Professional Documents
Culture Documents
العقيدة في الله
) (1/1
ثالثا ً :توحيد الله وحده ل شريك له ،ونبذ ما يعبد من دونه .
رابعا ً :نظرة في تاريخ العقيدة اللهية ،وتحقيق القول في ذلك .
أدلة وجود الخالق ج ّ
ل وعل
الدليل الول
دليل الفطرة
الفطرة السليمة تشهد بوجود الله من غير دليل :
نن القرآن يقّرر أ ّ لم يطل القرآن في الستدلل على وجود الله تعالى ،ل ّ
الفطر السليمة ،والنفوس التي لم تتقذر بأقذار الشرك ُ ،تقّر بوجوده من
ن توحيده – سبحانه – أمر فطري بدهي ) غير دليل ،وليس كذلك فقط ،بل إ ّ
فأقم وجهك للدين حنيفا ً فطرت الله التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق
الله ذلك الدين القيم ( ] الروم . [ 30 :
هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لحظها الباحثون في تاريخ الديان
ن المم جميعا ً – التي درسوا تاريخها – اتخذت معبودات تتجه إليها ،وهي أ ّ
دسها (1) . وتق ّ
ً ً
وقد يقال هنا :لو كان التوجه إلى الله أمرا فطريا لما عبد الّناس في مختلف
العصور آلهة شتى .
ن النسان ّ لك ، الخالق إلى التجاه إلى المرء تدعو الفطرة ن
والجواب :أ ّ
تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق .
فيما يغرسه الباء في نفوس البناء ،وما يلقيه الكّتاب والمعلمون والباحثون
دل هذه الفطرة ويقذرها ،ويلقي عليها غشاوة ،فل تتجه في أفكار الناشئة يب ّ
إلى الحقيقة .
ص الرسول صلى الله عليه وسلم على صدق هذا الذي قررناه ،ففي وقد ن ّ
الصحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ،قال :قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ) :كل مولود يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه ،
ق
مواف ٌ ن السلم ُ أو ينصرانه ،أو يمجسانه ( ) . (2ولم يقل ُيسلماِنه ،ل ّ
للفظرة .
) (1/2
وقد يقال :إذا تركنا الطفل من غير أن ُنؤّثر في فطرته هل يخرج موحدا ً
دنسوا فطرهم ، عارفا ً برّبه ،فنقول :إذا ترك شياطين النس البشر ،ولم ي ّ
ن لن يتركوهم ،فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلل ن شياطين الج ّ فإ ّ
بني آدم ) :قال فبعزتك لغوينهم أجمعين – إل عبادك المخلصين ( ] ص :
. [ 83-82
وأعطي الشيطان القدرة على أن يصل إلى قلب النسان ،كما في الحديث
الصحيح ) إن الشيطان يجري من النسان مجرى الدم ،وإني خشيت أن
يقذف في قلوبكما شرا ً ( أو قال ) :شيئا ( (3) .
والقرآن وصف الشيطان المطلوب الستعاذة منه بأّنه ) يوسوس في صدور
ن يأمره ن لكل إنسان قرينا ً من الج ّالناس ( ] الناس ، [ 5 :وقد صح أيضا ً أ ّ
بالشّر ،ويحثه عليه ،وفي القرآن ) قال قرينه رّبنا ما أطغيته ولكن كان في
ضلل بعيد ٍ ( ] ق . [ 27 :
ول يتخلص المرء من هذا إل باللتجاء إلى الله ) قل أعوذ برب الناس – ملك
الناس – إله الناس – من شر الوسواس الخناس – الذي يوسوس في صدور
الناس – من الجنة والناس ( ] الناس . [ 6-1 :
ن يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتدنيسها ،وقد ثبت وشياطين الج ّ
في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطب ذات يوم ،فكان مما جاء في خطبته ) :أل إن ربي أمرني أن أعلمكم
حل ٌ
ل ،وإني ل مال نحلته ) (4عبادي َما جهلتم مما علمني يومي هذا :ك ّ
خلقت عبادي حنفاء كلهم ،وإنهم أتتهم الشياطين ،فاجتالتهم عن دينهم ،
وحرمت عليهم ما أحللت لهم ،وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به
سلطانا ً ( (5) .
