You are on page 1of 94

1

‫فقه التغيير‬
‫بين‬

‫شرك القبور وشرك القصور‬

‫(منطلق العمل لستئناف الحياة السلمية)‬

‫عدنان بن عبد الرحيم الصوص‬

‫‪2‬‬
3
‫المقدمة‬

‫إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده ال فل مضل له ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال‬
‫وحده ل شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‪.‬‬
‫حقّ تُقاتِهِ ول تَمو ُتنّ إلّ وأنتُم مّسلِمونَ‪‬‬
‫‪‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقواْ ال َ‬
‫ق مِنها‬
‫خلَ َ‬
‫خَلقَكُم من نَفسٍ واحِدةِ و َ‬
‫س اتّقو ْا ربّكُم الذي َ‬
‫[آل عمران‪ .]102:‬يا أيّها النّا ُ‬
‫زَوجَها و َبثّ مِنهُما رِجالً كَثيرا ونِساءً واتّقو ْا الَ الذي تَساءَلونَ ب ِه والرْحا َم إنّ الَ‬
‫كانَ عَليكُم رَقيبا‪[ ‬النساء‪ .]1:‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَو ًل سَديدا ‪ ‬يُصلِح‬
‫رسُولَهُ فَقد فَازَ فَوزا عَظيما‪[ ‬الحزاب‪:‬‬
‫لَكُم أعمالَكُم و َي ْغفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُطِعِ الَ و َ‬
‫‪.]71-70‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب ال‪ ،‬وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى ال عليه‬
‫ل ضللة في‬
‫وسلم‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وكلّ محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة‪ ،‬وك ّ‬
‫النار‪ .‬أما بعد‪:‬‬
‫فإن أهمية العمل الصالح في السلم ‪ -‬عقيدة وشريعة وتزكية – لثره اليجابي‬
‫على حياة الفرد والمجتمع‪ ،‬سواء كان ذلك في الدنيا أم في الخرة‪ ،‬ففي معرض‬
‫الستخلف والتمكين والمن السياسي‪ ،‬قال تعالى‪َ  :‬وعَدَ اللّهُ الّذِينَ آ َمنُوا ِمنْكُمْ َوعَ ِملُوا‬
‫ن لَهُمْ دِينَهُمْ‬
‫ف الّذِينَ ِمنْ َق ْبلِهِمْ َوَليُمَ ّكنَ ّ‬
‫خلَ َ‬
‫ستَ ْ‬
‫خلِ َفنّهُم فِي ال ْرضِ كَمَا ا ْ‬
‫الصّالِحَاتِ َل َيسْتَ ْ‬
‫شيْئًا وَ َمنْ‬
‫شرِكُونَ بِي َ‬
‫خوْفِهِ ْم أَ ْمنًا يَ ْعبُدُو َننِي َل ُي ْ‬
‫الّذِي ا ْرتَضَى لَهُمْ َوَليُبَ ّدَلنّهُ ْم ِمنْ بَ ْعدِ َ‬
‫سقُونَ‪[ ‬النور‪.]55:‬‬
‫َك َف َر بَعْدَ َذِلكَ َفأُ ْوَل ِئكَ هُ ْم ا ْلفَا ِ‬
‫وفي معرض المن الجتماعي والفوز والنجاح يوم القيامة‪ ،‬قال تعالى‪ :‬من عَمِلَ‬
‫ن مَا‬
‫حسَ ِ‬
‫جرَهُمْ ِبأَ ْ‬
‫جزِ َينّهُ ْم أَ ْ‬
‫ط ّيبَةً َوَلنَ ْ‬
‫حيَا ًة َ‬
‫ح ِييَنّ ُه َ‬
‫صَالِحًا ِمنْ ذَ َك ٍر أَ ْو أُنثَى وَ ُهوَ ُمؤْ ِمنٌ َفلَنُ ْ‬
‫علَيْهِم‬
‫كَانُوا يَعْ َملُونَ‪[ ‬النحل‪ .]97:‬وقال تعالى‪َ  :‬ولَ ْو َأنّ أَهْ َل ا ْلقُرَى آ َمنُواْ وَا ّتقَواْ َل َفتَحْنَا َ‬
‫سبُونَ‪[ ‬العراف‪.]96:‬‬
‫ت ّمنَ السّمَاء وَا َل ْرضِ َولَكِن كَ ّذبُواْ َفأَخَ ْذنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَ ْك ِ‬
‫َبرَكَا ٍ‬
‫لذلك فقد سعى النبياء وورثتهم من العلماء المصلحين منذ فجر التاريخ للعمل على‬
‫تحقيق هذه المعاني في أقوامهم‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وفي أواخر القرن الماضي ظهر مصطلحان جديدان في ساحة العمل السلمي‪ ،‬هما‬
‫مصطلحا‪" :‬شرك القصور" و"شرك القبور"؛ هذان المصطلحان لم يكونا سوى صياغة جديدة‬
‫معاصرة يسعى من خللها صانعوها إلى حسم الخلف الدائر بين المسلمين لستئناف الحياة‬
‫السلمية وتطبيق حكم ال في الرض‪.‬‬
‫ففي حين رأى فيه السواد العظم‪ ،‬أن نواة التغيير تبدأ من الفرد ثم الجماعة فالدولة‬
‫حسب السنن الكونية التي ل تتبدل ول تتحول؛ فقد رأى البعض أنها تبدأ بإيجاد الخليفة المسلم‬
‫أولً‪ ،‬باعتبار الخلفة هي القضية المصيرية للمة‪ ،‬ورتبوا على هذا القول أمورا منها‪ :‬القول‬
‫بأن الدين ل يقوم بدون دولة ول بدون سلطة‪ ،‬وأن سياسة تغيير ما بالنفس وإصلح الفرد‬
‫والمجتمع‪ ،‬ليست سياسة ترقيع ل تقدم ول تؤخر في حسم الصراع مع الباطل‪ ،‬وتطيل من‬
‫عمره‪ ،‬بل ذهبوا إلى رمي مخالفيهم بأنهم " يؤذون هذا الدين من حيث ل يشعرون بل‬
‫يطعنونه الطعنة النجلء بمثل هذه الهتمامات الجانبية الهزيلة" على حد زعمهم‪.‬‬
‫ثم تطور المر بهم إلى القول بأن شرك الحاكمية هو منبع المنكرات كلها‪،‬‬
‫باعتباره المنكر الكبر والشر العظم‪ ،‬يقول أحد المنظرين لهذا الفكر‪:‬‬
‫"فأما المجتمعات الجاهلية التي ل تتحاكم إلى شريعة ال‪ ،‬فالمنكر الكبر فيها‬
‫والهم‪ ،‬هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات‪ :‬هو رفض ألوهية ال برفض شريعته‬
‫للحياة ‪ ...‬وهذا المنكر الكبير الساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه النكار‬
‫قبل الدخول في المنكرات الجزئية التي هي تبع لهذا المنكر الكبر وفرع عنه وعرض‬
‫له ‪ ...‬إنه ل جدوى من ضياع الجهد‪ ..‬جهد الخيرين الصالحين من الناس‪ ..‬في‬
‫مقاومة المنكرات الجزئية‪ ،‬الناشئة بطبيعتها من المنكر الول‪ :‬منكر الجرأة على ال‬
‫وادعاء خصائص اللوهية‪ ،‬ورفض ألوهية ال برفض شريعته للحياة‪ ..‬ل جدوى‬
‫من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الول وثمراته النكده‬
‫بل جدال"أهـ‪.‬‬

‫وأمام هذا الغلو في دور الخليفة في التغيير على حساب دور الفرد ثم المجتمع‪ ،‬رد‬
‫علماء السلف من السواد العظم على أصحاب هذا الرأي‪ ،‬واعتبروه بعيدا عن أمر ال‬

‫‪5‬‬
‫تعالى في كتابه‪ ،‬وعن سيرة الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم وهديه‪ ،‬كما سيأتي‬
‫بيانه لحقا‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬فإنني في هذا الكتاب سأبرهن على أن نظرية إيجاد الخليفة المسلم قبل تحقق عملية‬
‫التغيير الشاملة لما في أنفس عموم الناس‪ ،‬فكرة بعيدة عن الواقع‪ ،‬وليس لها علقة بالشرع‬
‫السلمي فحسب‪ ،‬بل بالشرائع السماوية كلها‪ ،‬ومخالفة لسنن ال الكونية التي ل تتحول ول‬
‫تتبدل‪ ،‬وأن جذورها تعود إلى الماضي القديم منذ أن بدأ الصراع بين الخير والشر‪ ،‬وأول‬
‫من حمل لواء هذا الصراع هو إبليس عليه اللعنة‪ ،‬ومن ثم نقله إلى شياطين النس والجن‪،‬‬
‫ن‬
‫ن آذَا َ‬
‫ضّلّن ُه ْم َو ُل َمّنَيّن ُه ْم وَل ُم َرّن ُه ْم َفَلُيَبّت ُك ّ‬
‫وعلى رأس شياطين النس اليهود‪ ،‬قال تعالى‪َ  :‬و ُل ِ‬
‫سرَانًا‬
‫س َر ُخ ْ‬
‫ن الّل ِه َف َق ْد َخ ِ‬
‫ن دُو ِ‬
‫ن َوِليّا ِم ْ‬
‫شْيطَا َ‬
‫ن َيّت ِخ ْذ ال ّ‬
‫ق الّل ِه َو َم ْ‬
‫ن َخْل َ‬
‫ا َلْنعَا ِم وَل ُم َرّن ُه ْم َفَلُي َغّي ُر ّ‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم‬
‫ُمبِينًا ‪[ ‬النساء‪ .]119:‬فهذه السنة في التغيير المنطلقة من قوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْم‪‬؛ هي من خلق ال‪ ،‬وقد توعد إبليس بالعمل على تغييرها في الناس‬
‫َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫بمساعدة شياطين النس والجن‪.‬‬
‫وعليه فإنني سأقدم للقارئ الكريم الرد على أهم الشبهات التي يتمسك بها القائلون‬
‫بتغيير المجتمع من خلل تغيير الولة أو أنظمة الحكم "شرك القصور" على حساب الدعوة‬
‫لتغيير ما بالنفس كإنكار عموم الشرك وغيره‪ ،‬وقد سموه "شرك القبور" تصغيرا له‪ ،‬وهذه‬
‫الشبهات هي‪:‬‬
‫الشبهة الولى‪ :‬تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية ‪ -‬شرك القصور ‪ -‬هذا الزمان‬
‫أو ًل وجعله على أول سلم الولويات في العمل لجل التغيير‪.‬‬
‫الشبهة الثاني ًة‪ :‬هل شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك الكبر كما يقول‬
‫البعض؟‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك الحاكمية أنه البدعة الكبرى‬
‫والشرك العظم لنه العظم درجة‪ ,‬إنما قصدنا أن هذه البدعة لم توجد في التاريخ السلمي‬
‫من قبل؟‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة شرك القصور‪ ،‬هي الكبر‬
‫باعتبار أنها ل أصل لها في التاريخ السلمي‪ ،‬من الناحيتين السلوكية والتشريعية‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫الشبهة الخامسة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة؛ بدعـة شرك القصور‪ ،‬هـي‬
‫الكبر والعظم‪ ،‬لنه لول مرة فـي التاريخ تعيش المة هذه الحالـة من التجزئة‬
‫والتعدديـة الدولية‪.‬‬
‫الشبهة السادسة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬لقد نظرت إلى سيرة سلف المة من العلماء‪,‬‬
‫فوجدتهم قد ركزوا في دعوتهم على أكبر النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة في زمانهم‪,‬‬
‫كالنحراف في عقيدة السماء والصفات‪ ,‬والقدر‪ ,‬والوعد والوعيد‪ ,‬ونحو ذلك من العقائد التي‬
‫ص بها زمان دون آخر‪ ,‬وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة هذا العصر الكثر شيوعا‪ ،‬هي‬
‫اخت ّ‬
‫بدعة الحاكمية لغير ال‪ ,‬وأنها الشرك الكبر‪ ,‬جعلت محاربتها من أولويات العمل السلمي‪.‬‬
‫الشبهة السابعة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬إن إقامة الحدود على الرعية‪ ،‬مقدم على إصلحها‬
‫– أي أن لها الولوية ‪ -‬لما في ذلك من زجر للعصاة والمجرمين‪ ،‬وبالتالي يستقيم المجتمع‪،‬‬
‫ن‪[ ‬البقرة‪ .]179:‬ولقول الرسول‬
‫ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ‬
‫ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي الْلبَا ِ‬
‫لقوله تعالى‪َ  :‬وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪" :‬حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن يمطروا أربعين‬
‫صباحا" (‪‌ .)1‬‬
‫الشبهة الثامنة‪ :‬فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة الكبرى والشرك العظم للعتبارات‬
‫التي ذكرتم‪ ،‬إنما اعتبرنا ذلك لن إقامة الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته‪،‬‬
‫فباستقامتة وصلح حاله يصلح المجتمع‪ ،‬وبفساد حاله يفسد المجتمع؛ لدوره الساسي في‬
‫التغيير‪.‬‬
‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫المؤلف‬

‫تخريج الشيخ اللباني‪( :‬ن هـ) عن أبي هريرة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪( :‬حسن)‪ ،‬انظر حديث‬ ‫‪1‬‬

‫رقم‪ )3130( :‬في "صحيح الجامع"‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الشبهات التي يحتج بها من يقول بتغيير المجتمع‬
‫عن طريق تغيير الولة أو أنظمة الحكم‬

‫من خلل اطلعي على الموضوعات المتعلقة بفقه التغيير فقد رصدت العديد من‬
‫الشبهات التي استدل بها فريق من الناس على أن طريق التغيير ل يكون إل من خلل‬
‫التركيز على تغيير الولة الظلمة أو النظمة القائمة على الحكم بغير ما انزل ال‪ ،‬وقد بلغت‬
‫ثماني شبهات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الشبهة الولى‪ :‬تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية‪ -‬شرك القصور‪ -‬هذا الزمان‬
‫أول وجعله على أول سلم الولويات في العمل لجل التغيير‪.‬‬
‫مناقشة هذه الرؤية من السيرة النبوية‪:‬‬
‫‪.1‬هل الشرك يقتصر على شرك القصور "الحاكمية"‪ ،‬أم أن شرك الحاكمية‬
‫أنواع عديدة؟ جواب ذلك‪ :‬الشرك غير مقتصر على شرك القصور‬
‫"الحاكمية"‪ ،‬وشرك الحاكمية أنواع عديدة‪ ،‬فهناك قطاعات كبيرة من المسلمين‬
‫أفرادا وجماعات غارقة في كثير من أصناف الشرك مثل‪ ،‬شرك الربوبية‪،‬‬
‫شرك اللوهية‪ ،‬شرك السماء والصفات‪ ،‬الشرك اللفظي‪ ،‬والشرك العملي‪،‬‬
‫وشرك في الولء والبراء ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫‪.2‬حين بدأ الرسول – صلى ال عليه وسلّم‪ -‬دعوته‪ ،‬بدأ ببناء المجتمع المسلم‬
‫من خلل تربية الفراد والسر المسلمة‪ ،‬وأول ما بدأ به هو محاربة أصناف‬
‫الشرك المتمثلة في التصورات الخاطئة عن ال تعالى وأسمائه وصفاته‪ ،‬وكل‬
‫ما يتفرع عن ل إله إل ال من عقائد‪ ،‬وغرس فيهم كذلك أن الحكم ل تعالى‬
‫مرحلة أولى ضرورية تسبق استلم زمام المور لتحكيم شرع ال على العباد‬
‫وإقامة الحدود والسياسات الشرعية المتعلقة بالمجتمعات السلمية وغير‬
‫ك‬
‫سَت ْغ ِف ْر ِل َذ ْنِب َ‬
‫عَل ْم َأّن ُه َل ِإَل َه ِإ ّل الّل ُه وَا ْ‬
‫السلمية‪ .‬لذا كان نزول قوله تعالى‪ :‬فَا ْ‬
‫ت وَالّل ُه َي ْعَل ُم ُمَت َقّلَب ُك ْم َو َم ْثوَا ُك ْم‪[ ‬محمد‪ ،]19:‬كان متقدما في‬
‫ن وَاْل ُم ْؤ ِمنَا ِ‬
‫َوِلْل ُم ْؤ ِمنِي َ‬
‫العهد المكي‪ .‬هذا في الجانب العقدي‪ ،‬أما في الجانب الشعائري فقد أقام‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلّم‪ ،‬ذلك في الفراد جميعا – سوى النفاق ‪ -‬في‬
‫ل يتخلف عن‬
‫مرحلة سبقت مرحلة استلم الحكم‪ ،‬بحيث ل نجد فيهم رج ً‬

‫‪8‬‬
‫ل معلوم النفاق!! وأما الخلق والتربية‬
‫صلة الفجر والعشاء جماعة إل رج ً‬
‫والتزكية‪ ،‬فكان لها كذلك الحظ والنصيب الوافر‪ ،‬ومما ركز الشرع على‬
‫محاربته‪ :‬صفات المنافقين من الكذب والخيانة وإخلف الوعد‪.‬‬
‫‪.3‬لوضع النقاط على الحروف يقصد صاحب هذه الفكار بشرك القصور شرك‬
‫الدساتير والنظمة‪ ،‬ل شرك الحاكمية بعمومه‪ ،‬لن شرك الحاكمية له تعلق‬
‫بكل أصناف الشرك السابقة الذكر‪ ،‬فمن اعتقد أن فلنا يعلم الغيب فقد وقع في‬
‫شرك الحاكمية من جهة انه ترك حكم ال تعالى أنه ل يعلم الغيب إل ال‪،‬‬
‫ومن دعا غير ال فقد أشرك في الحاكمية‪ ،‬من جهة أنه عارض حكم ال‬
‫تعالى في سلب إجابة الدعاء عن المدعو غير ال‪ ،‬ومن عطل ونفى صفات‬
‫ال تعالى فقد أشرك في حاكمية ال تعالى من جهة انه خالف حكم ال تعالى‬
‫سنَى فَا ْدعُو ُه ِبهَا‪[ ‬العراف‪،]180:‬‬
‫سمَاء اْل ُح ْ‬
‫في أن له أسماء وصفات ‪َ ‬وِلّل ِه ا َل ْ‬
‫وغير ذلك‪ .‬وكذا من استغاث بغير ال فقد أشرك في حكم ال تعالى في‬
‫ربوبيته‪ ،‬لنه عارض حكم ال تعالى في سلب النفع والضر عن غير ال‬
‫تعالى إل فيما يقدر عليه المخلوق‪ ،‬وكذلك الحال فيمن عطل حكم ال تعالى‬
‫فيما بيّنه وفصّله من حدود شرعية فقد أشرك في حاكمية ال تعالى لنه‬
‫عارض حكم ال تعالى في ذلك‪ .‬إذن يوجد قسمان لشرك الحاكمية‪:‬‬
‫الول ‪ :‬بين العباد جميعا‪ ،‬رعاة ورعية من جهة‪ ،‬وبين ال تعالى من جهة ثانية‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬شرك يتعلق فيما بين العباد أنفسهم كالحكام والتشريعات التي سنّتها النظمة‬
‫لضبط العلقة القائمة فيما بينهم‪ ،‬خالفت بذلك ما ثبت من تشريعات إلهية مخالفة صريحة‪،‬‬
‫أدت إلى تعطيلها‪ ،‬عدا كثيرا من القوانين الوضعية التي وضعت دون مخالفة ول تعطيل‬
‫لنصوص الشرع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بالمصالح المرسلة والمور الحادثة التكنولوجية‪.‬‬
‫إذن فلندقق النظر في سيرة الرسول – صلى ال عليه وسلّم ‪ -‬لننظر‪ ،‬ضد أي من‬
‫الشركين بدأ المعركة؟ فهل بدأ محاربة الشرك الثاني المتعلق بالجنايات وأحكامها "الحدود"؟‬
‫علما أن هذه الحكام مبسوطة في كتب الفقه ل العقيدة‪ ،‬عدا ما هو متعلق بالسياسـة‬
‫الشرعية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫هذا من جانب‪ ،‬ومن جانب آخر أتساءل – عاكسا المر ‪ -‬بأي التوحيدين بدأ الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلّم دعوته؟ هل بدأ بإقامة التوحيد الول أم التوحيد الثاني؟‪.‬‬
‫ل شك أخي الكريم أن كل مسلم يعلم يقينا ل ظنا أن هدي الرسول – صلى ال عليه‬
‫ي ل لبس فيه‪ ،‬أنه من الناحية الولى‪ ،‬أقام التوحيد فيما يضبط‬
‫وسلّم‪ -‬في ذلك واضح جل ّ‬
‫العلقة بين العباد وخالقهم‪ .‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬لبد أن يتأخر تفعيل وإقامة التوحيد الثاني لحين‬
‫استلم الحكم لتعلقه المباشر فيما بين العباد‪ ،‬الذي يحتاج إلى حاكم وخليفة يقيم ذلك فيهم‬
‫يرضون بحكمه وقضائه‪ ،‬وخاصة أن معظم مفردات هذا التوحيد الثاني هي من أبواب الفقه‬
‫(حد السرقة‪ ،‬حد الخمر‪ ،‬القذف والزنا‪ ،‬والتعازير)‪.‬‬
‫إذن مما سبق ثبت أن محاربة شرك القبور على حد تعبيرهم ‪ -‬الشرك الول كما مر‬
‫معك سابقا ‪ -‬يسبق محاربة الشرك الثاني "شرك القصور"‪.‬‬
‫وجدير بالملحظة‪ ،‬أن تحقيق القضاء على شرك القصور‪ ،‬إنما هو نتيجة طبيعية حتمية‬
‫تكون بعد تحقيق محاربة الشرك الول والقضاء عليه‪ ،‬ول يحتاج بعد ذلك إلى هذه الجهود‬
‫الذهنية والعملية المبالغ فيها التي صرفت الناس والدعاة عن الواجب الول‪ ،‬وبعثرت الجهود‬
‫وشتتتها‪ ،‬تلك التي كانت ستصب حتما لصالح التجاه الول‪ ،‬فأطالت بذلك أمد الصراع مع‬
‫شرك القصور من جهة‪ ،‬وأخرت حسم الموقف مع الشرك الول – القبور كما يزعمون ‪-‬‬
‫من جهة أخرى‪.‬‬
‫ومن الدلة على ضرورة هذا الترتيب في بناء أو إعادة بناء المة من جديد قول‬
‫ن عُرى السلم عُروة عُروة فكلما انتقضت‬
‫ضّ‬
‫الرسول – صلى ال عليه وسلّم ‪" :-‬لَتنق َ‬
‫ن الصلة "(‪.)2‬‬
‫ن نقضا الحُكم وآخره ّ‬
‫عُروة تشبث الناس بالتي تليها فأوله ّ‬
‫فإذا أردنا إعادة بناء عرى السلم إلى ما كانت عليه‪ ،‬لبد من البدء ببناء عروة‬
‫الصلة‪ ،‬ثم يليها في البناء عرى السلم تترى‪ ،‬حتى نصل إلى عروة الحكم‪ ،‬وهذا قانون‬
‫معلوم بالضرورة عقلً‪ ،‬إذ أن أول قطعة تفك من السلح آخر قطعة تركب‪.‬‬
‫وهل يعقل أن نقيم سقف البناء قبل إقامة دعائمه؟!! وهل تقام الدعائم قبل الساس؟!!‬
‫وهل يعقل كذلك أن تسقط دعائم البناء ويبقى السقف قائما؟!!‬

‫تخريج اللباني‪( :‬حم حب ك) عن أبي أمامة‪ .‬تحقيق اللباني‪( :‬صحيح) انظر حديث رقم‪( :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ )5075‬في "صحيح الجامع"‪‌.‬‬

‫‪10‬‬
‫فإذا كانت الحياة والعيش ل تستقيم تحت سقف بناء ل جدر له‪ ،‬ول أبواب وشبابيك‪،‬‬
‫فكيف تطيب الحياة والعيش تحت عروة الحكم – على افتراض وقوع ذلك ‪ -‬دون وجود‬
‫باقي العرى الخرى في المجتمع؟!‬
‫وإذا كان المر هو استحالة وضع عُروة الحكم قبل عرى السلم الخرى‪ ،‬فكيف‬
‫يتصور عاقل أن توضع هذه العروة‪ ،‬بمعناها الثاني – في أول سلم الولويات في العمل‬
‫شهِي ٌ‪‬د [ق‪.]37:‬‬
‫س ْم َع َو ُه َو َ‬
‫ب َأ ْو َأْلقَى ال ّ‬
‫ن َل ُه َقْل ٌ‬
‫ك َل ِذ ْكرَى ِلمَن كَا َ‬
‫ن فِي َذِل َ‬
‫السلمي؟ ‪ِ‬إ ّ‬
‫الشبهة الثانيةً‪ :‬هل شرك القصور هو البدعة الكبرى والشرك الكبر كما يقول‬
‫البعض؟‬
‫جوابه‪ :‬أن الشرك إما أن يلحق ضرره بالفرد أو بالجماعة‪ ،‬أو بالفرد والجماعة على‬
‫الترتيب‪.‬‬
‫المر الول‪ :‬هل شرك القصور‪ -‬الشرك الثاني ‪ -‬أخطر على العبد‪ ،‬أم أنه الشرك‬
‫الول ‪ -‬شرك العباد مع ال ‪ -‬؟‬
‫الجابة‪ :‬يجب العلم أن غاية العبد أن يُسلم أمره ل تعالى‪ ،‬فيخرج نفسه من ظلمات‬
‫الشرك إلى نور التوحيد لينجو من عذاب جهنم‪ .‬وهذا أول عمل للنبياء جميعا؛ إنقاذ ما يمكن‬
‫إنقاذه من البشر من الكفر إلى اليمان‪ ،‬ولو لم يتحقق التمكين في الرض لهذه الجماعة‬
‫المؤمنة التي اتبعت النبياء‪.‬‬
‫إذن فهل القضاء علـى شرك القصور يعني بالضرورة القضـاء على الشرك الول‬
‫‪ -‬شرك ما بين العبد وربه ‪-‬؟‬
‫الجواب‪ :‬ل‪ ،‬لن أنبياء ومرسلين لم يستطيعوا القضاء على هذا الشرك في نفوس‬
‫أصحابه‪ ،‬رغم ما معهم من التأييد والبرهان الرباني‪.‬‬
‫إذن فالشرك الول هو أخطر على العبد من الشرك الثاني‪ ،‬لنه لو مات موحدا ل‬
‫تعالى تحت راية طاغوتية وأحكام كفرية – كموت النجاشي في قومه ‪ -‬فاز ونجا‪ ،‬ولو مات‬
‫العبد مشركا بال تعالى الشرك الول‪ ،‬يعني فيما بينه وبين ال تعالى‪ ،‬ولو في ظل خلفة‬
‫ي بن خلف ‪.-‬‬
‫راشدة‪ ،‬ل يغنيه ذلك من ال شيئا‪ ،‬وكان خالدا في جهنم ‪ -‬كأب ّ‬
‫إذن البدعة الكبرى والشرك العظم بالنسبة للفرد هو الشرك الول وليس شرك‬
‫القصور‪ ،‬وهذا ل يعني أن الفرد الموحّد ل يمكن أن يتأثر بشرك القصور ول يصيبه ظلم‪،‬‬

‫‪11‬‬
‫ل يوم القيامة من أولئك‬
‫لكن هذا الظلم الواقع عليه يستدرك ويرفع عنه‪ ،‬ويأخذ حقه كام ً‬
‫الظالمين والطواغيت‪ .‬في حين أن العبد المشرك الذي استظل بخلفة راشدة ل يستطيع النجاة‬
‫مما استحق من عقوبة بسبب ما اقترفت يداه من شرك يوم القيامة‪ ،‬أي‪ :‬ل تنفعه الخلفة‬
‫الراشدة لعدم تحقق التوحيد فيه أصل!!!‬
‫وعليه فقد اتضح لنا أن الشرك الول يعد الخطر على العبد‪ ,‬ويعتبر البدعة الكبرى‬
‫والعظمى بالنسبة له‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬هل شرك القصور‪ -‬الشرك الثاني ‪ -‬أخطر على الجماعة‪ ،‬أم أنه الشرك‬
‫الول ‪ -‬شرك العباد مع ال ‪-‬؟‬
‫وللجابة‪ :‬أقول سائلً‪ ،‬هل يعني بالضرورة أن يكون أثر شرك القصور سيئا من‬
‫الناحية المادية‪ ،‬على المجتمع الذي يسود فيه؟‬
‫لماذا هذا السؤال؟ لننا نرى أن البلد الرأسمالية – منها‪ ،‬السويد‪ ,‬سويسرا‪ ,‬انجلترا‪,‬‬
‫وحتى أمريكا – على الرغم من وقوعها في هذا الشرك إل أن الحياة المادية التي يتمتع بها‬
‫المجتمع الغربي أصبحت حلما تحلم به كثير من المجتمعات السلمية هذا الزمان‪.‬‬
‫لماذا إذن شرك القصور عندنا له أثر سيء على المجتمع بينما عند الغرب‪ ,‬ل يظهر‬
‫منه ذلك – وأقصد ماديا ل روحيا ‪-‬؟ إذن ل بد من توفر عوامل أخرى تضاف إلى شرك‬
‫القصور ليعطي أثرا سيئا على مجتمعه‪ ,‬وليس هو بذاته‪ ،‬ومنها (اللأخلقيات)‪.‬‬
‫لذلك نستطيع القول‪ ,‬إذا اجتمع شرك القصور مع الخلقيات – حب العدل والصدق‪,‬‬
‫والمواطنة‪ ,‬والمانة‪ ,‬والوفاء بالعهد‪ ,‬واليثار‪ ,‬والتكافل الجتماعي‪ ,‬وما شابه ذلك – يعطي‬
‫غالبا حياة مادية كريمة للمجتمع‪ ,‬وإذا افترقا أدى ذلك إلى عكس ذلك‪.‬‬
‫فبتحقيق التوحيد الول‪ ,‬توحيد ما بين العبد وربه‪ ,‬نصل في المجتمع إلى النتائج التالية‪:‬‬
‫‪-1‬حياة روحية كريمة‪ ,‬واطمئنان نفسي‪.‬‬
‫‪-2‬النجاة من النار‪.‬‬
‫‪-3‬حياة مادية كريمة في ظل التوحيد الثاني توحيد القصور إذا وجدت الخلقيات‪ ،‬أو‬
‫التوحيد الثاني مع عدم وجود الخلقيات‪.‬‬ ‫حياة مادية سيئة في ظل‬
‫‪-4‬حياة مادية كريمة‪ ,‬تحت أحكام الشرك الثاني شرك القصور مع وجود الخلقيات‬
‫أو حياة مادية سيئة تحت أحكام شرك القصور مع عدم وجود الخلقيات‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أما نتائج تحقيق التوحيد الثاني توحيد القصور‪ ،‬على حساب التوحيد الول توحيد العبد‬
‫لربه على المجتمع هي‪:‬‬
‫•حياة مادية كريمة مع وجود الخلقيات‪ ،‬أو حياة مادية سيئة مع عدم وجود‬
‫الخلقيات‪.‬‬
‫•حياة روحية ميتة‪.‬‬
‫•الخلود في جهنم‪.‬‬
‫فالسؤال‪ ,‬أي النتيجتين أقوم وأسلم للمجتمع يا أولي اللباب؟؟!!! وكيف يجرؤ شخص‬
‫بعد هذا البيان أن يتقول على الشرع بالظن‪ ,‬قائل أن شرك القصور هو البدعة الكبرى‬
‫والشرك العظم؟ فهل عندكم من علم بهذا من الكتاب والسنة ما يدل على حسن فهمكم؟‬
‫فإن قلتم نعم وأوردتم لنا آيات الحاكمية – وهي على العموم ول يجوز حملها على‬
‫الخصوص كما مر معنا سابقا إل بتفصيل – باعتبارها من العبودية والعبادة‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬‬
‫ن اْل ُح ْك ُم ِإ ّل ِلّل ِه َأ َم َر َأ ّل َت ْعُبدُوْا ِإ ّل ِإيّا ُه‪[ ‬يوسف‪.]40:‬‬
‫ِإ ِ‬
‫قلنا لكم‪ :‬وكذلك الدعاء ورد في الكتاب والسنة على أنه العبادة وأنه من العبادة‪ .‬كقوله‬
‫ن الّل ِه َوَأ ْدعُو َربّي‬
‫ن مِن دُو ِ‬
‫عَت ِزُل ُك ْم َومَا َت ْدعُو َ‬
‫تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلم‪َ  :‬وَأ ْ‬
‫ق‬
‫س َح َ‬
‫ن الّل ِه َو َه ْبنَا َل ُه ِإ ْ‬
‫ن مِن دُو ِ‬
‫عَت َزَل ُه ْم َومَا َي ْعُبدُو َ‬
‫ش ِقيّا ‪َ ‬فَلمّا ا ْ‬
‫ن ِب ُدعَاء َربّي َ‬
‫عسَى َأ ّل َأكُو َ‬
‫َ‬
‫ب َو ُكلّا َج َعْلنَا َنِبيّا‪[ ‬مريم‪.]49:‬‬
‫َوَي ْعقُو َ‬
‫وقول الرسول صلى ال عليه وسلّم‪" :‬الدعاء هو العبادة"(‪.) 3‬‬
‫وبهذا يكون شرك دعاء غير ال هو البدعة الكبرى والشرك العظم‪ .‬إذن فأي الشركين‬
‫أكبر‪ ،‬شرك القصور أم شرك الدعاء والحجة فيهما واحدة؟ وإذا أوردتم قول ال تعالى‪َ  :‬و ُه َو‬
‫ض ِإَل ٌه َو ُه َو اْل َحكِي ُم اْل َعلِي ُم‪[ ‬الزخرف‪ ،]84:‬للتدليل على زعمكم‪،‬‬
‫سمَاء ِإَل ٌه َوفِي ال ْر ِ‬
‫اّلذِي فِي ال ّ‬
‫أي أن ال تعالى هو المعبود في الرض كما هو في السماء‪.‬‬
‫قلنا لكم أن هذه آية عامة تدل على جميع مظاهر العبودية ومن ضمنها التوحيد الول‪,‬‬
‫توحيد العبد لربه‪ ,‬والتوحيد الثاني‪ ,‬توحيد القصور‪ ,‬ولهذا يحق لنا أن نزعم بهذه الية كذلك‪،‬‬
‫أن التوحيد الول هو الهم‪ ،‬وعنه ينتج أن الشرك الول هو البدعة الكبرى والشرك العظم‪.‬‬

