Professional Documents
Culture Documents
) (1/1
ط العلمية فى مصر بالشيخ الكوثري احتفاًء واضحا من فت الوسا ُ وقد احت َ
منطلق هوية مصر السلمية الوسطية التى يمثلها الزهر الشريف .ويظهر هذا
جليا فى الترحيب بأبناء العالم السلمى من مختلف البلدان السلمية حين ضاق
ت الحرجةِ من تاريخها ،فتقوم بتقديمهم، بهم العيش فى بلِدهم فى اللحظا ِ
والتحلق حولهم فى مجالس العلم ،دون أدنى حزازة .فكان مجلس الشيخ
الكوثري العلمى فى مسجد أبى الذهب المقابل للجامع الزهر الشريف بعد
ق علمى بين المحققين وطلب العلم) ل تساب ٍ صلة الجمعة فى كل أسبوع ،مجا َ
م من علماِئها الجلء ،الذين
ى الكوثري فى مصر التقديَر والحترا َ .(1وقد ل َ ِ
ق َ
كانوا القدَر على معرفةِ منزلةِ العلماِء ومكانتهم ،ومنهم العلمة الشيخ محمد أبو
زهرة ،وهو عالم جليل من علماء الشريعة السلمية ،وأيضا الشيخ على الخفيف،
ة
الفقيه الصولى .وقد عرضا على الشيخ الكوثري ،أن يقوم فى السنةِ الخير ِ
من حياته بتدريس الشريعة لطلب الدراسات العليا فى جامعة القاهرة ) فؤاد
الول آنذاك( ،وهذا العرض يعكس تقديرهما لمكانته وعلمه ،وقد اعتذر الشيخ
عى إلى أن يكون أستاذا للغة التركية بمعهد لضعف صحته رغم إلحاحهما .كما د ُ ِ
اللغات الشرقية ،فرفض أيضا لنه رأى بين أساتذةِ المعهد مستشرقين يخفون
قه أن يزامل من ل يثقَ فى طويِته) ،(2واكتفى بعملهما ل يبدون ،وليس من خل ِ
فى دار المحفوظات بمصر.
__________
) (1انظر ،محمد رجب البيومى ،محمد زاهد الكوثري ،راوية العصر وأمين
التراث السلمى ،مقدمات الكوثري ـ ص .20
) (2محمد رجب البيومى ،نفس المرجع ،ص .21
) (1/2
ل فى حياته ،بل أن ة تحو ٍ ولنا أن َنزعم أن انتقال الكوثري إلى مصَر كان نقط َ
ة ذلك ج شخصيِته العلمية تم فى مرحلة استقراره فى مصر ،ويمكن ملحظ َ نض َ
جه الفكري وفق تسلسل تاريخي .فقدكان فى المرحلة الولى فى عب َْر تتبع إنتا ِ
الدولة العثمانية معنى بالترجمة ،والشروح ،والتعليقات على المؤلفات ،وكان
ظه من النشرِ رغم وجودِ الطباعة ،أما فى مرحلة معظمها مخطوطا لم يلقَ ح ّ
إقامِته فى مصَر ،فقد أخذت كتابُته منحى جديدا ،فاتجه إلى الردود ِ على
ل ما يتعلقُ بالدفاِع عن العقيدة ، م ،وك ّ
ض المزاع ِ ن ،ودح ِ ت ،والمطاع ِ الشبها ِ
ق شهرِته من ة لنطل ِ ولهذا يمكن لنا أن نقول ،أن وجوده فى مصَر هو البداي ُ
ى والسلمى .كما هيأ َ له وجوده حدودِ الجمهوريةِ التركية إلى رحابةِ العالم ِ العرب ّ
ل
فى مصَر التصال بعلماِء المسلمين فى كثيرٍ من البلدان ،وهيأ له حرية القو ِ
س والبلدان .كما استطاع خلل ف الجنا ِ ف ،وأن يكون له تلمذة من مختل ِ والتألي ِ
دم لثلثةٍ وثلثين ققَ وق ّة السلمية ،فح ّ دم الثقاف َسنى إقامته فى مصر أن يخ ُ
ث السلمى ،وشملت تحقيقاُته وتعليقاُته علوم ب الترا ِ ت كت ِكتابا من أمها ِ
م،
ه ،والحكا ِ ة ،والحديث وعلومه ،والفق ِ ق ،والفلسف ِ فر ِ
م ،وال ِ
ة ،والكل ِ العقيد ِ
ق ،والمواعظ. ف ،والخل ِ م ،والتصو ِ ر ،والتراج ِ والصول ،والتاريِخ ،والسي ِ
وقد هاجرت عائلة الكوثري من القوقاز فرارا بدينها سنة ، 1280ثم هاجر
الكوثري إلى مصر 1922م .وفى مصر نضجت وتبلورت جوانب من شخصية
الكوثري العلمية لم تتضح أثناء مقامه فى تركيا ،وهى الهتمام بالقضايا العامة
للمسلمين ،والهتمام بمستقبل العالم السلمى ،وتبلور فكره حول الصلح ،
كما انجلى من شخصيته العلمية جانب آخر وهو جانب المؤرخ.
