Professional Documents
Culture Documents
)العقيدة(
شيخ السلم تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
سئل شيخ السلم أحمد ابن تيمية قدس ال روحه ما قولكم في مذهب السلف في العتقاد ومذهب غيرهم من
المتأخرين؟ ما الصواب منهما؟ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين؟ وفي أهل الحديث :هل هم أولى بالصواب من
غيرهم؟ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية؟ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم؟.
فأجاب- :
شاِق ِ
ق الحمد ل .هذه المسائل بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها وال الموفق .قال ال تعالىَ} :وَم ْ
ن ُي َ
صيرًا{ ]النساء . [115:وقد ت َم ِ
ساَء ْ
جَهّنَم َو َ
صِلِه َ
ن ُنَوّلِه َما َتَوّلى َوُن ْ
ل اْلُمْؤِمِني َ
سِبي ِ
غْيَر َ
ن َلُه اْلُهَدى َوَيّتِبْع َ
ن َبْعِد َما َتَبّي َ
سولَ ِم ْ
الّر ُ
شهد ال لصحاب نبيه صلى ال عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان باليمان .فعلم قطعا أنهم المراد بالية الكريمة فقال
جِري ت َت ْ
جّنا ٍ
عّد َلُهْم َ عْنُه َوَأ َ
ضوا َ عْنُهْم َوَر ُ
ل َ
ي ا ُّ
ضَسانٍ َر ِ حَ ن اّتَبُعوُهْم ِبِإ ْ
صاِر َواّلِذي َ
لْن َ
ن َوا َْجِري َ ن اْلُمَها ِ
ن ِم َ لّوُلو َ ن ا َْ تعالىَ} :وال ّ
ساِبُقو َ
ح َ
ت ك َت ْ
ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
عِل َي ا ُّ
ضَظيُم{ ]التوبة.[100:وقال تعالىَ} :لَقْد َر ِ ك اْلَفْوُز اْلَع ِ
ن ِفيَها َأَبدًا َذِل َ
خاِلِدي َ
لْنَهاُر َ
حَتَها ا َْ
َت ْ
الّشَجَرةِ َفَعِلَم َما ِفي ُقُلوِبِهْم َفَأْنَزَل الّسِكيَنَة َعَلْيِهْم َوَأَثاَبُهْم َفْتحًا َقِريبًا{ ]الفتح.[18:فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم وله ال
ما تولى وأصله جهنم .فمن سبيلهم في العتقاد] :اليمان بصفات ال تعالى وأسمائه[ التي وصف بها نفسه وسمى
بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ول نقص منها ول تجاوز لها ول تفسير لها ول
تأويل لها بما يخالف ظاهرها ول تشبيه لها بصفات المخلوقين; ول سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا
علمها إلى قائلها؛ ومعناها إلى المتكلم بها .وقال بعضهم -ويروى عن الشافعي] :آمنت بما جاء عن ال وبما جاء عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم على مراد رسول ال[ .وعلموا أن المتكلم بها صادق ل شك في صدقه فصدقوه ولم
يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه .وأخذ ذلك الخر عن الول ووصى بعضهم بعضا بحسن التباع
والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجو أن
يجعلنا ال تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه؛ وسلوك الطريق الذي سلكوه .والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه:
أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول ال صلى ال عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها؛ غير مرتاب
فيها؛ ول شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ول تأولوه ول شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو
فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية .إذ ل يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته
لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما ل يحل .بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا :أنهم
كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف؛ وتارة بالضرب وتارة بالعراض الدال على
شدة الكراهة لمسألته .ولذلك لما بلغ عمر -رضي ال عنه -أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل
ت ِوْقرًا{ ]الذريات[2:وما بعدها .فنزل عمر حاِمل ِ ت َذْروًا{ ]الذرياتَ}[1:فاْل َ فبينما عمر يخطب قام فسأله عنَ} :والّذاِرَيا ِ
فقال] :لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ]ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة
وأمرهم أن ل يجالسوه فكان بها كالبعير الجرب ل يأتي مجلسا إل قالوا] :عزمة أمير المؤمنين[ فتفرقوا عنه حتى
تاب وحلف بال ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له :هذا
وقتك فقال :ل نفعتني موعظة العبد الصالح .ولما سئل ]مالك بن أنس[ -رحمه ال تعالى -فقيل له :يا أبا عبد ال
}الرحمن على العرش استوى{ كيف استوى؟ فأطرق مالك وعله الرحضاء -يعني العرق -وانتظر القوم ما يجيء منه
فيه .فرفع رأسه إلى السائل وقال] :الستواء غير مجهول والكيف غير معقول واليمان به واجب والسؤال عنه بدعة
وأحسبك رجل سوء[ .وأمر به فأخرج .ومن أول الستواء بالستيلء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير
سبيله .وهذا الجواب من مالك -رحمه ال -في الستواء شاف كاف في جميع الصفات .مثل النزول والمجيء واليد
والوجه وغيرها .فيقال في مثل النزول :النزول معلوم والكيف مجهول واليمان به واجب والسؤال عنه بدعة .وهكذا
يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الستواء الوارد به الكتاب والسنة .وثبت عن محمد بن الحسن -صاحب أبي
حنيفة -أنه قال] :اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب :على اليمان بالقرآن والحاديث التي جاء بها الثقات عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ول وصف ول تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك
فقد خرج مما كان عليه النبي صلى ال عليه وسلم وفارق الجماعة .فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في
الكتاب والسنة ثم سكتوا .فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة[ انتهى .فانظر -رحمك ال -إلى هذا المام كيف
حكى الجماع في هذه المسألة ول خير فيما خرج عن إجماعهم .ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه.
وأولوا ذلك؛ فإنهم أعرف المة بما يجوز على ال وما يمتنع عليه .وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه
قال] :إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم -تبارك وتعالى -بصفاته التي نطق بها كتابه
وتنزيله وشهد له بها رسوله؛ على ما وردت به الخبار الصحاح ونقله العدول الثقات .ول يعتقدون تشبيها لصفاته
بصفات خلقه ول يكيفونها تكييف المشبه ول يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية .وقد أعاذ ال
]أهل السنة[ من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول
بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز من قائل} :ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{ وبقوله تعالىَ} :وَلْم
َيُكْن َلُه ُكُفوًا َأَحٌد{ ]الخلص.[4:وقال سعيد بن جبير] :ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين[ .وثبت عن الربيع بن
سليمان أنه قال :سألت الشافعي -رحمه ال تعالى -عن صفات ال تعالى؟ فقال] :حرام على العقول أن تمثل ال
تعالى؛ وعلى الوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع؛ وعلى النفوس أن تفكر؛ وعلى الضمائر أن تعمق وعلى
الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إل ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه[ عليه الصلة والسلم .وثبت عن
الحسن البصري أنه قال] :لقد تكلم مطرف على هذه العواد بكلم ما قيل قبله ول يقال بعده .قالوا :وما هو يا أبا
سعيد؟ قال] :الحمد ل الذي من اليمان به :الجهل بغير ما وصف به نفسه[ .وقال سحنون ]من العلم بال السكوت عن
غير ما وصف به نفسه[ .وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد ال بن الزبير -أنه قال] :أصول السنة[ -فذكر أشياء -ثم
ق َكْي َ
ف ن ُيْنِف ُ
طَتا ِ
سو َ
ل َيَداُه َمْب ُ
ت َأْيِديِهْم َوُلِعُنوا ِبَما َقاُلوا َب ْ
غّل ْ
ل َمْغُلوَلٌة ُ قال :وما نطق به القرآن والحديث مثلَ} :وَقاَل ِ
ت اليهود َيُد ا ِّ
حْر ِ
ب ضاَء ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة ُكّلَما َأْوَقُدوا َنارًا ِلْل َ
طْغَيانًا َوُكْفرًا َوَأْلَقْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َك ُن َرّب َك ِم ْ
ل ِإَلْي َ
ن َكِثيرًا ِمْنُهْم َما ُأْنِز َ
شاُء َوَلَيِزيَد َّي َ
ت ِبَيِميِنِه{ ]الزمر :من طِوّيا ٌ ت َم ْ سَماَوا ُ ن{ ]المائدة.[64:ومثلَ} :وال ّ سِدي َب اْلُمْف ِ
ح ّل ل ُي ِسادًا َوا ُّ ض َف َ
لْر ِ ن ِفي ا َْ سَعْو َ
ل َوَي ْ
طَفَأَها ا ُّ
َأ ْ
الية [67وما أشبه هذا من القرآن والحديث ل نزيد فيه ول نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول:
ش اْسَتَوى{ ]طـه[5:ومن زعم غير هذا فهو جهمي .فمذهب السلف رضوان ال عليهم :إثبات عَلى اْلَعْر ِ
ن َ
حمَ ُ
}الّر ْ
الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها .لن الكلم في الصفات فرع عن الكلم في الذات وإثبات الذات
إثبات وجود؛ ل إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات .وعلى هذا مضى السلف كلهم .ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من
كلم السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب .فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفي بما قدمناه
ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إل خروجا عن سواء السبيل وال الموفق .وقد ثبت
ما ادعيناه من مذهب السلف رضوان ال عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيل واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم
بذلك .ولم أعلم عن أحد منهم خلفا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل لهذه اليات والخبار من
أكابرهم :العتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه .ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه قال] :اختلف أصحابنا في أخبار
الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ول تأويل مع نفي التشبيه عنها .وهو مذهب السلف[ فحصل
الجماع على صحة ما ذكرناه بقول المنازع والحمد ل .وما أحسن ما جاء عن ]عبد العزيز بن عبد ال بن أبي سلمة[
أنه قال] :عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن ال عصمة .فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من
قد علم ما في خلفها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق .فارض لنفسك بما رضوا به لنفسهم .فإنهم عن علم وقفوا
وببصر نافذ كفوا .ولهم كانوا على كشفها أقوى .وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم
ما يجري من الختلف بعد القرون الثلثة؛ فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث
بعدهم فما أحدثه إل من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم؛ وتلقاه
عنهم من تبعهم بإحسان .ولقد وصفوا منه ما يكفي؛ وتكلموا منه بما يشفي .فمن دونهم مقصر؛ ومن فوقهم مفرط .لقد
قصر دونهم أناس فجفوا؛ وطمح آخرون فغلوا؛ وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم[.
فصل
وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو .فنبين ذلك بالقياس المعقول؛ من غير احتجاج
ق{ ]فصلت :من الية [53؛ حّن َلُهْم َأّنُه اْل َ
حّتى َيَتَبّي َ
سِهْم َ
ق َوِفي َأْنُف ِ
لَفا ِ بنفس اليمان بالرسول كما قال الَ } :
سُنِريِهْم آَياِتَنا ِفي ا ْ
يٍء
ش ْ
ل َ
عَلى ُك ّ
ك َأّنُه َ فأخبر :أنه سيريهم اليات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق .ثم قالَ} :أَوَلْم َيْك ِ
ف ِبَرّب َ
َشِهيٌد{ ]فصلت :من الية [53أي بإخبار ال ربك في القرآن وشهادته بذلك .فنقول :من المعلوم أن أهل الحديث
يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم .فإن المنازع لهم ل بد أن يذكر
فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلم والنظر والستدلل والمحاجة والمجادلة
والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك .وكل هذه الطرق لهل الحديث صفوتها وخلصتها :فهم أكمل
الناس عقل؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلل وأقومهم جدل وأتمهم
فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا .وهذا هو
للمسلمين بالنسبة إلى سائر المم ولهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل .فكل من استقرأ أحوال العالم وجد
المسلمين أحد وأسد عقل وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون
وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين .وذلك لن اعتقاد الحق الثابت يقوي الدراك ويصححه قال
شّد َتْثِبيتًا{
خْيرًا َلُهْم َوَأ َ
ن َ
ن ِبِه َلَكا َ
ظو َ
عُى{ ]محمد :من الية [17وقالَ} :وَلْو َأّنُهْم َفَعُلوا َما ُيو َ تعالىَ} :واّلِذي َ
ن اْهَتَدْوا َزاَدُهْم ُهد ً
صَراطًا ُمْسَتِقيمًا{ ]النساء.[68 :وهذا ظيمًا{ ]النساءَ} [67:وَلَهَدْيَناُهْم ِ عِجرًا َ
ن َلُدّنا َأ ْ ]النساء :من الية َ} [66وِإذًا َ
لَتْيَناُهْم ِم ْ
يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فل تجد مسألة خولفوا فيها إل وقد تبين أن الحق معهم .وتارة بإقرار
مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلل والجهل .وتارة بشهادة
المؤمنين الذين هم شهداء ال في الرض .وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الخرى وتشهد بالضلل
على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم .فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء ال في الرض :فهذا أمر ظاهر
معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلم المسلمين ل تجد في المة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به ول تجد
غيرهم يعظم إل بقدر ما وافقهم فيه كما ل ينقص إل بقدر ما خالفهم .حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة
يقر بذلك كما قال المام أحمد] :آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز[ فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم
الرجل طائفته فأما وقت الموت فل بد من العتراف بالحق من عموم الخلق .ولهذا لم يعرف في السلم مثل جنازته:
مسح المتوكل موضع الصلة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ
من اليهود والنصارى عشرون ألفا .وهو إنما نبل عند المة باتباع الحديث والسنة .وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما
إنما نبلوا في السلم باتباع أهل الحديث والسنة .وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك وكذلك مالك والوزاعي
والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم المة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم
فيه منهم إل بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلغها إياه أو لعتقاده ضعف
دللتها أو رجحان غيرها عليها .وكذلك المسائل العتقادية الخبرية؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند المة إل
بما معه من الثبات والسنة فالمعتزلة أول -وهم فرسان الكلم -إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من
يغضي عن مساوئهم لجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الثبات والسنة والحديث وردهم على
الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث :من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الخبار وتحريف الكلم
عن مواضعه والغلو في على ونحو ذلك .وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من
إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير على وعثمان
وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في اليمان.
ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة .وكذلك متكلمة أهل الثبات مثل الكلبية والكرامية والشعرية
إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم المة بما أثبتوه من أصول اليمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة
والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية
والمعتزلة؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالت التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة .فحسناتهم نوعان :إما
موافقة أهل السنة والحديث .وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم .ولم يتبع أحد مذهب
الشعري ونحوه إل لحد هذين الوصفين أو كليهما .وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه
وينتصر له بذلك .فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه -كالبيهقي؛ والقشيري أبي القاسم؛ وابن عساكر
الدمشقي -إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم ل يحتجون له
عند المة وعلمائها وأمرائها إل بهذين الوصفين ولول أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك للحقوه بطبقته الذين لم
يكونوا كذلك كشيخه الول ]أبي على[; وولده ]أبي هاشم[ .لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في
الصفات؛ والقدر والمامة؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة
والقدرية؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم :ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك؛ ويعرف له حقه وقدره }َقْد َ
جَع َ
ل
يٍء َقْدرًا{ ]الطلق :من الية [3وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والتباع ما صار .لكن ش ْل َ
ل ِلُك ّ
ا ُّ
الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله :هي من جنس المجاهد المنتصر .فالراد على أهل البدع مجاهد
حتى كان ]يحيى بن يحيى[ يقول] :الذب عن السنة أفضل من الجهاد[ والمجاهد قد يكون عدل في سياسته وقد ل
يكون وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ال يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام ل خلق
لهم( ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر ل محالة
وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره :نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للسلم والسنة يشكر
على ذلك من هذا الوجه .فحمد الرجال عند ال ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين ال وسنة رسوله
وشرعه من جميع الصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات .والحسنات :هي ما وافق طاعة ال ورسوله من
التصديق بخبر ال والطاعة لمره .وهذا هو السنة .فالخير كله -باتفاق المة -هو فيما جاء به الرسول صلى ال
عليه وسلم .وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة ال ورسوله إل بمخالفة ذلك .ومن تكلم
فيه من العلماء والمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل اليمان بمخالفته السنة والشريعة .وبهذا ذم السلف والئمة أهل
الكلم والمتكلمين الصفاتية كابن كرام؛ وابن كلب والشعري .وما تكلم فيه من تكلم من أعيان المة وأئمتها
المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء؛ وأهل الحديث والصوفية إل بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث
لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه أو لقتضاء أصل قياس -مهدوه -رد ذلك كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية .فإن
مخالفة المسلم الصحيح اليمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لعتقاده صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من
السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما ل يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع
الفرقة والختلف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة.
ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر السلم وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم
على المنابر؛ حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة .فلعنوا الكلبية والشعرية :كما كان في مملكة المير ]محمود بن
سبكتكين[ وفي دولة السلجقة ابتداء وكذلك الخليفة القادر؛ ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه
أمر القاضي ]أبي بكر[ ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب المام أحمد وموافقته ثم ولى النظام
وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي وفتواهما
حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية .وقد قيل :إن أبا إسحاق استعفي من ذلك فألزموه وأفتوا بأنه ل يجوز
لعنتهم ويعزر من يلعنهم وعلل الدامغاني :بأنهم طائفة من المسلمين .وعلل أبو إسحاق -مع ذلك :-بأن لهم ذبا وردا
على أهل البدع المخالفين للسنة فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إل بموافقة السنة والحديث .وكذلك رأيت في فتاوى
الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها - :ول يجوز شغل المساجد
عا وأما لبس الحلق والدمالج والسلسل والغلل بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزر فاعله تعزيًرا بليًغا راد ً
والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة .وشر المور محدثاتها وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار وهي لهم في
الخرة إن ماتوا على ذلك .ول يجوز السجود لغير ال من الحياء والموات ول تقبيل القبور ويعزر فاعله .ومن لعن
أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا .والمؤمن ل يكون لعانا وما أقر به من عود اللعنة عليه قال :ول تحل
الصلة عند القبور ول المشي عليها من الرجال والنساء ول تعمل مساجد للصلة فإنه )اشتد غضب ال على قوم
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( .قال :وأما لعن العلماء لئمة الشعرية فمن لعنهم عزر .وعادت اللعنة عليه فمن لعن من
ليس أهل للعنة وقعت اللعنة عليه .والعلماء أنصار فروع الدين والشعرية أنصار أصول الدين .قال :وأما دخولهم
النيران فمن ل يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال فإنه من
ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع فإن كان على الستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن
على الستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره .فإن ال يضل
من ل خلق له بما يظهر على يدي هؤلء .وأما من تمسك بالشرع الشريف :فإنه لو رأى من هؤلء من يطير في
الهواء؛ أو يمشي على الماء؛ فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد .انتهى .فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن وأمر بتعزير
اللعن لجل ما نصروه من ]أصول الدين[ وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث والرد على من خالف
القرآن والسنة والحديث .ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول] :إنما نفقت الشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة[
وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد ولهذا قال أبو القاسم بن
عساكر في مناقبه] :ما زالت الحنابلة والشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة[ ابن القشيري
ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها ل تجد من يمدح الشعري بمدحة؛ إل إذا وافق السنة والحديث ول يذمه من يذمه إل
بمخالفة السنة والحديث .وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهاداتهم على أن
الحق في ذلك .ولهذا تجد أعظمهم موافقة لئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه .فالشعري نفسه لما
كان أقرب إلى قول المام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي ]أبو بكر بن الباقلني[
لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره .وأما مثل الستاذ أبي المعالي؛ وأبي حامد؛ ونحوهما ممن خالفوا
أصوله في مواضع فل تجدهم يعظمون إل بما وافقوا فيه السنة والحديث وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في
الفقه الموافق للسنة والحديث ومما ذكروه في الصول مما يوافق السنة والحديث وما ردوه مما يخالف السنة
والحديث .وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإل لم يصح ذلك .وكانت الرافضة والقرامطة -علماؤها وأمراؤها -
قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية حتى غلبت على الشام والعراق وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت
وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم
بخراسان وحجروهم بمصر .وكان في وقتهم من الوزراء مثل] :نظام الملك[ ومن العلماء مثل] :أبي المعالي
الجويني[ فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلء ونحوهم لهم من المكانة عند المة بحسب ذلك.
وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه] :كأبي الوليد الباجي[ والقاضي ]أبي بكر بن العربي[ ونحوهما ل
يعظمون إل بموافقة السنة والحديث وأما الكابر :مثل ]ابن حبيب[ و]ابن سحنون[ ونحوهما؛ فلون آخر .وكذلك أبو
محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل ]القدر[ و
]الرجاء[ ونحو ذلك بخلف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة .وكذلك ما ذكره في ]باب الصفات[ فإنه
يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت في الحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه
موافق للمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ول ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك .لكن الشعري ونحوه أعظم
موافقة للمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الئمة في القرآن والصفات وإن كان ]أبو محمد بن حزم[ في مسائل
اليمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلسفة
والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلء في اللفظ
وهؤلء في المعنى .وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر ل باطن له
كما نفي المعاني في المر والنهي والشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب .مضموما إلى ما في
كلمه من الوقيعة في الكابر والسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر .وإن كان له من اليمان والدين
والعلوم الواسعة الكثيرة ما ل يدفعه إل مكابر؛ ويوجد في كتبه من كثرة الطلع على القوال والمعرفة بالحوال؛
والتعظيم لدعائم السلم ولجانب الرسالة ما ل يجتمع مثله لغيره .فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها
ظاهر الترجيح .وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما ل يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء.
وتعظيم أئمة المة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الصول والفروع من القوال والعمال :أكثر من أن يذكر هنا.
وتجد السلم واليمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت
البدع بحسب ذلك مثل :دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم السلم واليمان ويغزو أعداءه من الكفار
والمنافقين .كان أهل السنة في تلك اليام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل .فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من
ل يحصي عدده إل ال ,والرشيد كان كثير الغزو والحج .وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها
من أهل المشرق والعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى ال عليه وسلم حيث قال) :الفتنة هاهنا(; ظهر حينئذ
كثير من البدع وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب العاجم -من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين
الهند -وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانا وعدل وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك.
وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية فإن أولئك كانوا كثير الضاعة لمواقيت
الصلة كما جاءت فيهم الحاديث) :سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلة عن وقتها فصلوا الصلة لوقتها واجعلوا
صلتكم معهم نافلة( .لكن كانت البدع في القرون الثلثة الفاضلة مقموعة وكانت الشريعة أعز وأظهر وكان القيام
بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم .وفي دولة ]أبي العباس المأمون[ ظهر ]الخرمية[ ونحوهم من
المنافقين وعرب من كتب الوائل المجلوبة من بلد الروم ما انتشر بسببه مقالت الصابئين وراسل ملوك المشركين
من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة.
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب؛ كان من أثر ذلك:
ما ظهر من استيلء الجهمية؛ والرافضة؛ وغيرهم من أهل الضلل وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة .وذلك
بنوع رأي يحسبه صاحبه عقل وعدل وإنما هو جهل وظلم إذ التسوية بين المؤمن والمنافق؛ والمسلم والكافر أعظم
الظلم وطلب الهدى عند أهل الضلل أعظم الجهل فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت المة بنفي الصفات
والتكذيب بكلم ال ورؤيته وجرى من محنة المام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه .وكان في أيام ]المتوكل[
قد عز السلم حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية؛ وألزموا الصغار فعزت السنة والجماعة وقمعت الجهمية
والرافضة ونحوهم .وكذلك في أيام ]المعتضد[ والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن
طريقة من غيرهم .وكان السلم في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك .وفي دولة ]بني بويه[ ونحوهم :المر
بالعكس فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة .قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة
وهذه الشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم .فحصل في أهل السلم والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى
النصارى على ثغور السلم وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك وجرت حوادث
كثيرة .ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه :كان السلم والسنة في مملكته أعز فإنه
غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله .فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه
مقموعة .وكذلك السلطان ]نور الدين محمود[ الذي كان بالشام؛ عز أهل السلم والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل
البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم .وكذلك ما كان في زمنه من خلفة بني
العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزراء السلم .ولهذا كان له من العناية بالسلم والحديث ما ليس
لغيره .وما يوجد من إقرار أئمة الكلم والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلل ومن شهادة أئمة
الكلم والفلسفة بعضهم على بعض كذلك؛ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى
مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير وأئمة السنة والحديث ل يرجع منهم أحد لن ]اليمان حين تخالط بشاشته
القلوب ل يسخطه أحد[ وكذلك ما يوجد من شهادتهم لهل الحديث بالسلمة والخلص من أنواع الضلل وهم ل
يشهدون لهل البدع إل بالضلل .وهذا باب واسع كما قدمناه .وجميع الطوائف المتقابلة من أهل الهواء تشهد لهم
بأنهم أصلح من الخرىن وأقرب إلى الحق فنجد كلم أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلم أهل الملل مع
المسلمين وحالهم معهم .وإذا قابلنا بين الطائفتين -أهل الحديث وأهل الكلم -فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل
الجماعة بحشو القول :إنما يعيبهم بقلة المعرفة؛ أو بقلة الفهم .أما الول :فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة؛
أو بآثار ل تصلح للحتجاج .وأما الثاني :فبأن ل يفهموا معنى الحاديث الصحيحة بل قد يقولون القولين المتناقضين
ول يهتدون للخروج من ذلك .والمر راجع إلى شيئين - :إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة كالحاديث
الموضوعة وإما أقوال مفيدة لكنهم ل يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أول إلى صحة الحديث .وثانيا إلى فهم
معناه كاتباع القرآن .فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين .ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا .ول ريب
أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل ]الصول والفروع[ وبآثار مفتعلة وحكايات غير
صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما ل يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير
موضعه .ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان المة
ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا
من القول وزورا وقد يكون من البدع والضللت التي توجب غليظ العقوبات فهذا ل ينكره إل جاهل أو ظالم وقد
رأيت من هذا عجائب .لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ول ريب أن في كثير من
المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما ل يعلمه إل من أحاط بكل شيء علما لكن كل شر يكون في بعض
المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى
غيرهم.
وبيان ذلك :أن ما ذكر من فضول الكلم الذي ل يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق -هو في أهل
الكلم والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث؛ فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج
هؤلء بالحدود والقيسة الكثيرة العقيمة؛ التي ل تفيد معرفة؛ بل تفيد جهل وضلل وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث ل
يفهمون معناها تكلف هؤلء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول المام أحمد] :ضعيف
الحديث خير من رأي فلن[.
ثم لهل الحديث من المزية :أن ما يقولونه من الكلم الذي ل يفهمه بعضهم هو كلم في نفسه حق وقد آمنوا بذلك
وأما المتكلمة :فيتكلفون من القول ما ل يفهمونه ول يعلمون أنه حق وأهل الحديث ل يستدلون بحديث ضعيف في
نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس
الفاسدة في نقض الصول الحقة الثابتة.
حوا ِبَما
ت َفِر ُ
سُلُهْم ِباْلَبّيَنا ِ
جاَءْتُهْم ُر ُ إذا عرف هذا فقد قال ال تعالى عن أتباع الئمة من أهل الملل المخالفين للرسل }َفَلّما َ
سول{ طْعَنا الّر ُ
ل َوَأ َ طْعَنا ا َّ
ن َيا َلْيَتَنا َأ َ
جوُهُهْم ِفي الّناِر َيُقوُلو َ ن اْلِعْلِم{ ]غافر :من الية [83وقال تعالىَ} :يْوَم ُتَقّل ُ
ب ُو ُ عْنَدُهْم مِ َ
ِ
]الحزاب [66:إلى قولهَ} :واْلَعْنُهْم َلْعنًا َكِبيرًا{ ]الحزاب :من الية [68ومثل هذا في القرآن كثير؛ وإذا كانت سعادة
الدنيا والخرة هي باتباع المرسلين ،فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم؛ لذلك
فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان ،وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة،
وهم أهل السنة والحديث من هذه المة ،فإنهم يشاركون سائر المة فيما عندهم من أمور الرسالة؛ ويمتازون عنهم بما
اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به والرسل ـ صلوات ال وسلمه عليهم ـ
عليهم البلغ المبين ،وقد بلغوا البلغ المبين وخاتم الرسل محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ أنزل ال كتابه مصدقا لما
بين يديه من الكتاب ومهيمًنا عليه فهو المين على جميع الكتب؛ وقد بلغ أبين البلغ وأتمه وأكمله ،وكان أنصح الخلق
لعباد ال ،وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيًما بلغ الرسالة وأدى المانة وجاهد في ال حق جهاده وعبد ال حتى أتاه اليقين
ل.
فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعم ً
وأما غير اتباعه من أهل الكلم؛ فالكلم في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم وهذا يدخل
فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلسفة فالكلم في هذا المقام واسع ل ينضبط هنا ،لكن
المعلوم من حيث الجملة أن الفلسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقول للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم
ودلئلهم ل يكاد ـ وال أعلم ـ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من
المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الحتلم كل ما يقوله هؤلء ففيه باطل إما في الدلئل وإما في
المسائل ،إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة؛ وإما
ل فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظمها؛ وذكر مسألة التوحيد .فقلت التوحيد حق لكن اذكر ما شئت أن تكون المسألة باط ً
من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه وكان أيضا من
المتعصبين لهم فذكر ذلك له قال فأخذ يعظم ذلك علي فقلت أنا ل أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين
ويدلك على ذلك أمور أحدها أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه
في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على العتراض
والقدح والجدل ومن المعلوم أن العتراض والقدح ليس بعلم ول فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة
العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الخر وقد قيل إن
الشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الدلة يعني أدلة
علم الكلم فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلم فيها وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الدلة والهدى في طريقهم كما
ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلم وهذا أبو عبدال
الرازي من أعظم الناس في هذا الباب باب الحيرة والشك والضطراب لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة
في التشكيك دون التحقيق بخلف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق لكن بعض الناس قد يثبت على
باطل محض بل ل بد فيه من نوع من الحق وكان من فضلء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلم ابن واصل
الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالت وحجج هؤلء وهؤلء
واعتراض هؤلء وهؤلء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا أنشد الخطابي حجج تهافت كالزجاج تخالها
حقا وكل كاسر مكسور فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا وكيف يليق بمثل
هؤلء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين
يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون ل يشكون ول يمترون فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم
من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه
شيء لئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد غاية ما يقوله أحدهم أنهم جزموا بغير دليل وصمموا
بغير حجة وإنما معهم التقليد وهذا القدر قد يكون في كثير من العامة لكن جزم العلم غير جزم الهوى فالجازم بغير
علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به ،والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم اذ كون النسان عالما وغير عالم
ضا
مثل كونه سامًعا ومبصًرا وغير سامع ومبصر فهو يعلم من نفسه ذلك مثل ما يعلم من نفسه كونه محًبا ومبغ ً
ومريًدا وكارًها ومسروًرا ومحزوًنا ومنعًما ومعذًبا وغير ذلك ومن شك في كونه يعلم مع كونه يعلم فهو بمنزلة من
جزم بأنه علم وهو ل يعلم وذلك نظير من شك في كونه سمع ورأى أو جزم بأنه سمع ورأى ما لم يسمعه ويراه
والغلط أو الكذب يعرض للنسان في كل واحد من طرفي النفي والثبات لكن هذا الغلط أو الكذب العارض ل يمنع
أن يكون النسان جازًما بما ل يشك فيه من ذلك كما يجزم بما يجده من الطعوم والراييح وإن كان قد يعرض له من
النحراف ما يجد به الحلو مرا فالسباب العارضة لغلط الحس والباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض
لحركة البدن والنفس والصل هو الصحة في الدراك وفي الحركة فإن ال خلق عباده على الفطرة وهذه المور يعلم
الغلط فيها بأسبابها الخاصة كالمرة الصفراء العارضة للطعم وكالحول في العين ونحو ذلك وإل فمن حاسب نفسه
على ما يجزم به وجد أكثر الناس الذين يجزمون بما ل يجزم به إنما جزمهم لنوع من الهوى كما قال تعالى وإن كثيرا
ليضلون بأهوائهم بغير علم وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من ال ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون
على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الهواء وأما النصارى فأعظم ضلل منهم وإن
كانوا في العادة والخلق أقل منهم شرا فليسوا جازمين بغالب ضللهم بل عند العتبار تجد من ترك الهوى من
الطائفتين ونظر نوع نظر تبين له السلم حقا والمقصود هنا أن معرفة النسان بكونه يعلم أو ل يعلم مرجعه إلى
وجود نفسه عالمة ولهذا ل نحتج على منكر العلم إل بوجودنا نفوسنا عالمة كما احتجوا على منكري الخبار
المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه وجعل المحققون وجود العلم بخبر من
الخبار هو الضابط في حصول التواتر إذ لم يحدوه بعدد ول صفة بل متى حصل العلم كان هو المعتبر والنسان يجد
نفسه عالمة وهذا حق فإنه ل يجوز أن يستدل النسان على كونه عالما بدليل فإن علمه بمقدمات ذلك الدليل يحتاج إلى
أن يجد نفسه عالمة بها فلو احتاج علمه بكونه عالما إلى دليل أفضى إلى الدور أو التسلسل ولهذا ل يحس النسان
بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيا أو إن كان نظريا إذا علم المقدمتين وبهذا استدل على منكري إفادة النظر
العلم وإن كان في هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه فالغرض أن من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند
علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلل أو غير ذلك والعلم
يحصل في النفس كما تحصل سائر الدراكات والحركات بما يجعله ال من السباب وعامة ذلك بملئكة ال تعالى
فإن ال سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء ولهذا قال النبي ـ صلى ال عليه وسلم
ب ِفي ُقُلوِبِهُم اِْليَماَن َوَأّيَدُهْم ِبُروٍح ِمْنُه{ ]المجادلة :من الية ـ) :لحسان اللهم أيده بروح القدس( وقال تعالىُ} :أوَلِئ َ
ك َكَت َ
[22وقال :ـ صلى ال عليه وسلم ـ )من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه
أنزل ال عليه ملكا يسدده( وقال عبدال بن مسعود :كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال ابن مسعود
ضا أن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق أي ً
وهذا الكلم الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ وهو كلم
جامع لصول ما يكون من العبد من علم وعمل من شعور وإرادة وذلك أن العبد له قوة الشعور والحساس والدراك
وقوة الرادة والحركة وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها والثانية مستلزمة للولى ومكملة لها فهو بالولى يصدق
بالحق ويكذب بالباطل وبالثانية يحب النافع الملئم له ويبغض الضار المنافي له وال سبحانه خلق عباده على الفطرة
التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ومعرفة النافع الملئم والمحبة له ومعرفة الضار
المنافي والبغض له بالفطرة فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة فأحبته واطمأنت
إليه وذلك هو المعروف وما كان باطل معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة فانكرته قال تعالى يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر والنسان كما سماه النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ )حيث قال أصدق السماء حارث
وهمام( فهو دائما يهم ويعمل لكنه ل يعمل إل ما يرجو نفعه أو دفع مضرته ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبينا على
اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فل يكون نافعا ول ضارا وإما في الوسيلة فل تكون طريقا إليه وهذا جهل وقد يعلم
أن هذا الشيء يضره ويفعله ويعلم أنه ينفعه ويتركه لن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى او دفع ألم
آخر جاهل ظالما حيث قدم هذا على ذاك ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ عن قوله
ب{ ]النساء :من الية [17فقالوا كل من عصى ن َقِري ٍ ن ِم ْ
جَهاَلٍة ُثّم َيُتوُبو َ
سوَء ِب َ
ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ل ِلّلِذي َ تعالىِ} :إّنَما الّتْوَبُة َ
عَلى ا ِّ
ال فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وإذا كان النسان ل يتحرك إل راجيا وإن كان راهبا خائفا
لم يسع إل في النجاة ولم يهرب إل من الخوف فالرجاء ل يكون إل بما يلقى في نفسه من اليعاد بالخير الذي هو
طلب المحبوب أو فوات المكروه فكل بني آدم له اعتقاد فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء وله قصد وإرادة لما يرجوه
مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه أو لوجود المحبوب عنده أو لدفع المكروه عنه؛ وال خلق العبد يقصد الخير
فيرجوه بعمله فإذا كذب بالحق فلم يصدق به ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسًرا بترك تصديق الحق وطلب
الخير فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر فذكر عبدال بن مسعود أن لقلب
ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان؛ فلمة الملك تصديق بالحق ،وهو ما كان من غير جنس العتقاد الفاسد ،ولمة
الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر؛ وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده ،أما مع رجائه إن كان مع
هوى نفس وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها وكل من الرجاء والخوف مستلزم للخر.
فمبدأ العلم الحق والرادة الصالحة ،من لمة الملك ،ومبدأ العتقاد الباطل والرادة الفاسدة ،من لمة الشيطان ،قال ال
ل{ ]البقرة :من الية ] [268البقرة ،[268:وقال ضًل َيِعُدُكْم َمْغِفَرًة ِمْنُه َوَف ْ
شاِء َوا ُّ
حَن َيِعُدُكُم اْلَفْقَر َوَيْأُمُرُكْم ِباْلَف ْ
طا ُ تعالى} :ال ّ
شْي َ
طا ُ
ن شْي َ ف َأْوِلَياءُه{ ]آل عمران [175:أي :يخوفكم أولياءه ،وقال تعالىَ}:وِإْذ َزّي َ
ن َلُهُم ال ّ خّو ُ ن ُي َطا ُشْي َتعالىِ} :إّنَما َذِلُكُم ال ّ
س َوِإّني َجاٌر ّلُكْم{]النفال[48: ن الّنا ِ ب َلُكُم اْلَيْوَم ِم َغاِل َ ل َل َ عَماَلُهْم َوَقا َ
َأ ْ
خّناس ،إذا ذكر العبد ربه خنس ،فإذا غفل عن ذكره وسوس؛ فلهذا كان ترك ذكر ال سبًبا ومبدأ سواس َ والشيطان َو ْ
ن ذكر ال ـ تعالى ـ تلوة كتابه وفهمه ،ومذاكرة العلم ،كما قال
لنزول العتقاد الباطل والرادة الفاسدة في القلب ،وِم ْ
معاذ بن جبل :ومذاكرته تسبيح.
وقد تنازع أهل الكلم في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل ،فقال بعضهم :ذلك على سبيل التولد .وقال
المنكرون للتولد :بل ذلك بفعل ال ـ تعالى .والنظر إما متضمن للعلم وإما موجب له ،وهذا ينصره المنتسبون للسنة
من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ،وقالت المتفلسفة :بل ذلك يحصل
بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفس لقبول الفيض .وقد يزعمون أن العقل الفعال هو جبريل.
فأما قول القائلين :إن ذلك بفعل ال ،فهو صحيح؛ بناء على أن ال هو معلم كل علم وخالق كل شىء ،لكن هذا كلم
مجمل ليس فيه بيان لنفس السبب الخاص ،وأما قول القائلين بالتولد ،فبعضه حق وبعضه باطل ،فإن كان دعواهم أن
العلم المتولد هو حاصل بمجرد قدرة العبد ،فذلك باطل قطًعا ،ولكن هو حاصل بأمرين :قدرة العبد ،والسبب الخر،
كالقوة التي في السهم والقبول الذي في المحل ،ول ريب أن النظر هو بسبب ،ولكن الشأن فيما به يتم حصول العلم.
وأما زعم المتفلسفة أنه بالعقل الفعال ،فمن الخرافات التي ل دليل عليها ،وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل،
وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالتها ،فهو من فيضه وبسببه ،فهو من أبطل
الباطل.
ولكن إضافتهم ذلك إلى أمور روحانية صحيح في الجملة؛ فإن ال ـ سبحانه وتعالى ـ يدبر أمر السموات والرض
بملئكته التي هي السفراء في أمره ،ولفظ ]الملك[ يدل على ذلك ،وبذلك أخبرت النبياء ،وقد شهد الكتاب والسنة من
ذلك بما ل يتسع هذا الموضع لذكره ،كما ذكره النبي صلى ال عليه وسلم في ملئكة تخليق الجنين وغيره.
وأما تخصيص روح واحد متصل بفلك القمر ،يكون هو رب هذا العالم ،فهذا باطل ،وليس هذا موضع استقصاء ذلك،
ولكن لبد أن ُيْعلم أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملئكة ،أو الشياطين ،فالملك يلقي التصديق بالحق والمر
بالخير ،والشيطان يلقي التكذيب بالحق والمر بالشر .والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر النسان ،كما أن المر
والنهي مقرونان بإرادته.
فإذا كان النظر في دليل هاد ـ كالقرآن ـ وسلم من معارضات الشيطان تضمن ذلك النظر العلم والهدي؛ ولهذا أمر
العبد بالستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة .وإذا كان النظر في دليل مضل والناظر يعتقد صحته ،بأن تكون
مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل ،أو تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف ليس بمستقيم ،فإنه يصير في القلب بذلك
اعتقاد فاسد ،وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم.
فإذا كان الناظر لبد له من منظور فيه ،والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه ل يفيد علًما ،بل ربما خطر له
بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات ،يحسبها أدلة ،لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك
التصور.
وأما النظر المفيد للعلم ،فهو ما كان في دليل هاد ،والدليل الهادي ـ على العموم والطلق ـ هو ]كتاب ال[ ،و]سنة
نبيه[ فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر ،هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى ،وهو بذكر ال وما نزل من
الحق.
فإذا أراد النظر والعتبار في الدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب ،فذلك النظر في كتاب ال وتدبره ،كما قال تعالى:
ت ِإَلى الّنوِر ِبِإْذِنِه َوَيْهِديِهْم ِإَلى
ظُلَما ِ
ن ال ّ
جُهم ّم ِخِر ُلمِ َوُي ْ
سَل ال ّ سُب َضَواَنُه ُ ن اّتَبَع ِر ْ
ل َم ِ ن َيْهِدي ِبِه ا ّ
ب ّمِبي ٌ
ل ُنوٌر َوِكَتا ٌنا ّ جاءُكم ّم َ }َقْد َ
ليَما ُ
ن ل ا ِْ ب َو َت َتْدِري َما اْلِكَتا ُن َأْمِرَنا َما ُكن َ
حا ّم ْ ك ُرو ًحْيَنا ِإَلْي َ سَتِقيٍم{ ]المائدة ،[16، 15 :وقال تعالىَ} :وَكَذِل َ
ك َأْو َ ط ّم ْ صَرا ٍ
ِ
ض
لْر ِ ت َوَما ِفي ا َْ سَماَوا ِ ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّط ا ِّ
صَرا ِسَتِقيٍم ِط ّم ْ صَرا ٍ ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ عَباِدَنا َوِإّن َ
ن ِ
شاء ِم ْن ّن ََوَلِكن جََعْلَناُه ُنوًرا ّنْهِدي ِبِه َم ْ
صيُر الُموُر{ ]الشورى.[53،52: ل َت ِ ل ِإَلى ا َِّأ َ
وأما النظر في مسألة معينة وقضية معينة ،لطلب حكمها والتصديق بالحق فيها ،والعبد ل يعرف ما يدله على هذا أو
هذا فمجرد هذا النظر ل يفيد بل قد يقع له تصديقات يحسبها حًقا وهي باطل ،وذلك من إلقاء الشيطان ،وقد يقع له
تصديقات تكون حًقا ،وذلك من إلقاء الملك .
وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن ،فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن،
ن َما ن اْلُقْرآ ِ وقد ل يفهمه ،أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به ،ويكون ذلك من الشيطان ،كما قال تعالىَ} :وُنَنّز ُ
ل ِم َ
ل ِبِه
ضّل ِبِه َكِثيرًا َوَيْهِدي ِبِه َكِثيرًا َوَما ُي ِ
ضّ ساًرا{ ]السراء ،[82:وقالُ} :ي ِ خَ ل َ ن َإ ّ
ظاِلِمي َ
ل َيِزيُد ال ّ ن َو َ
حَمٌة ّلْلُمْؤِمِني َ
شَفاء َوَر ْ
ُهَو ِ
سا ِإَلىجًض َفَزاَدْتُهْم ِر ْ
ن ِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ ن َوَأّما اّلِذي َ
شُرو َسَتْب ِ ل{ ]البقرة ،[26:وقالَ} :فَأّما اّلِذي َ
ن آَمُنوْا َفَزاَدْتُهْم ِإيَماًنا َوُهْم َي ْ ِإ ّ
عًمى{ عَلْيِهْم َ
ن ِفي آَذاِنِهْم َوْقٌر َوُهَو َ
ل ُيْؤِمُنو َ
ن َ شَفاء َوالِّذي َ
ن آَمُنوا ُهًدى َو ِ ل ُهَو ِلّلِذي َسِهْم{ ]التوبة ،[125 ،124:وقالُ} :ق ْ جِ
ِر ْ
ظٌة ّلْلُمّتِقيَن{ ]آل عمران.[138: عَ س َوُهًدى َوَمْو ِ ]فصلت ،[44 :وقالَ} :هـَذا َبَيا ٌ
ن ّللّنا ِ
فالناظر في الدليل بمنزلة المترائى للهلل قد يراه ،وقد ل يراه لعشى في بصره ،وكذلك أعمى القلب.
وأما الناظر في المسألة ،فهذا يحتاج إلى شيئين :إلى أن يظفر بالدليل الهادي ،وإلى أن يهتدي به وينتفع .فأمره الشرع
بما يوجب أن ينزل على قلبه السباب الهادية ،ويصرف عنه السباب المعوقة ،وهو ذكر ال ـ تعالى ـ والغفلة عنه،
فإن الشيطان وسواس خناس ،فإذا ذكر العبد ربه خنس ،وإذا غفل عن ذكر ال وسوس.
وذكر ال يعطي اليمان وهو أصل اليمان .وال ـ سبحانه ـ هو رب كل شىء ومليكه ،وهو معلم كل علم وواهبه،
فكما أن نفسه أصل لكل شىء موجود ،فذكره ،والعلم به أصل لكل علم ،وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد اليمان ،كما قال جندب بن عبد ال البجلي وغيره من الصحابة :تعلمنا اليمان ،ثم
ق{ ]العلق ،[1:فأمره أن خَل َ
ك اّلِذي َ
سِم َرّب َ تعلمنا القرآن ،فازددنا إيماًنا .ولهذا كان أول ما أنزل ال على نبيه{:اْقَرْأ ِبا ْ
ن ِم ْ
ن سا َ
لن َ
خَلقَ ا ِْ
ق َ
خَل َ
ك اّلِذي َ
سِم َرّب َ يقرأ باسم ال ،فتضمن هذا المر بذكر ال ،وما نزل من الحق ،وقال{:اْقَرْأ ِبا ْ
ن َما َلْم َيْعَلْم{ ]العلق1 :ـ . [ 5سا َ
لن َ
عّلَم ا ِْ
عّلَم ِباْلَقَلِم َ
لْكَرُم اّلِذي َ
ك ا َْ
ق اْقَرْأ َوَرّب َ
عَل ٍ
َ
وحقيقة المر :أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى ،طالب سائل ،فبذكر ال والفتقار إليه يهديه ال ويدله،
ل إل من هديته ،فاستهدوني أهدكم( ،وكما كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :اللهم ضا ّ
كما قال) :يا عبادي ،كلكم َ
رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ،فاطر السموات والرض ،عالم الغيب والشهادة ،أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون ،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ،إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم(.
ومما يوضح ذلك :أن الطالب للعلم بالنظر والستدلل ،والتفكر والتدبر ،ل يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده
العلم بالمدلول عليه ،ومتى كان العلم مستفاًدا بالنظر ،فل بد أن يكون عنـد الناظر مـن العلـم المذكـور الثابـت في قلبه
ل وسبًبا للتفكر الذي يطلب به معلوًما آخر؛ ولهذا كان الذكر ما ل يحتاج حصوله إلى نظر ،فيكون ذلك المعلوم أص ً
ل ِقَياًما
نا ّ متعلًقا بال؛ لنه ـ سبحانه ـ هو الحق المعلوم ،وكان التفكر في مخلوقاته ،كما قال ال تعالى} :اّلِذي َ
ن َيْذُكُرو َ
ض{ ]آل عمران.[191: لْر ِت َوا َ
سَماَوا ِ
ق ال ّ
خْل ِ
ن ِفي َ
جُنوِبِهْم َوَيَتَفّكُرو َ
ى ُ
عَل َ
َوُقُعوًدا َو َ
وقد جاء الثر) :تفّكروا في المخلوق ول تتفكروا في الخالق(؛ لن التفكير والتقدير يكون في المثال المضروبة،
والمقاييس ،وذلك يكون في المور المتشابهة ،وهي المخلوقات .
وأما الخالق ـ جل جلله ،سبحانه وتعالى ـ فليس له شبيه ول نظير ،فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه،
وإنما هو معلوم بالفطرة ،فيذكره العبد .وبالذكر ،وبما أخبر به عن نفسه ،يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة ،ل
تنال بمجرد التفكير والتقدير ـ أعني من العلم به نفسه ،فإنه الذي ل تفكير فيه.
فأما العلم بمعاني ما أخبر به ،ونحو ذلك ،فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة؛ ولهذا كان كثير من
أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملزمة الذكر ،ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق .وهذا حسن ،إذا ضموا
إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك ،وكثير من أرباب النظر والكلم يأمرون بالتفكر والنظر ،ويجعلون ذلك هو
الطريق إلى معرفة الحق.
والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل ـ كما تقدم ـ فكل من الطريقين فيها حق ،لكن يحتاج إلى الحق الذي في
الخرى ،ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل ،وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون ،وقد بسطنا الكلم
في هذا في غير هذا الموضع ،وبينا طرق أهل العبادة والرياضة والذكر ،وطريق أهل الكلم والنظر والستدلل،
وما في كل منهما من مقبول ومردود ،وبينا ما جاءت به الرسالة من الطريق الكاملة الجامعة لكل حق ،وليس هذا
موضع بسط ذلك.
وإنما المقصود هنا أن النسان محس بأنه عالم ،يجد ذلك ويعرفه بغير واسطة أحد،كما يحس بغير ذلك.
وحصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم ،فالجسم يحس بالطعام والشراب ،وكذلك القلوب تحس بما يتنزل
إليها من العلوم التي هي طعامها ،وشرابها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته،
ل َزَبًدا ّراِبًيا َوِمّما ُيوِقُدو َ
ن سْي ُ
ل ال ّ
حَتَم َ
ت َأْوِدَيٌة ِبَقَدِرَها َفا ْ
ساَل ْ
سَماء َماء َف َ
ن ال ّ وإن مأدبة ال هي القرآن( ،وكما قال تعالىَ} :أنَز َ
ل ِم َ
َعَلْيِه ِفي الّناِر اْبِتَغاء ِحْلَيٍة َأْو َمَتاٍع َزَبٌد ّمْثُلُه{ ]الرعد ،[17:وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى ال عليه
ضا ،فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت وسلم ،قال) :مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أر ً
الكل والعشب الكثير ،وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا ،وكانت منها طائفة إنما هي قيعان ل
تمسك ماء ول تنبت كل فذلك مثل من فقه في دين ال ،ونفعه ما بعثني ال به من الهدى والعلم ،ومثل من لم يرفع
سا ،ولم يقبل هدى ال الذي أرسلت به(. بذلك رأ ً
فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الرض.
وكما أن ل ملئكة موكلة بالسحاب والمطر ،فله ملئكة موكلة بالهدى والعلم ،هذا رزق القلوب وقوتها ،وهذا رزق
الجساد وقوتها ،قال الحسن البصري في قوله تعالىَ} :وِمّما َرَزْقَناُهْم ُينِفُقوَن{ ]البقرة ،3:النفال ،3:الحج،35:
القصص ،54:السجدة ،16:الشورى ،[38:قال :إن من أعظم النفقة نفقة العلم ،أو نحو هذا الكلم .وفي أثر آخر:
نعمت العطية ،ونعمت الهدية ،الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم .وفي أثر آخر عن أبي
الدرداء :ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين ،فيتفرقون وقد نفعهم ال بها .أو ما يشبه
هذا الكلم.
جَرة قال :أل أهدي لك هدية؟ فذكر الصلة على النبي صلى ال عليه وسلم ،وروى ابن ماجه في عْ
وعن كعب بن ُ
سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال ) :أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علًما ،ثم يعلمه أخاه
المسلم( .وقال معاذ بن جبل :عليكم بالعلم ،فإن طلبه عبادة ،وتعلمه ل حسنة ،وبذله لهله قربة ،وتعليمه لمن ل يعلمه
صدقة ،والبحث عنه جهاد ،ومذاكرته تسبيح.
ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شىء ،حتى الحيتان في البحر ،وال وملئكته يصلون على معلم الناس الخير،
لما في ذلك من عموم النفع لكل شىء .وعكسه كاتمو العلم ،فإنهم يلعنهم ال ويلعنهم اللعنون ،قال طائفة من السلف:
طر بسبب طُر ،فتقول البهائم :اللهم عصاة بني آدم ،فإنا منعنا الَق ْ
إذا كتم الناس العلم ،فعمل بالمعاصي أحتبس الَق ْ
ذنوبهم.
وإذا كان علم النسان بكونه عالًما مرجعه إلى وجوده ذلك ،وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة ،لم
يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس ،بأنه ليس بعلم بغير حجة ،فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك ل يقتضي أن
الناس لم يجدوا ذلك ،ل سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم ،عمن ل يشكون في علمه
وصدقه ومعرفته بما يقول.
وهذا حال أئمة المسلمين وسلف المة ،وحملة الحجة ،فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم
ي[ لما دخل عليه متكلمان :أحدهما :أبو عبد ال الضروري ،كما في الحكاية المحفوظة عن ]نجم الدين الُعْكَبر ّ
الرازي ،والخر :من متكلمي المعتزلة ،وقال :يا شيخ ،بلغنا أنك تعلم علم اليقين ،فقال :نعم ،أنا أعلم علم اليقين .فقال:
ل؟ ـ وأظن الحكاية كيف يمكن ذلك ،ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر ،فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الخر دلي ً
في تثبيت السلم ـ فقال :ما أدري ما تقولن ،ولكن أنا أعلم علم اليقين .فقال :صف لنا علم اليقين ،فقال :علم اليقين ـ
عندنا ـ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعل يقولن :واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن
ردها؟! ويستحسنان هذا الجواب.
وذلك؛ لن طريق أهل الكلم تقسيم العلوم إلى ضروري وكسبي ،أو بديهي ونظري.
فالنظري الكسبي :لبد أن يرد إلى مقدمات ضرورية أو بديهية ،فتلك ل تحتاج إلى دليل ،وإل لزم الدور أو التسلسل.
والعلم الضروري :هو الذي يلزم نفس المخلوق لزوًما ل يمكنه النفكاك عنه ،فالمرجع في كونه ضرورًيا إلى أنه
يعجز عن دفعه عن نفسه.
فأخبر الشيخ أن علومهم ضرورية ،وأنها ترد على النفوس على وجه تعجز عن دفعه ،فقال له :ما الطريق إلى ذلك؟
فقال :تتركان ما أنتما فيه ،وتسلكان ما أمركما ال به من الذكر والعبادة .فقال الرازي :أنا مشغول عن هذا .وقال
المعتزلي :أنا قد احترق قلبي بالشبهات ،وأحب هذه الواردات ،فلزم الشيخ مدة ،ثم خرج من محل عبادته ،وهو يقول:
وال يا سيدي ،ما الحق إل فيما يقوله هؤلء المشبهة ـ يعني :المثبتين للصفات ،فإن المعتزلة يسمون الصفاتية مشبهة
ـ وذلك أنه علم علًما ضرورًيا ل يمكنه دفعه عن قلبه أن رب العالم لبد أن يتميز عن العالم ،وأن يكون بائًنا منه ،له
صفات تختص به ،وأن هذا الرب الذي تصفه الجهمية إنما هو عدم محض.
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني ]-هو أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة ال بن
أبي الفتح الهمداني ،والمالكي ،ولد سنة 546هـ ،وأقام بالقاهرة مدة ثم توجه إلى دمشق ،وروى الكثير ،وكان ثقة
حا من أهل القرآن ،قيل :إنه توفى سنة 636هـ بدمشق- [.لبي المعالي الجويني ،لما أخذ يقول على المنبر :كانصال ً
ال ول عرش ،فقال :يا أستاذ ،دعنا من ذكر العرش ـ يعني :لن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة
التي نجدها في قلوبنا ،فإنه ما قال عارف قط]:يا ال[ إل وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو ،ل تلتفت يمنة ول يسرة،
فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال :فلطم أبو المعالي على رأسه ،وقال :حيرني الهمداني ،حيرني الهمداني،
ونزل.
وذلك لن نفس استوائه على العرش ـ بعد أن خلق السموات والرض في ستة أيام ـ علم بالسمع ،الذي جاءت به
الرسل ،كما أخبر ال به في القرآن والتوراة.
وأما كونه عالًيا على مخلوقاته بائنا منهم ،فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية ،التي يشترك فيها جميع بني آدم.
وكل من كان بال أعرف ،وله أعبد ،ودعاؤه له أكثر ،وقلبه له أذكر ،كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل،
ل ،والشريعة تفصله وتبينه ،وتشهد بما ل تستقل الفطرة
فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة ،فإن الفطرة تعلم المر مجم ً
به ،فهذا هذا ،وال أعلم.
فصــل
والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم
ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية ،والمسائل العملية الرادية تجد المتكلم قد
يطرد قياسه طرًدا مستمًرا فيكون في ظاهر المر أجود ممن نقضها ،وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد
يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع ،مع استشعار التناقض تارة ،وبدون استشعاره تارة ،وهو الغلب .وربما
يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها ،يظهر أنه دون الول في العلم والخبرة وطرد
القول ،وليس كذلك ،بل هو خير من الول .فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسًدا في أصله؛ لمخالفة النص
ضا من هذا الذي نقضه .وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس والقياس الصحيح ،فالذي طرده أكثر فساًدا وتناق ً
ليس هو في نفس المر بحق ،وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس ،وهذا يسميه الفقهاء في
مواضع كثيرة :الستحسان .فتجد القائلين بالستحسان ،الذي تركوا فيه القياس لنص خيًرا من الذين طردوا القياس
وتركوا النص.
ولهذا يروى عن أبي حنيفة ،أنه قال :ل تأخذوا بمقاييس ُزَفر ،فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلل وحللتم الحرام،
فإن زفر كان كثير الطرد ،لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص.
وكان أبو يوسف نظره بالعكس ،كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها
سا ضعيًفا عند التأمل ،وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد
قياسية ،ول يكون إل قيا ً
عليها ،عامتها اتبع فيها النصوص والقيسة الصحيحة؛ لن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز ،واستفاد
من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة ،وكان يقول :لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما
رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إل اتباع الشريعة ،لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه.
ضا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالدلة المعتمدة،
وهذا ـ أي ً
فإن الموافقة فيه توجب طرده ،ثم أهل النصوص قد ينقضونه ،والذين ل يعلمون النصوص يطردونه.
وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ،قد يوافقونهم على
قياس فيه نفي ،ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص ،والمثبتة ل تفعل ذلك ،بل لبد من القول بموجب
النص ،فربما قالوا ببعض معناها ،وربما فرقوا بفرق ضعيف.
وأصل ذلك :موافقة أولئك على القياس الضعيف ،وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك.
وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالًما في الفعال ،فإن الفعال ل تقع إل عن إرادة ،فالظالم يطرد إرادته فيصيب من
أعانه ،أو يصيب ظلًما ل يختاره هذا ،فيريد المعين أن ينقض الطرد ،ويخص علته؛ ولهذا يقال :من أعان ظالًما ُبلى
به ،وهذا عام في جميع الظلمة من أهل القوال والعمال ،وأهل البدع والفجور .وكل من خالف الكتاب والسنة :من
خبر أو أمر أو عمل ،فهو ظالم.
فإن ال أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط ،ومحمد صلى ال عليه وسلم أفضلهم ،وقد بين ال ـ سبحانه ـ له من القسط
ما لم يبينه لغيره ،وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره ،فصار يفعل ويأمر بما ل يأمر به غيره ويفعله.
وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد ل يعلمون حقيقة القسط ول يقدرون على فعله ،بل ما كان إليه أقرب وبه
ط{ ]الرحمن،[9 :سِ أشبه كان أمثل ،وهي الطريقة المثلى .وقد بسطنا هذا في مواضع ،قال تعالىَ} :وَأِقيُموا اْلَوْز َ
ن ِباْلِق ْ
طْعُتْم{ ]التغابن [16:وقال صلى ال عليه سَت َ سَعَها{ ]البقرة ،[286:وقالَ} :فاّتُقوا ا َّ
ل َما ا ْ ل ُو ْ
سا ِإ ّ
ل َنْف ً
فا ّ وقالَ } :
ل ُيَكّل ُ
وسلم) :إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم( .
والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة ،والجزم الحق
والقول الثابت ،والقطع بما هم عليه أمر ل ينازع فيه إل من سلبه ال العقل والدين.
وهب أن المخالف ل يسلم ذلك ،فل ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك ،ويقولون :إنهم يجدون ذلك ،وهو وطائفته
يخبرون بضد ذلك ،ول يجدون عندهم إل الريب .فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلمها موصوًفا بالحشو؟ أو يكون
أولى بالجهل والضلل ،والفك والمحال؟ وكلم المشائخ والئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم
من أن نطيل به الخطاب.
ل من قول إلى قول ،وجزًما بالقول في موضع ،وجزًما بنقيضه، الوجه الثاني :أنك تجد أهل الكلم أكثر الناس انتقا ً
وتكفير قائله في موضع آخر ،وهذا دليل عدم اليقين ،فإن اليمان كما قال فيه]قيصر[ لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع
طة له ،بعد أن يدخل فيه ؟ قال :ل .قال :وكذلك اليمان
خَ
سْ
النبي صلى ال عليه وسلم :هل يرجع أحد منهم عن دينه ُ
إذا خالط بشاشته القلوب ،ل يسخطه أحد ،ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ :من جعل دينه
ضا للخصومات أكثر التنقل. غر ً
وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم ،ول صالح عامتهم ،رجع قط عن قوله واعتقاده ،بل هم أعظم
الناس صبًرا على ذلك ،وإن امتحنوا بأنواع المحن ،وفتنوا بأنواع الفتن ،وهذه حال النبياء وأتباعهم من المتقدمين،
كأهل الخدود ونحوهم ،وكسلف هذه المة من الصحابة والتابعين ،وغيرهم من الئمة ،حتى كان مالك ـ رحمه ال ـ
يقول :ل تغبطوا أحًدا لم يصبه في هذا المر بلء .يقول :إن ال لبد أن يبتلي المؤمن ،فإن صبر رفع درجته ،كما قال
صَدُقوا َوَلَيْعَلَم ّ
ن ن َ
ل اّلِذي َ
ن ا ُّ
ن ِمن َقْبِلِهْم َفَلَيْعَلَم ّ
ن َوَلَقْد َفَتّنا اّلِذي َ
ل ُيْفَتُنو َ
س َأن ُيْتَرُكوا َأن َيُقوُلوا آَمّنا َوُهْم َ
ب الّنا ُ
س َ تعالى} :الم َأ َ
حِ
صَبُروا َوَكاُنوا ِبآَياِتَنا ُيوِقُنوَن{ ]السجدة،[24: ن ِبَأْمِرَنا َلّما َ ن{ ]العنكبوت1:ـ ،[3وقال تعالىَ} :و َ
جَعْلَنا ِمْنُهْم َأِئّمًة َيْهُدو َ اْلَكاِذِبي َ
صْوا ِبالصّْبِر{ ]سورة ق َوَتَوا َ حّ صْوا ِباْل َ ت َوَتَوا َ حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َ ل اّلِذي َسٍر ِإ ّ
خْ
ن َلِفي ُ
سا َ
لن َن ا ِْ وقال تعالىَ} :واْلَع ْ
صِر ِإ ّ
العصر[.
ومن صبر من أهل الهواء على قوله ،فذاك لما فيه من الحق ،إذ لبد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي
جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ،ويوافق عليه أهل السنة والحديث ،ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض ل يقبل
بحال.
وبالجملة ،فالثبات والستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلم والفلسفة ،بل
المتفلسف أعظم اضطراًبا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن النبياء ما ليس عند
المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل :أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل :ابن سينا وأمثاله.
وأيضا ،تجد أهل الفلسفة والكلم أعظم الناس افتراًقا واختلًفا ،مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام
عليه البرهان .وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلًفا ،وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى
التفاق والئتلف أقرب ،فالمعتزلة أكثر اتفاًقا وائتلًفا من المتفلسفة؛ إذ للفلسفة في اللهيات والمعاد والنبوات ،بل
وفي الطبيعيات والرياضيات ،وصفات الفلك ،من القوال ما ل يحصيه إل ذو الجلل.
وقد ذكر من جمع مقالت الوائل ،مثل أبي الحسن الشعري في كتاب المقالت ،ومثل القاضي أبي بكر في كتاب
]الدقائق[ من مقالتهم ،بقدر ما يذكره الفارابي ،وابن سينا ،وأمثالهما أضعاًفا مضاعفة.
وأهل الثبات من المتكلمين ـ مثل الكلبية والكرامية والشعرية ـ أكثر اتفاًقا وائتلًفا من المعتزلة ،فإن في المعتزلة
صّنف في ضا ،حتى ليكفر التلميذ أستاذه ،من جنس ما بين الخوارج ،وقد ذكر من َ من الختلفات وتكفير بعضهم بع ً
فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه ،ولست تجد اتفاًقا وائتلًفا إل بسبب اتباع آثار النبياء من القرآن والحديث،
ل َمن
ن ِإ ّ
خَتِلِفي َ
ن ُم ْ وما يتبع ذلك ،ول تجد افتراًقا واختلًفا إل عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه ،قال تعالىَ} :و َ
ل َيَزاُلو َ
ك َخَلَقُهْم{ ]هود ،[119، 118:فأخبر أن أهل الرحمة ل يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع النبياء قو ً
ل ك َوِلَذِل َ
حَم َرّب َ
ّر ِ
ل ،وهم أهل القرآن والحديث من هذه المة ،فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك. وفع ً
ولهذا لما كانت الفلسفة أبعد عن اتباع النبياء ،كانوا أعظم اختلًفا ،و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ
ضا ـ أبعد عن السنة والحديث ،كانوا أعظم افتراًقا في هذه ،لسيما الرافضة ،فإنه يقال :إنهم أعظم الطوائف
أي ً
اختلًفا؛ وذلك لنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة ،بخلف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم.
وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم ،وأهل الكلم وأئمتهم ،قفى بذكر
أئمة هؤلء ووصف أقوالهم وأعمالهم ،ووصف أئمة هؤلء ،وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم
أهل الحق والهدى ،وأن غيرهم أولى بالضلل والجهل والحشو والباطل .
ضا ،المخالفون لهل الحديث هم مظنة فساد العمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق ،وإما عن مرض في القلب وأي ً
وضعف إيمان ،ففيهم من ترك الواجبات ،واعتداء الحدود والستخفاف بالحقوق وقسوة القلب ،ما هو ظاهر لكل أحد،
وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم ،وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة ،ففي زهد بعض العامة من أهل السنة
وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه.
ومن المعلوم أن العلم أصل العمل ،وصحة الصول توجب صحة الفروع ،والرجل ل يصدر عنه فساد العمل إل
لشيئين؛ إما الحاجة ،وإما الجهل ،فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فل يفعله ،اللهم إل من غلب هواه عقله واستولت
عليه المعاصي ،فذاك لون آخر وضرب ثان.
وأيضًا ،فإنه ل يعرف من أهل الكلم أحد إل وله في السلم مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه ،وفي
التعميم ما يغني عن التعيين ،فأي فريق أحق بالحشو والضلل من هؤلء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم ،كما يوجد
النفاق فيهم كثيًرا.
وهذا إذا كان في المقالت الخفية فقد يقال :إنه فيها مخطئ ضال ،لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ،لكن ذلك يقع
في طوائف منهم في المور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين ،بل اليهود
والنصارى يعلمون أن محمًدا صلى ال عليه وسلم بعث بها ،وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة ال وحده ل شريك له،
ونهيه عن عبادة أحد سوى ال من الملئكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والصنام وغير ذلك ،فإن هذا أظهر
شعائر السلم ،ومثل أمره بالصلوات الخمس ،وإيجابه لها وتعظيم شأنها ،ومثل معاداته لليهود والنصارى
والمشركين والصابئين والمجوس ،ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك.
ثم تجد كثيًرا من رؤسائهم وقعوا في هذه المور ،فكانوا مرتدين ،وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى
السلم ،فقد حكى عن الجهم بن صفوان :أنه ترك الصلة أربعين يوًما ل يرى وجوبها ،كرؤساء العشائر مثل القرع
بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن السلم ودخل فيه ،ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب،
وفيهم من لم يكن كذلك.
أو يقال :هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد ال بن أبي سرح ،الذي كان كاتب الوحي ،فارتد ولحق بالمشركين ،فأهدر
النبي صلى ال عليه وسلم دمه عام الفتح ،ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على السلم.
فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم ،أحسن أحواله :أن يكون مسلًما ،فكثير من رؤوس هؤلء هكذا ،تجده تارة
يرتد عن السلم ردة صريحة ،وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق ،وقد يكون له حال ثالثة يغلب اليمان فيها
النفاق ،لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق ،والحكايات عنهم بذلك مشهورة ،وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرًفا في أول
]مختلف الحديث[ ،وقد حكى أهل المقالت لبعضهم عن بعض من ذلك طرًفا ،كما يذكره أبو عيسى الوراق
والنوبختي وأبو الحسن الشعري ،والقاضي أبو بكر بن الباقلني ،وأبوعبد ال الشهرستاني ،وغيرهم ،ممن يذكر
مقالت أهل الكلم.
وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن السلم ،كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب
والصنام ،وأقام الدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه ،وهذه ردة عن السلم باتفاق المسلمين ،وإن كان قد
يكون تاب منه وعاد إلى السلم.
ومن العجب ،أن أهل الكلم يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ،ليسوا أهل نظر واستدلل ،وأنهم ينكرون
حجة العقل .وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة ،وهذا مما ينكرونه عليهم.
فيقال لهم :ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث ل ينكرون ما جاء به القرآن ،هذا أصل متفق عليه بينهم ،وال قد
أمر بالنظر والعتبار والتفكر والتدبر في غير آية ،ول يعرف عن أحد من سلف المة ول أئمة السنة وعلمائها أنه
أنكر ذلك ،بل كلهم متفقون على المر بما جاءت به الشريعة ،من النظر والتفكر والعتبار والتدبر وغير ذلك ،ولكن
وقع اشتراك في لفظ ]النظر والستدلل[ ولفظ ]الكلم[ ،فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلمهم
واستدللهم ،فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لنكار جنس النظر والستدلل.
وهذا كما أن طائفة من أهل الكلم يسمى ما وضعه ]أصول الدين[ ،وهذا اسم عظيم ،والمسمى به فيه من فساد الدين
ما ال به عليم .فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك ،قال المبطل :قد أنكروا أصول الدين .وهم لم ينكروا ما يستحق أن
يسمى أصول الدين ،وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين ،وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل ال بها
من سلطان ،فالدين ما شرعه ال ورسوله ،وقد بين أصوله وفروعه ،ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع
الدين دون أصوله ،كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع ،فهكذا لفظ النظر ،والعتبار ،والستدلل.
وعامة هذه الضللت إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة،كما كان الزهري يقول :كان علماؤنا يقولون:
العتصام بالسنة هو النجاة ،وقال مالك :السنة سفينة نوح ،من ركبها نجا ،ومن تخلف عنها غرق.
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم ،الذي يوصل العباد إلى ال .والرسول هو الدليل الهادي
عًيا ِإَلى ا ِّ
ل شًرا َوَنِذيًرا َوَدا ِ
شاِهًدا َوُمَب ّ
ك َ ريت :الدليل الحاذق[ -في هذا الصراط ،كما قال تعالىِ}:إّنا َأْر َ
سْلَنا َ خّ خّريت]-ال ِ ال ِ
صَرا ٍ
ط ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ ل َكِبيًرا{ ]الحزاب ،[46، 45:وقال تعالىَ} :وِإّن َ ضً
ل َف ْ ن ا ِّ ن َلُهم ّم َن ِبَأ ّشِر اْلُمْؤِمِني َ
جا ّمِنيًرا َوَب ِّبِإْذِنِه َوسَِرا ً
صيُر الُموُر{ ]الشورى ،[53،52:وقال تعالىَ} :وَأ ّ
ن ل َت ِ
ل ِإَلى ا ِّ
ض َأ َ
لْر ِ
ت َوَما ِفي ا َْ سَماَوا ِ ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ ط ا ِّصَرا ِسَتِقيٍم ِّم ْ
ق ِبُكْم َعن َسِبيِلِه{ ]النعام ،[153:وقال عبد ال بن مسعود :خط رسول ل َفَتَفّر َسُب َ
ل َتّتِبُعوْا ال ّ
سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َطي ُم ْ صَرا ِ
َهـَذا ِ
سُبل على كل سبيل منها
طا عن يمينه وشماله ،ثم قال) :هذا سبيل ال ،وهذه ُ طا ،وخط خطو ً ال صلى ال عليه وسلم خ ً
ق ِبُكْم َعن َسِبيِلِه{ .
ل َفَتَفّر َ
سُب َ
ل َتّتِبُعواْ ال ّ
سَتِقيًما َفاّتِبُعوُه َو َ
طي ُم ْ
صَرا ِ شيطان يدعو إليه( .ثم قرأَ} :وَأ ّ
ن َهـَذا ِ
وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء ال ـ هذا المثال ،وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ،ثم المعتزلة ،ثم الجهمية،
والرافضة ،ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلم ،مثل الكرامية والكلبية والشعرية وغيرهم ،وأن كل منهم له
سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ،ويدعي أن سبيله هو الصواب ،وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي
ضربه المعصوم ،الذي ل يتكلم عن الهوى ،إن هو إل وحي يوحى.
والعجب أن من هؤلء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله
حا بتقديمه في
وصرح بتقديمه على الحديث ،وجعل عقله ميزاًنا للحديث ،فليت شعري هل عقله هذا كان مصر ً
الشريعة المحمدية ،فيكون من السبيل المأمور باتباعه ،أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فل
حول ول قوة إل بال.
وهؤلء التحادية وأمثالهم ،إنما أتوا من قلة العلم واليمان بصفات ال التي يتميز بها عن المخلوقات ،وقلة اتباع
السنة وطريقة السلف في ذلك ،بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة ،تلقًيا لذلك عن متفلسف أو متكلم ،فيكون ذلك
العتقاد صاًدا لهم عن سبيل ال ،كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها ،وتسلك الصراط المستقيم إليه ،وتعبده ـ كما
فطروا عليه ،وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك ،حتى تجد خلًقا من مقلدة
الجهمية يوافقهم بلسانه ،وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة ،وأكثرهم ل يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم ،بل
ل.
يجعلونه تنزيًها مطلًقا مجم ً
مثل أن يفهم من قولهم :ليس في جهة ،ول له مكان ،ول هو في السماء ،أنه ليس في جوف السموات ،وهذا معنى
صحيح ،وإيمانه بذلك حق ،ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك ،وليس كذلك ،بل مرادهم :أنه ما
ل ،ول فوق السموات إل عدم محض ،ليس هناك إله يعبد ،ول رب يدعى ويسأل ،ول خالق فوق العرش شيء أص ً
عرج بالنبي إلى ربه أصل ،هذا مقصودهم. خلق الخلئق ،ول ُ
وهذا هو الذي أوقع التحادية في قولهم :هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجوًدا إل هذه الموجودات ،إذا لم
يكن فوقها شيء آخر ،وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية :أنه ليس إل هذا الوجود المخلوق ،أو وجود
آخر مباين له متميز عنه ،لسيما إذا علموا أن الفلك مستديرة وأن العلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إل
هذا الوجود المخلوق ،أو موجود فوقه.
فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ول فوق العالم شيء ،لزم أن يقولوا :هو هذا الوجود المخلوق ،كما قال
التحادية .وهذه بعينها هي حجة التحادية .وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون :هو في كل
مكان ،وليس هو في مكان .وليختص بشيء ،يجمعون دائًما بين القولين المتناقضين؛ لنهم يريدون إثبات موجود،
وليس عندهم شيء فوق العالم ،فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه .ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق،
جا عنه ،أو يقولون :هو وجود المخلوقات دون أعيانها ،أو يقولون :هو فيقولون :ليس هو في العالم كما ليس خار ً
الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل ،وهو إنكار موجود حقيقي مباين
ل عليها .وإنما يفترقون فيما يثبتونه ،ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض ،فيقولون: للمخلوقات عا ٍ
هو في العالم ،وليس هو فيه ،أو هو العالم وليس إياه ،أو يغلبون الثبات فيقولون :بل هو نفس الوجود ،أو النفي،
جا عنه ،أو يدينون بالثبات في حال وبالنفي في حال ،إذا غلب على أحدهم عقله فيقولون :ليس في العالم ول خار ً
جد والعبادة رجح الثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو، غلب النفي ،وهو أنه ليس في العالم ،وإذا غلب عليه الو ْ
ل تجد جهمًيا إل على أحد هذه الوجوه الربعة ،وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل
.
وقد رأيت منهم ومن كتبهم ،وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء ال ،وكلهم على هذه الحوال ضالون
ن ال علينا باتباع سبيل
عن معبودهم وإلههم وخالقهم .ثم رأيت كلم السلف والئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك .فَم ّ
المؤمنين وآمنا بال وبرسوله ،وكل هؤلء يجد نفسه مضطربة في هذا العتقاد؛ لتناقضه في نفسه ،وإنما يسكن بعض
اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده ،أو خوفه من مخالفة أصحابه ،أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل.
وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ول هو العالم ،الذي ترده فطرهم وشهودهم
وعقولهم ،غير ما في الفطرة من القرار بصانع فوق العالم ،فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف ،وذاك إنكار
الفطرة بالباطل المنكر.
ومن هذا الباب :ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة :أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة،
والستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر :كان ال ول عرش ،ونفى الستواء ـ على ما عرف من قوله ،وإن كان في
آخر عمره رجع عن هذه العقيدة ،ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال :فقال الشيخ أبو جعفر :يا أستاذ ،دعنا
من ذكر العرش ـ يعني :لن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا :ما قال عارف
قط :يا أل إل وجد من قلبه معنى يطلب العلو ،ل يلتفت يمنة ول يسرة ،فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ فصرخ
أبو المعالي ،ووضع يده على رأسه ،وقال :حيرني الهمداني ،أو كما قال ،ونزل.
فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم ،فأخبر أن العرش والعلم باستواء ال عليه ،إنما أخذ من جهة الشرع وخبر
الكتاب والسنة ،بخلف القرار بعلو ال على الخلق من غير تعيين عرش ول استواء ،فإن هذا أمر فطري ضروري
نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو ال ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟!
والجارية التي قال لها النبي صلى ال عليه وسلم) :أين ال؟( قالت :في السماء .قال) :أعتقها فإنها مؤمنة( ،جارية
أعجمية ،أرأيت من فّقهها وأخبرها بما ذكرته؟ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها ال ـ تعالى ـ عليها ،وأقرها
النبي صلى ال عليه وسلم على ذلك ،وشهد لها باليمان.
فليتأمل العاقل ذلك يجده هادًيا له على معرفة ربه ،والقرار به كما ينبغي ،ل ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن
سول لهم الشيطان وأملى لهم.
ومن أمثلة ذلك :أن الذين لبسوا الكلم بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من السرار المصونة والعلوم
المخزونة ،ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين ،وجد فيه من الجهل والضلل ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلء ،حتى
قد يكذب بصدور ذلك عنهم ،مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه ]أبوعبد ال الرازي[ ،الذي احتذى فيه حذو ابن
سينا ،و]عين القضاة الهمداني[ ،فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة ،وترتيب ل يوجد في شيء
من كتب المسلمين ،ل في الحاديث الصحيحة ول الحسنة ،ول الضعيفة المروية عند أهل العلم ،وإنما وضعه بعض
السؤال والطرقية ،أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة.
ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة ،وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى
ما لم يسمع من عالم ،ول يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين ،وجعل معراج الرسول
ترقيه بفكره إلى الفلك ،وأن النبياء الذين رآهم هم الكواكب ،فآدم هو القمر ،وإدريس هو الشمس ،والنهار الربعة
هي العناصر الربعة ،وأنه عرف الوجود الواجب المطلق ،ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من السرار والمعارف التي
يجب صونها عن أفهام المؤمنين ،وعلمائهم ،حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية
التعجب ،وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك ،حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله،
وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه]:المطالب العالية[ ،وجمع فيه عامة آراء الفلسفة والمتكلمين.
وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلم والصول وغير ذلك ،مع الزهد والعبادة وحسن
القصد ،وتبحره في العلوم السلمية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب]الربعين[ ونحوه ،كتابه]:المضنون به على
غير أهله[ ،فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب ،وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه،
قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم ،ومن لم يعلم حقائق مقالت العباد ومقالت أهل الملل ،يعتقد أن ذاك هو السر الذي
كان بين النبي صلى ال عليه وسلم وأبي بكر ،وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي.
فإن أبا حامد كثيًرا ما يحيل في كتبه على ذلك النور اللهي ،وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد ،برياضتهم
وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم ،حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع.
وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه ،ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الضطراب وآتاه ال إيماًنا
ل ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة ،فيجد في كلم المشائخ والصوفية ما هو أقرب مجم ً
إلى الحق ،وأولى بالتحقيق من كلم الفلسفة والمتكلمين ،والمر كما وجده ،لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي
عنـد خاصة المة من العلوم والحوال ،وما وصل إليه السابقون الولون من العلم والعبادة ،حتى نالوا من المكاشفات
العلمية والمعاملت العبادية ما لم ينله أولئك.
فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق ،حيث لم يكن عنده طريق غيرها ،لنسداد الطريقة
الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها ،ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين ،حتى
حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة.
ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم ،وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه ،والذي حجب به عن حقيقة المتابعة
للرسالة ،وليس هو بعلم ،وإنما هو عقائد فلسفية وكلمية ،كما قال السلف :العلم بالكلم هو الجهل ،وكما قال أبو
يوسف :من طلب العلم بالكلم تزندق.
ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه ،حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلم ـ
فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون ]بداية الهداية[ من تصنيفه ،ويقول :إنما هو تقول عليه ،مع أن هذه الكتب مقبولها
أضعاف مردودها ،والمردود منها أمور مجملة ،وليس فيها عقائد ،ول أصول الدين.
وأما المضنون به على غير أهله ،فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه ،وأما أهل الخبرة به وبحاله،
ضا ،ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ
فيعلمون أن هذا كله كلمه ،لعلمهم بمواد كلمه ومشابهة بعضه بع ً
مضطربين ل يثبتون على قول ثابت؛ لن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق ،ولم
يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه المة ،الذين ورثوا عن الرسول صلى ال عليه وسلم العلم واليمان ،وهم أهل
حقائق اليمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب ال والعلم والفهم لحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم،
واتباع هذا العلم بالحوال والعمال المناسبة لذلك ،كما جاءت به الرسالة.
ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلح ]-هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي
الشهرزوري ،المعروف بابن الصلح ،الفقيه الشافعي ،ولد سنة 577هـ ،صنف في علوم الحديث ،وتوفي في سنة
643هـ بدمشق -[.يقول ـ فيما رأيته بخطه ـ :أبو حامد كثر القول فيه ومنه.
فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فل يلتفت إليها ،وأما الرجل فيسكت عنه ،ويفوض أمره إلى ال .
ومقصوده أنه ل يذكر بسوء؛ لن عفو ال عن الناسى والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب ،وذلك من أقرب
الشياء إلى هذا وأمثاله ،ولن مغفرة ال بالحسنات منه ومن غيره ،وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق
الذنوب ،فل يقدم النسان على انتفاء ذلك في حق معين إل ببصيرة ،لسيما مع كثرة الحسان والعلم الصحيح،
والعمل الصالح والقصد الحسن ،وهو يميل إلى الفلسفة ،لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات السلمية.
ولهذا ،فقد رد عليه علماء المسلمين ،حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي ،فإنه قال :شيخنا أبو حامد دخل في
بطن الفلسفة ،ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر.
وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه .ورد عليه أبو عبد ال المازري في كتاب
أفرده ،ورد عليه أبو بكر الطرطوشي ،ورد عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقه ،رد عليه كلمه في مشكاة النوار
ونحوه ،ورد عليه الشيخ أبو البيان ،والشيخ أبو عمرو بن الصلح ،وحذر من كلمه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي
وغيرهما ،ورد عليه ابن عقيل ،وابن الجوزي ،وأبو محمد المقدسي وغيرهم.
وهذا باب واسع ،فإن الخارجين عن طريقة السابقين الولين من المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان،
لهم في كلم الرسول ثلث طرق :طريقة التخييل ،وطريقة التأويل ،وطريقة التخييل.
فأهل التخييل :هم الفلسفة والباطنية ،الذين يقولون :إنه خيل أشياء ،ل حقيقة لها في الباطن ،وخاصية النبوة عندهم
التخييل.
وطريقة التأويل :طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم ،يقولون :إن ما قاله له تأويلت تخالف ما دل عليه
اللفظ ،وما يفهم منه ،وهو ـ وإن كان لم يبين مراده ول بين الحق الذي يجب اعتقاده ـ فكان مقصوده :أن هذا يكون
سبًبا للبحث بالعقل ،حتى يعلم الناس الحق بعقولهم ،ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك،
فلم يكن قصده لهم البيان والهداية ،والرشاد والتعليم ،بل قصده التعمية والتلبيس ،ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق
بعقلهم ،ويعرفوا حينئذ أن كلمه لم يقصد به البيان ،فيجعلوا حالهم في العلم مع عدمه خيًرا من حالهم مع وجوده.
وأولئك المتقدمون ،كابن سينا وأمثاله ،ينكرون على هؤلء ،ويقولون :ألفاظه كثيرة ،صريحة ل تقبل التأويل ،لكن
كان قصده التخييل ،وأن يعتقد الناس المر على خلف ما هو عليه.
وأما الصنف الثالث :الذين يقولون :إنهم أتباع السلف ،فيقولون :إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من
هذه اليات ،ول أصحابه يعلمون معنى ذلك ،بل لزم قولهم :أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث
الصفات ،بل يتكلم بكلم ل يعرف معناه ،والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون :إنهم لم يكونوا يعرفون معاني
النصوص ،بل يقولون ذلك في الرسول .وهذا القول من أبطل القوال ،ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله
ل{ ]آل عمران ،[7:ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويل ،وهو مخالف تعالىَ} :وَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ
لا ّ
للظاهر.
ثم هؤلء قد يقولون :تجري النصوص على ظاهرها ،وتأويلها ل يعلمه إل ال ،ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر،
وهذا تناقض منهم .وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط ،والطائفتان غالطتان في فهم الية.
وذلك أن لفظ ]التأويل[ قد صار بسبب تعدد الصطلحات ،له ثلثة معان:
أحدها :أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلم ،وإن وافق ظاهره .وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في
ق{
حّل َرّبَنا ِباْل َ
سُ
ت ُر ُ
جاء ْ
ل َقْد َ
سوُه ِمن َقْب ُ
ن َن ُ
ل اّلِذي َ
ل َتْأِويَلُه َيْوَم َيْأِتي َتْأِويُلُه َيُقو ُ
ن ِإ ّ
ظُرو َ الكتاب والسنة ،كقوله تعالىَ} :ه ْ
ل َين ُ
]العراف ،[53:ومنه قول عائشة :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده) :سبحانك
ل القرآن . اللهم ربنا ولك الحمد ،اللهم اغفر لي( ،يتأّو ُ
والثاني :يراد بلفظ التأويل :التفسير ،وهو اصطلح كثير من المفسرين ،ولهذا قال مجاهد ـ إمام أهل التفسير :إن
الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ،فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه ،وهذا مما يعلمه الراسخون.
والثالث :أن يراد بلفظ ]التأويل[ :صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك؛ لدليل منفصل
ل لم يكن في عرف السلف، يوجب ذلك .وهذا التأويل ل يكون إل مخالًفا لما يدل عليه اللفظ ويبينه .وتسمية هذا تأوي ً
ل طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلم ،وظن هؤلء أن قوله تعالى: وإنما سمى هذا وحده تأوي ً
ل{ ]آل عمران ،[7:يراد به هذا المعنى ،ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين :قوم يقولون :إنه لا ّ
}َوَما َيْعَلُم َتْأِويَلُه ِإ ّ
ل يعلمه إل ال .وقوم يقولون :إن الراسخين في العلم يعلمونه ،وكلتا الطائفتين مخطئة.
فإن هذا التأويل في كثير من المواضع ـ أو أكثرها وعامتها ـ من باب تحريف الكلم عن مواضعه ،من جنس تأويلت
القرامطة والباطنية .وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف المة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الرض،
شُهب.
ورموا في آثارهم بال ّ
وقد صنف المام أحمد كتاًبا في الرد على هؤلء ،وسماه] :الرد على الزنادقة والجهمية ،فيما شكت فيه من متشابه
القرآن وتأولته على غير تأويله[ فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه ،ولم يقل أحمد ول أحد من
الئمة :إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها ،ول قالوا :إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم
يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه.
والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملحدة ،فكيف يكون قوله في السلف؟ حتى
يدعي اتباعه ،وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته ،فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى
عدم إظهاره ،لما فيه من فساد الناس .وأما عند أهل العلم واليمان فل.
وقول النفاة باطل باطًنا وظاهًرا ،والرسول صلى ال عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك ،بل مات صلى ال عليه
وسلم وتركنا على المحجة البيضاء ،ليلها كنهارها ،ل يزيغ عنها إل هالك ،وأخبرنا أن كل ما حدث بعده من محدثات
المور فهو بدعة ،وكل بدعة ضللة .
فمن قال :من الشعر ما هو حكمة ،أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق ،كان قريًبا .أما إثبات الدعوى بمجرد
كلم منظوم من شعر أو غيره ،فيقال لصاحبه :ينبغي أن تبين أن السلف ل يقرون بمن انتحلتهم .وهذا ظاهر فيما
ذكره هو وغيره ،ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه ،ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم ،وعدل فيما نقل ،فإن
ل.
الناقل لبد أن يكون عالًما عد ً
فإن فرض أن أحًدا نقل مذهب السلف كما يذكره ،فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف ،كأبي المعالي ،وأبي حامد
الغزالي ،وابن الخطيب وأمثالهم ،ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة ،فض ً
ل
عن خواصها ،ولم يكن الواحد من هؤلء يعرف البخاري ومسلًما وأحاديثهما ،إل بالسماع ،كما يذكر ذلك العامة ،ول
يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث ،وبين الحديث المفترى المكذوب ،وكتبهم أصدق شاهد
بذلك ففيها عجائب.
وتجد عامة هؤلء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك ،إما عند الموت وإما قبل
الموت ،والحكايات في هذا كثيرة معروفة.
هذا أبو الحسن الشعري ،نشأ في العتزال أربعين عاًما يناظر عليه ،ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة،
وبالغ في الرد عليهم.
وهذا أبو حامد الغزالي ـ مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلم والفلسفة ،وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف
ـ ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ،ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف ،وإن كان بعد ذلك رجع
إلى طريقة أهل الحديث ،وصنف ]إلجام العوام عن علم الكلم[.
وكذلك أبو عبد ال محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات :لقد تأملت الطرق الكلمية
ل ،ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الثبات: ل ،ول تروي غلي ً والمناهج الفلسفية ،فما رأيتها تشفي علي ً
صاِلُح َيْرَفُعُه{ ]فاطر ،[10:واقرأ في النفي:
ل ال ّ
ب َواْلَعَم ُ
طّي ُ سَتَوى{ ]طهِ} ،[5:إَلْيِه َي ْ
صَعُد اْلَكِلُم ال ّ شا ْ
عَلى اْلَعْر ِ
ن َ
حمَ ُ
}الّر ْ
طوَن ِبِه ِعْلًما{ ]طهَ} ،[110 :هْل َتْعَلُم َلُه َسِمّيا{ ]مريم ،[65:ثم قال :ومن
حي ُ يٌء{ ]الشورىَ} ،[11:و َ
ل ُي ِ ش ْ
س كَِمْثِلِه َ
}َلْي َ
جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ،وكان يتمثل كثيًرا:
ولـم نستفد مــن بحثنا طول عمـرنــا ** سوى أن جمـعنا فيـه قيـل وقالـوا
وهذا إمام الحرمين ،ترك ما كان ينتحله ويقرره ،واختار مذهب السلف .وكان يقول :يا أصحابنا ،ل تشتغلوا بالكلم !
