمه ال.- 79
من أمثلة هذه النقلبات :انقلب (ثورة 23يوليو 1952الشتراكية) في مصر ،والثورات 80
الشتراكية الخرى في كل منك سوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال والسودان والجزائر
وإيران وإندونيسيا.
ضعفه الشيخ ناصر في "السلسلة الضعيفة" ( ،)1/490رقم (.)320 81
53
شرارهم؟ ل شك إذا كانوا فاسدين .وهذا هو جوهر القاعدة ( :إذا صلحت الرعية أفرزت
حاكما صالحا ،وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسدا).
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال بذلك ،من المر
بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
س ِه ْم َوِإذَا َأرَا َد الّل ُه ِب َق ْو ٍم
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ
-2قوله تعالىِ :إ ّ
ن وَا ٍل [الرعد.]11:
ن دُوِن ِه ِم ْ
سُوءًا فَل َم َر ّد َل ُه َومَا َل ُه ْم ِم ْ
وهذه الية أصرح في الدللة على المراد ،وهي عامة تشمل نوعي التغيير سواء من
الخير إلى الشر أو العكس.
ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم -أي الجماعة -وليس في
شخص الحاكم دون المحكوم ،وليس بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في
المجتمع ،إنما المراد أن يكون التغيير غالبا فيه .وتجدر الشارة إلي أن ال تعالى قد وعد
بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي
بيانه قريبا إن شاء ال تعالى.
يقول الطبري في تفسيرها" :إن ال ل يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم
ويهلكهم ،حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا ،واعتداء بعضهم على بعض،
فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره"(.)83
ويقول القرطبي فيها" :لن ال ل يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما
بأنفسهم بالصرار على الكفر فإن أصروا حان الجل المضروب ونزلت بهم"(.)84
ويقول كذلك" :أخبر ال تعالى في هذه الية أنه ل يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير إما
منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم بسبب ،كما غير ال بالمنهزمين يوم أحد بسبب
تغيير الرماة بأنفسهم ،هذا من أمثلة الشريعة ،فليس معنى الية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إل
بأن يتقدم منه ذنب ،بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير ،كما قال صلى ال عليه وسلم وقد
سئل" :أنهلك وفينا الصالحون؟ قال :نعم إذا كثر الخبث" ،وال أعلم"( .)85كما قال ال تعالى :
54
ب[ النفال.]25:
شدِي ُد اْل ِعقَا ِ
ن الّل َه َ
عَلمُوا َأ ّ
ص ًة وَا ْ
ن َظَلمُوا ِم ْن ُك ْم خَا ّ
ن اّلذِي َ
وَاّتقُوا ِف ْتَن ًة َل ُتصِيَب ّ
وبمثل هذا قال ابن كثير (.)86
قلت :فإن تأخر العذاب عن أمة ل تزال على معصية ،فإنما هو لحكمة أو يكون
ن ِإّنمَا
عمّا َي ْع َم ُل الظّاِلمُو َ
ن الّل َه غَا ِف ًل َ
سَب ّ
استدراجا لهذا الظالم ،كما في قوله تعالىَ :و َل َت ْح َ
ص فِي ِه ال ْبصَا ُر[ إبراهيم .]42:وقوله صلى ال عليه وسلم" :ثم إن ال ليملي
ش َخ ُ
ُي َؤ ّخ ُر ُه ْم ِلَي ْو ٍم َت ْ
ن َأ ْخ َذ ُه
ي ظَاِل َم ٌة ِإ ّ
ك ِإذَا َأ َخ َذ اْل ُقرَى َو ِه َ
ك َأ ْخ ُذ َرّب َ
للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال :ثم قرأ َ و َك َذِل َ
شدِي ٌد. )87("
َألِي ٌم َ
وعن معنى التغيير وحقيقته ،يقول ابن تيمية رحمه ال" :لفظ التغير لفظ مجمل ،فالتغير
في اللغة المعروفة ل يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث فان الناس ل يقولون
للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت :إنها قد تغيرت ،ول يقولون للنسان إذا تكلم ومشى
انه تغير ،ول يقولون إذا طاف وصلى ،وأمر ونهى ،وركب انه تغير ،إذا كان ذلك عادته،
بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة ،كالشمس إذا زال نورها ظاهرا ل يقال
إنها تغيرت ،فإذا اصفرت قيل تغيرت.
وكذلك النسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير ،وكذلك إذا تغير
خلقه ودينه ،مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير برا ،أو يكون برا فينقلب فاجرا فإنه يقال قد
تغير .وفى الحديث" :رأيت وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم متغيرا ،لما رأى( )88منه
أثر الجوع ولم يزل يراه يركع ويسجد" فلم يس ّم حركته تغيرا ،وكذلك يقال فلن قد تغير على
فلن إذا صار يبغضه بعد المحبة ،فإذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له
تغيرا.
ن الّل َه َل
وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فل يقال أنه قد تغير ،قال ال تعالىِ :إ ّ
س ِه ْم .ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون
ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
ويفعلون ما هو خير ،لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم ،فإذا انتقلوا عن ذلك ،فاستبدلوا بقصد
الخير قصد الشر ،وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل ،قيل قد غيروا ما بأنفسهم ،مثل من كان يحب
55
ال ورسوله والدار الخرة ،فتغير قلبه وصار ل يحب ال ورسوله والدار الخرة ،فهذا قد
غير ما في نفسه" ،انتهى(.)89
ويقول ابن القيم" :وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته ،فإن ال إذا أنعم على
ن
عبد بنعمة حفظها عليه ،ول يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسهِ :إ ّ
س ِه ْم[ الرعد.)90(]11:
الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
وقد استدل الشيخ اللباني رحمه ال تعالى بالية ،لصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها،
قائلً" :وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"
وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم
س ِه ْم ،وإلى ذلك أشار
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
الصحيح تحقيقا لقوله تعالىِ :إ ّ
أحد الدعاة المعاصرين ( )91بقوله" :أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم".
وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام .بواسطة
النقلبات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة
التي منها المر بتغيير ما بالنفس وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها
عزِي ٌز[ الحج.)92(]40:
ي َ
ن الّل َه َل َق ِو ّ
ص ُر ُه ِإ ّ
ن الّل ُه مَن يَن ُ
ص َر ّ
َوَليَن ُ
ويقول محب الدين الخطيب" :وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن
الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون .وهذا خطأ ،فللبيئة التأثير في
الحاكم ،وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة .وهذا من معاني
( )
س ِه ْم. 93 "
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
قول ال عز وجلِ :إ ّ
لحظ ما تحته خط فإنه كلم نفيس.
كما وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية العدل في قصة حكاها عن المسعودي في أخبار
الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم في وصيته للملك بهرام بن بهرام ,فقال له" :أيها
الملك ,إن الملك ل يتم عزه إل بالشريعة والقيام ل بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ول
"مجموع الفتاى" ( .)250-6/249وانظر" :رسالة في معنى كون الرب عادلً" لبن تيمية.)1/134( : 89
قال اللباني رحمه ال :وهو الستاذ حسن الهضيبي -رحمه ال.- 91
"العقيدة الطحاوية" ،شرح وتعليق ،ط /المكتب السلمي ( 1978ص .)47 92
56
قوام للشريعة إل بالملك ،ول عز للملك إل بالرجال ،ول قوام للرجال إل بالمال ،ول سبيل
إلى المال إل بالعمارة ،ول سبيل للعمارة إل بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة
نصبه الرب وجعل له قيّما وهو الملك" ،انتهى(.)94
وكلم الموبذان هذا والذي أعجب ابن خلدون يدل على أنه حكيم لربطه بين قوام
ك ربطا صحيحا حين نب َه الملك على دور بطانة الملك ورعيته "الرجال" في
الشريعة وال َمِل ِ
تحمل المسؤولية ,ودور المال في العمارة ,ول عمارة إل بالعدل والعدل الميزان أي :الشرع.
وبعبارة أخرى كأنه يقول له :إذا أردت أن تنجح في تطبيق حكم ال وتغيير الظلم في الواقع,
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا
فعليك بإصلح الناس أولً ،وهذا هو قول ال تعالىِ :إ ّ
س ِه ْم .وليس كما يصر عليه التحريريون بأن التغيير يكون بالحاكم فقط "(.)95
ِبَأ ْن ُف ِ
علَى َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا
ك ُم َغّيرًا ِن ْع َم ًة َأ ْن َع َمهَا َ
ن الّل َه َل ْم َي ُ
ك ِبَأ ّ
-3قوله تعالىَ :ذِل َ
علِي ٌم[ النفال.]53:
سمِي ٌع َ
ن الّل َه َ
س ِه ْم َوَأ ّ
ِبأَن ُف ِ
هذه الية الكريمة واضحة الدللة في سنة ال تعالى في التغيير من الخير إلى الشر،
وفيها التأكيد على أن مدار التغيير يكون بتغير ما في نفوس غالب المجتمع من النعمة إلى
ن
غدًا ِم ْ
ت آ ِمَن ًة ُم ْط َمِئّن ًة َيْأتِيهَا ِر ْزُقهَا َر َ
ب الّل ُه َمَثلًا َق ْرَي ًة كَاَن ْ
ض َر َ
كفرها ،كما في قوله تعالىَ ":و َ
ن[ النحل.]112:
صَنعُو َ
ف ِبمَا كَانُوا َي ْ
ع وَاْل َخ ْو ِ
س اْلجُو ِ
ت ِبَأ ْن ُع ِم الّل ِه َفَأذَا َقهَا الّل ُه ِلبَا َ
ن َف َك َف َر ْ
ُك ّل َمكَا ٍ
يقول ابن تيمية في معناها" :وهذا التغيير نوعان :أحدهما :أن يبدو ذلك فيبقى قو ًل
ل يترتب عليه الذم و العقاب .والثاني :أن يغيروا اليمان الذي في قلوبهم بضده من
وعم ً
الريب و الشك و البغض ،و يعزموا على ترك فعل ما أمر ال به و رسوله ،فيستحقوا
العذاب هنا على ترك المأمور ،و هناك على فعل المحظور .وكذلك ما في النفس مما يناقض
محبة ال والتوكل عليه والخلص له والشكر له ،يعاقب عليه لن هذه المور كلها واجبة.
فإذا خلى القلب عنها و اتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات"( ،)96انتهى.
ثانياَ -أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى ،وليس الولة فقط.
عن كتابنا وفضيلة الشيخ سمير مراد" ،مسائل في الجهاد" ،الطبعة الولى ،مطبعة الشباب( ،ص 95
،)85عمان -الردن.