‫أخرجه الترمذي‪ :‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وقال الشيخ اللباني في صحيح الترمذي‪ :‬صحيح‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ورقمه (‪ .)3372‬وانظر‪" :‬صحيح الجامع الصغير"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ن ا ْحكُم َب ْيَنهُم ِبمَآ أَن َز َل الّل ُه َو َل َتّتِب ْع َأ ْهوَاء ُه ْم وَا ْح َذ ْر ُه ْم أَن‬
‫وإذا أوردتم قوله تعالى‪َ  :‬وَأ ِ‬
‫ض ُذنُوِب ِه ْم‬
‫عَل ْم َأّنمَا ُيرِي ُد الّل ُه أَن ُيصِيَبهُم ِبَب ْع ِ‬
‫ك َفإِن َت َوّل ْوْا فَا ْ‬
‫ض مَا أَن َز َل الّل ُه ِإَل ْي َ‬
‫ك عَن َب ْع ِ‬
‫َي ْفِتنُو َ‬
‫ن‪[ ‬المائدة‪ .]49:‬فليس في الية ما يدل على أن الحكم بما انزل ال‬
‫سقُو َ‬
‫س َلفَا ِ‬
‫ن النّا ِ‬
‫ن َكثِيرًا ّم َ‬
‫َوِإ ّ‬
‫بين العباد هو العظم‪ ,‬غير التأكيد على الحكم بما انزل ال والتحذير من مخالفته‪ .‬وعليك‬
‫أخي القارئ أن تستعرض آيات الحاكمية في نفسك‪ ,‬فهل تجد فيها ما يدل على ما يزعمون؟‬

‫‪14‬‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬فإن قلتم أننا لم نقصد بقولنا عن شرك الحاكمية أنه البدعة الكبرى‬
‫والشرك العظم لنه العظم درجة‪ ,‬إنما قصدنا أن هذه البدعة لم توجد في التاريخ‬
‫السلمي من قبل؟‬
‫قلت‪ :‬جواب ذلك من وجوه‪:‬‬
‫‪-1‬الخطأ اللغوي الذي وقعتم فيه‪ ,‬فكلمة البدعة الكبرى والشرك العظم إذا أطلقت ل تدل‬
‫على مرادكم هذا‪ ,‬إذن لزمكم تقييد اللفظ وتوضيحه‪.‬‬
‫‪-2‬هل يعني بالضرورة وقوع المر لول مرة في التاريخ‪ ،‬يدل على أنه العظم والكبر‪,‬‬
‫ن بعد عد ٍم هل يعني انه الشرك العظم‪،‬‬
‫فمثل شرك الحلف بغير ال إذا انتشر في زما ٍ‬
‫وشتم الدين والنبي كذلك على رأيكم فقد انتشر هذا الزمان بعد عدم‪ ،‬فهل يعني انه‬
‫الشرك العظم والكبر مع أنه من الشرك الكبر؟! ونحن نعلم أن الشرك الكبر هو‬
‫أن تجعل ل ندا وهو خلقك‪.‬‬
‫‪-3‬هناك من الشرك ما وقع في المة من بعد عدم‪ ،‬كدعاء غير ال والستغاثة بهم‪،‬‬
‫وادعاء علم الغيب لشخاص وغير ذلك مما ل زال منتشرا في المة‪ ،‬فهل يعني ذلك‬
‫انه الشرك الكبر والعظم؟! وهنا إذا كان المر كذلك يحق لنا أن نرشح هذه‬
‫الصناف من الشرك للولوية‪ ،‬وعلى أنها الكبر والعظم باعتبارها هي القدم ول‬
‫تزال معششة بين ظهرانينا‪ ،‬ولكن ليس هكذا تحسب المور‪ .‬إذن فقد ثبت بعد هذا‬
‫البيان تهافت هذه الشبهة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الشبهة الرابعة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة بدعة شرك القصور‪ ،‬هي الكبر‬
‫باعتبار أنها ل أصل لها في التاريخ السلمي‪ ،‬من الناحيتين السلوكية والتشريعية‪.‬‬
‫‪ -1‬الناحية السلوكية‪:‬‬
‫فجواب ذلك‪:‬‬
‫إن من يقرأ التاريخ السلمي سيجد فيه ما يدل على تكرار مثل ما نراه من انحراف‬
‫عن منهج ال هذه اليام والخروج عن شريعة السلم‪ ،‬ووجود مساحات شاسعة من البلد‬
‫السلمية تضم فيها شرار الخلق المستحقين للجهاد والغزو‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك‪ ،‬سأحيل المطلع إلى عالم ثقة‪ ،‬جاهد بلسانه وقلمه وسيفه في سبيل‬
‫دعوة الحق‪ ،‬إنه شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى‪ .‬إذ يقول عن واقع العالم السلمي‬
‫في عصره‪ ،‬في "مجموع الفتاوى"‪ ..." :‬وأما بلد إفريقية فأعرابها غالبون عليها‪ ،‬وهم من‬
‫شر الخلق بل هم مستحقون للجهاد والغزو"‪.‬‬
‫ويقول عن بلد المغرب القصى‪" :‬فمع استيلء النصارى على أكثر بلدهم ل يقولون‬
‫بجهاد النصارى هناك‪ ،‬بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم"‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة‪ ،‬وفيهم من‬
‫البدع والضلل والفجور ما ل يعلمه إل ال وأهل اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون‪،‬‬
‫وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل السلم بهذه البلد‪ ،‬ل سيما وقد غلب فيهم‬
‫الرفض"(‪ ،) 4‬انتهى‪.‬‬
‫والملحظ من كلم شيخ السلم ابن تيمية هذا أنه لم يبق من رقعة السلم المترامية‬
‫الطراف في زمانه إل ما استثناه هو من بلد الشام وبلد مصر بمساحة إجمالية تصل إلى‬
‫حوالـي ثمانية بالمائة فقط من كامل مساحة رقعة العالم السلمي وقتئذ‪ .‬واعتبر ابن تيمية‬
‫– رحمه ال ‪ -‬دولة المماليك هي دولة السلم‪ ،‬الواجب عزها ونصرها‪ ،‬ووصفها بأنها‬
‫كتيبة السلم بعزها يعز السلم وبذلها يذل السلم‪.‬‬
‫وحتى ل نظلم الواقع السلمي‪ ،‬فإن مستوى دولة المماليك لم يكن كدرجة الخلفاء‬
‫الراشدين ول حتى بمستوى الدولة الموية أو العباسية من ناحية اللتزام العام بأحكام السلم‬

‫الجزء (‪( )28‬ص ‪.)534-532‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪16‬‬
‫والخلق السلمية‪ ،‬فقد وجد فيها من الفساد السياسي والخلقي والجتماعي والتشريعي‬
‫ما يشابه ما نراه من فساد في الدول السلمية في عصرنا هذا‪ ،‬بل يزيد أحيانا‪.‬‬
‫وتكفينا هنا بعض الشارات الدالة على ذلك؛ لن هذا المر مبسوط في كتبه‬
‫المتخصصة في دراسة التاريخ‪.‬‬
‫أ‪ -‬مدة الحكم وتغير السلطين‪ :‬حكمت دولة المماليك من ( ‪1250‬م‪1517 -‬م)‪ ،‬أي‬
‫‪ 267‬سنة‪ ،‬تغيرت فيها السلطين إحدى وستين مرة‪ ،‬خلل هذه الفترة‪ ،‬حكمت أول امرأة‬
‫في السلم "شجرة الدر" قرابة أربعة أشهر في عام ‪1250‬م‪ .‬والملحظ في هذه الفترة مع‬
‫السف كثرة تغير السلطان قتلً‪.‬‬
‫ففي سنة ‪1421‬م‪ ،‬حكم كل من السلطان أحمد بن شيخ وططر ومحمد بن ططر‪ ،‬ثلثة‬
‫سلطين في سنة واحدة‪ .‬أما عدد المرات التي تغير فيها السلطان مرتين في السنة فقد‬
‫تكررت إحدى عشرة مرة‪.‬‬
‫ب‪ -‬الظاهر بيبرس يقتل قطز‪ :‬في سنة ‪698‬هـ‪ ،‬وبعد انتصار قطز في معركة عين‬
‫جالوت التي أنهت الخطر التتري على المة السلمية وقتئذ‪ ،‬قام بيبرس بقتله في مكيدة‬
‫دبرها له قبل وصوله إلى مصر‪.‬‬
‫ج‪ -‬سجن ابن تيمية‪ :‬تم اعتقال ابن تيمية رحمه ال وسجنه على يد الولة والسلطين‪،‬‬
‫على أثر فتوى شرعية واتهامات أخرى باطلة نسبت إليه ظلما‪ ،‬وقد كانت وفاته في سجن‬
‫القلعة في دمشق عند المماليك‪.‬‬
‫ل صالحا كثير‬
‫د‪ -‬انتشار الخمور‪ :‬يقول ابن كثير عن الملك المظفر قطز‪" :‬كان رج ً‬
‫الصلة في الجماعة ول يتعاطى المسكر‪ ،‬ول شيئا مما يتعاطاه الملوك"(‪ ،) 5‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول أبو شامة شهاب الدين المقدسي في ترجمة السلطان نور الدين محمود زنكي‪:‬‬
‫"فهو الذي حدد للملوك اتباع سنة العدل والنصاف وترك المحرمات من المأكل والمشرب‬
‫والملبس وغير ذلك‪ ،‬فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية ه ّم أحدهم بطنه وفرجه ل يعرف معروفا‬
‫ول ينكر منكرا‪ ،‬حتى جاء بدولته‪ ،‬فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم بذلك أتباعه‬
‫وذويه‪ ،‬فاقتدى به غيره منهم"(‪ ،) 6‬انتهى‪.‬‬

‫"البداية والنهاية" (‪.)13/235‬‬ ‫‪5‬‬

‫كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" (‪.)1/6‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪17‬‬
‫ل عن كتاب "البرق الشامي"‪ " :‬وهو– أي نور الدين زنكي ‪-‬‬
‫ويقول أبو شامة كذلك ناق ً‬
‫الذي أعاد رونق السلم وقد غلب الكفر وبلغ الضر‪.) 7("...‬‬
‫هـ‪ -‬الترف وكنز الموال‪ :‬فقد كانت ظاهرة عامة اشتهر بها المراء‪ ،‬راجع في ذلك‬
‫ما ضبط عند المير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة زمن خليل بن قلون "وما ضبط‬
‫عند نائب السلطة "سلر" زمن السلطان الناصر قلوون من الموال والتحف ما لم يسمع‬
‫بمثله في الملوك‪ ،‬إذ تضمنت القوائم التي كتبها أحد القضاة الذين ندبوا لجرد هذه التركة‬
‫جميع ما اشتملت‪ ،‬واستغرق جردها أربعة أيام"(‪.) 8‬‬
‫ارجع إلى هذا المصدر واقرأ لتجد ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والماس‬
‫واللؤلؤ والياقوت والزمرد والدراهم والدنانير وغير ذلك من الواني الذهبية والفضية والقبية‬
‫الحريرية الملونة والمغراة بسنجاب‪ ,‬والسروج الذهبية‪ ,‬والخيول والبغال والجمال‪ ،‬أما الغنام‬
‫ل عن الملك والضياع والمعاصر والشون‬
‫والبقار فهي أكثر من أن تحصى‪ ,‬فض ً‬
‫والمراكب والعبيد والخدم والمماليك والجواري‪ .‬هذا على سبيل المثال‪.‬‬
‫أما عن المراسم وموسيقى الجيش‪ ,‬ووصف القلع وما بداخلها وطريقة الخدمة فيها‬
‫وملبس المراء والجند وصفتها‪ ,‬والشارات ذوات الرواح من الحيوانات والطيور وصفتها‪,‬‬
‫ومراسم الدخول على المراء والسلطين‪ ،‬وصفة مراكب السلطان والمراء والجند وما‬
‫تزين به‪ ,‬وصفة مجالس المراء في بيوتهم ومن يجلس عن يمينه وعن شماله‪ ,‬وصفة‬
‫ل عن‬
‫المراسم المتخذة في رحلة الصيد وطريقة الخدمة ‪ ...‬وغير ذلك مما يطول ذكره فض ً‬
‫تفصيله‪ ,‬فعن كل هذا‪ ,‬ستفاجأ أخي القارئ أن ما تراه هذه اليام من مراسم يقل عن ما كان‬
‫موجودا‪ ,‬وللتأكد من ذلك راجع ما كتب عن المماليك في هذا الباب فيما ذكرت لك من‬
‫المراجع‪.‬‬
‫على سبيل المثال أذكر ما قاله ابن كثير في مراسم الحتفال بتنصيب السلطان الملك‬
‫الظاهر‪ ,‬بعد اعترافه بقتل الملك المظفر قطز‪ ,‬حيث قال ابن كثير‪ ..." :‬ولقبوه الملك‬
‫الظاهر‪ -‬أي ركن الدين بيبرس البندقداري – فجلس على سرير المملكة وحكمه‪ ,‬ودقت‬
‫البشائر وضربت الطبول والبوقات‪ ,‬وصفرت الشغابة‪ ,‬وزعقت الشاووشية بين يديه‪ ,‬وكان‬

‫كتاب "الروضتين" (‪.)1/10‬‬ ‫‪7‬‬

‫كتاب "المماليك" (ص ‪ )242‬للدكتور الباز‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪18‬‬
‫يوما مشهودا وتوكل على ال واستعان به‪ ,‬ثم دخل مصر والعساكر في خدمته‪ ,‬فدخل قلعة‬
‫الجبل وجلس على كرسيها‪ ,‬فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل‪ ,‬وكان شهما شجاعا‪,‬‬
‫أقامه ال للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والمر العسير" (‪.)9‬‬
‫قلت‪ :‬انظر كيف يثني عليه لما فيه صلح المة‪ ،‬مع كل ما ذكر عنه من فساد‪ ،‬إذ‬
‫العبرة عند أهل العلم النجباء غلبة المصلحة العامة وإن وجد فساد شخصي‪.‬‬
‫‪ -2‬تحكيم الدساتير والقوانين الوضعية‪:‬‬
‫سألقي الضوء على مثالين اثنين من الدول في التاريخ السلمي التي حكمت بالدساتير‬
‫والقوانين الوضعية‪ ،‬هما‪:‬‬
‫أ‪ -‬دولة المماليك وتطبيق القوانين غير السلمية (الياسة)‪:‬‬
‫وهي نقطة مثيرة للجدل والستغراب‪ ,‬لذلك سأتركك أخي القارئ مع المؤرخين‬
‫والكتاب كي يحدثوك عن هذه النقطة‪.‬‬
‫يقول احمد بن علي المقريزي‪" :‬درب أرقطاي‪ ,‬هذا الدرب بحارة الروم ‪ ...‬وهو‬
‫أرقطاي المير سيف الدين الحاج أرقطاي‪ ,‬أحد مماليك الملك الأشرف خليل بن قلوون‬
‫وصار إلى أخيه الملك الناصر محمد فجعله جمدارا‪ ،‬وكان هو والمير ايتمش نائب الكرك‬
‫بينهما أخوة ولهما معرفة بلسان الترك القيجاقي‪ ,‬ويرجع إليهما في "الياسة" يعني اليسق التي‬
‫هي شريعة جنكيزخان‪ ,‬التي تقول العامة وأهل الجهل في زماننا‪ :‬هذا حكم السياسة ‪...‬‬
‫يريدون حكم الياسة"(‪.)10‬‬
‫ويقول جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي التابكي‪" :‬قلت‪ :‬كان الملك‬
‫الظاهر ‪ -‬رحمه ال – يسير على قاعدة ملوك التتار‪ ,‬وغالب أحكام جنكيزخان من‬
‫أمر"اليسق والتورا"‪ ,‬واليسق هو الترتيب‪ ,‬والتورا‪ :‬المذهب باللغة التركية‪ ,‬وأصل لفظ اليسق‬
‫(سي يسا)‪ ,‬وهي لفظة مركبة من كلمتين‪ ,‬صدر الكلمة‪ :‬سي بالعجمة‪ ,‬وعجزها يسا بالتركي‪,‬‬
‫لن (سي) بالعجمي‪ ,‬ثلثة‪ ,‬ويسا بالمغلي الترتيب‪ ,‬فكأنه قال‪ :‬التراتيب الثلثة‪ ,‬وسبب هذه‬
‫الكلمة أن جنكيزخان‪ ,‬ملك المغل كان قسم ممالكه في أولده الثلثة‪ ,‬وجعلها ثلثة أقسام‬
‫وأوصاهم بوصايا لم يخرج عنها الترك إلى يومنا هذا مع كثرتهم واختلف أديانهم فصاروا‬

‫"البداية والنهاية" (‪.)13/236‬‬ ‫‪9‬‬

‫في كتابه "المواعظ والعتبار – "الخطط المقريزية" (الجزء الثاني‪ ,‬صفحة ‪ ,359‬طبعة دار‬ ‫‪10‬‬

‫الكتب‪ ,‬بيروت)‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫يقولون‪ :‬سي يسا (يعني التراتيب الثلثة التي رتبها جنكيزخان)‪ ,‬فصارت الترك يقولون"سي‬
‫يسا" فثقل ذلك على العامة فحرفوها على عادة تحاريفهم‪ ,‬وقالوا سياسة"‪ .‬ثم إن الترك أيضا‬
‫حذفوا صدر الكلمة فقالوا‪ :‬يسا مدة طويلة‪ ,‬ثم قالوا‪ :‬يسق واستمر ذلك إلى يومنا هذا" (‪،)11‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫ويقول أبو شامة‪" :‬وكان نور الدين لما صارت له الموصل قد أمر كمشتكين شحنة‬
‫الموصل‪ ,‬أن ل يعمل شيئا إل بالشرع إذا أمر القاضي والنواب كلهم شيئا إل بأمر الشيخ‬
‫عمر المل‪ ,‬وقال وكان ل يعمل إل بالسياسة ‪ -‬أي الشيخ عمر‪ -‬وبطلت الشحنكية في أكابر‬
‫الدولة‪ ,‬وقالوا لمكمشتكين قد كثر الدعّار وأرباب الفساد‪ ,‬ول يجيء من هذا شيء إل بالقتل‬
‫والصلب‪ ,‬فلو كتبت إلى نور الدين‪ ,‬وقلت له في ذلك‪ ,‬فكتب إلى نور الدين وقال له‪ :‬إن‬
‫الدعّار والمفسدين وقطاع الطرق قد كثروا ويحتاج إلى نوع من سياسة (أي ياسة) فمثل هذا‬
‫ل يجيء إل بقتل وصلب وضرب‪ ,‬وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجيء يشهد له‪ ,‬قال‪:‬‬
‫فقلب نور الدين كتابه وكتب على ظهره أن ال تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم‬
‫وشرع لهم شريعة‪ ,‬وهو أعلم بما يصلحهم‪ ,‬وأن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه‬
‫الكمال فيها‪ ,‬ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه‪ ,‬فما لنا حاجة إلى زيادة‬
‫على ما شرعه ال تعالى" (‪.)12‬‬
‫ويقول أبو شامة وهو يصف حياة السلطان الملك العادل نور الدين محمود زنكي‪" :‬قال‬
‫ابن الثير وما عُد له‪ ،‬أنه لم يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه العصار على‬
‫الظنة والتهمة‪ ,‬بل يطلب الشهود على المتهم‪ ,‬فان قامت البينة الشرعية‪ ,‬عاقبه العقوبة‬
‫الشرعية من غير تعدّ‪ ,‬فدفع ال بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير وليته مع‬
‫شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والخذ بالظنة‪ ,‬وأمنت بلده مع سعتها وقل المفسدون‬
‫ببركة العدل واتباع الشرع المطهر"(‪ ،)13‬انتهى‪.‬‬

‫"النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة " (ص ‪ )255-254‬في طبعة مصورة عن طبعة دار‬ ‫‪11‬‬

‫الكتب‪.‬‬
‫"الروضتين في أخبار الدولتين" (ج ‪ ,1‬ص ‪ - )13‬طبعة دار الجبل‪.‬‬
‫‪12‬‬

‫كتاب "الروضتين" (ج ‪ ،1‬ص ‪.)7‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪20‬‬
‫ويقول أبو شامة عن صلح الدين لمّا اكتشف سنة ‪569‬هـ أمر الفتنة التي دبرها‬
‫أنصار الفاطميين من الجند لعادة ملكهم‪" :‬ثم أمر السلطان – يعني صلح الدين – بإحضار‬
‫مقدميهم واعتقالهم لقامة السياسة فيهم"(‪.)14‬‬
‫ويقول ابن فضل ال العمري من بين الوصايا الموجهة لوالي الحرب‪" :‬وليخلص من‬
‫الحقوق ما رفع إليه‪ ,‬ويطالب به من مطل به‪ ,‬وقد أوجب الحق عليه‪ ,‬وليتفقد أرباب النحل‬
‫لزيفهم المردود‪ ,‬وليقم عليهم السياسة‪ ,‬إذا لم تمض عليهم الحدود" (‪ ،)15‬انتهى‪.‬‬
‫كذلك يقول الدكتور السيد الباز‪" :‬ومن أهم قواعد الحكم في الدولة المملوكية إعداد طبقة‬
‫للعتماد عليها في الحرب والدارة‪ ,‬تألفت هذه الطبقة من المماليك المجلوبين صغار السن‬
‫من بلد القبجاق واستقروا في الطباق حيث تلقوا التدريب الحربي والتعليم الديني‪ ,‬وخضعوا‬
‫لما فرض عليهم من أساليب التدريب والتأديب‪ ,‬وهي ل تخرج كثيرا عن التقاليد المعروفة‬
‫عند التتار‪ ,‬فعلى الرغم من أن هؤلء المماليك نشئوا بدار السلم‪ ,‬إل أنهم احتاجوا في‬
‫ذات أنفسهم إلى الرجوع إلى حكـم الياسة‪ .‬فسار السلطان "الظاهـر بيبرس" على هذه‬
‫القاعدة فيما يتعلق بالنظم الحربية وإنزال العقوبـات الصارمة لمن يرتكب جرائم‪ ,‬إذا ل‬
‫تكفي الحدود الشرعية فـي ردعهم‪ ,‬فمن بين الوصايـا الموجهة لوالي الحرب وصية‬
‫بمكافحة الخمر والحشيش وتفقد أرباب النحل وإقامة حكم السياسة إذا لم تكف الحدود‬
‫الشرعية"(‪ ،)16‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول دوروتيا كرافولسكي(‪ ..." :)17‬وهكذا فان اعتناق مغول القبيلة الذهبية للسلم‪،‬‬
‫يظهر وكأنه النتيجة المنطقية لكون الياسة ولو في بعض شرائعها موافقة للشريعة المحمدية‪,‬‬
‫ثم أن دفاع العمري عن الياسة لن فيها "ما يوافق الشريعة" يشكل دفاعا مستترا عن المماليك‬
‫بمصر الذين كانوا يطبقون بعض أحكام الياسة في أوساطها" (‪ ،)18‬انتهى‪.‬‬

‫كتاب "الروضتين" (ج ‪1‬ص ‪.)219‬‬ ‫‪14‬‬

‫كتاب "التعريف في المصطلح الشريف"‪ ,‬تحقيق د‪ .‬سمير ألدروبي‪( ,‬ص ‪.)134‬‬ ‫‪15‬‬

‫كتاب "المماليك" (ص ‪.)255‬‬ ‫‪16‬‬

‫محقق كتاب "مسالك البصار في ممالك المصار‪ -‬دولة المماليك الولى"‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫في مقدمته لكتاب ابن فضل ال العمري المتوفى سنة ‪749‬هـ‪1349 ,‬م في كتابه "مسالك‬ ‫‪18‬‬

‫البصار في ممالك المصار‪ ،‬دولة المماليك الولى‪ ,‬نشر المركز السلمي للبحوث (ص ‪.)31‬‬

‫‪21‬‬
‫قلت‪ :‬نلحظ مما سبق ذكره أن مجموعة القوانين والتقاليد التي وضعها جنكيزخان‬
‫لتنظيم النواحي السياسية والحربية والقتصادية والجتماعية لم تطبقها دولة المماليك جميعا‪،‬‬
‫سوى ما يتعلق منها بالعساكر والجند وما يقع بينهم من نزاع وخلف‪ ,‬وما يترتب على ذلك‬
‫الخلف والنزاع من عقوبات لتأديبهم وأخذهم بالنظام‪.‬‬
‫وقد بينت لنا كتب التاريخ بعض تلك القوانين الصارمة في حق المخالف‪ ,‬إذ نص هذا‬
‫القانون الجنكيزخاني على عقوبة القتل لجرائم الزنا‪ ,‬واللواط والقتل والسرقة‪ ,‬والكذب‬
‫والتجسس‪ ,‬والسحر أو تعمد إخفاء مملوك أو محاولة إطعام أسير دون إذن وليه‪ .‬وحرّم هذا‬
‫القانون غسل الثياب وأوجب لبسها حتى تبلى‪ ,‬وألزم القانون نساء العساكر القيام بأعمال‬
‫الرجال في السخرة طيلة مدة غيابهم‪ ,‬وألزمهم عند رأس كل سنة بعرض سائر بناتهن‬
‫البكار ليختار منهن السلطان لنفسه وأولده‪ ,‬وغير ذلك (‪.)19‬‬
‫لم يكن قصدي قط‪ ،‬من التطرق إلى هذه النحرافات في الدولة المملوكية‪ ،‬بيان ما‬
‫فيها من فساد‪ ,‬فان بحث هذا المر يطول‪ ,‬إنما جاءت في معرض الرد على الشبهة‪ ،‬ثم أخذ‬
‫العبرة من التاريخ الماضي لمعاشنا‪.‬‬
‫وهنا ل بد من سؤال يفرض نفسه‪ ,‬كيف أثنى ابن تيمية عليها‪ ,‬وعليها ما عليها من‬
‫انتقادات حتى وصلت إلى قضية التشريع والحتكام إلى الياسة (اليسق) فيما يختص بأمر‬
‫الجند بحجة أن أحكام الشريعة ل تكفي في ردعهم وتأديبهم؟‬
‫إن ابن تيمية رحمه ال‪ ,‬قد أفضى إلى ما قدم وبالعودة إلى أقواله في الصفحات القليلة‬
‫الماضية‪ ,‬التي بين وعرض فيها أحوال العالم السلمي في عصره‪ ,‬يتضح للقارئ أن دولة‬
‫المماليك هي أفضل ما وجد في عصره خدمة للدين والشريعة‪ ,‬كونها الحاضنة لبقية السلم‬
‫وشرائعه‪ ،‬والقل بعداعن المحجة البيضاء والطريق الواضح من غيرها من الدول السلمية‬
‫المنتشرة وقتئذ‪ ،‬فقد شهد لها ابن تيمية‪ ،‬كما يجب على كل منصف‪ ،‬هذه الشهادة لفقهه‬
‫الشرعي الثاقب‪ ،‬ولفهم الواقع الذي يعيش‪ ,‬إذ انه كان واقعيا يطبق القواعد الصولية‬
‫المعروفة‪ .‬وللسف فإن البعض حين عرضت عليه هذه الحقائق‪ ،‬قال‪" :‬أخطأ ابن تيمية"‪.‬‬
‫فكان رحمه ال‪ ,‬يفرق بين أفضل الخيرين فيفضل الول منهما‪ ,‬ويفرق بين أسوأ‬
‫الشرين‪ ,‬فيختار القل منهما ويتعامل معه مضطرا‪ ,‬وقد يدافع عنه ويأمر الناس بالدفاع عنه‬

‫عن كتاب "المماليك" (ص ‪ )251‬للدكتور الباز‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪22‬‬
‫والوقوف إلى جانبه كما حصل معه رحمه ال في وقوفه مع المماليك ضد التتر الذين سعوا‬
‫في الرض فسادا‪ ،‬رغم أنهم أعلنوا إسلمهم وتردد كثير من العلماء في إعطاء فتوى تقضي‬
‫بوجوب محاربتهم‪ ،‬ولكن فقه المام ابن تيمية أصدر فيهم فتواه المعروفة التي رفع ال تعالى‬
‫بها شرهم عن بقية السلم في مصر وبقية بلد الشام‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى‪" :‬ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر‬
‫إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين" (‪ ،)20‬فكانت مواقفه العملية مبنية على أصوله‬
‫العلمية‪.‬‬
‫وقد تعلم تلميذه ابن القيم منه هذا المنهج القويم‪ ،‬وأفتى به‪ ،‬حيث قال في شروط النكار‬
‫ودرجاته‪:‬‬
‫"النكار له شروطه‪:‬‬
‫المثال الول‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل‬
‫بإنكاره من المعروف ما يحبه ال ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه‬
‫وأبغض إلى ال ورسوله‪ ،‬فإنه ل يسوغ إنكاره‪ ،‬وان كان ال يبغضه ويمقت أهله وهذا‬
‫كالنكار على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر‪ .‬وقد‬
‫استأذن الصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم في قتال المراء الذين يؤخرون الصلة‬
‫عن وقتها وقالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟ فقال‪" :‬ل ما أقاموا الصلة"‪ ،‬وقال‪" :‬من رأى من أميره ما‬
‫يكرهه‪ ،‬فليصبر ول ينزعن يدا من طاعته "(‪.)21‬‬
‫"ومن تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪ ،‬رآها من إضاعة هذا‬
‫الصل‪ ،‬وعدم الصبر على منكر‪ ،‬فطلب إزالته فتولد منه ما هو اكبر منه‪ .‬فقد كان رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات‪ ،‬ول يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما فتح ال مكة‬
‫وصارت دار إسلم‪ ،‬عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم‪ ،‬ومنعه من ذلك مع‬
‫قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك‪ ،‬لقرب عهدهم‬

‫"مجموع فتاوى ابن تيمية في الفقه" (ج ‪ 20‬ص ‪.)54‬‬ ‫‪20‬‬

‫"صحيح الجامع الصغير لللباني"‪ .‬ورواية الشيخان عن ابن عباس قال‪ :‬قال رسول ال صلى‬ ‫‪21‬‬

‫ال عليه وسلم‪" :‬من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجاهلية فيموت‬
‫إل مات ميتة جاهلية"‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫بالسلم‪ ،‬وكونهم حديثي عهد بكفر‪ ،‬ولهذا لم يأذن في النكار على المراء باليد‪ ،‬لما يترتب‬
‫عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء"‪.‬‬
‫وعن درجات النكار يقول‪:‬‬
‫"فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه‪.‬‬
‫فالدرجتان الوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة‪.‬‬
‫فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‪ ،‬كان إنكارك عليهم من عدم الفقه‬
‫والبصيرة‪ ،‬إل إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى ال ورسوله‪ ،‬كرمي النشاب وسباق الخيل‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم‬
‫عنه إلى طاعة ال فهو المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم‬
‫ل بكتب المجون‬
‫ل لهم عن ذلك‪ ،‬وكما إذا كان الرجل مشتغ ً‬
‫من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغ ً‬
‫ونحوها‪ ،‬وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‪،‬‬
‫وهذا باب واسع‪.‬‬
‫وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس ال روحه ونور ضريحه يقول‪ :‬مررت أنا‬
‫وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي‪،‬‬
‫فأنكرت عليه وقلت له‪ :‬إنما حرم ال الخمر لنها تصد عن ذكر ال وعن الصلة‪ ،‬وهؤلء‬
‫يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الموال فدعهم" (‪ ،)22‬انتهى‪.‬‬
‫وإذا حق لبي بكر الصديق ومن معه من الصحابة رضي ال عنهم جميعا‪ ،‬أن‬
‫يتعاطفوا مع الروم حين هزمهم الفرس‪ ،‬لنهم القرب إلى ديننا من الفرس وأنزل ال تعالى‬
‫ن ا ْحكُم‬
‫في ذلك قرآنا يتلى مؤيدا موقف الصحابة‪ -‬رضي ال عنهم‪ -‬كما في قوله تعالى‪َ  :‬وَأ ِ‬
‫ك َفإِن‬
‫ض مَا أَن َز َل الّل ُه ِإَل ْي َ‬
‫ك عَن َب ْع ِ‬
‫َب ْيَنهُم ِبمَآ أَن َز َل الّل ُه َو َل َتّتِب ْع َأ ْهوَاء ُه ْم وَا ْح َذ ْر ُه ْم أَن َي ْفِتنُو َ‬
‫ن‪[ ‬المائدة‪:‬‬
‫سقُو َ‬
‫س َلفَا ِ‬
‫ن النّا ِ‬
‫ن َكثِيرًا ّم َ‬
‫ض ُذنُوِب ِه ْم َوِإ ّ‬
‫عَل ْم َأّنمَا ُيرِي ُد الّل ُه أَن ُيصِيَبهُم ِبَب ْع ِ‬
‫َت َوّل ْوْا فَا ْ‬

