You are on page 1of 39

‫بسم ال الرحمن الرحيم‬

‫لمـاذا نخـاف من النقـد؟‬

‫محاضرة للشيخ ‪ :‬سلمان بن فهد‬


‫العودة‬
‫‪12/5/1412‬هـ‬
‫مقدمة ‪:‬‬

‫إن النقد من مهمات مسيرة الحياة البشرية‪ ،‬ذلك لن النقص هو صفة كل‬
‫إنسان بدون استثناء‪ ،‬وكل إنسان يقر بالنقص ويعترف به‪ ،‬إذاً مادام أن‬
‫النقص موجود‪ ،‬فل بد من انتقاد هذا النقص حتى يستقيم ويكتمل‪ ،‬وقد تكلم‬
‫الشيخ حفظه ال في هذا الدرس عن النقد‪ ،‬وبين معناه‪ ،‬وبين لماذا نخاف من‬
‫النقد مع أن طبيعتنا طبيعة بشرية تحتاج إلى النقد البناء دائماً وأبداً‪ ،‬وإذا‬
‫غاب النقد البناء‪ ،‬فإن الحياة بطبيعة الحال لن تستقيم ولن تسير على المنهج‬
‫الصحيح لن كل إنسان سيعمل ما يراه هو دون أن يرى أي خطأ أو عيب‬
‫في عمله‪ ،‬وتحدث الشيخ عن مسألة التأصيل الشرعي للنقد‪ ،‬وذكر الدلة‬
‫على ذلك‪ ،‬وموقف الناس من النقد على اختلف مراتبهم ومنازلهم‪ ،‬ثم‬
‫تحدث عن أنواع النقد وأنه ينقسم إلىعام وخاص‪ ،‬ونقد الذات ونقد الغير‪ ،‬ثم‬
‫تطرق إلى صور النقد المذموم منها‪ :‬الذي يستهدف حياة النسان الخاصة‬
‫وفقدان العدل والنصاف وغيرها‪.‬‬

‫أولً‪ :‬لماذا اختيار هذا الموضوع‬

‫إن الحمد ل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ بال من شرور‬
‫أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده ال فل مُضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي‬
‫له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمداً عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬صلى ال عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً يَا أَيّهَا الّذِينَ‬
‫لّ خَبِيرٌ بِمَا َتعْ َملُونَ‬
‫نا َ‬
‫لّ إِ ّ‬
‫ت لِغَدٍ وَا ّتقُوا ا َ‬
‫آمَنُوا ا ّتقُوا الَّ َولْتَ ْنظُرْ َنفْسٌ مَا قَدّ َم ْ‬
‫[الحشر‪ .]18:‬أما بعد‪ :‬هذا هو الدرس الخامس والربعون من سلسلة‬
‫الدروس العلمية العامة‪ ،‬وهذه ليلة الثنين (‪ )12‬جمادي الولى لعام (‬
‫‪1412‬هـ)‪ .‬أيها الحبة الكرام‪ ،‬حديثي إليكم هذه الليلة عنوانه‪( :‬لماذا نخاف‬
‫من النقد)؟ ‪......‬‬
‫المسلمون والنقد‬

‫أمر ثالث‪ :‬إننا ‪-‬أيها الحبة‪ -‬نملك تراثاً إسلمياً عظيماً‪ ،‬بل نملك ‪-‬قبل هذا‬
‫التراث السلمي العظيم من تاريخ المة‪ -‬تاريخ الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬وتاريخ الصحابة رضي ال عنهم‪ ،‬وتاريخ الخلفاء المؤمنين‬
‫الصادقين‪ ،‬وتاريخ العلماء العاملين الداعين إلى ال على بصيرة‪ .‬قبل هذا‬
‫نملك منهجاً إلهياً ربانياً‪ ،‬وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي‬
‫غيرنا‪ ،‬وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ‪ ،‬سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان‬
‫خطأ الخرين ‪-‬كما سوف تأتي الشارة إلى شيء من ذلك ‪ -‬والمؤسف جداً‬
‫أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلمي ينبثق من هذا القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ومن سنة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أن الغرب أفاد من هذا المنهج‬
‫على القل في الناحية الدنيوية‪ ،‬فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫ووضعوا أسسه وضوابطه‪ ،‬سواء في المجال العلمي‪ ،‬أم في المجال‬
‫العلمي‪ ،‬أم في المجال السياسي أم غيرها‪ ،‬بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف‬
‫كيف ينتقد‪ ،‬وكيف يوجه‪ ،‬وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم‬
‫كبرت‪ ،‬جلت أم عظمت‪ ،‬فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة‬
‫فعالة في إدارة دفة المجتمع‪ ،‬وفي تصحيح الخطاء‪ ،‬وفي توجيه الناس‪،‬‬
‫أفادوا من المنهج السلمي من الناحية الدنيوية‪ ،‬أما المسلمون‪ ،‬فإن كثيراً‬
‫من المنتسبين إلى السلم أقرب ما يكونون ‪-‬وأقولها مهما كانت ثقيلة على‬
‫لساني‪ -‬أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني‪ ،‬الذي يقول‪ :‬مَا أُرِيكُمْ‬
‫ل الرّشَادِ [غافر‪ ]29:‬ومن الصعب جداً على‬ ‫إِلّ مَا أَرَى َومَا أَهْدِي ُك ْم إِلّ سَبِي َ‬
‫كثير من الناس اليوم‪ ،‬ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا‪ ،‬سواء كانوا من‬
‫أصحاب النفوذ والسلطان‪ ،‬أم كانوا من العلماء‪ ،‬أم كانوا من الدعاة‪ ،‬أم كانوا‬
‫من عامة الناس‪ ،‬فمن أصعب المور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل‬
‫نقداً أو ملحظة‪ ،‬فضلً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه‪.‬‬
‫العتراف بالنقص والتقصير‬

‫وهناك نقطة أخرى‪ ،‬أننا نجد لدى بعض الناس على كافة المستويات بدون‬
‫ل بالنقص أو التقصير‪ ،‬فليس غريباً أنك تجد إنساناً ما‬ ‫استثناء‪ ،‬اعترافاً مجم ً‬
‫سواء أكان عالماً‪ ،‬أم حاكماً‪ ،‬أم داعية‪ ،‬أم تاجراً أم أي شيء آخر‪ ،‬قد تجد أن‬
‫من السهل أن يقول هذا النسان‪ :‬أنا بشر‪ ،‬أو نحن لسنا بمعصومين‪ ،‬أو قد‬
‫يقول‪ :‬نحن جميعاً عرضة للخطأ لكنه يقف عند حد هذا العتراف المجمل‬
‫الغامض المبهم‪ ،‬فل ينتقل من هذا الكلم العام إلى تشخيص الخطاء‪،‬‬
‫وتحديد هذه الخطاء وما هي؟ والعتراف بها‪ ،‬وهذه الخطاء ونوعياتها‬
‫ع أحد لك ‪-‬‬ ‫وعيناتها‪ ،‬ومن ثم السعي إلى التصحيح‪ ،‬نعم‪ ،‬نحن نقول‪ :‬لم يدّ ِ‬
‫ع لك أحد أنك نبي أو رسول‬ ‫ل ‪ -‬أنك ملك‪ ،‬حتى تقول‪ :‬أنا بشر‪ ،‬ولم يد ِ‬ ‫مث ً‬
‫حتى تقول‪ :‬إنك لست بمعصوم‪ ،‬كل الناس يعرفون أنك بشر‪ ،‬وأنك إنسان‪،‬‬
‫وأنك لست بمعصوم‪ ،‬وأنك عرضة للخطأ‪ ،‬وكل إنسان يعترف بهذا‪ ،‬بل‬
‫ربما أقول‪ :‬إن كثيراً من الناس ‪-‬وهم بصدد تجاهل الخطاء‪ ،‬والدفاع عنها‪،‬‬
‫ومحاولة إظهارها‪ ،‬وإلباسها بثوب الصواب‪ -‬تجد أنهم يبتدئون حديثهم‬
‫بقولهم‪ :‬لسنا معصومين‪ ،‬نحن بشر يخطئ ونصيب‪ ،‬نحن عرضة‪ ،‬نحن‬
‫كذا‪ ،‬نحن كذا‪ ،‬ثم بعد ذلك ينتقل إلى محاولة فلسفة الخطاء‪ ،‬وتحويلها إلى‬
‫نوع من الصواب؟ وبناءً عليه نقول‪ :‬هذا العتراف الغامض المبهم بأنك‬
‫بشر‪ ،‬أو لست بمعصوم‪ ،‬أو عرضة للخطأ‪ ،‬هذا العتراف ل يسمن ول‬
‫يغني من جوع‪ ،‬ول ينفعنا في قليل ول في كثير‪.‬‬
‫اعتبار النقد جريمة عند بعض ا لناس‬

‫ل لماذا الحديث عن هذا الموضوع بالذات؟ لعله ليس بغريب على‬ ‫أو ً‬
‫أسماعكم‪ ،‬الحديث عن التخلف المطبق في العالم السلمي من أقصاه إلى‬
‫أقصاه‪ ،‬سواء من الناحية العلمية‪ ،‬أو من الناحية الدعوية‪ ،‬أو من الناحية‬
‫الجتماعية‪ ،‬أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى‬
‫الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما ل يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن‬
‫المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم‪ ،‬وأردأ أيامهم‪ ،‬ولعله ليس من قبيل‬
‫المبالغة أن نقول‪ :‬إنه لم تمر بالمة السلمية منذ بعث ال نبيه محمدًا صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬وقامت دولة السلم في المدينة‪ ،‬وعبر حقب التاريخ في‬
‫عصوره‪ ،‬مثل هذه اليام الكالحة المظلمة‪ ،‬التي استحكمت فيها غربة الدين‪،‬‬
‫وأطبق العداء بفكيهم على المسلمين‪ ،‬فهم يعيشون في تخلف مريع ل يعلمه‬
‫إل ال‪ .‬ومع ذلك كله‪ ،‬ومع أن التخلف في عالم السلم شامل لكل مجالت‬
‫الحياة دون استثناء‪ ،‬إل أننا نجد من المسلمين عموماً‪ ،‬مقتاً وبغضاً وكراهية‬
‫لي لون من ألوان النقد‪ ،‬أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين‬
‫اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولً‪ ،‬يعتبرون النقد في كثير من الحيان‬
‫جريمة‪ ،‬فيجرمون المنتقد ويعتبرونه ‪-‬كما يعبر بعضهم‪ -‬خارجاً عن‬
‫القانون‪ ،‬أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه المة‪ ،‬أو هذه الفئة‪ ،‬أو‬
‫تلك الجماعة‪ ،‬أو تلك الدولة‪ ،‬أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع‬
‫واستقراره‪ ،‬أو أنه يحمل أهدافاً سياسية‪ ،‬وهو يعبر عنها من خلل النقد‬
‫والتصحيح والمراجعة‪ ،‬ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو‬
‫يصححون أو يراجعون‪ ،‬أو‪ -‬بأسلوب آخر‪ -‬تصنف الذين يأمرون‬
‫بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬أنهم ضمن الخصوم‪ .‬وكذلك أقول‪ :‬مع‬
‫السف إن كثيراً من الجماعات السلمية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء‬
‫لها‪ ،‬بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للسلم ذاته‪ ،‬أما الفراد فغالبنا يعتبر من‬
‫ينتقده‪ ،‬أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه‪ ،‬يعتبره عدوًا له‪ ،‬أو حاقداً‬
‫عليه‪ .‬هذه نقطة‪.‬‬
‫ما المقصود بالنقد‪ ،‬لماذا نخاف من النقد؟‬

‫ما هو النقد؟ النقد في لغة العرب يطلق على معنيين‪...... :‬‬

‫بيان المعنى الول للنقد‬

‫فالمعنى الول في النقد‪ ،‬الذي هو‪ :‬تمييز الطيب من الخبيث‪ ،‬والحسن من‬
‫القبيح‪ ،‬والصالح من الطالح‪ ،‬والزيف من الحقيقي‪ ،‬هذا المعنى هو الذي‬
‫ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد‪ ،‬فالنقد في الشرع يعني‪ :‬معرفة الخطأ‬
‫والصواب‪ ،‬ويعني‪ :‬الثناء على الخير ومدحه وذم الشر ونقده‪ ،‬سواءً كان هذا‬
‫الخير أو الشر في شخص‪ ،‬أم في كتاب‪ ،‬أم في عمل‪ ،‬أم في هيئة‪ ،‬أم في‬
‫دولة‪ ،‬أم في جماعة‪ ،‬أم في أمة‪ ،‬أم في غير ذلك‪ ،‬وهذا هو المعروف لدى‬
‫أهل العلم واليمان‪ ،‬أفراداً وجماعات‪ ،‬خاصة لدى أهل القرون الولى‬
‫المفضلة‪ ،‬فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان الحق والمر به‪،‬‬
‫وبيان المنكر والنهي عنه‪ ،‬وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي‬
‫ال تعالى عنهم‪.‬‬