"مجموع الفتاوى" (ج 14ص .)109 96
57
وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق كثيرا في رسم حدود مسؤولية
الحكام ،فأناط بهم تغيير كل شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن مسؤوليته أم ضمن
أصحاب المسؤوليات الخرى التي ذكرها الحديث الشريف" :كلكم راع وكلكم مسئول عن
رعيته ." ...واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة ،منها:
ي اْل َمصِي ُر[ الحج.]48:
ي ظَاِل َم ٌة ُث ّم َأ َخ ْذُتهَا َوِإَل ّ
ت َلهَا َو ِه َ
ن َق ْرَي ٍة َأ ْمَل ْي ُ
ن ِم ْ
َ •و َكَأّي ْ
ن[ النبياء.]11:
شْأنَا َب ْع َدهَا َق ْومًا آ َخرِي َ
ت ظَاِل َم ًة َوأَن َ
ن َق ْرَي ٍة كَا َن ْ
ص ْمنَا ِم ْ
َ •و َك ْم َق َ
عَل ْي ِه ْم آيَاِتنَا َومَا ُكنّا ُم ْهِلكِي
ث فِي ُأ ّمهَا َرسُو ًل َي ْتلُوا َ
ك اْل ُقرَى َحتّى َي ْب َع َ
ك ُم ْهِل َ
ن َرّب َ
َ •ومَا كَا َ
ن[ القصص.]59:
اْل ُقرَى ِإ ّل َوَأ ْهُلهَا ظَاِلمُو َ
ن[ النبياء.]95:
علَى َق ْرَي ٍة َأ ْهَل ْكنَاهَا َأّن ُه ْم ل َي ْر ِجعُو َ
َ •و َحرَا ٌم َ
ت ِبَأ ْن ُع ِم
ن َف َك َف َر ْ
ن ُك ّل َمكَا ٍ
غدًا ِم ْ
ت آ ِمَن ًة ُم ْط َمِئّن ًة َيْأتِيهَا ِر ْزُقهَا َر َ
ب الّل ُه َمَث ًل َق ْرَي ًة كَاَن ْ
ض َر َ
•( َو َ
ن[ النحل.]112:
صَنعُو َ
ف ِبمَا كَانُوا َي ْ
ع وَاْل َخ ْو ِ
س اْلجُو ِ
الّل ِه َفَأذَا َقهَا الّل ُه ِلبَا َ
ن َكثِي ٍر[ الشورى.]30:
عْ
ت َأ ْيدِي ُك ْم َوَي ْعفُو َ
سَب ْ
ن ُمصِيَب ٍة َفِبمَا َك َ
َ •ومَا َأصَاَب ُك ْم ِم ْ
ع ُد
ي َو ْ
ن دَا ِر ِه ْم َحتّى َيْأِت َ
ع ٌة َأ ْو َت ُح ّل َقرِيبًا ِم ْ
صَنعُوا قَا ِر َ
ن َك َفرُوا ُتصِيُب ُه ْم ِبمَا َ
•وَل َيزَا ُل اّلذِي َ
ف اْلمِيعَا َد[ الرعد.]31:
ن الّل َه ل ُي ْخِل ُ
الّل ِه ِإ ّ
ن
صْي َح ُة َو ِم ْن ُه ْم َم ْ
ن َأ َخ َذ ْت ُه ال ّ
صبًا َو ِم ْن ُه ْم َم ْ
عَل ْي ِه حَا ِ
سْلنَا َ
ن َأ ْر َ
ل َأ َخ ْذنَا ِب َذ ْنِب ِه َف ِم ْن ُه ْم َم ْ
َ •ف ُك ً
ن
س ُه ْم َي ْظِلمُو َ
ن كَانُوا َأ ْن ُف َ
ظِل َم ُه ْم َوَل ِك ْ
ن الّل ُه ِلَي ْ
غ َر ْقنَا َومَا كَا َ
ن َأ ْ
ض َو ِم ْن ُه ْم َم ْ
س ْفنَا ِب ِه ال ْر َ
َخ َ
[العنكبوت.]40:
فمن المثلة على هذه القرى الظالمة التي قد أهلكها ال تعالى بذنوبهم:
قوم عاد:
عذَابِي َوُن ُذ ِر[ القمر.]18:
ن َ
ف كَا َ
ت عَا ٌد َف َك ْي َ
َ •ك ّذَب ْ
عنِي ٍد[ هود.]59:
سَل ُه وَاّتَبعُوا َأ ْم َر ُك ّل َجبّـا ٍر َ
صوْا ُر ُ
ع َ
ت َرّب ِه ْم َو َ
ك عَا ٌد َج َحدُوا بِآيَا ِ
َ •وِتْل َ
قوم ثمود:
ن ِبمَا كَانُوا
ب اْلهُو ِ
ع َق ُة اْل َعذَا ِ
علَى اْل ُهدَى َفَأ َخ َذ ْت ُه ْم صَا ِ
سَت َحبّوا اْل َعمَى َ
َ •وَأمّا َثمُو ُد َف َه َد ْينَا ُه ْم فَا ْ
ن[ فصلت.]17:
سبُو َ
َي ْك ِ
•فرعون وقومه:
58
ب
شدِي ُد اْل ِعقَا ِ
ن َق ْبِل ِه ْم َك ّذبُوا بِآيَاِتنَا َفَأ َخ َذ ُه ْم الّل ُه ِب ُذنُوِب ِه ْم وَالّل ُه َ
ن ِم ْ
ن وَاّلذِي َ
ع ْو َ
ب آ ِل ِف ْر َ
َ •ك َدْأ ِ
[آل عمران.]11:
ي
ن الّل َه َق ِو ّ
ت الّل ِه َفَأ َخ َذ ُه ْم الّل ُه ِب ُذنُوِب ِه ْم ِإ ّ
ن َق ْبِل ِه ْم َك َفرُوا بِآيَا ِ
ن ِم ْ
ن وَاّلذِي َ
ع ْو َ
ب آ ِل ِف ْر َ
َ •ك َدْأ ِ
ب[ النفال.]52:
شدِي ُد اْل ِعقَا ِ
َ
من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء ،أن السبب المباشر لوقوع العذاب،
وقوع الظلم من أهل القرى عامة (آل فرعون ،ثمود) حكاما ومحكومين وليس بذنوب الحكام
ك َي ْن َف ُع ُه ْم إِيمَاُن ُه ْم َلمّا َرَأوْا
فقط .وأنها سنة ال التي قد خلت في عباده ،كما قال تعالىَ :فَل ْم َي ُ
ن[ غافر.]85:
ك اْلكَا ِفرُو َ
س َر ُهنَاِل َ
عبَا ِد ِه َو َخ ِ
ت فِي ِ
سّن َة الّل ِه اّلتِي َق ْد َخَل ْ
سنَا ُ
َبْأ َ
يقول ابن القيم" :ومن تأمل ما قص ال تعالى في كتابه من أحوال المم الذين أزال
نعمه عنهم ،وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله ،وكذلك من نظر في
أحوال أهل عصره وما أزال ال عنهم من نعمه ،وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب ،كما
قيل:
فإن المعاصي تزيل إذا كنت في نعمة
النعم فارعها
فما حفظت نعمة ال بشيء قط مثل طاعته ،ول حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ،ول
زالت عن العبد بمثل معصيته لربه ،فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في
الحطب اليابس"(.)97
ويقول كذلك" :فما أزيلت نعم ال بغير معصيته ،إذا كنت في نعمة فارعها ،فإن
المعاصي تزيل النعم .فآفتك من نفسك ،وبلؤك من نفسك ،وأنت في الحقيقة الذي بالغت في
عداوتك ،وبلغت من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك .كما قيل :ما يبلغ العداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه"(.)98
ويقول ابن كثير في ترجمة النقفور ملك الرمن واسمه الدمستق الذي توفي في سنة
ثنتين وقيل خمس وقيل ست وخمسين وثلثمائة" :كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا،
ل وقتال للمسلمين في زمانه،
وأشدهم كفرا ،وأقواهم بأسا ،وأحدهم شوكة وأكثرهم قت ً
"طريق الهجرتين" (ج 1ص .)111 -110وانظر" :الفوائد" (ج 1ص .)210 ،181 98
59
واستمرت في يديه قهرا وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا ،وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان
وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم وفشو البدع فيهم
وكثرة الرفض والتشيع منهم وقهر أهل السنة بينهم .فلهذا أديل عليهم أعداء السلم
فانتزعوا ما بأيديهم من البلد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلد إلى بلد ،فل
يبيتون ليلة إل في خوف من قوارع العداء ،وطوارق الشرور المترادفة فال المستعان.
وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة ،وجال
فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ،ففتحها اللعين عنوة وقتل من أهلها الرجال
والنساء ما ل يعلمه إل ال ،وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب ،وأخذ أموالها
وحواصلها وعددها وبدد شملها وفرق عددها واستفحل أمر الملعون بها .فإنا ل وإنا إليه
راجعون"(.)99
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
ثالثا -أن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعا وليس الولة فقط.
واليات في ذلك كثيرة ،منها:
ن َك ّذبُوا
ض َوَل ِك ْ
سمَا ِء وَال ْر ِ
ن ال ّ
ت ِم ْ
عَل ْي ِه ْم َب َركَا ٍ
ن َأ ْه َل اْل ُقرَى آ َمنُوا وَاّت َقوْا َل َفَت ْحنَا َ
َ •وَل ْو َأ ّ
ن[ العراف.]96:
سبُو َ
َفَأ َخ ْذنَا ُه ْم ِبمَا كَانُوا َي ْك ِ
ن ِم ْن ُه ْم بِالّل ِه
ن آ َم َ
ت َم ْ
ن الّث َمرَا ِ
ق َأ ْهَل ُه ِم ْ
ب ا ْج َع ْل َهذَا َبَلدًا آ ِمنًا وَا ْر ُز ْ
َ •وِإ ْذ قَا َل ِإ ْبرَاهِي ُم َر ّ
وَاْلَي ْو ِم الخر [ البقرة.]126:
ت
ن َت ْح ِ
ن َف ْوِق ِه ْم َو ِم ْ
ن َرّب ِه ْم ل َكلُوا ِم ْ
َ •وَل ْو َأّن ُه ْم َأقَامُوا الّت ْورَا َة وَالنجِي َل َومَا أُن ِز َل ِإَل ْي ِه ْم ِم ْ
ن[ المائدة.]66:
ص َد ٌة َو َكثِي ٌر ِم ْن ُه ْم سَا َء مَا َي ْع َملُو َ
َأ ْر ُجِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم ُأ ّم ٌة ُم ْقَت ِ
ك
ت َوُأ ْوَلِئ َ
ك َل ُه ْم اْل َخ ْيرَا ُ
س ِه ْم َوُأ ْوَلِئ َ
ن آ َمنُوا َم َع ُه جَا َهدُوا ِبَأ ْموَاِل ِه ْم َوأَن ُف ِ
ن ال ّرسُو ُل وَاّلذِي َ
َ•ل ِك ْ
ن[ التوبة.]88:
ُه ْم اْل ُم ْفِلحُو َ
حِيَيّن ُه َحيَا ًة َطّيَب ًة َوَلَن ْج ِزَيّن ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم
ن َفَلُن ْ
ن َذ َك ٍر َأ ْو أُنثَى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌ
ع ِم َل صَاِلحًا ِم ْ
•من َ
ن[ النحل.]97:
ن مَا كَانُوا َي ْع َملُو َ
سِ
ِبَأ ْح َ
60
س َع ٌة
ض الّل ِه وَا ِ
سَن ٌة َوَأ ْر ُ
سنُوا فِي َه ِذ ِه ال ّدْنيَا َح َ
ن َأ ْح َ
ن آ َمنُوا اّتقُوا َرّب ُك ْم ِلّلذِي َ
عبَا ِد اّلذِي َ
ُ •ق ْل يَا ِ
ب[ الزمر.]10:
ن َأ ْج َر ُه ْم ِب َغ ْي ِر ِحسَا ٍ
ِإّنمَا ُي َوفّى الصّاِبرُو َ
غ َدقًا[ الجن.]16:
س َق ْينَا ُه ْم مَا ًء َ
علَى ال ّطرِي َق ِة ل ْ
سَتقَامُوا َ
َ •وَأّل ْو ا ْ
بينت اليات السابقة أن البركات والثمرات والخيرات وغيرها تنزل بسبب تحقق إيمان
أهل القرى واستقامتهم وتقواهم وعملهم الصالح حكاما ومحكومين ،وليس الحكام فقط ،وذلك
لن الفعال والسماء المستخدمة في الخطاب جاءت بصيغ الجمع كقوله تعالى" :آ َمنُوا"،
ع ِم َل"َ ،أ ْه َل اْل ُقرَى" ،ولم
و"اّت َقوْا" ،و"استقاموا" ،وغيره) ،أو بصيغ العموم ،كقوله تعالى" :من َ
تأت بصيغة الفرد أو الخصوص للتأكيد على ما نحن بصدد التأكيد عليه ،من أن التغيير
يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالحكام على سبيل؟
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
رابعا -شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف "التغيير إلى الخير" متعلقة بالجماعة
وليس بالولة فقط.
ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي:
ن
ف اّلذِي َ
سَت ْخَل َ
ض َكمَا ا ْ
سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ
ت َلَي ْ
ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ
ن آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ
ع َد الّل ُه اّلذِي َ
َ •و َ
ن َب ْع ِد َخ ْوِف ِه ْم َأ ْمنًا َي ْعُبدُوَننِي َل
ن َل ُه ْم دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ
ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ
ِم ْ
ن[ النور.]55:
سقُو َ
ك ُه ْم اْلفَا ِ
ك َفُأ ْوَلِئ َ
ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ
ش ْيئًا َو َم ْ
ن بِي َ
ش ِركُو َ
ُي ْ
تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد ال تعالى لعباده بالستخلف والتمكين في
الرض ،وهما تحقق اليمان والعمل الصالح ،ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء
سَت ْخِل َفّنهُم) ،ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد
بصيغة الجمع( :آ َمنُوا ِم ْن ُك ْمَ ،لَي ْ
التأكيد عليه ،من أن التغيير يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالحكام على سبيل
المثال .ثم اختُتمت الية بشرط آخر مُناط به سلمة اليمان وصحته ،وهو عدم الشرك
لضمان سلمة توحيد كلمة (ل إله إل ال) ،ولو كان شيئا يسيرا كما في قوله تعالى:
ش ْيئًا).
ن بِي َ
ش ِركُو َ
(َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ
وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة بالجماعة وليس
بالولة فقط.
61
ومما يزيد المر وضوحا أن القرآن الكريم قد بين لنا السس الثلث( :الكتاب ،والسنة،
والخلق) التي أرسل بها الرسول صلى ال عليه وسلم لبناء المجتمع وحسن سلمته كما في
قوله تعالى:
ب
عَل ْي ِه ْم آيَاِت ِه َوُي َزكّي ِه ْم َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ
ن َرسُو ًل ِم ْن ُه ْم َي ْتلُو َ
ث فِي اْلُأ ّميّي َ
ُ •ه َو اّلذِي َب َع َ
ن[ الجمعة.]2:
ض َل ٍل ُمبِي ٍ
ن َق ْب ُل َلفِي َ
ن كَانُوا ِم ْ
وَاْل ِح ْك َم َة َوِإ ْ
عَل ْي ِه ْم آيَاِت ِه َوُي َزكّي ِه ْم
س ِه ْم َي ْتلُوا َ
ن َأ ْن ُف ِ
ث فِي ِه ْم َرسُو ًل ِم ْ
ن ِإ ْذ َب َع َ
علَى اْل ُم ْؤ ِمنِي َ
ن الّل ُه َ
َ•ل َق ْد َم ّ
ن[ آل عمران.]164:
ن َق ْب ُل َلفِي ضَل ٍل ُمبِي ٍ
ن كَانُوا ِم ْ
ب وَاْل ِح ْك َم َة َوِإ ْ
َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ
ك
ب وَاْل ِح ْك َم َة َوُي َزكّي ِه ْم ِإّن َ
ك َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ
عَل ْي ِه ْم آيَاِت َ
ث فِي ِه ْم َرسُو ًل ِم ْن ُه ْم َي ْتلُو َ
َ •رّبنَا وَا ْب َع ْ
ت اْل َعزِي ُز اْل َحكِي ُم[ البقرة.]129:
َأ ْن َ
قال القرطبي في تفسيرها" :الكتاب" :القرآن ،و"الحكمة" :المعرفة بالدين ,والفقه في
التأويل ,والفهم الذي هو سجية ونور من ال تعالى; قاله مالك ...وقال ابن زيد و قتادة:
"الحكمة" السنة وبيان الشرائع .وقيل :الحكم والقضاء خاصة; والمعنى متقارب ...ويزكيهم:
أي يطهرهم من وضر الشرك; عن ابن جريج وغيره .والزكاة :التطهير ,وقد تقدم".
وبمثل قول القرطبي قال ابن كثير ناقل عن أئمة التفسير.
ن
عْ
ف َوَن َهوْا َ
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ن ِإ ْ
•اّلذِي َ
اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة ا ُلمُو ِر[ الحج.]41:
رد القرطبي القول بأن الية نزلت في الخلفاء الربعة فقط دون غيرهم وقال" :قلت:
هذه الحال لم تختص بالخلفاء الربعة رضي ال عنهم حتى يخصوا بها من عموم الية ,بل
شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم ...فصح أن الية عامة لمة محمد صلى ال
عليه وسلم غير مخصوصة ،إذ التخصيص ل يكون إل بخبر ممن يجب له التسليم ,ومن
الصل المعلوم التمسك بالعموم" اهـ ،تفسير القرطبي.
وبعد أن ذكر ابن كثير في تفسيره ،قول عثمان بن عفان وقول أبي العالية أنها نزلت
في الصحابة قال" :قال الصباح بن سواده الكندي :سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو
ض" الية ،ثم قال أل إنها ليست على الوالي وحده ،ولكنها
ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ن ِإ ْ
يقول" :اّلذِي َ
على الوالي والمولى عليه ،أل أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم ،وبما للوالي عليكم منه.
إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق ال عليكم ،وأن يأخذ لبعضكم من بعض ،وأن
62
يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ،وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ،ول المستكره
ن آ َمنُوا
ع َد الّل ُه اّلذِي َ
بها ،ول المخالف سرها علنيتها .وقال عطية العوفي هذه الية كقولهَ " :و َ
ض" اهـ.
سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ
ت َلَي ْ
ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ
ِم ْن ُك ْم َو َ
قلت :ول يفهم من الية أن المر بإقامة الصلة وإيتاء الزكاة والمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ل يكون إل بعد قيام الخلفة ،فإن هذا الفهم السقيم كما يحلوا للبعض ،يقصد به
صرف المة عن البناء الصحيح لركان السلم في المجتمع ،والتي بدون تحقيقها سيتخلف
قطعا وعد ال لعباده بالستخلف والتمكين في الرض ،كما مر بيانه في الية قبل قليل .ثم
إن هذا الفهم المعوج ينقضه واقع السلف الصالح قبل قيام الدولة السلمية ،إذ أنهم كانوا قبل
ذلك قد أقاموا الصلة في أنفسهم وفيما استرعاهم ال تعالى ،وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر ،ولم ينتظروا قيام الدولة السلمية لعلمهم المسبق أن قيام التوحيد واليمان والعمل
الصالح في المجتمع شرط للستخلف والتمكين ل العكس كما يزعم هؤلء النفر ،وإن لم
يصرحوا بها فإن واقع دعوتهم ينطق بها ،وليس هذا مكان سرد أقوالهم في ذلك .ومن
الملحظ كذلك أن الخطاب في الية جاء بصيغ الجمع (الذين ،أقاموا ،وآتوا ،وأمروا،
ونهوا) ،ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد التأكيد عليه ،من أن التغيير يكون
بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالولة على سبيل المثال.
وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة بالجماعة ،ل بالولة
وحدهم.
ن
ش َر َنقِيبًا َوقَا َل الّل ُه ِإنّي َم َع ُك ْم َلِئ ْ
عَ
ي َ
سرَائِي َل َوَب َع ْثنَا ِم ْن ُه ْم ا ْثَن ْ
ق َبنِي ِإ ْ
َ •وَل َق ْد َأ َخ َذ الّل ُه مِيثَا َ
ن
سنًا ُل َك ّف َر ّ
ضُت ْم الّل َه َق ْرضًا َح َ
ع ّز ْرُتمُو ُه ْم َوَأ ْق َر ْ
سلِي َو َ
َأ َق ْمُت ْم الصّل َة وَآ َت ْيُت ْم ال ّزكَا َة وَآ َم ْنُت ْم ِب ُر ُ
ض ّل
ك ِم ْن ُك ْم َف َق ْد َ
ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ
ن َت ْحِتهَا ا َلْنهَا ُر َف َم ْ
ت َت ْجرِي ِم ْ
سّيئَاِت ُك ْم َو ُل ْد ِخَلّن ُك ْم َجنّا ٍ
ع ْن ُك ْم َ
َ
سبِي ِل[ المائدة.]12:
سوَا َء ال ّ
َ
ت
حِ
ن َت ْ
ن َف ْوِق ِه ْم َو ِم ْ
ن َرّب ِه ْم ل َكلُوا ِم ْ
َ •وَل ْو َأّن ُه ْم َأقَامُوا الّت ْورَا َة وَاْلإِنجِي َل َومَا أُن ِز َل ِإَل ْي ِه ْم ِم ْ
ن[ المائدة.]66:
ص َد ٌة َو َكثِي ٌر ِم ْن ُه ْم سَا َء مَا َي ْع َملُو َ
َأ ْر ُجِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم ُأ ّم ٌة ُم ْقَت ِ
وهاتان اليتان تحملن نفس الدللة التي تحملها اليات السابقة ،فمعية ال تعالى وبسط
الرزق لعباده فيهما مشروطتان بتحقق العمل الصالح وإقامة حكم ال من قبل الجماعة ،وليس
من الحكام.
63
ن إِن
عزِي ٌز اّلذِي َ
ي َ
ن الّل َه َل َق ِو ّ
ص ُر ُه ِإ ّ
ن الّل ُه مَن يَن ُ
ص َر ّ
قال ابن تيمية" :فان ال يقولَ :وَليَن ُ
ن اْلمُن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة
عِ
ف َوَن َهوْا َ
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ا ُلمُورِ[ الحج .]41-40:وأي معروف أعظم من اليمان بال وأسمائه وآياته وأي منكر أعظم
من اللحاد في أسماء ال وآياته" (.)100
قلت :ول يفهم مما سبق أن المام العظم أو السلطان غير معني بتطبيق ما تضمنته
ن
عِ
ف َوَن َهوْا َ
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
ن إِن ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
الية :اّلذِي َ
اْلمُن َك ِر ،بل عليه واجب حمل الناس على ذلك كي تستقيم له الولية ،كما في قوله تعالى :يَا
سبِي ِل
ن َ
عْ
ك َ
ضّل َ
ق وَل َتّتِب ْع اْل َهوَى َفُي ِ
س بِاْل َح ّ
ن النّا ِ
ض فَا ْح ُك ْم َب ْي َ
ك َخلِي َف ًة فِي ا َل ْر ِ
دَاوُو ُد ِإنّا َج َعْلنَا َ
ب[ ص.]26:
شدِي ٌد ِبمَا َنسُوا َي ْو َم اْل ِحسَا ِ
ب َ
عذَا ٌ
سبِي ِل الّل ِه َل ُه ْم َ
ن َ
عْ
ن َ
ضلّو َ
ن َي ِ
ن اّلذِي َ
الّل ِه ِإ ّ
قال ابن تيمية رحمه ال" :من أحمد بن تيمية ،إلى سلطان المسلمين ،وولى أمر
المؤمنين ،نائب رسول ال في أمته بإقامة فرض الدين وسنته ،أيده ال تأييدا يصلح به له
وللمسلمين أمر الدنيا والخرة ،ويقيم به جميع المور الباطنة والظاهرة ،حتى يدخل في قول
ف َوَن َهوْا
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
ن إِن ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ال تعالى( :اّلذِي َ
ن اْلمُن َك ِر) ،وفى قوله صلى ال عليه وسلم" :سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله
عِ
َ
إمام عادل "..إلى آخر الحديث .وفى قوله صلى ال عليه وسلم" :من دعا إلى هدى كان له
من الجر مثل أجو رمن تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ" .وقد استجاب ال الدعاء
في السلطان فجعل فيه من الخير الذي شهدت به قلوب المة ما فضله به على غيره ،وال
ن آ َمنُوا
ع َد الّل ُه اّلذِي َ
المسئول أن يعينه ،فانه أفقر خلق ال إلى معونة ال وتأييده .قال تعالىَ ( :و َ
ن َل ُه ْم
ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ
ن ِم ْ
ف اّلذِي َ
خَل َ
سَت ْ
ض َكمَا ا ْ
سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ
ت َلَي ْ
ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ
ِم ْن ُك ْم َو َ
ش ْيئًا) الية.
