You are on page 1of 171

‫مجموع فتاوى ابن تيمية – ‪ – 04‬الجزء الرابع‬

‫)العقيدة(‬
‫شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني‬

‫كتاب مفصل العتقاد‬ ‫•‬


‫سئل ما قولكم في مذهب السلف في العتقاد ومذهب غيرهم من‬ ‫‪o‬‬
‫المتأخرين؟‬
‫فصل‪ :‬في كون أهل الحديث أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق‬ ‫‪o‬‬
‫بالجهل‬
‫فصــل‪ :‬في أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد‬ ‫‪o‬‬
‫إن السابقين الولين لهم في كلم الرسول ثلث طرق‬ ‫‪‬‬
‫إن لفظ التأويل قد صار بسبب تعدد الصطلحات له ثلثة معان‬ ‫‪‬‬
‫فصــل‪ :‬في أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية‪ ،‬أو لم‬ ‫‪o‬‬
‫يعلموها‬
‫فصــل‪ :‬في قول من قال إن الحشوية على ضربين‬ ‫‪o‬‬
‫فصــل‪ :‬في قول المعترض في الرد على الحنابلة‬ ‫‪o‬‬
‫فصــل‪ :‬القوال نوعان‬ ‫‪o‬‬
‫قال الشيخ ‪ :‬الستدلل بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬ما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين‪ ،‬وإبطال باطل الكافرين؟‬ ‫‪o‬‬
‫فصــل‪ :‬في طرق المخاطبة‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪:‬عـن الروح هل هي قديمة أو مخلوقة؟‬ ‫‪o‬‬
‫ه ـ عن حقيقة ماهية الجن‬ ‫ّ‬
‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫خ ـ َرح َ‬ ‫شي ُ‬ ‫سئل ال ّ‬ ‫‪o‬‬
‫ه ـ عن الجان المؤمنين‬ ‫ه الل ُّ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫م‬ ‫رح‬ ‫ـ‬ ‫خ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫سئل‬ ‫‪o‬‬
‫دا لقول من قال‪ :‬كل مولود على ما سبق له في‬ ‫هـر ً‬ ‫ّ‬
‫ه الل ُ‬ ‫خ ـ َرحم ُ‬ ‫شي ْ ُ‬ ‫ل ال َ‬ ‫قو ُ‬ ‫‪o‬‬
‫علم الّله أنه سائر إليه‬
‫عن َقوله صلى الله عليه وسلم‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة(‬ ‫ل َ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ضا عن حديث‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة(‬ ‫ً‬ ‫أي‬ ‫قوله‬ ‫‪‬‬
‫َفصــل في ذكر الّله الحفظة الموكلين ببني آدم‪ ،‬الذين يحفظونهم ويكتبون‬ ‫‪o‬‬
‫أعمالهم‬
‫ما؟‬‫ً‬ ‫دائ‬ ‫الموكلون‬ ‫هم‬ ‫بالعبد‬ ‫الموكلون‬ ‫الملئكة‬ ‫هل‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫خ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫س‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫وله صلى الله عليه وسلم‪) :‬إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها‬ ‫نق ْ‬ ‫َ‬ ‫سئل ع َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫كتبت له حسنة(‬
‫ت‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫ن ع َن ْد َ ال ْ َ‬ ‫ض الد َْيا َ‬ ‫ن ع َْر ِ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ن؟‬ ‫مل َئ ِك َةِ ـ ي َُ‬
‫موُتو َ‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫تى‬‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫هل‬ ‫َ‬ ‫ل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫س‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ِ‬
‫فصــل في مذهب سائر المسلمين في إثبات القيامة الكبرى‬ ‫‪o‬‬
‫ه الّله ـ عن ]الروح المؤمنة[‬ ‫م‬
‫َ َ ُ‬ ‫رح‬ ‫ـ‬ ‫لم‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫خ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫سئ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ه؟‬ ‫ت ِفى قَب ْرِ ِ‬ ‫مي ُ‬ ‫م ال َ‬‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ل ي َت َكل ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‪ :‬هَ ْ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ه ت ََعاَلى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات‬ ‫ه الل ُّ‬ ‫ُ‬ ‫رحم‬ ‫َ‬ ‫ـ‬ ‫لم‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫خ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ئ‬‫س‬
‫ُ ِ‬ ‫‪o‬‬
‫ل عن الصغير‪ ،‬وعن الطفل إذا مات‪ :‬هل يمتحن؟‬ ‫سئ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ه ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ول يسأل؟‬ ‫ه الل ُّ‬ ‫َ ِ َ ُ‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫سئ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫ه ـ وهو بمصر عن ]عذاب القبر[‬ ‫ح ُ‬‫ه ُرو َ‬ ‫ّ‬
‫س الل ُ‬ ‫سلم ـ قَد ّ َ‬ ‫شْيخ ال ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬وهو بمصر عن ]عذاب القبر[ ؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن الميزان‪ :‬هل هو عبارة عن العدل أم له كفتان؟‬ ‫‪o‬‬
‫فار‪ :‬هل يحاسبون يوم القيامة أم ل؟‬ ‫ن ال ْك ُ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫سئل‬ ‫‪o‬‬
‫فر بالمعصية أم ل؟‬ ‫ْ‬
‫سئل‪ :‬عن العبد المؤمن هل ي َك ُ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن رجل مسلم يعمل عمًل يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟‬ ‫‪o‬‬
‫ل عن َأطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها أم‬ ‫سئ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪o‬‬
‫يكبرون ويتزوجون؟‬
‫سئل‪ :‬هل يتناسل أهل الجنة؟ والولدان هل هم ولدان أهل الجنة؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن رجل قيل له‪ :‬إنه ورد عن النبي‪) :‬أن أهل الجنة يأكلون ويشربون(‬ ‫‪o‬‬
‫فقال ‪ :‬من أكل وشرب بال وتغوط؟‬
‫سئل‪ :‬هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا؟‬ ‫‪o‬‬
‫فصـل‪ :‬أفضل النبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل فيمن يقول‪ :‬إن غير النبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر الّله؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن رجل قال‪ :‬إن النبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ معصومون من‬ ‫‪o‬‬
‫الكبائر دون الصغائر؟‬
‫سئل عن رجلين تنازعا في أمر نبي الّله عيسى ابن مريم ـ عليه السلم؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الّله ـ تبارك وتعالى ـ أحيا‬ ‫‪o‬‬
‫له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك ؟‬
‫سئل عن هذه الحاديث‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى وهو‬ ‫‪o‬‬
‫يصلي في قبره؟‬
‫سئل عن الذبيح من ولد خليل الّله إبراهيم ـ عليه السلم ـ هل هو إسماعيل‬ ‫‪o‬‬
‫أو إسحاق؟‬
‫سئل عن الخضر وإلياس هل هما معمران؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬هل كان الخضر ـ عليه السلم ـ نبًيا أو ولًيا ؟ وهل هو حي إلى الن؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬هل يعلم وقت الساعة ؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬عن صالحي بني آدم والملئكة أيهما أفضل ؟‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬عن المطيعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‪ :‬هل هم أفضل من‬ ‫‪o‬‬
‫الملئكة؟‬
‫سئل‪ :‬هل سجد ملئكة السماء والرض أم ملئكة الرض خاصة؟‬ ‫‪o‬‬
‫َفصــل‪ :‬في التفضيل بين الملئكة والناس‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪:‬عن]خديجة[ و]عائشة[ أمي المؤمنين أيتهما أفضل ؟‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬وأفضل نساء هذه المة ]خديجة[‪ ،‬و]عائشة[‪ ،‬و]فاطمة[؟‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬في نساء النبي صلى الله عليه وسلم‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫فصـل‪ :‬هل أبو بكر وعمر أفضل من الخضر؟‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬عن رجلين اختلفا فقال أحدهما‪ :‬أبو بكر الصديق وعمر بـن الخطاب‬ ‫‪o‬‬
‫أعلم وأفقه من على بن أبي طالب؟‬
‫ي‬
‫ّ‬ ‫عل‬ ‫على‬ ‫الثلثة‬ ‫تفضيل‬ ‫في‬ ‫ريبة‬ ‫له‬ ‫ويحصل‬ ‫بالسنة‬ ‫سئل‪ :‬عن رجل متمسك‬ ‫‪o‬‬
‫لقوله ـ عليه السلم ـ له‪) :‬أنت مني وأنا منك(؟‬
‫دا هل يجوز له‬ ‫ي غيره وإذا ذكر]علي[ صلى عليه مفر ً‬ ‫سئل‪ :‬ل أفضل على عل ّ‬ ‫‪o‬‬
‫أن يخصه بالصلة دون غيره؟‬
‫سئل‪:‬عن قول الشيخ أبي محمد عبد الّله بن أبي زيد في آخر عقيدته؟‬ ‫‪o‬‬
‫جَر بين الصحابة ـ علي ومعاوية وطلحة وعائشة ـ هل يطالبون‬ ‫سئل‪ :‬عما َ‬
‫ش َ‬ ‫‪o‬‬
‫به أم ل؟‬
‫جَر بين الصحابة فل يجب العتقاد‬ ‫فائــدة‪ :‬إن كان المختار المساك عما َ‬
‫ش َ‬ ‫‪o‬‬
‫بأن كل واحد منهم كان مجتهدا متأول؟‬
‫فصل‪ :‬في أعداء الخلفاء الراشدين والئمة المهديين‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬عن إسلم معاوية بن أبي سفيان متى كان؟‬ ‫‪o‬‬
‫صـــل‪ :‬في الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة‬ ‫فَ ْ‬ ‫‪o‬‬
‫صــل‪ :‬افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلث فرق‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬ ‫‪o‬‬
‫سئل‪ :‬عن جماعة يقولون‪ :‬إن الدين فسد من حين أخذت الخلفة من علي‬ ‫‪o‬‬
‫بن أبي طالب؟‬
‫سئل‪ :‬هل يصح عند أهل العلم‪ :‬أن علًيا ـ رضي الّله عنه ـ قاتل الجن في‬ ‫‪o‬‬
‫البئر؟‬
‫فا‬
‫سئل‪ :‬عمن قال أن عليا قاتل الجن في البئر وأنه حمل على اثني عشر أل ً‬ ‫‪o‬‬
‫وهزمهم؟‬
‫سئل‪ :‬عن فاطمة أنها قالت‪ :‬يارسول الّله إن علًيا يقوم الليالي كلها إل ليلة‬ ‫‪o‬‬
‫الجمعة؟‬
‫سئل‪:‬عن رجل قال عن علي بن أبي طالب أنه ليس من أهل البيت ول تجوز‬ ‫‪o‬‬
‫الصلة عليه والصلة عليه بدعة؟‬
‫سئل‪ :‬أن علي بـن أبي طالب قال‪ :‬إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي‬ ‫‪o‬‬
‫وسيبوني؟‬
‫َفصــل‪ :‬هل كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم‬ ‫‪o‬‬
‫قا؟‬
‫يصحبه مطل ً‬
‫سئل‪ :‬عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر أحدهما يقول‪ :‬يتوب الّله عليه‬ ‫‪o‬‬
‫وقال الخر‪ :‬ل يتوب الّله عليه؟‬
‫سئل‪ :‬عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد وطعنوا في ابن‬ ‫‪o‬‬
‫مسعود وروايته؟‬
‫سئل‪ :‬عن رجل يناظر مع آخر في ]مسألة المصراة[ فطعن أحدهما في أبي‬ ‫‪o‬‬
‫هريرة وروايته؟‬
‫سئل‪ :‬عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون إل أنهم يكفرون‬ ‫‪o‬‬
‫ساّبي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟‬
‫كتاب مفصل العتقاد‬

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫الحمد ل وحده والصلة والسلم على من ل نبي بعده‬

‫سئل شيخ السلم أحمد ابن تيمية قدس ال روحه ما قولكم في مذهب السلف في العتقاد ومذهب غيرهم من‬
‫المتأخرين؟ ما الصواب منهما؟ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين؟ وفي أهل الحديث‪ :‬هل هم أولى بالصواب من‬
‫غيرهم؟ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟‪.‬‬

‫فأجاب‪- :‬‬

‫شاِق ِ‬
‫ق‬ ‫الحمد ل‪ .‬هذه المسائل بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها وال الموفق‪ .‬قال ال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن ُي َ‬
‫صيرًا{ ]النساء‪ . [115:‬وقد‬ ‫ت َم ِ‬
‫ساَء ْ‬
‫جَهّنَم َو َ‬
‫صِلِه َ‬
‫ن ُنَوّلِه َما َتَوّلى َوُن ْ‬
‫ل اْلُمْؤِمِني َ‬
‫سِبي ِ‬
‫غْيَر َ‬
‫ن َلُه اْلُهَدى َوَيّتِبْع َ‬
‫ن َبْعِد َما َتَبّي َ‬
‫سولَ ِم ْ‬
‫الّر ُ‬
‫شهد ال لصحاب نبيه صلى ال عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان باليمان‪ .‬فعلم قطعا أنهم المراد بالية الكريمة فقال‬
‫جِري‬ ‫ت َت ْ‬
‫جّنا ٍ‬
‫عّد َلُهْم َ‬ ‫عْنُه َوَأ َ‬
‫ضوا َ‬ ‫عْنُهْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫ي ا ُّ‬
‫ضَ‬‫سانٍ َر ِ‬ ‫حَ‬ ‫ن اّتَبُعوُهْم ِبِإ ْ‬
‫صاِر َواّلِذي َ‬
‫لْن َ‬
‫ن َوا َْ‬‫جِري َ‬ ‫ن اْلُمَها ِ‬
‫ن ِم َ‬ ‫لّوُلو َ‬ ‫ن ا َْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫ساِبُقو َ‬
‫ح َ‬
‫ت‬ ‫ك َت ْ‬
‫ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫عِ‬‫ل َ‬‫ي ا ُّ‬
‫ضَ‬‫ظيُم{ ]التوبة‪.[100:‬وقال تعالى‪َ} :‬لَقْد َر ِ‬ ‫ك اْلَفْوُز اْلَع ِ‬
‫ن ِفيَها َأَبدًا َذِل َ‬
‫خاِلِدي َ‬
‫لْنَهاُر َ‬
‫حَتَها ا َْ‬
‫َت ْ‬
‫الّشَجَرةِ َفَعِلَم َما ِفي ُقُلوِبِهْم َفَأْنَزَل الّسِكيَنَة َعَلْيِهْم َوَأَثاَبُهْم َفْتحًا َقِريبًا{ ]الفتح‪.[18:‬فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم وله ال‬
‫ما تولى وأصله جهنم‪ .‬فمن سبيلهم في العتقاد‪] :‬اليمان بصفات ال تعالى وأسمائه[ التي وصف بها نفسه وسمى‬
‫بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ول نقص منها ول تجاوز لها ول تفسير لها ول‬
‫تأويل لها بما يخالف ظاهرها ول تشبيه لها بصفات المخلوقين; ول سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا‬
‫علمها إلى قائلها؛ ومعناها إلى المتكلم بها‪ .‬وقال بعضهم ‪ -‬ويروى عن الشافعي‪] :‬آمنت بما جاء عن ال وبما جاء عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم على مراد رسول ال[‪ .‬وعلموا أن المتكلم بها صادق ل شك في صدقه فصدقوه ولم‬
‫يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه‪ .‬وأخذ ذلك الخر عن الول ووصى بعضهم بعضا بحسن التباع‬
‫والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجو أن‬
‫يجعلنا ال تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه؛ وسلوك الطريق الذي سلكوه‪ .‬والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه‪:‬‬
‫أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول ال صلى ال عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها؛ غير مرتاب‬
‫فيها؛ ول شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ول تأولوه ول شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو‬
‫فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية‪ .‬إذ ل يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته‬
‫لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما ل يحل‪ .‬بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا‪ :‬أنهم‬
‫كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف؛ وتارة بالضرب وتارة بالعراض الدال على‬
‫شدة الكراهة لمسألته‪ .‬ولذلك لما بلغ عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل‬
‫ت ِوْقرًا{ ]الذريات‪[2:‬وما بعدها‪ .‬فنزل عمر‬ ‫حاِمل ِ‬ ‫ت َذْروًا{ ]الذريات‪َ}[1:‬فاْل َ‬ ‫فبينما عمر يخطب قام فسأله عن‪َ} :‬والّذاِرَيا ِ‬
‫فقال‪] :‬لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ]ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة‬
‫وأمرهم أن ل يجالسوه فكان بها كالبعير الجرب ل يأتي مجلسا إل قالوا‪] :‬عزمة أمير المؤمنين[ فتفرقوا عنه حتى‬
‫تاب وحلف بال ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له‪ :‬هذا‬
‫وقتك فقال‪ :‬ل نفعتني موعظة العبد الصالح‪ .‬ولما سئل ]مالك بن أنس[‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬فقيل له‪ :‬يا أبا عبد ال‬
‫}الرحمن على العرش استوى{ كيف استوى؟ فأطرق مالك وعله الرحضاء ‪ -‬يعني العرق ‪ -‬وانتظر القوم ما يجيء منه‬
‫فيه‪ .‬فرفع رأسه إلى السائل وقال‪] :‬الستواء غير مجهول والكيف غير معقول واليمان به واجب والسؤال عنه بدعة‬
‫وأحسبك رجل سوء[‪ .‬وأمر به فأخرج‪ .‬ومن أول الستواء بالستيلء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير‬
‫سبيله‪ .‬وهذا الجواب من مالك ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬في الستواء شاف كاف في جميع الصفات‪ .‬مثل النزول والمجيء واليد‬
‫والوجه وغيرها‪ .‬فيقال في مثل النزول‪ :‬النزول معلوم والكيف مجهول واليمان به واجب والسؤال عنه بدعة‪ .‬وهكذا‬
‫يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الستواء الوارد به الكتاب والسنة‪ .‬وثبت عن محمد بن الحسن ‪ -‬صاحب أبي‬
‫حنيفة ‪ -‬أنه قال‪] :‬اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب‪ :‬على اليمان بالقرآن والحاديث التي جاء بها الثقات عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ول وصف ول تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك‬
‫فقد خرج مما كان عليه النبي صلى ال عليه وسلم وفارق الجماعة‪ .‬فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في‬
‫الكتاب والسنة ثم سكتوا‪ .‬فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة[ انتهى‪ .‬فانظر ‪ -‬رحمك ال ‪ -‬إلى هذا المام كيف‬
‫حكى الجماع في هذه المسألة ول خير فيما خرج عن إجماعهم‪ .‬ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه‪.‬‬
‫وأولوا ذلك؛ فإنهم أعرف المة بما يجوز على ال وما يمتنع عليه‪ .‬وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه‬
‫قال‪] :‬إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬بصفاته التي نطق بها كتابه‬
‫وتنزيله وشهد له بها رسوله؛ على ما وردت به الخبار الصحاح ونقله العدول الثقات‪ .‬ول يعتقدون تشبيها لصفاته‬
‫بصفات خلقه ول يكيفونها تكييف المشبه ول يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية‪ .‬وقد أعاذ ال‬
‫]أهل السنة[ من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول‬
‫بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز من قائل‪} :‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{ وبقوله تعالى‪َ} :‬وَلْم‬
‫َيُكْن َلُه ُكُفوًا َأَحٌد{ ]الخلص‪.[4:‬وقال سعيد بن جبير‪] :‬ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين[‪ .‬وثبت عن الربيع بن‬
‫سليمان أنه قال‪ :‬سألت الشافعي ‪ -‬رحمه ال تعالى ‪ -‬عن صفات ال تعالى؟ فقال‪] :‬حرام على العقول أن تمثل ال‬
‫تعالى؛ وعلى الوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع؛ وعلى النفوس أن تفكر؛ وعلى الضمائر أن تعمق وعلى‬
‫الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إل ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه[ عليه الصلة والسلم‪ .‬وثبت عن‬
‫الحسن البصري أنه قال‪] :‬لقد تكلم مطرف على هذه العواد بكلم ما قيل قبله ول يقال بعده‪ .‬قالوا‪ :‬وما هو يا أبا‬
‫سعيد؟ قال‪] :‬الحمد ل الذي من اليمان به‪ :‬الجهل بغير ما وصف به نفسه[‪ .‬وقال سحنون ]من العلم بال السكوت عن‬
‫غير ما وصف به نفسه[‪ .‬وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد ال بن الزبير ‪ -‬أنه قال‪] :‬أصول السنة[ ‪ -‬فذكر أشياء ‪ -‬ثم‬
‫ق َكْي َ‬
‫ف‬ ‫ن ُيْنِف ُ‬
‫طَتا ِ‬
‫سو َ‬
‫ل َيَداُه َمْب ُ‬
‫ت َأْيِديِهْم َوُلِعُنوا ِبَما َقاُلوا َب ْ‬
‫غّل ْ‬
‫ل َمْغُلوَلٌة ُ‬ ‫قال‪ :‬وما نطق به القرآن والحديث مثل‪َ} :‬وَقاَل ِ‬
‫ت اليهود َيُد ا ِّ‬
‫حْر ِ‬
‫ب‬ ‫ضاَء ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة ُكّلَما َأْوَقُدوا َنارًا ِلْل َ‬
‫طْغَيانًا َوُكْفرًا َوَأْلَقْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ‬‫ك ُ‬‫ن َرّب َ‬‫ك ِم ْ‬
‫ل ِإَلْي َ‬
‫ن َكِثيرًا ِمْنُهْم َما ُأْنِز َ‬
‫شاُء َوَلَيِزيَد ّ‬‫َي َ‬
‫ت ِبَيِميِنِه{ ]الزمر‪ :‬من‬ ‫طِوّيا ٌ‬ ‫ت َم ْ‬ ‫سَماَوا ُ‬ ‫ن{ ]المائدة‪.[64:‬ومثل‪َ} :‬وال ّ‬ ‫سِدي َ‬‫ب اْلُمْف ِ‬
‫ح ّ‬‫ل ل ُي ِ‬‫سادًا َوا ُّ‬ ‫ض َف َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬ ‫سَعْو َ‬
‫ل َوَي ْ‬
‫طَفَأَها ا ُّ‬
‫َأ ْ‬
‫الية ‪ [67‬وما أشبه هذا من القرآن والحديث ل نزيد فيه ول نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول‪:‬‬
‫ش اْسَتَوى{ ]طـه‪[5:‬ومن زعم غير هذا فهو جهمي‪ .‬فمذهب السلف رضوان ال عليهم‪ :‬إثبات‬ ‫عَلى اْلَعْر ِ‬
‫ن َ‬
‫حمَ ُ‬
‫}الّر ْ‬
‫الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها‪ .‬لن الكلم في الصفات فرع عن الكلم في الذات وإثبات الذات‬
‫إثبات وجود؛ ل إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات‪ .‬وعلى هذا مضى السلف كلهم‪ .‬ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من‬
‫كلم السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب‪ .‬فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفي بما قدمناه‬
‫ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إل خروجا عن سواء السبيل وال الموفق‪ .‬وقد ثبت‬
‫ما ادعيناه من مذهب السلف رضوان ال عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيل واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم‬
‫بذلك‪ .‬ولم أعلم عن أحد منهم خلفا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل لهذه اليات والخبار من‬
‫أكابرهم‪ :‬العتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه‪ .‬ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه قال‪] :‬اختلف أصحابنا في أخبار‬
‫الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ول تأويل مع نفي التشبيه عنها‪ .‬وهو مذهب السلف[ فحصل‬
‫الجماع على صحة ما ذكرناه بقول المنازع والحمد ل‪ .‬وما أحسن ما جاء عن ]عبد العزيز بن عبد ال بن أبي سلمة[‬
‫أنه قال‪] :‬عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن ال عصمة‪ .‬فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من‬
‫قد علم ما في خلفها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق‪ .‬فارض لنفسك بما رضوا به لنفسهم‪ .‬فإنهم عن علم وقفوا‬
‫وببصر نافذ كفوا‪ .‬ولهم كانوا على كشفها أقوى‪ .‬وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم‬
‫ما يجري من الختلف بعد القرون الثلثة؛ فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث‬
‫بعدهم فما أحدثه إل من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم؛ وتلقاه‬
‫عنهم من تبعهم بإحسان‪ .‬ولقد وصفوا منه ما يكفي؛ وتكلموا منه بما يشفي‪ .‬فمن دونهم مقصر؛ ومن فوقهم مفرط‪ .‬لقد‬
‫قصر دونهم أناس فجفوا؛ وطمح آخرون فغلوا؛ وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم[‪.‬‬

‫فصل‬

‫وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو‪ .‬فنبين ذلك بالقياس المعقول؛ من غير احتجاج‬
‫ق{ ]فصلت‪ :‬من الية ‪[53‬؛‬ ‫حّ‬‫ن َلُهْم َأّنُه اْل َ‬
‫حّتى َيَتَبّي َ‬
‫سِهْم َ‬
‫ق َوِفي َأْنُف ِ‬
‫لَفا ِ‬ ‫بنفس اليمان بالرسول كما قال ال‪َ } :‬‬
‫سُنِريِهْم آَياِتَنا ِفي ا ْ‬
‫يٍء‬
‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫عَلى ُك ّ‬
‫ك َأّنُه َ‬ ‫فأخبر‪ :‬أنه سيريهم اليات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق‪ .‬ثم قال‪َ} :‬أَوَلْم َيْك ِ‬
‫ف ِبَرّب َ‬
‫َشِهيٌد{ ]فصلت‪ :‬من الية ‪ [53‬أي بإخبار ال ربك في القرآن وشهادته بذلك‪ .‬فنقول‪ :‬من المعلوم أن أهل الحديث‬
‫يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم‪ .‬فإن المنازع لهم ل بد أن يذكر‬
‫فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلم والنظر والستدلل والمحاجة والمجادلة‬
‫والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك‪ .‬وكل هذه الطرق لهل الحديث صفوتها وخلصتها‪ :‬فهم أكمل‬
‫الناس عقل؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلل وأقومهم جدل وأتمهم‬
‫فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا‪ .‬وهذا هو‬
‫للمسلمين بالنسبة إلى سائر المم ولهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل‪ .‬فكل من استقرأ أحوال العالم وجد‬
‫المسلمين أحد وأسد عقل وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون‬
‫وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين‪ .‬وذلك لن اعتقاد الحق الثابت يقوي الدراك ويصححه قال‬
‫شّد َتْثِبيتًا{‬
‫خْيرًا َلُهْم َوَأ َ‬
‫ن َ‬
‫ن ِبِه َلَكا َ‬
‫ظو َ‬
‫عُ‬‫ى{ ]محمد‪ :‬من الية ‪ [17‬وقال‪َ} :‬وَلْو َأّنُهْم َفَعُلوا َما ُيو َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن اْهَتَدْوا َزاَدُهْم ُهد ً‬
‫صَراطًا ُمْسَتِقيمًا{ ]النساء‪.[68 :‬وهذا‬ ‫ظيمًا{ ]النساء‪َ} [67:‬وَلَهَدْيَناُهْم ِ‬ ‫عِ‬‫جرًا َ‬
‫ن َلُدّنا َأ ْ‬ ‫]النساء‪ :‬من الية ‪َ} [66‬وِإذًا َ‬
‫لَتْيَناُهْم ِم ْ‬
‫يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فل تجد مسألة خولفوا فيها إل وقد تبين أن الحق معهم‪ .‬وتارة بإقرار‬
‫مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلل والجهل‪ .‬وتارة بشهادة‬
‫المؤمنين الذين هم شهداء ال في الرض‪ .‬وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الخرى وتشهد بالضلل‬
‫على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم‪ .‬فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء ال في الرض‪ :‬فهذا أمر ظاهر‬
‫معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلم المسلمين ل تجد في المة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به ول تجد‬
‫غيرهم يعظم إل بقدر ما وافقهم فيه كما ل ينقص إل بقدر ما خالفهم‪ .‬حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة‬
‫يقر بذلك كما قال المام أحمد‪] :‬آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز[ فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم‬
‫الرجل طائفته فأما وقت الموت فل بد من العتراف بالحق من عموم الخلق‪ .‬ولهذا لم يعرف في السلم مثل جنازته‪:‬‬
‫مسح المتوكل موضع الصلة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ‬
‫من اليهود والنصارى عشرون ألفا‪ .‬وهو إنما نبل عند المة باتباع الحديث والسنة‪ .‬وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما‬
‫إنما نبلوا في السلم باتباع أهل الحديث والسنة‪ .‬وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك وكذلك مالك والوزاعي‬
‫والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم المة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم‬
‫فيه منهم إل بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلغها إياه أو لعتقاده ضعف‬
‫دللتها أو رجحان غيرها عليها‪ .‬وكذلك المسائل العتقادية الخبرية؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند المة إل‬
‫بما معه من الثبات والسنة فالمعتزلة أول ‪ -‬وهم فرسان الكلم ‪ -‬إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من‬
‫يغضي عن مساوئهم لجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الثبات والسنة والحديث وردهم على‬
‫الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث‪ :‬من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الخبار وتحريف الكلم‬
‫عن مواضعه والغلو في على ونحو ذلك‪ .‬وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من‬
‫إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير على وعثمان‬
‫وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في اليمان‪.‬‬
‫ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة‪ .‬وكذلك متكلمة أهل الثبات مثل الكلبية والكرامية والشعرية‬
‫إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم المة بما أثبتوه من أصول اليمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة‬
‫والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية‬
‫والمعتزلة؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالت التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة‪ .‬فحسناتهم نوعان‪ :‬إما‬
‫موافقة أهل السنة والحديث‪ .‬وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم‪ .‬ولم يتبع أحد مذهب‬
‫الشعري ونحوه إل لحد هذين الوصفين أو كليهما‪ .‬وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه‬
‫وينتصر له بذلك‪ .‬فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه ‪ -‬كالبيهقي؛ والقشيري أبي القاسم؛ وابن عساكر‬
‫الدمشقي ‪ -‬إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم ل يحتجون له‬
‫عند المة وعلمائها وأمرائها إل بهذين الوصفين ولول أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك للحقوه بطبقته الذين لم‬
‫يكونوا كذلك كشيخه الول ]أبي على[; وولده ]أبي هاشم[‪ .‬لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في‬
‫الصفات؛ والقدر والمامة؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة‬
‫والقدرية؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم‪ :‬ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك؛ ويعرف له حقه وقدره }َقْد َ‬
‫جَع َ‬
‫ل‬
‫يٍء َقْدرًا{ ]الطلق‪ :‬من الية ‪ [3‬وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والتباع ما صار‪ .‬لكن‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬
‫ل ِلُك ّ‬
‫ا ُّ‬
‫الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله‪ :‬هي من جنس المجاهد المنتصر‪ .‬فالراد على أهل البدع مجاهد‬
‫حتى كان ]يحيى بن يحيى[ يقول‪] :‬الذب عن السنة أفضل من الجهاد[ والمجاهد قد يكون عدل في سياسته وقد ل‬
‫يكون وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ال يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام ل خلق‬
‫لهم( ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر ل محالة‬
‫وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره‪ :‬نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للسلم والسنة يشكر‬
‫على ذلك من هذا الوجه‪ .‬فحمد الرجال عند ال ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين ال وسنة رسوله‬
‫وشرعه من جميع الصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات‪ .‬والحسنات‪ :‬هي ما وافق طاعة ال ورسوله من‬
‫التصديق بخبر ال والطاعة لمره‪ .‬وهذا هو السنة‪ .‬فالخير كله ‪ -‬باتفاق المة ‪ -‬هو فيما جاء به الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة ال ورسوله إل بمخالفة ذلك‪ .‬ومن تكلم‬
‫فيه من العلماء والمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل اليمان بمخالفته السنة والشريعة‪ .‬وبهذا ذم السلف والئمة أهل‬
‫الكلم والمتكلمين الصفاتية كابن كرام؛ وابن كلب والشعري‪ .‬وما تكلم فيه من تكلم من أعيان المة وأئمتها‬
‫المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء؛ وأهل الحديث والصوفية إل بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث‬
‫لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه أو لقتضاء أصل قياس ‪ -‬مهدوه ‪ -‬رد ذلك كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية‪ .‬فإن‬
‫مخالفة المسلم الصحيح اليمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لعتقاده صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من‬
‫السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما ل يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع‬
‫الفرقة والختلف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة‪.‬‬

‫ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر السلم وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم‬
‫على المنابر؛ حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة‪ .‬فلعنوا الكلبية والشعرية‪ :‬كما كان في مملكة المير ]محمود بن‬
‫سبكتكين[ وفي دولة السلجقة ابتداء وكذلك الخليفة القادر؛ ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه‬
‫أمر القاضي ]أبي بكر[ ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب المام أحمد وموافقته ثم ولى النظام‬
‫وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي وفتواهما‬
‫حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية‪ .‬وقد قيل‪ :‬إن أبا إسحاق استعفي من ذلك فألزموه وأفتوا بأنه ل يجوز‬
‫لعنتهم ويعزر من يلعنهم وعلل الدامغاني‪ :‬بأنهم طائفة من المسلمين‪ .‬وعلل أبو إسحاق ‪ -‬مع ذلك ‪ :-‬بأن لهم ذبا وردا‬
‫على أهل البدع المخالفين للسنة فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إل بموافقة السنة والحديث‪ .‬وكذلك رأيت في فتاوى‬
‫الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها‪ - :‬ول يجوز شغل المساجد‬
‫عا وأما لبس الحلق والدمالج والسلسل والغلل‬ ‫بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزر فاعله تعزيًرا بليًغا راد ً‬
‫والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة‪ .‬وشر المور محدثاتها وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار وهي لهم في‬
‫الخرة إن ماتوا على ذلك‪ .‬ول يجوز السجود لغير ال من الحياء والموات ول تقبيل القبور ويعزر فاعله‪ .‬ومن لعن‬
‫أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا‪ .‬والمؤمن ل يكون لعانا وما أقر به من عود اللعنة عليه قال‪ :‬ول تحل‬
‫الصلة عند القبور ول المشي عليها من الرجال والنساء ول تعمل مساجد للصلة فإنه )اشتد غضب ال على قوم‬
‫اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(‪ .‬قال‪ :‬وأما لعن العلماء لئمة الشعرية فمن لعنهم عزر‪ .‬وعادت اللعنة عليه فمن لعن من‬
‫ليس أهل للعنة وقعت اللعنة عليه‪ .‬والعلماء أنصار فروع الدين والشعرية أنصار أصول الدين‪ .‬قال‪ :‬وأما دخولهم‬
‫النيران فمن ل يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال فإنه من‬
‫ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع فإن كان على الستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن‬
‫على الستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره‪ .‬فإن ال يضل‬
‫من ل خلق له بما يظهر على يدي هؤلء‪ .‬وأما من تمسك بالشرع الشريف‪ :‬فإنه لو رأى من هؤلء من يطير في‬
‫الهواء؛ أو يمشي على الماء؛ فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد‪ .‬انتهى‪ .‬فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن وأمر بتعزير‬
‫اللعن لجل ما نصروه من ]أصول الدين[ وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث والرد على من خالف‬
‫القرآن والسنة والحديث‪ .‬ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول‪] :‬إنما نفقت الشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة[‬
‫وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد ولهذا قال أبو القاسم بن‬
‫عساكر في مناقبه‪] :‬ما زالت الحنابلة والشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة[ ابن القشيري‬
‫ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها ل تجد من يمدح الشعري بمدحة؛ إل إذا وافق السنة والحديث ول يذمه من يذمه إل‬
‫بمخالفة السنة والحديث‪ .‬وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهاداتهم على أن‬
‫الحق في ذلك‪ .‬ولهذا تجد أعظمهم موافقة لئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه‪ .‬فالشعري نفسه لما‬
‫كان أقرب إلى قول المام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي ]أبو بكر بن الباقلني[‬
‫لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره‪ .‬وأما مثل الستاذ أبي المعالي؛ وأبي حامد؛ ونحوهما ممن خالفوا‬
‫أصوله في مواضع فل تجدهم يعظمون إل بما وافقوا فيه السنة والحديث وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في‬
‫الفقه الموافق للسنة والحديث ومما ذكروه في الصول مما يوافق السنة والحديث وما ردوه مما يخالف السنة‬
‫والحديث‪ .‬وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإل لم يصح ذلك‪ .‬وكانت الرافضة والقرامطة ‪ -‬علماؤها وأمراؤها ‪-‬‬
‫قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية حتى غلبت على الشام والعراق وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت‬
‫وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم‬
‫بخراسان وحجروهم بمصر‪ .‬وكان في وقتهم من الوزراء مثل‪] :‬نظام الملك[ ومن العلماء مثل‪] :‬أبي المعالي‬
‫الجويني[ فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلء ونحوهم لهم من المكانة عند المة بحسب ذلك‪.‬‬
‫وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه‪] :‬كأبي الوليد الباجي[ والقاضي ]أبي بكر بن العربي[ ونحوهما ل‬
‫يعظمون إل بموافقة السنة والحديث وأما الكابر‪ :‬مثل ]ابن حبيب[ و]ابن سحنون[ ونحوهما؛ فلون آخر‪ .‬وكذلك أبو‬
‫محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل ]القدر[ و‬
‫]الرجاء[ ونحو ذلك بخلف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة‪ .‬وكذلك ما ذكره في ]باب الصفات[ فإنه‬
‫يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت في الحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه‬
‫موافق للمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ول ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك‪ .‬لكن الشعري ونحوه أعظم‬
‫موافقة للمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الئمة في القرآن والصفات وإن كان ]أبو محمد بن حزم[ في مسائل‬
‫اليمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلسفة‬
‫والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلء في اللفظ‬
‫وهؤلء في المعنى‪ .‬وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر ل باطن له‬
‫كما نفي المعاني في المر والنهي والشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب‪ .‬مضموما إلى ما في‬
‫كلمه من الوقيعة في الكابر والسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر‪ .‬وإن كان له من اليمان والدين‬
‫والعلوم الواسعة الكثيرة ما ل يدفعه إل مكابر؛ ويوجد في كتبه من كثرة الطلع على القوال والمعرفة بالحوال؛‬
‫والتعظيم لدعائم السلم ولجانب الرسالة ما ل يجتمع مثله لغيره‪ .‬فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها‬
‫ظاهر الترجيح‪ .‬وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما ل يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء‪.‬‬
‫وتعظيم أئمة المة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الصول والفروع من القوال والعمال‪ :‬أكثر من أن يذكر هنا‪.‬‬
‫وتجد السلم واليمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت‬
‫البدع بحسب ذلك مثل‪ :‬دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم السلم واليمان ويغزو أعداءه من الكفار‬
‫والمنافقين‪ .‬كان أهل السنة في تلك اليام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل‪ .‬فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من‬
‫ل يحصي عدده إل ال ‪ ,‬والرشيد كان كثير الغزو والحج‪ .‬وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها‬
‫من أهل المشرق والعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال‪) :‬الفتنة هاهنا(; ظهر حينئذ‬
‫كثير من البدع وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب العاجم ‪ -‬من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين‬
‫الهند ‪ -‬وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانا وعدل وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك‪.‬‬
‫وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية فإن أولئك كانوا كثير الضاعة لمواقيت‬
‫الصلة كما جاءت فيهم الحاديث‪) :‬سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلة عن وقتها فصلوا الصلة لوقتها واجعلوا‬
‫صلتكم معهم نافلة(‪ .‬لكن كانت البدع في القرون الثلثة الفاضلة مقموعة وكانت الشريعة أعز وأظهر وكان القيام‬
‫بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم‪ .‬وفي دولة ]أبي العباس المأمون[ ظهر ]الخرمية[ ونحوهم من‬
‫المنافقين وعرب من كتب الوائل المجلوبة من بلد الروم ما انتشر بسببه مقالت الصابئين وراسل ملوك المشركين‬
‫من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة‪.‬‬

‫فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب؛ كان من أثر ذلك‪:‬‬
‫ما ظهر من استيلء الجهمية؛ والرافضة؛ وغيرهم من أهل الضلل وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة‪ .‬وذلك‬
‫بنوع رأي يحسبه صاحبه عقل وعدل وإنما هو جهل وظلم إذ التسوية بين المؤمن والمنافق؛ والمسلم والكافر أعظم‬
‫الظلم وطلب الهدى عند أهل الضلل أعظم الجهل فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت المة بنفي الصفات‬
‫والتكذيب بكلم ال ورؤيته وجرى من محنة المام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه‪ .‬وكان في أيام ]المتوكل[‬
‫قد عز السلم حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية؛ وألزموا الصغار فعزت السنة والجماعة وقمعت الجهمية‬
‫والرافضة ونحوهم‪ .‬وكذلك في أيام ]المعتضد[ والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن‬
‫طريقة من غيرهم‪ .‬وكان السلم في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك‪ .‬وفي دولة ]بني بويه[ ونحوهم‪ :‬المر‬
‫بالعكس فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة‪ .‬قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة‬
‫وهذه الشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم‪ .‬فحصل في أهل السلم والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى‬
‫النصارى على ثغور السلم وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك وجرت حوادث‬
‫كثيرة‪ .‬ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه‪ :‬كان السلم والسنة في مملكته أعز فإنه‬
‫غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله‪ .‬فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه‬
‫مقموعة‪ .‬وكذلك السلطان ]نور الدين محمود[ الذي كان بالشام؛ عز أهل السلم والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل‬
‫البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم‪ .‬وكذلك ما كان في زمنه من خلفة بني‬
‫العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزراء السلم‪ .‬ولهذا كان له من العناية بالسلم والحديث ما ليس‬
‫لغيره‪ .‬وما يوجد من إقرار أئمة الكلم والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلل ومن شهادة أئمة‬
‫الكلم والفلسفة بعضهم على بعض كذلك؛ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى‬
‫مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير وأئمة السنة والحديث ل يرجع منهم أحد لن ]اليمان حين تخالط بشاشته‬
‫القلوب ل يسخطه أحد[ وكذلك ما يوجد من شهادتهم لهل الحديث بالسلمة والخلص من أنواع الضلل وهم ل‬
‫يشهدون لهل البدع إل بالضلل‪ .‬وهذا باب واسع كما قدمناه‪ .‬وجميع الطوائف المتقابلة من أهل الهواء تشهد لهم‬
‫بأنهم أصلح من الخرىن وأقرب إلى الحق فنجد كلم أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلم أهل الملل مع‬
‫المسلمين وحالهم معهم‪ .‬وإذا قابلنا بين الطائفتين ‪ -‬أهل الحديث وأهل الكلم ‪ -‬فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل‬
‫الجماعة بحشو القول‪ :‬إنما يعيبهم بقلة المعرفة؛ أو بقلة الفهم‪ .‬أما الول‪ :‬فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة؛‬
‫أو بآثار ل تصلح للحتجاج‪ .‬وأما الثاني‪ :‬فبأن ل يفهموا معنى الحاديث الصحيحة بل قد يقولون القولين المتناقضين‬
‫ول يهتدون للخروج من ذلك‪ .‬والمر راجع إلى شيئين‪ - :‬إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة كالحاديث‬
‫الموضوعة وإما أقوال مفيدة لكنهم ل يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أول إلى صحة الحديث‪ .‬وثانيا إلى فهم‬
‫معناه كاتباع القرآن‪ .‬فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين‪ .‬ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا‪ .‬ول ريب‬
‫أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل ]الصول والفروع[ وبآثار مفتعلة وحكايات غير‬
‫صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما ل يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير‬
‫موضعه‪ .‬ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان المة‬
‫ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا‬
‫من القول وزورا وقد يكون من البدع والضللت التي توجب غليظ العقوبات فهذا ل ينكره إل جاهل أو ظالم وقد‬
‫رأيت من هذا عجائب‪ .‬لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ول ريب أن في كثير من‬
‫المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما ل يعلمه إل من أحاط بكل شيء علما لكن كل شر يكون في بعض‬
‫المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أن ما ذكر من فضول الكلم الذي ل يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق ‪ -‬هو في أهل‬
‫الكلم والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث؛ فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج‬
‫هؤلء بالحدود والقيسة الكثيرة العقيمة؛ التي ل تفيد معرفة؛ بل تفيد جهل وضلل وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث ل‬
‫يفهمون معناها تكلف هؤلء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول المام أحمد‪] :‬ضعيف‬
‫الحديث خير من رأي فلن[‪.‬‬

‫ثم لهل الحديث من المزية‪ :‬أن ما يقولونه من الكلم الذي ل يفهمه بعضهم هو كلم في نفسه حق وقد آمنوا بذلك‬
‫وأما المتكلمة‪ :‬فيتكلفون من القول ما ل يفهمونه ول يعلمون أنه حق وأهل الحديث ل يستدلون بحديث ضعيف في‬
‫نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس‬
‫الفاسدة في نقض الصول الحقة الثابتة‪.‬‬

‫حوا ِبَما‬
‫ت َفِر ُ‬
‫سُلُهْم ِباْلَبّيَنا ِ‬
‫جاَءْتُهْم ُر ُ‬ ‫إذا عرف هذا فقد قال ال تعالى عن أتباع الئمة من أهل الملل المخالفين للرسل }َفَلّما َ‬
‫سول{‬ ‫طْعَنا الّر ُ‬
‫ل َوَأ َ‬ ‫طْعَنا ا َّ‬
‫ن َيا َلْيَتَنا َأ َ‬
‫جوُهُهْم ِفي الّناِر َيُقوُلو َ‬ ‫ن اْلِعْلِم{ ]غافر‪ :‬من الية ‪ [83‬وقال تعالى‪َ} :‬يْوَم ُتَقّل ُ‬
‫ب ُو ُ‬ ‫عْنَدُهْم مِ َ‬
‫ِ‬
‫]الحزاب‪ [66:‬إلى قوله‪َ} :‬واْلَعْنُهْم َلْعنًا َكِبيرًا{ ]الحزاب‪ :‬من الية ‪ [68‬ومثل هذا في القرآن كثير؛ وإذا كانت سعادة‬
‫الدنيا والخرة هي باتباع المرسلين‪ ،‬فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم؛ لذلك‬
‫فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان‪ ،‬وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة‪،‬‬
‫وهم أهل السنة والحديث من هذه المة‪ ،‬فإنهم يشاركون سائر المة فيما عندهم من أمور الرسالة؛ ويمتازون عنهم بما‬
‫اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به والرسل ـ صلوات ال وسلمه عليهم ـ‬
‫عليهم البلغ المبين‪ ،‬وقد بلغوا البلغ المبين وخاتم الرسل محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ أنزل ال كتابه مصدقا لما‬
‫بين يديه من الكتاب ومهيمًنا عليه فهو المين على جميع الكتب؛ وقد بلغ أبين البلغ وأتمه وأكمله‪ ،‬وكان أنصح الخلق‬
‫لعباد ال‪ ،‬وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيًما بلغ الرسالة وأدى المانة وجاهد في ال حق جهاده وعبد ال حتى أتاه اليقين‬
‫ل‪.‬‬
‫فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعم ً‬
‫وأما غير اتباعه من أهل الكلم؛ فالكلم في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم وهذا يدخل‬
‫فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلسفة فالكلم في هذا المقام واسع ل ينضبط هنا‪ ،‬لكن‬
‫المعلوم من حيث الجملة أن الفلسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقول للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم‬
‫ودلئلهم ل يكاد ـ وال أعلم ـ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من‬
‫المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الحتلم كل ما يقوله هؤلء ففيه باطل إما في الدلئل وإما في‬
‫المسائل‪ ،‬إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة؛ وإما‬

‫ل فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظمها؛ وذكر مسألة التوحيد‪ .‬فقلت التوحيد حق لكن اذكر ما شئت‬ ‫أن تكون المسألة باط ً‬
‫من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه وكان أيضا من‬
‫المتعصبين لهم فذكر ذلك له قال فأخذ يعظم ذلك علي فقلت أنا ل أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين‬
‫ويدلك على ذلك أمور أحدها أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه‬
‫في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على العتراض‬
‫والقدح والجدل ومن المعلوم أن العتراض والقدح ليس بعلم ول فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة‬
‫العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الخر وقد قيل إن‬
‫الشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الدلة يعني أدلة‬
‫علم الكلم فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلم فيها وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الدلة والهدى في طريقهم كما‬
‫ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلم وهذا أبو عبدال‬
‫الرازي من أعظم الناس في هذا الباب باب الحيرة والشك والضطراب لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة‬
‫في التشكيك دون التحقيق بخلف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق لكن بعض الناس قد يثبت على‬
‫باطل محض بل ل بد فيه من نوع من الحق وكان من فضلء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلم ابن واصل‬
‫الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالت وحجج هؤلء وهؤلء‬
‫واعتراض هؤلء وهؤلء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا أنشد الخطابي حجج تهافت كالزجاج تخالها‬
‫حقا وكل كاسر مكسور فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا وكيف يليق بمثل‬
‫هؤلء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين‬
‫يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون ل يشكون ول يمترون فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم‬
‫من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه‬
‫شيء لئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد غاية ما يقوله أحدهم أنهم جزموا بغير دليل وصمموا‬
‫بغير حجة وإنما معهم التقليد وهذا القدر قد يكون في كثير من العامة لكن جزم العلم غير جزم الهوى فالجازم بغير‬
‫علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به‪ ،‬والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم اذ كون النسان عالما وغير عالم‬
‫ضا‬
‫مثل كونه سامًعا ومبصًرا وغير سامع ومبصر فهو يعلم من نفسه ذلك مثل ما يعلم من نفسه كونه محًبا ومبغ ً‬
‫ومريًدا وكارًها ومسروًرا ومحزوًنا ومنعًما ومعذًبا وغير ذلك ومن شك في كونه يعلم مع كونه يعلم فهو بمنزلة من‬
‫جزم بأنه علم وهو ل يعلم وذلك نظير من شك في كونه سمع ورأى أو جزم بأنه سمع ورأى ما لم يسمعه ويراه‬
‫والغلط أو الكذب يعرض للنسان في كل واحد من طرفي النفي والثبات لكن هذا الغلط أو الكذب العارض ل يمنع‬
‫أن يكون النسان جازًما بما ل يشك فيه من ذلك كما يجزم بما يجده من الطعوم والراييح وإن كان قد يعرض له من‬
‫النحراف ما يجد به الحلو مرا فالسباب العارضة لغلط الحس والباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض‬
‫لحركة البدن والنفس والصل هو الصحة في الدراك وفي الحركة فإن ال خلق عباده على الفطرة وهذه المور يعلم‬
‫الغلط فيها بأسبابها الخاصة كالمرة الصفراء العارضة للطعم وكالحول في العين ونحو ذلك وإل فمن حاسب نفسه‬
‫على ما يجزم به وجد أكثر الناس الذين يجزمون بما ل يجزم به إنما جزمهم لنوع من الهوى كما قال تعالى وإن كثيرا‬
‫ليضلون بأهوائهم بغير علم وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من ال ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون‬
‫على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الهواء وأما النصارى فأعظم ضلل منهم وإن‬
‫كانوا في العادة والخلق أقل منهم شرا فليسوا جازمين بغالب ضللهم بل عند العتبار تجد من ترك الهوى من‬
‫الطائفتين ونظر نوع نظر تبين له السلم حقا والمقصود هنا أن معرفة النسان بكونه يعلم أو ل يعلم مرجعه إلى‬
‫وجود نفسه عالمة ولهذا ل نحتج على منكر العلم إل بوجودنا نفوسنا عالمة كما احتجوا على منكري الخبار‬
‫المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه وجعل المحققون وجود العلم بخبر من‬
‫الخبار هو الضابط في حصول التواتر إذ لم يحدوه بعدد ول صفة بل متى حصل العلم كان هو المعتبر والنسان يجد‬
‫نفسه عالمة وهذا حق فإنه ل يجوز أن يستدل النسان على كونه عالما بدليل فإن علمه بمقدمات ذلك الدليل يحتاج إلى‬
‫أن يجد نفسه عالمة بها فلو احتاج علمه بكونه عالما إلى دليل أفضى إلى الدور أو التسلسل ولهذا ل يحس النسان‬
‫بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيا أو إن كان نظريا إذا علم المقدمتين وبهذا استدل على منكري إفادة النظر‬
‫العلم وإن كان في هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه فالغرض أن من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند‬
‫علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلل أو غير ذلك والعلم‬
‫يحصل في النفس كما تحصل سائر الدراكات والحركات بما يجعله ال من السباب وعامة ذلك بملئكة ال تعالى‬
‫فإن ال سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء ولهذا قال النبي ـ صلى ال عليه وسلم‬
‫ب ِفي ُقُلوِبِهُم اِْليَماَن َوَأّيَدُهْم ِبُروٍح ِمْنُه{ ]المجادلة‪ :‬من الية‬ ‫ـ‪) :‬لحسان اللهم أيده بروح القدس( وقال تعالى‪ُ} :‬أوَلِئ َ‬
‫ك َكَت َ‬
‫‪ [22‬وقال‪ :‬ـ صلى ال عليه وسلم ـ )من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه‬
‫أنزل ال عليه ملكا يسدده( وقال عبدال بن مسعود‪ :‬كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال ابن مسعود‬
‫ضا أن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق‬ ‫أي ً‬
‫وهذا الكلم الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ وهو كلم‬
‫جامع لصول ما يكون من العبد من علم وعمل من شعور وإرادة وذلك أن العبد له قوة الشعور والحساس والدراك‬
‫وقوة الرادة والحركة وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها والثانية مستلزمة للولى ومكملة لها فهو بالولى يصدق‬
‫بالحق ويكذب بالباطل وبالثانية يحب النافع الملئم له ويبغض الضار المنافي له وال سبحانه خلق عباده على الفطرة‬
‫التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ومعرفة النافع الملئم والمحبة له ومعرفة الضار‬
‫المنافي والبغض له بالفطرة فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة فأحبته واطمأنت‬
‫إليه وذلك هو المعروف وما كان باطل معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة فانكرته قال تعالى يأمرهم‬
‫بالمعروف وينهاهم عن المنكر والنسان كما سماه النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ )حيث قال أصدق السماء حارث‬
‫وهمام( فهو دائما يهم ويعمل لكنه ل يعمل إل ما يرجو نفعه أو دفع مضرته ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبينا على‬
‫اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فل يكون نافعا ول ضارا وإما في الوسيلة فل تكون طريقا إليه وهذا جهل وقد يعلم‬
‫أن هذا الشيء يضره ويفعله ويعلم أنه ينفعه ويتركه لن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى او دفع ألم‬
‫آخر جاهل ظالما حيث قدم هذا على ذاك ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ عن قوله‬
‫ب{ ]النساء‪ :‬من الية ‪ [17‬فقالوا كل من عصى‬ ‫ن َقِري ٍ‬ ‫ن ِم ْ‬
‫جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ‬
‫سوَء ِب َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬ ‫تعالى‪ِ} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬
‫عَلى ا ِّ‬
‫ال فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وإذا كان النسان ل يتحرك إل راجيا وإن كان راهبا خائفا‬
‫لم يسع إل في النجاة ولم يهرب إل من الخوف فالرجاء ل يكون إل بما يلقى في نفسه من اليعاد بالخير الذي هو‬
‫طلب المحبوب أو فوات المكروه فكل بني آدم له اعتقاد فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء وله قصد وإرادة لما يرجوه‬
‫مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه أو لوجود المحبوب عنده أو لدفع المكروه عنه؛ وال خلق العبد يقصد الخير‬
‫فيرجوه بعمله فإذا كذب بالحق فلم يصدق به ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسًرا بترك تصديق الحق وطلب‬
‫الخير فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر فذكر عبدال بن مسعود أن لقلب‬
‫ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان؛ فلمة الملك تصديق بالحق‪ ،‬وهو ما كان من غير جنس العتقاد الفاسد‪ ،‬ولمة‬
‫الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر؛ وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده‪ ،‬أما مع رجائه إن كان مع‬
‫هوى نفس وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها وكل من الرجاء والخوف مستلزم للخر‪.‬‬

‫فمبدأ العلم الحق والرادة الصالحة‪ ،‬من لمة الملك‪ ،‬ومبدأ العتقاد الباطل والرادة الفاسدة‪ ،‬من لمة الشيطان‪ ،‬قال ال‬
‫ل{ ]البقرة‪ :‬من الية ‪] [268‬البقرة‪ ،[268:‬وقال‬ ‫ضً‬‫ل َيِعُدُكْم َمْغِفَرًة ِمْنُه َوَف ْ‬
‫شاِء َوا ُّ‬
‫حَ‬‫ن َيِعُدُكُم اْلَفْقَر َوَيْأُمُرُكْم ِباْلَف ْ‬
‫طا ُ‬ ‫تعالى‪} :‬ال ّ‬
‫شْي َ‬
‫طا ُ‬
‫ن‬ ‫شْي َ‬ ‫ف َأْوِلَياءُه{ ]آل عمران‪ [175:‬أي‪ :‬يخوفكم أولياءه‪ ،‬وقال تعالى‪َ}:‬وِإْذ َزّي َ‬
‫ن َلُهُم ال ّ‬ ‫خّو ُ‬ ‫ن ُي َ‬‫طا ُ‬‫شْي َ‬‫تعالى‪ِ} :‬إّنَما َذِلُكُم ال ّ‬
‫س َوِإّني َجاٌر ّلُكْم{]النفال‪[48:‬‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ب َلُكُم اْلَيْوَم ِم َ‬‫غاِل َ‬ ‫ل َ‬‫ل َ‬ ‫عَماَلُهْم َوَقا َ‬
‫َأ ْ‬

‫خّناس‪ ،‬إذا ذكر العبد ربه خنس‪ ،‬فإذا غفل عن ذكره وسوس؛ فلهذا كان ترك ذكر ال سبًبا ومبدأ‬ ‫سواس َ‬ ‫والشيطان َو ْ‬
‫ن ذكر ال ـ تعالى ـ تلوة كتابه وفهمه‪ ،‬ومذاكرة العلم‪ ،‬كما قال‬
‫لنزول العتقاد الباطل والرادة الفاسدة في القلب‪ ،‬وِم ْ‬
‫معاذ بن جبل‪ :‬ومذاكرته تسبيح‪.‬‬

‫وقد تنازع أهل الكلم في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ذلك على سبيل التولد‪ .‬وقال‬
‫المنكرون للتولد‪ :‬بل ذلك بفعل ال ـ تعالى‪ .‬والنظر إما متضمن للعلم وإما موجب له‪ ،‬وهذا ينصره المنتسبون للسنة‬
‫من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم‪ ،‬وقالت المتفلسفة‪ :‬بل ذلك يحصل‬
‫بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفس لقبول الفيض‪ .‬وقد يزعمون أن العقل الفعال هو جبريل‪.‬‬
‫فأما قول القائلين‪ :‬إن ذلك بفعل ال‪ ،‬فهو صحيح؛ بناء على أن ال هو معلم كل علم وخالق كل شىء‪ ،‬لكن هذا كلم‬
‫مجمل ليس فيه بيان لنفس السبب الخاص‪ ،‬وأما قول القائلين بالتولد‪ ،‬فبعضه حق وبعضه باطل‪ ،‬فإن كان دعواهم أن‬
‫العلم المتولد هو حاصل بمجرد قدرة العبد‪ ،‬فذلك باطل قطًعا‪ ،‬ولكن هو حاصل بأمرين‪ :‬قدرة العبد‪ ،‬والسبب الخر‪،‬‬
‫كالقوة التي في السهم والقبول الذي في المحل‪ ،‬ول ريب أن النظر هو بسبب‪ ،‬ولكن الشأن فيما به يتم حصول العلم‪.‬‬

‫وأما زعم المتفلسفة أنه بالعقل الفعال‪ ،‬فمن الخرافات التي ل دليل عليها‪ ،‬وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل‪،‬‬
‫وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالتها‪ ،‬فهو من فيضه وبسببه‪ ،‬فهو من أبطل‬
‫الباطل‪.‬‬

‫ولكن إضافتهم ذلك إلى أمور روحانية صحيح في الجملة؛ فإن ال ـ سبحانه وتعالى ـ يدبر أمر السموات والرض‬
‫بملئكته التي هي السفراء في أمره‪ ،‬ولفظ ]الملك[ يدل على ذلك‪ ،‬وبذلك أخبرت النبياء‪ ،‬وقد شهد الكتاب والسنة من‬
‫ذلك بما ل يتسع هذا الموضع لذكره‪ ،‬كما ذكره النبي صلى ال عليه وسلم في ملئكة تخليق الجنين وغيره‪.‬‬

‫وأما تخصيص روح واحد متصل بفلك القمر‪ ،‬يكون هو رب هذا العالم‪ ،‬فهذا باطل‪ ،‬وليس هذا موضع استقصاء ذلك‪،‬‬
‫ولكن لبد أن ُيْعلم أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملئكة‪ ،‬أو الشياطين‪ ،‬فالملك يلقي التصديق بالحق والمر‬
‫بالخير‪ ،‬والشيطان يلقي التكذيب بالحق والمر بالشر‪ .‬والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر النسان‪ ،‬كما أن المر‬
‫والنهي مقرونان بإرادته‪.‬‬

‫فإذا كان النظر في دليل هاد ـ كالقرآن ـ وسلم من معارضات الشيطان تضمن ذلك النظر العلم والهدي؛ ولهذا أمر‬
‫العبد بالستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة‪ .‬وإذا كان النظر في دليل مضل والناظر يعتقد صحته‪ ،‬بأن تكون‬
‫مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل‪ ،‬أو تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف ليس بمستقيم‪ ،‬فإنه يصير في القلب بذلك‬
‫اعتقاد فاسد‪ ،‬وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم‪.‬‬

‫فإذا كان الناظر لبد له من منظور فيه‪ ،‬والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه ل يفيد علًما‪ ،‬بل ربما خطر له‬
‫بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات‪ ،‬يحسبها أدلة‪ ،‬لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك‬
‫التصور‪.‬‬

‫وأما النظر المفيد للعلم‪ ،‬فهو ما كان في دليل هاد‪ ،‬والدليل الهادي ـ على العموم والطلق ـ هو ]كتاب ال[‪ ،‬و]سنة‬
‫نبيه[ فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر‪ ،‬هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى‪ ،‬وهو بذكر ال وما نزل من‬
‫الحق‪.‬‬

‫فإذا أراد النظر والعتبار في الدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب‪ ،‬فذلك النظر في كتاب ال وتدبره‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ت ِإَلى الّنوِر ِبِإْذِنِه َوَيْهِديِهْم ِإَلى‬
‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جُهم ّم ِ‬‫خِر ُ‬‫لمِ َوُي ْ‬
‫سَ‬‫ل ال ّ‬ ‫سُب َ‬‫ضَواَنُه ُ‬ ‫ن اّتَبَع ِر ْ‬
‫ل َم ِ‬ ‫ن َيْهِدي ِبِه ا ّ‬
‫ب ّمِبي ٌ‬
‫ل ُنوٌر َوِكَتا ٌ‬‫نا ّ‬ ‫جاءُكم ّم َ‬ ‫}َقْد َ‬
‫ليَما ُ‬
‫ن‬ ‫ل ا ِْ‬ ‫ب َو َ‬‫ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ‬‫ن َأْمِرَنا َما ُكن َ‬
‫حا ّم ْ‬ ‫ك ُرو ً‬‫حْيَنا ِإَلْي َ‬ ‫سَتِقيٍم{ ]المائدة‪ ،[16، 15 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَكَذِل َ‬
‫ك َأْو َ‬ ‫ط ّم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬
‫ِ‬
‫ض‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوَما ِفي ا َْ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ‬‫ط ا ِّ‬
‫صَرا ِ‬‫سَتِقيٍم ِ‬‫ط ّم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ‬ ‫عَباِدَنا َوِإّن َ‬
‫ن ِ‬
‫شاء ِم ْ‬‫ن ّن َ‬‫َوَلِكن جََعْلَناُه ُنوًرا ّنْهِدي ِبِه َم ْ‬
‫صيُر الُموُر{ ]الشورى‪.[53،52:‬‬ ‫ل َت ِ‬ ‫ل ِإَلى ا ِّ‬‫َأ َ‬

‫وأما النظر في مسألة معينة وقضية معينة‪ ،‬لطلب حكمها والتصديق بالحق فيها‪ ،‬والعبد ل يعرف ما يدله على هذا أو‬
‫هذا فمجرد هذا النظر ل يفيد بل قد يقع له تصديقات يحسبها حًقا وهي باطل‪ ،‬وذلك من إلقاء الشيطان‪ ،‬وقد يقع له‬
‫تصديقات تكون حًقا‪ ،‬وذلك من إلقاء الملك ‪.‬‬

‫وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن‪ ،‬فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن‪،‬‬
‫ن َما‬ ‫ن اْلُقْرآ ِ‬ ‫وقد ل يفهمه‪ ،‬أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به‪ ،‬ويكون ذلك من الشيطان‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وُنَنّز ُ‬
‫ل ِم َ‬
‫ل ِبِه‬
‫ضّ‬‫ل ِبِه َكِثيرًا َوَيْهِدي ِبِه َكِثيرًا َوَما ُي ِ‬
‫ضّ‬ ‫ساًرا{ ]السراء‪ ،[82:‬وقال‪ُ} :‬ي ِ‬ ‫خَ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َإ ّ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل َيِزيُد ال ّ‬ ‫ن َو َ‬
‫حَمٌة ّلْلُمْؤِمِني َ‬
‫شَفاء َوَر ْ‬
‫ُهَو ِ‬
‫سا ِإَلى‬‫جً‬‫ض َفَزاَدْتُهْم ِر ْ‬
‫ن ِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ‬ ‫ن َوَأّما اّلِذي َ‬
‫شُرو َ‬‫سَتْب ِ‬ ‫ل{ ]البقرة‪ ،[26:‬وقال‪َ} :‬فَأّما اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوْا َفَزاَدْتُهْم ِإيَماًنا َوُهْم َي ْ‬ ‫ِإ ّ‬
‫عًمى{‬ ‫عَلْيِهْم َ‬
‫ن ِفي آَذاِنِهْم َوْقٌر َوُهَو َ‬
‫ل ُيْؤِمُنو َ‬
‫ن َ‬ ‫شَفاء َوالِّذي َ‬
‫ن آَمُنوا ُهًدى َو ِ‬ ‫ل ُهَو ِلّلِذي َ‬‫سِهْم{ ]التوبة‪ ،[125 ،124:‬وقال‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫جِ‬
‫ِر ْ‬
‫ظٌة ّلْلُمّتِقيَن{ ]آل عمران‪.[138:‬‬ ‫عَ‬ ‫س َوُهًدى َوَمْو ِ‬ ‫]فصلت‪ ،[44 :‬وقال‪َ} :‬هـَذا َبَيا ٌ‬
‫ن ّللّنا ِ‬
‫فالناظر في الدليل بمنزلة المترائى للهلل قد يراه‪ ،‬وقد ل يراه لعشى في بصره‪ ،‬وكذلك أعمى القلب‪.‬‬

‫وأما الناظر في المسألة‪ ،‬فهذا يحتاج إلى شيئين‪ :‬إلى أن يظفر بالدليل الهادي‪ ،‬وإلى أن يهتدي به وينتفع‪ .‬فأمره الشرع‬
‫بما يوجب أن ينزل على قلبه السباب الهادية‪ ،‬ويصرف عنه السباب المعوقة‪ ،‬وهو ذكر ال ـ تعالى ـ والغفلة عنه‪،‬‬
‫فإن الشيطان وسواس خناس‪ ،‬فإذا ذكر العبد ربه خنس‪ ،‬وإذا غفل عن ذكر ال وسوس‪.‬‬

‫وذكر ال يعطي اليمان وهو أصل اليمان‪ .‬وال ـ سبحانه ـ هو رب كل شىء ومليكه‪ ،‬وهو معلم كل علم وواهبه‪،‬‬
‫فكما أن نفسه أصل لكل شىء موجود‪ ،‬فذكره‪ ،‬والعلم به أصل لكل علم‪ ،‬وذكره في القلب‪.‬‬

‫والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد اليمان‪ ،‬كما قال جندب بن عبد ال البجلي وغيره من الصحابة‪ :‬تعلمنا اليمان‪ ،‬ثم‬
‫ق{ ]العلق‪ ،[1:‬فأمره أن‬ ‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫سِم َرّب َ‬ ‫تعلمنا القرآن‪ ،‬فازددنا إيماًنا‪ .‬ولهذا كان أول ما أنزل ال على نبيه‪{:‬اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫ن ِم ْ‬
‫ن‬ ‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫خَلقَ ا ِْ‬
‫ق َ‬
‫خَل َ‬
‫ك اّلِذي َ‬
‫سِم َرّب َ‬ ‫يقرأ باسم ال‪ ،‬فتضمن هذا المر بذكر ال‪ ،‬وما نزل من الحق‪ ،‬وقال‪{:‬اْقَرْأ ِبا ْ‬
‫ن َما َلْم َيْعَلْم{ ]العلق‪1 :‬ـ ‪. [ 5‬‬‫سا َ‬
‫لن َ‬
‫عّلَم ا ِْ‬
‫عّلَم ِباْلَقَلِم َ‬
‫لْكَرُم اّلِذي َ‬
‫ك ا َْ‬
‫ق اْقَرْأ َوَرّب َ‬
‫عَل ٍ‬
‫َ‬

‫صا ـ وهو النسان‪ ،‬وأنه المعلم للعلم ـ عموًما‬


‫فذكر ـ سبحانه ـ أنه خلق أكرم العيان الموجودة ـ عموًما وخصو ً‬
‫صا ـ للنسان‪ ،‬وذكر التعليم بالقلم الذي هو آخر المراتب؛ ليستلزم تعليم القول وتعليم العلم الذي في القلب‪.‬‬
‫وخصو ً‬

‫وحقيقة المر‪ :‬أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى‪ ،‬طالب سائل‪ ،‬فبذكر ال والفتقار إليه يهديه ال ويدله‪،‬‬
‫ل إل من هديته‪ ،‬فاستهدوني أهدكم( ‪ ،‬وكما كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬اللهم‬ ‫ضا ّ‬
‫كما قال‪) :‬يا عبادي‪ ،‬كلكم َ‬
‫رب جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات والرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه‬
‫يختلفون‪ ،‬اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك‪ ،‬إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم(‪.‬‬

‫ومما يوضح ذلك‪ :‬أن الطالب للعلم بالنظر والستدلل‪ ،‬والتفكر والتدبر‪ ،‬ل يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده‬
‫العلم بالمدلول عليه‪ ،‬ومتى كان العلم مستفاًدا بالنظر‪ ،‬فل بد أن يكون عنـد الناظر مـن العلـم المذكـور الثابـت في قلبه‬
‫ل وسبًبا للتفكر الذي يطلب به معلوًما آخر؛ ولهذا كان الذكر‬ ‫ما ل يحتاج حصوله إلى نظر‪ ،‬فيكون ذلك المعلوم أص ً‬
‫ل ِقَياًما‬
‫نا ّ‬ ‫متعلًقا بال؛ لنه ـ سبحانه ـ هو الحق المعلوم‪ ،‬وكان التفكر في مخلوقاته‪ ،‬كما قال ال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َيْذُكُرو َ‬
‫ض{ ]آل عمران‪.[191:‬‬ ‫لْر ِ‬‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ق ال ّ‬
‫خْل ِ‬
‫ن ِفي َ‬
‫جُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ‬
‫ى ُ‬
‫عَل َ‬
‫َوُقُعوًدا َو َ‬

‫وقد جاء الثر‪) :‬تفّكروا في المخلوق ول تتفكروا في الخالق(؛ لن التفكير والتقدير يكون في المثال المضروبة‪،‬‬
‫والمقاييس‪ ،‬وذلك يكون في المور المتشابهة‪ ،‬وهي المخلوقات ‪.‬‬

‫وأما الخالق ـ جل جلله‪ ،‬سبحانه وتعالى ـ فليس له شبيه ول نظير‪ ،‬فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه‪،‬‬
‫وإنما هو معلوم بالفطرة‪ ،‬فيذكره العبد‪ .‬وبالذكر‪ ،‬وبما أخبر به عن نفسه‪ ،‬يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة‪ ،‬ل‬
‫تنال بمجرد التفكير والتقدير ـ أعني من العلم به نفسه‪ ،‬فإنه الذي ل تفكير فيه‪.‬‬

‫فأما العلم بمعاني ما أخبر به‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة؛ ولهذا كان كثير من‬
‫أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملزمة الذكر‪ ،‬ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق‪ .‬وهذا حسن‪ ،‬إذا ضموا‬
‫إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك‪ ،‬وكثير من أرباب النظر والكلم يأمرون بالتفكر والنظر‪ ،‬ويجعلون ذلك هو‬
‫الطريق إلى معرفة الحق‪.‬‬

‫والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل ـ كما تقدم ـ فكل من الطريقين فيها حق‪ ،‬لكن يحتاج إلى الحق الذي في‬
‫الخرى‪ ،‬ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل‪ ،‬وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون‪ ،‬وقد بسطنا الكلم‬
‫في هذا في غير هذا الموضع‪ ،‬وبينا طرق أهل العبادة والرياضة والذكر‪ ،‬وطريق أهل الكلم والنظر والستدلل‪،‬‬
‫وما في كل منهما من مقبول ومردود‪ ،‬وبينا ما جاءت به الرسالة من الطريق الكاملة الجامعة لكل حق‪ ،‬وليس هذا‬
‫موضع بسط ذلك‪.‬‬

‫وإنما المقصود هنا أن النسان محس بأنه عالم‪ ،‬يجد ذلك ويعرفه بغير واسطة أحد‪،‬كما يحس بغير ذلك‪.‬‬
‫وحصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم‪ ،‬فالجسم يحس بالطعام والشراب‪ ،‬وكذلك القلوب تحس بما يتنزل‬
‫إليها من العلوم التي هي طعامها‪ ،‬وشرابها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته‪،‬‬
‫ل َزَبًدا ّراِبًيا َوِمّما ُيوِقُدو َ‬
‫ن‬ ‫سْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫حَتَم َ‬
‫ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرَها َفا ْ‬
‫ساَل ْ‬
‫سَماء َماء َف َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫وإن مأدبة ال هي القرآن(‪ ،‬وكما قال تعالى‪َ} :‬أنَز َ‬
‫ل ِم َ‬
‫َعَلْيِه ِفي الّناِر اْبِتَغاء ِحْلَيٍة َأْو َمَتاٍع َزَبٌد ّمْثُلُه{ ]الرعد‪ ،[17:‬وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه‬
‫ضا‪ ،‬فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت‬ ‫وسلم‪ ،‬قال‪) :‬مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أر ً‬
‫الكل والعشب الكثير‪ ،‬وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا‪ ،‬وكانت منها طائفة إنما هي قيعان ل‬
‫تمسك ماء ول تنبت كل فذلك مثل من فقه في دين ال‪ ،‬ونفعه ما بعثني ال به من الهدى والعلم‪ ،‬ومثل من لم يرفع‬
‫سا‪ ،‬ولم يقبل هدى ال الذي أرسلت به(‪.‬‬ ‫بذلك رأ ً‬

‫فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الرض‪.‬‬

‫وكما أن ل ملئكة موكلة بالسحاب والمطر‪ ،‬فله ملئكة موكلة بالهدى والعلم‪ ،‬هذا رزق القلوب وقوتها‪ ،‬وهذا رزق‬
‫الجساد وقوتها‪ ،‬قال الحسن البصري في قوله تعالى‪َ} :‬وِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقوَن{ ]البقرة‪ ،3:‬النفال‪ ،3:‬الحج‪،35:‬‬
‫القصص‪ ،54:‬السجدة‪ ،16:‬الشورى‪ ،[38:‬قال‪ :‬إن من أعظم النفقة نفقة العلم‪ ،‬أو نحو هذا الكلم‪ .‬وفي أثر آخر‪:‬‬
‫نعمت العطية‪ ،‬ونعمت الهدية‪ ،‬الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم‪ .‬وفي أثر آخر عن أبي‬
‫الدرداء‪ :‬ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين‪ ،‬فيتفرقون وقد نفعهم ال بها‪ .‬أو ما يشبه‬
‫هذا الكلم‪.‬‬

‫جَرة قال‪ :‬أل أهدي لك هدية؟ فذكر الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وروى ابن ماجه في‬ ‫عْ‬
‫وعن كعب بن ُ‬
‫سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ ) :‬أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علًما‪ ،‬ثم يعلمه أخاه‬
‫المسلم(‪ .‬وقال معاذ بن جبل‪ :‬عليكم بالعلم‪ ،‬فإن طلبه عبادة‪ ،‬وتعلمه ل حسنة‪ ،‬وبذله لهله قربة‪ ،‬وتعليمه لمن ل يعلمه‬
‫صدقة‪ ،‬والبحث عنه جهاد‪ ،‬ومذاكرته تسبيح‪.‬‬

‫ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شىء‪ ،‬حتى الحيتان في البحر‪ ،‬وال وملئكته يصلون على معلم الناس الخير‪،‬‬
‫لما في ذلك من عموم النفع لكل شىء‪ .‬وعكسه كاتمو العلم‪ ،‬فإنهم يلعنهم ال ويلعنهم اللعنون‪ ،‬قال طائفة من السلف‪:‬‬
‫طر بسبب‬ ‫طُر‪ ،‬فتقول البهائم‪ :‬اللهم عصاة بني آدم‪ ،‬فإنا منعنا الَق ْ‬
‫إذا كتم الناس العلم‪ ،‬فعمل بالمعاصي أحتبس الَق ْ‬
‫ذنوبهم‪.‬‬

‫وإذا كان علم النسان بكونه عالًما مرجعه إلى وجوده ذلك‪ ،‬وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة ‪،‬لم‬
‫يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس‪ ،‬بأنه ليس بعلم بغير حجة‪ ،‬فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك ل يقتضي أن‬
‫الناس لم يجدوا ذلك‪ ،‬ل سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم‪ ،‬عمن ل يشكون في علمه‬
‫وصدقه ومعرفته بما يقول‪.‬‬

‫وهذا حال أئمة المسلمين وسلف المة‪ ،‬وحملة الحجة‪ ،‬فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم‬
‫ي[ لما دخل عليه متكلمان‪ :‬أحدهما‪ :‬أبو عبد ال‬ ‫الضروري‪ ،‬كما في الحكاية المحفوظة عن ]نجم الدين الُعْكَبر ّ‬
‫الرازي‪ ،‬والخر‪ :‬من متكلمي المعتزلة‪ ،‬وقال‪ :‬يا شيخ‪ ،‬بلغنا أنك تعلم علم اليقين‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬أنا أعلم علم اليقين‪ .‬فقال‪:‬‬
‫ل؟ ـ وأظن الحكاية‬ ‫كيف يمكن ذلك‪ ،‬ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر‪ ،‬فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الخر دلي ً‬
‫في تثبيت السلم ـ فقال‪ :‬ما أدري ما تقولن‪ ،‬ولكن أنا أعلم علم اليقين‪ .‬فقال‪ :‬صف لنا علم اليقين‪ ،‬فقال‪ :‬علم اليقين ـ‬
‫عندنا ـ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعل يقولن‪ :‬واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن‬
‫ردها؟! ويستحسنان هذا الجواب‪.‬‬

‫وذلك؛ لن طريق أهل الكلم تقسيم العلوم إلى ضروري وكسبي‪ ،‬أو بديهي ونظري‪.‬‬

‫فالنظري الكسبي‪ :‬لبد أن يرد إلى مقدمات ضرورية أو بديهية‪ ،‬فتلك ل تحتاج إلى دليل‪ ،‬وإل لزم الدور أو التسلسل‪.‬‬

‫والعلم الضروري‪ :‬هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوًما ل يمكنه النفكاك عنه‪ ،‬فالمرجع في كونه ضرورًيا إلى أنه‬
‫يعجز عن دفعه عن نفسه‪.‬‬
‫فأخبر الشيخ أن علومهم ضرورية‪ ،‬وأنها ترد على النفوس على وجه تعجز عن دفعه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما الطريق إلى ذلك؟‬
‫فقال‪ :‬تتركان ما أنتما فيه‪ ،‬وتسلكان ما أمركما ال به من الذكر والعبادة‪ .‬فقال الرازي‪ :‬أنا مشغول عن هذا‪ .‬وقال‬
‫المعتزلي‪ :‬أنا قد احترق قلبي بالشبهات‪ ،‬وأحب هذه الواردات‪ ،‬فلزم الشيخ مدة‪ ،‬ثم خرج من محل عبادته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫وال يا سيدي‪ ،‬ما الحق إل فيما يقوله هؤلء المشبهة ـ يعني‪ :‬المثبتين للصفات‪ ،‬فإن المعتزلة يسمون الصفاتية مشبهة‬
‫ـ وذلك أنه علم علًما ضرورًيا ل يمكنه دفعه عن قلبه أن رب العالم لبد أن يتميز عن العالم‪ ،‬وأن يكون بائًنا منه‪ ،‬له‬
‫صفات تختص به‪ ،‬وأن هذا الرب الذي تصفه الجهمية إنما هو عدم محض‪.‬‬

‫وهذا موضع الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني ‪]-‬هو أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة ال بن‬
‫أبي الفتح الهمداني‪ ،‬والمالكي‪ ،‬ولد سنة ‪546‬هـ‪ ،‬وأقام بالقاهرة مدة ثم توجه إلى دمشق‪ ،‬وروى الكثير‪ ،‬وكان ثقة‬
‫حا من أهل القرآن‪ ،‬قيل‪ :‬إنه توفى سنة ‪636‬هـ بدمشق‪- [.‬لبي المعالي الجويني‪ ،‬لما أخذ يقول على المنبر‪ :‬كان‬‫صال ً‬
‫ال ول عرش‪ ،‬فقال‪ :‬يا أستاذ‪ ،‬دعنا من ذكر العرش ـ يعني‪ :‬لن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة‬
‫التي نجدها في قلوبنا‪ ،‬فإنه ما قال عارف قط‪]:‬يا ال[ إل وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو‪ ،‬ل تلتفت يمنة ول يسرة‪،‬‬
‫فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال‪ :‬فلطم أبو المعالي على رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬حيرني الهمداني‪ ،‬حيرني الهمداني‪،‬‬
‫ونزل‪.‬‬

‫وذلك لن نفس استوائه على العرش ـ بعد أن خلق السموات والرض في ستة أيام ـ علم بالسمع‪ ،‬الذي جاءت به‬
‫الرسل‪ ،‬كما أخبر ال به في القرآن والتوراة‪.‬‬

‫وأما كونه عالًيا على مخلوقاته بائنا منهم‪ ،‬فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية‪ ،‬التي يشترك فيها جميع بني آدم‪.‬‬

‫وكل من كان بال أعرف‪ ،‬وله أعبد‪ ،‬ودعاؤه له أكثر‪ ،‬وقلبه له أذكر‪ ،‬كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل‪،‬‬
‫ل‪ ،‬والشريعة تفصله وتبينه‪ ،‬وتشهد بما ل تستقل الفطرة‬
‫فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة‪ ،‬فإن الفطرة تعلم المر مجم ً‬
‫به‪ ،‬فهذا هذا‪ ،‬وال أعلم‪.‬‬

‫فصــل‬

‫والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم‬
‫ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية‪ ،‬والمسائل العملية الرادية تجد المتكلم قد‬
‫يطرد قياسه طرًدا مستمًرا فيكون في ظاهر المر أجود ممن نقضها‪ ،‬وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد‬
‫يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع‪ ،‬مع استشعار التناقض تارة‪ ،‬وبدون استشعاره تارة‪ ،‬وهو الغلب‪ .‬وربما‬
‫يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها‪ ،‬يظهر أنه دون الول في العلم والخبرة وطرد‬
‫القول‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل هو خير من الول‪ .‬فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسًدا في أصله؛ لمخالفة النص‬
‫ضا من هذا الذي نقضه‪ .‬وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس‬ ‫والقياس الصحيح‪ ،‬فالذي طرده أكثر فساًدا وتناق ً‬
‫ليس هو في نفس المر بحق‪ ،‬وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس‪ ،‬وهذا يسميه الفقهاء في‬
‫مواضع كثيرة‪ :‬الستحسان‪ .‬فتجد القائلين بالستحسان‪ ،‬الذي تركوا فيه القياس لنص خيًرا من الذين طردوا القياس‬
‫وتركوا النص‪.‬‬

‫ولهذا يروى عن أبي حنيفة‪ ،‬أنه قال‪ :‬ل تأخذوا بمقاييس ُزَفر‪ ،‬فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلل وحللتم الحرام‪،‬‬
‫فإن زفر كان كثير الطرد‪ ،‬لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص‪.‬‬

‫وكان أبو يوسف نظره بالعكس‪ ،‬كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها‬
‫سا ضعيًفا عند التأمل‪ ،‬وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد‬
‫قياسية‪ ،‬ول يكون إل قيا ً‬
‫عليها‪ ،‬عامتها اتبع فيها النصوص والقيسة الصحيحة؛ لن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز‪ ،‬واستفاد‬
‫من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة‪ ،‬وكان يقول‪ :‬لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما‬
‫رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إل اتباع الشريعة‪ ،‬لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه‪.‬‬
‫ضا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالدلة المعتمدة‪،‬‬
‫وهذا ـ أي ً‬
‫فإن الموافقة فيه توجب طرده‪ ،‬ثم أهل النصوص قد ينقضونه‪ ،‬والذين ل يعلمون النصوص يطردونه‪.‬‬

‫وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك‪ ،‬قد يوافقونهم على‬
‫قياس فيه نفي‪ ،‬ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص‪ ،‬والمثبتة ل تفعل ذلك‪ ،‬بل لبد من القول بموجب‬
‫النص‪ ،‬فربما قالوا ببعض معناها‪ ،‬وربما فرقوا بفرق ضعيف‪.‬‬

‫وأصل ذلك‪ :‬موافقة أولئك على القياس الضعيف‪ ،‬وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك‪.‬‬

‫وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالًما في الفعال‪ ،‬فإن الفعال ل تقع إل عن إرادة‪ ،‬فالظالم يطرد إرادته فيصيب من‬
‫أعانه‪ ،‬أو يصيب ظلًما ل يختاره هذا‪ ،‬فيريد المعين أن ينقض الطرد‪ ،‬ويخص علته؛ ولهذا يقال‪ :‬من أعان ظالًما ُبلى‬
‫به‪ ،‬وهذا عام في جميع الظلمة من أهل القوال والعمال‪ ،‬وأهل البدع والفجور‪ .‬وكل من خالف الكتاب والسنة‪ :‬من‬
‫خبر أو أمر أو عمل‪ ،‬فهو ظالم‪.‬‬

‫فإن ال أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط‪ ،‬ومحمد صلى ال عليه وسلم أفضلهم‪ ،‬وقد بين ال ـ سبحانه ـ له من القسط‬
‫ما لم يبينه لغيره‪ ،‬وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره‪ ،‬فصار يفعل ويأمر بما ل يأمر به غيره ويفعله‪.‬‬

‫وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد ل يعلمون حقيقة القسط ول يقدرون على فعله‪ ،‬بل ما كان إليه أقرب وبه‬
‫ط{ ]الرحمن‪،[9 :‬‬‫سِ‬ ‫أشبه كان أمثل‪ ،‬وهي الطريقة المثلى‪ .‬وقد بسطنا هذا في مواضع‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وَأِقيُموا اْلَوْز َ‬
‫ن ِباْلِق ْ‬
‫طْعُتْم{ ]التغابن‪ [16:‬وقال صلى ال عليه‬ ‫سَت َ‬ ‫سَعَها{ ]البقرة‪ ،[286:‬وقال‪َ} :‬فاّتُقوا ا َّ‬
‫ل َما ا ْ‬ ‫ل ُو ْ‬
‫سا ِإ ّ‬
‫ل َنْف ً‬
‫فا ّ‬ ‫وقال‪َ } :‬‬
‫ل ُيَكّل ُ‬
‫وسلم‪) :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم( ‪.‬‬

‫والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة‪ ،‬والجزم الحق‬
‫والقول الثابت‪ ،‬والقطع بما هم عليه أمر ل ينازع فيه إل من سلبه ال العقل والدين‪.‬‬

‫وهب أن المخالف ل يسلم ذلك‪ ،‬فل ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهم يجدون ذلك‪ ،‬وهو وطائفته‬
‫يخبرون بضد ذلك‪ ،‬ول يجدون عندهم إل الريب‪ .‬فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلمها موصوًفا بالحشو؟ أو يكون‬
‫أولى بالجهل والضلل‪ ،‬والفك والمحال؟ وكلم المشائخ والئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم‬
‫من أن نطيل به الخطاب‪.‬‬

‫ل من قول إلى قول‪ ،‬وجزًما بالقول في موضع‪ ،‬وجزًما بنقيضه‪،‬‬ ‫الوجه الثاني‪ :‬أنك تجد أهل الكلم أكثر الناس انتقا ً‬
‫وتكفير قائله في موضع آخر‪ ،‬وهذا دليل عدم اليقين‪ ،‬فإن اليمان كما قال فيه]قيصر[ لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع‬
‫طة له‪ ،‬بعد أن يدخل فيه ؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬وكذلك اليمان‬
‫خَ‬
‫سْ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل يرجع أحد منهم عن دينه ُ‬
‫إذا خالط بشاشته القلوب‪ ،‬ل يسخطه أحد‪ ،‬ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ‪ :‬من جعل دينه‬
‫ضا للخصومات أكثر التنقل‪.‬‬ ‫غر ً‬

‫وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم‪ ،‬ول صالح عامتهم‪ ،‬رجع قط عن قوله واعتقاده‪ ،‬بل هم أعظم‬
‫الناس صبًرا على ذلك‪ ،‬وإن امتحنوا بأنواع المحن‪ ،‬وفتنوا بأنواع الفتن‪ ،‬وهذه حال النبياء وأتباعهم من المتقدمين‪،‬‬
‫كأهل الخدود ونحوهم‪ ،‬وكسلف هذه المة من الصحابة والتابعين‪ ،‬وغيرهم من الئمة‪ ،‬حتى كان مالك ـ رحمه ال ـ‬
‫يقول‪ :‬ل تغبطوا أحًدا لم يصبه في هذا المر بلء‪ .‬يقول‪ :‬إن ال لبد أن يبتلي المؤمن‪ ،‬فإن صبر رفع درجته‪ ،‬كما قال‬
‫صَدُقوا َوَلَيْعَلَم ّ‬
‫ن‬ ‫ن َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ن ا ُّ‬
‫ن ِمن َقْبِلِهْم َفَلَيْعَلَم ّ‬
‫ن َوَلَقْد َفَتّنا اّلِذي َ‬
‫ل ُيْفَتُنو َ‬
‫س َأن ُيْتَرُكوا َأن َيُقوُلوا آَمّنا َوُهْم َ‬
‫ب الّنا ُ‬
‫س َ‬ ‫تعالى‪} :‬الم َأ َ‬
‫حِ‬
‫صَبُروا َوَكاُنوا ِبآَياِتَنا ُيوِقُنوَن{ ]السجدة‪،[24:‬‬ ‫ن ِبَأْمِرَنا َلّما َ‬ ‫ن{ ]العنكبوت‪1:‬ـ ‪ ،[3‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫جَعْلَنا ِمْنُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ‬ ‫اْلَكاِذِبي َ‬
‫صْوا ِبالصّْبِر{ ]سورة‬ ‫ق َوَتَوا َ‬ ‫حّ‬ ‫صْوا ِباْل َ‬ ‫ت َوَتَوا َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬ ‫ل اّلِذي َ‬‫سٍر ِإ ّ‬
‫خْ‬
‫ن َلِفي ُ‬
‫سا َ‬
‫لن َ‬‫ن ا ِْ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬واْلَع ْ‬
‫صِر ِإ ّ‬
‫العصر[‪.‬‬
‫ومن صبر من أهل الهواء على قوله‪ ،‬فذاك لما فيه من الحق‪ ،‬إذ لبد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي‬
‫جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويوافق عليه أهل السنة والحديث‪ ،‬ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض ل يقبل‬
‫بحال‪.‬‬

‫وبالجملة‪ ،‬فالثبات والستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلم والفلسفة‪ ،‬بل‬
‫المتفلسف أعظم اضطراًبا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن النبياء ما ليس عند‬
‫المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل‪ :‬أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل‪ :‬ابن سينا وأمثاله‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬تجد أهل الفلسفة والكلم أعظم الناس افتراًقا واختلًفا‪ ،‬مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام‬
‫عليه البرهان‪ .‬وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلًفا‪ ،‬وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى‬
‫التفاق والئتلف أقرب‪ ،‬فالمعتزلة أكثر اتفاًقا وائتلًفا من المتفلسفة؛ إذ للفلسفة في اللهيات والمعاد والنبوات‪ ،‬بل‬
‫وفي الطبيعيات والرياضيات‪ ،‬وصفات الفلك‪ ،‬من القوال ما ل يحصيه إل ذو الجلل‪.‬‬

‫وقد ذكر من جمع مقالت الوائل‪ ،‬مثل أبي الحسن الشعري في كتاب المقالت‪ ،‬ومثل القاضي أبي بكر في كتاب‬
‫]الدقائق[ من مقالتهم‪ ،‬بقدر ما يذكره الفارابي‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬وأمثالهما أضعاًفا مضاعفة‪.‬‬

‫وأهل الثبات من المتكلمين ـ مثل الكلبية والكرامية والشعرية ـ أكثر اتفاًقا وائتلًفا من المعتزلة‪ ،‬فإن في المعتزلة‬
‫صّنف في‬ ‫ضا‪ ،‬حتى ليكفر التلميذ أستاذه‪ ،‬من جنس ما بين الخوارج‪ ،‬وقد ذكر من َ‬ ‫من الختلفات وتكفير بعضهم بع ً‬
‫فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه‪ ،‬ولست تجد اتفاًقا وائتلًفا إل بسبب اتباع آثار النبياء من القرآن والحديث‪،‬‬
‫ل َمن‬
‫ن ِإ ّ‬
‫خَتِلِفي َ‬
‫ن ُم ْ‬ ‫وما يتبع ذلك‪ ،‬ول تجد افتراًقا واختلًفا إل عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيَزاُلو َ‬
‫ك َخَلَقُهْم{ ]هود‪ ،[119، 118:‬فأخبر أن أهل الرحمة ل يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع النبياء قو ً‬
‫ل‬ ‫ك َوِلَذِل َ‬
‫حَم َرّب َ‬
‫ّر ِ‬
‫ل‪ ،‬وهم أهل القرآن والحديث من هذه المة‪ ،‬فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك‪.‬‬ ‫وفع ً‬

‫ولهذا لما كانت الفلسفة أبعد عن اتباع النبياء‪ ،‬كانوا أعظم اختلًفا‪ ،‬و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ‬
‫ضا ـ أبعد عن السنة والحديث‪ ،‬كانوا أعظم افتراًقا في هذه‪ ،‬لسيما الرافضة‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬إنهم أعظم الطوائف‬
‫أي ً‬
‫اختلًفا؛ وذلك لنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة‪ ،‬بخلف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم‪.‬‬

‫وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم‪ ،‬وأهل الكلم وأئمتهم‪ ،‬قفى بذكر‬
‫أئمة هؤلء ووصف أقوالهم وأعمالهم‪ ،‬ووصف أئمة هؤلء‪ ،‬وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم‬
‫أهل الحق والهدى‪ ،‬وأن غيرهم أولى بالضلل والجهل والحشو والباطل ‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬المخالفون لهل الحديث هم مظنة فساد العمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق‪ ،‬وإما عن مرض في القلب‬ ‫وأي ً‬
‫وضعف إيمان‪ ،‬ففيهم من ترك الواجبات‪ ،‬واعتداء الحدود والستخفاف بالحقوق وقسوة القلب‪ ،‬ما هو ظاهر لكل أحد‪،‬‬
‫وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم‪ ،‬وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة‪ ،‬ففي زهد بعض العامة من أهل السنة‬
‫وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن العلم أصل العمل‪ ،‬وصحة الصول توجب صحة الفروع‪ ،‬والرجل ل يصدر عنه فساد العمل إل‬
‫لشيئين؛ إما الحاجة‪ ،‬وإما الجهل‪ ،‬فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فل يفعله‪ ،‬اللهم إل من غلب هواه عقله واستولت‬
‫عليه المعاصي‪ ،‬فذاك لون آخر وضرب ثان‪.‬‬

‫وأيضًا‪ ،‬فإنه ل يعرف من أهل الكلم أحد إل وله في السلم مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه‪ ،‬وفي‬
‫التعميم ما يغني عن التعيين‪ ،‬فأي فريق أحق بالحشو والضلل من هؤلء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم‪ ،‬كما يوجد‬
‫النفاق فيهم كثيًرا‪.‬‬

‫وهذا إذا كان في المقالت الخفية فقد يقال‪ :‬إنه فيها مخطئ ضال‪ ،‬لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها‪ ،‬لكن ذلك يقع‬
‫في طوائف منهم في المور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين‪ ،‬بل اليهود‬
‫والنصارى يعلمون أن محمًدا صلى ال عليه وسلم بعث بها‪ ،‬وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة ال وحده ل شريك له‪،‬‬
‫ونهيه عن عبادة أحد سوى ال من الملئكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والصنام وغير ذلك‪ ،‬فإن هذا أظهر‬
‫شعائر السلم‪ ،‬ومثل أمره بالصلوات الخمس‪ ،‬وإيجابه لها وتعظيم شأنها‪ ،‬ومثل معاداته لليهود والنصارى‬
‫والمشركين والصابئين والمجوس‪ ،‬ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك‪.‬‬

‫ثم تجد كثيًرا من رؤسائهم وقعوا في هذه المور‪ ،‬فكانوا مرتدين‪ ،‬وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى‬
‫السلم‪ ،‬فقد حكى عن الجهم بن صفوان‪ :‬أنه ترك الصلة أربعين يوًما ل يرى وجوبها‪ ،‬كرؤساء العشائر مثل القرع‬
‫بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن السلم ودخل فيه‪ ،‬ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب‪،‬‬
‫وفيهم من لم يكن كذلك‪.‬‬

‫أو يقال‪ :‬هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد ال بن أبي سرح‪ ،‬الذي كان كاتب الوحي‪ ،‬فارتد ولحق بالمشركين‪ ،‬فأهدر‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم دمه عام الفتح‪ ،‬ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على السلم‪.‬‬

‫فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم‪ ،‬أحسن أحواله‪ :‬أن يكون مسلًما‪ ،‬فكثير من رؤوس هؤلء هكذا‪ ،‬تجده تارة‬
‫يرتد عن السلم ردة صريحة‪ ،‬وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق‪ ،‬وقد يكون له حال ثالثة يغلب اليمان فيها‬
‫النفاق‪ ،‬لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق‪ ،‬والحكايات عنهم بذلك مشهورة‪ ،‬وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرًفا في أول‬
‫]مختلف الحديث[‪ ،‬وقد حكى أهل المقالت لبعضهم عن بعض من ذلك طرًفا‪ ،‬كما يذكره أبو عيسى الوراق‬
‫والنوبختي وأبو الحسن الشعري‪ ،‬والقاضي أبو بكر بن الباقلني‪ ،‬وأبوعبد ال الشهرستاني‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ممن يذكر‬
‫مقالت أهل الكلم‪.‬‬

‫وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن السلم‪ ،‬كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب‬
‫والصنام‪ ،‬وأقام الدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه‪ ،‬وهذه ردة عن السلم باتفاق المسلمين‪ ،‬وإن كان قد‬
‫يكون تاب منه وعاد إلى السلم‪.‬‬

‫ومن العجب‪ ،‬أن أهل الكلم يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد‪ ،‬ليسوا أهل نظر واستدلل‪ ،‬وأنهم ينكرون‬
‫حجة العقل‪ .‬وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة‪ ،‬وهذا مما ينكرونه عليهم‪.‬‬

‫فيقال لهم‪ :‬ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث ل ينكرون ما جاء به القرآن‪ ،‬هذا أصل متفق عليه بينهم‪ ،‬وال قد‬
‫أمر بالنظر والعتبار والتفكر والتدبر في غير آية‪ ،‬ول يعرف عن أحد من سلف المة ول أئمة السنة وعلمائها أنه‬
‫أنكر ذلك‪ ،‬بل كلهم متفقون على المر بما جاءت به الشريعة‪ ،‬من النظر والتفكر والعتبار والتدبر وغير ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫وقع اشتراك في لفظ ]النظر والستدلل[ ولفظ ]الكلم[‪ ،‬فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلمهم‬
‫واستدللهم‪ ،‬فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لنكار جنس النظر والستدلل‪.‬‬

‫وهذا كما أن طائفة من أهل الكلم يسمى ما وضعه ]أصول الدين[‪ ،‬وهذا اسم عظيم‪ ،‬والمسمى به فيه من فساد الدين‬
‫ما ال به عليم‪ .‬فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك‪ ،‬قال المبطل‪ :‬قد أنكروا أصول الدين‪ .‬وهم لم ينكروا ما يستحق أن‬
‫يسمى أصول الدين‪ ،‬وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين‪ ،‬وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل ال بها‬
‫من سلطان‪ ،‬فالدين ما شرعه ال ورسوله‪ ،‬وقد بين أصوله وفروعه‪ ،‬ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع‬
‫الدين دون أصوله‪ ،‬كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع‪ ،‬فهكذا لفظ النظر‪ ،‬والعتبار‪ ،‬والستدلل‪.‬‬

‫وعامة هذه الضللت إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة‪،‬كما كان الزهري يقول‪ :‬كان علماؤنا يقولون‪:‬‬
‫العتصام بالسنة هو النجاة‪ ،‬وقال مالك‪ :‬السنة سفينة نوح‪ ،‬من ركبها نجا‪ ،‬ومن تخلف عنها غرق‪.‬‬

‫وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم‪ ،‬الذي يوصل العباد إلى ال‪ .‬والرسول هو الدليل الهادي‬
‫عًيا ِإَلى ا ِّ‬
‫ل‬ ‫شًرا َوَنِذيًرا َوَدا ِ‬
‫شاِهًدا َوُمَب ّ‬
‫ك َ‬ ‫ريت‪ :‬الدليل الحاذق[‪ -‬في هذا الصراط‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ}:‬إّنا َأْر َ‬
‫سْلَنا َ‬ ‫خّ‬ ‫خّريت‪]-‬ال ِ‬ ‫ال ِ‬
‫صَرا ٍ‬
‫ط‬ ‫ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ‬ ‫ل َكِبيًرا{ ]الحزاب‪ ،[46، 45:‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإّن َ‬ ‫ضً‬
‫ل َف ْ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫ن َلُهم ّم َ‬‫ن ِبَأ ّ‬‫شِر اْلُمْؤِمِني َ‬
‫جا ّمِنيًرا َوَب ّ‬‫ِبِإْذِنِه َوسَِرا ً‬
‫صيُر الُموُر{ ]الشورى‪ ،[53،52:‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫ن‬ ‫ل َت ِ‬
‫ل ِإَلى ا ِّ‬
‫ض َأ َ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوَما ِفي ا َْ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ‬ ‫ط ا ِّ‬‫صَرا ِ‬‫سَتِقيٍم ِ‬‫ّم ْ‬
‫ق ِبُكْم َعن َسِبيِلِه{ ]النعام‪ ،[153:‬وقال عبد ال بن مسعود‪ :‬خط رسول‬ ‫ل َفَتَفّر َ‬‫سُب َ‬
‫ل َتّتِبُعوْا ال ّ‬
‫سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ‬‫طي ُم ْ‬ ‫صَرا ِ‬
‫َهـَذا ِ‬
‫سُبل على كل سبيل منها‬
‫طا عن يمينه وشماله‪ ،‬ثم قال‪) :‬هذا سبيل ال‪ ،‬وهذه ُ‬ ‫طا‪ ،‬وخط خطو ً‬ ‫ال صلى ال عليه وسلم خ ً‬
‫ق ِبُكْم َعن َسِبيِلِه{ ‪.‬‬
‫ل َفَتَفّر َ‬
‫سُب َ‬
‫ل َتّتِبُعواْ ال ّ‬
‫سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ‬
‫طي ُم ْ‬
‫صَرا ِ‬ ‫شيطان يدعو إليه(‪ .‬ثم قرأ‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫ن َهـَذا ِ‬

‫وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء ال ـ هذا المثال‪ ،‬وتأمل سائر الطوائف من الخوارج‪ ،‬ثم المعتزلة‪ ،‬ثم الجهمية‪،‬‬
‫والرافضة‪ ،‬ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلم‪ ،‬مثل الكرامية والكلبية والشعرية وغيرهم‪ ،‬وأن كل منهم له‬
‫سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث‪ ،‬ويدعي أن سبيله هو الصواب‪ ،‬وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي‬
‫ضربه المعصوم ‪،‬الذي ل يتكلم عن الهوى‪ ،‬إن هو إل وحي يوحى‪.‬‬

‫والعجب أن من هؤلء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله‬
‫حا بتقديمه في‬
‫وصرح بتقديمه على الحديث‪ ،‬وجعل عقله ميزاًنا للحديث‪ ،‬فليت شعري هل عقله هذا كان مصر ً‬
‫الشريعة المحمدية‪ ،‬فيكون من السبيل المأمور باتباعه‪ ،‬أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فل‬
‫حول ول قوة إل بال‪.‬‬

‫وهؤلء التحادية وأمثالهم‪ ،‬إنما أتوا من قلة العلم واليمان بصفات ال التي يتميز بها عن المخلوقات‪ ،‬وقلة اتباع‬
‫السنة وطريقة السلف في ذلك‪ ،‬بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة‪ ،‬تلقًيا لذلك عن متفلسف أو متكلم‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫العتقاد صاًدا لهم عن سبيل ال‪ ،‬كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها‪ ،‬وتسلك الصراط المستقيم إليه‪ ،‬وتعبده ـ كما‬
‫فطروا عليه‪ ،‬وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك‪ ،‬حتى تجد خلًقا من مقلدة‬
‫الجهمية يوافقهم بلسانه‪ ،‬وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة‪ ،‬وأكثرهم ل يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم‪ ،‬بل‬
‫ل‪.‬‬
‫يجعلونه تنزيًها مطلًقا مجم ً‬

‫حا‪ ،‬ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك‪ ،‬ويسمع من‬


‫ومنهم من ل يفهم قول الجهمية‪ .‬بل يفهم من النفي معنى صحي ً‬
‫بعض الناس ذكر ذلك‪.‬‬

‫مثل أن يفهم من قولهم‪ :‬ليس في جهة‪ ،‬ول له مكان‪ ،‬ول هو في السماء‪ ،‬أنه ليس في جوف السموات‪ ،‬وهذا معنى‬
‫صحيح‪ ،‬وإيمانه بذلك حق‪ ،‬ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل مرادهم‪ :‬أنه ما‬
‫ل‪ ،‬ول فوق السموات إل عدم محض‪ ،‬ليس هناك إله يعبد‪ ،‬ول رب يدعى ويسأل‪ ،‬ول خالق‬ ‫فوق العرش شيء أص ً‬
‫عرج بالنبي إلى ربه أصل‪ ،‬هذا مقصودهم‪.‬‬ ‫خلق الخلئق‪ ،‬ول ُ‬

‫وهذا هو الذي أوقع التحادية في قولهم‪ :‬هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجوًدا إل هذه الموجودات‪ ،‬إذا لم‬
‫يكن فوقها شيء آخر‪ ،‬وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية‪ :‬أنه ليس إل هذا الوجود المخلوق‪ ،‬أو وجود‬
‫آخر مباين له متميز عنه‪ ،‬لسيما إذا علموا أن الفلك مستديرة وأن العلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إل‬
‫هذا الوجود المخلوق‪ ،‬أو موجود فوقه‪.‬‬

‫فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ول فوق العالم شيء‪ ،‬لزم أن يقولوا‪ :‬هو هذا الوجود المخلوق‪ ،‬كما قال‬
‫التحادية‪ .‬وهذه بعينها هي حجة التحادية‪ .‬وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون‪ :‬هو في كل‬
‫مكان‪ ،‬وليس هو في مكان‪ .‬وليختص بشيء‪ ،‬يجمعون دائًما بين القولين المتناقضين؛ لنهم يريدون إثبات موجود‪،‬‬
‫وليس عندهم شيء فوق العالم‪ ،‬فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه‪ .‬ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق‪،‬‬
‫جا عنه‪ ،‬أو يقولون‪ :‬هو وجود المخلوقات دون أعيانها‪ ،‬أو يقولون‪ :‬هو‬ ‫فيقولون‪ :‬ليس هو في العالم كما ليس خار ً‬
‫الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل‪ ،‬وهو إنكار موجود حقيقي مباين‬
‫ل عليها‪ .‬وإنما يفترقون فيما يثبتونه‪ ،‬ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض‪ ،‬فيقولون‪:‬‬ ‫للمخلوقات عا ٍ‬
‫هو في العالم‪ ،‬وليس هو فيه‪ ،‬أو هو العالم وليس إياه‪ ،‬أو يغلبون الثبات فيقولون‪ :‬بل هو نفس الوجود‪ ،‬أو النفي‪،‬‬
‫جا عنه‪ ،‬أو يدينون بالثبات في حال وبالنفي في حال‪ ،‬إذا غلب على أحدهم عقله‬ ‫فيقولون‪ :‬ليس في العالم ول خار ً‬
‫جد والعبادة رجح الثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو‪،‬‬ ‫غلب النفي‪ ،‬وهو أنه ليس في العالم‪ ،‬وإذا غلب عليه الو ْ‬
‫ل تجد جهمًيا إل على أحد هذه الوجوه الربعة‪ ،‬وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل‬
‫‪.‬‬
‫وقد رأيت منهم ومن كتبهم‪ ،‬وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء ال‪ ،‬وكلهم على هذه الحوال ضالون‬
‫ن ال علينا باتباع سبيل‬
‫عن معبودهم وإلههم وخالقهم‪ .‬ثم رأيت كلم السلف والئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك‪ .‬فَم ّ‬
‫المؤمنين وآمنا بال وبرسوله‪ ،‬وكل هؤلء يجد نفسه مضطربة في هذا العتقاد؛ لتناقضه في نفسه‪ ،‬وإنما يسكن بعض‬
‫اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده‪ ،‬أو خوفه من مخالفة أصحابه‪ ،‬أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل‪.‬‬

‫وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ول هو العالم‪ ،‬الذي ترده فطرهم وشهودهم‬
‫وعقولهم‪ ،‬غير ما في الفطرة من القرار بصانع فوق العالم‪ ،‬فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف‪ ،‬وذاك إنكار‬
‫الفطرة بالباطل المنكر‪.‬‬

‫ومن هذا الباب‪ :‬ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة‪ :‬أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة‪،‬‬
‫والستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر‪ :‬كان ال ول عرش‪ ،‬ونفى الستواء ـ على ما عرف من قوله‪ ،‬وإن كان في‬
‫آخر عمره رجع عن هذه العقيدة‪ ،‬ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال‪ :‬فقال الشيخ أبو جعفر‪ :‬يا أستاذ‪ ،‬دعنا‬
‫من ذكر العرش ـ يعني‪ :‬لن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا‪ :‬ما قال عارف‬
‫قط‪ :‬يا أل إل وجد من قلبه معنى يطلب العلو‪ ،‬ل يلتفت يمنة ول يسرة‪ ،‬فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فصرخ‬
‫أبو المعالي‪ ،‬ووضع يده على رأسه‪ ،‬وقال‪ :‬حيرني الهمداني‪ ،‬أو كما قال‪ ،‬ونزل‪.‬‬

‫فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم‪ ،‬فأخبر أن العرش والعلم باستواء ال عليه‪ ،‬إنما أخذ من جهة الشرع وخبر‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬بخلف القرار بعلو ال على الخلق من غير تعيين عرش ول استواء‪ ،‬فإن هذا أمر فطري ضروري‬
‫نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو ال ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟!‬

‫والجارية التي قال لها النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أين ال؟( قالت‪ :‬في السماء‪ .‬قال‪) :‬أعتقها فإنها مؤمنة( ‪،‬جارية‬
‫أعجمية‪ ،‬أرأيت من فّقهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها ال ـ تعالى ـ عليها‪ ،‬وأقرها‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم على ذلك‪ ،‬وشهد لها باليمان‪.‬‬

‫فليتأمل العاقل ذلك يجده هادًيا له على معرفة ربه‪ ،‬والقرار به كما ينبغي‪ ،‬ل ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن‬
‫سول لهم الشيطان وأملى لهم‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬أن الذين لبسوا الكلم بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من السرار المصونة والعلوم‬
‫المخزونة‪ ،‬ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين‪ ،‬وجد فيه من الجهل والضلل ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلء‪ ،‬حتى‬
‫قد يكذب بصدور ذلك عنهم‪ ،‬مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه ]أبوعبد ال الرازي[‪ ،‬الذي احتذى فيه حذو ابن‬
‫سينا‪ ،‬و]عين القضاة الهمداني[‪ ،‬فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة‪ ،‬وترتيب ل يوجد في شيء‬
‫من كتب المسلمين‪ ،‬ل في الحاديث الصحيحة ول الحسنة‪ ،‬ول الضعيفة المروية عند أهل العلم‪ ،‬وإنما وضعه بعض‬
‫السؤال والطرقية‪ ،‬أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة‪.‬‬

‫ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة‪ ،‬وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى‬
‫ما لم يسمع من عالم‪ ،‬ول يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين‪ ،‬وجعل معراج الرسول‬
‫ترقيه بفكره إلى الفلك‪ ،‬وأن النبياء الذين رآهم هم الكواكب‪ ،‬فآدم هو القمر‪ ،‬وإدريس هو الشمس‪ ،‬والنهار الربعة‬
‫هي العناصر الربعة‪ ،‬وأنه عرف الوجود الواجب المطلق‪ ،‬ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من السرار والمعارف التي‬
‫يجب صونها عن أفهام المؤمنين‪ ،‬وعلمائهم‪ ،‬حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية‬
‫التعجب‪ ،‬وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك‪ ،‬حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله‪،‬‬
‫وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه‪]:‬المطالب العالية[‪ ،‬وجمع فيه عامة آراء الفلسفة والمتكلمين‪.‬‬

‫وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلم والصول وغير ذلك‪ ،‬مع الزهد والعبادة وحسن‬
‫القصد‪ ،‬وتبحره في العلوم السلمية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب]الربعين[ ونحوه‪ ،‬كتابه‪]:‬المضنون به على‬
‫غير أهله[‪ ،‬فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب‪ ،‬وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه‪،‬‬
‫قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم‪ ،‬ومن لم يعلم حقائق مقالت العباد ومقالت أهل الملل‪ ،‬يعتقد أن ذاك هو السر الذي‬
‫كان بين النبي صلى ال عليه وسلم وأبي بكر‪ ،‬وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي‪.‬‬
‫فإن أبا حامد كثيًرا ما يحيل في كتبه على ذلك النور اللهي‪ ،‬وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد‪ ،‬برياضتهم‬
‫وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم‪ ،‬حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع‪.‬‬

‫وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه‪ ،‬ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الضطراب وآتاه ال إيماًنا‬
‫ل ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة‪ ،‬فيجد في كلم المشائخ والصوفية ما هو أقرب‬ ‫مجم ً‬
‫إلى الحق‪ ،‬وأولى بالتحقيق من كلم الفلسفة والمتكلمين‪ ،‬والمر كما وجده‪ ،‬لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي‬
‫عنـد خاصة المة من العلوم والحوال‪ ،‬وما وصل إليه السابقون الولون من العلم والعبادة‪ ،‬حتى نالوا من المكاشفات‬
‫العلمية والمعاملت العبادية ما لم ينله أولئك‪.‬‬

‫فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق‪ ،‬حيث لم يكن عنده طريق غيرها‪ ،‬لنسداد الطريقة‬
‫الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها‪ ،‬ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين‪ ،‬حتى‬
‫حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة‪.‬‬

‫ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم‪ ،‬وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه‪ ،‬والذي حجب به عن حقيقة المتابعة‬
‫للرسالة‪ ،‬وليس هو بعلم‪ ،‬وإنما هو عقائد فلسفية وكلمية‪ ،‬كما قال السلف‪ :‬العلم بالكلم هو الجهل‪ ،‬وكما قال أبو‬
‫يوسف‪ :‬من طلب العلم بالكلم تزندق‪.‬‬

‫ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه‪ ،‬حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلم ـ‬
‫فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون ]بداية الهداية[ من تصنيفه‪ ،‬ويقول‪ :‬إنما هو تقول عليه‪ ،‬مع أن هذه الكتب مقبولها‬
‫أضعاف مردودها‪ ،‬والمردود منها أمور مجملة‪ ،‬وليس فيها عقائد‪ ،‬ول أصول الدين‪.‬‬

‫وأما المضنون به على غير أهله‪ ،‬فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه‪ ،‬وأما أهل الخبرة به وبحاله‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ‬
‫فيعلمون أن هذا كله كلمه‪ ،‬لعلمهم بمواد كلمه ومشابهة بعضه بع ً‬
‫مضطربين ل يثبتون على قول ثابت؛ لن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق‪ ،‬ولم‬
‫يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه المة‪ ،‬الذين ورثوا عن الرسول صلى ال عليه وسلم العلم واليمان‪ ،‬وهم أهل‬
‫حقائق اليمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب ال والعلم والفهم لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫واتباع هذا العلم بالحوال والعمال المناسبة لذلك‪ ،‬كما جاءت به الرسالة‪.‬‬

‫ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلح ‪]-‬هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي‬
‫الشهرزوري‪ ،‬المعروف بابن الصلح‪ ،‬الفقيه الشافعي‪ ،‬ولد سنة ‪577‬هـ‪ ،‬صنف في علوم الحديث‪ ،‬وتوفي في سنة‬
‫‪643‬هـ بدمشق‪ -[.‬يقول ـ فيما رأيته بخطه ـ‪ :‬أبو حامد كثر القول فيه ومنه‪.‬‬

‫فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فل يلتفت إليها‪ ،‬وأما الرجل فيسكت عنه‪ ،‬ويفوض أمره إلى ال ‪.‬‬

‫ومقصوده أنه ل يذكر بسوء؛ لن عفو ال عن الناسى والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب‪ ،‬وذلك من أقرب‬
‫الشياء إلى هذا وأمثاله‪ ،‬ولن مغفرة ال بالحسنات منه ومن غيره‪ ،‬وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق‬
‫الذنوب‪ ،‬فل يقدم النسان على انتفاء ذلك في حق معين إل ببصيرة‪ ،‬لسيما مع كثرة الحسان والعلم الصحيح‪،‬‬
‫والعمل الصالح والقصد الحسن‪ ،‬وهو يميل إلى الفلسفة‪ ،‬لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات السلمية‪.‬‬

‫ولهذا‪ ،‬فقد رد عليه علماء المسلمين ‪،‬حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي‪ ،‬فإنه قال‪ :‬شيخنا أبو حامد دخل في‬
‫بطن الفلسفة‪ ،‬ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر‪.‬‬

‫وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه‪ .‬ورد عليه أبو عبد ال المازري في كتاب‬
‫أفرده‪ ،‬ورد عليه أبو بكر الطرطوشي‪ ،‬ورد عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقه‪ ،‬رد عليه كلمه في مشكاة النوار‬
‫ونحوه‪ ،‬ورد عليه الشيخ أبو البيان‪ ،‬والشيخ أبو عمرو بن الصلح‪ ،‬وحذر من كلمه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي‬
‫وغيرهما ‪،‬ورد عليه ابن عقيل‪ ،‬وابن الجوزي ‪،‬وأبو محمد المقدسي وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا باب واسع‪ ،‬فإن الخارجين عن طريقة السابقين الولين من المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان‪،‬‬
‫لهم في كلم الرسول ثلث طرق‪ :‬طريقة التخييل‪ ،‬وطريقة التأويل‪ ،‬وطريقة التخييل‪.‬‬

‫فأهل التخييل‪ :‬هم الفلسفة والباطنية‪ ،‬الذين يقولون‪ :‬إنه خيل أشياء‪ ،‬ل حقيقة لها في الباطن‪ ،‬وخاصية النبوة عندهم‬
‫التخييل‪.‬‬

‫وطريقة التأويل‪ :‬طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم‪ ،‬يقولون‪ :‬إن ما قاله له تأويلت تخالف ما دل عليه‬
‫اللفظ‪ ،‬وما يفهم منه‪ ،‬وهو ـ وإن كان لم يبين مراده ول بين الحق الذي يجب اعتقاده ـ فكان مقصوده‪ :‬أن هذا يكون‬
‫سبًبا للبحث بالعقل‪ ،‬حتى يعلم الناس الحق بعقولهم‪ ،‬ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك‪،‬‬
‫فلم يكن قصده لهم البيان والهداية‪ ،‬والرشاد والتعليم‪ ،‬بل قصده التعمية والتلبيس‪ ،‬ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق‬
‫بعقلهم‪ ،‬ويعرفوا حينئذ أن كلمه لم يقصد به البيان‪ ،‬فيجعلوا حالهم في العلم مع عدمه خيًرا من حالهم مع وجوده‪.‬‬

‫وأولئك المتقدمون‪ ،‬كابن سينا وأمثاله‪ ،‬ينكرون على هؤلء‪ ،‬ويقولون‪ :‬ألفاظه كثيرة‪ ،‬صريحة ل تقبل التأويل‪ ،‬لكن‬
‫كان قصده التخييل‪ ،‬وأن يعتقد الناس المر على خلف ما هو عليه‪.‬‬

‫وأما الصنف الثالث‪ :‬الذين يقولون‪ :‬إنهم أتباع السلف‪ ،‬فيقولون‪ :‬إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من‬
‫هذه اليات‪ ،‬ول أصحابه يعلمون معنى ذلك‪ ،‬بل لزم قولهم‪ :‬أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث‬
‫الصفات‪ ،‬بل يتكلم بكلم ل يعرف معناه‪ ،‬والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون‪ :‬إنهم لم يكونوا يعرفون معاني‬
‫النصوص‪ ،‬بل يقولون ذلك في الرسول‪ .‬وهذا القول من أبطل القوال‪ ،‬ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله‬
‫ل{ ]آل عمران‪ ،[7:‬ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويل‪ ،‬وهو مخالف‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ‬
‫لا ّ‬
‫للظاهر‪.‬‬

‫ثم هؤلء قد يقولون‪ :‬تجري النصوص على ظاهرها‪ ،‬وتأويلها ل يعلمه إل ال‪ ،‬ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر‪،‬‬
‫وهذا تناقض منهم‪ .‬وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط‪ ،‬والطائفتان غالطتان في فهم الية‪.‬‬

‫وذلك أن لفظ ]التأويل[ قد صار بسبب تعدد الصطلحات‪ ،‬له ثلثة معان‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلم‪ ،‬وإن وافق ظاهره‪ .‬وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في‬
‫ق{‬
‫حّ‬‫ل َرّبَنا ِباْل َ‬
‫سُ‬
‫ت ُر ُ‬
‫جاء ْ‬
‫ل َقْد َ‬
‫سوُه ِمن َقْب ُ‬
‫ن َن ُ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫ل َتْأِويَلُه َيْوَم َيْأِتي َتْأِويُلُه َيُقو ُ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ظُرو َ‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل َين ُ‬
‫]العراف‪ ،[53:‬ومنه قول عائشة‪ :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‪) :‬سبحانك‬
‫ل القرآن ‪.‬‬ ‫اللهم ربنا ولك الحمد‪ ،‬اللهم اغفر لي(‪ ،‬يتأّو ُ‬

‫والثاني‪ :‬يراد بلفظ التأويل ‪:‬التفسير‪ ،‬وهو اصطلح كثير من المفسرين‪ ،‬ولهذا قال مجاهد ـ إمام أهل التفسير‪ :‬إن‬
‫الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه‪ ،‬فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه‪ ،‬وهذا مما يعلمه الراسخون‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬أن يراد بلفظ ]التأويل[‪ :‬صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك؛ لدليل منفصل‬
‫ل لم يكن في عرف السلف‪،‬‬ ‫يوجب ذلك‪ .‬وهذا التأويل ل يكون إل مخالًفا لما يدل عليه اللفظ ويبينه‪ .‬وتسمية هذا تأوي ً‬
‫ل طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلم‪ ،‬وظن هؤلء أن قوله تعالى‪:‬‬ ‫وإنما سمى هذا وحده تأوي ً‬
‫ل{ ]آل عمران‪ ،[7:‬يراد به هذا المعنى‪ ،‬ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين‪ :‬قوم يقولون‪ :‬إنه‬ ‫لا ّ‬
‫}َوَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ‬
‫ل يعلمه إل ال‪ .‬وقوم يقولون‪ :‬إن الراسخين في العلم يعلمونه‪ ،‬وكلتا الطائفتين مخطئة‪.‬‬

‫فإن هذا التأويل في كثير من المواضع ـ أو أكثرها وعامتها ـ من باب تحريف الكلم عن مواضعه‪ ،‬من جنس تأويلت‬
‫القرامطة والباطنية‪ .‬وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف المة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الرض‪،‬‬
‫شُهب‪.‬‬
‫ورموا في آثارهم بال ّ‬

‫وقد صنف المام أحمد كتاًبا في الرد على هؤلء‪ ،‬وسماه‪] :‬الرد على الزنادقة والجهمية‪ ،‬فيما شكت فيه من متشابه‬
‫القرآن وتأولته على غير تأويله[ فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه‪ ،‬ولم يقل أحمد ول أحد من‬
‫الئمة‪ :‬إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها‪ ،‬ول قالوا‪ :‬إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم‬
‫يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه‪.‬‬

‫ك ّلَيّدّبُروا آَياِتِه{ ]ص‪ ،[29:‬ولم يقل‪ :‬بعض آياته؟‬


‫ك ُمَباَر ٌ‬ ‫كيف وقد أمر ال بتدبر كتابه‪ ،‬فقال تعالى ‪ِ}:‬كَتا ٌ‬
‫ب َأنَزْلَناُه ِإَلْي َ‬
‫ل َيَتَدّبُروَن اْلُقْرآَن{ ]النساء‪ ،82:‬محمد‪ ،[24:‬وقال‪َ} :‬أَفَلْم َيّدّبُروا اْلَقْوَل{ ]المؤمنون‪ ،[68:‬وأمثال ذلك في‬ ‫وقال‪َ} :‬أَف َ‬
‫النصوص التي تبين أن ال يحب أن يتدبر الناس القرآن كله‪ ،‬وأنه جعله نوًرا وهدى لعباده‪ ،‬ومحال أن يكون ذلك مما‬
‫ل يفهم معناه‪ ،‬وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي‪ :‬حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد ال بن‬
‫مسعود ـ أنهم قالوا‪ :‬كنا إذا تعلمنا من النبي صلى ال عليه وسلم عشر آيات لم نجاوزها‪ ،‬حتى نتعلم ما فيها من العلم‬
‫والعمل‪ ،‬قالوا‪ :‬فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميًعا‪ ،‬وهذه المور مبسوطة في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملحدة‪ ،‬فكيف يكون قوله في السلف؟ حتى‬
‫يدعي اتباعه‪ ،‬وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته‪ ،‬فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى‬
‫عدم إظهاره‪ ،‬لما فيه من فساد الناس‪ .‬وأما عند أهل العلم واليمان فل‪.‬‬

‫وقول النفاة باطل باطًنا وظاهًرا‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك‪ ،‬بل مات صلى ال عليه‬
‫وسلم وتركنا على المحجة البيضاء‪ ،‬ليلها كنهارها‪ ،‬ل يزيغ عنها إل هالك‪ ،‬وأخبرنا أن كل ما حدث بعده من محدثات‬
‫المور فهو بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضللة ‪.‬‬

‫وربما أنشد بعض أهل الكلم بيت مجنون بني عامر‪:‬‬

‫وكل يدعي وصل لليلى ** وليلى ل تقر لهم بذاكا‬

‫فمن قال‪ :‬من الشعر ما هو حكمة‪ ،‬أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق‪ ،‬كان قريًبا‪ .‬أما إثبات الدعوى بمجرد‬
‫كلم منظوم من شعر أو غيره‪ ،‬فيقال لصاحبه‪ :‬ينبغي أن تبين أن السلف ل يقرون بمن انتحلتهم‪ .‬وهذا ظاهر فيما‬
‫ذكره هو وغيره‪ ،‬ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه‪ ،‬ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم‪ ،‬وعدل فيما نقل‪ ،‬فإن‬
‫ل‪.‬‬
‫الناقل لبد أن يكون عالًما عد ً‬

‫فإن فرض أن أحًدا نقل مذهب السلف كما يذكره‪ ،‬فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف‪ ،‬كأبي المعالي‪ ،‬وأبي حامد‬
‫الغزالي‪ ،‬وابن الخطيب وأمثالهم‪ ،‬ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة‪ ،‬فض ً‬
‫ل‬
‫عن خواصها‪ ،‬ولم يكن الواحد من هؤلء يعرف البخاري ومسلًما وأحاديثهما‪ ،‬إل بالسماع‪ ،‬كما يذكر ذلك العامة‪ ،‬ول‬
‫يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث‪ ،‬وبين الحديث المفترى المكذوب‪ ،‬وكتبهم أصدق شاهد‬
‫بذلك ففيها عجائب‪.‬‬

‫وتجد عامة هؤلء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك‪ ،‬إما عند الموت وإما قبل‬
‫الموت‪ ،‬والحكايات في هذا كثيرة معروفة‪.‬‬

‫هذا أبو الحسن الشعري‪ ،‬نشأ في العتزال أربعين عاًما يناظر عليه‪ ،‬ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة‪،‬‬
‫وبالغ في الرد عليهم‪.‬‬

‫وهذا أبو حامد الغزالي ـ مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلم والفلسفة‪ ،‬وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف‬
‫ـ ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة‪ ،‬ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف‪ ،‬وإن كان بعد ذلك رجع‬
‫إلى طريقة أهل الحديث‪ ،‬وصنف ]إلجام العوام عن علم الكلم[‪.‬‬

‫وكذلك أبو عبد ال محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات‪ :‬لقد تأملت الطرق الكلمية‬
‫ل‪ ،‬ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الثبات‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬ول تروي غلي ً‬ ‫والمناهج الفلسفية‪ ،‬فما رأيتها تشفي علي ً‬
‫صاِلُح َيْرَفُعُه{ ]فاطر‪ ،[10:‬واقرأ في النفي‪:‬‬
‫ل ال ّ‬
‫ب َواْلَعَم ُ‬
‫طّي ُ‬ ‫سَتَوى{ ]طه‪ِ} ،[5:‬إَلْيِه َي ْ‬
‫صَعُد اْلَكِلُم ال ّ‬ ‫شا ْ‬
‫عَلى اْلَعْر ِ‬
‫ن َ‬
‫حمَ ُ‬
‫}الّر ْ‬
‫طوَن ِبِه ِعْلًما{ ]طه‪َ} ،[110 :‬هْل َتْعَلُم َلُه َسِمّيا{ ]مريم‪ ،[65:‬ثم قال‪ :‬ومن‬
‫حي ُ‬ ‫يٌء{ ]الشورى‪َ} ،[11:‬و َ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ش ْ‬
‫س كَِمْثِلِه َ‬
‫}َلْي َ‬
‫جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‪ ،‬وكان يتمثل كثيًرا‪:‬‬

‫نهاية إقـــــدام العقــول عقـــال ** وأكـثر سعي العالمين ضـــلل‬

‫وأرواحنــا فـي وحشة مـن جسومــنا ** وحاصـل دنيـانا أذى ووبـــال‬

‫ولـم نستفد مــن بحثنا طول عمـرنــا ** سوى أن جمـعنا فيـه قيـل وقالـوا‬

‫وهذا إمام الحرمين‪ ،‬ترك ما كان ينتحله ويقرره‪ ،‬واختار مذهب السلف‪ .‬وكان يقول‪ :‬يا أصحابنا‪ ،‬ل تشتغلوا بالكلم !‬
‫فلو أنى عرفت أن الكلم يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به‪ ،‬وقال عند موته‪ :‬لقد خضت البحر الخضم‪ ،‬وخليت أهل‬
‫السلم وعلومهم‪ ،‬ودخلت فيما نهوني عنه‪ .‬والن‪ :‬إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لبن الجويني‪ ،‬وها أنذا أموت‬
‫على عقيدة أمي ـ أو قال‪ :‬عقيدة عجائز نيسابور‪.‬‬

‫وكذلك قال أبو عبد ال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ]‪-‬هو شيخ أهل الكلم والحكمة‪ ،‬برع في الفقه‪ ،‬وكان قوي‬
‫الفهم‪ ،‬مليح الوعظ‪ ،‬صنف كتاب‪ ،‬نهاية القدام و كتاب الملل والنحل‪ ،‬وتوفي سنة ‪ :[-645‬أخبر أنه لم يجد عند‬
‫الفلسفة والمتكلمين إل الحيرة والندم‪ ،‬وكان ينشد‪:‬‬

‫لعمري لقد طفت المعاهد كلـها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم‬

‫فلم أر إل واضًعا كف حائــر ** على ذقن‪ ،‬أو قارعًـا سن نادم‬

‫وابن الفارض ـ من متأخري التحادية‪ ،‬صاحب القصيدة التائية المعروفة بـ ]نظم السلوك[‪ ،‬وقد نظم فيها التحاد‬
‫نظًما رائق اللفظ‪ ،‬فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب‪ .‬وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك! ال أعلم بها وبما‬
‫اشتملت عليه وقد نفقت كثيًرا‪ ،‬وبالغ أهل العصر في تحسينها والعتداد بما فيها من التحاد ـ لما حضرته الوفاة أنشد‪:‬‬

‫إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي‬

‫أمنية ظفرت نفسي بها زمــًنا ** واليوم أحسبها أضغاث أحـلم‬

‫ولقد كان من أصول اليمان‪ :‬أن يثبت ال العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ}:‬أَلْم َتَر َكْيفَ‬
‫ل ِللّنا ِ‬
‫س‬ ‫لْمَثا َ‬‫لا َ‬‫با ّ‬ ‫ضِر ُ‬ ‫ن َرّبَها َوَي ْ‬ ‫ن ِبِإْذ ِ‬
‫حي ٍ‬
‫ل ِ‬ ‫سَماء ُتْؤِتي ُأُكَلَها ُك ّ‬
‫عَها ِفي ال ّ‬
‫ت َوَفْر ُ‬
‫صُلَها َثاِب ٌ‬‫طّيَبٍة َأ ْ‬
‫جرٍة َ‬ ‫شَ‬‫طّيَبًة َك َ‬
‫ل َكِلَمًة َ‬
‫ل َمَث ً‬
‫با ّ‬ ‫ضَر َ‬ ‫َ‬
‫حَياِة‬
‫ت ِفي اْل َ‬‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫تا ّ‬ ‫ض َما َلَها ِمن َقَراٍر ُيَثّب ُ‬ ‫لْر ِ‬ ‫قا َ‬
‫ت ِمن َفْو ِ‬ ‫جُتّث ْ‬
‫خِبيَثٍة ا ْ‬
‫جَرٍة َ‬ ‫شَ‬‫خِبيَثٍة َك َ‬
‫ل َكِلَمٍة َ‬
‫ن َوَمث ُ‬‫َلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ‬
‫ل َما َيَشاء{ ]إبراهيم‪24:‬ـ ‪.[27‬‬ ‫لا ّ‬ ‫ن َوَيْفَع ُ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل ال ّ‬‫لا ّ‬‫ضّ‬ ‫خَرِة َوُي ِ‬
‫الّدْنَيا َوِفي ال ِ‬

‫والكلمة أصل العقيدة؛ فإن العتقاد هو الكلمة التي يعتقدها المرء‪ ،‬وأطيب الكلم والعقائد كلمة التوحيد واعتقاد أن ل‬
‫إله إل ال‪ ،‬وأخبث الكلم والعقائد كلمة الشرك‪ ،‬وهو اتخاذ إله مع ال‪ ،‬فإن ذلك باطل ل حقيقة له؛ ولهذا قال سبحانه‪:‬‬
‫}ّما ّلّها ٌمن ّقّرار{؛ ولهذا كان كلما بحث الباحث وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة ل يزداد إل ضل ً‬
‫ل‬
‫جاءُه َلْم‬
‫حّتى ِإَذا َ‬
‫ن َماء َ‬
‫ظْمآ ُ‬
‫سُبُه ال ّ‬
‫حَ‬‫ب ِبِقيَعٍة َي ْ‬
‫سَرا ٍ‬
‫عَماُلُهمْ َك َ‬ ‫وبعًدا عن الحق وعلًما ببطلنها‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ}:‬واّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروا َأ ْ‬
‫حا ٌ‬
‫ب‬ ‫سَ‬
‫ج ّمن َفْوِقِه َ‬
‫ج ّمن َفْوِقِه َمْو ٌ‬
‫شاُه َمْو ٌ‬
‫ي َيْغ َ‬
‫جّ‬
‫حٍر ّل ّ‬
‫ت ِفي َب ْ‬‫ظُلَما ٍ‬
‫ب َأْو َك ُ‬‫سا ِ‬‫حَ‬‫سِريُع اْل ِ‬‫ل َ‬ ‫ساَبُه َوا ُّ‬ ‫حَ‬‫عنَدُه َفَوّفاُه ِ‬
‫ل ِ‬
‫جَد ا َّ‬
‫شْيًئا َوَو َ‬
‫جْدُه َ‬
‫َي ِ‬
‫ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمن ّنوٍر{ ]النور‪.[40 ،39:‬‬ ‫ل ا ُّ‬
‫جَع ِ‬‫ج َيَدُه َلْم َيَكْد َيَراَها َوَمن ّلْم َي ْ‬
‫خَر َ‬‫ض ِإَذا َأ ْ‬
‫ق َبْع ٍ‬
‫ضَها َفْو َ‬
‫ت َبْع ُ‬ ‫ظُلَما ٌ‬
‫ُ‬

‫فذكر ـ سبحانه ـ مثلين ‪:‬‬

‫ل معدوًما كالسراب‪ ،‬وأن‬‫أحدهما‪ :‬مثل الكفر والجهل المركب الذي يحسبه صاحبه موجوًدا‪ ،‬وفي الواقع يكون خيا ً‬
‫القلب عطشان إلى الحق كعطش الجسد إلى الماء‪ .‬فإذا طلب ما ظنه ماًءا وجده سراًبا‪ ،‬ووجد ال عنده فوفاه حسابه‬
‫وال سريع الحساب وهكذا تجد عامة هؤلء الخارجين عن السنة والجماعة‪.‬‬
‫والمثل الثاني‪ :‬مثل الكفر والجهل البسيط الذي ل يتبين فيه صاحبه حًقا ول يرى فيه هدى‪ ،‬والكفر المركب مستلزم‬
‫للبسيط‪ ،‬وكل كفر فلبد فيه من جهل مركب‪.‬‬