) (1/3
جه ،وأصبح أكثَر ميل ل فى منه ِة تحو ٍوتعتبر إقامة الكوثري فى مصر نقط َ
ل
ل العقلى .إذ " إنه يرى فى المقارنةِ بين المسائ ِ ت الفكرية ،والجد ِ للمناظرا ِ
ة الفقهِ عند الدارسين" ،ويصف من مى ملك َ ل أمرا نافعا ين ّ
والمقارعةِ بالدلئ ِ
ل ،ويشترط لها أل يخرج ل أو المصاو ِيخوض هذا النقاش وهذه المقارنة بالمناض ِ
ن بالدليل").(1 ب فى النظرِ والتيا ِ عن جادةِ الصوا ِ
بل بين أصحا ِ ك فكرى ،اشتد فيها الجد ُ كان نزول الكوثري مصَر فى فترةِ حرا ٍ
التيارات الفكرية على اختلفها بين إسلميين ،وعلمانيين ،ول دينيين ،وترد ّد َ
ت الفكرِ المتباينةِ إزاءَ المثقفون والمفكرون فى العالم السلمى ومصر بين تيارا ِ
ك
ب والنبهارِ بالمدنيةِ الوروبية ،وبين التمس ِ ما انتابهم من تنازٍع بين العجا ِ
ة فى ملمحها الفكرية تشبه إلى حد ٍ كبيرٍ الفترة بالهويةِ والثقافة .وهذه المرحل ُ
ن التاسع عشر ،وما شهدته من صراٍع بين ة العثمانية فى القر ِالتى عاشتها الدول ُ
الصالةِ والتغريب .
ف
ضعْ ُ
ةَ ،ت الغربية فى مصَر فى تلك الفتر ِ ومما ساعد على انتشارِ المؤثرا ِ
ت الحتلل البر ب الدين ،واهتزازِ منزلةِ علماُء السلم ِ لدى سلطا ِ ك بأهدا ِ
التمس ِ
ة الفكرِ المستند ُ ة الحكومةِ فى إدارةِ الوقاف ،وتزايدِ أهمي ُ ل قبض ُيطانى ،وتغلغ ِ
ل والطبيعة).(2 إلى العق ِ
ة
ب إلغاِء الخلف ِ ى المسلمين بسب ِ ش َ
يضاف إلى هذا ،ذلك القلق الذى غ ِ
ة فى تاريِخ العالم ِ السلمى ة فاصل ً
ت التى كانت نقط ً السلمية ،وهى السنوا ُ
كله.
__________
) (1الكوثري ،مقدمة كتاب الغرة المنيفة،ط ،1القاهرة .1950
) (2احمد عبد الرحيم مصطفى ،تطور الفكر السياسى فى مصر الحديثة ،ص
.48
) (1/4
) (1/5
ف التى عاشتها أسرة ُ الكوثري فى القوقاز ،ثم ما شهده الكوثري أّثرت الظرو ُ
نفسه سواًء فى تركيا ومصر من تحولت فكرية ،فى شخصيةِ الكوثري ،فجعلته
ف بالدين عنة فى التصدى لكل ما رأى أن من شأنه أن ينحر َ أكثَر شدةً وصلب ً
ف بزعم ِ التحديث ،أو تحت مسمى الصلح ،فقد جادته ،سواء كان هذا النحرا ُ
عاش هذه التحولت قبل هجرته إلى مصر ،وأدرك ما أسفرت عنه ،فرأى أن
منيتل الدعوةِ إلى اللمذهبية ،هى الممهد للدينية " السائدة فى بلد أخرى ُمث َ
باللحاِد ،وكتبت عليها التعاسة ") ، (1وخوفه من تكرارها فى مصَر الزهر ،التى
م ،وأن " المؤمن ل يلدغ من جحر مرتين" حسب قوله ، ل السل ِرأى أنها معق ُ
وأمله أن ينجو الدين فى مصَر من المصير الذى آل إليه فى غيرها ،خاصة وأن
خ العام فى مصَر آنذاك ،كان يشهد الصراع بين السلميين وغير السلميين المنا َ
وبلغ أشده بعد إلغاء الخلفة السلمية.
