You are on page 1of 162

‫صفحات من التاريخ‬

‫السلمي‬
‫في الشمال الفريقي‬

‫الدولة الفاطمية‬

‫تأليف‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫الطبعة الولى‪1427 :‬هـ‪2006-‬م‬

‫رقم اليداع‪5447/2006 :‬‬

‫بطاقة ا ‪7‬لفهرسة‬
‫فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة‬
‫لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشئون الفنية‬
‫الصلبي‪ ،‬على محمد‪.‬‬
‫الدولة الفاطمية‬
‫تأليف‪ /‬على محمد الصلبي‪ .‬ط ‪ -1‬القاهرة‬
‫مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة ‪2006 ،‬‬
‫تدمك‪977 - 6119 - 79 -4 :‬‬ ‫‪176‬ص‪ 24 ،‬سم‬
‫‪ -1‬الدولة الفاطمية ‪ -2‬مصر – تاريخ ‪ -‬العصر الفاطمي ‪ -3‬الفاطميون‬
‫‪953.0738‬‬ ‫أ‪ -‬العنوان‬
‫مركز السلم للتجهيز‬
‫الفني‬
‫عبد الحميد عمر‬
‫‪010696‬‬
‫‪2647‬‬

‫مؤسسة اقرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة – بجوار حديقة الفسطاط‬
‫محمول‪0101175447 -0102327302:‬‬ ‫القاهرة ت‪5326610 :‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪Email: info@iqraakotob.com‬‬
‫إلى أبناء الشمال الفريقي‬
‫ما أهدي هذا‬ ‫صا‪ ,‬وأبناء المة عمو ً‬ ‫خصو ً‬
‫الكتاب سائل ً المولى عز وجل‬
‫بأسمائه الحسنى وصفاته الُعلى أن‬
‫صا لوجهه الكريم‪.‬‬ ‫يكون خال ً‬
‫ه‬
‫قاءَ َرب ّ ِ‬ ‫جو ل ِ َ‬‫ن ي َْر ُ‬‫كا َ‬‫من َ‬ ‫ف َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ر ْ‬
‫ك‬ ‫ش ِ‬ ‫ول َ ي ُ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫م َل ً َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ع َ‬‫ل َ‬ ‫م ْ‬ ‫ع َ‬‫فل ْي َ ْ‬‫َ‬
‫دا" ]الكهف‪.[110 :‬‬ ‫ح ً‬‫هأ َ‬‫ة َرب ّ ِ‬ ‫عَبادَ ِ‬ ‫بِ ِ‬

‫المؤلف‬
‫د‪ /‬علي محمد محمد‬
‫الصلبي‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬ ‫المقدمــــــــــــ‬
‫ـــة‬

‫المقدمـــــــــة‬
‫إن الحمد لله نحمده‪ ,‬ونستعينه‪ ,‬ونستغفره‪ ,‬ونعوذ بالله‬
‫من شرور أنفسنا‪ ,‬ومن سيئات أعمالنا‪ ,‬من يهد الله فل مضل‬
‫له‪ ,‬ومن يضلل فل هادي له‪ .‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬ ‫شريك له‪ ,‬وأشهد أن محم ً‬
‫َ‬
‫ول َ‬
‫ه َ‬ ‫ق تُ َ‬
‫قات ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ا َل ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[102 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وأن ُْتم ّ‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫تَ ُ‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ف ٍ‬‫من ن ّ ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫ق ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫قوا َرب ّك ُ ُ‬ ‫س ات ّ ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫جال ً ك َِثيًرا‬ ‫ر َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬ ‫ث ِ‬ ‫وب َ ّ‬ ‫ها َ‬ ‫ج َ‬‫و َ‬ ‫ها َز ْ‬ ‫من ْ َ‬‫ق ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫حد َ ٍ‬ ‫وا ِ‬‫َ‬
‫ن‬‫م إِ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫والْر َ‬ ‫ه َ‬‫ن بِ ِ‬ ‫ُ‬
‫ساءَلو َ‬ ‫ذي ت َ َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬ ‫وات ّقوا الل َ‬ ‫ُ‬ ‫ساءً َ‬ ‫ون ِ َ‬ ‫َ‬
‫قيًبا"‬ ‫م َر ِ‬ ‫ْ ْ‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬
‫]النساء‪.[1:‬‬
‫قوُلوا َ‬ ‫َ‬
‫ول ً‬ ‫ق ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫ن آ ََ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫من‬‫و َ‬
‫م َ‬ ‫م ذُُنوب َك ُ ْ‬‫فْر ل َك ُ ْ‬‫غ ِ‬
‫وي َ ْ‬
‫م َ‬‫مال َك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ح ل َك ُ ْ‬‫صل ِ ْ‬
‫دا ‪ ‬ي ُ ْ‬ ‫دي ً‬‫س ِ‬
‫َ‬
‫ما" ]الحزاب‪-70 :‬‬ ‫ظي‬ ‫ع‬ ‫زا‬ ‫و‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ز‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫سو‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ع‬
‫ْ ً َ ِ ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫يُ ِ ِ‬
‫ط‬
‫‪.[71‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك‪ ,‬وعظيم‬
‫سلطانك‪ ,‬لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت‪.‬‬
‫هذا الكتاب الثالث »الدولة الفاطمية« يتحدث عن الدولة‬
‫العبيدية »الفاطمية« الرافضية منذ نشأتها وحتى سقوطها‪,‬‬
‫ويتعرض للبحث في فرق الشيعة وخطرها على المة‬
‫السلمية المجيدة‪ ,‬ويحاول أن يسلط الضواء على أسباب‬
‫نجاح الدولة الباطنية في الشمال الفريقي‪ ,‬ويبين حقيقة‬
‫الصراع بين الرافضة وأهل السنة‪ ,‬ويذكر أساليب الرافضة‬
‫المتنوعة في محاربة أهل السنة‪ ,‬وموقف أهل السنة من‬
‫ذلك‪ ,‬ويتطرق إلى المجهودات العظيمة التي قام بها أهل‬
‫الشمال الفريقي للقضاء على الدولة العبيدية ودور العلماء‬
‫من أهل السنة في التعليم والتربية وحمل السلح ضد‬
‫الروافض‪.‬‬
‫ويسلط الضواء على تأثير الدولة الصنهاجية في نشر‬
‫معتقدات أهل السنة وإزالة جذور الروافض من الشمال‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪6‬‬
‫صا في زمن المعز بن باديس الصنهاجي‬ ‫الفريقي كله‪ ,‬وخصو ً‬
‫وابنه تميم بن المعز‪ ,‬ويسرد الحداث التي وقعت بين الدولة‬
‫العبيدية في مصر والدولة الصنهاجية‪ ,‬ويشرح السباب التي‬
‫كانت سبًبا في سقوط الدولة الصنهاجية‪ ,‬وينتقل بالقارئ إلى‬
‫الصراع بين الروافض في مصر وأهل السنة في العراق ليؤكد‬
‫على معنى مهم‪ ,‬وهو أن تاريخ الشمال الفريقي جزء من‬
‫تاريخ المة يتأثر بالحداث التي تقع في مصر والحجاز والشام‬
‫والعراق وفي غيرها‪ ,‬سلًبا وإيجاًبا‪ ,‬وأننا ل نستطيع أن نفصل‬
‫تاريخ المة بعضه عن بعض‪ ,‬ويركز على فقه التمكين عند‬
‫القائدين العظيمين نور الدين محمود‪ ,‬وصلح الدين اليوبي‬
‫من خلل سيرتهم الجهادية المباركة‪ ,‬وعن جهود العلماء‬
‫دثين والمربين الذين ساهموا في ظهور جيل النصر‬ ‫والمح ّ‬
‫والتمكين‪ ,‬ويحاول أن يفسر سنن الله في المجتمعات والدول‬
‫والشعوب من خلل التفسير التاريخي للحداث‪ ,‬ويشير إلى‬
‫معرفة سنن الله‪ ,‬وكيفية التعامل معها من خلل الوقائع‬
‫التاريخية‪ ,‬وأهمية العلماء في قيادة المة نحو المجد والعزة‬
‫والكرامة‪ ,‬والحرص على الخذ بالسباب المادية والمعنوية‬
‫التي تحقق بها النصر على العداء‪ ,‬ويتحدث عن أهمية سنة‬
‫التدرج في تغيير الشعوب‪ ,‬وبناء الدول‪ ,‬ويعطي للتربية‬
‫الربانية أهمية قصوى في تحقيق الهداف العظمى للمة‬
‫سواء على مستوى القادة في أخلقهم وعلمهم وجهادهم‪ ,‬أو‬
‫على مستوى الشعوب في استجابتها لكتاب ربها وسنة نبيها‬
‫وقيادتها المخلصة‪.‬‬
‫وهذا الجهد المتواضع لم يأت بجديد‪ ,‬وإنما هو جمع وترتيب‬
‫ومحاولة للتحليل والتفسير للحداث التاريخية في هذه الحقبة‬
‫الزمنية التي وقعت في الشمال الفريقي‪ ,‬والتي تأثرت‬
‫بالمشرق السلمي في حركتها التاريخية‪ ,‬فإن كان خيًرا فمن‬
‫الله وحده‪ ,‬وإن أخطأت السبيل فأنا عنه راجع إن تبين لي‬
‫ذلك‪ ,‬والمجال مفتوح للنقد والرد والتعليق والتوجيه‪.‬‬
‫وهدفى من هذا الكتاب‪:‬‬
‫‪ -1‬التأكيد على أن أصول المد السلمي في بلدنا أصول‬
‫سنية ل شيعية ول خارجية‪ ,‬وإنما ما كان عليه النبي ×‬
‫وأصحابه‪.‬‬
‫‪ -2‬تسهيل مبدأ العتبار والتعاظ بمعرفة أحوال الدول‬
‫‪7‬‬ ‫المقدمــــــــــــ‬
‫ـــة‬
‫وعوامل بنائها‪ ,‬وأسباب سقوطها‪ ,‬والنظر في سنن‬
‫الله في الفاق وفي النفس والمجتمعات‪.‬‬
‫‪ -3‬الهتمام بمعرفة عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ,‬وتربية‬
‫أبناء المة عليها‪ ,‬وكشف معتقدات الروافض التي‬
‫تخالف القرآن الكريم‪ ,‬وسنة سيد المرسلين × وإجماع‬
‫العلماء الراسخين‪.‬‬
‫‪ -4‬التعريف ببعض القادة الربانيين في المغرب‪ ,‬كالمعز‬
‫بن باديس‪ ,‬وتميم بن المعز‪ ,‬وفي المشرق كنور الدين‬
‫محمود‪ ,‬وصلح الدين اليوبي‪ ,‬حتى تستفيد من‬
‫سيرتهم العطرة أجيال المسلمين التي تنشد النصر‬
‫والتمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫‪ -5‬إثراء المكتبة السلمية التاريخية بالبحاث المنبثقة عن‬
‫دا عن سموم‬ ‫عقيدة صحيحة وتصور سليم بعي ً‬
‫المستشرقين‪ ,‬وأفكار العلمانيين الذين يسعون لقلب‬
‫الحقائق التاريخية من أجل خدمة أهدافهم‪.‬‬
‫أما خطة الكتاب فقد قمت بتقسيمه إلى أربعة‬
‫فصول‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬الدولة الشيعية في الشمال الفريقي‬
‫ويشتمل على خمسة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬الشيعة في اللغة‪.‬‬
‫حا‪.‬‬
‫ل‪ :‬تعريف الشيعة لغة واصطل ً‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬تعريف الرافضة‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سبب تسميتهم بهذا السم‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬بداية التشيع‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التعريف بأهم فرق الشيعة‪.‬‬
‫ل‪ :‬النصيرية‪ -‬عقائدهم‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬الشيعة الثنى عشرية‪.‬‬
‫‪ -‬استمرار الثنى عشرية في العصر الحاضر‪.‬‬
‫‪ -‬المام الشيعي في العصر الحالي ودولته التي أقامها‪.‬‬
‫‪ -‬تجربة الشيخ موسى جار الله‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الشيعة السماعيلية‪.‬‬
‫أ‪ -‬خطر المذهب الباطني على المة‪.‬‬
‫ب‪ -‬عقائد الباطنية الفاسدة‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪8‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬داعية الباطنية في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي‬
‫الرافضي‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬عقيدة أهل السنة والجماعة في‬
‫المهدي‪.‬‬
‫‪ -‬اسمه وصفاته‪.‬‬
‫‪ -‬مكان خروجه‪.‬‬
‫ل‪ :‬تواتر أحاديث المهدي‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬المنكرون لحاديث المهدي والرد عليهم‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الصراع بين الدولة العبيدية وأهالي الشمال‬
‫الفريقي‪.‬‬
‫ويشمل على ثمانية مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬ثورة قبيلة هوارة في طرابلس‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬زحف العبيديين على برقة‪.‬‬
‫‪ -‬ثورة أهل برقة على العبيديين‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬خروج أبي يزيد الخارجي على العبيديين‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬القائم بأمر الله الخليفة الثاني الرافضي‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الخليفة الرافضي الثالث المنصور‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المعز لدين الله أبو تميم سعد‪.‬‬
‫‪ -‬رحلة المعز إلى مصر‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬جرائم العبيديين في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬موقف علماء أهل السنة وأساليب‬
‫المقاومة‪.‬‬
‫‪ -‬مناظرات المام أبي عثمان سعد الحداد‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الدولة الصنهاجية ويشتمل على ستة‬
‫مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أبو الفتوح يوسف بلكين‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المعز بن باديس الصنهاجي‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬زحف بني هلل وبني سليم‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الصدام المسلح بين المعز بن باديس‬
‫والقبائل العربية‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫المقدمــــــــــــ‬
‫ـــة‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أبناء المعز وأحفاده‪.‬‬
‫ل‪ :‬تميم بن المعز‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬المير يحيى‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬المير علي بن يحيى‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬المير الحسن بن علي بن يحيى‪.‬‬
‫أ‪ -‬والي طرابلس في زمن المير الحسن‪.‬‬
‫ب‪ -‬رجار يهاجم طرابلس‪.‬‬
‫ج‪ -‬المجاعة في طرابلس‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬أسباب سقوط الدولة الزيرية في‬
‫الشمال الفريقي‪.‬‬
‫‪ -‬حكام بني زيري في القيروان والمهدية‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬أسباب سقوط الدولة العبيدية ويشتمل‬
‫على ثلثة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أسباب سقوط الدولة العبيدية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نور الدين محمود‪.‬‬
‫‪ -‬توحيد بلد الشام والديار المصرية‪.‬‬
‫‪ -‬وفاة نور الدين‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬صلح الدين اليوبي‪.‬‬
‫أ‪ -‬القاضي الفاصل‪.‬‬
‫‪ -‬وفاته‪.‬‬
‫ب‪ -‬وفاة السلطان الناصر صلح الدين‪.‬‬
‫ج‪ -‬الملمح الرئيسية في شخصية صلح الدين‪.‬‬
‫د‪ -‬من أروع المراثي في صلح الدين‪.‬‬
‫هـ‪ -‬من أروع الرسائل في أخبار وفاة صلح الدين‪.‬‬
‫ثم نتائج البحث‪.‬‬
‫وأخيًرا‪:‬‬
‫صا لوجهه‬‫أرجو من الله تعالى أن يكون عمل ً خال ً‬
‫الكريم‪ ,‬وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في‬
‫ميزان حسناتي‪ ,‬وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل‬
‫ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب‪.‬‬
‫سبحانك اللهم وبحمدك‪ ,‬أشهد أن ل إله إل أنت‪,‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫أستغفرك وأتوب إليك‪ ,‬وآخر دعوانا أن الحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫المؤلف‬
‫د‪ /‬علي محمد محمد‬
‫الصلبي‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬

‫المبحث الول‬
‫الشــــــــيعة فـــي اللغـــــــــة‬
‫قال الجوهري رحمه الله‪» :‬شيعة الرجل‪ :‬أتباعه وأنصاره‪,‬‬
‫يقال‪ :‬شايعه كما يقال‪ :‬واله من الولي‪ ..‬وتشيع الرجل أي‪:‬‬
‫ادعى دعوى الشيعة‪ ,‬وتشايع القوم صاروا شيًعا‪ ,‬وكل قوم‬
‫أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع‪ ,‬وقوله تعالى‪:‬‬
‫ل" ]سبأ‪ [54:‬أي بأمثالهم من‬ ‫قب ْ ُ‬‫من َ‬ ‫هم ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ل ب ِأ َ ْ‬
‫ع َ‬ ‫ف ِ‬‫ما ُ‬ ‫‪+‬ك َ َ‬
‫المم الماضية ‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫وجاء في المصباح المنير‪» :‬والشيعة‪ :‬التباع والنصار‪ ,‬وكل‬


‫زا – أي‬ ‫قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة‪ ,‬ثم صارت الشيعة نب ً‬
‫در‪,‬‬‫س َ‬‫درة و ِ‬ ‫س ْ‬ ‫يع مثل ِ‬ ‫شَ‬‫وصًفا‪ -‬لجماعة مخصوصة‪ ,‬والجمع‪ِ :‬‬
‫والشياع جمع الجمع‪ ,‬وشيعت رمضان بست من شوال أتبعته‬
‫بها«)‪.(2‬‬
‫فالشيعة‪ :‬من حيث مدلولها اللغوي تعني‪ :‬القوم والصحب‬
‫والتباع والعوان‪ ,‬وقد ورد هذا المعنى في بعض آيات القرآن‬
‫قت َت ِل َ ِ‬
‫ن‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ها َر ُ َ‬ ‫الكريم كما في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫جلي ْ ّ ِ‬ ‫في َ‬‫جد َ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ف َ‬
‫من‬ ‫ذي ِ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫غاث َ ُ‬ ‫ست َ َ‬‫فا ْ‬‫ه َ‬ ‫و ِ‬ ‫عد ُ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬‫ه َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫عت ِ ِ‬‫شي َ‬ ‫من ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ه" ]القصص‪.[15:‬‬ ‫و ِ‬ ‫عد ُ ّ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذي ِ‬ ‫ّ‬
‫على ال ِ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫عت ِ ِ‬‫شي َ‬ ‫ِ‬
‫م" ]الصافات‪.[83:‬‬ ‫هي َ‬ ‫ه ل ِب َْرا ِ‬ ‫عت ِ ِ‬ ‫شي َ‬ ‫من ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫وإ ِ ّ‬‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫فلفظ الشيعة في الية الولى تعني القوم‪ ,‬وفي الثانية‪:‬‬
‫تشير إلى التباع الذين يوافقون على الرأي والنهج ويشاركون‬
‫فيهما)‪.(3‬‬
‫حا‪:‬‬ ‫أول ً تعريف الشيعة اصطل ً‬
‫ل‪ ,‬حيث‬ ‫كلمة »شيعة« اتخذت معنى اصطلحًيا مستق ً‬
‫أطلقت على جماعة اعتقدوا أن المامة ليست من المصالح‬
‫العامة التي ترجع إلى نظر المة‪ ,‬ويتعين القائم بها بتعيينهم‪,‬‬
‫بل إنها ركن الدين وقاعدة السلم‪ ,‬ول يجوز لنبي إغفالها ول‬
‫تفويضها إلى المة‪ ,‬بل يجب عليه أن يعين المام للمة)‪.(4‬‬
‫فقد قال أبو الحسن الشعري في صدد ذكره للشيعة‪» :‬وإنما‬
‫الصحاح للجوهري‪ ,‬ولسان العرب‪» :‬شيع«‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫المصباح المنير‪» :‬شيع«‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫المصباح المنير‪ :‬ج ‪.329 -1‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫انظر‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ,‬ص)‪.(197،196‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫قيل لهم الشيعة‪ :‬لنهم شايعوا عليا ً ‪ -‬رضوان الله عليه‪-‬‬
‫ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله ׫)‪.(5‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن خلدون‪»:‬اعلم أن الشيعة لغة هم‬
‫الصحب والتباع‪ ,‬ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من‬
‫الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه‬
‫عا ً متفقين عليه أن المامة‬ ‫‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬ومذهبهم جمي‬
‫ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر المة‪ ,‬بل يجب‬
‫ما ً من الكبائر والصغائر‪ ,‬وإن‬
‫عليه تعيين المام لهم ويكون معصو‬
‫هو الذي عينه صلوات الله وسلمه عليه بنصوص ينقلونها‬ ‫علًيا‪‬‬
‫ويؤولونها على مقتضى مذهبهم‪ ,‬ل يعرفها جهابذة السنة ول نقلة‬
‫الشريعة‪ ,‬بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن‬
‫تأويلتهم الفاسدة«)‪.(6‬‬
‫ثانًيا‪ :‬تعريف الرافضة‪:‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫الرفض لغة‪ :‬الترك‪ ,‬وقد رفضه يرفضه رف ً‬
‫قال الصمعي‪» :‬سموا بذلك لتركهم زيد بن علي ‪.(7)«‬‬
‫فالرفض في اللغة معناه الترك والتخلي عن الشيء‪.‬‬
‫وأما في الصطلح‪:‬هم قوم من الشيعة سموا بذلك؛ لنهم‬
‫تركوا زيد بن علي‪ ,‬قال الصمعي‪» :‬كانوا بايعوه ثم قالوا له‪:‬‬
‫ابرأ من الشيخين نقاتل معك‪ ,‬فأبى‪ ,‬وقال‪ :‬كانا وزيري جدي‬
‫فل أبرأ منهما‪ ,‬فرفضوه‪ ,‬وارفضوه عنه فسموا رافضة«)‪.(8‬‬
‫قال عبد الله بن أحمد ‪-‬رحمه الله‪ :-‬قلت لبي‪» :‬من‬
‫الرافضي؟ قال‪ :‬الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر«)‪.(9‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سبب تسميتهم بهذا السم‪:‬‬
‫عندما خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‬
‫رضي الله عنهم على هشام بن عبد الملك كان في جيشه من‬
‫يشتم أبا بكر وعمر فمنعهم‪ ,‬فرفضوه‪ ,‬ولم يبق معه إل مائتا‬
‫فارس‪ ,‬فقال لهم – أي زيد بن علي‪ :-‬رفضتموني‪ ,‬قالوا‪ :‬نعم‪,‬‬

‫مقالت السلميين )ج ‪.(1/65‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬


‫مقدمة ابن خلدون‪ ,‬ص )‪.(197،196‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬
‫الصحاح للجوهري‪) ,‬ج ‪ ,(2/1078‬ولسان العرب )ج ‪» :(7/157‬رفض«‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬
‫لسان العرب )ج ‪.(7/157‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬
‫مناقب المام أحمد لبن الجوزي‪ ,‬ص)‪.(165‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫فبقى عليهم هذا السم)‪ ,(10‬وكان ذلك في سنة ثنتين وعشرين‬
‫ومائة‪ .‬يقول ابن كثير‬
‫– رحمه الله‪ -‬في صدد بيانه ما حدث في هذه السنة‪» :‬فيها‬
‫كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‪,‬‬
‫وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة‬
‫أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له‪ ,‬فشرعوا في‬
‫أخذ الهبة لذلك‪ ,‬فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى‬
‫يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره –وهو بالحيرة يومئذ‪ -‬خبر‬
‫زيد بن علي هذا‪ ,‬وكان معه من أهل الكوفة‪ ,‬فبعث يوسف ابن‬
‫عمر يطلبه ويلح في طلبه‪ ,‬فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا‬
‫عند زيد بن علي فقالوا له‪ :‬ما قولك –يرحمك الله‪ -‬في أبي‬
‫دا من أهل بيتي‬ ‫بكر وعمر؟ فقال‪ :‬غفر الله لهما‪ ,‬ما سمعت أح ً‬
‫را‪ ,‬قالوا‪ :‬فلم تطلب إًذا‬‫تبرأ منهما‪ ,‬وأنا ل أقول فيهما إل خي ً‬
‫بدم أهل البيت؟ فقال‪ :‬إنا كنا أحق الناس بهذا المر‪ ,‬ولكن‬
‫القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه‪ ,‬ولم يبلغ ذلك عندنا بهم‬
‫را‪ ,‬وقد ولوا فعدلوا وعملوا بالكتاب والسنة‪ ,‬قالوا‪ :‬فلم‬ ‫كف ً‬
‫ذا؟ قال‪ :‬إن هؤلء ليسوا كأولئك‪ ,‬إن هؤلء ظلموا‬ ‫تقاتل هؤلء إ ً‬
‫الناس وظلموا أنفسهم‪ ,‬وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه ×‬
‫را لكم ولي‪,‬‬ ‫وإحياء السنن وإماتة البدع‪ ,‬فإن تسمعوا يكن خي ً‬
‫وإن تأبوا فلست عليك بوكيل‪ ,‬فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا‬
‫بيعته وتركوه‪ ,‬فلهذا سموا الرافضة من يومئذ«)‪.(11‬‬
‫وبهذا يتبين سبب تسميتهم بالرافضة‪ ,‬لرفضهم زيد بن‬
‫علي الذي منعهم من سب الشيخين رضي الله عنهما‪,‬‬
‫وأصبحت كلمة الرافضة تطلق على كل من غل في مذهب‬
‫الشيعة وأجاز الطعن في الصحابة‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬بداية نشأة التشيع‪:‬‬
‫تذكر كتب التاريخ أن أول من زرع فكرة التشيع في المة‬
‫رجل يهودي يقال له‪ :‬عبد الله بن سبأ‪ ,‬أظهر السلم للطعن‬
‫فيه‪ ,‬وكان ذلك زمن الخليفة الراشد ذي النورين عثمان بن‬
‫عفان ‪ ,‬وتنقل ابن سبأ بين المدينة والبصرة والكوفة ومصر‬
‫والشام‪ ,‬والتف حوله المفسدون والحاقدون من المنافقين‬
‫والجهال بحقيقة الدين‪.‬‬
‫ونشط ابن سبأ المعروف بابن السوداء في بث فكرتين‬
‫أساسيتين لهدافه اليهودية هما‪:‬‬

‫‪ () 10‬اعتقادات فرق المسلمين والمشركين‪ ,‬ص )‪.(52‬‬


‫‪ () 11‬البداية )ج ‪.(9/371،370‬‬
‫‪15‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫الولى‪ :‬دعوته إلى اعتقاد رجعة النبي × وكان يقول‪:‬‬
‫دا‬‫»عجًبا ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محم ً‬
‫عل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫ض َ‬ ‫ذي َ‬
‫فَر َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫سيرجع‪ ,‬وقد قال الله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫د" ]القصص‪.[85:‬‬ ‫عا ٍ‬
‫م َ‬ ‫ك إ َِلى َ‬ ‫ن ل ََرادّ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬
‫الثانية‪ :‬دعوته إلى اعتقاد »أن لكل نبي وصًيا وعلي‬
‫وصي لمحمد‪ ,‬ومحمد خاتم النبياء‪ ,‬وعلي خاتم الوصياء‪,‬‬
‫ومن أظلم ممن يمنع وصية رسول الله × ووثب على حق‬
‫وصيته وتناول أمر المة«‪.‬‬
‫ما‬‫وأرسل ابن سبأ أصحابه وأتباعه في المصار ليكتبوا ظل ً‬
‫وزوًرا وبهتاًنا للطعن في الولة‪ ,‬وينسبوا ذلك لخليفة‬
‫المسلمين وحثهم على الظهور بالمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬حتى يلتف حولهم العوام‪ ,‬وزوروا رسائل نسبوها إلى‬
‫عثمان ‪ ‬للدس والوقيعة بين المة وخليفتها وولتها‪.‬‬
‫وهّيج المصار واستجاب أهل البصرة والكوفة ومصر‬
‫لهدافه القريبة‪ ,‬وكان من نتائج دسائسه قتل الخليفة الراشد‬
‫ما وعدواًنا‪.‬‬ ‫عثمان ‪ ‬بغير حق ظل ً‬
‫نا أن ابن‬ ‫قال شيخ السلم ابن تيمية ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬مبي ً‬
‫سبأ أول من أحدث الرفض والغلو المذموم‪ ,‬قال‪» :‬وأصل‬
‫الرفض من المنافقين والزنادقة فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق‬
‫وأظهر الغلو في علي بدعوى المامة والنص عليه‪ ,‬وادعى‬
‫العصمة له«)‪.(12‬‬
‫ضا‪» :‬أن ابن سبأ المنافق الزنديق أراد فساد دين‬ ‫وذكر أي ً‬
‫السلم‪ ,‬وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولس بالنصارى‪,‬‬
‫لكن لم يتأت له ما تأتى لبولس لضعف النصارى وعقلهم‪ ,‬فإن‬
‫المسيح عليه السلم ُرفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه‪,‬‬
‫ل‪ ,‬فلما ابتدع بولس ما ابتدع من الغلو‬ ‫ما وعم ً‬ ‫ويقومون به عل ً‬
‫في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح‪,‬‬
‫فقام أهل الحق فخالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك‬
‫بعضهم‪ ,‬وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديرة‪ ,‬وهذه المة‬
‫ولله الحمد ل يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق‪ ,‬فل يتمكن‬
‫ملحد ول مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق‪ ,‬ولكن‬
‫يضل من يتبعه على ضلله«)‪.(13‬‬
‫ولوضوح خبثه وكيده وشدة حقده على السلم والمسلمين‬
‫لم يذكره أحد من أهل اليمان بخير‪ ,‬وإنما وصفوه بأنه أول من‬
‫سن لهل الخذلن النيل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما‪,‬‬
‫‪ () 12‬مجموع الفتاوى لشيخ السلم ابن تيمية )ج ‪.(4/435‬‬
‫‪ () 13‬منهاج السنة )ج ‪.(3/261‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪16‬‬
‫ووصفوه بالخبث والكذب والنفاق والزندقة وبأنه ضال مضل‪.‬‬
‫ذكر ابن حجر من طريق أبي إسحاق الفزاري أن سويد بن‬
‫عل ّفي إمارته‪ ,‬فقال‪ :‬إني مررت بنفر يذكرون‬ ‫غفلة دخل على ي‬
‫أبا بكر وعمر ويرون أنك تضمر لهما مثل ذلك‪ ,‬فقال علي‪ :‬ما لي‬
‫ولهذا الخبيث السود‪ ,‬ثم قال‪ :‬معاذ الله أن أضمر لهما إل‬
‫الحسن الجميل‪ ,‬ثم أرسل إلى عبد الله بن سبأ فسيره إلى‬
‫دا‪ ,‬ثم نهض إلى المنبر‬ ‫المدائن‪ ,‬وقال‪ :‬ل يساكنني في بلدة أب ً‬
‫ً‬
‫حتى اجتمع الناس‪ ,‬ثم أثنى على الشيخين ثناء طويل‪ ,‬وقال في‬
‫آخره‪» :‬أل ول يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إل جلدته حد‬
‫المفترى«)‪.(14‬‬
‫وتذكر بعض الروايات أن علًيا ‪ ‬هم بقتله ودعا بالسيف‪,‬‬
‫فكلم فيه‪ ,‬فقال‪ :‬ل يساكنني ببلد أنا فيه‪ ,‬فسيره إلى‬
‫المدائن)‪.(15‬‬
‫وذكر ابن عساكر بإسناده إلى أبي الجلسي قال‪ :‬سمعت‬
‫ي‬
‫علًيا يقول لعبد الله السبئي‪» :‬ويلك‪ ,‬والله ما أفضى إل ّ‬
‫بشيء كتمه أحد من الناس وقد سمعته يقول‪» :‬إن بين‬
‫يدي الساعة ثلثين كذاًبا« وإنك لحدهم«)‪.(16‬‬
‫فعلي ‪ ‬حكم على ابن سبأ بأنه خبيث‪ ,‬وهم بقتله‪ ,‬ولما‬
‫تراجع عن قتله نفاه إلى المدائن‪ ,‬وبين بأنه أحد الدجالين‪.‬‬
‫وقال الحافظ الذهبي في شأن ابن سبأ‪ :‬عبد الله بن سبأ‬
‫من غلة الزنادقة ضال مضل‪ ,‬أحسب أن علًيا حرقه بالنار‪,‬‬
‫وزعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه علي فنفاه علي‬
‫بعد ما هم به«)‪.(17‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد روايات في ذمه‪:‬‬
‫»وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ‪ ,‬وليست له‬
‫رواية ولله الحمد‪ ,‬وله أتباع يقال لهم السبئية يعتقدون إلهية‬
‫علي بن أبي طالب‪ ,‬وقد أحرقهم علي بالنار في خلفته«)‪.(18‬‬
‫عا‪ ,‬كان يكفي قتلهم‬ ‫قلت‪ :‬والحرق بالنار منهي عنه شر ً‬
‫بالسيف‪.‬‬
‫وبذلك يتضح للقارئ الكريم أن ابن سبأ اليهودي هو أول‬
‫من زرع فكرة التشيع وقال بالرجعة والوصية وتلقفها عنه‬
‫انظر‪ :‬تلبيس إبليس لبن الجوزي ص )‪.(101،100‬‬ ‫)(‬ ‫‪14‬‬
‫تاريخ دمشق لبن عساكر )ج ‪.(34/7‬‬ ‫)(‬ ‫‪15‬‬
‫تاريخ دمشق لبن عساكر )ج ‪.(34/6‬‬ ‫)(‬ ‫‪16‬‬
‫ميزان العتدال )‪.(2/426‬‬ ‫)(‬ ‫‪17‬‬
‫لسان الميزان )‪.(3/123،122‬‬ ‫)(‬ ‫‪18‬‬
‫‪17‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫أتباعه وبعض من قلت بضاعتهم من العلم والهدى)‪.(19‬‬
‫والدارس للتاريخ يتضح له أن المة في هزاتها العنيفة‬
‫يكون سببها رجال ً حاقدين على السلم‪ ,‬يتقنون دور التخفي‬
‫بين أوساط المسلمين ول يكّلون ول يملون من بذر ونشر‬
‫أفكارهم الشيطانية المناهضة للعقيدة السلمية المنبثقة من‬
‫كتاب الله وسنة النبي ×‪.‬‬
‫***‬

‫‪ () 19‬ابن سبأ حقيقة ل خيال )سعدى الهاشمي(‪.‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪18‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫التعريف بأهم فرق الشيعة‬
‫إن علماء الفرق صنفوا كتًبا كثيرة في فرق الشيعة‪,‬‬
‫ورأيت في بحثي أن أذكر أسماء ول أتعرض بالتفصيل منها إل‬
‫للباطنية لكونها حكمت الشمال الفريقي‪ ,‬والثنى عشرية‪,‬‬
‫لكونها لها دولة حالًيا تقوم بنشر ودعم المذهب الشيعي‪,‬‬
‫وللنصيرية لكونها تحكم سوريا منذ بداية السبعينيات حتى‬
‫الن‪ .‬ومن فرق الشيعة التي ذكرها علماء الفرق‪:‬‬
‫السبئية‪ ,‬والغرابية‪ ,‬والبياتية‪ ,‬والمغيرية‪ ,‬والهاشمية‪,‬‬
‫والخطابية‪ ,‬والعلبائية‪ ,‬والكيسانية‪ ,‬والزيدية الجاردوية‪,‬‬
‫والسليمانية‪ ,‬والصالحية‪ ,‬والبترية‪ ,‬وبعض هذه الفرق غالت‬
‫وا‪ ,‬ومن أراد الستزادة‬ ‫ما‪ ,‬والبعض الخر أقل غل ً‬ ‫وا عظي ً‬‫غل ً‬
‫فليراجع مقالت السلميين لبي الحسن الشعري‪ ,‬والملل‬
‫فرق‪ ,‬لبن طاهر‬ ‫فرق بين ال ِ‬
‫والنحل للشهرستاني‪ ,‬وال َ‬
‫البغدادي‪.‬‬
‫ل‪ :‬النصيرية‪:‬‬‫أو ً‬
‫وتعتبر هذه الفرق من غلة الشيعة وينتسبون إلى محمد‬
‫بن نصير المنيري وقد انبثقت هذه الفرقة من الثنى عشرية‬
‫»الرافضة«‪ ,‬وغالوا في علي بن أبي طالب ‪ ‬حتى أل ُّهوه‪.‬‬
‫واشتهرت هذه الفرقة بحرب السلم والمسلمين‬
‫وبمناصرة النصارى الحاقدين والوقوف مع التتار المفسدين‪,‬‬
‫كما اشتهرت باللحاد في أسماء الله وآياته وتحريف كلم الله‬
‫وكلم رسوله × عن مواضعه‪ ,‬وإليك ما قال شيخ السلم عن‬
‫النصيرية في إجابته عن سؤال عنهم‪» :‬الحمد لله رب‬
‫العالمين‪ ,‬هؤلء القوم المتسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف‬
‫القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى‪ ,‬بل وأكفر من‬
‫كثير من المشركين‪ ,‬وضررهم على أمة محمد × أعظم من‬
‫ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم‪ ,‬فإن‬
‫جهال المسلمين بالتشيع وموالة أهل‬ ‫هؤلء يتظاهرون عند ُ‬
‫البيت وهم في الحقيقة ل يؤمنون بالله ول برسوله ول بكتابه‪,‬‬
‫ول بأمر ول نهي‪ ,‬ول ثواب ول عقاب‪ ,‬ول جنة ول نار‪ ,‬ول بأحد‬
‫من المرسلين قبل محمد × ول بملة من الملل السابقة‪ ,‬بل‬
‫يأخذون كلم الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين‪,‬‬
‫يتأولونه على أمور يفترونها‪ ,‬يدعون أنها علم الباطن وليس‬
‫‪19‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫لهم حد محدود فيما يدعونه من اللحاد في أسماء الله تعالى‬
‫وآياته وتحريف كلم الله تعالى ورسوله عن مواضعه« إلى أن‬
‫قال‪» :‬ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى‬
‫ما مع كل عدو للمسلمين‪,‬‬ ‫عليها النصارى من جهتهم وهم دائ ً‬
‫فهم مع النصارى على المسلمين‪ ,‬ومن أعظم المصائب‬
‫عندهم انتصار المسلمين على التتار‪ ,‬ومن أعظم أعيادهم إذا‬
‫استولى –والعياذ بالله تعالى‪ -‬النصارى على ثغور المسلمين‪..‬‬
‫فهؤلء المعادون لله ورسوله كثروا حينئذ على السواحل‬
‫وغيرها‪ ,‬فاستولى النصارى على الساحل‪ ,‬ثم بسببهم استولوا‬
‫على القدس الشريف وغيره‪ ,‬فإن أحوالهم السيئة كانت من‬
‫أعظم السباب في ذلك‪ ,‬ثم لما أقام الله أمور المسلمين‬
‫المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد‪ ,‬وصلح‬
‫الدين وأتباعهما وفتحوا السواحل من النصارى‪ ,‬وممن كان بها‬
‫ضا أرض مصر‪ ,‬فإنهم كانوا مستولين عليها‬ ‫منهم وفتحوا أي ً‬
‫نحو مائتي سنة‪ ,‬واتفقوا هم والنصارى‪ ,‬فجاهدهم المسلمون‬
‫حتى فتحوا البلد‪ ...‬ثم إن التتار ما دخلوا بلد السلم وقتلوا‬
‫خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إل بمعاونتهم‬
‫ومؤازرتهم‪ ..‬ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة ُيسمون‬
‫»الملحدة« وتارة يسمون »القرامطة« وتارة يسمون‬
‫»الباطنية« وتارة يسمون »السماعيلية« وتارة يسمون‬
‫»الخرمية« وتارة يسمون »المحمرة«‪.‬‬
‫وهذه السماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض‬
‫أصنافهم‪ ,‬ول ريب أن جهاد هؤلء وإقامة الحدود عليهم من‬
‫أعظم الطاعات وأكبر الواجبات‪ ,‬وهو أفضل من جهاد من ل‬
‫يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب‪ ,‬فإن جهاد‬
‫هؤلء من جنس جهاد المرتدين‪ ,‬والصديق وسائر الصحابة‬
‫رضي الله عنهم بدأوا بجهاد المرتدين قبل الكفار من أهل‬
‫الكتاب‪ .‬فضرر هؤلء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك‪..‬‬
‫ويجب على كل مسلم أن يقوم بذلك على حسب ما يقدر‬
‫عليه من الواجب فل يحل لحد أن يكتم ما يعرفه عن‬
‫أخبارهم‪ ,‬بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة‬
‫حالهم ول يحل لحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله‬
‫ورسوله‪ ..‬والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب‬
‫المكان له من الجر والثواب ما ل يعلمه إل الله تعالى«)‪.(20‬‬
‫وهذه الفرقة الخبيثة سمت نفسها في العصر الحاضر‬
‫بالعلويين‪ ,‬وفي فترة الحتلل الفرنسي لبلد الشام وقفت‬
‫‪ () 20‬مجموعة الفتاوى لشيخ السلم ابن تيمية‪) ,‬ج ‪.(35/150،149‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪20‬‬
‫هذه الفرقة مع النصارى الغزاة الحاقدين‪ ,‬وما أخرج‬
‫الستعمار الفرنسي حتى مكنهم من سوريا‪ ,‬وعندما تقلدوا‬
‫ما تشيب منه الولدان‪,‬‬ ‫أمور البلد انتقموا من أهل السنة انتقا ً‬
‫وتضع كل ذات حمل حملها من شدة التعذيب وزهق النفوس‪,‬‬
‫واغتصاب العفائف الحرائر من نساء أهل السنة‪ ,‬والزج بهم‬
‫وبالرجال إلى السجون‪ ,‬ول يزال هؤلء الحاقدون يتقلدون أمر‬
‫عاصمة بلد الشام‪ ,‬نسأل الله أن يعجل بأخذهم ويمكن لهل‬
‫دينه وشريعته‪.‬‬
‫وهم ينتشرون في جبال اللذقية‪ ,‬وحماة وحمص في‬
‫سوريا‪ ,‬وفي لواء السكندرونة وطرطوس وأدنة‪ ,‬أو أطنه‬
‫»في تركيا حالًيا« وفي كردستان وغيرها)‪.(21‬‬
‫ومن عقائدهم الفاسدة‪:‬‬
‫‪ -1‬تأليه المام علي بن أبي طالب ‪ ‬ويعتقدون أنه يسكن‬
‫السحاب‪ ,‬والرعد صوته‪ ,‬والبرق ضحكه‪ ,‬وهم لهذا يعظمون‬
‫السحاب‪ ,‬ومنهم من يعتقد أن علًيا يسكن في القمر أو‬
‫الشمس‪.‬‬
‫‪ -2‬تناسخ الرواح‪ :‬عقيدة من عقائدهم‪ ,‬فالذين ل يعبدون‬
‫علّيا يولدون – في زعمهم‪ -‬من جديد على شكل إبل أو حمير‪,‬‬
‫أما المؤمن »وهو من يعبد علّيا عندهم« فيتحول عندهم سبع‬
‫مرات‪ ,‬ثم يأخذ مكانه بين النجوم‪ ,‬ومن ينحرف منهم يولد من‬
‫جديد‪ ,‬حتى يتطهر ويكفر عن سيئاته)‪.(22‬‬
‫وغير ذلك من العقائد الفاسدة‪.‬‬
‫ولهم أعياد يحتفلون بها يقدمون فيها النبيذ ويرتكبون‬
‫الفواحش وهي‪ :‬عيد الغطاس‪ ,‬والبربارا‪ ,‬وهما عيدان‬
‫نصرانيان‪ ,‬وعيد »النيروز« وهو مجوسي)‪.(23‬‬
‫ويعتبرون هذه الديانة الفاسدة سًرا من السرار‪ ,‬ونساؤهم‬
‫قا؛ لنهم يعتبرونهن ضعيفات العقول ل‬ ‫ل دين لهن مطل ً‬
‫يستطعن حفظ السرار‪ ,‬والرجل ل يطلع على سر دينه إل بعد‬
‫أن يبلغ التاسعة عشرة من عمره‪ ,‬فيلقن العقيدة النصيرية‬
‫في جلسات خاصة ووسط مؤثرات شتى‪ ,‬وإرهاب فكري‪,‬‬
‫وطقوس عجيبة‪ ,‬وتجد هذا في كتاب »الباروكة السليمانية«‬
‫لسليمان الردني الذي كان نصيرًيا ثم تنصر‪ ,‬فألف هذا‬
‫‪ () 21‬انظر‪ :‬الموجز في الديان والمذاهب‪ ,‬لناصر العقل والفقاري‪ ,‬ص)‪.(137‬‬
‫‪ () 22‬الموجز في الديان والمذاهب لناصر العقل والفقاري‪ ,‬ص)‪.(138‬‬
‫‪ () 23‬المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(139‬‬
‫‪21‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫الكتاب‪ ,‬ول زال به أهله حتى أماتوه شر ميتة بإحراقة حًيا)‪.(24‬‬
‫والذي يجدر النتباه له أن الدول النصرانية »أمريكا‪,‬‬
‫بريطانيا‪ ,‬فرنسا‪ ..‬إلخ« وإسرائيل يحرصون على طعن المة‬
‫بهذه الخناجر المسمومة بتقويتها‪ ,‬وفي الوقوف معها حتى‬
‫تصل إلى الحكم‪ ,‬لعلمهم أن هذا المسلك من أفضل الوسائل‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫ه َ‬‫مك ُُر الل ُ‬
‫وي َ ْ‬‫ن َ‬‫مك ُُرو َ‬‫وي َ‪ْ(25‬‬
‫في إضعاف أمة السلم ‪َ +‬‬
‫ن" ]النفال‪. [30:‬‬ ‫ري َ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬
‫ماك ِ ِ‬
‫)‬
‫َ‬
‫ثانًيا‪ :‬الشيعة الثنى عشرية‪:‬‬
‫ولهم أسماء كثيرة اشتهرت بين الناس منها‪ :‬المامية؛‬
‫لنهم يقولون بوجوب المامة بالنص الظاهر والتعيين الصادق‪.‬‬
‫ويقول صاحب كتاب »أعيان الشيعة«‪ :‬إن هذا السم‬
‫»لقب ينبز به من يقدم علّيا عليه السلم في الخلفة وأكثر ما‬
‫يستعمل للتشفي والنتقام«)‪.(26‬‬
‫إل أن الكليني الشيعي في كتابه الكافي وهو عمدة في‬
‫مذهبهم‪ ,‬بل أعظم كتاب عندهم ينزلونه منزلة صحيح البخاري‬
‫عند أهل السنة‪ ,‬ساق ما يدل على أنهم راضون بهذا السم‬
‫واللقب ويكذبون على الله ويختلقون الفك‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬إن الله خلع عليهم اسم الروافض)‪ .(27‬والقوم‬
‫اشتهروا بالوقاحة وعدم المبالة بالفتراء على الله وعلى‬
‫خلقه‪.‬‬
‫ومن السماء التي اشتهروا بها اسم »الثنى عشرية«‬
‫ما وهم على الترتيب‪:‬‬ ‫لقولهم واعتقادهم بإمامة اثنى عشر إما ً‬
‫‪ -1‬أبو الحسن علي بن أبي طالب ‪) ‬ت ‪40‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -2‬الحسن بن علي بن أبي طالب ‪) ‬ت ‪ 50‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -3‬الحسين بن علي بن أبي طالب ‪) ‬ت ‪61‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -4‬علي زين العابدين بن الحسين بن علي )ت ‪95‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -5‬محمد الباقر بن علي )ت ‪114‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -6‬جعفر الصادق بن محمد )ت ‪148‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -7‬موسى الكاظم بن جعفر )ت ‪183‬هـ(‪.‬‬
‫)( المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(140‬‬ ‫‪24‬‬
‫)( من أراد الزيادة عن النصيرية فليراجع‪ :‬تاريخ المذاهب السلمية لبي زهرة‪.‬‬ ‫‪25‬‬
‫العلويون‪ ,‬أو النصيرية للعسكري‪ ,‬فتاوى ابن تيمية‪ ,‬ج ‪.35‬‬
‫)( أعيان الشيعة لمحسن المين‪) ,‬ج ‪.(1/20‬‬ ‫‪26‬‬
‫)( فروع الكافي )ج ‪ (8/28‬حديث رقم )‪ (6‬من كتاب الروضة‪.‬‬ ‫‪27‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪22‬‬
‫‪ -8‬علي بن موسى الرضا )ت ‪.(203‬‬
‫‪ -9‬أبو جعفر محمد بن علي »الجواد« )ت ‪220‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -10‬أبو الحسن علي بن محمد »الهادي« )ت ‪254‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -11‬أبو محمد الحسن بن علي »العسكري« )ت ‪260‬هـ(‪.‬‬
‫‪ -12‬أبو القاسم محمد بن الحسن »المهدي« )ت ‪256‬هـ(‬
‫)‪.(28‬‬
‫هؤلء هم الئمة الثنا عشر عند الشيعة المامية‪ ,‬والشيعة‬
‫الثنى عشرية يعتقدون في هؤلء الئمة اعتقادات كلها غلو‬
‫وإطراء وضعوها من عند أنفسهم ما أنزل الله بها من‬
‫سلطان‪.‬‬
‫ومن معتقداتهم في أئمتهم‪ :‬أنهم معصومون »من جميع‬
‫الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة‬
‫وا‪ ,‬كما يجب أن يكونوا معصومين من‬ ‫دا وسه ً‬
‫إلى الموت عم ً‬
‫السهو والخطأ والنسيان؛ لن الئمة حفظة الشرع والقوامون‬
‫عليه حالهم من ذلك حال النبي«)‪.(29‬‬
‫ووصفوا أئمتهم بصفات جاوزوا فيها المنقول والمعقول‪,‬‬
‫فعلى سبيل المثال ما ذكره الكليني في كتابه الكافي‬
‫المسمى عندهم »أصول الكافي« حيث إنه عقد أبواًبا فيها‬
‫أحاديث من إفكهم وزورهم كلها تضمنت غلوهم في أئمتهم‪.‬‬
‫وإليك بعض عناوين تلك البواب‪:‬‬
‫»باب أن الئمة ولة أمر الله وخزنة علمه« ‪» ,‬باب أن‬
‫)‪(30‬‬

‫الئمة هم أركان الرض«)‪» ,(31‬باب أن الئمة عندهم جميع‬


‫الكتاب التي نزلت من عند الله عز وجل‪ ,‬وأنهم يعرفونها على‬
‫اختلف أدلتها«)‪» ,(32‬باب أنه لم يجمع القرآن كله إل‬
‫الئمة«)‪» ,(33‬باب أن الئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت‬
‫إلى الملئكة والنبياء والرسل«)‪» ,(34‬باب أن الئمة يعلمون‬
‫متى يموتون وأنهم ل يموتون إل باختيار منهم«)‪» ,(35‬باب أن‬
‫الئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه ل يخفى عليهم‬

‫)( انظر‪ :‬عقائد المامية لمحمد رضا المظفر‪ ,‬ص )‪.(63،62‬‬ ‫‪28‬‬
‫)( عقائد المامية لمحمد رضا المظفر‪ ,‬ص )‪.(51‬‬ ‫‪29‬‬
‫)(الكافي )ج ‪.(1/192‬‬ ‫‪30‬‬
‫)( المصدر السابق )ج ‪.(1/196‬‬ ‫‪31‬‬
‫)( المصدر السابق )ج ‪.(1/227‬‬ ‫‪32‬‬
‫)( المصدر السابق )ج ‪.(1/228‬‬ ‫‪33‬‬
‫)( المصدر السابق )ج ‪.(1/255‬‬ ‫‪34‬‬
‫)( المصدر السابق )ج ‪.(1/258‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪23‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫ما إل أمر أن يعلمه‬‫عل( ً‬ ‫شيء«)‪» ,(36‬باب أن الله لم يعلم نبيه‬
‫أمير المؤمنين وأنه شريكه في العلم«)‪» , 37‬باب أن الئمة لو‬
‫ستر عليهم لخبروا كل امرئ بما له وما عليه«)‪» ,(38‬باب أن‬
‫المام يعرف المام الذي يكون بعده«)‪» ,(39‬باب في أن الئمة‬
‫إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ول يسألون عن‬
‫البينة«)‪» ,(40‬باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إل‬
‫ما خرج من عند الئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم‬
‫فهو باطل«)‪.(41‬‬
‫وهكذا أخي القارئ‪ :‬نجد الغلو الممقوت عند علماء الثنى‬
‫عشرية‪ ,‬فإذا راجعت )مرآة العقول( للمجلسي وجدته في‬
‫مستنقع الغلو السن وقع حيث زعم أن عصمة الئمة فوق‬
‫عصمة النبياء‪ ,‬لنهم أعلى درجة منهم)‪ .(42‬وأما إمامهم‬
‫المعاصر‪ ,‬ومرجعهم العلى‪ ,‬وآيتهم العظمى‪ ,‬وهو من يعرف‬
‫بزعيم الثورة اليرانية فيحتاج إلى شيء من البيان واليضاح‪,‬‬
‫للتباس المر على شباب أهل السنة‪ ,‬بل حتى على دعاتهم‬
‫وبعض علمائهم الذين انخدعوا بشعارات الشيعة البراقة‬
‫لكسب أهل السنة‪ ,‬غير مبالين بعهود أعطوها‪ ,‬ومواثيق‬
‫ألزموا بها أنفسهم بل غدروا بهم في إيران وقتلوهم‬
‫وسجنوهم‪ ,‬وهدموا بيوتهم‪ ,‬فإذا راجعت كتاب »وجاء دور‬
‫المجوس«)‪ (43‬رأيت العجب العجاب في أعمالهم الشنيعة‬
‫وأقوالهم القبيحة حيث إن الكتاب أجاد في كشفهم وفضحهم‬
‫وبين عوراتهم ووسائلهم في التستر وعلقتهم ببقية فرق‬
‫دا منيًعا ضد أهل السنة‪.‬‬‫الشيعة في وقوفهم س ً‬
‫عا ولم‬‫إن الثنى عشرية لم يحترموا عقل ً ولم يقدسوا شر ً‬
‫يلتزموا نقل ً ولم يكرموا علماءهم ول شيوخهم‪ ,‬بعكس أهل‬
‫السنة الذين أعطوا لهؤلء الئمة من الحق والتكريم وإنزالهم‬
‫منزلتهم التي يستحقونها‪ ,‬ويعجبني في هذا المقام ما قاله‬
‫المام الذهبي ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬مبيًنا عقيدة أهل السنة‬
‫فيهم‪» :‬فمولنا المام علي‪ :‬من الخلفاء الراشدين المشهود‬
‫لهم بالجنة رضي الله عنهم‪ ,‬نحبه أشد الحب‪ ,‬ول ندعي‬

‫المصدر السابق )ج ‪.(1/260‬‬ ‫)(‬ ‫‪36‬‬


‫الكافي )ج ‪.(1/263‬‬ ‫)(‬ ‫‪37‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(1/264‬‬ ‫)(‬ ‫‪38‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(1/276‬‬ ‫)(‬ ‫‪39‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(1/297‬‬ ‫)(‬ ‫‪40‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(1/299‬‬ ‫)(‬ ‫‪41‬‬
‫انظر‪ :‬مرآة العقول للمجلسي )ج ‪.(2/289‬‬ ‫)(‬ ‫‪42‬‬
‫اسم المؤلف‪ :‬عبد الله محمد الغريب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪43‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪24‬‬
‫عصمته‪ ,‬ول عصمة أبي بكر الصديق‪ ,‬وأبناه الحسن والحسين‬
‫سبطا رسول الله × وسيدا شباب أهل الجنة‪ ,‬ولو استخلفا‬
‫لكانا أهل ً لذلك‪.‬‬
‫وزين العابدين‪ :‬كبير القدر‪ ,‬من سادة العلماء العاملين‪,‬‬
‫يصلح للمامة‪ ,‬وكذلك ابنه جعفر الباقر‪ ,‬سيد إمام فقيه يصلح‬
‫للخلفة‪.‬‬
‫وكذلك ولده جعفر الصادق‪ :‬كبير الشأن من أئمة العلم‪,‬‬
‫كان أولى بالمر من أبي جعفر المنصور‪.‬‬
‫وكان ولده موسى‪ :‬كبير القدر‪ ,‬جيد العلم‪ ,‬أولى بالخلفة‬
‫من هارون‪ ,‬وله نظراء في الشرف والفضل‪.‬‬
‫وابنه علي بن موسى الرضا‪ :‬كبير الشأن له علم وبيان‪,‬‬
‫ووقعٌ في النفوس‪ ,‬صّيره المأمون ولي عهده لجللته‪ ,‬فتوفى‬
‫سنة ثلث ومائتين‪.‬‬
‫وابنه محمد الجواد‪ :‬من سادة قومه‪ ,‬لم يبلغ رتبة آبائه في‬
‫العلم والفقه‪.‬‬
‫وكذلك ولده الملقب بالهادي‪ :‬شريف جليل‪.‬‬
‫وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله‬
‫تعالى)‪ .(44‬وأما المام الثاني عشر فقال فيه‪» :‬ومحمد هذا هو‬
‫الذي يزعمون أنه الخلف الحجة وأنه صاحب الزمان‪ ,‬وأنه‬
‫صاحب السرداب بسامراء‪ ,‬وأنه حي ل يموت حتى يخرج‬
‫ما وجوًرا‪ ,‬فوددنا‬
‫ملئت ظل ً‬ ‫فيمل الرض عدل ً وقس ً‬
‫طا‪ ,‬كما ُ‬
‫ذلك –والله‪ -‬وهم في انتظاره من أربعمائة وسبعين سنة ‪.‬‬
‫)‪(45‬‬

‫ومن أحالك على غائب لم ينصفك‪ ,‬فكيف بمن أحال على‬


‫مستحيل؟ والنصاف عزيز‪ ,‬فنعوذ بالله من الجهل‬
‫والهذي«)‪.(46‬‬
‫***‬

‫‪ () 44‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(13/121،120‬‬


‫‪ () 45‬المراد زمان الذهبي المتوفي سنة ‪748‬هـ‪.‬‬
‫‪ () 46‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(13/120‬‬
‫‪25‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬

‫استمرار الثنى عشرية في العصر الحاضر‬


‫المام الشيعي في العصر الحاضر ودولته التي أقامها‪:‬‬
‫تفاعل العالم السلمي مع المد الشيعي بعد وصوله إلى‬
‫مقاليد الحكم في إيران‪ ,‬وإزاحة الشاه المخلوع‪ ,‬واستطاعت‬
‫وسائل العلم الثنى عشرية أن تخدع كثيًرا من المسلمين‬
‫في طرحهم المعاصر‪ ,‬وساندتها أجهزة العلم الغربي‪ ,‬وأجاد‬
‫المام الخميني في تمثيل الدور الماكر؛ فتعاطف كتاب‬
‫وصحفيون ودعاة محسوبون على أهل السنة في تمجيد‬
‫الخميني ووصفه بأنه من المجددين‪ ,‬بل يسير في موكب‬
‫المصلحين من أمثال شيخ السلم ابن تيمية ومحمد بن عبد‬
‫الوهاب‪ ,‬وعبد الحميد بن باديس‪ ,‬ومحمد بن علي السنوسي‬
‫وحسن البنا‪.‬‬
‫وبما أن تلك المقالت والكتابات أصبحت في ذاكرة‬
‫التاريخ‪ ,‬وكانت سبًبا في تضييع الحقائق لجيال المسلمين‬
‫رأيت من النصح للمة وأبنائها أن أبين أن الخميني امتداد‬
‫لمدرسة الثنى عشرية الشيعة ذات العقائد الفاسدة‬
‫والمنحرفة عن هدى الله‪ ,‬وأن ثورته وجمهوريته السلمية‬
‫ما لكل محاولة جادة‬ ‫المزعومة جيء بها لتكون خنجًرا مسمو ً‬
‫لتطبيق السلم الصحيح‪ ,‬بل أتيحت للثورة اليرانية الفرصة‬
‫أمام العالم لتشويه السلم الصافي النقي الذي جاء به محمد‬
‫بن عبد الله ×‪.‬‬
‫ولكون الدولة اليرانية امتدت في العالم السلمي ناشرة‬
‫للعقائد الفاسدة في إفريقيا وآسيا وجمهوريات التحاد‬
‫السوفيتي والشمال الفريقي‪ ,‬وأوروبا وأستراليا وأمريكا‪,‬‬
‫ما ول‬ ‫وتأثر بها كثير من عوام المسلمين الذين ل يملكون فه ً‬
‫عا بحقيقة أمرهم‪ ,‬ومرمى أهدافهم‪ ,‬رأيت من‬ ‫ما ول اطل ً‬ ‫عل ً‬
‫المناسب أن أبين عقائد هذا القديس المزعوم »الخميني ومن‬
‫جاء بعده«‪ ,‬حتى نحذر الجيال من هذه المدرسة الشيطانية‬
‫التي نخرت بنيان المة‪ ,‬ول تزال تنخر دون كلل ول ملل‪.‬‬
‫ومن عقائد المام الخميني الفاسدة ما ذكره في كتابه‬
‫الحكومة السلمية‪» :‬وأن من ضروريات مذهبنا أن لئمتنا‬
‫ما ل يبلغه ملك مقرب‪ ,‬ول نبي مرسل«‪ ,‬وقد ورد عنهم‪:‬‬ ‫مقا ً‬
‫»أن لنا مع الله حالت ل يسعها ملك مقرب ول نبي‬
‫مرسل«)‪.(47‬‬