‫فضرب ال ـ سبحانه ـ المثلين بذلك ليبين حال العتقاد الفاسد‪ ،‬ويبين حال عدم معرفة الحق ـ وهو يشبه حال‬
‫المغضوب عليهم والضالين ـ حال المصمم على الباطل حتى يحل به العذاب‪ ،‬وحال الضال الذي ل يرى طريق‬
‫الهدى‪.‬‬

‫فنسأل ال العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وأن يرزقنا العتصام بالكتاب والسنة‪.‬‬

‫ومن أمثلة ما ينسبه كثير من أتباع المشائخ والصوفية إلى المشائخ الصادقين من الكذب والمحال‪ ،‬أو يكون من‬
‫كلمهم المتشابه الذي تأولوه على غير تأويله‪ ،‬أو يكون من غلطات بعض الشيوخ وزلتهم‪ ،‬أو من ذنوب بعضهم‬
‫وخطئهم مثل‪ :‬كثير من البدع والفجور الذي يفعله بعضهم بتأويل سائغ أو بوجه غير سائغ‪ ،‬فيعفى عنه أو يتوب منه‬
‫أو يكون له حسنات يغفر له بها‪ ،‬أو مصائب يكفر عنه بها‪ ،‬أو يكون من كلم المتشبهين بأولياء ال من ذوي‬
‫الزهادات والعبادات والمقامات‪ ،‬وليس هو من أولياء ال المتقين‪ ،‬بل من الجاهلين الظالمين المعتدين‪ ،‬أو المنافقين أو‬
‫الكافرين‪.‬‬

‫وهذا كثير مل العالم‪ ،‬تجد كل قوم يدعون من الختصاص بالسرار والحقائق ما ل يدعى المرسلون‪ ،‬وأن ذلك عند‬
‫خواصهم‪ ،‬وأن ذلك ل ينبغي أن يقابل إل بالتسليم‪ ،‬ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة‪ ،‬وتفسيرات باطلة‪ .‬مثل قولهم‬
‫عن عمر‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم كان يتحدث هو وأبو بكر بحديث‪ ،‬وكنت كالزنجي بينهما‪،‬فيجعلون عمر مع‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وصديقه كالزنجي‪ .‬وهو حاضر يسمع الكلم‪ ،‬ثم يدعي أحدهم أنه علم ذلك بما قذف في‬
‫قلبه‪ ،‬ويدعي كل منهم أن ذلك هو ما يقوله من الزور والباطل‪ ،‬ولو ذكرت ما في هذا الباب من أصناف الدعاوي‬
‫الباطلة لطال‪.‬‬

‫فمنهم من يجعل للشيخ قصائد يسميها ]جنيب القرآن[‪ ،‬ويكون وجده بها وفرحه بمضمونها أعظم من القرآن‪ ،‬و يكون‬
‫فيها من الكذب والضلل أمور‪.‬‬

‫ومنهم من يجعل له قصائد في التحاد‪ ،‬وأنه خالق جميع الخلق‪ ،‬وأنه خلق السموات والرض‪ ،‬وأنه يسجد له ويعبد‪.‬‬

‫ومنهم من يصف ربه في قصائده بما نقل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم‪ ،‬التي هي كذب‬
‫مفترى وكفر صريح مثل‪ :‬مواكلته ومشاربته‪ ،‬ومماشاته ومعانقته‪ ،‬ونزوله إلى الرض وقعوده في بعض رياض‬
‫الرض‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويجعل كل منهم ذلك من السرار المخزونة والعلوم المصونة التي تكون لخواص أولياء ال‬
‫المتقين‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة‪ ،‬ومن أخذ عنهم ِمنْ دعوى علوم السرار‪ ،‬والحقائق‪ ،‬التي يدعون‬
‫أخذها عن أهل البيت‪ ،‬إما من العلوم الدينية‪ ،‬وإما من علم الحوادث الكائنة‪ ،‬ما هو عندهم من أجل المور التي يجب‬
‫التواصي بكتمانها‪ ،‬واليمان بما ل يعلم حقيقته من ذلك‪ ،‬وجميعها كذب مختلق وإفك مفترى‪.‬‬

‫فإن هذه الطائفة ]الرافضة[ من أكثر الطوائف كذًبا وادعاء للعلم المكتوم؛ ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة‪.‬‬

‫وهؤلء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ وصاروا يدعون أنه خص بأسرار‬
‫من العلوم والوصية‪ ،‬حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه‪ ،‬فيخبرهم بانتفاء ذلك‪ ،‬ولما بلغه أن ذلك قد قيل‪ ،‬كان‬
‫يخطب الناس وينفي ذلك عن نفسه‪.‬‬

‫حْيَفة قال‪ :‬سألت عليا‪ :‬هل‬


‫جَ‬
‫ي هذا من غير وجه‪ ،‬مثل ما في الصحيح عن أبي ُ‬ ‫ج أصحاب الصحيح كلم عل ّ‬ ‫وقد خّر َ‬
‫سَمة‪ ،‬ما عندنا إل ما في القرآن‪ ،‬إل فهما يعطيه ال‬
‫عندكم شيء ليس في القرآن؟ فقال‪) :‬ل‪ ،‬والذي فلق الحبة وَبَرأ الّن َ‬
‫الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة‪ .‬قلت‪:‬وما في الصحيفة؟ قال‪ :‬العقل‪ ،‬وفكاك السير‪ ،‬وأل يقتل مسلم بكافر‪.‬‬
‫ولفظ البخارى‪ :‬هل عندكم شيء من الوحي غير ما في كتاب ال ؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬والذي فلق الحبة وبرأ النسمة‪ ،‬ما أعلمه‬
‫ل في القرآن(‪.‬‬
‫إل فهما يعطيه ال رج ً‬

‫وفـي الصحيحـين عن إبراهيم التيمي عن أبيه ـ وهذا من أصح إسناد على وجه الرض ـ عن علي قال‪ :‬ما عندنا‬
‫شيء إل كتاب ال‪ ،‬وهذه الصحيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬المدينة حرام ما بين عير إلى ثور(‪ ،‬وفي رواية‬
‫لمسلم‪ :‬خطبنا على بن أبي طالب فقال‪ :‬من زعم أن عندنا كتاًبا نقرؤه إل كتاب ال وما في هذه الصحيفة ـ قال‪:‬‬
‫وصحيفته معلقة في قراب سيفه ـ فقد كذب‪ ،‬فيها أسنان البل وأشياء من الجراحات‪ ،‬وفيها قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪) :‬المدينة حرام( الحديث‪.‬‬

‫وأما الكذب والسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق‪ ،‬فمن أكبر الشياء كذًبا حتى يقال‪ :‬ما كذب على أحد ما كذب‬
‫على جعفر ـ رضي ال عنه‪.‬‬

‫جْفر[‪ ،‬الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث‪ .‬والجفر‪ :‬ولد الماعز‪ ،‬يزعمون أنه‬ ‫ومن هذه المور المضافة‪ :‬كتاب ]ال َ‬
‫ي ونحوه من المغاربة‪ ،‬ومثل كتاب‪] :‬الجدول[ في‬‫حّل ّ‬
‫كتب ذلك في جلده‪ ،‬وكذلك كتاب ]البطاقة[ الذي يدعيه ابن ال ِ‬
‫الهلل‪ ،‬و]الهفت[ عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره‪.‬‬

‫ومثل كتاب ]رسائل إخوان الصفا[ الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد‪ ،‬وكانوا من الصابئة المتفلسفة‬
‫المتحنفة‪ ،‬جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية وأتوا بكلم المتفلسفة‪ ،‬وبأشياء من الشريعة‪ ،‬وفيه‬
‫من الكفر والجهل شيء كثير‪ ،‬ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلم‬
‫جعفر الصادق‪ .‬وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل‪.‬‬

‫ومثل ما يذكره بعض العامة من ملحم ]ابن غنضب[‪ ،‬ويزعمون أنه كان معلًما للحسن والحسين‪ .‬وهذا شيء لم يكن‬
‫في الوجود باتفاق أهل العلم‪ ،‬وملحم ]ابن غنضب[ إنما صنفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها‪ ،‬وهو شعر‬
‫فاسد يدل على أن ناظمه جاهل‪.‬‬

‫وكذلك عامة هذه الملحم المروية بالنظم ونحوه‪ ،‬عامتها من الكاذيب‪ ،‬وقد أحدث في زماننا من القضاة والمشائخ‬
‫غير واحدة منها‪ ،‬وقد قررت بعض هؤلء على ذلك‪ ،‬بعد أن ادعى قدمها‪ ،‬وقلت له‪ :‬بل أنت صنفتها‪ ،‬ولبستها على‬
‫عّكة‪ ،‬وكذلك غيره من القضاة وغيرهم لبسوا على غير هذا‬ ‫بعض ملوك المسلمين لما كان المسلمون محاصرين َ‬
‫الملك‪.‬‬

‫وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في المور الدينية؛ لن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك‬
‫أكثر وإن كان لهل الدين إلى ذلك تشوف‪ ،‬لكن تشوفهم إلى الدين أقوى وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق‬
‫والباطل من النور ما لهل الدين‪.‬فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير‪ ،‬وأكلت به أموال عظيمة بالباطل‪،‬‬
‫وقتلت به نفوس كثيرة من المتشوفة إلى الملك ونحوها‪.‬‬

‫ولهذا ينّوعون طرق الكذب في ذلك ويتعمدون الكذب فيه‪ ،‬تارة بالحالة على الحركات والشكال الجسمانية اللهية‬
‫من حركات الفلك والكواكب‪ ،‬والشهب والرعود‪ ،‬والبروق والرياح‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وتارة بما يحدثونه هم من‬
‫الحركات والشكال‪ ،‬كالضرب بالرمل والحصى والشعير‪ ،‬والقرعة باليد ونحو ذلك‪ ،‬مما هو من جنس الستقسام‬
‫صى‪ ،‬أو غير ذلك مما‬‫حا أو ح ً‬
‫بالزلم‪ ،‬فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الستقسام بها‪ ،‬سواء كانت قدا ً‬
‫ذكره أهل العلم بالتفسير‪.‬‬

‫فكل ما يحدثه النسان بحركة من تغيير شيء من الجسام؛ ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس‪ ،‬بخلف‬
‫ل على ال فيسمع الكلمة‬
‫الفأل الشرعي‪ ،‬وهو الذي كان يعجب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو أن يخرج متوك ً‬
‫الطيبة‪) :‬وكان يعجبه الفأل‪ ،‬ويكره الطيرة( لن الفأل تقوية لما فعله بإذن ال والتوكل عليه‪ ،‬والطيرة معارضة لذلك‪،‬‬
‫فيكره للنسان أن يتطير‪ ،‬وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لنه أضر نفسه‪ ،‬فأما المتوكل على ال فل‪.‬‬
‫وليس المقصود ذكر هذه المور وسبب إصابتها تارة وخطئها تارات‪ .‬وإنما الغرض أنهم يتعمدون فيها كذًبا كثيًرا‪،‬‬
‫من غير أن تكون قد دلت على ذلك دللة‪ ،‬كما يتعمد خلق كثير الكذب في الرؤيا‪ ،‬التي منها الرؤيا الصالحة‪ ،‬وهي‬
‫جزء من ستة وأربعين جزًءا من النبوة‪ ،‬وكما كانت الجن تخلط بالكلمة تسمعها من السماء مائة كذبة‪ ،‬ثم تلقيها إلى‬
‫الكهان‪.‬‬

‫ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إني حديث عهد بجاهلية‪ ،‬وقد جاء‬
‫ل يأتون الكهان‪ .‬قال‪) :‬فل تأتهم(‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ومنا رجال يتطيرون‪ .‬قال‪) :‬ذاك شيء يجدونه‬
‫ال بالسلم‪ ،‬وإن منا رجا ً‬
‫في صدورهم‪ ،‬فل يصدهم(‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ومنا رجال يخطون‪ .‬قال‪ ) :‬كان نبي من النبياء يخط‪ ،‬فمن وافق خطه فذاك(‪.‬‬

‫فإذا كان ما هو من أجزاء النبوة ومن أخبار الملئكة ما قد يتعمد فيه الكذب الكثير‪ ،‬فكيف بما هو في نفسه مضطرب‬
‫ل يستقر على أصل؟ فلهذا تجد عامة من في دينه فساد يدخل في الكاذيب الكونية‪ ،‬مثل أهل التحاد‪ ،‬فإن ابن عربي ـ‬
‫في كتاب ]عنقاء مغرب[ وغيره ـ أخبر بمستقبلت كثيرة‪ ،‬عامتها كذب‪ ،‬وكذلك ابن سبعين‪ ،‬وكذلك الذين استخرجوا‬
‫مدة بقاء هذه المة من حساب الجمل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود‪ ،‬ومن حركات الكواكب الذي ورثوه‬
‫من الصابئة‪ ،‬كما فعل أبو نصر الكندي‪ ،‬وغيره من الفلسفة‪ ،‬وكما فعل بعض من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب‬
‫الرازي‪ ،‬ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع‪.‬‬

‫وقد رأيت من أتباع هؤلء طوائف يدعون أن هذه المور من السرار المخزونة والعلوم المصونة‪ ،‬وخاطبت في ذلك‬
‫طوائف منهم‪ ،‬وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى‪ ،‬وأنه ل يجري من هذه المور شيء‪ ،‬وطلبت مباهلة بعضهم؛‬
‫لن ذلك كان متعلًقا بأصول الدين‪ ،‬وكانوا من التحادية الذين يطول وصف دعاويهم‪.‬‬

‫فإن شيخهم الذي هو عارف وقته وزاهده عندهم‪ ،‬كانوا يزعمون أنه هو المسيح الذي ينزل‪ ،‬وأن معنى ذلك نزول‬
‫روحانية عيسى ـ عليه السلم ـ وأن أمه اسمها مريم‪ ،‬وأنه يقوم بجمع الملل الثلث‪ ،‬وأنه يظهر مظهًرا أكمل من‬
‫مظهر محمد وغيره من المرسلين‪ .‬ولهم مقالت من أعظم المنكرات يطول ذكرها ووصفها‪.‬‬

‫ثم إن من عجيب المر‪ ،‬أن هؤلء المتكلمين المدعين لحقائق المور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج‬
‫كل منهم بما يقع له من حديث موضوع‪ ،‬أو مجمل ل يفهم معناه‪ ،‬وكلما وجد أثًرا فيه إجمال نزله على رأيه‪ ،‬فيحتج‬
‫بعضهم بالمكذوب‪ ،‬مثل المكذوب المنسوب إلى عمر‪ :‬كنت كالزنجي‪ ،‬ومثل ما يروونه من ]سر المعراج[‪ ،‬وما‬
‫صّفة‪ :‬هم فقراء المهاجرين‪ ،‬ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه‪ ،‬فكانوا يأوون إلى‬ ‫صّفة ‪]-‬أهل ال ّ‬
‫يروونه من أن أهل ال ّ‬
‫ظّلل في مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم يسكنونه‪ [-.‬سمعوا المناجاة من حيث ل يشعر الرسول‪ ،‬فلما‬ ‫موضع ُم َ‬
‫نزل الرسول أخبروه‪ ،‬فقال‪) :‬من أين سمعتم؟( فقالوا‪ :‬كنا نسمع الخطاب‪.‬‬

‫حتى إني لما بينت لطائفة ـ تمشيخوا وصاروا قدوة للناس ـ أن هذا كذب ما خلقه ال قط‪ .‬قلت‪ :‬ويبين لك ذلك أن‬
‫صّفة؟‬
‫صّفة إنما كانت بالمدينة‪ ،‬فمن أين كان بمكة أهل ُ‬
‫المعراج كان بمكة بنص القرآن وبإجماع المسلمين‪ ،‬وال ّ‬

‫صّفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه مع المشركين لما انتصروا‪ ،‬وزعموا‬ ‫وكذلك احتجاجهم بأن أهل ال ُ‬
‫أنهم مع ال؛ ليحتجوا بذلك على متابعة الواقع‪ ،‬سواء كان طاعة ل أو معصية؛ وليجعلوا حكم دينه هو ما كان‪ ،‬كما‬
‫ل َما َأْشَرْكَنا َول آَباُؤَنا{ ]النعام‪ :‬من الية ‪] [148‬النعام ‪ ،[148:‬وأمثال هذه‬ ‫قال الذين أشركوا‪َ} :‬لْو َ‬
‫شاَء ا ُّ‬
‫الموضوعات كثيرة‪.‬‬

‫وأما المجملت‪ ،‬فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذكر بعض خفي العلم‪ ،‬كقول على ـ رضي ال عنه ـ‪:‬‬
‫حدثوا الناس بما يعرفون‪ ،‬ودعوا ما ينكرون‪ ،‬أتحبون أن ُيَكّذب ال ورسوله ؟ وقول عبد ال بن مسعود‪ :‬ما من رجل‬
‫يحدث قوًما بحديث ل تبلغه عقولهم إل كان فتنة لبعضهم‪ ،‬وقول عبد ال بن عباس في تفسير اليات‪ :‬ما يؤمنك أني لو‬
‫أخبرتك بتفسيرها كفرت‪ ،‬وكفرك بها تكذيبك بها‪.‬‬

‫وهذه الثار حق‪ ،‬لكن ينزل كل منهم ذاك الذي لم يحدث به على ما يدعيه هو من السرار والحقائق‪ ،‬التي إذا كشفت‬
‫وجدت من الباطل والكفر والنفاق‪ ،‬حتى إن أبا حامد الغزالي في ]منهاج القاصدين[ وغيره‪ ،‬هو وأمثاله تمثل بما‬
‫يروى عن علي بن الحسين أنه قال‪:‬‬
‫فإذا كانت هذه طرق هؤلء الذين يدعون من التحقيق وعلوم السرار ما خرجوا به عن السنة والجماعة‪ ،‬وزعموا أن‬
‫تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصة بهم‪ ،‬فآمنوا بمجملها ومتشابهها‪ ،‬وأنهم منحوا من حقائق العبادات وخالص‬
‫الديانات ما لم يمنح الصدر الول حفاظ السلم وبدور الملة‪ ،‬ولم يتجرؤوا عليها برد وتكذيب ـ مع ظهور الباطل فيها‬
‫تارة‪ ،‬وخفائه أخرى ـ فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة‪،‬‬
‫وإحاطة بأسرار المور وبواطنها‪.‬‬

‫هذا ل ينازع فيه مؤمن‪ ،‬ونحن الن في مخاطبة من في قلبه إيمان‪.‬‬

‫وإذا كان المر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول‪ ،‬وأعلمهم بأقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وحركاته‪ ،‬وسكناته‪ ،‬ومدخله‪،‬‬
‫ومخرجه‪ ،‬وباطنه‪ ،‬وظاهره‪ ،‬وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه‪ ،‬وأعظمهم بحًثا عن ذلك وعن نقلته‪ ،‬وأعظمهم تدينا‬
‫عا له واقتداء به‪ ،‬وهؤلء هم أهل السنة والحديث؛ حفظًا له‪ ،‬ومعرفة بصحيحه وسقيمه‪ ،‬وفقها فيه وفهما يؤتيه‬ ‫به واتبا ً‬
‫عا‪ ،‬مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم‬ ‫ال إياه في معانيه‪ ،‬وإيماًنا وتصديًقا‪ ،‬وطاعة وانقيادًا واقتداء واتبا ً‬
‫سا ورأًيا‪ ،‬وأصدق الناس رؤيا وكشًفا ‪.‬‬
‫سّد الناس نظًرا وقيا ً‬ ‫وتمييزهم‪ ،‬وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم‪ ،‬فإنهم أ َ‬

‫أفل يعلم من له أدنى عقل ودين‪ ،‬أن هؤلء أحق بالصدق والعلم واليمان والتحقيق ممن يخالفهم؟ وأن عندهم من‬
‫العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع؟ وأن الذي عندهم هو الحق المبين؟ وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي‬
‫معه من الحشو ما معه‪ ،‬ومن الضلل كذلك؟ وهذا باب يطول شرحه‪ ،‬فإن النفوس لها من القوال والفعال ما ل‬
‫يحصره إل ذو الجلل‪.‬‬

‫والقوال إخبارات‪ ،‬وإنشاءات؛ كالمر‪ ،‬والنهي‪ ،‬فأحسن الحديث وأصدقه كتاب ال‪ ،‬خبره أصدق الخبر‪ ،‬وبيانه‬
‫ل َوآَياِتِه ُيْؤِمُنوَن{ ]الجاثية‪ ،[6:‬وكل من اتبع كلًما أو حديًثا ـ مما‬
‫ث َبْعَد ا ِّ‬
‫حِدي ٍ‬ ‫أوضح البيان‪ ،‬وأمره أحكم المر‪َ} :‬فِبَأ ّ‬
‫ي َ‬
‫يقال‪ :‬إنه يلهمه صاحبه‪ ،‬ويوحى إليه‪ ،‬أو إنه ينشئه ويحدثه مما يعارض به القرآن ـ فهو من أعظم الظالمين ظلًما‪.‬‬

‫ولهذا لما ذكر ال ـ سبحانه ـ قول الذين ما قدروا ال حق قدره‪ ،‬حيث أنكروا النزال على البشر‪ ،‬ذكر المتشبهين به‬
‫المدعين لمماثلته من القسام الثلثة‪ ،‬فإن المماثل له إما أن يقول‪ :‬إن ال أوحى إلى‪ ،‬أو يقول‪ :‬أوحي إلى‪ ،‬وألقى إلى‪،‬‬
‫وقيل لي‪ ،‬ول يسمى القائل أو يضيف ذلك إلى نفسه‪ ،‬ويذكر أنه هو المنشئ له‪.‬‬

‫ووجه الحصر‪ :‬أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره‪ ،‬وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول ال‪ ،‬أو من قول نفسه‪ .‬فإنه إذا‬
‫جعله من كلم الشياطين لم يقبل منه‪ ،‬وما جعله من كلم الملئكة فهو داخل فيما يضيفه إلى ال‪ ،‬وفيما حذف فاعله‪،‬‬
‫ل{ ]النعام‪:‬‬ ‫لا ّ‬
‫ل َما َأَنز َ‬
‫ل ِمْث َ‬
‫سُأنِز ُ‬
‫ل َ‬
‫يٌء َوَمن َقا َ‬
‫ش ْ‬
‫ح إَِلْيِه َ‬
‫ي َوَلْم ُيو َ‬
‫ي ِإَل ّ‬
‫حَ‬
‫ل ُأْو ِ‬
‫ل َكِذًبا َأْو َقا َ‬
‫عَلى ا ّ‬
‫ن اْفَتَرى َ‬
‫ظَلُم ِمّم ِ‬ ‫فقال تعالى‪َ}:‬وَم ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫‪[93‬‬

‫وتدبر كيف جعل الولين في حيز الذي جعله وحًيا من ال ولم يسم الموحي‪ ،‬فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس‬
‫ل َكِذبًا{ }النعام‪ :‬من‬ ‫عَلى ا ِّ‬ ‫ن اْفَتَرى َ‬ ‫ظَلُم ِمّم ِ‬ ‫النباء‪ ،‬وجعل الخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله؛ ولهذا قال‪َ} :‬فَم ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫يٌء{ من‬ ‫ش ْ‬
‫ح ِإَلْيِه َ‬
‫ي َوَلْم ُيو َ‬
‫ي ِإَل ّ‬
‫حَ‬‫ل{‪ ،‬فالمفترى للكذب والقائل‪ُ}:‬أْو ِ‬ ‫لا ّ‬
‫ل َما َأَنز َ‬
‫ل ِمْث َ‬
‫سُأنِز ُ‬ ‫الية ‪ ،{144‬ثم قال‪َ} :‬وَمن َقا َ‬
‫ل َ‬
‫جملة السم الول‪ ،‬وقد قرن به السم الخر‪ ،‬فهؤلء الثلثة المدعون لشبه النبوة‪ .‬وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة‪ .‬فهذا‬
‫يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم‪ ،‬كمسيلمة الكذاب وأمثاله‪.‬‬

‫وهذه هي أصول البدع التي نردها نحن في هذا المقام؛ لن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيًرا له‪ ،‬من رأى أو كشف أو نحو ذلك‪.‬‬

‫فقد تبين أن الذين يسمون هؤلء وأئمتهم حشوية‪،‬هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه‪ ،‬وأئمة هؤلء أحق بكل علم‬
‫نافع وتحقيق‪ ،‬وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلء الجهال‪ ،‬المنكرون عليهم‪ ،‬المكذبون ل ورسوله‪.‬‬

‫ل لحشو‬
‫ن َنْبَزُهم ]الّنْبز‪ :‬الّلَقب[ بالحشوية‪ :‬إن كان لنهم يروون الحاديث بل تمييز‪ ،‬فالمخالفون لهم أعظم الناس قو ً‬
‫فإ ّ‬
‫الراء والكلم الذي ل تعرف صحته‪ ،‬بل يعلم بطلنه‪ ،‬وإن كان لن فيهم عامة ل يميزون‪ ،‬فما من فرقة من تلك‬
‫عّمار المساجد بالصلوات‪ ،‬وأهل الذكر‬‫الفرق إل ومن أتباعها من أجهل الخلق وأكفرهم‪ ،‬وعوام هؤلء هم ُ‬
‫والدعوات‪ ،‬وحجاج البيت العتيق‪ ،‬والمجاهدون في سبيل ال‪ ،‬وأهل الصدق والمانة‪ ،‬وكل خير في العالم‪ .‬فقد تبين‬
‫لك أنهم أحق بوجوه الذم‪ ،‬وأن هؤلء أبعد عنها‪ ،‬وأن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم‪ ،‬فيما اختصهم ال به من‬
‫الوراثة النبوية التي ل توجد إل عندهم‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فينبغي النظر في الموسومين بهذا السم وفي الواسمين لهم به‪ :‬أيهما أحق؟ وقد علم أن هذا السم مما اشتهر‬
‫وأي ً‬
‫عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة‪ ،‬كما ذكر العلماء ـ كأبي حاتم وغيره ـ أن علمة الزنادقة تسميتهم لهل الحديث‬
‫حشوية‪.‬‬

‫ونحن نتكلم بالسماء التي ل نزاع فيها‪ ،‬مثل‪ :‬لفظ ]الثبات‪ ،‬والنفي[ فنقول‪:‬‬

‫من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره‪ ،‬فكل من كان عنه أبعد كان أعظم‬
‫ذًما بذلك؛ كالقرامطة‪ ،‬ثم الفلسفة‪ ،‬ثم المعتزلة‪ ،‬وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلبية والكرامية‪،‬‬
‫والشعرية‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬والصوفية وغيرهم‪ ،‬فكل من اتبع النصوص وأقرها سموه بذلك‪ ،‬ومن قال بالصفات العقلية‬
‫مثل‪ :‬العلم والقدرة‪ ،‬دون الخبرية‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬سمى مثبتة الصفات الخبرية حشوية‪ ،‬كما يفعل أبو المعالي الجويني‪،‬‬
‫وأبو حامد الغزالي ونحوهما‪.‬‬

‫ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه وكلمه‪ ،‬لكن أبو محمد كان أعلم بالحديث وأتبع له من أبي المعالي‬
‫عا للكلم‪ ،‬وهما في العربية متقاربان‪.‬‬
‫وبمذاهب الفقهاء‪ .‬وأبو المعالي أكثر اتبا ً‬

‫وهؤلء يعيبون منازعهم‪ ،‬إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه‪ ،‬أو لكون اتباع الحديث في‬
‫مسائل الصول من مذهب الحشو؛ لنها مسائل علمية‪ ،‬والحديث ل يفيد ذلك‪ ،‬لن اتباع النصوص مطلًقا في المباحث‬
‫الصولية الكلمية حشو؛ لن النصوص ل تفي بذلك؛ فالمر راجع إلى أحد أمرين‪ :‬إما ريب في السناد أو في‬
‫المتن‪ ،‬إما لنهم يضيفون إلى الرسول ما لم يعلم أنه قاله؛ كأخبار الحاد‪ ،‬ويجعلون مقتضاها العلم‪ ،‬وإما لنهم‬
‫يجعلون ما فهموه من اللفظ معلوًما وليس هو بمعلوم‪ ،‬لما في الدلة اللفظية من الحتمال‪.‬‬

‫ول ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق‪ ،‬يبطل العلم بما بعث ال به رسوله‪ ،‬تارة يقول‪ :‬ل نعلم أنهم قالوا ذلك‪،‬‬
‫وتارة يقول‪ :‬ل نعلم ما أرادوا بهذا القول‪ .‬ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه‪ ،‬لم يستفد من جهتهم علم‪ ،‬فيتمكن بعد ذلك‬
‫أن يقول ما يقول من المقالت‪ ،‬وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار النبياء؛ لنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين‬
‫الدافعين لجنود الرسول عنه‪ ،‬الطاعنين لمن احتج بها‪.‬‬

‫وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة‪ ،‬وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من ل يتلقى من جهتهم علًما‪،‬‬
‫ظا‪،‬‬
‫سّكة‪ :‬حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم[ والخطبة رسًما ولف ً‬
‫سّكة ]ال ّ‬
‫فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطي ال ّ‬
‫ل‪ ،‬من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع‪ .‬فله صورة المامة بما جعل له من السكة والخطبة‪ ،‬وليس له‬ ‫كتابة وقو ً‬
‫حقيقتها‪.‬‬

‫وهذا القدر ـ وإن استجازه كثير من الملوك ـ لعجز بعض الخلفاء عن القيام بواجبات المارة من الجهاد والسياسة‪،‬‬
‫كما يفعل ذلك كثير من نواب الولة لضعف مستنيبه وعجزه فيتركب من تقدم ذي المنصب والبيت وقوة نائبه صلح‬
‫المر‪ ،‬أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرئاسة ولطائفته‪ ،‬دون من هو أحق بذلك منه‪ ،‬وسلك مسلك المتغلبين بالعدوان ـ‬
‫فمن المعلوم أن المؤمن بال ورسوله ل يستجيز أن يقول في الرسالة‪ :‬إنها عاجزة عن تحقيق العلم وبيانه‪ ،‬حتى يكون‬
‫القرار بها مع تحقيق العلم اللهي من غيرها موجًبا لصلح الدين‪ ،‬ول يستجيز أن يتعدى عليها بالتقدم بين يدي ال‬
‫ورسوله‪ ،‬ويقدم علمه وقوله على علم الرسول وقوله‪ ،‬ول يستجيز أن يسلط عليها التأويلت العقلية‪ ،‬ويدعى أن ذلك‬
‫ل إل بذلك‪.‬‬
‫من كمال الدين‪ ،‬وأن الدين ل يكون كام ً‬

‫وأحسن أحواله‪ :‬أن يدعي أن الرسول كان عالًما بأن ما أخبر به له تأويلت وتبيان‪ ،‬غير ما يدل عليه ظاهر قوله‬
‫ومفهومه‪ ،‬وأنه ما ترك ذلك إل لنه ما كان يمكنه البيان بين أولئك العراب ونحوهم‪ ،‬وأنه وكل ذلك إلى عقول‬
‫المتأخرين‪ ،‬وهذا هو الواقع منهم‪.‬‬
‫فإن المتفلسفة تقول‪ :‬إن الرسل لم يتمكنوا من بيان الحقائق لن إظهارها يفسد الناس‪ ،‬ول تحتمل عقولهم ذلك‪ ،‬ثم قد‬
‫يقولون‪ :‬إنهم عرفوها‪ .‬وقد يقول بعضهم‪ :‬لم يعرفوها‪ ،‬أو أنا أعرف بها منهم‪ ،‬ثم يبينونها هم بالطرق القياسية‬
‫الموجودة عندهم‪ .‬ولم يعقلوا أنه إن كان العلم بها ممكنا فهو ممكن لهم‪ ،‬كما يدعون أنه ممكن لهم‪ ،‬وإل فل سبيل لهم‬
‫إلى معرفتها بإقرارهم‪ ،‬وكذلك التعبير وبيان العلم بالخطاب والكتاب إن لم يكن ممكًنا فل يمكنكم ذلك وأنتم تتكلمون‬
‫وتكتبون علمكم في الكتب‪ .‬وإن كان ذلك ممكًنا فل يصح قولكم‪ :‬لم يمكن الرسل ذلك‪.‬‬

‫وإن قلتم‪ :‬يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم ـ وهذا قـولهم ـ فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند‬
‫خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم‪ .‬ومن المعلوم أن كل من كان بكلم المتبوع وأحواله وبواطن أموره‬
‫وظواهرها أعلم‪ ،‬وهو بذلك أقوم‪ ،‬كان أحق بالختصاص به‪ .‬ول ريب أن أهل الحديث أعلم المة وأخصها بعلم‬
‫الرسول‪ ،‬وعلم خاصته مثل‪ :‬الخلفاء الراشدين وسائر العشرة‪ ،‬ومثل‪ :‬أبي بن كعب‪ ،‬وعبد ال ابن مسعود‪ ،‬ومعاذ بن‬
‫جبل‪ ،‬وعبد ال بن سلم‪ ،‬وسلمان الفارسي‪ ،‬وأبي الدرداء‪ ،‬وعبادة بن الصامت‪ ،‬وأبي ذر الغفاري‪ ،‬وعمار بن ياسر‪،‬‬
‫وحذيفة بن اليمان‪ ،‬ومثل‪ :‬سعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وسعد بن عبادة‪ ،‬وعباد بن بشر‪ ،‬وسالم مولي أبي حذيفة‪،‬‬
‫وغير هؤلء ممن كان أخص الناس بالرسول‪ ،‬وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك‪.‬‬

‫فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلء وببواطن أمورهم‪ ،‬وأتبعهم لذلك‪ ،‬فيكون عندهم العلم‪ :‬علم خاصة الرسول وبطانته‪،‬‬
‫كما أن خواص الفلسفة يعلمون علم أئمتهم‪ ،‬وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم‪ ،‬وخواص القرامطة والباطنية‬
‫يعلمون علم أئمتهم‪ ،‬وكذلك أئمة السلم مثل أئمة العلماء‪ .‬فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره‪ ،‬مثل‪ :‬مالك بن‬
‫أنس‪ ،‬فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد أتباعه على روايته‪ ،‬حتى إنه تؤخذ عنه‬
‫مسائل السر التي رواها ابن أبي الَغْمر‪ ،‬وإن طعن بعض الناس فيها‪ ،‬وكذلك أبو حنيفة‪ ،‬فأبو يوسف‪ ،‬ومحمد ‪ ،‬وُزَفر‬
‫أعلم الناس به‪ ،‬وكذلك غيرهما‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به‪ ،‬كما قال‬ ‫وقد يكتب العالم كتاًبا أو يقول قو ً‬
‫عى من ساِمع(‪ ،‬لكن بكل حال لبد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين‬
‫ب ُمَبّلغ أْو َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬فُر ّ‬
‫بحال المبلغ عنه‪ ،‬كما يكون في أتباع الئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم‪.‬‬

‫ل ودعوة إلى ال‬ ‫ومن المستقر في أذهان المسلمين‪ :‬أن ورثة الرسل وخلفاء النبياء هم الذين قاموا بالدين علًما وعم ً‬
‫والرسول‪ ،‬فهؤلء أتباع الرسول حًقا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الرض التي زكت‪ ،‬فقبلت الماء فأنبتت الكل‬
‫شب الكثير‪ ،‬فزكت في نفسها وزكى الناس بها‪ .‬وهؤلء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على‬ ‫والُع ْ‬
‫لْيِدي‬
‫ب ُأْوِلي ا َْ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬
‫حَ‬‫سَ‬ ‫الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة النبياء الذين قال ال تعالى فيهم ‪َ}:‬واْذُكْر ِ‬
‫عَباَدَنا إْبَراِهيَم َوِإ ْ‬
‫صاِر{ ]ص‪ ،[45:‬فاليدي‪ :‬القوُة في أمر ال‪ ،‬والبصار‪ :‬البصائُر في دين ال‪ ،‬فبالبصائر يدرك الحق ويعرف‪،‬‬ ‫لْب َ‬
‫َوا َْ‬
‫وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه‪.‬‬

‫جرت من النصوص أنهار العلوم‪،‬‬ ‫فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل‪ ،‬فف ّ‬
‫صا‪ ،‬كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ وقد‬ ‫واستنبطت منها كنوزها‪ ،‬ورزقت فيها فهمًا خا ً‬
‫سمة‪ ،‬إل فهما‬
‫سئل‪ :‬هل خصكم رسول اللهصلى ال عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال‪ :‬ل والذي فلق الحبة وَبَرأ الّن َ‬
‫يؤتيه ال عبًدا في كتابه‪.‬‬

‫فهذا الفهم هو بمنزلة الكل والعشب الذي أنبتته الرض الطيبة‪ .‬وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية‪،‬‬
‫وهي التي حفظت النصوص‪ ،‬فكان همها حفظها وضبطها‪ ،‬فوردها الناس وتلقوها بالقبول‪ ،‬واستنبطوا منها‬
‫ل ُأَنا ٍ‬
‫س‬ ‫واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها‪ ،‬وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات‪ ،‬ورووها كل بحسبه‪َ{:‬قْد َ‬
‫عِلَم ُك ّ‬
‫ّمْشَرَبُهْم{‪.‬‬

‫عاها‪ ،‬ثم أداها كما سمعها‪ ،‬فُر ّ‬


‫ب‬ ‫ضر ال امرأ سمع مقالتي فَو َ‬‫وهؤلء الذين قال فيهم النبي صلى ال عليه وسلم‪َ) :‬ن ّ‬
‫حامل فقه وليس بفقيه‪ ،‬ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه(‪.‬‬

‫وهذا عبد ال بن عباس ـ رضي ال عنهما ـ حبر المة‪ ،‬وترجمان القرآن‪ ،‬مقدار ما سمعه من النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ل يبلغ نحو العشرين حديًثا الذي ‪/‬يقول فيه‪ :‬سمعت ورأيت‪ ،‬وسمع الكثير من الصحابة‪ ،‬وبورك له في فهمه‬
‫والستنباط منه‪ ،‬حتى مل الدنيا علًما وفقًها‪ ،‬قال أبو محمد ابن حزم‪ :‬وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار‪ ،‬وهي‬
‫بحسب ما بلغ جامعها‪ ،‬وإل فعلم ابن عباس كالبحر‪ ،‬وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس‪،‬‬
‫وقد سمعوا ما سمع‪ ،‬وحفظوا القرآن كما حفظه‪ ،‬ولكن أرضه كانت من أطيب الراضي وأقبلها للزرع‪ ،‬فبذر فيها‬
‫ظيِم{ ]الجمعة‪.[4 :‬‬
‫ل اْلَع ِ‬
‫ضِ‬‫ل ُذو اْلَف ْ‬
‫شاء َوا ُّ‬
‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫ضُ‬ ‫النصوص‪ ،‬فأنبتت من كل زوج كريم‪ ،‬و}َذِل َ‬
‫ك َف ْ‬

‫وأين تقع فتاوى ابن عباس‪ ،‬وتفسيره‪ ،‬واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه‪ ،‬بل هو حافظ‬
‫سا‪ ،‬فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه‬
‫سه بالليل َدْر ً‬
‫المة على الطلق يؤدي الحديث كما سمعه وَيْدُر ُ‬
‫كما سمعه‪ ،‬وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه‪ ،‬والستنباط‪ ،‬وتفجير النصوص‪ ،‬وشق النهار منها واستخراج‬
‫كنوزها‪.‬‬

‫وهكذا ورثتهم من بعدهم‪ ،‬اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص‪ ،‬ل على خيال فلسفي‪ ،‬ول رأي قياسي‪ ،‬ول غير‬
‫ذلك من الراء المبتدعات‪ ،‬ل جرم كانت الدائرة والثناء الصدق‪ ،‬والجزاء العاجل والجل لورثة النبياء التابعين لهم‬
‫ل{ ]آل عمران‪[31:‬‬ ‫حِبْبُكُم ا ّ‬
‫ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ‬
‫نا ّ‬
‫حّبو َ‬ ‫في الدنيا والخرة؛ فإن المرء على دين خليله‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل ِإن ُكنُتْم ُت ِ‬

‫‪ /‬وبكل حال‪ ،‬فهم أعلم المة بحديث الرسول‪ ،‬وسيرته ومقاصده وأحواله‪.‬‬

‫ونحن ل نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه‪ ،‬أو كتابته أو روايته‪ ،‬بل نعني بهم‪ :‬كل من كان أحق بحفظه‪،‬‬
‫ومعرفته وفهمه ظاهًرا وباطًنا‪ ،‬واتباعه باطًنا وظاهًرا‪ ،‬وكذلك أهل القرآن‪.‬‬

‫وأدنى خصلة في هؤلء محبُة القرآن والحديث‪ ،‬والبحث عنهما وعن معانيهما‪ ،‬والعمل بما علموه من موجبهما‪.‬‬
‫خَبُر بالرسول من فقهاء غيرهم‪ ،‬وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم‪ ،‬وأمراؤهم أحق‬‫ففقهاء الحديث أ ْ‬
‫بالسياسة النبوية من غيرهم‪ ،‬وعامتهم أحق بموالة الرسول من غيرهم‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلم‪ ،‬المعتقدين لمضمونهما‪ ،‬هم أبعد عن معرفة الحديث‪ ،‬وأبعد عن اتباعه من‬
‫هؤلء‪ .‬هذا أمر محسوس‪ ،‬بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى ال عليه وسلم وأحواله‪،‬‬
‫وبواطن أموره وظواهرها‪ ،‬حتى لتجد كثيًرا من العامة أعلم بذلك منهم‪ ،‬ولتجدهم ل يميزون بين ما قاله الرسول وما‬
‫لم يقله‪ ،‬بل قد ل يفرقون بين حديث متواتر عنه‪ ،‬وحديث مكذوب موضوع عليه‪.‬‬

‫عا أو غير موضوع‪ ،‬فيعدلون إلى أحاديث يعلم‬ ‫وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم‪ ،‬سواء كان موضو ً‬
‫خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذبة عليه‪ ،‬عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله‪ ،‬وهم ‪ /‬ل‬
‫ل عن الحديث‪ ،‬بل كثير منهم ل يحفظون القرآن أصل‪.‬‬ ‫يعلمون مراده‪ ،‬بل غالب هؤلء ل يعلمون معاني القرآن‪ ،‬فض ً‬
‫فمن ل يحفظ القرآن‪ ،‬ول يعرف معانيه‪ ،‬و ل يعرف الحديث ول معانيه‪ ،‬من أين يكون عارًفا بالحقائق المأخوذة عن‬
‫الرسول؟!‬

‫وإذا تدبر العاقل‪ ،‬وجد الطوائف كلها‪ ،‬كلما كانت الطائفة إلى ال ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف‬
‫وأعظم عناية‪ ،‬وإذا كانت عن ال وعن رسوله أبعد‪ ،‬كانت عنهما أنأى‪ ،‬حتى تجد في أئمة علماء هؤلء من ل يميز‬
‫بين القرآن وغيره‪ ،‬بل ربما ذكرت عنده آية‪ ،‬فقال‪ :‬ل نسلم صحة الحديث ! وربما قال‪ :‬لقوله عليه السلم كذا‪ ،‬وتكون‬
‫آية من كتاب ال‪ .‬وقد بلغنا من ذلك عجائب‪ ،‬وما لم يبلغنا أكثر‪.‬‬

‫ل يسمى ]شمس الدين الصبهاني[‬ ‫وحدثني ثقة‪ :‬أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين‪ ،‬رج ٌ‬
‫ص ( حتى قيل له‪ :‬ألف لم ميم صاد‪.‬‬
‫حيِم اْلَم ْ‬
‫ن الّر ِ‬
‫حَم ِ‬
‫ل الّر ْ‬
‫سِم ا ِّ‬
‫شيخ اليكي‪ ،‬فأعطوه جزًءا من الربعة فقرأ‪ِ) :‬ب ْ‬

‫فتأمل هذه الحكومة العادلة! ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث‪ ،‬ويعدلون عن مذهبهم‪ ،‬جهلة زنادقة منافقون بل‬
‫ريب؛ ولهذا لما بلغ المام أحمد عن ]ابن أبي قتيلة[ أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة‪ ،‬فقال‪ :‬قوم سوء‪ .‬فقام المام‬
‫أحمد‪ ،‬وهو ينفض ثوبه‪ ،‬ويقول‪ :‬زنديق‪ ،‬زنديق‪ ،‬زنديق‪ .‬ودخل بيته‪ ،‬فإنه عرف مغزاه‪.‬‬
‫‪ /‬وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم‪ ،‬من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫وأما أهل العلم فكانوا يقولون‪ :‬هم ]البدال[ لنهم أبدال النبياء وقائمون مقامهم حقيقة‪ ،‬ليسوا من المعدمين الذين ل‬
‫يعرف لهم حقيقة‪ ،‬كل منهم يقوم مقام النبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه‪ ،‬هذا في العلم والمقال‪ ،‬وهذا في العبادة‬
‫والحال‪ ،‬وهذا في المرين جميًعا‪ .‬وكانوا يقولون‪ :‬هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة‪ ،‬الظاهرون على الحق؛ لن‬
‫الهدى ودين الحق الذي بعث ال به رسله معهم‪ ،‬وهو الذي وعد ال بظهوره على الدين كله‪ ،‬وكفى بال شهيًدا‪.‬‬

‫فصــل‬

‫وتلخيص النكتة‪ :‬أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية‪ ،‬أو لم يعلموها‪ ،‬وإذا علموها‪ ،‬فإما أنه كان‬
‫يمكنهم بيانها بالكلم والكتاب‪ ،‬أو ل يمكنهم ذلك‪ ،‬وإذا أمكنهم ذلك البيان‪ ،‬فإما أن يمكن للعامة وللخاصة‪ ،‬أو للخاصة‬
‫فقط‪.‬‬

‫فإن قال‪ :‬إنهم لم يعلموها‪ ،‬وإن الفلسفة والمتكلمين أعلم بها منهم‪ ،‬وأحسن بياًنا لها منهم‪ ،‬فلريب أن هذا قول الزنادقة‬
‫المنافقين‪ .‬وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة‪ ،‬وأنه ل يقوله إل منافق أو جاهل‪.‬‬

‫وإن قال‪ :‬إن الرسل مقصدهم صلح عموم الخلق‪ ،‬وعموم الخلق ل يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة‪ ،‬فخاطبوهم‬
‫بضرب المثال؛ لينتفعوا بذلك‪ ،‬وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية‪ ،‬فتضمن خطابهم عن ال وعن اليوم‬
‫الخر‪ ،‬من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر اليمان بال وبالمعاد‪ .‬وذلك‬
‫يقرر في النفوس من عظمة ال وعظمة اليوم الخر ما يحض النفوس على عبادة ال‪ ،‬وعلى الرجاء والخوف؛‬
‫فينتفعون ‪ /‬بذلك‪ ،‬وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية المكان في كشف‬
‫الحقائق لعموم النوع البشرى‪ ،‬ومقصود الرسل حفظ النوع البشري‪ ،‬وإقامة مصلحة معاشه ومعاده‪.‬‬

‫حّذاق الفلسفة‪ ،‬مثل‪ :‬الفارابي‪ ،‬وابن سينا وغيرهما‪ ،‬وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين‬
‫فمعلوم أن هذا قول ُ‬
‫في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث‪.‬‬

‫فالفارابي يقول‪ :‬إن خاصة النبوة جودة تخييل المور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة‪.‬‬

‫وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع‪ ،‬ويقول‪ :‬ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين‪ ،‬ول يمكن‬
‫محمد مع أولئك العرب الجفاة‪ ،‬أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه‪ ،‬فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك‪ ،‬وإن فهموه‬
‫على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لنهم ليرون فيه من العلم ما يقتضي العمل‪.‬‬

‫وهذا المعنى يوجد في كلم أبي حامد الغزالي وأمثاله‪ ،‬ومن بعده طائفة منه في الحياء وغير الحياء‪ ،‬وكذلك في‬
‫كلم الرازي‪.‬‬

‫وأما التحادية ونحوهم من المتكلمين‪ ،‬فعليه مدارهم‪ ،‬ومبنى كلم الباطنية والقرامطة عليه‪ ،‬لكن هؤلء ينكرون‬
‫ظواهر المور العملية ‪ /‬والعلمية جميًعا‪ ،‬وأما غير هؤلء فل ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة‪ ،‬لكن قد يجعلونها‬
‫لعموم الناس ل لخصوصهم‪ ،‬كما يقولون مثل ذلك في المور الخبرية‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وأما الخاصة فل‪ .‬وعلى هذا يدور كلم‬


‫ومدار كلمهم على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علمًا وعم ً‬
‫أصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وسائر فضلء المتفلسفة‪.‬‬

‫ثم منهم من يوجب اتباع المور العملية من المور الشرعية‪ ،‬وهؤلء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلء‬
‫فلسفتهم‪ .‬وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية‪ ،‬فإن قدماء الفلسفة كانوا‬
‫يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلد‪ ،‬فلن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى‪ .‬فإنهم ـ كماقال ابن‬
‫سينا‪ :‬اتفق فلسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي‪.‬‬
‫وكل عقلء الفلسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري‪ ،‬وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلسفة‬
‫المشاهير‪ ،‬ثم قد يزعمون أن الرسل والنبياء حكماء كبار‪ ،‬وأن الفلسفة الحكماء أنبياء صغار‪ ،‬وقد يجعلونهم‬
‫صنفين‪ .‬وليس هذا موضع شرح ذلك‪ ،‬فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وإنما الغرض أن هؤلء الساطين من الفلسفة والمتكلمين‪ ،‬غاية ‪/‬ما يقولون هذا القول‪ ،‬ونحن ذكرنا المر على وجه‬
‫ل‪ ،‬إما جاهل‪ ،‬وإما منافق‪،‬‬‫التقسيم العقلي الحاصر لئل يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعم ً‬
‫والمنافق جاهل وزيادة‪ ،‬كما سنبينه ـ إن شاء ال ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق‪ ،‬وإن كان ل يعلم بها فالمنكر لذلك‬
‫جاهل منافق‪.‬‬

‫فقلنا‪ :‬إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق‪ ،‬وأحسن بياًنا لها‪ ،‬فهذا زنديق منافق إذا أظهر اليمان‬
‫بهم باتفاق المؤمنين‪ ،‬وسيجىء الكلم معه‪.‬‬

‫وإن قال‪ :‬إن الرسل كانوا أعظم علًما وبياًنا‪ ،‬لكن هذه الحقائق ل يمكن علمها‪ ،‬أو ل يمكن بيانها مطلًقا‪ ،‬أو يمكن‬
‫المران للخاصة‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬فحينئذ ل يمكنكم أنتم ما عجزت عنه الرسل من العلم والبيان‪.‬‬

‫إن قلتم‪ :‬ل يمكن علمها‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬فأنتم وأكابركم ليمكنكم علمها بطريق الولى‪.‬‬

‫وإن قلتم‪ :‬ل يمكنهم بيانها‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬فأنتم وأكابركم ل يمكنكم بيانها‪.‬‬

‫وإن قلتم‪ :‬يمكن ذلك للخاصة دون العامة‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬فيمكن ذلك من الرسل للخاصة دون العامة‪.‬‬

‫‪ /‬فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك‪ ،‬جعلوا السابقين الولين دون المتأخرين في‬
‫العلم واليمان‪ .‬وهذا من مقالت الزنادقة؛ لنه قد جعل بعض المم الوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عق ً‬
‫ل‬
‫وتحقيًقا للمور اللهية وللعبادية من هذه المة‪ ،‬فهذا من مقالت المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه‬
‫المة خير المم وأكملهم‪ ،‬وأن أكمل هذه المة وأفضلها هم سابقوها‪.‬‬

‫وإذا سلم ذلك‪ ،‬فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم‪ :‬أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال المام أحمد في رسالة‬
‫عبدوس بن مالك‪ :‬أصول السنة عندنا‪ :‬التمسك بما كان عليه أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم والقتداء بهم‪،‬‬
‫وترك البدع‪ ،‬وكل بدعة ضللة‪ ،‬والسنة عندنا‪ :‬آثار رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والسنة تفسر القرآن‪ ،‬وهي دلئل‬
‫القرآن‪ ،‬أي‪ :‬دللت على معناه‪.‬‬

‫سَبأ؛‬
‫ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة‪ ،‬وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافًقا زنديًقا‪ ،‬وهو عبد ال بن َ‬
‫فإنه إذا قدح في السابقين الولين فقد قدح في نقل الرسالة‪ ،‬أو في فهمها‪ ،‬أو في اتباعها‪ .‬فالرافضة تقدح تارة في‬
‫علمهم بها‪ ،‬وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود‪.‬‬

‫والزنادقة من الفلسفة والنصيرية وغيرهم‪ ،‬يقدحون تارة في النقل‪ ،‬وهو ‪ /‬قول جهالهم‪ ،‬وتارة يقدحون في فهم‬
‫ضا‪،‬‬
‫حّذاقهم‪ ،‬كما يذهب إليه أكابر الفلسفة والتحادية ونحوهم‪ ،‬حتى كان التلمساني مرة مري ً‬‫الرسالة‪ ،‬وهو قول ُ‬
‫فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث‪ ،‬فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب‪ ،‬وأن المر مداره على‬
‫الكشف‪ ،‬وغرضه كشف الوجود المطلق‪ ،‬فقال ذلك الطالب‪ :‬فما معنى قول أم الدرداء‪ :‬أفضل عمل أبي الدرداء‬
‫ي مثل هذا؟ ثم قال‪ :‬أتدري يا بني ما مثل أبي‬
‫التفكر؟ فتبرم بدخول مثل هذا عليه‪ ،‬وقال للذي جاء به‪ :‬كيف يدخل عل ّ‬
‫الدرداء وأمثاله؟ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلًما وحفظوه لنا‪ ،‬حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه‪ ،‬ومثل‬
‫بريد حمل كتاًبا من السلطان إلى نائبه‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فقد طال عهدي بالحكاية‪ ،‬حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة‬
‫ن كثير‪.‬‬
‫جَول ٌ‬
‫يعرف ما يقول في هذا‪ .‬وكان له في هذه الفنون َ‬

‫وكذلك ابن سينا‪ ،‬وغيره‪ ،‬يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة‪ ،‬حتى تجدهم إذا ذكروا في‬
‫آخر الفلسفة حاجة النوع النساني إلى المامة‪ ،‬عرضوا بقول الرافضة الضلل‪ ،‬لكن أولئك يصرحون من السب‬
‫بأكثر مما يصرح به هؤلء‪.‬‬

‫ولهذا تجد بين ]الرافضة[ و]القرامطة[ و]التحادية[ اقتراًنا واشتباًها‪ .‬يجمعهم أمور‪:‬‬

‫منها‪ :‬الطعن في خيار هذه المة‪ ،‬وفيما عليه أهل السنة والجماعة‪ ،‬وفيما ‪ /‬استقر من أصول الملة وقواعد الدين‪،‬‬
‫ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم‪ ،‬ثم هم مع ذلك متلعنون‪ ،‬متباغضون مختلفون‪ ،‬كما رأيت‬
‫ظا ّمّما ُذّكُروْا‬‫حّ‬‫سوْا َ‬
‫خْذَنا ِميَثاَقُهْم َفَن ُ‬
‫صاَرى َأ َ‬ ‫وسمعت من ذلك ما ل يحصى‪ ،‬كما قال ال عن النصارى‪َ} :‬وِم َ‬
‫ن اّلِذينَ َقاُلوْا ِإّنا َن َ‬
‫ضاء ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]المائدة‪ ،[14:‬وقال عن اليهود‪َ} :‬وَأْلَقْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ‬
‫ضاء ِإَلى َيْوِم‬ ‫غَرْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ‬
‫ِبِه َفَأ ْ‬
‫ل{ ]المائدة‪.[64:‬‬
‫طَفَأَها ا ّ‬
‫ب َأ ْ‬
‫حْر ِ‬ ‫اْلِقَياَمِة ُكّلَما َأْوَقُدوْا َناًرا ّلْل َ‬

‫وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين‪ ،‬وتارة مع الفلسفة الصابئين‪،‬‬
‫وتارة مع الكفار المشركين‪ ،‬وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة‪ ،‬وتارة يتحيرون بين الطوائف‪،‬‬
‫وهذه الطائفة الخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى السلم من العلماء والمراء وغيرهم‪ ،‬لسيما لما ظهر‬
‫المشركون من الترك على أرض السلم بالمشرق في أثناء المائة السابعة‪ .‬وكان كثير ممن ينتسب إلى السلم فيه‬
‫من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلد المسلمين‪.‬‬

‫فتجد أبا عبد ال الرازي يطعن في دللة الدلة اللفظية على اليقين‪ ،‬وفي إفادة الخبار للعلم‪ ،‬وهذان هما مقدمتا الزندقة‬
‫ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور السلم على ما علم بالضطرار من دين السلم‪ ،‬مثل العبادات‬
‫والمحرمات الظاهرة‪ ،‬وكذلك القرار بمعاد الجساد ـ بعد الطلع على التفاسير والحاديث ـ يجعل العلم بذلك‬
‫مستفاًدا من أمور كثيرة‪ ،‬فل يعطل تعطيل‪ /‬الفلسفة الصابئين‪ ،‬ول يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين‪.‬‬
‫وكذلك]الصحابة[‪ ،‬وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع‪ :‬أنهم لم يعلموا شبهات‬
‫الفلسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثوًرا عنهم التكلم بلغة الفلسفة‪ ،‬ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم‪. . .‬‬
‫]بياض[‪.‬‬

‫وكذلك هذه المقالت ل تجدها إل عند أجهل المتكلمين في العلم‪ ،‬وأظلمهم من هؤلء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة‬
‫والتحادية في الصحابة‪ ،‬مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة‪ :‬أنا أشجع منهم‪ ،‬وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه‪،‬‬
‫ول باشروا الحروب مباشرتنا‪ ،‬ول ساسوا سياستنا‪ ،‬وهذا ل تجده إل في أجهل الملوك وأظلمهم‪.‬‬

‫فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم‪ ،‬وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه‪ ،‬فهذا ل يضرهم؛ إذ العلم‬
‫بلغات المم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم‪ ،‬بل يجب منه ما ل يتم التبليغ إل به‪ ،‬فالمتوسطون بينهم من‬
‫التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه‪ .‬فإن كان المعنيان واحًدا كالشمس والقمر‪ ،‬وإل علموا ما بين المعنيين من‬
‫الجتماع والفتراق‪ ،‬فينقل لكل منهما مراد صاحبه‪ ،‬كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل‪ ،‬والتشابه‪،‬‬
‫والتقارب‪.‬‬

‫‪/‬فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول‪ ،‬وفيما جاء به بيان الحجة على بطلن كفر كل كافر‪ ،‬وبيان ذلك بقياس‬
‫سيًرا{‬
‫ن َتْف ِ‬
‫سَ‬‫حَ‬
‫ق َوَأ ْ‬
‫حّ‬‫ك ِباْل َ‬
‫جْئَنا َ‬
‫ل ِ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ك ِبَمَث ٍ‬ ‫صحيح أحق وأحسن بياًنا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْأُتوَن َ‬
‫]الفرقان‪ ،[33 :‬أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار ل يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إل جاءه ال بالحق‪ ،‬وجاءه من البيان‬
‫حا للحق من قياسهم‪.‬‬ ‫والدليل‪ ،‬وضرب المثل بما هو أحسن تفسيًرا وكشًفا وإيضا ً‬

‫وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة‪.‬‬
‫عُدّوا‬
‫ي َ‬‫ل َنِب ّ‬
‫جَعْلَنا ِلُك ّ‬
‫ك َ‬
‫جوًرا َوَكَذِل َ‬ ‫ن َمْه ُ‬ ‫خُذوا َهَذا اْلُقْرآ َ‬
‫ن َقْوِمي اّت َ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫ل َيا َر ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫وهذه الية ذكرها ال تعالى بعد قوله‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ل الّر ُ‬
‫صيًرا{ ]الفرقان‪ ،[31 ،30:‬فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول‪ ،‬وأن هذه‬ ‫ك َهاِدًيا َوَن ِ‬‫ن َوَكَفى ِبَرّب َ‬ ‫ن اْلُمجِْرِمي َ‬‫ّم َ‬
‫سولِ‬‫ت َمَع الّر ُ‬‫خْذ ُ‬ ‫ل َيا َلْيَتِني اّت َ‬
‫عَلى َيَدْيِه َيُقو ُ‬ ‫ظاِلُم َ‬‫ض ال ّ‬‫العداوة أمر لبد منه‪ ،‬ول مفر عنه‪ ،‬أل ترى إلى قوله تعالى‪َ} :‬وَيْوَم َيعَ ّ‬
‫لنَساِن َخُذوًل{ ]الفرقان‪.[27-29:‬‬ ‫ن ِل ِْ‬
‫طا ُ‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫جاءِني َوَكا َ‬‫ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ‬
‫عِ‬ ‫ضّلِني َ‬
‫ل َلَقْد َأ َ‬
‫خِلي ً‬
‫لًنا َ‬
‫خْذ ُف َ‬‫ل َيا َوْيَلَتى َلْيَتِني َلْم َأّت ِ‬
‫سِبي ً‬
‫َ‬

‫وال ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمًدا صلى ال عليه وسلم إلى جميع العالمين‪ ،‬وضرب المثال فيما أرسله به لجميعهم‪،‬‬
‫س ِفي َهَذا اْلُقْرآِن ِمن ُكّل َمَثٍل ّلَعّلُهْم َيَتَذّكُروَن{ ]الزمر‪ ،[27:‬فأخبر أنه ضرب لجميع الناس‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َ‬
‫ضَرْبَنا ِللّنا ِ‬
‫في هذا القرآن من كل مثل‪.‬‬

‫‪ /‬ول ريب أن اللفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات‪ ،‬كالسلح في المحاربات‪ .‬فإذا كان عدو المسلمين ـ في‬
‫تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم‪ ،‬كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة‬
‫التي مبناها على تحري ما هو ل أطوع وللعبد أنفع‪ ،‬وهو الصلح في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك‪ ،‬ل لفضل قوته وشجاعته‪ ،‬ولكن لمجانسته لهم‪ ،‬كما‬
‫يكون العجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه العاجم من العربي‪ ،‬وكما يكون العربي‬
‫المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي‪.‬‬

‫فقد جاء في الحديث‪) :‬خيار عجمكم المتشبهون بعربكم‪ ،‬وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم(‪.‬‬

‫ل لم يقاتل غيرهم مثله في‬‫ولهذا لما حاصر النبي صلى ال عليه وسلم ]الطائف[ رماهم بالمنجنيق‪ ،‬وقاتلهم قتا ً‬
‫المزاحفة كيوم بدر وغيره‪ ،‬وكذلك لما حوصر المسلمون عام ]الخندق[ اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير‬
‫الحصار‪ .‬وقيل‪ :‬إن سلمان أشار عليهم بذلك‪ ،‬فسلموا ذلك له ؛ لنه طريق إلى فعل ما أمر ال به ورسوله‪.‬‬

‫وقد قررنا في قاعدة ]السنة والبدعة[‪ :‬أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه ‪ /‬ال ورسوله‪ ،‬وهو ما لم يأمر به أمر‬
‫إيجاب ول استحباب‪ ،‬فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب‪ ،‬وعلم المر به بالدلة الشرعية فهو من الدين الذي‬
‫ل على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أو لم‬ ‫شرعه ال‪ ،‬وإن تنازع أولو المر في بعض ذلك‪ .‬وسواء كان هذا مفعو ً‬
‫يكن‪ ،‬فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين‪ ،‬والخوارج المارقين‪ ،‬وفارس والروم والترك‪ ،‬وإخراج اليهود‬
‫والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته‪.‬‬

‫ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول‪ :‬سن رسول ال صلى ال عليه وسلم سنًنا‪ ،‬الخذ بها تصديق لكتاب ال‪،‬‬
‫واستكمال لطاعة ال‪ ،‬وقوة على دين ال‪ .‬ليس لحد تغييرها ول النظر في رأي من خالفها‪ ،‬من اهتدى بها فهو مهتد‪،‬‬
‫ومن استنصر بها فهو منصور‪ ،‬ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين وله ال ما تولى وأصله جهنم وساءت‬
‫مصيًرا‪.‬‬

‫فسنة خلفائه الراشدين هي‪ :‬مما أمر ال به ورسوله‪ ،‬وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها‪.‬‬

‫فكما أن ال بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب‪ ،‬وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلم رسالة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وبما في كتبهم من ذلك‪ ،‬وما حرفوه وبدلوه من دينهم‪ ،‬وصدق بما جاءت به الرسل قبله‪ ،‬حتى إذا سمع ذلك‬
‫الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان‪.‬‬

‫‪/‬والمناظرة والمحاجة ل تنفع إل مع العدل والنصاف‪ ،‬وإل فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه‪ ،‬وهو المسفسط‬
‫والمقرمط‪ ،‬أو يمتنع عن الستماع والنظر في طريق العلم‪ ،‬وهو المعرض عن النظر والستدلل‪ .‬فكما أن الحساس‬
‫الظاهر ل يحصل للمعرض ول يقوم للجاحد‪ ،‬فكذلك الشهود الباطن ل يحصل للمعرض عن النظر والبحث‪ ،‬بل‬
‫طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهًدا‪ ،‬كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهًدا‪ ،‬كما قال‬
‫بعض السلف‪ :‬ما المجتهد فيكم إل كاللعب فيهم‪ ،‬وقال أبي ابن كعب وابن مسعود‪ :‬اقتصاد في سنة‪ ،‬خير من اجتهاد‬
‫في بدعة‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران‪ ،‬وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر(‪،‬‬
‫عا‪ ،‬وهو محفوظ عن معاذ‪ :‬عليكم بالعلم‪ ،‬فإن تعليمه حسنة‪ ،‬وطلبه عبادة‪ ،‬ومذاكرته‬ ‫وقال معاذ بن جبل‪ ،‬ويروى مرفو ً‬
‫تسبيح‪ ،‬والبحث عنه جهاد‪ ،‬وتعليمه لمن ل يعلمه صدقة‪ ،‬وبذله لهله قربة‪ .‬فجعل الباحث عن العلم مجاهًدا في سبيل‬
‫ال‪.‬‬

‫ي َأْحَسُن{ ]العنكبوت‪،[46:‬‬
‫ل ِباّلِتي ِه َ‬
‫ب ِإ ّ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬
‫جاِدُلوا َأْه َ‬ ‫ولما كانت المحاجة ل تنفع إل مع العدل‪ ،‬قال تعالى‪َ}:‬و َ‬
‫ل ُت َ‬
‫فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن‪.‬‬

‫وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب‪ ،‬الذين علموا ما عندهم بلغتهم‪ ،‬وترجموا لنا بالعربية‪ ،‬انتفع بذلك في مناظرتهم‬
‫ومخاطبتهم‪ ،‬كما كان عبد ال بن سلم‪ / ،‬وسلمان الفارسي‪ ،‬وكعب الحبار‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬يحدثون بما عندهم من العلم‪،‬‬
‫وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول‪ ،‬ويكون حجة عليهم من وجه‪ ،‬وعلى غيرهم من وجه آخر‪،‬‬
‫كما بيناه في موضعه‪.‬‬

‫واللفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة‪ ،‬كما تتقارب السماء في الشتقاق الكبر‪ .‬وقد سمعت ألفاظ التوراة‬
‫بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب‪ ،‬فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب‪ ،‬حتى صرت أفهم كثيًرا من كلمهم العبري‬
‫بمجرد المعرفة بالعربية‪.‬‬

‫والمعاني الصحيحة‪ ،‬إما مقاربة لمعاني القرآن‪ ،‬أو مثلها‪ ،‬أو بعينها‪ ،‬وإن كان في القرآن من اللفاظ والمعاني‬
‫خصائص عظيمة‪.‬‬

‫فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل‪ ،‬مثل أن ينقل عما في كتبهم عن النبياء ما يخالف ما‬
‫جاء به محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أو خلف ما ذكره ال في كتبهم‪ ،‬كزعمهم للنبي صلى ال عليه وسلم أن ال أمرهم‬
‫ت وجهه تحميًما‪ :‬إذا سودته بالفحم[ الزاني دون رجمه‪ ،‬أمكن للنبي صلى‬ ‫حَمْم ُ‬
‫بتحميم ]أي‪ :‬جعل وجهه أسود‪ .‬يقال‪َ :‬‬
‫ال عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة‪ ،‬كعبد ال ابن سلم‬
‫ونحوه‪ ،‬لما قال لحبرهم‪ :‬ارفع يدك عن آية الرجم‪ ،‬فإذا هي تلوح‪ ،‬ورجم النبي صلى ال عليه وسلم الزانيين منهما‪،‬‬
‫بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم‪ ،‬وذلك أنه موافق لما أنزل ال عليه من الرجم‪ ،‬وقال‪) :‬اللهم إني ‪ /‬أول من أحيا‬
‫أمرك إذ أماتوه(‪ ،‬ولهذا قال ابن عباس في قوله‪ِ} :‬إّنا َأنَزْلَنا الّتْوَراَة ِفيَها هًُدى َوُنوٌر َيْحُكُم ِبَها الّنِبّيوَن اّلِذيَن َأْسَلُموْا{ ]المائدة‪:‬‬
‫‪ ،[44‬قال ـ‪ :‬محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬من النبيين الذين أسلموا‪ ،‬وهو لم يحكم إل بما أنزل ال عليه‪ ،‬كما قال‪َ} :‬وَأ ِ‬
‫ن‬
‫ل{ ]المائدة‪.[49 :‬‬
‫لا ّ‬
‫حُكم َبْيَنُهم ِبَما َأنَز َ‬
‫اْ‬

‫وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية‪ ،‬قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم‬
‫بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين‪ ،‬أو ممن يعلم خطهم منا‪ ،‬كزيد بن ثابت‪ ،‬ونحوه‪ ،‬لما أمره النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أن يتعلم ذلك‪ ،‬والحديث معروف في السنن‪ ،‬وقد احتج به البخاري في[باب ترجمة الحاكم‪ ،‬وهل يجوز‬
‫ترجمان؟]‪ ،‬قال‪ :‬وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت‪ :‬أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود‪ ،‬حتى كتبت‬
‫للنبي صلى ال عليه وسلم كتبه‪ ،‬وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه‪.‬‬

‫والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد‪ ،‬وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الخر‪ ،‬مثل كتابة‬
‫اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط العاجم‪ ،‬وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي‪ ،‬وقيل‪ :‬يكتفي بذلك؛‬
‫ل َفْأُتوْا ِبالّتْوَراِة‬
‫ل الّتْوَراُة ُق ْ‬
‫ل َأن ُتَنّز َ‬
‫سِه ِمن َقْب ِ‬
‫عَلى َنْف ِ‬
‫ل َ‬
‫سَراِئي ُ‬
‫حّرَم ِإ ْ‬
‫ل َما َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫سَراِئي َ‬
‫ل ّلَبِني ِإ ْ‬
‫حـ ّ‬
‫ن ِ‬
‫طَعاِم َكا َ‬ ‫ولهذا قال سبحانه‪ُ} :‬ك ّ‬
‫ل ال ّ‬
‫صاِدِقيَن{ ]آل عمران‪[93 :‬‬ ‫َفاْتُلوَها ِإن ُكنُتْم َ‬

‫فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلوتها‪ ،‬إن كانوا صادقين في نقل ‪ /‬ما يخالف ذلك‪ ،‬فإنهم كانوا‪َ} :‬يْلُوونَ‬
‫ن َهـَذا‬
‫ب ِبَأْيِديِهْم ُثّم َيُقوُلو َ‬
‫ن اْلِكَتا َ‬
‫ن َيْكُتُبو َ‬ ‫ب{ ]آل عمران‪ ،[78:‬و}َفَوْي ٌ‬
‫ل ّلّلِذي َ‬ ‫ن اْلِكَتا ِ‬
‫ب َوَما ُهَو ِم َ‬
‫ن اْلِكَتا ِ‬
‫سُبوُه ِم َ‬
‫حَ‬‫ب ِلَت ْ‬
‫سَنَتُهم ِباْلِكَتا ِ‬
‫َأْل ِ‬
‫ل{ ]البقرة‪ ،[79:‬ويكذبون في كلمهم وكتابهم؛ فلهذا ل تقبل الترجمة إل من ثقة‪.‬‬ ‫عنِد ا ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ِم ْ‬

‫فإذا احتج أحدهم على خلف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين‪ ،‬مثل الذي يروى عن موسى أنه قال‪) :‬تمسكوا‬
‫بالسبت ما دامت السموات والرض( أمكننا أن نقول لهم‪ :‬في أي كتاب هذا ؟ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في‬
‫كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون‪ ،‬و]كتاب المثنوي[ الذي معناه المثناة‪،‬‬
‫وهي التي جعلها عبد ال بن عمرو فينا من أشراط الساعة‪ ،‬فقال‪ :‬ل تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة‪ ،‬ليس أحد‬
‫يغيرها‪ ،‬قيل‪ :‬وما المثناة ؟ قال‪ :‬ما استكتب من غير كتاب ال‪.‬‬

‫وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء ال وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم‪ ،‬بموافقة النبياء‬
‫المتقدمين لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فحرفوا الكلم عن مواضعه‪ ،‬أمكن معرفة ذلك‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫ضا ـ مما في القرآن بردها إليه‪ ،‬مثل إنكارهم للنسخ بالعقل‪ ،‬حتى قالوا‪ :‬ل ينسخ ما‬ ‫وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أي ً‬
‫س َما َوّلُهْم َعن ِقْبَلِتِهُم اّلِتي َكاُنوْا َعَلْيَها{ ]البقرة‪/ .[142:‬‬
‫ن الّنا ِ‬
‫سَفَهاء ِم َ‬
‫ل ال ّ‬ ‫حرمه‪ ،‬ول ينهي عما أمر به‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬‬
‫سَيُقو ُ‬
‫صَرا ٍ‬
‫ط‬ ‫شاء ِإَلى ِ‬
‫ب َيْهِدي َمن َي َ‬
‫ق َواْلَمْغِر ُ‬
‫شِر ُ‬ ‫قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين‪ :‬هم اليهود ؛ فقال سبحانه‪ُ} :‬قل ّ‬
‫ل اْلَم ْ‬
‫ّمْسَتِقيٍم{ ]البقرة‪.[142:‬‬

‫فذكر ما في النسخ من تعليق المر بالمشيئة اللهية‪ ،‬ومن كون المر الثاني قد يكون أصلح وأنفع‪ ،‬فقوله‪َ} :‬يْهِدي َمن‬
‫شاء{ رد للمر إلى المشيئة‪.‬‬
‫ط ّمْسَتِقيٍم{ بيان للصلح النفع‪ ،‬وقوله‪َ} :‬من َي َ‬
‫صَرا ٍ‬
‫شاء ِإَلى ِ‬
‫َي َ‬

‫وعلى بعض ما في الية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا‪ :‬التكليف إما تابع لمحض المشيئة‪ ،‬كما يقوله قوم‪ ،‬أو تابع‬
‫للمصلحة‪ ،‬كما يقوله قوم‪ ،‬وعلى التقديرين فهو جائز‪.‬‬

‫ن وقوع النسخ بتحريم الحلل في التوراة‪ ،‬بأنه أحل لسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة‪ ،‬وأن‬
‫ثم إنه ـ سبحانه ـ َبّي َ‬
‫خا‪ ،‬كما يدعيه‬
‫ل شرعًيا بخطاب‪ ،‬لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الصل‪ ،‬حتى ل يكون رفعه نس ً‬ ‫هذا كان تحلي ً‬
‫قوم منهم‪ ،‬وأمر بطلب التوراة في ذلك‪ .‬وهكذا وجدناه فيها‪ ،‬كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع‪.‬‬

‫وهكذا مناظرة الصابئة الفلسفة‪ ،‬والمشركين‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة‬
‫صرف فيه متأخروهم‬ ‫عّرب وُتْرجم بالعربية وذكره ـ إما صرًفا‪ ،‬وإما على الوجه الذي َت ّ‬‫الفلسفة من الكلم ـ الذي ُ‬
‫ط واختصار‪ ،‬ورد بعضه وإتيان بمعان ‪ /‬أخر‪ ،‬ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذْكر ما ل يتعلق‬ ‫سٍ‬‫بزيادة أو نقصان‪ ،‬وَب ْ‬
‫بالدين‪ ،‬مثل مسائل]الطب[ و]الحساب[ المحض التي يذكرون فيها ذلك‪ ،‬وكتب من أخذ عنهم‪ ،‬مثل محمد بن زكريا‬
‫الرازي‪ ،‬وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الطباء ما غايته‪ ،‬انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا‪ ،‬فهذا جائز‪.‬‬
‫كما يجوز السكنى في ديارهم‪ ،‬ولبس ثيابهم وسلحهم‪ ،‬وكما تجوز معاملتهم على الرض‪ ،‬كما عامل النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم يهود خيبر‪ ،‬وكما استأجر النبي صلى ال عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجَِرْين ـ ]ابن‬
‫خّريًتا‪ ،‬والخريت‪ :‬الماهر بالهداية‪ ،‬وائتمناه على أنفسهما ودوابهما‪ ،‬ووعداه غار‬ ‫ل من بني الدّيل هادًيا ِ‬
‫ُأرْيقط[ رج ً‬
‫ثور صبح ثالثة‪ ،‬وكانت خزاعة عيبة نصح رسول ال صلى ال عليه وسلم مسلمهم وكافرهم‪ ،‬وكان يقبل نصحهم‪،‬‬
‫ب عنه مع شركه‪ ،‬و هذا كثير‪.‬‬ ‫وكل هذا في الصحيحين‪ ،‬وكان أبو طالب ينصر النبي صلى ال عليه وسلم وَيُذ ّ‬

‫ن ِإن‬
‫ك َوِمْنُهم ّم ْ‬
‫طاٍر ُيَؤّدهِ ِإَلْي َ‬
‫ن ِإن َتْأَمْنُه ِبِقن َ‬
‫ب َم ْ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن َأْه ِ‬
‫ت َعَلْيِه َقآِئًما{ ]آل عمران‪ ،[75:‬ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال‪ ،‬وجاز أن يستطب‬ ‫ل َما ُدْم َ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫ل ُيَؤّدِه ِإَلْي َ‬
‫َتْأَمْنُه ِبِديَناٍر ّ‬
‫المسلُم الكافَر إذا كان ثقة‪ ،‬نص على ذلك الئمة‪ ،‬كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا‬
‫وائتمان لهم على ذلك‪ ،‬وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة‪ ،‬مثل وليته على المسلمين‪ ،‬وعلوه عليهم ونحو ذلك‪.‬‬

‫فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الستدلل بالكافر على الطريق واستطبابه‪ / ،‬بل هذا أحسن؛ لن كتبهم لم يكتبوها‬
‫لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة‪ ،‬وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة‪ ،‬بل هي مجرد انتفاع بآثارهم‪،‬‬
‫كالملبس والمساكن والمزارع والسلح ونحو ذلك‪.‬‬

‫وإن ذكروا ما يتعلق بالدين‪ ،‬فإن نقلوه عن النبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حال‪ ،‬وإن أحالوا معرفته على القياس‬
‫العقلي‪ ،‬فإن وافق ما في القرآن فهو حق‪ ،‬وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلنه بالمثال المضروبة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل‬
‫ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان‪ ،[33 :‬ففي القرآن الحق‪ ،‬والقياس البين الذي يبين بطلن ما جاؤوا‬
‫حّ‬
‫ك ِباْل َ‬
‫جْئَنا َ‬
‫ل ِ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ك ِبَمَث ٍ‬
‫َيْأُتوَن َ‬
‫ل فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين‪ ،‬مثل]أرسطو[ وأتباعه‪،‬‬
‫به من القياس‪ ،‬وإن كان ما يذكرونه مجم ً‬
‫وعلى من اتبعهم من الخرين ـ قبل الحق ورد الباطل‪ ،‬والحق من ذلك ل يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق‬
‫في القرآن‪ .‬فالمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته‪.‬‬
‫والترجمة والتفسير ثلث طبقات‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ترجمة مجرد اللفظ‪ ،‬مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف‪ ،‬ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ‬
‫عند هؤلء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلء‪ ،‬فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ‪ ،‬فل يجرده‬
‫عن اللفظين جميًعا‪.‬‬

‫‪ /‬والثاني‪ :‬ترجمة المعنى وبيانه‪ ،‬بأن يصور المعنى للمخاطب‪ ،‬فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة‬
‫اللفظ‪ ،‬كما يشرح للعربي كتاًبا عربًيا قد سمع ألفاظه العربية‪ ،‬لكنه لم يتصور معانيه ول فهمها‪ ،‬وتصوير المعني‬
‫يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك‬
‫المعنى‪ ،‬إما تحديًدا وإما تقريًبا‪.‬‬

‫الدرجة الثالثة‪ :‬بيان صحة ذلك وتحقيقه‪ ،‬بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى‪ ،‬إما بدليل مجرد وإما بدليل‬
‫يبين علة وجوده‪.‬‬

‫وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى‪ ،‬كما يحتاج في ]الدرجة الثانية[ إلى أمثلة‬
‫تصور له ذلك المعنى‪ .‬وقد يكون نفس تصوره مفيًدا للعلم بصدقه‪ ،‬وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى‬
‫قياس‪ ،‬ومثل‪ ،‬ودليل آخر‪.‬‬

‫فإذا عرف القرآن هذه المعرفة‪ ،‬فالكلم الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلم أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لبد فيه‬
‫حِديًثا ُيفَْتَرى َوَلـِكن‬
‫ن َ‬‫ضا‪ ،‬وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى‪َ} :‬ما َكا َ‬ ‫من الترجمة للفظ والمعنى أي ً‬
‫يٍء{ ]النحل‪.[89 :‬‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬ ‫ب ِتْبَياًنا ّلُك ّ‬
‫ك اْلِكَتا َ‬ ‫يٍء{ ]يوسف‪ ،[111 :‬وقال‪َ} :‬وَنّزْلَنا َ‬
‫عَلْي َ‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫ل ُك ّ‬
‫صي َ‬
‫ن َيَدْيِه َوَتْف ِ‬
‫ق اّلِذي َبْي َ‬
‫صِدي َ‬
‫َت ْ‬

‫ومعلوم أن المة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه‪ ،‬كما أمر بذلك ‪ /‬الرسول‪ ،‬ول يكون تبليغ رسالة ال إل كذلك‪،‬‬
‫جم قد يحتاج إلى ترجمة لهم‪ ،‬فيترجم لهم بحسب المكان‪ ،‬والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال‬ ‫وأن تبليغه إلى الَع َ‬
‫لتصوير المعاني‪ ،‬فيكون ذلك من تمام الترجمة‪.‬‬

‫وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين‪ ،‬بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم‪ ،‬ل يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه‪،‬‬
‫فلن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لن عقل المسلمين أكمل‪ ،‬وكتابهم أقوم قيل‪ ،‬وأحسن حديًثا‪،‬‬
‫ولغتهم أوسع‪ ،‬لسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة‪ ،‬بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها‬
‫صعب؛ لنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه‪.‬‬

‫فإذا سئلنا عن كلم يقولونه‪ :‬هل هو حق أو باطل‪ ،‬ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول‪ :‬بالحجة والدليل‪،‬‬
‫كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن مسائل‪ ،‬أو يناظرونه‪ ،‬وكما كانت المم‬
‫تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬إذا ذكروا ]العقول العشرة[‪ ،‬و]النفوس التسعة[ وقالوا‪ :‬إن العقل الول هو الصادر الول عن الواجب‬
‫سا‪.‬‬
‫ل ونف ً‬
‫ن لكل فلك عق ً‬
‫بذاته‪ ،‬وإنه من لوازم ذاته ومعلول له‪ ،‬وكذلك الثاني عن الول‪ ،‬وإ ّ‬

‫‪ /‬قيل‪ :‬قولكم‪]:‬عقل‪ ،‬ونفس[ لغة لكم‪ ،‬فلبد من ترجمتها‪ ،‬وإن كان اللفظ عربًيا فلبد من ترجمة المعنى‪.‬‬

‫ل ويسمونه مفارًقا‪ ،‬ويسمون تلك‬‫فيقولون‪] :‬العقل[ هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلئقها ـ سموه عق ً‬
‫المفارقات للمواد؛ لنها مفارقة للجساد‪ ،‬كما أن روح النسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد‬
‫و]النفس[‪ :‬هي الروح المدبرة للجسم‪ ،‬مثل نفس النسان إذا كانت في جسمه‪ ،‬فمتى كانت في الجسم كانت محركة له‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬أي‪ :‬يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الجسام‪ ،‬فهذه العقول والنفوس‪.‬‬‫ل مح ً‬‫فإذا فارقته صارت عق ً‬

‫وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس‪ ،‬وأكثرهم ل يحصلون ذلك‪.‬‬
‫ل؛ لن العقل كامل ل يحتاج إلى‬ ‫سا؛ لن الحركة اختيارية‪ ،‬فل تكون إل لنفس‪ ،‬ولكل نفس عق ً‬ ‫قالوا‪ :‬وأثبتنا لكل فلك نف ً‬
‫حركة‪ ،‬والمتحرك يطلب الكمال فلبد أن يكون فوقه ما يشبه به‪ ،‬وما يكون علة له‪ ،‬ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه‬
‫بما فوقنا من العقول‪ ،‬وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب المكان‪.‬‬

‫والول ل يصدر عنه إل عقل ؛ لن النفس تقتضي جسًما‪ ،‬والجسم فيه ‪ /‬كثرة‪ ،‬والصادر عنه ل يكون إل واحًدا‪ .‬ولهم‬
‫في الصدور اختلف كثير ليس هذا موضعه‪.‬‬

‫حا‪ ،‬فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب ال‪ ،‬ولكن ليست هي ]الملئكة[‪،‬‬ ‫قيل لهم‪ :‬أما إثباتكم أن في السماء أروا ً‬
‫كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول‪ ،‬وما أنزل من قبله‪ ،‬ويقولون‪ :‬ما أردنا إل الحسان‬
‫والتوفيق بين الشريعة والفلسفة‪ ،‬فإنهم قالوا‪ :‬العقول والنفوس عند الفلسفة هي الملئكة عند النبياء‪ ،‬وليس كذلك‪،‬‬
‫لكن تشبهها من بعض الوجوه‪.‬‬

‫ل{ ]فاطر‪ ،[1 :‬وكما قال‪:‬‬ ‫سً‬ ‫لِئَكِة ُر ُ‬


‫ل اْلَم َ‬
‫عِ‬ ‫فإن اسم الملئكة والملك يتضمن أنهم رسل ال‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫جا ِ‬
‫ت ُعْرًفا{ ]المرسلت‪ ،[1 :‬فالملئكة رسل ال في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والرض‪ ،‬كما‬ ‫ل ِ‬
‫سَ‬‫}َواْلُمْر َ‬
‫ن{‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[61:‬وكما قال‪َ} :‬بَلى َوُر ُ‬
‫سُلَنا َلَدْيِهْم َيْكُتُبو َ‬ ‫طو َ‬ ‫ل ُيَفّر ُ‬‫سُلَنا َوُهْم َ‬‫ت َتَوّفْتُه ُر ُ‬
‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬
‫ى ِإَذا َ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬‬
‫حّت َ‬
‫عَباِدِه{‬‫ن ِ‬
‫شاء ِم ْ‬ ‫عَلى َمن َي َ‬ ‫ن َأْمِرِه َ‬ ‫]الزخرف‪ ،[80:‬وأمره الديني الذي تنزل به الملئكة‪ ،‬فإنه قال‪ُ} :‬يَنّزلُ اْلَملِئَكَة ِباْلّرو ِ‬
‫ح ِم ْ‬
‫شاء ِإّنُه‬
‫ي ِبإِْذِنِه َما َي َ‬ ‫حَ‬ ‫ل َفُيو ِ‬
‫سو ً‬‫ل َر ُ‬‫سَ‬‫ب َأْو ُيْر ِ‬
‫جا ٍ‬‫حَ‬ ‫حًيا َأْو ِمن َوَراء ِ‬ ‫ل َو ْ‬‫ل ِإ ّ‬
‫شٍر َأن ُيَكّلَمُه ا ُّ‬ ‫]النحل‪ ،[2 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َكا َ‬
‫ن ِلَب َ‬
‫س{ ]الحج‪.[75:‬‬ ‫ن الّنا ِ‬‫ل َوِم َ‬
‫سً‬ ‫لِئَكِة ُر ُ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫طِفي ِم َ‬ ‫صَ‬‫ل َي ْ‬ ‫حِكيٌم{ ]الشورى‪ ،[51:‬وقال تعالى‪} :‬ا ُّ‬ ‫ي َ‬‫عِل ّ‬‫َ‬

‫ل ِفْتَنًة ّلّلِذينَ‬
‫عّدَتُهْم ِإ ّ‬
‫جَعْلَنا ِ‬
‫لِئَكًة َوَما َ‬‫ل َم َ‬ ‫ب الّناِر ِإ ّ‬
‫حا َ‬ ‫صَ‬ ‫وملئكة ال ل يحصى عددهم إل ال‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ} :‬وَما َ‬
‫جَعْلَنا َأ ْ‬
‫ض‬
‫ن ِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ‬ ‫ل اّلِذي َ‬
‫ن َوِلَيُقو َ‬
‫ب َواْلُمْؤِمُنو َ‬‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬‫ب اّلِذي َ‬‫ل َيْرَتا َ‬
‫ن آَمُنوا ِإيَماًنا َو َ‬‫ب َوَيْزَداَد اّلِذي َ‬
‫ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫سَتْيِق َ‬
‫َكَفُروا ِلَي ْ‬
‫ك ِإّل ُهَو{ ]المدثر‪.[31:‬‬ ‫جُنوَد َرّب َ‬ ‫شاء َوَما َيْعَلُم ُ‬‫شاء َوَيْهِدي َمن َي َ‬ ‫ل َمن َي َ‬ ‫ل ا ُّ‬
‫ضّ‬ ‫ك ُي ِ‬ ‫ل َكَذِل َ‬
‫ل ِبَهَذا َمَث ً‬
‫ن َماَذا َأَراَد ا ُّ‬ ‫َواْلَكاِفُرو َ‬

‫وقيل لهم‪ :‬الذي في الكتاب والسنة‪ ،‬من ذكر الملئكة وكثرتهم‪ ،‬أمر ل يحصر‪ ،‬حتى قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ق لها أن تئط‪ ،‬ما فيها موضع أربع أصابع إل ملك قائم أو قاعد‪ ،‬أو راكع‪ ،‬أو ساجد(‪] ،‬الطيط‪:‬‬
‫حّ‬‫طت السماء و ُ‬
‫)أ ّ‬
‫صوت القتاب‪ ،‬وأطيط البل‪ :‬أصواتها وحنينها‪ ،‬أي‪ :‬أن كثرة ما فيها من الملئكة قد أثقلها حتى أطت‪ .‬وهذا مثل‬
‫وإيذان بكثرة الملئكة‪ ،‬وإن لم يكن ثم أطيط‪ ،‬وإنما هو كلم تقريب أريد به تقرير عظمة ال تعالى[ وقال ال تعالى‪:‬‬
‫حيُم{‬
‫ل ُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ض َأ َ‬
‫لْر ِ‬
‫ن ِلَمن ِفي ا َْ‬
‫سَتْغِفُرو َ‬
‫حْمِد َرّبِهْم َوَي ْ‬
‫ن ِب َ‬
‫حو َ‬
‫سّب ُ‬
‫لِئَكُة ُي َ‬
‫ن َواْلَم َ‬
‫ن ِمن َفْوِقِه ّ‬
‫طْر َ‬
‫ت َيَتَف ّ‬
‫سَماَوا ُ‬
‫}َتَكاُد ال ّ‬
‫]الشورى‪.[5 :‬‬

‫سَقر هم العقول والنفوس‪ ،‬فهذا من جهله بما‬


‫فمن جعلهم عشرة‪ ،‬أو تسعة عشر‪ ،‬أو زعم أن التسعة عشر الذين على َ‬
‫جاء عن ال ورسوله‪ ،‬وضلله في ذلك بين؛ إذ لم تتفق السماء في صفة المسمى ول في قدره‪ ،‬كما تكون اللفاظ‬
‫حا متعلًقا بالسموات‪.‬‬
‫المترادفة‪ ،‬وإنما اتفق المسميان في كون كل منهما رو ً‬

‫وهذا من بعض صفات ملئكة السموات‪ ،‬فالذي أثبتوه هو بعض ‪ /‬الصفات لبعض الملئكة‪ ،‬وهو بالنسبة إلى الملئكة‬
‫وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة‪ ،‬أقل مما يؤمن به السامرة من النبياء بالنسبة إلى النبياء؛ إذ هم ل‬
‫شع‪.‬‬
‫يؤمنون بنبي بعد موسى وُيو َ‬

‫كيف وهم لم يثبتوا للملئكة من الصفة إل مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول‪ ،‬والحركة الرادية للنفوس؟‬

‫ومن المعلوم أن الملئكة لهم من العلوم‪ ،‬والحوال‪ ،‬والرادات‪ ،‬والعمال ما ل يحصيه إل ذو الجلل‪ ،‬ووصفهم في‬
‫القرآن بالتسبيح والعبادة ل أكثر من أن يذكر هنا‪ ،‬كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملئكة‪ ،‬وأمره لهم بالسجود لدم‪.‬‬

‫ن{ ]فصلت‪ ،[38 :‬وقوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬


‫ن‬ ‫سَأُمو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫ل َوالّنَهاِر َوُهمْ َ‬
‫ن َلُه ِبالّلْي ِ‬
‫حو َ‬
‫سّب ُ‬
‫ك ُي َ‬
‫عنَد َرّب َ‬
‫ن ِ‬
‫سَتْكَبُروا َفاّلِذي َ‬ ‫وقوله تعالى‪َ} :‬فِإ ِ‬
‫نا ْ‬
‫ك َل َيْسَتْكِبُروَن َعْن ِعَباَدِتِه َوُيَسّبُحوَنُه َوَلُه َيْسُجُدوَن{ ]العراف‪،[206 :‬‬ ‫عنَد َرّب َ‬
‫ن ِ‬
‫اّلِذي َ‬
‫ن َأْيِديِهْم َوَما‬
‫ن َيْعَلُم َما َبْي َ‬
‫ل َوُهم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َ‬
‫سِبُقوَنهُ ِباْلَقْو ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن َ‬ ‫عَباٌد ّمْكَرُمو َ‬
‫ل ِ‬ ‫حاَنُه َب ْ‬
‫سْب َ‬
‫ن َوَلًدا ُ‬
‫حَم ُ‬ ‫وقوله تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬
‫خَذ الّر ْ‬
‫جِزي‬ ‫ك َن ْ‬‫جَهّنَم َكَذِل َ‬‫جِزيِه َ‬ ‫ك َن ْ‬‫ل ِمْنُهْم ِإّني ِإَلٌه ّمن ُدوِنِه َفَذِل َ‬‫ن َوَمن َيُق ْ‬
‫شِفُقو َ‬
‫شَيِتِه ُم ْ‬
‫خْ‬ ‫ن َ‬ ‫ضى َوُهم ّم ْ‬ ‫ن اْرَت َ‬‫ل ِلَم ِ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫شَفُعو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫خْلَفُهْم َو َ‬
‫َ‬
‫ظاِلِميَن{ ]النبياء‪،[29 :26 :‬‬ ‫ال ّ‬

‫حْوَلُه‬‫ن َ‬‫ش َوَم ْ‬ ‫ن اْلَعْر َ‬ ‫حِمُلو َ‬ ‫ن َي ْ‬‫س{ ]الحج‪ ،[75:‬وقوله تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ل َوِم َ‬ ‫سً‬ ‫لِئَكِة ُر ُ‬ ‫ن اْلَم َ‬ ‫طِفي ِم َ‬ ‫صَ‬ ‫ل َي ْ‬ ‫وقوله تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫سِلِه{‬ ‫ل َوَملِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ‬ ‫ن ِبا ّ‬ ‫ل آَم َ‬‫ن آَمُنوا{ ]غافر‪ ،[7 :‬وقوله تعالى‪ُ} :‬ك ّ‬ ‫ن ِلّلِذي َ‬‫سَتْغِفُرو َ‬‫ن ِبِه َوَي ْ‬ ‫حْمِد َرّبِهْم َوُيْؤِمُنو َ‬‫حونَ ِب َ‬ ‫سّب ُ‬
‫ُي َ‬
‫صِبُروْا‬‫ن َبَلى ِإن َت ْ‬ ‫ن اْلَملِئَكِة ُمنَزِلي َ‬ ‫ف ّم َ‬ ‫ل ٍ‬ ‫لَثِة آ َ‬
‫ن َأَلن َيْكِفيُكْم َأن ُيِمّدُكْم َرّبُكم ِبَث َ‬ ‫]البقرة‪ ،[285:‬وقوله تعالى‪ِ}:‬إْذ َتُقو ُ‬
‫ل ِلْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن{ ]آل عمران‪ ،[125، 124:‬وقوله تعالى‪ِ} :‬إْذ‬ ‫سّوِمي َ‬ ‫ن اْلَملِئَكِة ُم َ‬ ‫ف ّم َ‬ ‫سِة آل ٍ‬ ‫خْم َ‬‫َوَتّتُقوْا َوَيْأُتوُكم ّمن َفْوِرِهْم َهـَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكم ِب َ‬
‫عَلى‬ ‫سوِلِه َو َ‬‫عَلى َر ُ‬ ‫سِكيَنَتُه َ‬ ‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫ن آَمُنوْا{ ]النفال‪ ،[12:‬وقوله تعالى‪ُ} :‬ثّم َأَنز َ‬ ‫ك ِإَلى اْلَملِئَكِة َأّني َمَعُكْم َفَثّبُتوْا اّلِذي َ‬ ‫حي َرّب َ‬ ‫ُيو ِ‬
‫سْلَنا‬
‫جُنوٌد َفَأْر َ‬ ‫جاءْتُكْم ُ‬ ‫عَلْيُكْم ِإْذ َ‬‫ل َ‬ ‫ن آَمُنوا اْذُكُروا ِنْعَمَة ا ِّ‬ ‫جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها{ ]التوبة‪ ،[26:‬وقال تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن َوَأنَز َ‬ ‫اْلُمْؤِمِني َ‬
‫جوَهُهْم‬‫ن ُو ُ‬‫ضِرُبو َ‬ ‫ن َكَفُروْا اْلَملِئَكُة َي ْ‬ ‫جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها{ ]الحزاب‪ ،[9 :‬وقوله تعالى‪َ} :‬وَلْو َتَرى ِإذْ َيَتَوّفى اّلِذي َ‬ ‫حا َو ُ‬ ‫عَلْيِهْم ِري ً‬
‫َ‬
‫طّيِبيَن َيُقوُلوَن َسلٌم َعَلْيُكُم{ ]النحل‪:‬‬ ‫ن َتَتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ‬ ‫ق{ ]النفال‪ ،[50:‬وقوله تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬ ‫حِري ِ‬ ‫ب اْل َ‬‫عَذا َ‬ ‫َوَأْدَباَرُهْم َوُذوُقوْا َ‬
‫جّنِة اّلِتي ُكنُتْم‬ ‫شُروا ِباْل َ‬ ‫حَزُنوا َوَأْب ِ‬ ‫ل َت ْ‬
‫خاُفوا َو َ‬ ‫ل َت َ‬
‫لِئَكُة َأ ّ‬
‫عَلْيِهُم اْلَم َ‬
‫ل َ‬‫سَتَقاُموا َتَتَنّز ُ‬
‫ل ُثّم ا ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ‬ ‫‪ ،[32‬وقوله تعالى‪ِ}:‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ن{ ]النعام‪ ،[61:‬وقوله تعالى‪ُ} :‬قلْ‬ ‫طو َ‬ ‫ل ُيَفّر ُ‬
‫سُلَنا َوُهْم َ‬‫ت َتَوّفْتُه ُر ُ‬‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬ ‫ى ِإَذا َ‬ ‫حّت َ‬‫ن{ ]فصلت‪ ،[30:‬وقوله‪َ } :‬‬ ‫عُدو َ‬ ‫ُتو َ‬
‫سَفَرٍة ِكَراٍم َبَرَرٍة{‬ ‫طّهَرةٍ ِبَأْيِدي َ‬ ‫عٍة ّم َ‬ ‫ف ّمَكّرَمٍة ّمْرُفو َ‬ ‫ح ٍ‬ ‫صُ‬ ‫ل ِبُكْم{ ]السجدة‪ ،[11 :‬وقوله تعالى‪ِ} :‬في ُ‬ ‫ت اّلِذي ُوّك َ‬ ‫ك اْلَمْو ِ‬‫َيَتَوّفاُكم ّمَل ُ‬
‫]عبس‪.[16 :13 :‬‬

‫ظيَن ِكَراًما َكاِتِبيَن َيْعَلُموَن َما َتْفَعُلوَن{ ]النفطار‪.[12 :10 :‬‬


‫حاِف ِ‬
‫عَلْيُكْم َل َ‬ ‫وقوله تعالى‪َ} :‬وِإ ّ‬
‫ن َ‬

‫ن{ ]الزخرف‪ ،[80 :‬وقوله تعالى‪َ}:‬ما َيْلِف ُ‬


‫ظ ِمن‬ ‫سُلَنا َلَدْيِهْم َيْكُتُبو َ‬
‫جَواُهم َبَلى َوُر ُ‬
‫سّرُهْم َوَن ْ‬
‫سَمُع ِ‬
‫ل َن ْ‬
‫ن َأّنا َ‬
‫سُبو َ‬
‫حَ‬‫وقوله تعالى‪َ} :‬أْم َي ْ‬
‫ت ِذْكًرا{ ]الصافات‪.[1-3 :‬‬ ‫جًرا َفالّتاِلَيا ِ‬
‫ت َز ْ‬‫جَرا ِ‬ ‫صّفا َفالّزا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫عِتيٌد{ ]ق‪ ،[18:‬وقوله تعالى‪َ}:‬وال ّ‬
‫صاّفا ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ل َلَدْيِه َرِقي ٌ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫َقْو ٍ‬

‫ل َوِإّنُهْم‬
‫ن َوَلَد ا ُّ‬
‫ن ِإْفِكِهْم َلَيُقوُلو َ‬
‫ل ِإّنُهم ّم ْ‬
‫ن َأ َ‬
‫شاِهُدو َ‬
‫لِئَكَة ِإَناًثا َوُهْم َ‬
‫خَلْقَنا اْلَم َ‬
‫ن َأْم َ‬
‫ت َوَلُهُم اْلَبُنو َ‬
‫ك اْلَبَنا ُ‬ ‫وقوله تعالى‪َ} :‬فا ْ‬
‫سَتْفِتِهْم َأِلَرّب َ‬
‫صاّفوَن َوِإّنا َلَنْحُن اْلُمَسّبُحوَن{ ]الصافات‪.[149-166:‬‬ ‫ن ال ّ‬ ‫حُ‬‫ن{ إلى قوله تعالى‪َ} :‬وِإّنا َلَن ْ‬ ‫َلَكاِذُبو َ‬

‫سُْمَرَة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬أل تصفون كما تصف الملئكة عند ربها؟‬ ‫وفي الصحيحين عـن جابر بن َ‬
‫قالوا وكيف تصف الملئكة عند ربها؟ قال‪ :‬يتمون الصف الول‪ ،‬ويتراصون في الصف(‪ ،‬وفي الصحيحين عن قتادة‬
‫صَعة في حديث المعراج عن النبي صلى ال عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماء‬‫عن أنس عن مالك بن صْع َ‬
‫السابعة ـ قال‪) :‬فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل‪ ،‬فقال‪ :‬هذا البيت المعمور‪ ،‬يصلي فيه كل يوم سبعون ألف‬
‫ملك‪ ،‬إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم(‪.‬‬

‫وقال البخاري‪ :‬وقال هّمام عن قتادة عن الحسن‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا أّم َ‬
‫ن‬
‫القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملئكة غفر له ما تقدم من ذنبه(‪ ،‬وفي الرواية الخرى في الصحيحين إذا‬
‫قال‪) :‬آمين‪ ،‬فإن الملئكة في السماء تقول‪ :‬آمين(‪.‬‬

‫ضا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا قال المام‪ :‬سمع ال‬ ‫وفي الصحيح أي ً‬
‫لمن حمده‪ ،‬فقولوا‪ :‬اللهم ربنا ولك الحمد‪ ،‬فإنه من وافق قوله قول الملئكة غفر له ما تقدم من ذنبه(‪ .‬وفي ‪ /‬الصحيح‬
‫عن عروة‪ ،‬عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬إن‬
‫الملئكة تنزل في الَعَنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر المر قضى في السماء‪ ،‬فتسترق الشياطين السمع‪ ،‬فتسمعه‪ ،‬فتوحيه‬
‫إلى الكهان‪ ،‬فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم(‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن ل ملئكة سيارة فضلء‪ ،‬يتبعون مجالس‬
‫ضا بأجنحتهم‪ ،‬حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء‬
‫ف بعضهم بع ً‬
‫ح ّ‬‫سا فيه ذكر قعدوا معهم‪ ،‬و َ‬
‫الذكر‪ ،‬فإذا وجدوا مجل ً‬
‫الدنيا‪ ،‬فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء‪ ،‬فيسألهم ال ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم؟ فيقولون‪ :‬جئنا من عند عباد‬
‫لك في الرض يسبحونك ويكبرونك‪ ،‬ويهللونك ويحمدونك‪ ،‬ويسألونك‪ .‬قال‪ :‬وما يسألوني؟ قالوا‪ :‬يسألونك جنتك‪ .‬قال‪:‬‬
‫وهل رأوا جنتي؟ قالوا‪ :‬ل أي رب‪ ،‬قال‪ :‬فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا‪ :‬ويستجيرونك‪ .‬قال‪ :‬ومم يستجيرونني؟ قالوا‪ :‬من‬
‫نارك‪ .‬قال‪ :‬وهل رأوا ناري؟ قالوا ‪:‬يا رب ل‪ .‬قال‪ :‬فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا‪ :‬ويستغفرونك‪ .‬قال‪ :‬فيقول‪ :‬قد غفرت‬
‫جْرُتهم مما استجاروا‪ ،‬قال‪ :‬يقولون‪ :‬رب‪ ،‬فيهم فلن عبد خطاء‪ ،‬إنما مر فجلس معهم‪ .‬قال‪:‬‬
‫لهم وأعطيتهم ما سألوا‪ ،‬وأ َ‬
‫فيقول‪ :‬وله قد غفرت‪ ،‬هم القوم ل يشقى بهم جليسهم(‪.‬‬

‫‪ /‬وفي الصحيحين عنُعْرَوة ‪،‬عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل أتى عليك يوم كان أشد من‬
‫حد؟ قال‪) :‬لقد لقيت من قومك ما لقيت‪ ،‬وكان أشد ما لقيت منهم يوم الَعَقَبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل‬ ‫يوم ُأ ُ‬
‫بن عبد كلل‪ ،‬فلم يجبني إلى ما أردت‪ ،‬فانطلقت وأنا مهموم على وجهي‪ ،‬فلم أستفق إل وأنا بَقْرن الثعالب‪ ،‬فرفعت‬
‫رأسي‪ ،‬فإذا أنا بسحابة قد أظلتني‪ ،‬فنظرت فإذا فيها جبريل‪ ،‬فناداني‪ ،‬فقال‪ :‬إن ال قد سمع قول قومك لك وما ردوا‬
‫عليك‪ ،‬وقد بعث ال إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‪ ،‬فناداني ملك الجبال‪ ،‬فسلم على‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محمد‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫شَبْين]الخشبان‪ :‬هما الجبلن المطيفان بمكة‪ ،‬وهما أبو قبيس والحمر‪،‬‬ ‫خَ‬‫ذلك فيما شئت‪ ،‬إن شئت أن أطبق عليهم الَ ْ‬
‫وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان‪ .‬والخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة[ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬بل‬
‫أرجو أن يخرج ال من أصلبهم من يعبد ال وحده ل يشرك به شيًئا(‪.‬‬

‫وأمثال هذه الحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملئكة الذين في السموات وملئكة الهواء والجبال‪ ،‬وغير ذلك كثيرة‪.‬‬

‫وكذلك الملئكة المتصرفون في أمور بني آدم‪ ،‬مثل قوله صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث‬
‫الصادق المصدوق ـ إذ يقول‪) :‬ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات‪ ،‬فيقال‪ :‬اكتب رزقه‪ ،‬وأجله‪ ،‬وشقي أو سعيد‪،‬‬
‫ثم ينفخ فيه الروح( وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم لحسان‪):‬اهجهم ـ أو‬
‫ضا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال له‪) :‬أجب عني‪ ،‬الّلهم أيده ‪/‬بروح‬ ‫هاجهم ـ وجبريل معك(‪ ،‬وفي الصحيح أي ً‬
‫الُقُدس(‪ ،‬وفي الصحيح عن أنس قال‪) :‬كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل(‪ ،‬وفي الصحيحين‬
‫صَلة الجرس‪،‬‬‫صْل َ‬
‫عن عائشة‪ :‬أن الحارث بن هشام قال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬كيف يأتيك الوحي؟ قال‪) :‬أحياًنا يأتيني مثل َ‬
‫ل‪ ،‬فيكلمني‪ ،‬فأعي ما يقول( ]وقوله‪:‬‬ ‫ت ما قال‪ ،‬وأحياًنا يتمثل لي الملك رج ً‬
‫عْي ُ‬
‫صم عني وقد َو َ‬
‫وهو أشده علي‪َ ،‬فُيْف ِ‬
‫صم‪ :‬أي فيْقِلع[‪.‬‬
‫فُيْف ِ‬

‫حَية الكلبي‪ ،‬ومخاطبته‬


‫وإتيان جبريل إلى النبي صلى ال عليه وسلم تارة في صورة أعرابي‪ ،‬وتارة في صورة د ْ‬
‫وإقراؤه إياه كثيًرا‪ ،‬أعظم من أن يذكر هنا‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل وملئكة بالنهار‪،‬‬
‫ويجتمعون في صلة الفجر والعصر‪ ،‬ثم يعرج الذين باتوا فيكم‪ ،‬فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟‬
‫فيقولون‪ :‬تركناهم وهم يصلون‪ ،‬وأتيناهم وهم يصلون(‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن عائشة قالت‪ :‬حشوت للنبي صلى ال عليه وسلم وسادة فيها تماثيل‪ ،‬كأنها نمرقة فجاء فقام‪،‬‬
‫وجعل يتغير وجهه‪ ،‬فقلت‪:‬ما لنا يا رسول ال؟ قال‪) :‬ما بال هذه الوسادة؟( قالت‪ :‬وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها‪،‬‬
‫قال‪) :‬أما علمت أن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة‪ ،‬إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال‪ :‬أحيوا ما خلقتم(‪،‬‬
‫وفي الصحيحين ‪/‬عن ابن عباس قال‪ :‬سمعت أبا طلحة يقول‪ :‬سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬لتدخل‬
‫الملئكة بيتا فيه كلب ولصورة تماثيل(‪.‬‬

‫وكذلك في الصحيحين عن عبد ال بن عمر قال‪) :‬وعد النبي صلى ال عليه وسلم جبريل‪ ،‬فقال‪ :‬إنا ل ندخل بيًتا فيه‬
‫كلب ول صورة(‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن الملئكة تصلي على‬
‫له الذي صلى فيه‪ :‬الّلهم اغفر له‪ ،‬الّلهم ارحمه‪ ،‬ما لم يحدث(‪.‬‬
‫صّ‬‫أحدكم ما دام في ُم َ‬

‫وأمثال هذه النصوص‪ ،‬التي يذكر فيها من أصناف الملئكة وأوصافهم وأفعالهم‪ ،‬ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه‬
‫من ]العقول‪ ،‬والنفوس[ أو أن يكون جبريل هو ]العقل الفعال[ وتكون ملئكة الدميين هي القوى الصالحة‪،‬‬
‫والشياطين هي القوى الفاسدة‪ ،‬كما يزعم هؤلء‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملئكة‪ ،‬وزعموا أنها معلولة عن ال صادرة عن ذاته صدور‬ ‫وأي ً‬
‫المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن ال‪ ،‬وأن ال ولد الملئكة‪ ،‬وهذا مما رده ال ونزه نفسه عنه‪ ،‬وكذب قائله‪،‬‬
‫وبين كذبه بقوله ‪َ}:‬لْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد‬
‫عَلى‬ ‫ت َ‬ ‫طَفى اْلَبَنا ِ‬‫ن َأصْ َ‬ ‫ل َوِإّنُهْم َلَكاِذُبو َ‬
‫ن َوَلَد ا ُّ‬
‫ن ِإْفِكِهْم َلَيُقوُلو َ‬ ‫حٌد{ ]الخلص‪ [4 ،3:‬وقال تعالى‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِإّنُهم ّم ْ‬ ‫َوَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ‬
‫صاِدِقيَن{ ]الصافات‪ ،[157 - 151:‬وبقوله‪:‬‬ ‫ن َفْأُتوا ِبِكَتاِبُكْم ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫ن ّمِبي ٌ‬ ‫طا ٌ‬‫سْل َ‬
‫ن َأْم َلُكْم ُ‬‫ل َتَذّكُرو َ‬ ‫ن َأَف َ‬ ‫حُكُمو َ‬ ‫ف َت ْ‬‫ن َما َلُكْم َكْي َ‬‫اْلَبِني َ‬
‫صُفوَن{ ]النعام‪ ،[100 :‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫عّما َي ِ‬ ‫حاَنُه َوَتَعاَلى َ‬ ‫سْب َ‬
‫عْلٍم ُ‬ ‫ت ِبَغْيِر ِ‬ ‫ن َوَبَنا ٍ‬‫خَرُقوْا َلُه َبِني َ‬‫خَلَقُهْم َو َ‬ ‫ن َو َ‬‫جّ‬ ‫شَرَكاء اْل ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫جَعُلوْا ِّ‬ ‫}َو َ‬
‫شَفُعو َ‬
‫ن‬ ‫ل َي ْ‬
‫خْلَفُهْم َو َ‬
‫ن َأْيِديِهْم َوَما َ‬‫ن َيْعَلُم َما َبْي َ‬
‫ل َوُهم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َ‬‫سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ‬
‫ل َي ْ‬ ‫ن َ‬ ‫عَباٌد ّمْكَرُمو َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حاَنُه َب ْ‬
‫سْب َ‬ ‫ن َوَلًدا ُ‬‫حَم ُ‬‫خَذ الّر ْ‬‫}َوَقاُلوا اّت َ‬
‫ل اْلَملِئَكُة‬ ‫ل َو َ‬‫عْبدًا ّ‬ ‫ن َ‬‫ح َأن َيُكو َ‬ ‫سي ُ‬ ‫ف اْلَم ِ‬
‫سَتنِك َ‬ ‫ن{ ]النبياء‪ ،[28 -26:‬وقال تعالى ‪ّ}:‬لن َي ْ‬ ‫شِفُقو َ‬‫شَيِتِه ُم ْ‬ ‫خْ‬ ‫ن َ‬‫ضى َوُهم ّم ْ‬ ‫ن اْرَت َ‬ ‫ل ِلَم ِ‬
‫ِإ ّ‬
‫ن َوَلًدا َلَقْد‬ ‫حَم ُ‬‫خَذ الّر ْ‬‫جِميًعا{ ]النساء‪ ،[172 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬ ‫شُرُهْم ِإَليِه َ‬ ‫حُ‬ ‫سَي ْ‬
‫سَتْكِبْر َف َ‬
‫عَباَدِتِه َوَي ْ‬
‫ن ِ‬ ‫عْ‬‫ف َ‬ ‫سَتنِك ْ‬ ‫ن َوَمن َي ْ‬ ‫اْلُمَقّرُبو َ‬
‫خَذ َوَلًدا‬ ‫ن َأن َيّت ِ‬
‫حَم ِ‬‫ن َوَلًدا َوَما َينَبِغي ِللّر ْ‬ ‫حَم ِ‬
‫عْوا ِللّر ْ‬‫ل َهّدا َأن َد َ‬ ‫جَبا ُ‬
‫خّر اْل ِ‬ ‫ض َوَت ِ‬ ‫لْر ُ‬ ‫ق ا َْ‬‫شّ‬ ‫ن ِمْنُه َوَتن َ‬ ‫طْر َ‬‫ت َيَتَف ّ‬ ‫سَماَوا ُ‬‫شْيًئا ِإّدا َتَكاُد ال ّ‬
‫جْئُتْم َ‬
‫ِ‬
‫صاُهْم َوَعّدُهْم عَّدا َوُكّلُهْم آِتيِه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم‪. [95- 88:‬‬ ‫ح َ‬ ‫عْبًدا َلَقْد َأ ْ‬
‫ن َ‬ ‫حَم ِ‬‫ل آِتي الّر ْ‬ ‫ض ِإ ّ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬‫سَماَوا ِ‬ ‫ل َمن ِفي ال ّ‬ ‫ِإن ُك ّ‬

‫فأخبر أنهم معبدون‪ ،‬أي‪ :‬مذللون مصرفون‪ ،‬مدينون مقهورون‪ ،‬ليسوا كالمعلول المتولد تولًدا لزًما ل يتصور أن‬
‫يتغير عن ذلك‪ .‬وأخبر أنهم عباد ل‪ ،‬ل يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة‪ ،‬والولد بالوالد‪ ،‬كما يزعمه هؤلء‬
‫لْر ِ‬
‫ض‬ ‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ن َبِديُع ال ّ‬
‫ل ّلُه َقاِنُتو َ‬
‫ض ُك ّ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫حاَنُه َبل ّلُه َما ِفي ال ّ‬
‫سْب َ‬
‫ل َوَلًدا ُ‬ ‫الصابئون‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوْا اّت َ‬
‫خَذ ا ّ‬
‫ضى َأْمرًا َفِإّنَما َيُقوُل َلُه ُكن َفَيُكوُن{ ]البقرة‪ ،[117 ،116:‬فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله‪] :‬كن[ ل بتولد المعلول‬ ‫َوِإَذا َق َ‬
‫عنه‪.‬‬

‫ن َبِديُع‬
‫عّما َيصُِفو َ‬
‫حاَنُه َوَتَعاَلى َ‬
‫سْب َ‬
‫عْلٍم ُ‬
‫ن َوَبَناتٍ ِبَغْيِر ِ‬
‫خَرُقوْا َلُه َبِني َ‬‫خَلَقُهْم َو َ‬
‫ن َو َ‬
‫جّ‬
‫شَرَكاء اْل ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫وكذلك قال سبحانه‪َ} :‬و َ‬
‫جَعُلوْا ِّ‬
‫يٍء َعِليٌم{ ]النعام‪[101 ،100 :‬‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬ ‫يٍء وُهَو ِبُك ّ‬‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ق ُك ّ‬ ‫خَل َ‬
‫حَبٌة َو َ‬
‫صا ِ‬ ‫ن َلُه َوَلٌد َوَلْم َتُكن ّلُه َ‬
‫ض َأّنى َيُكو ُ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ال ّ‬

‫‪ /‬فأخبر أن التولد ل يكون إل عن أصلين‪،‬كما تكون النتيجة عن مقدمتين‪ ،‬وكذلك سائر المعلولت المعلومة ل يحدث‬
‫المعلول إل باقتران ما تتم به العلة‪ ،‬فأما الشيء الواحد وحده فل يكون علة ول والًدا قط‪ ،‬ل يكون شيء في هذا العالم‬
‫إل عن أصلين‪ ،‬ولو أنهما الفاعل والقابل‪ ،‬كالنار والحطب‪ ،‬والشمس والرض‪ ،‬فأما الواحد وحده فل يصدر عنه‬
‫شيء ول يتولد‪.‬‬

‫فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد‪ ،‬حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد‪ ،‬وكذلك قال‪:‬‬
‫يٍء َخَلْقَنا َزْوَجْيِن َلَعّلُكْم َتَذّكُروَن{ ]الذاريات‪ [49:‬خلف قولهم‪ :‬إن الصادر عنه واحد‪ .‬وهذا وفاء بما ذكره ال‬ ‫ش ْ‬
‫ل َ‬
‫}َوِمن كُ ّ‬
‫ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان‪[33:‬‬
‫حّ‬‫ك ِباْل َ‬
‫جْئَنا َ‬
‫ل ِ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ك ِبَمَث ٍ‬ ‫ـ تعالى ـ من قوله َو َ‬
‫ل َيْأُتوَن َ‬

‫ن ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ن‬ ‫عْبِدِه ِلَيُكو َ‬
‫عَلى َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل اْلُفْرَقا َ‬
‫ك اّلِذي َنّز َ‬ ‫إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول‪ ،‬فقال تعالى ‪َ}:‬تَباَر َ‬
‫سو ِ‬
‫ل‬ ‫ت َمَع الّر ُ‬ ‫خْذ ُ‬ ‫ل َيا َلْيَتِني اّت َ‬
‫عَلى َيَدْيِه َيُقو ُ‬ ‫ظاِلُم َ‬‫ض ال ّ‬ ‫َنِذيًرا{ ]الفرقان‪] ،[1:‬فذكر[ الوحدانية والرسالة إلى قوله‪َ} :‬وَيْوَم َيَع ّ‬
‫لنَساِن َخُذوًل{ ]الفرقان‪ 27:‬ـ ‪،[29‬‬ ‫ن ِل ِْ‬
‫طا ُ‬ ‫شْي َ‬
‫ن ال ّ‬‫جاءِني َوَكا َ‬ ‫ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ‬ ‫عِ‬‫ضّلِني َ‬ ‫ل َلَقْد َأ َ‬
‫خِلي ً‬ ‫لًنا َ‬ ‫خْذ ُف َ‬‫ل َيا َوْيَلَتى َلْيَتِني َلْم َأّت ِ‬
‫سِبي ً‬
‫َ‬
‫ل َيا َر ّ‬
‫ب‬ ‫سو ُ‬
‫ل الّر ُ‬ ‫فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك‪ .‬والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنته‪َ} :‬وَقا َ‬
‫ن َكَفُروا َلْو َ‬
‫ل‬ ‫ل اّلِذي َ‬ ‫صيًرا َوَقا َ‬ ‫ك َهاِدًيا َوَن ِ‬ ‫ن َوَكَفى ِبَرّب َ‬ ‫جِرِمي َ‬‫ن اْلُم ْ‬‫عُدّوا ّم َ‬‫ي َ‬ ‫ل َنِب ّ‬ ‫جَعْلَنا ِلُك ّ‬
‫ك َ‬‫جوًرا َوَكَذِل َ‬ ‫ن َمْه ُ‬ ‫خُذوا َهَذا اْلُقْرآ َ‬ ‫ن َقْوِمي اّت َ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان‪:‬‬ ‫حّ‬ ‫ك ِباْل َ‬‫جْئَنا َ‬‫ل ِ‬ ‫ل ِإ ّ‬
‫ك ِبَمَث ٍ‬
‫ل َيْأُتوَن َ‬
‫ل َو َ‬‫ك َوَرّتْلَناُه َتْرِتي ً‬‫ت ِبِه ُفَؤاَد َ‬ ‫ك ِلُنَثّب َ‬
‫حَدًة َكَذِل َ‬‫جْمَلًة َوا ِ‬‫ن ُ‬ ‫عَلْيِه اْلُقْرآ ُ‬
‫ل َ‬
‫ُنّز َ‬
‫‪.[30-33‬‬

‫وهؤلء الصابئة قد أتوا بمثل‪ ،‬وهو قولهم‪ :‬الواحد ل يصدر عنه ويتولد عنه إل واحد‪ ،‬والرب واحد فل يصدر عنه إل‬
‫واحد يتولد عنه‪ .‬فأتى ال بالحق وأحسن تفسيًرا‪ ،‬وبين أن الواحد ل يصدر عنه شيء ول يتولد عنه شيء أصل‪ ،‬وأنه‬
‫لم يتولد عنه شيء‪ ،‬ولم يصدر عنه شيء‪ ،‬ولكن خلق كل شيء خلًقا‪ ،‬وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين‪ .‬ولهذا قال‬
‫مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر‪) :‬إن الشفع هو الخلق‪ ،‬فكل مخلوق له نظير‪ ،‬والوتر هو ال‬
‫صاِحَبٌة{ ]النعام‪.[101:‬‬ ‫الذي ل شبيه له(‪ ،‬فقال‪َ}:‬أّنى َيُكو ُ‬
‫ن َلُه َوَلٌد َوَلْم َتُكن ّلُه َ‬

‫وذلك أن الثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لبد فيها من شيئين أحدهما‪ :‬يكون كالب‪ ،‬والخر‪:‬‬
‫يكون كالم القابلة‪ .‬وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الرض‪ ،‬والنار مع الحطب‪ ،‬فأما صدور شيء واحد‬
‫عن شيء واحد‪،‬فهذا ل وجود له في الوجود أصل‪.‬‬
‫ضا حجة ل ورسوله‬ ‫وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس‪،‬وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر‪ ،‬فهو أي ً‬
‫والمؤمنين عليهم‪ .‬وذلك أن الشعاع إن ‪ /‬أريد به نفس ما يقوم بالشمس‪ ،‬فذلك صفة من صفاتها‪ ،‬وصفات الخالق ليست‬
‫مخلوقة‪ ،‬ول هي من العالم الذي فيه الكلم‪.‬‬

‫وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الرض‪ ،‬فذلك لبد فيه من شيئين‪ ،‬وهما الشمس التي تجري مجرى الب الفاعل‪،‬‬
‫والرض التي تجري مجرى الم القابلة‪ ،‬وهي الصاحبة للشمس‪.‬‬

‫وكذلك الصوت ل يتولد إل عن جسمين يقرع أحدهما الخر‪ ،‬أو يقلع عنه‪ ،‬فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم‬
‫عن أصلين يقرع أحدهما الخر‪ ،‬أو يقلع عنه‪.‬‬

‫حا للحق وكشًفا له‪.‬‬


‫فمهما احتجوا به من القياس‪ ،‬فالذي جاء ال به هو الحق وأحسن تفسيًرا‪ ،‬وأحسن بياًنا وإيضا ً‬

‫ضا‪ ،‬فجعلها علة تامة لما تحتها‪ ،‬ومؤكدة له‪ ،‬وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا‪ ،‬ويجعلوها لنا كالباء والمهات‪،‬‬ ‫وأي ً‬
‫وربما جعلوا العقل هو الب‪ ،‬والنفس هي الم‪ ،‬وربما قال بعضهم ‪[:‬الوالدان]‪ :‬العقل والطبيعة‪ ،‬كما قال صاحب‬
‫ي{ ]نوح‪ ،[28:‬أي‪ :‬من كنت نتيجة عنهما‪،‬وهما العقل والطبيعة‪ .‬وحتى‬ ‫غِفْر ِلي َوِلَواِلَد ّ‬ ‫الفصوص في قول نوح }َر ّ‬
‫با ْ‬
‫يسمونها الرباب واللهة الصغرى‪ ،‬ويعبدونها‪ .‬وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل‪.‬‬

‫‪ /‬وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملئكة‪ ،‬وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم‪ ،‬أنهم كانوا‬
‫ضا‪.‬‬
‫يسمونها اللهة والرباب الصغرى‪ ،‬كما كانوا يعبدون الكواكب أي ً‬

‫سِله‪ ،‬و ل‬
‫والقرآن ينفي أن تكون أرباًبا‪ ،‬أو أن تكون آلهة‪ ،‬ويكون لها غير ما للرسول الذي ل يفعل إل بعد أُمِر ُمْر ِ‬
‫يشفع إل بعد أن يؤذن له في الشفاعة‪ ،‬وقد رد ال ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من المم‪ ،‬فقال‬
‫لِئَكَة َوالّنِبّيْيَن َأْرَباًبا َأَيْأُمُرُكم ِباْلُكْفِر َبْعَد ِإْذ َأنُتم ّمْسِلُموَن{؟ ]آل عمران‪ [80:‬وقال تعالى‪:‬‬
‫خُذوْا اْلَم َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيْأُمَرُكْم َأن َتّت ِ‬
‫}َوَقاُلوا اّتَخَذ الّرْحَمُن َوَلًدا ُسْبَحاَنُه َبْل ِعَباٌد ّمْكَرُموَن َل َيْسِبُقوَنُه ِباْلَقْوِل َوُهم ِبَأْمِرهِ َيْعَمُلوَن} ]النبياء‪ ،[72 ،62:‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫ك َوَما َلُه ِمْنُهم ّمن‬
‫شْر ٍ‬‫ض َوَما َلُهْم ِفيِهَما ِمن ِ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ل ِفي ا َْ‬ ‫ت َو َ‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫ل َذّرٍة ِفي ال ّ‬‫ن ِمْثَقا َ‬
‫ل َيْمِلُكو َ‬
‫ل َ‬ ‫ن ا ِّ‬ ‫عْمُتم ّمن ُدو ِ‬‫ن َز َ‬‫عوا اّلِذي َ‬‫ل اْد ُ‬
‫}ُق ِ‬
‫ي اْلَكِبيُر{ ]سبأ ‪،22:‬‬ ‫ق َوُهَو اْلَعِل ّ‬
‫حّ‬
‫ل َرّبُكْم َقاُلوا اْل َ‬ ‫عن ُقُلوِبِهْم َقاُلوا َماَذا َقا َ‬
‫ع َ‬ ‫حّتى ِإَذا ُفّز َ‬‫ن َلُه َ‬‫ن َأِذ َ‬‫ل ِلَم ْ‬
‫عنَدُه ِإ ّ‬
‫عُة ِ‬
‫شَفا َ‬
‫ل َتنَفُع ال ّ‬
‫ظِهيٍر وَ َ‬‫َ‬
‫‪.[32‬‬

‫وقد تقدم بعض الحاديث في صعق الملئكة إذا قضى ال بالمر الكوني أو بالوحي الديني‪.‬‬

‫ضى{ ]النجم‪ ، [62:‬وقال‬ ‫شاء َوَيْر َ‬ ‫ل ِلَمن َي َ‬ ‫ن ا ُّ‬‫ل ِمن َبْعِد َأن َيْأَذ َ‬ ‫شْيًئا ِإ ّ‬
‫عُتُهْم َ‬
‫شَفا َ‬
‫ل ُتْغِني َ‬‫ت َ‬ ‫سَماَوا ِ‬ ‫ك ِفي ال ّ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وَكم ّمن ّمَل ٍ‬
‫ن َذِلكَ‬‫خْلَفَنا َوَما َبْي َ‬
‫ن َأْيِديَنا َوَما َ‬
‫ك َلُه َما َبْي َ‬
‫ل ِبَأْمِر َرّب َ‬‫ن{ الية]النبياء‪/ ،[26:‬وقال تعالى ‪َ}:‬وَما َنَتَنّزلُ ِإ ّ‬ ‫عَباٌد ّمْكَرُمو َ‬
‫ل ِ‬ ‫تعالى ‪َ}:‬ب ْ‬
‫ل ُأوَلـِئ َ‬
‫ك‬ ‫حِوي ً‬ ‫ل َت ْ‬
‫عنُكْم َو َ‬‫ضّر َ‬ ‫ف ال ّ‬ ‫ش َ‬ ‫ن َك ْ‬ ‫ل َيْمِلُكو َ‬‫عْمُتم ّمن ُدوِنِه َف َ‬ ‫ن َز َ‬ ‫عوْا اّلِذي َ‬ ‫سّيا{ ]مريم‪ ،[64:‬وقال تعالى ‪ُ}:‬ق ِ‬
‫ل اْد ُ‬ ‫ك َن ِ‬
‫َوَما َكانَ َرّب َ‬
‫ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء‪،56 :‬‬ ‫ب َرّب َ‬‫عَذا َ‬ ‫ن َ‬ ‫عَذاَبُه ِإ ّ‬
‫ن َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫حَمَتُه َوَي َ‬ ‫ن َر ْ‬‫جو َ‬ ‫ب َوَيْر ُ‬
‫سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ‬
‫ن ِإَلى َرّبِهُم اْلَو ِ‬
‫ن َيْبَتُغو َ‬
‫عو َ‬ ‫ن َيْد ُ‬
‫اّلِذي َ‬
‫‪ ،[57‬نزلت الية في الذين يدعون الملئكة والنبيين‪.‬‬

‫واستقصاء القول في ذلك ليس هذا موضعه‪.‬‬

‫فإن ال ـ سبحانه ـ بعث محمًدا صلى ال عليه وسلم بجوامع الكلم‪ .‬فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة‪ ،‬كلية عامة لما‬
‫كان متفرًقا منتشًرا في كلم غيره‪ ،‬ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين‪ ،‬وما‬
‫يبين وجه دللته‪.‬‬

‫فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولدة واتخاذ الولد‪ ،‬أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير‪ ،‬كالمرض‬
‫الذي يحيل البدن عن صحته‪ ،‬والعليل ضد الصحيح‪ .‬وقد قيل‪ :‬إنه ل يقال‪]:‬معلول[ إل في الشرب‪ ،‬يقال‪ :‬شرب الماء‬
‫عل بعد َنَهل‪ ،‬وعللته‪ :‬إذا سقيته مرة ثانية‪.‬‬

‫وأما استعمال اسم ]العلة[ في الموجب للشيء أو المقتضى له‪ ،‬فهو من عرف أهل الكلم‪ ،‬وهي ـ وإن كان بينهما‬
‫وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ ]التولد[ أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر‪ .‬يقول‬
‫الناس‪/ :‬هذا المر يتولد عنه كذا‪ ،‬وهذا يولد كذا‪ ،‬وقد تولد عن ذلك المر كيت وكيت‪ ،‬لكل سبب اقتضى مسبًبا من‬
‫القوال والعمال‪ ،‬حتى أهل الطبائع يقولون‪] :‬الركان والمولدات[‪ ،‬يريدون ما يتولد عن الصول الربعة ـ التراب‪،‬‬
‫والماء‪ ،‬والهواء‪ ،‬والنار ـ من معدن‪ ،‬ونبات‪ ،‬وحيوان‪.‬‬

‫فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيًئا اقتضى أل يتولد عنه شيء‪ ،‬ونفيه أن يتخذ ولًدا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء‬
‫من خلقه على سبيل التكريم‪ ،‬وأن العباد ل يصلح أن يتخذ شيًئا منهم بمنزلة الولد‪ .‬وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل‬
‫ل{ ]المائدة‪ ،[18:‬ومن يقول‪ :‬الفلسفة هي التشبه بالله‪ ،‬فإن الولد‬ ‫ن َأْبَناء ا ّ‬‫ذلك في المسيح وغيره‪ ،‬ومن يقول‪َ} :‬ن ْ‬
‫حُ‬
‫عا له‪ ،‬ولهذا كان هؤلء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق‬ ‫يكون من جنس والده ويكون نظيًرا له‪ ،‬وإن كان فر ً‬
‫ل بالتشبيه والتمثيل‪ ،‬وجعل النداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلسفة الذين يقولون بصدور العقول‬ ‫قو ً‬
‫والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أنداًدا‪ ،‬ويتخذونها آلهة وأرباًبا‪ ،‬بل قد ل يعبدون إل إياها‪ ،‬ول‬
‫يدعون سواها‪ ،‬ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها‪.‬‬

‫ن َنِذيًرا اّلِذي َلُه‬


‫ن ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫عْبِدهِ ِلَيُكو َ‬
‫عَلى َ‬
‫ن َ‬
‫ل اْلُفْرَقا َ‬ ‫فالحمد ل الذي لم يتخذ ولًدا ولم يكن له شريك في الملك‪ ،‬و}َتَباَر َ‬
‫ك اّلِذي َنّز َ‬
‫يٍء َفَقّدَرهُ َتْقِديًرا{ ]الفرقان‪[2 ،1:‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬
‫ق ُك ّ‬‫خَل َ‬
‫ك َو َ‬
‫ك ِفي اْلُمْل ِ‬
‫شِري ٌ‬
‫خْذ َوَلًدا َوَلْم َيُكن ّلُه َ‬
‫ض َوَلْم َيّت ِ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َْ‬
‫ك السَّماَوا ِ‬
‫ُمْل ُ‬

‫]بهامش الصل هنا متروك محل خمسة أسطر‪ .‬قال في المسودة‪ :‬يتلوه الوريقة‪ ،‬ولم نجدها[‬

‫فإن هؤلء جعلوا ل شركاء الجن وخلقهم‪ ،‬وخرقوا له بنين وبنات بغير علم‪ ،‬و]الجن[ قد قيل‪ :‬إنه يعم الملئكة‪ ،‬كما‬
‫قيل في قوله‪َ} :‬وَجَعُلوا َبْيَنُه َوَبْيَن اْلِجّنِة َنَسًبا{ ]الصافات‪ ،[158:‬وإن كان قد قيل في سبب ذلك‪ :‬زعم بعض مشركي‬
‫ضا‪ ،‬كما عبدتها الصابئة الفلسفة‪ ،‬كما‬ ‫العرب أن ال صاهر إلى الجن فولدت الملئكة‪ ،‬فقد كانوا يعبدون الملئكة أي ً‬
‫ب َشَهاَدُتُهْم َوُيْسَأُلوَن{ ]الزخرف‪ ،[19:‬وقال‬ ‫سُتْكَت ُ‬
‫خْلَقُهْم َ‬
‫شِهُدوا َ‬ ‫ن ِإَناًثا َأ َ‬‫حَم ِ‬
‫عَباُد الّر ْ‬‫ن ُهْم ِ‬ ‫لِئَكَة اّلِذي َ‬
‫جَعُلوا اْلَم َ‬‫قال تعالى ‪َ}:‬و َ‬
‫جّ‬
‫ن‬ ‫ن اْل ِ‬
‫ل َكاُنوا َيْعُبُدو َ‬
‫ت َوِلّيَنا ِمن ُدوِنِهم َب ْ‬
‫ك َأن َ‬
‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ن َقاُلوا ُ‬‫لء ِإّياُكْم َكاُنوا َيْعُبُدو َ‬ ‫لِئَكِة َأَهُؤ َ‬
‫ل ِلْلَم َ‬
‫جِميًعا ُثّم َيُقو ُ‬
‫شُرُهْم َ‬‫حُ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَيْوَم َي ْ‬
‫َأْكَثُرُهم ِبِهم ّمْؤِمُنوَن{ ]سبأ‪ ، [41، 40:‬يعني‪ :‬أن الملئكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين‬
‫للشياطين التي تتمثل لهم ‪ ،‬كما يكون للصنام شياطين‪.‬‬

‫وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها‪ ،‬حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه‪ ،‬وهو شيطان من‬
‫الشياطين‪.‬‬

‫ضّ‬
‫ل‬ ‫سَتِقيٌم َوَلَقْد َأ َ‬
‫ط ّم ْ‬
‫صَرا ٌ‬
‫عُبُدوِني َهَذا ِ‬
‫نا ْ‬
‫ن َوَأ ْ‬
‫عدُّو ّمِبي ٌ‬
‫ن ِإّنُه َلُكْم َ‬
‫طا َ‬
‫شْي َ‬
‫ل َتْعُبُدوا ال ّ‬ ‫ولهذا قال تعالى ‪َ}:‬أَلْم َأ ْ‬
‫عَهْد ِإَلْيُكْم َيا َبِني آَدَم َأن ّ‬
‫ل َكِثيًرا َأَفَلْم َتُكوُنوا َتْعِقُلوَن{ ]يس‪،[60-62:‬‬ ‫جِب ّ‬
‫ِمنُكْم ِ‬