‫بيان المعنى الثاني للنقد‬

‫أما المعني الثاني في النقد‪ ،‬الذي هو‪ :‬الثلب والثلم والعيب والتجريح‪ ،‬فهذا‬
‫هو الغالب على هذا الزمان‪ ،‬الذين يعتبرون النقد ‪-‬كما أسلفتُ‪ -‬صورة من‬
‫صورة العداوة والحقد والبغضاء‪ ،‬والتشهير والتأليب على الشخص المنقود‪،‬‬
‫أو على الجهة المنقودة‪ ،‬ولذلك ل يقبلون النقد؛ لنهم يعتبرونه نوعاً من‬
‫التنقص‪ ،‬وكذلك هم ل ينتقدون إنساناً إل إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم‬
‫ينتقدونه؛ لنهم يسعون إلى إسقاطه فهم ل يسعون إلى معرفة الحق من‬
‫الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر‪ ،‬بل همهم جمع المثالب على‬
‫فلن وعلن‪ ،‬أو على الجهة الفلنية وحشد المعايب‪ .‬ولذلك قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء‪{ :‬اللعنون ل‬
‫يكونون شهداء ول شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي ل يعرف الناس إل‬
‫موضع العيب‪ ،‬كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة‪،‬‬
‫قال‪ :‬نعم عابد‪ ،‬ولكنه ليس بعالم‪ ،‬والعبادة بل علم تضر أكثر مما تنفع‪ ،‬فإن‬
‫ذكر عنده شخص بعلم‪ ،‬قال‪ :‬نعم هو عالم‪ ،‬ولكن المشكلة في النية‪ ،‬إنما‬
‫العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال‪:‬‬
‫ورب قتيل بين الصفين ال أعلم بنيته‪ ،‬فإن ذكر عنده شخص بالنفاق في‬
‫حسْرَةً [النفال‪ ]36:‬وهكذا كلما‬ ‫علَيْهِ ْم َ‬
‫سبيل ال‪ ،‬قال‪ :‬فَسَيُ ْن ِفقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ َ‬
‫ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء‪ ،‬بحث عن عيب ويلصقه به‪،‬‬
‫وكأنه ل يسره إل ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب‬
‫الناس اليوم‪ .‬وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما‪،‬‬
‫في قصة سعد بن أبي وقاص رضي ال عنه وأرضاه وفيها عبرة‪ ،‬فإن أهل‬
‫الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬فأرسل عمر إليه‬
‫فجاءه‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا إسحاق‪ ،‬لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا‪ :‬ل يحسن‬
‫يصلي‪ -‬حتى الصلة قالوا‪ :‬ل يعرف كيف يصلي‪ -‬فقال سعد رضي ال عنه‬
‫وأرضاه‪ :‬أما وال يا أمير المؤمنين‪ ،‬إني ل آلو أن أصلي بهم‪ ،‬كما رأيت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يصلي بنا‪ ،‬أطيل في الوليين‪ ،‬وأخف أو‬
‫أحذف في الخريين‪ ،‬فقال له عمر بن الخطاب رضي ال عنه وأرضاه‪ :‬هذا‬
‫هو الظن بك يا أبا إسحاق ‪-‬هذا ظني بك‪ ،-‬لكن عمر رضي ال عنه‬
‫وأرضاه‪ ،‬لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـسعد بن أبي وقاص؛ لنه أمام‬
‫شكوى من الشعب‪ ،‬من المواطنين‪ ،‬فل بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح‬
‫المحايدة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والنصاف‪ ،‬ويعتبر أن سعداً طرف وخصم‪ ،‬وأن أهل‬
‫الكوفة طرف وخصم آخر‪ ،‬فيرسل عمر رضي ال عنه لجنة لتقصي‬
‫الحقائق‪ ،‬وتذهب هذه اللجنة ل لتسأل أعيان البلد أو خواصهم‪ ،‬الذين يفترض‬
‫أن المير قد يدنيهم إليه‪ ،‬وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! ل بل‬
‫تذهب هذه اللجنة‪ ،‬لتقف في المساجد والسواق‪ ،‬ويقولون لهل المساجد‪:‬‬
‫ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي ال عنه؟ فكلما ذكروه في‬
‫مسجد أثنوا عليه خيراً‪ ،‬حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل‪،‬‬
‫يقال له‪ :‬أسامة بن قتادة‪ :‬أما إذ سألتنا فوال إن أميرنا سعد بن أبي وقاص ل‬
‫يعدل في القضية‪ ،‬ول يحكم بالسوية‪ ،‬ول يسير بالسرية وصفه بالجبن‪،‬‬
‫والظلم‪ ،‬والحيف‪ ،‬وعدم النصاف والعياذ بال‪ ،‬فغضب سعد بن أبي وقاص‬
‫من ذلك أشد الغضب؛ لنه يعلم أن هذا الرجل كاذب‪ ،‬فقال‪[[ :‬اللهم إن كان‬
‫هذا قام رياءً وسمعة وكذباً‪ ،‬فإني أسألك ثلثاً‪ :‬اللهم أطل عمره‪ ،‬وأطل فقره‪،‬‬
‫ت هذا الرجل‬ ‫وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث‪ :‬فأنا وال قد رأي ُ‬
‫شيخاً كبيراً قد عمي‪ ،‬وهو يقف في السواق يتعرض للجواري يغازلهن‬
‫ويغمزهن‪ ،‬وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر‪ ،‬وهو يقول‪ :‬شيخ كبير‬
‫مفتون أصابته دعوة سعد‪ ،‬فأنت تلحظ هاهنا‪ ،‬كيف أن هذا الرجل لم يعرف‬
‫لـسعد بن أبي وقاص‪ ،‬أنه صاحب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ول‬
‫بلءه وجهاده في السلم‪ ،‬ول أنه من أهل الجنة‪ ،‬ول شيئاً من ذلك‪ ،‬إنما‬
‫ذكر مثالبه ومعايبه التي هي ‪-‬في الواقع‪ -‬كذب وافتراء‪ ،‬وإل فإن سعداً‬
‫بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب‪ ،‬ول شك أن النقد بهذا المعنى‬
‫محرم‪ ،‬لنه نوع من الغيبة‪ ،‬وال عز وجل يقول‪ :‬وَل يَغْ َتبْ بَ ْعضُكُمْ بَعْضاً‬
‫[الحجرات‪ .]12:‬وفي صحيح مسلم‪ ،‬أن النبي صلى ال عليه وسلم سئل ما‬
‫الغيبة؟ فقال‪{ :‬ذكرك أخاك بما يكره‪ .‬قال‪ :‬يا رسول ال أرأيت إن كان في‬
‫أخي ما أقول؟ قال‪ :‬إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته‪ ،‬وإن لم يكن فيه ما تقول‬
‫فقد بهته}‪ .‬وقد ذكر القرطبي رحمه ال‪ ،‬إجماع العلماء على أن الغيبة من‬
‫كبائر الذنوب‪ ،‬فهي إما أن تكون غيبة بهذا العتبار‪ ،‬وذلك كالذين يبحثون‬
‫عن عيوب الناس ومثالبهم‪ ،‬ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة‬
‫فيهم‪ ،‬فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم‪ ،‬ويقعون في أعراضهم‪،‬‬
‫ويبتغون للبرآءِ العيب‪ ،‬فهي غيبة حينئ ٍذ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به‬
‫فهو بهتان وظلم‪ ،‬وال سبحانه وتعالى ل يهدي القوم الظالمين‪ ،‬يقول عز‬
‫وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪ :‬قال ال تعالى‪{ :‬يا عبادي‪ ،‬إني حرمت الظلم على نفسي‬
‫وجعلته بينكم محرماً‪ ،‬فل تظالموا} ل يظلم بعضكم بعضاً‪ ،‬وليس دافع‬
‫هؤلء بكل حال الصلح‪ ،‬ل‪ .‬ول تصحيح الخطاء وإنما دافعهم الحسد‬
‫والبغي والحقد والظلم‪ ،‬وما من ذنب أجدر أن يعجل ال تعالى له العقوبة في‬
‫الدنيا ‪-‬مع ما يدخره لصاحبه في الدار الخرة‪ -‬من البغي وقطيعة الرحم‪،‬‬
‫كما صح بذلك الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬صحيح أن هناك‬
‫حالت قد يجوز للنسان فيها أن يغتاب‪ ،‬والقاعدة العامة والضابط العام في‬
‫مثل هذه الحالت‪ ،‬هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها‪،‬‬
‫راجحة على مفسدتها‪ ،‬وذلك لن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء النسان الذي‬
‫اغتبته‪ ،‬إيذاءه وظلمه‪ ،‬والحط من قدره فهذه‪ ،‬مفسدة ظاهرة‪ ،‬ولذلك حرم ال‬
‫تعالى الغيبة‪ .‬لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك‪ ،‬فحينئذٍ تجوز‬
‫الغيبة‪ ،‬وقد ذكر العلماء ست حالت‪ ،‬بل ذكر بعضهم تسع حالت‪ ،‬قالوا‪ :‬إنه‬
‫يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لن مصلحة الغيبة حينئذٍ‬
‫راجحة ظاهرة‪ ،‬وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين‪ ،‬والتحذير‬
‫من أهل البدع وغير ذلك‪.‬‬
‫معاني النقد‬

‫المعنى الول‪ :‬تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير ‪ -‬يعني‪ :‬من‬


‫النقود‪ ،-‬فأنت تقول‪ :‬نقدت الدراهم وانتقدتها‪ ،‬إذا ميزت جيدها من رديئها‪،‬‬
‫وأخرجت زيفها‪ ،‬ولذلك قال الشاعر‪ :‬الموت نقاد على كفه دراهم يختار منها‬
‫الثمين فهذا معنى للنقد‪ :‬اختيار الجيد وتمييز الزيف‪.‬‬
‫المعنى الثاني‪ :‬هو العيب والتجريح فأنت تقول‪ :‬نقدت فلناً بإصبعي إذا‬
‫ضربته به‪ ،‬ولهذا قال أبو الدرداء رضي ال عنه‪[[ :‬الناس إن نقدتهم نقدوك‬
‫وإن تركتهم لم يتركوك]] أي‪ :‬إن عبتهم عابوك‪ ،‬وإن سكت عنهم عابوك‬
‫أيضا‪ -‬فل سلمة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ)‬

‫مسألة التأصيل الشرعي لموضوع النقد‬

‫ما هو الصل في موضوع النقد من الناحية الشرعية؟ مما يدخل في باب‬


‫النقد من الناحية الشرعية‪ ،‬أمور‪...... :‬‬

‫محاسبة النفس‬
‫كذلك مما يدخل في باب النقد‪ :‬محاسبة النفس‪ .‬فإن النسان قد ينتقد نفسه‬
‫دون أن يحتاج إلى غيره‪ ،‬وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها‪ ،‬بل الدولة من‬
‫الدول‪ ،‬قد تنتقد نفسها‪ ،‬وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة‪ ،‬مهمتها المتابعة‪،‬‬
‫والمراقبة والمراجعة‪ ،‬والتصحيح والتعديل‪ ،‬على سبيل الحقيقة ل على سبيل‬
‫التغطية أو التورية أو التسكيت‪.‬كل‪ ،‬فإننا قد نجد في كثير من الدول‪ ،‬أنها قد‬
‫تضع مؤسسات للشراف‪ ،‬أو التفتيش أو المراجعة‪ ،‬لكن تكون مهمة هذه‬
‫الشياء مهمةً شكلية‪ ،‬فإن الدولة في السلم تجعل هناك مؤسسات وأجهزة‪،‬‬
‫مهمتها مهمة نـزيهة نظيفة حرة مستقلة‪ ،‬تقوم بالمراجعة والتصحيح على‬
‫الكبير والصغير والمأمور والمير‪ ،‬دون أن تجد في ذلك حرجاً أو غرابةً‪،‬‬
‫بل هذا هو عين الكمال وعين القوة وعين الصواب‪ .‬موقف السلف من‬
‫محاسبة أنفسهم‪ :‬إذًا الفرد والجماعة والدولة والمة‪ ،‬كلها تراقب نفسها‪،‬‬
‫ولذلك قال عمر رضي ال عنه ‪-‬كما في سنن الترمذي‪ -‬قال‪[ :‬حاسبوا‬
‫أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا‪ ،‬فإنه أهون عليكم في‬
‫الحساب غداً عند ال عز وجل‪ ،‬أن تحاسبوا أنفسكم اليوم‪ ،‬وتهيئوا للعرض‬
‫الكبر َيوْمَئِذٍ تُعْ َرضُونَ ل َتخْفَى مِنْكُ ْم خَافِيَةٌ [الحاقة‪ ]]]18:‬والحديث أيضًا‬
‫رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والزراء عليها‪ .‬كذلك حنظلة‬
‫بن الربيع السيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي ال عنه‬
‫وهو حزين يبكي‪ ،‬وقال‪ :‬يا أبا بكر نافق حنظلة ‪-‬أنا منافق‪ .-‬قال‪ :‬وما ذاك؟‬
‫قال‪ :‬أكون عند رسول ال صلى ال عليه وسلم على حال‪ ،‬فإذا ذهبنا منه‬
‫عافسنا الولد والزواج والضيعات‪ ،‬ونسينا كثيراً‪ .‬إذاً‪ :‬هو انتقد نفسه‬
‫وحاسبها‪ ،‬حتى اتهم نفسه بالنفاق‪ ،‬وقال أبو بكر‪ :‬وال إن كلنا كذلك‪ ،‬وجاءوا‬
‫إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال‪{ :‬لو تكونون على كل حال كما‬
‫تكونون عندي‪ ،‬لصافحتكم الملئكة على فرشكم وفي طرقكم‪ ،‬ولكن يا‬
‫حنظلة ساعة وساعة}‪ .‬إذن النسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه‪ ،‬وكذلك الفئة‬
‫والجماعة‪ ،‬والطائفة والمة والدولة‪ ،‬تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة‬
‫لينتقدها الخرون‪ ،‬أو تترك فرصة لستفحال الخطاء والمراض والفات‬
‫والمنكرات‪ ،‬بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها‪ .‬ورضي ال‬
‫عن سلف هذه المة الكرام‪ ،‬كيف كانوا في صدق عبوديتهم ل عز وجل‪،‬‬
‫وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم‪ ،‬ومع ذلك كله لم يكن هناك‬
‫أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لنفسهم‪ ،‬وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً‬
‫في المعاصي والفسوق‪ ،‬ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح‪ ،‬لقال‪ :‬أنا‪ .‬أما هم‬
‫فمع صيام النهار‪ ،‬وقيام الليل‪ ،‬وصدق التعبد‪ ،‬وحرارة التقوى‪ ،‬مع ذلك‪،‬‬
‫اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد ال رضي ال عنه وهو من عباد السلف‬
‫وزهادهم في يوم عرفة‪ ،‬يقول‪[[ :‬اللهم ل ترد هذا الجمع كله من أجلي]]‪-‬‬
‫رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والبتهال‪ ،‬فأنحى على نفسه‪ ،‬وخشي أن‬
‫يُرد الحجاج بسببه هو‪ -‬فقال‪[[ :‬اللهم ل ترد هذا الجمع كله من أجلي]]‬
‫ومثله بكر بن عبد ال المزني‪ ،‬يقول‪[[ :‬لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت‬
‫أن ال غفر لهم لول أني كنت فيهم]]‪ .‬يونس بن عبيد رحمه ال‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫[[وال إني لعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً‬
‫منها]] فليس عندهم كبرياء‪ ،‬ول غطرسة‪ ،‬ول غرور‪ ،‬وما فيهم أحد يقول‪:‬‬
‫أنا أنا‪ .‬يقول ابن أبي مليكة‪[[ :‬لقد أدركت ثلثين من أصحاب محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ما فيهم واحد إل يخاف النفاق على نفسه‪ ،‬وما منهم أحد‬
‫يقول‪ :‬إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]]‪ .‬هؤلء أصحاب محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهؤلء هم التابعون لهم بإحسان‪ .‬هذا محمد بن واسع‬
‫يقول ‪ -‬وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض‪ -‬قال‪[[ :‬وما يغني عني ما‬
‫يقوله الناس‪ ،‬إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]]‪ .‬إذاً مدح الناس‬
‫وثناؤهم والضجيج العلمي‪ ،‬حول فلن من العلماء أو فلن من‬
‫المسئولين‪ ،‬أو مدح الناس لفلن؛ لنه مشهور أو معروف‪ ،‬هذا ل يغني عنه‬
‫شيئاً إذا كان ما بينه وبين ال غير مستقيم‪ ،‬وإذا كان ما بينه وبين ال حسن‬
‫فل يضره أن يكون الناس بخلف ذلك‪ .‬وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني‬
‫وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب‬
‫تراب فوائد محاسبة النفس سراً وعلنية‪ :‬وقد يحاسب النسان نفسه سراً‬
‫بينه وبين نفسه‪ ،‬فيعاتبها ويوبخها‪ ،‬وهذا ل شك أنه أبعد عن الرياء‪ ،‬وهو‬
‫يدعو النسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ‪ ،‬ويراجع نفسه أولً بأول‪،‬‬
‫وقد يحاسبها علنية وعلى مل من الناس‪ ،‬وعلى مرأى ومسمع منهم‪ ،‬وهذا‬
‫له إيجابية ومنافع كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬الفائدة الولى‪ :‬أنه يعترف بهذا الخطأ لئل‬
‫يُتابع عليه‪ ،‬وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولً عند الناس‪ ،‬فيعلن‬
‫أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئل يتابعه الناس عليه‪ ،‬كأن يكون صاحب بدعة‬
‫تاب منها‪ ،‬فيقول للناس‪ :‬من كان يعرفني فقد عرفني‪ ،‬ومن لم يعرفني فأنا‬
‫فلن بن فلن‪ ،‬كنت أقول كذا وكذا والن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن‬
‫الشعري في خطبته المعروفة‪ .‬الفائدة الثانية‪ :‬والعتراف علنية أيضاً من‬
‫فوائده‪ :‬أنه يعود الخرين على ذلك‪ .‬فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض‪،‬‬
‫ويقلد بعضهم بعضاً‪ ،‬فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية‪ ،‬عود الناس أنه‬
‫يعترف بالخطأ علنية وأمامهم‪ ،‬يقول‪ :‬قلت كذا وهذا خطأ‪ ،‬وفعلت كذا وهذا‬
‫خطأ وأنا أتوب‪ ،‬فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً‬
‫ل بأول‪ .‬الفائدة الثالثة‪ :‬من‬
‫بأخطائهم‪ ،‬ويرجعوا عنها‪ ،‬ويحاولوا تصحيحها أو ً‬
‫العتراف العلني‪ :‬أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لنهم قد يأخذوا هذه‬
‫الخطاء ويشنعون بها عليك‪ ،‬فإذا اعترفت بها علنية قطعت الطريق‬
‫عليهم‪ .‬الفائدة الرابعة‪ :‬أنه يضع النسان في مكانه الطبيعي‪ ،‬فل يكون هناك‬
‫تعصب لفلن من الناس‪ ،‬فإننا نجد ‪-‬مثلً‪ -‬من الطلب من يتعصب لعالم من‬
‫العلماء‪ ،‬لماذا؟ لنه ل يعرف إل الصواب من أقواله‪ .‬لكن لو أن هذا العالم‬
‫قال‪ :‬أنا أخطأت في كذا وكذا‪ .‬عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي أل يتعصبوا‪،‬‬
‫وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ول يغلوا فيه أو يفرطوا‪ .‬وكذلك‬
‫الحال بالنسبة لغيره‪ ،‬مثلً‪ :‬المتنفذ أو المسئول‪ ،‬إذا كان يعترف بخطئه‬
‫ويتراجع عنه‪ ،‬فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ‬
‫ويناصحوه‪ ،‬كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة‪.‬‬
‫المر بالمعروف والنهي والمنكر‬