ن بِي َ
ش ِركُو َ
ن َب ْع ِد َخ ْو ِف ِه ْم َأ ْمنًا َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ
دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ
وصلح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب ال وسنة رسوله ونبيه وحمل الناس على ذلك،
فإنه سبحانه جعل صلح أهل التمكين في أربعة أشياء ،إقام الصلة وإيتاء الزكاة والمر
بالمعروف والنهى عن المنكر" (.)101
64
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
65
الحاديث
•عن زينب بنت جحش رضي ال عنها أن النبي صلى ال عليه وسلم دخل عليها فزعا
يقول" :ل إله إل ال ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج
ومأجوج مثل هذه وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها فقلت يا رسول ال أنهلك
وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث "(.)102
ودللة الحديث أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث ،ول تتحقق كثرة الخبث في
المجتمع إل بفساد أكثره ،وفساد الحاكم وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث ،فثبت
أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية وليس بذنوب الرعاة فقط.
•عن أبي أمامة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :لتنقضن
عرى السلم عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن
نقضا الحكم وآخرهن الصلة "(.)103
ودللة الحديث أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في التطبيق ل بد أن يسبقها إعادة
تطبيق العرى الخرى بدءا من الصلة وهكذا ،فان القاعدة العامة تقول( :أول قطعة تفك
آخر قطعة تركب).
ع وكلكم
•عن عبد ال بن عمر قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :أل كُلكم را ٍ
ع وهو مسؤول عن رعيته والرجل
مسئول عن رعيته فالمام الذي على الناس را ٍ
راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده
وهي مسئولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه أل فكلكم
راع وكلكم مسؤول عن رعيته "(.)104
قال ابن حجر" :قال الخطابي :اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر في التسمية ،أي
في الوصف ،بالراعي ،ومعانيهم مختلفة ،فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود
والعدل في الحكم ،ورعاية الرجل أهله ،سياسته لمرهم وإيصالهم حقوقهم ،ورعاية المرأة
"رواه البخاري ومسلم ،وذكره اللباني في "السلسلة الصحيحة" (ج ،)2/685وفي "صحيح 102
الترمذي" (ج ،)4/479وغيره
"صحيح" ،رواه ابن حبان في "صحيحه" ،وصححه الشيخ اللباني في "الترغيب والترهيب". 103
66
تدبير أمر البيت والولد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك ،ورعاية الخادم حفظ ما تحت
يده ،والقيام بما يجب عليه من خدمته .قوله أل فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"(.) 105
وقال النووي" :قال العلماء :الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح ما قام عليه ،وما
هو تحت نظره .ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام
بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" (.)106
ت ِإلَى َأ ْهِلهَا
ن الّل َه َيْأ ُم ُر ُك ْم أَن تُؤدّوْا ا َلمَانَـا ِ
وقـال القرطبي في شرح قولـه تعالىِ :إ ّ
:..فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة وحكاما على مراتبهم" (.)107
قلت :وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول تفريط .وهذا المر يعكس جمال
السلم العظيم حيث لم يجعل قيام الدين مُناطا بفرد أو بصنف من الناس أبدا ،فهو دين
الجماعة.
•عن أبي أيوب رضي ال عنه قال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول" :ما
بعث ال من نبي ول كان بعده من خليفة إل له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف
وتنهاه عن المنكر وبطانة ل تألوه خبال فمن وقي شرها فقد وقي"(.) 108
قال ابن حجر في الشرح" :ونقل ابن التين عن أشهب :إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ من
يستكشف له أحوال الناس في السر ،وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقل ،لن المصيبة إنما تدخل
على الحاكم المأمون من قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به ،فيجب عليه
أن يتثبت في مثل ذلك"(.) 109
قلت :إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع اللهي ،وقد أنيط هذا المر
بالحاكم ،وأمر الحاكم إنما يكون بأهل مشورته وبطانته الخيرة ،فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا
من أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس والجن ول أن يتعففوا عن أداء
هذا الواجب ،وخاصة في الزمنة التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين ،فإنهم لو فعلوا
رواه البخاري رقم ( .)6237ورقمه في "الفتح" ( ،)7198وفي رواية صفوان بن سليم يقول: 108
67
ذلك وتخلوا عن مواقع المسؤولية ،فقد خدموا أعداء المة وساهموا في تسلط بطانة السوء
على رقابهم ،في حين أنهم مأمورون بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم ،كما في قوله تعالى :يَا
ن
ت اْلَب ْغضَا ُء ِم ْ
عِنّت ْم َق ْد َب َد ْ
ن دُوِن ُك ْم َل َيْألُوَن ُك ْم َخبَالًا َودّوا مَا َ
ن آ َمنُوا َل َتّت ِخذُوا ِبطَاَن ًة ِم ْ
َأّيهَا اّلذِي َ
ن هَاَأ ْنُت ْم ُأ ْولَا ِء ُت ِحبّوَن ُه ْم وَل
ن ُك ْنُت ْم َت ْع ِقلُو َ
ت ِإ ْ
صدُو ُر ُه ْم َأ ْكَب ُر َق ْد َبّينّا َل ُك ْم اليَا ِ
َأ ْفوَا ِه ِه ْم َومَا ُت ْخفِي ُ
ظ
ن ال َغ ْي ِ
عَل ْي ُك ْم اْلَأنَا ِم َل ِم ْ
عضّوا َ
ب ُكّل ِه َوِإذَا َلقُو ُك ْم قَالُوا آ َمنّا َوِإذَا َخَلوْا َ
ن بِاْل ِكتَا ِ
ُي ِحبّوَن ُك ْم َوُت ْؤ ِمنُو َ
صدُو ِر[ آل عمران.]118-118:
ت ال ّ
علِي ٌم ِبذَا ِ
ن الّل َه َ
ُق ْل مُوتُوا ِب َغ ْي ِظ ُك ْم ِإ ّ
يقول ابن كثير في تفسيرها" :يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ
المنافقين بطانة :أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لعدائهم .والمنافقون بجهدهم
وطاقتهم ل يألون المؤمنين خبالً ،أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ،وبما
يستطيعون من المكر والخديعة ،ويودّون ما يعنت المؤمنين ،ويحرجهم ويشق عليهم ...ثم
صدُو ُر ُه ْم َأ ْكَب ُر" ،أي قد لح على صفحات
ن َأ ْفوَا ِه ِه ْم َومَا ُت ْخفِي ُ
ت اْلَب ْغضَا ُء ِم ْ
قال تعالىَ " :ق ْد َب َد ْ
وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء
للسلم وأهله ما ل يخفي مثله علي لبيب عاقل" ،انتهى.
قلت :هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم وأهله هذا الزمان ،وعلى رأسهم
كثير من المنتمين للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم ،إذ ينطلقون
بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة الكامنة "الرعاع" التي هم بحاجة ماسة
لها مرحليا للسيطرة على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي فتنبه .فهم
يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف ،مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم
مستغلين هامش الديمقراطية ،وما تخفي صدورهم أكبر وهو تغيير النظام بآخر اشتراكي أو
شيعي رافضي .إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة للحاكم دون غيرها ما
استطاعت إلى ذلك سبيل ،حتى يستقيم أمره ويسعد الناس بعدله .وعليه لزمها قبل ذلك،
السعي إلى إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب ،وذلك بتربية الجيال
الناشئة ،ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة المسلمة ول الفرد المسلم.
•حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال :سمعت عامرا يقول :سمعت النعمان بن بشير رضي
ال عنهما عن النبي صلى ال عليه وسلم قال" :مثل القائم على حدود ال والواقع فيها
كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها فكان الذين
68
في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا
خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم
نجوا ونجوا جميعاً"(.)110
ودللة الحديث ،في قوله" :فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على
أيديهم نجوا ونجوا جميعا" هكذا بصيغ الجمع (يتركوهم ،أخذوا) ،فإن مسؤولية المر
بالمعروف والنهي عن المنكر مناطة بالجماعة (التغيير) ل بفرد من أفراد المة أو فئة دون
أخرى.
•"إنما الدين النصيحة .قالوا :لمن يا رسول ال؟ قال :ل ولكتابه ولرسوله ولئمة
المسلمين وعامتهم ".111
ودللة الحديث أن النصيحة بما فيها من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ،عامة لعموم
أفراد المجتمع رعاة ورعية.
•وعن النعمان بن بشير قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :الحلل بين
والحرام بين وبينهما مشتبهات ،ل يعلمهن كثير من الناس ،فمن اتقى الشبهات
استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول
الحمى يوشك أن يرتع فيه ،أل وإن لكل ملك حمى ،أل وإن حمى ال محارمه ،أل
وإن في الجسد مضغة ،إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ،أل
وهي القلب "(.)112
نلحظ من هذا الحديث الشريف ،أن صلح الفرد أو فساده مرتبط بصلح قلبه أو
فساده وليس مرتبط بصلح الحاكم أو فساده .فكم من قلوب صلحت مع فساد حكامها؟ وكم
من قلوب فسدت مع صلح حكامها؟
فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح و يفسد ،فلو كان مجرد وصول
الرجل الصالح إلى الحكم في مجتمع فاسد ،يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه ,لتخذ من
ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم سنة ,فعدوله عن ذلك وتركه للعروض المغرية التي
"صحيح سنن النسائي" لللباني رقم ( ،)4198و"صحيح الترمذي" رقم ( ،)1926وغيره. 111
69
تقدمت له بها قريش ،مقابل ترك الدعوة ،دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة ال تعالى في
تغيير المجتمعات .فترك نقل السنة ،نقل للترك.
•"من ولي منكم عملً فأراد ال به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره
وإن ذكر أعانه"(.)113
قلت :وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق .إذ كيف يتحقق مراد ال تعالى بالخير
لولي المر دون وجود الوزير الصالح؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع
الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد المسلم؟
وهنا قد يطرح البعض سؤا ًل مهما :هل يجوز دخول الوزارة في حكومة ظالمة؟
وجوابه :أن شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى أجاز الولية بقصد تخفيف الظلم
فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره مستدل بالصول الشرعية ،وقصة تولي يوسف عليه السلم
ل عن ظالم ،وذلك في فصل جامع في تعارض الحسنات
خزائن الرض في نظام كافر فض ً
أو السيئات ،ننقل منه ما يلي:
"لكن أقول هنا :إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالمارة والولية
والقضاء ونحو ذلك ،إذا كان ل يمكنه أداء واجباته وترك محرماته ،ولكن يتعمد ذلك ما ل
يفعله غيره قصدا وقدرة :جازت له الولية ،وربما وجبت! وذلك لن الولية إذا كانت من
الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن
السبيل كان فعلها واجبا ،فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من ل يستحق وأخذ بعض ما ل
يحل ،وإعطاء بعض من ل ينبغي ول يمكنه ترك ذلك صار هذا من باب ما ل يتم الواجب
أو المستحب إل به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو
المستحب ،بل لو كانت الولية غير واجبة ،وهي مشتملة على ظلم ومن تولها أقام الظلم
حتى تولها شخص قصد بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا
مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو اشد منها جيدا.