‫ظاِلِميَن َبَدًل{ ]الكهف‪ ،[50:‬فهم وإن لم يقصدوا عبادة‬


‫س ِلل ّ‬
‫عُدّو ِبْئ َ‬ ‫وقال ‪َ}:‬أَفَتّت ِ‬
‫خُذوَنُه َوُذّرّيَتُه َأْوِلَياء ِمن ُدوِني َوُهْم َلُكْم َ‬
‫الشيطان وموالته‪ ،‬ولكنهم في الحقيقة يعبدونه ويوالونه‪.‬‬

‫فقد تبين أن هؤلء الفلسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملئكة‪ ،‬في صفتهم‬
‫وأقدارهم‪.‬‬

‫وذلك‪ ،‬أن هؤلء القوم إنما سلكوا سبيل الستدلل بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم‪ ،‬مع ما جحدوه وجهلوه من‬
‫خلق ال وإبداعه‪.‬‬

‫وسبب ذلك‪ :‬ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم‪ :‬أن أساطينهم الوائل‪ ،‬كفيثاغورس‪ ،‬وسقراط‪ ،‬وأفلطون‪ ،‬كانوا‬
‫يهاجرون إلى أرض النبياء بالشام‪ ،‬ويتلقون عن لقمان الحكيم‪ ،‬ومن بعده من أصحاب داود وسليمان‪ ،‬وأن أرسطو لم‬
‫يسافر إلى أرض النبياء‪ ،‬ولم يكن عنده من العلم بأثارة النبياء ما عند سلفه‪ .‬وكان عنده قدر يسير من الصابئية‬
‫الصحيحة‪ ،‬فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية‪ ،‬وصارت قانوًنا مشى عليه أتباعه‪ ،‬واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الجسام‪،‬‬
‫أو في صورة المنطق أحياًنا بكلم صحيح‪.‬‬
‫وأما الولون‪ ،‬فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين‪ ،‬مثل‪ :‬أبي الهذيل‪ ،‬وهشام بن‬
‫الحكم‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬ممن وضع مذهًبا ‪ /‬في ]أبواب أصول الدين[ فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل‬
‫مالك‪ ،‬وحماد بن زيد‪ ،‬والثوري‪ ،‬ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء‪ ،‬فمن لم يكن له علم‬
‫بطريق المسلمين‪ ،‬يعتاض عنه بما عند هؤلء‪ ،‬وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة‪ ،‬وهو خفاء سنن المرسلين فيهم‪،‬‬
‫وبذلك يقع الهلك‪.‬‬

‫ولهذا كانوا يقولون‪ :‬العتصام بالسنة نجاة‪ ،‬قال مالك ـ رحمه ال‪ :‬السنة مثل سفينة نوح‪ ،‬من ركبها نجا‪ ،‬ومن تخلف‬
‫عنها هلك‪ .‬وهذا حق‪ .‬فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم‪ ،‬وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين‪.‬‬
‫واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند ال‪ ،‬فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطًنا وظاهًرا‪.‬‬
‫والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلم ـ وركوب السفينة معه‪.‬‬

‫وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالت الفلسفة وغيرهم من المم التي فيها ضلل وكفر‪ ،‬وجد القرآن والسنة‬
‫كاشفين لحوالهم‪ ،‬مبينين لحقهم‪ ،‬مميزين بين حق ذلك وباطله‪ .‬والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك‪ ،‬كما كانوا أقوم‬
‫الخلق بجهاد الكفار والمنافقين‪ ،‬كما قال فيهم عبد ال بن مسعود‪ :‬من كان منكم مستًنا فليستن بمن قد مات‪ ،‬فإن الحي‬
‫ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد ‪،‬كانوا أبر هذه المة قلوًبا‪ ،‬وأعمقها علًما‪ ،‬وأقلها تكلًفا‪ ،‬قوم اختارهم ال ‪/‬‬
‫لصحبة نبيه وإقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم حقهم‪ ،‬وتمسكوا بهديهم‪ ،‬فإنهم كانوا على الهدى المستقيم‬

‫فأخبر عنهم بكمال بر القلوب‪ ،‬مع كمال عمق العلم‪ ،‬وهذا قليل في المتأخرين‪ ،‬كما يقال‪ :‬من العجائب فقيه صوفي‪،‬‬
‫وعالم زاهد ونحو ذلك‪ .‬فإن أهل بّر القلوب وحسن الرادة وصلح المقاصد يحمدون على سلمة قلوبهم من الرادات‬
‫المذمومة‪ ،‬ويقترن بهم كثيًرا عدم المعرفة‪ ،‬وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه‪ ،‬والجهاد‬
‫في سبيل ال‪ ،‬وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى‬
‫والضللت‪ ،‬وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوًبا وأعمقهم علمًا‪.‬‬

‫ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين‪ ،‬وهو القول‬
‫حا ـ أقل‬
‫ل صال ً‬
‫والعمل بل علم‪ ،‬وطلب ما ل يدرك‪ .‬وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علًما نافًعا وعم ً‬
‫الناس تكلًفا‪ ،‬يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف‪ ،‬ما يهدي ال بها أمة‪ ،‬وهذا من منن ال‬
‫على هذه المة‪ .‬وتجد غيرهم يحشون الوراق من التكلفات والشطحات‪ ،‬ما هو من أعظم الفضول المبتدعة‪ ،‬والراء‬
‫المخترعة‪ ،‬لم يكن لهم في ذلك سلف إل رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين‪.‬‬

‫‪/‬ويروى أن ال ـ سبحانه ـ قال للمسيح‪ :‬إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة‪ ،‬وليس لها علم ول حلم‪ ،‬فقال المسيح‪:‬‬
‫أي رب‪ ،‬كيف تفضلهم على جميع المم‪ ،‬وليس لهم علم ول حلم؟ قال‪ :‬أهبهم من علمي وحلمي‪ ،‬وهذا من خواص‬
‫سوِلِه ُيْؤِتُكْم‬
‫ل َوآِمُنوا ِبَر ُ‬ ‫متابعة الرسول‪ .‬فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ‬
‫ل ا ِّ‬
‫ل‬ ‫ضِ‬
‫يٍء ّمن َف ْ‬
‫ش ْ‬
‫عَلى َ‬
‫ن َ‬
‫ل َيْقِدُرو َ‬
‫ب َأ ّ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬
‫ل َيْعَلَم َأْه ُ‬
‫حيٌم ِلَئ ّ‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ‬
‫شو َ‬‫جَعل ّلُكْم ُنوًرا َتْم ُ‬
‫حَمِتِه َوَي ْ‬‫ن ِمن ّر ْ‬ ‫ِكْفَلْي ِ‬
‫ظيِم{ ]الحديد‪.]29، 28:‬‬ ‫ل اْلَع ِ‬‫ضِ‬ ‫ل ُذو اْلَف ْ‬‫شاء َوا ُّ‬ ‫ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ‬‫ل ِبَيِد ا ِّ‬
‫ضَ‬‫ن اْلَف ْ‬
‫َوَأ ّ‬

‫وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد ال بن عمر‪) :‬مثلنا ومثل المم قبلنا‪ ،‬كالذي استأجر أجراء‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود‪ .‬ثم قال‪ :‬من يعمل لي إلى صلة العصر على قيراط‬
‫قيراط؟ فعملت النصارى‪ .‬ثم قال‪ :‬من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملت المسلمون‪،‬‬
‫ل وأقل أجًرا‪ .‬قال‪ :‬فهل ظلمتكم من حقكم شيًئا؟ قالوا‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهو‬
‫فغضبت اليهود والنصارى‪ ،‬وقالوا نحن أكثر عم ً‬
‫فضلي أوتيه من أشاء(‪.‬‬

‫فدل الكتاب والسنة على أن ال يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لهل الكتابين قبلهم‪ ،‬فكيف بمن هو‬
‫دونهم من الصابئة؟ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم‪.‬‬

‫‪ /‬ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه‪ ،‬فلهم من فضل ال وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم‬
‫وتضعيف الجر ما ليس لغيرهم‪ ،‬كما قال بعض السلف أهل السنة في السلم كأهل السلم في الملل‪.‬‬
‫سنان‪:‬‬
‫فهذا الكلم تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضللة من نقص الصحابة في العلم والبيان‪ ،‬أو اليد والسَّنان]ال ّ‬
‫الّرْمح[‪ ،‬وبسط هذا ل يتحمله هذا المقام‪.‬‬

‫والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله‪ :‬أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق المور‬
‫الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد‪ ،‬وأمر اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬وتعرف واجب الوجود والنفس‬
‫الناطقة والعلوم‪ ،‬والخلق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث‪ ،‬فهو ـ إن كان من المؤمنين‬
‫ل َلُهْم آِمُنوْا َكَما آَم َ‬
‫ن‬ ‫بالرسل ـ فهو جاهل‪ ،‬فيه شعبة قوية من شعب النفاق‪ ،‬وإل فهو منافق خالص من الذين ‪َ}:‬وِإَذا ِقي َ‬
‫ن ِفي آَيا ِ‬
‫ت‬ ‫جاِدُلو َ‬ ‫ن{ ]البقرة‪ [13:‬وقد يكون من ‪}:‬اّلِذي َ‬
‫ن ُي َ‬ ‫ل َيْعَلُمو َ‬
‫سَفَهاء َوَلـِكن ّ‬ ‫سَفَهاء َأل ِإّنُهْم ُهُم ال ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َكَما آَم َ‬
‫س َقاُلوْا َأُنْؤِم ُ‬
‫الّنا ُ‬
‫عَلْيِهْم‬
‫عنَد َرّبِهْم َو َ‬
‫ضٌة ِ‬ ‫ح َ‬ ‫جُتُهْم َدا ِ‬
‫حّ‬‫ب َلُه ُ‬
‫جي َ‬
‫سُت ِ‬
‫ل ِمن َبْعِد َما ا ْ‬
‫ن ِفي ا ِّ‬ ‫جو َ‬
‫حا ّ‬ ‫ن َأَتاُهْم{ ]غافر‪ ،[35:‬ومن }َواّلِذي َ‬
‫ن ُي َ‬ ‫طا ٍ‬
‫سْل َ‬ ‫ل ِبَغْيِر ُ‬
‫ا ِّ‬
‫ب َشِديٌد{ ]الشورى‪.[16:‬‬ ‫عَذا ٌ‬
‫ب َوَلُهْم َ‬ ‫ض ٌ‬
‫غ َ‬ ‫َ‬

‫وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي ل ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهًرا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى‬
‫ل‪ ،‬لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك‪ ،‬وأن‬
‫كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم ‪ /‬بالحقائق وأقومهم قولً وحا ً‬
‫يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق‪.‬‬

‫وليقال‪ :‬هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان‪ ،‬لنه يقال‪ :‬إن ذلك في‬
‫غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم‪ ،‬هذه هي المقابلة العادلة‪.‬‬

‫وإنما غّير الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك‪،‬مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم‪،‬‬
‫وإحسان لبعض العمل‪ ،‬فيكون ذلك شبهة في قبول غيره‪ ،‬وترجيح صاحبه‪ ،‬ول غرض لنا في ذكر الشخاص‪ ،‬وقد‬
‫ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب ]مختلف الحديث[ وغيره من العلماء في هذا الباب ما ل يحصى من المور‬
‫المبينة لما ذكرناه‪.‬‬

‫وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية‪ ،‬التي تعرف بحقائق المور الخبرية النظرية‪ ،‬و توصل إلى حقائق‬
‫المور الرادية العملية‪ ،‬فمتى كان غير الرسول قادًرا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لفادة ذلك‪ ،‬فالرسول أعلم‬
‫بذلك وأحرص على الهدى‪ ،‬وأقدر على بيانه منه‪ ،‬وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم‪.‬‬

‫وهذه صفات الكمال والعلم والرادة والحسان والقدرة عليه‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في دعاء الستخارة‪:‬‬

‫‪) /‬اللهم إني أستخيرك بعلمك‪ ،‬وأستقدرك بقدرتك‪ ،‬وأسألك من فضلك العظيم‪ ،‬فإنك تقدر ول أقدر‪ ،‬وتعلم ول أعلم‪،‬‬
‫وأنت علم الغيوب(‪.‬‬

‫فعلمنا صلى ال عليه وسلم أن نستخير ال بعلمه‪ ،‬فيعّلمنا من علمه ما نعلم به الخير‪ ،‬ونستقدره بقدرته‪ ،‬فيجعلنا‬
‫قادرين؛ إذ الستفعال هو طلب الفعل‪ ،‬كما قال في الحديث الصحيح‪:‬‬

‫ل إل من هديته‪،‬‬
‫يقول ال تعالى‪) :‬يا عبادي‪ ،‬كلكم جائع إل من أطعمته‪ ،‬فاستطعموني أطعمكم‪ ،‬يا عبادي‪ ،‬كلكم ضا ّ‬
‫فاستهدوني أهدكم(‪.‬‬

‫فاستهداء ال طلب أن يهدينا‪ ،‬واستطعامه طلب أن يطعمنا‪ ،‬هذا قوت القلوب‪ ،‬وهذا قوت الجسام‪ ،‬وكذلك استخارته‬
‫بعلمه واستقداره بقدرته‪ .‬ثم قال‪) :‬وأسألك من فضلك العظيم(‪ ،‬فهذا السؤال من جوده وَمّنه‪ ،‬وعطائه وإحسانه الذي‬
‫يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال‪) :‬فإنك تقدر ول أقدر‪ ،‬وتعلم ول أعلم( ولم يقل‪ :‬إني ل أرحم نفسي؛ لنه‬
‫في مقام الستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك‪ ،‬لكنه ل يعلمه ول يقدر عليه‪ ،‬إن لم يعّلمه ال إياه ويقدره عليه‪.‬‬

‫فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية‪ ،‬وأحب الخلق للتعليم والهداية والفادة‪ ،‬وأقدر الخلق على‬
‫البيان والعبارة‪ ،‬امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه‪/،‬فامتنع‬
‫أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث‪.‬‬
‫وإذا لم يكن في الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه‪ ،‬وجب أن يكون كل ما يذمون به من جهل بعضهم هو‬
‫في طائفة المخالف الذام لهم أكثر‪ ،‬فيكون الذام لهم جاهل ظالًما‪ ،‬فيه شعبة نفاق‪ ،‬إذا كان مؤمًنا‪ .‬وهذا هو المقصود‪.‬‬

‫ل‪.‬‬
‫ثم إن هذا الذي بيناه مشهود بالقلب‪ ،‬أعلم ذلك في كل أحد ممن أعرف مفص ً‬

‫وهذه جملة يمكن تفصيلها من وجوه كثيرة‪ ،‬لكن ليس هذا موضعه‪.‬‬

‫فصــل‬

‫وأما قول من قال‪ :‬إن الحشوية على ضربين‪ ،‬أحدهما‪ :‬ل يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم‪ ،‬والخر‪ :‬تستر‬
‫بمذهب السلف‪ .‬ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه‪ ،‬دون التشبيه والتجسيم‪ ،‬وكذا جميع المبتدعة يزعمون هذا‬
‫فيهم كما قال القائل‪:‬‬

‫ل لليلى ** وليلى ل تقر لهم بذاكا‬


‫وكل يدعي وص ً‬

‫فهذا الكلم فيه حق وباطل ‪.‬‬

‫فمن الحق الذي فيه‪ :‬ذم من يمثل ال بمخلوقاته‪ ،‬ويجعل صفاته من جنس صفاتهم‪ ،‬وقد قال ال تعالى‪َ} :‬لْي َ‬
‫س َكِمْثِلِه‬
‫يٌء{ ]الشورى‪ ،[11:‬وقال تعالى ‪َ} :‬وَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ‬
‫حٌد{‬ ‫ش ْ‬
‫َ‬

‫]الخلص‪ ،[4:‬وقال‪َ} :‬هْل َتْعَلُم َلُه َسِمّيا{ ]مريم‪[65:‬‬

‫وقد بسطنا القول في ذلك‪ ،‬وذكرنا الدللت العقلية التي دل عليها كتاب ال في نفي ذلك‪ ،‬وبينا منه ما لم يذكره النفاة‬
‫الذين يتسمون بالتنزيه‪ ،‬ول يوجد في كتبهم‪ ،‬ول يسمع من أئمتهم‪ ،‬بل عامة حججهم التي يذكرونها حجج ضعيفة؛‬
‫لنهم يقصدون إثبات حق وباطل‪ ،‬فل يقوم على ذلك حجة مطردة ‪/‬سليمة عن الفساد‪ ،‬بخلف من اقتصد في قوله‬
‫ح َلُكْم‬
‫صِل ْ‬
‫سِديًدا ُي ْ‬
‫ل َ‬
‫ل َوُقوُلوا َقْو ً‬ ‫وتحرى القول السديد؛ فإن ال يصلح عمله‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ}:‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ‬
‫َأْعَماَلُكْم َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]الحزاب‪.[71 ،70:‬‬

‫وفيه من الحق الشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم‪ ،‬أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان‪.‬‬
‫فتمثيل ال بخلقه والكذب على السلف من المور المنكرة‪ ،‬سواء سمى ذلك حشًوا أو لم يسم‪ ،‬وهذا يتناول كثيًرا من‬
‫عَرق الخيل[ و]نزوله عشية عََرَفة على الجمل‬ ‫غالية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة في الصفات مثل حديث] َ‬
‫الورق حتى يصافح المشاة ويعانق الركبان[‪ ،‬و]تجّليه لنبيه في الرض[‪ ،‬أو]رؤيته له على كرسي بين السماء‬
‫والرض[‪ ،‬أو]رؤيته إياه في الطواف[ أو ]في بعض سكك المدينة[‪ ،‬إلى غير ذلك من الحاديث الموضوعة‪.‬‬

‫فقد رأيت من ذلك أموًرا من أعظم المنكرات والكفران‪ ،‬وأحضر لي غير واحد من الناس من الجزاء والكتب ما فيه‬
‫من ذلك ما هو من الفتراء على ال وعلى رسوله‪ .‬وقد وضع لتلك الحاديث أسانيد‪ ،‬حتى إن منهم من عمد إلى كتاب‬
‫سّني من البدعي‪ .‬فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه ال إلى نبيه ليلة‬
‫صنفه الشيخ أبو الفرج المقدسي‪ ،‬فيما يمتحن به ال ّ‬
‫المعراج‪ ،‬وأمره أن يمتحن به الناس‪ ،‬فمن أقّر به فهو سني‪ ،‬ومن لم يقر به فهو بدعي‪ ،‬وزادوا فيه على الشيخ أبي‬
‫الفرج أشياء لم يقلها هو ول عاقل‪ ،‬والناس المشهورون قد يقول أحدهم من المسائل ‪ /‬والدلئل ما هو حق أو فيه شبهة‬
‫حق‪ ،‬فإذا أخذ الجهال ذلك فغيروه صار فيه من الضلل ما هو من أعظم الفك والمحال‪.‬‬

‫والمقصود أن كلمه فيه حق وفيه من الباطل أمور‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬قوله‪ :‬ل يتحاشى من الحشو والتجسيم ذم للناس بأسماء ما أنزل ال بها من سلطان‪ ،‬والذي مدحه زين وذمه‬
‫شين هو ال‪ .‬والسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين‪ ،‬ل تكون إل من السماء التي أنزل ال بها سلطانه‪ ،‬ودل‬
‫عليها الكتاب والسنة أو الجماع‪ ،‬كالمؤمن‪ ،‬والكافر والعالم‪ ،‬والجاهل‪ ،‬والمقتصد‪ ،‬والملحد‪.‬‬
‫فأما هذه اللفاظ الثلثة فليست في كتاب ال‪ ،‬ول في حديث عن رسول ال‪ ،‬ول نطق بها أحد من سلف المة وأئمتها‬
‫ل نفًيا ول إثباًتا‪.‬‬

‫وأول من ابتدع الذم بها]المعتزلة[ الذين فارقوا جماعة المسلمين‪ ،‬فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف المة ترك‬
‫للقول السديد الواجب في الدين‪ ،‬واتباع لسبيل المبتدعة الضالين‪ ،‬وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إل لفظ‬
‫]التشبيه[‪ ،‬فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح‪ ،‬ولو ذكر السماء التي نفاها ال في القرآن ـ مثل لفظ‬
‫]الكفء‪ ،‬والند‪ ،‬والسمى[ وقال‪ :‬منهم من ل يتحاشى من التمثيل ونحوه ـ لكان قد ذم بقول نفاه ال في كتابه‪ ،‬ودل‬
‫القرآن على ذم قائله ثم ينظر‪ :‬هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم ل؟‬

‫‪/‬فأما السماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ول مدحهم‪ ،‬فيحتاج فيها إلى مقامين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬بيان المراد بها‪ .‬والثاني‪ :‬بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة‪.‬‬

‫والمعترض عليه له أن يمنع المقامين‪ ،‬فيقول‪ :‬ل نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه السماء التي ذممتها‪ ،‬ولم يقم‬
‫دليل شرعي على ذمها‪ ،‬وإن دخلوا فيها‪ ،‬فل نسلم أن كل من دخل في هذه السماء فهو مذموم في الشرع‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن هذا الضرب الذي قلت‪] :‬إنه ل يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم[ إما أن تدخل فيه مثبتة‬
‫الصفات الخبرية التي دل عليها الكتاب والسنة‪ ،‬أو ل تدخلهم‪ ،‬فإن أدخلتهم كنت ذاًما لكل من أثبت الصفات الخبرية‪،‬‬
‫ومعلوم أن هذا مذهب عامة السلف‪ ،‬ومذهب أئمة الدين‪.‬‬

‫بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة‪ ،‬وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلب‪ ،‬وأبي الحسن‬
‫الشعري‪ ،‬وأئمة أصحابه‪،‬؛ كأبي عبد ال بن مجاهد‪ ،‬وأبي الحسن الباهلي‪ ،‬والقاضي أبي بكر ابن الباقلني‪ ،‬وأبي‬
‫إسحاق السفرائيني ]هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مْهران السفرائيني‪ ،‬الصولي الشافعي‪ ،‬الملقب ركن الدين‪،‬‬
‫صاحب المصنفات الباهرة‪ ،‬له الجامع في أصول الدين و أدب الجدل و مسائل الدرر وغيرها‪ ،‬توفى بنيسابور سنة‬
‫‪814‬هـ[‪ ،‬وأبي بكر ابن ُفوَرك‪ ،‬وأبي محمد بن اللبان‪ ،‬وأبي علي ابن شاذان‪ ،‬وأبي القاسم القشيري‪ ،‬وأبي بكر‬
‫البيهقي‪ ،‬وغير هؤلء‪ .‬فما من هؤلء إل من ‪ /‬يثبت من الصفات الخبرية ما شاء ال ـ تعالى ـ وعماد المذهب عنهم‪:‬‬
‫إثبات كل صفة في القرآن‪ ،‬وأما الصفات التي في الحديث‪ ،‬فمنهم من يثبتها ومنهم من ل يثبتها‪.‬‬

‫فإذا كنت تذم جميع أهل الثبات من سلفك وغيرهم‪ ،‬لم يبق معك إل الجهمية ـ من المعتزلة ـ ومن وافقهم على نفي‬
‫الصفات الخبرية ـ من متأخري الشعرية ونحوهم ـ ولم تذكر حجة تعتمد‪.‬‬

‫فأي ذم لقوم في أنهم ل يتحاشون مما عليه سلف المة وأئمتها وأئمة الذام لهم؟‬

‫وإن لم تدخل في اسم الحشوية من يثبت الصفات الخبرية‪ ،‬لم ينفعك هذا الكلم‪ ،‬بل قد ذكرت أنت في غير هذا‬
‫الموضع هذا القول‪.‬‬

‫وإذا كان الكلم ل يخرج به النسان عن أن يذم نفسه‪ ،‬أو يذم سلفه ـ الذين يقر هو بإمامتهم‪ ،‬وأنهم أفضل ممن اتبعهم ـ‬
‫كان هو المذموم بهذا الذم على التقديرين‪ ،‬وكان له نصيب من الخوارج الذين قال النبي صلى ال عليه وسلم لولهم‪:‬‬
‫)لقد خبت وخسرت‪ ،‬إن لم أعدل( يقول‪ :‬إذا كنت مقًرا بأني رسول ال‪ ،‬وأنت تزعم أني أظلم‪ ،‬فأنت خائب خاسر‪.‬‬
‫وهكذا من ذم من يقر بأنهم خيار المة وأفضلها‪ ،‬وأن طائفته إنما تلقت العلم واليمان منهم‪ ،‬هوخائب خاسر في هذا‬
‫الذم‪ ،‬وهذه حال الرافضة في ذم الصحابة‪.‬‬

‫‪/‬الوجه الثالث‪ :‬قوله‪] :‬والخر يتستر بمذهب السلف[‪ ،‬إن أردت بالتستر الستخفاء بمذهب السلف‪ ،‬فيقال‪ :‬ليس مذهب‬
‫السلف مما يتستر به إل في بلد أهل البدع‪ ،‬مثل بلد الرافضة والخوارج ‪،‬فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم‬
‫إيمانه واستنانه‪ ،‬كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه‪ ،‬وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب‪.‬‬
‫فإن كان هؤلء في بلد أنت لك فيه سلطان ـ وقد تستروا بمذهب السلف ـ فقد ذممت نفسك‪ ،‬حيث كنت من طائفة يستر‬
‫مذهب السلف عندهم‪ ،‬وإن كنت من المستضعفين المستترين بمذهب السلف فل معنى لذم نفسك‪ ،‬وإن لم تكن منهم ول‬
‫من المل‪ ،‬فل وجه لذم قوم بلفظ التستر‪.‬‬

‫وإن أردت بالتستر‪ :‬أنهم يجتنون به‪ ،‬ويتقون به غيرهم‪ ،‬ويتظاهرون به‪ ،‬حتى إذا خوطب أحدهم قال‪ :‬أنا على مذهب‬
‫السلف ـ وهذا الذي أراده‪ ،‬وال أعلم ـ فيقال له‪ :‬ل عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه‪ ،‬بل‬
‫يجب قبول ذلك منه بالتفاق؛ فإن مذهب السلف ل يكون إل حًقا‪ ،‬فإن كان موافًقا له باطًنا وظاهًرا‪ ،‬فهو بمنزلة‬
‫المؤمن الذي هو على الحق باطًنا وظاهًرا‪ ،‬وإن كان موافًقا له في الظاهر فقط دون الباطن‪ ،‬فهو بمنزلة المنافق فتقبل‬
‫منه علنيته وُتوَكل سريرته إلى ال‪ ،‬فإنا لم نؤمر أن ُنَنّقب عن قلوب الناس ول نشق بطونهم‪.‬‬

‫‪ /‬وأما قوله ‪ :‬مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه‪.‬‬

‫فيقال له‪ :‬لفظ التوحيد‪ ،‬والتنزيه‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬والتجسيم ألفاظ قد دخلها الشتراك‪ ،‬بسبب اختلف اصطلحات المتكلمين‬
‫وغيرهم‪ ،‬وكل طائفة تعني بهذه السماء ما ل يعنيه غيرهم‪.‬‬

‫فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه‪ :‬نفى جميع الصفات‪ ،‬وبالتجسيم والتشبيه‪ :‬إثبات شيء منها‪،‬‬
‫حتى إن من قال‪] :‬إن ال يرى[‪ ،‬أو ]إن له علًما[‪ ،‬فهو عندهم مشبه مجسم‪.‬‬

‫وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه‪ :‬نفي الصفات الخبرية أو بعضها‪ ،‬وبالتجسيم والتشبيه إثباتها‬
‫أو بعضها‪.‬‬

‫والفلسفة تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة‪ ،‬حتى يقولون‪ :‬ليس له إل صفة سلبية أو إضافية‪ ،‬أو مركبة منهما‪.‬‬

‫والتحادية تعني بالتوحيد‪ :‬أنه هو الوجود المطلق‪ ،‬ولغير هؤلء فيه اصطلحات أخرى‪.‬‬

‫وأما التوحيد الذي بعث ال به الرسل وأنزل به الكتب‪ ،‬فليس هو متضمًنا شيًئا من هذه الصطلحات‪ ،‬بل أمر ال‬
‫عباده أن يعبدوه وحده‪ ،‬ل يشركوا ‪/‬به شيًئا‪ ،‬فل يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها ـ هذا في‬
‫العمل‪ .‬وفي القول‪ :‬هو اليمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله‪.‬‬

‫فإن كنت تعني أن مذهب السلف هو التوحيد بالمعنى الذي جاء به الكتاب والسنة‪ ،‬فهذا حق‪ ،‬وأهل الصفات الخبرية ل‬
‫يخالفون هذا‪.‬‬

‫وإن عنيت أن مذهب السلف هو التوحيد والتنزيه الذي يعنيه بعض الطوائف‪ ،‬فهذا يعلم بطلنه كل من تأمل أقوال‬
‫السلف الثابتة عنهم‪ ،‬الموجودة في كتب آثارهم‪ ،‬فليس في كلم أحد من السلف كلمة توافق ما تختص به هذه‬
‫الطوائف‪ ،‬ول كلمة تنفي الصفات الخبرية‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم‪ ،‬فليرجع في ذلك إلى الثار المنقولة عنهم‪ ،‬وإن كان إنما‬
‫يعرف بالستدلل المحض بأن يكون كل من رأى قولً عنده هو الصواب قال‪ :‬هذا قول السلف؛ لن السلف ل يقولون‬
‫إل الصواب‪ ،‬وهذا هو الصواب‪ ،‬فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف‪ ،‬فقائل‬
‫هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بل نقل عنهم‪ ،‬بل بدعواه‪ :‬أن قوله هو الحق‪.‬‬

‫وأما أهل الحديث‪ ،‬فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة‪/،‬يذكرون من نقل مذهبهم من علماء السلم‪ ،‬وتارة‬
‫يروون نفس قولهم في هذا الباب‪ ،‬كما سلكناه في جواب الستفتاء‪.‬‬

‫فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم‪ ،‬ومن روى ذلك من أهل العلم بالسانيد المعتبرة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الربعة‪ ،‬ومن أهل الحديث‬
‫والتصوف‪ ،‬وأهل الكلم‪ ،‬كالشعري وغيره‪.‬‬

‫فصار مذهب السلف منقولً بإجماع الطوائف وبالتواتر‪ ،‬لم نثبته بمجرد دعوى الصابة لنا والخطأ لمخالفنا‪ ،‬كما يفعل‬
‫أهل البدع‪.‬‬

‫ثم لفظ]التجسيم[ل يوجد في كلم أحد من السلف ـ ل نفًيا ول إثباًتا ـ فكيف يحل أن يقال‪ :‬مذهب السلف نفي التجسيم‬
‫أو إثباته‪ ،‬بل ذكر لذلك اللفظ ول لمعناه عنهم؟!‪.‬‬

‫وكذلك لفظ ]التوحيد[ـ بمعنى‪ :‬نفي شيء من الصفات ـ ليوجد في كلم أحد من السلف‪.‬‬

‫وكذلك لفظ التنزيه ـ بمعني نفي شيء من الصفات الخبرية ـ ل يوجد في كلم أحد من السلف‪.‬‬

‫‪ /‬نعم‪ ،‬لفظ ]التشبيه[ موجود في كلم بعضهم وتفسيره معه‪ ،‬كما قد كتبناه عنهم‪ ،‬وأنهم أرادوا بالتشبيه‪ :‬تمثيل ال‬
‫بخلقه‪ ،‬دون نفي الصفات التي في القرآن والحديث‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهذا الكلم لو كان حًقا في نفسه لم يكن مذكوًرا بحجة تتبع‪ ،‬وإنما هو مجرد دعوى على وجه الخصومة التي‬
‫وأي ً‬
‫ل يعجز عنها من يستجيز ويستحسن أن يتكلم بل علم ول عدل‪.‬‬

‫ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالت الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال‪] :‬وكذا جميع المبتدعة يزعمون أنهم على‬
‫مذهب السلف[‪ ،‬فليس المر كذلك‪ ،‬بل الطوائف المشهورة بالبدعة ـ كالخوارج والروافض ـ ل يدعون أنهم على‬
‫مذهب السلف‪ ،‬بل هؤلء يكفرون جمهور السلف‪ .‬فالرافضة تطعن في أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعامة السابقين الولين من‬
‫المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان‪ ،‬وسائر أئمة السلم‪ ،‬فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟ ولكن‬
‫ينتحلون مذهب أهل البيت كذًبا وافتراء‪.‬‬

‫وكذلك الخوارج‪ ،‬قد َكّفروا عثمان‪ ،‬وعلًيا‪ ،‬وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين‪ ،‬فكيف يزعمون أنهم على‬
‫مذهب السلف؟‬

‫الوجه الرابع‪ :‬أن هذا السم ليس له ذكر في كتاب ال‪ ،‬ول سنة رسوله‪ ،‬ول كلم أحد من الصحابة والتابعين‪ ،‬ول من‬
‫أئمة المسلمين‪ ،‬ول شيخ أو عالم ‪/‬مقبول عند عموم المة‪ .‬فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذم به ل نص ول إجماع‪ ،‬ول‬
‫ما يصلح تقليده للعامة‪ ،‬فإذا كان الذم بل مستند للمجتهد ول للمقلدين عموًما كان في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذم به‬
‫بعض من يصلح لبعض العامة تقليده لم يكن له أن يحتج به؛ إذ المقلد الخر لمن يصلح له تقليده ل يذم به‪.‬‬

‫ثم مثل أبى محمد وأمثاله لم يكن يستحل أن يتكلم في كثير من فروع الفقه بالتقليد‪ ،‬فكيف يجوز له التكلم في أصول‬
‫الدين بالتقليد؟‬

‫والنكتة‪ :‬أن الذام به إما مجتهد‪ ،‬وإما مقلد‪ .‬أما المجتهد‪ ،‬فل بد له من نص أو إجماع‪ ،‬أو دليل يستنبط من ذلك‪ ،‬فإن الذم‬
‫والحمد من الحكام الشرعية‪ ،‬وقد قدمنا بيان ذلك‪ ،‬وذكرنا أن الحمد والذم‪ ،‬والحب والبغض‪ ،‬والوعد والوعيد‪،‬‬
‫والموالة والمعاداة‪ ،‬ونحو ذلك من أحكام الدين‪ ،‬ل يصلح إل بالسماء التي أنزل ال بها سلطانه‪ ،‬فأما تعليق ذلك‬
‫بأسماء مبتدعة فل يجوز‪ ،‬بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به ال‪ ،‬وأنه لبد من معرفة حدود ما أنزل ال على‬
‫رسوله‪.‬‬

‫ضا ـ تفسق من الصحابة والتابعين طوائف‪ ،‬وتطعن في كثير منهم وفيما َرَوْوه من الحاديث التي‬‫والمعتزلة ـ أي ً‬
‫ضا ـ من يخالف أصولهم التي انتحلوها من السلف والخلف‪ ،‬فلهم من الطعن‬ ‫تخالف آراءهم وأهواءهم‪ ،‬بل تكفر ـ أي ً‬
‫في علماء ‪ /‬السلف وفي علمهم ما ليس لهل السنة والجماعة‪ ،‬وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم ـ وإن كانوا‬
‫يقررون خلفة الخلفاء الربعة‪ ،‬ويعظمون من أئمة السلم وجمهورهم ما ل يعظمه أولئك ـ فلهم من القدح في كثير‬
‫ظام[ من القدح في الصحابة ما ليس هذا موضعه‪.‬‬‫منهم ما ليس هذا موضعه و]للن ّ‬
‫وإن كان من أسباب انتقاص هؤلء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان‪ ،‬وما كان‬
‫من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلفها ـ فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضل ً‬
‫ل‬
‫كبيًرا‪.‬‬

‫فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنة والجماعة ـ العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف‪ ،‬بل‬
‫أشهر الطوائف بالبدعة‪ :‬الرافضة‪ ،‬حتى إن العامة ل تعرف من شعائر البدع إل الرفض‪ .‬والسني في اصطلحهم‪ :‬من‬
‫حا في سلف المة وأئمتها‪،‬‬ ‫ل يكون رافضًيا؛ وذلك لنهم أكثر مخالفة للحاديث النبوية ولمعاني القرآن‪ ،‬وأكثر قد ً‬
‫وطعًنا في جمهور المة من جميع الطوائف‪ ،‬فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة‪.‬‬

‫َفُعِلَم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف؛ ولهذا قال المام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك ]هو أبو‬
‫محمد عبدوس بن عبد ال بن محمد بن مالك‪ ،‬الحافظ الكبير‪ ،‬سمع من قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما‪،‬‬
‫وتوفي سنة ‪282‬هـ وقيل‪ :‬سنة ‪283‬هـ [‪ :‬أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫لبية‪ ،‬والُكّرامية‪ ،‬والشعرية‪ ،‬مع الفقهاء والصوفية‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬فهؤلء في‬‫‪ /‬وأما متكلمة أهل الثبات من الُك ّ‬
‫الجملة ل يطعنون في السلف‪ ،‬بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالتهم‪ ،‬لكن كل من كان بالحديث من هؤلء أعلم‪ ،‬كان‬
‫بمذهب السلف أعلم وله َأْتَبع‪ .‬وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها‪ ،‬وقلة ابتداعها‪.‬‬

‫أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع‪ ،‬فهذا باطل قطًعا‪ ،‬فإن ذلك غير ممكن إل حيث يكثر الجهل ويقل‬
‫العلم‪.‬‬

‫يوضح ذلك‪ :‬أن كثيًرا من أصحاب أبي محمد من أتباع أبي الحسن الشعري يصرحون بمخالفة السلف ـ في مثل‬
‫مسألة اليمان‪ ،‬ومسألة تأويل اليات والحاديث ـ يقولون‪ :‬مذهب السلف‪ :‬أن اليمان قول وعمل يزيد وينقص‪ ،‬وأما‬
‫المتكلمون من أصحابنا‪ ،‬فمذهبهم كيت وكيت‪ ،‬وكذلك يقولون‪ :‬مذهب السلف‪ :‬أن هذه اليات والحاديث الواردة في‬
‫الصفات لتتأول‪ ،‬والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوًبا وإما جواًزا ويذكرون الخلف بين السلف وبين أصحابهم‬
‫المتكلمين‪ ،‬هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم‪.‬‬

‫أفل عاقل يعتبر‪ ،‬ومغرور يزدجر‪ ،‬أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف‪ ،‬ثم يحدث مقالة تخرج عنهم؟‬
‫حا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه‪ ،‬وعلمه المتأخرون؟! وهذا فاسد بضرورة العلم‬
‫أليس هذا صري ً‬
‫الصحيح والدين المتين‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة‪ ،‬كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي‬
‫‪ /‬وأي ً‬
‫الجويني‪ ،‬وأبي حامد الغزالي‪ ،‬والرازي وغيرهم‪ ،‬ولزم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد‪ ،‬فل يثبتون‬
‫على دين واحد‪ ،‬وتغلب عليهم الشكوك وهذا عادة ال فيمن أعرض عن الكتاب والسنة‪.‬‬

‫وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق ]أمهر وأعلم[ وأعلم من السلف‪ ،‬ويقولون‪ :‬طريقة السلف أسلم‪ ،‬وطريقة‬
‫هؤلء أعلم وأحكم‪ ،‬فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان‪ ،‬والتحقيق والعرفان‪ ،‬والسلف بالنقص في ذلك‬
‫والتقصير فيه‪ ،‬أو الخطأ والجهل‪ ،‬وغايتهم عندهم‪ :‬أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط‪.‬‬

‫ول ريب أن هذا شعبة من الرفض‪ ،‬فإنه وإن لم يكن تكفيًرا للسلف ـ كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج ـ ول‬
‫ل‪ ،‬ونسبة لهم إلى‬
‫ل لهم وتخطئة وتضلي ً‬
‫تفسيًقا لهم ـ كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم ـ كان تجهي ً‬
‫عًما‪ :‬أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون‬ ‫الذنوب والمعاصي‪ ،‬وإن لم يكن فسقًا فَز ْ‬
‫الفاضلة‪.‬‬

‫ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة‪ ،‬وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف‪ ،‬أن خير‬
‫قرون هذه المة ـ في العمال والقوال‪ ،‬والعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها ـ القرن الول‪ ،‬ثم ‪ /‬الذين‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬كما ثبت ذلك عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه‪ ،‬وأنهم أفضل من الخلف في كل‬
‫فضيلة من علم‪ ،‬وعمل‪ ،‬وإيمان‪ ،‬وعقل‪ ،‬ودين‪ ،‬وبيان‪ ،‬وعبادة‪ ،‬وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل‪ .‬هذا ل يدفعه إل من‬
‫عْلم‪ ،‬كما قال عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه‪ :‬من كان‬ ‫كابر المعلوم بالضرورة من دين السلم‪ ،‬وأضله ال على ِ‬
‫ن بمن قد مات‪ ،‬فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد‪ ،‬أبّر هذه المة قلوًبا‪ ،‬وأعمقها‬‫سَت ّ‬
‫سَتّنا َفْلَي ْ‬
‫منكم ُم ْ‬
‫علما‪ ،‬وأقلها تكلًفا‪ ،‬قوم اختارهم ال لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم حقهم‪ ،‬وتمسكوا بهديهم‪ ،‬فإنهم كانوا على‬
‫الهدى المستقيم‪ .‬وقال غيره‪ :‬عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفى‪ ،‬ولم يحدث بعدهم خير كامن لم‬
‫يعلموه‪.‬‬

‫شّر منه حتى تلقوا ربكم(‪ ،‬فكيف يحدث لنا زمان‬‫هذا‪ ،‬وقد قال صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل يأتي زمان إل والذي بعده َ‬
‫فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة ال تعالى ؟ هذا ل يكون أبًدا‪.‬‬

‫وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه ال ـ في رسالته‪ :‬هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل‪ ،‬وكل سبب ينال به علم‬
‫أو يدرك به هدى‪ ،‬ورأيهم لنا خير من رأينا لنفسنا!‬

‫ضا‪ ،‬فيقال لهؤلء الجهمية الكلبية ـ كصاحب هذا الكلم أبي محمد وأمثاله‪ :‬كيف تدعون طريقة السلف‪ ،‬وغاية ما‬ ‫وأي ً‬
‫عند السلف‪ :‬أن يكونوا ‪ /‬موافقين لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم واليمان‪ ،‬هو ما‬
‫استفادوه من نبيهم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذي أخرجهم ال به من الظلمات إلى النور‪ ،‬وهداهم به إلى صراط العزيز‬
‫ت ِإَلى الّنوِر{ ]الحديد‪ ،[9:‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ظُلَما ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫جُكم مّ َ‬
‫خِر َ‬
‫ت ِلُي ْ‬
‫ت َبّيَنا ٍ‬
‫عْبِدِه آَيا ٍ‬
‫عَلى َ‬ ‫الحميد‪ ،‬الذي قال ال فيه‪ُ}:‬هَو اّلِذي ُيَنّز ُ‬
‫ل َ‬
‫ل َيْعَلَم‬
‫حيٌم ِلَئ ّ‬
‫غُفوٌر ّر ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ‬
‫شو َ‬
‫جَعل ّلكُْم ُنوًرا َتْم ُ‬
‫حَمِتِه َوَي ْ‬
‫ن ِمن ّر ْ‬
‫سوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِ‬
‫ل َوآِمُنوا ِبَر ُ‬
‫ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ‬
‫}َيا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ل{ ]الحديد‪،[28،29 :‬‬ ‫ل ا ِّ‬‫ضِ‬ ‫يٍء ّمن َف ْ‬ ‫ش ْ‬‫عَلى َ‬ ‫ن َ‬‫ل َيْقِدُرو َ‬
‫ب َأ ّ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬ ‫َأْه ُ‬

‫حْكَمَة َوِإن‬
‫ب َواْل ِ‬‫عَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهُم اْلِكَتا َ‬
‫سِهْم َيْتُلو َ‬
‫ن َأنُف ِ‬
‫ل ّم ْ‬ ‫سو ً‬‫ث ِفيِهْم َر ُ‬
‫ن ِإْذ َبَع َ‬
‫عَلى اْلُمؤِمِني َ‬
‫ل َ‬ ‫نا ّ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬لَقْد َم ّ‬
‫ب‬
‫ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ‬ ‫ن َأْمِرَنا َما ُكن َ‬ ‫حا ّم ْ‬‫ك ُرو ً‬ ‫حْيَنا ِإَلْي َ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ،[164:‬وقال تعالى‪َ} :‬وَكَذِل َ‬
‫ك َأْو َ‬ ‫ل ّمِبي ٍ‬‫ضل ٍ‬ ‫ل َلِفي َ‬ ‫َكاُنوْا ِمن َقْب ُ‬
‫ت َوَما‬
‫سَماَوا ِ‬ ‫ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ‬ ‫ط ا ِّ‬‫صَرا ِ‬ ‫سَتِقيٍم ِ‬ ‫ط ّم ْ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ‬ ‫عَباِدَنا َوِإّن َ‬
‫ن ِ‬
‫شاء ِم ْ‬
‫ن ّن َ‬‫جَعْلَناُه ُنوًرا ّنْهِدي ِبِه َم ْ‬
‫ن َوَلِكن َ‬ ‫ليَما ُ‬‫ل ا ِْ‬ ‫َو َ‬
‫ض{ ]الشورى ‪.[53، 52‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ِفي ا َْ‬

‫وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملحدة‪ ،‬الذين يقولون‪ :‬إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد‪ ،‬ول بين للناس‬
‫ما هو المر عليه في نفسه‪ ،‬بل أظهر للناس خلف الحق‪ ،‬والحق‪ :‬إما كتمه وإما أنه كان غير عالم به‪.‬‬

‫فإن هؤلء الملحدة من المتفلسفة‪ ،‬ومن سلك سبيلهم من المخالفين لما جاء به الرسول في المور العلمية‪ ،‬كالتوحيد‬
‫والمعاد وغير ذلك‪ ،‬يقولون‪ :‬إن الرسول أحكم المور العملية المتعلقة بالخلق والسياسة المنزلية والمدنية‪ / ،‬وأتى‬
‫بشريعة عملية هي أفضل شرائع العالم‪ ،‬ويعترفون بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموسه ول أكمل منه‪ ،‬فإنهم‬
‫رأوا حسن سياسته للعالم وما أقامه من سنن العدل‪ ،‬ومحاه من الظلم‪.‬‬

‫وأما المور العلمية التي أخبر بها ـ من صفات الرب وأسمائه وملئكته وكتبه ورسله‪ ،‬واليوم الخر والجنة والنار ـ‬
‫فلما رأوها تخالف ما هم عليه صاروا في الرسول فريقين‪:‬‬

‫فغلتهم يقولون‪ :‬إنه لم يكن يعرف هذه المعارف‪ ،‬وإنما كان كماله في المور العملية‪ :‬العبادات والخلق‪ ،‬وأما‬
‫المور العلمية‪ ،‬فالفلسفة أعلم بها منه‪ ،‬بل ومن غيره من النبياء‪ .‬وهؤلء يقولون‪ :‬إن علًيا كان فيلسوًفا‪ ،‬وأنه كان‬
‫أعلم بالعلميات من الرسول‪ ،‬وأن هارون كان فيلسوًفا‪ ،‬وكان أعلم بالعلميات من موسى‪.‬‬

‫وكثير منهم يعظم فرعون‪ ،‬ويسمونه أفلطون القبطي‪ ،‬ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته ـ الذي يقول‬
‫بعض الناس‪ :‬إنه شعيب ـ يقول هؤلء‪ :‬إنه أفلطون أستاذ أرسطو‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن أرسطو هو الخضر ـ إلى أمثال هذا‬
‫الكلم الذي فيه من الجهل والضلل ما ل يعلمه إل ذو الجلل‪.‬‬

‫أقل ما فيه جهلهم بتواريخ النبياء‪ ،‬فإن أرسطو باتفاقهم كان وزيًرا ‪ /‬للسكندر بن فيلبس المقدوني‪ ،‬الذي تؤرخ به‬
‫اليهود والنصارى التاريخ الرومي‪ ،‬وكان قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة ‪.‬‬
‫وقد يظنون أن هذا هو‪] :‬ذو القرنين[ المذكور في القرآن‪ ،‬وأن أرسطو كان وزيًرا لذي القرنين‪ ،‬المذكور في القرآن‪،‬‬
‫سّد‪ ،‬وإنما وصل إلى بلد الفرس‪.‬‬‫وهذا جهل‪ .‬فإن هذا السكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلد الترك‪ ،‬ولم يبن ال ّ‬

‫وذو القرنين المذكور في القرآن وصل إلى شرق الرض وغربها‪ ،‬وكان متقدًما على هذا‪ ،‬يقال‪ :‬إن اسمه السكندر‬
‫بن دارا‪ ،‬وكان موحًدا مؤمًنا‪ ،‬وذاك مشرًكا‪ ،‬كان يعبد هو وقومه الكواكب والصنام‪ ،‬ويعانون السحر‪ ،‬كما كان‬
‫أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الصنام‪ ،‬ويعانون السحر‪ ،‬ولهم في ذلك مصنفات‪ ،‬وأخبارهم مشهورة‪،‬‬
‫وآثارهم ظاهرة بذلك‪ ،‬فأين هذا من هذا؟!‬

‫والمقصود هنا بيان ما يقوله هؤلء الفلسفة الباطنية فيما جاء به الرسول‪.‬‬

‫والفريق الثاني منهم‪ ،‬يقولون‪ :‬إن الرسول كان يعلم الحق الثابت في نفس المر في التوحيد والمعاد‪ ،‬ويعرف أن الرب‬
‫ليس له صفة ثبوتية‪ ،‬وأنه ل يرى ول يتكلم‪ ،‬وأن الفلك قديمة أزلية لم تزل ول تزال‪ ،‬وأن البدان ل تقوم‪ ،‬وأنه‬
‫ليس ل ملئكة هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي ‪ /‬من عنده ويصعدون إليه‪ ،‬ولكن يقول بما عليه هؤلء الباطنية في‬
‫الباطن‪ ،‬لكن ما كان يمكنه إظهار ذلك للعامة؛ لن هذا إذا ظهر لم تقبله عقولهم وقلوبهم بل ينكرونه وينفرون منه‪،‬‬
‫فأظهر لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم‪ ،‬وإن كان في ذلك تلبيس عليهم وتجهيل لهم‪ ،‬واعتقادهم المر‬
‫على خلف ما هو عليه‪ ،‬لما في ذلك من المصلحة لهم‪.‬‬

‫ويجعلون أئمة الباطنية‪ ،‬كبني عبيد بن ميمون القّداح الذين ادعوا أنهم من ولد محمد ابن إسماعيل بن جعفر‪ ،‬ولم‬
‫يكونوا من أولده‪ ،‬بل كان جدهم يهودًيا ربيبًيا لمجوسي‪ ،‬وأظهروا التشيع‪ .‬ولم يكونوا في الحقيقة على دين واحد من‬
‫الشيعة ل المامية‪ ،‬ول الزيدية‪ ،‬بل ول الغالية الذين يعتقدون إلهية علي‪ ،‬أو نبوته‪ ،‬بل كانوا شًرا من هؤلء كلهم‪.‬‬

‫ولهذا كثر تصانيف علماء المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم‪ ،‬وكثر غزو المسلمين لهم‪ .‬وقصصهم‬
‫معروفة‪ .‬وابن سينا وأهل بيته كانوا من أتباع هؤلء على عهد حاكمهم المصري؛ ولهذا دخل ابن سينا في الفلسفة‪.‬‬

‫وهؤلء يجعلون محمد بن إسماعيل هو المام المكتوم‪ ،‬وأنه نسخ شرع محمد بن عبد ال بن عبد المطلب‪ ،‬ويقولون‪:‬‬
‫إن هؤلء السماعيلية كانوا أئمة معصومين‪ ،‬بل قد يقولون‪ :‬إنهم أفضل من النبياء‪ ،‬وقد يقولون‪ :‬إنهم آلهة يعبدون‪.‬‬

‫ولهذا أرسل الحاكم غلمه ]هشتكير[ الدرزي إلى وادي تيم ال بن ثعلبة ‪ /‬بالشام‪ ،‬فأضل أهل تلك الناحية وبقاياه فيهم‬
‫إلى اليوم يقولون بإلهية الحاكم وقد أخرجهم عن دين السلم‪ ،‬فل يرون الصلوات الخمس‪ ،‬و ل صيام شهر رمضان‪،‬‬
‫ول حج البيت الحرام‪ ،‬ول تحريم ما حرمه ال ورسوله من الميتة‪ ،‬والدم‪ ،‬ولحم الخنزير‪ ،‬والخمر وغير ذلك‪.‬‬

‫وهؤلء يدعون المستجيب لهم أولً إلى التشيع‪ ،‬والتزام ما توجبه الرافضة وتحريم ما يحرمونه‪ ،‬ثم بعد هذا ينقلونه‬
‫درجة بعد درجة حتى ينقلونه في الخر إلى النسلخ من السلم‪ ،‬وأن المقصود هو معرفة أسرارهم‪ ،‬وهو العلم‬
‫الذي به تكمل النفس‪ ،‬كما تقوله الفلسفة الملحدة‪ ،‬فمن حصل له هذا العلم وصل إلى الغاية‪ ،‬وسقطت عنه العبادات‬
‫التي تجب على العامة‪ ،‬كالصلوات الخمس‪ ،‬وصيام رمضان‪ ،‬وحج البيت‪ ،‬وحلت له المحرمات التي ل تحل لغيره‪.‬‬

‫ل في العلم ـ من جنس رؤوسهم الملحدة‪،‬‬‫فهؤلء يجعلون الرسول صلى ال عليه وسلم ـ إذا عظموه وقالوا‪ :‬كان كام ً‬
‫وأنه كان يظهر للعامة خلف ما يبطنه للخاصة‪ .‬وقد بينا من فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما ل يناسبه هذا‬
‫المقام‪.‬‬

‫فإن المقصود هنا أن هؤلء النفاة للعلو وللصفات الخبرية‪ ،‬كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من جنس قول‬
‫هؤلء‪ :‬إن الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس المر؛ لن ذلك ما كان يمكنه إظهاره للعامة‪ ،‬فإذا ‪ /‬كانوا‬
‫يقولون هذا في الرسول نفسه فكيف قولهم في أتباعه من سلف المة من الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬كان مخالًفا لهم ل موافًقا‪ ،‬ل سيما‬
‫ضا‪.‬‬
‫إذا أظهر النفي الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ول يظهرونه‪ ،‬فإنه يكون مخالًفا لهم أي ً‬
‫وهذا المسلك يراه عامة النفاة‪ ،‬كابن رشد الحفيد وغيره‪ .‬وفي كلم أبي حامد الغزالي من هذا قطعة كبيرة‪ .‬وابن عقيل‬
‫وأمثاله قد يقولون أحياًنا هذا‪ ،‬لكن ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والعتزال في أول‬
‫أمره‪ ،‬بخلف آخر ما كان عليه‪ ،‬فقد خرج إلى السنة المحضة‪.‬‬

‫وأبو حامد يميل إلى الفلسفة‪ ،‬لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات السلمية؛ ولهذا رد عليه علماء المسلمين‪،‬‬
‫حتى أخص أصحابه أبى بكر بن العربي‪ ،‬فإنه قال‪ :‬شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلسفة‪ ،‬ثم أراد أن يخرج منهم‬
‫فما قدر‪ .‬وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه‪ ،‬ورد عليه العلماء المذكورون قبل ‪.‬‬

‫فصــل‬

‫ثم قال المعترض‪ :‬قال أبو الفرج ابن الجوزي في الرد على الحنابلة‪ :‬إنهم أثبتوا ل ـ سبحانه ـ عيًنا‪ ،‬وصورة‪ ،‬ويميًنا‪،‬‬
‫ل‪ ،‬ووجًها زائًدا على الذات‪ ،‬وجبهة‪ ،‬وصدًرا‪ ،‬ويدين‪ ،‬ورجلين‪ ،‬وأصابع‪ ،‬وخنصًرا‪ ،‬وفخًذا‪ ،‬وساًقا‪ ،‬وقدًما‪،‬‬ ‫وشما ً‬
‫ل‪ ،‬وهرولة‪ ،‬وعجًبا‪ ،‬لقد‬ ‫حْقو‪ :‬هو الكشح والزار‪ ،‬أو هو معقده[ وخلًفا‪ ،‬وأماًما‪ ،‬وصعوًدا‪ ،‬ونزو ً‬
‫حْقًوا ]ال ِ‬
‫وجنًبا‪ ،‬و ِ‬
‫كملوا هيئة البدن! وقالوا‪ :‬يحمل على ظاهره‪ ،‬وليست بجوارح‪ ،‬ومثل هؤلء ل يحدثون‪ ،‬فإنهم يكابرون العقول‪،‬‬
‫وكأنهم يحدثون الطفال‪.‬‬

‫قلت‪ :‬الكلم على هذا فيه أنواع‪:‬‬

‫الول‪ :‬بيان مافيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلم في المسألة العلمية‪.‬‬

‫ل‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬بيان أنه رد بل حجة ول دليل أص ً‬

‫الثالث‪ :‬بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل‪.‬‬

‫أما أول‪ :‬فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلم أبي الفرج لم يصنفه ‪ /‬في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا‪ ،‬وإنما رد به ـ‬
‫فيما ادعاه ـ على بعضهم‪ ،‬وقصد أبا عبد ال بن حامد والقاضي أبا يعلى وشيخه أبا الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم‪،‬‬
‫وإل فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم‪ ،‬ول حكى عنهم ما أنكره‪ ،‬بل هو يحتج في مخالفته لهؤلء بكلم‬
‫كثير من الحنبلية‪ ،‬كما يذكره من كلم التميميين‪ ،‬مثل‪ :‬رزق ال التميمي ]هو أبو محمد عبد الوهاب بن عبد العزيز‬
‫بن يزيد البغدادي‪ ،‬الشيخ المام الواعظ‪ ،‬كان فقيه الحنابلة‪ ،‬ولد سنة ‪400‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪488‬هـ[‪ ،‬وأبي الوفا بن‬
‫عقيل‪ ،‬ورزق ال كان يميل إلى طريقة سلفه‪ ،‬كجده أبي الحسن التميمي‪ ،‬وعمه أبي الفضل التميمي‪ ،‬والشريف أبي‬
‫علي بن أبي موسى ـ هو صاحب أبي الحسن التميمي ـ وقد ذكر عنه أنه قال‪ :‬لقد خِرئ ]َتَغّوط[ القاضي أبو يعلى‬
‫خرَيًة ل يغسلها الماء‪.‬‬
‫على الحنابلة َ‬

‫وسنتكلم على هذا بما ييسره ال‪ ،‬متحرين للكلم بعلم وعدل‪ ،‬ول حول ول قوة إل بال‪ ،‬فمازال في الحنبلية من يكون‬
‫ميله إلى نوع من الثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم‪ ،‬ومنهم من يمسك عن النفي والثبات جميًعا‪ .‬ففيهم جنس‬
‫التنازع الموجود في سائر الطوائف‪ ،‬لكن نزاعهم في مسائل الّدق‪ ،‬وأما الصول الكبار فهم متفقون عليها‪ ،‬ولهذا‬
‫عا وافتراًقا‪ ،‬لكثرة اعتصامهم بالسنة والثار؛ لن للمام أحمد في باب أصول الدين من‬ ‫كانوا أقل الطوائف تناز ً‬
‫القوال المبينة ـ لما تنازع فيه الناس ـ ما ليس لغيره‪ .‬وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب؛ ولهذا‬
‫كان جميع من ينتحل السنة من طوائف المة ـ فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ـ ينتحلونه‪.‬‬

‫‪/‬ثم قد يتنازع هؤلء في بعض المسائل‪ ،‬فإن هذا أمر لبد منه في العالم‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم قد أخبر بأن هذا‬
‫لبد من وقوعه‪ ،‬وأنه لما سأل ربه أل يلقي بأسهم بينهم منع ذلك‪ ،‬فلبد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من‬
‫نوع تنازع‪ ،‬لكن لبد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة‪ ،‬كما أنه لبد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلف‪،‬‬
‫لكنه ل يزال في هذه المة طائفة قائمة بالحق ل يضرها من خالفها ول من خذلها حتى تقوم الساعة‪.‬‬

‫ل للمام أحمد‪ ،‬ذاكًرا أنه مقتد به‬


‫ولهذا لماكان أبو الحسن الشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة‪ ،‬كان منتح ً‬
‫متبع سبيله‪ .‬وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب المام أحمد ما هو معروف‪ ،‬حتى إن‬
‫أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلمه مثل ما يذكر من حجج أصحابه؛ لنه كان عنده من متكلمة‬
‫أصحابه‪.‬‬

‫وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون؛ أبو الحسن التميمي‪ ،‬وابنه‪ ،‬وابن ابنه‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬وكان بين أبي الحسن‬
‫التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور؛ ولهذا اعتمد الحافظ أبو‬
‫بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب المام أحمد ـ لما ذكر اعتقاده ـ اعتمد على ما نقله من كلم أبي الفضل‬
‫عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي‪ .‬وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه‪ ،‬ولم يذكر فيه ألفاظه‪،‬‬
‫وإنما ذكر جمل العتقاد بلفظ نفسه‪ ،‬وجعل يقول‪] :‬وكان أبوعبد ال[‪.‬وهو بمنزلة من يصنف ‪ /‬كتاًبا في الفقه على‬
‫رأي بعض الئمة‪ ،‬ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه‪ ،‬وإن كان غيره بمذهب ذلك المام أعلم منه بألفاظه وأفهم‬
‫لمقاصده‪ ،‬فإن الناس في نقل مذاهب الئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة‪ .‬ومن المعلوم أن أحدهم يقول‪ :‬حكم‬
‫ال كذا‪ ،‬أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة‪ ،‬بحسب ما بلغه وفهمه‪ ،‬وإن كان غيره أعلم‬
‫بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده‪.‬‬

‫ضا ـ من المور التي يكثر وجودها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الئمة‪ ،‬كما يختلف‬
‫فهذا ـ أي ً‬
‫بعض أهل الحديث في النقل عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لكن النبي صلى ال عليه وسلم معصوم‪ ،‬فل يجوز أن‬
‫يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة‪ ،‬ول أمران متناقضان في الحقيقة إل وأحدهما ناسخ والخر منسوخ‪ ،‬وأما‬
‫غير النبي صلى ال عليه وسلم فليس بمعصوم‪ ،‬فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين‪ ،‬وأمرين متناقضين ولم‬
‫يشعر بالتناقض‪.‬‬

‫لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى ال عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة ـ وقد تختلف الروايات حتى يكون‬
‫بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالستدلل بينهم اختلف كثير ـ لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره‪،‬‬
‫بل هو أولى بذلك؛ لن ال قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله‪ ،‬ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره؛ لن ما‬
‫بعث ال به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى ال الذي جاء من عند ال‪ ،‬وبه يعرف سبيله وهو حجته على‬
‫عباده‪/ ،‬فلو وقع فيه ضلل لم يبين لسقطت حجة ال في ذلك‪ ،‬وذهب هداه‪ ،‬وعميت سبيله؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي‬
‫آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه‪ ،‬بل هذا الرسول آخر الرسل‪ ،‬وأمته خير المم؛ ولهذا ل يزال فيها طائفة قائمة‬
‫على الحق بإذن ال‪ ،‬ل يضرها من خالفها ول من خذلها حتى تقوم الساعة‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب‪ ،‬لم يثبت على قدم النفي ول على قدم الثبات‪ ،‬بل له من الكلم‬
‫في الثبات نظًما ونثًرا ما أثبت به كثيًرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف‪ .‬فهو في هذا الباب مثل كثير من‬
‫الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة‪ ،‬وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات‪ ،‬كما هو حال‬
‫أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي‪.‬‬

‫صا بالحنبلية‪ ،‬ول فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم‪ ،‬بل من استقرأ مذاهب‬ ‫الوجه الثالث‪ :‬أن باب الثبات ليس مخت ً‬
‫الناس وجد في كل طائفة من الغلة في النفي والثبات ما ل يوجد مثله في الحنبلية‪ ،‬ووجد من مال منهم إلى نفي‬
‫باطل أو إثبات باطل‪ / ،‬فإنه ل يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والثبات‪ ،‬بل تجد في الطوائف من زيادة‬
‫النفي الباطل والثبات الباطل ما ل يوجد مثله في الحنبلية‪ .‬وإنما وقع العتداء في النفي والثبات فيهم مما دب إليهم‬
‫من غيرهم الذين اعتدوا حدود ال بزيادة في النفي والثبات؛ إذ أصل السنة مبناها على القتصاد والعتدال دون‬
‫البغي والعتداء‪.‬‬

‫وكان علم المام أحمد وأتباعه‪ ،‬له من الكمال والتمام‪ ،‬على الوجه المشهور بين الخاص والعام‪،‬ممن له بالسنة وأهلها‬
‫نوع إلمام‪ ،‬وأما أهل الجهل والضلل‪ ،‬الذين ل يعرفون ما بعث ال به الرسول‪ ،‬ول يميزون بين صحيح المنقول‬
‫وصريح المعقول‪ ،‬وبين الروايات المكذوبة والراء المضطربة‪ ،‬فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الولين من‬
‫المهاجرين والنصار الذين نطق بفضلهم القرآن‪ ،‬فهم بمقادير الئمة المخالفين لهؤلء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ‬
‫كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم واليمان‪ ،‬وهم في هذه الحوال إلى الكفر أقرب‬
‫منهم لليمان‪.‬‬
‫ن كأنه لم ينشأ في دار السلم‪ ،‬ولسمع ما عليه أهل العلم‬
‫تجد أحدهم يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلم َم ْ‬
‫واليمان‪ ،‬ول عرف حال سلف هذه المة‪ ،‬وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والعمال الصالحة‪ ،‬ول عرف مما بعث‬
‫ال به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلل‪ ،‬والغي والرشاد‪.‬‬

‫‪ /‬وتجد وقيعة هؤلء في ]أئمة السنة وهداة المة[ من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر‪،‬‬
‫وعمر‪ ،‬وأعيان المهاجرين والنصار‪ ،‬ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه المة في رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلسفة وغيرهم في النبياء والمرسلين‪ ،‬وقد ذكر ال في كتابه‬
‫من كلم الكفار والمنافقين في النبياء والمرسلين وأهل العلم واليمان ما فيه عبرة للمعتبر‪ ،‬وبينة للمستبصر‪،‬‬
‫وموعظة للمتهوك ]المتحّير[ المتحير‪.‬‬

‫وتجد عامة أهل الكلم ومن أعرض عن جادة السلف ـ إل من عصم ال ـ يعظمون أئمة التحاد‪ ،‬بعد تصريحهم في‬
‫كتبهم بعبارات التحاد ‪ ،‬ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه‪ ،‬ولهم في قلوبهم من الجلل والتعظيم والشهادة‬
‫بالمامة والولية لهم‪ ،‬وأنهم أهل الحقائق‪ ،‬ما ال به عليم‪.‬‬

‫هذا ابن عربي يصرح في فصوصه‪ :‬أن الولية أعظم من النبوة‪ ،‬بل أكمل من الرسالة‪ ،‬ومن كلمه‪:‬‬

‫ق الرسول ودون الولي‬


‫مقام النبوة في برزخ ** ُفَوْي َ‬

‫وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولية النبي أفضل من نبوته‪ ،‬وكذلك ولية الرسول أفضل من رسالته‪ ،‬أو يجعلون‬
‫وليته حاله مع ال‪ ،‬ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل‪.‬‬

‫فإن الرسول إذا خاطب الخلق‪ ،‬وبلغهم الرسالة لم يفارق الولية‪ ،‬بل هو ولي ‪ /‬ال في تلك الحال‪ ،‬كما هو ولي ال في‬
‫سائر أحواله‪ ،‬فإنه ولي ال ليس عدًوا له في شيء من أحواله‪ ،‬وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا‬
‫ال وناجاه‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم‪ :‬إن النبي صلى ال عليه وسلم لبنة من فضة‪ ،‬وهو لبنتان من ذهب‬‫وأي ً‬
‫وفضة‪ ،‬ويزعم أن لبنة محمد صلى ال عليه وسلم هي العلم الظاهر‪ ،‬ولبنتاه الذهب‪ :‬علم الباطن‪ ،‬والفضة‪ :‬علم‬
‫الظاهر‪ ،‬وأنه يتلقى ذلك بل واسطة‪ ،‬ويصرح في فصوصه‪ :‬أن رتبة الولية أعظم من رتبة النبوة؛ لن الولي يأخذ‬
‫بل واسطة والنبي بواسطة‪ ،‬فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى ال عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه‬
‫فيه‪.‬‬

‫وبالجملة‪ ،‬فهو لم يتبع النبي صلى ال عليه وسلم في شيء‪ ،‬فإنه أخذ بزعمه عن ال ما هو متابعه فيه في الظاهر‪ ،‬كما‬
‫ل‪ ،‬ل في الحقائق‬
‫يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول‪ ،‬فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أص ً‬
‫الخبرية‪ ،‬ول في الحقائق الشرعية‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى‪ ،‬وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه‪ ،‬بل ادعى أنه‬
‫وأي ً‬
‫يأخذ ما أقره عليه من الشرع من ال في الباطن‪ ،‬فيكون أخذه للشرع عن ال أعظم من أخذ الرسول‪.‬‬

‫‪ /‬وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه ـ وهو موضع اللبنة الذهبية ـ فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي‬
‫يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول‪.‬‬

‫فهذا كما ترى في حال هذا الرجل‪ ،‬وتعظيم بعض المتأخرين له‪.‬‬

‫وصرح الغزالي بأن قتل من ادعي أن رتبة الولية أعلى من رتبة النبوة‪ ،‬أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لن ضرر هذا‬
‫في الدين أعظم‪.‬‬

‫ول نطيل الكلم في هذا المقام؛ لنه ليس المقصود هنا‪.‬‬


‫ضا‪ ،‬فأسماء ال وأسماء صفاته عندهم شرعية سمعية‪ ،‬ل تطلق بمجرد الرأي‪ ،‬فهم في المتناع من هذه السماء‬‫وأي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫أحق بالعذر ممن امتنع من تسمية صفاته أعرا ً‬

‫وذلك أن الصفات التي لنا منها ما هو عَرض كالعلم والقدرة‪ ،‬ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه‪ ،‬كالوجه واليد‪،‬‬
‫وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجساًما؛ لما في ذلك من معنى الكتساب والنتفاع والتصرف‪،‬‬
‫وجواز التفريق والبعضية‪.‬‬

‫‪/‬الوجه الرابع‪ :‬أن هذا السؤال ل يختص بهؤلء‪ ،‬بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف المة وأئمتها‪ ،‬من‬
‫لبّية والُكّرامية والشعرية‪ ،‬كل هؤلء يثبتون ل‬
‫أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلم من الُك ّ‬
‫صفة الوجه واليد ونحو ذلك‪.‬‬

‫وقد ذكر الشعري في كتاب المقالت أن هذا مذهب أهل الحديث‪ ،‬وقال‪ :‬إنه به يقول‪.‬‬

‫فقال في جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث‪ :‬جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث‪ :‬القرار بكذا وكذا‪ ،‬وأن‬
‫ن{‬‫طَتا ِ‬
‫سو َ‬ ‫ي{ ]ص‪ ،[75:‬وكما قال‪َ} :‬ب ْ‬
‫ل َيَداُه َمْب ُ‬ ‫ت ِبَيَد ّ‬ ‫ال على عرشه استوى‪ ،‬وأن له يدين بل كيف‪ ،‬كما قال‪َ } :‬‬
‫خَلْق ُ‬
‫عُيِنَنا{ ]القمر‪ ،[14:‬وأن له وجًها‪ ،‬كما قال‪َ} :‬وَيْبَقى َو ْ‬
‫جُه َرّب َ‬
‫ك‬ ‫]المائدة‪ ،[64:‬وأن له عينين بل كيف‪ ،‬كما قال‪َ} :‬ت ْ‬
‫جِري ِبَأ ْ‬
‫لِل َواِْلْكَراِم{ ]الرحمن ‪[27:‬‬
‫جَ‬‫ُذو اْل َ‬

‫وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الثبات‪ ،‬وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود‬
‫في الحنبلية ـ سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي‪ ،‬أو كان فيه تفصيل ـ إل وذلك موجود فيما شاء ال ‪/‬من‬
‫أهل الحديث والصوفية‪ ،‬والمالكية‪ ،‬والشافعية‪ ،‬والحنفية ونحوهم‪ ،‬بل هو موجود في الطوائف التي ل تنتحل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬والحديث‪ ،‬ول مذهب السلف‪ ،‬مثل الشيعة وغيرهم‪ ،‬ففيهم في طرفي الثبات والنفي ما ل يوجد في هذه‬
‫الطوائف‪.‬‬

‫وكذلك في أهل الكتابين ـ أهل التوراة والنجيل ـ توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والثبات‪ ،‬وكذلك الصابئة من‬
‫الفلسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والثبات‪ ،‬حتى إن منهم من يثبت ما ل يثبته كثير من متكلمة الصفاتية‪ ،‬ولكن‬
‫جنس الثبات على المتبعين للرسل أغلب‪ ،‬من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين‪ .‬وجنس النفي على‬
‫غير المتبعين للرسل أغلب‪ ،‬من المشركين والصابئة المبتدعة‪.‬‬

‫وقد ذكرنا ـ في غير هذا الجواب ـ مذهب سلف المة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف‪ ،‬بحيث‬
‫ل يبقى لحد من الطوائف اختصاص بالثبات‪.‬‬

‫ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي‪ ،‬في كتابه الذي سماه ]الفصول في الصول‬
‫عن الئمة الفحول‪ ،‬إلزاًما لذوي البدع والفضول[‪ ،‬وكان من أئمة الشافعية‪ ،‬ذكر فيه من كلم الشافعي‪ ،‬ومالك‪،‬‬
‫والثوري‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والبخاري ـ صاحب الصحيح ـ ‪ /‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬وعبد ال بن المبارك‪ ،‬والوزاعي‪،‬‬
‫والليث بن سعد‪ ،‬وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم‪.‬‬

‫وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في السلم‪ ،‬وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم؛‬
‫لنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرًقا وغرًبا إلى مذاهبهم؛ ولنهم أجمع لشرائط القدوة والمامة من غيرهم‪ ،‬وأكثر‬
‫لتحصيل أسبابها وأدواتها‪ ،‬من جودة الحفظ والبصيرة‪ ،‬والفطنة والمعرفة بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والجماع والسند‬
‫والرجال‪ ،‬والحوال‪ ،‬ولغات العرب‪ ،‬ومواضعها‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والناسخ‪ ،‬والمنسوخ‪ ،‬والمنقول‪ ،‬والمعقول‪ ،‬والصحيح‪،‬‬
‫والمدخول في الصدق‪ ،‬والصلبة‪ ،‬وظهور المانة‪ ،‬والديانة‪ ،‬ممن سواهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬وإن قصر واحد منهم في سبب منها‪ ،‬جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬باينوا‬
‫هؤلء بهذا المعنى من سواهم‪ ،‬فإن غيرهم من الئمة ـ وإن كانوا في منصب المامة ـ لكن أخّلوا ببعض ما أشرت‬
‫ل من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضًعا لبيانها‪.‬‬
‫إليه مجم ً‬
‫قال‪ :‬ووجه ثالث لبد من أن نبين فيه‪ ،‬فنقول‪ :‬إن في النقل عن هؤلء إلزاًما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام‬
‫يخالفه في العقيدة‪ ،‬فإن أحدهما ل محالة يضلل صاحبه‪ ،‬أو يبدعه‪ ،‬أو يكفره‪ ،‬فانتحال مذهبه ـ مع مخالفته ‪ /‬له في‬
‫عا وطبًعا‪ ،‬فمن قال‪ :‬أنا شافعي الشرع‪ ،‬أشعري العتقاد‪ ،‬قلنا له ‪ :‬هذا من الضداد‪ ،‬ل‬ ‫العقيدة ـ مستنكر ـ وال ـ شر ً‬
‫بل من الرتداد؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري العتقاد‪ .‬ومن قال‪ :‬أنا حنبلي في الفروع‪ ،‬معتزلي في الصول‪ ،‬قلنا‪ :‬قد‬
‫ضللت إًذا عن سواء السبيل فيما تزعمه؛ إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والجتهاد‪.‬‬

‫سّبة وعار‪ ،‬وفلتة تعود بالوبال والنكال‪،‬‬


‫ضا ـ خلق من المالكية بمذاهب الشعرية‪،‬وهذه ـ وال ـ ُ‬
‫قال‪:‬وقد افتتن ـ أي ً‬
‫وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلء الئمة الكبار‪ ،‬فإن مذهبهم ما رويناه‪ :‬من تكفيرهم الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‬
‫والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية‪.‬‬

‫وبسط الكلم في مسألة اللفظ إلى أن قال‪ :‬فأما غير ما ذكرناه من الئمة‪ ،‬فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض‬
‫للنقل عنهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬فإن قيل‪ :‬فهل اقتصرتم إذًا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث‪ ،‬وهم الئمة؛‬
‫الشافعي‪ ،‬ومالك‪ ،‬والثوري‪ ،‬وأحمد‪ ،‬إذ ل نرى أحًدا ينتحل مذهب الوزاعي والليث وسائرهم ؟‬

‫قلنا‪ :‬لن من ذكرناه من الئمة ـ سوى هؤلء ـ أرباب المذاهب في الجملة‪ ،‬إذ كانوا قدوة في عصرهم‪ ،‬ثم اندرجت‬
‫مذاهبهم الخرة تحت مذاهب الئمة المعتبرة‪ .‬وذلك أن ابن عيينة كان قدوة‪ ،‬ولكن لم يصنف في ‪ /‬الذي كان يختاره‬
‫من الحكام‪ ،‬وإنما صنف أصحابه‪ ،‬وهم الشافعي‪ ،‬وأحمد‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم‪.‬‬

‫وأما الليث بن سعد‪ ،‬فلم يقم أصحابه بمذهبه‪ ،‬قال الشافعي‪ :‬لم يرزق الصحاب إل أن قوله يوافق قول مالك أو قول‬
‫الثوري ل يخطئهما‪ ،‬فاندرج مذهبه تحت مذهبهما‪.‬‬

‫ل إل ويوافق قول مالك‪ ،‬أو قول الثوري أو قول الشافعي فاندرج‬


‫وأما الوزاعي‪ ،‬فل نرى له في أعم المسائل قو ً‬
‫ضا ـ تحت اختيار هؤلء‪ .‬وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما‪.‬‬ ‫اختياره ـ أي ً‬

‫قال‪ :‬فإن قيل‪ :‬فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلء تحت مذاهب الئمة؟ قلت‪ :‬من‬
‫التعليقة للشيخ أبي حامد السفرائيني‪ ،‬التي هي ديوان الشرائع‪ ،‬وأم البدائع في بيان الحكام‪ ،‬ومذاهب العلماء العلم‪،‬‬
‫وأصول الحجج العظام‪ ،‬في المختلف والمؤتلف‪.‬‬

‫عة‪ ،‬وأبي حاتم في الصلة والحكام ـ مما قرأته وسمعته من مجموعيهما ـ فهو موافق لقول‬ ‫قال‪ :‬وأما اختيار أبي ُزْر َ‬
‫أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور‪ .‬وأما البخاري فلم أر له اختياًرا‪ ،‬ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول‪:‬‬
‫استنبط البخاري في الختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق‪.‬‬

‫فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم‪ ،‬دون غيرهم؛ إذ هم أرباب ‪ /‬المذاهب في الجملة‪ ،‬ولهم أهلية القتداء‬
‫بهم لحيازتهم شرائط المامة‪ ،‬وليس من سواهم في درجتهم‪ ،‬وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم‪.‬‬

‫ل قال‪ :‬لما‬‫ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر‪ :‬في ذكر خلصة تحوي مناصيص الئمة بعد أن أفرد لكل منهم فص ً‬
‫تتبعت أصول ما صح لي روايته‪ ،‬فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الئمة‪ ،‬فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول‬
‫التي أثبتها‪ ،‬وافتتحت كل ]فصل[ بنيف من المحامد‪ ،‬يكون لمامتهم إحدى الشواهد‪ ،‬داعية إلى اتباعهم‪ ،‬ووجوب‬
‫وفاقهم‪ ،‬و تحريم خلفهم وشقاقهم‪ ،‬فإن اتباع من ذكرناه من الئمة في الصول في زماننا بمنزلة اتباع الجماع الذي‬
‫يبلغنا عن الصحابة والتابعين؛ إذ ل يسع مسلًما خلفه‪ ،‬ول يعذر فيه‪ ،‬فإن الحق ل يخرج عنهم؛ لنهم الدلء‪،‬‬
‫وأرباب مذاهب هذه المة‪ ،‬والصدور والسادة‪ ،‬والعلـماء القـادة‪ ،‬أولـو الــدين والــديانة‪ ،‬والصــدق والمانة‪ ،‬والعــلم‬
‫الوافر‪،‬والجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع‪ ،‬فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين ال‪ ،‬حتى صاروا‬
‫أرباب المذاهب في المشارق والمغارب‪ ،‬فليرضوا كذلك بهم في الصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه‬
‫ودعوا إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإنا نعلم قطًعا أنهم أعرف قطًعا بما صح من معتقد رسول اللهصلى ال عليه وسلم وأصحابه من بعده‪ ،‬لجودة‬
‫معارفهم وحيازتهم شرائط المامة‪ ،‬ولقرب عصرهم من الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬كما بيناه في أول‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫‪ /‬قال‪ :‬ثم أردت ـ ووافق مرادي سؤال بعض الخوان ـ أن أذكر خلصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم‪ ،‬فإنها‬
‫أقرب إلى الحفظ‪ ،‬وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب‪ ،‬فاستعنت بمن عليه التكلن‪ ،‬وقلت‪ :‬إن الذي آثرناه من‬
‫مناصيصهم يجمعه فصلن‪ :‬أحدهما‪ :‬في بيان السنة وفضلها‪ .‬والثاني ‪:‬في هجران البدعة وأهلها‪.‬‬

‫أما الفصل الول‪ :‬فاعلم أن ]السنة[ طريقة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والتسنن بسلوكها وإصابتها‪ .‬وهي أقسام‬
‫ثلثة ‪:‬أقوال‪ ،‬وأعمال‪ ،‬وعقائد‪ .‬فالقوال‪ :‬نحو الذكار والتسبيحات المأثورة‪ .‬والفعال‪ :‬مثل سنن الصلة والصيام‬
‫والصدقات المذكورة‪ ،‬ونحو السير المرضية‪ ،‬والداب المحكية ‪ ،‬فهذان القسمان في عداد التأكيد والستحباب‪،‬‬
‫واكتساب الجر والثواب‪ .‬والقسم الثالث‪ :‬سنة العقائد‪ ،‬وهي من اليمان إحدى القواعد‪.‬‬

‫قال‪ :‬وها أنذا أذكر ـ بعون ال ـ خلصة ما نقلته عنهم مفرًقا‪ ،‬وأضيف إليه ما ُدّون في كتب الصول مما لم يبلغني‬
‫عنهم مطلًقا‪ ،‬وأرتبها مرشحة‪ ،‬وببعض مناصيصهم موشحة‪ ،‬بأوجز لفظ على قدر وسعي‪ ،‬ليسهل حفظه على من‬
‫يريد أن يعي‪ ،‬فأقول‪:‬‬

‫ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلثة أضرب‪ :‬ضرب يتعلق بأسماء ال‪ ،‬وذاته‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وضرب يتعلق برسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وصحبه ومعجزاته‪ ،‬وضرب يتعلق بأهل السلم في أولهم وأخراهم‪.‬‬

‫‪ /‬أما الضرب الول‪ :‬فلنعتقد أن ل أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة‪ ،‬جاء بها كتابه‪ ،‬وأخبر بها الرسول أصحابه‪،‬‬
‫فيما رواه الثقات‪ ،‬وصححه النقاد الثبات ودل القرآن المبين‪ ،‬والحديث الصحيح المتين على ثبوتها ‪.‬‬

‫قال ـ رحمه ال تعالى ـ وهي أن ال ـ تعالى ـ أول لم يزل‪ ،‬وآخر ل يزال‪ ،‬أحد قديم وصمد كريم‪ ،‬عليم حليم عل ّ‬
‫ي‬
‫يٌء َوُهَو‬
‫ش ْ‬ ‫عظيم‪ ،‬رفيع مجـيد وله بطش شديـد‪ ،‬وهـو يبدئ ويعيد‪ ،‬فعال لما يريد‪ ،‬قوي قدير‪ ،‬منيع نصير‪َ} ،‬لْي َ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫صيُر{ ]الشورى‪ ،[11:‬إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس‪ ،‬والوجه‪ ،‬والعين‪ ،‬والقدم‪ ،‬واليدين‪ ،‬والعلم‪،‬‬ ‫سِميُع الَب ِ‬
‫ال ّ‬
‫والنظر‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والرادة‪ ،‬والمشيئة‪ ،‬والرضى‪ ،‬والغضب‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والضحك‪ ،‬والعجب‪ ،‬والستحياء‪،‬‬
‫والغيرة‪ ،‬والكراهة‪ ،‬والسخط‪ ،‬والقبض‪ ،‬والبسط‪ ،‬والقرب‪ ،‬والدنو‪ ،‬والفوقية والعلو‪ ،‬والكلم‪ ،‬والسلم‪ ،‬والقول‪،‬‬
‫والنداء‪ ،‬والتجلي‪ ،‬واللقاء‪ ،‬والنزول‪ ،‬والصعود‪ ،‬والستواء‪ ،‬وأنه ـ تعالى ـ في السماء‪ ،‬وأنه على عرشه بائن من‬
‫خلقه‪.‬‬

‫قال مالك‪ :‬إن ال في السماء وعلمه في كل مكان‪ ،‬وقال عبد ال بن المبارك‪ :‬نعرف ربنا فوق سبع سمواته على‬
‫العرش بائنا من خلقه‪ ،‬ول نقول كما قالت الجهمية‪ :‬إنه هاهنا‪ ،‬وأشار إلى الرض‪ ،‬وقال سفيان الثوري‪َ} :‬وُهَو َمَعُكْم‬
‫َأْيَن َما ُكنُتْم{ ]الحديد‪ [4:‬قال‪ :‬علمه‪ .‬قال الشافعي‪ :‬إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء‪ ،‬قال أحمد‪ :‬إنه‬
‫مستٍو على العرش عالم بكل مكان‪ .‬وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء‪ ،‬وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء‪/ ،‬‬
‫وإنه يعلو على كرسيه‪ ،‬واليمان بالعرش والكرسي‪ ،‬وما ورد فيهما من اليات والخبار‪.‬‬

‫وأن الكلم الطيب يصعد إليه‪ ،‬وتعرج الملئكة والروح إليه‪ ،‬وأنه خلق آدم بيديه‪ ،‬وخلق القلم وجنة عدن وشجرة طوبى‬
‫بيديه‪،‬وكتب التوراة بيديه‪ ،‬وأن كلتا يديه يمين‪ ،‬وقال ابن عمر‪ :‬خلق ال بيديه أربعة أشياء‪ :‬آدم‪ ،‬والعرش‪ ،‬والقلم‪،‬‬
‫وجنة عدن‪ ،‬وقال لسائر الخلق‪ :‬كن فكان‪،‬وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء‪ ،‬قالت عائشة ـ رضي ال عنها‪ :‬لشأني في‬
‫ي ُيْتَلى‪.‬‬
‫حٍ‬
‫ي ِبَو ْ‬
‫نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال ف ّ‬

‫ف منه مخلوق‪ ،‬منه بدأ وإليه يعود‪ ،‬قال عبد ال بن‬


‫حْر ٌ‬
‫وأن القرآن كلم ال بجميع جهاته منزل غير مخلوق‪ ،‬ول َ‬
‫المبارك‪ :‬من كفر بحرف من القرآن فقد كفر‪ ،‬ومن قال‪ :‬ل أؤمن بهذه اللم فقد كفر‪ ،‬وأن الكتب المنزلة على الرسل‬
‫مائة وأربعة كتب كلم ال غير مخلوق‪ ،‬قال أحمد‪ :‬وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلوة الناس وكيفما‬
‫يقرأ وكيفما يوصف‪ ،‬فهو كلم ال غير مخلوق‪ ،‬قال البخاري‪ :‬وأقول‪ :‬في المصحف قرآن‪ ،‬وفي صدور الرجال‬
‫قرآن‪ ،‬فمن قال غير هذا يستتاب‪ ،‬فإن تاب وإل فسبيله سبيل الكفر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وذكر الشافعي المعتقد بالدلئل‪ ،‬فقال‪ :‬ل أسماء وصفات جاء بها ‪ /‬كتابه‪ ،‬وأخبر بها نبيه أمته‪ ،‬ل يسع أحًدا من‬
‫خلق ال قامت عليه الحجة ردها ـ إلى أن قال ـ نحو إخبار ال ـ سبحانه ـ إيانا أنه سميع بصير‪ ،‬وأن له يدين لقوله‪َ}:‬ب ْ‬
‫ل‬
‫ت ِبَيِميِنِه{ ]الزمر‪ ،[67:‬وأن له وجًها لقوله‪ُ}:‬ك ّ‬
‫ل‬ ‫طِوّيا ٌ‬
‫ت َم ْ‬
‫سماَوا ُ‬ ‫ن{[المائدة‪ ،[64:‬وأن له يميًنا بقوله‪َ} :‬وال ّ‬ ‫طَتا ِ‬
‫سو َ‬ ‫َيَداُه َمْب ُ‬
‫للِ َواِْلْكَراِم{ ]الرحمن‪ ،[27 :‬وأن له قدًما لقوله‪:‬‬
‫جَ‬‫ك ُذو اْل َ‬ ‫جَهُه{]القصص‪ ،[88:‬وقوله‪َ} :‬وَيْبَقى َو ْ‬
‫جُه َرّب َ‬ ‫ل َو ْ‬‫ك ِإ ّ‬
‫يٍء َهاِل ٌ‬‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫)حتى يضع الرب فيها قدمه(‪ .‬يعني‪ :‬جهنم‪.‬‬

‫وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله صلى ال عليه وسلم للذي قتل في سبيل ال‪) :‬إنه لقى ال وهو يضحك إليه(‪ ،‬وأنه‬
‫يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك‪ ،‬وأنه ليس بأعور‪ ،‬لقول رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال‪):‬إنه أعور‪ ،‬وإن ربكم ليس بأعور(‪ ،‬وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة‬
‫بأبصارهم‪،‬كما يرون القمر ليلة البدر‪ ،‬وأن له إصبًعا لقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما من قلب إل وهو بين إصبعين‬
‫من أصابع الرحمن(‪.‬‬

‫قال‪ :‬وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد‪ ،‬وتلقتها المة بالقبول والتصديق‪ ،‬نحو ما في‬
‫الصحيح من حديث الذات‪ ،‬وقوله‪) :‬ل شخص أغير من ال(‪ ،‬وقوله‪) :‬أتعجبون من غيرة سعد؟ وال لنا أغير من‬
‫سعد‪ ،‬وال أغير مني(‪ ،‬وقوله‪) :‬ليس أحد أحب إليه المدح من ال‪ ،‬ولذلك مدح نفسه‪ ،‬وليس أحد أغير من ال‪،‬من أجل‬
‫ذلك حرم ‪/‬الفواحش ما ظهر منها وما بطن( ‪ ،‬وقوله‪) :‬يد ال ملى(‪ ،‬وقوله‪) :‬بيده الخرى الميزان يخفض ويرفع(‪،‬‬
‫ض يوم القيامة الرضين‪ ،‬وتكون السموات بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك(‪.‬‬
‫وقوله‪) :‬إن ال يقب ُ‬

‫ونحوه قوله‪) :‬ثلث حثيات من حثيات الرب(‪ ،‬وقوله‪) :‬لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه(‪ ،‬وقوله في حديث أبي رِزين‪:‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه؟ قال‪):‬تعرضون عليه بادية له صفحاتكم‪ ،‬ل يخفى عليه منكم خافية‪،‬‬
‫فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء‪ ،‬فينضح قبلكم‪ ،‬فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة(‪ .‬أخرجه أحمد في‬
‫المسند‪.‬‬

‫حَمًما‪،‬فيلقيهم في نهر من أنهار الجنة‬


‫وحديث‪ :‬القبضة التي يخرج بها من النار قوًما لم يعملوا خيًرا قط‪ ،‬قد عادوا ُ‬
‫حَمة سواًدا[‪.‬‬
‫حَمًما‪ :‬أي مثل الَف ْ‬
‫يقال له‪ :‬نهر الحياة‪].‬وقوله ُ‬

‫ونحو الحديث‪) :‬رأيت ربي في أحسن صورة(‪ ،‬ونحو قوله‪):‬خلق آدم على صورته(‪ ،‬وقوله‪) :‬يدنو أحدكم من ربه‬
‫حا(‪ ،‬وقوله‪) :‬ما منكم من أحد إل سيكلمه ربه‪ ،‬ليس بينه وبينه ترجمان‬
‫حتى يضع كنفه عليه(‪ ،‬وقوله‪) :‬كلم أباك كفا ً‬
‫يترجم له( وقوله‪) :‬يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحًكا(‬

‫وفي حديث المعراج في الصحيح‪) :‬ثم دنا الجبار رب العزة‪ ،‬فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى(‪ ،‬وقوله‪) :‬كتب‬
‫كتاًبا‪ ،‬فهو عنده فوق العرش‪ / :‬إن رحمتي سبقت غضبي(‪ ،‬وقوله‪) :‬ل تزال جهنم يلقي فيها‪ ،‬وتقول‪ :‬هل من مزيد؟‬
‫طـ‬
‫ط َق ِ‬
‫حتى يضع رب العزة فيها قدمه ـ وفي رواية‪ :‬رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض‪ ،‬وتقول‪َ :‬قد َقِد وفي رواية‪َ :‬ق ِ‬
‫بعزتك(‪.‬‬

‫ونحو قوله‪) :‬فيأتيهم ال في صورته التي يعرفون‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا ربكم‪ ،‬فيقولون‪ :‬أنت ربنا(‪ ،‬وقوله‪) :‬يحشر ال العباد‪،‬‬
‫ب‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أنا الديان(‪.‬‬
‫فيناديهم بصوت يسمعه من َبُعَد كما يسمعه من َقُر َ‬

‫إلى غيرها من الحاديث‪ ،‬هالتنا أو لم تهلنا‪ ،‬بلغتنا أو لم تبلغنا اعتقادنا فيها‪ ،‬وفي الي الواردة في الصفات‪ :‬أنا نقبلها‬
‫ول نحرفها ول نكيفها ول نعطلها ولنتأولها‪ ،‬وعلى العقول ل نحملها‪ ،‬وبصفات الخلق ل نشبهها‪ ،‬ول ُنْعمل رأينا‬
‫وفكرنا فيها‪ ،‬ول نزيد عليها ول ننقص منها‪ ،‬بل نؤمن بها وَنِكل علمها إلى عالمها‪ ،‬كما فعل ذلك السلف الصالح‪ ،‬وهم‬
‫القدوة لنا في كل علم‪.‬‬

‫روينا عن إسحاق أنه قال‪ :‬ل نزيل صفة مما وصف ال بها نفسه‪ ،‬أو وصفه بها الرسول عن جهتها‪ ،‬ل بكلم ول‬
‫بإرادة‪ ،‬إنما يلزم المسلم الداء ويوقن بقلبه أن ما وصف ال به نفسه في القرآن إنما هي صفاته‪ ،‬ول يعقل نبي مرسل‪،‬‬
‫ول ملك مقرب تلك الصفات إل بالسماء التي عرفهم الرب ـ عز وجل ـ فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات‬
‫فل يدركه أحد ـ الحديث إلى آخره‪.‬‬
‫‪ /‬وكما روينا عن مالك‪ ،‬والوزاعي‪ ،‬وسفيان‪ ،‬والليث‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬أنهم قالوا في الحاديث في الرؤية والنزول‪:‬‬
‫أِمّروها كما جاءت‪.‬‬

‫وكما روى عن محمد بن الحسن ـ صاحب أبي حنيفة ـ أنه قال في الحاديث التي جاءت‪) :‬إن ال يهبط إلى السماء‬
‫الدنيا( ونحو هذا من الحاديث‪ :‬إن هذه الحاديث قد رواها الثقات‪ ،‬فنحن نرويها ونؤمن بها‪ ،‬ول نفسرها‪ .‬انتهى كلم‬
‫الكرجي ـ رحمه ال تعالى‪.‬‬

‫والعجب أن هؤلء المتكلمين‪ ،‬إذا احتج عليهم بما في اليات والحاديث من الصفات قال‪ :‬قالت الحنابلة‪ :‬إن ال‪ ،‬كذا‬
‫وكذا‪ ،‬بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم‪ ،‬والحنابلة اقتفوا أثر السلف‪ ،‬وساروا بسيرهم‪ ،‬ووقفوا بوقوفهم‪ ،‬بخلف غيرهم‪،‬‬
‫وال الموفق‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬أن هذا الكلم ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم‪ ،‬فإن الرد بمجرد الشتم‬
‫والتهويل ل يعجز عنه أحد‪ ،‬والنسان لو أنه يناظر المشركين‪ ،‬وأهل الكتاب‪ ،‬لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين‬
‫ل َرّب َ‬
‫ك‬ ‫سِبي ِ‬
‫ع ِإِلى َ‬‫به الحق الذي معه‪ ،‬والباطل الذي معهم‪ ،‬فقد قال ال ـ عز وجل ـ لنبيه ‪ /‬صلى ال عليه وسلم‪}\ :‬اْد ُ‬
‫ل ِباّلِتي ِه َ‬
‫ي‬ ‫ب ِإ ّ‬
‫ل اْلِكَتا ِ‬
‫جاِدُلوا َأْه َ‬ ‫ن{ ]النحل‪ ،[125:‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬
‫ل ُت َ‬ ‫سُ‬
‫حَ‬‫ي َأ ْ‬
‫جاِدْلُهم ِباّلِتي ِه َ‬
‫سَنِة َو َ‬
‫حَ‬
‫ظِة اْل َ‬
‫عَ‬
‫حْكَمةِ َواْلَمْو ِ‬
‫ِباْل ِ‬
‫َأْحَسُن{ ]العنكبوت‪.[46:‬‬

‫فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلم ـ سواء كان المتكلم به أبو الفرج أو غيره‪ ،‬من أشهر الطوائف بالبدع كالرافضة ـ‬
‫لكان ينبغي أن يذكر الحجة‪ ،‬ويعدل عما ل فائدة فيه؛ إذ كان في مقام الرد عليهم‪ ،‬دع والمنازعون له ـ كما ادعاه ـ هم‬
‫ل ل حجة سمعية‪ ،‬ول عقلية ـ‬ ‫عند جميع الناس أعلم منه بالصول والفروع‪ .‬وهو في كلمه ورده لم يأت بحجة أص ً‬
‫وإنما اعتمد تقليد طائفة من أهل الكلم ـ قد خالفها أكثر منها من أهل الكلم ـ فقلدهم فيما زعموا أنه حجة عقلية‪ ،‬كما‬
‫فعل هذا المعترض‪.‬‬

‫ومن يرد على الناس بالمعقول إن لم يبين حجة عقلية‪ ،‬وإل كان قد أحال الناس على المجهولت‪ ،‬كمعصوم الرافضة‪،‬‬
‫وغوث الصوفية‪.‬‬

‫فأما قوله‪ :‬إن مثل هؤلء ل يحدثون‪ ،‬فيقال له‪ :‬قد بعث ال الرسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى ال‪ ،‬فمن الذي أسقط‬
‫ال مخاطبته من الناس ؟ دع من تعرف أنت وغيرك ممن فضلهم ال ما ليس هذا موضعه‪،‬ولو أراد سفيه أن يرد على‬
‫الراد بمثل رده لم يعجز عن ذلك‪.‬‬

‫وكذلك قوله‪ :‬إنهم يكابرون العقول‪ .‬فنقول‪ :‬المكابرة للعقول ‪ /‬إما أن تكون في إثبات ما أثبتوه‪ ،‬وإما أن تكون في‬
‫تناقضهم بجمع من إثبات هذه المور ونفي الجوارح‪.‬‬

‫أما الول‪ :‬فباطل؛ فإن المجسمة المحضة التي تصرح بالتجسيم المحض‪ ،‬وتغلو فيه لم يقل أحد قط‪ :‬إن قولها مكابرة‬
‫للعقول‪ ،‬ول قال أحد‪ :‬إنهم ل يخاطبون‪ ،‬بل الذين ردوا على غالية المجسمة ـ مثل هشام بن الحكم وشيعته ـ لم يردوا‬
‫ل في كثير مما يقوله ـ فقد‬
‫عليهم من الحجج العقلية إل بحجج تحتاج إلى نظر واستدلل‪ ،‬والمنازع لهم ـ وإن كان مبط ً‬
‫قابلهم بنظير حججهم‪ ،‬ولم يكونوا عليه بأظهر منه عليهم‪ ،‬إذ مع كل طائفة حق وباطل‪.‬‬

‫وإذا كان مثل أبي الفرج ابن الجوزي إنما يعتمد في نفي هذه المور على ما يذكره نفاة النظار‪ ،‬فأولئك ل يكادون‬
‫يزعمون في شيء من النفي والثبات أنه مكابرة للمعقول‪ ،‬حتى جاحدوا الصانع‪ ،‬الذين هم أجهل الخلق وأضلهم‬
‫وأكفرهم‪ ،‬وأعظمهم خلًفا للعقول ـ ل يزعم أكثر هؤلء الذين انتصر بهم أبو الفرج‪ :‬أن قولهم مكابرة للعقول‪ ،‬بل‬
‫يزعمون أن العلم بفساد قولهم إنما يعلم بالنظر والستدلل‪.‬‬

‫وهذا القول ـ وإن كان يقوله جل هؤلء النفاة من أهل الكلم‪ ،‬فليس هو طريقة مرضية‪ ،‬لكن المقصود‪ :‬أن هؤلء النفاة‬
‫ل يزعمون أن العلم بفساد ‪ /‬قول المثبتة معلوم بالضرورة ول أن قولهم مكابرة للعقل‪ ،‬وإن شنعوا عليهم بأشياء ينفر‬
‫عنها كثير من الناس‪ ،‬فذاك ليستعينوا بنفرة النافرين على دفعهم‪ ،‬وإخماد قولهم‪ ،‬ل لن نفور النافرين عنهم يدل على‬
‫ق أو باطل‪ ،‬ول لن قولهم مكابرة للعقل‪ ،‬أو معلوم بضرورة العقل‪ ،‬أو ببديهته فساده‪ .‬هذا لم أعلم أحًدا من أئمة‬ ‫حّ‬
‫النفاة ـ أهل النظر ـ يدعيه في شيء من أقواله المثبتة‪ ،‬وإن كان فيها من الغلو ما فيها‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين‪ ،‬أو محبة الموافقين‪ ،‬ل يدل على صحة قول ول فساده إل إذا كان ذلك بهدى من‬
‫ال‪ ،‬بل الستدلل بذلك هو استدلل باتباع الهوى بغير هدى من ال‪ .‬فإن اتباع النسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل‬
‫عْلٍم{‬
‫ن ِبَأْهَواِئِهم ِبَغْيِر ِ‬
‫ضّلو َ‬ ‫الذي يحبه‪ ،‬ورد القول والفعل الذي يبغضه بل هدى من ال‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وِإ ّ‬
‫ن َكِثيًرا ّلُي ِ‬
‫ل{‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن اّتَبَع َهَواهُ ِبَغْيِر ُهًدى ّم َ‬
‫ل ِمّم ِ‬‫ضّ‬ ‫ن َأ َ‬‫ن َأْهَواءُهْم َوَم ْ‬ ‫عَلْم َأّنَما َيّتِبُعو َ‬
‫ك َفا ْ‬
‫جيُبوا َل َ‬ ‫]النعام‪ ،[119:‬وقال‪َ} :‬فِإن ّلْم َي ْ‬
‫سَت ِ‬
‫شَهْد‬
‫ل َت ْ‬ ‫ل{]ص‪ [26:‬وقال تعالى‪َ} :‬فِإن َ‬
‫شِهُدوْا َف َ‬ ‫ل ا ِّ‬‫سِبي ِ‬‫عن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضّل َ‬
‫ل َتّتِبِع اْلَهَوى َفُي ِ‬ ‫]القصص‪ [50:‬وقال تعالى لداود‪َ} :‬و َ‬
‫ل َيا َأْه َ‬
‫ل‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[150:‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫خَرِة َوُهم ِبَرّبِهْم َيْعِدُلو َ‬‫ن ِبال ِ‬ ‫ل ُيْؤِمُنو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َكّذُبوْا ِبآَياِتَنا َواّلِذي َ‬
‫َمَعُهْم َولَ َتّتِبْع َأْهَواء اّلِذي َ‬
‫ضّلوْا َعن َسَواء الّسِبيِل{ ]المائدة‪،[77:‬‬ ‫ضّلوْا َكِثيًرا َو َ‬ ‫ل َوَأ َ‬ ‫ضّلوْا ِمن َقْب ُ‬
‫ل َتّتِبُعوْا َأْهَواء َقْوٍم َقْد َ‬ ‫ق َو َ‬ ‫حّ‬ ‫غْيَر اْل َ‬
‫ل َتْغُلوْا ِفي ِديِنُكْم َ‬ ‫ب َ‬ ‫اْلِكَتا ِ‬

‫ت َأْهَواءُهم َبْعَد اّلِذي‬


‫ن اّتَبْع َ‬
‫ل ُهَو اْلُهَدى َوَلِئ ِ‬
‫ن هَُدى ا ّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حّتى َتّتِبَع ِمّلَتُهْم ُق ْ‬
‫صاَرى َ‬
‫ل الّن َ‬
‫ك اليهود َو َ‬ ‫عن َ‬
‫ضى َ‬‫وقال تعالى‪َ} :‬وَلن َتْر َ‬
‫صيٍر{ ]البقرة‪.[120:‬‬ ‫ل َن ِ‬ ‫ي َو َ‬
‫ل ِمن َوِل ّ‬
‫نا ّ‬‫ك ِم َ‬
‫ن اْلِعْلِم َما َل َ‬
‫ك مِ َ‬
‫جاء َ‬
‫َ‬

‫فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث ال به رسوله وبعد هدى ال الذي بينه لعباده‪ ،‬فهو بهذه المثابة؛ ولهذا كان‬
‫السلف يسمون أهل البدع والتفرق ـ المخالفين للكتاب والسنة ـ أهل الهواء‪ ،‬حيث قبلوا ما أحبوه‪ ،‬وردوا ما أبغضوه‬
‫بأهوائهم بغير هدى من ال‪.‬‬

‫وأما قول المعترض عن أبى الفرج‪ :‬ـ وكأنهم يخاطبون الطفال ـ فلم تخاطب الحنابلة إل بما ورد عن ال ورسوله‬
‫وأصحابه والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬الذين هم أعرف بال وأحكامه‪ ،‬وسلمنا لهم أمر الشريعة‪ ،‬وهم قدوتنا فيما أخبروا‬
‫عن ال وشرعه‪ ،‬وقد أنصف من أحال عليهم‪ ،‬وقد شاقق من خرج عن طريقتهم‪ ،‬وادعى أن غيرهم أعلم بال منهم‪،‬‬
‫أو أنهم علموا وكتموا‪ ،‬وأنهم لم يفهموا ما أخبروا به‪ ،‬أو أن عقل غيرهم في ]باب معرفة ال[ أتم‪ ،‬وأكمل‪ ،‬وأعلم مما‬
‫نقلوه‪ ،‬وعقلوه‪ ،‬وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب‪ ،‬وال الموفق‪ ،‬ومن لم يجعل ال له نوًرا فما له من نور‪.‬‬

‫قال شيخ السلم ـ رحمه ال وقدس سره‪:‬‬

‫فصــل‬

‫القوال نوعان‪:‬‬

‫أقوال ثابتة عن النبياء‪ ،‬فهي معصومة‪ ،‬يجب أن يكون معناها حًقا‪ ،‬عرفه من عرفه‪ ،‬وجهله من جهله‪ ،‬و البحث عنها‬
‫إنما هو عما أرادته النبياء‪ ،‬فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى‪،‬‬
‫ل‪ ،‬مع أنه يعلم‬
‫ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبًعا له‪ ،‬فإن وافقه قبله وإل رده‪ ،‬وتكلف له من التحريف ما يسميه تأوي ً‬
‫ب لمعرفة التأويل الذي‬
‫بالضرورة أن كثيًرا من ذلك أو أكثره لم ترده النبياء‪ ،‬فهو محرف للكلم عن مواضعه‪ ،‬ل طال ٌ‬
‫يعرفه الراسخون في العلم‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬ما ليس منقولً عن النبياء‪ ،‬فمن سواهم ليس معصوًما‪ ،‬فل يقبل كلمه ول يرد إل بعد تصور مراده‪،‬و‬
‫معرفة صلحه من فساده‪ / ،‬فمن قال من أهل الكلم‪:‬إنه ل يفعل الشياء بالسباب‪ ،‬بل يفعل عندها ل بها‪ ،‬ول يفعل‬
‫لحكمة‪ ،‬ول في الفعال المأمور بها ما لجله كانت حسنة‪ ،‬ول المنهي عنها ما لجله كانت سيئة‪ ،‬فهذا مخالف‬
‫لنصوص القرآن والسنة وإجماع المة من السلف‪.‬‬

‫وأول من قاله في السلم جهم بن صفوان الذي أجمع المة على ضللته‪ ،‬فإنه أول من أنكر السباب والطبائع‪ ،‬كما‬
‫أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات‪ ،‬وأول من قال بخلق كلم ال وإنكار رؤيته في الخرة‪.‬‬

‫لًما َعَلى ِإْبَراِهيَم{ ]النبياء‪،[69:‬‬


‫سَ‬‫ونصوص الكتاب والسنة في إبطال هذا كثيرة جًدا كقوله‪ُ} :‬قْلَنا َيا َناُر ُكوِني َبْرًدا َو َ‬
‫ت َسَحاًبا ِثَقاًل{ ]العراف‪،[57:‬‬ ‫حّبا َوَنَباًتا{ ]النبأ‪ ،[15:‬وقوله‪َ } :‬‬
‫حّتى ِإَذا َأَقّل ْ‬ ‫ج ِبِه َ‬ ‫فسلب النار طبيعتها‪ ،‬وقوله‪ِ} :‬لُن ْ‬
‫خِر َ‬
‫ت{ ]الحج‪،[5:‬‬
‫ت َوَأنَبَت ْ‬ ‫ل بطبعه‪ ،‬وقال‪} :‬اْهَتّز ْ‬
‫ت َوَرَب ْ‬ ‫فأخبر أن الرياح تقل السحاب‪ ،‬أي تحمله‪ ،‬فجعل هذا الجماد فاع ً‬
‫فجعلها فاعلة بطبعها‪ ،‬وقوله‪َ} :‬فَأنَبْتَنا ِفيَها ِمن ُكّل َزْوٍج َكِريٍم{ ]لقمان‪ [10:‬وهو الكثير المنفعة‪ ،‬والزوج‪ :‬الصنف‪.‬‬

‫والدلة في ذلك كثيرة‪ ،‬يخبر فيها أنه يخلق بالسباب والحكم‪ ،‬وأخبر أنه قائم بالقسط‪ ،‬وأنه ل يظلم الناس شيًئا‪ ،‬فل‬
‫حوا‬
‫جَتَر ُ‬
‫نا ْ‬‫ب اّلِذي َ‬‫س َ‬‫حِ‬‫يضع شيًئا في غير موضعه‪ ،‬ول يسوي بين مختلفين‪ ،‬ول يفرق بين متماثلين‪ ،‬كما قال‪ً} :‬أْم َ‬
‫ض{ الية ]ص‪:‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن ِفي ا َْ‬
‫سِدي َ‬‫ت َكاْلُمْف ِ‬
‫حا ِ‬ ‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬‫ن آَمُنوا َو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫جَعَلُهْم{ الية ]الجاثية‪ ،[21:‬وقال‪َ} :‬أْم َن ْ‬
‫جَع ُ‬ ‫ت ّأن ّن ْ‬
‫سّيَئا ِ‬
‫ال ّ‬
‫ل الّنوُر‬
‫ت َو َ‬
‫ظُلَما ُ‬
‫ل ال ّ‬ ‫صيُر َو َ‬
‫عَمى َواْلَب ِ‬ ‫لْ‬ ‫ن{ الية ]القلم‪ ،[35:‬وقال‪َ} :‬وَما َي ْ‬
‫سَتِوي ا َْ‬ ‫جِرِمي َ‬
‫ن َكاْلُم ْ‬
‫سِلِمي َ‬
‫ل اْلُم ْ‬ ‫‪ ،[28‬وقال‪َ} :‬أَفَن ْ‬
‫جَع ُ‬
‫{الية ]فاطر‪ [20 ،19:‬وغيرها كثير‪.‬‬

‫ي{ الية ]العراف‪ ،[157:‬فدلت هذه الية وغيرها على أن ما أمرهم به هو‬ ‫لّم ّ‬
‫ياُ‬
‫ل الّنِب ّ‬
‫سو َ‬
‫ن الّر ُ‬ ‫وقوله‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َيّتِبُعو َ‬
‫معروف في نفسه تعرفه القلوب‪ ،‬فهو مناسب لها مصلح لفسادها‪ ،‬وليس معنى كونه معروًفا أنه مأمور به؛ إذ هذا قدر‬
‫مشترك‪ ،‬فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص‪ ،‬وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور‪ ،‬وما يحله مختص بأنه طيب‪،‬‬
‫وما يحرمه مختص بأنه خبيث‪ ،‬ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب‪ ،‬كالتوراة والنجيل‪ ،‬والزبور‪ ،‬وال ـ‬
‫سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬

‫قال شيخ السلم ـ رحمه ال تعالى‪:‬‬ ‫‪/‬‬

‫الستدلل بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة‪ ،‬وتمامها بالجواب عما يعارضها‪.‬‬

‫فإن من الناس من يقول‪ :‬البدع تنقسم إلى قسمين؛ لقول عمر‪ :‬نعمت البدعة‪ ،‬وبأشياء أحدثت بعده صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وليست مكروهة؛ للدلة من الجماع والقياس‪.‬‬

‫وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة‪ ،‬بمنزلة من إذا قيل لهم‪َ} :‬تَعاَلْوْا ِإَلى َما‬
‫ل َوِإَلى الّرُسوِل َقاُلوْا َحْسُبَنا َما َوَجْدَنا َعَلْيِه آَباءَنا{ ]المائدة‪[104:‬‬
‫لا ّ‬
‫َأنَز َ‬

‫وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة‪ ،‬بحجج ليست من أصول العلم‪ ،‬وقد يبدي ذوو العلم له مستنًدا‬
‫من الدلة الشرعية‪ ،‬وال يعلم أن قوله لها وعمله بها ليس مستنًدا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفًعا لمن يناظره‪.‬‬

‫والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند القوال والعمال‪/،‬وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق‬
‫ن الّدي ِ‬
‫ن‬ ‫عوا َلُهم ّم َ‬
‫شَر ُ‬ ‫في العلم والعمل‪ ،‬وهذه قاعدة دلت عليها السنة والجماع مع الكتاب‪ ،‬قال ال تعالى‪َ} :‬أْم َلُهْم ُ‬
‫شَرَكاء َ‬
‫ل{ ]الشورى‪.[21:‬‬ ‫َما َلْم َيْأَذن ِبِه ا ُّ‬

‫فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى ال‪ ،‬أو أوجبه بقوله أو فعله‪ ،‬من غير أن يشرعه ال‪ ،‬فقد شرع من الدين ما لم يأذن‬
‫به ال‪ ،‬ومن اتبعه في ذلك‪ ،‬فقد اتخذ شريًكا ل شرع في الدين ما لم يأذن به ال‪ ،‬وقد يغفر له لجل تأويل إذا كان‬
‫حَباَرُهْم َوُرْهَباَنُهْم‬ ‫مجتهًدا‪ ،‬الجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ‪ ،‬لكن ل يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى‪} :‬اّت َ‬
‫خُذوْا َأ ْ‬
‫ل{ ]التوبة‪.[31:‬‬
‫نا ّ‬
‫َأْرَباًبا ّمن ُدو ِ‬

‫فمن أطاع أحًدا في دين لم يأذن ال به ـ من تحليل‪ ،‬أو تحريم‪ ،‬أو استحباب‪ ،‬أو إيجاب ـ فقد لحقه من هذا الذم نصيب‪،‬‬
‫كما يلحق المر الناهي‪ .‬ثم قد يكون كل منهما معفًوا عنه‪ .‬فيتخلف الذم لفوات شرطه‪ ،‬أو وجود مانعه‪ ،‬وإن كان‬
‫المقتضى له قائًما‪ ،‬ويلحق الذم من تبين له الحق‪ ،‬فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له‪ ،‬أو أعرض عن طلبه‪ ،‬لهوى‬
‫أو كسل ونحو ذلك‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فإن ال عاب على المشركين شيئين‪:‬‬


‫وأي ً‬

‫أحدهما‪ :‬أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطاًنا‪.‬‬

‫ل اّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫الثاني‪ :‬تحريمهم ما لم يحرمه ال‪ ،‬كما بينه صلى ال عليه وسلم في حديث ‪ /‬عياض عن مسلم‪ ،‬وقال‪َ } :‬‬
‫سَيُقو ُ‬
‫يٍء{ ]النعام‪ [148:‬فجمعوا بين الشرك والتحريم‪ ،‬والشرك يدخل‬ ‫ش ْ‬
‫حّرْمَنا ِمن َ‬
‫ل َ‬
‫ل آَباُؤَنا َو َ‬
‫شَرْكَنا َو َ‬
‫ل َما َأ ْ‬
‫شاء ا ّ‬
‫شَرُكوْا َلْو َ‬
‫َأ ْ‬
‫فيه كل عبادة لم يأذن ال بها‪ ،‬فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة‪ ،‬وإما مستحبة‪ .‬ثم منهم من عبد غير ال؛‬
‫ليتقرب به إلى ال‪ ،‬ومنهم من ابتدع دينا عبد به ال‪ ،‬كما أحدثت النصارى من العبادات‪.‬‬

‫وأصل الضلل في أهل الرض إنما نشأ من هذين‪ ،‬إما اتخاذ دين لم يشرعه ال‪ ،‬أو تحريم ما لم يحرمه‪.‬‬

‫ولهذا كان الصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم‪ ،‬أن العمال عبادات وعادات‪ ،‬فالصل في العبادات ل يشرع‬
‫منها إل ما شرعه ال‪ ،‬والصل في العادات ل يحظر منها إل ما حظره ال‪ ،‬وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما‬
‫أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به‪.‬‬

‫سئل شيخ السلم أحمد بن تيمية ـ قدس ال روحه ـ عن رجل قال‪:‬‬ ‫‪/‬‬

‫إذا كان المسلمون مقلدين‪ ،‬والنصارى مقلدين‪ ،‬واليهود مقلدين‪ ،‬فكيف وجه الرد على النصارى واليهود‪ ،‬وإبطال‬
‫مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين‪ ،‬وإبطال باطل الكافرين؟‬

‫فأجاب ـ رضي ال عنه‪:‬‬

‫الحمد ل‪ ،‬هذا القائل كاذب ضال في هذا القول‪ ،‬وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة‪ ،‬كالذين ذكر‬
‫ن{‬
‫ل َيْهَتُدو َ‬
‫شْيئًا َو َ‬
‫ن َ‬
‫ل َيْعِقُلو َ‬
‫ن آَباُؤُهْم َ‬
‫عَلْيِه آَباءَنا َأَوَلْو َكا َ‬
‫ل َنّتِبُع َما َأْلَفْيَنا َ‬
‫ل َقاُلوْا َب ْ‬
‫لا ّ‬ ‫ال عنهم أنهم‪َ} :‬وِإَذا ِقي َ‬
‫ل َلُهُم اّتِبُعوا َما َأنَز َ‬
‫ضاّليَن َفُهْم َعَلى آَثاِرِهْم ُيْهَرُعوَن{ ]الصافات‪ ،[70 ،69 :‬ونظائر هذا في القرآن‬ ‫]البقرة‪ [170:‬وقال‪ِ} :‬إّنُهْم َأْلَفْوا آَباءُهْم َ‬
‫كثير‪.‬‬

‫فمن اتبع دين آبائه وأسلفه لجل العادة التي تعودها‪ ،‬وترك اتباع الحق ‪ /‬الذي يجب اتباعه‪ ،‬فهذا هو المقلد المذموم‪،‬‬
‫وهذه حال اليهود والنصارى‪ ،‬بل أهل البدع والهواء في هذه المة‪ ،‬الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق‪،‬‬
‫ساَدَتَنا َوُكَبَراءَنا‬
‫طْعَنا َ‬
‫ل َوَقاُلوا َرّبَنا ِإّنا َأ َ‬
‫سو َ‬
‫طْعَنا الّر ُ‬
‫ل َوَأ َ‬
‫طْعَنا ا َّ‬
‫ن َيا َلْيَتَنا َأ َ‬
‫جوُهُهْم ِفي الّناِر َيُقوُلو َ‬‫ب ُو ُ‬ ‫كما قال تعالى‪َ} :‬يْوَم ُتَقّل ُ‬
‫ب َواْلَعْنُهْم َلْعًنا َكِبيًرا{ ]الحزاب‪66:‬ـ ‪،[86‬‬ ‫ن اْلَعَذا ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫ضْعَفْي ِ‬
‫ل َرّبَنا آِتِهْم ِ‬‫سِبي َ‬
‫ضّلوَنا ال ّ‬
‫َفَأ َ‬

‫ل{ إلى قوله‪:‬‬


‫خِلي ً‬
‫لًنا َ‬
‫خْذ ُف َ‬
‫ل َيا َوْيَلَتى َلْيَتِني َلْم َأّت ِ‬
‫سِبي ً‬
‫ل َ‬
‫سو ِ‬
‫ت َمَع الّر ُ‬
‫خْذ ُ‬
‫ل َيا َلْيَتِني اّت َ‬
‫عَلى َيَدْيِه َيُقو ُ‬
‫ظاِلُم َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وَيْوَم َيَع ّ‬
‫ض ال ّ‬
‫}َخُذوًل{ ]الفرقان‪27:‬ـ ‪.[29‬‬

‫ن الّناِر{‬
‫ن ِم َ‬‫جي َ‬
‫خاِر ِ‬‫ب{ إلى قوله‪َ} :‬وَما ُهم ِب َ‬ ‫سَبا ُ‬
‫لْ‬‫ت ِبِهُم ا َ‬‫طَع ْ‬
‫ب َوَتَق ّ‬
‫ن اّتَبُعوْا َوَرَأُوْا اْلَعَذا َ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫وقال تعالى‪ِ} :‬إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ‬
‫ن اّتِبُعوْا ِم َ‬
‫عّنا‬
‫ن َ‬
‫ل َأنُتم ّمْغُنو َ‬
‫سَتْكَبُروا ِإّنا ُكّنا َلُكْم َتَبًعا َفَه ْ‬
‫نا ْ‬
‫ضَعَفاء ِلّلِذي َ‬
‫ل ال ّ‬‫ن ِفي الّناِر َفَيُقو ُ‬ ‫جو َ‬ ‫]البقرة‪ ،[167 ،166:‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإْذ َيَت َ‬
‫حا ّ‬
‫صيًبا مَّن الّناِر{ إلى قوله‪:‬‬ ‫َن ِ‬

‫ل َقْد َحَكَم َبْيَن اْلِعَباِد{]غافر‪ [48 ،47:‬وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوًقا في معصية ال‪ ،‬كان له‬
‫ن ا َّ‬
‫}ِإ ّ‬
‫نصيب من هذا الذم والعقاب‪.‬‬

‫والمطيع للمخلوق في معصية ال ورسوله‪ ،‬إما أن يتبع الظن‪ ،‬وإما أن يتبع ما يهواه‪ ،‬وكثير يتبعهما‪.‬‬

‫وهذه حال كل من عصى رسول ال من المشركين وأهل الكتاب‪ ،‬من اليهود والنصارى‪ ،‬ومن أهل البدع والفجور من‬
‫جاءُهم ّمن‬ ‫ن{ إلى قوله‪َ} :‬وَلَقْد َ‬ ‫طا ٍ‬
‫سْل َ‬‫ل ِبَها ِمن ُ‬
‫ل ا ُّ‬
‫سّمْيُتُموَها َأنُتْم َوآَباُؤُكم ّما َأنَز َ‬
‫سَماء َ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ي ِإ ّ‬‫ن ِه َ‬ ‫هذه المة‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ}/ :‬إ ْ‬
‫ّرّبِهُم اْلُهَدى{]النجم‪ ،[23:‬والسلطان‪ :‬هو الكتاب المنزل من عند ال وهو الهدى الذي جاءهم من عند ال‪ ،‬كما قال‬
‫ل ِبَغْيِر‬
‫ت ا ِّ‬
‫ن ِفي آَيا ِ‬
‫جاِدُلو َ‬
‫ن ُي َ‬ ‫ن{ ]الروم‪ ،[35:‬وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫شِرُكو َ‬ ‫طاًنا َفُهَو َيَتَكّلُم ِبَما َكاُنوا ِبِه ُي ْ‬
‫سْل َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬أْم َأنَزْلَنا َ‬
‫عَلْيِهْم ُ‬
‫طاٍن َأَتاُهْم{ إلى قوله‪ِ} :‬بَباِلِغيِه{ ]غافر‪.[65:‬‬ ‫سْل َ‬
‫ُ‬

‫ب اْلِخَرِة َأَشّد َوأَْبَقى{ ]طه‪123:‬ـ ‪.[127‬‬


‫وقال لبني آدم‪َ} :‬فِإّما َيْأِتَيّنُكم ّمّني ُهًدى{ إلى قوله‪َ} :‬وَلَعَذا ُ‬

‫وبيان ذلك‪ :‬أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث ال به رسوله حق‪ ،‬ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه‪ ،‬أو يحسب أن‬
‫ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق‪ ،‬فهذا متبع للظن‪ ،‬والول متبع لهواه‪ ...‬اجتماع المرين‪ :‬قال تعالى في صفة‬
‫سُهمْ‬
‫سَتْيَقَنْتَها َأنُف ُ‬
‫حُدوا ِبَها َوا ْ‬
‫جَ‬‫ن{ ]النعام‪ ،[33:‬وقال تعالى‪َ} :‬و َ‬ ‫حُدو َ‬
‫جَ‬‫ل َي ْ‬
‫تا ّ‬
‫ن ِبآَيا ِ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ك َوَلِك ّ‬ ‫الولين‪َ} :‬فِإّنُهْم َ‬
‫ل ُيَكّذُبوَن َ‬
‫ن َأْبَناءُهْم{‬‫ب َيْعِرُفوَنُه َكَما َيْعِرُفو َ‬ ‫ن{ ]النمل‪ ،[14:‬وقال تعالى‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن آَتْيَناُهُم اْلِكَتا َ‬ ‫سِدي َ‬
‫عاِقَبُة اْلُمْف ِ‬
‫ن َ‬‫ف َكا َ‬
‫ظْر َكْي َ‬‫ظْلًما َوعُُلّوا َفان ُ‬
‫ُ‬
‫ق َوُهْم َيْعَلُموَن{ ]البقرة‪.[146:‬‬ ‫حّ‬ ‫إلى قوله‪َ} :‬لَيْكُتُمو َ‬
‫ن اْل َ‬

‫عَمِلِه‬
‫سوُء َ‬ ‫ل{‪/‬الية ]الكهف‪ [103 :‬وقال‪َ} :‬أَفَمن ُزّي َ‬
‫ن َلُه ُ‬ ‫عَما ً‬
‫ن َأ ْ‬
‫سِري َ‬
‫خَ‬‫لْ‬
‫ل ُنَنّبُئُكْم ِبا َْ‬ ‫وقال تعالى في صفة الخسرين‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َه ْ‬
‫ضّل َمن َيَشاء َوَيْهِدي َمن َيَشاء{]فاطر‪.[8:‬‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫حسًَنا َفِإ ّ‬
‫َفَرآُه َ‬

‫فالول‪ :‬حال المغضوب عليهم‪ ،‬الذين يعرفون الحق ول يتبعونه‪ ،‬كما هو موجود في اليهود‪.‬‬

‫ضّلوَن ِبَأْهَواِئِهم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ ]النعام‪ ،[119:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫والثاني‪ :‬حال الذين يعملون بغير علم‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِإ ّ‬
‫ن َكِثيًرا ّلُي ِ‬
‫ل{ ]القصص‪.[50:‬‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ّم َ‬
‫ل ِمّم ِ‬
‫ضّ‬‫ن َأ َ‬
‫}َوَم ْ‬

‫وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن ل يجوز له اتباعه‪ ،‬وكذلك من اتبع الرسول بغير بصيرة ول تبين‪ ،‬وهو‬
‫الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل اليمان إلى قلبه‪ ،‬كالذي يقال له في القبر‪ :‬من ربك ؟ وما دينك؟ وما نبيك؟‪.‬‬
‫فيقول‪ :‬هاه‪ ،‬هاه‪ ،‬ل أدري‪ .‬سمعت الناس يقولون شيًئا فقلته ـ هو مقلد ـ فيضرب بمرزبة من حديد‪ ،‬فيصيح صيحة‬
‫يسمعها كل شيء إل النسان‪ ،‬ولو سمعها النسان لصعق‪ ،‬أي‪ :‬لمات‪.‬‬

‫ب آَمّنا ُقل ّلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِكن ُقوُلوا َأْسَلْمَنا َوَلّما َيْدُخِل اِْليَماُن ِفي ُقُلوِبُكْم{ ]الحجرات‪ .[14:‬فمن لم‬
‫عَرا ُ‬
‫لْ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬قاَل ِ‬
‫ت ا َْ‬
‫يدخل اليمان في قلبه وكان مسلًما في الظاهر‪ ،‬فهو من المقلدين المذمومين‪.‬‬

‫فإذا تبين أن المقلد مذموم ـ وهو من اتبع هوى من ل يجوز اتباعه ـ كالذي يترك طاعات رسل ال‪ ،‬ويتبع ساداته‬
‫وكبراءه‪ ،‬أو يتبع الرسول ظاهًرا ‪ /‬من غير إيمان في قلبه‪،‬تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليًدا مذموًما‪،‬‬
‫وكذلك المنافقون من هذه المة‪.‬‬

‫وأما أهل البدع‪ ،‬ففيهم بر وفجور‪ ،‬وبيان ذلك من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى ال عليهما وسلم‪ ،‬إنما يتبعونهم لجل‬
‫أنهم رسل ال‪ ،‬وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى إل ومحمد صلى ال عليه وسلم أولى وأحرى‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬إذا قال اليهود والنصارى‪ :‬قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى ـ مع دعواه النبوة ـ ظهرت على يديه‬
‫اليات الدالة على صدقه‪ ،‬وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجئ به مفتر كذاب ـ ظهرت على يديه اليات‬
‫الدالة على صدقه ـ وإنما يجىء به مع دعوى النبوة نبي صادق‪ .‬قيل له‪ :‬كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم بطريق الولى‪.‬‬

‫فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى ال عليه وسلم من الدين والشريعة‪ ،‬ونقلوا ما جاء به من‬
‫اليات المعجزات‪ ،‬أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى‪ ،‬وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء‬
‫به موسى وعيسى‪ ،‬بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح وما عند‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬علم أن بينهما ‪ /‬من الفرق أعظم مما بين الَعَرم ]الَعَرم‪ :‬اللحم‪ .‬يقال‪ :‬إن جزوركم لطيب الَعَرَمَة‪،‬‬
‫أي‪ :‬طيب اللحم[ والِعْرق‪.‬‬

‫فإن الذى عند المسلمين‪ ،‬من توحيد ال ومعرفة أسمائه وصفاته‪ ،‬وملئكته وأنبيائه ورسله‪ ،‬ومعرفة اليوم الخر‪،‬‬
‫وصفة الجنة والنار‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى‪ ،‬وهذا بين‬
‫لكل من يبحث عن ذلك‪.‬‬

‫وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل‪ :‬الصلوات الخمس‪ ،‬وغيرها من الصلوات‪ ،‬والذكار‬
‫والدعوات‪ ،‬أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب‪ ،‬وما عندهم من الشريعة في المعاملت‪ ،‬والمناكحات والحكام والحدود‬
‫والعقوبات‪ ،‬أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب‪.‬‬
‫فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر‪ ،‬ل يحتاج إلى كثير سعى‪.‬‬

‫والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم‪ ،‬فإنما حصل بنبيهم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكيف يمكن مع هذا‬
‫أن يكون موسى وعيسى نبيين‪ ،‬ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس بنبي‪ ،‬وأن اليهود والنصارى على الحق؟!‬

‫‪ /‬فما هم عليه من الهدى ودين الحق‪ ،‬أعظم مما عند اليهود والنصارى‪ ،‬وذلك إنما تلقوه من نبيهم‪.‬‬

‫وهذا القدر يعترف به كل عاقل ـ من اليهود والنصارى ـ يعترفون بأن دين المسلمين حق‪ ،‬وأن محمًدا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأن من أطاعه منهم دخل الجنة‪ ،‬بل يعترفون بأن دين السلم خير من دينهم‪ ،‬كما أطبقت على‬
‫ذلك الفلسفة‪ ،‬كما قال ابن سينا وغيره‪ :‬أجمع فلسفة العالم على أنه ل يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس‪،‬‬
‫لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه ل يجب عليه اتباعه؛ لنه رسول إلى العرب الميين دون أهل الكتاب؛ لنه إن كان‬
‫ضا حق‪ ،‬والطريق إلى ال ـ تعالى ـ متنوعة‪ ،‬ويشبهون ذلك بمذاهب الئمة‪ ،‬فإنه وإن كان أحد‬
‫دينه حًقا فديننا أي ً‬
‫المذاهب يرجح على الخر‪ ،‬فأهل المذاهب الخرى ليسوا كفاًرا ول من أهل الكتاب‪.‬‬

‫ظّرف[ من أهل الكتاب‪ ،‬والمتفلسفة‬‫س الرجل‪ :‬إذا َت َ‬


‫هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون]المتظرفون‪ ،‬يقال‪َ :‬تَكّي َ‬
‫ونحوهم‪ ،‬وبطلنها ظاهر‪ ،‬فإنه كما علم علًما ضرورًيا متواتًرا أنه دعا المشركين إلى اليمان‪ ،‬فقد علم بمثل ذلك أنه‬
‫دعا أهل الكتاب إلى اليمان به‪ ،‬وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين‪ ،‬فجاهد بني قينقاع‪ ،‬وبني النضير‪،‬‬
‫وقريظة‪ ،‬وأهل خيبر‪ ،‬وهؤلء كلهم يهود‪ ،‬وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم‪ ،‬وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه‬
‫وبسراياه‪ ،‬حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد ‪ /‬موله الذي كان تبناه‪ ،‬وجعفر وغيرهما من أهله‪ ،‬وأنه ضرب‬
‫الجزية على نصارى نجران‪.‬‬

‫وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده‪،‬جاهدوا أهل الكتاب‪ ،‬وقاتلوا من قاتلهم‪ ،‬وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن‬
‫يد وهم صاغرون‪.‬‬

‫وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به‪ ،‬مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه‪ ،‬ويكفر من لم يتبعه‬
‫منهم‪ ،‬ويذمه ويلعنه‪ ،‬والوعيد له‪ ،‬كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه‪ ،‬والوعيد كما قال تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن‬
‫صّدًقا ّلَما َمَعُكم{الية ]النساء‪ ،[47:‬وفي القرآن من قوله‪ :‬يا أهل الكتاب‪ ،‬يا بني إسرائيل‪ ،‬ما‬
‫ب آِمُنوْا ِبَما َنّزْلَنا ُم َ‬
‫ُأوُتوْا اْلِكَتا َ‬
‫ل يحصي إل بكلفة‪.‬‬

‫ب َواْلُمْشِرِكيَن ُمنَفّكيَن{ الية إلى قوله‪َ} :‬خْيُر اْلَبِرّيِة{ ]البينة‪1 :‬ـ ‪ .[7‬ومثل‬ ‫ل اْلِكَتا ِ‬‫ن َأْه ِ‬
‫ن َكَفُروا ِم ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬لْم َيُك ِ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ض{‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ك ال ّ‬
‫جِميًعا اّلِذي َلُه ُمْل ُ‬
‫ل ِإَلْيُكْم َ‬
‫لا ّ‬
‫سو ُ‬
‫س ِإّني َر ُ‬ ‫هذا في القرآن كثير جًدا‪ .‬وقد قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا َأّيَها الّنا ُ‬
‫س{ ]سبأ‪.[28:‬‬ ‫ل َكاّفًة ّللّنا ِ‬
‫ك ِإ ّ‬ ‫]العراف‪ [158 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا َ‬

‫ت على النبياء بخمس( ذكر فيها أنه قال‪):‬كان النبي ُيبعث إلى قومه‬‫ضْل ُ‬
‫واستفاض عنه صلى ال عليه وسلم‪ُ) :‬ف ّ‬
‫خاصة وبعثت إلى الناس عامة(‪ .‬بل تواتر عنه صلى ال عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والنس‪ ،‬فإذا علم بالضطرار‬
‫بالنقل المتواتر ـ الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته ـ أنه دعا أهل الكتاب إلى ‪ /‬اليمان به‪ ،‬وأنه حكم بكفر من لم‬
‫يؤمن به منهم‪ ،‬وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا‪ ،‬أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‪،‬وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه‬
‫عات [‬ ‫ضرب الجزية عليهم‪ ،‬وقتل مقاتلتهم‪ ،‬وسبى ذراريهم‪ ،‬وغنم أموالهم‪ ،‬فحاصر بني قينقاع‪ ،‬ثم أجلهم إلى أْذِر َ‬
‫بلد في أطراف الشام[‪ ،‬وحاصر بني النضير‪ ،‬ثم أجلهم إلى خيبر‪ ،‬وفي ذلك أنزل ال سورة الحشر‪.‬‬

‫ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد‪ ،‬وقتل رجالهم‪ ،‬وسبى حريمهم‪ ،‬وأخذ أموالهم‪ ،‬وقد ذكره ال ـ تعالى ـ في‬
‫سورة الحزاب‪ ،‬وقاتل أهل خيبر حتي فتحها‪ ،‬وقتل من قتل من رجالهم‪ ،‬وسبى من سبى من حريمهم‪ ،‬وقسم أرضهم‬
‫بين المؤمنين‪ ،‬وقد ذكرها ال ـ تعالى ـ في سورة الفتح‪ ،‬وضرب الجزية على النصارى‪ ،‬وفيهم أنزل ال سورة آل‬
‫عمران‪ ،‬وغزا النصارى عام تبوك‪ ،‬وفيها أنزل ال سورة براءة‪.‬‬

