Professional Documents
Culture Documents
م /هيدجر
د .خليل عبد الرحمن – خاص ثروة
يقف العالم على عتبات تغيرات اجتماعية عميقة وجذرية ،بفضل
التقدم والتسارع التقني والمعلوماتي .وصارت الثورة التكنولوجيا
والعلمية تشكل أهم عامل ديناميكي لتسريع وتائر تطورنا
المعاصر ذي التأثير العاصف في الحياة الجتماعية ،ويتغير بفضل
ذلك طبيعة العمل وجوهره ،يترافق ذلك مع تغيرات في البناء
الثقافي وفي الكثير من مفاهيم حضارتنا المعاصرة ومنظومات
فكرية.
أمام هذا الواقع ،اليقاعات التقنية المتسارعة تبرز بحدة أسئلة
فكرية قديمة وجديدة ذات أبعاد هامة تتعلق بطبيعة ظاهرة
التقنية وبمشكلة وجود النسان ومصيره أمام هذا التقدم .ولعل
السؤال البرز والكثر وضوحا ً هو :هل يعتبر التقدم التقني عامل ً
خيرا ً ونافعا ً للنسانية ،أم يخفي في طياته هلكا ً وبؤسا ً لها؟
بهذا المعنى ،صار مسألة التطور التقني – العملي المعاصر ميدانا ً
لسجالت ومناقشات فلسفية وفكرية حادة وعميقة .واليوم،
يعايش الفكر عصر ازدهار فلسفة التقنية ،حيث تنشط الفكار
الجتماعية وتشتد حدة نتيجة لتلك النتصارات الباهرة للتقنية
العلمية .ومن هنا ،فقد ظهرت فرضيات وآراء ونظريات جديدة،
تعي أهمية ديناميكية وتلك التغيرات الحاصلة في ظروف المدينة
التقنية.
يتميز الفيلسوف اللماني مارتين هيدجر بوجهة نظر خاصة من
بين هذا الركام من النظريات والراء عن مفهوم التكنولوجيا.
ولعل ذلك مرده ،العمق والشمولية اللذين تتميز بهما آراؤه بهذا
الصدد.
وأهم سؤال في فلسفة هيدجر يتعلق بمعنى الكينونة ،هذا
السؤال وهو الكثر أهمية وغموضا ً في الفكر ،وتكمن الهمية في
تفسيره وتوضيحه .إن السؤال عن الكينونة يعني استنارة السائل
بالموجود – الن – هناك كينونة في كينونته التقنية ،هي أسلوب
لثبات وتأكيد وجود النسان ،هي الول بالمقارنة مع المجتمع.
لقد أظهر هيدجر أن التقنية ل تصمم ول تصيغ فقط العالم التقني
التي يتسلط عليه ويستبد به وحسب ،بل وتخضع لوامر كل
مجالت الوجود ،ويتسرب ويتغلغل بأبعادها في الحياة النسانية
والجتماعية والتاريخية.
بهذا الشكل ،يعلن هيدجر وبحدة قطيعته مع تقاليد فلسفة التقنية
الوروبية ،التي ركزت جل ّاهتمامها على المنجزات والكتشافات
والتنبؤ بالمستقبل على ضوء التقدم التقني .وربما تعلم تلك
ول إلى آلة عملقة وضخمة الفلسفة أن المجتمع النساني تح ّ
يمثل النسان فيه دور المادة الخام نتيجة التقدم التقني.
لم تعد التقنية وسيلة بيد النسان ،وإنما على العكس تحول
النسان نفسه إلى معطى وسيلة لها .وفي هذا يتمثل مكمن
الخطر الذي يهدد وجود النسان ومصيره .فلول مرة في التاريخ
يقف النسان عند نفسه ،ويبرز من جديد السؤال :كيف يريد
النسان أن يسيطر على التقنية وهو خاضع لسلطتها تمامًا؟
النسانية – كما يقول هيسنبرغ تبدو بانتشار قوتها المادية
اللمحدودة بمظهر القبطان ،الذي يقود باخرة ضخمة من الحديد
والفولذ .ويشير العقرب المغناطيسي إلى فولذ الباخرة وليس
إلى الشمال .بهذه الباخرة ،من المستحيل أن تحقق النسانية
الهدف المنشود ،لنها ستدور في دائرة مغلقة .وهكذا ،نجد أن
جذور العلوم في أساسها الجوهري قد ذوت واضمحلت.