وفى تلك الفترة التى اندفع فيها نفر من المثقفين فى مصَر والعالم ِ السلمى
ة ،والنظم الغربية بوصفه السبيل الوحيد للصلح ، إلى ضرورةِ الخذِ من الثقاف ِ
بدأ السلميون يجعلون لفكارهم أهدافا محددة ،ويوجهونها للمسلمين توجيها
ط محددة وواضحة هى: مباشرا ،ويبلورونها فى نقا ٍ
رفض الدعوة اللحادية .
إن التوحيد هو كمال الحرية ،لنه عبودية لله وحده.
إن السلم هو دين العلم والمدنية ،يدعو المسلمين للخذ بأسبابهما ليصل
ت وأرقاها ،كما يدعو للجتهاد.
ن إلى أعلى الدرجا ِ ن المعاصري َ
بالمسلمي َ
إن العلم يجب أن يرتكز على ركائزِ اليمان ،بل هو نابعٌ من اليمان ،وإل صار
مرا(2).مد ّ
علما ُ
__________
) (1الكوثري ،اللمذهبية قنطرة الدينية ،المقالت ص ..111
) (2السيد محمد فرج ،جذور العلمانية ،الجذور التاريخية للصراع بين العلمانية
والسلمية فى مصر منذ البداية وحتى عام ،1948ط ،2ص .43
) (1/6
فى هذا الطار ،يمكن فهم فكر الكوثري فى معالجة قضايا عصره ،ومنها قضية
ض التجديد ،بل يقبله طالما أن هذا التجديد َ التجديد .لقد كان الكوثري ل يرف ُ
ليمس أصل الشرع .ومنهجه أن "سنة الله قد جرت على اصطدام العتيق
م ،ول يؤاخى ك ّ
ل بالجديد ،إل أن من جمع الله له الدين مع العقل ل يعادى القدي َ
جديد ،بل يأخذ َ بالصلِح من الثنين ،وهو الذى ل يصادم الشرع" ) .(1أى أنه
ينتمى إلى التيارِ التوفيقى ،الذى يجمع بين العقل والنقل ،فيقبل من التجديد ما
ل الشرع .وهذا ل يعنى أنه كان مبتدعا فى الدين ،بل ملتزما ب مع أصو ِ يتناس ُ
سّنة ،ب والسنة ،فالتجديد ُ عنده " أن يعاد إلى الدين رونقه ،وأن تحيا ال ّ بالكتا ِ
وتموت الِبدعة ،ويقوم بين الناس عمود ُ الدين)"(2
__________
) (1الكوثري ،انتهاك حرمة الحقيقة والتاريخ مسايرة للهوى ،المقالت ،ص
.122
) (2انظر ،الشيخ محمد أبو زهرة ،المام الكوثري ،كتاب مقدمات الكوثري ،
ص .12
) (1/7
ف
ت الصلح عند الكوثري ،هى العترا ً أما بالنسبة لقضية الصلح ،فأو ُ
ل خطوا ِ
بالداِء " فمن ل يقّر بالداِء ،ل يسعى فى الدواء .فيجب أن نعترف بمرضنا،
ض المسلمين وراء النفِع المادى،
ونسعى فى الدواء" .والداُء عنده مصدره" رك ُ
نابذين المعالى والروحيات ،وكان هذا الندفاع ُ نحو الماديةِ سببا لما اعترى
خُلقى حتى لم يبق من السلم ِ غير اسمه ،ومن شرع المسلمين من التدهور ال ُ
الله غير رسمه" ،وهذا أدى بدوره إلى أن "انقلب الخاء بين المسلمين إلى
ص يعبر عن غيرته الدينية فى المقام ِ ل") .(1وهو تشخي ً عداٍء ،وعزهم إلى ذ ٍ
الول ،وتدور فى إطارِ الفكر العثمانى فى طور الصالة ،وما اتفق عليه أصحاب
س حركة الدولة ن هو أسا ُ رسائل الصلح فى الدولة العثمانية ،من أن الدي َ
ونظمها والصلح ل يكون إل بالعودة إلى نظمها التى قامت عليها) ، (2ول يلتفت
الكوثري هنا إلى ما اعترى المسلمين من تأخرٍ فى ميادين العلوم ،والنتاج
ل الداِء عنده هو التخلى عن شرع الله ،وما عداه تابعٌ له . الحضارى ،فأص ُ
__________
) (1الكوثري ،مقدمته لكتاب الثمرة البهية فى الصحابة البدرية ،مكتب نشر
الثقافة السلمية ،القاهرة .1940
) (2فى هذا انظر ،كوريجه لى قوجى بك رساله سى ،ولطفى باشا ،آصافنامه..