‫"إعلم الموقعين" (‪.)5 -3/4‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪24‬‬
‫ض ِع‬
‫ن ‪ ‬فِي ِب ْ‬
‫سَي ْغِلبُو َ‬
‫غَلِب ِه ْم َ‬
‫ن َب ْع ِد َ‬
‫ض َو ُه ْم ِم ْ‬
‫ت الرّو ُم ‪ ‬فِي َأ ْدنَى ال ْر ِ‬
‫غِلَب ْ‬
‫‪ ،]49‬وقوله تعالى‪ :‬الم ‪ُ ‬‬
‫ن َيشَا ُء َو ُه َو‬
‫ص ُر َم ْ‬
‫ص ِر الّل ِه يَن ُ‬
‫ن ‪ِ ‬بَن ْ‬
‫ح اْل ُم ْؤ ِمنُو َ‬
‫ن َب ْع ُد َوَي ْو َمِئ ٍذ َي ْف َر ُ‬
‫ن َق ْب ُل َو ِم ْ‬
‫ن ِلّل ِه ال ْم ُر ِم ْ‬
‫سنِي َ‬
‫ِ‬
‫اْل َعزِي ُز ال ّرحِي ُم‪[ ‬الروم‪ .]5-1:‬وأجاز الرسول ‪ -‬صلّى ال عليه وسلم‪ -‬رهان أبي بكر لقريش‬
‫على هذا المر‪ -‬وكان ذلك قبل تحريمه‪.)23( -‬‬
‫إذا كان المر كذلك‪ ،‬فمن باب أولى أن يتعاطف ابن تيمية مع دولة المماليك‪ ،‬بل يدافع‬
‫عنها بنفسه وماله‪ ،‬رغم ما صدر منها في حقه ما أودعه هو وأصحابه السجن عدة مرات‬
‫حيث مات رحمه ال تعالى في سجن القلعة سنة ( ‪728‬هـ)‪ ،‬وبقي فيه ابن قيم الجوزية بعد‬
‫موت شيخه ثم أفرج عنه بعد ذلك‪.‬‬
‫أقول‪ :‬ما أحوجنا في هذه السنوات الخدّاعات لفقه هذا المام الكبير؟‬
‫فأي الدول السلمية هي الكثر تطبيقا لشعائر ديننا والخلص لقضايانا‪ ،‬لنوليها جل‬
‫اهتمامنا وعطفنا؟ (‪.)24‬‬
‫وأي البلد السلمية البعد عن ديننا والسوأ علينا من غيرها لنحذّر الناس منها فضل‬
‫عن عدم التعاطف معها؟ أين نحن من فقه الواقع المزعوم وأين نحن من فقه الواقع‬
‫المظلوم؟؟‬
‫وطرف)؟‌؟!!‪ ،‬بل مع النظمة المعتدلة‬
‫‌‬ ‫أم نريدها صراعا مع النظمة القائمة عن(جنب‬
‫التي ل زال فيها بقية من خير‪ ،‬وعلى رأسها المملكة العربية السعودية‪ ،‬المستهدفة بكل معنى‬
‫الكلمة مع السف‪.‬‬
‫وماذا ستكون النتيجة بعد ذلك إل ما رأيناه بأم أعيننا ول زلنا نراه من تجاربنا التي‬
‫لدغنا منها اللدغات تلو اللدغات‪.‬‬
‫ويعتبر‌!!‬
‫‌‬ ‫ولكن هيهات هيهات لمن يصحو‬
‫ب‪ -‬الخلفة العثمانية وتطبيق الدستور الوضعي والقوانين غير السلمية‪:‬‬
‫أما قصة تغيير الدستور السلمي والقوانين السلمية في زمن الخلفة العثمانية فقد‬
‫كانت أول محاولة لتغيير الدستور سنة ‪ ،)25(1839‬حيث تضمنت أفكارا أوروبية مع محاولة‬
‫مراعاة السلم‪ .‬واستمرت محاولت يهود الدونمة بواسطة عملئهم وعلى رأسهم مدحت‬

‫تفسير القرطبي‪ ،‬وابن كثير‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫لعل جاهلً بالواقع يقول‪ :‬إن كل الأنظمة في الشر سواء‪ ،‬والرد عليه بعد صفحات‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫كيف هدمت الخلفة‪ ،‬لعبد القديم زلوم‪( ،‬ص ‪.)36‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪25‬‬
‫باشا الذي تولى مقاليد الصدارة العظمى في دولة الخلفة تغيير الدستور‪ ،‬فألف لجنة تضم‬
‫مدنيين وعلماء وعسكريين لوضع مشروع دستور الدولة‪.‬‬
‫وبعد مصاعب بالغة أقرت اللجنة المشروع مستوحى من الدستور البلجيكي‪ ،‬وقد نشر‬
‫تحت اسم "قانون أساس" في ‪23/12/1876‬م‪ ،‬فأصبح دستور الدولة الرسمي‪ ،‬أي صار‬
‫الدستور البلجيكي مع مراعاة بعض النواحي السلمية دستورا للدولة السلمية‪.‬‬
‫ولكن السلطان عبد الحميد والعلماء وكبار المسلمين لم يضعوه موضع التنفيذ وقاوموه‬
‫حتى ثار "حزب تركيا الفتاة" على السلطان سنة ‪ ،1908‬فأعلنوا الدستور في ‪21/7/1908‬م‬
‫في سالونيك(‪ .)26‬حيث نرى أن الخليفة لم يستطع أن يبعد الدستور المنحرف عن الدولة لن‬
‫أكثر المتنفذين من الشعب كانوا يريدونه‪.‬‬
‫"هذا من الناحية الدستورية‪ ،‬أما من ناحية الحكام الشرعية التي يحكم فيها القضاة فان‬
‫تغييرها إلى قوانين بدأ قبل ذلك‪ ،‬فإنه منذ عام ‪1856‬م‪ ،‬بدأت الحركة لخذ القوانين الغربية‬
‫‪ ...‬ففي سنة ‪1857‬م سنت الدولة قانون الجزاء العثماني‪ ،‬وفي سنة ‪1858‬م سنت قانون‬
‫الحقوق والتجارة‪ ،‬وفي سنة ‪1870‬م جعلت المحاكم قسمين‪ :‬محاكم شرعية‪ ،‬ومحاكم نظامية‪،‬‬
‫ووضع لها نظام‪ ،‬ثم في سنة ‪1877‬م وضعت لئحة تشكيل المحاكم النظامية‪ .‬وفي سنة‬
‫‪1878‬م وضع قانون أصول المحاكمات الحقوقية والجزائية‪ ،‬وصدرت فيها الفتوى من شيخ‬
‫السلم وفتاوى العلماء بجواز أخذها لنها ل تخالف السلم‪.)27( "...‬‬

‫"كيف هدمت الخلفة"‪ ،‬لعبد القديم زلوم‪( ،‬ص ‪.)42‬‬ ‫‪26‬‬

‫المرجع السابق (ص ‪.)43‬‬ ‫‪27‬‬

‫‪26‬‬
‫الشبهة الخامسة‪ :‬إذا أراد المخالف أن هذه البدعة‪ ،‬بدعة شرك القصور‪ ،‬هي الكبر‬
‫والعظم‪ ،‬لنه لول مرة في التاريخ تعيش المة هذه الحالة من التجزئة والتعددية الدولية‪.‬‬
‫"لول مرة في التاريخ"‪:‬‬
‫كثيرا ما نسمع هذه الجملة تصف أحداثا في معرض الذم‪ ،‬تخرج من أفواه غير العلماء‬
‫للتدليل على قبح فعل ما والتنفير منه‪ ،‬وبغض النظر عن الدوافع المشبوهة لدى البعض ممن‬
‫يقف وراء إطلق هذه الكلمة‪ ،‬إل أننا نحسن الظن بكثير من قائليها‪.‬‬
‫وسأضرب لذلك مثل‪:‬‬
‫حين استعانت السعودية بالقوات الدولية في حربها ضد النظام الشتراكي في العراق‪،‬‬
‫وقف من وقف من العلماء واصفا الحدث على أنه الول في التاريخ‪ ،‬ونحن نعلم والعقلء‬
‫معنا أن هذا افتراء على التاريخ‪ ،‬وقد حدث مثل هذا في القرن الماضي‪.‬‬
‫نعود إلى موضوعنا لنرى عجبا في واقع المة السلمية من ناحية التجزئة والتفرقة‬
‫التي مرت بها‪ ،‬فما أن انتهت الخلفة الموية‪ ،‬سنة ( ‪132‬هـ)‪ ،‬الموافق ( ‪750‬م) وبداية‬
‫الخلفة العباسية وانتهاء ما يسمى بالعصر الذهبي‪193 ،‬هـ‪809 /‬م‪ ،‬حتى بدأت الدولة‬
‫السلمية بالتجزئة‪ ،‬ولكي تعرف أخي القارئ مدى التجزئة في العالم السلمي وقتئذ‪ ،‬فإنني‬
‫أقدم لك هذه الرقام التي توصلت إليها من خلل حسبة بسيطة أخذت مني القليل من البحث‬
‫في "أطلس تاريخ السلم"‪ ،‬للمؤلف الدكتور حسين مؤنس‪.‬‬
‫عرض الطلس بالشرح والخرائط تاريخ السلم منذ ظهور السلم إلى آخر القرن‬
‫الرابع عشر الهجري‪ ,‬ثم لخص ذلك في جداول تاريخية من صفحة ( ‪ ,)42 -35‬وضع فيه‬
‫السنوات على الخط العامودي والقاليم على الخط الفقي‪ .‬وفيما يلي بيان عدد الدويلت‬
‫السلمية في السنوات المختارة‪:‬‬
‫ففي سنة ( ‪873‬م)‪ ،‬وجدت عشر دويلت – هذا الرقم سيتضاعف لمن أراد التدقيق ‪-‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪ -3‬الدارسة‪-‬ويليلي‪.‬‬ ‫‪ -2‬الرستميون‪ -‬تاهرت‬ ‫في بلد المغرب‪ -1 :‬الغاربة‬
‫‪ -2‬الصفاريون‪.‬‬ ‫‪ -1 :‬بنو طاهر(الطاهريون)‬ ‫في خراسان‬
‫‪ :‬الطولونيون‪.‬‬ ‫في مصر‬
‫‪ :‬الزيديون‪.‬‬ ‫في اليمن‬

‫‪27‬‬
‫في ما وراء النهر والترك‪ :‬السامانيون‪.‬‬
‫‪ :‬المويون‪.‬‬ ‫في الندلس‬
‫وثورة الترك ‪ :‬تركيا‪.‬‬
‫وفي عام ( ‪1180‬م)‪ ،‬وجدت خمس عشرة دولة‪ ،‬منبها على أن هذا العدد إنما هو جزء‬
‫يسير من الواقع‪ ،‬لكن تكفينا منه الشارة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪-1‬الغزنويون في أفغانستان‪.‬‬
‫‪-2‬المويون في الندلس‪ ،‬علما أن الندلس كانت مقسمة‪.‬‬
‫‪-3‬السلجوقيون في بغداد‪.‬‬
‫‪-4‬السلجوقيون في الروم‪.‬‬
‫‪-5‬الموحدون في المغرب‪.‬‬
‫‪-6‬اليوبيون في مصر والشام‪.‬‬
‫‪-7‬التابكة في أذريبجان‪.‬‬
‫‪-8‬التابكة في أربيل‪.‬‬
‫‪-9‬التابكة في الجزيرة‪.‬‬
‫‪-10‬التابكة في سنجار‪.‬‬
‫‪-11‬التابكة في فاس‪.‬‬
‫‪-12‬التابكة في الموصل‪.‬‬
‫‪-13‬الحشاشون‪.‬‬
‫‪-14‬بنو حماد في المغرب‪.‬‬
‫‪-15‬الغوريون في أفغانستان والهند‪.‬‬
‫وعن عالم التفرقة في العالم السلمي‪ ،‬يحدثنا المؤرخ عبد الغني بن سعيد الزدي في‬
‫وقت مبكر بعد وفاة المتوكل بن المعتصم بن الرشيد ( سنة ‪247‬هـ) تحت عنوان‪" :‬ملوك‬
‫مصر بعد ضعف الخلفة العباسية"‪ ،‬يقول‪" :‬وفي خلفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه افتتحت الديار المصرية والبلد الشامية على يد عمرو بن العاص ولم تزل‬
‫في النيابة أيام الخلفاء الراشدين ودولة بني أمية وبني العباس إلى أن ضعفت الخلفة العباسية‬
‫بعد قتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومائتين‪ .‬وتغلب على النواحي‬

‫‪28‬‬
‫كل متملك لها‪ ،‬فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام‪ ،‬ثم دولة الخشيد‪ ،‬وبعده كافور‬
‫أبو المسك‪ .‬ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب‪ ،‬فملكها من غير‬
‫ممانع‪ ،‬وأسس القاهرة‪ ،‬وذلك في سنة إحدى وستين وثلثمائة‪.‬‬
‫وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت‬
‫وسكن بالقصرين وادعى الخلفة لنفسه دون العباسيين‪ .‬وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين‬
‫ومائتين‪ .‬فظهر عبد ال بن عبيد الملقب بالمهدي‪ ،‬وهو جد بني عبيد الحلفاء المصريين‬
‫العبيديين الروافض باليمن‪ ،‬وأقام على ذلك إلى سنة ثمان وسبعين‪ ،‬فحج تلك السنة واجتمع‬
‫بقبيلة من كنانة فأعجبهم حاله‪ ،‬فصحبهم إلى مصر ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى‬
‫المغرب فنما شأنه وشأن أولده من بعده‪ ،‬إلى إن حضر المعز لدين ال أبو تميم معد بن‬
‫اسمعي بن القائم ابن المهدي إلى مصر وهو أولهم فملكوا نيفا ومائتين من السنين‪ ،‬إلى أن‬
‫ضعف أمرهم في أيام العاضد وسوء سياسة وزيره شاور" (‪.)28‬‬
‫وهنا تبرز مسألة وهي‪ :‬عند غياب الدولة السلمية الم أو المام العظم‪ ,‬هل يثبت‬
‫للدول القائمة حكمها فتصح لهم البيعة ويكون الجهاد ماضيا معهم وبإذنهم‪ ,‬وتكون‬
‫علقاتهم مع الغير لها صبغة شرعية؟‬
‫وقد أجبنا على هذه المسألة بالتفصيل في كتابنا وفضيلة الشيخ أبو حمزة سمير مراد‬
‫حفظه ال "مسائل في الجهاد" في المسألة الرابعة‪ .‬ولكن نختصر منه ما يفيدنا في إعداد‬
‫مسائل هذا الكتاب‪.‬‬
‫"قبل الجابة على هذا التساؤل ل بد من التنبيه أن ثمّة فرقا بين حالتي القدرة والعجز‬
‫عند تطبيق المر والنهي‪ ,‬قال المام ابن تيمية رحمه ال تعالى‪" :‬ومن هنا يتبين سقوط كثير‬
‫من هذه الشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الصل لعدم إمكان البلغ الذي تقوم به حجة‬
‫ال في الوجوب أو التحريم‪ ,‬فان العجز مسقط للمر والنهي وان كان واجبا في الصل" (‪.)29‬‬
‫وبمعنى آخر ثمّة فرق بين حالي الختيار والضطرار‪ ,‬ومن لم يفرق بينهما "فقد جهل‬
‫غفُو ٌر َرحِي ٌم‪‬‬
‫ن َ‬
‫عَل ْي ِه ِإ َّ‬
‫غ َو َل عَا ٍد َفلَا ِإ ْث َم َ‬
‫غ ْي َر بَا ٍ‬
‫ط ّر َ‬
‫ضُ‬
‫نا ْ‬
‫المعقول والمنقول" لقوله تعالى‪َ  :‬ف َم ْ‬
‫ض ُط ِر ْرُت ْم ِإَل ْي ِه‪[ ‬النعام‪.]119 :‬‬
‫عَل ْي ُك ْم ِإلّا مَا ا ْ‬
‫ص َل َل ُك ْم مَا َح ّر َم َ‬
‫[البقرة‪ .]173:‬وقوله تعالى‪َ  :‬و َق ْد َف ّ‬

‫"المتوارين الذين اختفوا خوفا من الحجاج"‪( ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ ،)26 -25‬ط‪1410 ،1/‬هـ‪ ،‬دار القلم‪-‬‬ ‫‪28‬‬

‫الدار الشامية‪ .‬تحقيق مشهور حسن‪.‬‬


‫"مجموع الفتاوى" (‪.)61-20/60‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪29‬‬
‫فالمسألة بين يدي البحث هي فرع عن أصل وهو حكم عقد المامة‪.‬‬
‫فمن المعلوم أن "المامة موضوعة لخلفة النبوة في حراسة "الدين وسياسة الدنيا‪,‬‬
‫وعقدها لمن يقوم بها في المة واجب بالجماع وإن شذ عنهم الصم" (‪.)30‬‬
‫وإن لهذه المامة شروطا وأحكاما‪ ,‬ومن أحكامها‪:‬‬
‫* حكم تعدد الئمة وفيه عدة أقوال‪:‬‬
‫القول الول ‪ :‬قول الكرامية بجواز ذلك مطلقا‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬قول الجمهور‪ :‬عدم جواز تعدد المام العظم محتجين بقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم‪" :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الخر منهما"(‪ .)31‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من‬
‫أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"(‪.)32‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن‬
‫استطاع‪ ,‬فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر "(‪.)33‬‬
‫القول الثالث‪ :‬يصح للضطرار‪ ,‬وله ثلث صور‪:‬‬
‫الصورة الولى‪ :‬التباعد في القطار‪ ،‬ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الئمة لتباعد‬
‫القطار‪ :‬الشوكاني (‪ ،)34‬وابن كثير(‪ ،)35‬والقرطبي(‪ ،)36‬وأحمد بن غنيم بن سالم المالكي(‪،)37‬‬
‫والستاذ أبو اسحق‪ :‬ونقل عنه كل من ابن كثير في قوله السابق‪ ،‬والنووي في "روضة‬
‫الطالبين"(‪.)38‬‬
‫الصورة الثانية‪ :‬التغلب‪ ،‬ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الئمة للتغلب‪ :‬إبراهيم‬

‫"الحكام السلطانية" للماوردي (ص ‪.)5‬‬ ‫‪30‬‬

‫رواه مسلم في المارة رقم (‪.)1853‬‬ ‫‪31‬‬

‫رواه مسلم في المارة رقم (‪.)1852‬‬ ‫‪32‬‬

‫رواه مسلم رقم (‪ )1844‬وأوله‪" :‬انه لم يكن نبي قبلي"‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫"السيل الجرار" (‪.)4/512‬‬ ‫‪34‬‬

‫"التفسير" (‪.)1/73‬‬ ‫‪35‬‬

‫في تفسيره‪" :‬الجامع لحكام القرآن" (‪.)1/273‬‬ ‫‪36‬‬

‫في كتابه "الفواكه الدواني" (‪.)1/396‬‬ ‫‪37‬‬

‫(‪.)10/47‬‬ ‫‪38‬‬

‫‪30‬‬
‫ي(‪ ،)40‬ومحمد بن عبد الوهاب(‪.)41‬‬
‫بن محمد بن سالم بن ضويان (‪ ،)39‬والصّنعان ّ‬
‫الصورة الثالثة‪ :‬العجز أو المعصية أو غير ذلك‪ ،‬ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد‬
‫الئمة للعجز أو المعصية أو غير ذلك‪ :‬ابن تيمية‪" :‬والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد‬
‫والباقون نوابه‪ ,‬فإذا فرض أن المة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها أو عجز من‬
‫الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة‪ ,‬لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود‪ ,‬ويستوفي‬
‫الحقوق‪.)42(" ...‬‬
‫* أقوال الفقهاء في ذكر صور لتعدد الئمة في التاريخ السلمي‪:‬‬
‫‪ -‬محمد بن عبد الوهاب‪" :‬لن الناس من زمن طويل قبل المام احمد إلى يومنا هذا‬
‫ما اجتمعوا على إمام واحد" (‪.)43‬‬
‫‪ -‬الصّنعانيّ‪" :‬إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلد السلمية من أثناء الدولة‬
‫العباسية‪ ,‬بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم" (‪.)44‬‬
‫‪ -‬ابن كثير‪" :‬قلت‪ :‬وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق‪ ,‬والفاطميين‬
‫بمصر‪ ,‬والمويين بالمغرب‪.)45("...‬‬
‫‪ -‬الشوكاني‪" :‬وأما بعد انتشار السلم واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم انه قد‬
‫صار في كل قطر أو أقطار الولية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الخر كذلك" (‪.)46‬‬
‫‪ -‬ابن تيمية‪" :‬ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة – أي‬
‫ل وجهادا عن شرق الرض‬
‫المماليك – هي أقوم الطوائف بدين السلم علما‪ .‬عم ً‬
‫ومغربها‪ ...‬وسكان اليمن ضعاف عاجزون عن الجهاد‪ ,‬أو مضيعون له‪ ,‬وهم مضيعون لمن‬
‫ملك هذه البلد‪ ... ،‬وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة‪... ،‬‬

‫"منار السبيل" ( ‪ ,)2/353‬وقد توفي عام ‪1353‬هـ ‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫"سبل السلم شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام" ( ‪.)3/499‬‬ ‫‪40‬‬

‫"الدرر السنية في الجوبة النجدية" (‪.)7/932‬‬ ‫‪41‬‬

‫"مجموع الفتاوى" ( ‪.)176 -175 /34‬‬ ‫‪42‬‬

‫الدرر السنية في الجوبة النجدية (‪.)7/932‬‬ ‫‪43‬‬

‫سبل السلم شرح بلوغ المرام من أدلة الحكام (‪.)3/499‬‬ ‫‪44‬‬

‫تفسير ابن كثير (‪.)1/73‬‬ ‫‪45‬‬

‫السيل الجرار (‪.)4/512‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪31‬‬
‫وأهل اليمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون‪ ,‬وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت‬
‫لغير أهل السلم بهذه البلد‪ ... ،‬وأما بلد أفريقية فأعرابها غالبون عليها‪ ,‬وهم من شر‬
‫الخلق‪ ...،‬وأما المغرب القصى فمع استيلء الفرنج على أكثر بلدهم‪ ,‬ل يقومون بجهاد‬
‫النصارى هناك‪ ,‬بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم‪ .‬فهذا‬
‫وغيره مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة السلم‪ ,‬وعزهم عز‬
‫السلم‪ ,‬وذلهم ذل السلم‪.)47("...،‬‬
‫قلت‪ :‬وبالنظر إلى مقاصد التشريع‪ ,‬التي تبين لنا مدى أهمية المن والمان‪ ,‬وأن من‬
‫مقاصد الدولة السلمية حفظ البلد والعباد والدين‪ ,‬ولو فرض تطبيق القول بعدم جواز كون‬
‫الدويلت السلمية دويلت صحيحة‪ ,‬وعدم جواز تطبيق كونها دو ًل لها أحكام الدولة الم‪,‬‬
‫لتنازع الناس نزاعا ل انقطاع له‪ ,‬من أجل تحقيق الوجود الصحيح للدولة الم‪ ,‬المر الذي‬
‫يؤدي إلى ضياع البلد والعباد‪ ,‬وانتهاك الحرمات والعراض‪ ,‬واستحلل الموال بغير وجه‬
‫حق‪ ,‬مما يجعل هذا القول محض خطأ ونحن في قولنا بأن هذه الدويلت لها – كل واحدة‬
‫على حدة – حكم الدولة الم‪ ,‬حسما لمادة النزاع والفساد‪ ,‬نحن بهذا نُعمل قواعد الشرع التي‬
‫منها‪- :‬‬
‫‪ -1‬الضرر يُزال‪" ،‬عموم البلوى يرفع الحكم أو يخففه"‪.‬‬
‫‪ -2‬تحقيق المقاصد أولى من النظر إلى الوسائل؛ لنه بإعمال هذه القواعد في إثبات‬
‫شرعية هذه الدول على وجه الجمال‪ ,‬ينتج لنا ما يحفظ الضرورات الخمس التي جاءت كل‬
‫أمة بحفظها‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬
‫ع وفسادٍ‪ ,‬والشرع جاء بعصمة‬
‫فالقول بخلف ما قلنا‪ ,‬مُجانب للصواب‪ ,‬مؤ ٍد إلى ضيا ٍ‬
‫مال الرجل ودمه وعرضه‪ ,‬فكيف بدماء أناس مسلمين وذميين وغيرهم وأموالهم‬
‫وأعراضهم‪ ,‬إذ القائل بغير ما قلنا‪ ,‬فكأنما يُهدر ويُبيح كل ما ذكرنا‪ ,‬المر الذي يصادم قواعد‬
‫الشرع مطلقا"‪ ،‬انتهى الملخص‪.‬‬
‫من الجهل أن يظن بنا البعض‪ ،‬أننا نرضى من خلل عرضنا لما سلف‪ ،‬بحالة‬
‫الخروج عن شرع ال‪ ،‬أو حالة الشرذمة والتجزئة التي نعيشها هذه اليام‪ ،‬أو تكريس هذا‬
‫الواقع والدعوة إليه‪ ،‬إنما يأتي عرض هذه المسألة من باب العلم بالواقع الصحيح‪ ،‬وذلك لن‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)534-28/533‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪32‬‬
‫معرفته ومعرفة الحكام الشرعية ضرورة شرعية للحكم والقضاء‪ ،‬فالخطأ في فهم الواقع أو‬
‫تجاهله عند إصدار الفتاوى في النوازل يؤدي بنا إلى المهالك‪ ،‬تماما كالذي يفتي وهو يجهل‬
‫الحكام الشرعية‪ .‬يقول ال تعالى‪ :‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَولً سَديدا ‪‬‬
‫يُصلِح لَكُم أعمالَكُم و َي ْغفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُطِعِ الَ و َرسُولَهُ فَقد فَازَ فَوزا عَظيما‪‬‬
‫[الحزاب‪ ،]71-70:‬فالقول السديد هو الموافق والمطابق للواقع الذي به يصلح ال أعمالنا‬
‫ب َهذَا حَل ٌل َو َهذَا َحرَا ٌم ِلَت ْفَترُوا‬
‫سَنُت ُك ْم اْل َك ِذ َ‬
‫ف َأْل ِ‬
‫ص ُ‬
‫ويغفر لنا ذنوبنا‪ .‬قال تعالى‪َ  :‬و َل َتقُولُوا ِلمَا َت ِ‬
‫ن‪[ ‬النحل‪.]116:‬‬
‫ب َل ُي ْفِلحُو َ‬
‫علَى الّل ِه اْل َك ِذ َ‬
‫ن َ‬
‫ن َي ْفَترُو َ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫علَى الّل ِه اْل َك ِذ َ‬
‫َ‬

‫‪33‬‬
‫الشبهة السادسة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬لقد نظرت إلى سيرة سلف المة من العلماء‪,‬‬
‫فوجدتهم قد ركزوا في دعوتهم على أكبر النحرافات الفكرية والعقدية المنتشرة في‬
‫زمانهم‪ ,‬كالنحراف في عقيدة السماء والصفات‪ ,‬والقدر‪ ,‬والوعد والوعيد‪ ,‬ونحو ذلك من‬
‫ص بها زمان دون آخر‪ ,‬وعلى ذلك وباعتبار أن بدعة العصر الكثر‬
‫العقائد التي اخت ّ‬
‫شيوعا‪ ،‬هي بدعة الحاكمية لغير ال‪ ,‬وأنها الشرك الكبر‪ ,‬جعلت محاربتها من أولويات‬
‫العمل السلمي‪.‬‬
‫جواب ذلك‪:‬‬
‫‪-1‬أن ما قام العلماء بإنكاره قديما‪ ,‬ل يزال ممتدا حديثا‪ ,‬لكن قد يق ّل وقد يكثر‪ ,‬وعلى سبيل‬
‫المثال نجد أن معتقدات الصوفيّة قد كثرت حتى تسربل بها غالب أفراد المة في‬
‫الباكستان وأفغانستان خاصّة ودول الجمهوريّات السلمية في التّحاد السوفيتي سابقا‬
‫وإيران وبلد المغرب العربي عامّة‪ ,‬ونجد كذلك نسبتها عالية في كل من مصر‬
‫والسودان والعراق وبنسبة أقل في بلد الشام‪.‬‬
‫‪-2‬لم يكن منهج علماء السلف السكوت عن النحرافات المنتشرة في زمانهم حتى تشيع‬
‫في المة‪ ،‬بل كان هديهم التحذير من النحرافات ومحاربتها وهي في مهدها‪ ،‬فهذا ابن‬
‫عباس يحذر عمر رضي ال عنه‪ ،‬من خطر من دخل السلم من علوج المجوس‬
‫الذين بدأوا في النتشار في المدينة‪ .‬وهذا علي وابن عباس رضي ال عنهما يناظران‬
‫الخوارج في أفكارهم قبل سعة انتشارها‪ .‬وكم سجّل لنا التاريخ مواقف سلف المة في‬
‫التصدي لحركة الترجمة عن كتب اليونان الفلسفية قبل امتدادها في طول العالم‬
‫السلمي وعرضه!!! فاقرأ إن شئت ما ورد عن الئمة الربعة ومن قبلهم في النهي‬
‫عن ذلك وليس هذا بحثه‪.‬‬
‫‪-3‬أما عن النحرافات التشريعية في الدويلت السلمية‪ ،‬ففي الماضي كان غالب‬
‫الدويلت المنشقة عن سلطان المة باطنية خارجة عن السلم أصل‪ ،‬كما يوجد في‬
‫هذا الزمان (للتأكد راجع واقع العالم السلمي أيام ابن تيمية كما مر معك سابقا)‪.‬‬
‫وكذلك في المقابل قد وجد من الدول السلمية قديما‪ ،‬ما يمثل دولة السلم بمساحة تقل‬
‫عن ثمانية في المائة من كامل مساحة العالم السلمي وقتئذٍ‪ ،‬كما هو الحال في دولة‬
‫المماليك‪ ،‬وقد انتشرت فيها الفكار الصوفية‪ ،‬والنحرافات العقدية التي سجن ابن تيمية بسبب‬

‫‪34‬‬
‫إنكارها ومحاربتها‪ ،‬كما وقع فيها من النحراف في التشريع كتحكيم الياسة (اليسق) فيما‬
‫يتعلق منها بأحكام الجند وتأديبهم‪ ،‬كما مر معك سابقا‪.‬‬
‫وفي المقابل نجد في هذا الزمان من الدويلت السلمية (السعودية) التي ل تقل‬
‫مساحتها عن مساحة دولة المماليك قديما ول تزيد في انحرافاتها عن انحراف دولة المماليك‬
‫سواء في الجانب التشريعي أو الجانب السلوكي الخلقي‪ ،‬أما في الجانب الدعوي والدفاع‬
‫عن السلم وصفاء العقيدة ونقائها فقد سبقت الدولة السعودية كل سابق‪ ،‬ومن أراد التفاعل‬
‫مع هذه النقطة بالذات قبل ردها عليه‪:‬‬
‫أول‪ :‬أن يراجع تاريخ العالم السلمي‪ ،‬ليلحظ ما وصل إليه من النحرافات‪ ،‬وأن‬
‫ينظر إلى واقعه الذي يعيشه في هذا الزمان بعين العقل ل العاطفة‪ ،‬بعيدا عن كل مظاهر‬
‫الطبل العلمي المغرض المشبوه الذي يقلب الحقائق ويزور التاريخ‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬عليه أن يتذكر كيف أن الحرب النفسية امتدت إلى عقول قطاعات من المة في‬
‫زمن عثمان رضي ال عنه‪ ،‬رغم أنه خير البشر يمشي في زمانه على الرض‪ ،‬حتى‬
‫أظهرته الظالم المستبد‪ ،‬وقتل متهما بالفسق والظلم بل كفره البعض‪ ،‬فكيف يكون الحال مع‬
‫ولة أمور لن يصلوا إلى عشر معشار عثمان رضي ال عنه في الفضل والستقامة والعدل‬
‫والمنزلة عند ال تعالى؟! لنتذكر هذا جيدا‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى‪" :‬ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر‬
‫إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين "(‪.)48‬‬
‫وبناء على ما سبق ذكره‪ ،‬نلحظ ما يلي‪:‬‬
‫•أن واقعنا المعاصر لم يكن حالة ل نظير لها في التاريخ السلمي كما أراد المخالف‪،‬‬
‫ل من الناحية التشريعية ول من الناحية السلوكية بشكل عام‪.‬‬
‫•ونلحظ كذلك وجود دويلت إسلمية معاصرة‪ ،‬تقترب في الفضل من دولة المماليك‪،‬‬
‫بل إن دولة المماليك تقل عن بعضها في الجانب التشريعي والسلوكي والدعوي وجهاد‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫•ونلحظ كذلك أن كثيرا من العقائد والفكار التي عملت المة قديماً على إنكارها‬
‫ومحاربتها‪ ،‬ل زالت منتشرة في مساحات شاسعة من بلد المة السلمية‪ ،‬وعليه يحق‬

‫"فتاوى ابن تيمية" في الفقه (ج ‪ 20‬ص ‪.)54‬‬ ‫‪48‬‬

‫‪35‬‬
‫لنا في المقابل أن نجعل من محاربة هذه الفكار المخالفة والدخيلة على السلم‪،‬‬
‫والواسعة النتشار‪ ،‬على أول سلم الوليات في العمل السلمي‪.‬‬
‫•وعلى فرض أن هذه البدعة بدعة شرك القصور هي البدعة العظم والنحراف الكبر‬
‫في هذا الزمان‪ ،‬إل أنه ل بد من مراعاة الولويات التي قبلها‪ ،‬لن تحقيق الستخلف‬
‫له شروطه‪ ،‬فانتفاء هذه الشروط أو بعضا منها يؤدي إلى انتفاء حصول المشروط أي‬
‫تحقق الخلفة‪ .‬إذن ل مناص أمامنا من التدرج للوصول إلى نصرة ال تعالى لنا‪ ،‬ابتداء‬
‫باليمان والعمل الصالح ثم محاربة كل مظاهر الشرك وتوحيد ال تعالى في عبادته كما‬
‫مر معنا سابقا في شرح قوله تعالى‪" :‬وعد ال الذين آمنوا منكم‪"...‬الية‪.‬‬
‫•إن كثيرا من المسلمين اليوم ينطلق في حكمه وبالتالي في تعامله مع النظمة القائمة من‬
‫خلل نظرة البيض والسود فقط‪ ،‬فالبيض عندهم يمثل الخلفة الراشدة فقط‪ ،‬والسود‬
‫ما دون الخلفة الراشدة‪ ،‬وقد تناسوا أن هناك نحو ( ‪ )2000‬لون واقعة ما بين البيض‬
‫والسود تميز بالعين المجردة‪.‬‬
‫فبنظرتهم هذه المخالفة للسلم‪ ،‬قد عطلوا من القواعد الصولية الهامة الكثير‪ :‬منها‬
‫قاعدة‪" :‬معرفة أفضل الخيرين وأسوأ الشرين"‪ ،‬وقاعدة‪" :‬دفع المفسدة العظمى بالصغرى"‪،‬‬
‫وقاعدة‪" :‬درء المفاسد أولى من جلب المنافع"‪ ،‬وقاعدة‪" :‬الضرورات تبيح المحظورات"‪،‬‬
‫وقاعدة‪" :‬عموم البلوى"‪ ،‬وقاعدة‪" :‬الحكم مناط بالقدرة"‪ .‬وليس هذا فقط‪ ،‬بل تركوا قول‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم المحكم‪" :‬سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يصدق فيها‬
‫الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها المين وينطق فيها‬
‫الرويبضة! قيل‪ :‬وما الرويبضة؟ قال‪ :‬الرجل التافه يتكلم في أمر العامة"(‪.)49‬‬
‫فالرسول صلى ال عليه وسلم يخبرنا بوجود الصادقين والمناء‪ ،‬فكما أننا متفقون على‬
‫وجود بعض النظمة الخائنة لدينها ولُمتها ولوطنها‪ ،‬والتي طالما صفق لها الغثاء من الناس‬
‫وخدعوا بما صاحوا به ونادوا من بيانات كاذبة ضد إسرائيل‪ ،‬فانطبق عليهم شطر الحديث‬
‫"يصدق الكاذب ويؤتمن الخائن"؛ فكذلك يوجد في الواقع الصنف الخر من النظمة من‬
‫الصادقين والمناء‪ ،‬لكننا عمّينا عن رؤيتهم ومعرفتهم‪ ،‬لننا غثاء حملنا تيار فكري جارف‪،‬‬