‫‪ () 47‬الحكومة السلمية للخميني ص )‪.(52‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪26‬‬
‫فهذا اعتراف واضح في كونه يفضل أئمة الثنى عشرية‬
‫على النبياء والرسل‪ ,‬وهذا مذهب غلة الروافض في حكم‬
‫كبار أئمة السنة‪.‬‬
‫يقول عبد الظاهر البغدادي )ت ‪429‬هـ(‪» :‬وزعمت الغلة‬
‫من الروافض أن الئمة أفضل من النبياء ونعلم أن هذا‬
‫باطل«)‪.(48‬‬
‫ويقول القاضي عياض )ت ‪544‬هـ(‪» :‬وكذلك نقطع بتكفير‬
‫غلة الروافض في قولهم‪ :‬إن الئمة أفضل من النبياء«)‪.(49‬‬
‫ويقول شيخ السلم ابن تيمية )ت ‪728‬هـ(‪» :‬والرافضة‬
‫تجعل الئمة الثنى عشرية أفضل من السابقين الولين من‬
‫المهاجرين والنصار وغلتهم يقولون‪ :‬إنهم أفضل من‬
‫النبياء«)‪.(50‬‬
‫ويقول محمد بن عبد الوهاب‪» :‬ومن اعتقد في غير النبياء‬
‫كونه أفضل منهم أو مساوًيا لهم فقد كفر‪ ,‬وقد نقل على ذلك‬
‫الجماع غير واحد من العلماء«)‪.(51‬‬
‫إن الخميني مرجعه في المعتقد والتصور الشيعي‪ ,‬شيوخه‬
‫الذين سبقوه وواضعو هذا المنهج المنحرف‪ ,‬فهو يعظم‬
‫ويقدس كتاب الكافي للكليني والحتجاج للطبرسي وغيرهما‪,‬‬
‫ويترحم في كتبه على المجوسي حسين النوري الطبرسي‬
‫صاحب كتاب »فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب‬
‫ي على صنمي‬ ‫الرباب«‪ ,‬وتجده يوثق كتاًبا حوى »دعاء عل ّ‬
‫قريش« وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‪ ,‬وفيه وصف‬
‫الشيخين اللذين حرفا كتابك)‪ ,(52‬وله تفسير باطني في بعض‬
‫دوا‬ ‫م َأن ت ُ َ‬
‫ؤ ّ‬ ‫مُرك ُ ْ‬
‫ه َيأ ُ‬ ‫اليات‪ ,‬مثل ً في َقوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ن الل َ‬
‫ها" ]النساء‪ .[58:‬فقد أمر الله الرسول ×‬ ‫ت إ َِلى أ ْ‬
‫هل ِ َ‬ ‫ماَنا ِ‬
‫ال َ‬
‫برد المامة إلى أهلها‪ ,‬وهو أمير المؤمنين‪ ,‬وعليه هو أن يردها‬
‫إلى من يليه وهكذا‪.(53) «...‬‬
‫وأما اعتقاده في الصحابة‪ :‬فإن معتقد الثنى عشرية‪ :‬ل‬
‫ولية إل بالبراءة من أعدائهم وهم أبو بكر وعمر رضي الله‬
‫)( أصول الدين‪ ,‬ص )‪.(298‬‬ ‫‪48‬‬
‫)( الشفاء )ج ‪.(1/290‬‬ ‫‪49‬‬
‫)( منهاج السنة )ج ‪.(1/177‬‬ ‫‪50‬‬
‫)( الرد على الرافضة ص )‪.(29‬‬ ‫‪51‬‬
‫)( مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة )ج ‪.(2/237‬‬ ‫‪52‬‬
‫)( مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة )ج ‪ .(2/237‬واستفدت من هذا‬ ‫‪53‬‬
‫الكتاب في هذا الفصل‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫عنهما ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫فالخميني يرى مشروعية التبرؤ من هؤلء الخيار والتولي‬
‫للثنى عشرية في الصلة‪ ,‬فيذكر أن المصلي يشرع له أن‬
‫يقول في سجوده‪» :‬السلم ديني‪ ,‬ومحمد نبيي‪ ,‬وعلي‬
‫والحسن والحسين –يعدهم إلى آخرهم‪ -‬أئمتي‪ ,‬بهم أتولى‬
‫ومن أعدائهم أتبرأ«)‪.(54‬‬
‫ويطعن في الصحابة لمخالفتهم النص المزعوم على إمامة‬
‫علي يقول‪» :‬وفي غدير خم في حجة الوداع عينه –يعني علّيا‪-‬‬
‫ما من بعده‪ ,‬ومن حينها بدأ الخلف يدب في‬ ‫النبي × حاك ً‬
‫نفوس القوم« ‪.‬‬
‫)‪(55‬‬

‫وكتابه الحكومة السلمية وغيره من كتبه مليئة بالنحراف‬


‫عن الصراط المستقيم‪ ,‬فالخميني ل يختلف في اعتقاده عن‬
‫طا‪ ,‬ونشط الخميني قبل‬‫وا وشط ً‬ ‫الرافضة إن لم يكن أشد غل ً‬
‫وفاته محاول ً بسط سلطان الشيعة على شعبه بالقوة‪ ,‬وقامت‬
‫دولته بتصدير الثورة كما يقولون‪ ,‬واعتمدت الشيعة على‬
‫المراوغة والكذب والتضليل‪ ,‬وهؤلء الجدد ل يختلفون عن‬
‫شيعة المس في المراوغة والكيد‪,‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫وفي الغلو أي ً‬
‫ويعتمدون على مبدأ التقية في جلب الناس حولهم‪ ,‬وإليك‬
‫ما قاله الخميني لتباعه في أحد خطاباته‪» :‬ل تبعدوا الناس‬
‫عنكم الواحد تلو الخر‪ ,‬ل تكيلوا التهم لهم بالوهابية تارة‪,‬‬
‫وبالكفر تارة أخرى‪ ,‬فمن يبقى حولكم إذا عمدتم إلى‬
‫ممارسة هذا السلوب؟« )‪.(56‬‬
‫ولهذا أمر الخميني الحجاج اليرانيين بأن يصلوا مع أهل‬
‫عا للناس‪ ,‬كما كان يفعل قادة الشيعة‪,‬‬ ‫السنة تقية منهم وخدا ً‬
‫حينما كانوا يصلون خلف أهل السنة أحياًنا ثم يعيدون صلتهم‬
‫بعد ذلك‪ ,‬كما صرح بهذا أحد علماء الشيعة المعاصرين‪ ,‬ولقد‬
‫صا أهل السنة في‬ ‫بلغ الحقد الشيعي على المسلمين‪ ,‬وخصو ً‬
‫عصرنا الحاضر إلى حد الستهتار بدماء المسلمين وأعراضهم‬
‫وتهديد أمنهم في بيوتهم‪ ,‬ولعل ما فعلوه في مكة في‬
‫‪1407‬هـ أقوى شاهد على حقدهم ونظرتهم للمخالفين لهم‪,‬‬
‫حينما تظاهر في حرم الله بمكة ما يقرب من مائة وخمسين‬

‫‪ () 54‬الخميني »تحرير الوسيلة« )ج ‪.(1/169‬‬


‫‪ () 55‬الحكومة السلمية ص )‪.(131‬‬
‫‪ () 56‬فرق معاصرة للعواجي )ج ‪.(1/262‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪28‬‬
‫فا منهم‪ ,‬وهجموا يريدون الكعبة‪ ,‬وتجمعوا في مظاهرات‬ ‫أل ً‬
‫غوغائية‪ ,‬وكانوا يهدفون إلى تحقيق مخطط رهيب رافعين‬
‫شعاراتهم وصور زعيمهم الخميني‪ ,‬وتقدموا رجال ً ونساًء‬
‫يريدون الحرم‪ ,‬لول أن الله تعالى بفضله ومنه أفشل‬
‫مخططهم وحيل بينهم وبين دخول الحرم‪ ,‬واشتبكوا مع‬
‫المسلمين والجنود وبقية الحجاج في مذبحة عظيمة‪ ,‬وأوعزوا‬
‫إلى أتباعهم وعملئهم في حج عام ‪1409‬هـ بعمل متفجرات‬
‫حول الحرم المكي الشريف في يوم ‪ 7‬من ذي الحجة وراح‬
‫ضحيتها حجاج أبرياء جاءوا لداء‬
‫فريضة الحج)‪.(57‬‬
‫وأما عن تعذيبهم لهل السنة في إيران فذكر عبد الله‬
‫عا‬
‫محمد الغريب في كتابه »أهل السنة في إيران« أنوا ً‬
‫وأشكال ً من التعذيب والتنكيل والقتل والغتصاب‪ ,‬وإليك بعض‬
‫أساليب الضطهاد والتعذيب والتقتيل التي اتخذها أولئك‬
‫الشرار تجاه أهل السنة في إيران‪:‬‬
‫‪ -1‬ربط الرجل بالحبال وضربها بالسلك‪.‬‬
‫‪ -2‬ربط اليدي من وراء‪ ,‬ووضع المسجون في زاوية من‬
‫السجن‪ ,‬وصب الماء أو النفط تحته‪ ,‬فعلوا هذا مع عدد من‬
‫المسلمين ‪.‬‬
‫‪ -3‬ربط المسجون وضربه في المواضع المختلفة من‬
‫جسده من عشر إلى مائة وخمسين ضربة‪ ,‬فإن مات فذلك‪,‬‬
‫ما‪.‬‬‫وإل فاستمروا على هذه الحالة مدة خمسة عشر يو ً‬
‫‪ -4‬يضعون المسجون في الصطبل ويتركونه إلى أن‬
‫يموت‪.‬‬
‫‪ -5‬ومن أنواع التعذيب سلخ جلد الرأس وثقبه وثقب العين‬
‫بالمثقب وإحراق السير حًيا وتقطيع العضاء وقلع الظفار)‪.(58‬‬
‫وهذا قليل من كثير‪ ,‬إنهم يبغضون الصحابة‪ ,‬ويشككون في‬
‫القرآن‪ ,‬ويطعنون في السنة‪ ,‬فماذا ننتظر منهم؟؟!‪.‬‬
‫هل يمكن التقريب بين أهل السنة والشيعة؟‬
‫إن كل محاولت التقريب بين السنة والشيعة باءت‬
‫بالفشل؛ لن الخلف بيننا وبينهم في الصول وليس في‬
‫الفروع‪.‬‬

‫‪ () 57‬المصدر السابق‪) ,‬ج ‪.(1/263‬‬


‫‪ () 58‬أهل السنة في إيران‪ ,‬ص )‪.(54‬‬
‫‪29‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫ولن يجتمع السنة والشيعة إل إذا تخلى أحد الطرفين عن‬
‫معتقده‪.‬‬
‫فإن علماء الشيعة يرون التقريب مع أهل السنة‪ ,‬عندما‬
‫يشتم أهل السنة الصحابة ويعتقدون معتقداتهم الباطلة‪ ,‬وهذا‬
‫ما خرج به الشيخ الدكتور مصطفى السباعي من تجربته في‬
‫هذا الموضوع مع أحد شيوخ الشيعة‪ ,‬واسمه عبد الحسين‬
‫شرف الدين الموسوي حيث إن الدكتور السباعي كان‬
‫سا لفكرة التقريب واتصل بسياسيين وأدباء وتجار‪,‬‬ ‫متحم ً‬
‫ما معسول وعلى رأسهم الشيخ الشيعي‬ ‫ً‬ ‫وأعطوه عهوًدا وكل ً‬
‫سا ومؤمًنا بها‪ ,‬وإذا بالشيخ‬
‫ً‬ ‫متحم‬ ‫كان‬ ‫عبد الحسين الذي‬
‫الموسوي يخرج كتاًبا في أبي هريرة ‪ ‬مليء بالسباب‬
‫والشتائم‪ ,‬بل انتهى فيه إلى القول‪» :‬بأن )أبا هريرة ‪ (‬كان‬
‫قا كافًرا وأن الرسول قد أخبر عنه بأنه من أهل‬ ‫مناف ً‬
‫النار« ‪.‬‬
‫)‪(59‬‬

‫يقول السباعي‪» :‬لقد عجبت من موقف عبد الحسين في‬


‫كلمه‪ ,‬وفي كتابه مًعا‪ ,‬ذلك الموقف الذي ل يدل على رغبة‬
‫صادقة في التقارب ونسيان الماضي«)‪.(60‬‬
‫وإن أهداف الشيعة من مسألة التقريب‪ :‬أن يفتح لهم‬
‫مجال لنشر عقائدهم في ديار السنة‪ ,‬وأن يستمروا في طعن‬
‫الصحابة الكرام‪ ,‬وأن يسكت أهل السنة عن بيان الحق‪ ,‬وإن‬
‫سمع الروافض صوت الحق يعلو ماجوا وهاجوا قائلين‪ :‬إن‬
‫الوحدة السلمية في خطر‪.‬‬
‫تجربة الشيخ موسى جار الله‪:‬‬
‫إن موسى جار الله من تركستان‪ ,‬قازاني روسي‪ ,‬وصل‬
‫إلى منصب شيخ مشايخ روسيا‪ ,‬كان في نهاية العهد‬
‫القيصري‪ ,‬وبداية الحكم السوفيتي الملحد‪ ,‬وكان صاحب‬
‫الكلمة الولى والخيرة في أمور مسلمي روسيا الذين كانوا‬
‫يزيدون على الثلثين مليون نسمة‪ ,‬ثم هب عليه إعصار‬
‫دا عن دياره وأهله‪ ,‬له تآليف ورسائل‬ ‫الشيوعية فأصبح بعي ً‬
‫وكتب‪ ,‬تنقل بين الهند والحجاز ومصر والعراق وإيران‪ ,‬قال‬
‫عن نفسه‪» :‬كان بوسعي أن أغدو كاتب روسيا الول وأحد‬
‫زعماء الطليعة فيها لو أنني تخليت عن إيماني‪ ,‬ولكنني آثرت‬
‫أن أشتري الخرة بالدنيا‪.(61) «....‬‬
‫‪ () 59‬السنة ومكانتها في التشريع للسباعي‪ ,‬ص)‪.(9‬‬
‫‪ () 60‬السنة ومكانتها في التشريع‪ ,‬ص)‪.(10‬‬
‫‪ () 61‬مسألة التقريب بين السنة والشيعة‪) ,‬ج ‪.(2/201‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪30‬‬
‫ملم بلغات منها الفارسية‪ ,‬والتركية‪,‬‬‫وهذا العالم الجليل ُ‬
‫والتترية‪ ,‬والروسية‪ ,‬وتضلع في اللغة العربية‪ ,‬وتعلم أصولها‬
‫وصرفها ونحوها وبيانها وقريضها‪ ,‬فل تكاد تذكر أمامه مادة‬
‫من مواد اللغة إل أجابك على الفور عما إذا كانت وردت في‬
‫القرآن أم ل‪ ,‬وكم مرة وردت وفي أي سورة‪ ,‬لنه مستظهر‬
‫أتم الستظهار«)‪.(62‬‬
‫فحاول هذا العالم الجليل أن يجمع شمل المة‪ ,‬وأن يوحد‬
‫أهل السنة والشيعة وبذل جهوًدا في هذا الجانب عظيمة‪ ,‬فبدأ‬
‫بدراسة كتب الشيعة وطالعها باهتمام كما يذكر أنه طالع‬
‫»أصول الكافي وفروعه« و »من ل يحضره الفقيه« وكتاب‬
‫»الوافي« و»مرآة العقول« و »بحار النوار« و»غاية المرام«‬
‫وكتًبا كثيرة غير‬
‫هذه الكتب)‪.(63‬‬
‫ثم زار ديار الشيعة‪ ,‬وعاش فيها أكثر من سبعة أشهر‪,‬‬
‫يزور معابدها ومشاهدها ومدارسها‪ ,‬ويحضر محافلها وحفلتها‬
‫في العزاء والمآتم‪ ,‬ويحضر حلقات الدروس في البيوت‬
‫والمساجد وصحونها‪ ,‬والمدارس وحجراتها‪ ,‬وأقام بالنجف أيام‬
‫المحرم‪ ,‬ورأى كل ما تأتي به الشيعة أيام العزاء ويوم‬
‫عاشوراء«‪.‬‬
‫وخرج هذا العالم الجليل بنتيجة علمية عملية وهي أن كتب‬
‫الشيعة قد أجمعت على أمور ل تتحملها المة‪ .‬واتفقت على‬
‫أشياء كثيرة ل يرتضيها الئمة ول تقتضيها مصلحة السلم‪,‬‬
‫وتناقض أكثر مصالح المة‪ ,‬ثم هي جازفت في مسائل كثيرة‬
‫منكرة مستبعدة ما كان ينبغي وجودها في كتب الشيعة‪ ,‬ول‬
‫يظن بالئمة اعتقادها«)‪ .(64‬ول يتحملها العقل والدب ودعوى‬
‫الئتلف وليست إل كيًرا ينفخ في ضرم العداء‪ .‬وكلمة التوحيد‬
‫توجب اليوم على مجتهدي الشيعة نزع تلك‬
‫العقائد من الكتب لتجتث جذورها من القلوب‪ ..‬وإل فإن‬
‫الكلمات هراء وأثر المؤتمرات عداء)‪.(65‬‬
‫فرأى الشيخ ببصيرته النافذة وعلمه الغزير أن نقد عقائد‬
‫الشيعة هو أول مرحلة من تأليف قلوب المة‪ ,‬ل تأليف‬
‫بدونها)‪.(66‬‬
‫مجلة المجمع العلمي العربي )ج ‪.(4/266‬‬ ‫)(‬ ‫‪62‬‬
‫مسألة التقريب بين السنة والشيعة‪) ,‬ج ‪.(2/201‬‬ ‫)(‬ ‫‪63‬‬
‫الوشيعة في نقد عقائد الشيعة‪ ,‬ص)‪.(20‬‬ ‫)(‬ ‫‪64‬‬
‫مسألة التقريب )ج ‪.(2/203‬‬ ‫)(‬ ‫‪65‬‬
‫الوشيعة‪ ,‬ص)‪.(17‬‬ ‫)(‬ ‫‪66‬‬
‫‪31‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫ما ً مما رآه من منكرات في كتب‬ ‫وقد امتل الشيخ حسرة وأل‬
‫الشيعة وواقعها‪ ,‬وكان أول مساعيه في التقريب لقاؤه مع شيخ‬
‫الشيعة محسن المين في طهران‪ ,‬وجرى بينهما بعض الحديث‪,‬‬
‫ثم قدم له الشيخ موسى ورقة صغيرة كتب فيها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أرى المساجد في بلد الشيعة متروكة مهملة وصلة‬
‫الجماعة فيها غير قائمة‪ ,‬والوقات غير مرعية‪ ,‬والجمعة‬
‫ما‪ ,‬وأرى المشاهد والقبور عندكم معبودة‪ ,‬ما‬ ‫متروكة تما ً‬
‫أسباب كل هذا؟‪.‬‬
‫‪ -2‬لم أر فيكم ل بين الولد‪ ,‬ول بين الطلبة‪ ,‬ول بين‬
‫العلماء من يحفظ القرآن‪ ,‬ول من يقيم تلوته‪ ,‬ول من يجيد‬
‫قراءته‪ ,‬أرى القرآن عندكم مهجوًرا‪ ,‬ما سبب سقوط البلد‬
‫إلى هذا الدرك السفل من الهجر والهمال‪ ,‬أليس عليكم أن‬
‫تهتموا بإقامة القرآن الكريم في مكاتبكم ومدارسكم‬
‫ومساجدكم؟‬
‫‪ -3‬أرى ابتذال النساء وحرمات السلم في شوارع مدنكم‬
‫دا ل يمكن أن يراه النسان في غير بلدكم‪.‬‬ ‫بلغ ح ّ‬
‫وكان تاريخ تلك الرسالة ‪26/8/1934‬م ثم أرسل رسالة‬
‫إلى علماء النجف‪ ,‬وأرسل الرسالة نفسها إلى علماء‬
‫الكاظمية‪.‬‬
‫فكتب فيها‪» :‬أقدم هذه المسائل لساتذة النجف الشرف‬
‫بيد الحترام‪ ,‬بأمل الستفادة‪ ,‬بقلب سليم صادق‪ ,‬كله رغبة‬
‫في تأليف قلوب عالمي السلم)‪ (67‬الشيعة المامية الطائفة‬
‫المحقة –يعني على زعمهم)‪ -(68‬وعامة أهل السنة والجماعة‬
‫راجًيا إجابة الساتذة جميًعا أو فرادى‪ ,‬كل ببيانه البليغ‪ ,‬وبتوقيع‬
‫دا بخاتمه ومهره«‪ .‬ثم أورد في الرسالة ما في كتب‬ ‫يده مؤك ً‬
‫الشيعة من أمور منكرة مشيًرا إلى أرقام الصفحات في كل‬
‫ما يذكره‪ ,‬فذكر عدة قضايا خطيرة في كتب الشيعة تحول‬
‫بين المة والئتلف مثل‪:‬‬
‫‪ -1‬تكفير الصحابة‪.‬‬
‫‪ -2‬اللعنات على العصر الول‪.‬‬
‫‪ -3‬تحريف القرآن الكريم‪.‬‬
‫حكومات الدول السلمية وقضاتها وكل علمائها طواغيت‬ ‫‪-4‬‬

‫‪ () 67‬انظر‪ :‬مسألة التقريب )‪.(2/203‬‬


‫‪ () 68‬انظر‪ :‬الوشيعة ص )‪.(17‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪32‬‬
‫في كتب الشيعة‪.‬‬
‫‪ -5‬كل الفرق السلمية كافرة ملعونة خالدة في النار إل‬
‫الشيعة‪.‬‬
‫‪ -6‬الجهاد في كتب الشيعة مع غير المام المفترض طاعته‬
‫حرام مثل حرمة الميتة وحرمة الخنزير‪ ,‬ول شهيد إل‬
‫للشيعة‪ ,‬والشيعي شهيد ولو مات على فراشه‪ ,‬والذين‬
‫يقاتلون في سبيل الله من غير الشيعة فالويل‬
‫يتعجلون‪.‬‬
‫ثم قال الشيخ بعدما نقل شواهد هذه المسائل من كتب‬
‫الشيعة المعتمدة مخاطًبا شيوخ الشيعة‪ :‬هذه ست من‬
‫المسائل‪ ,‬عقيدة الشيعة فيها يقين‪ ,‬فهل يبقى في توحيد‬
‫كلمة المسلمين في عالم السلم أمل وهذه عقيدة الشيعة؟‪.‬‬
‫وهل يبقى بعد هذه المسألة‪ ,‬وبعد هذه العقيدة‪ ,‬لكلمة‬
‫التوحيد في قلوب أهليها من أثر‪ ,‬وهل يمكن أن يكون للمم‬
‫السلمية‪ ,‬ولهم هذه العقيدة‪ ,‬في سبيل غلبة السلم في‬
‫مستقبل اليام من سعي؟‪.‬‬
‫وذكر غير ذلك من المسائل‪ ,‬في انحراف الشيعة ثم قال‪:‬‬
‫»فتفضلوا أيها الساتذة السادة بالفادة حتى يتوحد السلم‬
‫وتجتمع كلمة المسلمين حول كتاب الله المبين« فانتظر‬
‫الشيخ سنة وزيادة‪ ,‬ولم يسمع جواًبا من أحد إل من كبير‬
‫مجتهدي الشيعة بالبصرة‪ ,‬قد قام بوظيفته وتفضل على بكل‬
‫أجوبته في كتاب تزيد صفحاته على تسعين‪ ,‬وما كان كتابه إل‬
‫طعًنا في العصر الول‪ ,‬وكان طعنه أشد من كتب الشيعة‪ ,‬ثم‬
‫كتب الشيخ موسى جار الله كتابه القيم وسماه »الوشيعة في‬
‫نقد عقائد الشيعة« ويقول‪ :‬إنني أدافع بذلك عن شرف المة‬
‫ي وعلى كل‬ ‫‪(69‬الدين‪ ,‬وأقضي به حقوق العصر الول عل ّ‬ ‫وحرمة‬
‫المة) ‪.‬‬
‫وتوفى هذا الشيخ الجليل بمصر سنة ‪ 1369‬هـ فعليه من‬
‫الله الرحمة والرضوان وجمعنا به مع النبيين والصديقين‬
‫والشهداء والصالحين‪.‬‬
‫وتعمدت هذا الطناب لخطورة الدعوة الشيعية في العصر‬
‫الحديث‪ ,‬حيث إنها تحالفت مع النصيرية في سوريا‪ ,‬ومع‬
‫حزب أمل الشيعي في لبنان‪ ,‬وتحالفت سًرا مع اليهود‬
‫‪ () 69‬انظر‪ :‬الوشيعة ص )‪ .(39‬ومن أفضل ما قرأت في مسألة التقريب رسالة‬
‫جامعية اسمها‪ :‬مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫والنصارى للقضاء على هذه المة العظيمة‪ ,‬كما أنني طالعت‬
‫اهتمامهم البالغ بالشمال الفريقي وغربه وحرصهم على‬
‫إيصال نفوذهم إليه‪ ,‬والعمل على إرجاع ركامهم القديم‪.‬‬
‫ونجحوا في المغرب‪ ,‬وجندوا شباًبا في الجزائر‪ ,‬وأثروا في‬
‫تونس‪ ,‬وتحالفوا مع ليبيا في أهدافهم الستراتيجية في حرب‬
‫العراق‪.‬‬
‫بل تأكدت وجود مجموعات ل يستهان بها من أبناء الشمال‬
‫الفريقي في إيران للتتلمذ على يد شيوخهم والرجوع‬
‫بأفكارهم المسمومة إلى بلد الفاتحين العظام مراعين في‬
‫ذلك السرية والتدرج ودقة التنظيم‪.‬‬
‫واستغلوا الحداث الدامية في الجزائر بين الحكومة‬
‫وإخواننا المسلمين‪ ,‬فأظهر العلم اليراني عطفه وتأييده‬
‫للحركة السلمية في الجزائر‪ ,‬فتأثر كثير من إخواننا بهذا‬
‫العلم المزيف الماكر الخادع‪.‬‬
‫ومن أراد من أبناء الصحوة أن يوسع مداركه وثقافته في‬
‫هذا الباب فليراجع ما كتبه الشيخ سعيد حوي –رحمه الله‪-‬‬
‫»الخمينية شذوذ في العقائد والمواقف« وما كتبه أحمد عبد‬
‫العزيز الحمدان »ما يجب أن يعرفه المسلم عن عقائد‬
‫الروافض المامية«‪.‬‬
‫ث ل َ يعل َمون ‪ُ ‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬‫مِلي ل َ ُ‬‫وأ ْ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ َ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬
‫هم ّ‬ ‫ج ُ‬
‫ر ُ‬‫ست َدْ ِ‬‫سن َ ْ‬‫‪َ +‬‬
‫ن" ]القلم‪.[45،44 :‬‬‫مِتي ٌ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ك َي ْ ِ‬
‫إِ ّ‬
‫ثالًثا‪ :‬الشيعة السماعيلية‬
‫بعد موت المام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة‬
‫إلى فرقتين‪:‬‬
‫ساقت المامة إلى ابنه موسى الكاظم‪ ,‬وهؤلء هم‬ ‫فرقة‪:‬‬
‫الشيعة الثنى عشرية‪.‬‬
‫وفرقة‪ :‬نفت عنه المامة‪ ,‬وقالت‪ :‬إن المام بعد جعفر‪ ,‬هو‬
‫ابنه إسماعيل‪ ,‬وهذه الفرقة عرفت بالشيعة السماعيلية‪.‬‬
‫قال عبد القاهر البغدادي في شأن السماعيلية‪» :‬وهؤلء‬
‫ساقوا المامة على جعفر وزعموا أن المام بعده ابنه‬
‫إسماعيل«)‪.(70‬‬
‫وقال الشهرستاني‪» :‬السماعيلية امتازت عن الموسوية‬
‫‪ () 70‬الفرق بين الفرق ص ‪.62‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪34‬‬
‫وعن الثنى عشرية بإثبات المامة لسماعيل بن جعفر وهو‬
‫ابنه الكبر المنصوص عليه في بدء المر«‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه –أم‬
‫إسماعيل‪ -‬بواحدة من النساء‪ ,‬ول تسرى بجارية كسنة رسول‬
‫الله × في حق خديجة رضي الله عنها‪ ,‬وكسنة علي ‪ ‬في‬
‫حق فاطمة رضي الله عنها«)‪.(71‬‬
‫فالسماعيلية إحدى فرق الشيعة‪ ,‬وهي تنسب إلى‬
‫إسماعيل بن جعفر الصادق‪ ,‬ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير‬
‫لقب »السماعيلية« منها‪ :‬الباطنية‪ ,‬وإنما أطلق عليهم هذا‬
‫اللقب لقولهم بأن لكل ظاهر باطًنا‪ ,‬ولكل تنزيل تأوي ً‬
‫ل‪,‬‬
‫ويطلق عليهم القرامطة‪ ,‬وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلد‬
‫العراق‪ ,‬ويطلق عليهم في خراسان »التعليمية والملحدة«‪,‬‬
‫وهم ل يحبون أن يعرفوا بهذه السماء‪ ,‬وإنما يقولون‪ :‬نحن‬
‫السماعيلية لنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا السم«)‪.(72‬‬
‫أ‪ -‬خطر المذهب الباطني على المة‪:‬‬
‫اعلم أخي الكريم أن المذهب الباطني من السباب التي‬
‫أضعفت المة‪ ,‬وأنهكت قواها‪ ,‬لقد أدخل أهله عقائد فاسدة‬
‫مبنية على الفلسفة القديمة‪ ,‬والصول اللحادية‪ ,‬فخدعوا‬
‫ضعاف العقول‪ ,‬والذين ل حظ لهم من المنهج الرباني القويم‪,‬‬
‫وتحالفوا مع النصارى والتتار ضد السلم والمسلمين‪ .‬وعندما‬
‫قوت شوكتهم وأقاموا دولة البحرين فعلوا ما تقشعر منه‬
‫الجلود‪ ,‬وتشيب منه الرؤوس من قتل وسفك ونهب‬
‫واغتصاب‪.‬‬
‫بل تجرؤوا على حجيج بيت الله الحرام‪ ,‬ففعل أبو طاهر‬
‫الجنابي بالحجيج أفاعيل قبيحة‪ ,‬فدفن منهم في بئر زمزم‬
‫الكثير‪ ,‬ودفن كثيًرا منهم في أماكنهم من الحرم‪ ,‬وفي‬
‫المسجد الحرام‪.‬‬
‫وعندما أقاموا دولتهم في الشمال الفريقي أظهروا‬
‫عقائدهم الفاسدة‪ ,‬وقتلوا العلماء‪ ,‬وأذلوا أهل السنة‪ ,‬وهذا ما‬
‫سوف نعرفه؛ لنه من صميم البحث‪.‬‬
‫إن العلمة البغدادي أوجز عداوة الفرق الباطنية للسلم‬
‫والمسلمين فقال‪» :‬اعلموا ‪-‬أسعدكم الله‪ -‬أن ضرر الباطنية‬

‫‪ () 71‬الملل والنحل )‪.(1/191‬‬


‫‪ () 72‬المصدر السابق )‪.(1/192‬‬
‫‪35‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى‬
‫والمجوس‪ ,‬بل وأعظم من الدهرية وسائر أصناف الكفرة‬
‫عليهم‪ ,‬بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر آخر الزمان؛‬
‫لن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور‬
‫دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال من وقت‬
‫ما‪,‬‬
‫أربعين( يو ً‬ ‫ظهوره؛ لن فتنة الدجال ل تزيد مدتها عن‬
‫وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر« ‪.‬‬
‫)‪73‬‬

‫وذكر ابن كثير أعمالهم التي قادها أبو طاهر الجنابي‬


‫الباطني حين وصل مكة فقال‪» :‬فانتهب أموالهم واستباح‬
‫قتالهم‪ ,‬فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام‬
‫قا كثيًرا‪ ,‬وجلس أميرهم أبو‬ ‫وفي جوف الكعبة من الحجاج خل ً‬
‫طاهر ‪-‬لعنه الله‪ -‬على باب الكعبة والرجال تصرع حوله‪,‬‬
‫والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام‪ ,‬في الشهر‬
‫الحرام‪ ,‬في يوم التروية الذي هو من أشرف اليام وهو يقول‪:‬‬
‫أنــا أخلــق الخــلق‬ ‫أنـــا اللـــه وباللــــه أنــا‬
‫وأفنيـهم أنـا‬
‫فكان الناس يفرون منهم‪ ,‬فيتعلقون بأستار الكعبة‪ ,‬فل‬
‫يجدي ذلك عنهم شيًئا‪ ,‬بل يقتلون وهم كذلك‪ ,‬ويطوفون‬
‫فيقتلون وهم في الطواف‪ ..‬إلى أن قال‪» :‬فلما قضى‬
‫القرمطي ‪-‬لعنه الله‪ -‬أمره‪ ,‬وفعل ما فعل بالحجيج من‬
‫الفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم‪ ,‬ودفن‬
‫كثيًرا منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام‪,‬‬
‫وهدم قبة زمزم‪ ,‬وأمر بقلع باب الكعبة‪ ,‬ونزع كسوتها عنها‬
‫وشققها بين أصحابه‪ ,(74) «....‬وقد حدد بعض العلماء عدد من‬
‫فا)‪ (75‬وكان‬
‫قتل بثلثة عشر ألف نسمة وقيل‪ :‬زهاء الثلثين أل ً‬
‫ذلك سنة ‪317‬هـ‪.‬‬
‫وأما متى ظهر مذهب الباطنية فاختلف العلماء في ذلك‪,‬‬
‫فبعضهم قال سنة ‪205‬هـ‪ ,‬والبعض الخر يرى سنة ‪ 250‬هـ‪,‬‬
‫ونتيجة للسرية المفروضة على أتباع هذا المذهب يتعذر‬
‫التحديد الدقيق لزمن ظهورهم‪ ,‬وإن كانت أقوال العلماء‬
‫تترجح ما بين سنة ‪200‬هـ‪ ,‬أي بعد انتشار السلم وإعزاز‬
‫أهله‪ ,‬وانطفاء نار المجوسية واندحار اليهودية‪ ,‬واندثار الصنام‬
‫‪ () 73‬الفرق بين الفرق ص )‪.(382‬‬
‫‪ () 74‬البداية والنهاية )ج ‪.(11/160‬‬
‫‪ () 75‬كشف أسرار الباطنية ص )‪ ,(39‬سير أعلم النبلء )‪.(15/321‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪36‬‬
‫الوثنية‪ ,‬وانهزام المة الصليبية‪ ,‬فأكل الحسد قلوب الخارجين‬
‫عن السلم من هذه المم المهزومة‪ ,‬وبدؤوا يخططون في‬
‫الخفاء بطريقة ينفسون فيها عن أحقادهم للطعن في السلم‬
‫وأهله‪ ,‬ورفع راية‬
‫الشيطان وحزبه‪ ,‬فاتخذوا لهذا الهدف الدنيء عدة أقنعة‬
‫تستروا بها لتحقيق ما يهدفون إليه منها‪:‬‬
‫‪ -1‬اعتمادهم على تأويل النصوص تأويلت تنافي ما يقرره‬
‫السلم ويأمر به‪.‬‬
‫‪ -2‬إظهار مذهب التشيع لعلمهم بأن مذهب التشيع يحتمل‬
‫كلمهم‪ ,‬إذ لم يجدوا مدخل ً إلى السلم إل من جهة إظهار‬
‫التشيع والنتساب إلى المذهب الشيعي‪ ,‬وقد تم تأسيس هذا‬
‫المذهب فيما يذكر الغزالي كما يلي‪» :‬تم في اجتماع لقوم‬
‫من أولد المجوس والمزدكية من الثنوية الملحدين‪ ,‬وطائفة‬
‫كبيرة من ملحدة الفلسفة المتقدمين –زاد الديلمي‪ -‬وبقايا‬
‫الخرمية واليهود‪ ..‬جمعهم نادو شنو)‪ (76‬في حيلة يدفعون بها‬
‫دا غلب علينا‪ ,‬وأبطل ديننا‪ ,‬واتفق له‬ ‫السلم« وقالوا‪ :‬إن محم ً‬
‫من العوان ما ل نقدر على مقابلتهم‪ ,‬ول مطمع لنا في نزع‬
‫ما في أيدي المسلمين من المملكة بالسيف والحرب‪ ,‬لقوة‬
‫شوكتهم وكثرة جنودهم‪ ,‬وكذلك ل مطمع لنا فيهم من قبيل‬
‫المناظرة لما فيهم من العلماء والفضلء والمتكلمين‬
‫والمحققين‪ ,‬فلم يبق إل اللجوء إلى الحيل والدسائس‪ ,‬ثم‬
‫اتفقوا على وضع حيل وخطط مدروسة يسيرون عليها‬
‫لتحقيق أهدافهم‪.‬‬
‫ومن وسائلهم في تحقيق الهداف الدخول على المسلمين‬
‫عن طريق التشيع‪ ,‬وعلى مذهب الرافضة‪ ,‬وإن كان هؤلء‬
‫ضا على ضلل‪ ,‬إل أنهم رأوهم‬ ‫الباطنيون يعتبرون الروافض أي ً‬
‫ل‪ ,‬وأسخفهم رأًيا‪,‬‬‫‪-‬علىحد ما ذكر الغزالي‪ -‬أقل الناس عقو ً‬
‫وألينهم عريكة لقبول المحالت‪ ,‬وأطوعهم للتصديق بالكاذيب‬
‫المزخرفات)‪ ,(77‬وأكثر الناس قبول ً لما يلقى عليهم من‬
‫الروايات الواهية الكاذبة‪ ,‬فتستروا بالنتساب إليهم ظاهًرا‬
‫للوصول إلى إضعاف الناس‪ ,‬فكان ظاهرهم الرفض‪ ,‬وباطنهم‬
‫الكفر المحض‪ ,‬كما ذكر الغزالي )‪ ,(78‬أوكما قال بعض العلماء‪:‬‬
‫إن المامية دهليز الباطنية‪ ..‬وهذا هو التفسير المعقول لما‬

‫‪ () 76‬انظر‪ :‬فضائح الباطنية ص )‪ ,(20-18‬وبيان مذهب الباطنية وبطلنه ص )‪.(19‬‬


‫‪ () 77‬فضائح الباطنية ص )‪.(19‬‬
‫‪ () 78‬المصدر السابق ص )‪.(37‬‬
‫‪37‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫نلحظ من التقارب الشديد بين الباطنية والرافضة)‪.(79‬‬
‫وقال ابن كثير في حوادث سنة )‪278‬هـ(‪ :‬وفيها تحركت‬
‫القرامطة‪ ,‬وهم فرقة من الزنادقة الملحدة أتباع الفلسفة‬
‫من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت مزدك‪ ,‬وكانوا‬
‫يبيحون المحرمات‪ ,‬ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل‪,‬‬
‫وأكثر ما ينقادون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من‬
‫جهتهم؛ لنهم أقل‬
‫الناس عقول ً ويقال لهم‪ :‬السماعيلية لنتسابهم إلى إسماعيل‬
‫العرج ابن‬
‫جعفر الصادق ‪.‬‬
‫)‪(80‬‬

‫ب‪ -‬عقائد الباطنية الفاسدة‪:‬‬


‫ضا‬
‫إن المتتبع لخبار الباطنية وفرقهم ومذاهبهم يلحظ تناق ً‬
‫حا‪ ,‬ويرجع ذلك إلى أهل هذه الفرقة الباطنية الخبيثة إذ‬ ‫واض ً‬
‫أرادوا ذلك لكي تتضارب القوال فيهم عند الناس‪ ,‬وبذلك‬
‫ينفون ما يريدون‪ ,‬ويثبتون ما يريدون‪ ,‬وأصل مذهبهم كله‬
‫مبني على الكذب والحيل والخداع‪ ,‬كما أن مذهبهم ل يقوم‬
‫إلى على هذا التلون الكثير؛ ولذلك قال الغزالي‪» :‬والذي‬
‫قدمناه في جملة مذهبهم يقتضي –ل محالة‪ -‬أن يكون النقل‬
‫فا مضطرًبا‪ ,‬فإنهم ل يخاطبون الخلق بمسلك‬ ‫عنهم مختل ً‬
‫واحد‪ ,‬بل غرضهم الستتباع والحتيال‪ ,‬فلذلك تختلف كلماتهم‬
‫ويتفاوت نقل المذهب عنهم«)‪.(81‬‬
‫ولذلك يتضح للدارس أن عقائد الباطنية عبارة عن‬
‫مجموعة من أفكار منحرفة من مذاهب متفرقة‪ ,‬كلها تخبط‬
‫واضطراب واختلف‪ ,‬وأحياًنا يستدلون بأحاديث موضوعة‬
‫ويحرفون اليات عن مدلولها ومرادها‪.‬‬
‫وترجع عقائدهم إلى عدة نقاط منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إنكار وجود الله‪.‬‬
‫‪ -2‬جحد أسمائه وصفاته‪.‬‬
‫‪ -3‬تحريف شرائع النبيين والمرسلين‪.‬‬
‫‪ -4‬ويسترشدون في ذلك كله بالتشيع لل البيت أو‬
‫‪ () 79‬انظر‪ :‬فرق معاصرة للعواجي‪) ,‬ج ‪.(1/280‬‬
‫‪ () 80‬البداية والنهاية )ج ‪.(11/61‬‬
‫‪ () 81‬فضائح الباطنية ص )‪.(38‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪38‬‬
‫بزعمهم التجديد والتقديم ولهم مقدرة عجيبة في وضع‬
‫الشعارات والكاذيب‪.‬‬
‫والموضوع أوسع من ذلك‪ ,‬ومن الكتب النافعة في هذا‬
‫الباب فضائح الباطنية للغزالي‪ ,‬وفرق معاصرة للعواجي‪.‬‬
‫***‬
‫‪39‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬

‫المبحث الثالث‬
‫داعية الباطنية في الشمال الفريقي‬
‫أبو عبد الله الشيعي‬
‫وقع الختيار على اليمن لكي تكون مركًزا لدعوة الشيعة‬
‫السماعيلية لبعدها عن أنظار الدولة العباسية‪ ,‬ومن هناك‬
‫بدؤوا في إعداد القوة العسكرية السرية التي هي عدتهم في‬
‫المستقبل‪ ,‬وتسلم القيادة في اليمن رجل يدعى رستم بن‬
‫حوشب الذي استطاع أن يستقطب بعض الفرس المعادين‬
‫للمسلمين‪ ,‬إل أن ابن حوشب رأى أن أرض المغرب خصبة‬
‫للبذور الشيعية‪ ,‬فأرسل من اليمن رجلين من أنصاره هما‬
‫»سفيان والحلواني« إلى طرابلس وتونس لنشر المذهب‬
‫الشيعي‪ ,‬واستطاعا أن يتوغل بأفكارهما في قبائل البرانس‬
‫ذات القوة والشكيمة والعدة والعتاد‪ ,‬والتي تتطلع إلى إقامة‬
‫دولة في المغرب على نهج الدارسة في المغرب القصى‪,‬‬
‫والغالبة الذين عاصمتهم تونس‪.‬‬
‫ومن بين الذين اختارهم ابن حوشب في اليمن‪ :‬أبو عبد‬
‫الله الشيعي حسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من‬
‫أهل صنعاء‪ ,‬وكان قد وقع اختيار ابن حوشب على هذا الرجل‬
‫لما لمس فيه من صفات قيادية بارزة من علم وذكاء ومقدرة‬
‫في التعامل مع الناس‪ ,‬ويعتبر أبو عبد الله الشيعي اليماني‬
‫الصنعاني المؤسس الفعلي لدولة العبيديين الرافضية‬
‫السماعيلية في المغرب‪ ,‬فأرسله ابن حوشب بعد موت‬
‫الحلواني وأبي سفيان الداعيتين بالمغرب‪ ,‬وقال له‪» :‬إن‬
‫أرض كتامة في بلد‬
‫المغرب قد حرثها الحلواني وسفيان‪ ,‬وقد ماتا‪ ,‬وليس لك‬
‫غيرها فبادر فإنها موطأة ممهدة لك«)‪.(82‬‬
‫وفي ما بين ‪288‬هـ إلى ‪289‬هـ وصل أبو عبد الله الشيعي‬
‫الرجل الداهية المراوغ الماكر صاحب الحيل العجيبة إلى‬
‫مكة‪ ,‬وبحث عن وفود المغاربة التي جاءت للحج واستطاع أن‬
‫يتعرف على حجيج كتامة‪ ,‬وتقرب إليهم بما أظهره لهم من‬
‫زهد وفقه وعلم‪ ,‬وتمكن هذا الداعية من قلوب الشيوخ‬
‫ما إياهم أنه يريد مصر لتعليم‬
‫الكتاميين‪ ,‬ورجع معهم موه ً‬
‫الولد القرآن‪ ,‬وعرضوا عليه الذهاب معهم إلى المغرب‪,‬‬
‫‪ () 82‬انظر‪ :‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪ (2/57‬للدكتور عبد الفتاح الغنيمي‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪40‬‬
‫فأظهر عدم الرغبة‪ ,‬ثم بسياسته الماكرة لبى طلبهم ونزل‬
‫في القيروان ليبحث عن مواطن الضعف في دولة الغالبة‪,‬‬
‫ويجمع المعلومات لمعرفة أقوى القبائل‪ ,‬وما هي الوسائل‬
‫النافعة للدخول في بلد المغرب‪ ,‬وبعد أن أيقن أن أقوى‬
‫القبائل في المغرب هي الكتامية قرر الذهاب إلى بلدة تسمى‬
‫»إيكجان« وهي بلدة في جبل وعر‪ ,‬وعرف أنها منازل قبيلة‬
‫»سكتاتة« التي هي بطن من بطون كتامة)‪ ,(83‬ونهج في حياته‬
‫نهج المعلم المؤدب الورع‪ ,‬وسلك سلوك الزهد والعفاف حتى‬
‫تملك قلوبهم‪ ,‬واشتهر صيته‪ ,‬وأقبلت عليه القبائل البربرية‬
‫وتصدى لتعليمهم وتفقيههم المذهب الشيعي‪ ,‬ثم دخل في‬
‫المور السياسية ونظام الحكم ودور السلم في الحكم‬
‫بالشورى‪ ,‬وفضل العلويين وأحقيتهم في الحكم‪.‬‬
‫وبسبب الظلم الذي مارسته دولة الغالبة على الناس‬
‫استجابت بعض القبائل للداعية الشيعي الذي رأوا فيه المخلص‬
‫وبدأ الصدام مع الغالبة‪ ,‬وانتقل أبو عبد الله الشيعي إلى حصن‬
‫منيع في جبال الوراس في بلدة »تازروت« ومن هناك كان‬
‫يوجه الضربات المتتالية لدولة الغالبة‪ ,‬واعتمد في ذلك على‬
‫فضح الغالبة ونشر ظلمهم‪ ,‬وبيان أن حكمهم خارج عن السلم‬
‫وشريعة الرحمن‪ ,‬وأثار الحقاد القديمة بين الدولة الغلبية‬
‫وبعض القبائل‪ ,‬وأعطى عهودا ً ومواثيق لرجال وزعماء كتامة أن‬
‫المستقبل والدولة والتمكن لهم‪ ,‬فخضعت له القبائل وتوالت‬
‫المدن في السقوط‪ ,‬وغنم غنائم عظيمة واشتد حماس أتباعه‪,‬‬
‫وساعده على ذلك انحلل وضعف دولة الغالبة وانغماسهم في‬
‫الترف‪ ,‬وتذمر الناس من المراء ومن ظلمهم‪ ,‬وأظهر أبو عبد‬
‫الله من الحزم والشجاعة والمقدرة السياسية والكفاءة‬
‫العسكرية ما جعله ثقة لمن حوله من القادة والجنود‪ ,‬فأعطاه‬
‫را ً بأن الوقت حان لكشف دعوته بأن يدعو للرضى‬ ‫ذلك شعو‬
‫من آل البيت النبوي الذي سيظهر عن قريب وتولى أمور‬
‫الحكم‪.‬‬
‫واستطاع أبو عبد الله الشيعي أن يستولي على جميع‬
‫النقط الحربية ما بين حصنه في جبال الوراس حتى عاصمة‬
‫الغالبة‪.‬‬
‫وفي أوائل جمادى الولى عام ‪296‬هـ‪909/‬م سقطت‬
‫مدينة الريس في يد قوات أبي عبد الله الشيعي‪ ,‬وهذه‬
‫المدينة هي مفتاح دخول القيروان العاصمة السياسية للبلد‪,‬‬
‫‪ () 83‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪.(2/56‬‬
‫‪41‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫فعجل زيادة الله الخير بالرحيل إلى مصر في جمادى الخرة‬
‫عام ‪296‬هـ‪ ,‬ودخل أبو عبد الله الشيعي القيروان)‪.(84‬‬
‫وأعلن أبو عبد الله إثر هذا النصر الحاسم على الغالبة أن‬
‫المام الحقيقي للمسلمين هو عبيد الله المهدي وأنه قريًبا‬
‫سيصل إلى بلد المغرب ويظهر العدل والمساواة‪ ,‬فانضم إليه‬
‫بعض قواد الغالبة‪ ,‬وأصبح جيشه مائتي ألف مقاتل لكي‬
‫يدافعوا عن المذهب الشيعي السماعيلي والدولة الجديدة‪,‬‬
‫ومعلوم من دراسة التاريخ أن النتصارات تستحوذ على عوام‬
‫الناس ويظنون أن المنتصر على الحق‪ ,‬ومع الشاعة الشيعية‬
‫القوية والنتصارات الملموسة وإيمان الناس بالمهدي‬
‫المنتظر‪ ,‬أصبح الناس قادة وجنوًدا ل رأي لهم‪ ,‬ول عقل‪ ,‬بل‬
‫مثل اللت في التنفيذ‪ ,‬وحاول أبو عبد الله الشيعي أن يعتمد‬
‫في نشر مذهبه بالدعاية والمناظرة لقناع علماء السنة‬
‫والجماعة من أمثال عثمان بن سعيد الحداد‪ ,‬إل أنه أسقط‬
‫في يديه عندما أقاموا الحجة عليه وعلى دعاته‪ ,‬ولذلك اضطر‬
‫أخو أبي عبد الله الشيعي »أبو العباس« أن يستخدم القوة‬
‫لقلع مذهب أهل السنة والجماعة من عاصمة الشمال‬
‫الفريقي‪ ,‬فمارس مع علماء أهل السنة أصناف العنف‬
‫والشدة والتعذيب وضربوا الفقهاء بالسياط وقطعوا ألسنة‬
‫بعضهم‪ ,‬وضربوا الرقاب‪ ,‬وقطعوا أجزاء الجسم إلى عدة‬
‫أجزاء‪ ,‬وصلبوا الفقهاء‪ ,‬وصادروا الموال‪ ,‬وبطحوا الناس على‬
‫ظهورهم وأمروا عبيدهم بأن يدوسوهم بالقدام‪ .‬واشتد‬
‫الصراع المذهبي‪ ,‬وهز الدولة الوليدة فتدخل الداهية أبو عبد‬
‫ما للصراع وعزل‬ ‫الله الشيعي ومنع المناظرة والمجادلة حس ً‬
‫أخاه عن ولية القيروان‪.‬‬
‫ونجح أبو عبد الله الشيعي في تثبيت دعائم الحكم في‬
‫صا سيدهم‬ ‫القيروان بواسطة زعماء قبيلة كتامة وخصو ً‬
‫ومطاعهم »غزوية بن يوسف« وأخاه وبقية قومه‪ ,‬وأرسل‬
‫إلى عبيد الله المهدي وابنه القاسم للمجئ إلى القيروان‪,‬‬
‫وشد عبيد الله من الشام رحله »من مدينة سلمية« إلى‬
‫مصر‪ ,‬ثم برقة‪ ,‬ثم طرابلس متخفًيا في ثياب التجار‪ ,‬ولفقت‬
‫قصص عجيبة في نجاته من ولة الدولة العباسية‪ ,‬ووقع في‬
‫أسر بني مدرار أمراء سجلماسة)‪.(85‬‬
‫واستطاع أبو عبد الله الشيعي الصنعاني في ‪297‬هـ‪/‬‬

‫‪ () 84‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪.(2/60‬‬


‫‪ () 85‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪.(2/65‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪42‬‬
‫ما حطم به دولة بني مدرار وخلص‬ ‫شا ضخ ً‬ ‫‪910‬م أن يجهز جي ً‬
‫عبيد الله المهدي وابنه من السجن‪ ,‬وفي طريق عودته مر‬
‫الجيش بتاهرت وأزال دولة بني رستم في عام ‪297‬هـ‪910/‬م‬
‫وأصبح المغرب الوسط إلى تلمسان دولة عبيدية‪.‬‬
‫وتولى عبيد الله المهدي الذي أعلن قيام الدولة الفاطمية‬
‫التي نسبها إلى فاطمة الزهراء بنت رسول الله × لخداع‬
‫الناس وتضليلهم‪.‬‬
‫وبدأت الدولة الفاطمية المزعومة تسعى للقضاء على‬
‫صا بعد أن تمكنوا من القضاء على دولة‬ ‫الخلفة العباسية خصو ً‬
‫بني مدرار في سجلماسة‪ ,‬ودولة رستم في تاهرت‪ ,‬ودولة‬
‫الغالبة في إفريقية »تونس«‪.‬‬
‫وكانت بيعة عبيد الله المهدي في القيروان عام ‪297‬هـ‪/‬‬
‫‪910‬م وانتهت ولية أبي عبد الله الشيعي بعد أن دامت عشر‬
‫سنوات على قول بعض المؤرخين)‪.(86‬‬
‫وكطبيعة الثورات تخلص عبيد الله المهدي من أبي عبد‬
‫الله الشيعي وأخيه أبي العباس وغزوية بن يوسف بمؤامرات‬
‫متتالية وكل من كان من أنصارهم‪.‬‬
‫ضا في دراسة التاريخ القديم والحديث‪ ,‬وهو‬ ‫وهذا ملحظ أي ً‬
‫أن الصدقاء والرفقاء الذين ل تقوى لهم‪ ,‬وإنما تجمعهم‬
‫ضا‪ ,‬وهذا حدث في‬ ‫فون بعضهم بع ً‬ ‫مصالح ومبادئ فاسدة يص ّ‬
‫الثورة الفرنسية ‪1879‬م‪ ,‬والثورة الجزائرية‪ ,‬والثورة‬
‫ما وحديًثا‪.‬‬ ‫السورية‪ ,‬والمصرية‪ ,‬والليبية‪ ,‬والعراقية‪ ,‬وهكذا قدي ً‬
‫وظهر لي أن ذلك سنة من سنن الله الجارية في‬
‫ك‬‫وك َذَل ِ َ‬‫ما سلطه الله عليه« ‪َ +‬‬ ‫المجتمعات »من أعان ظال ً‬
‫ن" ]النعام‪:‬‬ ‫سُبو َ‬‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬
‫ما َ‬ ‫ضا ب ِ َ‬
‫ع ً‬ ‫ن بَ ْ‬
‫مي َ‬ ‫ض ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ع َ‬‫وّلي ب َ ْ‬
‫نُ َ‬
‫‪.[129‬‬
‫وذكر المؤرخون أن الخلف وقع بين عبيد الله المهدي‪,‬‬
‫وأبي عبد الله الشيعي على الموال التي استأثر بها النزق‬
‫الكاذب عبيد الله المهدي‪ ,‬وبعضهم يرى أن أبا عبد الله‬
‫الشيعي شك في عبيد الله المهدي بأنه ليس المهدي‬
‫المنتظر‪.‬‬
‫وصاحب موسوعة المغرب العربي الدكتور عبد الفتاح‬

‫‪ () 86‬المرجع السابق ص )‪.(70‬‬


‫‪43‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫مقلد الغنيمي ذكر السببين)‪ (87‬ولم يرجح‪ ,‬ثم إنه دافع عن‬
‫نسب العبيديين وأنه في رأيه يرجع إلى فاطمة الزهراء‪ ,‬وشن‬
‫حملة على من طعن في نسب العبيديين ونسبهم إلى اليهود‪,‬‬
‫أو إلى المجوس‪ ,‬واتهمهم أنهم موالون للخلفة العباسية في‬
‫بغداد أو الموية في الندلس وأن الخلفتين شنتا حملة شعواء‬
‫على النسب العبيدي‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬إن ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪ -‬الذي نقل أقوال العلماء‬
‫في البداية والنهاية في الطعن في النسب العبيدي أقوى‬
‫دا‪ ,‬وأعرف بحقائق الدول ومؤسسيها‪ ,‬وعرف‬ ‫حجة‪ ,‬وأمتن سن ً‬
‫بالصدق والمانة المتناهية‪ ,‬وكلمه واضح في البداية والنهاية‪,‬‬
‫وأما ابن الثير فلم يجزم ومال إلى إثبات النسب بدون‬
‫تصريح‪ ,‬وذلك في »الكامل في التاريخ«)‪ (88‬وهو معروف‬
‫بميوله الشيعية‪ ,‬وابن تيمية في الفتاوى يؤكد ويصرح على‬
‫عدم ثبات النسب الفاطمي‪ ,‬وإليك شهادة المؤرخ القدير ابن‬
‫خلكان حيث قال‪» :‬والمحققون ينكرون دعواه في النسب‪,‬‬
‫وينصون على أن هؤلء المنتسبين بالفاطميين أدعياء‪ ,‬وأنهم‬
‫من أصل يهودي من سلمية بالشام‪ ,‬وأن والده لقب بالقداح‪,‬‬
‫لنه كان كحال ً يقدح العيون‪ ,‬وقد هلك عبيد الله سنة ‪322‬هـ‪,‬‬
‫وتمكن حفيده المعز من الستيلء على مصر‪ ,‬واستمر ملك‬
‫العبيديين نحو قرنين من الزمان إلى أن قضى عليهم بطل‬
‫السلم صلح الدين اليوبي في سنة ‪564‬هـ‪ ,‬وأزال منها كل‬
‫آثار العبيديين‪ ,‬وقطع شرورهم عن الناس وأراح الله العباد‬
‫منهم«)‪.(89‬‬
‫وعلى كل حال فأعمالهم وعقائدهم تدل على أن أبناء‬
‫المسلمين من السللة النبوية الشريفة وعلماءهم البرار‬
‫الطهار وفقهاءهم الخيار برآء من هذه القوال الشنيعة‪,‬‬
‫والفعال القبيحة‪ ,‬وأنا شخصًيا أميل إلى أن أبا عبد الله‬
‫الشيعي اتضح له أن عبيد الله المهدي رجل طامع في الملك‬
‫والجاه‪ ,‬ومستبد ويسعى لمجده‪ ,‬وشعر أبو عبيد الله ببعده‬
‫عن مكانته فعمل على الخلص منه‪ ,‬عندما حاول إقناع من‬
‫حوله بأنه ليس هذا هو الذي يحدثهم عنه‪ ,‬إل أن عبيد الله‬
‫المهدي كان أسرع منه فتخلص الخير من خصومه‪ ,‬وأما عن‬
‫نسبه فالحق الواضح البين أن عبيد الله المهدي دعي في‬
‫نسبه‪ ,‬ول صلة له بأهل البيت‪ ,‬وهذا ما سنبرهن عليه في‬
‫‪ () 87‬انظر‪ :‬موسوعة المغرب العربي ص )‪.(70‬‬
‫‪ () 88‬انظر‪ :‬الكامل في التاريخ )ج ‪ (5/11‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ () 89‬فرق معاصرة )ج ‪.(1/289‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪44‬‬
‫ترجمته إن شاء الله‪.‬‬
‫***‬
‫‪45‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬

‫المبحث الرابع‬
‫عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي الول‬
‫)‪322 -297‬هـ‪934 -910 /‬م(‬
‫ذكر المام الذهبي ترجمة لعبيد الله المهدي في سير‬
‫أعلم النبلء فقال‪:‬‬
‫»عبيد الله أبو محمد أول من قام من الخلفاء الخوارج‬
‫العبيدية الباطنية الذين قلبوا السلم‪ ,‬وأعلنوا بالرفض‪,‬‬
‫وأبطنوا مذهب السماعيلية وبثوا الدعاة يستغوون الجبلية‬
‫والجهلة«)‪.(90‬‬
‫وذكر ما قيل عنه في نسبه ثم قال‪ :‬والمحققون على أنه‬
‫دعي بحيث إن المعز منهم لما سأله السيد ابن طباطبا عن‬
‫مة من‬‫دا أخرجه لك‪ ,‬ثم أصبح وقد ألقى ع َُر َ‬
‫نسبه‪ ,‬قال‪ :‬غ ً‬
‫الذهب‪ ,‬ثم جذب نصف سيفه من غمده‪ ,‬فقال‪ :‬هذا نسبي‪,‬‬
‫وأمرهم بنهب الذهب‪ ,‬وقال‪ :‬وهذا حسبي)‪ .(91‬أما مفتي الديار‬
‫الليبية ‪-‬رحمه الله‪ -‬الشيخ طاهر الزاوي فقد قال في ترجمة‬
‫عبيد الله المهدي‪» :‬هو مؤسس الدولة العبيدية وأول حاكم‬
‫فيها‪ ,‬وهو عراقي الصل‪ ,‬ولد في الكوفة سنة ‪260‬هـ‪ ,‬واختبأ‬
‫في بلدة سلمية بؤرة السماعيلية الباطنية في شمال الشام‪.‬‬
‫سلمية كان يعرف باسم‬ ‫ومن يوم أن ولد إلى أن استقر في َ‬
‫سعيد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح‪.‬‬
‫وفي منطقة سلمية مقر السماعيلية مات علي بن حسن‬
‫بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق‪ ,‬وأقام له‬
‫السماعيلية مزارات سرية‪ ,‬وقرروا نقل المامة من ذرية‬
‫إسماعيل بن جعفر الصادق إلى ابنهم بالنكاح الروحي)‪ ,(92‬ثم‬
‫قال‪» :‬هذا أصل عبيد الله المهدي‪ ,‬وهذا أصل العبيديين‬
‫المنسوبين إليه«‪.‬‬
‫وقد خالفهم في نسبتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق‬
‫جميع المسلمين في المغرب وفي كل مكان‪ ,‬وفي مقدمة‬
‫الذين أنكروا عليهم هذا النسب الشراف العلويون‪ ,‬وإنما هم‬
‫منسوبون إلى سعيد بن أحمد القداح الذين ادعوا أنه ابن‬
‫إسماعيل بن جعفر الصادق من طريق النكاح الروحي الذي‬
‫فا‪.‬‬
‫ذكرناه آن ً‬
‫‪ () 90‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/141‬‬
‫‪ () 91‬المصدر السابق )ج ‪.(15/142‬‬
‫‪ () 92‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا ص )‪.(253‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪46‬‬
‫وبعد أن تخلص عبيد الله المهدي من خصومه أراد أن‬
‫ينشر مذهبه في القيروان‪ ,‬ومن ثم الشمال الفريقي‪ ,‬ولكن‬
‫طلئع علماء أهل السنة والجماعة نابذوه العداء‪ ,‬وأقنعوا‬
‫الناس بأن دولة العبيديين كفرية بعيدة عن الشريعة‬
‫السلمية‪ ,‬وحدث بين العبيديين وأهل السنة حروب طاحنة‬
‫فانتقل عبيد الله المهدي إلى المهدية بعد أن بذل في بنائها‬
‫وتحصينها أموال ً طائلة‪ ,‬إل أن شعور الستقرار والطمئنان‬
‫جانب العبيديين في الشمال الفريقي لضراوة المقاومة التي‬
‫قادها علماء أهل السنة ضدهم‪ ,‬فأخضع المدن بقوة السلح‪,‬‬
‫وفكر في النتقال إلى مصر‪ ,‬وأرسل عدة حملت إليها إل أنها‬
‫فشلت أمام جيوش العباسيين التي قادها »مؤنس الخادم«‪.‬‬
‫وكانت أشد هذه الحملت خطًرا على مصر الحملة التي‬
‫كانت في عام ‪321‬هـ‪ ,‬واستطاع العباسيون صد هذه الحملة‬
‫بفضل جهود »محمد الخشيدي«)‪.(93‬‬
‫واستمر عبيد الله في حكمه إلى أن هلك في عام ‪322‬هـ‬
‫سا وعشرين سنة‬ ‫اثنتان وستون سنة‪ ,‬وكانت دولته خم ً‬ ‫وله‬
‫وأشهر)‪.(94‬‬
‫وبهذا نلحظ أن قبائل المصاميد وكتامة التفت حول الدعوة‬
‫العبيدية لظنهم أنه هو المهدي المنتظر‪ ,‬ونجد في التاريخ‬
‫السلمي كثيًرا من الثورات والدول التي قامت واعتمدت‬
‫على هذا المعتقد‪ .‬فرأيت من المناسب والمهم في بناء‬
‫السياج العقائدي الصحيح على أصول أهل السنة والجماعة‬
‫في هذه المسألة أن أبين معتقد أهل السنة في قضية المهدي‬
‫المنتظر‪ ,‬حتى يسهل على الناس كشف الدجالين الفاكين‪,‬‬
‫وسأجعل معتقد أهل السنة في المهدي عقب انتهاء ترجمة‬
‫العبيدي‪.‬‬
‫كما نجد أن عبيد الله المهدي اعتمد على ادعائه على هذه‬
‫الدعوى‪ ,‬حتى بعد أن استطاع أبو عبد الله الشيعي أن يزعزع‬
‫ثقة البرابرة فيه ذهب إليه كبير كتامة وقال لعبيد الله‬
‫المهدي‪ :‬قد شككنا فيك‪ ,‬فائت بآية‪ ,‬فأجاب بأجوبة قبلها عقله‬
‫وقال‪ :‬إنكم تيقنتم‪ ,‬واليقين ل يزول إل بيقين ل بشك‪.‬‬
‫وكانت المسائل التشكيكية في المهدي التي طرحها أبو‬
‫عبد الله الشيعي على زعماء كتامة من أن المام يعلم المور‬

‫‪ () 93‬موسوعة تاريخ المغرب )ج ‪.(2/76‬‬


‫‪ () 94‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/151‬‬
‫‪47‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫قبل وقوعها‪ ,‬وهذا قد دخل معه بولدين‪ ,‬ونص أن المر في‬
‫ما‪ ,‬فلما سأل كبير‬ ‫الصغير بعده‪ ,‬ومات الولد بعد عشرين يو ً‬
‫زعماء كتامة عبيد الله المهدي عن الطفل قال عبيد الله‬
‫المهدي‪ :‬إن الطفل لم يمت‪ ,‬وإنه إمامك‪ ,‬وإنما الئمة‬
‫ينتقلون‪ ,‬وقد انتقل لصلح جهة أخرى‪ ,‬قال كبير زعماء‬
‫كتامة‪ :‬آمنت‪.‬‬
‫وقال أبو عبد الله الشيعي‪ :‬إن المام ل يلبس الحرير‬
‫والذهب‪ ,‬وهذا قد لبسهما‪ .‬وليس له أن يطأ إل ما تحقق‬
‫أمره‪ ,‬وهذا قد وطئ نساء زيادة الله التغلبي‪ ,‬يعني عبيد الله‬
‫المهدي‪ ,‬فلما سأل كبير كتامة عبيد الله المهدي فأجاب‪ :‬أنا‬
‫نائب الشرع أحلل لنفسي ما أريد‪ ,‬وكل الموال‪ ,‬وزيادة الله‬
‫كان عاصًيا)‪.(95‬‬
‫والمقصود في نقلي هذا اعتماد الدجالين على استخفاف‬
‫عقول الناس وتغريرهم لجهلهم‪ ,‬واعتمادهم على معتقدات‬
‫في الئمة من تعظيم آل البيت واليمان بالمهدي المنتظر‪,‬‬
‫وغير ذلك‪ ,‬فالمقام مناسب لبيان عقيدة أهل السنة في‬
‫المهدي المنتظر‪.‬‬
‫***‬

‫‪ () 95‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/146‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪48‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي‬
‫بينت الحاديث الصحيحة أن الله تعالى يخرج في آخر‬
‫الزمان رجل ً من أهل البيت يؤيد الله به الدين‪ ,‬يملك سبع‬
‫ما‪ ,‬تنعم‬ ‫ما‪ ,‬كما ملئت جوًرا وظل ً‬ ‫سنين يمل الرض عدل ً وسل ً‬
‫ما لم تنعمها قط‪ ,‬وتخرج الرض نباتها‪,‬‬ ‫المة في عهده نع ً‬
‫وتمطر السماء قطرها‪ ,‬ويعطى المال بغير عدد‪.‬‬
‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه الله تعالى‪» :-‬في زمانه تكون الثمار‬
‫كثيرة‪ ,‬والزروع غزيرة‪ ,‬والمال وافر‪ ,‬والسلطان قاهر‪ ,‬والدين‬
‫قائم‪ ,‬والعدو راغم‪ ,‬والخير في أيامه دائم«)‪.(96‬‬
‫اسمه وصفته‪:‬‬
‫وهذا الرجل اسمه كاسم رسول الله ×‪ ,‬واسم أبيه كاسم‬
‫أبي النبي ×‪ ,‬فيكون اسمه محمد أو أحمد بن عبد الله‪ ,‬وهو‬
‫من ذرية فاطمة بنت رسول الله × ثم من ولد الحسن بن‬
‫علي رضي الله عنهما‪.‬‬
‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪ -‬في المهدي‪» :‬وهو محمد بن‬
‫عبد الله العلوي الفاطمي الحسني ‪ .(97)«‬وصفته الواردة‪:‬‬
‫»أنه أجلى الجبهة‪ ,‬أقنى النف«)‪.(98‬‬
‫مكان خروجه‪:‬‬
‫يكون ظهور المهدي من قبل المشرق‪ ,‬فقد جاء في‬
‫الحديث عن ثوبان ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬يقتل عند‬
‫كنزكم ثلثة‪ :‬كلهم ابن خليفة‪ ,‬ثم تطلع الرايات السود من‬
‫قبل المشرق‪ ,‬فيقتلونكم قتل ً لم يقتله قوم‪ «...‬ثم ذكر شيًئا ل‬
‫وا على الثلج‪,‬‬ ‫رأيتموه‪ ,‬فبايعوه‪ ,‬ولو حب ً‬ ‫أحفظه‪ ..‬فقال‪» :‬فإذا‬
‫فإنه خليفة الله المهدي« )‪.(99‬‬
‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪» :-‬والمراد بالكنز المذكور في‬
‫هذا السياق كنز الكعبة‪ ,‬يقتتل عنده ليأخذه ثلثة من أولء‬
‫الخلفاء‪ ,‬حتى يكون آخر الزمان‪ ,‬فيخرج المهدي‪ ,‬ويكون‬

‫‪ * 96‬جل مبحث المهدي المنتظر اختصرته من كتاب أشراط الساعة‪ ,‬وهو رسالة‬
‫ماجستير ليوسف الوابل‪.‬‬
‫)‪ (2‬النهاية‪:‬‬ ‫)( النهاية‪ ,‬الفتن والملحم‪) ,‬ج ‪ ,(1/31‬تحقيق د‪ .‬طه زيني‪.‬‬
‫الفتن والملحم )ج ‪.(1/29‬‬ ‫‪97‬‬

‫‪ () 98‬الجلى‪ :‬الخفيف شعر ما بين النزعتين من الصدغين‪ ,‬والذي انحسر الشعر‬


‫عن جبهته‪.‬‬
‫‪ () 99‬أخرجه ابن ماجه‪ ,‬كتاب الفتن‪ ,‬باب خروج المهدي )ج ‪ ,(2/1367‬ومستدرك‬
‫الحاكم )‪ (4/464‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫ظهوره من بلد المشرق« ل من سرداب سامراء‪ ,‬كما يزعم‬
‫جهلة الرافضة من أنه موجود فيه إلى الن‪ ,‬وهم ينتظرون‬
‫خروجه في آخر الزمان‪ ,‬فإن هذا نوع من الهذيان‪ ,‬وقسط‬
‫كبير من الخذلن شديد من الشيطان‪ ,‬إذ ل دليل على ذلك‪,‬‬
‫ول برهان‪ ,‬ل من كتاب‪ ,‬ول من سنة‪ ,‬ول معقول صحيح‪ ,‬ول‬
‫استحسان‪ ..‬إلى أن قال‪» :‬ويؤيد بناس من أهل المشرق‬
‫ينصرونه‪ ,‬ويقيمون سلطانه‪ ,‬ويشيدون أركانه‪ ,‬وتكون راياتهم‬
‫ضا وهو زي عليه الوقار؛ لن راية رسول الله × كانت‬ ‫سوًدا أي ً‬
‫سوداء يقال لها‪» :‬العقاب«‪.‬‬
‫إلى أن قال‪» :‬والمقصود أن المهدي الممدوح الموعود‬
‫بجوده في آخر الزمان يكون أصل ظهوره وخروجه من ناحية‬
‫المشرق‪ ,‬ويبايع له عند البيت‪ ,‬كما دلت على ذلك بعض‬
‫الحاديث«)‪.(100‬‬
‫‪ -2‬وذكر المام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ‪‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم‬
‫وإمامكم منكم؟!« )‪.(101‬‬
‫‪ -3‬وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‪ :‬سمعت‬
‫رسول الله × يقول‪» :‬ل تزال طائفة من أمتي يقاتلون على‬
‫الحق ظاهرين إلى يوم القيامة« إلى أن قال‪» :‬فينزل عيسى‬
‫ل بنا فيقول‪:‬‬‫ابن مريم عليه السلم‪ ,‬فيقول أميرهم‪ :‬تعال ص ّ‬
‫ل‪ ,‬إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه المة«)‪.(102‬‬
‫والحاديث التي وردت في الصحيحين تدل على أمرين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلم من‬
‫السماء يكون المتولي لمرة المسلمين رجل منهم‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن حضور أميرهم للصلة‪ ,‬وصلته للمسلمين‪,‬‬
‫وطلبه من عيسى عليه السلم عند نزوله أن يتقدم ليصلي‬
‫لهم يدل على صلح هذا المير وهداه‪.‬‬
‫وجاءت الحاديث في السنن والمسانيد وغيرهما مفسرة‬
‫لهذه الحاديث التي في الصحيحين‪ ,‬ودالة على أن ذلك الرجل‬
‫الصالح يسمى‪ :‬محمد بن عبد الله‪ ,‬ويقال له المهدي‪ ,‬والسنة‬
‫ضا‪.‬‬
‫يفسر بعضها بع ً‬
‫‪ -1‬فعن أبي سعيد الخدري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫‪ ()100‬النهاية‪ ,‬الفتن والملحم )ج ‪.(1/31‬‬
‫‪ ()101‬صحيح البخاري‪ ,‬كتاب أحاديث النبياء‪ ,‬باب نزول عيسى ابن مريم عليه‬
‫السلم )ج ‪ (6/491‬مع الفتح‪.‬‬
‫‪ ()102‬صحيح مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب نزول عيسى )ج ‪ (2/193‬مع شرح النووي‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪50‬‬
‫»منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه« )‪.(103‬‬
‫‪ -2‬وعن جابر ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬ينزل‬
‫عيسى ابن مريم‪ ,‬فيقول أميرهم المهدي‪ :‬تعال‬
‫ل بنا‪ ,‬فيقول‪ :‬ل‪ ,‬إن بعضهم أمير بعض‪ ,‬تكرمة‬ ‫ص ّ‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(104‬‬
‫الله هذه المة«‬
‫‪ -3‬وعن أبي سعيد الخدري ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫»المهدي مني أجلى الجبهة‪ ,‬أقنى النف‪ ,‬يمل‬
‫ما وجوًرا يملك‬ ‫ملئت ظل ً‬ ‫وعدل ً كما ُ‬ ‫طا‬‫الرض قس ً‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(105‬‬
‫سبع سنين«‬
‫ل‪ :‬تواتر أحاديث المهدي‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬قال الشوكاني‪» :‬الحاديث في تواتر ما جاء في‬
‫المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون‬
‫حديًثا‪ ,‬فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر‪ ,‬وهي‬
‫متواترة في جميع الصطلحات المحررة في الصول‪ ,‬وأما‬
‫ضا‪ ,‬إذ ل‬
‫الثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي‪ ,‬فهي كثيرة أي ً‬
‫مجال للجتهاد في مثل ذلك«)‪.(106‬‬
‫‪ -2‬قال صديق حسن خان‪» :‬الحاديث الواردة في المهدي‬
‫دا‪ ,‬تبلغ حد التواتر المعنوي‪,‬‬‫على اختلف رواياتها كثيرة ج ً‬
‫وهي في السنن وغيرها من دواوين السلم من المعاجم‬
‫والمسانيد«)‪.(107‬‬
‫‪ -3‬وقال الشيخ محمد بن جعفر الكتاني‪» :‬والحاصل أن‬
‫الحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة‪ ,‬وكذا الواردة‬
‫في الدجال‪ ,‬وفي نزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه‬
‫السلم«)‪.(108‬‬
‫كت ًفي المهدي بالضافة إلى كتب‬ ‫وأما العلماء الذين صنفوا با‬
‫الحديث المشهورة‪ ,‬كالسنن الربعة‪ ,‬والمسانيد‪» ,‬مسند أحمد«‪,‬‬
‫و»مسند البزار«‪ ,‬و»مسند أبي يعلي« و»مسند الحارث بن أبي‬
‫أسامة« و »مستدرك الحاكم« و»مصنف ابن أبي شيبة«‬

‫‪ ()103‬رواه أبو نعيم في »أخبار المهدي« صححه الشيخ اللباني رحمه الله صحيح‬
‫الجامع الصغير )‪.(5/7170‬‬
‫‪» ()104‬المنار المنيف« لبن القيم‪ ,‬ص )‪.(148 ،147‬‬
‫‪ ()105‬سنن أبي داود‪ ,‬كتاب المهدي‪) ,‬ج ‪ (11/375‬رقم )‪.(4265‬‬
‫‪ ()106‬التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدحال والمسيح‪.‬‬
‫‪ ()107‬الذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ص )‪.(112‬‬
‫‪ ()108‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر‪ ,‬ص)‪.(147‬‬
‫‪51‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫و»صحيح ابن خزيمة« وغيرها من المصنفات)‪ (109‬التي ذكرت‬
‫فيها أحاديث المهدي فإن طائفة من العلماء أفردوا في المهدي‬
‫عا كبيرا ً من الحاديث الواردة‬ ‫المنتظر مؤلفات ذكروا فيها جم ً‬
‫فيه‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬المنكرون لحاديث المهدي والرد عليهم‪:‬‬
‫ومما يؤسف له أن طائفة من الك ُّتاب من أمثال الشيخ‬
‫محمد رشيد رضا‪ ,‬في تفسير المنار وصف أحاديث المهدي‬
‫بالتناقض والبطلن‪ ,‬وأن المهدي ليس إل أسطورة اخترعها‬
‫الشيعة‪ ,‬ثم دخلت كتب أهل السنة)‪.(110‬‬
‫وممن أنكر أحاديث المهدي صاحب »دائرة معارف القرن‬
‫العشرين«)‪ (111‬محمد فريد وجدي‪ ,‬وسار على نفس الخط‬
‫أحمد أمين في كتابه ضحى السلم‪.‬‬
‫ويبدو أن هؤلء الك ُّتاب تأثروا بما ذكره المؤرخ ابن خلدون‬
‫من تضعيفه لحاديث المهدي‪ ,‬مع العلم أن ابن خلدون ليس‬
‫من فرسان هذا الميدان حتى يقبل قوله في التصحيح‬
‫والتضعيف‪ ,‬ومع هذا فقد قال – بعد أن استعرض كثيًرا من‬
‫أحاديث المهدي وطعن في كثير من أسانيدها‪» :-‬فهذه جملة‬
‫الحاديث التي خرجها الئمة في شأن المهدي‪ ,‬وخروجه آخر‬
‫الزمان‪ ,‬وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إل القليل أو‬
‫القل منه«)‪.(112‬‬
‫قا على قول‬ ‫قال يوسف الوابل في أشراط الساعة تعلي ً‬
‫ابن خلدون‪» :‬ونقول‪:‬‬
‫لو صح حديث واحد‪ ,‬لكفى به حجة في شأن المهدي‪ ,‬كيف‬
‫والحاديث فيه صحيحة متواترة«)‪.(113‬‬
‫قال الشيخ أحمد شاكر رًدا على ابن خلدون‪» :‬إن ابن‬
‫دم على التعديل‪,‬‬ ‫خلدون لم يحسن قول المحدثين‪ :‬الجرح مق ّ‬
‫ولو اطلع على أقوالهم وفقهها‪ ,‬ما قال شيًئا مما قال‪ ,‬وقد‬
‫يكون قرأ وعرف‪ ,‬ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي بما‬
‫غلب عليه من الرأي السياسي في عصره«)‪ .(114‬ثم بين أن ما‬
‫كتبه ابن خلدون في هذا الفصل عن المهدي مملوء بالغاليط‬
‫في أسماء الرجال ونقل العلل‪ ,‬واعتذر عنه بأن ذلك قد يكون‬
‫عقيدة أهل السنة والثر في المهدي المنتظر للعباد‪ ,‬ص )‪.(168-166‬‬ ‫‪()109‬‬
‫تفسير المنار )ج ‪.(504-9/499‬‬ ‫‪()110‬‬
‫دائرة معارف القرن العشرين‪) ,‬ج ‪.(10/480‬‬ ‫‪()111‬‬
‫مقدمة ابن خلدون )ج ‪.(1/574‬‬ ‫‪()112‬‬
‫أشراط الساعة للوابل‪ ,‬ص)‪.(267‬‬ ‫‪()113‬‬
‫تعليق أحمد شاكر على مسند المام أحمد )ج ‪.(198 ،5/197‬‬ ‫‪()114‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪52‬‬
‫من الناسخين‪ ,‬وإهمال المصححين‪.‬‬
‫وما ذهب إليه محمد رشيد رضا وابن خلدون ومحمد فريد‬
‫با‪ ً ,‬وإنما الحجة في كتاب الله وسنة‬ ‫‪-‬رحمهم الله‪ -‬ليس صوا‬
‫رسوله ‪×,‬والروايات المذكورة في خروج المهدي صحيحة‬
‫معنو ًوهذا يكفي‪ ,‬وأما كون الحاديث قد دخلها كثير‬ ‫متواترة يا‪,‬‬
‫من السرائيليات‪ ,‬وأن بعضها من وضع الشيعة وغيرهم من أهل‬
‫العصبيات‪ ,‬فهذا صحيح‪ ,‬ولكن أئمة الحديث بينوا الصحيح من‬
‫نفوا الكتب في الموضوعات وبيان الروايات الضعيفة‪,‬‬ ‫غيره‪ ,‬وص ّ‬
‫ووضعوا قواعد دقيقة في الحكم على الرجال‪ ,‬حتى لم يبق‬
‫صاحب بدعة أو كذاب إل وأظهروا أمره‪ ,‬فحفظ الله السنة من‬
‫عبث العابثين وتحريف الغالين‪ ,‬وانتحال المبطلين‪ ,‬وهذا من‬
‫حفظ الله لهذا الدين‪.‬‬
‫وإذا كانت هناك روايات موضوعة في المهدي تعصًبا فإن‬
‫ذلك ل يجعلنا نترك ما صح من الروايات فيه‪ ,‬والروايات‬
‫الصحيحة جاء فيها ذكر صفته واسمه واسم أبيه‪ ,‬فإن عّين‬
‫صا‪ ,‬وزعم أنه هو المهدي‪ ,‬دون أن يساعده على‬ ‫إنسان شخ ً‬
‫ذلك ما جاء من الحاديث الصحيحة‪ ,‬فإن ذلك ل يؤدي إلى‬
‫إنكار المهدي على ما في الحديث‪ ,‬ثم إن المهدي الحقيقي ل‬
‫يحتاج إلى أن يدعو له أحد‪ ,‬بل يظهره الله إلى الناس إذا‬
‫شاء‪ ,‬ويعرفونه بعلمات تدل عليه‪.‬‬
‫وأما دعوى التعارض‪ ,‬فقد نشأت عن الروايات التي لم‬
‫تصح‪ ,‬وأما الحاديث الصحيحة‪ ,‬فل تعارض فيها والحمد لله‪.‬‬
‫ضا‪ ,‬فإن خلف الشيعة مع أهل السنة ل ُيعتد ّ به‪,‬‬ ‫وأي ً‬
‫والحكم العدل هو الكتاب والسنة الصحيحة‪ ,‬وأما خرافات‬
‫الشيعة وأباطيلهم‪ ,‬فل يجوز أن تكون عمدة ُيرد بها ما ثبت‬
‫من حديث رسول الله ×)‪.(115‬‬
‫قال العلمة ابن القيم في كلمه عن المهدي‪» :‬وأما الرافضة‬
‫المامية‪ ,‬فلهم قول رابع‪ ,‬وهو‪ :‬أن المهدي هو محمد بن الحسن‬
‫العسكري المنتظر‪ ,‬من ولد الحسين بن علي ل من ولد الحسن‪,‬‬
‫الحاضر في المصار الغائب عن البصار‪ ,‬الذي يورث العصا‪,‬‬
‫را من أكثر من‬ ‫ويختم الفضا‪ ,‬دخل سرداب سامراء طفل ً صغي ً‬
‫يحس فيه بخبر ول‬ ‫خمسمائة سنة‪ ,‬فلم تره بعد ذلك عين‪ ,‬ولم ُ‬
‫أثر‪ ,‬وهم ينتظرونه كل يوم !! ويقفون بالخيل على باب‬
‫السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم‪ :‬اخرج يا مولنا! اخرج يا‬

‫‪ ()115‬انظر‪ :‬أشراط الساعة‪ ,‬ص)‪. (267‬‬


‫‪53‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الول‬
‫مولنا! ثم يرجعون بالخيبة والحرمان‪ ,‬فهذا دأبهم ودأبه‪ ,‬ولقد‬
‫أحسن من قال‪:‬‬
‫كلمتموه بجهلكم ما آنا؟‬ ‫ما آن للسرداب أن يلد‬
‫الذي‬
‫ثلثتم العنقاء والغيلنا‬ ‫فعلى عقولكم العفاء‬
‫فإنكم‬
‫ولقد أصبح هؤلء عاًرا على بني آدم وضحكة يسخر منها‬
‫كل عاقل«)‪.(116‬‬
‫وإلى هنا يكفي اليضاح في بيان حقيقة المهدي عند أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ,‬وبذلك يتضح للقارئ الكريم الميزان الصحيح‬
‫في دعوة كل مدٍع للمهدية‪.‬‬
‫إن من أسباب الكارثة الكبرى التي وقعت في قبائل‬
‫الشمال الفريقي هي جهلهم بحقائق المور المستنبطة من‬
‫الكتاب والسنة؛ ولذلك سهل على أبي عبد الله الشيعي أن‬
‫يقود القبائل الكتامية إلى معتقداته الباطنية الرافضية‬
‫الفاسدة‪.‬‬

‫‪ ()116‬انظر‪ :‬المنار المنيف‪ ,‬ص )‪.(153،152‬‬


‫‪55‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬

‫المبحث الول‬
‫ثورة قبيلة هوارة في طرابلس‬
‫بعد أن احتل عبيد الله المهدي طرابلس عين ماكنون بن‬
‫ضبارة اللحياني الكتامي والًيا عليها‪ ,‬وثارت قبيلة هوارة على‬
‫والي طرابلس لعدم استقرار المور‪ ,‬وحاولت أن تستفيد من‬
‫فرصة العهد الجديد الذي لم تستقر فيه الحوال في‬
‫الشمال الفريقي‪.‬‬
‫وانضمت قبائل من زناتة ولماية وغيرها من القبائل‬
‫البربرية إلى قبيلة هوارة‪ ,‬وقاد هذه الثورة ضد العبيديين في‬
‫طرابلس أبو هارون الهواري‪ ,‬وحاصروا طرابلس واحتمى‬
‫ماكنون بسور المدينة‪.‬‬
‫وأنجده عبيد الله المهدي بجيش بقيادة تمام بن معارك‬
‫»أبازاكي‪ -‬وهو ابن‬
‫أخي ماكنون«‪.‬‬
‫واستطاعت جيوش العبيديين أن تقضي على هذه الثورة‬
‫الوليدة في مهدها‪.‬‬
‫وأوعز عبيد الله المهدي إلى ماكنون بن ضبارة للتخلص‬
‫من تمام بن معارك بزعمه أنه يتآمر عليه‪ ,‬فقتل العم ابن‬
‫أخيه تمام في غرة ذي الحجة سنة ‪298‬هـ وشعر ماكنون‬
‫بأمان واستقرار‪ ,‬فتطاول في الحكم وسمح لبني قومه من‬
‫كتامة بالتعدي على أموال الناس والستهانة بأعراضهم‬
‫والتدخل في أمورهم‪ ,‬فثار به أهل طرابلس سنة ‪ 300‬هـ‬
‫وأخرجوه منها‪ ,‬فلحق بالمهدي برقادة وقتل أهل طرابلس من‬
‫كان فيها من أنصار ماكنون الكتاميين‪ ,‬وأغلقوا أسوار المدينة‪,‬‬
‫فأرسل عبيد الله المهدي أسطول ً بحرًيا استطاع السطول‬
‫الطرابلسي أن يحرقه وأن يقتل من فيه‪ ,‬فأرسل عبيد الله‬
‫ابنه أبو القاسم بجيش عرمرم بطريق البر فاعترضت له‬
‫هوارة‪ ,‬إل أنه استطاع أن يهزمها ووصل إلى أسوار المدينة‬
‫وضرب عليها حصاًرا أفنى ما بقى من أقوات الناس في‬
‫المدينة حتى أكلوا الميتة‪ ,‬ولم يستطع ابن إسحاق أن يواصل‬
‫المقاومة‪ ,‬وتفاوض أعيان طرابلس مع أبي القاسم الشيعي‬
‫وطلبوا منه المان فأمنهم بشرط أن يسلموا محمد بن‬
‫إسحاق‪ ,‬ومحمد بن نصر‪ ,‬ورجل ً آخر يقال له‪ :‬الحوححة فقبلوا‬
‫ذلك وسلموهم إليه‪ ,‬ودخل طرابلس وأرهق أهلها بغرامة‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪56‬‬
‫مالية قدرها ثلثمائة ألف دينار‪ ,‬وتخلص أبو القاسم الشيعي‬
‫من الغالبة الذين كانوا في المدينة مدعًيا أنهم هم الذين‬
‫حرضوا على الفتنة‪.‬‬
‫وتولى جباية مال الغرامة رجل يقال له الخليل بن إسحاق‬
‫من أبناء جند طرابلس‪.‬‬
‫وجابي مال الغرامة هو الذي أتم بناء جامع طرابلس الكبير‬
‫أيام العبيديين وبنى منارته‪ ,‬وقد قتل على يد ابن كيداد‬
‫اليفرني لما استولى على القيروان سنة ‪322‬هـ‪.‬‬
‫وبعد أن استقرت الحال في طرابلس قفل أبو القاسم‬
‫الرافض إلى رقادة‪ ,‬وطاف بالرجال الثلثة الذين تسلمهم من‬
‫طرابلس في شوارع القيروان على الجمال تشهيًرا بهم ثم‬
‫قتلهم)‪.(117‬‬
‫ويتضح من هذا الثورة المبكرة ضد العبيديين أن أهل‬
‫طرابلس غير راغبين في الحكم العبيدي إل أنهم خضعوا له‬
‫بقوة السلح‪.‬‬
‫وكتب التاريخ تؤكد على دور علماء وفقهاء طرابلس‬
‫وجهادهم في مواجهة الفكر الشيعي والمد الرافض والمعتقد‬
‫الباطني الذي تكفلت دولة بني عبيد بنشره في الشمال‬
‫الفريقي‪.‬‬
‫***‬

‫‪ ()117‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(247،246‬‬


‫‪57‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬

‫المبحث الثاني‬
‫زحف العبيديين على برقة‬
‫فلما استقر أمر طرابلس أرسل عبيد الله جيوشه نحو‬
‫دا‬
‫برقة بقيادة حباسة بن يوسف الكتامي‪ ,‬وكان قاسًيا شدي ً‬
‫نزعت الرحمة من قلبه‪ ,‬فتوجه في عام ‪301‬هـ نحو سرت‪,‬‬
‫لنها ل زالت تحت حكم الغالبة فدخلها بدون حرب‪ ,‬وهجرها‬
‫من كان فيها من جنود العباسيين والغالبة‪ ,‬ثم تقدم حباسة‬
‫إلى أجدابية فهجرها من كان فيها من العباسيين والغالبة‪,‬‬
‫وطلب أهلها المان فأمنهم ودخلها بدون قتال‪ ,‬واحتل مدينة‬
‫برقة وكانت جيوش العبيديين تتدافع نحو حباسة بدون‬
‫انقطاع‪.‬‬
‫وكان حباسة هذا ل يفي بوعد‪ ,‬وكلما دخل مدينة قتل أهلها‬
‫وأخذ أموالهم وسبى نساءهم‪ ,‬ومن فظاعة أعماله التي ذكرتها‬
‫كتب التاريخ ما فعله بمجموعة من الناس كانوا يلعبون بالحمام‬
‫في برقة فأمر بهم فأجلسهم حول النار‪ ,‬وأمر بلحومهم أن تقطع‬
‫وتشوى‪ ,‬ثم أمر بهم فألقوا في النار‪ .‬إن هذه العمال الوحشية‬
‫سنية‪ ,‬وربما يتقربون‬ ‫تدل علىعداوة العبيديين لكل من له رائحة ُ‬
‫بها إلى الله على زعمهم الفاسد‪.‬‬
‫ومن أعماله الشنيعة ما قام بإعلنه في برقة‪ :‬من أراد‬
‫العطاء فليأت إلينا‪ ,‬فحضر إليه من الغد ألف رجل‪ ,‬فأمر بهم‬
‫ضا على بعض‪ ,‬وجيء له‬ ‫فقتلوا جميًعا‪ ,‬ثم وضع جثثهم بع ً‬
‫بكرسي فوضع على الجثث وجلس عليه‪ ,‬وأمر بالوجهاء من‬
‫أهل البلد فدخلوا عليه فحبسهم وأهانهم‪ ,‬وقد مات منهم‬
‫دا بمائة‬
‫أناس من هول ما رأوا‪ ,‬وقال لهم‪ :‬إن لم تأتوني غ ً‬
‫ألف مثقال قتلتكم جميًعا‪ ,‬فأحضروها له‪.‬‬
‫وانتقم من حارث ونزار ابني جمال المزاتي في نفر من‬
‫أبناء عمومتهم في مدينة برقة‪ ,‬وباع نساءهم وأخذ جميع‬
‫أموالهم وخيراتهم‪ ,‬وقد اغتم أهالي برقة من هذه الفعال‬
‫الشنيعة والعمال القبيحة فأرسلوا إلى عبيد الله المهدي‪,‬‬
‫فاعتذر الملعون وحلف يميًنا كاذبة أنه ما أمر بشيء من ذلك‪,‬‬
‫وكتب إلى حباسة أن يرحل عن برقة فرحل إلى جهة مصر‪,‬‬
‫وأتى أمورى أقبح مما كان يفعله في برقة)‪.(118‬‬
‫وفي سنة ‪302‬هـ تقدمت جيوش أبي القاسم الرافضي‬
‫ما‪ ,‬ذلك أن أبا‬ ‫إلى السكندرية ولم ينل ما أراده ورجع مهزو ً‬
‫القاسم أرسل قصيدة إلى بغداد يفخر فيها ببيته وبما وصل‬
‫إليه ملكهم فرد عليه الصولي بقصيدة على وزنها ومنها‪:‬‬
‫‪ ()118‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(247‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪58‬‬
‫لكان لكم منها بمـا‬ ‫فلــو كانــت الدنيـا مثــال ً لطائـر‬
‫حـزتم الــذنب‬
‫فغضب من هذا البيت وقال‪» :‬والله ل أزال حتى أملك‬
‫صدر الطائر ورأسه إن قدرت أو أهلك دونه«)‪.(119‬‬
‫ثورة أهل برقة على العبيديين‪:‬‬
‫وفي هذه السنة ‪302‬هـ انتقم أهل برقة من العبيديين‬
‫فقتلوا عاملهم وكثيًرا من رجال كتامة‪ ,‬فأرسل المهدي‬
‫جيوشه سنة ‪303‬هـ لتأديبهم والنتقام منهم‪ ,‬وقاد هذه‬
‫الجيوش أبو مديني ابن فروخ اللهيفي‪ ,‬وحاصر مدينة برقة‬
‫ثمانية عشر شهًرا ودخلها سنة ‪304‬هـ عنوة‪ ,‬فقتل أكثر أهلها‪,‬‬
‫وأحرق دورها‪ ,‬وهتك أعراض نساءها وبعث بالسرى إلى عبيد‬
‫الله الذي أمر بقتلهم‪ ,‬وبقى أبو مديني ببرقة إلى أن مات بها‬
‫سنة ‪306‬هـ)‪.(120‬‬
‫وفي سنة ‪304‬هـ حارب العبيديون أهل صقلية وغزوا مصر‬
‫في ذي القعدة سنة ‪306‬هـ واستولوا على السكندرية وأكثر‬
‫الصعيد ولم يستقروا بل رجعوا‪.‬‬
‫وفي سنة ‪308‬هـ تم بناء المهدية وانتقل إليها المهدي‪,‬‬
‫وفي سنة ‪310‬هـ خرجت نفوسة على عبيد الله وقدموا‬
‫عليهم أبابطة‪ ,‬فقوى شأنه وعظمت شوكته وكان مذهبهم‬
‫شا بقيادة علي بن سليمان‬ ‫إباضًيا فأرسل إليهم عبيد الله جي ً‬
‫الداعي فانهزم جيش العبيديين وفر علي إلى طرابلس‪ ,‬ثم‬
‫أعاد الكرة على نفوسة وحاصروها‪.‬‬
‫وعّين محمد بن عمر النفطي قاضًيا على طرابلس‪,‬‬
‫واستطاعت الدولة العبيدية أن تفرد نفوذها بقوة السلح على‬
‫إفريقية‪ ,‬وطرابلس‪ ,‬وبرقة‪ ,‬وجزيرة صقلية في حكم عبيد‬
‫الله المهدي‪.‬‬

‫)( المصدر السابق‪ ,‬ص ) ‪.(248‬‬ ‫‪119‬‬


‫‪ (2) ,(1)120‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(248‬‬
‫‪59‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬

‫المبحث الثالث‬
‫خروج أبي يزيد الخارجي على العبيديين‬
‫هو مخلد بن كيداد اليفرني بن سعد الله بن مغيث بن كرمان‬
‫بن مخلد بن عثمان بن يفرن‪ ,‬ويفرن هذا أخو مغراو الذي تنسب‬
‫إليه قبيلة مغراوة‪ ,‬وأمه أم ولد واسمها سيكة‪ ,‬وهي من بلد‬
‫السودان التي كان يتردد عليها والده للتجارة فاتخذها جارية‬
‫له)‪.(121‬‬
‫وعاش أبو يزيد فقيًرا وطلب المذهب الخارجي فتتلمذ‬
‫ما لتحفيظ القرآن‬‫‪ ,‬وكان في أول أمره معل ً‬
‫)‪(122‬‬
‫على النكارية‬
‫الكريم‪ ,‬وقضى معظم وقته في التعليم وظهر في بداية أمره‬
‫بمظهر الزهاد‪ ,‬فكان يركب حماًرا ينتقل به بين القبائل‬
‫والجبال فلقب بصاحب الحمار‪ ,‬وتذكر بعض كتب التاريخ أنه‬
‫لما قاد الثورة ضد العبيديين كانت سنه تقارب التسعين‪,‬‬
‫واستغل العداء بين زناتة والعبيديين وما مارسته دولة‬
‫الروافض من أخذ الضرائب حتى فاقوا في ظلمهم الغالبة‬
‫واشتدت معارضة البرابرة بعد أن أعلن الروافض لعن‬
‫الشيخين »أبي بكر وعمر رضي الله عنهما« على المنابر وفي‬
‫المنتديات والحلقات وفي خطب الجمعة‪ ,‬فبدأ أبو يزيد في‬
‫إعداد العدة في منطقة الجريد وأشغل الشمال الفريقي‬
‫بحروب طاحنة‪ ,‬وكانت بداية ثورته في زمن عبيد الله في‬
‫جهات طرابلس وتابعه كثير من البرابرة من شدة جور محمد‬
‫بن عبيد الله المهدي لهل السنة‪ ,‬وظلمه لهم‪ ,‬وتعذيبه إياهم‪,‬‬
‫ورأى علماء أهل السنة الوقوف مع أبي يزيد ضد بني عبيد‬
‫وقال‪ :‬هم أهل القبلة ‪-‬أي أصحاب أبي يزيد‪ -‬وأولئك ليسوا‬
‫من أهل القبلة ‪-‬وهم بنو عدو الله‪ ,(123)-‬وسمى أبو يزيد نفسه‬
‫شيخ المؤمنين‪ ,‬وكان يضمر لهل السنة أشد العداوة‪ ,‬لنه‬
‫كان نكارًيا)‪ (124‬يستحل أموال أهل السنة ونساءهم‪ ,‬فانتهز‬
‫كراهية أهل السنة لمحمد بن عبيد الله وأخفى عليهم عقيدته‬
‫وأظهر لهم صداقته‪ ,‬ولما رأى القدرة من نفسه غدر بأهل‬
‫السنة وخلى بينهم وبين محمد بن عبيد الله يقتلهم ويستبيح‬
‫نساءهم ويغتصب أموالهم‪ ,‬ولول أنه خاف أن يقال عنه قتل‬
‫خلفاءه وأعوانه فينفض الناس من حوله لفعل بأهل السنة‬

‫انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(248‬‬ ‫‪()121‬‬


‫المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(249‬‬ ‫‪()122‬‬
‫سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/155‬‬ ‫‪()123‬‬
‫النكارية فرقة من فرق الخوارج‪.‬‬ ‫‪()124‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪60‬‬
‫العاجيب‪.‬‬
‫ضح أمره وانفض الناس من حوله‪ ,‬وكان‬ ‫ومع ذلك فقد فُ ِ‬
‫دا‪ ,‬قال الشيخ‬ ‫أبو يزيد الخارجي قاسي القلب‪ ,‬جباًرا عني ً‬
‫طاهر الزاوي‪» :‬تدل أفعاله على نبذ الديان‪ ,‬وعدم احترام‬
‫النسانية‪ ,‬دخل القيروان بعد أن خرب البلد‪ ,‬وقتل الرجال‪,‬‬
‫وسبى النساء وشق فروجهن‪ ,‬وبقر بطون الحوامل‪ ,‬والتجأ‬
‫عراة‪ ,‬ومات كثير منهم عط ً‬
‫شا‬ ‫حفاة ُ‬ ‫الناس إلى القيروان ُ‬
‫عا‪ ,‬وشكا إليه بعض الناس ما حل بالبلد من خراب‪ ,‬فقال‬ ‫وجو ً‬
‫لهم في سخرية واستهزاء‪» :‬وما يكون لو خربت مكة والبيت‬
‫المقدس«)‪.(125‬‬
‫وهكذا إذا غابت العقيدة السليمة‪ ,‬وغاب التصور الصحيح‪,‬‬
‫شا مفترساً في حروبه ل منهج‬ ‫والمنهج الرباني يصبح النسان وح ً‬
‫يلزمه‪ ,‬ول عقل يمنعه‪ ,‬ول شرع يوجهه‪.‬‬
‫دا‬
‫إن عقيدة أبا يزيد الخارجي الفاسدة جعلته جباًرا عني ً‬
‫دا ول ذمة لحد‪ ,‬وهذا دليل على‬ ‫دا ل يراعي عه ً‬ ‫وغادًرا ومفس ً‬
‫انطماس الفطرة‪ ,‬وانغماسه في وحول المستنقعات النتنة‬
‫البعيدة عن نور الوحيين »كتاب الله وسنة رسوله ׫‪.‬‬
‫واستطاع العبيديون الروافض القضاء على ثورة أبي يزيد‬
‫في زمن إسماعيل محمد المهدي الملقب »بالمنصور« حيث‬
‫استطاع المنصور أن يوقع بجيوش أبي يزيد خسائر فادحة في‬
‫الموال والرجال‪ ,‬وتابعه حتى تمكن منه بعد جهد جهيد وظفر‬
‫به مثخًنا بجراحه ومات متأثًرا بها‪ ,‬فسلخ المنصور جلده‬
‫وحشاه تبًنا وصلبه«)‪.(126‬‬
‫وقال العبيديون في هذا الموقف شعًرا نظمه علي بن‬
‫محمد اليادي الشاعر‪:‬‬
‫في ذرى أعيط عال‬ ‫فارتقى الملعون من‬
‫مصعد‬ ‫ُ‬ ‫خيفته‬
‫ذلك المعقل ليست‬ ‫في ذرى حلقاء‬
‫بصدد‬ ‫ملساء على‬
‫تحته المنصور في‬ ‫معقل من فوقه الله‬
‫جيش معد‬ ‫ومن‬
‫يوم طعن كشآبيب‬ ‫فارتقى المنصور‬
‫البرد‬ ‫بالسيف له‬
‫موثق الجيد بحبل من‬ ‫فإذا مخلد في كف‬
‫مسد‬ ‫الردى‬
‫‪ ()125‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(251‬‬
‫‪ ()126‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/157‬‬
‫‪61‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫وعذاب الله للجسم‬ ‫فأبى الله سوى‬
‫أهد‬ ‫إعجاله‬
‫كان قد أسرف فيه‬ ‫سا‬
‫فنفى عنه أيد ما دن ً‬
‫ومرد‬
‫ريحه جرد منه فانجرد‬ ‫كأديم التيس لما لم‬
‫يطب‬
‫مالًيا ما بين كعب وكند‬ ‫وحشاه سالخوه‬
‫فا‬
‫سع ً‬
‫باسق أجرد ما فيه أود‬ ‫ثم رقاه على‬
‫مستحصد‬
‫وبقى مصلوًبا حتى تمزق جلده وأذرته الرياح‪ ,‬وكان ذلك‬
‫في المحرم سنة ‪336‬هـ‪ ,‬وواصل ابنه الثورة مطالًبا بثأر أبيه‪,‬‬
‫فأرسل إليه المنصور قائده زيري بن مناد)‪ (127‬فقتله‪ ,‬وانتهى‬
‫أمر أبي يزيد الخارجي وابنه‪.‬‬
‫لم تكن ثورة أبي يزيد ذات خطة واضحة‪ ,‬ولم تكن لها أهداف‬
‫لتكوين دولة‪ ,‬حيث إنه استطاع بجيوشه أن يكبل العبيديين‬
‫خسائر فادحة‪ ,‬وينتزع منهم الملك ويحاصرهم في المهدية‪ ,‬ومع‬
‫حائ ًفأساء السيرة مع كثير من القبائل‪ ,‬ففقدت الثقة‬ ‫هذا وقف را‬
‫فيه وانفضت من حوله‪ ,‬وإنما الواضح في ثورته النتقام وسفك‬
‫الدماء من مخالفيه بطريقة وحشية همجية تدل على قلب حقود‬
‫ما‬
‫لكل من يخالفه‪ ,‬واستغرقت هذه الثورة النارية أربعة عشر عا ً‬
‫انشغلت بها دولة العبيديين الروافض‪.‬‬
‫ولعل هذا من سنة الله في تسليط بعض الظالمين على‬
‫بعض‪ ,‬حيث قتل اللوف من أتباع الطرفين وفقد المن‬
‫والمان في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫***‬

‫‪ ()127‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(251‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪62‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫القائم بأمر الله الخليفة الثاني الرافضي‬
‫أبو القاسم نزار بن عبيد الله‬
‫)‪322-334‬هـ ‪945 -934 ,‬م(‬
‫هو أبو القاسم محمد بن المهدي بن عبيد الله‪ ,‬ولد في‬
‫سلمية سنة ثمان وسبعين ومائتين‪ ,‬بويع له بخلفة الروافض‬
‫في سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة‪.‬‬
‫عا قليل الخير‪ ,‬فاسد العقيدة‪ ,‬خرج عليه‬ ‫وكان مهيًبا شجا ً‬
‫في سنة اثنتين وثلثمائة أبو يزيد مخلد بن كيداد البربري‬
‫الخارجي‪ ,‬وجرت بينهما ملحم وحروب‪ ,‬وحصره مخلد‬
‫بالمهدية‪ ,‬وضيق عليه واستولى على بلده ثم وسوس القائم‪,‬‬
‫دا يتزندق فأظهر سب‬ ‫واختلط وزال عقله‪ ,‬وكان شيطاًنا مري ً‬
‫النبياء‪ ,‬وكان أتباعه يصيحون‪ :‬العنوا الغار وما حوى‪ .‬وأباد‬
‫عدًدا من العلماء‪ ,‬وكان يراسل قرامطة البحرين‪ ,‬ويأمر‬
‫بإحراق المساجد والمصاحف‪.‬‬
‫واستغل أبو يزيد الخارجي كفر أبي القاسم وألب عليه إباضية‬
‫المغرب وجموع القبائل وفقهاء وزهاد القيروان‪ ,‬وكاد أن يتملك‬
‫أبو يزيد المغرب بأجمعه وركزت ألويته عند جامع القيروان فيها‪:‬‬
‫ل إله إل الله ل حكم إل لله‪ ,‬وعلمان أصفران فيهما‪ :‬نصر من‬
‫الله وفتح قريب‪ ,‬وعلم لبي يزيد فيه‪ :‬اللهم انصر وليك على من‬
‫سب نبيك)‪.(128‬‬
‫وكان القائم العبيدي يقذف الصحابة علًنا ويطعن في النبي‬
‫× حتى إنه أمر بتعليق رؤوس كباش على الحوانيت‪ ,‬وكتب‬
‫عليها إنها رؤوس الصحابة‪ ,‬وبسبب كفرهم وطغيانهم قال‬
‫الشاعر في بني عبيد‪:‬‬
‫شّر الزنادقة من صحب‬ ‫الماكر الغادر الغاوي‬
‫وت ُّباع‬ ‫لشيعته‬
‫بسحر هاروت من كفر‬ ‫العابدين إذا ً عجل ً‬
‫وإبداع )‪(129‬‬ ‫يخاطبهم‬
‫أسماع‬ ‫لو قيل للروم أنتم مثلهم‬
‫لبكوا‬
‫المبحث الخامس‬
‫الخليفة الشيعي الرافضي الثالث في الشمال‬
‫الفريقي‬
‫)‪ (2‬المصدر السابق )ج‬ ‫‪ ()128‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(156-15/152‬‬
‫‪.(15/156‬‬ ‫‪129‬‬
‫‪63‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬

‫المنصور بنصر الله أبو طاهر إسماعيل‬


‫)‪341 -334‬هـ ‪952 -945 ،‬م(‬
‫هو أبو الطاهر إسماعيل بن القائم المهدي‪ ,‬العبيدي‬
‫الباطني صاحب المغرب‪.‬‬
‫تولى خلفة الروافض بعد أبيه‪ ,‬وهو الذي قضى على ثورة أبي‬
‫يزيد الخارجي النكاري‪.‬‬
‫عا‪ ,‬رابط الجأش‪,‬‬ ‫قال عنه الذهبي‪» :‬وكان بطل ً شجا ً‬
‫ها يرتجل الخطب‪ ,‬وفيه إسلم في الجملة وعقل‬ ‫حا مفو ً‬
‫فصي ً‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(130‬‬
‫بخلف أبيه الزنديق«‬
‫قلت‪ :‬وقول الذهبي‪ :‬وفيه إسلم في الجملة فيه نظر‪.‬‬
‫وذكر الذهبي شيًئا من كرمه فقال‪» :‬وقد جمع مرة من‬
‫أولد جنده ورعيته عشرة آلف صبي‪ ,‬وكساهم كسوة فاخرة‪,‬‬
‫وعمل لهم وليمة لم يسمع قط بمثلها‪ ,‬وختنهم جميًعا‪ ,‬وكان‬
‫يهب للواحد منهم المائة دينار والخمسين ديناًرا على أقدامهم‪.‬‬
‫ومن محاسنه أنه ولى محمد بن أبي المنظور النصاري‬
‫قضاء القيروان‪ ,‬وكان من كبار أصحاب الحديث‪ ,‬ولقد لقى‬
‫إسماعيل القاضي‪ ,‬والحارث بن أبي أسامة‪ ,‬فقال‪ :‬بشرط أن‬
‫ل آخذ رزًقا ول أركب دابة‪ ,‬فوله يتألف الرعية‪ ,‬فأحضر إليه‬
‫يهودي قد سب فبطحه‪ ,‬وضربه إلى أن مات تحت الضرب‬
‫لعلمه أنه لو رفع إلى المنصور ل يقتله فضربه القاضي مظهًرا‬
‫ضرب الدب حتى قتله«)‪.(131‬‬
‫توفي في سنة إحدى وأربعين ومائة بسبب برد وريح‬
‫عظيمة أصابته مع جنوده وحاشيته عندما كان يتنزه‪.‬‬
‫وكان يتودد إلى رعيته واقتصر على إظهار التشيع‪ ,‬وقام‬
‫بعده المعز ولده)‪.(132‬‬

‫‪ ()130‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/157‬‬


‫‪ ()131‬المصدر السابق )ج ‪.(15/158‬‬
‫‪ ()132‬المصدر السابق )ج ‪.(15/159‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪64‬‬

‫المبحث السادس‬
‫المعــــــز لدين الله أبو تميــم ســـــعد‬
‫ذو الحجة ‪ -341‬ربيع ‪362‬هـ‬
‫هو معد بن إسماعيل المنصور‪ ,‬وكنيته أبو تميم‪ ,‬ولد‬
‫بالمهدية في ‪ 11‬من رمضان سنة ‪319‬هـ‪ ,‬وعهد له والده‬
‫بالخلفة بعده وجلس على سرير الملك من ذي الحجة سنة‬
‫‪341‬هـ‪ ,‬وهو الخليفة العبيدي الرابع الذي حكم الشمال‬
‫الفريقي‪.‬‬
‫واستطاع أن يمد نفوذه على معظم الشمال شرًقا وغرًبا‪,‬‬
‫ففي سنة ‪342‬هـ ولى باسيل الصقلي عامل ً على سرت‪,‬‬
‫وولى على إجدابية ابن كافي الكتامي‪ ,‬وولى على برقة‬
‫وأعمالها أفلح الناسب‪ .‬وتوسعت أملكه في صقلية سنة‬
‫‪354‬هـ‪ ,‬وفي أيامه دخل اليهود إفريقية‪ ,‬وأصبحت حدود‬
‫مملكته إلى حدود مصر‪ ,‬ومن ثم استطاع أن يتابع أحوال‬
‫الحكام والمراء في مصر عن كثب‪ ,‬وأصبحت نفسه تسول له‬
‫الستيلء على مصر‪ ,‬وبموت كافور الخشيدي في سنة‬
‫‪355‬هـ اضطربت الديار المصرية‪ ,‬فاقتنص المعز الفرصة ولم‬
‫يجعلها تمر مر السحاب‪ ,‬فعزم ودبر وأقدم على حفر البار‬
‫والقصور فيما بين القيروان إلى حدود مصر‪ ,‬وحشد الجيوش‬
‫دا‬
‫العظيمة‪ ,‬وجمع الموال الجزيلة‪ ,‬واختار جوهر الصقلي قائ ً‬
‫لتلك الجيوش التي كانت تزيد على مائة ألف‪ ,‬وأمر المعز كل‬
‫أمرائه أن يسمعوا ويطيعوا ويترجلوا في ركاب الصقلي‪,‬‬
‫وتحركت الجيوش العبيدية لنقل المذهب الباطني إلى مصر‬
‫ليتخلص من الزمات والثورات والصراعات العنيفة التي قادها‬
‫علماء السنة في خمسة عقود متتالية في الشمال الفريقي‪,‬‬
‫رافضين المذهب الخشيدي التابع للدولة العباسية في مصر‪,‬‬
‫فرمى بسهامه المسمومة إليها‪ ,‬ودفع إليها جيوشه المحمومة‬
‫طالًبا من أعوانه وشياطينه أن يقضوا على الخلفة العباسية‬
‫البية ذات التوجهات السنية‪.‬‬
‫وقد حاول المعز أن يضم الندلس السنية إل أن رجالها‬
‫البواسل منعوه من أن يصل إلى هدفه‪ ,‬وفي جمادى الخرة‬
‫سنة ‪358‬هـ استطاعت جيوش المعز دخول مصر بقيادة‬
‫خادمه جوهر الصقلي الذي لم يجد أي عناء في ضمها لملك‬
‫العبيديين‪ .‬وجوهر الصقلي هذا هو الذي بنى الزهر سنة‬
‫‪361‬هـ ليكون منبًرا من منابر العبيديين الروافض في بث‬
‫‪65‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫معتقداتهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة‪ ,‬ثم تحول بفضل الله‬
‫ثم جهود صلح الدين اليوبي الذي قضى على العبيديين في‬
‫مصر إلى قلعة من قلع أهل السنة‪ ,‬ودخلت جيوش العبيديين‬
‫على دمشق سنة ‪358‬هـ بقيادة جعفر بن خلف أحد قواد‬
‫العبيديين)‪.(133‬‬
‫رحلة المعز إلى مصر‪:‬‬
‫وبعد أن مهدت مصر للمعز العبيدي جهز جيوشه وحاشيته‬
‫وأهله وأمواله‪ ,‬وسار مفارًقا شمال إفريقيا إلى مصر‪ ,‬ليتولى‬
‫أمرها‪ ,‬فأسند زعامة الشمال الفريقي إلى المير الصنهاجي‬
‫بلكين ابن زيري وضم المعز إلى مصر كل ً من طرابلس‬
‫وسرت وبرقة‪ ,‬وكان معه شاعره الملحد الذي غالى في مدح‬
‫المعز محمد بن هانئ الندلسي الذي قال‪:‬‬
‫وكأنما أنصارك النصار‬ ‫فكأنما أنت النبي محمد‬
‫فاحكم فأنت الواحد القهار‬ ‫ما شئت أنت ل ما شاءت‬
‫القدار القدار‬
‫قا وتخمد أن تراه النار‬
‫ح ً‬ ‫هذا الذي تجدي شفاعته‬
‫دا‬
‫غ ً‬
‫ومن شعره في المعز‪:‬‬
‫والفوق أنت وكل فوق‬ ‫النور أنت وكل نور ظلمة‬
‫دون‬
‫واقرب بهم زلفى فأنت‬ ‫فارزق عبادك فضل‬
‫مكين‬ ‫شفاعة‬
‫ومنه‪:‬‬
‫غفاًرا موبقة الذنوب‬ ‫ما عزيًزا قادًرا‬
‫تدعوه منتق ً‬
‫حا‬
‫صفو ً‬
‫لدعيت من بعد المسيح‬ ‫أقسمت لول أن دعيت‬
‫حا‬‫مسي ً‬ ‫خليفة‬
‫حا‬
‫وتنزل القرآن فيك مدي ً‬ ‫شهدت بمفخرك السموات‬
‫العل‬
‫ومنه‪:‬‬
‫لم يؤت في الملكوت‬ ‫وعلمت من مكنون سر‬
‫ميكائيل‬ ‫الله ما‬
‫لم يخلق التشبيه والتأويل‬ ‫لو كان آتى الخلق ما‬
‫أوتيته‬
‫وكان المعز وكذلك أجداده يستمعون إلى مثل هذه‬
‫الكفريات ول ينكرونها ويقرونهم عليها‪ ,‬وكانت بداية رحلة‬
‫‪ ()133‬انظر‪ :‬الفتح العربي في ليبيا ص )‪.(362‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪66‬‬
‫المعز نحو مصر في ‪362‬هـ‪.‬‬
‫وقتل الملحد الكافر ابن هانئ في برقة »مقبرة الملحدة«‬
‫هـ‪ ,‬وهو في الثانية والربعين من عمره‪,‬‬ ‫في رجب سنة ‪362‬‬
‫ووجدوا جثته مرمية رمي الكلب على ساحل بحر برقة‪.‬‬
‫وتأسف المعز على قتله وقال‪ :‬هذا الرجل كنا نرجو أن‬
‫نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك)‪ ,(134‬واستمر‬
‫المعز في سيره‪ ,‬حتى قارب الحدود المصرية‪ ,‬ووصل‬
‫السكندرية يوم ‪ 23‬من شعبان سنة ‪362‬هـ واستقبله وفود‬
‫عظيمة من أعيان القادة والزعماء والحكام في مصر‪.‬‬
‫وامتد ملك المعز من سبتة بالمغرب إلى مكة بالمشرق‬
‫يأتمر بأوامره سكان سواحل المحيط الطلنطي‪.‬‬
‫فا‪ ,‬وتوفى بالقاهرة في‬ ‫وبقى المعز في مصر سنتين ونص ً‬
‫السابع من ربيع الول سنة ‪365‬هـ‪ ,‬ودامت وليته بإفريقية‬
‫ومصر ثلًثا وعشرين سنة)‪.(135‬‬
‫قال الشيخ طاهر الزاوي ‪-‬رحمه الله‪» :-‬ودامت دولة‬
‫الفاطميين ‪ 260‬سنة‪ ,‬منها اثنتان وخمسون سنة بالمغرب‪,‬‬
‫ومائتان وثماني سنوات بمصر‪ ,‬وعدد خلفائها أربعة عشر‬
‫خليفة‪ ,‬أولهم عبيد الله المهدي‪ ,‬وآخرهم العاضد الذي توفى‬
‫بمصر يوم عاشوراء سنة ‪567‬هـ‪ ,‬وبموته انقرضت دولة‬
‫الفاطميين من المشرق والمغرب‪ .‬والملك لله وحده يؤتيه‬
‫من يشاء وينزعه ممن يشاء«)‪.(136‬‬
‫قال الذهبي ‪-‬رحمه الله‪» :-‬ظهر في هذا الوقت الرفض‪,‬‬
‫وأبدى صفحته وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز‬
‫والمغرب بالدولة العبيدية‪ ,‬وبالعراق والجزيرة والعجم بني‬
‫بويه‪ ,‬وكان الخليفة المطيع ضعيف الرتبة مع بني بويه وضعف‬
‫بدنه ثم أصابه فالج‪ ,‬وخرس فعزلوه وأقاموا ابنه الطائع لله‪,‬‬
‫وله السكة والخطبة‪ ,‬وقليل من المور فكانت مملكة المعز‬
‫أعظم وأمكن)‪.(137‬‬
‫وكان المعز شاعًرا‪ ,‬ومن شعره‪:‬‬
‫)‪(138‬‬
‫لله ما صنعت بنا‬
‫انظر‪ :‬الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(362‬‬ ‫‪()134‬‬
‫المصدر السابق ص )‪.(362‬‬ ‫‪()135‬‬
‫المصدر السابق ص )‪.(262‬‬ ‫‪()136‬‬
‫سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/164‬‬ ‫‪()137‬‬
‫المعاجر‪ :‬وهو ثوب تلفه المرأة في استدارة رأسها‪.‬‬ ‫‪()138‬‬
‫‪67‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫س الخناجر في الحناجر‬ ‫أمضى وأقضي في النفو‬
‫)‪(139‬‬
‫ولقد تعبت ببينكم‬