فلو أنى عرفت أن الكلم يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به ،وقال عند موته :لقد خضت البحر الخضم ،وخليت أهل
السلم وعلومهم ،ودخلت فيما نهوني عنه .والن :إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لبن الجويني ،وها أنذا أموت
على عقيدة أمي ـ أو قال :عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال أبو عبد ال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ]-هو شيخ أهل الكلم والحكمة ،برع في الفقه ،وكان قوي
الفهم ،مليح الوعظ ،صنف كتاب ،نهاية القدام و كتاب الملل والنحل ،وتوفي سنة :[-645أخبر أنه لم يجد عند
الفلسفة والمتكلمين إل الحيرة والندم ،وكان ينشد:
لعمري لقد طفت المعاهد كلـها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
وابن الفارض ـ من متأخري التحادية ،صاحب القصيدة التائية المعروفة بـ ]نظم السلوك[ ،وقد نظم فيها التحاد
نظًما رائق اللفظ ،فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب .وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك! ال أعلم بها وبما
اشتملت عليه وقد نفقت كثيًرا ،وبالغ أهل العصر في تحسينها والعتداد بما فيها من التحاد ـ لما حضرته الوفاة أنشد:
ولقد كان من أصول اليمان :أن يثبت ال العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة ،كما قال تعالىَ}:أَلْم َتَر َكْيفَ
ل ِللّنا ِ
س لْمَثا َلا َبا ّ ضِر ُ ن َرّبَها َوَي ْ ن ِبِإْذ ِ
حي ٍ
ل ِ سَماء ُتْؤِتي ُأُكَلَها ُك ّ
عَها ِفي ال ّ
ت َوَفْر ُ
صُلَها َثاِب ٌطّيَبٍة َأ ْ
جرٍة َ شَطّيَبًة َك َ
ل َكِلَمًة َ
ل َمَث ً
با ّ ضَر َ َ
حَياِة
ت ِفي اْل َل الّثاِب ِ
ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ
ل اّلِذي َ
تا ّ ض َما َلَها ِمن َقَراٍر ُيَثّب ُ لْر ِ قا َ
ت ِمن َفْو ِ جُتّث ْ
خِبيَثٍة ا ْ
جَرٍة َ شَخِبيَثٍة َك َ
ل َكِلَمٍة َ
ن َوَمث َُلَعّلُهْم َيَتَذّكُرو َ
ل َما َيَشاء{ ]إبراهيم24:ـ .[27 لا ّ ن َوَيْفَع ُ
ظاِلِمي َ
ل ال ّلا ّضّ خَرِة َوُي ِ
الّدْنَيا َوِفي ال ِ
والكلمة أصل العقيدة؛ فإن العتقاد هو الكلمة التي يعتقدها المرء ،وأطيب الكلم والعقائد كلمة التوحيد واعتقاد أن ل
إله إل ال ،وأخبث الكلم والعقائد كلمة الشرك ،وهو اتخاذ إله مع ال ،فإن ذلك باطل ل حقيقة له؛ ولهذا قال سبحانه:
}ّما ّلّها ٌمن ّقّرار{؛ ولهذا كان كلما بحث الباحث وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة ل يزداد إل ضل ً
ل
جاءُه َلْم
حّتى ِإَذا َ
ن َماء َ
ظْمآ ُ
سُبُه ال ّ
حَب ِبِقيَعٍة َي ْ
سَرا ٍ
عَماُلُهمْ َك َ وبعًدا عن الحق وعلًما ببطلنها ،كما قال تعالى َ}:واّلِذي َ
ن َكَفُروا َأ ْ
حا ٌ
ب سَ
ج ّمن َفْوِقِه َ
ج ّمن َفْوِقِه َمْو ٌ
شاُه َمْو ٌ
ي َيْغ َ
جّ
حٍر ّل ّ
ت ِفي َب ْظُلَما ٍ
ب َأْو َك ُسا ِحَسِريُع اْل ِل َ ساَبُه َوا ُّ حَعنَدُه َفَوّفاُه ِ
ل ِ
جَد ا َّ
شْيًئا َوَو َ
جْدُه َ
َي ِ
ل َلُه ُنوًرا َفَما َلُه ِمن ّنوٍر{ ]النور.[40 ،39: ل ا ُّ
جَع ِج َيَدُه َلْم َيَكْد َيَراَها َوَمن ّلْم َي ْ
خَر َض ِإَذا َأ ْ
ق َبْع ٍ
ضَها َفْو َ
ت َبْع ُ ظُلَما ٌ
ُ
ل معدوًما كالسراب ،وأنأحدهما :مثل الكفر والجهل المركب الذي يحسبه صاحبه موجوًدا ،وفي الواقع يكون خيا ً
القلب عطشان إلى الحق كعطش الجسد إلى الماء .فإذا طلب ما ظنه ماًءا وجده سراًبا ،ووجد ال عنده فوفاه حسابه
وال سريع الحساب وهكذا تجد عامة هؤلء الخارجين عن السنة والجماعة.
والمثل الثاني :مثل الكفر والجهل البسيط الذي ل يتبين فيه صاحبه حًقا ول يرى فيه هدى ،والكفر المركب مستلزم
للبسيط ،وكل كفر فلبد فيه من جهل مركب.
فضرب ال ـ سبحانه ـ المثلين بذلك ليبين حال العتقاد الفاسد ،ويبين حال عدم معرفة الحق ـ وهو يشبه حال
المغضوب عليهم والضالين ـ حال المصمم على الباطل حتى يحل به العذاب ،وحال الضال الذي ل يرى طريق
الهدى.
فنسأل ال العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الخرة ،وأن يرزقنا العتصام بالكتاب والسنة.
ومن أمثلة ما ينسبه كثير من أتباع المشائخ والصوفية إلى المشائخ الصادقين من الكذب والمحال ،أو يكون من
كلمهم المتشابه الذي تأولوه على غير تأويله ،أو يكون من غلطات بعض الشيوخ وزلتهم ،أو من ذنوب بعضهم
وخطئهم مثل :كثير من البدع والفجور الذي يفعله بعضهم بتأويل سائغ أو بوجه غير سائغ ،فيعفى عنه أو يتوب منه
أو يكون له حسنات يغفر له بها ،أو مصائب يكفر عنه بها ،أو يكون من كلم المتشبهين بأولياء ال من ذوي
الزهادات والعبادات والمقامات ،وليس هو من أولياء ال المتقين ،بل من الجاهلين الظالمين المعتدين ،أو المنافقين أو
الكافرين.
وهذا كثير مل العالم ،تجد كل قوم يدعون من الختصاص بالسرار والحقائق ما ل يدعى المرسلون ،وأن ذلك عند
خواصهم ،وأن ذلك ل ينبغي أن يقابل إل بالتسليم ،ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة ،وتفسيرات باطلة .مثل قولهم
عن عمر :إن النبي صلى ال عليه وسلم كان يتحدث هو وأبو بكر بحديث ،وكنت كالزنجي بينهما،فيجعلون عمر مع
النبي صلى ال عليه وسلم وصديقه كالزنجي .وهو حاضر يسمع الكلم ،ثم يدعي أحدهم أنه علم ذلك بما قذف في
قلبه ،ويدعي كل منهم أن ذلك هو ما يقوله من الزور والباطل ،ولو ذكرت ما في هذا الباب من أصناف الدعاوي
الباطلة لطال.
فمنهم من يجعل للشيخ قصائد يسميها ]جنيب القرآن[ ،ويكون وجده بها وفرحه بمضمونها أعظم من القرآن ،و يكون
فيها من الكذب والضلل أمور.
ومنهم من يجعل له قصائد في التحاد ،وأنه خالق جميع الخلق ،وأنه خلق السموات والرض ،وأنه يسجد له ويعبد.
ومنهم من يصف ربه في قصائده بما نقل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم ،التي هي كذب
مفترى وكفر صريح مثل :مواكلته ومشاربته ،ومماشاته ومعانقته ،ونزوله إلى الرض وقعوده في بعض رياض
الرض ،ونحو ذلك ،ويجعل كل منهم ذلك من السرار المخزونة والعلوم المصونة التي تكون لخواص أولياء ال
المتقين.
ومن أمثلة ذلك :أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة ،ومن أخذ عنهم ِمنْ دعوى علوم السرار ،والحقائق ،التي يدعون
أخذها عن أهل البيت ،إما من العلوم الدينية ،وإما من علم الحوادث الكائنة ،ما هو عندهم من أجل المور التي يجب
التواصي بكتمانها ،واليمان بما ل يعلم حقيقته من ذلك ،وجميعها كذب مختلق وإفك مفترى.
فإن هذه الطائفة ]الرافضة[ من أكثر الطوائف كذًبا وادعاء للعلم المكتوم؛ ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة.
وهؤلء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ وصاروا يدعون أنه خص بأسرار
من العلوم والوصية ،حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه ،فيخبرهم بانتفاء ذلك ،ولما بلغه أن ذلك قد قيل ،كان
يخطب الناس وينفي ذلك عن نفسه.
وفـي الصحيحـين عن إبراهيم التيمي عن أبيه ـ وهذا من أصح إسناد على وجه الرض ـ عن علي قال :ما عندنا
شيء إل كتاب ال ،وهذه الصحيفة عن النبي صلى ال عليه وسلم) :المدينة حرام ما بين عير إلى ثور( ،وفي رواية
لمسلم :خطبنا على بن أبي طالب فقال :من زعم أن عندنا كتاًبا نقرؤه إل كتاب ال وما في هذه الصحيفة ـ قال:
وصحيفته معلقة في قراب سيفه ـ فقد كذب ،فيها أسنان البل وأشياء من الجراحات ،وفيها قال النبي صلى ال عليه
وسلم) :المدينة حرام( الحديث.
وأما الكذب والسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق ،فمن أكبر الشياء كذًبا حتى يقال :ما كذب على أحد ما كذب
على جعفر ـ رضي ال عنه.
جْفر[ ،الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث .والجفر :ولد الماعز ،يزعمون أنه ومن هذه المور المضافة :كتاب ]ال َ
ي ونحوه من المغاربة ،ومثل كتاب] :الجدول[ فيحّل ّ
كتب ذلك في جلده ،وكذلك كتاب ]البطاقة[ الذي يدعيه ابن ال ِ
الهلل ،و]الهفت[ عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره.
ومثل كتاب ]رسائل إخوان الصفا[ الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد ،وكانوا من الصابئة المتفلسفة
المتحنفة ،جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية وأتوا بكلم المتفلسفة ،وبأشياء من الشريعة ،وفيه
من الكفر والجهل شيء كثير ،ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلم
جعفر الصادق .وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل.
ومثل ما يذكره بعض العامة من ملحم ]ابن غنضب[ ،ويزعمون أنه كان معلًما للحسن والحسين .وهذا شيء لم يكن
في الوجود باتفاق أهل العلم ،وملحم ]ابن غنضب[ إنما صنفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها ،وهو شعر
فاسد يدل على أن ناظمه جاهل.
وكذلك عامة هذه الملحم المروية بالنظم ونحوه ،عامتها من الكاذيب ،وقد أحدث في زماننا من القضاة والمشائخ
غير واحدة منها ،وقد قررت بعض هؤلء على ذلك ،بعد أن ادعى قدمها ،وقلت له :بل أنت صنفتها ،ولبستها على
عّكة ،وكذلك غيره من القضاة وغيرهم لبسوا على غير هذا بعض ملوك المسلمين لما كان المسلمون محاصرين َ
الملك.
وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في المور الدينية؛ لن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك
أكثر وإن كان لهل الدين إلى ذلك تشوف ،لكن تشوفهم إلى الدين أقوى وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق
والباطل من النور ما لهل الدين.فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير ،وأكلت به أموال عظيمة بالباطل،
وقتلت به نفوس كثيرة من المتشوفة إلى الملك ونحوها.
ولهذا ينّوعون طرق الكذب في ذلك ويتعمدون الكذب فيه ،تارة بالحالة على الحركات والشكال الجسمانية اللهية
من حركات الفلك والكواكب ،والشهب والرعود ،والبروق والرياح ،وغير ذلك ،وتارة بما يحدثونه هم من
الحركات والشكال ،كالضرب بالرمل والحصى والشعير ،والقرعة باليد ونحو ذلك ،مما هو من جنس الستقسام
صى ،أو غير ذلك مماحا أو ح ً
بالزلم ،فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الستقسام بها ،سواء كانت قدا ً
ذكره أهل العلم بالتفسير.
فكل ما يحدثه النسان بحركة من تغيير شيء من الجسام؛ ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس ،بخلف
ل على ال فيسمع الكلمة
الفأل الشرعي ،وهو الذي كان يعجب النبي صلى ال عليه وسلم ،وهو أن يخرج متوك ً
الطيبة) :وكان يعجبه الفأل ،ويكره الطيرة( لن الفأل تقوية لما فعله بإذن ال والتوكل عليه ،والطيرة معارضة لذلك،
فيكره للنسان أن يتطير ،وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لنه أضر نفسه ،فأما المتوكل على ال فل.
وليس المقصود ذكر هذه المور وسبب إصابتها تارة وخطئها تارات .وإنما الغرض أنهم يتعمدون فيها كذًبا كثيًرا،
من غير أن تكون قد دلت على ذلك دللة ،كما يتعمد خلق كثير الكذب في الرؤيا ،التي منها الرؤيا الصالحة ،وهي
جزء من ستة وأربعين جزًءا من النبوة ،وكما كانت الجن تخلط بالكلمة تسمعها من السماء مائة كذبة ،ثم تلقيها إلى
الكهان.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال :قلت :يا رسول ال ،إني حديث عهد بجاهلية ،وقد جاء
ل يأتون الكهان .قال) :فل تأتهم( .قال :قلت :ومنا رجال يتطيرون .قال) :ذاك شيء يجدونه
ال بالسلم ،وإن منا رجا ً
في صدورهم ،فل يصدهم( .قال :قلت :ومنا رجال يخطون .قال ) :كان نبي من النبياء يخط ،فمن وافق خطه فذاك(.
فإذا كان ما هو من أجزاء النبوة ومن أخبار الملئكة ما قد يتعمد فيه الكذب الكثير ،فكيف بما هو في نفسه مضطرب
ل يستقر على أصل؟ فلهذا تجد عامة من في دينه فساد يدخل في الكاذيب الكونية ،مثل أهل التحاد ،فإن ابن عربي ـ
في كتاب ]عنقاء مغرب[ وغيره ـ أخبر بمستقبلت كثيرة ،عامتها كذب ،وكذلك ابن سبعين ،وكذلك الذين استخرجوا
مدة بقاء هذه المة من حساب الجمل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود ،ومن حركات الكواكب الذي ورثوه
من الصابئة ،كما فعل أبو نصر الكندي ،وغيره من الفلسفة ،وكما فعل بعض من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب
الرازي ،ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع.
وقد رأيت من أتباع هؤلء طوائف يدعون أن هذه المور من السرار المخزونة والعلوم المصونة ،وخاطبت في ذلك
طوائف منهم ،وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى ،وأنه ل يجري من هذه المور شيء ،وطلبت مباهلة بعضهم؛
لن ذلك كان متعلًقا بأصول الدين ،وكانوا من التحادية الذين يطول وصف دعاويهم.
فإن شيخهم الذي هو عارف وقته وزاهده عندهم ،كانوا يزعمون أنه هو المسيح الذي ينزل ،وأن معنى ذلك نزول
روحانية عيسى ـ عليه السلم ـ وأن أمه اسمها مريم ،وأنه يقوم بجمع الملل الثلث ،وأنه يظهر مظهًرا أكمل من
مظهر محمد وغيره من المرسلين .ولهم مقالت من أعظم المنكرات يطول ذكرها ووصفها.
ثم إن من عجيب المر ،أن هؤلء المتكلمين المدعين لحقائق المور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج
كل منهم بما يقع له من حديث موضوع ،أو مجمل ل يفهم معناه ،وكلما وجد أثًرا فيه إجمال نزله على رأيه ،فيحتج
بعضهم بالمكذوب ،مثل المكذوب المنسوب إلى عمر :كنت كالزنجي ،ومثل ما يروونه من ]سر المعراج[ ،وما
صّفة :هم فقراء المهاجرين ،ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه ،فكانوا يأوون إلى صّفة ]-أهل ال ّ
يروونه من أن أهل ال ّ
ظّلل في مسجد الرسول صلى ال عليه وسلم يسكنونه [-.سمعوا المناجاة من حيث ل يشعر الرسول ،فلما موضع ُم َ
نزل الرسول أخبروه ،فقال) :من أين سمعتم؟( فقالوا :كنا نسمع الخطاب.
حتى إني لما بينت لطائفة ـ تمشيخوا وصاروا قدوة للناس ـ أن هذا كذب ما خلقه ال قط .قلت :ويبين لك ذلك أن
صّفة؟
صّفة إنما كانت بالمدينة ،فمن أين كان بمكة أهل ُ
المعراج كان بمكة بنص القرآن وبإجماع المسلمين ،وال ّ
صّفة قاتلوا النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه مع المشركين لما انتصروا ،وزعموا وكذلك احتجاجهم بأن أهل ال ُ
أنهم مع ال؛ ليحتجوا بذلك على متابعة الواقع ،سواء كان طاعة ل أو معصية؛ وليجعلوا حكم دينه هو ما كان ،كما
ل َما َأْشَرْكَنا َول آَباُؤَنا{ ]النعام :من الية ] [148النعام ،[148:وأمثال هذه قال الذين أشركواَ} :لْو َ
شاَء ا ُّ
الموضوعات كثيرة.
وأما المجملت ،فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذكر بعض خفي العلم ،كقول على ـ رضي ال عنه ـ:
حدثوا الناس بما يعرفون ،ودعوا ما ينكرون ،أتحبون أن ُيَكّذب ال ورسوله ؟ وقول عبد ال بن مسعود :ما من رجل
يحدث قوًما بحديث ل تبلغه عقولهم إل كان فتنة لبعضهم ،وقول عبد ال بن عباس في تفسير اليات :ما يؤمنك أني لو
أخبرتك بتفسيرها كفرت ،وكفرك بها تكذيبك بها.
وهذه الثار حق ،لكن ينزل كل منهم ذاك الذي لم يحدث به على ما يدعيه هو من السرار والحقائق ،التي إذا كشفت
وجدت من الباطل والكفر والنفاق ،حتى إن أبا حامد الغزالي في ]منهاج القاصدين[ وغيره ،هو وأمثاله تمثل بما
يروى عن علي بن الحسين أنه قال:
فإذا كانت هذه طرق هؤلء الذين يدعون من التحقيق وعلوم السرار ما خرجوا به عن السنة والجماعة ،وزعموا أن
تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصة بهم ،فآمنوا بمجملها ومتشابهها ،وأنهم منحوا من حقائق العبادات وخالص
الديانات ما لم يمنح الصدر الول حفاظ السلم وبدور الملة ،ولم يتجرؤوا عليها برد وتكذيب ـ مع ظهور الباطل فيها
تارة ،وخفائه أخرى ـ فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة،
وإحاطة بأسرار المور وبواطنها.
وإذا كان المر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول ،وأعلمهم بأقواله ،وأفعاله ،وحركاته ،وسكناته ،ومدخله،
ومخرجه ،وباطنه ،وظاهره ،وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه ،وأعظمهم بحًثا عن ذلك وعن نقلته ،وأعظمهم تدينا
عا له واقتداء به ،وهؤلء هم أهل السنة والحديث؛ حفظًا له ،ومعرفة بصحيحه وسقيمه ،وفقها فيه وفهما يؤتيه به واتبا ً
عا ،مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم ال إياه في معانيه ،وإيماًنا وتصديًقا ،وطاعة وانقيادًا واقتداء واتبا ً
سا ورأًيا ،وأصدق الناس رؤيا وكشًفا .
سّد الناس نظًرا وقيا ً وتمييزهم ،وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم ،فإنهم أ َ
أفل يعلم من له أدنى عقل ودين ،أن هؤلء أحق بالصدق والعلم واليمان والتحقيق ممن يخالفهم؟ وأن عندهم من
العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع؟ وأن الذي عندهم هو الحق المبين؟ وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي
معه من الحشو ما معه ،ومن الضلل كذلك؟ وهذا باب يطول شرحه ،فإن النفوس لها من القوال والفعال ما ل
يحصره إل ذو الجلل.
والقوال إخبارات ،وإنشاءات؛ كالمر ،والنهي ،فأحسن الحديث وأصدقه كتاب ال ،خبره أصدق الخبر ،وبيانه
ل َوآَياِتِه ُيْؤِمُنوَن{ ]الجاثية ،[6:وكل من اتبع كلًما أو حديًثا ـ مما
ث َبْعَد ا ِّ
حِدي ٍ أوضح البيان ،وأمره أحكم المرَ} :فِبَأ ّ
ي َ
يقال :إنه يلهمه صاحبه ،ويوحى إليه ،أو إنه ينشئه ويحدثه مما يعارض به القرآن ـ فهو من أعظم الظالمين ظلًما.
ولهذا لما ذكر ال ـ سبحانه ـ قول الذين ما قدروا ال حق قدره ،حيث أنكروا النزال على البشر ،ذكر المتشبهين به
المدعين لمماثلته من القسام الثلثة ،فإن المماثل له إما أن يقول :إن ال أوحى إلى ،أو يقول :أوحي إلى ،وألقى إلى،
وقيل لي ،ول يسمى القائل أو يضيف ذلك إلى نفسه ،ويذكر أنه هو المنشئ له.
ووجه الحصر :أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره ،وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول ال ،أو من قول نفسه .فإنه إذا
جعله من كلم الشياطين لم يقبل منه ،وما جعله من كلم الملئكة فهو داخل فيما يضيفه إلى ال ،وفيما حذف فاعله،
ل{ ]النعام: لا ّ
ل َما َأَنز َ
ل ِمْث َ
سُأنِز ُ
ل َ
يٌء َوَمن َقا َ
ش ْ
ح إَِلْيِه َ
ي َوَلْم ُيو َ
ي ِإَل ّ
حَ
ل ُأْو ِ
ل َكِذًبا َأْو َقا َ
عَلى ا ّ
ن اْفَتَرى َ
ظَلُم ِمّم ِ فقال تعالىَ}:وَم ْ
ن َأ ْ
[93
وتدبر كيف جعل الولين في حيز الذي جعله وحًيا من ال ولم يسم الموحي ،فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس
ل َكِذبًا{ }النعام :من عَلى ا ِّ ن اْفَتَرى َ ظَلُم ِمّم ِ النباء ،وجعل الخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله؛ ولهذا قالَ} :فَم ْ
ن َأ ْ
يٌء{ من ش ْ
ح ِإَلْيِه َ
ي َوَلْم ُيو َ
ي ِإَل ّ
حَل{ ،فالمفترى للكذب والقائلُ}:أْو ِ لا ّ
ل َما َأَنز َ
ل ِمْث َ
سُأنِز ُ الية ،{144ثم قالَ} :وَمن َقا َ
ل َ
جملة السم الول ،وقد قرن به السم الخر ،فهؤلء الثلثة المدعون لشبه النبوة .وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة .فهذا
يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم ،كمسيلمة الكذاب وأمثاله.
وهذه هي أصول البدع التي نردها نحن في هذا المقام؛ لن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى ال
عليه وسلم ،أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيًرا له ،من رأى أو كشف أو نحو ذلك.
فقد تبين أن الذين يسمون هؤلء وأئمتهم حشوية،هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه ،وأئمة هؤلء أحق بكل علم
نافع وتحقيق ،وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلء الجهال ،المنكرون عليهم ،المكذبون ل ورسوله.
ل لحشو
ن َنْبَزُهم ]الّنْبز :الّلَقب[ بالحشوية :إن كان لنهم يروون الحاديث بل تمييز ،فالمخالفون لهم أعظم الناس قو ً
فإ ّ
الراء والكلم الذي ل تعرف صحته ،بل يعلم بطلنه ،وإن كان لن فيهم عامة ل يميزون ،فما من فرقة من تلك
عّمار المساجد بالصلوات ،وأهل الذكرالفرق إل ومن أتباعها من أجهل الخلق وأكفرهم ،وعوام هؤلء هم ُ
والدعوات ،وحجاج البيت العتيق ،والمجاهدون في سبيل ال ،وأهل الصدق والمانة ،وكل خير في العالم .فقد تبين
لك أنهم أحق بوجوه الذم ،وأن هؤلء أبعد عنها ،وأن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم ،فيما اختصهم ال به من
الوراثة النبوية التي ل توجد إل عندهم.
ضا ،فينبغي النظر في الموسومين بهذا السم وفي الواسمين لهم به :أيهما أحق؟ وقد علم أن هذا السم مما اشتهر
وأي ً
عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة ،كما ذكر العلماء ـ كأبي حاتم وغيره ـ أن علمة الزنادقة تسميتهم لهل الحديث
حشوية.
ونحن نتكلم بالسماء التي ل نزاع فيها ،مثل :لفظ ]الثبات ،والنفي[ فنقول:
من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره ،فكل من كان عنه أبعد كان أعظم
ذًما بذلك؛ كالقرامطة ،ثم الفلسفة ،ثم المعتزلة ،وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلبية والكرامية،
والشعرية ،والفقهاء ،والصوفية وغيرهم ،فكل من اتبع النصوص وأقرها سموه بذلك ،ومن قال بالصفات العقلية
مثل :العلم والقدرة ،دون الخبرية ،ونحو ذلك ،سمى مثبتة الصفات الخبرية حشوية ،كما يفعل أبو المعالي الجويني،
وأبو حامد الغزالي ونحوهما.
ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه وكلمه ،لكن أبو محمد كان أعلم بالحديث وأتبع له من أبي المعالي
عا للكلم ،وهما في العربية متقاربان.
وبمذاهب الفقهاء .وأبو المعالي أكثر اتبا ً
وهؤلء يعيبون منازعهم ،إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه ،أو لكون اتباع الحديث في
مسائل الصول من مذهب الحشو؛ لنها مسائل علمية ،والحديث ل يفيد ذلك ،لن اتباع النصوص مطلًقا في المباحث
الصولية الكلمية حشو؛ لن النصوص ل تفي بذلك؛ فالمر راجع إلى أحد أمرين :إما ريب في السناد أو في
المتن ،إما لنهم يضيفون إلى الرسول ما لم يعلم أنه قاله؛ كأخبار الحاد ،ويجعلون مقتضاها العلم ،وإما لنهم
يجعلون ما فهموه من اللفظ معلوًما وليس هو بمعلوم ،لما في الدلة اللفظية من الحتمال.
ول ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق ،يبطل العلم بما بعث ال به رسوله ،تارة يقول :ل نعلم أنهم قالوا ذلك،
وتارة يقول :ل نعلم ما أرادوا بهذا القول .ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه ،لم يستفد من جهتهم علم ،فيتمكن بعد ذلك
أن يقول ما يقول من المقالت ،وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار النبياء؛ لنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين
الدافعين لجنود الرسول عنه ،الطاعنين لمن احتج بها.
وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة ،وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من ل يتلقى من جهتهم علًما،
ظا،
سّكة :حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم[ والخطبة رسًما ولف ً
سّكة ]ال ّ
فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطي ال ّ
ل ،من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع .فله صورة المامة بما جعل له من السكة والخطبة ،وليس له كتابة وقو ً
حقيقتها.
وهذا القدر ـ وإن استجازه كثير من الملوك ـ لعجز بعض الخلفاء عن القيام بواجبات المارة من الجهاد والسياسة،
كما يفعل ذلك كثير من نواب الولة لضعف مستنيبه وعجزه فيتركب من تقدم ذي المنصب والبيت وقوة نائبه صلح
المر ،أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرئاسة ولطائفته ،دون من هو أحق بذلك منه ،وسلك مسلك المتغلبين بالعدوان ـ
فمن المعلوم أن المؤمن بال ورسوله ل يستجيز أن يقول في الرسالة :إنها عاجزة عن تحقيق العلم وبيانه ،حتى يكون
القرار بها مع تحقيق العلم اللهي من غيرها موجًبا لصلح الدين ،ول يستجيز أن يتعدى عليها بالتقدم بين يدي ال
ورسوله ،ويقدم علمه وقوله على علم الرسول وقوله ،ول يستجيز أن يسلط عليها التأويلت العقلية ،ويدعى أن ذلك
ل إل بذلك.
من كمال الدين ،وأن الدين ل يكون كام ً
وأحسن أحواله :أن يدعي أن الرسول كان عالًما بأن ما أخبر به له تأويلت وتبيان ،غير ما يدل عليه ظاهر قوله
ومفهومه ،وأنه ما ترك ذلك إل لنه ما كان يمكنه البيان بين أولئك العراب ونحوهم ،وأنه وكل ذلك إلى عقول
المتأخرين ،وهذا هو الواقع منهم.
فإن المتفلسفة تقول :إن الرسل لم يتمكنوا من بيان الحقائق لن إظهارها يفسد الناس ،ول تحتمل عقولهم ذلك ،ثم قد
يقولون :إنهم عرفوها .وقد يقول بعضهم :لم يعرفوها ،أو أنا أعرف بها منهم ،ثم يبينونها هم بالطرق القياسية
الموجودة عندهم .ولم يعقلوا أنه إن كان العلم بها ممكنا فهو ممكن لهم ،كما يدعون أنه ممكن لهم ،وإل فل سبيل لهم
إلى معرفتها بإقرارهم ،وكذلك التعبير وبيان العلم بالخطاب والكتاب إن لم يكن ممكًنا فل يمكنكم ذلك وأنتم تتكلمون
وتكتبون علمكم في الكتب .وإن كان ذلك ممكًنا فل يصح قولكم :لم يمكن الرسل ذلك.
وإن قلتم :يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم ـ وهذا قـولهم ـ فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند
خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم .ومن المعلوم أن كل من كان بكلم المتبوع وأحواله وبواطن أموره
وظواهرها أعلم ،وهو بذلك أقوم ،كان أحق بالختصاص به .ول ريب أن أهل الحديث أعلم المة وأخصها بعلم
الرسول ،وعلم خاصته مثل :الخلفاء الراشدين وسائر العشرة ،ومثل :أبي بن كعب ،وعبد ال ابن مسعود ،ومعاذ بن
جبل ،وعبد ال بن سلم ،وسلمان الفارسي ،وأبي الدرداء ،وعبادة بن الصامت ،وأبي ذر الغفاري ،وعمار بن ياسر،
وحذيفة بن اليمان ،ومثل :سعد بن معاذ ،وأسيد بن حضير ،وسعد بن عبادة ،وعباد بن بشر ،وسالم مولي أبي حذيفة،
وغير هؤلء ممن كان أخص الناس بالرسول ،وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك.
فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلء وببواطن أمورهم ،وأتبعهم لذلك ،فيكون عندهم العلم :علم خاصة الرسول وبطانته،
كما أن خواص الفلسفة يعلمون علم أئمتهم ،وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم ،وخواص القرامطة والباطنية
يعلمون علم أئمتهم ،وكذلك أئمة السلم مثل أئمة العلماء .فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره ،مثل :مالك بن
أنس ،فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد أتباعه على روايته ،حتى إنه تؤخذ عنه
مسائل السر التي رواها ابن أبي الَغْمر ،وإن طعن بعض الناس فيها ،وكذلك أبو حنيفة ،فأبو يوسف ،ومحمد ،وُزَفر
أعلم الناس به ،وكذلك غيرهما.
ل ،فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به ،كما قال وقد يكتب العالم كتاًبا أو يقول قو ً
عى من ساِمع( ،لكن بكل حال لبد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين
ب ُمَبّلغ أْو َ
النبي صلى ال عليه وسلم) :فُر ّ
بحال المبلغ عنه ،كما يكون في أتباع الئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم.
ل ودعوة إلى ال ومن المستقر في أذهان المسلمين :أن ورثة الرسل وخلفاء النبياء هم الذين قاموا بالدين علًما وعم ً
والرسول ،فهؤلء أتباع الرسول حًقا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الرض التي زكت ،فقبلت الماء فأنبتت الكل
شب الكثير ،فزكت في نفسها وزكى الناس بها .وهؤلء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على والُع ْ
لْيِدي
ب ُأْوِلي ا َْ
ق َوَيْعُقو َ
حَسَ الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة النبياء الذين قال ال تعالى فيهم َ}:واْذُكْر ِ
عَباَدَنا إْبَراِهيَم َوِإ ْ
صاِر{ ]ص ،[45:فاليدي :القوُة في أمر ال ،والبصار :البصائُر في دين ال ،فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، لْب َ
َوا َْ
وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.
جرت من النصوص أنهار العلوم، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل ،فف ّ
صا ،كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي ال عنه ـ وقد واستنبطت منها كنوزها ،ورزقت فيها فهمًا خا ً
سمة ،إل فهما
سئل :هل خصكم رسول اللهصلى ال عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال :ل والذي فلق الحبة وَبَرأ الّن َ
يؤتيه ال عبًدا في كتابه.
فهذا الفهم هو بمنزلة الكل والعشب الذي أنبتته الرض الطيبة .وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية،
وهي التي حفظت النصوص ،فكان همها حفظها وضبطها ،فوردها الناس وتلقوها بالقبول ،واستنبطوا منها
ل ُأَنا ٍ
س واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها ،وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ،ورووها كل بحسبهَ{:قْد َ
عِلَم ُك ّ
ّمْشَرَبُهْم{.
وهذا عبد ال بن عباس ـ رضي ال عنهما ـ حبر المة ،وترجمان القرآن ،مقدار ما سمعه من النبي صلى ال عليه
وسلم ل يبلغ نحو العشرين حديًثا الذي /يقول فيه :سمعت ورأيت ،وسمع الكثير من الصحابة ،وبورك له في فهمه
والستنباط منه ،حتى مل الدنيا علًما وفقًها ،قال أبو محمد ابن حزم :وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار ،وهي
بحسب ما بلغ جامعها ،وإل فعلم ابن عباس كالبحر ،وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس،
وقد سمعوا ما سمع ،وحفظوا القرآن كما حفظه ،ولكن أرضه كانت من أطيب الراضي وأقبلها للزرع ،فبذر فيها
ظيِم{ ]الجمعة.[4 :
ل اْلَع ِ
ضِل ُذو اْلَف ْ
شاء َوا ُّ
ل ُيْؤِتيِه َمن َي َ
ل ا ِّ
ضُ النصوص ،فأنبتت من كل زوج كريم ،و}َذِل َ
ك َف ْ
وأين تقع فتاوى ابن عباس ،وتفسيره ،واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه ،بل هو حافظ
سا ،فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه
سه بالليل َدْر ً
المة على الطلق يؤدي الحديث كما سمعه وَيْدُر ُ
كما سمعه ،وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه ،والستنباط ،وتفجير النصوص ،وشق النهار منها واستخراج
كنوزها.
وهكذا ورثتهم من بعدهم ،اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص ،ل على خيال فلسفي ،ول رأي قياسي ،ول غير
ذلك من الراء المبتدعات ،ل جرم كانت الدائرة والثناء الصدق ،والجزاء العاجل والجل لورثة النبياء التابعين لهم
ل{ ]آل عمران[31: حِبْبُكُم ا ّ
ل َفاّتِبُعوِني ُي ْ
نا ّ
حّبو َ في الدنيا والخرة؛ فإن المرء على دين خليلهُ} :ق ْ
ل ِإن ُكنُتْم ُت ِ
/وبكل حال ،فهم أعلم المة بحديث الرسول ،وسيرته ومقاصده وأحواله.
ونحن ل نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه ،أو كتابته أو روايته ،بل نعني بهم :كل من كان أحق بحفظه،
ومعرفته وفهمه ظاهًرا وباطًنا ،واتباعه باطًنا وظاهًرا ،وكذلك أهل القرآن.
وأدنى خصلة في هؤلء محبُة القرآن والحديث ،والبحث عنهما وعن معانيهما ،والعمل بما علموه من موجبهما.
خَبُر بالرسول من فقهاء غيرهم ،وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم ،وأمراؤهم أحقففقهاء الحديث أ ْ
بالسياسة النبوية من غيرهم ،وعامتهم أحق بموالة الرسول من غيرهم.
ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلم ،المعتقدين لمضمونهما ،هم أبعد عن معرفة الحديث ،وأبعد عن اتباعه من
هؤلء .هذا أمر محسوس ،بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى ال عليه وسلم وأحواله،
وبواطن أموره وظواهرها ،حتى لتجد كثيًرا من العامة أعلم بذلك منهم ،ولتجدهم ل يميزون بين ما قاله الرسول وما
لم يقله ،بل قد ل يفرقون بين حديث متواتر عنه ،وحديث مكذوب موضوع عليه.
عا أو غير موضوع ،فيعدلون إلى أحاديث يعلم وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم ،سواء كان موضو ً
خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذبة عليه ،عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله ،وهم /ل
ل عن الحديث ،بل كثير منهم ل يحفظون القرآن أصل. يعلمون مراده ،بل غالب هؤلء ل يعلمون معاني القرآن ،فض ً
فمن ل يحفظ القرآن ،ول يعرف معانيه ،و ل يعرف الحديث ول معانيه ،من أين يكون عارًفا بالحقائق المأخوذة عن
الرسول؟!
وإذا تدبر العاقل ،وجد الطوائف كلها ،كلما كانت الطائفة إلى ال ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف
وأعظم عناية ،وإذا كانت عن ال وعن رسوله أبعد ،كانت عنهما أنأى ،حتى تجد في أئمة علماء هؤلء من ل يميز
بين القرآن وغيره ،بل ربما ذكرت عنده آية ،فقال :ل نسلم صحة الحديث ! وربما قال :لقوله عليه السلم كذا ،وتكون
آية من كتاب ال .وقد بلغنا من ذلك عجائب ،وما لم يبلغنا أكثر.
ل يسمى ]شمس الدين الصبهاني[ وحدثني ثقة :أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين ،رج ٌ
ص ( حتى قيل له :ألف لم ميم صاد.
حيِم اْلَم ْ
ن الّر ِ
حَم ِ
ل الّر ْ
سِم ا ِّ
شيخ اليكي ،فأعطوه جزًءا من الربعة فقرأِ) :ب ْ
فتأمل هذه الحكومة العادلة! ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث ،ويعدلون عن مذهبهم ،جهلة زنادقة منافقون بل
ريب؛ ولهذا لما بلغ المام أحمد عن ]ابن أبي قتيلة[ أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة ،فقال :قوم سوء .فقام المام
أحمد ،وهو ينفض ثوبه ،ويقول :زنديق ،زنديق ،زنديق .ودخل بيته ،فإنه عرف مغزاه.
/وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم ،من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى ال عليه
وسلم.
وأما أهل العلم فكانوا يقولون :هم ]البدال[ لنهم أبدال النبياء وقائمون مقامهم حقيقة ،ليسوا من المعدمين الذين ل
يعرف لهم حقيقة ،كل منهم يقوم مقام النبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه ،هذا في العلم والمقال ،وهذا في العبادة
والحال ،وهذا في المرين جميًعا .وكانوا يقولون :هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة ،الظاهرون على الحق؛ لن
الهدى ودين الحق الذي بعث ال به رسله معهم ،وهو الذي وعد ال بظهوره على الدين كله ،وكفى بال شهيًدا.
فصــل
وتلخيص النكتة :أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية ،أو لم يعلموها ،وإذا علموها ،فإما أنه كان
يمكنهم بيانها بالكلم والكتاب ،أو ل يمكنهم ذلك ،وإذا أمكنهم ذلك البيان ،فإما أن يمكن للعامة وللخاصة ،أو للخاصة
فقط.
فإن قال :إنهم لم يعلموها ،وإن الفلسفة والمتكلمين أعلم بها منهم ،وأحسن بياًنا لها منهم ،فلريب أن هذا قول الزنادقة
المنافقين .وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة ،وأنه ل يقوله إل منافق أو جاهل.
وإن قال :إن الرسل مقصدهم صلح عموم الخلق ،وعموم الخلق ل يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة ،فخاطبوهم
بضرب المثال؛ لينتفعوا بذلك ،وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية ،فتضمن خطابهم عن ال وعن اليوم
الخر ،من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر اليمان بال وبالمعاد .وذلك
يقرر في النفوس من عظمة ال وعظمة اليوم الخر ما يحض النفوس على عبادة ال ،وعلى الرجاء والخوف؛
فينتفعون /بذلك ،وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية المكان في كشف
الحقائق لعموم النوع البشرى ،ومقصود الرسل حفظ النوع البشري ،وإقامة مصلحة معاشه ومعاده.
حّذاق الفلسفة ،مثل :الفارابي ،وابن سينا وغيرهما ،وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين
فمعلوم أن هذا قول ُ
في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث.
فالفارابي يقول :إن خاصة النبوة جودة تخييل المور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة.
وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع ،ويقول :ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين ،ول يمكن
محمد مع أولئك العرب الجفاة ،أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه ،فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك ،وإن فهموه
على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لنهم ليرون فيه من العلم ما يقتضي العمل.
وهذا المعنى يوجد في كلم أبي حامد الغزالي وأمثاله ،ومن بعده طائفة منه في الحياء وغير الحياء ،وكذلك في
كلم الرازي.
وأما التحادية ونحوهم من المتكلمين ،فعليه مدارهم ،ومبنى كلم الباطنية والقرامطة عليه ،لكن هؤلء ينكرون
ظواهر المور العملية /والعلمية جميًعا ،وأما غير هؤلء فل ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة ،لكن قد يجعلونها
لعموم الناس ل لخصوصهم ،كما يقولون مثل ذلك في المور الخبرية.
ثم منهم من يوجب اتباع المور العملية من المور الشرعية ،وهؤلء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلء
فلسفتهم .وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية ،فإن قدماء الفلسفة كانوا
يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلد ،فلن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى .فإنهم ـ كماقال ابن
سينا :اتفق فلسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي.
وكل عقلء الفلسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري ،وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلسفة
المشاهير ،ثم قد يزعمون أن الرسل والنبياء حكماء كبار ،وأن الفلسفة الحكماء أنبياء صغار ،وقد يجعلونهم
صنفين .وليس هذا موضع شرح ذلك ،فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.
وإنما الغرض أن هؤلء الساطين من الفلسفة والمتكلمين ،غاية /ما يقولون هذا القول ،ونحن ذكرنا المر على وجه
ل ،إما جاهل ،وإما منافق،التقسيم العقلي الحاصر لئل يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعم ً
والمنافق جاهل وزيادة ،كما سنبينه ـ إن شاء ال ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق ،وإن كان ل يعلم بها فالمنكر لذلك
جاهل منافق.
فقلنا :إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق ،وأحسن بياًنا لها ،فهذا زنديق منافق إذا أظهر اليمان
بهم باتفاق المؤمنين ،وسيجىء الكلم معه.
وإن قال :إن الرسل كانوا أعظم علًما وبياًنا ،لكن هذه الحقائق ل يمكن علمها ،أو ل يمكن بيانها مطلًقا ،أو يمكن
المران للخاصة.
/فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك ،جعلوا السابقين الولين دون المتأخرين في
العلم واليمان .وهذا من مقالت الزنادقة؛ لنه قد جعل بعض المم الوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عق ً
ل
وتحقيًقا للمور اللهية وللعبادية من هذه المة ،فهذا من مقالت المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه
المة خير المم وأكملهم ،وأن أكمل هذه المة وأفضلها هم سابقوها.
وإذا سلم ذلك ،فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم :أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال المام أحمد في رسالة
عبدوس بن مالك :أصول السنة عندنا :التمسك بما كان عليه أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم والقتداء بهم،
وترك البدع ،وكل بدعة ضللة ،والسنة عندنا :آثار رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والسنة تفسر القرآن ،وهي دلئل
القرآن ،أي :دللت على معناه.
سَبأ؛
ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة ،وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافًقا زنديًقا ،وهو عبد ال بن َ
فإنه إذا قدح في السابقين الولين فقد قدح في نقل الرسالة ،أو في فهمها ،أو في اتباعها .فالرافضة تقدح تارة في
علمهم بها ،وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود.
والزنادقة من الفلسفة والنصيرية وغيرهم ،يقدحون تارة في النقل ،وهو /قول جهالهم ،وتارة يقدحون في فهم
ضا،
حّذاقهم ،كما يذهب إليه أكابر الفلسفة والتحادية ونحوهم ،حتى كان التلمساني مرة مري ًالرسالة ،وهو قول ُ
فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث ،فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب ،وأن المر مداره على
الكشف ،وغرضه كشف الوجود المطلق ،فقال ذلك الطالب :فما معنى قول أم الدرداء :أفضل عمل أبي الدرداء
ي مثل هذا؟ ثم قال :أتدري يا بني ما مثل أبي
التفكر؟ فتبرم بدخول مثل هذا عليه ،وقال للذي جاء به :كيف يدخل عل ّ
الدرداء وأمثاله؟ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلًما وحفظوه لنا ،حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه ،ومثل
بريد حمل كتاًبا من السلطان إلى نائبه ،أو نحو ذلك ،فقد طال عهدي بالحكاية ،حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة
ن كثير.
جَول ٌ
يعرف ما يقول في هذا .وكان له في هذه الفنون َ
وكذلك ابن سينا ،وغيره ،يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة ،حتى تجدهم إذا ذكروا في
آخر الفلسفة حاجة النوع النساني إلى المامة ،عرضوا بقول الرافضة الضلل ،لكن أولئك يصرحون من السب
بأكثر مما يصرح به هؤلء.
ولهذا تجد بين ]الرافضة[ و]القرامطة[ و]التحادية[ اقتراًنا واشتباًها .يجمعهم أمور:
منها :الطعن في خيار هذه المة ،وفيما عليه أهل السنة والجماعة ،وفيما /استقر من أصول الملة وقواعد الدين،
ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم ،ثم هم مع ذلك متلعنون ،متباغضون مختلفون ،كما رأيت
ظا ّمّما ُذّكُروْاحّسوْا َ
خْذَنا ِميَثاَقُهْم َفَن ُ
صاَرى َأ َ وسمعت من ذلك ما ل يحصى ،كما قال ال عن النصارىَ} :وِم َ
ن اّلِذينَ َقاُلوْا ِإّنا َن َ
ضاء ِإَلى َيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]المائدة ،[14:وقال عن اليهودَ} :وَأْلَقْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ
ضاء ِإَلى َيْوِم غَرْيَنا َبْيَنُهُم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ
ِبِه َفَأ ْ
ل{ ]المائدة.[64:
طَفَأَها ا ّ
ب َأ ْ
حْر ِ اْلِقَياَمِة ُكّلَما َأْوَقُدوْا َناًرا ّلْل َ
وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين ،وتارة مع الفلسفة الصابئين،
وتارة مع الكفار المشركين ،وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة ،وتارة يتحيرون بين الطوائف،
وهذه الطائفة الخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى السلم من العلماء والمراء وغيرهم ،لسيما لما ظهر
المشركون من الترك على أرض السلم بالمشرق في أثناء المائة السابعة .وكان كثير ممن ينتسب إلى السلم فيه
من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلد المسلمين.
فتجد أبا عبد ال الرازي يطعن في دللة الدلة اللفظية على اليقين ،وفي إفادة الخبار للعلم ،وهذان هما مقدمتا الزندقة
ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور السلم على ما علم بالضطرار من دين السلم ،مثل العبادات
والمحرمات الظاهرة ،وكذلك القرار بمعاد الجساد ـ بعد الطلع على التفاسير والحاديث ـ يجعل العلم بذلك
مستفاًدا من أمور كثيرة ،فل يعطل تعطيل /الفلسفة الصابئين ،ول يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين.
وكذلك]الصحابة[ ،وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع :أنهم لم يعلموا شبهات
الفلسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثوًرا عنهم التكلم بلغة الفلسفة ،ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم. . .
]بياض[.
وكذلك هذه المقالت ل تجدها إل عند أجهل المتكلمين في العلم ،وأظلمهم من هؤلء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة
والتحادية في الصحابة ،مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة :أنا أشجع منهم ،وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه،
ول باشروا الحروب مباشرتنا ،ول ساسوا سياستنا ،وهذا ل تجده إل في أجهل الملوك وأظلمهم.
فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم ،وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه ،فهذا ل يضرهم؛ إذ العلم
بلغات المم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم ،بل يجب منه ما ل يتم التبليغ إل به ،فالمتوسطون بينهم من
التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه .فإن كان المعنيان واحًدا كالشمس والقمر ،وإل علموا ما بين المعنيين من
الجتماع والفتراق ،فينقل لكل منهما مراد صاحبه ،كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل ،والتشابه،
والتقارب.
/فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول ،وفيما جاء به بيان الحجة على بطلن كفر كل كافر ،وبيان ذلك بقياس
سيًرا{
ن َتْف ِ
سَحَ
ق َوَأ ْ
حّك ِباْل َ
جْئَنا َ
ل ِ
ل ِإ ّ
ك ِبَمَث ٍ صحيح أحق وأحسن بياًنا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالىَ} :و َ
ل َيْأُتوَن َ
]الفرقان ،[33 :أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار ل يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إل جاءه ال بالحق ،وجاءه من البيان
حا للحق من قياسهم. والدليل ،وضرب المثل بما هو أحسن تفسيًرا وكشًفا وإيضا ً
وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة.
عُدّوا
ي َل َنِب ّ
جَعْلَنا ِلُك ّ
ك َ
جوًرا َوَكَذِل َ ن َمْه ُ خُذوا َهَذا اْلُقْرآ َ
ن َقْوِمي اّت َ
ب ِإ ّ
ل َيا َر ّ سو ُ وهذه الية ذكرها ال تعالى بعد قولهَ} :وَقا َ
ل الّر ُ
صيًرا{ ]الفرقان ،[31 ،30:فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول ،وأن هذه ك َهاِدًيا َوَن ِن َوَكَفى ِبَرّب َ ن اْلُمجِْرِمي َّم َ
سولِت َمَع الّر ُخْذ ُ ل َيا َلْيَتِني اّت َ
عَلى َيَدْيِه َيُقو ُ ظاِلُم َض ال ّالعداوة أمر لبد منه ،ول مفر عنه ،أل ترى إلى قوله تعالىَ} :وَيْوَم َيعَ ّ
لنَساِن َخُذوًل{ ]الفرقان.[27-29: ن ِل ِْ
طا ُ شْي َ
ن ال ّ
جاءِني َوَكا َن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ
عِ ضّلِني َ
ل َلَقْد َأ َ
خِلي ً
لًنا َ
خْذ ُف َل َيا َوْيَلَتى َلْيَتِني َلْم َأّت ِ
سِبي ً
َ
وال ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمًدا صلى ال عليه وسلم إلى جميع العالمين ،وضرب المثال فيما أرسله به لجميعهم،
س ِفي َهَذا اْلُقْرآِن ِمن ُكّل َمَثٍل ّلَعّلُهْم َيَتَذّكُروَن{ ]الزمر ،[27:فأخبر أنه ضرب لجميع الناس كما قال تعالىَ} :وَلَقْد َ
ضَرْبَنا ِللّنا ِ
في هذا القرآن من كل مثل.
/ول ريب أن اللفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات ،كالسلح في المحاربات .فإذا كان عدو المسلمين ـ في
تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم ،كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة
التي مبناها على تحري ما هو ل أطوع وللعبد أنفع ،وهو الصلح في الدنيا والخرة.
وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك ،ل لفضل قوته وشجاعته ،ولكن لمجانسته لهم ،كما
يكون العجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه العاجم من العربي ،وكما يكون العربي
المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي.
فقد جاء في الحديث) :خيار عجمكم المتشبهون بعربكم ،وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم(.
ل لم يقاتل غيرهم مثله فيولهذا لما حاصر النبي صلى ال عليه وسلم ]الطائف[ رماهم بالمنجنيق ،وقاتلهم قتا ً
المزاحفة كيوم بدر وغيره ،وكذلك لما حوصر المسلمون عام ]الخندق[ اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير
الحصار .وقيل :إن سلمان أشار عليهم بذلك ،فسلموا ذلك له ؛ لنه طريق إلى فعل ما أمر ال به ورسوله.
وقد قررنا في قاعدة ]السنة والبدعة[ :أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه /ال ورسوله ،وهو ما لم يأمر به أمر
إيجاب ول استحباب ،فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ،وعلم المر به بالدلة الشرعية فهو من الدين الذي
ل على عهد النبي صلى ال عليه وسلم أو لم شرعه ال ،وإن تنازع أولو المر في بعض ذلك .وسواء كان هذا مفعو ً
يكن ،فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين ،والخوارج المارقين ،وفارس والروم والترك ،وإخراج اليهود
والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته.
ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول :سن رسول ال صلى ال عليه وسلم سنًنا ،الخذ بها تصديق لكتاب ال،
واستكمال لطاعة ال ،وقوة على دين ال .ليس لحد تغييرها ول النظر في رأي من خالفها ،من اهتدى بها فهو مهتد،
ومن استنصر بها فهو منصور ،ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين وله ال ما تولى وأصله جهنم وساءت
مصيًرا.
فسنة خلفائه الراشدين هي :مما أمر ال به ورسوله ،وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها.
فكما أن ال بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب ،وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلم رسالة محمد صلى ال عليه
وسلم ،وبما في كتبهم من ذلك ،وما حرفوه وبدلوه من دينهم ،وصدق بما جاءت به الرسل قبله ،حتى إذا سمع ذلك
الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان.
/والمناظرة والمحاجة ل تنفع إل مع العدل والنصاف ،وإل فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه ،وهو المسفسط
والمقرمط ،أو يمتنع عن الستماع والنظر في طريق العلم ،وهو المعرض عن النظر والستدلل .فكما أن الحساس
الظاهر ل يحصل للمعرض ول يقوم للجاحد ،فكذلك الشهود الباطن ل يحصل للمعرض عن النظر والبحث ،بل
طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهًدا ،كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهًدا ،كما قال
بعض السلف :ما المجتهد فيكم إل كاللعب فيهم ،وقال أبي ابن كعب وابن مسعود :اقتصاد في سنة ،خير من اجتهاد
في بدعة ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ،وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر(،
عا ،وهو محفوظ عن معاذ :عليكم بالعلم ،فإن تعليمه حسنة ،وطلبه عبادة ،ومذاكرته وقال معاذ بن جبل ،ويروى مرفو ً
تسبيح ،والبحث عنه جهاد ،وتعليمه لمن ل يعلمه صدقة ،وبذله لهله قربة .فجعل الباحث عن العلم مجاهًدا في سبيل
ال.
ي َأْحَسُن{ ]العنكبوت،[46:
ل ِباّلِتي ِه َ
ب ِإ ّ
ل اْلِكَتا ِ
جاِدُلوا َأْه َ ولما كانت المحاجة ل تنفع إل مع العدل ،قال تعالىَ}:و َ
ل ُت َ
فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن.
وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب ،الذين علموا ما عندهم بلغتهم ،وترجموا لنا بالعربية ،انتفع بذلك في مناظرتهم
ومخاطبتهم ،كما كان عبد ال بن سلم / ،وسلمان الفارسي ،وكعب الحبار ،وغيرهم ،يحدثون بما عندهم من العلم،
وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول ،ويكون حجة عليهم من وجه ،وعلى غيرهم من وجه آخر،
كما بيناه في موضعه.
واللفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة ،كما تتقارب السماء في الشتقاق الكبر .وقد سمعت ألفاظ التوراة
بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب ،فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب ،حتى صرت أفهم كثيًرا من كلمهم العبري
بمجرد المعرفة بالعربية.
والمعاني الصحيحة ،إما مقاربة لمعاني القرآن ،أو مثلها ،أو بعينها ،وإن كان في القرآن من اللفاظ والمعاني
خصائص عظيمة.
فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل ،مثل أن ينقل عما في كتبهم عن النبياء ما يخالف ما
جاء به محمد صلى ال عليه وسلم ،أو خلف ما ذكره ال في كتبهم ،كزعمهم للنبي صلى ال عليه وسلم أن ال أمرهم
ت وجهه تحميًما :إذا سودته بالفحم[ الزاني دون رجمه ،أمكن للنبي صلى حَمْم ُ
بتحميم ]أي :جعل وجهه أسود .يقالَ :
ال عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة ،كعبد ال ابن سلم
ونحوه ،لما قال لحبرهم :ارفع يدك عن آية الرجم ،فإذا هي تلوح ،ورجم النبي صلى ال عليه وسلم الزانيين منهما،
بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم ،وذلك أنه موافق لما أنزل ال عليه من الرجم ،وقال) :اللهم إني /أول من أحيا
أمرك إذ أماتوه( ،ولهذا قال ابن عباس في قولهِ} :إّنا َأنَزْلَنا الّتْوَراَة ِفيَها هًُدى َوُنوٌر َيْحُكُم ِبَها الّنِبّيوَن اّلِذيَن َأْسَلُموْا{ ]المائدة:
،[44قال ـ :محمد صلى ال عليه وسلم ،من النبيين الذين أسلموا ،وهو لم يحكم إل بما أنزل ال عليه ،كما قالَ} :وَأ ِ
ن
ل{ ]المائدة.[49 :
لا ّ
حُكم َبْيَنُهم ِبَما َأنَز َ
اْ
وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية ،قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم
بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين ،أو ممن يعلم خطهم منا ،كزيد بن ثابت ،ونحوه ،لما أمره النبي صلى ال
عليه وسلم أن يتعلم ذلك ،والحديث معروف في السنن ،وقد احتج به البخاري في[باب ترجمة الحاكم ،وهل يجوز
ترجمان؟] ،قال :وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت :أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود ،حتى كتبت
للنبي صلى ال عليه وسلم كتبه ،وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه.
والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد ،وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الخر ،مثل كتابة
اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط العاجم ،وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي ،وقيل :يكتفي بذلك؛
ل َفْأُتوْا ِبالّتْوَراِة
ل الّتْوَراُة ُق ْ
ل َأن ُتَنّز َ
سِه ِمن َقْب ِ
عَلى َنْف ِ
ل َ
سَراِئي ُ
حّرَم ِإ ْ
ل َما َ
ل ِإ ّ
سَراِئي َ
ل ّلَبِني ِإ ْ
حـ ّ
ن ِ
طَعاِم َكا َ ولهذا قال سبحانهُ} :ك ّ
ل ال ّ
صاِدِقيَن{ ]آل عمران[93 : َفاْتُلوَها ِإن ُكنُتْم َ
فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلوتها ،إن كانوا صادقين في نقل /ما يخالف ذلك ،فإنهم كانواَ} :يْلُوونَ
ن َهـَذا
ب ِبَأْيِديِهْم ُثّم َيُقوُلو َ
ن اْلِكَتا َ
ن َيْكُتُبو َ ب{ ]آل عمران ،[78:و}َفَوْي ٌ
ل ّلّلِذي َ ن اْلِكَتا ِ
ب َوَما ُهَو ِم َ
ن اْلِكَتا ِ
سُبوُه ِم َ
حَب ِلَت ْ
سَنَتُهم ِباْلِكَتا ِ
َأْل ِ
ل{ ]البقرة ،[79:ويكذبون في كلمهم وكتابهم؛ فلهذا ل تقبل الترجمة إل من ثقة. عنِد ا ّ ن ِ ِم ْ
فإذا احتج أحدهم على خلف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين ،مثل الذي يروى عن موسى أنه قال) :تمسكوا
بالسبت ما دامت السموات والرض( أمكننا أن نقول لهم :في أي كتاب هذا ؟ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في
كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون ،و]كتاب المثنوي[ الذي معناه المثناة،
وهي التي جعلها عبد ال بن عمرو فينا من أشراط الساعة ،فقال :ل تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة ،ليس أحد
يغيرها ،قيل :وما المثناة ؟ قال :ما استكتب من غير كتاب ال.
وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء ال وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم ،بموافقة النبياء
المتقدمين لمحمد صلى ال عليه وسلم ،فحرفوا الكلم عن مواضعه ،أمكن معرفة ذلك ،كما تقدم.
ضا ـ مما في القرآن بردها إليه ،مثل إنكارهم للنسخ بالعقل ،حتى قالوا :ل ينسخ ما وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أي ً
س َما َوّلُهْم َعن ِقْبَلِتِهُم اّلِتي َكاُنوْا َعَلْيَها{ ]البقرة/ .[142:
ن الّنا ِ
سَفَهاء ِم َ
ل ال ّ حرمه ،ول ينهي عما أمر به ،فقال تعالىَ } :
سَيُقو ُ
صَرا ٍ
ط شاء ِإَلى ِ
ب َيْهِدي َمن َي َ
ق َواْلَمْغِر ُ
شِر ُ قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين :هم اليهود ؛ فقال سبحانهُ} :قل ّ
ل اْلَم ْ
ّمْسَتِقيٍم{ ]البقرة.[142:
فذكر ما في النسخ من تعليق المر بالمشيئة اللهية ،ومن كون المر الثاني قد يكون أصلح وأنفع ،فقولهَ} :يْهِدي َمن
شاء{ رد للمر إلى المشيئة.
ط ّمْسَتِقيٍم{ بيان للصلح النفع ،وقولهَ} :من َي َ
صَرا ٍ
شاء ِإَلى ِ
َي َ
وعلى بعض ما في الية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا :التكليف إما تابع لمحض المشيئة ،كما يقوله قوم ،أو تابع
للمصلحة ،كما يقوله قوم ،وعلى التقديرين فهو جائز.
ن وقوع النسخ بتحريم الحلل في التوراة ،بأنه أحل لسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة ،وأن
ثم إنه ـ سبحانه ـ َبّي َ
خا ،كما يدعيه
ل شرعًيا بخطاب ،لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الصل ،حتى ل يكون رفعه نس ً هذا كان تحلي ً
قوم منهم ،وأمر بطلب التوراة في ذلك .وهكذا وجدناه فيها ،كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع.
وهكذا مناظرة الصابئة الفلسفة ،والمشركين ،ونحوهم ،فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة
صرف فيه متأخروهم عّرب وُتْرجم بالعربية وذكره ـ إما صرًفا ،وإما على الوجه الذي َت ّالفلسفة من الكلم ـ الذي ُ
ط واختصار ،ورد بعضه وإتيان بمعان /أخر ،ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذْكر ما ل يتعلق سٍبزيادة أو نقصان ،وَب ْ
بالدين ،مثل مسائل]الطب[ و]الحساب[ المحض التي يذكرون فيها ذلك ،وكتب من أخذ عنهم ،مثل محمد بن زكريا
الرازي ،وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الطباء ما غايته ،انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا ،فهذا جائز.
كما يجوز السكنى في ديارهم ،ولبس ثيابهم وسلحهم ،وكما تجوز معاملتهم على الرض ،كما عامل النبي صلى ال
عليه وسلم يهود خيبر ،وكما استأجر النبي صلى ال عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجَِرْين ـ ]ابن
خّريًتا ،والخريت :الماهر بالهداية ،وائتمناه على أنفسهما ودوابهما ،ووعداه غار ل من بني الدّيل هادًيا ِ
ُأرْيقط[ رج ً
ثور صبح ثالثة ،وكانت خزاعة عيبة نصح رسول ال صلى ال عليه وسلم مسلمهم وكافرهم ،وكان يقبل نصحهم،
ب عنه مع شركه ،و هذا كثير. وكل هذا في الصحيحين ،وكان أبو طالب ينصر النبي صلى ال عليه وسلم وَيُذ ّ
ن ِإن
ك َوِمْنُهم ّم ْ
طاٍر ُيَؤّدهِ ِإَلْي َ
ن ِإن َتْأَمْنُه ِبِقن َ
ب َم ْ
ل اْلِكَتا ِ فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن ،كما قال تعالىَ} :وِم ْ
ن َأْه ِ
ت َعَلْيِه َقآِئًما{ ]آل عمران ،[75:ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال ،وجاز أن يستطب ل َما ُدْم َ
ك ِإ ّ
ل ُيَؤّدِه ِإَلْي َ
َتْأَمْنُه ِبِديَناٍر ّ
المسلُم الكافَر إذا كان ثقة ،نص على ذلك الئمة ،كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا
وائتمان لهم على ذلك ،وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة ،مثل وليته على المسلمين ،وعلوه عليهم ونحو ذلك.
فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الستدلل بالكافر على الطريق واستطبابه / ،بل هذا أحسن؛ لن كتبهم لم يكتبوها
لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة ،وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة ،بل هي مجرد انتفاع بآثارهم،
كالملبس والمساكن والمزارع والسلح ونحو ذلك.
وإن ذكروا ما يتعلق بالدين ،فإن نقلوه عن النبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حال ،وإن أحالوا معرفته على القياس
العقلي ،فإن وافق ما في القرآن فهو حق ،وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلنه بالمثال المضروبة ،كما قال تعالىَ} :و َ
ل
ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان ،[33 :ففي القرآن الحق ،والقياس البين الذي يبين بطلن ما جاؤوا
حّ
ك ِباْل َ
جْئَنا َ
ل ِ
ل ِإ ّ
ك ِبَمَث ٍ
َيْأُتوَن َ
ل فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين ،مثل]أرسطو[ وأتباعه،
به من القياس ،وإن كان ما يذكرونه مجم ً
وعلى من اتبعهم من الخرين ـ قبل الحق ورد الباطل ،والحق من ذلك ل يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق
في القرآن .فالمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته.
والترجمة والتفسير ثلث طبقات:
أحدها :ترجمة مجرد اللفظ ،مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف ،ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ
عند هؤلء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلء ،فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ ،فل يجرده
عن اللفظين جميًعا.
/والثاني :ترجمة المعنى وبيانه ،بأن يصور المعنى للمخاطب ،فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة
اللفظ ،كما يشرح للعربي كتاًبا عربًيا قد سمع ألفاظه العربية ،لكنه لم يتصور معانيه ول فهمها ،وتصوير المعني
يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك
المعنى ،إما تحديًدا وإما تقريًبا.
الدرجة الثالثة :بيان صحة ذلك وتحقيقه ،بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى ،إما بدليل مجرد وإما بدليل
يبين علة وجوده.
وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى ،كما يحتاج في ]الدرجة الثانية[ إلى أمثلة
تصور له ذلك المعنى .وقد يكون نفس تصوره مفيًدا للعلم بصدقه ،وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى
قياس ،ومثل ،ودليل آخر.
فإذا عرف القرآن هذه المعرفة ،فالكلم الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلم أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لبد فيه
حِديًثا ُيفَْتَرى َوَلـِكن
ن َضا ،وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالىَ} :ما َكا َ من الترجمة للفظ والمعنى أي ً
يٍء{ ]النحل.[89 : ش ْ
ل َ ب ِتْبَياًنا ّلُك ّ
ك اْلِكَتا َ يٍء{ ]يوسف ،[111 :وقالَ} :وَنّزْلَنا َ
عَلْي َ ش ْ
ل َ
ل ُك ّ
صي َ
ن َيَدْيِه َوَتْف ِ
ق اّلِذي َبْي َ
صِدي َ
َت ْ
ومعلوم أن المة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه ،كما أمر بذلك /الرسول ،ول يكون تبليغ رسالة ال إل كذلك،
جم قد يحتاج إلى ترجمة لهم ،فيترجم لهم بحسب المكان ،والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال وأن تبليغه إلى الَع َ
لتصوير المعاني ،فيكون ذلك من تمام الترجمة.
وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين ،بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم ،ل يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه،
فلن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لن عقل المسلمين أكمل ،وكتابهم أقوم قيل ،وأحسن حديًثا،
ولغتهم أوسع ،لسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة ،بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها
صعب؛ لنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه.
فإذا سئلنا عن كلم يقولونه :هل هو حق أو باطل ،ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول :بالحجة والدليل،
كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول ال صلى ال عليه وسلم عن مسائل ،أو يناظرونه ،وكما كانت المم
تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة.
مثال ذلك :إذا ذكروا ]العقول العشرة[ ،و]النفوس التسعة[ وقالوا :إن العقل الول هو الصادر الول عن الواجب
سا.
ل ونف ً
ن لكل فلك عق ً
بذاته ،وإنه من لوازم ذاته ومعلول له ،وكذلك الثاني عن الول ،وإ ّ
/قيل :قولكم]:عقل ،ونفس[ لغة لكم ،فلبد من ترجمتها ،وإن كان اللفظ عربًيا فلبد من ترجمة المعنى.
ل ويسمونه مفارًقا ،ويسمون تلكفيقولون] :العقل[ هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلئقها ـ سموه عق ً
المفارقات للمواد؛ لنها مفارقة للجساد ،كما أن روح النسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد
و]النفس[ :هي الروح المدبرة للجسم ،مثل نفس النسان إذا كانت في جسمه ،فمتى كانت في الجسم كانت محركة له،
ضا ،أي :يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الجسام ،فهذه العقول والنفوس.ل مح ًفإذا فارقته صارت عق ً
وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس ،وأكثرهم ل يحصلون ذلك.
ل؛ لن العقل كامل ل يحتاج إلى سا؛ لن الحركة اختيارية ،فل تكون إل لنفس ،ولكل نفس عق ً قالوا :وأثبتنا لكل فلك نف ً
حركة ،والمتحرك يطلب الكمال فلبد أن يكون فوقه ما يشبه به ،وما يكون علة له ،ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه
بما فوقنا من العقول ،وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب المكان.
والول ل يصدر عنه إل عقل ؛ لن النفس تقتضي جسًما ،والجسم فيه /كثرة ،والصادر عنه ل يكون إل واحًدا .ولهم
في الصدور اختلف كثير ليس هذا موضعه.
حا ،فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب ال ،ولكن ليست هي ]الملئكة[، قيل لهم :أما إثباتكم أن في السماء أروا ً
كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول ،وما أنزل من قبله ،ويقولون :ما أردنا إل الحسان
والتوفيق بين الشريعة والفلسفة ،فإنهم قالوا :العقول والنفوس عند الفلسفة هي الملئكة عند النبياء ،وليس كذلك،
لكن تشبهها من بعض الوجوه.
ل ِفْتَنًة ّلّلِذينَ
عّدَتُهْم ِإ ّ
جَعْلَنا ِ
لِئَكًة َوَما َل َم َ ب الّناِر ِإ ّ
حا َ صَ وملئكة ال ل يحصى عددهم إل ال ،كما قال تعالى َ} :وَما َ
جَعْلَنا َأ ْ
ض
ن ِفي ُقُلوِبِهم ّمَر ٌ ل اّلِذي َ
ن َوِلَيُقو َ
ب َواْلُمْؤِمُنو َن ُأوُتوا اْلِكَتا َب اّلِذي َل َيْرَتا َ
ن آَمُنوا ِإيَماًنا َو َب َوَيْزَداَد اّلِذي َ
ن ُأوُتوا اْلِكَتا َ ن اّلِذي َ
سَتْيِق َ
َكَفُروا ِلَي ْ
ك ِإّل ُهَو{ ]المدثر.[31: جُنوَد َرّب َ شاء َوَما َيْعَلُم ُشاء َوَيْهِدي َمن َي َ ل َمن َي َ ل ا ُّ
ضّ ك ُي ِ ل َكَذِل َ
ل ِبَهَذا َمَث ً
ن َماَذا َأَراَد ا ُّ َواْلَكاِفُرو َ
وقيل لهم :الذي في الكتاب والسنة ،من ذكر الملئكة وكثرتهم ،أمر ل يحصر ،حتى قال النبي صلى ال عليه وسلم:
ق لها أن تئط ،ما فيها موضع أربع أصابع إل ملك قائم أو قاعد ،أو راكع ،أو ساجد(] ،الطيط:
حّطت السماء و ُ
)أ ّ
صوت القتاب ،وأطيط البل :أصواتها وحنينها ،أي :أن كثرة ما فيها من الملئكة قد أثقلها حتى أطت .وهذا مثل
وإيذان بكثرة الملئكة ،وإن لم يكن ثم أطيط ،وإنما هو كلم تقريب أريد به تقرير عظمة ال تعالى[ وقال ال تعالى:
حيُم{
ل ُهَو اْلَغُفوُر الّر ِ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
ض َأ َ
لْر ِ
ن ِلَمن ِفي ا َْ
سَتْغِفُرو َ
حْمِد َرّبِهْم َوَي ْ
ن ِب َ
حو َ
سّب ُ
لِئَكُة ُي َ
ن َواْلَم َ
ن ِمن َفْوِقِه ّ
طْر َ
ت َيَتَف ّ
سَماَوا ُ
}َتَكاُد ال ّ
]الشورى.[5 :
وهذا من بعض صفات ملئكة السموات ،فالذي أثبتوه هو بعض /الصفات لبعض الملئكة ،وهو بالنسبة إلى الملئكة
وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة ،أقل مما يؤمن به السامرة من النبياء بالنسبة إلى النبياء؛ إذ هم ل
شع.
يؤمنون بنبي بعد موسى وُيو َ
كيف وهم لم يثبتوا للملئكة من الصفة إل مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول ،والحركة الرادية للنفوس؟
ومن المعلوم أن الملئكة لهم من العلوم ،والحوال ،والرادات ،والعمال ما ل يحصيه إل ذو الجلل ،ووصفهم في
القرآن بالتسبيح والعبادة ل أكثر من أن يذكر هنا ،كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملئكة ،وأمره لهم بالسجود لدم.
حْوَلُهن َش َوَم ْ ن اْلَعْر َ حِمُلو َ ن َي ْس{ ]الحج ،[75:وقوله تعالى} :اّلِذي َ ن الّنا ِ ل َوِم َ سً لِئَكِة ُر ُ ن اْلَم َ طِفي ِم َ صَ ل َي ْ وقوله تعالى} :ا ُّ
سِلِه{ ل َوَملِئَكِتِه َوُكُتِبِه َوُر ُ ن ِبا ّ ل آَم َن آَمُنوا{ ]غافر ،[7 :وقوله تعالىُ} :ك ّ ن ِلّلِذي َسَتْغِفُرو َن ِبِه َوَي ْ حْمِد َرّبِهْم َوُيْؤِمُنو َحونَ ِب َ سّب ُ
ُي َ
صِبُروْان َبَلى ِإن َت ْ ن اْلَملِئَكِة ُمنَزِلي َ ف ّم َ ل ٍ لَثِة آ َ
ن َأَلن َيْكِفيُكْم َأن ُيِمّدُكْم َرّبُكم ِبَث َ ]البقرة ،[285:وقوله تعالىِ}:إْذ َتُقو ُ
ل ِلْلُمْؤِمِني َ
ن{ ]آل عمران ،[125، 124:وقوله تعالىِ} :إْذ سّوِمي َ ن اْلَملِئَكِة ُم َ ف ّم َ سِة آل ٍ خْم ََوَتّتُقوْا َوَيْأُتوُكم ّمن َفْوِرِهْم َهـَذا ُيْمِدْدُكْم َرّبُكم ِب َ
عَلى سوِلِه َو َعَلى َر ُ سِكيَنَتُه َ ل َ لا ّ ن آَمُنوْا{ ]النفال ،[12:وقوله تعالىُ} :ثّم َأَنز َ ك ِإَلى اْلَملِئَكِة َأّني َمَعُكْم َفَثّبُتوْا اّلِذي َ حي َرّب َ ُيو ِ
سْلَنا
جُنوٌد َفَأْر َ جاءْتُكْم ُ عَلْيُكْم ِإْذ َل َ ن آَمُنوا اْذُكُروا ِنْعَمَة ا ِّ جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها{ ]التوبة ،[26:وقال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ ل ُ ن َوَأنَز َ اْلُمْؤِمِني َ
جوَهُهْمن ُو ُضِرُبو َ ن َكَفُروْا اْلَملِئَكُة َي ْ جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها{ ]الحزاب ،[9 :وقوله تعالىَ} :وَلْو َتَرى ِإذْ َيَتَوّفى اّلِذي َ حا َو ُ عَلْيِهْم ِري ً
َ
طّيِبيَن َيُقوُلوَن َسلٌم َعَلْيُكُم{ ]النحل: ن َتَتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ ق{ ]النفال ،[50:وقوله تعالى} :اّلِذي َ حِري ِ ب اْل َعَذا َ َوَأْدَباَرُهْم َوُذوُقوْا َ
جّنِة اّلِتي ُكنُتْم شُروا ِباْل َ حَزُنوا َوَأْب ِ ل َت ْ
خاُفوا َو َ ل َت َ
لِئَكُة َأ ّ
عَلْيِهُم اْلَم َ
ل َسَتَقاُموا َتَتَنّز ُ
ل ُثّم ا ْ ن َقاُلوا َرّبَنا ا ُّ ،[32وقوله تعالىِ}:إ ّ
ن اّلِذي َ
ن{ ]النعام ،[61:وقوله تعالىُ} :قلْ طو َ ل ُيَفّر ُ
سُلَنا َوُهْم َت َتَوّفْتُه ُر ُحَدُكُم اْلَمْو ُ
جاء َأ َ ى ِإَذا َ حّت َن{ ]فصلت ،[30:وقولهَ } : عُدو َ ُتو َ
سَفَرٍة ِكَراٍم َبَرَرٍة{ طّهَرةٍ ِبَأْيِدي َ عٍة ّم َ ف ّمَكّرَمٍة ّمْرُفو َ ح ٍ صُ ل ِبُكْم{ ]السجدة ،[11 :وقوله تعالىِ} :في ُ ت اّلِذي ُوّك َ ك اْلَمْو َِيَتَوّفاُكم ّمَل ُ
]عبس.[16 :13 :
ل َوِإّنُهْم
ن َوَلَد ا ُّ
ن ِإْفِكِهْم َلَيُقوُلو َ
ل ِإّنُهم ّم ْ
ن َأ َ
شاِهُدو َ
لِئَكَة ِإَناًثا َوُهْم َ
خَلْقَنا اْلَم َ
ن َأْم َ
ت َوَلُهُم اْلَبُنو َ
ك اْلَبَنا ُ وقوله تعالىَ} :فا ْ
سَتْفِتِهْم َأِلَرّب َ
صاّفوَن َوِإّنا َلَنْحُن اْلُمَسّبُحوَن{ ]الصافات.[149-166: ن ال ّ حُن{ إلى قوله تعالىَ} :وِإّنا َلَن ْ َلَكاِذُبو َ
سُْمَرَة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :أل تصفون كما تصف الملئكة عند ربها؟ وفي الصحيحين عـن جابر بن َ
قالوا وكيف تصف الملئكة عند ربها؟ قال :يتمون الصف الول ،ويتراصون في الصف( ،وفي الصحيحين عن قتادة
صَعة في حديث المعراج عن النبي صلى ال عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماءعن أنس عن مالك بن صْع َ
السابعة ـ قال) :فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل ،فقال :هذا البيت المعمور ،يصلي فيه كل يوم سبعون ألف
ملك ،إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم(.
وقال البخاري :وقال هّمام عن قتادة عن الحسن ،عن أبي هريرة ،عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا أّم َ
ن
القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملئكة غفر له ما تقدم من ذنبه( ،وفي الرواية الخرى في الصحيحين إذا
قال) :آمين ،فإن الملئكة في السماء تقول :آمين(.
ضا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال) :إذا قال المام :سمع ال وفي الصحيح أي ً
لمن حمده ،فقولوا :اللهم ربنا ولك الحمد ،فإنه من وافق قوله قول الملئكة غفر له ما تقدم من ذنبه( .وفي /الصحيح
عن عروة ،عن عائشة زوج النبي صلى ال عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول) :إن
الملئكة تنزل في الَعَنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر المر قضى في السماء ،فتسترق الشياطين السمع ،فتسمعه ،فتوحيه
إلى الكهان ،فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم(.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إن ل ملئكة سيارة فضلء ،يتبعون مجالس
ضا بأجنحتهم ،حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء
ف بعضهم بع ً
ح ّسا فيه ذكر قعدوا معهم ،و َ
الذكر ،فإذا وجدوا مجل ً
الدنيا ،فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء ،فيسألهم ال ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم؟ فيقولون :جئنا من عند عباد
لك في الرض يسبحونك ويكبرونك ،ويهللونك ويحمدونك ،ويسألونك .قال :وما يسألوني؟ قالوا :يسألونك جنتك .قال:
وهل رأوا جنتي؟ قالوا :ل أي رب ،قال :فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا :ويستجيرونك .قال :ومم يستجيرونني؟ قالوا :من
نارك .قال :وهل رأوا ناري؟ قالوا :يا رب ل .قال :فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا :ويستغفرونك .قال :فيقول :قد غفرت
جْرُتهم مما استجاروا ،قال :يقولون :رب ،فيهم فلن عبد خطاء ،إنما مر فجلس معهم .قال:
لهم وأعطيتهم ما سألوا ،وأ َ
فيقول :وله قد غفرت ،هم القوم ل يشقى بهم جليسهم(.
/وفي الصحيحين عنُعْرَوة ،عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى ال عليه وسلم :هل أتى عليك يوم كان أشد من
حد؟ قال) :لقد لقيت من قومك ما لقيت ،وكان أشد ما لقيت منهم يوم الَعَقَبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل يوم ُأ ُ
بن عبد كلل ،فلم يجبني إلى ما أردت ،فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ،فلم أستفق إل وأنا بَقْرن الثعالب ،فرفعت
رأسي ،فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ،فنظرت فإذا فيها جبريل ،فناداني ،فقال :إن ال قد سمع قول قومك لك وما ردوا
عليك ،وقد بعث ال إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ،فناداني ملك الجبال ،فسلم على ،ثم قال :يا محمد ،فقال:
شَبْين]الخشبان :هما الجبلن المطيفان بمكة ،وهما أبو قبيس والحمر، خَذلك فيما شئت ،إن شئت أن أطبق عليهم الَ ْ
وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان .والخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة[ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :بل
أرجو أن يخرج ال من أصلبهم من يعبد ال وحده ل يشرك به شيًئا(.
وأمثال هذه الحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملئكة الذين في السموات وملئكة الهواء والجبال ،وغير ذلك كثيرة.
وكذلك الملئكة المتصرفون في أمور بني آدم ،مثل قوله صلى ال عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث
الصادق المصدوق ـ إذ يقول) :ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ،فيقال :اكتب رزقه ،وأجله ،وشقي أو سعيد،
ثم ينفخ فيه الروح( وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم لحسان):اهجهم ـ أو
ضا أن النبي صلى ال عليه وسلم قال له) :أجب عني ،الّلهم أيده /بروح هاجهم ـ وجبريل معك( ،وفي الصحيح أي ً
الُقُدس( ،وفي الصحيح عن أنس قال) :كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل( ،وفي الصحيحين
صَلة الجرس،صْل َ
عن عائشة :أن الحارث بن هشام قال :يا رسول ال ،كيف يأتيك الوحي؟ قال) :أحياًنا يأتيني مثل َ
ل ،فيكلمني ،فأعي ما يقول( ]وقوله: ت ما قال ،وأحياًنا يتمثل لي الملك رج ً
عْي ُ
صم عني وقد َو َ
وهو أشده عليَ ،فُيْف ِ
صم :أي فيْقِلع[.
فُيْف ِ
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال :قال النبي صلى ال عليه وسلم) :يتعاقبون فيكم ملئكة بالليل وملئكة بالنهار،
ويجتمعون في صلة الفجر والعصر ،ثم يعرج الذين باتوا فيكم ،فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟
فيقولون :تركناهم وهم يصلون ،وأتيناهم وهم يصلون(.
وفي الصحيحين عن عائشة قالت :حشوت للنبي صلى ال عليه وسلم وسادة فيها تماثيل ،كأنها نمرقة فجاء فقام،
وجعل يتغير وجهه ،فقلت:ما لنا يا رسول ال؟ قال) :ما بال هذه الوسادة؟( قالت :وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها،
قال) :أما علمت أن الملئكة ل تدخل بيتا فيه صورة ،إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال :أحيوا ما خلقتم(،
وفي الصحيحين /عن ابن عباس قال :سمعت أبا طلحة يقول :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول) :لتدخل
الملئكة بيتا فيه كلب ولصورة تماثيل(.
وكذلك في الصحيحين عن عبد ال بن عمر قال) :وعد النبي صلى ال عليه وسلم جبريل ،فقال :إنا ل ندخل بيًتا فيه
كلب ول صورة( ،وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إن الملئكة تصلي على
له الذي صلى فيه :الّلهم اغفر له ،الّلهم ارحمه ،ما لم يحدث(.
صّأحدكم ما دام في ُم َ
وأمثال هذه النصوص ،التي يذكر فيها من أصناف الملئكة وأوصافهم وأفعالهم ،ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه
من ]العقول ،والنفوس[ أو أن يكون جبريل هو ]العقل الفعال[ وتكون ملئكة الدميين هي القوى الصالحة،
والشياطين هي القوى الفاسدة ،كما يزعم هؤلء.
ضا ،فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملئكة ،وزعموا أنها معلولة عن ال صادرة عن ذاته صدور وأي ً
المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن ال ،وأن ال ولد الملئكة ،وهذا مما رده ال ونزه نفسه عنه ،وكذب قائله،
وبين كذبه بقوله َ}:لْم َيِلْد َوَلْم ُيوَلْد
عَلى ت َ طَفى اْلَبَنا ِن َأصْ َ ل َوِإّنُهْم َلَكاِذُبو َ
ن َوَلَد ا ُّ
ن ِإْفِكِهْم َلَيُقوُلو َ حٌد{ ]الخلص [4 ،3:وقال تعالىَ} :أ َ
ل ِإّنُهم ّم ْ َوَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ
صاِدِقيَن{ ]الصافات ،[157 - 151:وبقوله: ن َفْأُتوا ِبِكَتاِبُكْم ِإن ُكنُتْم َ ن ّمِبي ٌ طا ٌسْل َ
ن َأْم َلُكْم ُل َتَذّكُرو َ ن َأَف َ حُكُمو َ ف َت ْن َما َلُكْم َكْي َاْلَبِني َ
صُفوَن{ ]النعام ،[100 :وقوله تعالى: عّما َي ِ حاَنُه َوَتَعاَلى َ سْب َ
عْلٍم ُ ت ِبَغْيِر ِ ن َوَبَنا ٍخَرُقوْا َلُه َبِني َخَلَقُهْم َو َ ن َو َجّ شَرَكاء اْل ِ ل ُ جَعُلوْا ِّ }َو َ
شَفُعو َ
ن ل َي ْ
خْلَفُهْم َو َ
ن َأْيِديِهْم َوَما َن َيْعَلُم َما َبْي َ
ل َوُهم ِبَأْمِرِه َيْعَمُلو َسِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ
ل َي ْ ن َ عَباٌد ّمْكَرُمو َ ل ِ حاَنُه َب ْ
سْب َ ن َوَلًدا ُحَم ُخَذ الّر ْ}َوَقاُلوا اّت َ
ل اْلَملِئَكُة ل َو َعْبدًا ّ ن َح َأن َيُكو َ سي ُ ف اْلَم ِ
سَتنِك َ ن{ ]النبياء ،[28 -26:وقال تعالى ّ}:لن َي ْ شِفُقو َشَيِتِه ُم ْ خْ ن َضى َوُهم ّم ْ ن اْرَت َ ل ِلَم ِ
ِإ ّ
ن َوَلًدا َلَقْد حَم ُخَذ الّر ْجِميًعا{ ]النساء ،[172 :وقال تعالىَ} :وَقاُلوا اّت َ شُرُهْم ِإَليِه َ حُ سَي ْ
سَتْكِبْر َف َ
عَباَدِتِه َوَي ْ
ن ِ عْف َ سَتنِك ْ ن َوَمن َي ْ اْلُمَقّرُبو َ
خَذ َوَلًدا ن َأن َيّت ِ
حَم ِن َوَلًدا َوَما َينَبِغي ِللّر ْ حَم ِ
عْوا ِللّر ْل َهّدا َأن َد َ جَبا ُ
خّر اْل ِ ض َوَت ِ لْر ُ ق ا َْشّ ن ِمْنُه َوَتن َ طْر َت َيَتَف ّ سَماَوا ُشْيًئا ِإّدا َتَكاُد ال ّ
جْئُتْم َ
ِ
صاُهْم َوَعّدُهْم عَّدا َوُكّلُهْم آِتيِه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفْرًدا{ ]مريم. [95- 88: ح َ عْبًدا َلَقْد َأ ْ
ن َ حَم ِل آِتي الّر ْ ض ِإ ّ
لْر ِ ت َوا َْسَماَوا ِ ل َمن ِفي ال ّ ِإن ُك ّ
فأخبر أنهم معبدون ،أي :مذللون مصرفون ،مدينون مقهورون ،ليسوا كالمعلول المتولد تولًدا لزًما ل يتصور أن
يتغير عن ذلك .وأخبر أنهم عباد ل ،ل يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة ،والولد بالوالد ،كما يزعمه هؤلء
لْر ِ
ض ت َوا َ
سَماَوا ِ
ن َبِديُع ال ّ
ل ّلُه َقاِنُتو َ
ض ُك ّ
لْر ِ
ت َوا َ
سَماَوا ِ
حاَنُه َبل ّلُه َما ِفي ال ّ
سْب َ
ل َوَلًدا ُ الصابئون ،وقال تعالىَ} :وَقاُلوْا اّت َ
خَذ ا ّ
ضى َأْمرًا َفِإّنَما َيُقوُل َلُه ُكن َفَيُكوُن{ ]البقرة ،[117 ،116:فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله] :كن[ ل بتولد المعلول َوِإَذا َق َ
عنه.
ن َبِديُع
عّما َيصُِفو َ
حاَنُه َوَتَعاَلى َ
سْب َ
عْلٍم ُ
ن َوَبَناتٍ ِبَغْيِر ِ
خَرُقوْا َلُه َبِني َخَلَقُهْم َو َ
ن َو َ
جّ
شَرَكاء اْل ِ ل ُ وكذلك قال سبحانهَ} :و َ
جَعُلوْا ِّ
يٍء َعِليٌم{ ]النعام[101 ،100 : ش ْ
ل َ يٍء وُهَو ِبُك ّش ْل َ ق ُك ّ خَل َ
حَبٌة َو َ
صا ِ ن َلُه َوَلٌد َوَلْم َتُكن ّلُه َ
ض َأّنى َيُكو ُ
لْر ِ
ت َوا َ
سَماَوا ِ
ال ّ
/فأخبر أن التولد ل يكون إل عن أصلين،كما تكون النتيجة عن مقدمتين ،وكذلك سائر المعلولت المعلومة ل يحدث
المعلول إل باقتران ما تتم به العلة ،فأما الشيء الواحد وحده فل يكون علة ول والًدا قط ،ل يكون شيء في هذا العالم
إل عن أصلين ،ولو أنهما الفاعل والقابل ،كالنار والحطب ،والشمس والرض ،فأما الواحد وحده فل يصدر عنه
شيء ول يتولد.
فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد ،حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد ،وكذلك قال:
يٍء َخَلْقَنا َزْوَجْيِن َلَعّلُكْم َتَذّكُروَن{ ]الذاريات [49:خلف قولهم :إن الصادر عنه واحد .وهذا وفاء بما ذكره ال ش ْ
ل َ
}َوِمن كُ ّ
ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان[33:
حّك ِباْل َ
جْئَنا َ
ل ِ
ل ِإ ّ
ك ِبَمَث ٍ ـ تعالى ـ من قوله َو َ
ل َيْأُتوَن َ
ن ِلْلَعاَلِمي َ
ن عْبِدِه ِلَيُكو َ
عَلى َ ن َ ل اْلُفْرَقا َ
ك اّلِذي َنّز َ إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول ،فقال تعالى َ}:تَباَر َ
سو ِ
ل ت َمَع الّر ُ خْذ ُ ل َيا َلْيَتِني اّت َ
عَلى َيَدْيِه َيُقو ُ ظاِلُم َض ال ّ َنِذيًرا{ ]الفرقان] ،[1:فذكر[ الوحدانية والرسالة إلى قولهَ} :وَيْوَم َيَع ّ
لنَساِن َخُذوًل{ ]الفرقان 27:ـ ،[29 ن ِل ِْ
طا ُ شْي َ
ن ال ّجاءِني َوَكا َ ن الّذْكِر َبْعَد ِإْذ َ عِضّلِني َ ل َلَقْد َأ َ
خِلي ً لًنا َ خْذ ُف َل َيا َوْيَلَتى َلْيَتِني َلْم َأّت ِ
سِبي ً
َ
ل َيا َر ّ
ب سو ُ
ل الّر ُ فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك .والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنتهَ} :وَقا َ
ن َكَفُروا َلْو َ
ل ل اّلِذي َ صيًرا َوَقا َ ك َهاِدًيا َوَن ِ ن َوَكَفى ِبَرّب َ جِرِمي َن اْلُم ْعُدّوا ّم َي َ ل َنِب ّ جَعْلَنا ِلُك ّ
ك َجوًرا َوَكَذِل َ ن َمْه ُ خُذوا َهَذا اْلُقْرآ َ ن َقْوِمي اّت َ ِإ ّ
ق َوَأْحَسَن َتْفِسيًرا{ ]الفرقان: حّ ك ِباْل َجْئَنا َل ِ ل ِإ ّ
ك ِبَمَث ٍ
ل َيْأُتوَن َ
ل َو َك َوَرّتْلَناُه َتْرِتي ًت ِبِه ُفَؤاَد َ ك ِلُنَثّب َ
حَدًة َكَذِل َجْمَلًة َوا ِن ُ عَلْيِه اْلُقْرآ ُ
ل َ
ُنّز َ
.[30-33
وهؤلء الصابئة قد أتوا بمثل ،وهو قولهم :الواحد ل يصدر عنه ويتولد عنه إل واحد ،والرب واحد فل يصدر عنه إل
واحد يتولد عنه .فأتى ال بالحق وأحسن تفسيًرا ،وبين أن الواحد ل يصدر عنه شيء ول يتولد عنه شيء أصل ،وأنه
لم يتولد عنه شيء ،ولم يصدر عنه شيء ،ولكن خلق كل شيء خلًقا ،وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين .ولهذا قال
مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر) :إن الشفع هو الخلق ،فكل مخلوق له نظير ،والوتر هو ال
صاِحَبٌة{ ]النعام.[101: الذي ل شبيه له( ،فقالَ}:أّنى َيُكو ُ
ن َلُه َوَلٌد َوَلْم َتُكن ّلُه َ
وذلك أن الثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لبد فيها من شيئين أحدهما :يكون كالب ،والخر:
يكون كالم القابلة .وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الرض ،والنار مع الحطب ،فأما صدور شيء واحد
عن شيء واحد،فهذا ل وجود له في الوجود أصل.