‫وفي عامة السور المدنية‪ ،‬مثل البقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬والمائدة‪ ،‬وغير ذلك من السور المدنية‪ ،‬من دعوة أهل‬
‫شِرِه‪.‬‬
‫الكتاب‪ ،‬وخطابهم‪ ،‬ما ل تتسع هذه الفتوى ِلُع ْ‬
‫ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر‪ ،‬ومن معهما من المهاجرين والنصار‪ ،‬الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له‪ ،‬وأطوعهم‬
‫لمره‪ ،‬وأحفظهم لعهده‪ ،‬وقد غزوا الروم كما غزوا فارس‪ ،‬وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس‪ ،‬فقاتلوا من قاتلهم‪،‬‬
‫وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون‪.‬‬

‫‪ /‬ومن الحاديث الصحيحة عنه قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ل يسمع بي من هذه المة يهودي ول‬
‫نصراني‪ ،‬ثم ل يؤمن بي إل دخل النار(‪.‬‬

‫ب َفالّناُر َمْوِعُدُه{ ]هود‪ ،[17:‬ومعنى‬


‫حَزا ِ‬
‫لْ‬ ‫قال سعيد بن جبير‪:‬تصديق ذلك في كتاب ال تعالى‪َ} :‬وَمن َيْكُفْر ِبِه ِم َ‬
‫نا َ‬
‫الحديث متواتر عنه‪ ،‬معلوم بالضطرار‪ ،‬فإذا كان المر كذلك‪ ،‬لزم بأنه رسول ال إلى كل الطوائف‪ ،‬فإنه يقرر بأنه‬
‫رسول ال إلى أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬فإن رسول ال ل يكذب‪ ،‬ول يقاتل الناس على طاعته بغير أمر ال‪ ،‬ول يستحل‬
‫دماءهم‪ ،‬وأموالهم‪ ،‬وديارهم بغير إذن ال‪.‬‬

‫ل َكِذًبا َأْو‬
‫عَلى ا ّ‬
‫ن اْفَتَرى َ‬
‫ظَلُم ِمّم ِ‬ ‫فمن قال‪ :‬إن ال أمره بذلك وفعله‪ ،‬ولم يكن ال أمره بذلك‪ ،‬كان كاذًبا مفترًيا ظالًما}َوَم ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫يٌء{ ]النعام‪ [93 :‬وكان مع كونه ظالًما مفترًيا‪ ،‬من أعظم المريدين علوا في الرض‬ ‫ش ْ‬
‫ح ِإَلْيِه َ‬
‫ي َوَلْم ُيو َ‬
‫ي ِإَل ّ‬
‫ل ُأْوحِ َ‬
‫َقا َ‬
‫وفساًدا‪ ،‬وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين‪ ،‬فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم‪ ،‬ل يقولون‬
‫إنا رسل ال إليكم‪ ،‬ومن أطاعنا دخل الجنة‪ ،‬ومن عصانا دخل النار‪ ،‬بل فرعون وأمثاله ل يدخلون في مثل هذا‪ ،‬ول‬
‫يدخل في هذا إل نبي صادق‪ ،‬أو متنبئ كذاب‪ ،‬كمسيلمة والسود وأمثالهما‪.‬‬

‫فإذا علم أنه نبي كيفما كان‪ ،‬لزم أن يكون ما أخبر به عن ال حًقا‪ ،‬وإذا كان رسول ال وجبت طاعته في كل ما يأمر‬
‫ل{ ]النساء‪ [64:‬وإذا أخبر أنه رسول ال إلى أهل الكتاب‪،‬‬
‫نا ّ‬
‫ع ِبِإْذ ِ‬
‫طا َ‬
‫ل ِلُي َ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫سو ٍ‬ ‫به‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِمن ّر ُ‬
‫ل إلى أهل الكتاب‪ ،‬بمنزلة من‬
‫‪/‬وأنه تجب عليهم طاعته‪ ،‬كان ذلك حًقا؛ ومن أقر بأنه رسول ال‪ ،‬وأنكر أن يكون مرس ً‬
‫ل‪ ،‬ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام‪ ،‬ول يخرج بني إسرائيل من مصر‪ ،‬وأن ال لم‬ ‫يقول‪ :‬إن موسى كان رسو ً‬
‫يأمره بذلك‪ ،‬وأن ال لم يأمره بالسبت‪ ،‬ول أنزل عليه التوراة‪ ،‬ول كلمه على الطور‪ ،‬ومن يقول‪ :‬إن عيسى كان‬
‫رسول ال‪ ،‬لم يبعث إلى بني إسرائيل‪ ،‬ول كان يجب على بني إسرائيل طاعته‪ ،‬وأنه ظلم اليهود‪ ،‬وأمثال ذلك من‬
‫المقالت‪ ،‬التي هي أكفر المقالت‪.‬‬

‫ض{ إلى‬ ‫ض َوَنْكفُُر ِبَبْع ٍ‬


‫ن ِبَبْع ٍ‬
‫ن ُنْؤِم ُ‬
‫سِلِه َويُقوُلو َ‬
‫ل َوُر ُ‬
‫نا ّ‬
‫ن َأن ُيَفّرُقوْا َبْي َ‬
‫سِلِه َوُيِريُدو َ‬
‫ل َوُر ُ‬ ‫ن ِبا ّ‬‫ن َيْكُفُرو َ‬ ‫ن اّلِذي َ‬‫ولهذا قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫حٍد ّمْنُهْم{ الية ]النساء‪150:‬ـ ‪ ،[152‬وقال لبني إسرائيل‪َ} :‬أَفُتْؤِمُنو َ‬
‫ن ِبَبْع ِ‬
‫ض‬ ‫ن َأ َ‬‫سِلِه َوَلْم ُيَفّرُقوْا َبْي َ‬
‫ل َوُر ُ‬ ‫قوله‪َ :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوْا ِبا ّ‬
‫ل ِبَغاِفٍل َعّما َتْعَمُلوَن{ ]البقرة‪.[85:‬‬ ‫ض{ إلى قوله‪َ} :‬وَما ا ّ‬ ‫ن ِبَبْع ٍ‬ ‫ب َوَتْكُفُرو َ‬ ‫اْلِكَتا ِ‬

‫فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة‪ ،‬يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق‪ ،‬دون اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬فإنها مبنية على مقدمتين‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬أن نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورسالته‪ ،‬وهدي أمته أبين وأوضح‪ ،‬تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة‬
‫موسى وعيسى ـ عليهما الصلة والسلم ـ وزيادة‪ ،‬فل يمكن القول بأنهما نبيان دونه لجل ذلك‪ ،‬وإن شاء الرجل‬
‫استدل على ذلك بنفس الدعوة‪ ،‬وما جاء به‪ ،‬وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء ‪ /‬بما عليه أمته‪ ،‬وإن شاء بما‬
‫بعث به من المعجزات‪ ،‬فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى‪ ،‬كانت نبوة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم بها أبين وأكمل‪.‬‬

‫ل إلى‬
‫والمقدمة الثانية‪ :‬أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الرض‪ ،‬من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرس ً‬
‫بعض الناس دون بعض‪ ،‬وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر‪ ،‬والدلئل القطعية‪.‬‬

‫ل‬
‫ن ِبا ِّ‬
‫ن آَم َ‬
‫ن َم ْ‬
‫صاِبِئي َ‬
‫صاَرى َوال ّ‬
‫ن َهاُدوْا َوالّن َ‬
‫ن آَمُنوْا َواّلِذي َ‬ ‫وأما اليهود والنصارى‪ ،‬فأصل دينهم حق‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة‪ [62:‬لكن كل من الدينين مبدل‬ ‫خْو ٌ‬
‫ل َ‬
‫عنَد َرّبِهْم َو َ‬
‫جُرُهْم ِ‬
‫صاِلحًا َفَلُهْم َأ ْ‬
‫ل َ‬
‫عِم َ‬
‫خِر َو َ‬
‫َواْلَيْوِم ال ِ‬
‫منسوخ‪ ،‬فإن اليهود بدلوا وحرفوا‪ ،‬ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ـ مثل نبوة النبياء‪ ،‬وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها ـ تبين أنهم بدلوا‬
‫وأن شريعتهم تنسخ‪ ،‬وتبين صحة رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن فيها من العلم والدلئل على نبوة خاتم‬
‫ضا ـ وقوع التبديل‪،‬‬‫المرسلين‪ ،‬ما قد صنف فيه العلماء مصنفات‪ ،‬وفيها ـ أيضا ـ من التناقض والختلف مايبين ـ أي ً‬
‫وفيها من الخبار من نحو بعدها ما يبين أنها منسوخة‪ ،‬فعندهم ما يدل على هذه المطالب‪ ،‬وقد ناظرنا غير واحد ‪ /‬من‬
‫أهل الكتاب وبينا لهم ذلك‪ ،‬وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف‪ ،‬وصاروا يناظرون أهل دينهم‪ ،‬ويبينون ما عندهم من‬
‫الدلئل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن هذه الفتيا ل تحتمل غير ذلك‪.‬‬

‫وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلئل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من اليمان بال واليوم الخر‪ ،‬ما يبين أن محمدًا صلى ال عليه وسلم جاء‬
‫بالدين الذي بعثت به الرسل قبله‪ ،‬وأخبر من توحيد ال وصفاته بمثل ما أخبرت به النبياء قبله‪ ،‬قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َأَرَأْيُتْم‬
‫شِهيًدا َبْيِني َوَبْيَنُكْم‬
‫ل َ‬ ‫ل َكَفى ِبا ّ‬‫عَلى ِمْثِلِه{ ]الحقاف‪ ،[10 :‬وقوله‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ل َ‬‫سَراِئي َ‬
‫شاِهٌد ّمن َبِني ِإ ْ‬
‫شِهَد َ‬
‫ل َوَكَفْرُتم ِبِه َو َ‬
‫عنِد ا ِّ‬ ‫ن ِ‬‫ن ِم ْ‬‫ِإن َكا َ‬
‫ك{‬‫ب ِمن َقْبِل َ‬
‫ن اْلِكَتا َ‬
‫ن َيْقَرُؤو َ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫سَأ ِ‬
‫ك َفا ْ‬
‫ك ّمّما َأنَزْلَنا ِإَلْي َ‬
‫شّ‬ ‫ب{ ]الرعد‪ ،[43:‬وقال تعالى‪َ} :‬فِإن ُكن َ‬
‫ت ِفي َ‬ ‫عْلُم اْلِكَتا ِ‬
‫عنَدُه ِ‬
‫ن ِ‬ ‫َوَم ْ‬
‫]يونس‪.[94:‬‬

‫والنبي صلى ال عليه وسلم لم يشك ولم يسأل‪ ،‬ولكن هذا حكم معلق بشرط‪ ،‬والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه‪ ،‬وفي‬
‫ذلك سعة لمن شك‪ ،‬أو أراد أن يحتج‪ ،‬أو يزداد يقيًنا‪.‬‬

‫فصــل‬

‫فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب‪ ،‬وأما إن كان المخاطب ل يقر بنبوة نبي من النبياء؛ ل موسى‪ ،‬ول‬
‫عيسى‪ ،‬ول غيرهما ‪ ،‬فللمخاطبة طرق‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن نسلك في الكلم بين أهل الملل وغيرهم ـ من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم ـ نظير‬
‫الكلم بين المسلمين وأهل الكتاب‪.‬‬

‫فنقول‪ :‬من المعلوم لكل عاقل ـ له أدنى نظر وتأمل ـ أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة ممن‬
‫ليس من أهل الملل‪ ،‬فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل‪ ،‬إل عند المسلمين ما هو أكمل منه‪ ،‬وعند‬
‫أهل الملل ما ل يوجد عند غيرهم‪ ،‬وذلك أن العلوم والعمال نوعان‪:‬‬

‫نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب‪ ،‬وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك‪ ،‬فهذه المور عند‬
‫أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل‪ ،‬فإن علوم المتفلسفة ـ من علوم المنطق والطبيعة والهيئة‪ ،‬وغير ذلك‬
‫ـ من متفلسفة الهند واليونان‪ ،‬وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها‪ ،‬لكمال عقولهم‪ ،‬وحسن‬
‫ألسنتهم‪ ،‬وكان ‪ /‬كلمهم فيها أتم وأجمع وأبين‪ ،‬وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل‪ ،‬وأما ما ل يعلم بمجرد العقل كالعلوم‬
‫اللهية‪ ،‬وعلوم الديانات‪ ،‬فهذه مختصة بأهل الملل‪ ،‬وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية‪ ،‬فاليات الكتابية‬
‫مستنبطة من الرسالة‪ .‬فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دللة العقول عليها‪ ،‬فهي عقلية شرعية‪ ،‬فليس لمخالف‬
‫الرسول أن يقول‪ :‬هذه لم تعلم إل بخبرهم‪ ،‬فإثبات خبرهم بها دور‪ ،‬بل يقال‪ :‬بعدالتهم وإرشادهم‪ ،‬وتبيينهم للمعقول‪،‬‬
‫صارت معلومة بالعقل والمثال المضروبة‪ ،‬والقيسة العقلية‪.‬‬

‫وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبطلن قول من خالفهم‪.‬‬

‫النوع الثاني‪ :‬ما ل يعلم إل بخبر الرسل‪ ،‬فهذا يعلم بوجوه‪:‬‬

‫منها‪ :‬اتفاق الرسل على الخبار به من غير تواطؤ ول اتفاق بينهم‪ ،‬فإن المخبر إما أن يكون صادًقا خبره مطابًقا‬
‫لمخبره‪ ،‬وإما أل يكون‪ ،‬وإذا لم يكن خبره مطابًقا لمخبره‪ ،‬فإما أن يكون متعمًدا للكذب ‪،‬وإما أن يكون مخطًئا‪ ،‬فإذا‬
‫قدر عدم الخطأ والتعمد‪ ،‬كان خبره صدًقا ل محالة‪.‬‬
‫ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة‪ ،‬ل يمكن في العادة خطؤهم‪ ،‬وأخبر غيره قبل ذلك مع‬
‫الجزم بأنهما لم يتواطآ‪ ،‬ول يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك‪ ،‬أفاد خبرهما العلم‪ ،‬وإن لم يعلم ‪/‬حالهما‪ ،‬فلو‬
‫ناجى رجل بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك المور السرار‪ ،‬ثم جاء آخر قد‬
‫علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الول‪ ،‬فأخبر عن تلك المناجاة والسرار مثلما أخبر به الول‪ ،‬جزمنا قطًعا بصدقهما‪.‬‬

‫ومعلوم أن مـوسى أخبــر بما أخــبر به قبل أن يبعث محمـد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقـبل أن يبعث المسيح ‪.‬‬

‫ضا ـ لكل من كان عالًما بحال محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه نشأ بين قوم أميين‪ ،‬ل يقرؤون كتاًبا ول‬ ‫ومعلوم ـ أي ً‬
‫يعلمون علوم النبياء‪ ،‬وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والنجيل‪ ،‬ونبوة النبياء‪.‬‬

‫ل وصفاته‪ ،‬وأسمائه وملئكته وعرشه وكرسيه‪ ،‬وأنبيائه ورسله‪،‬‬ ‫وقد أخبر محمد صلى ال عليه وسلم من توحيد ا ّ‬
‫وأخبارهم وأخبار مكذبيهم‪ ،‬بنظير ما يوجد في كتب النبياء‪ ،‬من التوراة وغيرها‪.‬‬

‫فمن تدبر التوراة والقرآن‪ ،‬علم أنهما جميًعا يخرجان من مشكاة واحدة‪ ،‬كما ذكر ذلك النجاشي‪ ،‬وكما قال ورقة بن‬
‫نوفل‪ :‬هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى‪.‬‬

‫سى َأَوَلْم َيْكُفُروا ِبَما ُأوِت َ‬


‫ي‬ ‫ي ُمو َ‬ ‫ل َما ُأوِت َ‬‫ي ِمْث َ‬
‫ل ُأوِت َ‬ ‫ل ـ تعالى ـ بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله‪َ} :‬لْو َ‬ ‫ولهذا قرن ا ّ‬
‫سى‬‫ل ِمن َبْعِد ُمو َ‬ ‫ن{ ]القصص‪ ،[49 ،48:‬وقالت الجن‪ِ} :‬إّنا َ‬
‫سِمْعَنا ِكَتاًبا ُأنِز َ‬ ‫ل{ إلى قوله‪ِ} :‬إن ُكنُتْم َ‬
‫صاِدِقي َ‬ ‫سى ِمن َقْب ُ‬ ‫ُمو َ‬
‫سى َإَماًما‬ ‫ب ُمو َ‬ ‫شاِهٌد ّمْنُه َوِمن َقْبِلِه ِكَتا ُ‬ ‫عَلى َبّيَنٍة ّمن ّرّبِه َوَيْتُلوُه َ‬‫ن َ‬ ‫ن َيَدْيِه{ الية ]الحقاف‪ ،[30:‬وقال‪َ} :‬أَفَمن َكا َ‬ ‫صّدًقا ّلَما َبْي َ‬‫ُم َ‬
‫جاء ِبِه‬‫ب اّلِذي َ‬ ‫ل اْلِكَتا َ‬ ‫ن َأنَز َ‬
‫ل َم ْ‬‫يٍء ُق ْ‬‫ش ْ‬
‫شٍر ّمن َ‬ ‫عَلى َب َ‬‫ل َ‬ ‫لا ّ‬ ‫ق َقْدِرِه ِإْذ َقاُلوْا َما َأنَز َ‬
‫حّ‬‫ل َ‬ ‫حَمًة{ ]هود‪ ،[17:‬وقال‪َ} :‬وَما َقَدُروْا ا ّ‬ ‫َوَر ْ‬
‫ق اّلِذي َبْيَن َيَدْيِه{ ]النعام‪.[92 ،91:‬‬ ‫صّد ُ‬
‫ك ّم َ‬ ‫ب َأنَزْلَناُه ُمَباَر ٌ‬ ‫س{ إلى قوله‪َ} :‬وَهـَذا ِكَتا ٌ‬ ‫سى ُنوًرا َوُهًدى ّللّنا ِ‬ ‫ُمو َ‬

‫فهذه الطريقة‪ ،‬كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده‪ ،‬وما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬علم علًما‬
‫ل‪ ،‬صادقون في الخبار‪ ،‬وأنه يمتنع ـ والعياذ بال ـ خلف الصدق من خطأ وكذب‪.‬‬ ‫يقيًنا أنهم كلهم مخبرون عن ا ّ‬

‫ومن الطرق‪ :‬الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع النبياء‪ ،‬وأحوال من كذبهم‬
‫وكفر بهم‪ ،‬حال نوح وقومه‪ ،‬وهود وقومه‪ ،‬وصالح وقومه‪ ،‬وحال إبراهيم وقومه‪ ،‬وحال موسى وفرعون‪ ،‬وحال‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم وقومه‪.‬‬

‫ب ِمن َبْعِدِهْم{ إلى قوله‪َ} :‬فَكْيفَ‬ ‫حَزا ُ‬‫لْ‬ ‫ح َوا َْ‬ ‫ل في غير موضع من كتابه كقوله‪َ} :‬كّذَب ْ‬
‫ت َقْبَلهُْم َقْوُم ُنو ٍ‬ ‫وهذا الطريق قد بينها ا ّ‬
‫ن َوُكّذ َ‬
‫ب‬ ‫ب َمْدَي َ‬
‫حا ُ‬
‫صَ‬
‫ط َوَأ ْ‬
‫عاٌد َوَثُموُد َوَقْوُم ِإْبَراِهيَم َوَقْوُم ُلو ٍ‬ ‫ح َو َ‬‫ت َقْبَلُهْم َقْوُم ُنو ٍ‬ ‫ب{ ]غافر‪ ،[5:‬وقال‪َ} :‬وِإن ُيَكّذُبو َ‬
‫ك َفَقْد َكّذَب ْ‬ ‫عَقا ِ‬
‫ن ِ‬
‫َكا َ‬
‫ُموَسى{ إلى قوله‬

‫ن ِبَها{‬
‫سَمُعو َ‬
‫ن َي ْ‬
‫ن ِبَها َأْو آَذا ٌ‬
‫ب َيْعِقُلو َ‬
‫ن َلُهْم ُقُلو ٌ‬
‫ض َفَتُكو َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ظاِلَمٌة{ إلى قوله‪َ} :‬أَفَلْم َي ِ‬
‫سيُروا ِفي ا َْ‬ ‫ي َ‬ ‫‪َ}:‬فَكَأّين ّمن َقْرَيٍة َأْهَلْكَناَها َوِه َ‬
‫حي َ‬
‫ن‬ ‫صِب ِ‬ ‫عَلْيِهم ّم ْ‬ ‫]الحج‪42:‬ـ ‪ ،[46‬وقوله‪َ} :‬وِإّنُكْم َلَتُمّرو َ‬
‫ن َ‬

‫ن؟{ ]الصافات‪[138 ،137:‬‬


‫ل َتْعِقُلو َ‬
‫ل َأَف َ‬
‫َوِبالّلْي ِ‬

‫ت ّلْلُمَتَوّسِميَن{ ]الحجر‪. [75:‬‬


‫ك لَيا ٍ‬ ‫وقال‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِفي َذِل َ‬

‫ن{‬ ‫ل لهم‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَكْم َأْهَلْكَنا ِم َ‬


‫ن اْلُقُرو ِ‬ ‫فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة‪ ،‬ويستدل بذلك على عقوبة ا ّ‬
‫اليتين ]السراء‪ .[18 ،17:‬فذكر طريقين يعلم بهما ذلك‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬ما يعاين ويعقل بالقلوب‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬ما يسمع‪ ،‬فإنه قد تواتر عند كل أحد حال النبياء‪ ،‬ومصدقهم ومكذبهم‪ ،‬وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه ـ‬
‫سبحانه ـ عاقب مكذبهم وانتقم منهم‪ ،‬وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه‪ ،‬وأن من كذبهم كان على الباطل الذي‬
‫ل‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ومعصيتهم معصية ّ‬ ‫ل على أهله‪ ،‬وأن طاعة الرسل طاعة ّ‬ ‫يغضب ا ّ‬
‫ضا‪ :‬أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة‪ ،‬وآياتهم القاهرة‪ ،‬وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد‬
‫ومن الطرق أي ً‬
‫مدعي النبوة وهو كذاب‪ ،‬من غير تناقض‪ ،‬ول تعارض‪ ،‬كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪ /‬ومن الطرق‪ :‬أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة‪ ،‬بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب‪ ،‬ول ينكره‬
‫إل جاهل غاو‪.‬‬

‫وهذه الفتيا ل تسع البسط الكثير‪ ،‬فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به‪ ،‬ووجب الحكم بكفر من آمن‬
‫ل على محمد وآله وصحبه‬‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا ّ‬‫ل ـ سبحانه ـ وتعالى ـ أعلم‪ ،‬والحمد ّ‬
‫ببعض‪ ،‬وكفر ببعض‪ .‬وا ّ‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫حــُه ـ عـن ]الروح[‪ ،‬هل هي قديمة‪ ،‬أو مخلوقة؟ وهل‬ ‫ل ُرو َ‬


‫سلم َأُبو الَعّباس ابن َتْيِمية ـ قدس ا ّ‬
‫خ الِ ْ‬
‫ل شي ُ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ُيبّدع من يقول بقدمها أم ل؟ وما قول أهل السنة فيها‪ ،‬وما المراد بقوله عز وجل‪ُ} :‬قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء‪:‬‬
‫ل ـ تعالى ـ أمر ذاتها‪ ،‬أوصفاتها‪ ،‬أو مجموعهما؟ بينوا ذلك من الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪ .[85‬هل المفوض إلى ا ّ‬

‫عْنُه‪:‬‬
‫ل َ‬
‫فأجاب ـ رضي ا ّ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬روح الدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف المة وأئمتها وسائر أهل السنة‪ ،‬وقد حكى إجماع‬‫الحمد ّ‬
‫العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين‪ ،‬مثل محمد بن نصر المروزي‪ ،‬المام المشهور‪ ،‬الذي هو أعلم‬
‫أهل زمانه بالجماع والختلف‪ ،‬أو من أعلمهم‪.‬‬

‫سم‪ :‬الرواح‪ .‬قال‪ :‬وأجمع الناس‬‫وكذلك أبو محمد بن قتيبة‪ ،‬قال في كتاب ]اللقط[ لما تكلم على خلق الروح قال‪ :‬الّن َ‬
‫ل خالق الجثة‪ / ،‬وبارئ النسمة‪ ،‬أي‪ :‬خالق الروح‪ .‬وقال أبو إسحاق بن شاقل فيما أجاب به في هذه المسألة‪:‬‬ ‫على أن ا ّ‬
‫ل عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة‪ ،‬قال‪ :‬هذا مما ل يشك فيه من وفق للصواب‪ ،‬إلى أن قال‪:‬‬ ‫سألت رحمك ا ّ‬
‫والروح من الشياء المخلوقة‪ ،‬وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ‪ ،‬وردوا على من يزعم‬
‫أنها غير مخلوقة‪.‬‬

‫ل بن َمْنَده في ذلك كتاًبا كبيًرا في ]الروح والنفس[‪ ،‬وذكر فيه من الحاديث والثار شيًئا‬
‫وصنف الحافظ أبو عبد ا ّ‬
‫كثيًرا‪ ،‬وقبله المام محمد بن نصر المروزي وغيره‪ ،‬والشيخ أبو يعقوب الخراز‪ ،‬وأبو يعقوب النهرجوري‪ ،‬والقاضي‬
‫أبو يعلى‪ ،‬وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الئمة الكبار‪ ،‬واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم‪ ،‬ل‬
‫سيما في روح غيره ‪،‬كما ذكره أحمد في كتابه في ]الرد على الزنادقة والجهمية[ فقال في أوله‪:‬‬

‫ل الذي جعل في كل زمان َفْتَرة من الرسل بقايا من أهل العلم‪ ،‬يدعون من ضل إلى الهدى‪ ،‬ويصبرون منهم‬ ‫الحمد ّ‬
‫ل أهل العمى‪ ،‬فكم من قتيل لبليس قد أحيوه‪ ،‬وكم من ضال‬ ‫ل الموتى‪ ،‬ويبصرون بنور ا ّ‬ ‫على الذى‪ ،‬يحيون بكتاب ا ّ‬
‫ل تحريف الغالين؛ وانتحال‬‫تائه قد هدوه‪ ،‬فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم‪ ،‬ينفون عن كتاب ا ّ‬
‫المبطلين‪ ،‬وتأويل الجاهلين‪ ،‬الذين عقدوا ألوية البدعة‪ ،‬وأطلقوا عقال الفتنة‪ ،‬فهم مختلفون في الكتاب‪ ،‬مخالفون‬
‫ل بغير علم‪ ،‬يتكلمون بالمتشابه من‬
‫ل‪ ،‬وفي كتاب ‪ /‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وفي ا ّ‬‫للكتاب‪ ،‬متفقون على مخالفة الكتاب‪ ،‬يقولون على ا ّ‬
‫ل من فتن المضلين‪ ،‬وتكلم على ما يقال‪ :‬إنه متعارض من‬ ‫الكلم‪ ،‬ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم‪ ،‬فنعوذ با ّ‬
‫القرآن إلى أن قال‪:‬‬

‫وكذلك الجهم وشيعته‪ ،‬دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث‪ ،‬وأضلوا بشًرا كثيًرا‪ ،‬فكان مما بلغنا من أمر‬
‫ل‪،‬‬
‫ل ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ‪ ،‬وكان صاحب خصومات وكلم‪ ،‬كان أكثر كلمه في ا ّ‬ ‫الجهم ـ عدو ا ّ‬
‫سا من المشركين يقال لهم ]السمنية]فعرفوا الجهم‪ ،‬فقالوا له‪ :‬نكلمك‪ ،‬فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا‪،‬‬ ‫فلقى أنا ً‬
‫وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك‪.‬‬

‫فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا‪ :‬ألست تزعم أن لك إلًها؟ قال الجهم‪ :‬بلى‪ .‬فقالوا له‪ :‬فهل رأيت إلهك؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫جسا؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قالوا‪ :‬فما يدريك‬
‫فهل سمعت كلمه؟ قال‪ :‬ل‪.‬قالوا‪ :‬فهل شممت له رائحة؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قالوا له‪ :‬فوجدت له َم َ‬
‫أنه إله؟ قال‪ :‬فتحير الجهم‪ ،‬فلم يدر من يعبد أربعين يوًما‪ ،‬ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى‪ ،‬وذلك أن‬
‫ل‪ ،‬من ذاته‪ ،‬فإذا أراد أن يحدث أمًرا دخل في بعض‬
‫زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح ا ّ‬
‫خلقه‪ ،‬فتكلم على لسان خلقه‪ ،‬فيأمر بما شاء‪ ،‬وينهى عما شاء‪ ،‬وهو روح غائب عن البصار‪.‬‬

‫حا ؟ قال بلى‪ .‬قال‪ :‬فهل رأيت روحك؟‬‫فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة‪ ،‬فقال للسمني‪ :‬ألست تزعم أن فيك رو ً‬
‫ل‪ ،‬ل يرى له وجه‪ ،‬و‬
‫سا؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬كذلك ا ّ‬
‫سا وَمجَ ّ‬
‫قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فهل سمعت ‪ /‬كلمه؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فوجدت له ح ً‬
‫ل يسمع له صوت‪ ،‬ول يشم له رائحة‪ ،‬وهو غائب عن البصار‪ ،‬ول يكون في مكان دون مكان‪.‬‬

‫وساق المام أحمد الكلم في ]القرآن[ و]الرؤية[ وغير ذلك‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬ثم إن الجهم ادعى أمًرا‪ ،‬فقال‪ :‬إنا وجدنا آية‬
‫ل َوَكِلَمُتُه‬
‫لا ّ‬
‫سو ُ‬
‫ن َمْرَيَم َر ُ‬
‫سى اْب ُ‬
‫عي َ‬
‫ح ِ‬ ‫ل‪ِ} :‬إّنَما اْلَم ِ‬
‫سي ُ‬ ‫ل تدل على القرآن أنه مخلوق‪ ،‬فقلنا‪ :‬أي آية؟ قال‪ :‬قول ا ّ‬‫في كتاب ا ّ‬
‫َأْلَقاَها ِإَلى َمْرَيَم َوُروٌح ّمْنُه{ ]النساء‪ [171:‬وعيسى مخلوق‪.‬‬

‫ل‪،‬‬
‫ل منعك الفهم في القرآن‪ ،‬عيسى تجرى عليه ألفاظ ل تجرى على القرآن؛ لنه يسميه مولوًدا‪ ،‬وطف ً‬ ‫فقلنا‪ :‬إن ا ّ‬
‫وصبًيا‪ ،‬وغلًما‪ ،‬يأكل ويشرب‪ ،‬وهو مخاطب بالمر والنهي‪ ،‬يجري عليه الوعد والوعيد‪ ،‬ثم هو من ذرية نوح ومن‬
‫ل يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟‬ ‫ذرية إبراهيم‪ ،‬ول يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى‪ ،‬هل سمعتم ا ّ‬
‫ل َوَكِلَمُتُه َأْلَقاَها ِإَلى َمْرَيَم{ ]النساء‪، [171:‬فالكلمة التي‬
‫لا ّ‬
‫سو ُ‬
‫ن َمْرَيَم َر ُ‬
‫سى اْب ُ‬
‫عي َ‬
‫ح ِ‬ ‫ل‪ِ}:‬إّنَما اْلَم ِ‬
‫سي ُ‬ ‫ولكن المعنى في قول ا ّ‬
‫ل قول‪،‬‬‫ألقاها إلى مريم حين قال له‪ :‬كن‪ ،‬فكان عيسى بكن‪ ،‬وليس عيسى هو الكن‪ ،‬ولكن بالكن كان‪ ،‬فالكن من ا ّ‬
‫وليس الكن مخلوًقا‪.‬‬

‫ل وكلمته‪ ،‬إل أن الكلمة‬


‫ل في أمر عيسى‪ ،‬وذلك أن الجهمية قالوا‪ :‬عيسى روح ا ّ‬ ‫وكذب النصارى والجهمية على ا ّ‬
‫ل‪ ،‬كما يقال‪ :‬إن هذه الخرقة من هذا‬
‫ل من ذات ا ّ‬‫ل‪ ،‬وكلمة ا ّ‬
‫ل من ذات ا ّ‬
‫مخلوقة‪ ،‬وقالت النصارى‪ / :‬عيسى روح ا ّ‬
‫الثوب‪.‬‬

‫ل‪َ} :‬وُروٌح ّمْنُه{ يقول من أمره كان الروح فيه‪،‬‬


‫وقلنا نحن‪ :‬إن عيسى بالكلمة كان‪ ،‬وليس هو الكلمة‪ .‬قال‪ :‬وقول ا ّ‬
‫ل‪ :‬أنها‬
‫ض َجِميًعا ّمْنُه{ ]الجاثية‪ ،[13:‬يقول‪ :‬من أمره‪ ،‬وتفسير روح ا ّ‬
‫لْر ِ‬‫ت َوَما ِفي ا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫خَر َلُكم ّما ِفي ال ّ‬
‫سّ‬‫كقوله‪َ} :‬و َ‬
‫ل‪ ،‬فقد ذكر المام أحمد أن زنادقة النصارى هم الذين يقولون‪:‬‬ ‫ل‪ ،‬وسماء ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬كما يقال‪ :‬عبد ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬خلقها ا ّ‬ ‫روح بكلمة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ل إضافة‬ ‫ل‪ ،‬وسماء ا ّ‬ ‫ل‪ ،‬وبين أن إضافة الروح إليه إضافة ملك وخلق‪ ،‬كقولك‪ :‬عبد ا ّ‬ ‫إن روح عيسى من ذات ا ّ‬
‫ل إذا أراد أن يحدث‬‫صفة إلى موصوف‪ ،‬فكيف بأرواح سائر الدميين؟ وبين أن هؤلء الزنادقة الحلولية يقولون بأن ا ّ‬
‫أمًرا دخل في بعض خلقه‪.‬‬

‫وقال الشيخ أبو سعيد الخرازـ أحد أكابر المشائخ الئمة من أقران الجنيد‪ ،‬فيما صنفه ـ في أن الرواح مخلوقة‪ ،‬وقد‬
‫احتج بأمور منها‪ :‬لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية‪ ،‬وقد قال لهم حين أخذ الميثاق ـ وهم أرواح في أشباح؛ كالذر‬
‫ت ِبَرّبُكْم َقاُلوْا َبَلى َشِهْدَنا{ ]العراف‪ ،[172:‬وإنما خاطب الروح مع الجسد‪ ،‬وهل يكون الرب إل لمربوب ؟‬ ‫ـ‪َ} :‬أَل ْ‬
‫س َ‬
‫ل‪ ،‬وقالوا‪ :‬هو‬
‫قال‪ :‬ولنها لو لم تكن مخلوقة ما كان على النصارى لوم في عبادتهم عيسى‪ ،‬ول حين قالوا‪ :‬إنه ابن ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫ل‪ ،‬ول غيبت‬


‫‪/‬قال‪ :‬ولنه لو كان الروح غير مخلوق ما دخلت النار‪ ،‬ولنها لو كانت غير مخلوقة لما حجبت عن ا ّ‬
‫في البدن‪ ،‬ول ملكها ملك الموت‪ ،‬ولما كانت صورة توصف؛ ولنها لو لم تكن مخلوقة لم تحاسب ولم تعذب‪ ،‬ولم‬
‫تتعبد ولم تخف‪ ،‬ولم ترج‪ .‬ولن أرواح المؤمنين تتلل وأرواح الكفار سود مثل الحمم‪.‬‬

‫وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة‪ ،‬وتأوى في فناء العرش(‪،‬‬
‫وأرواح الكفار في برهوت ]بئر عميقة بحضرموت ل يستطاع النزول إلى قعرها[‪.‬‬

‫ل من الملكوت‪ ،‬كما خلق آدم من‬‫ل مخلوقة ‪.‬خلقها ا ّ‬


‫وقال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري‪ :‬هذه الرواح من أمر ا ّ‬
‫ل هم أهل‬‫ل أخرجه ذلك إلى التعطيل‪ ،‬والذين نسبوا الرواح إلى ذات ا ّ‬‫التراب‪ ،‬وكل عبد نسب روحه إلى ذات ا ّ‬
‫الحلول الخارجون إلى الباحة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا‪ ،‬وصرنا أحراًرا‪ ،‬ووضعت‬
‫عنا العبودية‪ ،‬وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء‪ ،‬والموال وغير ذلك‪ .‬وهم زنادقة هذه المة وذكر عدة مقالت‬
‫لها وللزنادقة ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان‪:‬‬

‫صنف من الصابئة الفلسفة‪ ،‬يقولون‪ :‬هي قديمة أزلية لكن ليست من ‪ /‬ذات الرب‪ ،‬كما يقولون ذلك في العقول‪،‬‬
‫والنفوس الفلكية‪ ،‬ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملئكة‪.‬‬

‫ل‪ ،‬وهؤلء أشرّ‬


‫وصنف من زنادقة هذه المة وضللها ـ من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة ـ يزعمون أنها من ذات ا ّ‬
‫ل من أولئك‪ ،‬وهؤلء جعلوا الدمي نصفين‪ :‬نصف لهوت‪ ،‬وهو روحه‪ ،‬ونصف ناسوت‪ ،‬وهو جسده‪ ،‬نصفه رب‬ ‫قو ً‬
‫ونصفه عبد‪.‬‬

‫ل النصارى بنحو من هذا القول في المسيح‪ ،‬فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ؟ حتى في فرعون‪ ،‬وهامان‪،‬‬ ‫وقد كّفر ا ّ‬
‫ل ربه وخالقه ومالكه وإلهه‪ ،‬فهو يدل على أن‬
‫وقارون‪ ،‬وكل ما دل على أن النسان عبد مخلوق مربوب‪ ،‬وأن ا ّ‬
‫روحه مخلوقة ‪.‬‬

‫فإن النسان عبارة عن البدن والروح مًعا‪ ،‬بل هو بالروح أخص منه بالبدن‪ ،‬وإنما البدن مطية للروح‪،‬كما قال أبو‬
‫الدرداء‪ :‬إنما بدني مطيتي‪ ،‬فإن رفقت بها بلغتني‪ ،‬وإن لم أرفق بها لم تبلغني‪.‬وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس‬
‫قال‪ :‬ل تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن‪ ،‬فتقول الروح للبدن‪ :‬أنت عملت السيئات‪،‬‬
‫ل بستاًنا‪،‬‬
‫ل ملًكا يقضى بينهما‪ ،‬فيقول‪ :‬إنما مثلكما كمثل ُمْقَعد وأعمى دخ ً‬
‫فيقول البدن للروح‪ :‬أنت أمرتني‪ ،‬فيبعث ا ّ‬
‫فرأى المقعد فيه ثمًرا معلًقا‪ ،‬فقال للعمى‪ :‬إني أرى ثمًرا‪ ،‬ولكن ‪ /‬ل أستطيع النهوض إليه‪ ،‬وقال العمى‪ :‬لكني‬
‫أستطيع النهوض إليه ولكني ل أراه‪ .‬فقال له المقعد‪ :‬تعال‪ ،‬فاحملني حتى أقطفه‪ ،‬فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى‬
‫حيث يشاء فقطع الثمر‪ .‬قال‪ :‬الملك‪ :‬فعلى أيهما العقوبة؟ فقال‪:‬عليهما جميًعا قال‪ :‬فكذلك أنتما‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فقد استفاضت الحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم بأن الرواح تقبض‪ ،‬وتنعم وتعذب‪ ،‬ويقال لها‪:‬‬ ‫وأي ً‬
‫اخرجي أيتها الروح الطيبة ‪،‬كانت في الجسد الطيب‪ ،‬اخرجي أيتها الروح الخبيثة‪ ،‬كانت في الجسد الخبيث‪ ،‬ويقال‬
‫ساق وآخر من شكله أزواج‪ ،‬وأن أرواح المؤمنين‬ ‫غّ‬
‫حِميم و َ‬
‫للولى‪ :‬أبشري َبرْوح وَرْيحان‪ ،‬ويقال للثانية‪ :‬أبشري ب َ‬
‫تعرج إلى السماء‪ ،‬وأن أرواح الكفار ل تفتح لها أبواب السماء‪.‬‬

‫ل عنه ـ قال‪) :‬إذا خرجت روح المؤمن تلقاها‬ ‫شِقيق عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬ ‫ل بن َ‬
‫وفي صحيح مسلم عن عبد ا ّ‬
‫ملكان يصعدان بها(‪ ،‬قال حماد‪ :‬فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال‪) :‬فيقول أهل السماء‪ :‬روح طيبة جاءت من‬
‫ل عليك‪ ،‬وعلى جسد كنت تعمرينه‪ ،‬فينطلق به إلى ربه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬انطلقوا به إلى آخر الجل(‪،‬‬ ‫قبل الرض صلى ا ّ‬
‫قال‪) :‬وإن الكافر إذا خرجت روحه(‪ ،‬قال حماد‪ :‬وذكر من نتنها وذكر لعًنا‪) ،‬فيقول أهل السماء‪ :‬روح خبيثة جاءت‬
‫ل صلى‬‫ل عنه‪ :‬فلما ذكر رسول ا ّ‬‫من قبل الرض‪ ،‬قال‪ :‬فيقال‪ :‬انطلقوا به إلى آخر الجل(‪ .‬قال أبو هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ال عليه وسلم النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه‪.‬‬

‫‪ /‬وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم رأى آدم‪ ،‬وأرواح بنيه عن يمينه وشماله‪ ،‬قال رسول‬
‫سِوَدة‪ ،‬وعن شماله أسودة(‪ ،‬قال‪) :‬فإذا نظر ِقَبل‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أ ْ‬
‫ا ّ‬
‫يمينه ضحك‪ ،‬وإذا نظر قبل شماله بكى(‪ ،‬قال‪) :‬مرحًبا بالنبي الصالح والبن الصالح(‪ ،‬قال‪) :‬قلت‪ :‬يا جبريل‪ ،‬من هذا‬
‫؟ قال‪ :‬هذا آدم صلى ال عليه وسلم ‪،‬وهذه السودة عن يمينه وشماله نسم بنيه‪ ،‬فأهل اليمين أهل الجنة‪ ،‬والسودة التي‬
‫عن شماله أهل النار‪ ،‬فإذا نظر قبل يمينه ضحك‪ ،‬وإذا نظر قبل شماله بكى(‪.‬‬

‫]والسودة جمع سواد‪ ،‬وتجمع على أساود‪ ،‬وهي الجماعات المتفرقة‪ ،‬وقيل‪ :‬هي جمع لـ )سواد(‪ ،‬وهو الشخص‪،‬‬
‫ضا ـ أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة‪ ،‬قال المام أحمد في‬ ‫كذلك؛ لنه يرى من بعيد[ وقد ثبت ـ أي ً‬
‫ل من يشاء‪ ،‬ويرحم‬
‫رواية حنبل‪ :‬أرواح الكفار في النار‪ ،‬وأرواح المؤمنين في الجنة‪ ،‬والبدان في الدنيا‪ ،‬يعذب ا ّ‬
‫ل بن أحمد‪ :‬سألت أبي عن أرواح الموتى‪ :‬أتكون في أفنية قبورها؟ أم في حواصل طير؟‬ ‫بعفوه من يشاء‪ .‬وقال عبد ا ّ‬
‫سَمة المؤمن إذا مات طائر‬
‫أم تموت كما تموت الجساد؟ فقال‪ :‬قد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬ن َ‬
‫ل إلى جسده يوم يبعثه(‪.‬‬
‫تعلق في شجر الجنة‪ ،‬حتى يرجعه ا ّ‬
‫ل بن عمرو أنه قال‪ :‬أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالّزَراِزير]جمع زرزور‪ ،‬وهو‬ ‫وقد روى عن عبد ا ّ‬
‫نوع من العصافير[‪ ،‬يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها‪ ،‬قال‪ :‬وقال بعض الناس‪ :‬أرواح الشهداء في أجواف طير‬
‫خضر‪ ،‬تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش‪.‬‬

‫ن ُقِتُلوْا‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫سَب ّ‬
‫حَ‬ ‫ل ـ يعني ابن ‪/‬مسعود ـ عن هذه الية‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬ ‫وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال‪ :‬سألنا عبد ا ّ‬
‫ل صلى ال‬ ‫ل َأْمَواًتا َبْل َأْحَياء ِعنَد َرّبِهْم ُيْرَزُقوَن{ ]آل عمران‪ ،[169:‬فقال‪ :‬أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول ا ّ‬
‫لا ّ‬
‫سِبي ِ‬
‫ِفي َ‬
‫عليه وسلم فقال‪) :‬إن أرواحهم في جوف طير خضر‪ ،‬لها قناديل معلقة بالعرش‪ ،‬تسرح في الجنة حيث تشاء‪ ،‬ثم تأوى‬
‫إلى تلك القناديل‪ ،‬فاطلع عليهم ربك اطلعة فقال‪ :‬هل تشتهون شيًئا؟ فقالوا‪ :‬أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة‬
‫حيث نشاء؟ ـ ففعل بهم ذلك ثلث مرات ـ فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا‪ :‬يا رب ‪،‬نريد أن ترد أرواحنا‬
‫في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى‪ ،‬فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا(‪.‬‬

‫ضّيًة َفاْدُخِلي ِفي ِعَباِدي َواْدُخِلي َجّنِتي{ ]الفجر‪27 :‬ـ‬


‫ضَيًة ّمْر ِ‬
‫ك َرا ِ‬
‫جِعي ِإَلى َرّب ِ‬
‫طَمِئّنُة اْر ِ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬يا َأّيُتَها الّنْف ُ‬
‫س اْلُم ْ‬ ‫وقد قال ا ّ‬
‫‪،[30‬‬

‫فخاطبها بالرجوع إلى ربها‪ ،‬وبالدخول في عباده ودخول جنته‪ ،‬وهذا تصريح بأنها مربوبة‪ .‬والنفس هنا هي الروح‬
‫التي تقبض‪ ،‬وإنما تتنوع صفاتها‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما ناموا عن صلة الفجر‬
‫ل قبض أرواحنا حيث شاء‪ ،‬وردها حيث شاء( وفي رواية‪) :‬قبض أنفسنا حيث شاء(‪ ،‬وقال‬ ‫في السفر ـ قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫ت{ ]الزمر‪ ،[42:‬والمقبوض‬ ‫عَلْيَها اْلَمْو َ‬
‫ضى َ‬
‫ك اّلِتي َق َ‬
‫سُ‬
‫ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ‬
‫ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ‬
‫حي َ‬
‫س ِ‬
‫لنُف َ‬ ‫تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َيَتَوّفى ا َْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬على أبي سلمة‬ ‫المتوفى هي الروح‪ ،‬كما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت‪ :‬دخل رسول ا ّ‬
‫وقد شق بصره‪ ،‬فأغمضه‪ ،‬ثم قال‪) :‬إن الروح إذا قبض تبعه البصر(‪ ،‬فضج ناس من أهله فقال‪)/:‬ل تدعوا على‬
‫أنفسكم إل بخير‪ ،‬فإن الملئكة ُيَؤّمُنون على ما تقولون(‪ ،‬ثم قال‪) :‬الّلهم اغفر لبي سلمة‪ ،‬وارفع درجته في المهديين‪،‬‬
‫واخلفه في عقبه في الغابرين‪ ،‬واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره‪ ،‬ونور له فيه(‪.‬‬

‫شخَ َ‬
‫ص‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ألم تروا أن النسان إذا مات َ‬ ‫ضا ـ عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫وروى مسلم ـ أي ً‬
‫سا‪.‬‬
‫حا‪ ،‬وتارة نف ً‬
‫بصره؟( قالوا‪ :‬بلى‪ .‬قال‪) :‬فكذلك حين يتبع بصره نفسه( فسماه تارة رو ً‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا حضرتم موتاكم‬ ‫وروى أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن ماجه عن شداد بن أوس قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح‪ ،‬وقولوا خيًرا‪ ،‬فإنه ُيَؤّمن على ما يقول أهل الميت(‪.‬‬

‫ودلئل هذا الصل وبيان مسمى ]الروح والنفس[ وما فيه من الشتراك كثير ل يحتمله هذا الجواب‪ ،‬وقد بسطناه في‬
‫غير هذا الموضع‪.‬‬

‫فقد بان بما ذكرناه أن من قال‪ :‬إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة‪ ،‬فهو من أعظم أهل البدع الحلولية‪ ،‬الذين يجر‬
‫قولهم إلى التعطيل‪ ،‬بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة‪.‬‬

‫وأما قوله تعالى‪ُ} :‬قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء‪ ،[85:‬فقد قيل‪ :‬إن الروح هنا ليس هو روح الدمي‪ ،‬وإنما هو ملك‬
‫ح ِإَلْيِه{ ]المعارج‪ ،[4:‬وقوله‪َ} :‬تَنّز ُ‬
‫ل‬ ‫لِئَكُة َوالّرو ُ‬ ‫صّفا{ ]النبأ‪/ ،[38:‬وقوله{َتْعُر ُ‬
‫ج اْلَم َ‬ ‫لِئَكُة َ‬ ‫في قوله‪َ}:‬يْوَم َيُقوُم الّرو ُ‬
‫ح َواْلَم َ‬
‫لِئَكُة َوالّروُح ِفيَها ِبِإْذِن َرّبِهم ّمن ُكّل َأْمٍر{ ]القدر‪ [4:‬وقيل‪ :‬بل هو روح الدمي‪ ،‬والقولن مشهوران‪ ،‬وسواء كانت‬ ‫اْلَم َ‬
‫الية تعمهما‪ ،‬أو تتناول أحدهما‪ ،‬فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة لوجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن المر في القرآن يراد به المصدر تارة‪ ،‬ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬أَتى‬
‫ل َقَدًرا ّمْقُدوًرا{ ]الحزاب‪ [38:‬وهذا في لفظ غير المر‪ ،‬كلفظ‬ ‫جُلوُه{ ]النحل‪ ،[1:‬وقوله‪َ} :‬وَكا َ‬
‫ن َأْمُر ا ِّ‬ ‫سَتْع ِ‬
‫ل َت ْ‬
‫ل َف َ‬
‫َأْمُر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ونحو ذلك مما هو‬‫ل أو جزء من أمر ا ّ‬
‫الخلق والقدرة والرحمة والكلمة وغير ذلك‪ .‬ولو قيل‪ :‬إن الروح بعض أمر ا ّ‬
‫ل‪ ،‬لم يكن المراد بلفظ المر إل المأمور به ل المصدر؛ لن الروح عين قائمة بنفسها‪،‬‬
‫صريح في أنها بعض أمر ا ّ‬
‫تذهب وتجيء وتنعم وتعذب‪ ،‬وهذا ل يتصور أن يكون مسمى مصدر‪ :‬أمر يأمر أمًرا‪ .‬وهذا قول سلف المة وأئمتها‬
‫وجمهورها‪.‬‬
‫ومن قال من المتكلمين‪ :‬إن الروح عرض قائم بالجسم‪ ،‬فليس عنده مصدر‪ :‬أمر يأمر أمًرا ‪.‬‬

‫ل[ والكلم اسم مصدر‪َ :‬كّلم ُيَكّلم تكليًما وكلًما‪ ،‬وَتَكّلم َتَكلًما وكلًما‪ .‬فإذا‬
‫ل‪ ،‬فالقرآن كلم ]ا ّ‬
‫والقرآن إذا سمى أمر ا ّ‬
‫سمى أمًرا بمعنى المصدر كان ذلك مطابًقا‪ ،‬ل سيما والكلم نوعان‪ :‬أمر وخبر‪.‬‬

‫‪ /‬أما العيان القائمة بأنفسها فل تسمى أمًرا ل بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لنه مفعول‬
‫حِيي‬
‫ف ُي ْ‬
‫ل َكْي َ‬
‫ت ا ِّ‬
‫حَم ِ‬ ‫بالكلمة‪ ،‬وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة‪ ،‬والمطر رحمة‪ ،‬في مثل قوله‪َ} :‬فاْن ُ‬
‫ظْر ِإَلى آَثاِر َر ْ‬
‫ض َبْعَد َمْوِتَها{ ]الروم‪ ،[50:‬وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال للجنة‪) :‬أنت رحمتي‬ ‫لْر َ‬
‫ا َْ‬
‫ق الرحمة ـ يوم خلقها ـ مائة رحمة( ونظائر ذلك كثيرة‪ ،‬وهذا جواب أبي‬ ‫ل خل َ‬‫أرحم بك من شئت(‪ ،‬وقوله‪) :‬إن ا َّ‬
‫سعيد الخراز‪ ،‬قال‪ :‬فإن قيل‪ :‬قد قال تعالى‪ُ} :‬قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء‪ [85:‬وأمره منه قيل‪ :‬أمره ـ تعالى ـ هو‬
‫المأمور به المكون بتكوين المكون له ‪.‬‬

‫ل عند الممات‪،‬‬
‫وكذلك قال ابن قتيبة في ]كتاب المشكل[‪ :‬أقسام الروح‪ ،‬فقال‪ :‬هي روح الجسام التي يقبضها ا ّ‬
‫س{ ]البقرة‪،[253 ،87:‬‬ ‫ن{ ]الشعراء‪ ،[193:‬وقال‪َ}:‬وَأّيْدَناُه ِبُرو ِ‬
‫ح اْلُقُد ِ‬ ‫لِمي ُ‬
‫ح ا َْ‬ ‫والروح جبريل‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬نَز َ‬
‫ل ِبِه الّرو ُ‬
‫ل ـ تعالى ـ يقوم وحده فيكون صًفا‪ ،‬وتقوم‬ ‫أي‪ :‬جبريل‪ ،‬والروح ـ فيما ذكره المفسرون ـ ملك عظيم من ملئكة ا ّ‬
‫ل؛‬
‫ك َعِن الّروِح ُقِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء‪ ،[85:‬قال‪ :‬ونسب الروح إلى ا ّ‬ ‫الملئكة صًفا‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫سَأُلوَن َ‬
‫لنه بأمره‪ ،‬أو لنه بكلمته‪.‬‬

‫والوجه الثاني‪ :‬أن لفظة ]من[ في اللغة قد تكون لبيان الجنس‪ ،‬كقولهم‪ :‬باب من حديد‪ .‬وقد تكون لبتداء الغاية‪،‬‬
‫صا في أن الروح بعض المر‪ ،‬ومن ‪ /‬جنسه‪ ،‬بل‬ ‫كقولهم‪ :‬خرجت من مكة‪ ،‬فقوله تعالى‪ُ}:‬قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ليس ن ً‬
‫قد تكون لبتداء الغاية إذ كونت بالمر‪ ،‬وصدرت عنه‪ ،‬وهذا معنى جواب المام أحمد في قوله‪َ} :‬وُروٌح ّمْنُه{ ]النساء‪:‬‬
‫جِميًعا‬
‫ض َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوَما ِفي ا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫خَر َلُكم ّما ِفي ال ّ‬
‫سّ‬‫ح ّمْنُه{ يقول‪ :‬من أمره كان الروح منه كقوله‪َ} :‬و َ‬ ‫‪ [171‬حيث قال‪َ} :‬وُرو ٌ‬
‫ل{ ]النحل‪.[53:‬‬ ‫ضا قوله‪َ} :‬وَما ِبُكم ّمن ّنْعَمٍة َفِم َ‬
‫نا ّ‬ ‫ّمْنُه} ]الجاثية‪ ،[13:‬ونظير هذا أي ً‬

‫ل‪ ،‬ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت‪ ،‬لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح‪:‬‬ ‫فإذا كانت المسخرات والنعم من ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ومعلوم أن قوله‪َ} :‬وُروٌح ّمْنُه{ أبلغ من قوله‪} :‬الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ فإذا كان‬
‫}َوُروٌح ّمْنُه{؛ أنها بعض ذات ا ّ‬
‫ضا له‪ ،‬فقوله‪} :‬الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ أولى بأل يمنع‬
‫قوله{َوُروٌح ّمْنُه{ ل يمنع أن يكون مخلوًقا‪ ،‬ول يوجب أن يكون بع ً‬
‫ضا من أمره‪.‬‬
‫ضا له بل ول بع ً‬ ‫أن يكون مخلوًقا‪ ،‬ول يوجب أن يكون ذلك بع ً‬

‫ل‪ ،‬فهذان الجوابان كل منهما مستقل‪ ،‬ويمكن‬ ‫وهذا الوجه يتوجه إذا كان المر هو المر الذي هو صفة من صفات ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ‬‫أن يجعل منهما جواب مركب‪ ،‬فيقال‪ :‬قوله‪} :‬الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ إما أن يراد بالمر المأمور به‪ ،‬أو صفة ّ‬
‫ل[ كان قوله‪} :‬الّرو ُ‬
‫ح‬ ‫وإن أريد به الول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك‪ ،‬فتكون مخلوقة‪ ،‬وإن أريد بالمر صفة ]ا ّ‬
‫ِمْن َأْمِر َرّبي{ كقوله‪َ} :‬وُروٌح ّمْنُه{‪ ،‬وقوله‪َ} :‬جِميًعا ّمْنُه{ ونحو ذلك ‪.‬‬

‫ل قديمة‪ ،‬وأن روح ‪/‬بني آدم بعض تلك الصفة‪ ،‬ولم تدل الية‬
‫وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن المر صفة ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أعلم ‪.‬‬
‫على واحد من المقدمتين‪ ،‬وا ّ‬

‫ن َأْمِرَنا{ ]الشورى‪ ،[52:‬وقوله‪َ} :‬كَت َ‬


‫ب‬ ‫حا ّم ْ‬
‫ك ُرو ً‬
‫حْيَنا ِإَلْي َ‬ ‫وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر‪ ،‬كقوله‪َ} :‬وَكَذِل َ‬
‫ك َأْو َ‬
‫ل كلمه‪ ،‬ولكن ليس الكلم في هذا‬ ‫ِفي ُقُلوِبِهُم اِْليَماَن َوَأّيَدُهم ِبُروٍح ّمْنُه{ ]المجادلة‪ ،[22:‬ونحو ذلك‪ .‬فالقرآن الذي أنزله ا ّ‬
‫مما يتعلق بالسؤال‪.‬‬

‫ل أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما؟ فليس هذا من خصائص الكلم في الروح‪،‬‬ ‫وأما قول السائل‪ :‬هل المفوض إلى ا ّ‬
‫عْلٌم ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ك ِبِه ِ‬ ‫س َل َ‬‫ف َما َلْي َ‬
‫ل َتْق ُ‬ ‫ل ما ل يعلم‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬و َ‬ ‫بل ل يجوز لحد أن يقفو ما ليس له به علم‪ ،‬ول يقول على ا ّ‬
‫ج ِلِعَباِدِه‬
‫خَر َ‬‫ي َأ ْ‬
‫ل اّلِت َ‬
‫حّرَم ِزيَنَة ا ّ‬
‫ن َ‬ ‫ل{ ]السراء‪ ،[36:‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َم ْ‬ ‫سُؤو ً‬ ‫عْنُه َم ْ‬‫ن َ‬ ‫ك َكا َ‬‫ل ُأولـِئ َ‬‫صَر َواْلُفَؤاَد ُك ّ‬‫سْمَع َواْلَب َ‬
‫ال ّ‬
‫ت ِلَقْوٍم َيْعَلُموَن{ ]العراف‪،[33:‬‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫صُ‬‫ك ُنَف ّ‬ ‫صًة َيْوَم اْلِقَياَمِة َكذَِل َ‬‫خاِل َ‬
‫حَياِة الّدْنَيا َ‬
‫ن آَمُنوْا ِفي اْل َ‬ ‫ل ِهي ِلّلِذي َ‬ ‫ق ُق ْ‬
‫ن الّرْز ِ‬ ‫ت ِم َ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫َواْل ّ‬
‫ق{ ]العراف‪ ،[169:‬وقد قالت الملئكة لما قال‬ ‫حّ‬ ‫ل اْل َ‬‫ل ِإ ّ‬‫عَلى ا ّ‬ ‫ل ِيُقوُلوْا َ‬‫ب َأن ّ‬ ‫ق اْلِكَتا ِ‬
‫عَلْيِهم ّميَثا ُ‬
‫خْذ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬أَلْم ُيْؤ َ‬
‫ت اْلَعِليُم اْلَحِكيُم{ ]البقرة‪،[32 ،31:‬‬ ‫ك َأن َ‬‫عّلْمَتَنا ِإّن َ‬
‫ل َما َ‬ ‫عْلَم َلَنا ِإ ّ‬
‫ل ِ‬ ‫ك َ‬‫حاَن َ‬
‫سْب َ‬
‫ن َقاُلوْا ُ‬‫صاِدِقي َ‬
‫سَماء َهـُؤلء ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫لهم‪َ} :‬أنِبُئوِني ِبَأ ْ‬
‫ت ُرْشًدا{ ]الكهف‪ ،[66:‬وقال الخضر لموسى ـ لما نقر‬
‫عّلْم َ‬
‫ن ِمّما ُ‬
‫عَلى َأن ُتَعّلَم ِ‬
‫ك َ‬ ‫وقد قال موسى للخضر‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل َأّتِبُع َ‬
‫ل‪ ،‬إل كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‪.‬‬‫العصفور في البحر ـ‪ :‬ما نقص علمي وعلمك من علم ا ّ‬

‫‪ /‬وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬ل في ذاتها ول في‬
‫صفاتها‪ ،‬وأما الكلم بغير علم فذلك محرم في كل شيء‪ ،‬ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬سلوه عن الروح‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ل تسألوه فيسمعكم ما‬
‫ل هذه الية‪.‬‬
‫تكرهون‪ ،‬قال‪ :‬فسألوه وهو متكئ على العسيب ]العسيب‪ :‬جريدة من النخل[‪ ،‬فأنزل ا ّ‬

‫فبين بذلك أن ملك الرب عظيم‪ ،‬وجنوده‪ ،‬وصفة ذلك‪ ،‬وقدرته أعظم من أن يحيط به الدميون‪ ،‬وهم لم يؤتوا من العلم‬
‫ل‪ ،‬فل يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ول كل ما في الوجود‪ ،‬فما يعلم جنود ربك إل‬
‫إل قلي ً‬
‫هو‪.‬‬

‫ل ـ عن قائل يقول‪ :‬إن لم يتبين لي حقيقة ماهية الجن وُكْنه صفاتهم‪ ،‬وإل فل أتبع العلماء في‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شي ُ‬
‫سئل ال ّ‬
‫شيء‪.‬‬

‫فأجــاب‪ :‬أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم‪ ،‬فهذا ليس فيه إل إخباره بعدم علمه‪ ،‬لم ينكر وجودهم؛ إذ‬
‫وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دللة الكتاب والسنة‪ ،‬فإن من الناس من رآهم‪ ،‬وفيهم من رأى من رآهم‪ ،‬وثبت ذلك‬
‫عنده بالخبر واليقين‪.‬‬

‫ومن الناس من كلمهم وكلموه‪ ،‬ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم‪ ،‬وهذا يكون للصالحين وغير‬
‫الصالحين‪ ،‬ولو ذكرت ما جرى لي ولصحابي معهم لطال الخطاب‪.‬‬

‫وكذلك ما جرى لغيرنا‪ ،‬لكن العتماد على الجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه‪ ،‬ل يكون بما يختص‬
‫بعلمه المجيب‪ ،‬إل أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به‪.‬‬

‫ل ـ عن الجان المؤمنين‪ :‬هل هم مخاطبون بفروع السلم كالصوم والصلة‪ ،‬وغير ذلك‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شْي ُ‬
‫سئل ال ّ‬ ‫‪/‬‬
‫من العبادات‪ ،‬أوهم مخاطبون بنفس التصديق ل غير ؟‬

‫جـــاب‪ :‬ل ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق‪ ،‬ومنهيون عن أعمال غير التكذيب‪ ،‬فهم مأمورون‬ ‫فأ َ‬
‫بالصول والفروع بحسبهم‪ ،‬فإنهم ليسوا مماثلي النس في الحد والحقيقة‪ ،‬فل يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوًيا لما‬
‫على النس في الحد‪ ،‬لكنهم مشاركون النس في جنس التكليف بالمر والنهي‪ ،‬والتحليل والتحريم‪ .‬وهذا ما لم أعلم‬
‫عا بين المسلمين‪.‬‬
‫فيه نزا ً‬

‫وكذلك لم يتنازعوا أن أهل الكفر والفسوق والعصيان منهم يستحقون لعذاب النار‪ ،‬كما يدخلها من الدميين‪ ،‬لكن‬
‫تنازعوا في أهل اليمان منهم‪ ،‬فذهب الجمهور من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد‪ :‬إلى أنهم‬
‫يدخلون الجنة‪ .‬وروى في حديث رواه الطبراني‪:‬أنهم يكونون في َرَبضِ الجنة ]َرَبض الجنة‪ :‬أي ما حولها خارجا‬
‫عنها[‪ ،‬يراهم النس من حيث ل يرونهم‪.‬‬

‫‪ /‬وذهب طائفةـ منهم أبو حنيفة فيما نقل عنه ـ إلى أن المطيعين منهم يصيرون تراًبا كالبهائم‪ ،‬ويكون ثوابهم النجاة‬
‫من النار‪.‬‬

‫وهل فيهم رسل أم ليس فيهم إل نذر؟ على قولين‪:‬‬

‫س َأَلْم َيْأِتُكْم ُرُسٌل ّمنُكْم{ ]النعام‪.[130 :‬‬


‫لن ِ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬ ‫فقيل‪ :‬فيهم رسل لقوله تعالى‪َ}:‬يا َمْع َ‬
‫شَر اْل ِ‬

‫وقيل‪ :‬الرسل من النس‪ ،‬والجن فيهم النذر‪ ،‬وهذا أشهر‪ ،‬فإنه أخبر عنهم باتباع دين محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنهم‬
‫سى{الية ]الحقاف‪ [30، 29:‬قالوا‪ :‬وقوله‪َ}:‬أَلْم َيْأِتُكْم‬
‫ل ِمن َبْعِد ُمو َ‬
‫سِمْعَنا ِكَتاًبا ُأنِز َ‬
‫ن َقاُلوا َيا َقْوَمَنا ِإّنا َ‬
‫}َوّلْوا ِإَلى َقْوِمِهم ّمنِذِري َ‬
‫ن‬
‫ل اْلَقَمَر ِفيِه ّ‬ ‫نٍ{ ]الرحمن‪ ،[22 :‬وإنما يخرج من المالح‪ ،‬وكقوله‪َ} :‬و َ‬
‫جَع َ‬ ‫جا ُ‬
‫ج ِمْنُهَما الّلْؤُلُؤ َواْلَمْر َ‬ ‫ل ّمنُكْم{؟ كقوله‪َ} :‬ي ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫سٌ‬‫ُر ُ‬
‫س ِسَراًجا{ ]نوح‪ [16:‬والقمر في واحدة‪.‬‬ ‫شْم َ‬
‫ل ال ّ‬
‫جَع َ‬
‫ُنوًرا َو َ‬

‫ل بن مسعود عن النبي‬ ‫وأما التكليف بالمر والنهي والتحليل والتحريم‪ ،‬فدلئله كثيرة‪ ،‬مثل ما في مسلم عن عبد ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬أتاني داعي الجن‪ ،‬فذهبت معه‪ ،‬فقرأت عليهم القرآن‪ ،‬فانطلقوا( فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم‪،‬‬
‫ل عليه يقع في أيديكم‪ ،‬أوفر ما يكون‪ ،‬وكل بعرة علف لدوابكم(‪ ،‬فقال‬ ‫ظم ذكر اسم ا ّ‬
‫ع ْ‬
‫وسألوه الزاد فقال‪) :‬لكم كل َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تستنجوا بالعظم والروث( وذلك لئل يفسد عليهم طعامهم وعلفهم‪ ،‬وهذا يبين أن ما‬
‫ل عليه‪.‬‬
‫ل عليه دون ما لم يذكر اسم ا ّ‬‫أباح لهم من ذلك ما ذكر اسم ا ّ‬

‫ب{ ]النفال‪ [48:‬فأخبر عن‬


‫شِديُد اْلِعَقا ِ‬
‫ل َ‬
‫ل َوا ّ‬
‫فا ّ‬
‫خا ُ‬ ‫عَماَلُهْم{ إلى قوله‪ِ} :‬إّن َ‬
‫ي َأ َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫طا ُ‬
‫شْي َ‬ ‫‪ /‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإْذ َزّي َ‬
‫ن َلُهُم ال ّ‬
‫ل‪ ،‬والعقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور‪ ،‬وليس هو هنا التصديق‪.‬‬ ‫الشيطان أنه يخاف ا ّ‬

‫ل أمره‪ ،‬ولم يكن‬


‫ل أمره بالسجود‪ ،‬وقد علم أن ا ّ‬
‫ضا‪ ،‬فإبليس ـ الذي هو أبو الجن ـ لم تكن معصيته تكذيًبا؛ فإن ا ّ‬‫وأي ً‬
‫ل العقوبة البليغة؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه‬
‫ل رسول يكذبه‪ ،‬ولما امتنع عن السجود لدم عاقبه ا ّ‬ ‫بينه وبين ا ّ‬
‫ن آدَم اعتزل الشيطان يبكي( الحديث‪.‬‬
‫جد اب ُ‬
‫سَ‬
‫وسلم‪) :‬إذا َ‬

‫سِعيِر{ ]سبأ‪[12 :‬‬ ‫ب ال ّ‬


‫عَذا ِ‬ ‫وقد قال ـ تعالى ـ في قصة سليمان‪َ} :‬وِلُسَلْيَماَن الّريَح ُغُدّوَها َشْهٌر َوَرَواُحَها َشْهٌر{ إلى قوله‪َ } :‬‬
‫وقد جعل فى ذلك ما أمرهم به من طاعة سليمان‪ ،‬وقد قال ـ تعالى ـ عن إبليس‪ :‬إنه عصى ولم يقل‪ :‬كذب‪ ،‬وقد قال ـ‬
‫ض{‬
‫لْر ِ‬‫جٍز ِفي ا َْ‬
‫س ِبُمْع ِ‬
‫ل َفَلْي َ‬
‫ي ا ِّ‬
‫عَ‬‫ب َدا ِ‬
‫ج ْ‬ ‫سى{ إلى قوله‪َ} :‬وَمن ّ‬
‫ل ُي ِ‬ ‫ل ِمن َبْعِد ُمو َ‬ ‫تعالى ـ عن الجن‪َ} :‬يا َقْوَمَنا ِإّنا َ‬
‫سِمْعَنا ِكَتاًبا ُأنِز َ‬
‫ل‪ ،‬الذي هو الرسول‪ .‬والجابة والستجابة هي طاعة المر والنهي‪،‬‬ ‫الية ]الحقاف‪ ،[30-32:‬فأمروا بإجابة داعي ا ّ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات‪. [56:‬‬ ‫لن َ‬
‫ن َوا ِْ‬
‫جّ‬
‫ت اْل ِ‬ ‫وهي العبادة التي خلق لها الثقلن‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬

‫ومن قال‪] :‬إن العبادة[ هي المعرفة الفطرية الموجودة فيها‪ ،‬وأن ذلك هو اليمان وهو داخل في الثقلين فقط‪ ،‬فإن ذلك‬
‫جَهّنَم‬
‫ن َ‬
‫لّ‬ ‫ل أخبر بكفر إبليس وغيره من الجن والنس‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ }/ :‬‬
‫لْم َ‬ ‫لو كان كذلك لم يكن في الثقلين كافر‪ ،‬وا ّ‬
‫ك ِمْنُهْم َأْجَمِعيَن{ ]ص‪ [85:‬وأخبر أنه يملؤها منه ومن أتباعه‪ ،‬وهذا يبين أنه ل يدخلها إل من اتبعه‪ ،‬فعلم‬
‫ك َومِّمن َتِبَع َ‬
‫ِمن َ‬
‫ل معرفة يكونون‬ ‫أن من يدخلها من الكفار والفساق من أتباع إبليس‪ .‬ومعلوم أن الكفار ليسوا بمؤمنين‪ ،‬ول عارفين ا ّ‬
‫بها مؤمنين‪.‬‬

‫ل ُيِريُد ِبُكُم‬
‫سَر َو َ‬ ‫ولكن اللم لبيان الجملة الشرعية‪ ،‬المتعلقة بالرادة الشرعية‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ُ} :‬يِريُد ا ّ‬
‫ل ِبُكُم اْلُي ْ‬
‫ل ِلُيَبّيَن َلُكْم{ الية ]النساء‪.]26:‬‬
‫سَر{ ]البقرة‪ ،[185 :‬وقوله‪ُ} :‬يِريُد ا ّ‬
‫اْلُع ْ‬

‫لِم{ الية ]النعام‪ ، [125:‬وهذا‬ ‫سَ‬‫لْ‬


‫صْدَرهُ ِل ِ‬
‫ح َ‬ ‫شَر ْ‬ ‫وقد تكون لبيان العاقبة الكونية كما في قوله‪َ} :‬فَمن ُيِرِد ا ّ‬
‫ل َأن َيْهِدَيُه َي ْ‬
‫ك َخَلَقُهْم{ ]هود‪ [119 ،118 :‬أي خلق قوًما للختلف‪ ،‬وقوًما‬ ‫ك َوِلَذِل َ‬‫حَم َرّب َ‬‫ل َمن ّر ِ‬ ‫ن ِإ ّ‬
‫خَتِلِفي َ‬
‫ن ُم ْ‬‫ل َيَزاُلو َ‬ ‫ى‪َ}‌ :‬و َ‬
‫كقوله تعال ‌‬
‫جّ‬
‫ن‬ ‫ت اْل ِ‬ ‫س{ ]العراف‪ ،[179:‬فاللم في قوله تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫خَلْق ُ‬ ‫لن ِ‬ ‫ن َوا ِ‬‫جّ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫جَهّنَم َكِثيًرا ّم َ‬ ‫للرحمة‪ ،‬وقال‪َ}:‬وَلَقْد َذَرْأَنا ِل َ‬
‫س ِإّل ِلَيْعُبُدوِن{ ]الذاريات‪ ،[56:‬وإن كانت هي اللم في هذه الية‪ ،‬فإن مدلولها لم إرادة الفاعل ومقصوده‪ ،‬ولهذا‬ ‫لن َ‬
‫َوا ِْ‬
‫ل ـ تعالى ـ الكلمات والمر والحكم‬ ‫ل إلى إرادة دينية‪ ،‬وإرادة كونية‪ ،‬كما تنقسم في كتـاب ا ّ‬ ‫تنقسم في كتاب ا ّ‬
‫والقضاء‪ ،‬والتحريم والذن‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬

‫صوَن عََلْيُكْم آَياِتي َوُينِذُروَنُكْم ِلَقاء َيْوِمُكْم َهـَذا{ إلى قوله‪:‬‬


‫ل ّمنُكْم َيُق ّ‬
‫سٌ‬‫س َأَلْم َيْأِتُكْم ُر ُ‬
‫لن ِ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬ ‫ضا‪ ،‬فقوله تعالى‪َ} :‬يا َمْع َ‬
‫شَر اْل ِ‬ ‫وأي ً‬
‫ل؛ ولهذا لما‬‫}َوَشِهُدوْا َعَلى َأنُفِسِهْم َأّنُهْم َكاُنوْا َكاِفِريَن{ ]النعام‪ ،[130 :‬فبين أن الثقلين جميًعا تلت عليهم الرسل آيات ا ّ‬
‫ل لما فيه‬
‫ن كانوا ‪ (...‬الحديث‪ .‬دعاهم إلى طاعة ا ّ‬ ‫جّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم سورة على الصحابة قال‪َ) :‬لْل ِ‬ ‫قرأ رسول ا ّ‬
‫من المر والنهي‪ ،‬ل إلى مجرد حديث ل طاعة معه‪ ،‬فإن مثل هذا التصديق‪ ،‬كان مع إبليس‪ ،‬فلم يغن عنه من ا ّ‬
‫ل‬
‫شيًئا‪.‬‬

‫والدلئل الدالة على هذا الصل‪ ،‬وما في الحديث والثارـ من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون‪ ،‬وأنهم يعاقبون‬
‫على الذنب ـ كثيرة جًدا ‪.‬‬
‫ق ِقَدًدا{ ]الجن‪ [11:‬قالوا‪ :‬مذاهب شتى؛‬
‫طَراِئ َ‬
‫ك ُكّنا َ‬
‫ن َذِل َ‬
‫ن َوِمّنا ُدو َ‬
‫حو َ‬ ‫وقد قال ـ تعالى ـ فيما أخبر عنهم‪َ} :‬وَأّنا ِمّنا ال ّ‬
‫صاِل ُ‬
‫مسلمين‪ ،‬ويهود‪ ،‬ونصارى‪ ،‬وشيعة‪ ،‬وسنة‪.‬‬

‫فأخبر أن منهم الصالحين‪ ،‬ومنهم دون الصالحين‪ ،‬فيكون‪ :‬إما مطيًعا في ذلك فيكون مؤمنا‪ ،‬وإما عاصًيا في ذلك‬
‫فيكون كافًرا‪ ،‬ول ينقسم مؤمن إلى صالح وإلى غير صالح؛ فإن غير الصالح ل يعتقد صلحه لترك الطاعات‪،‬‬
‫فالصالح هو القائم بما وجب‪.‬‬

‫ل ـ عن حديث النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن النطفة تكون أربعين يوًما نطفة‪ ،‬ثم أربعين يوًماعلقة‪،‬‬‫حِمَه ا ُّ‬
‫ل ـ َر ِ‬
‫سِئ َ‬
‫‪ُ/‬‬
‫ثم أربعين مضغة‪ ،‬ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل( ثم ورد عن حذيفة بن أسيد‪) :‬أنه إذا مر للنطفة اثنتان‬
‫ل ـ تعالى ـ إليها ملًكا فصورها‪ ،‬وخلق سمعها وبصرها‪ ،‬وجلدها ولحمها‪ ،‬وعظامها‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يا‬ ‫وأربعون ليلة بعث ا ّ‬
‫رب‪ ،‬أذكر‪ ،‬أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق وما الجل؟( وذكر الحديث‪ ،‬فما الجمع بين الحديثين؟‬

‫ل بن مسعود قال‪ :‬حدثنا رسول الّ‬ ‫ل رب العالمين‪ ،‬أما الحديث الول‪ ،‬فهو في الصحيحين عن عبد ا ّ‬ ‫جـــاب‪ :‬الحمد ّ‬
‫فأ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق‪) :‬إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوًما نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة‬
‫مثل ذلك‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح‪ ،‬ويؤمر بأربع كلمات‪ :‬بكتب رزقه‪ ،‬وأجله‪،‬‬
‫وعمله‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ .‬فوالذي ل إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ‪،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‪/ ،‬‬
‫فيسبق عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ‪،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل‬
‫ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها(‬

‫ل ملًكا ويؤمر بأربع كلمات‪ ،‬ويقال‪ :‬اكتب عمله‪ ،‬وأجله‪ ،‬ورزقه‪ ،‬وشقي أو‬
‫وفي طريق آخر‪ :‬وفي رواية‪) :‬ثم يبعث ا ّ‬
‫سعيد‪ .‬ثم ينفخ فيه الروح(‪ .‬فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون‪ ،‬لكن فيه أن الملك يكتب رزقه‬
‫وأجله‪ ،‬وعمله وشقي أو سعيد‪ ،‬قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة‪.‬‬

‫ل عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول‪ :‬أي‬ ‫وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال‪) :‬إن ا ّ‬
‫ل أن يقضي خلقها قال الملك‪ :‬أي رب‪ ،‬ذكر أم أنثى ؟ شقي أو‬‫رب نطفة‪ ،‬أي رب علقة‪ ،‬أي رب مضغة‪ ،‬فإذا أراد ا ّ‬
‫سعيد ؟ فما الرزق فما الجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه(‪ .‬فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة‪.‬‬

‫وأما حديث حذيفة بن أسيد‪ ،‬فهو من أفراد مسلم‪ ،‬ولفظه‪ :‬سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬إذا مر بالنطفة‬
‫ل إليها ملًكا‪ ،‬فصورها‪ ،‬وخلق سمعها وبصرها‪ ،‬وجلدها ولحمها وعظامها‪ .‬ثم يقول‪ :‬يا‬‫ثنتان وأربعون ليلة‪ ،‬بعث ا ّ‬
‫رب‪ ،‬أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء‪ ،‬ويكتب الملك‪ ،‬ثم يقول‪ :‬يارب‪ ،‬رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛‬
‫ثم يقول‪ :‬يا رب‪ ،‬أجله؟ فيقضي‪ /‬ربك ما شاء‪ ،‬ويكتب الملك‪ ،‬ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده‪ ،‬فل يزيد على ما أمر‬
‫ول ينقص(‪.‬‬

‫فهذا الحديث‪ ،‬فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة‪ ،‬وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها‪ ،‬وجلدها ولحمها‬
‫وعظامها‪ ،‬يقول الملك‪ :‬يا رب‪ ،‬أذكر أم أنثى؟ ومعلوم أنها ل تكون لحما وعظاًما حتى تكون مضغة‪ ،‬فهذا موافق لذلك‬
‫الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك‪ ،‬إل أن يقال‪ :‬المراد تقدير اللحم والعظام‪.‬‬

‫ضا ـ عن حذيفة‪ ،‬سمعت‬ ‫وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض‪ ،‬فمن ذلك ما رواه مسلم ـ أي ً‬
‫سّوُر عليها الذي يخّلقها فيقول‪ :‬يا‬‫ل صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة‪ ،‬ثم َيَت َ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ سوًيا أو‬
‫ى ؟ فيجعله ا ّ‬‫ى‪ ،‬أو غير سَو ّ‬ ‫ل ذكًرا‪ ،‬أو أنثى‪ .‬ثم يقول‪ :‬يا رب‪ ،‬سَو ّ‬‫رب‪ ،‬أذكر‪ ،‬أم أنثى؟ فيجعله ا ّ‬
‫سّوُر عليها‪ ،‬أي‪ :‬ينزل عليها[‪.‬‬ ‫ل شقًيا أو سعيًدا( ]َيَت َ‬
‫غير سوي ثم يقول‪ :‬يا رب‪ ،‬ما أجله وخلقه؟ ثم يجعله ا ّ‬

‫فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله‪ ،‬وشقاوته وسعادته‪ ،‬بعد أن يجعله ذكًرا أو أنثى‪ ،‬وسوًيا‪ ،‬أو غير سوي‪.‬‬

‫وفي لفظ لمسلم قال‪) :‬يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة‪ .‬فيقول‪ :‬يا‬
‫رب‪ ،‬أشقي‪ ،‬أو سعيد ؟ فيكتب‪ .‬يا رب‪ ،‬أذكر‪ ،‬أم أنثى ؟ فيكتب رزقه‪ ،‬ويكتب عمله‪ ،‬وأثره‪ ،‬وأجله‪ / ،‬ثم تطوى‬
‫الصحف فل يزاد فيها ول ينقص( فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة‪ ،‬ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث‬
‫مضت الربعون‪.‬‬

‫ولكن هذا اللفظ لم يحفظه رواته كما حفظ غيره‪.‬‬

‫ولهذا شك‪ :‬أَبْعَد الربعين‪ ،‬أو خمس وأربعين؟ وغيره إنما ذكر أربعين‪ ،‬أو اثنين وأربعين‪ ،‬وهو الصواب ؛ لن من‬
‫ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان‪ ،‬ومن قال‪ :‬أربعين حذفهما‪ ،‬ومثل هذا كثير في ذكر الوقات‪ ،‬فقدم المؤخر‬
‫وأخر المقدم‪ .‬أو يقال‪ :‬إنه لم يذكر ذلك بحرف ]ثم[ فل تقتضي ترتيًبا‪ ،‬وإنما قصد أن هذه الشياء تكون بعد الربعين‪.‬‬

‫وحينئذ فيقال‪ :‬أحد المرين لزم‪ ،‬إما أن تكون هذه المور عقيب الربعين‪ ،‬ثم تكون عقب المائة والعشرين‪ ،‬ول‬
‫محذور في الكتابة مرتين‪ ،‬ويكون المكتوب أول فيه كتابة الذكر والنثى‪ .‬أو يقال‪ :‬إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق‬
‫الضبط‪.‬‬

‫حا‪ ،‬ويقع في‬‫ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه‪ ،‬ولهذا أعرض البخاري عن روايته‪ ،‬وقد يكون أصل الحديث صحي ً‬
‫بعض ألفاظه اضطراب‪ ،‬فل يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه‪ ،‬الذي لم تختلف‬
‫ألفاظه‪ ،‬بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح‪ ،‬فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه‪ :‬إما أن يكون‬
‫موافًقا له في الحقيقة‪ ،‬وإما أن يكون‪ /‬غير محفوظ‪ ،‬فل معارضة‪ ،‬ول ريب أن ألفاظه لم تضبط‪ ،‬كما تقدم ذكر‬
‫الختلف فيها‪ ،‬وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الجل والعمل‪ ،‬و الشقاوة والسعادة‪ ،‬وغاية ما يقال‬
‫فيه‪ :‬إنه يقتضي أنه قد يخلق في الربعين الثانية قبل دخوله في الربعين الثالثة‪ ،‬وهذا ل يخالف الحديث الصحيح‪ ،‬ول‬
‫نعلم أنه باطل‪ ،‬بل قد ذكر النساء‪ :‬أن الجنين يخلق بعد الربعين‪ ،‬وأن الذكر يخلق قبل النثى‪.‬‬

‫وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء‪ :‬إن الجنين ل يخلق في أقل من واحد وثمانين يوًما‪ ،‬فإن هذا إنما بنوه على أن‬
‫التخليق إنما يكون إذا صار مضغة‪ ،‬ول يكون مضغة إل بعد الثمانين‪ ،‬والتخليق ممكن قبل ذلك‪ ،‬وقد أخبر به من‬
‫ل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬ ‫ل أعلم‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫أخبر من النساء‪ ،‬ونفس العلقة يمكن تخليقها‪ ،‬وا ّ‬

‫ل أنه سائر إليه‪ :‬معلوم‬


‫ل ـ رًدا لقول من قال‪ :‬كل مولود على ما سبق له في علم ا ّ‬
‫سلِم ـ َرحمُه ا ُّ‬
‫لْ‬‫خا ِ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫وقا َ‬ ‫‪/‬‬
‫ل لها‪ ،‬وحينئذ فيكون كل مخلوق‬ ‫أن جميع المخلوقات بهذه المثابة‪ ،‬فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم ا ّ‬
‫مخلوًقا على الفطرة‪.‬‬

‫سانه( معنى‪ ،‬فإنهما فعل به ما هو الفطرة‬ ‫جَ‬


‫صرانه وُيَم ّ‬
‫ضا‪ ،‬فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله‪) :‬فأبواه ُيَهّودانه وُيَن ّ‬
‫وأي ً‬
‫التي ولد عليها‪ ،‬فل فرق بين التهويد والتنصير‪ .‬ثم قال‪ :‬فتمثيله صلى ال عليه وسلم بالبهيمة التي ولدت جََمعاء‪ ،‬ثم‬
‫جدعت‪ :‬يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه‪.‬‬

‫ثم يقال‪ :‬وقولكم‪ :‬خلقوا خالين من المعرفة والنكار‪ ،‬من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحًدا منهما‪ ،‬بل يكون القلب‬
‫كاللوح الذي يقبل كتابة اليمان والكفر‪ ،‬وليس هو لحدهما أقبل منه للخر‪ ،‬فهذا قول فاسد جًدا‪.‬‬

‫‪ /‬فحينـئذ‪ ،‬ل فـرق بالنسبة إلى الفطـرة بين المعـرفة والنكار‪ ،‬والتهويد والتنصير‪ ،‬والسلم‪ ،‬وإنما ذلك بحسب‬
‫السباب‪ ،‬فكان ينبغي أن يقال‪ :‬فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه‪ ،‬فلما ذكر أن أبويه يكفرانه‪ ،‬وذكر الملل الفاسدة‬
‫دون السلم‪ ،‬علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر‪.‬‬

‫ل تعالى يقول‪َ} :‬فَأِقْم َو ْ‬


‫جَه َ‬
‫ك‬ ‫حا ول ذًما‪ ،‬وا ّ‬
‫ل للمدح والذم على السواء‪ ،‬ل يستحق مد ً‬ ‫ثم قال‪ :‬ففي الجملة كل ما كان قاب ً‬
‫س َعَلْيَها{ ]الروم‪.[30:‬‬
‫طَر الّنا َ‬
‫ل اّلِتي َف َ‬
‫طَرَة ا ِّ‬
‫ن حَِنيًفا ِف ْ‬
‫ِللّدي ِ‬

‫جْدع النف‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق‪ ،‬وشبه ما يطرأ عليها من الكفر ب َ‬
‫وأي ً‬
‫ل أعلم‪.‬‬‫ومعلوم أن كمالها محمود‪ ،‬ونقصها مذموم‪ ،‬فكيف تكون قبل النقص ل محمودة ول مذمومة؟ وا ّ‬
‫عن َقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة( ما معناه؟ أراد فطرة الخلق أم فطرة‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫السلم؟ وفي قوله‪) :‬الشقي من شقي في بطن أمه( الحديث‪ .‬هل ذلك خاص أو عام‪ .‬وفي البهائم والوحوش هل يحييها‬
‫ل يوم القيامة أم ل؟‬
‫ا ّ‬

‫ل؛ أما قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو‬‫فأجــاب‪ :‬الحمد ّ‬
‫ل التي فطر الناس عليها‪ ،‬وهي فطرة السلم‪ ،‬وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم‬ ‫يمجسانه(‪ :‬فالصواب أنها فطرة ا ّ‬
‫ت ِبَرّبُكْم َقاُلوْا َبَلى{ ]العراف‪ [172:‬وهي السلمة من العتقادات الباطلة‪ ،‬والقبول للعقائد الصحيحة‪.‬‬ ‫قال‪َ} :‬أَل ْ‬
‫س َ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم مثل‬


‫ل‪ ،‬وقد ضرب رسول ا ّ‬‫ل‪ ،‬ل لغيره‪ ،‬وهو معنى ل إله إل ا ّ‬‫فإن حقيقة السلم أن يستسلم ّ‬
‫ذلك فقال‪) :‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟(‪ :‬بين أن سلمة القلب من النقص كسلمة‬
‫البدن‪ ،‬وأن العيب حادث طارئ‪.‬‬

‫ل‪) :‬إني خلقت‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم فيما يروي عن ا ّ‬ ‫وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت ‪/‬عليهم ما أحللت لهم‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاًنا(؛‬
‫ل عنه ـ في المشهور عنه‪ :‬إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم‬ ‫ولهذا ذهب المام أحمد ـ رضي ا ّ‬
‫بإسلمه؛ لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة‪ .‬وقد روى عنه‪ ،‬وعن ابن المبارك‪ ،‬وعنهما‪ :‬أنهم قالوا‪ :‬يولد على‬
‫ل أنه سيكفر‪ ،‬فلبد أن‬ ‫ما فطر عليه من شقاوة وسعادة‪ .‬وهذا القول ل ينافى الول‪ ،‬فإن الطفل يولد سليما‪ ،‬وقد علم ا ّ‬
‫ل أنها ستجدع‪.‬‬
‫يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب‪ ،‬كما تولد البهيمة جمعاء‪ ،‬وقد علم ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم في‬ ‫ل عنهما ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬ ‫وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫ل في أم الكتاب‪،‬‬
‫الغلم الذي قتله الخضر‪) :‬طبع يوم طبع كافًرا‪ ،‬ولو ترك لرهق أبويه طغياًنا وكفًرا( يعني‪ :‬طبعه ا ّ‬
‫أي‪ :‬كتبه وأثبته كافًرا‪ ،‬أي أنه إن عاش كفر بالفعل‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال‪) :‬الّ أعلم بما كانوا‬ ‫ولهذا لما سئل رسول ا ّ‬
‫ل يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا‪ ،‬ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة ـ‬ ‫عاملين( أي‪ :‬ا ّ‬
‫ل في‬‫ل يمتحنهم ويبعث إليهم رسو ً‬ ‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا كان يوم القيامة فإن ا ّ‬
‫رضي ا ّ‬
‫ل سبحانه‪ ،‬ويجزيهم‬ ‫صة القيامة‪ ،‬فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار( فهنالك يظهر فيهم ما علمه ا ّ‬‫عْر َ‬
‫َ‬
‫على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم‪ ،‬ل على مجرد العلم‪.‬‬

‫‪ /‬وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين‪ ،‬وعليه تتنزل جميع الحاديث ‪.‬‬

‫ومثل الفطرة مع الحق‪ ،‬مثل ضوء العين مع الشمس‪ ،‬وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس‪ ،‬والعتقادات‬
‫ضا كل ذي حس‬‫الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس‪ ،‬مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس‪ ،‬وكذلك أي ً‬
‫سليم يحب الحلو‪ ،‬إل أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مًرا‪.‬‬

‫ل أخرجنا من بطون‬‫ول يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولدة معتقدين للسلم بالفعل‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫أمهاتنا ل نعلم شيًئا‪ ،‬ولكن سلمة القلب وقبوله وإرادته للحق‪ ،‬الذي هو السلم‪ ،‬بحيث لو ترك من غير مغير‪ ،‬لما‬
‫كان إل مسلًما‪.‬‬

‫ل التي فطر الناس عليها‪.‬‬


‫وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها السلم ما لم يمنعها مانع‪ ،‬هي فطرة ا ّ‬

‫وأما الحديث المذكور‪ ،‬فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول‪ :‬الشقي من شقى في بطن أمه‪ ،‬والسعيد من وعظ بغيره‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق‪) :‬إن‬ ‫ل بن مسعود قال‪ :‬حدثنا رسول ا ّ‬‫وفي الصحيحين عن عبد ا ّ‬
‫أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوًما نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك‪ / ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يبعث إليه‬
‫الملك فيؤمر بأربع كلمات‪ ،‬فيقال‪:‬اكتب رزقه وأجله‪ ،‬وعمله وشقي أو سعيد‪ .‬ثم ينفخ فيه الروح(‪.‬‬
‫ل ـ سبحانه بعلمه الذي هو صفة له ـ الشقي من عباده والسعيد‪ ،‬وكتب ـ‬ ‫وهذا عام في كل نفس منفوسة‪ ،‬قد علم ا ّ‬
‫سبحانه ـ ذلك في اللوح المحفوظ‪ ،‬ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود‪ ،‬ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه‪ ،‬إلى‬
‫ل ليس هذا موضعها‪ ،‬ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر‪.‬‬ ‫كتب أخرى يكتبها ا ّ‬

‫طاِئرٍ‬
‫ل َ‬‫ض َو َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫ل ـ سبحانه ـ كما دل عليه الكتاب والسنة‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وَما ِمن َدآّبٍة ِفي ا َ‬ ‫وأما البهائم فجميعها يحشرها ا ّ‬
‫حو ُ‬
‫ش‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[38:‬وقال تعالى‪َ} :‬وِإَذا اْلُو ُ‬ ‫شُرو َ‬‫حَ‬
‫يٍء ُثّم ِإَلى َرّبِهْم ُي ْ‬
‫ش ْ‬‫ب ِمن َ‬ ‫طَنا ِفي الِكَتا ِ‬
‫ل ُأَمٌم َأْمَثاُلُكم ّما َفّر ْ‬
‫حْيِه ِإ ّ‬
‫طيُر ِبجََنا َ‬
‫َي ِ‬
‫شاء‬
‫جْمِعِهْم ِإَذا َي َ‬
‫عَلى َ‬‫ث ِفيِهَما ِمن َداّبٍة َوُهَو َ‬
‫ض َوَما َب ّ‬
‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َْ‬ ‫سَماَوا ِ‬
‫ق ال ّ‬ ‫خْل ُ‬ ‫ت{ ]التكوير‪ ،[5 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وِم ْ‬
‫ن آَياِتِه َ‬ ‫شَر ْ‬‫حِ‬‫ُ‬
‫َقِديٌر{ ]الشورى‪ [29:‬وحرف ]إذا[ إنما يكون لما يأتي ل محالة‪.‬‬

‫ل ـ عز وجل ـ يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض‪ ،‬ثم يقول لها‪:‬‬ ‫والحاديث في ذلك مشهورة‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫ت ُتَراًبا{ ]النبأ‪ .[40:‬ومن قال‪ :‬إنها ل تحيا فهو مخطئ في‬
‫كوني تراًبا‪ ،‬فتصير تراًبا‪ .‬فيقول الكافر حينئذ‪َ} :‬يا َلْيَتِني ُكن ُ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ذلك أقبح خطأ‪ ،‬بل هو ضال أو كافر‪ ،‬وا ّ‬

‫ل‪) :‬كل مولود يولد على الفطرة(‪ ،‬فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها‬ ‫ضا ـ رحمه ا ّ‬‫وقال أي ً‬ ‫‪/‬‬
‫ل‪ ،‬وإل فكل ما أحبه المحب يجد من نفسه أن قلبه يطلب سواه‪ ،‬ويحب أمًرا‬ ‫ومراداتها ما تطمئن إليه‪ ،‬وتنتهي إليه إل ا ّ‬
‫ب{ ]الرعد‪:‬‬
‫ن اْلُقُلو ُ‬
‫طَمِئ ّ‬
‫ل َت ْ‬ ‫غيره يتألهه ويصمد إليه‪ ،‬ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من أجناسه؛ ولهذا قال‪َ} :‬أ َ‬
‫ل ِبِذْكِر ا ّ‬
‫‪.[28‬‬

‫حُه‪:‬‬
‫ل ُرو َ‬
‫س ا ُّ‬
‫لِم ـ َقّد َ‬
‫سَ‬‫لْ‬
‫خا ِ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ /‬قا َ‬

‫َفصــل‬

‫ل الحفظة الموكلين ببني آدم‪ ،‬الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم‪ ،‬في مواضع من كتابه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وُهَو اّلِذي‬ ‫ذكر ا ّ‬
‫عَلْيُكم‬
‫ل َ‬
‫سُ‬‫عَباِدِه َوُيْر ِ‬ ‫جُعُكْم{‪َ} ،‬وُهَو اْلَقاِهُر َفْو َ‬
‫ق ِ‬ ‫سّمى ُثّم ِإَلْيِه َمْر ِ‬
‫ل ّم َ‬
‫جٌ‬‫ضى َأ َ‬‫حُتم ِبالّنَهاِر ُثّم َيْبَعُثُكْم ِفيِه ِلُيْق َ‬
‫جَر ْ‬
‫ل َوَيْعَلُم َما َ‬
‫َيَتَوّفاُكم ِبالّلْي ِ‬
‫طوَن { ]النعام‪ ،[61 ،60:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ل ُيَفّر ُ‬
‫سُلَنا َوُهْم َ‬ ‫ت َتَوّفْتُه ُر ُ‬‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬‫ى ِإَذا َ‬‫ظًة حَّت َ‬‫حَف َ‬‫َ‬

‫ظوَنُه ِم ْ‬
‫ن‬ ‫حَف ُ‬
‫خْلِفِه َي ْ‬
‫ن َ‬‫ن َيَدْيِه َوِم ْ‬
‫ت ّمن َبْي ِ‬‫ب ِبالّنَهاِر َلُه ُمَعّقَبا ٌ‬
‫ساِر ٌ‬ ‫ل َو َ‬‫ف ِبالّلْي ِ‬
‫خ ٍ‬ ‫سَت ْ‬‫ن ُهَو ُم ْ‬
‫جَهَر ِبِه َوَم ْ‬
‫ل َوَمن َ‬
‫سّر اْلَقْو َ‬
‫ن َأ َ‬
‫سَواء ّمنُكم ّم ْ‬‫}َ‬
‫ن{‬‫ن َما َتْفَعُلو َ‬
‫ن َيْعَلُمو َ‬‫ن ِكَراًما َكاِتِبي َ‬
‫ظي َ‬ ‫حاِف ِ‬
‫عَلْيكُْم َل َ‬
‫ن َ‬‫ن َوِإ ّ‬‫ن ِبالّدي ِ‬‫ل ُتَكّذُبو َ‬ ‫ل{ ]الرعد‪ ،[11 ،10:‬وقال تعالى‪َ} :‬ك ّ‬
‫ل َب ْ‬ ‫َأْمِر ا ّ‬
‫]النفطار‪9 :‬ـ ‪. [12‬‬

‫ظ{ ]الطارق‪1:‬ـ ‪.[4‬‬


‫حاِف ٌ‬
‫عَلْيَها َ‬
‫س ّلّما َ‬
‫ل َنْف ٍ‬
‫ب ِإن ُك ّ‬
‫جُم الّثاِق ُ‬
‫ق الّن ْ‬
‫طاِر ُ‬
‫ك َما ال ّ‬
‫ق َوَما َأْدَرا َ‬
‫طاِر ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫سَماء َوال ّ‬

‫عنِ‬‫ن َو َ‬‫ن اْلَيِمي ِ‬‫عِ‬


‫ن َ‬
‫ل اْلَوِريِد ِإْذ َيَتَلّقى اْلُمَتَلّقَيا ِ‬
‫حْب ِ‬
‫ن َ‬
‫ب ِإَلْيِه ِم ْ‬
‫ن َأْقَر ُ‬
‫حُ‬
‫سُه َوَن ْ‬
‫س ِبِه َنْف ُ‬
‫سِو ُ‬ ‫ن َوَنْعَلُم َما ُتَو ْ‬
‫سا َ‬‫لن َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َ‬
‫خَلْقَنا ا ِْ‬
‫ج َلُه‬‫خِر ُ‬‫عُنِقِه َوُن ْ‬
‫طآِئَرهُ ِفي ُ‬ ‫ن َأْلَزْمَناهُ َ‬‫سا ٍ‬ ‫عِتيٌد{ ]ق‪16:‬ـ ‪ ،[18‬وقال تعالى‪َ}/ :‬وُك ّ‬
‫ل ِإن َ‬ ‫ب َ‬‫ل َلَدْيِه َرِقي ٌ‬ ‫ل ِإ ّ‬‫ظ ِمن َقْو ٍ‬ ‫ل َقِعيٌد َما َيْلِف ُ‬ ‫شَما ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ك َحِسيًبا{ ]السراء‪.[14 ،13:‬‬ ‫عَلْي َ‬
‫ك اْلَيْوَم َ‬‫سَ‬‫ك َكَفى ِبَنْف ِ‬‫شوًرا‪ .‬اْقَرْأ َكَتاَب َ‬ ‫َيْوَم اْلِقَياَمِة ِكَتاًبا َيْلَقاُه َمن ُ‬

‫ق ِإّنا ُكّنا‬
‫حّ‬ ‫عَلْيُكم ِباْل َ‬
‫ق َ‬
‫طُ‬‫ن ‪َ .‬هَذا ِكَتاُبَنا َين ِ‬ ‫ن َما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬‫جَزْو َ‬‫عى ِإَلى ِكَتاِبَها اْلَيْوَم ُت ْ‬
‫ل ُأّمٍة ُتْد َ‬
‫جاِثَيًة ُك ّ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وَتَرى ُك ّ‬
‫ل ُأّمٍة َ‬
‫ل َكِبيَرًة ِإ ّ‬
‫ل‬ ‫صِغيَرًة َو َ‬ ‫ل ُيَغاِدُر َ‬ ‫ب َ‬ ‫ل َهَذا اْلِكَتا ِ‬ ‫ن{ ]الجاثية‪28:‬ـ ‪، [29‬وقال تعالى‪َ} :‬وَيُقوُلو َ‬
‫ن َيا َوْيَلَتَنا َما ِ‬ ‫سخُ َما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬ ‫سَتن ِ‬
‫َن ْ‬
‫صِغيٍر‬‫ل َ‬ ‫يٍء َفَعُلوهُ ِفي الّزُبِر ‪َ .‬وُك ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫حًدا{ ]الكهف‪ ،[49 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وُك ّ‬ ‫ك َأ َ‬
‫ظِلُم َرّب َ‬
‫ل َي ْ‬
‫ضًرا َو َ‬ ‫حا ِ‬‫عِمُلوا َ‬ ‫جُدوا َما َ‬ ‫صاَها َوَو َ‬ ‫ح َ‬ ‫َأ ْ‬
‫طٌر{ ]القمر‪ ،[53 ،52:‬وقال تعالى‪]...‬بياض[‪.‬‬ ‫سَت َ‬
‫َوَكِبيٍر مُ ْ‬

‫لِم‪:‬‬
‫سَ‬‫خ الِ ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ل إليه ملكين غير أولئك ؟ وهل هو موكل بالعبد‬ ‫هل الملئكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما‪ ،‬أم كل يوم ينزل ا ّ‬
‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫ت‬ ‫جاء َأ َ‬
‫ى ِإَذا َ‬
‫حّت َ‬
‫ظًة َ‬
‫حَف َ‬
‫عَلْيُكم َ‬
‫ل َ‬
‫سُ‬‫عَباِدهِ َوُيْر ِ‬ ‫ملئكة بالليل وملئكة بالنهار؟ وقوله عز وجل‪َ} :‬وُهَو اْلَقاِهُر َفْو َ‬
‫ق ِ‬
‫طوَن{ ]النعام‪ ،[61:‬فما معنى الية؟‬ ‫ل ُيَفّر ُ‬
‫سُلَنا َوُهْم َ‬
‫َتَوّفْتُه ُر ُ‬
‫ل‪ ،‬الملئكة أصناف‪ ،‬منهم من هو موكل بالعبد دائًما‪ ،‬ومنهم ملئكة يتعاقبون بالليل والنهار‪،‬‬
‫ب‪ :‬الحمد ّ‬
‫جــا َ‬
‫فأ َ‬
‫ويجتمعون في صلة الفجر وصلة العصر‪ ،‬فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون‪ :‬أتيناهم وهم‬
‫يصلون‪ ،‬وتركناهم وهم يصلون‪ ،‬ومنهم ملئكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر‪.‬‬

‫ل‪ ،‬فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار‪ ،‬وأعمال النهار قبل أعمال الليل‪ ،‬تعرض‬‫وأعمال العباد تجمع جملة وتفصي ً‬
‫ل في كل يوم اثنين وخميس‪ ،‬فهذا كله مما جاءت به الحاديث الصحيحة‪ ،‬وأما أنه كل يوم تبدل عليه‬ ‫العمال على ا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الملكان‪ ،‬فهذا لم يبلغنا فيه شيء‪ ،‬وا ّ‬

‫ن َقْوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة( الحديث‪ .‬فإذا كان الهّم‬
‫عْ‬‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫سًرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملئكة عليه؟‬

‫ل‪ ،‬قد روى عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال‪ :‬إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة‪،‬‬ ‫ب‪ :‬الحمد ّ‬
‫جــا َ‬
‫َفَأ َ‬
‫وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة‪.‬‬

‫ل قادر أن يعلم الملئكة بما في نفس العبد كيف شاء‪ ،‬كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما‬
‫والتحقيق أن ا ّ‬
‫في النسان‪.‬‬

‫ل له من الكشف ما يعلم به أحياًنا ما في قلب النسان ـ فالملك الموكل بالعبد أولى بأن‬
‫فإذا كان بعض البشر قد يجعل ا ّ‬
‫ل ذلك ‪.‬‬
‫يعرفه ا ّ‬

‫ل قد جعل الملئكة تلقي‬


‫ب ِإَلْيِه ِمْن َحْبِل اْلَوِريِد{ ]ق‪ [16:‬أن المراد به‪ :‬الملئكة‪ ،‬وا ّ‬
‫ن َأْقَر ُ‬‫وقد قيل في قوله تعالى‪َ} :‬وَن ْ‬
‫حُ‬
‫ل بن مسعود‪):‬إن للملك لّمة‪ ،‬وللشيطان لمًة‪َ ،‬فلّمة الملك تصديق بالحق ووعد ‪/‬‬ ‫في نفس العبد الخواطر‪ ،‬كما قال عبد ا ّ‬
‫بالخير‪ ،‬ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر(‪ .‬وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‪):‬ما منكم من أحد إل وقد وكل‬
‫ل قد أعانني عليه‪ ،‬فل‬
‫ل؟ قال‪) :‬وأنا‪ ،‬إل أن ا ّ‬
‫به قرينه من الملئكة‪ ،‬وقرينه من الجن(‪ .‬قالوا‪ :‬وإياك يا رسول ا ّ‬
‫يأمرني إل بخير(‪.‬‬

‫فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان‪ ،‬علم بها الشيطان‪.‬‬

‫ضا ‪،‬بطريق الولى‪ ،‬وإذا علم بها هذا الملك‪،‬‬


‫والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك‪ ،‬علم بها الملك أي ً‬
‫أمكن علم الملئكة الحفظة لعمال بني آدم‪.‬‬

‫ت‪ :‬هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم ل ؟ وقوله صلى ال عليه وسلم‪:‬‬ ‫عْنَد اْلَمْو ِ‬
‫ن َ‬
‫ض الْدَيا َ‬
‫عْر ِ‬
‫ن َ‬
‫عْ‬‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل ـ هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم‬
‫)إنكم لتفتنون في قبوركم( ما المراد بالفتنة ؟ وإذا ارتد العبد ـ والعياذ با ّ‬
‫ل ؟ أفتونا مأجورين‪.‬‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬أما عرض الديان على العبد وقت الموت فليس هو أمًرا عاًما لكل أحد‪ ،‬ول هوـ‬ ‫ب‪ :‬الحمد ّ‬‫جــا َ‬
‫فأ َ‬
‫ضا ـ منتفًيا عن كل أحد‪ ،‬بل من الناس من تعرض عليه الديان قبل موته‪ ،‬ومنهم من ل تعرض عليه‪ ،‬وقد وقع ذلك‬ ‫أي ً‬
‫لقوام‪ .‬وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلتنا‪.‬‬

‫منها‪ :‬ما في الحديث الصحيح‪ :‬أمرنا النبي صلى ال عليه وسلم أن نستعيذ في صلتنا من أربع‪ :‬من عذاب جهنم‪ ،‬ومن‬
‫عذاب القبر‪ ،‬ومن فتنة المحيا والممات‪ ،‬ومن فتنة المسيح الدجال‪ .‬ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على‬
‫إغواء بني آدم؛ لنه وقت الحاجة‪.‬‬

‫‪ /‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬العمال بخواتيمها(‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن العبد‬
‫ليعمل بعمل أهل الجنة‪ ،‬حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها‪ ،‬وإن‬
‫العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب‪ ،‬فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها(‪.‬‬
‫ولهذا روى‪] :‬أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت‪ ،‬يقول لعوانه‪ :‬دونكم هذا‪ ،‬فإنه إن فاتكم لن تظفروا‬
‫به أبًدا[‪.‬‬

‫ل بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول‪:‬ل‪ ،‬بعد‪ ،‬ل‪ ،‬بعد‪ ،‬مشهورة‪.‬‬


‫وحكاية عبد ا ّ‬

‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه‬ ‫ولهذا يقال‪ :‬إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي ا ّ‬
‫ت إن شاء يهودًيا‪ ،‬وإن شاء نصرانًيا(‪.‬‬
‫ل الحرام ولم يحج‪َ ،‬فْلَيُم ْ‬
‫وسلم قال‪) :‬من ملك زاًدا أو راحلة تبلغه إلى بيت ا ّ‬

‫ي َعِن اْلَعاَلِميَن{ ]آل عمران‪ ،[97:‬قال‬


‫غِن ّ‬
‫ن ال َ‬ ‫ل َوَمن َكَفَر فَِإ ّ‬
‫سِبي ً‬
‫ع ِإَلْيِه َ‬
‫طا َ‬
‫سَت َ‬
‫نا ْ‬ ‫ت َم ِ‬
‫ج اْلَبْي ِ‬
‫حّ‬‫س ِ‬‫عَلى الّنا ِ‬‫ل َ‬ ‫ل تعالى‪َ} :‬و ِّ‬ ‫قال ا ّ‬
‫لِم ِديًنا َفَلن ُيْقَبَل ِمْنُه َوُهَو ِفي الِخَرةِ ِمَن اْلَخاِسِريَن{ ]آل عمران‪.[85:‬‬ ‫سَ‬‫لْ‬ ‫غْيَر ا ِ‬‫عكرمة لما نزلت هذه الية‪َ} :‬وَمن َيْبَتِغ َ‬
‫ت{ فقالوا‪ :‬ل نحجه‪ .‬فقال ال تعالى‪َ} :‬وَمن‬ ‫ج اْلَبْي ِ‬
‫س حِ ّ‬ ‫عَلى الّنا ِ‬‫ل َ‬‫ل لهم‪َ} :‬و ِّ‬ ‫قالت اليهود والنصارى‪ :‬نحن مسلمون‪ .‬فقال ا ّ‬
‫ي َعِن اْلَعاَلِميَن{‪.‬‬
‫غِن ّ‬
‫َكَفَر َفِإنّ ال َ‬

‫‪ /‬وأما الفتنة في القبور فهي المتحان والختبار للميت‪ ،‬حين يسأله الملكان‪ ،‬فيقولن له‪ :‬ما كنت تقول في هذا الرجل‬
‫ل ربي‪ ،‬والسلم ديني‪ ،‬ومحمد نبيى‪،‬‬ ‫ل الذين آمنوا بالقول الثابت‪ ،‬فيقول المؤمن‪ :‬ا ّ‬ ‫الذي بعث فيكم ]محمد[؟ فيثبت ا ّ‬
‫ل‪ ،‬جاءنا بالبينات والهدى‪ ،‬فآمنا به واتبعناه‪ .‬فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي‬
‫ويقول‪ :‬هو محمد رسول ا ّ‬
‫يفتن بها المؤمن ـ فيقولن له كما قال أول ‪.‬‬

‫وقد تواترت الحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب‪ ،‬وأنس بن مالك‪،‬‬
‫ل عنهم ـ وهي عامة للمكلفين‪ ،‬إل النبيين فقد اختلف فيهم‪ .‬وكذلك اختلف في غير‬‫وأبي هريرة وغيرهم ـ رضى ا ّ‬
‫عِقيل‪.‬‬
‫المكلفين‪ ،‬كالصبيان والمجانين‪ ،‬فقيل‪ :‬ل يفتنون؛ لن المحنة إنما تكون للمكلفين‪ ،‬وهذا قول القاضي وابن َ‬

‫ضا‪ ،‬و هذا قول أبي حكيم‪ ،‬وأبي الحسن بن عبدوس‪ ،‬ونقله‬ ‫وعلى هذا فل ُيَلّقنون بعد الموت‪ .‬وقيل‪ :‬يلقنون ويفتنون أي ً‬
‫عن أصحابه‪ ،‬وهو مطابق لقول من يقول‪ :‬إنهم يكلفون يوم القيامة‪ ،‬كما هو قول أكثر أهل العلم‪ ،‬وأهل السنة‪ ،‬من أهل‬
‫ل عنه ـ عن أهل السنة‪ ،‬واختاره‪ ،‬وهو مقتضى‬ ‫الحديث والكلم‪ .‬وهو الذي ذكره أبو الحسن الشعري ـ رضي ا ّ‬
‫نصوص المام أحمد ‪.‬‬

‫وأما الردة عن السلم بأن يصير الرجل كافًرا مشرًكا‪ ،‬أو كتابًيا ‪/،‬فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء‪،‬‬
‫عَماُلُهْم ِفي الّدْنَيا‬
‫ت َأ ْ‬
‫ط ْ‬ ‫حِب َ‬
‫ك َ‬‫ت َوُهَو َكاِفٌر َفُأْوَلـِئ َ‬ ‫كما نطق بذلك القرآن في غير موضع‪ ،‬كقوله‪َ} :‬وَمن َيْرَتِدْد ِمنُكْم َ‬
‫عن ِديِنِه َفَيُم ْ‬
‫عْنُهم ّما َكاُنوْا‬ ‫ط َ‬ ‫حِب َ‬ ‫عَمُلُه{ ]المائدة‪ ،[5:‬وقوله‪َ}:‬وَلْو َأ ْ‬
‫شَرُكوْا َل َ‬ ‫ط َ‬ ‫حِب َ‬
‫ن َفَقْد َ‬
‫ليَما ِ‬‫خَرِة{ ]البقرة‪ ،[217 :‬وقوله‪َ}:‬وَمن َيْكُفْر ِبا ِ‬ ‫َوال ِ‬
‫ك{ ]الزمر‪.[65:‬‬ ‫عَمُل َ‬‫ن َ‬
‫طّ‬ ‫حَب َ‬
‫ت َلَي ْ‬
‫شَرْك َ‬ ‫ن{ ]النعام‪ ،[88:‬وقوله‪َ} :‬لِئ ْ‬
‫ن َأ ْ‬ ‫َيْعَمُلو َ‬

‫ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد‪ ،‬ثم عاد إلى السلم هل تحبط العمال التي عملها قبل الردة أم ل تحبط إل إذا مات‬
‫مرتًدا؟ على قولين مشهورين‪ ،‬هما قولن في مذهب المام أحمد‪ ،‬والحبوط‪ :‬مذهب أبي حنيفة ومالك‪ .‬والوقوف‪:‬‬
‫مذهب الشافعي ‪.‬‬

‫ضا ـ في المرتد‪ .‬هل يقال‪ :‬كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال‪ :‬بل بالردة تبّينا أن إيمانه كان‬‫وتنازع الناس ـ أي ً‬
‫فاسدا؟ وأن اليمان الصحيح ل يزول البتة؟ على قولين لطوائف الناس‪ ،‬وعلى ذلك يبنى قول المستثنى‪ :‬أنا مؤمن ـ إن‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ل‪ .‬هل يعود الستثناء إلى كمال اليمان ؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل‪ ،‬وا ّ‬‫شاء ا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫سِئ َ‬
‫وُ‬

‫ن؟‬
‫لِئَكِة ـ َيُموُتو َ‬
‫حّتى الَم َ‬
‫قـ َ‬
‫خْل ِ‬
‫جِميُع اْل َ‬
‫َهل َ‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫الذي عليه أكثر الناس‪ :‬أن جميع الخلق يموتون حتى الملئكة‪ ،‬وحتى عزرائيل ملك الموت‪ ،‬وروى في ذلك حديث‬
‫ل عليه‪ ،‬وإنما‬
‫مرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة ا ّ‬
‫يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة‪ ،‬أتباع أرسطو وأمثالهم‪ ،‬ومن دخل معهم من المنتسبين إلى السلم‪ ،‬أو اليهود‪،‬‬
‫والنصارى‪ ،‬كأصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وأمثالهم ممن زعم أن الملئكة هي العقول والنفوس‪ ،‬وأنه ل يمكن‬
‫موتها بحال‪ ،‬بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم‪.‬‬

‫ل َو َ‬
‫ل‬ ‫عْبدًا ّ‬
‫ن َ‬‫ح َأن َيُكو َ‬
‫سي ُ‬
‫ف اْلَم ِ‬ ‫والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملئكة عبيد مدبرون‪ ،‬كما قال سبحانه‪ّ} :‬لن َي ْ‬
‫سَتنِك َ‬
‫خَذ‬‫ف َعْن ِعَباَدِتِه َوَيْسَتْكِبْر َفَسَيْحُشُرُهْم ِإَليِه َجِميًعا{ ]النساء‪ ،[172 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَقاُلوا اّت َ‬
‫سَتنِك ْ‬
‫ن َوَمن َي ْ‬
‫اْلَملِئَكُة اْلُمَقّرُبو َ‬
‫ن َأْيِديِهْم َوَما خَْلَفُهْم َو َ‬
‫ل‬ ‫ن َيْعَلُم َما َبْي َ‬
‫ل َوُهم ِبَأْمِرِه يَْعَمُلو َ‬
‫سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن َ‬
‫عَباٌد ّمْكَرُمو َ‬
‫ل ِ‬
‫حاَنُه َب ْ‬‫سْب َ‬
‫ن َوَلًدا ُ‬ ‫حَم ُ‬
‫الّر ْ‬
‫ل ِمن َبْعِد َأن َيْأَذ َ‬
‫ن‬ ‫شْيًئا ِإ ّ‬
‫عُتُهْم َ‬
‫شَفا َ‬
‫ل ُتْغِني َ‬ ‫ت َ‬‫سَماَوا ِ‬‫ك ِفي ال ّ‬ ‫ضى{ ]النبياء‪26 :‬ــ ‪ ،[28‬وقال‪َ} :‬وَكم ّمن ّمَل ٍ‬ ‫ن اْرَت َ‬ ‫ل ِلَم ِ‬
‫ن ِإ ّ‬‫شَفُعو َ‬‫َي ْ‬
‫ضى{ ]النجم‪.[62 :‬‬ ‫شاء َوَيْر َ‬ ‫ل ِلَمن َي َ‬
‫ا ُّ‬

‫ل ـ سبحانه ـ قادر على أن يميتهم ثم يحييهم‪ ،‬كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم‪ .‬وقد قال سبحانه‪:‬‬ ‫وا ّ‬
‫ق ُثّم ُيِعيُدُه َوُهَو َأْهَوُن{ ]الروم‪.[27 :‬‬
‫خْل َ‬
‫}َوُهَو اّلِذي َيْبَدُأ اْل َ‬

‫وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال‪) :‬إن‬
‫صِعقوا(‪ ،‬وفي رواية‪) :‬سمعت‬ ‫شى(‪ ،‬وفي رواية‪) :‬إذا سمعت الملئكة كلمه ُ‬ ‫ل إذا تكلم بالوحي أخذ الملئكة مثل الَغ ْ‬
‫ا ّ‬
‫صْفَوان فيصعقون فإذا ُفّزع عن قلوبهم( أي‪ :‬أزيل الفزع عن قلوبهم )قالوا‪ :‬ماذا قال‬ ‫جّر السلسلة على ال ّ‬
‫الملئكة ك َ‬
‫صْعق الغشي‪ ،‬فإذا‬ ‫صَعُقون َ‬‫ربكم؟ قالوا‪ :‬الحق‪ .‬فينادون‪ :‬الحق‪ ،‬الحق(‪ ،‬فقد أخبر في هذه الحاديث الصحيحة أنهم ُي ْ‬
‫جاز عليهم صعق الغشى جاز صعق الموت‪ ،‬وهؤلء المتفلسفة ل يجوزون ل هذا ول هذا‪ ،‬وصعق الغشى هو مثل‬
‫صِعًقا{ ]العراف‪.[143 :‬‬ ‫سى َ‬ ‫خّر مو َ‬
‫جَعَلُه َدّكا َو َ‬
‫ل َ‬
‫جَب ِ‬ ‫صعق موسى ـ عليه السلم ـ قال تعالى‪َ} :‬فَلّما َت َ‬
‫جّلى َرّبُه ِلْل َ‬

‫والقرآن قد أخبر بثلث نفخات‪:‬‬

‫ل َمن‬
‫ض ِإ ّ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوَمن ِفي ا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ع َمن ِفي ال ّ‬
‫صوِر َفَفِز َ‬
‫خ ِفي ال ّ‬
‫نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله‪َ} :‬وَيْوَم ُينَف ُ‬
‫ل{ ]النمل‪.[87 :‬‬
‫شاء ا ُّ‬
‫َ‬

‫ل ُثّم ُنِف َ‬
‫خ‬ ‫شاء ا ُّ‬
‫ل َمن َ‬
‫ض ِإ ّ‬
‫لْر ِ‬
‫ت َوَمن ِفي ا َْ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ق َمن ِفي ال ّ‬
‫صِع َ‬
‫صوِر َف َ‬ ‫‪/‬ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله‪َ} :‬وُنِف َ‬
‫خ ِفي ال ّ‬
‫ظُروَن{ ]الزمر‪[68 :‬‬
‫خَرى َفِإَذا ُهم ِقَياٌم َين ُ‬
‫ِفيِه ُأ ْ‬

‫وأما الستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين‪ ،‬فإن الجنة ليس فيها موت‪ ،‬ومتناول لغيرهم‪ .‬ول يمكن‬
‫ل أطلق في كتابه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫الجزم بكل من استثناه ا ّ‬

‫صَعُقون يوم القيامة فأكون أول من ُيِفيق فأجد‬


‫وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن الناس ُي ْ‬
‫ل؟(‪ .‬وهذه الصعقة قد قيل‪ :‬إنها رابعة‪ ،‬وقيل‪:‬‬‫موسى آخذًا بساق العرش‪ ،‬فل أدرى هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه ا ّ‬
‫إنها من المذكورات في القرآن‪.‬‬

‫ل أم ل ؟ فإذا‬
‫وبكل حال‪ :‬النبي صلى ال عليه وسلم قد توقف في موسى‪ ،‬وهل هو داخل في الستثناء فيمن استثناه ا ّ‬
‫ل‪ ،‬لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك‪ ،‬وصار هذا مثل العلم بوقت‬ ‫كان النبي صلى ال عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى ا ّ‬
‫ل على محمد‬ ‫ل أعلم‪ ،‬وصلى ا ّ‬ ‫الساعة‪ ،‬وأعيان النبياء‪ ،‬وأمثال ذلك مما لم يخبر به‪ ،‬وهذا العلم ل ينال إل بالخبر‪ ،‬وا ّ‬
‫وآله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫حَمُد بن َتْيمّية ـ َر ِ‬
‫س َأ ْ‬
‫ن َأُبو اْلَعّبا ِ‬
‫لِم َتِقي الّدي ِ‬
‫سَ‬‫خ الِ ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ِ‬
‫‪َ /‬قا َ‬

‫فصــل‬

‫مذهب سائر المسلمين ـ بل وسائر أهل الملل ـ إثبات القيامة الكبرى‪ ،‬وقيام الناس من قبورهم‪ ،‬والثواب والعقاب‬
‫هناك‪ ،‬وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ـ ما بين الموت إلى يوم القيامة ـ هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع‪.‬‬
‫لكن من أهل الكلم من يقول‪ :‬هذا إنما يكون على البدن فقط‪ ،‬كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن‪ ،‬كقول من يقول ذلك‬
‫من المعتزلة والشعرية‪.‬‬

‫ومنهم من يقول‪ :‬بل هو على النفس فقط‪ ،‬بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ول نعيم‪ ،‬كما يقول ذلك ابن‬
‫ميسرة‪ ،‬وابن حزم‪.‬‬

‫‪ /‬ومنهم من يقول‪ :‬بل البدن ينعم ويعذب بل حياة فيه‪ ،‬كما قاله طائفة من أهل الحديث‪ ،‬وابن الزاغوني يميل إلى هذا‬
‫في مصنفه في حياة النبياء في قبورهم‪ ،‬وقد بسط الكلم على هذا في مواضع‪.‬‬

‫والمقصود هنا أن كثيرًا من أهل الكلم ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت‪ ،‬ول ثواب ول عقاب‪ ،‬ويزعمون أنه لم‬
‫يدل على ذلك القرآن والحديث‪ ،‬كما أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقًا زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن‪،‬‬
‫وهو غلط‪ ،‬بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن‪ ،‬وبين النعيم والعذاب في البرزخ‪.‬‬

‫وهو ـ سبحانه ـ وتعالى في السورة الواحدة يذكر]القيامة الكبرى[ و]الصغرى[ كما في سورة الواقعة‪ ،‬فإنه ذكر في‬
‫ضٌة‬
‫خاِف َ‬
‫س ِلَوْقَعِتَها َكاِذَبٌة َ‬ ‫أولها القيامة الكبرى‪ ،‬وأن الناس يكونون أزواجًا ثلثة‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إَذا َوَقَع ِ‬
‫ت اْلَواِقَعُة َلْي َ‬
‫لَثًة{ ]الواقعة‪.[1-7 :‬‬ ‫جا َث َ‬
‫ت َهَباء ّمنَبّثا َوُكنُتْم َأْزَوا ً‬
‫سا َفَكاَن ْ‬
‫ل َب ّ‬
‫جَبا ُ‬
‫ت اْل ِ‬
‫س ِ‬
‫جا َوُب ّ‬
‫ض َر ّ‬
‫لْر ُ‬
‫ت ا َْ‬
‫ج ِ‬
‫ّراِفَعٌة ِإَذا ُر ّ‬

‫حْلُقوَم َوَأنُتْم‬‫ت اْل ُ‬ ‫ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت‪ ،‬وأنهم ثلثة أصناف بعد الموت‪ ،‬فقال‪َ} :‬فَلْو َ‬
‫ل ِإَذا َبَلَغ ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن‬ ‫ن َفَأّما ِإن َكا َ‬ ‫صاِدِقي َ‬‫جُعوَنَها ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫ن َتْر ِ‬
‫غْيَر َمِديِني َ‬
‫ل ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫ن َفَلْو َ‬‫صُرو َ‬
‫ل ُتْب ِ‬
‫ب ِإَلْيِه ِمنُكْم َوَلِكن ّ‬‫ن َأْقَر ُ‬
‫حُ‬ ‫ن َوَن ْ‬‫ظُرو َ‬ ‫حيَنِئٍذ َتن ُ‬
‫ِ‬
‫ضاّلي َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن اْلُمَكّذِبي َ‬
‫ن ِم َ‬
‫ن َوَأّما ِإن َكا َ‬ ‫ب اْلَيِمي ِ‬
‫حا ِ‬
‫صَ‬‫ن َأ ْ‬‫ك ِم ْ‬‫لٌم ّل َ‬
‫سَ‬ ‫ن َف َ‬
‫ب اْلَيِمي ِ‬
‫حا ِ‬ ‫صَ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ن ِم َ‬
‫جّنُة َنِعيٍم َوَأّما ِإن َكا َ‬
‫ن َو َ‬
‫حا ٌ‬‫ح َوَرْي َ‬ ‫ن َفَرْو ٌ‬‫اْلُمَقّرِبي َ‬
‫صِلَيُة َجِحيٍم{ ]الواقعة‪ ،[83-94 :‬فهذا فيه أن النفس تبلغ الحلقوم وأنهم ل يمكنهم رجعها‪ ،‬وبين حال‬ ‫حِميٍم َوَت ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ّم ْ‬ ‫َفُنُز ٌ‬
‫المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين حينئذ‪.‬‬

‫سُم ِبالّنْفسِ الّلّواَمِة{‬ ‫سُم ِبَيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]القيامة‪ [1 :‬ثم قال‪َ} :‬و َ‬
‫ل ُأْق ِ‬ ‫وفي سورة القيامة‪ :‬ذكر أيضًا القيامتين فقال‪َ } :‬‬
‫ل ُأْق ِ‬
‫]القيامة‪ [2 :‬وهي نفس النسان‪.‬‬

‫وقد قيل‪ :‬إن النفس تكون لوامة‪ ،‬وغير لوامة‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬بل نفس كل إنسان لوامة‪ ،‬فإنه ليس بشر إل يلوم نفسه‬
‫ظاَمُه‬
‫عَ‬
‫جَمَع ِ‬
‫ن َأّلن َن ْ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ب ا ِْ‬
‫س ُ‬
‫حَ‬‫ويندم إما في الدنيا‪ ،‬وإما في الخرة‪ ،‬فهذا إثبات النفس‪ .‬ثم ذكر معاد البدن فقال‪َ} :‬أَي ْ‬
‫ن َيْوُم اْلِقَياَمِة{ ]القيامة‪.[3 :‬‬
‫ل َأّيا َ‬
‫سَأ ُ‬
‫جَر َأَماَمُه َي ْ‬
‫ن ِلَيْف ُ‬
‫سا ُ‬
‫لن َ‬
‫ل ُيِريُد ا ِْ‬
‫ي َبَناَنُه َب ْ‬
‫سّو َ‬
‫عَلى َأن ّن َ‬
‫ن َ‬
‫َبَلى َقاِدِري َ‬

‫ي{ ]القيامة‪ [26 :‬وهذا إثبات للنفس وأنها تبلغ التراقى كما قال هناك‪َ} :‬بَلَغ ِ‬
‫ت‬ ‫ت الّتَراِق َ‬ ‫ثم ذكر الموت فقال‪َ} :‬ك ّ‬
‫ل ِإَذا َبَلَغ ْ‬
‫حْلُقوَم{ ]الواقعة‪ .[83 :‬والتراقي متصلة بالحلقوم‪.‬‬ ‫اْل ُ‬

‫ل‪ ،‬والول أظهر؛ لن هذا قبل‬ ‫ق{ ]القيامة‪ [27 :‬يرقيها‪ ،‬وقيل‪ :‬من صاعد يصعد بها إلى ا ّ‬ ‫ن َرا ٍ‬ ‫ثم قال‪َ} :‬وِقي َ‬
‫ل َم ْ‬
‫ق{ ]القيامة‪ [28 :‬فدل على أنهم يرجونه ويطلبون له راقيًا يرقيه‪ ،‬وأيضًا فصعودها ل‬
‫ن َأّنُه اْلِفَرا ُ‬‫الموت‪ ،‬فإنه قال‪َ} :‬و َ‬
‫ظّ‬
‫ل ملئكة يفعلون ما يؤمرون‪ ،‬والرقية أعظم الدوية فإنها دواء ‪ /‬روحاني؛ ولهذا‬‫يفتقر إلى طلب من يرقى بها‪ ،‬فإن ّ‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم في صفة المتوكلين‪) :‬ل يسترقون(‪ .‬والمراد أنه يخاف الموت‪ ،‬ويرجو الحياة بالراقي؛‬
‫ق{‪.‬‬ ‫ن َأّنُه اْلِفَرا ُ‬
‫ظّ‬‫ولهذا قال‪َ} :‬و َ‬

‫ق{ ]القيامة ‪.[30 ،29‬‬


‫سا ُ‬
‫ك َيْوَمِئٍذ اْلَم َ‬
‫ق ِإَلى َرّب َ‬
‫سا ِ‬
‫ق ِبال ّ‬
‫سا ُ‬ ‫ثم قال‪َ} :‬واْلَتّف ِ‬
‫ت ال ّ‬

‫فدل على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق إلى ربها‪ ،‬والعرض القائم بغيره ل يساق‪ ،‬ول بدن الميت‪ ،‬فهذا نص في‬
‫إثبات نفس تفارق البدن تساق إلى ربها‪ ،‬كما نطقت بذلك الحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن وروح الكافر‪.‬‬

‫صّلى{ ]القيامة‪ [31 :‬وليس المراد أن كل‬


‫ل َ‬
‫صّدقَ َو َ‬ ‫ثم ذكر بعد هذا صفة الكافر بقوله مع هذا الوعيد الذي قدمه‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َ‬
‫نفس من هذه النفوس كذلك‪.‬‬
‫ت ِمْنُه َتِحيُد{ ]ق‪:‬‬
‫ك َما ُكن َ‬
‫ق َذِل َ‬
‫حّ‬‫ت ِباْل َ‬
‫سْكَرُة اْلَمْو ِ‬
‫ت َ‬ ‫وكذلك سورة ]ق[ هي في ذكر وعيد القيامة‪ ،‬ومع هذا قال فيها‪َ} :‬و َ‬
‫جاء ْ‬
‫ك َيْوُم اْلَوِعيِد{ ]ق‪ ،[20 :‬فذكر القيامتين‪ :‬الصغرى والكبرى‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫صوِر َذِل َ‬ ‫‪ ،[19‬ثم قال بعد ذلك‪َ} :‬وُنِف َ‬
‫خ ِفي ال ّ‬
‫ق َوَشِهيٌد{ أي‪ :‬جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب‪ ،‬وهو الحق الذي أخبرت به الرسل‪،‬‬ ‫ساِئ ٌ‬
‫س ّمَعَها َ‬
‫ل َنْف ٍ‬
‫ت ُك ّ‬
‫جاء ْ‬
‫}َو َ‬
‫ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه‪ ،‬ولم يقل أحد‪ :‬إن الموت باطل حتى‬
‫يقال‪ :‬جاءت بالحق‪.‬‬

‫حّتى‬
‫ك َ‬ ‫حيُد{‪ ،‬فالنسان وإن كره الموت فهو يعلم أنه تلقيه ملئكته‪ ،‬وهذا كقوله‪َ} :‬وا ْ‬
‫عُبْد َرّب َ‬ ‫ت ِمْنُه َت ِ‬ ‫وقوله‪َ} :‬ذِل َ‬
‫ك َما ُكن َ‬
‫ك اْلَيِقيُن{ ]الحجر‪ [99 :‬واليقين‪/ :‬ما بعد الموت‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أما عثمان بن مظعون فقد‬ ‫َيْأِتَي َ‬
‫جاءه اليقين من ربه(‪،‬‬

‫وإل فنفس الموت ـ مجرد عما بعده ـ أمر مشهور لم ينازع فيه أحد حتى يسمى يقيًنا‪.‬‬

‫ب الّناُر‬
‫سوُء اْلَعَذا ِ‬
‫ن ُ‬
‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬
‫ق ِبآ ِ‬ ‫وذكر عذاب القيامة والبرزخ معًا في غير موضع؛ ذكره في قصة آل فرعون فقال‪َ} :‬و َ‬
‫حا َ‬
‫ب{]غافر‪،[46 ،45 :‬‬ ‫شّد اْلَعَذا ِ‬
‫ن َأ َ‬
‫عْو َ‬
‫ل ِفْر َ‬
‫خُلوا آ َ‬
‫عُة َأْد ِ‬
‫سا َ‬
‫شّيا َوَيْوَم َتُقوُم ال ّ‬
‫عِ‬‫غُدّوا َو َ‬
‫عَلْيَها ُ‬
‫ن َ‬
‫ضو َ‬
‫ُيْعَر ُ‬

‫صاًرا{ ]نوح‪ [25 :‬مع إخبار نوح لهم‬


‫ل َأن َ‬
‫ن ا ِّ‬
‫جُدوا َلُهم ّمن ُدو ِ‬
‫خُلوا َناًرا َفَلْم َي ِ‬
‫غِرُقوا َفُأْد ِ‬
‫طيَئاِتِهْم ُأ ْ‬‫وقال في قصة نوح‪ِ} :‬مّما َ‬
‫خِ‬
‫ض َنَباًتا ُثّم ُيِعيُدُكْم ِفيَها َوُيْخِرُجُكْم ِإْخَراًجا{ ]نوح‪.[18 ،17 :‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ن ا َْ‬ ‫بالقيامة في قوله‪َ} :‬وا ُّ‬
‫ل َأنَبَتُكم ّم َ‬

‫وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن الرسل قبل محمد أنذروا بالقيامة الكبرى تكذيبًا لمن نفى ذلك من المتفلسفة‪ ،‬وقال‬
‫ظيٍم{ ]التوبة‪ .[101 :‬قال غير واحد من العلماء‪ :‬المرة الولى في‬‫عِ‬ ‫ب َ‬
‫عَذا ٍ‬
‫ن ِإَلى َ‬
‫ن ُثّم ُيَرّدو َ‬ ‫عن المنافقين‪َ } :‬‬
‫سُنَعّذُبُهم ّمّرَتْي ِ‬
‫ظيٍم{ في الخرة‪.‬‬ ‫عِ‬
‫ب َ‬‫عَذا ٍ‬ ‫الدنيا‪ ،‬والثانية في البرزخ }ُثّم ُيَرّدو َ‬
‫ن ِإَلى َ‬