‫المر الثاني‪ :‬موضوع المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وهو شعيرة‬


‫عظيمة‪ ،‬ألّف فيها خلق من أهل العلم كتباً كثيرة‪ ،‬ونصوص هذا الباب أكثر‬
‫جتْ‬ ‫من أن تذكر وأشهر من أن تحصر‪ ،‬منها قوله تعالى‪ :‬كُنْ ُت ْم خَيْرَ أُمّ ٍة ُأخْرِ َ‬
‫ن الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالِّ [آل عمران‪:‬‬ ‫عِ‬ ‫لِلنّاسِ َتأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَ ْنهَوْنَ َ‬
‫‪ ]110‬وذكر عن المؤمنين‪ :‬بَ ْعضُهُ ْم أَ ْولِيَاءُ بَ ْعضٍ َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ َويَنْهَوْنَ‬
‫ن الْمُنْكَرِ [التوبة‪ ]71:‬إلى غير ذلك‪ .‬وقد كان الصحابة رضي ال عنهم‬ ‫عَ ِ‬
‫يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬ل يعتبرون أن أحداً يُقصر في ذلك‪،‬‬
‫ل أميراً ول مأموراً‪ ،‬ول كبيراً ول صغيراً‪ ،‬ول يجاملون فيها أحداً قط‪ ،‬وما‬
‫قصص الصحابة رضي ال عنهم من ذلك بأمر قليل‪ ،‬فإنهم قد انتقدوا على‬
‫بعضهم بعضًا أموراً كثيرة‪ ،‬كما انتقد علي رضي ال عنه على عثمان أنه‬
‫نهى عن المتعة في الحج‪ ،‬ولما سمع أنه ينهى عنها‪ ،‬أهلّ بها علي بأعلى‬
‫صوته‪ :‬لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحجِ‪ ،‬ولم يقُل‪ :‬هذا أجامله‪ ،‬أو أستحي‬
‫منه أو أقره؛ لنه ل يرى أن في هذا حطاً من قدره؛ لن فيه إحياءً لسنةٍ من‬
‫سنن النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكذلك لما رأى ابن عباسٍ معاويةَ يستلم‬
‫أركان البيت كلها‪ ،‬ويقول‪ :‬ليس شيء من البيت مهجوراً انتقده ابن عباس‬
‫علنيه‪ ،‬وهو كان له مكانة عالية وأمير‪ ،‬وقال له ابن عباس‪[[ :‬لقد كان لكم‬
‫في رسول ال أسوة حسنة‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم ل يستلم إل‬
‫الركنين]]‪ .‬ولم ير معاويةَ أن في هذا حطاً من قدره ول بخساً لمكانته‪ ،‬كما‬
‫لم ير ابن عباس أن مكانة معاويةَ تمنع من أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن‬
‫المنكر‪ ،‬ويُقال له‪ :‬هذا هو الطريق فالزمه‪.‬‬

‫النصيحة‬

‫المر الول‪ :‬النصيحة فإن النقد هو نوع في حقيقة المر من النصيحة‪ ،‬وقد‬
‫علَى الّذِينَ ل‬
‫علَى الْمَ ْرضَى وَل َ‬
‫علَى الضّ َعفَاءِ وَل َ‬‫قال ال عز وجل‪ :‬لَيْسَ َ‬
‫صحُوا لِّ وَرَسُوِلهِ [التوبة‪ ]91:‬فذكر النصيحة‬ ‫ن حَ َرجٌ إِذَا َن َ‬
‫َيجِدُونَ مَا يُ ْن ِفقُو َ‬
‫ل تعالى‪ ،‬ولرسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن ذلك النصيحة للمؤمنين‪.‬‬
‫وقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيما رواه مسلم عن أبي هريرة في حق‬
‫المسلم على المسلم‪ ،‬قال‪{ :‬وإذا استنصحك فانصحه} وفي الحديث الثالث‪،‬‬
‫وهو صحيح أيضا‪{ :‬إن ال يرضى لكم ثلثاً‪ ...‬وذكر منها‪ :‬أن تناصحوا من‬
‫وله ال أمركم} والحديث المشهور حديث تميم بن أوس‪ ،‬أن النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪{ :‬الدين النصيحة ‪-‬ثلثاً‪ -‬قلنا‪ :‬لمن يا رسول ال؟ قال‪ :‬ل‬
‫ولرسوله ولكتابه ولئمة المسلمين وعامتهم} بل إن النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم قال‪ ،‬في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن‪ ،‬كما يقول الحافظ ابن‬
‫حجر في بلوغ المرام‪ ،‬يقول‪{ :‬المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فانظر كيف أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم شبه المؤمن بالمرآة‪ ،‬إذا وقف أمامها النسان‬
‫رأى صورته الحقيقية‪ ،‬بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! فإننا‬
‫نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها‪ ،‬وحلوها ومرها‪،‬‬
‫وجيدها ورديئها؛ وذلك لن النسان ربما ل يستطيع أن يعرف نفسه‪ ،‬ول‬
‫يرى نفسه جيداً‪ ،‬إل من خلل رؤيته لنفسه في أخيه المسلم الذي هو مرآة‬
‫له‪ .‬فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ول ترى نفسها إل بمرآةِ‬

‫موقف الناس من النقد‬


‫النسان بطبيعته يحب المدح ويكره الذم‪ ،‬وقد قال أبو ذر رضي ال عنه‪:‬‬
‫{يا رسول ال! الرجل يعمل العمل الصالح فيمدح به‪ ،‬فيعجبه ذلك‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬تلك عاجل بشرى المؤمن} فل تثريب على‬
‫النسان أن يكون بطبعه يحب أن يمدح‪ ،‬أو على أقل تقدير ل يحب أن يُذم؛‬
‫وذلك لن في النقد نسبة الخطأ إلى النسان‪ ،‬وكذلك الذم فيها نسبة الخطأ‬
‫إليه والخطأ مكروه فطرة‪...... .‬‬

‫الستعداد لقبول النقد‬


‫يا أخي‪ :‬القضية قضية أن هؤلء الناس لديهم استعداد لن يقبلوا الخطأ من‬
‫أي إنسان‪ ،‬كائناً من كان حتى ولو كان من عمر رضي ال عنه شخصياً‪ ،‬أن‬
‫يقوموا منه الخطأ‪ ،‬ويراجعو فيه ويصححوه‪ ،‬ومن المعروف أن المسلمين‬
‫في كل زمان ومكان‪ ،‬إذا كان الخطأ يستدعي أن يقوموه بالسيف قوموه‬
‫بالسيف ول حرج‪ ،‬وإذا كان المر ل يستدعي ذلك ول يوجب منابذة الحاكم‪،‬‬
‫فل شك أن المسلم ‪-‬فضلً عن صحابي من صحابة النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬ل يمكن أن يفكر بأنه سوف ينابذ المام في أمر ل يستحق ذلك‪ ،‬فهذه‬
‫قضية معروفة‪ .‬وإنما أنبه على هذا؛ لن بعض الخوة يستدرك إيراد مثل‬
‫هذه القصص دون بيان‪ ،‬وإن كان المعنى فيها واضحاً ل لبس فيه‪ .‬ومع ذلك‬
‫كان عمر رضي ال عنه يراجع نفسه دائما وأبداً‪ ،‬حتى يتعود على قبول ما‬
‫يلحظه الناس عليه‪ ،‬فمرة من المرات كان عمر في بستان فنظر إلى نفسه‬
‫وقال‪ :‬بخ بخ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! ‪ -‬كأنه يقول‪ :‬انتبه ل تعجبك‬
‫بنفسك‪ ،‬أو تغتر أو تتعاظم‪ ،‬أو تصيبك عظمة السلطان والرياسة‪ ،‬فتجحد‬
‫ن ال أو‬
‫الحق أو ترده‪[[ -‬عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ! وال لتتقي ّ‬
‫ليعذبنك ال]] إذاً انتبه يا عمر‪ ،‬واجعل عليك رقيباً من نفسك قبل أن يكون‬
‫عليك رقيب من الخرين‪ ،‬وقبل ذلك كله‪ ،‬فإن ال تعالى هو الرقيب على‬
‫عباده‪ ،‬وعلى مدار التاريخ كان المسلمون يحرصون على التصحيح‬
‫والتوجيه‪ ،‬والنقد الهادف البنّاء الرشيد‪ ،‬ويعتبرون هذا أساساً لبقاء المة‬
‫وبقاء السلم‪ ،‬وعدم زواله‪.‬‬

‫غياب النقد عند أناس ووجوده عند غيرهم‬

‫وإذا غاب هذا المعنى عن الحاكم في بعض الظروف وفي بعض الحوال‪،‬‬
‫وهيمنت النظم الستبدادية والنظم الدكتاتورية المتسلطة‪ ،‬التي تكتم أنفاس‬
‫المسلمين‪ ،‬وتمنعهم من أن يقولوا كلمة الحق‪ ،‬وتحول بينهم وبين النطق بها‪،‬‬
‫وتمنعهم من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬أو تمنعهم من النصيحة‪،‬‬
‫أو تمنعهم من النقد الهادف البناء‪ ،‬لنها ل تريد نبش التاريخ‪ ،‬ول كشف‬
‫الحقائق‪ ،‬ول مصارحة الشعوب بالمور وأبعادها وخلفياتها ومجرياتها‪ ،‬إذا‬
‫غاب هذا عن الحكام في حقبة من حقب التاريخ‪ ،‬أو في رقعة من الواقع‬
‫الموجود اليوم‪ ،‬فإن هذا لم يكن ليغيب عن العلماء والدعاة‪ ،‬بل كان العلماء‬
‫والدعاة ينصحون بعضهم بعضاً‪ ،‬وينصحون عامة المسلمين‪ ،‬بل وينصحون‬
‫حكام المسلمين‪ ،‬وإن لقوا في ذلك ما لقوا‪ .‬ولو ذهبت أذكر لكم مواقف من‬
‫نصيحة العلماء بعضهم لبعض‪ ،‬أو للمسلمين من العامة‪ ،‬أو للحكام سراً‬
‫وعلنية‪ ،‬سوا ًء من خلل المخاطبة‪ ،‬أو الخطبة‪ ،‬أو الكتاب؛ لطال بي المقام‪،‬‬
‫وأحيلكم على كتاب واحد فقط‪ ،‬وهو كتاب‪ :‬السلم بين العلماء والحكام‬
‫للشيخ عبد العزيز البدري‪ ،‬ففيه من ذلك شيء كثير‪ .‬أما اليوم فنقول ‪-‬وبكل‬
‫أسف‪ :-‬إن عيوب المة السلمية اليوم‪ ،‬ليست محصورة في طبقة معينة‪،‬‬
‫ل نخدع أنفسنا‪ ،‬ليس العيب اليوم في الحاكم‪ ،‬وليس العيب في العالِم‪ ،‬أو في‬
‫الداعية‪ ،‬ل‪ .‬العيب اليوم موجود في الجميع بدون استثناء‪ ،‬من القمة إلى‬
‫الهرم عند الجميع‪ ،‬فداء التسلط والدكتاتورية ‪-‬كما أسلفت‪ -‬وكتم النفاس‬
‫وسلب الحريات‪ ،‬ليس موجودًا في الحاكم فقط‪ ،‬وهو موجود في الحاكم‪،‬‬
‫ولكنه أيضاً‪ ،‬موجود عند كثير من العلماء والدعاة والمجتهدين‪ ،‬من حيث‬
‫يشعرون أو ل يشعرون‪ ،‬فتجد أن المعلم ‪ -‬مثلً ‪ -‬يستثقل أن يصحح الطالب‬
‫له خطأً‪ ،‬وقد يضطرب إذا صحح الطالب له خطأً في مجلس من مجالس‬
‫درسه‪ .‬وتجد الداعية يستغرب ويستثقل أن يصحح أحد التباع عليه شيئاً‬
‫وقع فيه‪ ،‬ول يعطيه من الحرية إل هامشًا صغيراً جداً‪ ،‬هو نفسه الهامش‬
‫الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب‪ .‬فمثلً قد يُسمح في بعض البلد‬
‫للنسان بأن ينتقد عمل البلدية‪ ،‬فيقول‪ :‬الشارع الفلني مائل والشارع‬
‫الفلني معتدل والشارع الفلني نظيف والشارع الفلني غير نظيف ‪ -‬مثلً ‪-‬‬
‫والبيت الفلني يحتاج إلى هدم‪ ،‬والبيت الفلني ل يحتاج‪ ،‬والمكان الفلني‬
‫وقع في خطأ‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ -‬من الهامش الصغير الذي قد يرضي بعض‬
‫السذج والبسطاء والمغفلين‪ .‬وكذلك قد يعطي الداعية أو العالم أحياناً‪ ،‬من‬
‫حوله هامشاً صغيراً من الحرية يخدعهم به عن ضرورة النقد البناء العميق‬
‫الصحيح‪ ،‬وضرورة المراجعة‪.‬‬