ضا حجة ل ورسوله وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس،وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر ،فهو أي ً
والمؤمنين عليهم .وذلك أن الشعاع إن /أريد به نفس ما يقوم بالشمس ،فذلك صفة من صفاتها ،وصفات الخالق ليست
مخلوقة ،ول هي من العالم الذي فيه الكلم.
وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الرض ،فذلك لبد فيه من شيئين ،وهما الشمس التي تجري مجرى الب الفاعل،
والرض التي تجري مجرى الم القابلة ،وهي الصاحبة للشمس.
وكذلك الصوت ل يتولد إل عن جسمين يقرع أحدهما الخر ،أو يقلع عنه ،فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم
عن أصلين يقرع أحدهما الخر ،أو يقلع عنه.
ضا ،فجعلها علة تامة لما تحتها ،ومؤكدة له ،وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا ،ويجعلوها لنا كالباء والمهات، وأي ً
وربما جعلوا العقل هو الب ،والنفس هي الم ،وربما قال بعضهم [:الوالدان] :العقل والطبيعة ،كما قال صاحب
ي{ ]نوح ،[28:أي :من كنت نتيجة عنهما،وهما العقل والطبيعة .وحتى غِفْر ِلي َوِلَواِلَد ّ الفصوص في قول نوح }َر ّ
با ْ
يسمونها الرباب واللهة الصغرى ،ويعبدونها .وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل.
/وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملئكة ،وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم ،أنهم كانوا
ضا.
يسمونها اللهة والرباب الصغرى ،كما كانوا يعبدون الكواكب أي ً
سِله ،و ل
والقرآن ينفي أن تكون أرباًبا ،أو أن تكون آلهة ،ويكون لها غير ما للرسول الذي ل يفعل إل بعد أُمِر ُمْر ِ
يشفع إل بعد أن يؤذن له في الشفاعة ،وقد رد ال ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من المم ،فقال
لِئَكَة َوالّنِبّيْيَن َأْرَباًبا َأَيْأُمُرُكم ِباْلُكْفِر َبْعَد ِإْذ َأنُتم ّمْسِلُموَن{؟ ]آل عمران [80:وقال تعالى:
خُذوْا اْلَم َ تعالىَ} :و َ
ل َيْأُمَرُكْم َأن َتّت ِ
}َوَقاُلوا اّتَخَذ الّرْحَمُن َوَلًدا ُسْبَحاَنُه َبْل ِعَباٌد ّمْكَرُموَن َل َيْسِبُقوَنُه ِباْلَقْوِل َوُهم ِبَأْمِرهِ َيْعَمُلوَن} ]النبياء ،[72 ،62:وقال تعالى :
ك َوَما َلُه ِمْنُهم ّمن
شْر ٍض َوَما َلُهْم ِفيِهَما ِمن ِ لْر ِ ل ِفي ا َْ ت َو َ
سَماَوا ِ ل َذّرٍة ِفي ال ّن ِمْثَقا َ
ل َيْمِلُكو َ
ل َ ن ا ِّ عْمُتم ّمن ُدو ِن َز َعوا اّلِذي َل اْد ُ
}ُق ِ
ي اْلَكِبيُر{ ]سبأ ،22: ق َوُهَو اْلَعِل ّ
حّ
ل َرّبُكْم َقاُلوا اْل َ عن ُقُلوِبِهْم َقاُلوا َماَذا َقا َ
ع َ حّتى ِإَذا ُفّز َن َلُه َن َأِذ َل ِلَم ْ
عنَدُه ِإ ّ
عُة ِ
شَفا َ
ل َتنَفُع ال ّ
ظِهيٍر وَ ََ
.[32
وقد تقدم بعض الحاديث في صعق الملئكة إذا قضى ال بالمر الكوني أو بالوحي الديني.
ضى{ ]النجم ، [62:وقال شاء َوَيْر َ ل ِلَمن َي َ ن ا ُّل ِمن َبْعِد َأن َيْأَذ َ شْيًئا ِإ ّ
عُتُهْم َ
شَفا َ
ل ُتْغِني َت َ سَماَوا ِ ك ِفي ال ّ وقال تعالىَ} :وَكم ّمن ّمَل ٍ
ن َذِلكَخْلَفَنا َوَما َبْي َ
ن َأْيِديَنا َوَما َ
ك َلُه َما َبْي َ
ل ِبَأْمِر َرّب َن{ الية]النبياء/ ،[26:وقال تعالى َ}:وَما َنَتَنّزلُ ِإ ّ عَباٌد ّمْكَرُمو َ
ل ِ تعالى َ}:ب ْ
ل ُأوَلـِئ َ
ك حِوي ً ل َت ْ
عنُكْم َو َضّر َ ف ال ّ ش َ ن َك ْ ل َيْمِلُكو َعْمُتم ّمن ُدوِنِه َف َ ن َز َ عوْا اّلِذي َ سّيا{ ]مريم ،[64:وقال تعالى ُ}:ق ِ
ل اْد ُ ك َن ِ
َوَما َكانَ َرّب َ
ك َكاَن َمْحُذوًرا{ ]السراء،56 : ب َرّب َعَذا َ ن َ عَذاَبُه ِإ ّ
ن َ خاُفو َ حَمَتُه َوَي َ ن َر ْجو َ ب َوَيْر ُ
سيَلَة َأّيُهْم َأْقَر ُ
ن ِإَلى َرّبِهُم اْلَو ِ
ن َيْبَتُغو َ
عو َ ن َيْد ُ
اّلِذي َ
،[57نزلت الية في الذين يدعون الملئكة والنبيين.
فإن ال ـ سبحانه ـ بعث محمًدا صلى ال عليه وسلم بجوامع الكلم .فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة ،كلية عامة لما
كان متفرًقا منتشًرا في كلم غيره ،ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين ،وما
يبين وجه دللته.
فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولدة واتخاذ الولد ،أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير ،كالمرض
الذي يحيل البدن عن صحته ،والعليل ضد الصحيح .وقد قيل :إنه ل يقال]:معلول[ إل في الشرب ،يقال :شرب الماء
عل بعد َنَهل ،وعللته :إذا سقيته مرة ثانية.
وأما استعمال اسم ]العلة[ في الموجب للشيء أو المقتضى له ،فهو من عرف أهل الكلم ،وهي ـ وإن كان بينهما
وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ ]التولد[ أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر .يقول
الناس/ :هذا المر يتولد عنه كذا ،وهذا يولد كذا ،وقد تولد عن ذلك المر كيت وكيت ،لكل سبب اقتضى مسبًبا من
القوال والعمال ،حتى أهل الطبائع يقولون] :الركان والمولدات[ ،يريدون ما يتولد عن الصول الربعة ـ التراب،
والماء ،والهواء ،والنار ـ من معدن ،ونبات ،وحيوان.
فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيًئا اقتضى أل يتولد عنه شيء ،ونفيه أن يتخذ ولًدا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء
من خلقه على سبيل التكريم ،وأن العباد ل يصلح أن يتخذ شيًئا منهم بمنزلة الولد .وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل
ل{ ]المائدة ،[18:ومن يقول :الفلسفة هي التشبه بالله ،فإن الولد ن َأْبَناء ا ّذلك في المسيح وغيره ،ومن يقولَ} :ن ْ
حُ
عا له ،ولهذا كان هؤلء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق يكون من جنس والده ويكون نظيًرا له ،وإن كان فر ً
ل بالتشبيه والتمثيل ،وجعل النداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلسفة الذين يقولون بصدور العقول قو ً
والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أنداًدا ،ويتخذونها آلهة وأرباًبا ،بل قد ل يعبدون إل إياها ،ول
يدعون سواها ،ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها.
]بهامش الصل هنا متروك محل خمسة أسطر .قال في المسودة :يتلوه الوريقة ،ولم نجدها[
فإن هؤلء جعلوا ل شركاء الجن وخلقهم ،وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ،و]الجن[ قد قيل :إنه يعم الملئكة ،كما
قيل في قولهَ} :وَجَعُلوا َبْيَنُه َوَبْيَن اْلِجّنِة َنَسًبا{ ]الصافات ،[158:وإن كان قد قيل في سبب ذلك :زعم بعض مشركي
ضا ،كما عبدتها الصابئة الفلسفة ،كما العرب أن ال صاهر إلى الجن فولدت الملئكة ،فقد كانوا يعبدون الملئكة أي ً
ب َشَهاَدُتُهْم َوُيْسَأُلوَن{ ]الزخرف ،[19:وقال سُتْكَت ُ
خْلَقُهْم َ
شِهُدوا َ ن ِإَناًثا َأ َحَم ِ
عَباُد الّر ْن ُهْم ِ لِئَكَة اّلِذي َ
جَعُلوا اْلَم َقال تعالى َ}:و َ
جّ
ن ن اْل ِ
ل َكاُنوا َيْعُبُدو َ
ت َوِلّيَنا ِمن ُدوِنِهم َب ْ
ك َأن َ
حاَن َ
سْب َ
ن َقاُلوا ُلء ِإّياُكْم َكاُنوا َيْعُبُدو َ لِئَكِة َأَهُؤ َ
ل ِلْلَم َ
جِميًعا ُثّم َيُقو ُ
شُرُهْم َحُ تعالىَ} :وَيْوَم َي ْ
َأْكَثُرُهم ِبِهم ّمْؤِمُنوَن{ ]سبأ ، [41، 40:يعني :أن الملئكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين
للشياطين التي تتمثل لهم ،كما يكون للصنام شياطين.
وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها ،حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه ،وهو شيطان من
الشياطين.
ضّ
ل سَتِقيٌم َوَلَقْد َأ َ
ط ّم ْ
صَرا ٌ
عُبُدوِني َهَذا ِ
نا ْ
ن َوَأ ْ
عدُّو ّمِبي ٌ
ن ِإّنُه َلُكْم َ
طا َ
شْي َ
ل َتْعُبُدوا ال ّ ولهذا قال تعالى َ}:أَلْم َأ ْ
عَهْد ِإَلْيُكْم َيا َبِني آَدَم َأن ّ
ل َكِثيًرا َأَفَلْم َتُكوُنوا َتْعِقُلوَن{ ]يس،[60-62: جِب ّ
ِمنُكْم ِ
فقد تبين أن هؤلء الفلسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملئكة ،في صفتهم
وأقدارهم.
وذلك ،أن هؤلء القوم إنما سلكوا سبيل الستدلل بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم ،مع ما جحدوه وجهلوه من
خلق ال وإبداعه.
وسبب ذلك :ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم :أن أساطينهم الوائل ،كفيثاغورس ،وسقراط ،وأفلطون ،كانوا
يهاجرون إلى أرض النبياء بالشام ،ويتلقون عن لقمان الحكيم ،ومن بعده من أصحاب داود وسليمان ،وأن أرسطو لم
يسافر إلى أرض النبياء ،ولم يكن عنده من العلم بأثارة النبياء ما عند سلفه .وكان عنده قدر يسير من الصابئية
الصحيحة ،فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية ،وصارت قانوًنا مشى عليه أتباعه ،واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الجسام،
أو في صورة المنطق أحياًنا بكلم صحيح.
وأما الولون ،فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين ،مثل :أبي الهذيل ،وهشام بن
الحكم ،ونحوهما ،ممن وضع مذهًبا /في ]أبواب أصول الدين[ فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل
مالك ،وحماد بن زيد ،والثوري ،ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء ،فمن لم يكن له علم
بطريق المسلمين ،يعتاض عنه بما عند هؤلء ،وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة ،وهو خفاء سنن المرسلين فيهم،
وبذلك يقع الهلك.
ولهذا كانوا يقولون :العتصام بالسنة نجاة ،قال مالك ـ رحمه ال :السنة مثل سفينة نوح ،من ركبها نجا ،ومن تخلف
عنها هلك .وهذا حق .فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم ،وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين.
واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند ال ،فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطًنا وظاهًرا.
والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلم ـ وركوب السفينة معه.
وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالت الفلسفة وغيرهم من المم التي فيها ضلل وكفر ،وجد القرآن والسنة
كاشفين لحوالهم ،مبينين لحقهم ،مميزين بين حق ذلك وباطله .والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك ،كما كانوا أقوم
الخلق بجهاد الكفار والمنافقين ،كما قال فيهم عبد ال بن مسعود :من كان منكم مستًنا فليستن بمن قد مات ،فإن الحي
ل تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب محمد ،كانوا أبر هذه المة قلوًبا ،وأعمقها علًما ،وأقلها تكلًفا ،قوم اختارهم ال /
لصحبة نبيه وإقامة دينه ،فاعرفوا لهم حقهم ،وتمسكوا بهديهم ،فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
فأخبر عنهم بكمال بر القلوب ،مع كمال عمق العلم ،وهذا قليل في المتأخرين ،كما يقال :من العجائب فقيه صوفي،
وعالم زاهد ونحو ذلك .فإن أهل بّر القلوب وحسن الرادة وصلح المقاصد يحمدون على سلمة قلوبهم من الرادات
المذمومة ،ويقترن بهم كثيًرا عدم المعرفة ،وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه ،والجهاد
في سبيل ال ،وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى
والضللت ،وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوًبا وأعمقهم علمًا.
ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين ،وهو القول
حا ـ أقل
ل صال ً
والعمل بل علم ،وطلب ما ل يدرك .وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علًما نافًعا وعم ً
الناس تكلًفا ،يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ،ما يهدي ال بها أمة ،وهذا من منن ال
على هذه المة .وتجد غيرهم يحشون الوراق من التكلفات والشطحات ،ما هو من أعظم الفضول المبتدعة ،والراء
المخترعة ،لم يكن لهم في ذلك سلف إل رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين.
/ويروى أن ال ـ سبحانه ـ قال للمسيح :إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة ،وليس لها علم ول حلم ،فقال المسيح:
أي رب ،كيف تفضلهم على جميع المم ،وليس لهم علم ول حلم؟ قال :أهبهم من علمي وحلمي ،وهذا من خواص
سوِلِه ُيْؤِتُكْم
ل َوآِمُنوا ِبَر ُ متابعة الرسول .فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل ،كما قال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ
ل ا ِّ
ل ضِ
يٍء ّمن َف ْ
ش ْ
عَلى َ
ن َ
ل َيْقِدُرو َ
ب َأ ّ
ل اْلِكَتا ِ
ل َيْعَلَم َأْه ُ
حيٌم ِلَئ ّ
غُفوٌر ّر ِ
ل َ
ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ
شو َجَعل ّلُكْم ُنوًرا َتْم ُ
حَمِتِه َوَي ْن ِمن ّر ْ ِكْفَلْي ِ
ظيِم{ ]الحديد.]29، 28: ل اْلَع ِضِ ل ُذو اْلَف ْشاء َوا ُّ ل ُيْؤِتيِه َمن َي َل ِبَيِد ا ِّ
ضَن اْلَف ْ
َوَأ ّ
وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد ال بن عمر) :مثلنا ومثل المم قبلنا ،كالذي استأجر أجراء ،فقال:
من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود .ثم قال :من يعمل لي إلى صلة العصر على قيراط
قيراط؟ فعملت النصارى .ثم قال :من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فعملت المسلمون،
ل وأقل أجًرا .قال :فهل ظلمتكم من حقكم شيًئا؟ قالوا :ل ،قال :فهو
فغضبت اليهود والنصارى ،وقالوا نحن أكثر عم ً
فضلي أوتيه من أشاء(.
فدل الكتاب والسنة على أن ال يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لهل الكتابين قبلهم ،فكيف بمن هو
دونهم من الصابئة؟ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم.
/ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه ،فلهم من فضل ال وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم
وتضعيف الجر ما ليس لغيرهم ،كما قال بعض السلف أهل السنة في السلم كأهل السلم في الملل.
سنان:
فهذا الكلم تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضللة من نقص الصحابة في العلم والبيان ،أو اليد والسَّنان]ال ّ
الّرْمح[ ،وبسط هذا ل يتحمله هذا المقام.
والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله :أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق المور
الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد ،وأمر اليمان بال واليوم الخر ،وتعرف واجب الوجود والنفس
الناطقة والعلوم ،والخلق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث ،فهو ـ إن كان من المؤمنين
ل َلُهْم آِمُنوْا َكَما آَم َ
ن بالرسل ـ فهو جاهل ،فيه شعبة قوية من شعب النفاق ،وإل فهو منافق خالص من الذين َ}:وِإَذا ِقي َ
ن ِفي آَيا ِ
ت جاِدُلو َ ن{ ]البقرة [13:وقد يكون من }:اّلِذي َ
ن ُي َ ل َيْعَلُمو َ
سَفَهاء َوَلـِكن ّ سَفَهاء َأل ِإّنُهْم ُهُم ال ّ
ن ال ّ
ن َكَما آَم َ
س َقاُلوْا َأُنْؤِم ُ
الّنا ُ
عَلْيِهْم
عنَد َرّبِهْم َو َ
ضٌة ِ ح َ جُتُهْم َدا ِ
حّب َلُه ُ
جي َ
سُت ِ
ل ِمن َبْعِد َما ا ْ
ن ِفي ا ِّ جو َ
حا ّ ن َأَتاُهْم{ ]غافر ،[35:ومن }َواّلِذي َ
ن ُي َ طا ٍ
سْل َ ل ِبَغْيِر ُ
ا ِّ
ب َشِديٌد{ ]الشورى.[16: عَذا ٌ
ب َوَلُهْم َ ض ٌ
غ َ َ
وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي ل ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهًرا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى
ل ،لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك ،وأن
كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم /بالحقائق وأقومهم قولً وحا ً
يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق.
وليقال :هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان ،لنه يقال :إن ذلك في
غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم ،هذه هي المقابلة العادلة.
وإنما غّير الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك،مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم،
وإحسان لبعض العمل ،فيكون ذلك شبهة في قبول غيره ،وترجيح صاحبه ،ول غرض لنا في ذكر الشخاص ،وقد
ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب ]مختلف الحديث[ وغيره من العلماء في هذا الباب ما ل يحصى من المور
المبينة لما ذكرناه.
وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية ،التي تعرف بحقائق المور الخبرية النظرية ،و توصل إلى حقائق
المور الرادية العملية ،فمتى كان غير الرسول قادًرا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لفادة ذلك ،فالرسول أعلم
بذلك وأحرص على الهدى ،وأقدر على بيانه منه ،وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم.
وهذه صفات الكمال والعلم والرادة والحسان والقدرة عليه ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في دعاء الستخارة:
) /اللهم إني أستخيرك بعلمك ،وأستقدرك بقدرتك ،وأسألك من فضلك العظيم ،فإنك تقدر ول أقدر ،وتعلم ول أعلم،
وأنت علم الغيوب(.
فعلمنا صلى ال عليه وسلم أن نستخير ال بعلمه ،فيعّلمنا من علمه ما نعلم به الخير ،ونستقدره بقدرته ،فيجعلنا
قادرين؛ إذ الستفعال هو طلب الفعل ،كما قال في الحديث الصحيح:
ل إل من هديته،
يقول ال تعالى) :يا عبادي ،كلكم جائع إل من أطعمته ،فاستطعموني أطعمكم ،يا عبادي ،كلكم ضا ّ
فاستهدوني أهدكم(.
فاستهداء ال طلب أن يهدينا ،واستطعامه طلب أن يطعمنا ،هذا قوت القلوب ،وهذا قوت الجسام ،وكذلك استخارته
بعلمه واستقداره بقدرته .ثم قال) :وأسألك من فضلك العظيم( ،فهذا السؤال من جوده وَمّنه ،وعطائه وإحسانه الذي
يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال) :فإنك تقدر ول أقدر ،وتعلم ول أعلم( ولم يقل :إني ل أرحم نفسي؛ لنه
في مقام الستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك ،لكنه ل يعلمه ول يقدر عليه ،إن لم يعّلمه ال إياه ويقدره عليه.
فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية ،وأحب الخلق للتعليم والهداية والفادة ،وأقدر الخلق على
البيان والعبارة ،امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه/،فامتنع
أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث.
وإذا لم يكن في الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه ،وجب أن يكون كل ما يذمون به من جهل بعضهم هو
في طائفة المخالف الذام لهم أكثر ،فيكون الذام لهم جاهل ظالًما ،فيه شعبة نفاق ،إذا كان مؤمًنا .وهذا هو المقصود.
ل.
ثم إن هذا الذي بيناه مشهود بالقلب ،أعلم ذلك في كل أحد ممن أعرف مفص ً
وهذه جملة يمكن تفصيلها من وجوه كثيرة ،لكن ليس هذا موضعه.
فصــل
وأما قول من قال :إن الحشوية على ضربين ،أحدهما :ل يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم ،والخر :تستر
بمذهب السلف .ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه ،دون التشبيه والتجسيم ،وكذا جميع المبتدعة يزعمون هذا
فيهم كما قال القائل:
فمن الحق الذي فيه :ذم من يمثل ال بمخلوقاته ،ويجعل صفاته من جنس صفاتهم ،وقد قال ال تعالىَ} :لْي َ
س َكِمْثِلِه
يٌء{ ]الشورى ،[11:وقال تعالى َ} :وَلْم َيُكن ّلُه ُكُفًوا َأ َ
حٌد{ ش ْ
َ
وقد بسطنا القول في ذلك ،وذكرنا الدللت العقلية التي دل عليها كتاب ال في نفي ذلك ،وبينا منه ما لم يذكره النفاة
الذين يتسمون بالتنزيه ،ول يوجد في كتبهم ،ول يسمع من أئمتهم ،بل عامة حججهم التي يذكرونها حجج ضعيفة؛
لنهم يقصدون إثبات حق وباطل ،فل يقوم على ذلك حجة مطردة /سليمة عن الفساد ،بخلف من اقتصد في قوله
ح َلُكْم
صِل ْ
سِديًدا ُي ْ
ل َ
ل َوُقوُلوا َقْو ً وتحرى القول السديد؛ فإن ال يصلح عمله ،كما قال تعالى َ}:يا َأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ
َأْعَماَلُكْم َوَيْغِفْر َلُكْم ُذُنوَبُكْم{ ]الحزاب.[71 ،70:
وفيه من الحق الشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم ،أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان.
فتمثيل ال بخلقه والكذب على السلف من المور المنكرة ،سواء سمى ذلك حشًوا أو لم يسم ،وهذا يتناول كثيًرا من
عَرق الخيل[ و]نزوله عشية عََرَفة على الجمل غالية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة في الصفات مثل حديث] َ
الورق حتى يصافح المشاة ويعانق الركبان[ ،و]تجّليه لنبيه في الرض[ ،أو]رؤيته له على كرسي بين السماء
والرض[ ،أو]رؤيته إياه في الطواف[ أو ]في بعض سكك المدينة[ ،إلى غير ذلك من الحاديث الموضوعة.
فقد رأيت من ذلك أموًرا من أعظم المنكرات والكفران ،وأحضر لي غير واحد من الناس من الجزاء والكتب ما فيه
من ذلك ما هو من الفتراء على ال وعلى رسوله .وقد وضع لتلك الحاديث أسانيد ،حتى إن منهم من عمد إلى كتاب
سّني من البدعي .فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه ال إلى نبيه ليلة
صنفه الشيخ أبو الفرج المقدسي ،فيما يمتحن به ال ّ
المعراج ،وأمره أن يمتحن به الناس ،فمن أقّر به فهو سني ،ومن لم يقر به فهو بدعي ،وزادوا فيه على الشيخ أبي
الفرج أشياء لم يقلها هو ول عاقل ،والناس المشهورون قد يقول أحدهم من المسائل /والدلئل ما هو حق أو فيه شبهة
حق ،فإذا أخذ الجهال ذلك فغيروه صار فيه من الضلل ما هو من أعظم الفك والمحال.
أحدها :قوله :ل يتحاشى من الحشو والتجسيم ذم للناس بأسماء ما أنزل ال بها من سلطان ،والذي مدحه زين وذمه
شين هو ال .والسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين ،ل تكون إل من السماء التي أنزل ال بها سلطانه ،ودل
عليها الكتاب والسنة أو الجماع ،كالمؤمن ،والكافر والعالم ،والجاهل ،والمقتصد ،والملحد.
فأما هذه اللفاظ الثلثة فليست في كتاب ال ،ول في حديث عن رسول ال ،ول نطق بها أحد من سلف المة وأئمتها
ل نفًيا ول إثباًتا.
وأول من ابتدع الذم بها]المعتزلة[ الذين فارقوا جماعة المسلمين ،فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف المة ترك
للقول السديد الواجب في الدين ،واتباع لسبيل المبتدعة الضالين ،وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إل لفظ
]التشبيه[ ،فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح ،ولو ذكر السماء التي نفاها ال في القرآن ـ مثل لفظ
]الكفء ،والند ،والسمى[ وقال :منهم من ل يتحاشى من التمثيل ونحوه ـ لكان قد ذم بقول نفاه ال في كتابه ،ودل
القرآن على ذم قائله ثم ينظر :هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم ل؟
/فأما السماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ول مدحهم ،فيحتاج فيها إلى مقامين:
والمعترض عليه له أن يمنع المقامين ،فيقول :ل نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه السماء التي ذممتها ،ولم يقم
دليل شرعي على ذمها ،وإن دخلوا فيها ،فل نسلم أن كل من دخل في هذه السماء فهو مذموم في الشرع.
الوجه الثاني :أن هذا الضرب الذي قلت] :إنه ل يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم[ إما أن تدخل فيه مثبتة
الصفات الخبرية التي دل عليها الكتاب والسنة ،أو ل تدخلهم ،فإن أدخلتهم كنت ذاًما لكل من أثبت الصفات الخبرية،
ومعلوم أن هذا مذهب عامة السلف ،ومذهب أئمة الدين.
بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة ،وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلب ،وأبي الحسن
الشعري ،وأئمة أصحابه،؛ كأبي عبد ال بن مجاهد ،وأبي الحسن الباهلي ،والقاضي أبي بكر ابن الباقلني ،وأبي
إسحاق السفرائيني ]هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مْهران السفرائيني ،الصولي الشافعي ،الملقب ركن الدين،
صاحب المصنفات الباهرة ،له الجامع في أصول الدين و أدب الجدل و مسائل الدرر وغيرها ،توفى بنيسابور سنة
814هـ[ ،وأبي بكر ابن ُفوَرك ،وأبي محمد بن اللبان ،وأبي علي ابن شاذان ،وأبي القاسم القشيري ،وأبي بكر
البيهقي ،وغير هؤلء .فما من هؤلء إل من /يثبت من الصفات الخبرية ما شاء ال ـ تعالى ـ وعماد المذهب عنهم:
إثبات كل صفة في القرآن ،وأما الصفات التي في الحديث ،فمنهم من يثبتها ومنهم من ل يثبتها.
فإذا كنت تذم جميع أهل الثبات من سلفك وغيرهم ،لم يبق معك إل الجهمية ـ من المعتزلة ـ ومن وافقهم على نفي
الصفات الخبرية ـ من متأخري الشعرية ونحوهم ـ ولم تذكر حجة تعتمد.
فأي ذم لقوم في أنهم ل يتحاشون مما عليه سلف المة وأئمتها وأئمة الذام لهم؟
وإن لم تدخل في اسم الحشوية من يثبت الصفات الخبرية ،لم ينفعك هذا الكلم ،بل قد ذكرت أنت في غير هذا
الموضع هذا القول.
وإذا كان الكلم ل يخرج به النسان عن أن يذم نفسه ،أو يذم سلفه ـ الذين يقر هو بإمامتهم ،وأنهم أفضل ممن اتبعهم ـ
كان هو المذموم بهذا الذم على التقديرين ،وكان له نصيب من الخوارج الذين قال النبي صلى ال عليه وسلم لولهم:
)لقد خبت وخسرت ،إن لم أعدل( يقول :إذا كنت مقًرا بأني رسول ال ،وأنت تزعم أني أظلم ،فأنت خائب خاسر.
وهكذا من ذم من يقر بأنهم خيار المة وأفضلها ،وأن طائفته إنما تلقت العلم واليمان منهم ،هوخائب خاسر في هذا
الذم ،وهذه حال الرافضة في ذم الصحابة.
/الوجه الثالث :قوله] :والخر يتستر بمذهب السلف[ ،إن أردت بالتستر الستخفاء بمذهب السلف ،فيقال :ليس مذهب
السلف مما يتستر به إل في بلد أهل البدع ،مثل بلد الرافضة والخوارج ،فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم
إيمانه واستنانه ،كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه ،وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب.
فإن كان هؤلء في بلد أنت لك فيه سلطان ـ وقد تستروا بمذهب السلف ـ فقد ذممت نفسك ،حيث كنت من طائفة يستر
مذهب السلف عندهم ،وإن كنت من المستضعفين المستترين بمذهب السلف فل معنى لذم نفسك ،وإن لم تكن منهم ول
من المل ،فل وجه لذم قوم بلفظ التستر.
وإن أردت بالتستر :أنهم يجتنون به ،ويتقون به غيرهم ،ويتظاهرون به ،حتى إذا خوطب أحدهم قال :أنا على مذهب
السلف ـ وهذا الذي أراده ،وال أعلم ـ فيقال له :ل عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه ،بل
يجب قبول ذلك منه بالتفاق؛ فإن مذهب السلف ل يكون إل حًقا ،فإن كان موافًقا له باطًنا وظاهًرا ،فهو بمنزلة
المؤمن الذي هو على الحق باطًنا وظاهًرا ،وإن كان موافًقا له في الظاهر فقط دون الباطن ،فهو بمنزلة المنافق فتقبل
منه علنيته وُتوَكل سريرته إلى ال ،فإنا لم نؤمر أن ُنَنّقب عن قلوب الناس ول نشق بطونهم.
/وأما قوله :مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه.
فيقال له :لفظ التوحيد ،والتنزيه ،والتشبيه ،والتجسيم ألفاظ قد دخلها الشتراك ،بسبب اختلف اصطلحات المتكلمين
وغيرهم ،وكل طائفة تعني بهذه السماء ما ل يعنيه غيرهم.
فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه :نفى جميع الصفات ،وبالتجسيم والتشبيه :إثبات شيء منها،
حتى إن من قال] :إن ال يرى[ ،أو ]إن له علًما[ ،فهو عندهم مشبه مجسم.
وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه :نفي الصفات الخبرية أو بعضها ،وبالتجسيم والتشبيه إثباتها
أو بعضها.
والفلسفة تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة ،حتى يقولون :ليس له إل صفة سلبية أو إضافية ،أو مركبة منهما.
والتحادية تعني بالتوحيد :أنه هو الوجود المطلق ،ولغير هؤلء فيه اصطلحات أخرى.
وأما التوحيد الذي بعث ال به الرسل وأنزل به الكتب ،فليس هو متضمًنا شيًئا من هذه الصطلحات ،بل أمر ال
عباده أن يعبدوه وحده ،ل يشركوا /به شيًئا ،فل يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها ـ هذا في
العمل .وفي القول :هو اليمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله.
فإن كنت تعني أن مذهب السلف هو التوحيد بالمعنى الذي جاء به الكتاب والسنة ،فهذا حق ،وأهل الصفات الخبرية ل
يخالفون هذا.
وإن عنيت أن مذهب السلف هو التوحيد والتنزيه الذي يعنيه بعض الطوائف ،فهذا يعلم بطلنه كل من تأمل أقوال
السلف الثابتة عنهم ،الموجودة في كتب آثارهم ،فليس في كلم أحد من السلف كلمة توافق ما تختص به هذه
الطوائف ،ول كلمة تنفي الصفات الخبرية.
ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم ،فليرجع في ذلك إلى الثار المنقولة عنهم ،وإن كان إنما
يعرف بالستدلل المحض بأن يكون كل من رأى قولً عنده هو الصواب قال :هذا قول السلف؛ لن السلف ل يقولون
إل الصواب ،وهذا هو الصواب ،فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف ،فقائل
هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بل نقل عنهم ،بل بدعواه :أن قوله هو الحق.
وأما أهل الحديث ،فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة/،يذكرون من نقل مذهبهم من علماء السلم ،وتارة
يروون نفس قولهم في هذا الباب ،كما سلكناه في جواب الستفتاء.
أحدهما :أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم ،ومن روى ذلك من أهل العلم بالسانيد المعتبرة.
والثاني :أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الربعة ،ومن أهل الحديث
والتصوف ،وأهل الكلم ،كالشعري وغيره.
فصار مذهب السلف منقولً بإجماع الطوائف وبالتواتر ،لم نثبته بمجرد دعوى الصابة لنا والخطأ لمخالفنا ،كما يفعل
أهل البدع.
ثم لفظ]التجسيم[ل يوجد في كلم أحد من السلف ـ ل نفًيا ول إثباًتا ـ فكيف يحل أن يقال :مذهب السلف نفي التجسيم
أو إثباته ،بل ذكر لذلك اللفظ ول لمعناه عنهم؟!.
وكذلك لفظ ]التوحيد[ـ بمعنى :نفي شيء من الصفات ـ ليوجد في كلم أحد من السلف.
وكذلك لفظ التنزيه ـ بمعني نفي شيء من الصفات الخبرية ـ ل يوجد في كلم أحد من السلف.
/نعم ،لفظ ]التشبيه[ موجود في كلم بعضهم وتفسيره معه ،كما قد كتبناه عنهم ،وأنهم أرادوا بالتشبيه :تمثيل ال
بخلقه ،دون نفي الصفات التي في القرآن والحديث.
ضا ،فهذا الكلم لو كان حًقا في نفسه لم يكن مذكوًرا بحجة تتبع ،وإنما هو مجرد دعوى على وجه الخصومة التي
وأي ً
ل يعجز عنها من يستجيز ويستحسن أن يتكلم بل علم ول عدل.
ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالت الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال] :وكذا جميع المبتدعة يزعمون أنهم على
مذهب السلف[ ،فليس المر كذلك ،بل الطوائف المشهورة بالبدعة ـ كالخوارج والروافض ـ ل يدعون أنهم على
مذهب السلف ،بل هؤلء يكفرون جمهور السلف .فالرافضة تطعن في أبي بكر ،وعمر ،وعامة السابقين الولين من
المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان ،وسائر أئمة السلم ،فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف؟ ولكن
ينتحلون مذهب أهل البيت كذًبا وافتراء.
وكذلك الخوارج ،قد َكّفروا عثمان ،وعلًيا ،وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين ،فكيف يزعمون أنهم على
مذهب السلف؟
الوجه الرابع :أن هذا السم ليس له ذكر في كتاب ال ،ول سنة رسوله ،ول كلم أحد من الصحابة والتابعين ،ول من
أئمة المسلمين ،ول شيخ أو عالم /مقبول عند عموم المة .فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذم به ل نص ول إجماع ،ول
ما يصلح تقليده للعامة ،فإذا كان الذم بل مستند للمجتهد ول للمقلدين عموًما كان في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذم به
بعض من يصلح لبعض العامة تقليده لم يكن له أن يحتج به؛ إذ المقلد الخر لمن يصلح له تقليده ل يذم به.
ثم مثل أبى محمد وأمثاله لم يكن يستحل أن يتكلم في كثير من فروع الفقه بالتقليد ،فكيف يجوز له التكلم في أصول
الدين بالتقليد؟
والنكتة :أن الذام به إما مجتهد ،وإما مقلد .أما المجتهد ،فل بد له من نص أو إجماع ،أو دليل يستنبط من ذلك ،فإن الذم
والحمد من الحكام الشرعية ،وقد قدمنا بيان ذلك ،وذكرنا أن الحمد والذم ،والحب والبغض ،والوعد والوعيد،
والموالة والمعاداة ،ونحو ذلك من أحكام الدين ،ل يصلح إل بالسماء التي أنزل ال بها سلطانه ،فأما تعليق ذلك
بأسماء مبتدعة فل يجوز ،بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به ال ،وأنه لبد من معرفة حدود ما أنزل ال على
رسوله.
ضا ـ تفسق من الصحابة والتابعين طوائف ،وتطعن في كثير منهم وفيما َرَوْوه من الحاديث التيوالمعتزلة ـ أي ً
ضا ـ من يخالف أصولهم التي انتحلوها من السلف والخلف ،فلهم من الطعن تخالف آراءهم وأهواءهم ،بل تكفر ـ أي ً
في علماء /السلف وفي علمهم ما ليس لهل السنة والجماعة ،وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم ـ وإن كانوا
يقررون خلفة الخلفاء الربعة ،ويعظمون من أئمة السلم وجمهورهم ما ل يعظمه أولئك ـ فلهم من القدح في كثير
ظام[ من القدح في الصحابة ما ليس هذا موضعه.منهم ما ليس هذا موضعه و]للن ّ
وإن كان من أسباب انتقاص هؤلء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان ،وما كان
من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلفها ـ فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضل ً
ل
كبيًرا.
فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنة والجماعة ـ العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف ،بل
أشهر الطوائف بالبدعة :الرافضة ،حتى إن العامة ل تعرف من شعائر البدع إل الرفض .والسني في اصطلحهم :من
حا في سلف المة وأئمتها، ل يكون رافضًيا؛ وذلك لنهم أكثر مخالفة للحاديث النبوية ولمعاني القرآن ،وأكثر قد ً
وطعًنا في جمهور المة من جميع الطوائف ،فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة.
َفُعِلَم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف؛ ولهذا قال المام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك ]هو أبو
محمد عبدوس بن عبد ال بن محمد بن مالك ،الحافظ الكبير ،سمع من قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما،
وتوفي سنة 282هـ وقيل :سنة 283هـ [ :أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى ال عليه
وسلم.
لبية ،والُكّرامية ،والشعرية ،مع الفقهاء والصوفية ،وأهل الحديث ،فهؤلء في /وأما متكلمة أهل الثبات من الُك ّ
الجملة ل يطعنون في السلف ،بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالتهم ،لكن كل من كان بالحديث من هؤلء أعلم ،كان
بمذهب السلف أعلم وله َأْتَبع .وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها ،وقلة ابتداعها.
أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع ،فهذا باطل قطًعا ،فإن ذلك غير ممكن إل حيث يكثر الجهل ويقل
العلم.
يوضح ذلك :أن كثيًرا من أصحاب أبي محمد من أتباع أبي الحسن الشعري يصرحون بمخالفة السلف ـ في مثل
مسألة اليمان ،ومسألة تأويل اليات والحاديث ـ يقولون :مذهب السلف :أن اليمان قول وعمل يزيد وينقص ،وأما
المتكلمون من أصحابنا ،فمذهبهم كيت وكيت ،وكذلك يقولون :مذهب السلف :أن هذه اليات والحاديث الواردة في
الصفات لتتأول ،والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوًبا وإما جواًزا ويذكرون الخلف بين السلف وبين أصحابهم
المتكلمين ،هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم.
أفل عاقل يعتبر ،ومغرور يزدجر ،أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف ،ثم يحدث مقالة تخرج عنهم؟
حا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه ،وعلمه المتأخرون؟! وهذا فاسد بضرورة العلم
أليس هذا صري ً
الصحيح والدين المتين.
ضا ،فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة ،كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي
/وأي ً
الجويني ،وأبي حامد الغزالي ،والرازي وغيرهم ،ولزم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد ،فل يثبتون
على دين واحد ،وتغلب عليهم الشكوك وهذا عادة ال فيمن أعرض عن الكتاب والسنة.
وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق ]أمهر وأعلم[ وأعلم من السلف ،ويقولون :طريقة السلف أسلم ،وطريقة
هؤلء أعلم وأحكم ،فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان ،والتحقيق والعرفان ،والسلف بالنقص في ذلك
والتقصير فيه ،أو الخطأ والجهل ،وغايتهم عندهم :أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ول ريب أن هذا شعبة من الرفض ،فإنه وإن لم يكن تكفيًرا للسلف ـ كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج ـ ول
ل ،ونسبة لهم إلى
ل لهم وتخطئة وتضلي ً
تفسيًقا لهم ـ كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم ـ كان تجهي ً
عًما :أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الذنوب والمعاصي ،وإن لم يكن فسقًا فَز ْ
الفاضلة.
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة ،وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف ،أن خير
قرون هذه المة ـ في العمال والقوال ،والعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها ـ القرن الول ،ثم /الذين
يلونهم ،ثم الذين يلونهم ،كما ثبت ذلك عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه ،وأنهم أفضل من الخلف في كل
فضيلة من علم ،وعمل ،وإيمان ،وعقل ،ودين ،وبيان ،وعبادة ،وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل .هذا ل يدفعه إل من
عْلم ،كما قال عبد ال بن مسعود ـ رضي ال عنه :من كان كابر المعلوم بالضرورة من دين السلم ،وأضله ال على ِ
ن بمن قد مات ،فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة ،أولئك أصحاب محمد ،أبّر هذه المة قلوًبا ،وأعمقهاسَت ّ
سَتّنا َفْلَي ْ
منكم ُم ْ
علما ،وأقلها تكلًفا ،قوم اختارهم ال لصحبة نبيه ،وإقامة دينه ،فاعرفوا لهم حقهم ،وتمسكوا بهديهم ،فإنهم كانوا على
الهدى المستقيم .وقال غيره :عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفى ،ولم يحدث بعدهم خير كامن لم
يعلموه.
شّر منه حتى تلقوا ربكم( ،فكيف يحدث لنا زمانهذا ،وقد قال صلى ال عليه وسلم) :ل يأتي زمان إل والذي بعده َ
فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة ال تعالى ؟ هذا ل يكون أبًدا.
وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه ال ـ في رسالته :هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل ،وكل سبب ينال به علم
أو يدرك به هدى ،ورأيهم لنا خير من رأينا لنفسنا!
ضا ،فيقال لهؤلء الجهمية الكلبية ـ كصاحب هذا الكلم أبي محمد وأمثاله :كيف تدعون طريقة السلف ،وغاية ما وأي ً
عند السلف :أن يكونوا /موافقين لرسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فإن عامة ما عند السلف من العلم واليمان ،هو ما
استفادوه من نبيهم صلى ال عليه وسلم ،الذي أخرجهم ال به من الظلمات إلى النور ،وهداهم به إلى صراط العزيز
ت ِإَلى الّنوِر{ ]الحديد ،[9:وقال تعالى:
ظُلَما ِ
ن ال ّ
جُكم مّ َ
خِر َ
ت ِلُي ْ
ت َبّيَنا ٍ
عْبِدِه آَيا ٍ
عَلى َ الحميد ،الذي قال ال فيهُ}:هَو اّلِذي ُيَنّز ُ
ل َ
ل َيْعَلَم
حيٌم ِلَئ ّ
غُفوٌر ّر ِ
ل َ
ن ِبِه َوَيْغِفْر َلُكْم َوا ُّ
شو َ
جَعل ّلكُْم ُنوًرا َتْم ُ
حَمِتِه َوَي ْ
ن ِمن ّر ْ
سوِلِه ُيْؤِتُكْم ِكْفَلْي ِ
ل َوآِمُنوا ِبَر ُ
ن آَمُنوا اّتُقوا ا َّ
}َيا َأّيَها اّلِذي َ
ل{ ]الحديد،[28،29 : ل ا ِّضِ يٍء ّمن َف ْ ش ْعَلى َ ن َل َيْقِدُرو َ
ب َأ ّ
ل اْلِكَتا ِ َأْه ُ
حْكَمَة َوِإن
ب َواْل ِعَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهُم اْلِكَتا َ
سِهْم َيْتُلو َ
ن َأنُف ِ
ل ّم ْ سو ًث ِفيِهْم َر ُ
ن ِإْذ َبَع َ
عَلى اْلُمؤِمِني َ
ل َ نا ّوقال تعالىَ} :لَقْد َم ّ
ب
ت َتْدِري َما اْلِكَتا ُ ن َأْمِرَنا َما ُكن َ حا ّم ْك ُرو ً حْيَنا ِإَلْي َ ن{ ]آل عمران ،[164:وقال تعالىَ} :وَكَذِل َ
ك َأْو َ ل ّمِبي ٍضل ٍ ل َلِفي َ َكاُنوْا ِمن َقْب ُ
ت َوَما
سَماَوا ِ ل اّلِذي َلُه َما ِفي ال ّ ط ا ِّصَرا ِ سَتِقيٍم ِ ط ّم ْ صَرا ٍ ك َلَتْهِدي ِإَلى ِ عَباِدَنا َوِإّن َ
ن ِ
شاء ِم ْ
ن ّن َجَعْلَناُه ُنوًرا ّنْهِدي ِبِه َم ْ
ن َوَلِكن َ ليَما ُل ا ِْ َو َ
ض{ ]الشورى .[53، 52 لْر ِ ِفي ا َْ
وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملحدة ،الذين يقولون :إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد ،ول بين للناس
ما هو المر عليه في نفسه ،بل أظهر للناس خلف الحق ،والحق :إما كتمه وإما أنه كان غير عالم به.
فإن هؤلء الملحدة من المتفلسفة ،ومن سلك سبيلهم من المخالفين لما جاء به الرسول في المور العلمية ،كالتوحيد
والمعاد وغير ذلك ،يقولون :إن الرسول أحكم المور العملية المتعلقة بالخلق والسياسة المنزلية والمدنية / ،وأتى
بشريعة عملية هي أفضل شرائع العالم ،ويعترفون بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموسه ول أكمل منه ،فإنهم
رأوا حسن سياسته للعالم وما أقامه من سنن العدل ،ومحاه من الظلم.
وأما المور العلمية التي أخبر بها ـ من صفات الرب وأسمائه وملئكته وكتبه ورسله ،واليوم الخر والجنة والنار ـ
فلما رأوها تخالف ما هم عليه صاروا في الرسول فريقين:
فغلتهم يقولون :إنه لم يكن يعرف هذه المعارف ،وإنما كان كماله في المور العملية :العبادات والخلق ،وأما
المور العلمية ،فالفلسفة أعلم بها منه ،بل ومن غيره من النبياء .وهؤلء يقولون :إن علًيا كان فيلسوًفا ،وأنه كان
أعلم بالعلميات من الرسول ،وأن هارون كان فيلسوًفا ،وكان أعلم بالعلميات من موسى.
وكثير منهم يعظم فرعون ،ويسمونه أفلطون القبطي ،ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته ـ الذي يقول
بعض الناس :إنه شعيب ـ يقول هؤلء :إنه أفلطون أستاذ أرسطو ،ويقولون :إن أرسطو هو الخضر ـ إلى أمثال هذا
الكلم الذي فيه من الجهل والضلل ما ل يعلمه إل ذو الجلل.
أقل ما فيه جهلهم بتواريخ النبياء ،فإن أرسطو باتفاقهم كان وزيًرا /للسكندر بن فيلبس المقدوني ،الذي تؤرخ به
اليهود والنصارى التاريخ الرومي ،وكان قبل المسيح بنحو ثلثمائة سنة .
وقد يظنون أن هذا هو] :ذو القرنين[ المذكور في القرآن ،وأن أرسطو كان وزيًرا لذي القرنين ،المذكور في القرآن،
سّد ،وإنما وصل إلى بلد الفرس.وهذا جهل .فإن هذا السكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلد الترك ،ولم يبن ال ّ
وذو القرنين المذكور في القرآن وصل إلى شرق الرض وغربها ،وكان متقدًما على هذا ،يقال :إن اسمه السكندر
بن دارا ،وكان موحًدا مؤمًنا ،وذاك مشرًكا ،كان يعبد هو وقومه الكواكب والصنام ،ويعانون السحر ،كما كان
أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الصنام ،ويعانون السحر ،ولهم في ذلك مصنفات ،وأخبارهم مشهورة،
وآثارهم ظاهرة بذلك ،فأين هذا من هذا؟!
والمقصود هنا بيان ما يقوله هؤلء الفلسفة الباطنية فيما جاء به الرسول.
والفريق الثاني منهم ،يقولون :إن الرسول كان يعلم الحق الثابت في نفس المر في التوحيد والمعاد ،ويعرف أن الرب
ليس له صفة ثبوتية ،وأنه ل يرى ول يتكلم ،وأن الفلك قديمة أزلية لم تزل ول تزال ،وأن البدان ل تقوم ،وأنه
ليس ل ملئكة هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي /من عنده ويصعدون إليه ،ولكن يقول بما عليه هؤلء الباطنية في
الباطن ،لكن ما كان يمكنه إظهار ذلك للعامة؛ لن هذا إذا ظهر لم تقبله عقولهم وقلوبهم بل ينكرونه وينفرون منه،
فأظهر لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم ،وإن كان في ذلك تلبيس عليهم وتجهيل لهم ،واعتقادهم المر
على خلف ما هو عليه ،لما في ذلك من المصلحة لهم.
ويجعلون أئمة الباطنية ،كبني عبيد بن ميمون القّداح الذين ادعوا أنهم من ولد محمد ابن إسماعيل بن جعفر ،ولم
يكونوا من أولده ،بل كان جدهم يهودًيا ربيبًيا لمجوسي ،وأظهروا التشيع .ولم يكونوا في الحقيقة على دين واحد من
الشيعة ل المامية ،ول الزيدية ،بل ول الغالية الذين يعتقدون إلهية علي ،أو نبوته ،بل كانوا شًرا من هؤلء كلهم.
ولهذا كثر تصانيف علماء المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ،وكثر غزو المسلمين لهم .وقصصهم
معروفة .وابن سينا وأهل بيته كانوا من أتباع هؤلء على عهد حاكمهم المصري؛ ولهذا دخل ابن سينا في الفلسفة.
وهؤلء يجعلون محمد بن إسماعيل هو المام المكتوم ،وأنه نسخ شرع محمد بن عبد ال بن عبد المطلب ،ويقولون:
إن هؤلء السماعيلية كانوا أئمة معصومين ،بل قد يقولون :إنهم أفضل من النبياء ،وقد يقولون :إنهم آلهة يعبدون.
ولهذا أرسل الحاكم غلمه ]هشتكير[ الدرزي إلى وادي تيم ال بن ثعلبة /بالشام ،فأضل أهل تلك الناحية وبقاياه فيهم
إلى اليوم يقولون بإلهية الحاكم وقد أخرجهم عن دين السلم ،فل يرون الصلوات الخمس ،و ل صيام شهر رمضان،
ول حج البيت الحرام ،ول تحريم ما حرمه ال ورسوله من الميتة ،والدم ،ولحم الخنزير ،والخمر وغير ذلك.
وهؤلء يدعون المستجيب لهم أولً إلى التشيع ،والتزام ما توجبه الرافضة وتحريم ما يحرمونه ،ثم بعد هذا ينقلونه
درجة بعد درجة حتى ينقلونه في الخر إلى النسلخ من السلم ،وأن المقصود هو معرفة أسرارهم ،وهو العلم
الذي به تكمل النفس ،كما تقوله الفلسفة الملحدة ،فمن حصل له هذا العلم وصل إلى الغاية ،وسقطت عنه العبادات
التي تجب على العامة ،كالصلوات الخمس ،وصيام رمضان ،وحج البيت ،وحلت له المحرمات التي ل تحل لغيره.
ل في العلم ـ من جنس رؤوسهم الملحدة،فهؤلء يجعلون الرسول صلى ال عليه وسلم ـ إذا عظموه وقالوا :كان كام ً
وأنه كان يظهر للعامة خلف ما يبطنه للخاصة .وقد بينا من فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما ل يناسبه هذا
المقام.
فإن المقصود هنا أن هؤلء النفاة للعلو وللصفات الخبرية ،كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من جنس قول
هؤلء :إن الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس المر؛ لن ذلك ما كان يمكنه إظهاره للعامة ،فإذا /كانوا
يقولون هذا في الرسول نفسه فكيف قولهم في أتباعه من سلف المة من الصحابة والتابعين.
ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين الولين من المهاجرين والنصار ،كان مخالًفا لهم ل موافًقا ،ل سيما
ضا.
إذا أظهر النفي الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ول يظهرونه ،فإنه يكون مخالًفا لهم أي ً
وهذا المسلك يراه عامة النفاة ،كابن رشد الحفيد وغيره .وفي كلم أبي حامد الغزالي من هذا قطعة كبيرة .وابن عقيل
وأمثاله قد يقولون أحياًنا هذا ،لكن ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والعتزال في أول
أمره ،بخلف آخر ما كان عليه ،فقد خرج إلى السنة المحضة.
وأبو حامد يميل إلى الفلسفة ،لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات السلمية؛ ولهذا رد عليه علماء المسلمين،
حتى أخص أصحابه أبى بكر بن العربي ،فإنه قال :شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلسفة ،ثم أراد أن يخرج منهم
فما قدر .وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه ،ورد عليه العلماء المذكورون قبل .
فصــل
ثم قال المعترض :قال أبو الفرج ابن الجوزي في الرد على الحنابلة :إنهم أثبتوا ل ـ سبحانه ـ عيًنا ،وصورة ،ويميًنا،
ل ،ووجًها زائًدا على الذات ،وجبهة ،وصدًرا ،ويدين ،ورجلين ،وأصابع ،وخنصًرا ،وفخًذا ،وساًقا ،وقدًما، وشما ً
ل ،وهرولة ،وعجًبا ،لقد حْقو :هو الكشح والزار ،أو هو معقده[ وخلًفا ،وأماًما ،وصعوًدا ،ونزو ً
حْقًوا ]ال ِ
وجنًبا ،و ِ
كملوا هيئة البدن! وقالوا :يحمل على ظاهره ،وليست بجوارح ،ومثل هؤلء ل يحدثون ،فإنهم يكابرون العقول،
وكأنهم يحدثون الطفال.
الول :بيان مافيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلم في المسألة العلمية.
ل.
الثاني :بيان أنه رد بل حجة ول دليل أص ً
أما أول :فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلم أبي الفرج لم يصنفه /في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا ،وإنما رد به ـ
فيما ادعاه ـ على بعضهم ،وقصد أبا عبد ال بن حامد والقاضي أبا يعلى وشيخه أبا الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم،
وإل فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم ،ول حكى عنهم ما أنكره ،بل هو يحتج في مخالفته لهؤلء بكلم
كثير من الحنبلية ،كما يذكره من كلم التميميين ،مثل :رزق ال التميمي ]هو أبو محمد عبد الوهاب بن عبد العزيز
بن يزيد البغدادي ،الشيخ المام الواعظ ،كان فقيه الحنابلة ،ولد سنة 400هـ ،وتوفى سنة 488هـ[ ،وأبي الوفا بن
عقيل ،ورزق ال كان يميل إلى طريقة سلفه ،كجده أبي الحسن التميمي ،وعمه أبي الفضل التميمي ،والشريف أبي
علي بن أبي موسى ـ هو صاحب أبي الحسن التميمي ـ وقد ذكر عنه أنه قال :لقد خِرئ ]َتَغّوط[ القاضي أبو يعلى
خرَيًة ل يغسلها الماء.
على الحنابلة َ
وسنتكلم على هذا بما ييسره ال ،متحرين للكلم بعلم وعدل ،ول حول ول قوة إل بال ،فمازال في الحنبلية من يكون
ميله إلى نوع من الثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم ،ومنهم من يمسك عن النفي والثبات جميًعا .ففيهم جنس
التنازع الموجود في سائر الطوائف ،لكن نزاعهم في مسائل الّدق ،وأما الصول الكبار فهم متفقون عليها ،ولهذا
عا وافتراًقا ،لكثرة اعتصامهم بالسنة والثار؛ لن للمام أحمد في باب أصول الدين من كانوا أقل الطوائف تناز ً
القوال المبينة ـ لما تنازع فيه الناس ـ ما ليس لغيره .وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب؛ ولهذا
كان جميع من ينتحل السنة من طوائف المة ـ فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ـ ينتحلونه.
/ثم قد يتنازع هؤلء في بعض المسائل ،فإن هذا أمر لبد منه في العالم ،والنبي صلى ال عليه وسلم قد أخبر بأن هذا
لبد من وقوعه ،وأنه لما سأل ربه أل يلقي بأسهم بينهم منع ذلك ،فلبد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من
نوع تنازع ،لكن لبد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة ،كما أنه لبد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلف،
لكنه ل يزال في هذه المة طائفة قائمة بالحق ل يضرها من خالفها ول من خذلها حتى تقوم الساعة.
وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون؛ أبو الحسن التميمي ،وابنه ،وابن ابنه ،ونحوهم ،وكان بين أبي الحسن
التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور؛ ولهذا اعتمد الحافظ أبو
بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب المام أحمد ـ لما ذكر اعتقاده ـ اعتمد على ما نقله من كلم أبي الفضل
عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي .وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه ،ولم يذكر فيه ألفاظه،
وإنما ذكر جمل العتقاد بلفظ نفسه ،وجعل يقول] :وكان أبوعبد ال[.وهو بمنزلة من يصنف /كتاًبا في الفقه على
رأي بعض الئمة ،ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه ،وإن كان غيره بمذهب ذلك المام أعلم منه بألفاظه وأفهم
لمقاصده ،فإن الناس في نقل مذاهب الئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة .ومن المعلوم أن أحدهم يقول :حكم
ال كذا ،أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة ،بحسب ما بلغه وفهمه ،وإن كان غيره أعلم
بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده.
ضا ـ من المور التي يكثر وجودها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الئمة ،كما يختلف
فهذا ـ أي ً
بعض أهل الحديث في النقل عن النبي صلى ال عليه وسلم ،لكن النبي صلى ال عليه وسلم معصوم ،فل يجوز أن
يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة ،ول أمران متناقضان في الحقيقة إل وأحدهما ناسخ والخر منسوخ ،وأما
غير النبي صلى ال عليه وسلم فليس بمعصوم ،فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين ،وأمرين متناقضين ولم
يشعر بالتناقض.
لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى ال عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة ـ وقد تختلف الروايات حتى يكون
بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالستدلل بينهم اختلف كثير ـ لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره،
بل هو أولى بذلك؛ لن ال قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله ،ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره؛ لن ما
بعث ال به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى ال الذي جاء من عند ال ،وبه يعرف سبيله وهو حجته على
عباده/ ،فلو وقع فيه ضلل لم يبين لسقطت حجة ال في ذلك ،وذهب هداه ،وعميت سبيله؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي
آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه ،بل هذا الرسول آخر الرسل ،وأمته خير المم؛ ولهذا ل يزال فيها طائفة قائمة
على الحق بإذن ال ،ل يضرها من خالفها ول من خذلها حتى تقوم الساعة.
الوجه الثاني :أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب ،لم يثبت على قدم النفي ول على قدم الثبات ،بل له من الكلم
في الثبات نظًما ونثًرا ما أثبت به كثيًرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف .فهو في هذا الباب مثل كثير من
الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة ،وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات ،كما هو حال
أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي.
صا بالحنبلية ،ول فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم ،بل من استقرأ مذاهب الوجه الثالث :أن باب الثبات ليس مخت ً
الناس وجد في كل طائفة من الغلة في النفي والثبات ما ل يوجد مثله في الحنبلية ،ووجد من مال منهم إلى نفي
باطل أو إثبات باطل / ،فإنه ل يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والثبات ،بل تجد في الطوائف من زيادة
النفي الباطل والثبات الباطل ما ل يوجد مثله في الحنبلية .وإنما وقع العتداء في النفي والثبات فيهم مما دب إليهم
من غيرهم الذين اعتدوا حدود ال بزيادة في النفي والثبات؛ إذ أصل السنة مبناها على القتصاد والعتدال دون
البغي والعتداء.
وكان علم المام أحمد وأتباعه ،له من الكمال والتمام ،على الوجه المشهور بين الخاص والعام،ممن له بالسنة وأهلها
نوع إلمام ،وأما أهل الجهل والضلل ،الذين ل يعرفون ما بعث ال به الرسول ،ول يميزون بين صحيح المنقول
وصريح المعقول ،وبين الروايات المكذوبة والراء المضطربة ،فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الولين من
المهاجرين والنصار الذين نطق بفضلهم القرآن ،فهم بمقادير الئمة المخالفين لهؤلء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ
كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم واليمان ،وهم في هذه الحوال إلى الكفر أقرب
منهم لليمان.
ن كأنه لم ينشأ في دار السلم ،ولسمع ما عليه أهل العلم
تجد أحدهم يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلم َم ْ
واليمان ،ول عرف حال سلف هذه المة ،وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والعمال الصالحة ،ول عرف مما بعث
ال به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلل ،والغي والرشاد.
/وتجد وقيعة هؤلء في ]أئمة السنة وهداة المة[ من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر،
وعمر ،وأعيان المهاجرين والنصار ،ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه المة في رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلسفة وغيرهم في النبياء والمرسلين ،وقد ذكر ال في كتابه
من كلم الكفار والمنافقين في النبياء والمرسلين وأهل العلم واليمان ما فيه عبرة للمعتبر ،وبينة للمستبصر،
وموعظة للمتهوك ]المتحّير[ المتحير.
وتجد عامة أهل الكلم ومن أعرض عن جادة السلف ـ إل من عصم ال ـ يعظمون أئمة التحاد ،بعد تصريحهم في
كتبهم بعبارات التحاد ،ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه ،ولهم في قلوبهم من الجلل والتعظيم والشهادة
بالمامة والولية لهم ،وأنهم أهل الحقائق ،ما ال به عليم.
هذا ابن عربي يصرح في فصوصه :أن الولية أعظم من النبوة ،بل أكمل من الرسالة ،ومن كلمه:
وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولية النبي أفضل من نبوته ،وكذلك ولية الرسول أفضل من رسالته ،أو يجعلون
وليته حاله مع ال ،ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل.
فإن الرسول إذا خاطب الخلق ،وبلغهم الرسالة لم يفارق الولية ،بل هو ولي /ال في تلك الحال ،كما هو ولي ال في
سائر أحواله ،فإنه ولي ال ليس عدًوا له في شيء من أحواله ،وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا
ال وناجاه.
ضا ،فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم :إن النبي صلى ال عليه وسلم لبنة من فضة ،وهو لبنتان من ذهبوأي ً
وفضة ،ويزعم أن لبنة محمد صلى ال عليه وسلم هي العلم الظاهر ،ولبنتاه الذهب :علم الباطن ،والفضة :علم
الظاهر ،وأنه يتلقى ذلك بل واسطة ،ويصرح في فصوصه :أن رتبة الولية أعظم من رتبة النبوة؛ لن الولي يأخذ
بل واسطة والنبي بواسطة ،فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى ال عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه
فيه.
وبالجملة ،فهو لم يتبع النبي صلى ال عليه وسلم في شيء ،فإنه أخذ بزعمه عن ال ما هو متابعه فيه في الظاهر ،كما
ل ،ل في الحقائق
يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول ،فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أص ً
الخبرية ،ول في الحقائق الشرعية.
ضا ،فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى ،وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه ،بل ادعى أنه
وأي ً
يأخذ ما أقره عليه من الشرع من ال في الباطن ،فيكون أخذه للشرع عن ال أعظم من أخذ الرسول.
/وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه ـ وهو موضع اللبنة الذهبية ـ فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي
يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول.
فهذا كما ترى في حال هذا الرجل ،وتعظيم بعض المتأخرين له.
وصرح الغزالي بأن قتل من ادعي أن رتبة الولية أعلى من رتبة النبوة ،أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لن ضرر هذا
في الدين أعظم.
وذلك أن الصفات التي لنا منها ما هو عَرض كالعلم والقدرة ،ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه ،كالوجه واليد،
وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجساًما؛ لما في ذلك من معنى الكتساب والنتفاع والتصرف،
وجواز التفريق والبعضية.
/الوجه الرابع :أن هذا السؤال ل يختص بهؤلء ،بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف المة وأئمتها ،من
لبّية والُكّرامية والشعرية ،كل هؤلء يثبتون ل
أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلم من الُك ّ
صفة الوجه واليد ونحو ذلك.
وقد ذكر الشعري في كتاب المقالت أن هذا مذهب أهل الحديث ،وقال :إنه به يقول.
فقال في جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث :جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث :القرار بكذا وكذا ،وأن
ن{طَتا ِ
سو َ ي{ ]ص ،[75:وكما قالَ} :ب ْ
ل َيَداُه َمْب ُ ت ِبَيَد ّ ال على عرشه استوى ،وأن له يدين بل كيف ،كما قالَ } :
خَلْق ُ
عُيِنَنا{ ]القمر ،[14:وأن له وجًها ،كما قالَ} :وَيْبَقى َو ْ
جُه َرّب َ
ك ]المائدة ،[64:وأن له عينين بل كيف ،كما قالَ} :ت ْ
جِري ِبَأ ْ
لِل َواِْلْكَراِم{ ]الرحمن [27:
جَُذو اْل َ
وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الثبات ،وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود
في الحنبلية ـ سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي ،أو كان فيه تفصيل ـ إل وذلك موجود فيما شاء ال /من
أهل الحديث والصوفية ،والمالكية ،والشافعية ،والحنفية ونحوهم ،بل هو موجود في الطوائف التي ل تنتحل السنة
والجماعة ،والحديث ،ول مذهب السلف ،مثل الشيعة وغيرهم ،ففيهم في طرفي الثبات والنفي ما ل يوجد في هذه
الطوائف.
وكذلك في أهل الكتابين ـ أهل التوراة والنجيل ـ توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والثبات ،وكذلك الصابئة من
الفلسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والثبات ،حتى إن منهم من يثبت ما ل يثبته كثير من متكلمة الصفاتية ،ولكن
جنس الثبات على المتبعين للرسل أغلب ،من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين .وجنس النفي على
غير المتبعين للرسل أغلب ،من المشركين والصابئة المبتدعة.
وقد ذكرنا ـ في غير هذا الجواب ـ مذهب سلف المة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف ،بحيث
ل يبقى لحد من الطوائف اختصاص بالثبات.
ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي ،في كتابه الذي سماه ]الفصول في الصول
عن الئمة الفحول ،إلزاًما لذوي البدع والفضول[ ،وكان من أئمة الشافعية ،ذكر فيه من كلم الشافعي ،ومالك،
والثوري ،وأحمد بن حنبل ،والبخاري ـ صاحب الصحيح ـ /وسفيان بن عيينة ،وعبد ال بن المبارك ،والوزاعي،
والليث بن سعد ،وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم.
وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في السلم ،وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم؛
لنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرًقا وغرًبا إلى مذاهبهم؛ ولنهم أجمع لشرائط القدوة والمامة من غيرهم ،وأكثر
لتحصيل أسبابها وأدواتها ،من جودة الحفظ والبصيرة ،والفطنة والمعرفة بالكتاب ،والسنة ،والجماع والسند
والرجال ،والحوال ،ولغات العرب ،ومواضعها ،والتاريخ ،والناسخ ،والمنسوخ ،والمنقول ،والمعقول ،والصحيح،
والمدخول في الصدق ،والصلبة ،وظهور المانة ،والديانة ،ممن سواهم.
قال :وإن قصر واحد منهم في سبب منها ،جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،باينوا
هؤلء بهذا المعنى من سواهم ،فإن غيرهم من الئمة ـ وإن كانوا في منصب المامة ـ لكن أخّلوا ببعض ما أشرت
ل من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضًعا لبيانها.
إليه مجم ً
قال :ووجه ثالث لبد من أن نبين فيه ،فنقول :إن في النقل عن هؤلء إلزاًما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام
يخالفه في العقيدة ،فإن أحدهما ل محالة يضلل صاحبه ،أو يبدعه ،أو يكفره ،فانتحال مذهبه ـ مع مخالفته /له في
عا وطبًعا ،فمن قال :أنا شافعي الشرع ،أشعري العتقاد ،قلنا له :هذا من الضداد ،ل العقيدة ـ مستنكر ـ وال ـ شر ً
بل من الرتداد؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري العتقاد .ومن قال :أنا حنبلي في الفروع ،معتزلي في الصول ،قلنا :قد
ضللت إًذا عن سواء السبيل فيما تزعمه؛ إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والجتهاد.
وبسط الكلم في مسألة اللفظ إلى أن قال :فأما غير ما ذكرناه من الئمة ،فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض
للنقل عنهم.
قال :فإن قيل :فهل اقتصرتم إذًا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث ،وهم الئمة؛
الشافعي ،ومالك ،والثوري ،وأحمد ،إذ ل نرى أحًدا ينتحل مذهب الوزاعي والليث وسائرهم ؟
قلنا :لن من ذكرناه من الئمة ـ سوى هؤلء ـ أرباب المذاهب في الجملة ،إذ كانوا قدوة في عصرهم ،ثم اندرجت
مذاهبهم الخرة تحت مذاهب الئمة المعتبرة .وذلك أن ابن عيينة كان قدوة ،ولكن لم يصنف في /الذي كان يختاره
من الحكام ،وإنما صنف أصحابه ،وهم الشافعي ،وأحمد ،وإسحاق ،فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم.
وأما الليث بن سعد ،فلم يقم أصحابه بمذهبه ،قال الشافعي :لم يرزق الصحاب إل أن قوله يوافق قول مالك أو قول
الثوري ل يخطئهما ،فاندرج مذهبه تحت مذهبهما.
قال :فإن قيل :فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلء تحت مذاهب الئمة؟ قلت :من
التعليقة للشيخ أبي حامد السفرائيني ،التي هي ديوان الشرائع ،وأم البدائع في بيان الحكام ،ومذاهب العلماء العلم،
وأصول الحجج العظام ،في المختلف والمؤتلف.
عة ،وأبي حاتم في الصلة والحكام ـ مما قرأته وسمعته من مجموعيهما ـ فهو موافق لقول قال :وأما اختيار أبي ُزْر َ
أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور .وأما البخاري فلم أر له اختياًرا ،ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول:
استنبط البخاري في الختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق.
فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم ،دون غيرهم؛ إذ هم أرباب /المذاهب في الجملة ،ولهم أهلية القتداء
بهم لحيازتهم شرائط المامة ،وليس من سواهم في درجتهم ،وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم.
ل قال :لماثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر :في ذكر خلصة تحوي مناصيص الئمة بعد أن أفرد لكل منهم فص ً
تتبعت أصول ما صح لي روايته ،فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الئمة ،فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول
التي أثبتها ،وافتتحت كل ]فصل[ بنيف من المحامد ،يكون لمامتهم إحدى الشواهد ،داعية إلى اتباعهم ،ووجوب
وفاقهم ،و تحريم خلفهم وشقاقهم ،فإن اتباع من ذكرناه من الئمة في الصول في زماننا بمنزلة اتباع الجماع الذي
يبلغنا عن الصحابة والتابعين؛ إذ ل يسع مسلًما خلفه ،ول يعذر فيه ،فإن الحق ل يخرج عنهم؛ لنهم الدلء،
وأرباب مذاهب هذه المة ،والصدور والسادة ،والعلـماء القـادة ،أولـو الــدين والــديانة ،والصــدق والمانة ،والعــلم
الوافر،والجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع ،فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين ال ،حتى صاروا
أرباب المذاهب في المشارق والمغارب ،فليرضوا كذلك بهم في الصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه
ودعوا إليه.
قال :فإنا نعلم قطًعا أنهم أعرف قطًعا بما صح من معتقد رسول اللهصلى ال عليه وسلم وأصحابه من بعده ،لجودة
معارفهم وحيازتهم شرائط المامة ،ولقرب عصرهم من الرسول صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،كما بيناه في أول
الكتاب.
/قال :ثم أردت ـ ووافق مرادي سؤال بعض الخوان ـ أن أذكر خلصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم ،فإنها
أقرب إلى الحفظ ،وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب ،فاستعنت بمن عليه التكلن ،وقلت :إن الذي آثرناه من
مناصيصهم يجمعه فصلن :أحدهما :في بيان السنة وفضلها .والثاني :في هجران البدعة وأهلها.
أما الفصل الول :فاعلم أن ]السنة[ طريقة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والتسنن بسلوكها وإصابتها .وهي أقسام
ثلثة :أقوال ،وأعمال ،وعقائد .فالقوال :نحو الذكار والتسبيحات المأثورة .والفعال :مثل سنن الصلة والصيام
والصدقات المذكورة ،ونحو السير المرضية ،والداب المحكية ،فهذان القسمان في عداد التأكيد والستحباب،
واكتساب الجر والثواب .والقسم الثالث :سنة العقائد ،وهي من اليمان إحدى القواعد.
قال :وها أنذا أذكر ـ بعون ال ـ خلصة ما نقلته عنهم مفرًقا ،وأضيف إليه ما ُدّون في كتب الصول مما لم يبلغني
عنهم مطلًقا ،وأرتبها مرشحة ،وببعض مناصيصهم موشحة ،بأوجز لفظ على قدر وسعي ،ليسهل حفظه على من
يريد أن يعي ،فأقول:
ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلثة أضرب :ضرب يتعلق بأسماء ال ،وذاته ،وصفاته ،وضرب يتعلق برسول ال
صلى ال عليه وسلم وصحبه ومعجزاته ،وضرب يتعلق بأهل السلم في أولهم وأخراهم.
/أما الضرب الول :فلنعتقد أن ل أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة ،جاء بها كتابه ،وأخبر بها الرسول أصحابه،
فيما رواه الثقات ،وصححه النقاد الثبات ودل القرآن المبين ،والحديث الصحيح المتين على ثبوتها .
قال ـ رحمه ال تعالى ـ وهي أن ال ـ تعالى ـ أول لم يزل ،وآخر ل يزال ،أحد قديم وصمد كريم ،عليم حليم عل ّ
ي
يٌء َوُهَو
ش ْ عظيم ،رفيع مجـيد وله بطش شديـد ،وهـو يبدئ ويعيد ،فعال لما يريد ،قوي قدير ،منيع نصيرَ} ،لْي َ
س َكِمْثِلِه َ
صيُر{ ]الشورى ،[11:إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس ،والوجه ،والعين ،والقدم ،واليدين ،والعلم، سِميُع الَب ِ
ال ّ
والنظر ،والسمع ،والبصر ،والرادة ،والمشيئة ،والرضى ،والغضب ،والمحبة ،والضحك ،والعجب ،والستحياء،
والغيرة ،والكراهة ،والسخط ،والقبض ،والبسط ،والقرب ،والدنو ،والفوقية والعلو ،والكلم ،والسلم ،والقول،
والنداء ،والتجلي ،واللقاء ،والنزول ،والصعود ،والستواء ،وأنه ـ تعالى ـ في السماء ،وأنه على عرشه بائن من
خلقه.
قال مالك :إن ال في السماء وعلمه في كل مكان ،وقال عبد ال بن المبارك :نعرف ربنا فوق سبع سمواته على
العرش بائنا من خلقه ،ول نقول كما قالت الجهمية :إنه هاهنا ،وأشار إلى الرض ،وقال سفيان الثوريَ} :وُهَو َمَعُكْم
َأْيَن َما ُكنُتْم{ ]الحديد [4:قال :علمه .قال الشافعي :إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ،قال أحمد :إنه
مستٍو على العرش عالم بكل مكان .وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء ،وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء/ ،
وإنه يعلو على كرسيه ،واليمان بالعرش والكرسي ،وما ورد فيهما من اليات والخبار.
وأن الكلم الطيب يصعد إليه ،وتعرج الملئكة والروح إليه ،وأنه خلق آدم بيديه ،وخلق القلم وجنة عدن وشجرة طوبى
بيديه،وكتب التوراة بيديه ،وأن كلتا يديه يمين ،وقال ابن عمر :خلق ال بيديه أربعة أشياء :آدم ،والعرش ،والقلم،
وجنة عدن ،وقال لسائر الخلق :كن فكان،وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء ،قالت عائشة ـ رضي ال عنها :لشأني في
ي ُيْتَلى.
حٍ
ي ِبَو ْ
نفسي كان أحقر من أن يتكلم ال ف ّ
وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله صلى ال عليه وسلم للذي قتل في سبيل ال) :إنه لقى ال وهو يضحك إليه( ،وأنه
يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم بذلك ،وأنه ليس بأعور ،لقول رسول ال صلى ال
عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال):إنه أعور ،وإن ربكم ليس بأعور( ،وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة
بأبصارهم،كما يرون القمر ليلة البدر ،وأن له إصبًعا لقوله صلى ال عليه وسلم) :ما من قلب إل وهو بين إصبعين
من أصابع الرحمن(.
قال :وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد ،وتلقتها المة بالقبول والتصديق ،نحو ما في
الصحيح من حديث الذات ،وقوله) :ل شخص أغير من ال( ،وقوله) :أتعجبون من غيرة سعد؟ وال لنا أغير من
سعد ،وال أغير مني( ،وقوله) :ليس أحد أحب إليه المدح من ال ،ولذلك مدح نفسه ،وليس أحد أغير من ال،من أجل
ذلك حرم /الفواحش ما ظهر منها وما بطن( ،وقوله) :يد ال ملى( ،وقوله) :بيده الخرى الميزان يخفض ويرفع(،
ض يوم القيامة الرضين ،وتكون السموات بيمينه ،ثم يقول :أنا الملك(.
وقوله) :إن ال يقب ُ
ونحوه قوله) :ثلث حثيات من حثيات الرب( ،وقوله) :لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه( ،وقوله في حديث أبي رِزين:
قلت :يا رسول ال ،فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه؟ قال):تعرضون عليه بادية له صفحاتكم ،ل يخفى عليه منكم خافية،
فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء ،فينضح قبلكم ،فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة( .أخرجه أحمد في
المسند.
ونحو الحديث) :رأيت ربي في أحسن صورة( ،ونحو قوله):خلق آدم على صورته( ،وقوله) :يدنو أحدكم من ربه
حا( ،وقوله) :ما منكم من أحد إل سيكلمه ربه ،ليس بينه وبينه ترجمان
حتى يضع كنفه عليه( ،وقوله) :كلم أباك كفا ً
يترجم له( وقوله) :يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحًكا(
وفي حديث المعراج في الصحيح) :ثم دنا الجبار رب العزة ،فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى( ،وقوله) :كتب
كتاًبا ،فهو عنده فوق العرش / :إن رحمتي سبقت غضبي( ،وقوله) :ل تزال جهنم يلقي فيها ،وتقول :هل من مزيد؟
طـ
ط َق ِ
حتى يضع رب العزة فيها قدمه ـ وفي رواية :رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض ،وتقولَ :قد َقِد وفي روايةَ :ق ِ
بعزتك(.
ونحو قوله) :فيأتيهم ال في صورته التي يعرفون ،فيقول :أنا ربكم ،فيقولون :أنت ربنا( ،وقوله) :يحشر ال العباد،
ب :أنا الملك ،أنا الديان(.
فيناديهم بصوت يسمعه من َبُعَد كما يسمعه من َقُر َ
إلى غيرها من الحاديث ،هالتنا أو لم تهلنا ،بلغتنا أو لم تبلغنا اعتقادنا فيها ،وفي الي الواردة في الصفات :أنا نقبلها
ول نحرفها ول نكيفها ول نعطلها ولنتأولها ،وعلى العقول ل نحملها ،وبصفات الخلق ل نشبهها ،ول ُنْعمل رأينا
وفكرنا فيها ،ول نزيد عليها ول ننقص منها ،بل نؤمن بها وَنِكل علمها إلى عالمها ،كما فعل ذلك السلف الصالح ،وهم
القدوة لنا في كل علم.
روينا عن إسحاق أنه قال :ل نزيل صفة مما وصف ال بها نفسه ،أو وصفه بها الرسول عن جهتها ،ل بكلم ول
بإرادة ،إنما يلزم المسلم الداء ويوقن بقلبه أن ما وصف ال به نفسه في القرآن إنما هي صفاته ،ول يعقل نبي مرسل،
ول ملك مقرب تلك الصفات إل بالسماء التي عرفهم الرب ـ عز وجل ـ فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات
فل يدركه أحد ـ الحديث إلى آخره.
/وكما روينا عن مالك ،والوزاعي ،وسفيان ،والليث ،وأحمد بن حنبل ،أنهم قالوا في الحاديث في الرؤية والنزول:
أِمّروها كما جاءت.
وكما روى عن محمد بن الحسن ـ صاحب أبي حنيفة ـ أنه قال في الحاديث التي جاءت) :إن ال يهبط إلى السماء
الدنيا( ونحو هذا من الحاديث :إن هذه الحاديث قد رواها الثقات ،فنحن نرويها ونؤمن بها ،ول نفسرها .انتهى كلم
الكرجي ـ رحمه ال تعالى.
والعجب أن هؤلء المتكلمين ،إذا احتج عليهم بما في اليات والحاديث من الصفات قال :قالت الحنابلة :إن ال ،كذا
وكذا ،بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم ،والحنابلة اقتفوا أثر السلف ،وساروا بسيرهم ،ووقفوا بوقوفهم ،بخلف غيرهم،
وال الموفق.
النوع الثاني :أن هذا الكلم ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم ،فإن الرد بمجرد الشتم
والتهويل ل يعجز عنه أحد ،والنسان لو أنه يناظر المشركين ،وأهل الكتاب ،لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين
ل َرّب َ
ك سِبي ِ
ع ِإِلى َبه الحق الذي معه ،والباطل الذي معهم ،فقد قال ال ـ عز وجل ـ لنبيه /صلى ال عليه وسلم}\ :اْد ُ
ل ِباّلِتي ِه َ
ي ب ِإ ّ
ل اْلِكَتا ِ
جاِدُلوا َأْه َ ن{ ]النحل ،[125:وقال تعالىَ} :و َ
ل ُت َ سُ
حَي َأ ْ
جاِدْلُهم ِباّلِتي ِه َ
سَنِة َو َ
حَ
ظِة اْل َ
عَ
حْكَمةِ َواْلَمْو ِ
ِباْل ِ
َأْحَسُن{ ]العنكبوت.[46:
فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلم ـ سواء كان المتكلم به أبو الفرج أو غيره ،من أشهر الطوائف بالبدع كالرافضة ـ
لكان ينبغي أن يذكر الحجة ،ويعدل عما ل فائدة فيه؛ إذ كان في مقام الرد عليهم ،دع والمنازعون له ـ كما ادعاه ـ هم
ل ل حجة سمعية ،ول عقلية ـ عند جميع الناس أعلم منه بالصول والفروع .وهو في كلمه ورده لم يأت بحجة أص ً
وإنما اعتمد تقليد طائفة من أهل الكلم ـ قد خالفها أكثر منها من أهل الكلم ـ فقلدهم فيما زعموا أنه حجة عقلية ،كما
فعل هذا المعترض.
ومن يرد على الناس بالمعقول إن لم يبين حجة عقلية ،وإل كان قد أحال الناس على المجهولت ،كمعصوم الرافضة،
وغوث الصوفية.
فأما قوله :إن مثل هؤلء ل يحدثون ،فيقال له :قد بعث ال الرسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى ال ،فمن الذي أسقط
ال مخاطبته من الناس ؟ دع من تعرف أنت وغيرك ممن فضلهم ال ما ليس هذا موضعه،ولو أراد سفيه أن يرد على
الراد بمثل رده لم يعجز عن ذلك.
وكذلك قوله :إنهم يكابرون العقول .فنقول :المكابرة للعقول /إما أن تكون في إثبات ما أثبتوه ،وإما أن تكون في
تناقضهم بجمع من إثبات هذه المور ونفي الجوارح.
أما الول :فباطل؛ فإن المجسمة المحضة التي تصرح بالتجسيم المحض ،وتغلو فيه لم يقل أحد قط :إن قولها مكابرة
للعقول ،ول قال أحد :إنهم ل يخاطبون ،بل الذين ردوا على غالية المجسمة ـ مثل هشام بن الحكم وشيعته ـ لم يردوا
ل في كثير مما يقوله ـ فقد
عليهم من الحجج العقلية إل بحجج تحتاج إلى نظر واستدلل ،والمنازع لهم ـ وإن كان مبط ً
قابلهم بنظير حججهم ،ولم يكونوا عليه بأظهر منه عليهم ،إذ مع كل طائفة حق وباطل.
وإذا كان مثل أبي الفرج ابن الجوزي إنما يعتمد في نفي هذه المور على ما يذكره نفاة النظار ،فأولئك ل يكادون
يزعمون في شيء من النفي والثبات أنه مكابرة للمعقول ،حتى جاحدوا الصانع ،الذين هم أجهل الخلق وأضلهم
وأكفرهم ،وأعظمهم خلًفا للعقول ـ ل يزعم أكثر هؤلء الذين انتصر بهم أبو الفرج :أن قولهم مكابرة للعقول ،بل
يزعمون أن العلم بفساد قولهم إنما يعلم بالنظر والستدلل.
وهذا القول ـ وإن كان يقوله جل هؤلء النفاة من أهل الكلم ،فليس هو طريقة مرضية ،لكن المقصود :أن هؤلء النفاة
ل يزعمون أن العلم بفساد /قول المثبتة معلوم بالضرورة ول أن قولهم مكابرة للعقل ،وإن شنعوا عليهم بأشياء ينفر
عنها كثير من الناس ،فذاك ليستعينوا بنفرة النافرين على دفعهم ،وإخماد قولهم ،ل لن نفور النافرين عنهم يدل على
ق أو باطل ،ول لن قولهم مكابرة للعقل ،أو معلوم بضرورة العقل ،أو ببديهته فساده .هذا لم أعلم أحًدا من أئمة حّ
النفاة ـ أهل النظر ـ يدعيه في شيء من أقواله المثبتة ،وإن كان فيها من الغلو ما فيها.
ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين ،أو محبة الموافقين ،ل يدل على صحة قول ول فساده إل إذا كان ذلك بهدى من
ال ،بل الستدلل بذلك هو استدلل باتباع الهوى بغير هدى من ال .فإن اتباع النسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل
عْلٍم{
ن ِبَأْهَواِئِهم ِبَغْيِر ِ
ضّلو َ الذي يحبه ،ورد القول والفعل الذي يبغضه بل هدى من ال .قال تعالىَ} :وِإ ّ
ن َكِثيًرا ّلُي ِ
ل{ ن ا ِّ
ن اّتَبَع َهَواهُ ِبَغْيِر ُهًدى ّم َ
ل ِمّم ِضّ ن َأ َن َأْهَواءُهْم َوَم ْ عَلْم َأّنَما َيّتِبُعو َ
ك َفا ْ
جيُبوا َل َ ]النعام ،[119:وقالَ} :فِإن ّلْم َي ْ
سَت ِ
شَهْد
ل َت ْ ل{]ص [26:وقال تعالىَ} :فِإن َ
شِهُدوْا َف َ ل ا ِّسِبي ِعن َ ك َ ضّل َ
ل َتّتِبِع اْلَهَوى َفُي ِ ]القصص [50:وقال تعالى لداودَ} :و َ
ل َيا َأْه َ
ل ن{ ]النعام ،[150:وقال تعالىُ} :ق ْ خَرِة َوُهم ِبَرّبِهْم َيْعِدُلو َن ِبال ِ ل ُيْؤِمُنو َ ن َ ن َكّذُبوْا ِبآَياِتَنا َواّلِذي َ
َمَعُهْم َولَ َتّتِبْع َأْهَواء اّلِذي َ
ضّلوْا َعن َسَواء الّسِبيِل{ ]المائدة،[77: ضّلوْا َكِثيًرا َو َ ل َوَأ َ ضّلوْا ِمن َقْب ُ
ل َتّتِبُعوْا َأْهَواء َقْوٍم َقْد َ ق َو َ حّ غْيَر اْل َ
ل َتْغُلوْا ِفي ِديِنُكْم َ ب َ اْلِكَتا ِ
فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث ال به رسوله وبعد هدى ال الذي بينه لعباده ،فهو بهذه المثابة؛ ولهذا كان
السلف يسمون أهل البدع والتفرق ـ المخالفين للكتاب والسنة ـ أهل الهواء ،حيث قبلوا ما أحبوه ،وردوا ما أبغضوه
بأهوائهم بغير هدى من ال.
وأما قول المعترض عن أبى الفرج :ـ وكأنهم يخاطبون الطفال ـ فلم تخاطب الحنابلة إل بما ورد عن ال ورسوله
وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ،الذين هم أعرف بال وأحكامه ،وسلمنا لهم أمر الشريعة ،وهم قدوتنا فيما أخبروا
عن ال وشرعه ،وقد أنصف من أحال عليهم ،وقد شاقق من خرج عن طريقتهم ،وادعى أن غيرهم أعلم بال منهم،
أو أنهم علموا وكتموا ،وأنهم لم يفهموا ما أخبروا به ،أو أن عقل غيرهم في ]باب معرفة ال[ أتم ،وأكمل ،وأعلم مما
نقلوه ،وعقلوه ،وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب ،وال الموفق ،ومن لم يجعل ال له نوًرا فما له من نور.
فصــل
القوال نوعان:
أقوال ثابتة عن النبياء ،فهي معصومة ،يجب أن يكون معناها حًقا ،عرفه من عرفه ،وجهله من جهله ،و البحث عنها
إنما هو عما أرادته النبياء ،فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى،
ل ،مع أنه يعلم
ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبًعا له ،فإن وافقه قبله وإل رده ،وتكلف له من التحريف ما يسميه تأوي ً
ب لمعرفة التأويل الذي
بالضرورة أن كثيًرا من ذلك أو أكثره لم ترده النبياء ،فهو محرف للكلم عن مواضعه ،ل طال ٌ
يعرفه الراسخون في العلم.
النوع الثاني :ما ليس منقولً عن النبياء ،فمن سواهم ليس معصوًما ،فل يقبل كلمه ول يرد إل بعد تصور مراده،و
معرفة صلحه من فساده / ،فمن قال من أهل الكلم:إنه ل يفعل الشياء بالسباب ،بل يفعل عندها ل بها ،ول يفعل
لحكمة ،ول في الفعال المأمور بها ما لجله كانت حسنة ،ول المنهي عنها ما لجله كانت سيئة ،فهذا مخالف
لنصوص القرآن والسنة وإجماع المة من السلف.
وأول من قاله في السلم جهم بن صفوان الذي أجمع المة على ضللته ،فإنه أول من أنكر السباب والطبائع ،كما
أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات ،وأول من قال بخلق كلم ال وإنكار رؤيته في الخرة.
والدلة في ذلك كثيرة ،يخبر فيها أنه يخلق بالسباب والحكم ،وأخبر أنه قائم بالقسط ،وأنه ل يظلم الناس شيًئا ،فل
حوا
جَتَر ُ
نا ْب اّلِذي َس َحِيضع شيًئا في غير موضعه ،ول يسوي بين مختلفين ،ول يفرق بين متماثلين ،كما قالً} :أْم َ
ض{ الية ]ص: لْر ِ ن ِفي ا َْ
سِدي َت َكاْلُمْف ِ
حا ِ صاِل َ
عِمُلوا ال ّن آَمُنوا َو َ
ل اّلِذي َ جَعَلُهْم{ الية ]الجاثية ،[21:وقالَ} :أْم َن ْ
جَع ُ ت ّأن ّن ْ
سّيَئا ِ
ال ّ
ل الّنوُر
ت َو َ
ظُلَما ُ
ل ال ّ صيُر َو َ
عَمى َواْلَب ِ لْ ن{ الية ]القلم ،[35:وقالَ} :وَما َي ْ
سَتِوي ا َْ جِرِمي َ
ن َكاْلُم ْ
سِلِمي َ
ل اْلُم ْ ،[28وقالَ} :أَفَن ْ
جَع ُ
{الية ]فاطر [20 ،19:وغيرها كثير.
ي{ الية ]العراف ،[157:فدلت هذه الية وغيرها على أن ما أمرهم به هو لّم ّ
ياُ
ل الّنِب ّ
سو َ
ن الّر ُ وقوله} :اّلِذي َ
ن َيّتِبُعو َ
معروف في نفسه تعرفه القلوب ،فهو مناسب لها مصلح لفسادها ،وليس معنى كونه معروًفا أنه مأمور به؛ إذ هذا قدر
مشترك ،فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص ،وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور ،وما يحله مختص بأنه طيب،
وما يحرمه مختص بأنه خبيث ،ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب ،كالتوراة والنجيل ،والزبور ،وال ـ
سبحانه وتعالى ـ أعلم.
الستدلل بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة ،وتمامها بالجواب عما يعارضها.