‫عَذابَ‬ ‫ن َ‬ ‫جَزْو َ‬
‫سُكُم اْلَيْوَم ُت ْ‬
‫جوْا َأنُف َ‬
‫خِر ُ‬ ‫طوْا َأْيِديِهْم َأ ْ‬
‫سُ‬‫ت َواْلَملِئَكُة َبا ِ‬ ‫ت اْلَمْو ِ‬
‫غَمَرا ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ظاِلُمو َ‬‫وقال تعالى في النعام‪َ} :‬وَلْو َتَرى ِإِذ ال ّ‬
‫خّوْلَناُكْم‬
‫ل َمّرٍة َوَتَرْكُتم ّما َ‬ ‫خَلْقَناُكْم َأّو َ‬
‫جْئُتُموَنا ُفَراَدى َكَما َ‬ ‫ن َوَلَقْد ِ‬‫سَتْكِبُرو َ‬
‫ن آَياِتِه َت ْ‬
‫عْ‬‫ق َوُكنُتْم َ‬
‫حّ‬ ‫غْيَر اْل َ‬‫ل َ‬ ‫عَلى ا ّ‬
‫ن َ‬
‫ن ِبَما ُكنُتْم َتُقوُلو َ‬
‫اْلُهو ِ‬
‫سُكُم{ دل على وجود النفس التي‬ ‫جوْا َأنُف َ‬‫خِر ُ‬ ‫ظُهوِرُكْم{ ]النعام‪ ،[94 ،93 :‬وهذه صفة حال الموت وقوله‪َ}/ :‬أ ْ‬ ‫َوَراء ُ‬
‫ب اْلُهوِن{ دل على وقوع الجزاء عقب الموت‪.‬‬ ‫عَذا َ‬‫ن َ‬‫جَزْو َ‬ ‫تخرج من البدن‪ ،‬وقوله‪} :‬اْلَيْوَم ُت ْ‬

‫ك ِبَما‬
‫ق َذِل َ‬
‫حِري ِ‬
‫ب اْل َ‬
‫عَذا َ‬
‫جوَهُهْم َوَأْدَباَرُهْم َوُذوُقوْا َ‬
‫ضِرُبونَ ُو ُ‬ ‫وقال تعالى في النفال‪َ} :‬وَلْو َتَرى ِإْذ َيَتَوّفى اّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروْا اْلَملِئَكُة َي ْ‬
‫لٍم ّلْلَعِبيِد{ ]النفال‪ [51 ،50 :‬وهذا ذوق له بعد الموت‪.‬‬ ‫ظّ‬ ‫س ِب َ‬
‫ل َلْي َ‬
‫نا ّ‬
‫ت َأْيِديُكْم َوَأ ّ‬
‫َقّدَم ْ‬

‫وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم‪) :‬يا‬
‫فلن‪ ،‬يا فلن‪ ،‬هل وجدتم ما وعد ربكم حّقا؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا(‪ .‬وهذا دليل على وجودهم وسماعهم‪،‬‬
‫وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب‪ ،‬وأما نفس قتلهم فقد علمه الحياء منهم‪.‬‬

‫ض َقاْلَوْا َأَلْم‬
‫لْر ِ‬
‫ن ِفي ا َ‬
‫ضَعِفي َ‬
‫سَت ْ‬
‫سِهْم َقاُلوْا ِفيَم ُكنُتْم َقاُلوْا ُكّنا ُم ْ‬
‫ظاِلِمي َأْنُف ِ‬
‫ن َتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫وقال تعالى في سورة النساء‪ِ} :‬إ ّ‬
‫صيًرا{ ]النساء‪ ،[97 :‬وهذا خطاب لهم إذا توفتهم‬ ‫ت َم ِ‬ ‫ساء ْ‬ ‫جَهّنُم َو َ‬
‫ك َمْأَواُهْم َ‬
‫جُروْا ِفيَها َفُأْوَلـِئ َ‬
‫سَعًة َفُتَها ِ‬
‫ل َوا ِ‬
‫ضا ّ‬
‫ن َأْر ُ‬
‫َتُك ْ‬
‫الملئكة‪ ،‬وهم ل يعاينون الملئكة إل وقد يئسوا من الدنيا‪ ،‬ومعلوم أن البدن لم يتكلم لسانه‪ ،‬بل هو شاهد‪ ،‬يعلم أن‬
‫الذي يخاطب الملئكة هو النفس‪ ،‬والمخاطب ل يكون عرضًا‪.‬‬

‫عِليٌم ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬


‫ن‬ ‫ل َ‬
‫نا ّ‬
‫سوٍء َبَلى ِإ ّ‬
‫ل ِمن ُ‬
‫سَلَم َما ُكّنا َنْعَم ُ‬
‫سِهْم َفَأْلَقُوْا ال ّ‬
‫ظاِلِمي َأنُف ِ‬ ‫وقال تعالى في النحل‪} :‬اّلِذي َ‬
‫ن َتَتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ‬
‫س َمْثَوى اْلُمَتَكّبِريَن{ ]النحل‪ .[29 ،28 :‬وهذا إلقاء للسلم إلى حين الموت‪ ،‬وقو ٌ‬
‫ل‬ ‫ن ِفيَها َفَلِبْئ َ‬‫خاِلِدي َ‬
‫جَهّنَم َ‬
‫ب َ‬
‫خُلوْا َأْبَوا َ‬
‫َفاْد ُ‬
‫للملئكة‪َ} :‬ما ُكّنا َنْعَمُل ِمن ُسوٍء{ وهذا إنما يكون من النفس‪.‬‬

‫ن{ ]النحل‪،[32 :‬‬ ‫جّنَة ِبَما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ‬‫خُلوْا اْل َ‬


‫عَلْيُكُم اْد ُ‬‫سلٌم َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َيُقوُلو َ‬ ‫طّيِبي َ‬
‫ن َتَتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ‬ ‫وقد قال في النحل‪} :‬اّلِذي َ‬
‫جّنِة اّلِتي ُكنُتْم‬
‫شُروا ِباْل َ‬
‫حَزُنوا َوَأْب ِ‬
‫ل َت ْ‬
‫خاُفوا َو َ‬‫ل َت َ‬
‫لِئَكُة َأ ّ‬
‫عَلْيِهُم اْلَم َ‬
‫ل َ‬‫سَتَقاُموا َتَتَنّز ُ‬
‫ل ُثّم ا ْ‬
‫ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ‬ ‫وقال في السجدة‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫ُتوَعُدونَ َنْحُن َأْوِلَياُؤُكْم ِفي اْلَحَياِة الّدْنَيا َوِفي اْلِخَرِة َوَلُكْم ِفيَها َما َتْشَتِهي َأنُفُسُكمْ َوَلُكْم ِفيَها َما َتّدُعوَن{ ]فصلت‪ [31 ،30 :‬وقد‬
‫ذكروا أن هذا التنزل عند الموت‪.‬‬
‫ن ِبَما آَتاُهُم الّ‬‫حي َ‬
‫ن َفِر ِ‬
‫عنَد َرّبِهْم ُيْرَزُقو َ‬ ‫حَياء ِ‬ ‫ل َأ ْ‬
‫ل َأْمَواًتا َب ْ‬
‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ُقِتُلوْا ِفي َ‬
‫ن اّلِذي َ‬‫سَب ّ‬
‫حَ‬ ‫وقال تعالى في سورة آل عمران‪َ} :‬و َ‬
‫ل َت ْ‬
‫ل َ‬
‫ل‬ ‫نا ّ‬ ‫ل َوَأ ّ‬‫ضٍ‬ ‫ل َوَف ْ‬‫نا ّ‬ ‫ن ِبِنْعَمٍة ّم َ‬
‫شُرو َ‬ ‫سَتْب ِ‬
‫ن َي ْ‬
‫حَزُنو َ‬ ‫ل ُهْم َي ْ‬
‫عَلْيِهْم َو َ‬
‫ف َ‬
‫خْو ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫خْلِفِهْم َأ ّ‬
‫ن َ‬
‫حُقوْا ِبِهم ّم ْ‬
‫ن َلْم َيْل َ‬
‫ن ِباّلِذي َ‬
‫شُرو َ‬‫سَتْب ِ‬
‫ضِلِه َوَي ْ‬
‫ِمن َف ْ‬
‫ل َأْمَوا ٌ‬
‫ت‬ ‫لا ّ‬ ‫سبي ِ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫ن ُيْقَت ُ‬ ‫ن{ ]آل عمران‪ ، [169-171 :‬وقال قبل ذلك في سورة البقرة‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتُقوُلوْا ِلَم ْ‬ ‫جَر اْلُمْؤِمِني َ‬‫ضيُع َأ ْ‬
‫ُي ِ‬
‫َبْل َأْحَياء َوَلِكن ّل َتْشُعُروَن{ ]البقرة‪.[154 :‬‬

‫خَرى ِإَلى‬
‫لْ‬‫ل ا ُْ‬
‫سُ‬‫ت َوُيْر ِ‬
‫عَلْيَها اْلَمْو َ‬
‫ضى َ‬
‫ك اّلِتي َق َ‬
‫سُ‬
‫ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ‬
‫ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ‬
‫حي َ‬
‫س ِ‬
‫لنُف َ‬ ‫وأيضًا‪ ،‬فقال تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َيَتَوّفى ا َْ‬
‫َأَجٍل ُمسَّمى{ ]الزمر‪ ،[42 :‬وهذا ‪/‬بيان لكون النفس تقبض وقت الموت‪ ،‬ثم منها ما يمسك فل يرسل إلى بدنه‪ ،‬وهو‬
‫عَرض قائم‬
‫الذي قضى عليه الموت‪ ،‬ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى‪ ،‬وهذا إنما يكون في شىء يقوم بنفسه‪ ،‬ل في َ‬
‫بغيره‪ ،‬فهو بيان لوجود النفس المفارقة بالموت‪.‬‬

‫ت جنبي وبك أرفعه‪ ،‬فإن‬


‫ضْع ُ‬
‫والحاديث الصحيحة توافق هذا‪ ،‬كقول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬باسمك ربي َو َ‬
‫ت َنْفسي فارحمها‪ ،‬وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين(‪ .‬وقال ـ لما ناموا عن صلة الصبح‪:‬‬
‫أمسك َ‬
‫ل قبض أرواحنا حيث شاء(‪.‬‬ ‫)إن ا ّ‬

‫جُعُكْم ُثّم ُيَنّبُئُكم ِبَما ُكنُتْم‬


‫سّمى ُثّم ِإَلْيِه َمْر ِ‬ ‫ل ّم َ‬
‫جٌ‬ ‫ضى َأ َ‬ ‫حُتم ِبالّنَهاِر ُثّم َيْبَعُثُكْم ِفيِه ِلُيْق َ‬
‫جَر ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وُهَو اّلِذي َيَتَوّفاُكم ِبالّلْي ِ‬
‫ل َوَيْعَلُم َما َ‬
‫لُهمُ‬‫ل َمْو َ‬ ‫ن ُثّم ُرّدوْا ِإَلى ا ّ‬ ‫طو َ‬‫ل ُيَفّر ُ‬ ‫سُلَنا َوُهْم َ‬
‫حَدُكُم اْلَمْوتُ َتَوّفْتُه ُر ُ‬ ‫جاء َأ َ‬‫ى ِإَذا َ‬ ‫حّت َ‬
‫ظًة َ‬
‫حَف َ‬
‫عَلْيُكم َ‬ ‫ل َ‬
‫سُ‬ ‫عَباِدِه َوُيْر ِ‬‫ق ِ‬
‫ن َوُهَو اْلَقاِهُر َفْو َ‬
‫َتْعَمُلو َ‬
‫ف لها بالنوم إلى أجل الموت الذي ترجع فيه إلى‬ ‫ق َأَل َلُه اْلُحْكُم َوُهَو َأْسَرُع اْلَحاِسِبيَن{ ]النعام‪ ، [60-62 :‬فهذا َتَو ّ‬ ‫حّ‬ ‫اْل َ‬
‫ل‪ ،‬والبدن وما يقوم‬
‫ل‪ ،‬وإخبار أن الملئكة تتوفاها بالموت ثم يردون إلى ا ّ‬
‫ا ّ‬

‫به من العراض ل يرد‪ ،‬إنما يرد الروح‪.‬‬

‫ك الّرْجَعى{ ]العلق‪ ،[8 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ل{ ]يونس‪ ،[30 :‬وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن ِإَلى َرّب َ‬ ‫وهو مثل قوله في يونس‪َ} :‬وُرّدوْا ِإَلى ا ّ‬
‫ضّيًة َفاْدُخِلي ِفي ِعَباِدي َواْدُخِلي َجّنِتي{ ]الفجر‪ ،[27-30 :‬وقال تعالى‪:‬‬
‫ضَيًة ّمْر ِ‬
‫ك َرا ِ‬
‫جِعي ِإَلى َرّب ِ‬‫طَمِئّنُة اْر ِ‬
‫س اْلُم ْ‬
‫}َيا َأّيُتَها الّنْف ُ‬

‫ت اّلِذي ُوّكَل ِبُكْم ُثّم ِإَلى َرّبُكْم ُتْرَجُعوَن{ ]السجدة‪َ ،[11 :‬وتوفى الملك إنما يكون لما هو موجود قائم‬
‫ك اْلَمْو ِ‬
‫ل َيَتوَّفاُكم ّمَل ُ‬
‫}ُق ْ‬
‫بنفسه‪ ،‬وإل فالَعَرض القائم بغيره ل يتوفى‪ ،‬فالحياة القائمة بالبدن ل تتوفى‪ ،‬بل تزول وتعدم كما تعدم حركته وإدراكه‪.‬‬

‫ل ِإّنَها َكِلَمةٌ‬
‫ت َك ّ‬
‫حا ِفيَما َتَرْك ُ‬
‫صاِل ً‬
‫ل َ‬
‫عَم ُ‬
‫ن َلَعّلي َأ ْ‬
‫جُعو ِ‬
‫ب اْر ِ‬
‫ل َر ّ‬
‫ت َقا َ‬
‫حَدُهُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬ ‫حّتى ِإَذا َ‬ ‫وقال تعالى في المؤمنين‪َ } :‬‬
‫ن{ ]المؤمنون‪[100، 99 :‬‬ ‫خ ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬
‫ُهَو َقاِئُلَها َوِمن َوَراِئِهم َبْرَز ٌ‬

‫جُعوَنَها ِإن ُكنُتْم‬


‫ن َتْر ِ‬
‫غْيَر َمِديِني َ‬ ‫ن{ طلب لرجع النفس إلى البدن‪ ،‬كما قال في الواقعة‪َ} :‬فَلْو َ‬
‫ل ِإن ُكنُتْم َ‬ ‫جُعو ِ‬
‫‪ ،‬فقوله‪} :‬اْر ِ‬
‫صاِدِقيَن{ ]الواقعة‪.[87 ،86 :‬‬
‫َ‬

‫ن{‬ ‫وهو يبين أن النفـس موجودة تفارق البـدن بالموت‪ ،‬قال تعالى‪ِ} :‬إّنَها َكِلَمٌة ُهَو َقاِئُلَها َوِمن َوَراِئِهم َبْرَز ٌ‬
‫خ ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ‬
‫]المؤمنون‪ .[100 :‬آخره‪.‬‬

‫ل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬وصلى ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫ل ـ عن ]الروح المؤمنة[ أن الملئكة تتلقاها وتصعد بها إلى السماء التي فيها ال‪.‬‬
‫لم ـ َرحَمُه ا ّ‬
‫سَ‬‫خ ال ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ب‪:‬‬
‫جـا َ‬
‫فَأ َ‬

‫ل(‪ :‬فهذا حديث معروف جيد‬ ‫أما الحديث المذكور في )قبض روح المؤمن‪ ،‬وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها ا ّ‬
‫ي َتُموُر ‪َ .‬أْم َأِمنُتم ّمن ِفي‬
‫ض َفِإَذا ِه َ‬
‫لْر َ‬‫ف ِبُكُم ا َ‬
‫س َ‬
‫خِ‬ ‫ل( بمنزلة قوله تعالى‪َ} :‬أَأِمنُتم ّمن ِفي ال ّ‬
‫سَماء َأن َي ْ‬ ‫السناد‪ ،‬وقوله‪) :‬فيها ا ّ‬
‫ف َنِذيِر{ ]الملك‪ ،[17 ،16 :‬وبمنزلة ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال‬ ‫ن َكْي َ‬
‫سَتْعَلُمو َ‬
‫صًبا َف َ‬
‫حا ِ‬
‫عَلْيُكْم َ‬
‫ل َ‬
‫سَ‬‫سَماء َأن ُيْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫ل‪ .‬قال‪:‬‬‫ل؟(‪ ،‬قالت‪ :‬في السماء‪ ،‬قال‪) :‬من أنا؟( قالت‪ :‬أنت رسول ا ّ‬ ‫عليه وسلم قال لجارية معاوية بن الحكم‪) :‬أين ا ّ‬
‫)أعتقها فإنها مؤمنة(‪.‬‬
‫وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه‪ ،‬كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما‪ ،‬فإن هذا ل يقوله مسلم‪ ،‬ول‬
‫ض{]البقرة‪ ،[255 :‬والسموات في الكرسي كحلقة‬‫لْر َ‬‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫سّيُه ال ّ‬ ‫يعتقده عاقل‪ ،‬فقد قال ـ سبحانه وتعالى‪َ} :‬و ِ‬
‫سَع ُكْر ِ‬
‫ملقاة في أرض َفلة ]الَفلة‪ :‬الرض ل ماء فيها[‪ ،‬والكـرسي فـي الـعرش كحـلقة ملقاة في أرض فلة‪ ،‬والرب ‪ /‬ـ‬
‫سبحانه ـ فوق سمواته‪ ،‬على عرشه‪ ،‬بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شىء من ذاته‪ ،‬ول في ذاته شىء من مخلوقاته‪.‬‬

‫لرض{ ]التوبة‪ ،[2 :‬وقال‪َ} :‬يِتيُهو َ‬


‫ن ِفي‬ ‫ل{ ]طه‪ ،[71 :‬وقال‪ّ} :‬فسي ُ‬
‫حوا ٌفي ا ّ‬ ‫خِ‬‫ع الّن ْ‬
‫جُذو ِ‬
‫صّلَبّنُكْم ِفي ُ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬و َُ‬
‫ل َ‬
‫ض{ ]المائدة‪ [26 :‬وليس المراد أنهم في جوف النخل‪ ،‬وجوف الرض‪ ،‬بل معنى ذلك أنه فوق السموات‪،‬‬ ‫لْر ِ‬
‫اَ‬
‫وعليها‪ ،‬بائن من المخلوقات‪ ،‬كما أخبر في كتابه عن نفسه أنه خلق السموات والرض في ستة أيام‪ ،‬ثم استوى على‬
‫العرش‪.‬‬

‫ح ِإَلْيِه{ ]المعارج‪،[4 :‬‬


‫لِئَكُة َوالّرو ُ‬
‫ج اْلَم َ‬
‫ي{ ]آل عمران‪ ،[55 :‬وقال تعالى{ َتْعُر ُ‬
‫ك ِإَل ّ‬
‫ك َوَراِفُع َ‬
‫سى ِإّني ُمَتَوّفي َ‬‫عي َ‬ ‫وقال‪َ} :‬يا ِ‬
‫ل ِإَلْيِه{ ]النساء‪ ،[158 :‬وأمثال ذلك في الكتاب والسنة وجواب هذه المسألة مبسوط في غير هذا‬ ‫وقال‪َ} :‬بل ّرَفَعُه ا ّ‬
‫الموضع‪.‬‬

‫ل‪:‬‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ت ِفى َقْبِرِه؟‬
‫ل َيَتكَّلُم اْلَمي ُ‬
‫َه ْ‬

‫فقـــال‪:‬‬

‫وأما سؤال السائل‪ :‬هل يتكلم الميت في قبره‪ ،‬فجوابه‪ :‬أنه يتكلم‪ ،‬وقد يسمع ـ أيضًا ـ من كلمه‪ ،‬كما ثبت في الصحيح‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إنهم يسمعون َقْرع نعالهم( ‪ ،‬وثبت عنه في الصحيح أن الميت يسأل في قبره‪،‬‬
‫ل ربي‪ ،‬والسلم ديني‪،‬‬ ‫ل الذين آمنوا بالقول الثابت‪ ،‬فيقول‪ :‬ا ّ‬ ‫فيقال له‪ :‬من ربك‪ ،‬وما دينك‪ ،‬ومن نبيك‪ ،‬فيثبت ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬جاءنا بالبينات‬ ‫ومحمد نبيي‪ ،‬ويقال له‪ :‬ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‪ ،‬فيقول المؤمن‪ :‬هو عبد ا ّ‬
‫خَرِة{‬
‫حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ‬
‫ت ِفي اْل َ‬
‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫والهدى‪ ،‬فآمنا به واتبعناه‪ ،‬وهذا تأويل قوله تعالى‪ُ} :‬يَثّب ُ‬
‫تا ّ‬
‫]إبراهيم‪.[27 :‬‬

‫وقد صح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر‪ ،‬وكذلك يتكلم المنافق فيقول‪ :‬آه‪ ،‬آه‪ ،‬ل أدرى !‬
‫سمعت الناس يقولون شيًئا فقلته؛ فيضرب ِبِمْرَزبٍة من حديد‪ ،‬فيصيح صيحة يسمعها كل شىء إل النسان‪.‬‬

‫ل أن يسمعكم عذاب القبر مثل الذي أسمع(‪ ،‬وثبت عنه في‬ ‫وثبت عنه في الصحيح أنه قال‪) :‬لول أل تدافنوا‪ ،‬لسألت ا ّ‬
‫الصحيح أنه نادى المشركين يوم بدر‪ ،‬لما ألقاهم في الَقِليب‪ ،‬وقال‪) :‬ما أنتم بأسمع لما أقول منهم(‪ .‬والثار في هذا‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫كثيرة منتشرة‪ ،‬وا ّ‬

‫ل َتَعاَلى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات؛ تدخل الروح في جسده ويجلس‬
‫لم ـ َرحمُه ا ُّ‬
‫سَ‬‫خ ال ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ويجاوب منكرًا ونكيرًا‪ ،‬فيحتاح موًتا ثانيًا؟‬

‫ب‪:‬‬
‫جــا َ‬
‫َفَأ َ‬

‫عود الروح إلى بدن الميت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض‬
‫الوجوه‪ ،‬كما أن النشأة الخرى ليست مثل هذه النشأة‪ ،‬وإن كانت أكمل منها‪ ،‬بل كل موطن في هذه الدار وفي البرزخ‬
‫سع له في قبره وُيسأل ونحو ذلك‪ ،‬وإن‬
‫والقيامة له حكم يخصه؛ ولهذا أخبر النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن الميت ُيَو ّ‬
‫كان التراب قد ل يتغير فالرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه‪.‬‬

‫وهل يسمى ذلك موتًا؟ فيه قولن‪:‬‬

‫قيل‪ :‬يسمى ذلك موتًا‪ ،‬وتأولوا على ذلك قوله تعالى‪َ} :‬رّبَنا َأَمّتَنا اْثَنَتْيِن َوَأْحَيْيَتَنا اْثَنَتْيِن{ ]غافر‪ :[11 :‬قيل إن الحياة‬
‫الولى في هذه الدار‪ ،‬والحياة الثانية في القبر‪/ .‬والموتة الثانية في القبر‪ ،‬والصحيح أن هذه الية كقوله‪َ {:‬وُكنُتْم َأْمَواتًا‬
‫حِييُكْم{ ]البقرة‪ ،[28 :‬فالموتة الولى قبل هذه الحياة‪ ،‬والموتة الثانية بعد هذه الحياة‪ .‬وقوله‬ ‫حَياُكمْ ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُي ْ‬
‫َفَأ ْ‬
‫خَرى{‬
‫جُكْم َتاَرًة ُأ ْ‬
‫خِر ُ‬ ‫حِييُكْم{ بعد الموت‪ .‬قال تعالى‪ِ} :‬مْنَها َ‬
‫خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيُدُكْم َوِمْنَها ُن ْ‬ ‫تعالى‪ُ} :‬ثّم ُي ْ‬

‫{ ]طه‪ ،[55 :‬وقال‪َ} :‬قاَل ِفيَها َتْحَيْوَن َوِفيَها َتُموُتوَن َوِمْنَها ُتْخَرُجوَن{]العراف‪ ،[25 :‬فالروح تتصل بالبدن متى شاء ا ّ‬
‫ل‬
‫ل تعالى‪ ،‬ل يتوقت ذلك بمرة ول مرتين‪ ،‬والنوم أخو الموت‪.‬‬ ‫تعالى‪ ،‬وتفارقه متى شاء ا ّ‬

‫ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه‪) :‬باسمك الّلهم أموت وأحيا(‪ ،‬وكان إذا استيقظ يقول‪:‬‬
‫ل الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور(‪ ،‬فقد سمى النوم موًتا‪ ،‬والستيقاظ حياة‪.‬‬
‫)الحمد ّ‬

‫جٍ‬
‫ل‬ ‫خَرى ِإَلى َأ َ‬
‫لْ‬
‫ل ا ُْ‬
‫سُ‬‫ت َوُيْر ِ‬
‫عَلْيَها اْلَمْو َ‬
‫ضى َ‬
‫ك اّلِتي َق َ‬
‫سُ‬
‫ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ‬
‫ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ‬
‫حي َ‬
‫س ِ‬
‫لنُف َ‬ ‫وقد قال تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َيَتَوّفى ا َْ‬
‫ُمَسّمى{ ]الزمر‪ ،[42 :‬فبين أنه يتوفى النفس على نوعين‪ :‬فيتوفاها حين الموت‪ ،‬ويتوفى النفس التي لم تمت بالنوم‪،‬‬
‫ثم إذا ناموا فمن مات في منامه أمسك نفسه‪ ،‬ومن لم يمت أرسل نفسه‪.‬‬

‫ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال‪) :‬باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه‪ ،‬فإن أمسكت‬
‫نفسي فارحمها‪ ،‬وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين(‪.‬‬

‫والنائم يحصل له في منامه لذة وألم‪ ،‬وذلك يحصل للروح والبدن‪ ،‬حتى ‪ /‬إنه يحصل له في منامه من يضربه‪ ،‬فيصبح‬
‫والوجع في بدنه‪ ،‬ويرى في منامه أنه أطعم شيًئا طيًبا‪ ،‬فيصبح وطعمه في فمه وهذا موجود‪ .‬فإذا كان النائم يحصل‬
‫لروحه وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به ـ والذي إلى جنبه ل يحس به ـ حتى قد يصيح النائم من شدة اللم‪ ،‬أو‬
‫الفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه‪ ،‬وقد يتكلم إما بقرآن‪ ،‬وإما بذكر‪ ،‬وإما بجواب‪.‬‬

‫واليقظان يسمع ذلك وهو نائم‪ ،‬عينه مغمضة‪ ،‬ولو خوطب لم يسمع ـ فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه يسمع قرع نعالهم‪ ،‬وقال‪) :‬ما أنتم أسمع لما أقول منهم(‪.‬‬

‫ل أجوافهم وقبورهم‬ ‫لا ّ‬‫والقلب يشبه القبر؛ ولهذا قال صلى ال عليه وسلم ـ لما فاتته صلة العصر يوم الخندق‪) :‬م َ‬
‫صُدوِر{ ]العاديات‪:‬‬
‫ل َما ِفي ال ّ‬
‫صَ‬ ‫نارًا(‪ ،‬وفي لفظ‪) :‬قلوبهم وقبورهم نارًا( وفرق بينهما في قوله‪ُ} :‬بْعِثَر َما ِفي اْلُقُبوِر َو ُ‬
‫ح ّ‬
‫‪[10 ،9‬‬

‫وهذا تقريب و تقرير لمكان ذلك‪.‬‬

‫ول يجوز أن يقال‪ :‬ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب‪ ،‬مثلما ـ يجده النائم في منامه‪ ،‬بل ذلك النعيم والعذاب‬
‫أكمل وأبلغ وأتم وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي‪ ،‬ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ذلك‪ ،‬إذا قال السائل‪ :‬الميت ل‬
‫يتحرك في قبره‪ ،‬والتراب ل يتغير‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مع أن هذه المسألة لها بسط يطول‪ ،‬وشرح ل تحتمله هذه الورقة‪،‬‬
‫ل على محمد وآله وصحبه وسلم‪.‬‬ ‫ل أعلم‪ .‬وصلى ا ّ‬‫وا ّ‬

‫ل عن الصغير‪ ،‬وعن الطفل إذا مات‪ :‬هل يمتحن ؟ إلخ‬


‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ل أعلم بما كانوا عاملين‪ ،‬ولبسطه موضع آخر‪.‬‬


‫‪ . . .‬الوقوف فيهم وأن يقال‪ :‬ا ّ‬

‫وإذا مات الطفل فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير؟ فيه قولن في مذهب أحمد وغيره‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه ل يمتحن‪ ،‬وأن المحنة إنما تكون على من كلف في الدنيا‪ ،‬قاله طائفة‪ :‬منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أنهم يمتحنون‪ ،‬ذكره أبوحكيم الهمداني‪ ،‬وأبو الحسن ابن عبدوس‪ ،‬ونقله عن أصحاب الشافعي‪ .‬وعلى هذا‬
‫التفصيل تلقين الصغير والمجنون‪ :‬من قال إنه يمتحن في القبر‪ ،‬لقنه‪ .‬ومن قال‪ :‬ل يمتحن‪ ،‬لم يلقنه‪ .‬وقد روى مالك‬
‫ل عنه ـ أنه صلى ال عليه وسلم صلى على طفل‪ ،‬فقال‪) :‬الّلهم ِقِه عذاب القبر وفتنة‬
‫وغيره عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫القبر(‪ ،‬وهذا القول موافق لقول من قال‪ :‬إنهم يمتحنون في الخرة‪ ،‬وإنهم مكلفون يوم القيامة‪ ،‬كما هو قول أكثر أهل‬
‫العلم ‪/‬وأهل السنة من أهل الحديث والكلم‪ ،‬وهو الذي ذكره أبو الحسن الشعري عن أهل السنة واختاره‪ ،‬وهو‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫مقتضى نصوص المام أحمد‪ ،‬وا ّ‬

‫وإذا دخل أطفال المؤمنين الجنة فأرواحهم وأرواح غيرهم من المؤمنين في الجنة‪ ،‬وإن كانت درجاتهم متفاضلة‪،‬‬
‫والصغار يتفاضلون بتفاضل آبائهم‪ ،‬وتفاضل أعمالهم إذا كانت لهم أعمال ـ فإن إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم ليس هو كغيره‪ ،‬والطفال الصغار يثابون على ما يفعلونه من الحسنات‪ ،‬وإن كان القلم مرفوعًا عنهم في‬
‫حّفة فقالت‪ :‬ألهذا حج؟ قال‪:‬‬
‫ت إليه امرأة صبًيا من ِم َ‬
‫السيئات؛ كما ثبت في الصحيح‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم َرفع ْ‬
‫)نعم‪ .‬ولك أجر(‪ .‬رواه مسلم في صحيحه‪.‬‬

‫صّومون‬
‫شٍر‪ ،‬وَفّرقوا بينهم في المضاجع(‪ .‬وكانوا ُي َ‬‫سبٍع‪ ،‬واضربوهم عليها ِلَع ْ‬
‫وفي السنن أنه قال‪ُ) :‬مُروهم بالصلة ِل َ‬
‫الصغار يوم عاشوراء وغيره‪ ،‬فالصبي يثاب على صلته وصومه‪ ،‬وحجه وغير ذلك من أعماله‪ ،‬ويفضل بذلك على‬
‫من لم يعمل كعمله‪ ،‬وهذا غير ما يفعل به إكرامًا لبويه‪ ،‬كما أنه في النعم الدنيوية قد ينتفع بما يكسبه وبما يعطيه‬
‫أبواه‪ ،‬ويتميز بذلك على من ليس كذلك‪.‬‬

‫ق من‬
‫وأرواح المؤمنين في الجنة‪ ،‬كما جاءت بذلك الثار‪ ،‬وهو كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬نسمة المؤمن َتْعُل ُ‬
‫الجنة( أي‪ :‬تأكل‪ ،‬ولم يوقت في ذلك وقت قبل يوم القيامة‪.‬‬

‫‪ /‬والرواح مخلوقة بل شك‪ ،‬وهي ل تعدم ول تفنى‪ ،‬ولكن موتها مفارقة البدان‪ ،‬وعند النفخة الثانية تعاد الرواح‬
‫إلى البدان‪.‬‬

‫وأهل الجنة الذين يدخلونها على صورة أبيهم آدم ـ عليه السلم ـ طول أحدهم ستون ذراعًا‪ ،‬كما ثبت ذلك في‬
‫الحاديث الصحيحة‪.‬‬

‫وقد قال بعض الناس‪ :‬إن أطفال الكفار يكونون خدم أهل الجنة‪ ،‬ول أصل لهذا القول‪.‬‬

‫ل لها خلقًا آخر فيسكنهم الجنة‪ ،‬فإذا كان‬


‫وقد ثبت في الصحيحين أن الجنة يبقى فيها فضل عن أهل الدنيا‪ ،‬فينشئ ا ّ‬
‫يسكن من ينشئه من الجنة من غير ولد آدم في فضول الجنة‪ ،‬فكيف بمن دخلها من ولد آدم وأسكن في غير فضولها؟‬
‫فليسوا أحق بأن يكونوا من أهل الجنة‪ ،‬ممن ينشأ بعد ذلك ويسكن فضولها‪.‬‬

‫وأما الورود المذكور في قوله تعالى‪َ} :‬وِإن ّمنُكْم ِإّل َواِرُدَها{ ]مريم‪ [71 :‬فقد فسره النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث الصحيح‪ ،‬رواه مسلم في صحيحه عن جابر‪) :‬بأنه المرور على الصراط(‪ ،‬والصراط هو الجسر‪ ،‬فلبد من‬
‫المرور عليه لكل من يدخل الجنة‪ ،‬من كان صغيرًا في الدنيا ومن لم يكن‪.‬‬

‫والولدان ـ الذين يطوفون على أهل الجنة ـ خلق من خلق الجنة‪ ،‬ليسوا من أبناء الدنيا‪ ،‬بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا‬
‫الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة‪ ،‬على صورة آدم‪ ،‬أبناء ثلث وثلثين في طول ستين ذراعًا‪ ،‬كما تقدم‪ .‬وقد روى أن‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫العرض سبعة أذرع‪ ،‬وا ّ‬

‫ل ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ول يسأل؟ وبماذا يسأل عنه؟ وهل يستوى في‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫خ ـ َر ِ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫الحياة والسؤال من يكلف ومن ل يكلف؟‬

‫ب‪:‬‬
‫جــا َ‬
‫فَأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬أما من ليس مكلفًا كالصغير والمجنون‪ ،‬فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير ؟ على قولين‬
‫الحمد ّ‬
‫للعلماء‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه يمتحن وهو قول أكثر أهل السنة‪ ،‬ذكره أبو الحسن ابن عبدوس عنهم‪ ،‬وذكره أبو حكيم النهروانى‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنه ل يمتحن في قبره‪ ،‬كما ذكره القاضي أبو يعلى‪ ،‬وابن عقيل وغيرهما‪ .‬قالوا‪ :‬لن المحنة إنما تكون لمن‬
‫يكلف في الدنيا‪.‬‬

‫ل عنه ـ أنه صلى ال عليه وسلم صلى على صغير‬‫ومن قال بالول‪ ،‬يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫لم يعمل خطيئة قط‪ ،‬فقال‪) :‬الّلهم قه عذاب القبر وفتنة القبر(‪ .‬وهذا يدل على أنه يفتن‪.‬‬

‫‪/‬وأيضًا‪ ،‬فهذا مبني على أن أطفال الكفار ـ الذين لم يكلفوا في الدنيا ـ يكلفون في الخرة‪ ،‬كما وردت بذلك أحاديث‬
‫متعددة‪ ،‬وهو القول الذي حكاه أبو الحسن الشعري عن أهل السنة والجماعة‪ ،‬فإن النصوص عن الئمة كالمام أحمد‬
‫وغيره‪ :‬الوقف في أطفال المشركين‪ ،‬كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه سئل عنهم فقال‪) :‬الّ‬
‫أعلم بما كانوا عاملين(‪.‬‬

‫سُمَرة أن منهم من يدخل الجنة‪ .‬وثبت في صحيح مسلم أن الغلم الذي قتله‬ ‫وثبت في صحيح البخاري من حديث َ‬
‫طِبع كافرًا؛ فإن كان الطفال وغيرهم فيهم شقي وسعيد‪ ،‬فإذا كان ذلك لمتحانهم في الدنيا لم يمنع‬ ‫طِبع يوم ُ‬
‫الخضر ُ‬
‫ن من أطفال المؤمنين بأنه في الجنة‪ ،‬وإن شهد لهم‬ ‫امتحانهم في القبور‪ ،‬لكن هذا مبني على أنه ل يشهد لكل ُمَعي ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫مطلقًا‪ ،‬ولو شهد لهم مطلًقا‪ .‬فالطفل الذي ولد بين المسلمين قد يكون منافقًا بين مؤمنين‪ ،‬وا ّ‬

‫حُه ـ وهو بمصر عن ]عذاب القبر[‪ :‬هل هو على الّنْفس‪ ،‬والَبدن أو على النفس‬ ‫ل ُرو َ‬‫س ا ُّ‬
‫سلم ـ َقّد َ‬
‫شْيخ ال ْ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬
‫دون البدن؟ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم َتُعْد‪ ،‬فهل يتشاركان في العذاب‬
‫والنعيم؟ أو يكون ذلك على أحدهما دون الخر؟‬

‫عْنُه‪ ،‬وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين‪:‬‬


‫ل َ‬
‫ى ا ُّ‬
‫ضَ‬
‫ب ـ َر ِ‬
‫جا َ‬
‫فَأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ .‬بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة‪ ،‬تنعم النفس وتعذب‬
‫الحمد ّ‬
‫منفردة عن البدن‪ ،‬وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها‪ ،‬فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين‪،‬‬
‫كما يكون للروح منفردة عن البدن‪.‬‬

‫وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟‬

‫هذا فيه قولن مشهوران لهل الحديث والسنة والكلم‪ ،‬وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث‪،‬‬
‫قول من يقول‪ :‬إن النعيم والعذاب ل يكون إل على الروح؛ وإن البدن ل ينعم ول يعذب‪ .‬وهذا تقوله الفلسفة‬
‫المنكرون لمعاد البدان‪ ،‬وهؤلء كفار بإجماع المسلمين‪.‬‬

‫ويقوله كثير من أهل الكلم من المعتزلة وغيرهم‪ ،‬الذين يقولون‪ :‬ل يكون ذلك في البرزخ‪ ،‬وإنما يكون عند القيام من‬
‫القبور‪.‬‬

‫وقول من يقول‪ :‬إن الروح بمفردها ل تنعم ول تعذب‪ ،‬وإنما الروح هي الحياة‪ ،‬وهذا يقوله طوائف من أهل الكلم‪،‬‬
‫من المعتزلة‪ ،‬وأصحاب أبي الحسن الشعري‪ ،‬كالقاضي أبي بكر‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق‬
‫جَوْيني وغيره‪ ،‬بل قد ثبت في الكتاب والسنة‪ ،‬واتفاق سلف المة‪،‬‬
‫البدن‪ ،‬وهذا قول باطل‪ ،‬خالفه الستاذ أبو المعالي ال ُ‬
‫أن الروح تبقى بعد فراق البدن‪ ،‬وأنها منعمة أو معذبة‪.‬‬

‫والفلسفة اللهيون يقولون بهذا‪ ،‬لكن ينكرون َمَعاد البدان‪ ،‬وهؤلء يقرون بمعاد البدان‪ ،‬لكن ينكرون معاد‬
‫الرواح‪ ،‬ونعيمها وعذابها بدون البدان‪ ،‬وكل القولين خطأ وضلل‪ ،‬لكن قول الفلسفة أبعد عن أقوال أهل السلم‪،‬‬
‫وإن كان قد يوافقهم عليه‬

‫حه ـ وهو بمصر عن ]عذاب القبر[‪ :‬هل هو على الّنْفس والَبدن أو على النفس دون‬ ‫ل ُرو َ‬
‫س ا ُّ‬
‫سلم ـ َقّد َ‬
‫شْيخ ال ْ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬
‫البدن؟ والميت يعذب في قبره حًيا أم ميًتا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم َتُعْد‪ ,‬فهل يتشاركان في العذاب والنعيم؟‬
‫أو يكون ذلك على أحدهما دون الخر؟‬
‫عْنُه‪ ,‬وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين‪:‬‬
‫ل َ‬
‫ى ا ُّ‬
‫ضَ‬
‫ب ـ َر ِ‬
‫جا َ‬
‫فَأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ .‬بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميًعا باتفاق أهل السنة والجماعة‪ ,‬تنعم النفس وتعذب‬
‫الحمد ّ‬
‫منفردة عن البدن‪ ,‬وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها‪ ,‬فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين‪,‬‬
‫كما يكون للروح منفردة عن البدن‪.‬‬

‫وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟‬

‫هذا فيه قولن مشهوران ‪/‬لهل الحديث والسنة والكلم‪ ,‬وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث‪,‬‬
‫قول من يقول‪ :‬إن النعيم والعذاب ل يكون إل على الروح؛ وأن البدن ل ينعم ول يعذب‪ .‬وهذا تقوله الفلسفة‬
‫المنكرون لمعاد البدان‪ ,‬وهؤلء كفار بإجماع المسلمين‪.‬‬

‫ويقوله كثير من أهل الكلم من المعتزلة وغيرهم‪ ,‬الذين يقولون‪ :‬ل يكون ذلك في البرزخ‪ ,‬وإنما يكون عند القيام من‬
‫القبور‪.‬‬

‫وقول من يقول‪ :‬إن الروح بمفردها ل تنعم ول تعذب‪ ,‬وإنما الروح هي الحياة‪ ,‬وهذا يقوله طوائف من أهل الكلم‪ ,‬من‬
‫المعتزلة‪ ,‬وأصحاب أبي الحسن الشعري‪ ,‬كالقاضي أبي بكر‪ ,‬وغيرهم‪ ,‬وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن‪,‬‬
‫جَوْيني وغيره‪ ,‬بل قد ثبت في الكتاب والسنة‪ ,‬واتفاق سلف المة‪ ,‬أن‬
‫وهذا قول باطل‪ ,‬خالفه الستاذ أبو المعالي ال ُ‬
‫الروح تبقى بعد فراق البدن‪ ,‬وأنها منعمة أو معذبة‪.‬‬

‫من يعتقد أنه متمسك بدين السلم‪ ,‬بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف‪ ,‬والتحقيق والكلم‪.‬‬

‫‪/‬والقول الثالث الشاذ‪ :‬قول من يقول‪ :‬إن البرزخ ليس فيه نعيم ول عذاب‪ ,‬بل ل يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى‪,‬‬
‫كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة‪ ,‬ونحوهم‪ ,‬الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه‪ ,‬بناء على أن الروح ل تبقى بعد‬
‫فراق البدن‪ ,‬وأن البدن ل ينعم ول يعذب‪.‬‬

‫فجميع هؤلء الطائفتين ضلل في أمر البرزخ‪ ,‬لكنهم خير من الفلسفة؛ لنهم يقرون بالقيامة الكبرى‪.‬‬

‫فإذا عرفت هذه القوال الثلثة الباطلة‪ ,‬فاعلم أن مذهب سلف المة وأئمتها‪ :‬أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو‬
‫عذاب‪ ,‬وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه‪ ,‬وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة‪ ,‬وأنها تتصل بالبدن أحياًنا‪,‬‬
‫فيحصل له معها النعيم والعذاب‪.‬‬

‫ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الرواح إلى أجسادها‪ ,‬وقاموا من قبورهم لرب العالمين‪.‬‬

‫ومعاد البدان متفق عليه عند المسلمين‪ ,‬واليهود‪ ,‬والنصارى‪ .‬وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة‪.‬‬

‫وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم‪ ,‬وأنكره أكثرهم‪.‬‬

‫‪/‬ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه‪ .‬فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير‪ :‬فكثيرة متواترة عن النبي صلى ال‬
‫ل عنهما ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم مّر بقبرين فقال‪:‬‬ ‫عليه وسلم‪ ,‬مثل ما في الصحيحين‪ :‬عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫سَتِتر من َبْوله(‪ ,‬ثم دعا‬
‫)إنهما لُيَعّذبان وما ُيَعّذبان في كبير‪ ,‬أما أحدهما فكان يمشى بالّنِميمة‪ ,‬وأما الخر فكان ل َي ْ‬
‫ت هذا؟ قال‪) :‬لعله ُيخّفف عنهما‬ ‫ل‪ ,‬لم فعل َ‬
‫بجريدة رطبة فشقها نصفين‪ ,‬ثم غرز في كل قبر واحدة‪ .‬فقالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫سا(‪.‬‬‫ما لم َييَْب َ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة ـ ونحن‬ ‫وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال‪ :‬بينا رسول ا ّ‬
‫معه ـ إذ جالت به‪ ,‬فكادت تلقيه‪ ,‬فإذا أقبر ستة أو خمسة‪ ,‬أو أربعة‪ .‬فقال‪) :‬من يعرف هذه القبور؟( فقال رجل‪ :‬أنا‪.‬‬
‫ل أن‬‫قال‪) :‬فمتى هؤلء؟( قال‪ :‬ماتوا في الشراك‪ .‬فقال‪) :‬إن هذه المة تبتلى في قبورها؛ فلول أل تدافنوا لدعوت ا ّ‬
‫ل من عذاب القبر(‪ .‬قالوا‪ :‬نعوذ با ّ‬
‫ل‬ ‫سمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه(‪ ,‬ثم أقبل علينا بوجهه فقال‪َ) :‬تعّوذوا با ّ‬
‫ُي ِ‬
‫ل من الفتن ما‬
‫ل من عذاب النار‪ .‬قال‪) :‬تعوذوا با ّ‬‫ل من عذاب النار(‪ .‬قالوا‪ :‬نعوذ با ّ‬‫من عذاب القبر‪ .‬قال‪) :‬تعوذوا با ّ‬
‫ل من فتنة الدجال(‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫ل من الفتن ما ظهر منها وما بطن‪ .‬قال‪) :‬تعوذوا با ّ‬ ‫ظهر منها وما بطن(‪ .‬قالوا‪ :‬نعوذ با ّ‬
‫ل من فتنة الدجال‪.‬‬‫نعوذ با ّ‬

‫ل عنه ـ أن النبي‪/‬صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا فرغ أحدكم‬‫وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل من أربع‪ :‬من عذاب جهنم‪ ,‬ومن عذاب القبر‪ ,‬ومن فتنة المحيا والممات‪ ,‬ومن فتنة‬‫من التشهد الخير فليقل‪ :‬أعوذ با ّ‬
‫المسيح الدجال(‪.‬‬

‫ل عنهما ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا‬


‫وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن‪) :‬اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم‪ ,‬وأعوذ بك من عذاب القبر‪ ,‬وأعوذ بك من‬
‫فتنة المسيح الدجال‪ ,‬وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات(‪.‬‬

‫ت الشمس‪,‬‬
‫وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب النصاري قال‪ :‬خرج النبي صلى ال عليه وسلم وقد وجََب ِ‬
‫جَبت الشمس‪،‬أي غابت[ ‪.‬‬
‫فقال‪) :‬يهود يعذبون في قبورهم( ]و َ‬

‫ى عجوز من عجائز يهود المدينة‪ ,‬فقالت‪ :‬إن أهل‬‫ل عنها ـ قالت‪ :‬دخلت عل ّ‬ ‫وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه‬ ‫ي رسول ا ّ‬ ‫القبور يعذبون في قبورهم‪ .‬قالت‪ :‬فكذبتها ولم أْنَعْم أن أصدقها‪ ,‬قالت‪ :‬فخرجت فدخل عل ّ‬
‫ى‪ ،‬فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم‬ ‫ل‪ ,‬عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت عل ّ‬ ‫وسلم‪ ,‬فقلت‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ت‪ ,‬إنهم يعذبون عذاًبا يسمعه البهائم كلها(‪ ,‬فما رأيته بعد في صلة إل يتعوذ من عذاب القبر‪.‬‬
‫صَدَق ْ‬
‫‪.‬فقال‪َ ) :‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم وأنا‬‫ي رسول ا ّ‬‫ل عنها ـ قالت‪ :‬دخل عل ّ‬


‫شر ـ رضي ا ّ‬ ‫وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم ُمَب ّ‬
‫ل‪ ,‬للقبر عذاب؟ فقال‪) :‬إنهم ليعذبون في قبورهم‬
‫ل من عذاب‪/‬القبر(‪.‬فقلت‪ :‬يا رسول ا ّ‬ ‫في حائط وهو يقول‪) :‬تعوذوا با ّ‬
‫عذاًبا تسمعه البهائم(‪.‬‬

‫قال بعضهم‪ :‬ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت ]أي‪ :‬أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع الَبْقل[‬
‫إلى قبور اليهود‪ ,‬والنصارى والمنافقين‪ ,‬كالسماعيلية والنصيرية‪ ,‬وسائر القرامطة‪ :‬من بني عبيد وغيرهم‪ ,‬الذين‬
‫بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك‪ ,‬كما يقصدون قبور اليهود والنصارى‪,‬‬
‫ل‪ ,‬وإنما هو من هذا القبيل‪ .‬فقد قيل‪ :‬إن الخيل إذا سمعت عذاب‬‫والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة‪ ,‬وأنهم من أولياء ا ّ‬
‫القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل‪ .‬والحديث في هذا كثير ل يتسع له هذا السؤال‪.‬‬

‫ل صلى‬‫ل عنه ـ أن رسول ا ّ‬ ‫ضا‪ ,‬كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب ـ رضي ا ّ‬ ‫وأحاديث المسألة كثيرة أي ً‬
‫ل تعالى‪:‬‬ ‫ل ؛ فذلك قول ا ّ‬ ‫ل‪ ,‬وأن محمًدا رسول ا ّ‬ ‫ال عليه وسلم قال‪) :‬المسلم إذا سئل في قبره شهد أن ل إله إل ا ّ‬
‫ت ِفي اْلَحَياِة الّدْنَيا َوِفي الِخَرِة{ ]إبراهيم‪ .[27:‬وفي لفظ‪) :‬نزلت في عذاب القبر يقال له‪:‬‬ ‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫تا ّ‬
‫}ُيَثّب ُ‬
‫ت ِفي‬
‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلقَْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ل تعالى‪ُ} :‬يَثّب ُ‬
‫تا ّ‬ ‫ل‪ ,‬وديني السلم‪ ,‬ونبيي محمد‪ ,‬وذلك قول ا ّ‬ ‫من ربك؟ فيقول‪ :‬ربي ا ّ‬
‫ل َما َيَشاُء{]إبراهيم‪.[27:‬‬
‫لا ّ‬
‫ن َوَيْفَع ُ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل ال ّ‬‫لا ّ‬‫ضّ‬ ‫خَرِة َوُي ِ‬ ‫حَياِة الّدْنَيا َوِفي ال ِ‬
‫اْل َ‬

‫ل‪ ,‬كما في سنن أبي داود ‪/‬وغيره عن البراء بن عازب ـ رضي ا ّ‬


‫ل‬ ‫وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطو ً‬
‫ل صلى ال عليه وسلم في جنازة رجل من النصار‪ ,‬فانتهينا إلى القبر ولما يلحد‪,‬‬ ‫عنه ـ قال‪ :‬خرجنا مع رسول ا ّ‬
‫فجلس النبي صلى ال عليه وسلم وجلسنا حوله‪ ,‬كأنما على رؤوسنا الطير‪ ,‬وفي يده عود ينكت به الرض‪ ,‬فرفع‬
‫ل من عذاب القبر( مرتين أو ثلثا‪ ,‬وذكر صفة قبض الروح وعروجها إلى السماء‪ ,‬ثم عودها‬ ‫رأسه فقال‪) :‬استعيذوا با ّ‬
‫ق نعالهم إذا َوّلوا مدبرين حين يقال له‪ :‬يا هذا‪ ,‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟( ‪.‬‬
‫خْف َ‬
‫إليه‪ .‬إلى أن قال‪) :‬وإنه ليسمع َ‬

‫ل‪ .‬فيقولن له‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬ديني السلم‪.‬‬ ‫وفي لفظ‪) :‬فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولن له‪:‬من ربك؟ فيقول‪ :‬ربي ا ّ‬
‫ل‪ .‬فيقولن‪ :‬وما يدريك؟ فيقول‪ :‬قرأت كتاب ا ّ‬
‫ل‬ ‫فيقولن‪ :‬ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟( قال‪) :‬فيقول‪ :‬هو رسول ا ّ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ن‬ ‫ل ال ّ‬
‫لا ّ‬
‫خَرِة َوُيضِ ّ‬
‫حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ‬
‫ل الّثاِبتِ ِفي اْل َ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ل‪ُ} :‬يَثّب ُ‬
‫تا ّ‬ ‫وآمنت به‪ ,‬وصدقت به‪ ,‬فذلك قول ا ّ‬
‫ل َما َيَشاء{ ]إبراهيم‪ .([27:‬قال‪) :‬فينادي مناد من السماء‪ :‬أن صدق عبدي‪ ,‬فافرشوا له في الجنة‪ ,‬وألبسوه من‬ ‫لا ّ‬
‫َوَيْفَع ُ‬
‫الجنة‪ ,‬وافتحوا له باًبا إلى الجنة(‪ .‬قال‪) :‬فيأتيه من روحها وطيبها(‪ .‬قال‪) :‬ويفسح له مد بصره( ‪ .‬قال‪):‬وإن الكافر(‬
‫فذكر موته‪ .‬وقال‪) :‬وتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه‪ ,‬فيقولن له‪ :‬من ربك؟ فيقول هاه‪ ،‬هاه‪ ,‬ل أدري‪,‬‬
‫فيقولن له‪ :‬ما دينك؟ فيقول‪ :‬هاه‪ .‬هاه‪ .‬ل أدري‪ ,‬فينادي مناد من السماء‪ :‬أن كذب عبدي‪ ,‬فافرشوا له من النار‪,‬‬
‫سمومها(‪ .‬قال‪) :‬ويضيق عليه قبره حتى‬ ‫حّرها و ُ‬
‫وألبسوه من النار‪ / ,‬وافتحوا له باًبا إلى النار(‪ .‬قال‪) :‬ويأتيه من َ‬
‫تختلف فيه أضلعه( ‪ .‬قال‪) :‬ثم يقيض له أعمى أبكم معه ِمْرَزَبة من حديد‪ ,‬لو ضرب بها جبل لصار تراًبا( ‪ .‬قال‪:‬‬
‫)فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إل الثقلين‪ ,‬فيصير تراًبا‪ ,‬ثم تعاد فيه الروح(‪.‬‬

‫فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد‪ ,‬وباختلف أضلعه‪ ,‬وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن‬
‫مجتمعين‪.‬‬

‫وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة‪ ,‬والنعيم والعذاب‪ ,‬رواه أبوهريرة‪ ,‬وحديثه في المسند وغيره‪,‬‬
‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن‬ ‫حّبان في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬ ‫ورواه أبو حاتم ابن ِ‬
‫الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم‪ ,‬إذا ولوا عنه مدبرين‪ ,‬فإن كان مؤمنا كانت الصلة عند رأسه‪ ,‬وكان‬
‫الصيام عن يمينه‪ ,‬وكانت الصدقة عن شماله‪ ,‬وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والحسان عند رجليه‪,‬‬
‫فيأتيه الملكان من قبل رأسه‪ ,‬فتقول الصلة‪ :‬ما قبلي مدخل‪ ,‬ثم يؤتى عن يمينه‪ ,‬ويقول الصيام‪ :‬ما ِقَبلي مدخل‪ ,‬ثم‬
‫يؤتى عن يساره‪ ,‬فتقول الزكاة‪ :‬ما قبلي مدخل‪ ,‬ثم يؤتى من قبل رجليه‪ ,‬فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة‪,‬‬
‫ت له الشمس‪ ,‬وقد أصغت للغروب‪ .‬فيقول‪:‬‬ ‫والمعروف والحسان‪ :‬ما قبلي مدخل!! فيقول له‪ :‬اجلس فيجلس قد َمُثَل ْ‬
‫دعوني حتى أصلي‪ :‬فيقولون‪ :‬إنك ستصلي‪ ,‬أخبرنا عما نسألك عنه‪ ،‬أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه‬
‫ل فيقال له‪ :‬على ذلك حييت‪ ,‬وعلى‬ ‫ل‪ ,‬جاء بالحق من عند ا ّ‬ ‫؟ وماذا ‪ /‬تشهد به عليه؟ فيقول‪ :‬محمد‪ ,‬نشهد أنه رسول ا ّ‬
‫غْبطًَة وسروًرا‪ ,‬ثم‬ ‫ل لك فيها‪ ,‬فيزداد ِ‬ ‫ل‪ ,‬ثم يفتح له باب إلى الجنة‪ ,‬فيقال‪ :‬هذا مقعدك‪ ,‬وما أعد ا ّ‬ ‫ذلك ُتْبَعث إن شاء ا ّ‬
‫سم طير يعلق في شجر‬ ‫عا‪ ,‬وُيَنّور له فيه‪ ,‬ويعاد الجسد لما بدئ منه‪ ,‬وتجعل روحه َن َ‬ ‫يفسح له في قبره سبعون ذرا ً‬
‫ل‬
‫لا ّ‬‫ن َوَيْفَع ُ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل ال ّ‬
‫لا ّ‬
‫ضّ‬‫خَرِة َوُي ِ‬
‫حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ‬
‫ت ِفي اْل َ‬
‫ل الّثاِب ِ‬
‫ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫الجنة(‪ .‬قال‪) :‬فذلك قوله تعالى‪ُ} :‬يَثّب ُ‬
‫تا ّ‬
‫َما َيَشاء{ ]إبراهيم‪. [27:‬‬

‫وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال‪) :‬يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلعه( فتلك المعيشة الضنك‪ ,‬التي قال ا ّ‬
‫ل‬
‫ضنًكا َوَنْحُشُرُه َيْوَم اْلِقَياَمِة َأْعَمى{ ]طه‪ .[124:‬هذا الحديث أخصر‪.‬‬ ‫تعالى‪َ}:‬لُه َمِعي َ‬
‫شًة َ‬

‫وحديث البراء ـ المتقدم ـ أطول ما في السنن‪ ,‬فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر‪ ,‬وهو في المسند وغيره‬
‫بطوله‪ .‬وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى ال عليه وسلم فيه‪) :‬إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الخرة‪,‬‬
‫حُنوط من‬ ‫وانقطاع من الدنيا‪ ,‬نزلت إليه ملئكة بيض الوجوه‪ ,‬كأن وجوههم الشمس‪ ,‬معهم كفن من أكفان الجنة‪ ,‬و َ‬
‫حنوط الجنة‪ ,‬فيجلسون منه مد البصر‪ ,‬ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‪ ,‬فيقول‪ :‬أيتها النفس الطيبة‪,‬‬
‫سقاء‪ ,‬فيأخذها‪ ,‬فإذا أخذها لم يدعوها‬ ‫ى ال ّ‬
‫طَرة من ِف ّ‬ ‫اخرجي إلى مغفرة ورضوان( ‪.‬قال‪) :‬فتخرج تسيل كما تسيل الَق ْ‬
‫في يده طرفة عين ‪/‬حتى يأخذوها‪ .‬فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط‪ ,‬فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت‬
‫على وجه الرض(‪ .‬قال‪) :‬فيصعدون بها‪ ,‬فل يمرون بها على مل من الملئكة إل قالوا‪ :‬ما هذه الروح الطيبة؟!‬
‫فيقولون‪ :‬فلن بن فلن‪ ,‬بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا‪ ,‬فينتهون به إلى السماء الدنيا‪ ,‬فيستفتحون له فيفتح‬
‫له(‪ .‬قال‪) :‬فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها‪ ,‬حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة‪ .‬فيقول‪ :‬اكتبوا‬
‫كتاب عبدي في عليين‪ ,‬وأعيدوه إلى الرض‪ ,‬فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى(‪ .‬قال‪) :‬فتعاد‬
‫روحه في جسده‪ ,‬ويأتيه ملكان فيجلسانه(‪ .‬وذكر المسألة كما تقدم‪ ,‬قال‪) :‬ويأتيه رجل حسن الوجه‪ ,‬طيب الريح‪ ,‬فيقول‬
‫له‪ :‬أبشر بالذي يسرك‪ ,‬فهذا يومك الذي قد كنت توعد‪ ,‬فيقول له‪ :‬من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجىء بالخير؟ !‬
‫فيقول‪ :‬أنا عملك الصالح‪ .‬فيقول‪ :‬رب‪ ,‬أقم الساعة‪ ,‬رب أقم الساعة‪ ,‬رب أقم الساعة‪ ,‬حتى أرجع إلى أهلي ومالي(‪.‬‬
‫قال‪) :‬وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الخرة وانقطاع من الدنيا‪ ,‬نزل إليه من السماء ملئكة سود الوجوه‪ ,‬معهم‬
‫المسوح‪ ,‬فيجلسون منه مد البصر‪ ,‬ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‪ ,‬فيقول‪ :‬أيتها النفس الخبيثة‪ ,‬اخرجي‬
‫سّفود ـ بالفتح والضم مع التشديد‪:‬‬ ‫سّفود ]ال ّ‬‫ل وغضبه‪ ,‬فتفرق في أعضائه كلها‪ ,‬فينتزعها كما ينتزع ال ّ‬ ‫إلى سخط ا ّ‬
‫حديدة ذات شعب معقفة‪ ,‬يشوي بها اللحم[ من الصوف المبلول‪ ,‬فتتقطع معها العروق والعصب(‪ .‬قال‪) :‬فيأخذها فإذا‬
‫أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها‪ ,‬فيجعلوها في تلك المسوح(‪ .‬قال‪) :‬فيخرج منها كأنتن ما يكون من‬
‫جيفة وجدت على وجه الرض‪ ,‬فيصعدون بها‪/ ,‬فل يمرون بها على مل من الملئكة إل قالوا‪ :‬ما هذه الروح‬
‫الخبيثة؟ فيقولون‪ :‬فلن بن فلن‪ ,‬بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا‪ ,‬فيستفتحون‬
‫ل ِفي‬
‫جَم ُ‬
‫ج اْل َ‬
‫حّتى َيِل َ‬
‫جّنَة َ‬
‫ن اْل َ‬
‫خُلو َ‬
‫ل َيْد ُ‬
‫سَماء َو َ‬
‫ب ال ّ‬
‫ح َلُهْم أَْبَوا ُ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪َ } :‬‬
‫ل ُتَفّت ُ‬ ‫لها فل يفتح لها(‪ ,‬ثم قرأ رسول ا ّ‬
‫ل تعالى‪) :‬اكتبوا كتابه في سجين ـ في الرض السفلى(‬ ‫ك َنْجِزي اْلُمْجِرِميَن{ ]العراف‪ ,[40:‬ثم يقول ا ّ‬
‫ط َوَكَذِل َ‬
‫خَيا ِ‬
‫سّم اْل ِ‬
‫َ‬
‫ق{[الحج‪.[31:‬‬‫حي ٍ‬
‫سِ‬‫ن َ‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪َ{:‬أْو َتْهِوي ِبِه الّري ُ‬
‫ح ِفي َمَكا ٍ‬ ‫حا(‪ .‬ثم قرأ رسول ا ّ‬
‫قال‪) :‬فتطرح روحه طر ً‬
‫قال‪) :‬فتعاد روحه في جسده‪ ,‬فيأتيه ملكان فيجلسانه‪ ,‬فيقولن له‪ :‬من ربك؟ فيقول‪ :‬هاه‪ ,‬هاه‪ ,‬ل أدري(‪ .‬وساق الحديث‬
‫كما تقدم إلى أن قال‪) :‬ويأتيه رجل قبيح الوجه ُمْنتن الريح‪ ,‬فيقول‪ :‬أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد‬
‫؛ فيقول‪ :‬من أنت فوجهك الوجه الذي ل يأتي بالخير؟ قال‪ :‬أنا عملك السوء‪ .‬فيقول‪ :‬رب‪ ,‬ل تقم الساعة(‪ ,‬ثلث‬
‫مرات‪.‬‬

‫ففي هذا الحديث أنواع من العلم‪:‬‬

‫منها‪ :‬أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن‪ ,‬خلًفا لضلل المتكلمين‪ ,‬وأنها تصعد وتنزل خلًفا لضلل الفلسفة‪ ,‬وأنها‬
‫تعاد إلى البدن‪ ,‬وأن الميت يسأل‪ ,‬فينعم أو يعذب‪ ,‬كما سأل عنه أهل السؤال‪ ,‬وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في‬
‫صورة حسنة أو قبيحة‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن النبي ‪/‬صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن العبد إذا وضع‬ ‫وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ‬
‫خْفق نعالهم‪ ,‬أتاه ملكان فيقررانه‪ .‬فيقولن‪ :‬ما كنت تقول في هذا الرجل‬ ‫في قبره‪ ,‬وتولى عنه أصحابه‪ ,‬إنه ليسمع َ‬
‫ل به‬
‫ل ورسوله(‪ .‬قال‪) :‬فيقول‪ :‬انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك ا ّ‬ ‫محمد؟ فأما المؤمن فيقول‪ :‬أشهد أنه محمد عبد ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬فيراهما كليهما(‪ .‬قال قتادة‪ :‬وذكر لنا أنه يفسح له في قبره‬ ‫مقعًدا من الجنة(‪ .‬قال رسول ا ّ‬
‫عا‪ ,‬ويمل عليه خضًرا إلى يوم يبعثون‪ .‬ثم نرجع إلى حديث أنس‪) :‬ويأتيان الكافر والمنافق فيقولن‪ :‬ما‬ ‫سبعون ذرا ً‬
‫كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول‪ :‬ل أدري‪ ,‬كنت أقول كما يقول الناس‪ .‬فيقول‪ :‬ل دريت ول تليت‪ .‬ثم يضرب‬
‫بمطارق من حديد بين أذنيه‪ ,‬فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين(‪.‬‬

‫ل صلى‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬‫وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه ـ وأكثر اللفظ له ـ عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ال عليه وسلم‪) :‬إذا قبر أحدكم النسان‪ ,‬أتاه ملكان أسودان أزرقان‪ ,‬يقال لهما‪ :‬منكر والخر نكير‪ .‬فيقولن له‪ :‬ما‬
‫ل ورسوله‪ ,‬أشهد أن ل إله إل‬ ‫كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول‪ ,‬فإن كان مؤمًنا قال‪ :‬هو عبد ا ّ‬
‫ل‪ ,‬وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله‪ .‬فيقولن‪ :‬إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك ‪.‬‬
‫ا ّ‬

‫عا‪ ,‬وينور له فيه‪ ,‬ويقال له‪ :‬نم‪ .‬فيقول‪ :‬أرجع إلى أهلي فأخبرهم‪ .‬فيقولن له‪ :‬نم‪,‬‬
‫ثم يفسح له في قبره سبعون ذرا ً‬
‫ل من مضجعه ذلك‪ .‬وإن كان منافًقا قال‪ / :‬ل أدري‪,‬‬ ‫كنومة العروس الذي ل يوقظه إل أحب أهله إليه‪ ,‬حتى يبعثه ا ّ‬
‫كنت أسمع الناس يقولون شيًئا فقلته‪ .‬فيقولن‪ :‬إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك‪ .‬ثم يقال للرض‪ :‬التئمي عليه‪ ,‬فتلتئم عليه‪,‬‬
‫ل من مضجعه ذلك( وهذا الحديث فيه اختلف أضلعه وغير‬ ‫حتى تختلف فيها أضلعه‪ ,‬فل يزال معذًبا حتى يبعثه ا ّ‬
‫ذلك‪ ,‬مما يبين أن البدن نفسه يعذب‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا احتضر الميت أتته الملئكة بحريرة‬ ‫وعن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ضا‪ ,‬حتى يأتوا به باب السماء‪ ,‬فيقولون‪ :‬ما‬‫بيضاء‪ .‬فيقولون‪ :‬اخرجي كأطيب ريح المسك‪ ,‬حتى إنه ليناوله بعضهم بع ً‬
‫حا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه‪,‬‬
‫أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنين‪َ ,‬فَلُهْم أشد فر ً‬
‫يسألونه‪ :‬ماذا فعل فلن؟ فيقولون‪ :‬دعوه‪ ,‬فإنه في غم الدنيا‪ ,‬فإذا قال‪ :‬إنه أتاكم‪ .‬قالوا‪ :‬ذهب إلى أمه الهاوية‪ .‬وإن‬
‫ل‪ ,‬فتخرج كأنتن جيفة‪,‬‬ ‫طا عليك إلى عذاب ا ّ‬ ‫الكافر إذا احتضر أتته ملئكة العذاب بمسح‪ .‬فيقولون‪ :‬اخرجي مسخو ً‬
‫حتى يأتوا به أرواح الكفار(‪ .‬رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصًرا عن أبي هريرة ـ رضي الّ عنه‪ .‬وعند‬
‫طة كانت عليه على أنفه هكذا‪] .‬والّريطُة‪ :‬ثوب‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم ِري َ‬ ‫الكافر ونتن رائحة روحه‪ ,‬فرد رسول ا ّ‬
‫رقيق لين مثل الملءة[ ‪.‬‬

‫وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال‪) :‬إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملئكة الرحمة‪ ,‬فإذا قبضت نفسه جُِعلت‬
‫حا أطيب من هذه الرائحة‪ ,‬فيقال‪ :‬دعوه‬
‫في حريرة بيضاء‪ ,‬فتنطلق بها إلى باب السماء‪ ,‬فيقولون‪ :‬ما وجدنا ري ً‬
‫‪/‬يسترح‪ ,‬فإنه كان في غم الدنيا‪ ,‬فيقال‪ :‬ما فعل فلن‪ ,‬ما فعلت فلنة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى‬
‫حا أنتن من هذه‪ ,‬فيبلغ بها في الرض السفلى(‪.‬‬ ‫الرض تقول خزنة الرض‪ :‬ما وجدنا ري ً‬
‫ففي هذه الحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه‪ ,‬وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ق في شجر‬‫سَمة المؤمن طائر َيعُْل ُ‬


‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إنما َن َ‬
‫وعن كعب بن مالك ـ رضي ا ّ‬
‫الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه(‪ .‬رواه النسائي‪ ,‬ورواه مالك والشافعي كلهما ]نسمة المؤمن‪ :‬أي روحه[ ‪.‬‬
‫]وقوله‪َ] :‬يْعُلق[ بالضم أي‪ :‬يأكل[‪ ,‬وقد نقل هذا في غير هذا الحديث‪.‬‬

‫ل ـ وإنما تنعم في الجنة وحدها‪ ,‬وكلهما‬


‫فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر ـ إذا شاء ا ّ‬
‫حق‪.‬‬

‫وقد روى ابن أبي الدنيا في ]كتاب ذكر الموت[ عن مالك بن أنس قال‪ :‬بلغني أن الروح مرسلة‪ ,‬تذهب حيث شاءت‪.‬‬
‫وهذا يوافق ما روي‪) :‬أن الروح قد تكون على أْفِنَية القبور( ]أْفِنَية‪ :‬جمع فناء‪ ,‬وهو المتسع أمام الدار[ كما قال‬
‫مجاهد‪ :‬إن الرواح تدوم على القبور سبعة أيام‪ ,‬يوم يدفن الميت‪ ,‬ل تفارق ذلك‪ ,‬وقد تعاد الروح إلى البدن في غير‬
‫وقت المسألة‪ ,‬كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما من رجل يمر‬
‫ل عليه روحه حتى يرد عليه السلم(‪.‬‬ ‫بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه‪ ,‬إل رد ا ّ‬

‫‪/‬وفي سنن أبي داود وغيره‪ ,‬عن أوس بن أوس الثقفي‪ ,‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن خير أيامكم يوم‬
‫ل‪ ,‬كيف‬
‫ي(‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫ي من الصلة يوم الجمعة‪ ,‬وليلة الجمعة‪ ,‬فإن صلتكم معروضة عل ّ‬ ‫الجمعة‪ ,‬فأكثروا عل ّ‬
‫ل حرم على الرض أن تأكل أجساد النبياء( ‪.‬‬ ‫ت؟! فقال‪) :‬إن ا ّ‬
‫تعرض صلتنا عليك وقد أِرْم َ‬

‫وهذا الباب فيه من الحاديث والثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه‪ ,‬مما يبين أن البدان التي في القبور تنعم‬
‫ل ذلك ـ كما يشاء‪ ,‬وأن الرواح باقية بعد مفارقة البدن‪ ,‬ومنعمة ومعذبة‪.‬‬
‫وتعذب ـ إذا شاء ا ّ‬

‫ولهذا أمر النبي صلى ال عليه وسلم بالسلم على الموتى‪ ,‬كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا‬
‫ل المستقدمين‬‫ل بكم لحقون‪ ,‬يرحم ا ّ‬ ‫زاروا القبور أن يقولوا‪) :‬السلم عليكم أهل الديار من المؤمنين‪ ,‬وإنا إن شاء ا ّ‬
‫حِرْمَنا أجرهم ول َتْفِتنا بعدهم‪ ,‬واغفر لنا ولهم( ‪.‬‬
‫ل لنا ولكم العافية‪ .‬الّلهم ل َت ْ‬
‫منا ومنكم والمستأخرين‪ ,‬نسأل ا ّ‬

‫وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم‪ ,‬ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في‬
‫آثار كثيرة معروفة‪ ,‬ولكن ل يجب ذلك أن يكون دائًما على البدن في كل وقت‪ ,‬بل يجوز أن يكون في حال دون حال‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلًثا‪ ,‬ثم أتاهم فقام‬‫‪/‬وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ‬
‫عْتَبة بن ربيعة‪ ,‬يا شيبة بن ربيعة‪ ,‬أليس قد وجدتم ما وعدكم‬
‫خلف‪ ,‬يا ُ‬‫عليهم فقال‪) :‬يا أبا جهل بن هشام‪ ,‬يا أمّية بن َ‬
‫ربكم حًقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حًقا(‪ .‬فسمع عمر ـ رضي ال عنه ـ قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬يا‬
‫ل‪ ,‬كيف يسمعون وقد جّيُفوا؟ فقال‪) :‬والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‪ ,‬ولكنهم ل يقدرون أن‬ ‫رسول ا ّ‬
‫يجيبوا(‪ .‬ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في َقِليب بدر‪.‬‬

‫ل عنهما ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم وقف على َقلىب بدر‬ ‫وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي ا ّ‬
‫فقال‪) :‬هل وجدتم ما وعدكم ربكم حًقا؟(‪ ,‬وقال‪) :‬إنهم ليسمعون الن ما أقول(‪ ,‬فذكر ذلك لعائشة‪ ,‬فقالت‪َ :‬وِهمَابن‬
‫ت لهم هو الحق(‪ ,‬ثم قرأت قوله تعالى‪:‬‬‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنهم ليعلمون الن أن الذي قل ُ‬ ‫عمر‪ ,‬إنما قال رسول ا ّ‬
‫ك لَ ُتْسِمُع اْلَمْوَتى{ ]النمل‪ [80:‬حتى قرأت الية‪.‬‬
‫}ِإّن َ‬

‫سا روى ذلك‬ ‫وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر‪ ,‬وإن كانا لم يشهدا بدًرا‪ ,‬فإن أن ً‬
‫ل عنه ـ أن‬
‫عن أبي طلحة‪ ,‬وأبو طلحة شهد بدًرا‪ .‬كما روى أبوحاتم ـ في صحيحه ـ عن أنس عن أبي طلحة ـ رضي ا ّ‬
‫ى ]أي‪ :‬بئر مطوية[‬ ‫طِو ّ‬
‫ل من صناديد قريش‪ ,‬فقذفوا في َ‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رج ً‬
‫صة‪ :‬كل ُبقعة بين الدور واسعة‪ ,‬ليس فيها‬ ‫صِتهم ]الَعْر َ‬
‫عْر َ‬
‫من أطواء بدر‪ ,‬وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في َ‬
‫بناء[ ثلث ليال‪.‬‬
‫‪/‬فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها‪ ,‬ثم مشى وتبعه أصحابه‪ .‬وقالوا‪ :‬ما نراه ينطلق إل لبعض‬
‫حاجته؛ حتى قام على شفاء الّرِكي ]أي‪ :‬البئر[؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‪ ,‬يافلن بن فلن‪ ,‬أيسركم أنكم‬
‫ل ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حًقا‪ .‬فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال عمر بن الخطاب‪ :‬يا‬ ‫أطعتم ا ّ‬
‫ل‪ ,‬ما تكلم من أجساد ول أرواح فيها؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ما أنتم بأسمع لما‬ ‫رسول ا ّ‬
‫أقول منهم( ‪.‬‬

‫خا وتصغيًرا‪ ,‬ونقمة وحسرة وتنديًما‪ .‬وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت‬
‫ل حتى سمعهم‪ ,‬توبي ً‬
‫قال قتادة‪ :‬أحياهم ا ّ‬
‫أمثال ذلك‪.‬‬

‫والنص الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره‪ ,‬وليس في القرآن ما‬
‫ك َل ُتْسِمُع اْلَمْوَتى{ ]النمل‪ [80:‬إنما أراد به السماع المعتاد‪ ,‬الذي ينفع صاحبه‪ ,‬فإن هذا َمَثل‬ ‫ينفي ذلك فإن قوله‪ِ}:‬إّن َ‬
‫ن َكَفُروْا َكَمَث ِ‬
‫ل‬ ‫رب للكفار‪ ,‬والكفار تسمع الصوت‪ ,‬لكن ل تسمع سماع قبول بفقه واتباع‪ ,‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَمَث ُ‬
‫ل اّلِذي َ‬ ‫ضِ‬
‫ُ‬
‫ق ِبَما َل َيْسَمُع ِإّل ُدَعاء َوِنَداء{ ]البقرة‪.[171:‬‬
‫اّلِذي َيْنِع ُ‬

‫ع السماع‪ ,‬كما لم ينف ذلك عن‬


‫فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل‪ ,‬ل يجب أن ينفى عنهم جميُع السماع المعتاد أنوا َ‬
‫الكفار‪ ,‬بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به‪ ,‬وأما سماع آخر فل ينفى عنهم‪.‬‬

‫خْفق نعالهم‪ ,‬إذا ولوا مدبرين‪ ,‬فهذا موافق لهذا‪ ,‬فكيف يدفع ذلك؟‬‫‪/‬وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع َ‬
‫ومن العلماء من قال‪ :‬إن الميت في قبره ل يسمع ما دام ميًتا‪ ,‬كما قالت عائشة‪ ,‬واستدلت به من القرآن‪ .‬وأما إذا أحياه‬
‫ل له‪ .‬وإن كانت تلك الحياة ل يسمعون بها‪ ,‬كما نحن ل نرى الملئكة والجن‪,‬‬ ‫ل فإنه يسمع كما قال قتادة‪ :‬أحياهم ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫ول نعلم ما يحس به الميت في منامه‪ ,‬وكما ل يعلم النسان ما في قلب الخر‪ ,‬وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه ا ّ‬
‫ل‬
‫عليه‪.‬‬

‫وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل‪ ,‬وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه‪ ,‬فإن ما ذكرناه من‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫عا‪ ,‬وا ّ‬
‫الدلة البينة على ما سأل عنه ما ل يكاد مجمو ً‬

‫ل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫وصلى ا ّ‬

‫حُه‪:‬‬
‫ل ُرو َ‬
‫س ا ُّ‬
‫لم ـ َقّد َ‬
‫خ الس َ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫َقا َ‬ ‫‪/‬‬

‫ل ـ تعالى ـ بلسان العرب؟ وهل صح أن لسان أهل النار‬


‫سأل سائل‪ :‬بماذا يخاطب الناس يوم البعث؟ وهل يخاطبهم ا ّ‬
‫الفارسية‪ ,‬وأن لسان أهل الجنة العربية؟‬

‫ل رب العالمين[‪.‬‬
‫فأجبته بعد ]الحمد ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ لم يخبرنا بشىء‬‫ل يعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ‪ ,‬ول بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعل؛ لن ا ّ‬
‫من ذلك‪ ,‬ول رسوله ـ عليه الصلة والسلم ـ ولم يصح أن الفارسية لغة الجَهّنِمّيين ول أن العربية لغة أهل النعيم‬
‫ل عنهم ـ بل كلهم يكفون عن ذلك؛ لن الكلم في مثل هذا من‬ ‫عا في ذلك بين الصحابة ـ رضي ا ّ‬
‫البدي‪ ,‬ول نعلم نزا ً‬
‫ل تعالى لصحاب الثرى‪ ,‬ولكن حدث في ذلك خلف بين المتأخرين‪.‬‬ ‫فضول القول‪ ,‬ول قال ا ّ‬

‫فقال ناس‪ :‬يتخاطبون بالعربية‪.‬‬

‫وقال آخرون‪ :‬إل أهل النار‪ ,‬فإنهم يجيبون بالفارسية‪ ,‬وهي لغتهم في النار‪.‬‬

‫‪ /‬وقال آخرون‪ :‬يتخاطبون بالسريانية؛ لنها لغة آدم‪ ,‬وعنها تفرعت اللغات‪.‬‬

‫وقال آخرون‪ :‬إل أهل الجنة‪ ,‬فإنهم يتكلمون بالعربية‪.‬‬


‫وكل هذه القوال ل حجة لربابها‪ ,‬ل من طريق عقل ول نقل‪ ,‬بل هي دعاوي عارية عن الدلة‪ ,‬والّ ـ سبحانه‬
‫وتعالى ـ أعلم وأحكم‪.‬‬

‫ل عن الميزان‪ :‬هل هو عبارة عن العدل‪ ,‬أم له كفتان؟‬


‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫فأجــاب‪:‬‬

‫الميزان‪ :‬هو ما يوزن به العمال‪ ,‬وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب والسنة مثل قوله تعالى‪َ{:‬فَمن َثُقَل ْ‬
‫ت‬
‫ط ِلَيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]النبياء‪:‬‬
‫سَ‬
‫ن اْلِق ْ‬ ‫ت َمَواِزيُنُه{ ]العراف‪ ,[9 :‬وقوله‪َ} :‬وَن َ‬
‫ضُع اْلَمَواِزي َ‬ ‫خّف ْ‬ ‫َمَواِزيُنُه{ ]العراف‪َ} ,[8:‬وَم ْ‬
‫ن َ‬
‫‪.[47‬‬

‫وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان‪ ,‬ثقيلتان في الميزان‪ ,‬حبيبتان‬
‫ل بن مسعود‪َ) :‬لُهَما في الميزان أثقل من‬
‫ل العظيم(‪ .‬وقال عن ساقي عبد ا ّ‬ ‫ل وبحمده‪ ,‬سبحان ا ّ‬ ‫إلى الرحمن‪ :‬سبحان ا ّ‬
‫حٍد!(‪ .‬وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة‪ ,‬وصححه الترمذي‪ ,‬والحاكم‪ ,‬وغيرهما‪ :‬في الرجل الذي يؤتى به فينشر‬ ‫أُ‬
‫ل‪ .‬قال‬
‫ل‪ ,‬كل سجل منها َمّد البصر‪ ,‬فيوضع في ِكّفة‪ ,‬ويؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن ل إله إل ا ّ‬ ‫جً‬‫سِ‬
‫له تسعة وتسعون ِ‬
‫ت البطاقة(‪.‬‬
‫ت السجلت‪ ,‬وَثُقَل ِ‬‫ش ِ‬
‫طا َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪َ) :‬ف َ‬

‫وهذا وأمثاله مما يبين أن العمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس‪ ,‬فهو ما به تبين‬
‫العدل‪ .‬والمقصود بالوزن‪ :‬العدل‪ ,‬كموازين الدنيا‪.‬‬

‫وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب‪.‬‬

‫‪/‬قال الشيخ‪:‬‬

‫ل أعلم بما كانوا عاملين( كما أجاب بذلك النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث‬
‫وأطفال الكفار أصح القوال فيهم‪) :‬ا ّ‬
‫الصحيح ‪.‬‬

‫وطائفة من أهل الحديث وغيرهم قالوا‪ :‬إنهم كلهم في النار‪ ,‬وذكر أنه من نصوص أحمد وهو غلط على أحمد‪.‬‬

‫وطائفة جزموا بأنهم كلهم في الجنة‪ ,‬واختار ذلك أبو الفرج ابن الجوزي وغيره‪ ,‬واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي‬
‫ل‪ ,‬وأطفال المشركين؟ قال‪:‬‬‫صلى ال عليه وسلم لما رأى إبراهيم الخليل وعنده أطفال المؤمنين‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫)وأطفال المشركين(‪.‬‬

‫جّنة ول نار‪ ,‬وقد جاء في عدة أحاديث‪) :‬أنهم‬


‫ل أعلم بما كانوا عاملين(‪ ,‬ول نحكم لُمَعّين منهم ِب َ‬
‫والصواب أن يقال‪) :‬ا ّ‬
‫عَرصات القيامة يؤمرون وينهون‪ ,‬فمن أطاع دخل الجنة‪ ,‬ومن عصى دخل النار(‪ .‬وهذا هو الذي‬ ‫يوم القيامة في َ‬
‫ذكره أبو الحسن الشعري عن ]أهل السنة والجماعة[‪ .‬والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء‪ ,‬وهي الجنة والنار‪.‬‬

‫‪/‬وأما عرصات القيامة‪ ,‬فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ‪ ,‬فيقال لحدهم‪ :‬من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وقال‬
‫طيُعوَن{ الية ]القلم‪.[42:‬‬
‫سَت ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫جوِد َف َ‬
‫سُ‬
‫ن ِإَلى ال ّ‬
‫عْو َ‬
‫ق َوُيْد َ‬
‫سا ٍ‬
‫عن َ‬
‫ف َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬يْوَم ُيْك َ‬
‫ش ُ‬

‫ل قوم ما كانوا يعبدون‪,‬‬


‫ل لعباده في الموقف‪ ,‬إذا قيل‪) :‬لَيْتَبع ك ّ‬ ‫جلى ا ّ‬ ‫وقد ثبت في الصحاح ـ من غير وجه ـ حديث َت َ‬
‫فيتبع المشركون آلهتهم‪ ,‬ويبقى المؤمنون‪ ,‬فيتجلى لهم الرب في غير الصورة التي يعرفون فينكرونه‪ ,‬ثم يتجلى لهم‬
‫في الصورة التي يعرفونها‪ ,‬فيسجد له المؤمنون‪ ,‬وتبقى ظهور المنافقين كقرون البقر‪ ,‬يريدون السجود فل‬
‫طيُعوَن{ الية‪ .‬والكلم على هذه المور‬ ‫سَت ِ‬
‫ل َي ْ‬
‫جوِد َف َ‬
‫سُ‬
‫ن ِإَلى ال ّ‬
‫عْو َ‬
‫ق َوُيْد َ‬
‫سا ٍ‬
‫عن َ‬‫ف َ‬
‫ش ُ‬‫يستطيعون(‪ .‬وذكر قوله‪َ} :‬يْوَم ُيْك َ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫مبسوط في غير هذا الموضع‪ ,‬وا ّ‬

‫ن اْلُكّفار‪ :‬هل يحاسبون يوم القيامة أم ل؟‬


‫عْ‬‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ب‪:‬‬
‫جـا َ‬
‫َفَأ َ‬

‫هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم‪ ,‬فممن قال‪ :‬إنهم ل يحاسبون‪ :‬أبو بكر عبد العزيز‪,‬‬
‫وأبو الحسن التميمي‪ ,‬والقاضي أبو يعلى‪ ,‬وغيرهم‪ .‬وممن قال‪ :‬إنهم يحاسبون‪ :‬أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد‪,‬‬
‫وأبو سليمان الدمشقي‪ ,‬وأبو طالب المكي‪.‬‬

‫وفصل الخطاب‪ :‬أن الحساب يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها‪ ,‬ويراد بالحساب موازنة الحسنات‬
‫بالسيئات‪.‬‬

‫فإن أريد بالحساب المعنى الول‪ ,‬فل ريب أنهم يحاسبون بهذا العتبار‪.‬‬

‫وإن أريد المعنى الثاني‪ ,‬فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة‪ ,‬فهذا خطأ ظاهر‪.‬‬

‫ت سيئاته‪ ,‬ومن كان له حسنات‬


‫وإن أريد أنهم يتفاوتون في العقاب‪ ,‬فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من ‪ /‬عقاب من َقّل ْ‬
‫خفف عنه العذاب‪ ,‬كما أن أبا طالب أخف عذاًبا من أبي َلَهب‪.‬‬

‫ب{ ]النحل‪ ,[88 :‬وقال تعالى‪ِ}:‬إّنَما الّن ِ‬


‫سيُء ِزَياَدٌة ِفي‬ ‫ق اْلَعَذا ِ‬
‫عَذاًبا َفْو َ‬
‫ل ِزْدَناُهْم َ‬
‫لا ّ‬
‫سِبي ِ‬
‫عن َ‬
‫صّدوْا َ‬ ‫وقال تعالى‪}:‬اّلِذي َ‬
‫ن َكَفُروْا َو َ‬
‫اْلُكْفِر{ ]التوبة‪ ,[37:‬والنار َدَرَكات‪ ,‬فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاًبا من بعض ـ لكثرة سيئاته وقلة حسناته ـ‬
‫كان الحساب لبيان مراتب العذاب‪ ,‬ل لجل دخولهم الجنة‪.‬‬

‫ل روحه ـ عن العبد المؤمن‪ :‬هل َيْكُفر بالمعصية أم‬


‫سا ّ‬
‫س َتقي الدين ابن َتيمية ـ َقّد َ‬
‫سلم أبو العّبا ِ‬
‫خ ال ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل؟‬

‫ب‪:‬‬
‫جا َ‬
‫فَأ َ‬

‫جَلد ول يقتل‪ ,‬والشارب‬


‫صن ُي ْ‬
‫ح َ‬
‫ل يكفر بمجرد الذنب‪ ,‬فإنه ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الزاني غير الم ْ‬
‫يجلد‪ ,‬والقاذف يجلد‪ ,‬والسارق يقطع‪.‬‬

‫ولو كانوا كفاًرا لكانوا مرتدين‪ ,‬ووجب قتلهم‪ ,‬وهذا خلف الكتاب والسنة وإجماع السلف‪.‬‬

‫ل يستوجب أن يبني له قصر في الجنة‪ ,‬ويغرس له غراس باسمه‪ .‬ثم يعمل‬ ‫ل عن رجل مسلم‪ ,‬يعمل عم ً‬ ‫سِئــ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ذنوًبا يستوجب بها النار‪ ,‬فإذا دخل النار‪ :‬كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار؟!‬

‫ب‪:‬‬
‫جـا َ‬
‫فَأ َ‬

‫ل يغفر له‪ ,‬ول يحرمه ما كان وعده‪ ,‬بل يعطيه ذلك‪.‬‬


‫حا‪ ,‬فإن ا ّ‬
‫إن تاب عن ذنوبه توبة نصو ً‬

‫وإن لم يتب‪ ,‬وزنت حسناته وسيئاته‪ ,‬فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب‪ ,‬وإن رجحت سيئاته على‬
‫حسناته كان من أهل العذاب‪.‬‬

‫وما أعد له من الثواب يحبط ـ حينئذ ـ بالسيئات‪ ,‬التي زادت على حسناته‪ ,‬كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار‪ ,‬ثم‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫عمل بعدها حسنات تذهب السيئات‪ ,‬وا ّ‬

‫ل عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ,‬وهل يدخلون الجنة أم ل؟‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬

‫فأجاب‪:‬‬
‫إن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ,‬وقد اتفق عليها السلف من الصحابة‪,‬‬
‫وتابعيهم بإحسان‪ ,‬وأئمة المسلمين‪ ,‬وإنما نازع في ذلك أهل البدع من الخوارج‪ ,‬والمعتزلة‪ ,‬ونحوهم‪.‬‬

‫ول يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان‪ ,‬بل كلهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة‪ ,‬ويبقى في الجنة‬
‫ل لها خلًقا آخر يدخلهم الجنة‪ ,‬كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫فضل‪ .‬فينشئ ا ّ‬

‫ل عن َأطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها‪ ,‬أم يكبرون ويتزوجون؟ وكذلك البنات هل‬
‫سئ َ‬
‫وُ‬ ‫‪/‬‬
‫يتزوجن؟‬

‫الجـواب‪:‬‬

‫عا في عرض سبعة‬


‫ل‪ ,‬إذا دخلوا الجنة دخلوها كما يدخلها الكبار‪ ,‬على صورة أبيهم آدم‪ ,‬طوله ستون ذرا ً‬
‫الحمد ّ‬
‫أذرع‪ ,‬ويتزوجون كما يتزوج الكبار‪.‬‬

‫ومن مات من النساء ولم يتزوجن‪ ,‬فإنها تزوج في الخرة‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ أعلم‪.‬‬
‫وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الخرة‪ ,‬وا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ّ‬
‫شي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سِئ َ‬
‫َو ُ‬

‫هل يتناسل أهل الجنة؟ والولدان‪ ،‬هل هم ولدان أهل الجنة؟ وما حكم الولد وأرواح أهل الجنة والنار إذا خرجت من‬
‫ل الجسد؟ وما حكم ولد الزنا إذا‬
‫الجسد‪ ،‬هل تكون في الجنة تنعم‪ ،‬أم تكون في مكان مخصوص إلى حيث يبعث ا ّ‬
‫مات‪ ،‬يكون من أهل العراف‪ ،‬أو في الجنة؟ وما الصحيح في أولد المشركين‪ ،‬هل هم من أهل النار أو من أهل‬
‫الجنة؟ وهل تسمى اليام في الخرة كما تسمى في الدنيا مثل السبت والحد؟‬

‫جـاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫خْلق الجنة‪ ،‬ليسوا بأبناء أهل الدنيا‪ ،‬بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة‬
‫ق من َ‬
‫خْل ٌ‬
‫الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة َ‬
‫عا‪ ،‬وقد روى ـ أيضا ـ أن‬ ‫يكمل خلقهم كأهل الجنة على صورة آدم‪ ،‬أبناء ثلث وثلثين سنة‪ ،‬في طول ستين ذرا ً‬
‫العرض سبعة أذرع‪.‬‬

‫وأرواح المؤمنين في الجنة‪ ،‬وأرواح الكافرين في النار‪ ،‬تنعم أرواح المؤمنين‪ ،‬وتعذب أرواح الكافرين‪ ،‬إلى أن تعاد‬
‫إلى البدان‪.‬‬

‫حا دخل الجنة‪ ،‬وإل جوزي بعمله كما يجازى غيره‪ ،‬والجزاء على العمال‪ ،‬ل على‬ ‫‪/‬وولد الزنا إن آمن وعمل صال ً‬
‫ل خبيًثا‪ ،‬كما يقع كثيًرا‪ .‬كما تحمد النساب الفاضلة؛ لنها مظنة‬
‫النسب‪ ،‬وإنما يذم ولد الزنا؛ لنه َمظّنة أن يعمل عم ً‬
‫ل أتقاهم‪.‬‬‫عمل الخير‪ ،‬فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه‪ ،‬وأكرم الخلق عند ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬كما في الصحيحين‪) :‬ما من مولود‬ ‫وأما أولد المشركين‪ ،‬فأصح الجوبة فيهم جواب رسول ا ّ‬
‫ل أعلم‬
‫ل‪ ،‬أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ قال‪) :‬ا ّ‬ ‫إل يولد على الفطرة( الحديث‪ ،‬قيل‪ :‬يا رسول ا ّ‬
‫بما كانوا عاملين(‪ .‬فل يحكم على معين منهم ل بجنة ول بنار‪ .‬ويروى‪) :‬أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات‬
‫ل حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار(‪.‬‬ ‫القيامة‪ ،‬فمن أطاع ا ّ‬

‫ودلت الحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة‪ ،‬وبعضهم في النار‪ .‬والجنة ليس فيها شمس ول قمر‪ ،‬ول ليل ول‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫نهار‪ ،‬لكن تعرف الُبْكَرة والعشّية بنور يظهر من قبل العرش‪ ،‬وا ّ‬

‫ل ـ عن رجل قيل له‪ :‬إنه ورد عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أن أهل الجنة يأكلون ويشربون‪،‬‬ ‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ط‪ .‬ثم قيل له‪ :‬إن في الجنة طيوًرا‪ ،‬إذا اشتهى‬
‫ويتمتعون‪ ،‬ول يبولون ول َيتَغّوطون(‪ .‬فقال‪ :‬من أكل وشرب بال وَتَغّو َ‬
‫شار‪ :‬الذي تستعمله العامة‪ ،‬ليس من كلم‬
‫شار ]الُف َ‬
‫صار قدامه على أي صورة أراد من الطعمة وغيرها‪ ،‬فقال‪ :‬هذا ُف َ‬
‫العرب[‪ .‬هل بجحده هذا يكفر ويجب قتله أم ل؟‬

‫ب‪:‬‬
‫جــا َ‬
‫َفَأ َ‬

‫ل‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬وإجماع المسلمين‪ .‬وهو معلوم بالضطرار من دين السلم‪،‬‬ ‫الكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب ا ّ‬
‫وكذلك الطيور والقصور في الجنة بل ريب‪ ،‬كما وصف ذلك في الحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى ال عليه‬
‫ل ورسوله أحد‪ ،‬وإنما‬
‫صقون‪ ،‬لم يخالف من المؤمنين با ّ‬
‫وسلم‪ ،‬وكذلك أن أهل الجنة ل يبولون ول يتغوطون ول يَب ُ‬
‫المخالف في ذلك أحد رجلين‪ :‬إما كافر‪ ،‬وإما منافق‪.‬‬

‫أما الكافر‪ ،‬فإن اليهود والنصارى ينكرون الكل والشرب والنكاح في‪/‬الجنة‪ ،‬يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون‬
‫بالصوات المطربة والرواح الطيبة مع نعيم الرواح‪ ،‬وهم يقرون مع ذلك بحشر الجساد مع الرواح ونعيمها‬
‫وعذابها‪.‬‬

‫وأما طوائف من الكفار‪ ،‬وغيرهم من الصابئة والفلسفة ومن وافقهم‪ ،‬فيقرون بحشر الرواح فقط‪ ،‬وأن النعيم‬
‫والعذاب للرواح فقط‪.‬‬

‫وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم‪ ،‬ينكرون المعاد بالكلية‪ ،‬فل يقرون ل بمعاد الرواح‪ ،‬ول الجساد‪ .‬وقد بين‬
‫ل ـ تعالى ـ في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الرواح‪ ،‬والجساد‪ ،‬ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك؛‬ ‫ا ّ‬
‫بياًنا في غاية التمام والكمال‪.‬‬

‫وأما المنافقون من هذه المة‪ ،‬الذين ل يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني‪ ،‬وهؤلء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول‬
‫المجوس والصابئة‪ ،‬ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى السلم‪ ،‬وطائفة ممن ضاهوهم‪ ،‬من كاتب‪ ،‬أو متطبب‪ ،‬أو‬
‫متكلم‪ ،‬أو متصوف ـ كأصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وغيرهم ـ أو منافق‪ .‬وهؤلء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل‬
‫شافًيا قاطًعا للعذر‪/ ،‬وتواتر ذلك عند أمته‪ ،‬خاصها وعامها‪.‬‬
‫اليمان؛ فإن محمًدا صلى ال عليه وسلم قد بين ذلك بياًنا َ‬
‫وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أنت تقول‪ :‬إن أهل الجنة يأكلون ويشربون‪ ،‬ومن يأكل‬
‫سك( ‪.‬‬
‫شح كرشح الِم ْ‬‫ويشرب لبد له من خلء‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪َ) :‬ر ْ‬

‫ويجب على ولي المر قتل من أنكر ذلك‪ ،‬ولو أظهر التصديق بألفاظه‪ ،‬فكيف بمن ينكر الجميع؟ والّ أعلم‪.‬‬

‫ل‪ :‬هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا؟‬


‫ل َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫وهل تبعث هذه الجسام بعينها؟وهل عيسى حي أم ميت ؟ وهل إذا نزل يحكم بشريعة محمد صلى ال عليه وسلم أم‬
‫بشريعته الولى‪ ،‬أم تحدث له شريعة؟‬

‫عْنُه‪:‬‬
‫ل َ‬
‫ي ا ُّ‬
‫ضَ‬
‫ب ـ َر ِ‬
‫جا َ‬
‫فَأ َ‬

‫أما أهل الجنة فيأكلون‪ ،‬ويشربون‪ ،‬وينكحون‪ ،‬متنعمين بذلك بإجماع المسلمين‪ ،‬كما نطق به الكتاب والسنة‪ ،‬وإنما‬
‫ينكر ذلك من ينكره من اليهود والنصارى‪.‬‬

‫وهذه الجساد هي التي تبعث كما نطق به الكتاب والسنة‪.‬‬

‫ي في السماء لم يمت َبعُد‪ ،‬وإذا نزل من السماء لم يحكم إل بالكتاب والسنة‪ ،‬ل بشىء يخالف ذلك‪ ،‬وا ّ‬
‫ل‬ ‫وعيسى ح ّ‬
‫أعلم‪.‬‬

‫حُه‪:‬‬
‫ل ُرو َ‬
‫س ا ُّ‬
‫‪/‬قال شيخ السلم ـ قد ً‬
‫َفصـل‬

‫وأفضل النبياء بعد محمد صلى ال عليه وسلم إبراهيم الخليل‪ ،‬كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى‬
‫خْير الَبِرّية( ‪.‬‬
‫ال عليه وسلم‪) :‬أنه َ‬

‫خَثْيم قال‪ :‬ل أفضل على نبينا أحًدا‪ ،‬ول أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحًدا‪.‬‬
‫وكذلك قال العلماء‪ ،‬منهم‪ :‬الربيع بن ُ‬

‫ل‪ :‬هل يأثم بهذا‬


‫ل َتَعاَلى ـ فيمن يقول‪ :‬إن غير النبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر ا ّ‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫ل ـ َر ِ‬
‫سِئ َ‬ ‫‪/‬‬
‫العتقاد؟‬

‫جـاب ‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫ل من ل يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر‪ ،‬يستتاب‪ ،‬فإن تاب وإل قتل‪ ،‬مثل من‬ ‫من اعتقد أن في أولياء ا ّ‬
‫يعتقد أن في أمة محمد صلى ال عليه وسلم من يستغنى عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى‪ ،‬فإن‬
‫موسى لم تكن دعوته عامة‪ ،‬بخلف محمد صلى ال عليه وسلم فإنه مبعوث إلى كل أحد‪ ،‬فيجب على كل أحد متابعة‬
‫أمره‪ ،‬وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافًرا‪ ،‬فكيف من اعتقد أنه أفضل منه‪ ،‬أو أنه يصير مثله!‪.‬‬

‫وأما من اعتقد أن من الولياء من يعلم أنه من أهل الجنة‪ ،‬كما بشر غير واحد من الصحابة بالجنة‪ ،‬وكما قد يعرف الّ‬
‫بعض الولياء أنه من أهل الجنة‪ ،‬فهذا ل يكفر‪.‬‬

‫ل أعلم‪.‬‬
‫ل ـ تعالى‪ ،‬وا ّ‬
‫ومع هذا‪ ،‬فلبد له من خشية ا ّ‬

‫ل ـ عن رجل قال‪ :‬إن النبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ معصومون من الكبائر‪ ،‬دون‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سئ َ‬ ‫‪/‬‬
‫الصغائر‪ ،‬فكّفره رجل بهذه‪ ،‬فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟ وهل قال أحد منهم بعصمة النبياء مطلًقا؟ وما‬
‫الصواب في ذلك؟‬

‫جــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬ليس هو كافًرا باتفاق أهل الدين‪ ،‬ول هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بل نزاع‪،‬‬ ‫الحمد ّ‬
‫ب؛ ومع هذا فهم متفقون‬ ‫سا ّ‬
‫كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله مع مبالغتهم في القول بالعصمة‪ ،‬وفي عقوبة ال ّ‬
‫على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة‪ ،‬فضل أن يكون قائل ذلك كافًرا‪ ،‬أو فاسًقا؛ فإن القول بأن‬
‫النبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر‪ ،‬هو قول أكثر علماء السلم وجميع الطوائف‪ ،‬حتى إنه قول أكثر أهل‬
‫الكلم‪ ،‬كما ذكر أبو الحسن المدي ]هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي‪ ،‬ويلقب بسيف الدين‬
‫المدي‪ ،‬كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب‪ ،‬ثم انتقل إلى مذهب المام الشافعي‪ ،‬قام مدة ببغداد‪ ،‬ثم انحدر إلى الشام‬
‫واشتغل بفنون المعقول‪ ،‬ثم انتقل إلى مصر‪ ،‬وله مصنفات كثيرة في أصول الفقه والدين والمنطق وغيرها‪ ،‬ولد سنة‬
‫ضا ـ قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء‪ ،‬بل‬ ‫‪551‬هـ وتوفي سنة ‪ 631‬هـ[ أن هذا قول أكثر الشعرية‪ ،‬وهو ـ أي ً‬
‫هو لم ينقل عن السلف والئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إل ما يوافق هذا القول‪ ،‬ولم ينقل عنهم ما يوافق القول‪. .‬‬
‫‪]..‬بياض قدر ستة أسطر[‬

‫‪/‬وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة‪ ،‬ثم عن بعض المعتزلة‪ ،‬ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين‪.‬‬

‫وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء‪ ،‬أنهم غير معصومين عن القرار على الصغائر ول يقرون عليها‪ ،‬ول يقولون‪:‬‬
‫ل لذلك الرافضُة‪ ،‬فإنهم‬
‫إنها ل تقع بحال‪ ،‬وأول من نقل عنهم من طوائف المة القول بالعصمة مطلًقا‪ ،‬وأعظمهم قو ً‬
‫يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل‪.‬‬

‫ى‪ ،‬والثنى عشر‪ ،‬ثم السماعيلية الذين كانوا ملوك القاهرة‪،‬‬ ‫وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته‪ ،‬وقالوا بعصمة عل ّ‬
‫ل الَقّداح‪ ،‬كانوا هم وأتباعهم‬
‫عَبيد ا ّ‬
‫وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون‪ ،‬وهم عند أهل العلم من ذرية ُ‬
‫يقولون بمثل هذه العصمة لئمتهم ونحوهم‪ ،‬مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي ـ في كتابه الذي صنفه في الرد‬
‫عليهم ‪ -‬قال‪ :‬ظاهر مذهبهم الرفض‪ ،‬وباطنه الكفر المحض‪.‬‬

‫وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه‪ ،‬وكذلك غير هؤلء من علماء المسلمين‪ ،‬فهؤلء وأمثالهم من‬
‫الغلة القائلين بالعصمة‪ ،‬وقد ُيكّفرون من ينكر القول بها‪ ،‬وهؤلء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين‪ ،‬فمن كفر القائلين‬
‫بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهًيا لهؤلء السماعيلية‪ ،‬والنصيرية‪ ،‬والرافضة‪ ،‬والثنى عشرية‪ ،‬ليس هو قول أحد‬
‫من أصحاب أبي حنيفة‪ ،‬ول مالك‪ ،‬ول الشافعي‪ ،‬ول المتكلمين ـ المنتسبين إلى السنة المشهورين ـ كأصحاب ‪/‬أبي‬
‫ل محمد بن كَّرام ]هو أبو‬‫ل بن سعيد بن ُكلب‪ ،‬وأبي الحسن على بن إسماعيل الشعري‪ ،‬وأبي عبد ا ّ‬ ‫محمد عبد ا ّ‬
‫عبد ال محمد بن َكّرام السجستاني‪ ،‬شيخ الَكّرامية‪ ،‬ساقط الحديث على بدعه‪ ،‬كان يكثر عن الكذابين‪ ،‬قال عنه ابن‬
‫حبان‪ :‬خذل حتى أخذ من المذاهب أردأها‪ ،‬ومن الحاديث أوهاها[‪ ،‬وغير هؤلء‪ ،‬ول أئمة التفسير ول الحديث‪ ،‬ول‬
‫التصوف‪ .‬ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلء‪ ،‬فالمكفر بمثل ذلك يستتاب‪ ،‬فإن تاب وإل عوقب على ذلك عقوبة‬
‫تردعه وأمثاله عن مثل هذا‪ ،‬إل أن يظهر منه ما يقتضى كفره وزندقته‪ ،‬فيكون حكمه حكم أمثاله‪.‬‬

‫سق بمثل هذا القول يجب أن ُيَعّزر بعد إقامة الحجة عليه‪ ،‬فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة السلم‪.‬‬
‫وكذلك الُمَف ّ‬

‫وأما التصويب والتخطئة في ذلك‪ ،‬فهو من كلم العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة‪،‬‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل ل تحتمله هذه الفتوى‪ ،‬وا ّ‬

‫ل عيسى ابن مريم ـ عليه السلم ـ فقال أحدهما‪ :‬إن‬ ‫عا في أمر نبي ا ّ‬
‫ل َتَعاَلى ـ عن رجلين تناز ً‬
‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل ثم رفعه إليه‪ ،‬وقال الخر‪ :‬بل رفعه إليه حيا‪ .‬فما الصواب في ذلك؟ وهل رفعه بجسده‪ ،‬أو‬ ‫عيسى ابن مريم توفاه ا ّ‬
‫ي{ ]آل عمران‪[55 :‬؟‬ ‫ك ِإَل ّ‬ ‫روحه أم ل؟ وما الدليل على هذا وهذا ؟ وما تفسير قوله تعالى‪ِ} :‬إّني ُمَتَوّفي َ‬
‫ك َوَراِفُع َ‬

‫ب‪:‬‬
‫جـا َ‬
‫َفَأ َ‬

‫ل‪ ،‬عيسى ـ عليه السلم ـ حي‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ينزل فيكم ابن‬ ‫الحمد ّ‬
‫طا‪ ،‬فيكسر الصليب‪ ،‬ويقتل الخنزير‪ ،‬ويضع الجزية(‪ ،‬وثبت في الصحيح عنه‪ :‬أنه ينزل‬ ‫ل‪ ،‬وإماًما مقس ً‬
‫مريم حكًما عد ً‬
‫جال‪ .‬ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء‪ ،‬وإذا أحيى‬‫على المنارة البيضاء شرقي دمشق‪ ،‬وأنه يقتل الّد ّ‬
‫فإنه يقوم من قبره‪.‬‬

‫ن بذلك الموت؛ إذ لو أراد‬


‫ك ِمَن اّلِذيَن َكَفُروْا{‪ ،‬فهذا دليل على أنه لم َيْع ِ‬
‫طّهُر َ‬
‫ي َوُم َ‬
‫ك ِإَل ّ‬ ‫وأما قوله تعالى‪ِ} :‬إّني ُمَتَوّفي َ‬
‫ك َوَراِفُع َ‬
‫ل يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء‪ ،‬فعلم أن ليس في‬ ‫بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن ا ّ‬
‫ك ِمَن اّلِذيَن َكَفُروْا{‪ ،‬ولو ‪/‬كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الرض كبدن‬ ‫طّهُر َ‬‫ذلك خاصية‪ ،‬وكذلك قوله‪َ} :‬وُم َ‬
‫سائر النبياء‪ ،‬أو غيره من النبياء‪.‬‬

‫ل‬
‫عْلٍم ِإ ّ‬
‫ن ِ‬
‫ك ّمْنُه َما َلُهم ِبِه ِم ْ‬
‫شّ‬
‫خَتَلُفوْا ِفيِه َلِفي َ‬
‫نا ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫شّبَه َلُهْم َوِإ ّ‬ ‫وقد قال تعالى في الية الخرى‪َ} :‬وَما َقَتُلوُه َوَما َ‬
‫صَلُبوُه َوَلـِكن ُ‬
‫ل ِإَلْيِه{ يبين أنه رفع بدنه‬ ‫ل ِإَلْيِه{ ]النساء‪ ،[158 ،157:‬فقوله هنا‪َ} :‬بل ّرَفَعُه ا ّ‬ ‫ن َوَما َقَتُلوُه َيِقيًنا َبل ّرَفَعُه ا ّ‬
‫ظّ‬
‫ع ال ّ‬
‫اّتَبا َ‬
‫وروحه‪ ،‬كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال‪ :‬وما قتلوه وما صلبوه‪ ،‬بل مات‪ .‬فقوله‪:‬‬
‫ل ِإَلْيِه{ يبين أنه رفع بدنه وروحه‪ ،‬كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه‪.‬‬
‫}َبل ّرَفَعُه ا ّ‬

‫ت الحسابَ‬
‫ك{‪ :‬أي‪ :‬قابضك‪ ،‬أي‪ :‬قابض روحك وبدنك‪ ،‬يقال‪َ :‬تَوّفْي ُ‬ ‫ولهذا قال من قال من العلماء‪ِ} :‬إّني ُمَتَوّفي َ‬
‫واستوفيُته‪ ،‬ولفظ الّتَوّفي ل يقتضي نفسه َتوّفي الروح دون البدن‪ ،‬ول َتَوّفيهما جميًعا‪ ،‬إل بقرينة منفصلة‪.‬‬

‫ن َمْوِتَها{ ]الزمر‪ ،[42 :‬وقوله‪َ} :‬وُهَو اّلِذي َيَتَوّفاُكم ِبالّلْي ِ‬


‫ل َوَيْعَلُم‬ ‫حي َ‬
‫س ِ‬ ‫لنُف َ‬ ‫وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َيَتَوّفى ا َْ‬
‫ت َتَوفّْتُه ُرُسُلَنا{ ]النعام‪ ،[61 :‬وقد ذكروا في صفة‬ ‫حَدُكُم اْلَمْو ُ‬
‫جاء َأ َ‬
‫ى ِإَذا َ‬ ‫حُتم ِبالّنَهاِر{ ]النعام‪ ،[60 :‬وقوله‪َ } :‬‬
‫حّت َ‬ ‫جَر ْ‬
‫َما َ‬
‫ل ـ تعالى ـ أعلم‪.‬‬
‫توفي المسيح ما هو مذكور في موضعه‪ .‬وا ّ‬

‫ل َتَعاَلى‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫خ ـ َر ِ‬
‫شي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه‪ ،‬ثم ماتا بعد ذلك ؟‬
‫هل صح عن النبي صلى ال عليه وسلم أن ا ّ‬

‫جـاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث‪ ،‬بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق‪ ،‬وإن كان قد روى في ذلك‬
‫أبو بكر ـ يعني الخطيب ـ في كتابه ]السابق واللحق[‪ ،‬وذكره أبو القاسم السهيلي في ]شرح السيرة[ بإسناد فيه‬
‫ل القرطبي في ]التذكرة[‪ ،‬وأمثال هذه المواضع‪ ،‬فل نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر‬ ‫مجاهيل‪ ،‬وذكره أبو عبد ا ّ‬
‫الموضوعات كذًبا‪ ،‬كما نص عليه أهل العلم‪ ،‬وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث‪ ،‬ل في الصحيح ول في السنن‬
‫ول في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة‪ ،‬ول ذكره أهل كتب المغازي والتفسير‪ ،‬وإن كانوا قد يروون‬
‫الضعيف مع الصحيح؛ لن ظهور كذب ذلك ل يخفى على متدين‪ ،‬فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم‬
‫والدواعي على نقله‪ ،‬فإنه من أعظم المور خرًقا للعادة من وجهين‪:‬‬

‫‪/‬من جهة إحياء الموتى‪ ،‬ومن جهة اليمان بعد الموت‪ ،‬فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره‪ ،‬فلما لم يروه أحد من‬
‫الثقات علم أنه كذب‪.‬‬

‫والخطيب البغدادي هو في كتاب ]السابق واللحق[ مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص‬
‫سِمين‪ ،‬والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه‬
‫ث وال ّ‬
‫واحد‪ ،‬سواء كان الذي يروونه صدًقا أو كذًبا‪ ،‬وابن شاهين يروي الَغ ّ‬
‫مجاهيل‪.‬‬

‫جَهاَلٍة ُثّم‬
‫سَوَء ِب َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ل ِلّلِذي َ‬
‫عَلى ا ّ‬‫ل تعالى‪ِ} :‬إّنَما الّتْوَبُة َ‬ ‫ثم هذا خلف الكتاب‪ ،‬والسنة الصحيحة والجماع‪ .‬قال ا ّ‬
‫حَدُهُم اْلَمْو ُ‬
‫ت‬ ‫ضَر َأ َ‬‫ح َ‬‫حّتى ِإَذا َ‬‫ت َ‬ ‫سّيَئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ن َيْعَمُلو َ‬
‫ت الّتْوَبُة ِلّلِذي َ‬
‫س ِ‬
‫حِكيمًا َوَلْي َ‬
‫عِليمًا َ‬
‫ل َ‬
‫نا ّ‬
‫عَلْيِهْم َوَكا َ‬
‫ل َ‬
‫با ّ‬
‫ك َيُتو ُ‬
‫ب َفُأْوَلـِئ َ‬
‫ن ِمن َقِري ٍ‬‫َيُتوُبو َ‬
‫ت الَن َوَل اّلِذيَن َيُموُتوَن َوُهْم ُكّفاٌر { ]النساء‪.[18 ،17 :‬‬ ‫ل ِإّني ُتْب ُ‬
‫َقا َ‬

‫ت ِفي‬
‫خَل ْ‬
‫ل اّلِتي َقْد َ‬
‫ت ا ِّ‬
‫سّن َ‬
‫سَنا ُ‬ ‫را‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬فَلْم َي ُ‬
‫ك َينَفُعُهمْ ِإيَماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ‬ ‫ل تعالى‪ :‬أنه ل توبة لمن مات كاف ً‬ ‫فبين ا ّ‬
‫ك اْلَكاِفُروَن{ ]غافر‪.[85 :‬‬
‫سَر ُهَناِل َ‬
‫خِ‬‫عَباِدِه وَ َ‬
‫ِ‬

‫فأخبر أن سنته في عباده أنه ل ينفع اليمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص‪.‬‬

‫ل قال للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أين أبي؟ قال‪) :‬إن أباك في النار(‪ .‬فلما أدبر دعاه فقال‪:‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪ :‬أن رج ً‬
‫)إن أبي وأباك في النار(‪.‬‬

‫ضا ـ أنه قال‪) :‬استأذنت ربي أن أزور قبر أمي‪/ ،‬فأذن لي‪ ،‬واستأذنته في أن أستغفر لها فلم‬‫وفي صحيح مسلم ـ أي ً‬
‫يأذن لي‪ ،‬فزوروا القبور‪ ،‬فإنها ُتذّكر الخرة(‪.‬‬

‫وفي الحديث ـ الذي في المسند وغيره ـ قال‪) :‬إن أمي مع أمك في النار(‪ ،‬فإن قيل‪ :‬هذا في عام الفتح والحياء كان‬
‫بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره‪ ،‬وبهذا اعتذر صاحب التذكرة‪ ،‬وهذا باطل لوجوه‪:‬‬

‫ب{ ]المسد‪ ،[3 :‬وكقوله في‬ ‫ت َلَه ٍ‬


‫صَلى َناًرا َذا َ‬ ‫الول‪ :‬أن الخبر عما كان ويكون ل يدخله نسخ‪ ،‬كقوله في أبي لهب‪َ } :‬‬
‫سَي ْ‬
‫صُعوًدا{ ]المدثر‪ .[17 :‬وكذلك في‪) :‬إن أبي وأباك في النار( و )إن أمي وأمك في النار(‪ ،‬وهذا ليس‬ ‫الوليد‪َ } :‬‬
‫سُأْرِهُقُه َ‬
‫خبًرا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لنه لو كان كذلك لجاز الستغفار لهما‪ ،‬ولو كان قد سبق في علم الّ‬
‫ل يغفر له‪ ،‬فل يكون الستغفار له ممتنًعا‪.‬‬ ‫إيمانهما لم ينهه عن ذلك‪ ،‬فإن العمال بالخواتيم‪ ،‬ومن مات مؤمنا فإن ا ّ‬

‫جون عند مكة عام الفتح‪ ،‬وأما أبوه فلم‬ ‫حُ‬


‫الثاني‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم زار قبر أمه؛ لنها كانت بطريقه بال َ‬
‫يكن هناك‪ ،‬ولم يزره؛ إذ كان مدفوًنا بالشام في غير طريقه‪ ،‬فكيف يقال‪ :‬أحيى له ؟‬

‫الثالث‪ :‬أنهما لو كانا مؤمنين إيماًنا ينفع‪ ،‬كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه‪ :‬حمزة والعباس‪ ،‬وهذا أبعد مما يقوله‬
‫الجهال من الرافضة ونحوهم‪/ ،‬من أن أبا طالب آمن‪ ،‬ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف‪ ،‬وفيه أنه تكلم‬
‫بكلم خفي وقت الموت‪.‬‬
‫ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء؟‬
‫فقال‪) :‬وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار‪ ،‬في رجليه نعلن من نار يغلي منهما‬
‫دماغه‪ ،‬ولول أنا لكان في الدرك السفل من النار(‪.‬‬

‫هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره‪ ،‬فإنه كان آخر شىء قاله‪ :‬هو على ملة عبد المطلب‪ ،‬وأن العباس لم يشهد‬
‫موته‪ ،‬مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس‪ ،‬فلما كان من العلم المتواتر المستفيض‬
‫بين المة ـ خلًفا عن سلف ـ أنه لم يذكر أبو طالب ول أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين‪ ،‬كحمزة‪ ،‬والعباس‪،‬‬
‫ل عنهم ـ كان هذا من أبين الدلة على أن ذلك كذب‪.‬‬
‫وعلي‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬والحسن والحسين ـ رضي ا ّ‬

‫سَتْغِفَرنّ‬ ‫لْ‬‫ن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَراء ِمنُكْم{ إلى قوله‪َ } :‬‬‫سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ‬
‫حَ‬‫سَوٌة َ‬ ‫ل تعالى قال‪َ}:‬قْد َكاَن ْ‬
‫ت َلُكْم ُأ ْ‬ ‫الرابع‪ :‬أن ا ّ‬
‫عَدَها ِإّياُه‬
‫عَدٍة َو َ‬
‫عن ّمْو ِ‬
‫ل َ‬
‫لِبيِه ِإ ّ‬
‫سِتْغَفاُر ِإْبَراِهيَم َِ‬ ‫يٍء{ الية ]الممتحنة‪ ،[4 :‬وقال تعالى‪َ}:‬وَما َكا َ‬
‫نا ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل ِمن َ‬
‫ن ا ِّ‬‫ك ِم َ‬
‫ك َل َ‬ ‫ك َوَما َأْمِل ُ‬ ‫َل َ‬
‫ل َتَبّرَأ ِمْنُه{ ]التوبة‪.[114 :‬‬ ‫عُدّو ِّ‬‫ن َلُه َأّنُه َ‬
‫َفَلّما َتَبّي َ‬

‫ل تبرأ منه‪.‬‬
‫فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه‪ ،‬إل في وعد إبراهيم لبيه بالستغفار‪ ،‬وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو ّ‬
‫ل أعلم ‪.‬‬
‫وا ّ‬

‫ل ـ عن هذه الحاديث‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم رأى مـوسى ـ عليه السلم ـ وهو يصلي في‬ ‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫قبره‪ ،‬ورآه وهو يطوف بالبيت‪ ،‬ورآه في السماء‪ ،‬وكذلك بعض النبياء‪ .‬وهل إذا مات أحد يبقى له عمل‪ ،‬والحديث أنه‬
‫ينقطع عمله؟ وهل ينتفع بهذه الصلة والطواف؟ وهل رأى النبياء بأجسادهم في هذه الماكن أم بأرواحهم؟‬

‫جاب‪:‬‬
‫فأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬أما رؤيا موسى ـ عليه السلم ـ في الطواف‪ ،‬فهذا كان رؤيا منام‪ ،‬لم يكن ليلة المعراج ـ كذلك‬
‫الحمد ّ‬
‫ضا‪ ،‬ورأى الدجال‪ .‬وأما رؤيته ورؤية غيره من النبياء ليلة المعراج في السماء ـ لما‬
‫جاء مفسرا ـ كما رأى المسيح أي ً‬
‫رأى آدم في السماء الدنيا‪ ،‬ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية‪ ،‬ويوسف في الثالثة‪ ،‬وإدريس في الرابعة‪ ،‬وهارون‬
‫في الخامسة‪ ،‬وموسى في السادسة‪ ،‬وإبراهيم في السابعة ـ أو بالعكس‪ ،‬فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم‪.‬‬

‫وقد قال بعض الناس‪ :‬لعله رأى نفس الجساد المدفونة في القبور‪ ،‬وهذا ليس بشىء‪.‬‬

‫‪ /‬لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده‪ ،‬وكذلك قد قيل في إدريس‪.‬‬

‫وأما إبراهيم وموسى وغيرهما‪ ،‬فهم مدفونون في الرض‪.‬‬

‫والمسيح ـ صلى ال عليه وسلم وعلى سائر النبيين ـ لبد أن ينزل إلى الرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق‪،‬‬
‫فيقتل الدجال‪ ،‬ويكسر الصليب‪ ،‬ويقتل الخنزير‪ ،‬كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة؛ ولهذا كان في السماء الثانية‬
‫مع أنه أفضل من يوسف‪ ،‬وإدريس‪ ،‬وهارون؛ لنه يريد النزول إلى الرض قبل يوم القيامة‪ ،‬بخلف غيره‪.‬‬

‫سم بنيه تعرض عليه ـ أرواح السعداء ـ والشقياء ل تفتح لهم أبواب السماء‪ ،‬ول‬‫وآدم كان في سماء الدنيا؛ لن َن َ‬
‫يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ـ فل بد إذا عرضوا عليه أن يكون قريًبا منهم‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فهذا ل منافاة بينهما‪ ،‬فإن أمر الرواح من جنس‬


‫وأما كونه رأى موسى قائما يصلي في قبره‪ ،‬ورآه في السماء أي ً‬
‫أمر الملئكة‪ ،‬في اللحظة الواحدة تصعد‪ ،‬وتهبط كالملك‪ ،‬ليست في ذلك كالبدن‪.‬‬

‫وقد بسطت الكلم على أحكام الرواح بعد مفارقة البدان في غير هذا الموضع‪ ،‬وذكرت بعض ما في ذلك من‬
‫الحاديث‪ ،‬والثار‪ ،‬والدلئل‪.‬‬
‫وهذه الصلة ونحوها مما يتمتع بها الميت‪ ،‬ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة ‪/‬بالتسبيح‪ ،‬فإنهم ُيْلَهمون التسبيح كما يلهم‬
‫الناس في الدنيا الّنَفس‪ ،‬فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل‪ ،‬بل نفس هذا العمل هو من النعيم‬
‫الذي تتنعم به النفس وتتلذذ به‪.‬‬

‫وقول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إل من ثلث‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬وعلم ينتفع به‪ ،‬وولد‬
‫صالح يدعو له(‪ ،‬يريد به العمل الذي يكون له ثواب‪ ،‬لم يرد به نفس العمل الذي يتنعم به‪ ،‬فإن أهل الجنة يتنعمون‬
‫ق‪ ،‬ورّتل كما كنت‬
‫ل‪ ،‬ويتنعمون بذكره وتسبيحه‪ ،‬ويتنعمون بقراءة القرآن‪ ،‬ويقال لقارئ القرآن‪ :‬اقرأ واْر َ‬
‫بالنظر إلى ا ّ‬
‫ترتل في الدنيا‪ ،‬فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها‪.‬‬

‫ل يترتب عليها الثواب فهي في الخرة‬ ‫ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته‪ ،‬وإن كانت هذه المور في الدنيا أعما ً‬
‫ضا والكل والشرب والنكاح في الدنيا‬ ‫أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه‪ ،‬وهذه كلها أعمال أي ً‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫مما يؤمر به ويثاب عليه مع النية الصالحة‪ ،‬وهو في الخرة نفس الثواب الذي يتنعم به‪ .‬وا ّ‬

‫وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة‪ ،‬فإن هذه المسائل لها بسط طويل‪.‬‬

‫ل إبراهيم ـ عليه السلم ـ هل هو إسماعيل‪ ،‬أو إسحاق؟‬


‫ل ـ عن الذبيح من ولد خليل ا ّ‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫جـاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء‪ ،‬وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف‪ ،‬وذكر‬ ‫الحمد ّ‬
‫عا لبي بكر عبد العزيز‪ ،‬وأبو بكر اتبع محمد بن جرير‪.‬‬
‫أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد‪ ،‬ونصر أنه إسحاق‪ ،‬إتبا ً‬
‫ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق‪ ،‬وإنما ينصره هذان‪ ،‬ومن اتبعهما‪ ،‬ويحكى‬
‫ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه‪.‬‬

‫ل بن‬
‫وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف‪ :‬أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل‪ ،‬وهذا هو الذي رواه عبد ا ّ‬
‫أحمد عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬مذهب أبي أنه إسماعيل‪ ،‬وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور‪ ،‬لكن الذي يجب القطع به أنه‬
‫إسماعيل‪ ،‬وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلئل المشهورة‪ ،‬وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب‪.‬‬

‫‪/‬وأيضا‪ ،‬فإن فيها أنه قال لبراهيم‪ :‬اذبح ابنك وحيدك‪ .‬وفي ترجمة أخرى‪ِ :‬بْكرك‪ ،‬وإسماعيل هو الذي كان وحيده‬
‫وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب‪ ،‬لكن أهل الكتاب حّرفوا‪ ،‬فزادوا إسحاق‪ ،‬فتلقى ذلك عنهم من تلقاه‪ ،‬وشاع عند‬
‫بعض المسلمين أنه إسحاق‪ ،‬وأصله من تحريف أهل الكتاب‪.‬‬

‫لٍم َحِليٍم{ ]الصافات‪:‬‬ ‫ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬فَب ّ‬
‫شْرَناُه ِبُغ َ‬
‫‪ ،[101‬وقد انطوت البشارة على ثلث‪ :‬على أن الولد غلم ذكر‪ ،‬وأنه يبلغ الحلم‪ ،‬وأنه يكون حليًما‪ .‬وأي حلم أعظم‬
‫صاِبِريَن{ ]الصافات‪[102 :‬؟ وقيل‪ :‬لم ينعت الّ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ل ِم َ‬
‫شاء ا ُّ‬
‫جُدِني ِإن َ‬ ‫من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال‪َ } :‬‬
‫سَت ِ‬
‫النبياء بأقل من الحلم‪ ،‬وذلك لعزة وجوده‪ ،‬ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى‪ِ} :‬إّن ِإْبَراِهيَم لّواٌه َحِليٌم{ ]التوبة‪:‬‬
‫ي ِإّني َأَرى ِفي‬‫ل َيا ُبَن ّ‬ ‫ي َقا َ‬
‫سْع َ‬‫ب{ ]هود‪ [75 :‬لن الحادثة شهدت بحلمهما‪َ} :‬فَلّما َبَلَغ َمَعُه ال ّ‬ ‫حِليٌم َأّواٌه ّمِني ٌ‬ ‫‪ِ} ،[114‬إ ّ‬
‫ن ِإْبَراِهيَم َل َ‬
‫ظيٍم‬
‫عِ‬ ‫ن{ إلى قوله‪َ} :‬وَفَدْيَناُه ِبِذْب ٍ‬
‫ح َ‬ ‫صاِبِري َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ل ِم َ‬‫شاء ا ُّ‬
‫جُدِني ِإن َ‬‫سَت ِ‬
‫ل َما ُتْؤَمُر َ‬
‫ت اْفَع ْ‬
‫ل َيا َأَب ِ‬
‫ظْر َماَذا َتَرى َقا َ‬ ‫ك َفان ُ‬‫حَ‬ ‫اْلَمَناِم َأّني َأْذَب ُ‬
‫حي َ‬
‫ن‬ ‫صاِل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ق َنِبّيا ّم َ‬
‫حَ‬‫سَ‬
‫شْرَناُه ِبِإ ْ‬
‫ن َوَب ّ‬
‫عَباِدَنا اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن ِ‬
‫ن ِإّنُه ِم ْ‬
‫سِني َ‬
‫حِ‬
‫جِزي اْلُم ْ‬
‫ك َن ْ‬
‫عَلى ِإْبَراِهيَم َكَذِل َ‬ ‫لٌم َ‬
‫سَ‬‫ن َ‬
‫خِري َ‬‫لِ‬‫عَلْيِه ِفي ا ْ‬‫َوَتَرْكَنا َ‬
‫ظاِلٌم ّلَنْفِسِه ُمِبيٌن[ }الصافات ‪.[113-107‬‬ ‫ن َو َ‬‫سٌ‬ ‫حِ‬‫ق َوِمن ُذّرّيِتِهَما ُم ْ‬
‫حَ‬‫سَ‬‫عَلى ِإ ْ‬
‫عَلْيِه َو َ‬
‫َوَباَرْكَنا َ‬

‫فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه‪:‬‬

‫عَلْيِه‬
‫ن َوَباَرْكَنا َ‬
‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ق َنِبّيا ّم َ‬
‫حَ‬‫سَ‬ ‫أحدها‪ :‬أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أول‪ ،‬فلما استوفى في ذلك قال‪َ}/ :‬وَب ّ‬
‫شْرَناهُ ِبِإ ْ‬
‫ق{ ]الصافات‪.[113 ،112 :‬‬ ‫حَ‬‫عَلى ِإسْ َ‬
‫َو َ‬

‫فبين أنهما بشارتان‪ :‬بشارة بالذبيح‪ ،‬وبشارة ثانية بإسحاق‪ ،‬وهذا بّين‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إل في هذا الموضع‪ ،‬وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة‪،‬‬
‫ب{ ]هود‪ ،[17 :‬فلو‬ ‫ق َيْعُقو َ‬‫حَ‬
‫سَ‬‫ق َوِمن َوَراء ِإ ْ‬ ‫حَ‬ ‫سَ‬ ‫شْرَناَها ِبِإ ْ‬ ‫ت َفَب ّ‬
‫حَك ْ‬
‫ضِ‬‫كما في سورة هود‪ ،‬من قوله تعالى‪َ} :‬واْمَرَأُتُه َقآِئَمٌة َف َ‬
‫عِليٍم َفَأْقَبَل ِ‬
‫ت‬ ‫لٍم َ‬
‫شُروُه ِبُغ َ‬
‫ف َوَب ّ‬
‫خ ْ‬
‫ل َت َ‬
‫خيَفًة َقاُلوا َ‬
‫س ِمْنُهْم ِ‬‫ج َ‬ ‫كان الذبيح إسحاق لكان خلًفا للوعد في يعقوب‪ ،‬وقال تعالى‪َ} :‬فَأْو َ‬
‫ت َعُجوٌز َعِقيٌم{ ]الذاريات‪.[29 ،28 :‬‬ ‫جَهَها َوَقاَل ْ‬
‫ت َو ْ‬
‫صّك ْ‬
‫صّرٍة َف َ‬
‫اْمَرَأُتُه ِفي َ‬

‫شُرون َقاُلوْا‬
‫ي اْلِكَبُر َفِبَم ُتَب ّ‬
‫سِن َ‬
‫عَلى َأن ّم ّ‬
‫ل َأَبشّْرُتُموِني َ‬
‫عِليٍم َقا َ‬
‫ك ِبُغلٍم َ‬
‫شُر َ‬
‫ل ِإّنا ُنَب ّ‬
‫جْ‬ ‫وقال تعالى في سورة الحجر‪َ} :‬قاُلوْا َ‬
‫ل َتْو َ‬
‫طيَن}]الحجر‪ ،[53-55 :‬ولم يذكر أنه الذبيح‪ ،‬ثم لما ذكر البشارتين جميًعا‪ :‬البشارة‬ ‫ن اْلَقاِن ِ‬
‫ل َتُكن ّم َ‬
‫ق َف َ‬
‫حّ‬‫ك ِباْل َ‬
‫شْرَنا َ‬
‫َب ّ‬
‫بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده‪ ،‬كان هذا من الدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح‪.‬‬

‫ن{‬ ‫حي َ‬
‫صاِل ِ‬
‫جَعْلَنا َ‬
‫ل َ‬ ‫ب َناِفَلًة َوُك ّ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬ ‫حَ‬ ‫سَ‬‫ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لبراهيم في قوله تعالى‪َ} :‬وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ‬
‫خَرِة َلِم َ‬
‫ن‬ ‫لِ‬‫جَرهُ ِفي الّدْنَيا َوِإّنهُ ِفي ا ْ‬‫ب َوآَتْيَناُه َأ ْ‬
‫جَعْلَنا ِفي ُذّرّيِتِه الّنُبّوَة َواْلِكَتا َ‬
‫ب َو َ‬
‫ق َوَيْعُقو َ‬
‫حَ‬ ‫]النبياء‪ ،[72 :‬وقوله‪َ} :‬وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ‬
‫سَ‬
‫ل الذبيح‪.‬‬ ‫صاِلِحيَن{ ]العنكبوت‪ ،[27 :‬ولم يذكر ا ّ‬ ‫ال ّ‬

‫الوجه الثالث‪ :‬أنه ذكر في الذبيح أنه غلم حليم‪ ،‬ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلم عليم في غير هذا‬
‫الموضع‪ ،‬والتخصيص لبد له من حكمة‪/ ،‬وهذا مما يقوي اقتران الوصفين‪ ،‬والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق‬
‫الذبيح‪.‬‬

‫ضا‬‫صاِبِريَن{ ]النبياء‪ ،[85 :‬وهذا أي ً‬ ‫ن ال ّ‬


‫ل ّم َ‬
‫ل ُك ّ‬‫س َوَذا اْلِكْف ِ‬
‫ل َوِإْدِري َ‬‫عي َ‬ ‫وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى‪َ} :‬وِإ ْ‬
‫سَما ِ‬
‫صاِبِريَن{ ]الصافات‪ ،[102 :‬وقد وصف الّ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ل ِم َ‬‫شاء ا ُّ‬ ‫جُدِني ِإن َ‬ ‫سَت ِ‬
‫ل َما ُتْؤَمُر َ‬ ‫وجه ثالث فإنه قال في الذبيح‪َ} :‬يا َأَب ِ‬
‫ت اْفَع ْ‬
‫عِد{‬‫ق اْلَو ْ‬
‫صاِد َ‬ ‫ضا بصدق الوعد في قوله تعالى‪ِ} :‬إّنُه َكا َ‬
‫ن َ‬ ‫ل ـ تعالى ـ إسماعيل أي ً‬ ‫إسماعيل أنه من الصابرين‪ ،‬ووصف ا ّ‬
‫]مريم‪[54 :‬؛ لنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به‪.‬‬

‫عَلى‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لن العجوز عقيم؛ ولهذا قال الخليل ـ عليه السلم‪َ} :‬أَب ّ‬
‫شْرُتُموِني َ‬
‫ي اْلِكَبُر َفِبَم ُتَبّشُروَن{ ]الحجر‪ ،[54:‬وقالت امرأته‪َ {:‬أَأِلُد َوَأَنْا َعُجوٌز َوَهـَذا َبْعِلي َشْيًخا{ ]هود‪ ،[72 :‬وقد سبق أن‬
‫سِن َ‬
‫َأن ّم ّ‬
‫البشارة بإسحاق في حال الِكَبر‪ ،‬وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته‪.‬‬