المصائب تصفي جوهر الفطرة :
) (1/3
) (1/4
ن الفطرة النسانية تشهد كان حري ّا ً بنا أل نقف عند أدلة وجود الله كثيرا ً ،ل ّ
بذلك ،ول يكاد يعرف منكر لوجود الخالق في الماضي إل النزر اليسير ،وهم
ل يمثلون في البشرية نسبة تذكر .
درك السفل ،فأصبحنا نرى أقواما ً يزعمون أن إل أن النحراف اليوم وصل ال ّ
ل خالق ،ويجعلون هذه المقولة مذهبا ً يقيمون عليه حياتهم ،وقامت دول
على هذا المذهب تعد ّ بمئات المليين من البشر .
وانتشرت هذه المقولة في كل مكان ،وألفت فيها كتب ،وأصبح لها فلسفة
تدرس ،وحاول أصحابها أن يسموها بالمنهج العلمي ،ويدللوا عليها .
من أجل ذلك كان ل ّبد أن نتوسع شيئا ً ما في الستدلل على هذه القضية .
الدليل الثاني
المخلوق ل بد ّ له من خالق
ذبين المنكرين بحجة ل بد ّ للعقول من القرار بها ،ول ج القرآن على المك ّ يحت ّ
يجوز في منطق العقل السليم رفضها ،يقول تعالى ) :أم خلقوا من غير
شيٍء أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والرض بل ل يوقنون ( ] الطور
. [ 36-35 :
يقول لهم :أنتم موجودون هذه حقيقة ل تنكروها ،وكذلك السماوات والرض
موجودتان ،ول شك .
ن الموجود ل بد ّ من سبب لوجوده ،وهذا يدركه راعي وقد تقرر في العقول أ ّ
ل على ل على البعير ،والثر يد ّ البل في الصحراء ،فيقول " :البعرة تد ّ
المسير ،فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ،أل تدل على العليم الخبير " .
ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والحياء .
وهذا الذي أشارت إليه الية هو الذي يعرف عند العلماء باسم ) :قانون
السببية ( .هذا القانون يقول :إن شيئا ً من ) الممكنات ( )) ل يحدث بنفسه
من غير شيء (( ؛ لنه ل يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده )) ،ول
يستقل بإحداث شيء (( ؛ لّنه ل يستطيع أن يمنح غيره شيئا ً ل يملكه هو .
ولنضرب مثال ً نوضح به هذا القانون :
) (1/5
منذ سنوات تكشفت الّرمال في صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على
المنطقة عن بقايا مدينة كانت مطموسة في الرمال ،فأخذ العلماء يبحثون
عن محتوياتها ويحاولون أن يحققوا العصر الذي بنيت فيه ،ولم يتبادر إلى
ذهن شخص واحد من علماء الثار أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل
العوامل الطبيعية من الرياح والمطار والحرارة والبرودة ل بفعل النسان .
ولو قال بذلك واحد من الناس لعده الناس مخّرفا ً يستحقّ الشفقة والرحمة ،
ن هذه المدينة تكونت في الهواء من ل شيء في فكيف لو قال شخص ما :إ ّ
ل غرابة عن ن هذا القول ل يق ّ
الزمنة البعيدة ،ثم رست على الرض ؟ إ ّ
سابقه ،بل يفوقه .
ً
ن العدم ل يوجد شيئا هذا أمر مقرر في بدائه العقول ،ولن الشيء لماذا ؟ ل ّ
ل يستطيع أن يوجد نفسه .
والمدينة على النحو الذي نعرفه ل بد لها من موجد ،والفعل يشي ،ويعّرف
بصانعه ،فل بد ّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلء يحسنون البناء والتنسيق .
ولو رأينا إنسانا ً انتقل من أسفل بناية إلى أعلها فل نستنكر ذلك ،ول
ن النسان لديه القدرة على ذلك . نستغربه ،ل ّ
ً
فإذا رأينا حجرا كان في ساحة البناية قد انتقل إلى أعلها ،فإّننا نجزم بأّنه لم
ن الحجر ليس لديه خاصية ينتقل بنفسه ،بل ل بد ّ من شخص رفعه ونقله ؛ ل ّ
الحركة والصعود .