‫الشمئزاز من النقد‬

‫ولذلك أقول‪ :‬إن المة اليوم ما زالت تعتبر النقد نوعاً من الستفزاز‪ ،‬أو حط‬
‫المكانة‪ ،‬أو مخالفة المألوف‪ ،‬لم يتعود الناس على هذا‪ ،‬لم تتعود آذانهم عليه‪،‬‬
‫ولهذا صاروا يشمئزون منه‪ ،‬يستغربونه‪ ،‬يعتبرونه شيئاً عظيماً‪ .‬يا أخي!‬
‫كل الدنيا هكذا‪ ،‬هل كتب على المسلمين فقط أن يظلوا في مثل هذه المور‪،‬‬
‫ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم‪ ،‬ول على اكتشافها؟! هل كتب علينا‬
‫أن نظل نواجه هذه الخطاء‪ ،‬وهي تتراكم وتزداد يوماً بعد يوم؟! ونحن إن‬
‫نصحنا رأينا أن هذا فيه ما فيه‪ ،‬وتجد أن الواحد منا ل يفعل شيئاً‪ ،‬لكنه لو‬
‫سمع إنساناً ينصح لقال‪ :‬يا أخي‪ ،‬لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا لم تأت النصيحة‬
‫بالطريقة الفلنية؟ يا أخي! افعل أنت ما تقتنع أنه صحيح؛ لن المسئولية‬
‫مسئولية الجميع‪ ،‬وليست مسئولية فرد معين أو فئة معينة‪ ،‬وكأن الكثيرين‬
‫ظنوا أن الدين لم يأت بهذه المور‪ ،‬أو أنهم غير مكلفين‪ ،‬أو غير محاسبين‬
‫على مثل هذه الشياء‪ ،‬وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي ال عنهم كان‬
‫بعضهم يستدرك على بعض‪ ،‬وبعضهم يصحح لبعض‪ ،‬علنيةً إذا كان المر‬
‫يقتضي العلن‪ ،‬وسراً إذا كان المر يقتضي السرار‪ .‬لشك أن النقد‬
‫يحتاج أحياناً إلى سرية فإذا كان النسان مستتر بذنب فل تفضحه على‬
‫المل‪ ،‬بل بينك وبينه‪ ،‬لكن إذا كان الخطأ معلناً على رءوس الشهاد‪ ،‬فإن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم جيء بإنسان ميت‪ ،‬فأثنى الناس عليه شراً‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪{ :‬وجبت وجبت‪ ،‬وسمعه الصحابة فقالوا‪ :‬وما‬
‫وجبت؟ فقال‪ :‬وجبت له النار‪ ،‬أنتم شهود ال في أرضه} لم يمنعه عليه‬
‫الصلة والسلم‪ ،‬ما دام أن المر مشهور تداوله الناس وتناقلوه فيما بينهم‪،‬‬
‫والمجتمع كله يتحدث عن هذه الخطاء‪ ،‬فل تقل‪ :‬ل تتكلم فيها ول تشهرها‬
‫ل وكل الناس يعرفونها‪ .‬خذ ‪-‬مثلً‪ -‬أجهزة‬ ‫ول تنشرها‪ .‬هي معروفة أص ً‬
‫العلم التلفاز‪ ،‬قلما بيت إل وفيه تلفاز‪ ،‬يقف أمام هذا الجهاز الكبير‬
‫والصغير‪ ،‬والرجل والمرأة على حد سواء‪ ،‬ابتليت به كثير من البيوت مع‬
‫السف الشديد‪ ،‬حتى إنك قد تدخل بيوت أناس صالحين‪ ،‬بل ربما يكون ممن‬
‫يشار إليهم بالبنان‪ ،‬وفيها هذا البلء‪ ،‬ومع ذلك لو أن إنسانًا قام في خطبة أو‬
‫مناسبة أو في محاضرة‪ ،‬وتكلم عن برنامج يذاع في التلفاز وانتقده‪ ،‬لقال‬
‫بعض الحضور‪ :‬يا أخي‪ ،‬ليس من الضرورة نشر هذا الكلم‪ ،‬ليس فيه‬
‫مصلحة‪ ،‬يا سبحان ال! أين نحن؟! في أي عالم نعيش؟!! أليس هذا البرنامج‬
‫الذي ينتقده فلن عُرض على مليين المشاهدين‪ ،‬أقول‪ :‬مليين في حين أن‬
‫الذين سمعوا هذه الخطبة ألوف أو مئات أحياناً‪ ،‬فلماذا نعتبر أن هذا الخطأ‬
‫الذي شاهده مليين‪ ،‬أو سمعه مليين أو علم به مليين‪ ،‬نعتبر أن الحديث‬
‫عنه مع عشرات أو مئات أو ألوف‪ ،‬أنه نوع من التشهير؟! أو أنه غير‬
‫مناسب؟! السبب في ذلك أن المة لم تتعود على النقد الصحيح‪ ،‬ولذلك‬
‫صارت تعتبر أن النقد ‪-‬كما قلت سابقاً‪ -‬نوع من الستفزاز‪ ،‬أو من التشهير‪،‬‬
‫أو من إثارة الفتنة في بعض الحيان وهذه كلها مفاهيم خاطئة‪ .‬وقبل قليل‬
‫ذكرت لك أن الصحابة يصحح بعضهم لبعض علنية‪ ،‬دون حساسية ول‬
‫حرج‪ ،‬ومن بعدهم كلهم كانوا كذلك‪ ،‬وإذا كان الخطأ ظاهراً مشهوراً‪ ،‬فل‬
‫معنى لنكاره سراً‪ ،‬فإن الناس يقولون‪ :‬أين العلماء؟! أين الدعاة؟! أين‬
‫الخطباء؟! أين المصلحون؟! والخطاء تقع صباح مساء‪ ،‬وهم ساكتون عنها‬
‫ل يحركون ساكناً‪ ،‬وما يدري الناس أنك قلت لفلن أو علن‪ ،‬أو كتبت أو‬
‫رفعت سماعة الهاتف‪ ،‬وخاصةً إذا تكررت هذه المور‪ ،‬ولم تزل تفعل‬
‫الطريقة التي تعجبك‪ ،‬لكن إذا ظل المر موجوداً‪ ،‬على أقل تقدير حتى‬
‫يعذرك الناس‪ ،‬ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع‪ ،‬وأعذرت إلى ال‪ ،‬وحتى‬
‫تحذر الناس من هذا المر وتبين لهم خطورته وعواقبه‪.‬‬

‫الصحابة الكرام والعتراف بالخطأ‬


‫أبو بكر رضي ال عنه‪ ،‬سمع الناس يثنون عليه‪ ،‬فكان يقول‪[[ :‬اللهم اجعلني‬
‫خيراً مما يظنون‪ ،‬واغفر لي مال يعلمون]] فل يغتر بثنائهم‪ ،‬وإنما يسأل ال‬
‫تعالى أن يغفر له ما ل يعلمون من عيوبه‪ .‬وفي صحيح البخاري‪ ،‬أن أبا بكر‬
‫رضي ال عنه‪ ،‬وعمر اختلفا في مسألة‪ ،‬فجاء أبو بكر وقد رفع ثوبه وجلس‬
‫عند النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وذكر أنه صار بيني وبين عمر بن الخطاب‬
‫خصومة‪ ،‬وطلبت منه أن يسامحني فأبى‪ ،‬وإذا بـعمر يجيء‪ ،‬فتغير وجه‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورأى أبو بكر التغير في وجه النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬والغضب لـأبي بكر على عمر‪ ،‬لماذا ما سامحت أبا بكر؟ ولماذا‬
‫وقفت منه هذا الموقف؟ فلما رأى أبو بكر ما برسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬أشفق عليه وأشفق على عمر‪ ،‬وقام وقال‪ :‬وال يا رسول ال‪ ،‬أنا كنت‬
‫أظلم‪- .‬يعني أنا أخطأت من أجل أن ل ينال عمر رضي ال عنه شيء‪ ،‬فقال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪{ :‬إن ال بعثني فقلتم‪ :‬كذبت‪ .‬وقال أبو بكر‪:‬‬
‫صدقت‪ .‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي} فما أوذي أبو بكر رضي ال عنه‬
‫بعدها أبداّ‪ .‬الشاهد أن أبا بكر رضي ال عنه‪ ،‬كان سريعًا إلى الرجوع إلى‬
‫الحق والعتراف به‪ .‬وقصته مع ولده أيضاً وهي في صحيح البخاري قصة‬
‫طويلة‪ ،‬ل أطيل بذكرها وسرعان ما كان يعود إلى الحق‪ ،‬ويعتذر من الخطأ‬
‫ممِن أخطأ عليه رضي ال عنه إن سراً فسراً وإن علنية فعلنية‪ ،‬ول يزيد‬
‫في هذا غضاضة ول حرجاً‪ .‬أما عمر رضي ال عنه فكما كان شديداً في‬
‫الحق كان شديداً على نفسه‪ ،‬ولذلك أعلنها صيحة مدوية [[رحم ال امرءاً‬
‫أهدى إلينا عيوبنا]] فاعتبر أجمل ما تهدي إليه‪ ،‬أن تهدي إليه عيباً‪ ،‬ولم‬
‫يشترط عليك عمر أن تسر أو تعلن‪ ،‬وأي طريقة وأي كلم وأي أسلوب‪،‬‬
‫المهم أنك تهدي له عيباً بأي شكل‪ ،‬وكان رضي ال عنه يتقبل النصيحة‬
‫حتى وهو على المنبر‪ ،‬فربما صعد وقال [[أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا‪.‬‬
‫فقام رجل من الرعية من عامة الناس‪ ،‬وقال‪ :‬ل سمع ول طاعة‪ .‬فقال‪ :‬لِمَ‬
‫رحمك ال؟ قال‪ :‬لنك أعطيتنا ثوباً ثوباً‪ .‬ولبست ثوبين‪ .‬فقال‪ :‬قم يا عبد ال‬
‫بن عمر‪ .‬فيقوم ابن عمر‪ ،‬ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه‪ ،‬فلبس ثوبه‬
‫ولبس ثوب ولده عبد ال]]؛ لنه رجل كبير جسيم‪ .‬ومرة أخرى يقول‪[[ :‬لو‬
‫رأيتم فيّ اعوجاجاً‪ .‬يقول له رجل‪ :‬لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا]]‬
‫فخذ هذه القصة ول تظل تنظر فيها وتحللها‪ ،‬وتقول‪ :‬هل المعنى أنهم سوف‬
‫يخرجون عليه؟ ل‪ .‬ل أبداً‪.‬‬

‫النبياء نماذج للعتراف بالخطأ‬


‫أنبياء ال ورسله عليهم الصلة والسلم‪ ،‬كلهم كانوا نماذج للعتراف بالخطأ‬
‫إذا وقع والخروج منه‪ ،‬فموسى عليه الصلة والسلم يقول‪ ،‬كما في قصته‬
‫ن أَمْرِي عُسْراً [الكهف‪:‬‬ ‫مع الخضر‪ :‬ل ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا َنسِيتُ وَل تُرْ ِهقْنِي مِ ْ‬
‫ن لَدُنّي‬ ‫يءٍ بَعْدَهَا فَل ُتصَاحِبْنِي قَدْ َبلَ ْغتَ مِ ْ‬ ‫سَألْ ُتكَ عَنْ شَ ْ‬ ‫ل إِنْ َ‬ ‫‪ ]73‬ويقول‪ :‬قَا َ‬
‫عُذْراً [الكهف‪ ]76:‬بل إنني أعجب حين أقرأ قصة عيسي عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬التي رواها البخاري في صحيحه‪ ،‬عن أبي هريرة عن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪{ :‬رأى عيسى بن مريم رجلً يسرق ‪-‬رآه بعينه‪ -‬فقال له‬
‫عيسى‪ :‬أسرقت؟ قال‪ :‬كل وال الذي ل إله إل هو ما سرقت قال له عيسى‬
‫عليه السلم‪ :‬آمنت بال وكذبت عيني} كذبت نفسي فيما رأيته‪ ،‬يحتمل أن‬
‫يكون وضع للقضية ألف احتمال‪ ،‬يمكن أن يكون أخذ هذا المال لنه محتاج‬
‫إليه‪ ،‬أو يكون له‪ ،‬أو يكون ظفر بماله فأخذه‪ .‬كلم كثير لهل العلم المقصود‬
‫أنه عليه الصلة والسلم في شدة تواضعه واعترافه أنه يرى السارق‪ ،‬ثم‬
‫يقول لما حلف بال الذي ل إله إل هو‪ :‬آمنت بال وكذبت عيني‪ .‬أما محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو صاحب القدح المعلى في ذلك‪ ،‬وكيف ل! وقد‬
‫خاطبه ال تعالى في مواضع كثيرة من كتابه‪ ،‬يأمره بالستغفار ويأمره‬
‫ل الُّ وَاسْتَ ْغفِ ْر لِذَنْ ِبكَ [محمد‪:‬‬ ‫علَ ْم أَنّهُ ل ِإلَ َه إِ ّ‬
‫بالتقوى‪ ،‬يقول ال عز وجل‪ :‬فَا ْ‬
‫ن الِّ‬‫ن فِي دِي ِ‬ ‫خلُو َ‬ ‫‪ ]19‬ويقول‪ :‬إِذَا جَاءَ َنصْ ُر الِّ وَا ْلفَتْحُ * وَ َرأَ ْيتَ النّاسَ يَ ْد ُ‬
‫َأفْوَاجًا * فَسَبّحْ ِبحَمْدِ َرّبكَ وَاسْتَ ْغفِرْ ُه إِنّهُ كَانَ َتوّاباً [النصر‪ ]3-1:‬إِنّا أَنـ َزلْنَا‬
‫خصِيماً‬ ‫ن َ‬ ‫ن ِللْخَائِنِي َ‬‫ك الُّ وَل تَ ُك ْ‬ ‫ن النّاسِ بِمَا أَرَا َ‬ ‫ق لِ َتحْكُمَ بَيْ َ‬
‫ك الْكِتَابَ بِالْحَ ّ‬ ‫ِإلَ ْي َ‬
‫ن الّذِينَ َيخْتَانُونَ‬ ‫عِ‬ ‫غفُوراً َرحِيماً * وَل ُتجَا ِدلْ َ‬ ‫ن الَّ كَانَ َ‬ ‫* وَاسْتَ ْغفِ ِر الَّ ِإ ّ‬
‫ن خَوّاناً أَثِيماً [النساء‪ ]107-105:‬يَا أَيّهَا النّبِيّ‬ ‫حبّ َمنْ كَا َ‬ ‫ن الَّ ل ُي ِ‬ ‫أَ ْنفُسَهُ ْم إِ ّ‬
‫ق الَّ وَل تُطِ ِع الْكَافِرِينَ وَالْمُنَا ِفقِينَ [الحزاب‪ ]1:‬يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ ُتحَرّمُ مَا‬ ‫اتّ ِ‬
‫ن َلهُ‬‫ي أَنْ يَكُو َ‬ ‫ن لِنَبِ ّ‬
‫جكَ [التحريم‪ ]1:‬مَا كَا َ‬ ‫ت أَزْوَا ِ‬ ‫لّ َلكَ َتبْتَغِي مَ ْرضَا َ‬ ‫لا ُ‬ ‫َأحَ ّ‬
‫ن فِي الَْرْضِ [النفال‪ .]67:‬وهكذا عاتب ال نبيه صلى ال‬ ‫أَسْرَى حَتّى يُ ْثخِ َ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأمره بالستغفار‪ ،‬وأمره بالتقوى‪ ،‬ونهاه عن طاعة الكافرين‬
‫والمنافقين‪ ،‬ولهذا كان من شأنه صلى ال عليه وسلم أمر عجيب من‬
‫تواضعه‪ ،‬وقبوله للرأي الخر‪ ،‬وإعراضه عن الجاهلين‪ ،‬وتحمله‪ ،‬ورجوعه‬
‫إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد‪ ،‬من ذلك أن بعض الناس شككوا في‬
‫قسمة النبي صلى ال عليه وسلم للمال ‪-‬وهذا موجود في كل زمان‪ -‬شككوا‬
‫في قسمة المال‪ ،‬وأنها قسمة ما أريد بها وجه ال‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪{ :‬رحم ال أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} والثابت في‬
‫الصحيح أن النبي صلى ال عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل‬
‫الذي قال تلك الكلمة‪ ،‬وشكك في القيادة العليا ‪-‬قيادة النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،-‬لم يأمر بالقبض عليه قط‪ ،‬ول أودعه في السجن‪ ،‬ول فتح محاضر‬
‫التحقيق معه‪ ،‬ول حكم عليه بسجن مؤبد ول بغير مؤبد‪ ،‬ول شهّر به‪ ،‬ول‬
‫فضحه أبداً‪ ،‬وإنما تركه حرًا طليقاً لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى ال‬
‫عليه وسلم قال‪{ :‬رحم ال أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} وهو‬
‫صلى ال عليه وسلم رسول ال‪ ،‬الصادق المصدوق المبرأ المنـزه‪ .‬وآخرون‬
‫أيضاً شككوا وطعنوا فيما يتعلق بموضوع الولة‪ ،‬واختيار العمال والمراء‪،‬‬
‫الذين كان يختارهم النبي صلى ال عليه وسلم لبعض المغازي والبعوث‬
‫والجيوش‪ .‬فإن النبي صلى ال عليه وسلم اختار أسامة بن زيد في أحد‬
‫البعوث ‪-‬وذلك في آخر عمره قبل أن يموت صلى ال عليه وسلم بزمن‬
‫يسير‪ -‬فبعث بعثاً وأمرّ عليهم أسامة بن زيد‪ ،‬فقام بعض الصحابة الفضلء‪،‬‬
‫ومنهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره‪ ،‬وشككوا في هذا الرجل لنه‬
‫مولى‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف يتولى علينا مولى‪ ،‬ونحن من قريش وفيهم‪ ،‬وفيهم‪...‬؟!‬
‫إلى آخره‪ .‬قال الراوي‪ :‬خطب النبي صلى ال عليه وسلم في هؤلء الناس‬
‫وقال‪{ :‬إن تطعنوا في إمارته‪ ،‬فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل‬
‫‪-‬يعني زيد بن حارثة لنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫أميراً في سرية مؤتة‪" -‬وأيم ال إن كان لخليقاً للمارة" أي‪ :‬أنه جديراً بها‬
‫وما عينته لمحبتي له‪ ،‬وإنما عينته لجدارته وأنه أهل لذلك‪" -‬وإن كان لمن‬
‫أحب الناس إلي‪ ،‬وإن هذا ‪ -‬يعني‪ :‬ولده أسامة بن زيد‪ -‬لمن أحب الناس إلي‬
‫بعده"} وأيضًا لم يأمر النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بفتح محاضر التحقيق مع‬
‫هؤلء الذين طعنوا في هذا المير الذي عينه ووله‪ ،‬ول سجنهم ول عاتبهم‬
‫ول أخرجهم‪ ،‬بل لم يقل لهم النبي صلى ال عليه وسلم إن فيكم وفيكم وفيكم‪،‬‬
‫وإنما بيّن الحقيقة وأن هذا الرجل جدير بالمارة خليق بها‪ ،‬وأنتم طعنتم فيه‬
‫بشيء ل يستحق الطعن؛ لنه مولى‪ ،‬وأكرمكم عند ال أتقاكم‪ .‬هذا المنهج‬
‫التربوي النبوي العظيم‪ ،‬ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قروناً طويلة من‬
‫بعد النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬سواءً كان من الخلفاء والحكام‪ ،‬أم من‬
‫العلماء والدعاة‪ ،‬أم من عامة الناس‪.‬‬