‫وأما البشارة بالذبيح‪ ،‬فكانت لبراهيم ـ عليه السلم ـ وامتحن بذبحه دون الم المبشرة به‪ ،‬وهذا مما يوافق ما نقل عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره‪ :‬من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة‪ ،‬فذهب‬
‫إبراهيم ‪/‬بإسماعيل وأمه إلى مكة‪ ،‬وهناك أمر بالذبح‪ .‬وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك‪.‬‬

‫ب{ ]هود‪،[71 :‬‬ ‫ق َيْعُقو َ‬


‫حَ‬‫سَ‬
‫ق َوِمن َوَراء ِإ ْ‬
‫حَ‬‫سَ‬ ‫ل تعالى قال‪َ} :‬فَب ّ‬
‫شْرَناَها ِبِإ ْ‬ ‫ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق‪ ،‬أن ا ّ‬
‫فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه؟ والبشارة بيعقوب تقتضى أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب‪ ،‬ول خلف بين الناس أن‬
‫قصة الذبيح كانت قبل ولدة يعقوب‪ ،‬بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم ـ عليه السلم ـ وقصة الذبيح كانت في حياة‬
‫إبراهيم بل ريب‪.‬‬

‫ومما يدل على ذلك‪ :‬أن قصة الذبيح كانت بمكة‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة‪،‬‬
‫فقال النبي صلى ال عليه وسلم للسادن‪) :‬إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه ل ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي‬
‫المصلي(‪.‬‬

‫ولهذا جعلت مني محل للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم‪ ،‬وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن‪.‬‬

‫ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة‪ ،‬ل من أهل الكتاب‪ ،‬ول غيرهم‪ ،‬لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون‬
‫سًكا‬
‫أن قصة الذبح كانت بالشام‪ ،‬فهذا افتراء‪ .‬فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك ‪ /‬الجبل‪ ،‬وربما جعل َمْن َ‬
‫كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر‪.‬‬

‫وفي المسألة دلئل أخرى على ما ذكرناه‪ ،‬وأسئلة أوردها طائفة؛ كابن جرير‪ ،‬والقاضي أبي يعلى‪ ،‬والسهيلي‪ ،‬ولكن‬
‫ل ـ عز وجل ـ أعلم‪.‬‬
‫ل يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها‪ ،‬وا ّ‬
‫ل على محمد وآله وصحبه وسلم تسليًما‪.‬‬
‫ل رب العالمين‪ .‬وصلى ا ّ‬
‫والحمد ّ‬

‫ل تعالى‪.‬‬
‫ل ـ عن الخضر وإلياس‪ ،‬هل هما معمران؟ بينوا لنا ـ رحمكم ا ّ‬
‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬

‫فأجاب‪:‬‬

‫إنهما ليسا في الحياء‪ ،‬ول معمران‪ ،‬وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس‪ ،‬وأنهما‬
‫باقيان يريان ويروى عنهما‪ ،‬فقال المام أحمد‪ :‬من أحال على غائب لم ينصف منه‪ ،‬وما ألقى هذا إل شيطان‪.‬‬

‫وسئل البخاري عن الخضر وإلياس‪ :‬هل هما في الحياء؟ فقال‪ :‬كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫)ل يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الرض أحد؟(‪.‬‬

‫ك اْلُخْلَد{ ]النبياء‪ [34 :‬وليس هما في الحياء‪ .‬وا ّ‬


‫ل‬ ‫شٍر ّمن َقْبِل َ‬ ‫وقال أبو الفرج ابن الجوزي‪ :‬قوله تعالى‪َ} :‬وَما َ‬
‫جَعْلَنا ِلَب َ‬
‫أعلم‪.‬‬

‫ل‪:‬‬
‫خ ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫هل كان الخضر ـ عليه السلم ـ نبًيا أو ولًيا ؟ وهل هو حي إلى الن؟ وإن كان حًيا فما تقولون فيما روى عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬لو كان حًيا لزارني( هل هذا الحديث صحيح أم ل؟‬

‫جـاب‪:‬‬
‫فأ َ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم لم يوح إليه ول إلى غيره من الناس‪ ،‬وأما قبل مبعث النبي‬ ‫أما نبوته‪ :‬فمن بعد مبعث رسول ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم فقد اختلف في نبوته‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنه نبي‪ ،‬لم يقل‪ :‬إنه سلب النبوة‪ ،‬بل يقول‪ :‬هو كإلياس نبي‪ ،‬لكنه‬
‫لم يوح إليه في هذه الوقات‪ ،‬وترك الوحي إليه في مدة معينة ليس نفًيا لحقيقة النبوة‪ ،‬كما لو فتر الوحي عن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم في أثناء مدة رسالته‪.‬‬

‫وأكثر العلماء على أنه لم يكن نبًيا‪ ،‬مع أن نبوة من قبلنا يقرب كثير منها من الكرامة والكمال في المة‪ ،‬وإن كان كل‬
‫واحد من النبيين أفضل من كل ‪/‬واحد من الصديقين كما رتبه القرآن‪ ،‬وكما روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫قال‪) :‬ما طلعت الشمس ول غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق(‪ ،‬وروى عنه صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إن كان الرجل ليسمع الصوت فيكون نبًيا(‪.‬‬

‫وفي هذه المة من يسمعه ويرى الضوء وليس بنبي؛ لن ما يراه ويسمعه يجب أن يعرضه على ما جاء به محمد‬
‫ل يقين ل يخالطه ريب‪ ،‬ول يحوجه‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن وافقه فهو حق‪ ،‬وإن خالفه تيقن أن الذي جاء من عند ا ّ‬
‫أن يشهد عليه بموافقة غيره‪.‬‬

‫وأما حياته‪ :‬فهو حي‪ .‬والحديث المذكور ل أصل له‪ ،‬ول يعرف له إسناد‪ ،‬بل المروي في مسند الشافعي وغيره‪ :‬أنه‬
‫اجتمع بالنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنه لم يجتمع بالنبي صلى ال عليه وسلم فقد قال ما ل علم له به‪ ،‬فإنه‬
‫من العلم الذي ل يحاط به‪.‬‬

‫ومن احتج على وفاته بقول النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أرأيتكم ليلتكم هذه‪ ،‬فإنه على رأس مائة سنة ل يبقى على‬
‫وجه الرض ممن هو عليها اليوم أحد( فل حجة فيه‪ ،‬فإنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك على وجه الرض‪.‬‬

‫ولن الدجال ـ وكذلك الجساسة ـ الصحيح أنه كان حيا موجودا ‪/‬على عهد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو باق إلى‬
‫اليوم لم يخرج‪ ،‬وكان في جزيرة من جزائر البحر‪.‬‬
‫فما كان من الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر‪ ،‬وهو أن يكون لفظ الرض لم يدخل في هذا الخبر‪ ،‬أو يكون‬
‫أراد صلى ال عليه وسلم الدميين المعروفين‪ ،‬وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم‪ ،‬كما لم تدخل الجن‪،‬‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ظا ينتظم الجن والنس‪ .‬وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد‪ .‬وا ّ‬
‫وإن كان لف ً‬

‫ل عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل يعلم وقت الساعة ؟‬


‫سئ َ‬
‫وُ‬ ‫‪/‬‬

‫جــاب‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫أما الحديث المسؤول عنه‪ ،‬كونه صلى ال عليه وسلم يعلم وقت الساعة‪ ،‬فل أصل له‪ ،‬ليس عن النبي صلى ال عليه‬
‫عنَد َرّبي َ‬
‫ل‬ ‫عْلُمَها ِ‬
‫ل ِإّنَما ِ‬
‫ساَها ُق ْ‬
‫ن ُمْر َ‬
‫عِة َأّيا َ‬
‫سا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ك عَ ِ‬ ‫ل‪ ،‬بل قد قال تعالى‪َ} :‬ي ْ‬
‫سَأُلوَن َ‬ ‫وسلم في تحديد وقت الساعة نص أص ً‬
‫ض{ ]العراف‪ [187 :‬أي‪ :‬خفى على أهل السموات والرض‪ ،‬وقال تعالى‬ ‫لْر ِ‬‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫ت ِفي ال ّ‬
‫ل ُهَو َثُقَل ْ‬
‫جّليَها ِلَوْقِتَها ِإ ّ‬
‫ُي َ‬
‫لموسى‪ِ} :‬إّن الّساَعَة ءَاِتَيٌة َأَكاُد ُأْخِفيَها{ ]طه‪ .[15:‬قال ابن عباس وغيره‪ :‬أكاد أخفيها من نفسي فكيف أطلع عليها؟‬

‫وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ وهو في مسلم من حديث عمر‪ :‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قيل له‪ :‬متى‬
‫الساعة؟ قال‪) :‬ما المسؤول عنها بأعلم من السائل(‪ .‬فأخبر أنه ليس بأعلم بها من السائل‪ ،‬وكان السائل في صورة‬
‫أعرابي‪ ،‬ولم يعلم أنه جبريل إل بعد أن ذهب وحين أجابه لم يكن يظنه إل أعرابيا‪ ،‬فإذا كان النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قد قال عن نفسه‪ :‬إنه ليس بأعلم بالساعة من ‪ /‬أعرابي‪ ،‬فكيف يجوز لغيره أن يدعي علم ميقاتها؟! وإنما أخبر‬
‫الكتاب والسنة بأشراطها‪ ،‬وهي علماتها‪ ،‬وهي كثيرة تقدم بعضها‪ ،‬وبعضها لم يأت بعد‪.‬‬

‫ومن تكلم في وقتها المعين‪ ،‬مثل الذي صنف كتاًبا سماه ]الدر المنظم في معرفة العظم[ وذكر فيه عشر دللت بين‬
‫فيها وقتها‪ ،‬والذين تكلموا على ذلك من ]حروف المعجم[ والذي تكلم في ]عنقاء مغرب[ وأمثال هؤلء‪ ،‬فإنهم وإن‬
‫كان لهم صورة عظيمة عند أتباعهم‪ ،‬فغالبهم كاذبون مفترون‪ ،‬وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير‬
‫ت ِم َ‬
‫ن‬ ‫طّيَبا ِ‬
‫ج ِلِعَباِدِه َواْل ّ‬
‫خَر َ‬
‫ي َأ ْ‬
‫ل اّلِت َ‬
‫حّرَم ِزيَنَة ا ّ‬
‫ن َ‬
‫ل َم ْ‬‫علم؛ وإن ادعوا في ذلك الكشف ومعرفة السرار‪ ،‬وقد قال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ت ِلَقْوٍم َيْعَلُموَن{ ]العراف‪.[33 :‬‬ ‫ل الَيا ِ‬‫صُ‬
‫ك ُنَف ّ‬
‫صًة َيْوَم اْلِقَياَمِة َكَذِل َ‬
‫خاِل َ‬
‫حَياِة الّدْنَيا َ‬
‫ن آَمُنوْا ِفي اْل َ‬
‫ل ِهي ِلّلِذي َ‬
‫ق ُق ْ‬
‫الّرْز ِ‬

‫لم عن صالحي بني آدم‪ ،‬والملئكة‪ ،‬أيهما أفضل ؟‬


‫سَ‬‫خ الِ ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫َفَأجـاب‪:‬‬

‫بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية‪ ،‬والملئكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملئكة الن في الرفيق العلى‬
‫منزهون عما يلبسه بنو آدم‪ ،‬مستغرقون في عبادة الرب‪ ،‬ول ريب أن هذه الحوال الن أكمل من أحوال البشر‪.‬‬

‫وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة‪ ،‬فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملئكة‪.‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل‪ ،‬وتتفق أدلة الفريقين‪ ،‬ويصالح كل منهم على حقه‪.‬‬

‫ل عن المطيعين من أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬هل هم أفضل من الملئكة؟‬


‫سئ َ‬
‫وُ‬ ‫‪/‬‬

‫جـاب‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫ل بن عمرو أنه قال‪ :‬إن الملئكة قالت‪ :‬يا رب‪ ،‬جعلت بني آدم يأكلون في الدنيا ويشربون‬ ‫قد ثبت عن عبد ا ّ‬
‫ويتمتعون‪ ،‬فاجعل لنا الخرة كما جعلت لهم الدنيا‪ .‬قال‪) :‬ل أفعل(‪ .‬ثم أعادوا عليه فقال‪) :‬ل أفعل(‪ .‬ثم أعادوا عليه‬
‫مرتين أو ثلًثا فقال‪) :‬وعزتي ل أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له‪ :‬كن فكان(‪ .‬ذكره عثمان ابن سعيد‬
‫ل بن أحمد في كتاب]السنن[عن النبي صلى ال عليه وسلم مرسل‪.‬‬ ‫الدارمي‪ ،‬ورواه عبد ا ّ‬

‫ل خلًقا أكرم عليه من محمد‪ ،‬فقيل له‪ :‬ول جبريل ول ميكائيل ؟ فقال للسائل‪:‬‬
‫ل بن سلم أنه قال‪ :‬ما خلق ا ّ‬
‫وعن عبد ا ّ‬
‫ل خلًقا أكرم عليه من‬
‫أتدري ما جبريل وما ميكائيل؟ إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر‪ ،‬وما خلق ا ّ‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك‪ .‬وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى‬
‫السنة من أصحاب الئمة الربعة وغيرهم‪ ،‬وهو‪ :‬أن النبياء والولياء أفضل من الملئكة‪.‬‬

‫ولنا في هذه المسألة ]مصنف[ مفرد ذكرنا فيه الدلة من الجانبين‪.‬‬

‫ل ونفخ فيه من روحه‪ ،‬وأسجد له ملئكته‪ :‬هل سجد ملئكة السماء‬ ‫ل ـ عن آدم لما خلقه ا ّ‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫خ ـ َر ِ‬
‫شْي ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫والرض‪ ،‬أم ملئكة الرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد ؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة‬
‫ل له ؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الرض‪ ،‬أم من أرض إلى‬ ‫الخلد الموجودة ؟ أم جنة في الرض خلقها ا ّ‬
‫أرض مثل بني إسرائيل؟‬

‫جــاب‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫ل‪ ،‬بل أسجد له جميع الملئكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى‪َ} :‬فَسَجَد اْلَملِئَكُة ُكّلُهْم َأْجَمُعوَن{ ]الحجر‪:‬‬
‫الحمد ّ‬
‫‪ ،[30‬فهذه ثلث صيغ مقررة للعموم وللستغراق‪ ،‬فإن قوله‪} :‬اْلَملِئَكُة{ يقتضي جميع الملئكة‪ ،‬فإن اسم الجمع‬
‫المعرف باللف واللم يقتضى العموم كقوله‪) :‬رب الملئكة والروح( فهو رب جميع الملئكة‪.‬‬

‫ن{ وهذا توكيد للعموم‪.‬‬


‫جَمُعو َ‬
‫الثاني‪ُ} :‬كّلُهْم{‪ ،‬وهذا من أبلغ العموم‪ .‬الثالث‪ :‬قوله‪َ} :‬أ ْ‬

‫فمن قال‪ :‬إنه لم يسجد له جميع الملئكة‪ ،‬بل ملئكة الرض‪ ،‬فقد رد القرآن ‪/‬بالكذب والبهتان‪ ،‬وهذا القول ونحوه ليس‬
‫من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملحدة المتفلسفة‪ ،‬الذين يجعلون ]الملئكة[ قوى النفس‬
‫الصالحة‪ ،‬و]الشياطين[ قوى النفس الخبيثة‪ ،‬ويجعلون سجود الملئكة طاعة القوى للعقل‪ ،‬وامتناع الشياطين عصيان‬
‫القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالت التي يقولها أصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وأمثالهم من القرامطة‬
‫الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلل المتكلمة والمتعبدة‪ .‬وقد يوجد نحو هذه القوال في أقوال المفسرين التي ل إسناد‬
‫لها يعتمد عليه‪.‬‬

‫ل به في القرآن‪ ،‬ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من‬


‫ومذهب المسلمين‪ ،‬واليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬ما أخبر ا ّ‬
‫الشياطين‪ ،‬لكن أبوهم إبليس هو كان مأموًرا فامتنع وعصى‪ ،‬وجعله بعض الناس من الملئكة لدخوله في المر‬
‫ل وذرية‪ ،‬ولكونه خلق من نار والملئكة خلقوا من نور‪.‬‬ ‫بالسجود‪ ،‬وبعضهم من الجن؛ لن له قبي ً‬

‫والتحقيق أنه كان منهم باعتبار صورته‪ ،‬وليس منهم باعتبار أصله ول باعتبار مثاله‪ ،‬ولم يخرج من السجود لدم أحد‬
‫من الملئكة ل جبرائيل ول ميكائيل ول غيرهما‪.‬‬

‫وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلف فأقوالهم باطلة‪ ،‬قد بينا فسادها وبطلنها بكلم مبسوط ليس هذا‬
‫موضعه‪.‬‬

‫ل أمر‬
‫وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من النبياء والولياء ‪/‬أفضل من جميع الملئكة؛ لن ا ّ‬
‫ي{ ]السراء‪ ،[62 :‬فدل على أن آدم‬‫عَل ّ‬
‫ت َ‬
‫ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ‬ ‫الملئكة بالسجود له إكراًما له؛ ولهذا قال إبليس‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َأَرَأْيَت َ‬
‫كرم على من سجد له‪.‬‬

‫و]الجنة[ التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف المة‪ ،‬وأهل السنة والجماعة هي‪ :‬جنة الخلد‪ ،‬ومن قال‪ :‬إنها جنة في‬
‫الرض بأرض الهند‪ ،‬أو بأرض جدة‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬فهو من المتفلسفة والملحدين‪ ،‬أو من إخوانهم المتكلمين‬
‫المبتدعين‪ ،‬فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة‪.‬‬

‫والكتاب والسنة يردان هذا القول‪ .‬وسلف المة وأئمتها متفقون على بطلن هذا القول‪ .‬قال تعالى‪َ} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬
‫لِئَكةِ‬
‫طوْا‬ ‫جّنَة{ إلى قوله‪َ} :‬وُقْلَنا اْهِب ُ‬ ‫ك اْل َ‬
‫جَ‬
‫ت َوَزْو ُ‬
‫ن َأن َ‬
‫سُك ْ‬
‫ن َوُقْلَنا َيا آَدُم ا ْ‬
‫ن اْلَكاِفِري َ‬
‫ن ِم َ‬
‫سَتْكَبَر َوَكا َ‬
‫س َأَبى َوا ْ‬
‫ل ِإْبِلي َ‬
‫جُدوْا ِإ ّ‬
‫سَ‬
‫جُدوْا لَدَم َف َ‬
‫سُ‬
‫اْ‬
‫ض ُمْسَتَقّر َوَمَتاٌع ِإَلى ِحيٍن{ ]البقرة‪ .[34-36 :‬فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن‬ ‫لْر ِ‬ ‫عُدّو َوَلُكْم ِفي ا َ‬‫ض َ‬
‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬‫َبْع ُ‬
‫ض ُمْسَتَقّر َوَمَتاٌع ِإَلى ِحيٍن{‪.‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫بعضهم عدو لبعض ثم قال‪َ} :‬وَلُكْم ِفي ا َ‬
‫وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الرض‪ ،‬وإنما أهبطوا إلى الرض؛ فإنهم لو كانوا في الرض وانتقلوا إلى أرض أخرى‬
‫ـ كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض ـ لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك‬
‫ك َأن َتَتَكّبَر ِفيَها{‬
‫ن َل َ‬
‫ط ِمْنَها َفَما َيُكو ُ‬
‫ل َفاْهِب ْ‬
‫ن َقا َ‬
‫طي ٍ‬
‫خَلْقَتُه ِمن ِ‬
‫خَلْقَتِني ِمن ّناٍر َو َ‬ ‫قال في العراف لما قال إبليس‪َ} :‬أَنْا َ‬
‫خْيٌر ّمْنُه َ‬
‫]العراف‪.[13 ،12 :‬‬

‫ك َأن َتَتَكّبَر ِفيَها{ يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله‪:‬‬ ‫ن َل َ‬
‫ط ِمْنَها َفَما َيُكو ُ‬ ‫‪/‬فقوله‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َفاْهِب ْ‬
‫صرًا َفِإّن َلُكم ّما َسَأْلُتْم{ ]البقرة‪ ،[61 :‬فإنه‬ ‫}منها{ عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ‪ ،‬وهذا بخلف قوله‪} :‬اْهِب ُ‬
‫طوْا ِم ْ‬
‫سراة حيث كان‬ ‫سْفل وعند أرض ال ّ‬ ‫عُلّو إلى ُ‬ ‫طوْا{ لن الهبوط يكون من ُ‬ ‫لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه‪ ،‬وقال هنا‪} :‬اْهِب ُ‬
‫بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه‪ .‬ومن هبط من جبل إلى واد قيل له‪ :‬هبط‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون‪ ،‬والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال‪ :‬نزل فيها؛ لن في عادته‬
‫وأي ً‬
‫أنه يركب في سيره‪ ،‬فإذا وصل نزل عن دوابه‪.‬‬

‫قال‪ :‬نزل العسكر بأرض كذا‪ ،‬ونزل الُقّفل ]الُقّفل‪ :‬الّرفقة والجماعة في السفر[ بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب‪ .‬ولفظ‬
‫النزول كلفظ الهبوط‪ ،‬فل يستعمل هبط إل إذا كان من علو إلى سفل‪.‬‬

‫طوْا{ اليتان ]العراف‪،[24 ،23 :‬‬ ‫ل اْهِب ُ‬


‫سِرينَ َقا َ‬‫خا ِ‬
‫ن اْل َ‬‫ن ِم َ‬
‫حْمَنا َلَنُكوَن ّ‬
‫سَنا َوِإن ّلْم َتْغِفْر َلَنا َوَتْر َ‬‫ظَلْمَنا َأنُف َ‬ ‫وقوله‪َ} :‬قا َ‬
‫ل َرّبَنا َ‬
‫ض ُمْسَتَقّر َوَمَتاٌع ِإَلى ِحيٍن{]العراف‪ [24 :‬يبين أنهم‬
‫لْر ِ‬ ‫عُدّو َوَلُكْم ِفي ا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ضُكْم ِلَبْع ٍ‬ ‫طوْا َبْع ُ‬ ‫ل اْهِب ُ‬‫فقوله هنا بعد قوله‪َ} :‬قا َ‬
‫هبطوا إلى الرض من غيرها‪ ،‬وقال‪َ} :‬قاَل ِفيَها َتْحَيْوَن َوِفيَها َتُموُتوَن َومِْنَها ُتْخَرُجوَن{ ]العراف‪ [25 :‬دليل على أنهم لم‬
‫يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون‪ ،‬ومنه يخرجون‪ ،‬وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة‪.‬‬

‫‪ /‬والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلم السلف والئمة‪.‬‬

‫ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬احتج آدم وموسى فقال موسى‪:‬‬
‫وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل بيده‪ ،‬ونفخ فيك من روحه‪ ،‬وأسجد لك ملئكته‪ ،‬فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟‬
‫يا آدم‪ ،‬أنت أبو البشر‪ ،‬خلقك ا ّ‬
‫ل برسالته وكلمه فهل تجد في التوراة‪ :‬وعصى آدم ربه فغوى؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فقال له آدم‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك ا ّ‬
‫ى قبل أن أخلق؟ فقال‪ :‬فحج آدم موسى(‪ ،‬وموسى إنما لم آدم؛ لما حصل له‬
‫ل عل ّ‬
‫قال‪ :‬فلماذا تلومني على أمر قدره ا ّ‬
‫وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد‪ ،‬فلو كان ذلك بستاًنا في الرض‪ ،‬لكان غيره من بساتين الرض يعوض‬
‫عنه‪.‬‬

‫ل من المصائب‪ ،‬ويتوب إليه‪،‬‬


‫وآدم ـ عليه السلم ـ احتج بالقدر؛ لن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره ا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫ويستغفره من الذنوب والمعائب‪ .‬وا ّ‬

‫سلم‪:‬‬
‫خ ال ْ‬
‫شي ُ‬
‫ل َ‬
‫َقا َ‬

‫َفصــل‬

‫في المسألة المشهورة بين الناس‪ ،‬في ]التفضيل بين الملئكة والناس[ قال‪ :‬الكلم إما أن يكون في التفضيل بين‬
‫الجنس‪ :‬الملك‪ ،‬والبشر‪ ،‬أو بين صالحي الملك والبشر‪.‬‬

‫أما الول‪ ،‬وهو أن يقال‪ :‬أيما أفضل‪ :‬الملئكة‪ ،‬والبشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع‪:‬‬

‫لول‪:‬‬
‫عا َ‬
‫الّنو ُ‬

‫أن يقال‪ :‬هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملئكة؟ فهذا ل يقوله عاقل‪ ،‬فإن في الناس‪:‬‬
‫الكفار‪ ،‬والفجار‪ ،‬والجاهلين‪ ،‬والمستكبرين‪ ،‬والمؤمنين‪ ،‬وفيهم من هو مثل البهائم والنعام السائمة‪ ،‬بل النعام أحسن‬
‫ن{‬‫ل َيْعِقُلو َ‬ ‫ن َ‬ ‫صّم اْلُبْكُم اّلِذي َ‬
‫ل ال ّ‬
‫عنَد ا ّ‬
‫ب ِ‬
‫شّر الّدَوا ّ‬
‫ن َ‬‫ل من هؤلء‪ ،‬كما نطق بذلك القرآن في مواضع‪ ،‬مثل قوله تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬ ‫حا ً‬
‫ن{ ]النفال‪ ،[55 :‬وقال‪َ} :‬وَلَقْد َذَرْأَنا ِل َ‬
‫جَهّنَم‬ ‫ن ّكّفروا ّفهًم ل ٍيًؤٌمٍنو ّ‬
‫عنّد بّلٌه ّبٌذي ّ‬
‫ب ٌ‬
‫شّر بّدّوا َ‬ ‫]النفال‪ ،[22 :‬وقال ‪ /‬تعالى‪} :‬إ ّ‬
‫ن ّ‬
‫ضّ‬
‫ل‬ ‫ل ُهْم َأ َ‬
‫لْنَعاِم َب ْ‬
‫ك َكا َ‬
‫ن ِبَها ُأْوَلـِئ َ‬
‫سَمُعو َ‬
‫ل َي ْ‬
‫ن ّ‬
‫ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌ‬
‫صُرو َ‬
‫ل ُيْب ِ‬
‫ن ّ‬
‫عُي ٌ‬
‫ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ‬
‫ل َيْفَقُهو َ‬
‫ب ّ‬
‫س َلُهْم ُقُلو ٌ‬
‫لن ِ‬
‫ن َوا ِ‬
‫جّ‬
‫ن اْل ِ‬
‫َكِثيًرا ّم َ‬
‫ك ُهُم اْلَغاِفُلوَن{ ]العراف‪ ،[179 :‬والدواب جمع دابة‪ ،‬وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن‪ ،‬وملك‬ ‫ُأْوَلـِئ َ‬
‫وبهيمة‪ ،‬ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات‪.‬‬

‫وقد وضع ابن المرزبان كتاب ]تفضيل الكلب على كثير ممن لبس الثياب[ وقد جاء في ذلك من المأثور ما ل‬
‫نستطيع إحصاءه‪ ،‬مثل ما في مسند أحمد‪) :‬رب مركوبة أكثر ذكًرا من راكبها(‪ .‬وفضل البهائم عليهم من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أن البهيمة ل سبيل لها إلى كمال وصلح أكثر مما تصنعه‪ ،‬والنسان له سبيل لذلك‪ ،‬فإذا لم يبلغ صلحه‬
‫وكماله الذي خلق له‪ ،‬بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه‪.‬‬

‫وثانيها‪ :‬أن البهائم لها أهواء وشهوات‪ ،‬بحسب إحساسها وشعورها‪ ،‬ولم تؤت تمييًزا وفرقانا بين ما ينفعها ويضرها‪،‬‬
‫والنسان قد أوتى ذلك‪ .‬وهذا الذي يقال‪ :‬الملئكة لهم عقول بل شهوات‪ ،‬والبهائم لها شهوات بل عقول‪ ،‬والنسان له‬
‫شهوات وعقل‪ .‬فمن غلب عقله شهوته‪ ،‬فهو أفضل من الملئكة‪ ،‬أو مثل الملئكة‪ ،‬ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم‬
‫خير منه‪.‬‬

‫‪/‬وثالثها‪ :‬أن هؤلء لهم العقاب والنكال‪ ،‬والخزي على ما يأتونه من العمال الخبيثة‪ ،‬فهذا يقتل‪ ،‬وهذا يعاقب‪ ،‬وهذا‬
‫يقطع‪ ،‬وهذا يعذب ويحبس‪ ،‬هذا في العقوبات المشروعة‪ ،‬وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا‪ ،‬وقوم أهلكوا بأنواع‬
‫ل‪ ،‬وخنقا‪ ،‬وعمى‪ .‬والبهائم في أمان من ذلك‪.‬‬‫العذاب‪ ،‬وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة؛ تحريًقا‪ ،‬وتغريًقا‪ ،‬وتمثي ً‬

‫ورابعها‪ :‬أن لفسقة الجن والنس في الخرة من الهوال والنار والعذاب والغلل وغير ذلك مما أمنت منه البهائم‪،‬‬
‫ما بين فضل البهائم على هؤلء إذا أضيف إلى حال هؤلء‪.‬‬

‫سّبحة بحمده قانتة له‪ ،‬وقد قال النبي صلى‬ ‫ل ورسوله صلى ال عليه وسلم‪ُ ،‬م َ‬
‫وخامسها‪ :‬أن البهائم جميعها مؤمنة با ّ‬
‫سَقة الجن والنس(‪.‬‬ ‫ل‪ ،‬إل َف َ‬
‫ال عليه وسلم‪):‬إنه ليس على وجه الرض شىء إل وهو يعلم أني رسول ا ّ‬

‫ع الّثاني‪:‬‬
‫الَنو ُ‬

‫أنه يقال‪ :‬مجموع الناس أفضل من مجموع الملئكة من غير توزيع الفراد‪ ،‬وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر‬
‫على الملئكة فيه نظر‪ ،‬ل علم لي بحقيقته‪ ،‬فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث‪ ،‬مع علمنا أن كثيًرا من‬
‫أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني‪.‬‬

‫ع الّثاِلث‪:‬‬
‫‪/‬الّنو ُ‬

‫أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل‪ ،‬والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الخر‪ ،‬فأي القبيلين أفضل؟ فهذا مع القول‬
‫بتفضيل صالحي البشر يقال‪ :‬ل شك أن المفضولين من الملئكة أفضل من كثير من البشر‪ ،‬وفاضل البشر أفضل من‬
‫ل أعلم بخلقه‪.‬‬
‫فاضليهم‪ ،‬لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر‪ ،‬والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم‪ ،‬وا ّ‬

‫ع الّرابع‪:‬‬
‫الّنو ُ‬

‫أن يقال‪ :‬حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل‪ ،‬أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية؟ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ‬
‫هو حي أفضل من الميت‪ ،‬وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل‪ .‬وحقيقة الذكر‬
‫أفضل من حقيقة النثى‪ ،‬وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار‪ ،‬وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من‬
‫أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن‪ ،‬والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر‪ ،‬والقوى الفاجر مع‬
‫الضعيف الّزِمن‪.‬‬

‫والوجه في انحصار القسمة في هذه النواع ـ فإن كثيًرا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها‪ ،‬لفقد‬
‫التمييز والتفضيل ـ أن كل شىء إما أن نقيده من جهة الخصوص‪ ،‬أو العموم‪ ،‬أو الطلق‪ .‬فإذا قلت‪ :‬بشر ‪ /‬وملك‪.‬‬
‫صا‪ ،‬أو جميع جنس البشر فيكون عاًما‪ ،‬أو تريد البشر مطلًقا مجرًدا عن قيد‬ ‫وإما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خا ً‬
‫صا‪ ،‬والثاني عموًما‪ ،‬والثالث‬
‫العموم‪ ،‬والخصوص‪ ،‬وضبطه القليل والكثير‪ ،‬والنوع الول في التفضيل عموًما وخصو ً‬
‫صا‪ ،‬والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة‪.‬‬
‫خصو ً‬

‫فنقول حينئذ‪ :‬المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة‪ ،‬وربما ناظر بعض الناس على تفضيل‬
‫الملك‪ ،‬وبعضهم على تفضيل البشر‪ ،‬وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره‪.‬‬

‫ل أعلم بالصواب ـ أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة النسان أسهل وأجمع‪.‬‬
‫لكن الذي سنح لي ـ وا ّ‬

‫وتفسير ذلك‪ :‬أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية‪ ،‬والتبعية اللزمة‪ ،‬الغالبة الحياة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والقدرة‪ :‬في اللذات‬
‫والشهوات‪ ،‬وجدنا أولً خلق الملك أعظم صورة‪ ،‬ومحله أرفع‪ ،‬وحياته أشد‪ ،‬وعلمه أكثر‪ ،‬وقواه أشد‪ ،‬وطهارته‬
‫ونزاهته أتم‪ ،‬ونيل مطالبه أيسر وأتم‪ ،‬وهو عن المنافي والمضاد أبعد‪ ،‬لكن تجد هذه الصفات للنسان ـ بحسب حقيقته‬
‫ظا ونصيًبا من الحياة والخلق‪ ،‬والعلم والقدرة والطهارة‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬ ‫ـ منها أوفر ح ً‬

‫وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الشياء ـ حسا‪ ،‬وعقل ـ وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه‪ ،‬وهو يأكل ويشرب‬
‫وينكح‪ ،‬ويتمنى‪ ،‬ويتغذى‪/ ،‬ويتفكر‪ ،‬إلى غير ذلك من الحوال التي ل يشاركه فيها الملك‪ ،‬لكن حظ الملك من القدر‬
‫المشترك الذي بينهما أكثر‪ ،‬وما اشتركا فيه من المور أفضل بكثير مما اختص به النسان‪.‬‬

‫سا‪ ،‬وإذا كان المر‬


‫مثاله‪ :‬مثل رجل معه مائة دينار‪ ،‬وآخر معه خمسون درهما‪ ،‬أو خمسون ديناًرا‪ ،‬أو خمسون فل ً‬
‫كذلك ففصل الجواب كما سبق‪.‬‬

‫وإن أردت الطلق‪ ،‬فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة النسانية بلوازمها‪ ،‬هذا ل شك فيه‪ ،‬فإنما يلزم حقيقة‬
‫النسان من حياة وحس‪ ،‬وعلم وعمل‪ ،‬ونيل لذة وإدراك شهوة‪ ،‬ليست بشىء‪ .‬وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة‬
‫ل وبأسمائه وآياته‪ ،‬ول يشبه حال من‬ ‫الملك‪ ،‬كحال من علم من كل شىء طرًفا ليس بالكثير‪ ،‬إلى حال من أتقن العلم با ّ‬
‫معه درهم‪ ،‬إلى حال من معه درة‪ ،‬ول يشبه حال من يسوس الناس كلهم‪ ،‬إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا‪.‬‬

‫عَلى‬
‫ضْلَناُهْم َ‬
‫ت َوَف ّ‬
‫طّيَبا ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫حِر َوَرَزْقَناُهم ّم َ‬ ‫وقد دل على هذا دللة بينة قوله تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم َو َ‬
‫حَمْلَناُهْم ِفي اْلَبّر َواْلَب ْ‬
‫ن{ للتبعيض‪ .‬فإن قلت‪ :‬هذا‬ ‫ل{ ]السراء‪ ،[70 :‬فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع‪ ،‬وقوله‪ّ} :‬م َ‬ ‫ضي ً‬
‫خَلْقَنا َتْف ِ‬
‫ن َ‬
‫َكِثيٍر ّممّ ْ‬
‫الستدلل مفهوم للمخالف‪ ،‬وأنت مخالف لهذا‪ ،‬منازع فيه‪.‬‬

‫‪ /‬فيقال لك‪ :‬تخصيص الكثير بالذكر ل يدل على مخالفة غيره بنفي‪ ،‬ول إثبات‪ ،‬وأيضا فإن مفهومه‪ :‬أنهم لم يفضلوا‬
‫على ما سوى الكثير‪ ،‬فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم‪ ،‬وقد يفضل أولئك عليهم‪ ،‬فإن الحوال ثلثة‪ :‬إما أن يفضلوا‬
‫على من بقى‪ ،‬أو يفضل أولئك عليهم‪ ،‬أو يساوون بهم‪.‬‬

‫قال‪ :‬واختلف الحقائق والذوات لبد أنها تؤثر في اختلف الحكام والصفات‪ ،‬وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك‪ ،‬فلبد‬
‫أن يكون أحد الحقيقتين أفضل‪ ،‬فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع‪.‬‬

‫وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة‪ ،‬وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة اللهية‪ ،‬ثبت فضل الملك‪ ،‬وهو‬
‫المطلوب‪.‬‬

‫وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة‪ :‬أن النبياء وصالح البشر أفضل من الملئكة‪ .‬وذهبت المعتزلة إلى تفضيل‬
‫الملئكة على البشر‪ ،‬وأتباع الشعري على قولين‪ :‬منهم من يفضل النبياء والولياء‪ ،‬ومنهم من يقف ول يقطع فيهما‬
‫بشىء‪.‬‬

‫وحكى عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة‪ ،‬وربما حكى ذلك عن بعض من يدعى السنة ويواليها‪.‬‬

‫وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال‪ :‬أما الملئكة المدبرون للسموات والرض وما بينهما‬
‫والموكلون ببني آدم‪ ،‬فهؤلء أفضل من ‪ /‬هؤلء الملئكة‪ .‬وأما الَكُروبّيون الذين يرتفعون عن ذلك فل أحد أفضل‬
‫ل على جميع أعيان‬
‫منهم‪ ،‬وربما خص بعضهم نبينا صلى ال عليه وسلم‪ .‬واستثناؤه من عموم البشر‪ ،‬إما تفضي ً‬
‫الملئكة‪ ،‬أو على المدبرين منهم أمر العالم‪.‬‬

‫هذا ما بلغني من كلمات الخرين في هذه المسألة‪ ،‬وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية‬
‫صحابية‪ ،‬فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها‪ ،‬فقلنا حينئذ بما قاله السلف‪ ،‬فروى أبو يعلي الموصلي في ]كتاب‬
‫ل ابن سلم ـ وكان عالًما بالكتاب الول‪ ،‬والكتاب الثاني؛ إذ كان كتابًيا‪ ،‬وقد شهد له‬
‫التفسير[ المشهور له عن عبد ا ّ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم بحسن الخاتمة‪ ،‬ووصية معاذ عند موته‪ ،‬وأنه أحد العلماء الربعة الذين يبتغي العلم عندهم‬
‫ل خلًقا أكرم عليه من محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬الحديث عنه‪.‬‬ ‫ـ قال‪ :‬ما خلق ا ّ‬

‫قلت‪ :‬ول جبرائيل‪ ،‬ول ميكائيل؟ قال‪ :‬يا بن أخي‪ ،‬أو تدري ما جبرائيل وميكائيل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق‬
‫ل ـ تعالى ـ خلًقا أكرم عليه من محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫مسخر‪ ،‬مثل‪ :‬الشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬وما خلق ا ّ‬

‫ل في ]التفسير[ وغيره عن َمْعَمر‪ ،‬عن زيد بن أسلم؛ أنه قال‪ :‬قالت الملئكة‪ :‬يا ربنا‪ ،‬جعلت لبني آدم‬
‫وروى عبد ا ّ‬
‫ن قلت له كن‬
‫ت بيدي َكَم ْ‬
‫الدنيا‪ ،‬يأكلون فيها ويشربون‪ ،‬فاجعل لنا الخرة‪ .‬فقال‪) :‬وعزتي ل أجعل صالح ذرية من خلق ُ‬
‫فكان(‪.‬‬

‫‪ /‬وكذلك قصة سجود الملئكة كلهم أجمعين لدم‪ ،‬ولعن الممتنع عن السجود له‪ ،‬وهذا تشريف وتكريم له‪.‬‬

‫ل وجعل آدم قبلة لهم‪ ،‬يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة‪ ،‬وليس في هذا‬
‫وقد قال بعض الغبياء‪ :‬إن السجود إنما كان ّ‬
‫ل‪ ،‬بل حرمة المؤمن عند ا ّ‬
‫ل‬ ‫تفضيل له عليهم‪ ،‬كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند ا ّ‬
‫ل محرم‪ ،‬بل كفر‪.‬‬
‫أفضل من حرمتها‪ ،‬وقالوا‪ :‬السجود لغير ا ّ‬

‫ل وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه‪:‬‬


‫والجواب‪ :‬أن السجود كان لدم بأمر ا ّ‬

‫أحدها‪ :‬قوله‪ :‬لدم‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إلى آدم‪ .‬وكل حرف له معنى‪ ،‬ومن التمييز في اللسان أن يقال‪ :‬سجدت له‪ ،‬وسجدت إليه‪،‬‬
‫جُد‬
‫سُ‬ ‫ن{ ]فصلت‪ [37 :‬وقال }َو ِّ‬
‫ل َي ْ‬ ‫ن ِإن ُكنُتْم ِإّياهُ َتْعُبُدو َ‬
‫خَلَقُه ّ‬
‫ل اّلِذي َ‬
‫جُدوا ِّ‬
‫سُ‬
‫ل ِلْلَقَمِر َوا ْ‬
‫س َو َ‬
‫شْم ِ‬
‫جُدوا ِلل ّ‬
‫سُ‬ ‫كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َت ْ‬
‫ض{ ]الرعد‪.[15 :‬‬ ‫لْر ِ‬ ‫ت َوا َ‬
‫سَماَوا ِ‬
‫َمن ِفي ال ّ‬

‫ل محرم‪ ،‬وأما الكعبة فقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يصلي إلى بيت‬ ‫وأجمع المسلمون على أن السجود لغير ا ّ‬
‫المقدس‪ ،‬ثم صلى إلى الكعبة‪ ،‬وكان يصلى إلى عنَزة ] الَعَنَزة‪ُ :‬رَمْيح بين العصا والّرمح[‪ ،‬ول يقال‪ :‬لعنزة‪ ،‬وإلى‬
‫عمود وشجرة‪ ،‬ول يقال‪ :‬لعمود ول لشجرة‪ ،‬والساجد للشيء يخضع له بقلبه‪ ،‬ويخشع له بفؤاده‪ ،‬وأما الساجد إليه فإنما‬
‫حَراِم‬
‫جِد اْل َ‬
‫سِ‬
‫طَر اْلَم ْ‬
‫ش ْ‬
‫ك َ‬
‫جَه َ‬ ‫را‪ ،‬كما يولى وجهه إلى بعض ‪/‬النواحي إذا أمه‪ ،‬كما قال‪َ} :‬فَو ّ‬
‫ل َو ْ‬ ‫يولي وجهه وبدنه إليه ظاه ً‬
‫طَرُه{ ]البقرة‪.[144 :‬‬
‫ش ْ‬
‫جِوَهُكْم َ‬
‫ث َما ُكنُتْم َفَوّلوْا ُو ُ‬
‫حْي ُ‬
‫َو َ‬

‫والثاني‪ :‬أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود‪ ،‬أو يزعم أنه خير منه؛ فإن القبلة قد تكون أحجاًرا‪ ،‬وليس في‬
‫ذلك تفضيل لها على المصلين إليها‪ ،‬وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير‪ ،‬وإلى رجل‪ ،‬ول يتوهم أنه مفضل بذلك‪ ،‬فمن‬
‫أي شىء فر الشيطان؟ هذا هو العجب العجيب!!‬

‫والثالث‪ :‬أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلف كثيرة؛ إذ جعلت قبلة دائمة‬
‫في جميع أنواع الصلوات‪ ،‬فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علًما له‪ ،‬ومن أفضل النعم عليه‪ ،‬وجاءت إلى العالم بأن‬
‫ل رفعه بها‪ ،‬وامتن عليه‪ ،‬ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الوقات!! مع أن بعض ما أوتيه من اليمان‬ ‫ا ّ‬
‫والعلم‪ ،‬والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة‪ ،‬والكعبة إنما وضعت له ولذريته‪ ،‬أفيجعل من جسيم النعم عليه‬
‫ل جًدا؟! هذا ما ل يقوله عاقل‪.‬‬
‫أو يشبه به في شىء نزًرا قلي ً‬

‫ل‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة‪ ،‬تنفي بعمومها‬
‫وأما قولهم‪ :‬ل يجوز السجود لغير ا ّ‬
‫جواز السجود لدم‪ ،‬وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له‪ ،‬والعام ل يعارض ما قابله من الخاص‪.‬‬

‫ل حرام علينا وعلى الملئكة‪ .‬أما الول فل دليل وأما الثاني فما الحجة فيه؟‬
‫وثانيها‪ :‬أن السجود لغير ا ّ‬
‫ل به‪ ،‬أو حرام لم يأمر به‪ ،‬والثاني حق ول شفاء فيه‪ ،‬وأما الول فكيف يمكن أن يحرم بعد‬
‫‪/‬وثالثها‪ :‬أنه حرام أمر ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ به؟‬
‫أن أمر ا ّ‬

‫ورابعها‪ :‬أبو يوسف وإخوته خروا له سجًدا‪ ،‬ويقال‪ :‬كانت تحيتهم‪ ،‬فكيف يقال‪:‬‬

‫ل‪ .‬فكيف يقال‪ :‬يلزم من‬


‫إن السجود حرام مطلًقا ؟ وقد كانت البهائم تسجد للنبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والبهائم ل تعبد ا ّ‬
‫السجود لشىء عبادته؟ وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ولو كنت آمًرا أحًدا أن يسجد لحد لمرت المرأة أن‬
‫ظِم حقه عليها( ومعلوم أنه لم يقل‪ :‬لو كنت آمرا أحًدا أن يعبد‪.‬‬
‫تسجد لزوجها لِع َ‬

‫وسابعها‪ :‬وفيه التفسير أن يقال‪ :‬أما الخضوع والقنوت بالقلوب والعتراف بالربوبية والعبودية‪ ،‬فهذا ل يكون على‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ وحده‪ ،‬وهو في غيره ممتنع باطل‪.‬‬‫الطلق إل ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ أن نسجد له‪ ،‬ولو أمرنا أن نسجد لحد من خلقه غيره لسجدنا‬
‫وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا ا ّ‬
‫ل عز وجل ـ إذ أحب أن نعظم من سجدنا له‪ ،‬ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله‪،‬‬ ‫لذلك الغير ـ طاعة ّ‬
‫ل وطاعة له‪ ،‬وقربة يتقربون بها إليه‪ ،‬وهو لدم تشريف وتكريم وتعظيم‪ .‬وسجود أخوة‬ ‫فسجود الملئكة لدم عبادة ّ‬
‫يوسف له تحية وسلم‪ ،‬أل ترى أن يوسف لو سجد لبويه تحية لم يكره له‪.‬‬

‫ل أعلم بحقائق‬
‫‪ /‬ولم يأت أن آدم سجد للملئكة‪ ،‬بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إل لّ رب العالمين‪ ،‬ولعل ذلك ـ وا ّ‬
‫ل رب العالمين‪ ،‬وهم أكفاء‬‫المور ـ لنهم أشرف النواع‪ ،‬وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إل ّ‬
‫بعضهم لبعض‪ ،‬فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود‪ ،‬ومن سواهم فقد سجد لهم من الملئكة للب القوم‪،‬‬
‫ومن البهائم للبن الكرم‪.‬‬

‫وأما قولهم‪ :‬لم يسبق لدم ما يوجب الكرام له بالسجود‪ ،‬فلغو من القول‪ ،‬هذى به بعض من اعتزل الجماعة‪ ،‬فإن نعم‬
‫ل ـ تعالى ـ وأياديه وآلءه على عباده ليست بسبب منهم‪ ،‬ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب‪ ،‬فهو المنعم‬
‫ا ّ‬
‫ضا ـ باطل على قاعدتهم‪ ،‬ل حاجة لنا إلى بيانه ههنا‪.‬‬
‫به ويشكرهم على نعمه‪ ،‬وهو ـ أي ً‬

‫ل أعلم ـ الفضل بينهم وبين‬


‫وقوله‪َ} :‬وَلُه َيْسُجُدوَن{ ]العراف‪ [206 :‬فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر‪ ،‬فالقصد منه ـ وا ّ‬
‫البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره‪ ،‬فأخبرهم أن الملئكة ل تعبد غيره‪ ،‬ثم هذا عام وتلك الية خاصة فيستثنى‬
‫ل‪ ،‬وأما الثاني‪:‬‬
‫آدم‪ ،‬ثم يقال‪ :‬السجود على ضربين‪ :‬سجود عبادة محضة‪ ،‬وسجود تشريف‪ .‬فأما الول‪ :‬فل يكون إل ّ‬
‫فلم قلت‪ :‬إنه كذلك؟ والية محمولة على الول توفيًقا بين الدلئل‪.‬‬

‫وأما السؤال الثاني‪ ،‬فروى عن بعض الولين‪ :‬أن الملئكة الذين ‪/‬سجدوا لدم ملئكة في الرض فقط‪ ،‬ل ملئكة‬
‫السموات‪ .‬ومنهم من يقول‪ :‬ملئكة السموات دون الَكُروِبّيين‪ ،‬وانتحى ذلك بعض المتأخرين‪ ،‬واستنكر سجود العلين‬
‫ق آدم أم ل‬
‫خِل َ‬
‫خْلًقا ل يدرون‪ :‬أ ُ‬
‫ل َ‬
‫قا ّ‬
‫خْل ِ‬
‫ل‪ ،‬ورووا في ذلك‪) :‬إن ِمن َ‬
‫من الملئكة لدم مع عدم التفاتهم إلى ما سوى ا ّ‬
‫؟(‪.‬‬

‫ت ِمَن اْلَعاِليَن{ ]ص‪ [75 :‬والعالون هم ملئكة السماء‪ ،‬وملئكة السماء لم يؤمروا‬
‫ت َأْم ُكن َ‬ ‫ونزع بقوله‪َ} :‬أ ْ‬
‫سَتْكَبْر َ‬
‫سَواِنح‬
‫بالسجود لدم‪ ،‬فاعلم أن هذه المقالة أول ليس معها ما يوجب قبولها‪ ،‬ل مسموع ول معقول‪ ،‬إل خواطر و َ‬
‫سانح‪ ،‬وهو ما يعرض على النسان‪ ،‬وأصله‪ :‬من سنح لي الشىء إذا عرض‪ ،‬فإذا كان هذا الشىء ـ طائًرا‬ ‫] جمع ال ّ‬
‫وخلفه ‪ -‬يعرض من جهة اليمين سمى السانح وكان العرب يتيمنون به‪ ،‬وعكسه البارح[‪ ،‬ووساوس مادتها من عرش‬
‫إبليس‪ ،‬يستفزهم بصوته ليرد عنهم النعمة التي حرص على ردها عن أبيهم قديًما‪ ،‬أو مقالة قد قالها من يقول الحق‬
‫والباطل‪ ،‬لكن معنا ما يوجب ردها من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أنه خلف ما عليه العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة‪ ،‬وإذا كان لبد من التقليد فتقليدهم أولى‪.‬‬
‫وثانيها‪ :‬أنه خلف ظاهر الكتاب العزيز‪ ،‬وخلف نصه‪ ،‬فإن السم المجموع المعرف باللف واللم يوجب استيعاب‬
‫لِئَكِة اْسُجُدوْا لَدَم{ ]البقرة‪ ،[34 :‬فسجود الملئكة يقتضى جميع الملئكة‪ ،‬هذا مقتضى‬
‫الجنس‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ‬
‫اللسان الذي نزل به القرآن‪ ،‬فالعدول عن موجب القول العام إلى الخصوص لبد له من دليل يصلح له‪ ،‬وهو معدوم‪.‬‬

‫‪/‬وثالثها‪ :‬أنه قال‪َ} :‬فَسَجَد اْلَملِئَكُة ُكّلُهْم َأْجَمُعوَن{[الحجر‪ [30:‬فلو لم يكن السم الول يقتضى الستيعاب والستغراق‪،‬‬
‫ن{ توكيًدا وتحقيًقا بعد‬
‫جَمُعو َ‬
‫لكان توكيده بصيغة كل موجبة لذلك ومقتضية له‪ ،‬ثم لو لم يفد تلك الفادة‪ ،‬لكان قوله‪َ} :‬أ ْ‬
‫توكيد وتحقيق‪ ،‬ومـن نازع في موجب السماء العامة فإنه ل ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم‪ ،‬بل إنما يجاء‬
‫بصيغة التوكيد قطًعا لحتمال الخصوص وأشباهه‪.‬‬

‫وقد بلغني عن بعض السلف أنه قال‪ :‬ما ابتدع قوم بدعة إل في القرآن ما يردها‪ ،‬ولكن ل يعلمون‪ .‬فلعل قوله‪ُ} :‬كّلُهمْ‬
‫ن{ جىء به لزعم زاعم يقول‪ :‬إنما سجد له بعض الملئكة ل كلهم‪ ،‬وكانت هذه الكلمة رًدا لمقالة هؤلء‪ .‬ومن‬ ‫جَمُعو َ‬
‫َأ ْ‬
‫اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الستدلل بالقرآن والفهم‪ ،‬فإنه ل يثق بشىء‬
‫ل أن يخبرنا بذلك‪ ،‬فأي كلمة أتم وأعم‪ ،‬أم يأتي قول‬‫يؤخذ منه‪ ،‬ياليت شعري ! لو كانت الملئكة كلهم سجدوا وأراد ا ّ‬
‫يقال‪ :‬أليس هذا من أبين البيان؟‬

‫ورابعها‪ :‬أن هذه الكلمة تكررت في القرآن‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث الشفاعة وأسجد لك ملئكته‪،‬‬
‫وكذلك في محاجة موسى وآدم‪ ،‬ومن الناس من يقول‪ :‬إن القول العام إذا قرن به الخاص وجب أن يقرن به البيان‪ ،‬فل‬
‫يجوز تأخيره عنه‪ ،‬لئل يقع السامع في اعتقاد الجهل؛ ولم يقترن بشىء من هذه الكلمات دليل تخصيص‪ ،‬فوجب القطع‬
‫بالعموم‪.‬‬

‫وقال آخرون ـ وهو الصوب‪ :‬يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب ‪ /‬لكن بعد البحث عن دليل التخصيص‪ ،‬والّ‬
‫أعلم‪ .‬فيجب القول بالعموم‪ ،‬وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص‬
‫فيها من البهتان‪.‬‬

‫وأما إنكارهم لسجود الَكروِبّيين فليس بشىء؛ لنهم سجدوا طاعة وعبادة لربهم‪ ،‬وزاد قائل‪ :‬ذلك أنهم أفضل من آدم‬
‫ل‪ .‬وتفسيرهم}العالين{ بالكروبيين‪ ،‬قول في‬ ‫إذا ثبت أنهم لم يسجدوا‪ ،‬والحكايات المرسلة ل تقيم حًقا ول تهدم باط ً‬
‫ت{‬
‫سَتْكَبْر َ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ بل علم‪ ،‬ول يعرف ذلك عن إمام متبع‪ ،‬ول في اللفظ دليل عليه‪ ،‬وقيل‪َ} :‬أ ْ‬ ‫كتاب ا ّ‬
‫ل أعلم‬
‫ل بآرائنا‪ ،‬وا ّ‬ ‫أطلبت أن تكون كبيًرا من هذا الوقت؟ أم كنت عالًيا قبل ذلك؟ ول حاجة بنا إلى تفسير كلم ا ّ‬
‫بتفسيره‪.‬‬

‫وههنا سؤال ثالث وهو‪ :‬أن السجود له‪ ،‬قد يكون الساجدون سجدوا له مع فضلهم عليه‪ ،‬فإن الفاضل قد يخدم‬
‫المفضول‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫اعلم أن منفعة العلى للدنى غير مستنكرة‪ ،‬فإن سيد القوم خادمهم‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم أفضل الناس‪ ،‬وأنفع‬
‫ل يحصل بنفع خلقه‪ ،‬فهذا يصلح أن يورد‬‫الناس للناس‪ ،‬لكن منفعته في الحقيقة يعود إليه ثوابها‪ ،‬وتمام التقرب إلى ا ّ‬
‫على من احتج بتدبيرهم لنا‪ ،‬ففضلهم علينا لكثرة منفعتهم لنا‪ ،‬وأما نفس السجود فل منفعة فيه للمسجود له إل مجرد‬
‫تعظيم وتشريف وتكريم‪ ،‬ول يصلح البتة أن يكون من هو أفضل أسفل ممن دونه وتحته في الشرف‪ ،‬والمحقق‪ ،‬ل‬
‫المتوهم‪ ،‬فافهم هذا فإن تحته سرا‪.‬‬

‫ي{ ]السراء‪ [62 :‬فإن هذا نص في تكريم آدم على‬


‫عَل ّ‬
‫ت َ‬ ‫صا عن إبليس‪َ} :‬أَرَأْيَت َ‬
‫ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ‬ ‫‪/‬الدليل الثاني‪ :‬قوله قص ً‬
‫إبليس؛ إذ أمر بالسجود له‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ خلق آدم بيده‪ ،‬كما ذكر ذلك في الكتاب والسنة‪ ،‬والملئكة لم يخلقهم بيده بل بكلمته‪،‬‬
‫الدليل الثالث‪ :‬أن ا ّ‬
‫ل على ثلثة‬ ‫وهذا يقوله جميع من يدعى السلم ـ سنيهم ومبتدعهم ـ بل وعليه أهل الكتاب‪ ،‬فإن الناس في يدي ا ّ‬
‫أقوال‪:‬‬
‫ل صفتان من صفات ذاته‪ ،‬حكمها حكم جميع صفاته؛ من حياته وعلمه‪ ،‬وقدرته وإرادته‪،‬‬ ‫أما أهل السنة فيقولون‪ :‬يدا ا ّ‬
‫وكلمه‪ .‬فيثبتون جميع صفاته التي وصف بها نفسه‪ ،‬ووصفه بها أنبياؤه‪ ،‬وإن شاركت أسماء صفاته أسماء صفات‬
‫غيره‪ .‬كما أن له أسماء قد يسمى بها غيره‪ ،‬مثل‪ :‬رؤوف‪ ،‬رحيم‪ ،‬عليم سميع‪ ،‬بصير‪ ،‬حليم‪ ،‬صبور‪ ،‬شكور‪ ،‬قدير‪،‬‬
‫سِميُع‬
‫يٌء َوُهَو ال ّ‬
‫ش ْ‬ ‫مؤمن‪ ،‬علي‪ ،‬عظيم‪ ،‬كبير‪ ،‬مع نفي المشابهة في الحقيقة والمماثلة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ} :‬لْي َ‬
‫س َكِمْثِلِه َ‬
‫صيُر{ ]الشورى‪ ،[11 :‬جمعت هذه الية بين الثبات والتنزيه‪ ،‬ونسبة صفاته إليه كنسبة خلقه إليه‪ ،‬والنسبة‬ ‫الَب ِ‬
‫والضافة تشابه النسبة والضافة‪.‬‬

‫ومن هذا الوجه جاء الشتراك في أسمائه وأسماء صفاته‪ ،‬كما شبهت الرؤية برؤية الشمس والقمر‪ ،‬تشبيها للرؤية ل‬
‫للمرئى‪ ،‬كما ضرب مثله مع عباده المملوكين كمثل بعض خلقه مع مملوكيهم‪ ،‬وله المثل العلى في السموات‪،‬‬
‫صَفاة َكَدر‪ ،‬فجميع ما نسمعه‪ ،‬وينسب إليه‪ ،‬ويضاف من السماء والصفات‪ ،‬هو كما‬‫شْبَهة وَم ْ‬
‫جلة ُ‬ ‫فتدبر ‪/‬هذا فإنه َم ْ‬
‫ل‪ ،‬ويصلح لذاته‪.‬‬ ‫يليق با ّ‬

‫ل عن ذلك ـ وأهل النفي والتعطيل‬


‫والفريقان الخران ـ أهل التشبيه والتمثيل‪ :‬منهم من يقول‪ :‬يد كيدي ـ تعالى ا ّ‬
‫ل أكبر كبيًرا‪.‬‬
‫يقولون‪ :‬اليدان هما‪ :‬النعمتان والقدرتان‪ ،‬وا ّ‬

‫وبكل حال‪ ،‬اتفق هؤلء كلهم على أن لدم فضيلة ومزية ليست لغيره؛ إذ خلقه بيده‪.‬‬

‫ل بيده(‪ .‬وكذلك يقال له‬


‫ل بها على آدم حين قال له موسى‪) :‬خلقك ا ّ‬‫الوجه الثالث‪ :‬أن ذلك معدود في النعم التي أنعم ا ّ‬
‫ل بها من بين المخلوقين دون الذي شورك فيها‪ .‬فهذا بيان‬‫يوم القيامة‪ ،‬وإنما ذكروا ذلك له في النعم التي خصه ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ قال للملئكة‪) :‬ل أجعل صالح ذرية‬‫واضح دليل على فضله على سائر الخلق‪ ،‬كما ذكر زيد بن أسلم أن ا ّ‬
‫ت له كن فكان(‪.‬‬‫ي كمن ُقْل ُ‬
‫ت ِبَيد ّ‬
‫خَلْق ُ‬
‫من َ‬

‫حا َوآ َ‬
‫ل‬ ‫طَفى آَدَم َوُنو ً‬
‫صَ‬
‫لا ْ‬ ‫الدليل الرابع‪ :‬ما احتج به بعض أصحابنا على تفضيل النبياء على الملئكة بقوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫نا ّ‬
‫ِإْبَراِهيَم َوآَل ِعْمَراَن َعَلى اْلَعاَلِميَن{ ]آل عمران‪،[33 :‬‬

‫ن{ يتناول الملئكة والجن والنس‪ ،‬وفيه‬ ‫وقوله‪َ} :‬وَلَقِد اْخَتْرَناُهْم َعَلى ِعْلٍم َعَلى اْلَعاَلِميَن{ ]الدخان‪ [32 :‬واسم }اْلَعاَلِمي َ‬
‫ب اْلَعاَلِميَن{ ]الفاتحة‪:‬‬
‫ل َر ّ‬ ‫نظر؛ لن أصناف العالمين قد يراد به ‪ /‬جميع أصناف الخلق كما في قوله تعالى‪} :‬اْل َ‬
‫حْمُد ّ‬
‫‪ ،[2‬وقد يراد به الدميون فقط على اختلف أصنافهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ} :‬أَتْأُتوَن الّذْكَراَن ِمَن اْلَعاَلِميَن{ ]الشعراء‪:‬‬
‫‪َ} ،[165‬أَتْأُتوَن اْلَفاِحَشَة َما َسَبَقُكم ِبَها ِمْن َأَحٍد ّمن اْلَعاَلِميَن{ ]العراف‪ [80 :‬وهم كانوا ل يأتون البهائم ول الجن‪.‬‬

‫ن}‪.‬‬
‫عَلى اْلَعاَلِمي َ‬
‫عْلٍم َ‬
‫عَلى ِ‬
‫خَتْرَناُهْم َ‬
‫وقد يراد بالعالمين أهل زمن واحد‪ ،‬كما في قوله‪} :‬ا ْ‬

‫طَفى آَدَم َوُنوًحا َوآَل ِإْبَراِهيَم َوآَل ِعْمَراَن{ الية‪ ،‬تحتمل جميع أصناف الخلق‪ ،‬ويحتمل أن المراد بنو آدم‬
‫صَ‬‫لا ْ‬ ‫فقوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‪ ،‬وهي آيات له ودللت‬ ‫ن{ عام لجميع أصناف المخلوقات التي بها يعلم ا ّ‬ ‫فقط‪ .‬وللمحتج بها أن يقول‪ :‬اسم }اْلَعاَلِمي َ‬
‫عليه‪ ،‬لسيما أولو العلم منهم‪ ،‬مثل الملئكة‪ ،‬فيجب إجراء السم على عمومه إل إذا قام دليل يوجب الخصوص‪.‬‬

‫ضا بقوله ‪َ} :‬وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم{الية ]السراء‪ .[70:‬وهو دليل ضعيف بل هو بالضد كما قررناه‪.‬‬
‫وقد احتج أي ً‬

‫ض َخِليَفًة{ ]البقرة‪ ،[30:‬وفيها دليل على تفضيل الخليفة من وجهين‪ :‬أولهما‪:‬‬


‫لْر ِ‬
‫ل ِفي ا َ‬
‫عٌ‬ ‫الدليل الخامس‪ :‬قوله‪ِ} :‬إّني َ‬
‫جا ِ‬
‫أن الخليفة يفضل على من هو خليفة عليه‪ ،‬وقد كان في الرض ملئكة‪ ،‬وهذا غايته أن يفضل على من في الرض‬
‫ل ـ تعالى ـ أن يكون ‪ /‬الستخلف فيهم‪ ،‬والخليفة منهم‪ ،‬حيث قالوا‪:‬‬
‫من الملئكة‪ .‬وثانيهما‪ :‬أن الملئكة طلبت من ا ّ‬
‫ض َخِليَفًة{ الية ]البقرة‪ .[30 :‬فلول أن الخلفة درجة عالية أعلى من درجاتهم لما طلبوها وغبطوا‬ ‫لْر ِ‬
‫ل ِفي ا َ‬
‫عٌ‬‫جا ِ‬
‫}ِإّني َ‬
‫صاحبها‪.‬‬

‫ل ـ عز وجل ـ عن علم السماء فلم يجيبوه؛ واعترفوا أنهم ل‬ ‫الدليل السابع‪ :‬تفضيل بني آدم عليهم بالعلم حين سألهم ا ّ‬
‫يحسنونها فأنبأهم آدم بذلك‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ} :‬هْل َيْسَتِوي اّلِذيَن َيْعَلُموَن َواّلِذيَن َل َيْعَلُموَن{ ]الزمر‪.[9 :‬‬
‫والدليل الثامن‪ :‬وهو أول الحاديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي الِمْهَزم‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه‬
‫ل من الملئكة الذين عنده(‪.‬‬
‫ل أهون من قتل رجل مؤمن‪ ،‬والمؤمن أكرم على ا ّ‬ ‫وسلم أنه قال‪َ) :‬لَزَوال الدنيا على ا ّ‬

‫ل من الملئكة المقربين‪.‬‬
‫وهذا نص في أن المؤمنين أكرم على ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذكر كلًما قال في آخره‪) :‬اْدُنو‪،‬‬ ‫ثم ذكر ما رواه الخلل عن أبي هريرة‪ :‬خطبنا رسول ا ّ‬
‫سعوا لمن خلفكم(‪ .‬فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض‪ .‬فقال رجل‪ :‬أنوسع للملئكة أو للناس؟ قال‪) :‬للملئكة‪،‬‬ ‫وَو ّ‬
‫إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ول من خلفكم‪ ،‬ولكن عن أيمانكم وشمائلكم(‪ .‬قالوا‪ :‬ولم ل يكونون من‬
‫بين أيدينا ومن خلفنا؟ أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا؟ قال‪) :‬نعم‪ ،‬أنتم أفضل من الملئكة(‪.‬‬

‫‪ /‬رواه الخلل‪ ،‬وفيه القطع بفضل البشر على الملئكة‪ ،‬لكن ل يعرف حال إسناده‪ ،‬فهو موقوف على صحة إسناده‪.‬‬

‫ل بن أحمد في ] كتاب السنة[ عن عروة بن ُرَوْيم قال‪ :‬أخبرني النصاري عن النبي صلى ال عليه‬ ‫وروى عبد ا ّ‬
‫وسلم أن الملئكة قالوا‪ :‬ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم‪ ،‬فجعلتهم يأكلون ويشربون‪ ،‬ويلبسون ويأتون النساء‪ ،‬ويركبون‬
‫الدواب‪ ،‬وينامون ويستريحون‪ ،‬ولم تجعل لنا شيًئا من ذلك‪ ،‬فاجعل لهم الدنيا ولنا الخرة‪.‬‬

‫عا ـ كما تقدم موقوًفا ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه‪ .‬وزيد بن أسلم زيد في علمه وفقهه وورعه‪ ،‬حتى‬
‫وذكر الحديث مرفو ً‬
‫إن كان على بن الحسين ليدع مجالس قومه ويأتي مجلسه‪ ،‬فلمه الزهري فى ذلك فقال‪ :‬إنما يجلس حيث ينتفع‪ ،‬أو‬
‫قال‪ :‬يجد صلح قلبه‪.‬‬

‫وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم‪ ،‬أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا‪ ،‬ول يستأثر بعضهم‬
‫ل ـ عز وجل ـ أعظم من الكذب على‬ ‫على بعض‪ ،‬فل يقول مثل هذا القول إل عن‪] . . .‬بياض[ بين والكذب على ا ّ‬
‫رسوله‪.‬‬

‫وأقل ما في هذه الثار أن السلف الولين كانوا يتناقلون بينهم‪ :‬أن صالحي البشر أفضل من الملئكة من غير نكير‬
‫منهم لذلك‪ ،‬ولم يخالف أحد ‪/‬منهم في ذلك‪ ،‬إنما ظهر الخلف بعد تشتت الهواء بأهلها‪ ،‬وتفرق الراء‪ ،‬فقد كان ذلك‬
‫كالمستقر عندهم‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وعشية عرفة فيباهي‬


‫الدليل الحادي عشر‪ :‬أحاديث المباهاة مثل‪ :‬أن ا ّ‬
‫ملئكته بالحاج‪ ،‬وكذلك يباهي بهم المصلين‪ ،‬يقول‪ ) :‬انظروا إلى عبادي‪ ،‬قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى (‪،‬‬
‫وكل الحديثين في صحيح مسلم‪ ،‬والمباهاة ل تكون إل بالفاضل‪.‬‬

‫فإن قيل ‪ :‬هذه الخبار رواها آحاد غير مشهورين‪ ،‬ول هي بتلك الشهرة‪ ،‬فل توجب علًما‪ ،‬والمسألة علمية‪.‬‬

‫قلنا‪ :‬أول‪ :‬من قال‪ :‬إن المطلق في هذه القضية اليقين الذي ل يمكن نقيضه‪ ،‬بل يكفي فيها الظن الغالب‪ ،‬وهو حاصل‪.‬‬

‫ثم ما المراد بقوله‪ :‬علمية؟ أتريد أنه ل علم ؟ فهذا مسلم‪ .‬ولكن كل عقل راجح يستند إلى دليل فإنه علم‪ ،‬وإن كان فرقة‬
‫ت{ ]الممتحنة ‪:‬‬
‫ن ُمْؤِمَنا ٍ‬
‫عِلْمُتُموُه ّ‬ ‫من الناس ل يسمون علًما إل ما كان يقيًنا ل يقبل النتقاض‪ ،‬وقد قال تعالى ‪َ} :‬فِإ ْ‬
‫ن َ‬
‫‪ [10‬وقد استوفي القول في ذلك في غير هذا الموضع‪ ،‬فإن أريد علمية؛ لن المطلوب الستيقان‪ ،‬فهذا لغو من القول‬
‫ل دليل عليه‪ ،‬ولو كان حًقا لوجب المساك عن الكلم في كل أمر غير علمي إل باليقين‪ ،‬وهو تهافت بين‪.‬‬

‫ثم نقول‪ :‬هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق ‪/‬متباينة‪ ،‬قد توجب اليقين لولى الخبرة بعلم‬
‫السناد‪ ،‬وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله‪ ،‬فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم‪ ،‬وليس من لوازم‬
‫حصول العلم لهم حصوله لغيرهم‪ ،‬إل أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه‪.‬‬

‫والعلوم ـ على اختلف أصنافها وتباين صفاتها ـ ل توجب اشتراك العقلء فيها‪ ،‬لسيما السمعيات الخبريات‪ ،‬وإن‬
‫زعم فرقة من أولى الجدل أن الضروريات يجب الشتراك فيها‪ ،‬فإن هذا حق في بعض الضروريات‪ ،‬ل في جميعها‪،‬‬
‫مع تجويزنا عدم الشتراك في شىء من الضروريات‪ ،‬لكن جرت سنة الشتراك بوقوع الشتراك في بعضها‪ .‬فغلط‬
‫أقوام فجعلوا وجوب الشتراك في جميعها‪ ،‬فجحدوا كثيًرا من العلم الذي اختص به غيرهم‪.‬‬

‫ثم نقول‪ :‬لو فرضنا أنها ل تفيد العلم وإنما تفيد ظًنا غالًبا‪ ،‬أو أن المطلوب هو الستيقان‪ ،‬فنقول ‪ :‬المطلوب حاصل‬
‫بغير هذه الحاديث‪ ،‬وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الدلة على هذه المقالة‪.‬‬

‫الدليل الثاني عشر‪ :‬قد كان السلف يحدثون الحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملئكة‪ ،‬وتروى على‬
‫رؤوس الناس‪ ،‬ولو كان هذا منكًرا لنكروه‪ ،‬فدل على اعتقادهم ذلك‪.‬‬

‫وهذا إن لم يفد اليقين القاطع‪ ،‬فإن بعض الظن لم يقصر عن القوى‪ /‬الغالب‪ ،‬وربما اختلف ذلك باختلف الناس‬
‫واختلف أحوالهم‪.‬‬

‫الدليل الثالث عشر‪ :‬وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة ـ وهو أن نقول‪ :‬التفضيل إذا وقع بين شيئين فل بد من‬
‫معرفة الفضيلة ما هي؟‪ ،‬ثم ينظر أيهما أولى بها ؟‬

‫وأيضا‪ ،‬فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم‪ ،‬وذلك إنما يكون إذا‬
‫دخلوا الجنة‪ ،‬ونالوا الزلفى‪ ،‬وسكنوا الدرجات العلى‪ ،‬وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه‪ ،‬وتجلى لهم‪ ،‬يستمتعون‬
‫بالنظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬وقامت الملئكة في خدمتهم بإذن ربهم‪.‬‬

‫فلينظر الباحث في هذا المر‪ ،‬فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملئكة بعين التمام والكمال‪ ،‬ونظروا‬
‫ل جناح بعوضة وليس هذا بالنصاف‪.‬‬ ‫الدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة اْلَكِدَرة‪ ،‬التي ل تزن عند ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا‪ ،‬وإن‬


‫فأقول‪ :‬فضل أحد الذاتين على الخرى إنما هو بقربها من ا ّ‬
‫كنا نحن ل ندرك حقيقة ذلك‪.‬‬

‫هذا على سبيل الجمال‪ ،‬وعلى حسب المور التي هي في نفسها خبر محض‪ ،‬وكمال صرف‪ ،‬مثل‪ :‬الحياة والعلم‬
‫والقدرة‪ ،‬والزكاة والطهارة‪ ،‬والطيب والبراءة من النقائص والعيوب‪ ،‬فنتكلم على الفضلين‪:‬‬

‫ل‪ ،‬وقال‬‫ل ـ تعالى ـ وغرسها بيده‪ ،‬ولم يطلع على ‪/‬ما فيها ملًكا مقربا‪ ،‬ول نبًيا مرس ً‬
‫أما الول‪ :‬فإن جنة عدن خلقها ا ّ‬
‫لها‪ :‬تكلمي‪ ،‬فقالت‪َ} :‬قْد َأْفَلَح اْلُمْؤِمُنوَن{ ]المؤمنون‪ .[1 :‬جاء ذلك في أحاديث عديدة‪ ،‬وأنه ينظر إليها في كل سحر‪،‬‬
‫ل تعالى لعباده المؤمنين‪ ،‬التي لم يطلع عليها أحد من الملئكة‪ .‬ومعلوم أن العلين مطلعون‬ ‫وهي داره‪ ،‬فهذه كرامة ا ّ‬
‫على السفلين من غير عكس‪ ،‬ول يقال‪ :‬هذا في حق المرسلين‪ ،‬فإنها إنما بنيت لهم‪ ،‬لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها‬
‫وإنما هي معدة لهم‪ ،‬فإنهم ذاهبون إلى كمال‪ ،‬ومنتقلون إلى علو وارتفاع‪ ،‬وهو جزاؤهم وثوابهم‪.‬‬

‫وأما الملئكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك‪ ،‬فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة‪ ،‬وتصديق هذا قوله‬
‫ي َلُهم ّمن ُقّرِة َأْعُيٍن{ ]السجدة‪.[17 :‬‬
‫خِف َ‬
‫س ّما ُأ ْ‬ ‫تعالى ‪َ} :‬ف َ‬
‫ل َتْعَلُم َنْف ٌ‬

‫ل لوليائه غيب عن الملئكة‪ ،‬وقد غيب عنهم أولً حال آدم في النشأة الولى وغيرها‪.‬‬
‫فحقيقة ما أعده ا ّ‬

‫ل الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم‪ ،‬فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع العيان‬ ‫وفضل عباد ا ّ‬
‫والشخاص‪ ،‬ثبت فضل نوعهم على جميع النواع؛ إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى‬
‫أن يفوق جميع الشخاص والنواع الفاضلة‪ ،‬فإن هذا تبديل الحقائق وقلب العيان عن صفاتها النفسية‪ ،‬لكن ربما فاق‬
‫بعض أشخاص النوع الفاضل مع ‪/‬امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته‪ ،‬كما أن في بعض الخيل ما هو خير من‬
‫بعض الخيل‪ ،‬ول يكون خيًرا من جميع الخيل‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم يجلسه ربه‬


‫ث العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون‪ :‬أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫إذا تبين هذا‪ ،‬فقد حّد َ‬
‫على العرش معه‪.‬‬
‫ك َمَقاًما ّمْحُموًدا{ ]السراء‪[79 :‬‬
‫ك َرّب َ‬
‫سى َأن َيْبَعَث َ‬
‫عَ‬‫ضيل‪ ،‬عن ليث‪ ،‬عن مجاهد‪ ،‬في تفسير‪َ } :‬‬ ‫روى ذلك محمد بن ُف َ‬
‫ضا لما استفاضت به الحاديث‬ ‫وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة‪ .‬قال ابن جرير‪ :‬وهذا ليس مناق ً‬
‫من أن المقام المحمود هو الشفاعة‪ ،‬باتفاق الئمة من جميع من ينتحل السلم ويدعيه‪ ،‬ل يقول‪ :‬إن إجلسه على‬
‫العرش منكر ـ وإنما أنكره بعض الجهمية ـ ول ذكره في تفسير الية منكر‪ ،‬وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت‬
‫فضل النوع على النوع ـ أعنى صالحنا عليهم‪.‬‬

‫ل على صورته ونفخ فيه من روحه‪ ،‬ولم يثبت هذا لشىء من‬ ‫ل بيده‪ ،‬وخلقها ا ّ‬
‫وأما الذوات‪ ،‬فإن ذات آدم خلقها ا ّ‬
‫الذوات‪ ،‬وهذا بحر يغرق فيه السابح‪ ،‬ل يخوضه إل كل مؤيد بنور الهداية‪ ،‬وإل وقع إما في تمثيل‪ ،‬أو في تعطيل‪.‬‬
‫فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة‪ ،‬وفوق كل ذي علم عليم‪ .‬وليوقن كل اليقان بأن ما جاءت به‬
‫ل َما َأّنُكْم‬
‫ق ّمْث َ‬
‫حّ‬
‫ض ِإّنُه َل َ‬
‫لْر ِ‬
‫سَماء َوا َْ‬ ‫را وباطًنا ـ وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه }َفَوَر ّ‬
‫ب ال ّ‬ ‫الثار النبوية حق ـ ظاه ً‬
‫ظا‬ ‫ن باب إنكار‪ ،‬ورد وإمساك وإغماض ـ ردا ‪/‬لظاهره وتعجًبا من باطنه ـ حف ً‬ ‫جّ‬
‫طُقوَن{ ]الذاريات‪ [23 :‬فل تل َ‬
‫َتن ِ‬
‫جَناب مولك‪.‬‬ ‫لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن َ‬

‫ق التمثيل والتشبيه‪ ،‬ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم‪ ،‬الذي هو َأحَّد‬ ‫إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وَتَو ّ‬
‫ل له نوًرا فما له من نور‪.‬‬
‫من السيف‪ ،‬وأدق من الشعر‪ ،‬ومن لم يجعل ا ّ‬

‫وأما الصفات التي تتفاضل‪ ،‬فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء البدي في الدار الخرة وليس للملك أكثر من هذا‪ ،‬وإن‬
‫كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين‪ ،‬حتى ل يبقى إل البقاء وغير‬
‫ذلك من العلم الذي امتازت به الملئكة‪.‬‬

‫فنقول‪ :‬غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للخر‪ ،‬فإن الوحي للرسل على أنحاء‪ ،‬كما قال تعالى‪َ} :‬وَما‬
‫ي ِبِإْذِنِه َما َيَشاء{ ]الشورى‪ ،[51 :‬فبين أن الكلم‬
‫حَ‬
‫ل َفُيو ِ‬
‫سو ً‬
‫ل َر ُ‬
‫سَ‬
‫ب َأْو ُيْر ِ‬
‫جا ٍ‬
‫حَ‬
‫حًيا َأْو ِمن َوَراء ِ‬
‫ل َو ْ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫ن ِلَبشٍَر َأن ُيَكّلَمُه ا ُّ‬
‫َكا َ‬
‫للبشر على ثلثة أوجه‪ :‬منها واحد يكون بتوسط الملك‪.‬‬

‫ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي‪ ،‬وأين الملك من ليلة المعراج‪ ،‬ويوم الطور‪ ،‬وتعليم السماء وأضعاف ذلك؟‬

‫ل باطل ـ فكيف يصنعون بيوم القيامة؟! وقد‬ ‫ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا ل يكون إل على أيدى الملئكة ـ وهو وا ّ‬
‫ى من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها‪ ،‬لم يفتحها على أحد قبلي(‪.‬‬
‫ل عل ّ‬
‫قال النبي صلى ال عليه وسلم‪)/ :‬فيفتح ا ّ‬

‫وإذا تبين هذا‪ ،‬أن العلم مقسوم من ال‪ ،‬وليس كما زعم هذا الغبي بأنه ل يكون إل بأيدي الملئكة على الطلق‪ ،‬وهو‬
‫ل ـ تعالى ـ اختص آدم بعلم لم يكن عند الملئكة‪ ،‬وهو علم السماء الذي‬
‫قول بل علم‪ ،‬بل الذي يدل عليه القرآن أن ا ّ‬
‫هو أشرف العلوم‪ ،‬وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم‪ ،‬فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق؟ ومنها القدرة‪.‬‬

‫وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر‪ ،‬وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى‪ ،‬وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من‬
‫ل بعض عباده أعظم من ذلك‪ ،‬فأغرق جميع أهل الرض بدعوة نوح‪ ،‬وقال النبي صلى ال عليه‬ ‫جناحه‪ ،‬فقد آتى ا ّ‬
‫ل لَبّرُه(! وهذا‬
‫غَبَر مدفوع بالبواب لو أقسم على ا ّ‬
‫ثأ ْ‬
‫شَع َ‬
‫بأ ْ‬
‫ل لَبّره‪ ،‬وُر ّ‬
‫ل من لو أقسم على ا ّ‬ ‫وسلم ‪) :‬إن من عباد ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أو الجبال عن‬ ‫ل أن يزيل جب ً‬
‫ل من لو أقسم على ا ّ‬‫عام في كل الشياء‪ ،‬وجاء تفسير ذلك في آثار‪ :‬إن من عباد ا ّ‬
‫أماكنها لزالها‪ ،‬وأل يقيم القيامة لما أقامها‪ ،‬وهذا مبالغة‪.‬‬

‫ول يقال‪ :‬إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه‪ ،‬وهذا بدعوة يدعوها؛ لنهما في الحقيقة يؤولن إلى واحد‪ ،‬هو مقصود القدرة‬
‫ومطلوب القوة‪ ،‬وما من ‪/‬أجله يفضل القوى على الضعيف‪ ،‬ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الخرة ؟ وقد‬
‫جاء في الثر‪) :‬يا عبدي‪ ،‬أنا أقول للشىء كن فيكون‪ ،‬أطعني أجعلك تقول للشىء كن فيكون‪ ،‬يا عبدي‪ ،‬أنا الحي الذي‬
‫ل‪ :‬من الحي الذي ل يموت إلى الحي‬ ‫ف من ا ّ‬
‫ح ُ‬
‫ل يموت‪ ،‬أطعني أجعلك حًيا ل تموت(‪ ،‬وفي أثر‪) :‬أن المؤمن تأتيه الّت َ‬
‫ل يسمع‪ ،‬وبه يبصر‪ ،‬وبه يبطش‪ ،‬وبه يمشى‪ ،‬فل‬ ‫الذي ل يموت( فهذه غاية ليس وراءها مرمى‪ ،‬كيف ل‪ ،‬وهو با ّ‬
‫يقوم لقوته قوة؟!‬
‫ل‪ ،‬التي ليس معها‬
‫وأما الطهارة والنزاهة‪ ،‬والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب‪ ،‬والطاعة التامة الخاصة ّ‬
‫معصية ول سهو ول غفلة‪ ،‬وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق المر‪ ،‬فقد قال قائل‪ :‬من أين للبشر هذه الصفات؟ وهذه‬
‫الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل‪ ،‬كما قيل‪ :‬ل أعدل بالسلمة شيًئا‪ .‬فالجواب من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬أنا إذا نظرنا إلى هذه الحوال في الخرة‪ ،‬كانت في الخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه‪ ،‬وقد قدمنا أن‬
‫الكلم ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط‪ ،‬بل عند الكمال والتمام والستقرار في دار الحيوان‪ ،‬وفيه وجه قاطع لكل‬
‫ما كان من جنس هذا الكلم‪ ،‬فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس‪ ،‬ل يبولون ول يتمخطون‪ ،‬ول‬
‫يبصقون‪ ،‬ما فيهم ذرة من العيب ول من النقص؟!‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن هذا بعينه هو الدليل على فضل الدمي‪ ،‬والملئكة ‪/‬مخلوقون على طريقة واحدة‪ ،‬وصفة لزمة‪ ،‬ل‬
‫سبيل إلى انفكاكهم عنها‪ ،‬والبشر بخلف ذلك‪.‬‬

‫الوجه الثالث‪ :‬أن ما يقع من صالحي البشر من الزلت والهفوات ترفع لهم به الدرجات‪ ،‬وتبدل لهم السيئات حسنات‪،‬‬
‫ل يحب التوابين ويحب المتطهرين‪ ،‬ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة‪ ،‬ولو لم يكن العفو أحب إليه‬ ‫فإن ا ّ‬
‫ل‪ ،‬فافهم‬
‫لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه‪ ،‬وكذلك فرحه بتوبة عبيده‪ ،‬وضحكه من علم العبد أنه ل يغفر الذنوب إل ا ّ‬
‫هذا فإنه من أسرار الربوبية‪ ،‬وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ على بعضهم الشهوة فواقعوا‬ ‫الوجه الرابع‪ :‬ما روى‪) :‬أن الملئكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ على الملئكة‪ ،‬وأما العبادة فقد قالوا‪ :‬إن الملئكة دائمو العبادة والتسبيح‪،‬‬ ‫الخطيئة(‪ ،‬وهو احتجاج من ا ّ‬
‫ن{‬‫ل َيْفُتُرو َ‬
‫ل َوالّنَهاَر َ‬
‫ن الّلْي َ‬
‫حو َ‬ ‫ومنهم قيام ل يقعدون‪ ،‬وقعود ل يقومون‪ ،‬وركوع ل يسجدون‪ ،‬وسجود ل يركعون{ُي َ‬
‫سّب ُ‬
‫]النبياء‪[20:‬‬

‫ض ِزيَنًة ّلَها ِلَنْبُلَوُهْم‬


‫لْر ِ‬
‫عَلى ا َْ‬ ‫والجواب‪ :‬أن الفضل بنفس العمل وجودته‪ ،‬ل بقدره وكثرته‪ ،‬كما قال تعالى ‪ِ} :‬إّنا َ‬
‫جَعْلَنا َما َ‬
‫ل{ ]الكهف‪ ،[30 :‬ورب تسبيحة من إنسان أفضل‬ ‫عَم ً‬
‫ن َ‬
‫سَ‬
‫حَ‬‫ن َأ ْ‬
‫جَر َم ْ‬
‫ضيُع َأ ْ‬ ‫ل}]الكهف‪ ،[7 :‬وقال ‪ِ} :‬إّنا َ‬
‫ل ُن ِ‬ ‫عَم ً‬
‫ن َ‬
‫سُ‬
‫حَ‬
‫َأّيُهْم َأ ْ‬
‫من ملء الرض من عمل غيره‪ ،‬وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل ‪/‬الرض‪ ،‬وإن الرجلين ليكونان‬
‫في الصف وأجر ما بين صلتهما كما بين السماء والرض‪.‬‬

‫جل المسبحين(‪.‬‬
‫ى من َز َ‬
‫ن المذنبين أحب إل ّ‬
‫وقد روى‪) :‬أن أِني َ‬

‫وقد قالوا‪ :‬إن علماء الدميين مع وجود المنافى والمضاد أحسن وأفضل‪ ،‬ثم هم في الحياة الدنيا وفي الخرة يلهمون‬
‫س‪ ،‬وأما النفع المتعدى‪ ،‬والنفع للخلق‪ ،‬وتدبير العالم‪ ،‬فقد قالوا ‪ :‬هم تجري أرزاق العباد على‬
‫التسبيح‪ ،‬كما يلهمون الّنَف َ‬
‫أيديهم‪ ،‬وينزلون بالعلوم والوحي‪ ،‬ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملئكة‪.‬‬

‫والجواب‪ :‬أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه‪ ،‬ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين‪ ،‬وشفاعته في‬
‫البشر كي يحاسبوا‪ ،‬وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة‪ .‬ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملئكة‪ ،‬وأين هم من قوله‪:‬‬
‫صٌة{‬
‫صا َ‬
‫خ َ‬
‫ن ِبِهْم َ‬
‫سِهْم َوَلْو َكا َ‬
‫عَلى َأنُف ِ‬ ‫ن{ ] النبياء‪ [107 :‬؟ وأين هم من الذين ‪َ} :‬وُيْؤِثُرو َ‬
‫ن َ‬ ‫حَمًة ّلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫}َوَما َأْر َ‬
‫سّنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى ال عليه‬ ‫ن ُ‬‫سّ‬
‫]الحشر‪ [9 :‬؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن َ‬
‫ضر( ؟ وأين هم من القطاب‪ ،‬والوتاد‪ ،‬والغواث‪ ،‬والبدال‪،‬‬ ‫وسلم ‪) :‬إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة وُم َ‬
‫والنجباء؟‪.‬‬

‫جا ‪ /‬نهجنا به السبيل‪ ،‬وفتحنا به الباب إلى درك‬


‫ل ـ وجه التفضيل بالسباب المعلومة‪ ،‬ذكرنا منه أنموذ ً‬‫فهذا ـ هداك ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وإنما عدل عن ذلك قوم لم‬‫ظا رأى وراَء ذلك ما ل يحصيه إل ا ّ‬ ‫فضائل الصالحين‪ ،‬من تدبر ذلك‪ ،‬وأوتى منه ح ً‬
‫يكن لهم من القول والعلم إل ظاهره‪ ،‬ول من الحقائق إل رسومها‪ ،‬فوقعوا في بدع وشبهات‪ ،‬وتاهوا في مواقف‬
‫ومجازات‪ ،‬وها نحن نذكر ما احتجوا به‪.‬‬

‫ل َوَل اْلَملِئَكُة اْلُمَقّرُبوَن{ ]النساء‪ ،[172 :‬والذي يريد‬


‫عْبدًا ّ‬
‫ن َ‬
‫ح َأن َيُكو َ‬
‫سي ُ‬
‫ف اْلَم ِ‬ ‫الحجة الولى‪ :‬قوله تعالى‪ّ} :‬لن َي ْ‬
‫سَتنِك َ‬
‫إثبات ذل العاظم‪ ،‬وانقياد الكابر‪ ،‬إنما يبدأ بالدنى فالدنى مترقًيا إلى العلى فالعلى‪ ،‬ليرقى المخاطب في فهم‬
‫عظمة من انقيد له‪ ،‬وأطيع درجة درجة‪ ،‬وإل فلو فوجئ بانقياد العظم ابتداء‪ ،‬لما حصل تبين مراتب العظمة‪ ،‬ولوقع‬
‫صا‪.‬‬
‫عا ونق ً‬
‫ذكر الدنى بعد ذلك ضائًعا‪ ،‬بل يكون رجو ً‬

‫ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال‪ :‬فلن ل يأتيني‪ ،‬وفلن يأتيني‪ ،‬أي كيف يستنكف عن التيان إلى؟ وفلن أكرم منه‬
‫وأعظم‪ ،‬وهو يأتيني‪ ،‬ول يقال ‪ :‬ل يأبي فلن أن يكرمك‪ ،‬ول من هو فوقه‪ .‬فالنتقال من المسيح إلى الملئكة دليل‬
‫على فضلهم‪ ،‬كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل؟!‬

‫والجواب‪ :‬زعم القاضي أن هذا ليس من عطف العلى على الدنى‪ ،‬وإنما هو عطف ساذج‪ .‬قال‪ :‬وذلك أن قوًما‬
‫ل ـ تعالى ـ‬
‫ل‪ ،‬كما حكى ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ وقوًما عبدوا الملئكة وزعموا أنها بنات ا ّ‬
‫عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ في هذه أن هؤلء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي‪،‬‬ ‫‪/‬عن الفريقين فبين ا ّ‬
‫وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذاًبا أليما‪ ،‬والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر‪ ،‬وهذا الكلم فيه نظر‪،‬‬
‫ل أعلم بحقيقته‪.‬‬
‫وا ّ‬

‫ثم نقول‪ :‬إن كان هذا هو المراد فل كلم‪ ،‬وإن أريد أن النتقال من الدنى إلى العلى‪ ،‬فاعلم ـ نور الّ قلبك وشرح‬
‫صدرك للسلم ـ أن للملئكة خصائص ليست للبشر‪ ،‬ل سيما في الدنيا‪ .‬هذا ما ل يستريب فيه لبيب‪ ،‬أنهم اليوم على‬
‫ل‪ ،‬وأظهر جسوًما‪ ،‬وأعظم خلًقا‪ ،‬وأجمل صوًرا‪ ،‬وأطول أعماًرا‪ ،‬وأيمن آثاًرا‪ ،‬إلى غير ذلك من‬ ‫مكان‪ ،‬وأقرب إلى ا ّ‬
‫الخصال الحميدة‪ ،‬مما نعلمه ومما ل نعلمه‪.‬‬

‫ضا ـ خصائص ومزايا‪ ،‬لكن الكلم في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل ؟ هذا طريق ممهد‬ ‫وللبشر ـ أي ً‬
‫لهذه الية وما بعدها‪ .‬وهو وراء ذلك‪ ،‬فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به‪ ،‬واختصوا به من المور‬
‫التي ل تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها‪.‬‬

‫ل من اليات‪ ،‬كما أبرأ الكمه والبرص وأحيا‬ ‫ل‪ ،‬فإنما هو لما أيده ا ّ‬
‫وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة ا ّ‬
‫الموتى وغير ذلك؛ ولنه خرج في خلقه عن بني آدم‪ ،‬وفي عزوفه عن الدنيا‪ ،‬وما فيها‪ :‬أعطى الزهد‪ .‬وما من صفة‬
‫من هذه الصفات إل والملئكة أظهر منه فيها‪ ،‬فإنهم كلهم خلقوا من ‪/‬غير أبوين ومن غير أم‪ ،‬وقد كان فرس جبريل‬
‫يحيى به التراب الذي يمر عليه ؛وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملئكة سهل‪.‬‬

‫وفي حديث أبرص‪ ،‬وأقرع‪ ،‬وأعمى‪) :‬أن الملك مسح عليهم فبرؤوا ( فهذه المور التي من أجلها عبد المسيح‪ ،‬وجعل‬
‫ل ـ عز وجل ـ للملئكة منها أوفر نصيب‪ ،‬وأعلى منها‪ ،‬وأعظم مما للمسيح‪ ،‬وهم ل يستنكفون عن عبادته‪ ،‬فهو‬ ‫ابن ا ّ‬
‫ل والزلفى لديه فأمور وراء هذه اليات‪ .‬وأيضا‪ ،‬فأقصى ما فيها تفضيلهم‬ ‫أحق خلق أل يستنكف‪ ،‬وأما القرب من ا ّ‬
‫على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وأما إذا استقر في الخرة وكان ما كان مما لست أذكر‪ ،‬فمن أين يقال‪ :‬إنهم‬
‫هناك أفضل منه؟‬

‫ل َلُكْم ِإّني‬
‫ب َول َأُقو ُ‬
‫عَلُم اْلَغْي َ‬
‫ل َول َأ ْ‬
‫نا ّ‬
‫خَزآِئ ُ‬
‫عنِدي َ‬
‫ل َلُكْم ِ‬ ‫الحجة الثانية‪ :‬قوله تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ُ} :‬قل ّ‬
‫ل َأُقو ُ‬
‫ك{ ]النعام‪ [50 :‬ومثله في هود‪ ،‬فالحتجاج في هذا من وجوه‪:‬‬ ‫َمَل ٌ‬

‫أحدها‪ :‬أنه قرن استقرار خزائنه‪ ،‬وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك‪ ،‬وسلبها عن نفسه في نسق واحد‪ ،‬فإذا كان حال‬
‫من يعلم الغيب‪ ،‬ويقدر على الخزائن أفضل من حال من ل يكون كذلك‪ ،‬وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من‬
‫ليس بملك‪ ،‬وإن كان نبيا كما في الية‪.‬‬

‫ل ‪ /‬دون حاله‪ ،‬لن من اتصف بالعلى فهو‬


‫وثانيها‪ :‬أنه إنما نفى عن نفسه حال أعظم من حاله الثابتة‪ ،‬ولم ينف حا ً‬
‫على ما دونه أقدر‪ ،‬فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملًكا وهو المطلوب‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬ما ذكر القاضي أنه لول ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شىء‬
‫هو دون مرتبته‪ ،‬وهذا العتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين أمر قرروا عليه‪ ،‬ولم ينكره عليهم‪ ،‬فثبت أنه حق‪.‬‬

‫والجواب من وجوه‪:‬‬
‫ل‪ ،‬ونفى أن يكون ملًكا ل يأكل ول يشرب ول يتمتع‪ ،‬وإذا نفى‬‫أحدها‪ :‬أنه نفى أن يكون عالًما بالغيب وعنده خزائن ا ّ‬
‫ذلك عن نفسه لم يجب أن يكون الملك أفضل منه‪ ،‬أل ترى أنه لو قال‪ :‬ول أنا كاتب‪ ،‬ول أنا قارئ‪ ،‬لم يدل على أن‬
‫الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ول قارئ‪ ،‬فلم يكن في الية حجة‪.‬‬

‫وأيضا‪ ،‬ما قال القاضي‪ :‬إنهم طلبوا صفات اللوهية‪ ،‬وهي العلم والقدرة والغنى‪ :‬وهي أن يكون عالًما بكل شىء‪،‬‬
‫طَعاَم‬
‫ل ال ّ‬ ‫ل َيْأُك ُ‬
‫سو ِ‬‫ل َهَذا الّر ُ‬ ‫را على كل شىء‪ ،‬غنًيا عن كل شىء‪ ،‬فسلب عن نفسه صفات اللوهية‪ ،‬ولهذا قالوا‪َ} :‬ما ِ‬ ‫قدي ً‬
‫ن‬
‫شو َ‬‫طَعاَم َوَيْم ُ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ل ِإّنُهْم َلَيْأُكُلو َ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫سِلي َ‬
‫ن اْلُمْر َ‬
‫ك ِم َ‬ ‫جا عنه‪َ} :‬وما َأْر َ‬
‫سلَْنا َقْبَل َ‬ ‫ق{ ]الفرقان‪ ،[7 :‬وقال تعالى‪ :‬محت ً‬
‫سَوا ِ‬
‫لْ‬
‫شي ِفي ا َْ‬ ‫َوَيْم ِ‬
‫صّمد ل يأكلون ول‬ ‫سا بها‪ ،‬فإن الملئكة ُ‬ ‫ق{ ]الفرقان‪ ،[20 :‬فكأنهم أرادوا منه صفة الملئكة أن يكون ‪/‬متلب ً‬ ‫سَوا ِ‬
‫لْ‬‫ِفي ا َْ‬
‫ل‪.‬‬‫يشربون‪ ،‬والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان المر إلى هذه الصفة‪ ،‬وهذا بين إن شاء ا ّ‬

‫وثانيها‪ :‬أن الخر أكمل في أمر من المور‪ ،‬فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك‪ ،‬ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز‬
‫بها‪ ،‬وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته‪ ،‬وأنه ليس للبشر من نوعه مثله‪ ،‬ولكن ِلَم لْم تقل‪ :‬من غير‬
‫نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟‬

‫ولهذا إذا سئل النسان عما يعجز عنه‪ ،‬قد يقول‪ :‬لست بملك‪ ،‬وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن‪ ،‬والملك من‬
‫الملوك‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال‪ ،‬ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ولهذا‬
‫تزيد قدرته وعلمه وغناه في الخرة‪ ،‬وهذا كما لو قال الصبي‪ :‬ل أقول‪ :‬إني شيخ‪ ،‬ول أقول‪ :‬إني عالم‪ ،‬ومن الممكن‬
‫ترقيه إلى ذلك‪ ،‬وأكمل منه‪.‬‬

‫الحجة الثالثة‪ :‬قول إبليس لدم وحواء‪ِ} :‬إّل َأن َتُكوَنا َمَلَكْيِن َأْو َتُكوَنا ِمَن اْلَخاِلِديَن{ ]العراف‪ [20 :‬تقديره‪ :‬كراهة أن‬
‫تكونا أو لئل تكونا‪ ،‬فلول أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين؛ لما أغراهما بها‪ ،‬ولما ظنا أنها هي‬
‫الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود‪ ،‬والخالد أفضل من الفاني‪ ،‬والملك أطول حياة من الدمي‪ ،‬فيكون أعظم عبادة‬
‫وأفضل من الدمي‪.‬‬

‫‪/‬والجواب من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ما ذكره القاضي أن قوله‪ِ} :‬إّل َأن َتُكوَنا َمَلَكْيِن{ ظن أن الملئكة خير منهما‪ ،‬كما ظن أنه خير من آدم وكان‬
‫مخطئا‪ .‬وقوله ‪َ} :‬أْو َتُكوَنا ِمَن اْلَخاِلِديَن{ ظًنا منه أنهما يؤثران الخلود‪ ،‬لما في ذلك من السلمة من المراض والسقام‬
‫والوجاع‪ ،‬والفات والموت؛ لن الخالد في الجنة هذه حاله‪ ،‬ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على النبياء‪ .‬أل ترى أن‬
‫الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من النبياء‪.‬‬

‫وثانيها‪ :‬أن الملك أفضل من بعض الوجوه‪ ،‬وكذلك الخلود آثر عندهما فمال إليه‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬أن حالهما تلك كانت حال ابتداء ل حال انتهاء‪ ،‬فإنهما في النتهاء قد صارا إلى الخلود الذي ل حظر فيه ول‬
‫ل‪،‬‬
‫معه‪ ،‬ول يعقبه زوال‪ ،‬وكذلك يصيران في النتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك‪ ،‬الذي أراداها أو ً‬
‫وهذا بين‪.‬‬

‫س{ ]الحج‪ ،[75 :‬فبدأ بهم‪ ،‬والبتداء إنما يكون‬ ‫ن الّنا ِ‬


‫ل َوِم َ‬
‫سً‬‫لِئَكِة ُر ُ‬
‫ن اْلَم َ‬
‫طِفي ِم َ‬
‫صَ‬ ‫الحجة الرابعة‪ :‬قوله تعالى‪} :‬ا ُّ‬
‫ل َي ْ‬
‫صّديِقي َ‬
‫ن‬ ‫ن َوال ّ‬
‫ن الّنِبّيي َ‬
‫عَلْيِهم ّم َ‬
‫ل َ‬
‫ن َأْنَعَم ا ّ‬ ‫بالفضل والشرف‪ ،‬فالفضل والشرف‪ ،‬كما بدأ بذلك في قوله‪َ} :‬فُأْوَلـِئ َ‬
‫ك َمَع اّلِذي َ‬
‫صاِلِحيَن{ ]النساء‪ ،[69 :‬فبدأ بالكمل والفضل‪.‬‬ ‫شَهَداء َوال ّ‬
‫َوال ّ‬

‫را بغير الفضل‪ ،‬بل يبتدأ بالشىء لسباب متعددة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ} :‬وِإْذ َأ َ‬
‫خْذَنا‬ ‫‪/‬والجواب‪ :‬أن البتداء قد يكون كثي ً‬
‫حا أفضل من إبراهيم‪ ،‬والنبي صلى‬ ‫ك َوِمن ّنوٍح َوِإْبَراِهيَم{ ]الحزاب‪ ،[7 :‬ولم يدل ذلك على أن نو ً‬ ‫ن ِميَثاَقُهْم َوِمن َ‬
‫ن الّنِبّيي َ‬
‫ِم َ‬
‫ت{]الحزاب‪ ،[35 :‬ل يدل على أن‬ ‫ن َواْلُمْؤِمَنا ِ‬
‫ت َواْلُمْؤِمِني َ‬
‫سِلَما ِ‬
‫ن َواْلُم ْ‬
‫سِلِمي َ‬ ‫ال عليه وسلم أفضل؛ وكذلك قوله‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ل أعلم ـ إنما بدأ بهم؛لن الملئكة أسبق خلًقا ورسالة؛فإنهم أرسلوا إلى الجن‬
‫المسلم أفضل من المؤمن‪ ،‬فلعله ـ وا ّ‬
‫والنس‪ ،‬فذكر الول‪ ،‬فالول‪ ،‬في الخلق‪ ،‬والرسالة على ترتيبهم في الوجود‪.‬‬

‫شاء الّذُكوَر{ ]الشورى‪ ،[49 :‬والذكور أفضل من الناث‪ ،‬وقال‪َ} :‬والّتي ِ‬


‫ن‬ ‫ب ِلَمن َي َ‬
‫شاء ِإَناًثا َوَيَه ُ‬
‫ن َي َ‬ ‫وقد قال تعالى‪َ} :‬يَه ُ‬
‫ب ِلَم ْ‬
‫ضَحاَها{ اليات ]الشمس ‪ ،[1 :‬و}ِفيِهَما َفاِكَهٌة َوَنْخٌل َوُرّماٌن{ ]الرحمن‪ ،[68 :‬إلى‬ ‫س َو ُ‬ ‫شْم ِ‬‫ن{ ]التين‪َ} ،[1 :‬وال ّ‬ ‫َوالّزْيُتو ِ‬
‫غير ذلك‪ ،‬ولم يدل التقديم في شىء من هذه المواضع على فضل المبدوء به‪ ،‬فعلم أن التقديم ليس لزًما للفضل‪.‬‬

‫ك َكِريٌم{ ]يوسف‪:‬‬
‫ل َمَل ٌ‬
‫ن َهـَذا ِإ ّ‬
‫شًرا ِإ ْ‬
‫ل َما َهـَذا َب َ‬
‫حاشَ ِّ‬
‫ن َ‬
‫ن َوُقْل َ‬
‫ن َأْيِدَيُه ّ‬ ‫الحجة الخامسة‪ :‬قوله تعالى ‪َ} :‬فَلّما َرَأْيَنُه َأْكَبْرَنُه َوَق ّ‬
‫طْع َ‬
‫‪ ،[31‬فدل على أن الملك أفضل من البشر‪ ،‬وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر‪.‬‬

‫وقد أجابوا عنه بجوابين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنهن لم يعتقدن أن الملئكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر ‪/‬أخبرهم فسكن إلى خبره‪ ،‬فلما‬
‫ك َكِريٌم{ لن هذا الحسن ليس بصفة بشر‪.‬‬
‫ل َمَل ٌ‬
‫ن َهـَذا ِإ ّ‬ ‫هالهن حسنه قلن‪َ}:‬ما َهـَذا َب َ‬
‫شًرا ِإ ْ‬

‫وثانيهما‪ :‬أنهن اعتقدن أن الملئكة خير من النبيين‪ ،‬فكان هذا العتقاد خطأ منهن‪ ،‬ول يقال إنه لما لم يقرن بالنكار‬
‫ضا في غيبتهن عنه أنه بشر‬ ‫ك َكِريٌم{ خطأ أي ً‬ ‫ل َمَل ٌ‬ ‫شًراً{ خطأ‪ .‬وقولهن‪ِ} :‬إ ْ‬
‫ن َهـَذا ِإ ّ‬ ‫دل على أنه حق‪ ،‬فإن قولهن }َما َهـَذا َب َ‬
‫ك َكِريٌم{ خطأ في‬
‫ل َمَل ٌ‬
‫ن َهـَذا ِإ ّ‬ ‫وإثباتهن أنه ملك‪ ،‬وإن لم يقرن بالنكار‪ ،‬دل على أنه حق‪ ،‬وأن قولهن‪َ} :‬ما َهـَذا َب َ‬
‫شًرا ِإ ْ‬
‫نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملئكية‪ ،‬وإن لم يقرن بالنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته‪ ،‬فلم يلمن في تلك الحال على‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ل على غيره‬‫ضا ـ‪ :‬إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي‪ ،‬بل ول أنه من الصالحين إذ ذاك‪ ،‬ولم يشهدن له فض ً‬ ‫وأقول ـ أي ً‬
‫شّبْهنه بحال الملئكة‪ ،‬وليس‬
‫ن جماله َف َ‬
‫سَباُه ّ‬
‫من البشر في الصلح والدين‪ ،‬وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن‪ ،‬و َ‬
‫هذا من التفضيل في شىء من الذي نريد‪.‬‬

‫ثم نقول‪ :‬إذا كان التفضيل بالجمال حًقا‪ ،‬فقد ثبت أن أهل الجنة تدخـل الّزْمَرُة الولى ووجوههم كالشمس‪ ،‬والذين‬
‫َيُلونهم كالقمر‪ . . .‬الحديث‪ ،‬فهذه حال السعداء عند المنتهى‪ ،‬وإن كان في الجمال والملك تفضيل‪ ،‬فإنما هو في هذه‬
‫الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس‪.‬‬

‫ل من الكرامة‪ ،‬فأكثر الناس عنه ِبَمْعِزل‪ ،‬ليس لهم نظر إليه‪ ،‬وكذلك ما‬
‫ل عباده الصالحين‪ ،‬وما أعده ا ّ‬‫‪/‬وأما ما فضل ا ّ‬
‫طْتُهم الملئكة به من أول ما خلقهم‪ ،‬وهو مما به يفضلون‪ ،‬فهذا الجواب وما قبله‪.‬‬ ‫غَب َ‬
‫ل من العلم الذي َ‬
‫آتاهم ا ّ‬

‫طاٍع َثّم َأِميٍن{ ]التكوير‪19 :‬ـ ‪ ،[21‬فهذه‬


‫ن ُم َ‬
‫ش َمِكي ٍ‬
‫عنَد ِذي اْلَعْر ِ‬
‫ل َكِريٍم ِذي ُقّوٍة ِ‬
‫سو ٍ‬ ‫الحجة السادسة‪ :‬قوله تعالى‪ِ}:‬إّنُه َلَقْو ُ‬
‫ل َر ُ‬
‫صفة جبرائيل‪.‬‬

‫صاِحُبُكم ِبَمْجُنوٍن{ ]التكوير‪ ،[22 :‬فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة‪ ،‬والقوة والتمكين عنده‪ ،‬وأنه مطاع‬ ‫ثم قال‪َ} :‬وَما َ‬
‫صاِحُبُكم ِبَمْجُنوٍن{فأضاف الرسول البشرى إلينا‬
‫وأنه أمين‪ ،‬فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله‪َ} :‬وَما َ‬
‫وسلب عنه الجنون‪ ،‬وأثبت له رؤية جبرائيل‪ ،‬ونفى عنه البخل والتهمة‪ ،‬وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملئكة‪،‬‬
‫ل به عن سواء السبيل‪.‬‬ ‫وبين الصفات والّنَعم‪ ،‬وهذا قاله بعض المعتزلة‪َ ،‬ز ّ‬

‫جى{‬
‫سَ‬
‫ل ِإَذا َ‬
‫حى َوالّلْي ِ‬
‫ضَ‬‫ك{ إلى آخرها ]الشرح[‪ ،‬وقوله‪َ} :‬وال ّ‬ ‫صْدَر َ‬
‫ك َ‬
‫ح َل َ‬ ‫والجواب‪ :‬أول‪ :‬أين هو من قوله‪َ} :‬أَلْم َن ْ‬
‫شَر ْ‬
‫ك َمَقاًما ّمْحُموًدا{ ]السراء‪:‬‬
‫ك َرّب َ‬
‫سى َأن َيْبَعَث َ‬
‫عَ‬‫حا ّمِبيًنا{ اليات ]الفتح‪ ،[1 :‬و} َ‬‫ك َفْت ً‬ ‫]الضحى‪ ،[2 ،1 :‬وقوله‪ِ} :‬إّنا َفَت ْ‬
‫حَنا َل َ‬
‫‪ [79‬؟‬

‫وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه؟ ثم أين هو عن الخّلة؟ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم‬
‫ُيَقّدر النبي صلى ال عليه وسلم َقْدَره‪.‬‬
‫‪ /‬ثم نقول ثانًيا‪ :‬لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة‪ ،‬وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس‪ ،‬لم يروه‬
‫بأبصارهم‪ ،‬ولم يسمعوا كلمه بآذانهم‪ ،‬وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول‪ ،‬أو أنه إنما يعلمه إياه‬
‫بعض النس‪.‬‬

‫ل العباد أن الرسول الذي جاء به‪ ،‬ونعته أحسن النعت‪ ،‬وبين حاله أحسن البيان‪ ،‬وذلك كله إنما هو تشريف‬ ‫أخبر ا ّ‬
‫لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونفي عنه ما زعموه‪ ،‬وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتيه بالوحي‪ ،‬فقال‪ِ} :‬إّنُه‬
‫َلَقْوُل َرُسوٍل َكِريٍم{ ] التكوير‪ [19 :‬أي‪ :‬أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه‪ ،‬وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له‪،‬‬
‫فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه ـ فلما استقر حال‬


‫ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب‪ ،‬من القوة والمكنة‪ ،‬والمانة والقرب من ا ّ‬
‫الرسول الملكي‪ ،‬بين أنه من جهته وأنه ل يجىء إل بالخير‪.‬‬

‫وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم‪ ،‬وهو الذي يبلغهم الرسالة‪ ،‬ولول هؤلء لما أطاقوا الخذ عن الرسول‬
‫الملكي‪ ،‬وإنما قال‪} :‬صاحبكم{ إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك‪ ،‬ول سابقة له بما تقولون فيه وترمونه‪ ،‬من‬
‫الجنون والسحر وغير ذلك‪ ،‬وأنه لول سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الخذ عنه‪ ،‬أل تسمعه يقول‪َ}/ :‬وَلْو َ‬
‫جَعْلَناُه‬
‫ل{ ]النعام‪ [9 :‬ـ تمييًزا ـ من المرسلين‪ ،‬ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل‪ ،‬وأنه مؤتمن على ما يأخذه‬ ‫جً‬
‫جعَْلَناُه َر ُ‬
‫َمَلًكا ّل َ‬
‫عنه‪ ،‬فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين‪ ،‬وجاء على الوجه البلغ والكمل والصلح‪.‬‬

‫وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملئكة بالتسبيح‪ ،‬والطاعة‪ ،‬والعبادة وغير ذلك‪.‬‬

‫سه ذكرته في َنْفسي‪ ،‬ومن‬


‫ل ـ عز وجل ـ أنه قال‪) :‬من َذَكَرِني في َنْف ِ‬
‫الحجة السابعة‪ :‬الحديث المشهور الصحيح عن ا ّ‬
‫ذكرني في َمل ذكرته في َمل خير منه(‪.‬‬

‫ل الذاكر فيه‪ ،‬هم‪ :‬الملئكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من المل الذين يذكر العبد فيهم ربه‪،‬‬
‫والمل الذي يذكر ا ّ‬
‫ل فيه والرسول حاضر فيهم‪ ،‬بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم‪،‬‬ ‫وخير منهم‪ ،‬وقد قال بعضهم‪ :‬وكم من مل ذكر ا ّ‬
‫فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح؟!‬

‫الجواب‪ :‬أن هذا الحديث صحيح‪ ،‬وهو أجود وأقوى ما احتجوا به‪ ،‬وقد أجابوا عنه بوجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أضعف من الخر‪ ،‬وهو أن الخبر يجوز أن يرجع إلى الّذْكر‪ ،‬ل إلى المذكور فيهم‪ ،‬تقديره ذكرته ذكًرا خيًرا‬
‫ل كلمه‪ ،‬وهذا ليس بشيء‪ ،‬فإن الخبر مجرور صفة للمل‪ ،‬وقد وصل بقوله‪ :‬منهم‪ ،‬ولم يقل‪:‬‬ ‫من ذكره؛ لن ذكر ا ّ‬
‫منه‪ ،‬ولول ذلك المعنى لقيل‪ :‬ذكرته في مل خيًرا ‪/‬منه بالنصب‪ ،‬وصلة الضمير الذكر‪ .‬وهذا من أوضح الكلم لمن له‬
‫ل من التنطع‪.‬‬
‫فقه بالعربية ونعوذ با ّ‬

‫ل‪ ،‬كيف ل‪ ،‬والنبياء‬


‫وثانيهما‪ :‬أنه محمول على مل خير منه ليس فيهم نبي‪ ،‬فإن الحديث عام عموًما مقصوًدا شام ً‬
‫والولياء هم أهل الذكر‪ ،‬ومجالسهم مجالس الرحمة؟ فكيف يجيء استثناؤهم؟‬

‫لكن هنا أوجه متوجهة‪:‬‬

‫ل‪ .‬يقال‪:‬‬
‫ل من ذكره فيهم ـ هم صفوة الملئكة وأفضلهم‪ ،‬والذاكر فيهم للعبد هو ا ّ‬
‫أحدها‪ :‬أن المل العلى الذين يذكر ا ّ‬
‫ينبغى أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإن كان أفضل البشر‪،‬‬
‫لكن الذين حوله ليس أفضل من بقى من البشر الفضلء‪ ،‬فإن الرسل والنبياء‪ ،‬أفضل منهم‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ يذكر العبد في‬


‫وثانيها‪ :‬أن مجلس أهل الرض إن كان فيه جماعة من النبياء يذكر العبد فيهم ربه‪ ،‬فا ّ‬
‫جماعات من الملئكة أكثر من أولئك‪ ،‬فيقع الخير للكثرة التي ل يقوم لها شيء‪ ،‬فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيًرا‬
‫من القليل‪.‬‬

‫ل العبد فيهم؛ فإن أرواحهم هناك‪.‬‬


‫وثالثها‪ :‬أنه لعله في المل العلى جماعة من النبياء يذكر ا ّ‬
‫‪ /‬ورابعها‪ :‬أن من الناس من فرق بين الخير والفضل‪ ،‬فيقال‪ :‬الخير للنفع‪.‬‬

‫وخامسها‪ :‬أنه ل يدل على أن المل العلى أفضل من هؤلء الذاكرين إل في هذه الدنيا‪ ،‬وفي هذه الحال؛ لنهم لم‬
‫يكملوا بعد‪ ،‬ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من المل العلى‪ ،‬فالمل العلى خير منهم في هذه الحالة‪ ،‬كما يكون‬
‫الشيخ العاقل خيًرا من عامة الصبيان؛ لنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان‪ ،‬ولعل في الصبيان في عاقبته‬
‫أفضل منه بكثير‪ ،‬ونحن إنما نتكلم على عاقبة المر ومستقره‪.‬‬

‫ل ـ سبحانه ـ أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم‪ ،‬وأحكم في تدبيرهم‪ ،‬ول‬


‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫فليتدبر هذا‪ ،‬فإنه جواب معتمد إن شاء ا ّ‬
‫ل المستعان‪ ،‬وهو المسؤول أن يهدي‬
‫جلن‪ ،‬في حين من الزمان‪ ،‬وا ّ‬ ‫عْ‬‫ل‪ .‬هذا ما تيسر تعليقه وأنا َ‬
‫حول ول قوة إل با ّ‬
‫ل رب العالمين‪.‬‬ ‫قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا‪ ،‬والحمد ّ‬

‫ل ـ عن ]خديجة[ و]عائشة[ أمي المؤمنين‪ ،‬أيتهما أفضل ؟‬


‫سلم ـ رحَمه ا ّ‬
‫خ ال ْ‬
‫شي ُ‬
‫ل َ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬

‫جـاب‪:‬‬
‫فأ َ‬

‫بأن سبق خديجة‪ ،‬وتأثيرها في أول السلم‪ ،‬ونصرها‪ ،‬وقيامها في الدين‪ ،‬لم تشركها فيه عائشة‪ ،‬ول غيرها من‬
‫أمهات المؤمنين‪.‬‬

‫وتأثير عائشة في آخر السلم‪ ،‬وحمل الدين‪ ،‬وتبليغه إلى المة‪ ،‬وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة‪ ،‬ول‬
‫غيرها مما تميزت به عن غيرها‪.‬‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫سلم ـ َر ِ‬
‫لْ‬‫‪/‬وقال شيخ ا ِ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫وأفضل نساء هذه المة ]خديجة[‪ ،‬و]عائشة[‪ ،‬و]فاطمة[‪.‬‬

‫وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع‪ ،‬وتفصيل ليس هذا موضعه‪ .‬وخديجة وعائشة من أزواجه‪.‬‬

‫حا؛ لن أزواجه أكثر عدًدا‪ ،‬والفاضلة‬


‫فإذا قيل بهذا العتبار‪ :‬إن جملة ]أزواجه[ أفضل من جملة ]بناته[ كان صحي ً‬
‫فيهن أكثر من الفاضلة في بناته‪.‬‬

‫سلم‪:‬‬
‫خ الِ ْ‬
‫شْي ُ‬
‫‪/‬وقال َ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫وأما نساء النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم يقل‪ :‬إنهن أفضل من العشرة إل أبو محمد ابن حزم‪ ،‬وهو قول شاذ لم يسبقه‬
‫إليه أحد‪ ،‬وأنكره عليه من بلغه من أعيان العلماء‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة تبطل هذا القول‪.‬‬

‫وحجته التي احتج بها فاسدة؛ فإنه احتج على ذلك بأن المرأة مع زوجها في درجته في الجنة‪ ،‬ودرجة النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أعلى الدرجات فيكون أزواجه في درجته‪ ،‬وهذا يوجب عليه أن يكون أزواجه أفضل من النبياء جميعهم‪،‬‬
‫وأن تكون زوجة كل رجل من أهل الجنة أفضل ممن هو مثله‪ ،‬وأن يكون من يطوف على النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫من اِلوْلدان‪ ،‬ومن يزوج به من الحور الِعين أفضل من النبياء والمرسلين‪ ،‬وهذا كله مما َيْعَلم بطلنه عموُم المؤمنين‪.‬‬

‫ل الثريد على سائر‬ ‫ضِ‬‫ل عائشة على النساء َكف ْ‬‫ضُ‬


‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬ف ْ‬
‫ل من‬
‫الطعام( فإنما ذكر فضلها على النساء فقط‪ .‬وقد ثبت ‪/‬في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬كُم َ‬
‫ن من ذلك القليل‪.‬‬ ‫سَ‬
‫الرجال كثير‪ ،‬ولم يكمل من النساء إل عدد قليل‪ ،‬إما اثنتان أو أربع(‪ ،‬وأكثر أزواجه ل ْ‬
‫ل لتخذت أبا بكر‬
‫والحاديث المفضلة للصحابة كقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬
‫ل(‪ :‬يدل على أنه ليس في الرض أهل‪ ،‬ل من الرجال ول من النساء‪ ،‬أفضل عنده من أبي بكر‪ ،‬وكذلك ما ثبت‬ ‫خلي ً‬
‫في الصحيح عن على أنه قال‪ :‬خير هذه المة بعد نبيها أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬وما دل على هذا من النصوص التي ل‬
‫يتسع لها هذا الموضع‪.‬‬

‫وبالجملة‪ ،‬فهذا قول شاذ لم يسبق إليه أحد من السلف‪ ،‬وأبو محمد مع كثرة علمه وتبحره‪ ،‬وما يأتي به من الفوائد‬
‫العظيمة‪ ،‬له من القوال المنكرة الشاذة ما يعجب منه كما يعجب مما يأتي به من القوال الحسنة الفائقة‪ ،‬وهذا كقوله‪:‬‬
‫إن مريم نبية‪ ،‬وإن آسية نبية‪ ،‬وإن أم موسى نبية‪.‬‬

‫وقد ذكر القاضي أبو بكر‪ ،‬والقاضي أبو يعلى‪ ،‬وأبو المعالي‪ ،‬وغيرهم‪ :‬الجماع على أنه ليس في النساء نبية‪،‬‬
‫ك ِإّل ِرَجاًل ّنوِحي ِإَلْيِهم ّمْن َأْهِل اْلُقَرى{ ]يوسف‪،[109 :‬‬ ‫والقرآن والسنة َدل على ذلك‪ ،‬كما في قوله‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫سْلَنا ِمن َقْبِل َ‬
‫صّديَقٌة{ ]المائدة‪ ،[75 :‬ذكر أن غاية ما انتهت إليه أمه‬ ‫ل َوُأّمُه ِ‬ ‫سُ‬‫ت ِمن َقْبِلِه الّر ُ‬
‫خَل ْ‬
‫ل َقْد َ‬
‫سو ٌ‬
‫ل َر ُ‬
‫ن َمْرَيَم ِإ ّ‬
‫ح اْب ُ‬ ‫وقوله‪ّ} :‬ما اْلَم ِ‬
‫سي ُ‬
‫الصديقيُة‪ ،‬وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫سلم‪:‬‬
‫خ الِ ْ‬
‫شي ُ‬
‫ل َ‬
‫‪َ/‬وَقا َ‬

‫َفصـل‬

‫وأما أبو بكر والخضر‪ ،‬فهذا يبني على نبوة الخضر‪ .‬وأكثر العلماء على أنه ليس بنبي‪ ،‬وهو اختيار أبي علي بن أبي‬
‫موسى وغيره من العلماء‪ .‬فعلى هذا أبو بكر وعمر أفضل منه‪.‬‬

‫والقول الثاني‪ :‬أنه نبي‪ ،‬واختاره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره‪ .‬فعلى هذا هو أفضل من أبي بكر‪ ،‬لكن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم وعيسى ابن مريم هما أفضل منه بالتفاق‪ ،‬ومحمد في أول هذه المة وعيسى في آخرها‪.‬‬

‫ل عنهما ـ‬ ‫ل ـ عن رجلين اختلفا‪ .‬فقال أحدهما‪ :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر ابـن الخطاب ـ رضي ا ّ‬ ‫ل ـ َرحَمُه ا ّ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل عنه‪ .‬وقال الخر‪ :‬بل على بن أبي طالب أعلم‪ ،‬وأفقه من أبي بكر‬ ‫أعلم‪ ،‬وأفقه من على بن أبي طالب ـ رضي ا ّ‬
‫ضاُكم علي(‪ ،‬وقوله‪) :‬أنا مدينة‬
‫وعمر‪ ،‬فأي القولين أصوب؟ وهل هذان الحديثان‪ :‬وهما قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬أْق َ‬
‫العلم‪ ،‬وعلي بابها( صحيحان؟ وإذا كانا صحيحين‪ ،‬فهل فيهما دليل أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ رضي الّ‬
‫ل عنه ـ أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ‬ ‫عنهم أجمعين ؟ وإذا ادعى مدع‪ :‬أن إجماع المسلمين على أن عليا ـ رضي ا ّ‬
‫ل عنهم أجمعين ـ يكون محًقا أو مخطًئا؟‬ ‫رضي ا ّ‬

‫جــاب‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫ل‪ ،‬لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين‪ :‬أن علّيا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر‪ ،‬بل ول من أبي بكر‬
‫الحمد ّ‬
‫وحده‪ .‬ومدعي الجماع على ذلك من أجهل الناس‪ ،‬وأكذبهم بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا‬
‫بكر الصديق أعلم من علي‪ :‬منهم المام منصور بن عبد الجبار السمعاني‪ ،‬المروذي ـ أحد أئمة السنة من أصحاب‬
‫الشافعي ـ ذكر في كتابه‪[:‬تقويم الدلة على المام] ‪/‬إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي‪ .‬وما علمت أحًدا‬
‫من الئمة المشهورين ينازع في ذلك‪.‬‬

‫وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى ال عليه وسلم يفتي‪ ،‬ويأمر‪ ،‬وينهى‪ ،‬ويقضي‪ ،‬ويخطب؟! كما كان‬
‫يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى السلم‪ ،‬ولما هاجرا جميًعا‪ ،‬ويوم حنين‪ ،‬وغير ذلك من المشاهد‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم ساكت يقره على ذلك‪ ،‬ويرضى بما يقول‪ ،‬ولم تكن هذه المرتبة لغيره‪.‬‬

‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم في مشاورته لهل العلم‪ ،‬والفقه‪ ،‬والرأي من أصحابه‪ ،‬يقدم في الشورى أبا بكر‪،‬‬
‫وعمر‪ .‬فهما اللذان يتقدمان في الكلم‪ ،‬والعلم بحضرة الرسول عليه السلم على سائر أصحابه‪ ،‬مثل قصة مشاورته‬
‫في أسرى بدر‪ ،‬فأول من تكلم في ذلك أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وكذلك غير ذلك‪.‬‬
‫وقد روى في الحديث أنه قال لهما‪) :‬إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما( ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء‪،‬‬
‫وهو إحدى الروايتين عن أحمد ـ وهذا بخلف قول عثمان‪ ،‬وعلي‪.‬‬

‫وفي السنن عنه أنه قال‪ ) :‬اقتدوا باللذين من بعدي‪ :‬أبي بكر وعمر(‪ .‬ولم يجعل هذا لغيرهما‪ ،‬بل ثبت عنه أنه قال‪:‬‬
‫سّنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‪ ،‬تمسكوا بها‪ ،‬وعضوا عليها بالّنواجذ‪ ،‬وإياكم وُمحَْدثات‬
‫سّنِتي‪ ،‬و ُ‬
‫)عليكم ب ُ‬
‫‪/‬المور‪ ،‬فإن كل بدعة ضللة( فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين‪ .‬وهذا يتناول الئمة الربعة‪ .‬وخص أبا بكر وعمر‬
‫بالقتداء بهما‪ .‬ومرتبة المقتدي به في أفعاله‪ ،‬وفيما سنه للمسلمين‪ ،‬فوق سنة المتبع فيما سنه فقط‪ .‬وفي صحيح مسلم‬
‫أن أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال‪) :‬إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا(‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فإن لم يجد‬


‫ل‪ ،‬فإن لم يجد فبما سنه رسول ا ّ‬
‫وقد ثبت عن ابن عباس‪ :‬أنه كان يفتي من كتاب ا ّ‬
‫أفتى بقول أبي بكر وعمر؛ ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي‪ .‬و ]ابن عباس[ حبر المة‪ ،‬وأعلم الصحابة‪ ،‬وأفقههم في‬
‫زمانه‪ ،‬وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر‪ ،‬مقدًما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة‪ .‬وقد ثبت عن النبي صلى ال‬
‫علمه التأويل(‪.‬‬
‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬الّلهم فقهُه في الدين و َ‬

‫ضا فأبو بكر وعمر‪ ،‬كان اختصاصهما بالنبي صلى ال عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما‪ .‬وأبو بكر كان أكثر‬ ‫وأي ً‬
‫سُمُر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين‪ ،‬ومصالح المسلمين‪ .‬كما روى أبو بكر بن أبي‬
‫صا‪ .‬فإنه كان َي ْ‬
‫اختصا ً‬
‫ل صلى ال عليه وسلم يسمر‬ ‫عْلَقَمة عن عمر قال‪ :‬كان رسول ا ّ‬
‫شيبة‪ :‬حدثنا أبو معاوية عن العمش عن إبراهيم عن َ‬
‫عند أبي بكر في المر من أمور المسلمين وأنا معه‪.‬‬

‫سا فقراء؛ وأن النبي صلى ال عليه وسلم‬‫صّفة كانوا ‪/‬نا ً‬‫وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر‪ :‬أن أصحاب ال ّ‬
‫قال‪) :‬من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث‪ ،‬ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس‪ ،‬أو بسادس(‪ ،‬وأن أبا بكر‬
‫شى عند النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم لبث‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم بعشرة؛ وأن أبا بكر َتَع ّ‬ ‫جاء بثلثة‪ ،‬وانطلق نبي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء‬ ‫س رسول ا ّ‬‫حتى صليت العشاء‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬فلبث حتى َنَع َ‬
‫ل‪ .‬قالت امرأته‪ :‬ما حبسك عن أضيافك؟ قال‪ :‬أو ما عشيتهم؟ قالت‪ :‬أبوا حتى تجىء‪ .‬عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم‪.‬‬ ‫ا ّ‬
‫وذكر الحديث‪ .‬وفي رواية‪) :‬كان يتحدث إلى النبي صلى ال عليه وسلم إلى الليل(‪.‬‬

‫ن الناس علينا في‬


‫ن َأَم ّ‬
‫وفي سفر الهجرة لم يصحبه غير أبي بكر‪ ،‬ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره وقال‪ِ ) :‬إ ّ‬
‫ل لتخذت أبا بكر خليل(‪ .‬وهذا من أصح الحاديث‬ ‫حَبِته وذات يده أبو بكر‪ ،‬ولو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬
‫صْ‬‫ُ‬
‫المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة‪.‬‬

‫سا عند النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إذ أقبل أبو بكر آخًذا بطرف ثوبه‬ ‫وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال‪ :‬كنت جال ً‬
‫حتى أبدى عن ركبته‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬أما صاحبكم فقد غامر( فسلم‪ ،‬وقال‪ :‬إني كان بيني وبين ابن‬
‫ل لك ثلًثا( ثم إن عمر ندم‬ ‫ي‪ ،‬فأتيتك‪ .‬فقال‪) :‬يغفر ا ّ‬
‫الخطاب شيء فأسرعت إليه‪ ،‬ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عل ّ‬
‫ضب‬ ‫غ ِ‬‫فأتى منزل أبي بكر فلم يجده‪ ،‬فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى ال عليه وسلم َيَتَمّعر و َ‬
‫ل بعثني إليكم‪،‬‬‫ل‪ ،‬مرتين‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن ا ّ‬ ‫حتى ‪/‬أشفق أبو بكر‪ ،‬وقال‪ :‬أنا كنت أظلم يا رسول ا ّ‬
‫فقلتم‪ :‬كذبت وقال‪ :‬أبو بكر صدقت‪ ،‬وواساني بنفسه وماله‪ ،‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي‪ ،‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي(‪.‬‬
‫فما أوذي بعدها‪ .‬قال البخاري‪ :‬غامر‪ :‬سبق بالخير‪.‬‬

‫وفي الصحيحين عن ابن عباس قال‪ :‬وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون‪ ،‬ويثنون‪ ،‬ويصلون عليه قبل أن‬
‫يرفع؛ وأنا فيهم فلم يرعني إل رجل قد أخذ بَمْنِكبي من ورائي‪ ،‬فالتفت فإذا هو على‪ ،‬وترحم على عمر‪ ،‬وقال‪ :‬ما‬
‫ل مع صاحبيك‪ .‬وذلك‬‫ل‪ ،‬إن كنت لظن أن يجعلك ا ّ‬ ‫ل ـ عز وجل ـ بعمله منك‪ ،‬وايم ا ّ‬
‫خلفت أحًدا أحب إلى أن ألقي ا ّ‬
‫أني كنت كثيًرا ما أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬جئت أنا وأبوبكر وعمر‪ ،‬ودخلت أنا وأبوبكر وعمر‪،‬‬
‫ل معهما‪.‬‬
‫وخرجت أنا وأبوبكر وعمر(‪ ،‬فإن كنت أرجو‪ ،‬أو أظن أن يجعلك ا ّ‬

‫وفي الصحيحين وغيرهما‪ :‬أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان ـ لما أصيب المسلمون‪ :‬أفى القوم محمد؟ أفي القوم‬
‫محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬لتجيبوه(‪ .‬فقال‪ :‬أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن‬
‫أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تجيبوه(‪ .‬فقال‪ :‬أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي‬
‫القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تجيبوه(‪ .‬فقال لصحابه‪ :‬أما هؤلء‬
‫ل! إن الذين عددت لحياء‪ ،‬وقد بقى لك ما يسوؤك‪. . .‬‬
‫فقد ‪/‬كفيتموهم‪ .‬فلم يملك عمر نفسه أن قال‪ :‬كذبت عدو ا ّ‬
‫الحديث‪ .‬فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأبى بكر وعمر دون غيرهم؛ لعلمه‬
‫بأنهم رؤوس المسلمين‪ :‬النبي ووزيراه‪.‬‬

‫ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى ال عليه وسلم في حياته فقال‪ :‬منزلتهما منه في حياته‬
‫كمنزلتهما منه بعد مماته‪ .‬وكثرة الختصاص‪ ،‬والصحبة‪ ،‬مع كمال المودة‪ ،‬والئتلف‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والمشاركة في العلم‬
‫والدين‪ ،‬تقتضى أنهما أحق بذلك من غيرهما‪ .‬وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم‪.‬‬

‫صا‪.‬‬
‫صّديق‪ ،‬فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره ـ حتى بينها لهم ـ لم يحفظ له قول مخالف ن ً‬
‫أما ال ّ‬
‫هذا يدل على غاية البراعة‪ ،‬وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص؛ لكون تلك النصوص لم تبلغهم‪.‬‬

‫عَرف مسائل العلم‪ ،‬وأقوال العلماء‬‫ى‪ ،‬وهذا يعرفه من َ‬


‫والذي وجد من موافقة عمر للنصوص أكثر من موافقة عل ّ‬
‫فيها‪ .‬وذلك مثل‪ :‬نفقة المتوفى عنها زوجها‪ :‬فإن قول عمر هو الذي وافق النص‪ ،‬دون القول الخر‪ ،‬وكذلك ]مسألة‬
‫الحرام[ قول عمر‪ ،‬وغيره فيها‪ ،‬هو الشبه بالنصوص من القول الخر‪ ،‬وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال‬
‫حّدُثون‪ ،‬فإن يكن في أمتي أحد فعمر(‪ .‬وفي الصحيحين عن النبي صلى‬ ‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬قد كان في المم ‪/‬قبلكم ُم َ‬
‫ي يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي‬ ‫ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لرى الّر ّ‬
‫ل؟ قال‪) :‬العلم( ]ُمحّدثون‪ :‬أي ملهمون‪ .‬والمْلَهم‪ :‬هو الذي يلقى في نفسه الشيء‬‫عمر( فقالوا‪ :‬ما أّوْلَته يا رسول ا ّ‬
‫سا وِفراسة‪ ،‬وهو نوع يختص به ال عز وجل من يشاء من عباده[ وفي الترمذي وغيره أنه قال‪) :‬لو لم‬ ‫فيخبر به حْد ً‬
‫ث عمر(‪.‬‬ ‫ث فيكم لُبِع َ‬
‫ُأْبَع ْ‬