‫وقال الذهبي ‪-‬رحمه الله‪ -‬في المعز‪» :‬وعاش سًتا‬


‫وأربعين سنة وكان مولده بالمهدية ودفن بالمعزية بالقاهرة‬
‫في عام خمس وستين وثلثمائة«)‪.(140‬‬
‫***‬

‫‪ ()139‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/164،163‬‬


‫‪ ()140‬المصدر السابق )ج ‪.(15/166‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪68‬‬

‫المبحث السابع‬
‫جرائم العبيديين في الشمال الفريقي‬
‫لقد ارتكب الباطنيون الروافض الشيعة في أهالي الشمال‬
‫الفريقي من أهل السنة ما تشيب منه الولدان ول تصدقه‬
‫العقول‪ ,‬وأنزلوا غضبهم وصبوا سخطهم على العلماء خاصة‪:‬‬
‫‪ -1‬فعندما ادعى عبيد الله الرسالة أحضر فقيهين من‬
‫فقهاء القيروان وهو جالس على كرسي ملكه وأوعز إلى أحد‬
‫خدمه‪ ,‬فقال للشيخين‪» :‬أتشهدان أن هذا رسول الله؟ فقال‬
‫بلفظ واحد‪ :‬والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر‬
‫عن يساره يقولن‪ :‬إنه رسول الله‪ ,‬ما قلنا ذلك‪ .‬فأمر‬
‫بذبحهما«)‪ (141‬وهذا الشيخان المغربيان هما‪ :‬ابن هذيل وابن‬
‫البردون‪.‬‬
‫قال الذهبي عن ابن بردون‪» :‬هو المام الشهيد المفتي‪,‬‬
‫أبو إسحاق‪ ,‬إبراهيم بن البردون الضبي مولهم الفريقي‬
‫المالكي‪ ,‬تلميذ أبي عثمان الحداد«)‪.(142‬‬
‫وطلب منه لما جرد للقتل‪ :‬أترجع عن مذهبك؟ قال‪ :‬أعن‬
‫السلم أرجع؟ وقيل‪ :‬في سنة تسع وتسعين ومائتين)‪ (143‬إن‬
‫عبيد الله المهدي الزنديق لم يدع الرسالة فحسب‪ ,‬بل سمح‬
‫لتباعه أن يغرقوا في كفرهم حتى ألهوه فقد كانت أيمانهم‬
‫المغلظة‪» :‬وحق عالم الغيب والشهادة‪ ,‬مولنا الذي برقادة«‪.‬‬
‫ومن أهم ما ادعى معرفة الغيب‪ ,‬والغيب ل يعلمه إل الله‪,‬‬
‫وهذا المر من خصوصيات اللوهية‪ ,‬فمن ادعاه لغير الله يقع‬
‫ح‬‫فات ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْدَهُ َ‬‫و ِ‬ ‫في الشرك والكفر العظيم‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ما‬
‫و َ‬‫ر َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫والب َ ْ‬ ‫ْ‬
‫في الب َّر َ‬ ‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ها إ ِل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ب ل َ يَ ْ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ت‬‫ما ِ‬ ‫في ظُل ُ َ‬ ‫ة ِ‬ ‫حب ّ ٍ‬‫ول َ َ‬ ‫ها َ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫ة إ ِل ّ ي َ ْ‬‫ق ٍ‬‫وَر َ‬ ‫من َ‬ ‫ط ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫س ُ‬ ‫تَ َ ْ‬
‫ن" ]النعام‪:‬‬ ‫بي‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ال ْ ِ َ‬
‫ض‬ ‫ر‬
‫ِ َ ٍ ّ ِ ٍ‬ ‫َ ِ ٍ ِ‬ ‫ٍ َ‬ ‫َ‬
‫‪.[59‬‬
‫ض ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫غي ْ َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫َ‬
‫من ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫قل ل ّ ي َ ْ‬ ‫‪ُ +‬‬
‫ن"‬ ‫عُثو َ‬ ‫ن ي ُب ْ َ‬ ‫ن أّيا َ‬ ‫عُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫و َ‬‫ه َ‬ ‫إ ِل ّ الل ُ‬
‫]النمل‪.[65 :‬‬
‫كما أن الحلف ل يكون بمخلوق وإنما يكون بالخالق‪ ,‬قال‬

‫‪ ()141‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(14/217‬‬


‫‪ ()142‬المصدر السابق )ج ‪.(14/215‬‬
‫‪ ()143‬المصدر نفسه )ج ‪.(14/215‬‬
‫‪69‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫»من كان حالًفا فليحلف بالله أو ليصمت‪«...‬‬ ‫رسول الله ×‪:‬‬
‫وجاءت الحاديث في النهي عن الحلف بالباء)‪.(144‬‬
‫‪ -2‬لقد كان شعراء الدولة العبيدية يمدحون خلفاءهم إلى‬
‫درجة الكفر البواح وينشرونها بين الناس‪ ,‬وقد ظهر ذلك في‬
‫شعر ابن هانئ الندلسي في مدحه للمعز وكان أحد‬
‫شعرائهم‪ ,‬مدح عبيد الله فقال‪:‬‬
‫حل بها آدم ونوح‬ ‫حل برقادة المسيح‬
‫)‪(145‬‬
‫حل بها الله ذو المعالي‬
‫كما شبه شعراؤهم المهدية بمكة المكرمة وقصر المهدي‬
‫بالكعبة‪.‬‬
‫كما بتهامة البلد الحرام‬ ‫هي المهدية الحرم‬
‫الموقى‬
‫)‪(146‬‬
‫وإن لثم الحجيج الركن‬
‫أضحى‬
‫‪ -3‬شنوا حرًبا نفسية على أهل السنة وذلك بتعليق رؤوس‬
‫الكباش والحمير على أبواب الحوانيت والدواب‪ ,‬وكتبوا عليها‬
‫أسماء الصحابة رضي الله عنهم‪) ,‬لعنهم الله أنى يؤفكون(‪,‬‬
‫وأظهروا سب الصحابة رضي الله عنهم‪ ,‬وطعنوا فيهم وزعموا‬
‫أنهم ارتدوا بعد النبي × وخصصوا دعاة للنداء بذلك في‬
‫السواق‪.‬‬
‫ومن ذكر الصحابة بخير أو فضل بعضهم على علي ‪ ‬قتل‬
‫أو سجن)‪.(147‬‬
‫‪ -4‬عمل العبيديون على إزالة آثار بعض من تقدمهم من‬
‫الخلفاء السنيين؛ ولذلك أصدر عبيد الله أمًرا بإزالة أسماء‬
‫الحكام الذين بنوا الحصون والمساجد‪ ,‬وجعل اسمه بديل ً‬
‫منهم‪ ,‬واستولى هذا الرافضي الخبيث على أموال الحباس‬
‫وسلح الحصون‪ ,‬وطرد العباد والمرابطين بقصر زياد الغلبي‬
‫وجعله‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(148‬‬
‫مخزًنا للسلح‬
‫‪ -5‬حرص العبيديون على منع التجمعات خوًفا من الثورة‬
‫والخروج عليهم؛ ولذلك جعلوا بوًقا يضربونه في أول الليل‪,‬‬
‫انظر‪ :‬كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب ص )‪.(90‬‬ ‫‪()144‬‬
‫مدرسة الحديث في القيروان )ج ‪.(1/72‬‬ ‫‪()145‬‬
‫البيان المغرب )ج ‪.(1/184‬‬ ‫‪()146‬‬
‫مدرسة الحديث في القيروان )ج ‪.(1/73‬‬ ‫‪()147‬‬
‫انظر‪ :‬رياض النفوس )ج ‪.(2/56‬‬ ‫‪()148‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪70‬‬
‫فمن وجد بعد ذلك ضرب عنقه‪ ,‬كما أنهم كانوا يفرقون الناس‬
‫الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء)‪.(149‬‬
‫وهذا الفعل ل يزال مستمًرا في النظمة القمعية‬
‫البوليسية التي ل ترى إل‬
‫ما أ ََرى‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ْ ِ‬‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ري‬‫ِ‬
‫ما يراه حاكمها وطاغوتها وفرعونها ‪+‬ما أ ُ‬
‫َ‬
‫د" ]غافر‪.[29 :‬‬ ‫ل الّر َ‬
‫شا ِ‬ ‫ديك ُ ْ‬
‫م إ ِل ّ َ‬
‫سِبي َ‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫أتلفوا مصنفات أهل السنة‪ ,‬ومنعوا الناس من تداولها كما‬ ‫‪-6‬‬
‫فعلوا بكتب أبي محمد بن أبي هاشم التجيبي )ت ‪346‬هـ( الذي‬
‫توفي وترك سبعة قناطير كتب‪ ,‬كلها بخط يده‪ ,‬فرفعت إلى‬
‫دا للسلم‬ ‫عبيد( فأخذها »ومنع الناس منها كي ً‬ ‫سلطان بني‬
‫ضا فيه«)‪. 150‬‬ ‫وبغ ً‬
‫‪ -7‬حرموا على الفقهاء الفتوى بمذهب المام مالك‪,‬‬
‫واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل‬
‫أحياًنا‪ ,‬ويعقب ذلك نوع من الرهاب النفسي‪ ,‬حيث يدار‬
‫بالمقتول في أسواق القيروان وينادي عليه‪» :‬هذا جزاء من‬
‫يذهب مذهب مالك«‪ ,‬ولم يبيحوا الفتوى إل لمن كان على‬
‫مذهبهم كما فعلوا بالفقيه المعروف بالهزلي »أبو عبد الله‬
‫محمد بن العباس بن الوليد« المتوفي عام تسع وعشرين‬
‫وثلثمائة)‪.(151‬‬
‫‪ -8‬منعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد‪,‬‬
‫ونشر العلم‪ ,‬والجتماع بالطلب‪ ,‬فكانت كتب السنة ل تقرأ إل‬
‫في البيوت خوًفا من بني عبيد‪ ,‬فكان‬
‫أبو محمد بن أبي زيد‪ ,‬وأبو محمد بن التبان وغيرهما‪ ,‬يأتيان‬
‫إلى أبي بكر بن اللباد‪ ,‬شيخ السنة بالقيروان في خفية‪,‬‬
‫ويجعلن الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوًفا من بني‬
‫عبيد«)‪.(152‬‬
‫وهذا المسلك ل زالت الدول القمعية في العالم السلمي‬
‫تمارسه على شعوبها فبعضها تمنع هذا المر كلًيا‪ ,‬وبعضها‬
‫تسمح ببعض أمور الدين التي ل تصطدم مع مصالح الدول‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫‪ -9‬أجبروا الناس على الدخول في دعوتهم فمن أجاب‬
‫‪ ()149‬المصدر السابق )ج ‪ .(2/29‬وجل هذا المبحث من كتاب مدرسة الحديث في‬
‫القيروان مع تصرف واضح‪.‬‬
‫‪ ()150‬المصدر السابق )ج ‪.(2/423‬‬
‫‪ ()151‬المصدر السابق )ج ‪.(2/56‬‬
‫‪ ()152‬انظر‪ :‬مدرسة الحديث بالقيروان )ج ‪.(1/76‬‬
‫‪71‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫تركوه‪ ,‬وربما ولوه بعض المناصب‪ ,‬ومن رفض ُقتل‪ ,‬كما‬
‫فعلوا عقب أول جمعة خطبها عبيد الله بالقيروان‪ ,‬وقعت بين‬
‫الدولة العبيدية وأهل القيروان مقتلة عظيمة‪ ,‬فأمر الشيعي‬
‫بالكف عن العوام‪ ,‬وافتعل مناظرات صورية‪ ,‬فدارت على‬
‫علماء السنة محن عظيمة‪ ,‬وقتل منهم عدة آلف بسبب‬
‫تمسكهم بإسلمهم ودفاعهم المستميت عن السنة‪ ,‬قال‬
‫القابسي‪» :‬إن الذين ماتوا في دار البحر ‪-‬سجن العبيديين‪-‬‬
‫بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الن أربعة آلف رجل‬
‫في العذاب‪ ,‬ما بين عالم وعابد ورجل صالح«)‪ ,(153‬هذا عدا‬
‫من كانوا يقتلون دون سجن ويمثل بهم في شوارع القيروان‪,‬‬
‫فأثر ذلك على سير الحياة العلمية‪ ,‬وقد خمل ذكر كثير من‬
‫العلماء‬
‫‪ ,‬ومع‬ ‫)‪(154‬‬
‫الذي آثروا اعتزال الفتنة‪ ,‬مثل أبي محمد الورداني‬
‫ذلك فإن هذه المحنة لم‬
‫تزد أهل الشمال الفريقي إل عزيمة وصبًرا واحتساًبا وتمس ً‬
‫كا‬
‫بأصول أهل‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(155‬‬
‫السنة والجماعة‬
‫‪ -10‬عطلوا الشرائع‪ ,‬وأسقطوا الفرائض عمن تبع دعوتهم‬
‫سا‬‫حيث يتم إدخالهم إلى داموس ويدخل عليهم عبيد الله لب ً‬
‫ح« ثم‬ ‫فرًوا مقلوًبا‪ ,‬داًبا على يديه ورجليه‪ ,‬فيقول لهم‪» :‬ب َ ْ‬
‫يخرجهم ويفسر لهم هذا العمل بقوله‪» :‬فأما دخولي على‬
‫يدي ورجلي فإنما أردت بذلك أن أعلمكم أنكم مثل البهائم ل‬
‫شيء‪ ,‬ل وضوء‪ ,‬ول صلة‪ ,‬ول زكاة‪ ,‬ول أي فرض من‬
‫الفروض‪ ,‬وسقط جميع ذلك عنكم‪ ,‬وأما لبس الفرو مقلوًبا‬
‫ح‪,‬‬‫فإنما أردت أن أعلمكم أنكم قلبتم الدين‪ ,‬وأما قولي لكم ب َ ْ‬
‫فإنما أردت أن أعلمكم أن الشياء كلها مباحة لكم من الزنى‬
‫وشراب الخمر‪.(156) «....‬‬
‫ويعجبني في هذا المقام ما قاله شاعر أهل السنة في‬
‫الشمال الفريقي أبو القاسم الفزاري في هجاء بني عبيد‪:‬‬
‫نالوا لهم سبب النجاة‬ ‫عبدوا ملوكهم وظنوا‬
‫ما‬‫ً‬ ‫عمو‬ ‫أنهم‬
‫ما‬‫فأراهم عوج الضلل قوي ً‬ ‫وتمكن الشيطان من‬
‫خطواتهم‬
‫في أحكامهم ل سلموا‬ ‫رغبوا عن الصديق‬
‫ما‬‫تسلي ً‬ ‫والفاروق‬
‫‪ ()153‬المصدر السابق )ج ‪.(1/74‬‬
‫‪ (4) ,()154‬المصدر السابق )ج ‪.(1/75‬‬
‫)(‬ ‫‪155‬‬
‫‪ ()156‬رياض النفوس )ج ‪.(2/504‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪72‬‬
‫ما‬
‫وأبا قدرة واللعين تمي ً‬ ‫واستبدلوا بهما ابن أسود‬
‫حا‬
‫ناب ً‬
‫ما‬
‫عمن أصارهم الله نجو ً‬ ‫تبعوا كلب جهنم وتأخروا‬
‫دنيا‪ ,‬ومن هم إن عددت‬ ‫ياليت شعري من هم إن‬
‫ما‬‫صمي ً‬ ‫جهلوا‬
‫دهرية جعلوا الحديث‬ ‫أمن اليهود؟ أم‬
‫ما‬‫قدي ً‬ ‫النصارى؟ أم هم‬
‫عبدوا النجوم وأكثروا‬ ‫أم هم من الصابين أم‬
‫التنجيما‬ ‫من عصبة‬
‫دا ول‬
‫أن ل عذاب غ ً‬ ‫أم هم زنادقة معطلة‬
‫ما؟‬ ‫تنعي ً‬ ‫رأوا‬
‫النورين عن ظلماتهم‬ ‫أم عصبة ثنوية قد‬
‫ما؟‬‫تعظي ً‬ ‫عظموا‬
‫)‪(157‬‬
‫من كل مذهب فرقة‬
‫معلومة‬
‫وستأتي قصيدته الرائية التي هجا فيها بني عبيد وكيف نجاه‬
‫الله منهم بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫‪ -11‬زادوا في الذان‪» :‬حي على خير العمل«‪ ,‬وأسقطوا‬
‫من أذان الفجر »الصلة خير من النوم«‪ ,‬ومنعوا الناس من‬
‫قيام رمضان‪ ,‬وليس شيء أشد على بني عبيد من هذه‬
‫الصلة‪ ,‬ومنعوا صلة الضحى‪ ,‬وقدموا صلة الظهر لفتنة‬
‫الناس‪ ,‬أما خطبة الجمعة فقد أظهروا فيها سب الصحابة‬
‫وضروًبا من الكفر‪ ,‬فتركها الناس‪ ,‬وأقفرت المساجد في‬
‫زمانهم‪ ,‬وكان بعض أئمتهم يصلون إلى رقادة‪ ,‬فلما انتقل‬
‫عبيد الله إلى المهدية صلوا إليها)‪ ,(158‬وكثيًرا ما كانوا يجبرون‬
‫الناس على الفطر قبل رؤية هلل شوال)‪ (159‬بل قتلوا من‬
‫أفتى بأن ل فطر إل مع رؤية الهلل كما فعلوا بالفقيه محمد‬
‫بن الحبلي قاضي مدينة برقة‪.‬‬
‫قال الذهبي رحمه الله في ترجمته‪»:‬المام الشهيد قاضي‬
‫دا العيد‪,‬‬
‫مدينة برقة‪ ,‬محمد بن الحبلي‪ .‬أتاه أمير برقة‪ ,‬فقال‪ :‬غ ً‬
‫قال‪ :‬حتى نرى الهلل‪ ,‬ول أفطر الناس‪ ,‬وأتقلد إثمهم‪ ,‬فقال‪:‬‬
‫بهذا جاء كتاب المنصور‪ ,‬وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون‬
‫بالحساب‪ ,‬ول يعتبرون رؤية فلم ير هلل‪ ,‬فأصبح المير‬
‫بالطبول والبنود وأهبة العيد‪ ,‬فقال القاضي‪ :‬ل أخرج ول‬
‫أصلي‪ ,‬فأمر المير رجل ً خطب‪ ,‬وكتب بما جرى إلى المنصور‪,‬‬
‫فطلب القاضي إليه‪ ,‬فأحضر‪ ,‬فقال له‪ :‬تنصل‪ ,‬وأعفو عنك‪,‬‬
‫‪ ()157‬المصدر نفسه )ج ‪.(2/495،494‬‬
‫‪ (2) ,()158‬انظر‪ :‬مدرسة القيروان )ج ‪.(1/73‬‬
‫)(‬ ‫‪159‬‬
‫‪73‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫فامتنع‪ ,‬فأمر‪ ,‬فعلق في الشمس إلى أن مات‪ ,‬وكان يستغيث‬
‫من العطش‪ ,‬فلم يسق‪ ,‬ثم صلبوه على خشبة‪ .‬فلعنة الله‬
‫على الظالمين«)‪.(160‬‬
‫‪ -12‬من جرائم عبيد الله الكثيرة أن خيله دخلت المسجد‪,‬‬
‫فقيل لصحابها‪ :‬كيف تدخلون المسجد؟ فقالوا‪ :‬إن أرواثها‬
‫وأبوالها طاهرة‪ ,‬لنها خيل المهدي‪ ,‬فأنكر عليهم قيم المسجد‪,‬‬
‫فذهبوا به إلى المهدي فقتله‪ ,‬يقول ابن عذارى‪ :‬وامتحن عبيد‬
‫الله في آخر حياته بعلة قبيحة‪ :‬دود في آخر مخرجه يأكل‬
‫أحشاءه فلم يزل به حتى هلك«)‪.(161‬‬
‫إن أجيال المسلمين الذي يقرؤون تاريخ العبيديين ل‬
‫يعلمون إل ما كتب لهم عن التاريخ السياسي لهذه الدولة‪,‬‬
‫ذهب فلن وخلفه فلن‪ ,‬وأنها دولة تحب العلم وتنشره‪,‬‬
‫والمقصود نشر كتب الفلسفة ولكن ل أحد يذكر ‪-‬عدا الذين‬
‫ترجموا للعلماء‪ -‬بطش هؤلء الوغاد الظلمة بالعلماء من أهل‬
‫السنة‪ ,‬بل إن الطلبة الذين يدرسون التاريخ السلمي‬
‫يذكرون معد بن إسماعيل الملقب بالمعز‪ ,‬يذكرونه وكأنه‬
‫بطل من أبطال التاريخ)‪.(162‬‬
‫وهذا كله نتيجة لغياب التفسير العقدي السلمي لتاريخنا‪,‬‬
‫بل إن المؤرخين الذين كتبوا لنا التاريخ تأثروا بمدارس‬
‫الستشراق أو بالفكر الشيعي‪ ,‬أو بذلت لهم أموال لطمس‬
‫الحقائق التي لبد من بيانها للجيال الصاعدة لتعرف عدوها‬
‫من صديقها‪ ,‬ولتعرف أن الفكار ل تموت‪ ,‬وإنما تتغير الشكال‬
‫والوجوه والمسوح‪ ,‬وأن هؤلء الملعين من أعداء السلم ل‬
‫يزالون يعملون سًرا وإعلًنا‪ ,‬ليل ً ونهاًرا للقضاء على العقيدة‬
‫البيضاء الناصعة التي تلقفتها جموع أهل السنة والجماعة من‬
‫الحبيب المصطفى × وأصحابه الغر الميامين الطاهرين‬
‫الطيبين رضي الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫***‬

‫‪ ()160‬الذهبي‪ ,‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(15/374‬‬


‫‪ ()161‬أيعيد التاريخ نفسه؟ محمد العبدة‪ ,‬ص)‪.(39‬‬
‫‪ ()162‬أيعيد التاريخ نفسه؟ محمد العبدة‪ ,‬ص )‪.(40‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪74‬‬

‫المبحث الثامن‬
‫موقف علماء أهل السنة وأساليب المقاومة‬
‫لقد قاوم علماء أهل السنة المد العبيدي الرافضي بكل‬
‫الساليب المتاحة لهم من حجة وتعليم ودعوة وحمل للسلح‬
‫ضد الطغاة الظالمين‪ ,‬وتمحورت طرقهم في عدة أساليب‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -1‬صمود العلماء والفقهاء ضد أعمال العبيديين وتحملهم‬
‫للذى والسجن والقتل مما ساهم في تثبيت عوام المسلمين‬
‫على عقيدة أهل السنة‪ ,‬وقد عمل العبيديون على إخلء‬
‫الساحة من العلماء بالترغيب وضمهم في دعوتهم أو‬
‫بالترهيب حتى يسقط العامة‪.‬‬
‫‪ -2‬قاطع العلماء جميع مؤسسات الدولة العبيدية؛ فل‬
‫يختصمون إلى قضائهم‪ ,‬ول يصلون وراء أئمتهم‪ ,‬ول يأتون‬
‫مهنئين‪ ,‬ول معزين‪ ,‬ول يتوارثون معهم‪ ,‬ول يصلون على‬
‫موتاهم‪ ,‬ول يناكحونهم)‪.(163‬‬
‫وبرز في هذا العمل الجليل العلمة الفقيه أبو يوسف جلبة‬
‫بن حمود بن عبد الرحمن الذي قاطع العبيديين علنية في‬
‫أول خطبة لبني عبيد في جامع القيروان‪ ,‬فعندما سمع ما ل‬
‫ما وكشف عن رأسه حتى رآه الناس‬ ‫يجوز سماعه قام قائ ً‬
‫ومشى إلى آخر باب في الجامع –جامع القيروان‪ -‬والناس‬
‫ينظرون إليه حتى خرج من الباب وهو يقول‪ :‬قطعوها قطعهم‬
‫الله‪ ,‬فمن حينئذ ترك العلماء حضور جمعتهم وهو أول من نبه‬
‫على ذلك)‪.(164‬‬
‫‪ -3‬حصن علماء أهل السنة أهل الشمال الفريقي‬
‫بالفتاوى التي أوضحت كفر بني عبيد‪ ,‬وأنهم ليسوا من أهل‬
‫القبلة‪ ,‬كما كفروا من دخل في دعوتهم راضًيا‪ ,‬ومن خطب‬
‫لهم في دعوتهم‪ ,‬وقد انتشرت هذه الفتاوى‪ ,‬وعرفها الخاص‬
‫والعام‪ ,‬فكانت حاجًزا منيًعا بين العوام‪ ,‬وبين التردي في دعوة‬
‫الرافضة)‪ .(165‬ومن أشهر هؤلء العلماء الذين حصنوا المة‬
‫بمنهج أهل السنة والجماعة في الشمال الفريقي في تلك‬
‫‪ ()163‬انظر‪ :‬مدرسة أهل الحديث في القيروان )ج ‪.(1/78‬‬
‫‪ ()164‬انظر‪ :‬رياض النفوس للمالكي )ج ‪.(2/43‬‬
‫‪ ()165‬رياض النفوس للمالكي )ج ‪.(2/340‬‬
‫‪75‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫الفترة الحرجة الشيخ أبو إسحاق السبائي رحمه الله‪ ,‬والذي‬
‫رأى أن الخوارج من أهل القبلة فاجتهد في الوقوف معهم‬
‫ضد الكفرة العبيديين‪.‬‬
‫قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولني‪:‬‬
‫»خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي ‪-‬رحمه الله تعالى‪ -‬مع‬
‫شيوخ إفريقية إلى حرب بني عدو الله مع أبي يزيد‪ ,‬فكان أبو‬
‫إسحاق يقول –وهو يشير بيده إلى عسكر أبي يزيد‪ : -‬هؤلء‬
‫من أهل القبلة وهؤلء ليسوا من أهل القبلة يريد عسكر بني‬
‫عدو الله‪ ,‬فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال‬
‫من »هو« على غير القبلة –وهم بنو عدو الله‪ -‬فإن ظفرنا‬
‫»بهم« لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد؛ لنه خارجي‪ ,‬والله عز‬
‫ما عادل ً فيخرجه من بين أظهرنا ويقطع‬‫وجل يسلط عليه إما ً‬
‫أمره عنا«‪.‬‬
‫والذين خرجوا معه من الفقهاء والعباد‪ :‬أبو العرب بن‬
‫تميم‪ ,‬وأبو عبد الملك مروان بن نصروان‪ ,‬وأبو إسحاق‬
‫السبائي‪ ,‬وأبو الفضل المسمى‪ ,‬وأبو سليمان‬
‫ربيع القطان)‪.(166‬‬
‫وكان ربيع القطان أول من شرع في الدعوى إلى الجهاد‬
‫ضد العبيديين وندب الناس وحضهم عليه‪.‬‬
‫ولما حضرت صلة الجمعة طلع »المام« على المنبر‪ ,‬وهو‬
‫أحمد بن محمد بن أبي الوليد وخطب خطبة أبلغ فيها‪ ,‬وحرض‬
‫الناس على الجهاد وأعلمهم بما لهم‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫ع ُ‬
‫قا ِ‬ ‫ْ‬
‫وي ال َ‬ ‫وتل هذه الية‪+ :‬ل َ ي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫فيه من الثواب‪,‬‬
‫ُ‬ ‫ن َ‬
‫غي ُْر أوِلي‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ر" ]النساء‪.[95:‬‬‫ضَر ِ‬ ‫ال ّ‬
‫يا أيها الناس جاهدوا من كفر بالله‪ ,‬وزعم أنه رب من دون‬
‫الله تعالى وغّير أحكام الله عز وجل‪ ,‬وسب نبيه وأصحاب نبيه‬
‫وأزواج نبيه‪.‬‬
‫دا‪ ,‬وقال في خطبته‪» :‬اللهم إن هذا‬ ‫فبكى الناس بكاء شدي ً‬
‫القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية‬
‫دا لنعمك‪ ,‬كافًرا بربوبيتك‪ ,‬طاعًنا على‬
‫من دون الله‪ ,‬جاح ً‬
‫أنبيائك ورسلك‪ ,‬مكذًبا لمحمد نبيك وخيرتك من خلقك‪ ,‬ساًبا‬
‫‪ ()166‬المصدر السابق )ج ‪.(2/343‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪76‬‬
‫كا لدماء‬ ‫لصحاب نبيك‪ ,‬وأزواج نبيك أمهات المؤمنين‪ ,‬ساف ً‬
‫كا لمحارم أهل ملته‪ ,‬افتراء عليك‪ ,‬واغتراًرا بحلمك‪,‬‬ ‫أمته‪ ,‬منته ً‬
‫ل‪ ,‬واغضب عليه بكرة‬ ‫ل‪ ,‬واخزه خزًيا طوي ً‬ ‫اللهم فالعنه لعًنا وبي ً‬
‫ل‪ ,‬وأصله جهنم وساءت مصيًرا‪ ,‬بعد أن تجعله في دنياه‬ ‫وأصي ً‬
‫عبرة للسائلين‪ ,‬وأحاديث في الغابرين‪ ,‬وأهلك اللهم شيعته‪,‬‬
‫وشتت كلمته‪ ,‬وفرق جماعته‪ ,‬واكسر شوكته‪ ,‬واشف صدور‬
‫قوم مؤمنين‪ ,‬ونزل فصلى الجمعة ركعتين وسلم‪ ,‬وقال‪ :‬أل‬
‫دا يوم السبت إن شاء الله)‪.(167‬‬ ‫إن الخروج غ ً‬
‫وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب‪ ,‬وفي عنقه‬
‫المصحف‪ ,‬وحوله جمع من الناس من أهل القيروان متأهبون‬
‫معدون لجهاد أعداء الله‪ ,‬وعليهم آلة الحرب فنظر إليهم‬
‫القطان‪ ,‬فسر بهم وقال‪ :‬الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت‬
‫عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك‪ ,‬وإعزاز دينك‪ ,‬يا‬
‫رب بأي عمل وبأي سبب وصلت إلى هذا؟ ثم أخذ في البكاء‬
‫حتى جرت دموعه على لحيته‪ ,‬ثم قال لهم‪ :‬لو رآكم محمد‬
‫سّر بكم‪ ,‬وقال في موطن آخر بعد أن أنصت‬ ‫×ل ُ‬ ‫رسول الله‬
‫ن‬ ‫ن ي َلون َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ذي َ َ‬ ‫قات ِلوا ال ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫الناس‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ع‬
‫م َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬ ‫وا ْ‬ ‫ة ََ‬ ‫َ‬
‫غلظ ً‬ ‫ْ‬ ‫م ِ‬ ‫فيك ُ ْ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫ول ِي َ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال ْك ُ ّ‬
‫ما ن ّك َُثوا‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قات ُِلو َ‬ ‫ن" ]التوبة‪ [123:‬ثم قال‪+ :‬أل َ ت ُ َ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ا َل ْ ُ‬
‫َ‬
‫و َ‬
‫ل‬ ‫مأ ّ‬ ‫ؤوك ُ ْ‬ ‫هم ب َدَ ُ‬ ‫و ُ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ج َ الّر َُ‬ ‫خَرا ِ‬ ‫موا ب ِإ ِ ْ‬ ‫ه ّ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مان َ َ ُ‬ ‫أي ْ َ‬
‫ُ‬
‫وهُ ِإن كن ُْتم‬ ‫ش ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ق أن ت َ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫هأ َ‬ ‫فالل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ة أت َ ْ‬ ‫مّر ٍ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ز‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫دي‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ن ‪‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬‫وم ٍ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫ص‬‫ُ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ر‬‫ُ ْ‬ ‫ص‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫و‬‫َ‬
‫ِ‬
‫شاءُ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫وي َُتو ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ظ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫َ‬
‫م" ]التوبة‪.[15-13:‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫َ‬
‫ثم أشار بيده وقال‪ :‬اذكروا الله يذكركم‪ ,‬فكبر الناس‪,‬‬
‫ومشى حتى بلغ الجامع ودخل في قتل أعداء الله حتى قتل‬
‫سنة أربع وثلثين وثلثمائة مقبل ً غير مدبر)‪ ,(168‬واستشهد معه‬
‫فضلء وأئمة وعباد صالحون‪.‬‬
‫‪ -4‬قاطع العلماء من استجاب وداهن العبيديين من الفقهاء‬
‫وإن لم يدخل في دعوتهم؛ ولذلك أفتى العلماء بطرح كتب‬
‫أبي القاسم البراذعي)‪.(169‬‬
‫‪ ()167‬رياض النفوس للمالكي )ج ‪.(2/344،343‬‬
‫‪ ()168‬رياض النفوس )ج ‪.(2/343/344‬‬
‫‪ ()169‬مدرسة الحديث في القيروان )ج ‪.(1/78‬‬
‫‪77‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫‪ -5‬فتح العلماء والفقهاء بيوتهم للناس لفضح معتقدات‬
‫الباطنية العبيدية‪ ,‬وكان أبو إسحاق السبائي يفتح داره ويأخذ‬
‫في ذم العبيديين والتحذير منهم‪ ,‬وكان يكثر من ذكر فضائل‬
‫الصحابة والثناء عليهم‪ ,‬وكانت داره كالمسجد لكثرة من‬
‫يقصدها من الطلبة‪ ,‬وكذلك أحمد بن نصر الهواري‪ ,‬وأحمد بن‬
‫يزيد الدباغ‪ ,‬واضطروا لذلك بعد أن منعهم العبيديون من‬
‫التدريس في المساجد‪ ,‬واجتهد العلماء سًرا في تعميق عقائد‬
‫أهل السنة وأصولهم وفقههم في قلوب أهل الشمال‬
‫الفريقي)‪.(170‬‬
‫وهكذا الدعاة الربانيون والفقهاء العاملون مهما ضيق‬
‫الطغاة والظلمة العتاة فإنهم لبد أن يجدوا سبيل ً لتعليم‬
‫الناس ودعوتهم إلى الرشاد‪.‬‬
‫‪ -6‬اجتهد علماء أهل السنة في غرس منهج أهل السنة‬
‫في أبناء الكتاميين والصنهاجيين والبرابرة الموالين للعبيديين‪,‬‬
‫وذلك ما قام به العلمة أبو إسحاق الجبنياني وغيره‪ ,‬فإنهم‬
‫كانوا يعلمون الولد الصغار أبناء حملة الدعوة العبيدية بحيل‬
‫لطيفة وكانوا ل يأخذون منهم أجًرا‪ ,‬ترغيًبا لهم في القبال‬
‫عليهم )‪.(171‬‬
‫ويظهر من هذا أن الهتمام بأبناء السياسيين والمفكرين‬
‫العلمانيين ووزراء الدولة ومسئوليها وموظفيها في كل قطر‬
‫ضرورة دعوية شرعية وحركية نحو إقامة شرع الله والتمكين‬
‫لدينه‪ ,‬وأما العداء وقطع الطرق والوسائل للوصول إلى أوكار‬
‫العلمانيين ونزع أبنائهم من صولة الشياطين فأمر ل يليق‬
‫بأصحاب الدعوة من أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪ -7‬ومن وسائل علماء أهل السنة في الذب عن عقائد‬
‫السلف وسيلة المناظرة والجدال وإفحام الخصم أمام عوام‬
‫الناس‪ ,‬وممن سجلت لنا كتب التاريخ مآثره النيرة في هذا‬
‫المضمار العلمة الفقيه العالم الرباني أبو بكر القمودي الذي‬
‫ناظر أبا العباس الشيعي مناظرة أفحمه فيها )‪.(172‬‬
‫عا‬
‫حا فقيًها بار ً‬‫وإبراهيم بن محمد الضبي‪ ,‬وكان رجل ً صال ً‬

‫‪ ()170‬المصدر السابق )ج ‪.(2/79‬‬


‫‪ ()171‬المصدر السابق )ج ‪.(2/80‬‬
‫‪ ()172‬انظر‪ :‬مدرسة الحديث‪) ,‬ج ‪.(2/80‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪78‬‬
‫ما وزوًرا‪.‬‬
‫في العلم وقتله بنو عبيد ظل ً‬
‫وبرز في المناظرة أبو محمد عبد الله بن التبان إل أن أبا‬
‫عثمان سعيد بن محمد الحداد كان أقدرهم في هذا الباب‪,‬‬
‫فقد كانت له‪» :‬مقامات كريمة ومواقف محمودة في الدفاع‬
‫عن السلم والذب عن السنة«‪.‬‬
‫أشهر مناظرات المام أبي عثمان سعيد بن الحداد‪:‬‬
‫دعاه عبيد الله المهدي وبّين له عبيد الله حديث »غدير‬
‫خم«‪» :‬من كنت موله فعلي موله« وهو حديث صحيح‪,‬‬
‫فعطف عبيد الله ‪-‬لعنة الله عليه‪ -‬فقال لبي عثمان‪ :‬فما‬
‫للناس ل يكونون عبيدنا؟ فقال له أبو عثمان‪ :‬أعز الله السيد‬
‫لم يرد ولية الرق‪ ,‬وإنما أراد ولية في الدين‪ ,‬قال‪ :‬فقال الله‬
‫حك ْ َ‬
‫م‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ب َ‬ ‫ه ال ْك َِتا َ‬ ‫ه الل ُ‬ ‫ؤت ِي َ ُ‬ ‫ر َأن ي ُ ْ‬ ‫ش ٍ‬ ‫ن ل ِب َ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫عز وجل‪َ + :‬‬
‫ن‬‫ُ ِ‬ ‫دو‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫لي‬ ‫ّ‬ ‫دا‬ ‫با‬
‫ِ َ ً‬ ‫ع‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫لل‬
‫ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬
‫ي‬ ‫وة َ ث ُ ّ‬ ‫والن ّب ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ب‬
‫ِ َ َ‬ ‫تا‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫مو‬
‫ْ ُ ْ ُ َ ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫ن‬
‫َ ّ ِ ّ َ ِ َ‬ ‫يي‬ ‫ن‬ ‫با‬ ‫ر‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫كو‬‫ُ‬ ‫كن‬ ‫َ‬
‫ِ َ ِ‬‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬
‫مل َئ ِك َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ذوا‬‫ُ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫َ ّ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫َ ُ َ ْ‬‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ما ك ُن ْ ُ ْ َ ْ ُ ُ َ‬
‫ن‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫وب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن"‬ ‫مو‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫كم‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫با‬ ‫با‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫يي‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫وال‬
‫ْ ّ ْ ُ َ‬ ‫ِ َ ْ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ّ َ ْ َ ً َ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫]آل عمران‪.[80،79 :‬‬
‫فما لم يجعله الله عز وجل لنبي لم يجعله لغير نبي‪ ,‬وعلي‬
‫لم يكن نبًيا‪ ,‬وإنما كان وزير النبي ×‪ ,‬فقال عبيد الله له‪:‬‬
‫انصرف ل ينالك أحد‪ .‬ويذكر أن أبا عبد الله الشيعي قال له‬
‫دا ليس بخاتم النبيين‪.‬‬ ‫ما‪ :‬القرآن يقر أن محم ً‬ ‫يو ً‬
‫م‬
‫خات َ َ‬‫و َ‬
‫ه َ‬‫ل الل ِ‬‫سو َ‬ ‫كن ّر ُ‬ ‫ول َ ِ‬
‫فقال له‪ :‬في قوله‪َ + :‬‬
‫ن" ]الحزاب‪ [40:‬فخاتم النبيين ليس رسول الله‪.‬‬ ‫الن ّب ِّيي َ‬
‫فقال له سعد‪ :‬هذه الواو ليست من واوات البتداء‪ ,‬وإنما‬
‫وال َ ِ‬
‫خُر‬ ‫ل َ‬‫و ُ‬ ‫و ال ّ‬ ‫ه َ‬
‫هي من واوات العطف كقوله عز وجل‪ُ + :‬‬
‫م" ]الحديد‪ [3:‬فهل‬ ‫عِلي ٌ‬‫ء َ‬‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫و ب ِك ُ ّ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬ ‫وال َْباطِ ُ‬
‫ن َ‬ ‫هُر َ‬ ‫وال ّ‬
‫ظا ِ‬ ‫َ‬
‫)من( أحد يوصف بهذه الصفات غير الله عز وجل؟ وتكلم‬
‫ما فغضب من كلمه رجل من كتامة يعرف بأبي‬ ‫)عنده( يو ً‬
‫موسى شيخ المشايخ وقام إليه بالرمح فمنعه أبو عبد الله من‬
‫ذلك‪ ,‬ثم عطف على أبي عثمان فقال له‪ :‬يا شيخ‪ ,‬ل تغضب‬
‫أتدري إذا غضب هذا )الشيخ( كم يغضب لغضبه‪ ,‬اثنا عشر‬
‫ألف سيف‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫فقال أبو عثمان‪ :‬ولكني )أنا( يغضب لغضبي )الله( الواحد‬
‫القهار »الذي أهلك عاًدا وثمود وأصحاب الرس وقروًنا بين‬
‫ذلك كثيًرا«)‪ ,(173‬وقد جمع الله للشيخ سعد الحداد جهارة‬
‫الصوت وفخامة المنطق وفصاحة اللسان وصواب المعاني‪,‬‬
‫وكان‬
‫ما باللغة والنحو‪ ,‬وإذا لحن في لفظة استغفر الله عز‬ ‫عال ً‬
‫وجل‪ ,‬وكان إذا تكلف‬
‫الشعر أجاده‪.‬‬
‫وذات مرة خرج لمناظرة »أبي عبد الله الشيعي« فخرج‬
‫معه أهله وولده وهم يبكون فقال لهم‪ :‬ل تفعلوا ل يكون إل‬
‫خيًرا‪ ,‬حسبي من له خرجت‪ ,‬وعن دينه ذببت‪.‬‬
‫فلما دخل على الشيعي في قصر إبراهيم بن أحمد وكان‬
‫حوله جماعة من أصحابه وجماعة مما ينسب إليهم العلم‪,‬‬
‫سلم ثم جلس‪ ,‬فقال أبو عبد الله الشيعي لبراهيم بن يونس‬
‫وقد قيل له‪ :‬إن هذا الشيخ كان قاضًيا على هذه المدينة‪ :‬بأي‬
‫شيء كنت تقضي؟‬
‫فقال له إبراهيم‪ :‬بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫فقال له أبو عبد الله‪ :‬فما السنة؟‬
‫فقال )له( إبراهيم‪ :‬السنة السنة‪.‬‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬فلما سمعته على قوله »السنة‪ ..‬السنة«‪.‬‬
‫قلت لبي عبد الله‪ :‬المجلس مشترك أو خاص؟‬
‫فقال‪ :‬مشترك‪.‬‬
‫فقال أبو عثمان‪:‬أصل السنة في كلم العرب المثال الذي‬
‫يتمثل عليه‪ ,‬قال الشاعر‪:‬‬
‫مأساء ليس بها خال ول‬ ‫تريك سنة وجه غير‬
‫ندب‬ ‫مقرفة‬
‫أي صورة وجه ومثاله‪.‬‬
‫والسنة محصورة في ثلث‪ :‬الئتمار بما أمر الله به رسوله‬
‫×‪ ,‬والنتهاء عما نهى عنه‪ ,‬والئتساء به فيما فعل‪.‬‬
‫قال الشيعي‪ :‬فإن اختلف عليك فيما نقل إليك عن النبي‬
‫× وجاءت به السنة من طرق؟‪.‬‬
‫‪ ()173‬انظر‪ :‬رياض النفوس )ج ‪.(2/60‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪80‬‬
‫فقلت له‪ :‬انظر إلى أصح الخبرين نقل ً فآخذ بأصحهما‪,‬‬
‫وأطلب الدليل علىموضع الحق في أحد الحديثين‪ ,‬ويكون‬
‫المر في ذلك كشهود عدول اختلفوا في شهادة‪ ,‬فلبد من‬
‫طلب الدليل على موضع الحق من الشهادتين‪.‬‬
‫فقال الشيعي‪ :‬فلو استووا في الثبات؟‪.‬‬
‫خا‪.‬‬
‫خا والخر منسو ً‬ ‫فقلت له‪ :‬يكون إحداهما ناس ً‬
‫قال‪ :‬فمن أين قلتم بالقياس؟‬
‫فقلت له‪ :‬قلنا ذلك من كتاب الله عز وجل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأين تجد ذلك؟‪.‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ها ال ّ ِ‬ ‫قلت‪ :‬قال الله عز وجل َفي كتابه العزيز‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫كم‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫قت َل َ ُ‬‫من َ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫حُر ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫وأن ْت ُ ْ‬ ‫قت ُُلوا ال ّ‬
‫صي ْدَ َ‬ ‫مُنوا ل َ ت َ ْ‬ ‫آ َ‬
‫وا‬‫ه ذَ َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫عم ِ ي َ ْ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫قت َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬‫جَزاءٌ ّ‬ ‫ف َ‬ ‫دا َ‬ ‫م ً‬ ‫ع ّ‬‫مت َ َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬
‫ْ ٍ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫م" ]المائدة‪.[95 :‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫فالصيد معلومة عينه‪ ,‬والجزاء الذي أمرنا أن نمثله بالصيد‬
‫)المعلومة( عينه ليس بمنصوص فعلمنا بذلك أن الله تعالى‬
‫إنما أمرنا أن نمثل ما لم ينص ذكر عينه‪ :‬بالقياس والجتهاد‬
‫م" ]المائدة‪:‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫عد ْ ٍ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ذَ َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ومنه قول الله عز وجل‪+ :‬ي َ ْ‬
‫‪.[95‬‬
‫فلم يكله إلى حاكم حتى جعلها اثنين‪ :‬ليقيسا ويجتهدا‪,‬‬
‫فقال أبو عبد الله الشيعي‪ :‬ومن ذوا عدل؟ وأومأ »ذوا عدل«‬
‫إنما هم قوم مخصوصون بنص الية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬هم الذين قال الله عز وجل فيهم في آية‬
‫م" ]الطلق‪ [2:‬ومثل‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫عد ْ ٍ‬ ‫ي َ‬ ‫و ْ‬ ‫دوا ذَ َ‬ ‫ه ُ‬‫ش ِ‬ ‫وأ َ ْ‬
‫المراجعة ‪َ +‬‬
‫َ‬
‫دوهُ إ ِلى‬ ‫و َر ّ‬ ‫َ‬
‫ول ْ‬ ‫القياس قوله عز وجل‪َ + :‬‬ ‫ذلك في تثبيت‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ِ َ‬‫مل َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫وإ َِلى أوِلي ال ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫م" ]النساء‪ [83:‬والستنباط‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ه ِ‬ ‫ُ‬
‫ست َن ْب ِطون َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫غير منصوص‪.‬‬
‫ثم عطف )أبو عبد الله الشيعي( على موسى القطان‬
‫فقال له‪ :‬أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى؟‬
‫فقال له موسى‪ :‬قال النبي ×‪» :‬من شربها فاضربوه‬
‫بالردية‪ ,‬ثم إن عاد فاضربوه باليدي‪ ,‬ثم إن عاد‬
‫‪81‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫فاضربوه بالجريد«‪.‬‬
‫فقال له أبو عبد الله على النكير منه‪ :‬أين هذا؟ أقول لك‬
‫أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى‪ ,‬تقول‪ :‬اضربوه‬
‫بالردية وباليدي ثم بالجريد؟‪.‬‬
‫سا على حد القاذف‬
‫قال أبو عثمان‪ :‬فقلت له‪ :‬إنما حد قيا ً‬
‫»لنه إذا‬
‫شرب سكر‪ ,‬وإذا سكر هذى‪ ,‬وإذا هذى افترى‪ ,‬فوجب عليه‬
‫ما يئول أمره‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(174‬‬
‫إليه وهو حد القاذف«‬
‫فقال لموسى القطان‪ :‬أو لم يقل النبي ×‪» :‬أقضاكم‬
‫علي«؟ فساق له موسى تمام نص الحديث وهو »وأعلمكم‬
‫بحلل الله وحرامه معاذ‪ ,‬وأرأفكم أبو بكر‪ ,‬وأشدكم في دين‬
‫الله عمر« رضي الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫فقال له الشيعي‪ :‬وكيف يكون أشدهم في دين الله‪ ,‬وقد‬
‫هرب بالراية يوم حنين؟‪.‬‬
‫فقال له موسى‪ :‬ما سمعنا بهذا ول نعرفه‪ .‬قال أبو عثمان‪:‬‬
‫فقلت له‪ :‬تحيز‬
‫إلى فئة كما أنزل الله تعالى‪ ,‬قال الله عز وجل‪+ :‬إ ِل ّ‬
‫حي ًّزا إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫فا ل ّ ِ‬
‫حّر ً‬
‫مت َ َ‬
‫و ُ‬
‫لأ ْ‬‫قَتا ٍ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ُ‬
‫ة" ]النفال‪.[16:‬‬ ‫فئ َ ٍ‬
‫ِ‬
‫)فمن تحيز إلى فئة( كما أمر الله عز وجل فليس بفار‪.‬‬
‫فمال الشيعي بوجهه إلى بعض أصحابه فقال‪ :‬أتسمع ما‬
‫قاله الشيخ‪ ,‬قال‪ :‬انحاز إلى فئة كما أمر الله سبحانه‪.‬‬
‫فقال مجيًبا –هو يشير بيده‪ -‬وأي فئة أكثر من رسول الله‬
‫× وقد كان حاضًرا ولم يتحيز وكأنه تخافت في كلمه ويسمع‬
‫من يليه‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬جاء عنه × أنه قال‪» :‬عمر فئة فمن تحيز إلى عمر‬
‫فقد تحيز إلى فئة« فسكت الشيعي)‪.(175‬‬
‫وسأل أبو عبد الله الشيعي أبا عثمان الحداد فقال‪ :‬أفل‬
‫‪ ()174‬انظر‪ :‬رياض النفوس )ج ‪.(2/79‬‬
‫‪ ()175‬المصدر السابق )ج ‪.(2/80‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪82‬‬
‫مدٌ إ ِل ّ‬‫ح ّ‬‫م َ‬
‫ما ُ‬
‫و َ‬
‫أوجب قول الله تعالى عند من سمعه‪َ +َ :‬‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫و قت ِ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ما َ‬‫فِإن ّ‬‫لأ َ‬‫س ُ‬
‫ه الّر ُ‬ ‫من َ‬
‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ َ ْ‬ ‫ل َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫َر ُ‬
‫م" ]آل عمران‪ [144:‬انقلب أصحاب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عقاب ِك ْ‬ ‫على أ ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫قلب ْت ُ ْ‬ ‫ان ْ َ‬
‫محمد ×‪.‬‬
‫فقال له أبو عثمان‪» :‬ل«؛ لن معناه أفإن مات أو قتل‬
‫أفتنقلبون‪ ,‬علىأعقابكم؛ لن معنى »أفإن مات«‪ :‬استفهام‪,‬‬
‫ومعنى »انقلبتم«‪ :‬أفتقلبون والستفهامان إذا جاءا في قصة‬
‫واحدة اجتزئ بأحدهما عن الخر‪ ,‬وهذا الستفهام إنما هو في‬
‫معنى التقرير بأن ل تنقلبوا على أعقابكم‪.‬‬
‫فقال له‪ :‬فهل تجد في كتاب الله عز وجل نظيًرا يكون‬
‫لهذا دلي ً‬
‫ل؟‬
‫م‬
‫ه ُ‬ ‫ت َ‬
‫ف ُ‬ ‫م ّ‬ ‫فِإن ّ‬ ‫فقال له‪ :‬نعم‪ .‬قول الله عز وجل‪+ :‬أ َ َ‬
‫ن" ]النبياء‪ ,[34:‬أي‪ :‬إنك إن مت فهم ل يخلدون‪ ,‬فلما‬ ‫دو َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫خال ِ ُ‬
‫التقى استفهامان أجزأ ذكر أحدهما عن الخر‪ ,‬فكان لفظ‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(176‬‬
‫الستفهام من ذلك مراًدا به التقرير‪» :‬بأنهم ل يخلدون«‬
‫وهكذا كان أبو عثمان سعد الحداد في دفاعه ومناظرته‬
‫لجل نصر عقائد أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫ولما توفى رثاه الشعراء فقال فيه سهل بن إبراهيم‬
‫الوراق‪:‬‬
‫فيالك من خطب يحل‬ ‫وقالوا قضى نحًبا وذاق منية‬
‫عرى الصبر‬ ‫ُ‬
‫عا وبدأه‬‫وضاق به ذر ً‬ ‫دا‬
‫وكم مارق عادى سعي ً‬
‫ظلم‬ ‫بالهجرأبا عثمان في ُ‬ ‫لو أن‬ ‫ما وغصة‬
‫وسبه‬
‫يود بقلب ذاب ه ً‬
‫القبر‬
‫وليس له عذر ففي واسع‬ ‫امرأ منكم تمنى وفاته‬
‫ً‬ ‫وأن‬
‫العذر‬
‫يمد له حبل الحياة إلى‬ ‫فليت الذي أمسى شجي‬
‫الحشر‬ ‫في حلوقهم‬
‫إذا كادهم أهل الضلل‬ ‫أليس لسان المسلمين‬
‫والكفر‬ ‫وسيفهم‬
‫وبدر دجاها حين أمسيت‬ ‫أليس هلل الرض بل‬
‫بل بدر )‪(177‬‬ ‫شمس دجنها دجنها‬
‫السحر‬ ‫يجيب وما غاصت دقائق‬
‫فكره‬
‫‪ ()176‬رياض النفوس )ج ‪.(2/83‬‬
‫‪ ()177‬المصدر نفسه )ج ‪.(2/115‬‬
‫‪83‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثاني‬
‫هذه بعض الساليب والطرق والمناظرات التي قام بها‬
‫علماء أهل السنة في الذود والدفاع عن عقائد المسلمين‪,‬‬
‫فعليهم من الله الرحمة والرضوان على ما أبلوا وأقاموا به‬
‫من جهاد ودعوة وفداء‪.‬‬
‫‪ -8‬قام شعراء أهل السنة بدور مجيد‪ ,‬وجهاد حميد في‬
‫الدفاع عن السلم والهجوم على بني عبيد بالسنان والقوافي‬
‫التي كانت على بني عبيد أشد من السيوف القواطع‪ ,‬وتبوأ‬
‫مركز الصدارة في هذا الباب الشاعر المجيد أبو القاسم‬
‫الفزاري‪ ,‬ومن أشهر ما قال قصيدته الرائية التي انتشرت في‬
‫الفاق والبلدان التي قال فيها‪:‬‬
‫يقوم بها دعي أو كفور‬ ‫عجبت لفتنة أعمت‬
‫وعمت‬
‫لها وتلونت منها الدهور‬ ‫تزلزلت المدائن والبوادي‬
‫ولم تغن المعاقل والقصور‬ ‫وضاقت كل أرض ذات‬
‫عرض‬
‫إله دافعٌ عنها قدير‬ ‫فنجى القيروان وساكنيها‬
‫وميزا ما أكنته الصدور‬ ‫خبًرا‬
‫ما و ُ‬
‫أحاط بأهلها عل ً‬
‫وأسبل فوقها ستر ستير‬ ‫وجللهم بعافية وأمن‬
‫بحار ل تعد ل بحور‬ ‫وأثبت جلة العلماء فيها‬
‫عدوا وليس لهم نظير‬
‫إذا ُ‬ ‫ما‬
‫ومنها سادة العلماء قد ً‬
‫فقد طاب الوائل والخير‬ ‫وفيها القوم عباد خيار‬
‫وفادوا ما استبد به المغير‬ ‫هم افتكوا سبايا كل أرض‬
‫فزالت عنهم تلك الشرور‬ ‫كفيناهم عظائمها جميًعا‬
‫أمات عروقها ضر ضرير‬ ‫وسكن ّا قلوًبا خافقات‬
‫لهم أهل ً وأكثرهم شطير‬ ‫وآوينا وآسينا وكنا‬
‫هناك وُدورنا للقوم دور‬ ‫ما‬
‫فبات طعامنا لهم طعا ً‬
‫وقام يشكونا منهم شكور‬ ‫وكان لنا ثواب الله ذخًرا‬
‫لغاب طعامهم والمخ ريُر‬ ‫ولول القيروان وساكنوها‬
‫)‪(178‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪84‬‬
‫ثم مضى في القصيدة إلى أن قال‪:‬‬
‫ول جبل أعاليه وعور‬ ‫وليس لنا كما لهم حصون‬
‫لنا من حفظ رب العرش‬ ‫ول سور أحاط بنا ولكن‬
‫سور‬
‫ُ‬
‫إذا قضى القضا ُتنحى‬ ‫ول نأوي إلى بحر وإنا‬
‫البحور‬
‫وفي أيماننا البيض الذكور‬ ‫ولكنا إلى القرآن نأوي‬
‫بها تحمي الحرائم والثغور‬ ‫عقائق كالبوارق مرهفات‬
‫بها ظمأ‪ ,‬مواردها النحور‬ ‫سمر في أعاليهن شهب‬‫و ُ‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫ُنحب إذا تشعثت المور‬ ‫وإنا بعد من خوف وأمن‬
‫به ُترجى السعادة والحبور‬ ‫رسول الله والصديق حّبا‬
‫وما اختلفوا فربهم غفور‬ ‫وبعدهما نحب القوم ط ًُرا‬
‫محمد البشير لنا النذير‬ ‫أل بأبي وخالصتي وأمي‬
‫)‪(179‬‬
‫سأهدي ما حييت له ثناء‬