) (1/8
فهم ،وذلك " باقتفاء أثر ب من ضع ِ ثم يطرح الكوثري الدواء فى هذا الجان ِ
السلف ،والتمسك بشرع الله ،والتفانى فى الصالح العام دون المصالح
الشخصية ،والتمسك بالخاء الروحى فى سبيل إنفاذ حكم السلم" .أما المُر
الهم عنده فهو "إعادة تقوية الجانب المعنوى لدى المسلمين بروح السلم".
ل على أن الكوثري أدرك تلك الهزيمة المعنوية التى اعترت المسلمين وهذا دلي ٌ
بعد اتصالهم بالمدنية الوروبية ،وإحساسهم بالهوة بينهما فى العلوم التطبيقية،
وضعفهم أمامها .وبالتالى ركز الكوثري على استنهاض الجانب المعنوى لدى
المسلمين بما يغذى الروح ،ويقوى العزائم ،ويستنهض الهمم .وهذا الستنهاض
عنده يكون بالهتمام ِ بالطلع على سيرِ المجاهدين الوائل المدونة فى كتب
ة المعنوية لدى المغازى والسير ،وكتب التفسير والحديث ،أى أن النهض َ
مهم ،وترقى خهم ،فتقوى عزائ ُ المسلمين تنطلق من اللمام ِ بتراثِهم وتاري ِ
معنوياُتهم ،ويشعرون بالعزةِ والفخار.
ويلقى الكوثري على عاتق العلماء بالدور الهم فى نهضةِ المةِ السلمية،
ص مصادَر الخطرِ الذى يحيق بالمسلمين من اللحاد، خ ُ
والذود عن السلم .ويش ّ
ونزغات الجاهلية والوثنية التى تسللت إلى البيئات السلمية .وما تبعها من
ة
ِ المذل ة ،وسيادةة ،وتقلص ظلل الفضيل ِ شيوع التبرِج ،والتفرنِج ،وشمول الرذيل ِ
والخنوِع ،والرجوع إلى الهمجية).(1
__________
) (1الكوثري ،كلمة عن مقالت بالغة النفع ،المقالت ،ص .411
) (1/9
ويلقى الكوثري بتبعة انتشار هذه الفكار اللحادية على العلماء بوصفهم حراس
الدين وحماته ،فيرى "أن كبار العلماِء وصغاِرهم لم يقوموا بدورهم فى الذود
ت ،وطامعين فى الترقىف ،قانعين بالقو ِ
عن الدين ,واستسلموا لهذا التيارِ الجار ِ
ب غير مفكرين فى رضا الله ،وبذلك فّرطوا فى ة الشبا ِ ،وقد فقدوا حماس َ
ة
ن ،وللنظم ِ العقيدةِ والشريعةِ معا ،وتركوا موضعهما لنزعات المروق عن الدي ِ
ل المة السلمية" .وهذا التشخيص ينطلق مما الوضعيةِ التى تؤدى إلى انحل ِ
شهدته مصر فى ذلك الوقت ،من دعوات إلى السفوِر ،والستهانة بأئمةِ الجتهاد،
وتفشى الفلسفات المادية والعقلنية فى التعامل مع القضايا اليمانية والشرعية.