‫ق استخلفه النبي صلى ال عليه وسلم على ]الصلة[ التي هي عمود السلم‪ ،‬وعلى إقامة‬ ‫صّدي َ‬
‫ضا فإن ال ّ‬
‫وأي ً‬
‫]المناسك[ التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها‪ ،‬وأقام المناسك قبل أن يحج النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فنادى أل‬
‫عْرَيان‪ ،‬فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين‪ ،‬فلما لحقه‬
‫يحج بعد العام مشرك‪ ،‬ول يطوف بالبيت ُ‬
‫ي بن أبي طالب‪ ،‬وكان علي ممن أمره النبي صلى ال‬ ‫قال‪ :‬أمير‪ ،‬أو مأمور؟ قال‪ :‬بل مأمور‪ .‬فأمر أبا بكر على عل ّ‬
‫عليه وسلم أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين‪ ،‬وغير ذلك لبي بكر‪ ،‬وكان هذا بعد غزوة تبوك التي‬
‫استخلف علًيا فيها على المدينة‪ ،‬ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال إل منافق‪ ،‬أو معذور‪ ،‬أو مذنب‪ ،‬فلحقه على فقال‪:‬‬
‫أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال‪) :‬أما ترضى أن تكون ِمّني بمنزلة هارون من موسى؟(‪.‬‬

‫ى على المدينة ل يقتضى نقص المرتبة؛ فإن موسى قد استخلف هارون‪ ،‬وكان النبي صلى‬ ‫بين بذلك أن استخلف عل ّ‬
‫ل‪ ،‬لكن كان يكون بها رجال‪ .‬وعام تبوك خرج النبي صلى ال عليه وسلم بجميع‬ ‫ال عليه وسلم دائما يستخلف رجا ً‬
‫ل سورة براءة‪.‬‬
‫المسلمين ولم يأذن لحد في التخلف عن الغزاة؛ لن العدو كان شديًدا‪ ،‬والسفر ‪ /‬بعيًدا‪ ،‬وفيها أنزل ا ّ‬

‫وكتاب أبي بكر في الصدقات أجمع الكتب وأوجزها؛ ولهذا عمل به عامة الفقهاء‪ .‬وكتاب غيره فيه ما هو متقدم‬
‫منسوخ‪ ،‬فدل ذلك على أنه أعلم بالسنة الناسخة‪ .‬وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال‪ :‬وكان أبو بكر أعلمنا برسول ا ّ‬
‫ل‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إل فصـلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع‪ ،‬فل‬ ‫وأي ً‬
‫يعرف بينهم في زمانه مسألة واحـدة تنازعوا فيها إل ارتفع النزاع بينهم بسببه‪ ،‬كتنازعهم في وفاته صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ومدفنه‪ ،‬وفي ميراثه‪ ،‬وفي تجهيز جيش أسامة‪ ،‬وقتال مانعي الزكاة‪ ،‬وغير ذلك من المسائل الكبار‪ ،‬بل كان‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فيهم‪ :‬يعلمهم‪ ،‬وُيَقّومهم‪ ،‬ويبين لهم ما تزول معه الشبهة‪ ،‬فلم يكونوا معه‬
‫خليفة رسول ا ّ‬
‫يختلفون‪.‬‬

‫وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله؛ فصاروا يتنازعون في بعض المسائل‪ .‬كما تنازعوا في الجدّ‬
‫والخوة‪ ،‬وفي الحرام‪ ،‬وفي الطلق الثلث‪ ،‬وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على‬
‫عهد أبي بكر‪ ،‬وكانوا يخالفون عمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلًيا في كثير من أقوالهم‪ ،‬ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء‬
‫مما كان يفتى فيه ويقضى‪ .‬وهذا يدل على غاية العلم‪.‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأقام السلم؛ فلم يخل بشيء منه‪ ،‬بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا‬ ‫وقام مقام رسول ا ّ‬
‫منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم‪ ،‬وكثرة الخاذلين‪ ،‬فكمل به من علمهم ودينهم ما ل يقاومه فيه ‪/‬أحد‪،‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ .‬ثم بعد هذا سموا عمر وغيره‬ ‫حتى قام الدين كما كان‪ .‬وكانوا يسمون أبا بكر خليفة رسول ا ّ‬
‫ل َمَعَنا{ ]التوبة‪ [40 :‬في أبي بكر‪ :‬في‬
‫نا ّ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫حَز ْ‬ ‫أمير المؤمنين‪ .‬قال السهيلي وغيره من العلماء‪ :‬ظهر قوله‪َ } :‬‬
‫ل َت ْ‬
‫ل‪ ،‬ثم انقطع هذا التصال اللفظي‬ ‫ل وأبو بكر خليفة رسول ا ّ‬ ‫اللفظ‪ ،‬كما ظهر في المعنى فكانوا يقولون‪ :‬محمد رسول ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫بموته‪ ،‬فلم يقولوا لمن بعده‪ :‬خليفة رسول ا ّ‬

‫ضا فعلي بن أبي طالب تعّلم من أبي بكر بعض السنة؛ بخلف أبي بكر‪ ،‬فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب‪ ،‬كما‬‫وأي ً‬
‫في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلة التوبة عن علي قال‪ :‬كنت إذا سمعت من النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل منه بما شاء أن ينفعني‪ ،‬فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته‪ ،‬وحدثني أبو بكر ـ وصدق‬
‫حديثا ينفعني ا ّ‬
‫أبو بكر ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما من مسلم يذنب ذنًبا ثم يتوضأ وُيحسن الوضوء ويصلي ركعتين‬
‫ل له(‪.‬‬
‫ل‪ ،‬إل غفر ا ّ‬
‫ويستغفر ا ّ‬

‫شرْيح القاضي‪ ،‬وغيرهم‪،‬‬


‫ومما يبين لك هذا أن أئمة علماء الكوفة‪ :‬الذين صحبوا عمر وعليا كعلقمة‪ ،‬والسود‪ ،‬و ُ‬
‫كانوا يرجحون قول عمر على قول علي‪ .‬وأما تابعو أهل المدينة ومكة والبصرة‪ ،‬فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن‬
‫ُيْذكر‪ ،‬وإنما الكوفة ظهر فيها فقه على وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلفته‪.‬‬

‫ي الذين صحبوه ل يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر ‪/‬وعمر‪ ،‬ل في فقه‪ ،‬ول علم‪ ،‬ول‬ ‫وكل شيعة عل ّ‬
‫غيرهما؛ بل كل شيعته‪ ،‬الذين قاتلوا معه عدوه‪ ،‬كانوا مع سائر المسلمين‪ ،‬يقدمون أبا بكر وعمر‪ ،‬إل من كان عل ّ‬
‫ي‬
‫ي وخمولهم‪ ،‬كانوا ثلث طوائف‪:‬‬ ‫ينكر عليه ويذمه‪ ،‬مع قلتهم في عهد عل ّ‬

‫ى بالنار‪.‬‬
‫طائفة غلت فيه‪ ،‬كالتي ادعت فيه اللهية‪ ،‬وهؤلء حرقهم عل ّ‬

‫ل بن سبأ‪ ،‬فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله‪ ،‬فهرب منه‪.‬‬


‫ب أبا بكر‪ ،‬وكان رأسهم عبد ا ّ‬
‫س ّ‬
‫وطائفة كانت َت ُ‬

‫ضُله على أبي بكر وعمر‪ ،‬قال‪ :‬ل يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إل جلدته حد‬ ‫وطائفة كانت ُتَف ّ‬
‫المفتري‪ .‬وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة‪ :‬خير هذه المة بعد نبيها أبو بكر‬
‫وعمر‪ .‬وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية رجال َهْمَدان خاصة ـ التي يقول فيها علي‪:‬‬

‫ولو كنت بواًبا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلم‬

‫من رواية سفيان الثوري عن ُمْنِذر الثوري وكلهما من همدان‪ .‬رواه البخاري عن محمد بن كثير‪ .‬قال‪ :‬حدثنا سفيان‬
‫شّداد‪ ،‬حدثنا أبو يعلى منذر الثوري‪ ،‬عن محمد ابن الحنفية قال‪ :‬قلت لبي‪ :‬يا أبت‪ ،‬من خير‬ ‫الثوري حدثنا جامع بن َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ؟ فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬أو ما تعرف ؟! فقلت‪ :‬ل‪ .‬فقال‪ :‬أبو بكر‪ .‬قلت‪ :‬ثم من ؟ قال‪:‬‬‫الناس بعد رسول ا ّ‬
‫ثم عمر‪.‬‬

‫‪/‬وهذا يقوله لبنه‪ ،‬الذي ل يتقيه‪ ،‬ولخاصته‪ ،‬ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما‪ .‬والمتواضع ل يجوز له أن يتقدم بعقوبة‬
‫كل من قال الحق‪ ،‬ول يجوز أن يسميه مفترًيا‪ .‬ورأس الفضائل العلم‪ ،‬وكل من كان أفضل من غيره من النبياء‬
‫ب{‬
‫لْلَبا ِ‬
‫ن ِإّنَما َيَتَذّكُر ُأْوُلوا ا َْ‬
‫ل َيْعَلُمو َ‬
‫ن َ‬
‫ن َواّلِذي َ‬
‫ن َيْعَلُمو َ‬
‫سَتِوي اّلِذي َ‬
‫ل َي ْ‬
‫والصحابة وغيرهم‪ ،‬فإنه أعلم منه‪ ،‬قال تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫]الزمر‪ ،[9 :‬والدلئل على ذلك كثيرة‪ ،‬وكلم العلماء في ذلك كثير‪.‬‬

‫ي(‪ ،‬لم يروه أحد من أهل الكتب الستة‪ ،‬ول أهل المسانيد المشهورة‪ ،‬ل أحمد‪ ،‬ول غيره بإسناد‬
‫وأما قوله‪) :‬أقضاكم عل ّ‬
‫ي أقرؤنا‪ ،‬وعل ّ‬
‫ي‬ ‫صحيح ول ضعيف‪ ،‬وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب‪ ،‬ولكن قال عمر بن الخطاب‪ :‬أب ّ‬
‫أقضانا‪ ،‬وهذا قاله بعد موت أبي بكر‪.‬‬

‫والذي في الترمذي وغيره أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬أعلم أمتي بالحلل والحرام معاذ بن جبل‪ ،‬وأعلمها‬
‫ي‪ ،‬والحديث الذي فيه ذكر علي ـ مع ضعفه ـ فيه أن معاذ بن جبل أعلم‬
‫بالفرائض زيد بن ثابت( وليس فيه ذكر عل ّ‬
‫بالحلل والحرام‪ ،‬وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض‪ .‬فلو قدر صحة هذا الحديث‪ ،‬لكان العلم بالحلل والحرام أوسع‬
‫علًما من العلم بالقضاء؛ لن الذي يختص بالقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الباطن‬
‫ي‪ ،‬ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‪،‬‬ ‫بخلفه كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنكم تختصمون إل ّ‬
‫وإنما أقضي بنحو ما أسمع‪ .‬فمن قضيت له من حق أخيه شيًئا فل يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار( فقد أخبر سيد‬
‫القضاة أن قضاءه ‪/‬ل يحل الحرام‪ ،‬بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضائه ما قضى له به من حق الغير‪ .‬وعلم الحلل‬
‫والحرام يتناول الظاهر والباطن‪ :‬فكان العلم به أعلم بالدين‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فالقضاء نوعان‪:‬‬


‫وأي ً‬

‫صَمين‪ ،‬مثل‪ :‬أن يدعي أحدهما أمًرا يكذبه الخر فيه فيحكم فيه بالبينة ونحوها‪.‬‬
‫خ ْ‬
‫حد ال َ‬
‫جا ُ‬
‫أحدهما‪ :‬الحكم عند َت َ‬

‫والثاني‪ :‬ما ل يتجاحدان فيه ـ يتصادقان ـ ولكن ل يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسم فريضة‪ ،‬أو فيما‬
‫يجب لكل من الزوجين على الخر‪ ،‬أو فيما يستحقه كل من الشريكين‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬

‫فهذا الباب هو من أبواب الحلل والحرام‪ ،‬فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك‪ ،‬ولم يحتاجا إلى من يحكم‬
‫بينهما‪ ،‬وإنما يحتاجان إلى حاكم عند التجاحد‪ ،‬وذاك إنما يكون في الغلب مع الفجور‪ ،‬وقد يكون مع النسيان؛ فأما‬
‫الحلل والحرام فيحتاج إليه كل أحد من َبّر وفاجر‪ ،‬وما يختص بالقضاء ل يحتاج إليه إل قليل من البرار‪.‬‬

‫حْولً لم يتحاكم اثنان في شيء‪ ،‬ولو عّد مجموع ما قضى‬


‫ولهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس‪ ،‬مكث َ‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات‪ ،‬فأين هذا من كلمه في الحلل والحرام الذي هو قَوام‬
‫دين السلم يحتاج إليه الخاص والعام‪.‬‬

‫‪/‬وقوله‪) :‬أعلمهم بالحلل والحرام معاذ بن جبل( أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله‪) :‬أقضاكم علي( لو‬
‫ظهر دللة‪ ،‬علم أن المحتج بذلك ـ على أن عليا أعلم من معاذ بن‬
‫كان مما يحتج به‪ ،‬وإذا كان ذلك أصح إسناًدا‪ ،‬وأ ْ‬
‫جبل ـ جاهل ـ فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ بن جبل؟! مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد‬
‫يضعفه بعضهم‪ ،‬ويحسنه بعضهم‪ .‬وأما الحديث الذي فيه ذكر على فإنه ضعيف‪.‬‬

‫وأما حديث‪) :‬أنا مدينة العلم( فأضعف وأوهى؛ ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات‪ ،‬وإن كان الترمذي قد‬
‫رواه؛ ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات‪ ،‬وبين أنه موضوع من سائر طرقه‪.‬‬

‫والكذب يعرف من نفس َمْتِنه‪ ،‬ل يحتاج إلى النظر في إسناده‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم إذا كان )مدينة العلم( لم‬
‫يكن لهذه المدينة إل باب واحد‪ ،‬ول يجوز أن يكون المبلغ عنه واحًدا‪ ،‬بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين‬
‫يحصل العلم بخبرهم للغائب‪ ،‬ورواية الواحد ل تفيد العلم إل مع قرائن‪ ،‬وتلك القرائن إما أن تكون منتفية؛ وإما أن‬
‫تكون خفية عن كثير من الناس‪ ،‬أو أكثرهم فل يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة‪ ،‬بخلف النقل المتواتر‪،‬‬
‫الذي يحصل به العلم للخاص والعام‪.‬‬

‫حا‪ ،‬وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين ـ إذا لم يبلغه إل‬
‫وهذا الحديث إنما افتراه زنديق‪ ،‬أو جاهل‪ ،‬ظنه مد ً‬
‫واحد من الصحابة‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم من‬ ‫‪ /‬ثم إن هذا خلف المعلوم بالتواتر‪ ،‬فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول ا ّ‬
‫غير طريق على ـ رضى ال عنه ـ أما أهل المدينة ومكة فالمر فيهم ظاهر‪ ،‬وكذلك أهل الشام والبصرة‪ ،‬فإن هؤلء‬
‫ل‪ ،‬وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة‪ ،‬ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن‬
‫لم يكونوا يروون عن على إل شيًئا قلي ً‬
‫والسنة قبل أن يتولى عثمان‪ ،‬فضل عن خلفة علي‪.‬‬

‫وكان أفقه أهل المدينة‪ ،‬وأعلمهم‪ ،‬تعلموا الدين في خلفة عمر‪ ،‬وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيًئا إل من تعلم‬
‫منه لما كان باليمن‪ ،‬كما تعلموا ـ حينئذ ـ من معاذ ابن جبل‪ .‬وكان مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن وتعليمه لهم أكثر‬
‫شَرْيح وغيره من أكابر التابعين‬
‫من مقام علي وتعليمه؛ ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ أكثر مما رووه عن على‪ ،‬و ُ‬
‫إنما تفقهوا على معاذ‪.‬‬

‫حا وعبيدة السلماني‪،‬‬


‫ي وجد على القضاء في خلفته شري ً‬
‫ولما قدم علي الكوفة كان شريح قاضيا فيها قبل ذلك‪ .‬وعل ّ‬
‫وكلهما تفقه على غيره‪.‬‬

‫فإذا كان علم السلم انتشر في مدائن السلم بالحجاز‪ ،‬والشام‪ ،‬واليمن‪ ،‬والعراق‪ ،‬وخراسان‪ ،‬ومصر‪ ،‬والمغرب قبل‬
‫أن يقدم إلى الكوفه‪ ،‬ولما صار إلى الكوفة عامة ما بلغة من العلم بلغه غيره من الصحابة‪ ،‬ولم يختص على بتبليغ‬
‫شيء من العلم إل وقد اختص غيره بما هو أكثر منه‪.‬‬

‫‪ /‬فالتبليغ العام الحاصل بالولية‪ ،‬حصل لبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي‪.‬‬

‫وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتًيا منه‪ ،‬وأبو هريرة أكثر رواية منه‪ ،‬وعلي أعلم منهما‪ ،‬كما أن أبا بكر وعمر‬
‫ضا ـ فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ‬
‫وعثمان أعلم منهما ـ أي ً‬
‫بعض العلم الخاص‪.‬‬

‫وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل‪ ،‬وقد ثبت عنه في‬
‫ل صلى ال عليه وسلم شيء؟ فقال‪ :‬ل والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إل‬ ‫الصحيح أنه قيل له‪ :‬هل عندكم من رسول ا ّ‬
‫ل عبًدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها عقول الديات ـ أي‪ :‬أسنان البل التي تجب فيه الدية ـ‬
‫فهما يؤتية ا ّ‬
‫وفيها فكاك السير‪ ،‬وفيها‪ :‬ل يقتل مسلم بكافر‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم شيًئا لم يعهده إلى الناس؟ فنفى ذلك‪ .‬إلى غير ذلك من‬
‫وفي لفظ‪ :‬هل عهد إليكم رسول ا ّ‬
‫الحاديث عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي صلى ال عليه وسلم خصه بعلم فقد كذب عليه‪.‬‬

‫وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي صلى ال عليه وسلم فأورثه علم الولين والخرين‪ ،‬من أقبح الكذب‬
‫البارد‪ ،‬فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع‪ ،‬ول شرب علي شيًئا‪ ،‬ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من‬
‫حضر‪ .‬ولم يرو هذا أحد من أهل العلم‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك ما يذكر‪ :‬أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وغيرهما‪ ،‬فهذا من مقالت الملحدة‬
‫الباطنية‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬الذين هم أكفر منهم‪ ،‬بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬كالذين يعتقدون إلهيته‪،‬‬
‫ونبوته‪ ،‬وأنه كان أعلم من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنه كان معلًما للنبي صلى ال عليه وسلم في الباطن‪ ،‬ونحو‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬
‫هذه المقالت‪ ،‬التي إنما يقولها الغلة في الكفر واللحاد‪ .‬وا ّ‬

‫ي‪،‬‬
‫ل َتَعاَلى ـ عن رجل متمسك بالسنة ويحصل له ريبة في تفضيل الثلثة على عل ّ‬ ‫سلم ـ رحمُه ا ُّ‬ ‫خ ال ْ‬‫شي ُ‬
‫ل َ‬ ‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫لقوله ـ عليه السلم ـ له‪) :‬أنت مني وأنا منك(‪ ،‬وقوله‪) :‬أنت مني بمنزلة هارون من موسى(‪ ،‬وقوله‪) :‬لعطين الراية‬
‫ي موله(‪) ،‬اللهم وال من واله وعاد من عاداه‪. . .‬‬ ‫ل ورسوله‪ . . .‬إلخ ( وقوله‪) :‬من كنت موله فعل ّ‬ ‫رجل يحب ا ّ‬
‫ل في أهل بيتي(‪ ،‬وقوله سبحانه‪َ} :‬فُقْل َتَعاَلْوْا َنْدُع َأْبَناءَنا َوَأْبَناءُكْم{ الية ]آل عمران‪ [61 :‬وقوله‬ ‫إلخ( ‪ ،‬وقوله‪) :‬أذّكرُكم ا ّ‬
‫صُموا ِفي َرّبِهْم{ الية ]الحج‪.[19 :‬‬
‫خَت َ‬ ‫نا ْ‬ ‫صَما ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن{ الية]النسان‪ ،[1 :‬وقوله‪َ}:‬هَذا ِ‬‫سا ِ‬
‫لن َ‬
‫عَلى ا ِْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬ه ْ‬
‫ل َأَتى َ‬

‫ب‪:‬‬
‫جــا َ‬
‫َفأ َ‬

‫ل‪ :‬أن التفضيل إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما ل يوجد مثله للمفضول‪ ،‬فإذا استويا وانفرد أحدهما‬
‫يجب أن يعلم أو ً‬
‫بخصائص كان أفضل‪ ،‬وأما المور المشتركة فل توجب تفضيله على غيره‪.‬‬

‫ل عنه ـ التي تميز بها لم يشركه ‪/‬فيها غيره‪ ،‬وفضائل عليّ مشتركة‪،‬‬
‫وإذا كان كذلك‪ ،‬ففضائل الصديق ـ رضي ا ّ‬
‫خة إل‬
‫وذلك أن قوله‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل الرض خليل لتخذت أبا بكر خليل(‪ ،‬وقوله‪) :‬ل يبقى في المسجد خَْو َ‬
‫ن الناس على في صحبته وذات يده أبو بكر( وهذا فيه ثلث خصائص لم‬ ‫خة أبي بكر( وقوله‪) :‬إن أَم ّ‬
‫خْو َ‬
‫ت‪ ،‬إل َ‬
‫سّد ْ‬
‫ُ‬
‫يشركه فيها أحد‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أنه ليس لحد منهم عليه في صحبته وماله مثل ما لبي بكر‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬قوله‪) :‬ل يبقى في المسجد‪ . . .‬إلخ(‪ ،‬وهذا تخصيص له دون سائرهم‪ ،‬وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي‬
‫مثل ذلك‪ ،‬والصحيح ل يعارضه الموضوع‪.‬‬

‫خّلة لو أمكنت إل هو‪ ،‬ولو كان غيره‬


‫ل( نص في أنه ل أحد من البشر استحق ال ُ‬
‫الثالثة‪ :‬قوله‪) :‬لو كنت متخًذا خلي ً‬
‫أفضل منه لكان أحق بها لو تقع‪.‬‬

‫وكذلك أمره له أن يصلي بالناس مدة مرضه من الخصائص‪ ،‬وكذلك تأميره له في المدينة على الحج؛ ليقيم السنة‬
‫ويمحق آثار الجاهلية فإنه من خصائصه‪ ،‬وكذلك قوله في الحديث الصحيح‪) :‬ادع أباك وأخاك حتى أكتب لبي بكر‬
‫كتاًبا( وأمثال هذه الحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه‪ .‬وأما قوله‪(:‬أنت مني وأنا منك(‪ ،‬فقد قالها‬
‫ل ِإّنُهْم َلِمنُكمْ َوَما ُهم ّمنُكْم{ ]التوبة‪ ،[56:‬وقوله صلى ال‬
‫ن ِبا ّ‬ ‫لغيره وقالها لسلمان والشعريين‪ .‬وقال تعالى‪َ} :‬وَي ْ‬
‫حِلُفو َ‬
‫شَنا فليس منا‪ ،‬ومن حمل علينا السلح فليس منا(‪ ،‬يقتضي أن من يترك ‪/‬هذه الكبائر يكون منا‪ ،‬فكل‬ ‫غّ‬
‫عليه وسلم‪):‬من َ‬
‫مؤمن كامل اليمان فهو من النبي والنبي منه‪ ،‬وقوله في ابنة حمزة‪) :‬أنت مني وأنا منك( وقوله لزيد‪) :‬أنت أخونا‬
‫ومولنا( ل يختص بزيد‪ ،‬بل كل مواليه كذلك‪.‬‬

‫وكذلك قوله‪ ):‬لعطين الراية‪...‬إلخ (‪.‬هو أصح حديث يروى في فضله‪ ،‬وزاد فيه بعض الكذابين‪ :‬أنه أخذها أبو بكر‬
‫وعمر فهربا‪ ،‬وفي الصحيح أن عمر قال‪ :‬ما أحببت المارة إل يومئذ‪ ،‬فهذا الحديث رد على الناصبة الواقعين في‬
‫ل ورسوله‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬‫ل ورسوله‪ ،‬ويحبه ا ّ‬
‫على‪ ،‬وليس هذا من خصائصه‪ ،‬بل كل مؤمن كامل اليمان يحب ا ّ‬
‫ل ِبَقْوٍم ُيِحّبُهْم َوُيِحّبوَنُه{ ]المائدة‪ ،[54:‬وهم الذين قاتلوا أهل الردة وإمامهم أبو بكر‪ ،‬وفي الصحيح‪ :‬أنه‬
‫ف َيْأِتي ا ّ‬
‫سْو َ‬
‫}َف َ‬
‫سأله‪ :‬أي الناس أحب إليك؟ قال‪) :‬عائشة(‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪) :‬أبوها(‪ ،‬وهذا من خصائصه‪.‬‬

‫ضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى( قاله في غزوة تبوك لما استخلفه على المدينة‪ ،‬فقيل‪:‬‬ ‫وأما قوله‪) :‬أما َتْر َ‬
‫ل من أمته‪ ،‬وكان بالمدينة رجال من‬
‫استخلفه لبغضه إياه‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا غزا استخلف رج ً‬
‫المؤمنين القادرين‪ ،‬وفي غزوة تبوك لم يأذن لحد فلم يتخلف أحد إل لعذر‪ ،‬أو عاص‪ .‬فكان ذلك الستخلف ضعيًفا‬
‫فطعن به المنافقون بهذا السبب‪ ،‬فبين له‪ :‬أني لم أستخلفك لنقص عندي‪ ،‬فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في‬
‫الرسالة‪ ،‬أفما ترضى بذلك؟ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله وكانوا منه بهذه ‪/‬المنزلة‪ ،‬فلم يكن هذا من خصائصه‪ ،‬ولو‬
‫ي ولحقه يبكي‪.‬‬
‫كان هذا الستخلف أفضل من غيره لم يخف على عل ّ‬

‫ومما بين ذلك‪ :‬أنه بعد هذا أّمر عليه أبا بكر سنة تسع‪ ،‬وكونه بعثه لنبذ العهود ليس من خصائصه؛ لن العادة لما‬
‫جرت أنه ل ينبذ العهود ول يعقدها إل رجل من أهل بيته‪ ،‬فأي شخص من عترته نبذها حصل المقصود‪ ،‬ولكنه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم فكان أحق الناس بالتقدم من سائرهم‪ ،‬فلما أّمر أبا بكر بعد قوله‪:‬‬
‫أفضل بني هاشم بعد رسول ا ّ‬
‫)أما ترضى‪...‬إلخ(‪ ،‬علمنا أنه ل دللة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه‪ ،‬وإنما شبهه به في الستخلف‬
‫خاصة‪ ،‬وذلك ليس من خصائصه‪.‬‬

‫وقد شبه النبي صلى ال عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم وعيسى‪ ،‬وشبه عمر بنوح وموسى ـ عليهم الصلة والسلم ـ لما‬
‫أشارا في السرى‪ ،‬وهذا أعظم من تشبيه على بهارون‪ ،‬ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل‪ ،‬وتشبيه الشىء‬
‫بالشىء ـ لمشابهته في بعض الوجوه ـ كثير في الكتاب والسنة وكلم العرب‪.‬‬

‫وأما قوله‪) :‬من كنت موله فعلي موله‪ ،‬اللهم وال من واله‪ ...‬إلخ( فهذا ليس في شىء من المهات؛ إل في الترمذي‪،‬‬
‫وليس فيه إل‪) :‬من كنت موله فعلى موله(‪ ،‬وأما الزيادة فليست في الحديث‪ .‬وسئل عنها المام أحمد فقال‪ :‬زيادة‬
‫كوفية‪ ،‬ول ريب أنها كذب لوجوه‪:‬‬

‫‪/‬أحدها‪ :‬أن الحق ل يدور مع ُمَعّين إل النبي صلى ال عليه وسلم ؛ لنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال‪،‬‬
‫ومعلوم أن علًيا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل وجد فيها النص يوافق من نازعه؛ كالمتوفى عنها زوجها وهي‬
‫حامل‪.‬‬
‫صّفين[ فما انتصروا‪ ،‬وأقوام لم يقاتلوا‬
‫وقوله‪ ) :‬اللهم انصر من نصره‪ ...‬إلخ (‪ ،‬خلف الواقع‪ ،‬قاتل معه أقوام يوم [ ِ‬
‫فما خذلوا ]كسعد[ الذي فتح العراق لم يقاتل معه‪ ،‬وكذلك أصحاب معاوية‪ ،‬وبني أمية الذين قاتلوه‪ ،‬فتحوا كثيًرا من‬
‫ل‪.‬‬
‫بلد الكفار ونصرهم ا ّ‬

‫وكذلك قوله‪) :‬الّلهم وال من واله وعاد من عاداه( مخالف لصل السلم ؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع‬
‫قتالهم وبغي بعضهم على بعض‪ .‬وقوله‪) :‬من كنت موله فعلي موله ( فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري‬
‫صا بها‪ ،‬بل ولية مشتركة‪ ،‬وهي ولية اليمان التي‬ ‫وغيره‪ ،‬ومنهم من حسنه‪ ،‬فإن كان قاله فلم يرد به ولية مخت ً‬
‫للمؤمنين‪ ،‬والموالة ضد المعاداة‪ ،‬ول ريب أنه يجب موالة المؤمنين على سواهم‪ ،‬ففيه رد على النواصب‪.‬‬

‫وحديث)التصدق بالخاتم في الصلة( كذب باتفاق أهل المعرفة‪ ،‬وذلك مبين بوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا‬
‫الموضع‪.‬‬

‫ل في أهل بيتي( ‪ ،‬فليس من الخصائص ‪/‬بل هو مساو لجميع أهل البيت‪ ،‬وأبعد‬ ‫خّم‪) :‬أذكركم ا ّ‬
‫غِديَر ُ‬
‫وأما قوله‪ :‬يوم َ‬
‫الناس عن هذه الوصية الرافضة‪ ،‬فإنهم يعادون العباس وذريته؛ بل يعادون جمهور أهل البيت ويعينون الكفار عليهم ‪.‬‬

‫وأما آية ]المباهلة[ فليست من الخصائص‪ ،‬بل دعا علًيا وفاطمة وابنيهما‪ ،‬ولم يكن ذلك لنهم أفضل المة‪ ،‬بل لنهم‬
‫س وطهرهم تطهيًرا(‪.‬‬
‫ج َ‬
‫أخص أهل بيته‪ ،‬كما في حديث الكساء‪) :‬الّلهم هؤلء أهل بيتي فأذهب عنهم الّر ْ‬

‫ت ِبَأنُفِسِهْم َخْيًرا { ]النور‪،[12:‬‬


‫ن َواْلُمْؤِمَنا ُ‬
‫ن اْلُمْؤِمُنو َ‬‫فدعا لهم وخصهم‪ .‬و]النفس[ يعبر عنها بالنوع الواحد‪ ،‬كقوله‪َ } :‬‬
‫ظّ‬
‫ضا‪ ،‬وقوله‪) :‬أنت ِمّني وأنا منك( ليس المراد أنه من ذاته‪،‬‬ ‫وقال‪َ} :‬فاْقُتُلوْا َأنُفَسُكْم { ]البقرة‪ [54:‬أي‪ :‬يقتل بعضكم بع ً‬
‫ولريب أنه أعظم الناس قدًرا من القارب‪ ،‬فله من مزية القرابة واليمان ما ل يوجد لبقية القرابة فدخل في ذلك‬
‫المباهلة‪ ،‬وذلك ل يمنع أن يكون في غير القارب من هو أفضل منه؛ لن المباهلة وقعت في القارب‪ ،‬وقوله‪َ} :‬هَذا ِ‬
‫ن‬
‫صَماِن‪ {...‬الية]الحج‪ ،[19:‬فهي مشتركة بين علي‪ ،‬وحمزة‪ ،‬وعبيدة‪ ،‬بل وسائر البدريين يشاركونهم فيها‪.‬‬ ‫خ ْ‬‫َ‬

‫وأما سورة‪َ} :‬هْل َأَتى َعَلى اِْلنَساِن{ ]سورة النسان[ فمن قال‪ :‬إنها نزلت فيه وفي فاطمة وابنيهما فهذا كذب؛ لنها‬
‫مكية والحسن والحسين إنما ولدا في المدينة‪ ،‬وبتقدير صحته فليس فيه أنه من أطعم مسكيًنا ويتيما وأسيًرا أفضل‬
‫الصحابة‪ ،‬بل الية عامة مشتركة فيمن فعل هذا‪ ،‬وتدل على استحقاقه للثواب على هذا العمل‪ ،‬مع أن غيره من‬
‫ل والصلة في وقتها والجهاد أفضل منه‪.‬‬ ‫العمال من اليمان با ّ‬

‫ل عمن يقول‪:‬‬
‫سِئ َ‬
‫َو ُ‬

‫ي غيره‪ ،‬وإذا ذكر]علي[ صلى عليه مفرًدا‪ ،‬هل يجوز له أن يخصه بالصلة دون غيره؟‬
‫ل أفضل على عل ّ‬

‫ب‪:‬‬
‫جــا َ‬
‫َفَأ َ‬

‫ليس لحد أن يخص أحًدا بالصلة عليه دون النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ل أبا بكر‪ ،‬ول عمر‪ ،‬ول عثمان‪ ،‬ول علًيا‪،‬‬
‫ومن فعل ذلك فهو مبتدع‪ ،‬بل إما أن يصلي عليهم كلهم أو يدع الصلة عليهم كلهم‪.‬‬

‫بل المشروع أن يقول‪) :‬اللهم صل على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على‬
‫محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد(‪.‬‬

‫ي غيره فهو مخطئ مخالف للدلة الشرعية‪.‬‬


‫عِل ّ‬
‫عَلى َ‬
‫ضل َ‬
‫ومن قال‪ :‬ل ُأَف ّ‬

‫ل أعلم‪.‬‬
‫وا ّ‬

‫ل بن أبي زيد في آخر عقيدته‪ :‬وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول‬ ‫ل عن قول الشيخ أبي محمد عبد ا ّ‬ ‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وآمنوا به ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ .‬وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو‬
‫ا ّ‬
‫بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي‪ .‬فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر؟ وتفضيل عمر على عثمان‪ ،‬وعثمان على‬
‫طا مأجورين‪،‬‬
‫ي ؟ فإذا تبين ذلك‪ ،‬فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم ل؟ بينوا لنا ذلك بيانا مبسو ً‬
‫عل ّ‬
‫إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫جاب‪:‬‬
‫َفأ َ‬

‫ل رب العالمين‪ ،‬أما تفضيل أبي بكر‪ ،‬ثم عمر عَلى عثمان وعلي‪ ،‬فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين‬‫الحمد ّ‬
‫المشهورين بالمامة في العلم والدين‪ ،‬من الصحابة‪ ،‬والتابعين‪ ،‬وتابعيهم‪ ،‬وهو مذهب مالك وأهل المدينة‪ ،‬والليث بن‬
‫سَلمة‪ ،‬وأمثالهم‬
‫سعد‪ ،‬وأهل مصر‪ ،‬والوزاعي‪ ،‬وأهل الشام‪ ،‬وسفيان الثوري‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬وحماد بن زيد‪ ،‬وحماد بن َ‬
‫من أهل العراق‪ .‬وهو مذهب الشافعي وأحمد‪ ،‬وإسحاق‪ ،‬وأبي عبيد‪ ،‬وغير هؤلء من أئمة السلم الذين لهم لسان‬
‫ت أحًدا ممن أقتدى به يشك في تقديم أبي بكر‬ ‫صدق في المة‪ .‬وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال‪ :‬ما أدرك ُ‬
‫وعمر‪.‬‬

‫‪/‬وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب‪ .‬وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية؛ أنه قال لبيه‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟ قال‪ :‬يا بني‪ ،‬أو ما تعرف؟! قلت‪ :‬ل‪.‬‬ ‫على بن أبي طالب‪ :‬يا أبت َمن خُير الناس بعد رسول ا ّ‬
‫قال‪ :‬أبو بكر‪ .‬قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪ :‬عمر‪ .‬ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها‪ ،‬وأنه كان يقوله على‬
‫حّد المْفَتِرى‪ .‬فمن فضله على أبي بكر‬
‫منبر الكوفة؛ بل قال‪ :‬ل أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إل جلدته َ‬
‫طا‪.‬‬
‫ل عنه ـ ثمانين سو ً‬
‫وعمر جلد بمقتضى قوله ـ رضي ا ّ‬

‫ط من شأنهم[ بالمهاجرين‪ ،‬وما أرى أنه يصعد له‬


‫وكان سفيان يقول‪ :‬من فضل عليًا على أبي بكر‪ ،‬فقد أْزَرى ]أي‪ :‬ح ّ‬
‫ل عمل ـ وهو مقيم على ذلك‪ .‬وفي الترمذي‪ ،‬وغيره روى هذا التفضيل‪ :‬عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬ ‫إلى ا ّ‬
‫)يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الولين والخرين؛ إل النبيين والمرسلين(‪ .‬وقد استفاض في الصحيحين‬
‫ل‪ ،‬وابن‬‫وغيرهما عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه‪ :‬من حديث أبي سعيد‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬وجندب بن عبد ا ّ‬
‫ل‪،‬‬
‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬‫الزبير‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬
‫ل( يعني‪ :‬نفسه‪.‬‬
‫ولكن صاحبكم خليل ا ّ‬

‫ى في صحبته‪ ،‬وذات يده‪ ،‬أبو بكر‪ ،‬ولو كنت متخًذا من أهل‬ ‫ن الناس عل ّ‬‫وفي الصحيح أنه قال على المنبر‪) :‬إن أم ّ‬
‫سّدتْ إل خَْوخة ‪/‬‬
‫ل‪ .‬أل ل يبقين في المسجد خوخة إل ُ‬
‫ل‪ ،‬ولكن صاحبكم خليل ا ّ‬ ‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬ ‫الرض خلي ً‬
‫أبي بكر(‪ .‬وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الرض من يستحق المخاّلة لو كانت ممكنة من المخلوقين إل أبا‬
‫بكر‪ .‬فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه‪ ،‬ول أحب إليه منه‪ ،‬وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص‪ :‬أي الناس‬
‫أحب إليك؟ قال‪) :‬عائشة(‪ .‬قال‪ :‬فمن الرجال؟ قال‪) :‬أبوها(‪.‬‬

‫وكذلك في الصحيح أنه قال لعائشة‪) :‬ادعى لي أباك وأخاك‪ ،‬حتى أكتب لبي بكر كتاًبا ل يختلف عليه الناس من‬
‫ت فلم‬
‫ل‪ ،‬أرأيت إن جئ ُ‬‫ل والمؤمنون إل أبا بكر(‪ ،‬وفي الصحيح عنه أن امرأة قالت‪ :‬يا رسول ا ّ‬ ‫بعدي‪ ،‬ثم قال‪َ :‬يْأَبي ا ّ‬
‫أجدك ـ كأنها تعني الموت ـ قال‪َ) :‬فْأتى أبا بكر(‪ .‬وفي السنن عنه أنه قال‪):‬اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر(‪.‬‬
‫وفي الصحيح عنه أنه كان في سفر فقال‪) :‬إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا(‪ .‬وفي السنن عنه أنه قال‪) :‬رأيت‬
‫ت بالمة‪ ،‬ثم وضع أبو بكر في كفة والمة في كفة‪ ،‬فرجح أبو بكر‪ ،‬ثم‬ ‫جح ُ‬
‫كأني وضعت في كفة والمة في كفة‪َ ،‬فَر َ‬
‫وضع عمر في كفة والمة في كفة‪ ،‬فرجح عمر(‪.‬‬

‫وفي الصحيح أنه كان بين أبي بكر وعمر كلم‪ ،‬فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل‪ .‬فجاء أبو بكر إلى‬
‫ل لك( وندم عمر‪ ،‬فجاء إلى منزل أبي بكر فلم‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فذكر ذلك‪ .‬فقال‪) :‬اجلس يا أبا بكر‪ ،‬يغفر ا ّ‬
‫يجده‪ ،‬فجاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فغضب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقال‪) :‬أيها الناس‪ ،‬إني جئت إليكم‪،‬‬
‫ل‪ ،‬فقلتم‪ :‬كذبت‪ ،‬وقال أبو بكر‪ :‬صدقت‪ .‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟‬ ‫فقلت‪ :‬إني رسول ا ّ‬
‫فهل أنتم تاركو لي ‪/‬صاحبي؟( فما أوذي بعدها‪ .‬وقد تواتر في الصحيح والسنن أن النبي صلى ال عليه وسلم لما‬
‫مرض قال‪) :‬مروا أبا بكر فليصل بالناس( مرتين‪ ،‬أو ثلًثا‪ ،‬حتى قال‪) :‬إنكن لنتن صواحب يوسف! مروا أبا بكر أن‬
‫يصلي بالناس(‪.‬‬
‫فهذا التخصيص‪ ،‬والتكرير‪ ،‬والتوكيد ـ في تقديمه في المامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلى‬
‫وغيرهم ـ مما بين للمة تقدمه عنده صلى ال عليه وسلم على غيره‪ .‬وفي الصحيح‪ :‬أن جنازة عمر لما وضعت جاء‬
‫ل مع صاحبيك‪ ،‬فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى‬ ‫على بن أبي طالب يتخلل الصفوف‪ ،‬ثم قال‪ :‬لرجو أن يجعلك ا ّ‬
‫ال عليه وسلم يقول‪) :‬دخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وخرجت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وذهبت أنا وأبو بكر وعمر(‪ .‬فهذا‬
‫يبين ملزمتهما للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬في مدخله‪ ،‬ومخرجه‪ ،‬وذهابه‪.‬‬

‫ل‪ ،‬أخبرني عن منزلة أبي بكر‪ ،‬وعمر من النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫ولذلك قال مالك للرشيد‪ :‬لما قال له‪ :‬يا أبا عبد ا ّ‬
‫؟ فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته‪ ،‬فقال‪ :‬شفيتني يا مالك‪ .‬وهذا يبين أنه كان‬
‫لهما من اختصاصهما بصحبته‪ ،‬ومؤازرتهما له على أمره‪ ،‬ومباطنتهما‪ ،‬مما يعلمه بالضطرار كل من كان عالًما‬
‫بأحوال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬وسيرته مع أصحابه‪.‬‬

‫ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلقه‪ ،‬وإنما ‪/‬ينفي هذا أو يقف فيه من ل يكون عالًما‬
‫بحقيقة أمور النبي صلى ال عليه وسلم ـ وإن كان له نصيب من كلم أو فقه أو حساب أو غير ذلك ـ أو من يكون قد‬
‫سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه المور المعلومة بالضطرار عند الخاصة من أهل العلم‪ ،‬فتوقف في المر‪ ،‬أو‬
‫رجح غير أبي بكر‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم؛ وإن كان غيرهم يشك‬ ‫وهذا كسائر المور المعلومة بالضطرار عند أهل العلم بسنة رسول ا ّ‬
‫فيها‪ ،‬أو ينفيها‪ ،‬كالحاديث المتواترة عندهم في شفاعته‪ ،‬وحوضه‪ ،‬وخروج أهل الكبائر من النار‪ ،‬والحاديث‬
‫المتواترة عندهم‪ :‬في الصفات‪ ،‬والقدر‪ ،‬والعلو‪ ،‬والرؤية‪ ،‬وغير ذلك من الصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته‪،‬‬
‫شْفَعة‪،‬‬
‫كما تواترت عندهم عنه‪ ،‬وإن كان غيرهم ل يعلم ذلك‪ ،‬كما تواتر عند الخاصة ـ من أهل العلم عنه ـ الحكم بال ّ‬
‫صاب في السرقة‪ ،‬وأمثال ذلك من الحكام التي ينازعهم‬ ‫وتحليف المدعى عليه‪ ،‬ورجم الزاني المحصن‪ ،‬واعتبار الّن َ‬
‫فيها بعض أهل البدع‪.‬‬

‫ولهذا كان أئمة السلم متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الصول‪ ،‬بخلف من نازع في مسائل الجتهاد التي‬
‫عة‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه‪ ،‬كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين‪ ،‬وفي الَقسامة‪ ،‬والُقْر َ‬
‫من المور التي لم تبلغ هذا المبلغ‪.‬‬

‫ى‪ ،‬فهذه دون تلك‪ ،‬فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع ‪/‬فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة‪،‬‬
‫وأما عثمان‪ ،‬وعل ّ‬
‫رجحوا علًيا على عثمان‪ ،‬ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره‪ .‬وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلى‪ ،‬وهي إحدى‬
‫ي‪ ،‬كما هو مذهب سائر الئمة؛ كالشافعي‪ ،‬وأبي‬‫الروايتين عن مالك‪ ،‬لكن الرواية الخرى عنه تقديم عثمان على عل ّ‬
‫حنيفة وأصحابه‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬وغير هؤلء من أئمة السلم‪.‬‬

‫حتى إن هؤلء تنازعوا فيمن يقدم علًيا على عثمان‪ ،‬هل يعد من أهل البدعة؟ على قولين‪ :‬هما روايتان عن أحمد‪ .‬وقد‬
‫ي‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والدارقطني‪ :‬من َقّدَم علًيا على عثمان فقد أْزَرى بالمهاجرين والنصار‪.‬‬
‫ختَياِن ّ‬
‫قال أيوب الس ْ‬
‫وأيوب هذا إمام أهل السنة‪ ،‬وإمام أهل البصرة‪ ،‬روى عنه مالك في الموطأ‪ ،‬وكان ل يروى عن أهل العراق ‪ .‬وروى‬
‫أنه سئل عن الرواية عنه‪ ،‬فقال‪ :‬ما حدثتكم عن أحد إل وأيوب أفضل منه‪ .‬وذكره أبو حنيفة فقال‪ :‬لقد رأيته قعد مقعًدا‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ما ذكرته إل اقشعر جسمي‪.‬‬ ‫في مسجد رسول ا ّ‬

‫ل صلى ال‬ ‫والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما‪ ،‬عن ابن عمر؛ أنه قال‪ :‬كنا نفاضل على عهد رسول ا ّ‬
‫عليه وسلم‪ .‬كنا نقول أبو بكر‪ ،‬ثم عمر‪ ،‬ثم عثمان‪ .‬وفي بعض الطرق يبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فل ينكره‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فقد ثبت بالنقل الصحيح ـ في صحيح البخاري وغير البخاري ـ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل‬ ‫وأي ً‬
‫الخلفة شوري في ستة أنفس؛عثمان‪ ،‬وعلى‪/ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف ـ ولم يدخل معهم‬
‫ل‪ :‬يحضركم‬‫سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي ـ قبيلة عمرـ وقال عن ابنه عبد ا ّ‬
‫ل وليس له في المر شىء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته‪ ،‬حتى يتفقوا على واحد‪.‬‬ ‫عبد ا ّ‬
‫فلما توفى عمر واجتمعوا عند المنبر‪ ،‬قال طلحة‪ :‬ما كان لي من هذا المر فهو لعثمان‪ .‬وقال الزبير‪ :‬ما كان لي من‬
‫هذا المر فهو لعلي‪ .‬وقال سعد‪ :‬ما كان لي من هذا المر فهو لعبد الرحمن بن عوف‪ .‬فخرج ثلثة وبقى ثلثة‪.‬‬
‫فاجتمعوا‪ ،‬فقال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬يخرج منا واحد‪ ،‬ويولي واحًدا‪ ،‬فسكت عثمان‪ ،‬وعلى‪ .‬فقال عبد الرحمن‪ :‬أنا‬
‫ل وميثاقه أن يولي أفضلهما ‪ .‬ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلثة أيام بلياليها‬
‫أخرج‪ .‬وروى أنه قال‪ :‬عليه عهد ا ّ‬
‫يشاور المهاجرين والنصار‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬ويشاور أمهات المؤمنين‪ ،‬ويشاور أمراء المصارـ فإنهم كانوا‬
‫في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته ـ حتى قال عبد الرحمن بن عوف‪ :‬إن لي ثلًثا ما اغتمضت بنوم‪ .‬فلما كان‬
‫ل وميثاقه‪ ،‬إن وليتك لتعدلن‪ ،‬ولئن وليت علًيا لتسمعن ولتطيعن؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬وقال‬‫اليوم الثالث قال لعثمان‪ :‬عليك عهد ا ّ‬
‫ل وميثاقه إن وليتك لتعدلن‪ ،‬ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ :‬إني رأيت الناس‬ ‫لعلي‪ :‬عليك عهد ا ّ‬
‫ضا‪ ،‬واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها‪،‬‬‫ل يعدلون بعثمان‪ ،‬فبايعه على‪ ،‬وعبد الرحمن‪ ،‬وسائر المسلمين؛ بيعة ر ً‬
‫ول رهبة خوفهم بها‪.‬‬

‫‪/‬وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي‪ .‬فلهذا قال أيوب‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والدارقطني‪ :‬من قدم علًيا على‬
‫عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والنصار‪ ،‬فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم‪ ،‬وقد قدموه‪ ،‬كانوا إما جاهلين بفضله‪،‬‬
‫وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني‪ .‬ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم‪.‬‬

‫ي‪ ،‬وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة‪ ،‬ونحو‬ ‫ن كان في نفس بعضهم على عل ّ‬ ‫ضْغ ٍ‬
‫ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمانِل ِ‬
‫ذلك مما يقوله أهل الهواء‪ ،‬فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق‪ ،‬وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق‪ .‬هذا‬
‫وهم في أعز ما كانوا‪ ،‬وأقوي ما كانوا‪ ،‬فإنه حين مات عمر كان السلم من القوة‪ ،‬والعز‪ ،‬والظهور‪ ،‬والجتماع‬
‫عّز أهل اليمان‪ ،‬وأذل أهل الكفر والنفاق‪ :‬إلى حد بلغ في القوة‬
‫والئتلف فيما لم يصيروا في مثله قط‪.‬وكان عمر أ َ‬
‫والظهور مبلًغا‪ ،‬ل يخفى على من له أدنى معرفة بالمور‪.‬‬

‫فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم‪ ،‬وجعل خير أمة أخرجت‬
‫ل به لهم‪.‬‬
‫للناس على خلف ما شهد ا ّ‬

‫وهذا هو أصل مذهب الرافضة‪ ،‬فإن الذي ابتدع الرفض كان يهودًيا أظهر السلم نفاًقا‪ ،‬ودس إلى الجهال دسائس‬
‫يقدح بها في أصل اليمان؛ ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة‪ .‬فإنه يكون الرجل واقًفا‪ ،‬ثم يصير ‪/‬‬
‫ل؛ ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من‬ ‫طً‬
‫سّباًبا‪ ،‬ثم يصير غاليا‪ ،‬ثم يصير جاحًدا ُمَع ّ‬
‫ل‪ ،‬ثم يصير َ‬
‫ضً‬
‫ُمَف ّ‬
‫السماعيلية والنصيرية‪ ،‬وأنواعهم من القرامطة والباطنية‪ ،‬والدرزية‪ ،‬وأمثالهم من طوائف الزندقة‪ ،‬والنفاق‪.‬‬

‫ح في الرسول ـ عليه السلم ـ كما قال مالك وغيره من أئمة‬


‫فإن الَقْدح في خير القرون ـ الذين صحبوا الرسول ـ َقْد ٌ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل‪ :‬رجل سوء كان‬ ‫العلم‪ :‬هؤلء طعنوا في أصحاب رسول ا ّ‬
‫حا لكان أصحابه صالحين‪.‬‬ ‫ل صال ً‬
‫له أصحاب سوء‪ ،‬ولو كان رج ً‬

‫ضا‪ ،‬فهؤلء الذين نقلوا القرآن‪ ،‬والسلم‪ ،‬وشرائع النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره‬‫وأي ً‬
‫فالقدح فيهم يوجب أل يوثق بما نقلوه من الدين‪ ،‬وحينئذ فل تثبت فضيلة‪ ،‬ل لعلي‪ ،‬ول لغيره‪ .‬والرافضة جهال ليس‬
‫لهم عقل‪ ،‬ول نقل ول دين‪ ،‬ول دنيا منصورة‪ .‬فإنه لو طلب منهم الناصبي ـ الذي يبغض علًيا‪ ،‬ويعتقد فسقه أو كفره‪:‬‬
‫كالخوارج وغيرهم ـ أن يثبتوا إيمان علي؛ وفضله‪ :‬لم يقدروا على ذلك‪ ،‬بل تغلبهم الخوارج‪ .‬فإن فضائل على إنما‬
‫نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة‪ .‬فل يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم‪ ،‬فإذا طعنوا في بعض الخلفاء ـ بما‬
‫يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة‪ ،‬وقاتلوا على ذلك ـ كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من‬
‫دعوى ذلك على من أطيع بل قتال‪ ،‬ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة‪.‬‬

‫صاِر َواّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫لن َ‬ ‫ن َوا َ‬ ‫جِري َ‬ ‫ن اْلُمَها ِ‬
‫ن ِم َ‬ ‫لّوُلو َ‬‫نا َ‬ ‫‪/‬والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع‪ ،‬كقوله تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫ساِبُقو َ‬
‫ح َوَقاَتلَ‬‫ل اْلَفْت ِ‬
‫ق ِمن َقْب ِ‬ ‫ن َأنَف َ‬
‫سَتِوي ِمنُكم ّم ْ‬ ‫عْنُه{ ]التوبة‪ ،[100:‬وقوله تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َي ْ‬ ‫ضوْا َ‬‫عْنُهْم َوَر ُ‬ ‫ل َ‬‫يا ّ‬ ‫ضَ‬‫ن ّر ِ‬ ‫سا ٍ‬
‫حَ‬ ‫اّتَبُعوُهم ِبِإ ْ‬
‫ل َواّلِذي َ‬
‫ن‬ ‫ل ا ِّ‬ ‫سو ُ‬ ‫حّمٌد ّر ُ‬ ‫سَنى{ ]الحديد‪ ،[10:‬وقال تعالى‪ّ} :‬م َ‬ ‫حْ‬ ‫ل اْل ُ‬‫عَد ا ُّ‬
‫ل َو َ‬ ‫ن َأنَفُقوا ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّ‬‫ن اّلِذي َ‬
‫جًة ّم َ‬ ‫ظُم َدَر َ‬
‫ك َأعْ َ‬ ‫ُأْوَلِئ َ‬
‫جوِد َذِل َ‬
‫ك‬ ‫سُ‬ ‫ن َأَثِر ال ّ‬ ‫جوِهِهم ّم ْ‬ ‫سيَماُهْم ِفي ُو ُ‬ ‫ضَواًنا ِ‬‫ل َوِر ْ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ل ّم َ‬ ‫ضً‬ ‫ن َف ْ‬ ‫جًدا َيْبَتُغو َ‬
‫سّ‬‫حَماء َبْيَنُهْم َتَراُهْم ُرّكًعا ُ‬ ‫عَلى اْلُكّفاِر ُر َ‬ ‫شّداء َ‬ ‫َمَعُه َأ ِ‬
‫ظ ِبِهُم اْلُكّفاَر{‬ ‫ع ِلَيِغي َ‬‫ب الّزّرا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫سوِقِه ُيْع ِ‬‫عَلى ُ‬ ‫سَتَوى َ‬ ‫ظ َفا ْ‬‫سَتْغَل َ‬
‫طَأُه َفآَزَرُه َفا ْ‬‫ش ْ‬‫ج َ‬‫خَر َ‬‫ع َأ ْ‬ ‫ل َكَزْر ٍ‬
‫جي ِ‬
‫لن ِ‬ ‫َمَثُلُهْم ِفي الّتْوَراِة َوَمَثُلُهْم ِفي ا ِْ‬
‫عَلْيِهْم َوَأَثاَبُهْم‬
‫سِكيَنَة َ‬ ‫ل ال ّ‬‫جَرةِ َفَعِلَم َما ِفي ُقُلوِبِهْم َفَأنَز َ‬‫شَ‬
‫ت ال ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ك َت ْ‬
‫ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫عِ‬‫ل َ‬ ‫ي ا ُّ‬
‫ضَ‬ ‫]الفتح‪ ،[29:‬وقال تعالى‪َ} :‬لَقْد َر ِ‬
‫َفْتًحا َقِريًبا{ ]الفتح‪ .[18:‬وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل يدخل النار أحد بايع‬
‫سّبوا أصحابي‪ ،‬فوالذي نفسي‬ ‫تحت الشجرة(‪ ،‬وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬ل َت ُ‬
‫صيَفه(‪ ،‬وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال‪:‬‬ ‫حد ذهًبا ما بلغ ُمّد أحدهم ول َن ِ‬
‫بيده‪ ،‬لو أن أحدكم أنفق مثل ُأ ُ‬
‫ت فيهم‪ ،‬ثم الذين َيُلوَنُهْم‪ ،‬ثم الذين َيُلوَنُهم(‪ .‬وهذه الحاديث مستفيضة‪ ،‬بل متواترة في‬
‫)خْيُر القرون القرن الذي ُبِعْث ُ‬
‫ح فيهم قدح في القرآن‪ ،‬والسنة؛‬ ‫فضائل الصحابة‪ ،‬والثناء عليهم‪ ،‬وتفضيل َقْرِنهم على من بعدهم من القرون‪ .‬فاَلقْد ُ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬ ‫ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع‪ .‬وا ّ‬

‫جَر بين الصحابة ـ علي‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وطلحة‪ ،‬وعائشة ـ هل يطالبون به أم ل؟‬


‫شَ‬
‫عْنُه ـ عما َ‬
‫ل َ‬
‫ل ـ رضي ا ّ‬
‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬

‫جاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان وعلًيا‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وعائشة‪ ،‬من أهل الجنة‪ ،‬بل قد ثبت في الصحيح أنه‬
‫حٌد بايع تحت الشجرة‪.‬‬
‫خل الناَر أ َ‬
‫ل َيْد ُ‬

‫وأبو موسى الشعري‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬ومعاوية بن أبي سفيان‪ ،‬هم من الصحابة‪ ،‬ولهم فضائل ومحاسن‪.‬‬

‫وما يحكى عنهم كثير منه َكِذب‪ ،‬والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين‪ ،‬فالمجتهد إذا أصاب فله أجران‪ ،‬وإذا أخطأ فله‬
‫أجر‪ ،‬وخطؤه يغفر له‪.‬‬

‫‪/‬وإن ُقّدَر أن لهم ذنوًبا‪ ،‬فالذنوب ل توجب دخول النار مطلًقا‪ ،‬إل إذا انتفت السباب المانعة من ذلك وهي عشرة‪:‬‬

‫منها التوبة‪ ،‬ومنها الستغفار‪ ،‬ومنها الحسنات الماحية‪ ،‬ومنها المصائب المكفرة‪ ،‬ومنها شفاعة النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ومنها شفاعة غيره‪ ،‬ومنها دعاء المؤمنين‪ ،‬ومنها ما يهدي للميت من الثواب والصدقة والعتق‪ ،‬ومنها فتنة‬
‫القبر‪ ،‬ومنها أهوال القيامة‪.‬‬

‫ت فيه‪ ،‬ثم الذين َيُلوَنُهم‪،‬‬


‫ن الذي ُبِعْث ُ‬
‫ن القر ُ‬
‫خْير القرو ِ‬
‫وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ ) :‬‬
‫ثم الذين يلونهم(‪.‬‬

‫وحينئذ‪ ،‬فمن جزم في واحد من هؤلء بأن له ذنًبا يدخل به النار قطًعا‪ ،‬فهو كاذب مفتر‪ .‬فإنه لو قال ما ل علم له به‬
‫ل عنه؛ من‬‫ل‪ ،‬فكيف إذا قال ما دلت الدلئل الكثيرة على نقيضه؟ فمن تكلم فيما شجر بينهم ـ وقد نهى ا ّ‬‫لكان مبط ً‬
‫ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل ـ فهو ظالم معتد‪.‬‬

‫ق مارقة على حين ُفْرَقة من المسلمين تقتلهم أولى‬


‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬تْمُر ُ‬
‫ل به بين فئتين‬
‫الطائفتين بالحق(‪ ،‬وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال عن الحسن‪) :‬إن ابني هذا سيد‪ ،‬وسيصلح ا ّ‬
‫عظيمتين من المسلمين(‪.‬‬

‫ن اْقَتَتُلوا‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬‫ن ِم َ‬ ‫‪/‬وفي الصحيحين عن عمار أنه قال‪) :‬تقتله الفئة الباغية(‪ ،‬وقد قال تعالى في القرآن‪َ} :‬وِإن َ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫طوا‬
‫سُ‬
‫ل َوَأْق ِ‬ ‫حوا َبْيَنُهَما ِباْلَعْد ِ‬‫صِل ُ‬ ‫ت َفَأ ْ‬
‫ل َفِإن َفاء ْ‬
‫حّتى َتِفيَء ِإَلى َأْمِر ا ِّ‬
‫خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ‬
‫لْ‬‫عَلى ا ُْ‬
‫حَداُهَما َ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ‬ ‫صِل ُ‬
‫َفَأ ْ‬
‫طيَن{ ]الحجرات‪. [9 :‬‬ ‫سِ‬‫ب اْلُمْق ِ‬‫ح ّ‬ ‫ل ُي ِ‬
‫ن ا َّ‬
‫ِإ ّ‬

‫ي بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى‬


‫فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون‪ ،‬وأن عل ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫بالحق من الطائفة المقاتلة له‪ ،‬وا ّ‬

‫لم ابن َتْيِمية‪:‬‬


‫سَ‬‫خ الِ ْ‬
‫شي ُ‬
‫‪/‬قال َ‬

‫فائــدة‬
‫جَر بين الصحابة‪ ،‬والستغفار للطائفتين جميًعا وموالتهم‪،‬‬‫شَ‬
‫ومما ينبغي أن يعلم‪ :‬أنه وإن كان المختار المساك عما َ‬
‫ل؛ كالعلماء‪ ،‬بل فيهم المذنب والمسىء‪،‬‬
‫سَكر لم يكن إل مجتهًدا متأو ً‬
‫فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من الع ْ‬
‫وفيهم المقصر في الجتهاد لنوع من الهوى‪ ،‬لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة‪.‬‬

‫صَمة من القرار على الذنوب‪ ،‬وعلى‬


‫وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم‪ ،‬وتستغفر لهم‪ ،‬لكن ل يعتقدون الِع ْ‬
‫ن سواه فيجوز عليه القرار على الذنب والخطأ‪ ،‬لكن هم‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وَم ْ‬ ‫الخطأ في الجتهاد‪ ،‬إل لرسول ا ّ‬
‫ك اّلِذيَن َنَتَقّبُل َعْنُهْم َأْحَسَن َما َعِمُلوا َوَنَتجاَوُز َعن َسّيَئاِتِهْم{ الية]الحقاف‪.[16:‬‬
‫كما قال تعالى‪ُ} :‬أْوَلِئ َ‬

‫وفضائل العمال إنما هي بنتائجها وعواقبها ل بصورها‪.‬‬

‫فصل‬ ‫‪/‬‬

‫في أعداء الخلفاء الراشدين والئمة المهديين‬

‫الخلفاء الراشدون الربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى السلم من أهل القبلة‪ ،‬ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم‪ .‬فَأبو‬
‫بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للمام أحمد‪ :‬من الرافضي؟ قال‪ :‬الذي‬
‫يسب أبا بكر وعمر‪ .‬وبهذا سميت الرافضة‪ ،‬فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر‪ ،‬لبغضهم‬
‫لهما‪ ،‬فالمبغض لهما هو الرافضي‪ ،‬وقيل‪ :‬إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر‪.‬‬

‫ي ِبَدعَوى المامة والنص‬


‫وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة‪ ،‬فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق‪ ،‬وأظهر الغلّو في عل ّ‬
‫عليه‪ ،‬وادعى العصمة له؛ ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف‪ :‬حب أبي بكر وعمر إيمان‪ ،‬وبغضهما‬
‫نفاق‪ ،‬وحب بني هاشم إيمان‪ ،‬وبغضهم نفاق‪.‬‬

‫ل بن مسعود‪ :‬حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة‪ ،‬أي من شريعة النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫وقال عبد ا ّ‬
‫التي أمر بها؛ فإنه قال‪) :‬اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر(؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجًبا‬
‫ل يجوز التوقف فيه‪ ،‬بخلف عثمان وعلى‪ ،‬ففي جواز التوقف فيهما قولن‪.‬‬

‫ي على عثمان؟ فيه روايتان‪:‬‬


‫وكذلك هل يسوغ الجتهاد في تفضيل عل ّ‬

‫إحداهما‪ :‬ل يسوغ ذلك‪ ،‬فمن فضل علًيا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لجماع الصحابة؛ ولهذا‬
‫قيل‪ :‬من قّدم علًيا على عثمان‪ ،‬فقد ‪/‬أزرى بالمهاجرين والنصار‪ .‬يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني‬
‫وأحمد بن حنبل‪ ،‬والدارقطني‪.‬‬

‫ل ورسوله من‬‫ي؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه ا ّ‬ ‫والثانية‪ :‬ل ُيَبّدع من قدم علًيا ؛ لتقارب حال عثمان وعل ّ‬
‫الدين‪ ،‬وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فل يجوز اعتقاد ضد ذلك‪ ،‬لكن يجوز ترك المستحب من غير أن‬
‫يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية‪ ،‬لئل يضيع شىء من الدين‪ .‬فلما قامت الدلة‬
‫الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما‪ ،‬لم يجز ترك ذلك‪.‬‬

‫ضا ـ مع الرافضة ـ طائفة من الشيعة الزيدية والخوارج‪.‬‬


‫وأما عثمان‪ ،‬فأبغضه أو سبه أو كفره أي ً‬

‫وأما علي‪ ،‬فأبغضه وسبه ـ أو كفره ـ الخوارج‪ ،‬وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه‪ .‬فالخوارج تكفر‬
‫عثمان وعلًيا وسائر أهل الجماعة‪.‬‬

‫عن‬
‫وأما شيعة علي‪ ،‬الذين شايعوه بعد التحكيم‪ ،‬وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم‪ ،‬فكان بينهما من التقابل‪ ،‬وَتل ُ‬
‫بعضهم‪ ،‬وتكافر بعضهم ما كان‪ ،‬ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها َتَنّقص لبي بكر وعمر‪ ،‬ول فيها من‬
‫ب عثمان شائًعا فيها‪ ،‬وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر‪.‬‬‫س ّ‬
‫يقدم علًيا على أبي بكر وعمر‪ ،‬ول كان َ‬
‫ب على فإنه كان ‪/‬شائًعا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي‬
‫ي عليه لم يكن مشهوًرا فيها‪ ،‬بخلف س ّ‬‫وكذلك تفضيل عل ّ‬
‫وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه‪ .‬كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى ال‬
‫ق مارقة على حين ُفْرَقٍة من المسلمين‪ ،‬فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق(‪ .‬وروى في الصحيح‬
‫عليه وسلم قال‪َ) :‬تْمُر ُ‬
‫ضا‪) :‬أدنى الطائفتين إلى الحق(‪.‬‬‫أي ً‬

‫وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها‪ :‬الطائفة الباغية‪ ،‬كما رواه البخاري في‬
‫عْكِرمة‪ ،‬قال‪ :‬قال لي ابن عباس ولبنه على‪ :‬انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه‪.‬‬ ‫حّذاء‪ ،‬عن ِ‬‫صحيحه‪ ،‬عن خالد ال َ‬
‫حَتَبي به‪ ،‬ثم أنشأ يحدثنا‪ ،‬حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال‪:‬‬‫فانطلقنا‪ ،‬فإذا هو في حائط يصلحه‪ ،‬فأخذ رداءه فا ْ‬
‫ض التراب عنه ويقول‪) :‬وْي َ‬
‫ح‬ ‫كنا نحمل َلِبَنًة َلِبنة‪َ ،‬وعّمار لبنتين لبنتين‪ ،‬فرآه النبي صلى ال عليه وسلم فجعل َيْنُف ُ‬
‫ل من الفتن‪.‬‬
‫عمار‪ ،‬تقتله الفئة الباغية‪ ،‬يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار( قال‪ :‬يقول عمار‪ :‬أعوذ با ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم قال‬ ‫ضا ـ قال‪ :‬أخبرني من هو خير مني ـ أبو قتادة ـ أن رسول ا ّ‬ ‫ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أي ً‬
‫ضا ـ‬
‫سَمّيَة تقتله فئة باغية( ‪ .‬ورواه مسلم ـ أي ً‬
‫س ابن ُ‬
‫لعمار ـ حين جعل يحفر الخندق ـ جعل يمسح رأسه ويقول‪ُ) :‬بْؤ َ‬
‫عن أم سلمة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬تقتل عماًرا الفئة الباغية(‪.‬‬

‫ضا ـ يدل على صحة إمامة على‪ ،‬ووجوب طاعته‪ ،‬وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى‬ ‫وهذا ـ أي ً‬
‫مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأول ـ وهو ‪/‬دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي‪ ،‬وعلى هذا فمقاتله مخطئ‪ ،‬وإن‬
‫كان متأولً أو باغ بل تأويل‪ ،‬وهو أصح القولين لصحابنا‪ ،‬وهو الحكم بتخطئة من قاتل علًيا وهو مذهب الئمة‬
‫الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين‪.‬‬

‫وكذلك أنكر يحيى بن َمِعين على الشافعي استدلله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين‪ ،‬قال‪ :‬أيجعل طلحة والزبير‬
‫بغاة؟ رد عليه المام أحمد فقال‪ :‬ويحك‪ ،‬وأي شىء يسعه أن يضع في هذا المقام‪ :‬يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك‬
‫لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة‪.‬‬

‫والقول الثاني‪ :‬أن كل منهما مصيب‪ ،‬وهذا بناء على قول من يقول‪ :‬كل مجتهد مصيب‪ ،‬و هو قول طوائف من أهل‬
‫الكلم من المعتزلة والشعرية‪.‬‬

‫وفيها قول ثالث‪ :‬إن المصيب واحد ل بعينه‪.‬ذكر القوال الثلثة ابن حامد‪ ،‬والقاضي‪ ،‬وغيرهما ‪ .‬وهذا القول يشبه‬
‫قول المتوقفين في خلفة على من أهل البصرة‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬وأهل الكلم؛ كالكرامية الذين يقولون‪ :‬كلهما كان‬
‫إماًما‪ ،‬ويجوزون عقد الخلفة لثنين‪.‬‬

‫جرانه‪ ،‬ونهى عن‬‫لكن المنصوص عن أحمد َتْبِديُع من توقف في خلفة علي‪ ،‬وقال‪ :‬هو أضل من حمار أهله‪ ،‬وأمر بُه ْ‬
‫مناكحته‪ ،‬ولم يتردد أحمد ـ ول أحد من أئمة السنة ـ في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه‪ ،‬ول شكوا في ذلك‪.‬‬
‫فتصويب أحدهما ل بعينه تجويز لن يكون غير على أولى منه بالحق‪ ،‬وهذا ل يقوله إل مبتدع ضال‪ ،‬فيه نوع من‬
‫ل‪ ،‬لكن قد ‪/‬يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساًكا عما‬ ‫النصب وإن كان متأو ً‬
‫شجر بينهم‪ ،‬وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين‪.‬‬

‫ولم يسترب أئمة السنة‪ ،‬وعلماء الحديث‪ :‬أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه‪ ،‬كما دل عليه النص‪ ،‬وإن استرابوا في‬
‫وصف الطائفة الخرى بظلم أو بغي‪ ،‬ومن وصفها بالظلم والبغي ـ لما جاء من حديث عمار ـ جعل المجتهد في ذلك‬
‫من أهل التأويل ‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي‪ ،‬والذين قعدوا عن القتال هم‬ ‫يبقى أن يقال‪ :‬فا ّ‬
‫جملة أعيان الصحابة‪ ،‬كسعد‪ ،‬وزيد‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬وأسامة‪ ،‬و محمد بن مسلمة‪ ،‬وأبي َبْكَرة‪ ،‬وهم يروون النصوص عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة‪ ،‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬القاعد فيها خير من القائم‪،‬‬
‫غَنم يتبع بها‬
‫والقائم فيها خير من الساعي‪ ،‬والساعي فيها خير من الموضع( وقوله‪) :‬يوشك أن يكون خير مال المسلم َ‬
‫طر‪َ ،‬يِفّر بدينه من الفتن( وأمره لصاحب السيف عند الفتنة )أن يتخذ سيًفا من خشب(‬ ‫جبال‪ ،‬ومواقع الَق ْ‬ ‫ف ال ِ‬
‫شَع َ‬
‫َ‬
‫وبحديث أبي َبْكَرة للحنف بن قيس‪ ،‬لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي‪ ،‬وهو قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬إذا التقى‬
‫جعوا بعدي كفاًرا‪ ،‬يضرب‬ ‫المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار( الحديث‪ ،‬والحتجاج على ذلك بقوله‪) :‬ل َتْر ِ‬
‫بعضكم ِرَقاب بعض(‪ .‬وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة‪ ،‬حتى قال‪ :‬ل يختلف أصحابنا أن قعود على عن‬
‫القتال كان أفضل ‪/‬له لو قعد‪ ،‬وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به‪ ،‬ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك‪،‬‬
‫ل بن عمر‪ ،‬إن كان بًرا إن أجره لعظيم‪ ،‬وإن‬ ‫ل در مقام قامه سعد بن مالك وعبد ا ّ‬
‫وقوله له‪ :‬ألم أنهك يا أبت؟ وقوله‪ّ :‬‬
‫كان إثما إن خطأه ليسير‪.‬‬

‫وهذا يعارض وجوب طاعته‪ ،‬وبهذا احتجوا على المام أحمد في ترك التربيع بخلفته‪ ،‬فإنه لما أظهر ذلك قال له‬
‫بعضهم‪ :‬إذا قلت‪ :‬كان إماًما واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتله‪ ،‬فقال لهم‬
‫أحمد‪ :‬إني لست من حربهم في شىء‪ ،‬يعني‪ :‬أن ما تنازع فيه على وإخوانه ل أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الجتهاد‬
‫والتأويل الذي هم أعلم به مني‪ ،‬وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم‪ ،‬وأنا‬
‫مأمور بالستغفار لهم‪ ،‬وأن يكون قلبي لهم سليًما‪ ،‬ومأمور بمحبتهم وموالتهم‪ ،‬ولهم من السوابق والفضائل ما ل‬
‫يهدر‪ ،‬ولكن اعتقاد خلفته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص‪ ،‬وجب اتباعه وإن كان بعض الكابر تركه‪ ،‬كما أن‬
‫إمامة عثمان وخلفته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته‪ ،‬وفي مخالفة‬
‫بعضهم له من التأويل ما فيه‪ ،‬إذ كان أهون ما جرى في خلفة علي‪.‬‬

‫وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف‪ ،‬فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي‪ ،‬كما فعله من قاتل‬
‫معه‪ ،‬وكما يقول كثير ‪/‬من أهل الكلم والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي‪ ،‬حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب‬
‫طاعته‪ ،‬ووجوب قتال البغاة‪ ،‬ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون‪.‬‬

‫ومن قوم يقولون‪ :‬بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة‪ ،‬كما فعله من فعله من‬
‫غَنم‬
‫القاعدين عن القتال لخبار النبي صلى ال عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير‪ ،‬وأن الفرار من الفتن باتخاذ َ‬
‫في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها‪ ،‬وأمره باتخاذ سيف من خشب‪ ،‬ولكون على لم‬
‫يذم القاعدين عن القتال معه‪ ،‬بل ربما غبطهم في آخر المر‪.‬‬

‫ولجل هذه النصوص ل يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لن النصوص صرحت بأن القاعد فيها‬
‫خير من القائم‪ ،‬والبعد عنها خير من الوقوع فيها‪ ،‬قالوا‪ :‬ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته‪ ،‬ومن المعلوم أنهم إذا‬
‫لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته‪ ،‬لكن بالقتال زاد البلء‪ ،‬وسفكت الدماء‪،‬‬
‫وتنافرت القلوب‪ ،‬وخرجت عليه الخوارج‪ ،‬وحكم الحكمان‪ ،‬حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين‪ ،‬فظهر من المفاسد ما‬
‫لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة‪.‬‬

‫وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله‪ ،‬فإن فضائل العمال إنما هي ‪/‬بنتائجها وعواقبها‪ ،‬والقرآن إنما فيه قتال‬
‫عَلى‬
‫حَداُهَما َ‬
‫ت ِإ ْ‬
‫حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ‬
‫صِل ُ‬
‫ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫ن ِم َ‬ ‫الطائفة الباغية بعد القتتال ؛ فإنه قال تعالى‪َ{:‬وِإن َ‬
‫طاِئَفَتا ِ‬
‫اُْلْخَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي{ الية ]الحجرات‪ .[9 :‬فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين‪ ،‬لكن أمر بالصلح‬
‫وبقتال الباغية‪.‬‬

‫و إن قيل‪ :‬الباغية يعم البتداء والبغي بعد القتتال‪.‬‬

‫قيل‪ :‬فليس في الية أمر لحدهما بأن تقاتل الخرى‪ ،‬وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية‪ ،‬والكلم هنا إنما هو‬
‫ى لم يكن مأمورًا به‪ ،‬بل كان تركه أفضل‪ ،‬وأما إذا قاتل لكون القتال جائزًا‪ ،‬وإن كان تركه‬
‫عل ّ‬
‫في أن فعل القتال من ِ‬
‫أفضل‪ ،‬أو لكونه مجتهدًا فيه‪ ،‬وليس بجائز في الباطن‪ ،‬فهنا الكلم في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو المساك‬
‫عن القتال في الفتنة‪ ،‬وهوموضع تعارض الدلة‪ ،‬واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين‪ ،‬بعد الجزم بأنه وشيعته‬
‫أولى الطائفتين بالحق‪ ،‬فيمكن وجهان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أن المر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار‪،‬‬
‫ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والمكان‪ ،‬فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانًا هي التألف بالمال‪ ،‬والمسالمة‬
‫والمعاهدة‪ ،‬كما فعله النبي صلى ال عليه وسلم غير مرة‪ ،‬والمام إذا اعتقد وجود القدرة‪ ،‬ولم تكــن حــاصلة كان‬
‫الترك فــي نفس المر أصلح‪.‬‬
‫‪/‬ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته‪ ،‬علم أنه قتال فتنة‪ ،‬فل تجب طاعة المام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب‬
‫فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص‪ ،‬فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن‬
‫ل ـ تعالى ـ عند التنازع‬
‫يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى المر‪ ،‬ول سيما وقد أمر ا ّ‬
‫ل والرسول‪.‬‬‫بالرد إلى ا ّ‬

‫ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم المراء بعده وبغيهم‪ ،‬ونهى عن قتالهم؛ لن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من‬
‫ل َلُهْم ُكّفوْا َأْيِدَيُكْم{‬ ‫مصلحته‪ ،‬كما نهى المسلمون في أول السلم عن القتال‪ ،‬كما ذكره بقوله‪َ} :‬أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ‬
‫ن ِقي َ‬
‫]النساء‪ ،[77 :‬وكما كان النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين‬
‫ل بأمره‪.‬‬
‫والعفو والصفح عنهم حتى يأتي ا ّ‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين‪ ،‬ومن لعن إمام‬
‫الحق‪ ،‬ونحو ذلك‪ .‬فإن هذا بغي‪ ،‬بخلف القتتال قبل ذلك‪ ،‬فإنه كان قتال فتنة‪ ،‬وهو ـ سبحانه ـ قد ذكر اقتتال‬
‫ت ِإْحَداُهَما َعَلى اُْلْخَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي{ ]الحجرات‪ ،[9 :‬فلما أمر بالقتال إذا‬
‫الطائفتين من المؤمنين ثم قال‪َ} :‬فِإن َبَغ ْ‬
‫بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين‪ ،‬دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال‪.‬‬

‫فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة‪ ،‬يكون قبل البغي‪ ،‬وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك‪ ،‬وحينئذ‬
‫ي واجبًا لما ‪/‬حصل البغي‪ ،‬وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر‪ :‬إذا حمل على القتال في ذلك‪.‬‬ ‫يكون القتال مع عل ّ‬
‫وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على‪ ،‬ولم تطعه الشيعة في القتال‪ ،‬ومن حينئذ ذمت الشيعة‬
‫بتركهم النصر مع وجوبه‪ ،‬وفي ذلك الوقت سموا شيعة‪ ،‬وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية المام الواجب الطاعة‪،‬‬
‫ي بن أبي طالب‪ ،‬ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة‬ ‫وهو أمير المؤمنين عل ّ‬
‫لترك الحق وتارة لتعدي الحق‪.‬‬

‫فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫خاِمر[ ويقال‪ :‬أخامر‬‫)ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم( وبذلك استدل معاوية‪ ،‬وقام مالك بن ُي َ‬
‫السكسكي اللهاني الحمصي‪ ،‬يقال‪ :‬له صحبة‪ ،‬وذكره ابن حبان في الثقات‪ ،‬مات سنة سبعين‪ ،‬وقيل سنة اثنتين‬
‫ي هو من الخلفاء الراشدين‪ ،‬ومعاوية أول الملوك‪ ،‬فالمسألة هي من‬ ‫وسبعين]فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام‪ .‬وعل ّ‬
‫هذا الجنس‪ ،‬وهو‪ :‬قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين‪ ،‬فإن كثيًرا من الناس يبادر إلى‬
‫المر بذلك‪ ،‬لعتقاده أن في ذلك إقامة العدل‪ ،‬ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته‪.‬‬

‫ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة‪ ،‬والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر‪ ،‬أو‬
‫يستراح من فاجر‪ ،‬وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء‪ ،‬وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية‬
‫بعد اقتتال الطائفتين‪ ،‬وأمر بالصلح بينهما‪ ،‬فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل ‪/‬الهواء ـ كَقْيس ويمن ـ إذ الية نزلت‬
‫في نحو ذلك ـ فإنه يجب الصلح بينهما‪ ،‬وإل وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لنهم قادرون على‬
‫ذلك‪ ،‬فيجب عليهم أداء هذا الواجب‪ ،‬وهذا يبين رجحان القول ابتداء‪ ،‬ففي الحال الول لم تكن القدرة تامة على القتال‬
‫ل ظاهًرا‪ ،‬وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه‬ ‫ول البغي حاص ً‬
‫مطلًقا‪ ،‬والخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد‪ ،‬كما تقدم‪.‬‬

‫وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية‪ ،‬بما هو في الصحيحين عن النبي صلى ال‬
‫ل‪ ،‬ل يضرهم من خالفهم ول من خذلهم‪ ،‬حتى تقوم‬ ‫عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر ا ّ‬
‫الساعة(‪ ،‬فقام مالك بن يخامر فقال‪ :‬سمعت معاذ بن جبل يقول‪ :‬وهم بالشام‪ ،‬فقال معاوية‪ :‬وهذا مالك بن يخامر يذكر‬
‫أنه سمع معاًذا يقول‪ :‬وهم بالشام‪ ،‬وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما ـ أيضًا ـ نحوه من حديث المغيرة‬
‫ل وهم على‬‫بن شعبة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬ل تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر ا ّ‬
‫ذلك( وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار المر إليهم بعد القتتال والفتنة‪ ،‬وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل‬
‫يضرهم من خالفهم( وهذا يقتضى ‪/‬أن الطائفة القائمة بالحق من هذه المة هى الظاهرة المنصورة‪ ،‬فلما انتصر هؤلء‬
‫كانوا أهل الحق‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن النصوص عينت أنهم بالشام‪ ،‬كقول معاذ‪ ،‬وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل يزال أهل الغرب ظاهرين( قال المام أحمد‪ :‬وأهل الغرب هم أهل الشام‪ .‬وذلك أن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه‪ ،‬وما يشرق عنها فهو شرقه‪ ،‬وكان يسمى أهل نجد‬
‫وما يشرق عنها أهل المشرق‪ ،‬كما قال ابن عمر‪ :‬قدم رجلن من أهل المشرق فخطبا‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪) :‬إن من البيان لسحًرا(‪.‬‬

‫وقد استفاضت السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله‪) :‬الفتنة من هاهنا‪ ،‬الفتنة‬
‫من هاهنا( ويشير إلى المشرق‪ ،‬وقوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬رأس الكفر نحو المشرق( ونحو ذلك‪ .‬فأخبر أن الطائفة‬
‫المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها‪ ،‬والفتنة ورأس الكـفر بالمشرق‪ ،‬وكـان‬
‫أهـل المدينة يسـمون أهــل الشام أهل المغرب‪ ،‬ويقولون عن الوزاعي‪ :‬إنه إمام أهل المغرب‪ ،‬ويقولون عن سفيان‬
‫ساَمَتة ]أي‪ :‬على مقربة‬ ‫الثوري ونحوه‪ :‬إنه مشرقي إمام أهل المشرق‪ ،‬وهذا لن منتهى الشام عند الفرات هو على ُم َ‬
‫حّران والّرّقة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا‬ ‫منه[ مدينة الرسول صلى ال عليه وسلم طول كل منهما‪ ،‬وبعد ذلك َ‬
‫كانت قبلتهم أعدل ‪/‬القبلة‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات‬
‫اليمين؛ كأهل العراق‪ ،‬ول إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي ل يضرها خلف المخالف‪ ،‬ول خذلن‬
‫ضا لقوله‪) :‬تقتل عمارا الفئة الباغية(‪ ،‬ولقوله‪) :‬تقتلهم أولى الطائفتين بالحق(‪ ،‬وهذا‬
‫الخاذل هي بالشام‪ ،‬كان هذا معار ً‬
‫من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين‪ ،‬أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب‪ .‬وقد احتج به من هؤلء على‬
‫أولئك‪ ،‬لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب‪ ،‬فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض‪ ،‬هؤلء أهل‬
‫الهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل‪.‬‬

‫ول ريب أن هذه النصوص لبد من الجمع بينها والتأليف‪ ،‬فيقال‪ :‬أما قوله صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل يزال أهل الغرب‬
‫ظاهرين( ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم‪ ،‬فهكذا وقع وهذا هو المر‪ ،‬فإنهم ما زالوا ظاهرين‬
‫منتصرين‪.‬‬

‫ل( ومن هو ظاهر‪ ،‬فل يقتضي أل يكون فيهم من فيه‬


‫وأما قوله ـ عـليه السلم‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر ا ّ‬
‫بغي ومن غيره أولى بالحق منهم‪ ،‬بل فيهم هذا وهذا‪.‬‬

‫وأما قوله‪) :‬تقتلهم أولى الطائفتين بالحق( فهذا دليل على أن علًيا ‪/‬ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة‬
‫ل‪ ،‬وأن يكون ظاهرًا‬
‫حا في بعض الحوال لم يمنع أن يكون قائمًا بأمر ا ّ‬‫الخرى‪ ،‬وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجو ً‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه‪.‬‬ ‫ل عن طاعة ا ّ‬ ‫بالقيام بأمر ا ّ‬

‫وأما كون بعضهم باغيًا في بعض الوقات‪ ،‬مع كون بغيه خطأ مغفوًرا‪ ،‬أو ذنًبا مغفوًرا‪ ،‬فهذا ـ أيضًا ـ ل يمنع ما‬
‫شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم‪ ،‬ول ريب أن جملتهم‬
‫كانوا أرجح في عموم الحوال‪.‬‬

‫وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلفته على أهل العراق‪ ،‬حتى قدم الشام غير مرة‪ ،‬وامتنع من الذهاب‬
‫ل وهم‬‫إلى العراق‪ ،‬واستشار فأشار عليه أنه ل يذهب إليها‪ ،‬وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أو ً‬
‫كانوا إذ ذاك أفضل المة‪ ،‬ثم أدخل عليه أهل الشام‪ ،‬ثم أدخل عليه أهل العراق‪ ،‬وكانوا آخر من دخل عليه ـ هكذا في‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال‪َ :‬لَكْفر من كفور الشام أحب إلى من فتح‬
‫مدينة بالعراق‪.‬‬

‫ل وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام‪ ،‬وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل‬ ‫والنصوص التي في كتاب ا ّ‬
‫المشرق‪ ،‬أكثر من أن تذكر هنا‪ ،‬بل عن‪ /‬النبي صلى ال عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره‬
‫بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه‪ ،‬وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على‪ ،‬وذاك‬
‫ي ظهر منهم من الفتن‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والردة‪ ،‬والبدع‪ ،‬ما يعلم به أن أولئك كانوا‬
‫ضا؛ ولهذا لما ذهب عل ّ‬
‫كان أمًرا عار ً‬
‫أرجح‪.‬‬

‫ضا ـ ل ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام‪ ،‬كما كان على‬
‫وكذلك ـ أي ً‬
‫وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم‪ ،‬أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة‪ ،‬لكن مقابلة الجملة وترجيحها ل يمنع‬
‫اختصاص الطائفة الخرى بأمر راجح‪.‬‬

‫ل دائًما إلى آخر الدهر‪ ،‬وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى‬


‫والنبي صلى ال عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر ا ّ‬
‫آخر الدهر‪ ،‬فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة‪ ،‬وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض السلم‪،‬‬
‫فإن الحجاز ـ التي هي أصل اليمان ـ نقص في آخر الزمان منها‪ :‬العلم واليمان والنصر والجهاد‪ ،‬وكذلك اليمن‬
‫والعراق والمشرق‪.‬‬

‫ل أعلم‪.‬‬
‫وأما الشام فلم يزل فيها العلم واليمان‪ ،‬ومن يقاتل عليه منصورًا مؤيدًا في كل وقت‪ ،‬فهذا هذا‪ ،‬وا ّ‬

‫وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن عليًا كان أولى ‪ /‬بالحق ممن فارقه‪ ،‬ومع أن عماًرا قتلته‬
‫ل‪ ،‬ونقر بالحق كله‪ ،‬ول يكون لنا هوى‪،‬‬‫الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند ا ّ‬
‫ول نتكلم بغير علم‪ ،‬بل نسلك سبل العلم والعدل‪ ،‬وذلك هو اتباع الكتاب والسنة‪ .‬فأما من تمسك ببعض الحق دون‬
‫بعض‪ ،‬فهذا منشأ الفرقة والختلف‪.‬‬

‫ولهذا لما اعتقـدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي‪ ،‬جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على‬
‫المام بتأويل سائغ وهي عنده‪ ،‬راسلهم المام‪ ،‬فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم‪ ،‬وإن ذكروا شبهة َبّيَنها‪ ،‬فإن رجعوا‬
‫وإل وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين‪.‬‬

‫ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصّديق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور‬
‫المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك‪ ،‬ثم يجعلون المقاتلين له بغاة‪ ،‬ل يفرقون‬
‫بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله‪ ،‬كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال المين‬
‫والمأمون وغيرهما‪ ،‬وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة‪ ،‬والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم‪.‬‬

‫وهذا تجده في الصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم‪ ،‬ثم الشافعي وأصحابه‪ ،‬ثم كثير من أصحاب أحمد‬
‫ي نسج على منوال‪ /‬الُمَزِني‪،‬‬‫خْرِق ّ‬
‫الذين صنفوا‪ :‬باب قتال أهل البغي‪ ،‬نسجوا على منوال أولئك‪ ،‬تجدهم هكذا‪ ،‬فإن ال َ‬
‫والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن‪ ،‬وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب‪.‬‬

‫والمصنفون في الحكام‪ :‬يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعًا‪ ،‬وليس عن النبي صلى ال عليه وسلم في قتال البغاة‬
‫حديث‪ ،‬إل حديث َكْوَثر بن حكيم عن نافع‪ ،‬وهو موضوع ‪.‬‬

‫وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬والسنن ـ فليس فيها إل قتال أهل الردة والخوارج‪ ،‬وهم أهل‬
‫الهواء‪ ،‬وكذلك كتب السنة المنصوصة عن المام أحمد ونحوه‪.‬‬

‫وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه‪ ،‬ليس فيها باب قتال البغاة‪ ،‬وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الهواء وهذا هو‬
‫ل وسنة رسوله‪ ،‬وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة‪ ،‬فهذا الذي أمر به النبي‬‫الصل الثابت بكتاب ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫وأما القتال لمن لم يخرج إل عن طاعة إمام معين‪ ،‬فليس في النصوص أمر بذلك‪ ،‬فارتكب الولون ثلثة محاذير‪:‬‬

‫الول‪ :‬قتال من خرج عن طاعة ملك معين‪ ،‬وإن كان قريًبا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الفتراق‪،‬‬
‫والفتراق هو الفتنة‪.‬‬

‫‪/‬والثاني‪ :‬التسوية بين هؤلء وبين المرتدين عن بعض شرائع السلم‪.‬‬


‫والثالث‪ :‬التسوية بين هؤلء‪ ،‬وبين قتال الخوارج المارقين من السلم‪ ،‬كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك‬
‫الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولة المور‪ ،‬ويأمرون بالقتال معهم لعدائهم‪ ،‬بناء على أنهم أهل العدل‬
‫وأولئك البغاة‪ ،‬وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم‪ ،‬أو أئمة الكلم‪ ،‬أو أئمة المشيخة على نظرائهم‪،‬‬
‫مدعين أن الحق معهم‪ ،‬أو أنهم أرجح‪ ،‬بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير‪ ،‬ل بالجتهاد‪ ،‬وهذا كثير في علماء المة‬
‫ل العدل‪ ،‬فإنه ل حول ول قوة إل به‪.‬‬
‫وعبادها وأمرائها وأجنادها‪ ،‬وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها‪ .‬فنسأل ا ّ‬

‫ولهذا كان أعدل الطوائف‪ :‬أهل السنة أصحاب الحديث‪.‬‬

‫ي في‬
‫وتجد هؤلء إذا أمروا بقتال من مرق من السلم‪ ،‬أو ارتد عن بعض شرائعه‪ ،‬يأمرون أن يسار فيه بسيرة عل ّ‬
‫جَهُز لهم على جريح‪ ،‬ول يقتل لهم أسير‪ ،‬ويتركون ما‬ ‫سَبي لهم ذرية ول ُيْغَنُم لهم مال‪ ،‬ول ُي ْ‬
‫قتال طلحة والزبير‪ ،‬ل ُي ْ‬
‫ل به رسوله‪ ،‬وسار به الصديق في قتال‬ ‫ي في قتال الخوارج وما أمر ا ّ‬ ‫أمر به النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسار به عل ّ‬
‫ل بينه من المرتدين والمارقين‪ ،‬وبين المسلمين المسيئين‪ ،‬ويفرقون بين ما‬ ‫مانعي الزكاة‪ ،‬فل يجمعون بين ما فرق ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬
‫ل بينه من الملوك والئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل‪ .‬وا ّ‬ ‫جمع ا ّ‬

‫ل ـ عن إسلم معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬متى كان؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم ل ؟ وما قيل فيه‬
‫ل الشيخ ـ َرحَمُه ا ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬
‫غير ذلك؟‬

‫جــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ل عنه ـ ثابت بالنقل المتواتر‪ ،‬وإجماع أهل العلم على ذلك‪ ،‬كإيمان أمثاله ممن‬
‫إيمان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي ا ّ‬
‫عْكِرمة بن أبي جهل‪،‬‬‫سَهْيل بن عمرو‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬و ِ‬‫آمن عام فتح مكة‪ ،‬مثل أخيه يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬ومثل ُ‬
‫والحارث بن هشام‪ ،‬وأبي أسد بن أبي العاص بن أمية‪ ،‬وأمثال هؤلء‪.‬‬

‫ن عليهم‪ ،‬وأعطاهم‬
‫فإن هؤلء يسمون‪ :‬الطلقاء‪ ،‬فإنهم آمنوا عام فتح النبي صلى ال عليه وسلم مكة قهًرا‪ ،‬وأطلقهم وم ّ‬
‫وتألفهم‪ ،‬وقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أسلم قبل ذلك وهاجر‪ ،‬كما أسلم خالد بن الوليد‪ ،‬وعمرو بن العاص‪،‬‬
‫حا فهذا من المهاجرين‪.‬‬
‫ي ـ قبل فتح مكة ـ وهاجروا إلى المدينة‪ ،‬فإن كان هذا صحي ً‬‫جِب ّ‬
‫حَ‬
‫وعثمان بن طلحة ال َ‬

‫‪/‬وأما إسلمه عام الفتح مع من ذكر‪ ،‬فمتفق عليه بين العلماء‪ ،‬سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلمه إل عام فتح‬
‫مكة‪ ،‬ولكن بعض الكذابين زعم أنه عّير أباه بإسلمه‪ ،‬وهذا كذب بالتفاق من أهل العلم بالحديث‪.‬‬

‫وكان هؤلء المذكورون من أحسن الناس إسلًما‪ ،‬وأحمدهم سيرة‪ ،‬لم يتهموا بسوء‪ ،‬ولم يتهمهم أحد من أهل العلم‬
‫ل ورسوله‪ ،‬والجهاد في سبيل‬ ‫ل ورسوله‪ ،‬وحب ا ّ‬‫بنفاق‪ ،‬كما اتهم غيرهم‪ ،‬بل ظهر منهم من حسن السلم وطاعة ا ّ‬
‫ل‪ ،‬ما دل على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلمهم‪ ،‬ومنهم من أّمره النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫ل‪ ،‬وحفظ حدود ا ّ‬ ‫ا ّ‬
‫سْيد أميرًا على مكة نائبا عنه‪ ،‬وكان من خيار المسلمين‪ ،‬كان يقول‪ :‬يا أهل‬
‫عّتاب بن ُأ َ‬
‫واستعمله نائبا له‪ ،‬كما استعمل َ‬
‫ل ل يبلغني أن أحًدا منكم قد تخلف عن الصلة إل ضربت عنقه‪.‬‬ ‫مكة‪ ،‬وا ّ‬

‫وقد استعمل النبي صلى ال عليه وسلم أبا سفيان بن حرب ـ أبا معاوية ـ على نجران نائبًا له‪ ،‬وتوفى النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأبو سفيان عامله على نجران‪.‬‬

‫وكان معاوية أحسن إسلًما من أبيه باتفاق أهل العلم‪ ،‬كما أن أخاه يزيد بن أبي سفيان كان أفضل منه ومن أبيه؛ ولهذا‬
‫ل عنه ـ على قتال النصارى حين فتح الشام‪ ،‬وكان هو أحد المراء الذين‬ ‫استعمله أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ‬
‫استعملهم أبو بكر الصديق‪ ،‬ووصاه بوصية معروفة نقلها أهل العلم‪ ،‬واعتمدوا عليها‪ ،‬وذكرها ‪/‬مالك في الموطأ‬
‫ل‪ ،‬إما أن تركب وإما أن‬
‫ل عنه ـ في ركابه مشيعا له‪ ،‬فقال له‪ :‬يا خليفة رسول ا ّ‬
‫وغيره‪ ،‬ومشى أبو بكر ـ رضي ا ّ‬
‫ل ـ عز وجل‪.‬‬‫طائي هذه في سبيل ا ّ‬‫خَ‬‫ت براكب‪ ،‬أحتسب ُ‬ ‫ت بنازل ولس ُ‬
‫أنزل‪ ،‬فقال‪ :‬لس َ‬

‫ضا ـ وقدم عليهم خالد ابن الوليد لشجاعته ومنفعته في‬


‫وكان عمرو بن العاص أحد المراء‪ ،‬وأبو عبيدة بن الجراح ـ أي ً‬
‫الجهاد‪.‬‬
‫ل عنه ـ كان‬ ‫فلما توفى أبو بكر‪َ ،‬وّلى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميرًا على الجميع؛ لن عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬
‫ن‬
‫ل‪ ،‬فولى أبا عبيدة؛ لنه كان ليًنا‪ .‬وكان أبوبكر ـ رضي الّ عنه ـ ليًنا‪ ،‬وخالد شديًدا على الكفار فولي اللي ُ‬ ‫شديًدا في ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ في حقه‪ ،‬فإن نبينا صلى ال‬ ‫ن؛ ليعتدل المر‪ ،‬وكلهما فعل ما هو أحب إلى ا ّ‬ ‫الشديد‪ ،‬وولي الشديُد اللي َ‬
‫ل تعالى في‬ ‫عليه وسلم أكمل الخلق‪ ،‬وكان شديًدا على الكفار والمنافقين‪ ،‬ونعته الّ ـ تعالى ـ بأكمل الشرائع‪ ،‬كما قال ا ّ‬
‫ن ِفي‬
‫جاِهُدو َ‬
‫ن ُي َ‬
‫عَلى اْلَكاِفِري َ‬
‫عّزٍة َ‬
‫ن َأ ِ‬ ‫حَماء َبْيَنُهْم{ ]الفتح‪ ،[29 :‬وقال‪ :‬فيهم‪َ} :‬أِذّلٍة َ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬ ‫عَلى اْلُكّفاِر ُر َ‬ ‫نعت أمته‪َ} :‬أ ِ‬
‫شّداء َ‬
‫ل َوَل َيَخاُفوَن َلْوَمَة لِئٍم{ ]المائدة‪.[54:‬‬ ‫لا ّ‬‫سِبي ِ‬
‫َ‬

‫وقد ثبت في الصحيح‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم لما استشار أصحابه في أسارى بدر‪ ،‬وأشار عليه أبو بكر أن‬
‫يأخذ الفدية منهم وإطلقهم‪ ،‬وأشار عليه عمر بضرب أعناقهم‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إن الّ يلين قلوب‬
‫خر‪ ،‬وإن‬‫صْ‬ ‫رجال فيه حتى تكون ألين من الَبّز ]الَبّز‪ :‬نوع من الثياب[‪ ،‬ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من ال ّ‬
‫ك َغُفوٌر ّرِحيٌم{ ]إبراهيم‪ ،[36 :‬ومثل‬
‫صاِني َفِإّن َ‬
‫ع َ‬
‫ن َ‬ ‫مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم الخليل إذ قال‪َ} :‬فَمن َتِبَعِني َفِإّنُه ِمّني َوَم ْ‬
‫ت الَْعِزيُز اْلَحِكيُم{ ]المائدة‪ ،[118 :‬ومثلك يا عمر‬ ‫ك َأن َ‬ ‫ك َوِإن َتْغِفْر َلُهْم َفِإّن َ‬ ‫عَباُد َ‬‫عيسى ابن مريم إذ قال‪ِ} :‬إن ُتَعّذْبُهْم َفِإّنُهْم ِ‬
‫ض ِمَن اْلَكاِفِريَن َدّياًرا{ ]نوح‪ ،[26 :‬ومثل موسى بن عمران إذ‬ ‫لْر ِ‬ ‫عَلى ا َْ‬‫ل َتَذْر َ‬ ‫مثل نوح ـ عليه السلم ـ إذ قال‪ّ} :‬ر ّ‬
‫ب َ‬
‫ب اَلِليَم{ ]يونس‪ [88 :‬وكانا في حياة النبي‬ ‫حّتى َيَرُوْا اْلَعَذا َ‬ ‫ل ُيْؤِمُنوْا َ‬ ‫عَلى ُقُلوِبِهْم َف َ‬
‫شُدْد َ‬ ‫عَلى َأْمَواِلِهْم َوا ْ‬
‫س َ‬ ‫قال‪َ} :‬رّبَنا ا ْ‬
‫طِم ْ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانا هما وزيريه من أهل الرض‪.‬‬ ‫صلى ال عليه وسلم كما نعتهما رسول ا ّ‬

‫ل عنه ـ لما وضع‬‫ل عنهما ـ أن سرير عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ‬ ‫وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫ل عنه ـ فقال‪ :‬والّ ما على وجه‬
‫ي بن أبي طالب ـ رضي ا ّ‬‫وجاء الناس يصلون عليه‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬فالتفت فإذا عل ّ‬
‫ل مع صاحبيك‪،‬‬‫ل‪ ،‬إني لرجو أن يحشرك ا ّ‬ ‫ل ـ تعالى ـ بعمله من هذا الميت‪ .‬وا ّ‬
‫الرض أحد‪ ،‬أحب إلى من أن ألقى ا ّ‬
‫فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول‪) :‬دخلت أنا وأبو بكر وعمر‪ ،‬وخرجت أنا وأبو بكر وعمر‪،‬‬
‫وذهبت أنا وأبو بكر وعمر(‪.‬‬

‫ثم ثبت في الصحيح أنه لما كان يوم أحد انهزم أكثر المسلمين‪ ،‬فإذا أبو سفيان‪ ،‬وكان القوم المرام إذ قال‪ :‬أفي القوم‬
‫محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تجيبوه(‪ ،‬ثم قال‪ :‬أفي ‪/‬القوم ابن أبي‬
‫قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تجيبوه(‪ ،‬فقال‪ :‬أفي‬
‫القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تجيبوه(‪،‬‬
‫الحديث بطوله‪ ،‬فهذا أبو سفيان ـ قائد الحزاب ـ لم يسأل إل عن هؤلء الثلثة‪ :‬عن النبي صلى ال عليه وسلم وأبي‬
‫ل عنهما ـ لعلمه بأن هؤلء هم رؤوس عسكر المسلمين‪.‬‬ ‫بكر وعمرـ رضي ا ّ‬

‫وقال الرشيد لمالك بن أنس‪ :‬أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬منزلتهما منه في‬
‫حياته كمنزلتهما بعد وفاته‪ ،‬فقال‪ :‬شفيتني يا مالك‪.‬‬

‫ل ـ تعالى ـ فيه من الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك‪،‬‬


‫ل صلى ال عليه وسلم واستخلف أبو بكر‪ ،‬جعل ا ّ‬ ‫فلما توفي رسول ا ّ‬
‫ل له لكمال النبي صلى ال‬ ‫جّهَز جيش أسامة‪ ،‬وكان ذلك تكمي ً‬ ‫حتى فاق عمر في ذلك‪ ،‬حتى قاتل أهل الردة بعد أن َ‬
‫عليه وسلم الذي صار خليفة له‪.‬‬

‫ل له‪ ،‬حتى صار أمير المؤمنين ؛‬


‫ل فيه من الرأفة والرحمة ما لم يكن فيه قبل ذلك تكمي ً‬‫ولما استخلف عمر‪ ،‬جعل ا ّ‬
‫ولهذا استعمل هذا خالًدا‪ ،‬وهذا أبا عبيدة‪.‬‬

‫وكان يزيد بن أبي سفيان على الشام‪ ،‬إلى أن ولي عمر؛ فمات يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬فاستعمل عمر معاوية مكان أخيه‬
‫يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬وبقي معاوية ‪/‬على وليته تمام خلفته‪ ،‬وعمر ورعيته تشكره‪ ،‬وتشكر سيرته فيهم‪ ،‬وتواليه‬
‫ظّلَمُه منهم ُمَتظّلم‪ ،‬ويزيد بن معاوية ليس من‬
‫ك‪ ،‬ول َت َ‬
‫شَت ٍ‬
‫شُكه منهم ُم ْ‬
‫وتحبه‪ ،‬لما رأوا من حلمه وعدله‪ ،‬حتى إنه لم َي ْ‬
‫أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنما ولد في خلفة عثمان‪ ،‬وإنما سماه يزيد باسم عمه من الصحابة‪.‬‬

‫وقد شهد معاوية‪ ،‬وأخوه يزيد‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬والحارث بن هشام وغيرهم ـ من مسلمة الفتح ـ مع النبي صلى ال‬
‫جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها‬
‫ل ُ‬
‫ن َوَأنَز َ‬
‫عَلى اْلُمْؤِمِني َ‬
‫سوِلِه َو َ‬
‫عَلى َر ُ‬
‫سِكيَنَتُه َ‬
‫ل َ‬ ‫عليه وسلم غزوة حنين‪ ،‬ودخلوا في قوله تعالى‪ُ} :‬ثّم َأَنز َ‬
‫لا ّ‬
‫ل سكينته عليهم مع النبي صلى‬ ‫ك َجَزاء اْلَكاِفِريَن{ ]التوبة‪ ،[26 :‬وكانوا من المؤمنين الذين أنزل ا ّ‬ ‫ن َكَفُروْا َوَذِل َ‬
‫ب اّلِذي َ‬
‫َوعّذ َ‬
‫ل فيها‬
‫ال عليه وسلم‪ .‬وغزوة الطائف لما حاصروا الطائف ورماها بالمنجنيق‪ ،‬وشهدوا النصارى بالشام‪ ،‬وأنزل ا ّ‬
‫ل عنه ـ جيش العسرة بألف بعير في‬ ‫سَرة‪ ،‬التي جهز فيها عثمان بن عفان ـ رضي ا ّ‬
‫سورة براءة‪ ،‬وهي غزوة الُع ْ‬
‫ضّر عثمان ما فعل بعد‬‫ل ـ تعالى ـ فأعوزت‪ ،‬وكملها بخمسين بعيًرا‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما َ‬
‫سبيل ا ّ‬
‫اليوم(‪ ،‬وهذا آخر مغازي النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يكن فيها قتال‪.‬‬

‫غَزاة بنفسه‪ ،‬ولم ‪/‬يكن القتال إل في تسع غزوات‪ :‬بدر‪ ،‬وأحد‪،‬‬


‫وقد غزا النبي صلى ال عليه وسلم أكثر من عشرين َ‬
‫وبني المصطلق‪ ،‬والخندق‪ ،‬وذي َقَرٍد‪ ،‬وغزوة الطائف‪ ،‬وأعظم جيش جمعه النبي صلى ال عليه وسلم كان بحنين‬
‫والطائف‪ ،‬وكانوا اثنى عشر ألًفا‪ ،‬وأعظم جيش غزا مع النبي صلى ال عليه وسلم جيش تبوك‪ ،‬فإنه كان كثيًرا ل‬
‫يحصى‪ ،‬غير أنه لم يكن فيه قتال‪.‬‬

‫ن َأنَفُقوا‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫جًة ّم َ‬
‫ظُم َدَر َ‬
‫عَ‬‫ك َأ ْ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ح َوَقاَت َ‬
‫ل اْلَفْت ِ‬
‫ق ِمن َقْب ِ‬
‫ن َأنَف َ‬
‫سَتِوي ِمنُكم ّم ْ‬ ‫وهؤلء المذكورون دخلوا في قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َي ْ‬
‫ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد‪ ،[10 :‬فإن هؤلء الطلقاء‪ ،‬مسلمة الفتح‪ ،‬هم ممن أنفق من بعد الفتح‬ ‫عَد ا ُّ‬
‫ل َو َ‬
‫ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّ‬
‫ل عنهم‪.‬‬
‫ل الحسنى‪ ،‬فإنهم أنفقوا بحنين والطائف‪ ،‬وقاتلوا فيهما ـ رضي ا ّ‬
‫وقاتل‪ ،‬وقد وعدهم ا ّ‬

‫ن اّتَبُعوُهم‬
‫صاِر َواّلِذي َ‬
‫لن َ‬
‫ن َوا َ‬
‫جِري َ‬
‫ن اْلُمَها ِ‬
‫ن ِم َ‬
‫لّوُلو َ‬
‫نا َ‬ ‫ل عنهم حيث قال تعالى‪َ} :‬وال ّ‬
‫ساِبُقو َ‬ ‫ضا ـ داخلون فيمن رضى ا ّ‬ ‫وهم ـ أي ً‬
‫ضوْا َعْنُه{ ]التوبة‪ ،[100 :‬فإن السابقين هم الذين أسلموا قبل الحديبية‪ ،‬كالذين بايعوه تحت‬ ‫عْنُهْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫يا ّ‬
‫ضَ‬‫ن ّر ِ‬
‫سا ٍ‬
‫حَ‬
‫ِبِإ ْ‬
‫ك َتْحتَ الّشَجَرِة{ ]الفتح‪ ،[18:‬كانوا أكثر من ألف‬ ‫ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ‬
‫ن اْلُمْؤِمِني َ‬
‫عِ‬
‫ل َ‬
‫ي ا ُّ‬
‫ضَ‬‫ل فيهم‪َ}:‬لَقْد َر ِ‬
‫الشجرة‪ ،‬الذين أنزل ا ّ‬
‫وأربعمائة‪ ،‬وكلهم من أهل الجنة‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل يدخل النار أحد‬
‫بايع تحت الشجرة(‪ ،‬وكان فيهم حاطب بن أبي َبْلَتعة‪ ،‬وكانت له سيئات ‪/‬معروفة‪ ،‬مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإساءته إلى مماليكه‪ ،‬وقد ثبت في الصحيح أن مملوكه جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل‪ ،‬لبد أن يدخل حاطب النار‪ .‬فقال له النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬كذبت‪ ،‬إنه شهد بدًرا‬ ‫ل يا رسول ا ّ‬
‫فقال‪ :‬وا ّ‬
‫والحديبية(‪.‬‬

‫وثبت في الصحيح‪ :‬أنه لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي صلى ال عليه وسلم إليهم‪ ،‬أرسل على بن أبي‬
‫ل ما‬
‫ل يا رسول ا ّ‬ ‫طالب والزبير إلى المرأة التي كان معها الكتاب‪ ،‬فأتيا بها‪ ،‬فقال‪) :‬ما هذا يا حاطب؟(‪ .‬فقال‪ :‬وا ّ‬
‫صق‪ :‬هو الرجل‬ ‫صًقا في قريش ]الُمْل َ‬ ‫فعلت ذلك ارتداًدا عن ديني‪ ،‬ول رضيت بالكفر بعد السلم‪ ،‬ولكن كنت امرأ ُمْل َ‬
‫المقيم في الحي‪ ،‬وليس منهم بنسب[‪ ،‬لم أكن من أنفسهم‪ ،‬وكان من معك من أصحابك لهم بمكة قرابات يحمون بها‬
‫خَذ فيهم يًدا يحمون بها قرابتي‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب‪ :‬دعني أضرب عنق هذا‬ ‫أهاليهم‪ ،‬فأحببت إذ فاتني ذلك أن أّت ِ‬
‫ل قال‪ :‬اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم(‪.‬‬ ‫المنافق‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬إنه قد شهد بدًرا‪ ،‬وما يدريك أن ا ّ‬

‫ل يغفر لهؤلء السابقين ـ كأهل بدر والحديبية ـ من الذنوب العظيمة‪ ،‬بفضل سابقتهم‪،‬‬
‫وفي هذا الحديث بيان أن ا ّ‬
‫وإيمانهم‪ ،‬وجهادهم‪ ،‬ما ل يجوز لحد أن يعاقبهم بها‪ ،‬كما لم تجب معاقبة حاطب مما كان منه‪.‬‬

‫وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين على وطلحة والزبير ونحوهم‪/ ،‬فإنه إما أن يكون اجتهاًدا ل ذنب فيه‪ ،‬فل‬
‫كلم‪ .‬فقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران‪ ،‬وإذا اجتهد فأخطأ فله‬
‫أجر(‪.‬‬

‫ل عنهم‪ ،‬وغفر لهم ـ ما فعلوه؛ فل يضرهم ما وقع منهم من الذنوب‬ ‫وإن كان هناك ذنب‪ ،‬فقد ثبت أن هؤلء ـ رضي ا ّ‬
‫ل بها‬
‫حصُ ا ّ‬‫ل محاه بسبب قد وقع‪ ،‬من السباب التي ُيَم ّ‬‫إن كان قد وقع ذنب‪ ،‬بل إن وقع من أحدهم ذنب كان ا ّ‬
‫ل عليه‪ ،‬أو كان له حسنات تمحو السيئات‪ ،‬أو يكون قد َكّفر عنه ببلء ابتله به‪،‬‬ ‫الذنوب‪ ،‬مثل أن يكون قد تاب فيتوب ا ّ‬
‫ب‪ ،‬ول َهّم‪،‬‬‫ص ٍ‬
‫ب‪ ،‬ول َو َ‬ ‫ص ٍ‬
‫فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ما يصيب المؤمن من َن َ‬
‫ل من خطاياه(‪.‬‬
‫حَزن‪ ،‬ول أذى‪ ،‬إل َكّفر ا ّ‬
‫غّم‪ ،‬ول َ‬
‫ول َ‬

‫عَد ا ُّ‬
‫ل‬ ‫وأما من بعد هؤلء السابقين الولين‪ ،‬وهم الذين أسلموا بعد الحديبية‪ ،‬فهؤلء دخلوا في قوله تعالى‪َ} :‬وُك ّ‬
‫ل َو َ‬
‫ضوْا َعْنُه{ ]التوبة‪ ،[100 :‬وقد أسلم‬ ‫عْنُهْم َوَر ُ‬
‫ل َ‬
‫يا ّ‬
‫ضَ‬‫ن ّر ِ‬
‫سا ٍ‬
‫حَ‬ ‫سَنى{ ]الحديد‪ ،[10 :‬وفي قوله تعالى‪َ}:‬واّلِذي َ‬
‫ن اّتَبُعوُهم ِبِإ ْ‬ ‫حْ‬
‫اْل ُ‬
‫جبي‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وأسلم بعد الطلقاء أهل‬
‫حَ‬‫قبل فتح مكة خالد ابن الوليد‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وعثمان بن طلحة ال َ‬
‫الطائف وكانوا آخر الناس إسلمًا‪ ،‬وكان منهم عثمان بن أبي العاص الثقفي الذي أمره النبي صلى ال عليه وسلم على‬
‫أهل الطائف‪ ،‬وكان من خيار الصحابة‪ ،‬مع تأخر إسلمه‪.‬‬

‫‪/‬فقد يتأخر إسلم الرجل‪ ،‬ويكون أفضل من بعض من تقدمه بالسلم‪ ،‬كما تأخر إسلم عمر‪ ،‬فإنه يقال‪ :‬إنه أسلم تمام‬
‫ل على كثير ممن أسلم قبله‪ ،‬وكان عثمان‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد‪ ،‬وعبد الرحمن بن‬ ‫الربعين‪ ،‬وكان ممن فضله ا ّ‬
‫عوف‪ ،‬أسلموا قبل عمر على يد أبي بكر‪ ،‬وتقدمهم عمر‪.‬‬

‫وأول من أسلم من الرجال الحرار البالغين أبو بكر‪ ،‬ومن الحرار الصبيان على‪ ،‬ومن الموالي زيد بن حارثة‪ ،‬ومن‬
‫النساء خديجة أم المؤمنين‪ ،‬وهذا باتفاق أهل العلم‪.‬‬

‫ضُهْم َأْوِلَياء‬
‫ك َبْع ُ‬
‫صُروْا ُأْوَلـِئ َ‬
‫ن آَووْا ّوَن َ‬
‫ل َواّلِذي َ‬ ‫لا ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫سِهْم ِفي َ‬ ‫جاَهُدوْا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِ‬‫جُروْا َو َ‬‫ن آَمُنوْا َوَها َ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫وقد قال ا ّ‬
‫ض ِفي‬ ‫ضُهْم َأْوَلى ِبَبْع ٍ‬ ‫حاِم َبْع ُ‬
‫لْر َ‬
‫ك ِمنُكْم َوُأْوُلوْا ا َ‬‫جاَهُدوْا َمَعُكْم َفُأْوَلـِئ َ‬ ‫جُروْا َو َ‬ ‫ن آَمُنوْا ِمن َبْعُد َوَها َ‬‫ض{إلى قوله تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬ ‫َبْع ٍ‬
‫يٍء َعِليٌم{ ]النفال‪ [72-75 :‬فهذه عامة‪ ،‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬
‫ل ِبُك ّ‬
‫نا ّ‬‫ل ِإ ّ‬
‫با ّ‬‫ِكَتا ِ‬

‫صاِدُقونَ‬ ‫ك ُهُم ال ّ‬ ‫سوَلُه ُأْوَلِئ َ‬


‫ل َوَر ُ‬ ‫ن ا َّ‬‫صُرو َ‬ ‫ضَواًنا َوَين ُ‬
‫ل َوِر ْ‬ ‫ن ا ِّ‬
‫ل ّم َ‬
‫ضً‬‫ن َف ْ‬ ‫جوا ِمن ِدياِرِهْم َوَأْمَواِلِهْم َيْبَتُغو َ‬ ‫خِر ُ‬
‫ن ُأ ْ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫جِري َ‬‫}ِلْلُفَقَراء اْلُمَها ِ‬
‫سِهْم َوَلْو‬ ‫عَلى َأنُف ِ‬‫ن َ‬ ‫جًة ّمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ‬ ‫حا َ‬
‫صُدوِرِهْم َ‬ ‫ن ِفي ُ‬ ‫جُدو َ‬
‫ل َي ِ‬
‫جَر ِإَلْيِهْم َو َ‬‫ن َها َ‬ ‫ن َم ْ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ن ِمن َقْبِلِهْم ُي ِ‬
‫ليَما َ‬‫ن َتَبّوُؤوا الّداَر َوا ِْ‬
‫َواّلِذي َ‬
‫سَبُقوَنا‬
‫ن َ‬ ‫خَواِنَنا اّلِذي َ‬‫لْ‬‫غِفْر َلَنا َو ِ‬
‫ن َرّبَنا ا ْ‬
‫جاُؤوا ِمن َبْعِدِهْم َيُقوُلو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن َواّلِذي َ‬
‫حو َ‬ ‫ك ُهُم اْلُمْفِل ُ‬‫سِه َفُأْوَلِئ َ‬
‫ح َنْف ِ‬‫شّ‬‫ق ُ‬‫صٌة َوَمن ُيو َ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن ِبِهْم َ‬
‫َكا َ‬
‫ف ّرِحيٌم{ ]الحشر‪.[8-10 :‬‬ ‫ك َرُؤو ٌ‬ ‫ن آَمُنوا َرّبَنا ِإّن َ‬ ‫ل ّلّلِذي َ‬
‫غّ‬‫ل ِفي ُقُلوِبَنا ِ‬‫جَع ْ‬
‫ل َت ْ‬
‫ن َو َ‬‫ليَما ِ‬‫ِبا ِْ‬

‫فهذه الية ـ والتي قبلها ـ تتناول من دخل فيها بعد السابقين الولين إلى يوم القيامة؛ فكيف ل يدخل فيها أصحاب‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬الذين آمنوا به وجاهدوا معه؟‬ ‫رسول ا ّ‬

‫ل عنه(‪ ،‬فمن كان قد أسلم من الطلقاء‬ ‫وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح‪) :‬المهاجر من هجر ما نهى ا ّ‬
‫جاَهُدوْا َمَعُكْم‬
‫جُروْا َو َ‬ ‫ل عنه كان له معنى هذه الهجرة‪ ،‬فدخل في قوله تعالى‪َ} :‬واّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوْا ِمن َبْعُد َوَها َ‬ ‫وهجر ما نهى ا ّ‬
‫ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد‪.[10:‬‬ ‫عَد ا ُّ‬ ‫ك ِمنُكْم{ ]النفال‪ ،[75 :‬كما دخل في قوله تعالى‪َ} :‬وُك ّ‬
‫ل َو َ‬ ‫َفُأْوَلـِئ َ‬

‫ضَواًنا‬
‫ل َوِر ْ‬
‫ن ا ِّ‬
‫ل ّم َ‬‫ضً‬ ‫ن َف ْ‬ ‫جًدا َيْبَتُغو َ‬‫سّ‬
‫حَماء َبْيَنهُْم َتَراُهْم ُرّكًعا ُ‬ ‫عَلى اْلُكّفاِر ُر َ‬ ‫شّداء َ‬ ‫ن َمَعُه َأ ِ‬‫ل َواّلِذي َ‬‫ل ا ِّ‬
‫سو ُ‬ ‫حّمٌد ّر ُ‬‫وقد قال تعالى‪ّ} :‬م َ‬
‫عَلى‬
‫سَتَوى َ‬‫ظ َفا ْ‬
‫سَتْغَل َ‬
‫طَأُه َفآَزَرُه َفا ْ‬
‫ش ْ‬
‫ج َ‬ ‫خَر َ‬ ‫ع َأ ْ‬
‫ل َكَزْر ٍ‬ ‫جي ِ‬
‫لن ِ‬‫ك َمَثُلُهْم ِفي الّتْوَراِة َوَمَثُلُهْم ِفي ا ِْ‬‫جوِد َذِل َ‬ ‫سُ‬‫ن َأَثِر ال ّ‬
‫جوِهِهم ّم ْ‬ ‫سيَماُهْم ِفي ُو ُ‬‫ِ‬
‫ظيًما{ ]الفتح‪ ،[29:‬فهذا‬ ‫عِ‬ ‫جًرا َ‬‫ت ِمْنُهم ّمْغِفَرةً َوَأ ْ‬‫حا ِ‬‫صاِل َ‬
‫عِمُلوا ال ّ‬ ‫ن آَمُنوا َو َ‬‫ل اّلِذي َ‬‫عَد ا ُّ‬
‫ظ ِبِهُم اْلُكّفاَر َو َ‬‫ع ِلَيِغي َ‬
‫ب الّزّرا َ‬‫ج ُ‬
‫سوِقِه ُيعْ ِ‬
‫ُ‬
‫يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلًقا‪.‬‬

‫ن الذي‬
‫ن القر ُ‬
‫وقد استفاض عن النبي صلى ال عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير ‪/‬وجه أنه قال‪) :‬خير القرو ِ‬
‫بعثت فيهم‪ ،‬ثم الذين َيُلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم(‪.‬‬

‫سّبوا أصحابي‪ ،‬فوالذي نفسي‬ ‫وثبت عنه في الصحيح أنه كان بين عبد الرحمن وبين خالد كلم‪ ،‬فقال‪) :‬يا خالد‪ ،‬ل َت ُ‬
‫صيَفه( قال ذلك لخالد ونحوه‪ ،‬ممن أسلم بعد الحديبية‪،‬‬ ‫حٍد َذَهبًا ما بلغ ُمّد أحدهم‪ ،‬ول َن ِ‬
‫بيده‪ ،‬لو أن أحدكم أنفق مثل أ ُ‬
‫بالنسبة إلى السابقين الولين‪ .‬يقول‪ :‬إذا أنفق أحدكم مثل أحد ذهًبا ما بلغ مد أحدهم ول نصف مده‪.‬‬

‫جًة ّم َ‬
‫ن‬ ‫ظُم َدَر َ‬
‫عَ‬‫ك َأ ْ‬
‫ل ُأْوَلِئ َ‬
‫ح َوَقاَت َ‬
‫ل اْلَفْت ِ‬
‫ق ِمن َقْب ِ‬
‫ن َأنَف َ‬
‫سَتِوي ِمنُكم ّم ْ‬ ‫وهؤلء الذين أسلموا بعد الحديبية دخلوا في قوله تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َي ْ‬
‫ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد‪ [10 :‬بهذه المنزلة‪.‬‬ ‫عَد ا ُّ‬
‫ل َو َ‬
‫ن َأنَفُقوا ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّ‬
‫اّلِذي َ‬

‫ل أو كثيًرا‪ ،‬لكن‬
‫وكيف يكون بعد أصحابه؟ والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى ال عليه وسلم قلي ً‬
‫كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك‪ ،‬فمن صحبه سنة أو شهًرا أو يومًا أو ساعة أو رآه مؤمنا‪ ،‬فله من الصحبة بقدر‬
‫ذلك‪ ،‬كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬يغزو فئام من الناس فيقولون‪ :‬هل فيكم من‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫صحب النبي صلى ال عليه وسلم؟(‪ .‬وفي لفظ‪) :‬هل فيكم من رأى رسول ا ّ‬
‫ل ‪ /‬صلى ال عليه وسلم؟ ـ وفي‬ ‫فيفتح لهم‪ ،‬ثم يغزو فئام من الناس فيقولون‪ :‬هل فيكم من صحب من صحب رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيفتح لهم‪ ،‬ثم يغزو فئام من الناس‬‫لفظ‪ :‬هل فيكم من رأى من رأى رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟ ـ وفي لفظ‪ :‬من صحب من صحب من‬ ‫فيقولون‪ :‬هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيفتح لهم( وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك‪.‬‬
‫صحب رسول ا ّ‬

‫ل على المسلمين بسبب من رآه مؤمنًا‬


‫فقد علق النبي صلى ال عليه وسلم الحكم بصحبته وعلق برؤيته‪ ،‬وجعل فتح ا ّ‬
‫به‪.‬‬

‫وهذه الخاصية ل تثبت لحد غير الصحابة ؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫صـــل‬
‫َف ْ‬

‫إذا تبين هذا‪ ،‬فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة‪ ،‬هي الطريق التي بها يعلم إيمان‬
‫نظرائه‪ ،‬والطريق التي تعلم بها صحبته‪ ،‬هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله‪.‬‬

‫فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل‪ :‬معاوية‪ ،‬وأخيه يزيد‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬والحارث بن‬
‫هشام‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلمهم وبقاؤهم على السلم إلى حين الموت‪.‬‬

‫ومعاوية أظهر إسلًما من غيره‪ ،‬فإنه تولى أربعين سنة؛ عشرين سنة نائًبا لعمر وعثمان‪ ،‬مع ما كان في خلفة على ـ‬
‫ل عنه ـ وعشرين سنة مستولًيا‪ ،‬وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم بخمسين سنة‪،‬‬ ‫رضي ا ّ‬
‫ل عنهما ـ المر عام أربعين‪ ،‬الذي يقال له‪ :‬عام الجماعة؛ لجتماع الكلمة وزوال‬
‫وسلم إليه الحسن بن علي ـ رضي ا ّ‬
‫الفتنة بين المسلمين‪.‬‬

‫ل عنه ـ مما أثنى عليه النبي صلى ال عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري‬ ‫وهذا الذي فعله الحسن ـ رضي ا ّ‬
‫ل به بين‬
‫ل عنه ـ أن النبي ‪ /‬صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إن ابني هذا سيد‪ ،‬وسيصلح ا ّ‬‫وغيره عن أبي بكر ـ رضي ا ّ‬
‫فئتين عظيمتين من المسلمين(‪ ،‬فجعل النبي صلى ال عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح‬
‫ل تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‪ ،‬وذلك حين سلم المر إلى معاوية‪ ،‬وكان قد سار كل منهما إلى الخر‬ ‫ا ّ‬
‫بعساكر عظيمة‪.‬‬

‫فلما أثنى النبي صلى ال عليه وسلم على الحسن بالصلح وترك القتال‪ ،‬دل على أن الصلح بين تلك الطائفتين كان‬
‫ل ـ تعالى ـ من فعله‪ ،‬فدل على أن القتتال لم يكن مأموًرا به‪ ،‬ولو كان معاوية كافًرا لم تكن تولية كافر‬
‫أحب إلى ا ّ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين‪ ،‬كما كان الحسن‬ ‫وتسليم المر إليه مما يحبه ا ّ‬
‫ل ـ تعالى ـ محبوًبا مرضًيا له ولرسوله‪.‬‬‫وأصحابه مؤمنين‪ ،‬وأن الذي فعله الحسن كان محموًدا عند ا ّ‬

‫ق مارقة على‬‫وهذا كما ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال‪َ) :‬تمُر ُ‬
‫حين ُفْرَقٍة من الناس‪ ،‬فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق( وفي لفظ‪) :‬فتقتلهم أدناهم إلى الحق(‪ .‬فهذا الحديث الصحيح دليل‬
‫على أن كل الطائفتين المقتتلتين ‪ -‬على وأصحابه‪ ،‬ومعاوية وأصحابه ـ على حق‪ ،‬وأن علًيا وأصحابه كانوا أقرب إلى‬
‫الحق من معاوية وأصحابه‪.‬‬

‫فإن على بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين‪ ،‬وهم الخوارج الحرورية‪ ،‬الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه‪،‬‬
‫وكفروه‪ ،‬وكفروا من واله‪ ،‬ونصبوا له العداوة‪ ،‬وقاتلوه ومن معه‪ .‬وهم الذين أخبر عنهم النبي ‪ /‬صلى ال عليه وسلم‬
‫في الحاديث الصحيحة المستفيضة‪ ،‬بل المتواترة‪ ،‬حيث قال فيهم‪) :‬يحقر أحدكم صلته مع صلتهم‪ ،‬وصيامه مع‬
‫صيامهم‪ ،‬وقراءته مع قراءتهم‪ ،‬يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪ ،‬يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الّرِمّية‪،‬‬
‫ضل عليها‬‫ع َ‬
‫ل ُمخَدج اليدين‪ ،‬له َ‬
‫ل يوم القيامة‪ ،‬آيتهم أن فيهم رج ً‬
‫أينما لقيتموهم فاقتلوهم‪ ،‬فإن في قتلهم أجًرا عند ا ّ‬
‫جَرج‪ ،‬تجيء وتذهب[‪.‬‬ ‫شعرات تدردر(]وتَدْرَدر‪ :‬أي َتَر ْ‬
‫َ‬

‫وهؤلء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن واله‪ ،‬وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافًرا‪ ،‬وقتله أحد رؤوسهم ـ عبد‬
‫جم المَرادي ـ فهؤلء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا‪ :‬إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما‬ ‫الرحمن بن ِمْل َ‬
‫كانوا كفاًرا مرتدين‪ ،‬فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة‪ ،‬وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة‬
‫ل عليهم‪ ،‬ورضاه عنهم‪ ،‬وإخباره بأنهم من أهل الجنة‪ ،‬ونحو ذلك من النصوص‪.‬‬ ‫ل ـ تعالى ـ لهم‪ ،‬وثناء ا ّ‬
‫من مدح ا ّ‬
‫ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله‪.‬‬

‫فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي‪ :‬إن عليا كان كافًرا‪ ،‬أو فاسًقا ظالًما‪ ،‬وأنه قاتل على الملك لطلب الرياسة ل للدين‪،‬‬
‫وأنه قتل من أهل الملة ـ من أمة محمد صلى ال عليه وسلم ـ بالجمل‪ ،‬وصفين‪ ،‬وحروراء‪ ،‬ألوًفا مؤلفة‪ ،‬ولم يقاتل بعد‬
‫وفاة النبي صلى ال عليه وسلم كافًرا‪ ،‬ول فتح مدينة‪ ،‬بل قاتل أهل القبلة‪ ،‬ونحو هذا الكلم الذي تقوله النواصب‬
‫ل ‪/‬عنه ـ لم يمكن أن يجيب هؤلء النواصب إل أهل السنة والجماعة‪ ،‬الذين يحبون السابقين‬ ‫المبغضون لعلي رضي ا ّ‬
‫الولين كلهم‪ ،‬ويوالونهم‪.‬‬

‫فيقولون لهم‪ :‬أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬ونحوهم‪ ،‬ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم‪ ،‬وثبت‬
‫ل عليهم‪ ،‬والرضى عنهم‪ ،‬وثبت بالحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى ال عليه وسلم عليهم‬ ‫في القرآن ثناء ا ّ‬
‫ل لتخذت أبا بكر‬‫خصوصًـا وعموًما ‪ ،‬كقوله في الحديث المستفيض عنه‪):‬لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً‬
‫حّدُثون‪ ،‬فإن يكن في أمتي أحد فعمر(‪ ،‬وقوله عن عثمان‪) :‬أل أستحي‬ ‫ل(‪ ،‬وقوله‪ ) :‬إنه قد كان في المم قبلكم ُم َ‬
‫خلي ً‬
‫ل على‬
‫ل ورسوله‪ ،‬يفتح ا ّ‬‫ل ورسوله‪ ،‬ويحبه ا ّ‬
‫ل يحب ا ّ‬
‫ممن تستحي منه الملئكة؟( وقوله لعلي‪) :‬لعطين الراية رج ً‬
‫يديه(‪ ،‬وقوله‪) :‬لكل نبي حواريون‪ ،‬وحواريي الزبير( وأمثال ذلك‪.‬‬

‫وأما الرافضي فل يمكنه إقامة الحجة على من يبغض علًيا من النواصب‪ ،‬كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون‬
‫ي معلوم بالتواتر‪ .‬قال له‪ :‬وكذلك إسلم أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وغيرهم‪،‬‬
‫الجميع‪ ،‬فإنه إن قال‪ :‬إسلم عل ّ‬
‫وأنت تطعن في هؤلء‪ ،‬إما في إسلمهم‪ ،‬وإما في عدالتهم‪.‬‬

‫ي ثبت بثناء النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬قلنا له‪ :‬هذه الحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت‬
‫فإن قال‪ :‬إيمان عل ّ‬
‫فيهم‪ ،‬ورواة فضائلهم‪ :‬سعد بن أبي ‪/‬وقاص‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وسهل بن سعد الساعدي‪ ،‬وأمثالهم‪ ،‬والرافضة تقدح في هؤلء‪،‬‬
‫ي‪ ،‬ولم يكن للرافضة حجة‪ ،‬وإن كانت روايتهم‬ ‫فإن كانت رواية هؤلء وأمثالهم ضعيفة‪ ،‬بطل كل فضيلة تروى لعل ّ‬
‫صحيحة‪ ،‬ثبتت فضائل على وغيره‪ ،‬ممن روى هؤلء فضائله؛ كأبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫ي متواترة عند الشيعة ـ كما يقولون‪ :‬إن النص عليه بالمامة متواتر ـ قيل له‪:‬‬
‫فإن قال الرافضي‪ :‬فضائل عل ّ‬
‫أما]الشيعة[ الذين ليسوا من الصحابة‪ :‬فإنهم لم يروا النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول سمعوا كلمه‪ ،‬ونقلهم نقل مرسل‬
‫حا‪.‬‬
‫منقطع‪ ،‬إن لم يسنده إلى الصحابة لم يكن صحي ً‬

‫والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل ـ بضعة عشر وإما نحو ذلك ـ وهؤلء ل يثبت التواتر بنقلهم لجواز‬
‫التواطؤ على مثل هذا العدد القليل‪ ،‬والجمهور العظم من الصحابة‪ ،‬الذين نقلوا فضائلهم‪ ،‬تقدح الرافضة فيهم‪ ،‬ثم إذا‬
‫جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان‪ ،‬فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز‪.‬‬

‫ضا‪ ،‬فإذا قال الرافضي‪ :‬إن أبا بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬كان قصدهم الرياسة والملك‪ ،‬فظلموا غيرهم بالولية‪ .‬قال‬‫وأي ً‬
‫لهم‪ :‬هؤلء لم يقاتلوا مسلًما على الولية‪ ،‬وإنما قاتلوا المرتدين والكفار‪ ،‬وهم الذين كسروا كسرى وقيصر‪ ،‬وفتحوا‬
‫بلد فارس‪ ،‬وأقاموا السلم وأعزوا اليمان وأهله‪ ،‬وأذلوا الكفر وأهله‪.‬‬

‫‪/‬وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة‪ ،‬ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في وليته‪ ،‬فلم يقاتل المسلمين‪ ،‬ول قتل‬
‫مسلًما على وليته‪ .‬فإن جوزت على هؤلء أنهم كانوا ظالمين في وليتهم‪ ،‬أعداء الرسول‪ ،‬كانت حجة الناصبي عليك‬
‫أظهر‪.‬‬