فإن من الناس من يقول :البدع تنقسم إلى قسمين؛ لقول عمر :نعمت البدعة ،وبأشياء أحدثت بعده صلى ال عليه
وسلم ،وليست مكروهة؛ للدلة من الجماع والقياس.
وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة ،بمنزلة من إذا قيل لهمَ} :تَعاَلْوْا ِإَلى َما
ل َوِإَلى الّرُسوِل َقاُلوْا َحْسُبَنا َما َوَجْدَنا َعَلْيِه آَباءَنا{ ]المائدة[104:
لا ّ
َأنَز َ
وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة ،بحجج ليست من أصول العلم ،وقد يبدي ذوو العلم له مستنًدا
من الدلة الشرعية ،وال يعلم أن قوله لها وعمله بها ليس مستنًدا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفًعا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند القوال والعمال/،وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق
ن الّدي ِ
ن عوا َلُهم ّم َ
شَر ُ في العلم والعمل ،وهذه قاعدة دلت عليها السنة والجماع مع الكتاب ،قال ال تعالىَ} :أْم َلُهْم ُ
شَرَكاء َ
ل{ ]الشورى.[21: َما َلْم َيْأَذن ِبِه ا ُّ
فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى ال ،أو أوجبه بقوله أو فعله ،من غير أن يشرعه ال ،فقد شرع من الدين ما لم يأذن
به ال ،ومن اتبعه في ذلك ،فقد اتخذ شريًكا ل شرع في الدين ما لم يأذن به ال ،وقد يغفر له لجل تأويل إذا كان
حَباَرُهْم َوُرْهَباَنُهْم مجتهًدا ،الجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ،لكن ل يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى} :اّت َ
خُذوْا َأ ْ
ل{ ]التوبة.[31:
نا ّ
َأْرَباًبا ّمن ُدو ِ
فمن أطاع أحًدا في دين لم يأذن ال به ـ من تحليل ،أو تحريم ،أو استحباب ،أو إيجاب ـ فقد لحقه من هذا الذم نصيب،
كما يلحق المر الناهي .ثم قد يكون كل منهما معفًوا عنه .فيتخلف الذم لفوات شرطه ،أو وجود مانعه ،وإن كان
المقتضى له قائًما ،ويلحق الذم من تبين له الحق ،فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له ،أو أعرض عن طلبه ،لهوى
أو كسل ونحو ذلك.
ل اّلِذي َ
ن الثاني :تحريمهم ما لم يحرمه ال ،كما بينه صلى ال عليه وسلم في حديث /عياض عن مسلم ،وقالَ } :
سَيُقو ُ
يٍء{ ]النعام [148:فجمعوا بين الشرك والتحريم ،والشرك يدخل ش ْ
حّرْمَنا ِمن َ
ل َ
ل آَباُؤَنا َو َ
شَرْكَنا َو َ
ل َما َأ ْ
شاء ا ّ
شَرُكوْا َلْو َ
َأ ْ
فيه كل عبادة لم يأذن ال بها ،فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة ،وإما مستحبة .ثم منهم من عبد غير ال؛
ليتقرب به إلى ال ،ومنهم من ابتدع دينا عبد به ال ،كما أحدثت النصارى من العبادات.
وأصل الضلل في أهل الرض إنما نشأ من هذين ،إما اتخاذ دين لم يشرعه ال ،أو تحريم ما لم يحرمه.
ولهذا كان الصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم ،أن العمال عبادات وعادات ،فالصل في العبادات ل يشرع
منها إل ما شرعه ال ،والصل في العادات ل يحظر منها إل ما حظره ال ،وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما
أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به.
سئل شيخ السلم أحمد بن تيمية ـ قدس ال روحه ـ عن رجل قال: /
إذا كان المسلمون مقلدين ،والنصارى مقلدين ،واليهود مقلدين ،فكيف وجه الرد على النصارى واليهود ،وإبطال
مذهبهم والحالة هذه؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين ،وإبطال باطل الكافرين؟
الحمد ل ،هذا القائل كاذب ضال في هذا القول ،وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة ،كالذين ذكر
ن{
ل َيْهَتُدو َ
شْيئًا َو َ
ن َ
ل َيْعِقُلو َ
ن آَباُؤُهْم َ
عَلْيِه آَباءَنا َأَوَلْو َكا َ
ل َنّتِبُع َما َأْلَفْيَنا َ
ل َقاُلوْا َب ْ
لا ّ ال عنهم أنهمَ} :وِإَذا ِقي َ
ل َلُهُم اّتِبُعوا َما َأنَز َ
ضاّليَن َفُهْم َعَلى آَثاِرِهْم ُيْهَرُعوَن{ ]الصافات ،[70 ،69 :ونظائر هذا في القرآن ]البقرة [170:وقالِ} :إّنُهْم َأْلَفْوا آَباءُهْم َ
كثير.
فمن اتبع دين آبائه وأسلفه لجل العادة التي تعودها ،وترك اتباع الحق /الذي يجب اتباعه ،فهذا هو المقلد المذموم،
وهذه حال اليهود والنصارى ،بل أهل البدع والهواء في هذه المة ،الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق،
ساَدَتَنا َوُكَبَراءَنا
طْعَنا َ
ل َوَقاُلوا َرّبَنا ِإّنا َأ َ
سو َ
طْعَنا الّر ُ
ل َوَأ َ
طْعَنا ا َّ
ن َيا َلْيَتَنا َأ َ
جوُهُهْم ِفي الّناِر َيُقوُلو َب ُو ُ كما قال تعالىَ} :يْوَم ُتَقّل ُ
ب َواْلَعْنُهْم َلْعًنا َكِبيًرا{ ]الحزاب66:ـ ،[86 ن اْلَعَذا ِ
ن ِم َ
ضْعَفْي ِ
ل َرّبَنا آِتِهْم ِسِبي َ
ضّلوَنا ال ّ
َفَأ َ
ن الّناِر{
ن ِم َجي َ
خاِر ِب{ إلى قولهَ} :وَما ُهم ِب َ سَبا ُ
لْت ِبِهُم ا َطَع ْ
ب َوَتَق ّ
ن اّتَبُعوْا َوَرَأُوْا اْلَعَذا َ
ن اّلِذي َ وقال تعالىِ} :إْذ َتَبّرَأ اّلِذي َ
ن اّتِبُعوْا ِم َ
عّنا
ن َ
ل َأنُتم ّمْغُنو َ
سَتْكَبُروا ِإّنا ُكّنا َلُكْم َتَبًعا َفَه ْ
نا ْ
ضَعَفاء ِلّلِذي َ
ل ال ّن ِفي الّناِر َفَيُقو ُ جو َ ]البقرة ،[167 ،166:وقال تعالىَ} :وِإْذ َيَت َ
حا ّ
صيًبا مَّن الّناِر{ إلى قوله: َن ِ
ل َقْد َحَكَم َبْيَن اْلِعَباِد{]غافر [48 ،47:وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوًقا في معصية ال ،كان له
ن ا َّ
}ِإ ّ
نصيب من هذا الذم والعقاب.
والمطيع للمخلوق في معصية ال ورسوله ،إما أن يتبع الظن ،وإما أن يتبع ما يهواه ،وكثير يتبعهما.
وهذه حال كل من عصى رسول ال من المشركين وأهل الكتاب ،من اليهود والنصارى ،ومن أهل البدع والفجور من
جاءُهم ّمن ن{ إلى قولهَ} :وَلَقْد َ طا ٍ
سْل َل ِبَها ِمن ُ
ل ا ُّ
سّمْيُتُموَها َأنُتْم َوآَباُؤُكم ّما َأنَز َ
سَماء َ ل َأ ْ
ي ِإ ّن ِه َ هذه المة ،كما قال تعالىِ}/ :إ ْ
ّرّبِهُم اْلُهَدى{]النجم ،[23:والسلطان :هو الكتاب المنزل من عند ال وهو الهدى الذي جاءهم من عند ال ،كما قال
ل ِبَغْيِر
ت ا ِّ
ن ِفي آَيا ِ
جاِدُلو َ
ن ُي َ ن{ ]الروم ،[35:وقالِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ شِرُكو َ طاًنا َفُهَو َيَتَكّلُم ِبَما َكاُنوا ِبِه ُي ْ
سْل َ تعالىَ} :أْم َأنَزْلَنا َ
عَلْيِهْم ُ
طاٍن َأَتاُهْم{ إلى قولهِ} :بَباِلِغيِه{ ]غافر.[65: سْل َ
ُ
وبيان ذلك :أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث ال به رسوله حق ،ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه ،أو يحسب أن
ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق ،فهذا متبع للظن ،والول متبع لهواه ...اجتماع المرين :قال تعالى في صفة
سُهمْ
سَتْيَقَنْتَها َأنُف ُ
حُدوا ِبَها َوا ْ
جَن{ ]النعام ،[33:وقال تعالىَ} :و َ حُدو َ
جَل َي ْ
تا ّ
ن ِبآَيا ِ
ظاِلِمي َ
ن ال ّ ك َوَلِك ّ الولينَ} :فِإّنُهْم َ
ل ُيَكّذُبوَن َ
ن َأْبَناءُهْم{ب َيْعِرُفوَنُه َكَما َيْعِرُفو َ ن{ ]النمل ،[14:وقال تعالى} :اّلِذي َ
ن آَتْيَناُهُم اْلِكَتا َ سِدي َ
عاِقَبُة اْلُمْف ِ
ن َف َكا َ
ظْر َكْي َظْلًما َوعُُلّوا َفان ُ
ُ
ق َوُهْم َيْعَلُموَن{ ]البقرة.[146: حّ إلى قولهَ} :لَيْكُتُمو َ
ن اْل َ
عَمِلِه
سوُء َ ل{/الية ]الكهف [103 :وقالَ} :أَفَمن ُزّي َ
ن َلُه ُ عَما ً
ن َأ ْ
سِري َ
خَلْ
ل ُنَنّبُئُكْم ِبا َْ وقال تعالى في صفة الخسرينُ} :ق ْ
ل َه ْ
ضّل َمن َيَشاء َوَيْهِدي َمن َيَشاء{]فاطر.[8: ل ُي ِ
ن ا َّ
حسًَنا َفِإ ّ
َفَرآُه َ
فالول :حال المغضوب عليهم ،الذين يعرفون الحق ول يتبعونه ،كما هو موجود في اليهود.
ضّلوَن ِبَأْهَواِئِهم ِبَغْيِر ِعْلٍم{ ]النعام ،[119:وقال تعالى: والثاني :حال الذين يعملون بغير علم ،قال تعالىَ} :وِإ ّ
ن َكِثيًرا ّلُي ِ
ل{ ]القصص.[50: ن ا ِّ
ن اّتَبَع َهَواُه ِبَغْيِر ُهًدى ّم َ
ل ِمّم ِ
ضّن َأ َ
}َوَم ْ
وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن ل يجوز له اتباعه ،وكذلك من اتبع الرسول بغير بصيرة ول تبين ،وهو
الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل اليمان إلى قلبه ،كالذي يقال له في القبر :من ربك ؟ وما دينك؟ وما نبيك؟.
فيقول :هاه ،هاه ،ل أدري .سمعت الناس يقولون شيًئا فقلته ـ هو مقلد ـ فيضرب بمرزبة من حديد ،فيصيح صيحة
يسمعها كل شيء إل النسان ،ولو سمعها النسان لصعق ،أي :لمات.
ب آَمّنا ُقل ّلْم ُتْؤِمُنوا َوَلِكن ُقوُلوا َأْسَلْمَنا َوَلّما َيْدُخِل اِْليَماُن ِفي ُقُلوِبُكْم{ ]الحجرات .[14:فمن لم
عَرا ُ
لْ وقد قال تعالىَ} :قاَل ِ
ت ا َْ
يدخل اليمان في قلبه وكان مسلًما في الظاهر ،فهو من المقلدين المذمومين.
فإذا تبين أن المقلد مذموم ـ وهو من اتبع هوى من ل يجوز اتباعه ـ كالذي يترك طاعات رسل ال ،ويتبع ساداته
وكبراءه ،أو يتبع الرسول ظاهًرا /من غير إيمان في قلبه،تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليًدا مذموًما،
وكذلك المنافقون من هذه المة.
أحدها :أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى ال عليهما وسلم ،إنما يتبعونهم لجل
أنهم رسل ال ،وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى إل ومحمد صلى ال عليه وسلم أولى وأحرى.
مثال ذلك :إذا قال اليهود والنصارى :قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى ـ مع دعواه النبوة ـ ظهرت على يديه
اليات الدالة على صدقه ،وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجئ به مفتر كذاب ـ ظهرت على يديه اليات
الدالة على صدقه ـ وإنما يجىء به مع دعوى النبوة نبي صادق .قيل له :كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة
محمد صلى ال عليه وسلم بطريق الولى.
فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى ال عليه وسلم من الدين والشريعة ،ونقلوا ما جاء به من
اليات المعجزات ،أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى ،وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء
به موسى وعيسى ،بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع ،والعمل الصالح وما عند
اليهود والنصارى ،علم أن بينهما /من الفرق أعظم مما بين الَعَرم ]الَعَرم :اللحم .يقال :إن جزوركم لطيب الَعَرَمَة،
أي :طيب اللحم[ والِعْرق.
فإن الذى عند المسلمين ،من توحيد ال ومعرفة أسمائه وصفاته ،وملئكته وأنبيائه ورسله ،ومعرفة اليوم الخر،
وصفة الجنة والنار ،والثواب والعقاب ،والوعد والوعيد ،أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى ،وهذا بين
لكل من يبحث عن ذلك.
وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل :الصلوات الخمس ،وغيرها من الصلوات ،والذكار
والدعوات ،أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب ،وما عندهم من الشريعة في المعاملت ،والمناكحات والحكام والحدود
والعقوبات ،أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب.
فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع ،وعمل صالح ،وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر ،ل يحتاج إلى كثير سعى.
والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم ،فإنما حصل بنبيهم صلى ال عليه وسلم ،فكيف يمكن مع هذا
أن يكون موسى وعيسى نبيين ،ومحمد صلى ال عليه وسلم ليس بنبي ،وأن اليهود والنصارى على الحق؟!
/فما هم عليه من الهدى ودين الحق ،أعظم مما عند اليهود والنصارى ،وذلك إنما تلقوه من نبيهم.
وهذا القدر يعترف به كل عاقل ـ من اليهود والنصارى ـ يعترفون بأن دين المسلمين حق ،وأن محمًدا رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وأن من أطاعه منهم دخل الجنة ،بل يعترفون بأن دين السلم خير من دينهم ،كما أطبقت على
ذلك الفلسفة ،كما قال ابن سينا وغيره :أجمع فلسفة العالم على أنه ل يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس،
لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه ل يجب عليه اتباعه؛ لنه رسول إلى العرب الميين دون أهل الكتاب؛ لنه إن كان
ضا حق ،والطريق إلى ال ـ تعالى ـ متنوعة ،ويشبهون ذلك بمذاهب الئمة ،فإنه وإن كان أحد
دينه حًقا فديننا أي ً
المذاهب يرجح على الخر ،فأهل المذاهب الخرى ليسوا كفاًرا ول من أهل الكتاب.
وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده،جاهدوا أهل الكتاب ،وقاتلوا من قاتلهم ،وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن
يد وهم صاغرون.
وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به ،مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه ،ويكفر من لم يتبعه
منهم ،ويذمه ويلعنه ،والوعيد له ،كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه ،والوعيد كما قال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
ن
صّدًقا ّلَما َمَعُكم{الية ]النساء ،[47:وفي القرآن من قوله :يا أهل الكتاب ،يا بني إسرائيل ،ما
ب آِمُنوْا ِبَما َنّزْلَنا ُم َ
ُأوُتوْا اْلِكَتا َ
ل يحصي إل بكلفة.
ب َواْلُمْشِرِكيَن ُمنَفّكيَن{ الية إلى قولهَ} :خْيُر اْلَبِرّيِة{ ]البينة1 :ـ .[7ومثل ل اْلِكَتا ِن َأْه ِ
ن َكَفُروا ِم ْ وقال تعالىَ} :لْم َيُك ِ
ن اّلِذي َ
ض{
لْر ِ
ت َوا َ
سَماَوا ِ
ك ال ّ
جِميًعا اّلِذي َلُه ُمْل ُ
ل ِإَلْيُكْم َ
لا ّ
سو ُ
س ِإّني َر ُ هذا في القرآن كثير جًدا .وقد قال تعالىُ} :ق ْ
ل َيا َأّيَها الّنا ُ
س{ ]سبأ.[28: ل َكاّفًة ّللّنا ِ
ك ِإ ّ ]العراف [158 :وقال تعالىَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا َ
ت على النبياء بخمس( ذكر فيها أنه قال):كان النبي ُيبعث إلى قومهضْل ُ
واستفاض عنه صلى ال عليه وسلمُ) :ف ّ
خاصة وبعثت إلى الناس عامة( .بل تواتر عنه صلى ال عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والنس ،فإذا علم بالضطرار
بالنقل المتواتر ـ الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته ـ أنه دعا أهل الكتاب إلى /اليمان به ،وأنه حكم بكفر من لم
يؤمن به منهم ،وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا ،أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه
عات [ ضرب الجزية عليهم ،وقتل مقاتلتهم ،وسبى ذراريهم ،وغنم أموالهم ،فحاصر بني قينقاع ،ثم أجلهم إلى أْذِر َ
بلد في أطراف الشام[ ،وحاصر بني النضير ،ثم أجلهم إلى خيبر ،وفي ذلك أنزل ال سورة الحشر.
ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد ،وقتل رجالهم ،وسبى حريمهم ،وأخذ أموالهم ،وقد ذكره ال ـ تعالى ـ في
سورة الحزاب ،وقاتل أهل خيبر حتي فتحها ،وقتل من قتل من رجالهم ،وسبى من سبى من حريمهم ،وقسم أرضهم
بين المؤمنين ،وقد ذكرها ال ـ تعالى ـ في سورة الفتح ،وضرب الجزية على النصارى ،وفيهم أنزل ال سورة آل
عمران ،وغزا النصارى عام تبوك ،وفيها أنزل ال سورة براءة.
وفي عامة السور المدنية ،مثل البقرة ،وآل عمران ،والنساء ،والمائدة ،وغير ذلك من السور المدنية ،من دعوة أهل
شِرِه.
الكتاب ،وخطابهم ،ما ل تتسع هذه الفتوى ِلُع ْ
ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر ،ومن معهما من المهاجرين والنصار ،الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له ،وأطوعهم
لمره ،وأحفظهم لعهده ،وقد غزوا الروم كما غزوا فارس ،وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس ،فقاتلوا من قاتلهم،
وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون.
/ومن الحاديث الصحيحة عنه قوله صلى ال عليه وسلم) :والذي نفسي بيده ،ل يسمع بي من هذه المة يهودي ول
نصراني ،ثم ل يؤمن بي إل دخل النار(.
ل َكِذًبا َأْو
عَلى ا ّ
ن اْفَتَرى َ
ظَلُم ِمّم ِ فمن قال :إن ال أمره بذلك وفعله ،ولم يكن ال أمره بذلك ،كان كاذًبا مفترًيا ظالًما}َوَم ْ
ن َأ ْ
يٌء{ ]النعام [93 :وكان مع كونه ظالًما مفترًيا ،من أعظم المريدين علوا في الرض ش ْ
ح ِإَلْيِه َ
ي َوَلْم ُيو َ
ي ِإَل ّ
ل ُأْوحِ َ
َقا َ
وفساًدا ،وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين ،فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم ،ل يقولون
إنا رسل ال إليكم ،ومن أطاعنا دخل الجنة ،ومن عصانا دخل النار ،بل فرعون وأمثاله ل يدخلون في مثل هذا ،ول
يدخل في هذا إل نبي صادق ،أو متنبئ كذاب ،كمسيلمة والسود وأمثالهما.
فإذا علم أنه نبي كيفما كان ،لزم أن يكون ما أخبر به عن ال حًقا ،وإذا كان رسول ال وجبت طاعته في كل ما يأمر
ل{ ]النساء [64:وإذا أخبر أنه رسول ال إلى أهل الكتاب،
نا ّ
ع ِبِإْذ ِ
طا َ
ل ِلُي َ
ل ِإ ّ
سو ٍ به ،كما قال تعالىَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا ِمن ّر ُ
ل إلى أهل الكتاب ،بمنزلة من
/وأنه تجب عليهم طاعته ،كان ذلك حًقا؛ ومن أقر بأنه رسول ال ،وأنكر أن يكون مرس ً
ل ،ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام ،ول يخرج بني إسرائيل من مصر ،وأن ال لم يقول :إن موسى كان رسو ً
يأمره بذلك ،وأن ال لم يأمره بالسبت ،ول أنزل عليه التوراة ،ول كلمه على الطور ،ومن يقول :إن عيسى كان
رسول ال ،لم يبعث إلى بني إسرائيل ،ول كان يجب على بني إسرائيل طاعته ،وأنه ظلم اليهود ،وأمثال ذلك من
المقالت ،التي هي أكفر المقالت.
فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة ،يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق ،دون اليهود
والنصارى ،فإنها مبنية على مقدمتين:
إحداهما :أن نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ،ورسالته ،وهدي أمته أبين وأوضح ،تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة
موسى وعيسى ـ عليهما الصلة والسلم ـ وزيادة ،فل يمكن القول بأنهما نبيان دونه لجل ذلك ،وإن شاء الرجل
استدل على ذلك بنفس الدعوة ،وما جاء به ،وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء /بما عليه أمته ،وإن شاء بما
بعث به من المعجزات ،فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى ،كانت نبوة محمد صلى ال عليه
وسلم بها أبين وأكمل.
ل إلى
والمقدمة الثانية :أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الرض ،من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرس ً
بعض الناس دون بعض ،وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر ،والدلئل القطعية.
ل
ن ِبا ِّ
ن آَم َ
ن َم ْ
صاِبِئي َ
صاَرى َوال ّ
ن َهاُدوْا َوالّن َ
ن آَمُنوْا َواّلِذي َ وأما اليهود والنصارى ،فأصل دينهم حق ،كما قال تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ
ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة [62:لكن كل من الدينين مبدل خْو ٌ
ل َ
عنَد َرّبِهْم َو َ
جُرُهْم ِ
صاِلحًا َفَلُهْم َأ ْ
ل َ
عِم َ
خِر َو َ
َواْلَيْوِم ال ِ
منسوخ ،فإن اليهود بدلوا وحرفوا ،ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى ال عليه وسلم.
ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ـ مثل نبوة النبياء ،وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها ـ تبين أنهم بدلوا
وأن شريعتهم تنسخ ،وتبين صحة رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،فإن فيها من العلم والدلئل على نبوة خاتم
ضا ـ وقوع التبديل،المرسلين ،ما قد صنف فيه العلماء مصنفات ،وفيها ـ أيضا ـ من التناقض والختلف مايبين ـ أي ً
وفيها من الخبار من نحو بعدها ما يبين أنها منسوخة ،فعندهم ما يدل على هذه المطالب ،وقد ناظرنا غير واحد /من
أهل الكتاب وبينا لهم ذلك ،وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف ،وصاروا يناظرون أهل دينهم ،ويبينون ما عندهم من
الدلئل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم ،ولكن هذه الفتيا ل تحتمل غير ذلك.
وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلئل على نبوة محمد صلى ال عليه وسلم،
وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من اليمان بال واليوم الخر ،ما يبين أن محمدًا صلى ال عليه وسلم جاء
بالدين الذي بعثت به الرسل قبله ،وأخبر من توحيد ال وصفاته بمثل ما أخبرت به النبياء قبله ،قال تعالىُ} :ق ْ
ل َأَرَأْيُتْم
شِهيًدا َبْيِني َوَبْيَنُكْم
ل َ ل َكَفى ِبا ّعَلى ِمْثِلِه{ ]الحقاف ،[10 :وقولهُ} :ق ْ ل َسَراِئي َ
شاِهٌد ّمن َبِني ِإ ْ
شِهَد َ
ل َوَكَفْرُتم ِبِه َو َ
عنِد ا ِّ ن ِن ِم ِْإن َكا َ
ك{ب ِمن َقْبِل َ
ن اْلِكَتا َ
ن َيْقَرُؤو َ
ل اّلِذي َ
سَأ ِ
ك َفا ْ
ك ّمّما َأنَزْلَنا ِإَلْي َ
شّ ب{ ]الرعد ،[43:وقال تعالىَ} :فِإن ُكن َ
ت ِفي َ عْلُم اْلِكَتا ِ
عنَدُه ِ
ن ِ َوَم ْ
]يونس.[94:
والنبي صلى ال عليه وسلم لم يشك ولم يسأل ،ولكن هذا حكم معلق بشرط ،والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه ،وفي
ذلك سعة لمن شك ،أو أراد أن يحتج ،أو يزداد يقيًنا.
فصــل
فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب ،وأما إن كان المخاطب ل يقر بنبوة نبي من النبياء؛ ل موسى ،ول
عيسى ،ول غيرهما ،فللمخاطبة طرق:
منها :أن نسلك في الكلم بين أهل الملل وغيرهم ـ من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم ـ نظير
الكلم بين المسلمين وأهل الكتاب.
فنقول :من المعلوم لكل عاقل ـ له أدنى نظر وتأمل ـ أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة ،والعمال الصالحة ممن
ليس من أهل الملل ،فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل ،إل عند المسلمين ما هو أكمل منه ،وعند
أهل الملل ما ل يوجد عند غيرهم ،وذلك أن العلوم والعمال نوعان:
نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب ،وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك ،فهذه المور عند
أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل ،فإن علوم المتفلسفة ـ من علوم المنطق والطبيعة والهيئة ،وغير ذلك
ـ من متفلسفة الهند واليونان ،وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها ،لكمال عقولهم ،وحسن
ألسنتهم ،وكان /كلمهم فيها أتم وأجمع وأبين ،وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل ،وأما ما ل يعلم بمجرد العقل كالعلوم
اللهية ،وعلوم الديانات ،فهذه مختصة بأهل الملل ،وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية ،فاليات الكتابية
مستنبطة من الرسالة .فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دللة العقول عليها ،فهي عقلية شرعية ،فليس لمخالف
الرسول أن يقول :هذه لم تعلم إل بخبرهم ،فإثبات خبرهم بها دور ،بل يقال :بعدالتهم وإرشادهم ،وتبيينهم للمعقول،
صارت معلومة بالعقل والمثال المضروبة ،والقيسة العقلية.
وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ،وبطلن قول من خالفهم.
منها :اتفاق الرسل على الخبار به من غير تواطؤ ول اتفاق بينهم ،فإن المخبر إما أن يكون صادًقا خبره مطابًقا
لمخبره ،وإما أل يكون ،وإذا لم يكن خبره مطابًقا لمخبره ،فإما أن يكون متعمًدا للكذب ،وإما أن يكون مخطًئا ،فإذا
قدر عدم الخطأ والتعمد ،كان خبره صدًقا ل محالة.
ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة ،ل يمكن في العادة خطؤهم ،وأخبر غيره قبل ذلك مع
الجزم بأنهما لم يتواطآ ،ول يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك ،أفاد خبرهما العلم ،وإن لم يعلم /حالهما ،فلو
ناجى رجل بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك المور السرار ،ثم جاء آخر قد
علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الول ،فأخبر عن تلك المناجاة والسرار مثلما أخبر به الول ،جزمنا قطًعا بصدقهما.
ومعلوم أن مـوسى أخبــر بما أخــبر به قبل أن يبعث محمـد صلى ال عليه وسلم ،وقـبل أن يبعث المسيح .
ضا ـ لكل من كان عالًما بحال محمد صلى ال عليه وسلم ،أنه نشأ بين قوم أميين ،ل يقرؤون كتاًبا ول ومعلوم ـ أي ً
يعلمون علوم النبياء ،وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والنجيل ،ونبوة النبياء.
ل وصفاته ،وأسمائه وملئكته وعرشه وكرسيه ،وأنبيائه ورسله، وقد أخبر محمد صلى ال عليه وسلم من توحيد ا ّ
وأخبارهم وأخبار مكذبيهم ،بنظير ما يوجد في كتب النبياء ،من التوراة وغيرها.
فمن تدبر التوراة والقرآن ،علم أنهما جميًعا يخرجان من مشكاة واحدة ،كما ذكر ذلك النجاشي ،وكما قال ورقة بن
نوفل :هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.
فهذه الطريقة ،كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده ،وما جاء به محمد صلى ال عليه وسلم ،علم علًما
ل ،صادقون في الخبار ،وأنه يمتنع ـ والعياذ بال ـ خلف الصدق من خطأ وكذب. يقيًنا أنهم كلهم مخبرون عن ا ّ
ومن الطرق :الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع النبياء ،وأحوال من كذبهم
وكفر بهم ،حال نوح وقومه ،وهود وقومه ،وصالح وقومه ،وحال إبراهيم وقومه ،وحال موسى وفرعون ،وحال
محمد صلى ال عليه وسلم وقومه.
ب ِمن َبْعِدِهْم{ إلى قولهَ} :فَكْيفَ حَزا ُلْ ح َوا َْ ل في غير موضع من كتابه كقولهَ} :كّذَب ْ
ت َقْبَلهُْم َقْوُم ُنو ٍ وهذا الطريق قد بينها ا ّ
ن َوُكّذ َ
ب ب َمْدَي َ
حا ُ
صَ
ط َوَأ ْ
عاٌد َوَثُموُد َوَقْوُم ِإْبَراِهيَم َوَقْوُم ُلو ٍ ح َو َت َقْبَلُهْم َقْوُم ُنو ٍ ب{ ]غافر ،[5:وقالَ} :وِإن ُيَكّذُبو َ
ك َفَقْد َكّذَب ْ عَقا ِ
ن ِ
َكا َ
ُموَسى{ إلى قوله
ن ِبَها{
سَمُعو َ
ن َي ْ
ن ِبَها َأْو آَذا ٌ
ب َيْعِقُلو َ
ن َلُهْم ُقُلو ٌ
ض َفَتُكو َ
لْر ِ ظاِلَمٌة{ إلى قولهَ} :أَفَلْم َي ِ
سيُروا ِفي ا َْ ي َ َ}:فَكَأّين ّمن َقْرَيٍة َأْهَلْكَناَها َوِه َ
حي َ
ن صِب ِ عَلْيِهم ّم ْ ]الحج42:ـ ،[46وقولهَ} :وِإّنُكْم َلَتُمّرو َ
ن َ
والثاني :ما يسمع ،فإنه قد تواتر عند كل أحد حال النبياء ،ومصدقهم ومكذبهم ،وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه ـ
سبحانه ـ عاقب مكذبهم وانتقم منهم ،وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه ،وأن من كذبهم كان على الباطل الذي
ل.
ل ،ومعصيتهم معصية ّ ل على أهله ،وأن طاعة الرسل طاعة ّ يغضب ا ّ
ضا :أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة ،وآياتهم القاهرة ،وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد
ومن الطرق أي ً
مدعي النبوة وهو كذاب ،من غير تناقض ،ول تعارض ،كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
/ومن الطرق :أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة ،والعمال الصالحة ،بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب ،ول ينكره
إل جاهل غاو.
وهذه الفتيا ل تسع البسط الكثير ،فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به ،ووجب الحكم بكفر من آمن
ل على محمد وآله وصحبهل رب العالمين ،وصلى ا ّل ـ سبحانه ـ وتعالى ـ أعلم ،والحمد ّ
ببعض ،وكفر ببعض .وا ّ
أجمعين.
عْنُه:
ل َ
فأجاب ـ رضي ا ّ
ل رب العالمين ،روح الدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف المة وأئمتها وسائر أهل السنة ،وقد حكى إجماعالحمد ّ
العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين ،مثل محمد بن نصر المروزي ،المام المشهور ،الذي هو أعلم
أهل زمانه بالجماع والختلف ،أو من أعلمهم.
سم :الرواح .قال :وأجمع الناسوكذلك أبو محمد بن قتيبة ،قال في كتاب ]اللقط[ لما تكلم على خلق الروح قال :الّن َ
ل خالق الجثة / ،وبارئ النسمة ،أي :خالق الروح .وقال أبو إسحاق بن شاقل فيما أجاب به في هذه المسألة: على أن ا ّ
ل عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة ،قال :هذا مما ل يشك فيه من وفق للصواب ،إلى أن قال: سألت رحمك ا ّ
والروح من الشياء المخلوقة ،وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ ،وردوا على من يزعم
أنها غير مخلوقة.
ل بن َمْنَده في ذلك كتاًبا كبيًرا في ]الروح والنفس[ ،وذكر فيه من الحاديث والثار شيًئا
وصنف الحافظ أبو عبد ا ّ
كثيًرا ،وقبله المام محمد بن نصر المروزي وغيره ،والشيخ أبو يعقوب الخراز ،وأبو يعقوب النهرجوري ،والقاضي
أبو يعلى ،وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الئمة الكبار ،واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم ،ل
سيما في روح غيره ،كما ذكره أحمد في كتابه في ]الرد على الزنادقة والجهمية[ فقال في أوله:
ل الذي جعل في كل زمان َفْتَرة من الرسل بقايا من أهل العلم ،يدعون من ضل إلى الهدى ،ويصبرون منهم الحمد ّ
ل أهل العمى ،فكم من قتيل لبليس قد أحيوه ،وكم من ضال ل الموتى ،ويبصرون بنور ا ّ على الذى ،يحيون بكتاب ا ّ
ل تحريف الغالين؛ وانتحالتائه قد هدوه ،فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ،ينفون عن كتاب ا ّ
المبطلين ،وتأويل الجاهلين ،الذين عقدوا ألوية البدعة ،وأطلقوا عقال الفتنة ،فهم مختلفون في الكتاب ،مخالفون
ل بغير علم ،يتكلمون بالمتشابه من
ل ،وفي كتاب /ا ّ
ل ،وفي ا ّللكتاب ،متفقون على مخالفة الكتاب ،يقولون على ا ّ
ل من فتن المضلين ،وتكلم على ما يقال :إنه متعارض من الكلم ،ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ،فنعوذ با ّ
القرآن إلى أن قال:
وكذلك الجهم وشيعته ،دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث ،وأضلوا بشًرا كثيًرا ،فكان مما بلغنا من أمر
ل،
ل ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ ،وكان صاحب خصومات وكلم ،كان أكثر كلمه في ا ّ الجهم ـ عدو ا ّ
سا من المشركين يقال لهم ]السمنية]فعرفوا الجهم ،فقالوا له :نكلمك ،فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، فلقى أنا ً
وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك.
فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا :ألست تزعم أن لك إلًها؟ قال الجهم :بلى .فقالوا له :فهل رأيت إلهك؟ قال :ل .قالوا:
جسا؟ قال :ل .قالوا :فما يدريك
فهل سمعت كلمه؟ قال :ل.قالوا :فهل شممت له رائحة؟ قال :ل .قالوا له :فوجدت له َم َ
أنه إله؟ قال :فتحير الجهم ،فلم يدر من يعبد أربعين يوًما ،ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ،وذلك أن
ل ،من ذاته ،فإذا أراد أن يحدث أمًرا دخل في بعض
زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح ا ّ
خلقه ،فتكلم على لسان خلقه ،فيأمر بما شاء ،وينهى عما شاء ،وهو روح غائب عن البصار.
حا ؟ قال بلى .قال :فهل رأيت روحك؟فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة ،فقال للسمني :ألست تزعم أن فيك رو ً
ل ،ل يرى له وجه ،و
سا؟ قال :ل .قال :كذلك ا ّ
سا وَمجَ ّ
قال :ل .قال :فهل سمعت /كلمه؟ قال :ل .قال :فوجدت له ح ً
ل يسمع له صوت ،ول يشم له رائحة ،وهو غائب عن البصار ،ول يكون في مكان دون مكان.
وساق المام أحمد الكلم في ]القرآن[ و]الرؤية[ وغير ذلك ،إلى أن قال :ثم إن الجهم ادعى أمًرا ،فقال :إنا وجدنا آية
ل َوَكِلَمُتُه
لا ّ
سو ُ
ن َمْرَيَم َر ُ
سى اْب ُ
عي َ
ح ِ لِ} :إّنَما اْلَم ِ
سي ُ ل تدل على القرآن أنه مخلوق ،فقلنا :أي آية؟ قال :قول ا ّفي كتاب ا ّ
َأْلَقاَها ِإَلى َمْرَيَم َوُروٌح ّمْنُه{ ]النساء [171:وعيسى مخلوق.
ل،
ل منعك الفهم في القرآن ،عيسى تجرى عليه ألفاظ ل تجرى على القرآن؛ لنه يسميه مولوًدا ،وطف ً فقلنا :إن ا ّ
وصبًيا ،وغلًما ،يأكل ويشرب ،وهو مخاطب بالمر والنهي ،يجري عليه الوعد والوعيد ،ثم هو من ذرية نوح ومن
ل يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ذرية إبراهيم ،ول يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى ،هل سمعتم ا ّ
ل َوَكِلَمُتُه َأْلَقاَها ِإَلى َمْرَيَم{ ]النساء، [171:فالكلمة التي
لا ّ
سو ُ
ن َمْرَيَم َر ُ
سى اْب ُ
عي َ
ح ِ لِ}:إّنَما اْلَم ِ
سي ُ ولكن المعنى في قول ا ّ
ل قول،ألقاها إلى مريم حين قال له :كن ،فكان عيسى بكن ،وليس عيسى هو الكن ،ولكن بالكن كان ،فالكن من ا ّ
وليس الكن مخلوًقا.
وقال الشيخ أبو سعيد الخرازـ أحد أكابر المشائخ الئمة من أقران الجنيد ،فيما صنفه ـ في أن الرواح مخلوقة ،وقد
احتج بأمور منها :لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية ،وقد قال لهم حين أخذ الميثاق ـ وهم أرواح في أشباح؛ كالذر
ت ِبَرّبُكْم َقاُلوْا َبَلى َشِهْدَنا{ ]العراف ،[172:وإنما خاطب الروح مع الجسد ،وهل يكون الرب إل لمربوب ؟ ـَ} :أَل ْ
س َ
ل ،وقالوا :هو
قال :ولنها لو لم تكن مخلوقة ما كان على النصارى لوم في عبادتهم عيسى ،ول حين قالوا :إنه ابن ا ّ
ل.
ا ّ
وقال صلى ال عليه وسلم) :أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة ،وتأوى في فناء العرش(،
وأرواح الكفار في برهوت ]بئر عميقة بحضرموت ل يستطاع النزول إلى قعرها[.
صنف من الصابئة الفلسفة ،يقولون :هي قديمة أزلية لكن ليست من /ذات الرب ،كما يقولون ذلك في العقول،
والنفوس الفلكية ،ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملئكة.
ل النصارى بنحو من هذا القول في المسيح ،فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ؟ حتى في فرعون ،وهامان، وقد كّفر ا ّ
ل ربه وخالقه ومالكه وإلهه ،فهو يدل على أن
وقارون ،وكل ما دل على أن النسان عبد مخلوق مربوب ،وأن ا ّ
روحه مخلوقة .
فإن النسان عبارة عن البدن والروح مًعا ،بل هو بالروح أخص منه بالبدن ،وإنما البدن مطية للروح،كما قال أبو
الدرداء :إنما بدني مطيتي ،فإن رفقت بها بلغتني ،وإن لم أرفق بها لم تبلغني.وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس
قال :ل تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن ،فتقول الروح للبدن :أنت عملت السيئات،
ل بستاًنا،
ل ملًكا يقضى بينهما ،فيقول :إنما مثلكما كمثل ُمْقَعد وأعمى دخ ً
فيقول البدن للروح :أنت أمرتني ،فيبعث ا ّ
فرأى المقعد فيه ثمًرا معلًقا ،فقال للعمى :إني أرى ثمًرا ،ولكن /ل أستطيع النهوض إليه ،وقال العمى :لكني
أستطيع النهوض إليه ولكني ل أراه .فقال له المقعد :تعال ،فاحملني حتى أقطفه ،فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى
حيث يشاء فقطع الثمر .قال :الملك :فعلى أيهما العقوبة؟ فقال:عليهما جميًعا قال :فكذلك أنتما.
ضا ،فقد استفاضت الحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم بأن الرواح تقبض ،وتنعم وتعذب ،ويقال لها: وأي ً
اخرجي أيتها الروح الطيبة ،كانت في الجسد الطيب ،اخرجي أيتها الروح الخبيثة ،كانت في الجسد الخبيث ،ويقال
ساق وآخر من شكله أزواج ،وأن أرواح المؤمنين غّ
حِميم و َ
للولى :أبشري َبرْوح وَرْيحان ،ويقال للثانية :أبشري ب َ
تعرج إلى السماء ،وأن أرواح الكفار ل تفتح لها أبواب السماء.
ل عنه ـ قال) :إذا خرجت روح المؤمن تلقاها شِقيق عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ ل بن َ
وفي صحيح مسلم عن عبد ا ّ
ملكان يصعدان بها( ،قال حماد :فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال) :فيقول أهل السماء :روح طيبة جاءت من
ل عليك ،وعلى جسد كنت تعمرينه ،فينطلق به إلى ربه ،ثم يقول :انطلقوا به إلى آخر الجل(، قبل الرض صلى ا ّ
قال) :وإن الكافر إذا خرجت روحه( ،قال حماد :وذكر من نتنها وذكر لعًنا) ،فيقول أهل السماء :روح خبيثة جاءت
ل صلىل عنه :فلما ذكر رسول ا ّمن قبل الرض ،قال :فيقال :انطلقوا به إلى آخر الجل( .قال أبو هريرة ـ رضي ا ّ
ال عليه وسلم النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه.
/وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم رأى آدم ،وأرواح بنيه عن يمينه وشماله ،قال رسول
سِوَدة ،وعن شماله أسودة( ،قال) :فإذا نظر ِقَبل
ل صلى ال عليه وسلم) :فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أ ْ
ا ّ
يمينه ضحك ،وإذا نظر قبل شماله بكى( ،قال) :مرحًبا بالنبي الصالح والبن الصالح( ،قال) :قلت :يا جبريل ،من هذا
؟ قال :هذا آدم صلى ال عليه وسلم ،وهذه السودة عن يمينه وشماله نسم بنيه ،فأهل اليمين أهل الجنة ،والسودة التي
عن شماله أهل النار ،فإذا نظر قبل يمينه ضحك ،وإذا نظر قبل شماله بكى(.
]والسودة جمع سواد ،وتجمع على أساود ،وهي الجماعات المتفرقة ،وقيل :هي جمع لـ )سواد( ،وهو الشخص،
ضا ـ أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة ،قال المام أحمد في كذلك؛ لنه يرى من بعيد[ وقد ثبت ـ أي ً
ل من يشاء ،ويرحم
رواية حنبل :أرواح الكفار في النار ،وأرواح المؤمنين في الجنة ،والبدان في الدنيا ،يعذب ا ّ
ل بن أحمد :سألت أبي عن أرواح الموتى :أتكون في أفنية قبورها؟ أم في حواصل طير؟ بعفوه من يشاء .وقال عبد ا ّ
سَمة المؤمن إذا مات طائر
أم تموت كما تموت الجساد؟ فقال :قد روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قالَ) :ن َ
ل إلى جسده يوم يبعثه(.
تعلق في شجر الجنة ،حتى يرجعه ا ّ
ل بن عمرو أنه قال :أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالّزَراِزير]جمع زرزور ،وهو وقد روى عن عبد ا ّ
نوع من العصافير[ ،يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها ،قال :وقال بعض الناس :أرواح الشهداء في أجواف طير
خضر ،تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش.
ن ُقِتُلوْا
ن اّلِذي َ
سَب ّ
حَ ل ـ يعني ابن /مسعود ـ عن هذه اليةَ} :و َ
ل َت ْ وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال :سألنا عبد ا ّ
ل صلى ال ل َأْمَواًتا َبْل َأْحَياء ِعنَد َرّبِهْم ُيْرَزُقوَن{ ]آل عمران ،[169:فقال :أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول ا ّ
لا ّ
سِبي ِ
ِفي َ
عليه وسلم فقال) :إن أرواحهم في جوف طير خضر ،لها قناديل معلقة بالعرش ،تسرح في الجنة حيث تشاء ،ثم تأوى
إلى تلك القناديل ،فاطلع عليهم ربك اطلعة فقال :هل تشتهون شيًئا؟ فقالوا :أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة
حيث نشاء؟ ـ ففعل بهم ذلك ثلث مرات ـ فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا :يا رب ،نريد أن ترد أرواحنا
في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ،فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا(.
فخاطبها بالرجوع إلى ربها ،وبالدخول في عباده ودخول جنته ،وهذا تصريح بأنها مربوبة .والنفس هنا هي الروح
التي تقبض ،وإنما تتنوع صفاتها ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما ناموا عن صلة الفجر
ل قبض أرواحنا حيث شاء ،وردها حيث شاء( وفي رواية) :قبض أنفسنا حيث شاء( ،وقال في السفر ـ قال) :إن ا ّ
ت{ ]الزمر ،[42:والمقبوض عَلْيَها اْلَمْو َ
ضى َ
ك اّلِتي َق َ
سُ
ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ
ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ
حي َ
س ِ
لنُف َ تعالى} :ا ُّ
ل َيَتَوّفى ا َْ
ل صلى ال عليه وسلم ،على أبي سلمة المتوفى هي الروح ،كما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت :دخل رسول ا ّ
وقد شق بصره ،فأغمضه ،ثم قال) :إن الروح إذا قبض تبعه البصر( ،فضج ناس من أهله فقال)/:ل تدعوا على
أنفسكم إل بخير ،فإن الملئكة ُيَؤّمُنون على ما تقولون( ،ثم قال) :الّلهم اغفر لبي سلمة ،وارفع درجته في المهديين،
واخلفه في عقبه في الغابرين ،واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ،ونور له فيه(.
شخَ َ
ص ل صلى ال عليه وسلم) :ألم تروا أن النسان إذا مات َ ضا ـ عن أبي هريرة قال :قال رسول ا ّ
وروى مسلم ـ أي ً
سا.
حا ،وتارة نف ً
بصره؟( قالوا :بلى .قال) :فكذلك حين يتبع بصره نفسه( فسماه تارة رو ً
ل صلى ال عليه وسلم) :إذا حضرتم موتاكم وروى أحمد بن حنبل ،وابن ماجه عن شداد بن أوس قال :قال رسول ا ّ
فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح ،وقولوا خيًرا ،فإنه ُيَؤّمن على ما يقول أهل الميت(.
ودلئل هذا الصل وبيان مسمى ]الروح والنفس[ وما فيه من الشتراك كثير ل يحتمله هذا الجواب ،وقد بسطناه في
غير هذا الموضع.
فقد بان بما ذكرناه أن من قال :إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة ،فهو من أعظم أهل البدع الحلولية ،الذين يجر
قولهم إلى التعطيل ،بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة.
وأما قوله تعالىُ} :قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء ،[85:فقد قيل :إن الروح هنا ليس هو روح الدمي ،وإنما هو ملك
ح ِإَلْيِه{ ]المعارج ،[4:وقولهَ} :تَنّز ُ
ل لِئَكُة َوالّرو ُ صّفا{ ]النبأ/ ،[38:وقوله{َتْعُر ُ
ج اْلَم َ لِئَكُة َ في قولهَ}:يْوَم َيُقوُم الّرو ُ
ح َواْلَم َ
لِئَكُة َوالّروُح ِفيَها ِبِإْذِن َرّبِهم ّمن ُكّل َأْمٍر{ ]القدر [4:وقيل :بل هو روح الدمي ،والقولن مشهوران ،وسواء كانت اْلَم َ
الية تعمهما ،أو تتناول أحدهما ،فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة لوجهين:
أحدهما :أن المر في القرآن يراد به المصدر تارة ،ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به ،كقوله تعالىَ} :أَتى
ل َقَدًرا ّمْقُدوًرا{ ]الحزاب [38:وهذا في لفظ غير المر ،كلفظ جُلوُه{ ]النحل ،[1:وقولهَ} :وَكا َ
ن َأْمُر ا ِّ سَتْع ِ
ل َت ْ
ل َف َ
َأْمُر ا ّ
ل ،ونحو ذلك مما هول أو جزء من أمر ا ّ
الخلق والقدرة والرحمة والكلمة وغير ذلك .ولو قيل :إن الروح بعض أمر ا ّ
ل ،لم يكن المراد بلفظ المر إل المأمور به ل المصدر؛ لن الروح عين قائمة بنفسها،
صريح في أنها بعض أمر ا ّ
تذهب وتجيء وتنعم وتعذب ،وهذا ل يتصور أن يكون مسمى مصدر :أمر يأمر أمًرا .وهذا قول سلف المة وأئمتها
وجمهورها.
ومن قال من المتكلمين :إن الروح عرض قائم بالجسم ،فليس عنده مصدر :أمر يأمر أمًرا .
ل[ والكلم اسم مصدرَ :كّلم ُيَكّلم تكليًما وكلًما ،وَتَكّلم َتَكلًما وكلًما .فإذا
ل ،فالقرآن كلم ]ا ّ
والقرآن إذا سمى أمر ا ّ
سمى أمًرا بمعنى المصدر كان ذلك مطابًقا ،ل سيما والكلم نوعان :أمر وخبر.
/أما العيان القائمة بأنفسها فل تسمى أمًرا ل بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لنه مفعول
حِيي
ف ُي ْ
ل َكْي َ
ت ا ِّ
حَم ِ بالكلمة ،وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة ،والمطر رحمة ،في مثل قولهَ} :فاْن ُ
ظْر ِإَلى آَثاِر َر ْ
ض َبْعَد َمْوِتَها{ ]الروم ،[50:وفي قول النبي صلى ال عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال للجنة) :أنت رحمتي لْر َ
ا َْ
ق الرحمة ـ يوم خلقها ـ مائة رحمة( ونظائر ذلك كثيرة ،وهذا جواب أبي ل خل َأرحم بك من شئت( ،وقوله) :إن ا َّ
سعيد الخراز ،قال :فإن قيل :قد قال تعالىُ} :قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء [85:وأمره منه قيل :أمره ـ تعالى ـ هو
المأمور به المكون بتكوين المكون له .
ل عند الممات،
وكذلك قال ابن قتيبة في ]كتاب المشكل[ :أقسام الروح ،فقال :هي روح الجسام التي يقبضها ا ّ
س{ ]البقرة،[253 ،87: ن{ ]الشعراء ،[193:وقالَ}:وَأّيْدَناُه ِبُرو ِ
ح اْلُقُد ِ لِمي ُ
ح ا َْ والروح جبريل ،قال تعالىَ} :نَز َ
ل ِبِه الّرو ُ
ل ـ تعالى ـ يقوم وحده فيكون صًفا ،وتقوم أي :جبريل ،والروح ـ فيما ذكره المفسرون ـ ملك عظيم من ملئكة ا ّ
ل؛
ك َعِن الّروِح ُقِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ]السراء ،[85:قال :ونسب الروح إلى ا ّ الملئكة صًفا ،وقال تعالىَ} :وَي ْ
سَأُلوَن َ
لنه بأمره ،أو لنه بكلمته.
والوجه الثاني :أن لفظة ]من[ في اللغة قد تكون لبيان الجنس ،كقولهم :باب من حديد .وقد تكون لبتداء الغاية،
صا في أن الروح بعض المر ،ومن /جنسه ،بل كقولهم :خرجت من مكة ،فقوله تعالىُ}:قِل الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ ليس ن ً
قد تكون لبتداء الغاية إذ كونت بالمر ،وصدرت عنه ،وهذا معنى جواب المام أحمد في قولهَ} :وُروٌح ّمْنُه{ ]النساء:
جِميًعا
ض َ
لْر ِ ت َوَما ِفي ا َْ
سَماَوا ِ
خَر َلُكم ّما ِفي ال ّ
سّح ّمْنُه{ يقول :من أمره كان الروح منه كقولهَ} :و َ [171حيث قالَ} :وُرو ٌ
ل{ ]النحل.[53: ضا قولهَ} :وَما ِبُكم ّمن ّنْعَمٍة َفِم َ
نا ّ ّمْنُه} ]الجاثية ،[13:ونظير هذا أي ً
ل ،ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت ،لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح: فإذا كانت المسخرات والنعم من ا ّ
ل ،ومعلوم أن قولهَ} :وُروٌح ّمْنُه{ أبلغ من قوله} :الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ فإذا كان
}َوُروٌح ّمْنُه{؛ أنها بعض ذات ا ّ
ضا له ،فقوله} :الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ أولى بأل يمنع
قوله{َوُروٌح ّمْنُه{ ل يمنع أن يكون مخلوًقا ،ول يوجب أن يكون بع ً
ضا من أمره.
ضا له بل ول بع ً أن يكون مخلوًقا ،ول يوجب أن يكون ذلك بع ً
ل ،فهذان الجوابان كل منهما مستقل ،ويمكن وهذا الوجه يتوجه إذا كان المر هو المر الذي هو صفة من صفات ا ّ
ل ـ تعالى ـأن يجعل منهما جواب مركب ،فيقال :قوله} :الّروُح ِمْن َأْمِر َرّبي{ إما أن يراد بالمر المأمور به ،أو صفة ّ
ل[ كان قوله} :الّرو ُ
ح وإن أريد به الول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك ،فتكون مخلوقة ،وإن أريد بالمر صفة ]ا ّ
ِمْن َأْمِر َرّبي{ كقولهَ} :وُروٌح ّمْنُه{ ،وقولهَ} :جِميًعا ّمْنُه{ ونحو ذلك .
ل قديمة ،وأن روح /بني آدم بعض تلك الصفة ،ولم تدل الية
وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن المر صفة ّ
ل ـ سبحانه ـ أعلم .
على واحد من المقدمتين ،وا ّ
ل أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما؟ فليس هذا من خصائص الكلم في الروح، وأما قول السائل :هل المفوض إلى ا ّ
عْلٌم ِإ ّ
ن ك ِبِه ِ س َل َف َما َلْي َ
ل َتْق ُ ل ما ل يعلم ،قال تعالىَ} :و َ بل ل يجوز لحد أن يقفو ما ليس له به علم ،ول يقول على ا ّ
ج ِلِعَباِدِه
خَر َي َأ ْ
ل اّلِت َ
حّرَم ِزيَنَة ا ّ
ن َ ل{ ]السراء ،[36:وقال تعالىُ} :ق ْ
ل َم ْ سُؤو ً عْنُه َم ْن َ ك َكا َل ُأولـِئ َصَر َواْلُفَؤاَد ُك ّسْمَع َواْلَب َ
ال ّ
ت ِلَقْوٍم َيْعَلُموَن{ ]العراف،[33: ل الَيا ِ صُك ُنَف ّ صًة َيْوَم اْلِقَياَمِة َكذَِل َخاِل َ
حَياِة الّدْنَيا َ
ن آَمُنوْا ِفي اْل َ ل ِهي ِلّلِذي َ ق ُق ْ
ن الّرْز ِ ت ِم َ
طّيَبا ِ
َواْل ّ
ق{ ]العراف ،[169:وقد قالت الملئكة لما قال حّ ل اْل َل ِإ ّعَلى ا ّ ل ِيُقوُلوْا َب َأن ّ ق اْلِكَتا ِ
عَلْيِهم ّميَثا ُ
خْذ َ وقال تعالىَ} :أَلْم ُيْؤ َ
ت اْلَعِليُم اْلَحِكيُم{ ]البقرة،[32 ،31: ك َأن َعّلْمَتَنا ِإّن َ
ل َما َ عْلَم َلَنا ِإ ّ
ل ِ ك َحاَن َ
سْب َ
ن َقاُلوْا ُصاِدِقي َ
سَماء َهـُؤلء ِإن ُكنُتْم َ لهمَ} :أنِبُئوِني ِبَأ ْ
ت ُرْشًدا{ ]الكهف ،[66:وقال الخضر لموسى ـ لما نقر
عّلْم َ
ن ِمّما ُ
عَلى َأن ُتَعّلَم ِ
ك َ وقد قال موسى للخضرَ} :ه ْ
ل َأّتِبُع َ
ل ،إل كما نقص هذا العصفور من هذا البحر.العصفور في البحر ـ :ما نقص علمي وعلمك من علم ا ّ
/وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة ،ل في ذاتها ول في
صفاتها ،وأما الكلم بغير علم فذلك محرم في كل شيء ،ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى
ال عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة ،فقال بعضهم :سلوه عن الروح ،وقال بعضهم :ل تسألوه فيسمعكم ما
ل هذه الية.
تكرهون ،قال :فسألوه وهو متكئ على العسيب ]العسيب :جريدة من النخل[ ،فأنزل ا ّ
فبين بذلك أن ملك الرب عظيم ،وجنوده ،وصفة ذلك ،وقدرته أعظم من أن يحيط به الدميون ،وهم لم يؤتوا من العلم
ل ،فل يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ول كل ما في الوجود ،فما يعلم جنود ربك إل
إل قلي ً
هو.
ل ـ عن قائل يقول :إن لم يتبين لي حقيقة ماهية الجن وُكْنه صفاتهم ،وإل فل أتبع العلماء في
خ ـ َرحَمُه ا ُّ
شي ُ
سئل ال ّ
شيء.
فأجــاب :أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم ،فهذا ليس فيه إل إخباره بعدم علمه ،لم ينكر وجودهم؛ إذ
وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دللة الكتاب والسنة ،فإن من الناس من رآهم ،وفيهم من رأى من رآهم ،وثبت ذلك
عنده بالخبر واليقين.
ومن الناس من كلمهم وكلموه ،ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم ،وهذا يكون للصالحين وغير
الصالحين ،ولو ذكرت ما جرى لي ولصحابي معهم لطال الخطاب.
وكذلك ما جرى لغيرنا ،لكن العتماد على الجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه ،ل يكون بما يختص
بعلمه المجيب ،إل أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به.
ل ـ عن الجان المؤمنين :هل هم مخاطبون بفروع السلم كالصوم والصلة ،وغير ذلك
خ ـ َرحَمُه ا ُّ
شْي ُ
سئل ال ّ /
من العبادات ،أوهم مخاطبون بنفس التصديق ل غير ؟
جـــاب :ل ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق ،ومنهيون عن أعمال غير التكذيب ،فهم مأمورون فأ َ
بالصول والفروع بحسبهم ،فإنهم ليسوا مماثلي النس في الحد والحقيقة ،فل يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوًيا لما
على النس في الحد ،لكنهم مشاركون النس في جنس التكليف بالمر والنهي ،والتحليل والتحريم .وهذا ما لم أعلم
عا بين المسلمين.
فيه نزا ً
وكذلك لم يتنازعوا أن أهل الكفر والفسوق والعصيان منهم يستحقون لعذاب النار ،كما يدخلها من الدميين ،لكن
تنازعوا في أهل اليمان منهم ،فذهب الجمهور من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد :إلى أنهم
يدخلون الجنة .وروى في حديث رواه الطبراني:أنهم يكونون في َرَبضِ الجنة ]َرَبض الجنة :أي ما حولها خارجا
عنها[ ،يراهم النس من حيث ل يرونهم.
/وذهب طائفةـ منهم أبو حنيفة فيما نقل عنه ـ إلى أن المطيعين منهم يصيرون تراًبا كالبهائم ،ويكون ثوابهم النجاة
من النار.
وقيل :الرسل من النس ،والجن فيهم النذر ،وهذا أشهر ،فإنه أخبر عنهم باتباع دين محمد صلى ال عليه وسلم ،وأنهم
سى{الية ]الحقاف [30، 29:قالوا :وقولهَ}:أَلْم َيْأِتُكْم
ل ِمن َبْعِد ُمو َ
سِمْعَنا ِكَتاًبا ُأنِز َ
ن َقاُلوا َيا َقْوَمَنا ِإّنا َ
}َوّلْوا ِإَلى َقْوِمِهم ّمنِذِري َ
ن
ل اْلَقَمَر ِفيِه ّ نٍ{ ]الرحمن ،[22 :وإنما يخرج من المالح ،وكقولهَ} :و َ
جَع َ جا ُ
ج ِمْنُهَما الّلْؤُلُؤ َواْلَمْر َ ل ّمنُكْم{؟ كقولهَ} :ي ْ
خُر ُ سٌُر ُ
س ِسَراًجا{ ]نوح [16:والقمر في واحدة. شْم َ
ل ال ّ
جَع َ
ُنوًرا َو َ
ل بن مسعود عن النبي وأما التكليف بالمر والنهي والتحليل والتحريم ،فدلئله كثيرة ،مثل ما في مسلم عن عبد ا ّ
صلى ال عليه وسلم) :أتاني داعي الجن ،فذهبت معه ،فقرأت عليهم القرآن ،فانطلقوا( فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم،
ل عليه يقع في أيديكم ،أوفر ما يكون ،وكل بعرة علف لدوابكم( ،فقال ظم ذكر اسم ا ّ
ع ْ
وسألوه الزاد فقال) :لكم كل َ
النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تستنجوا بالعظم والروث( وذلك لئل يفسد عليهم طعامهم وعلفهم ،وهذا يبين أن ما
ل عليه.
ل عليه دون ما لم يذكر اسم ا ّأباح لهم من ذلك ما ذكر اسم ا ّ
ومن قال] :إن العبادة[ هي المعرفة الفطرية الموجودة فيها ،وأن ذلك هو اليمان وهو داخل في الثقلين فقط ،فإن ذلك
جَهّنَم
ن َ
لّ ل أخبر بكفر إبليس وغيره من الجن والنس ،وقد قال تعالىَ }/ :
لْم َ لو كان كذلك لم يكن في الثقلين كافر ،وا ّ
ك ِمْنُهْم َأْجَمِعيَن{ ]ص [85:وأخبر أنه يملؤها منه ومن أتباعه ،وهذا يبين أنه ل يدخلها إل من اتبعه ،فعلم
ك َومِّمن َتِبَع َ
ِمن َ
ل معرفة يكونون أن من يدخلها من الكفار والفساق من أتباع إبليس .ومعلوم أن الكفار ليسوا بمؤمنين ،ول عارفين ا ّ
بها مؤمنين.
ل ُيِريُد ِبُكُم
سَر َو َ ولكن اللم لبيان الجملة الشرعية ،المتعلقة بالرادة الشرعية ،كما في قوله تعالىُ} :يِريُد ا ّ
ل ِبُكُم اْلُي ْ
ل ِلُيَبّيَن َلُكْم{ الية ]النساء.]26:
سَر{ ]البقرة ،[185 :وقولهُ} :يِريُد ا ّ
اْلُع ْ
والدلئل الدالة على هذا الصل ،وما في الحديث والثارـ من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون ،وأنهم يعاقبون
على الذنب ـ كثيرة جًدا .
ق ِقَدًدا{ ]الجن [11:قالوا :مذاهب شتى؛
طَراِئ َ
ك ُكّنا َ
ن َذِل َ
ن َوِمّنا ُدو َ
حو َ وقد قال ـ تعالى ـ فيما أخبر عنهمَ} :وَأّنا ِمّنا ال ّ
صاِل ُ
مسلمين ،ويهود ،ونصارى ،وشيعة ،وسنة.
فأخبر أن منهم الصالحين ،ومنهم دون الصالحين ،فيكون :إما مطيًعا في ذلك فيكون مؤمنا ،وإما عاصًيا في ذلك
فيكون كافًرا ،ول ينقسم مؤمن إلى صالح وإلى غير صالح؛ فإن غير الصالح ل يعتقد صلحه لترك الطاعات،
فالصالح هو القائم بما وجب.
ل ـ عن حديث النبي صلى ال عليه وسلم) :إن النطفة تكون أربعين يوًما نطفة ،ثم أربعين يوًماعلقة،حِمَه ا ُّ
ل ـ َر ِ
سِئ َ
ُ/
ثم أربعين مضغة ،ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل( ثم ورد عن حذيفة بن أسيد) :أنه إذا مر للنطفة اثنتان
ل ـ تعالى ـ إليها ملًكا فصورها ،وخلق سمعها وبصرها ،وجلدها ولحمها ،وعظامها ،ثم يقول :يا وأربعون ليلة بعث ا ّ
رب ،أذكر ،أم أنثى ؟ شقي أم سعيد ؟ فما الرزق وما الجل؟( وذكر الحديث ،فما الجمع بين الحديثين؟
ل بن مسعود قال :حدثنا رسول الّ ل رب العالمين ،أما الحديث الول ،فهو في الصحيحين عن عبد ا ّ جـــاب :الحمد ّ
فأ َ
صلى ال عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق) :إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوًما نطفة ،ثم يكون علقة
مثل ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ،ويؤمر بأربع كلمات :بكتب رزقه ،وأجله،
وعمله ،وشقي أو سعيد .فوالذي ل إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ،حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع/ ،
فيسبق عليه الكتاب ،فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه وبينها إل
ذراع ،فيسبق عليه الكتاب ،فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها(
ل ملًكا ويؤمر بأربع كلمات ،ويقال :اكتب عمله ،وأجله ،ورزقه ،وشقي أو
وفي طريق آخر :وفي رواية) :ثم يبعث ا ّ
سعيد .ثم ينفخ فيه الروح( .فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون ،لكن فيه أن الملك يكتب رزقه
وأجله ،وعمله وشقي أو سعيد ،قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة.
ل عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول :أي وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال) :إن ا ّ
ل أن يقضي خلقها قال الملك :أي رب ،ذكر أم أنثى ؟ شقي أورب نطفة ،أي رب علقة ،أي رب مضغة ،فإذا أراد ا ّ
سعيد ؟ فما الرزق فما الجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه( .فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة.
وأما حديث حذيفة بن أسيد ،فهو من أفراد مسلم ،ولفظه :سمعت النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :إذا مر بالنطفة
ل إليها ملًكا ،فصورها ،وخلق سمعها وبصرها ،وجلدها ولحمها وعظامها .ثم يقول :ياثنتان وأربعون ليلة ،بعث ا ّ
رب ،أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ،ويكتب الملك ،ثم يقول :يارب ،رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛
ثم يقول :يا رب ،أجله؟ فيقضي /ربك ما شاء ،ويكتب الملك ،ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ،فل يزيد على ما أمر
ول ينقص(.
فهذا الحديث ،فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة ،وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها ،وجلدها ولحمها
وعظامها ،يقول الملك :يا رب ،أذكر أم أنثى؟ ومعلوم أنها ل تكون لحما وعظاًما حتى تكون مضغة ،فهذا موافق لذلك
الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك ،إل أن يقال :المراد تقدير اللحم والعظام.
ضا ـ عن حذيفة ،سمعت وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض ،فمن ذلك ما رواه مسلم ـ أي ً
سّوُر عليها الذي يخّلقها فيقول :يال صلى ال عليه وسلم يقول) :إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة ،ثم َيَت َ رسول ا ّ
ل ـ تعالى ـ سوًيا أو
ى ؟ فيجعله ا ّى ،أو غير سَو ّ ل ذكًرا ،أو أنثى .ثم يقول :يا رب ،سَو ّرب ،أذكر ،أم أنثى؟ فيجعله ا ّ
سّوُر عليها ،أي :ينزل عليها[. ل شقًيا أو سعيًدا( ]َيَت َ
غير سوي ثم يقول :يا رب ،ما أجله وخلقه؟ ثم يجعله ا ّ
فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله ،وشقاوته وسعادته ،بعد أن يجعله ذكًرا أو أنثى ،وسوًيا ،أو غير سوي.
وفي لفظ لمسلم قال) :يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة .فيقول :يا
رب ،أشقي ،أو سعيد ؟ فيكتب .يا رب ،أذكر ،أم أنثى ؟ فيكتب رزقه ،ويكتب عمله ،وأثره ،وأجله / ،ثم تطوى
الصحف فل يزاد فيها ول ينقص( فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة ،ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث
مضت الربعون.
ولهذا شك :أَبْعَد الربعين ،أو خمس وأربعين؟ وغيره إنما ذكر أربعين ،أو اثنين وأربعين ،وهو الصواب ؛ لن من
ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان ،ومن قال :أربعين حذفهما ،ومثل هذا كثير في ذكر الوقات ،فقدم المؤخر
وأخر المقدم .أو يقال :إنه لم يذكر ذلك بحرف ]ثم[ فل تقتضي ترتيًبا ،وإنما قصد أن هذه الشياء تكون بعد الربعين.
وحينئذ فيقال :أحد المرين لزم ،إما أن تكون هذه المور عقيب الربعين ،ثم تكون عقب المائة والعشرين ،ول
محذور في الكتابة مرتين ،ويكون المكتوب أول فيه كتابة الذكر والنثى .أو يقال :إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق
الضبط.
حا ،ويقع فيولهذا اختلفت رواته في ألفاظه ،ولهذا أعرض البخاري عن روايته ،وقد يكون أصل الحديث صحي ً
بعض ألفاظه اضطراب ،فل يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه ،الذي لم تختلف
ألفاظه ،بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح ،فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه :إما أن يكون
موافًقا له في الحقيقة ،وإما أن يكون /غير محفوظ ،فل معارضة ،ول ريب أن ألفاظه لم تضبط ،كما تقدم ذكر
الختلف فيها ،وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الجل والعمل ،و الشقاوة والسعادة ،وغاية ما يقال
فيه :إنه يقتضي أنه قد يخلق في الربعين الثانية قبل دخوله في الربعين الثالثة ،وهذا ل يخالف الحديث الصحيح ،ول
نعلم أنه باطل ،بل قد ذكر النساء :أن الجنين يخلق بعد الربعين ،وأن الذكر يخلق قبل النثى.
وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء :إن الجنين ل يخلق في أقل من واحد وثمانين يوًما ،فإن هذا إنما بنوه على أن
التخليق إنما يكون إذا صار مضغة ،ول يكون مضغة إل بعد الثمانين ،والتخليق ممكن قبل ذلك ،وقد أخبر به من
ل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ل أعلم ،وصلى ا ّ
أخبر من النساء ،ونفس العلقة يمكن تخليقها ،وا ّ
ثم يقال :وقولكم :خلقوا خالين من المعرفة والنكار ،من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحًدا منهما ،بل يكون القلب
كاللوح الذي يقبل كتابة اليمان والكفر ،وليس هو لحدهما أقبل منه للخر ،فهذا قول فاسد جًدا.
/فحينـئذ ،ل فـرق بالنسبة إلى الفطـرة بين المعـرفة والنكار ،والتهويد والتنصير ،والسلم ،وإنما ذلك بحسب
السباب ،فكان ينبغي أن يقال :فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ،فلما ذكر أن أبويه يكفرانه ،وذكر الملل الفاسدة
دون السلم ،علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر.
جْدع النف،
ضا ،فالنبي صلى ال عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق ،وشبه ما يطرأ عليها من الكفر ب َ
وأي ً
ل أعلم.ومعلوم أن كمالها محمود ،ونقصها مذموم ،فكيف تكون قبل النقص ل محمودة ول مذمومة؟ وا ّ
عن َقوله صلى ال عليه وسلم) :كل مولود يولد على الفطرة( ما معناه؟ أراد فطرة الخلق أم فطرة
ل َ
سِئ َ
ُ /
السلم؟ وفي قوله) :الشقي من شقي في بطن أمه( الحديث .هل ذلك خاص أو عام .وفي البهائم والوحوش هل يحييها
ل يوم القيامة أم ل؟
ا ّ
ل؛ أما قوله صلى ال عليه وسلم) :كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أوفأجــاب :الحمد ّ
ل التي فطر الناس عليها ،وهي فطرة السلم ،وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم يمجسانه( :فالصواب أنها فطرة ا ّ
ت ِبَرّبُكْم َقاُلوْا َبَلى{ ]العراف [172:وهي السلمة من العتقادات الباطلة ،والقبول للعقائد الصحيحة. قالَ} :أَل ْ
س َ
ل) :إني خلقت ل صلى ال عليه وسلم فيما يروي عن ا ّ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال :قال رسول ا ّ
عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت /عليهم ما أحللت لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاًنا(؛
ل عنه ـ في المشهور عنه :إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم ولهذا ذهب المام أحمد ـ رضي ا ّ
بإسلمه؛ لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة .وقد روى عنه ،وعن ابن المبارك ،وعنهما :أنهم قالوا :يولد على
ل أنه سيكفر ،فلبد أن ما فطر عليه من شقاوة وسعادة .وهذا القول ل ينافى الول ،فإن الطفل يولد سليما ،وقد علم ا ّ
ل أنها ستجدع.
يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب ،كما تولد البهيمة جمعاء ،وقد علم ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم في ل عنهما ـ قال :قال رسول ا ّ وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي ا ّ
ل في أم الكتاب،
الغلم الذي قتله الخضر) :طبع يوم طبع كافًرا ،ولو ترك لرهق أبويه طغياًنا وكفًرا( يعني :طبعه ا ّ
أي :كتبه وأثبته كافًرا ،أي أنه إن عاش كفر بالفعل.
ل صلى ال عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال) :الّ أعلم بما كانوا ولهذا لما سئل رسول ا ّ
ل يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا ،ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة ـ عاملين( أي :ا ّ
ل فيل يمتحنهم ويبعث إليهم رسو ً ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا كان يوم القيامة فإن ا ّ
رضي ا ّ
ل سبحانه ،ويجزيهم صة القيامة ،فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار( فهنالك يظهر فيهم ما علمه ا ّعْر َ
َ
على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم ،ل على مجرد العلم.
/وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين ،وعليه تتنزل جميع الحاديث .
ومثل الفطرة مع الحق ،مثل ضوء العين مع الشمس ،وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس ،والعتقادات
ضا كل ذي حسالباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس ،مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس ،وكذلك أي ً
سليم يحب الحلو ،إل أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مًرا.
ل أخرجنا من بطونول يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولدة معتقدين للسلم بالفعل ،فإن ا ّ
أمهاتنا ل نعلم شيًئا ،ولكن سلمة القلب وقبوله وإرادته للحق ،الذي هو السلم ،بحيث لو ترك من غير مغير ،لما
كان إل مسلًما.
وأما الحديث المذكور ،فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول :الشقي من شقى في بطن أمه ،والسعيد من وعظ بغيره.
ل صلى ال عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق) :إن ل بن مسعود قال :حدثنا رسول ا ّوفي الصحيحين عن عبد ا ّ
أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوًما نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك / ،ثم يكون مضغة مثل ذلك ،ثم يبعث إليه
الملك فيؤمر بأربع كلمات ،فيقال:اكتب رزقه وأجله ،وعمله وشقي أو سعيد .ثم ينفخ فيه الروح(.
ل ـ سبحانه بعلمه الذي هو صفة له ـ الشقي من عباده والسعيد ،وكتب ـ وهذا عام في كل نفس منفوسة ،قد علم ا ّ
سبحانه ـ ذلك في اللوح المحفوظ ،ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود ،ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه ،إلى
ل ليس هذا موضعها ،ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر. كتب أخرى يكتبها ا ّ
طاِئرٍ
ل َض َو َ لْر ِ ل ـ سبحانه ـ كما دل عليه الكتاب والسنة .قال تعالىَ} :وَما ِمن َدآّبٍة ِفي ا َ وأما البهائم فجميعها يحشرها ا ّ
حو ُ
ش ن{ ]النعام ،[38:وقال تعالىَ} :وِإَذا اْلُو ُ شُرو َحَ
يٍء ُثّم ِإَلى َرّبِهْم ُي ْ
ش ْب ِمن َ طَنا ِفي الِكَتا ِ
ل ُأَمٌم َأْمَثاُلُكم ّما َفّر ْ
حْيِه ِإ ّ
طيُر ِبجََنا َ
َي ِ
شاء
جْمِعِهْم ِإَذا َي َ
عَلى َث ِفيِهَما ِمن َداّبٍة َوُهَو َ
ض َوَما َب ّ
لْر ِ ت َوا َْ سَماَوا ِ
ق ال ّ خْل ُ ت{ ]التكوير ،[5 :وقال تعالىَ} :وِم ْ
ن آَياِتِه َ شَر ْحُِ
َقِديٌر{ ]الشورى [29:وحرف ]إذا[ إنما يكون لما يأتي ل محالة.
ل ـ عز وجل ـ يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض ،ثم يقول لها: والحاديث في ذلك مشهورة ،فإن ا ّ
ت ُتَراًبا{ ]النبأ .[40:ومن قال :إنها ل تحيا فهو مخطئ في
كوني تراًبا ،فتصير تراًبا .فيقول الكافر حينئذَ} :يا َلْيَتِني ُكن ُ
ل أعلم.
ذلك أقبح خطأ ،بل هو ضال أو كافر ،وا ّ
ل) :كل مولود يولد على الفطرة( ،فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها ضا ـ رحمه ا ّوقال أي ً /
ل ،وإل فكل ما أحبه المحب يجد من نفسه أن قلبه يطلب سواه ،ويحب أمًرا ومراداتها ما تطمئن إليه ،وتنتهي إليه إل ا ّ
ب{ ]الرعد:
ن اْلُقُلو ُ
طَمِئ ّ
ل َت ْ غيره يتألهه ويصمد إليه ،ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من أجناسه؛ ولهذا قالَ} :أ َ
ل ِبِذْكِر ا ّ
.[28
حُه:
ل ُرو َ
س ا ُّ
لِم ـ َقّد َ
سَلْ
خا ِ
شْي ُ
ل َ
َ /قا َ
َفصــل
ل الحفظة الموكلين ببني آدم ،الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم ،في مواضع من كتابه ،قال تعالىَ} :وُهَو اّلِذي ذكر ا ّ
عَلْيُكم
ل َ
سُعَباِدِه َوُيْر ِ جُعُكْم{َ} ،وُهَو اْلَقاِهُر َفْو َ
ق ِ سّمى ُثّم ِإَلْيِه َمْر ِ
ل ّم َ
جٌضى َأ َحُتم ِبالّنَهاِر ُثّم َيْبَعُثُكْم ِفيِه ِلُيْق َ
جَر ْ
ل َوَيْعَلُم َما َ
َيَتَوّفاُكم ِبالّلْي ِ
طوَن { ]النعام ،[61 ،60:وقال تعالى: ل ُيَفّر ُ
سُلَنا َوُهْم َ ت َتَوّفْتُه ُر ُحَدُكُم اْلَمْو ُ
جاء َأ َى ِإَذا َظًة حَّت َحَف ََ
ظوَنُه ِم ْ
ن حَف ُ
خْلِفِه َي ْ
ن َن َيَدْيِه َوِم ْ
ت ّمن َبْي ِب ِبالّنَهاِر َلُه ُمَعّقَبا ٌ
ساِر ٌ ل َو َف ِبالّلْي ِ
خ ٍ سَت ْن ُهَو ُم ْ
جَهَر ِبِه َوَم ْ
ل َوَمن َ
سّر اْلَقْو َ
ن َأ َ
سَواء ّمنُكم ّم ْ}َ
ن{ن َما َتْفَعُلو َ
ن َيْعَلُمو َن ِكَراًما َكاِتِبي َ
ظي َ حاِف ِ
عَلْيكُْم َل َ
ن َن َوِإ ّن ِبالّدي ِل ُتَكّذُبو َ ل{ ]الرعد ،[11 ،10:وقال تعالىَ} :ك ّ
ل َب ْ َأْمِر ا ّ
]النفطار9 :ـ . [12
ق ِإّنا ُكّنا
حّ عَلْيُكم ِباْل َ
ق َ
طُن َ .هَذا ِكَتاُبَنا َين ِ ن َما ُكنُتْم َتْعَمُلو َجَزْو َعى ِإَلى ِكَتاِبَها اْلَيْوَم ُت ْ
ل ُأّمٍة ُتْد َ
جاِثَيًة ُك ّ وقال تعالىَ} :وَتَرى ُك ّ
ل ُأّمٍة َ
ل َكِبيَرًة ِإ ّ
ل صِغيَرًة َو َ ل ُيَغاِدُر َ ب َ ل َهَذا اْلِكَتا ِ ن{ ]الجاثية28:ـ ، [29وقال تعالىَ} :وَيُقوُلو َ
ن َيا َوْيَلَتَنا َما ِ سخُ َما ُكنُتْم َتْعَمُلو َ سَتن ِ
َن ْ
صِغيٍرل َ يٍء َفَعُلوهُ ِفي الّزُبِر َ .وُك ّ ش ْ ل َحًدا{ ]الكهف ،[49 :وقال تعالىَ} :وُك ّ ك َأ َ
ظِلُم َرّب َ
ل َي ْ
ضًرا َو َ حا ِعِمُلوا َ جُدوا َما َ صاَها َوَو َ ح َ َأ ْ
طٌر{ ]القمر ،[53 ،52:وقال تعالى]...بياض[. سَت َ
َوَكِبيٍر مُ ْ
لِم:
سَخ الِ ْ
شْي ُ
ل َ
سِئ َ
ُ /
ل إليه ملكين غير أولئك ؟ وهل هو موكل بالعبد هل الملئكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما ،أم كل يوم ينزل ا ّ
حَدُكُم اْلَمْو ُ
ت جاء َأ َ
ى ِإَذا َ
حّت َ
ظًة َ
حَف َ
عَلْيُكم َ
ل َ
سُعَباِدهِ َوُيْر ِ ملئكة بالليل وملئكة بالنهار؟ وقوله عز وجلَ} :وُهَو اْلَقاِهُر َفْو َ
ق ِ
طوَن{ ]النعام ،[61:فما معنى الية؟ ل ُيَفّر ُ
سُلَنا َوُهْم َ
َتَوّفْتُه ُر ُ
ل ،الملئكة أصناف ،منهم من هو موكل بالعبد دائًما ،ومنهم ملئكة يتعاقبون بالليل والنهار،
ب :الحمد ّ
جــا َ
فأ َ
ويجتمعون في صلة الفجر وصلة العصر ،فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون :أتيناهم وهم
يصلون ،وتركناهم وهم يصلون ،ومنهم ملئكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر.
ل ،فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار ،وأعمال النهار قبل أعمال الليل ،تعرضوأعمال العباد تجمع جملة وتفصي ً
ل في كل يوم اثنين وخميس ،فهذا كله مما جاءت به الحاديث الصحيحة ،وأما أنه كل يوم تبدل عليه العمال على ا ّ
ل أعلم.
الملكان ،فهذا لم يبلغنا فيه شيء ،وا ّ
ن َقْوله صلى ال عليه وسلم) :إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة( الحديث .فإذا كان الهّم
عْل َ
سئ َ
ُ /
سًرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملئكة عليه؟
ل ،قد روى عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال :إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، ب :الحمد ّ
جــا َ
َفَأ َ
وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة.
ل قادر أن يعلم الملئكة بما في نفس العبد كيف شاء ،كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما
والتحقيق أن ا ّ
في النسان.
ل له من الكشف ما يعلم به أحياًنا ما في قلب النسان ـ فالملك الموكل بالعبد أولى بأن
فإذا كان بعض البشر قد يجعل ا ّ
ل ذلك .
يعرفه ا ّ
فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان ،علم بها الشيطان.
ت :هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم ل ؟ وقوله صلى ال عليه وسلم: عْنَد اْلَمْو ِ
ن َ
ض الْدَيا َ
عْر ِ
ن َ
عْل َ
سِئ َ
ُ /
ل ـ هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم
)إنكم لتفتنون في قبوركم( ما المراد بالفتنة ؟ وإذا ارتد العبد ـ والعياذ با ّ
ل ؟ أفتونا مأجورين.
ل رب العالمين ،أما عرض الديان على العبد وقت الموت فليس هو أمًرا عاًما لكل أحد ،ول هوـ ب :الحمد ّجــا َ
فأ َ
ضا ـ منتفًيا عن كل أحد ،بل من الناس من تعرض عليه الديان قبل موته ،ومنهم من ل تعرض عليه ،وقد وقع ذلك أي ً
لقوام .وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلتنا.
منها :ما في الحديث الصحيح :أمرنا النبي صلى ال عليه وسلم أن نستعيذ في صلتنا من أربع :من عذاب جهنم ،ومن
عذاب القبر ،ومن فتنة المحيا والممات ،ومن فتنة المسيح الدجال .ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على
إغواء بني آدم؛ لنه وقت الحاجة.
/وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :العمال بخواتيمها( ،وقال صلى ال عليه وسلم) :إن العبد
ليعمل بعمل أهل الجنة ،حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع ،فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن
العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع ،فيسبق عليه الكتاب ،فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها(.
ولهذا روى] :أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت ،يقول لعوانه :دونكم هذا ،فإنه إن فاتكم لن تظفروا
به أبًدا[.
ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه ولهذا يقال :إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي ا ّ
ت إن شاء يهودًيا ،وإن شاء نصرانًيا(.
ل الحرام ولم يحجَ ،فْلَيُم ْ
وسلم قال) :من ملك زاًدا أو راحلة تبلغه إلى بيت ا ّ
/وأما الفتنة في القبور فهي المتحان والختبار للميت ،حين يسأله الملكان ،فيقولن له :ما كنت تقول في هذا الرجل
ل ربي ،والسلم ديني ،ومحمد نبيى، ل الذين آمنوا بالقول الثابت ،فيقول المؤمن :ا ّ الذي بعث فيكم ]محمد[؟ فيثبت ا ّ
ل ،جاءنا بالبينات والهدى ،فآمنا به واتبعناه .فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي
ويقول :هو محمد رسول ا ّ
يفتن بها المؤمن ـ فيقولن له كما قال أول .
وقد تواترت الحاديث عن النبي صلى ال عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب ،وأنس بن مالك،
ل عنهم ـ وهي عامة للمكلفين ،إل النبيين فقد اختلف فيهم .وكذلك اختلف في غيروأبي هريرة وغيرهم ـ رضى ا ّ
عِقيل.
المكلفين ،كالصبيان والمجانين ،فقيل :ل يفتنون؛ لن المحنة إنما تكون للمكلفين ،وهذا قول القاضي وابن َ
ضا ،و هذا قول أبي حكيم ،وأبي الحسن بن عبدوس ،ونقله وعلى هذا فل ُيَلّقنون بعد الموت .وقيل :يلقنون ويفتنون أي ً
عن أصحابه ،وهو مطابق لقول من يقول :إنهم يكلفون يوم القيامة ،كما هو قول أكثر أهل العلم ،وأهل السنة ،من أهل
ل عنه ـ عن أهل السنة ،واختاره ،وهو مقتضى الحديث والكلم .وهو الذي ذكره أبو الحسن الشعري ـ رضي ا ّ
نصوص المام أحمد .
وأما الردة عن السلم بأن يصير الرجل كافًرا مشرًكا ،أو كتابًيا /،فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء،
عَماُلُهْم ِفي الّدْنَيا
ت َأ ْ
ط ْ حِب َ
ك َت َوُهَو َكاِفٌر َفُأْوَلـِئ َ كما نطق بذلك القرآن في غير موضع ،كقولهَ} :وَمن َيْرَتِدْد ِمنُكْم َ
عن ِديِنِه َفَيُم ْ
عْنُهم ّما َكاُنوْا ط َ حِب َ عَمُلُه{ ]المائدة ،[5:وقولهَ}:وَلْو َأ ْ
شَرُكوْا َل َ ط َ حِب َ
ن َفَقْد َ
ليَما ِخَرِة{ ]البقرة ،[217 :وقولهَ}:وَمن َيْكُفْر ِبا ِ َوال ِ
ك{ ]الزمر.[65: عَمُل َن َ
طّ حَب َ
ت َلَي ْ
شَرْك َ ن{ ]النعام ،[88:وقولهَ} :لِئ ْ
ن َأ ْ َيْعَمُلو َ
ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد ،ثم عاد إلى السلم هل تحبط العمال التي عملها قبل الردة أم ل تحبط إل إذا مات
مرتًدا؟ على قولين مشهورين ،هما قولن في مذهب المام أحمد ،والحبوط :مذهب أبي حنيفة ومالك .والوقوف:
مذهب الشافعي .
ضا ـ في المرتد .هل يقال :كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال :بل بالردة تبّينا أن إيمانه كانوتنازع الناس ـ أي ً
فاسدا؟ وأن اليمان الصحيح ل يزول البتة؟ على قولين لطوائف الناس ،وعلى ذلك يبنى قول المستثنى :أنا مؤمن ـ إن
ل أعلم.
ل .هل يعود الستثناء إلى كمال اليمان ؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل ،وا ّشاء ا ّ
ل:
سِئ َ
وُ
ن؟
لِئَكِة ـ َيُموُتو َ
حّتى الَم َ
قـ َ
خْل ِ
جِميُع اْل َ
َهل َ
فأجاب:
الذي عليه أكثر الناس :أن جميع الخلق يموتون حتى الملئكة ،وحتى عزرائيل ملك الموت ،وروى في ذلك حديث
ل عليه ،وإنما
مرفوع إلى النبي صلى ال عليه وسلم .والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة ا ّ
يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة ،أتباع أرسطو وأمثالهم ،ومن دخل معهم من المنتسبين إلى السلم ،أو اليهود،
والنصارى ،كأصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وأمثالهم ممن زعم أن الملئكة هي العقول والنفوس ،وأنه ل يمكن
موتها بحال ،بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم.
ل َو َ
ل عْبدًا ّ
ن َح َأن َيُكو َ
سي ُ
ف اْلَم ِ والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملئكة عبيد مدبرون ،كما قال سبحانهّ} :لن َي ْ
سَتنِك َ
خَذف َعْن ِعَباَدِتِه َوَيْسَتْكِبْر َفَسَيْحُشُرُهْم ِإَليِه َجِميًعا{ ]النساء ،[172 :وقال تعالىَ} :وَقاُلوا اّت َ
سَتنِك ْ
ن َوَمن َي ْ
اْلَملِئَكُة اْلُمَقّرُبو َ
ن َأْيِديِهْم َوَما خَْلَفُهْم َو َ
ل ن َيْعَلُم َما َبْي َ
ل َوُهم ِبَأْمِرِه يَْعَمُلو َ
سِبُقوَنُه ِباْلَقْو ِ
ل َي ْ
ن َ
عَباٌد ّمْكَرُمو َ
ل ِ
حاَنُه َب ْسْب َ
ن َوَلًدا ُ حَم ُ
الّر ْ
ل ِمن َبْعِد َأن َيْأَذ َ
ن شْيًئا ِإ ّ
عُتُهْم َ
شَفا َ
ل ُتْغِني َ ت َسَماَوا ِك ِفي ال ّ ضى{ ]النبياء26 :ــ ،[28وقالَ} :وَكم ّمن ّمَل ٍ ن اْرَت َ ل ِلَم ِ
ن ِإ ّشَفُعو ََي ْ
ضى{ ]النجم.[62 : شاء َوَيْر َ ل ِلَمن َي َ
ا ُّ
ل ـ سبحانه ـ قادر على أن يميتهم ثم يحييهم ،كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم .وقد قال سبحانه: وا ّ
ق ُثّم ُيِعيُدُه َوُهَو َأْهَوُن{ ]الروم.[27 :
خْل َ
}َوُهَو اّلِذي َيْبَدُأ اْل َ
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال) :إن
صِعقوا( ،وفي رواية) :سمعت شى( ،وفي رواية) :إذا سمعت الملئكة كلمه ُ ل إذا تكلم بالوحي أخذ الملئكة مثل الَغ ْ
ا ّ
صْفَوان فيصعقون فإذا ُفّزع عن قلوبهم( أي :أزيل الفزع عن قلوبهم )قالوا :ماذا قال جّر السلسلة على ال ّ
الملئكة ك َ
صْعق الغشي ،فإذا صَعُقون َربكم؟ قالوا :الحق .فينادون :الحق ،الحق( ،فقد أخبر في هذه الحاديث الصحيحة أنهم ُي ْ
جاز عليهم صعق الغشى جاز صعق الموت ،وهؤلء المتفلسفة ل يجوزون ل هذا ول هذا ،وصعق الغشى هو مثل
صِعًقا{ ]العراف.[143 : سى َ خّر مو َ
جَعَلُه َدّكا َو َ
ل َ
جَب ِ صعق موسى ـ عليه السلم ـ قال تعالىَ} :فَلّما َت َ
جّلى َرّبُه ِلْل َ
ل َمن
ض ِإ ّ
لْر ِ
ت َوَمن ِفي ا َْ
سَماَوا ِ
ع َمن ِفي ال ّ
صوِر َفَفِز َ
خ ِفي ال ّ
نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قولهَ} :وَيْوَم ُينَف ُ
ل{ ]النمل.[87 :
شاء ا ُّ
َ
ل ُثّم ُنِف َ
خ شاء ا ُّ
ل َمن َ
ض ِإ ّ
لْر ِ
ت َوَمن ِفي ا َْ
سَماَوا ِ
ق َمن ِفي ال ّ
صِع َ
صوِر َف َ /ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قولهَ} :وُنِف َ
خ ِفي ال ّ
ظُروَن{ ]الزمر[68 :
خَرى َفِإَذا ُهم ِقَياٌم َين ُ
ِفيِه ُأ ْ
وأما الستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين ،فإن الجنة ليس فيها موت ،ومتناول لغيرهم .ول يمكن
ل أطلق في كتابه.
