You are on page 1of 10

‫ةة ةةةةة ةةة ةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة‬

‫)ةةةة ةةة ةةةةةةةة ةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةةةةة ةةة ةةةةةةةة(‬

‫الكتاب ‪ :‬الكوثري فى مصر )‪(1952 -1928‬‬


‫كتب و مقالت في مؤتمر حول المام الكوثري رحمه الله‬

‫الكوثري فى مصر )‪(1952 -1928‬‬


‫ل العربية تحت الحتلل أو‬ ‫مع انتهاِء الحرب العالمية الولى ‪1918‬م وقََعت الدو ُ‬
‫ت مصر أبواَبها للعلماِء والمفكرين من أبناِء العالم ِ السلمى‪،‬‬ ‫النتداب ‪ ،‬وَفتح ْ‬
‫ما‬
‫ضهم موطًنا دائ ً‬ ‫ة العلماء ‪ ،‬واتخذها بع ُ‬ ‫فحلوا بها خيَر محل‪ ،‬وصارت القاهرة كعب َ‬
‫ضهم فيها حيًنا من الدهرِ ثم عاد إلى بلِده‪.‬‬ ‫له‪ ،‬واستقر بع ُ‬
‫ُ‬
‫وممن هاجروا إلى مصر‪ ،‬شاعُر السلم محمد عاكف ‪ ،‬وشيخ السلم مصطفى‬
‫صبرى شيخ السلم فى الدولة العثمانية‪ ،‬ووكيُله الشيخ محمد زاهد الكوثري )‬
‫‪1371-1296‬هـ الموافق ‪1952-1879‬م(‪.‬‬
‫وصل الكوثري إلى السكندرية فى يوم الحد الثالث من ديسمبر ‪1922‬م‪ ،‬ثم‬
‫انتقل إلى القاهرة ‪ ،‬ثم غادرها مرتين إلى الشام ‪ ،‬قبل أن يستقر فى القاهرة‬
‫عام ‪1929‬م ولمدة أربعة وعشرين عاما إلى أن لبى نداء ربه عن خمس‬
‫وسبعين سنة في يوم الثنين ‪ 20‬من ذي القعدة ‪1371‬هـ الموافق ‪ 11‬من شهر‬
‫م صلة جنازته‬ ‫أغسطس سنة ‪1952‬م‪ ،‬في حي العباسية من ضواحي مصر‪ .‬وأ ّ‬
‫ب قبرِ أبي العباس‬‫خ اللغةِ العربية‪ ،‬وُدفن قر َ‬‫خ عبد الجليل عيسى شي ُ‬ ‫الشي ُ‬
‫ى العباسيةِ من أحياء القاهرةِ الراقية في‬ ‫الطوسي في قرافةِ الشافعي‪ .‬وكان ح ّ‬
‫ك الذين عاشوا فى مصر‪ ،‬أو درسوا فى‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬وسكنها عدد ٌ من الترا ِ‬
‫الزهر الشريف‪ ،‬أو اشتغلوا بالتدريس فى جامعتى القاهرة وعين شمس‪.‬‬

‫) ‪(1/1‬‬

‫ط العلمية فى مصر بالشيخ الكوثري احتفاًء واضحا من‬ ‫فت الوسا ُ‬ ‫وقد احت َ‬
‫منطلق هوية مصر السلمية الوسطية التى يمثلها الزهر الشريف‪ .‬ويظهر هذا‬
‫جليا فى الترحيب بأبناء العالم السلمى من مختلف البلدان السلمية حين ضاق‬
‫ت الحرجةِ من تاريخها‪ ،‬فتقوم بتقديمهم‪،‬‬ ‫بهم العيش فى بلِدهم فى اللحظا ِ‬
‫والتحلق حولهم فى مجالس العلم‪ ،‬دون أدنى حزازة‪ .‬فكان مجلس الشيخ‬
‫الكوثري العلمى فى مسجد أبى الذهب المقابل للجامع الزهر الشريف بعد‬
‫ق علمى بين المحققين وطلب العلم)‬ ‫ل تساب ٍ‬ ‫صلة الجمعة فى كل أسبوع ‪ ،‬مجا َ‬
‫م من علماِئها الجلء‪ ،‬الذين‬
‫ى الكوثري فى مصر التقديَر والحترا َ‬ ‫‪ .(1‬وقد ل َ ِ‬
‫ق َ‬
‫كانوا القدَر على معرفةِ منزلةِ العلماِء ومكانتهم‪ ،‬ومنهم العلمة الشيخ محمد أبو‬
‫زهرة‪ ،‬وهو عالم جليل من علماء الشريعة السلمية‪ ،‬وأيضا الشيخ على الخفيف‪،‬‬
‫ة‬
‫الفقيه الصولى‪ .‬وقد عرضا على الشيخ الكوثري‪ ،‬أن يقوم فى السنةِ الخير ِ‬
‫من حياته بتدريس الشريعة لطلب الدراسات العليا فى جامعة القاهرة ) فؤاد‬
‫الول آنذاك(‪ ،‬وهذا العرض يعكس تقديرهما لمكانته وعلمه‪ ،‬وقد اعتذر الشيخ‬
‫عى إلى أن يكون أستاذا للغة التركية بمعهد‬ ‫لضعف صحته رغم إلحاحهما‪ .‬كما د ُ ِ‬
‫اللغات الشرقية‪ ،‬فرفض أيضا لنه رأى بين أساتذةِ المعهد مستشرقين يخفون‬
‫قه أن يزامل من ل يثقَ فى طويِته)‪ ،(2‬واكتفى بعمله‬‫ما ل يبدون‪ ،‬وليس من خل ِ‬
‫فى دار المحفوظات بمصر‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انظر‪ ،‬محمد رجب البيومى‪ ،‬محمد زاهد الكوثري ‪ ،‬راوية العصر وأمين‬
‫التراث السلمى ‪ ،‬مقدمات الكوثري ـ ص ‪.20‬‬
‫)‪ (2‬محمد رجب البيومى ‪ ،‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫) ‪(1/2‬‬