‫الصرار على الخطأ خلق إبليس‬


‫وفي مقابل ذلك إبليس عصى ال تعالى‪ ،‬ورفض السجود‪ ،‬لدم وقال‪ :‬أَنَا‬
‫خَلقْتَهُ ِمنْ طِينٍ [العراف‪ ]12:‬فأصابه الكبرياء‬ ‫خلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ َو َ‬
‫خَيْرٌ مِ ْن ُه َ‬
‫والغطرسة والغرور‪ ،‬فرفض السجود‪ ،‬ولذلك عاقبه ال عز وجل بقوله‪:‬‬
‫ك لَعْنَتِي ِإلَى يَوْ ِم الدّينِ [ص‪...]78-77:‬‬ ‫علَ ْي َ‬
‫فَاخْ ُرجْ مِنْهَا َفإِ ّنكَ َرجِيمٌ * َوإِنّ َ‬
‫وكما أن لدم ذرية‪ ،‬فلبليس أيضاً أتباع وذرية‪ ،‬فمن الناس من يفعل الخطأ‬
‫غفِرْ لِي [القصص‪]16:‬‬ ‫ظلَ ْمتُ َن ْفسِي فَا ْ‬
‫ب إِنّي َ‬ ‫فيندم ويستغفر‪ ،‬ويقول‪َ :‬ر ّ‬
‫{اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً‪ ،‬وإنه ل يغفر الذنوب إل أنت‪ ،‬فاغفر لي‬
‫مغفرة من عندك‪ ،‬وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنهم من يفعل‬
‫الخطأ‪ ،‬ثم يستمرئه ويستحسنه ويعجبه‪ ،‬بل يتحول والعياذ بال إلى إنسان‬
‫يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف هذا الخطأ‪ ،‬حتى يصبح هذا الخطأ‬
‫صواباً‪ ،‬حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثاً جاداً ‪-‬كما‬
‫يقولون‪ -‬عن إعادة تعريف الجريمة‪ ،‬فوجدوا ‪-‬مثلً‪ -‬أن الجرائم كثرت‬
‫واشتهرت‪ ،‬فقالوا‪ :‬إذاً لبد أن نعيد النظر‪ .‬في تعريف ما هي الجرائم؟ نبحث‬
‫‪-‬مثلً‪ -‬عن الزنى‪ ،‬هل هو جريمة؟ اللواط‪ ،‬هل هو جريمة؟ السرقة وهكذا؛‬
‫بل إنهم يبحثون الن عن الغتصاب ‪ -‬ويقصدون بالغتصاب‪ :‬العتداء‬
‫على عرض امرأة بغير رضاها وكل هذه الشياء‪ ،‬أصبحوا في دول الكفر‬
‫الن‪ ،‬يبحثون عن تعريف جديد للجريمة؛ لخراج هذه الشياء من كونها‬
‫جرائم؛ لن السجون عندهم امتلت‪ ،‬ولم يعد في إمكانهم أكثر من ذلك كما‬
‫ن لَهُ مَعِيشَ ًة ضَنْكاً [طه‪]124:‬‬
‫ن أَعْ َرضَ عَنْ ذِكْرِي َفإِ ّ‬ ‫قال عز وجل‪ :‬وَمَ ْ‬
‫ومن المسلمين اليوم من يذهب ليلوي أعناق النصوص‪ ،‬أو يبحث عن فُتيا‪،‬‬
‫أو رأي شاذ‪ ،‬أو قولٍ مُخرّج لحد الئمة يدعم فيه خطأً وقع فيه‪ ،‬وما أجمل‬
‫أن يقول النسان‪ :‬أنا أخطأت‪ ،‬وأسأل ال أن يغفر لي ويتوب علي‪ ،‬وأن‬
‫يعينني على الخروج من هذا الخطأ‪ ،‬ما أجمله وما أدله على كمال هذا‬
‫النسان‪ ،‬وشجاعته ورجولته‪ ،‬لكن كون النسان يقع في الخطأ‪ ،‬ثم يأتي‬
‫ليقول‪ :‬لماذا أنتم تقولون كذا هذا خطأ؟ أنا ل أرى فيه شيئاً؛ لن فلناً في‬
‫القرن السابع قال كذا‪ ،‬وفلنًا في القرن العاشر قال كذا‪ ،‬والعالم المعاصر‬
‫قال كذا وكذا‪ ،‬فيبحثون عن الخطأ ليحولوه إلى صواب‪.‬‬

‫الخطأ لبد منه‬


‫فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ‪ ،‬ويحب أن يصيب دائماً وأبداً‪ ،‬ولكن ما‬
‫دام أن الخطأ مكتوب على النسان ل محالة كما قال النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم وهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة‪{ :‬كل ابن آدم خطاء وخير‬
‫الخطائين التوابون} فما دام أنك ل يمكن أن تنفك عن الخطأ‪ ،‬سوا ًء كنتَ‬
‫فردًا أو جماعةً‪ ،‬أو دولةً أو أمةً‪ ،‬فإن المؤمن يفضل أن يُكاشف بالخطأ الن‬
‫ويبين له‪ ،‬وهذا أحب إليه من السكوت الذي تكون عاقبتة سوء عليه في الدنيا‬
‫وفي الدار الخرة‪ .‬إنه يدري أن ثمة اعترافًا في الدار الخرة بالخطاء‬
‫كلها‪ ،‬فالمنافقون والمشركون والكفار كلهم يعترفون بأخطائهم يوم القيامة‬
‫علَيْهِ ْم َألْسِنَُتهُمْ َوأَيْدِيهِمْ َوأَ ْرجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْ َملُونَ‬
‫اضطراراً يَوْمَ َتشْهَدُ َ‬
‫سمْعُكُمْ وَل أَ ْبصَارُكُمْ وَل‬ ‫علَيْكُمْ َ‬‫ن أَنْ يَشْ َهدَ َ‬ ‫[النور‪ ]24:‬وَمَا كُنْتُمْ َتسْتَتِرُو َ‬
‫جلُودُكُمْ [فصلت‪ ]22:‬فهو اعتراف مفضوح لبد لهم منه‪ ،‬ولذلك يقول‬ ‫ُ‬
‫علَى رَبّهِ ْم أَل لَعْ َنةُ‬ ‫الشهاد يوم القيامة‪ :‬وَ َيقُولُ الَْشْهَادُ هَؤُل ِء الّذِينَ َكذَبُوا َ‬
‫علَى الظّالِمِينَ [هود‪ ]18:‬فيعترفون بالخطأ‪ ،‬بل يُفضحون بالخطأ فضحاً‬ ‫الِّ َ‬
‫على رءوس الشهاد‪ ،‬بعدما كانوا ينكرونه‪ ،‬ويقولون‪ :‬وَالِّ رَبّنَا مَا كُنّا‬
‫ُمشْرِكِينَ [النعام‪ ]23:‬ويقولون ‪-‬كما قال ال عز وجل‪َ :-‬يوْمَ يَبْعَثُهُ ُم الُّ‬
‫يءٍ [المجادلة‪]18:‬‬ ‫علَى شَ ْ‬ ‫ن أَنّهُمْ َ‬‫ن لَكُمْ وَ َيحْسَبُو َ‬ ‫حِلفُو َ‬ ‫ن لَهُ كَمَا َي ْ‬
‫حِلفُو َ‬
‫جَمِيعاً فَ َي ْ‬
‫فيُفضحون على رءوس الشهاد يوم القيامة‪ ،‬أما المؤمن فلنه كان يعترف‬
‫بخطئه في الدنيا‪ ،‬ويرجع عنه قريباً ويحب أن يبين له‪ ،‬فإن ال تعالى يستره‬
‫في الدار الخرة‪ ،‬ولهذا يُقرر ال تعالى ‪-‬كما في حديث النجوى من حديث‬
‫ابن عمر‪ ،‬وهو في الصحيح‪{ -‬يقرر ال تعالى عبده المؤمن بذنوبه فيدنيه‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬عملت كذا في يوم كذا وكذا وعملت كذا في يوم كذا وكذا‪ ،‬فيقول ال‬
‫عز وجل‪ :‬يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬وأنا أغفرها لك اليوم‪ ،‬ثم‬
‫يعطى كتاب حسناته بيمينه}‪ .‬إذاً‪ :‬ما دام أن الخطأ لبد منه عندي وعندك‪،‬‬
‫وعند كل إنسان من البشر‪ ،‬فقبول النقد هو من الكمال البشري‪ .‬ونحن نعرف‬
‫‪-‬مثلً‪ -‬أن النوم هو كمال‪ ،‬ولو أن إنساناً ل ينام؛ لكان هذا عيباً يعالج منه‪.‬‬
‫وكذلك الكل والشرب هو كمال للنسان‪ ،‬ولو فقد النسان الشهية؛ لكان هذا‬
‫أيضًا يعاب به‪ ،‬ويعالج منه ويؤدي به إلى الموت‪ .‬ومثله البكاء من خشية ال‬
‫تعالى كمال‪ ،‬بل حتى البكاء المعتدل في حال المصيبة هو من الكمال‬
‫البشري‪ .‬ولهذا الرسول عليه الصلة والسلم لما مات ابنه دمعت عينه من‬
‫دون رفع صوتٍ أو شق جيب أو غير ذلك ‪-‬مجرد دمعة عين‪ -‬ولما قالوا له‬
‫قال‪{ :‬هذه رحمة يضعها ال في قلوب عباده‪ ،‬وإنما يرحم ال من عباده‬
‫الرحماء} فهذا القدر ليس نقصاً‪ ،‬بل هو من كمال النسان؛ لن النسان بشر‬
‫فكماله في وجود هذه الشياء فيه‪ .‬وإذا كان النقص مركباً فيه وهو جزء من‬
‫طبيعته‪ ،‬فمن الكمال أن يعرف هذا النقص ويعمل على تلفيه‪ .‬وأضرب لكم‬
‫‪-‬مثلً‪ :-‬عندك شخصان كلهما ناقص؛ لن كلً منهما إنسان‪ ،‬معناه‪ :‬أن‬
‫النقص موجود في الشخص الول‪ ،‬وموجود في الشخص الثاني لبد‪،‬‬
‫فالشخص الول مُصر ل يعترف بالنقص‪ ،‬بل يجحده وينكره‪ ،‬أو يعرفه‬
‫ولكنه ل يعترف به أمام الناس‪ ،‬ول حتى أمام نفسه‪ ،‬فهو يغالط نفسه ودائماً‬
‫يدّعي أنه كامل‪ ،‬وطالما سمعنا أناساً يصفون أنفسهم بالكمال‪ ،‬يقول‪ :‬ماذا‬
‫عليهم من الملحظات أنا كامل‪ .‬زار أحدهم مريضاً مسجى على سريره في‬
‫المستشفى‪ ،‬فقالوا له‪ :‬طهور إن شاء ال يا فلن‪ ،‬فقال‪ :‬طهور! وهل أنا‬
‫أذنبت حتى تقولوا طهور‪ .‬فهذا الشخص عنده نقص من جهتين‪ :‬الجهة‬
‫الولى‪ :‬النقص الفطري الموجود فيه‪ .‬والجهة الثانية‪ :‬إصراره على الخطأ‬
‫وعدم اعترافه به‪ .‬وأما الشخص الخر فعنده النقص الفطري الذي هو‬
‫موجود في البشر كلهم‪ ،‬ولكنه يعرف هذا النقص ويعترف به ويسعى إلى‬
‫معالجته‪ ،‬ويقول‪ :‬ليتني أتخلص منه عسى ال أن يعينني‪ ،‬فهذا لشك أنه‬
‫أكمل وأعظم‪ .‬إذًا الشخص الثاني نقصه واحد‪ ،‬وهو النقص الصلي‬
‫الفطري‪ ،‬وله في مقابل هذا النقص كمال‪ ،‬وهو الشجاعة والقدرة على‬
‫العتراف‪ ،‬وكذلك العلم بهذا النقص والعمل على إزالته‪ .‬ربما تجد كثيراً من‬
‫الناس ‪ -‬مثلً ‪ -‬يخافون من النقد‪ ،‬لنهم يعتبرون النقد نوعاً من التنقص‬
‫والبحث عن العيوب‪ ،‬وأنه ل يصدر إل من إنسان مبغض أو حاسد أو حاقد‪،‬‬
‫وهذا المفهوم يجب تغييره‪ ،‬وأن يفهم الناس أن الذي ينتقدك هو من يحبك‬
‫"صديقك من صدقك ل من صدّقك"‪ .‬ومنهم من يخاف من النقد ‪-‬مثلً‪ -‬لنه‬
‫‪-‬كما يقال‪( :-‬بنيانه على شفا جرف هار) فبناؤه من زجاج‪ ،‬وهو يخاف من‬
‫النقد البناء تجنباً للفضيحة‪ ،‬وستراً على الهفوات والجرائم التي ارتكبها‪،‬‬
‫سواء كان في ذاته وفي جرائمه‪ ،‬أو على استغلله لموقعه ومنصبه‪ ،‬أو في‬
‫موقف من المواقف‪ ،‬أو في هزائم جر المة إليها‪ ،‬أو نكبات ورط المة‬
‫فيها‪ ،‬أو أمور أو فضائح أخلقية‪ ،‬أو مالية‪ ،‬أو اقتصادية‪ ،‬أو عسكرية‪ ،‬أو‬
‫سياسية أو غير ذلك‪ ،‬فتجد أنه يتستر على هذه المور؛ لنه يعرف أن بناءه‬
‫من زجاج‪ ،‬وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت وفي أي حال‪ ،‬ولذلك يعتبر‬
‫النقد قضاءً على مصالحه‪ ،‬وأنه إن كان حاكماً اعتبر النقد تشكيكاً للشعوب‬
‫في جدارته وصلحيته‪ ،‬وإن كان عالمًا اعتبر النقد تشكيكًا للطلب في علمه‬
‫وفضله‪ ،‬وإن كان داعيةً اعتبر النقد تشكيكاً للتباع والمريدين في جدارته‬
‫وصلحيته‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫العتراف بالخطأ عند النبلء والفضلء‬
‫أما النبلء والفضلء والعلماء‪ ،‬فلم يزالوا يستدلون على جدارة الشخص‪،‬‬
‫وعظمته ورجولته وكماله‪ ،‬بقدرته على العتراف بالخطأ والنقص‪ ،‬وقدرته‬
‫أيضاً على التراجع عن ذلك بكل أريحية وسرور نفس‪ ،‬وبدون أي حساسية‪،‬‬
‫كما يستدلون على سفاهة إنسان‪ ،‬وجهله وغباوته‪ ،‬بإصراره على الخطأ‬
‫ورفضه العتراف به‪ .‬وإليك المثال‪ :‬آدم وحواء عليهما السلم وقعا في‬
‫ظلَمْنَا‬
‫الخطأ‪ ،‬وأكل من هذه الشجرة وهذا خطأ‪ ،‬لكن بعد الخطأ قَال َربّنَا َ‬
‫ن الْخَاسِرِينَ [العراف‪ ]23:‬ولذلك‬ ‫ن لَمْ تَ ْغفِ ْر لَنَا وَتَ ْرحَمْنَا لَنَكُونَنّ ِم َ‬
‫أَ ْنفُسَنَا َوإِ ْ‬
‫استحقا الرحمة فرحمهما ال عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة‪.‬‬

‫أهمية النقد‬

‫النقد أيها الخوة‪ ،‬مطلب إنساني لمواجهة النحرافات والخطاء‪ ،‬التي تتسلل‬
‫إلى حياة المم والشعوب‪ ،‬والفراد والجماعات‪ ،‬وغياب النقد معناه ‪-‬بل‬
‫شك‪ -‬تراكم الخطاء وتماديها‪ ،‬حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك‪...... .‬‬