ن المدينة ل يمكن أن توجد من غير ن الناس يجزمون بأ ّ ومن الغريب أ ّ
موجد ،ول يمكن أن تبني نفسها ،ويجزمون بأّنه ل بد ّ للحجر من شخص
صعد به إلى أعلى ،ولكن يوجد فيهم من يجيز أن يصنع الكون من غير
ن بناء الكون أشد ّ تعقيدا ً وأعظم خلقةصانع ،ويوجد من غير موجد ،مع أ ّ
) لخلق السماوات والرض أكبر من خلق الناس ( ] غافر . [ 57 :
ن المنكرين عندما يواجهون بذلك بمنطق علمي يخاطب العقل ،ل ولك ّ
يستطيعون إل أن يقروا أو يكابروا .
) (1/6
وبهذا الدليل كان علماء السلم ول يزالون يواجهون الجاحدين ،فهذا أحد
العلماء يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق ،فيقول لهم :ما تقولون
في رجل يقول لكم :رأيت سفينة مشحونة بالحمال ،مملوءة من النفال ،
قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلطمة ،ورياح مختلفة ،وهي من بينها
تجري مستوية ،ليس لها ملح ُيجريها ،ول متعهد يدفعها ،هل يجوز في
العقل ؟ .
قالوا :هذا شيء ل يقبله العقل .
فقال ذلك العالم :يا سبحان الله ،إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في
دنيا علىالبحر مستوية من غير متعهد ول مجر ،فكيف يجوز قيام هذه ال ّ
اختلف أحوالها ،وتغّير أعمالها ،وسعة أطرافها ،وتباين أكنافها من غير صانع
ول حافظ ؟! فبكوا جميعا ً ،وقالوا :صدقت وتابوا .
هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الية
الكريمة ) :أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( ] الطور [ 35 :وهو
ن هناك خالقا ً معبودا ً ،إل أن الية صاغته
دليل ُيرغم العقلء على التسليم بأ ّ
صياغة بليغة مؤثرة ،فل تكاد الية تلمس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها .
روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال " :سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ،فلما بلغ هذه الية ) أم
خلقوا من غير شيٍء أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والرض بل ل
يوقنون – أم عندهم خزاِئن ربك أم هم المصيطرون ( ] الطور [ 37-35 :كاد
قلبي أن يطير " (6) .
قال البيهقي ) : (7قال أبو سليمان الخطابي " :إنما كان انزعاجه عند سماع
هذه الية لحسن تلقيه معنى الية ،ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة ،
فاستدركها بلطيف طبعه ،واستشف معناها بزكي فهمه . " ...
) (1/7
) (1/8
) (1/9
نسمع ونقرأ شبهات قيلت في القديم ،وتقال اليوم ،يحاول أصحابها أن
يعللوا بها وجود الكون ،وسنحاول أن نعرض لبعض هذه الشبهات ،ثم نبين
ما فيها من باطل .
ا -القول بالمصادفة
بعد توضيح الدليل القرآني الذي يخاطب العقول ،ويلزمها بالعتراف بوجود
ن هذا الكون خلق مصادفة من غير خالق ليس الخالق المعبود ،يبدو القول إ ّ
قول ً بعيدا ً عن الصواب فحسب ،بل قول بعيد عن المعقول يدخل صاحبه في
عداد المخرفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا ،فهم يكابرون في الدليل الذي
ل يجد العقل ب ُد ّا ً من التسليم به .
لقد وجد من يقول " :لو جلست ستة من القردة على آلت كاتبة ،وظلت
تضرب على حروفها بليين السنين ،فل نستبعد أن نجد في بعض الوراق
الخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير ،فكذلك الكون الموجود
الن ،إنما وجد نتيجة لعمليات عمياء ،ظلت تدور في )) المادة (( لبليين
السنين " .
يقول وحيد الدين خان ) (1بعد نقله لهذه الفقرة من كلم ) هكسلي ( ): (2
ن أيّ كلم من هذا القبيل لغو مثير بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان ، "إ ّ
ن جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية مصادفة أنتجت واقعا ً فإ ّ
عظيما ً ذا روح عجيبة ،في روعة الكون " .
ن القول إن الحياة وجدت وينقل عن عالم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله " :إ ّ
نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة
انفجار صدفي يقع في مطبعة " .
ن الرياضيات التي تعطينا نكتة المصادفة ،هي ويقرر وحيد الدين خان " :أ ّ
نفسها التي تنفي أيّ إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون
المصادفة " .
وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم المريكي ) كريستي
موريسون ( يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة :
) (1/10
قال " :لو تناولت عشرة دراهم ،وكتبت عليها العداد من واحد إلى عشرة ،
ثم رميتها في جيبك ،وخلطتها جيدا ً ،ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى
ل درهم في جيبك بعد تناوله مرة العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي ك ّ
أخرى ،فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الولى
هو واحد في العشرة ،وإمكان أن نخرج الدراهم من ) (10-1بالترتيب واحد
في عشرة بليين " (3) .
ن
وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والتفاق ؟ إ ّ
حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الحتمال خياليا ً يصعب حسابه فضل ً
عن تصوره .
ن النسان ل ما في الكون يحكي أّنه إيجاد موجد حكيم عليم خبير ،ولك ّ نك ّ إ ّ
ظلوم جهول ) قتل النسان ما أكفره – من أي شيء خلقه – من نطفةٍ خلقه
ما
فقدره – ثم السبيل يسره – ثم أماته فأقبره – ثم إذا شاء أنشره – كل ل ّ
يقض ما أمره – فلينظر النسان إلى طعامه – أنا صببنا الماء صبا ً – ثم شققنا
الرض شقا ً – فأنبتنا فيها حبا ً – وعنبا ً وقضبا ً – وزيتونا ً ونخل ً ( ] عبس -17 :
. [ 29
كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في خلق النسان وتكوينه ،وفي صنع طعامه
در الذي تشارك فيه الرض والسماء ،وصدق الله في على هذا النحو المق ّ
وصفه للنسان ) إّنه كان ظلوما ً جهول ً ( ] الحزاب (4) . [ 72 :
--------------------------------
) (1السلم يتحدى :ص . 66
) ) (2هكسلي ( هو الكاتب الملحد الذي كتب كتابه المعروف ) النسان يقوم
خر الله له عالما ً من ملته هو ) أ .كريستي موريسون رئيس وحده ( ،فس ّ
أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس
البحوث القومي بالوليات المتحدة ( ،فسطر كتابه القيم ) النسان ل يقوم
وحده ( ردا ً على )هكسلي( وقد ترجم هذا الكتاب تحت عنوان ) العلم يدعو
إلى اليمان ( .
) (3انظر :العلم يدعو إلى اليمان :ص . 51
) (1/11
) (4وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند الكلم على اليات الكونية إن شاء
الله تعالى .
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ) الطبيعة (
-2قالوا الطبيعة هي الخالق
وهذه فرية راجت في عصرنا هذا ،راجت حتى على الذين نبغوا في العلوم
الماّدية ،وعلل كثيرون وجود الشياء وحدوثها بها ،فقالوا :الطبيعة هي التي
دث .ُتوجد وُتح ِ
وهؤلء نوجه لهم هذا السؤال :ماذا تريدون بالطبيعة ؟ هل تعنون بالطبيعة
ذوات الشياء ؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم
الكون ؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته ؟
ن
إذا قالوا :نعني بالطبيعة الكون نفسه ،فإننا ل نحتاج إلى الرد ّ عليهم ،ل ّ
ما مضى ،فهذا القول يصبح ترديدا ً للقول السابق إ ّ
ن فساد قولهم معلوم م ّ
الشيء يوجد نفسه ،أي :إّنهم يقولون الكون خلق الكون ،فالسماء خلقت
السماء ،والرض خلقت الرض ،والكون خلق النسان والحيوان ،وقد بّينا
ن الشيء يوجد نفسه ،ونزيد المر ن العقل النساني يرفض التسليم بأ ّ أ ّ
ً
إيضاحا فنقول :والشيء ل يخلق شيئا أرقى منه ،فالطبيعة من سماء وأرض ً
ونجوم وشموس وأقمار ل تملك عقل ً ول سمعا ً ول بصرا ً ،فكيف تخلق إنسانا ً
سميعا ً عليما ً بصيرا ً ! هذا ل يكون .
خلق ذلك كله مصادفة ،قلنا :ثبت لدينا يقينا ً أن ل مصادفة في فإن قالوا ُ :
خلق الكون ،وقد تبينا ذلك فيما سبق .