‫"السلسلة الصحيحة" (‪ ،)4/508‬و"صحيح ابن ماجة" لللباني‪ ،‬رقم (‪ ،)2/1339( ،)4036‬بدون‬ ‫‪49‬‬

‫كلمة (يتكلم)‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫يقول لنا عنهم خون وكذبة‪ ،‬فنردد معه‪ ،‬ونقول نعم هم كذلك‪ ،‬وقد وصل المر بالبعض من‬
‫هؤلء الغثاء‪ ،‬أن قدم روحه في هذا السبيل الغثائي بكل إخلص‪ ،‬وهذا يكشف لنا عن مدى‬
‫تقدم علم الجاسوسية المتصهين‪ ،‬وذراعه القوى الاشتراكي(‪ ،)50‬ول حول ول قوة إل بال‬
‫العلي العظيم‪.‬‬
‫(‪) 51‬‬
‫احتمالت تقسيمات النظمة حسب أمانتهم أو خيانتهم‬

‫أنظمة أمينة صادقة‬ ‫أنظمة خائنة كاذبة‬ ‫الحكم‬ ‫الرقم‬


‫كلهم أمناء صادقون بدرجة‬ ‫كلهم خون كاذبون بدرجة‬ ‫غير واقعي‬ ‫‪1‬‬
‫واحدة‬ ‫واحدة‬
‫كلهم أمناء صادقون بدرجات‬ ‫كلهم خون كاذبون بدرجات‬ ‫غير واقعي‬ ‫‪2‬‬
‫متفاوتة‬ ‫متفاوتة‬
‫أكثرهم أمناء صادقون‬ ‫أكثرهم خون كاذبون‪،‬‬ ‫واقعي‬ ‫‪3‬‬
‫وبعضهم خون كاذبون‬ ‫وبعضهم أمناء صادقون‬

‫•وبسبب تسرب بعض الفكار الموجهة المسمومة إلى عقول المسلمين اليوم التي تقف‬
‫خلفها مراكز توجيه متخصصة‪ ،‬فانه يوجد من التصنيفات الجاهزة وقوالب العمالة‬
‫والتخوين لصاحب الخلفة الراشدة المنتظرة – كما أخبر بها الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم في آخر الزمان ‪ -‬ما يؤلب الغثاء من الناس عليه وعلى خلفته‪ ،‬في ظل سيطرة‬
‫الصهيونية والشتراكية على وسائل العلم‪ ،‬وعدم وعي المسلمين بواقعهم‪ ،‬حيث ل‬
‫يفرقون بين العدو والصديق‪ ،‬بل ينحازون إلى العدو ضد الصديق‪ ،‬وصدق قول ال‬
‫تعالى فينا‪ :‬وفيكم سماعون لهم‪.‬‬
‫•على المة أن تتعلم فقه الواقع تعلما‪ ،‬كما تتعلم القراءة والكتابة‪ ،‬لن كثيرا من هذه‬
‫القلم‪ ،‬جاهدت في سبيل الشيطان وهي تظن أنها تحسن صنعا‪ ،‬فليتها ما تعلمت‬
‫وكتبت ما ظنته علما وبقيت على جهلها البسيط وأميّتها‪ ،‬فالجهل المركب أخطر على‬

‫أما حزب التحرير‪ ،‬فإننا نعتقد جازمين أن نوايا أفراده صالحة‪ ،‬ولكنهم أقنعوا بمفاهيم ونظريات‬ ‫‪50‬‬

‫وتحليلت سياسية عكست الواقع‪ ،‬ومهدت للمد الشتراكي في بلد السلم‪ ،‬حين ألصقوا كل‬
‫جرائم الشتراكية بالرأسمالية‪.‬‬
‫هذا التقسيم يراد به النظمة في الدول العربية والسلمية بدرجة أولى‪.‬‬ ‫‪51‬‬

‫‪37‬‬
‫المجتمع وأشنع‪ ،‬لن صاحب الجهل البسيط يشعر بتقصيره تجاه واجب طلب العلم‪.‬‬
‫أما الخر فأنّا له ذلك وهو يعتقد أنه على الحق‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫هل البروتوكولت من وضع اليهود؟‬

‫يذهب البعض إلى التشكيك في نسبة البروتوكولت لليهود لغايات وأسباب متعددة؛ وإن‬
‫كان هذا الزعم الغريب ملفتا للنظر‪ ،‬ويضع علمات استفهام حول أصحابه‪ ،‬إل أننا‬
‫مضطرون للرد عليه مهما كانت قسوته أو مجافاته للحق‪.‬‬
‫فقد رد القرآن الكريم على ادعاءات وشبهات الكافرين بالحجة الساطعة‪ ،‬وبين لهم سوء‬
‫ظنونهم ومساوئ اعتقاداتهم في العديد من المواضع القرآنية‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬هل يعقل أن تصل الدرجة في البعض أن يشك في أن ال تعالى خير من‬
‫ن‪[ ‬النمل‪ ،]59:‬وقال‪ :‬‬
‫ش ِركُو َ‬
‫الرباب والنداد ؟ حتى قال ال تعالى رادا عليهم‪ :‬آلّل ُه َخ ْي ٌر َأمّا ُي ْ‬
‫ن َخ ْي ٌر َأ ِم الّل ُه اْلوَا ِح ُد اْل َقهّا ُر‪[ ‬يوسف‪.]39:‬‬
‫ب ّمَت َف ّرقُو َ‬
‫َأَأ ْربَا ٌ‬
‫إذن ل بد من مواجهة الشبهات والتضليلت مهما كانت سخيفة وساقطة من أساسها‪،‬‬
‫وذلك لقامة الحجة على أصحابها وحماية الفراد من النسياق خلف زخرفها والفتتان بها‪،‬‬
‫ن َل ُه ْ‪‬م [التوبة‪.]47:‬‬
‫سمّاعُو َ‬
‫قال ال تعالى واصفا حال البعض مع المنافقين‪َ  :‬وفِي ُك ْم َ‬
‫يقول البريطان مُصدّر الطبعة الخامسة النجليزية للبروتوكولت الصادرة عام ‪:1921‬‬
‫"إن نفاد طبعة أخرى أيضا من هذا الكتاب ليدل على أنه لم ينقص تلهف الناس على استقبال‬
‫أخبار بروتوكولت صهيون‪ ،‬وأنه ليزداد وضوحا كل يوم أن سياسة البروتوكولت الن‬
‫تطبق بعنف على الأمميين‪ ،‬لن حكوماتهم كما يفخر المستر إسرائيل زانجفيل مطوقة‬
‫باليهود ووكلئهم‪ .‬إن العالم مدين للستاذ البروفيسور سرجي نيلوس بنشر هذا الكتاب‬
‫المفزع للعالم سنة ‪1901‬م ‪ ...‬ويزعم اليهود ضرورة‪ ،‬أن البروتوكولت مزيفة‪ ،‬ولكن‬
‫الحرب العظمى ليست زورا‪ ،‬ول مصير روسيا زورا‪ ،‬وبهذين المرين تنبأ حكماء صهيون‬
‫منذ أمد طويل يرجع إلى سنة ‪1901‬م"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ويتجلى تطبيق ما ورد في البروتوكولت عند قراءة الساليب المستخدمة في الحرب‬
‫الثورية الشيوعية اليهودية على الأمميين لتحقيق أهدافهم‪.‬‬
‫قال محمد خليفة التونسي‪" :‬وكذلك تنبه بعض الكتاب الذين قارنوا بين تلك الفظائع‬
‫البلشفية والبروتوكولت الصهيونية فسموا البروتوكولت "النجيل البلشفي" لما لحظوا بينهما‬
‫من توافق عجيب‪ .‬كما لحظ كاتب إنجليزي مناورات اليهود للتشكيك في نسبة الكتاب إليهم‪،‬‬
‫ففند مزاعمهم بحجج كثيرة‪ :‬من بين ذلك التوافق العجيب بين نبوءات البروتوكولت في سنة‬

‫‪39‬‬
‫‪ 1901‬وتلك الويلت التي رمى بها اليهود العالم كفتنة البلشفية اليهودية وغيرها من الفتن في‬
‫روسيا وسائر البلد الوروبية "(‪.)52‬‬
‫بمعنى آخر إذا كان الخطر الشيوعي حقيقة قائمة ليس خيالً‪ ،‬وإذا كانت الشيوعية من‬
‫صنع اليهود‪ ،‬وإذا كان ما ورد في البروتوكولت من أساليب ثورية يوافق تماما ما تقوم به‬
‫الحرب الثورية الشيوعية‪ ،‬فقد دل ذلك كله على أن البروتوكولت هي حقيقة واقعة يقف‬
‫خلفها اليهود بل ريب‪ ،‬وهاك المثال التالي‪:‬‬
‫يعتبر اليهود الحريات السياسية ضرورة ووسيلة مرحلية فقط‪ ،‬ل حقيقة واقعة‪،‬‬
‫يطالبون بها ويسخرونها لصالحهم إذا كانوا خارج الحكم ‪ -‬باعتبارها طعما لجذب العامة ‪.-‬‬
‫ولكن يحرمونها الشعوب المقهورة بعد توليهم أو وكلئهم للحكم‪.‬‬
‫يقول البروتوكول الول (‪" :)53‬أن الحرية السياسية ليست حقيقة‪ ،‬بل فكرة‪ .‬ويجب أن‬
‫يعرف النسان كيف يسخر هذه الفكرة عندما تكون ضرورية‪ ،‬فيتخذها طعما لجذب العامة‬
‫إلى صفه‪ ،‬إذا كان قد قرر أن ينتزع سلطة منافس له"‪.‬‬
‫وفي البروتوكول الثاني والعشرين يقرر اليهود بعد استلمهم الحكم نسف الحريات‬
‫جميعا كحرية " نشر العقيدة والمساواة ونحوها" (‪ .)54‬بل بعد استلم الحكم يصير الناس سخرة‬
‫وعبيدا(‪.)55‬‬
‫هذا هو موقف اليهود من الحريات السياسية قبل سيطرتهم على السلطات وبعد ذلك‪،‬‬
‫فهل اختلف الموقف الشتراكي من الحريات السياسية عن موقف اليهود هذا‪.‬‬
‫للجابة على ذلك‪:‬‬
‫يجب التذكير بأن البروتوكولت إنما وضعها اليهود لتكون في غاية السرية‪ ،‬وليست‬
‫قابلة للنشر‪ ،‬إنما نشرت رغما عنهم‪ ،‬لذلك فقد عكست الخلق الحقيقية والنوايا السيئة لليهود‬
‫تجاه العالم‪ ،‬بخلف موقف إسرائيل اليجابي المعلن تجاه هذه الحريات‪ ،‬إذ به تخادع الرأي‬
‫العام العالمي لتنال الدعم والتأييد الدولي لقضاياه‪ ،‬بينما مباديء الماركسية الشيوعية صيغت‬

‫مقدمة كتاب "الخطر اليهودي‪ ،‬بروتوكولت حكماء صهيون"‪( ،‬ص ‪.)35‬‬ ‫‪52‬‬

‫صفحة (‪ ،)29‬ط‪ ،‬مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫صفحة (‪ ،)241‬ط‪ ،‬مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫برتوكول رقم (‪( )5‬ص ‪ .)175‬وبروتوكول رقم (‪( )23‬ص ‪ ،)245‬وغيره‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫‪40‬‬
‫صياغة لتكون علنية تخاطب الجماهير والعمال والمثقفين‪ ،‬لذلك ظهرت منافقة مخادعة‬
‫مضللة للشعوب‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي وعدت الجماهير الساذجة نظريا بالحريات السياسية والديمقراطية‬
‫وحقوق النسان إن هي ظفرت بالسلطة‪ ،‬نجدها في الجانب العملي الواقعي بعد السيطرة على‬
‫الحكم‪ ،‬قد حرمت الجماهير من أبسط الحريات العامة وحقوق النسان‪ ،‬حتى أنها قد حولت‬
‫البلد إلى نصفين‪ ،‬نصف للقبور وللمقابر الجماعية‪ ،‬والنصف الخر للسجون النفرادية‬
‫وغير النفرادية‪.‬‬
‫كيف ظهرت البروتوكولت؟‬

‫يقول البروفسور سرجي نيلوس في مقدمة كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون"‪" :‬لقد‬
‫تسلمت من صديق(‪ )56‬شخصي‪ -‬هو الن ميت ‪ -‬مخطوطا يصف بدقة ووضوح عجيبين‬
‫خطة وتطورا لمؤامرة عالمية مشئومة‪ ،‬موضوعها الذي تشمله هو جر العالم الحائر إلى‬
‫التفكك والنحلل المحتوم‪ .‬هذه الوثيقة وقعت في حوزتي منذ أربع سنوات ( ‪1901‬م)‪ ،‬وهي‬
‫بالتأكيد صورة حقة في النقل من وثائق أصليـة‪ ،‬سرقتها سيدة فرنسية‪ ،‬من أحـد الكابر‬
‫ذوي النفوذ والرياسة السامية من زعماء الماسونية الحرة‪ ،‬وقد تمت السرقة في نهايـة‬
‫اجتماع سري بهذا الرئيس في فرنسا‪ ،‬حيث وكر "المؤتمر الماسوني اليهودي"‪ ،‬وللذين‬
‫يريدون أن يروا ويسمعوا‪ ،‬أخاطر بنشر هذا المخطوط تحت عنوان‪" :‬بروتوكولت حكماء‬
‫صهيون"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ومن المثير أن البروفيسور سرجي نيلوس بعد الطلع على أسرار هذا المخطط‬
‫اليهودي الجرامي كان قد تنبأ بسقوط روسيا بيد اليهود قبل سقوطها على يد اليهود البلشفة‬
‫الشيوعيين حين قال‪" :‬ولنؤجل ساعة انهيار روسيا"(‪ .)57‬وقال عن حركة الفعى اليهودية‪:‬‬
‫"ولكن السهام تشير إلى حركتها التالية نحو موسكو وكييف وأودسا" (‪ .)58‬فهل كان سرجي‬
‫كاهنا أم يعلم الغيب أم أنها القراءة الصحيحة للواقع؟!‬

‫هو أليكس نيقول نيفتش كبير جماعة أعيان روسيا الشرقية‪ .‬كما جاء في الحاشية‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫مقدمة كتاب "بروتوكولت حكماء صهيون"‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫تعقيب البروفيسور سرجي نيلوس على البروتوكولت‪.‬‬ ‫‪58‬‬

‫‪41‬‬
‫تنص البروتوكولت صراحة في مواطن عديدة منها على أنها من وضع اليهود‪ ،‬وهذا‬
‫ملخص لتلك المواطن وموضعها من الكتاب (رقم الصفحة ‪ /‬رقم البروتوكول) ‪:59‬‬
‫•ورد ذكر الشعب المختار الدال على اليهود في المواضع التالية‪،)76/5 ( ،)77/5 ( :‬‬
‫( ‪.)230/20 ( ،)154/13 ( ،)158/14 ( ،)154/14 ( ،)132/11‬‬
‫•ورد ذكر َملِك إسرائيل في المواضع التالية‪( ،)245/23 ( ،)197/17 ( ،)184/15 ( :‬‬
‫‪.)250/24 ( ،)250/24‬‬
‫•ورد قولهم عن الجيال القادمة أنها "ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى" في‬
‫الموضع‪.)155/14 ( :‬‬
‫قلت‪ :‬وأقوى الدلة على تجريم المتهم على الطلق‪ ،‬اعترافه الصريح الواضح‪ .‬فلم‬
‫يصر البعض على عدم نسبة هذا الكتاب إلى اليهود ول يعترفون بأنه من وضعهم‪ ،‬أو أنهم‬
‫وضعوه للدعاية فقط كقول حزب التحرير؟ وما حكم التستر على الجاني؟ أل يخشى من ينفي‬
‫نسبة البروتوكولت إلى اليهود اللعن من ال؟‬
‫فقد "لعن ال من آوى محدثا"(‪ - )60‬أي‪ :‬لعن ال من تستر على صاحب جريمة‬
‫مطلوب للعدالة ‪ -‬فكيف بمن يتستر على المصدر الول للجرائم "وعلى مفسدي العالم‬
‫ومحركي الفتن فيه وجلديه"(‪)61‬؟‬
‫وكذلك الحال بمن يتستر على جرائم الشيوعية اليهودية بمختلف أسمائها‪ ،‬التي سجلت‬
‫الرقم القياسي العالمي في حملت الإبادة والدمار وأعمال السلب والنهب وغيره‪.‬‬

‫طبعة مكتبة اليمان‪ ،‬المنصورة‪ ،‬أمام جامعة الزهر‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫صحيح مسلم‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫اليهودي الدكتور أوسكار ليفي‪ ،‬البروتوكولت (ص ‪.)5‬‬ ‫‪61‬‬

‫‪42‬‬
‫الشبهة السابعة‪ :‬لو قال المخالف‪ :‬إن إقامة الحدود على الرعية‪ ،‬مقدم على إصلحها‬
‫– أي أن لها الولوية‪ -‬لما في ذلك من زجر للعصاة والمجرمين‪ ،‬وبالتالي يستقيم‬
‫ن‪[ ‬البقرة‪.]179:‬‬
‫ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ‬
‫ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي اْلَأْلبَا ِ‬
‫المجتمع‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ‬
‫ولقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن‬
‫يمطروا أربعين صباحا"(‪‌ .)62‬‬
‫الجواب‪:‬‬
‫ن تفيدنا فقط في‬
‫ب َل َعّل ُك ْم َتّتقُو َ‪‬‬
‫ص َحيَا ٌة يَا ُأ ْولِي اْلَأْلبَا ِ‬
‫‪ -‬إن الية الكريمة‪َ  :‬وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ‬
‫ردع القتلة‪ ،‬إذا أرادوا القتل الحرام لخوفهم على أنفسهم من القتل بالقصاص الشرعي الذي ل‬
‫يحابي أحدا‪ ،‬فلو لم يصن الشرع الحكيم حق المقتول ظلما‪ ،‬لسعى أهل المقتول إلى أخذ حقهم‬
‫بأيديهم‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬ولسوء تقدير المخلوق بما ينفعه أو يضره‪ ،‬فقد يتجاوز في النتقام إلى‬
‫انتهاك حقوق أخرى للقاتل‪ ،‬فيقوم أهل القاتل من باب النتقام لرد حقوقهم إلى ممارسة القتل‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وهكذا تهدر أنفس كثيرة في المجتمع‪ ،‬لذلك وبوجود هذا القصاص الشرعي‬
‫العادل يحيا المجتمع‪.‬‬
‫قال القرطبي‪" :‬ولكم في القصاص حياة" هذا من الكلم البليغ الوجيز كما تقدم‪ .‬ومعناه‪:‬‬
‫ل يقتل بعضكم بعضا; رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك‪ .‬والمعنى‪ :‬أن القصاص إذا أقيم‬
‫وتحقق الحكم فيه ازدجـر من يريد قتل آخر‪ ,‬مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معاً‪ .‬وكانت‬
‫العرب إذا قتل الرجل الخر حمي قبيلهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير;‬
‫فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا القتتال; فلهم في ذلك حياة‪ .‬اتفق أئمة الفتوى‬
‫على أنه ل يجوز لحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان‪ ,‬وليس للناس أن يقتص بعضهم‬
‫من بعض; وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك; ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض‬
‫أيدي الناس بعضهم عن بعض" انتهى‪.‬‬
‫ص َحيَا ٌة) يقول تعالى‪ ،‬وفي شرع القصاص‬
‫وقال ابن كثير‪" :‬وقوله‪َ ( :‬وَل ُك ْم فِي اْل ِقصَا ِ‬
‫لكم‪ ،‬وهو قتل القاتل حكمة عظيمة‪ ،‬وهي بقاء المهج وصونها‪ ،‬لنه إذا علم القاتل أنه يقتل‪،‬‬
‫انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس‪ ،‬وفي الكتب المتقدمة‪( :‬القتل أنفى للقتل)‪،‬‬

‫تخريج الشيخ اللباني‪( :‬ن هـ) عن أبي هريرة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪( :‬حسن) انظر حديث‬ ‫‪62‬‬

‫رقم‪ )3130( :‬في "صحيح الجامع"‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز "ولكم في القصاص حياة"‪ .‬قال أبو العالية‬
‫جعل ال القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل‪ .‬وكذا روي عن‬
‫مجاهد وسعيد بن جبير وأبي مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعلى الرغم من إقرار تطبيق الحكام الشرعية في القصاص والحدود الخرى‬
‫في النظام‪ ،‬لبد أن يكون المجتمع صالحا بعمومه أولً‪ ،‬لكي ينعكس ذلك إيجابا على المجتمع‪،‬‬
‫لن السلطة التنفيذية في الجهاز الحكومي هم من البشر وليسوا ملئكة‪ ،‬يعتريهم ما يعتريهم‬
‫من شبهات وشهوات تضعف نفوسهم عن متابعة تطبيق الحكم كما يريدهم ال تعالى بعيدين‬
‫عن تأثير العلقات الجتماعية والمحسوبيات وقبول الرشاوى والهدايا التي تضعف أمر‬
‫مراقبة أمر ال تعالى‪ ،‬فلكي يكون الجهاز التنفيذي قويا وصلبا ل يتأثر بمثل هذه‬
‫الضغوطات‪ ،‬وجب رفع درجة اليمان عنده‪ ،‬وبالتالي وجب إصلح المجتمع الذي سيفرزه‪،‬‬
‫فنكون بذلك عدنا إلى سنة ال تعالى الكونية في الصلح من جديد‪.‬‬
‫لذلك فقد رأينا وقوع كثير من النحرافات والتساهل في تطبيق أحكام القصاص‬
‫والحدود في أنظمة الحكم السلمية المختلفة‪ ،‬وقد ضربنا لذلك مثالين اثنين في التاريخ‬
‫السلمي‪ ،‬كما مر معك من قريب‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬الصلح مقصوده موافقة الظاهر للباطن‪ ،‬فالمتناع عن ارتكاب الجريمة ل يعني‬
‫بالضرورة صلح الممتنع عنها‪ ،‬أو حصول التغيير اليجابي بقلبه‪ .‬وسيأتي بيان معنى‬
‫التغيير من كلم ابن تيمية لحقا‪ ،‬لذلك لو فرضنا أن نظاما صارما طبق الحكام والحدود‪،‬‬
‫على أفراد المجتمع وخضعوا لها في الظاهر‪ ،‬بل هم لها كارهون‪ ،‬فإن ذلك ل يعتبر من باب‬
‫تغيير ما بالنفس الذي يترتب عليه تغيير المجتمع‪ ،‬حتى تخضع لها قلوبهم‪" .‬فإن ما في‬
‫النفس مما يناقض محبة ال و التوكل عليه و الخلص له و الشكر له يعاقب عليه لن هذه‬
‫المور كلها واجبة‪ .‬فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه‬
‫الواجبات " (‪.)63‬‬
‫فل بد إذن من وجود فئة من الناس سيخضعون للنظام ظاهرا دون قلوبهم‪ ،‬وآخرون‬
‫ل يخضعون ل ظاهرا ول باطنا‪ ،‬وقسم ثالث هم المؤمنون الذين وقعوا في الذنوب فأتبعوا‬
‫أمرهم توبة وندما‪ .‬فالمطلوب من الصالحين تجاههم جميعا العمل على تخفيض نسبتهم في‬

‫"مجموع الفتاوى" (ج‪ 14:‬ص ‪.)109‬‬ ‫‪63‬‬

‫‪44‬‬
‫المجتمع بالمر بالمعروف (بالمعروف) والنهي عن المنكر (بل منكر) حتى تقل نسبتهم‬
‫ويظهر الصلح في المجتمع ويعم‪ .‬لذلك ستساهم إقامة الحدود في جعل فئة المتمردين عليها‬
‫ظاهرا وباطنا في حدودها الدنيا فقط‪ ،‬بحيث ينظر الناس إلى أهلها بازدراء‪ ،‬فيقل نقل العدوى‬
‫منهم إلى غيرهم إلى حده الدنى‪ ،‬بذلك يبقى المجتمع سليما معافى‪.‬‬
‫أما بالنسبة للحديث الشريف‪" :‬حد يعمل في الرض خير لهل الرض من أن يمطروا‬
‫أربعين صباحاً"‪ ،‬فهو ل يصلح للستدلل على ما نحن فيه‪ ،‬ول يوجد فيه ولو دللة ظنية‬
‫تفيد بأن إصلح النظم أولى من إصلح المجتمع‪ ،‬فإن معناه الواضح ل يتعدى تسمية فوائده‬
‫الدنيوية على المجتمع‪ ،‬ولو صح الستدلل بالحديث‪ ،‬لكان من الولى الستدلل بما هو أكثر‬
‫ش ْه ٍ‪‬ر [القدر‪ .]3:‬وكقوله صلى‬
‫ف َ‬
‫ن َأْل ِ‬
‫خْي ٌر ِم ْ‬
‫منه فائدة على المجتمع‪ ،‬كقوله تعالى‪َ :‬لْيَل ُة اْلَق ْد ِر َ‬
‫ال عليه وسلم‪" :‬من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"‪ .‬وأمثال ذلك‬
‫في القرآن والسنة كثير‪.‬‬
‫ففي الية من الخير الخروي لفراد المجتمع‪ ،‬ما هو أعظم فائدة من أن يمطروا‬
‫أربعون يوما‪ ،‬ومن قال بعكس ذلك فقد جهل المعقول والمنقول‪ .‬فهل يقدم خير دنيوي (مطر)‬
‫على خير أخروي (عبادة ألف شهر)؟ وعليه وباستخدام نفس الطريقة في الستدلل‪ ،‬نقول أن‬
‫الدعوة إلى إقامة ليلة القدر مقدم على إصلح النظام بإقامة الحدود‪ .‬ولكننا ل نعتبر هذا‬
‫الستدلل موفقا البتة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الشبهة الثامنة‪ :‬فإن قال المخالف لم نرد بالبدعة الكبرى والشرك العظم للعتبارات‬
‫التي ذكرتم‪ ،‬إنما اعتبرنا ذلك لن إقامة الدين في الرض مناطة بالحاكم واستقامته‪،‬‬
‫فباستقامته وصلح حاله يصلح المجتمع‪ ،‬وبفساد حاله يفسد المجتمع؛ لدوره الساسي في‬
‫التغيير‪.‬‬
‫يفهم من ظاهر النص العربي هذا‪ ،‬أنه متى وجد الحاكم الصالح في الحكم‪ ،‬صلح‬
‫المجتمع والعكس صحيح‪ .‬فهل مفهوم هذه الشبهة سليم؟‬
‫قبل البدء بالجابة على هذا السؤال‪ ،‬علينا أن نتذكر حقيقة شرعية‪ ،‬أن اللتزام بالسلم‬
‫ل يصح إل إذا كان خالصا ل تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر‬
‫ن‪[ ‬البينة‪ ،]5:‬ومخالف لقول‬
‫ن َل ُه الدّي َ‬
‫مخالف لقوله تعالى‪َ  :‬ومَا ُأ ِمرُوا ِإ ّل ِلَي ْعُبدُوا الّل َه ُم ْخِلصِي َ‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت‬
‫هجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو‬
‫امرأة ينكحها‪ ،‬فهجرته إلى ما هاجر إليه"‪.‬‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا لمنفعة أو دفعا لمفسدة‪ ،‬فقد نافق ومن نافق دخل النار‪،‬‬
‫ومقصود الشريعة إخراج الناس من ظلمات النار إلى نور اليمان‪ ،‬فعلينا أن نتذكر هذا خلل‬
‫المناقشة‪.‬‬
‫وللخطورة البالغة لهذه الشبهة‪ ،‬خصصت الفصل التالي للرد عليها‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫سنة ال تعالى في التغيير‬
‫ه ْ‪‬م [البينة‪]5:‬‬
‫سِ‬
‫ِبأَن ُف ِ‬ ‫حتّى ُي َغّيرُوا مَا‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َ‬
‫‪ِ‬إ ّ‬

‫"وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪ ،‬أن مصير المر إلى المُلوك ونوابهم من الولة‪،‬‬
‫والقضاة والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص في الراعي والرعية جميعا‪ ،‬فإنه "كما‬
‫ن‪‬‬
‫سبُو َ‬
‫ن َب ْعضًا ِبمَا كَانُوْا َي ْك ِ‬
‫ض الظّاِلمِي َ‬
‫ك ُن َولّي َب ْع َ‬
‫تكونوا يول عليكم"‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪َ  :‬و َك َذِل َ‬
‫[النعام‪ "]129:‬ابن تيمية(‪.)64‬‬
‫"وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"‪،‬‬
‫وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم‬
‫س ِه ْ‪‬م [البينة‪ ،]5:‬وإلى‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ‬
‫الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين (‪ )65‬بقوله‪" :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على‬
‫أرضكم"‪ .‬وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام‬
‫بواسطة النقلبات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر؛ فهي مخالفة لنصوص‬
‫الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس‪ ،‬وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء‬
‫عزِي ٌز‪[ ‬الحج‪ ،]40:‬الشيخ اللباني(‪.)66‬‬
‫ي َ‬
‫ن الّل َه َل َق ِو ّ‬
‫ص ُر ُه ِإ ّ‬
‫ن الّل ُه مَن يَن ُ‬
‫ص َر ّ‬
‫عليها‪َ  :‬وَليَن ُ‬
‫"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما‬
‫يريد أن يكون حيثما يكون‪ ،‬وهذا خطا فللبيئة التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر مما‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر‬
‫للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ ،‬وهذا من معاني قول ال عز وجل‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْم‪ ."‬محب الدين الخطيب( ‪.)67‬‬
‫مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)35/20‬‬ ‫‪64‬‬

‫قال الشيخ اللباني رحمه ال‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه ال‪.-‬‬ ‫‪65‬‬

‫"العقيدة الطحاوية"‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪( 1978‬ص ‪.)47‬‬ ‫‪66‬‬

‫في التعليق على كتاب "العواصم من القواصم" (ص ‪.)77‬‬ ‫‪67‬‬

‫‪47‬‬
‫بين يدي الموضوع‬

‫يذهب البعض إلى أن الصلح المنشود‪ ،‬وإقامة الدين في الرض منوط بالحاكم‬
‫واستقامته‪ ،‬فباستقامة الحاكم وصلح حاله يصلح المجتمع‪ ،‬وبانحرافه وفساد حاله يفسد‬
‫المجتمع‪ ،‬أو لنهم يتصورون أن له دورًا أساسيا في التغيير‪.‬‬
‫وحال هؤلء كمن يزعم أن لدى الحاكم عصا سحرية يستطيع بها أن يكون كما يريد‬
‫أن يكون حيثما يكون‪ ،‬وهذا في اعتقادنا مخالف للقرآن والسنة ولسيرة الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬إذ بين القرآن الكريم وصحيح السنة وسيرة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن‬
‫إقامة الدين في النفس‪ ،‬شرط لتحقيق التغيير المنشود فـي المجتمع والتأييـد بالنصر‬
‫والتمكين‪.‬‬
‫س ِه ْم‪[ ‬البينة‪.]5:‬‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ‬
‫قال تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫ض َكمَا‬
‫سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ‬
‫ع َد الّل ُه اّلذِي َ‬
‫وقال تعالى‪َ  :‬و َ‬
‫ن َب ْع ِد َخ ْوِف ِه ْم َأ ْمنًا‬
‫ن َل ُه ْم دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ‬
‫ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ف اّلذِي َ‬
‫سَت ْخَل َ‬
‫اْ‬
‫ن‪[ ‬النور‪.]55:‬‬
‫سقُو َ‬
‫ك ُه ْم اْلفَا ِ‬
‫ك َفُأ ْوَلِئ َ‬
‫ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ش ْيئًا َو َم ْ‬
‫ن بِي َ‬
‫ش ِركُو َ‬
‫َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ‬
‫وقد ل يعلم أصحاب هذا التجاه‪ ،‬أن سنة ال تعالى في تغيير المجتمعات ‪ -‬من الخير‬
‫إلى الشر أو العكس ‪ -‬من السنن الكونية النافذة في الخلق‪ ،‬التي ل تتبدل ول تتحول لي‬
‫سبب من السباب‪ ،‬سواء كان ذلك لقرابة أو نسب أو جاه أو سلطان أو حتى لقربى من ال‬
‫تعالى‪ ،‬فمن الغريب أن البعض يظن هذا الظن السيئ بال تعالى بالرغم من التأكيدات القرآنية‬
‫على هذا الثابت الكوني في عدة مواضع من كتاب ال تعالى منها‪:‬‬
‫ل [الحزاب‪.]62:‬‬
‫سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ً ‪‬‬
‫ن َت ِج َد ِل ُ‬
‫ن َق ْب ُل َوَل ْ‬
‫ن َخَلوْا ِم ْ‬
‫سّن َة الّل ِه فِي اّلذِي َ‬
‫‪ُ •‬‬
‫ل [فاطر‪:‬‬
‫سّن ِة الّل ِه َت ْحوِي ً‪‬‬
‫ن َت ِج َد ِل ُ‬
‫سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ًل َوَل ْ‬
‫ن َت ِج َد ِل ُ‬
‫ن َفَل ْ‬
‫سّن َة ا َل ّولِي َ‬
‫ن إ ّل ُ‬
‫‪َ •‬ف َه ْل َي ْن ُظرُو َ‬
‫‪.]43‬‬
‫ل [فاطر‪.]23:‬‬
‫سّن ِة الّل ِه َت ْبدِي ً ‪‬‬
‫ن َت ِج َد ِل ُ‬
‫ن َق ْب ُل َوَل ْ‬
‫ت ِم ْ‬
‫سّن َة الّل ِه اّلتِي َق ْد َخَل ْ‬
‫‪ُ •‬‬
‫ل لنصرة النبي صلى‬
‫فلو كان لهذه السنة أن تتبدل أو تتحول لتبدلت أو تحولت ولو قلي ً‬
‫ال عليه وسلم في أكثر من موقف كان أحوج ما يكون لها‪ ،‬سواء في بداية الدعوة في مكة‬
‫حين كانت مرحلة الضعف المتمثلة بالصبر واحتمال أذى المشركين‪ ،‬أو في حالة القوة في‬