‫ل فى حياته‪ ،‬بل أن‬ ‫ة تحو ٍ‬ ‫ولنا أن َنزعم أن انتقال الكوثري إلى مصَر كان نقط َ‬
‫ة ذلك‬ ‫ج شخصيِته العلمية تم فى مرحلة استقراره فى مصر ‪ ،‬ويمكن ملحظ َ‬ ‫نض َ‬
‫جه الفكري وفق تسلسل تاريخي‪ .‬فقدكان فى المرحلة الولى فى‬ ‫عب َْر تتبع إنتا ِ‬
‫الدولة العثمانية معنى بالترجمة‪ ،‬والشروح‪ ،‬والتعليقات على المؤلفات‪ ،‬وكان‬
‫ظه من النشرِ رغم وجودِ الطباعة‪ ،‬أما فى مرحلة‬ ‫معظمها مخطوطا لم يلقَ ح ّ‬
‫إقامِته فى مصَر‪ ،‬فقد أخذت كتابُته منحى جديدا‪ ،‬فاتجه إلى الردود ِ على‬
‫ل ما يتعلقُ بالدفاِع عن العقيدة ‪،‬‬ ‫م‪ ،‬وك ّ‬
‫ض المزاع ِ‬ ‫ن‪ ،‬ودح ِ‬ ‫ت‪ ،‬والمطاع ِ‬ ‫الشبها ِ‬
‫ق شهرِته من‬ ‫ة لنطل ِ‬ ‫ولهذا يمكن لنا أن نقول‪ ،‬أن وجوده فى مصَر هو البداي ُ‬
‫ى والسلمى‪ .‬كما هيأ َ له وجوده‬ ‫حدودِ الجمهوريةِ التركية إلى رحابةِ العالم ِ العرب ّ‬
‫ل‬
‫فى مصَر التصال بعلماِء المسلمين فى كثيرٍ من البلدان ‪ ،‬وهيأ له حرية القو ِ‬
‫س والبلدان‪ .‬كما استطاع خلل‬ ‫ف الجنا ِ‬ ‫ف ‪ ،‬وأن يكون له تلمذة من مختل ِ‬ ‫والتألي ِ‬
‫دم لثلثةٍ وثلثين‬ ‫ققَ وق ّ‬‫ة السلمية ‪ ،‬فح ّ‬ ‫دم الثقاف َ‬‫سنى إقامته فى مصر أن يخ ُ‬
‫ث السلمى ‪ ،‬وشملت تحقيقاُته وتعليقاُته علوم‬ ‫ب الترا ِ‬ ‫ت كت ِ‬‫كتابا من أمها ِ‬
‫م‪،‬‬
‫ه‪ ،‬والحكا ِ‬ ‫ة‪ ،‬والحديث وعلومه ‪ ،‬والفق ِ‬ ‫ق‪ ،‬والفلسف ِ‬ ‫فر ِ‬
‫م‪ ،‬وال ِ‬
‫ة‪ ،‬والكل ِ‬ ‫العقيد ِ‬
‫ق‪ ،‬والمواعظ‪.‬‬ ‫ف‪ ،‬والخل ِ‬ ‫م‪ ،‬والتصو ِ‬ ‫ر‪ ،‬والتراج ِ‬ ‫والصول‪ ،‬والتاريِخ‪ ،‬والسي ِ‬
‫وقد هاجرت عائلة الكوثري من القوقاز فرارا بدينها سنة ‪ ، 1280‬ثم هاجر‬
‫الكوثري إلى مصر ‪1922‬م‪ .‬وفى مصر نضجت وتبلورت جوانب من شخصية‬
‫الكوثري العلمية لم تتضح أثناء مقامه فى تركيا‪ ،‬وهى الهتمام بالقضايا العامة‬
‫للمسلمين ‪ ،‬والهتمام بمستقبل العالم السلمى‪ ،‬وتبلور فكره حول الصلح ‪،‬‬
‫كما انجلى من شخصيته العلمية جانب آخر وهو جانب المؤرخ‪.‬‬

‫) ‪(1/3‬‬

‫جه ‪ ،‬وأصبح أكثَر ميل‬ ‫ل فى منه ِ‬‫ة تحو ٍ‬‫وتعتبر إقامة الكوثري فى مصر نقط َ‬
‫ل‬
‫ل العقلى‪ .‬إذ " إنه يرى فى المقارنةِ بين المسائ ِ‬ ‫ت الفكرية‪ ،‬والجد ِ‬ ‫للمناظرا ِ‬
‫ة الفقهِ عند الدارسين"‪ ،‬ويصف من‬ ‫مى ملك َ‬ ‫ل أمرا نافعا ين ّ‬
‫والمقارعةِ بالدلئ ِ‬
‫ل‪ ،‬ويشترط لها أل يخرج‬ ‫ل أو المصاو ِ‬‫يخوض هذا النقاش وهذه المقارنة بالمناض ِ‬
‫ن بالدليل")‪.(1‬‬ ‫ب فى النظرِ والتيا ِ‬ ‫عن جادةِ الصوا ِ‬
‫ب‬‫ل بين أصحا ِ‬ ‫ك فكرى‪ ،‬اشتد فيها الجد ُ‬ ‫كان نزول الكوثري مصَر فى فترةِ حرا ٍ‬
‫التيارات الفكرية على اختلفها بين إسلميين‪ ،‬وعلمانيين‪ ،‬ول دينيين ‪ ،‬وترد ّد َ‬
‫ت الفكرِ المتباينةِ إزاءَ‬ ‫المثقفون والمفكرون فى العالم السلمى ومصر بين تيارا ِ‬
‫ك‬
‫ب والنبهارِ بالمدنيةِ الوروبية ‪ ،‬وبين التمس ِ‬ ‫ما انتابهم من تنازٍع بين العجا ِ‬
‫ة فى ملمحها الفكرية تشبه إلى حد ٍ كبيرٍ الفترة‬ ‫بالهويةِ والثقافة‪ .‬وهذه المرحل ُ‬
‫ن التاسع عشر‪ ،‬وما شهدته من صراٍع بين‬ ‫ة العثمانية فى القر ِ‬‫التى عاشتها الدول ُ‬
‫الصالةِ والتغريب ‪.‬‬
‫ف‬
‫ضعْ ُ‬
‫ة‪َ ،‬‬‫ت الغربية فى مصَر فى تلك الفتر ِ‬ ‫ومما ساعد على انتشارِ المؤثرا ِ‬
‫ت الحتلل البر‬ ‫ب الدين ‪ ،‬واهتزازِ منزلةِ علماُء السلم ِ لدى سلطا ِ‬ ‫ك بأهدا ِ‬
‫التمس ِ‬
‫ة الفكرِ المستند ُ‬ ‫ة الحكومةِ فى إدارةِ الوقاف‪ ،‬وتزايدِ أهمي ُ‬ ‫ل قبض ُ‬‫يطانى‪ ،‬وتغلغ ِ‬
‫ل والطبيعة)‪.(2‬‬ ‫إلى العق ِ‬
‫ة‬
‫ب إلغاِء الخلف ِ‬ ‫ى المسلمين بسب ِ‬ ‫ش َ‬
‫يضاف إلى هذا‪ ،‬ذلك القلق الذى غ ِ‬
‫ة فى تاريِخ العالم ِ السلمى‬ ‫ة فاصل ً‬
‫ت التى كانت نقط ً‬ ‫السلمية‪ ،‬وهى السنوا ُ‬
‫كله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري ‪ ،‬مقدمة كتاب الغرة المنيفة‪،‬ط ‪ ،1‬القاهرة ‪.1950‬‬
‫)‪ (2‬احمد عبد الرحيم مصطفى ‪ ،‬تطور الفكر السياسى فى مصر الحديثة‪ ،‬ص‬
‫‪.48‬‬