‫النقد يجلي صفة النقص والخلل‬

‫كما أن من جوانب أهمية النقد‪ ،‬أنه يجلي للنسان وللمة والجماعة والدولة‬
‫صفة نفسها وصورتها‪ ،‬فهو مرآة حقيقية ل زيف فيها ول زيادة ول نقصان‪،‬‬
‫وربما ل يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم‪ ،‬وذلك لن‬
‫النسان يمارس عيبه أحياناً بشكل طبيعي‪ ،‬وربما يعتقده أحياناً صواباً ل‬
‫يري أنه خطأ‪ ،‬فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب‪ ،‬فيحتاج‬
‫إلى من يبصره بهذا الخطأ‪ ،‬ويقول له‪ :‬أخطأت‪ ،‬والصواب كذا وكذا‪ .‬وقل‬
‫مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والمم‪ ،‬فهي تحتاج دائماً وأبدًا إلى أفراد‬
‫من غير صانعي القرار‪ ،‬يستدركون ويصححون وإل غرقت السفينة‪ ،‬فالذي‬
‫اتخذ القرار بهذا المر هو اتخذه باجتهاد‪ ،‬فيرى أنه صواب‪ ،‬وليس‬
‫بالضرورة أن يكون اتخذه عن غدر أو فجور‪ ،‬أو سبق إصرار‪ .‬وبناءً على‬
‫هذا فمن الصعب أن يصحح النسان لنفسه‪ ،‬لكن الخرين قد يملكون‬
‫التصحيح‪ ،‬وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير وتستحق الحترام‪.‬‬

‫كيل المديح عند غياب النقد‬


‫وإذا غاب النقد‪ ،‬فإن البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح‪ ،‬فما أمامنا إل‬
‫حلّّن‪ :‬إما النقد الصحيح‪ ،‬أو كيل المديح‪ ،‬وكثيرون يكيلون المديح والثناء‬
‫والطراء بل حساب‪ ،‬وهذا الطراء والثناء يغر النسان‪ ،‬ويغريه بأن يصر‬
‫على الخطأ‪ ،‬كما أنه يخدع المة ويزور الحقائق‪ ،‬وقد نهى الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم عن المبالغة في المديح‪ ،‬ولما مدحوه وقالوا‪ :‬أنت سيدنا وابن‬
‫سيدنا‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪{ :‬قولوا بقولكم أو ببعض قولكم‪ ،‬ول‬
‫يستجرينكم الشيطان} والحديث رواه النسائي‪ ،‬وسنده جيد كما قال بعض‬
‫أهل العلم‪ .‬وكما في حديث آخر أن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪{ :‬احثوا‬
‫في وجوه المداحين التراب} رواه مسلم عن المقداد بن السود‪ .‬ورأى رجلً‬
‫يمدح أخاه فقال‪{ :‬قطعت ظهر أخيك‪ ،‬أو قصمت ظهر أخيك} والحديث‬
‫صحيح‪ .‬إذاً السلم نهى عن المبالغة في المديح والطراء؛ لن الطراء ل‬
‫يزيد النسان إل إصراراً على ما هو عليه‪ .‬وقد يمدح النسان بقدر‪ ،‬تشجيعاً‬
‫له على صواب صدر منه‪ ،‬واعترافاً بفضل له‪ ،‬لكن ل ينبغي أن يكون هذا‬
‫دأباً وديدنًا كما هو الواقع اليوم في عالم السلم‪ ،‬فقد أصبح المديح فناً‬
‫يُمارس‪ ،‬وأصبحت له أجهزته المتخصصة‪ ،‬التي ل هم لها إل إزجاء المديح‬
‫بالحق وبالباطل‪ ،‬ومهما كان الشخص الممدوح‪ ،‬فإنها لبد أن تمدحه بكل‬
‫شيء‪ ،‬حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب‪ ،‬وبالتالي مدحته بهذا النجاز‬
‫العظيم الذي فعله‪ .‬مديح الشخاص‪ :‬والمديح أنواع منها‪ :‬مديح الشخص‬
‫لفلن العالم‪ ،‬أو المسئول‪ ،‬أو الحاكم‪ ،‬أو المير‪ ،‬أو الداعية‪ ،‬أو التاجر‪...‬إلخ‬
‫مديح هذا الشخص‪ ،‬سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو‬
‫بالكرم‪ ،‬أو بغير شيء‪ .‬وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة‪ ،‬عن هؤلء‬
‫المنافقين الذين ل همّ لهم إل إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت‬
‫واستثقلت تلك البيات التي قالها ابن هاني‪ ،‬يمدح أحد المراء العبيديين‪،‬‬
‫يقول له‪ :‬ما شئت لما شاءت القدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت‬
‫النبي محمد وكأنما أنصارك النصار إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية‬
‫الحاكم‪ ،‬أنه أعطاه صفة اللوهية وصفة النبوة‪ ،‬وأعطى أتباعه صفات‬
‫أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهذا الصنف من الناس من المرتزقة ‪-‬‬
‫ل كثرهم ال ‪ -‬هم موجودون في كل زمان ومكان‪ ،‬ليست القضية أو‬
‫المشكلة أن يقوم شاعر نبطي ‪ -‬مثلً ‪ -‬فيمدح؛ لن هذا شأنه وهذا عمله‪،‬‬
‫وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لن هذا عمله‬
‫وهذه وظيفته‪ ،‬لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم‪ ،‬أو من رجل من رجال‬
‫الفكر أو الدب‪ ،‬الذين يُشار إليهم بالبنان‪ ،‬وتُعقد عليهم الخناصر‪ ،‬ويعتبرون‬
‫نموذجًا حياً لما يجب أن تكون عليه المة‪ ،‬فإذا به يقع في زلت عظيمة‪ ،‬قد‬
‫كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها‪ .‬ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك‬
‫النسان‪ ،‬الذي يقول لحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من‬
‫المواقف‪ ،‬قال‪ :‬لو كان لي من المر شيء‪ ،‬لجعلت فلناً في موقع الذي ل‬
‫يُسأل عما يفعل‪ .‬فأغرى هذا النسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم‪ ،‬أغرى‬
‫ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والصرار‪ ،‬والغطرسة والكبرياء‬
‫والجبروت‪ ،‬فكان يتكلم ويخطب ويقول‪ :‬ل يبدل القول لدي وما أنا بظلم‬
‫للعبيد‪ .‬مديح المكاسب والمنجزات‪ :‬وهناك مدح المنجزات والعمال‬
‫والنتصارات والمكاسب‪ ،‬سواء كانت مكاسب وهمية‪ ،‬بل هي خسائر‬
‫حولناها إلى مكاسب‪ ،‬وظللنا نتغنى بها زماناً طويلً‪ ،‬ونضخمها وننفخ فيها‬
‫نفخاً مستمرًا حتى ل ينساها الناس‪ ،‬ونحييها ونجعل لها المناسبات‪ ،‬ونجعل‬
‫لها العياد التي يبتهج فيها الناس‪ ،‬وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة‬
‫بمناسبة أو بأخرى‪ ،‬وندندن حولها في العلم وفي غيره‪ ،‬وكأننا بذلك‬
‫نعوض عن العجز الموجود عندنا‪ ،‬العجز عن تحصيل مكاسب جديدة‪ ،‬أو‬
‫نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم‪ ،‬الذي نحاول أن نصرف وجوه‬
‫الناس عنه بالكلم عن مكاسب مضت وانتهت‪ ،‬قد تكون مكاسب حقيقية‬
‫أحياناً‪ ،‬وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الحيان‪ .‬ولعله من المثلة‬
‫التي تعرفونها‪ ،‬أن العلم ‪-‬هذا النوع من المكاسب‪ -‬قد يتكلم عن دولة‬
‫‪-‬مثلً‪ -‬فيتكلم عن العراق‪ ،‬وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم‬
‫المعارك‪ ،‬فلما فشل في تلك المعارك وانهزم‪ ،‬وصارت المور التي صارت‬
‫وعرف الناس كلهم‪ ،‬صار يتكلم عن مكاسب أخرى‪ ،‬فيقول‪ :‬إن مجرد‬
‫صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً‪ ،‬ليغري الناس بذلك‪ ،‬أو‬
‫يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك‪ ،‬وينتصر فيها‬
‫العراق‪ ،‬أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه اللعيب عن الهزائم‬
‫الحقيقية التي مُني بها‪ .‬وهذا المر ليس محصوراً في بلد معين‪ ،‬بل إننا‬
‫نقول‪ :‬إن كل أمة السلم الن تعيش ألواناً من الهزائم‪ ،‬التي تحاول أن‬
‫تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء‪ ،‬وتذكر بعض المكاسب السابقة‬
‫وإطرائها‪ ،‬وإقامة المناسبات والعياد والحتفالت لها‪ .‬المديح لنشاط من‬
‫النشطة‪ :‬وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص‪ ،‬ول لمكاسب أو‬
‫منجزات‪ ،‬بل قد يكون مدحاً لعمل‪ ،‬كنشاط دعوي ‪-‬مثلً‪ ،-‬أو نشاط جهادي‬
‫قام في بلد من البلد‪ ،‬أو نشاط علمي‪ ،‬بحيث تسري روح التزكية والثناء‬
‫والطراء‪ ،‬وتختفي روح النقد والتصحيح‪ ،‬ول يملك الناس القدرة على‬
‫اكتشاف الخطأ‪ ،‬وهذا ‪-‬كما قلت قبل قليل‪ -‬داء موجود في كل المسلمين‪ ،‬ل‬
‫أعني في أفرادهم بالضرورة‪ ،‬كل‪ ،‬فإن من المسلمين من ل يكون كذلك‪،‬‬
‫لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات‪ ،‬فأنت حين تنتقل إلى عالم‬
‫الدعوة‪ ،‬وعالم الجهاد‪ ،‬وعالم العلم‪ ،‬تجد هذا الداء موجوداً‪ ،‬تجد أن روح‬
‫التزكية تسري‪ ،‬روح النقد ضعيفة‪ ،‬فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب‪،‬‬
‫أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علمات استفهام‪ ،‬وقد ل يكون‬
‫مرغوبًا فيه‪ ،‬لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والستبداد على الجميع‪،‬‬
‫ولفّتهم في عباءتها الرهيبة‪.‬‬

‫النقد يعيد للنسان اعتباره‬

‫إذاً النقد هو‪ :‬الكشف الطبي المتواصل‪ ،‬الذي يكتشف الخطر أو المرض‬
‫بسرعة‪ ،‬وبالتالي يبادر إلى العلج قبل أن يتمادى المرض‪ ،‬ويصل إلى‬
‫مرحلة الخطر أو فقدان المل في العلج‪ ،‬ولذلك لبد من النقد‪ .‬والنقد أيضاً‬
‫أيها الخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الصلح‪ ،‬بحيث يصبح كل‬
‫فرد في المجتمع له دوره وله مجاله‪ ،‬ول يغدو الناس مجرد قطعان تساق‬
‫إلى حتفها‪ ،‬وهي ل تشعر ول تعي‪ .‬إن النقد احتفاظ بإنسانية النسان‪ ،‬حيث‬
‫يُقال له‪ :‬يا فلن‪ ،‬تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك‪ ،‬وراجع ما تعرفه أنت‬
‫من نصوص الشرع‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وإذا وجدت أمراً ل يليق‬
‫من الناحية الشرعية‪ ،‬أو العقلية‪ ،‬أو من ناحية المصلحة‪ ،‬فإياك أن تسكت‬
‫على هذا الخطأ‪ ،‬وعليك أن تُبلغ‪ ،‬ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ‪ ،‬فأنت‬
‫شريك في الثم‪ .‬أو بمعنىً آخر‪ :‬أنت شريك في جريمة السكوت على هذا‬
‫الخطأ‪ ،‬والساكت عن الحق شيطان أخرس‪ .‬لقد صنع السلم رجالً كان‬
‫أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره‪ ،‬وفي إقرار الحق والمر به‪.‬‬
‫وأضرب لكم مثلً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الن‪ ،‬وبين الجيال‬
‫الولى‪ :‬بلل بن رباح رضي ال عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة‪ ،‬ليس‬
‫له قيمة‪ ،‬يباع بالدرهم والدينار‪ ،‬فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة‪،‬‬
‫والقوة والرجولة‪ ،‬فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم السلم‪،‬‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬والصبر والمقاومة‪ ،‬ولذلك كان يُعذب بـمكة‪ ،‬ويوضع في حرّ‬
‫الرمضاء‪ ،‬وهو يقول‪[[ :‬أحد أحد‪ ،‬أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة‪،‬‬
‫أنه كان يقول‪[[ :‬وال لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في‬
‫وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين‪ ،‬والذين يفتتنون الناس عن دينهم‪،‬‬
‫وصبر حتى فرج ال تعالى عنه‪ ،‬ولم يقل‪ :‬أنا عبد مسكين‪ ،‬كيف أقف أمام‬
‫أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلن وفلن‪ ،‬من عليا القوم وزعمائهم‬
‫ورؤسائهم‪ .‬وقف بصبره وإيمانه‪ ،‬وأن قلبه ل سبيل لهم إليه‪ ،‬فكان يقول‪:‬‬
‫أحد أحد‪ ،‬حتى مر به ورقة بن نوفل‪ ،‬وكان يقول‪" :‬نعم يا بلل أحد أحد‪،‬‬
‫وال لئن قتلتموه لتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن‬
‫صحت‪ .‬هذا بلل نموذج للمسلم الول‪ .‬لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر‪،‬‬
‫هل تدري أن الستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلل بلد المسلمين‪،‬‬
‫فـفرنسا ‪-‬مثلً‪ -‬كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة‬
‫المسلمين‪ ،‬وضرب المسلمين‪ ،‬وفي تدعيم مكانتها في تلك البلد مع السف‬
‫الشديد‪ ،‬بل إنك تجد أن التعذيب والضطهاد‪ ،‬والقتل‪ ،‬والبتزاز‪ ،‬وألوان‬
‫وصنوف الذى‪ ،‬التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلد‬
‫السلم‪ ،‬أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ول نصارى‪ ،‬إنما كانت تتم على‬
‫أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح‪ ،‬وفلن وفلن من‬
‫السماء السلمية‪ ،‬وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً‪ ،‬أو صائماً‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك‪ ،‬وليس بغريب أن الداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان‬
‫ومكان‪ ،‬في ملحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم‪ ،‬ومحاربتهم‪ ،‬وكتم‬
‫أنفاسهم‪ ،‬والتجسس عليهم‪ ،‬وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم‪،‬‬
‫وفي وظائفهم‪ ،‬وفي أعمالهم‪ ،‬ومتابعة ماذا يقولون‪ ،‬وماذا يفعلون‪ ،‬وبمن‬
‫يجتمعون‪ ،‬وكيف يجتمعون‪ ،‬ومتى يفترقون‪ ....‬إلخ‪ .‬إن هؤلء أناس قد‬
‫يكونون من رواد المساجد أحياناً‪ ،‬وقد يكونون من المصلين‪ ،‬أو ممن‬
‫يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك‪ ،‬ورُبما ترامى‬
‫إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة‪ ،‬قصيدة الشاعر‪ :‬هاشم الرفاعي‪،‬‬
‫التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان‪ ،‬وما هي صفته‪ ،‬فكان‬
‫يقول‪ :‬والصمت يقطعه رنين سلسلٍ عبثت بهن أصابع السجان ما بين آونة‬
‫تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في‬
‫أمن إلى الدوران أنا ل أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني‬
‫ويخاطب أباه فيقول‪ :‬هو طيب الخلق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى‬
‫العدوان فلربما وهو المروّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من‬
‫يدري إلى أولده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق‬
‫ل مرارة الحرمان إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر‪ ،‬فقد معنى‬ ‫العيا ُ‬
‫انتماءه للسلم‪ ،‬معنى إحساسه بالولء للمسلمين‪ ،‬معنى حبه ل وللرسول‬
‫وللمؤمنين‪ ،‬فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية‪ ،‬أو‬
‫الوظيفة‪ ،‬أو المال‪ ،‬أو الدنيا‪ ،‬أو على عتبة المرتبات والبدلت والكراميات‬
‫وغير ذلك‪ ،‬وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم‪ ،‬بل قد يصل الحال إلى قتلهم‬
‫‪-‬كما قلت لكم‪ -‬من أجل هذه المصالح الدنيوية‪ ،‬وكم هو مؤسف أن يلتقي‬
‫المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال‪ ،‬من أجل هذه الدنيا الفانية التي ل‬
‫تستحق شيئاً‪ ،‬وربما قتل كل منهما على يدي الخر‪ .‬إذاً تأتي أهمية النقد من‬
‫جهة أنه يُعيد للنسان اعتباره‪ ،‬يعيد للنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف‪،‬‬
‫مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح‪ ،‬والمشاركة في الصلح‪ ،‬والمصارحة‬
‫والنقد والنصيحة‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلل موقعه‪،‬‬
‫بالسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه‪ .‬لكن ل يجوز أبداً أن يتخلى‪،‬‬
‫ويقول المسئول غيري‪ .‬وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به‪ ،‬إل يوم تخلوا‬
‫وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم‪.‬‬