ب الرؤية الستراتيجية ض الباحثين حو َ
ل غيا ِ ونحن نختلف هنا مع ما ذهب إليه بع ُ
جل للسف فى فكرِ الشيخ الكوثري فيما يتعلق بالصلح ،حيث يقول ":نس ّ
ب الرؤيةِ الدقيقة للمشاكل ،فالستاذ رحمه الله مجروٌر إلى ميادين الشديد غيا َ
ة
ق دقيق بين مهم ٍ وأهم ،بين مسأل ٍ المطارحة ....فيرد على كل ناعق ،دون تفري ٍ
بب غيا ِتأثيرها في الحاضر والمستقبل ،وأخري تأثيرها وقتي ،وما ذلك إل بسب ِ
ط
ف محدٍد ،ووفق شرو ٍ ة ،تتوخى هدفا محددا في ظر ٍ رؤيةٍ حضاريةٍ فاحص ٍ
ل الفدائي ،أكثر من محددةٍ ترسمها رؤية استراتيجية .لهذا غلب على جهوده العم ُ
ط من التفكير من خلل ما لمسناه من العمل المؤسسي ،بل يكاد يغيب هذا النم ُ
جهود الرجل ،لهذا كانت جهوُده تنبيهية ،أكثر مما هي تأسيسية ،طبعا في إطارها
ك الذي يختاره جل الفدائيين في الكلي ،ل في إطارها الجزئي ،وهو المسل ُ
الميدان الفكرى").(1
__________
) (1انظر ،عمار جيدل ،شيخ علماء السلم محمد زاهد الكوثري عصره وآراؤه
دراسة تحليلية لمؤلفاته وآرائه الصلحية كلية العلوم السلمية جامعة الجزائر
) (1/10
ومرد هذا الختلف أنه ينبغى النظر إلى فكر الكوثري فى إطار قضايا عصره ،
رص على وضِع الفكار التى لها تأثير ح ِ
ط العامة لفكرهَ ،
فهو فى الخطو ِ
مستقبلى على حال المة ،ل الفكار ذات التأثير المرحلى ،مثل ضرورة التمسك
بالشرع ،وأهمية النقاش العلمى وتنمية العقل فى إطار الدين ،وأهمية
ل
ل عم ٍ الستفادة بالجديد الذى ل يتعارض مع الشرع ،ووضع هذا الفكر فى شك ِ
م .وفى بعضها اقترح تكوين مؤسسات تقوم بتنفيذ هذه الفكار ،فنراه وهو منظ ٍ
بل الثقافةِ السلمية فى عصره يركز على الهتمام ِ بكت ِ بصدد تشخيص حا ِ
التراث) ،(1ويعقد المل فى هذا على أمرين :
ث الجداد ،وهى الشعلة الشباب ،إذ يراه الجدر بحمل هذه الشعلة فى إحياء ترا ِ
التى سيهتدى بها الحائدون عن الطريق القوم) ،(2ويعبر عن آماله المعقودة
على الشباب فى الصلح ،فيرى أنهم هم القدر على القيام بهذه المهمة لما
يتمتع به من قوة العزم والحزم على قدر إيمانهم وسعيهم فى رضا الله.
__________
) (1يرى الكوثري أن الهتمام بتراث المسلمين ،تشرا ودراسة ،هو المدخل
الذى اتخذته القوى الوروبية لحياء عهد الصليبيين بطريقة أخرى غير الحملت ،
وذلك بنشر مؤلفات علماء المسلمين المتعلقة بالقرآن الكريم وعلومه من كتب
القراءة ،وشواذ القراءات ،ومؤلفات الحديث والفقه واللغة ،ويرى أن المسلمين
هم الجدر بنشر كتب التراث الكوثري ،مقدمة كتاب العلم والمتعلم ،نشر
محمود سكر ،القاهرة 1939
) (2الكوثري ،مقدمة كتاب العلم والمتعلم ،نشر محمود سكر ،القاهرة .1939
) (1/11
) (1/12
ل الحيوية التى
ويعيب الكوثري حال الفقهاء ،وتأخرهم عن النظر فى المسائ ِ
ك حجم التغيير الذى يحدث فى العالم السلمى، تتعلق بجوهرِ الدين ،وإدرا ِ
والخطارِ التى تحدق بعقيدة المسلمين ،لينشغل الدعاةُ بإثارةِ النقاشات حو َ
ل
التافه من المسائل العارضة فى حياة المسلمين ،والتى تعتبر من المسائل
الفرعية الجتهادية ،متغاضين عن العظيم ِ منها ،وما هو أجدُر بالهتمام ِ
والدراسة ،ويعتبر هذا من الموبقات التى آذت الشرع السلمى فى جوهره
وصميمه .ويعلل هذا بجهل الدعاة وضعفهم).(1
__________
) (1الكوثري ،مقدمة كتاب إعلم الريب بحدوث بدعة المحاريب ،مكتبة الشرق
ن القاهرة ،د.ت.