‫) ‪(1/4‬‬

‫ل من القرنش العشرين‪،‬‬ ‫ث الو ِ‬ ‫خ الفكرى العام فى مصَر فى الثل ِ‬ ‫هذا المنا ُ‬


‫والذى يشبه ذلك المناخ السائد فى تركيا قبل هجرة الكوثري إلى مصر‪ ،‬جعله‬
‫شديد َ الهتمام ِ بقضايا العالم ِ السلمى على اختلفها سواء على المستوى‬
‫ة‪،‬‬
‫م‪ ،‬ومعرف ٍ‬‫الفكرى أو الجتماعى ‪ ،‬منافحا عن السلم بكل ما يملك من عل ٍ‬
‫ل منها الغربيون لغزِو‬ ‫ل الملتويةِ التى يتسل ُ‬ ‫ك للمداخ ِ‬‫وفقهٍ فى الدين ‪ ،‬وهو مدر ٌ‬
‫العالم السلمى فكريا‪ .‬هذا علوة على أصوِله الجركسية ‪ ،‬وما يتسم به‬
‫س من عزيمةٍ صلبة ‪ ،‬والعلماُء منهم يحملون هذه العزيمة فى مضماِر‬ ‫الجرك ُ‬
‫ره‪،‬‬‫ت لشخصية الكوثري‪ ،‬وفك ِ‬ ‫ب فى وضِع المحددا ِ‬ ‫العلم ‪ ،‬كل هذا كان السب َ‬
‫فه‪ ،‬وصلبِته فى التصدى لصحاب الفكر المادى ‪ ،‬وما اتسمت به حياةُ‬ ‫ومواق ِ‬
‫ل فكرى ‪.‬‬ ‫ت علمية‪ ،‬وجد ٍ‬ ‫الكوثري فى مصَر من نقاشا ٍ‬
‫خ الفكرى الذى عاصره الكوثري فى مصَر ‪ ،‬أن‬ ‫ويمكن لنا فى إطار هذا المنا ُ‬
‫نتبين الخطوط العامة للقضايا التى كانت موضعَ اهتمام ِ الشيخ الكوثري ‪.‬‬
‫الكوثري وقضايا العصر‪:‬‬

‫) ‪(1/5‬‬

‫ف التى عاشتها أسرة ُ الكوثري فى القوقاز‪ ،‬ثم ما شهده الكوثري‬ ‫أّثرت الظرو ُ‬
‫نفسه سواًء فى تركيا ومصر من تحولت فكرية ‪ ،‬فى شخصيةِ الكوثري‪ ،‬فجعلته‬
‫ف بالدين عن‬‫ة فى التصدى لكل ما رأى أن من شأنه أن ينحر َ‬ ‫أكثَر شدةً وصلب ً‬
‫ف بزعم ِ التحديث‪ ،‬أو تحت مسمى الصلح ‪ ،‬فقد‬ ‫جادته‪ ،‬سواء كان هذا النحرا ُ‬
‫عاش هذه التحولت قبل هجرته إلى مصر‪ ،‬وأدرك ما أسفرت عنه ‪ ،‬فرأى أن‬
‫منيت‬‫ل الدعوةِ إلى اللمذهبية ‪ ،‬هى الممهد للدينية " السائدة فى بلد أخرى ُ‬‫مث َ‬
‫باللحاِد‪ ،‬وكتبت عليها التعاسة ")‪ ، (1‬وخوفه من تكرارها فى مصَر الزهر‪ ،‬التى‬
‫م‪ ،‬وأن " المؤمن ل يلدغ من جحر مرتين" حسب قوله ‪،‬‬ ‫ل السل ِ‬‫رأى أنها معق ُ‬
‫وأمله أن ينجو الدين فى مصَر من المصير الذى آل إليه فى غيرها ‪ ،‬خاصة وأن‬
‫خ العام فى مصَر آنذاك‪ ،‬كان يشهد الصراع بين السلميين وغير السلميين‬ ‫المنا َ‬
‫وبلغ أشده بعد إلغاء الخلفة السلمية‪.‬‬
‫وفى تلك الفترة التى اندفع فيها نفر من المثقفين فى مصَر والعالم ِ السلمى‬
‫ة‪ ،‬والنظم الغربية بوصفه السبيل الوحيد للصلح ‪،‬‬ ‫إلى ضرورةِ الخذِ من الثقاف ِ‬
‫بدأ السلميون يجعلون لفكارهم أهدافا محددة‪ ،‬ويوجهونها للمسلمين توجيها‬
‫ط محددة وواضحة هى‪:‬‬ ‫مباشرا‪ ،‬ويبلورونها فى نقا ٍ‬
‫رفض الدعوة اللحادية ‪.‬‬
‫إن التوحيد هو كمال الحرية‪ ،‬لنه عبودية لله وحده‪.‬‬
‫إن السلم هو دين العلم والمدنية‪ ،‬يدعو المسلمين للخذ بأسبابهما ليصل‬
‫ت وأرقاها‪ ،‬كما يدعو للجتهاد‪.‬‬
‫ن إلى أعلى الدرجا ِ‬ ‫ن المعاصري َ‬
‫بالمسلمي َ‬
‫إن العلم يجب أن يرتكز على ركائزِ اليمان‪ ،‬بل هو نابعٌ من اليمان‪ ،‬وإل صار‬
‫مرا‪(2).‬‬‫مد ّ‬
‫علما ُ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري ‪ ،‬اللمذهبية قنطرة الدينية‪ ،‬المقالت ص ‪..111‬‬
‫)‪ (2‬السيد محمد فرج‪ ،‬جذور العلمانية‪ ،‬الجذور التاريخية للصراع بين العلمانية‬
‫والسلمية فى مصر منذ البداية وحتى عام ‪،1948‬ط ‪ ،2‬ص ‪.43‬‬