نظرية التولد الذاتي ) شبهة ثبت بطلنها ( :
ن الطبيعة هيوكان مما ساعد على انتشار الوثنية الجديدة ) القول إ ّ
الخالق ( هو ما شاهده العلماء الطبيعيون من تكون )دود( على براز النسان
ون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده ،فقالوا :ها هي ذي أو الحيوان ،وتك ّ
حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها .
) (1/12
وراجت هذه النظرية التي مكنت للوثن الجديد ) الطبيعة ( في قلوب الضالين
ن الحق ما لبن أن كشف باطل هذه التائهين بعيدا ً عن هدى الله الحق ،لك ّ
ن الدود
النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور ) باستير ( الذي أثبت أ ّ
المتكون ،والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيا ً من الطبيعة ،وإّنما
من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها ،وقام بتقديم الدلة
التي أقنعت العلماء بصدق قوله ،فوضع غذاء وعزله عن الهواء ،وأمات
البكتريا بالغليان ،فما تكونت بكتيريا جديدة ،ولم يفسد الطعام ،وهذه
النظرية التي قامت عليها صناعة الغذية المحفوظة ) المعلبات ( (1) .
الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون :
ن الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون ،وهذا تفسير ويرى فريق آخر أ ّ
ن الطبيعة هي الخالق ،فهم دعون العلم والمعرفة من القائلين إ ّ الذين ي ّ
ن هذا الكون يسير على سنن وقوانين تسّيره وتنظم أموره في يقولون :إ ّ
كل جزئية ،والحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين ،مثله كمثل
الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرا ً طويل ً ،فإنها تسير بذاتها بدون مسّير .
وهؤلء في واقع المر ل يجيبون عن السؤال المطروح :من خلق الكون ؟
ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها ،هم يكشفون لنا كيف
تعمل القوانين في الشياء ،ونحن نريد إجابة عن موجد الكون وموجد
القوانين التي تحكمه .
ن السماء تمطر ،لكننا يقول وحيد الدين خان " :كان النسان القديم يعرف أ ّ
ل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ،حتى نزول قطرات اليوم نعرف ك ّ
ل هذه المشاهدات صور للوقائع ،وليست في ذاتها الماء على الرض ،وك ّ
تفسيرا ً لها ،فالعلم ل يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين ؟ وكيف
ن
قامت بين الرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ،حتى إ ّ
العلماء يستنبطون منها قوانين علمية .
) (1/13
ن ادعاء النسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أّنه قد كشف تفسير الكون ليس إ ّ
سوى خدعة لنفسه ،فإّنه قد وضع بهذا الدعاء حلقة من وسط السلسلة
مكان الحلقة الخيرة .
سر شيئا ً ) من الكون ( وإّنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير . إن الطبيعة ل تف ّ
واقرأ هذه المحاورة التي يمكن أن تجرى بين رجل نابه ،وأحد الطباء الفذاذ
في علمهم :
السائل :ما السبب في احمرار الدم ؟
ن في الد ّم ِ خليا حمراء ،حجم كل خلية منها 1/700 :من الطبيب :ل ّ
البوصة .
ً
السائل :حسنا ،ولكن لماذا تكون هذه الخليا حمراء ؟
الطبيب :في هذه الخليا مادة تسمى ) الهميوجلوبين ( ،وهي مادة تحدث
لها الحمرة حين تختلط بالكسجين في القلب .
السائل :هذا جميل ،ولكن من أين تأتي هذه الخليا التي تحمل
) الهميوجلوبين ( ؟
الطبيب :إنها تصنع في كبدك .
دم والخليا
السائل :عجيب ! ولكن كيف ترتبط هذه الشياء الكثيرة من ال ّ
والكبد وغيرها ،بعضها ببعض ارتباطا ً كليا ً وتسير نحو أداء واجبها المطلوب
دقة الفائقة ؟ بهذه ال ّ
الطبيب :هذا ما نسميه بقانون الطبيعة .
السائل :ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا يا سيادة الطبيب ؟
الطبيب :المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية
والكيماوية .