‫***‬

‫‪ ()178‬رياض النفوس )ج ‪.(2/493‬‬


‫‪ ()179‬انظر‪ :‬رياض النفوس )ج ‪.(2/494‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪86‬‬

‫تمهيد‬
‫استمال خلفاء الدولة العبيدية القبائل البربرية الصنهاجية‬
‫واستبدلوها بدل ً من القبائل الكتامية وأسندوا إليها المور‬
‫المهمة في الدولة‪ ,‬وارتفع نجم الصنهاجيين في زمن عائلة‬
‫بني زيري الصنهاجية التي استطاعت أن تثخن في ثورة أبي‬
‫يزيد الخارجي‪ ,‬فأهدى العبيديون للصنهاجيين حكم إفريقية‬
‫والمغرب‪ ,‬ومؤسس الدولة الصنهاجية هو أبو الفتوح يوسف‬
‫بن زيري بن مناد الصنهاجي )‪373 -362‬هـ( الذي افتتح‬
‫سنوات حكمه بقمع الثائرين وتمهيد البلد‪.‬‬

‫المبحث الول‬
‫أبو الفتوح يوسف بلكين بن زيري بن مناد بن‬
‫منقوش الصنهاجي‬
‫)‪373 -362‬هـ‪983 -972 /‬م(‬
‫أصبح يوسف بلكين بن زيري والًيا أو أميًرا لكل بلد‬
‫إفريقية‪ ,‬وهو أول حاكم لبلد المغرب من أصل بربري بعد‬
‫الفتح السلمي‪ ,‬وكان متفانًيا في خدمة العبيديين وتوسيع‬
‫أملكهم‪ ,‬واشتد الصراع العنيف بين قبائل صنهاجة وقبائل‬
‫زناتة‪ ,‬واستعمل الحاكم الصنهاجي أبو الفتوح القوة والعنف‬
‫والشدة للقضاء على سيادة قبائل زناتة‪ ,‬واستطاعت الدولة‬
‫الموية في الندلس أن تستفيد من هذا الصراع ووجهت‬
‫ضربة ماكرة للدولة العبيدية فدعمت قبائل زناتة بكل ما‬
‫تملك حتى استطاعت أن تقف في وجه الصنهاجيين التابعين‬
‫للعبيديين‪ ,‬وكانت سياسة الصنهاجيين مبنية على العنف‬
‫والقوة مع الزناتيين فلم يسعوا لكسب ودهم أو مهادنتهم‪,‬‬
‫واستغلت الدولة الموية هذا الصراع حتى فصلت المغرب‬
‫القصى عن سيادة بني زيري)‪.(180‬‬
‫طا واسًعا وعمل ً دؤوًبا‪ ,‬وكان‬ ‫وأظهر المير بلكين نشا ً‬
‫ظا على تبعيته للعبيديين وولئه للمذهب السماعيلي‬ ‫محاف ً‬
‫الباطني‪ ,‬إل أنه لم يتشدد هو والمراء الذين جاءوا بعده‬
‫بمطالبة الناس بالتشيع‪ ,‬فانفسح المجال نسبًيا أمام علماء‬
‫أهل السنة لنشر السنة‪ ,‬وبدأت الحياة العلمية تعود إلى‬

‫‪ ()180‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪.(30-24 /2‬‬


‫‪87‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫المساجد والكتاتيب شيًئا فشيًئا‪ ,‬غير أن تلك المظاهر‬
‫الرسمية من التبعية لحكام مصر والدعوة لهم على المنابر‬
‫كانت تقلق العلماء‪ ,‬وأسهمت في إيجاد هوة عميقة بينهم‬
‫وبين حكام بني زيري‪ ,‬فمضوا في محاربة هؤلء الحكام الذين‬
‫لم يكونوا متحمسين للدعوة السماعيلية‪ ,‬والتف أهل الشمال‬
‫الفريقي حول علمائهم‪ ,‬وواصلوا مقاطعة الدولة‪ ,‬غير أن‬
‫هؤلء الحكام لم يستطيعوا العلن بموافقة علماء أهل السنة‬
‫خوًفا على سلطانهم‪ ,‬وأحس أهل القيروان بذلك فراح‬
‫علماؤهم يعملون جاهدين على نشر السنة وآراء السلف‪,‬‬
‫فعجت حلقات العلماء بطلب العلم في القيروان من جديد‪,‬‬
‫وكثرت المؤلفات في بيان دين السلم الصحيح‪ ,‬وكان‬
‫التخلص النهائي من أتباع العبيديين‪ ,‬وانتصار أهل السنة على‬
‫الروافض في الشمال الفريقي على عهد المير السني‬
‫والسيف القاطع والطود المنيف المير المعز بن باديس‪.‬‬
‫***‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪88‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫المعز بن باديس الصنهاجي‬
‫)‪449 -406‬هـ(‬
‫قال عنه الذهبي‪) :‬صاحب إفريقية‪ ,‬المعز بن باديس بن‬
‫منصور بن ب ُُلكين بن زيري بن مناد الحميري‪ ,‬الصنهاجي‪,‬‬
‫المغربي‪ ,‬شرف الدولة ابن أمير المغرب( )‪.(181‬‬
‫نودي به أميًرا يوم السبت الثالث من ذي الحجة سنة ‪406‬‬
‫هـ بعد وفاة أبيه بثلثة أيام)‪.(182‬‬
‫استطاع بعض فقهاء المالكية أن يصلوا إلى ديوان الحكم‬
‫في دولة صنهاجة وأثروا في بعض الوزراء والمراء الذين كان‬
‫لهم الفضل بعد الله في تخفيف ضغط الدولة على علماء أهل‬
‫السنة‪.‬‬
‫وأخص بالذكر العلمة أبو الحسن الزجال الذي اجتهد على‬
‫المير المعز بن باديس في تربيته على منهج أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ,‬وأعطت هذه التربية ثمارها بعد ما تولى المعز‬
‫إفريقية‪ ,‬وكان عمل العلمة أبو الحسن في السر بدون أن‬
‫يعلم به أحد من الشيعة الذين كانت الدولة دولتهم‪ ,‬وكان هذا‬
‫ضا للمذهب‬ ‫العالم فاضل ً ذا خلق ودين وعقيدة سليمة‪ ,‬ومبغ ً‬
‫السماعيلي الشيعي‪.‬‬
‫واستطاع أن يزرع التعاليم الصحيحة في نفسية وعقلية‬
‫وفكر المعز بن باديس الذي تم على يديه القضاء على مذهب‬
‫الشيعة السماعيلية في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫وهذا درس لنا نحن الدعاة في الهتمام برجالت الدولة‬
‫وأبنائهم من أصحاب المناهج العلمانية والبعيدة عن هدى‬
‫المولى عز وجل‪ ,‬وليكن شعار العاملين في هذا المجال قوله‬
‫م ِإن‬ ‫عرن بك ُ َ‬ ‫ول َ ي ُ ْ‬ ‫ول ْي َت َل َطّ ْ‬
‫ه ْ‬ ‫دا * إ ِن ّ ُ‬‫ح ً‬
‫مأ َ‬ ‫ش ََِ ّ ِ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي َظْ َ‬
‫ملت ِ ِ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫دوك ْ‬ ‫عي ُ‬‫و يُ ِ‬
‫مأ ْ‬ ‫موك ْ‬ ‫ج ُ‬‫م ي َ َْر ُ‬‫علي ْك ْ‬ ‫هُروا َ‬
‫دا" ]الكهف‪.[20،19:‬‬ ‫ذا أب َ ً‬‫حوا إ ِ ً‬ ‫وَلن ت ُ ْ‬
‫فل ِ ُ‬ ‫َ‬
‫وقد وصف المؤرخون المعز بن باديس بأوصاف في غاية‬
‫كا مهيًبا‪ ,‬وسرًيا‬ ‫الروعة والجمال‪ ,‬فقال فيه الذهبي‪» :‬وكان مل ً‬
‫عا‪ ,‬عالي الهمة‪ ,‬محًبا للعلم‪ ,‬كثير البذل مدحه الشعراء‪,‬‬ ‫شجا ً‬
‫‪ ()181‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(18/140‬‬
‫‪ ()182‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا )ص ‪.(286‬‬
‫‪89‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫وكان مذهب المام أبي حنيفة قد كثر بإفريقية فحمل أهل‬
‫ما لمادة الخلف‪ ,‬وكان يرجع إلى‬ ‫بلده على مذهب مالك حس ً‬
‫السلم‪ ,‬فخلع‬
‫طاعة العبيدية وخطب للقائم بأمر الله العباسي‪ ,‬فبعث إليه‬
‫المستنصر يتهدده‪,‬‬
‫فلم يخفه«)‪.(183‬‬
‫ورد المعز بن باديس على خطاب المستنصر الذي هدده‬
‫فيه وقال له‪ :‬هل اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولء‪ ,‬في‬
‫كلم طويل‪ ,‬فأجابه المعز‪ :‬إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك‬
‫المغرب قبل أن يتملكه أسلفك ولهم عليهم من الخدم أعظم‬
‫من التقديم ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم)‪.(184‬‬
‫وبينت لنا كتب التاريخ أن المعز تدرج في عدائه‬
‫للسماعيلية ولحكام مصر‪ ,‬وظهر ذلك في عام ‪435‬هـ عندما‬
‫وسع قاعدة أهل السنة في جيشه وديوانه ودولته‪ ,‬فبدأ في‬
‫حملت التطهير للمعتقدات الكفرية ولمن يتلذذ بسب أصحاب‬
‫رسول الله ×‪ ,‬فأوعز للعامة ولجنوده بقتل من يظهر الشتم‬
‫والسب لبي بكر وعمر رضي الله عنهما فسارعت العامة في‬
‫كل الشمال الفريقي للتخلص من بقايا العبيديين ليصفي‬
‫الشمال الفريقي من المعتقدات الفاسدة الدخيلة عليه‪.‬‬
‫وأشاد العلماء والفقهاء بهذا العمل الجليل الذي أشرف‬
‫على تنفيذه المعز بن باديس ‪-‬رحمه الله‪ -‬وذكر الشعراء‬
‫قوافي وأشعاًرا في مدح المعز ودونوا تلك البداية‪ ,‬فقال‬
‫القاسم بن مروان في تلك الحوادث‪:‬‬
‫كما قتلوا بأرض القيروان‬ ‫وسوف يقتلون بكل أرض‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫وسرور واغتباط وجذل‬ ‫يا معز الدين عش في‬
‫رفعة‬
‫قا في الملعين‬ ‫وعتي ً‬ ‫أنت أرضيت النبي‬
‫السفل)‪(185‬‬ ‫المصطفى‬
‫الدول‬ ‫وجعلت القتل فيهم سنة‬

‫استمر المعز بن باديس في التقرب إلى العامة وعلمائهم‬


‫وفقهائهم من أهل السنة وواصل السير في تخطيطه‬
‫‪ ()183‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(18/140‬‬
‫‪ ()184‬تاريخ الفتح في ليبيا‪ ,‬لطاهر الزاوي‪ ,‬ص )‪.(289‬‬
‫‪ ()185‬تاريخ الفتح في ليبيا‪ ,‬لطاهر الزاوي‪ ,‬ص )‪.(289‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪90‬‬
‫للنفصال الكلي عن العبيديين في مصر‪ ,‬فجعل المذهب‬
‫المالكي هو المذهب الرسمي لدولته‪ ,‬وأعلن انضمامه للخلفة‬
‫العباسية‪ ,‬وغير العلم إلى العباسيين وشعاراتهم‪ ,‬وأحرق‬
‫أعلم العبيديين وشعاراتهم‪ ,‬وأمر بسبك الدراهم والدنانير‬
‫التي كانت عليها أسماء العبيديين والتي استمر الناس‬
‫يتعاملون بها ‪ 145‬سنة وأمر بضرب سكة أخرى كتب على‬
‫أحد وجهيها‪» :‬ل إله إل الله محمد رسول الله«‪ ,‬وكتب على‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬
‫ل ِ‬‫قب َ َ‬ ‫فل َ ْ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫سل َم ِ ِديًنا َ‬
‫غي َْر ال ِ ْ‬‫غ َ‬‫من ي َب ْت َ ِ‬ ‫و َ‬‫الخر‪َ + :‬‬
‫ن" ]آل عمران‪.[85:‬‬ ‫ري‬ ‫س‬ ‫خا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬‫و ِ‬
‫ِ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬
‫َ‬
‫وقضى المعز بن باديس على كل المذاهب المخالفة لهل‬
‫السنة من الصفرية والنكارية والمعتزلة والباضية‪.‬‬
‫وفي سنة ‪443‬هـ انضمت برقة كلها إلى المعز بن باديس‬
‫بعد أن أعلن أميرها جبارة بن مختار الطاعة له‪.‬‬
‫وكان أول من قاد حملة التطهير على السماعيلية في‬
‫طرابلس وحارب تقاليدهم الباطلة ودعوتهم المضلة هو‬
‫)‪(186‬‬
‫العلمة علي بن محمد المنتصر وكنيته أبو الحسن‬
‫المتوفي عام ‪432‬هـ‪.‬‬
‫واشتاط الحقد الباطني وتفجرت براكين الغضب في‬
‫نفوسهم وقرروا النتقام من قائد أهل السنة في الشمال‬
‫الفريقي ومن أهله الذين فرحوا بعودة بلدهم لحظيرة أهل‬
‫السنة‪ ,‬فانعقد في القاهرة مجلس رافضي باطني إسماعيلي‬
‫بقيادة الخليفة العبيدي وخرجوا برأي شيطاني مفادة رمي‬
‫السنية الصنهاجية الزيرية بقبائل بني سليم وبني هلل‪ ,‬فإن‬
‫انتصرت الدولة الصنهاجية تكون الدولة العبيدية قد تخلصت‬
‫من هذه القبائل المتعبة‪ ,‬وإن انتصر بنو سليم وبنو هلل‬
‫يكونوا بذلك انتقموا من عدوهم اللدود المعز بن باديس‪ ,‬وكان‬
‫الذي تبنى هذه الفكرة الوزير العبيدي أبو محمد بن علي‬
‫اليازوري الذي شرع في إغراء القبائل المقيمة على ضفاف‬
‫النيل وأمدهم بالمال والسلح والكراع‪ ,‬وأباح لهم برقة‬
‫والقيروان‪ ,‬وكل ما يكون تحت أيديهم‪ ,‬واتصل العبيديون‬
‫بالمعارضين للمعز وأمدوهم بما يملكون من مال وسلح‬
‫وعتاد‪.‬‬
‫وبدأت حلقة الصراع العنيف بين المعز بن باديس والقبائل‬
‫العربية المدعومة من الروافض العبيديين‪.‬‬

‫‪ ()186‬المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(291 ،290‬‬


‫‪91‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫***‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪92‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫زحف بني هلل وبني سليم وغيرهما‬
‫من القبائل إلى الشمال الفريقي‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫كانت قبائل بني هلل وبني سليم تسكن الجزيرة العربية‪,‬‬
‫وكانت مضاربها متوزعة حول المدينة النبوية ومكة والطائف‬
‫ونجد‪ ,‬واستطاع القرامطة أن يستغلوهم في حروبهم ضد‬
‫الخلفة العباسية والدولة العبيدية‪ ,‬وتأثر بعض زعماء هذه‬
‫قا‬
‫القبائل بأفكار وعقائد القرامطة‪ ,‬ولم يكن تأثيرهم عمي ً‬
‫وإنما كانت له أسباب اقتصادية ونزعة تمردية على النقياد‬
‫للدولة العباسية‪ ,‬وفي قتال القرامطة مع العبيديين لعبت هذه‬
‫القبائل دوًرا بارًزا في الشام وكانت لها شوكة ومنعة وعدة‬
‫وعتاد‪.‬‬
‫فاستطاع المير العبيدي في مصر أن يجلبهم ويقربهم له‬
‫بالعطايا والهدايا والموال‪ ,‬واستجابت لطرح الخليفة العبيدي‬
‫صا على وجود العنصر العربي في دولته‪,‬‬ ‫الذي كان حري ً‬
‫وأعطتهم الدولة العبيدية أراضي خصبة على ضفاف النيل‪,‬‬
‫وأعطت القبائل ولءها للدولة العبيدية‪ ,‬وتبنت شعارات الدولة‬
‫الباطنية لجهلها وبعدها عن فهم حقيقة دينها‪ ,‬وأخلصت‬
‫للخليفة العبيدي الذي قرر النتقام من المعز بن باديس بهذه‬
‫القبائل ذات الشوكة والشكيمة والمنعة والدراية بالحروب‪,‬‬
‫صا أن الدولة العبيدية كانت ل تستطيع إرسال جيوشها‬ ‫وخصو ً‬
‫بسبب انشغالها بالقرامطة‪ ,‬ومشروعاتها بالشام والمشرق‬
‫ما؛ ولن طوائف من جيشها من نفس جنس المغاربة؛ بل‬ ‫عمو ً‬
‫من قادتهم من هو من نفس قبيلة المعز بن باديس‪ ,‬ولسيما‬
‫أن الدولة أهملت هؤلء القادة والجنود منذ أيام العزيز‬
‫والخليفة العبيدي‪.‬‬
‫وكانت القبائل العربية التي في صعيد مصر بعضها يرجع‬
‫للفتح السلمي قد ازدادت بعد تركهم للجزيرة العربية‬
‫ومجيئهم إلى مصر في زمن العزيز العبيدي‪.‬‬
‫واشتهرت تلك القبائل في صعيد مصر بفعل القلقل‬
‫وإشاعة الضطراب والفوضى في البلد‪ ,‬فكانت هذه المرة‬
‫فرصة ذهبية للتخلص منها والنتقام من عدو الدولة وقهره‬
‫والتشفي منه‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫وينسب للمستنصر قوله‪» :‬والله لرمينه بجيوش ل أتحمل‬
‫فيها مشقة« فدعا العرب وأباح لهم مجاز النيل إلى المغرب‪,‬‬
‫وكانت ممنوعة عنها من قبل ذلك‪ ,‬فعبر منهم خلق‬
‫عظيم)‪.(187‬‬
‫واجتمع المير المستنصر العبيدي مع زعماء القبائل‬
‫العربية ومناهم بالمساعدة المالية والمعنوية‪ ,‬وأعطاهم خيول ً‬
‫حا وعتاًدا ومال ً وكل ما يساعدهم في تحقيق أهدافه‬ ‫وسل ً‬
‫الشريرة وأباح لهم إفريقية يفعلون فيها ما يشاءون‪ ,‬وقال‬
‫لهم‪» :‬لقد أعطيناكم إفريقية وملك ابن باديس فل تفتقرن‬
‫بعدها«)‪.(188‬‬
‫وعندما تحركت جموع العرب في ‪442‬هـ‪1050 -‬م أرسل‬
‫الوزير العبيدي الحاقد إلى المعز بن باديس رسالة قائل ً له‪:‬‬
‫ل‪ ,‬وحملنا عليهم رجال ً‬ ‫»أما بعد‪ ,‬فقد أرسلنا إليكم خيول ً فحو ً‬
‫ً )‪(189‬‬ ‫كهو ً‬
‫‪.‬‬ ‫ل‪ ,‬ليقضي الله أمًرا كان مفعول«‬
‫فسيطرت هذه القبائل على برقة بدون مقاومة تذكر‪,‬‬
‫وكانت برقة قد تمردت على العبيديين أيام الحاكم‪ ,‬وأعلنت‬
‫الطاعة للمعز أيام المستنصر‪ ,‬وأحرقت المنابر التي كان‬
‫يخطب فيها للعبيديين‪ ,‬وأحرقت راياتهم‪ ,‬وأعلنت دعوة القائم‬
‫العباسي)‪ .(190‬وواصلت القبائل العربية زحفها إلى طرابلس‬
‫وضواحي تونس‪ ,‬وكان تعداد هذه القبائل المهاجمة على‬
‫الشمال الفريقي أربعمائة ألف‪ ,‬ولحقتها أفواج تترى‪ .‬ويذكر‬
‫بعض المؤرخين أن العدد الكلي وصل إلى مليون نسمة على‬
‫مراحل متعددة‪ ,‬وعندما استقرت هذه القبائل في برقة‬
‫أرسلت أحد شيوخها وهو مؤنس ابن يحيى بن مرداس من‬
‫فا على المعز‪ ,‬فعجب‬ ‫رياح أحد بطون بني هلل لينزل ضي ً‬
‫مؤنس من النعيم والبهة التي كانت للمعز بن باديس‪ ,‬فأكرمه‬
‫المعز وأحسن في ضيافته‪ ,‬وعرض عليه المعز أن يتخذ من‬
‫دا له‪ ,‬فأشار عليه مؤنس بأل يفعل معلل ً‬ ‫بني عمه رياح جن ً‬
‫ذلك بعدم انقيادهم واختلف كلمتهم فلم يقتنع المعز بما قاله‬
‫مؤنس‪.‬‬
‫وقال مؤنس للمعز‪ :‬إنهم قوم ل طاقة لك بهم‪.‬‬
‫فقال له المعز‪ :‬هم دون ذلك‪ ,‬فاعتبرها مؤنس إهانة‬
‫ظهور الخلفة الفاطمية وسقوطها‪ ,‬د‪ .‬عبد المنعم ماجد‪ ,‬ص )‪.(223‬‬ ‫‪()187‬‬
‫انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي‪ ,‬ص )‪.(294‬‬ ‫‪()188‬‬
‫ظهور الخلفة الفاطمية وسقوطها‪ ,‬ص )‪.(243‬‬ ‫‪()189‬‬
‫المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(224‬‬ ‫‪()190‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪94‬‬
‫للعرب‪ ,‬وظن المعز مؤن ًً‬
‫سا ل يريد أن يكون لغيره سلطان‬
‫على قومه‪ ,‬وصارحه بذلك‪.‬‬
‫فلما رجع مؤنس إلى قومه رغبهم ووصف لهم من خيرات‬
‫إفريقية وأبهة المعز ما رغبهم في السراع بالرحيل‪ ,‬فانسابوا‬
‫في أرض إفريقية في جموع ل يدرك أولها ول ينتهي‬
‫آخرها)‪.(191‬‬
‫ومن أشهر القبائل العربية التي زحفت على ملك المعز بن‬
‫باديس بنو سليم بن منصور‪ ,‬وبنو هلل بن عامر وهم من‬
‫مضر‪ ,‬وكانت زغبة والثيح‪ ,‬وعدي‪ ,‬ورياح من الهلليين من‬
‫بني عامر بن صعصعة وبني هاشم بن معاوية بن بكر‪ ,‬وهذه‬
‫القبائل مضرية عدنانية‪.‬‬
‫وقبيلة كهلن وهي قحطانية‪ ,‬وقبائل أخرى كثيرة غير‬
‫مشهورة‪.‬‬
‫وعندما رحلت بنو رياح والثيح وبنو عدي إلى إفريقية‬
‫يريدون اللحاق بالقيروان‪ ,‬قال لهم مؤنس‪ :‬ليس هذا برأي‬
‫يحتاج إلى تدبير‪ ,‬فقالوا له‪ :‬وماذا نصنع؟ فقال‪ :‬ائتوني ببساط‬
‫فأتوا به‪ ,‬فبسطه وقال لهم‪ :‬من يدخل إلى وسط البساط من‬
‫غير أن يمشي عليه؟ فقالوا‪ :‬ومن يقدر على ذلك؟ فقال‪ :‬أنا‪,‬‬
‫فطوى البساط وأتى طرفه وفتح منه مقدار ذراع ووقف‬
‫عليه‪ ,‬ثم فتح شيًئا آخر ودخل إليه وقال‪ :‬هكذا فاصنعوا ببلد‬
‫المغرب‪ ,‬املكوها شيًئا فشيًئا حتى ل يبقى عليكم إل القيروان‬
‫فأتوها فإنكم تملكونها‪ ,‬فقال له رافع بن حماد ‪-‬وهو أحد‬
‫رؤساء العرب‪» : -‬صدقت يا مؤنس‪ ,‬والله إنك لشيخ العرب‬
‫وأميرها‪ ,‬فقد قدمناك على أنفسنا‪ ,‬فلسنا نقطع‬
‫أمًرا دونك«‪.‬‬
‫وقد اقترعوا على البلد فخرج لبني سليم شرقيها‪ :‬برقة‬
‫وما حولها‪ ,‬وخرج لبني هلل غربيها‪ :‬طرابلس وقابس‪ ,‬وانضم‬
‫بنو جشم إلى بني هلل‪.‬‬
‫وكان في العرب كثير من غير بني هلل وبني سليم من‬
‫فزارة وأشجع من بطون غطفان‪ ,‬وجشم بن معاوية بن بكر‬
‫بن هوازن‪ ,‬وسلول بن مرة بن صعصعة بن معاوية‪ ,‬والمعقل‬
‫من بطون اليمنية‪ ,‬وكلهم مندرجون في بني هلل وفي الثيح‬
‫على الخصوص؛ لن الرياسة كانت عندهم للثيح وهلل‬
‫‪ ()191‬انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي‪ ,‬ص)‪.(295‬‬
‫‪95‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫فأدخلوا فيهم‪.‬‬
‫وكانت الثيح من الهلليين أوفر عدًدا‪ ,‬وأكثر بطوًنا‪ ,‬وكان‬
‫التقدم لهم في حملتهم‪ ,‬وكان منهم الضحاك‪ ,‬وعياض‪,‬‬
‫ومقدم‪ ,‬والعاصم‪ ,‬ولطيف‪ ,‬ودريد‪ ,‬وكرفة‪ ,‬وغيرهم حسبما‬
‫يظهر في نسبهم‪.‬‬
‫وكان لهم القوة‪ ,‬وكانوا أحياء غزيرة من جملة الهلليين‬
‫الداخلين لفريقية)‪ ,(192‬ومن أشراف رجالت العرب‪ :‬حسن‬
‫بن سرحان‪ ,‬وأخوه بدر‪ ,‬وفضل بن ناهض‪ ,‬وهؤلء من دريد بن‬
‫الثيح‪.‬‬
‫ومنهم ماضي ين مقرب‪ ,‬وسلمة بن رزق في بني كبير‪,‬‬
‫في بطون كرفة‪ ,‬من الثيح‪ ,‬وذياب بن غانم‪ ,‬وينسبونه في‬
‫بني ثور‪ ,‬وموسى بن يحيى‪ ,‬وينسبونه في مرداس رياح‪ ,‬ل‬
‫مرداس سليم‪ ,‬وهو من بني صقر‪ ,‬بطن من مرداس رياح‪.‬‬
‫ومنهم زيد بن زيدان‪ ,‬وينسبونه في الضحاك‪ ,‬وفارس بن أبي‬
‫الغيث‪ ,‬وأخوه عامر‪ ,‬والفضل بن أبي علي‪ ,‬ونسبهم في‬
‫مرداس وكل هؤلء يذكرون في أشعارهم)‪.(193‬‬

‫‪ (2) ,()192‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(297‬‬


‫)(‬ ‫‪193‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪96‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫الصدام المسلح بين المعز بن باديس والقبائل‬
‫العربية‬
‫ذكر ابن الثير دخول العرب إلى إفريقية في حوادث عام‬
‫‪442‬هـ إلى أن قال‪» :‬ثم قدم أمراء العرب إلى المعز بن‬
‫باديس فأمرهم وبذل لهم شيًئا كثيًرا‪ ,‬فلما خرجوا من عنده‬
‫لم يجازوه بما فعل من الحسان‪ ,‬بل شنوا الغارات‪ ,‬وقطعوا‬
‫الطريق‪ ,‬وأفسدوا الزروع‪ ,‬وقطعوا الثمار‪ ,‬وحاصروا المدن‪,‬‬
‫فضاق بالناس المر‪ ,‬وساءت أحوالهم‪ ,‬وانقطعت أسفارهم‪,‬‬
‫ونزل بإفريقية بلء لم ينزل بها مثله قط‪ ,‬فحينئذ احتفل‬
‫المعز‪ ,‬وجمع عساكره‪ ,‬فكانوا ثلثين ألف فارس ومثلها‬
‫جالة‪ ,‬وسار حتى حيل بينه وبين القيروان ثلثة أيام‪ ,‬وكانت‬ ‫ر ّ‬
‫عدة العرب ثلثة آلف فارس »والصحيح أنهم كانوا على قدر‬
‫جيش المعز على قول صاحب موسوعة المغرب العربي«‬
‫فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم‬
‫ذلك‪ ,‬وعظم عليهم‪ ,‬فقال لهم مؤنس بن يحيى‪ :‬ما هذا يوم‬
‫فرار؟ فقالوا‪ :‬أين نطعن هؤلء وقد لبسوا الكزاغندات‬
‫والمغافر؟ قال‪ :‬في أعينهم‪ ,‬فسمى ذلك اليوم يوم العين‪,‬‬
‫والتحم القتال‪ ,‬واشتدت الحرب‪ ,‬فاتفقت صنهاجة على‬
‫الهزيمة‪ ,‬وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم‪ ,‬ويقتل‬
‫أكثرهم‪ ,‬فعند ذلك يرجعون على العرب‪ ,‬فانهزمت صنهاجة‬
‫وثبت العبيد مع المعز‪ ,‬فكثر القتل فيهم‪ ,‬فقتل منهم خلق‬
‫كثير‪ ,‬وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب‪ ,‬فلم يمكنهم ذلك‪,‬‬
‫واستمرت الهزيمة‪ ,‬وقتل من صنهاجة أمة عظيمة‪ ,‬ودخل‬
‫ما‪ ,‬على كثرة من معه وأخذ العرب‬ ‫المعز القيروان مهزو ً‬
‫الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره)‪.(194‬‬
‫وقد وصفت كتب التاريخ هذه الواقعة بأبشع ما توصف به‬
‫الحروب من فظاعة القتل وكثرة القتلى‪ ,‬نتيجة لصمود كل‬
‫من الجيشين للخر في سبيل دحر خصمه والقضاء عليه‪,‬‬
‫وقال الشاعر العربي علي بن رزق الرياحي أبياًتا في هذه‬
‫المعركة يصف فيها ما دار بينهم وبين المعز‪:‬‬
‫ولكن لعمري ما لديه رجال‬ ‫وإن ابن باديس لحزم‬
‫مالك‬
‫)‪(195‬‬
‫فا إن ذا لنكال‬
‫ثلثين أل ً‬ ‫ثلثة آلف لنا غلبت له‬

‫‪ ()194‬الكامل في التاريخ )ج ‪.(6/153‬‬


‫‪97‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫ولما كان يوم النحر من هذه السنة ‪442‬هـ جمع المعز‬
‫سبعة وعشرين ألف فارس‪ ,‬وهجم على العرب على حين‬
‫غرة وهم في صلة العيد‪ ,‬فركبت العرب خيولهم وهجمت‬
‫على جيوش المعز فهزمتهم وأثخنتهم قتلى‪ ,‬ثم جمع المعز‬
‫وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جمع كثير‪ ,‬وهاجم العرب‬
‫في منازلهم‪ ,‬واحتدم القتال وتبارز الشجعان فانكسرت شوكة‬
‫صنهاجة وولت زناتة الدبار‪ ,‬وثبت المعز فيمن معه من عبيده‬
‫ما لم يسمع بمثله وتناقلته الركبان‪ ,‬ثم انهزم وعاد‬ ‫ثباًتا عظي ً‬
‫إلى المنصورية‪ ,‬وأحصى من قتل من رجال المعز فكانوا ثلثة‬
‫آلف وثلثمائة‪ ,‬ثم أقبلت العرب حتى استقرت بمصلى‬
‫القيروان ووقعت حروب طاحنة مع المعز ُقتل من المنصورية‬
‫ورقادة خلق كثير‪ ,‬فلما رأى ذلك المعز سمح لهم بدخول‬
‫القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء‪ ,‬فلما دخلوا‬
‫استطالت عليهم العامة‪ ,‬ووقعت‬
‫بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي‪,‬‬
‫وكانت الغلبة للعرب‪ ,‬وفي سنة ‪446‬هـ أشار المعز على‬
‫الرعية بالنتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم‬
‫من العرب)‪.(196‬‬
‫بعد أن رتب أمور العاصمة الزيرية الجديدة ونقل لها كل‬
‫وظائف الدولة انتقل المعز إلى المهدية ‪449‬هـ فتلقاه ابنه‬
‫تميم ومشى بين يديه واستولى العرب على القيروان وهدموا‬
‫حصونها وقصورها وقطعوا الثمار‪ ,‬وخربوا النهار‪ ,‬وكانت‬
‫الوقائع والمعارك والحروب التي خاضها المعز مع العرب‬
‫سا قاسًيا له‪ ,‬أقنعته بأل طاقة له بالعرب‪ ,‬أيقن أن‬ ‫در ً‬
‫ما‪ ,‬وكان من أسباب الهزائم‬ ‫العبيديين مكروا به مكًرا عظي ً‬
‫المتلحقة التي لحقت بالمعز قوة العرب وشجاعتهم‪ ,‬وخذلن‬
‫جنوده من البرابرة الذين ل زالوا يعظمون الخلفة العبيدية‬
‫حيث خذلوه في أكثر من موقع‪ ,‬وتقريب المعز لعبيده مما‬
‫أوغر نفوس صنهاجة وزناتة عليه‪.‬‬
‫وعندما استقر المعز في المهدية فوض أمر الدولة وشئون‬
‫الحكم لبنه تميم الذي آنس فيه والده حسن التصرف وأصالة‬
‫الرأي‪.‬‬
‫وبقى هذا المجاهد العظيم في ضيافة ابنه إلى أن توفاه‬
‫الله سنة ‪453‬هـ‪.‬‬

‫‪ ()195‬تاريخ الفتح العربي‪ ,‬ص )‪.(299‬‬


‫‪ ()196‬الكامل في التاريخ )ج ‪.(6/154‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪98‬‬
‫ويشهد التاريخ السلمي البربري أن له الفضل بعد الله‬
‫في القضاء على عقائد الباطنية السماعيلية في الشمال‬
‫عا حصيًنا لمنهج أهل السنة وقدمهم في‬ ‫الفريقي‪ ,‬وكان در ً‬
‫ً‬
‫دولته وكلفه ذلك ثمًنا باهظا من قبل أعدائه‪.‬‬
‫كما يشهد التاريخ للمعز بن باديس وأتباعه من البرابرة‬
‫أنهم تبنوا منهج أهل السنة والجماعة‪ ,‬وربطوا شمالهم‬
‫الفريقي بالخلفة الشرعية العباسية في بغداد‪ ,‬ويشهد التاريخ‬
‫ما من أعلم المسلمين ورمًزا من رموزهم‪,‬‬ ‫أن المعز أصبح عل ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ودخل تاريخهم من أوسع أبوابه مسجل أعمال عظيمة‪ ,‬ونرجو‬
‫من الله أن تكون في ميزان حسناته يوم ل ينفع مال ول بنون‬
‫إل من أتى الله بقلب سليم‪.‬‬
‫ذكر ابن الثير في أحداث سنة ثلث وخمسين وأربعمائة‬
‫وفاة المعز بن باديس وولية ابن المعز فقال‪» :‬في هذه‬
‫السنة توفى المعز بن باديس‪ ,‬صاحب إفريقية‪ ,‬من مرض‬
‫أصابه‪ ,‬وهو ضعف الكبد‪ ,‬وكانت مدة ملكه سبًعا وأربعين‬
‫سنة‪ ,‬وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة‪ ,‬وقيل‪ :‬ثماني‬
‫سنوات وستة أشهر‪.‬‬
‫با لسفك الدماء إل في حد ّ‬ ‫عا‪ ,‬متجن ً‬
‫وكان رقيق القلب‪ ,‬خاش ً‬
‫حليما ً يتجاوز عن الذنوب العظام‪ ,‬حسن الصحبة مع عبيده‬
‫ما‪ ,‬وهب‬ ‫ما لهل العلم‪ ,‬كثير العطاء لهم‪ ,‬كري ً‬
‫وأصحابه‪ ,‬مكر ً‬
‫مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا‬
‫المال‪ ,‬فاستكثره‪ ,‬فأمر به فأفرغ بين يديه‪ ,‬ثم وهبه له‪ ,‬فقيل‬
‫له‪ :‬لم أمرت بإخراجه من أوعيته؟ قال‪ :‬لئل يقال‪ :‬لو رآه ما‬
‫سمحت نفسه به‪ ,‬وكان له شعر حسن‪.‬‬
‫ولما مات رثاه الشعراء‪ ,‬فمنهم أبو الحسن بن رشيق‬
‫فقال‪:‬‬
‫ل عز مملكة يبقى‪ ,‬ول ملك‬ ‫لكل حي وإن طال المدى‬
‫هُل ُ ُ‬
‫ك‬
‫أو كاد ينهد ّ من أركانه الفلك‬ ‫ولى المعز على أعقابه‬
‫فرمى‬
‫هام الملوك‪ ,‬وما أدراك ما ملكوا‬ ‫دا وأبقى في‬
‫مضى فقي ً‬
‫خزائنه‬
‫على الذين بغوا في الرض‬ ‫ما سله قدر‬
‫ما كان إل حسا ً‬
‫وانهمكوا‬
‫خضر البحار‪ ,‬إذا قيست به‪ ,‬برك‬ ‫كأنه لم يخض للموت بحر‬
‫وغى‬
‫‪99‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫الثالث‬
‫قد أرخت باسمه إبريزها السكك‬ ‫جد بقناطير مقنطرة‬
‫ولم ي ُ‬
‫)‪(197‬‬
‫روح المعز وروح الشمس‬
‫قد قبضا‬
‫***‬

‫‪ ()197‬تاريخ الفتح العربي‪ ,‬ص)‪.(214‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫‪0‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫أبنــــــاء المعــــــــز وأحفــــــــاده‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬تميم بن المعز‪:‬‬
‫ولد بالمنصورية في الثالث من رجب سنة ‪422‬هـ ووله‬
‫أبوه على المهدية سنة ‪445‬هـ‪ ,‬ثم أسندت إليه ولية إفريقية‬
‫من والده المعز‪ ,‬وسار في الناس بسيرة حسنة‪ ,‬وقرب أهل‬
‫العلم وكان شجاع القلب‪ ,‬ذا همة عالية‪ ,‬وسياسة‪ ,‬ودهاء‪,‬‬
‫استطاع أن يرجع المدن التي سلبت من والده‪ ,‬واستمال‬
‫زعماء العرب بالمال والعطايا‪ ,‬وصاهرهم وامتزج معهم‪,‬‬
‫وجعل منهم جنوًدا لدولته بكياسة وفطانة وسياسة نادرة‪,‬‬
‫واستطاع أن يضم مدينة سوسة في عام ‪455‬هـ بعد أن قضى‬
‫على المقاومة المسلحة التي واجهته)‪.(198‬‬
‫وفي سنة ‪457‬هـ أراد الناصر بن علناس الحمادي زعيم‬
‫الدولة الحمادية احتلل المهدية والقضاء على ملك تميم وجهز‬
‫جيشه من صنهاجة وزناتة وبني هلل‪ ,‬فاستدرج تميم بن‬
‫المعز القبائل العربية للوقوف بجانبه‪ ,‬وأعطاهم السلح‬
‫والمال والعتاد‪ ,‬واستطاع أن يقضي على جيش الناصر‪ ,‬وقتل‬
‫فا‪ ,‬وترك الغنائم والموال للعرب التي استغنت‬ ‫منهم ‪ 24‬أل ً‬
‫بذلك‪ ,‬وقال تميم‪ :‬يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي فأرضى‬
‫العرب بذلك)‪.(199‬‬
‫وفي سنة ‪484‬هـ ضم تميم مدينة قابس بعد أن تولى‬
‫أمرها عمرو بن المعز‪ ,‬وكان قبل عمرو رجل يسمى قاضي‬
‫بن إبراهيم بن بلمونة‪ ,‬وكان ضمه لقابس بالجيوش الجرارة‬
‫فقال له أصحابه‪ :‬يا مولنا لما كان فيها قاضي توانيت عنه‬
‫وتركته‪ ,‬فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر‪ ,‬فقال‪ :‬لما كان‬
‫فيها غلم من عبيدنا كان زواله سهل ً علينا‪ ,‬وأما اليوم وابن‬
‫المعز بالمهدية‪ ,‬وابن المعز بقابس فهذا ل يمكن السكوت‬
‫عليه‪.‬‬
‫وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة‬
‫التي أولها‪:‬‬

‫‪ ()198‬الكامل لبن الثير )ج ‪.(6/234‬‬


‫‪ ()199‬المرجع السابق )ج ‪.(2/243‬‬
‫‪10‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪1‬‬ ‫الثالث‬
‫لما فتحت بحد سيفك‬ ‫ضحك الزمان‪ ,‬وكان يلقى‬
‫قابسا‬ ‫عابسا‬
‫إل وكان أبوك قبل الغارسا‬ ‫الله ًيعلم ما حويت ثمارها‬
‫كانت له قلل البلد عرائسا‬ ‫من كان في زرق السنة‬
‫خاطًبا‬
‫تركتك من أكناف قابس‬ ‫فابشر تميم بن المعز‬
‫قابسا‬ ‫بفتكة‬
‫دا‪,‬‬
‫ومقاصًرا ومخال ً‬ ‫وّلوا فكم تركوا هناك‬
‫ومجالسا )‪(200‬‬ ‫مصانعا‬
‫وساوسا‬ ‫ب‪ ,‬وهن وساوس‬ ‫فكأنها قل ٌ‬
‫وفي سنة ‪493‬هـ استطاع تميم أن يضم مدينة صفاقس‬
‫وأن ينتزعها بالقوة من حاكمها المتمرد حمو بن فلفل‬
‫البرغواطي)‪.(201‬‬
‫ويعتبر عصر تميم أزهى من عصر والده فيما بعد دخول‬
‫القبائل العربية‪.‬‬
‫وكان يضرب المثل بالجود والشجاعة والكرم والعطاء‪,‬‬
‫ما‪ ,‬وإحساًنا‪,‬‬ ‫ما وكر ً‬ ‫قال فيه ابن كثير‪» :‬من خيار الملوك حل ً‬
‫ملك سًتا وأربعين سنة‪ ,‬وعمر تسًعا وتسعين سنة‪ ,‬ترك من‬
‫البنين أنهد من مائة‪ ,‬ومن البنات ستين بنًتا‪ ,‬وملك بعده ولده‬
‫يحيى‪ ,‬ومن أحسن ما مدح به المير تميم قول الشاعر‪:‬‬
‫من الخبر المروي منذ‬ ‫أصح وأعلى ما سمعناه‬
‫قديم )‪(202‬‬ ‫في الندا‬
‫تميم‬ ‫أحاديث ترويها السيول‬
‫عن الحيا‬
‫ما فاضل‪ ,‬وشاعًرا رقيق العاطفة‪ ,‬ومن شعره‪:‬‬ ‫ً‬ ‫وكان عال ً‬
‫على التاريخ في أعلى‬ ‫فإما الملوك في شرف‬
‫السرير)‪(203‬‬ ‫وعز‬
‫الدهور‬ ‫وإما الموت بين ظبا‬
‫العوالي‬
‫عا‪ ,‬ذكًيا وله معرفة‬ ‫ما شجا ً‬
‫ً‬ ‫شه‬ ‫»كان‬ ‫الثير‪:‬‬ ‫ابن‬ ‫وقال‬
‫ما‪ ,‬كثير العفو عن الجرائم العظيمة‪ ,‬وله‬ ‫حسنة‪ ,‬وكان حلي ً‬
‫شعر حسن‪ ,‬فمنه أنه وقعت حرب بين طائفتين من العرب‪,‬‬
‫وهم عدي‪ ,‬ورياح‪ ,‬فقتل رجل من رياح‪ ,‬ثم اصطلحوا وأهدروا‬
‫دمه‪ ,‬وكان في صلحهم مما يضر به وببلده‪ ,‬فقال أبياًتا‬
‫الكامل في التاريخ )ج ‪.(6/367‬‬ ‫‪()200‬‬
‫تاريخ الفتح العربي‪ ,‬ص )‪.(302‬‬ ‫‪()201‬‬
‫البداية والنهاية‪) ,‬ج ‪.(12/181‬‬ ‫‪()202‬‬
‫تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(302‬‬ ‫‪()203‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫‪2‬‬
‫يحرض على الطلب بدمه‪ ,‬وهي‪:‬‬
‫أما فيكم بثأر مستق ّ‬
‫ل‬ ‫متى كانت دماؤكم ُتطل‬
‫فما كانت أوائلكم ُتذ ّ‬
‫ل‬ ‫أغانم ثم سالم إن‬
‫فشلتم‬
‫كأن العز فيكم مضمح ّ‬
‫ل‬ ‫ونمتم عن طلب الثأر‬
‫حتى‬
‫ول بيض تفل‪ ,‬ول ُتس ّ‬
‫ل‬ ‫وما كسرتم فيه العوالي‬

‫فعمد أخوة المقتول فقتلوا أميًرا من عدي‪ ,‬واشتد بينهم‬


‫القتل‪ ,‬وكثرت القتلى‪ ,‬حتى أخرجوا بني عدي من‬
‫إفريقية)‪.(204‬‬
‫ومن أقواله التي صارت مثل ً في إفريقية‪» :‬أسرار الملوك‬
‫ل تذاع«)‪.(205‬‬
‫وانطوت صفحة حياته في عام ‪501‬هـ بعد أن عادت‬
‫للدولة الزيرية هيبتها‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬يحيى بن تميم بن المعز بن باديس‪:‬‬
‫عهد إليه أبوه بالولية في حياته في السادس عشر من ذي‬
‫الحجة سنة ‪497‬هـ‪ ,‬واستقبل بالمر يوم وفاة أبيه‪ ,‬وعمره‬
‫ما فكان‬
‫وأربعون سنة وستة أشهر وعشرون يو ً‬ ‫ثلث‬
‫قا)‪.(206‬‬
‫موف ً‬
‫ولما استقر في الملك جهز أسطول ً إلى جزيرة جربة‪,‬‬
‫وسببها أن أهلها يقطعون الطريق ويأخذون التجار‪ ,‬فحاصرها‬
‫وضيق عليها‪ ,‬فدخلوا تحت حكمه‪ ,‬والتزموا ترك الفساد‪,‬‬
‫وضمنوا صلح الطريق)‪.(207‬‬
‫ما‬
‫ما بعلم الخبار وأيام الناس والطب وكان مغر ً‬ ‫وكان مهت ً‬
‫بالكيمياء‪,‬‬
‫وحاول ثلثة من الباطنية قتله فدخلوا عليه زاعمين أن لهم‬
‫دراية بالكيمياء إل أن الله نجاه منهم‪.‬‬
‫قال الذهبي‪» :‬وقد وقف ليحيى ثلثة غرباء‪ ,‬وزعموا أنهم‬
‫يعلمون الكيمياء فأحضرهم ليتفرج وأخلهم‪ ,‬وعنده قائد‬
‫عسكره إبراهيم‪ ,‬والشريف أبو الحسن‪ ,‬فسل أحدهم سكيًنا‪,‬‬
‫الكامل )ج ‪.(6/485‬‬ ‫‪()204‬‬
‫المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪()205‬‬
‫انظر‪ :‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(303‬‬ ‫‪()206‬‬
‫انظر‪ :‬التذكار‪ ,‬ص )‪.(39‬‬ ‫‪()207‬‬
‫‪10‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪3‬‬ ‫الثالث‬
‫وضرب الملك‪ ,‬فما صنع شيًئا ورفسه الملك فدحرجه‪ ,‬ودخل‬
‫سا وأغلقه‪ ,‬وقتل الخر الشريف‪ ,‬وشد إبراهيم بسيفه‬ ‫مجل ً‬
‫عليهم‪ ,‬ودخل المماليك‪ ,‬وقتلوا الثلثة‪ ,‬وكانوا باطنية‪ ,‬أظن‬
‫المر الُعبيدى ندبهم لذلك«)‪.(208‬‬
‫وكان كثير المطالعة محًبا للجهاد فتح حصوًنا ما قدر أبوه‬
‫قا على الفقراء يطعمهم في‬ ‫ما للضعفاء شفي ً‬‫عليها‪ ,‬وكان رحي ً‬
‫الشدائد فيرفق بهم‪ ,‬ويقرب أهل العلم والعقل من نفسه‪,‬‬
‫وساس العرب في بلده فهابوه وانكفت أطماعهم‪ ,‬وكان له‬
‫نظر حسن في علم النجوم‪ ,‬وكان حسن الوجه على جانبيه‬
‫شامة‪ ,‬أشهل العينين مائل ً في قده إلى الطول‪ ,‬دقيق‬
‫الساقين)‪.(209‬‬
‫وكان عنده جماعة من الشعراء قصدوه ومدحوه‪ ,‬وخلدوا‬
‫مديحه في دواوينهم‪ ,‬ومن جملة شعرائه أبو الصلت بن عبد‬
‫العزيز أمية بن أبي الصلت الشاعر الذي عاش في كنفه بعد‬
‫أن جاب البلدان‪ ,‬وله في يحيى مدائح كثيرة أجاد فيها‬
‫وأحسن‪ ,‬ومن جملة ما قاله من مديحه قصيدة‪:‬‬
‫فالمجد أجمع بين البأس‬ ‫فارغب بنفسك إل عن ندى‬
‫والجود‬ ‫ووغى‬
‫ميت الرجاء بإنجاز‬ ‫كدأب يحيى الذي أحييت‬
‫المواعيد‬ ‫مواهبه‬
‫جرد الصلدم والبزل‬ ‫معطى الصوارم والهيف‬
‫الجلعيد‬ ‫النواعم والـ‬
‫على أشم بفرع النجم‬ ‫أشم أشوس مضروب‬
‫معقود‬ ‫بسرادقه‬
‫رأيت يوسف في محراب‬ ‫إذا بدا بسرير الملك محتبًيا‬
‫داود‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫وذا الطريق إليها غير‬ ‫هذي موارد يحيى غير‬
‫مسدود‬ ‫ناضبة‬
‫)‪(210‬‬
‫حكم سيوفك فيما أنت‬
‫طالبه‬
‫وتوفى المير يحيى سنة ‪ 509‬هـ متأث ًرا بمرض أصابه‬
‫بعد العتداء عليه من قبل الباطنيين الذين حاولوا قتله‬
‫ولزمه المرض إلى أن توفى) ‪ . (211‬وقال ابن الثير‪ :‬كانت‬

‫سير أعلم النبلء )ج ‪.(19/414‬‬ ‫‪()208‬‬


‫وفيات العيان )ج ‪.(6/214‬‬ ‫‪()209‬‬
‫وفيات العيان )ج ‪.(6/215‬‬ ‫‪()210‬‬
‫ابن عذارى )ج ‪.(1/306‬‬ ‫‪()211‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫‪4‬‬
‫وفاته يوم عيد الضحى فجأة‪ ,‬وكان عمره اثنتين وخمسين‬
‫سنة وخمسة عشر يو ًما‪ ,‬وكانت وليته ثماني سنين‬
‫دا‪,‬‬
‫وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يو ًما‪ ,‬وخلف ثلثين ول ً‬
‫فقال عبد الجبار بن محمد حمديس الصلقي يرثيه ويهنئ‬
‫ابنه عل ًيا بالملك‪.‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫ول اختفى القمر حتى بدا‬ ‫ما أغمد الغضب إل جرد‬
‫قمر‬ ‫الذكر‬
‫ي جاءهم‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫ما‬ ‫إذا‬ ‫حتى‬ ‫الناس‬ ‫أميت‬ ‫يحيى‬ ‫بموت‬
‫نشروا‬ ‫كلهم‬
‫وعينها من أبيه دمعها همر‬ ‫إن يبعثوا بسرور من‬
‫تملكه‬
‫في كل أفق عليه النجم‬ ‫شقت جيوب المعالي‬
‫الزهر‬ ‫بالسى فبكت‬
‫فكل حزن عظيم فيه‬ ‫وقل لبن تميم حزن‬
‫محتقر‬ ‫مادهما‬
‫)‪(212‬‬
‫قام الدليل ويحيى ل‬
‫حياة له‬
‫ثالًثا‪ :‬المير علي بن يحيى بن تميم بن المعز‪:‬‬
‫ولد يوم ‪ 15‬من صفر سنة ‪499‬هـ ووله والده على‬
‫صفاقس وتولى الحكم بعد وفاة والده‪.‬‬
‫وبعد عامين من حكمه جهز علي أسطول ً في البحر‬
‫وأرسله إلى مدينة قابس وضرب عليها حصاًرا‪ ,‬وذكر ابن‬
‫الثير السبب في ذلك فقال‪» :‬وسبب ذلك أن صاحبها رافع‬
‫بن مكن الدهماني أنشأ مركًبا بساحلها ليحمل التجار في‬
‫البحر‪ ,‬وكان ذلك آخر أيام المير يحيى‪ ,‬فلم ينكر يحيى ذلك‪,‬‬
‫جرًيا على عادته في المداراة‪ ,‬فلما ولي علي المر‪ ,‬بعد أبيه‪,‬‬
‫أنف من ذلك وقال‪ :‬ل يكون لحد من أهل إفريقية أن يناوأني‬
‫في إجراء المراكب في البحر بالتجار‪ ,‬فلما خاف رافع أن‬
‫يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار أن ينصره ويعينه على‬
‫إجراء مركبه في البحر‪ ,‬وأنفذ في الحال أسطول ً إلى قابس‪,‬‬
‫فاجتازوا بالمهدية‪ ,‬فحينئذ تحقق علي اتفاقهما‪,‬‬
‫وكان يكذبه‪.‬‬
‫فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في‬
‫أثره‪ ,‬فوصل إلى قابس‪ ,‬فلما رأى صاحب أسطول الفرنج‬
‫المسلمين لم يخرج مركبه‪ ,‬فعاد أسطول الفرنج‪ ,‬وبقى‬