‫) ‪(1/6‬‬

‫فى هذا الطار‪ ،‬يمكن فهم فكر الكوثري فى معالجة قضايا عصره‪ ،‬ومنها قضية‬
‫ض التجديد‪ ،‬بل يقبله طالما أن هذا التجديد َ‬ ‫التجديد‪ .‬لقد كان الكوثري ل يرف ُ‬
‫ليمس أصل الشرع‪ .‬ومنهجه أن "سنة الله قد جرت على اصطدام العتيق‬
‫م‪ ،‬ول يؤاخى ك ّ‬
‫ل‬ ‫بالجديد‪ ،‬إل أن من جمع الله له الدين مع العقل ل يعادى القدي َ‬
‫جديد‪ ،‬بل يأخذ َ بالصلِح من الثنين‪ ،‬وهو الذى ل يصادم الشرع" )‪ .(1‬أى أنه‬
‫ينتمى إلى التيارِ التوفيقى‪ ،‬الذى يجمع بين العقل والنقل‪ ،‬فيقبل من التجديد ما‬
‫ل الشرع‪ .‬وهذا ل يعنى أنه كان مبتدعا فى الدين ‪ ،‬بل ملتزما‬ ‫ب مع أصو ِ‬ ‫يتناس ُ‬
‫سّنة ‪،‬‬‫ب والسنة ‪ ،‬فالتجديد ُ عنده " أن يعاد إلى الدين رونقه‪ ،‬وأن تحيا ال ّ‬ ‫بالكتا ِ‬
‫وتموت الِبدعة‪ ،‬ويقوم بين الناس عمود ُ الدين)‪"(2‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري‪ ،‬انتهاك حرمة الحقيقة والتاريخ مسايرة للهوى ‪ ،‬المقالت‪ ،‬ص‬
‫‪.122‬‬
‫)‪ (2‬انظر‪ ،‬الشيخ محمد أبو زهرة‪ ،‬المام الكوثري ‪ ،‬كتاب مقدمات الكوثري ‪،‬‬
‫ص ‪.12‬‬

‫) ‪(1/7‬‬

‫ف‬
‫ت الصلح عند الكوثري‪ ،‬هى العترا ً‬ ‫أما بالنسبة لقضية الصلح ‪ ،‬فأو ُ‬
‫ل خطوا ِ‬
‫بالداِء " فمن ل يقّر بالداِء‪ ،‬ل يسعى فى الدواء‪ .‬فيجب أن نعترف بمرضنا‪،‬‬
‫ض المسلمين وراء النفِع المادى‪،‬‬
‫ونسعى فى الدواء"‪ .‬والداُء عنده مصدره" رك ُ‬
‫نابذين المعالى والروحيات‪ ،‬وكان هذا الندفاع ُ نحو الماديةِ سببا لما اعترى‬
‫خُلقى حتى لم يبق من السلم ِ غير اسمه‪ ،‬ومن شرع‬ ‫المسلمين من التدهور ال ُ‬
‫الله غير رسمه"‪ ،‬وهذا أدى بدوره إلى أن "انقلب الخاء بين المسلمين إلى‬
‫ص يعبر عن غيرته الدينية فى المقام ِ‬ ‫ل")‪ .(1‬وهو تشخي ً‬ ‫عداٍء‪ ،‬وعزهم إلى ذ ٍ‬
‫الول‪ ،‬وتدور فى إطارِ الفكر العثمانى فى طور الصالة‪ ،‬وما اتفق عليه أصحاب‬
‫س حركة الدولة‬ ‫ن هو أسا ُ‬ ‫رسائل الصلح فى الدولة العثمانية‪ ،‬من أن الدي َ‬
‫ونظمها والصلح ل يكون إل بالعودة إلى نظمها التى قامت عليها)‪ ، (2‬ول يلتفت‬
‫الكوثري هنا إلى ما اعترى المسلمين من تأخرٍ فى ميادين العلوم‪ ،‬والنتاج‬
‫ل الداِء عنده هو التخلى عن شرع الله‪ ،‬وما عداه تابعٌ له ‪.‬‬ ‫الحضارى‪ ،‬فأص ُ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري ‪ ،‬مقدمته لكتاب الثمرة البهية فى الصحابة البدرية‪ ،‬مكتب نشر‬
‫الثقافة السلمية ‪ ،‬القاهرة ‪.1940‬‬
‫)‪ (2‬فى هذا انظر‪ ،‬كوريجه لى قوجى بك رساله سى ‪ ،‬ولطفى باشا‪ ،‬آصافنامه‪..‬‬

‫) ‪(1/8‬‬

‫فهم‪ ،‬وذلك " باقتفاء أثر‬ ‫ب من ضع ِ‬ ‫ثم يطرح الكوثري الدواء فى هذا الجان ِ‬
‫السلف ‪ ،‬والتمسك بشرع الله‪ ،‬والتفانى فى الصالح العام دون المصالح‬
‫الشخصية‪ ،‬والتمسك بالخاء الروحى فى سبيل إنفاذ حكم السلم"‪ .‬أما المُر‬
‫الهم عنده فهو "إعادة تقوية الجانب المعنوى لدى المسلمين بروح السلم"‪.‬‬
‫ل على أن الكوثري أدرك تلك الهزيمة المعنوية التى اعترت المسلمين‬ ‫وهذا دلي ٌ‬
‫بعد اتصالهم بالمدنية الوروبية‪ ،‬وإحساسهم بالهوة بينهما فى العلوم التطبيقية‪،‬‬
‫وضعفهم أمامها‪ .‬وبالتالى ركز الكوثري على استنهاض الجانب المعنوى لدى‬
‫المسلمين بما يغذى الروح‪ ،‬ويقوى العزائم‪ ،‬ويستنهض الهمم‪ .‬وهذا الستنهاض‬
‫عنده يكون بالهتمام ِ بالطلع على سيرِ المجاهدين الوائل المدونة فى كتب‬
‫ة المعنوية لدى‬ ‫المغازى والسير‪ ،‬وكتب التفسير والحديث‪ ،‬أى أن النهض َ‬
‫مهم‪ ،‬وترقى‬ ‫خهم‪ ،‬فتقوى عزائ ُ‬ ‫المسلمين تنطلق من اللمام ِ بتراثِهم وتاري ِ‬
‫معنوياُتهم‪ ،‬ويشعرون بالعزةِ والفخار‪.‬‬
‫ويلقى الكوثري على عاتق العلماء بالدور الهم فى نهضةِ المةِ السلمية‪،‬‬
‫ص مصادَر الخطرِ الذى يحيق بالمسلمين من اللحاد‪،‬‬ ‫خ ُ‬
‫والذود عن السلم‪ .‬ويش ّ‬
‫ونزغات الجاهلية والوثنية التى تسللت إلى البيئات السلمية‪ .‬وما تبعها من‬
‫ة‬
‫ِ‬ ‫المذل‬ ‫ة‪ ،‬وسيادة‬‫ة‪ ،‬وتقلص ظلل الفضيل ِ‬ ‫شيوع التبرِج‪ ،‬والتفرنِج‪ ،‬وشمول الرذيل ِ‬
‫والخنوِع‪ ،‬والرجوع إلى الهمجية)‪.(1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري‪ ،‬كلمة عن مقالت بالغة النفع‪ ،‬المقالت ‪ ،‬ص ‪.411‬‬