وهذا باب يختلف باختلف النيات والمقاصد ،فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه ما ًل
فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن ل
تخريج السيوطي( :ن) عن عائشة .تحقيق اللباني" :صحيح" .انظر حديث رقم )6596( :في 113
"صحيح الجامع" .و"سنن النسائي" ( ،)7/159بسند آخر وهو صحيح .وفي "السلسة الصحيحة" (
.)1/881
70
يظلم ودفعه ذلك لو أمكن كان محسنا ،ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا .وإنما الغالب في
هذه الشياء فساد النية والعمل؛ أما النية فبقصده السلطان والمال ،وأما العمل فبفعل
المحرمات وبترك الواجبات ل لجل التعارض ول لقصد النفع والصلح.
ثم الولية وان كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين
غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى ،ومن هذا
الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الرض لملك مصر ،بل ومسألته أن يجعله على
ت
ف مِن َق ْب ُل بِاْلَبّينَا ِ
س ُ
خزائن الرض ،وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالىَ :وَل َق ْد جَاء ُك ْم يُو ُ
ن
ب ّمَت َف ّرقُو َ
ن َأَأ ْربَا ٌ
جِ
سْ
ي ال ّ
ك ّممّا جَاءكُم ِب ِه ،الية .وقال تعالى عنه :يَا صَا ِحَب ِ
شّ
َفمَا ِزْلُت ْم فِي َ
س ّمْيُتمُوهَا أَنُت ْم وَآبَآ ُؤكُم ،الية.
سمَاء َ
ن مِن دُوِن ِه ِإ ّل َأ ْ
َخ ْي ٌر َأ ِم الّل ُه اْلوَا ِح ُد اْل َقهّا ُر مَا َت ْعُبدُو َ
ومعلوم أنه مع كفرهم ل بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الموال وصرفها على
حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته ،ول تكون تلك جارية على سنة النبياء وعدلهم ،ولم
يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين ال ،فان القوم لم يستجيبوا له
لكن فعل الممكن من العدل والحسان ،ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم
يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله( :فاتقوا ال ما استطعتم).
فإذا ازدحم واجبان ل يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الخر في هذه الحال واجبا
ولم يكن تاركه لجل فعل الوكد تارك واجب في الحقيقة .وكذلك إذا اجتمع محرمان ل
يمكن ترك أعظمهما إل بفعل أدناهما لم يكن فعل الدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة
وان سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الطلق لم يضر.
ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر ،وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو لضرورة
أو لدفع ما هو أحرم ،وهذا كما يقال لمن نام عن صلة أو نسيها إنه صلها في غير الوقت
المطلق قضاء.
هذا وقد قال النبي" :من نام عن صلة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها ل
كفارة لها إل ذلك".
هذا وباب التعارض باب واسع جدا لسيما في الزمنة والمكنة التي نقصت فيها آثار
النبوة وخلفة النبوة ،فان هذه المسائل تكثر فيها ،وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل،
ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين المة ،فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الشتباه
71
والتلزم ،فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وان تضمن سيئات عظيمة،
وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب لخر ،وإن ترك حسنات عظيمة
والمتوسطون الذين ينظرون المرين قد ل يتبين لهم أو لكثرهم مقدار المنفعة والمضرة ،أو
يتبين لهم فل يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات ،لكون الهواء قارنت
الراء ،ولهذا جاء في الحديث" :إن ال يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل
الكامل عند حلول الشهوات" .فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل.
وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند المر والنهي في بعض
الشياء ،ل التحليل والسقاط ،مثل أن يكون في أمره بطاعة فعل لمعصية أكبر منها ،فيترك
المر بها دفعا لوقوع تلك المعصية ،مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه
في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه ،ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات
تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات ،فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك
ما أمر ال به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر.
العالم تارة يأمر وتارة ينهي وتارة يبيح وتارة يسكت عن المر أو النهي أو الباحة،
كالمر بالصلح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح ،وعند
التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب المكان ،فأما إذا كان المأمور والمنهي ل يتقيد
بالممكن إما لجهله وإما لظلمه ول يمكن إزالة جهله وظلمه ،فربما كان الصلح الكف
والمساك عن أمره ونهيه ،كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت ،كما سكت
الشارع في أول المر عن المر بأشياء والنهي عن أشياء حتى عل السلم وظهر ،فالعالم
في البيان والبلغ كذلك قد يؤخر البيان والبلغ لشياء إلى وقت التمكن كما أخر ال سبحانه
إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول ال تسليما إلى بيانها"( ،)114انتهى.
وهنا نذكر إخواننا بالتحلي بالتقوى والصبر ،فمن تعجل المر حُرمه ،ومن تقاعس عنه
مُنعه ،وسددوا وقاربوا في زمن الفتن الذي أصبح فيه الظاهر منها أكثر مما بطن .وليعلم
إخوتي أن من تخلف في حال القدرة ،عن ملئ مقعد فيه درء لمفسدة أعظم ،يعد جناية على
السلم والمسلمين ،كما أننا بحاجة ماسة إلى هذا الفهم السليم على منهج شيخ السلم ابن
تيمية رحمه ال ،وتطبيقه قبل زوال أوانه ،وقبل الندم.
72
وعجبا فأن بعضا منا ل يتعظ بما سلف من أحداث جرّت على المة السلمية الكثير
من المصائب ،ويا ليتها خففت من المنكر -حين عملت على إزالته -لهان الخطب ،لكننا
ازددنا بعملها مفسدة.
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
73
القصص
من القصص القرآني:
•قصة موسى عليه السلم مع فرعون:
ن
ع ْو َ
ن آ ِل ِف ْر َ
عَل ْي ُك ْم ِإ ْذ أَنجَا ُك ْم ِم ْ
قال تعالىَ :وِإ ْذ قَا َل مُوسَى ِل َق ْو ِم ِه ا ْذ ُكرُوا ِن ْع َم َة الّل ِه َ
عظِي ٌم
ن َرّب ُك ْم َ
ن ِنسَا َء ُك ْم َوفِي َذِل ُك ْم بَل ٌء ِم ْ
سَت ْحيُو َ
ن َأ ْبنَا َء ُك ْم َوَي ْ
ب َوُي َذّبحُو َ
َيسُومُوَن ُك ْم سُو َء اْل َعذَا ِ
[إبراهيم.]6:
يقول ابن كثير" :أن فرعون لعنه ال كان قد رأى رؤيا هالته ...مضمونها أن زوال
سمّاره عنده بأن بني إسرائيل
ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل .ويقال بعد تحدث ُ
يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة ،وهكذا جاء حديث الفتن كما سيأتي في
موضعه في سورة طه إن شاء ال تعالى ،فعند ذلك أمر فرعون لعنه ال بقتل كل ذكر يولد
بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات" انتهى.
ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا -باعتباره أمرا إلهيا عند قومه -بقتل المواليد
الذكور من بني إسرائيل خشية أن يزول ملكه على يد رجل منهم ،نجد أنه لم يطبق هذا
المر على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل في موسى الرضيع حين
ن يَن َف َعنَا
عسَى َأ ْ
ك لَا َت ْقُتلُو ُه َ
ن لِي َوَل َ
ع ْي ٍ
ن ُق ّر ُة َ
ع ْو َ
ت ا ْم َرَأ ُة ِف ْر َ
رأته ،فقالت كلمتها ،ل تقتلوهَ .وقَاَل ْ
ن[ القصص .]9:مما يدل على أن حكم الحاكم قد يتخلف أحيانا
ش ُعرُو َ
َأ ْو َنّت ِخ َذ ُه َوَلدًا َو ُه ْم لَا َي ْ
بأتفه السباب ممن حوله ،وهذا يؤكد على أثر البطانة في حكمه .فثبتت ضرورة إيجاد
البطانة الصالحة أول كي تعين الحاكم على الخير والستقامة.
لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟ إنها ،طبعا إفراز من المجتمع ،فإن كان المجتمع
صالحا تكون البطانة صالحة ،وإن كان المجتمع سيئا-كما هو واقعنا -تكون البطانة سيئة.
من قصص السنة:
-1قصة هرقل ومحاولة إسلمه:
حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال :أخبرنا شعيب عن الزهري قال :أخبرني
عبيد ال بن عبد ال بن عتبة بن مسعود ،أن عبد ال بن عباس ،أخبره أن أبا سفيان بن
حرب أخبره ،ثم أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش ،وكانوا تجارا بالشام في
المدة التي كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش ،فأتوه
74
وهم بإيلياء ،فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ،ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال:
أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ،فقال أبو سفيان فقلت :أنا أقربهم نسبا،
فقال :أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره .ثم قال لترجمانه :قل لهم إني
سائل هذا عن هذا الرجل ،فإن كذبني فكذبوه ،فوال لول الحياء من أن يأثروا علي كذبا
لكذبت عنه .ثم كان أول ما سألني عنه أن قال :كيف نسبه فيكم؟ قلت :هو فينا ذو
نسب قال :فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت :ل قال :فهل كان من آبائه من
ملك؟ قلت :ل .قال :فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت :بل ضعفاؤهم قال:
أيزيدون أم ينقصون؟ قلت :بل يزيدون قال :فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن
يدخل فيه؟ قلت :ل .قال :فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت :ل.
قال :فهل يغدر؟ قلت :ل .ونحن منه في مدة ل ندري ما هو فاعل فيها ،قال :ولم
تمكني كلمة أدخل فيها غير هذه الكلمة .قال :فهل قاتلتموه؟ قلت :نعم قال :فكيف كان
قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال ،ينال منا وننال منه قال :ماذا يأمركم؟ قلت:
يقول اعبدوا ال وحده ول تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ،ويأمرنا بالصلة
والصدق والعفاف والصلة ،فقال :للترجمان ،قل له :سألتك عن نسبه فذكرت ذو نسب،
فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها .وسألتك :هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن
ل .فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله .وسألتك هل
كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل .قلت :فلو كان من آبائه من ملك ،قلت رجل
يطلب ملك أبيه .وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ل،
فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على ال .وسألتك أشراف الناس
اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل .وسألتك :أيزيدون
أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون ،وكذلك أمر اليمان حتى يتم .وسألتك :أيرتد أحد
سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن ل .وكذلك اليمان حين تخالط بشاشته
القلوب .وسألتك :هل يغدر؟ فذكرت :أن ل .وكذلك الرسل ل تغدر .وسألتك :بما
يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ال ول تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة
الوثان ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف .فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع
قدمي هاتين .وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم .فلو أني أعلم أني أخلص
75
إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .ثم دعا بكتاب رسول ال صلى ال
عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى .فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه :بسم
ال الرحمن الرحيم .من محمد عبد ال ورسوله إلى هرقل عظيم الروم .سلم على من اتبع
الهدى أما بعد :فإني أدعوك بدعاية السلم .أسلم تسلم يؤتك ال أجرك مرتين ،فإن توليت
سوَاء َب ْيَننَا َوَب ْيَن ُك ْم َأ ّل َن ْعُب َد ِإ ّل الّل َه َو َل
ب َتعَاَل ْوْا ِإلَى َكَل َم ٍة َ
فإن عليك إثم الريسيين .ويَا َأ ْه َل اْل ِكتَا ِ
ش َهدُوْا ِبَأنّا
ن الّل ِه َفإِن َت َوّل ْوْا َفقُولُوْا ا ْ
ضنَا َبعْضا َأ ْربَابًا مّن دُو ِ
ش ْيئًا َو َل َيّت ِخ َذ َب ْع ُ
ك ِب ِه َ
ش ِر َ
ُن ْ
ن.