ل ،فإن ا ّ
الجزم بكل من استثناه ا ّ
ل أم ل ؟ فإذا
وبكل حال :النبي صلى ال عليه وسلم قد توقف في موسى ،وهل هو داخل في الستثناء فيمن استثناه ا ّ
ل ،لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك ،وصار هذا مثل العلم بوقت كان النبي صلى ال عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى ا ّ
ل على محمد ل أعلم ،وصلى ا ّ الساعة ،وأعيان النبياء ،وأمثال ذلك مما لم يخبر به ،وهذا العلم ل ينال إل بالخبر ،وا ّ
وآله وصحبه وسلم.
ل:
حَمُه ا ُّ
حَمُد بن َتْيمّية ـ َر ِ
س َأ ْ
ن َأُبو اْلَعّبا ِ
لِم َتِقي الّدي ِ
سَخ الِ ْ
شْي ُ
ل ِ
َ /قا َ
فصــل
مذهب سائر المسلمين ـ بل وسائر أهل الملل ـ إثبات القيامة الكبرى ،وقيام الناس من قبورهم ،والثواب والعقاب
هناك ،وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ـ ما بين الموت إلى يوم القيامة ـ هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة
والجماعة ،وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع.
لكن من أهل الكلم من يقول :هذا إنما يكون على البدن فقط ،كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن ،كقول من يقول ذلك
من المعتزلة والشعرية.
ومنهم من يقول :بل هو على النفس فقط ،بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ول نعيم ،كما يقول ذلك ابن
ميسرة ،وابن حزم.
/ومنهم من يقول :بل البدن ينعم ويعذب بل حياة فيه ،كما قاله طائفة من أهل الحديث ،وابن الزاغوني يميل إلى هذا
في مصنفه في حياة النبياء في قبورهم ،وقد بسط الكلم على هذا في مواضع.
والمقصود هنا أن كثيرًا من أهل الكلم ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت ،ول ثواب ول عقاب ،ويزعمون أنه لم
يدل على ذلك القرآن والحديث ،كما أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقًا زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن،
وهو غلط ،بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن ،وبين النعيم والعذاب في البرزخ.
وهو ـ سبحانه ـ وتعالى في السورة الواحدة يذكر]القيامة الكبرى[ و]الصغرى[ كما في سورة الواقعة ،فإنه ذكر في
ضٌة
خاِف َ
س ِلَوْقَعِتَها َكاِذَبٌة َ أولها القيامة الكبرى ،وأن الناس يكونون أزواجًا ثلثة ،كما قال تعالىِ} :إَذا َوَقَع ِ
ت اْلَواِقَعُة َلْي َ
لَثًة{ ]الواقعة.[1-7 : جا َث َ
ت َهَباء ّمنَبّثا َوُكنُتْم َأْزَوا ً
سا َفَكاَن ْ
ل َب ّ
جَبا ُ
ت اْل ِ
س ِ
جا َوُب ّ
ض َر ّ
لْر ُ
ت ا َْ
ج ِ
ّراِفَعٌة ِإَذا ُر ّ
حْلُقوَم َوَأنُتْمت اْل ُ ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت ،وأنهم ثلثة أصناف بعد الموت ،فقالَ} :فَلْو َ
ل ِإَذا َبَلَغ ِ
ن ِم َ
ن ن َفَأّما ِإن َكا َ صاِدِقي َجُعوَنَها ِإن ُكنُتْم َ ن َتْر ِ
غْيَر َمِديِني َ
ل ِإن ُكنُتْم َ ن َفَلْو َصُرو َ
ل ُتْب ِ
ب ِإَلْيِه ِمنُكْم َوَلِكن ّن َأْقَر ُ
حُ ن َوَن ْظُرو َ حيَنِئٍذ َتن ُ
ِ
ضاّلي َ
ن ن ال ّ ن اْلُمَكّذِبي َ
ن ِم َ
ن َوَأّما ِإن َكا َ ب اْلَيِمي ِ
حا ِ
صَن َأ ْك ِم ْلٌم ّل َ
سَ ن َف َ
ب اْلَيِمي ِ
حا ِ صَ ن َأ ْ
ن ِم َ
جّنُة َنِعيٍم َوَأّما ِإن َكا َ
ن َو َ
حا ٌح َوَرْي َ ن َفَرْو ٌاْلُمَقّرِبي َ
صِلَيُة َجِحيٍم{ ]الواقعة ،[83-94 :فهذا فيه أن النفس تبلغ الحلقوم وأنهم ل يمكنهم رجعها ،وبين حال حِميٍم َوَت ْ ن َ ل ّم ْ َفُنُز ٌ
المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين حينئذ.
سُم ِبالّنْفسِ الّلّواَمِة{ سُم ِبَيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]القيامة [1 :ثم قالَ} :و َ
ل ُأْق ِ وفي سورة القيامة :ذكر أيضًا القيامتين فقالَ } :
ل ُأْق ِ
]القيامة [2 :وهي نفس النسان.
وقد قيل :إن النفس تكون لوامة ،وغير لوامة ،وليس كذلك ،بل نفس كل إنسان لوامة ،فإنه ليس بشر إل يلوم نفسه
ظاَمُه
عَ
جَمَع ِ
ن َأّلن َن ْ
سا ُ
لن َ
ب ا ِْ
س ُ
حَويندم إما في الدنيا ،وإما في الخرة ،فهذا إثبات النفس .ثم ذكر معاد البدن فقالَ} :أَي ْ
ن َيْوُم اْلِقَياَمِة{ ]القيامة.[3 :
ل َأّيا َ
سَأ ُ
جَر َأَماَمُه َي ْ
ن ِلَيْف ُ
سا ُ
لن َ
ل ُيِريُد ا ِْ
ي َبَناَنُه َب ْ
سّو َ
عَلى َأن ّن َ
ن َ
َبَلى َقاِدِري َ
ي{ ]القيامة [26 :وهذا إثبات للنفس وأنها تبلغ التراقى كما قال هناكَ} :بَلَغ ِ
ت ت الّتَراِق َ ثم ذكر الموت فقالَ} :ك ّ
ل ِإَذا َبَلَغ ْ
حْلُقوَم{ ]الواقعة .[83 :والتراقي متصلة بالحلقوم. اْل ُ
ل ،والول أظهر؛ لن هذا قبل ق{ ]القيامة [27 :يرقيها ،وقيل :من صاعد يصعد بها إلى ا ّ ن َرا ٍ ثم قالَ} :وِقي َ
ل َم ْ
ق{ ]القيامة [28 :فدل على أنهم يرجونه ويطلبون له راقيًا يرقيه ،وأيضًا فصعودها ل
ن َأّنُه اْلِفَرا ُالموت ،فإنه قالَ} :و َ
ظّ
ل ملئكة يفعلون ما يؤمرون ،والرقية أعظم الدوية فإنها دواء /روحاني؛ ولهذايفتقر إلى طلب من يرقى بها ،فإن ّ
قال النبي صلى ال عليه وسلم في صفة المتوكلين) :ل يسترقون( .والمراد أنه يخاف الموت ،ويرجو الحياة بالراقي؛
ق{. ن َأّنُه اْلِفَرا ُ
ظّولهذا قالَ} :و َ
فدل على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق إلى ربها ،والعرض القائم بغيره ل يساق ،ول بدن الميت ،فهذا نص في
إثبات نفس تفارق البدن تساق إلى ربها ،كما نطقت بذلك الحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن وروح الكافر.
حّتى
ك َ حيُد{ ،فالنسان وإن كره الموت فهو يعلم أنه تلقيه ملئكته ،وهذا كقولهَ} :وا ْ
عُبْد َرّب َ ت ِمْنُه َت ِ وقولهَ} :ذِل َ
ك َما ُكن َ
ك اْلَيِقيُن{ ]الحجر [99 :واليقين/ :ما بعد الموت ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :أما عثمان بن مظعون فقد َيْأِتَي َ
جاءه اليقين من ربه(،
وإل فنفس الموت ـ مجرد عما بعده ـ أمر مشهور لم ينازع فيه أحد حتى يسمى يقيًنا.
ب الّناُر
سوُء اْلَعَذا ِ
ن ُ
عْو َ
ل ِفْر َ
ق ِبآ ِ وذكر عذاب القيامة والبرزخ معًا في غير موضع؛ ذكره في قصة آل فرعون فقالَ} :و َ
حا َ
ب{]غافر،[46 ،45 : شّد اْلَعَذا ِ
ن َأ َ
عْو َ
ل ِفْر َ
خُلوا آ َ
عُة َأْد ِ
سا َ
شّيا َوَيْوَم َتُقوُم ال ّ
عِغُدّوا َو َ
عَلْيَها ُ
ن َ
ضو َ
ُيْعَر ُ
وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن الرسل قبل محمد أنذروا بالقيامة الكبرى تكذيبًا لمن نفى ذلك من المتفلسفة ،وقال
ظيٍم{ ]التوبة .[101 :قال غير واحد من العلماء :المرة الولى فيعِ ب َ
عَذا ٍ
ن ِإَلى َ
ن ُثّم ُيَرّدو َ عن المنافقينَ } :
سُنَعّذُبُهم ّمّرَتْي ِ
ظيٍم{ في الخرة. عِ
ب َعَذا ٍ الدنيا ،والثانية في البرزخ }ُثّم ُيَرّدو َ
ن ِإَلى َ
عَذابَ ن َ جَزْو َ
سُكُم اْلَيْوَم ُت ْ
جوْا َأنُف َ
خِر ُ طوْا َأْيِديِهْم َأ ْ
سُت َواْلَملِئَكُة َبا ِ ت اْلَمْو ِ
غَمَرا ِ ن ِفي َ ظاِلُمو َوقال تعالى في النعامَ} :وَلْو َتَرى ِإِذ ال ّ
خّوْلَناُكْم
ل َمّرٍة َوَتَرْكُتم ّما َ خَلْقَناُكْم َأّو َ
جْئُتُموَنا ُفَراَدى َكَما َ ن َوَلَقْد ِسَتْكِبُرو َ
ن آَياِتِه َت ْ
عْق َوُكنُتْم َ
حّ غْيَر اْل َل َ عَلى ا ّ
ن َ
ن ِبَما ُكنُتْم َتُقوُلو َ
اْلُهو ِ
سُكُم{ دل على وجود النفس التي جوْا َأنُف َخِر ُ ظُهوِرُكْم{ ]النعام ،[94 ،93 :وهذه صفة حال الموت وقولهَ}/ :أ ْ َوَراء ُ
ب اْلُهوِن{ دل على وقوع الجزاء عقب الموت. عَذا َن َجَزْو َ تخرج من البدن ،وقوله} :اْلَيْوَم ُت ْ
ك ِبَما
ق َذِل َ
حِري ِ
ب اْل َ
عَذا َ
جوَهُهْم َوَأْدَباَرُهْم َوُذوُقوْا َ
ضِرُبونَ ُو ُ وقال تعالى في النفالَ} :وَلْو َتَرى ِإْذ َيَتَوّفى اّلِذي َ
ن َكَفُروْا اْلَملِئَكُة َي ْ
لٍم ّلْلَعِبيِد{ ]النفال [51 ،50 :وهذا ذوق له بعد الموت. ظّ س ِب َ
ل َلْي َ
نا ّ
ت َأْيِديُكْم َوَأ ّ
َقّدَم ْ
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه ،أن النبي صلى ال عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم) :يا
فلن ،يا فلن ،هل وجدتم ما وعد ربكم حّقا؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا( .وهذا دليل على وجودهم وسماعهم،
وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب ،وأما نفس قتلهم فقد علمه الحياء منهم.
ض َقاْلَوْا َأَلْم
لْر ِ
ن ِفي ا َ
ضَعِفي َ
سَت ْ
سِهْم َقاُلوْا ِفيَم ُكنُتْم َقاُلوْا ُكّنا ُم ْ
ظاِلِمي َأْنُف ِ
ن َتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ
ن اّلِذي َ وقال تعالى في سورة النساءِ} :إ ّ
صيًرا{ ]النساء ،[97 :وهذا خطاب لهم إذا توفتهم ت َم ِ ساء ْ جَهّنُم َو َ
ك َمْأَواُهْم َ
جُروْا ِفيَها َفُأْوَلـِئ َ
سَعًة َفُتَها ِ
ل َوا ِ
ضا ّ
ن َأْر ُ
َتُك ْ
الملئكة ،وهم ل يعاينون الملئكة إل وقد يئسوا من الدنيا ،ومعلوم أن البدن لم يتكلم لسانه ،بل هو شاهد ،يعلم أن
الذي يخاطب الملئكة هو النفس ،والمخاطب ل يكون عرضًا.
خَرى ِإَلى
لْل ا ُْ
سُت َوُيْر ِ
عَلْيَها اْلَمْو َ
ضى َ
ك اّلِتي َق َ
سُ
ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ
ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ
حي َ
س ِ
لنُف َ وأيضًا ،فقال تعالى} :ا ُّ
ل َيَتَوّفى ا َْ
َأَجٍل ُمسَّمى{ ]الزمر ،[42 :وهذا /بيان لكون النفس تقبض وقت الموت ،ثم منها ما يمسك فل يرسل إلى بدنه ،وهو
عَرض قائم
الذي قضى عليه الموت ،ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى ،وهذا إنما يكون في شىء يقوم بنفسه ،ل في َ
بغيره ،فهو بيان لوجود النفس المفارقة بالموت.
ك الّرْجَعى{ ]العلق ،[8 :وقال تعالى: ل{ ]يونس ،[30 :وقال تعالىِ} :إ ّ
ن ِإَلى َرّب َ وهو مثل قوله في يونسَ} :وُرّدوْا ِإَلى ا ّ
ضّيًة َفاْدُخِلي ِفي ِعَباِدي َواْدُخِلي َجّنِتي{ ]الفجر ،[27-30 :وقال تعالى:
ضَيًة ّمْر ِ
ك َرا ِ
جِعي ِإَلى َرّب ِطَمِئّنُة اْر ِ
س اْلُم ْ
}َيا َأّيُتَها الّنْف ُ
ت اّلِذي ُوّكَل ِبُكْم ُثّم ِإَلى َرّبُكْم ُتْرَجُعوَن{ ]السجدةَ ،[11 :وتوفى الملك إنما يكون لما هو موجود قائم
ك اْلَمْو ِ
ل َيَتوَّفاُكم ّمَل ُ
}ُق ْ
بنفسه ،وإل فالَعَرض القائم بغيره ل يتوفى ،فالحياة القائمة بالبدن ل تتوفى ،بل تزول وتعدم كما تعدم حركته وإدراكه.
ل ِإّنَها َكِلَمةٌ
ت َك ّ
حا ِفيَما َتَرْك ُ
صاِل ً
ل َ
عَم ُ
ن َلَعّلي َأ ْ
جُعو ِ
ب اْر ِ
ل َر ّ
ت َقا َ
حَدُهُم اْلَمْو ُ
جاء َأ َ حّتى ِإَذا َ وقال تعالى في المؤمنينَ } :
ن{ ]المؤمنون[100، 99 : خ ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ
ُهَو َقاِئُلَها َوِمن َوَراِئِهم َبْرَز ٌ
ن{ وهو يبين أن النفـس موجودة تفارق البـدن بالموت ،قال تعالىِ} :إّنَها َكِلَمٌة ُهَو َقاِئُلَها َوِمن َوَراِئِهم َبْرَز ٌ
خ ِإَلى َيْوِم ُيْبَعُثو َ
]المؤمنون .[100 :آخره.
ل ـ عن ]الروح المؤمنة[ أن الملئكة تتلقاها وتصعد بها إلى السماء التي فيها ال.
لم ـ َرحَمُه ا ّ
سَخ ال ْ
شْي ُ
ل َ
سئ َ
ُ /
ب:
جـا َ
فَأ َ
ل( :فهذا حديث معروف جيد أما الحديث المذكور في )قبض روح المؤمن ،وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها ا ّ
ي َتُموُر َ .أْم َأِمنُتم ّمن ِفي
ض َفِإَذا ِه َ
لْر َف ِبُكُم ا َ
س َ
خِ ل( بمنزلة قوله تعالىَ} :أَأِمنُتم ّمن ِفي ال ّ
سَماء َأن َي ْ السناد ،وقوله) :فيها ا ّ
ف َنِذيِر{ ]الملك ،[17 ،16 :وبمنزلة ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال ن َكْي َ
سَتْعَلُمو َ
صًبا َف َ
حا ِ
عَلْيُكْم َ
ل َ
سَسَماء َأن ُيْر ِ
ال ّ
ل .قال:ل؟( ،قالت :في السماء ،قال) :من أنا؟( قالت :أنت رسول ا ّ عليه وسلم قال لجارية معاوية بن الحكم) :أين ا ّ
)أعتقها فإنها مؤمنة(.
وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه ،كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما ،فإن هذا ل يقوله مسلم ،ول
ض{]البقرة ،[255 :والسموات في الكرسي كحلقةلْر َت َوا َ
سَماَوا ِ
سّيُه ال ّ يعتقده عاقل ،فقد قال ـ سبحانه وتعالىَ} :و ِ
سَع ُكْر ِ
ملقاة في أرض َفلة ]الَفلة :الرض ل ماء فيها[ ،والكـرسي فـي الـعرش كحـلقة ملقاة في أرض فلة ،والرب /ـ
سبحانه ـ فوق سمواته ،على عرشه ،بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شىء من ذاته ،ول في ذاته شىء من مخلوقاته.
ل:
سِئ َ
ُ /
ت ِفى َقْبِرِه؟
ل َيَتكَّلُم اْلَمي ُ
َه ْ
فقـــال:
وأما سؤال السائل :هل يتكلم الميت في قبره ،فجوابه :أنه يتكلم ،وقد يسمع ـ أيضًا ـ من كلمه ،كما ثبت في الصحيح
عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إنهم يسمعون َقْرع نعالهم( ،وثبت عنه في الصحيح أن الميت يسأل في قبره،
ل ربي ،والسلم ديني، ل الذين آمنوا بالقول الثابت ،فيقول :ا ّ فيقال له :من ربك ،وما دينك ،ومن نبيك ،فيثبت ا ّ
ل ورسوله ،جاءنا بالبينات ومحمد نبيي ،ويقال له :ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ،فيقول المؤمن :هو عبد ا ّ
خَرِة{
حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ
ت ِفي اْل َ
ل الّثاِب ِ
ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ
ل اّلِذي َ والهدى ،فآمنا به واتبعناه ،وهذا تأويل قوله تعالىُ} :يَثّب ُ
تا ّ
]إبراهيم.[27 :
وقد صح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر ،وكذلك يتكلم المنافق فيقول :آه ،آه ،ل أدرى !
سمعت الناس يقولون شيًئا فقلته؛ فيضرب ِبِمْرَزبٍة من حديد ،فيصيح صيحة يسمعها كل شىء إل النسان.
ل أن يسمعكم عذاب القبر مثل الذي أسمع( ،وثبت عنه في وثبت عنه في الصحيح أنه قال) :لول أل تدافنوا ،لسألت ا ّ
الصحيح أنه نادى المشركين يوم بدر ،لما ألقاهم في الَقِليب ،وقال) :ما أنتم بأسمع لما أقول منهم( .والثار في هذا
ل أعلم.
كثيرة منتشرة ،وا ّ
ل َتَعاَلى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات؛ تدخل الروح في جسده ويجلس
لم ـ َرحمُه ا ُّ
سَخ ال ْ
شْي ُ
ل َ
سِئ َ
ُ /
ويجاوب منكرًا ونكيرًا ،فيحتاح موًتا ثانيًا؟
ب:
جــا َ
َفَأ َ
عود الروح إلى بدن الميت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا ،وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض
الوجوه ،كما أن النشأة الخرى ليست مثل هذه النشأة ،وإن كانت أكمل منها ،بل كل موطن في هذه الدار وفي البرزخ
سع له في قبره وُيسأل ونحو ذلك ،وإن
والقيامة له حكم يخصه؛ ولهذا أخبر النبي صلى ال عليه وسلم :أن الميت ُيَو ّ
كان التراب قد ل يتغير فالرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه.
قيل :يسمى ذلك موتًا ،وتأولوا على ذلك قوله تعالىَ} :رّبَنا َأَمّتَنا اْثَنَتْيِن َوَأْحَيْيَتَنا اْثَنَتْيِن{ ]غافر :[11 :قيل إن الحياة
الولى في هذه الدار ،والحياة الثانية في القبر/ .والموتة الثانية في القبر ،والصحيح أن هذه الية كقولهَ {:وُكنُتْم َأْمَواتًا
حِييُكْم{ ]البقرة ،[28 :فالموتة الولى قبل هذه الحياة ،والموتة الثانية بعد هذه الحياة .وقوله حَياُكمْ ُثّم ُيِميُتُكْم ُثّم ُي ْ
َفَأ ْ
خَرى{
جُكْم َتاَرًة ُأ ْ
خِر ُ حِييُكْم{ بعد الموت .قال تعالىِ} :مْنَها َ
خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيُدُكْم َوِمْنَها ُن ْ تعالىُ} :ثّم ُي ْ
{ ]طه ،[55 :وقالَ} :قاَل ِفيَها َتْحَيْوَن َوِفيَها َتُموُتوَن َوِمْنَها ُتْخَرُجوَن{]العراف ،[25 :فالروح تتصل بالبدن متى شاء ا ّ
ل
ل تعالى ،ل يتوقت ذلك بمرة ول مرتين ،والنوم أخو الموت. تعالى ،وتفارقه متى شاء ا ّ
ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه) :باسمك الّلهم أموت وأحيا( ،وكان إذا استيقظ يقول:
ل الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور( ،فقد سمى النوم موًتا ،والستيقاظ حياة.
)الحمد ّ
جٍ
ل خَرى ِإَلى َأ َ
لْ
ل ا ُْ
سُت َوُيْر ِ
عَلْيَها اْلَمْو َ
ضى َ
ك اّلِتي َق َ
سُ
ت ِفي َمَناِمَها َفُيْم ِ
ن َمْوِتَها َواّلِتي َلْم َتُم ْ
حي َ
س ِ
لنُف َ وقد قال تعالى} :ا ُّ
ل َيَتَوّفى ا َْ
ُمَسّمى{ ]الزمر ،[42 :فبين أنه يتوفى النفس على نوعين :فيتوفاها حين الموت ،ويتوفى النفس التي لم تمت بالنوم،
ثم إذا ناموا فمن مات في منامه أمسك نفسه ،ومن لم يمت أرسل نفسه.
ولهذا كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال) :باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ،فإن أمسكت
نفسي فارحمها ،وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين(.
والنائم يحصل له في منامه لذة وألم ،وذلك يحصل للروح والبدن ،حتى /إنه يحصل له في منامه من يضربه ،فيصبح
والوجع في بدنه ،ويرى في منامه أنه أطعم شيًئا طيًبا ،فيصبح وطعمه في فمه وهذا موجود .فإذا كان النائم يحصل
لروحه وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به ـ والذي إلى جنبه ل يحس به ـ حتى قد يصيح النائم من شدة اللم ،أو
الفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه ،وقد يتكلم إما بقرآن ،وإما بذكر ،وإما بجواب.
واليقظان يسمع ذلك وهو نائم ،عينه مغمضة ،ولو خوطب لم يسمع ـ فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول
صلى ال عليه وسلم أنه يسمع قرع نعالهم ،وقال) :ما أنتم أسمع لما أقول منهم(.
ل أجوافهم وقبورهم لا ّوالقلب يشبه القبر؛ ولهذا قال صلى ال عليه وسلم ـ لما فاتته صلة العصر يوم الخندق) :م َ
صُدوِر{ ]العاديات:
ل َما ِفي ال ّ
صَ نارًا( ،وفي لفظ) :قلوبهم وقبورهم نارًا( وفرق بينهما في قولهُ} :بْعِثَر َما ِفي اْلُقُبوِر َو ُ
ح ّ
[10 ،9
ول يجوز أن يقال :ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب ،مثلما ـ يجده النائم في منامه ،بل ذلك النعيم والعذاب
أكمل وأبلغ وأتم وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي ،ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ذلك ،إذا قال السائل :الميت ل
يتحرك في قبره ،والتراب ل يتغير ،ونحو ذلك ،مع أن هذه المسألة لها بسط يطول ،وشرح ل تحتمله هذه الورقة،
ل على محمد وآله وصحبه وسلم. ل أعلم .وصلى ا ّوا ّ
وإذا مات الطفل فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير؟ فيه قولن في مذهب أحمد وغيره:
أحدهما :أنه ل يمتحن ،وأن المحنة إنما تكون على من كلف في الدنيا ،قاله طائفة :منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل.
والثاني :أنهم يمتحنون ،ذكره أبوحكيم الهمداني ،وأبو الحسن ابن عبدوس ،ونقله عن أصحاب الشافعي .وعلى هذا
التفصيل تلقين الصغير والمجنون :من قال إنه يمتحن في القبر ،لقنه .ومن قال :ل يمتحن ،لم يلقنه .وقد روى مالك
ل عنه ـ أنه صلى ال عليه وسلم صلى على طفل ،فقال) :الّلهم ِقِه عذاب القبر وفتنة
وغيره عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
القبر( ،وهذا القول موافق لقول من قال :إنهم يمتحنون في الخرة ،وإنهم مكلفون يوم القيامة ،كما هو قول أكثر أهل
العلم /وأهل السنة من أهل الحديث والكلم ،وهو الذي ذكره أبو الحسن الشعري عن أهل السنة واختاره ،وهو
ل أعلم.
مقتضى نصوص المام أحمد ،وا ّ
وإذا دخل أطفال المؤمنين الجنة فأرواحهم وأرواح غيرهم من المؤمنين في الجنة ،وإن كانت درجاتهم متفاضلة،
والصغار يتفاضلون بتفاضل آبائهم ،وتفاضل أعمالهم إذا كانت لهم أعمال ـ فإن إبراهيم ابن النبي صلى ال عليه
وسلم ليس هو كغيره ،والطفال الصغار يثابون على ما يفعلونه من الحسنات ،وإن كان القلم مرفوعًا عنهم في
حّفة فقالت :ألهذا حج؟ قال:
ت إليه امرأة صبًيا من ِم َ
السيئات؛ كما ثبت في الصحيح :أن النبي صلى ال عليه وسلم َرفع ْ
)نعم .ولك أجر( .رواه مسلم في صحيحه.
صّومون
شٍر ،وَفّرقوا بينهم في المضاجع( .وكانوا ُي َسبٍع ،واضربوهم عليها ِلَع ْ
وفي السنن أنه قالُ) :مُروهم بالصلة ِل َ
الصغار يوم عاشوراء وغيره ،فالصبي يثاب على صلته وصومه ،وحجه وغير ذلك من أعماله ،ويفضل بذلك على
من لم يعمل كعمله ،وهذا غير ما يفعل به إكرامًا لبويه ،كما أنه في النعم الدنيوية قد ينتفع بما يكسبه وبما يعطيه
أبواه ،ويتميز بذلك على من ليس كذلك.
ق من
وأرواح المؤمنين في الجنة ،كما جاءت بذلك الثار ،وهو كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :نسمة المؤمن َتْعُل ُ
الجنة( أي :تأكل ،ولم يوقت في ذلك وقت قبل يوم القيامة.
/والرواح مخلوقة بل شك ،وهي ل تعدم ول تفنى ،ولكن موتها مفارقة البدان ،وعند النفخة الثانية تعاد الرواح
إلى البدان.
وأهل الجنة الذين يدخلونها على صورة أبيهم آدم ـ عليه السلم ـ طول أحدهم ستون ذراعًا ،كما ثبت ذلك في
الحاديث الصحيحة.
وقد قال بعض الناس :إن أطفال الكفار يكونون خدم أهل الجنة ،ول أصل لهذا القول.
وأما الورود المذكور في قوله تعالىَ} :وِإن ّمنُكْم ِإّل َواِرُدَها{ ]مريم [71 :فقد فسره النبي صلى ال عليه وسلم في
الحديث الصحيح ،رواه مسلم في صحيحه عن جابر) :بأنه المرور على الصراط( ،والصراط هو الجسر ،فلبد من
المرور عليه لكل من يدخل الجنة ،من كان صغيرًا في الدنيا ومن لم يكن.
والولدان ـ الذين يطوفون على أهل الجنة ـ خلق من خلق الجنة ،ليسوا من أبناء الدنيا ،بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا
الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة ،على صورة آدم ،أبناء ثلث وثلثين في طول ستين ذراعًا ،كما تقدم .وقد روى أن
ل أعلم.
العرض سبعة أذرع ،وا ّ
ل ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ول يسأل؟ وبماذا يسأل عنه؟ وهل يستوى في
حَمُه ا ُّ
خ ـ َر ِ
شْي ُ
ل ال ّ
سئ َ
ُ /
الحياة والسؤال من يكلف ومن ل يكلف؟
ب:
جــا َ
فَأ َ
ل رب العالمين ،أما من ليس مكلفًا كالصغير والمجنون ،فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير ؟ على قولين
الحمد ّ
للعلماء:
أحدهما :أنه يمتحن وهو قول أكثر أهل السنة ،ذكره أبو الحسن ابن عبدوس عنهم ،وذكره أبو حكيم النهروانى
وغيرهما.
والثاني :أنه ل يمتحن في قبره ،كما ذكره القاضي أبو يعلى ،وابن عقيل وغيرهما .قالوا :لن المحنة إنما تكون لمن
يكلف في الدنيا.
ل عنه ـ أنه صلى ال عليه وسلم صلى على صغيرومن قال بالول ،يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
لم يعمل خطيئة قط ،فقال) :الّلهم قه عذاب القبر وفتنة القبر( .وهذا يدل على أنه يفتن.
/وأيضًا ،فهذا مبني على أن أطفال الكفار ـ الذين لم يكلفوا في الدنيا ـ يكلفون في الخرة ،كما وردت بذلك أحاديث
متعددة ،وهو القول الذي حكاه أبو الحسن الشعري عن أهل السنة والجماعة ،فإن النصوص عن الئمة كالمام أحمد
وغيره :الوقف في أطفال المشركين ،كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه سئل عنهم فقال) :الّ
أعلم بما كانوا عاملين(.
سُمَرة أن منهم من يدخل الجنة .وثبت في صحيح مسلم أن الغلم الذي قتله وثبت في صحيح البخاري من حديث َ
طِبع كافرًا؛ فإن كان الطفال وغيرهم فيهم شقي وسعيد ،فإذا كان ذلك لمتحانهم في الدنيا لم يمنع طِبع يوم ُ
الخضر ُ
ن من أطفال المؤمنين بأنه في الجنة ،وإن شهد لهم امتحانهم في القبور ،لكن هذا مبني على أنه ل يشهد لكل ُمَعي ّ
ل أعلم.
مطلقًا ،ولو شهد لهم مطلًقا .فالطفل الذي ولد بين المسلمين قد يكون منافقًا بين مؤمنين ،وا ّ
حُه ـ وهو بمصر عن ]عذاب القبر[ :هل هو على الّنْفس ،والَبدن أو على النفس ل ُرو َس ا ُّ
سلم ـ َقّد َ
شْيخ ال ْ
ل َ
سِئ َ
ُ
دون البدن؟ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم َتُعْد ،فهل يتشاركان في العذاب
والنعيم؟ أو يكون ذلك على أحدهما دون الخر؟
ل رب العالمين .بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة ،تنعم النفس وتعذب
الحمد ّ
منفردة عن البدن ،وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها ،فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين،
كما يكون للروح منفردة عن البدن.
هذا فيه قولن مشهوران لهل الحديث والسنة والكلم ،وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث،
قول من يقول :إن النعيم والعذاب ل يكون إل على الروح؛ وإن البدن ل ينعم ول يعذب .وهذا تقوله الفلسفة
المنكرون لمعاد البدان ،وهؤلء كفار بإجماع المسلمين.
ويقوله كثير من أهل الكلم من المعتزلة وغيرهم ،الذين يقولون :ل يكون ذلك في البرزخ ،وإنما يكون عند القيام من
القبور.
وقول من يقول :إن الروح بمفردها ل تنعم ول تعذب ،وإنما الروح هي الحياة ،وهذا يقوله طوائف من أهل الكلم،
من المعتزلة ،وأصحاب أبي الحسن الشعري ،كالقاضي أبي بكر ،وغيرهم ،وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق
جَوْيني وغيره ،بل قد ثبت في الكتاب والسنة ،واتفاق سلف المة،
البدن ،وهذا قول باطل ،خالفه الستاذ أبو المعالي ال ُ
أن الروح تبقى بعد فراق البدن ،وأنها منعمة أو معذبة.
والفلسفة اللهيون يقولون بهذا ،لكن ينكرون َمَعاد البدان ،وهؤلء يقرون بمعاد البدان ،لكن ينكرون معاد
الرواح ،ونعيمها وعذابها بدون البدان ،وكل القولين خطأ وضلل ،لكن قول الفلسفة أبعد عن أقوال أهل السلم،
وإن كان قد يوافقهم عليه
حه ـ وهو بمصر عن ]عذاب القبر[ :هل هو على الّنْفس والَبدن أو على النفس دون ل ُرو َ
س ا ُّ
سلم ـ َقّد َ
شْيخ ال ْ
ل َ
سِئ َ
ُ
البدن؟ والميت يعذب في قبره حًيا أم ميًتا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم َتُعْد ,فهل يتشاركان في العذاب والنعيم؟
أو يكون ذلك على أحدهما دون الخر؟
عْنُه ,وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين:
ل َ
ى ا ُّ
ضَ
ب ـ َر ِ
جا َ
فَأ َ
ل رب العالمين .بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميًعا باتفاق أهل السنة والجماعة ,تنعم النفس وتعذب
الحمد ّ
منفردة عن البدن ,وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها ,فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين,
كما يكون للروح منفردة عن البدن.
هذا فيه قولن مشهوران /لهل الحديث والسنة والكلم ,وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث,
قول من يقول :إن النعيم والعذاب ل يكون إل على الروح؛ وأن البدن ل ينعم ول يعذب .وهذا تقوله الفلسفة
المنكرون لمعاد البدان ,وهؤلء كفار بإجماع المسلمين.
ويقوله كثير من أهل الكلم من المعتزلة وغيرهم ,الذين يقولون :ل يكون ذلك في البرزخ ,وإنما يكون عند القيام من
القبور.
وقول من يقول :إن الروح بمفردها ل تنعم ول تعذب ,وإنما الروح هي الحياة ,وهذا يقوله طوائف من أهل الكلم ,من
المعتزلة ,وأصحاب أبي الحسن الشعري ,كالقاضي أبي بكر ,وغيرهم ,وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن,
جَوْيني وغيره ,بل قد ثبت في الكتاب والسنة ,واتفاق سلف المة ,أن
وهذا قول باطل ,خالفه الستاذ أبو المعالي ال ُ
الروح تبقى بعد فراق البدن ,وأنها منعمة أو معذبة.
من يعتقد أنه متمسك بدين السلم ,بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف ,والتحقيق والكلم.
/والقول الثالث الشاذ :قول من يقول :إن البرزخ ليس فيه نعيم ول عذاب ,بل ل يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى,
كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ,ونحوهم ,الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه ,بناء على أن الروح ل تبقى بعد
فراق البدن ,وأن البدن ل ينعم ول يعذب.
فجميع هؤلء الطائفتين ضلل في أمر البرزخ ,لكنهم خير من الفلسفة؛ لنهم يقرون بالقيامة الكبرى.
فإذا عرفت هذه القوال الثلثة الباطلة ,فاعلم أن مذهب سلف المة وأئمتها :أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو
عذاب ,وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه ,وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ,وأنها تتصل بالبدن أحياًنا,
فيحصل له معها النعيم والعذاب.
ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الرواح إلى أجسادها ,وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد البدان متفق عليه عند المسلمين ,واليهود ,والنصارى .وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة.
وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم ,وأنكره أكثرهم.
/ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه .فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير :فكثيرة متواترة عن النبي صلى ال
ل عنهما ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم مّر بقبرين فقال: عليه وسلم ,مثل ما في الصحيحين :عن ابن عباس ـ رضي ا ّ
سَتِتر من َبْوله( ,ثم دعا
)إنهما لُيَعّذبان وما ُيَعّذبان في كبير ,أما أحدهما فكان يمشى بالّنِميمة ,وأما الخر فكان ل َي ْ
ت هذا؟ قال) :لعله ُيخّفف عنهما ل ,لم فعل َ
بجريدة رطبة فشقها نصفين ,ثم غرز في كل قبر واحدة .فقالوا :يا رسول ا ّ
سا(.ما لم َييَْب َ
ل صلى ال عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة ـ ونحن وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال :بينا رسول ا ّ
معه ـ إذ جالت به ,فكادت تلقيه ,فإذا أقبر ستة أو خمسة ,أو أربعة .فقال) :من يعرف هذه القبور؟( فقال رجل :أنا.
ل أنقال) :فمتى هؤلء؟( قال :ماتوا في الشراك .فقال) :إن هذه المة تبتلى في قبورها؛ فلول أل تدافنوا لدعوت ا ّ
ل من عذاب القبر( .قالوا :نعوذ با ّ
ل سمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه( ,ثم أقبل علينا بوجهه فقالَ) :تعّوذوا با ّ
ُي ِ
ل من الفتن ما
ل من عذاب النار .قال) :تعوذوا با ّل من عذاب النار( .قالوا :نعوذ با ّمن عذاب القبر .قال) :تعوذوا با ّ
ل من فتنة الدجال( .قالوا:
ل من الفتن ما ظهر منها وما بطن .قال) :تعوذوا با ّ ظهر منها وما بطن( .قالوا :نعوذ با ّ
ل من فتنة الدجال.نعوذ با ّ
ل عنه ـ أن النبي/صلى ال عليه وسلم قال) :إذا فرغ أحدكموفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ل من أربع :من عذاب جهنم ,ومن عذاب القبر ,ومن فتنة المحيا والممات ,ومن فتنةمن التشهد الخير فليقل :أعوذ با ّ
المسيح الدجال(.
ت الشمس,
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب النصاري قال :خرج النبي صلى ال عليه وسلم وقد وجََب ِ
جَبت الشمس،أي غابت[ .
فقال) :يهود يعذبون في قبورهم( ]و َ
ى عجوز من عجائز يهود المدينة ,فقالت :إن أهلل عنها ـ قالت :دخلت عل ّ وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ
ل صلى ال عليه ي رسول ا ّ القبور يعذبون في قبورهم .قالت :فكذبتها ولم أْنَعْم أن أصدقها ,قالت :فخرجت فدخل عل ّ
ى ،فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم ل ,عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت عل ّ وسلم ,فقلت :يا رسول ا ّ
ت ,إنهم يعذبون عذاًبا يسمعه البهائم كلها( ,فما رأيته بعد في صلة إل يتعوذ من عذاب القبر.
صَدَق ْ
.فقالَ ) :
قال بعضهم :ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت ]أي :أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع الَبْقل[
إلى قبور اليهود ,والنصارى والمنافقين ,كالسماعيلية والنصيرية ,وسائر القرامطة :من بني عبيد وغيرهم ,الذين
بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك ,كما يقصدون قبور اليهود والنصارى,
ل ,وإنما هو من هذا القبيل .فقد قيل :إن الخيل إذا سمعت عذابوالجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة ,وأنهم من أولياء ا ّ
القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل .والحديث في هذا كثير ل يتسع له هذا السؤال.
ل صلىل عنه ـ أن رسول ا ّ ضا ,كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب ـ رضي ا ّ وأحاديث المسألة كثيرة أي ً
ل تعالى: ل ؛ فذلك قول ا ّ ل ,وأن محمًدا رسول ا ّ ال عليه وسلم قال) :المسلم إذا سئل في قبره شهد أن ل إله إل ا ّ
ت ِفي اْلَحَياِة الّدْنَيا َوِفي الِخَرِة{ ]إبراهيم .[27:وفي لفظ) :نزلت في عذاب القبر يقال له: ل الّثاِب ِ
ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ
ل اّلِذي َ
تا ّ
}ُيَثّب ُ
ت ِفي
ل الّثاِب ِ
ن آَمُنوْا ِباْلقَْو ِ
ل اّلِذي َ ل تعالىُ} :يَثّب ُ
تا ّ ل ,وديني السلم ,ونبيي محمد ,وذلك قول ا ّ من ربك؟ فيقول :ربي ا ّ
ل َما َيَشاُء{]إبراهيم.[27:
لا ّ
ن َوَيْفَع ُ
ظاِلِمي َ
ل ال ّلا ّضّ خَرِة َوُي ِ حَياِة الّدْنَيا َوِفي ال ِ
اْل َ
ل .فيقولن له :ما دينك؟ فيقول :ديني السلم. وفي لفظ) :فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولن له:من ربك؟ فيقول :ربي ا ّ
ل .فيقولن :وما يدريك؟ فيقول :قرأت كتاب ا ّ
ل فيقولن :ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟( قال) :فيقول :هو رسول ا ّ
ظاِلِمي َ
ن ل ال ّ
لا ّ
خَرِة َوُيضِ ّ
حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ
ل الّثاِبتِ ِفي اْل َ
ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ
ل اّلِذي َ لُ} :يَثّب ُ
تا ّ وآمنت به ,وصدقت به ,فذلك قول ا ّ
ل َما َيَشاء{ ]إبراهيم .([27:قال) :فينادي مناد من السماء :أن صدق عبدي ,فافرشوا له في الجنة ,وألبسوه من لا ّ
َوَيْفَع ُ
الجنة ,وافتحوا له باًبا إلى الجنة( .قال) :فيأتيه من روحها وطيبها( .قال) :ويفسح له مد بصره( .قال):وإن الكافر(
فذكر موته .وقال) :وتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه ,فيقولن له :من ربك؟ فيقول هاه ،هاه ,ل أدري,
فيقولن له :ما دينك؟ فيقول :هاه .هاه .ل أدري ,فينادي مناد من السماء :أن كذب عبدي ,فافرشوا له من النار,
سمومها( .قال) :ويضيق عليه قبره حتى حّرها و ُ
وألبسوه من النار / ,وافتحوا له باًبا إلى النار( .قال) :ويأتيه من َ
تختلف فيه أضلعه( .قال) :ثم يقيض له أعمى أبكم معه ِمْرَزَبة من حديد ,لو ضرب بها جبل لصار تراًبا( .قال:
)فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إل الثقلين ,فيصير تراًبا ,ثم تعاد فيه الروح(.
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد ,وباختلف أضلعه ,وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن
مجتمعين.
وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة ,والنعيم والعذاب ,رواه أبوهريرة ,وحديثه في المسند وغيره,
ل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إن حّبان في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ ورواه أبو حاتم ابن ِ
الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم ,إذا ولوا عنه مدبرين ,فإن كان مؤمنا كانت الصلة عند رأسه ,وكان
الصيام عن يمينه ,وكانت الصدقة عن شماله ,وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والحسان عند رجليه,
فيأتيه الملكان من قبل رأسه ,فتقول الصلة :ما قبلي مدخل ,ثم يؤتى عن يمينه ,ويقول الصيام :ما ِقَبلي مدخل ,ثم
يؤتى عن يساره ,فتقول الزكاة :ما قبلي مدخل ,ثم يؤتى من قبل رجليه ,فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة,
ت له الشمس ,وقد أصغت للغروب .فيقول: والمعروف والحسان :ما قبلي مدخل!! فيقول له :اجلس فيجلس قد َمُثَل ْ
دعوني حتى أصلي :فيقولون :إنك ستصلي ,أخبرنا عما نسألك عنه ،أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه
ل فيقال له :على ذلك حييت ,وعلى ل ,جاء بالحق من عند ا ّ ؟ وماذا /تشهد به عليه؟ فيقول :محمد ,نشهد أنه رسول ا ّ
غْبطًَة وسروًرا ,ثم ل لك فيها ,فيزداد ِ ل ,ثم يفتح له باب إلى الجنة ,فيقال :هذا مقعدك ,وما أعد ا ّ ذلك ُتْبَعث إن شاء ا ّ
سم طير يعلق في شجر عا ,وُيَنّور له فيه ,ويعاد الجسد لما بدئ منه ,وتجعل روحه َن َ يفسح له في قبره سبعون ذرا ً
ل
لا ّن َوَيْفَع ُ
ظاِلِمي َ
ل ال ّ
لا ّ
ضّخَرِة َوُي ِ
حَياةِ الّدْنَيا َوِفي ال ِ
ت ِفي اْل َ
ل الّثاِب ِ
ن آَمُنوْا ِباْلَقْو ِ
ل اّلِذي َ الجنة( .قال) :فذلك قوله تعالىُ} :يَثّب ُ
تا ّ
َما َيَشاء{ ]إبراهيم. [27:
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال) :يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلعه( فتلك المعيشة الضنك ,التي قال ا ّ
ل
ضنًكا َوَنْحُشُرُه َيْوَم اْلِقَياَمِة َأْعَمى{ ]طه .[124:هذا الحديث أخصر. تعالىَ}:لُه َمِعي َ
شًة َ
وحديث البراء ـ المتقدم ـ أطول ما في السنن ,فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر ,وهو في المسند وغيره
بطوله .وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى ال عليه وسلم فيه) :إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الخرة,
حُنوط من وانقطاع من الدنيا ,نزلت إليه ملئكة بيض الوجوه ,كأن وجوههم الشمس ,معهم كفن من أكفان الجنة ,و َ
حنوط الجنة ,فيجلسون منه مد البصر ,ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ,فيقول :أيتها النفس الطيبة,
سقاء ,فيأخذها ,فإذا أخذها لم يدعوها ى ال ّ
طَرة من ِف ّ اخرجي إلى مغفرة ورضوان( .قال) :فتخرج تسيل كما تسيل الَق ْ
في يده طرفة عين /حتى يأخذوها .فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ,فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت
على وجه الرض( .قال) :فيصعدون بها ,فل يمرون بها على مل من الملئكة إل قالوا :ما هذه الروح الطيبة؟!
فيقولون :فلن بن فلن ,بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا ,فينتهون به إلى السماء الدنيا ,فيستفتحون له فيفتح
له( .قال) :فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ,حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة .فيقول :اكتبوا
كتاب عبدي في عليين ,وأعيدوه إلى الرض ,فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى( .قال) :فتعاد
روحه في جسده ,ويأتيه ملكان فيجلسانه( .وذكر المسألة كما تقدم ,قال) :ويأتيه رجل حسن الوجه ,طيب الريح ,فيقول
له :أبشر بالذي يسرك ,فهذا يومك الذي قد كنت توعد ,فيقول له :من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجىء بالخير؟ !
فيقول :أنا عملك الصالح .فيقول :رب ,أقم الساعة ,رب أقم الساعة ,رب أقم الساعة ,حتى أرجع إلى أهلي ومالي(.
قال) :وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الخرة وانقطاع من الدنيا ,نزل إليه من السماء ملئكة سود الوجوه ,معهم
المسوح ,فيجلسون منه مد البصر ,ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ,فيقول :أيتها النفس الخبيثة ,اخرجي
سّفود ـ بالفتح والضم مع التشديد: سّفود ]ال ّل وغضبه ,فتفرق في أعضائه كلها ,فينتزعها كما ينتزع ال ّ إلى سخط ا ّ
حديدة ذات شعب معقفة ,يشوي بها اللحم[ من الصوف المبلول ,فتتقطع معها العروق والعصب( .قال) :فيأخذها فإذا
أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ,فيجعلوها في تلك المسوح( .قال) :فيخرج منها كأنتن ما يكون من
جيفة وجدت على وجه الرض ,فيصعدون بها/ ,فل يمرون بها على مل من الملئكة إل قالوا :ما هذه الروح
الخبيثة؟ فيقولون :فلن بن فلن ,بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا ,فيستفتحون
ل ِفي
جَم ُ
ج اْل َ
حّتى َيِل َ
جّنَة َ
ن اْل َ
خُلو َ
ل َيْد ُ
سَماء َو َ
ب ال ّ
ح َلُهْم أَْبَوا ُ ل صلى ال عليه وسلمَ } :
ل ُتَفّت ُ لها فل يفتح لها( ,ثم قرأ رسول ا ّ
ل تعالى) :اكتبوا كتابه في سجين ـ في الرض السفلى( ك َنْجِزي اْلُمْجِرِميَن{ ]العراف ,[40:ثم يقول ا ّ
ط َوَكَذِل َ
خَيا ِ
سّم اْل ِ
َ
ق{[الحج.[31:حي ٍ
سِن َ ل صلى ال عليه وسلمَ{:أْو َتْهِوي ِبِه الّري ُ
ح ِفي َمَكا ٍ حا( .ثم قرأ رسول ا ّ
قال) :فتطرح روحه طر ً
قال) :فتعاد روحه في جسده ,فيأتيه ملكان فيجلسانه ,فيقولن له :من ربك؟ فيقول :هاه ,هاه ,ل أدري( .وساق الحديث
كما تقدم إلى أن قال) :ويأتيه رجل قبيح الوجه ُمْنتن الريح ,فيقول :أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد
؛ فيقول :من أنت فوجهك الوجه الذي ل يأتي بالخير؟ قال :أنا عملك السوء .فيقول :رب ,ل تقم الساعة( ,ثلث
مرات.
منها :أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن ,خلًفا لضلل المتكلمين ,وأنها تصعد وتنزل خلًفا لضلل الفلسفة ,وأنها
تعاد إلى البدن ,وأن الميت يسأل ,فينعم أو يعذب ,كما سأل عنه أهل السؤال ,وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في
صورة حسنة أو قبيحة.
ل عنه ـ أن النبي /صلى ال عليه وسلم قال) :إن العبد إذا وضع وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ
خْفق نعالهم ,أتاه ملكان فيقررانه .فيقولن :ما كنت تقول في هذا الرجل في قبره ,وتولى عنه أصحابه ,إنه ليسمع َ
ل به
ل ورسوله( .قال) :فيقول :انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك ا ّ محمد؟ فأما المؤمن فيقول :أشهد أنه محمد عبد ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :فيراهما كليهما( .قال قتادة :وذكر لنا أنه يفسح له في قبره مقعًدا من الجنة( .قال رسول ا ّ
عا ,ويمل عليه خضًرا إلى يوم يبعثون .ثم نرجع إلى حديث أنس) :ويأتيان الكافر والمنافق فيقولن :ما سبعون ذرا ً
كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول :ل أدري ,كنت أقول كما يقول الناس .فيقول :ل دريت ول تليت .ثم يضرب
بمطارق من حديد بين أذنيه ,فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين(.
ل صلى ل عنه ـ قال :قال رسول ا ّوروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه ـ وأكثر اللفظ له ـ عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ال عليه وسلم) :إذا قبر أحدكم النسان ,أتاه ملكان أسودان أزرقان ,يقال لهما :منكر والخر نكير .فيقولن له :ما
ل ورسوله ,أشهد أن ل إله إل كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول ,فإن كان مؤمًنا قال :هو عبد ا ّ
ل ,وأشهد أن محمًدا عبده ورسوله .فيقولن :إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك .
ا ّ
عا ,وينور له فيه ,ويقال له :نم .فيقول :أرجع إلى أهلي فأخبرهم .فيقولن له :نم,
ثم يفسح له في قبره سبعون ذرا ً
ل من مضجعه ذلك .وإن كان منافًقا قال / :ل أدري, كنومة العروس الذي ل يوقظه إل أحب أهله إليه ,حتى يبعثه ا ّ
كنت أسمع الناس يقولون شيًئا فقلته .فيقولن :إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك .ثم يقال للرض :التئمي عليه ,فتلتئم عليه,
ل من مضجعه ذلك( وهذا الحديث فيه اختلف أضلعه وغير حتى تختلف فيها أضلعه ,فل يزال معذًبا حتى يبعثه ا ّ
ذلك ,مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا احتضر الميت أتته الملئكة بحريرة وعن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ضا ,حتى يأتوا به باب السماء ,فيقولون :مابيضاء .فيقولون :اخرجي كأطيب ريح المسك ,حتى إنه ليناوله بعضهم بع ً
حا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه,
أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنينَ ,فَلُهْم أشد فر ً
يسألونه :ماذا فعل فلن؟ فيقولون :دعوه ,فإنه في غم الدنيا ,فإذا قال :إنه أتاكم .قالوا :ذهب إلى أمه الهاوية .وإن
ل ,فتخرج كأنتن جيفة, طا عليك إلى عذاب ا ّ الكافر إذا احتضر أتته ملئكة العذاب بمسح .فيقولون :اخرجي مسخو ً
حتى يأتوا به أرواح الكفار( .رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصًرا عن أبي هريرة ـ رضي الّ عنه .وعند
طة كانت عليه على أنفه هكذا] .والّريطُة :ثوب ل صلى ال عليه وسلم ِري َ الكافر ونتن رائحة روحه ,فرد رسول ا ّ
رقيق لين مثل الملءة[ .
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال) :إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملئكة الرحمة ,فإذا قبضت نفسه جُِعلت
حا أطيب من هذه الرائحة ,فيقال :دعوه
في حريرة بيضاء ,فتنطلق بها إلى باب السماء ,فيقولون :ما وجدنا ري ً
/يسترح ,فإنه كان في غم الدنيا ,فيقال :ما فعل فلن ,ما فعلت فلنة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى
حا أنتن من هذه ,فيبلغ بها في الرض السفلى(. الرض تقول خزنة الرض :ما وجدنا ري ً
ففي هذه الحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه ,وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض
ذلك.
وقد روى ابن أبي الدنيا في ]كتاب ذكر الموت[ عن مالك بن أنس قال :بلغني أن الروح مرسلة ,تذهب حيث شاءت.
وهذا يوافق ما روي) :أن الروح قد تكون على أْفِنَية القبور( ]أْفِنَية :جمع فناء ,وهو المتسع أمام الدار[ كما قال
مجاهد :إن الرواح تدوم على القبور سبعة أيام ,يوم يدفن الميت ,ل تفارق ذلك ,وقد تعاد الروح إلى البدن في غير
وقت المسألة ,كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما من رجل يمر
ل عليه روحه حتى يرد عليه السلم(. بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ,إل رد ا ّ
/وفي سنن أبي داود وغيره ,عن أوس بن أوس الثقفي ,عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إن خير أيامكم يوم
ل ,كيف
ي( .قالوا :يا رسول ا ّ
ي من الصلة يوم الجمعة ,وليلة الجمعة ,فإن صلتكم معروضة عل ّ الجمعة ,فأكثروا عل ّ
ل حرم على الرض أن تأكل أجساد النبياء( . ت؟! فقال) :إن ا ّ
تعرض صلتنا عليك وقد أِرْم َ
وهذا الباب فيه من الحاديث والثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه ,مما يبين أن البدان التي في القبور تنعم
ل ذلك ـ كما يشاء ,وأن الرواح باقية بعد مفارقة البدن ,ومنعمة ومعذبة.
وتعذب ـ إذا شاء ا ّ
ولهذا أمر النبي صلى ال عليه وسلم بالسلم على الموتى ,كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا
ل المستقدمينل بكم لحقون ,يرحم ا ّ زاروا القبور أن يقولوا) :السلم عليكم أهل الديار من المؤمنين ,وإنا إن شاء ا ّ
حِرْمَنا أجرهم ول َتْفِتنا بعدهم ,واغفر لنا ولهم( .
ل لنا ولكم العافية .الّلهم ل َت ْ
منا ومنكم والمستأخرين ,نسأل ا ّ
وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ,ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في
آثار كثيرة معروفة ,ولكن ل يجب ذلك أن يكون دائًما على البدن في كل وقت ,بل يجوز أن يكون في حال دون حال.
ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلًثا ,ثم أتاهم فقام/وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي ا ّ
عْتَبة بن ربيعة ,يا شيبة بن ربيعة ,أليس قد وجدتم ما وعدكم
خلف ,يا ُعليهم فقال) :يا أبا جهل بن هشام ,يا أمّية بن َ
ربكم حًقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حًقا( .فسمع عمر ـ رضي ال عنه ـ قول النبي صلى ال عليه وسلم .فقال :يا
ل ,كيف يسمعون وقد جّيُفوا؟ فقال) :والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ,ولكنهم ل يقدرون أن رسول ا ّ
يجيبوا( .ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في َقِليب بدر.
ل عنهما ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم وقف على َقلىب بدر وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي ا ّ
فقال) :هل وجدتم ما وعدكم ربكم حًقا؟( ,وقال) :إنهم ليسمعون الن ما أقول( ,فذكر ذلك لعائشة ,فقالتَ :وِهمَابن
ت لهم هو الحق( ,ثم قرأت قوله تعالى:ل صلى ال عليه وسلم) :إنهم ليعلمون الن أن الذي قل ُ عمر ,إنما قال رسول ا ّ
ك لَ ُتْسِمُع اْلَمْوَتى{ ]النمل [80:حتى قرأت الية.
}ِإّن َ
سا روى ذلك وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر ,وإن كانا لم يشهدا بدًرا ,فإن أن ً
ل عنه ـ أن
عن أبي طلحة ,وأبو طلحة شهد بدًرا .كما روى أبوحاتم ـ في صحيحه ـ عن أنس عن أبي طلحة ـ رضي ا ّ
ى ]أي :بئر مطوية[ طِو ّ
ل من صناديد قريش ,فقذفوا في َ النبي صلى ال عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رج ً
صة :كل ُبقعة بين الدور واسعة ,ليس فيها صِتهم ]الَعْر َ
عْر َ
من أطواء بدر ,وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في َ
بناء[ ثلث ليال.
/فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ,ثم مشى وتبعه أصحابه .وقالوا :ما نراه ينطلق إل لبعض
حاجته؛ حتى قام على شفاء الّرِكي ]أي :البئر[؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ,يافلن بن فلن ,أيسركم أنكم
ل ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حًقا .فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال عمر بن الخطاب :يا أطعتم ا ّ
ل ,ما تكلم من أجساد ول أرواح فيها؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :والذي نفسي بيده ،ما أنتم بأسمع لما رسول ا ّ
أقول منهم( .
خا وتصغيًرا ,ونقمة وحسرة وتنديًما .وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت
ل حتى سمعهم ,توبي ً
قال قتادة :أحياهم ا ّ
أمثال ذلك.
والنص الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره ,وليس في القرآن ما
ك َل ُتْسِمُع اْلَمْوَتى{ ]النمل [80:إنما أراد به السماع المعتاد ,الذي ينفع صاحبه ,فإن هذا َمَثل ينفي ذلك فإن قولهِ}:إّن َ
ن َكَفُروْا َكَمَث ِ
ل رب للكفار ,والكفار تسمع الصوت ,لكن ل تسمع سماع قبول بفقه واتباع ,كما قال تعالىَ} :وَمَث ُ
ل اّلِذي َ ضِ
ُ
ق ِبَما َل َيْسَمُع ِإّل ُدَعاء َوِنَداء{ ]البقرة.[171:
اّلِذي َيْنِع ُ
خْفق نعالهم ,إذا ولوا مدبرين ,فهذا موافق لهذا ,فكيف يدفع ذلك؟/وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع َ
ومن العلماء من قال :إن الميت في قبره ل يسمع ما دام ميًتا ,كما قالت عائشة ,واستدلت به من القرآن .وأما إذا أحياه
ل له .وإن كانت تلك الحياة ل يسمعون بها ,كما نحن ل نرى الملئكة والجن, ل فإنه يسمع كما قال قتادة :أحياهم ا ّ
ا ّ
ول نعلم ما يحس به الميت في منامه ,وكما ل يعلم النسان ما في قلب الخر ,وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه ا ّ
ل
عليه.
وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل ,وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه ,فإن ما ذكرناه من
ل أعلم.
عا ,وا ّ
الدلة البينة على ما سأل عنه ما ل يكاد مجمو ً
حُه:
ل ُرو َ
س ا ُّ
لم ـ َقّد َ
خ الس َ
شْي ُ
ل َ
َقا َ /
ل رب العالمين[.
فأجبته بعد ]الحمد ّ
ل ـ تعالى ـ لم يخبرنا بشىءل يعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ ,ول بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعل؛ لن ا ّ
من ذلك ,ول رسوله ـ عليه الصلة والسلم ـ ولم يصح أن الفارسية لغة الجَهّنِمّيين ول أن العربية لغة أهل النعيم
ل عنهم ـ بل كلهم يكفون عن ذلك؛ لن الكلم في مثل هذا من عا في ذلك بين الصحابة ـ رضي ا ّ
البدي ,ول نعلم نزا ً
ل تعالى لصحاب الثرى ,ولكن حدث في ذلك خلف بين المتأخرين. فضول القول ,ول قال ا ّ
وقال آخرون :إل أهل النار ,فإنهم يجيبون بالفارسية ,وهي لغتهم في النار.
/وقال آخرون :يتخاطبون بالسريانية؛ لنها لغة آدم ,وعنها تفرعت اللغات.
فأجــاب:
الميزان :هو ما يوزن به العمال ,وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب والسنة مثل قوله تعالىَ{:فَمن َثُقَل ْ
ت
ط ِلَيْوِم اْلِقَياَمِة{ ]النبياء:
سَ
ن اْلِق ْ ت َمَواِزيُنُه{ ]العراف ,[9 :وقولهَ} :وَن َ
ضُع اْلَمَواِزي َ خّف ْ َمَواِزيُنُه{ ]العرافَ} ,[8:وَم ْ
ن َ
.[47
وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :كلمتان خفيفتان على اللسان ,ثقيلتان في الميزان ,حبيبتان
ل بن مسعودَ) :لُهَما في الميزان أثقل من
ل العظيم( .وقال عن ساقي عبد ا ّ ل وبحمده ,سبحان ا ّ إلى الرحمن :سبحان ا ّ
حٍد!( .وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة ,وصححه الترمذي ,والحاكم ,وغيرهما :في الرجل الذي يؤتى به فينشر أُ
ل .قال
ل ,كل سجل منها َمّد البصر ,فيوضع في ِكّفة ,ويؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن ل إله إل ا ّ جًسِ
له تسعة وتسعون ِ
ت البطاقة(.
ت السجلت ,وَثُقَل ِش ِ
طا َ
النبي صلى ال عليه وسلمَ) :ف َ
وهذا وأمثاله مما يبين أن العمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس ,فهو ما به تبين
العدل .والمقصود بالوزن :العدل ,كموازين الدنيا.
وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب.
/قال الشيخ:
ل أعلم بما كانوا عاملين( كما أجاب بذلك النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث
وأطفال الكفار أصح القوال فيهم) :ا ّ
الصحيح .
وطائفة من أهل الحديث وغيرهم قالوا :إنهم كلهم في النار ,وذكر أنه من نصوص أحمد وهو غلط على أحمد.
وطائفة جزموا بأنهم كلهم في الجنة ,واختار ذلك أبو الفرج ابن الجوزي وغيره ,واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي
ل ,وأطفال المشركين؟ قال:صلى ال عليه وسلم لما رأى إبراهيم الخليل وعنده أطفال المؤمنين ،قيل :يا رسول ا ّ
)وأطفال المشركين(.
/وأما عرصات القيامة ,فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ ,فيقال لحدهم :من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وقال
طيُعوَن{ الية ]القلم.[42:
سَت ِ
ل َي ْ
جوِد َف َ
سُ
ن ِإَلى ال ّ
عْو َ
ق َوُيْد َ
سا ٍ
عن َ
ف َ تعالىَ} :يْوَم ُيْك َ
ش ُ
هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم ,فممن قال :إنهم ل يحاسبون :أبو بكر عبد العزيز,
وأبو الحسن التميمي ,والقاضي أبو يعلى ,وغيرهم .وممن قال :إنهم يحاسبون :أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد,
وأبو سليمان الدمشقي ,وأبو طالب المكي.
وفصل الخطاب :أن الحساب يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها ,ويراد بالحساب موازنة الحسنات
بالسيئات.
فإن أريد بالحساب المعنى الول ,فل ريب أنهم يحاسبون بهذا العتبار.
وإن أريد المعنى الثاني ,فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة ,فهذا خطأ ظاهر.
ب:
جا َ
فَأ َ
ولو كانوا كفاًرا لكانوا مرتدين ,ووجب قتلهم ,وهذا خلف الكتاب والسنة وإجماع السلف.
ل يستوجب أن يبني له قصر في الجنة ,ويغرس له غراس باسمه .ثم يعمل ل عن رجل مسلم ,يعمل عم ً سِئــ َ
ُ /
ذنوًبا يستوجب بها النار ,فإذا دخل النار :كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار؟!
ب:
جـا َ
فَأ َ
وإن لم يتب ,وزنت حسناته وسيئاته ,فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب ,وإن رجحت سيئاته على
حسناته كان من أهل العذاب.
وما أعد له من الثواب يحبط ـ حينئذ ـ بالسيئات ,التي زادت على حسناته ,كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار ,ثم
ل أعلم.
عمل بعدها حسنات تذهب السيئات ,وا ّ
ل عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى ال عليه وسلم ,وهل يدخلون الجنة أم ل؟
سئ َ
َو ُ /
فأجاب:
إن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي صلى ال عليه وسلم ,وقد اتفق عليها السلف من الصحابة,
وتابعيهم بإحسان ,وأئمة المسلمين ,وإنما نازع في ذلك أهل البدع من الخوارج ,والمعتزلة ,ونحوهم.
ول يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان ,بل كلهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة ,ويبقى في الجنة
ل لها خلًقا آخر يدخلهم الجنة ,كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم .
فضل .فينشئ ا ّ
ل عن َأطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها ,أم يكبرون ويتزوجون؟ وكذلك البنات هل
سئ َ
وُ /
يتزوجن؟
الجـواب:
ل ـ تعالى ـ أعلم.
وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الخرة ,وا ّ
ل:
خ ـ َرحَمُه ا ّ
شي ُ
ل ال ّ
سِئ َ
َو ُ
هل يتناسل أهل الجنة؟ والولدان ،هل هم ولدان أهل الجنة؟ وما حكم الولد وأرواح أهل الجنة والنار إذا خرجت من
ل الجسد؟ وما حكم ولد الزنا إذا
الجسد ،هل تكون في الجنة تنعم ،أم تكون في مكان مخصوص إلى حيث يبعث ا ّ
مات ،يكون من أهل العراف ،أو في الجنة؟ وما الصحيح في أولد المشركين ،هل هم من أهل النار أو من أهل
الجنة؟ وهل تسمى اليام في الخرة كما تسمى في الدنيا مثل السبت والحد؟
جـاب:
َفَأ َ
خْلق الجنة ،ليسوا بأبناء أهل الدنيا ،بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة
ق من َ
خْل ٌ
الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة َ
عا ،وقد روى ـ أيضا ـ أن يكمل خلقهم كأهل الجنة على صورة آدم ،أبناء ثلث وثلثين سنة ،في طول ستين ذرا ً
العرض سبعة أذرع.
وأرواح المؤمنين في الجنة ،وأرواح الكافرين في النار ،تنعم أرواح المؤمنين ،وتعذب أرواح الكافرين ،إلى أن تعاد
إلى البدان.
حا دخل الجنة ،وإل جوزي بعمله كما يجازى غيره ،والجزاء على العمال ،ل على /وولد الزنا إن آمن وعمل صال ً
ل خبيًثا ،كما يقع كثيًرا .كما تحمد النساب الفاضلة؛ لنها مظنة
النسب ،وإنما يذم ولد الزنا؛ لنه َمظّنة أن يعمل عم ً
ل أتقاهم.عمل الخير ،فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه ،وأكرم الخلق عند ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،كما في الصحيحين) :ما من مولود وأما أولد المشركين ،فأصح الجوبة فيهم جواب رسول ا ّ
ل أعلم
ل ،أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ قال) :ا ّ إل يولد على الفطرة( الحديث ،قيل :يا رسول ا ّ
بما كانوا عاملين( .فل يحكم على معين منهم ل بجنة ول بنار .ويروى) :أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات
ل حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار(. القيامة ،فمن أطاع ا ّ
ودلت الحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة ،وبعضهم في النار .والجنة ليس فيها شمس ول قمر ،ول ليل ول
ل أعلم.
نهار ،لكن تعرف الُبْكَرة والعشّية بنور يظهر من قبل العرش ،وا ّ
ل ـ عن رجل قيل له :إنه ورد عن النبي صلى ال عليه وسلم) :أن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ل ـ َرحَمُه ا ُّ
سئ َ
َو ُ /
ط .ثم قيل له :إن في الجنة طيوًرا ،إذا اشتهى
ويتمتعون ،ول يبولون ول َيتَغّوطون( .فقال :من أكل وشرب بال وَتَغّو َ
شار :الذي تستعمله العامة ،ليس من كلم
شار ]الُف َ
صار قدامه على أي صورة أراد من الطعمة وغيرها ،فقال :هذا ُف َ
العرب[ .هل بجحده هذا يكفر ويجب قتله أم ل؟
ب:
جــا َ
َفَأ َ
ل ،وسنة رسوله ،وإجماع المسلمين .وهو معلوم بالضطرار من دين السلم، الكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب ا ّ
وكذلك الطيور والقصور في الجنة بل ريب ،كما وصف ذلك في الحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى ال عليه
ل ورسوله أحد ،وإنما
صقون ،لم يخالف من المؤمنين با ّ
وسلم ،وكذلك أن أهل الجنة ل يبولون ول يتغوطون ول يَب ُ
المخالف في ذلك أحد رجلين :إما كافر ،وإما منافق.
أما الكافر ،فإن اليهود والنصارى ينكرون الكل والشرب والنكاح في/الجنة ،يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون
بالصوات المطربة والرواح الطيبة مع نعيم الرواح ،وهم يقرون مع ذلك بحشر الجساد مع الرواح ونعيمها
وعذابها.
وأما طوائف من الكفار ،وغيرهم من الصابئة والفلسفة ومن وافقهم ،فيقرون بحشر الرواح فقط ،وأن النعيم
والعذاب للرواح فقط.
وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ،ينكرون المعاد بالكلية ،فل يقرون ل بمعاد الرواح ،ول الجساد .وقد بين
ل ـ تعالى ـ في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الرواح ،والجساد ،ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك؛ ا ّ
بياًنا في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه المة ،الذين ل يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه،
ويقولون :هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني ،وهؤلء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول
المجوس والصابئة ،ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى السلم ،وطائفة ممن ضاهوهم ،من كاتب ،أو متطبب ،أو
متكلم ،أو متصوف ـ كأصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وغيرهم ـ أو منافق .وهؤلء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل
شافًيا قاطًعا للعذر/ ،وتواتر ذلك عند أمته ،خاصها وعامها.
اليمان؛ فإن محمًدا صلى ال عليه وسلم قد بين ذلك بياًنا َ
وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال :يا محمد ،أنت تقول :إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ،ومن يأكل
سك( .
شح كرشح الِم ْويشرب لبد له من خلء .فقال النبي صلى ال عليه وسلمَ) :ر ْ
ويجب على ولي المر قتل من أنكر ذلك ،ولو أظهر التصديق بألفاظه ،فكيف بمن ينكر الجميع؟ والّ أعلم.
وهل تبعث هذه الجسام بعينها؟وهل عيسى حي أم ميت ؟ وهل إذا نزل يحكم بشريعة محمد صلى ال عليه وسلم أم
بشريعته الولى ،أم تحدث له شريعة؟
عْنُه:
ل َ
ي ا ُّ
ضَ
ب ـ َر ِ
جا َ
فَأ َ
أما أهل الجنة فيأكلون ،ويشربون ،وينكحون ،متنعمين بذلك بإجماع المسلمين ،كما نطق به الكتاب والسنة ،وإنما
ينكر ذلك من ينكره من اليهود والنصارى.
ي في السماء لم يمت َبعُد ،وإذا نزل من السماء لم يحكم إل بالكتاب والسنة ،ل بشىء يخالف ذلك ،وا ّ
ل وعيسى ح ّ
أعلم.
حُه:
ل ُرو َ
س ا ُّ
/قال شيخ السلم ـ قد ً
َفصـل
وأفضل النبياء بعد محمد صلى ال عليه وسلم إبراهيم الخليل ،كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى
خْير الَبِرّية( .
ال عليه وسلم) :أنه َ
خَثْيم قال :ل أفضل على نبينا أحًدا ،ول أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحًدا.
وكذلك قال العلماء ،منهم :الربيع بن ُ
جـاب :
فَأ َ
ل من ل يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر ،يستتاب ،فإن تاب وإل قتل ،مثل من من اعتقد أن في أولياء ا ّ
يعتقد أن في أمة محمد صلى ال عليه وسلم من يستغنى عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى ،فإن
موسى لم تكن دعوته عامة ،بخلف محمد صلى ال عليه وسلم فإنه مبعوث إلى كل أحد ،فيجب على كل أحد متابعة
أمره ،وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافًرا ،فكيف من اعتقد أنه أفضل منه ،أو أنه يصير مثله!.
وأما من اعتقد أن من الولياء من يعلم أنه من أهل الجنة ،كما بشر غير واحد من الصحابة بالجنة ،وكما قد يعرف الّ
بعض الولياء أنه من أهل الجنة ،فهذا ل يكفر.
ل أعلم.
ل ـ تعالى ،وا ّ
ومع هذا ،فلبد له من خشية ا ّ
ل ـ عن رجل قال :إن النبياء ـ عليهم الصلة والسلم ـ معصومون من الكبائر ،دون
خ ـ َرحَمُه ا ُّ
شْي ُ
ل ال ّ
سئ َ /
الصغائر ،فكّفره رجل بهذه ،فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب؟ وهل قال أحد منهم بعصمة النبياء مطلًقا؟ وما
الصواب في ذلك؟
جــاب:
َفَأ َ
ل رب العالمين ،ليس هو كافًرا باتفاق أهل الدين ،ول هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بل نزاع، الحمد ّ
ب؛ ومع هذا فهم متفقون سا ّ
كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله مع مبالغتهم في القول بالعصمة ،وفي عقوبة ال ّ
على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة ،فضل أن يكون قائل ذلك كافًرا ،أو فاسًقا؛ فإن القول بأن
النبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر ،هو قول أكثر علماء السلم وجميع الطوائف ،حتى إنه قول أكثر أهل
الكلم ،كما ذكر أبو الحسن المدي ]هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي ،ويلقب بسيف الدين
المدي ،كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب ،ثم انتقل إلى مذهب المام الشافعي ،قام مدة ببغداد ،ثم انحدر إلى الشام
واشتغل بفنون المعقول ،ثم انتقل إلى مصر ،وله مصنفات كثيرة في أصول الفقه والدين والمنطق وغيرها ،ولد سنة
ضا ـ قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء ،بل 551هـ وتوفي سنة 631هـ[ أن هذا قول أكثر الشعرية ،وهو ـ أي ً
هو لم ينقل عن السلف والئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إل ما يوافق هذا القول ،ولم ينقل عنهم ما يوافق القول. .
]..بياض قدر ستة أسطر[
/وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة ،ثم عن بعض المعتزلة ،ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين.
وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء ،أنهم غير معصومين عن القرار على الصغائر ول يقرون عليها ،ول يقولون:
ل لذلك الرافضُة ،فإنهم
إنها ل تقع بحال ،وأول من نقل عنهم من طوائف المة القول بالعصمة مطلًقا ،وأعظمهم قو ً
يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل.
ى ،والثنى عشر ،ثم السماعيلية الذين كانوا ملوك القاهرة، وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته ،وقالوا بعصمة عل ّ
ل الَقّداح ،كانوا هم وأتباعهم
عَبيد ا ّ
وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون ،وهم عند أهل العلم من ذرية ُ
يقولون بمثل هذه العصمة لئمتهم ونحوهم ،مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي ـ في كتابه الذي صنفه في الرد
عليهم -قال :ظاهر مذهبهم الرفض ،وباطنه الكفر المحض.
وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه ،وكذلك غير هؤلء من علماء المسلمين ،فهؤلء وأمثالهم من
الغلة القائلين بالعصمة ،وقد ُيكّفرون من ينكر القول بها ،وهؤلء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين ،فمن كفر القائلين
بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهًيا لهؤلء السماعيلية ،والنصيرية ،والرافضة ،والثنى عشرية ،ليس هو قول أحد
من أصحاب أبي حنيفة ،ول مالك ،ول الشافعي ،ول المتكلمين ـ المنتسبين إلى السنة المشهورين ـ كأصحاب /أبي
ل محمد بن كَّرام ]هو أبول بن سعيد بن ُكلب ،وأبي الحسن على بن إسماعيل الشعري ،وأبي عبد ا ّ محمد عبد ا ّ
عبد ال محمد بن َكّرام السجستاني ،شيخ الَكّرامية ،ساقط الحديث على بدعه ،كان يكثر عن الكذابين ،قال عنه ابن
حبان :خذل حتى أخذ من المذاهب أردأها ،ومن الحاديث أوهاها[ ،وغير هؤلء ،ول أئمة التفسير ول الحديث ،ول
التصوف .ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلء ،فالمكفر بمثل ذلك يستتاب ،فإن تاب وإل عوقب على ذلك عقوبة
تردعه وأمثاله عن مثل هذا ،إل أن يظهر منه ما يقتضى كفره وزندقته ،فيكون حكمه حكم أمثاله.
سق بمثل هذا القول يجب أن ُيَعّزر بعد إقامة الحجة عليه ،فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة السلم.
وكذلك الُمَف ّ
وأما التصويب والتخطئة في ذلك ،فهو من كلم العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة،
ل أعلم.
وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل ل تحتمله هذه الفتوى ،وا ّ
ل عيسى ابن مريم ـ عليه السلم ـ فقال أحدهما :إن عا في أمر نبي ا ّ
ل َتَعاَلى ـ عن رجلين تناز ً
ل ـ َرحَمُه ا ُّ
سِئ َ
ُ /
ل ثم رفعه إليه ،وقال الخر :بل رفعه إليه حيا .فما الصواب في ذلك؟ وهل رفعه بجسده ،أو عيسى ابن مريم توفاه ا ّ
ي{ ]آل عمران[55 :؟ ك ِإَل ّ روحه أم ل؟ وما الدليل على هذا وهذا ؟ وما تفسير قوله تعالىِ} :إّني ُمَتَوّفي َ
ك َوَراِفُع َ
ب:
جـا َ
َفَأ َ
ل ،عيسى ـ عليه السلم ـ حي ،وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ينزل فيكم ابن الحمد ّ
طا ،فيكسر الصليب ،ويقتل الخنزير ،ويضع الجزية( ،وثبت في الصحيح عنه :أنه ينزل ل ،وإماًما مقس ً
مريم حكًما عد ً
جال .ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء ،وإذا أحيىعلى المنارة البيضاء شرقي دمشق ،وأنه يقتل الّد ّ
فإنه يقوم من قبره.
ل
عْلٍم ِإ ّ
ن ِ
ك ّمْنُه َما َلُهم ِبِه ِم ْ
شّ
خَتَلُفوْا ِفيِه َلِفي َ
نا ْ
ن اّلِذي َ
شّبَه َلُهْم َوِإ ّ وقد قال تعالى في الية الخرىَ} :وَما َقَتُلوُه َوَما َ
صَلُبوُه َوَلـِكن ُ
ل ِإَلْيِه{ يبين أنه رفع بدنه ل ِإَلْيِه{ ]النساء ،[158 ،157:فقوله هناَ} :بل ّرَفَعُه ا ّ ن َوَما َقَتُلوُه َيِقيًنا َبل ّرَفَعُه ا ّ
ظّ
ع ال ّ
اّتَبا َ
وروحه ،كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال :وما قتلوه وما صلبوه ،بل مات .فقوله:
ل ِإَلْيِه{ يبين أنه رفع بدنه وروحه ،كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه.
}َبل ّرَفَعُه ا ّ
ت الحسابَ
ك{ :أي :قابضك ،أي :قابض روحك وبدنك ،يقالَ :تَوّفْي ُ ولهذا قال من قال من العلماءِ} :إّني ُمَتَوّفي َ
واستوفيُته ،ولفظ الّتَوّفي ل يقتضي نفسه َتوّفي الروح دون البدن ،ول َتَوّفيهما جميًعا ،إل بقرينة منفصلة.
ل َتَعاَلى:
حَمُه ا ُّ
خ ـ َر ِ
شي ُ
ل ال ّ
سئ َ
ُ /
ل ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ،ثم ماتا بعد ذلك ؟
هل صح عن النبي صلى ال عليه وسلم أن ا ّ
جـاب:
َفَأ َ
لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث ،بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق ،وإن كان قد روى في ذلك
أبو بكر ـ يعني الخطيب ـ في كتابه ]السابق واللحق[ ،وذكره أبو القاسم السهيلي في ]شرح السيرة[ بإسناد فيه
ل القرطبي في ]التذكرة[ ،وأمثال هذه المواضع ،فل نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر مجاهيل ،وذكره أبو عبد ا ّ
الموضوعات كذًبا ،كما نص عليه أهل العلم ،وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث ،ل في الصحيح ول في السنن
ول في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة ،ول ذكره أهل كتب المغازي والتفسير ،وإن كانوا قد يروون
الضعيف مع الصحيح؛ لن ظهور كذب ذلك ل يخفى على متدين ،فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم
والدواعي على نقله ،فإنه من أعظم المور خرًقا للعادة من وجهين:
/من جهة إحياء الموتى ،ومن جهة اليمان بعد الموت ،فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره ،فلما لم يروه أحد من
الثقات علم أنه كذب.
والخطيب البغدادي هو في كتاب ]السابق واللحق[ مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص
سِمين ،والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه
ث وال ّ
واحد ،سواء كان الذي يروونه صدًقا أو كذًبا ،وابن شاهين يروي الَغ ّ
مجاهيل.
جَهاَلٍة ُثّم
سَوَء ِب َ
ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ل ِلّلِذي َ
عَلى ا ّل تعالىِ} :إّنَما الّتْوَبُة َ ثم هذا خلف الكتاب ،والسنة الصحيحة والجماع .قال ا ّ
حَدُهُم اْلَمْو ُ
ت ضَر َأ َح َحّتى ِإَذا َت َ سّيَئا ِ ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ت الّتْوَبُة ِلّلِذي َ
س ِ
حِكيمًا َوَلْي َ
عِليمًا َ
ل َ
نا ّ
عَلْيِهْم َوَكا َ
ل َ
با ّ
ك َيُتو ُ
ب َفُأْوَلـِئ َ
ن ِمن َقِري ٍَيُتوُبو َ
ت الَن َوَل اّلِذيَن َيُموُتوَن َوُهْم ُكّفاٌر { ]النساء.[18 ،17 : ل ِإّني ُتْب ُ
َقا َ
ت ِفي
خَل ْ
ل اّلِتي َقْد َ
ت ا ِّ
سّن َ
سَنا ُ را ،وقال تعالىَ} :فَلْم َي ُ
ك َينَفُعُهمْ ِإيَماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ ل تعالى :أنه ل توبة لمن مات كاف ً فبين ا ّ
ك اْلَكاِفُروَن{ ]غافر.[85 :
سَر ُهَناِل َ
خِعَباِدِه وَ َ
ِ
فأخبر أن سنته في عباده أنه ل ينفع اليمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت؟ ونحو ذلك من النصوص.
ل قال للنبي صلى ال عليه وسلم :أين أبي؟ قال) :إن أباك في النار( .فلما أدبر دعاه فقال:
وفي صحيح مسلم :أن رج ً
)إن أبي وأباك في النار(.
ضا ـ أنه قال) :استأذنت ربي أن أزور قبر أمي/ ،فأذن لي ،واستأذنته في أن أستغفر لها فلموفي صحيح مسلم ـ أي ً
يأذن لي ،فزوروا القبور ،فإنها ُتذّكر الخرة(.
وفي الحديث ـ الذي في المسند وغيره ـ قال) :إن أمي مع أمك في النار( ،فإن قيل :هذا في عام الفتح والحياء كان
بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره ،وبهذا اعتذر صاحب التذكرة ،وهذا باطل لوجوه:
الثالث :أنهما لو كانا مؤمنين إيماًنا ينفع ،كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه :حمزة والعباس ،وهذا أبعد مما يقوله
الجهال من الرافضة ونحوهم/ ،من أن أبا طالب آمن ،ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف ،وفيه أنه تكلم
بكلم خفي وقت الموت.
ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى ال عليه وسلم :عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء؟
فقال) :وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار ،في رجليه نعلن من نار يغلي منهما
دماغه ،ولول أنا لكان في الدرك السفل من النار(.
هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره ،فإنه كان آخر شىء قاله :هو على ملة عبد المطلب ،وأن العباس لم يشهد
موته ،مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس ،فلما كان من العلم المتواتر المستفيض
بين المة ـ خلًفا عن سلف ـ أنه لم يذكر أبو طالب ول أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين ،كحمزة ،والعباس،
ل عنهم ـ كان هذا من أبين الدلة على أن ذلك كذب.
وعلي ،وفاطمة ،والحسن والحسين ـ رضي ا ّ
سَتْغِفَرنّ لْن َمَعُه ِإْذ َقاُلوا ِلَقْوِمِهْم ِإّنا ُبَراء ِمنُكْم{ إلى قولهَ } :سَنٌة ِفي ِإْبَراِهيَم َواّلِذي َ
حَسَوٌة َ ل تعالى قالَ}:قْد َكاَن ْ
ت َلُكْم ُأ ْ الرابع :أن ا ّ
عَدَها ِإّياُه
عَدٍة َو َ
عن ّمْو ِ
ل َ
لِبيِه ِإ ّ
سِتْغَفاُر ِإْبَراِهيَم َِ يٍء{ الية ]الممتحنة ،[4 :وقال تعالىَ}:وَما َكا َ
نا ْ ش ْ ل ِمن َ
ن ا ِّك ِم َ
ك َل َ ك َوَما َأْمِل ُ َل َ
ل َتَبّرَأ ِمْنُه{ ]التوبة.[114 : عُدّو ِّن َلُه َأّنُه َ
َفَلّما َتَبّي َ
ل تبرأ منه.
فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه ،إل في وعد إبراهيم لبيه بالستغفار ،وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو ّ
ل أعلم .
وا ّ
ل ـ عن هذه الحاديث :أن النبي صلى ال عليه وسلم رأى مـوسى ـ عليه السلم ـ وهو يصلي في ل ـ َرحَمُه ا ُّ
سئ َ
ُ /
قبره ،ورآه وهو يطوف بالبيت ،ورآه في السماء ،وكذلك بعض النبياء .وهل إذا مات أحد يبقى له عمل ،والحديث أنه
ينقطع عمله؟ وهل ينتفع بهذه الصلة والطواف؟ وهل رأى النبياء بأجسادهم في هذه الماكن أم بأرواحهم؟
جاب:
فأ َ
ل رب العالمين ،أما رؤيا موسى ـ عليه السلم ـ في الطواف ،فهذا كان رؤيا منام ،لم يكن ليلة المعراج ـ كذلك
الحمد ّ
ضا ،ورأى الدجال .وأما رؤيته ورؤية غيره من النبياء ليلة المعراج في السماء ـ لما
جاء مفسرا ـ كما رأى المسيح أي ً
رأى آدم في السماء الدنيا ،ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية ،ويوسف في الثالثة ،وإدريس في الرابعة ،وهارون
في الخامسة ،وموسى في السادسة ،وإبراهيم في السابعة ـ أو بالعكس ،فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم.
وقد قال بعض الناس :لعله رأى نفس الجساد المدفونة في القبور ،وهذا ليس بشىء.
/لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده ،وكذلك قد قيل في إدريس.
والمسيح ـ صلى ال عليه وسلم وعلى سائر النبيين ـ لبد أن ينزل إلى الرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق،
فيقتل الدجال ،ويكسر الصليب ،ويقتل الخنزير ،كما ثبت ذلك في الحاديث الصحيحة؛ ولهذا كان في السماء الثانية
مع أنه أفضل من يوسف ،وإدريس ،وهارون؛ لنه يريد النزول إلى الرض قبل يوم القيامة ،بخلف غيره.
سم بنيه تعرض عليه ـ أرواح السعداء ـ والشقياء ل تفتح لهم أبواب السماء ،ولوآدم كان في سماء الدنيا؛ لن َن َ
يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ـ فل بد إذا عرضوا عليه أن يكون قريًبا منهم.
وقد بسطت الكلم على أحكام الرواح بعد مفارقة البدان في غير هذا الموضع ،وذكرت بعض ما في ذلك من
الحاديث ،والثار ،والدلئل.
وهذه الصلة ونحوها مما يتمتع بها الميت ،ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة /بالتسبيح ،فإنهم ُيْلَهمون التسبيح كما يلهم
الناس في الدنيا الّنَفس ،فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل ،بل نفس هذا العمل هو من النعيم
الذي تتنعم به النفس وتتلذذ به.
وقول النبي صلى ال عليه وسلم) :إذا مات ابن آدم انقطع عمله إل من ثلث :صدقة جارية ،وعلم ينتفع به ،وولد
صالح يدعو له( ،يريد به العمل الذي يكون له ثواب ،لم يرد به نفس العمل الذي يتنعم به ،فإن أهل الجنة يتنعمون
ق ،ورّتل كما كنت
ل ،ويتنعمون بذكره وتسبيحه ،ويتنعمون بقراءة القرآن ،ويقال لقارئ القرآن :اقرأ واْر َ
بالنظر إلى ا ّ
ترتل في الدنيا ،فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها.
ل يترتب عليها الثواب فهي في الخرة ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته ،وإن كانت هذه المور في الدنيا أعما ً
ضا والكل والشرب والنكاح في الدنيا أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه ،وهذه كلها أعمال أي ً
ل أعلم.
مما يؤمر به ويثاب عليه مع النية الصالحة ،وهو في الخرة نفس الثواب الذي يتنعم به .وا ّ
وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة ،فإن هذه المسائل لها بسط طويل.
جـاب:
َفَأ َ
ل رب العالمين ،هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء ،وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف ،وذكر الحمد ّ
عا لبي بكر عبد العزيز ،وأبو بكر اتبع محمد بن جرير.
أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد ،ونصر أنه إسحاق ،إتبا ً
ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق ،وإنما ينصره هذان ،ومن اتبعهما ،ويحكى
ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه.
ل بن
وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف :أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل ،وهذا هو الذي رواه عبد ا ّ
أحمد عن أبيه ،قال :مذهب أبي أنه إسماعيل ،وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور ،لكن الذي يجب القطع به أنه
إسماعيل ،وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلئل المشهورة ،وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
/وأيضا ،فإن فيها أنه قال لبراهيم :اذبح ابنك وحيدك .وفي ترجمة أخرىِ :بْكرك ،وإسماعيل هو الذي كان وحيده
وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ،لكن أهل الكتاب حّرفوا ،فزادوا إسحاق ،فتلقى ذلك عنهم من تلقاه ،وشاع عند
بعض المسلمين أنه إسحاق ،وأصله من تحريف أهل الكتاب.
لٍم َحِليٍم{ ]الصافات: ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات ،قال تعالىَ} :فَب ّ
شْرَناُه ِبُغ َ
،[101وقد انطوت البشارة على ثلث :على أن الولد غلم ذكر ،وأنه يبلغ الحلم ،وأنه يكون حليًما .وأي حلم أعظم
صاِبِريَن{ ]الصافات[102 :؟ وقيل :لم ينعت الّ ن ال ّ ل ِم َ
شاء ا ُّ
جُدِني ِإن َ من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقالَ } :
سَت ِ
النبياء بأقل من الحلم ،وذلك لعزة وجوده ،ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالىِ} :إّن ِإْبَراِهيَم لّواٌه َحِليٌم{ ]التوبة:
ي ِإّني َأَرى ِفيل َيا ُبَن ّ ي َقا َ
سْع َب{ ]هود [75 :لن الحادثة شهدت بحلمهماَ} :فَلّما َبَلَغ َمَعُه ال ّ حِليٌم َأّواٌه ّمِني ٌ ِ} ،[114إ ّ
ن ِإْبَراِهيَم َل َ
ظيٍم
عِ ن{ إلى قولهَ} :وَفَدْيَناُه ِبِذْب ٍ
ح َ صاِبِري َ ن ال ّ
ل ِم َشاء ا ُّ
جُدِني ِإن َسَت ِ
ل َما ُتْؤَمُر َ
ت اْفَع ْ
ل َيا َأَب ِ
ظْر َماَذا َتَرى َقا َ ك َفان ُحَ اْلَمَناِم َأّني َأْذَب ُ
حي َ
ن صاِل ِ
ن ال ّ
ق َنِبّيا ّم َ
حَسَ
شْرَناُه ِبِإ ْ
ن َوَب ّ
عَباِدَنا اْلُمْؤِمِني َ
ن ِ
ن ِإّنُه ِم ْ
سِني َ
حِ
جِزي اْلُم ْ
ك َن ْ
عَلى ِإْبَراِهيَم َكَذِل َ لٌم َ
سَن َ
خِري َلِعَلْيِه ِفي ا َْوَتَرْكَنا َ
ظاِلٌم ّلَنْفِسِه ُمِبيٌن[ }الصافات .[113-107 ن َو َسٌ حِق َوِمن ُذّرّيِتِهَما ُم ْ
حَسَعَلى ِإ ْ
عَلْيِه َو َ
َوَباَرْكَنا َ
عَلْيِه
ن َوَباَرْكَنا َ
حي َ
صاِل ِ
ن ال ّ
ق َنِبّيا ّم َ
حَسَ أحدها :أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أول ،فلما استوفى في ذلك قالَ}/ :وَب ّ
شْرَناهُ ِبِإ ْ
ق{ ]الصافات.[113 ،112 : حَعَلى ِإسْ َ
َو َ
فبين أنهما بشارتان :بشارة بالذبيح ،وبشارة ثانية بإسحاق ،وهذا بّين.