‫) ‪(1/9‬‬

‫ويلقى الكوثري بتبعة انتشار هذه الفكار اللحادية على العلماء بوصفهم حراس‬
‫الدين وحماته ‪ ،‬فيرى "أن كبار العلماِء وصغاِرهم لم يقوموا بدورهم فى الذود‬
‫ت‪ ،‬وطامعين فى الترقى‬‫ف‪ ،‬قانعين بالقو ِ‬
‫عن الدين‪ ,‬واستسلموا لهذا التيارِ الجار ِ‬
‫ب غير مفكرين فى رضا الله ‪ ،‬وبذلك فّرطوا فى‬ ‫ة الشبا ِ‬‫‪ ،‬وقد فقدوا حماس َ‬
‫ة‬
‫ن‪ ،‬وللنظم ِ‬ ‫العقيدةِ والشريعةِ معا‪ ،‬وتركوا موضعهما لنزعات المروق عن الدي ِ‬
‫ل المة السلمية"‪ .‬وهذا التشخيص ينطلق مما‬ ‫الوضعيةِ التى تؤدى إلى انحل ِ‬
‫شهدته مصر فى ذلك الوقت‪ ،‬من دعوات إلى السفوِر‪ ،‬والستهانة بأئمةِ الجتهاد‪،‬‬
‫وتفشى الفلسفات المادية والعقلنية فى التعامل مع القضايا اليمانية والشرعية‪.‬‬
‫ب الرؤية الستراتيجية‬ ‫ض الباحثين حو َ‬
‫ل غيا ِ‬ ‫ونحن نختلف هنا مع ما ذهب إليه بع ُ‬
‫جل للسف‬ ‫فى فكرِ الشيخ الكوثري فيما يتعلق بالصلح ‪ ،‬حيث يقول ‪ ":‬نس ّ‬
‫ب الرؤيةِ الدقيقة للمشاكل‪ ،‬فالستاذ رحمه الله مجروٌر إلى ميادين‬ ‫الشديد غيا َ‬
‫ة‬
‫ق دقيق بين مهم ٍ وأهم‪ ،‬بين مسأل ٍ‬ ‫المطارحة ‪ ....‬فيرد على كل ناعق‪ ،‬دون تفري ٍ‬
‫ب‬‫ب غيا ِ‬‫تأثيرها في الحاضر والمستقبل‪ ،‬وأخري تأثيرها وقتي‪ ،‬وما ذلك إل بسب ِ‬
‫ط‬
‫ف محدٍد‪ ،‬ووفق شرو ٍ‬ ‫ة‪ ،‬تتوخى هدفا محددا في ظر ٍ‬ ‫رؤيةٍ حضاريةٍ فاحص ٍ‬
‫ل الفدائي‪ ،‬أكثر من‬ ‫محددةٍ ترسمها رؤية استراتيجية‪ .‬لهذا غلب على جهوده العم ُ‬
‫ط من التفكير من خلل ما لمسناه من‬ ‫العمل المؤسسي‪ ،‬بل يكاد يغيب هذا النم ُ‬
‫جهود الرجل‪ ،‬لهذا كانت جهوُده تنبيهية‪ ،‬أكثر مما هي تأسيسية‪ ،‬طبعا في إطارها‬
‫ك الذي يختاره جل الفدائيين في‬ ‫الكلي‪ ،‬ل في إطارها الجزئي‪ ،‬وهو المسل ُ‬
‫الميدان الفكرى")‪.(1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انظر ‪ ،‬عمار جيدل‪ ،‬شيخ علماء السلم محمد زاهد الكوثري عصره وآراؤه‬
‫دراسة تحليلية لمؤلفاته وآرائه الصلحية كلية العلوم السلمية جامعة الجزائر‬

‫) ‪(1/10‬‬

‫ومرد هذا الختلف أنه ينبغى النظر إلى فكر الكوثري فى إطار قضايا عصره ‪،‬‬
‫رص على وضِع الفكار التى لها تأثير‬ ‫ح ِ‬
‫ط العامة لفكره‪َ ،‬‬
‫فهو فى الخطو ِ‬
‫مستقبلى على حال المة‪ ،‬ل الفكار ذات التأثير المرحلى‪ ،‬مثل ضرورة التمسك‬
‫بالشرع ‪،‬وأهمية النقاش العلمى وتنمية العقل فى إطار الدين ‪ ،‬وأهمية‬
‫ل‬
‫ل عم ٍ‬ ‫الستفادة بالجديد الذى ل يتعارض مع الشرع ‪ ،‬ووضع هذا الفكر فى شك ِ‬
‫م‪ .‬وفى بعضها اقترح تكوين مؤسسات تقوم بتنفيذ هذه الفكار‪ ،‬فنراه وهو‬ ‫منظ ٍ‬
‫ب‬‫ل الثقافةِ السلمية فى عصره يركز على الهتمام ِ بكت ِ‬ ‫بصدد تشخيص حا ِ‬
‫التراث)‪ ،(1‬ويعقد المل فى هذا على أمرين ‪:‬‬
‫ث الجداد‪ ،‬وهى الشعلة‬ ‫الشباب‪ ،‬إذ يراه الجدر بحمل هذه الشعلة فى إحياء ترا ِ‬
‫التى سيهتدى بها الحائدون عن الطريق القوم)‪ ،(2‬ويعبر عن آماله المعقودة‬
‫على الشباب فى الصلح‪ ،‬فيرى أنهم هم القدر على القيام بهذه المهمة لما‬
‫يتمتع به من قوة العزم والحزم على قدر إيمانهم وسعيهم فى رضا الله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬يرى الكوثري أن الهتمام بتراث المسلمين‪ ،‬تشرا ودراسة‪ ،‬هو المدخل‬
‫الذى اتخذته القوى الوروبية لحياء عهد الصليبيين بطريقة أخرى غير الحملت ‪،‬‬
‫وذلك بنشر مؤلفات علماء المسلمين المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه من كتب‬
‫القراءة‪ ،‬وشواذ القراءات ‪ ،‬ومؤلفات الحديث والفقه واللغة‪ ،‬ويرى أن المسلمين‬
‫هم الجدر بنشر كتب التراث الكوثري‪ ،‬مقدمة كتاب العلم والمتعلم‪ ،‬نشر‬
‫محمود سكر ‪ ،‬القاهرة ‪1939‬‬
‫)‪ (2‬الكوثري‪ ،‬مقدمة كتاب العلم والمتعلم‪ ،‬نشر محمود سكر ‪ ،‬القاهرة ‪.1939‬‬