سِلمُو َ
ُم ْ
قال أبو سفيان :فلما قال ما قال ،وفرغ من قراءة الكتاب ،كثر عنده الصخب،
وارتفعت الصوات وأخرجنا .فقلت لصحابي حين أخرجنا :لقد أمِرَ أ ْم ُر بن أبي كبشة،
إنه يخافه ملك بني الصفر .فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل ال علي السلم.
وكان بن الناطور -صاحب إيلياء وهرقل -سُقُفّا على نصارى الشام يحدث أن
هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس ،فقال بعض بطارقته :قد استنكرنا هيئتك .قال
ابن الناطور :وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم ،فقال لهم حين سألوه :إني رأيت الليلة
حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر ،فمن يختتن من هذه المة؟ قالوا :ليس يختتن
إل اليهود ،واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود .فبينما هم على أمرهم أتي
هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول ال صلى ال عليه وسلم .فلما
استخبره هرقل قال :اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم ل فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن ،وسأله
عن العرب فقال :هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه المة قد ظهر .ثم كتب هرقل إلى
صاحب له برومية وكان نظيره في العلم .وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه
كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى ال عليه وسلم وأنه نبي .فأذن
هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ،ثم أمر بأبوابها فغلقت ،ثم اطلع فقال :يا معشر
الروم ،هل لكم في الفلح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر
الوحش إلى البواب فوجدوها قد غلقت ،فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من اليمان قال:
ردوهم علي .وقال :إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم ،فقد رأيت فسجدوا له
76
ورضوا عنه ،فكان ذلك آخر شأن هرقل .رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن
الزهري (.)115
قلت :حسب ما شاهده أبو سفيان ونقله لنا ،كانت رغبة هرقل بالسلم لول خذلن
بطانته له ومعارضتهم لذلك.
والشاهد من القصة أن الحاكم ل يستطيع أن يحقق كل رغباته المخالفة لهواء بطانته،
لذا لزم المة أن تسعى ليجاد البطانة الصالحة في الحكم ،وأن لهذه البطانة أثرا واضحا في
قرارات الحاكم .وعليه فان التركيز على إيجاد الحاكم الصالح دون إيجاد البطانة الصالحة،
ل مخالفا لمنهج ال تعالى في التغيير ،ومضيعة للوقت يسعد به العداء .وقد مضى
يعد عم ً
التدليل على أن الصراع السياسي مع النظمة -المعادية للماركسية خاصة -هو من
أولويات العمل الجاسوسي عند الصهاينة كما ورد في بروتوكولت حكماء صهيون.
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
-2قصة النجاشي ملك الحبشة:
فقد بكي حتى اخضلّت لحيته حين تل عليه جعفر بن أبي طالب من سورة مريم ,وما
ورد من نبأ عيسى عليه السلم وأمه مريم ,وقال" :إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من
مشكاة واحدة" (.)116
ثم روى لنا البخاري ومسلم ما يدل على إسلم الملك العادل النجاشي ,وصلة الرسول
صلى ال عليه وسلم صلة الغائب عليه .والشاهد من هذه الروايات ,أن النجاشي رغم
وجوده في سدة الحكم ,لم يستطع أن يؤثر على رعيته فيدخلوا السلم ,بل عارضوه وتآمروا
عليه ونصره ال تعالى عليهم ,وكتم عنهم إسلمه ،وتظاهر أنه على نصرانيته ،وهذا ما يدل
على أن الحاكم ل يملك تلك القوى السحرية في التغيير.
وهنا يجدر بنا أن نذكر بقول محب الدين الخطيب مرة أخرى:
"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما
يريد أن يكون متى أراد .وهذا غير صحيح ،فللبيئة دورها في التأثير في الحاكم وفي نظام
77
الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة .وهذا من معاني قول ال عز
س ِه ْم)"(.)117
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
وجلِ( :إ ّ
فرضية:
تقول لو أن مجتمعا فاسقا ،استيقظ يوما ما ليجد حاكمه ،بقدرة ال تعالى ،قد صلح أو
آمن ،فهل بالضرورة أن يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى ال تعالى؟
مما مضى -أخي القارىء -يتضح لنا بطلن الزعم بان صلح المجتمع وفساده
ل عن
مناط بصلح الحاكم وفساده ،فقد تاب النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فض ً
أمر رعيته به .وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته اتباع النبي صلى ال عليه
وسلم.
فهذه النظرة الصنمية للحاكم ،وإضفاء صفة اللهية عليه ،كأنه يقول للشيء كن فيكون،
نظرة خبيثة خبث الشرك نفسه ،يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من أمر بمعروف
ونهي عن المنكر ،ويترك بذلك المجتمع للتراجع إلى الخلف يوما بعد يوم ،حتى يغدو مجتمعا
فاجرا بمعظمه ،وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول "شرك القصور" مع أنهم
أقرب إلى التورط في ذلك ،عصمنا ال وإياهم من اتباع الهوى.
وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في انحراف في الطرف الخر،
وحتى ل نغفل حدود دوائر المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن الواجبات
المناطة به ويلقى بالمسؤولية على عاتق الرعية ،وكذلك حتى ل تلقى الرعية بمسؤولياتها
وواجباتها على عاتق الحاكم ،بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها ،ل بد لك أخي
القارىء أن تستذكر ما مر معك قريبا بهذا الخصوص.
وبالضافة إلى ذلك أقول :إن الحاكم وحاشيته الصالحة ،تكون سيطرتهم على الساحة
المكشوفة بقدر قوة أفراد الحاشية ،والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها ،فكلما ضعف
إيمانهم وخارت عزائمهم ،ونخرت فيهم أسباب الفساد الخلقية المنافية للعدل والصدق
والمانة من اعتبار المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية ،أدى ذلك إلى ضعف واضح
في الجهاز الحكومي ،وبالتالي في تطبيق الحكام والقوانين مما ينعكس سلبا على سمعة
الدولة والنظام الحاكم ،فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها ،مما
78
يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق أطماعهم وإسقاط أنظمتنا
السلمية المعارضة والمعادية للشتراكية .وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع
حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل يعلم.
وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية ،كانت فاعليتهم في تطبيق الحكام ومنع ظهور
المنكرات أعظم ،فالقضية إذن نسبية .ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة
المستورة ،فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟
ل لتوضيح المر ،قال تعالىَ ( :و َل َت ْق َربُوْا ال ّزنَى) ،ولمنع وقوع الزنا في
وأضرب مث ً
المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته في كل مكان .فعلى الساحة المكشوفة ,يستطيع الحاكم
ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر ,وكل ما يؤدي إلى وقوع الزنا ,مثل حفلت
الرقص العامة ,وبرك السباحة العامة ,ومخالفات الشواطئ المختلطة ,ورياضة النساء التي
تتكشف فيها عوراتهنّ ،من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في الماء ،ومسابقات
ملكات الجمال وغيرها الكثير.
كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع مظاهر الختلط المحرم في
الساحات والماكن العامّة والجامعات والمواصلت العامّة ,وكذلك أن يح ّد من مظاهر السفور
ي المنتشر في الشوارع ,والسينما والصور الفاضحة ,وأن يراقب ما يجوز وما ل
والعر ّ
يجوز نشره من مطبوعات ومنشورات وصحف ومجلت ،وما شاكل ذلك من أمور.
أما على الساحة المستورة فان دور الحاكم وبطانته الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب
المسؤوليات الخرى من آباء وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر ،أي أن الحاكم ل
يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة ,ول الختلط المحرم ول المنكرات في السر ،ول
التعري بين القارب ومع الصحاب ,وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس ،ول
يستطيع أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير الملتزمة الفضائية وغير الفضائية
على شاشات التلفاز والنترنت ،ول ما يجري تبادله كذلك من صور فاضحة بين الشباب
والشابّات في أجهزة الهواتف النقالة.
ول يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيها النساء الكاسيات
العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيدا عن أعين السلطة .وهنا تجدر
الملحظة ,أينما غاب الرقيب انتهكت المحرمات ،لذا أكد السلم على مراقبة ال تعالى في
79
السر والعلن .فكلما ضعف الجهاز التنفيذي( )118عند الحاكم ومراقبته ل تعالى كلما انتشرت
مظاهر المحرمات لضعف المتابعة بل يؤدي إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم ال أو خالف
القانون ,وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب والماكن العامّة ,ويقضي بدفع
غرامة ماليّة على كل مخالف ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة ,إل أننا لم نر لهذا
القانون أثرا ,لنتهاكه من قبل الكبير والصغير ,من داخل الجهاز التنفيذي أو من خارجه ,فغدا
حبرا على ورق ،وذلك بسبب غياب البطانة الصالحة ،بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة.
وعليه ،يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم
والنشغال بذلك ،بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه.
الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من أشخاص مواطنين في الصل ،قبل 118
80
الخلصة
81
درجات التغيير
لما خلق ال تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عملً ,فل زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم
الشياطين ،فأرسل ال لهم النبيين تترا يدعونهم إلى السلم -دين النبياء جميعا -من جديد ,
وهو دين الرحمة ,يرحم ال به عباده الصالحين ,فكانت هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها,
وهي أسمى مقصد من مقاصد الديانات السماوية جميعها .لذا حرص السلم باعتباره آخر
الديانات وناسخا لها كل الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور ,وأوجب لأجل
ذلك المر بالمعروف والنهي عن المنكر ,وذلك لتحقيق أمرين اثنين:
الول :زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف ،وأعظمه تحقق التوحيد
وأركان السلم.
الثاني :التقليل من المنكرات من خلل النهي عن المنكر ,وأكبره الشرك بال والكبائر.
وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم ,وأهل الشر كذلك ،فان المطلوب:
-1رفع نسبة الخير في المجتمع ,وذلك بزيادة الخير من درجة إلى أخرى –أي من
درجة الكمال إلى الكمل.-
-2التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السوء ،إلى الدرجة القل سوءا.
وتحقيقا للمعاني السابقة أصّل أهل الفقه قواعد أصوليّة ,منها قاعدة "ترجيح خير
الخيرين ،ودفع شر الشرين" .وهذا باب عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن
المنكر ,إذ بالعمل به تتنزّل رحمة ال تعالى على العباد وينجون من عذابه.
يقول ابن تيمية رحمه ال في هذا المعنى" :فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير
ول دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين ،فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح
وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب المكان ،ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم
يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا" (.)119
ويقول" :إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها
والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما"(.) 120
ولتوضيح المر ,علينا أن نتصوّر الرسم التالي:
82
إتجاه سلبي موقف إتجاه إيجابي
(شر الشرين) محايد (خيرالخيرين
بذل بذل
عمل موقف عمل عمل عمل
المال عمل عمل المال
اللسا القلب اللسان الركان
الركان والنف القلب والنفس
ن محايد
س
موقف متآمر ضد السلم
موقف متعاطف مع السلم من
(تدرج في البراء)
(تدرج في الولء)
السلم
يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو الدولة من السلم كما يلي:
أ -نقطة المنتصف "الصفر" وتمثل موقف الحياد من السلم ,غير مؤيد وغير
معارض.