‫‪48‬‬
‫المدينة المنورة في مواقف متعددة‪ ،‬كغزوة أحد(‪ )68‬وغزوة حنين(‪ .)69‬وما جاء في قصة‬
‫زوجة نوح عليه السلم وولده‪ ،‬وزوجة لوط عليه السلم‪ ،‬ما يدل على أن القرابة والنسب ل‬
‫يوقفان سنة ال تعالى‪.‬‬
‫ن‬
‫ن ِم ْ‬
‫ع ْب َد ْي ِ‬
‫ت َ‬
‫ح َوِا ْم َرَأ َة لُو ٍط كَا َنتَا َت ْح َ‬
‫ن َك َفرُوا ِا ْم َرَأ َة نُو ٍ‬
‫ل ِلّلذِي َ‬
‫ب الّل ُه َمَث ً‬
‫ض َر َ‬
‫قال تعالى‪َ  :‬‬
‫ن‪[ ‬التحريم‪:‬‬
‫ش ْيئًا َوقِي َل ا ْد ُخلَا النّا َر َم َع الدّا ِخلِي َ‬
‫ن الّل ِه َ‬
‫ع ْن ُهمَا ِم ْ‬
‫ن َفخَاَنتَا ُهمَا َفَل ْم ُي ْغِنيَا َ‬
‫عبَا ِدنَا صَاِل َح ْي ِ‬
‫ِ‬
‫‪.]10‬‬
‫ت َأ ْح َك ُم‬
‫ق َوَأ ْن َ‬
‫ك اْل َح ّ‬
‫ع َد َ‬
‫ن َو ْ‬
‫ن َأ ْهلِي َوِإ ّ‬
‫ن ا ْبنِي ِم ْ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫ح َرّب ُه َفقَا َل َر ّ‬
‫وقال تعالى‪َ  :‬ونَادَى نُو ٌ‬
‫ح فَل‬
‫غ ْي ُر صَاِل ٍ‬
‫ع َم ٌل َ‬
‫ك ِإّن ُه َ‬
‫ن َأ ْهِل َ‬
‫س ِم ْ‬
‫ح ِإّن ُه َل ْي َ‬
‫ن‪[ ‬هود‪ .]45:‬فجاء الجواب‪ :‬قَا َل يَا نُو ُ‬
‫اْلحَا ِكمِي َ‬
‫ن‪[ ‬هود‪.]46:‬‬
‫ن اْلجَا ِهلِي َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن َتكُو َ‬
‫ك َأ ْ‬
‫ع ُظ َ‬
‫عْل ٌم ِإنّي َأ ِ‬
‫ك ِب ِه ِ‬
‫س َل َ‬
‫ن مَا َل ْي َ‬
‫سَأْل ِ‬
‫َت ْ‬
‫وليعلم أولئك البعض‪ ،‬ممن قل اعتبارهم لسنن ال تعالى في خلقه‪ ،‬أن ما ذهبوا إليه من‬
‫تصورات في طريق التغيير المنشود‪ ،‬سيؤدي إلى النشغال بالحاكم‪ ،‬وتركيز الصراع مع‬
‫النظام السياسي القائم وإسقاطه‪ ،‬فينتج عن ذلك ازدياد الفساد والفساد في الناس لتوقف مسيرة‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر الحكام‪.‬‬
‫فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم بالمحكوم من أهم الساليب‬
‫المستخدمة من قبل الصهيونية وذراعها القوى "الشتراكية" للسيطرة على العالم‪ ،‬والرافضة‬
‫القائمة على تصدير الثورة‪ .‬فمن خلل الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها‬
‫بواسطة عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم‪ ،‬يقودون الثورة ويركبون الموجة‪،‬‬
‫ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة‪ ،‬مهما كان دينها أو عرقها‪ .‬وللتدليل على ذلك نقرأ في‬
‫"بروتوكولت حكماء صهيون" ما يلي‪:‬‬
‫"وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة من أجل أوتقراطيتنا‪ ،‬أن تعرفنا‬
‫لملكنا التوقراطي(‪ )70‬يمكننا أن نتحقق منه قبل إلغاء الدساتير‪ ،‬أعني بالضبط أن تعرف أن‬
‫حكمنا سيبدأ في اللحظة ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم الخلفات وتعذبوا تحت إفلس‬

‫كما في قوله تعالى‪ :‬أَوََلمّا أَصَابَتْ ُكمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَ ْبتُمْ ِمثْلَيْهَا قُ ْلتُمْ أَنّى َهذَا ُقلْ ُهوَ ِمنْ عِ ْندِ‬ ‫‪68‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ‪[ ‬آل عمران‪.]165:‬‬


‫َأنْفُسِ ُكمْ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫حنَيْنٍ ِإذْ َأعْجَبَ ْتكُمْ َكثْرَتُ ُكمْ َفلَمْ ُتغْنِ‬
‫كما في قوله تعالى‪ :‬لَ َقدْ نَصَ َركُمْ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِي َرةٍ وَ َيوْمَ ُ‬ ‫‪69‬‬

‫عَنْ ُكمْ شَيْئًا وَضَا َقتْ عَلَ ْيكُمْ ا ْلأَرْضُ ِبمَا َرحُ َبتْ ثُمّ وَلّيْ ُتمْ مُدْ ِبرِينَ‪[ ‬التوبة‪.]25:‬‬
‫الوتوقراطية نظام الحاكم الفرد المستبد المطلق‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫‪49‬‬
‫حكامهم (وهذا ما سيكون مدبرا على أيدينا) فيصرخون هاتفين‪ :‬اخلعوهم وأعطونا حاكما‬
‫عالميا واحدا يستطيع أن يوحدنا‪ ،‬ويمحق كل أسباب الخلف‪ ،‬وهي الحدود والقوميات‬
‫والديان والديون ونحوها ‪ ...‬حاكما يستطيع أن يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن‬
‫يوجدا في ظل رؤسائنا وملوكنا وممثلينا‪ .‬ولكنكم تعلمون علما دقيقا وافيا أنه لكي يصرخ‬
‫الجمهور بمثل هذا الرجاء‪ ،‬لبد أن يستمر في كل البلد اضطراب العلقات القائمة بين‬
‫الشعوب والحكومات‪ ،‬فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهادا أيضا" (‪.)71‬‬
‫"إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين (غير اليهود) مع قوة الرعاع العمياء‪،‬‬
‫غير أننا قد اتخذنا كل الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين القوتين‬
‫سدا قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى‪ ،‬وهكذا تبقى قوة الشعب سندا إلى‬
‫جانبنا‪ ،‬سنكون وحدنا قادتها‪ ،‬وسنوجهها لبلوغ أغراضنا" (‪.)72‬‬
‫وتقول أيضا‪:‬‬
‫"ولكي يكون الملك(‪ )73‬محبوبا ومعظما من كل رعاياه – يجب أن يخاطبهم جهارا‬
‫مرات كثيرة‪ .‬فمثل هذه الجراءات ستجعل القوتين في انسجام‪ ،‬أعني قوة الشعب وقوة الملك‬
‫ل منهما في خوف دائم من‬
‫اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية (غير اليهودية) بإبقائنا ك ً‬
‫الخرى‪ .‬ولقد كان لزاما علينا أن نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى‪ ،‬لنهما حين‬
‫انفصلتا وقعتا تحت نفوذنا" (‪.)74‬‬
‫وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير المنشود يكون بتغيير النفس‬
‫أول(‪ ،)75‬علينا أن نتذكر حقيقة شرعية‪ ،‬أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصا ل‬
‫تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر مخالف لقوله تعالى‪َ  :‬ومَا ُأ ِمرُوا إ ّل‬
‫ن‪[ ‬البينة‪ ،]5:‬ومخالف لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪" :‬إنما العمال‬
‫ِلَي ْعُبدُوا الّل َه ُم ْخِلصِي َ‬

‫البروتوكول العاشر‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫البروتوكول التاسع‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫المقصود بالملك (ملك إسرائيل بعد تتويجه لحكم العالم)‪ ،‬أو أي حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون‬ ‫‪73‬‬

‫بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار (الماركسية)‪.‬‬


‫البروتوكول الرابع والعشرون‪.‬‬ ‫‪74‬‬

‫وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا ‪ ...‬وعاشرا‪.‬‬ ‫‪75‬‬

‫‪50‬‬
‫بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى ال‬
‫ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪ ،‬فهجرته إلى ما هاجر إليه "‪.‬‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا لمنفعة أو دفعا لمفسدة‪ ،‬أو تزلفا لحاكم‪ ،‬فقد نافق ومن نافق‬
‫خسر خسرانا مبينا‪ ،‬ومقصود الشريعة إخراج الناس من ظلمات النار إلى نور اليمان‪ ،‬فعلينا‬
‫أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫اليات‬

‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬العديد من اليات الدالة على إثبات التعاضد وتركيز العمل على‬
‫إصلح الرعية والنشغال بذلك‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أول‪ -‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما‬
‫فاسدا‪:‬‬
‫ورد هذا المفهوم الجلي في العديد من المواضع من كتاب ال تعالى منها‪:‬‬
‫ن‪[ ‬النعام‪.]129:‬‬
‫سبُو َ‬
‫ن َب ْعضًا ِبمَا كَانُوْا َي ْك ِ‬
‫ض الظّاِلمِي َ‬
‫ك ُن َولّي َب ْع َ‬
‫‪ -1‬قوله تعالى‪َ  :‬و َك َذِل َ‬
‫تدل الية على أن ال تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع بعضا في الحكم‪ ،‬فإذا علمنا أن‬
‫الحاكم هو إفراز من المجتمع‪ ،‬وأن المجتمع يُسوّد على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه‬
‫وغاياته‪ ،‬دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول‪( :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما‬
‫صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسدا)(‪.) 76‬‬
‫ينقل القرطبي قول ابن زيد وابن عباس في تفسير هذه الية قائلً‪" :‬قال ابن زيد‪ :‬نُسلّط‬
‫بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله‪ ،‬وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط ال‬
‫عليه ظالما آخر‪ .‬ويدخل في الية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس‬
‫في تجارته أو السارق وغيرهم‪.‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬إذا رضي ال عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط ال عن قوم‬
‫ولى أمرهم شرارهم" (‪ ،)77‬انتهى‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز الحنفي‪" :‬وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلنه يترتب على الخروج‬
‫من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم بل في الصبر على جورهم تكفير‬

‫قد يقول قائل‪ :‬لم ل يتغلب حاكم ظالم فاسد على مجتمع صالح بعملية انقلبية ثورية أو بعمل‬ ‫‪76‬‬

‫جاسوسي منظم يتظاهر فيه صاحبه بالسير لتحقيق أهداف وغايات المجتمع المستهدف؟ قلت‪:‬‬
‫إمكانية نجاح هذا الرجل الفاسد المنافق واردة‪ ،‬فإذا حصل ذلك دل المر على نقص في‬
‫المجتمع‪ ،‬ودليل نقصه‪ ،‬ضعف الوعي بصفات المنافقين وأعمالهم الجاسوسية التي بينها ال‬
‫تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬أو تساهل بها طمعا في استغلل ما ينتج عنه‪ .‬ومن التغيير بما في‬
‫النفس‪ ،‬معرفة مكر الماكرين ودراية ما يخططون ويتآمرون‪ ،‬فمن نام عن هذا‪ ،‬فقد أساء‬
‫معرفة سنن ال تعالى‪ .‬ومن وقع في ذلك فل يلومن إل نفسه فإن العدو يقظان‪.‬‬
‫"تفسير القرطبي" (ج ‪ 7‬ص ‪.)85‬‬ ‫‪77‬‬

‫‪52‬‬
‫السيئات ومضاعفة الجور‪ ،‬فإن ال ما سلّطهم علينا إل لفساد أعمالنا‪ ،‬والجزاء من جنس‬
‫العمل‪ ،‬فعلينا الجتهاد في الستغفار والتوبة وإصلح العمل‪ ،‬قال تعالى‪َ  :‬ومَا َأصَاَبكُم مّن‬
‫ن َب ْعضًا‪‬‬
‫ض الظّاِلمِي َ‬
‫ك ُن َولّي َب ْع َ‬
‫ت َأ ْيدِي ُك ْم َوَي ْعفُو عَن َكثِي ٍر‪[ ‬الشورى‪َ  .]30:‬و َك َذِل َ‬
‫سَب ْ‬
‫ّمصِيَب ٍة َفِبمَا َك َ‬
‫[النعام‪ ،]129:‬فإذا أراد الرعية أن يتخلّصوا من ظلم المير فليتركوا الظلم"(‪.)78‬‬
‫وقال الشيخ اللباني رحمه ال‪" :‬وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين‬
‫هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"‪ ،‬وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى‬
‫ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْم‪[ ‬البينة‪ ،]5:‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين(‪ )79‬بقوله‪" :‬أقيموا دولة‬
‫ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ‬
‫السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"‪ .‬وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو‬
‫الثورة بالسلح على الحكام‪ .‬بواسطة النقلبات العسكرية (‪ ،)80‬فإنها مع كونها من بدع‬
‫العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر بتغيير ما بالنفس‪ ،‬وكذلك‬
‫عزِي ٌز‪‬‬
‫ي َ‬
‫ن الّل َه َل َق ِو ّ‬
‫ص ُر ُه ِإ ّ‬
‫ن الّل ُه مَن يَن ُ‬
‫ص َر ّ‬
‫فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها‪َ  :‬وَليَن ُ‬
‫[الحج‪.]40:‬‬
‫وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة إلى الملك‪ ،‬قال ابن تيمية‪" :‬وقد‬
‫ذكرت في غير هذا الموضع‪ ،‬أن مصير المر إلى المُلوك ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة‬
‫والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص في الراعي والرعية جميعا‪ ،‬فإنه‪" :‬كما تكونوا‬
‫ن َب ْعضًا‪ ،)82("‬رحمه ال‪.‬‬
‫ض الظّاِلمِي َ‬ ‫يول عليكم"(‪ )81‬وقد قال ال تعالى‪َ  :‬و َك َذِل َ‬
‫ك ُن َولّي َب ْع َ‬
‫قلت‪ :‬تعليقا على قول ابن عباس رضي ال عنه‪ ،‬ومتى يرضى ال تعالى من قوم‬
‫فيولي أمرهم خيارهم؟ ل شك إذا كانوا صالحين‪ .‬ومتى يسخط ال على قوم فيولي أمرهم‬

‫"شرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬ط‪ 1399 ،5 /‬هـ‪ ،‬ص ‪.430‬‬ ‫‪78‬‬

‫قال اللباني رحمه ال‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه ال‪.-‬‬ ‫‪79‬‬

‫من أمثلة هذه النقلبات‪ :‬انقلب (ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬الشتراكية) في مصر‪ ،‬والثورات‬ ‫‪80‬‬

‫الشتراكية الخرى في كل منك سوريا وليبيا واليمن والعراق والصومال والسودان والجزائر‬
‫وإيران وإندونيسيا‪.‬‬
‫ضعفه الشيخ ناصر في "السلسلة الضعيفة" (‪ ،)1/490‬رقم (‪.)320‬‬ ‫‪81‬‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)35/20‬‬ ‫‪82‬‬

‫‪53‬‬
‫شرارهم؟ ل شك إذا كانوا فاسدين‪ .‬وهذا هو جوهر القاعدة‪ ( :‬إذا صلحت الرعية أفرزت‬
‫حاكما صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسدا)‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال بذلك‪ ،‬من المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫س ِه ْم َوِإذَا َأرَا َد الّل ُه ِب َق ْو ٍم‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا ِبأَن ُف ِ‬
‫‪ -2‬قوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫ن وَا ٍ‪‬ل [الرعد‪.]11:‬‬
‫ن دُوِن ِه ِم ْ‬
‫سُوءًا فَل َم َر ّد َل ُه َومَا َل ُه ْم ِم ْ‬
‫وهذه الية أصرح في الدللة على المراد‪ ،‬وهي عامة تشمل نوعي التغيير سواء من‬
‫الخير إلى الشر أو العكس‪.‬‬
‫ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ‪ -‬أي الجماعة ‪ -‬وليس في‬
‫شخص الحاكم دون المحكوم‪ ،‬وليس بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في‬
‫المجتمع‪ ،‬إنما المراد أن يكون التغيير غالبا فيه‪ .‬وتجدر الشارة إلي أن ال تعالى قد وعد‬
‫بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي‬
‫بيانه قريبا إن شاء ال تعالى‪.‬‬
‫يقول الطبري في تفسيرها‪" :‬إن ال ل يغير ما بقوم من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم‬
‫ويهلكهم‪ ،‬حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا‪ ،‬واعتداء بعضهم على بعض‪،‬‬
‫فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره"(‪.)83‬‬
‫ويقول القرطبي فيها‪" :‬لن ال ل يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما‬
‫بأنفسهم بالصرار على الكفر فإن أصروا حان الجل المضروب ونزلت بهم"(‪.)84‬‬
‫ويقول كذلك‪" :‬أخبر ال تعالى في هذه الية أنه ل يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير إما‬
‫منهم أو من الناظر لهم أو ممن هو منهم بسبب‪ ،‬كما غير ال بالمنهزمين يوم أحد بسبب‬
‫تغيير الرماة بأنفسهم‪ ،‬هذا من أمثلة الشريعة‪ ،‬فليس معنى الية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إل‬
‫بأن يتقدم منه ذنب‪ ،‬بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير‪ ،‬كما قال صلى ال عليه وسلم وقد‬
‫سئل‪" :‬أنهلك وفينا الصالحون؟ قال‪ :‬نعم إذا كثر الخبث"‪ ،‬وال أعلم"(‪ .)85‬كما قال ال تعالى‪ :‬‬

‫"تفسير الطبري" (ج ‪ 13‬ص ‪.)121‬‬ ‫‪83‬‬

‫"تفسير القرطبي" (ج ‪ 9‬ص ‪.)292‬‬ ‫‪84‬‬

‫"تفسير القرطبي" (ج ‪ 9‬ص ‪.)294‬‬ ‫‪85‬‬

‫‪54‬‬
‫ب‪[ ‬النفال‪.]25:‬‬
‫شدِي ُد اْل ِعقَا ِ‬
‫ن الّل َه َ‬
‫عَلمُوا َأ ّ‬
‫ص ًة وَا ْ‬
‫ن َظَلمُوا ِم ْن ُك ْم خَا ّ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫وَاّتقُوا ِف ْتَن ًة َل ُتصِيَب ّ‬
‫وبمثل هذا قال ابن كثير (‪.)86‬‬
‫قلت‪ :‬فإن تأخر العذاب عن أمة ل تزال على معصية‪ ،‬فإنما هو لحكمة أو يكون‬
‫ن ِإّنمَا‬
‫عمّا َي ْع َم ُل الظّاِلمُو َ‬
‫ن الّل َه غَا ِف ًل َ‬
‫سَب ّ‬
‫استدراجا لهذا الظالم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ  :‬و َل َت ْح َ‬
‫ص فِي ِه ال ْبصَا ُر‪[ ‬إبراهيم‪ .]42:‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬ثم إن ال ليملي‬
‫ش َخ ُ‬
‫ُي َؤ ّخ ُر ُه ْم ِلَي ْو ٍم َت ْ‬
‫ن َأ ْخ َذ ُه‬
‫ي ظَاِل َم ٌة ِإ ّ‬
‫ك ِإذَا َأ َخ َذ اْل ُقرَى َو ِه َ‬
‫ك َأ ْخ ُذ َرّب َ‬
‫للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال‪ :‬ثم قرأ ‪َ ‬و َك َذِل َ‬
‫شدِي ٌد‪. )87("‬‬
‫َألِي ٌم َ‬
‫وعن معنى التغيير وحقيقته‪ ،‬يقول ابن تيمية رحمه ال‪" :‬لفظ التغير لفظ مجمل‪ ،‬فالتغير‬
‫في اللغة المعروفة ل يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث فان الناس ل يقولون‬
‫للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت‪ :‬إنها قد تغيرت‪ ،‬ول يقولون للنسان إذا تكلم ومشى‬
‫انه تغير‪ ،‬ول يقولون إذا طاف وصلى‪ ،‬وأمر ونهى‪ ،‬وركب انه تغير‪ ،‬إذا كان ذلك عادته‪،‬‬
‫بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة‪ ،‬كالشمس إذا زال نورها ظاهرا ل يقال‬
‫إنها تغيرت‪ ،‬فإذا اصفرت قيل تغيرت‪.‬‬
‫وكذلك النسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير‪ ،‬وكذلك إذا تغير‬
‫خلقه ودينه‪ ،‬مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير برا‪ ،‬أو يكون برا فينقلب فاجرا فإنه يقال قد‬
‫تغير‪ .‬وفى الحديث‪" :‬رأيت وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم متغيرا‪ ،‬لما رأى(‪ )88‬منه‬
‫أثر الجوع ولم يزل يراه يركع ويسجد" فلم يس ّم حركته تغيرا‪ ،‬وكذلك يقال فلن قد تغير على‬
‫فلن إذا صار يبغضه بعد المحبة‪ ،‬فإذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له‬
‫تغيرا‪.‬‬
‫ن الّل َه َل‬
‫وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فل يقال أنه قد تغير‪ ،‬قال ال تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْم‪ .‬ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون‬
‫ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫ويفعلون ما هو خير‪ ،‬لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم‪ ،‬فإذا انتقلوا عن ذلك‪ ،‬فاستبدلوا بقصد‬
‫الخير قصد الشر‪ ،‬وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل‪ ،‬قيل قد غيروا ما بأنفسهم‪ ،‬مثل من كان يحب‬

‫"تفسير ابن كثير" (ج ‪ 2‬ص ‪.)321‬‬ ‫‪86‬‬

‫رواه البخاري برقم ( ‪.)4409‬‬ ‫‪87‬‬

‫هكذا في الصل‪ ،‬ولعلها (رؤي)‪.‬‬ ‫‪88‬‬

‫‪55‬‬
‫ال ورسوله والدار الخرة‪ ،‬فتغير قلبه وصار ل يحب ال ورسوله والدار الخرة‪ ،‬فهذا قد‬
‫غير ما في نفسه"‪ ،‬انتهى(‪.)89‬‬
‫ويقول ابن القيم‪" :‬وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته‪ ،‬فإن ال إذا أنعم على‬
‫ن‬
‫عبد بنعمة حفظها عليه‪ ،‬ول يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْم‪[ ‬الرعد‪.)90(]11:‬‬
‫الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫وقد استدل الشيخ اللباني رحمه ال تعالى بالية‪ ،‬لصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها‪،‬‬
‫قائلً‪" :‬وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين هم "من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"‬
‫وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم‬
‫س ِه ْ‪‬م‪ ،‬وإلى ذلك أشار‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫أحد الدعاة المعاصرين (‪ )91‬بقوله‪" :‬أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم"‪.‬‬
‫وليس طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على الحكام ‪ .‬بواسطة‬
‫النقلبات العسكرية فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة‬
‫التي منها المر بتغيير ما بالنفس وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس البناء عليها ‪‬‬
‫عزِي ٌز‪[ ‬الحج‪.)92(]40:‬‬
‫ي َ‬
‫ن الّل َه َل َق ِو ّ‬
‫ص ُر ُه ِإ ّ‬
‫ن الّل ُه مَن يَن ُ‬
‫ص َر ّ‬
‫َوَليَن ُ‬
‫ويقول محب الدين الخطيب‪" :‬وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن‬
‫الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪ .‬وهذا خطأ‪ ،‬فللبيئة التأثير في‬
‫الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من معاني‬
‫( )‬
‫س ِه ْم‪. 93 "‬‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫قول ال عز وجل‪ِ :‬إ ّ‬
‫لحظ ما تحته خط فإنه كلم نفيس‪.‬‬
‫كما وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية العدل في قصة حكاها عن المسعودي في أخبار‬
‫الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم في وصيته للملك بهرام بن بهرام‪ ,‬فقال له‪" :‬أيها‬
‫الملك‪ ,‬إن الملك ل يتم عزه إل بالشريعة والقيام ل بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ول‬

‫"مجموع الفتاى" (‪ .)250-6/249‬وانظر‪" :‬رسالة في معنى كون الرب عادلً" لبن تيمية‪.)1/134( :‬‬ ‫‪89‬‬

‫"بدائع الفوائد" (ج ‪ 2‬ص ‪.)432‬‬ ‫‪90‬‬

‫قال اللباني رحمه ال‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه ال‪.-‬‬ ‫‪91‬‬

‫"العقيدة الطحاوية"‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪( 1978‬ص ‪.)47‬‬ ‫‪92‬‬

‫في كتاب "العواصم من القواصم" (ص ‪.)77‬‬ ‫‪93‬‬

‫‪56‬‬
‫قوام للشريعة إل بالملك‪ ،‬ول عز للملك إل بالرجال‪ ،‬ول قوام للرجال إل بالمال‪ ،‬ول سبيل‬
‫إلى المال إل بالعمارة‪ ،‬ول سبيل للعمارة إل بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة‬
‫نصبه الرب وجعل له قيّما وهو الملك"‪ ،‬انتهى(‪.)94‬‬
‫وكلم الموبذان هذا والذي أعجب ابن خلدون يدل على أنه حكيم لربطه بين قوام‬
‫ك ربطا صحيحا حين نب َه الملك على دور بطانة الملك ورعيته "الرجال" في‬
‫الشريعة وال َمِل ِ‬
‫تحمل المسؤولية‪ ,‬ودور المال في العمارة‪ ,‬ول عمارة إل بالعدل والعدل الميزان أي‪ :‬الشرع‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى كأنه يقول له‪ :‬إذا أردت أن تنجح في تطبيق حكم ال وتغيير الظلم في الواقع‪,‬‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا‬
‫فعليك بإصلح الناس أولً‪ ،‬وهذا هو قول ال تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫س ِه ْ‪‬م‪ .‬وليس كما يصر عليه التحريريون بأن التغيير يكون بالحاكم فقط "(‪.)95‬‬
‫ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫علَى َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوا مَا‬
‫ك ُم َغّيرًا ِن ْع َم ًة َأ ْن َع َمهَا َ‬
‫ن الّل َه َل ْم َي ُ‬
‫ك ِبَأ ّ‬
‫‪ -3‬قوله تعالى‪َ  :‬ذِل َ‬
‫علِي ٌم‪[ ‬النفال‪.]53:‬‬
‫سمِي ٌع َ‬
‫ن الّل َه َ‬
‫س ِه ْم َوَأ ّ‬
‫ِبأَن ُف ِ‬
‫هذه الية الكريمة واضحة الدللة في سنة ال تعالى في التغيير من الخير إلى الشر‪،‬‬
‫وفيها التأكيد على أن مدار التغيير يكون بتغير ما في نفوس غالب المجتمع من النعمة إلى‬
‫ن‬
‫غدًا ِم ْ‬
‫ت آ ِمَن ًة ُم ْط َمِئّن ًة َيْأتِيهَا ِر ْزُقهَا َر َ‬
‫ب الّل ُه َمَثلًا َق ْرَي ًة كَاَن ْ‬
‫ض َر َ‬
‫كفرها‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ  ":‬و َ‬
‫ن‪[ ‬النحل‪.]112:‬‬
‫صَنعُو َ‬
‫ف ِبمَا كَانُوا َي ْ‬
‫ع وَاْل َخ ْو ِ‬
‫س اْلجُو ِ‬
‫ت ِبَأ ْن ُع ِم الّل ِه َفَأذَا َقهَا الّل ُه ِلبَا َ‬
‫ن َف َك َف َر ْ‬
‫ُك ّل َمكَا ٍ‬
‫يقول ابن تيمية في معناها‪" :‬وهذا التغيير نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬أن يبدو ذلك فيبقى قو ًل‬
‫ل يترتب عليه الذم و العقاب‪ .‬والثاني‪ :‬أن يغيروا اليمان الذي في قلوبهم بضده من‬
‫وعم ً‬
‫الريب و الشك و البغض‪ ،‬و يعزموا على ترك فعل ما أمر ال به و رسوله‪ ،‬فيستحقوا‬
‫العذاب هنا على ترك المأمور‪ ،‬و هناك على فعل المحظور‪ .‬وكذلك ما في النفس مما يناقض‬
‫محبة ال والتوكل عليه والخلص له والشكر له‪ ،‬يعاقب عليه لن هذه المور كلها واجبة‪.‬‬
‫فإذا خلى القلب عنها و اتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات"(‪ ،)96‬انتهى‪.‬‬
‫ثانياَ‪ -‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى‪ ،‬وليس الولة فقط‪.‬‬

‫"مقدمة ابن خلدون"(ص ‪.)287‬‬ ‫‪94‬‬

‫عن كتابنا وفضيلة الشيخ سمير مراد‪" ،‬مسائل في الجهاد"‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬مطبعة الشباب‪( ،‬ص‬ ‫‪95‬‬

‫‪ ،)85‬عمان ‪ -‬الردن‪.‬‬
‫"مجموع الفتاوى" (ج ‪ 14‬ص ‪.)109‬‬ ‫‪96‬‬

‫‪57‬‬
‫وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق كثيرا في رسم حدود مسؤولية‬
‫الحكام‪ ،‬فأناط بهم تغيير كل شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن مسؤوليته أم ضمن‬
‫أصحاب المسؤوليات الخرى التي ذكرها الحديث الشريف‪" :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن‬
‫رعيته‪ ." ...‬واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ي اْل َمصِي ُر‪[ ‬الحج‪.]48:‬‬
‫ي ظَاِل َم ٌة ُث ّم َأ َخ ْذُتهَا َوِإَل ّ‬
‫ت َلهَا َو ِه َ‬
‫ن َق ْرَي ٍة َأ ْمَل ْي ُ‬
‫ن ِم ْ‬
‫‪َ •‬و َكَأّي ْ‬
‫ن‪[ ‬النبياء‪.]11:‬‬
‫شْأنَا َب ْع َدهَا َق ْومًا آ َخرِي َ‬
‫ت ظَاِل َم ًة َوأَن َ‬
‫ن َق ْرَي ٍة كَا َن ْ‬
‫ص ْمنَا ِم ْ‬
‫‪َ •‬و َك ْم َق َ‬
‫عَل ْي ِه ْم آيَاِتنَا َومَا ُكنّا ُم ْهِلكِي‬
‫ث فِي ُأ ّمهَا َرسُو ًل َي ْتلُوا َ‬
‫ك اْل ُقرَى َحتّى َي ْب َع َ‬
‫ك ُم ْهِل َ‬
‫ن َرّب َ‬
‫‪َ •‬ومَا كَا َ‬
‫ن‪[ ‬القصص‪.]59:‬‬
‫اْل ُقرَى ِإ ّل َوَأ ْهُلهَا ظَاِلمُو َ‬
‫ن‪[ ‬النبياء‪.]95:‬‬
‫علَى َق ْرَي ٍة َأ ْهَل ْكنَاهَا َأّن ُه ْم ل َي ْر ِجعُو َ‬
‫‪َ •‬و َحرَا ٌم َ‬
‫ت ِبَأ ْن ُع ِم‬
‫ن َف َك َف َر ْ‬
‫ن ُك ّل َمكَا ٍ‬
‫غدًا ِم ْ‬
‫ت آ ِمَن ًة ُم ْط َمِئّن ًة َيْأتِيهَا ِر ْزُقهَا َر َ‬
‫ب الّل ُه َمَث ًل َق ْرَي ًة كَاَن ْ‬
‫ض َر َ‬
‫•( َو َ‬
‫ن‪[ ‬النحل‪.]112:‬‬
‫صَنعُو َ‬
‫ف ِبمَا كَانُوا َي ْ‬
‫ع وَاْل َخ ْو ِ‬
‫س اْلجُو ِ‬
‫الّل ِه َفَأذَا َقهَا الّل ُه ِلبَا َ‬
‫ن َكثِي ٍر‪[ ‬الشورى‪.]30:‬‬
‫عْ‬
‫ت َأ ْيدِي ُك ْم َوَي ْعفُو َ‬
‫سَب ْ‬
‫ن ُمصِيَب ٍة َفِبمَا َك َ‬
‫‪َ •‬ومَا َأصَاَب ُك ْم ِم ْ‬
‫ع ُد‬
‫ي َو ْ‬
‫ن دَا ِر ِه ْم َحتّى َيْأِت َ‬
‫ع ٌة َأ ْو َت ُح ّل َقرِيبًا ِم ْ‬
‫صَنعُوا قَا ِر َ‬
‫ن َك َفرُوا ُتصِيُب ُه ْم ِبمَا َ‬
‫‪•‬وَل َيزَا ُل اّلذِي َ‬
‫ف اْلمِيعَا َد‪[ ‬الرعد‪.]31:‬‬
‫ن الّل َه ل ُي ْخِل ُ‬
‫الّل ِه ِإ ّ‬
‫ن‬
‫صْي َح ُة َو ِم ْن ُه ْم َم ْ‬
‫ن َأ َخ َذ ْت ُه ال ّ‬
‫صبًا َو ِم ْن ُه ْم َم ْ‬
‫عَل ْي ِه حَا ِ‬
‫سْلنَا َ‬
‫ن َأ ْر َ‬
‫ل َأ َخ ْذنَا ِب َذ ْنِب ِه َف ِم ْن ُه ْم َم ْ‬
‫‪َ •‬ف ُك ً‬
‫ن‪‬‬
‫س ُه ْم َي ْظِلمُو َ‬
‫ن كَانُوا َأ ْن ُف َ‬
‫ظِل َم ُه ْم َوَل ِك ْ‬
‫ن الّل ُه ِلَي ْ‬
‫غ َر ْقنَا َومَا كَا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ض َو ِم ْن ُه ْم َم ْ‬
‫س ْفنَا ِب ِه ال ْر َ‬
‫َخ َ‬
‫[العنكبوت‪.]40:‬‬
‫فمن المثلة على هذه القرى الظالمة التي قد أهلكها ال تعالى بذنوبهم‪:‬‬
‫قوم عاد‪:‬‬
‫عذَابِي َوُن ُذ ِر‪[ ‬القمر‪.]18:‬‬
‫ن َ‬
‫ف كَا َ‬
‫ت عَا ٌد َف َك ْي َ‬
‫‪َ •‬ك ّذَب ْ‬
‫عنِي ٍد‪[ ‬هود‪.]59:‬‬
‫سَل ُه وَاّتَبعُوا َأ ْم َر ُك ّل َجبّـا ٍر َ‬
‫صوْا ُر ُ‬
‫ع َ‬
‫ت َرّب ِه ْم َو َ‬
‫ك عَا ٌد َج َحدُوا بِآيَا ِ‬
‫‪َ •‬وِتْل َ‬
‫قوم ثمود‪:‬‬
‫ن ِبمَا كَانُوا‬
‫ب اْلهُو ِ‬
‫ع َق ُة اْل َعذَا ِ‬
‫علَى اْل ُهدَى َفَأ َخ َذ ْت ُه ْم صَا ِ‬
‫سَت َحبّوا اْل َعمَى َ‬
‫‪َ •‬وَأمّا َثمُو ُد َف َه َد ْينَا ُه ْم فَا ْ‬
‫ن‪[ ‬فصلت‪.]17:‬‬
‫سبُو َ‬
‫َي ْك ِ‬
‫•فرعون وقومه‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫ب‪‬‬
‫شدِي ُد اْل ِعقَا ِ‬
‫ن َق ْبِل ِه ْم َك ّذبُوا بِآيَاِتنَا َفَأ َخ َذ ُه ْم الّل ُه ِب ُذنُوِب ِه ْم وَالّل ُه َ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن وَاّلذِي َ‬
‫ع ْو َ‬
‫ب آ ِل ِف ْر َ‬
‫‪َ •‬ك َدْأ ِ‬
‫[آل عمران‪.]11:‬‬
‫ي‬
‫ن الّل َه َق ِو ّ‬
‫ت الّل ِه َفَأ َخ َذ ُه ْم الّل ُه ِب ُذنُوِب ِه ْم ِإ ّ‬
‫ن َق ْبِل ِه ْم َك َفرُوا بِآيَا ِ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن وَاّلذِي َ‬
‫ع ْو َ‬
‫ب آ ِل ِف ْر َ‬
‫‪َ •‬ك َدْأ ِ‬
‫ب‪[ ‬النفال‪.]52:‬‬
‫شدِي ُد اْل ِعقَا ِ‬
‫َ‬
‫من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء‪ ،‬أن السبب المباشر لوقوع العذاب‪،‬‬
‫وقوع الظلم من أهل القرى عامة (آل فرعون‪ ،‬ثمود) حكاما ومحكومين وليس بذنوب الحكام‬
‫ك َي ْن َف ُع ُه ْم إِيمَاُن ُه ْم َلمّا َرَأوْا‬
‫فقط‪ .‬وأنها سنة ال التي قد خلت في عباده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ  :‬فَل ْم َي ُ‬
‫ن‪[ ‬غافر‪.]85:‬‬
‫ك اْلكَا ِفرُو َ‬
‫س َر ُهنَاِل َ‬
‫عبَا ِد ِه َو َخ ِ‬
‫ت فِي ِ‬
‫سّن َة الّل ِه اّلتِي َق ْد َخَل ْ‬
‫سنَا ُ‬
‫َبْأ َ‬
‫يقول ابن القيم‪" :‬ومن تأمل ما قص ال تعالى في كتابه من أحوال المم الذين أزال‬
‫نعمه عنهم‪ ،‬وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله‪ ،‬وكذلك من نظر في‬
‫أحوال أهل عصره وما أزال ال عنهم من نعمه‪ ،‬وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب‪ ،‬كما‬
‫قيل‪:‬‬
‫فإن المعاصي تزيل‬ ‫إذا كنت في نعمة‬
‫النعم‬ ‫فارعها‬
‫فما حفظت نعمة ال بشيء قط مثل طاعته‪ ،‬ول حصلت فيها الزيادة بمثل شكره‪ ،‬ول‬
‫زالت عن العبد بمثل معصيته لربه‪ ،‬فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في‬
‫الحطب اليابس"(‪.)97‬‬
‫ويقول كذلك‪" :‬فما أزيلت نعم ال بغير معصيته‪ ،‬إذا كنت في نعمة فارعها‪ ،‬فإن‬
‫المعاصي تزيل النعم‪ .‬فآفتك من نفسك‪ ،‬وبلؤك من نفسك‪ ،‬وأنت في الحقيقة الذي بالغت في‬
‫عداوتك‪ ،‬وبلغت من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك‪ .‬كما قيل‪ :‬ما يبلغ العداء من جاهل‬
‫ما يبلغ الجاهل من نفسه"(‪.)98‬‬
‫ويقول ابن كثير في ترجمة النقفور ملك الرمن واسمه الدمستق الذي توفي في سنة‬
‫ثنتين وقيل خمس وقيل ست وخمسين وثلثمائة‪" :‬كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا‪،‬‬
‫ل وقتال للمسلمين في زمانه‪،‬‬
‫وأشدهم كفرا‪ ،‬وأقواهم بأسا‪ ،‬وأحدهم شوكة وأكثرهم قت ً‬