الثاني :أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إل في هذا الموضع ،وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة،
ب{ ]هود ،[17 :فلو ق َيْعُقو َحَ
سَق َوِمن َوَراء ِإ ْ حَ سَ شْرَناَها ِبِإ ْ ت َفَب ّ
حَك ْ
ضِكما في سورة هود ،من قوله تعالىَ} :واْمَرَأُتُه َقآِئَمٌة َف َ
عِليٍم َفَأْقَبَل ِ
ت لٍم َ
شُروُه ِبُغ َ
ف َوَب ّ
خ ْ
ل َت َ
خيَفًة َقاُلوا َ
س ِمْنُهْم ِج َ كان الذبيح إسحاق لكان خلًفا للوعد في يعقوب ،وقال تعالىَ} :فَأْو َ
ت َعُجوٌز َعِقيٌم{ ]الذاريات.[29 ،28 : جَهَها َوَقاَل ْ
ت َو ْ
صّك ْ
صّرٍة َف َ
اْمَرَأُتُه ِفي َ
شُرون َقاُلوْا
ي اْلِكَبُر َفِبَم ُتَب ّ
سِن َ
عَلى َأن ّم ّ
ل َأَبشّْرُتُموِني َ
عِليٍم َقا َ
ك ِبُغلٍم َ
شُر َ
ل ِإّنا ُنَب ّ
جْ وقال تعالى في سورة الحجرَ} :قاُلوْا َ
ل َتْو َ
طيَن}]الحجر ،[53-55 :ولم يذكر أنه الذبيح ،ثم لما ذكر البشارتين جميًعا :البشارة ن اْلَقاِن ِ
ل َتُكن ّم َ
ق َف َ
حّك ِباْل َ
شْرَنا َ
َب ّ
بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده ،كان هذا من الدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح.
ن{ حي َ
صاِل ِ
جَعْلَنا َ
ل َ ب َناِفَلًة َوُك ّ
ق َوَيْعُقو َ حَ سَويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لبراهيم في قوله تعالىَ} :وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ
خَرِة َلِم َ
ن لِجَرهُ ِفي الّدْنَيا َوِإّنهُ ِفي ا ْب َوآَتْيَناُه َأ ْ
جَعْلَنا ِفي ُذّرّيِتِه الّنُبّوَة َواْلِكَتا َ
ب َو َ
ق َوَيْعُقو َ
حَ ]النبياء ،[72 :وقولهَ} :وَوَهْبَنا َلُه ِإ ْ
سَ
ل الذبيح. صاِلِحيَن{ ]العنكبوت ،[27 :ولم يذكر ا ّ ال ّ
الوجه الثالث :أنه ذكر في الذبيح أنه غلم حليم ،ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلم عليم في غير هذا
الموضع ،والتخصيص لبد له من حكمة/ ،وهذا مما يقوي اقتران الوصفين ،والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق
الذبيح.
عَلى الوجه الرابع :أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لن العجوز عقيم؛ ولهذا قال الخليل ـ عليه السلمَ} :أَب ّ
شْرُتُموِني َ
ي اْلِكَبُر َفِبَم ُتَبّشُروَن{ ]الحجر ،[54:وقالت امرأتهَ {:أَأِلُد َوَأَنْا َعُجوٌز َوَهـَذا َبْعِلي َشْيًخا{ ]هود ،[72 :وقد سبق أن
سِن َ
َأن ّم ّ
البشارة بإسحاق في حال الِكَبر ،وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته.
وأما البشارة بالذبيح ،فكانت لبراهيم ـ عليه السلم ـ وامتحن بذبحه دون الم المبشرة به ،وهذا مما يوافق ما نقل عن
النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره :من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة ،فذهب
إبراهيم /بإسماعيل وأمه إلى مكة ،وهناك أمر بالذبح .وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك.
ومما يدل على ذلك :أن قصة الذبيح كانت بمكة ،والنبي صلى ال عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة،
فقال النبي صلى ال عليه وسلم للسادن) :إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه ل ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي
المصلي(.
ولهذا جعلت مني محل للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلم ،وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن.
ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة ،ل من أهل الكتاب ،ول غيرهم ،لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون
سًكا
أن قصة الذبح كانت بالشام ،فهذا افتراء .فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك /الجبل ،وربما جعل َمْن َ
كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر.
وفي المسألة دلئل أخرى على ما ذكرناه ،وأسئلة أوردها طائفة؛ كابن جرير ،والقاضي أبي يعلى ،والسهيلي ،ولكن
ل ـ عز وجل ـ أعلم.
ل يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها ،وا ّ
ل على محمد وآله وصحبه وسلم تسليًما.
ل رب العالمين .وصلى ا ّ
والحمد ّ
ل تعالى.
ل ـ عن الخضر وإلياس ،هل هما معمران؟ بينوا لنا ـ رحمكم ا ّ
ل ـ َرحَمُه ا ُّ
سئ َ
َو ُ
فأجاب:
إنهما ليسا في الحياء ،ول معمران ،وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس ،وأنهما
باقيان يريان ويروى عنهما ،فقال المام أحمد :من أحال على غائب لم ينصف منه ،وما ألقى هذا إل شيطان.
وسئل البخاري عن الخضر وإلياس :هل هما في الحياء؟ فقال :كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم:
)ل يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الرض أحد؟(.
ل:
خ ـ َرحَمُه ا ُّ
شْي ُ
ل ال ّ
سئ َ
ُ /
هل كان الخضر ـ عليه السلم ـ نبًيا أو ولًيا ؟ وهل هو حي إلى الن؟ وإن كان حًيا فما تقولون فيما روى عن النبي
صلى ال عليه وسلم أنه قال) :لو كان حًيا لزارني( هل هذا الحديث صحيح أم ل؟
جـاب:
فأ َ
ل صلى ال عليه وسلم لم يوح إليه ول إلى غيره من الناس ،وأما قبل مبعث النبي أما نبوته :فمن بعد مبعث رسول ا ّ
صلى ال عليه وسلم فقد اختلف في نبوته ،ومن قال :إنه نبي ،لم يقل :إنه سلب النبوة ،بل يقول :هو كإلياس نبي ،لكنه
لم يوح إليه في هذه الوقات ،وترك الوحي إليه في مدة معينة ليس نفًيا لحقيقة النبوة ،كما لو فتر الوحي عن النبي
صلى ال عليه وسلم في أثناء مدة رسالته.
وأكثر العلماء على أنه لم يكن نبًيا ،مع أن نبوة من قبلنا يقرب كثير منها من الكرامة والكمال في المة ،وإن كان كل
واحد من النبيين أفضل من كل /واحد من الصديقين كما رتبه القرآن ،وكما روى عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه
قال) :ما طلعت الشمس ول غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق( ،وروى عنه صلى
ال عليه وسلم أنه قال) :إن كان الرجل ليسمع الصوت فيكون نبًيا(.
وفي هذه المة من يسمعه ويرى الضوء وليس بنبي؛ لن ما يراه ويسمعه يجب أن يعرضه على ما جاء به محمد
ل يقين ل يخالطه ريب ،ول يحوجه
صلى ال عليه وسلم ،فإن وافقه فهو حق ،وإن خالفه تيقن أن الذي جاء من عند ا ّ
أن يشهد عليه بموافقة غيره.
وأما حياته :فهو حي .والحديث المذكور ل أصل له ،ول يعرف له إسناد ،بل المروي في مسند الشافعي وغيره :أنه
اجتمع بالنبي صلى ال عليه وسلم ،ومن قال :إنه لم يجتمع بالنبي صلى ال عليه وسلم فقد قال ما ل علم له به ،فإنه
من العلم الذي ل يحاط به.
ومن احتج على وفاته بقول النبي صلى ال عليه وسلم) :أرأيتكم ليلتكم هذه ،فإنه على رأس مائة سنة ل يبقى على
وجه الرض ممن هو عليها اليوم أحد( فل حجة فيه ،فإنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك على وجه الرض.
ولن الدجال ـ وكذلك الجساسة ـ الصحيح أنه كان حيا موجودا /على عهد النبي صلى ال عليه وسلم ،وهو باق إلى
اليوم لم يخرج ،وكان في جزيرة من جزائر البحر.
فما كان من الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر ،وهو أن يكون لفظ الرض لم يدخل في هذا الخبر ،أو يكون
أراد صلى ال عليه وسلم الدميين المعروفين ،وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم ،كما لم تدخل الجن،
ل أعلم.
ظا ينتظم الجن والنس .وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد .وا ّ
وإن كان لف ً
جــاب:
فَأ َ
أما الحديث المسؤول عنه ،كونه صلى ال عليه وسلم يعلم وقت الساعة ،فل أصل له ،ليس عن النبي صلى ال عليه
عنَد َرّبي َ
ل عْلُمَها ِ
ل ِإّنَما ِ
ساَها ُق ْ
ن ُمْر َ
عِة َأّيا َ
سا َ
ن ال ّ
ك عَ ِ ل ،بل قد قال تعالىَ} :ي ْ
سَأُلوَن َ وسلم في تحديد وقت الساعة نص أص ً
ض{ ]العراف [187 :أي :خفى على أهل السموات والرض ،وقال تعالى لْر ِت َوا َ
سَماَوا ِ
ت ِفي ال ّ
ل ُهَو َثُقَل ْ
جّليَها ِلَوْقِتَها ِإ ّ
ُي َ
لموسىِ} :إّن الّساَعَة ءَاِتَيٌة َأَكاُد ُأْخِفيَها{ ]طه .[15:قال ابن عباس وغيره :أكاد أخفيها من نفسي فكيف أطلع عليها؟
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ وهو في مسلم من حديث عمر :أن النبي صلى ال عليه وسلم قيل له :متى
الساعة؟ قال) :ما المسؤول عنها بأعلم من السائل( .فأخبر أنه ليس بأعلم بها من السائل ،وكان السائل في صورة
أعرابي ،ولم يعلم أنه جبريل إل بعد أن ذهب وحين أجابه لم يكن يظنه إل أعرابيا ،فإذا كان النبي صلى ال عليه
وسلم قد قال عن نفسه :إنه ليس بأعلم بالساعة من /أعرابي ،فكيف يجوز لغيره أن يدعي علم ميقاتها؟! وإنما أخبر
الكتاب والسنة بأشراطها ،وهي علماتها ،وهي كثيرة تقدم بعضها ،وبعضها لم يأت بعد.
ومن تكلم في وقتها المعين ،مثل الذي صنف كتاًبا سماه ]الدر المنظم في معرفة العظم[ وذكر فيه عشر دللت بين
فيها وقتها ،والذين تكلموا على ذلك من ]حروف المعجم[ والذي تكلم في ]عنقاء مغرب[ وأمثال هؤلء ،فإنهم وإن
كان لهم صورة عظيمة عند أتباعهم ،فغالبهم كاذبون مفترون ،وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير
ت ِم َ
ن طّيَبا ِ
ج ِلِعَباِدِه َواْل ّ
خَر َ
ي َأ ْ
ل اّلِت َ
حّرَم ِزيَنَة ا ّ
ن َ
ل َم ْعلم؛ وإن ادعوا في ذلك الكشف ومعرفة السرار ،وقد قال تعالىُ} :ق ْ
ت ِلَقْوٍم َيْعَلُموَن{ ]العراف.[33 : ل الَيا ِصُ
ك ُنَف ّ
صًة َيْوَم اْلِقَياَمِة َكَذِل َ
خاِل َ
حَياِة الّدْنَيا َ
ن آَمُنوْا ِفي اْل َ
ل ِهي ِلّلِذي َ
ق ُق ْ
الّرْز ِ
َفَأجـاب:
بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية ،والملئكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملئكة الن في الرفيق العلى
منزهون عما يلبسه بنو آدم ،مستغرقون في عبادة الرب ،ول ريب أن هذه الحوال الن أكمل من أحوال البشر.
وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة ،فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملئكة.
قال ابن القيم :وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل ،وتتفق أدلة الفريقين ،ويصالح كل منهم على حقه.
جـاب:
فَأ َ
ل بن عمرو أنه قال :إن الملئكة قالت :يا رب ،جعلت بني آدم يأكلون في الدنيا ويشربون قد ثبت عن عبد ا ّ
ويتمتعون ،فاجعل لنا الخرة كما جعلت لهم الدنيا .قال) :ل أفعل( .ثم أعادوا عليه فقال) :ل أفعل( .ثم أعادوا عليه
مرتين أو ثلًثا فقال) :وعزتي ل أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له :كن فكان( .ذكره عثمان ابن سعيد
ل بن أحمد في كتاب]السنن[عن النبي صلى ال عليه وسلم مرسل. الدارمي ،ورواه عبد ا ّ
ل خلًقا أكرم عليه من محمد ،فقيل له :ول جبريل ول ميكائيل ؟ فقال للسائل:
ل بن سلم أنه قال :ما خلق ا ّ
وعن عبد ا ّ
ل خلًقا أكرم عليه من
أتدري ما جبريل وما ميكائيل؟ إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر ،وما خلق ا ّ
محمد صلى ال عليه وسلم ،وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك .وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى
السنة من أصحاب الئمة الربعة وغيرهم ،وهو :أن النبياء والولياء أفضل من الملئكة.
ل ونفخ فيه من روحه ،وأسجد له ملئكته :هل سجد ملئكة السماء ل ـ عن آدم لما خلقه ا ّ
حَمُه ا ُّ
خ ـ َر ِ
شْي ُ
ل ال ّ
سئ َ
ُ /
والرض ،أم ملئكة الرض خاصة؟ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد ؟ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة
ل له ؟ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الرض ،أم من أرض إلى الخلد الموجودة ؟ أم جنة في الرض خلقها ا ّ
أرض مثل بني إسرائيل؟
جــاب:
فَأ َ
ل ،بل أسجد له جميع الملئكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالىَ} :فَسَجَد اْلَملِئَكُة ُكّلُهْم َأْجَمُعوَن{ ]الحجر:
الحمد ّ
،[30فهذه ثلث صيغ مقررة للعموم وللستغراق ،فإن قوله} :اْلَملِئَكُة{ يقتضي جميع الملئكة ،فإن اسم الجمع
المعرف باللف واللم يقتضى العموم كقوله) :رب الملئكة والروح( فهو رب جميع الملئكة.
فمن قال :إنه لم يسجد له جميع الملئكة ،بل ملئكة الرض ،فقد رد القرآن /بالكذب والبهتان ،وهذا القول ونحوه ليس
من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملحدة المتفلسفة ،الذين يجعلون ]الملئكة[ قوى النفس
الصالحة ،و]الشياطين[ قوى النفس الخبيثة ،ويجعلون سجود الملئكة طاعة القوى للعقل ،وامتناع الشياطين عصيان
القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالت التي يقولها أصحاب ]رسائل إخوان الصفا[ وأمثالهم من القرامطة
الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلل المتكلمة والمتعبدة .وقد يوجد نحو هذه القوال في أقوال المفسرين التي ل إسناد
لها يعتمد عليه.
والتحقيق أنه كان منهم باعتبار صورته ،وليس منهم باعتبار أصله ول باعتبار مثاله ،ولم يخرج من السجود لدم أحد
من الملئكة ل جبرائيل ول ميكائيل ول غيرهما.
وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلف فأقوالهم باطلة ،قد بينا فسادها وبطلنها بكلم مبسوط ليس هذا
موضعه.
ل أمر
وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من النبياء والولياء /أفضل من جميع الملئكة؛ لن ا ّ
ي{ ]السراء ،[62 :فدل على أن آدمعَل ّ
ت َ
ك َهـَذا اّلِذي َكّرْم َ الملئكة بالسجود له إكراًما له؛ ولهذا قال إبليسَ} :قا َ
ل َأَرَأْيَت َ
كرم على من سجد له.
و]الجنة[ التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف المة ،وأهل السنة والجماعة هي :جنة الخلد ،ومن قال :إنها جنة في
الرض بأرض الهند ،أو بأرض جدة ،أو غير ذلك ،فهو من المتفلسفة والملحدين ،أو من إخوانهم المتكلمين
المبتدعين ،فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة.
والكتاب والسنة يردان هذا القول .وسلف المة وأئمتها متفقون على بطلن هذا القول .قال تعالىَ} :وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ
لِئَكةِ
طوْا جّنَة{ إلى قولهَ} :وُقْلَنا اْهِب ُ ك اْل َ
جَ
ت َوَزْو ُ
ن َأن َ
سُك ْ
ن َوُقْلَنا َيا آَدُم ا ْ
ن اْلَكاِفِري َ
ن ِم َ
سَتْكَبَر َوَكا َ
س َأَبى َوا ْ
ل ِإْبِلي َ
جُدوْا ِإ ّ
سَ
جُدوْا لَدَم َف َ
سُ
اْ
ض ُمْسَتَقّر َوَمَتاٌع ِإَلى ِحيٍن{ ]البقرة .[34-36 :فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن لْر ِ عُدّو َوَلُكْم ِفي ا َض َ
ضُكْم ِلَبْع ٍَبْع ُ
ض ُمْسَتَقّر َوَمَتاٌع ِإَلى ِحيٍن{. لْر ِ بعضهم عدو لبعض ثم قالَ} :وَلُكْم ِفي ا َ
وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الرض ،وإنما أهبطوا إلى الرض؛ فإنهم لو كانوا في الرض وانتقلوا إلى أرض أخرى
ـ كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض ـ لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك
ك َأن َتَتَكّبَر ِفيَها{
ن َل َ
ط ِمْنَها َفَما َيُكو ُ
ل َفاْهِب ْ
ن َقا َ
طي ٍ
خَلْقَتُه ِمن ِ
خَلْقَتِني ِمن ّناٍر َو َ قال في العراف لما قال إبليسَ} :أَنْا َ
خْيٌر ّمْنُه َ
]العراف.[13 ،12 :
ك َأن َتَتَكّبَر ِفيَها{ يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله: ن َل َ
ط ِمْنَها َفَما َيُكو ُ /فقولهَ} :قا َ
ل َفاْهِب ْ
صرًا َفِإّن َلُكم ّما َسَأْلُتْم{ ]البقرة ،[61 :فإنه }منها{ عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ ،وهذا بخلف قوله} :اْهِب ُ
طوْا ِم ْ
سراة حيث كان سْفل وعند أرض ال ّ عُلّو إلى ُ طوْا{ لن الهبوط يكون من ُ لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه ،وقال هنا} :اْهِب ُ
بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه .ومن هبط من جبل إلى واد قيل له :هبط.
ضا ،فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون ،والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال :نزل فيها؛ لن في عادته
وأي ً
أنه يركب في سيره ،فإذا وصل نزل عن دوابه.
قال :نزل العسكر بأرض كذا ،ونزل الُقّفل ]الُقّفل :الّرفقة والجماعة في السفر[ بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب .ولفظ
النزول كلفظ الهبوط ،فل يستعمل هبط إل إذا كان من علو إلى سفل.
ل عنه ـ أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :احتج آدم وموسى فقال موسى:
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ل بيده ،ونفخ فيك من روحه ،وأسجد لك ملئكته ،فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة؟
يا آدم ،أنت أبو البشر ،خلقك ا ّ
ل برسالته وكلمه فهل تجد في التوراة :وعصى آدم ربه فغوى؟ قال :نعم.
فقال له آدم :أنت موسى الذي اصطفاك ا ّ
ى قبل أن أخلق؟ فقال :فحج آدم موسى( ،وموسى إنما لم آدم؛ لما حصل له
ل عل ّ
قال :فلماذا تلومني على أمر قدره ا ّ
وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد ،فلو كان ذلك بستاًنا في الرض ،لكان غيره من بساتين الرض يعوض
عنه.
سلم:
خ ال ْ
شي ُ
ل َ
َقا َ
َفصــل
في المسألة المشهورة بين الناس ،في ]التفضيل بين الملئكة والناس[ قال :الكلم إما أن يكون في التفضيل بين
الجنس :الملك ،والبشر ،أو بين صالحي الملك والبشر.
أما الول ،وهو أن يقال :أيما أفضل :الملئكة ،والبشر؟ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع:
لول:
عا َ
الّنو ُ
أن يقال :هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملئكة؟ فهذا ل يقوله عاقل ،فإن في الناس:
الكفار ،والفجار ،والجاهلين ،والمستكبرين ،والمؤمنين ،وفيهم من هو مثل البهائم والنعام السائمة ،بل النعام أحسن
ن{ل َيْعِقُلو َ ن َ صّم اْلُبْكُم اّلِذي َ
ل ال ّ
عنَد ا ّ
ب ِ
شّر الّدَوا ّ
ن َل من هؤلء ،كما نطق بذلك القرآن في مواضع ،مثل قوله تعالىِ} :إ ّ حا ً
ن{ ]النفال ،[55 :وقالَ} :وَلَقْد َذَرْأَنا ِل َ
جَهّنَم ن ّكّفروا ّفهًم ل ٍيًؤٌمٍنو ّ
عنّد بّلٌه ّبٌذي ّ
ب ٌ
شّر بّدّوا َ ]النفال ،[22 :وقال /تعالى} :إ ّ
ن ّ
ضّ
ل ل ُهْم َأ َ
لْنَعاِم َب ْ
ك َكا َ
ن ِبَها ُأْوَلـِئ َ
سَمُعو َ
ل َي ْ
ن ّ
ن ِبَها َوَلُهْم آَذا ٌ
صُرو َ
ل ُيْب ِ
ن ّ
عُي ٌ
ن ِبَها َوَلُهْم َأ ْ
ل َيْفَقُهو َ
ب ّ
س َلُهْم ُقُلو ٌ
لن ِ
ن َوا ِ
جّ
ن اْل ِ
َكِثيًرا ّم َ
ك ُهُم اْلَغاِفُلوَن{ ]العراف ،[179 :والدواب جمع دابة ،وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن ،وملك ُأْوَلـِئ َ
وبهيمة ،ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات.
وقد وضع ابن المرزبان كتاب ]تفضيل الكلب على كثير ممن لبس الثياب[ وقد جاء في ذلك من المأثور ما ل
نستطيع إحصاءه ،مثل ما في مسند أحمد) :رب مركوبة أكثر ذكًرا من راكبها( .وفضل البهائم عليهم من وجوه:
أحدها :أن البهيمة ل سبيل لها إلى كمال وصلح أكثر مما تصنعه ،والنسان له سبيل لذلك ،فإذا لم يبلغ صلحه
وكماله الذي خلق له ،بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه.
وثانيها :أن البهائم لها أهواء وشهوات ،بحسب إحساسها وشعورها ،ولم تؤت تمييًزا وفرقانا بين ما ينفعها ويضرها،
والنسان قد أوتى ذلك .وهذا الذي يقال :الملئكة لهم عقول بل شهوات ،والبهائم لها شهوات بل عقول ،والنسان له
شهوات وعقل .فمن غلب عقله شهوته ،فهو أفضل من الملئكة ،أو مثل الملئكة ،ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم
خير منه.
/وثالثها :أن هؤلء لهم العقاب والنكال ،والخزي على ما يأتونه من العمال الخبيثة ،فهذا يقتل ،وهذا يعاقب ،وهذا
يقطع ،وهذا يعذب ويحبس ،هذا في العقوبات المشروعة ،وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا ،وقوم أهلكوا بأنواع
ل ،وخنقا ،وعمى .والبهائم في أمان من ذلك.العذاب ،وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة؛ تحريًقا ،وتغريًقا ،وتمثي ً
ورابعها :أن لفسقة الجن والنس في الخرة من الهوال والنار والعذاب والغلل وغير ذلك مما أمنت منه البهائم،
ما بين فضل البهائم على هؤلء إذا أضيف إلى حال هؤلء.
سّبحة بحمده قانتة له ،وقد قال النبي صلى ل ورسوله صلى ال عليه وسلمُ ،م َ
وخامسها :أن البهائم جميعها مؤمنة با ّ
سَقة الجن والنس(. ل ،إل َف َ
ال عليه وسلم):إنه ليس على وجه الرض شىء إل وهو يعلم أني رسول ا ّ
ع الّثاني:
الَنو ُ
أنه يقال :مجموع الناس أفضل من مجموع الملئكة من غير توزيع الفراد ،وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر
على الملئكة فيه نظر ،ل علم لي بحقيقته ،فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث ،مع علمنا أن كثيًرا من
أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني.
ع الّثاِلث:
/الّنو ُ
أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل ،والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الخر ،فأي القبيلين أفضل؟ فهذا مع القول
بتفضيل صالحي البشر يقال :ل شك أن المفضولين من الملئكة أفضل من كثير من البشر ،وفاضل البشر أفضل من
ل أعلم بخلقه.
فاضليهم ،لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر ،والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم ،وا ّ
ع الّرابع:
الّنو ُ
أن يقال :حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل ،أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية؟ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ
هو حي أفضل من الميت ،وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل .وحقيقة الذكر
أفضل من حقيقة النثى ،وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار ،وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من
أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن ،والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر ،والقوى الفاجر مع
الضعيف الّزِمن.
والوجه في انحصار القسمة في هذه النواع ـ فإن كثيًرا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها ،لفقد
التمييز والتفضيل ـ أن كل شىء إما أن نقيده من جهة الخصوص ،أو العموم ،أو الطلق .فإذا قلت :بشر /وملك.
صا ،أو جميع جنس البشر فيكون عاًما ،أو تريد البشر مطلًقا مجرًدا عن قيد وإما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خا ً
صا ،والثاني عموًما ،والثالث
العموم ،والخصوص ،وضبطه القليل والكثير ،والنوع الول في التفضيل عموًما وخصو ً
صا ،والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة.
خصو ً
فنقول حينئذ :المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة ،وربما ناظر بعض الناس على تفضيل
الملك ،وبعضهم على تفضيل البشر ،وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره.
ل أعلم بالصواب ـ أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة النسان أسهل وأجمع.
لكن الذي سنح لي ـ وا ّ
وتفسير ذلك :أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية ،والتبعية اللزمة ،الغالبة الحياة ،والعلم ،والقدرة :في اللذات
والشهوات ،وجدنا أولً خلق الملك أعظم صورة ،ومحله أرفع ،وحياته أشد ،وعلمه أكثر ،وقواه أشد ،وطهارته
ونزاهته أتم ،ونيل مطالبه أيسر وأتم ،وهو عن المنافي والمضاد أبعد ،لكن تجد هذه الصفات للنسان ـ بحسب حقيقته
ظا ونصيًبا من الحياة والخلق ،والعلم والقدرة والطهارة ،وغير ذلك. ـ منها أوفر ح ً
وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الشياء ـ حسا ،وعقل ـ وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه ،وهو يأكل ويشرب
وينكح ،ويتمنى ،ويتغذى/ ،ويتفكر ،إلى غير ذلك من الحوال التي ل يشاركه فيها الملك ،لكن حظ الملك من القدر
المشترك الذي بينهما أكثر ،وما اشتركا فيه من المور أفضل بكثير مما اختص به النسان.
وإن أردت الطلق ،فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة النسانية بلوازمها ،هذا ل شك فيه ،فإنما يلزم حقيقة
النسان من حياة وحس ،وعلم وعمل ،ونيل لذة وإدراك شهوة ،ليست بشىء .وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة
ل وبأسمائه وآياته ،ول يشبه حال من الملك ،كحال من علم من كل شىء طرًفا ليس بالكثير ،إلى حال من أتقن العلم با ّ
معه درهم ،إلى حال من معه درة ،ول يشبه حال من يسوس الناس كلهم ،إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا.
عَلى
ضْلَناُهْم َ
ت َوَف ّ
طّيَبا ِ
ن ال ّ
حِر َوَرَزْقَناُهم ّم َ وقد دل على هذا دللة بينة قوله تعالىَ} :وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم َو َ
حَمْلَناُهْم ِفي اْلَبّر َواْلَب ْ
ن{ للتبعيض .فإن قلت :هذا ل{ ]السراء ،[70 :فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع ،وقولهّ} :م َ ضي ً
خَلْقَنا َتْف ِ
ن َ
َكِثيٍر ّممّ ْ
الستدلل مفهوم للمخالف ،وأنت مخالف لهذا ،منازع فيه.
/فيقال لك :تخصيص الكثير بالذكر ل يدل على مخالفة غيره بنفي ،ول إثبات ،وأيضا فإن مفهومه :أنهم لم يفضلوا
على ما سوى الكثير ،فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم ،وقد يفضل أولئك عليهم ،فإن الحوال ثلثة :إما أن يفضلوا
على من بقى ،أو يفضل أولئك عليهم ،أو يساوون بهم.
قال :واختلف الحقائق والذوات لبد أنها تؤثر في اختلف الحكام والصفات ،وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك ،فلبد
أن يكون أحد الحقيقتين أفضل ،فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع.
وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة ،وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة اللهية ،ثبت فضل الملك ،وهو
المطلوب.
وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة :أن النبياء وصالح البشر أفضل من الملئكة .وذهبت المعتزلة إلى تفضيل
الملئكة على البشر ،وأتباع الشعري على قولين :منهم من يفضل النبياء والولياء ،ومنهم من يقف ول يقطع فيهما
بشىء.
وحكى عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة ،وربما حكى ذلك عن بعض من يدعى السنة ويواليها.
وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال :أما الملئكة المدبرون للسموات والرض وما بينهما
والموكلون ببني آدم ،فهؤلء أفضل من /هؤلء الملئكة .وأما الَكُروبّيون الذين يرتفعون عن ذلك فل أحد أفضل
ل على جميع أعيان
منهم ،وربما خص بعضهم نبينا صلى ال عليه وسلم .واستثناؤه من عموم البشر ،إما تفضي ً
الملئكة ،أو على المدبرين منهم أمر العالم.
هذا ما بلغني من كلمات الخرين في هذه المسألة ،وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية
صحابية ،فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها ،فقلنا حينئذ بما قاله السلف ،فروى أبو يعلي الموصلي في ]كتاب
ل ابن سلم ـ وكان عالًما بالكتاب الول ،والكتاب الثاني؛ إذ كان كتابًيا ،وقد شهد له
التفسير[ المشهور له عن عبد ا ّ
النبي صلى ال عليه وسلم بحسن الخاتمة ،ووصية معاذ عند موته ،وأنه أحد العلماء الربعة الذين يبتغي العلم عندهم
ل خلًقا أكرم عليه من محمد صلى ال عليه وسلم .الحديث عنه. ـ قال :ما خلق ا ّ
قلت :ول جبرائيل ،ول ميكائيل؟ قال :يا بن أخي ،أو تدري ما جبرائيل وميكائيل؟ إنما جبرائيل وميكائيل خلق
ل ـ تعالى ـ خلًقا أكرم عليه من محمد صلى ال عليه وسلم.
مسخر ،مثل :الشمس ،والقمر ،وما خلق ا ّ
ل في ]التفسير[ وغيره عن َمْعَمر ،عن زيد بن أسلم؛ أنه قال :قالت الملئكة :يا ربنا ،جعلت لبني آدم
وروى عبد ا ّ
ن قلت له كن
ت بيدي َكَم ْ
الدنيا ،يأكلون فيها ويشربون ،فاجعل لنا الخرة .فقال) :وعزتي ل أجعل صالح ذرية من خلق ُ
فكان(.
/وكذلك قصة سجود الملئكة كلهم أجمعين لدم ،ولعن الممتنع عن السجود له ،وهذا تشريف وتكريم له.
ل وجعل آدم قبلة لهم ،يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة ،وليس في هذا
وقد قال بعض الغبياء :إن السجود إنما كان ّ
ل ،بل حرمة المؤمن عند ا ّ
ل تفضيل له عليهم ،كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند ا ّ
ل محرم ،بل كفر.
أفضل من حرمتها ،وقالوا :السجود لغير ا ّ
أحدها :قوله :لدم ،ولم يقل :إلى آدم .وكل حرف له معنى ،ومن التمييز في اللسان أن يقال :سجدت له ،وسجدت إليه،
جُد
سُ ن{ ]فصلت [37 :وقال }َو ِّ
ل َي ْ ن ِإن ُكنُتْم ِإّياهُ َتْعُبُدو َ
خَلَقُه ّ
ل اّلِذي َ
جُدوا ِّ
سُ
ل ِلْلَقَمِر َوا ْ
س َو َ
شْم ِ
جُدوا ِلل ّ
سُ كما قال تعالىَ } :
ل َت ْ
ض{ ]الرعد.[15 : لْر ِ ت َوا َ
سَماَوا ِ
َمن ِفي ال ّ
ل محرم ،وأما الكعبة فقد كان النبي صلى ال عليه وسلم يصلي إلى بيت وأجمع المسلمون على أن السجود لغير ا ّ
المقدس ،ثم صلى إلى الكعبة ،وكان يصلى إلى عنَزة ] الَعَنَزةُ :رَمْيح بين العصا والّرمح[ ،ول يقال :لعنزة ،وإلى
عمود وشجرة ،ول يقال :لعمود ول لشجرة ،والساجد للشيء يخضع له بقلبه ،ويخشع له بفؤاده ،وأما الساجد إليه فإنما
حَراِم
جِد اْل َ
سِ
طَر اْلَم ْ
ش ْ
ك َ
جَه َ را ،كما يولى وجهه إلى بعض /النواحي إذا أمه ،كما قالَ} :فَو ّ
ل َو ْ يولي وجهه وبدنه إليه ظاه ً
طَرُه{ ]البقرة.[144 :
ش ْ
جِوَهُكْم َ
ث َما ُكنُتْم َفَوّلوْا ُو ُ
حْي ُ
َو َ
والثاني :أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود ،أو يزعم أنه خير منه؛ فإن القبلة قد تكون أحجاًرا ،وليس في
ذلك تفضيل لها على المصلين إليها ،وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير ،وإلى رجل ،ول يتوهم أنه مفضل بذلك ،فمن
أي شىء فر الشيطان؟ هذا هو العجب العجيب!!
والثالث :أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلف كثيرة؛ إذ جعلت قبلة دائمة
في جميع أنواع الصلوات ،فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علًما له ،ومن أفضل النعم عليه ،وجاءت إلى العالم بأن
ل رفعه بها ،وامتن عليه ،ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الوقات!! مع أن بعض ما أوتيه من اليمان ا ّ
والعلم ،والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة ،والكعبة إنما وضعت له ولذريته ،أفيجعل من جسيم النعم عليه
ل جًدا؟! هذا ما ل يقوله عاقل.
أو يشبه به في شىء نزًرا قلي ً
ل ،فيقال لهم :إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة ،تنفي بعمومها
وأما قولهم :ل يجوز السجود لغير ا ّ
جواز السجود لدم ،وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له ،والعام ل يعارض ما قابله من الخاص.
ل حرام علينا وعلى الملئكة .أما الول فل دليل وأما الثاني فما الحجة فيه؟
وثانيها :أن السجود لغير ا ّ
ل به ،أو حرام لم يأمر به ،والثاني حق ول شفاء فيه ،وأما الول فكيف يمكن أن يحرم بعد
/وثالثها :أنه حرام أمر ا ّ
ل ـ تعالى ـ به؟
أن أمر ا ّ
ورابعها :أبو يوسف وإخوته خروا له سجًدا ،ويقال :كانت تحيتهم ،فكيف يقال:
وسابعها :وفيه التفسير أن يقال :أما الخضوع والقنوت بالقلوب والعتراف بالربوبية والعبودية ،فهذا ل يكون على
ل ـ سبحانه وتعالى ـ وحده ،وهو في غيره ممتنع باطل.الطلق إل ّ
ل ـ تعالى ـ أن نسجد له ،ولو أمرنا أن نسجد لحد من خلقه غيره لسجدنا
وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا ا ّ
ل عز وجل ـ إذ أحب أن نعظم من سجدنا له ،ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، لذلك الغير ـ طاعة ّ
ل وطاعة له ،وقربة يتقربون بها إليه ،وهو لدم تشريف وتكريم وتعظيم .وسجود أخوة فسجود الملئكة لدم عبادة ّ
يوسف له تحية وسلم ،أل ترى أن يوسف لو سجد لبويه تحية لم يكره له.
ل أعلم بحقائق
/ولم يأت أن آدم سجد للملئكة ،بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إل لّ رب العالمين ،ولعل ذلك ـ وا ّ
ل رب العالمين ،وهم أكفاءالمور ـ لنهم أشرف النواع ،وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إل ّ
بعضهم لبعض ،فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود ،ومن سواهم فقد سجد لهم من الملئكة للب القوم،
ومن البهائم للبن الكرم.
وأما قولهم :لم يسبق لدم ما يوجب الكرام له بالسجود ،فلغو من القول ،هذى به بعض من اعتزل الجماعة ،فإن نعم
ل ـ تعالى ـ وأياديه وآلءه على عباده ليست بسبب منهم ،ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب ،فهو المنعم
ا ّ
ضا ـ باطل على قاعدتهم ،ل حاجة لنا إلى بيانه ههنا.
به ويشكرهم على نعمه ،وهو ـ أي ً
وأما السؤال الثاني ،فروى عن بعض الولين :أن الملئكة الذين /سجدوا لدم ملئكة في الرض فقط ،ل ملئكة
السموات .ومنهم من يقول :ملئكة السموات دون الَكُروِبّيين ،وانتحى ذلك بعض المتأخرين ،واستنكر سجود العلين
ق آدم أم ل
خِل َ
خْلًقا ل يدرون :أ ُ
ل َ
قا ّ
خْل ِ
ل ،ورووا في ذلك) :إن ِمن َ
من الملئكة لدم مع عدم التفاتهم إلى ما سوى ا ّ
؟(.
ت ِمَن اْلَعاِليَن{ ]ص [75 :والعالون هم ملئكة السماء ،وملئكة السماء لم يؤمروا
ت َأْم ُكن َ ونزع بقولهَ} :أ ْ
سَتْكَبْر َ
سَواِنح
بالسجود لدم ،فاعلم أن هذه المقالة أول ليس معها ما يوجب قبولها ،ل مسموع ول معقول ،إل خواطر و َ
سانح ،وهو ما يعرض على النسان ،وأصله :من سنح لي الشىء إذا عرض ،فإذا كان هذا الشىء ـ طائًرا ] جمع ال ّ
وخلفه -يعرض من جهة اليمين سمى السانح وكان العرب يتيمنون به ،وعكسه البارح[ ،ووساوس مادتها من عرش
إبليس ،يستفزهم بصوته ليرد عنهم النعمة التي حرص على ردها عن أبيهم قديًما ،أو مقالة قد قالها من يقول الحق
والباطل ،لكن معنا ما يوجب ردها من وجوه:
أحدها :أنه خلف ما عليه العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة ،وإذا كان لبد من التقليد فتقليدهم أولى.
وثانيها :أنه خلف ظاهر الكتاب العزيز ،وخلف نصه ،فإن السم المجموع المعرف باللف واللم يوجب استيعاب
لِئَكِة اْسُجُدوْا لَدَم{ ]البقرة ،[34 :فسجود الملئكة يقتضى جميع الملئكة ،هذا مقتضى
الجنس ،قال تعالىَ} :وِإْذ ُقْلَنا ِلْلَم َ
اللسان الذي نزل به القرآن ،فالعدول عن موجب القول العام إلى الخصوص لبد له من دليل يصلح له ،وهو معدوم.
/وثالثها :أنه قالَ} :فَسَجَد اْلَملِئَكُة ُكّلُهْم َأْجَمُعوَن{[الحجر [30:فلو لم يكن السم الول يقتضى الستيعاب والستغراق،
ن{ توكيًدا وتحقيًقا بعد
جَمُعو َ
لكان توكيده بصيغة كل موجبة لذلك ومقتضية له ،ثم لو لم يفد تلك الفادة ،لكان قولهَ} :أ ْ
توكيد وتحقيق ،ومـن نازع في موجب السماء العامة فإنه ل ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم ،بل إنما يجاء
بصيغة التوكيد قطًعا لحتمال الخصوص وأشباهه.
وقد بلغني عن بعض السلف أنه قال :ما ابتدع قوم بدعة إل في القرآن ما يردها ،ولكن ل يعلمون .فلعل قولهُ} :كّلُهمْ
ن{ جىء به لزعم زاعم يقول :إنما سجد له بعض الملئكة ل كلهم ،وكانت هذه الكلمة رًدا لمقالة هؤلء .ومن جَمُعو َ
َأ ْ
اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الستدلل بالقرآن والفهم ،فإنه ل يثق بشىء
ل أن يخبرنا بذلك ،فأي كلمة أتم وأعم ،أم يأتي قوليؤخذ منه ،ياليت شعري ! لو كانت الملئكة كلهم سجدوا وأراد ا ّ
يقال :أليس هذا من أبين البيان؟
ورابعها :أن هذه الكلمة تكررت في القرآن ،وقال النبي صلى ال عليه وسلم في حديث الشفاعة وأسجد لك ملئكته،
وكذلك في محاجة موسى وآدم ،ومن الناس من يقول :إن القول العام إذا قرن به الخاص وجب أن يقرن به البيان ،فل
يجوز تأخيره عنه ،لئل يقع السامع في اعتقاد الجهل؛ ولم يقترن بشىء من هذه الكلمات دليل تخصيص ،فوجب القطع
بالعموم.
وقال آخرون ـ وهو الصوب :يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب /لكن بعد البحث عن دليل التخصيص ،والّ
أعلم .فيجب القول بالعموم ،وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص
فيها من البهتان.
وأما إنكارهم لسجود الَكروِبّيين فليس بشىء؛ لنهم سجدوا طاعة وعبادة لربهم ،وزاد قائل :ذلك أنهم أفضل من آدم
ل .وتفسيرهم}العالين{ بالكروبيين ،قول في إذا ثبت أنهم لم يسجدوا ،والحكايات المرسلة ل تقيم حًقا ول تهدم باط ً
ت{
سَتْكَبْر َ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ بل علم ،ول يعرف ذلك عن إمام متبع ،ول في اللفظ دليل عليه ،وقيلَ} :أ ْ كتاب ا ّ
ل أعلم
ل بآرائنا ،وا ّ أطلبت أن تكون كبيًرا من هذا الوقت؟ أم كنت عالًيا قبل ذلك؟ ول حاجة بنا إلى تفسير كلم ا ّ
بتفسيره.
وههنا سؤال ثالث وهو :أن السجود له ،قد يكون الساجدون سجدوا له مع فضلهم عليه ،فإن الفاضل قد يخدم
المفضول ،فنقول:
اعلم أن منفعة العلى للدنى غير مستنكرة ،فإن سيد القوم خادمهم ،فالنبي صلى ال عليه وسلم أفضل الناس ،وأنفع
ل يحصل بنفع خلقه ،فهذا يصلح أن يوردالناس للناس ،لكن منفعته في الحقيقة يعود إليه ثوابها ،وتمام التقرب إلى ا ّ
على من احتج بتدبيرهم لنا ،ففضلهم علينا لكثرة منفعتهم لنا ،وأما نفس السجود فل منفعة فيه للمسجود له إل مجرد
تعظيم وتشريف وتكريم ،ول يصلح البتة أن يكون من هو أفضل أسفل ممن دونه وتحته في الشرف ،والمحقق ،ل
المتوهم ،فافهم هذا فإن تحته سرا.
ل ـ تعالى ـ خلق آدم بيده ،كما ذكر ذلك في الكتاب والسنة ،والملئكة لم يخلقهم بيده بل بكلمته،
الدليل الثالث :أن ا ّ
ل على ثلثة وهذا يقوله جميع من يدعى السلم ـ سنيهم ومبتدعهم ـ بل وعليه أهل الكتاب ،فإن الناس في يدي ا ّ
أقوال:
ل صفتان من صفات ذاته ،حكمها حكم جميع صفاته؛ من حياته وعلمه ،وقدرته وإرادته، أما أهل السنة فيقولون :يدا ا ّ
وكلمه .فيثبتون جميع صفاته التي وصف بها نفسه ،ووصفه بها أنبياؤه ،وإن شاركت أسماء صفاته أسماء صفات
غيره .كما أن له أسماء قد يسمى بها غيره ،مثل :رؤوف ،رحيم ،عليم سميع ،بصير ،حليم ،صبور ،شكور ،قدير،
سِميُع
يٌء َوُهَو ال ّ
ش ْ مؤمن ،علي ،عظيم ،كبير ،مع نفي المشابهة في الحقيقة والمماثلة ،كما في قوله تعالىَ} :لْي َ
س َكِمْثِلِه َ
صيُر{ ]الشورى ،[11 :جمعت هذه الية بين الثبات والتنزيه ،ونسبة صفاته إليه كنسبة خلقه إليه ،والنسبة الَب ِ
والضافة تشابه النسبة والضافة.
ومن هذا الوجه جاء الشتراك في أسمائه وأسماء صفاته ،كما شبهت الرؤية برؤية الشمس والقمر ،تشبيها للرؤية ل
للمرئى ،كما ضرب مثله مع عباده المملوكين كمثل بعض خلقه مع مملوكيهم ،وله المثل العلى في السموات،
صَفاة َكَدر ،فجميع ما نسمعه ،وينسب إليه ،ويضاف من السماء والصفات ،هو كماشْبَهة وَم ْ
جلة ُ فتدبر /هذا فإنه َم ْ
ل ،ويصلح لذاته. يليق با ّ
وبكل حال ،اتفق هؤلء كلهم على أن لدم فضيلة ومزية ليست لغيره؛ إذ خلقه بيده.
حا َوآ َ
ل طَفى آَدَم َوُنو ً
صَ
لا ْ الدليل الرابع :ما احتج به بعض أصحابنا على تفضيل النبياء على الملئكة بقولهِ} :إ ّ
نا ّ
ِإْبَراِهيَم َوآَل ِعْمَراَن َعَلى اْلَعاَلِميَن{ ]آل عمران،[33 :
ن{ يتناول الملئكة والجن والنس ،وفيه وقولهَ} :وَلَقِد اْخَتْرَناُهْم َعَلى ِعْلٍم َعَلى اْلَعاَلِميَن{ ]الدخان [32 :واسم }اْلَعاَلِمي َ
ب اْلَعاَلِميَن{ ]الفاتحة:
ل َر ّ نظر؛ لن أصناف العالمين قد يراد به /جميع أصناف الخلق كما في قوله تعالى} :اْل َ
حْمُد ّ
،[2وقد يراد به الدميون فقط على اختلف أصنافهم ،كما في قوله تعالىَ} :أَتْأُتوَن الّذْكَراَن ِمَن اْلَعاَلِميَن{ ]الشعراء:
َ} ،[165أَتْأُتوَن اْلَفاِحَشَة َما َسَبَقُكم ِبَها ِمْن َأَحٍد ّمن اْلَعاَلِميَن{ ]العراف [80 :وهم كانوا ل يأتون البهائم ول الجن.
ن}.
عَلى اْلَعاَلِمي َ
عْلٍم َ
عَلى ِ
خَتْرَناُهْم َ
وقد يراد بالعالمين أهل زمن واحد ،كما في قوله} :ا ْ
طَفى آَدَم َوُنوًحا َوآَل ِإْبَراِهيَم َوآَل ِعْمَراَن{ الية ،تحتمل جميع أصناف الخلق ،ويحتمل أن المراد بنو آدم
صَلا ْ فقولهِ} :إ ّ
نا ّ
ل ،وهي آيات له ودللت ن{ عام لجميع أصناف المخلوقات التي بها يعلم ا ّ فقط .وللمحتج بها أن يقول :اسم }اْلَعاَلِمي َ
عليه ،لسيما أولو العلم منهم ،مثل الملئكة ،فيجب إجراء السم على عمومه إل إذا قام دليل يوجب الخصوص.
ضا بقوله َ} :وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم{الية ]السراء .[70:وهو دليل ضعيف بل هو بالضد كما قررناه.
وقد احتج أي ً
ل ـ عز وجل ـ عن علم السماء فلم يجيبوه؛ واعترفوا أنهم ل الدليل السابع :تفضيل بني آدم عليهم بالعلم حين سألهم ا ّ
يحسنونها فأنبأهم آدم بذلك ،وقد قال تعالىَ} :هْل َيْسَتِوي اّلِذيَن َيْعَلُموَن َواّلِذيَن َل َيْعَلُموَن{ ]الزمر.[9 :
والدليل الثامن :وهو أول الحاديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي الِمْهَزم ،عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه
ل من الملئكة الذين عنده(.
ل أهون من قتل رجل مؤمن ،والمؤمن أكرم على ا ّ وسلم أنه قالَ) :لَزَوال الدنيا على ا ّ
ل من الملئكة المقربين.
وهذا نص في أن المؤمنين أكرم على ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،وذكر كلًما قال في آخره) :اْدُنو، ثم ذكر ما رواه الخلل عن أبي هريرة :خطبنا رسول ا ّ
سعوا لمن خلفكم( .فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض .فقال رجل :أنوسع للملئكة أو للناس؟ قال) :للملئكة، وَو ّ
إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ول من خلفكم ،ولكن عن أيمانكم وشمائلكم( .قالوا :ولم ل يكونون من
بين أيدينا ومن خلفنا؟ أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا؟ قال) :نعم ،أنتم أفضل من الملئكة(.
/رواه الخلل ،وفيه القطع بفضل البشر على الملئكة ،لكن ل يعرف حال إسناده ،فهو موقوف على صحة إسناده.
ل بن أحمد في ] كتاب السنة[ عن عروة بن ُرَوْيم قال :أخبرني النصاري عن النبي صلى ال عليه وروى عبد ا ّ
وسلم أن الملئكة قالوا :ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم ،فجعلتهم يأكلون ويشربون ،ويلبسون ويأتون النساء ،ويركبون
الدواب ،وينامون ويستريحون ،ولم تجعل لنا شيًئا من ذلك ،فاجعل لهم الدنيا ولنا الخرة.
عا ـ كما تقدم موقوًفا ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه .وزيد بن أسلم زيد في علمه وفقهه وورعه ،حتى
وذكر الحديث مرفو ً
إن كان على بن الحسين ليدع مجالس قومه ويأتي مجلسه ،فلمه الزهري فى ذلك فقال :إنما يجلس حيث ينتفع ،أو
قال :يجد صلح قلبه.
وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم ،أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا ،ول يستأثر بعضهم
ل ـ عز وجل ـ أعظم من الكذب على على بعض ،فل يقول مثل هذا القول إل عن] . . .بياض[ بين والكذب على ا ّ
رسوله.
وأقل ما في هذه الثار أن السلف الولين كانوا يتناقلون بينهم :أن صالحي البشر أفضل من الملئكة من غير نكير
منهم لذلك ،ولم يخالف أحد /منهم في ذلك ،إنما ظهر الخلف بعد تشتت الهواء بأهلها ،وتفرق الراء ،فقد كان ذلك
كالمستقر عندهم.
فإن قيل :هذه الخبار رواها آحاد غير مشهورين ،ول هي بتلك الشهرة ،فل توجب علًما ،والمسألة علمية.
قلنا :أول :من قال :إن المطلق في هذه القضية اليقين الذي ل يمكن نقيضه ،بل يكفي فيها الظن الغالب ،وهو حاصل.
ثم ما المراد بقوله :علمية؟ أتريد أنه ل علم ؟ فهذا مسلم .ولكن كل عقل راجح يستند إلى دليل فإنه علم ،وإن كان فرقة
ت{ ]الممتحنة :
ن ُمْؤِمَنا ٍ
عِلْمُتُموُه ّ من الناس ل يسمون علًما إل ما كان يقيًنا ل يقبل النتقاض ،وقد قال تعالى َ} :فِإ ْ
ن َ
[10وقد استوفي القول في ذلك في غير هذا الموضع ،فإن أريد علمية؛ لن المطلوب الستيقان ،فهذا لغو من القول
ل دليل عليه ،ولو كان حًقا لوجب المساك عن الكلم في كل أمر غير علمي إل باليقين ،وهو تهافت بين.
ثم نقول :هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق /متباينة ،قد توجب اليقين لولى الخبرة بعلم
السناد ،وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله ،فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم ،وليس من لوازم
حصول العلم لهم حصوله لغيرهم ،إل أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه.
والعلوم ـ على اختلف أصنافها وتباين صفاتها ـ ل توجب اشتراك العقلء فيها ،لسيما السمعيات الخبريات ،وإن
زعم فرقة من أولى الجدل أن الضروريات يجب الشتراك فيها ،فإن هذا حق في بعض الضروريات ،ل في جميعها،
مع تجويزنا عدم الشتراك في شىء من الضروريات ،لكن جرت سنة الشتراك بوقوع الشتراك في بعضها .فغلط
أقوام فجعلوا وجوب الشتراك في جميعها ،فجحدوا كثيًرا من العلم الذي اختص به غيرهم.
ثم نقول :لو فرضنا أنها ل تفيد العلم وإنما تفيد ظًنا غالًبا ،أو أن المطلوب هو الستيقان ،فنقول :المطلوب حاصل
بغير هذه الحاديث ،وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الدلة على هذه المقالة.
الدليل الثاني عشر :قد كان السلف يحدثون الحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملئكة ،وتروى على
رؤوس الناس ،ولو كان هذا منكًرا لنكروه ،فدل على اعتقادهم ذلك.
وهذا إن لم يفد اليقين القاطع ،فإن بعض الظن لم يقصر عن القوى /الغالب ،وربما اختلف ذلك باختلف الناس
واختلف أحوالهم.
الدليل الثالث عشر :وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة ـ وهو أن نقول :التفضيل إذا وقع بين شيئين فل بد من
معرفة الفضيلة ما هي؟ ،ثم ينظر أيهما أولى بها ؟
وأيضا ،فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم ،وذلك إنما يكون إذا
دخلوا الجنة ،ونالوا الزلفى ،وسكنوا الدرجات العلى ،وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه ،وتجلى لهم ،يستمتعون
بالنظر إلى وجهه الكريم ،وقامت الملئكة في خدمتهم بإذن ربهم.
فلينظر الباحث في هذا المر ،فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملئكة بعين التمام والكمال ،ونظروا
ل جناح بعوضة وليس هذا بالنصاف. الدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة اْلَكِدَرة ،التي ل تزن عند ا ّ
هذا على سبيل الجمال ،وعلى حسب المور التي هي في نفسها خبر محض ،وكمال صرف ،مثل :الحياة والعلم
والقدرة ،والزكاة والطهارة ،والطيب والبراءة من النقائص والعيوب ،فنتكلم على الفضلين:
ل ،وقالل ـ تعالى ـ وغرسها بيده ،ولم يطلع على /ما فيها ملًكا مقربا ،ول نبًيا مرس ً
أما الول :فإن جنة عدن خلقها ا ّ
لها :تكلمي ،فقالتَ} :قْد َأْفَلَح اْلُمْؤِمُنوَن{ ]المؤمنون .[1 :جاء ذلك في أحاديث عديدة ،وأنه ينظر إليها في كل سحر،
ل تعالى لعباده المؤمنين ،التي لم يطلع عليها أحد من الملئكة .ومعلوم أن العلين مطلعون وهي داره ،فهذه كرامة ا ّ
على السفلين من غير عكس ،ول يقال :هذا في حق المرسلين ،فإنها إنما بنيت لهم ،لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها
وإنما هي معدة لهم ،فإنهم ذاهبون إلى كمال ،ومنتقلون إلى علو وارتفاع ،وهو جزاؤهم وثوابهم.
وأما الملئكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك ،فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة ،وتصديق هذا قوله
ي َلُهم ّمن ُقّرِة َأْعُيٍن{ ]السجدة.[17 :
خِف َ
س ّما ُأ ْ تعالى َ} :ف َ
ل َتْعَلُم َنْف ٌ
ل لوليائه غيب عن الملئكة ،وقد غيب عنهم أولً حال آدم في النشأة الولى وغيرها.
فحقيقة ما أعده ا ّ
ل الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم ،فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع العيان وفضل عباد ا ّ
والشخاص ،ثبت فضل نوعهم على جميع النواع؛ إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى
أن يفوق جميع الشخاص والنواع الفاضلة ،فإن هذا تبديل الحقائق وقلب العيان عن صفاتها النفسية ،لكن ربما فاق
بعض أشخاص النوع الفاضل مع /امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته ،كما أن في بعض الخيل ما هو خير من
بعض الخيل ،ول يكون خيًرا من جميع الخيل.
ل على صورته ونفخ فيه من روحه ،ولم يثبت هذا لشىء من ل بيده ،وخلقها ا ّ
وأما الذوات ،فإن ذات آدم خلقها ا ّ
الذوات ،وهذا بحر يغرق فيه السابح ،ل يخوضه إل كل مؤيد بنور الهداية ،وإل وقع إما في تمثيل ،أو في تعطيل.
فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة ،وفوق كل ذي علم عليم .وليوقن كل اليقان بأن ما جاءت به
ل َما َأّنُكْم
ق ّمْث َ
حّ
ض ِإّنُه َل َ
لْر ِ
سَماء َوا َْ را وباطًنا ـ وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه }َفَوَر ّ
ب ال ّ الثار النبوية حق ـ ظاه ً
ظا ن باب إنكار ،ورد وإمساك وإغماض ـ ردا /لظاهره وتعجًبا من باطنه ـ حف ً جّ
طُقوَن{ ]الذاريات [23 :فل تل َ
َتن ِ
جَناب مولك. لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن َ
ق التمثيل والتشبيه ،ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم ،الذي هو َأحَّد إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وَتَو ّ
ل له نوًرا فما له من نور.
من السيف ،وأدق من الشعر ،ومن لم يجعل ا ّ
وأما الصفات التي تتفاضل ،فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء البدي في الدار الخرة وليس للملك أكثر من هذا ،وإن
كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين ،حتى ل يبقى إل البقاء وغير
ذلك من العلم الذي امتازت به الملئكة.
فنقول :غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للخر ،فإن الوحي للرسل على أنحاء ،كما قال تعالىَ} :وَما
ي ِبِإْذِنِه َما َيَشاء{ ]الشورى ،[51 :فبين أن الكلم
حَ
ل َفُيو ِ
سو ً
ل َر ُ
سَ
ب َأْو ُيْر ِ
جا ٍ
حَ
حًيا َأْو ِمن َوَراء ِ
ل َو ْ
ل ِإ ّ
ن ِلَبشٍَر َأن ُيَكّلَمُه ا ُّ
َكا َ
للبشر على ثلثة أوجه :منها واحد يكون بتوسط الملك.
ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي ،وأين الملك من ليلة المعراج ،ويوم الطور ،وتعليم السماء وأضعاف ذلك؟
ل باطل ـ فكيف يصنعون بيوم القيامة؟! وقد ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا ل يكون إل على أيدى الملئكة ـ وهو وا ّ
ى من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها ،لم يفتحها على أحد قبلي(.
ل عل ّ
قال النبي صلى ال عليه وسلم)/ :فيفتح ا ّ
وإذا تبين هذا ،أن العلم مقسوم من ال ،وليس كما زعم هذا الغبي بأنه ل يكون إل بأيدي الملئكة على الطلق ،وهو
ل ـ تعالى ـ اختص آدم بعلم لم يكن عند الملئكة ،وهو علم السماء الذي
قول بل علم ،بل الذي يدل عليه القرآن أن ا ّ
هو أشرف العلوم ،وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم ،فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق؟ ومنها القدرة.
وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر ،وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى ،وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من
ل بعض عباده أعظم من ذلك ،فأغرق جميع أهل الرض بدعوة نوح ،وقال النبي صلى ال عليه جناحه ،فقد آتى ا ّ
ل لَبّرُه(! وهذا
غَبَر مدفوع بالبواب لو أقسم على ا ّ
ثأ ْ
شَع َ
بأ ْ
ل لَبّره ،وُر ّ
ل من لو أقسم على ا ّ وسلم ) :إن من عباد ا ّ
ل ،أو الجبال عن ل أن يزيل جب ً
ل من لو أقسم على ا ّعام في كل الشياء ،وجاء تفسير ذلك في آثار :إن من عباد ا ّ
أماكنها لزالها ،وأل يقيم القيامة لما أقامها ،وهذا مبالغة.
ول يقال :إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه ،وهذا بدعوة يدعوها؛ لنهما في الحقيقة يؤولن إلى واحد ،هو مقصود القدرة
ومطلوب القوة ،وما من /أجله يفضل القوى على الضعيف ،ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الخرة ؟ وقد
جاء في الثر) :يا عبدي ،أنا أقول للشىء كن فيكون ،أطعني أجعلك تقول للشىء كن فيكون ،يا عبدي ،أنا الحي الذي
ل :من الحي الذي ل يموت إلى الحي ف من ا ّ
ح ُ
ل يموت ،أطعني أجعلك حًيا ل تموت( ،وفي أثر) :أن المؤمن تأتيه الّت َ
ل يسمع ،وبه يبصر ،وبه يبطش ،وبه يمشى ،فل الذي ل يموت( فهذه غاية ليس وراءها مرمى ،كيف ل ،وهو با ّ
يقوم لقوته قوة؟!
ل ،التي ليس معها
وأما الطهارة والنزاهة ،والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب ،والطاعة التامة الخاصة ّ
معصية ول سهو ول غفلة ،وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق المر ،فقد قال قائل :من أين للبشر هذه الصفات؟ وهذه
الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل ،كما قيل :ل أعدل بالسلمة شيًئا .فالجواب من وجوه:
أحدها :أنا إذا نظرنا إلى هذه الحوال في الخرة ،كانت في الخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه ،وقد قدمنا أن
الكلم ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط ،بل عند الكمال والتمام والستقرار في دار الحيوان ،وفيه وجه قاطع لكل
ما كان من جنس هذا الكلم ،فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس ،ل يبولون ول يتمخطون ،ول
يبصقون ،ما فيهم ذرة من العيب ول من النقص؟!
الوجه الثاني :أن هذا بعينه هو الدليل على فضل الدمي ،والملئكة /مخلوقون على طريقة واحدة ،وصفة لزمة ،ل
سبيل إلى انفكاكهم عنها ،والبشر بخلف ذلك.
الوجه الثالث :أن ما يقع من صالحي البشر من الزلت والهفوات ترفع لهم به الدرجات ،وتبدل لهم السيئات حسنات،
ل يحب التوابين ويحب المتطهرين ،ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة ،ولو لم يكن العفو أحب إليه فإن ا ّ
ل ،فافهم
لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ،وكذلك فرحه بتوبة عبيده ،وضحكه من علم العبد أنه ل يغفر الذنوب إل ا ّ
هذا فإنه من أسرار الربوبية ،وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب.
ل ـ تعالى ـ على بعضهم الشهوة فواقعوا الوجه الرابع :ما روى) :أن الملئكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى ا ّ
ل ـ تعالى ـ على الملئكة ،وأما العبادة فقد قالوا :إن الملئكة دائمو العبادة والتسبيح، الخطيئة( ،وهو احتجاج من ا ّ
ن{ل َيْفُتُرو َ
ل َوالّنَهاَر َ
ن الّلْي َ
حو َ ومنهم قيام ل يقعدون ،وقعود ل يقومون ،وركوع ل يسجدون ،وسجود ل يركعون{ُي َ
سّب ُ
]النبياء[20:
جل المسبحين(.
ى من َز َ
ن المذنبين أحب إل ّ
وقد روى) :أن أِني َ
وقد قالوا :إن علماء الدميين مع وجود المنافى والمضاد أحسن وأفضل ،ثم هم في الحياة الدنيا وفي الخرة يلهمون
س ،وأما النفع المتعدى ،والنفع للخلق ،وتدبير العالم ،فقد قالوا :هم تجري أرزاق العباد على
التسبيح ،كما يلهمون الّنَف َ
أيديهم ،وينزلون بالعلوم والوحي ،ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملئكة.
والجواب :أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ،ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين ،وشفاعته في
البشر كي يحاسبوا ،وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة .ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملئكة ،وأين هم من قوله:
صٌة{
صا َ
خ َ
ن ِبِهْم َ
سِهْم َوَلْو َكا َ
عَلى َأنُف ِ ن{ ] النبياء [107 :؟ وأين هم من الذين َ} :وُيْؤِثُرو َ
ن َ حَمًة ّلْلَعاَلِمي َ
ل َر ْ
ك ِإ ّ
سْلَنا َ
}َوَما َأْر َ
سّنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى ال عليه ن ُسّ
]الحشر [9 :؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن َ
ضر( ؟ وأين هم من القطاب ،والوتاد ،والغواث ،والبدال، وسلم ) :إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة وُم َ
والنجباء؟.
ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال :فلن ل يأتيني ،وفلن يأتيني ،أي كيف يستنكف عن التيان إلى؟ وفلن أكرم منه
وأعظم ،وهو يأتيني ،ول يقال :ل يأبي فلن أن يكرمك ،ول من هو فوقه .فالنتقال من المسيح إلى الملئكة دليل
على فضلهم ،كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل؟!
والجواب :زعم القاضي أن هذا ليس من عطف العلى على الدنى ،وإنما هو عطف ساذج .قال :وذلك أن قوًما
ل ـ تعالى ـ
ل ،كما حكى ا ّ
ل ـ سبحانه ـ وقوًما عبدوا الملئكة وزعموا أنها بنات ا ّ
عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن ا ّ
ل ـ تعالى ـ في هذه أن هؤلء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي، /عن الفريقين فبين ا ّ
وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذاًبا أليما ،والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر ،وهذا الكلم فيه نظر،
ل أعلم بحقيقته.
وا ّ
ثم نقول :إن كان هذا هو المراد فل كلم ،وإن أريد أن النتقال من الدنى إلى العلى ،فاعلم ـ نور الّ قلبك وشرح
صدرك للسلم ـ أن للملئكة خصائص ليست للبشر ،ل سيما في الدنيا .هذا ما ل يستريب فيه لبيب ،أنهم اليوم على
ل ،وأظهر جسوًما ،وأعظم خلًقا ،وأجمل صوًرا ،وأطول أعماًرا ،وأيمن آثاًرا ،إلى غير ذلك من مكان ،وأقرب إلى ا ّ
الخصال الحميدة ،مما نعلمه ومما ل نعلمه.
ضا ـ خصائص ومزايا ،لكن الكلم في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل ؟ هذا طريق ممهد وللبشر ـ أي ً
لهذه الية وما بعدها .وهو وراء ذلك ،فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به ،واختصوا به من المور
التي ل تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها.
ل من اليات ،كما أبرأ الكمه والبرص وأحيا ل ،فإنما هو لما أيده ا ّ
وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة ا ّ
الموتى وغير ذلك؛ ولنه خرج في خلقه عن بني آدم ،وفي عزوفه عن الدنيا ،وما فيها :أعطى الزهد .وما من صفة
من هذه الصفات إل والملئكة أظهر منه فيها ،فإنهم كلهم خلقوا من /غير أبوين ومن غير أم ،وقد كان فرس جبريل
يحيى به التراب الذي يمر عليه ؛وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملئكة سهل.
وفي حديث أبرص ،وأقرع ،وأعمى) :أن الملك مسح عليهم فبرؤوا ( فهذه المور التي من أجلها عبد المسيح ،وجعل
ل ـ عز وجل ـ للملئكة منها أوفر نصيب ،وأعلى منها ،وأعظم مما للمسيح ،وهم ل يستنكفون عن عبادته ،فهو ابن ا ّ
ل والزلفى لديه فأمور وراء هذه اليات .وأيضا ،فأقصى ما فيها تفضيلهم أحق خلق أل يستنكف ،وأما القرب من ا ّ
على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا ،وأما إذا استقر في الخرة وكان ما كان مما لست أذكر ،فمن أين يقال :إنهم
هناك أفضل منه؟
ل َلُكْم ِإّني
ب َول َأُقو ُ
عَلُم اْلَغْي َ
ل َول َأ ْ
نا ّ
خَزآِئ ُ
عنِدي َ
ل َلُكْم ِ الحجة الثانية :قوله تعالى لنبيه صلى ال عليه وسلمُ} :قل ّ
ل َأُقو ُ
ك{ ]النعام [50 :ومثله في هود ،فالحتجاج في هذا من وجوه: َمَل ٌ
أحدها :أنه قرن استقرار خزائنه ،وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك ،وسلبها عن نفسه في نسق واحد ،فإذا كان حال
من يعلم الغيب ،ويقدر على الخزائن أفضل من حال من ل يكون كذلك ،وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من
ليس بملك ،وإن كان نبيا كما في الية.
وثالثها :ما ذكر القاضي أنه لول ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شىء
هو دون مرتبته ،وهذا العتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين أمر قرروا عليه ،ولم ينكره عليهم ،فثبت أنه حق.
والجواب من وجوه:
ل ،ونفى أن يكون ملًكا ل يأكل ول يشرب ول يتمتع ،وإذا نفىأحدها :أنه نفى أن يكون عالًما بالغيب وعنده خزائن ا ّ
ذلك عن نفسه لم يجب أن يكون الملك أفضل منه ،أل ترى أنه لو قال :ول أنا كاتب ،ول أنا قارئ ،لم يدل على أن
الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ول قارئ ،فلم يكن في الية حجة.
وأيضا ،ما قال القاضي :إنهم طلبوا صفات اللوهية ،وهي العلم والقدرة والغنى :وهي أن يكون عالًما بكل شىء،
طَعاَم
ل ال ّ ل َيْأُك ُ
سو ِل َهَذا الّر ُ را على كل شىء ،غنًيا عن كل شىء ،فسلب عن نفسه صفات اللوهية ،ولهذا قالواَ} :ما ِ قدي ً
ن
شو َطَعاَم َوَيْم ُ
ن ال ّ ل ِإّنُهْم َلَيْأُكُلو َ
ن ِإ ّ
سِلي َ
ن اْلُمْر َ
ك ِم َ جا عنهَ} :وما َأْر َ
سلَْنا َقْبَل َ ق{ ]الفرقان ،[7 :وقال تعالى :محت ً
سَوا ِ
لْ
شي ِفي ا َْ َوَيْم ِ
صّمد ل يأكلون ول سا بها ،فإن الملئكة ُ ق{ ]الفرقان ،[20 :فكأنهم أرادوا منه صفة الملئكة أن يكون /متلب ً سَوا ِ
لِْفي ا َْ
ل.يشربون ،والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان المر إلى هذه الصفة ،وهذا بين إن شاء ا ّ
وثانيها :أن الخر أكمل في أمر من المور ،فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك ،ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز
بها ،وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته ،وأنه ليس للبشر من نوعه مثله ،ولكن ِلَم لْم تقل :من غير
نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟
ولهذا إذا سئل النسان عما يعجز عنه ،قد يقول :لست بملك ،وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن ،والملك من
الملوك.
وثالثها :أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال ،ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ولهذا
تزيد قدرته وعلمه وغناه في الخرة ،وهذا كما لو قال الصبي :ل أقول :إني شيخ ،ول أقول :إني عالم ،ومن الممكن
ترقيه إلى ذلك ،وأكمل منه.
الحجة الثالثة :قول إبليس لدم وحواءِ} :إّل َأن َتُكوَنا َمَلَكْيِن َأْو َتُكوَنا ِمَن اْلَخاِلِديَن{ ]العراف [20 :تقديره :كراهة أن
تكونا أو لئل تكونا ،فلول أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين؛ لما أغراهما بها ،ولما ظنا أنها هي
الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود ،والخالد أفضل من الفاني ،والملك أطول حياة من الدمي ،فيكون أعظم عبادة
وأفضل من الدمي.
/والجواب من وجوه:
أحدها :ما ذكره القاضي أن قولهِ} :إّل َأن َتُكوَنا َمَلَكْيِن{ ظن أن الملئكة خير منهما ،كما ظن أنه خير من آدم وكان
مخطئا .وقوله َ} :أْو َتُكوَنا ِمَن اْلَخاِلِديَن{ ظًنا منه أنهما يؤثران الخلود ،لما في ذلك من السلمة من المراض والسقام
والوجاع ،والفات والموت؛ لن الخالد في الجنة هذه حاله ،ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على النبياء .أل ترى أن
الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من النبياء.
وثانيها :أن الملك أفضل من بعض الوجوه ،وكذلك الخلود آثر عندهما فمال إليه.
وثالثها :أن حالهما تلك كانت حال ابتداء ل حال انتهاء ،فإنهما في النتهاء قد صارا إلى الخلود الذي ل حظر فيه ول
ل،
معه ،ول يعقبه زوال ،وكذلك يصيران في النتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك ،الذي أراداها أو ً
وهذا بين.
را بغير الفضل ،بل يبتدأ بالشىء لسباب متعددة ،كما في قوله تعالىَ} :وِإْذ َأ َ
خْذَنا /والجواب :أن البتداء قد يكون كثي ً
حا أفضل من إبراهيم ،والنبي صلى ك َوِمن ّنوٍح َوِإْبَراِهيَم{ ]الحزاب ،[7 :ولم يدل ذلك على أن نو ً ن ِميَثاَقُهْم َوِمن َ
ن الّنِبّيي َ
ِم َ
ت{]الحزاب ،[35 :ل يدل على أن ن َواْلُمْؤِمَنا ِ
ت َواْلُمْؤِمِني َ
سِلَما ِ
ن َواْلُم ْ
سِلِمي َ ال عليه وسلم أفضل؛ وكذلك قولهِ} :إ ّ
ن اْلُم ْ
ل أعلم ـ إنما بدأ بهم؛لن الملئكة أسبق خلًقا ورسالة؛فإنهم أرسلوا إلى الجن
المسلم أفضل من المؤمن ،فلعله ـ وا ّ
والنس ،فذكر الول ،فالول ،في الخلق ،والرسالة على ترتيبهم في الوجود.
ك َكِريٌم{ ]يوسف:
ل َمَل ٌ
ن َهـَذا ِإ ّ
شًرا ِإ ْ
ل َما َهـَذا َب َ
حاشَ ِّ
ن َ
ن َوُقْل َ
ن َأْيِدَيُه ّ الحجة الخامسة :قوله تعالى َ} :فَلّما َرَأْيَنُه َأْكَبْرَنُه َوَق ّ
طْع َ
،[31فدل على أن الملك أفضل من البشر ،وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر.
أحدهما :أنهن لم يعتقدن أن الملئكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر /أخبرهم فسكن إلى خبره ،فلما
ك َكِريٌم{ لن هذا الحسن ليس بصفة بشر.
ل َمَل ٌ
ن َهـَذا ِإ ّ هالهن حسنه قلنَ}:ما َهـَذا َب َ
شًرا ِإ ْ
وثانيهما :أنهن اعتقدن أن الملئكة خير من النبيين ،فكان هذا العتقاد خطأ منهن ،ول يقال إنه لما لم يقرن بالنكار
ضا في غيبتهن عنه أنه بشر ك َكِريٌم{ خطأ أي ً ل َمَل ٌ شًراً{ خطأ .وقولهنِ} :إ ْ
ن َهـَذا ِإ ّ دل على أنه حق ،فإن قولهن }َما َهـَذا َب َ
ك َكِريٌم{ خطأ في
ل َمَل ٌ
ن َهـَذا ِإ ّ وإثباتهن أنه ملك ،وإن لم يقرن بالنكار ،دل على أنه حق ،وأن قولهنَ} :ما َهـَذا َب َ
شًرا ِإ ْ
نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملئكية ،وإن لم يقرن بالنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته ،فلم يلمن في تلك الحال على
ذلك.
ل على غيرهضا ـ :إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي ،بل ول أنه من الصالحين إذ ذاك ،ولم يشهدن له فض ً وأقول ـ أي ً
شّبْهنه بحال الملئكة ،وليس
ن جماله َف َ
سَباُه ّ
من البشر في الصلح والدين ،وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن ،و َ
هذا من التفضيل في شىء من الذي نريد.
ثم نقول :إذا كان التفضيل بالجمال حًقا ،فقد ثبت أن أهل الجنة تدخـل الّزْمَرُة الولى ووجوههم كالشمس ،والذين
َيُلونهم كالقمر . . .الحديث ،فهذه حال السعداء عند المنتهى ،وإن كان في الجمال والملك تفضيل ،فإنما هو في هذه
الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس.
ل من الكرامة ،فأكثر الناس عنه ِبَمْعِزل ،ليس لهم نظر إليه ،وكذلك ما
ل عباده الصالحين ،وما أعده ا ّ/وأما ما فضل ا ّ
طْتُهم الملئكة به من أول ما خلقهم ،وهو مما به يفضلون ،فهذا الجواب وما قبله. غَب َ
ل من العلم الذي َ
آتاهم ا ّ
صاِحُبُكم ِبَمْجُنوٍن{ ]التكوير ،[22 :فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة ،والقوة والتمكين عنده ،وأنه مطاع ثم قالَ} :وَما َ
صاِحُبُكم ِبَمْجُنوٍن{فأضاف الرسول البشرى إلينا
وأنه أمين ،فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقولهَ} :وَما َ
وسلب عنه الجنون ،وأثبت له رؤية جبرائيل ،ونفى عنه البخل والتهمة ،وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملئكة،
ل به عن سواء السبيل. وبين الصفات والّنَعم ،وهذا قاله بعض المعتزلةَ ،ز ّ
جى{
سَ
ل ِإَذا َ
حى َوالّلْي ِ
ضَك{ إلى آخرها ]الشرح[ ،وقولهَ} :وال ّ صْدَر َ
ك َ
ح َل َ والجواب :أول :أين هو من قولهَ} :أَلْم َن ْ
شَر ْ
ك َمَقاًما ّمْحُموًدا{ ]السراء:
ك َرّب َ
سى َأن َيْبَعَث َ
عَحا ّمِبيًنا{ اليات ]الفتح ،[1 :و} َك َفْت ً ]الضحى ،[2 ،1 :وقولهِ} :إّنا َفَت ْ
حَنا َل َ
[79؟
وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه؟ ثم أين هو عن الخّلة؟ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم
ُيَقّدر النبي صلى ال عليه وسلم َقْدَره.
/ثم نقول ثانًيا :لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة ،وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس ،لم يروه
بأبصارهم ،ولم يسمعوا كلمه بآذانهم ،وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول ،أو أنه إنما يعلمه إياه
بعض النس.
ل العباد أن الرسول الذي جاء به ،ونعته أحسن النعت ،وبين حاله أحسن البيان ،وذلك كله إنما هو تشريف أخبر ا ّ
لمحمد صلى ال عليه وسلم ،ونفي عنه ما زعموه ،وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتيه بالوحي ،فقالِ} :إّنُه
َلَقْوُل َرُسوٍل َكِريٍم{ ] التكوير [19 :أي :أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه ،وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له،
فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية.
وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم ،وهو الذي يبلغهم الرسالة ،ولول هؤلء لما أطاقوا الخذ عن الرسول
الملكي ،وإنما قال} :صاحبكم{ إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك ،ول سابقة له بما تقولون فيه وترمونه ،من
الجنون والسحر وغير ذلك ،وأنه لول سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الخذ عنه ،أل تسمعه يقولَ}/ :وَلْو َ
جَعْلَناُه
ل{ ]النعام [9 :ـ تمييًزا ـ من المرسلين ،ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل ،وأنه مؤتمن على ما يأخذه جً
جعَْلَناُه َر ُ
َمَلًكا ّل َ
عنه ،فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين ،وجاء على الوجه البلغ والكمل والصلح.
وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملئكة بالتسبيح ،والطاعة ،والعبادة وغير ذلك.
ل الذاكر فيه ،هم :الملئكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من المل الذين يذكر العبد فيهم ربه،
والمل الذي يذكر ا ّ
ل فيه والرسول حاضر فيهم ،بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم، وخير منهم ،وقد قال بعضهم :وكم من مل ذكر ا ّ
فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح؟!
الجواب :أن هذا الحديث صحيح ،وهو أجود وأقوى ما احتجوا به ،وقد أجابوا عنه بوجهين:
أحدهما :أضعف من الخر ،وهو أن الخبر يجوز أن يرجع إلى الّذْكر ،ل إلى المذكور فيهم ،تقديره ذكرته ذكًرا خيًرا
ل كلمه ،وهذا ليس بشيء ،فإن الخبر مجرور صفة للمل ،وقد وصل بقوله :منهم ،ولم يقل: من ذكره؛ لن ذكر ا ّ
منه ،ولول ذلك المعنى لقيل :ذكرته في مل خيًرا /منه بالنصب ،وصلة الضمير الذكر .وهذا من أوضح الكلم لمن له
ل من التنطع.
فقه بالعربية ونعوذ با ّ
ل .يقال:
ل من ذكره فيهم ـ هم صفوة الملئكة وأفضلهم ،والذاكر فيهم للعبد هو ا ّ
أحدها :أن المل العلى الذين يذكر ا ّ
ينبغى أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى ال عليه وسلم ،وإن كان أفضل البشر،
لكن الذين حوله ليس أفضل من بقى من البشر الفضلء ،فإن الرسل والنبياء ،أفضل منهم.
وخامسها :أنه ل يدل على أن المل العلى أفضل من هؤلء الذاكرين إل في هذه الدنيا ،وفي هذه الحال؛ لنهم لم
يكملوا بعد ،ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من المل العلى ،فالمل العلى خير منهم في هذه الحالة ،كما يكون
الشيخ العاقل خيًرا من عامة الصبيان؛ لنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان ،ولعل في الصبيان في عاقبته
أفضل منه بكثير ،ونحن إنما نتكلم على عاقبة المر ومستقره.
جـاب:
فأ َ
بأن سبق خديجة ،وتأثيرها في أول السلم ،ونصرها ،وقيامها في الدين ،لم تشركها فيه عائشة ،ول غيرها من
أمهات المؤمنين.
وتأثير عائشة في آخر السلم ،وحمل الدين ،وتبليغه إلى المة ،وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة ،ول
غيرها مما تميزت به عن غيرها.
ل:
حَمُه ا ُّ
سلم ـ َر ِ
لْ/وقال شيخ ا ِ
صــل
َف ْ
وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع ،وتفصيل ليس هذا موضعه .وخديجة وعائشة من أزواجه.
سلم:
خ الِ ْ
شْي ُ
/وقال َ
صــل
َف ْ
وأما نساء النبي صلى ال عليه وسلم ،فلم يقل :إنهن أفضل من العشرة إل أبو محمد ابن حزم ،وهو قول شاذ لم يسبقه
إليه أحد ،وأنكره عليه من بلغه من أعيان العلماء ،ونصوص الكتاب والسنة تبطل هذا القول.
وحجته التي احتج بها فاسدة؛ فإنه احتج على ذلك بأن المرأة مع زوجها في درجته في الجنة ،ودرجة النبي صلى ال
عليه وسلم أعلى الدرجات فيكون أزواجه في درجته ،وهذا يوجب عليه أن يكون أزواجه أفضل من النبياء جميعهم،
وأن تكون زوجة كل رجل من أهل الجنة أفضل ممن هو مثله ،وأن يكون من يطوف على النبي صلى ال عليه وسلم
من اِلوْلدان ،ومن يزوج به من الحور الِعين أفضل من النبياء والمرسلين ،وهذا كله مما َيْعَلم بطلنه عموُم المؤمنين.
وبالجملة ،فهذا قول شاذ لم يسبق إليه أحد من السلف ،وأبو محمد مع كثرة علمه وتبحره ،وما يأتي به من الفوائد
العظيمة ،له من القوال المنكرة الشاذة ما يعجب منه كما يعجب مما يأتي به من القوال الحسنة الفائقة ،وهذا كقوله:
إن مريم نبية ،وإن آسية نبية ،وإن أم موسى نبية.
وقد ذكر القاضي أبو بكر ،والقاضي أبو يعلى ،وأبو المعالي ،وغيرهم :الجماع على أنه ليس في النساء نبية،
ك ِإّل ِرَجاًل ّنوِحي ِإَلْيِهم ّمْن َأْهِل اْلُقَرى{ ]يوسف،[109 : والقرآن والسنة َدل على ذلك ،كما في قولهَ} :وَما َأْر َ
سْلَنا ِمن َقْبِل َ
صّديَقٌة{ ]المائدة ،[75 :ذكر أن غاية ما انتهت إليه أمه ل َوُأّمُه ِ سُت ِمن َقْبِلِه الّر ُ
خَل ْ
ل َقْد َ
سو ٌ
ل َر ُ
ن َمْرَيَم ِإ ّ
ح اْب ُ وقولهّ} :ما اْلَم ِ
سي ُ
الصديقيُة ،وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
سلم:
خ الِ ْ
شي ُ
ل َ
َ/وَقا َ
َفصـل
وأما أبو بكر والخضر ،فهذا يبني على نبوة الخضر .وأكثر العلماء على أنه ليس بنبي ،وهو اختيار أبي علي بن أبي
موسى وغيره من العلماء .فعلى هذا أبو بكر وعمر أفضل منه.
والقول الثاني :أنه نبي ،واختاره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره .فعلى هذا هو أفضل من أبي بكر ،لكن النبي صلى ال
عليه وسلم وعيسى ابن مريم هما أفضل منه بالتفاق ،ومحمد في أول هذه المة وعيسى في آخرها.
ل عنهما ـ ل ـ عن رجلين اختلفا .فقال أحدهما :أبو بكر الصديق ،وعمر ابـن الخطاب ـ رضي ا ّ ل ـ َرحَمُه ا ّ
سئ َ
َو ُ /
ل عنه .وقال الخر :بل على بن أبي طالب أعلم ،وأفقه من أبي بكر أعلم ،وأفقه من على بن أبي طالب ـ رضي ا ّ
ضاُكم علي( ،وقوله) :أنا مدينة
وعمر ،فأي القولين أصوب؟ وهل هذان الحديثان :وهما قوله صلى ال عليه وسلم) :أْق َ
العلم ،وعلي بابها( صحيحان؟ وإذا كانا صحيحين ،فهل فيهما دليل أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ رضي الّ
ل عنه ـ أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ عنهم أجمعين ؟ وإذا ادعى مدع :أن إجماع المسلمين على أن عليا ـ رضي ا ّ
ل عنهم أجمعين ـ يكون محًقا أو مخطًئا؟ رضي ا ّ
جــاب:
فَأ َ
ل ،لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين :أن علّيا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ،بل ول من أبي بكر
الحمد ّ
وحده .ومدعي الجماع على ذلك من أجهل الناس ،وأكذبهم بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا
بكر الصديق أعلم من علي :منهم المام منصور بن عبد الجبار السمعاني ،المروذي ـ أحد أئمة السنة من أصحاب
الشافعي ـ ذكر في كتابه[:تقويم الدلة على المام] /إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي .وما علمت أحًدا
من الئمة المشهورين ينازع في ذلك.
وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى ال عليه وسلم يفتي ،ويأمر ،وينهى ،ويقضي ،ويخطب؟! كما كان
يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى السلم ،ولما هاجرا جميًعا ،ويوم حنين ،وغير ذلك من المشاهد
والنبي صلى ال عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ،ويرضى بما يقول ،ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وكان النبي صلى ال عليه وسلم في مشاورته لهل العلم ،والفقه ،والرأي من أصحابه ،يقدم في الشورى أبا بكر،
وعمر .فهما اللذان يتقدمان في الكلم ،والعلم بحضرة الرسول عليه السلم على سائر أصحابه ،مثل قصة مشاورته
في أسرى بدر ،فأول من تكلم في ذلك أبو بكر ،وعمر ،وكذلك غير ذلك.
وقد روى في الحديث أنه قال لهما) :إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما( ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء،
وهو إحدى الروايتين عن أحمد ـ وهذا بخلف قول عثمان ،وعلي.
وفي السنن عنه أنه قال ) :اقتدوا باللذين من بعدي :أبي بكر وعمر( .ولم يجعل هذا لغيرهما ،بل ثبت عنه أنه قال:
سّنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ،تمسكوا بها ،وعضوا عليها بالّنواجذ ،وإياكم وُمحَْدثات
سّنِتي ،و ُ
)عليكم ب ُ
/المور ،فإن كل بدعة ضللة( فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين .وهذا يتناول الئمة الربعة .وخص أبا بكر وعمر
بالقتداء بهما .ومرتبة المقتدي به في أفعاله ،وفيما سنه للمسلمين ،فوق سنة المتبع فيما سنه فقط .وفي صحيح مسلم
أن أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال) :إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا(.
ضا فأبو بكر وعمر ،كان اختصاصهما بالنبي صلى ال عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما .وأبو بكر كان أكثر وأي ً
سُمُر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ،ومصالح المسلمين .كما روى أبو بكر بن أبي
صا .فإنه كان َي ْ
اختصا ً
ل صلى ال عليه وسلم يسمر عْلَقَمة عن عمر قال :كان رسول ا ّ
شيبة :حدثنا أبو معاوية عن العمش عن إبراهيم عن َ
عند أبي بكر في المر من أمور المسلمين وأنا معه.
سا فقراء؛ وأن النبي صلى ال عليه وسلمصّفة كانوا /نا ًوفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر :أن أصحاب ال ّ
قال) :من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ،ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ،أو بسادس( ،وأن أبا بكر
شى عند النبي صلى ال عليه وسلم ،ثم لبث ل صلى ال عليه وسلم بعشرة؛ وأن أبا بكر َتَع ّ جاء بثلثة ،وانطلق نبي ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم ،فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء س رسول ا ّحتى صليت العشاء ،ثم رجع ،فلبث حتى َنَع َ
ل .قالت امرأته :ما حبسك عن أضيافك؟ قال :أو ما عشيتهم؟ قالت :أبوا حتى تجىء .عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم. ا ّ
وذكر الحديث .وفي رواية) :كان يتحدث إلى النبي صلى ال عليه وسلم إلى الليل(.
سا عند النبي صلى ال عليه وسلم ،إذ أقبل أبو بكر آخًذا بطرف ثوبه وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال :كنت جال ً
حتى أبدى عن ركبته ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :أما صاحبكم فقد غامر( فسلم ،وقال :إني كان بيني وبين ابن
ل لك ثلًثا( ثم إن عمر ندم ي ،فأتيتك .فقال) :يغفر ا ّ
الخطاب شيء فأسرعت إليه ،ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عل ّ
ضب غ ِفأتى منزل أبي بكر فلم يجده ،فأتى النبي صلى ال عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى ال عليه وسلم َيَتَمّعر و َ
ل بعثني إليكم،ل ،مرتين ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن ا ّ حتى /أشفق أبو بكر ،وقال :أنا كنت أظلم يا رسول ا ّ
فقلتم :كذبت وقال :أبو بكر صدقت ،وواساني بنفسه وماله ،فهل أنتم تاركو لي صاحبي ،فهل أنتم تاركو لي صاحبي(.
فما أوذي بعدها .قال البخاري :غامر :سبق بالخير.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال :وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ،ويثنون ،ويصلون عليه قبل أن
يرفع؛ وأنا فيهم فلم يرعني إل رجل قد أخذ بَمْنِكبي من ورائي ،فالتفت فإذا هو على ،وترحم على عمر ،وقال :ما
ل مع صاحبيك .وذلكل ،إن كنت لظن أن يجعلك ا ّ ل ـ عز وجل ـ بعمله منك ،وايم ا ّ
خلفت أحًدا أحب إلى أن ألقي ا ّ
أني كنت كثيًرا ما أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :جئت أنا وأبوبكر وعمر ،ودخلت أنا وأبوبكر وعمر،
ل معهما.
وخرجت أنا وأبوبكر وعمر( ،فإن كنت أرجو ،أو أظن أن يجعلك ا ّ
وفي الصحيحين وغيرهما :أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان ـ لما أصيب المسلمون :أفى القوم محمد؟ أفي القوم
محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :لتجيبوه( .فقال :أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن
أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تجيبوه( .فقال :أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي
القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تجيبوه( .فقال لصحابه :أما هؤلء
ل! إن الذين عددت لحياء ،وقد بقى لك ما يسوؤك. . .
فقد /كفيتموهم .فلم يملك عمر نفسه أن قال :كذبت عدو ا ّ
الحديث .فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى ال عليه وسلم ،وأبى بكر وعمر دون غيرهم؛ لعلمه
بأنهم رؤوس المسلمين :النبي ووزيراه.
ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى ال عليه وسلم في حياته فقال :منزلتهما منه في حياته
كمنزلتهما منه بعد مماته .وكثرة الختصاص ،والصحبة ،مع كمال المودة ،والئتلف ،والمحبة ،والمشاركة في العلم
والدين ،تقتضى أنهما أحق بذلك من غيرهما .وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم.
صا.
صّديق ،فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره ـ حتى بينها لهم ـ لم يحفظ له قول مخالف ن ً
أما ال ّ
هذا يدل على غاية البراعة ،وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص؛ لكون تلك النصوص لم تبلغهم.