‫) ‪(1/11‬‬

‫ت العواصم ِ الشرقية تتفرغ ُ للبحث عن الكت ِ‬


‫ب‬ ‫ن علمية فى كبريا ِ‬ ‫تكوين لجا ٍ‬
‫النافعة فى مختلف العلوم ‪ ،‬وشتى المواضيع‪ ،‬وتقوم بنشرها تحت إشرافها‪ .‬ول‬
‫ف العلوم‪،‬‬‫يقف مطلبه هذا عند العلوم الفقهية وحدها‪ ،‬إنما يتعداها إلى مختل ِ‬
‫وشتى المواضيع‪ ،‬ويصفها أنها وسائل تغذية الروح)‪.(1‬‬
‫كذلك المر عند مناقشة مشكلت المسلمين الجتماعية‪ ،‬فيبدأ بتشخيص الداء‬
‫ح المجتمِع السلمى‪ ،‬إنما يكون بصلِح السرة ‪،‬‬ ‫ثم يصف الدواء ‪ ،‬فيرى أن صل َ‬
‫ة‪ ،‬يؤدى إلى انهيارِ الدول‪ .‬وهذا‬ ‫وصلِح السرة يكون بصلِح الفرد‪ .‬وانهياُر السر ِ‬
‫ج فيكون من خلل‪:‬‬ ‫ل السلمية‪ .‬أما العل ُ‬ ‫س هزيمة الدو ِ‬ ‫س من أس ِ‬ ‫أسا ٌ‬
‫إنشاء تكوين " يسهر سهرا دقيقا على سير العلم والعمل فى المة‪ ،‬ويتخذ‬
‫التدابير التى تحول دون استفحال الشر فى المحتمع بكل تبصرٍ فى كل ناحية ‪،‬‬
‫وتسهر على شؤون المسلمين الجتماعية‪ ،‬وتقرر ما هو فى صالحهم فى درء‬
‫الخطار" ‪.‬‬
‫قد ِ مؤتمرات تقرر ما يجب عمله لصلح المجتمعات السلمية‪.‬‬ ‫ع ْ‬
‫ف الشعوب السلمية‪ ،‬لتتمكن الجماعة من تقويم أود المعوج‬ ‫ِ‬ ‫تعار‬ ‫فى‬ ‫السعى‬
‫منهم بالتشاور والتآزر‪ .‬وبغير أن يتخلى أحد ٌ منهم عن مسؤوليته فى هذا المر‪.‬‬
‫وهو ما يعرف فى الشرع باسم المر بالمعروف والنهى عن المنكر)‪.(2‬‬
‫وهذه الراء تنطلق من منهٍج واضح‪ ،‬وفى إطارٍ ممكن التحقيق‪،‬‬
‫ل المث َ‬
‫ل‪،‬‬ ‫ومع اهتمامه بأهمية الجانب الروحى لنهضة المسلمين ‪ ،‬يرى أن الح ّ‬
‫هو الجمعُ بين العقل والدين‪ ،‬فهما المعين على أخذِ النافع من القديم والجديد‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري‪ ،‬مقدمة كتاب اللمعة فى تحقيق مباحث الوجود والحدوث والقدر‬
‫وافعال العباد‪ ،‬مكتب نشر الثقافة السلمية‪ ،‬القاهرة ‪.1939‬‬
‫)‪ (2‬الكوثري ‪ ،‬صلح المجتمع السلمى بصلح السرة ‪ ،‬المقالت‪ ،‬ص ‪.406‬‬

‫) ‪(1/12‬‬

‫ل الحيوية التى‬
‫ويعيب الكوثري حال الفقهاء‪ ،‬وتأخرهم عن النظر فى المسائ ِ‬
‫ك حجم التغيير الذى يحدث فى العالم السلمى‪،‬‬ ‫تتعلق بجوهرِ الدين‪ ،‬وإدرا ِ‬
‫والخطارِ التى تحدق بعقيدة المسلمين ‪ ،‬لينشغل الدعاةُ بإثارةِ النقاشات حو َ‬
‫ل‬
‫التافه من المسائل العارضة فى حياة المسلمين‪ ،‬والتى تعتبر من المسائل‬
‫الفرعية الجتهادية ‪ ،‬متغاضين عن العظيم ِ منها‪ ،‬وما هو أجدُر بالهتمام ِ‬
‫والدراسة‪ ،‬ويعتبر هذا من الموبقات التى آذت الشرع السلمى فى جوهره‬
‫وصميمه‪ .‬ويعلل هذا بجهل الدعاة وضعفهم)‪.(1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري‪ ،‬مقدمة كتاب إعلم الريب بحدوث بدعة المحاريب‪ ،‬مكتبة الشرق‬
‫ن القاهرة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫) ‪(1/13‬‬