) (1/13
ولهذا اهتم الشيخ الكوثري بالزهر الشريف ،وضرورة إصلح أحواله بما يصلح
حال العلماِء .فكتب عن إصلح الزهر ،الذى يصفه الكوثري بأنه " جامعٌ عالمى
ب العلوم الشرعية من مشارق الرض مه طل ُمعلوم الحدود والمكان ،يؤ ّ
ل المسلمين فى ومغاربها على اختلف ألسنتهم وألوانهم" ،وهو " معقد ُ آما ِ
مشارق الرض ومغاربها" ويبلغ تقديره لهمية الزهر بالنسبة لمصر ،فيراها به
ق السلمى كله" .ولهذا يبدو الكوثري حريصا على مكانة الزهر، ة الشر ِ"زعيم َ
ث جامعةٍ أزهرية تدرس العلوم ودوره بالنسبة للعالم السلمى .ويؤيد فكرةَ إحدا ِ
ل للعلوم ِ السلمية العالية . الكونية ،مع جامعات العصر جنبا لجنب") (1بل إهما ٍ
جه التوفيقى فى ِ ومنه ، المستقبلية ه ،ورؤيته
وهذا الرأى منه يدلنا على سعةِ فكر ِ
حل مشكلت المسلمين فى عصره ،فى الجمع بين القديم والجديد الذى
ليخالف الشرع ،وقناعته بأهمية العلوم الكونية فى نهضة المسلمين .ويقدم لنا
ره للحفاظ على الزهر من محاولت تسعى للقضاء على دوره ،وتضّيع ة فك ِخلص َ
ض هذه الفكار فى التقرير الذى قدمه إلى الشيخ رسالَته ،ومكانَته ،وقد عر َ
مصطفى عبد الرازق شيخ الزهر ،تلبية لرغبته ،وبناء على طلبه .وكان الشيخ
مصطفى عبد الرازق أستاذا للفلسفة بكلية الداب بالجامعة المصرية حينا من
رف فضَله العلمى فيما الدهر ،ولهذا أدرك قيمة الكوثري واختصه باهتمامه ،إذ ع ِ
حققه من كتب التراث السلمى خاصا بالفلسفة) .(2وهذا يدلنا على أن الزهر
بعلماِئه وفقهاِئه ،قد نظر للكوثرى نظرةَ تقديرٍ لعلمه وفكره فى آن واحد .كما
أنه يدلنا على أن الكوثري ،صاحب رؤيةٍ مستقبلة ،ومنهٍج فى الصلح ،يشبه إلى
حد كبير منهج جمع كبير من علماء المسلمين الذين تناولوا قضايا العالم الصلح
فى العالم ِ السلمى برؤيةٍ توفيقية ،مثل المؤرخ
__________
) (1انظر ،الكوثري ،إحياء علوم السنة بالزهر ،المقالت ،ص .417
) (2محمد رجب البيومى ،نفس المرجع ،ص .27
) (1/14
) (1/15
ة ،وإصلح شؤونها فى كل زمان ومكان ،بخلف فشرع الله صالح لتقويم أود الم ِ
م الشرِع ل تنتهى عجائب أسرارها فى الصلح وليست القوانين الوضعية .وأحكا ُ
هى كأحكام العقول الخاطئة .وها هى الدول السلمية لم تسعد دولة منها إل
بمقدار تمسكها بأهداب الشرع ،ول شقيت إل بنسبة ابتعادها عن أحكام الشرع.