أشار هيدجر ،أن نتائج غزو التقنية الوروبية حملت أشكال ً مختلفة
وفي بعض أفقها مبهمة وغامضة ،حتمية التكنولوجيا تقريبا ً قدرية
بالنسبة للنسان ،بمعنى أنها تحمل في داخلها مهمة التفكير غير
القابلة للشك .أتى النسان من القرون الوسطى الرمزية إلى
الدراك الوروبي الموضوعي للموجودات ،ل لنه قرر أو خطط
ذلك ،بل لن الكينونة فتحت في عصره على جانب جديد.
ليست التقنية على ما يبدو عند هيدجر وسيلة وآلة لتنفيذ
المهمات ،وجوهرها ليس في النشاط المختلف لكشف إمكانيات
المجتمع والطبيعة فقط ،بل في تأمين مثل هذا الكشف ،في
إعادة النتاج الذاتي.
التقنية لم تعد قيمة شاملة للكون ،ويمكن في مكانتها مقارنتها
مع أهمية الحقيقة .يقيم هيدجر مجال التكشف مثل اليتو اليونانية
والتي تفسر لغويا ً بـ )ليس منغلقًا( .فالتقنية في مفهوم هيدجر
أهم أسلوب ليجاد خصائص الكينونة ،وهي الضمان الوحيد ليجاد
مكانة النسان في الكينونة ،ولولها لقطع النسان وجوده
التاريخي ،ولسمح بظهور ما هو منغلق فيه.
النسان يخاطب الكينونة من خلل ماهية التقنية .إنه يسمع
نداءها ،ولكن يستطيع تخمين النبضات بشكل صحيح ،لن التقنية
تحث النسان على النفتاح الذاتي الكاذب .يقول هيدجر في
)أصل العمل الفني() :طبيعة الحقيقة ،أي )التكشف ( تسود
تماما ً من خلل النفي .ومع هذا فإن هذا النفي ليس نقصا ً أو
خطأ ،وهو على شكل تحف مزدوج يحث طبيعة الحقيقة بأل
تحجب .إن الحقيقة في طبيعتها هي نزع الحجاب ...وطبيعة
الحقيقة في ذاتها هي الصراع الولى الذي فيه يتم كسب ذلك
المركز المنفتح ،الذي فيه يقف ما هو موجود ،والذي منه يرتد
إلى ذاته(.
النسان – هذا الموجود بين غيره من الموجودات – يقوم بالعلم.
وما يحدث في هذا العمل الذي يقوم به النسان ل يقل عن كونه
اقتحاما للموجود في جملته .يتم القتحام أو الغزو بصورة يتفتح
فيها الموجود على ما هو عليه ،وبما هو عليه ،وهذا القتحام الذي
ينشأ عنه التفتح ،هو قبل كل شيء ،وفق طريقته الخاصة ،ما
يسلم الموجود لنفسه .والكينونة مستحيلة بدون الوجود
النساني .النسان يغّير الشياء ،يحولها من وضع حضوري )
(vorhandenheitإلى وضع مساعدي.( zuhandenheit).
تشبه فكرة هيدجر هنا الحضور الكينوني الفكرة المطلقة عند
هيغل .ولكن يشير هيدجر ،ل إلى الحضور وإنما إلى إمكانية ميزة
الن ) هذه ( – كينونة.
يمكننا النظر إلى الوضع المساعدي كمنهج حقيقي للشياء.
فالتقنية تنمو من الطبيعة المادية ،ولكنه يدخل في التركيب
الوجودي لوجودية النسان ،التي تملك خاصية تحويل أفكاره إلى
موضوعية .وهكذا يجد النسان الحقيقة.
فإذا نظرنا من بعيد ،سيبدو جهاز تقنية النتاج وسر الكينونة بعيدا ً
كل البعد ،لكنهما في الحقيقة ظاهرتان متقاربتان جدًا .يرى
هيدجر في التقنية طريقا ً تاريخيا ً من خلل قربه من الفن لسمو
النسان وعظمته.