‫وسائل الهروب من الخطاء‬

‫نحن نمارس في كثيرٍ من الحيان هروباً من الخطأ؛ لننا ل نريد النقد ول‬
‫نحبه‪ .‬فمن أساليب الهروب من الخطأ‪...... :‬‬

‫تجاهل السنن الكونيـة‬

‫أن تحيل الخطأ إلى الصدفة وتتجاهل السنن الكونية‪ .‬فإذا وقعت المة في‬
‫خطأ‪ ،‬هزيمة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك‪ ،‬أحالت المة‬
‫ذلك على أن هذا صدفة‪ ،‬أو ظروف الواقع‪ ،‬ونسينا دورنا نحن في هذا‬
‫الخطأ‪ ،‬ونسينا قول ال تعالى‪ :‬وَمَا رَ ّبكَ بِظَلّ ٍم ِللْعَبِيدِ [فصلت‪ ]46:‬ونسينا‬
‫قول ال عز وجل في الحديث القدسي‪ { :‬إني حرمت الظلم على نفسي‬
‫س َبتْ أَيْدِي ُكمْ [الشورى‪:‬‬
‫وجعلته بينكم محرماً } ونسينا قول ال تعالى‪ :‬فَبِمَا كَ َ‬
‫عنْ ِد أَ ْنفُسِكُمْ [آل عمران‪.]165:‬‬ ‫‪ ]30‬ونسينا قول ال عز وجل‪ُ :‬قلْ ُهوَ مِنْ ِ‬

‫التقليل من شأن الخطأ‬


‫هي تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه‪ ،‬أو حتى أن تعتبره صواباً‪ ،‬فل تعترف‬
‫بأن هذا خطأ‪ ،‬بل تقول‪ :‬إن هذا صواب‪ ،‬وتصر عليه‪ ،‬وتقول كما قيل في‬
‫المثل‪" :‬عنـزة ولو طارت"‪.‬‬

‫الحالة إلى القضاء والقدر‬

‫هي‪ :‬الحالة إلى القضاء والقدر‪ .‬فكثير منا آمن بالقضاء والقدر‪ ،‬ونحن‬
‫نعرف جميعًا أن القضاء والقدر والحتجاج به‪ ،‬لم يعف أبانا آدم عليه السلم‬
‫ن لَمْ تَ ْغفِ ْر لَنَا َوتَ ْرحَمْنَا‬
‫ظلَمْنَا أَ ْنفُسَنَا َوإِ ْ‬
‫من أنه اعترف بخطئه قَال رَبّنَا َ‬
‫ن الْخَاسِرِينَ [العراف‪ ]23:‬ومع ذلك آدم احتج على موسى عليه‬ ‫لَنَكُونَنّ ِم َ‬
‫الصلة والسلم في القضاء والقدر‪ ،‬وقال‪{ :‬أتعيبني أو أتعاتبني على أمر‬
‫ي قبل أن يخلقني؟ قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬فحج آدم‬ ‫كتبه ال عل ّ‬
‫موسى؛} لكن هذه الحجة ل تعني أنه لم يعترف بالخطأ‪ ،‬ولم يتب منه‪ ،‬كل‪.‬‬
‫لكن الشيء الذي مضى وتاب العبد منه فإن له أن يحتج بما قضاه ال عليه‬
‫وقدره‪.‬‬

‫إلقاء اللوم على الخرين‬


‫هي‪ :‬أن تُلقي باللوم على الخرين‪ ،‬وتخرج أنت سليماً بريئاً معافى‪ .‬فمثلً‬
‫على مستوى المة يقولون‪ :‬الخطاء الموجودة الن في المة‪ ،‬هي من صنع‬
‫الجيل السابق ومن آثار الجيل السابق‪ ،‬وسوف يقوم بحلها الجيل اللحق‪ ،‬أو‬
‫أنك تحيل الخطأ على العدو‪ ،‬أو على المستعمر‪ ،‬أو على الصهيونية‪ ،‬أو على‬
‫الحكام‪ ،‬فكثير من الناس يكتفي أن يقول‪ :‬الحكام هم المسئولون‪ .‬وكأنه خرج‬
‫من الدائرة بهذا السلوب‪.‬‬

‫التفسير الهروبي للخطأ‬


‫هي‪ :‬أنك تُفسر الخطأ تفسيراً هروبياً‪ ،‬وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلء من‬
‫ال تعالى‪ ،‬وأنه ضمن البتلء‪ ،‬ويسوق اليات الواردة في البتلء‬
‫والختبار‪ ،‬ول يرجع ليقول‪ :‬ما سبب ما حصل؟ سببه خطأ مني‪ ،‬أو تقصير‬
‫في اتخاذ السباب وكمن يُفسر العجز بأنه نوع من الصبر‪ ،‬وكمن يفسر‬
‫الجبن بأنه نوع من الحكمة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫الحالة إلى المنهـج‬


‫هي‪ :‬الحالة إلى المنهج‪ .‬فكثير من الناس ل يفرقون بين السلم‪ ،‬الذي هو‬
‫دين منـزل من ال تعالى على نبيه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والناس كلهم‬
‫مطالبون به ‪ -‬أن يدينوا ال تعالى به‪ -‬ل يفرقون بين السلم ‪-‬مثلً‪ -‬وبين‬
‫فئة تنتسب إلى السلم‪ ،‬أمة‪ ،‬أو دولة‪ ،‬أو جماعة‪ ،‬بل شخص‪ ،‬فيعطون‬
‫العصمة التي للمنهج ‪ -‬وهو السلم ‪ -‬يعطونها أحياناً لدولة تنتسب إلى‬
‫السلم‪ ،‬أو حتى تدعي أنها تحكم بالسلم‪ ،‬ويمنحونها العصمة‪ ،‬أو يعطون‬
‫العصمة لجماعة من الجماعات الدعوية التي تدعو إلى ال تعالى‪ ،‬وهي‬
‫جماعة إسلمية لكنها غير معصومة‪ ،‬فمن الممكن أن تخطئ في فهمها‬
‫للسلم‪ ،‬فقد يكون فهمها خطأ‪ ،‬وقد يكون اجتهادها في غير محله‪ ،‬وكوننا‬
‫نجد أنفسنا في النهاية وصلنا إلى طريق مسدود‪ ،‬والذئاب قد كثرت من‬
‫حولنا‪ ،‬فنقول‪ :‬هذا زمان الغربة‪ ،‬وهذا ما حدث للدين‪ ،‬وهذا كذا وكذا‪ ،‬فنحن‬
‫نقول مع هذا كله‪ :‬ربما يكون هذا بسبب فشلنا في معرفة الوسائل‪ ،‬التي‬
‫يجيز لنا السلم أن نستخدمها ونتعامل معها وننتفع بها‪.‬‬

‫أنواع النقد‬
‫‪...... .‬‬

‫نقد الذات ونقد الخرين‬


‫ومن تقسيمات النقد‪ :‬نقد الذات ونقد الخرين‪ .‬فهناك من ينتقد نفسه‪ ،‬وهذا ما‬
‫يسمى بالنقد الذاتي‪ ،‬يكتشف خطأه بنفسه‪ ،‬ويحاسب نفسه بنفسه‪ ،‬كثرة‬
‫المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ‪ ،‬ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا‬
‫الخطأ‪ ،‬والعتذار منه‪ ،‬خاصةً إذا كان خطأً معلناً ‪-‬يعني فتوى ‪-‬مثلً‪ -‬أو‬
‫رأياً أو موقفًا أو اجتهاداً‪ ،‬أو منكراً معلن وقع فيه هذا النسان‪ ،‬أو وقعت فيه‬
‫هذه الجهة‪ ،‬فرداً أو جماع ًة أو دولة‪ ،‬فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه‪.‬‬
‫أما نقد الخرين أي‪ :‬أن يكون النقد من جهة أخرى‪ ،‬سواء كان النقد سراً أم‬
‫علنية‪ .‬ويجب على الجميع تهيئة الفرص للنقد‪ ،‬وإتاحة السبل‪ ،‬وإقامة‬
‫الجسور‪ ،‬وتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪ ،‬ليتمكنوا من‬
‫النقد؛ لن النقد شيء كبير جداً‪ ،‬في مصلحة المة والفرد والجماعة والدولة‬
‫بكل حال‪ ،‬ولذلك ينبغي أن يحرص الجميع على تهيئة الفرص للنقد حتى ل‬
‫يغيب النقد‪ ،‬أو يستحي منه الخرون‪ ،‬أو يخافوا‪ ،‬أو يترددوا‪ ،‬أو يتراجعوا‬
‫عنه‪ ،‬أو ينتقد إنسان فيسكت الباقون؛ لن الكثير قد يعتبرون أن هذا تشهير‪،‬‬
‫أو أنه ل يجوز‪ ،‬فيتوقفون عنه‪ ،‬فينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح‬
‫الهادف‪ ،‬بالوسيلة الصحيحة أيضاً‪ ،‬وبالسلوب المناسب‪ ،‬وبعيداً عن أساليب‬
‫الجرح أو الشتم أو التنقص‪ ،‬أو سوء الظن أو غير ذلك‪ .‬ولو فرض أنه وجد‬
‫أسلوب غير مناسب‪ ،‬فهذا ل يمنع أبداً من قبول النصيحة‪ ،‬فليس الجميع‬
‫قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه‪ ،‬وإذا كنا نعرف أن المسلم‬
‫للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الخرى‪ ،‬فنحن نعرف أن اليد قد تكون فيها‬
‫أحياناً نوع من الخشونة‪ ،‬فل يمنع أن تغسلك اليد الخرى وفيها نوع من‬
‫الخشونة‪ ،‬وكذلك أخوك المسلم ينتقدك أو يصحح خطأ‪ ،‬ولو بشيء من‬
‫الخشونة‪ ،‬فل ينبغي أن تتردد في قبول هذا النقد‪.‬‬

‫أهمية النقد الذاتي‬


‫ونقد النسان لنفسه وهو ما يسمى بالنقد الذاتي‪ ،‬أمر مهم جداً؛ لنه دليل‬
‫على شجاعة النسان وتحرره من عبوديته لنفسه‪ ،‬واستعداده للتغيير‬
‫والصلح‪ .‬أما النقد من الخرين فإنك قد تقبله أول تقبله‪ ،‬لكن إن كان من‬
‫نفسك‪ ،‬فمعناه أن لديك استعدادًا أصليًا للقبول‪ ،‬وإذا قبلت نقد الخرين فقد‬
‫تقبله‪ ،‬وقد تصر على ما أنت عليه‪ ،‬وتقول‪ :‬هذا ل يهمني هذا أمر سهل‪ .‬إذاً‬
‫النقد الذاتي‪ ،‬أهميته أولً‪ :‬أنه دللة على الشجاعة‪ ،‬وقدرة النسان على‬
‫التصحيح‪ .‬ثانياً‪ :‬أن النسان في بعض الحيان أقدر على ملحظة نفسه‪،‬‬
‫وربما أمور ل يستطيع الخرون أن يدركوها أنت تدركها‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫المثال مقاصدك الداخلية‪ ،‬ونياتك ومراميك وخلجاتك وأهدافك‪ ،‬وأسرارك‬
‫وخواطرك‪ ،‬هذه ل يدركها الخرون‪ ،‬ومعنى ذلك أن في النفس جوانباً ربما‬
‫ل يملك الناس أن ينتقدونك فيها‪ ،‬ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك‬
‫وتصححها‪ .‬كما أن نقد النسان لذاته‪ ،‬أو نقد المة أو الجماعة أو الدولة‬
‫لذاتها‪ ،‬يوجه طاقة النسان وجهة سليمة‪ ،‬بحيث يشغله عيبه عن عيوب‬
‫الناس {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} أما أن يكون النسان‬
‫يبغي للبرآء العيب‪ ،‬ويشتغل بعيب الناس وينسى عيبه‪ ،‬فهذا ‪-‬ل شك‪ -‬دليل‬
‫على مرض مستتر موجود في ذاته‪.‬‬

‫النقد العام‬

‫هو‪ :‬نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص أي‪ :‬دون أن تسمي أحداً‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫من الناس من يفعل كذا‪{ ،‬ما بال أقوام يفعلون كذا} وفي القرآن كثير وَمِنَ‬
‫ن النّاسِ مَنْ يَ ْعبُ ُد الَّ‬ ‫النّاسِ َمنْ يُ ْعجِ ُبكَ قَ ْوُل ُه فِي الْحَيَا ِة الدّنْيَا [البقرة‪ ]204:‬وَمِ َ‬
‫لخِرِ [البقرة‪:‬‬ ‫ل آمَنّا بِالِّ وَبِالْيَوْمِ ا ْ‬
‫ن النّاسِ َمنْ َيقُو ُ‬
‫علَى حَرْفٍ [الحج‪ ]11:‬وَمِ َ‬ ‫َ‬
‫‪ ]8‬وكذلك كثير في سورة التوبة وغيرها‪ :‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ ،‬والمنافقون‬
‫والظالمون والفاسقون‪ ،‬جاء الحديث في القرآن الكريم مستفيض عن هؤلء‪،‬‬
‫فهذا نقد عام‪ ،‬نقد المظاهر المنحرفة أو الخطاء دون تشخيصها‪.‬‬

‫نقد الشخاص‬
‫النوع الثاني هو‪ :‬نقد الشخاص‪ .‬ولست أعني بالشخاص‪ :‬الفراد‪ ،‬فلن أو‬
‫علن‪ ،‬ل‪،‬قد يكون الشخص عبارة عن شخص معنوي ‪-‬كما يقال‪ -‬دولة‪ ،‬أو‬
‫جماعة‪ ،‬أو مؤسسة‪ ،‬وقد يكون فرداً بعينه‪ .‬فالكثير يهتمون بالول ‪ -‬النقد‬
‫العام ‪ -‬ول يهتمون بالنقد الثاني‪ ،‬ويقولون‪ :‬ل داعي لذلك‪ .‬والواقع أنه لبد‬
‫من الثنين معاً‪ ،‬لماذا؟ لنك حين تتكلم عن المظاهر المنحرفة‪ ،‬فتقول‪ :‬من‬
‫الناس من يفعل كذا ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ .‬قد يخرج الناس وكل واحد منهم ل يعتقد‬
‫أنك قصدته‪ ،‬ول يدري ول يغير الخطأ؛ لنه يظن أنه غير مقصود‪ ،‬يخرج‬
‫الجميع‪ ،‬وكل واحد منهم يظن أن المقصود غيره‪ ،‬ولعلنا نحن الحضور‬
‫نموذج في كثير من الحيان لذلك‪ ،‬قد نخرج ونظن أن المخاطب غيرنا‪،‬‬
‫ولذلك لبد في كثير من الحيان من النقد التشخيصي المباشر‪ ،‬دون حاجة‬
‫إلى ذكر أسماء‪ ،‬أو أمور معينة‪ ،‬إل بقدر الحاجة إلى ذلك‪ .‬وهذا النقد أقول‪:‬‬
‫إنه لبد منه؛ لنه أقرب إلى تحصيل المصلحة‪ ،‬وإزالة الخطأ‪ ،‬وتحقيق‬
‫الصواب‪ .‬بعض الناس يقول‪ :‬لماذا ينتقدني فلن؟ لو سمع نقدًا مجملً‪ ،‬لكنه‬
‫ظن أنه مقصود؛ لنه يسمع بحساسية‪ .‬أولً ما الذي جعلك تظن أن فلناً‬
‫يقصدك؟ إل وجود الخطأ عندك‪ .‬إذاً تنبه لهذا الخطأ‪ ،‬المر الثاني‪ :‬أنه كان‬
‫يجب أن تقول لو لم ينتقدك لماذا لم ينتقدني؟ لنه كرامة أن يهدي إليك أخوك‬
‫المسلم عيباً‪ ،‬سواء أهداه بطريقة صحيحة أم غير صحيحة‪ ،‬فالمسلمون‬
‫غشَشَه‪.‬‬
‫نصحة والمنافقون َ‬