‫‪ ()212‬الكامل )ج ‪.(6/524‬‬
‫‪10‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪5‬‬ ‫الثالث‬
‫قا عليه‪ ,‬ثم عادوا إلى‬
‫أسطول علي يحصر رافًعا بقابس مضي ً‬
‫المهدية«)‪.(213‬‬
‫وبعد ذلك أراد رافع أن يحاصر المهدية وجمع شتات‬
‫العراب وجهز جنوًدا وزعم أنه يريد الدخول في طاعة المير‬
‫علي إل أن المير لم تنطل عليه الحيلة وحاربه وكسر شوكة‬
‫رافع حتى تدخل بعض العيان من العرب وغيرهم للصلح بين‬
‫الطرفين)‪.(214‬‬
‫وشعر المير علي بن يحيى بخطورة زعيم صقلية »رجار«‬
‫عليه فأصدر أوامره لتجديد السطول وإعداد العدة لدحر‬
‫قوات رجار البحرية‪ ,‬وكاتب المرابطين بمراكش في الجتماع‬
‫معهم على الدخول إلى صقلية‪ ,‬فكف رجار عن شره)‪.(215‬‬
‫وتوفى المير علي بن يحيى بن تميم‪ ,‬صاحب إفريقية‪ ,‬في‬
‫العشر الخير من ربيع الخر‪ ,‬وكانت حروبه وأعماله تدل على‬
‫همته‪ ,‬ولما توفى ولي الملك بعده ابنه الحسن‪ ,‬بعهد أبيه‪,‬‬
‫وقام بأمر دولته صندل الخصى؛ لنه كان عمره حينئذ اثنتي‬
‫عشرة سنة ل يستطيع أن يستقل بتدبير الملك‪ ,‬فقام صندل‬
‫بالمر خير قيام‪ ,‬فلم تطل أيامه حتى توفى‪ ,‬فوقع الخلف بين‬
‫أصحابه وقواده‪ ,‬كل منهم يقول‪ :‬أنا المقدم على الجميع‪,‬‬
‫وبيدي الحل والعقد‪ ,‬فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور‬
‫دولته إلى قائد من أصحاب أبيه يقال له‪ :‬أبو عزيز موفق‪,‬‬
‫فصلحت المور)‪.(216‬‬
‫رابًعا‪ :‬المير الحسن بن علي بن يحيى بن تميم‪:‬‬
‫ولد بسوسة سنة ‪502‬هـ‪ ,‬وتولى بعد وفاة أبيه وجرت في‬
‫أيامه وقائع وأمور يطول شرحها‪ ,‬وضعفت دولته وأصبحت‬
‫هدًفا للنصارى الحاقدين‪ ,‬ورأوا أن الفرصة حانت لحتلل مدن‬
‫جنوب البحر المتوسط وإذلل المسلمين‪ ,‬واستطاع رجار‬
‫الصقلي احتلل طرابلس وبعدها المهدية‪.‬‬
‫وخرج الحسن بن علي من المهدية وهو يقول‪» :‬سلمة‬
‫ي من الملك والقصر«‪.‬‬
‫المسلمين أحب إل ّ‬
‫وأراد الذهاب إلى العبيديين في مصر ثم تنحى عن هذه‬
‫الفكرة‪ ,‬وراسل ابن عمه زعيم الدولة الحمادية في المغرب‬
‫الكامل )ج ‪.(6/524‬‬ ‫‪()213‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(6/524‬‬ ‫‪()214‬‬
‫الكامل )ج ‪.(6/524‬‬ ‫‪()215‬‬
‫انظر‪ :‬موسوعة المغرب العربي )ج ‪.(4/83،82‬‬ ‫‪()216‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫‪6‬‬
‫الوسط إل أن ابن عمه حبسه في إقامة جبرية خوًفا من أن‬
‫يتصل بخليفة الموحدين عبد المؤمن بن علي‪ ,‬واستطاع‬
‫الحسن ابن علي أن يتصل بخليفة الموحدين ودخل تحت‬
‫سلطانه وعمل على تحرير أراضي المسلمين والمدن‬
‫الساحلية من كل وجود للنصارى راضًيا بخلفة الموحدين‪,‬‬
‫وتضاربت القوال في سنة وفاته إل أنه بالتأكيد كانت بعد سنة‬
‫‪555‬هـ أثناء ذهابه لعاصمة الموحدين حيث عاجلته المنية وهو‬
‫يشد الرحال إليها‪.‬‬
‫وبسقوط المهدية في قبضة النصارى الحاقدين بقيادة‬
‫رجار الصقلي سنة ‪543‬هـ انتهت دولة بني زيري بعد أن دام‬
‫ملكها على أرض إفريقية والمغرب الوسط نحو مائة وثمانين‬
‫ما )‪ 180‬سنة( منذ زمن مؤسسها الول بلكين ‪362‬هـ إلى‬ ‫عا ً‬
‫الحسن بن علي عام ‪543‬هـ‪ .‬وقبل الدخول في أسباب‬
‫ما نبين‬
‫صا والدولة العبيدية عمو ً‬
‫سقوط الدولة الزيرية خصو ً‬
‫ما حدث لطرابلس الغرب من هجوم شرس غادر من قبل‬
‫النصارى وما مر من أحداث في تلك الفترة‪.‬‬
‫أ‪ -‬والي طرابلس في زمن المير الحسن بن علي‬
‫الصنهاجي‪:‬‬
‫وهو محمد بن خزرون بن خليفة بن ورو‪ ..‬ولي طرابلس‬
‫بعد شاه ملك وقرب منه شيوخ بني مطروح لما لهم من‬
‫الزعامة والرئاسة والمكانة والنفوذ في طرابلس‪ ,‬وأسند‬
‫إليهم رئاسة الجند وتدبير المور وأصبح ل يصدر إل عن رأيهم‬
‫وخلع يد الطاعة من الحسن بن علي‪ ,‬وامتنعوا عن دفع‬
‫الموال إليه وأعلنوا طاعتهم للعبيديين في مصر‪.‬‬
‫ب‪ -‬رجار يهاجم طرابلس‪:‬‬
‫وفي سنة ‪537‬هـ هاجم رجار طرابلس وحاصرها بأسطوله‬
‫عا مستميًتا‬
‫ونقبوا أسوار المدينة‪ ,‬فدافع أهلها عنها دفا ً‬
‫واستنجدوا بسكان الضواحي من العرب وغيرهم فأنجدوهم‪,‬‬
‫ولم يتمكن رجار من دهول المدينة فرجع إلى صقلية خائًبا‪,‬‬
‫وغنم الطرابلسيون منه بعض السلحة‪ ,‬وبقى ابن خزرون‬
‫مستقل ً بطرابلس يدبر ويرتب وينظم شؤونها ويدين بالطاعة‬
‫للعبيديين في مصر)‪.(217‬‬
‫ج‪ -‬المجاعة في طرابلس‪:‬‬
‫‪ ()217‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(305‬‬
‫‪10‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪7‬‬ ‫الثالث‬
‫في سنة ‪540‬هـ تعرضت طرابلس لمجاعة كبيرة فاضطر‬
‫بعض السكان إلى ترك البلد والجلء عنها‪ ,‬وكان محمد بن‬
‫دا على سكان البلد قاسًيا في حكمه‪,‬‬ ‫فا شدي ً‬‫خزرون عني ً‬
‫عا وهو ل يزداد إل‬
‫ضايق الناس في معيشتهم فضاقوا به ذر ً‬
‫فا‪.‬‬
‫تعس ً‬
‫وكان بنو مطروح في مقدمة وجهاء طرابلس ومن‬
‫زعمائها وكانوا معينين لمحمد بن خزرون‪ ,‬ولكنهم نقموا عليه‬
‫أعماله وحاولوا أن يخففوا من وطأته فجمعوا الناس وخرجوا‬
‫عليه وأبعدوه هو وشيعته من المدينة‪ .‬وكان رجار حاكم صقلية‬
‫يتابع هذا التنازع‪ ,‬فاستغل الظروف‪ ,‬واستفاد من وقوع كارثة‬
‫المجاعة وثورة السكان على ابن خزرون وطرده من المدينة‪,‬‬
‫فأراد النتقام لهزيمته الولى فأرسل جيوشه وأساطيله‬
‫وهاجم بهم طرابلس فدخلها بدون مقاومة واحتلها بدون‬
‫متاعب‬
‫عام ‪541‬هـ‪.‬‬
‫وبانتهاء محمد بن خزرون انتهى حكم بني خزرون في‬
‫طرابلس‪.‬‬
‫وأصبح قائد أسطول رجار »جرجي بن ميخائيل النطاكي«‬
‫ما على‬‫الذي تعلم في الشام‪ ,‬ورافق تميم بن المعز حاك ً‬
‫طرابلس وطلب منهم المان فأمنهم‪ ,‬وشرط لهم أل يلزمهم‬
‫بما يخالف دينهم‪.‬‬
‫وهذه هي المرة الولى التي يستولي فيها النصارى‬
‫الحاقدون على طرابلس‪ ,‬أما المحاولة التي كانت سنة‬
‫‪537‬هـ فلم يستطيعوا الستيلء عليها)‪.(218‬‬
‫وحاول رجار أن يسيطر على أهل طرابلس بأهلها فأسند‬
‫لهم رجار ولية طرابلس‪ ,‬وعين يوسف بن زيري قاضًيا‪,‬‬
‫وكنيته أبو الحجاج‪ ,‬وحكم رافع بن مطروح اثنتي عشرة سنة‬
‫وهوي يدين لرجار بالطاعة‪.‬‬
‫وفي تصوري أن رضاه بالعمل تحت راية النصارى مضطًرا‬
‫جا عن إرادته‪ ,‬واجتهد الشيخ في تقليل‬ ‫إليها اضطراًرا خار ً‬
‫المضار ودفع عن المسلمين ما أمكنه من ضرر مع انقياده‬
‫لرجار في صقلية‪.‬‬
‫ولما هلك رجار سنة ‪548‬هـ بعد أن ملك ما بين المهدية‬

‫‪ ()218‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(307‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪10‬‬
‫‪8‬‬
‫وطرابلس ما عدا قابس خلفه في الحكم ابنه غاليالم وسمى‬
‫نفسه رجار الثاني‪ ,‬فقويت شوكته في الشمال الفريقي‪,‬‬
‫ودخلت قابس في طاعته‪ ,‬وكان شديد الوطأة على‬
‫المسلمين‪ ,‬فملوا حكمه‪ ,‬وسئمت نفوسهم تحت حكمه‪,‬‬
‫وتشجعوا مع ظهور دعوة الموحدين في إفريقية وقربهم من‬
‫المهدية‪.‬‬
‫وبدأت الثورة المسلحة ضد غاليالم في صفاقس‪,‬‬
‫وانتشرت في البلد الساحلية‪ ,‬ووصلت إلى نواحي طرابلس‪,‬‬
‫وقد خاف غاليالم أن يتصل الطرابلسيون بالثورة فأحدث فتنة‬
‫بين الهالي لتلهيهم عن التفكير في الثورة‪ ,‬وعن التصال‬
‫بالموحدين وطلب من أهالي طرابلس أن يشتموا الموحدين‪,‬‬
‫فامتنع أهل طرابلس ولجأوا إلى القاضي أبي الحجاج‪ ,‬وكلفوه‬
‫بأن يفهم غاليالم بأن طلبه هذا يخالف الدين وتمكن القاضي‬
‫من إقناعه بإعفائهم من طعن الموحدين وشتمهم‪.‬‬
‫ودفعت معاملة غاليالم الطرابلسيين للثورة ضده بسبب‬
‫ظلمه وتعسفه‪ ,‬فقاد رافع ابن مطروح الثورة ضده وتحررت‬
‫طرابلس عام ‪553‬هـ من حكم النصارى‪ ,‬وأصبح رافع بن‬
‫ما على طرابلس لما له من جاه ومكانة عند أهل‬ ‫مطروح حاك ً‬
‫طرابلس‪ ,‬ومع امتداد دعوة الموحدين في الشمال الفريقي‬
‫دخلت طرابلس في طاعة عبد المؤمن بن علي زعيم‬
‫الموحدين‪ ,‬وكان ذلك في سنة ‪555‬هـ )‪.(219‬‬
‫***‬

‫‪ ()219‬تاريخ الفتح العربي في ليبيا‪ ,‬ص )‪.(307‬‬


‫‪10‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪9‬‬ ‫الثالث‬

‫المبحث السادس‬
‫أسباب سقوط الدولة الزيرية في الشمال الفريقي‬
‫‪ -1‬عجز الدولة الزيرية عن توحيد الشمال الفريقي كله‪,‬‬
‫لظهور بعض القبائل المناهضة للصنهاجيين مثل قبائل زناتة‬
‫التي تحالفت مع الدولة الموية في الندلس‪.‬‬
‫‪ -2‬النقسام الداخلي الذي حدث للعائلة الزيرية وترتب‬
‫على ذلك ظهور الدولة الحمادية في المغرب الوسط‪.‬‬
‫‪ -3‬الصراع المسلح الذي استمر عشرات السنين بين‬
‫الصنهاجيين والزناتيين والكتاميين مما أضعف الدولة أمام‬
‫التحديات الخارجية‪.‬‬
‫‪ -4‬المكر الباطني بالدولة الزيرية وتمثل ذلك في محاولة‬
‫اغتيال سلطينهم وإرسال قبائل بني هلل وبني سليم للنتقام‬
‫من المعز بن باديس سلطان الدولة الزيرية في زمانه‪.‬‬
‫‪ -5‬انفصال بعض المدن عن عاصمة الدولة الزيرية بسبب‬
‫الزحف العربي المدعوم بالحقد الباطني ومحاولة سلطين‬
‫الدولة الزيرية إرجاع هذه المدن المنفصلة مما كلف الدولة‬
‫حا من أجل إرجاع تونس‬ ‫دا ووقًتا ودماًء وأروا ً‬
‫الزيرية جه ً‬
‫وتخليصها من بني خراسان وصفاقس‪ ,‬وتخليصها من‬
‫البراغوطي وفاس وتخليصها من بن جامع‪.‬‬
‫‪ -6‬الغزو الصليبي القادم من وراء البحر البيض المتوسط‪,‬‬
‫وصراع الدولة الزيرية مع جحافل الغزو الوحشية القادمة من‬
‫أوروبا‪ ,‬بدأ ذلك الغزو النصراني الحاقد بعد أن استولت قوات‬
‫النورمان على جزيرة صقلية ‪484‬هـ فاحتلوا جزيرة جربة عام‬
‫‪529‬هـ‪ ,‬وبسطوا سلطانهم على طرابلس عام ‪537‬هـ‪ ,‬ثم‬
‫عادوا واحتلوها عام ‪541‬هـ‪ ,‬وزحفوا على فاس ‪542‬هـ‪,‬‬
‫وأنهكت الصراعات الداخلية التي حدثت بين العرب وزناتة‬
‫وبني حماد قوة الدولة الزيرية مما جعل الحملت الصليبية‬
‫تستسهل مهمتها في القضاء على الدولة الصنهاجية الزيرية‪,‬‬
‫وتم لها ذلك بسقوط المهدية عام ‪543‬هـ‪.‬‬
‫‪ -7‬هجرة العلماء والفقهاء من القيروان والمهدية إلى‬
‫المغرب الوسط‬
‫والمغرب القصى‪.‬‬
‫‪ -8‬تعرضت التجارة والصناعة والزراعة لهزات عنيفة نتيجة‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪11‬‬
‫‪0‬‬
‫الضطرابات والصراعات الداخلية مما جعل الناس تهاجر إلى‬
‫الندلس وصقلية والمشرق السلمي‪.‬‬
‫***‬
‫حكام بني زيري في القيروان والمهدية‪:‬‬
‫‪ -1‬بلكين بن زيري بن مناد بن منقوش الصنهاجي ‪-362‬‬
‫‪374‬هـ ‪984 -973 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬المنصور بن بلكين بن زيري ‪386 -374‬هـ‪-984 ،‬‬
‫‪996‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬باديس بن المنصور بن بلكين ‪406 -386‬هـ‪-996 ،‬‬
‫‪1015‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬المعز بن باديس بن منصور ‪453 -406‬هـ ‪-1015 ،‬‬
‫‪1062‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬تميم بن المعز بن باديس ‪501 -453‬هـ ‪-1062 ،‬‬
‫‪1107‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ‪509 -501‬هـ ‪،‬‬
‫‪1116 -1107‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬علي بن يحيى بن تميم ‪515 -509‬هـ ‪-1116 ,‬‬
‫‪1121‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬الحسن بن علي بن يحيى ‪543 -515‬هـ ‪-1121 ،‬‬
‫‪1148‬م‪.‬‬
‫***‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪11‬‬
‫‪2‬‬
‫المبحث الول‬
‫من أسباب سقوط الدولة العبيدية‬
‫واندحار المد الباطني والتغلغل النصراني الصليبي‬
‫‪ -1‬مقاومة المغاربة الباسلة للمد العبيدي الباطني بقيادة‬
‫العلماء والفقهاء والمحدثين‪ ,‬مما جعل زعماء الدولة العبيدية‬
‫يقررون نقل ملكهم وزعامتهم إلى مصر‪.‬‬
‫‪ -2‬ظهور القائد السلمي الغربي البربري المعز بن باديس‬
‫الذي أعلن انفصاله السياسي والعسكري والعقدي عن الدولة‬
‫العبيدية في مصر‪.‬‬
‫صراع الدولة العبيدية مع القرامطة في الشام من أجل‬ ‫‪-3‬‬
‫الطماع الدنيوية الرضية‪.‬‬
‫استعانة العبيديين بالنصارى الوروبيين للوقوف ضد تقدم‬ ‫‪-4‬‬
‫السلجقة في بلد الشام‪ ,‬ثم غدر النصارى بالعبيديين بعد مجيئهم‬
‫وخذلنهم للدولة العبيدية في مصر‪.‬‬
‫‪ -5‬رفض المصريين للمذهب العبيدي الباطني والعمل‬
‫الجاد من قبل العلماء والفقهاء وأبناء الشعب المصري في‬
‫نخر الدولة العبيدية الباطنية‪.‬‬
‫رجوع الدولة العباسية إلى التمسك بالكتاب والسنة‬ ‫‪-6‬‬
‫والدعوة إليها‪ ,‬وكانت من أوائل بدايات الرجوع ما قام به الخليفة‬
‫هـ حيث استتاب فقهاء المعتزلة فأظهروا‬ ‫القادر بالله عام ‪408‬‬
‫الرجوع وتبرؤوا من العتزال والرفض والمقالت المخالفة‬
‫للسلم)‪.(220‬‬
‫وامتثل السلطان محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين‬
‫في ذلك‪ ,‬واستن بسنته في عقوبة المعتزلة والرافضة‬
‫والسماعيلية‪ ,‬وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن‬
‫ديارهم كما أحرق كتب الفلسفة)‪ .(221‬وحسر المجاهد محمود‬
‫الغزنوي المد الباطني الرافضي السماعيلي في بلد الهند‬
‫وبلد أفغانستان‪.‬‬
‫قال فيه ابن كثير في ترجمته‪» :‬الملك الكبير‪ ,‬المجاهد‬
‫الغازي أبو القاسم صاحب بلد غزنة وما والها‪ ,‬فتح فتوحات‬
‫كثيرة في بلد الهند‪ ,‬لم يتفق لغيره من الملوك ل قبله ول‬
‫‪ ()220‬الكامل )ج ‪.(9/305‬‬
‫‪ ()221‬البداية والنهاية )ج ‪.(32-12/28‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪3‬‬ ‫الرابــع‬
‫بعده‪ ,‬وغنم مغانم كثيرة‪ ,‬وكان مع هذا في غاية الديانة‬
‫وكراهة المعاصي وأهلها‪ ,‬كان يحب العلماء والمحدثين‪ ,‬ويحب‬
‫أهل الخير والدين«)‪.(222‬‬
‫وعندما حاول العبيديون في مصر إغراءه بالهدايا كي يقيم‬
‫الدعاية لهم في بلده‪ ,‬أحرق كتبهم وهداياهم)‪ ,(223‬وقتل‬
‫التاهرتي »مندوبهم للدعوة‪ ,‬وأهدى بغلته إلى القاضي أبي‬
‫منصور محمد الزدي‪ ,‬وقال‪ :‬كان يركبها رأس الملحدين‬
‫فليركبها رأس الموحدين)‪ .(224‬واستطاع هذا الملك السني‬
‫الميمون أن يكسر شوكة السماعيلية والمبتدعة في بلده‪,‬‬
‫فجزاه الله خيًرا‪ .‬وتوفى هذا الملك المجاهد عام ‪421‬هـ‪,‬‬
‫واستمرت دولته في غزنة فترة طويلة‪ ,‬وكان حفيده مثله في‬
‫سيرته الميمونة‪ ,‬واستمر الغزنويون يحكمون الهند بمذهب‬
‫أهل السنة إلى القرن الثالث عشر الهجري حين تحكم‬
‫النجليز ونقلوا السلطة إلى الهنادكة بعد رحيلهم)‪.(225‬‬
‫‪ -7‬ظهر السلجقة السنيون في بلد خراسان وامتد‬
‫نفوذهم إلى عاصمة الخلفة‪ ,‬واستطاعوا أن يقضوا على‬
‫البويهيين عام ‪448‬هـ‪ ,‬وبذلك سقطت دولة البويهيين الشيعية‪,‬‬
‫وقضى السلجقة على فتنة البساسيري الشرير‪ ,‬وفي عام‬
‫‪448‬هـ أزيل ما كان على أبواب المساجد من سب الصحابة‪,‬‬
‫وأمر رئيس الرؤساء بقتل شيخ الروافض أبي عبد الله الجلل‬
‫لغلوه في الرفض)‪.(226‬‬
‫وفي عهد ألب أرسلن زعيم السلجقة عاد للمة عزها‬
‫المفقود‪ ,‬ورجعت لهم النتصارات الكبيرة على النصارى‪,‬‬
‫وعمل ألب أرسلن على تخليص حلب وديار الشام من‬
‫الهيمنة العبيدية وإرجاعها للخلفة العباسية‪ ,‬وفي عام ‪462‬هـ‬
‫رجعت مكة إلى السيادة العباسية‪ ,‬وانخلعت من التبعية‬
‫العبيدية‪ ,‬وأعطى السلطان ألب أرسلن لمحمد بن أبي هاشم‬
‫حاكم مكة ثلثين ألف دينار)‪.(227‬‬
‫وفي زمن وزارة نظام الملك »الحسن بن علي« اهتمت‬
‫الدولة السلجوقية بتولية المور القيادية في الدولة للقواد‬

‫‪ ()222‬البداية والنهاية )ج ‪.(32-28 /12‬‬


‫‪ ()223‬البداية والنهاية )ج ‪ ,(12/43،32‬وأيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪,(68-66‬‬
‫والروضتين ص )‪.(31‬‬
‫‪ (4) ,()224‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(66‬‬
‫)(‬ ‫‪225‬‬
‫‪ ()226‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/43‬‬
‫‪ ()227‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص)‪.(68‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪11‬‬
‫‪4‬‬
‫والمراء الذين فيهم خلق ودين وشجاعة‪ ,‬ونشروا علوم أهل‬
‫السنة‪ ,‬قال المؤرخ أبو شامة‪» :‬فلما ملك السلجوقية جددوا‬
‫من هيبة الخلفة ما كان قد درس لسيما في وزارة نظام‬
‫‪.‬‬ ‫)‪(228‬‬
‫الملك‪ ,‬فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالتها«‬
‫وهذا الوزير الصالح »نظام الملك« »الحسن بن علي« هو‬
‫الذي شجع بناء المدارس للطلبة‪ ,‬ففي عام ‪459‬هـ فرغ من‬
‫عمارة المدرسة النظامية في بغداد‪ ,‬وأسس المدارس في‬
‫نيسابور وغيرها من البلدان‪ ,‬وقد سرى هذا التجاه في بناء‬
‫المدارس السنية إلى مصر‪ ,‬وهي تحت النفوذ العبيدي‬
‫الباطني »فقد أنشأ أبو الحسن علي بن السلر وزير الظافر‬
‫سنة ‪544‬هـ مدرسة وجعل رياستها للحافظ السلفي‪ ,‬وكانت‬
‫المدرسة الوحيدة للشافعية في السكندرية‪ ,‬كما أنشئت‬
‫المدرسة العوفية ‪532‬هـ وعلى رأسها الفقيه المالكي ابن‬
‫الطاهر بن عوف‪ ,‬ومن أغراض هاتين المدرستين الوقوف في‬
‫وجه المذهب الشيعي والدعوة للمذهب السني«)‪.(229‬‬
‫ما فقيًها‬ ‫قال المؤرخ أبو شامة عن نظام الملك‪» :‬كان عال ً‬
‫ل‪ ,‬يحب أهل الدين‪ ,‬وأما صدقاته‬ ‫ديًنا خيًرا متواضًعا عاد ً‬
‫وأوقافه فل حد لها‪ ,‬ومدارسه في العالم مشهورة لم يخل بلد‬
‫منها‪ ,‬حتى جزيرة ابن عمرو التي هي زاوية من الرض بني‬
‫فيها مدرسة كبيرة حسنة‪ ,‬وكان يحافظ على أوقات الصلوات‬
‫محافظة ل يتقدمه فيها المتفرغون للعبادة«)‪ (230‬قتل –رحمه‬
‫الله‪ -‬بيدي الغدر والخيانة الباطنية قرب نهاوند في اليوم‬
‫العاشر من رمضان عام ‪485‬هـ)‪.(231‬‬
‫‪ -8‬نشط علماء المدرسة الشافعية وعلى رأسهم المام‬
‫الجويني أبو المعالي إمام الحرمين الذي اهتم بمشاكل عصره‬
‫وكتب كتابه المعروف »غياث المم في التياث الظلم« في‬
‫السياسة الشرعية التي تبحث في مشكلت المسلمين‬
‫الواقعية‪ ,‬ومن تلميذ المام الجويني النابغين‪ :‬أبو حامد‬
‫الغزالي والكيا الهراسي‪ ,‬وقد ألف الغزالي كتابه »إحياء علوم‬
‫الدين« وفي نيته أن هذا من أسباب إصلح أحوال المسلمين‪,‬‬
‫ولكن يؤخذ على الكتاب حشوه بالحاديث الضعيفة‬
‫والموضوعة‪ ,‬والقصص غير المعقولة من شطحات الصوفية‪,‬‬
‫والكلم الفاسد من الفلسفة‪ ,‬ومع ذلك ففي كتابه نظرات‬
‫الروضتين في أخبار الدولتين )‪.(31‬‬ ‫‪()228‬‬
‫أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(69‬‬ ‫‪()229‬‬
‫الروضتين في أخبار الدولتين )ج ‪.(1/5‬‬ ‫‪()230‬‬
‫البداية والنهاية )ج ‪.(12/150‬‬ ‫‪()231‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪5‬‬ ‫الرابــع‬
‫إصلحية من خلل إصلح النوايا والقلوب‪ ,‬وكانت بحوث‬
‫الغزالي في النفوس البشرية عميقة أثرت تأثيًرا كبيًرا في‬
‫واقع المسلمين)‪.(232‬‬
‫وكان قبل المام الجويني المام الماوردي الذي حاول أن‬
‫يمهد الطريق لمام الحرمين فكتب )الحكام السلطانية(‬
‫لمعالجة مشكلة الحكم وكتب )أدب الدنيا والدين( لمعالجة‬
‫مشكلة دقيقة في حياة المسلمين وهي‪ :‬كيف تجمع بين‬
‫الدين والدنيا في توازن شرعي؟‪.‬‬
‫إن علماء المدرسة الشافعية السنية من أمثال أبي إسحاق‬
‫الشيرازي وتلميذهم ساهموا في اندحار الرفض والمذاهب‬
‫الباطنية)‪.(233‬‬
‫‪ -9‬ظهور العلماء العاملين المخلصين المنتسبين للمدرسة‬
‫الحنبلية في مدارس بغداد الذين تربي علماء المة‪ ,‬وطلب‬
‫العلم على أيديهم كالشيخ أبي الوفاء بن عقيل‪ ,‬والشيخ أبي‬
‫الفرج بن الجوزي المام الحافظ الواعظ‪ ,‬وكان لهم تأثير في‬
‫رجوع الناس إلى الدين على أصول سنية‪ ,‬وكان لمدرسة أبي‬
‫سعيد المخرمي الحنبلي دور بارز في تعليم المة وتربيتها‬
‫صا بعد أن تولى أمرها العالم الرباني عبد القادر‬‫وخصو ً‬
‫الجيلني‪ ,‬فكان كبار علماء بلد الشام يرحلون إلى بغداد‬
‫لدراسة الفقه الحنبلي‪ ,‬وللتصال بهذه المدرسة التربوية‬
‫الفقهية العقدية‪ ,‬وممن تربوا في هذه المدرسة الحافظ عبد‬
‫الغني المقدسي الذي دخل بغداد سنة ‪560‬هـ مع الموفق ابن‬
‫قدامة وأكرمهم الشيخ عبد القادر الجيلني غاية الكرام)‪.(234‬‬
‫وهؤلء المقادسة أبو عمر وأخوه الموفق‪ ,‬وابن خالهم عبد‬
‫الغني والشيخ العماد كانوا ل ينقطعون عن غزاة يخرج فيها‬
‫الملك الناصر صلح الدين إلى بلد الفرنج‪ ,‬وقد حضروا معه‬
‫فتح القدس)‪ ,(235‬وكان لهؤلء العلماء تأثير عظيم في نفوس‬
‫المسلمين ودفعهم نحو الجهاد والستشهاد في سبيل العقيدة‬
‫ومحاربة العقائد الباطنية اللحادية العبيدية السماعيلية‬
‫وكشف مخططاتهم وأساليبهم الماكرة‪.‬‬
‫وكان الواعظ الفقيه الحنبلي الدمشقي علي بن إبراهيم‬
‫بن نجا من تلميذ المدرسة الحنبلية في بغداد‪ ,‬وانضم إلى‬

‫‪ ()232‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(73-70‬‬


‫‪ ()233‬المصدر السابق‪.‬‬
‫‪ ()234‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(73 -70‬‬
‫‪ (3) ,()235‬المصدر السابق‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪11‬‬
‫‪6‬‬
‫صلح الدين‪ ,‬وأصبحت له حظوة عنده‪ ,‬وهو الذي ساعد صلح‬
‫الدين في كشف مؤامرة عبيدية انتقامية للقضاء على أهل‬
‫السنة في مصر وإرجاع الدولة العبيدية)‪.(236‬‬
‫وفرح الناس ببلد الشام بعودة السنة‪ ,‬قال أبو المظفر‬
‫ما ويقول‬‫الجوزي‪» :‬كان الشيخ العماد يحضر مجلسي دائ ً‬
‫صلح الدين‪ :‬يوسف فتح الساحل‪ ,‬وأظهر السلم وأنت‬
‫يوسف أحييت السنة بالشام«)‪.(237‬‬
‫وكان العماد المقدسي ‪-‬رحمه الله‪ -‬يجلس من الفجر إلى بعد‬
‫العشاء يعلم الناس القرآن والحكام ويشرح لهم السلم‪ ,‬لقد‬
‫ساهمت مدرسة الحنابلة السنية في محاربة الجهل‪ ,‬ودحر‬
‫الرفض‪ ,‬وإحياء السنة‪ ,‬وإذكاء جذوة الجهاد في نفوس‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫‪ -10‬الحملت المتتابعة التي قام بها حكام السلجقة‬
‫لقتلع جذور الباطنية‪ ,‬وإليك ما قام به هؤلء المراء من‬
‫خدمة جليلة للعالم السلمي‪.‬‬
‫ففي سنة ‪436‬هـ قام سلطان بلد ما وراء النهر بغراخان‬
‫بحملة مباركة للقضاء على طائفة السماعيلية‪ ,‬وبدأ بالقضاء‬
‫على من دخل بلده من دعاة العبيديين الذين أرسلتهم‬
‫الخلفة العبيدية في مصر‪ ,‬فقتلهم كلهم وكتب إلى سائر البلد‬
‫بقتل من فيها‪ ,‬وسلمت تلك البلد منهم)‪ (238‬بقتل الباطنية‪,‬‬
‫فقام أهل أصبهان بقتل من عندهم يقودهم في ذلك الفقيه‬
‫الشافعي السني مسعود بن محمد الخجندي‪.‬‬
‫وفي سنة ‪500‬هـ قتل السلطان محمد بن ملكشاه‬
‫السلجوقي مقتلة عظيمة منهم‪ ,‬وأجلهم عن قلعة أصبهان‬
‫بعد حصارها وبعد مخادعة ومخاتلة منهم‪ ,‬وقتل صاحبها ابن‬
‫غطاش)‪.(239‬‬
‫وفي سنة ‪523‬هـ حاول السماعيلية تسليم دمشق‬
‫للصليبيين مقابل أن يسلمهم الصليبيون مدينة صور واكتشف‬
‫أمير دمشق هذه المؤامرة الشنيعة »بوري بن طغتكين«‪,‬‬
‫فقتل متولي السماعيلية المزوقاني ونادى في البلد بقتل‬
‫الباطنية؛ فقتل منهم ستة آلف وكان ذلك في شهر‬

‫)(‬ ‫‪236‬‬
‫‪ ()237‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(22/50‬‬
‫‪ ()238‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص)‪.(75،74‬‬
‫‪ ()239‬الكامل )ج ‪.(10/430‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪7‬‬ ‫الرابــع‬
‫رمضان)‪.(240‬‬
‫وفي حوادث سنة ‪511‬هـ قال ابن الثير‪ :‬علم السلطان‬
‫محمد »السلجوقي« أن مصالح العباد والبلد منوطة بمحو‬
‫آثارهم وإخراب ديارهم وملك حصونهم وقلعهم‪ ,‬وكان في‬
‫أيامه المقدم عليهم والقيم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي‬
‫صاحب قلعة »ألموت« وكانت أيامه قد طالت‪ ,‬فقد ملك‬
‫القلعة ما يقارب سّتا وعشرين سنة‪ ,‬وكان المجاورون له في‬
‫أقبح صورة من كثرة غزاته لهم وقتله رجالهم‪ ,‬فسير‬
‫السلطان له العساكر بقيادة أنوشتكين‪ ,‬فملك عدة قلع‬
‫منهم‪ ,‬ثم سار إلى قلعة »ألموت« وحاصرهم أشهًرا وهم‬
‫يراوغون لخذ المان وترك القلعة‪ ,‬واستمر هذا القائد في‬
‫حصارهم‪ ,‬ثم جاء الخبر بوفاة السلطان محمد فتفرق عنه‬
‫العساكر ولم تفتح القلعة)‪ .(241‬وفي عهد السلطان سنجر )‪52‬‬
‫قا‬
‫‪1‬هـ( أوقع بالباطنية في »قلعة ألموت« وقتل منهم خل ً‬
‫كثيًرا‪.‬‬
‫إن محو آثار هؤلء المجرمين أثخنت الدولة العبيدية‬
‫وساهم في إضعاف المد الباطني في العالم السلمي‬
‫وانحساره‪.‬‬
‫إن اعمال السلجقة في تتبع آثار الباطنية ل يستطيع أحد أن‬
‫يجزيهم عن أعمالهم الجليلة التي خدمت المة السلمية إل‬
‫الكريم المنان الرزاق الفتاح الغفور الرحيم‪.‬‬
‫ظهور أمراء ربانيين أصحاب ديانة وتقوى ودراية‬ ‫‪-11‬‬
‫بالحروب وحب للشهادة‪ ,‬وأخص بالذكر المير الرباني القائد‬
‫الميداني الذي بدأ بجهاد الصليبيين وأعاد الثقة إلى نفوس‬
‫المسلمين‪ ,‬ووحد مدن الجزيرة والموصل‪ ,‬وبدأ في الزحف على‬
‫النصارى ينتزع منهم ما أخذوا من الحصون والمدن بقوة اليمان‬
‫ومضي الفارس »المير عماد الدين زنكي« الذي استطاع تخليص‬
‫حلب من يد النصارى في عام ‪522‬هـ‪ ,‬وفي سنة ‪532‬هـ جاء‬
‫الروم بجيش عظيم ومعهم الفرنجة فتحالف عماد الدين زنكي‬
‫مع سلطان ابن منقذ الكناني حتى ردوا النصارى على أعقابهم‬
‫خاسرين‪.‬‬
‫وفي سنة ‪534‬هـ جهز زنكي حملته على الفرنج‪ ,‬وصبر‬
‫المسلمون صبًرا لم يسمع بمثله إل ما يحكى عن ليلة الهدير‬
‫»القادسية« ونصر الله المسلمين وهرب ملوك الفرنج‪.‬‬
‫‪ ()240‬محمد كرد علي‪ ,‬خطط الشام )ج ‪ (2/3‬نقل ً عن كتاب‪ :‬أيعيد التاريخ نفسه؟‬
‫‪ ()241‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(81 -75‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪11‬‬
‫‪8‬‬
‫وكان من أعظم أعماله فتح »الرها« في سنة ‪539‬هـ‪,‬‬
‫وعادت هذه المدينة إلى حكم السلم وهي من أشرف المدن‬
‫عند النصارى‪ ,‬وسقطت بعدها الحصون القريبة وأخلى ديار‬
‫الجزيرة من حكم الفرنج وشرهم‪.‬‬
‫ولم يستطع زنكي إتمام هذه المرحلة‪ ,‬فقد قتل وهو‬
‫يحاصر قلعة »جعبر« التي تقع على نهر الفرات في إقليم‬
‫الجزيرة‪ ,‬وكان ‪-‬رحمه الله‪ -‬من خيار الملوك وأحسنهم سيرة‪,‬‬
‫ما مدحته الشعراء في أعماله‪,‬‬‫ما حاز ً‬
‫عا مقدا ً‬‫وكان شجا ً‬
‫وتوفي عام ‪541‬هـ مقتول‪ً.‬‬
‫ومما مدحه من الشعراء في أعماله ما قام به المير زنكي‬
‫في رد ملك الروم عندما زحف على شيزر حيث قال المسلم‬
‫بن خضر بن قسيم الحموري‬
‫في قصيدة أولها‪:‬‬
‫تذل لك الصعاب وتستقيم‬ ‫بعزمك أيها الملك‬
‫العظيم‬
‫ومنها‪:‬‬
‫تبين أنه الملك الرحيم‬ ‫ألم تر أن كلب الروم لما‬
‫كأن الجحفل الليل البهيم‬ ‫فجاء يطبق الفلوات‬
‫خيل ً‬
‫ودان لخطبه الخطب‬ ‫وقد نزل الزمان على‬
‫العظيم‬ ‫رضاه‬
‫تيقن أن ذلك ل يدوم‬ ‫فحين رميته بك في‬
‫خميس‬
‫فأحرب ل يسير ول يقيم‬ ‫وأبصر في المفاضة منك‬
‫شا‬‫جي ً‬
‫توقد هو شيطان رجيم‬ ‫كأنك في العجاج شهاب‬
‫نور‬
‫)‪(242‬‬
‫حميم‬ ‫مهجته فولى‬‫أراد بقاء ُ‬
‫***‬

‫‪ ()242‬الكامل )ج ‪.(7/22،21‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪9‬‬ ‫الرابــع‬

‫المبحث الثاني‬
‫نــــــور الدين محمـــــود‬
‫تولى أمور الدولة الزنكية بعد وفاة عماد الدين زنكي ابنه‬
‫نور الدين‪ ,‬الذي نشأ مع والده في العراق ثم الموصل وبلد‬
‫الشام‪ .‬وبعد وفاة والده قام مقامه وأظهر السنة في حلب‬
‫وغير البدعة وقمع الرافضة‪ ,‬وبنى المدارس وأوقف الوقاف‪,‬‬
‫وأظهر العدل‪ ,‬وكان كثير المطالعة للكتب الدينية متبًعا للثار‬
‫فا على‬ ‫النبوية‪ ,‬مواظًبا على الصلوات في الجماعات‪ ,‬عاك ً‬
‫دا في النفاق‪,‬‬ ‫تلوة القرآن‪ ,‬عفيف البطن والفرج‪ ,‬مقتص ً‬
‫متحرًيا في المطاعم والملبس‪ ,‬لم تسمع منه كلمة‬
‫فحش)‪ ,(243‬قال عنه ابن الثير‪» :‬طالعت تواريخ الملوك‬
‫المتقدمين قبل السلم وبعده إلى يومنا هذا فلم أر بعد‬
‫الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة‬
‫منه«)‪.(244‬‬
‫ومن زهده وتقواه أنه كان ل يأكل ول يلبس إل من ملك‬
‫كان له اشتراه من سهمه من الغنيمة‪ ,‬ومن الموال المرصدة‬
‫لمصالح المسلمين‪ ,‬وقد شكت إليه زوجته الضائقة وزيادة‬
‫النفقة فاحمر وجهه وقال‪» :‬من أين أعطيها ما يكفيها‪ ,‬والله‬
‫ل أخوض نار جهنم في هواها‪ ,‬ثم قال‪ :‬لي بمدينة حمص ثلثة‬
‫دكاكين مل ً‬
‫كا‪ ,‬قد وهبتها إياها فلتأخذها«)‪.(245‬‬
‫وقال ابن الثير‪» :‬وكان يصلي كثيًرا من الليل ويدعو‬
‫ويستغفر ول يزال كذلك إلى أن يركب«‪.‬‬
‫)‪(246‬‬
‫المحراب‬ ‫جمع الشجاعة والخشوع‬
‫لربه‬
‫وكان عارًفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة‪ ,‬وليس عنده‬
‫تعصب‪ ,‬بل النصاف سجيته في كل شيء‪ ,‬وعلى الحقيقة فهو‬
‫الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل والنصاف‪ ,‬وترك‬
‫المحرمات من المأكل والمشرب والملبس‪ ,‬فإنهم كانوا قبل‬
‫ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه‪ ,‬ل يعرف معروًفا ول‬
‫ينكر منكًرا‪ ,‬وأما عدله فإنه كان أحسن الملوك سيرة‪ ,‬فلم‬
‫شا‪ ,‬بل منعها رحمه الله‬ ‫سا ول غ ً‬
‫يترك في بلده ضريبة ول مك ً‬

‫‪ ()243‬الروضتين في أخبار الدولتين )ج ‪.(1/5‬‬ ‫‪244‬‬

‫‪ (4) ,() ،(2)245‬الكامل )ج ‪.(7/242‬‬


‫)(‬ ‫‪246‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬
‫‪0‬‬
‫جميًعا في بلد الشام والجزيرة ومصر)‪.(247‬‬
‫ومن عدله أنه بنى داًرا للعدل‪ ,‬وكان سبب بنائها أن‬
‫أمراءه وقواد جيوشه تعدوا على من يجاورهم‪ ,‬فكثرت‬
‫الشكاوي إلى القاضي كمال الدين‪ ,‬فأنصف بعضهم ولم يتجرأ‬
‫على القائد أسد الدين شيركوه‪ ,‬فلما سمع نور الدين بذلك‬
‫بنى هذه الدار وأحس أسد الدين بهذا فقال لنوابه‪» :‬والله لئن‬
‫أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لصلبنه‪ ,‬فامضوا إلى‬
‫كل من بينكم وبينه منازعة فأرضوه وافصلوا الحال معه‪,‬‬
‫فقالوا‪ :‬إذا فعلنا هذا فإن الناس يشتطون في الطلب‪ ,‬فقال‪:‬‬
‫ي من أن يراني نور الدين‬ ‫خروج أملكي عن يدي أسهل عل ّ‬
‫بعين ظالم‪ ,‬وكان نور الدين يجلس في هذه الدار يومين في‬
‫السبوع‪ ,‬فلما علم ما حصل مع أسد الدين شيركوه سجد لله‬
‫شكًرا‪.‬‬
‫وكان فعاله في بلد السلم من المصالح كثيرة‪ ,‬فقد بنى‬
‫أسوار مدن الشام جميعها وأحكم بناءها‪ ,‬وبنى المدارس‬
‫بحلب وحماة ودمشق‪ ,‬وكان أهل الدين عنده في أعلى محل‪.‬‬
‫وكان أمراؤه يحسدونهم على ذلك‪ ,‬فقد ذكر أحد المراء‬
‫الشيخ قطب الدين النيسابوري أمام نور الدين فقال له‬
‫السلطان‪ :‬يا هذا‪ ,‬الذي تتكلم عليه له حسنة تغفر كل زلة‬
‫وهي العلم والدين‪ ,‬وأما أنت وأصحابك ففيكم أضعاف ما‬
‫ذكرت‪ ,‬وليست لكم حسنة تغفرها‪ ,‬وأنا أحمل سيئاتكم مع‬
‫عدم حسناتكم‪ ,‬أفل أحمل سيئة هذا –إن صحت‪ -‬مع وجود‬
‫حسناته‪ ,‬على أنني والله ل أصدقك فيما تقول‪ ,‬وإن عدت‬
‫وذكرته بسوء لؤدبنك«)‪.(248‬‬
‫يهدى إليه من هدايا الملوك ل‬ ‫ومن عفته وتقواه أن ما كان ُ‬
‫يتصرف في شيء منه ل قليل ول كثير‪ ,‬بل يخرجه إلى مجلس‬
‫القاضي‪ ,‬ويحصل ثمنه ويصرفه في عمارة المساجد المهجورة‬
‫‪(249‬وكان نور الدين ‪-‬رحمه الله‪ -‬يتقبل النقد بصدر رحب مهما‬ ‫) ‪.‬‬
‫بلغت شدته‪ ,‬ومن ذلك ما فعله الواعظ أبو عثمان المنتخب بن‬
‫دا للدولة‬ ‫أبي محمد الواسطي ‪-‬كان من صالحي زمانه‪ -‬تناول نق ً‬
‫الزنكية في أخذها الضرائب والمكوس في حضور نور الدين‬
‫نفسه‪ ,‬فحذره وخوفه مما هو فيه‪ ,‬وقال لنور الدين هذه‬
‫القصيدة‪:‬‬
‫يوم القيامة والسماء تمور‬ ‫مثل وقوفك أيها المغرور‬

‫‪ ()247‬انظر‪ :‬الروضتين )ج ‪.(1/6‬‬


‫‪ ()248‬المصدر السابق ص )ج ‪.(1/9،8‬‬
‫‪ ()249‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(83‬‬
‫‪12‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪1‬‬ ‫الرابــع‬
‫فاحذر بأن تبقى ومالك نور‬ ‫إن قيل نور الدين رحت‬
‫مسلما‬
‫كأس المظالم طائش‬ ‫أنهيتً عن شرب الخمور‬
‫مخمور‬ ‫وأنت في‬
‫ع ّ‬
‫وعليك كاسات الحرام تدور‬ ‫طلت كاسات المدام‬
‫فا‬
‫تعف ً‬
‫ّ‬
‫فرًدا وجاءك منكر ونكير‬ ‫ماذا تقول إذا نقلت إلى‬
‫البلى‬
‫ب عسير؟‬‫فرًدا ذليل ً والحسا ُ‬ ‫ماذا تقول إذا وقفت‬
‫ذ‬ ‫بموقف‬
‫يوم الحساب مسلسل‬ ‫وتعلقت فيك الخصوم‬
‫مجرور‬ ‫وأنت في‬
‫ضيق القبور موسد مقبور‬ ‫وتفرقت عنك الجنود وأنت‬
‫في‬
‫ما ول قال النام أمير‬
‫يو ً‬ ‫ووددت أنك ما وليت ولية‬
‫في عالم الموت وأنت حقير‬ ‫وبقيت بعد العز رهن‬
‫حفيرة‬
‫ُ‬
‫قا ومالك في النام مجير‬
‫قل ً‬ ‫وحسرت عرياًنا حزيًنا باكًيا‬
‫عافى الخراب وجسمك‬ ‫أرضيت أن تحيا وقلبك‬
‫المعمور‬ ‫دارس‬
‫دا وأنت معذب مهجور‬
‫أب ً‬ ‫أرضيت أن يحظى سواك‬
‫بقربه‬
‫يوم المعاد ويوم تبدو العور‬ ‫مهد لنفسك حجة تنجو بها‬
‫دا‪ ,‬وأمر‬
‫بكاء شدي ً‬ ‫فلما سمع نور الدين هذه البيات بكى‬
‫‪ .‬وكتب إلى‬ ‫)‪(250‬‬
‫بوضع المكوس والضرائب في سائر البلد‬
‫الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم‪ ,‬ويقول لهم‪:‬‬
‫إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن‬
‫بلدكم ونسائكم وأولدكم‪ .‬وكتب بذلك إلى سائر ممالكه‬
‫وبلدان سلطانه‪ ,‬وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار‪,‬‬
‫وكان يقول في سجوده‪ :‬اللهم ارحم المكاس العشار الظالم‬
‫محمود الكلب)‪ .(251‬وكان ‪-‬رحمه الله‪ -‬يحارب روح التزلف‬
‫والنفاق للمسئولين‪ ,‬فمن ذلك أنه منع خطباء المساجد الذين‬
‫يبالغون في الدعاء له ويصفونه بالعبارات الرنانة التي تعودوا‬
‫أن يتقربوا بها إلى قلوب السلطين‪ ,‬فطلب إلى خالد بن‬
‫محمد بن نصر القيسراني أن يوقف ذلك‪ ,‬وأن يكتب له صيغة‬
‫دعاء بسيط تطابق الواقع بأحواله وأفعاله‪ ,‬فكتب له الصيغة‬
‫التالية‪:‬‬

‫‪ ()250‬انظر‪ :‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/302‬‬


‫‪ ()251‬انظر‪ :‬د‪ .‬حسين مؤنس‪ -‬نور الدين محمود‪ ,‬ص )‪.(401،400‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬
‫‪2‬‬
‫»اللهم أصلح عبدك الفقير إلى رحمتك‪ ,‬الخاضع لهيبتك‪,‬‬
‫المعتصم بقوتك‪ ,‬المجاهد في سبيلك‪ ,‬المرابط لعداء دينك‪:‬‬
‫أبا القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر أمير‬
‫المؤمنين«‪.‬‬
‫فقرأ نور الدين نسخة الدعاء وعلق عليها العبارة التالية‪:‬‬
‫»مقصودي أل يكذب على المنبر‪ ,‬أنا بخلف كل ما يقال أأفرح‬
‫بما ل أعمل؟! قلة عقل عظيم‪ ,‬الذي كتبت هو جيد اكتب به‬
‫خا حتى نسيره إلى جميع البلد« ثم أضاف‪» :‬ثم يبدأ‬ ‫نس ً‬
‫قا‪ ,‬اللهم اسعده‪ ,‬اللهم انصره‪,‬‬ ‫بالدعاء‪ :‬اللهم أره الحق ح ً‬
‫اللهم فقهه‪ ...‬من هذا الجنس«)‪.(252‬‬
‫طلب من نور الدين أن يسمح للمراء أن يعملوا‬ ‫وعندما ُ‬
‫بنوع من السياسة؛ لن المفسدين وقطاع الطرق قد كثروا‬
‫ويحتاج إلى نوع من السياسة‪ ,‬ومثل هذا ل يجئ إل بقتل‬
‫وصلب وضرب‪ ,‬وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجئ‬
‫ليشهد له؟‪.‬‬
‫فلما وصل الكتاب إلى نور الدين قلبه وكتب على ظهره‪:‬‬
‫»إن الله تعالى يخلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم‪ ,‬وإن‬
‫مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال‪ ,‬ولو علم أن‬
‫على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه لنا‪ ,‬فما لنا حاجة‬
‫إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى‪ ,‬فما زاد فقد زعم أن‬
‫الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته‪ ,‬وهذا من الجرأة على الله‬
‫وشرعه‪ ,‬والعقول المظلمة ل تهدي‪ ,‬فالله سبحانه وتعالى‬
‫يهدينا إلى الكتاب وإلى الصراط المستقيم‪ ,‬وكان الذي طلب‬
‫من السلطان نور الدين الشيخ عمر الملء بطلب من المراء‪,‬‬
‫فلما وصل رد السلطان إلى الشيخ عمر جمع أهل الموصل‬
‫وقرأ عليهم الكتاب وقال‪» :‬انظروا في كتاب الزاهد إلى‬
‫الملك‪ ,‬وكتاب الملك إلى الزاهد«)‪.(253‬‬
‫هذا الذي ذكرت بعض سيرة السلطان نور الدين محمود‬
‫ليعلم القارئ أن الذي يكرمه الله بنصره وتأييده له لبد أن‬
‫يكون ربانًيا موصول ً بالله تعالى‪.‬‬
‫وكانت سياسة دولة نور الدين محمود لها أهداف رسمتها‬
‫وسعت سعًيا حثيًثا لتحقيقها‪ ,‬ومن أهم تلك الهداف الواضحة‬
‫المعالم‪:‬‬
‫ل‪ :‬إعداد الشعب إسلمًيا وتطهير الحياة الدينية والثقافية‬ ‫أو ً‬
‫‪ ()252‬المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(441،440‬‬
‫‪ ()253‬ابن القاضي شهبة‪ ,‬الكواكب الدرية‪ ,‬ص )‪.(26،25‬‬
‫‪12‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪3‬‬ ‫الرابــع‬
‫من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية‪ ,‬وآثار الفلسفة‬
‫اليونانية‪ ,‬والممارسات العبيدية للعبادات والشعائر‪ ,‬ولهذا‬
‫الهدف النبيل عمدت الدولة إلى بناء المدارس ودور القرآن‬
‫ودور الحديث‪ ,‬واستقدمت مشاهير العلماء والتربية‪ ,‬وخاصة‬
‫الذين تخرجوا من المدرستين التربويتين الغزالية والقادرية‪,‬‬
‫وانصبت الخطة التعليمية التربوية في زمن السلطان نور‬
‫الدين محمود على صياغة الجماهير المسلمة بما يتفق مع‬
‫أهداف السلم على أسس عقدية واضحة المعالم‪ ,‬وكانت‬
‫محاضن هذا العداد في المدارس والمساجد‪ ,‬وكان في‬
‫دمشق وحدها أكثر من مائة مسجد‪ ,‬وركزت تلك النطلقة‬
‫العلمية على بث روح السلم ذات المفاهيم السنية والطريقة‬
‫النبوية‪ ,‬واستهدفت تجفيف وحسر التعاليم والمذاهب‬
‫السماعيلية والفلسفية التي تركت آثاًرا عميقة في عقائد‬
‫السكان وعاداتهم ومواقفهم السياسية والجتماعية‪ ,‬والتي من‬
‫أجلها وصفهم ابن جبير بأنهم ل إسلم لهم‪ ,‬وأنهم أهل أهواء‬
‫وبدع إل من رحم الله‪ ,‬ومنعت الدولة الزنكية كل المظاهر‬
‫العبيدية في البلدان التي ضمتها إلى أملكها‪ ,‬فمنعت من‬
‫الذان »حي على خير العمل« والتظاهر بسب الصحابة‪,‬‬
‫دا‪ ,‬ووقف علماء أهل السنة مع‬ ‫وأنكرت ذلك إنكاًرا شدي ً‬
‫الدولة كجنود لها مخلصين‪ ,‬وعظم الخطب على طائفة‬
‫ما‪ ,‬وضاقت‬ ‫السماعيلية الباطنية العبيدية وأهل التشيع عمو ً‬
‫صدورهم وهاجوا وماجوا‪ ,‬ثم سكتوا وأحجموا للخوف من‬
‫سطوة الدولة الزنكية السنية)‪ .(254‬وكان الفقيه الشافعي‬
‫قطب الدين الدين النيسابوري الخراساني صاحب القدح‬
‫المعلي في إحياء السنن في زمن السلطان نور الدين‬
‫محمود‪ ,‬وكذلك ابن الشيخ أبي النجيب الكبر البغدادي كان‬
‫من أعمدة الدولة الزنكية‪ ,‬وانضم إلى النورية من أصبهان‬
‫شرف الدين عبد المؤمن بن شوردة‪.‬‬
‫وأوضح السلطان نور الدين سياسة الدولة التعليمية بقوله‪:‬‬
‫»ما أردنا ببناء المدارس إل نشر العلم ودحض البدع من هذه‬
‫البلدة وإظهار الدين«‪.‬‬
‫وتبارى الوزراء والقادة والغنياء والرجال والنساء في‬
‫إنفاق أموالهم في‬
‫بناء المدارس والمؤسسات التعليمية وتوفير الفرصة لفراد‬
‫المة لدخولها‬
‫‪ ()254‬انظر‪ :‬بدر الدين بن قاضي شهبة‪ ,‬الكواكب الدرية‪ ,‬تحقيق‪ :‬محمود زايد‪,‬‬
‫بيروت‪ :‬دار الكتاب الجديد‪1971 ,‬م‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬
‫‪4‬‬
‫والستفادة منها‪.‬‬
‫وكانت جماهير المسلمين العريضة من العمال والمزارعين‬
‫والتجار مستهدفة من قبل الدولة الزنكية‪ ,‬فلم تترك إرشادهم‬
‫وتوجيههم فزرعت في نفوسهم العقيدة والخلق والقيم‪,‬‬
‫وكان للتصوف المعتدل بقيادة الشيخ عبد القادر الجيلني أثر‬
‫واضح في نفوس الجماهير‪ ,‬واستفادت الدولة الزنكية من‬
‫الحركة الصوفية الصلحية القادرية‪ ,‬فأقامت لهم الربطة‬
‫والزوايا‪ ,‬واحترمت شيوخهم واستقدمتهم وهذبت الجماهير‬
‫وزكتهم وفق خطة الدولة المرسومة‪ ,‬واهتمت الدولة بالعداد‬
‫العسكري إلى جانب التعليم والرشاد والتربية‪ ,‬ودربت كل‬
‫أتباعها تدريًبا عسكرًيا وبثت روح الجهاد في صفوفهم‪ ,‬وكان‬
‫التدريب يقوم على دعامتين‪:‬‬
‫‪ -1‬العداد المعنوي والروحي‪.‬‬
‫‪ -2‬ثم التدريب العسكري وألف زعيم الدولة الزنكية‬
‫السلطان نور الدين محمود كتاًبا في الجهاد‪.‬‬
‫وتكاملت جهود العلماء والفقهاء والمربين والقادة‬
‫والزعماء في داخل مؤسسات الدولة المتعددة‪ ,‬وسعت في‬
‫تحقيق برامج الدولة النورية السنية‪.‬‬
‫وبسبب هذا التكامل والوفاق أصبحت الدولة النورية قطًبا‬
‫جذاًبا لجميع العلماء والشيوخ‪ ,‬فهاجروا إليها من كل بقاع‬
‫العالم السلمي‪ ,‬وانضووا تحت لوائها السلمي المجيد‪,‬‬
‫وتجاوز عددهم اللف‪ ,‬واستفادت الدولة منهم وفق برامجها‪,‬‬
‫وتذكر كتب التاريخ أسماء اللف من المدارس ودور القرآن‬
‫والحديث والربطة والزوايا التي تضافرت فيها الجهود‬
‫المذكورة‪ ,‬وأصبحت الدولة الزنكية بقيادة السلطان نور الدين‬
‫تشرف على كل الخطط والبرامج المرسومة التي بدأت‬
‫تعطي ثمارها بتغيير البنية القديمة لبلد الشام‪ ,‬ونشأ جيل‬
‫التغيير الفعلي‪ ,‬وسيطرت الروح السلمية لدى هيئات‬
‫المجتمع وأفراده‪ ,‬ووجهت نشاطاتهم في جميع ميادين الحياة‬
‫القائمة‪ ,‬وأصبح التغيير تغيير أمة‪ ,‬وتحققت سنة الله الجارية‬
‫ما‬
‫غي ُّروا َ‬‫حّتى ي ُ َ‬
‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر َ‬ ‫ن الل َ‬
‫فيهم)‪+ :(255‬إ ِ ّ‬
‫م" ]الرعد‪.[11:‬‬‫ه ْ‬
‫س ِ‬
‫ف ِ‬‫ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ثانًيا‪ :‬استطاعت الدولة الزنكية أن تصبغ الدارة بالصبغة‬

‫‪ ()255‬انظر‪ :‬هكذا ظهر جيل صلح الدين‪ ,‬ص )‪.(217-215‬‬


‫‪12‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪5‬‬ ‫الرابــع‬
‫السلمية وأن تدمج القيادات السياسية والفكرية بالمفاهيم‬
‫والحكام الشرعية‪.‬‬
‫فكان رجال نور الدين ومعاونوه وقادة جيشه على مستوى‬
‫من العلم والخلق‪ ,‬ومن أمثلة ذلك وزيره أبو الفضل محمد‬ ‫قرا ٍ‬
‫يا شغل‬ ‫ً‬ ‫أصول‬ ‫ها‬
‫ً‬ ‫فقي‬ ‫كان‬ ‫فقد‬ ‫الشهرزوري‪,‬‬ ‫القاسم‬ ‫بن‬ ‫الله‬ ‫عبد‬ ‫بن‬
‫مناصب مختلفة‪ ,‬منها السفارة والوزارة وناظر الوقاف وناظر‬
‫المالية والقضاء‪ ,‬واستمر على ذلك حتى قيادة صلح الدين ‪.‬‬
‫)‪(256‬‬