ق استخلفه النبي صلى ال عليه وسلم على ]الصلة[ التي هي عمود السلم ،وعلى إقامة صّدي َ
ضا فإن ال ّ
وأي ً
]المناسك[ التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها ،وأقام المناسك قبل أن يحج النبي صلى ال عليه وسلم .فنادى أل
عْرَيان ،فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين ،فلما لحقه
يحج بعد العام مشرك ،ول يطوف بالبيت ُ
ي بن أبي طالب ،وكان علي ممن أمره النبي صلى ال قال :أمير ،أو مأمور؟ قال :بل مأمور .فأمر أبا بكر على عل ّ
عليه وسلم أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين ،وغير ذلك لبي بكر ،وكان هذا بعد غزوة تبوك التي
استخلف علًيا فيها على المدينة ،ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال إل منافق ،أو معذور ،أو مذنب ،فلحقه على فقال:
أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال) :أما ترضى أن تكون ِمّني بمنزلة هارون من موسى؟(.
ى على المدينة ل يقتضى نقص المرتبة؛ فإن موسى قد استخلف هارون ،وكان النبي صلى بين بذلك أن استخلف عل ّ
ل ،لكن كان يكون بها رجال .وعام تبوك خرج النبي صلى ال عليه وسلم بجميع ال عليه وسلم دائما يستخلف رجا ً
ل سورة براءة.
المسلمين ولم يأذن لحد في التخلف عن الغزاة؛ لن العدو كان شديًدا ،والسفر /بعيًدا ،وفيها أنزل ا ّ
وكتاب أبي بكر في الصدقات أجمع الكتب وأوجزها؛ ولهذا عمل به عامة الفقهاء .وكتاب غيره فيه ما هو متقدم
منسوخ ،فدل ذلك على أنه أعلم بالسنة الناسخة .وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال :وكان أبو بكر أعلمنا برسول ا ّ
ل
صلى ال عليه وسلم .
ضا ،فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إل فصـلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع ،فل وأي ً
يعرف بينهم في زمانه مسألة واحـدة تنازعوا فيها إل ارتفع النزاع بينهم بسببه ،كتنازعهم في وفاته صلى ال عليه
وسلم ،ومدفنه ،وفي ميراثه ،وفي تجهيز جيش أسامة ،وقتال مانعي الزكاة ،وغير ذلك من المسائل الكبار ،بل كان
ل صلى ال عليه وسلم فيهم :يعلمهم ،وُيَقّومهم ،ويبين لهم ما تزول معه الشبهة ،فلم يكونوا معه
خليفة رسول ا ّ
يختلفون.
وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله؛ فصاروا يتنازعون في بعض المسائل .كما تنازعوا في الجدّ
والخوة ،وفي الحرام ،وفي الطلق الثلث ،وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على
عهد أبي بكر ،وكانوا يخالفون عمر ،وعثمان ،وعلًيا في كثير من أقوالهم ،ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء
مما كان يفتى فيه ويقضى .وهذا يدل على غاية العلم.
ل صلى ال عليه وسلم ،وأقام السلم؛ فلم يخل بشيء منه ،بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا وقام مقام رسول ا ّ
منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم ،وكثرة الخاذلين ،فكمل به من علمهم ودينهم ما ل يقاومه فيه /أحد،
ل صلى ال عليه وسلم .ثم بعد هذا سموا عمر وغيره حتى قام الدين كما كان .وكانوا يسمون أبا بكر خليفة رسول ا ّ
ل َمَعَنا{ ]التوبة [40 :في أبي بكر :في
نا ّ
ن ِإ ّ
حَز ْ أمير المؤمنين .قال السهيلي وغيره من العلماء :ظهر قولهَ } :
ل َت ْ
ل ،ثم انقطع هذا التصال اللفظي ل وأبو بكر خليفة رسول ا ّ اللفظ ،كما ظهر في المعنى فكانوا يقولون :محمد رسول ا ّ
ل.
بموته ،فلم يقولوا لمن بعده :خليفة رسول ا ّ
ضا فعلي بن أبي طالب تعّلم من أبي بكر بعض السنة؛ بخلف أبي بكر ،فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب ،كماوأي ً
في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلة التوبة عن علي قال :كنت إذا سمعت من النبي صلى ال عليه وسلم
ل منه بما شاء أن ينفعني ،فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته ،وحدثني أبو بكر ـ وصدق
حديثا ينفعني ا ّ
أبو بكر ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما من مسلم يذنب ذنًبا ثم يتوضأ وُيحسن الوضوء ويصلي ركعتين
ل له(.
ل ،إل غفر ا ّ
ويستغفر ا ّ
ي الذين صحبوه ل يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر /وعمر ،ل في فقه ،ول علم ،ول وكل شيعة عل ّ
غيرهما؛ بل كل شيعته ،الذين قاتلوا معه عدوه ،كانوا مع سائر المسلمين ،يقدمون أبا بكر وعمر ،إل من كان عل ّ
ي
ي وخمولهم ،كانوا ثلث طوائف: ينكر عليه ويذمه ،مع قلتهم في عهد عل ّ
ى بالنار.
طائفة غلت فيه ،كالتي ادعت فيه اللهية ،وهؤلء حرقهم عل ّ
ضُله على أبي بكر وعمر ،قال :ل يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إل جلدته حد وطائفة كانت ُتَف ّ
المفتري .وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة :خير هذه المة بعد نبيها أبو بكر
وعمر .وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية رجال َهْمَدان خاصة ـ التي يقول فيها علي:
ولو كنت بواًبا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلم
من رواية سفيان الثوري عن ُمْنِذر الثوري وكلهما من همدان .رواه البخاري عن محمد بن كثير .قال :حدثنا سفيان
شّداد ،حدثنا أبو يعلى منذر الثوري ،عن محمد ابن الحنفية قال :قلت لبي :يا أبت ،من خير الثوري حدثنا جامع بن َ
ل صلى ال عليه وسلم ؟ فقال :يا بني ،أو ما تعرف ؟! فقلت :ل .فقال :أبو بكر .قلت :ثم من ؟ قال:الناس بعد رسول ا ّ
ثم عمر.
/وهذا يقوله لبنه ،الذي ل يتقيه ،ولخاصته ،ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما .والمتواضع ل يجوز له أن يتقدم بعقوبة
كل من قال الحق ،ول يجوز أن يسميه مفترًيا .ورأس الفضائل العلم ،وكل من كان أفضل من غيره من النبياء
ب{
لْلَبا ِ
ن ِإّنَما َيَتَذّكُر ُأْوُلوا ا َْ
ل َيْعَلُمو َ
ن َ
ن َواّلِذي َ
ن َيْعَلُمو َ
سَتِوي اّلِذي َ
ل َي ْ
والصحابة وغيرهم ،فإنه أعلم منه ،قال تعالىَ} :ه ْ
]الزمر ،[9 :والدلئل على ذلك كثيرة ،وكلم العلماء في ذلك كثير.
ي( ،لم يروه أحد من أهل الكتب الستة ،ول أهل المسانيد المشهورة ،ل أحمد ،ول غيره بإسناد
وأما قوله) :أقضاكم عل ّ
ي أقرؤنا ،وعل ّ
ي صحيح ول ضعيف ،وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب ،ولكن قال عمر بن الخطاب :أب ّ
أقضانا ،وهذا قاله بعد موت أبي بكر.
والذي في الترمذي وغيره أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :أعلم أمتي بالحلل والحرام معاذ بن جبل ،وأعلمها
ي ،والحديث الذي فيه ذكر علي ـ مع ضعفه ـ فيه أن معاذ بن جبل أعلم
بالفرائض زيد بن ثابت( وليس فيه ذكر عل ّ
بالحلل والحرام ،وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض .فلو قدر صحة هذا الحديث ،لكان العلم بالحلل والحرام أوسع
علًما من العلم بالقضاء؛ لن الذي يختص بالقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الباطن
ي ،ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، بخلفه كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إنكم تختصمون إل ّ
وإنما أقضي بنحو ما أسمع .فمن قضيت له من حق أخيه شيًئا فل يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار( فقد أخبر سيد
القضاة أن قضاءه /ل يحل الحرام ،بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضائه ما قضى له به من حق الغير .وعلم الحلل
والحرام يتناول الظاهر والباطن :فكان العلم به أعلم بالدين.
صَمين ،مثل :أن يدعي أحدهما أمًرا يكذبه الخر فيه فيحكم فيه بالبينة ونحوها.
خ ْ
حد ال َ
جا ُ
أحدهما :الحكم عند َت َ
والثاني :ما ل يتجاحدان فيه ـ يتصادقان ـ ولكن ل يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسم فريضة ،أو فيما
يجب لكل من الزوجين على الخر ،أو فيما يستحقه كل من الشريكين ،ونحو ذلك.
فهذا الباب هو من أبواب الحلل والحرام ،فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك ،ولم يحتاجا إلى من يحكم
بينهما ،وإنما يحتاجان إلى حاكم عند التجاحد ،وذاك إنما يكون في الغلب مع الفجور ،وقد يكون مع النسيان؛ فأما
الحلل والحرام فيحتاج إليه كل أحد من َبّر وفاجر ،وما يختص بالقضاء ل يحتاج إليه إل قليل من البرار.
/وقوله) :أعلمهم بالحلل والحرام معاذ بن جبل( أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله) :أقضاكم علي( لو
ظهر دللة ،علم أن المحتج بذلك ـ على أن عليا أعلم من معاذ بن
كان مما يحتج به ،وإذا كان ذلك أصح إسناًدا ،وأ ْ
جبل ـ جاهل ـ فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ بن جبل؟! مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد
يضعفه بعضهم ،ويحسنه بعضهم .وأما الحديث الذي فيه ذكر على فإنه ضعيف.
وأما حديث) :أنا مدينة العلم( فأضعف وأوهى؛ ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات ،وإن كان الترمذي قد
رواه؛ ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ،وبين أنه موضوع من سائر طرقه.
والكذب يعرف من نفس َمْتِنه ،ل يحتاج إلى النظر في إسناده ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم إذا كان )مدينة العلم( لم
يكن لهذه المدينة إل باب واحد ،ول يجوز أن يكون المبلغ عنه واحًدا ،بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين
يحصل العلم بخبرهم للغائب ،ورواية الواحد ل تفيد العلم إل مع قرائن ،وتلك القرائن إما أن تكون منتفية؛ وإما أن
تكون خفية عن كثير من الناس ،أو أكثرهم فل يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة ،بخلف النقل المتواتر،
الذي يحصل به العلم للخاص والعام.
حا ،وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين ـ إذا لم يبلغه إل
وهذا الحديث إنما افتراه زنديق ،أو جاهل ،ظنه مد ً
واحد من الصحابة.
ل صلى ال عليه وسلم من /ثم إن هذا خلف المعلوم بالتواتر ،فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول ا ّ
غير طريق على ـ رضى ال عنه ـ أما أهل المدينة ومكة فالمر فيهم ظاهر ،وكذلك أهل الشام والبصرة ،فإن هؤلء
ل ،وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة ،ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن
لم يكونوا يروون عن على إل شيًئا قلي ً
والسنة قبل أن يتولى عثمان ،فضل عن خلفة علي.
وكان أفقه أهل المدينة ،وأعلمهم ،تعلموا الدين في خلفة عمر ،وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيًئا إل من تعلم
منه لما كان باليمن ،كما تعلموا ـ حينئذ ـ من معاذ ابن جبل .وكان مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن وتعليمه لهم أكثر
شَرْيح وغيره من أكابر التابعين
من مقام علي وتعليمه؛ ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ أكثر مما رووه عن على ،و ُ
إنما تفقهوا على معاذ.
فإذا كان علم السلم انتشر في مدائن السلم بالحجاز ،والشام ،واليمن ،والعراق ،وخراسان ،ومصر ،والمغرب قبل
أن يقدم إلى الكوفه ،ولما صار إلى الكوفة عامة ما بلغة من العلم بلغه غيره من الصحابة ،ولم يختص على بتبليغ
شيء من العلم إل وقد اختص غيره بما هو أكثر منه.
/فالتبليغ العام الحاصل بالولية ،حصل لبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي.
وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتًيا منه ،وأبو هريرة أكثر رواية منه ،وعلي أعلم منهما ،كما أن أبا بكر وعمر
ضا ـ فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ
وعثمان أعلم منهما ـ أي ً
بعض العلم الخاص.
وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل ،وقد ثبت عنه في
ل صلى ال عليه وسلم شيء؟ فقال :ل والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إل الصحيح أنه قيل له :هل عندكم من رسول ا ّ
ل عبًدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها عقول الديات ـ أي :أسنان البل التي تجب فيه الدية ـ
فهما يؤتية ا ّ
وفيها فكاك السير ،وفيها :ل يقتل مسلم بكافر.
ل صلى ال عليه وسلم شيًئا لم يعهده إلى الناس؟ فنفى ذلك .إلى غير ذلك من
وفي لفظ :هل عهد إليكم رسول ا ّ
الحاديث عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي صلى ال عليه وسلم خصه بعلم فقد كذب عليه.
وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي صلى ال عليه وسلم فأورثه علم الولين والخرين ،من أقبح الكذب
البارد ،فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع ،ول شرب علي شيًئا ،ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من
حضر .ولم يرو هذا أحد من أهل العلم.
/وكذلك ما يذكر :أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر ،وعمر ،وغيرهما ،فهذا من مقالت الملحدة
الباطنية ،ونحوهم ،الذين هم أكفر منهم ،بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود ،والنصارى ،كالذين يعتقدون إلهيته،
ونبوته ،وأنه كان أعلم من النبي صلى ال عليه وسلم ،وأنه كان معلًما للنبي صلى ال عليه وسلم في الباطن ،ونحو
ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
هذه المقالت ،التي إنما يقولها الغلة في الكفر واللحاد .وا ّ
ي،
ل َتَعاَلى ـ عن رجل متمسك بالسنة ويحصل له ريبة في تفضيل الثلثة على عل ّ سلم ـ رحمُه ا ُّ خ ال ْشي ُ
ل َ سئ َ
ُ /
لقوله ـ عليه السلم ـ له) :أنت مني وأنا منك( ،وقوله) :أنت مني بمنزلة هارون من موسى( ،وقوله) :لعطين الراية
ي موله() ،اللهم وال من واله وعاد من عاداه. . . ل ورسوله . . .إلخ ( وقوله) :من كنت موله فعل ّ رجل يحب ا ّ
ل في أهل بيتي( ،وقوله سبحانهَ} :فُقْل َتَعاَلْوْا َنْدُع َأْبَناءَنا َوَأْبَناءُكْم{ الية ]آل عمران [61 :وقوله إلخ( ،وقوله) :أذّكرُكم ا ّ
صُموا ِفي َرّبِهْم{ الية ]الحج.[19 :
خَت َ نا ْ صَما ِ خ ْ ن َ ن{ الية]النسان ،[1 :وقولهَ}:هَذا ِسا ِ
لن َ
عَلى ا ِْ تعالىَ} :ه ْ
ل َأَتى َ
ب:
جــا َ
َفأ َ
ل :أن التفضيل إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما ل يوجد مثله للمفضول ،فإذا استويا وانفرد أحدهما
يجب أن يعلم أو ً
بخصائص كان أفضل ،وأما المور المشتركة فل توجب تفضيله على غيره.
ل عنه ـ التي تميز بها لم يشركه /فيها غيره ،وفضائل عليّ مشتركة،
وإذا كان كذلك ،ففضائل الصديق ـ رضي ا ّ
خة إل
وذلك أن قوله) :لو كنت متخًذا من أهل الرض خليل لتخذت أبا بكر خليل( ،وقوله) :ل يبقى في المسجد خَْو َ
ن الناس على في صحبته وذات يده أبو بكر( وهذا فيه ثلث خصائص لم خة أبي بكر( وقوله) :إن أَم ّ
خْو َ
ت ،إل َ
سّد ْ
ُ
يشركه فيها أحد:
الولى :أنه ليس لحد منهم عليه في صحبته وماله مثل ما لبي بكر.
الثانية :قوله) :ل يبقى في المسجد . . .إلخ( ،وهذا تخصيص له دون سائرهم ،وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي
مثل ذلك ،والصحيح ل يعارضه الموضوع.
وكذلك أمره له أن يصلي بالناس مدة مرضه من الخصائص ،وكذلك تأميره له في المدينة على الحج؛ ليقيم السنة
ويمحق آثار الجاهلية فإنه من خصائصه ،وكذلك قوله في الحديث الصحيح) :ادع أباك وأخاك حتى أكتب لبي بكر
كتاًبا( وأمثال هذه الحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه .وأما قوله(:أنت مني وأنا منك( ،فقد قالها
ل ِإّنُهْم َلِمنُكمْ َوَما ُهم ّمنُكْم{ ]التوبة ،[56:وقوله صلى ال
ن ِبا ّ لغيره وقالها لسلمان والشعريين .وقال تعالىَ} :وَي ْ
حِلُفو َ
شَنا فليس منا ،ومن حمل علينا السلح فليس منا( ،يقتضي أن من يترك /هذه الكبائر يكون منا ،فكل غّ
عليه وسلم):من َ
مؤمن كامل اليمان فهو من النبي والنبي منه ،وقوله في ابنة حمزة) :أنت مني وأنا منك( وقوله لزيد) :أنت أخونا
ومولنا( ل يختص بزيد ،بل كل مواليه كذلك.
وكذلك قوله ):لعطين الراية...إلخ (.هو أصح حديث يروى في فضله ،وزاد فيه بعض الكذابين :أنه أخذها أبو بكر
وعمر فهربا ،وفي الصحيح أن عمر قال :ما أحببت المارة إل يومئذ ،فهذا الحديث رد على الناصبة الواقعين في
ل ورسوله ،قال تعالى:ل ورسوله ،ويحبه ا ّ
على ،وليس هذا من خصائصه ،بل كل مؤمن كامل اليمان يحب ا ّ
ل ِبَقْوٍم ُيِحّبُهْم َوُيِحّبوَنُه{ ]المائدة ،[54:وهم الذين قاتلوا أهل الردة وإمامهم أبو بكر ،وفي الصحيح :أنه
ف َيْأِتي ا ّ
سْو َ
}َف َ
سأله :أي الناس أحب إليك؟ قال) :عائشة( .قال :فمن الرجال؟ قال) :أبوها( ،وهذا من خصائصه.
ضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى( قاله في غزوة تبوك لما استخلفه على المدينة ،فقيل: وأما قوله) :أما َتْر َ
ل من أمته ،وكان بالمدينة رجال من
استخلفه لبغضه إياه ،وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا غزا استخلف رج ً
المؤمنين القادرين ،وفي غزوة تبوك لم يأذن لحد فلم يتخلف أحد إل لعذر ،أو عاص .فكان ذلك الستخلف ضعيًفا
فطعن به المنافقون بهذا السبب ،فبين له :أني لم أستخلفك لنقص عندي ،فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في
الرسالة ،أفما ترضى بذلك؟ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله وكانوا منه بهذه /المنزلة ،فلم يكن هذا من خصائصه ،ولو
ي ولحقه يبكي.
كان هذا الستخلف أفضل من غيره لم يخف على عل ّ
ومما بين ذلك :أنه بعد هذا أّمر عليه أبا بكر سنة تسع ،وكونه بعثه لنبذ العهود ليس من خصائصه؛ لن العادة لما
جرت أنه ل ينبذ العهود ول يعقدها إل رجل من أهل بيته ،فأي شخص من عترته نبذها حصل المقصود ،ولكنه
ل صلى ال عليه وسلم فكان أحق الناس بالتقدم من سائرهم ،فلما أّمر أبا بكر بعد قوله:
أفضل بني هاشم بعد رسول ا ّ
)أما ترضى...إلخ( ،علمنا أنه ل دللة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه ،وإنما شبهه به في الستخلف
خاصة ،وذلك ليس من خصائصه.
وقد شبه النبي صلى ال عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم وعيسى ،وشبه عمر بنوح وموسى ـ عليهم الصلة والسلم ـ لما
أشارا في السرى ،وهذا أعظم من تشبيه على بهارون ،ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل ،وتشبيه الشىء
بالشىء ـ لمشابهته في بعض الوجوه ـ كثير في الكتاب والسنة وكلم العرب.
وأما قوله) :من كنت موله فعلي موله ،اللهم وال من واله ...إلخ( فهذا ليس في شىء من المهات؛ إل في الترمذي،
وليس فيه إل) :من كنت موله فعلى موله( ،وأما الزيادة فليست في الحديث .وسئل عنها المام أحمد فقال :زيادة
كوفية ،ول ريب أنها كذب لوجوه:
/أحدها :أن الحق ل يدور مع ُمَعّين إل النبي صلى ال عليه وسلم ؛ لنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال،
ومعلوم أن علًيا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل وجد فيها النص يوافق من نازعه؛ كالمتوفى عنها زوجها وهي
حامل.
صّفين[ فما انتصروا ،وأقوام لم يقاتلوا
وقوله ) :اللهم انصر من نصره ...إلخ ( ،خلف الواقع ،قاتل معه أقوام يوم [ ِ
فما خذلوا ]كسعد[ الذي فتح العراق لم يقاتل معه ،وكذلك أصحاب معاوية ،وبني أمية الذين قاتلوه ،فتحوا كثيًرا من
ل.
بلد الكفار ونصرهم ا ّ
وكذلك قوله) :الّلهم وال من واله وعاد من عاداه( مخالف لصل السلم ؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع
قتالهم وبغي بعضهم على بعض .وقوله) :من كنت موله فعلي موله ( فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري
صا بها ،بل ولية مشتركة ،وهي ولية اليمان التي وغيره ،ومنهم من حسنه ،فإن كان قاله فلم يرد به ولية مخت ً
للمؤمنين ،والموالة ضد المعاداة ،ول ريب أنه يجب موالة المؤمنين على سواهم ،ففيه رد على النواصب.
وحديث)التصدق بالخاتم في الصلة( كذب باتفاق أهل المعرفة ،وذلك مبين بوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا
الموضع.
ل في أهل بيتي( ،فليس من الخصائص /بل هو مساو لجميع أهل البيت ،وأبعد خّم) :أذكركم ا ّ
غِديَر ُ
وأما قوله :يوم َ
الناس عن هذه الوصية الرافضة ،فإنهم يعادون العباس وذريته؛ بل يعادون جمهور أهل البيت ويعينون الكفار عليهم .
وأما آية ]المباهلة[ فليست من الخصائص ،بل دعا علًيا وفاطمة وابنيهما ،ولم يكن ذلك لنهم أفضل المة ،بل لنهم
س وطهرهم تطهيًرا(.
ج َ
أخص أهل بيته ،كما في حديث الكساء) :الّلهم هؤلء أهل بيتي فأذهب عنهم الّر ْ
وأما سورةَ} :هْل َأَتى َعَلى اِْلنَساِن{ ]سورة النسان[ فمن قال :إنها نزلت فيه وفي فاطمة وابنيهما فهذا كذب؛ لنها
مكية والحسن والحسين إنما ولدا في المدينة ،وبتقدير صحته فليس فيه أنه من أطعم مسكيًنا ويتيما وأسيًرا أفضل
الصحابة ،بل الية عامة مشتركة فيمن فعل هذا ،وتدل على استحقاقه للثواب على هذا العمل ،مع أن غيره من
ل والصلة في وقتها والجهاد أفضل منه. العمال من اليمان با ّ
ل عمن يقول:
سِئ َ
َو ُ
ي غيره ،وإذا ذكر]علي[ صلى عليه مفرًدا ،هل يجوز له أن يخصه بالصلة دون غيره؟
ل أفضل على عل ّ
ب:
جــا َ
َفَأ َ
ليس لحد أن يخص أحًدا بالصلة عليه دون النبي صلى ال عليه وسلم ،ل أبا بكر ،ول عمر ،ول عثمان ،ول علًيا،
ومن فعل ذلك فهو مبتدع ،بل إما أن يصلي عليهم كلهم أو يدع الصلة عليهم كلهم.
بل المشروع أن يقول) :اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ،كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على
محمد وعلى آل محمد ،كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد(.
ل أعلم.
وا ّ
ل بن أبي زيد في آخر عقيدته :وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول ل عن قول الشيخ أبي محمد عبد ا ّ سِئ َ
ُ /
ل صلى ال عليه وسلم ،وآمنوا به ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم .وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو
ا ّ
بكر ،وعمر ،وعثمان ،وعلي .فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر؟ وتفضيل عمر على عثمان ،وعثمان على
طا مأجورين،
ي ؟ فإذا تبين ذلك ،فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم ل؟ بينوا لنا ذلك بيانا مبسو ً
عل ّ
إن شاء ال تعالى.
جاب:
َفأ َ
ل رب العالمين ،أما تفضيل أبي بكر ،ثم عمر عَلى عثمان وعلي ،فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمينالحمد ّ
المشهورين بالمامة في العلم والدين ،من الصحابة ،والتابعين ،وتابعيهم ،وهو مذهب مالك وأهل المدينة ،والليث بن
سَلمة ،وأمثالهم
سعد ،وأهل مصر ،والوزاعي ،وأهل الشام ،وسفيان الثوري ،وأبي حنيفة ،وحماد بن زيد ،وحماد بن َ
من أهل العراق .وهو مذهب الشافعي وأحمد ،وإسحاق ،وأبي عبيد ،وغير هؤلء من أئمة السلم الذين لهم لسان
ت أحًدا ممن أقتدى به يشك في تقديم أبي بكر صدق في المة .وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال :ما أدرك ُ
وعمر.
/وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب .وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية؛ أنه قال لبيه
ل صلى ال عليه وسلم؟ قال :يا بني ،أو ما تعرف؟! قلت :ل. على بن أبي طالب :يا أبت َمن خُير الناس بعد رسول ا ّ
قال :أبو بكر .قلت :ثم من؟ قال :عمر .ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها ،وأنه كان يقوله على
حّد المْفَتِرى .فمن فضله على أبي بكر
منبر الكوفة؛ بل قال :ل أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إل جلدته َ
طا.
ل عنه ـ ثمانين سو ً
وعمر جلد بمقتضى قوله ـ رضي ا ّ
ى في صحبته ،وذات يده ،أبو بكر ،ولو كنت متخًذا من أهل ن الناس عل ّوفي الصحيح أنه قال على المنبر) :إن أم ّ
سّدتْ إل خَْوخة /
ل .أل ل يبقين في المسجد خوخة إل ُ
ل ،ولكن صاحبكم خليل ا ّ ل لتخذت أبا بكر خلي ً الرض خلي ً
أبي بكر( .وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الرض من يستحق المخاّلة لو كانت ممكنة من المخلوقين إل أبا
بكر .فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه ،ول أحب إليه منه ،وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص :أي الناس
أحب إليك؟ قال) :عائشة( .قال :فمن الرجال؟ قال) :أبوها(.
وكذلك في الصحيح أنه قال لعائشة) :ادعى لي أباك وأخاك ،حتى أكتب لبي بكر كتاًبا ل يختلف عليه الناس من
ت فلم
ل ،أرأيت إن جئ ُل والمؤمنون إل أبا بكر( ،وفي الصحيح عنه أن امرأة قالت :يا رسول ا ّ بعدي ،ثم قالَ :يْأَبي ا ّ
أجدك ـ كأنها تعني الموت ـ قالَ) :فْأتى أبا بكر( .وفي السنن عنه أنه قال):اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر(.
وفي الصحيح عنه أنه كان في سفر فقال) :إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا( .وفي السنن عنه أنه قال) :رأيت
ت بالمة ،ثم وضع أبو بكر في كفة والمة في كفة ،فرجح أبو بكر ،ثم جح ُ
كأني وضعت في كفة والمة في كفةَ ،فَر َ
وضع عمر في كفة والمة في كفة ،فرجح عمر(.
وفي الصحيح أنه كان بين أبي بكر وعمر كلم ،فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل .فجاء أبو بكر إلى
ل لك( وندم عمر ،فجاء إلى منزل أبي بكر فلم النبي صلى ال عليه وسلم ،فذكر ذلك .فقال) :اجلس يا أبا بكر ،يغفر ا ّ
يجده ،فجاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،فغضب النبي صلى ال عليه وسلم ،وقال) :أيها الناس ،إني جئت إليكم،
ل ،فقلتم :كذبت ،وقال أبو بكر :صدقت .فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فقلت :إني رسول ا ّ
فهل أنتم تاركو لي /صاحبي؟( فما أوذي بعدها .وقد تواتر في الصحيح والسنن أن النبي صلى ال عليه وسلم لما
مرض قال) :مروا أبا بكر فليصل بالناس( مرتين ،أو ثلًثا ،حتى قال) :إنكن لنتن صواحب يوسف! مروا أبا بكر أن
يصلي بالناس(.
فهذا التخصيص ،والتكرير ،والتوكيد ـ في تقديمه في المامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلى
وغيرهم ـ مما بين للمة تقدمه عنده صلى ال عليه وسلم على غيره .وفي الصحيح :أن جنازة عمر لما وضعت جاء
ل مع صاحبيك ،فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى على بن أبي طالب يتخلل الصفوف ،ثم قال :لرجو أن يجعلك ا ّ
ال عليه وسلم يقول) :دخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ،وذهبت أنا وأبو بكر وعمر( .فهذا
يبين ملزمتهما للنبي صلى ال عليه وسلم :في مدخله ،ومخرجه ،وذهابه.
ل ،أخبرني عن منزلة أبي بكر ،وعمر من النبي صلى ال عليه وسلم ولذلك قال مالك للرشيد :لما قال له :يا أبا عبد ا ّ
؟ فقال :يا أمير المؤمنين ،منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته ،فقال :شفيتني يا مالك .وهذا يبين أنه كان
لهما من اختصاصهما بصحبته ،ومؤازرتهما له على أمره ،ومباطنتهما ،مما يعلمه بالضطرار كل من كان عالًما
بأحوال النبي صلى ال عليه وسلم ،وأقواله ،وأفعاله ،وسيرته مع أصحابه.
ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلقه ،وإنما /ينفي هذا أو يقف فيه من ل يكون عالًما
بحقيقة أمور النبي صلى ال عليه وسلم ـ وإن كان له نصيب من كلم أو فقه أو حساب أو غير ذلك ـ أو من يكون قد
سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه المور المعلومة بالضطرار عند الخاصة من أهل العلم ،فتوقف في المر ،أو
رجح غير أبي بكر.
ل صلى ال عليه وسلم؛ وإن كان غيرهم يشك وهذا كسائر المور المعلومة بالضطرار عند أهل العلم بسنة رسول ا ّ
فيها ،أو ينفيها ،كالحاديث المتواترة عندهم في شفاعته ،وحوضه ،وخروج أهل الكبائر من النار ،والحاديث
المتواترة عندهم :في الصفات ،والقدر ،والعلو ،والرؤية ،وغير ذلك من الصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته،
شْفَعة،
كما تواترت عندهم عنه ،وإن كان غيرهم ل يعلم ذلك ،كما تواتر عند الخاصة ـ من أهل العلم عنه ـ الحكم بال ّ
صاب في السرقة ،وأمثال ذلك من الحكام التي ينازعهم وتحليف المدعى عليه ،ورجم الزاني المحصن ،واعتبار الّن َ
فيها بعض أهل البدع.
ولهذا كان أئمة السلم متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الصول ،بخلف من نازع في مسائل الجتهاد التي
عة ،وغير ذلك لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه ،كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين ،وفي الَقسامة ،والُقْر َ
من المور التي لم تبلغ هذا المبلغ.
ى ،فهذه دون تلك ،فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع /فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة،
وأما عثمان ،وعل ّ
رجحوا علًيا على عثمان ،ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره .وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلى ،وهي إحدى
ي ،كما هو مذهب سائر الئمة؛ كالشافعي ،وأبيالروايتين عن مالك ،لكن الرواية الخرى عنه تقديم عثمان على عل ّ
حنيفة وأصحابه ،وأحمد بن حنبل ،وأصحابه ،وغير هؤلء من أئمة السلم.
حتى إن هؤلء تنازعوا فيمن يقدم علًيا على عثمان ،هل يعد من أهل البدعة؟ على قولين :هما روايتان عن أحمد .وقد
ي ،وأحمد بن حنبل ،والدارقطني :من َقّدَم علًيا على عثمان فقد أْزَرى بالمهاجرين والنصار.
ختَياِن ّ
قال أيوب الس ْ
وأيوب هذا إمام أهل السنة ،وإمام أهل البصرة ،روى عنه مالك في الموطأ ،وكان ل يروى عن أهل العراق .وروى
أنه سئل عن الرواية عنه ،فقال :ما حدثتكم عن أحد إل وأيوب أفضل منه .وذكره أبو حنيفة فقال :لقد رأيته قعد مقعًدا
ل صلى ال عليه وسلم ،ما ذكرته إل اقشعر جسمي. في مسجد رسول ا ّ
ل صلى ال والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما ،عن ابن عمر؛ أنه قال :كنا نفاضل على عهد رسول ا ّ
عليه وسلم .كنا نقول أبو بكر ،ثم عمر ،ثم عثمان .وفي بعض الطرق يبلغ ذلك النبي صلى ال عليه وسلم فل ينكره.
ضا ،فقد ثبت بالنقل الصحيح ـ في صحيح البخاري وغير البخاري ـ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل وأي ً
الخلفة شوري في ستة أنفس؛عثمان ،وعلى/ ،وطلحة ،والزبير ،وسعد ،وعبد الرحمن بن عوف ـ ولم يدخل معهم
ل :يحضركمسعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي ـ قبيلة عمرـ وقال عن ابنه عبد ا ّ
ل وليس له في المر شىء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته ،حتى يتفقوا على واحد. عبد ا ّ
فلما توفى عمر واجتمعوا عند المنبر ،قال طلحة :ما كان لي من هذا المر فهو لعثمان .وقال الزبير :ما كان لي من
هذا المر فهو لعلي .وقال سعد :ما كان لي من هذا المر فهو لعبد الرحمن بن عوف .فخرج ثلثة وبقى ثلثة.
فاجتمعوا ،فقال عبد الرحمن بن عوف :يخرج منا واحد ،ويولي واحًدا ،فسكت عثمان ،وعلى .فقال عبد الرحمن :أنا
ل وميثاقه أن يولي أفضلهما .ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلثة أيام بلياليها
أخرج .وروى أنه قال :عليه عهد ا ّ
يشاور المهاجرين والنصار ،والتابعين لهم بإحسان ،ويشاور أمهات المؤمنين ،ويشاور أمراء المصارـ فإنهم كانوا
في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته ـ حتى قال عبد الرحمن بن عوف :إن لي ثلًثا ما اغتمضت بنوم .فلما كان
ل وميثاقه ،إن وليتك لتعدلن ،ولئن وليت علًيا لتسمعن ولتطيعن؟ قال :نعم .وقالاليوم الثالث قال لعثمان :عليك عهد ا ّ
ل وميثاقه إن وليتك لتعدلن ،ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن؟ قال :نعم .فقال :إني رأيت الناس لعلي :عليك عهد ا ّ
ضا ،واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها،ل يعدلون بعثمان ،فبايعه على ،وعبد الرحمن ،وسائر المسلمين؛ بيعة ر ً
ول رهبة خوفهم بها.
/وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي .فلهذا قال أيوب ،وأحمد بن حنبل ،والدارقطني :من قدم علًيا على
عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والنصار ،فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم ،وقد قدموه ،كانوا إما جاهلين بفضله،
وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني .ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم.
ي ،وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة ،ونحو ن كان في نفس بعضهم على عل ّ ضْغ ٍ
ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمانِل ِ
ذلك مما يقوله أهل الهواء ،فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق ،وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق .هذا
وهم في أعز ما كانوا ،وأقوي ما كانوا ،فإنه حين مات عمر كان السلم من القوة ،والعز ،والظهور ،والجتماع
عّز أهل اليمان ،وأذل أهل الكفر والنفاق :إلى حد بلغ في القوة
والئتلف فيما لم يصيروا في مثله قط.وكان عمر أ َ
والظهور مبلًغا ،ل يخفى على من له أدنى معرفة بالمور.
فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم ،وجعل خير أمة أخرجت
ل به لهم.
للناس على خلف ما شهد ا ّ
وهذا هو أصل مذهب الرافضة ،فإن الذي ابتدع الرفض كان يهودًيا أظهر السلم نفاًقا ،ودس إلى الجهال دسائس
يقدح بها في أصل اليمان؛ ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة .فإنه يكون الرجل واقًفا ،ثم يصير /
ل؛ ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من طً
سّباًبا ،ثم يصير غاليا ،ثم يصير جاحًدا ُمَع ّ
ل ،ثم يصير َ
ضً
ُمَف ّ
السماعيلية والنصيرية ،وأنواعهم من القرامطة والباطنية ،والدرزية ،وأمثالهم من طوائف الزندقة ،والنفاق.
ضا ،فهؤلء الذين نقلوا القرآن ،والسلم ،وشرائع النبي صلى ال عليه وسلم ،وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيرهوأي ً
فالقدح فيهم يوجب أل يوثق بما نقلوه من الدين ،وحينئذ فل تثبت فضيلة ،ل لعلي ،ول لغيره .والرافضة جهال ليس
لهم عقل ،ول نقل ول دين ،ول دنيا منصورة .فإنه لو طلب منهم الناصبي ـ الذي يبغض علًيا ،ويعتقد فسقه أو كفره:
كالخوارج وغيرهم ـ أن يثبتوا إيمان علي؛ وفضله :لم يقدروا على ذلك ،بل تغلبهم الخوارج .فإن فضائل على إنما
نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة .فل يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم ،فإذا طعنوا في بعض الخلفاء ـ بما
يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة ،وقاتلوا على ذلك ـ كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من
دعوى ذلك على من أطيع بل قتال ،ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة.
صاِر َواّلِذي َ
ن لن َ ن َوا َ جِري َ ن اْلُمَها ِ
ن ِم َ لّوُلو َنا َ /والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع ،كقوله تعالىَ} :وال ّ
ساِبُقو َ
ح َوَقاَتلَل اْلَفْت ِ
ق ِمن َقْب ِ ن َأنَف َ
سَتِوي ِمنُكم ّم ْ عْنُه{ ]التوبة ،[100:وقوله تعالىَ } :
ل َي ْ ضوْا َعْنُهْم َوَر ُ ل َيا ّ ضَن ّر ِ سا ٍ
حَ اّتَبُعوُهم ِبِإ ْ
ل َواّلِذي َ
ن ل ا ِّ سو ُ حّمٌد ّر ُ سَنى{ ]الحديد ،[10:وقال تعالىّ} :م َ حْ ل اْل ُعَد ا ُّ
ل َو َ ن َأنَفُقوا ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّن اّلِذي َ
جًة ّم َ ظُم َدَر َ
ك َأعْ َ ُأْوَلِئ َ
جوِد َذِل َ
ك سُ ن َأَثِر ال ّ جوِهِهم ّم ْ سيَماُهْم ِفي ُو ُ ضَواًنا ِل َوِر ْ ن ا ِّ
ل ّم َ ضً ن َف ْ جًدا َيْبَتُغو َ
سّحَماء َبْيَنُهْم َتَراُهْم ُرّكًعا ُ عَلى اْلُكّفاِر ُر َ شّداء َ َمَعُه َأ ِ
ظ ِبِهُم اْلُكّفاَر{ ع ِلَيِغي َب الّزّرا َ ج ُ سوِقِه ُيْع ِعَلى ُ سَتَوى َ ظ َفا ْسَتْغَل َ
طَأُه َفآَزَرُه َفا ْش ْج َخَر َع َأ ْ ل َكَزْر ٍ
جي ِ
لن ِ َمَثُلُهْم ِفي الّتْوَراِة َوَمَثُلُهْم ِفي ا ِْ
عَلْيِهْم َوَأَثاَبُهْم
سِكيَنَة َ ل ال ّجَرةِ َفَعِلَم َما ِفي ُقُلوِبِهْم َفَأنَز َشَ
ت ال ّ ح َ ك َت ْ
ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
عِل َ ي ا ُّ
ضَ ]الفتح ،[29:وقال تعالىَ} :لَقْد َر ِ
َفْتًحا َقِريًبا{ ]الفتح .[18:وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل يدخل النار أحد بايع
سّبوا أصحابي ،فوالذي نفسي تحت الشجرة( ،وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :ل َت ُ
صيَفه( ،وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال: حد ذهًبا ما بلغ ُمّد أحدهم ول َن ِ
بيده ،لو أن أحدكم أنفق مثل ُأ ُ
ت فيهم ،ثم الذين َيُلوَنُهْم ،ثم الذين َيُلوَنُهم( .وهذه الحاديث مستفيضة ،بل متواترة في
)خْيُر القرون القرن الذي ُبِعْث ُ
ح فيهم قدح في القرآن ،والسنة؛ فضائل الصحابة ،والثناء عليهم ،وتفضيل َقْرِنهم على من بعدهم من القرون .فاَلقْد ُ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم. ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع .وا ّ
جاب:
َفَأ َ
قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان وعلًيا ،وطلحة ،والزبير ،وعائشة ،من أهل الجنة ،بل قد ثبت في الصحيح أنه
حٌد بايع تحت الشجرة.
خل الناَر أ َ
ل َيْد ُ
وأبو موسى الشعري ،وعمرو بن العاص ،ومعاوية بن أبي سفيان ،هم من الصحابة ،ولهم فضائل ومحاسن.
وما يحكى عنهم كثير منه َكِذب ،والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين ،فالمجتهد إذا أصاب فله أجران ،وإذا أخطأ فله
أجر ،وخطؤه يغفر له.
/وإن ُقّدَر أن لهم ذنوًبا ،فالذنوب ل توجب دخول النار مطلًقا ،إل إذا انتفت السباب المانعة من ذلك وهي عشرة:
منها التوبة ،ومنها الستغفار ،ومنها الحسنات الماحية ،ومنها المصائب المكفرة ،ومنها شفاعة النبي صلى ال عليه
وسلم ،ومنها شفاعة غيره ،ومنها دعاء المؤمنين ،ومنها ما يهدي للميت من الثواب والصدقة والعتق ،ومنها فتنة
القبر ،ومنها أهوال القيامة.
وحينئذ ،فمن جزم في واحد من هؤلء بأن له ذنًبا يدخل به النار قطًعا ،فهو كاذب مفتر .فإنه لو قال ما ل علم له به
ل عنه؛ منل ،فكيف إذا قال ما دلت الدلئل الكثيرة على نقيضه؟ فمن تكلم فيما شجر بينهم ـ وقد نهى ا ّلكان مبط ً
ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل ـ فهو ظالم معتد.
ن اْقَتَتُلوا
ن اْلُمْؤِمِني َن ِم َ /وفي الصحيحين عن عمار أنه قال) :تقتله الفئة الباغية( ،وقد قال تعالى في القرآنَ} :وِإن َ
طاِئَفَتا ِ
طوا
سُ
ل َوَأْق ِ حوا َبْيَنُهَما ِباْلَعْد ِصِل ُ ت َفَأ ْ
ل َفِإن َفاء ْ
حّتى َتِفيَء ِإَلى َأْمِر ا ِّ
خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ
لْعَلى ا ُْ
حَداُهَما َ
ت ِإ ْ
حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ صِل ُ
َفَأ ْ
طيَن{ ]الحجرات. [9 : سِب اْلُمْق ِح ّ ل ُي ِ
ن ا َّ
ِإ ّ
فائــدة
جَر بين الصحابة ،والستغفار للطائفتين جميًعا وموالتهم،شَ
ومما ينبغي أن يعلم :أنه وإن كان المختار المساك عما َ
ل؛ كالعلماء ،بل فيهم المذنب والمسىء،
سَكر لم يكن إل مجتهًدا متأو ً
فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من الع ْ
وفيهم المقصر في الجتهاد لنوع من الهوى ،لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة.
فصل /
الخلفاء الراشدون الربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى السلم من أهل القبلة ،ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم .فَأبو
بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للمام أحمد :من الرافضي؟ قال :الذي
يسب أبا بكر وعمر .وبهذا سميت الرافضة ،فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر ،لبغضهم
لهما ،فالمبغض لهما هو الرافضي ،وقيل :إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر.
ل بن مسعود :حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ،أي من شريعة النبي صلى ال عليه وسلم وقال عبد ا ّ
التي أمر بها؛ فإنه قال) :اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر(؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجًبا
ل يجوز التوقف فيه ،بخلف عثمان وعلى ،ففي جواز التوقف فيهما قولن.
إحداهما :ل يسوغ ذلك ،فمن فضل علًيا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لجماع الصحابة؛ ولهذا
قيل :من قّدم علًيا على عثمان ،فقد /أزرى بالمهاجرين والنصار .يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني
وأحمد بن حنبل ،والدارقطني.
ل ورسوله مني؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه ا ّ والثانية :ل ُيَبّدع من قدم علًيا ؛ لتقارب حال عثمان وعل ّ
الدين ،وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فل يجوز اعتقاد ضد ذلك ،لكن يجوز ترك المستحب من غير أن
يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية ،لئل يضيع شىء من الدين .فلما قامت الدلة
الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما ،لم يجز ترك ذلك.
وأما علي ،فأبغضه وسبه ـ أو كفره ـ الخوارج ،وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه .فالخوارج تكفر
عثمان وعلًيا وسائر أهل الجماعة.
عن
وأما شيعة علي ،الذين شايعوه بعد التحكيم ،وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم ،فكان بينهما من التقابل ،وَتل ُ
بعضهم ،وتكافر بعضهم ما كان ،ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها َتَنّقص لبي بكر وعمر ،ول فيها من
ب عثمان شائًعا فيها ،وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر.س ّ
يقدم علًيا على أبي بكر وعمر ،ول كان َ
ب على فإنه كان /شائًعا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي
ي عليه لم يكن مشهوًرا فيها ،بخلف س ّوكذلك تفضيل عل ّ
وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه .كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى ال
ق مارقة على حين ُفْرَقٍة من المسلمين ،فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق( .وروى في الصحيح
عليه وسلم قالَ) :تْمُر ُ
ضا) :أدنى الطائفتين إلى الحق(.أي ً
وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها :الطائفة الباغية ،كما رواه البخاري في
عْكِرمة ،قال :قال لي ابن عباس ولبنه على :انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه. حّذاء ،عن ِصحيحه ،عن خالد ال َ
حَتَبي به ،ثم أنشأ يحدثنا ،حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال:فانطلقنا ،فإذا هو في حائط يصلحه ،فأخذ رداءه فا ْ
ض التراب عنه ويقول) :وْي َ
ح كنا نحمل َلِبَنًة َلِبنةَ ،وعّمار لبنتين لبنتين ،فرآه النبي صلى ال عليه وسلم فجعل َيْنُف ُ
ل من الفتن.
عمار ،تقتله الفئة الباغية ،يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار( قال :يقول عمار :أعوذ با ّ
ل صلى ال عليه وسلم قال ضا ـ قال :أخبرني من هو خير مني ـ أبو قتادة ـ أن رسول ا ّ ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أي ً
ضا ـ
سَمّيَة تقتله فئة باغية( .ورواه مسلم ـ أي ً
س ابن ُ
لعمار ـ حين جعل يحفر الخندق ـ جعل يمسح رأسه ويقولُ) :بْؤ َ
عن أم سلمة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :تقتل عماًرا الفئة الباغية(.
ضا ـ يدل على صحة إمامة على ،ووجوب طاعته ،وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى وهذا ـ أي ً
مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأول ـ وهو /دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي ،وعلى هذا فمقاتله مخطئ ،وإن
كان متأولً أو باغ بل تأويل ،وهو أصح القولين لصحابنا ،وهو الحكم بتخطئة من قاتل علًيا وهو مذهب الئمة
الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين.
وكذلك أنكر يحيى بن َمِعين على الشافعي استدلله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين ،قال :أيجعل طلحة والزبير
بغاة؟ رد عليه المام أحمد فقال :ويحك ،وأي شىء يسعه أن يضع في هذا المقام :يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك
لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة.
والقول الثاني :أن كل منهما مصيب ،وهذا بناء على قول من يقول :كل مجتهد مصيب ،و هو قول طوائف من أهل
الكلم من المعتزلة والشعرية.
وفيها قول ثالث :إن المصيب واحد ل بعينه.ذكر القوال الثلثة ابن حامد ،والقاضي ،وغيرهما .وهذا القول يشبه
قول المتوقفين في خلفة على من أهل البصرة ،وأهل الحديث ،وأهل الكلم؛ كالكرامية الذين يقولون :كلهما كان
إماًما ،ويجوزون عقد الخلفة لثنين.
جرانه ،ونهى عنلكن المنصوص عن أحمد َتْبِديُع من توقف في خلفة علي ،وقال :هو أضل من حمار أهله ،وأمر بُه ْ
مناكحته ،ولم يتردد أحمد ـ ول أحد من أئمة السنة ـ في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه ،ول شكوا في ذلك.
فتصويب أحدهما ل بعينه تجويز لن يكون غير على أولى منه بالحق ،وهذا ل يقوله إل مبتدع ضال ،فيه نوع من
ل ،لكن قد /يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساًكا عما النصب وإن كان متأو ً
شجر بينهم ،وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين.
ولم يسترب أئمة السنة ،وعلماء الحديث :أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه ،كما دل عليه النص ،وإن استرابوا في
وصف الطائفة الخرى بظلم أو بغي ،ومن وصفها بالظلم والبغي ـ لما جاء من حديث عمار ـ جعل المجتهد في ذلك
من أهل التأويل .
ل ـ تعالى ـ قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي ،والذين قعدوا عن القتال هم يبقى أن يقال :فا ّ
جملة أعيان الصحابة ،كسعد ،وزيد ،وابن عمر ،وأسامة ،و محمد بن مسلمة ،وأبي َبْكَرة ،وهم يروون النصوص عن
النبي صلى ال عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة ،وقوله صلى ال عليه وسلم) :القاعد فيها خير من القائم،
غَنم يتبع بها
والقائم فيها خير من الساعي ،والساعي فيها خير من الموضع( وقوله) :يوشك أن يكون خير مال المسلم َ
طرَ ،يِفّر بدينه من الفتن( وأمره لصاحب السيف عند الفتنة )أن يتخذ سيًفا من خشب( جبال ،ومواقع الَق ْ ف ال ِ
شَع َ
َ
وبحديث أبي َبْكَرة للحنف بن قيس ،لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي ،وهو قوله صلى ال عليه وسلم) :إذا التقى
جعوا بعدي كفاًرا ،يضرب المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار( الحديث ،والحتجاج على ذلك بقوله) :ل َتْر ِ
بعضكم ِرَقاب بعض( .وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة ،حتى قال :ل يختلف أصحابنا أن قعود على عن
القتال كان أفضل /له لو قعد ،وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به ،ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك،
ل بن عمر ،إن كان بًرا إن أجره لعظيم ،وإن ل در مقام قامه سعد بن مالك وعبد ا ّ
وقوله له :ألم أنهك يا أبت؟ وقولهّ :
كان إثما إن خطأه ليسير.
وهذا يعارض وجوب طاعته ،وبهذا احتجوا على المام أحمد في ترك التربيع بخلفته ،فإنه لما أظهر ذلك قال له
بعضهم :إذا قلت :كان إماًما واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتله ،فقال لهم
أحمد :إني لست من حربهم في شىء ،يعني :أن ما تنازع فيه على وإخوانه ل أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الجتهاد
والتأويل الذي هم أعلم به مني ،وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم ،وأنا
مأمور بالستغفار لهم ،وأن يكون قلبي لهم سليًما ،ومأمور بمحبتهم وموالتهم ،ولهم من السوابق والفضائل ما ل
يهدر ،ولكن اعتقاد خلفته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص ،وجب اتباعه وإن كان بعض الكابر تركه ،كما أن
إمامة عثمان وخلفته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته ،وفي مخالفة
بعضهم له من التأويل ما فيه ،إذ كان أهون ما جرى في خلفة علي.
وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف ،فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي ،كما فعله من قاتل
معه ،وكما يقول كثير /من أهل الكلم والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي ،حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب
طاعته ،ووجوب قتال البغاة ،ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون.
ومن قوم يقولون :بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة ،كما فعله من فعله من
غَنم
القاعدين عن القتال لخبار النبي صلى ال عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير ،وأن الفرار من الفتن باتخاذ َ
في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها ،وأمره باتخاذ سيف من خشب ،ولكون على لم
يذم القاعدين عن القتال معه ،بل ربما غبطهم في آخر المر.
ولجل هذه النصوص ل يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لن النصوص صرحت بأن القاعد فيها
خير من القائم ،والبعد عنها خير من الوقوع فيها ،قالوا :ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته ،ومن المعلوم أنهم إذا
لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته ،لكن بالقتال زاد البلء ،وسفكت الدماء،
وتنافرت القلوب ،وخرجت عليه الخوارج ،وحكم الحكمان ،حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين ،فظهر من المفاسد ما
لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة.
وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله ،فإن فضائل العمال إنما هي /بنتائجها وعواقبها ،والقرآن إنما فيه قتال
عَلى
حَداُهَما َ
ت ِإ ْ
حوا َبْيَنُهَما َفِإن َبَغ ْ
صِل ُ
ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ
ن اْلُمْؤِمِني َ
ن ِم َ الطائفة الباغية بعد القتتال ؛ فإنه قال تعالىَ{:وِإن َ
طاِئَفَتا ِ
اُْلْخَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي{ الية ]الحجرات .[9 :فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين ،لكن أمر بالصلح
وبقتال الباغية.
قيل :فليس في الية أمر لحدهما بأن تقاتل الخرى ،وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية ،والكلم هنا إنما هو
ى لم يكن مأمورًا به ،بل كان تركه أفضل ،وأما إذا قاتل لكون القتال جائزًا ،وإن كان تركه
عل ّ
في أن فعل القتال من ِ
أفضل ،أو لكونه مجتهدًا فيه ،وليس بجائز في الباطن ،فهنا الكلم في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو المساك
عن القتال في الفتنة ،وهوموضع تعارض الدلة ،واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين ،بعد الجزم بأنه وشيعته
أولى الطائفتين بالحق ،فيمكن وجهان:
أحدهما :أن المر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار،
ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والمكان ،فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانًا هي التألف بالمال ،والمسالمة
والمعاهدة ،كما فعله النبي صلى ال عليه وسلم غير مرة ،والمام إذا اعتقد وجود القدرة ،ولم تكــن حــاصلة كان
الترك فــي نفس المر أصلح.
/ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته ،علم أنه قتال فتنة ،فل تجب طاعة المام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب
فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص ،فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن
ل ـ تعالى ـ عند التنازع
يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى المر ،ول سيما وقد أمر ا ّ
ل والرسول.بالرد إلى ا ّ
ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم المراء بعده وبغيهم ،ونهى عن قتالهم؛ لن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من
ل َلُهْم ُكّفوْا َأْيِدَيُكْم{ مصلحته ،كما نهى المسلمون في أول السلم عن القتال ،كما ذكره بقولهَ} :أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ
ن ِقي َ
]النساء ،[77 :وكما كان النبي صلى ال عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين
ل بأمره.
والعفو والصفح عنهم حتى يأتي ا ّ
الوجه الثاني :أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين ،ومن لعن إمام
الحق ،ونحو ذلك .فإن هذا بغي ،بخلف القتتال قبل ذلك ،فإنه كان قتال فتنة ،وهو ـ سبحانه ـ قد ذكر اقتتال
ت ِإْحَداُهَما َعَلى اُْلْخَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي{ ]الحجرات ،[9 :فلما أمر بالقتال إذا
الطائفتين من المؤمنين ثم قالَ} :فِإن َبَغ ْ
بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين ،دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال.
فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة ،يكون قبل البغي ،وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك ،وحينئذ
ي واجبًا لما /حصل البغي ،وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر :إذا حمل على القتال في ذلك. يكون القتال مع عل ّ
وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على ،ولم تطعه الشيعة في القتال ،ومن حينئذ ذمت الشيعة
بتركهم النصر مع وجوبه ،وفي ذلك الوقت سموا شيعة ،وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية المام الواجب الطاعة،
ي بن أبي طالب ،ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة وهو أمير المؤمنين عل ّ
لترك الحق وتارة لتعدي الحق.
فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى ال عليه وسلم:
خاِمر[ ويقال :أخامر)ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم( وبذلك استدل معاوية ،وقام مالك بن ُي َ
السكسكي اللهاني الحمصي ،يقال :له صحبة ،وذكره ابن حبان في الثقات ،مات سنة سبعين ،وقيل سنة اثنتين
ي هو من الخلفاء الراشدين ،ومعاوية أول الملوك ،فالمسألة هي من وسبعين]فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام .وعل ّ
هذا الجنس ،وهو :قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين ،فإن كثيًرا من الناس يبادر إلى
المر بذلك ،لعتقاده أن في ذلك إقامة العدل ،ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته.
ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة ،والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر ،أو
يستراح من فاجر ،وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء ،وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية
بعد اقتتال الطائفتين ،وأمر بالصلح بينهما ،فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل /الهواء ـ كَقْيس ويمن ـ إذ الية نزلت
في نحو ذلك ـ فإنه يجب الصلح بينهما ،وإل وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لنهم قادرون على
ذلك ،فيجب عليهم أداء هذا الواجب ،وهذا يبين رجحان القول ابتداء ،ففي الحال الول لم تكن القدرة تامة على القتال
ل ظاهًرا ،وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه ول البغي حاص ً
مطلًقا ،والخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد ،كما تقدم.
وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية ،بما هو في الصحيحين عن النبي صلى ال
ل ،ل يضرهم من خالفهم ول من خذلهم ،حتى تقوم عليه وسلم أنه قال) :ل تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر ا ّ
الساعة( ،فقام مالك بن يخامر فقال :سمعت معاذ بن جبل يقول :وهم بالشام ،فقال معاوية :وهذا مالك بن يخامر يذكر
أنه سمع معاًذا يقول :وهم بالشام ،وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما ـ أيضًا ـ نحوه من حديث المغيرة
ل وهم علىبن شعبة عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :ل تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر ا ّ
ذلك( وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين:
أحدهما :أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار المر إليهم بعد القتتال والفتنة ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل
يضرهم من خالفهم( وهذا يقتضى /أن الطائفة القائمة بالحق من هذه المة هى الظاهرة المنصورة ،فلما انتصر هؤلء
كانوا أهل الحق.
والثاني :أن النصوص عينت أنهم بالشام ،كقول معاذ ،وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى
ال عليه وسلم أنه قال) :ل يزال أهل الغرب ظاهرين( قال المام أحمد :وأهل الغرب هم أهل الشام .وذلك أن النبي
صلى ال عليه وسلم كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه ،وما يشرق عنها فهو شرقه ،وكان يسمى أهل نجد
وما يشرق عنها أهل المشرق ،كما قال ابن عمر :قدم رجلن من أهل المشرق فخطبا ،فقال النبي صلى ال عليه
وسلم) :إن من البيان لسحًرا(.
وقد استفاضت السنن عن النبي صلى ال عليه وسلم في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله) :الفتنة من هاهنا ،الفتنة
من هاهنا( ويشير إلى المشرق ،وقوله صلى ال عليه وسلم) :رأس الكفر نحو المشرق( ونحو ذلك .فأخبر أن الطائفة
المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها ،والفتنة ورأس الكـفر بالمشرق ،وكـان
أهـل المدينة يسـمون أهــل الشام أهل المغرب ،ويقولون عن الوزاعي :إنه إمام أهل المغرب ،ويقولون عن سفيان
ساَمَتة ]أي :على مقربة الثوري ونحوه :إنه مشرقي إمام أهل المشرق ،وهذا لن منتهى الشام عند الفرات هو على ُم َ
حّران والّرّقة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا منه[ مدينة الرسول صلى ال عليه وسلم طول كل منهما ،وبعد ذلك َ
كانت قبلتهم أعدل /القبلة ،بمعنى :أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات
اليمين؛ كأهل العراق ،ول إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام.
قالوا :فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي ل يضرها خلف المخالف ،ول خذلن
ضا لقوله) :تقتل عمارا الفئة الباغية( ،ولقوله) :تقتلهم أولى الطائفتين بالحق( ،وهذا
الخاذل هي بالشام ،كان هذا معار ً
من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين ،أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب .وقد احتج به من هؤلء على
أولئك ،لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب ،فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض ،هؤلء أهل
الهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل.
ول ريب أن هذه النصوص لبد من الجمع بينها والتأليف ،فيقال :أما قوله صلى ال عليه وسلم) :ل يزال أهل الغرب
ظاهرين( ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم ،فهكذا وقع وهذا هو المر ،فإنهم ما زالوا ظاهرين
منتصرين.
وأما قوله) :تقتلهم أولى الطائفتين بالحق( فهذا دليل على أن علًيا /ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة
ل ،وأن يكون ظاهرًا
حا في بعض الحوال لم يمنع أن يكون قائمًا بأمر ا ّالخرى ،وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجو ً
ل ورسوله ،وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه. ل عن طاعة ا ّ بالقيام بأمر ا ّ
وأما كون بعضهم باغيًا في بعض الوقات ،مع كون بغيه خطأ مغفوًرا ،أو ذنًبا مغفوًرا ،فهذا ـ أيضًا ـ ل يمنع ما
شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى ال عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم ،ول ريب أن جملتهم
كانوا أرجح في عموم الحوال.
وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلفته على أهل العراق ،حتى قدم الشام غير مرة ،وامتنع من الذهاب
ل وهمإلى العراق ،واستشار فأشار عليه أنه ل يذهب إليها ،وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أو ً
كانوا إذ ذاك أفضل المة ،ثم أدخل عليه أهل الشام ،ثم أدخل عليه أهل العراق ،وكانوا آخر من دخل عليه ـ هكذا في
الصحيح.
وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قالَ :لَكْفر من كفور الشام أحب إلى من فتح
مدينة بالعراق.
ل وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام ،وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل والنصوص التي في كتاب ا ّ
المشرق ،أكثر من أن تذكر هنا ،بل عن /النبي صلى ال عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره
بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه ،وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على ،وذاك
ي ظهر منهم من الفتن ،والنفاق ،والردة ،والبدع ،ما يعلم به أن أولئك كانوا
ضا؛ ولهذا لما ذهب عل ّ
كان أمًرا عار ً
أرجح.
ضا ـ ل ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام ،كما كان على
وكذلك ـ أي ً
وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم ،أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة ،لكن مقابلة الجملة وترجيحها ل يمنع
اختصاص الطائفة الخرى بأمر راجح.
ل أعلم.
وأما الشام فلم يزل فيها العلم واليمان ،ومن يقاتل عليه منصورًا مؤيدًا في كل وقت ،فهذا هذا ،وا ّ
وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن عليًا كان أولى /بالحق ممن فارقه ،ومع أن عماًرا قتلته
ل ،ونقر بالحق كله ،ول يكون لنا هوى،الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند ا ّ
ول نتكلم بغير علم ،بل نسلك سبل العلم والعدل ،وذلك هو اتباع الكتاب والسنة .فأما من تمسك ببعض الحق دون
بعض ،فهذا منشأ الفرقة والختلف.
ولهذا لما اعتقـدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي ،جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على
المام بتأويل سائغ وهي عنده ،راسلهم المام ،فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم ،وإن ذكروا شبهة َبّيَنها ،فإن رجعوا
وإل وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين.
ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصّديق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور
المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك ،ثم يجعلون المقاتلين له بغاة ،ل يفرقون
بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله ،كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال المين
والمأمون وغيرهما ،وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة ،والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم.
وهذا تجده في الصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم ،ثم الشافعي وأصحابه ،ثم كثير من أصحاب أحمد
ي نسج على منوال /الُمَزِني،خْرِق ّ
الذين صنفوا :باب قتال أهل البغي ،نسجوا على منوال أولئك ،تجدهم هكذا ،فإن ال َ
والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن ،وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب.
والمصنفون في الحكام :يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعًا ،وليس عن النبي صلى ال عليه وسلم في قتال البغاة
حديث ،إل حديث َكْوَثر بن حكيم عن نافع ،وهو موضوع .
وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل :صحيح البخاري ،والسنن ـ فليس فيها إل قتال أهل الردة والخوارج ،وهم أهل
الهواء ،وكذلك كتب السنة المنصوصة عن المام أحمد ونحوه.
وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه ،ليس فيها باب قتال البغاة ،وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الهواء وهذا هو
ل وسنة رسوله ،وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة ،فهذا الذي أمر به النبيالصل الثابت بكتاب ا ّ
صلى ال عليه وسلم.
وأما القتال لمن لم يخرج إل عن طاعة إمام معين ،فليس في النصوص أمر بذلك ،فارتكب الولون ثلثة محاذير:
الول :قتال من خرج عن طاعة ملك معين ،وإن كان قريًبا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الفتراق،
والفتراق هو الفتنة.
ي في
وتجد هؤلء إذا أمروا بقتال من مرق من السلم ،أو ارتد عن بعض شرائعه ،يأمرون أن يسار فيه بسيرة عل ّ
جَهُز لهم على جريح ،ول يقتل لهم أسير ،ويتركون ما سَبي لهم ذرية ول ُيْغَنُم لهم مال ،ول ُي ْ
قتال طلحة والزبير ،ل ُي ْ
ل به رسوله ،وسار به الصديق في قتال ي في قتال الخوارج وما أمر ا ّ أمر به النبي صلى ال عليه وسلم ،وسار به عل ّ
ل بينه من المرتدين والمارقين ،وبين المسلمين المسيئين ،ويفرقون بين ما مانعي الزكاة ،فل يجمعون بين ما فرق ا ّ
ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
ل بينه من الملوك والئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل .وا ّ جمع ا ّ
ل ـ عن إسلم معاوية بن أبي سفيان ،متى كان؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم ل ؟ وما قيل فيه
ل الشيخ ـ َرحَمُه ا ّ
سئ َ
ُ
غير ذلك؟
جــاب:
َفَأ َ
ل عنه ـ ثابت بالنقل المتواتر ،وإجماع أهل العلم على ذلك ،كإيمان أمثاله ممن
إيمان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي ا ّ
عْكِرمة بن أبي جهل،سَهْيل بن عمرو ،وصفوان بن أمية ،و ِآمن عام فتح مكة ،مثل أخيه يزيد بن أبي سفيان ،ومثل ُ
والحارث بن هشام ،وأبي أسد بن أبي العاص بن أمية ،وأمثال هؤلء.
ن عليهم ،وأعطاهم
فإن هؤلء يسمون :الطلقاء ،فإنهم آمنوا عام فتح النبي صلى ال عليه وسلم مكة قهًرا ،وأطلقهم وم ّ
وتألفهم ،وقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أسلم قبل ذلك وهاجر ،كما أسلم خالد بن الوليد ،وعمرو بن العاص،
حا فهذا من المهاجرين.
ي ـ قبل فتح مكة ـ وهاجروا إلى المدينة ،فإن كان هذا صحي ًجِب ّ
حَ
وعثمان بن طلحة ال َ
/وأما إسلمه عام الفتح مع من ذكر ،فمتفق عليه بين العلماء ،سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلمه إل عام فتح
مكة ،ولكن بعض الكذابين زعم أنه عّير أباه بإسلمه ،وهذا كذب بالتفاق من أهل العلم بالحديث.
وكان هؤلء المذكورون من أحسن الناس إسلًما ،وأحمدهم سيرة ،لم يتهموا بسوء ،ولم يتهمهم أحد من أهل العلم
ل ورسوله ،والجهاد في سبيل ل ورسوله ،وحب ا ّبنفاق ،كما اتهم غيرهم ،بل ظهر منهم من حسن السلم وطاعة ا ّ
ل ،ما دل على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلمهم ،ومنهم من أّمره النبي صلى ال عليه وسلم ل ،وحفظ حدود ا ّ ا ّ
سْيد أميرًا على مكة نائبا عنه ،وكان من خيار المسلمين ،كان يقول :يا أهل
عّتاب بن ُأ َ
واستعمله نائبا له ،كما استعمل َ
ل ل يبلغني أن أحًدا منكم قد تخلف عن الصلة إل ضربت عنقه. مكة ،وا ّ
وقد استعمل النبي صلى ال عليه وسلم أبا سفيان بن حرب ـ أبا معاوية ـ على نجران نائبًا له ،وتوفى النبي صلى ال
عليه وسلم ،وأبو سفيان عامله على نجران.
وكان معاوية أحسن إسلًما من أبيه باتفاق أهل العلم ،كما أن أخاه يزيد بن أبي سفيان كان أفضل منه ومن أبيه؛ ولهذا
ل عنه ـ على قتال النصارى حين فتح الشام ،وكان هو أحد المراء الذين استعمله أبو بكر الصديق ـ رضي ا ّ
استعملهم أبو بكر الصديق ،ووصاه بوصية معروفة نقلها أهل العلم ،واعتمدوا عليها ،وذكرها /مالك في الموطأ
ل ،إما أن تركب وإما أن
ل عنه ـ في ركابه مشيعا له ،فقال له :يا خليفة رسول ا ّ
وغيره ،ومشى أبو بكر ـ رضي ا ّ
ل ـ عز وجل.طائي هذه في سبيل ا ّخَت براكب ،أحتسب ُ ت بنازل ولس ُ
أنزل ،فقال :لس َ
وقد ثبت في الصحيح ،أن النبي صلى ال عليه وسلم لما استشار أصحابه في أسارى بدر ،وأشار عليه أبو بكر أن
يأخذ الفدية منهم وإطلقهم ،وأشار عليه عمر بضرب أعناقهم ،قال النبي صلى ال عليه وسلم) :إن الّ يلين قلوب
خر ،وإنصْ رجال فيه حتى تكون ألين من الَبّز ]الَبّز :نوع من الثياب[ ،ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من ال ّ
ك َغُفوٌر ّرِحيٌم{ ]إبراهيم ،[36 :ومثل
صاِني َفِإّن َ
ع َ
ن َ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم الخليل إذ قالَ} :فَمن َتِبَعِني َفِإّنُه ِمّني َوَم ْ
ت الَْعِزيُز اْلَحِكيُم{ ]المائدة ،[118 :ومثلك يا عمر ك َأن َ ك َوِإن َتْغِفْر َلُهْم َفِإّن َ عَباُد َعيسى ابن مريم إذ قالِ} :إن ُتَعّذْبُهْم َفِإّنُهْم ِ
ض ِمَن اْلَكاِفِريَن َدّياًرا{ ]نوح ،[26 :ومثل موسى بن عمران إذ لْر ِ عَلى ا َْل َتَذْر َ مثل نوح ـ عليه السلم ـ إذ قالّ} :ر ّ
ب َ
ب اَلِليَم{ ]يونس [88 :وكانا في حياة النبي حّتى َيَرُوْا اْلَعَذا َ ل ُيْؤِمُنوْا َ عَلى ُقُلوِبِهْم َف َ
شُدْد َ عَلى َأْمَواِلِهْم َوا ْ
س َ قالَ} :رّبَنا ا ْ
طِم ْ
ل صلى ال عليه وسلم ،وكانا هما وزيريه من أهل الرض. صلى ال عليه وسلم كما نعتهما رسول ا ّ
ل عنه ـ لما وضعل عنهما ـ أن سرير عمر بن الخطاب ـ رضي ا ّ وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي ا ّ
ل عنه ـ فقال :والّ ما على وجه
ي بن أبي طالب ـ رضي ا ّوجاء الناس يصلون عليه ،قال ابن عباس :فالتفت فإذا عل ّ
ل مع صاحبيك،ل ،إني لرجو أن يحشرك ا ّ ل ـ تعالى ـ بعمله من هذا الميت .وا ّ
الرض أحد ،أحب إلى من أن ألقى ا ّ
فإني كثيًرا ما كنت أسمع النبي صلى ال عليه وسلم يقول) :دخلت أنا وأبو بكر وعمر ،وخرجت أنا وأبو بكر وعمر،
وذهبت أنا وأبو بكر وعمر(.
ثم ثبت في الصحيح أنه لما كان يوم أحد انهزم أكثر المسلمين ،فإذا أبو سفيان ،وكان القوم المرام إذ قال :أفي القوم
محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تجيبوه( ،ثم قال :أفي /القوم ابن أبي
قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تجيبوه( ،فقال :أفي
القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تجيبوه(،
الحديث بطوله ،فهذا أبو سفيان ـ قائد الحزاب ـ لم يسأل إل عن هؤلء الثلثة :عن النبي صلى ال عليه وسلم وأبي
ل عنهما ـ لعلمه بأن هؤلء هم رؤوس عسكر المسلمين. بكر وعمرـ رضي ا ّ
وقال الرشيد لمالك بن أنس :أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى ال عليه وسلم ،فقال :منزلتهما منه في
حياته كمنزلتهما بعد وفاته ،فقال :شفيتني يا مالك.
وكان يزيد بن أبي سفيان على الشام ،إلى أن ولي عمر؛ فمات يزيد بن أبي سفيان ،فاستعمل عمر معاوية مكان أخيه
يزيد بن أبي سفيان ،وبقي معاوية /على وليته تمام خلفته ،وعمر ورعيته تشكره ،وتشكر سيرته فيهم ،وتواليه
ظّلَمُه منهم ُمَتظّلم ،ويزيد بن معاوية ليس من
ك ،ول َت َ
شَت ٍ
شُكه منهم ُم ْ
وتحبه ،لما رأوا من حلمه وعدله ،حتى إنه لم َي ْ
أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم ،وإنما ولد في خلفة عثمان ،وإنما سماه يزيد باسم عمه من الصحابة.
وقد شهد معاوية ،وأخوه يزيد ،وسهيل بن عمرو ،والحارث بن هشام وغيرهم ـ من مسلمة الفتح ـ مع النبي صلى ال
جُنوًدا ّلْم َتَرْوَها
ل ُ
ن َوَأنَز َ
عَلى اْلُمْؤِمِني َ
سوِلِه َو َ
عَلى َر ُ
سِكيَنَتُه َ
ل َ عليه وسلم غزوة حنين ،ودخلوا في قوله تعالىُ} :ثّم َأَنز َ
لا ّ
ل سكينته عليهم مع النبي صلى ك َجَزاء اْلَكاِفِريَن{ ]التوبة ،[26 :وكانوا من المؤمنين الذين أنزل ا ّ ن َكَفُروْا َوَذِل َ
ب اّلِذي َ
َوعّذ َ
ل فيها
ال عليه وسلم .وغزوة الطائف لما حاصروا الطائف ورماها بالمنجنيق ،وشهدوا النصارى بالشام ،وأنزل ا ّ
ل عنه ـ جيش العسرة بألف بعير في سَرة ،التي جهز فيها عثمان بن عفان ـ رضي ا ّ
سورة براءة ،وهي غزوة الُع ْ
ضّر عثمان ما فعل بعدل ـ تعالى ـ فأعوزت ،وكملها بخمسين بعيًرا ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ما َ
سبيل ا ّ
اليوم( ،وهذا آخر مغازي النبي صلى ال عليه وسلم ،ولم يكن فيها قتال.
ن َأنَفُقوا
ن اّلِذي َ
جًة ّم َ
ظُم َدَر َ
عَك َأ ْ
ل ُأْوَلِئ َ
ح َوَقاَت َ
ل اْلَفْت ِ
ق ِمن َقْب ِ
ن َأنَف َ
سَتِوي ِمنُكم ّم ْ وهؤلء المذكورون دخلوا في قوله تعالىَ } :
ل َي ْ
ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد ،[10 :فإن هؤلء الطلقاء ،مسلمة الفتح ،هم ممن أنفق من بعد الفتح عَد ا ُّ
ل َو َ
ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّ
ل عنهم.
ل الحسنى ،فإنهم أنفقوا بحنين والطائف ،وقاتلوا فيهما ـ رضي ا ّ
وقاتل ،وقد وعدهم ا ّ
ن اّتَبُعوُهم
صاِر َواّلِذي َ
لن َ
ن َوا َ
جِري َ
ن اْلُمَها ِ
ن ِم َ
لّوُلو َ
نا َ ل عنهم حيث قال تعالىَ} :وال ّ
ساِبُقو َ ضا ـ داخلون فيمن رضى ا ّ وهم ـ أي ً
ضوْا َعْنُه{ ]التوبة ،[100 :فإن السابقين هم الذين أسلموا قبل الحديبية ،كالذين بايعوه تحت عْنُهْم َوَر ُ
ل َ
يا ّ
ضَن ّر ِ
سا ٍ
حَ
ِبِإ ْ
ك َتْحتَ الّشَجَرِة{ ]الفتح ،[18:كانوا أكثر من ألف ن ِإْذ ُيَباِيُعوَن َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
عِ
ل َ
ي ا ُّ
ضَل فيهمَ}:لَقْد َر ِ
الشجرة ،الذين أنزل ا ّ
وأربعمائة ،وكلهم من أهل الجنة ،كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل يدخل النار أحد
بايع تحت الشجرة( ،وكان فيهم حاطب بن أبي َبْلَتعة ،وكانت له سيئات /معروفة ،مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي
صلى ال عليه وسلم ،وإساءته إلى مماليكه ،وقد ثبت في الصحيح أن مملوكه جاء إلى النبي صلى ال عليه وسلم
ل ،لبد أن يدخل حاطب النار .فقال له النبي صلى ال عليه وسلم) :كذبت ،إنه شهد بدًرا ل يا رسول ا ّ
فقال :وا ّ
والحديبية(.
وثبت في الصحيح :أنه لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي صلى ال عليه وسلم إليهم ،أرسل على بن أبي
ل ما
ل يا رسول ا ّ طالب والزبير إلى المرأة التي كان معها الكتاب ،فأتيا بها ،فقال) :ما هذا يا حاطب؟( .فقال :وا ّ
صق :هو الرجل صًقا في قريش ]الُمْل َ فعلت ذلك ارتداًدا عن ديني ،ول رضيت بالكفر بعد السلم ،ولكن كنت امرأ ُمْل َ
المقيم في الحي ،وليس منهم بنسب[ ،لم أكن من أنفسهم ،وكان من معك من أصحابك لهم بمكة قرابات يحمون بها
خَذ فيهم يًدا يحمون بها قرابتي ،فقال عمر بن الخطاب :دعني أضرب عنق هذا أهاليهم ،فأحببت إذ فاتني ذلك أن أّت ِ
ل قال :اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم(. المنافق .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :إنه قد شهد بدًرا ،وما يدريك أن ا ّ
ل يغفر لهؤلء السابقين ـ كأهل بدر والحديبية ـ من الذنوب العظيمة ،بفضل سابقتهم،
وفي هذا الحديث بيان أن ا ّ
وإيمانهم ،وجهادهم ،ما ل يجوز لحد أن يعاقبهم بها ،كما لم تجب معاقبة حاطب مما كان منه.
وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين على وطلحة والزبير ونحوهم/ ،فإنه إما أن يكون اجتهاًدا ل ذنب فيه ،فل
كلم .فقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ،وإذا اجتهد فأخطأ فله
أجر(.
ل عنهم ،وغفر لهم ـ ما فعلوه؛ فل يضرهم ما وقع منهم من الذنوب وإن كان هناك ذنب ،فقد ثبت أن هؤلء ـ رضي ا ّ
ل بها
حصُ ا ّل محاه بسبب قد وقع ،من السباب التي ُيَم ّإن كان قد وقع ذنب ،بل إن وقع من أحدهم ذنب كان ا ّ
ل عليه ،أو كان له حسنات تمحو السيئات ،أو يكون قد َكّفر عنه ببلء ابتله به، الذنوب ،مثل أن يكون قد تاب فيتوب ا ّ
ب ،ول َهّم،ص ٍ
ب ،ول َو َ ص ٍ
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ما يصيب المؤمن من َن َ
ل من خطاياه(.
حَزن ،ول أذى ،إل َكّفر ا ّ
غّم ،ول َ
ول َ
عَد ا ُّ
ل وأما من بعد هؤلء السابقين الولين ،وهم الذين أسلموا بعد الحديبية ،فهؤلء دخلوا في قوله تعالىَ} :وُك ّ
ل َو َ
ضوْا َعْنُه{ ]التوبة ،[100 :وقد أسلم عْنُهْم َوَر ُ
ل َ
يا ّ
ضَن ّر ِ
سا ٍ
حَ سَنى{ ]الحديد ،[10 :وفي قوله تعالىَ}:واّلِذي َ
ن اّتَبُعوُهم ِبِإ ْ حْ
اْل ُ
جبي ،وغيرهم .وأسلم بعد الطلقاء أهل
حَقبل فتح مكة خالد ابن الوليد ،وعمرو بن العاص ،وعثمان بن طلحة ال َ
الطائف وكانوا آخر الناس إسلمًا ،وكان منهم عثمان بن أبي العاص الثقفي الذي أمره النبي صلى ال عليه وسلم على
أهل الطائف ،وكان من خيار الصحابة ،مع تأخر إسلمه.
/فقد يتأخر إسلم الرجل ،ويكون أفضل من بعض من تقدمه بالسلم ،كما تأخر إسلم عمر ،فإنه يقال :إنه أسلم تمام
ل على كثير ممن أسلم قبله ،وكان عثمان ،وطلحة ،والزبير ،وسعد ،وعبد الرحمن بن الربعين ،وكان ممن فضله ا ّ
عوف ،أسلموا قبل عمر على يد أبي بكر ،وتقدمهم عمر.
وأول من أسلم من الرجال الحرار البالغين أبو بكر ،ومن الحرار الصبيان على ،ومن الموالي زيد بن حارثة ،ومن
النساء خديجة أم المؤمنين ،وهذا باتفاق أهل العلم.
ضُهْم َأْوِلَياء
ك َبْع ُ
صُروْا ُأْوَلـِئ َ
ن آَووْا ّوَن َ
ل َواّلِذي َ لا ّ سِبي ِ
سِهْم ِفي َ جاَهُدوْا ِبَأْمَواِلِهْم َوَأنُف ِجُروْا َو َن آَمُنوْا َوَها َ ل تعالىِ} :إ ّ
ن اّلِذي َ وقد قال ا ّ
ض ِفي ضُهْم َأْوَلى ِبَبْع ٍ حاِم َبْع ُ
لْر َ
ك ِمنُكْم َوُأْوُلوْا ا َجاَهُدوْا َمَعُكْم َفُأْوَلـِئ َ جُروْا َو َ ن آَمُنوْا ِمن َبْعُد َوَها َض{إلى قوله تعالىَ} :واّلِذي َ َبْع ٍ
يٍء َعِليٌم{ ]النفال [72-75 :فهذه عامة ،وقال تعالى: ش ْل َ
ل ِبُك ّ
نا ّل ِإ ّ
با ِّكَتا ِ
فهذه الية ـ والتي قبلها ـ تتناول من دخل فيها بعد السابقين الولين إلى يوم القيامة؛ فكيف ل يدخل فيها أصحاب
ل صلى ال عليه وسلم ،الذين آمنوا به وجاهدوا معه؟ رسول ا ّ
ل عنه( ،فمن كان قد أسلم من الطلقاء وقد قال صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح) :المهاجر من هجر ما نهى ا ّ
جاَهُدوْا َمَعُكْم
جُروْا َو َ ل عنه كان له معنى هذه الهجرة ،فدخل في قوله تعالىَ} :واّلِذي َ
ن آَمُنوْا ِمن َبْعُد َوَها َ وهجر ما نهى ا ّ
ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد.[10: عَد ا ُّ ك ِمنُكْم{ ]النفال ،[75 :كما دخل في قوله تعالىَ} :وُك ّ
ل َو َ َفُأْوَلـِئ َ
ضَواًنا
ل َوِر ْ
ن ا ِّ
ل ّم َضً ن َف ْ جًدا َيْبَتُغو َسّ
حَماء َبْيَنهُْم َتَراُهْم ُرّكًعا ُ عَلى اْلُكّفاِر ُر َ شّداء َ ن َمَعُه َأ ِل َواّلِذي َل ا ِّ
سو ُ حّمٌد ّر ُوقد قال تعالىّ} :م َ
عَلى
سَتَوى َظ َفا ْ
سَتْغَل َ
طَأُه َفآَزَرُه َفا ْ
ش ْ
ج َ خَر َ ع َأ ْ
ل َكَزْر ٍ جي ِ
لن ِك َمَثُلُهْم ِفي الّتْوَراِة َوَمَثُلُهْم ِفي ا ِْجوِد َذِل َ سُن َأَثِر ال ّ
جوِهِهم ّم ْ سيَماُهْم ِفي ُو ُِ
ظيًما{ ]الفتح ،[29:فهذا عِ جًرا َت ِمْنُهم ّمْغِفَرةً َوَأ ْحا ِصاِل َ
عِمُلوا ال ّ ن آَمُنوا َو َل اّلِذي َعَد ا ُّ
ظ ِبِهُم اْلُكّفاَر َو َع ِلَيِغي َ
ب الّزّرا َج ُ
سوِقِه ُيعْ ِ
ُ
يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلًقا.
ن الذي
ن القر ُ
وقد استفاض عن النبي صلى ال عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير /وجه أنه قال) :خير القرو ِ
بعثت فيهم ،ثم الذين َيُلونهم ،ثم الذين يلونهم(.
سّبوا أصحابي ،فوالذي نفسي وثبت عنه في الصحيح أنه كان بين عبد الرحمن وبين خالد كلم ،فقال) :يا خالد ،ل َت ُ
صيَفه( قال ذلك لخالد ونحوه ،ممن أسلم بعد الحديبية، حٍد َذَهبًا ما بلغ ُمّد أحدهم ،ول َن ِ
بيده ،لو أن أحدكم أنفق مثل أ ُ
بالنسبة إلى السابقين الولين .يقول :إذا أنفق أحدكم مثل أحد ذهًبا ما بلغ مد أحدهم ول نصف مده.
جًة ّم َ
ن ظُم َدَر َ
عَك َأ ْ
ل ُأْوَلِئ َ
ح َوَقاَت َ
ل اْلَفْت ِ
ق ِمن َقْب ِ
ن َأنَف َ
سَتِوي ِمنُكم ّم ْ وهؤلء الذين أسلموا بعد الحديبية دخلوا في قوله تعالىَ } :
ل َي ْ
ل اْلُحْسَنى{ ]الحديد [10 :بهذه المنزلة. عَد ا ُّ
ل َو َ
ن َأنَفُقوا ِمن َبْعُد َوَقاَتُلوا َوُك ّ
اّلِذي َ
ل أو كثيًرا ،لكن
وكيف يكون بعد أصحابه؟ والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى ال عليه وسلم قلي ً
كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك ،فمن صحبه سنة أو شهًرا أو يومًا أو ساعة أو رآه مؤمنا ،فله من الصحبة بقدر
ذلك ،كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :يغزو فئام من الناس فيقولون :هل فيكم من
ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون :نعم، صحب النبي صلى ال عليه وسلم؟( .وفي لفظ) :هل فيكم من رأى رسول ا ّ
ل /صلى ال عليه وسلم؟ ـ وفي فيفتح لهم ،ثم يغزو فئام من الناس فيقولون :هل فيكم من صحب من صحب رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون :نعم ،فيفتح لهم ،ثم يغزو فئام من الناسلفظ :هل فيكم من رأى من رأى رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم؟ ـ وفي لفظ :من صحب من صحب من فيقولون :هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم؟ فيقولون :نعم ،فيفتح لهم( وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك.
صحب رسول ا ّ
وهذه الخاصية ل تثبت لحد غير الصحابة ؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى ال عليه
وسلم.
صـــل
َف ْ
إذا تبين هذا ،فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة ،هي الطريق التي بها يعلم إيمان
نظرائه ،والطريق التي تعلم بها صحبته ،هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله.
فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل :معاوية ،وأخيه يزيد ،وعكرمة بن أبي جهل ،وصفوان بن أمية ،والحارث بن
هشام ،وسهيل بن عمرو ،وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلمهم وبقاؤهم على السلم إلى حين الموت.
ومعاوية أظهر إسلًما من غيره ،فإنه تولى أربعين سنة؛ عشرين سنة نائًبا لعمر وعثمان ،مع ما كان في خلفة على ـ
ل عنه ـ وعشرين سنة مستولًيا ،وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى ال عليه وسلم بخمسين سنة، رضي ا ّ
ل عنهما ـ المر عام أربعين ،الذي يقال له :عام الجماعة؛ لجتماع الكلمة وزوال
وسلم إليه الحسن بن علي ـ رضي ا ّ
الفتنة بين المسلمين.
ل عنه ـ مما أثنى عليه النبي صلى ال عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وهذا الذي فعله الحسن ـ رضي ا ّ
ل به بين
ل عنه ـ أن النبي /صلى ال عليه وسلم قال) :إن ابني هذا سيد ،وسيصلح ا ّوغيره عن أبي بكر ـ رضي ا ّ
فئتين عظيمتين من المسلمين( ،فجعل النبي صلى ال عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح
ل تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ،وذلك حين سلم المر إلى معاوية ،وكان قد سار كل منهما إلى الخر ا ّ
بعساكر عظيمة.
فلما أثنى النبي صلى ال عليه وسلم على الحسن بالصلح وترك القتال ،دل على أن الصلح بين تلك الطائفتين كان
ل ـ تعالى ـ من فعله ،فدل على أن القتتال لم يكن مأموًرا به ،ولو كان معاوية كافًرا لم تكن تولية كافر
أحب إلى ا ّ
ل ورسوله ،بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين ،كما كان الحسن وتسليم المر إليه مما يحبه ا ّ
ل ـ تعالى ـ محبوًبا مرضًيا له ولرسوله.وأصحابه مؤمنين ،وأن الذي فعله الحسن كان محموًدا عند ا ّ
ق مارقة علىوهذا كما ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قالَ) :تمُر ُ
حين ُفْرَقٍة من الناس ،فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق( وفي لفظ) :فتقتلهم أدناهم إلى الحق( .فهذا الحديث الصحيح دليل
على أن كل الطائفتين المقتتلتين -على وأصحابه ،ومعاوية وأصحابه ـ على حق ،وأن علًيا وأصحابه كانوا أقرب إلى
الحق من معاوية وأصحابه.
فإن على بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين ،وهم الخوارج الحرورية ،الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه،
وكفروه ،وكفروا من واله ،ونصبوا له العداوة ،وقاتلوه ومن معه .وهم الذين أخبر عنهم النبي /صلى ال عليه وسلم
في الحاديث الصحيحة المستفيضة ،بل المتواترة ،حيث قال فيهم) :يحقر أحدكم صلته مع صلتهم ،وصيامه مع
صيامهم ،وقراءته مع قراءتهم ،يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ،يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الّرِمّية،
ضل عليهاع َ
ل ُمخَدج اليدين ،له َ
ل يوم القيامة ،آيتهم أن فيهم رج ً
أينما لقيتموهم فاقتلوهم ،فإن في قتلهم أجًرا عند ا ّ
جَرج ،تجيء وتذهب[. شعرات تدردر(]وتَدْرَدر :أي َتَر ْ
َ
وهؤلء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن واله ،وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافًرا ،وقتله أحد رؤوسهم ـ عبد
جم المَرادي ـ فهؤلء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا :إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما الرحمن بن ِمْل َ
كانوا كفاًرا مرتدين ،فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة ،وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة
ل عليهم ،ورضاه عنهم ،وإخباره بأنهم من أهل الجنة ،ونحو ذلك من النصوص. ل ـ تعالى ـ لهم ،وثناء ا ّ
من مدح ا ّ
ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله.
فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي :إن عليا كان كافًرا ،أو فاسًقا ظالًما ،وأنه قاتل على الملك لطلب الرياسة ل للدين،
وأنه قتل من أهل الملة ـ من أمة محمد صلى ال عليه وسلم ـ بالجمل ،وصفين ،وحروراء ،ألوًفا مؤلفة ،ولم يقاتل بعد
وفاة النبي صلى ال عليه وسلم كافًرا ،ول فتح مدينة ،بل قاتل أهل القبلة ،ونحو هذا الكلم الذي تقوله النواصب
ل /عنه ـ لم يمكن أن يجيب هؤلء النواصب إل أهل السنة والجماعة ،الذين يحبون السابقين المبغضون لعلي رضي ا ّ
الولين كلهم ،ويوالونهم.
فيقولون لهم :أبو بكر ،وعمر ،وعثمان ،وطلحة ،والزبير ،ونحوهم ،ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ،وثبت
ل عليهم ،والرضى عنهم ،وثبت بالحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى ال عليه وسلم عليهم في القرآن ثناء ا ّ
ل لتخذت أبا بكرخصوصًـا وعموًما ،كقوله في الحديث المستفيض عنه):لو كنت متخًذا من أهل الرض خلي ً
حّدُثون ،فإن يكن في أمتي أحد فعمر( ،وقوله عن عثمان) :أل أستحي ل( ،وقوله ) :إنه قد كان في المم قبلكم ُم َ
خلي ً
ل على
ل ورسوله ،يفتح ا ّل ورسوله ،ويحبه ا ّ
ل يحب ا ّ
ممن تستحي منه الملئكة؟( وقوله لعلي) :لعطين الراية رج ً
يديه( ،وقوله) :لكل نبي حواريون ،وحواريي الزبير( وأمثال ذلك.
وأما الرافضي فل يمكنه إقامة الحجة على من يبغض علًيا من النواصب ،كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون
ي معلوم بالتواتر .قال له :وكذلك إسلم أبي بكر ،وعمر ،وعثمان ،ومعاوية ،وغيرهم،
الجميع ،فإنه إن قال :إسلم عل ّ
وأنت تطعن في هؤلء ،إما في إسلمهم ،وإما في عدالتهم.