‫وإذا أسأت القول في هؤلء‪ ،‬ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته‪ ،‬كان ذلك حجة للخوارج والنواصب‬
‫المارقين عليك‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة‪ :‬من قاتل المسلمين على وليته ـ ولم يقاتل‬
‫الكفارـ وابتدأهم بالقتال ليطيعوه‪ ،‬وهم ل يطيعونه‪ ،‬وقتل من أهل القبلة الذين يقيمون الصلة‪ ،‬ويؤتون الزكاة‪،‬‬
‫ويحجون البيت العتيق‪ ،‬ويصومون شهر رمضان‪ ،‬ويقرؤون القرآن ـ ألوًفا مؤلفة‪ ،‬ومن لم يقاتل مسلًما‪ ،‬بل أعزوا‬
‫أهل الصلة والزكاة‪ ،‬ونصروهم وآووهم‪ ،‬أو من قتل وهو في وليته‪ ،‬لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره‬
‫ل عنه ؟ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالًما للملك ظالًما للمسلمين بوليته‪ ،‬فتجويزك هذا‬‫وبين أهله ـ رضي ا ّ‬
‫على من قاتل على الولية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى‪.‬‬

‫وبهذا وأمثاله‪ ،‬يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح‪ ،‬ول نقل صحيح‪ ،‬ول دين مقبول‪ ،‬ول دنيا منصورة‪ ،‬بل‬
‫ل ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد‪ ،‬كما دخل فيهم النصيرية‪/ ،‬‬ ‫هم من أعظم الطوائف كذًبا وجه ً‬
‫ل من اليهود والنصارى والمشركين‬ ‫والسماعيلية وغيرهم‪ ،‬فإنهم يعمدون إلى خيار المة يعادونهم‪ ،‬وإلى أعداء ا ّ‬
‫يوالونهم‪ ،‬ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه‪ ،‬وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه‪ ،‬فهم كما قال‬
‫خًما‪.‬‬
‫فيهم الشعبي‪ -‬وكان من أعلم الناس بهم ـ‪ :‬لو كانوا من البهائم لكانوا حمًرا‪ ،‬ولو كانوا من الطير لكانوا َر َ‬

‫ولهذا كانوا أْبَهت الناس وأشدهم ِفرَية‪ ،‬مثل ما يذكرون عن معاوية‪ ،‬فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أّمره النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم كما أّمر غيره‪ ،‬وجاهد معه‪ ،‬وكان أميًنا عنده يكتب له الوحي‪ ،‬وما اتهمه النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫ل الحق على لسانه وقلبه‪ ،‬ولم‬
‫كتابة الوحي‪ .‬ووله عمر بن الخطاب‪ :‬الذي كان من أخبر الناس بالرجال‪ ،‬وقد ضرب ا ّ‬
‫يتهمه في وليته‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى ال عليه وسلم وهو على وليته‪.‬‬ ‫وقد ولى رسول ا ّ‬
‫فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلًما من أبيه باتفاق المسلمين‪ ،‬وإذا كان النبي صلى ال عليه وسلم ولى أباه فلن‬
‫تجوز وليته بطريق الولى والحرى‪ ،‬ولم يكن من أهل الردة قط‪ ،‬ول نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة‪ ،‬فالذين‬
‫ينسبون هؤلء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعامة أهل بدر‪ ،‬وأهل بيعة الرضوان‪ ،‬وغيرهم‬
‫من السابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما ل يليق بهم‪.‬‬

‫‪/‬والذين نسبوا هؤلء إلى الردة يقول بعضهم‪ :‬إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه‪ ،‬وهذا مما يعلم كل‬
‫عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه‪ .‬ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس؛‬
‫كعبد الملك بن مروان وأولده‪ ،‬وأبى جعفر المنصور وولديه ـ الملقبين بالمهدي‪ ،‬والهادي والرشيد‪ ،‬وأمثالهم من‬
‫الذين تولوا الخلفة وأمر المؤمنين‪ ،‬فمن نسب واحًدا من هؤلء إلى الردة‪ ،‬وإلى أنه مات على دين النصارى‪َ ،‬لَعِلم‬
‫كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية‪ ،‬فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة‪.‬‬

‫بل يزيد ابنه‪ ،‬مع ما أحدث من الحداث‪ ،‬من قال فيه‪ :‬إنه كافر مرتد‪ ،‬فقد افترى عليه‪ ،‬بل كان ملًكا من ملوك‬
‫المسلمين كسائر ملوك المسلمين‪ ،‬وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات‪ ،‬وحسناتهم عظيمة‪ ،‬وسيئاتهم عظيمة‪،‬‬
‫فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل‪ ،‬وإما ظالم‪.‬‬

‫وهؤلء لهم ما لسائر المسلمين‪ ،‬منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته‪ ،‬ومنهم من قد تاب من سيئاته‪ ،‬ومنهم من كفر‬
‫ل فيه شفاعة نبي أو غيره من‬
‫ل عنه‪ ،‬ومنهم من قد يدخله الجنة‪ ،‬ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته‪ ،‬ومنهم من قد يتقبل ا ّ‬
‫ا ّ‬
‫الشفعاء‪ ،‬فالشهادة لواحد من هؤلء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلل‪.‬‬

‫‪/‬وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه‪ ،‬ليس هو من أعمال الصالحين والبرار‪ .‬وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫ل الخمرة‪ ،‬وعاصرها‪ ،‬ومعتصرها‪ ،‬وحاملها‪ ،‬وساقيها‪ ،‬وشاربها‪ ،‬وبائعها‪ ،‬ومشتريها‪ ،‬وآكل ثمنها(‪.‬‬ ‫أنه قال‪) :‬لعن ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى]حماًرا[‪ ،‬وكان كلما أتى به‬ ‫وصح عنه أنه كان على عهد رسول ا ّ‬
‫ل! ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى ال عليه‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم جلده‪ ،‬فأتى به إليه ليجلده‪ ،‬فقال رجل‪ :‬لعنه ا ّ‬
‫ل ورسوله(‪ .‬وقد لعن النبي صلى ال عليه وسلم شارب‬ ‫وسلم‪ .‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تلعنه‪ ،‬فإنه يحب ا ّ‬
‫الخمر عموًما‪ ،‬ونهى عن لعنة المؤمن المعين‪.‬‬

‫صَلْوَن َسِعيًرا{ ]النساء‪:‬‬


‫سَي ْ‬
‫طوِنِهْم َناًرا َو َ‬
‫ن ِفي ُب ُ‬
‫ظْلًما ِإّنَما َيْأُكُلو َ‬
‫ل اْلَيَتاَمى ُ‬
‫ن َأْمَوا َ‬
‫ن َيْأُكُلو َ‬ ‫ل تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬ ‫كما أنا نقول ما قال ا ّ‬
‫ل بحسنات ماحية‪ ،‬أو مصائب‬ ‫‪ [10‬فل ينبغي لحد أن يشهد لواحد بعينه أنه في النار‪ ،‬لمكان أن يتوب أو يغفر له ا ّ‬
‫ل عنه‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬ ‫مكفرة‪ ،‬أو شفاعة مقبولة‪ ،‬أو يعفو ا ّ‬

‫فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك‪ ،‬وإن كان صدر منه ما هو ظلم‪ ،‬فإن ذلك ل يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار‪.‬‬
‫ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلل‪ ،‬فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع‬
‫ظلمه‪ ،‬كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر‪ ،‬عن النبي صلى ال عليه وسلم؛ أنه ‪/‬قال‪) :‬أول جيش يغزو‬
‫قسطنطينية مغفور له(‪ ،‬وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية‪ ،‬وكان معه في الُغَزاة أبو أيوب النصاري‪،‬‬
‫وتوفى هناك‪ ،‬وقبره هناك إلى الن(‪.‬‬

‫ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله‪ :‬إنا ل نسبهم ول نحبهم‪ ،‬أي‪ :‬ل نحب ما صدر منهم‬
‫ل على‬
‫من ظلم‪ .‬والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات‪ ،‬وطاعات ومعاصي‪ ،‬وبر وفجور وشر‪ ،‬فيثيبه ا ّ‬
‫حسناته‪ ،‬ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له‪ ،‬ويحب ما فعله من الخير‪ ،‬ويبغض ما فعله من الشر‪.‬‬

‫ل يغفرها‪.‬‬
‫فأما من كانت سيئاته صغائر‪ ،‬فقد وافقت المعتزلة على أن ا ّ‬

‫ل يغفر‬
‫وأما صاحب الكبيرة‪ ،‬فسلف المة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة ل يشهدون له بالنار‪ ،‬بل يجوزون أن ا ّ‬
‫ك ِلَمن َيَشاء{ ]النساء‪ ،[48:‬فهذه في حق من لم يشرك‪،‬‬ ‫ن َذِل َ‬
‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫شَر َ‬‫ل َيْغِفُر َأن ُي ْ‬
‫ل َ‬ ‫له‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ}:‬إ ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ب‬ ‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬
‫طوا ِمن ّر ْ‬
‫ل َتْقَن ُ‬
‫سِهْم َ‬
‫عَلى َأنفُ ِ‬
‫سَرُفوا َ‬‫ن َأ ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫عَباِد َ‬ ‫فإنه قيدها بالمشيئة‪ ،‬وأما قوله تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا ِ‬
‫َجِميًعا{]الزمر‪ ،[35 :‬فهذا في حق من تاب‪ ،‬ولذلك أطلق وعم‪.‬‬

‫خّلد في النار‪ ،‬ثم إنهم ‪ /‬قد يتوهمون في بعض الخيار أنه من أهل‬
‫والخوارج والمعتزلة يقولون‪ :‬إن صاحب الكبيرة ُي َ‬
‫الكبائر‪ ،‬كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلى وأتباعهما أنهم مخلدون في النار‪ ،‬كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية‬
‫وعمرو بن العاص‪ ،‬وأمثالهما‪ ،‬ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين‪:‬‬

‫إحداهما‪ :‬أن فلًنا من أهل الكبائر‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن كل صاحب كبيرة يخلد في النار‪.‬‬

‫وكل القولين باطل‪ .‬وأما الثاني فباطل على الطلق‪ ،‬وأما الول فقد يعلم بطلنه‪ ،‬وقد يتوقف فيه‪.‬‬

‫ومن قال عن معاوية وأمثاله‪ ،‬ممن ظهر إسلمه وصلته‪ ،‬وحجه وصيامه ـ أنه لم يسلم‪ ،‬وأنه كان مقيًما على الكفر‪:‬‬
‫فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره‪ ،‬كما لو ادعى مدع ذلك في العباس‪ ،‬وجعفر‪ ،‬وعقيل‪ ،‬وفي أبي بكر‪ ،‬وعمر‪،‬‬
‫ي بن أبي طالب‪ ،‬إنما هما أولد سلمان الفارسي‪ ،‬ولو ادعى‬ ‫وعثمان‪ .‬وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي عل ّ‬
‫ي أبي بكر وعمر‪ ،‬ولم يزوج بنتيه عثمان‪ ،‬بل إنكار إسلم معاوية أقبح من‬ ‫أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يتزوج اْبَنَت ْ‬
‫إنكار هذه المور‪ ،‬فإن منها ما ل يعرفه إل العلماء‪.‬‬

‫وأما إسلم معاوية ووليته على المسلمين والمارة والخلفة‪ ،‬فأمر يعرفه جماهير الخلق‪ ،‬ولو أنكر منكر إسلم عليّ‬
‫أو ادعى بقاءه على الكفر‪ ،‬لم يحتج ‪/‬عليه إل بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلم أبي بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان ومعاوية‬
‫وغيرهم‪ ،‬وإن كان بعضهم أفضل من بعض‪ ،‬فتفاضلهم ل يمنع اشتراكهم في ظهور إسلمهم‪.‬‬

‫وأما قول القائل‪ :‬إيمان معاوية كان نفاًقا فهو ـ أيضا ـ من الكذب المختلق‪ ،‬فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم‬
‫معاوية بالنفاق‪ ،‬بل العلماء متفقون على حسن إسلمه‪ ،‬وقد توقف بعضهم في حسن إسلم أبي سفيان ـ أبيه ـ وأما‬
‫سَهْيل‬
‫معاوية‪ ،‬وأخوه يزيد‪ ،‬فلم يتنازعوا في حسن إسلمهما‪ ،‬كما لم يتنازعوا في حسن إسلم عكرمة بن أبي جهل‪ ،‬و ُ‬
‫ل متولًيا على المسلمين أربعين سنة نائًبا‪،‬‬
‫بن عمرو‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وأمثالهم من مسلمة الفتح‪ ،‬وكيف يكون رج ً‬
‫ل يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم‪ ،‬ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر‪ ،‬ويقيم فيهم الحدود‪،‬‬ ‫ومستق ً‬
‫ويقسم بينهم فْيأهم ومغانمهم وصدقاتهم‪ ،‬ويحج بهم‪ ،‬ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم وفيهم من أعيان الصحابة جماعة‬
‫كثيرة!‬

‫ل الحمد ـ لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولية عامة ـ من خلفاء بني أمية‪ ،‬وبني العباس ـ أحد‬
‫بل أبلغ من هذا أنه ـ و ّ‬
‫يتهم بالزندقة والنفاق‪ ،‬وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق ـ وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من‬
‫البدعة‪ ،‬أو نوع من الظلم‪ ،‬لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق‪.‬‬
‫‪/‬وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح‪ ،‬الذين كانوا بمصر والمغرب‪ ،‬وكانوا يدعون أنهم علويون‪،‬‬
‫وإنما كانوا من ذرية الكفار‪ ،‬فهؤلء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق‪ ،‬وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم‬
‫ل المسلمين أن‬‫من ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه‪ ،‬فأما خليفة عام الولية في السلم‪ ،‬فقد طهر ا ّ‬
‫يكون ولي أمرهم زنديًقا منافًقا‪ ،‬فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف‪ ،‬فإنه نافع في هذا الباب‪.‬‬

‫واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه المة‪ ،‬فإن الربعة قبله كانوا خلفاء نبوة‪ ،‬وهو أول الملوك‪ ،‬كان ملكه‬
‫ملًكا ورحمة‪ ،‬كما جاء في الحديث‪) :‬يكون الملك نبوة ورحمة‪ ،‬ثم تكون خلفة ورحمة‪ ،‬ثم يكون ملك ورحمة‪ ،‬ثم ملك‬
‫ضوض أي‪ :‬يصيب الّرعية فيه عسف وظلم[ وكان في ملكه من الرحمة والحلم‬ ‫ع ُ‬
‫ضوض(]وملك َ‬ ‫ع ُ‬‫وجبرية‪ ،‬ثم ملك َ‬
‫ونفع المسلمين‪ ،‬ما يعلم أنه كان خيًرا من ملك غيره‪.‬‬

‫وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة‪ ،‬فإنه قد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬تكون خلفة النبوة ثلثين سنة‪،‬‬
‫ل عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون‪ ،‬والئمة المهديون‪،‬‬ ‫ثم تصير ملًكا(‪ .‬وكان أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعلي ـ رضي ا ّ‬
‫ضوا‬
‫ع ّ‬
‫سكوا بها و َ‬
‫الذين قال فيهم النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء‪ /‬الراشدين من بعدي‪َ ،‬تَم ّ‬
‫عليها بالنواجذ‪ ،‬وإياكم ومحدثات المور‪ ،‬فإن كل محدثة بدعة(‪.‬‬

‫ي‪ ،‬وقالوا‪ :‬زمانه زمان فتنة‪ ،‬لم يكن في زمانه جماعة‪ ،‬وقالت طائفة‪ :‬يصح‬
‫وقد تنازع كثير من الناس في خلفة عل ّ‬
‫أن يولي خليفتان‪ ،‬فهو خليفة‪ ،‬ومعاوية خليفة‪ ،‬لن المة لم تتفق عليه‪ ،‬ولم تنتظم في خلفته‪.‬‬

‫ل عنه ـ من الخلفاء الراشدين‪ ،‬بهذا الحديث‪ ،‬فزمان علي كان يسمى‬ ‫والصحيح الذي عليه الئمة‪ :‬أن علًيا ـ رضي ا ّ‬
‫ل عنه ـ في‬
‫ي ـ رضي ا ّ‬
‫نفسه أمير المؤمنين‪ ،‬والصحابة تسميه بذلك‪ ،‬قال المام أحمد بن حنبل‪ :‬من لم ُيَرّبع بعل ّ‬
‫الخلفة فهو أضل من حمار أهله‪ ،‬ومع هذا فلكل خليفة مرتبة‪.‬‬

‫فأبو بكر وعمر ل يوازنهما أحد‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬اقتدوا باللذين من بعدي‪ :‬أبي بكر وعمر(‪ ،‬ولم‬
‫يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر‪ ،‬وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال‪ :‬ل أوتى‬
‫برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلجلدته حد المفترى‪.‬‬

‫ي‪ ،‬باتفاق السابقين على‬‫ل عنهما ـ لكن ثبت تقديم عثمان على عل ّ‬‫وإنما كانـوا يتنازعون في عثمان وعـلي ـ رضي ا ّ‬
‫عا بل كره‪ ،‬بعد أن جعل عمر الشورى في ستة‪ :‬عثمان‪ ،‬وعلي‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد‪/ ،‬وعبد‬ ‫مبايعة عثمان طو ً‬
‫ي‪ ،‬وعبد الرحمن فولى‬ ‫الرحمن بن عوف‪ .‬وتركها ثلثة وهم‪ :‬طلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وسعد‪ ،‬فبقيت في ثلثة‪ :‬عثمان‪ ،‬وعل ّ‬
‫أحدهما‪ ،‬فبقى عبد الرحمن يشاور المهاجرين والنصار والتابعين لهم بإحسان ثلثة أيام‪ ،‬ثم أخبر أنهم لم يعدلوا‬
‫بعثمان‪.‬‬

‫ل على نبينا محمد وسلم‪.‬‬


‫ل أعلم‪ .‬وصلى ا ّ‬
‫ونقل وفاته ووليته حديث طويل‪ ،‬فمن أراده فعليه بأحاديث الثقات‪ ،‬وا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمه ا ّ‬
‫سلم ـ َر ِ‬
‫‪/‬قال شيخ ال ْ‬

‫صــل‬
‫َف ْ‬

‫افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلث فرق‪ :‬طرفان ووسط‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه‬ ‫شّفًيا من رسول ا ّ‬


‫ل‪َ ،‬ت َ‬
‫فأحد الطرفين قالوا‪ :‬إنه كان كافًرا منافًقا‪ ،‬وأنه سعى في قتل سبط رسول ا ّ‬
‫وسلم‪ ،‬وانتقاًما منه‪ ،‬وأخًذا بثأر جده عتبة‪ ،‬وأخي جده شيبة‪ ،‬وخاله الوليد بن عتبة‪ ،‬وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها‪ ،‬وقالوا‪ :‬تلك أحقاد بدرية‪ ،‬وآثار جاهلية‪ ،‬وأنشدوا‬
‫عنه‪:‬‬

‫لما بدت تلك الحمول وأشـــرفت ** تلك الرؤوس على ربـي جيرون‬

‫نعق الغراب‪ ،‬فقلت نح أول تنح ** فلقــد قضـيت من النــبي ديوني‬


‫وقالوا‪ :‬إنه تمثل بشعر ابن الّزَبْعرى الذي أنشده يوم أحد‪:‬‬

‫ليت أشياخي ببدر شهــــدوا ** جزع الخـــزرج من وقع السل‬

‫‪/‬قــد قتلنا الكثير من أشياخهم ** وعدلنــاه ببـــدر فاعتــــــدل‬

‫وأشياء من هذا النمط‪.‬‬

‫وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬فتكفير يزيد أسهل بكثير‪.‬‬

‫حا وإمام عدل‪ ،‬وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى‬ ‫ل صال ً‬
‫والطرف الثاني‪ :‬يظنون أنه كان رج ً‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وحمله على يديه وبّرك عليه‪ ،‬وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر‪ ،‬وربما جعله بعضهم نبًيا‪،‬‬
‫ويقولون عن الشيخ عدي‪ ،‬أو حسن المقتول ـ كذًبا عليه ـ‪ :‬إن سبعين ولًيا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد‪.‬‬

‫حا عابًدا‬
‫ل صال ً‬‫وهذا قول غالية العدوية والكراد ونحوهم من الضلل‪ ،‬فإن الشيخ عدًيا كان من بني أمية‪ ،‬وكان رج ً‬
‫ل‪ ،‬ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إل إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي‪ ،‬فإن عقيدته موافقة‬‫فاض ً‬
‫لعقيدته‪ ،‬لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلل‪ ،‬من الحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل‪ ،‬والغلو في الشيخ عدي‬
‫وفي يزيد‪ ،‬والغلو في ذم الرافضة‪ ،‬بأنه ل تقبل لهم توبة‪ ،‬وأشياء أخر‪.‬‬

‫وكل القولين ظاهر البطلن عند من له أدنى عقل وعلم بالمور وسير المتقدمين؛ ولهذا ل ينسب إلى أحد من أهل‬
‫العلم المعروفين بالسنة‪ ،‬ول إلى ذي عقل من العقلء الذين لهم رأي وخبرة‪.‬‬

‫‪/‬والقول الثالث‪ :‬أنه كان ملًكا من ملوك المسلمين‪ ،‬له حسنات وسيئات‪ ،‬ولم يولد إل في خلفة عثمان‪ ،‬ولم يكن كافرا‪،‬‬
‫ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين‪ ،‬وفعل ما فعل بأهل الحرة‪ ،‬ولم يكن صاحًبا ول من أولياء ا ّ‬
‫ل‬
‫الصالحين‪ ،‬وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة‪.‬‬

‫ثم افترقوا ثلث فرق‪ :‬فرقة لعنته‪ ،‬وفرقة أحبته‪ ،‬وفرقة ل تسبه ول تحبه‪ ،‬وهذا هو المنصوص عن المام أحمد‪،‬‬
‫وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين‪.‬‬

‫قال صالح بن أحمد‪ :‬قلت لبي‪ :‬إن قوًما يقولون‪ :‬إنهم يحبون يزيد‪ ،‬فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬وهل يحب يزيد أحد يؤمن با ّ‬
‫ل‬
‫واليوم الخر؟ فقلت‪ :‬يا أبت‪ ،‬فلماذا ل تلعنه؟ فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬ومتى رأيت أباك يلعن أحًدا‪.‬‬

‫وقال مهنا‪ :‬سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‪ .‬فقال‪ :‬هو الذي فعل بالمدينة ما فعل‪ .‬قلت‪ :‬وما فعل؟ قال‪:‬‬
‫ل صلى ال عليه وسلم وفعل‪ .‬قلت‪ :‬وما فعل؟ قال‪ :‬نهبها‪ .‬قلت‪ :‬فيذكر عنه الحديث؟ قال‪ :‬ل‬ ‫قتل من أصحاب رسول ا ّ‬
‫يذكر عنه حديث‪ .‬وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره‪.‬‬

‫ب‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫ب ول ُي َ‬
‫س ّ‬
‫وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد‪ :‬فيما بلغني ل ُي َ‬

‫ل بن تيمية سئل عن يزيد‪ .‬فقال‪ :‬ل تنقص ول تزيد‪ .‬وهذا أعدل القوال فيه وفي‬
‫ضا ـ أن جدنا أبا عبد ا ّ‬
‫وبلغني ـ أي ً‬
‫أمثاله وأحسنها‪.‬‬

‫‪/‬أما ترك سبه ولعنته‪ ،‬فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه‪ ،‬أو بناء على أن الفاسق المعين ل يلعن‬
‫بخصوصه‪ ،‬إما تحريًما‪ ،‬وإما تنزيًها‪ .‬فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ]حمار[ الذي تكرر منه شرب‬
‫ن‬
‫ل ورسوله( وقال‪َ) :‬لْع ُ‬‫الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة‪ ،‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬ل تلعنه ‪ ،‬فإنه يحب ا ّ‬
‫المؤِمن كقتله(‪ .‬متفق عليه‪.‬‬

‫هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها‪ ،‬فقد ثبت أن النبي لعن عموًما شارب‬
‫الخمر‪ ،‬ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين‪.‬‬
‫وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى‪ ،‬والزاني‪ ،‬والسارق‪ ،‬فل نشهد بها عامة على معين بأنه من‬
‫ضي لمعارض راجح‪ :‬إما توبة‪ ،‬وإما حسنات ماحية‪ ،‬وإما مصائب‬ ‫ضى عن المقت ِ‬
‫أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقت َ‬
‫مكفرة‪ ،‬وإما شفاعة مقبولة‪ ،‬وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع‪ ،‬فهذه ثلثة مآخذ‪.‬‬

‫ومن اللعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول‪ ،‬ل لكراهة في اللعنة‪ .‬وأما ترك‬
‫محبته‪ ،‬فلن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين‪ ،‬والصديقين‪ ،‬والشهداء والصالحين‪ ،‬وليس واحًدا منهم‪ ،‬وقد قال النبي‬
‫ل واليوم الخر‪ ،‬ل يختار أن يكون مع يزيد‪ ،‬ول مع أمثاله من‬‫صلى ال عليه وسلم‪) :‬المرء مع من أحب( ومن آمن با ّ‬
‫الملوك‪ ،‬الذين ليسوا بعادلين‪.‬‬

‫‪ /‬ولترك المحبة مأخذان‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬أنه لم يصدر عنه من العمال الصالحة ما يوجب محبته‪ ،‬فبقى واحًدا من الملوك المسلطين‪ ،‬ومحبة أشخاص‬
‫ل‪.‬‬
‫هذا النوع ليست مشروعة‪ ،‬وهذا المأخذ‪ ،‬ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأوي ً‬

‫والثاني‪ :‬أنه صدر عنه ما يقتضى ظلمه وفسقه في سيرته‪ ،‬وأمر الحسين وأمر أهل الحرة‪.‬‬

‫وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي‪ ،‬والكياالهراسي ]هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي‬
‫الطبري‪ ،‬الملقب بعماد الدين‪ ،‬الفقيه الشافعي‪ ،‬كان من أهل طبرستان‪ ،‬تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد‪ ،‬كانت‬
‫ولدته سنة ‪450‬هـ‪ ،‬وتوفى سنة ‪ 504‬هـ ببغداد[ وغيرهما‪ ،‬فلما صدر عنه من الفعال التي تبيح لعنته‪ ،‬ثم قد يقولون‪:‬‬
‫هو فاسق‪ ،‬وكل فاسق يلعن‪ .‬وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه‪ ،‬كما لعن أهل صفين بعضهم‬
‫ل معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا‪ ،‬مع‬ ‫ضا في القنوت‪ ،‬فلعن على وأصحابه في قنوت الصلة رجا ً‬ ‫بع ً‬
‫أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ ـ العادلين‪ ،‬والباغين ـ ل يفسق واحد منهم‪ ،‬وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار‪ ،‬وإن‬
‫صا من العصاة‪،‬‬‫عا من أهل المعاصي‪ ،‬وأشخا ً‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم أنوا ً‬
‫كان ل يعلن سائر الفساق‪ ،‬كما لعن رسول ا ّ‬
‫وإن لم يلعن جميعهم‪ ،‬فهذه ثلثة مآخذ للعنته‪.‬‬

‫وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه‪ ،‬كالغزالي‪ ،‬والدستي فلهم مأخذان‪:‬‬

‫ل فيما‬
‫‪/‬أحدهما‪ :‬أنه مسلم ولي أمر المة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم‪ ،‬وكانت فيه خصال محمودة‪ ،‬وكان متأو ً‬
‫ل‪ ،‬وأنكر‬‫ينكر عليه من أمر الحرة وغيره‪ ،‬فيقولون‪ :‬هو مجتهد مخطئ‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أو ً‬
‫ذلك عليهم ابن عمر وغيره‪ ،‬وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به‪ ،‬بل ظهر منه التألم لقتله‪ ،‬وذم من قتله‪ ،‬ولم‬
‫يحمل الرأس إليه‪ ،‬وإنما حمل إلى ابن زياد‪.‬‬

‫والمأخذ الثاني‪ :‬أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر؛ أن رسول الّلهصلى ال عليه وسلم قال‪) :‬أول جيش‬
‫يغزو القسطنطينية مغفور له( وأول جيش غزاها كان أميره يزيد‪.‬‬

‫والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الجتهاد‪ ،‬وكذلك‬
‫محبة من يعمل حسنات وسيئات‪ ،‬بل ل يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬كذلك ل‬
‫ضا باعتبار وجهين‪.‬‬
‫يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له‪ ،‬وأن يلعن ويشتم أي ً‬

‫فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار‪ ،‬أو استحقوا دخولها فإنهم لبد أن يدخلوا الجنة‪،‬‬
‫فيجتمع فيهم الثواب والعقاب‪ ،‬ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك‪ ،‬وترى أن من استحق الثواب ل يستحق العقاب‪،‬‬
‫ومن استحق العقاب ل يستحق الثواب‪ .‬والمسألة مشهورة‪ ،‬وتقريرها في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫‪/‬وأما جواز الدعاء للرجل وعليه‪ ،‬فبسط هذه المسألة في الجنائز‪ ،‬فإن موتى المسلمين ُيصلى عليهم؛ برهم وفاجرهم‪،‬‬
‫وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه‪ ،‬لكن الحال الول أوسط وأعدل‪ ،‬وبذلك أجبت مقدم المغل بولي؛ لما قدموا‬
‫دمشق في الفتنة الكبيرة‪ ،‬وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات‪ ،‬فسألني فيما سألني‪ :‬ما تقولون في يزيد؟ فقلت‪ :‬ل‬
‫حا فنحبه‪ ،‬ونحن ل نسب أحًدا من المسلمين بعينه‪ ،‬فقال‪ :‬أفل تلعنونه؟ أما كان‬
‫ل صال ً‬
‫نسبه ول نحبه‪ ،‬فإنه لم يكن رج ً‬
‫ظالًما؟ أما قتل الحسين؟‬

‫عَلى‬
‫ل َ‬ ‫ل في القرآن‪َ} :‬أ َ‬
‫ل َلْعَنةُ ا ّ‬ ‫فقلت له‪ :‬نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال ا ّ‬
‫ظاِلِميَن{ ]هود‪ [18 :‬ول نحب أن نلعن أحًدا بعينه‪ ،‬وقد لعنه قوم من العلماء‪ ،‬وهذا مذهب يسوغ فيه الجتهاد‪ ،‬لكن‬ ‫ال ّ‬
‫ذلك القول أحب إلينا وأحسن‪.‬‬

‫ل منه‬
‫وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله‪ ،‬أو رضى بذلك‪ ،‬فعليه لعنة الّ والملئكة والناس أجمعين‪ ،‬ل يقبل ا ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫عْد ً‬
‫صْرًفا ول َ‬
‫َ‬

‫قال‪ :‬فما تحبون أهل البيت؟ قلت‪ :‬محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه‪ ،‬فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد‬
‫ل صلى ال عليه وسلم بَغِدير يدعى‪ :‬خّما‪ ،‬بين مكة والمدينة فقال‪) :‬أيها الناس‪ ،‬إني تارك‬ ‫بن أرقم قال‪ :‬خطبنا رسول ا ّ‬
‫ل في أهل بيتي‪ ،‬أذكركم‬‫عْتَرِتي ‪ /‬أهل بيتي‪ ،‬أذكركم ا ّ‬
‫ل وحض عليه‪ ،‬ثم قال‪) :‬و ِ‬ ‫ل(‪ ،‬فذكر كتاب ا ّ‬
‫فيكم الثقلين كتاب ا ّ‬
‫ل في أهل بيتي(‪ .‬قلت لمقدم‪ :‬ونحن نقول في صلتنا كل يوم‪) :‬اللهم صل على محمد‪ ،‬وعلى آل محمد‪ ،‬كما صليت‬ ‫ا ّ‬
‫على إبراهيم‪ ،‬إنك حميد مجيد‪ ،‬وبارك على محمد وعلى آل محمد‪ ،‬كما باركت على آل إبراهيم‪ ،‬إنك حميد مجيد(‪ .‬قال‬
‫ل منه صرًفا ول‬
‫ل والملئكة والناس أجمعين‪ ،‬ل يقبل ا ّ‬ ‫مقدم‪ :‬فمن يبغض أهل البيت؟ قلت‪ :‬من أبغضهم فعليه لعنة ا ّ‬
‫عدل‪.‬‬

‫ي؟ قال‪ :‬قد قالوا له‪ :‬إن أهل دمشق نواصب‪ ،‬قلت بصوت‬ ‫ثم قلت للوزير المغولي‪ :‬لي شىء قال عن يزيد وهذا تتر ٌ‬
‫ل ما في أهل دمشق نواصب‪ ،‬وما علمت فيهم ناصبًيا‪،‬‬ ‫ل‪ ،‬وا ّ‬
‫عال‪ :‬يكذب الذي قال هذا‪ ،‬ومن قال هذا‪ ،‬فعليه لعنة ا ّ‬
‫ولو تنقص أحد عليا بدمشق‪ ،‬لقام المسلمون عليه‪ ،‬لكن كان ـ قديًما لما كان بنو أمية ولة البلد ـ بعض بني أمية‬
‫ي ويسبه‪ ،‬وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد‪.‬‬‫ينصب العداوة لعل ّ‬

‫ل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬إن الدين فسد من قبل هذه‪ ،‬وهو من‬ ‫سئـ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫حين أخذت الخلفة من علي بن أبي طالب‪ ،‬فإن الذين تولوا مكانه لم يكونوا أهل للولية‪ ،‬فلم تصح توليتهم‪ ،‬ولم يصح‬
‫للمسلمين بعد ذلك عقد من عقودهم‪ ،‬ل عقد نكاح ول غيره‪ ،‬وأن جميع من تزوج بعد تلك الواقعة فنكاحه فاسد‪،‬‬
‫وكذلك العقود جميعها فاسدة‪ ،‬والوليات وغيرها‪.‬‬

‫ل صليب‪ ،‬وأن كل حرف من الجللة على رأس خط من خطوط الصليب‪ ،‬ويقرر للناس أن‬
‫ويزعم قائل هذا‪ :‬أن ا ّ‬
‫اليهود والنصارى على حق‪ ،‬وكذلك المجوس وغيرهم!!‬

‫ل تعالى‪:‬‬
‫ب ـ رحمه ا ّ‬
‫جـا َ‬
‫فَأ َ‬

‫أما هذا الجاهل فهو شبيه في جهله بالرافضة‪ ،‬الذين يكذبون‪ ،‬وخرافاتهم التي ل تروج إل على جاهل ل يعرف أصول‬
‫السلم‪ ،‬كالذين ذكروا في هذا السؤال‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬إنهم يقولون‪ :‬إن الدين فسد من حين أخذت الخلفة من علي‪ ،‬وذلك ‪ /‬من حين موت النبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ل صليب‪ ،‬ويقرر دين اليهود‬
‫ل للولية‪ ،‬وأن عقود المسلمين باطلة‪ ،‬وأن ا ّ‬
‫وأن الخلفاء الراشدين لم يكونوا أه ً‬
‫والنصارى والمجوس‪ ،‬فإن هذا زنديق من شر الزنادقة‪ ،‬من جنس قرامطة الباطنية‪ ،‬كالنصيرية والسماعيلية‬
‫وأتباعهم‪.‬‬

‫ولهذا يتكلم بالتناقض‪ ،‬فإن من يقرر دين اليهود والنصارى والمجوس‪ ،‬ويطعن في دين الخلفاء الراشدين المهديين‪،‬‬
‫والسابقين الولين من المهاجرين والنصار‪ ،‬ل يكون إل من أجهل الناس وأكفرهم‪ ،‬ولو كان من المؤمنين‪ ،‬الذين‬
‫يعلمون أن هذه المة خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬وأن خير المة القرن الول‪ ،‬ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه؛ لما كان‬
‫مقرًرا لدين الكفار‪ ،‬طاعًنا في دين المهاجرين والنصار‪ ،‬والرد على هذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫وقد ذكرنا في ذلك في الرد على الرافضة ما ل يتسع له هذا الموضع‪.‬‬


‫ل‪ ،‬فنبين له مما جاء به ما‬
‫ل‪ ،‬فنجيب من يقر أن محمًدا رسول ا ّ‬
‫ومثل هذا القول ل يقوله من يؤمن بأن محمًدا رسول ا ّ‬
‫يزيل شبهته‪ ،‬فأما من يطعن في نبوته‪ ،‬فنكلمه من وجه آخر‪ ،‬ولكل مقام مقال‪.‬‬

‫ل ـ‪:‬‬
‫ل ـ َرحَمُه ا ّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫ل عنه ـ قاتل الجن في البئر؟ ومّد يده يوم خيبر‪ ،‬فعبر العسكر عليها؟ وأنه‬
‫هل يصح عند أهل العلم‪ :‬أن علًيا ـ رضي ا ّ‬
‫حمل في الحزاب فافترقت قدامه سبع عشرة فرقة؟ وخلف كل فرقة رجل يضرب بالسيف يقول‪ :‬أنا علي؟ وأنه كان‬
‫جْرن من رخام فقصم له‬ ‫له سيف يقال له‪ :‬ذو الفقار‪ ،‬وكان يمتد ويقصر‪ ،‬وإنه ضرب به مرحًبا وكان على رأسه ُ‬
‫ولفرسه بضربة واحدة‪ ،‬ونزلت الضربة في الرض‪ ،‬ومناد ينادي في الهواء‪ :‬ل سيف إل ذو الفقار‪ ،‬ول فتى إل‬
‫ي؟ وأنه رمي في المنجنيق إلى حصن الغراب؟ وأنه بعث إلى كل نبي سًرا‪ ،‬وبعث مع النبي صلى ال عليه وسلم‬ ‫عل ّ‬
‫جهًرا؟ وأنه كان يحمل في خمسين ألًفا‪ ،‬وفي عشرين ألًفا‪ ،‬وفي ثلثين ألًفا وحده؟ وأنه لما برز إليه مرحب من خيبر‬
‫ضا‪ ،‬ونزل السيف في الرض ذراعين أو ثلثة؟ وأنه‬ ‫ل‪ ،‬وقد الفرس عر ً‬ ‫ضربه ضربة واحدة َفَقّده ]أي‪ :‬قطعة[ طو ً‬
‫مسك حلقة باب خيبر وهزها فاهتزت المدينة‪ ،‬ووقع من على السور شرفات‪ ،‬فهل صح من ذلك شىء؟!‬

‫جــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ي ول غيره من الصحابة الجن‪،‬‬


‫ق باتفاق أهل العلم واليمان‪/ ،‬لم يقاتل عل ّ‬
‫خَتَل ٌ‬
‫ل‪ ،‬هذه المور المذكورة كذب ُم ْ‬‫الحمد ّ‬
‫ن أحٌد من النس‪ ،‬ل في بئر ذات العلم ول غيرها‪.‬‬ ‫ول قاتل الج ّ‬

‫ل صلى‬‫ي قط على عهد رسول ا ّ‬ ‫والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة‪ ،‬ولم يقاتل عل ّ‬
‫ال عليه وسلم لعسكر كان خمسين ألًفا أو ثلثين ألًفا‪ ،‬فضل عن أن يكون وحده قد حمل فيهم‪ ،‬ومغازيه التي شهدها‬
‫ل وقاتل فيها كانت تسعة‪ :‬بدًرا‪ ،‬وأحًدا‪ ،‬والخندق‪ ،‬وخيبر‪ ،‬وفتح مكة‪ ،‬ويوم حنين‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫مع رسول ا ّ‬

‫وأكثر ما يكون المشركون في الحزاب وهي الخندق‪ ،‬وكانوا محاصرين للمدينة‪ ،‬ولم يقتتلوا هم والمسلمون كلهم‪،‬‬
‫ي وحده قط إل‬
‫عْبد ود العامري‪ ،‬ولم يبارز عل ّ‬ ‫ي عمرو بن َ‬
‫وإنما كان يقتتل قليل منهم وقليل من الكفار‪ ،‬وفيها قتل عل ّ‬
‫واحًدا‪ ،‬ولم يبارز اثنين‪.‬‬

‫ل يحب الّ‬
‫وأما مرحب يوم خيبر‪ ،‬فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬لعطين الراية رج ً‬
‫ل على يديه( ‪ ،‬فأعطاها لعلي‪ ،‬وكانت أيام خيبر أياًما متعددة‪ ،‬وحصونها‪ ،‬فتح‬
‫ل ورسوُله‪ ،‬يفتح ا ّ‬‫ورسوَله‪ ،‬ويحبه ا ّ‬
‫ل عنه ـ بعضها‪.‬‬ ‫ي ـ رضي ا ّ‬ ‫على يد عل ّ‬

‫وقد روي أثر أنه قتل مرحًبا‪ ،‬وروي أنه قتله محمد بن مسلمة‪ ،‬ولعلهما مرحبان‪ ،‬وقتله القتل المعتاد‪ ،‬ولم يقده جميعه‪،‬‬
‫ول قد الفرس‪ ،‬ول نزل ‪/‬السيف إلى الرض‪ ،‬ول نزل لعلي ول لغيره سيف من السماء‪ ،‬ول مد يده ليعبر الجيش‪،‬‬
‫ول اهتز سور خيبر لقلع الباب‪ ،‬ول وقع شىء من شرفاته‪ ،‬وإن خيبر لم تكن مدينة وإنما كانت حصوًنا متفرقة‪ ،‬ولهم‬
‫مزارع‪.‬‬

‫ولكن المروي أنه ما قلع باب الحصن حتى عبره المسلمون‪ ،‬ول رمي في منجنيق قط‪ ،‬وعامة هذه المغازي التي‬
‫ي وغيره‪ ،‬قد زادوا فيها أكاذيب كثيرة‪ ،‬مثل ما يكذبون في سيرة عنترة والبطال‪ .‬وجميع الحروب التي‬‫تروى عن عل ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم ثلثة حروب‪ :‬الجمل‪ ،‬وصفين‪ ،‬وحرب أهل‬ ‫ل عنه ـ بعد وفاة رسول ا ّ‬‫حضرها علي ـ رضي ا ّ‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫النهروان‪ ،‬وا ّ‬

‫سِئـــل عمن قال‪:‬‬


‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫إن عليا قاتل الجن في البئر‪ ،‬وأنه حمل على اثني عشر ألًفا وهزمهم‪.‬‬

‫جــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬
‫لم يحمل أحد من الصحابة وحده ل في اثني عشر ألًفا ول في عشرة آلف ‪ ،‬ل علي ول غيره‪ ،‬بل أكثر عدد اجتمع‬
‫على النبي صلى ال عليه وسلم هم الحزاب الذين حاصروه بالخندق‪ ،‬وكانوا قريًبا من هذه العدة‪ ،‬وقتل علي رجل‬
‫من الحزاب اسمه‪ :‬عمرو بن عبد وٍد العامري‪.‬‬

‫ي كان أجل قدًرا من ذلك‪ ،‬والجن الذين يتبعون الصحابة‬


‫ى ول غيره‪ ،‬بل عل ّ‬
‫ولم يقاتل أحد من النس للجن‪ ،‬ل عل ّ‬
‫يقاتلون كفار الجن‪ ،‬ل يحتاجون في ذلك إلى قتال الصحابة معهم‪.‬‬

‫ل‪ ،‬إن علًيا يقوم الليالي كلها إل ليلة الجمعة‪،‬‬


‫سئل عن فاطمة أنها أتت النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقالت‪ :‬يارسول ا ّ‬ ‫ُ‬
‫ل يرفع روح علي كل ليلة جمعة تسبح في السماء إلى طلوع‬ ‫فإنه يصلي الِوْتر‪ ،‬ثم ينام إلى أن يطلع الفجر فقال‪) :‬إن ا ّ‬
‫الفجر( فهل ذلك صحيح أم ل؟ وهل هذا صحيح عن علي أنه قال‪ :‬اسألوني عن طرق السماء‪ ،‬فإني أعرف بها من‬
‫طرق الرض؟‬

‫جـاب‪:‬‬
‫فأ َ‬

‫وأما الحديث المذكور عن علي فكذب‪ ،‬ما رواه أحد من أهل العلم‪.‬‬

‫وأما قوله‪) :‬اسألوني عن طرق السماء( فإنه قاله‪ ،‬ولم يرد بذلك طريًقا للهدى‪ ،‬وإنما يريد بمثل هذا الكلم العمال‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الصالحة التي يتقرب بها‪ ،‬وا ّ‬

‫ل عنه ـ أنه ليس من أهل البيت‪ ،‬ول تجوز‬


‫ل ـ عن رجل قال عن علي بن أبي طالب ـ رضي ا ّ‬‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫الصلة عليه‪ ،‬والصلة عليه بدعة‪.‬‬

‫جـاب‪:‬‬
‫فَأ َ‬

‫أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت‪ ،‬فهذا مما ل خلف فيه بين المسلمين‪ ،‬وهو أظهر عند المسلمين من أن‬
‫يحتاج إلى دليل‪ ،‬بل هو أفضل أهل البيت‪ ،‬وأفضل بني هاشم بعد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد ثبت عن النبي صلى‬
‫سن‪ ،‬وحسين‪ ،‬فقال‪) :‬الّلهم هؤلء أهل بيتي‪ ،‬فأذهب عنهم‬
‫حَ‬‫ى وفاطمة‪ ،‬و َ‬
‫ال عليه وسلم أنه أدار كساءه على عل ّ‬
‫جس وطهرهم تطهيًرا(‪.‬‬ ‫الّر ْ‬

‫وأما الصلة عليه منفرًدا‪ ،‬فهذا ينبني على أنه هل يصلى على غير النبي صلى ال عليه وسلم منفرًدا ؟ مثل أن يقول‪:‬‬
‫اللهم صل على عمر أو علي‪ .‬وقد تنازع العلماء في ذلك‪.‬‬

‫فذهب مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وطائفة من الحنابلة إلى أنه ل يصلي على غير النبي صلى ال عليه وسلم منفرًدا‪ ،‬كما روي‬
‫عن ابن عباس أنه قال‪ :‬ل أعلم الصلة تنبغي عَلى أحد إل على النبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫ل عنه ـ قال لعمر بن‬


‫‪ /‬وذهب المام أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه ل بأس بذلك؛ لن علي بن أبي طالب رضي ا ّ‬
‫ل عليك‪ ،‬وهذا القول أصح وأولى‪.‬‬
‫الخطاب‪ :‬صلى ا ّ‬

‫ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلة عليه دون غيره مضاهاة للنبي صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫بحيث يجعل ذلك شعاًرا معروًفا باسمه‪ ،‬هذا هو البدعة‪.‬‬

‫حُه‪:‬‬
‫ل ُرو َ‬
‫سلم ـ قدس ا ّ‬
‫خ ال ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫سِئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬

‫هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث‪ ،‬أو من يقتدى به في دين السلم‪ ،‬أن أمير المؤمنين علي بـن أبي طالب ـ‬
‫ل عنه ـ قال‪ :‬إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني‪ ،‬فأينما بركت ادفنوني‪ ،‬فسارت ولم يعلم أحد قبره؟‬
‫رضي ا ّ‬
‫فهل صح ذلك أم ل؟ وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم ل؟ وما كان سبب قتله؟ وفي أي وقت كان ؟ ومن قتله؟‬
‫سُبوا؟ وأنهم أركبوا على‬
‫ومن قتل الحسين؟ وما كان سبب قتله؟ وهل صح أن أهل بيت النبي صلى ال عليه وسلم ُ‬
‫ل ـ تعالى ـ للبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها‪ .‬وأن الحسين‬
‫البل عراة‪ ،‬ولم يكن عليهم ما يسترهم‪ ،‬فخلق ا ّ‬
‫لما قطع رأسه داروا به في جميع البلد‪ ،‬وأنه حمل إلى دمشق‪ ،‬وحمل إلى مصر ودفن بها؟ وأن يزيد بن معاوية هو‬
‫الذي فعل هذا بأهل البيت‪ ،‬فهل صح ذلك أم ل ؟‬

‫ل؟ وما الذي يجب عليه إذا ‪/‬تحدث بهذا بين الناس؟ وهل إذا أنكر هذا‬ ‫وهل قائل هذه المقالت مبتدع بها في دين ا ّ‬
‫عليه منكر هل يسمى آمًرا بالمعروف ناهًيا عن المنكر أم ل؟ أفتونا مأجورين‪ ،‬و بينوا لنا بياًنا شافيا‪.‬‬

‫جــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ل عنه ـ إذا مات أركب‬


‫ل رب العالمين‪ ،‬أما ما ذكر من توصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي ا ّ‬‫الحمد ّ‬
‫فوق دابته وتسيب‪ ،‬ويدفن حيث تبرك‪ ،‬وأنه فعل ذلك به‪ ،‬فهذا كذب مختلق باتفاق أهل العلم‪ ،‬لم يوص علي بشىء من‬
‫ذلك‪ ،‬ول فعل به شيء من ذلك‪ ،‬ولم يذكر هذا أحد من المعروفين بالعلم والعدل‪ ،‬وإنما يقول ذلك من ينقل عن بعض‬
‫الكذابين‪.‬‬

‫ول يحل أن يفعل هذا بأحد من موتى المسلمين‪ ،‬ول يحل لحد أن يوصي بذلك‪ ،‬بل هذا ُمْثَلة بالميت‪ ،‬ول فائدة في هذا‬
‫الفعل‪ ،‬فإنه إن كان المقصود تعمية قبره‪ ،‬فلبد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه‪ ،‬وحينئذ يمكن أن يحفر‬
‫له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة‪ ،‬وهو أن يترك ميًتا على ظهر دابة تسير في البرية‪.‬‬

‫وقد تنازع العلماء في موضع قبره‪ .‬والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر المارة بالكوفة‪ ،‬وأنه أخفى قبره لئلً‬
‫جم‬
‫ينبشه الخوارج ـ الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله ـ فإن الذي قتله واحد من الخوارج‪ ،‬وهو عبد الرحمن ‪/‬بن ِمْل َ‬
‫المرادي‪ ،‬وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية‪ ،‬وقتل عمرو بن العاص‪ ،‬فإنهم يكفرون هؤلء‬
‫كلهم‪ ،‬وكل من ل يوافقهم على أهوائهم‪.‬‬

‫وقد تواترت النصوص عن النبي صلى ال عليه وسلم بذمهم‪ .‬خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه‪،‬‬
‫وخرجه البخاري من عدة أوجه‪ ،‬وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم فيهم‪:‬‬
‫حِقر أحدكم صلته مع صلتهم‪ ،‬وصيامه مع صيامهم‪ ،‬وقراءته مع قراءتهم‪ ،‬يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم‪،‬‬ ‫)َي ْ‬
‫يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الرِمّية‪ ،‬لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد ـ وفي رواية ـ أينما لقيتموهم فاقتلوهم‬
‫ل يوم القيامة‪ ،‬يقتلون أهل السلم(‪.‬‬ ‫ـ فإن في قتلهم أجًرا لمن قتلهم عند ا ّ‬

‫ل عنه ـ كما في‬


‫ل عنهم ـ على قتالهم‪ ،‬لكن الذي باشر قتالهم وأمر به‪ ،‬علي ـ رضي ا ّ‬ ‫وهؤلء اتفق الصحابة ـ رضي ا ّ‬
‫الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪):‬تمرق مارقة على حين ُفْرَقٍة من الناس‪ ،‬تقتلهم أولى‬
‫حُروَراء؛ ولهذا يقال‬
‫ل عنه ـ بالّنْهَروان‪ ،‬وكانوا قد اجتمعوا في مكان يقال له‪َ :‬‬
‫الطائفتين بالحق( فقتلهم علي ـ رضي ا ّ‬
‫لهم‪ :‬الحرورية‪.‬‬

‫خّباب‪ ،‬وأغاروا على‬ ‫ل بن َ‬ ‫وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم‪ ،‬ثم إن الباقين قتلوا عبد ا ّ‬
‫سرح المسلمين‪ ،‬فأمر ‪ /‬علي الناس بالخروج إلى قتالهم‪ .‬وروى لهم أمر النبي صلى ال عليه وسلم بقتالهم وذكر‬
‫ج اليدين ـ ناقص اليد ـ على ثديه مثل البضعة من اللحم َتَدْرَدر‪ .‬ولما قتلوا وجد‬
‫خَد َ‬
‫ل ُم ْ‬
‫العلمة التي فيهم‪ :‬أن فيهم رج ً‬
‫فيهم هذا المنعوت‪.‬‬

‫ل عنه ـ يوم‬‫فلما اتفق الخوارج ـ الثلثة ـ على قتل أمراء المسلمين الثلثة‪ ،‬قتل عبد الرحمن بن ملجم علًيا ـ رضي ا ّ‬
‫الجمعة سابع عشر‪ ،‬شهر رمضان‪ ،‬عام أربعين‪ ،‬اختبأ له‪ ،‬فحين خرج لصلة الفجر ضربه‪ ،‬وكانت السنة أن الخلفاء‬
‫ونوابهم المراء الذين هم ملوك المسلمين‪ ،‬هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس‪ ،‬والجمع والعيدين‪،‬‬
‫والستسقاء والكسوف‪ ،‬ونحو ذلك كالجنائز‪ ،‬فأمير الحرب هو أمير الصلة الذي هو إمامها‪.‬‬

‫وأما الذي أراد قتل معاوية فقالوا‪ :‬إنه جرحه‪ ،‬فقال الطبيب‪ :‬إنه يمكن علجك‪ ،‬لكن ل يبقى لك نسل‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه من‬
‫حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد‪ ،‬واقتدى به المراء؛ ليصلوا فيها هم وحاشيتهم‪ ،‬خوًفا من وثوب بعض‬
‫الناس على أمير المؤمنين وقتله‪ ،‬وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما ل يسوغ‪ ،‬وكره من كره الصلة في نحو هذه‬
‫المقاصير‪.‬‬

‫وأما الذي أراد قتل عمرو بن العاص‪ ،‬فإن عمًرا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلـ اسمه خارجة ـ فظن الخارجي أنه‬
‫ل خارجة‪ ،‬فصارت مثل‪.‬‬ ‫عمرو فقتله‪ ،‬فلما تبين له قال‪ :‬أردت عمًرا وأراد ا ّ‬

‫‪/‬فقيل‪ :‬إنهم كتموا قبر علي وقبر معاوية وقبر عمرو خوًفا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط‬
‫القبلي من المسجد الجامع في قصر المارة‪ ،‬الذي كان يقال له الخضراء‪ ،‬وهو الذي تسميه العامة قبر هود‪ ،‬وهود‬
‫باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق‪ ،‬بل قبره ببلد اليمن حيث بعث‪ ،‬وقيل‪ :‬بمكة حيث هاجر‪ ،‬ولم يقل أحد‪ :‬إنه بدمشق‪.‬‬

‫وأما معاوية الذي هو خارج باب الصغير‪ ،‬فإنه معاوية بن يزيد‪ ،‬الذي تولى نحو أربعين يوًما‪ ،‬وكان فيه زهد ودين‪.‬‬
‫فعلي دفن هناك وعفي قبره؛ فلذلك لم يظهر قبره‪.‬‬

‫وأما المشهد الذي بالّنجف‪ ،‬فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي‪ ،‬بل قيل‪ :‬إنه قبر المغيرة بن شعبة‪ ،‬ولم يكن‬
‫أحد يذكر أن هذا قبر علي‪ ،‬ول يقصده أحد أكثر من ثلثمائة سنة‪ ،‬مع كثرة المسلمين من أهل البيت‪ ،‬والشيعة‬
‫وغيرهم‪ ،‬وحكمهم بالكوفة‪.‬‬

‫وإنما اتخذوا ذلك مشهًدا في ملك بني بويه ـ العاجم ـ بعد موت علي بأكثر من ثلثمائة سنة‪ ،‬ورووا حكاية فيها‪ :‬أن‬
‫الرشيد كان يأتي إلى تلك‪ ،‬وأشياء ل تقوم بها حجة‪.‬‬

‫ي؛ ليستتروا بذلك‪ ،‬فهذا من أقبح‬


‫خاِت ّ‬
‫سْبي أهل البيت وإركابهم البل حتى نبت لها سنامان وهي الَب َ‬ ‫وأما السؤال عن َ‬
‫الكذب وأبينه‪ ،‬وهو مما افتراه الزنادقة ‪/‬والمنافقون‪ ،‬الذين مقصودهم الطعن في السلم‪ ،‬وأهله من أهل البيت‪،‬‬
‫وغيرهم‪ .‬فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول‪ :‬إن المنقول إلينا من معجزات النبياء‬
‫ت أهل بيت نبيها‪ ،‬كان فيها من الطعن في خير أمة‬ ‫سب ْ‬ ‫وكرامات الولياء هو من هذا الجنس‪ ،‬ثم إذا تبين أن المة َ‬
‫ل النبي‬
‫ي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث ا ّ‬ ‫خِات ّ‬
‫ل؛ إذ كل عاقل يعلم أن البل الَب َ‬
‫أخرجت للناس ما ل يعلمه إل ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقبل وجود أهل البيت‪ ،‬كوجود غيرها من البل والغنم‪ ،‬والبقر والخيل والبغال والمعز‪.‬‬

‫ل نسلك‪ ،‬فإن‬
‫ل عنه ـ نصب يده بخيبر فوطئته البغلة‪ ،‬فقال لها‪ :‬قطع ا ّ‬
‫وإنما هذا الكذب نظير كذبهم بأن علًيا ـ رضي ا ّ‬
‫كل عاقل يعلم أن البغلة لم يكن لها نسل قط‪ .‬هذا مع أنهم لم يكن معهم بخيبر بغلة‪ ،‬بل لم يكن للمسلمين بغال‪ ،‬وأول‬
‫بغلة صارت لهم التي أهداها المقوقس ـ صاحب مصر ـ للنبي صلى ال عليه وسلم حتى مات وهي عنده‪.‬‬

‫وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما‬
‫جْدن ريحها‪ ،‬ورجال‬‫ن الجنة‪ ،‬ول َي ِ‬
‫خْل َ‬
‫خت‪ ،‬ل َيْد ُ‬
‫سِنَمة الُب ْ‬
‫بعد‪ :‬نساء كاسيات مائلت ُمِميلت‪ ،‬على رؤوسهن مثل أ ْ‬
‫ل(‪.‬‬
‫سياط مثل أذناب البقر‪ ،‬يضربون بها عباد ا ّ‬
‫معهم ِ‬

‫فالنبي صلى ال عليه وسلم شبه أصحاب العصائب الكبار ـ التي ستكون بعد موته ـ بأسنمة البخاتي‪ ،‬فلول أنهم كانوا‬
‫يعرفونها لم يفهموا‪ ،‬وهذه العصائب قد ‪/‬ظهرت بعده بمدة طويلة في هذا الزمان ونحوه‪ ،‬ثم إن البخاتي ل يستتر‬
‫ل أن يستتر من عري ـ بغيرحق ـ لستره بما يصلح له‪ ،‬كما ستر إبراهيم الخليل لما‬
‫راكبها إذا كان عارًيا‪ ،‬ولو شاء ا ّ‬
‫جرد وألقى في المنجنيق‪.‬‬

‫ومما يبين ظهور الكذب في هذا‪ ،‬أن المسلمين ما زالوا يسبون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬ومع هذا فما علم أنهم‬
‫سِبّية وجهها‪ ،‬أو يداها‪ ،‬أو قدمها‪.‬‬
‫قط كانوا يرحلون النساء مجردات بادية أبدانهن‪ ،‬بل غاية ما يظهر من المرأة الم ْ‬

‫ولم يعلم في السلم أن أهل البيت سبى أحًدا منهم أحد من المسلمين في وقت من الوقات‪ ،‬مع العلم بأنهم من أهل‬
‫البيت‪ ،‬اللهم إل أن يقع في أثناء ما تسبيه المسلمون من ل يعلم أنه من أهل البيت‪ ،‬كامرأة سباها العدو ثم استنقذها‬
‫المسلمون‪ ،‬وإذا تبين أنها كانت حرة الصل أرسلوها‪ ،‬وإن كان في ضمن ذلك من ل يعرف من يخفي نسبها ويستحل‬
‫ل أعلم بحقيقة ذلك‪ ،‬لكن لم يكن شىء من ذلك علنية في السلم قط‪.‬‬ ‫ل من هو زنديق منافق‪ ،‬فا ّ‬ ‫منها ما حرم ا ّ‬
‫وهذا مما يقوله هؤلء الجهال‪ ،‬أن الحجاج بن يوسف قتل الشراف وأراد قطع دابرهم‪ ،‬وهذا من الجهل بأحوال‬
‫الناس‪ ،‬فإن الحجاج ـ مع كونه ُمِبيًرا ]أي‪ :‬مهلك يسرف في إهلك الناس[ سفاًكا للدماء قتل خلًقا كثيًرا ـ لم يقتل من‬
‫أشراف بني هاشم أحًدا قط‪ ،‬بـل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم وهم الشراف‪ ،‬وذكر أنه‬
‫أتى إلى الحـرب لمـا تعرضوا لهم‪ ،‬يعني لما قتل الحسين‪.‬‬

‫‪/‬ول يعلم في خلفة عبد الملك والحجاج نائبه على العراق أنه قتل أحًدا من بني هاشم‪.‬‬

‫والذي يذكر لنا السبي أكثر ما يذكر مقتل الحسين وحمل أهله إلى يزيد‪ ،‬لكنهم جهال بحقيقة ما جرى‪ ،‬حتى يظن‬
‫الظان منهم أن أهله حملوا إلى مصر‪ ،‬وأنهم قتلوا بمصر‪ ،‬وأنهم كانوا خلًقا كثيًرا‪ ،‬حتى إن منهم من إذا رأى موتى‬
‫ل عنه‪ ،‬ولعن من قتله‪،‬‬
‫عليهم آثار القتل قال‪ :‬هؤلء من السبي الذين قتلوا‪ ،‬وهذا كله جهل وكذب‪ .‬والحسين ـ رضي ا ّ‬
‫ورضي بقتله ـ قتل يوم عاشوراء عام واحد وستين‪.‬‬

‫ل بن‬‫شن‪ ،‬صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد ا ّ‬ ‫جْو َ‬
‫شِمر بن ذي ال َ‬
‫وكان الذي حض على قتله ال ّ‬
‫ل هذا أمر ـ بمقاتلة الحسين ـ نائبه عمر ابن سعد بن أبي وقاص‪ ،‬بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه‬ ‫زياد‪ ،‬وعبيد ا ّ‬
‫آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة‪ ،‬فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة‪ ،‬أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه‪ ،‬أو‬
‫يذهب إلى الّثْغِر يقاتل الكفار‪ ،‬فامتنعوا إل أن يستأسر لهم أو يقاتلوه‪ ،‬فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم‪.‬‬

‫ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق‪ ،‬ولم يكن يزيد أمرهم بقتله‪ ،‬ول ظهر منه سرور بذلك ورضى‬
‫به‪ ،‬بل قال كلًما فيه ذم لهم حيث نقل عنه أنه قال‪ :‬لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين‪،‬‬
‫ل لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله ـ يريد بذلك الطعن‬
‫ل بن زياد ـ وا ّ‬
‫جانة ـ يعني عبيد ا ّ‬
‫ل ابن مْر َ‬
‫وقال‪/ :‬لعن ا ّ‬
‫في استلحاقه حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب ـ وبنو أمية وبنو هاشم‬
‫كلهما بنو عبد مناف‪.‬‬

‫وروى أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك‪ ،‬وأنه أكرم أهله‪ ،‬وأنزلهم منزلً‬
‫حسًنا‪ ،‬وخير ابنه علًيا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة‪ ،‬فاختار المدينة‪ ،‬والمكان الذي يقال له سجن على‬
‫بن الحسين بجامع دمشق باطل ل أصل له‪.‬‬

‫ل عنه ـ ول انتصر له‪ ،‬بل قتل أعوانه لقامة ملكه‪ ،‬وقد نقل‬
‫ل على من قتل الحسين ـ رضي ا ّ‬ ‫لكنه مع هذا لم يقم حد ا ّ‬
‫عنه أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح‪ ،‬كقوله‪:‬‬

‫لما بدت تلك الحمول وأشرفــــت ** تلك الـرؤوس إلى ربى جـــيرون‬

‫نعق الغراب فقلت نح أو ل تنــــح ** فلقد قضيت مـن النبـي ديـونـي !!‬

‫وهذا الشعر كفر‪.‬‬

‫ول ريب أن يزيد تفاوت الناس فيه‪ ،‬فطائفة تجعله كافًرا‪ ،‬بل تجعله هو وأباه كافرين؛ بل يكفرون مع ذلك أبا بكر‬
‫ل وأضلهم‪ ،‬وأعظمهم‬ ‫وعمر‪ ،‬ويكفرون عثمان‪ ،‬وجمهور المهاجرين والنصار‪ .‬وهؤلء الرافضة من أجهل خلق ا ّ‬
‫ل ـ عز وجل ـ ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم‪ ،‬فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر‬ ‫‪/‬كذًبا على ا ّ‬
‫وعثمان‪ ،‬بل كذبهم على يزيد أهون بكثير ‪.‬‬

‫وطائفة تجعله من أئمة الهدى‪ ،‬وخلفاء العدل‪ ،‬وصالح المؤمنين‪ ،‬وقد يجعله بعضهم من الصحابة‪ ،‬وبعضهم يجعله‬
‫ضا ـ من أبين الجهل والضلل‪ ،‬وأقبح الكذب والمحال‪ ،‬بل كان ملًكا من ملوك المسلمين له حسنات‬‫نبًيا‪ ،‬وهذا ـ أي ً‬
‫وسيئات‪ ،‬والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك‪ ،‬وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ل عنه ـ فقتل بَكْرِبلء قريب من الفرات‪ ،‬ودفن جسده حيث قتل‪ ،‬وحمل رأسه إلى ُقدام عبيد الّ‬
‫وأما الحسين ـ رضي ا ّ‬
‫بن زياد بالكوفة‪ ،‬هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الئمة‪.‬‬
‫وأما حمله إلى الشام إلى يزيد‪ ،‬فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها‪ ،‬بل في الروايات ما يدل على أنها‬
‫من الكذب المختلق‪ ،‬فإنه يذكر فيها أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه‪ ،‬وأن بعض الصحابة الذين حضروه ـ‬
‫كأنس بن مالك‪ ،‬وأبي َبْرَزة ـ أنكر ذلك‪ ،‬وهذا تلبيس‪ ،‬فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد الّ بن زياد‪ ،‬هكذا‬
‫ل ل ريب أنه أمر بقتله‪ ،‬وحمل الرأس إلى‬‫ل بن زياد ]يزيد[‪ ،‬وعبيد ا ّ‬
‫في الصحيح والمساند‪ .‬وإنما جعلوا مكان عبيد ا ّ‬
‫بين يديه‪ .‬ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لجل ذلك‪/.‬ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم‬
‫يكونوا بالشام‪ ،‬وإنما كانوا بالعراق ـ حينئذ ـ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم‪.‬‬

‫وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس‪ ،‬وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له‪:‬‬
‫مشهد الحسين باطل‪ ،‬ليس فيه رأس الحسين ول شىء منه‪ ،‬وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد الّ بن القداح الذين‬
‫كانوا ملوًكا بالديار المصرية مائتي عام‪ ،‬إلى أن انقرضت دولتهم في أيام نور الدين محمود وكانوا يقولون‪ :‬إنهم من‬
‫أولد فاطمة‪ ،‬ويدعون الشرف‪ .‬وأهل العلم بالنسب يقولون‪ :‬ليس لهم نسب صحيح‪ ،‬ويقال‪ :‬إن جدهم كان ربيب‬
‫الشريف الحسيني فادعوا الشرف لذلك‪.‬‬

‫فأما مذاهبهم وعقائدهم‪ ،‬فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين السلم‪ ،‬وكانوا يظهرون التشيع‪ ،‬وكان كثير من كبرائهم‬
‫وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية‪ ،‬وهو من أخبث مذاهب أهل الرض‪ ،‬أفسد من اليهود والنصارى؛ ولهذا‬
‫كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع‪ :‬المتفلسفة‪ ،‬والمباحية‪ ،‬والرافضة‪ ،‬وأشباه هؤلء‪ ،‬ممن ل‬
‫يستريب أهل العلم واليمان في أنه ليس من أهل العلم واليمان‪.‬‬

‫فأحدث هذا المشهد في المائة الخامسة‪ ،‬نقل من عسقلن‪ ،‬وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت‬
‫العاضد ـ آخر ملوكهم‪.‬‬

‫ل عنهما ـ هو ما ذكره الزبير بن بكار في كتاب‬ ‫‪/‬والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي ـ رضي ا ّ‬
‫]أنساب قريش[ والزبير بن بكار هو من أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا‪ ،‬ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية‬
‫ودفن هناك‪ ،‬وهذا مناسب‪ ،‬فإن هناك قبر أخيه الحسن‪ ،‬وعم أبيه العباس‪ ،‬وابنه علي وأمثالهم‪.‬‬

‫قال ]أبو الخطاب[ ابن َدحية ـ الذي كان يقال له‪]:‬ذو النسبين بين دحية والحسين[ في كتاب ]العلم المشهور في فضل‬
‫اليام والشهور[ـ لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن‪ :‬أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون‬
‫عند عمرو بن سعيد‪ ،‬فسمعوا الصياح فقالوا‪ :‬ما هذا ؟ فقيل‪ :‬نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين ابن علي‪،‬‬
‫ل لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي‪ ،‬قال ابن‬ ‫قال‪ :‬وأتي برأس الحسين بن علي‪ ،‬فدخل به على عمرو فقال‪ :‬وا ّ‬
‫دحية‪ :‬فهذا الثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه‪ ،‬والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا‬
‫سَكة‪ :‬ما‬
‫سَكة ]الُم ْ‬
‫السبب‪ ،‬قال‪ :‬وما ذكر من أنه في عسقلن في مشهد هناك فشيء باطل‪ ،‬ل يقبله من معه أدنى ُم ْ‬
‫يمسك الّرَمق من الطعام والشراب‪ ،‬والمقصود هنا‪ :‬من معه أدنى بقية من العقل[ من العقل والدراك‪ ،‬فإن بني أمية ـ‬
‫مع ما أظهروه من القتل والعداوة والحقاد ـ ل يتصور أن يبنوا على الرأس مشهًدا للزيارة‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬وأما ما افتعله بنو عبيد في أيام إدبارهم‪ ،‬وحلول بوارهم‪ ،‬وتعجيل دمارهم‪ ،‬في أيام الملقب بالقاسم عيسى بن‬
‫الظافر وهو الذي عقد له بالخلفة ‪/‬وهو ابن خمس سنين وأيام ؛ لنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع‬
‫وأربعين وخمسمائة‪ ،‬وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة‪ .‬وله‬
‫من العمر ما قدمنا‪ ،‬فل تجوز عقوده ول عهوده‪ ،‬وتوفى وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام؛لنه توفى‬
‫لليلة الجمعة لثلث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة‪ ،‬فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث‬
‫ي العسقلني أمام الناس‪ ،‬ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من المور الظاهرة‪،‬‬‫بالقاهرة‪ ،‬ودخول الرأس مع المشهد ّ‬
‫ضا‪ ،‬والذي بناه طلئع بن‬‫ضا‪ ،‬وقضوا ما في نفوسهم لستجلب العامة عر ً‬ ‫وذلك شىء افتعل قصًدا‪ ،‬أو نصب غر ً‬
‫ُرَزْيك الرافضي‪ .‬وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط‪ ،‬وهذا الذي ذكره أبو‬
‫الخطاب بن َدحية في أمر هذا المشهد‪ ،‬وأنه مكذوب مفترى‪ ،‬هو أمر متفق عليه عند أهل العلم‪.‬‬

‫والكلم في هذا الباب وأشباهه متسع‪ ،‬فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة‪ ،‬وأكاذيب‬
‫وأهواء‪ ،‬وقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي‬
‫طالب أنواع من الكاذيب‪ ،‬يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم‪ ،‬ويكذب بعضها مبغضوهم‪ ،‬لسيما بعد مقتل عثمان‪ ،‬فإنه‬
‫عظم الكذب والهواء‪.‬‬

‫‪/‬وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالت من الجانبين‪ ،‬علي برىء منها‪ .‬وصارت البدع والهواء والكذب‬
‫تزداد‪ ،‬حتى حدث أمور يطول شرحها‪ ،‬مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء‪ ،‬فقوم يجعلونه مأتًما‬
‫ل والكذب على أهل البيت‪،‬‬ ‫يظهرون فيه النياحة والجزع‪ ،‬وتعذيب النفوس وظلم البهائم‪ ،‬وسب من مات من أولياء ا ّ‬
‫ل وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم واتفاق المسلمين‪.‬‬ ‫وغير ذلك من المنكرات المنهى عنها بكتاب ا ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ بالشهادة في هذا اليوم‪ ،‬وأهان بذلك من قتله‪ ،‬أو أعان على قتله‪ ،‬أو‬ ‫ل عنه ـ أكرمه ا ّ‬ ‫والحسين ـ رضي ا ّ‬
‫رضى بقتله‪ ،‬وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء‪ ،‬فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة‪ ،‬وكانا قد تربيا في عز‬
‫ل ـ تعالى ـ بالشهادة؛‬ ‫ل ما ناله أهل بيته‪ ،‬فأكرمهما ا ّ‬ ‫السلم‪ ،‬لم ينال من الهجرة والجهاد والصبر على الذى في ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ قد شرع السترجاع عند المصيبة بقوله‬ ‫ل لكرامتهما‪ ،‬ورفعا لدرجاتهما‪ ،‬وقتله مصيبة عظيمة‪ ،‬وا ّ‬ ‫تكمي ً‬
‫حَمٌة َوُأوَلـِئ َ‬
‫ك‬ ‫ت ّمن ّرّبِهْم َوَر ْ‬
‫صَلَوا ٌ‬
‫عَلْيِهْم َ‬
‫ك َ‬
‫ن ُأوَلـِئ َ‬
‫جعو َ‬
‫ل َوِإّنـا ِإَلْيِه َرا ِ‬
‫صيَبٌة َقاُلوْا ِإّنا ِّ‬
‫صاَبْتُهم ّم ِ‬
‫ن ِإَذا َأ َ‬
‫ن اّلِذي َ‬
‫صاِبِري َ‬ ‫تعالى‪َ} :‬وَب ّ‬
‫شِر ال ّ‬
‫ُهُم اْلُمْهَتُدوَن{ ]البقرة‪ .[155-157 :‬وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪:‬‬

‫ف لي خيًرا منها‪ ،‬إل‬


‫خُل ْ‬
‫ل وإنا إليه راجعون‪ ،‬اللهم أجِْرِني في مصيبتي‪ ،‬وا ْ‬
‫)ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول‪ :‬إنا ّ‬
‫ل في مصيبته‪ ،‬وأخلف له خيًرا منها( ومن أحسن ما يذكر هنا‪ :‬أنه قد روى المام أحمد وابن ماجه عن فاطمة‬ ‫آجره ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ما من مسلم يصاب‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬ ‫بنت ‪/‬الحسين عن أبيها الحسين ـ رضي ا ّ‬
‫ل له مثلها يوم أصيب(‪ ،‬هذا حديث رواه عن‬ ‫عا‪ ،‬كتب ا ّ‬‫ت‪ ،‬فيحدث عندها استرجا ً‬ ‫بمصيبة فيذكر مصيبته وإن َقُدَم ْ‬
‫الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه‪.‬‬

‫وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد‪ ،‬فكان في محاسن السلم أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬و هو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها‪ ،‬فيكون للنسان من الجر مثل الجر يوم أصيب بها‬
‫المسلمون‪.‬‬

‫وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد‪ ،‬مثل‬
‫ل عنه ـ قال‪:‬‬
‫ل بن مسعود ـ رضي ا ّ‬ ‫لطم الخدود وشق الجيوب‪ ،‬والدعاء بدعوى الجاهلية‪ .‬ففي الصحيحين عن عبد ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬ليس منا من ضرب الخدود‪ ،‬وشق الجيوب‪ ،‬ودعا بدعوى الجاهلية(‪ .‬وفي‬ ‫قال رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪،‬‬ ‫ل عنه ـ قال‪) :‬أنا بريء مما برئ منه رسول ا ّ‬‫الصحيحين عن أبي موسى الشعري‪ ،‬رضي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم برئ من الحالقة‪ ،‬والصالقة‪ ،‬والشاقة(‪.‬‬ ‫إن رسول ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬أربع في أمتي من أمر الجاهلية‬ ‫وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الشعري‪ :‬أن رسول ا ّ‬
‫ل يتركونهن‪ :‬الفخر بالحساب‪/ ،‬والطعن في النساب‪ ،‬والستسقاء بالنجوم‪ ،‬والنياحة على الميت(‪ .‬وقال‪) :‬النائحة إذا‬
‫ب(‪ ،‬والثار في ذلك متعددة‪.‬‬
‫جَر ٍ‬
‫طَران‪ ،‬وِدْرع من َ‬‫سْرَبال من َق ِ‬
‫ب قبل موتها‪ ،‬تقام يوم القيامة وعليها ِ‬
‫لم َتُت ْ‬

‫فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين‪ ،‬ولعنهم وسبهم‪ ،‬وإعانة أهل الشقاق واللحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد‬
‫ل ـ تعالى‪.‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬مما ل يحصيه إل ا ّ‬

‫وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة‪ ،‬بنوا عليها ما جعلوه شعاًرا في هذا اليوم‪ ،‬يعارضون به‬
‫ل بباطل‪ ،‬وردوا بدعة ببدعة‪ ،‬وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لهل اللحاد‪،‬‬‫شعار ذلك القوم‪ ،‬فقابلوا باط ً‬
‫مثل الحديث الطويل الذي روى فيه‪) :‬من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام‪ ،‬ومن اكتحل يوم عاشوراء لم‬
‫يرمد ذلك العام( وأمثال ذلك من )الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه( ونحو ذلك‪ .‬فإن هذا الحديث ونحوه كذب‬
‫مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث‪ ،‬وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال‪ :‬إنه صحيح وإسناده على شرط‬
‫الصحيح‪ ،‬فهذا من الغلط الذي ل ريب فيه‪ ،‬كما هو مبين في غير هذا الموضع‪.‬‬
‫خضاب‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬ول ذكره أحد‬
‫ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الغتسال يوم عاشوراء‪ ،‬ول الكحل فيه وال ِ‬
‫ل به ونهى عنه‪ ،‬ول فعل ذلك رسول ا ّ‬
‫ل‬ ‫من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم‪/ ،‬ويرجع إليهم في معرفة ما أمر ا ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول أبو بكر‪ ،‬ول عمر‪ ،‬ول عثمان‪ ،‬ول علي ‪.‬‬

‫ول ذكر مثل هذا الحديث في شىء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث‪ ،‬ل في المسندات ؛ كمسند أحمد‪،‬‬
‫وإسحاق‪ ،‬وأحمد بن َمِنيع الحميدي‪ ،‬والدالني‪ ،‬وأبو يعلى الموصلي‪ ،‬وأمثالها‪ .‬ول في المصنفات على البواب؛‬
‫كالصحاح‪ ،‬والسنن‪ .‬ول في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والثار؛ مثل موطأ مالك‪ ،‬وَوِكيع‪ ،‬وعبد الرزاق‪ ،‬وسعيد‬
‫بن منصور‪ ،‬وابن أبي شيبة‪ ،‬وأمثالها‪.‬‬

‫ثم إن أهل الهواء ظنت أن من يفعل هذا أنه يفعله على سبيل نصب العداوة لهل البيت والشتفاء منهم‪ ،‬فعارضهم‬
‫من تسنن‪ ،‬وأجاب عن ذلك بإجابة بين فيها براءتهم من النصب واستحقاقهم لموالة أهل البيت‪ ،‬وأنهم أحق بذلك من‬
‫ل أعلم بمن ابتدأ‬
‫غيرهم‪ .‬وهذا حق‪ .‬لكن دخلت عليهم الشبهة والغلط في ظنهم أن هذه الفعال حسنة مستحبة‪ ،‬وا ّ‬
‫ل ـ أو غير ذلك ـ‬‫وضع ذلك وابتداعه‪ ،‬هل كان قصده عداوة أهل البيت أو عداوة غيرهم؟ فالهدى بغير هدى من ا ّ‬
‫ضللة‪.‬‬

‫ل عليهم‪،‬‬
‫ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة‪ ،‬ونلزم الصراط المستقيم‪ ،‬صراط الذين أنعم ا ّ‬
‫ل به وهو‬‫ل جميًعا ول نتفرق‪ ،‬ونأمر بما أمر ا ّ‬ ‫من النبيين‪ ،‬والصديقين‪/ ،‬والشهداء‪ ،‬والصالحين‪ ،‬ونعتصم بحبل ا ّ‬
‫ل في أعمالنا‪ ،‬فإن هذا هو دين السلم قال ا ّ‬
‫ل‬ ‫المعروف‪ ،‬وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الخلص ّ‬
‫ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة‪ ،[112:‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫خْو ٌ‬ ‫ل َ‬‫عنَد َرّبِه َو َ‬ ‫جُرُه ِ‬‫ن َفَلُه َأ ْ‬
‫سٌ‬‫حِ‬‫ل َوُهَو ُم ْ‬
‫جَهُه ِّ‬ ‫سَلَم َو ْ‬ ‫تعالى‪َ} :‬بَلى َم ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ل{ ]النساء‪.[125:‬‬ ‫خِلي ً‬
‫ل ِإْبَراِهيَم َ‬
‫خَذ ا ّ‬
‫حِنيًفا َواّت َ‬
‫ن واّتَبَع ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ‬
‫سٌ‬ ‫حِ‬ ‫جَهُه ل َوُهَو ُم ْ‬ ‫سَلَم َو ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ن ِديًنا ّمّم ْ‬
‫سُ‬
‫حَ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫}َوَم ْ‬

‫ل َتْعَلُمو َ‬
‫ن‬ ‫ل َما َ‬
‫عَلى ا ّ‬ ‫ن َ‬
‫شاء َأَتُقوُلو َ‬‫حَ‬
‫ل َيْأُمُر ِباْلَف ْ‬
‫ل َ‬‫ل ِإنّ ا ّ‬
‫ل َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ‬
‫عَلْيَها آَباءَنا َوا ّ‬
‫جْدَنا َ‬
‫شًة َقاُلوْا َو َ‬
‫حَ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬وِإَذا َفَعُلوْا َفا ِ‬
‫عَلْيِهُم‬
‫ق َ‬
‫حّ‬ ‫ن َفِريًقا َهَدى َوَفِريًقا َ‬‫ن َكَما َبَدَأُكْم َتُعوُدو َ‬
‫ن َلُه الّدي َ‬
‫صي َ‬
‫خِل ِ‬ ‫عوُه ُم ْ‬‫جٍد َواْد ُ‬
‫سِ‬ ‫ل َم ْ‬‫عنَد ُك ّ‬‫جوَهُكْم ِ‬ ‫ط َوَأِقيُموْا ُو ُ‬‫سِ‬ ‫ل َأَمَر َرّبي ِباْلِق ْ‬‫ُق ْ‬
‫ل َوَيْحَسُبوَن َأّنُهم ّمْهَتُدوَن{]العراف‪[28-30 :‬‬ ‫نا ّ‬ ‫ن َأْوِلَياء ِمن ُدو ِ‬ ‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬‫خُذوا ال ّ‬ ‫لَلُة ِإّنُهُم اّت َ‬
‫ضَ‬‫ال ّ‬

‫جوٌه{‬
‫سَوّد ُو ُ‬
‫جوٌه َوَت ْ‬ ‫ن { إلى قوله‪َ} :‬يْوَم َتْبَي ّ‬
‫ض ُو ُ‬ ‫سِلُمو َ‬
‫ل َوَأنُتم ّم ْ‬
‫ن ِإ ّ‬
‫ل َتُموُت ّ‬
‫ق ُتَقاِتِه َو َ‬
‫حّ‬
‫ل َ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬يا َأّيَها اّلِذي َ‬
‫ن آَمُنوْا اّتُقوْا ا ّ‬
‫]آل عمران‪ [102-106 :‬قال ابن عباس‪ :‬تبيض وجوه أهل السنة والجماعة‪ ،‬وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة‪.‬‬

‫يٍء{ ]النعام‪.[159 :‬‬


‫ش ْ‬
‫ت ِمْنُهْم ِفي َ‬
‫س َ‬
‫شَيًعا ّل ْ‬
‫ن َفّرُقوْا ِديَنُهْم َوَكاُنوْا ِ‬ ‫وقال تعالى‪ِ} :‬إ ّ‬
‫ن اّلِذي َ‬

‫ك ِديُن اْلَقّيَمِة{ ]البينة‪.[5 :‬‬


‫لةَ َوُيْؤُتوا الّزَكاَة َوَذِل َ‬
‫صَ‬‫حَنَفاء َوُيِقيُموا ال ّ‬
‫ن ُ‬
‫ن َلُه الّدي َ‬
‫صي َ‬
‫خِل ِ‬
‫ل ُم ْ‬ ‫‪ /‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُأِمُروا ِإ ّ‬
‫ل ِلَيْعُبُدوا ا َّ‬

‫وليس الكذب في هذا المشهد وحده‪ ،‬بل المشاهد المضافة إلى النبياء وغيرهم كذب‪ ،‬مثل القبر الذي يقال له‪]:‬قبر‬
‫نوح[ قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان‪ ،‬ومثل القبر الذي في قبلي مسجد جامع دمشق‪ ،‬الذي يقال له‪ :‬قبر هود‪،‬‬
‫فإنما هو قبر معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له‪ :‬قبر أبي بن كعب‪ ،‬فإن أبّيا لم‬
‫يقدم دمشق باتفاق العلماء‪.‬‬

‫وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنما توفين بالمدينة النبوية‪.‬‬

‫وكذلك ما يذكر في مصر من قبر علي بن الحسين أو جعفر الصادق أو نحو ذلك‪ ،‬هو كذب باتفاق أهل العلم‪ .‬فإن علي‬
‫بن الحسين وجعفر الصادق إنما توفيا بالمدينة‪ ،‬وقد قال عبد العزيز الكناني ـ الحديث المعروف ـ‪ :‬ليس في قبور‬
‫ضا‪.‬‬
‫النبياء ما ثبت‪ ،‬إل قبر نبينا قال غيره‪ :‬وقبر الخليل أي ً‬

‫وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين‪ ،‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم قد نهى أن تتخذ‬
‫القبور مساجد‪ ،‬فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه‪.‬‬
‫ن َنّزْلَنا الّذْكرَ‬
‫حُ‬‫ل به نبيه صلى ال عليه وسلم فإنه مضبوط ومحروس‪ ،‬كما قال تعالى‪ِ} :‬إّنا َن ْ‬ ‫‪/‬فأما العلم الذي بعث ا ّ‬
‫نِِ{ ]الحجر‪ [9 :‬وفي الصحاح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين‬ ‫ظو َ‬‫حاِف ُ‬
‫َوِإّنا َلُه َل َ‬
‫خَذَلُهْم‪ ،‬حتى تقوم الساعة(‪.‬‬
‫ضّرُهْم من خالفهم‪ ،‬ول من َ‬
‫على الحق ل َي ُ‬

‫ضلل ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد‪ ،‬والصلة‬ ‫وأصل هذا الكتاب هو الضلل والبتداع والشرك‪ ،‬فإن ال ّ‬
‫عندها‪ ،‬والدعاء والنذر لها‪ ،‬وتقبيلها واستلمها‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من أعمال البر والدين‪ ،‬حتى رأيت كتاًبا كبيًرا قد صنفه‬
‫بعض أئمة الرافضة ـ محمد بن الّنْعَمان الملقب بالشيخ الُمِفيد‪ ،‬شيخ الملقب بالمرتضي وأبي جعفر الطوسي ـ سماه‬
‫]الحج إلى زيارة المشاهد[ ذكر فيه من الثار عن النبي صلى ال عليه وسلم وأهل بيته‪ ،‬وزيارة هذه المشاهد والحج‬
‫ل الحرام‪.‬‬
‫إليها‪ ،‬ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت ا ّ‬

‫وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان‪ ،‬حتى إني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من‬
‫الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى‪ ،‬وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الصل قوم من المنافقين والزنادقة؛ ليصدوا‬
‫ل‪ ،‬كما ذكره‬ ‫ل‪ .‬ويفسدوا عليهم دين السلم‪ ،‬وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لخلص الدين ّ‬ ‫به الناس عن سبيل ا ّ‬
‫ل َيُغو َ‬
‫ث‬ ‫عا َو َ‬
‫سَوا ً‬
‫ل ُ‬
‫ن َوّدا َو َ‬
‫ل َتَذُر ّ‬
‫ن آِلَهَتُكْم َو َ‬ ‫ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوح‪َ} :‬وَقاُلوا َ‬
‫ل َتذَُر ّ‬
‫لًل{ ]نوح‪ [24 ،23 :‬قالوا‪ :‬هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم‬ ‫ضَ‬‫ل َ‬‫ن ِإ ّ‬
‫ظاِلِمي َ‬
‫ل َتِزِد ال ّ‬
‫ضّلوا َكِثيًرا َو َ‬
‫سًرا َوَقْد َأ َ‬
‫ق َوَن ْ‬
‫َوَيُعو َ‬
‫عَكفوا على قبورهم‪ ،‬ثم صوروا تماثيلهم‪ ،‬وقد ذكر ذلـك البخاري فـي صحيحه‪ ،‬وبسطه وبـينه في‬ ‫نوح‪ ،‬فلما ماتوا َ‬
‫أول كتابه في قصص النبياء وغيرها‪.‬‬

‫ولهذا صنف طائفة من الفلسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه‪ ،‬واتفقوا هم والقرامطة الباطنية‬
‫ل ولرسوله‪ ،‬حتى فتنوا أمما كثيرة وصدوهم عن دين الّ ‪ .‬وأقل ما صار شعاًرا لهم‪ ،‬تعطيل المساجد‬ ‫على المحادة ّ‬
‫ل به ول رسوله ول أحد من أئمة‬ ‫وتعظيم المشاهد‪ ،‬فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والشراك بها‪ ،‬ما لم يأمر ا ّ‬
‫ل عنه ورسوله عباده المؤمنين‪.‬‬‫الدين‪ ،‬بل نهى ا ّ‬

‫ل أن ترفع ويذكر فيها اسمه‪ ،‬فيخربونها‪ ،‬فتارة ل يصلون جمعة ول جماعة؛ بناء على ما‬
‫وأما المساجد التي أمر ا ّ‬
‫شعب النفاق‪ ،‬وهو أن الصلة ل تصح إل خلف معصوم‪ ،‬ونحو ذلك من ضللتهم‪.‬‬ ‫أصلوه من ُ‬

‫ل بن سبأ الذي كان‬ ‫وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي‪ ،‬وبالنص عليه في الخلفة‪ ،‬هو رأس هؤلء المنافقين عبد ا ّ‬
‫يهودًيا‪ ،‬فأظهر السلم وأراد فساد دين السلم‪ ،‬كما أفسد بولص دين النصارى‪ ،‬وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي‬
‫طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه‪/ ،‬كما أن علًيا حرق الغالية الذين ادعوا فيه اللهية‪.‬‬
‫وقال في المفضلة‪ :‬ل أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إل جلدته جلد المفترى‪.‬‬

‫فهؤلء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون‪ ،‬يعطلون شعار السلم وقيام عموده‪ ،‬وأعظمه سنن الهدى التي‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بمثل هذا الفك والبهتان‪ ،‬فل يصلون جمعة ول جماعة‪.‬‬ ‫سنها رسول ا ّ‬

‫ومن يعتقد هذا فقد يسوى بين المشاهد والمساجد‪ ،‬حتى يجعل العبادة كالصلة والدعاء‪ ،‬والقراءة‪ ،‬والذكر‪ ،‬وغير ذلك‬
‫عا عند المقابر‪ ،‬كما هو مشروع في المساجد‪ ،‬وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور‪ ،‬و المشاهد على‬
‫مشرو ً‬
‫ل التي هي المساجد‪ ،‬حتى تجد أحدهم إذا أراد الجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من‬ ‫العبادة في بيوت ا ّ‬
‫يعظمه‪ ،‬كشيخه أو غير شيخه‪ ،‬فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع‪ ،‬والخشوع والرقة‪ ،‬ما ل يفعله مثله في المساجد‪،‬‬
‫ل الواحد القهار‪.‬‬
‫ول في السحار‪ ،‬ول في سجوده ّ‬

‫وقد آل المر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم‪ ،‬كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه‪،‬‬
‫فيطلبون من الموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات‪ ،‬والنصر على العداء ورفع المصائب والبلء‪ ،‬وأمثال ذلك‪،‬‬
‫مما ل يقدر عليه إل رب الرض والسماء‪.‬‬

‫ل الحرام[‪ ،‬وهو شعار‬


‫ل عليه وهو]حج بيت ا ّ‬
‫حتى إن أحدهم إذا أراد الحج‪ ،‬لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه ‪/‬ا ّ‬
‫ل‪ ،‬بل يقصد المدينة‪.‬‬
‫الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين ا ّ‬
‫ول يقصد ما رغب فيه النبي صلى ال عليه وسلم من الصلة في مسجده‪ ،‬حيث قال في الحديث الصحيح‪) :‬صلة في‬
‫ل به من الصلة والسلم على‬ ‫مسجدي هذا خير من ألف صلة فيما سواه‪ ،‬إل المسجد الحرام)‪ ،‬ول يهتم بما أمر ا ّ‬
‫رسوله حيث كان‪ ،‬ومن طاعة أمره‪ ،‬واتباع سنته‪ ،‬وتعزيره‪ ،‬وتوقيره‪ ،‬وهو أن يكون أحب إليه من أهله وماله والناس‬
‫ل به ورسوله‪ ،‬ول فعله‬‫أجمعين‪ ،‬بل أن يكون أحب إليه من نفسه‪ ،‬بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر ا ّ‬
‫أصحابه ول استحسنه أئمة الدين‪.‬‬

‫وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج‪ ،‬وربما سوى بين القصدين‪ ،‬وكل هذا ضلل عن‬
‫الدين باتفاق المسلمين‪ ،‬بل نفس السفر لزيارة قبر من القبورـ قبر نبي أو غيره ـ منهي عنه عند جمهور العلماء‪ ،‬حتى‬
‫إنهم ل يجوزون قصد الصلة فيه‪ ،‬بناء على أنه سفر معصية ؛ لقوله الثابت في الصحيحين‪) :‬ل تشد الرحال إل إلى‬
‫ثلثة مساجد‪ :‬المسجد الحرام‪ ،‬والمسجد القصى‪ ،‬ومسجدي هذا( وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة‪.‬‬

‫وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف‪ ،‬بل موضوع‪ ،‬بل قد ‪/‬كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول‬
‫القائل‪ :‬زرت قبر النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإنما المسنون السلم عليه إذا أتى قبره صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكما كان‬
‫الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره‪ ،‬كما هو مذكور في غير هذا الموضع‪.‬‬

‫ومن ذلك الطواف بغير الكعبة‪ ،‬وقد اتفق المسلمون على أنه ل يشرع الطواف إل بالبيت المعمور‪ ،‬فل يجوز الطواف‬
‫بصخرة بيت المقدس‪ ،‬ول بحجرة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول بالقبة التي في جبل عرفات‪ ،‬ول غير ذلك‪.‬‬

‫وكذلك اتفق المسلمون على أنه ل يشرع الستلم ول التقبيل إل للركنين اليمانيين؛ فالحجرالسود يستلم ويقبل‪،‬‬
‫واليماني يستلم‪ .‬وقد قيل‪ :‬إنه يقبل‪ ،‬وهو ضعيف‪.‬‬

‫وأما غير ذلك فل يشرع استلمه ول تقبيله‪ ،‬كجوانب البيت‪ ،‬والركنين الشاميين‪ ،‬ومقام إبراهيم‪ ،‬و الصخرة‪،‬‬
‫والحجرة النبوية‪ ،‬وسائر قبور النبياء والصالحين‪.‬‬

‫ل اليهود‬‫ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪َ) :‬قاَتل ا ّ‬ ‫وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ن الّ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم‬ ‫خُذوا قبور أنبيائهم مساجد( وفي رواية لمسلم‪َ) :‬لَع َ‬
‫والنصارى‪ ،‬اّت َ‬
‫مساجد(‪.‬‬

‫صة له‬
‫خِمي َ‬
‫ق يطرح َ‬ ‫طِف َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم َ‬
‫ضا عن عائشة وابن عباس قال‪ :‬لما نزل برسول ا ّ‬ ‫‪ /‬وفي الصحيحين أي ً‬
‫غَتّم بها كشفها عن وجهه‪ ،‬فقال وهو كذلك‪) :‬لعن الّ اليهود والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم‬
‫على وجهه‪ ،‬فإذا ا ْ‬
‫حّذر ما صنعوا‪.‬‬ ‫مساجد(‪ُ ،‬ي َ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه‪) :‬لعن ا ّ‬


‫ل‬ ‫ضا ـ عن عائشة قالت‪ :‬قال رسول ا ّ‬‫وفي الصحيحين ـ أي ً‬
‫اليهود والنصارى‪ ،‬اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( ولول ذلك أبرز قبره‪ ،‬غير أنه خشى أن يتخذ مسجًدا‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم قبل موته بخمس وهو يقول‪:‬‬ ‫ل قال‪ :‬سمعت رسول ا ّ‬ ‫جْنُدب بن عبد ا ّ‬
‫وفي صحيح مسلم عن ُ‬
‫ل‪ ،‬ولو كنت متخًذا من أمتي‬‫ل كما اتخذ إبراهيم خلي ً‬
‫ل اتخذني خلي ً‬
‫ل أن يكون لي منكم خليل‪ ،‬فإن ا ّ‬‫)إني أبرأ إلى ا ّ‬
‫ل‪ ،‬أل وإن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‪ ،‬أل فل تتخذوا القبور مساجد‪ ،‬فإني‬ ‫ل لتخذت أبا بكر خلي ً‬ ‫خلي ً‬
‫أنهاكم عن ذلك(‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬ل تجلسوا على القبور‪ ،‬ول تصلوا‬
‫ى أن رسول ا ّ‬
‫وفي صحيح مسلم عن أبي َمْرَثد الَغنو ّ‬
‫إليها( ‪.‬‬

‫ل صلى ال عليه وسلم‪) :‬الرض كلها مسجد إل المقبرة‬ ‫ل عنه ـ قال‪ :‬قال رسول ا ّ‬
‫وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي ا ّ‬
‫ل‪ ،‬وصححه الحافظ‪.‬‬ ‫والحمام( رواه أهل السنن‪/ ،‬كأبي داود‪ ،‬والترمذي‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬وعلله بعضهم بأنه روي مرس ً‬

‫ل عنها ـ قالت‪ :‬لما اشتكى النبي صلى ال عليه وسلم ذكر له بعض نسائه أنها‬‫وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ‬
‫رأت كنيسة بأرض الحبشة يقال لها‪] :‬مارية[‪ .‬وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة‪ ،‬فذكرتا من حسنها‬
‫وتصاوير فيها‪ ،‬فرفع رأسه فقال‪) :‬أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجًدا‪ ،‬وصوروا فيه تلك‬
‫ل(‪.‬‬
‫الصور‪ ،‬أولئك شرار الخلق عند ا ّ‬

‫ل صلى ال عليه وسلم َزّوارات القبور‪ ،‬والمتخذين عليها‬


‫ل عنه ـ قال‪) :‬لعن رسول ا ّ‬
‫وعن ابن عباس ـ رضي ا ّ‬
‫المساجد والسُرج(‪ .‬رواه أهل السنن‪ ،‬كأبي داود‪ ،‬والنسائي‪ ،‬والترمذي‪ .‬وقال‪ :‬حديث حسن‪ ،‬وفي بعض النسخ صحيح‪.‬‬

‫وفي موطأ مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬اللهم ل تجعل قبري َوَثًنا ُيْعَبد(‪ ،‬وفي سنن أبي داود عنه أنه‬
‫قال‪) :‬ل تتخذوا قبري عيًدا‪ ،‬ول تتخذوا بيوتكم مقابر(‪.‬‬

‫ل َأن‬
‫جَد ا ّ‬
‫سا ِ‬ ‫ظَلُم ِمّمن ّمَنَع َم َ‬ ‫وأما العبادات في المساجد ؛ كالصلة والقراءة والدعاء‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ} :‬وَم ْ‬
‫ن َأ ْ‬
‫لَة{‬
‫صَ‬‫خِر َوَأَقاَم ال ّ‬‫ل َواْلَيْوِم ال ِ‬‫ن ِبا ّ‬
‫ن آَم َ‬
‫ل َم ْ‬
‫جَد ا ّ‬ ‫خَراِبَها{ ]البقرة‪ ،[411:‬وقال تعالى‪ِ {:‬إّنَما َيْعُمُر َم َ‬
‫سا ِ‬ ‫سَعى ِفي َ‬
‫سُمُه َو َ‬
‫ُيْذَكَر ِفيَها ا ْ‬
‫الية ]التوبة‪[ 18:‬‬

‫ل تعالى‬ ‫وفي الترمذي عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪) :‬إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له باليمان‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫عنَد ُك ّ‬
‫ل‬ ‫جوَهُكْم ِ‬
‫ط َوَأِقيُموْا ُو ُ‬
‫سِ‬ ‫ل{( الية ]التوبة‪ ،[18:‬وقال تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َأَمَر َرّبي ِباْلِق ْ‬ ‫ن ِبا ّ‬
‫ن آَم َ‬
‫ل َم ْ‬
‫جَد ا ّ‬ ‫يقول‪ِ} :‬إّنَما َيْعُمُر َم َ‬
‫سا ِ‬
‫حًدا{ ]الجن‪ ،[18:‬وقال تعالى‪ِ} :‬في ُبُيو ٍ‬
‫ت‬ ‫ل َأ َ‬
‫عوا َمعَ ا ِّ‬
‫ل َتْد ُ‬
‫ل َف َ‬
‫جَد ِّ‬
‫سا ِ‬ ‫جٍد{الية ]العراف‪ ،[29:‬وقال تعالى‪َ} :‬وَأ ّ‬
‫ن اْلَم َ‬ ‫سِ‬ ‫َم ْ‬
‫ل َأن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها اْسُمُه{ الية]النور‪ ،[36:‬وقال تعالى‪َ {:‬وَل ُتَباِشُروُهّن َوَأنُتْم َعاِكُفوَن ِفي اْلَمَساِجِد{ ]البقرة‪.[187:‬‬ ‫ن ا ُّ‬
‫َأِذ َ‬

‫سوقه‬
‫ل على صلته في بيته و ُ‬ ‫ضُ‬
‫وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬صلة الرجل في المسجد َتْف ُ‬
‫بخمس وعشرين درجة(‪ .‬وفي لفظ‪) :‬صلة الجماعة أفضل من صلة أحدكم بخمس وعشرين درجة( وفي الصحيح‬
‫عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬أثقل الصلة على المنافقين صلة العشاء وصلة الفجر‪ ،‬ولو يعلمون ما فيهما‬
‫ل فيصلي بالناس‪ ،‬ثم أنطلق برجال معي‪ ،‬معهم حَُزم‬ ‫حْبوا‪ ،‬ولقد هممت أن آمر بالصلة فتقام‪ ،‬ثم آمر رج ً‬
‫لتوهما ولو َ‬
‫ب‪ ،‬إلى قوم ل يشهدون الصلة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار( ‪.‬‬ ‫ط ٍ‬
‫حَ‬‫من َ‬

‫ل عنه ـ أنه قال‪ :‬أتى النبي صلى ال عليه وسلم رجل أعمى فقال‪ :‬يا‬
‫وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته‬ ‫ل‪ ،‬إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد‪ ،‬فسأل رسول ا ّ‬‫رسول ا ّ‬
‫فرخص ‪/‬له‪.‬فلما ولى دعاه‪ ،‬فقال‪) :‬هل تسمع النداء بالصلة؟( قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ ) :‬فأجب(‪.‬‬

‫ل غًدا مسلًما‪ ،‬فليحافظ على هذه الصلوات‬ ‫سّرُه أن يلقى ا ّ‬


‫ل عنه ـ قال‪ :‬من َ‬
‫ضا ـ عن أبي سعيد ـ رضي ا ّ‬ ‫وفيه ـ أي ً‬
‫ل شرع لنبيكم سنن الهدى‪ ،‬وإنهن من سنن الهدى‪ ،‬ولو أنكم صليتم في بيوتكم‪ ،‬كما يصلي هذا‬ ‫حيث ينادى بهن‪ ،‬فإن ا ّ‬
‫المتخلف في بيته‪ ،‬لتركتم سنة نبيكم‪ ،‬ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم‪ ،‬وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور‪ ،‬ثم يعمد إلى‬
‫ل له بكل خطوة يخطوها حسنة‪ ،‬ويرفعه بها درجة‪ ،‬ويحط عنه بها خطيئة‪ ،‬ولقد‬ ‫مسجد من هذه المساجد‪ ،‬إل كتب ا ّ‬
‫رأيتنا وما يتخلف عنها إل منافق معلوم النفاق‪ ،‬ولقد كان الرجل يؤتى به ُيَهادى ]وقوله‪ُ :‬يَهادى بين رجلين‪ :‬أي‪:‬‬
‫يمشي بينهما معتمًدا عليهما من ضعفه وتمايله[ بين رجلين حتى يقام في الصف‪.‬‬

‫وهذا باب واسع‪ ،‬قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا المر‪ ،‬الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم‪،‬‬
‫ل الذي بعث به رسله‪ ،‬وأنزل به كتبه‪ ،‬وبين من لبس الحق بالباطل‪ ،‬وشاب الحنيفية بالشراك‪.‬‬ ‫المتبعين لدين ا ّ‬

‫ن{ ]الزخرف‪ ،[45 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما‬


‫ن آِلهًَة ُيْعَبُدو َ‬
‫حَم ِ‬
‫ن الّر ْ‬
‫جَعْلَنا ِمن ُدو ِ‬
‫سِلَنا َأ َ‬
‫ك ِمن ّر ُ‬
‫سْلَنا ِمن َقْبِل َ‬
‫ن َأْر َ‬
‫ل َم ْ‬ ‫قال تعالى‪َ} :‬وا ْ‬
‫سَأ ْ‬
‫ك ِمن ّرُسوٍل ِإّل ُنوِحي ِإَلْيِه َأّنُه َل ِإَلَه ِإّل َأَنا َفاْعُبُدوِن{ ]النبياء‪. [25 :‬‬ ‫سْلَنا ِمن َقْبِل َ‬
‫َأْر َ‬

‫ت{ ]النحل‪ ،[36 :‬وقال تعالى‪َ} :‬وَما ُأِمُروا ِإ ّ‬


‫ل‬ ‫غو َ‬
‫طا ُ‬
‫جَتِنُبوْا ال ّ‬
‫ل َوا ْ‬
‫عُبُدوْا ا ّ‬
‫نا ْ‬
‫ل َأ ِ‬
‫سو ً‬ ‫‪/‬وقال تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُك ّ‬
‫ل ُأّمٍة ّر ُ‬
‫صيَن َلُه الّديَن ُحَنَفاء{ الية ]البينة‪[5 :‬‬ ‫خِل ِ‬
‫ل ُم ْ‬
‫ِلَيْعُبُدوا ا َّ‬

‫س لَ‬
‫ن َأْكَثَر الّنا ِ‬ ‫ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ‬
‫ك الّدي ُ‬
‫ل َذِل َ‬
‫ق ا ِّ‬
‫خْل ِ‬
‫ل ِل َ‬
‫ل َتْبِدي َ‬
‫عَلْيَها َ‬‫س َ‬‫طَر الّنا َ‬ ‫ل اّلِتي َف َ‬
‫طَرَة ا ِّ‬
‫حِنيًفا ِف ْ‬
‫ن َ‬
‫ك ِللّدي ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ} :‬فَأِقْم َو ْ‬
‫جَه َ‬
‫ن{‬
‫حو َ‬‫ب ِبَما َلَدْيِهْم َفِر ُ‬
‫حْز ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫شَيًعا ُك ّ‬
‫ن َفّرُقوا ِديَنُهْم َوَكاُنوا ِ‬ ‫ن اّلِذي َ‬
‫شِرِكي َ‬
‫ن اْلُم ْ‬
‫ل َتُكوُنوا ِم َ‬‫لَة َو َ‬
‫صَ‬ ‫ن ِإَلْيِه َواّتُقوُه َوَأِقيُموا ال ّ‬
‫ن ُمِنيِبي َ‬
‫َيْعَلُمو َ‬
‫]الروم‪[30-32 :‬‬
‫ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‪.‬‬
‫وا ّ‬

‫ل‪:‬‬
‫سلم ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫خ ال ْ‬
‫شْي ُ‬
‫ل َ‬
‫َقا َ‬

‫َفصــل‬

‫وأما الصحابة والتابعون‪ ،‬فقال غير واحد من الئمة‪ :‬إن كل من صحب النبي صلى ال عليه وسلم أفضل ممن لم‬
‫يصحبه مطلًقا‪ ،‬وعينوا ذلك في مثل معاوية‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪ ،‬مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز‬
‫أعدل من سيرة معاوية‪ ،‬قالوا‪ :‬لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر ل يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه‪.‬‬

‫حٍد ذهبا لما بلغ ُمدّ‬


‫سّبوا أصحابي‪ ،‬فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل ُأ ُ‬
‫واحتجوا بما في الصحيحين أنه قال‪) :‬ل َت ُ‬
‫صيَفه(‪ ،‬قالوا‪ :‬فإذا كان جبل أحد ذهًبا ل يبلغ نصف مد أحدهم‪ ،‬كان في هذا من التفاضل ما يبين أنه لم‬ ‫أحدهم ول َن ِ‬
‫يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫وفي المسألة بسط وبيان ل يحتمله هذا المكان‪.‬‬

‫ل عليه‪ ،‬وقال الخر‪ :‬ل‬


‫ل َتَعاَلى ـ عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر‪ ،‬أحدهما يقول‪ :‬يتوب ا ّ‬
‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل عليه‪.‬‬‫يتوب ا ّ‬

‫ب‪:‬‬
‫جـــا َ‬
‫َفأ َ‬

‫عَلى‬
‫سَرُفوا َ‬ ‫ن َأ ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫عَباِد َ‬
‫ل َيا ِ‬‫ل تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬ ‫ل عليه‪ ،‬كما قال ا ّ‬‫الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب تاب ا ّ‬
‫ب َجِميًعا ِإّنُه ُهَو اْلَغُفوُر الّرِحيُم{ ]الزمر‪ ،[53:‬فقد ذكر في هذه الية أنه يغفر‬ ‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬
‫طوا ِمن ّر ْ‬
‫سِهْم لَ َتْقَن ُ‬
‫َأنُف ِ‬
‫ك ِلَمن‬
‫ن َذِل َ‬
‫ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ‬
‫شَر َ‬ ‫ل َيْغِفُر َأن ُي ْ‬
‫ل َ‬‫للتائب الذنوب جميًعا؛ ولهذا أطلق َوعّمم‪ .‬وقال في الية الخرى‪ِ} :‬إنّ ا ّ‬
‫صص‪.‬‬ ‫َيَشاء{ ]النساء‪ [48 :‬فهذا في غير التائب‪ ،‬ولهذا َقّيد وخ ّ‬

‫ل ـ تعالى ـ و اليهود والنصارى الذين يسبون نبينا سًرا‬


‫سب بعض الصحابة بأعظم من سب النبياء؛ أو سب ا ّ‬ ‫وليس َ‬
‫ب ل ُيْغَفر(‪ ،‬كذب‬
‫ب صحابتي َذْن ٌ‬
‫س ّ‬
‫ل ذلك منهم باتفاق المسلمين‪ ،‬والحديث الذي يروى‪َ ) :‬‬
‫بينهم إذا تابوا وأسلموا ُقِب َ‬
‫ل‪ ،‬يغفره ‪/‬لمن تاب باتفاق المسلمين‪ ،‬وما يقال‪ :‬إن في‬‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والشرك الذي ل يغفره ا ّ‬ ‫على رسول ا ّ‬
‫ذلك حًقا لدمي يجاب عنه من وجهين‪:‬‬

‫ساِرقُ‬ ‫ل قد أمر بتوبة السارق و المَلّقب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بها حقوق العباد‪ ،‬كقوله‪َ} :‬وال ّ‬ ‫أحدهما‪ :‬أن ا ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل‬ ‫عَلْيِه ِإ ّ‬
‫ب َ‬
‫ل َيُتو ُ‬
‫نا ّ‬
‫ح َفِإ ّ‬
‫صَل َ‬
‫ظْلِمِه َوَأ ْ‬
‫ب ِمن َبْعِد ُ‬
‫حِكيٌم َفَمن َتا َ‬
‫عِزيٌز َ‬
‫ل َ‬
‫ل َوا ّ‬
‫نا ّ‬
‫ل ّم َ‬
‫سَبا َنَكا ً‬
‫جَزاء ِبَما َك َ‬
‫طُعوْا َأْيِدَيُهَما َ‬
‫ساِرَقُة َفاْق َ‬
‫َوال ّ‬
‫َغُفوٌر ّرِحيٌم{ ]المائدة‪[39 ،38 :‬‬

‫ظاِلُموَن{ ]الحجرات‪ ،[11 :‬ومن توبة‬


‫ك ُهُم ال ّ‬
‫ب َفُأْوَلِئ َ‬
‫ن َوَمن ّلْم َيُت ْ‬
‫ليَما ِ‬
‫ق َبْعَد ا ِْ‬
‫سو ُ‬
‫سُم اْلُف ُ‬
‫لْ‬
‫سا ِ‬
‫ب ِبْئ َ‬
‫لْلَقا ِ‬ ‫وقال‪َ} :‬و َ‬
‫ل َتَناَبُزوا ِبا َْ‬
‫مثل هذا أن يعوض المظلوم من الحسان إليه بقدر إساءته إليه‪.‬‬

‫الوجه الثاني‪ :‬أن هؤلء متأولون‪ ،‬فإذا تاب الرافضي من ذلك‪ ،‬واعتقد فضل الصحابة‪ ،‬وأحبهم‪ ،‬ودعا لهم‪ ،‬فقد َبّدل الّ‬
‫السيئة بالحسنة‪ ،‬كغيره من المذنبين‪.‬‬

‫ل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد‪ ،‬ومنهم من إذا قرئ عليه أحاديث النبي صلى ال عليه‬ ‫سئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل ابن مسعود شرع في تنقيصه‪ ،‬وأخذ يقدح‬ ‫ل بن مسعود‪ ،‬أو قيل له‪ :‬هذا مذهب عبد ا ّ‬
‫وسلم التي يكون راويها عبد ا ّ‬
‫فيه‪ ،‬ويجعله ضعيف الرواية‪ ،‬ويزعم أنه كان بين الصحابة منقوصا‪ ،‬حتى إن بعضهم لم يثبت في المصاحف قراءته‪،‬‬
‫وأنه كان يحذف من القرآن المعوذتين؟‬

‫ل‪:‬‬
‫حَمُه ا ُّ‬
‫ب ـ َر ِ‬
‫جا َ‬
‫َفَأ َ‬
‫ل عنه ـ من أجلء الصحابة‪ ،‬وأكابرهم‪ ،‬حتى كان يقول فيه عمر بن الخطاب‪ُ :‬كَنْيف ]ُكَنْيف‪:‬‬ ‫ابن مسعود ـ رضي ا ّ‬
‫ل بن مسعود إل من أهل بيت‬ ‫عاء[ ُمِلئ علًما‪ .‬وقال أبوموسى‪ :‬ما كنا نعد عبد ا ّ‬
‫هو تصغير تعظيم للِكْنف‪ .‬والِكْنف‪ :‬الِو َ‬
‫ك علي أن‬ ‫ل صلى ال عليه وسلم؛ من كثرة ما نرى دخوله وخروجه‪ .‬وقال له صلى ال عليه وسلم‪) :‬إْذُن َ‬ ‫رسول ا ّ‬
‫سكوا‬ ‫سَوادي حتى أنهاك(‪ .‬وفي السنن‪) :‬اقتدوا باللذين من بعدي‪ :‬أبي بكر وعمر‪ ،‬وتم ّ‬ ‫جاب‪ ،‬وأن تسمع ب ِ‬ ‫حَ‬
‫َتْرَفَع ال ِ‬
‫عْبٍد(‪.‬‬
‫ِبَهْدي ابن أمّ َ‬

‫عْبد(‪ ،‬ولما فتح العراق بعثه عليهم‬


‫ضا كما أنزل‪ ،‬فليقرأ على قراءة ابن أم َ‬ ‫غ ّ‬
‫وفي الصحيح‪) :‬من سره أن يقرأ القرآن َ‬
‫ليعلمهم الكتاب والسنة‪ ،‬فهو أعلم الصحابة ‪/‬الذين بعثهم إلى العراق‪ ،‬وقال فيه أبو موسى‪ :‬ل تسألوني عن شىء ما دام‬
‫ل مني تبلغه البل لتيته‪.‬‬ ‫هذا الحبر فيكم‪ .‬وكان ابن مسعود يقول‪ :‬لو أعلم أن أحًدا أعلم بكتاب ا ّ‬

‫سِكي‪ ،‬فقال له معاذ بن جبل‪ :‬ما‬‫سْك َ‬


‫خاِمر ال ّ‬
‫وهو أحد الثلثة الذين سماهم معاذ بن جبل عند موته لما بكى مالك بن ُي َ‬
‫ل ما أبكي على رحم بيني وبينك‪ ،‬ول على دنيا أصيبها منك‪ ،‬ولكن أبكي على العلم واليمان اللذين‬ ‫يبكيك؟ فقال‪ :‬وا ّ‬
‫كنت أتعلمهما منك‪ ،‬فقال‪ :‬إن العلم واليمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما‪ ،‬اطلب العلم عند أربعة فإن أعياك هؤلء ؛‬
‫ل بن سلم وأظن الرابع أبا الدرداء‪.‬‬ ‫ي بن كعب‪ ،‬وعبد ا ّ‬ ‫سّمى له ابن مسعود‪ ،‬و أب ّ‬
‫فسائر أهل الرض أعجز‪ ،‬ف َ‬

‫وسئل علي عن علماء الناس‪ ،‬فقال‪ :‬واحد بالعراق ابن مسعود‪ .‬وابن مسعود في العلم من طبقة عمر‪ ،‬وعلي‪ ،‬وأبي‪،‬‬
‫ومعاذ‪ ،‬وهو من الطبقة الولى من علماء الصحابة‪ ،‬فمن قدح فيه أو قال‪ :‬هو ضعيف الرواية فهو من جنس الرافضة‬
‫الذين يقدحون في أبي بكر وعمر وعثمان‪ ،‬وذلك يدل على إفراط جهله بالصحابة‪ ،‬أو زندقته ونفاقه‪.‬‬

‫ل َتَعاَلى ـ عن رجل يناظر مع آخر في ]مسألة المصراة[‪ ،‬وردها إذا أراد المشتري‪ ،‬فاستدل من‬
‫ل ـ َرحَمُه ا ُّ‬
‫سئ َ‬
‫ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ادعى جواز الرد بحديث أبي هريرة المتفق عليه‪ ،‬فعارضه الخصم بأن قال‪ :‬أبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة‪،‬‬
‫وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب كثرة الرواية‪ ،‬ونهاه عن الحديث‪ ،‬وقال‪ :‬إن عدت تحدث فعلت وفعلت‪ ،‬وكذا أنكر‬
‫عليه ابن عباس‪ ،‬وعائشة أشياء‪ .‬فهل ما ذكره الخصم صحيح أم ل؟وما يجب على من تكلم في أبي هريرة بهذا‬
‫الكلم؟‬

‫جـــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬

‫ل‪ .‬هذا الراد مخطئ من وجوه‪:‬‬


‫الحمد ّ‬

‫أحدها‪ :‬قوله‪] :‬إنه لم يكن من فقهاء الصحابة[ فإن عمر بن الخطاب ولى أبا هريرة على البحرين‪ ،‬وهم خيار‬
‫المسلمين‪ ،‬الذين هاجر َوْفُدهم إلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهم وفد عبد القيس‪.‬‬

‫جا أصابها‪،‬‬ ‫وكان أبو هريرة ـ أميرهم ـ هو الذي يفتيهم بدقيق الفقه‪ ،‬مثل‪ :‬مسألة‪ /‬المطلقة دون الثلث‪ ،‬إذا تزوجت زو ً‬
‫هل تعود إلى الول على الثلث ـ كما هو قول ابن عباس وابن عمر‪ ،‬وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن عمر‪ ،‬بناء‬
‫على أن إصابة الزوج تهدم ما دون الثلث كما هدمت الثلث ـ أو تعود على ما بقى كما هو قول عمر وغيره من‬
‫أكابر الصحابة وهو مذهب مالك والشافعي‪ ،‬وأحمد في المشهور عنه‪ ،‬بناء على أن إصابة الزوج الثاني إنما هي غاية‬
‫التحريم الثابت بالطلق الثلث‪ ،‬فهو الذي يرتفع بها‪ ،‬والمطلقة دون الثلث لم تحرم‪ ،‬فل ترفع الصابة منها شيًئا‪،‬‬
‫ت بغيره لوجعتك ضرًبا‪.‬‬‫فأفتى أبو هريرة بهذا القول‪ .‬ثم سأل عمر فأقره على ذلك وقال‪ :‬لو أفتي َ‬

‫وكذلك أفتى أبوهريرة في دقائق مسائل الفقه مع فقهاء الصحابة‪ ،‬كابن عباس وغيره من أشهر المور‪ ،‬وأقواله‬
‫صين‪ ،‬وأبي موسى الشعري‪ ،‬لم يخرجا‬ ‫ح َ‬
‫المنقولة في فتاويه تدل على ذلك‪ .‬وإذا كان عمر وعلى أفقه من عمران بن ُ‬
‫ل بن عمر ونحوهما‪ ،‬لم يخرجا‬
‫بذلك من الفقه‪ ،‬وكذلك إذا كان معاذ وابن مسعود ونحوهما أفقه من أبي هريرة وعبد ا ّ‬
‫بذلك من الفقه‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن يقال لهذا المعترض‪ :‬جميع علماء المة عملت بحديث أبي هريرة فيما يخالف القياس والظاهر‪ ،‬كما عملوا‬
‫جميعهم بحديثه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال‪) :‬ل تنكح المرأة على عمتها ول على خالتها(‪ .‬وعمل أبو حنيفة‬
‫صْوَمه‪ ،‬فإنما‬
‫‪/‬مع الشافعي وأحمد وغيرهما بحديثه عن النبي صلى ال عليه وسلم‪) :‬من أكل أو شرب ناسًيا فْلُيِتّم َ‬
‫سَقاه( مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر‪ ،‬فترك القياس لحديث أبي هريرة‪ ،‬ونظائر ذلك تطول‪.‬‬ ‫لو َ‬
‫أطعمه ا ّ‬

‫ومالك مع الشافعي وأحمد عملوا بحديث أبي هريرة في غسل الناء من ولوغ الكلب سبًعا‪ ،‬مع أن القياس عند مالك‬
‫أنه ل يغسل؛ لنه طاهر عنده‪ ،‬بل الئمة يتركون القياس لما هو دون حديث أبي هريرة‪ ،‬كما ترك أبو حنيفة القياس‬
‫في مسألة ]القهقهة[ بحديث مرسل ل يعرف من رواه من الصحابة وحديث أبي هريرة أثبت منه باتفاق المة‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أن يقال‪ :‬المحدث إذا حفظ اللفظ الذي سمعه لم يضره أل يكون فقيها‪ ،‬كالملقنين بحروف القرآن‪ ،‬وألفاظ التشهد‬
‫ب حامل فقه‬‫ل امرأ سمع حديًثا فَبّلَغه إلى من لم يسمعه‪َ ،‬فُر ّ‬
‫ضر ا ّ‬
‫والذان ونحو ذلك‪ .‬وقد قال صلى ال عليه وسلم‪َ) :‬ن ّ‬
‫غير فقيه‪ ،‬ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه(‪ ،‬وهذا بين في أنه يؤخذ حديثه الذي فيه الفقه من حامله‪ ،‬الذي ليس‬
‫بفقيه‪ ،‬ويأخذ عمن هو دونه في الفقه‪ ،‬وإنما يحتاج في الرواية إلى الفقه إذا كان قد روى بالمعنى‪ ،‬فخاف أن غير الفقيه‬
‫يغير المعنى وهو ل يدري‪.‬‬

‫س شيًئا سمعته بعد؛ ولهذا‬


‫و أبو هريرة كان من أحفظ المة‪ ،‬وقد دعا له النبي صلى ال عليه وسلم بالحفظ قال‪ :‬فلم أْن َ‬
‫ضْرعها وُيحبس قبل بيعها بأيام‪ ،‬وقد نهى‬ ‫صّراة‪ :‬الناقة أو البقرة أو الشاة ُيجمع اللبن في َ‬
‫صّراة ]الُم َ‬
‫روى حديث الُم َ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪.‬‬ ‫النبي صلى ال عليه وسلم عن ذلك لنه خداع وغش[ وغيره بلفظ رسول ا ّ‬

‫‪/‬الرابع‪ :‬أن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة‪ ،‬كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة‪ ،‬ومن تأمل كتب‬
‫الحديث عرف ذلك‪.‬‬

‫الخامس‪ :‬أن أحًدا من الصحابة لم يطعن في شىء رواه أبو هريرة‪ ،‬بحيث قال‪ :‬إنه أخطأ في هذا الحديث‪ ،‬ل عمر ول‬
‫غيره‪ ،‬بل كان لبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة‪ ،‬فيحدث ويقول‪ :‬يا صاحبة الحجرة‪ ،‬هل تنكرين مما أقول شيًئا ؟‬
‫فلما قضت عائشة صلتها لم تنكر مما رواه‪ ،‬لكن قالت‪ :‬إن رسول الّ صلى ال عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث‬
‫سردكم‪ ،‬ولكن كان يحدث حديًثا لو عده العاد لحفظه‪ ،‬فأنكرت صفة الداء ل ما أداه‪.‬‬

‫وكذلك ابن عمر قيل له‪ :‬هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيًئا؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬ولكن أخبر وجبنا‪ ،‬فقال أبو هريرة‪ :‬ما ذنبي‬
‫أن كنت حفظت ونسوا‪.‬وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم‪ :‬أكثر أبو هريرة‪ ،‬حتى قال أبو هريرة‪:‬‬
‫ق‪ :‬هو أن‬
‫صْف ُ‬
‫ق ]ال ّ‬
‫صْف ُ‬
‫ل الموعد ؛أما إخواني من المهاجرين‪ ،‬فكان يشغلهم ال ّ‬
‫الناس يقولون‪ :‬أكثر أبو هريرة‪ ،‬وا ّ‬
‫يضرب كل من البائع والمشترى يده على يد الخر‪ ،‬عند البيع‪ ،‬وبهذا يكون قد وجب البيع[ بالسواق‪ .‬وأما إخواني‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكنت أشهد إذا‬ ‫من النصار‪ ،‬فكان يشغلهم عمل أموالهم‪ ،‬وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول ا ّ‬
‫ل صلى ال عليه وسلم حديًثا‪ ،‬ثم قال‪) :‬أيكم يبسط ثوبه؟(‪ ،‬فبسطت ثوبي‪.‬‬ ‫غابوا‪ ،‬وأحفظ إذا نسوا‪ .‬ولقد حدثنا رسول ا ّ‬
‫س بعد شيئا سمعته منه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬‫فدعا لي‪ .‬فلم أْن َ‬

‫‪/‬وروى عنه أنه كان يجزئ الليل ثلثة أجزاء‪ :‬ثلًثا يصلي‪ ،‬وثلًثا يكرر على الحديث‪ ،‬وثلًثا ينام‪.‬‬

‫فقد بين أن سبب حفظه ملزمة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقطع العلئق ودعاؤه له‪.‬‬

‫وكان عمر بن الخطاب يستدعى الحديث من أبي هريرة‪ ،‬ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي‬
‫سمعه من النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول توعده على ذلك‪ .‬ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية ؛ حتى ل يجترئ‬
‫الناس فيزاد في الحديث‪.‬‬

‫ولهذا طلب من أبي موسى الشعري من يوافقه على حديث الستئذان‪ ،‬مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم‬
‫باتفاق الئمة‪.‬‬

‫السادس‪ :‬أن الصحابة كانوا يرجعون في مسائل الفقه إلى من هو دون أبي هريرة في الفقه‪ ،‬كما رجع عمر بن‬
‫حَمل بن مالك وغيره في دية الجنين‪ ،‬وكما رجع عثمان بن عفان إلى الُفَرْيَعة بنت مالك في لزوم‬
‫الخطاب إلى َ‬
‫المتوفى عنها لمنزل الوفاة‪ ،‬وكما رجع عمر ابن الخطاب وغيره في توريث المرأة من دية زوجها‪ ،‬إلى الضحاك بن‬
‫ي‪ .‬وكما رجع زيد بن ثابت وغيره إلى امرأة من النصار في سقوط طواف الوداع عن الحائض‪.‬‬ ‫سفيان الِكلِب ّ‬

‫ل صلى‬
‫‪/‬وكذلك ابن مسعود لما أفتى المفوضة المتوفى عنها بمهر المثل‪ ،‬فقام رجال من أشجع فشهدوا أن رسول ا ّ‬
‫حا شديًدا! وأبو بكر الصديق‬
‫ل بذلك فر ً‬
‫شق بمثل ما قضيت به‪ ،‬ففرح عبد ا ّ‬‫ال عليه وسلم قضى في َبْرَوع بنت َوا ِ‬
‫وّرث الجدة بحديث المغيرة بن شعبة‪ ،‬ومحمد ابن سلمة‪ ،‬ونظائر هذا كثيرة‪.‬‬

‫السابع‪ :‬أن يقال‪ :‬المخالف لحديث أبي هريرة في المصراة‪ ،‬يقول‪ :‬إنه يخالف الصول أو قياس الصول‪.‬‬

‫فيقال له‪ :‬بل القول فيه كالقول في نظائره التي اتبعت فيها النصوص‪ ،‬فهذا الحديث ورد فيما يخالف غيره ل فيما‬
‫يماثل غيره؛ والقياس هو التسوية بين المتماثلين‪ ،‬والتفريق بين المختلفين‪ ،‬وذلك أن من خالفه يقول‪ :‬إنه أثبت الرد‬
‫بالمعيب‪ ،‬وقدر بدل المتلف‪ ،‬بل إن كان من المثليات ضمن بمثله وإل فقيمته‪ ،‬وهذا مضمون بغير مثل ول قيمة‪،‬‬
‫وجعل الضمان على المشترى والخراج بالضمان‪.‬‬

‫فيقال له‪ :‬الرد يثبت بالتدليس‪ ،‬ويثبت باختلف الصفة باتفاق الئمة‪ ،‬والمدلس الذي أظهر أن المبيع على صفة وليس‬
‫هو عليها كالواصف لها بلسانه‪ ،‬وهذا النوع من الخيار غير خيار الرد بالعيب‪.‬‬

‫‪/‬ويقال له‪ :‬المشترى لم يضمن اللبن الحادث على ملكه‪ ،‬ولكن ضمن ما في الضرع‪ ،‬فإنه لما اشترى المصراة وفيها‬
‫لبن تلف عنده‪ ،‬كان عليه ضمانه‪ ،‬وإنما قدر الشارع البدل ؛ لنه اختلط اللبن القديم باللبن الحادث‪ ،‬فلم يبق يعرف‬
‫مقدار اللبن القديم‪.‬‬

‫فلهذا لم يمكن ضمانه بمثله ول بقيمته‪ ،‬فقدر الشارع في ذلك بدل يقطع به النزاع‪ ،‬كما قدر ديات النفس وديات‬
‫العضاء ومنافعها‪ ،‬ونحو ذلك من المقدرات التي يقطع بها نزاع الناس‪ ،‬فإنه إذا أمكن العلم بمقدار الحق‪ ،‬كان هو‬
‫الواجب‪ .‬وإذا تعذر ذلك شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق‪.‬‬

‫خْرص‪ ،‬أي‪:‬‬‫حْزر‪ .‬يقال‪ :‬خرصت النخلة‪ :‬إذا حزرت ما عليها من التمر‪ ،‬فهو من ال َ‬ ‫ص‪ :‬ال َ‬ ‫خْر ُ‬‫ص ]ال َ‬
‫خْر ِ‬‫فتارة يأمر بال َ‬
‫ن[ إذا تعذر الكيل أو الوزن‪ ،‬إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم‪ ،‬ويأمر‬
‫ظّ‬‫الظن؛ لن الحْزر إنما هو تقديُر ِب َ‬
‫بالستهام لتعيين المستحق عند كمال البهام‪ .‬وتارة يقدر بدل الستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق‪ ،‬ورد‬
‫المشترى للصاع بدل ما أخذ من اللبن من هذا الباب‪.‬‬

‫وفي المسألة حكاية ثانية‪ ،‬ذكرها أبو سعيد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني‪ ،‬عن الشيخ الفقيه أبي‬
‫سا بالجامع ببغداد‪ ،‬فجاء خراساني سألنا عن‬
‫إسحاق الشيرازي‪ ،‬عن القاضي أبي الطيب الطبري‪ ،‬قال‪ :‬كنا جلو ً‬
‫المصراة‪ ،‬فأجبناه فيها‪ ،‬واحتججنا بحديث أبي هريرة‪ ،‬فطعن في أبي هريرة‪/،‬فوقعت حية من السقف‪ ،‬وجاءت حتى‬
‫دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك العجمي فضربته فقتلته‪.‬‬

‫ونظير هذه ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحيى الساجي قال‪ :‬كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع‬
‫ل صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فاسترعنا في المشي‪ ،‬ومعنا شاب ماجن‪ .‬فقال‪ :‬ارفعوا أرجلكم عن أجنحة‬ ‫حديث رسول ا ّ‬
‫ل تعالى العتصام بكتابه‪ ،‬و سنة رسوله‬‫الملئكة‪ ،‬ل تكسروها‪ .‬قال‪ :‬فما زال حتى جفته رجله‪ ،‬ولهذا نظائر‪ ،‬نسأل ا ّ‬
‫ل ـ سبحانه ـ أعلم‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم واتباع ما أقام من دليله‪ ،‬وا ّ‬

‫ل َتَعاَلى ـ عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون‪ ،‬ويحجون ويخرجون‬


‫حَمُه ا ُّ‬
‫ضا ـ َر ِ‬
‫ل ـ َأْي ً‬
‫سِئ َ‬
‫َو ُ‬ ‫‪/‬‬
‫ل‪ ،‬غير أنهم يكفرون ساّبي صحابة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يرجوا‬
‫الزكاة‪ ،‬ويجاهدون أنفسهم في مرضاة ا ّ‬
‫لحد توبة إذا تاب وأن المصر على ذلك مخلد في النار‪ ،‬ومن قال بتوبتهم يسمونهم الرجوية ول يصلون إل مع من‬
‫ل‪ .‬فهل هم مصيبون في أفعالهم؟ أم‬
‫يتحققون عقيدته‪ ،‬وما يتفوه أحدهم من شىء أو يسأل عن شىء إل يقول‪ :‬إن شاء ا ّ‬
‫مخطئون في أقوالهم؟‬

‫جـــاب‪:‬‬
‫َفَأ َ‬
‫ل ورسوله‪ ،‬وطاعتهم لّ‬ ‫ل على إيمانهم با ّ‬
‫ل‪ ،‬هؤلء قوم مسلمون لهم ما لمثالهم من المسلمين‪ ،‬يثيبهم ا ّ‬
‫الحمد ّ‬
‫ورسوله‪ ،‬ول يذهب بذلك إيمانهم وتقواهم بما غلطوا فيه من هذه المسائل‪ ،‬كسائر طوائف المسلمين الذين أصابوا في‬
‫جمهور ما يعتقدونه ويعملونه‪ ،‬وقد غلطوا في قليل من ذلك‪ ،‬فهؤلء بمنزلة أمثالهم من المسلمين‪.‬‬

‫ب الصحابة ل تقبل‪ ،‬وأنه مخلد في النار خطأ‪ ،‬بل الذي عليه السلف والئمة كالئمة الربعة‬‫‪/‬وقولهم‪ :‬إن توبة سا ّ‬
‫وغيرهم‪ :‬أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله‪ ،‬والحديث الذي يروى‪) :‬سب صحابتي ذنب ل يغفر( حديث‬
‫ل يأخذ حق الصحابة منه‪.‬‬
‫باطل لم يروه أحد من أهل العلم‪ ،‬ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب‪ ،‬فإن ا ّ‬

‫جِميًعا ِإّنهُ‬
‫ب َ‬
‫ل َيْغِفُر الّذُنو َ‬
‫ن ا َّ‬
‫ل ِإ ّ‬
‫حَمِة ا ِّ‬
‫طوا ِمن ّر ْ‬
‫ل َتْقَن ُ‬
‫سِهْم َ‬
‫عَلى َأنُف ِ‬
‫سَرُفوا َ‬
‫ن َأ ْ‬
‫ي اّلِذي َ‬
‫عَباِد َ‬ ‫ل تعالى‪ُ} :‬ق ْ‬
‫ل َيا ِ‬ ‫وأما من تاب فقد قال ا ّ‬
‫ب الصحابة إذا كان يعتقد‬ ‫ُهَو اْلَغُفوُر الّرِحيُم{ ]الزمر‪ ،[53 :‬وهذا في حق التائب‪ ،‬أخبر‪ :‬أنه يغفر جميع الذنوب‪ ،‬وسا ّ‬
‫ل‪ ،‬كمن سب الرسول معتقًدا أنه ساحر أو كاذب‪ ،‬فإذا‬ ‫جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلل‪ ،‬والحق في ذلك ّ‬
‫ل إسلمه كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل الّ منه‪ ،‬وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم‪،‬‬ ‫أسلم هذا قبل ا ّ‬
‫كمن قذف غيره واغتابه‪ ،‬ومظالم العباد تصح التوبة منها‪ ،‬ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم‪ ،‬فإن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات‪.‬‬

‫جر‪ ،‬وقال‪ :‬ل أقطع بأن هذا حجر فهذا مخطئ‪ ،‬لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر فقد‬ ‫حَ‬‫وإذا قال القائل‪ :‬هذا َ‬
‫ل قادر على تغييره وإن كان مراده بقوله‪ :‬إن‬
‫ل عاجًزا عن تغيره‪ ،‬فإنه يقال له‪ :‬بل هو الن حجر ـ قطًعا ـ وا ّ‬‫جعلت ا ّ‬
‫ل قادر ‪/‬على تغييره‪ ،‬فهذا المعنى صحيح‪ ،‬وإن كان شاًكا في كونه حجًرا فهذا متجاهل‪ ،‬يعزر على ذلك‪.‬‬ ‫ل‪ :‬أن ا ّ‬
‫شاء ا ّ‬

‫وتجوز الصلة خلف كل مسلم مستور باتفاق الئمة الربعة وسائر أئمة المسلمين‪ ،‬فمن قال‪ :‬ل أصلي جمعة ول‬
‫جماعة إل خلف من أعرف عقيدته في الباطن‪ ،‬فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين‬
‫ل أعلم‪.‬‬
‫الربعة وغيرهم‪ ،‬وا ّ‬

‫آخر ما وجد من كتاب مفصل العتقاد‬

‫ويليه كتاب‬

‫السماء والصفات‪.‬‬

You might also like