‫ومنهم عبد الله بن محمد بن أبي عصرون الذي شغل‬


‫منصب قاضي دمشق وناظًرا للوقاف)‪ ,(257‬وكذلك كان صلح‬
‫الدين فقيًها درس الفقه الشافعي‪ ,‬وسمع الحديث من أبي‬
‫طاهر السلفي وغيره‪ ,‬روى الحديث عنه أناس مثل يونس بن‬
‫محمد الفرقي والعماد الكاتب وغيرهم‪ ,‬ويقال‪ :‬إنه كان يحفظ‬
‫القرآن و»التنبيه« في الفقه و»الحماسة« في الشعر)‪.(258‬‬
‫ومثله وزيره الشهير وكاتبه ومستشاره القاضي الفاضل عبد‬
‫الرحيم بن علي والذي قال صلح الدين عنه‪ :‬لم أفتح البلد‬
‫بسيفي وإنما برأي القاضي الفاضل‪ ,‬وكان القاضي الفاضل يجمع‬
‫عا ًفائًقا‪ ,‬فكان كثير الصيام والصلة‬ ‫إلى حنكته السياسية ور‬
‫يكثر عيادة المرضى والحسان‬ ‫وقراءة القرآن‪ ,‬وكان متواضًعا ُ‬
‫للفقراء‪ ,‬لقد أظهر هذا الرعيل من صنوف المهارات في‬
‫التخطيط والتنفيذ وحشد مقدرات المة وتنظيمة ما هيأها‬
‫لمجابهة التحديات في الداخل والخارج‪ ,‬ومن أمثلة المهارات‬
‫والمزايا ما يلي‪:‬‬
‫تكامل القيادات الفكرية والسياسية‪ ,‬فقد أدركت هذه‬ ‫الولى‪:‬‬
‫القيادات خطورة الرتجال أو انفراد فريق من القيادات دون‬
‫الخر‪ ,‬واعتمدت في القرارات التي تتخذها على آراء العلماء‬
‫والمختصين‪ ,‬فكان لدى نور الدين مجلس دوري يلتقي فيه القادة‬
‫والعسكريون مع العلماء المختصين حيث يحتل العلماء‬
‫المختصون المنزلة الولى فيه)‪.(259‬‬
‫اعتماد الشورى وعدم النفراد باتخاذ القرارات‪ ,‬ولقد‬ ‫الثانية‪:‬‬
‫تميزت إدارة نور الدين بالشورى‪ ,‬وتبادل الراء في كل أمور‬
‫الدولة‪ ,‬فكان له مجلس فقهاء يتألف من ممثلي سائر المذاهب‬
‫را يخص‬ ‫والصوفية‪ ,‬يبحث في الدارة والميزانية‪ ,‬فإذا بحث أم ً‬
‫انظر‪ :‬السبكي‪ ,‬طبقات الشافعية )ج ‪.(6/188‬‬ ‫‪()256‬‬
‫انظر‪ :‬السبكي‪ ,‬طبقات الشافعية )ج ‪.(4/237‬‬ ‫‪()257‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(7/34‬‬ ‫‪()258‬‬
‫هكذا ظهر جيل صلح الدين‪ ,‬ص )‪.(225‬‬ ‫‪()259‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬
‫‪6‬‬
‫المة جميعها‪ ,‬أو كان ذا علقة بالموال المرصودة لصالح‬
‫المسلمين جمع أعضاء هذا المجلس وشاورهم فيه‪ ,‬وسأل كل‬
‫عضو ما عنده من الفقه‪ ,‬ول يتعدى الرأي الذي يتفق عليه‪ ,‬ومن‬
‫ذلك ما حدث في قلعة دمشق في ‪ 19‬صفر عام ‪554‬هـ‪11/‬‬
‫سا دعا إليه القضاة‬ ‫يوليو سنة ‪1149‬م حين عقد نور الدين مجل ً‬
‫را ًمن العيان وشهود العدالة للنظر في‬ ‫وكبار رجال الدولة ونف‬
‫الوقاف المرصودة للجامع الموي‪ ,‬وكان شيوخ الجامع فيما‬
‫مضى قد أدخلوا في أوقاف الجامع عقارات وأعيانا ً أخرى داخلة‬
‫في المنافع العامة‪ ,‬فأحب نور الدين أن يفصل هذه عن تلك‪,‬‬
‫لكي يستخدم أموال المنافع في التحصينات العسكرية في الثغور‬
‫وبناء سور دمشق لصيانة المسلمين وأموالهم؛ لن هذا من »أهم‬
‫المصالح« عند نور الدين‪ ,‬وأقر المجلس رأيا ً يخالف ما أراده نور‬
‫الدين ولم يأذنوا له بصرف فواضل الوقاف في عمارة السوار‬
‫وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة على المسلمين‪ ,‬وأجازوا له‬
‫ضا ًمن هذه الفواضل يستخدمه في تلك المصلحة‬ ‫أن يأخذ قر‬
‫على أن يرده من بيت المال‪ ,‬ومع شدة حاجة نور الدين إلى‬
‫المال لمطالب الحرب وأعمال الدفاع في ذلك الحين فإنه قبل‬
‫رأي المجلس بنفس راضية‪ ,‬ولم يمس أوقاف الجامع الكثيرة‬
‫ما للدين ورجاله)‪.(260‬‬
‫ما للرأي وتكري ً‬
‫احترا ً‬
‫الثالثة‪ :‬من المميزات التي ميزت تلك الدارة هي غلبة‬
‫المصلحة العامة على النفعالت والمصالح الشخصية في‬
‫معالجة المشكلت التي قد تثور بين القران‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬التفاني في أداء الواجب المقدس بتعاون وتآخ‬
‫إسلمي رفيع ابتغاء مرضاة الله‪ ,‬وكان تعلقهم بالدين والشرع‬
‫شيء يدل على تربية عالية‪ ,‬ومن حبهم لدينهم جعل المراء‬
‫والحكام والسلطين يتخيرون أسماء تدل على ذلك‪ :‬عماد‬
‫الدين‪ ,‬سيف الدين‪ ,‬معين الدين‪ ,‬نور الدين‪ ,‬صلح الدين‪ ,‬أسد‬
‫الدين‪ ,‬نجم الدين وزين الدين‪ ,‬وكان البويهيون الشيعة من‬
‫حبهم للدنيا يسمون‪ :‬عضد الدولة‪ ,‬بهاء الدولة‪ ,‬صمام الدولة‪.‬‬
‫وكان أمراء وحكام الدولة النورية يحبون الموت في سبيل‬
‫الله في ساحات الوغى‪ ,‬وإذا تعذر ذلك كتبوا في وصيتهم أن‬
‫يدفنوا في المدينة النبوية‪ ,‬فعل ذلك جمال الدين الموصلي‪,‬‬
‫وأسد الدين شيركوه‪ ,‬وأخوه نجم الدين والد صلح الدين ‪.‬‬
‫)‪(261‬‬

‫***‬

‫‪ ()260‬د‪ .‬حسين مؤنس‪ ,‬نور الدين محمود‪ ,‬ص )‪.(405،404‬‬


‫‪ ()261‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/272‬‬
‫‪12‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪7‬‬ ‫الرابــع‬

‫توحيد بلد الشام والديار المصرية‬


‫كانت سياسة نور الدين محمود الرشيدة تسعى لتوحيد‬
‫المسلمين تحت قيادة واحدة ومنهج أصيل‪ ,‬فاستطاع أن يضم‬
‫دمشق مع حلب والرها وغيرها من المدن السلمية التي‬
‫حررها المسلمون بقوة السيف وحب الشهادة‪ ,‬وبدأ نور الدين‬
‫في زحفه على حصون النصارى ومدنهم الواقعة بين مصر‬
‫والشام‪ ,‬وكانت رغبة نور الدين في تخليص بلد مصر من‬
‫العبيديين الباطنيين الحاقدين حلفاء النصارى أمنية غالية‬
‫ومطلًبا شرعًيا رفيًعا‪ ,‬فأرسل إلى مصر علماء وفقهاء ووعاظ‬
‫لدعوة الناس‪ ,‬وتهيئة الرأي العام للفتح السني المجيد‪,‬‬
‫وتخليص البلد من نتن الروافض البغيض‪ ,‬ومن أشهر العلماء‬
‫الذين قاموا بهذا الدور محمد بن الموفق الخبوشاني الذي‬
‫دخل مصر في عام ‪560‬هـ وبدأ يبشر بالسلم الصحيح‪,‬‬
‫ويلعن العبيديين‪ ,‬ويصفهم بالزندقة واليهودية‪ ,‬وتطاير الركبان‬
‫بأخباره في أنحاء العالم السلمي)‪.(262‬‬
‫وكانت الدولة النورية السنية تتحين الفرصة للدخول‬
‫العسكري إلى مصر وجاءت الفرصة المناسبة عندما اختلف‬
‫حكام مصر العبيديون فيما بينهم من أجل مصالحهم الدنيوية‪,‬‬
‫فاستنجد الوزير شاور بنور الدين محمود‪ ,‬والقائد ضرغام بن‬
‫ثعلبة بالصليبيين واحتدم الصراع ومر بمراحل حتى استطاع أسد‬
‫يحكم قبضته‪,‬‬ ‫الدين شيركوه الذي أرسله نور الدين إلى مصر أن ُ‬
‫واستقر المر لنور الدين في عام ‪564‬هـ عندما تولى أمر مصر‬
‫صلح الدين بعد عمه أسد الدين‪ ,‬وتدرج صلح الدين في القضاء‬
‫على الدولة العبيدية في مصر‪ ,‬وإعادة السنة فيها ووحد الصفوف‬
‫السلمية لفتح بيت المقدس‪.‬‬
‫وفاة نور الدين محمود‬
‫في عام ‪569‬هـ)‪ (263‬انتقل إلى رحمة الله السلطان السني‬
‫الغيور المخلص المجاهد مميت البدعة ومحيي السنة وهازم‬
‫النصارى وناصر الدين السلطان نور الدين محمود بعد جهاد‬
‫عظيم‪ ,‬وعمل جليل‪ ,‬وتفان نادر‪ ,‬وخدمة للدين‪ ,‬وتقدم تلميذه‬
‫المخلص الذي تربى على يديه واختاره لقيادة الجيوش‬
‫السلطان صلح الدين اليوبي‪.‬‬

‫)‪ (2‬البداية والنهاية )ج‬ ‫‪ ()262‬انظر‪ :‬هكذا ظهر جيل صلح الدين‪ ,‬ص )‪.(262‬‬
‫‪.(12/397‬‬ ‫‪263‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪12‬‬
‫‪8‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫صلح الدين اليوبي محرر القدس‬
‫ومزيل دولة العبيديين من مصر‬
‫ولد السلطان يوسف بن أيوب سنة ‪532‬هـ بقلعة تكريت‬
‫في العراق‪ ,‬وكان والده أيوب بن شادي والًيا عليها‪ ,‬ثم انتقل‬
‫الوالد إلى الموصل ومعه أخوه أسد الدين شيركوه‪ ,‬وتربى‬
‫الشبل اليوبي في كنف والده وعمه المجاهدين‪ ,‬وبدأ يترقى‬
‫في كتائب المجاهدين‪ ,‬وانتدب لمرافقة عمه أسد الدين عندما‬
‫أرسل نور الدين محمود إلى مصر‪ ,‬وتسلم منصب وزارة‬
‫التفويض بعد وفاة عمه في نهاية الدولة العبيدية‪ ,‬وبدأ في‬
‫جا في تنفيذ هدفه‬ ‫إرجاع مصر للخلفة السنية العباسية متدر ً‬
‫النبيل‪ ,‬والذي اشتاقت إليه نفوس المسلمين‪ ,‬فعزل قضاة‬
‫مصر الروافض العبيديين‪ ,‬وأسند أمر القضاء إلى عبد الملك‬
‫بن درباس الشافعي‪ ,‬وقطع الذان بـ »حي على خير العمل«‬
‫وأقام الخطبة للخليفة العباسي بعد أن انقطعت الخطبة‬
‫للعباسيين بمصر ‪ 208‬سنوات‪ ,‬وبشر نور الدين محمود‬
‫الخليفة العباسي بذلك‪ ,‬وفرح الناس‪ ,‬وقضى صلح الدين‬
‫على كل المحاولت الفاشلة لرجاع مصر للخلفة العبيدية‪,‬‬
‫وأحسن إلى الرعايا إحساًنا كثيًرا‪.‬‬
‫وقال العماد الصبهاني في رجوع مصر للخلفة العباسية‬
‫أبياًتا شعرية رائعة بعد وفاة العاضد العبيدي وزوال ملكه‬
‫ودولته من مصر‪:‬‬
‫يفتح ذو بدعة بمصر فما‬ ‫توفى العاضد الدعي مما‬
‫يوسفها في المور محتكما‬ ‫وعصر فرعونها انقضى‬
‫وغدا‬
‫داخ من الشرك كل ما‬ ‫قد طفئت جمرة الغواة‬
‫اضطرما‬ ‫وقد‬
‫ما‬
‫ً‬ ‫منتظ‬ ‫السداد‬ ‫وعقد‬ ‫بها‬ ‫وصل شمل الصلح‬
‫ما‬
‫ملتئ ً‬
‫قا والباطل اكتتما‬
‫العباس ح ً‬ ‫غدا مشعًرا شعار‬ ‫لما‬
‫بني‬
‫ومن دعاة الشراك منتقما‬ ‫وبات داعي التوحيد‬
‫منتظرا‬
‫داحية من غبائه وعمى‬ ‫وظل ًأهل الضلل في‬
‫ظلل‬
‫لما أضاءت منابر العلما‬ ‫وارتكس الجاهلون في‬
‫ظلم‬
‫‪12‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪9‬‬ ‫الرابــع‬
‫ببناء حق بعد ما كان منهدما‬ ‫وعاد المستضيء معتلًيا‬
‫وانتصر الدين بعد ما كان‬ ‫أعيدت الدولة التي‬
‫اهتفما‬ ‫اضطهدت‬
‫وافتر ثغر السلم وابتسما‬ ‫واهتز عطف السلم من‬
‫جلل‬
‫فليقرع الكفر سنه ندما‬ ‫واستبشرت أوجه الهدى‬
‫حا‬
‫فر ً‬
‫وفي الطغاة منقسما‬ ‫عاد حريم العداء منتهك‬
‫الهدى‬
‫عامر بيت من الكمال سما‬ ‫قصور أهل القصور‬
‫أخربها‬
‫)‪(264‬‬
‫ما‬
‫ً‬ ‫رغ‬ ‫وأنفه‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ومات‬ ‫السكوت‬ ‫بعد‬ ‫أزعج‬
‫ساكنها‬
‫وكان سقوط الدولة العبيدية سنة ‪567‬هـ وقال ابن كثير‬
‫في ذلك‪» :‬قد كانت مدة ملك الفاطميين مائتي سنة وكسًرا‪,‬‬
‫َ‬
‫ها" ]هود‪.[95:‬‬ ‫في َ‬
‫وا ِ‬ ‫غن َ ْ‬
‫م يَ ْ‬‫فصاروا كأمس الذاهب‪+ :‬ك َأن ل ّ ْ‬
‫وكان أول من ملك منهم المهدي‪ ,‬وكان من سلمية حداًدا‬
‫اسمه عبيد‪ ,‬وكان يهودًيا‪ ,‬فدخل بلد المغرب وتسمى بعبيد‬
‫الله‪ ,‬وادعى أنه شريف علوي فاطمي‪ ,‬وقال عن نفسه إنه‬
‫المهدي‪ ,‬كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والئمة بعد‬
‫الربعمائة‪ ,‬والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه‬
‫في تلك البلد‪ ,‬وآزره جماعة من الجهلة‪ ,‬وصارت له دولة‬
‫وصولة‪ ,‬ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة‬
‫عا‪ ,‬يظهر الرفض وينطوي على الكفر‬ ‫إليه‪ ,‬وصار مل ً‬
‫كا مطا ً‬
‫المحض‪ ,‬ثم كان من بعده ابنه القائم محمد‪ ,‬ثم ابنه المنصور‬
‫إسماعيل‪ ,‬ثم ابنه معد‪ ,‬وهو أول من دخل ديار مصر منهم‪,‬‬
‫وبنيت له القاهرة المعزية والقصران‪ ,‬ثم ابنه العزيز نزار‪ ,‬ثم‬
‫ابنه الحاكم منصور‪ ,‬ثم ابنه الطاهر علي‪ ,‬ثم ابنه المستنصر‬
‫معد‪ ,‬ثم ابنه المستعلي أحمد‪ ,‬ثم ابنه المر منصور‪ ,‬ثم ابن‬
‫عمه الحافظ عبد المجيد‪ ,‬ثم ابنه الظافر إسماعيل‪ ,‬ثم الفائز‬
‫عيسى‪ ,‬ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم‪ ,‬فجملتهم‬
‫كا‪ ,‬مدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة‪ ,‬وكذلك‬ ‫أربعة عشر مل ً‬
‫ضا ولكن مدتهم نيف‬ ‫عدد خلفاء بني أمية أربعة عشر أي ً‬
‫وثمانون سنة إلى أن قال‪...‬‬
‫ل‪ ,‬وكانوا‬ ‫وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم ما ً‬
‫من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم‪ ,‬وأنجس الملوك سيرة‪,‬‬
‫وأخبثهم سريرة‪ ,‬وظهرت في دولتهم البدع والمنكرات‪ ,‬وكثر‬

‫‪ ()264‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/284‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪13‬‬
‫‪0‬‬
‫أهل الفساد‪ ,‬وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد‪,‬‬
‫وكثرت بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية‪ ,‬وتغلب‬
‫الفرنج على سواحل الشام بكامله‪ ,‬حتى أخذوا القدس‬
‫ونابلس وعجلون والغور وبلد غزة وعسقلن وكرك والشوبك‬
‫وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس‬
‫قا‬
‫وأنطاكية وجميع ما والى ذلك‪ ,‬وقتلوا من المسلمين خل ً‬
‫ما ل يحصيهم إل الله‪ ,‬وسبوا ذراري المسلمين من النساء‬ ‫وأم ً‬
‫والولدان مما ل يحد ول يوصف‪ ,‬وكل هذه البلد كانت الصحابة‬
‫قد فتحوها وصارت دار إسلم‪ ,‬وأخذوا أموال المسلمين ما ل‬
‫يحد ول يوصف‪ ,‬وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله‬
‫سلم‪ ,‬وحين زالت أيامهم وانتفض إبرامهم أعاد الله عز وجل‬
‫هذه البلد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده‬
‫ورحمته«)‪.(265‬‬
‫وقد مدح علماء أهل السنة وفقهاؤهم وحكامهم هذا الفعل‬
‫الجميل لصلح الدين أل وهو القضاء على دولة العبيديين‬
‫الرافضية الباطنية‪ ,‬وأكثر الشعراء القصائد في مدح صلح‬
‫الدين فقال بعضهم‪:‬‬
‫بني عبيد بمصر إن هذا هو‬ ‫أبدتم من بلى دولة الكفر‬
‫الفضل‬ ‫من‬
‫وما في الصالحين لهم أصل‬ ‫زنادقة شيعية باطنية‬
‫مجوس‬
‫)‪(266‬‬
‫الجهل‬ ‫ُيسرون كفًرا يظهرون‬
‫تشيًعا‬
‫إن نور الدين محمود كان يرى إزالة العبيدية هدفاً‬
‫استراتيجًيا للقضاء على الوجود النصراني‪ ,‬والنفوذ الباطني‬
‫في بلد الشام؛ ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم‬
‫السلمي الصحيح‪ ,‬فوضع الخطط اللزمة وأعد الجيوش‬
‫المطلوبة وعين المراء ذوي الكفاءة المنشودة‪ ,‬فتمم الله له‬
‫ما أراد على يد جنديه المخلص صلح الدين الذي نفذ سياسة‬
‫نور الدين الحكيمة الرشيدة‪.‬‬
‫وبعد أن استقرت أمور البلد والعباد في مصر‪ ,‬وأزيلت‬
‫البدعة‪ ,‬وأحييت السنة‪ ,‬وأميتت الفتنة‪ ,‬وانتقل نور الدين إلى ربه‬
‫الغفور الرحيم‪ ,‬آل المر إلى صلح الدين بعد فتن استطاع أن‬
‫يقضي عليها‪ ,‬ووحد بلد الشام ومصر تحت زعامته الفتية‪ ,‬وشرع‬
‫في تنفيذ الهداف المرسومة للدولة النورية‪ .‬وكان من أهداف‬
‫‪ ()265‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/287‬‬
‫‪ ()266‬المصدر السابق )ج ‪.(12/288‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪1‬‬ ‫الرابــع‬
‫نور الدين العظيمة تحرير ديار المسلمين من النصارى وتحرير‬
‫را عظيما ً لهذه الغاية‪ ,‬ولكنه مات‬
‫بيت المقدس‪ ,‬حتى إنه هيأ منب ً‬
‫قبل تحقيق هذا الهدف الغالي الذي ادخره الله لصلح الدين‪,‬‬
‫فعزم صلح الدين على مواصلة حركة الجهاد المقدس‪ ,‬وفك‬
‫الحصون والمدن من النصارى بالقوة بخطة واضحة محكمة‪,‬‬
‫فانتصر على الفرنجة في موقعة »مرج العيون« سنة ‪575‬هـ‬
‫وموقعة »بانياس« وأسر رؤساءهم ودمر حصن الحزان في‬
‫صفد‪ ,‬وما زال يناوش الفرنجة وينتزع منهم الحصون حصًنا بعد‬
‫حصن حتى تجمع عنده جيش كبير في سهل حطين‪ ,‬حيث كانت‬
‫الموقعة الكبرى التي كسرت عظام الصليبيين ومهدت لفتح‬
‫القدس‪ ,‬وقد أسر وقتل معظم من حضرها من الفرنجة‪» :‬فمن‬
‫شاهد القتلى قال‪ :‬ما هناك أسير‪ ,‬ومن عاين السرى قال‪ :‬ما‬
‫هنالك من قتيل‪ ,‬ومنذ استولى الفرنج على ساحل الشام ما‬
‫شفى للمسلمين كيوم حطين غليل«)‪.(267‬‬
‫وكان من السرى صاحب الكرك »أرناط« الذي كان يؤذي‬
‫× وكان قد وصل صلح الدين ذلك‬ ‫الحجاج وسب رسول الله ‪,‬‬
‫با لرسوله ×‪ .‬فقتله‬
‫فنذر لله ليقتلنه بنفسه حمية لدينه وح ً‬
‫صلح الدين بنفسه ووفى نذره وخلص المسلمين من شره‪.‬‬
‫وكانت موقعة حطين سنة ‪583‬هـ وركب الصليبيين‬
‫النصارى غم وهم وحزن ورعب‪ ,‬وزحفت جيوش الناصر صلح‬
‫الدين تحرر مدن المسلمين‪ ,‬وتذل النصارى الحاقدين‪,‬‬
‫وتخلص أسرى المسلمين من السر الذي طال أمده‪ ,‬وأرسل‬
‫السلطان صلح الدين أعيان الفرنج ومن لم يقتل من‬
‫رؤوسهم‪ ,‬وبصليبهم الذي كانوا يحملونه في حروبهم‬
‫ويزعمون أن المسيح عليه السلم صلب عليه والمسمى‬
‫عندهم صليب الصلبوت بصحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى‬
‫ما‬
‫سا وكان يو ً‬‫دمشق ليودعوا في قلعتها‪ ,‬فدخل الصليب منك ً‬
‫مشهوًدا‪.‬‬
‫وسار السلطان إلى قلع النصارى ومدنهم فحرر قلعة‬
‫طبرية‪ ,‬ثم خلص عكا من النصارى وفك أسرى المسلمين‬
‫منها وكانوا أربعة آلف مسلم ثم صيدا وبيروت ثم عسقلن‬
‫ونابلس ثم بيسان وأرض الغور‪ ,‬فملك ذلك كله‪.‬‬
‫وأمر السلطان جيوشه أن ترتاح في هذه الماكن‬
‫ويستعدوا لفتح القدس‪ ,‬وطار في الناس الخبر‪ ,‬وعلموا عزم‬
‫‪ ()267‬انظر‪ :‬الروضتين )‪.(2/78‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪13‬‬
‫‪2‬‬
‫السلطان على ذلك فقصده العلماء والصالحون من أماكن‬
‫عا‪ ,‬وجاؤوا إليه كجنود في خدمته الميمونة)‪.(268‬‬
‫عديدة تطو ً‬
‫وبدأت بشائر التحرير بزحف جيوش صلح الدين نحو بيت‬
‫المقدس الذي استمر ثنتين وتسعين سنة تحت سيطرة‬
‫النصارى الحاقدين‪ ,‬وضربت جيوش الناصر صلح الدين‬
‫الحصار المحكم على بيت المقدس واستمر حصارها‪.‬‬
‫وتذكر كتب التاريخ أن صلح الدين عندما سار إلى بيت‬
‫المقدس وصلته رسالة من أحد المأسورين في القدس فيها‬
‫أبيات على لسان المسجد القصى‪:‬‬
‫لمعالم الصلبان نكس‬ ‫يا أيها الملك الذي‬
‫تسعى من البيت المقدس‬ ‫جاءت إليك ظلمة‬
‫)‪(269‬‬
‫كل المساجد طهرت‬

‫وبعد اشتداد الحصار على النصارى طلبوا المان ونزل‬


‫ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذل ً عظي ً‬
‫ما‪ ,‬فأجابهم‬
‫صلح الدين‪ ,‬ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح‬
‫المضروب مع النصارى‪ ,‬وشرعوا في تنظيف المسجد القصى‬
‫مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير‪ ,‬وأعيد على ما‬
‫كان عليه زمن المسلمين‪ ,‬وغسلت الصخرة بالماء الطهور‬
‫وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر‪ ,‬وأبرزت للناظرين‪,‬‬
‫وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين‪ ,‬ووضع الصليب عن‬
‫قبتها وعادت إلى حرمتها‪ ,‬وامتن السلطان صلح الدين على‬
‫بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال‪,‬‬
‫ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا‬
‫عنهم‪ ,‬وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في‬
‫العسكر‪ ,‬ولم يأخذ منه شيًئا مما يقتني ويدخر‪ ,‬وكان رحمه‬
‫ما)‪ ,(270‬وكان ذلك في بيت‬ ‫عا حلي ً‬
‫ما شجا ً‬
‫ما مقدا ً‬
‫الله كري ً‬
‫المقدس فقال‪» :‬لما تطهر بيت المقدس مما فيه من‬
‫الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس‪ ,‬ودخله أهل اليمان‪,‬‬
‫ونودي بالذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن‪ ,‬وكانت أول جمعة‬
‫أقيمت في اليوم الرابع من شعبان‪ ,‬بعد يوم الفتح بثمان‪,‬‬
‫فصف المنبر إلى جانب المحراب‪ ,‬وبسطت البسط وعلقت‬
‫القناديل وتلي التنزيل‪ ,‬وجاء الحق وبطلت الباطيل‪ ,‬وصفت‬
‫‪ ()268‬انظر‪ :‬الروضتين )ج ‪.(2/78‬‬
‫‪ ()269‬انظر‪ :‬صلح الدين بطل حطين‪ ,‬لعبد الله علوان‪ ,‬ص )‪.(75‬‬
‫‪ ()270‬انظر‪ :‬صلح الدين بطل حطين‪ ,‬ص )‪.(75‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪3‬‬ ‫الرابــع‬
‫السجادات وكثرت السجدات وأقيمت الصلوات‪ ,‬وأذن‬
‫المؤذنون‪ ,‬وخرس القسيسون‪ ,‬وزال البؤس‪ ,‬وطابت‬
‫النفوس‪ ,‬وأقبلت السعود‪ ,‬وأدبرت النحوس‪ ,‬وع ُِبد الله الحد‬
‫َ‬
‫حدٌ"‬ ‫وا أ َ‬ ‫ف ً‬‫ه كُ ُ‬ ‫كن ل ّ ُ‬ ‫م يَ ُ‬‫ول َ ْ‬ ‫م ُيول َدْ * َ‬ ‫ول َ ْ‬
‫م ي َل ِدْ َ‬‫الذي ‪+‬ل َ ْ‬
‫]الخلص‪ .[4،3 :‬وكبره الراكع والساجد‪ ,‬والقائم والقاعد‪ ,‬وامتل‬
‫الجامع‪ ,‬وسالت لرقة القلوب المدامع‪ ,‬ولما أذن المؤذنون‬
‫للصلة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك‬
‫الحال‪ ,‬ولم يكن عّين خطيب فبرز من السلطان المرسوم‬
‫الصلحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين‬
‫بن الزكي اليوم خطيًبا‪ ,‬فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس‬
‫خطبة سنية فصيحة بليغة‪ ,‬وذكر فيها شرف بيت المقدس‪,‬‬
‫وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات‪ ,‬وما فيه من الدلئل‬
‫والمارات‪ ,‬وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وم ِ ال ّ ِ‬ ‫ق ْ‬‫داب ُِر ال ْ َ‬
‫ع َ‬ ‫قطِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫بطولها وكان أول ما قال‪َ + :‬‬
‫ن" ]النعام‪.[45:‬‬ ‫مي َ‬‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬‫ه َر ّ‬ ‫مدُ لل ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫وال ْ َ‬‫موا َ‬ ‫ظَل َ ُ‬
‫ثم أورد تحميدات القرآن كلها‪ ,‬ثم قال‪» :‬الحمد لله معز‬
‫السلم بنصره‪ ,‬ومذل الشرك بقهره‪ ,‬ومصرف المور بأمره‪,‬‬
‫ومزيد النعم بشكره‪ ,‬ومستدرج الكافرين بمكره‪ ,‬الذي قدر‬
‫اليام دول ً بعدله من طله وهطله »الندى والمطر«‪ ,‬الذي‬
‫أظهر دينه على الدين كله‪ ,‬القاهر فوق عباده فل يمانع‪,‬‬
‫والظاهر على خليقته فل ينازع‪ ,‬والمر بما يشاء فل يدافع‪,‬‬
‫أحمده على إظفاره وإظهاره‪ ,‬وإعزازه لوليائه ونصره‬
‫أنصاره‪ ,‬حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره‪,‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له الحد الصمد‪ ,‬الذي‬
‫وا أحد‪ ,‬شهادة من طهر‬ ‫لم يلد ولم يولد ولم يكن له كف ً‬
‫دا عبده‬ ‫بالتوحيد قلبه‪ ,‬وأرضى به ربه‪ ,‬وأشهد أن محم ً‬
‫ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك‪ ,‬ورافض الفك‪ ,‬الذي‬
‫ُأسري به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى وعرج به‬
‫ة‬‫جن ّ ُ‬
‫ها َ‬ ‫عن ْدَ َ‬ ‫منه إلى السموات العلى‪ ,‬إلى سدرة المنتهى ‪ِ +‬‬
‫ما طَ َ‬ ‫ال ْ ْ‬
‫غى" ]النجم‪ .[17،15 :‬وعلى‬ ‫و َ‬‫صُر َ‬ ‫غ ال ْب َ َ‬
‫ما َزا َ‬ ‫وى"‪َ + ,‬‬ ‫مأ َ‬ ‫َ‬
‫خليفته الصديق السابق إلى اليمان‪ ,‬وعلى أمير المؤمنين‬
‫عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان‪,‬‬
‫وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع‬
‫القرآن‪ ,‬وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل‬
‫الشرك‪ ,‬ومكسر الصنام‪ ,‬وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪13‬‬
‫‪4‬‬
‫بإحسان«)‪.(271‬‬
‫واستمر في خطبته الرفيعة المنيعة الممزوجة بالعاطفة‬
‫الجياشة والمشاعر والحاسيس المحبوسة إلى أن قال‪:‬‬
‫فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية‪,‬‬
‫والوقعات البدرية‪ ,‬والعزمات الصديقية‪ ,‬والفتوحات العمرية‪,‬‬
‫والجيوش العثمانية‪ ,‬والفتكات العلوية‪ ,‬جددتم للسلم أيام‬
‫القادسية والوقعات اليرموكية‪ ,‬والمنازلت الخيبرية‪,‬‬
‫والهجمات الخالدية‪ ,‬فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء‪,‬‬
‫وشكًرا لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة العداء‪,‬‬
‫وتقبل الله منكم ما تقربتم إليه من مهراق الدماء‪ ,‬وأثابكم‬
‫الجنة فهي دار السعداء‪ ,‬فاقدروا –رحمكم الله‪ -‬هذه النعمة‬
‫حق قدرها‪ ,‬وقوموا إلى الله بواجب شكرها فله النعمة‬
‫بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة)‪ ...(272‬إلى‬
‫آخر ما جاء في الخطبة‪.‬‬
‫وبعد أن تم هذا الفتح العظيم توافد إلى السلطان الشعراء‬
‫والعلماء والكتاب والمؤرخون ينثرون أمامة من بلغة الشعر‪,‬‬
‫وحكم المقال ما قد مل الكتب الطوال‪ ,‬وإليك ما قاله الشاعر‬
‫أبو الحسن بن علي الجويني‪:‬‬
‫من شك فيهم فهذا الفتح‬ ‫جند السماء لهذا الملك‬
‫برهان‬ ‫أعوان‬
‫لها سوى الشكر بالفعال‬ ‫هذي الفتوح فتوح النبياء‬
‫أثمان‬ ‫وما‬
‫ما وما‬
‫دا وما ضعفوا يو ً‬ ‫صي ً‬ ‫أضحت ملوك الفرنج‬
‫هانوا‬ ‫الصيد ُ في يده‬
‫والسلم أنصاره صم‬ ‫ما بلد الله‬
‫تسعون عا ً‬
‫وعميان‬ ‫تصرخ‬
‫بأمر من هو للمعوان معوان‬ ‫فالن لبى صلح الدين‬
‫دعوتهم‬
‫)‪(273‬‬
‫ديوان‬ ‫إذا طوى الله ديوان العباد‬
‫فما‬
‫وقال محمد بن سعد نقيب الشراف بالديار المصرية‪:‬‬
‫القدس تفتح والفرنجة‬ ‫ما ما بعيني أبصر‬
‫أترى منا ً‬
‫ُتكسُر‬
‫قبل ذلك لهم مليك يؤسر‬ ‫ُير‬ ‫ومليكهم في القيد مصفود‬
‫ولم‬

‫‪ ()271‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/346‬‬


‫‪ ()272‬انظر‪ :‬صلح الدين بطل حطين‪ ,‬ص )‪.(78‬‬
‫‪ ()273‬المصدر السابق‪ ,‬ص )‪.(79،78‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪5‬‬ ‫الرابــع‬
‫هو في القيامة للنام‬ ‫طهر القدس‬ ‫ُفتح الشام و ُ‬
‫المحشر‬ ‫الذي‬
‫فاروقها عمر المام الطهر‬ ‫يا يوسف الصديق أنت‬
‫لفتحها‬
‫)‪(274‬‬
‫ولنت عثمان الشريعة‬
‫بعده‬
‫وكانت بنود الصلح التي تمت بين صلح الدين والنصارى‪:‬‬
‫ما‪ ,‬يدفع الرجل منهم‬ ‫»أن يسمح لهم بالخروج لمدة أربعين يو ً‬
‫عشرة دنانير‪ ,‬والمرأة خمسة‪ ,‬والولد اثنين‪ ,‬ومن لم يستطع‬
‫ذلك فهو أسير«)‪.(275‬‬
‫إل أن السلطان صلح الدين تجاوز بند المعاهدة وعامل‬
‫الصليبيين معاملة عطف ورحمة وإحسان‪ ,‬ليعطي للبغاة‬
‫المعتدين‪ ,‬والملوك المستبدين الظالمين والصليبية الحاقدة‬
‫على السلم والمسلمين النموذج الطيب‪ ,‬والقدوة الصالحة‬
‫في السماحة والعدل والعفو عند المقدرة‪.‬‬
‫فأعطى للنصارى العاجزين الذين تركهم أمراؤهم ولم‬
‫يجدوا من يعينهم أعطاهم أموال ً ودواب لتحمل أثقالهم إلى ما‬
‫يريدون‪.‬‬
‫وكانت إحدى نساء ملك من ملوك الروم قد ترهبت‬
‫واستأذنت للذهاب إلى زوجها والمكث معه فإذن لها وسيرها‬
‫إلى زوجها السجين للبقاء معه بقلعة نابلس واجتمعت‬
‫مجموعة من النساء وتوسلن للسلطان في أزواجهن وأبنائهن‪,‬‬
‫فرق لهن‪ ,‬وأمر بالفراج عنهم‪ ,‬وفتح للعجزة والفقراء باب‬
‫الخروج دون دفع جزية‪ ,‬وذكر كتاب الغرب من أمثال »ستيفن‬
‫سن« »استانلي لين بول« الشيء الكثير في بر وإحسان‬
‫صلح الدين بالنصارى‪.‬‬
‫وأذن السلطان صلح الدين لرجال الدين والناس كافة أن‬
‫يحملوا معهم ما شاؤوا من المتاع والموال‪ ,‬فأخذوا ما شاؤوا‬
‫دون أن يعترضهم معترض‪ ,‬تاركين ما ل قبل لهم بحمله‪,‬‬
‫فابتاعه المسلمون منهم‪.‬‬
‫دا‬
‫وكان أحد البطارقة قد خرج بأمواله وذخائره‪ ,‬وكانت كثيرة ج ً‬
‫لم يصرفها في فداء الفقراء والمساكين‪ ,‬فقيل للسلطان‪» :‬لم ل‬
‫وي به أمر المسلمين؟«‬ ‫تصادر هذا فيما يحمل‪ ,‬وتستعمله فيما ت َُق ّ‬
‫فقال لهم السلطان‪» :‬ل آخذ منه غير العشرة الدنانير‪ ,‬ول أغدر‬
‫‪ ()274‬المصدر السابق‪.(79) ,‬‬
‫‪ ()275‬انظر‪ :‬صلح الدين بطل حطين‪ ,‬ص )‪.(79‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪13‬‬
‫‪6‬‬
‫به«)‪.(276‬‬
‫أما معاملة النصارى الحاقدين للمسلمين عندما انتزعوا‬
‫القدس من أيدينا في عام ‪492‬هـ فإليك ما قاله »مل«‬
‫المؤرخ النجليزي‪» :‬كان المسلمون ُيقتلون في الشوارع‬
‫والبيوت‪ ,‬ولم يكن للقدسي من ملجأ يلجأ إليه من نتائج‬
‫النصر‪ ,‬فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى‬
‫السوار‪ ,‬وانزوى البعض الخر في القصور والبراج وحتى في‬
‫المساجد‪ ,‬غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين المسيحيين‬
‫الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا ثم يقول‪» :‬ولقد اندفع‬
‫المشاة والفرسان وراء الهاربين‪ ,‬فلم يسمع في وسط هذا‬
‫الجمع المكتظ إل نزعات الموت وسكراته‪ ,‬ومشى‬
‫أولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء أولئك‬
‫الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى«‪.‬‬
‫فهذا صلح الدين المسلم السني الرباني يقدم للجيال‬
‫سا في غاية الروعة والجمال نحتت في صفحات‬ ‫النسانية درو ً‬
‫تاريخ البشرية لتدل على عظمة هذا الدين الذي أخرج للوجود‬
‫مثل نور الدين محمود‪ ,‬وصلح الدين اليوبي‪ ,‬فعليهم من الله‬
‫المغفرة والرحمة والرضوان‪ ,‬قال الشاعر‪:‬‬
‫فلما ملكتم سال الدم أبطح‬ ‫ملكنا فكان العدل منا‬
‫سجية‬
‫غدونا على السرى نمن‬ ‫وحللتم قتل السارى‬
‫ونصفح‬ ‫وطالما‬
‫وكل إناء بالذي فيه ينضح‬ ‫فحسبكم هذا التفاوت‬
‫بيننا‬
‫إني وصلت في دراساتي للشخصيات السلمية أنه ما‬
‫ظهر قائد رباني وحقق انتصارات ميدانية وأزاح شعارات‬
‫كفرية إل كان خلفه علماء وفقهاء يوجهونه ويرشدونه نحو‬
‫الرأي السديد‪ ,‬وهذا ما حدث لصلح الدين حيث كان اهتمامه‬
‫ما وفقيًها وأديًبا له‬
‫ما‪ ,‬إل أن هناك عال ً‬
‫بالعلماء والفقهاء عظي ً‬
‫أثر واضح في حياته لبد من التعريف به أل وهو‪:‬‬
‫أ‪ -‬القاضي الفاضل‪:‬‬
‫قال الذهبي في ترجمته‪» :‬المولى المام العلمة البليغ‪,‬‬
‫القاضي الفاضل محيي الدين‪ ,‬يمين المملكة‪ ,‬سيد الفصحاء‪,‬‬
‫أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن أحمد بن المفرج‪,‬‬
‫اللخمي‪ ,‬الشامي‪ ,‬العسقلني المولد‪ ,‬المصري الدار‪ ,‬الكاتب‪,‬‬

‫‪ ()276‬نفس المصدر السابق ‪.83‬‬


‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪7‬‬ ‫الرابــع‬
‫صاحب ديوان النشاء الصلحي‪ ,‬ولد سنة ‪529‬هـ)‪.(277‬‬
‫دا‪ ,‬ولم ُيبق عمل ً‬ ‫قال عنه العماد الصبهاني‪» :‬قضى سعي ً‬
‫دا ًفي الجنة إل أحكمه‪ ,‬ول عقد بر إل‬ ‫دمه‪ ,‬ول عه‬‫حا إل ق ّ‬
‫صال ً‬
‫أبرمه‪ ,‬فإن صنائعه في الرقاب‪ ,‬وأوقافه متجاوزة الحساب‪,‬‬
‫لسيما أوقافه لفكاك السرى‪ ,‬وأعان المالكية والشافعية‬
‫يا‪ ,‬وفي الحقائق‬ ‫بالمدرسة‪ ,‬واليتام بالكتاب‪ ,‬كان للحقوق قاض ً‬
‫ماض ًوالسلطان له مطيع‪ ,‬وما افتتح القاليم إل بأقاليد آرائه‪,‬‬ ‫يا‪,‬‬
‫با‪ ,‬وإلى آلئه‬
‫ً‬ ‫محسو‬ ‫حسناته‬ ‫من‬ ‫وكنت‬ ‫وغنائه‪,‬‬ ‫غناه‬ ‫ومقاليد‬
‫منسو ًوكانت كتائبه كتائب النصر‪ ,‬وبراعته رائعة الدهر‪,‬‬ ‫با‪,‬‬
‫ويراعته بارية للبر‪ ,‬وعبارته نافثة في عقد السحر‪ ,‬وبلغته للدولة‬
‫مجملة‪ ,‬وللمملكة مكملة‪ ,‬وللعصر الصلحي على سائر العصار‬
‫مفضلة‪ ,‬نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الساليب وأعربه‬
‫ظا في‬‫من البداع‪ ,‬ما ألفيته كرر دعاء في مكاتبة‪ ,‬ول ردد لف ً‬
‫مخاطبة إلى أن قال‪ :‬فإلى من بعده الوفادة؟ وممن الفادة؟‬
‫وفيمن السيادة؟ ولمن السعادة؟ )‪.(278‬‬
‫ومدحته الشعراء على حسن تدبيره وآرائه النافذة‪ ,‬وقدرته‬
‫على حل المعضلت التي تتعرض لها دولة صلح الدين‪,‬‬
‫واجتهاده في الصيام والقيام وحبه للعلم‪ ,‬وتواضعه وحلمه‬
‫وجوه وكرمه وإنفاقه وجهاده‪ ,‬فقال فيه هبة الله بن سناء‬
‫الملك‪:‬‬
‫ل كالذي يسعى إلى أبوابها‬ ‫وأتت سعادته إلى أبوابه‬
‫منه ودارس علمها وكتابها‬ ‫فلتفتخر الدنيا بسائس‬
‫ملكها‬
‫)‪(279‬‬
‫هابها‬
‫عمالها بذالها و ّ‬ ‫صوامها قوامها علمها‬
‫ما‪ ,‬وتقدم عنده‬‫ركن إليه السلطان صلح الدين ركوًنا تا ً‬
‫كثيًرا‪.‬‬
‫ضا‪ ,‬اشتهر‬
‫وكان ‪-‬رحمه الله‪ -‬ذا غرام بالكتابة وبالكتب أي ً‬
‫بالدين والعفاف‪ ,‬والتقى‪ ,‬والمواظبة على أوراد الليل والصيام‬
‫والتلوة‪ ,‬فلما تملك أسد الدين مصر‪ ,‬أحضره فأعجب به‪ ,‬ثم‬
‫استخلصه صلح الدين لنفسه‪ ,‬وكان قليل اللذات‪ ,‬كثير‬
‫الحسنات‪ ,‬دائم التهجد‪ ,‬يشتغل بالتفسير والدب‪ ,‬وكان قليل‬
‫النحو‪ ,‬لكنه له دربة قوية‪ ,‬وكان متقلل ًفي طعامه ومنكحه‬
‫وملبسه‪ ,‬ولباسه البياض‪ ,‬وكان يكثر من تشييع الجنائز‪ ,‬وعيادة‬
‫‪ ()277‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(21/339،338‬‬
‫‪ ()278‬المصدر السابق )ج ‪.(21/340‬‬
‫‪ ()279‬المصدر السابق )ج ‪.(21/341‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪13‬‬
‫‪8‬‬
‫المرضى‪ ,‬وله معروف في السر والعلنية‪ ,‬ضعيف البنية رقيق‬
‫الصورة)‪.(280‬‬
‫قال في حقه السلطان صلح الدين‪» :‬ل تظنوا أني ملكت‬
‫البلد بسيوفكم‪ ,‬بل بقلم الفاضل«)‪.(281‬‬
‫وقال في مدحه العماد الصبهاني‪:‬‬
‫الشمس فضيلة ووردت بحر‬ ‫عاينت طود سكينة‬
‫فواضل‬ ‫ورأيت‬
‫ببيانه ذيل الفخار لوائل‬ ‫ورأيت سحبان البلغة‬
‫حا‬
‫ساب ً‬
‫والسماحة والحماسة والتقى‬ ‫حلف الحصافة‬
‫والنائل‬ ‫والفصاحة‬
‫طامي العباب وما له من‬ ‫بحر من الفضل الغزير‬
‫ساحل‬ ‫خضمه‬
‫ما كان من أجل ورزق‬ ‫في كفه قلم يعجل جريه‬
‫عاجل‬
‫سا في‬ ‫أبصرت قُ ً‬
‫)‪(282‬‬

‫الفصاحة معجًزا‬
‫وعندما طلب القاضي الفاضل من السلطان صلح الدين‬
‫أن يعين بدله عماد الدين الصبهاني ليحل تراجم العاجم‪,‬‬
‫فقال له صلح الدين‪ :‬ما لي عنك مندوحة‪ ,‬أنت كاتبي‬
‫ووزيري‪ ,‬وقد رأيت على وجهك البركة فإذا استكتبت غيرك‬
‫تحدث الناس)‪ .(283‬واتفقا أن يقوم عماد الدين الصبهاني بدل‬
‫القاضي عندما يغيب القاضي الفاضل‪.‬‬
‫قال صاحب النحوم الزاهرة‪ :‬وفضل الفاضل وبلغته أشهر‬
‫من أن يذكر ومن شعره قوله‪:‬‬
‫نم فالمخاوف كلهن أمان‬ ‫وإذا السعادة لحظتك‬
‫عيونها‬
‫)‪(284‬‬
‫واصطد بها العنقاء فهي‬
‫حبائل‬
‫إن القاضي الفاضل ‪-‬رحمه الله‪ -‬كان موضع ثقة صلح‬
‫الدين ومحل أسراره واستشارته فل يقطع أمًرا دونه)‪,(285‬‬
‫فكان يستشيره في المهمات الكبيرة خاصة‪ ,‬بل كان يقول‬
‫العماد الصبهاني الكاتب عنه‪» :‬سلطانه مطاع والسلطان له‬

‫انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(21/343‬‬ ‫‪()280‬‬


‫النجوم الزاهرة )ج ‪.(6/157‬‬ ‫‪()281‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(74 ،6/73‬‬ ‫‪()282‬‬
‫المصدر السابق )ج ‪.(6/74‬‬ ‫‪()283‬‬
‫النجوم الزاهرة )ج ‪.(6/157‬‬ ‫‪()284‬‬
‫البداية والنهاية )ج ‪.(12/340‬‬ ‫‪()285‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪9‬‬ ‫الرابــع‬
‫مطيع‪ ,‬وهو صاحب القريحة الوقادة والبصيرة النفاذة«)‪.(286‬‬
‫وهو الذي كتب لصلح الدين وهو محاصر لعكا يخوفه من‬
‫دا فيكون سبًبا‬‫الذنوب‪ ,‬ويحذره من أن يظلم الجنود أح ً‬
‫للهزيمة‪ ,‬يقول ابن كثير رحمه الله في ذلك‪» :‬وكان القاضي‬
‫الفاضل بمصر يدير الممالك بها‪ ,‬ويجهز للسلطان ما يحتاج‬
‫إليه من الموال‪ ,‬وعمل السطول والكتب السلطانية‪ ,‬فمنها‬
‫كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة‬
‫الذنوب‪ ,‬وارتكاب المحارم بين الناس‪ ,‬فإن الله ل ُينال ما‬
‫عنده إل بطاعته‪ ,‬ول يفرج الشدائد إل بالرجوع إليه‪ ,‬وامتثال‬
‫أمره‪ ,‬فكيف ل يطول الحصار‪ ,‬والمعاصي في كل مكان‬
‫فاشية‪ ,‬وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الستعاذة منه‪.‬‬
‫ومنها كتاب يقول فيه‪ :‬إنما ُأتينا من قبل أنفسنا‪ ,‬ولو صدقنا‬
‫لعجل الله لنا عواقب صدقنا‪ ,‬ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا‪,‬‬
‫ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره‪ ,‬لفعل لنا ما ل نقدر عليه إل‬
‫به‪ ,‬فل يختصم أحد إل نفسه وعمله‪ ,‬ول يرج إل ربه‪ ,‬ول يغتر‬
‫بكثرة العساكر والعوان‪ ,‬ول فلن الذي يعتمد عليه أن يقاتل‬
‫ول فلن‪ ,‬فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها‪ ,‬وإنما‬
‫النصر من عند الله‪ ,‬ول نأمن من أن يكلنا الله إليها‪ ,‬والنصر‬
‫به واللطف منه‪ ,‬نستغفر الله تعالى من ذنوبنا‪ ,‬فلول أنها تسد‬
‫طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل‪ ,‬وفيض دموع‬
‫الخاشعين قد غسل‪ ,‬ولكن في الطريق عائق‪ ,‬خار الله لمولنا‬
‫في القضاء السابق واللحق‪ ..‬إلى أن قال ابن كثير فيه‪» :‬وقد‬
‫أورد الشيخ شهاب الدين صاحب الروضتين ها هنا كتًبا عدة‬
‫من الفاضل إلى السلطان صلح الدين‪ ,‬فيها فصاحة وبلغة‬
‫ومواعظ وتحضيض على الجهاد‪ ,‬فرحمه الله من إنسان ما‬
‫أفصحه‪ ,‬ومن وزير ما كان أنصحه‪ ,‬ومن عقل ما كان‬
‫أرجحه«)‪.(287‬‬
‫وبأمثال هؤلء ينصر الله دينه ويسدد رمي أوليائه‪ ,‬وقد‬
‫أكرم الله تعالى صلح الدين بهذا العالم الجليل الديب الفقيه‬
‫الوزير الناصح الزاهد التقي الورع المنفق صاحب الدعوة‬
‫المستجابة‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫في سنة ‪596‬هـ لبى القاضي الفاضل نداء ربه عندما كان‬
‫أحوج ما كان إلى الموت عند تولي القبال وإقبال الدبار‪,‬‬
‫‪ ()286‬الروضتين )ج ‪.(2/241‬‬
‫‪ ()287‬انظر‪ :‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/361‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫‪0‬‬
‫وهذا يدل على أن لله به عناية)‪.(288‬‬
‫وذكر صاحب النجوم الزاهرة أنه كان بين الملك العادل‬
‫أبي بكر بن أيوب والفاضل وحشة فلما بلغ الفاضل مجئ‬
‫العادل إلى مصر دعا الله أن يقبضه إليه فمات قبل دخول‬
‫العادل‪ ,‬فعندما كان العادل داخل ً من باب النصر‪ ,‬كانت جنازة‬
‫القاضي الفاضل خارجة من زويلة)‪.(289‬‬
‫ب‪ -‬وفاة السلطان الناصر صلح الدين‪:‬‬
‫عندما وقفت على ترجمة صلح الدين رحمه الله‪ ,‬ووصلت‬
‫إلى آخر لحظات حياته ذرفت عيناي بالدموع‪ ,‬واهتز قلبي‬
‫بالخشوع‪ ,‬لهذا البطل العملق الذي كان للسلم رداًء وحرًزا‬
‫فا من كيد الكفرة اللئام‪ ,‬وكانت وفاته في عام ‪589‬هـ‪,‬‬ ‫وكه ً‬
‫وتذكر كتب التاريخ أن أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه‪,‬‬
‫وود كل منهم لو فداه بأولده وأحبابه وأصحابه‪ ,‬فعندما كان‬
‫يقرأ عليه القرآن وهو في سكرات الموت مر القارئ على‬
‫ب‬ ‫م ال ْ َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫عال ِ ُ‬
‫و َ‬ ‫ه َ‬‫ه إ ِل ّ ُ‬ ‫ذي ل َ إ ِل َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫و الل ُ‬
‫ه َ‬
‫قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫ة" ]الحشر‪.[22:‬‬‫هادَ ِ‬
‫ش َ‬‫وال ّ‬‫َ‬
‫فقال صلح الدين رحمه الله‪ :‬وهو كذلك صحيح‪ .‬فلما أذن‬
‫الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق‪,‬‬
‫ت" ]التوبة‪.[129:‬‬ ‫وك ّل ْ ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه تَ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫ه إ ِل ّ ُ‬ ‫فلما قرأ القارئ‪+ :‬ل َ إ ِل َ َ‬
‫تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه‪ ,‬ومات رحمه‬
‫الله وجعل الجنة مثواه‪ ,‬وكان له من العمر سبع وخمسون‬
‫سنة‪ ,‬ثم أخذوا في تجهيزه وحضر جميع أولده وأهله‪ ,‬وكان‬
‫الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي‪ ,‬وكان الذي‬
‫أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله‬
‫م الناس عليه ابن الزكي‪ ,‬ثم دفن في داره بالقلعة‬ ‫الحلل‪ ,‬وأ ّ‬
‫المنصورة في دمشق‪ ,‬ونزل ابنه الفضل في لحده ودفنه وهو‬
‫يومئذ سلطان الشام‪ ,‬ويقال‪ :‬إنه دفن معه سيفه الذي كان‬
‫يحضر به الجهاد‪ ,‬وذلك عن أمر القاضي الفاضل‪ ,‬وتفاءلوا بأن‬
‫يكونه معه يوم القيامة يتوكأ عليه‪ ,‬حتى يدخل الجنة إن شاء‬
‫الله)‪.(290‬‬
‫لقد وقع نبأ صلح الدين على المسلمين جميًعا وقع‬
‫‪ ()288‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )ج ‪.(21/343‬‬
‫‪ ()289‬انظر‪ :‬النجوم الزاهرة )ج ‪.(6/157‬‬
‫‪ ()290‬انظر‪ :‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/5‬‬
‫‪14‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪1‬‬ ‫الرابــع‬
‫الصاعقة للصدمة الفادحة‪ ,‬والمصاب الجلل‪ .‬وهذا القاضي‬
‫ابن شداد يصف لنا ذلك المشهد المريع إذ يقول‪» :‬وكان يوم‬
‫ما لم يصب السلم والمسلمون بمثله بعد فقد‬ ‫موته يو ً‬
‫ملك‬‫الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وغشي القلعة وال ُ‬
‫والدنيا وحشة ل يعلمها إل الله تعالى‪ ,‬وبالله لقد كنت أسمع‬
‫الناس أنهم يتمنون فدا من يعز عليهم بنفوسهم‪ ,‬وكنت أتوهم‬
‫أن هذا ضرب من التجوز والتخرص إلى ذلك اليوم‪ ,‬فإني‬
‫علمت من نفسي ومن غيري أنه لو ُقبل الفداء لفدي‬
‫بالنفس«)‪.(291‬‬
‫دا ربانًيا تربى في‬
‫لقد كان صلح الدين ‪-‬رحمه الله‪ -‬قائ ً‬
‫أجواء علمية رسخت في زمن نور الدين‪ ,‬واستمرت في عهده‬
‫فأخرجت هذا النموذج الرفيع الذي أعاد الله به للمة عزتها‬
‫وقوتها‪.‬‬
‫ج‪ -‬الملمح الرئيسية في شخصية صلح الدين‪:‬‬
‫ل‪ :‬تقريبه للعلماء وحبهم واحترامهم واستشارتهم‬ ‫أو ً‬
‫وإعطاؤهم المكانة اللئقة بهم‪ ,‬وإحياء المدارس والعلم‪,‬‬
‫وحضور السلطان مجالس العلم‪ ,‬بل إن السلطان صلح الدين‬
‫يذهب إلى السكندرية مصطحًبا معه ولديه علي وعثمان‬
‫لحضور مجلس الحافظ السلفي‪ ,‬وترقى العالم كمال الدين‬
‫الشهرزوري إلى مرتبة الوزارة‪ ,‬ومن مستشاري صلح الدين‬
‫العالم الواعظ ابن نجا الحنبلي‪ ,‬ووزيره القاضي الفاضل من‬
‫أكابر الكتاب محًبا للعلم وأهله‪ ,‬ومنهم نجم الدين الخبوشاني‪,‬‬
‫والفقيه الشافعي‪ ,‬وهو الذي شجع صلح الدين على إنهاء‬
‫الدولة العبيدية وقطع الخطبة لهم‪ ,‬بنى له صلح الدين‬
‫مدرسة وفوض تدريسها إليه‪ ,‬ومن الفقهاء المراء الفقيه‬
‫ما‪ ,‬تفقه على الشيخ أبي‬ ‫عا كري ً‬
‫الهكاري‪» :‬وكان جندًيا شجا ً‬
‫القاسم البرزي واتصل بالمير أسد الدين شيركوه‪ ,‬وكان‬
‫يخاطب صلح الدين بما ل يقدر عليه غيره‪ ,‬توفي وصلح‬
‫الدين محاصر لعكا«)‪.(292‬‬
‫دا‪ ,‬ول يتركه حتى يزوده‬ ‫وكان إذا زاره عالم اهتم به ج ً‬
‫بالمال والمتعة له ولجيرانه وأقربائه‪.‬‬
‫إن هذه النتصارات العظيمة ل تكون إل بوجود مثل هذا‬
‫‪ ()291‬انظر‪ :‬النجوم الزاهرة )ج ‪.(6/52‬‬
‫‪ ()292‬وفيات العيان )ج ‪.(3/497‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫‪2‬‬
‫التلحم والتعاطف بين المراء والعلماء‪ ,‬وقال القاضي ابن‬
‫شداد‪» :‬وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في‬
‫مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة‪ ,‬وكان يفعل ذلك سفًرا‬
‫وحضًرا«)‪ .(293‬وكان آل المقدسي الذين سكنوا حي الصالحية‬
‫في دمشق أبو عمر محمد ابن أحمد بن قدامة وأخوه وابن‬
‫خالهم الحافظ عبد الغني والشيخ العماد‪ ,‬كانوا ل ينقطعون‬
‫عن غزاة يخرج صلح الدين فيها‪ ,‬وقد حضروا معه فتح‬
‫القدس والسواحل وغيرها«)‪.(294‬‬
‫إن القادة الذين يحترمون العلماء والفقهاء في حقيقة‬
‫عملهم هذا قد أخذوا بسنة من سنن التمكين والنصر والغلبة‬
‫على العداء‪.‬‬
‫إن الذين يهاجمون علماء المة ومفكريها وساستها ومربيها‬
‫وفقهاءها ومحدثيها وحركييها يخدمون المخططات اليهودية‬
‫والنصرانية والطاغوتية والستخبارية سواء شعروا بذلك أم ل‪,‬‬
‫والذين ل يزالون يطعنون في علماء المة بفعلهم هذا يكونون‬
‫قد ابتعدوا عن منهج أهل السنة والجماعة الذي يقول‪:‬‬
‫»وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل‬
‫الخير والثر‪ ,‬وأهل الفقه والنظر ل يذكرون إل بالجميل‪ ,‬ومن‬
‫ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل«)‪.(295‬‬
‫ما ًيستهزئون بالعلماء والفقهاء والمحدثين‬‫ولقد رأيت أقوا‬
‫والدعاة‪ ,‬بل بعضهم كفر بعض قادات الحركات السلمية بدون‬
‫بينة‪ ,‬بل بجهل وعناد واستخفاف‪ ,‬وبعضهم يتلذذ بغيبة العلماء‬
‫والطعن فيهم‪ ,‬وينشر ذلك على المنابر وفي الصحف‪ ,‬ولو أتيحت‬
‫حا‪ ,‬وما يدري المسكين أن لحوم‬ ‫له الذاعة لهذا الغرض لطار فر ً‬
‫العلماء مسمومة‪ ,‬وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة‪ ,‬وما‬
‫يدري هذا المتعالم أن العتبار في الحكم على الشخاص بكثرة‬
‫الفضائل‪ ,‬قال ابن القيم ‪-‬رحمه الله‪» :-‬ومن له علم بالشرع‬
‫قط ًأن الرجل الجليل الذي له في السلم قدم‬ ‫والواقع يعلم عا‬
‫صالح وآثار حسنة وهو من السلم وأهله بمكان‪ ,‬قد تكون منه‬
‫الهفوة والزلة هو فيها معذور‪ ,‬بل مأجور لجتهاده‪ ,‬فل يجوز أن‬
‫يتبع فيها‪ ,‬ول يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب‬
‫ُ‬
‫المسلمين« ‪.‬‬
‫)‪(296‬‬