ي ثبت بثناء النبي صلى ال عليه وسلم .قلنا له :هذه الحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت
فإن قال :إيمان عل ّ
فيهم ،ورواة فضائلهم :سعد بن أبي /وقاص ،وعائشة ،وسهل بن سعد الساعدي ،وأمثالهم ،والرافضة تقدح في هؤلء،
ي ،ولم يكن للرافضة حجة ،وإن كانت روايتهم فإن كانت رواية هؤلء وأمثالهم ضعيفة ،بطل كل فضيلة تروى لعل ّ
صحيحة ،ثبتت فضائل على وغيره ،ممن روى هؤلء فضائله؛ كأبي بكر ،وعمر ،وعثمان ،وغيرهم.
ي متواترة عند الشيعة ـ كما يقولون :إن النص عليه بالمامة متواتر ـ قيل له:
فإن قال الرافضي :فضائل عل ّ
أما]الشيعة[ الذين ليسوا من الصحابة :فإنهم لم يروا النبي صلى ال عليه وسلم ،ول سمعوا كلمه ،ونقلهم نقل مرسل
حا.
منقطع ،إن لم يسنده إلى الصحابة لم يكن صحي ً
والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل ـ بضعة عشر وإما نحو ذلك ـ وهؤلء ل يثبت التواتر بنقلهم لجواز
التواطؤ على مثل هذا العدد القليل ،والجمهور العظم من الصحابة ،الذين نقلوا فضائلهم ،تقدح الرافضة فيهم ،ثم إذا
جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان ،فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز.
ضا ،فإذا قال الرافضي :إن أبا بكر ،وعمر ،وعثمان ،كان قصدهم الرياسة والملك ،فظلموا غيرهم بالولية .قالوأي ً
لهم :هؤلء لم يقاتلوا مسلًما على الولية ،وإنما قاتلوا المرتدين والكفار ،وهم الذين كسروا كسرى وقيصر ،وفتحوا
بلد فارس ،وأقاموا السلم وأعزوا اليمان وأهله ،وأذلوا الكفر وأهله.
/وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة ،ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في وليته ،فلم يقاتل المسلمين ،ول قتل
مسلًما على وليته .فإن جوزت على هؤلء أنهم كانوا ظالمين في وليتهم ،أعداء الرسول ،كانت حجة الناصبي عليك
أظهر.
وإذا أسأت القول في هؤلء ،ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته ،كان ذلك حجة للخوارج والنواصب
المارقين عليك ،فإنهم يقولون :أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة :من قاتل المسلمين على وليته ـ ولم يقاتل
الكفارـ وابتدأهم بالقتال ليطيعوه ،وهم ل يطيعونه ،وقتل من أهل القبلة الذين يقيمون الصلة ،ويؤتون الزكاة،
ويحجون البيت العتيق ،ويصومون شهر رمضان ،ويقرؤون القرآن ـ ألوًفا مؤلفة ،ومن لم يقاتل مسلًما ،بل أعزوا
أهل الصلة والزكاة ،ونصروهم وآووهم ،أو من قتل وهو في وليته ،لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره
ل عنه ؟ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالًما للملك ظالًما للمسلمين بوليته ،فتجويزك هذاوبين أهله ـ رضي ا ّ
على من قاتل على الولية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى.
وبهذا وأمثاله ،يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح ،ول نقل صحيح ،ول دين مقبول ،ول دنيا منصورة ،بل
ل ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد ،كما دخل فيهم النصيرية/ ، هم من أعظم الطوائف كذًبا وجه ً
ل من اليهود والنصارى والمشركين والسماعيلية وغيرهم ،فإنهم يعمدون إلى خيار المة يعادونهم ،وإلى أعداء ا ّ
يوالونهم ،ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه ،وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه ،فهم كما قال
خًما.
فيهم الشعبي -وكان من أعلم الناس بهم ـ :لو كانوا من البهائم لكانوا حمًرا ،ولو كانوا من الطير لكانوا َر َ
ولهذا كانوا أْبَهت الناس وأشدهم ِفرَية ،مثل ما يذكرون عن معاوية ،فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أّمره النبي صلى ال
عليه وسلم كما أّمر غيره ،وجاهد معه ،وكان أميًنا عنده يكتب له الوحي ،وما اتهمه النبي صلى ال عليه وسلم في
ل الحق على لسانه وقلبه ،ولم
كتابة الوحي .ووله عمر بن الخطاب :الذي كان من أخبر الناس بالرجال ،وقد ضرب ا ّ
يتهمه في وليته.
ل صلى ال عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى ال عليه وسلم وهو على وليته. وقد ولى رسول ا ّ
فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلًما من أبيه باتفاق المسلمين ،وإذا كان النبي صلى ال عليه وسلم ولى أباه فلن
تجوز وليته بطريق الولى والحرى ،ولم يكن من أهل الردة قط ،ول نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة ،فالذين
ينسبون هؤلء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر ،وعمر ،وعثمان ،وعامة أهل بدر ،وأهل بيعة الرضوان ،وغيرهم
من السابقين الولين من المهاجرين والنصار ،والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما ل يليق بهم.
/والذين نسبوا هؤلء إلى الردة يقول بعضهم :إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه ،وهذا مما يعلم كل
عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه .ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس؛
كعبد الملك بن مروان وأولده ،وأبى جعفر المنصور وولديه ـ الملقبين بالمهدي ،والهادي والرشيد ،وأمثالهم من
الذين تولوا الخلفة وأمر المؤمنين ،فمن نسب واحًدا من هؤلء إلى الردة ،وإلى أنه مات على دين النصارىَ ،لَعِلم
كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية ،فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة.
بل يزيد ابنه ،مع ما أحدث من الحداث ،من قال فيه :إنه كافر مرتد ،فقد افترى عليه ،بل كان ملًكا من ملوك
المسلمين كسائر ملوك المسلمين ،وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات ،وحسناتهم عظيمة ،وسيئاتهم عظيمة،
فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل ،وإما ظالم.
وهؤلء لهم ما لسائر المسلمين ،منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته ،ومنهم من قد تاب من سيئاته ،ومنهم من كفر
ل فيه شفاعة نبي أو غيره من
ل عنه ،ومنهم من قد يدخله الجنة ،ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته ،ومنهم من قد يتقبل ا ّ
ا ّ
الشفعاء ،فالشهادة لواحد من هؤلء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلل.
/وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه ،ليس هو من أعمال الصالحين والبرار .وقد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم
ل الخمرة ،وعاصرها ،ومعتصرها ،وحاملها ،وساقيها ،وشاربها ،وبائعها ،ومشتريها ،وآكل ثمنها(. أنه قال) :لعن ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى]حماًرا[ ،وكان كلما أتى به وصح عنه أنه كان على عهد رسول ا ّ
ل! ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى ال عليه
النبي صلى ال عليه وسلم جلده ،فأتى به إليه ليجلده ،فقال رجل :لعنه ا ّ
ل ورسوله( .وقد لعن النبي صلى ال عليه وسلم شارب وسلم .فقال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تلعنه ،فإنه يحب ا ّ
الخمر عموًما ،ونهى عن لعنة المؤمن المعين.
فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك ،وإن كان صدر منه ما هو ظلم ،فإن ذلك ل يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار.
ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلل ،فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع
ظلمه ،كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر ،عن النبي صلى ال عليه وسلم؛ أنه /قال) :أول جيش يغزو
قسطنطينية مغفور له( ،وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية ،وكان معه في الُغَزاة أبو أيوب النصاري،
وتوفى هناك ،وقبره هناك إلى الن(.
ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله :إنا ل نسبهم ول نحبهم ،أي :ل نحب ما صدر منهم
ل على
من ظلم .والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات ،وطاعات ومعاصي ،وبر وفجور وشر ،فيثيبه ا ّ
حسناته ،ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له ،ويحب ما فعله من الخير ،ويبغض ما فعله من الشر.
ل يغفرها.
فأما من كانت سيئاته صغائر ،فقد وافقت المعتزلة على أن ا ّ
ل يغفر
وأما صاحب الكبيرة ،فسلف المة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة ل يشهدون له بالنار ،بل يجوزون أن ا ّ
ك ِلَمن َيَشاء{ ]النساء ،[48:فهذه في حق من لم يشرك، ن َذِل َ
ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ
شَر َل َيْغِفُر َأن ُي ْ
ل َ له ،كما قال تعالىِ}:إ ّ
نا ّ
ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ب ن ا َّ
ل ِإ ّ
حَمِة ا ِّ
طوا ِمن ّر ْ
ل َتْقَن ُ
سِهْم َ
عَلى َأنفُ ِ
سَرُفوا َن َأ ْ
ي اّلِذي َ
عَباِد َ فإنه قيدها بالمشيئة ،وأما قوله تعالىُ} :ق ْ
ل َيا ِ
َجِميًعا{]الزمر ،[35 :فهذا في حق من تاب ،ولذلك أطلق وعم.
خّلد في النار ،ثم إنهم /قد يتوهمون في بعض الخيار أنه من أهل
والخوارج والمعتزلة يقولون :إن صاحب الكبيرة ُي َ
الكبائر ،كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلى وأتباعهما أنهم مخلدون في النار ،كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية
وعمرو بن العاص ،وأمثالهما ،ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين:
وكل القولين باطل .وأما الثاني فباطل على الطلق ،وأما الول فقد يعلم بطلنه ،وقد يتوقف فيه.
ومن قال عن معاوية وأمثاله ،ممن ظهر إسلمه وصلته ،وحجه وصيامه ـ أنه لم يسلم ،وأنه كان مقيًما على الكفر:
فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره ،كما لو ادعى مدع ذلك في العباس ،وجعفر ،وعقيل ،وفي أبي بكر ،وعمر،
ي بن أبي طالب ،إنما هما أولد سلمان الفارسي ،ولو ادعى وعثمان .وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي عل ّ
ي أبي بكر وعمر ،ولم يزوج بنتيه عثمان ،بل إنكار إسلم معاوية أقبح من أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يتزوج اْبَنَت ْ
إنكار هذه المور ،فإن منها ما ل يعرفه إل العلماء.
وأما إسلم معاوية ووليته على المسلمين والمارة والخلفة ،فأمر يعرفه جماهير الخلق ،ولو أنكر منكر إسلم عليّ
أو ادعى بقاءه على الكفر ،لم يحتج /عليه إل بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلم أبي بكر ،وعمر ،وعثمان ومعاوية
وغيرهم ،وإن كان بعضهم أفضل من بعض ،فتفاضلهم ل يمنع اشتراكهم في ظهور إسلمهم.
وأما قول القائل :إيمان معاوية كان نفاًقا فهو ـ أيضا ـ من الكذب المختلق ،فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم
معاوية بالنفاق ،بل العلماء متفقون على حسن إسلمه ،وقد توقف بعضهم في حسن إسلم أبي سفيان ـ أبيه ـ وأما
سَهْيل
معاوية ،وأخوه يزيد ،فلم يتنازعوا في حسن إسلمهما ،كما لم يتنازعوا في حسن إسلم عكرمة بن أبي جهل ،و ُ
ل متولًيا على المسلمين أربعين سنة نائًبا،
بن عمرو ،وصفوان بن أمية ،وأمثالهم من مسلمة الفتح ،وكيف يكون رج ً
ل يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم ،ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ،ويقيم فيهم الحدود، ومستق ً
ويقسم بينهم فْيأهم ومغانمهم وصدقاتهم ،ويحج بهم ،ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم وفيهم من أعيان الصحابة جماعة
كثيرة!
ل الحمد ـ لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولية عامة ـ من خلفاء بني أمية ،وبني العباس ـ أحد
بل أبلغ من هذا أنه ـ و ّ
يتهم بالزندقة والنفاق ،وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق ـ وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من
البدعة ،أو نوع من الظلم ،لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق.
/وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح ،الذين كانوا بمصر والمغرب ،وكانوا يدعون أنهم علويون،
وإنما كانوا من ذرية الكفار ،فهؤلء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق ،وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم
ل المسلمين أنمن ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه ،فأما خليفة عام الولية في السلم ،فقد طهر ا ّ
يكون ولي أمرهم زنديًقا منافًقا ،فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف ،فإنه نافع في هذا الباب.
واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه المة ،فإن الربعة قبله كانوا خلفاء نبوة ،وهو أول الملوك ،كان ملكه
ملًكا ورحمة ،كما جاء في الحديث) :يكون الملك نبوة ورحمة ،ثم تكون خلفة ورحمة ،ثم يكون ملك ورحمة ،ثم ملك
ضوض أي :يصيب الّرعية فيه عسف وظلم[ وكان في ملكه من الرحمة والحلم ع ُ
ضوض(]وملك َ ع ُوجبرية ،ثم ملك َ
ونفع المسلمين ،ما يعلم أنه كان خيًرا من ملك غيره.
وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة ،فإنه قد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :تكون خلفة النبوة ثلثين سنة،
ل عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون ،والئمة المهديون، ثم تصير ملًكا( .وكان أبو بكر ،وعمر ،وعثمان ،وعلي ـ رضي ا ّ
ضوا
ع ّ
سكوا بها و َ
الذين قال فيهم النبي صلى ال عليه وسلم) :عليكم بسنتي وسنة الخلفاء /الراشدين من بعديَ ،تَم ّ
عليها بالنواجذ ،وإياكم ومحدثات المور ،فإن كل محدثة بدعة(.
ي ،وقالوا :زمانه زمان فتنة ،لم يكن في زمانه جماعة ،وقالت طائفة :يصح
وقد تنازع كثير من الناس في خلفة عل ّ
أن يولي خليفتان ،فهو خليفة ،ومعاوية خليفة ،لن المة لم تتفق عليه ،ولم تنتظم في خلفته.
ل عنه ـ من الخلفاء الراشدين ،بهذا الحديث ،فزمان علي كان يسمى والصحيح الذي عليه الئمة :أن علًيا ـ رضي ا ّ
ل عنه ـ في
ي ـ رضي ا ّ
نفسه أمير المؤمنين ،والصحابة تسميه بذلك ،قال المام أحمد بن حنبل :من لم ُيَرّبع بعل ّ
الخلفة فهو أضل من حمار أهله ،ومع هذا فلكل خليفة مرتبة.
فأبو بكر وعمر ل يوازنهما أحد ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم) :اقتدوا باللذين من بعدي :أبي بكر وعمر( ،ولم
يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر ،وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال :ل أوتى
برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلجلدته حد المفترى.
ي ،باتفاق السابقين علىل عنهما ـ لكن ثبت تقديم عثمان على عل ّوإنما كانـوا يتنازعون في عثمان وعـلي ـ رضي ا ّ
عا بل كره ،بعد أن جعل عمر الشورى في ستة :عثمان ،وعلي ،وطلحة ،والزبير ،وسعد/ ،وعبد مبايعة عثمان طو ً
ي ،وعبد الرحمن فولى الرحمن بن عوف .وتركها ثلثة وهم :طلحة ،والزبير ،وسعد ،فبقيت في ثلثة :عثمان ،وعل ّ
أحدهما ،فبقى عبد الرحمن يشاور المهاجرين والنصار والتابعين لهم بإحسان ثلثة أيام ،ثم أخبر أنهم لم يعدلوا
بعثمان.
ل:
حَمه ا ّ
سلم ـ َر ِ
/قال شيخ ال ْ
صــل
َف ْ
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلث فرق :طرفان ووسط.
لما بدت تلك الحمول وأشـــرفت ** تلك الرؤوس على ربـي جيرون
وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر ،وعمر ،وعثمان ،فتكفير يزيد أسهل بكثير.
حا وإمام عدل ،وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى ل صال ً
والطرف الثاني :يظنون أنه كان رج ً
ال عليه وسلم ،وحمله على يديه وبّرك عليه ،وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر ،وربما جعله بعضهم نبًيا،
ويقولون عن الشيخ عدي ،أو حسن المقتول ـ كذًبا عليه ـ :إن سبعين ولًيا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد.
حا عابًدا
ل صال ًوهذا قول غالية العدوية والكراد ونحوهم من الضلل ،فإن الشيخ عدًيا كان من بني أمية ،وكان رج ً
ل ،ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إل إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي ،فإن عقيدته موافقةفاض ً
لعقيدته ،لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلل ،من الحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل ،والغلو في الشيخ عدي
وفي يزيد ،والغلو في ذم الرافضة ،بأنه ل تقبل لهم توبة ،وأشياء أخر.
وكل القولين ظاهر البطلن عند من له أدنى عقل وعلم بالمور وسير المتقدمين؛ ولهذا ل ينسب إلى أحد من أهل
العلم المعروفين بالسنة ،ول إلى ذي عقل من العقلء الذين لهم رأي وخبرة.
/والقول الثالث :أنه كان ملًكا من ملوك المسلمين ،له حسنات وسيئات ،ولم يولد إل في خلفة عثمان ،ولم يكن كافرا،
ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين ،وفعل ما فعل بأهل الحرة ،ولم يكن صاحًبا ول من أولياء ا ّ
ل
الصالحين ،وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة.
ثم افترقوا ثلث فرق :فرقة لعنته ،وفرقة أحبته ،وفرقة ل تسبه ول تحبه ،وهذا هو المنصوص عن المام أحمد،
وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.
قال صالح بن أحمد :قلت لبي :إن قوًما يقولون :إنهم يحبون يزيد ،فقال :يا بني ،وهل يحب يزيد أحد يؤمن با ّ
ل
واليوم الخر؟ فقلت :يا أبت ،فلماذا ل تلعنه؟ فقال :يا بني ،ومتى رأيت أباك يلعن أحًدا.
وقال مهنا :سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان .فقال :هو الذي فعل بالمدينة ما فعل .قلت :وما فعل؟ قال:
ل صلى ال عليه وسلم وفعل .قلت :وما فعل؟ قال :نهبها .قلت :فيذكر عنه الحديث؟ قال :ل قتل من أصحاب رسول ا ّ
يذكر عنه حديث .وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره.
ب.
ح ّ
ب ول ُي َ
س ّ
وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد :فيما بلغني ل ُي َ
ل بن تيمية سئل عن يزيد .فقال :ل تنقص ول تزيد .وهذا أعدل القوال فيه وفي
ضا ـ أن جدنا أبا عبد ا ّ
وبلغني ـ أي ً
أمثاله وأحسنها.
/أما ترك سبه ولعنته ،فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه ،أو بناء على أن الفاسق المعين ل يلعن
بخصوصه ،إما تحريًما ،وإما تنزيًها .فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ]حمار[ الذي تكرر منه شرب
ن
ل ورسوله( وقالَ) :لْع ُالخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة ،قال النبي صلى ال عليه وسلم) :ل تلعنه ،فإنه يحب ا ّ
المؤِمن كقتله( .متفق عليه.
هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها ،فقد ثبت أن النبي لعن عموًما شارب
الخمر ،ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين.
وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى ،والزاني ،والسارق ،فل نشهد بها عامة على معين بأنه من
ضي لمعارض راجح :إما توبة ،وإما حسنات ماحية ،وإما مصائب ضى عن المقت ِ
أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقت َ
مكفرة ،وإما شفاعة مقبولة ،وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع ،فهذه ثلثة مآخذ.
ومن اللعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول ،ل لكراهة في اللعنة .وأما ترك
محبته ،فلن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين ،والصديقين ،والشهداء والصالحين ،وليس واحًدا منهم ،وقد قال النبي
ل واليوم الخر ،ل يختار أن يكون مع يزيد ،ول مع أمثاله منصلى ال عليه وسلم) :المرء مع من أحب( ومن آمن با ّ
الملوك ،الذين ليسوا بعادلين.
أحدهما :أنه لم يصدر عنه من العمال الصالحة ما يوجب محبته ،فبقى واحًدا من الملوك المسلطين ،ومحبة أشخاص
ل.
هذا النوع ليست مشروعة ،وهذا المأخذ ،ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأوي ً
والثاني :أنه صدر عنه ما يقتضى ظلمه وفسقه في سيرته ،وأمر الحسين وأمر أهل الحرة.
وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي ،والكياالهراسي ]هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي
الطبري ،الملقب بعماد الدين ،الفقيه الشافعي ،كان من أهل طبرستان ،تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد ،كانت
ولدته سنة 450هـ ،وتوفى سنة 504هـ ببغداد[ وغيرهما ،فلما صدر عنه من الفعال التي تبيح لعنته ،ثم قد يقولون:
هو فاسق ،وكل فاسق يلعن .وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه ،كما لعن أهل صفين بعضهم
ل معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا ،مع ضا في القنوت ،فلعن على وأصحابه في قنوت الصلة رجا ً بع ً
أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ ـ العادلين ،والباغين ـ ل يفسق واحد منهم ،وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار ،وإن
صا من العصاة،عا من أهل المعاصي ،وأشخا ً ل صلى ال عليه وسلم أنوا ً
كان ل يعلن سائر الفساق ،كما لعن رسول ا ّ
وإن لم يلعن جميعهم ،فهذه ثلثة مآخذ للعنته.
ل فيما
/أحدهما :أنه مسلم ولي أمر المة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم ،وكانت فيه خصال محمودة ،وكان متأو ً
ل ،وأنكرينكر عليه من أمر الحرة وغيره ،فيقولون :هو مجتهد مخطئ ،ويقولون :إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أو ً
ذلك عليهم ابن عمر وغيره ،وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به ،بل ظهر منه التألم لقتله ،وذم من قتله ،ولم
يحمل الرأس إليه ،وإنما حمل إلى ابن زياد.
والمأخذ الثاني :أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر؛ أن رسول الّلهصلى ال عليه وسلم قال) :أول جيش
يغزو القسطنطينية مغفور له( وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الجتهاد ،وكذلك
محبة من يعمل حسنات وسيئات ،بل ل يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم ،والثواب والعقاب ،كذلك ل
ضا باعتبار وجهين.
يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له ،وأن يلعن ويشتم أي ً
فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار ،أو استحقوا دخولها فإنهم لبد أن يدخلوا الجنة،
فيجتمع فيهم الثواب والعقاب ،ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك ،وترى أن من استحق الثواب ل يستحق العقاب،
ومن استحق العقاب ل يستحق الثواب .والمسألة مشهورة ،وتقريرها في غير هذا الموضع.
/وأما جواز الدعاء للرجل وعليه ،فبسط هذه المسألة في الجنائز ،فإن موتى المسلمين ُيصلى عليهم؛ برهم وفاجرهم،
وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه ،لكن الحال الول أوسط وأعدل ،وبذلك أجبت مقدم المغل بولي؛ لما قدموا
دمشق في الفتنة الكبيرة ،وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات ،فسألني فيما سألني :ما تقولون في يزيد؟ فقلت :ل
حا فنحبه ،ونحن ل نسب أحًدا من المسلمين بعينه ،فقال :أفل تلعنونه؟ أما كان
ل صال ً
نسبه ول نحبه ،فإنه لم يكن رج ً
ظالًما؟ أما قتل الحسين؟
عَلى
ل َ ل في القرآنَ} :أ َ
ل َلْعَنةُ ا ّ فقلت له :نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال ا ّ
ظاِلِميَن{ ]هود [18 :ول نحب أن نلعن أحًدا بعينه ،وقد لعنه قوم من العلماء ،وهذا مذهب يسوغ فيه الجتهاد ،لكن ال ّ
ذلك القول أحب إلينا وأحسن.
ل منه
وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله ،أو رضى بذلك ،فعليه لعنة الّ والملئكة والناس أجمعين ،ل يقبل ا ّ
ل.
عْد ً
صْرًفا ول َ
َ
قال :فما تحبون أهل البيت؟ قلت :محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه ،فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد
ل صلى ال عليه وسلم بَغِدير يدعى :خّما ،بين مكة والمدينة فقال) :أيها الناس ،إني تارك بن أرقم قال :خطبنا رسول ا ّ
ل في أهل بيتي ،أذكركمعْتَرِتي /أهل بيتي ،أذكركم ا ّ
ل وحض عليه ،ثم قال) :و ِ ل( ،فذكر كتاب ا ّ
فيكم الثقلين كتاب ا ّ
ل في أهل بيتي( .قلت لمقدم :ونحن نقول في صلتنا كل يوم) :اللهم صل على محمد ،وعلى آل محمد ،كما صليت ا ّ
على إبراهيم ،إنك حميد مجيد ،وبارك على محمد وعلى آل محمد ،كما باركت على آل إبراهيم ،إنك حميد مجيد( .قال
ل منه صرًفا ول
ل والملئكة والناس أجمعين ،ل يقبل ا ّ مقدم :فمن يبغض أهل البيت؟ قلت :من أبغضهم فعليه لعنة ا ّ
عدل.
ي؟ قال :قد قالوا له :إن أهل دمشق نواصب ،قلت بصوت ثم قلت للوزير المغولي :لي شىء قال عن يزيد وهذا تتر ٌ
ل ما في أهل دمشق نواصب ،وما علمت فيهم ناصبًيا، ل ،وا ّ
عال :يكذب الذي قال هذا ،ومن قال هذا ،فعليه لعنة ا ّ
ولو تنقص أحد عليا بدمشق ،لقام المسلمون عليه ،لكن كان ـ قديًما لما كان بنو أمية ولة البلد ـ بعض بني أمية
ي ويسبه ،وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد.ينصب العداوة لعل ّ
ل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد ،ومنهم من يقول :إن الدين فسد من قبل هذه ،وهو من سئـ َ
ُ /
حين أخذت الخلفة من علي بن أبي طالب ،فإن الذين تولوا مكانه لم يكونوا أهل للولية ،فلم تصح توليتهم ،ولم يصح
للمسلمين بعد ذلك عقد من عقودهم ،ل عقد نكاح ول غيره ،وأن جميع من تزوج بعد تلك الواقعة فنكاحه فاسد،
وكذلك العقود جميعها فاسدة ،والوليات وغيرها.
ل صليب ،وأن كل حرف من الجللة على رأس خط من خطوط الصليب ،ويقرر للناس أن
ويزعم قائل هذا :أن ا ّ
اليهود والنصارى على حق ،وكذلك المجوس وغيرهم!!
ل تعالى:
ب ـ رحمه ا ّ
جـا َ
فَأ َ
أما هذا الجاهل فهو شبيه في جهله بالرافضة ،الذين يكذبون ،وخرافاتهم التي ل تروج إل على جاهل ل يعرف أصول
السلم ،كالذين ذكروا في هذا السؤال.
وقيل :إنهم يقولون :إن الدين فسد من حين أخذت الخلفة من علي ،وذلك /من حين موت النبي صلى ال عليه وسلم،
ل صليب ،ويقرر دين اليهود
ل للولية ،وأن عقود المسلمين باطلة ،وأن ا ّ
وأن الخلفاء الراشدين لم يكونوا أه ً
والنصارى والمجوس ،فإن هذا زنديق من شر الزنادقة ،من جنس قرامطة الباطنية ،كالنصيرية والسماعيلية
وأتباعهم.
ولهذا يتكلم بالتناقض ،فإن من يقرر دين اليهود والنصارى والمجوس ،ويطعن في دين الخلفاء الراشدين المهديين،
والسابقين الولين من المهاجرين والنصار ،ل يكون إل من أجهل الناس وأكفرهم ،ولو كان من المؤمنين ،الذين
يعلمون أن هذه المة خير أمة أخرجت للناس ،وأن خير المة القرن الول ،ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه؛ لما كان
مقرًرا لدين الكفار ،طاعًنا في دين المهاجرين والنصار ،والرد على هذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع.
ل ـ:
ل ـ َرحَمُه ا ّ
سئ َ
ُ /
ل عنه ـ قاتل الجن في البئر؟ ومّد يده يوم خيبر ،فعبر العسكر عليها؟ وأنه
هل يصح عند أهل العلم :أن علًيا ـ رضي ا ّ
حمل في الحزاب فافترقت قدامه سبع عشرة فرقة؟ وخلف كل فرقة رجل يضرب بالسيف يقول :أنا علي؟ وأنه كان
جْرن من رخام فقصم له له سيف يقال له :ذو الفقار ،وكان يمتد ويقصر ،وإنه ضرب به مرحًبا وكان على رأسه ُ
ولفرسه بضربة واحدة ،ونزلت الضربة في الرض ،ومناد ينادي في الهواء :ل سيف إل ذو الفقار ،ول فتى إل
ي؟ وأنه رمي في المنجنيق إلى حصن الغراب؟ وأنه بعث إلى كل نبي سًرا ،وبعث مع النبي صلى ال عليه وسلم عل ّ
جهًرا؟ وأنه كان يحمل في خمسين ألًفا ،وفي عشرين ألًفا ،وفي ثلثين ألًفا وحده؟ وأنه لما برز إليه مرحب من خيبر
ضا ،ونزل السيف في الرض ذراعين أو ثلثة؟ وأنه ل ،وقد الفرس عر ً ضربه ضربة واحدة َفَقّده ]أي :قطعة[ طو ً
مسك حلقة باب خيبر وهزها فاهتزت المدينة ،ووقع من على السور شرفات ،فهل صح من ذلك شىء؟!
جــاب:
َفَأ َ
ل صلىي قط على عهد رسول ا ّ والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة ،ولم يقاتل عل ّ
ال عليه وسلم لعسكر كان خمسين ألًفا أو ثلثين ألًفا ،فضل عن أن يكون وحده قد حمل فيهم ،ومغازيه التي شهدها
ل وقاتل فيها كانت تسعة :بدًرا ،وأحًدا ،والخندق ،وخيبر ،وفتح مكة ،ويوم حنين ،وغيرها.
مع رسول ا ّ
وأكثر ما يكون المشركون في الحزاب وهي الخندق ،وكانوا محاصرين للمدينة ،ولم يقتتلوا هم والمسلمون كلهم،
ي وحده قط إل
عْبد ود العامري ،ولم يبارز عل ّ ي عمرو بن َ
وإنما كان يقتتل قليل منهم وقليل من الكفار ،وفيها قتل عل ّ
واحًدا ،ولم يبارز اثنين.
ل يحب الّ
وأما مرحب يوم خيبر ،فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :لعطين الراية رج ً
ل على يديه( ،فأعطاها لعلي ،وكانت أيام خيبر أياًما متعددة ،وحصونها ،فتح
ل ورسوُله ،يفتح ا ّورسوَله ،ويحبه ا ّ
ل عنه ـ بعضها. ي ـ رضي ا ّ على يد عل ّ
وقد روي أثر أنه قتل مرحًبا ،وروي أنه قتله محمد بن مسلمة ،ولعلهما مرحبان ،وقتله القتل المعتاد ،ولم يقده جميعه،
ول قد الفرس ،ول نزل /السيف إلى الرض ،ول نزل لعلي ول لغيره سيف من السماء ،ول مد يده ليعبر الجيش،
ول اهتز سور خيبر لقلع الباب ،ول وقع شىء من شرفاته ،وإن خيبر لم تكن مدينة وإنما كانت حصوًنا متفرقة ،ولهم
مزارع.
ولكن المروي أنه ما قلع باب الحصن حتى عبره المسلمون ،ول رمي في منجنيق قط ،وعامة هذه المغازي التي
ي وغيره ،قد زادوا فيها أكاذيب كثيرة ،مثل ما يكذبون في سيرة عنترة والبطال .وجميع الحروب التيتروى عن عل ّ
ل صلى ال عليه وسلم ثلثة حروب :الجمل ،وصفين ،وحرب أهل ل عنه ـ بعد وفاة رسول ا ّحضرها علي ـ رضي ا ّ
ل أعلم.
النهروان ،وا ّ
إن عليا قاتل الجن في البئر ،وأنه حمل على اثني عشر ألًفا وهزمهم.
جــاب:
َفَأ َ
لم يحمل أحد من الصحابة وحده ل في اثني عشر ألًفا ول في عشرة آلف ،ل علي ول غيره ،بل أكثر عدد اجتمع
على النبي صلى ال عليه وسلم هم الحزاب الذين حاصروه بالخندق ،وكانوا قريًبا من هذه العدة ،وقتل علي رجل
من الحزاب اسمه :عمرو بن عبد وٍد العامري.
جـاب:
فأ َ
وأما الحديث المذكور عن علي فكذب ،ما رواه أحد من أهل العلم.
وأما قوله) :اسألوني عن طرق السماء( فإنه قاله ،ولم يرد بذلك طريًقا للهدى ،وإنما يريد بمثل هذا الكلم العمال
ل أعلم.
الصالحة التي يتقرب بها ،وا ّ
جـاب:
فَأ َ
أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت ،فهذا مما ل خلف فيه بين المسلمين ،وهو أظهر عند المسلمين من أن
يحتاج إلى دليل ،بل هو أفضل أهل البيت ،وأفضل بني هاشم بعد النبي صلى ال عليه وسلم ،وقد ثبت عن النبي صلى
سن ،وحسين ،فقال) :الّلهم هؤلء أهل بيتي ،فأذهب عنهم
حَى وفاطمة ،و َ
ال عليه وسلم أنه أدار كساءه على عل ّ
جس وطهرهم تطهيًرا(. الّر ْ
وأما الصلة عليه منفرًدا ،فهذا ينبني على أنه هل يصلى على غير النبي صلى ال عليه وسلم منفرًدا ؟ مثل أن يقول:
اللهم صل على عمر أو علي .وقد تنازع العلماء في ذلك.
فذهب مالك ،والشافعي ،وطائفة من الحنابلة إلى أنه ل يصلي على غير النبي صلى ال عليه وسلم منفرًدا ،كما روي
عن ابن عباس أنه قال :ل أعلم الصلة تنبغي عَلى أحد إل على النبي صلى ال عليه وسلم.
ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلة عليه دون غيره مضاهاة للنبي صلى ال عليه وسلم،
بحيث يجعل ذلك شعاًرا معروًفا باسمه ،هذا هو البدعة.
حُه:
ل ُرو َ
سلم ـ قدس ا ّ
خ ال ْ
شْي ُ
ل َ
سِئ َ
ُ /
هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث ،أو من يقتدى به في دين السلم ،أن أمير المؤمنين علي بـن أبي طالب ـ
ل عنه ـ قال :إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني ،فأينما بركت ادفنوني ،فسارت ولم يعلم أحد قبره؟
رضي ا ّ
فهل صح ذلك أم ل؟ وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم ل؟ وما كان سبب قتله؟ وفي أي وقت كان ؟ ومن قتله؟
سُبوا؟ وأنهم أركبوا على
ومن قتل الحسين؟ وما كان سبب قتله؟ وهل صح أن أهل بيت النبي صلى ال عليه وسلم ُ
ل ـ تعالى ـ للبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها .وأن الحسين
البل عراة ،ولم يكن عليهم ما يسترهم ،فخلق ا ّ
لما قطع رأسه داروا به في جميع البلد ،وأنه حمل إلى دمشق ،وحمل إلى مصر ودفن بها؟ وأن يزيد بن معاوية هو
الذي فعل هذا بأهل البيت ،فهل صح ذلك أم ل ؟
ل؟ وما الذي يجب عليه إذا /تحدث بهذا بين الناس؟ وهل إذا أنكر هذا وهل قائل هذه المقالت مبتدع بها في دين ا ّ
عليه منكر هل يسمى آمًرا بالمعروف ناهًيا عن المنكر أم ل؟ أفتونا مأجورين ،و بينوا لنا بياًنا شافيا.
جــاب:
َفَأ َ
ول يحل أن يفعل هذا بأحد من موتى المسلمين ،ول يحل لحد أن يوصي بذلك ،بل هذا ُمْثَلة بالميت ،ول فائدة في هذا
الفعل ،فإنه إن كان المقصود تعمية قبره ،فلبد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه ،وحينئذ يمكن أن يحفر
له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة ،وهو أن يترك ميًتا على ظهر دابة تسير في البرية.
وقد تنازع العلماء في موضع قبره .والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر المارة بالكوفة ،وأنه أخفى قبره لئلً
جم
ينبشه الخوارج ـ الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله ـ فإن الذي قتله واحد من الخوارج ،وهو عبد الرحمن /بن ِمْل َ
المرادي ،وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية ،وقتل عمرو بن العاص ،فإنهم يكفرون هؤلء
كلهم ،وكل من ل يوافقهم على أهوائهم.
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى ال عليه وسلم بذمهم .خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه،
وخرجه البخاري من عدة أوجه ،وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك .قال صلى ال عليه وسلم فيهم:
حِقر أحدكم صلته مع صلتهم ،وصيامه مع صيامهم ،وقراءته مع قراءتهم ،يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم، )َي ْ
يمرقون من السلم كما يمرق السهم من الرِمّية ،لئن أدركتهم لقتلنهم قتل عاد ـ وفي رواية ـ أينما لقيتموهم فاقتلوهم
ل يوم القيامة ،يقتلون أهل السلم(. ـ فإن في قتلهم أجًرا لمن قتلهم عند ا ّ
خّباب ،وأغاروا على ل بن َ وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم ،ثم إن الباقين قتلوا عبد ا ّ
سرح المسلمين ،فأمر /علي الناس بالخروج إلى قتالهم .وروى لهم أمر النبي صلى ال عليه وسلم بقتالهم وذكر
ج اليدين ـ ناقص اليد ـ على ثديه مثل البضعة من اللحم َتَدْرَدر .ولما قتلوا وجد
خَد َ
ل ُم ْ
العلمة التي فيهم :أن فيهم رج ً
فيهم هذا المنعوت.
ل عنه ـ يومفلما اتفق الخوارج ـ الثلثة ـ على قتل أمراء المسلمين الثلثة ،قتل عبد الرحمن بن ملجم علًيا ـ رضي ا ّ
الجمعة سابع عشر ،شهر رمضان ،عام أربعين ،اختبأ له ،فحين خرج لصلة الفجر ضربه ،وكانت السنة أن الخلفاء
ونوابهم المراء الذين هم ملوك المسلمين ،هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس ،والجمع والعيدين،
والستسقاء والكسوف ،ونحو ذلك كالجنائز ،فأمير الحرب هو أمير الصلة الذي هو إمامها.
وأما الذي أراد قتل معاوية فقالوا :إنه جرحه ،فقال الطبيب :إنه يمكن علجك ،لكن ل يبقى لك نسل ،ويقال :إنه من
حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد ،واقتدى به المراء؛ ليصلوا فيها هم وحاشيتهم ،خوًفا من وثوب بعض
الناس على أمير المؤمنين وقتله ،وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما ل يسوغ ،وكره من كره الصلة في نحو هذه
المقاصير.
وأما الذي أراد قتل عمرو بن العاص ،فإن عمًرا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلـ اسمه خارجة ـ فظن الخارجي أنه
ل خارجة ،فصارت مثل. عمرو فقتله ،فلما تبين له قال :أردت عمًرا وأراد ا ّ
/فقيل :إنهم كتموا قبر علي وقبر معاوية وقبر عمرو خوًفا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط
القبلي من المسجد الجامع في قصر المارة ،الذي كان يقال له الخضراء ،وهو الذي تسميه العامة قبر هود ،وهود
باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق ،بل قبره ببلد اليمن حيث بعث ،وقيل :بمكة حيث هاجر ،ولم يقل أحد :إنه بدمشق.
وأما معاوية الذي هو خارج باب الصغير ،فإنه معاوية بن يزيد ،الذي تولى نحو أربعين يوًما ،وكان فيه زهد ودين.
فعلي دفن هناك وعفي قبره؛ فلذلك لم يظهر قبره.
وأما المشهد الذي بالّنجف ،فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي ،بل قيل :إنه قبر المغيرة بن شعبة ،ولم يكن
أحد يذكر أن هذا قبر علي ،ول يقصده أحد أكثر من ثلثمائة سنة ،مع كثرة المسلمين من أهل البيت ،والشيعة
وغيرهم ،وحكمهم بالكوفة.
وإنما اتخذوا ذلك مشهًدا في ملك بني بويه ـ العاجم ـ بعد موت علي بأكثر من ثلثمائة سنة ،ورووا حكاية فيها :أن
الرشيد كان يأتي إلى تلك ،وأشياء ل تقوم بها حجة.
ل نسلك ،فإن
ل عنه ـ نصب يده بخيبر فوطئته البغلة ،فقال لها :قطع ا ّ
وإنما هذا الكذب نظير كذبهم بأن علًيا ـ رضي ا ّ
كل عاقل يعلم أن البغلة لم يكن لها نسل قط .هذا مع أنهم لم يكن معهم بخيبر بغلة ،بل لم يكن للمسلمين بغال ،وأول
بغلة صارت لهم التي أهداها المقوقس ـ صاحب مصر ـ للنبي صلى ال عليه وسلم حتى مات وهي عنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما
جْدن ريحها ،ورجالن الجنة ،ول َي ِ
خْل َ
خت ،ل َيْد ُ
سِنَمة الُب ْ
بعد :نساء كاسيات مائلت ُمِميلت ،على رؤوسهن مثل أ ْ
ل(.
سياط مثل أذناب البقر ،يضربون بها عباد ا ّ
معهم ِ
فالنبي صلى ال عليه وسلم شبه أصحاب العصائب الكبار ـ التي ستكون بعد موته ـ بأسنمة البخاتي ،فلول أنهم كانوا
يعرفونها لم يفهموا ،وهذه العصائب قد /ظهرت بعده بمدة طويلة في هذا الزمان ونحوه ،ثم إن البخاتي ل يستتر
ل أن يستتر من عري ـ بغيرحق ـ لستره بما يصلح له ،كما ستر إبراهيم الخليل لما
راكبها إذا كان عارًيا ،ولو شاء ا ّ
جرد وألقى في المنجنيق.
ومما يبين ظهور الكذب في هذا ،أن المسلمين ما زالوا يسبون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ،ومع هذا فما علم أنهم
سِبّية وجهها ،أو يداها ،أو قدمها.
قط كانوا يرحلون النساء مجردات بادية أبدانهن ،بل غاية ما يظهر من المرأة الم ْ
ولم يعلم في السلم أن أهل البيت سبى أحًدا منهم أحد من المسلمين في وقت من الوقات ،مع العلم بأنهم من أهل
البيت ،اللهم إل أن يقع في أثناء ما تسبيه المسلمون من ل يعلم أنه من أهل البيت ،كامرأة سباها العدو ثم استنقذها
المسلمون ،وإذا تبين أنها كانت حرة الصل أرسلوها ،وإن كان في ضمن ذلك من ل يعرف من يخفي نسبها ويستحل
ل أعلم بحقيقة ذلك ،لكن لم يكن شىء من ذلك علنية في السلم قط. ل من هو زنديق منافق ،فا ّ منها ما حرم ا ّ
وهذا مما يقوله هؤلء الجهال ،أن الحجاج بن يوسف قتل الشراف وأراد قطع دابرهم ،وهذا من الجهل بأحوال
الناس ،فإن الحجاج ـ مع كونه ُمِبيًرا ]أي :مهلك يسرف في إهلك الناس[ سفاًكا للدماء قتل خلًقا كثيًرا ـ لم يقتل من
أشراف بني هاشم أحًدا قط ،بـل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم وهم الشراف ،وذكر أنه
أتى إلى الحـرب لمـا تعرضوا لهم ،يعني لما قتل الحسين.
/ول يعلم في خلفة عبد الملك والحجاج نائبه على العراق أنه قتل أحًدا من بني هاشم.
والذي يذكر لنا السبي أكثر ما يذكر مقتل الحسين وحمل أهله إلى يزيد ،لكنهم جهال بحقيقة ما جرى ،حتى يظن
الظان منهم أن أهله حملوا إلى مصر ،وأنهم قتلوا بمصر ،وأنهم كانوا خلًقا كثيًرا ،حتى إن منهم من إذا رأى موتى
ل عنه ،ولعن من قتله،
عليهم آثار القتل قال :هؤلء من السبي الذين قتلوا ،وهذا كله جهل وكذب .والحسين ـ رضي ا ّ
ورضي بقتله ـ قتل يوم عاشوراء عام واحد وستين.
ل بنشن ،صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد ا ّ جْو َ
شِمر بن ذي ال َ
وكان الذي حض على قتله ال ّ
ل هذا أمر ـ بمقاتلة الحسين ـ نائبه عمر ابن سعد بن أبي وقاص ،بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه زياد ،وعبيد ا ّ
آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة ،فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة ،أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه ،أو
يذهب إلى الّثْغِر يقاتل الكفار ،فامتنعوا إل أن يستأسر لهم أو يقاتلوه ،فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم.
ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق ،ولم يكن يزيد أمرهم بقتله ،ول ظهر منه سرور بذلك ورضى
به ،بل قال كلًما فيه ذم لهم حيث نقل عنه أنه قال :لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين،
ل لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله ـ يريد بذلك الطعن
ل بن زياد ـ وا ّ
جانة ـ يعني عبيد ا ّ
ل ابن مْر َ
وقال/ :لعن ا ّ
في استلحاقه حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب ـ وبنو أمية وبنو هاشم
كلهما بنو عبد مناف.
وروى أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك ،وأنه أكرم أهله ،وأنزلهم منزلً
حسًنا ،وخير ابنه علًيا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة ،فاختار المدينة ،والمكان الذي يقال له سجن على
بن الحسين بجامع دمشق باطل ل أصل له.
ل عنه ـ ول انتصر له ،بل قتل أعوانه لقامة ملكه ،وقد نقل
ل على من قتل الحسين ـ رضي ا ّ لكنه مع هذا لم يقم حد ا ّ
عنه أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح ،كقوله:
لما بدت تلك الحمول وأشرفــــت ** تلك الـرؤوس إلى ربى جـــيرون
نعق الغراب فقلت نح أو ل تنــــح ** فلقد قضيت مـن النبـي ديـونـي !!
ول ريب أن يزيد تفاوت الناس فيه ،فطائفة تجعله كافًرا ،بل تجعله هو وأباه كافرين؛ بل يكفرون مع ذلك أبا بكر
ل وأضلهم ،وأعظمهم وعمر ،ويكفرون عثمان ،وجمهور المهاجرين والنصار .وهؤلء الرافضة من أجهل خلق ا ّ
ل ـ عز وجل ـ ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم ،فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر /كذًبا على ا ّ
وعثمان ،بل كذبهم على يزيد أهون بكثير .
وطائفة تجعله من أئمة الهدى ،وخلفاء العدل ،وصالح المؤمنين ،وقد يجعله بعضهم من الصحابة ،وبعضهم يجعله
ضا ـ من أبين الجهل والضلل ،وأقبح الكذب والمحال ،بل كان ملًكا من ملوك المسلمين له حسناتنبًيا ،وهذا ـ أي ً
وسيئات ،والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك ،وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع.
ل عنه ـ فقتل بَكْرِبلء قريب من الفرات ،ودفن جسده حيث قتل ،وحمل رأسه إلى ُقدام عبيد الّ
وأما الحسين ـ رضي ا ّ
بن زياد بالكوفة ،هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الئمة.
وأما حمله إلى الشام إلى يزيد ،فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها ،بل في الروايات ما يدل على أنها
من الكذب المختلق ،فإنه يذكر فيها أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه ،وأن بعض الصحابة الذين حضروه ـ
كأنس بن مالك ،وأبي َبْرَزة ـ أنكر ذلك ،وهذا تلبيس ،فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد الّ بن زياد ،هكذا
ل ل ريب أنه أمر بقتله ،وحمل الرأس إلىل بن زياد ]يزيد[ ،وعبيد ا ّ
في الصحيح والمساند .وإنما جعلوا مكان عبيد ا ّ
بين يديه .ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لجل ذلك/.ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم
يكونوا بالشام ،وإنما كانوا بالعراق ـ حينئذ ـ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم.
وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس ،وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له:
مشهد الحسين باطل ،ليس فيه رأس الحسين ول شىء منه ،وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد الّ بن القداح الذين
كانوا ملوًكا بالديار المصرية مائتي عام ،إلى أن انقرضت دولتهم في أيام نور الدين محمود وكانوا يقولون :إنهم من
أولد فاطمة ،ويدعون الشرف .وأهل العلم بالنسب يقولون :ليس لهم نسب صحيح ،ويقال :إن جدهم كان ربيب
الشريف الحسيني فادعوا الشرف لذلك.
فأما مذاهبهم وعقائدهم ،فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين السلم ،وكانوا يظهرون التشيع ،وكان كثير من كبرائهم
وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية ،وهو من أخبث مذاهب أهل الرض ،أفسد من اليهود والنصارى؛ ولهذا
كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع :المتفلسفة ،والمباحية ،والرافضة ،وأشباه هؤلء ،ممن ل
يستريب أهل العلم واليمان في أنه ليس من أهل العلم واليمان.
فأحدث هذا المشهد في المائة الخامسة ،نقل من عسقلن ،وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت
العاضد ـ آخر ملوكهم.
ل عنهما ـ هو ما ذكره الزبير بن بكار في كتاب /والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي ـ رضي ا ّ
]أنساب قريش[ والزبير بن بكار هو من أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا ،ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية
ودفن هناك ،وهذا مناسب ،فإن هناك قبر أخيه الحسن ،وعم أبيه العباس ،وابنه علي وأمثالهم.
قال ]أبو الخطاب[ ابن َدحية ـ الذي كان يقال له]:ذو النسبين بين دحية والحسين[ في كتاب ]العلم المشهور في فضل
اليام والشهور[ـ لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن :أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون
عند عمرو بن سعيد ،فسمعوا الصياح فقالوا :ما هذا ؟ فقيل :نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين ابن علي،
ل لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي ،قال ابن قال :وأتي برأس الحسين بن علي ،فدخل به على عمرو فقال :وا ّ
دحية :فهذا الثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه ،والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا
سَكة :ما
سَكة ]الُم ْ
السبب ،قال :وما ذكر من أنه في عسقلن في مشهد هناك فشيء باطل ،ل يقبله من معه أدنى ُم ْ
يمسك الّرَمق من الطعام والشراب ،والمقصود هنا :من معه أدنى بقية من العقل[ من العقل والدراك ،فإن بني أمية ـ
مع ما أظهروه من القتل والعداوة والحقاد ـ ل يتصور أن يبنوا على الرأس مشهًدا للزيارة.
هذا ،وأما ما افتعله بنو عبيد في أيام إدبارهم ،وحلول بوارهم ،وتعجيل دمارهم ،في أيام الملقب بالقاسم عيسى بن
الظافر وهو الذي عقد له بالخلفة /وهو ابن خمس سنين وأيام ؛ لنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع
وأربعين وخمسمائة ،وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة .وله
من العمر ما قدمنا ،فل تجوز عقوده ول عهوده ،وتوفى وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام؛لنه توفى
لليلة الجمعة لثلث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة ،فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث
ي العسقلني أمام الناس ،ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من المور الظاهرة،بالقاهرة ،ودخول الرأس مع المشهد ّ
ضا ،والذي بناه طلئع بنضا ،وقضوا ما في نفوسهم لستجلب العامة عر ً وذلك شىء افتعل قصًدا ،أو نصب غر ً
ُرَزْيك الرافضي .وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط ،وهذا الذي ذكره أبو
الخطاب بن َدحية في أمر هذا المشهد ،وأنه مكذوب مفترى ،هو أمر متفق عليه عند أهل العلم.
والكلم في هذا الباب وأشباهه متسع ،فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة ،وأكاذيب
وأهواء ،وقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين ،وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب أنواع من الكاذيب ،يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم ،ويكذب بعضها مبغضوهم ،لسيما بعد مقتل عثمان ،فإنه
عظم الكذب والهواء.
/وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالت من الجانبين ،علي برىء منها .وصارت البدع والهواء والكذب
تزداد ،حتى حدث أمور يطول شرحها ،مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء ،فقوم يجعلونه مأتًما
ل والكذب على أهل البيت، يظهرون فيه النياحة والجزع ،وتعذيب النفوس وظلم البهائم ،وسب من مات من أولياء ا ّ
ل وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم واتفاق المسلمين. وغير ذلك من المنكرات المنهى عنها بكتاب ا ّ
ل ـ تعالى ـ بالشهادة في هذا اليوم ،وأهان بذلك من قتله ،أو أعان على قتله ،أو ل عنه ـ أكرمه ا ّ والحسين ـ رضي ا ّ
رضى بقتله ،وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء ،فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة ،وكانا قد تربيا في عز
ل ـ تعالى ـ بالشهادة؛ ل ما ناله أهل بيته ،فأكرمهما ا ّ السلم ،لم ينال من الهجرة والجهاد والصبر على الذى في ا ّ
ل ـ سبحانه ـ قد شرع السترجاع عند المصيبة بقوله ل لكرامتهما ،ورفعا لدرجاتهما ،وقتله مصيبة عظيمة ،وا ّ تكمي ً
حَمٌة َوُأوَلـِئ َ
ك ت ّمن ّرّبِهْم َوَر ْ
صَلَوا ٌ
عَلْيِهْم َ
ك َ
ن ُأوَلـِئ َ
جعو َ
ل َوِإّنـا ِإَلْيِه َرا ِ
صيَبٌة َقاُلوْا ِإّنا ِّ
صاَبْتُهم ّم ِ
ن ِإَذا َأ َ
ن اّلِذي َ
صاِبِري َ تعالىَ} :وَب ّ
شِر ال ّ
ُهُم اْلُمْهَتُدوَن{ ]البقرة .[155-157 :وفي الصحيحين عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال:
وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد ،فكان في محاسن السلم أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى ال
عليه وسلم ،و هو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها ،فيكون للنسان من الجر مثل الجر يوم أصيب بها
المسلمون.
وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى ال عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد ،مثل
ل عنه ـ قال:
ل بن مسعود ـ رضي ا ّ لطم الخدود وشق الجيوب ،والدعاء بدعوى الجاهلية .ففي الصحيحين عن عبد ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم) :ليس منا من ضرب الخدود ،وشق الجيوب ،ودعا بدعوى الجاهلية( .وفي قال رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم، ل عنه ـ قال) :أنا بريء مما برئ منه رسول ا ّالصحيحين عن أبي موسى الشعري ،رضي ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم برئ من الحالقة ،والصالقة ،والشاقة(. إن رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم قال) :أربع في أمتي من أمر الجاهلية وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الشعري :أن رسول ا ّ
ل يتركونهن :الفخر بالحساب/ ،والطعن في النساب ،والستسقاء بالنجوم ،والنياحة على الميت( .وقال) :النائحة إذا
ب( ،والثار في ذلك متعددة.
جَر ٍ
طَران ،وِدْرع من َسْرَبال من َق ِ
ب قبل موتها ،تقام يوم القيامة وعليها ِ
لم َتُت ْ
فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين ،ولعنهم وسبهم ،وإعانة أهل الشقاق واللحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد
ل ـ تعالى.
وغير ذلك ،مما ل يحصيه إل ا ّ
وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة ،بنوا عليها ما جعلوه شعاًرا في هذا اليوم ،يعارضون به
ل بباطل ،وردوا بدعة ببدعة ،وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لهل اللحاد،شعار ذلك القوم ،فقابلوا باط ً
مثل الحديث الطويل الذي روى فيه) :من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام ،ومن اكتحل يوم عاشوراء لم
يرمد ذلك العام( وأمثال ذلك من )الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه( ونحو ذلك .فإن هذا الحديث ونحوه كذب
مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث ،وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال :إنه صحيح وإسناده على شرط
الصحيح ،فهذا من الغلط الذي ل ريب فيه ،كما هو مبين في غير هذا الموضع.
خضاب ،وأمثال ذلك ،ول ذكره أحد
ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الغتسال يوم عاشوراء ،ول الكحل فيه وال ِ
ل به ونهى عنه ،ول فعل ذلك رسول ا ّ
ل من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم/ ،ويرجع إليهم في معرفة ما أمر ا ّ
صلى ال عليه وسلم ،ول أبو بكر ،ول عمر ،ول عثمان ،ول علي .
ول ذكر مثل هذا الحديث في شىء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث ،ل في المسندات ؛ كمسند أحمد،
وإسحاق ،وأحمد بن َمِنيع الحميدي ،والدالني ،وأبو يعلى الموصلي ،وأمثالها .ول في المصنفات على البواب؛
كالصحاح ،والسنن .ول في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والثار؛ مثل موطأ مالك ،وَوِكيع ،وعبد الرزاق ،وسعيد
بن منصور ،وابن أبي شيبة ،وأمثالها.
ثم إن أهل الهواء ظنت أن من يفعل هذا أنه يفعله على سبيل نصب العداوة لهل البيت والشتفاء منهم ،فعارضهم
من تسنن ،وأجاب عن ذلك بإجابة بين فيها براءتهم من النصب واستحقاقهم لموالة أهل البيت ،وأنهم أحق بذلك من
ل أعلم بمن ابتدأ
غيرهم .وهذا حق .لكن دخلت عليهم الشبهة والغلط في ظنهم أن هذه الفعال حسنة مستحبة ،وا ّ
ل ـ أو غير ذلك ـوضع ذلك وابتداعه ،هل كان قصده عداوة أهل البيت أو عداوة غيرهم؟ فالهدى بغير هدى من ا ّ
ضللة.
ل عليهم،
ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة ،ونلزم الصراط المستقيم ،صراط الذين أنعم ا ّ
ل به وهول جميًعا ول نتفرق ،ونأمر بما أمر ا ّ من النبيين ،والصديقين/ ،والشهداء ،والصالحين ،ونعتصم بحبل ا ّ
ل في أعمالنا ،فإن هذا هو دين السلم قال ا ّ
ل المعروف ،وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الخلص ّ
ف َعَلْيِهْم َوَل ُهْم َيْحَزُنوَن{ ]البقرة ،[112:وقال تعالى: خْو ٌ ل َعنَد َرّبِه َو َ جُرُه ِن َفَلُه َأ ْ
سٌحِل َوُهَو ُم ْ
جَهُه ِّ سَلَم َو ْ تعالىَ} :بَلى َم ْ
ن َأ ْ
ل{ ]النساء.[125: خِلي ً
ل ِإْبَراِهيَم َ
خَذ ا ّ
حِنيًفا َواّت َ
ن واّتَبَع ِمّلَة ِإْبَراِهيَم َ
سٌ حِ جَهُه ل َوُهَو ُم ْ سَلَم َو ْ
ن َأ ْ
ن ِديًنا ّمّم ْ
سُ
حَ ن َأ ْ
}َوَم ْ
ل َتْعَلُمو َ
ن ل َما َ
عَلى ا ّ ن َ
شاء َأَتُقوُلو َحَ
ل َيْأُمُر ِباْلَف ْ
ل َل ِإنّ ا ّ
ل َأَمَرَنا ِبَها ُق ْ
عَلْيَها آَباءَنا َوا ّ
جْدَنا َ
شًة َقاُلوْا َو َ
حَ وقال تعالىَ} :وِإَذا َفَعُلوْا َفا ِ
عَلْيِهُم
ق َ
حّ ن َفِريًقا َهَدى َوَفِريًقا َن َكَما َبَدَأُكْم َتُعوُدو َ
ن َلُه الّدي َ
صي َ
خِل ِ عوُه ُم ْجٍد َواْد ُ
سِ ل َم ْعنَد ُك ّجوَهُكْم ِ ط َوَأِقيُموْا ُو ُسِ ل َأَمَر َرّبي ِباْلِق ُْق ْ
ل َوَيْحَسُبوَن َأّنُهم ّمْهَتُدوَن{]العراف[28-30 : نا ّ ن َأْوِلَياء ِمن ُدو ِ طي َ
شَيا ِخُذوا ال ّ لَلُة ِإّنُهُم اّت َ
ضَال ّ
جوٌه{
سَوّد ُو ُ
جوٌه َوَت ْ ن { إلى قولهَ} :يْوَم َتْبَي ّ
ض ُو ُ سِلُمو َ
ل َوَأنُتم ّم ْ
ن ِإ ّ
ل َتُموُت ّ
ق ُتَقاِتِه َو َ
حّ
ل َ وقال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
ن آَمُنوْا اّتُقوْا ا ّ
]آل عمران [102-106 :قال ابن عباس :تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ،وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة.
وليس الكذب في هذا المشهد وحده ،بل المشاهد المضافة إلى النبياء وغيرهم كذب ،مثل القبر الذي يقال له]:قبر
نوح[ قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان ،ومثل القبر الذي في قبلي مسجد جامع دمشق ،الذي يقال له :قبر هود،
فإنما هو قبر معاوية بن أبي سفيان ،ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له :قبر أبي بن كعب ،فإن أبّيا لم
يقدم دمشق باتفاق العلماء.
وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي صلى ال عليه وسلم ،وإنما توفين بالمدينة النبوية.
وكذلك ما يذكر في مصر من قبر علي بن الحسين أو جعفر الصادق أو نحو ذلك ،هو كذب باتفاق أهل العلم .فإن علي
بن الحسين وجعفر الصادق إنما توفيا بالمدينة ،وقد قال عبد العزيز الكناني ـ الحديث المعروف ـ :ليس في قبور
ضا.
النبياء ما ثبت ،إل قبر نبينا قال غيره :وقبر الخليل أي ً
وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين ،فإن النبي صلى ال عليه وسلم قد نهى أن تتخذ
القبور مساجد ،فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه.
ن َنّزْلَنا الّذْكرَ
حُل به نبيه صلى ال عليه وسلم فإنه مضبوط ومحروس ،كما قال تعالىِ} :إّنا َن ْ /فأما العلم الذي بعث ا ّ
نِِ{ ]الحجر [9 :وفي الصحاح عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين ظو َحاِف ُ
َوِإّنا َلُه َل َ
خَذَلُهْم ،حتى تقوم الساعة(.
ضّرُهْم من خالفهم ،ول من َ
على الحق ل َي ُ
ضلل ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد ،والصلة وأصل هذا الكتاب هو الضلل والبتداع والشرك ،فإن ال ّ
عندها ،والدعاء والنذر لها ،وتقبيلها واستلمها ،وغير ذلك ،من أعمال البر والدين ،حتى رأيت كتاًبا كبيًرا قد صنفه
بعض أئمة الرافضة ـ محمد بن الّنْعَمان الملقب بالشيخ الُمِفيد ،شيخ الملقب بالمرتضي وأبي جعفر الطوسي ـ سماه
]الحج إلى زيارة المشاهد[ ذكر فيه من الثار عن النبي صلى ال عليه وسلم وأهل بيته ،وزيارة هذه المشاهد والحج
ل الحرام.
إليها ،ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت ا ّ
وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان ،حتى إني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من
الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى ،وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الصل قوم من المنافقين والزنادقة؛ ليصدوا
ل ،كما ذكره ل .ويفسدوا عليهم دين السلم ،وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لخلص الدين ّ به الناس عن سبيل ا ّ
ل َيُغو َ
ث عا َو َ
سَوا ً
ل ُ
ن َوّدا َو َ
ل َتَذُر ّ
ن آِلَهَتُكْم َو َ ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوحَ} :وَقاُلوا َ
ل َتذَُر ّ
لًل{ ]نوح [24 ،23 :قالوا :هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم ضَل َن ِإ ّ
ظاِلِمي َ
ل َتِزِد ال ّ
ضّلوا َكِثيًرا َو َ
سًرا َوَقْد َأ َ
ق َوَن ْ
َوَيُعو َ
عَكفوا على قبورهم ،ثم صوروا تماثيلهم ،وقد ذكر ذلـك البخاري فـي صحيحه ،وبسطه وبـينه في نوح ،فلما ماتوا َ
أول كتابه في قصص النبياء وغيرها.
ولهذا صنف طائفة من الفلسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه ،واتفقوا هم والقرامطة الباطنية
ل ولرسوله ،حتى فتنوا أمما كثيرة وصدوهم عن دين الّ .وأقل ما صار شعاًرا لهم ،تعطيل المساجد على المحادة ّ
ل به ول رسوله ول أحد من أئمة وتعظيم المشاهد ،فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والشراك بها ،ما لم يأمر ا ّ
ل عنه ورسوله عباده المؤمنين.الدين ،بل نهى ا ّ
ل أن ترفع ويذكر فيها اسمه ،فيخربونها ،فتارة ل يصلون جمعة ول جماعة؛ بناء على ما
وأما المساجد التي أمر ا ّ
شعب النفاق ،وهو أن الصلة ل تصح إل خلف معصوم ،ونحو ذلك من ضللتهم. أصلوه من ُ
ل بن سبأ الذي كان وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي ،وبالنص عليه في الخلفة ،هو رأس هؤلء المنافقين عبد ا ّ
يهودًيا ،فأظهر السلم وأراد فساد دين السلم ،كما أفسد بولص دين النصارى ،وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه/ ،كما أن علًيا حرق الغالية الذين ادعوا فيه اللهية.
وقال في المفضلة :ل أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إل جلدته جلد المفترى.
فهؤلء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون ،يعطلون شعار السلم وقيام عموده ،وأعظمه سنن الهدى التي
ل صلى ال عليه وسلم ،بمثل هذا الفك والبهتان ،فل يصلون جمعة ول جماعة. سنها رسول ا ّ
ومن يعتقد هذا فقد يسوى بين المشاهد والمساجد ،حتى يجعل العبادة كالصلة والدعاء ،والقراءة ،والذكر ،وغير ذلك
عا عند المقابر ،كما هو مشروع في المساجد ،وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور ،و المشاهد على
مشرو ً
ل التي هي المساجد ،حتى تجد أحدهم إذا أراد الجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من العبادة في بيوت ا ّ
يعظمه ،كشيخه أو غير شيخه ،فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع ،والخشوع والرقة ،ما ل يفعله مثله في المساجد،
ل الواحد القهار.
ول في السحار ،ول في سجوده ّ
وقد آل المر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم ،كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه،
فيطلبون من الموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات ،والنصر على العداء ورفع المصائب والبلء ،وأمثال ذلك،
مما ل يقدر عليه إل رب الرض والسماء.
وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج ،وربما سوى بين القصدين ،وكل هذا ضلل عن
الدين باتفاق المسلمين ،بل نفس السفر لزيارة قبر من القبورـ قبر نبي أو غيره ـ منهي عنه عند جمهور العلماء ،حتى
إنهم ل يجوزون قصد الصلة فيه ،بناء على أنه سفر معصية ؛ لقوله الثابت في الصحيحين) :ل تشد الرحال إل إلى
ثلثة مساجد :المسجد الحرام ،والمسجد القصى ،ومسجدي هذا( وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة.
وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف ،بل موضوع ،بل قد /كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول
القائل :زرت قبر النبي صلى ال عليه وسلم ،وإنما المسنون السلم عليه إذا أتى قبره صلى ال عليه وسلم ،وكما كان
الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره ،كما هو مذكور في غير هذا الموضع.
ومن ذلك الطواف بغير الكعبة ،وقد اتفق المسلمون على أنه ل يشرع الطواف إل بالبيت المعمور ،فل يجوز الطواف
بصخرة بيت المقدس ،ول بحجرة النبي صلى ال عليه وسلم ،ول بالقبة التي في جبل عرفات ،ول غير ذلك.
وكذلك اتفق المسلمون على أنه ل يشرع الستلم ول التقبيل إل للركنين اليمانيين؛ فالحجرالسود يستلم ويقبل،
واليماني يستلم .وقد قيل :إنه يقبل ،وهو ضعيف.
وأما غير ذلك فل يشرع استلمه ول تقبيله ،كجوانب البيت ،والركنين الشاميين ،ومقام إبراهيم ،و الصخرة،
والحجرة النبوية ،وسائر قبور النبياء والصالحين.
ل اليهودل عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قالَ) :قاَتل ا ّ وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ن الّ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم خُذوا قبور أنبيائهم مساجد( وفي رواية لمسلمَ) :لَع َ
والنصارى ،اّت َ
مساجد(.
صة له
خِمي َ
ق يطرح َ طِف َ
ل صلى ال عليه وسلم َ
ضا عن عائشة وابن عباس قال :لما نزل برسول ا ّ /وفي الصحيحين أي ً
غَتّم بها كشفها عن وجهه ،فقال وهو كذلك) :لعن الّ اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائهم
على وجهه ،فإذا ا ْ
حّذر ما صنعوا. مساجد(ُ ،ي َ
ل صلى ال عليه وسلم قبل موته بخمس وهو يقول: ل قال :سمعت رسول ا ّ جْنُدب بن عبد ا ّ
وفي صحيح مسلم عن ُ
ل ،ولو كنت متخًذا من أمتيل كما اتخذ إبراهيم خلي ً
ل اتخذني خلي ً
ل أن يكون لي منكم خليل ،فإن ا ّ)إني أبرأ إلى ا ّ
ل ،أل وإن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ،أل فل تتخذوا القبور مساجد ،فإني ل لتخذت أبا بكر خلي ً خلي ً
أنهاكم عن ذلك(.
ل صلى ال عليه وسلم قال) :ل تجلسوا على القبور ،ول تصلوا
ى أن رسول ا ّ
وفي صحيح مسلم عن أبي َمْرَثد الَغنو ّ
إليها( .
ل صلى ال عليه وسلم) :الرض كلها مسجد إل المقبرة ل عنه ـ قال :قال رسول ا ّ
وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي ا ّ
ل ،وصححه الحافظ. والحمام( رواه أهل السنن/ ،كأبي داود ،والترمذي ،وابن ماجه ،وعلله بعضهم بأنه روي مرس ً
ل عنها ـ قالت :لما اشتكى النبي صلى ال عليه وسلم ذكر له بعض نسائه أنهاوفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي ا ّ
رأت كنيسة بأرض الحبشة يقال لها] :مارية[ .وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة ،فذكرتا من حسنها
وتصاوير فيها ،فرفع رأسه فقال) :أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجًدا ،وصوروا فيه تلك
ل(.
الصور ،أولئك شرار الخلق عند ا ّ
وفي موطأ مالك عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :اللهم ل تجعل قبري َوَثًنا ُيْعَبد( ،وفي سنن أبي داود عنه أنه
قال) :ل تتخذوا قبري عيًدا ،ول تتخذوا بيوتكم مقابر(.
ل َأن
جَد ا ّ
سا ِ ظَلُم ِمّمن ّمَنَع َم َ وأما العبادات في المساجد ؛ كالصلة والقراءة والدعاء ،ونحو ذلك ،فقد قال تعالىَ} :وَم ْ
ن َأ ْ
لَة{
صَخِر َوَأَقاَم ال ّل َواْلَيْوِم ال ِن ِبا ّ
ن آَم َ
ل َم ْ
جَد ا ّ خَراِبَها{ ]البقرة ،[411:وقال تعالىِ {:إّنَما َيْعُمُر َم َ
سا ِ سَعى ِفي َ
سُمُه َو َ
ُيْذَكَر ِفيَها ا ْ
الية ]التوبة[ 18:
ل تعالى وفي الترمذي عن النبي صلى ال عليه وسلم قال) :إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له باليمان ،فإن ا ّ
عنَد ُك ّ
ل جوَهُكْم ِ
ط َوَأِقيُموْا ُو ُ
سِ ل{( الية ]التوبة ،[18:وقال تعالىُ} :ق ْ
ل َأَمَر َرّبي ِباْلِق ْ ن ِبا ّ
ن آَم َ
ل َم ْ
جَد ا ّ يقولِ} :إّنَما َيْعُمُر َم َ
سا ِ
حًدا{ ]الجن ،[18:وقال تعالىِ} :في ُبُيو ٍ
ت ل َأ َ
عوا َمعَ ا ِّ
ل َتْد ُ
ل َف َ
جَد ِّ
سا ِ جٍد{الية ]العراف ،[29:وقال تعالىَ} :وَأ ّ
ن اْلَم َ سِ َم ْ
ل َأن ُتْرَفَع َوُيْذَكَر ِفيَها اْسُمُه{ الية]النور ،[36:وقال تعالىَ {:وَل ُتَباِشُروُهّن َوَأنُتْم َعاِكُفوَن ِفي اْلَمَساِجِد{ ]البقرة.[187: ن ا ُّ
َأِذ َ
سوقه
ل على صلته في بيته و ُ ضُ
وفي الصحيحين عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :صلة الرجل في المسجد َتْف ُ
بخمس وعشرين درجة( .وفي لفظ) :صلة الجماعة أفضل من صلة أحدكم بخمس وعشرين درجة( وفي الصحيح
عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال) :أثقل الصلة على المنافقين صلة العشاء وصلة الفجر ،ولو يعلمون ما فيهما
ل فيصلي بالناس ،ثم أنطلق برجال معي ،معهم حَُزم حْبوا ،ولقد هممت أن آمر بالصلة فتقام ،ثم آمر رج ً
لتوهما ولو َ
ب ،إلى قوم ل يشهدون الصلة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار( . ط ٍ
حَمن َ
ل عنه ـ أنه قال :أتى النبي صلى ال عليه وسلم رجل أعمى فقال :يا
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته ل ،إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ،فسأل رسول ا ّرسول ا ّ
فرخص /له.فلما ولى دعاه ،فقال) :هل تسمع النداء بالصلة؟( قال :نعم .قال ) :فأجب(.
وهذا باب واسع ،قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا المر ،الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم،
ل الذي بعث به رسله ،وأنزل به كتبه ،وبين من لبس الحق بالباطل ،وشاب الحنيفية بالشراك. المتبعين لدين ا ّ
س لَ
ن َأْكَثَر الّنا ِ ن اْلَقّيُم َوَلِك ّ
ك الّدي ُ
ل َذِل َ
ق ا ِّ
خْل ِ
ل ِل َ
ل َتْبِدي َ
عَلْيَها َس َطَر الّنا َ ل اّلِتي َف َ
طَرَة ا ِّ
حِنيًفا ِف ْ
ن َ
ك ِللّدي ِ وقال تعالىَ} :فَأِقْم َو ْ
جَه َ
ن{
حو َب ِبَما َلَدْيِهْم َفِر ُ
حْز ٍ ل ِ شَيًعا ُك ّ
ن َفّرُقوا ِديَنُهْم َوَكاُنوا ِ ن اّلِذي َ
شِرِكي َ
ن اْلُم ْ
ل َتُكوُنوا ِم َلَة َو َ
صَ ن ِإَلْيِه َواّتُقوُه َوَأِقيُموا ال ّ
ن ُمِنيِبي َ
َيْعَلُمو َ
]الروم[30-32 :
ل ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
وا ّ
ل:
سلم ـ َرحَمُه ا ُّ
خ ال ْ
شْي ُ
ل َ
َقا َ
َفصــل
وأما الصحابة والتابعون ،فقال غير واحد من الئمة :إن كل من صحب النبي صلى ال عليه وسلم أفضل ممن لم
يصحبه مطلًقا ،وعينوا ذلك في مثل معاوية ،وعمر بن عبد العزيز ،مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز
أعدل من سيرة معاوية ،قالوا :لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر ل يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه.
ب:
جـــا َ
َفأ َ
عَلى
سَرُفوا َ ن َأ ْ
ي اّلِذي َ
عَباِد َ
ل َيا ِل تعالىُ} :ق ْ ل عليه ،كما قال ا ّالصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب تاب ا ّ
ب َجِميًعا ِإّنُه ُهَو اْلَغُفوُر الّرِحيُم{ ]الزمر ،[53:فقد ذكر في هذه الية أنه يغفر ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
حَمِة ا ِّ
طوا ِمن ّر ْ
سِهْم لَ َتْقَن ُ
َأنُف ِ
ك ِلَمن
ن َذِل َ
ك ِبِه َوَيْغِفُر َما ُدو َ
شَر َ ل َيْغِفُر َأن ُي ْ
ل َللتائب الذنوب جميًعا؛ ولهذا أطلق َوعّمم .وقال في الية الخرىِ} :إنّ ا ّ
صص. َيَشاء{ ]النساء [48 :فهذا في غير التائب ،ولهذا َقّيد وخ ّ
ساِرقُ ل قد أمر بتوبة السارق و المَلّقب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بها حقوق العباد ،كقولهَ} :وال ّ أحدهما :أن ا ّ
نا ّ
ل عَلْيِه ِإ ّ
ب َ
ل َيُتو ُ
نا ّ
ح َفِإ ّ
صَل َ
ظْلِمِه َوَأ ْ
ب ِمن َبْعِد ُ
حِكيٌم َفَمن َتا َ
عِزيٌز َ
ل َ
ل َوا ّ
نا ّ
ل ّم َ
سَبا َنَكا ً
جَزاء ِبَما َك َ
طُعوْا َأْيِدَيُهَما َ
ساِرَقُة َفاْق َ
َوال ّ
َغُفوٌر ّرِحيٌم{ ]المائدة[39 ،38 :
الوجه الثاني :أن هؤلء متأولون ،فإذا تاب الرافضي من ذلك ،واعتقد فضل الصحابة ،وأحبهم ،ودعا لهم ،فقد َبّدل الّ
السيئة بالحسنة ،كغيره من المذنبين.
ل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد ،ومنهم من إذا قرئ عليه أحاديث النبي صلى ال عليه سئ َ
َو ُ /
ل ابن مسعود شرع في تنقيصه ،وأخذ يقدح ل بن مسعود ،أو قيل له :هذا مذهب عبد ا ّ
وسلم التي يكون راويها عبد ا ّ
فيه ،ويجعله ضعيف الرواية ،ويزعم أنه كان بين الصحابة منقوصا ،حتى إن بعضهم لم يثبت في المصاحف قراءته،
وأنه كان يحذف من القرآن المعوذتين؟
ل:
حَمُه ا ُّ
ب ـ َر ِ
جا َ
َفَأ َ
ل عنه ـ من أجلء الصحابة ،وأكابرهم ،حتى كان يقول فيه عمر بن الخطابُ :كَنْيف ]ُكَنْيف: ابن مسعود ـ رضي ا ّ
ل بن مسعود إل من أهل بيت عاء[ ُمِلئ علًما .وقال أبوموسى :ما كنا نعد عبد ا ّ
هو تصغير تعظيم للِكْنف .والِكْنف :الِو َ
ك علي أن ل صلى ال عليه وسلم؛ من كثرة ما نرى دخوله وخروجه .وقال له صلى ال عليه وسلم) :إْذُن َ رسول ا ّ
سكوا سَوادي حتى أنهاك( .وفي السنن) :اقتدوا باللذين من بعدي :أبي بكر وعمر ،وتم ّ جاب ،وأن تسمع ب ِ حَ
َتْرَفَع ال ِ
عْبٍد(.
ِبَهْدي ابن أمّ َ
وسئل علي عن علماء الناس ،فقال :واحد بالعراق ابن مسعود .وابن مسعود في العلم من طبقة عمر ،وعلي ،وأبي،
ومعاذ ،وهو من الطبقة الولى من علماء الصحابة ،فمن قدح فيه أو قال :هو ضعيف الرواية فهو من جنس الرافضة
الذين يقدحون في أبي بكر وعمر وعثمان ،وذلك يدل على إفراط جهله بالصحابة ،أو زندقته ونفاقه.
ل َتَعاَلى ـ عن رجل يناظر مع آخر في ]مسألة المصراة[ ،وردها إذا أراد المشتري ،فاستدل من
ل ـ َرحَمُه ا ُّ
سئ َ
ُ /
ادعى جواز الرد بحديث أبي هريرة المتفق عليه ،فعارضه الخصم بأن قال :أبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة،
وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب كثرة الرواية ،ونهاه عن الحديث ،وقال :إن عدت تحدث فعلت وفعلت ،وكذا أنكر
عليه ابن عباس ،وعائشة أشياء .فهل ما ذكره الخصم صحيح أم ل؟وما يجب على من تكلم في أبي هريرة بهذا
الكلم؟
جـــاب:
َفَأ َ
أحدها :قوله] :إنه لم يكن من فقهاء الصحابة[ فإن عمر بن الخطاب ولى أبا هريرة على البحرين ،وهم خيار
المسلمين ،الذين هاجر َوْفُدهم إلى النبي صلى ال عليه وسلم ،وهم وفد عبد القيس.
جا أصابها، وكان أبو هريرة ـ أميرهم ـ هو الذي يفتيهم بدقيق الفقه ،مثل :مسألة /المطلقة دون الثلث ،إذا تزوجت زو ً
هل تعود إلى الول على الثلث ـ كما هو قول ابن عباس وابن عمر ،وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن عمر ،بناء
على أن إصابة الزوج تهدم ما دون الثلث كما هدمت الثلث ـ أو تعود على ما بقى كما هو قول عمر وغيره من
أكابر الصحابة وهو مذهب مالك والشافعي ،وأحمد في المشهور عنه ،بناء على أن إصابة الزوج الثاني إنما هي غاية
التحريم الثابت بالطلق الثلث ،فهو الذي يرتفع بها ،والمطلقة دون الثلث لم تحرم ،فل ترفع الصابة منها شيًئا،
ت بغيره لوجعتك ضرًبا.فأفتى أبو هريرة بهذا القول .ثم سأل عمر فأقره على ذلك وقال :لو أفتي َ
وكذلك أفتى أبوهريرة في دقائق مسائل الفقه مع فقهاء الصحابة ،كابن عباس وغيره من أشهر المور ،وأقواله
صين ،وأبي موسى الشعري ،لم يخرجا ح َ
المنقولة في فتاويه تدل على ذلك .وإذا كان عمر وعلى أفقه من عمران بن ُ
ل بن عمر ونحوهما ،لم يخرجا
بذلك من الفقه ،وكذلك إذا كان معاذ وابن مسعود ونحوهما أفقه من أبي هريرة وعبد ا ّ
بذلك من الفقه.
الثاني :أن يقال لهذا المعترض :جميع علماء المة عملت بحديث أبي هريرة فيما يخالف القياس والظاهر ،كما عملوا
جميعهم بحديثه عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه قال) :ل تنكح المرأة على عمتها ول على خالتها( .وعمل أبو حنيفة
صْوَمه ،فإنما
/مع الشافعي وأحمد وغيرهما بحديثه عن النبي صلى ال عليه وسلم) :من أكل أو شرب ناسًيا فْلُيِتّم َ
سَقاه( مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر ،فترك القياس لحديث أبي هريرة ،ونظائر ذلك تطول. لو َ
أطعمه ا ّ
ومالك مع الشافعي وأحمد عملوا بحديث أبي هريرة في غسل الناء من ولوغ الكلب سبًعا ،مع أن القياس عند مالك
أنه ل يغسل؛ لنه طاهر عنده ،بل الئمة يتركون القياس لما هو دون حديث أبي هريرة ،كما ترك أبو حنيفة القياس
في مسألة ]القهقهة[ بحديث مرسل ل يعرف من رواه من الصحابة وحديث أبي هريرة أثبت منه باتفاق المة.
الثالث :أن يقال :المحدث إذا حفظ اللفظ الذي سمعه لم يضره أل يكون فقيها ،كالملقنين بحروف القرآن ،وألفاظ التشهد
ب حامل فقهل امرأ سمع حديًثا فَبّلَغه إلى من لم يسمعهَ ،فُر ّ
ضر ا ّ
والذان ونحو ذلك .وقد قال صلى ال عليه وسلمَ) :ن ّ
غير فقيه ،ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه( ،وهذا بين في أنه يؤخذ حديثه الذي فيه الفقه من حامله ،الذي ليس
بفقيه ،ويأخذ عمن هو دونه في الفقه ،وإنما يحتاج في الرواية إلى الفقه إذا كان قد روى بالمعنى ،فخاف أن غير الفقيه
يغير المعنى وهو ل يدري.
/الرابع :أن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة ،كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة ،ومن تأمل كتب
الحديث عرف ذلك.
الخامس :أن أحًدا من الصحابة لم يطعن في شىء رواه أبو هريرة ،بحيث قال :إنه أخطأ في هذا الحديث ،ل عمر ول
غيره ،بل كان لبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة ،فيحدث ويقول :يا صاحبة الحجرة ،هل تنكرين مما أقول شيًئا ؟
فلما قضت عائشة صلتها لم تنكر مما رواه ،لكن قالت :إن رسول الّ صلى ال عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث
سردكم ،ولكن كان يحدث حديًثا لو عده العاد لحفظه ،فأنكرت صفة الداء ل ما أداه.
وكذلك ابن عمر قيل له :هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيًئا؟ فقال :ل ،ولكن أخبر وجبنا ،فقال أبو هريرة :ما ذنبي
أن كنت حفظت ونسوا.وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم :أكثر أبو هريرة ،حتى قال أبو هريرة:
ق :هو أن
صْف ُ
ق ]ال ّ
صْف ُ
ل الموعد ؛أما إخواني من المهاجرين ،فكان يشغلهم ال ّ
الناس يقولون :أكثر أبو هريرة ،وا ّ
يضرب كل من البائع والمشترى يده على يد الخر ،عند البيع ،وبهذا يكون قد وجب البيع[ بالسواق .وأما إخواني
ل صلى ال عليه وسلم ،فكنت أشهد إذا من النصار ،فكان يشغلهم عمل أموالهم ،وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول ا ّ
ل صلى ال عليه وسلم حديًثا ،ثم قال) :أيكم يبسط ثوبه؟( ،فبسطت ثوبي. غابوا ،وأحفظ إذا نسوا .ولقد حدثنا رسول ا ّ
س بعد شيئا سمعته منه صلى ال عليه وسلم.فدعا لي .فلم أْن َ
/وروى عنه أنه كان يجزئ الليل ثلثة أجزاء :ثلًثا يصلي ،وثلًثا يكرر على الحديث ،وثلًثا ينام.
فقد بين أن سبب حفظه ملزمة النبي صلى ال عليه وسلم ،وقطع العلئق ودعاؤه له.
وكان عمر بن الخطاب يستدعى الحديث من أبي هريرة ،ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي
سمعه من النبي صلى ال عليه وسلم ،ول توعده على ذلك .ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية ؛ حتى ل يجترئ
الناس فيزاد في الحديث.
ولهذا طلب من أبي موسى الشعري من يوافقه على حديث الستئذان ،مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم
باتفاق الئمة.
السادس :أن الصحابة كانوا يرجعون في مسائل الفقه إلى من هو دون أبي هريرة في الفقه ،كما رجع عمر بن
حَمل بن مالك وغيره في دية الجنين ،وكما رجع عثمان بن عفان إلى الُفَرْيَعة بنت مالك في لزوم
الخطاب إلى َ
المتوفى عنها لمنزل الوفاة ،وكما رجع عمر ابن الخطاب وغيره في توريث المرأة من دية زوجها ،إلى الضحاك بن
ي .وكما رجع زيد بن ثابت وغيره إلى امرأة من النصار في سقوط طواف الوداع عن الحائض. سفيان الِكلِب ّ
ل صلى
/وكذلك ابن مسعود لما أفتى المفوضة المتوفى عنها بمهر المثل ،فقام رجال من أشجع فشهدوا أن رسول ا ّ
حا شديًدا! وأبو بكر الصديق
ل بذلك فر ً
شق بمثل ما قضيت به ،ففرح عبد ا ّال عليه وسلم قضى في َبْرَوع بنت َوا ِ
وّرث الجدة بحديث المغيرة بن شعبة ،ومحمد ابن سلمة ،ونظائر هذا كثيرة.
السابع :أن يقال :المخالف لحديث أبي هريرة في المصراة ،يقول :إنه يخالف الصول أو قياس الصول.
فيقال له :بل القول فيه كالقول في نظائره التي اتبعت فيها النصوص ،فهذا الحديث ورد فيما يخالف غيره ل فيما
يماثل غيره؛ والقياس هو التسوية بين المتماثلين ،والتفريق بين المختلفين ،وذلك أن من خالفه يقول :إنه أثبت الرد
بالمعيب ،وقدر بدل المتلف ،بل إن كان من المثليات ضمن بمثله وإل فقيمته ،وهذا مضمون بغير مثل ول قيمة،
وجعل الضمان على المشترى والخراج بالضمان.
فيقال له :الرد يثبت بالتدليس ،ويثبت باختلف الصفة باتفاق الئمة ،والمدلس الذي أظهر أن المبيع على صفة وليس
هو عليها كالواصف لها بلسانه ،وهذا النوع من الخيار غير خيار الرد بالعيب.
/ويقال له :المشترى لم يضمن اللبن الحادث على ملكه ،ولكن ضمن ما في الضرع ،فإنه لما اشترى المصراة وفيها
لبن تلف عنده ،كان عليه ضمانه ،وإنما قدر الشارع البدل ؛ لنه اختلط اللبن القديم باللبن الحادث ،فلم يبق يعرف
مقدار اللبن القديم.
فلهذا لم يمكن ضمانه بمثله ول بقيمته ،فقدر الشارع في ذلك بدل يقطع به النزاع ،كما قدر ديات النفس وديات
العضاء ومنافعها ،ونحو ذلك من المقدرات التي يقطع بها نزاع الناس ،فإنه إذا أمكن العلم بمقدار الحق ،كان هو
الواجب .وإذا تعذر ذلك شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق.
خْرص ،أي:حْزر .يقال :خرصت النخلة :إذا حزرت ما عليها من التمر ،فهو من ال َ ص :ال َ خْر ُص ]ال َ
خْر ِفتارة يأمر بال َ
ن[ إذا تعذر الكيل أو الوزن ،إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم ،ويأمر
ظّالظن؛ لن الحْزر إنما هو تقديُر ِب َ
بالستهام لتعيين المستحق عند كمال البهام .وتارة يقدر بدل الستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق ،ورد
المشترى للصاع بدل ما أخذ من اللبن من هذا الباب.
وفي المسألة حكاية ثانية ،ذكرها أبو سعيد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني ،عن الشيخ الفقيه أبي
سا بالجامع ببغداد ،فجاء خراساني سألنا عن
إسحاق الشيرازي ،عن القاضي أبي الطيب الطبري ،قال :كنا جلو ً
المصراة ،فأجبناه فيها ،واحتججنا بحديث أبي هريرة ،فطعن في أبي هريرة/،فوقعت حية من السقف ،وجاءت حتى
دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك العجمي فضربته فقتلته.
ونظير هذه ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحيى الساجي قال :كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع
ل صلى ال عليه وسلم ،فاسترعنا في المشي ،ومعنا شاب ماجن .فقال :ارفعوا أرجلكم عن أجنحة حديث رسول ا ّ
ل تعالى العتصام بكتابه ،و سنة رسولهالملئكة ،ل تكسروها .قال :فما زال حتى جفته رجله ،ولهذا نظائر ،نسأل ا ّ
ل ـ سبحانه ـ أعلم.
صلى ال عليه وسلم واتباع ما أقام من دليله ،وا ّ
جـــاب:
َفَأ َ
ل ورسوله ،وطاعتهم لّ ل على إيمانهم با ّ
ل ،هؤلء قوم مسلمون لهم ما لمثالهم من المسلمين ،يثيبهم ا ّ
الحمد ّ
ورسوله ،ول يذهب بذلك إيمانهم وتقواهم بما غلطوا فيه من هذه المسائل ،كسائر طوائف المسلمين الذين أصابوا في
جمهور ما يعتقدونه ويعملونه ،وقد غلطوا في قليل من ذلك ،فهؤلء بمنزلة أمثالهم من المسلمين.
ب الصحابة ل تقبل ،وأنه مخلد في النار خطأ ،بل الذي عليه السلف والئمة كالئمة الربعة/وقولهم :إن توبة سا ّ
وغيرهم :أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله ،والحديث الذي يروى) :سب صحابتي ذنب ل يغفر( حديث
ل يأخذ حق الصحابة منه.
باطل لم يروه أحد من أهل العلم ،ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب ،فإن ا ّ
جِميًعا ِإّنهُ
ب َ
ل َيْغِفُر الّذُنو َ
ن ا َّ
ل ِإ ّ
حَمِة ا ِّ
طوا ِمن ّر ْ
ل َتْقَن ُ
سِهْم َ
عَلى َأنُف ِ
سَرُفوا َ
ن َأ ْ
ي اّلِذي َ
عَباِد َ ل تعالىُ} :ق ْ
ل َيا ِ وأما من تاب فقد قال ا ّ
ب الصحابة إذا كان يعتقد ُهَو اْلَغُفوُر الّرِحيُم{ ]الزمر ،[53 :وهذا في حق التائب ،أخبر :أنه يغفر جميع الذنوب ،وسا ّ
ل ،كمن سب الرسول معتقًدا أنه ساحر أو كاذب ،فإذا جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلل ،والحق في ذلك ّ
ل إسلمه كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل الّ منه ،وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، أسلم هذا قبل ا ّ
كمن قذف غيره واغتابه ،ومظالم العباد تصح التوبة منها ،ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم ،فإن
الحسنات يذهبن السيئات.
جر ،وقال :ل أقطع بأن هذا حجر فهذا مخطئ ،لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر فقد حَوإذا قال القائل :هذا َ
ل قادر على تغييره وإن كان مراده بقوله :إن
ل عاجًزا عن تغيره ،فإنه يقال له :بل هو الن حجر ـ قطًعا ـ وا ّجعلت ا ّ
ل قادر /على تغييره ،فهذا المعنى صحيح ،وإن كان شاًكا في كونه حجًرا فهذا متجاهل ،يعزر على ذلك. ل :أن ا ّ
شاء ا ّ
وتجوز الصلة خلف كل مسلم مستور باتفاق الئمة الربعة وسائر أئمة المسلمين ،فمن قال :ل أصلي جمعة ول
جماعة إل خلف من أعرف عقيدته في الباطن ،فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين
ل أعلم.
الربعة وغيرهم ،وا ّ
ويليه كتاب
السماء والصفات.