حمل الحضور صفة الموجودات في تصور العالم الغريقي :رأوا
في الشيء فكرة المثل المعطى له ،حق التصويت في العالم
مثل الشيء ) كمال الوجه(.النساني .فاللهة اسم آخر لكمال ُ
أن الكلمة اليونانية)) تخنو(( ،ل تعني فقط نشاط الحرفي،
مهارة ،إتقان ،بل الفن بشكل عام .ليس المهم في التقنية
التصنيع بل اليجاد .وهكذا تمتد جذور التقنية في العماق ،في
مجال حقيقة النسيان التام للكينونة .يخفي النتاج العلمي -
التقني إمكانية عظيمة للعلقة الحرة والعودة الحرة للكينونة
) عندما تصير التقنية هنا والنتاج تحفة فنية( .فالفن يترك
الحقيقة تبزغ .الفن -منعكس في العمل الفني -هو الينبوع
الذي يقفز إلى حقيقة الوجود.
)الحقيقة هي حقيقة الوجود ،ل يحدث والجمال بمعزل عنها.
تظهر الحقيقة عندما تشرع في العمل ،والظهور – باعتباره وجودا ً
للحقيقة في العمل الفني كعمل – هو الجمال ،ومن ثم فإن
الجميل يحث على تكشف الحقيقة(.
امتنع النشاط النساني – حسب مفهوم هيدجر – على أرضية
العالم الروماني ،وحتى الن عن التوجه نحو كمال المثل .صار
قياسه كمية العمل وحجم النتاج المتغير في العالم الخارجي،
وبذلك ذهب بعيدًا ،متجها ً نحو نهاية رديئة .وهكذا صارت التقنية
خطرة جدة ،لنها بنيت الن على أساس استعباد الكينونة من
النظر ،وفقط الخبرة العلمية – التقنية تحافظ على الفحص
الموضوعي للشياء ،الذي يهمل مسائل الكينونة ،وبالمقابل ما
يجعل التقنية رهينة المنعطف التاريخي نحو الكينونة .بمعنى آخر
إن الخطر الساسي ليس موجودا ً في التقنية وتقنية الحياة ،ول
توجد أبالسة للتقنية ،ولكن هناك خطر عدم فهم ماهيتها .من
المسائل الملحة بالنسبة لهيدجر إيجاد تقنية خارج السس
التقنية ،وتحديد أفقه الحقيقي في تاريخ الثقافة البشرية ،فهو
ينظر إلى نظريات التقنية الموجودة كضريبة المستوى العالمي
لتطور التقنية وعلقاتها الفيتيشية[1] .
من العجيب أن النسان الذي يقوم بأبحاثه ،وفي هذه اللحظة
التي يتأكد فيها مما ينتسب إليه حقا ً ...يتحدث عن شيء آخر .إن
ما ينبغي أن ينفذ إليه البحث هو في بساطة ما هو موجود ،وخارج
هذا الوجود :ل شيء ،ما هو موجود وحده موجود ،وخلف ذلك ل
شيء .ما هو موجود موجود فحسب وخارج ذلك عدم.
ولكن ،ما الذي يدعونا إلى الهتمام بهذا العدم؟ -يسأل هيدجر
في )ما الميتافيزيقا؟() :العدم أمر يرفضه العلم ويستبعده
بوصفه مكونا ً سلبيا ً خالصًا .ومع ذلك ،فأننا حين نستبعد العدم
على هذا النحو ،أل نكون كمن يقبله؟ ولكن انستطيع أن نتكلم
عن القبول حين نقبل ل شيء؟ وأل نقع حينئذ وقوعا ً صريحا ً في
مشاحنة لفظية جوفاء؟ أل ينبغي على العلم أن يصطنع الن ما
يبتسم به من جديد ،وبعيد عن النفعال ليقرر أن مهمته مقصورة
على ما هو موجود فحسب؟ هل يمكن أن يكون العدم بالنسبة
للعلم مصدر الفزع والوهم؟ وإذا لم يتجاوز العلم ما له من
حقوق سيلغي نقطة واحدة ثابتة ،وأل هي أن العلم ل يريد أن
يعرف شيئا ً عن العدم .وهذا – في نهاية المر – هو التصور
العلمي المحكوم للعدم.