ً
السائل :ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة ؟ وكيف تنظم
نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ،ويعيش السمك في الماء ،ويوجد
دنيا ،بجميع ما لديه من المكانات والكفاءات العجيبة المثيرة ؟ إنسان في ال ّ
ن علمي ل يتكلم إل عما يحدث ،وليس له الطبيب :ل تسألني عن هذا ،فإ ّ
أن يجيب :لماذا يحدث ؟
) (1/14
يتضح من هذه السئلة مدى صلحية العلم الحديث لشرح العلل والسباب
وراء هذا الكون :إن مثل الكون كمثل آلة تدور تحت غطائها ،ل نعلم عنها إل
أّنها تدور )) ولكن لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبد هذه اللة
بدوائر وتروس كثيرة ،يدور بعضها ببعض ،ونشاهد حركاتها كّلها .هل معنى
هذا أّننا قد علمنا خالق هذه اللة بمجرد مشاهدتنا لما يدور بداخلها ؟ كيف
يفهم منطقيا ً أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن اللة جاءت من تلقاء ذاتها ،وتقوم
بدورها ذاتيا ً ؟! " (2) .
الطبيعة قوة :
فإن وجد من يقول :إن الطبيعة قوة أوجدت الكون ،وإنها قوة حّية سميعة
بصيرة حكيمة قادرة ...فإّننا نقول لهم :هذا صواب وحقّ ،وخطؤكم أنكم
ميتم هذه القوة )الطبيعة( ،وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة ،على س ّ
السم الذي تستحقه وهو ) الله ( ،الله عّرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا
مى به نفسه سبحانه وتعالى . ،فعلينا أن نسميه بما س ّ
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم :
ً
هؤلء الذين نسبوا الخلق إلى الطبيعة لهم سلف قالوا قريبا من قولهم ،وهم
ن الصغير يكبر ،الدهرية الذين نسبوا الحداث إلى الدهر ،فقد شاهدوا أ ّ
رم يموت بمرور الزمان ،وتعاقب الليل والنهار ،فنسبوا والكبير يهرم ،واله ِ
الحياة والموت إلى الدهر ) وقالوا ما هي إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما
يهلكنا إل الدهر وما لهم بذلك من علم ٍ إن هم إل يظنون ( ] الجاثية . [ 24 :
أولئك نسبوا الحداث إلى الزمان ،وهؤلء إلى ذوات الشياء فهما صنوان في
الضلل .
--------------------------------
) (1كتاب التوحيد ،للزنداني . 2/74
ً
من كلمه نقول عن ) (2السلم يتحدى ،لوحيد الدين خان ، 31-29 :وقد ض ّ
غيره من علماء الغرب .
الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ) دارون (
-3نظرية دارون )(1
) (1/15
حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الحياء ،وقد شاعت هذه
النظرية ،وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية ،لظّنهم أّنها حقيقة علمية ،
وعمل آخرون على نشرها بسوء نية ،لّنها وافقت أهواءهم ،فهي تكذب
دين دليل ً منبالديان التي وصفت خلق النسان ،وبذلك يجد الطاعنون في ال ّ
العلم يرتكزون عليه ،ويدّلسون على الّناس به .
ماذا تقول هذه النظرية ؟
ن أصل المخلوقات حيوان صغير ،نشأ من الماء ،ثم تزعم هذه النظرية أ ّ
ما أّدى إلى نشوء صفات أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه م ّ
جديدة في هذا الكائن ،أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في البناء حتى
تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر مليين السنين
إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقا ً أرقى ،
واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والرتقاء في المخلوقات ،حتى
وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالنسان .
أساس النظرية :
-1تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن )) دارون (( من الحفريات
ن
ن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية ،وأ ّ الرضية ،فقد وجدوا أ ّ
الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى .فقال )) دارون (( " :
ن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والرتقاء من الحيوانات إ ّ
والكائنات الولى " .
-2وتعتمد أيضا ً على ما كان معروفا في زمن )) دارون (( من تشابه جميع
ً
ن أصل الكائنات واحد ،كما أجّنة الحيوانات في أدوارها الولى ،فهو يوحي بأ ّ
ن الجنين واحد ،وحدث التطور على الرض كما يحدث في أرحام الكائنات أ ّ
الحّية .
-3كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في النسان التي هي
المساعد في هضم النباتات ،وليس لها الن عمل في النسان مما يوحي
بأّنها أثر بقي من القرود لم يتطور ؛ لنها تقوم بدورها في حياة القرود .