ل مهما كان شأنه ،ل يرقى إلى قر الكوثري بإمكانيةِ خطأ العقل ،وأن العق َ وهنا ي ُ ِ
ما قرره الله لصالح عباده بالشرع .ثم يقارن بين القوانين الوضعية والشريعة،
فيقول" إن شرع الله صالح لتقويم أود المة ،وإصلح شؤونها فى كل زمان
ومكان ،بخلف القوانين الوضعية ،فإنها لو صلحت لزمان أو لمكان ،فلن تصلح
ل البشرى "عاجز عن الحاطة بجميِع لزمنة أخرى ولصقاع أخرى" ،كما أن العق َ
مه اليوم
مصالح المة على اختلف الزمنة والمكنة ،حتى يقنن قانونا ،فما ُيبر ُ
ضه غدا ...فمن حاول أن يقرب الشرع السلمى ويحوره على غرارها ،فهو ينق ُ
مريض القلب أثيم العقل ....ومن فضل عقله على علم الله وشرعه ،فليس من
السلم فى شئ").(1
وقضية الخذ بالقوانين الوضعية ،قضية قديمة جديدة مثارة منذ منتصف القرن
التاسع عشر ،وتصدى لها الفقيه المؤرخ العثمانى أحمد جودت باشا فى القرن
ن مدنى لحكام الشريعة السلمية وفق المذهب ضع أو َ
ل قانو ٍ التاسع عشر ،فوَ َ
الحنفى فى مجلة الحكام العدلية) ، (2كما قام الشيخ محمد حسنين مخلوف
ب
ب فى المقارنةِ بين القانون المدنى الفرنسى ،وأحكام مذه ِ المالكى بتأليف كتا ٍ
المام مالك رضى الله عنه ،فنص فيه على أحكام أخذها الوروبيون عنه .ويتفق
الشيخ الكوثري مع هذا الرأى فى صلحية الشرع السلمى لتلبية حاجات
المجتمع السلمى المعاصر.
__________
) (1الكوثري ،شرع الله فى نظر المسلمين ،المقلت ص .80-79
) (2انظر ،أحمد جودت باشا ،معروضات ،طبع استانبول .1980
) (1/16
ولنا أن نشير إلى جهود الكوثري فى دراسة تاريخ مصر ،كما تظهر مقدماته
جانبا أخر من شخصيته العلمية كمؤرخ ،ويمكن أن نقول أن ما كتبه الشيخ
الكوثري فى تقديمه لكتاب البدر العينى ،يكشف لنا عن جانب المؤرخ من
شخصيته فى عمق البحث والتحليل ،فهو يقدم المنهج الواجب على المؤرخ
اتباعه ،وهو أن " المؤرخ ملزم بحكاية الواقع كما هو ،من غير أن يسعى فى
إبراز السيئة بمظهر الحسنة ،أو بخس حق الجميل بحمله على غرض غير
مقبول ،ومن يفعل خلف هذا يكون مجرما أثيما أمام المة حيث حاول تعمية
الوصول إلى الحقائق" وهذا بل شك منهج المؤرخ الحق حيث يلتمس الصدق
والموضوعية فيما يكتبه ،ثم ينبه المشتغلين بكتابة التاريخ إلى أهمية اللمام
بالحداث من شتى جهاتها ،إذ" ل تتضح الحقيقة فيها قبل دراسة جميع ما عند
تلك الجهات من الراء فى تلك الحداث ....قبل البت بعاطفة مجردة فيها "،
وفى إطار هذا المنهج ،أكد فى جانب آخر من معالجاته التاريخية فيه بما ساقه
من أدلة وبراهين ومعرفة بطبيعة الجراكسة وعاداتهم ،أن سلطين مصر
المماليك البحرية من الجراكسة وليسوا من التراكمة ،كما قال أن المماليك
م ،نسبة إلى قبيلة برج من قبيلة وبخ الجركسية، البرجية ،إنما سموا بهذا الس ِ
وإليها كانت نسبتهم ل إلى أبراج القلعة حسبما هو شائع بين المشتغلين بالتاريخ
) .(1كما أن ما كتبه عن تاريخ القفقاس ،وأصل الجراكسة ،والدولة العثمانية،
يبرهن على ملكة البحث التاريخى عنده وعمق الطلع والمعرفة بمصادر
التاريخ.
__________
) (1انظر ،الكوثري ،مقدمة الروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر ططر،
القاهرة 1370هـ ،.وأيضا مقدمة العلم الشرقية ،تأليف محمد زكى مجاهد،
القاهرة .1367
) (1/17
) (1/18