Professional Documents
Culture Documents
.فللسينما
كما لكل الفنون لغة تعبيرية خاصة بها تطورت عبر أكثر من مائة عام ،بدأت تتشكل مع أول عرض سينمائي
جماهيري للخوين لوميير في كانون الول ،1895ول زالت تراكم وتطور مفرداتها وقواعدها مع كل فيلم
جديد يولد.
مع بداية ظهور السينما في نهاية القرن التاسع عشر ،لم يكن قد أدرك مبدعو ومطورو هذا الختراع الجديد بعد
ل بذاته ،فقد اقتصر استخدام »السينماتوغراف« آنذاك على عروض لمشاهد أنهم قد أطلقوا فنًا جديدًا مستق ً
توثيقية من الحياة ،أدهشت رواد الصالت التي افتتحت حديثًا وجعلتهم يقفون بالطوابير لمشاهدة هذه العجوبة
الجديدة .في بداية عصر السينما اقتصر دور المخرج على تصوير القصة كما يتم تصوير مسرحية ،لقد كان
الخوان لوميير يقومان بنصب الكاميرا ثابتة بحيث تكون عمودية على المشهد ،أما الممثلون فكانوا يدخلون
ويخرجون إما من اليمين أو من اليسار بشكل أفقي ،وتكون اللقطة عامة بحيث تصور كل شيء والمشاهد ينتقي
الجزء الذي يوجه له اهتمامه ،أي باختصار كأن الكاميرا هي مشاهد يجلس في منتصف الصف المامي
للمسرح .ثم جاء المونتاج .كان جورج ميليس أول من استخدم فكرة المونتاج ،ثم جاء ديفيد غريفيث الميركي
ليؤسس سينما المخرج بانيًا على ما قدمه المبدع إدوين بورتر ،ثم قام أيزنشتين الروسي ورفاقه من الرواد
الوائل مثل مواطنه كوليشوف بتكريس هذه المدرسة .أما في سينما المخرج ،فإن إيصال الرسالة والشحنة
العلمية ،يتم بطرق سينمائية مستحدثة تنجز اليحاء المطلوب ،يستخدم فيها المخرج المونتاج وحركة وزاوية
الكاميرا والديكور والصوت ليفرض وجهة نظره .لنأخذ الطريقة الشهيرة التي اكتشفها كوليشوف – والمسماة
باسمه »تأثير كوليشوف« ـ على سبيل المثال .لنفترض أن اللقطتين التاليتين مرتا على الشاشة متعاقبتين-1 :
ممثل ينظر باتجاه ما وعلى وجهه نظرة توحي بالرغبة -2 .صحن مليء بالطعام -3 .سيوحي لك تعاقب
اللقطتين بأن هذا الشخص يشعر بالجوع .هنا قام المخرج وبوساطة المونتاج بإيصال الرسالة المطلوبة.
ولتوضيح ذلك جيدًا ،لنفرض أن المخرج قام بترك اللقطة الولى كما هي تمامًا ،واستبدل اللقطة الثانية بلقطة
لمرأة تبرز مفاتنها ،عندها سيتغير مضمون المشهد جذريًا! قد تبدو هذه القاعدة سخيفة ،ول تحوي ما يستحق
التوقف .ولكننا قد نحس بذلك الن لننا نملك معارف سينمائية متراكمة بحكم كوننا مشاهدين متابعين ومنذ مدة
طويلة ،أما في بداية القرن العشرين فقد كانت لهذه الطريقة أثر السحر في مجال الخراج السينمائي.
بعض هذه الطرق والقواعد احتاجت وقتًا حتى أخذت شكلها النهائي ،وأصبحت مقبولة ومفهومة كلية من
الجمهور العادي ،فكتب تأريخ السينما تحتوي على العديد من القصص الطريفة التي حدثت في بدايات عهد
السينما ،التي تبين كيف كانت ردة فعل الجمهور الولى على أساليب سينمائية حديثة آنذاك ،كالرعب والهيجان
الذي حدث في إحدى الصالت بسبب ظهور اللقطات القريبة من جسم الممثل ،أو قفز بعض المشاهدين من
مقاعدهم بسبب لقطة اقتراب القطار باتجاه الشاشة! ولذلك فقد طور السينمائيون الرواد قواعدهم الجديدة بحذر،
وخاصة فيما يتعلق بمفهوم اللقطة والمشهد وبالختصار والتغير الزماني والنتقال المكاني ،حيث كان ل بد من
معالجة فنية لهذه القضايا للوصول إلى لغة فنية تعبيرية متفردة تستطيع أن تكّون فنًا جديدًا مميزًا ،سمي فيما بعد
بالفن السابع.
من فلم القيامة الن لكوبول
بدا وكأن السينما قد وجدت طريقها ،مع غريفيث ومن ثم مع العبقري أيزنشتين .فقد اتضح لرواد السينما الوائل
أن اللقطة* وليس المشهد هو الوحدة الساسية في بناء الفيلم السينمائي ،فاللقطة في السينما تقابل الكلمة في اللغة،
والمونتاج القائم على تجميع اللقطات قادر على خلق لغة فنية مدهشة لم يزل المهتمون والعاملون بحقل السينما
يكشفون تأثيراته وأبعاده إلى يومنا هذا! فظهر المونتاج المتوازي »تصوير حدثين مختلفين مكانيًا متوازيين
زمنيًا« والمونتاج المتبادل »تصوير حدث واحد بواسطة مجموعة من اللقطات لزوايا مختلفة من المشهد«،
وظهرت اللقطة القريبة واللقطة الكاملة التي تفيد تركيز انتباه المشاهد وتعميق إحساسه بشعور الممثل ،وظهر
أيضًا الترافيلينج أو الكاميرا المتحركة على محور ،وبدأ المخرجون يعتمدون على استخدام الضاءة الفنية
والموسيقى المعبرة مع بدء ظهور الصوت .ربما كان أصدق لقب حازه المخرج الميركي ديفيد غريفيث ـ من
بين ألقابه الكثيرة ـ هو عراب المونتاج ،ولكي نتأكد من ذلك ما علينا سوى مشاهدة فيلمه الخالد »مولد أمة«.