مت :
شرح )) دارون (( لعملية التطور وكيف ت ّ
) (1/16
-1النتخاب الطبيعي :تقوم عوامل الفناء بإهلك الكائنات الضعيفة الهزيلة ،
مى بزعمهم بقانون )) البقاء والبقاء على الكائنات القوية ،وذلك ما يس ّ
للصلح (( ،فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته ،
وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن ،
وذلك هو )) النشوء (( الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى
كائن أعلى ،وهكذا يستمر التطور ،وذلك هو الرتقاء .
-2النتخاب الجنسي :وذلك بوساطة ميل الذكر والنثى إلى التزوج بالقوى
والصلح ،فتورث بهذا صفات الصلح ،وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم
الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره .
-3كلما تكونت صفة جديدة ،ورثت في النسل .
تفنيد الساس الذي قامت عليه النظرية :
دعي أحد أّنه قد كمل التنقيب في جميع علم الحفريات ل يزال ناقصا ً ،فل ي ّ
طبقات الرض وتحت الجبال والبحار ،فلم يجد شيئا ً جديدا ً ينقض المقررات
السابقة .
ن وجود الكائنات الولى البدائية أول ً ، وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإ ّ
ثم الرقى ليس دليل ً على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الدنى ،بل هو
دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملءمة البيئة لوجودها على
أي صورة كان هذا الوجود ،وإذا كانت الحفريات في زمن )) دارون ((
ن الكتشافات ن أقدم عمر للنسان هو ستمائة ألف سنة ،فإ ّ تقول :إ ّ
ن عمر النسان يصل إلى عشرة درت أ ّ الجديدة في علم الحفريات قد ق ّ
مليين من السنين .
ي، ن علم الحفريات متغّير ل يبنى عليه دليل قطع ّ أليس هذا أكبر دليل على أ ّ
وأّنه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كّنا نؤمل ؟
) (1/17
ولقد كتب الدكتور مصطفى شاكر سليم تعليقا ً على كتاب )) النسان في
المرآة (( للمؤلف ) كليد كلوكهون ( حول إنسان ) يناندرتال ( الذي يزعم
أنصار نظرية )دارون( أّنه أّول إنسان تطور من القرود أو الغوريل .فقال
الدكتور مصطفى :ويتصف ) إنسان يناندرتال ( بالصفات الطبيعية الرئيسة
التية :مخ أكبر حجما ً من مخ النسان المعاصر ،وجمجمة كبيرة عريضة .
ن السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير إلى أن قال :إلى جانب أ ّ
متصلة بما يسمى ) الحلقات المفقودة ( .
دع مذهب دارون (( : يقول الدكتور ) سوريال ( في كتابه )) تص ّ
ن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الحياء ،وليست بالناقصة بين -1إ ّ
النسان وما دونه فحسب ،فل توجد حلقات بين الحيوانات الولية ذات الخلية
الوحيدة والحيوانات ذوات الخليا المتعددة ،ول بين الحيوانات الرخوية وبين
الحيوانات المفصلية ،ول بين الحيوانات اللفقرية وبين السماك والحيوانات
البرمائية ،ول بين الخير وبين الزحافات والطيور ،ول بين الزواحف وبين
الحيوانات الدمية ،وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية .
-2تشابه أجنة الحيوانات :ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء ،نتيجة لعدم
تقدم اللت المكّبرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة
الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب ،إلى جانب
التزييف الذي قام به واضع صور الجّنة المتشابهة العالم اللماني ) أرنست
هيكل ( فإّنه أعلن بعد انتقاد علماء الجنة له أّنه اضطّر إلى تكملة الشبه في
نحو ثمانية في المئة من صور الجّنة لنقص الرسم المنقول .
) (1/18
-3أما وجود الزائدة الدودية في النسان كعضو أثري للتطور القردي فليس
دليل ً قاطعا ً على تطور النسان من القرد ،بل يكون سبب وجودها هو وراثتها
من النسان الجد ّ الذي كان اعتماده على النباتات ،فخلقت لمساعدته في
ن لها حقيقة ل تزال غائبة عّنا ن العلم قد يكشف أ ّ هضم تلك النباتات ،كما أ ّ
حتى اليوم .