‫صور من النقد المذموم‬


‫‪......‬‬

‫جمع المثالب والخطاء والتشهير بها‬

‫ومن صور النقد المذموم ‪-‬أيضاً‪ -‬النقد الذي يستهدف جمع مثالب النسان‬
‫وإحصاء أخطائه‪ ،‬ليشهر بها أو يروجها‪ ،‬فيكون بعض الناس والعياذ بال‬
‫مثل الذباب‪ ،‬ل يقع إل على العقر وعلى الجرح‪ ،‬فيجمع عيوب الخرين‬
‫ويتكلم بهم في المجالس‪ ،‬وكأنه ل حسنة لهم قط‪ .‬هناك حالت يجوز فيها‬
‫تناول الوضاع الشخصية‪ ،‬كما أشرت إلى شيء من ذلك قبل قليل‪ ،‬وجاء‬
‫سؤال عن هذا الموضوع فأقول منها‪- :‬فمثلً‪:-‬شخص مجاهر بالفسق‬
‫والمعصية‪ ،‬ويسعى إلى إفساد المجتمع‪ ،‬مثل العلمانيين‪ ،‬والمنافقين‪،‬‬
‫والحداثيين‪ ،‬واليساريين‪ ،‬وبعض الصحفيين ‪-‬أقول بعض الصحفيين‪ -‬الذين‬
‫لهم توجهات غير محمودة‪ ،‬وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم‪،‬‬
‫واشتراكهم في بعض المؤسسات‪ ،‬وبعض الجهزة‪ ،‬وبعض المعاهد التي‬
‫تحارب ال ورسوله‪ ،‬وتقوم بمهمة الضرار في هذا المجتمع‪ ،‬أو في ذاك‪،‬‬
‫فهؤلء ينبغي فضحهم ولو بصورة شخصية‪ ،‬والكلم عنهم بأعيانهم حتى‬
‫يحذرهم الناس ويتجنبوهم‪ ،‬وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرت شيئاً منها‪.‬‬
‫كذلك قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لنه يتظاهر بالخير‬
‫والصلح‪ ،‬وله أهداف ومآرب أخرى‪ ،‬مثل المبتدع الذي يتستر ببدعته‬
‫يخدع بها العامة‪ ،‬وقد يوري ببعض العبادات‪ ،‬وبعض المواعظ‪ ،‬وبعض‬
‫المور‪ ،‬فهذا لبد من ذكره‪ .‬أيضًا هناك شخص ل ينظر إليه باعتباره فلن‪،‬‬
‫أو ابن فلن‪ ،‬بل ينظر إليه بالعتبار العام‪ ،‬أي أنه صار ‪-‬هذا الشخص‪ -‬ملكاً‬
‫للمة‪ ،‬وللتاريخ‪ ،‬صاحب نفوذ‪ ،‬وصاحب شخصية علمية‪ ،‬واجتماعية‪،‬‬
‫وتاريخية‪ ،‬فقراراته وآراؤه ومواقفه وشخصيته‪ ،‬أصبحت منطبعة على‬
‫المة كلها‪ ،‬وذات تأثير قريب وبعيد في الحاضر والمستقبل‪ ،‬فهؤلء لم‬
‫يعودوا أشخاصاً لنفسهم‪ ،‬بل عادوا ملوكاً للمة وللتاريخ‪ ،‬فلبد من تناول‬
‫هؤلء الشخاص‪ .‬وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلء‪ ،‬بل عن‬
‫غيرهم‪ ،‬يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم‪ ،‬وقد يذكرون الحجاج بن‬
‫يوسف ‪-‬مثلً‪ -‬فيذكرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم‪ ،‬وربما‬
‫تكلموا فيه‪ ،‬وربما دعوا عليه‪ ،‬وربما سبوه‪ .‬وقد يذكرون رجلً بعكس ذلك‪،‬‬
‫كما يتكلمون عن الرجال الفضلء الكبراء الجلء العادلين‪ ،‬كـعمر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬أو عمر بن عبد العزيز أو غيرهم‪ ،‬كذلك الشخاص الذي‬
‫يجاهرون بجرائمهم ‪-‬لعلي أشرت إلى شيء من ذلك ‪-‬مثلً‪ -‬ماذا عساك أن‬
‫تتستر على أديب كبير‪ ،‬شعره يبين عنه‪ ،‬ويتكلم عن كل صور الفجور‬
‫والفساد والنحلل‪ ،‬فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا النسان أو غيره‬
‫ممن يجاهرون بمعاصيهم‪ ،‬بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على المة‪.‬‬
‫والحمد ل رب العالمين‪.‬‬

‫استهداف شخصية النسان‬

‫من صور النقد المذموم‪ :‬النقد الذي يستهدف حياة النسان الخاصة‪،‬‬
‫شخصيته‪ ،‬أموره الذاتية الخاصة‪ ،‬التي ل يطلع الناس على جوانبها‬
‫وغوامضها‪ ،‬مثل‪ :‬فضائح لفلن أو علن‪ ،‬هذا قد يتم أحياناً باسم الثارة‬
‫الصحفية‪ .‬فقد يتكلمون كثيراً عن الجوانب الشخصية في حياة البعض‪ ،‬أو‬
‫يتعرضون لمور خاصة مما ل يتعلق بحياة المة‪ ،‬ول يؤثر في مصالحها‬
‫وليسو أشخاصاً مشاهير‪ ،‬بل هم أشخاص مغمورون‪ ،‬أو في جانب معين‪.‬‬
‫وليس غريبًا مع ذلك أننا نجد اليوم بعض الصحف تضع حلقات بعنوان "‬
‫فضائح "‪ ،‬وهذه الفضائح تتعرض لحياة أشخاص بأسمائهم‪ ،‬وقد يكونون‬
‫موجودين يعيشون على ظهر الرض‪ ،‬فتنشر خزيهم وغسيلهم ‪-‬كما يقال‪،-‬‬
‫وربما يكون في ذلك أحياناً‪ ،‬إغراء للخرين بالوقوع في مثل هذه الفضائح‬
‫من حيث يشعرون‪ ،‬أو ل يشعرون‪ .‬فباسم الثارة الصحفية أحياناً يتم كشف‬
‫بعض الجوانب الشخصية من حياة الناس‪ ،‬التي ل تستفيد المة من‬
‫ظهورها‪ ،‬وأحياناً يتم كشفها باسم التجسس والمخابرة التي حرمها السلم‬
‫كما قال ال عز وجل‪ :‬وَل َتجَسّسُوا [الحجرات‪ ]12:‬وكما قال النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬في الحديث الصحيح‪{ :‬ول تجسسوا} وقد نهى النبي عليه‬
‫الصلة والسلم عن تتبع النسان لعورة أخيه المسلم‪{ ،‬ومن تتبع عورة‬
‫أخيه المسلم تتبع ال عورته ومن تتبع ال عورته فضحه ولو في قعر بيته}‪.‬‬
‫وكم رأينا ممن همه حفظ الزلت على بعض الشخصيات المرموقة‪،‬‬
‫بواسطة أجهزة ووسائل‪ ،‬ثم نشرها وإشاعتها عند الحاجة؛ لغرض أو لخر‪،‬‬
‫بل رأينا أجهزة متخصصة في صناعة الكاذيب وتلفيق التهم‪ ،‬وأحياناً دبلجة‬
‫الصور والصوات؛ لتشويه صورة عالم أو داعية‪ ،‬أو زعيم أو خصم‪ ،‬أياً‬
‫كان‪ ،‬وهذا معروف في طول بلد العالم السلمي وعرضها‪ .‬وهذا بل شك‬
‫ما ل يبيحه السلم بحال‪.‬‬

‫فقدان العدل في النقد‬

‫تجد كثيراً من المسلمين في كثير من الحيان فقدوا العدل في النقد‪ ،‬فصاروا‬


‫إذا خالفوا شخصاً في موقف أو مواقف أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم‪،‬‬
‫وحولوه إلى شيطان رجيم كأنه ل حسنة له قط‪ ،‬ولو كان من أهل ل إله إل‬
‫ال‪ ،‬ولو كان من الدعاة المجاهدين في سبيل ال‪ ،‬وإذا جاملهم شخص أو‬
‫خادعهم بموقف مصلحي أحبوه وتستروا على كل أخطائه‪ ،‬وحولوه إلى‬
‫قديس وإلى بطل عظيم‪ .‬فقد الناس الثقة بالعلم جملةً وتفصيلً ‪-‬والحمد ل‬
‫رب العلمين‪ ،-‬صرنا نجد داعية مجاهداً ‪-‬مثلً‪ -‬نخالفه في موقف أو رأي أو‬
‫قضية‪ ،‬فنحول هذا النسان إلى شيطان‪ ،‬ونجلب عليه‪ ،‬ونعتبره عميلً‬
‫للمخابرات المريكية والشرقية والغربية‪ ،‬ومجرم وطالب حكم‪ ،‬هدفه‬
‫السياسة‪ ،‬وأنه تسبب في ردة الناس عن دينهم‪ ،‬وأنه وأنه‪ ..‬إلخ‪ ،‬وصرنا‬
‫نكذب بل حساب‪ ،‬ونأخذ بقاعدة‪ :‬اكذب واكذب واكذب‪ ،‬عسى أن يصدقك‬
‫الناس‪ ،‬ونسينا أن الناس مهما كانوا أغبياء في نظركم‪ ،‬فلهم عقول‪،‬‬
‫ويعرفون هذه الكاذيب الملفقة ول يمكن أن تنطلي عليهم وإذا كذبت على‬
‫الناس اليوم‪ ،‬فإنك ل تستطيع أن تكذب عليهم غداً‪ ،‬وإذا كان هناك شخص‬
‫من المصلحة أن يثني عليه‪ ،‬وأن يعجب‪ ،‬فإنه يتحول إلى قديس ل يسمح بأن‬
‫يُنال ولو بأقل شيء‪ .‬وهذا مسلك في غاية الخطورة أين العدل؟! العدل‬
‫يتطلب أنه حتى خصمك وعدوك‪ ،‬ينبغي أن تعترف له بالحق الذي عندك‪،‬‬
‫وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه‪ ،‬وهذا هو‬
‫المنهج العلمي الموضوعي الشرعي‪ ،‬الذي يحفظ للنسان كرامته ومكانته‬
‫وعقله‪ ،‬ويجعله يثق بهذه الجهزة العلمية التي من المفروض أن يكون‬
‫همها وهدفها هو بناء النسان‪ ،‬بناء عقله‪ ،‬تكوين شخصيته‪ ،‬بناء النسان‬
‫المعتدل المستقيم المنضبط‪ ،‬لكن ‪-‬مع السف‪ -‬لم تفلح إل في صناعة النسان‬
‫المزدوج المتناقض‪ ،‬الذي ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال‪ ،‬ومن‬
‫أقصى الشمال إلى أقصى اليمين‪ .‬قد أصبح عندنا في كثير من الحيان أن‬
‫الناس أحد صنفين‪ :‬إما عميل‪ ،‬فهذا نكيل له المدح بل حساب‪ ،‬وإما رافض‬
‫للعمالة‪ ،‬فهذا يُذم أيضاً بل حساب‪ ،‬أما أن عندنا إنسان صديق أو متعاطف‪،‬‬
‫أو حتى إنسان محايد‪ ،‬فهذه كأنه ل وجود لها في حياة كثير منا اليوم‪ ،‬فضلً‬
‫عن أن يوجد عدو تداريه‪ ،‬أو تقلل من عداوته بقدر ما تستطيع‪ ،‬فضلً عن‬
‫أن نتخذ مبدأ النصاف‪ ،‬وهو مبدأ شرعي يغير النظر إلى المصالح الذاتية‪،‬‬
‫أو المصالح الشخصية‪.‬‬

‫السئلـة‬
‫‪...... .‬‬

‫شروط النقد‬

‫السؤال‪ :‬يقول‪ :‬هل للنقد شروط؟ فبعض الناس قد يعرض عليك النقد بطريقة‬
‫استفزازية‪ ،‬وربما يطرحه بطريقة جافة غليظة‪ ،‬مع إمكان أن يطرحه‬
‫بطريقة حسنة تكون أدعى للقبول؟ الجواب‪ :‬صحيح للنقد شروط‪ ،‬وسوف‬
‫تكون شروط النقد وضوابطه ‪-‬بإذن ال تعالى‪ -‬موضوعاً لحد الدروس‪،‬‬
‫بعنوان ضوابط النقد وشروطه‪ ،‬ولذلك ل داعي لن أذكر منها شيئا الن‪.‬‬

‫ممن يقبل النقد‬

‫السؤال‪ :‬هل يعني كلمك‪ ،‬أن نقبل النقد من أي شخص وفي أي مكان‪ ،‬ولو‬
‫كان الشخص الناقد كافرًا أو عاصياً ل عز وجل‪ ،‬ولو كان النقد قد وجه إليه‬
‫من باب عادات وتقاليد ومجتمع ذلك الناقد؟ الجواب‪ :‬كل؛ لن النقد يعني‬
‫تصحيح الخطأ‪ ،‬فإذا وجه الشخص إليك نقداً؛ لنك تخالف عادة موجودة في‬
‫مجتمعه هو‪ ،‬هنا ل يعتبر هذا خطأ؛ فقد يكون هو المخطئ‪ .‬لكن لو كان النقد‬
‫الذي وجهه إليك صحيحاً‪ ،‬بالمقاييس الشرعية الصحيحة‪ ،‬فإنه ينبغي عليك‬
‫أن تقبل النقد‪ ،‬مهما كان الشخص المنتقد‪ ،‬فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها‬
‫فهو أحق بها‪.‬‬

‫المتعة أو التمتع بالحج‬


‫السؤال‪ :‬يقول‪ :‬إنك قلت‪ :‬عن عثمان وعلي عندما فعل المتعة‪ .‬ولعلها‪ :‬زلة‬
‫لسان والصواب التمتع؟ الجواب‪ :‬هي المتعة وهي التمتع‪ ،‬تسمى هذا وتسمى‬
‫ذاك‪ ،‬لكن المقصود متعة الحج أي لبيك عمرة متمتعاً بها‪ -‬تسمى المتعة‬
‫وتسمى التمتع‪ ،‬وهذا معروف في كتب أهل العلم‪ ،‬بل معروف في الحديث‪.‬‬

‫كثرة النقد‬

‫السؤال‪ :‬بعض الشخاص عندهم صفات النبوغ وملمح الذكاء‪ ،‬ول تكاد‬
‫ترى الواحد منهم إل نقادًا للناس في مسالكهم وطرقهم‪ ،‬بحيث أصبح هذا‬
‫غالباً عليه ل يستطيع التخلص منه‪ .‬الجواب‪ :‬هذا دا ٌء ‪-‬أيها الحبة‪ -‬والذي‬
‫هذا شأنه ل يفلح أبداً إل أن يتوب فعلى النسان أن ينظر دائمًا إلى الجوانب‬
‫المشرقة في حياة الناس وفي شخصياتهم‪ ،‬ينظر إلى الحسنات‪ ،‬ل يكون‬
‫تركيزه على الجوانب السيئة‪ ،‬وجوانب النقص‪ ،‬كلما ذكر شخص بخير‬
‫ضاق صدره‪ ،‬فبحث عن عيب‪ ،‬وعن ذنب‪ ،‬ومثلبة‪ ،‬هذا غير صحيح ينبغي‬
‫أن تنظر بتوازن واعتدال‪ ،‬وتغلب جانب الخير وحسن الظن بالناس‪ ،‬وكلما‬
‫ذكر شخص تثني عليه بالجوانب اليجابية الموجودة فيه‪ .‬وهذا ل يمنع من‬
‫النقد بشروطه وضوابطه الصحيحة‪ ،‬كما أسلفت‪ .‬سبحانك اللهم وبحمدك‪،‬‬
‫نشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬نستغفرك ونتوب إليك‪ .‬والحمد ل رب العالمين‬
‫وصلى ال وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬

You might also like