‫إن تاريخ المة السلمية المجيد يبين لنا أهمية احترام‬


‫أيعيد التاريخ نفسه؟ ص )‪.(94‬‬ ‫‪()293‬‬
‫انظر‪ :‬البداية والنهاية )ج ‪.(31/39‬‬ ‫‪()294‬‬
‫شرح الطحاوية )ج ‪.(2/740‬‬ ‫‪()295‬‬
‫أعلم الموقعين )ج ‪.(3/283‬‬ ‫‪()296‬‬
‫‪14‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪3‬‬ ‫الرابــع‬
‫العلماء والدعاة وتقديمهم في إعزاز هذا الدين‪ .‬فعلى‬
‫العاملين لعادة ماضينا المجيد وعزنا التليد أن يعملوا على‬
‫إعادة دور العلماء والفقهاء وإلزام الناس باحترامهم‪ ,‬ومنع‬
‫العملء المندسين في صفوفنا للطعن في علمائنا بالقوال‬
‫المزخرفة والساليب الملتوية للضحك على شبابنا حتى ل‬
‫يفلحوا في دنيا ول في آخرة‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬ومن الملمح الواضحة في شخصية صلح الدين‬
‫شغفه بالجهاد‪ ,‬قال القاضي ابن شداد‪» :‬وكان ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫شديد المواظبة على الجهاد‪ ,‬عظيم الهتمام به‪ ,‬ولو حلف‬
‫حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناًرا إل في الجهاد‪,‬‬
‫وفي الرفاد لصدق‪ ,‬وبر في يمينه‪ ,‬ولقد كان الجهاد قد‬
‫ما‪ ,‬بحيث ما‬ ‫استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلء عظي ً‬
‫كان له حديث إل فيه‪ ,‬ول نظر إل في آلته‪ ,‬ول اهتمام إل‬
‫برجاله‪ ,‬ول ميل إل إلى من يذكره‪ ,‬ويحث عليه‪ ,‬ولقد هجر‬
‫في محبته »الجهاد« أهله وولده ووطنه وسكنه‪ ,‬وقنع بالدين‬
‫بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة‪ ,‬وكان‬
‫الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد‪ ,‬وقد سرنا مع‬
‫ما‪,‬‬
‫السلطان على الساحل نطلب عكا وكان الزمان شتاًء عظي ً‬
‫جا وموجه كالجبال‪ ,‬وكنت حديث عهد برؤية البحر‬ ‫والبحر هائ ً‬
‫فعظم عندي‪ ,‬واستخففت رأي من يركب البحر‪ ,‬بينما أنا في‬
‫ي وقال في نفسه‪ :‬إنه متى يسر الله تعالى‬ ‫ذلك إذ التفت إل ّ‬
‫فتح بقية الساحل قسمت البلد‪ ,‬وأوصيت وودعت وركبت هذا‬
‫البحر إلى جزائرهم أتبعهم فيها حتى ل أبقى على وجه الرض‬
‫من يكفر بالله أو أموت‪ ,‬فعظم وقع هذا الكلم عندي وحكيت‬
‫له ما خطر لي‪ ,‬فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها‪ ,‬وإلى هذه‬
‫النفس ما أشجعها وأجسرها‪ ,‬اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده‬
‫في نصرة دينك رجاء رحمتك فارحمه‪ ,‬وأما صبره فلقد رأيته‬
‫بمرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة‬
‫دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته بحيث ل‬
‫يستطيع الجلوس‪ ,‬وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى‬
‫صلة الظهر‪ ,‬وهو صابر على شدة اللم ويقول‪» :‬إذا ركبت‬
‫يزول عني اللم حتى أنزل«)‪.(297‬‬
‫ما نحو ساحات الوغى‪,‬‬ ‫عا عظي ً‬ ‫إن في زماننا هذا اندفا ً‬
‫والشاهد على ذلك ما حدث في أفغانستان‪ ,‬وما نسمعه من‬
‫تضحيات عظيمة في الرض المحتلة‪ ,‬إل أن في بعض بلد‬
‫المسلمين من أشرف على الحركات الجهادية إخوة لنا‬
‫‪ ()297‬الروضتين )ج ‪.(2/222،221‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫‪4‬‬
‫تنقصهم خبرات كثيرة من فهم لسننن الله في تغيير الشعوب‬
‫والمجتمعات‪ ,‬والهم من ذلك معرفتهم في دين الله ضعيفة‪,‬‬
‫صا في السياسة الشرعية وأحكام الدماء والعراض‬ ‫وخصو ً‬
‫والنفس‪ ,‬والتدرج في تربية الشعوب حتى تتهيأ لتصبح‬
‫مجاهدة‪ ,‬وشرعوا في إصدار الفتاوى والحكام التي قرأوها‬
‫من كتب تخدم غرضهم واهتموا بتربية الشباب عليها‪ ,‬وأقحموا‬
‫أتباعهم في معارك خاسرة ضد حكوماتهم في صراع عنيف‬
‫ينتهي بقتل بعضهم‪ ,‬وسجن آخرين منهم ومن غيرهم‪ ,‬وتشريد‬
‫العوائل الخيار‬
‫من المسلمين‪ ,‬وتسببوا في تعطيل مشاريع دعوية تربوية‪.‬‬
‫وفعلهم هذا فيه تجاوز من عدة أمور‪:‬‬
‫ل‪ :‬إن الجهاد حق المة وليس حق أفراد أو جماعات‬ ‫أو ً‬
‫وتقرره المة بواسطة أهل الحل والعقد من الفقهاء والعلماء‬
‫الذين تختارهم‪ ,‬ويسبق هذا مجهود تربوي وعلمي وفقهي في‬
‫أوساط الشعب لتعريفهم بحقيقة دينهم‪ ,‬واستضافة البيان‪,‬‬
‫ويكون تحت إشراف العلماء والفقهاء‪ ,‬فإن كان الشعب الذي‬
‫نتكلم عنه ل يوجد فيه علماء وفقهاء فلبد من دفع مجموعة‬
‫من أبنائه للتفرغ لطلب العلم وأخذه من أهله‪ ,‬ممن شهدت‬
‫لهم المة أنهم أهل لذلك حتى يتهيأوا للشراف على العمل‬
‫الجليل‪ ,‬حتى تجد المة من ترجع إليه في مشاكلها العظيمة‪,‬‬
‫ويأخذ بيدها نحو تحكيم شرع الله بسنة الله في التدرج‪,‬‬
‫صا في عصرنا هذا الذي تموج فيه الفتن‪.‬‬ ‫وخصو ً‬
‫فالمور العظيمة كالجهاد في سبيل الله تعالى مردها إلى‬
‫مٌر‬ ‫َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫جاءَ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫النافذة‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫َ‬
‫أهل العلم والبصيرة‬
‫من المن أ َ‬
‫َ‬
‫دوهُ إ ِلى‬ ‫و َر ّ‬ ‫ول ْ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫عوا ب ِ ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫و ِ‬‫خ ْ‬‫و ال ْ َ‬ ‫ّ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ِ َ‬
‫مل َ‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬
‫ر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫وإ ِلى أوِلي ال ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫ح‬ ‫ر‬‫و‬
‫ْ ْ َ َ ْ َ ُ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬
‫ُ ِ ُ ْ َ ْ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫طو‬‫ُ‬ ‫ست َن ِ‬
‫ب‬‫ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫قِليل " ]النساء‪ .[83:‬ل إلى من قضى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ن إ ِل َ‬ ‫َ‬
‫شي ْطا َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫عت ُ ُ‬ ‫ل َت ّب َ ْ‬
‫عمره في الهندسة المعمارية أو الصناعية أو الهندسية‪ ,‬أو‬
‫قضى عمره في دراسات الجراحات الطبية أو غيرها من‬
‫الفنون‪ ,‬ثم قرأ بعض الكتب فحفظها وفهمها على حسب‬
‫فهمه المحدود‪ ,‬وشن حرًبا على العلماء والفقهاء والحركات‬
‫السلمية صاحبة الفهم الشامل‪ ,‬التي أشرف على تأسيسها‬
‫وحركتها علماء ودعاة وفقهاء شهدت لهم المة بعلمهم‬
‫وإخلصهم وصدقهم‪ ,‬ول الرجوع إلى من عاش في متابعة‬
‫الجرائد والذاعات وتتبع سقطات الدعاة‪ ,‬وتتلمذ على كتب‬
‫حرب العصابات مثل ماوتسي تنج في الصين وجيفارا في‬
‫‪14‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪5‬‬ ‫الرابــع‬
‫أمريكا اللتينية‪ ,‬والبعد عن قيادتنا العظيمة أمثال نور الدين‬
‫وصلح الدين‪ ,‬وقبل هؤلء سيد المرسلين وأصحابه الميامين‬
‫الطيبون وأراد أن يدفع بشباب المة نحو أهدافه التي رسمها‪.‬‬
‫قال الشيخ العلمة ابن سعدى ‪-‬رحمه الله‪ -‬في تفسيره‬
‫للية المذكورة‪» :‬هذا تأديب من الله لعباده على فعلهم غير‬
‫اللئق‪ ,‬وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من المور المهمة‬
‫والمصالح العامة ما يتعلق بالمن وسرور المؤمنين‪ ,‬أو الخوف‬
‫الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ول يستعجلوا بإشاعة ذلك‬
‫الخبر‪ ,‬بل يردونه إلى الرسول × وإلى أولي المر منهم أهل‬
‫الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون المور‪,‬‬
‫ويعرفون المصالح وضدها‪ ,‬فإن رأوا ما فيه مصلحة‪ ,‬أو فيه‬
‫مصلحة ولكن مضرته أكبر من مصلحته لم يذيعوه‪ ,‬ولهذا قال‪:‬‬
‫م" أي‪ :‬يستخبرون‬ ‫ه ْ‬
‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ست َن ْب ِ ُ‬
‫طون َ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ُ‬ ‫‪+‬ل َ َ‬
‫عل ِ َ‬
‫بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة‪.‬‬
‫وفي هذا دليل لقاعدة مهمة وهي‪ :‬إذا حصل بحث في أمر‬
‫من المور ينبغي أن يوكل إلى من هو أهل لذلك‪ ,‬وُيجعل إلى‬
‫أهله‪ ,‬ول يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب للصواب‪ ,‬وأحرى‬
‫للسلمة من الخطأ‪.‬‬
‫وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر المور من حين‬
‫سماعها‪ ,‬والمر بالتأمل قبل الكلم‪ ,‬والنظر فيه هل هو‬
‫مصلحة فيقدم عليه النسان أم ل فيحجم عنه«)‪.(298‬‬
‫إن قضايا الجهود والسياسة الشرعية ما كان يفتي فيها إل‬
‫العلماء الراسخون في المعرفة والعلم والفقه‪ ,‬والذين أصبحت‬
‫لهم دراية بمقاصد الشريعة‪ ,‬والموازنة بين المصالح والمفاسد‪,‬‬
‫والدلة التفصيلية ول يمكن لشباب في مقتبل العمر ضاعت‬
‫أوقاتهم في القيل والقال‪ ,‬ولم يجلسوا في حلقات العلم‬
‫ويأخذوه عن شيوخه أن يفتوا في أمور الجهاد التي تزهق فيها‬
‫الرواح‪ ,‬وتنفق فيها الموال ويعتدى فيها على العراض‪.‬‬
‫بعد الدرس العميق لسيرة المصلح الجهادي صلح الدين يتبين‬
‫لنا أن الذين كانوا يفتون في زمانه هم العلماء الذين فهموا‬
‫الشريعة ومقاصدها‪ ,‬واستوعبوا الموازنة بين المصالح والمفاسد‪,‬‬
‫وواقعهم الذي عاشوا فيه‪ ,‬وتفننوا في معرفة المصالح‬
‫والمفاسد‪.‬‬
‫وأنصح إخواني أبناء المسلمين أن ل ينغروا بما أوتي جدل ً‬
‫‪ ()298‬تفسير السعدي )ج ‪.(2/55،54‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫‪6‬‬
‫باللسان ولم ُيشهد له بأنه من أهل الفتوى‪ ,‬وأن ل يأخذ‬
‫النسان دينه إل ممن شهدت لهم المة بالعلم وعرفوا‬
‫بالحرص عليه‪ ,‬وتعلموا على أيدي العلماء‪ ,‬وصبروا على أخذ‬
‫العلم‪ ,‬لن الدين وفهمه عظمك ولحمك ودمك‪ ,‬فانظر عمن‬
‫تأخذ دينك فل تأخذه من النكرات الذين أخذوا بعض ثقافاتهم‬
‫من الصحف والوراق واعتزوا بعقولهم وتفاخروا بنفوسهم‪.‬‬
‫إن العلم الشرعي علم يؤخذ بالتلقي فل يجدي الخذ من‬
‫الكتب فقط‪ ,‬بل القتصار في التلقي على الخذ من الكتب‬
‫بلية من البليا‪ ,‬وكذا اجتماع الشباب والطلبة على التدارس‬
‫دون أخذ عن شيخ عالم عامل‪.‬‬
‫يقول المام الشافعي ‪-‬رحمه الله‪»:-‬من تفقه من بطون‬
‫الكتب ضيع الحكام«)‪.(299‬‬
‫وكان بعض السلف يقولون‪» :‬من أعظم البلية تشيخ‬
‫الصحيفة«)‪.(300‬‬
‫إن علماء المة على مر العصور والزمان ل يرفعون فوق‬
‫رؤوسهم الرايات‪ ,‬ول يدعون إلى شعارات‪ ,‬ول يطالبون‬
‫الناس بالنتماء إليهم‪ ,‬إنما يطالبون الناس بالنتماء إلى سنة‬
‫سيد المرسلين ×‪ ,‬وإياك أخي أن تكون مثل الخوارج الذين‬
‫تركوا أهل العلم والفضل من الصحابة‪ ,‬وتابعوا العراب الذين‬
‫ل ُيجيدون إل الخطابات الحماسية‪ ,‬وتأجيج العاطفة‪ ,‬فاحرص‬
‫على الموثوق في دينه وعلمه‪:‬‬
‫»فإن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم«)‪.(301‬‬
‫إن جيل صلح الدين قادة وجنوًدا‪ ,‬جماعات وأفراًدا‪ ,‬فهموا‬
‫معنى قيمة العلم وممن يؤخذ‪ ,‬وأعطوا الفتوى لصحابها‪,‬‬
‫وتسلم العلماء الربانيون سياسة المة فقطعوا بها المراحل‪,‬‬
‫وتدافع الجميع نحو مرضاة الله؛ وزراء وقواد وسلطين‬
‫ما‪,‬‬
‫حا معلو ً‬
‫وعوام‪ ,‬فأصبح شغفهم بالعلم والعلماء واض ً‬
‫سا من‬ ‫وحرصهم على الجهاد وتفجير طاقاته شيًئا ملمو ً‬
‫سيرتهم‪ ,‬إن الجهاد حق المة وليس حق الفراد‪ ,‬وتقرره‬
‫المة باللتفاف حول أهل الحل والعقد الذين تقدمهم المة‪,‬‬
‫وليس مجموعة من الفراد يطعنون فيمن يخالفهم‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬من السمات الشخصية في صلح الدين حرصه على‬
‫‪ ()299‬ابن جماعة‪ ,‬تذكرة السامع ص )‪.(87‬‬
‫‪ ()300‬المصدر السابق ص )‪.(87‬‬
‫‪ ()301‬مقدمة صحيح مسلم )ج ‪.(1/14‬‬
‫‪14‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪7‬‬ ‫الرابــع‬
‫العدل‪ ,‬وكان المراء والوزراء من قبل يتسلطون على الناس‬
‫في أموالهم وأراضيهم‪ ,‬والملوك يسمحون لهم بذلك إرضاًء‬
‫لهم وحتى تبقى طاعتهم‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬زهده في الدنيا ولذلك لم يخلف أموال ً ول أمل ً‬
‫كا‬
‫لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم‪ ,‬وحتى إلى‬
‫أعدائه‪ ,‬وكان متقلل ً في ملبسه‪ ,‬ومأكله‪ ,‬ومركبه‪ ,‬وكان ل‬
‫يلبس إل القطن والكتان والصوف‪.‬‬
‫ما بالعلوم في اللغة والدب وأيام الناس‪,‬‬ ‫رابًعا‪ :‬كان مهت ً‬
‫وكان يحفظ ديوان الحماسة لبي تمام‪.‬‬
‫سا‪ :‬كان مواظًبا على الصلوات في أوقاتها في‬ ‫خام ً‬
‫الجماعة‪ ,‬يقال‪ :‬إنه لم تفته الجماعة في صلة قبل وفاته‬
‫بدهر طويل‪ ,‬حتى ول في مرض موته‪ ,‬كان يدخل المام‬
‫فيصلي به‪ ,‬وكان يتجشم القيام مع ضعفه‪.‬‬
‫كان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع القرآن‬ ‫سا‪:‬‬
‫ساد ً‬
‫الكريم‪ ,‬والحديث الشريف‪.‬‬
‫سابًعا‪ :‬كان ضحوك الوجه كثير البشر‪ ,‬ل يتضجر من خير‬
‫يفعله‪ ,‬شديد المصابرة على الخيرات والطاعات)‪.(302‬‬
‫فرحمة الله على أمثاله وأعلى ذكره في الصالحين‪.‬‬
‫د‪ -‬من أروع المراثي في صلح الدين اليوبي رحمه الله‬
‫قال العماد الصبهاني رحمه الله‪» :‬دخلنا عليه ليلة الحد‬
‫للعيادة ومرضه في زيادة‪ ,‬وفي كل يوم تضعف القلوب‬
‫وتتضاعف الكروب‪ ,‬ثم انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء‪,‬‬
‫ومات بموته رجاء الرجال‪ ,‬وأظلم بغروب شمسه فضاء‬
‫الفضال ورثاه الشعراء«‪ ...‬إلى أن قال العماد الصبهاني‬
‫مرثيته المشهورة‪:‬‬
‫والدهر ساء وأقلعت حسناته‬ ‫شمل الهدى والملك عم‬
‫شتاته‬
‫لله خالصة صفت نياته‬ ‫بالله أين الناصر الملك‬
‫الذي‬
‫مرجوة رهباته وهباته‬ ‫أين الذي مذ لم يذل‬
‫مخشية‬
‫مبذولة ولربه طاعاته‬ ‫أين الذي كانت له طاعتنا‬
‫ُيرجى نداه وتتقى سطواته‬ ‫أين الذي ما زال سلطاًنا لنا‬

‫‪ ()302‬انظر‪ :‬ابن كثير‪ ,‬البداية والنهاية )ج ‪.(12/7،6‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪14‬‬
‫‪8‬‬
‫وسمت على الفضلء‬ ‫أين الذي شرف الزمان‬
‫تشريفاته‬ ‫بفضله‬
‫قد غم كل العالمين مماته‬ ‫صا‬
‫ً‬ ‫شخ‬ ‫مات‬ ‫من‬ ‫تحسبوا‬ ‫ل‬
‫دا‬
‫واح ً‬
‫حماته‬
‫دا لماذا أسلمته ُ‬
‫أب ً‬ ‫ملك عن السلم كان‬
‫محامًيا‬
‫لما خلت من بدره داراته‬ ‫قد أظلمت مذ غاب عنا‬
‫دوره‬
‫أودى على يوم النشور رفاته‬ ‫ُدفن السماح فليس تنشر‬
‫بعدما‬
‫محفوفة بوروده حافاته‬ ‫الدين بعد أبي المظفر‬
‫يوسف‬
‫متعطف مفضوضة صدقاته‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫راح‬ ‫والرامل‬ ‫لليتامى‬ ‫من‬
‫في ذكره من ذكره آياته‬ ‫لو كان في عصر النبي‬
‫لنزلت‬
‫من سلها وركوبها عزماته‬ ‫بكت الصوارم والصواهل إذ‬
‫خلت‬
‫من كل قلب مؤمن روعاته‬ ‫يا وحشة السلم حين‬
‫تمكنت‬
‫منه الذئاب وأسلمته ُرعاته‬ ‫يا داعًيا للدين حين تمكنت‬
‫ديًنا تولى مذ رحلت ولته‬ ‫ما كان ضرك لو أقمت‬
‫مراعًيا‬
‫)‪(303‬‬
‫متعًبا‬
‫ُ‬ ‫باق‬ ‫غير‬ ‫ً‬
‫كا‬ ‫مل‬ ‫فارقت‬
‫من للجهاد ولم تعد عاداته‬ ‫من للثغور وقد عداها‬
‫حفظه‬
‫فكأنما سنواته ساعاته‬ ‫ماكان أسرع عصره لما‬
‫انقضى‬
‫)‪(304‬‬
‫صلواته‬ ‫فعلى صلح الدين يوسف‬
‫ما‬
‫دائ ً‬
‫هـ‪ -‬من أروع الرسائل في أخبار وفاة صلح الدين‪:‬‬
‫قال صاحب النجوم الزاهرة‪ :‬وفي ساعة موت السلطان‬
‫صلح الدين كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر‬
‫صاحب حلب بطاقة مضمونها‪:‬‬
‫في رسول الل ُ‬
‫ة"‬
‫سن َ ٌ‬
‫ح َ‬
‫وةٌ َ‬ ‫س َ‬‫هأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫‪+‬ل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫م" ]الحج‪.[1:‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫ع ِ‬ ‫يء ٌ َ‬
‫ش ْ‬‫ة َ‬
‫ع ِ‬
‫سا َ‬ ‫ن َزل َْزل َ َ‬
‫ة ال ّ‬ ‫]الحزاب‪+ ,[21:‬إ ِ ّ‬

‫‪ ()303‬النجوم الزاهرة )ج ‪.(6/61،60‬‬


‫‪ ()304‬صلح الدين بطل حطين ومحرر القدس‪ ,‬ص ‪.102‬‬
‫‪14‬‬ ‫الفصــــــــــل‬
‫‪9‬‬ ‫الرابــع‬
‫إلى مولنا السلطان الملك الظاهر‪ ,‬أحسن الله عزاءه‬ ‫كتب ُ‬
‫ت‬
‫مصابه‪ ,‬وجعل فيه الخلف للملك المرحوم‪ ,‬وقد زلزل‬ ‫وجبر ُ‬
‫ما‪ ً ,‬وقد حفرت الدموع المحاجر‪ ,‬وبلغت‬ ‫المسلمون زلزال ً عظي‬
‫القلوب الحناجر‪ ,‬وقد قبلت أباك ومخدمي وداعا ً ل تلقي بعده‪,‬‬
‫وقد قبلت وجهه عني وعنك‪ ,‬وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة‪,‬‬
‫راض ًعن الله‪ ,‬ول حول ول قوة إل بالله‪ ,‬وبالباب‬
‫ضعيف القوة‪ ,‬يا‬
‫من الجنود المجندة‪ ,‬والسلحة المغمدة‪ ,‬ما ل يدفع البلء‪ ,‬ول يرد‬
‫القضاء‪ ,‬وتدمع العين ويخشع القلب‪ ,‬ول نقول إل ما ُيرضي‬
‫الرب‪ ,‬وإنا عليك يا يوسف لمحزونون‪ ,‬وأما الوصايا فما يحتاج‬
‫إليها‪ ,‬والراء فقد شغلني المصاب عنها‪ ,‬وأما لئح المر فإنه إن‬
‫وقع اتفاق فما وعدتم إل شخصه الكريم‪ ,‬وإن كان غير ذلك‬
‫فالمصائب المستقبلية أهونها موته‪ ,‬وهو الهول العظيم‬
‫والسلم«)‪.(305‬‬
‫فرحمة الله على صلح الدين ومن قبله من السابقين ومن‬
‫بعده من المسلمين الذين أخذوا بسنن التمكين‪.‬‬
‫قد يتساءل القارئ لماذا هذا الطناب في سيرة صلح‬
‫الدين ونور الدين؟ وجوابي على ذلك أن الدولة العبيدية لها‬
‫أسباب مباشرة في السقوط وأسباب غير مباشرة‪ ,‬وإن في‬
‫رأيي أن من أهم السباب في زوال الدولة الُعبيدية‪ :‬جهود‬
‫القائدين العظيمين نور الدين محمود‪ ,‬وصلح الدين؛ ولذلك‬
‫أطنبت في سيرتهما العطرة وإيضاح أهم أسباب النصر التي‬
‫التزما بها وأخذا بها‪ ,‬وإظهار الجهود العلمية والتربوية‬
‫والفقهية التي قام بها العلماء في عصرهما وعصر من‬
‫سبقهما‪ ,‬ليصل القارئ الكريم إلى أن صلح الدين ونور الدين‬
‫ل يأتيان فجأة دون تمهيدات وإرهاصات وجهود تبذل من قبل‬
‫أفراد المة وجماعاتها وعلمائها ودعاتها‪ ,‬وليعلم القارئ أن‬
‫التغيير ل يحدث في المة إل إذا سبقه حرص جماعي على‬
‫الخذ به‪ ,‬وعلى أهمية معرفة أسباب النصر وعوامل الهزيمة‬
‫وأهمية مزج الخلص في النية بالصواب في التفكير والعمل‪,‬‬
‫ل غنى لحدهما عن الخر‪.‬‬
‫وبهذا أكون قد انتهيت من كتابة الدولة العبيدية في‬
‫الشمال الفريقي‪.‬‬
‫فإن أصبت فمن الله وحده‪ ,‬وإن أخطأت فمن نفسي‬
‫وتقصيري‪.‬‬

‫‪ ()305‬النجوم الزاهرة )‪.(6/53،52‬‬


‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪15‬‬
‫‪0‬‬
‫صا لوجهه الكريم‪ ,‬وأن تنتفع به‬
‫أسأل الله أن يكون عملي خال ً‬
‫أجيال المسلمين‪.‬‬
‫***‬
‫‪15‬‬ ‫نتائـــــج‬
‫‪1‬‬ ‫البحــــــث‬

‫نتائج البحث‬

‫‪-1‬عندما تكون المة قوية يعمد ُأعداؤها إلى لباس ثوب‬


‫صا اليهود‪,‬‬‫الدين ليسهل لهم تفتيتها ونخرها من الداخل وخصو ً‬
‫ويتفننون في رفع الشعارات المزيفة والكاذبة لخداع عوام‬
‫المسلمين‪ ,‬وهذا ما فعله الزنديق اليهودي الحاقد عبد الله بن‬
‫سبأ وهو أول من بذر بذرة الرافضة في المة باسم التشيع‬
‫ومناصرة أهل بيت النبوة‪.‬‬
‫صا علماءهم‬ ‫‪ -2‬إن أهل البيت رضوان الله عليهم وخصو ً‬
‫ابتداًء من المام علي رضي الله عنه يعتبرون من علماء أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ,‬وحاربوا بكل ما يملكون أهل البدع والبتداع‬
‫في المة‪.‬‬
‫‪ -3‬إن زيد بن علي خذله أهل الرفض لكونه امتنع عن‬
‫سب الشيخين رضي الله عنهما‪ ,‬وهذا يدل على حقد‬
‫الروافض للصحابة الكرام‪.‬‬
‫‪ -4‬إن التشيع كثرت فرقه وانتشرت في بقاع الرض‬
‫وأصبحت له دول تحمى أتباعها‪ ,‬ومن المعلوم أن الفكار ل‬
‫تموت في الغالب وإنما يتغير أشكالها ولباسها وفق ما يحتاجه‬
‫أهل كل مكان وزمان؛ ولذلك فإن بيان فرقهم التي ل زالت‬
‫منتشرة وغيرت أسماءها جهاد يحبه الله ورسوله‪.‬‬
‫إن من أخطر فرق الشيعة في الوقت الحاضر النصيرية‬ ‫‪-5‬‬
‫التي تحالفت في الماضي مع النصارى لحتلل ديار الشام‪ ,‬وكانوا‬
‫يحزنون إذا انتصر المسلمون ويفرحون إذا هزم المسلمون‪ ,‬ول‬
‫زالت تحالفاتهم مع النصارى واليهود مستمرة ولهم دولة في‬
‫سوريا أذاقوا أهل السنة فيها الويلت من قتل وسجن وتعذيب‬
‫وتشريد‪.‬‬
‫‪ -6‬ومن أخطر الفرق المعاصرة‪ :‬الثنى عشرية التي‬
‫أقامت دولة في إيران‪ ,‬وتتدرج في نشر أفكارها على مستوى‬
‫العالم أجمع‪ ,‬ول نستغرب إذا استمر أهل السنة في نومهم‬
‫العميق أن يضموا المارات العربية وقطر والبحرين وجزًءا‬
‫من العراق والسعودية‪ ,‬ويرون هذا التوسع جهاًدا وديًنا وقربة‬
‫لله‪.‬‬
‫‪ -7‬إن السماعيلية أتقنت تنظيمها ووفرت له كل السباب‬
‫‪-‬التي تنقل التنظيم إلى حكم دولة‪ -‬من أسباب عسكرية‪,‬‬
‫وأمور مادية‪ ,‬واختيار كفاءات عالية لها المقدرة على‬
‫التخطيط والتنفيذ‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪15‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -8‬إن القيادة السماعيلية اختارت مكاًنا مليًئا بالظلم وفيه‬
‫صراع عنيف بين القبائل والدولة العباسية‪ ,‬وأرسلت دعاتها‬
‫على مراحل حتى جاء دور الماكر الخادع أبي عبد الله‬
‫الشيعي الذي تدل كتب التاريخ أنه رجل دولة له مقدرات‬
‫عسكرية وفكرية وظفها في تحقيق أهدافه‪ ,‬وعندما استطاع‬
‫أن يعرف مواطن القوة في المجتمع المغربي ومواطن‬
‫الضعف شرع في الخذ بأسباب القوة وإنهاك دولة الغالبة‬
‫وزيادة ضعفها مما ساعده على إسقاطها عام ‪297‬هـ‪.‬‬
‫كان الناس في زمن مجئ أبي عبد الله الشيعي مهيئين‬ ‫‪-9‬‬
‫للتغيير‪ ,‬ويبحثون عن بديل‪ ,‬ويسعون لزالة الظلم وتولدت نفرة‬
‫عظيمة بين المراء والشعب في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫‪ -10‬إن عبيد الله المهدي عندما تقلد أمور الحكم عمل‬
‫على تصفية أتباعه المخلصين الذين أسسوا دولته‪ ,‬وهذا شيء‬
‫ملحظ في تاريخ البشرية‪ ,‬وهو ما يسمى بأن الثورة تأكل‬
‫أبناءها‪ ,‬وأقول‪ :‬إن هذا المر يدخل في سنة الله الجارية‪ :‬من‬
‫ما سلطه الله عليه‪ ,‬وما انتقام الرئيس العراقي من‬ ‫أعان ظال ً‬
‫وزيره وعامله وصهره عنا ببعيد‪ ,‬بل جل الثورات تتعرض لهذه‬
‫التصفيات‪.‬‬
‫‪ -11‬إن عبيد الله استفاد من معتقد المسلمين في‬
‫المهدي المنتظر وزين المر وزخرفه حتى أقنع كثيًرا من‬
‫الناس بأنه هو المقصود‪.‬‬
‫ما وأبدا ً عندما تشتد الظلمة‬
‫‪-12‬إن علماء أهل السنة دائ ً‬
‫ويغيب السلم يقومون بدورهم الريادي في إحياء المة‪ ,‬ولو‬
‫كلفهم ذلك نفوسهم وأموالهم وأهاليهم‪.‬‬
‫‪ -13‬إن تربية المة على معتقد أهل السنة والجماعة هو‬
‫السياج العقدي والفكري والنفسي الذي يحميها من الدعوات‬
‫الضالة المضلة‪.‬‬
‫‪ -14‬إن أهالي طرابلس قاوموا المد الرافضي والمعتقد‬
‫الباطني‪ ,‬ودخلوا في قتال عنيف مع بني عبيد وفي نهاية‬
‫المطاف إنقاد أهل طرابلس بالقوة والسلح‬
‫لدولة العبيديين‪.‬‬
‫‪ -15‬لقد فعل العبيديون في أهالي برقة ما تقشعر منه‬
‫البدان وتشيب منه الرؤوس‪ ,‬وثار أهل برقة من العبيديين‬
‫فقتلوا عاملهم وكثير من رجال كتامة ولكنهم أخمدوا بالتنكيل‪,‬‬
‫والتعذيب والقتل وسبي النساء‪.‬‬
‫‪ -16‬استطاع أبو يزيد الخارجي أن يهز كيان الدولة‬
‫العبيدية وكاد أن يقضي عليها إل أنه لم يحقق ذلك؛ لن‬
‫‪15‬‬ ‫نتائـــــج‬
‫‪3‬‬ ‫البحــــــث‬
‫عقليته لم تكن عقلية رجل دولة‪ ,‬ولم تكن له خطة واضحة‬
‫الهداف كما أنه غدر بحلفائه مما أفقد ثقة الناس فيه‪.‬‬
‫‪ -17‬إن علماء أهل السنة اجتهدوا في مناصرتهم لبي يزيد‬
‫الخارجي إذ رأوا أنه أخف الضررين‪ ,‬والدرس العميق الذي‬
‫نخرج به هو شدة الحذر في مثل هذه التحالفات وتقدير‬
‫صا عند أهل البدع العتقادية‬‫المصالح والمفاسد وخصو ً‬
‫والحزاب العلمانية‪ ,‬فالمسلم كيس فطن ل يلدغ من جحر‬
‫مرتين‪.‬‬
‫‪ -18‬من أسباب نجاح ثورة أبي يزيد أن القائم بأمر الله‬
‫الخليفة العبيدي سب النبياء وأظهر كفره‪ ,‬فاستغل أبو يزيد‬
‫ذلك وألب إباضية المغرب وجموع القبائل وفقهاء وزهاد‬
‫القيروان عليه‪.‬‬
‫‪ -19‬أظهر الخليفة المنصور العبيدي السلم وقدم الفقهاء‬
‫والعلماء ورفع الظلم عنهم حتى سكنت البلد وقضى على‬
‫الخارجين عليه‪.‬‬
‫‪ -20‬إن أهالي الشمال الفريقي طويلو النفس ل يرضون‬
‫بغير منهج أهل السنة ولهم استعداد أن يقدموا الغالي‬
‫والرخيص في سبيل هذه العقيدة الصحيحة؛ لذلك اضطر‬
‫خلفاء العبيديين أن يفكروا في النتقال إلى مصر والتخلص‬
‫من الثورات والضطرابات‪.‬‬
‫‪ -21‬أصبحت الدولة العبيدية راعية الفكر الباطني في‬
‫العالم السلمي‪ ,‬وتمده بالمال والسلح وبكل ما يحتاجه‪,‬‬
‫لتقويته ضد أهل السنة‪ ,‬فتم التعاون بين القرامطة والعبيديين‬
‫إل أنهم اختصموا واختلفوا على الدنيا‪.‬‬
‫‪ -22‬اتخذت الدولة العبيدية أساليب متنوعة في القضاء‬
‫على عقيدة أهل السنة وكلها لم تحقق أهدافها‪.‬‬
‫قاوم علماء السنة المد العبيدي الرافضي بكل الساليب‬ ‫‪-23‬‬
‫المتاحة لهم من حجة وتعليم ودعوة وحمل سلح ضد الطغاة‬
‫الظالمين وتحملوا القتل والسجن والتعذيب‪.‬‬
‫‪ -24‬استهدف علماء أهل السنة في دعوتهم المراء‬
‫الصنهاجيين ونجحوا في إرشادهم وتعليمهم وأخص بالذكر‬
‫الفقيه أبا الحسن الزجال‪.‬‬
‫ما لهل‬ ‫‪ -25‬كان الهتمام بالمعز بن باديس مكسًبا عظي ً‬
‫ما في تدرجه للنفصال عن‬ ‫السنة‪ ,‬وكان المعز بن باديس حكي ً‬
‫الدولة العبيدية الباطنية‪ ,‬إذ شجع العلماء والفقهاء من أهل‬
‫السنة في دعوتهم‪ ,‬وضايق الروافض‪ ,‬بل واستدرجهم لمعارك‬
‫طاحنة للقضاء عليهم بالسيف‪.‬‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪15‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -26‬إن الدولة الصنهاجية البربرية الزيرية تحولت في‬
‫زمن المعز إلى دولة سنية وهذه بداية ضعف الدولة العبيدية‪,‬‬
‫بل من أسباب سقوطها‪.‬‬
‫‪ -27‬إن إلغاء المذاهب السنية وإلزام الناس باللتزام‬
‫بمذهب واحد ضيق قاعدة الدفاع في الشمال الفريقي‪ ,‬وكان‬
‫الولى للمعز أن يتبنى التيارات السنية كافة كما فعل نور‬
‫الدين محمود مع كونه حنفًيا‪ ,‬إل أنه قدر وقدم بقية المذاهب‬
‫السنية‪ ,‬وكما فعل صلح الدين مع كونه شافعًيا‪.‬‬
‫لقد‪ -‬كانت سنة الله واضحة في آجال الملوك والحكام‪,‬‬ ‫‪28‬‬
‫وكذلك قوة الفكار التي تحميها الدول‪ ,‬وكم من تغيير حدث من‬
‫أحفاد وأبناء من هم أعداء لمنهج أهل السنة‪.‬‬
‫‪ -29‬مكرت الدولة العبيدية بالمعز بن باديس بإرسالها‬
‫القبائل العربية للشمال الفريقي‪ ,‬وكان من أسباب انهزام‬
‫المعز الصراع العنيف بين صنهاجة وكتامة وزناتة‪ ,‬وتركيب‬
‫الجيش وارتكازه على العبيد الذين لم يتحصلوا على قسط‬
‫وافر من التربية اليمانية‪.‬‬
‫‪ -30‬يعتبر عصر تميم بن المعز أفضل من والده‪ ,‬إذ‬
‫استطاع أن يضم المدن التي انفصلت إلى دولته‪ ,‬وأن يجند‬
‫القبائل العربية في جيشه وأن يهزم بني عمه أصحاب الدولة‬
‫الحمادية واستمر على نهج أبيه والدعوة إليه‪.‬‬
‫‪ -31‬يعتبر عصر يحيى بن تميم من أقوى العصور الزيرية‬
‫صا في مجال البحر‪ ,‬وشن الحروب على النصارى‪,‬‬ ‫خصو ً‬
‫وإرسال الحملت الجهادية في حوض البحر المتوسط‪ ,‬كما أن‬
‫ما انعكس على الرعايا‪,‬‬ ‫التجارة ازدهرت ازدهاًرا عظي ً‬
‫واستطاع أن يسوي العرب بسياسة حكيمة‪.‬‬
‫‪ -32‬في عصر المير علي بن يحيى بدأت الطماع‬
‫النصرانية تظهر للعيان‪ ,‬وتحركت أساطيل النصارى من‬
‫صقلية‪ ,‬للمناوشات في البحر المتوسط‪.‬‬
‫‪ -33‬سقطت المهدية عاصمة الزيريين في عام ‪543‬هـ‬
‫في أيدي »رجال النصارى« حكام صقلية‪ ,‬وكذلك طرابلس‬
‫ومدن الساحل في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫‪ -34‬استطاع الموحدون أن يطهروا الشمال الفريقي من‬
‫النصارى وأن يحافظوا على وحدة البلد السياسية من‬
‫المغرب القصى إلى الحدود المصرية‪.‬‬
‫‪ -35‬كان لسقوط الدولة الزيرية أسباب كثيرة من أهمها‪:‬‬
‫الصراع الداخلي بين صنهاجة وزناتة وكتامة‪ ,‬وتوسع الصراع‬
‫بدخول العرب حلبة الصراع مما أضعف الدولة في نواحيها‬
‫‪15‬‬ ‫نتائـــــج‬
‫‪5‬‬ ‫البحــــــث‬
‫العسكرية والتجارية والسياسية وغيرها‪ ,‬وجعل العلماء‬
‫والفقهاء يهاجرون إلى المشرق أو الندلس أو المغرب‬
‫القصى‪.‬‬
‫‪ -36‬حكمت الدولة الزيرية ‪ 180‬سنة هجرية ثم انتهت‬
‫َ‬ ‫ل أ ُم َ‬
‫م‬‫ه ْ‬‫جل ُ ُ‬
‫جاءَ أ َ‬ ‫ل إِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ج ٌ‬
‫ةأ َ‬ ‫وأصبحت ْكالمس الغابر ‪+‬ل ِك ُ ّ ّ ٍ‬
‫ن" ]يونس‪ [49 :‬وهذا‬ ‫مو َ‬‫د ُ‬‫ق ِ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫ة َ‬
‫ع ً‬
‫سا َ‬
‫ن َ‬ ‫خُرو َ‬‫ست َأ ِ‬‫فل َ ي َ ْ‬
‫َ‬
‫ً‬
‫يفيدنا عبرة واتعاظا‪.‬‬
‫‪ -37‬إن كان العبيديون نجحوا في إضعاف المعز بن باديس‬
‫ودولته فإن الله سلط عليهم إخوان المعز في العقيدة نور‬
‫الدين محمود‪ ,‬وصلح الدين اليوبي للقضاء على ملك‬
‫العبيديين‪.‬‬
‫تكاثفت جهود المة لمحاربة المد الباطني السماعيلي‪,‬‬ ‫‪-38‬‬
‫جل ًفيما قام به السلطان محمود الغزنوي في بلد‬ ‫وظهر ذلك يا‬
‫الهند‪ ,‬والسلطان ألب أرسلن السلجوقي في بلد الشام‪ ,‬من‬
‫حرب العبيديين‪ ,‬وكان الغزنويون والسلجقة سنيين في‬
‫معتقدهم‪.‬‬
‫برز في الدولة السلجوقية الوزير نظام الملك »الحسن‬ ‫‪-39‬‬
‫بن علي« وكان ذا صلح وتقوى وهمة في إحياء السنة وإماتة‬
‫البدعة‪ ,‬فوضع خطة طويلة المدى متعددة المراحل ترمي لخراج‬
‫أجيال متفقهة في الدين مستعدة للتضحية في سبيله‪ ,‬فأسس‬
‫المدارس في ديار المسلمين في نيسابور والعراق والشام‪,‬‬
‫وامتدت إلى مصر‪ ,‬وشجع العلماء والفقهاء على التعليم والدعوة‬
‫وتفقيه الناس‪ ,‬ووفر للعلماء والطلب كل سبل الراحة‪ ,‬وكان من‬
‫أشهر العلماء في هذه المرحلة العصيبة أبو المعالي الجويني‪,‬‬
‫والمام الغزالي وقبلهما الماوردي‪ ,‬وأبو إسحاق الشيرازي‪,‬‬
‫فعملوا جادين في محاربة الرفض وإحياء السنن وهؤلء زعماء‬
‫المدرسة الشافعية السنية التي كان لها دور ملموس في فترة‬
‫نهوض المة من كبوتها وتهيئتها لفتوحات نور الدين محمود‪,‬‬
‫وصلح الدين‪.‬‬
‫‪ -40‬ظهور علماء المدرسة الحنبلية السنية أمثال »أبو‬
‫الوفاء بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي« وتفرغهم لتعليم‬
‫الناس وتربيتهم‪ ,‬وكان لمدرسة أبي سعيد المخرمي الحنبلي‬
‫صا بعد أن تولى أمر هذه‬ ‫دور ملموس في هذه الجهود‪ ,‬وخصو ً‬
‫المدرسة الداعية الرباني والعالم الجليل عبد القادر الجيلني‬
‫الذي تربى على يديه كثير من علماء الشام في بغداد‪.‬‬
‫‪ -41‬بعد أن ُبذلت جهود تربوية عظيمة من أشهر روادها‬
‫»المام الغزالي« وعبد القادر الجيلني‪ ,‬وبذلت جهود علمية ل‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪15‬‬
‫‪6‬‬
‫ُيستهان بها من أشهرها ما قامت به المدرسة الحنبلية‬
‫الشافعية تولد جيل واضحة أهدافه‪ ,‬عالية هممه‪ ,‬وظهر في‬
‫هذا الجيل الجديد قادة ربانيون من أمثال‪ :‬عماد الدين زنكي‬
‫الذي بدأ في انتزاع أراضي المسلمين من النصارى والحاقدين‬
‫وحلفائهم الباطنية الملعين‪.‬‬
‫‪ -42‬كان عصر نور الدين زمن تغيير للمة وكانت معالمه‬
‫وملمح التمكين ظاهرة من عدل شامل‪ ,‬وحب للمصلحة‬
‫العليا‪ ,‬وتفان في أداء الواجب وتكامل بين أبناء المة‪,‬‬
‫وانصهروا جميًعا في تحقيق الهداف العليا‪.‬‬
‫رأت الدولة الزنكية أنه ل قوة للمة إل باتحاد العراق مع‬ ‫‪-43‬‬
‫الشام فبدأت الدولة الفتية في توحيد أقطارها السلمية‪ ,‬ورأت‬
‫بمنظورها البعيد أنه ل عزة للمة ول قضاء على النصارى إل‬
‫بالقضاء على دولة الرافضة العبيدية‪ ,‬فأعدوا للمر عدته‪,‬‬
‫واستطاع نور الدين أن يسقط الدولة العبيدية‪ ,‬ويوحد جبهة‬
‫القتال الشامية المصرية عام ‪564‬هـ‪ ,‬وكان ذلك على يد أحد‬
‫أعوانه المخلصين صلح الدين اليوبي‪.‬‬
‫ويظهر لقارئ التاريخ أن المة ل تستطيع أن ترد هجمات‬
‫النصارى إل إذا اتحد الشام مع مصر ويكون ما خلفهما من‬
‫ديار المسلمين ردًءا لهما‪.‬‬
‫وأما دور المة الهجومي لستمرار عجلة الجهاد والتوغل‬
‫في أوروبا ل يكون لها ذلك إل إذا انضم الشمال الفريقي مع‬
‫بلد الشام والديار المصرية‪.‬‬
‫أجادت الدولة الزنكية في إقامة شبكات أمنية على‬ ‫‪-44‬‬
‫مستوى أملكها تتبع كل التنظيمات البدعية التي تعمل على إسقاط‬
‫الدولة السنية الزنكية الفتية‪ ,‬فكانت الدولة الزنكية تهتم بتتبع‬
‫أقليات النصارى في ديارهم‪ ,‬وخنق أتباع العبيديين‪ ,‬وجعلهم تحت‬
‫أعين الدولة؛ ولذلك فإن الحركات السلمية السنية التي تسعى‬
‫للوصول للحكم من أجل تحكيم شرع الله عليها أن تهتم بمكاتبها‬
‫المنية وتطورها بما يليق مع مستوى المرحلة التي تمر بها حتى‬
‫تستطيع أن تحجم دور الجيوب الداخلية في المة »تنظيمات بدعية‬
‫أو علمانية أو نصرانية أو يهودية« وإتقان هذا الجانب من أهم‬
‫أسباب التمكين‪.‬‬
‫‪ -45‬إن الدولة النورية الزنكية ما كانت تسند أمورها‬
‫القيادية إل لجنودها وقادتها المخلصين لفكرتها‪ ,‬ولذلك بعد ما‬
‫مات نور الدين محمود التقط الراية صلح الدين‪ ,‬واستمر في‬
‫تحقيق الهداف المرسومة‪.‬‬
‫إن من الخطاء القاتلة التي تمر بها المة أحياًنا‪ :‬أن تتعلق‬
‫‪15‬‬ ‫نتائـــــج‬
‫‪7‬‬ ‫البحــــــث‬
‫بالشخاص فإن ماتوا ضعفت وإن انحرفوا انحرفت؛ ولذلك‬
‫يجب على الدعاة أن يجعلوا المة تتعلق بالمنهج حتى تستطيع‬
‫أن تستمر في أداء وظيفتها الرسالية‪.‬‬
‫‪ -46‬لبد للمة التي تسعى لزالة الدولة الكفرية والحكام‬
‫الجاهلية أن يمتزج فيها الجانب العلمي التربوي مع الستعداد‬
‫العسكري الجهادي‪ ,‬وأن تكون القيادة العليا لصحاب العلم‬
‫الربانيين‪ .‬ومن ظن أن المة بالقوة العسكرية وحدها ترجع‬
‫مجدها فقد أخطأ السبيل‪ ,‬وما أفغانستان عنا ببعيد‪ ,‬ومن ظن‬
‫أن الجانب العاطفي الجياش وحده يقوي المة فقد خالفه‬
‫الصواب‪ ,‬وما ديار الجزائر عنا ببعيد‪ ,‬ومن ظن أن الجانب‬
‫العملي وحده أو السياسي وحده هو الحل العلمي فقد جانبه‬
‫الصواب‪ ,‬وإنما الحل في الخذ بالسلم جملة‪ ,‬فالعداد لبد‬
‫أن يشمل كل المجالت التي يتناولها السلم من دولة ووطن‬
‫أو حكومة وأمة‪ ,‬وخلق وقوة أو رحمة وعدالة وثقافة وقانون‬
‫أو علم وقضاء‪ ,‬ومادة وثروة أو كسب وغنى‪ ,‬وجهاد ودعوة‪,‬‬
‫أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء‬
‫بسواء‪.‬‬
‫وهذا الذي اهتم به جيل التمكين في زمن نور الدين‬
‫محمود وصلح الدين‪.‬‬
‫‪ -47‬إن صلح الدين اليوبي تدرج في القضاء على الدولة‬
‫العبيدية ورضى بأن يتولى وزارة التفويض وبدأ في تقليص‬
‫الوجود العبيدي وإظهار التوجه السني‪ ,‬ولم يستعجل النتائج‪,‬‬
‫ولبد من مراعاة سنة التدرج في تغيير الشعوب وإزالة‬
‫الدول‪ ,‬كما أنه لبد من الهتمام بالتخصص في أمور الدولة‬
‫ومن التفنن في توزيع الدوار حتى يتكامل العاملون لتحقيق‬
‫أهدافهم‪.‬‬
‫‪ -48‬إن صلح الدين أمضى سلح العفو عند المقدرة مع‬
‫خصومه‪ ,‬فكان له أثر بالغ في كسب النفوس ومداواة‬
‫المراض‪ ,‬وتوحيد الصفوف والقضاء على الفتن الداخلية‪,‬‬
‫فالعفو عند المقدرة عندما يكون في محله يقوي الدول‬
‫ويجذب القلوب ويقضي على الخصوم‪.‬‬
‫‪ -49‬عندما تمكن صلح الدين من توحيد الجبهة الداخلية‬
‫تحرك بجيوشه الجرارة لتطهير الشام من الصليبيين‪ ,‬وكان‬
‫تحركه الميمون وفق خطة عسكرية محكمة‪ ,‬بدأ في انتزاع‬
‫الحصون والمدن القريبة من مصر‪ ,‬واستدرج النصارى إلى‬
‫موقع اختارته أركان حرب صلح الدين أل هو »حطين« ووجه‬
‫ضربته المباركة في حطين التي كانت مفتاح القدس‪.‬‬
‫‪ -50‬إن أخلق القادة الرفيعة تظهر في الفتوحات‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪15‬‬
‫‪8‬‬
‫العظيمة‪ ,‬ولقد ضرب صلح الدين أروع المثلة في الخلق‬
‫والعفة والكرم والصفح في فتحه للقدس‪ ,‬حتى إن ملوك‬
‫النصارى ومؤرخيهم تأثروا بهذه الفعال الجميلة واليادي‬
‫الجزيلة‪ ,‬والفضل ما شهدت به العداء‪.‬‬
‫‪ -51‬إن القيادة الفكرية والعلمية لم تكن في يد صلح‬
‫الدين‪ ,‬وإنما كانت مرتكزة عند العلماء والفقهاء‪ ,‬وبرز من‬
‫أعوان صلح الدين القاضي الفاضل الذي أخذ بيد صلح الدين‬
‫نحو تطبيق شرع الله‪ ,‬فعندما تكون القيادة الفعلية في المة‬
‫للعلماء الربانيين والقادة العسكريين الذين ينقادون لحكام‬
‫كن الله لهم ما داموا على نهجه‬ ‫الله يكون النصر حليفهم‪ ,‬ويم ّ‬
‫سائرين‪.‬‬
‫‪ -52‬إن المة تتفاعل مع قيادتها العملية التي تنزل الفكار‬
‫في دنيا الناس‪ ,‬وتعيش بها وتلتف المة حولهم‪ ,‬وتقدم لقادتها‬
‫كل ما تملك‪ ,‬أما إذا كان القادة أصحاب كلم ل فعال‪,‬‬
‫صا‪ ,‬وجلسوا‬ ‫وعقيدتهم ميتة ل تحيي قلًبا‪ ,‬ول تدفع شخ ً‬
‫للتنظير والقيل والقال‪ ,‬فإن المة تتمزق وتنشطر وتتفرق‬
‫ويعم الشتات‪ ,‬وهذا ملحظ من سيرة نور الدين محمود الذي‬
‫أقام السلم على نفسه‪ ,‬ونزل بنفسه في ساحات الوغى‪,‬‬
‫وكذلك في سيرة صلح الدين وتلميذه‪.‬‬
‫مهما استطال الظلم وامتد وتوسع فلبد من نهاية له‬ ‫‪-53‬‬
‫سواء تمثل في فرد أو في دولة‪ ,‬وهذه النهاية خاضعة لتقدير الله‬
‫وفق سنته وقانونه في استدراج الظالمين والنتقام منهم وجعلهم‬
‫عبرة لغيرهم‪ ,‬فأين حكام العبيديين وأين ملكهم ودولتهم؟‬
‫‪ -54‬إن الجهاد عندما تقوم به المة كلها بقيادة أهل الحل والعقد‬
‫يعطي أكله بعد حين‪ ,‬وعندما يتصدى لقيادة الجهاد جهال وأنصاف‬
‫علماء وشباب متحمسون تكون النتائج وخيمة‪.‬‬
‫إنني أعتبر ما قام به صلح الدين ونور الدين من أعمال‬ ‫‪-55‬‬
‫مجيدة ثمرة لمجهود علماء وفقهاء ومربين بذلوا جهودا ً عظيمة‬
‫أخرجت هذا الجيل الذي قضى على دولة العبيديين وكسر شوكة‬
‫النصارى في حطين‪ ,‬وطهر المسجد القصى من أسر الحاقدين‪.‬‬
‫‪-56‬الهتمام بصفات القادة الربانيين والعلماء العاملين يفيد المة‬ ‫إن‬
‫في تربيتها الطويلة وإعدادها الجاد لعودة صولتها وجولتها في دنيا الوجود‬
‫على منهج قويم وتوجيه سليم‪.‬‬
‫‪ -57‬إن هذا المجهود قابل المتواضع للنقد والتوجيه وما هو‬
‫إل محاولة متواضعة وبيني وبين الناقد قول الشاعر‪:‬‬
‫جــل مــن ل عيــب‬ ‫إن تجــد عيـًبا فســـد ّ الخلــــل‬
‫فيــه وعـــل‬
‫‪15‬‬ ‫نتائـــــج‬
‫‪9‬‬ ‫البحــــــث‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪16‬‬
‫‪0‬‬

‫‪‬‬
‫الصفح‬ ‫الموضوع‬
‫ة‬
‫الهداء‪3 .............................................................‬‬
‫مقدمة‪5 .............................................................‬‬
‫الفصل الول‪ :‬الدولة الشيعية في الشمال الفريقي‬
‫المبحث الول‪ :‬الشيعة في اللغة‪13 .............................‬‬
‫حا‪13 .................................‬‬ ‫ل‪ :‬تعريف الشيعة اصطل ً‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬تعريف الرافضة‪14 ...........................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سبب تسميتهم بهذا السم‪15 .........................‬‬
‫رابًعا‪ :‬بداية نشأة التشيع‪16 .......................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التعريف بأهم فرق الشيعة‪19 ................‬‬
‫ل‪ :‬النصيرية‪19 ............................................‬‬ ‫أو ً‬
‫من عقائدهم الفاسدة‪21 ..........................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬الشيعة الثنى عشرية‪22 ....................................‬‬
‫استمرار الثنى عشرية في العصر الحاضر‪27 .................‬‬
‫المام الشيعي في العصر الحاضر ودولته التي أقامها‪27 . . .‬‬
‫تجربة الشيخ موسى جار الله‪32 .................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الشيعة السماعيلية‪36 ......................................‬‬
‫أ‪ -‬خطر المذهب الباطني على المة‪37 .........................‬‬
‫ب‪ -‬عقائد الباطنية الفاسدة‪40 ...................................‬‬
‫داعية الباطنية في الشمال الفريقي )أبو عبد‬ ‫المبحث الثالث‪:‬‬
‫‪42 ..................................................‬‬ ‫الله الشيعي(‬
‫المبحث الرابع‪ :‬عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي‬
‫الول‪48 ...............................................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬عقيدة أهل السنة والجماعة في المهدي‬
‫‪51.....................................................................‬‬
‫اسمه وصفاته‪51 ....................................................‬‬
‫مكان خروجه‪51 .....................................................‬‬
‫ل‪ :‬تواتر أحاديث المهدي‪53 .....................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬المنكرون لحاديث المهدي والرد عليهم‪54 ..............‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الصراع بين الدولة العبيدية وأهالي الشمال‬
‫الفريقي‬
‫المبحث الول‪ :‬ثورة قبيلة هوارة في طرابلس‪59 ............‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬زحف العبيديين‪61 ..............................‬‬
‫‪16‬‬ ‫الفهـــــــــــــر‬
‫‪1‬‬ ‫س‬
‫ثورة أهل برقة على العبيديين‪62 ................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬خروج أبي يزيد الخارجي على العبيديين ‪63‬‬
‫القائم بأمر الله الخليفة الثاني الرافضي أبو القاسم‬ ‫المبحث الرابع‪:‬‬
‫‪66 ......................................................‬‬
‫نزار بن عبيد الله‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الخليفة الشيعي الرافضي الثالث في‬
‫الشــــمال الفريقي‬
‫المنصور بنصر الله‪67 ..............................................‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المعز لدين الله أبو تميم سعد‪68 .........‬‬
‫رحلة المعز إلى مصر‪69 ..........................................‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬جرائم العبيديين في الشمال الفريقي ‪72 .‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬موقف علماء أهل السنة وأساليب المقاومة‬
‫‪79 .....................................................................‬‬
‫أشهر مناظرات المام أبي عثمان سعيد بن الحداد‪83 .......‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الدولة الصنهاجية‬
‫المبحث الول‪ :‬أبو الفتوح يوسف بلكين‪93 ....................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المعز بن باديس الصنهاجي‪95 ................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬زحف بني هلل وبني سليم وغيرهما من‬
‫القبائل إلى الشمال الفريقي‪99 ................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الصدام المسلح بين المعز بن باديس والقبائل‬
‫العربية‪103 ............................................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أبناء المعز وأحفاده‪107 .....................‬‬
‫ل‪ :‬تميم بن المعز‪107 .............................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬يحيى بن تميم بن المعز بن باديس‪109 ....................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬المير علي بن يحيى بن تميم بن المعز‪112 ..............‬‬
‫رابًعا‪ :‬المير الحسن بن علي بن يحيى بن تميم‪113 ...........‬‬
‫أ‪ -‬والي طرابلس في زمن المير الحسن بن علي الصنهاجي‬
‫‪114 .....................................................................‬‬
‫ب‪ -‬رجار يهاجم طرابلس‪114 ......................................‬‬
‫ج‪ -‬المجاعة في طرابلس‪114 ......................................‬‬
‫المبحث السادس‪:‬أسباب سقوط الدولة الزيرية في الشمال‬
‫‪117 ...............................................................‬‬
‫الفريقي‬
‫حكام بني زيري في القيروان والمهدية‪118 .....................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬سقوط الدولة العبيدية‬
‫المبحث الول‪ :‬من أسباب سقوط الدولة العبيدية‬
‫واندحار المد الباطني والتغلغل النصراني الصليبي‬
‫الدولــــــة‬
‫الفاطميـــــــــة‬ ‫‪16‬‬
‫‪2‬‬
‫‪....................................................................‬‬
‫‪121‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نور الدين محمود‪129 ............................‬‬
‫توحيد بلد الشام والديار المصرية‪138 ...........................‬‬
‫وفاة نور الدين محمود‪138 .........................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬صلح الدين اليوبي محرر القدس‬
‫ومزيل دولة العبيديين من مصر‬
‫‪.....................................................................‬‬
‫‪139‬‬
‫أ‪ -‬القاضي الفاضل‪148 ..............................................‬‬
‫ب‪ -‬وفاة السلطان الناصر صلح الدين‪152 ......................‬‬
‫ج‪ -‬الملمح الرئيسية في شخصية صلح الدين‪154 .............‬‬
‫د‪ -‬من أروع المراثي في صلح الدين‪161 ........................‬‬
‫هـ‪ -‬من أروع الرسائل في أخبار وفاة صلح الدين‪162 ........‬‬
‫نتائج البحث‪164 .......................................................‬‬
‫فهرس الكتاب‪173 ...................................................‬‬
‫***‬

You might also like