‫ولهذا اهتم الشيخ الكوثري بالزهر الشريف‪ ،‬وضرورة إصلح أحواله بما يصلح‬
‫حال العلماِء‪ .‬فكتب عن إصلح الزهر‪ ،‬الذى يصفه الكوثري بأنه " جامعٌ عالمى‬
‫ب العلوم الشرعية من مشارق الرض‬ ‫مه طل ُ‬‫معلوم الحدود والمكان ‪ ،‬يؤ ّ‬
‫ل المسلمين فى‬ ‫ومغاربها على اختلف ألسنتهم وألوانهم"‪ ،‬وهو " معقد ُ آما ِ‬
‫مشارق الرض ومغاربها" ويبلغ تقديره لهمية الزهر بالنسبة لمصر ‪ ،‬فيراها به‬
‫ق السلمى كله"‪ .‬ولهذا يبدو الكوثري حريصا على مكانة الزهر‪،‬‬ ‫ة الشر ِ‬‫"زعيم َ‬
‫ث جامعةٍ أزهرية تدرس العلوم‬ ‫ودوره بالنسبة للعالم السلمى‪ .‬ويؤيد فكرةَ إحدا ِ‬
‫ل للعلوم ِ السلمية العالية ‪.‬‬ ‫الكونية ‪ ،‬مع جامعات العصر جنبا لجنب")‪ (1‬بل إهما ٍ‬
‫جه التوفيقى فى‬ ‫ِ‬ ‫ومنه‬ ‫‪،‬‬ ‫المستقبلية‬ ‫ه‪ ،‬ورؤيته‬
‫وهذا الرأى منه يدلنا على سعةِ فكر ِ‬
‫حل مشكلت المسلمين فى عصره‪ ،‬فى الجمع بين القديم والجديد الذى‬
‫ليخالف الشرع ‪ ،‬وقناعته بأهمية العلوم الكونية فى نهضة المسلمين ‪ .‬ويقدم لنا‬
‫ره للحفاظ على الزهر من محاولت تسعى للقضاء على دوره‪ ،‬وتضّيع‬ ‫ة فك ِ‬‫خلص َ‬
‫ض هذه الفكار فى التقرير الذى قدمه إلى الشيخ‬ ‫رسالَته‪ ،‬ومكانَته‪ ،‬وقد عر َ‬
‫مصطفى عبد الرازق شيخ الزهر‪ ،‬تلبية لرغبته‪ ،‬وبناء على طلبه‪ .‬وكان الشيخ‬
‫مصطفى عبد الرازق أستاذا للفلسفة بكلية الداب بالجامعة المصرية حينا من‬
‫رف فضَله العلمى فيما‬ ‫الدهر‪ ،‬ولهذا أدرك قيمة الكوثري واختصه باهتمامه‪ ،‬إذ ع ِ‬
‫حققه من كتب التراث السلمى خاصا بالفلسفة)‪ .(2‬وهذا يدلنا على أن الزهر‬
‫بعلماِئه وفقهاِئه ‪ ،‬قد نظر للكوثرى نظرةَ تقديرٍ لعلمه وفكره فى آن واحد‪ .‬كما‬
‫أنه يدلنا على أن الكوثري‪ ،‬صاحب رؤيةٍ مستقبلة ‪ ،‬ومنهٍج فى الصلح‪ ،‬يشبه إلى‬
‫حد كبير منهج جمع كبير من علماء المسلمين الذين تناولوا قضايا العالم الصلح‬
‫فى العالم ِ السلمى برؤيةٍ توفيقية ‪ ،‬مثل المؤرخ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انظر‪ ،‬الكوثري‪ ،‬إحياء علوم السنة بالزهر‪ ،‬المقالت ‪ ،‬ص ‪.417‬‬
‫)‪ (2‬محمد رجب البيومى ‪ ،‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ‪.27‬‬

‫) ‪(1/14‬‬

‫العثمانى أحمد وجودت باشا ‪ ،‬وسعيد حليم باشا ‪ ،‬ورشيد رضا‪.‬‬


‫وأهم ما تضمنه هذا التقرير لصلح الزهر هو وضع برنامج محدد لما يجب أن‬
‫يقوم به الزهر لحماية الفكر والتراث السلمى من هجمات المستشرقين‪ ،‬وهذا‬
‫البرنامج يعتمد على‪:‬‬
‫تكوين لجنة فى الزهر تسهر على حملت المستشرقين والمنصرين ‪ ،‬وتجتمع‬
‫فى قاعة خاصة بالزهر" لعداد بحوث شاملة‪ ،‬للرد على آرائهم المعادية‬
‫للسلم‪.‬‬
‫منع أبناء الزهر من نشر ما يترجمونه من كتب المستشرقين والمنصرين قبل‬
‫استكمال الرد على الراء الباطلة الواردة فيها‪.‬‬
‫أن تؤلف هذه الردود بلغات المردود عليهم‪ ،‬وتنشر فى بلدهم أول ‪ ،‬ثم تنشر‬
‫فى بلد السلم بلغات المسلمين )‪.(1‬‬
‫ومن القضايا التى أثارها العلمانيون ‪ ،‬قضية ملئمة الفقه السلمى لمستجدات‬
‫الحياة ‪ ،‬ودعوا إلى الخذ بالقوانين الوضعية ‪ ،‬ويرى الكوثري أن الفقه السلمى‬
‫تراث فاخر لهذه المة تستغنى به عن الحكام الوضعية فى إصلح شؤونها‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن التخلى عنه هو التوطئة " لوضع رقاب المسلمين تحت نير‬
‫المستعبدين واندماجهم معهم")‪ .(2‬فالدين والدولة عنده شيئ واحد‪ ،‬وهى فكرةٌ‬
‫ة لدى العثمانيين الذين يرون صلح الدنيا فى صلح الدين‪.‬‬‫أصيل ٌ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري ‪ ،‬إحياء علوم السنة بالزهر‪ ،‬المقالت ‪ ،‬ص ‪.425‬‬
‫)‪ (2‬الكوثري مقدمة الغرة المنيفة‪ ،‬القاهرة ‪.1950 ،‬‬

‫) ‪(1/15‬‬

‫ة‪ ،‬وإصلح شؤونها فى كل زمان ومكان‪ ،‬بخلف‬ ‫فشرع الله صالح لتقويم أود الم ِ‬
‫م الشرِع ل تنتهى عجائب أسرارها فى الصلح وليست‬ ‫القوانين الوضعية‪ .‬وأحكا ُ‬
‫هى كأحكام العقول الخاطئة‪ .‬وها هى الدول السلمية لم تسعد دولة منها إل‬
‫بمقدار تمسكها بأهداب الشرع ‪ ،‬ول شقيت إل بنسبة ابتعادها عن أحكام الشرع‪.‬‬
‫ل مهما كان شأنه‪ ،‬ل يرقى إلى‬ ‫قر الكوثري بإمكانيةِ خطأ العقل ‪ ،‬وأن العق َ‬ ‫وهنا ي ُ ِ‬
‫ما قرره الله لصالح عباده بالشرع‪ .‬ثم يقارن بين القوانين الوضعية والشريعة‪،‬‬
‫فيقول" إن شرع الله صالح لتقويم أود المة‪ ،‬وإصلح شؤونها فى كل زمان‬
‫ومكان‪ ،‬بخلف القوانين الوضعية‪ ،‬فإنها لو صلحت لزمان أو لمكان‪ ،‬فلن تصلح‬
‫ل البشرى "عاجز عن الحاطة بجميِع‬ ‫لزمنة أخرى ولصقاع أخرى"‪ ،‬كما أن العق َ‬
‫مه اليوم‬
‫مصالح المة على اختلف الزمنة والمكنة‪ ،‬حتى يقنن قانونا‪ ،‬فما ُيبر ُ‬
‫ضه غدا ‪...‬فمن حاول أن يقرب الشرع السلمى ويحوره على غرارها‪ ،‬فهو‬ ‫ينق ُ‬
‫مريض القلب أثيم العقل‪ ....‬ومن فضل عقله على علم الله وشرعه ‪ ،‬فليس من‬
‫السلم فى شئ")‪.(1‬‬
‫وقضية الخذ بالقوانين الوضعية‪ ،‬قضية قديمة جديدة مثارة منذ منتصف القرن‬
‫التاسع عشر ‪ ،‬وتصدى لها الفقيه المؤرخ العثمانى أحمد جودت باشا فى القرن‬
‫ن مدنى لحكام الشريعة السلمية وفق المذهب‬ ‫ضع أو َ‬
‫ل قانو ٍ‬ ‫التاسع عشر ‪ ،‬فوَ َ‬
‫الحنفى فى مجلة الحكام العدلية)‪ ، (2‬كما قام الشيخ محمد حسنين مخلوف‬
‫ب‬
‫ب فى المقارنةِ بين القانون المدنى الفرنسى‪ ،‬وأحكام مذه ِ‬ ‫المالكى بتأليف كتا ٍ‬
‫المام مالك رضى الله عنه‪ ،‬فنص فيه على أحكام أخذها الوروبيون عنه‪ .‬ويتفق‬
‫الشيخ الكوثري مع هذا الرأى فى صلحية الشرع السلمى لتلبية حاجات‬
‫المجتمع السلمى المعاصر‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري ‪ ،‬شرع الله فى نظر المسلمين‪ ،‬المقلت ص ‪.80-79‬‬
‫)‪ (2‬انظر‪ ،‬أحمد جودت باشا ‪ ،‬معروضات‪ ،‬طبع استانبول ‪.1980‬‬