نحن نعرف هذا العدم من حيث أننا ل نريد أن نعرف شيئا ً عنه.
العلم ل يريد أن يعرف شيئا ً عن العدم ،ولكنه من المؤكد أيضا ً
أنه حيث يبحث العلم عن التعبير عن ماهيته الخاصة ،يهيب
بالعدم لنجدته .فها هو يلجأ إلى ما يرفضه؛ فأي تنافر ذاك الذي
يكشف عنه العلم في حقيقته الجوهرية؟
وحينما نتأمل وجودنا الفعلي – بوصفه وجودا ً يحدده البحث
العلمي – نكون قد وقعنا في ورطة ،حيث يكمن فيها سؤال ،ول
يحتاج السؤال إل أن يصاغ في ألفاظه المحددة ،السؤال هو :ماذا
عن العدم؟( .
العدم عند المفكر اللماني ينكشف في القلق] ، [2فيه تحدث
مواجهة العدم .إن العدم يجعل نفسه يعرف مع الموجودات ،في
الموجودات التي يتم التعبير عنها كانزلق من الكل) .في الليل
الجلي للعدم الخاص بالقلق ينبثق النفتاح الصلي للموجودات
كموجودات ...إنها موجودات وليس عدما ً ...إن ماهية العدم
العادم الصلي تكمن في أنها تحضر الوجود النساني لول مرة
أمام الموجودات كموجودات(.
)إن القلق يسرقنا من الحديث – يقول هيدجر في )الكينونة
والزمان( -لن الموجودات ككل تنزلق ،حتى أن العدم يحوم من
حولنا على هيئة القلق ،عندئذ يصمت كل نطق عن ) الوجود( .
هذه هي أهم أفكار فلسفة التكنولوجيا عند الفيلسوف اللماني
مارتين هيدجر .لعلها تعدو في زمن ما ناقوسا ً يدق في ضمائرنا
ليذكرنا بالخطر الكامن في تقنيتنا المعاصرة.
)الله قريب وصعب المفهوم
ولكن أينما وجد الخطر
هناك ينمو الخلص (
) هولدرلين(
________________________
المراجع:
-مؤلفات م .هيدجر :
-1الكينونة والزمان
-2ما الميتافيزيقا
-3المنعطف
-4أصل العمل الفني
-5سؤال عن التقنية
-6العلم والدراك
-7زمن مشاهد العالم
-هيسنبرغ ،الصورة الطبيعية لعلم الفيزياء الحالي في كتاب:
الموجة التكنولوجية الجديدة في الغرب .موسكو .1986
________________________
] [1الفتيشية : feticnismeكلمة برتغالية الصل تدل على
العبادة العمياء للقوى الخارقة أو للشياء المقدسة ) كتقديس
حائط المبكى في اليهودية ،اليقونات في المسيحية ،والحجر
السود في السلم( ،و لكن المقصود هنا عبادة المادة
) الشياء( ،إضفاء وظائف خارقة عليها فتجعلها موضوعا ً للعبادة
كقوة وسلطة متجسدة.
] - [2القلق عند هيدجر ليس نفسيًا ،وهو مختلف كليا ً عن
الخوف ،يظهر القلق النفسي عندما يكون هناك شيئا ً )موضوعًا(
ما تقلق عليه ،مثل ً :القلق على المال ،المتحانات،
الحبيبة ......الخ .ولكن القلق يقصده هيدجر هنا هو القلق
الفلسفي ) الميتافيزيقي( ،بمعنى آخر ،ل يوجد أمامك شيء
) موضوع( تقلق عليه ،بالرغم أنك تقلق على شيء ،مثل ً ،القلق
على وجود النسان نفسه ،الموت........الخ .إن القلق هو في
الحقيقة قلق في وجه – يقول هيدجر في ) الكينونة والزمان ( –
ولكن ليس في هذا الشيء .أو ذاك الشيء .القلق في وجه ......
هو دائما ً قلق لــي ولكن ليس من أجل هذا أو ذاك .إن القلق
يكشف العدم.
Posted by Tharwacolamus on December 08, 2007
) at 03:08 PM in Art & Opinionالفكر والفن( |
Permalink