وتكفي هنا الشارة لمشهد واحد هو مشهد اغتيال الرئيس الميركي ابراهام لينكولن خلل حضوره لعرض
إحدى المسرحيات ،هذا المشهد الذي يتألف من 55لقطة متتالية ،المر الذي كان يشكل سابقة في ذلك الوقت،
فنرى كيف أفاد هذا التقطيع المتقن في التصعيد الدرامي عن طريق النتقال من الرئيس إلى المسرح إلى حارسه
الخاص إلى باقي الجمهور إلى القاتل بلقطات سريعة ،لينتهي المشهد بالذروة الدرامية وهي مقتل الرئيس
الميركي .ومع منتصف العشرينيات ظهر المخرج الروسي سيرجي أيزنشتين ليصل بسينما المونتاج إلى أقصى
حدودها ،وليبين الدللت النظرية لعملية المونتاج ،فهو الذي وضع نظرية المونتاج ،التي تقوم على مبدأ أن
عملية تتالي لقطتين في الفيلم ليس حاصل جمعهما بل خلق لشيء ثالث جديد ومختلف بالمضمون والتعبير ،وهو
الذي وضع نظرية التصادم ،والتي تؤدي لمضاعفة تأثير المشهد وإحساس المشاهد بالثارة والتحفز .وفيلمه
الخالد »المدرعة بوتمكين« ـ 1925ـ الذي قال عنه تشارلي شابلن »أنه أعظم فيلم في تاريخ السينما« ،والذي
ل زال يلهم السينمائيين إلى هذا اليوم ،شاهد على عبقريته الفذة .هذا الفيلم الذي أدى إلى خروج مظاهرات في
بعض العواصم الوروبية ،والذي صدر قرار بمنعه في ألمانيا ،وهو الفيلم الذي دفع بعض المثقفين إلى تقديم
طلبات انتساب للحزب الشيوعي في أوروبا .وفي مشهد مذبحة الوديسا يستطيع المشاهد أن يتلمس الثر العملي
لكل المبادئ النظرية التي وضعها أيزنشتين ،وهنا قد يكون من المفيد الشارة إلى اقتباس برايان دي بالما
وفرانسيس كوبول لبعض المشاهد من هذا الفيلم ،أو لنقل تأثرهما به .الول في مشهد سقوط عربة الطفل داخل
محطة القطارات على الدرج من فيلمه » ،«Untouchablesوالثاني في مشهد التداخل بين مشهد ذبح العجل
وقتل مارتن شين لمارلون براندو في فيلمه » .«Apocalypse nowوهكذا أعلنها أيزنشتين صراحة» :فن
السينما! ..ذلك يعني قبل كل شيء المونتاج« .ولكن هذه لم تكن النهاية لتطور لغة السينما ،فتاريخ السينما لم
ل عبر جميع مراحله من تيارات سينمائية واقعية مهمة نبذت المونتاج ،وحاولت تحييده وتقنين اللجوء إليه يخ ُ
قدر المستطاع .فبعد السينما الصامتة ،ظهرت موجات واقعية شهيرة كاليطالية الجديدة والموجة الفرنسية
الجديدة وجماعة الخمسة وغيرها الكثير والتي وإن لم يكتب لها الستمرار إل أن أحدًا ل يستطيع إنكار تأثيرها
المهم على مسيرة الفن السابع .وعلقة الفن بالواقع ،هذه القضية الشكالية القديمة الحديثة ،أثرت على رواد الفن
السابع وجعلتهم ينقسمون فيما بينهم .فهل يمكن لي فن أن يقترب من الواقع دون أن يخسر شيئًا من قيمته
الفنية؟! ولكن بالمقابل أليست المصداقية الكبيرة للصورة السينمائية وقدرتها على مشابهة الواقع هي سبب تفردها
ونجاحها الواسع وشعبيتها الكاسحة في القرن العشرين؟ إن عملية المونتاج بل شك تقوم بتشويه صورة الواقع
وتتلعب بها وتأولها لصالح المخرج ،ولذلك رفضها الكثيرون من مؤيدي السينما الواقعية ،والذين رأوا أن
الفضلية يجب أن تكون للموضوع على حساب الصورة وللممثل على حساب المخرج .وبعد أن أرسيت قواعد
المونتاج وأصبح استخدامه طبيعيًا ،برز عدم اللجوء له كخيار فني جديد وكوسيلة تعبيرية مختلفة لبعض
المخرجين .وهكذا كانت السينما الواقعية تحاول قدر المكان البتعاد عن المونتاج واستعاضت عنه بتقنيات
أخرى مثل »عمق الحقل«** و»المشهد – اللقطة« *** .لنقرأ ما كتبه الناقد أندريه بازان أحد أهم النقاد
الفرنسيين ،وهو من منظري الموجة الفرنسية الجديدة حول »المونتاج الممنوع«:
»عندما يكون اللب الساسي لحدث ما يعتمد على التواجد المتزامن لعنصرين أو أكثر من عناصر الحدث ،فإن
المونتاج يكون محظورًا .وتكون إعادة استخدام المونتاج مبررة في كل مرة ل يكون فيها معنى الحدث معتمدًا
على التقارب المادي الملموس للعناصر المشاركة في تكوين الحدث«.
صحيفة الشرق الوسط اللندنية