ب -التجاه إلى اليمين ,ويمثل أربع درجات:
83
-1عمل القلب باليمان ،ويشمل( :قول القلب ،أي تصديقه ،وعمل القلب ،أي خضوعه
وانقياده) وهو أصل اليمان ،أو حدّه الدنى( ،) 121أي مع النطق بالشهادة.
-2عمل باللسان :وتشمل الدرجة السابقة ,ويضاف إليها التعبير عن التعاطف مع السلم
باللسان ,كأن يقول السلم دين الحق وهكذا.
-3عمل بالركان :وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان السلم في النفس (صلة,
صوم.)...
-4بذل النفس والمال ,وتشمل الدرجات السابقة جميعا ويضاف إليها بذل المال والنفس
دفاعا عن السلم والدعوة إليه.
ج -التجاه إلى اليسار ,ويمثل بأربع درجات.
-1عمل القلب بالكفر ,ويشمل ( قول القلب ،إي تكذيبه ،وعمل القلب ،أي عدم الخضوع
والنقياد) وهو حد الكفر الدنى.
-2عمل باللسان ,ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها استعمال اللسان في الصد عن
السلم ,كأن يقول السلم دين رجعي وباطل ،أو يسخر من العلماء.
-3عمل بالركان ,ويشمل الدرجات السابقة ،ويضاف إليها ترك الواجبات ،وفعل
المحرمات.
-4بذل النفس والمال ,ويشمل الدرجات السابقة ويضاف إليها بذل المال والنفس في
محاربة السلم.
درجات المر بالمعروف:
درجات اليمان ,ويمثلها الدرجات من ( )1 +إلى ( ,)4 +أدناها الدرجة الولى (عمل
القلب) وأعلها الرابعة بذل النفس والمال ,فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا من
الدرجة الولى(عمل القلب :أي تصديقه وخضوعه) ،إلى الدرجة الثانية (عمل اللسان :أي
التعاطف مع السلم بالقول) لكانت نقلة في التجاه اليجابي ،فكيف لو نقله إلى الدرجات
الثالثة أو الرابعة؟ .وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا من الدرجة الثالثة إلى الرابعة أو من
الثانية إلى الثالثة ,إذن فكل نقلة باتجاه اليمين تعتبر نقلة ايجابية وبهذا العمل نكون قد طبقنا
84
قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها ،أو ترجيح خير الخيرين .ونكون قد والينا المؤمنين بقدر
درجة إيمانهم وبذلهم للسلم.
ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات ( )1 +و( ،)4 +ل يلحظه البعض من
الناس وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة ،مع انه باب من أبواب الدعوة ،إذ به يزداد
المعروف في الرض تدريجيا ،وهذا مقصود لذاته.
درجات النهي عن المنكر:
درجات الكفر ,ويمثلها الدرجات من ( )1 -إلى ( )4 -أدناها الدرجة ( :)1 -درجة (كفر
القلب :أي تكذيبه ،وعدم الخضوع والنقياد) ،وأعلها (( :)4 -بذل النفس والمال في الصد
عن السلم) .فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا من الدرجة ( )4 -درجة :بذل المال
والنفس في محاربة السلم ،إلى الدرجة ( :)3 -التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات ,لكانت
نقلة في التجاه اليجابي ،فكيف لو نقله من الدرجة ( )4 -الـى ( :)1 -درجة (كفر
القلب)؟.
إذا بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج الشخص من الكفر إلى اليمان،
نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل المفاسد وتقليلها ،أو دفع شر الشرين .وعادينا الكافرين بقدر
درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم ،فكلما ازدادوا بموقفهم سوءا ،زيد عذابهم.
ب ِبمَا كَانُوا
ق ال َعذَا ِ
عذَابًا َف ْو َ
سبِي ِل الّل ِه ِز ْدنَا ُه ْم َ
ن َ
عْ
صدّوا َ
ن َك َفرُوا َو َ
قال تعالى :اّلذِي َ
ن[ النحل.]88:
سدُو َ
ُي ْف ِ
ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات ( )4 -و( ،)1 -ل يلحظه كثير من الناس،
وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها ،مع انه باب من أبواب الدعوة ،إذ به يقل الفساد في
الرض تدريجيا ،وهذا مقصود لذاته كذلك.
فلو أن مسلما ،قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر ،وانتقال موقف أهله من ( )1 -إلـى
( ،)2 -أو من ( )3 -إلى ( ،)4 -كان عمله محرما( .) 122فكيف به لو قام بعمل أخرج به
البعض من دائرة السلم إلى الكفر ،وهو يظن نفسه محسنا؟
أنظر الملحق رقم ( ،)2وفيه رد الجماعة السلمية على تنظيم القاعدة. 122
85
ومما يجدر التنبيه إليه :أن البعض ممن قل علمهم بهذا ،قد يصنف العلماء العاملين بهذا
المنهج الصولي بالعمالة ،إذا أفتوا بدفع شر الشر الكبر بالصغر ،إذا لم يندفعا جميعا،
ومثاله (.)123
ولتوضيح المر أكثر نضرب مثل بما حدث في صلح الحديبية ،ولماذا سمي بالفتح
المبين ؟
لقد بدأت دعوة النبي محمد صلى ال عليه وسلم بمفرده ،ومع الزمن والصبر على أذى
المشركين ،بدأ الناس بالنتقال من درجات الكفر{( })1 -(-)4 -إلى درجات اليمان {()1 +
،})4 +(-ولقد كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه ،فلم يكونوا
كلهم في الدرجة ( )4 -المعادية للسلم بالمال والنفس ،كموقف أبي جهل لعنه ال ،ومع
استمرار الدعوة أخذ المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم ،ومنهم من
دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم {( ،})4+(-)1 +إل أن الدرجة الرابعة ( )4 +في
العهد المكي ،كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط ،ولم يكن قد فرض الجهاد بعد.
وبعد هجرة إلى المدينة ،قويت شوكة المسلمين ،وقاموا بالعديد من الغزوات ،وعلى
رأسها "بدر الكبرى" .وفي السنة السادسة من الهجرة وقع الرسول صلى ال عليه وسلم صلح
الحديبية مع قريش ،وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة المنورة مستغل فترة وضع القتال لمدة
عشر سنين ،فازداد عدد المسلمين ،فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في تسعة
عشر عام مضت ،وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن الوليد رضي ال عنه.
ك َف ْتحًا ّمبِينًا[ الفتح.]1:
يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح " :فقولهِ :إنّا َفَت ْحنَا َل َ
أي :بينا ظاهرا ،والمراد به صلح الحديبية .فإنه حصل بسببه خير جزيل ،وآمن الناس
واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع واليمان"(.) 124
دفع الخطر الشتراكي الكبر ،بالخطر الرأسمالي ،ومن صور الشتراكية( :النظام اليراني 123
86
ك َف ْتحًا َقرِيبًا} يعني:
ن َذِل َ
ويقول الطبري في تفسيره { " :}26/186قولهَ { :ف َج َع َل مِن دُو ِ
صلح الحديبية .وما فتح في السلم فتح كان أعظم منه ،إنما كان القتال حيث التقى الناس،
فلما كانت الهدنة وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا فالتقوا فتفاوضوا في
الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه ،فلقد دخل في تينك السنتين
في السلم مثل من كان في السلم قبل ذلك وأكثر".
لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين فقط؟
نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما ،أن السبب في ذلك ،هو توقيع
الهدنة ووضع الحرب ،لن مناخ الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات
والرض والعرض ،فتأخذ المشركين حمية الجاهلية .فلو نزل الرسول صلى ال عليه وسلم،
على رأي عمر بن الخطاب وعامة الصحابة رضي ال عنهم ،وقاتلوا المشركين حين
منعوهم من أداء العمرة ،وقامت الحرب ،لتراجع كل أولئك الذين كانوا قد اقتربوا من السلم
عدة درجات عن درجاتهم ،فبعضهم كان قد أوشك على الدخول في السلم ،فوصل إلى
الدرجة (الصفر) درجة الحياد ،وبعضهم وصل إلى الدرجة ( :)1 -درجة (كفر القلب :أي
تكذيبه ،وعدم الخضوع والنقياد) ،وبعضهم إلى الدرجة ( :)2 -درجة (استعمال اللسان في
الصد عن السلم) ،وهكذا .وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين ،هو فتح القلوب
للدخول في السلم ،ويكون أحيانا في الموطن الذي يراه الناس ،موطن ذل وهزيمة ،فمن
كان يتصور أن في هاتين السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من أسلم
منذ تسعة عشر عاما مضت؟ فكان ذلك سببا وجيها آخر لفتح مكة .ألم يرتجف أبو سفيان من
عدد جيش فتح مكة المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟
لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب حسن يقرب المشركين من السلم ولو
خطوة ،وأن يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة ،فهل ما يقوم به بعض الجهلة
()125
باسم السلم وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى حد ذبح البرياء
والتفاخر بذلك ونشره مصورا في وسائل العلم ،ما يقرب غير المسلمين من السلم ،أم أن
ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في النتخابات في العراق ،ومن ثم قتلهم 125
في مراكز القتراع ،إذ قاموا يوم القتراع بـ ( )13عملية قتل فيها العشرات من المقترعين،
كما تناقلته وسائل العلم .راجع الملحق رقم ( )2ففيه رد الجماعة السلمية في مصر على
أعمال القاعدة.
87
هذه العمال ستشكك من أسلموا بهذا الدين فضل عن أن يدخلوا فيه أو أن يقتربوا منه
خطوة؟
ن ِديَا ِر ُك ْم
ن َوَل ْم ُي ْخ ِرجُو ُك ْم ِم ْ
ن َل ْم ُيقَاِتلُو ُك ْم فِي الدّي ِ
ن اّلذِي َ
عْ
ألم يقل ال تعالىَ :ل َي ْنهَا ُك ْم الّل ُه َ
ن[ الممتحنة.]8:
سطِي َ
ب اْل ُم ْق ِ
حّ
ن الّل َه ُي ِ
سطُوا ِإَل ْي ِه ْم ِإ ّ
ن َتَبرّو ُه ْم َوُت ْق ِ
َأ ْ
ألم تحمل الية ردا مسبقا على تصورات البعض في هذه اليام ،ممن يعتقدون أن مجرد
معاملة من لم يعادوننا لديننا من غير المسلمين ،بالبر والحسان موالة لهم؟
بناء على ما سبق ذكره ،فإنه يحسن أن نبين العلقة الطردية بين العمال الصالحة من
جهة ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من جهة أخرى .وكذلك العلقة العكسية القائمة
بين العمال السيئة من جهة ،ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من جهة أخرى.
فقد مضت سنة ال تعالى أن تغيير النفس في المجتمع بما يرضي ال تعالى بنسبة تع ّم
فيه وتظهر ،وتكون هي الغلب ،سيؤدي ذلك بإذن ال وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم إلى
الحسن .والتغيير الكلي المطلوب ،هو محصلة إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية
من الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال والقوال.
وعليه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على ما يلي:
-1أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم ،هل هي مؤيدة بالقلب فقط ،أم أنها بالقلب
واللسان ،أم أنها أرفع من ذلك.