‫"بدائع الفوائد" (ج ‪ 2‬ص ‪.)432‬‬ ‫‪97‬‬

‫"طريق الهجرتين" (ج ‪ 1‬ص ‪ .)111 -110‬وانظر‪" :‬الفوائد" (ج ‪ 1‬ص ‪.)210 ،181‬‬ ‫‪98‬‬

‫‪59‬‬
‫واستمرت في يديه قهرا وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا‪ ،‬وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان‬
‫وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم وفشو البدع فيهم‬
‫وكثرة الرفض والتشيع منهم وقهر أهل السنة بينهم‪ .‬فلهذا أديل عليهم أعداء السلم‬
‫فانتزعوا ما بأيديهم من البلد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلد إلى بلد‪ ،‬فل‬
‫يبيتون ليلة إل في خوف من قوارع العداء‪ ،‬وطوارق الشرور المترادفة فال المستعان‪.‬‬
‫وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة‪ ،‬وجال‬
‫فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة‪ ،‬ففتحها اللعين عنوة وقتل من أهلها الرجال‬
‫والنساء ما ل يعلمه إل ال‪ ،‬وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب‪ ،‬وأخذ أموالها‬
‫وحواصلها وعددها وبدد شملها وفرق عددها واستفحل أمر الملعون بها‪ .‬فإنا ل وإنا إليه‬
‫راجعون"(‪.)99‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬أن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعا وليس الولة فقط‪.‬‬
‫واليات في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ن َك ّذبُوا‬
‫ض َوَل ِك ْ‬
‫سمَا ِء وَال ْر ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ت ِم ْ‬
‫عَل ْي ِه ْم َب َركَا ٍ‬
‫ن َأ ْه َل اْل ُقرَى آ َمنُوا وَاّت َقوْا َل َفَت ْحنَا َ‬
‫‪َ •‬وَل ْو َأ ّ‬
‫ن‪[ ‬العراف‪.]96:‬‬
‫سبُو َ‬
‫َفَأ َخ ْذنَا ُه ْم ِبمَا كَانُوا َي ْك ِ‬
‫ن ِم ْن ُه ْم بِالّل ِه‬
‫ن آ َم َ‬
‫ت َم ْ‬
‫ن الّث َمرَا ِ‬
‫ق َأ ْهَل ُه ِم ْ‬
‫ب ا ْج َع ْل َهذَا َبَلدًا آ ِمنًا وَا ْر ُز ْ‬
‫‪َ •‬وِإ ْذ قَا َل ِإ ْبرَاهِي ُم َر ّ‬
‫وَاْلَي ْو ِم الخر ‪[ ‬البقرة‪.]126:‬‬
‫ت‬
‫ن َت ْح ِ‬
‫ن َف ْوِق ِه ْم َو ِم ْ‬
‫ن َرّب ِه ْم ل َكلُوا ِم ْ‬
‫‪َ •‬وَل ْو َأّن ُه ْم َأقَامُوا الّت ْورَا َة وَالنجِي َل َومَا أُن ِز َل ِإَل ْي ِه ْم ِم ْ‬
‫ن‪[ ‬المائدة‪.]66:‬‬
‫ص َد ٌة َو َكثِي ٌر ِم ْن ُه ْم سَا َء مَا َي ْع َملُو َ‬
‫َأ ْر ُجِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم ُأ ّم ٌة ُم ْقَت ِ‬
‫ك‬
‫ت َوُأ ْوَلِئ َ‬
‫ك َل ُه ْم اْل َخ ْيرَا ُ‬
‫س ِه ْم َوُأ ْوَلِئ َ‬
‫ن آ َمنُوا َم َع ُه جَا َهدُوا ِبَأ ْموَاِل ِه ْم َوأَن ُف ِ‬
‫ن ال ّرسُو ُل وَاّلذِي َ‬
‫‪َ•‬ل ِك ْ‬
‫ن‪[ ‬التوبة‪.]88:‬‬
‫ُه ْم اْل ُم ْفِلحُو َ‬
‫حِيَيّن ُه َحيَا ًة َطّيَب ًة َوَلَن ْج ِزَيّن ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم‬
‫ن َفَلُن ْ‬
‫ن َذ َك ٍر َأ ْو أُنثَى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌ‬
‫ع ِم َل صَاِلحًا ِم ْ‬
‫‪•‬من َ‬
‫ن‪[ ‬النحل‪.]97:‬‬
‫ن مَا كَانُوا َي ْع َملُو َ‬
‫سِ‬
‫ِبَأ ْح َ‬

‫"البداية والنهاية"‪( ،‬ج ‪ 11‬ص ‪.)243‬‬ ‫‪99‬‬

‫‪60‬‬
‫س َع ٌة‬
‫ض الّل ِه وَا ِ‬
‫سَن ٌة َوَأ ْر ُ‬
‫سنُوا فِي َه ِذ ِه ال ّدْنيَا َح َ‬
‫ن َأ ْح َ‬
‫ن آ َمنُوا اّتقُوا َرّب ُك ْم ِلّلذِي َ‬
‫عبَا ِد اّلذِي َ‬
‫‪ُ •‬ق ْل يَا ِ‬
‫ب‪[ ‬الزمر‪.]10:‬‬
‫ن َأ ْج َر ُه ْم ِب َغ ْي ِر ِحسَا ٍ‬
‫ِإّنمَا ُي َوفّى الصّاِبرُو َ‬
‫غ َدقًا‪[ ‬الجن‪.]16:‬‬
‫س َق ْينَا ُه ْم مَا ًء َ‬
‫علَى ال ّطرِي َق ِة ل ْ‬
‫سَتقَامُوا َ‬
‫‪َ •‬وَأّل ْو ا ْ‬
‫بينت اليات السابقة أن البركات والثمرات والخيرات وغيرها تنزل بسبب تحقق إيمان‬
‫أهل القرى واستقامتهم وتقواهم وعملهم الصالح حكاما ومحكومين‪ ،‬وليس الحكام فقط‪ ،‬وذلك‬
‫لن الفعال والسماء المستخدمة في الخطاب جاءت بصيغ الجمع كقوله تعالى‪" :‬آ َمنُوا"‪،‬‬
‫ع ِم َل"‪َ ،‬أ ْه َل اْل ُقرَى"‪ ،‬ولم‬
‫و"اّت َقوْا"‪ ،‬و"استقاموا"‪ ،‬وغيره)‪ ،‬أو بصيغ العموم‪ ،‬كقوله تعالى‪" :‬من َ‬
‫تأت بصيغة الفرد أو الخصوص للتأكيد على ما نحن بصدد التأكيد عليه‪ ،‬من أن التغيير‬
‫يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالحكام على سبيل؟‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫رابعا‪ -‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف "التغيير إلى الخير" متعلقة بالجماعة‬
‫وليس بالولة فقط‪.‬‬
‫ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫ن‬
‫ف اّلذِي َ‬
‫سَت ْخَل َ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ‬
‫ن آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ‬
‫ع َد الّل ُه اّلذِي َ‬
‫‪َ •‬و َ‬
‫ن َب ْع ِد َخ ْوِف ِه ْم َأ ْمنًا َي ْعُبدُوَننِي َل‬
‫ن َل ُه ْم دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ‬
‫ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ‬
‫ِم ْ‬
‫ن‪[ ‬النور‪.]55:‬‬
‫سقُو َ‬
‫ك ُه ْم اْلفَا ِ‬
‫ك َفُأ ْوَلِئ َ‬
‫ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ش ْيئًا َو َم ْ‬
‫ن بِي َ‬
‫ش ِركُو َ‬
‫ُي ْ‬
‫تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد ال تعالى لعباده بالستخلف والتمكين في‬
‫الرض‪ ،‬وهما تحقق اليمان والعمل الصالح‪ ،‬ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء‬
‫سَت ْخِل َفّنهُم)‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد‬
‫بصيغة الجمع‪( :‬آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم‪َ ،‬لَي ْ‬
‫التأكيد عليه‪ ،‬من أن التغيير يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالحكام على سبيل‬
‫المثال‪ .‬ثم اختُتمت الية بشرط آخر مُناط به سلمة اليمان وصحته‪ ،‬وهو عدم الشرك‬
‫لضمان سلمة توحيد كلمة (ل إله إل ال)‪ ،‬ولو كان شيئا يسيرا كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ش ْيئًا)‪.‬‬
‫ن بِي َ‬
‫ش ِركُو َ‬
‫(َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ‬
‫وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة بالجماعة وليس‬
‫بالولة فقط‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ومما يزيد المر وضوحا أن القرآن الكريم قد بين لنا السس الثلث‪( :‬الكتاب‪ ،‬والسنة‪،‬‬
‫والخلق) التي أرسل بها الرسول صلى ال عليه وسلم لبناء المجتمع وحسن سلمته كما في‬
‫قوله تعالى‪:‬‬
‫ب‬
‫عَل ْي ِه ْم آيَاِت ِه َوُي َزكّي ِه ْم َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ‬
‫ن َرسُو ًل ِم ْن ُه ْم َي ْتلُو َ‬
‫ث فِي اْلُأ ّميّي َ‬
‫‪ُ •‬ه َو اّلذِي َب َع َ‬
‫ن‪[ ‬الجمعة‪.]2:‬‬
‫ض َل ٍل ُمبِي ٍ‬
‫ن َق ْب ُل َلفِي َ‬
‫ن كَانُوا ِم ْ‬
‫وَاْل ِح ْك َم َة َوِإ ْ‬
‫عَل ْي ِه ْم آيَاِت ِه َوُي َزكّي ِه ْم‬
‫س ِه ْم َي ْتلُوا َ‬
‫ن َأ ْن ُف ِ‬
‫ث فِي ِه ْم َرسُو ًل ِم ْ‬
‫ن ِإ ْذ َب َع َ‬
‫علَى اْل ُم ْؤ ِمنِي َ‬
‫ن الّل ُه َ‬
‫‪َ•‬ل َق ْد َم ّ‬
‫ن‪[ ‬آل عمران‪.]164:‬‬
‫ن َق ْب ُل َلفِي ضَل ٍل ُمبِي ٍ‬
‫ن كَانُوا ِم ْ‬
‫ب وَاْل ِح ْك َم َة َوِإ ْ‬
‫َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ‬
‫ك‬
‫ب وَاْل ِح ْك َم َة َوُي َزكّي ِه ْم ِإّن َ‬
‫ك َوُي َعّل ُم ُه ْم اْل ِكتَا َ‬
‫عَل ْي ِه ْم آيَاِت َ‬
‫ث فِي ِه ْم َرسُو ًل ِم ْن ُه ْم َي ْتلُو َ‬
‫‪َ •‬رّبنَا وَا ْب َع ْ‬
‫ت اْل َعزِي ُز اْل َحكِي ُم‪[ ‬البقرة‪.]129:‬‬
‫َأ ْن َ‬
‫قال القرطبي في تفسيرها‪" :‬الكتاب"‪ :‬القرآن‪ ،‬و"الحكمة"‪ :‬المعرفة بالدين‪ ,‬والفقه في‬
‫التأويل‪ ,‬والفهم الذي هو سجية ونور من ال تعالى; قاله مالك‪ ...‬وقال ابن زيد و قتادة‪:‬‬
‫"الحكمة" السنة وبيان الشرائع‪ .‬وقيل‪ :‬الحكم والقضاء خاصة; والمعنى متقارب ‪ ...‬ويزكيهم‪:‬‬
‫أي يطهرهم من وضر الشرك; عن ابن جريج وغيره‪ .‬والزكاة‪ :‬التطهير‪ ,‬وقد تقدم"‪.‬‬
‫وبمثل قول القرطبي قال ابن كثير ناقل عن أئمة التفسير‪.‬‬
‫ن‬
‫عْ‬
‫ف َوَن َهوْا َ‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫‪•‬اّلذِي َ‬
‫اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة ا ُلمُو ِر‪[ ‬الحج‪.]41:‬‬
‫رد القرطبي القول بأن الية نزلت في الخلفاء الربعة فقط دون غيرهم وقال‪" :‬قلت‪:‬‬
‫هذه الحال لم تختص بالخلفاء الربعة رضي ال عنهم حتى يخصوا بها من عموم الية‪ ,‬بل‬
‫شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم ‪ ...‬فصح أن الية عامة لمة محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم غير مخصوصة‪ ،‬إذ التخصيص ل يكون إل بخبر ممن يجب له التسليم‪ ,‬ومن‬
‫الصل المعلوم التمسك بالعموم" اهـ‪ ،‬تفسير القرطبي‪.‬‬
‫وبعد أن ذكر ابن كثير في تفسيره‪ ،‬قول عثمان بن عفان وقول أبي العالية أنها نزلت‬
‫في الصحابة قال‪" :‬قال الصباح بن سواده الكندي‪ :‬سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو‬
‫ض" الية‪ ،‬ثم قال أل إنها ليست على الوالي وحده‪ ،‬ولكنها‬
‫ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫يقول‪" :‬اّلذِي َ‬
‫على الوالي والمولى عليه‪ ،‬أل أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم‪ ،‬وبما للوالي عليكم منه‪.‬‬
‫إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق ال عليكم‪ ،‬وأن يأخذ لبعضكم من بعض‪ ،‬وأن‬

‫‪62‬‬
‫يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع‪ ،‬وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة‪ ،‬ول المستكره‬
‫ن آ َمنُوا‬
‫ع َد الّل ُه اّلذِي َ‬
‫بها‪ ،‬ول المخالف سرها علنيتها‪ .‬وقال عطية العوفي هذه الية كقوله‪َ " :‬و َ‬
‫ض" اهـ‪.‬‬
‫سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ‬
‫ِم ْن ُك ْم َو َ‬
‫قلت‪ :‬ول يفهم من الية أن المر بإقامة الصلة وإيتاء الزكاة والمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ل يكون إل بعد قيام الخلفة‪ ،‬فإن هذا الفهم السقيم كما يحلوا للبعض‪ ،‬يقصد به‬
‫صرف المة عن البناء الصحيح لركان السلم في المجتمع‪ ،‬والتي بدون تحقيقها سيتخلف‬
‫قطعا وعد ال لعباده بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬كما مر بيانه في الية قبل قليل‪ .‬ثم‬
‫إن هذا الفهم المعوج ينقضه واقع السلف الصالح قبل قيام الدولة السلمية‪ ،‬إذ أنهم كانوا قبل‬
‫ذلك قد أقاموا الصلة في أنفسهم وفيما استرعاهم ال تعالى‪ ،‬وأمروا بالمعروف ونهوا عن‬
‫المنكر‪ ،‬ولم ينتظروا قيام الدولة السلمية لعلمهم المسبق أن قيام التوحيد واليمان والعمل‬
‫الصالح في المجتمع شرط للستخلف والتمكين ل العكس كما يزعم هؤلء النفر‪ ،‬وإن لم‬
‫يصرحوا بها فإن واقع دعوتهم ينطق بها‪ ،‬وليس هذا مكان سرد أقوالهم في ذلك‪ .‬ومن‬
‫الملحظ كذلك أن الخطاب في الية جاء بصيغ الجمع (الذين‪ ،‬أقاموا‪ ،‬وآتوا‪ ،‬وأمروا‪،‬‬
‫ونهوا)‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد للتأكيد على ما نحن بصدد التأكيد عليه‪ ،‬من أن التغيير يكون‬
‫بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد كالولة على سبيل المثال‪.‬‬
‫وعليه فإن الية تدل على أن شروط تحقق الوعد بالتمكين متعلقة بالجماعة‪ ،‬ل بالولة‬
‫وحدهم‪.‬‬
‫ن‬
‫ش َر َنقِيبًا َوقَا َل الّل ُه ِإنّي َم َع ُك ْم َلِئ ْ‬
‫عَ‬
‫ي َ‬
‫سرَائِي َل َوَب َع ْثنَا ِم ْن ُه ْم ا ْثَن ْ‬
‫ق َبنِي ِإ ْ‬
‫‪َ •‬وَل َق ْد َأ َخ َذ الّل ُه مِيثَا َ‬
‫ن‬
‫سنًا ُل َك ّف َر ّ‬
‫ضُت ْم الّل َه َق ْرضًا َح َ‬
‫ع ّز ْرُتمُو ُه ْم َوَأ ْق َر ْ‬
‫سلِي َو َ‬
‫َأ َق ْمُت ْم الصّل َة وَآ َت ْيُت ْم ال ّزكَا َة وَآ َم ْنُت ْم ِب ُر ُ‬
‫ض ّل‬
‫ك ِم ْن ُك ْم َف َق ْد َ‬
‫ن َك َف َر َب ْع َد َذِل َ‬
‫ن َت ْحِتهَا ا َلْنهَا ُر َف َم ْ‬
‫ت َت ْجرِي ِم ْ‬
‫سّيئَاِت ُك ْم َو ُل ْد ِخَلّن ُك ْم َجنّا ٍ‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬
‫َ‬
‫سبِي ِل‪[ ‬المائدة‪.]12:‬‬
‫سوَا َء ال ّ‬
‫َ‬
‫ت‬
‫حِ‬
‫ن َت ْ‬
‫ن َف ْوِق ِه ْم َو ِم ْ‬
‫ن َرّب ِه ْم ل َكلُوا ِم ْ‬
‫‪َ •‬وَل ْو َأّن ُه ْم َأقَامُوا الّت ْورَا َة وَاْلإِنجِي َل َومَا أُن ِز َل ِإَل ْي ِه ْم ِم ْ‬
‫ن‪[ ‬المائدة‪.]66:‬‬
‫ص َد ٌة َو َكثِي ٌر ِم ْن ُه ْم سَا َء مَا َي ْع َملُو َ‬
‫َأ ْر ُجِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم ُأ ّم ٌة ُم ْقَت ِ‬
‫وهاتان اليتان تحملن نفس الدللة التي تحملها اليات السابقة‪ ،‬فمعية ال تعالى وبسط‬
‫الرزق لعباده فيهما مشروطتان بتحقق العمل الصالح وإقامة حكم ال من قبل الجماعة‪ ،‬وليس‬
‫من الحكام‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ن إِن‬
‫عزِي ٌز‪ ‬اّلذِي َ‬
‫ي َ‬
‫ن الّل َه َل َق ِو ّ‬
‫ص ُر ُه ِإ ّ‬
‫ن الّل ُه مَن يَن ُ‬
‫ص َر ّ‬
‫قال ابن تيمية‪" :‬فان ال يقول‪َ  :‬وَليَن ُ‬
‫ن اْلمُن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة‬
‫عِ‬
‫ف َوَن َهوْا َ‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ا ُلمُورِ‪[ ‬الحج‪ .]41-40:‬وأي معروف أعظم من اليمان بال وأسمائه وآياته وأي منكر أعظم‬
‫من اللحاد في أسماء ال وآياته" (‪.)100‬‬
‫قلت‪ :‬ول يفهم مما سبق أن المام العظم أو السلطان غير معني بتطبيق ما تضمنته‬
‫ن‬
‫عِ‬
‫ف َوَن َهوْا َ‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫ن إِن ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫الية‪ :‬اّلذِي َ‬
‫اْلمُن َك ِر‪ ،‬بل عليه واجب حمل الناس على ذلك كي تستقيم له الولية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬يَا‬
‫سبِي ِل‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫ك َ‬
‫ضّل َ‬
‫ق وَل َتّتِب ْع اْل َهوَى َفُي ِ‬
‫س بِاْل َح ّ‬
‫ن النّا ِ‬
‫ض فَا ْح ُك ْم َب ْي َ‬
‫ك َخلِي َف ًة فِي ا َل ْر ِ‬
‫دَاوُو ُد ِإنّا َج َعْلنَا َ‬
‫ب‪[ ‬ص‪.]26:‬‬
‫شدِي ٌد ِبمَا َنسُوا َي ْو َم اْل ِحسَا ِ‬
‫ب َ‬
‫عذَا ٌ‬
‫سبِي ِل الّل ِه َل ُه ْم َ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫ن َ‬
‫ضلّو َ‬
‫ن َي ِ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫الّل ِه ِإ ّ‬
‫قال ابن تيمية رحمه ال‪" :‬من أحمد بن تيمية‪ ،‬إلى سلطان المسلمين‪ ،‬وولى أمر‬
‫المؤمنين‪ ،‬نائب رسول ال في أمته بإقامة فرض الدين وسنته‪ ،‬أيده ال تأييدا يصلح به له‬
‫وللمسلمين أمر الدنيا والخرة‪ ،‬ويقيم به جميع المور الباطنة والظاهرة‪ ،‬حتى يدخل في قول‬
‫ف َوَن َهوْا‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوُا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫ن إِن ّم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ال تعالى‪( :‬اّلذِي َ‬
‫ن اْلمُن َك ِر)‪ ،‬وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله‬
‫عِ‬
‫َ‬
‫إمام عادل‪ "..‬إلى آخر الحديث‪ .‬وفى قوله صلى ال عليه وسلم‪" :‬من دعا إلى هدى كان له‬
‫من الجر مثل أجو رمن تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ"‪ .‬وقد استجاب ال الدعاء‬
‫في السلطان فجعل فيه من الخير الذي شهدت به قلوب المة ما فضله به على غيره‪ ،‬وال‬
‫ن آ َمنُوا‬
‫ع َد الّل ُه اّلذِي َ‬
‫المسئول أن يعينه‪ ،‬فانه أفقر خلق ال إلى معونة ال وتأييده‪ .‬قال تعالى‪َ ( :‬و َ‬
‫ن َل ُه ْم‬
‫ن َق ْبِل ِه ْم َوَلُي َم ّكَن ّ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ف اّلذِي َ‬
‫خَل َ‬
‫سَت ْ‬
‫ض َكمَا ا ْ‬
‫سَت ْخِل َفّنهُم فِي ال ْر ِ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫ع ِملُوا الصّاِلحَا ِ‬
‫ِم ْن ُك ْم َو َ‬
‫ش ْيئًا) الية‪.‬‬
‫ن بِي َ‬
‫ش ِركُو َ‬
‫ن َب ْع ِد َخ ْو ِف ِه ْم َأ ْمنًا َي ْعُبدُوَننِي َل ُي ْ‬
‫دِيَن ُه ْم اّلذِي ا ْرَتضَى َل ُه ْم َوَلُيَب ّدَلّن ُه ْم ِم ْ‬
‫وصلح أمر السلطان بتجريد المتابعة لكتاب ال وسنة رسوله ونبيه وحمل الناس على ذلك‪،‬‬
‫فإنه سبحانه جعل صلح أهل التمكين في أربعة أشياء‪ ،‬إقام الصلة وإيتاء الزكاة والمر‬
‫بالمعروف والنهى عن المنكر" (‪.)101‬‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)12/511‬‬ ‫‪100‬‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)242-28/241‬‬ ‫‪101‬‬

‫‪64‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الحاديث‬

‫•عن زينب بنت جحش رضي ال عنها أن النبي صلى ال عليه وسلم دخل عليها فزعا‬
‫يقول‪" :‬ل إله إل ال ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج‬
‫ومأجوج مثل هذه وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها فقلت يا رسول ال أنهلك‬
‫وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث "(‪.)102‬‬
‫ودللة الحديث أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث‪ ،‬ول تتحقق كثرة الخبث في‬
‫المجتمع إل بفساد أكثره‪ ،‬وفساد الحاكم وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث‪ ،‬فثبت‬
‫أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية وليس بذنوب الرعاة فقط‪.‬‬
‫•عن أبي أمامة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬لتنقضن‬
‫عرى السلم عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن‬
‫نقضا الحكم وآخرهن الصلة "(‪.)103‬‬
‫ودللة الحديث أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في التطبيق ل بد أن يسبقها إعادة‬
‫تطبيق العرى الخرى بدءا من الصلة وهكذا‪ ،‬فان القاعدة العامة تقول‪( :‬أول قطعة تفك‬
‫آخر قطعة تركب)‪.‬‬
‫ع وكلكم‬
‫•عن عبد ال بن عمر قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬أل كُلكم را ٍ‬
‫ع وهو مسؤول عن رعيته والرجل‬
‫مسئول عن رعيته فالمام الذي على الناس را ٍ‬
‫راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده‬
‫وهي مسئولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه أل فكلكم‬
‫راع وكلكم مسؤول عن رعيته "(‪.)104‬‬
‫قال ابن حجر‪" :‬قال الخطابي‪ :‬اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر في التسمية‪ ،‬أي‬
‫في الوصف‪ ،‬بالراعي‪ ،‬ومعانيهم مختلفة‪ ،‬فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود‬
‫والعدل في الحكم‪ ،‬ورعاية الرجل أهله‪ ،‬سياسته لمرهم وإيصالهم حقوقهم‪ ،‬ورعاية المرأة‬

‫"رواه البخاري ومسلم‪ ،‬وذكره اللباني في "السلسلة الصحيحة" (ج ‪ ،)2/685‬وفي "صحيح‬ ‫‪102‬‬

‫الترمذي" (ج ‪ ،)4/479‬وغيره‬
‫"صحيح"‪ ،‬رواه ابن حبان في "صحيحه"‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في "الترغيب والترهيب"‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪104‬‬

‫‪66‬‬
‫تدبير أمر البيت والولد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك‪ ،‬ورعاية الخادم حفظ ما تحت‬
‫يده‪ ،‬والقيام بما يجب عليه من خدمته‪ .‬قوله أل فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"(‪.) 105‬‬
‫وقال النووي‪" :‬قال العلماء‪ :‬الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح ما قام عليه‪ ،‬وما‬
‫هو تحت نظره‪ .‬ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام‬
‫بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته" (‪.)106‬‬
‫ت ِإلَى َأ ْهِلهَا‬
‫ن الّل َه َيْأ ُم ُر ُك ْم أَن تُؤدّوْا ا َلمَانَـا ِ‬
‫وقـال القرطبي في شرح قولـه تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫‪ :..‬فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة وحكاما على مراتبهم" (‪.)107‬‬
‫قلت‪ :‬وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول تفريط‪ .‬وهذا المر يعكس جمال‬
‫السلم العظيم حيث لم يجعل قيام الدين مُناطا بفرد أو بصنف من الناس أبدا‪ ،‬فهو دين‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫•عن أبي أيوب رضي ال عنه قال‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪" :‬ما‬
‫بعث ال من نبي ول كان بعده من خليفة إل له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف‬
‫وتنهاه عن المنكر وبطانة ل تألوه خبال فمن وقي شرها فقد وقي"(‪.) 108‬‬
‫قال ابن حجر في الشرح‪" :‬ونقل ابن التين عن أشهب‪ :‬إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ من‬
‫يستكشف له أحوال الناس في السر‪ ،‬وليكن ثقة مأمونا فطنا عاقل‪ ،‬لن المصيبة إنما تدخل‬
‫على الحاكم المأمون من قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به‪ ،‬فيجب عليه‬
‫أن يتثبت في مثل ذلك"(‪.) 109‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع اللهي‪ ،‬وقد أنيط هذا المر‬
‫بالحاكم‪ ،‬وأمر الحاكم إنما يكون بأهل مشورته وبطانته الخيرة‪ ،‬فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا‬
‫من أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس والجن ول أن يتعففوا عن أداء‬
‫هذا الواجب‪ ،‬وخاصة في الزمنة التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين‪ ،‬فإنهم لو فعلوا‬

‫في "فتح الباري" (ج ‪ 13‬ص ‪.)113‬‬ ‫‪105‬‬

‫"شرح النووي على صحيح مسلم" (ج ‪ 12‬ص ‪.)213‬‬ ‫‪106‬‬

‫"تفسير القرطبي" (ج ‪ 5‬ص ‪.)258‬‬ ‫‪107‬‬

‫رواه البخاري رقم (‪ .)6237‬ورقمه في "الفتح" (‪ ،)7198‬وفي رواية صفوان بن سليم يقول‪:‬‬ ‫‪108‬‬

‫"ما بعث ال من نبي ول بعده من خليفة"‪.‬‬


‫"فتح الباري" (‪.)13/190‬‬ ‫‪109‬‬

‫‪67‬‬
‫ذلك وتخلوا عن مواقع المسؤولية‪ ،‬فقد خدموا أعداء المة وساهموا في تسلط بطانة السوء‬
‫على رقابهم‪ ،‬في حين أنهم مأمورون بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬يَا‬
‫ن‬
‫ت اْلَب ْغضَا ُء ِم ْ‬
‫عِنّت ْم َق ْد َب َد ْ‬
‫ن دُوِن ُك ْم َل َيْألُوَن ُك ْم َخبَالًا َودّوا مَا َ‬
‫ن آ َمنُوا َل َتّت ِخذُوا ِبطَاَن ًة ِم ْ‬
‫َأّيهَا اّلذِي َ‬
‫ن‪ ‬هَاَأ ْنُت ْم ُأ ْولَا ِء ُت ِحبّوَن ُه ْم وَل‬
‫ن ُك ْنُت ْم َت ْع ِقلُو َ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫صدُو ُر ُه ْم َأ ْكَب ُر َق ْد َبّينّا َل ُك ْم اليَا ِ‬
‫َأ ْفوَا ِه ِه ْم َومَا ُت ْخفِي ُ‬
‫ظ‬
‫ن ال َغ ْي ِ‬
‫عَل ْي ُك ْم اْلَأنَا ِم َل ِم ْ‬
‫عضّوا َ‬
‫ب ُكّل ِه َوِإذَا َلقُو ُك ْم قَالُوا آ َمنّا َوِإذَا َخَلوْا َ‬
‫ن بِاْل ِكتَا ِ‬
‫ُي ِحبّوَن ُك ْم َوُت ْؤ ِمنُو َ‬
‫صدُو ِر‪[ ‬آل عمران‪.]118-118:‬‬
‫ت ال ّ‬
‫علِي ٌم ِبذَا ِ‬
‫ن الّل َه َ‬
‫ُق ْل مُوتُوا ِب َغ ْي ِظ ُك ْم ِإ ّ‬
‫يقول ابن كثير في تفسيرها‪" :‬يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ‬
‫المنافقين بطانة‪ :‬أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لعدائهم‪ .‬والمنافقون بجهدهم‬
‫وطاقتهم ل يألون المؤمنين خبالً‪ ،‬أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن‪ ،‬وبما‬
‫يستطيعون من المكر والخديعة‪ ،‬ويودّون ما يعنت المؤمنين‪ ،‬ويحرجهم ويشق عليهم ‪ ...‬ثم‬
‫صدُو ُر ُه ْم َأ ْكَب ُر"‪ ،‬أي قد لح على صفحات‬
‫ن َأ ْفوَا ِه ِه ْم َومَا ُت ْخفِي ُ‬
‫ت اْلَب ْغضَا ُء ِم ْ‬
‫قال تعالى‪َ " :‬ق ْد َب َد ْ‬
‫وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء‬
‫للسلم وأهله ما ل يخفي مثله علي لبيب عاقل"‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم وأهله هذا الزمان‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫كثير من المنتمين للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم‪ ،‬إذ ينطلقون‬
‫بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة الكامنة "الرعاع" التي هم بحاجة ماسة‬
‫لها مرحليا للسيطرة على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي فتنبه‪ .‬فهم‬
‫يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف‪ ،‬مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم‬
‫مستغلين هامش الديمقراطية‪ ،‬وما تخفي صدورهم أكبر وهو تغيير النظام بآخر اشتراكي أو‬
‫شيعي رافضي‪ .‬إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة للحاكم دون غيرها ما‬
‫استطاعت إلى ذلك سبيل‪ ،‬حتى يستقيم أمره ويسعد الناس بعدله‪ .‬وعليه لزمها قبل ذلك‪،‬‬
‫السعي إلى إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب‪ ،‬وذلك بتربية الجيال‬
‫الناشئة‪ ،‬ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة المسلمة ول الفرد المسلم‪.‬‬
‫•حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا قال‪ :‬سمعت عامرا يقول‪ :‬سمعت النعمان بن بشير رضي‬
‫ال عنهما عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪" :‬مثل القائم على حدود ال والواقع فيها‬
‫كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها فكان الذين‬