‫) ‪(1/16‬‬

‫ولنا أن نشير إلى جهود الكوثري فى دراسة تاريخ مصر ‪ ،‬كما تظهر مقدماته‬
‫جانبا أخر من شخصيته العلمية كمؤرخ ‪ ،‬ويمكن أن نقول أن ما كتبه الشيخ‬
‫الكوثري فى تقديمه لكتاب البدر العينى ‪ ،‬يكشف لنا عن جانب المؤرخ من‬
‫شخصيته فى عمق البحث والتحليل‪ ،‬فهو يقدم المنهج الواجب على المؤرخ‬
‫اتباعه‪ ،‬وهو أن " المؤرخ ملزم بحكاية الواقع كما هو ‪ ،‬من غير أن يسعى فى‬
‫إبراز السيئة بمظهر الحسنة‪ ،‬أو بخس حق الجميل بحمله على غرض غير‬
‫مقبول‪ ،‬ومن يفعل خلف هذا يكون مجرما أثيما أمام المة حيث حاول تعمية‬
‫الوصول إلى الحقائق" وهذا بل شك منهج المؤرخ الحق حيث يلتمس الصدق‬
‫والموضوعية فيما يكتبه ‪ ،‬ثم ينبه المشتغلين بكتابة التاريخ إلى أهمية اللمام‬
‫بالحداث من شتى جهاتها ‪ ،‬إذ" ل تتضح الحقيقة فيها قبل دراسة جميع ما عند‬
‫تلك الجهات من الراء فى تلك الحداث‪ ....‬قبل البت بعاطفة مجردة فيها "‪،‬‬
‫وفى إطار هذا المنهج ‪ ،‬أكد فى جانب آخر من معالجاته التاريخية فيه بما ساقه‬
‫من أدلة وبراهين ومعرفة بطبيعة الجراكسة وعاداتهم‪ ،‬أن سلطين مصر‬
‫المماليك البحرية من الجراكسة وليسوا من التراكمة ‪ ،‬كما قال أن المماليك‬
‫م‪ ،‬نسبة إلى قبيلة برج من قبيلة وبخ الجركسية‪،‬‬ ‫البرجية‪ ،‬إنما سموا بهذا الس ِ‬
‫وإليها كانت نسبتهم ل إلى أبراج القلعة حسبما هو شائع بين المشتغلين بالتاريخ‬
‫)‪ .(1‬كما أن ما كتبه عن تاريخ القفقاس‪ ،‬وأصل الجراكسة ‪ ،‬والدولة العثمانية‪،‬‬
‫يبرهن على ملكة البحث التاريخى عنده وعمق الطلع والمعرفة بمصادر‬
‫التاريخ‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انظر‪ ،‬الكوثري ‪ ،‬مقدمة الروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر ططر‪،‬‬
‫القاهرة ‪1370‬هـ‪ ،.‬وأيضا مقدمة العلم الشرقية ‪ ،‬تأليف محمد زكى مجاهد‪،‬‬
‫القاهرة ‪.1367‬‬

‫) ‪(1/17‬‬

‫حت إقامة الكوثري فى مصر‪ ،‬ذيوعَ صيَته فى العالمين العربى‬ ‫وكما من َ َ‬


‫والسلمى‪ ،‬فقد استفادت مصر أيضا من وجوده وسط مناخ فكرى فيه قدر كبير‬
‫من الحيوية‪ ،‬والنشاط الفكرى وصياغات رؤى للصلح ‪ ،‬فانجلى فكُره‪ ،‬وساهم‬
‫فى التفكيرِ وصياغةِ رؤيةٍ إسلمية للصلح فى العالم السلمى ‪ ،‬كما َألقى‬
‫ث‪ ،‬والتاريخ السلمى ‪.‬‬ ‫بأضواٍء جديدةٍ على الترا ٍ‬
‫س تقديره لدور مصر الحضارى والعلمى بقوله ‪:‬‬ ‫ولنا أن نلم َ‬
‫ن‪،‬‬‫ه‪ ،‬وأدب فى القرون الثلثة السابِع‪ ،‬والثام ِ‬ ‫ث‪ ،‬وفق ٍ‬‫"إن مصر كانت داَر حدي ٍ‬
‫ل كبار‪ ،‬أنجبتهم‬ ‫ب التاريِخ قد اكتظت بتراجم رجا ٍ‬ ‫والتاسِع الهجرى‪ ...‬وها هى كت ُ‬
‫ت كثيرة جدا فى‬ ‫ٌ‬ ‫مؤلفا‬ ‫لهم‬ ‫ممن‬ ‫‪،‬‬ ‫الذهبية‬ ‫القرون‬ ‫مصر بكثرة بالغةٍ فى تلك‬
‫م‪ ،‬بحيث يعدون مفاخَر السلم طّرا‪ ،‬فضل عن مصَر‪ ،‬بل ومآثرهم‬ ‫شتى العلو ِ‬
‫د")‪ .(1‬رحم الله‬ ‫ت العالم مما يقضى لمصَر بالفخرِ الخال ِ‬ ‫المحفوظة فى خزانا ِ‬
‫الشيخ الكوثري‪.‬‬
‫**********‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكوثري‪ ،‬أحاديث الحكام وأهم الكتب المؤلفة فيها وتناوب القطار فى‬
‫الضطلع بأعباء علوم السنة‪ ،‬المقالت ص ‪.66‬‬

‫) ‪(1/18‬‬

You might also like