-2المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حاليا ،إلى الدرجة التي تليها ،والتي تليها،
ض
ت وَال ْر ُ
سمَاوَا ُ
ضهَا ال ّ
ع ْر ُ
ن َرّب ُك ْم َو َجّن ٍة َ
وهكذا ،لقوله تعالىَ :وسَا ِرعُوا ِإلَى َم ْغ ِف َر ٍة ِم ْ
ن[ آل عمران .]123:وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى أخرى ،عليه
ت ِلْل ُمّتقِي َ
ع ّد ْ
ُأ ِ
أن يترقى في الدرجة الواحدة ،وذلك لتفاوت أهل التوحيد في الدرجة الواحدة ،فعلى
سبيل المثال ،يتفاوت المصلون في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة ،أركانها
وطهورها ،وخشوعها ،ونوافلها ،وغيره.
-3أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى تليها في اليجابية ليزداد اليمان
في المجتمع ،فيقترب من الدرجة التي يرضاها ال تعالى لستحقاق التغيير اليجابي
المنشود في القوم.
88
-4على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد المجتمع من درجة إيجابية إلى
أخرى ،يزداد اليمان في المجتمع ،فيقترب من الدرجة التي يرضاها ال تعالى
لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم .فإن أي زيادة في المعروف مهما ق ّل
شأنه في نظر فاعله ،يع ّد بركة ،قال صلى ال عليه وسلم" :ل تحقرن من المعروف
شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" {رواه مسلم}.
-5على المسلم العتراف بأن تراجعه أو أي فرد من أفراد المجتمع من درجة إلى التي
تليها بالتجاه السلبي ،سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع ،وبالتالي نقصان
معدله ،أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن الدرجة التي يرضاها ال تعالى
لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم ،وبالتالي يساهم في الهزيمة التي ستلحق
بالمسلمين .أي :إذا ترك مصليا صلته ،أو صائما صومه ،أو داعية دعوته ،وأمثال
ذلك ،أو ارتكب معصية صغرت أم كبرت ،فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو
التجرؤ على فعل محرم ،يؤدي إلى ما ذكرنا .وبهذا سندرك المعاني العظيمة والعبر
في قوله صلى ال عليه وسلم " :مثل القائم في حدود ال والواقع فيها ،كمثل قوم
استهموا على سفينة ،فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها .فكان الذين في أسفلها إذا
استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقـا ولم نؤذ
من فوقنا ،فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا
جميعا" {رواه البخاري والترمذي}.
-6فإنه من الخير أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر هذه المفاهيم في الناس ليقبلوا
على الخير أو يزدادوا بها خيرا ،وليجتنبوا الشر ،أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك
سبيلً.
* على الرغم من أن الصراع بين الخير والشر لن ينتهي بعد حتى قيام الساعة ،كما
جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عبد ال بن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم" :ل تقوم الساعة إل على شرار الخلق" .فإن الواجب يقتضي استمرار العمل
والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وليس من العقل ترك البعض لواجباتهم بحجة كثرة
الخبث ،بل على العكس ،فإن دوائر المسئولية تتسع وتزداد ،وخاصة في زمن يعود فيه
السلم غريبا كما بدأ ،فطوبى فيه للغرباء ،الذين يصلحون إذا فسد الناس ،كما جاء في
89
الحديث( .) 126كما ويتأكد في مثل هذا الحال الصبر على أذى الكفار والمنافقين وجهال
المسلمين أو غثائهم ،ممن سيطلقون ألسنتهم بالتجريح والتشهير والتهام لمعارضيهم ،فإن
البعض في مثل هذه الجواء يترك النهي عن المنكر ومحاربة الفكار الوافدة الهدامة ،لخوفه
على بعض مصالحه الدنيوية ،من مال أو سمعة أو جاه أو سلطان أو لجهله بسنن ال تعالى
في التغيير ،فإن الصلح يتأكد على كل فرد بحسبه في وقت الفتن أكثر مما في غيره ،ولو
أن الرسول صلى ال عليه وسلم وصحبه الكرام رضي ال عنهم ،حسبوا لذلك حسابا ،لما
فتحت بلد الروم وبلد الفرس ،بل لما قامت للسلم قائمة.
كما وإن البعض ممن قل علمهم كذلك ل يبالون لما سمعوا أو لما أصابهم من أذى
في سبيل ال والنهي عن المنكر ،وهذا جيد ،ولكنهم يصبرون كل هذا الصبر ويضحون
بأنفس ما يملكون في غير الطريق السوي والصراط المستقيم ،فيصاب المسلمون بسوء
اجتهاداتهم وجهادهم سوءا ،فنحن اليوم بحاجة ماسة في طريق العمل والدعوة إلى السلم،
إلى رجال ونساء قد جمعوا بين صحة العمل والتصورات -في فقه سنة ال في التغيير-
والبذل والعطاء دونما نظر إلى أولئك المثبطين والمخذلين عن سلوك الطريق السوي
والصراط المستقيم ،وليعلم هذا الصنف من الدعاة والعلماء أن أجرهم كأجر السابقين الولين
ث
سبِي ِل الّل ِه َوِلّل ِه مِيرَا ُ
من المهاجرين والنصار ،مصداقا لقوله تعالىَ :ومَا َل ُك ْم َأ ّل تُن ِفقُوا فِي َ
ن
ن اّلذِي َ
ع َظ ُم َد َر َج ًة ّم َ
ك َأ ْ
ح َوقَاَت َل ُأ ْوَلِئ َ
ق مِن َق ْب ِل اْل َف ْت ِ
ن أَن َف َ
سَتوِي مِنكُم ّم ْ
ض ل َي ْ
ت وَاْلَأ ْر ِ
سمَاوَا ِ
ال ّ
ن َخبِي ٌر[ الحديد.]10:
سنَى وَالّل ُه ِبمَا َت ْع َملُو َ
ع َد الّل ُه اْل ُح ْ
ل َو َ
أَن َفقُوا مِن َب ْع ُد َوقَاَتلُوا َو ُك ً
* وعليه فإن العمل بالكشف عن جذور الصراع السياسي وما نتج عنه وسينتج ،من
آثار تدميرية على المة السلمية بعمومها ،أو العمل على بيان فقه الولويات في الفكر
السلمي ،يعد ذلك كله من أوجب الواجبات ،ومن الجهاد في سبيل ال تعالى الذي يصب
ن الّل َه َل َم َع
سُبَلنَا َوِإ ّ
ن جَا َهدُوا فِينَا َلَن ْه ِدَيّن ُه ْم ُ
في صالح السلم والمسلمين .قال تعالى :وَاّلذِي َ
ن[ العنكبوت.]69:
سنِي َ
اْل ُم ْح ِ
محاولت غير ناجحة لتطبيق الشريعة السلمية
"إن السلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء .قيل من هم يا رسول ال قال :الذين 126
يصلحون إذا فسد الناس " .صححه الشيخ اللباني رحمه ال تعالى في "السلسلة الصحيحة" (
،)3/297برقم (.)1273
90
-1تطبيق الشريعة السلمية في السودان:
يقول الدكتور المكاشفي طه الكباشي(:)127
"غابت الشريعة السلمية عن واقع حياة الناس في السودان ما يقارب القرن من
الزمان ،أي منذ سقوط دولة المهدية السلمية في السودان في أواخر القرن الثامن عشر
الميلدي"(.) 128
ويقول" :صدرت في السودان منذ شهر سبتمبر عام 1983م عدة قوانين ،تناولت معظم
جوانب الحياة في الجنايات والمعاملت والثبات وأصول التقاضي والزكاة والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر .كما صدر قانون القوات المسلحة الذي أصبح شعارها( ...ل إله إل ال)
في حال السلم ،و(ال أكبر) في حال الحرب.) 129("...
قلت :وعلى الرغم من أن الدكتور المكاشفي ،كان من المتأثرين بمن يقول :إن تطبيق
الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية عامة للشعوب ،لن الحكم بما أنزل ال تربية
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة
ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ن ِإ ْ
في حد ذاته مصداقا لقوله تعالى :اّلذِي َ
ن اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة ا ُلمُو ِر[ الحج.]41:
عْ
ف َوَن َهوْا َ
َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
وعلى الرغم من اعترافه من قيام نظام جعفر النميري بإراقة الخمور وإغلق أماكن
الفساد والمنكر ،وتحويل المصارف الربوية إلى إسلمية ،وعلى الرغم من اعترافه بتطبيق
حد السرقة والحرابة دون الوصول إلى حالة الصلح القتصادي .إل أنه قد اعترف بعد
تعثر مشروع تطبيق الشريعة السلمية في السودان حيث قال:
"تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل الجهات المنوط بها تنفيذ
الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق ،فالحاكم يشترط فيه النزاهة والمصداقية،
والقاضي والشرطي وغيرهما يفترض فيهما الحماس وصدق التوجه ،وليست هذه شروطا
تعجيزية أو مثالية أو كمالية ،فالكمال ل وحده ،ولكن المطلوب صدق التوجه والحماس
دكتوراة في الفقه المقارن ،تولى رئاسة الجهاز القضائي للخرطوم عامي .1984،1985 127
"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة" ،ط ،1986 ،2دار الزهراء( ،ص 128
.)7
المرجع السابق (ص .)12 129
91
لتطبيق الشريعة السلمية ،لن وجود خلل في بعض الجهات ربما يؤدي الى تناحرها
وتضاربها واختلفها ،فل بد من صدق توجه جميع الجهزة ،) 130(".انتهى.
قلت :تعليقا على قول الكاتب" تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل
الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق".
أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية ( الجهزة) هي من المجتمع في
الصل؟
أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية "الجهزة" هي إفراز من المجتمع؟
كيف يقال إذن إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية عامـة
للشعوب؟
س ِه ْم؟
ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ
وأين نحن من قوله تعالىِ :إ ّ
نعم إن تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل الجهات المنوط بها تنفيذ
الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق ،فقد لمس الكاتب بنفسه أثر البطانة السيئة
للحاكم في عرقلة مشروع تطبيق الشريعة ،حين أراد أن يرد على جملة من الشبهات التي
أثيرت حول تنفيذ الشريعة السلمية ،فقامت الجهات اليسارية المتنفذة في جميع وسائل
العلم ( صحف ،إذاعة ،تلفزيون) بالحيلولة دون نشر رده على تلك الشبهات ،حتى سلك
طريق المحاضرات والندوات في مختلف مدن وأقاليم السودان(.) 131
وتعليقا على قول الكاتب " :إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية
ن
ن ِإ ْ
عامة للشعوب ،لن الحكم بما أنزل ال تربية في حد ذاته مصداقا لقوله تعالى :اّلذِي َ
ن اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة
عْ
ف َوَن َهوْا َ
ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ
َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ
ا ُلمُو ِر[ الحج..]41:
ل َم ل ْم يربي تطبيق الشريعة السلمية كل الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية؟
بل نجدها قد رفضته وحاربته.
"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة" ،ط ،1986 ،2دار الزهراء( ،ص 130
.)122-121
"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"،ط ،1986 ،2دار الزهراء( ،ص 131
.)33
92
-2تطبيق الشريعة السلمية في الباكستان:
ومن المحاولت التي لم يكتب لها النجاح في تطبيق الشريعة السلمية بالضافة إلى
التجربة السودانية ،التجربة الباكستانية التي أعلنها الرئيس الباكستاني ضياء الحق رحمه ال
تعالى عام 1979م .وهذه دعوة للخوة الباحثين لدراسة هذه المحاولة وأسباب فشلها.
وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين.
أبو أيمن
عدنان بن عبد الرحيم الصوص
عمان -الردن
كانون الثاني 2005
البريد اللكتروني
( )AdnanSous@Yahoo.Com
93
الفهرس
كيف ظهرت البروتوكولت؟41.......................................................................
94