‫‪68‬‬
‫في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا‬
‫خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم‬
‫نجوا ونجوا جميعاً"(‪.)110‬‬
‫ودللة الحديث‪ ،‬في قوله‪" :‬فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على‬
‫أيديهم نجوا ونجوا جميعا" هكذا بصيغ الجمع (يتركوهم‪ ،‬أخذوا)‪ ،‬فإن مسؤولية المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر مناطة بالجماعة (التغيير) ل بفرد من أفراد المة أو فئة دون‬
‫أخرى‪.‬‬
‫•"إنما الدين النصيحة‪ .‬قالوا‪ :‬لمن يا رسول ال؟ قال‪ :‬ل ولكتابه ولرسوله ولئمة‬
‫المسلمين وعامتهم "‪.111‬‬
‫ودللة الحديث أن النصيحة بما فيها من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر‪ ،‬عامة لعموم‬
‫أفراد المجتمع رعاة ورعية‪.‬‬
‫•وعن النعمان بن بشير قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪" :‬الحلل بين‬
‫والحرام بين وبينهما مشتبهات‪ ،‬ل يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى الشبهات‬
‫استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‪ ،‬كالراعي يرعى حول‬
‫الحمى يوشك أن يرتع فيه‪ ،‬أل وإن لكل ملك حمى‪ ،‬أل وإن حمى ال محارمه‪ ،‬أل‬
‫وإن في الجسد مضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل‬
‫وهي القلب "(‪.)112‬‬
‫نلحظ من هذا الحديث الشريف‪ ،‬أن صلح الفرد أو فساده مرتبط بصلح قلبه أو‬
‫فساده وليس مرتبط بصلح الحاكم أو فساده‪ .‬فكم من قلوب صلحت مع فساد حكامها؟ وكم‬
‫من قلوب فسدت مع صلح حكامها؟‬
‫فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح و يفسد‪ ،‬فلو كان مجرد وصول‬
‫الرجل الصالح إلى الحكم في مجتمع فاسد‪ ،‬يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه‪ ,‬لتخذ من‬
‫ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم سنة‪ ,‬فعدوله عن ذلك وتركه للعروض المغرية التي‬

‫"متفق عليه"‪ ،‬واللفظ للبخاري‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫"صحيح سنن النسائي" لللباني رقم ( ‪ ،)4198‬و"صحيح الترمذي" رقم ( ‪ ،)1926‬وغيره‪.‬‬ ‫‪111‬‬

‫"متفق عليه"‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫‪69‬‬
‫تقدمت له بها قريش‪ ،‬مقابل ترك الدعوة‪ ،‬دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة ال تعالى في‬
‫تغيير المجتمعات‪ .‬فترك نقل السنة‪ ،‬نقل للترك‪.‬‬
‫•"من ولي منكم عملً فأراد ال به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره‬
‫وإن ذكر أعانه"(‪.)113‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق‪ .‬إذ كيف يتحقق مراد ال تعالى بالخير‬
‫لولي المر دون وجود الوزير الصالح؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع‬
‫الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد المسلم؟‬
‫وهنا قد يطرح البعض سؤا ًل مهما‪ :‬هل يجوز دخول الوزارة في حكومة ظالمة؟‬
‫وجوابه‪ :‬أن شيخ السلم ابن تيمية رحمه ال تعالى أجاز الولية بقصد تخفيف الظلم‬
‫فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره مستدل بالصول الشرعية‪ ،‬وقصة تولي يوسف عليه السلم‬
‫ل عن ظالم‪ ،‬وذلك في فصل جامع في تعارض الحسنات‬
‫خزائن الرض في نظام كافر فض ً‬
‫أو السيئات‪ ،‬ننقل منه ما يلي‪:‬‬
‫"لكن أقول هنا‪ :‬إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعه كالمارة والولية‬
‫والقضاء ونحو ذلك‪ ،‬إذا كان ل يمكنه أداء واجباته وترك محرماته‪ ،‬ولكن يتعمد ذلك ما ل‬
‫يفعله غيره قصدا وقدرة‪ :‬جازت له الولية‪ ،‬وربما وجبت! وذلك لن الولية إذا كانت من‬
‫الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن‬
‫السبيل كان فعلها واجبا‪ ،‬فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من ل يستحق وأخذ بعض ما ل‬
‫يحل‪ ،‬وإعطاء بعض من ل ينبغي ول يمكنه ترك ذلك صار هذا من باب ما ل يتم الواجب‬
‫أو المستحب إل به فيكون واجبا أو مستحبا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو‬
‫المستحب‪ ،‬بل لو كانت الولية غير واجبة‪ ،‬وهي مشتملة على ظلم ومن تولها أقام الظلم‬
‫حتى تولها شخص قصد بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره كان ذلك حسنا‬
‫مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو اشد منها جيدا‪.‬‬
‫وهذا باب يختلف باختلف النيات والمقاصد‪ ،‬فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه ما ًل‬
‫فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم مع اختياره أن ل‬

‫تخريج السيوطي‪( :‬ن) عن عائشة‪ .‬تحقيق اللباني‪" :‬صحيح"‪ .‬انظر حديث رقم‪ )6596( :‬في‬ ‫‪113‬‬

‫"صحيح الجامع"‪ ‌.‬و"سنن النسائي" (‪ ،)7/159‬بسند آخر وهو صحيح‪ .‬وفي "السلسة الصحيحة" (‬
‫‪.)1/881‬‬

‫‪70‬‬
‫يظلم ودفعه ذلك لو أمكن كان محسنا‪ ،‬ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا‪ .‬وإنما الغالب في‬
‫هذه الشياء فساد النية والعمل؛ أما النية فبقصده السلطان والمال‪ ،‬وأما العمل فبفعل‬
‫المحرمات وبترك الواجبات ل لجل التعارض ول لقصد النفع والصلح‪.‬‬
‫ثم الولية وان كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين‬
‫غيرها أوجب أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى‪ ،‬ومن هذا‬
‫الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الرض لملك مصر‪ ،‬بل ومسألته أن يجعله على‬
‫ت‬
‫ف مِن َق ْب ُل بِاْلَبّينَا ِ‬
‫س ُ‬
‫خزائن الرض‪ ،‬وكان هو وقومه كفارا كما قال تعالى‪َ  :‬وَل َق ْد جَاء ُك ْم يُو ُ‬
‫ن‬
‫ب ّمَت َف ّرقُو َ‬
‫ن َأَأ ْربَا ٌ‬
‫جِ‬
‫سْ‬
‫ي ال ّ‬
‫ك ّممّا جَاءكُم ِب ِه‪ ،‬الية‪ .‬وقال تعالى عنه‪ :‬يَا صَا ِحَب ِ‬
‫شّ‬
‫َفمَا ِزْلُت ْم فِي َ‬
‫س ّمْيُتمُوهَا أَنُت ْم وَآبَآ ُؤكُم‪ ،‬الية‪.‬‬
‫سمَاء َ‬
‫ن مِن دُوِن ِه ِإ ّل َأ ْ‬
‫َخ ْي ٌر َأ ِم الّل ُه اْلوَا ِح ُد اْل َقهّا ُر ‪ ‬مَا َت ْعُبدُو َ‬
‫ومعلوم أنه مع كفرهم ل بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الموال وصرفها على‬
‫حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته‪ ،‬ول تكون تلك جارية على سنة النبياء وعدلهم‪ ،‬ولم‬
‫يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين ال‪ ،‬فان القوم لم يستجيبوا له‬
‫لكن فعل الممكن من العدل والحسان‪ ،‬ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم‬
‫يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله‪( :‬فاتقوا ال ما استطعتم)‪.‬‬
‫فإذا ازدحم واجبان ل يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الخر في هذه الحال واجبا‬
‫ولم يكن تاركه لجل فعل الوكد تارك واجب في الحقيقة‪ .‬وكذلك إذا اجتمع محرمان ل‬
‫يمكن ترك أعظمهما إل بفعل أدناهما لم يكن فعل الدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة‬
‫وان سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الطلق لم يضر‪.‬‬
‫ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر‪ ،‬وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو لضرورة‬
‫أو لدفع ما هو أحرم‪ ،‬وهذا كما يقال لمن نام عن صلة أو نسيها إنه صلها في غير الوقت‬
‫المطلق قضاء‪.‬‬
‫هذا وقد قال النبي‪" :‬من نام عن صلة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فان ذلك وقتها ل‬
‫كفارة لها إل ذلك"‪.‬‬
‫هذا وباب التعارض باب واسع جدا لسيما في الزمنة والمكنة التي نقصت فيها آثار‬
‫النبوة وخلفة النبوة‪ ،‬فان هذه المسائل تكثر فيها‪ ،‬وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل‪،‬‬
‫ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين المة‪ ،‬فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الشتباه‬

‫‪71‬‬
‫والتلزم‪ ،‬فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وان تضمن سيئات عظيمة‪،‬‬
‫وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب لخر‪ ،‬وإن ترك حسنات عظيمة‬
‫والمتوسطون الذين ينظرون المرين قد ل يتبين لهم أو لكثرهم مقدار المنفعة والمضرة‪ ،‬أو‬
‫يتبين لهم فل يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات‪ ،‬لكون الهواء قارنت‬
‫الراء‪ ،‬ولهذا جاء في الحديث‪" :‬إن ال يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل‬
‫الكامل عند حلول الشهوات"‪ .‬فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل‪.‬‬
‫وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند المر والنهي في بعض‬
‫الشياء‪ ،‬ل التحليل والسقاط‪ ،‬مثل أن يكون في أمره بطاعة فعل لمعصية أكبر منها‪ ،‬فيترك‬
‫المر بها دفعا لوقوع تلك المعصية‪ ،‬مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه‬
‫في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه‪ ،‬ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات‬
‫تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات‪ ،‬فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك‬
‫ما أمر ال به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر‪.‬‬
‫العالم تارة يأمر وتارة ينهي وتارة يبيح وتارة يسكت عن المر أو النهي أو الباحة‪،‬‬
‫كالمر بالصلح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح‪ ،‬وعند‬
‫التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب المكان‪ ،‬فأما إذا كان المأمور والمنهي ل يتقيد‬
‫بالممكن إما لجهله وإما لظلمه ول يمكن إزالة جهله وظلمه‪ ،‬فربما كان الصلح الكف‬
‫والمساك عن أمره ونهيه‪ ،‬كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت‪ ،‬كما سكت‬
‫الشارع في أول المر عن المر بأشياء والنهي عن أشياء حتى عل السلم وظهر‪ ،‬فالعالم‬
‫في البيان والبلغ كذلك قد يؤخر البيان والبلغ لشياء إلى وقت التمكن كما أخر ال سبحانه‬
‫إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول ال تسليما إلى بيانها"(‪ ،)114‬انتهى‪.‬‬
‫وهنا نذكر إخواننا بالتحلي بالتقوى والصبر‪ ،‬فمن تعجل المر حُرمه‪ ،‬ومن تقاعس عنه‬
‫مُنعه‪ ،‬وسددوا وقاربوا في زمن الفتن الذي أصبح فيه الظاهر منها أكثر مما بطن‪ .‬وليعلم‬
‫إخوتي أن من تخلف في حال القدرة‪ ،‬عن ملئ مقعد فيه درء لمفسدة أعظم‪ ،‬يعد جناية على‬
‫السلم والمسلمين‪ ،‬كما أننا بحاجة ماسة إلى هذا الفهم السليم على منهج شيخ السلم ابن‬
‫تيمية رحمه ال‪ ،‬وتطبيقه قبل زوال أوانه‪ ،‬وقبل الندم‪.‬‬

‫"مجموع الفتاوى" (‪.)59-20/55‬‬ ‫‪114‬‬

‫‪72‬‬
‫وعجبا فأن بعضا منا ل يتعظ بما سلف من أحداث جرّت على المة السلمية الكثير‬
‫من المصائب‪ ،‬ويا ليتها خففت من المنكر ‪ -‬حين عملت على إزالته ‪ -‬لهان الخطب‪ ،‬لكننا‬
‫ازددنا بعملها مفسدة‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫القصص‬
‫من القصص القرآني‪:‬‬
‫•قصة موسى عليه السلم مع فرعون‪:‬‬
‫ن‬
‫ع ْو َ‬
‫ن آ ِل ِف ْر َ‬
‫عَل ْي ُك ْم ِإ ْذ أَنجَا ُك ْم ِم ْ‬
‫قال تعالى‪َ  :‬وِإ ْذ قَا َل مُوسَى ِل َق ْو ِم ِه ا ْذ ُكرُوا ِن ْع َم َة الّل ِه َ‬
‫عظِي ٌم‪‬‬
‫ن َرّب ُك ْم َ‬
‫ن ِنسَا َء ُك ْم َوفِي َذِل ُك ْم بَل ٌء ِم ْ‬
‫سَت ْحيُو َ‬
‫ن َأ ْبنَا َء ُك ْم َوَي ْ‬
‫ب َوُي َذّبحُو َ‬
‫َيسُومُوَن ُك ْم سُو َء اْل َعذَا ِ‬
‫[إبراهيم‪.]6:‬‬
‫يقول ابن كثير‪" :‬أن فرعون لعنه ال كان قد رأى رؤيا هالته ‪ ...‬مضمونها أن زوال‬
‫سمّاره عنده بأن بني إسرائيل‬
‫ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل‪ .‬ويقال بعد تحدث ُ‬
‫يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة‪ ،‬وهكذا جاء حديث الفتن كما سيأتي في‬
‫موضعه في سورة طه إن شاء ال تعالى‪ ،‬فعند ذلك أمر فرعون لعنه ال بقتل كل ذكر يولد‬
‫بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك البنات" انتهى‪.‬‬
‫ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ‪ -‬باعتباره أمرا إلهيا عند قومه ‪ -‬بقتل المواليد‬
‫الذكور من بني إسرائيل خشية أن يزول ملكه على يد رجل منهم‪ ،‬نجد أنه لم يطبق هذا‬
‫المر على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل في موسى الرضيع حين‬
‫ن يَن َف َعنَا‬
‫عسَى َأ ْ‬
‫ك لَا َت ْقُتلُو ُه َ‬
‫ن لِي َوَل َ‬
‫ع ْي ٍ‬
‫ن ُق ّر ُة َ‬
‫ع ْو َ‬
‫ت ا ْم َرَأ ُة ِف ْر َ‬
‫رأته‪ ،‬فقالت كلمتها‪ ،‬ل تقتلوه‪َ  .‬وقَاَل ْ‬
‫ن‪[ ‬القصص‪ .]9:‬مما يدل على أن حكم الحاكم قد يتخلف أحيانا‬
‫ش ُعرُو َ‬
‫َأ ْو َنّت ِخ َذ ُه َوَلدًا َو ُه ْم لَا َي ْ‬
‫بأتفه السباب ممن حوله‪ ،‬وهذا يؤكد على أثر البطانة في حكمه‪ .‬فثبتت ضرورة إيجاد‬
‫البطانة الصالحة أول كي تعين الحاكم على الخير والستقامة‪.‬‬
‫لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟ إنها‪ ،‬طبعا إفراز من المجتمع‪ ،‬فإن كان المجتمع‬
‫صالحا تكون البطانة صالحة‪ ،‬وإن كان المجتمع سيئا‪-‬كما هو واقعنا‪ -‬تكون البطانة سيئة‪.‬‬
‫من قصص السنة‪:‬‬
‫‪ -1‬قصة هرقل ومحاولة إسلمه‪:‬‬
‫حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال‪ :‬أخبرنا شعيب عن الزهري قال‪ :‬أخبرني‬
‫عبيد ال بن عبد ال بن عتبة بن مسعود‪ ،‬أن عبد ال بن عباس‪ ،‬أخبره أن أبا سفيان بن‬
‫حرب أخبره‪ ،‬ثم أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش‪ ،‬وكانوا تجارا بالشام في‬
‫المدة التي كان رسول ال صلى ال عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش‪ ،‬فأتوه‬

‫‪74‬‬
‫وهم بإيلياء‪ ،‬فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم‪ ،‬ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال‪:‬‬
‫أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي‪ ،‬فقال أبو سفيان فقلت‪ :‬أنا أقربهم نسبا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره‪ .‬ثم قال لترجمانه‪ :‬قل لهم إني‬
‫سائل هذا عن هذا الرجل‪ ،‬فإن كذبني فكذبوه‪ ،‬فوال لول الحياء من أن يأثروا علي كذبا‬
‫لكذبت عنه‪ .‬ثم كان أول ما سألني عنه أن قال‪ :‬كيف نسبه فيكم؟ قلت‪ :‬هو فينا ذو‬
‫نسب قال‪ :‬فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت‪ :‬ل قال‪ :‬فهل كان من آبائه من‬
‫ملك؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت‪ :‬بل ضعفاؤهم قال‪:‬‬
‫أيزيدون أم ينقصون؟ قلت‪ :‬بل يزيدون قال‪ :‬فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن‬
‫يدخل فيه؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت‪ :‬ل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يغدر؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬ونحن منه في مدة ل ندري ما هو فاعل فيها‪ ،‬قال‪ :‬ولم‬
‫تمكني كلمة أدخل فيها غير هذه الكلمة‪ .‬قال‪ :‬فهل قاتلتموه؟ قلت‪ :‬نعم قال‪ :‬فكيف كان‬
‫قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال‪ ،‬ينال منا وننال منه قال‪ :‬ماذا يأمركم؟ قلت‪:‬‬
‫يقول اعبدوا ال وحده ول تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم‪ ،‬ويأمرنا بالصلة‬
‫والصدق والعفاف والصلة‪ ،‬فقال‪ :‬للترجمان‪ ،‬قل له‪ :‬سألتك عن نسبه فذكرت ذو نسب‪،‬‬
‫فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها‪ .‬وسألتك‪ :‬هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن‬
‫ل‪ .‬فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله‪ .‬وسألتك هل‬
‫كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن ل‪ .‬قلت‪ :‬فلو كان من آبائه من ملك‪ ،‬قلت رجل‬
‫يطلب ملك أبيه‪ .‬وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن ل‪،‬‬
‫فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على ال‪ .‬وسألتك أشراف الناس‬
‫اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل‪ .‬وسألتك‪ :‬أيزيدون‬
‫أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون‪ ،‬وكذلك أمر اليمان حتى يتم‪ .‬وسألتك‪ :‬أيرتد أحد‬
‫سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن ل‪ .‬وكذلك اليمان حين تخالط بشاشته‬
‫القلوب‪ .‬وسألتك‪ :‬هل يغدر؟ فذكرت‪ :‬أن ل‪ .‬وكذلك الرسل ل تغدر‪ .‬وسألتك‪ :‬بما‬
‫يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ال ول تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة‬
‫الوثان ويأمركم بالصلة والصدق والعفاف‪ .‬فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع‬
‫قدمي هاتين‪ .‬وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم‪ .‬فلو أني أعلم أني أخلص‬

‫‪75‬‬
‫إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه‪ .‬ثم دعا بكتاب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى‪ .‬فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه‪ :‬بسم‬
‫ال الرحمن الرحيم‪ .‬من محمد عبد ال ورسوله إلى هرقل عظيم الروم‪ .‬سلم على من اتبع‬
‫الهدى أما بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية السلم‪ .‬أسلم تسلم يؤتك ال أجرك مرتين‪ ،‬فإن توليت‬
‫سوَاء َب ْيَننَا َوَب ْيَن ُك ْم َأ ّل َن ْعُب َد ِإ ّل الّل َه َو َل‬
‫ب َتعَاَل ْوْا ِإلَى َكَل َم ٍة َ‬
‫فإن عليك إثم الريسيين‪ .‬و‪‬يَا َأ ْه َل اْل ِكتَا ِ‬
‫ش َهدُوْا ِبَأنّا‬
‫ن الّل ِه َفإِن َت َوّل ْوْا َفقُولُوْا ا ْ‬
‫ضنَا َبعْضا َأ ْربَابًا مّن دُو ِ‬
‫ش ْيئًا َو َل َيّت ِخ َذ َب ْع ُ‬
‫ك ِب ِه َ‬
‫ش ِر َ‬
‫ُن ْ‬
‫ن‪.‬‬
‫سِلمُو َ‬
‫ُم ْ‬
‫قال أبو سفيان‪ :‬فلما قال ما قال‪ ،‬وفرغ من قراءة الكتاب‪ ،‬كثر عنده الصخب‪،‬‬
‫وارتفعت الصوات وأخرجنا‪ .‬فقلت لصحابي حين أخرجنا‪ :‬لقد أمِرَ أ ْم ُر بن أبي كبشة‪،‬‬
‫إنه يخافه ملك بني الصفر‪ .‬فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل ال علي السلم‪.‬‬
‫وكان بن الناطور ‪ -‬صاحب إيلياء وهرقل ‪ -‬سُقُفّا على نصارى الشام يحدث أن‬
‫هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس‪ ،‬فقال بعض بطارقته‪ :‬قد استنكرنا هيئتك‪ .‬قال‬
‫ابن الناطور‪ :‬وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم‪ ،‬فقال لهم حين سألوه‪ :‬إني رأيت الليلة‬
‫حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر‪ ،‬فمن يختتن من هذه المة؟ قالوا‪ :‬ليس يختتن‬
‫إل اليهود‪ ،‬واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود‪ .‬فبينما هم على أمرهم أتي‬
‫هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فلما‬
‫استخبره هرقل قال‪ :‬اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم ل فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن‪ ،‬وسأله‬
‫عن العرب فقال‪ :‬هم يختتنون فقال هرقل هذا ملك هذه المة قد ظهر‪ .‬ثم كتب هرقل إلى‬
‫صاحب له برومية وكان نظيره في العلم‪ .‬وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه‬
‫كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى ال عليه وسلم وأنه نبي‪ .‬فأذن‬
‫هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص‪ ،‬ثم أمر بأبوابها فغلقت‪ ،‬ثم اطلع فقال‪ :‬يا معشر‬
‫الروم‪ ،‬هل لكم في الفلح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر‬
‫الوحش إلى البواب فوجدوها قد غلقت‪ ،‬فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من اليمان قال‪:‬‬
‫ردوهم علي‪ .‬وقال‪ :‬إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم‪ ،‬فقد رأيت فسجدوا له‬

‫‪76‬‬
‫ورضوا عنه‪ ،‬فكان ذلك آخر شأن هرقل‪ .‬رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن‬
‫الزهري (‪.)115‬‬
‫قلت‪ :‬حسب ما شاهده أبو سفيان ونقله لنا‪ ،‬كانت رغبة هرقل بالسلم لول خذلن‬
‫بطانته له ومعارضتهم لذلك‪.‬‬
‫والشاهد من القصة أن الحاكم ل يستطيع أن يحقق كل رغباته المخالفة لهواء بطانته‪،‬‬
‫لذا لزم المة أن تسعى ليجاد البطانة الصالحة في الحكم‪ ،‬وأن لهذه البطانة أثرا واضحا في‬
‫قرارات الحاكم‪ .‬وعليه فان التركيز على إيجاد الحاكم الصالح دون إيجاد البطانة الصالحة‪،‬‬
‫ل مخالفا لمنهج ال تعالى في التغيير‪ ،‬ومضيعة للوقت يسعد به العداء‪ .‬وقد مضى‬
‫يعد عم ً‬
‫التدليل على أن الصراع السياسي مع النظمة ‪ -‬المعادية للماركسية خاصة ‪ -‬هو من‬
‫أولويات العمل الجاسوسي عند الصهاينة كما ورد في بروتوكولت حكماء صهيون‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫‪ -2‬قصة النجاشي ملك الحبشة‪:‬‬
‫فقد بكي حتى اخضلّت لحيته حين تل عليه جعفر بن أبي طالب من سورة مريم‪ ,‬وما‬
‫ورد من نبأ عيسى عليه السلم وأمه مريم‪ ,‬وقال‪" :‬إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من‬
‫مشكاة واحدة" (‪.)116‬‬
‫ثم روى لنا البخاري ومسلم ما يدل على إسلم الملك العادل النجاشي‪ ,‬وصلة الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم صلة الغائب عليه‪ .‬والشاهد من هذه الروايات‪ ,‬أن النجاشي رغم‬
‫وجوده في سدة الحكم‪ ,‬لم يستطع أن يؤثر على رعيته فيدخلوا السلم‪ ,‬بل عارضوه وتآمروا‬
‫عليه ونصره ال تعالى عليهم‪ ,‬وكتم عنهم إسلمه‪ ،‬وتظاهر أنه على نصرانيته‪ ،‬وهذا ما يدل‬
‫على أن الحاكم ل يملك تلك القوى السحرية في التغيير‪.‬‬
‫وهنا يجدر بنا أن نذكر بقول محب الدين الخطيب مرة أخرى‪:‬‬
‫"وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما‬
‫يريد أن يكون متى أراد‪ .‬وهذا غير صحيح‪ ،‬فللبيئة دورها في التأثير في الحاكم وفي نظام‬

‫رواه البخاري‪.)10- 1/7( ،‬‬ ‫‪115‬‬

‫ابن هشام‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫‪77‬‬
‫الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من معاني قول ال عز‬
‫س ِه ْم)"(‪.)117‬‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫وجل‪ِ( :‬إ ّ‬
‫فرضية‪:‬‬
‫تقول لو أن مجتمعا فاسقا‪ ،‬استيقظ يوما ما ليجد حاكمه‪ ،‬بقدرة ال تعالى‪ ،‬قد صلح أو‬
‫آمن‪ ،‬فهل بالضرورة أن يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى ال تعالى؟‬
‫مما مضى ‪ -‬أخي القارىء ‪ -‬يتضح لنا بطلن الزعم بان صلح المجتمع وفساده‬
‫ل عن‬
‫مناط بصلح الحاكم وفساده‪ ،‬فقد تاب النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فض ً‬
‫أمر رعيته به‪ .‬وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته اتباع النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫فهذه النظرة الصنمية للحاكم‪ ،‬وإضفاء صفة اللهية عليه‪ ،‬كأنه يقول للشيء كن فيكون‪،‬‬
‫نظرة خبيثة خبث الشرك نفسه‪ ،‬يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من أمر بمعروف‬
‫ونهي عن المنكر‪ ،‬ويترك بذلك المجتمع للتراجع إلى الخلف يوما بعد يوم‪ ،‬حتى يغدو مجتمعا‬
‫فاجرا بمعظمه‪ ،‬وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول "شرك القصور" مع أنهم‬
‫أقرب إلى التورط في ذلك‪ ،‬عصمنا ال وإياهم من اتباع الهوى‪.‬‬
‫وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في انحراف في الطرف الخر‪،‬‬
‫وحتى ل نغفل حدود دوائر المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن الواجبات‬
‫المناطة به ويلقى بالمسؤولية على عاتق الرعية‪ ،‬وكذلك حتى ل تلقى الرعية بمسؤولياتها‬
‫وواجباتها على عاتق الحاكم‪ ،‬بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها‪ ،‬ل بد لك أخي‬
‫القارىء أن تستذكر ما مر معك قريبا بهذا الخصوص‪.‬‬
‫وبالضافة إلى ذلك أقول‪ :‬إن الحاكم وحاشيته الصالحة‪ ،‬تكون سيطرتهم على الساحة‬
‫المكشوفة بقدر قوة أفراد الحاشية‪ ،‬والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها‪ ،‬فكلما ضعف‬
‫إيمانهم وخارت عزائمهم‪ ،‬ونخرت فيهم أسباب الفساد الخلقية المنافية للعدل والصدق‬
‫والمانة من اعتبار المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية‪ ،‬أدى ذلك إلى ضعف واضح‬
‫في الجهاز الحكومي‪ ،‬وبالتالي في تطبيق الحكام والقوانين مما ينعكس سلبا على سمعة‬
‫الدولة والنظام الحاكم‪ ،‬فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها‪ ،‬مما‬

‫كتاب "العواصم من القواصم" (ص ‪.)77‬‬ ‫‪117‬‬

‫‪78‬‬
‫يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق أطماعهم وإسقاط أنظمتنا‬
‫السلمية المعارضة والمعادية للشتراكية‪ .‬وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع‬
‫حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل يعلم‪.‬‬
‫وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية‪ ،‬كانت فاعليتهم في تطبيق الحكام ومنع ظهور‬
‫المنكرات أعظم‪ ،‬فالقضية إذن نسبية‪ .‬ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة‬
‫المستورة‪ ،‬فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟‬
‫ل لتوضيح المر‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬و َل َت ْق َربُوْا ال ّزنَى)‪ ،‬ولمنع وقوع الزنا في‬
‫وأضرب مث ً‬
‫المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته في كل مكان‪ .‬فعلى الساحة المكشوفة‪ ,‬يستطيع الحاكم‬
‫ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر‪ ,‬وكل ما يؤدي إلى وقوع الزنا‪ ,‬مثل حفلت‬
‫الرقص العامة‪ ,‬وبرك السباحة العامة‪ ,‬ومخالفات الشواطئ المختلطة‪ ,‬ورياضة النساء التي‬
‫تتكشف فيها عوراتهنّ‪ ،‬من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في الماء‪ ،‬ومسابقات‬
‫ملكات الجمال وغيرها الكثير‪.‬‬
‫كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع مظاهر الختلط المحرم في‬
‫الساحات والماكن العامّة والجامعات والمواصلت العامّة‪ ,‬وكذلك أن يح ّد من مظاهر السفور‬
‫ي المنتشر في الشوارع‪ ,‬والسينما والصور الفاضحة‪ ,‬وأن يراقب ما يجوز وما ل‬
‫والعر ّ‬
‫يجوز نشره من مطبوعات ومنشورات وصحف ومجلت‪ ،‬وما شاكل ذلك من أمور‪.‬‬
‫أما على الساحة المستورة فان دور الحاكم وبطانته الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب‬
‫المسؤوليات الخرى من آباء وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر‪ ،‬أي أن الحاكم ل‬
‫يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة‪ ,‬ول الختلط المحرم ول المنكرات في السر‪ ،‬ول‬
‫التعري بين القارب ومع الصحاب‪ ,‬وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس‪ ،‬ول‬
‫يستطيع أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير الملتزمة الفضائية وغير الفضائية‬
‫على شاشات التلفاز والنترنت‪ ،‬ول ما يجري تبادله كذلك من صور فاضحة بين الشباب‬
‫والشابّات في أجهزة الهواتف النقالة‪.‬‬
‫ول يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيها النساء الكاسيات‬
‫العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيدا عن أعين السلطة‪ .‬وهنا تجدر‬
‫الملحظة‪ ,‬أينما غاب الرقيب انتهكت المحرمات‪ ،‬لذا أكد السلم على مراقبة ال تعالى في‬

‫‪79‬‬
‫السر والعلن‪ .‬فكلما ضعف الجهاز التنفيذي(‪ )118‬عند الحاكم ومراقبته ل تعالى كلما انتشرت‬
‫مظاهر المحرمات لضعف المتابعة بل يؤدي إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم ال أو خالف‬
‫القانون‪ ,‬وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب والماكن العامّة‪ ,‬ويقضي بدفع‬
‫غرامة ماليّة على كل مخالف ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة‪ ,‬إل أننا لم نر لهذا‬
‫القانون أثرا‪ ,‬لنتهاكه من قبل الكبير والصغير‪ ,‬من داخل الجهاز التنفيذي أو من خارجه‪ ,‬فغدا‬
‫حبرا على ورق‪ ،‬وذلك بسبب غياب البطانة الصالحة‪ ،‬بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية ورفع ظلمهم لنفسهم‬
‫والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من أشخاص مواطنين في الصل‪ ،‬قبل‬ ‫‪118‬‬

‫أن يكونوا حكوميين‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫الخلصة‬

‫مما سبق تبين لنا ما يلي‪:‬‬


‫‪-1‬سنة ال تعالى حاكمة ل تتحول ول تتبدل‪.‬‬
‫‪-2‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكما صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسدا‪.‬‬
‫‪-3‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى جميعا وليس الولة فقط‪.‬‬
‫‪-4‬أن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى‪ ،‬وليس الولة فقط‪.‬‬
‫‪-5‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف متعلقة بالجماعة ولة ورعية‪.‬‬
‫‪-6‬التغيير المنشود في المجتمع‪ ،‬يتحقق بما في القوم عامة من خير‪ .‬وليس في شخص‬
‫الوالي والولة دون الرعية‪ ،‬أو فئة قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما المطلوب أن يكون التغيير‬
‫غالبا فيه‪.‬‬
‫‪-7‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫درجات التغيير‬

‫لما خلق ال تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عملً‪ ,‬فل زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم‬
‫الشياطين‪ ،‬فأرسل ال لهم النبيين تترا يدعونهم إلى السلم‪ -‬دين النبياء جميعا‪ -‬من جديد ‪,‬‬
‫وهو دين الرحمة‪ ,‬يرحم ال به عباده الصالحين‪ ,‬فكانت هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها‪,‬‬
‫وهي أسمى مقصد من مقاصد الديانات السماوية جميعها‪ .‬لذا حرص السلم باعتباره آخر‬
‫الديانات وناسخا لها كل الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور‪ ,‬وأوجب لأجل‬
‫ذلك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وذلك لتحقيق أمرين اثنين‪:‬‬
‫الول‪ :‬زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف‪ ،‬وأعظمه تحقق التوحيد‬
‫وأركان السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التقليل من المنكرات من خلل النهي عن المنكر‪ ,‬وأكبره الشرك بال والكبائر‪.‬‬
‫وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم‪ ,‬وأهل الشر كذلك‪ ،‬فان المطلوب‪:‬‬
‫‪-1‬رفع نسبة الخير في المجتمع‪ ,‬وذلك بزيادة الخير من درجة إلى أخرى –أي من‬
‫درجة الكمال إلى الكمل‪.-‬‬
‫‪-2‬التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السوء‪ ،‬إلى الدرجة القل سوءا‪.‬‬
‫وتحقيقا للمعاني السابقة أصّل أهل الفقه قواعد أصوليّة‪ ,‬منها قاعدة "ترجيح خير‬
‫الخيرين‪ ،‬ودفع شر الشرين"‪ .‬وهذا باب عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬إذ بالعمل به تتنزّل رحمة ال تعالى على العباد وينجون من عذابه‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية رحمه ال في هذا المعنى‪" :‬فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير‬
‫ول دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح‬
‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم‬
‫يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا" (‪.)119‬‬
‫ويقول‪" :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‬
‫والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما"(‪.) 120‬‬
‫ولتوضيح المر‪ ,‬علينا أن نتصوّر الرسم التالي‪:‬‬

‫"فتاوى ابن تيمية في الفقه" (ج ‪ 23‬ص ‪.)343‬‬ ‫‪119‬‬

‫"فتاوى ابن تيمية في الفقه" (ج ‪ 30‬ص ‪.)193‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪82‬‬
‫إتجاه سلبي‬ ‫موقف‬ ‫إتجاه إيجابي‬
‫(شر الشرين)‬ ‫محايد‬ ‫(خيرالخيرين‬

‫بذل‬ ‫بذل‬
‫عمل‬ ‫موقف‬ ‫عمل‬ ‫عمل‬ ‫عمل‬
‫المال‬ ‫عمل‬ ‫عمل‬ ‫المال‬
‫اللسا‬ ‫القلب‬ ‫اللسان‬ ‫الركان‬
‫الركان والنف‬ ‫القلب‬ ‫والنفس‬
‫ن‬ ‫محايد‬
‫س‬
‫موقف متآمر ضد السلم‬
‫موقف متعاطف مع السلم‬ ‫من‬
‫(تدرج في البراء)‬
‫(تدرج في الولء)‬
‫السلم‬

‫‪4+‬‬ ‫‪3+‬‬ ‫‪2+‬‬ ‫‪1+‬‬ ‫‪1-‬‬ ‫‪2-‬‬ ‫‪3-‬‬ ‫‪4-‬‬


‫صفر‬

‫إتجاه سلبي‬ ‫موقف‬ ‫إتجاه إيجابي‬


‫(شر الشرين)‬ ‫محايد‬ ‫(خيرالخيرين‬

‫قاعدة‪ :‬تعطيل المفاسد‬


‫قاعدة‪ :‬تحصيل المصالح وتكميلها‬ ‫موقف‬
‫وتقليلها‬
‫(ترجيح خير الخيرين)‬ ‫محايد‬
‫(دفع شر الشرين)‬

‫يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو الدولة من السلم كما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬نقطة المنتصف "الصفر" وتمثل موقف الحياد من السلم‪ ,‬غير مؤيد وغير‬
‫معارض‪.‬‬
‫ب‪ -‬التجاه إلى اليمين‪ ,‬ويمثل أربع درجات‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪-1‬عمل القلب باليمان‪ ،‬ويشمل‪( :‬قول القلب‪ ،‬أي تصديقه‪ ،‬وعمل القلب‪ ،‬أي خضوعه‬
‫وانقياده) وهو أصل اليمان‪ ،‬أو حدّه الدنى(‪ ،) 121‬أي مع النطق بالشهادة‪.‬‬
‫‪-2‬عمل باللسان‪ :‬وتشمل الدرجة السابقة‪ ,‬ويضاف إليها التعبير عن التعاطف مع السلم‬
‫باللسان‪ ,‬كأن يقول السلم دين الحق وهكذا‪.‬‬
‫‪-3‬عمل بالركان‪ :‬وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان السلم في النفس (صلة‪,‬‬
‫صوم‪.)...‬‬
‫‪-4‬بذل النفس والمال‪ ,‬وتشمل الدرجات السابقة جميعا ويضاف إليها بذل المال والنفس‬
‫دفاعا عن السلم والدعوة إليه‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجاه إلى اليسار‪ ,‬ويمثل بأربع درجات‪.‬‬
‫‪-1‬عمل القلب بالكفر‪ ,‬ويشمل ( قول القلب‪ ،‬إي تكذيبه‪ ،‬وعمل القلب‪ ،‬أي عدم الخضوع‬
‫والنقياد) وهو حد الكفر الدنى‪.‬‬
‫‪-2‬عمل باللسان‪ ,‬ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها استعمال اللسان في الصد عن‬
‫السلم‪ ,‬كأن يقول السلم دين رجعي وباطل‪ ،‬أو يسخر من العلماء‪.‬‬
‫‪-3‬عمل بالركان‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة‪ ،‬ويضاف إليها ترك الواجبات‪ ،‬وفعل‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫‪-4‬بذل النفس والمال‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة ويضاف إليها بذل المال والنفس في‬
‫محاربة السلم‪.‬‬
‫درجات المر بالمعروف‪:‬‬
‫درجات اليمان‪ ,‬ويمثلها الدرجات من (‪ )1 +‬إلى (‪ ,)4 +‬أدناها الدرجة الولى (عمل‬
‫القلب) وأعلها الرابعة بذل النفس والمال‪ ,‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا من‬
‫الدرجة الولى(عمل القلب‪ :‬أي تصديقه وخضوعه)‪ ،‬إلى الدرجة الثانية (عمل اللسان‪ :‬أي‬
‫التعاطف مع السلم بالقول) لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله إلى الدرجات‬
‫الثالثة أو الرابعة؟‪ .‬وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا من الدرجة الثالثة إلى الرابعة أو من‬
‫الثانية إلى الثالثة‪ ,‬إذن فكل نقلة باتجاه اليمين تعتبر نقلة ايجابية وبهذا العمل نكون قد طبقنا‬

‫"فتاوى ابن تيمية في الفقه" (ج ‪ ،7‬ص ‪.)637،263،644،377،639‬‬ ‫‪121‬‬

‫‪84‬‬
‫قاعدة تحصيل المصالح وتكميلها‪ ،‬أو ترجيح خير الخيرين‪ .‬ونكون قد والينا المؤمنين بقدر‬
‫درجة إيمانهم وبذلهم للسلم‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات (‪ )1 +‬و(‪ ،)4 +‬ل يلحظه البعض من‬
‫الناس وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة‪ ،‬مع انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يزداد‬
‫المعروف في الرض تدريجيا‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‪.‬‬
‫درجات النهي عن المنكر‪:‬‬
‫درجات الكفر‪ ,‬ويمثلها الدرجات من (‪ )1 -‬إلى (‪ )4 -‬أدناها الدرجة (‪ :)1 -‬درجة (كفر‬
‫القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد)‪ ،‬وأعلها (‪( :)4 -‬بذل النفس والمال في الصد‬
‫عن السلم)‪ .‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا من الدرجة (‪ )4 -‬درجة‪ :‬بذل المال‬
‫والنفس في محاربة السلم‪ ،‬إلى الدرجة (‪ :)3 -‬التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات‪ ,‬لكانت‬
‫نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله من الدرجة (‪ )4 -‬الـى (‪ :)1 -‬درجة (كفر‬
‫القلب)؟‪.‬‬
‫إذا بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج الشخص من الكفر إلى اليمان‪،‬‬
‫نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬أو دفع شر الشرين‪ .‬وعادينا الكافرين بقدر‬
‫درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم‪ ،‬فكلما ازدادوا بموقفهم سوءا‪ ،‬زيد عذابهم‪.‬‬
‫ب ِبمَا كَانُوا‬
‫ق ال َعذَا ِ‬
‫عذَابًا َف ْو َ‬
‫سبِي ِل الّل ِه ِز ْدنَا ُه ْم َ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬
‫صدّوا َ‬
‫ن َك َفرُوا َو َ‬
‫قال تعالى‪ :‬اّلذِي َ‬
‫ن‪[ ‬النحل‪.]88:‬‬
‫سدُو َ‬
‫ُي ْف ِ‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات (‪ )4 -‬و(‪ ،)1 -‬ل يلحظه كثير من الناس‪،‬‬
‫وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها‪ ،‬مع انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يقل الفساد في‬
‫الرض تدريجيا‪ ،‬وهذا مقصود لذاته كذلك‪.‬‬
‫فلو أن مسلما ‪ ،‬قام بعمل كانت نتيجته بقاء الكفر‪ ،‬وانتقال موقف أهله من (‪ )1 -‬إلـى‬
‫(‪ ،)2 -‬أو من (‪ )3 -‬إلى (‪ ،)4 -‬كان عمله محرما(‪ .) 122‬فكيف به لو قام بعمل أخرج به‬
‫البعض من دائرة السلم إلى الكفر‪ ،‬وهو يظن نفسه محسنا؟‬

‫أنظر الملحق رقم (‪ ،)2‬وفيه رد الجماعة السلمية على تنظيم القاعدة‪.‬‬ ‫‪122‬‬

‫‪85‬‬
‫ومما يجدر التنبيه إليه‪ :‬أن البعض ممن قل علمهم بهذا‪ ،‬قد يصنف العلماء العاملين بهذا‬
‫المنهج الصولي بالعمالة‪ ،‬إذا أفتوا بدفع شر الشر الكبر بالصغر‪ ،‬إذا لم يندفعا جميعا‪،‬‬
‫ومثاله (‪.)123‬‬
‫ولتوضيح المر أكثر نضرب مثل بما حدث في صلح الحديبية‪ ،‬ولماذا سمي بالفتح‬
‫المبين ؟‬
‫لقد بدأت دعوة النبي محمد صلى ال عليه وسلم بمفرده‪ ،‬ومع الزمن والصبر على أذى‬
‫المشركين‪ ،‬بدأ الناس بالنتقال من درجات الكفر{(‪ })1 -(-)4 -‬إلى درجات اليمان {(‪)1 +‬‬
‫‪ ،})4 +(-‬ولقد كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه‪ ،‬فلم يكونوا‬
‫كلهم في الدرجة (‪ )4 -‬المعادية للسلم بالمال والنفس‪ ،‬كموقف أبي جهل لعنه ال‪ ،‬ومع‬
‫استمرار الدعوة أخذ المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم‪ ،‬ومنهم من‬
‫دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم {(‪ ،})4+(-)1 +‬إل أن الدرجة الرابعة (‪ )4 +‬في‬
‫العهد المكي‪ ،‬كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط‪ ،‬ولم يكن قد فرض الجهاد بعد‪.‬‬
‫وبعد هجرة إلى المدينة‪ ،‬قويت شوكة المسلمين‪ ،‬وقاموا بالعديد من الغزوات‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها "بدر الكبرى"‪ .‬وفي السنة السادسة من الهجرة وقع الرسول صلى ال عليه وسلم صلح‬
‫الحديبية مع قريش‪ ،‬وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة المنورة مستغل فترة وضع القتال لمدة‬
‫عشر سنين‪ ،‬فازداد عدد المسلمين‪ ،‬فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في تسعة‬
‫عشر عام مضت‪ ،‬وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن الوليد رضي ال عنه‪.‬‬
‫ك َف ْتحًا ّمبِينًا‪[ ‬الفتح‪.]1:‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح‪ " :‬فقوله‪ِ :‬إنّا َفَت ْحنَا َل َ‬
‫أي‪ :‬بينا ظاهرا‪ ،‬والمراد به صلح الحديبية‪ .‬فإنه حصل بسببه خير جزيل‪ ،‬وآمن الناس‬
‫واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع واليمان"(‪.) 124‬‬

‫دفع الخطر الشتراكي الكبر‪ ،‬بالخطر الرأسمالي‪ ،‬ومن صور الشتراكية‪( :‬النظام اليراني‬ ‫‪123‬‬

‫الخميني‪ ،‬والنظام البعثي الشتراكي في العراق وسوريا‪ ،‬ونظام كل من ليبيا‪ ،‬وتونس‪،‬‬


‫والجزائر‪ ،‬والصين‪ ،‬وكوريا الشمالية‪ ،‬وكوبا‪ ،‬وروسيا التحادية وهكذا‪ .‬ومن صور الرأسمالية‪،‬‬
‫دول أوروبا‪ ،‬وأمريكا وأمثالهما‪ .‬إنظر كتابنا "المنابرالعلمية بين تجاهل الخطر الشتراكي‬
‫وظاهرة معاداة أمريكا"‪.‬‬
‫"تفسير ابن كثير" (‪.)4/307‬‬ ‫‪124‬‬

‫‪86‬‬
‫ك َف ْتحًا َقرِيبًا} يعني‪:‬‬
‫ن َذِل َ‬
‫ويقول الطبري في تفسيره { ‪" :}26/186‬قوله‪َ { :‬ف َج َع َل مِن دُو ِ‬
‫صلح الحديبية‪ .‬وما فتح في السلم فتح كان أعظم منه‪ ،‬إنما كان القتال حيث التقى الناس‪،‬‬
‫فلما كانت الهدنة وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا فالتقوا فتفاوضوا في‬
‫الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه‪ ،‬فلقد دخل في تينك السنتين‬
‫في السلم مثل من كان في السلم قبل ذلك وأكثر"‪.‬‬
‫لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين فقط؟‬
‫نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما‪ ،‬أن السبب في ذلك‪ ،‬هو توقيع‬
‫الهدنة ووضع الحرب‪ ،‬لن مناخ الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات‬
‫والرض والعرض‪ ،‬فتأخذ المشركين حمية الجاهلية‪ .‬فلو نزل الرسول صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫على رأي عمر بن الخطاب وعامة الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وقاتلوا المشركين حين‬
‫منعوهم من أداء العمرة‪ ،‬وقامت الحرب‪ ،‬لتراجع كل أولئك الذين كانوا قد اقتربوا من السلم‬
‫عدة درجات عن درجاتهم‪ ،‬فبعضهم كان قد أوشك على الدخول في السلم‪ ،‬فوصل إلى‬
‫الدرجة (الصفر) درجة الحياد‪ ،‬وبعضهم وصل إلى الدرجة (‪ :)1 -‬درجة (كفر القلب‪ :‬أي‬
‫تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد)‪ ،‬وبعضهم إلى الدرجة (‪ :)2 -‬درجة (استعمال اللسان في‬
‫الصد عن السلم)‪ ،‬وهكذا‪ .‬وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين‪ ،‬هو فتح القلوب‬
‫للدخول في السلم‪ ،‬ويكون أحيانا في الموطن الذي يراه الناس‪ ،‬موطن ذل وهزيمة‪ ،‬فمن‬
‫كان يتصور أن في هاتين السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من أسلم‬
‫منذ تسعة عشر عاما مضت؟ فكان ذلك سببا وجيها آخر لفتح مكة‪ .‬ألم يرتجف أبو سفيان من‬
‫عدد جيش فتح مكة المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟‬
‫لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب حسن يقرب المشركين من السلم ولو‬
‫خطوة‪ ،‬وأن يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة‪ ،‬فهل ما يقوم به بعض الجهلة‬
‫(‪)125‬‬
‫باسم السلم وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى حد ذبح البرياء‬
‫والتفاخر بذلك ونشره مصورا في وسائل العلم‪ ،‬ما يقرب غير المسلمين من السلم‪ ،‬أم أن‬

‫ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في النتخابات في العراق‪ ،‬ومن ثم قتلهم‬ ‫‪125‬‬

‫في مراكز القتراع‪ ،‬إذ قاموا يوم القتراع بـ (‪ )13‬عملية قتل فيها العشرات من المقترعين‪،‬‬
‫كما تناقلته وسائل العلم‪ .‬راجع الملحق رقم (‪ )2‬ففيه رد الجماعة السلمية في مصر على‬
‫أعمال القاعدة‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫هذه العمال ستشكك من أسلموا بهذا الدين فضل عن أن يدخلوا فيه أو أن يقتربوا منه‬
‫خطوة؟‬
‫ن ِديَا ِر ُك ْم‬
‫ن َوَل ْم ُي ْخ ِرجُو ُك ْم ِم ْ‬
‫ن َل ْم ُيقَاِتلُو ُك ْم فِي الدّي ِ‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫عْ‬
‫ألم يقل ال تعالى‪َ  :‬ل َي ْنهَا ُك ْم الّل ُه َ‬
‫ن‪[ ‬الممتحنة‪.]8:‬‬
‫سطِي َ‬
‫ب اْل ُم ْق ِ‬
‫حّ‬
‫ن الّل َه ُي ِ‬
‫سطُوا ِإَل ْي ِه ْم ِإ ّ‬
‫ن َتَبرّو ُه ْم َوُت ْق ِ‬
‫َأ ْ‬
‫ألم تحمل الية ردا مسبقا على تصورات البعض في هذه اليام‪ ،‬ممن يعتقدون أن مجرد‬
‫معاملة من لم يعادوننا لديننا من غير المسلمين‪ ،‬بالبر والحسان موالة لهم؟‬
‫بناء على ما سبق ذكره‪ ،‬فإنه يحسن أن نبين العلقة الطردية بين العمال الصالحة من‬
‫جهة ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪ .‬وكذلك العلقة العكسية القائمة‬
‫بين العمال السيئة من جهة‪ ،‬ودرجة التغيير إلى الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪.‬‬
‫فقد مضت سنة ال تعالى أن تغيير النفس في المجتمع بما يرضي ال تعالى بنسبة تع ّم‬
‫فيه وتظهر‪ ،‬وتكون هي الغلب‪ ،‬سيؤدي ذلك بإذن ال وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم إلى‬
‫الحسن‪ .‬والتغيير الكلي المطلوب‪ ،‬هو محصلة إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية‬
‫من الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال والقوال‪.‬‬
‫وعليه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على ما يلي‪:‬‬
‫‪-1‬أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم‪ ،‬هل هي مؤيدة بالقلب فقط‪ ،‬أم أنها بالقلب‬
‫واللسان‪ ،‬أم أنها أرفع من ذلك‪.‬‬
‫‪-2‬المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حاليا‪ ،‬إلى الدرجة التي تليها‪ ،‬والتي تليها‪،‬‬
‫ض‬
‫ت وَال ْر ُ‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫ضهَا ال ّ‬
‫ع ْر ُ‬
‫ن َرّب ُك ْم َو َجّن ٍة َ‬
‫وهكذا‪ ،‬لقوله تعالى‪َ  :‬وسَا ِرعُوا ِإلَى َم ْغ ِف َر ٍة ِم ْ‬
‫ن‪[ ‬آل عمران‪ .]123:‬وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى أخرى‪ ،‬عليه‬
‫ت ِلْل ُمّتقِي َ‬
‫ع ّد ْ‬
‫ُأ ِ‬
‫أن يترقى في الدرجة الواحدة‪ ،‬وذلك لتفاوت أهل التوحيد في الدرجة الواحدة‪ ،‬فعلى‬
‫سبيل المثال‪ ،‬يتفاوت المصلون في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة‪ ،‬أركانها‬
‫وطهورها‪ ،‬وخشوعها‪ ،‬ونوافلها‪ ،‬وغيره‪.‬‬
‫‪-3‬أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى تليها في اليجابية ليزداد اليمان‬
‫في المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة التي يرضاها ال تعالى لستحقاق التغيير اليجابي‬
‫المنشود في القوم‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫‪-4‬على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد المجتمع من درجة إيجابية إلى‬
‫أخرى‪ ،‬يزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة التي يرضاها ال تعالى‬
‫لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ .‬فإن أي زيادة في المعروف مهما ق ّل‬
‫شأنه في نظر فاعله‪ ،‬يع ّد بركة‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪" :‬ل تحقرن من المعروف‬
‫شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" {رواه مسلم}‪.‬‬
‫‪-5‬على المسلم العتراف بأن تراجعه أو أي فرد من أفراد المجتمع من درجة إلى التي‬
‫تليها بالتجاه السلبي‪ ،‬سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع‪ ،‬وبالتالي نقصان‬
‫معدله‪ ،‬أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن الدرجة التي يرضاها ال تعالى‬
‫لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ ،‬وبالتالي يساهم في الهزيمة التي ستلحق‬
‫بالمسلمين‪ .‬أي‪ :‬إذا ترك مصليا صلته‪ ،‬أو صائما صومه‪ ،‬أو داعية دعوته‪ ،‬وأمثال‬
‫ذلك‪ ،‬أو ارتكب معصية صغرت أم كبرت‪ ،‬فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو‬
‫التجرؤ على فعل محرم‪ ،‬يؤدي إلى ما ذكرنا‪ .‬وبهذا سندرك المعاني العظيمة والعبر‬
‫في قوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مثل القائم في حدود ال والواقع فيها‪ ،‬كمثل قوم‬
‫استهموا على سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪ .‬فكان الذين في أسفلها إذا‬
‫استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقـا ولم نؤذ‬
‫من فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬
‫جميعا" {رواه البخاري والترمذي}‪.‬‬
‫‪ -6‬فإنه من الخير أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر هذه المفاهيم في الناس ليقبلوا‬
‫على الخير أو يزدادوا بها خيرا‪ ،‬وليجتنبوا الشر‪ ،‬أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك‬
‫سبيلً‪.‬‬
‫* على الرغم من أن الصراع بين الخير والشر لن ينتهي بعد حتى قيام الساعة‪ ،‬كما‬
‫جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عبد ال بن مسعود قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪" :‬ل تقوم الساعة إل على شرار الخلق"‪ .‬فإن الواجب يقتضي استمرار العمل‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وليس من العقل ترك البعض لواجباتهم بحجة كثرة‬
‫الخبث‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فإن دوائر المسئولية تتسع وتزداد‪ ،‬وخاصة في زمن يعود فيه‬
‫السلم غريبا كما بدأ‪ ،‬فطوبى فيه للغرباء‪ ،‬الذين يصلحون إذا فسد الناس‪ ،‬كما جاء في‬

‫‪89‬‬
‫الحديث(‪ .) 126‬كما ويتأكد في مثل هذا الحال الصبر على أذى الكفار والمنافقين وجهال‬
‫المسلمين أو غثائهم‪ ،‬ممن سيطلقون ألسنتهم بالتجريح والتشهير والتهام لمعارضيهم‪ ،‬فإن‬
‫البعض في مثل هذه الجواء يترك النهي عن المنكر ومحاربة الفكار الوافدة الهدامة‪ ،‬لخوفه‬
‫على بعض مصالحه الدنيوية‪ ،‬من مال أو سمعة أو جاه أو سلطان أو لجهله بسنن ال تعالى‬
‫في التغيير‪ ،‬فإن الصلح يتأكد على كل فرد بحسبه في وقت الفتن أكثر مما في غيره‪ ،‬ولو‬
‫أن الرسول صلى ال عليه وسلم وصحبه الكرام رضي ال عنهم‪ ،‬حسبوا لذلك حسابا‪ ،‬لما‬
‫فتحت بلد الروم وبلد الفرس‪ ،‬بل لما قامت للسلم قائمة‪.‬‬
‫كما وإن البعض ممن قل علمهم كذلك ل يبالون لما سمعوا أو لما أصابهم من أذى‬
‫في سبيل ال والنهي عن المنكر‪ ،‬وهذا جيد‪ ،‬ولكنهم يصبرون كل هذا الصبر ويضحون‬
‫بأنفس ما يملكون في غير الطريق السوي والصراط المستقيم‪ ،‬فيصاب المسلمون بسوء‬
‫اجتهاداتهم وجهادهم سوءا‪ ،‬فنحن اليوم بحاجة ماسة في طريق العمل والدعوة إلى السلم‪،‬‬
‫إلى رجال ونساء قد جمعوا بين صحة العمل والتصورات ‪ -‬في فقه سنة ال في التغيير‪-‬‬
‫والبذل والعطاء دونما نظر إلى أولئك المثبطين والمخذلين عن سلوك الطريق السوي‬
‫والصراط المستقيم‪ ،‬وليعلم هذا الصنف من الدعاة والعلماء أن أجرهم كأجر السابقين الولين‬
‫ث‬
‫سبِي ِل الّل ِه َوِلّل ِه مِيرَا ُ‬
‫من المهاجرين والنصار‪ ،‬مصداقا لقوله تعالى‪َ  :‬ومَا َل ُك ْم َأ ّل تُن ِفقُوا فِي َ‬
‫ن‬
‫ن اّلذِي َ‬
‫ع َظ ُم َد َر َج ًة ّم َ‬
‫ك َأ ْ‬
‫ح َوقَاَت َل ُأ ْوَلِئ َ‬
‫ق مِن َق ْب ِل اْل َف ْت ِ‬
‫ن أَن َف َ‬
‫سَتوِي مِنكُم ّم ْ‬
‫ض ل َي ْ‬
‫ت وَاْلَأ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ال ّ‬
‫ن َخبِي ٌر‪[ ‬الحديد‪.]10:‬‬
‫سنَى وَالّل ُه ِبمَا َت ْع َملُو َ‬
‫ع َد الّل ُه اْل ُح ْ‬
‫ل َو َ‬
‫أَن َفقُوا مِن َب ْع ُد َوقَاَتلُوا َو ُك ً‬
‫* وعليه فإن العمل بالكشف عن جذور الصراع السياسي وما نتج عنه وسينتج‪ ،‬من‬
‫آثار تدميرية على المة السلمية بعمومها‪ ،‬أو العمل على بيان فقه الولويات في الفكر‬
‫السلمي‪ ،‬يعد ذلك كله من أوجب الواجبات‪ ،‬ومن الجهاد في سبيل ال تعالى الذي يصب‬
‫ن الّل َه َل َم َع‬
‫سُبَلنَا َوِإ ّ‬
‫ن جَا َهدُوا فِينَا َلَن ْه ِدَيّن ُه ْم ُ‬
‫في صالح السلم والمسلمين‪ .‬قال تعالى‪ :‬وَاّلذِي َ‬
‫ن‪[ ‬العنكبوت‪.]69:‬‬
‫سنِي َ‬
‫اْل ُم ْح ِ‬
‫محاولت غير ناجحة لتطبيق الشريعة السلمية‬

‫"إن السلم بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء‪ .‬قيل من هم يا رسول ال قال‪ :‬الذين‬ ‫‪126‬‬

‫يصلحون إذا فسد الناس "‪ .‬صححه الشيخ اللباني رحمه ال تعالى في "السلسلة الصحيحة" (‬
‫‪ ،)3/297‬برقم (‪.)1273‬‬

‫‪90‬‬
‫‪-1‬تطبيق الشريعة السلمية في السودان‪:‬‬
‫يقول الدكتور المكاشفي طه الكباشي(‪:)127‬‬
‫"غابت الشريعة السلمية عن واقع حياة الناس في السودان ما يقارب القرن من‬
‫الزمان‪ ،‬أي منذ سقوط دولة المهدية السلمية في السودان في أواخر القرن الثامن عشر‬
‫الميلدي"(‪.) 128‬‬
‫ويقول‪" :‬صدرت في السودان منذ شهر سبتمبر عام ‪1983‬م عدة قوانين‪ ،‬تناولت معظم‬
‫جوانب الحياة في الجنايات والمعاملت والثبات وأصول التقاضي والزكاة والمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ .‬كما صدر قانون القوات المسلحة الذي أصبح شعارها‪( ...‬ل إله إل ال)‬
‫في حال السلم‪ ،‬و(ال أكبر) في حال الحرب‪.) 129("...‬‬
‫قلت‪ :‬وعلى الرغم من أن الدكتور المكاشفي‪ ،‬كان من المتأثرين بمن يقول‪ :‬إن تطبيق‬
‫الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية عامة للشعوب‪ ،‬لن الحكم بما أنزل ال تربية‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة‬
‫ن َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ن ِإ ْ‬
‫في حد ذاته مصداقا لقوله تعالى‪ :‬اّلذِي َ‬
‫ن اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة ا ُلمُو ِر‪[ ‬الحج‪.]41:‬‬
‫عْ‬
‫ف َوَن َهوْا َ‬
‫َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫وعلى الرغم من اعترافه من قيام نظام جعفر النميري بإراقة الخمور وإغلق أماكن‬
‫الفساد والمنكر‪ ،‬وتحويل المصارف الربوية إلى إسلمية‪ ،‬وعلى الرغم من اعترافه بتطبيق‬
‫حد السرقة والحرابة دون الوصول إلى حالة الصلح القتصادي‪ .‬إل أنه قد اعترف بعد‬
‫تعثر مشروع تطبيق الشريعة السلمية في السودان حيث قال‪:‬‬
‫"تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل الجهات المنوط بها تنفيذ‬
‫الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق‪ ،‬فالحاكم يشترط فيه النزاهة والمصداقية‪،‬‬
‫والقاضي والشرطي وغيرهما يفترض فيهما الحماس وصدق التوجه‪ ،‬وليست هذه شروطا‬
‫تعجيزية أو مثالية أو كمالية‪ ،‬فالكمال ل وحده‪ ،‬ولكن المطلوب صدق التوجه والحماس‬

‫دكتوراة في الفقه المقارن‪ ،‬تولى رئاسة الجهاز القضائي للخرطوم عامي ‪.1984،1985‬‬ ‫‪127‬‬

‫"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪ ،‬ط ‪ ،1986 ،2‬دار الزهراء‪( ،‬ص‬ ‫‪128‬‬

‫‪.)7‬‬
‫المرجع السابق (ص ‪.)12‬‬ ‫‪129‬‬

‫‪91‬‬
‫لتطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬لن وجود خلل في بعض الجهات ربما يؤدي الى تناحرها‬
‫وتضاربها واختلفها‪ ،‬فل بد من صدق توجه جميع الجهزة‪ ،) 130(".‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تعليقا على قول الكاتب" تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل‬
‫الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق"‪.‬‬
‫أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية ( الجهزة) هي من المجتمع في‬
‫الصل؟‬
‫أليست الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية "الجهزة" هي إفراز من المجتمع؟‬
‫كيف يقال إذن إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية عامـة‬
‫للشعوب؟‬
‫س ِه ْم‪‬؟‬
‫ن الّل َه َل ُي َغّي ُر مَا ِب َق ْو ٍم َحتّى ُي َغّيرُوْا مَا ِبَأ ْن ُف ِ‬
‫وأين نحن من قوله تعالى‪ِ :‬إ ّ‬
‫نعم إن تطبيق الشريعة السلمية يحتاج إلى إيمان وحماس كل الجهات المنوط بها تنفيذ‬
‫الشريعة السلمية حتى ل تكون حبرا على ورق‪ ،‬فقد لمس الكاتب بنفسه أثر البطانة السيئة‬
‫للحاكم في عرقلة مشروع تطبيق الشريعة‪ ،‬حين أراد أن يرد على جملة من الشبهات التي‬
‫أثيرت حول تنفيذ الشريعة السلمية‪ ،‬فقامت الجهات اليسارية المتنفذة في جميع وسائل‬
‫العلم ( صحف‪ ،‬إذاعة‪ ،‬تلفزيون) بالحيلولة دون نشر رده على تلك الشبهات‪ ،‬حتى سلك‬
‫طريق المحاضرات والندوات في مختلف مدن وأقاليم السودان(‪.) 131‬‬
‫وتعليقا على قول الكاتب‪ " :‬إن تطبيق الشريعة السلمية ل يقتضي أن يسبقه تربية‬
‫ن‬
‫ن ِإ ْ‬
‫عامة للشعوب‪ ،‬لن الحكم بما أنزل ال تربية في حد ذاته مصداقا لقوله تعالى‪ :‬اّلذِي َ‬
‫ن اْل ُم ْن َك ِر َوِلّل ِه عَا ِقَب ُة‬
‫عْ‬
‫ف َوَن َهوْا َ‬
‫ض َأقَامُوا الصّل َة وَآَتوْا ال ّزكَا َة َوَأ َمرُوا بِاْل َم ْعرُو ِ‬
‫َم ّكنّا ُه ْم فِي ال ْر ِ‬
‫ا ُلمُو ِر‪[ ‬الحج‪..]41:‬‬
‫ل َم ل ْم يربي تطبيق الشريعة السلمية كل الجهات المنوط بها تنفيذ الشريعة السلمية؟‬
‫بل نجدها قد رفضته وحاربته‪.‬‬

‫"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪ ،‬ط ‪ ،1986 ،2‬دار الزهراء‪( ،‬ص‬ ‫‪130‬‬

‫‪.)122-121‬‬
‫"تطبيق الشريعة السلمية في السودان بين الحقيقة والثارة"‪،‬ط ‪ ،1986 ،2‬دار الزهراء‪( ،‬ص‬ ‫‪131‬‬

‫‪.)33‬‬

‫‪92‬‬
‫‪-2‬تطبيق الشريعة السلمية في الباكستان‪:‬‬
‫ومن المحاولت التي لم يكتب لها النجاح في تطبيق الشريعة السلمية بالضافة إلى‬
‫التجربة السودانية‪ ،‬التجربة الباكستانية التي أعلنها الرئيس الباكستاني ضياء الحق رحمه ال‬
‫تعالى عام ‪1979‬م‪ .‬وهذه دعوة للخوة الباحثين لدراسة هذه المحاولة وأسباب فشلها‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫أبو أيمن‬
‫عدنان بن عبد الرحيم الصوص‬
‫عمان‪ -‬الردن‬
‫كانون الثاني ‪2005‬‬
‫البريد اللكتروني‬
‫( ‪)AdnanSous@Yahoo.Com‬‬

‫‪93‬‬
‫الفهرس‬
‫كيف ظهرت البروتوكولت؟‪41.......................................................................‬‬

‫‪94‬‬

You might also like