فالعلم كل يوم إلى ازدياد ،وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الولية
ن الثدي من أمارات الدنيا ،والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ،فإ ّ
النوثة ،ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للنسان ،في حين ذكور ذوات الحافر
كالحصان والحمار ل ثدي لها إل ما يشبه أمهاتها .فكيف بقي أثر الخنوثة في
ن النسانن ) دارون ( يزعم أ ّ النسان ،ولم يبق فيما هو أدنى منه ؟ مع أ ّ
ور مما هو أدنى منه . تط ّ
تفنيد شرح دارون لعملية التطور :
ً ً
ن هناك ناموسا أو قانونا يعمل على إفناء الكائنات -1يقول ))دارون(( :إ ّ
الحية ،فل يبقى إل الصلح الذي يورث صفاته لبنائه ،فتتراكم الصفات
القوية حتى تكون حيوانا ً جديدا ً ،حقا ً هناك نظام وناموس وقانون يعمل على
لدر الموت على ك ّ ن الله ق ّ
إهلك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ،ل ّ
ن نظاما ً وناموسا ً يعمل بمقابلة هذا النظام ،ذلك هو قانون التكافل حي ؛ إل أ ّ
در الحياة فهّيأ أسبابها ،فنجد ن الله ق ّ
على الحياة بين البيئة والكائن ،ل ّ
ل هذه وغيرها الشمس والبحار والرياح والمطار والنباتات والجاذبية ،ك ّ
تتعاون للبقاء على حياة النسان وغيره من الحيوانات .
) (1/19
فالّنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء ُيحدث خلل ً في
ل دوٌر فيالتفكير ،فإذا كان هناك سنة للهلك ،فهناك سنة للحياة ،ولك ٍ
الحياة ،وإذا كانت الظروف الطبيعية :من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف
وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه كطمس عين أو تهديهم بناء ،
فإّنه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة
والبليدة أن تنشئ عينا ً ،لمن ل يملك عينا ً ،أو تصلح بناء فيه نقص .
ن العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لحداث الخراب والهلك ، إ ّ
لكّنه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع
والتصوير والتكوين المنظم المتقن ،إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية
ون بنظام ،ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محّيرة ،ونسق قد ُرسم بإتقان ،وك ّ
عمله مع غيره في غاية البداع ،ومن المحال أن ينسب ذلك التقان والنظام
البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء .
قال )) جمال الدين الفغاني (( في كتابه )) الرد ّ على الدهريين (( بعد نقاش
ل جزء من أجزاء المادة لهذه النظرية :وبعد ذلك فإني سائلهم كيف اطلع ك ّ
ل جزء منها بقيةمع انفصالها على مقاصد سائر الجزاء ؟ وبأية آلة أفهم ك ّ
الجزاء بما ينويه من مطلبه ؟ وأي ) برلمان أو سينات ( – مجلس الشيوخ –
عقدت لبداع هذه المكونات العالمية التركيب البديعة التأليف ؟ وأّنى لهذه
الجزاء أن تعلم – وهي في بيضة العصفور – ضرورة ظهورها في هيئة الطير
يأكل الحبوب ،فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته ؟ .
) (1/20
مر الحياة البشرية ، ن هذا المبدأ الذي أطلقه )دارون( )البقاء للصلح( قد د ّ إ ّ
ن الظالم وهو يمارس ّ ل ، حكومة أو كان ً ا فرد ظالم ّ
ل لك المسوغ أعطى نه
لّ
غصبه وظلمه وحربه ومكره ل يمارس رذائل خلقية ،إّنما هو يمارس قانونا ً
من قوانين الفطرة كما زعم ) دارون ( ،إنه يمارس قانون ) البقاء
ل بشاعتها . للصلح ( ،وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الستعمار ك ّ
ما النتخاب الطبيعي الذي يكون به الميل في التناسل بين الفراد القوّية -2أ ّ
مما سبب اندثار الفراد الضعاف ،وبقاء القوى ،فليس ذلك دليل ً على
حدوث تطور في النوع ،بل يفهم منه بقاء النوع القوي من النوع نفسه
واندثار النوع الضعيف .
ن تطورا ً يحدث على كائن ما فإّنه يحدث فيه فتورا جنسيا ؛ ل ّ
ن ً ً ما إذا قيل :إ ّ أ ّ
اللفة بين الذكور والناث تنقص بقدر التباعد والختلف بينهما في الشكل .
ذلك ما يقوله )دوير زانسكي( أشهر المختصين بالجيولوجية النوعية عام
1958م بعد قرن من )دارون( ،فمن قوله في هذا " :المخالفة في الشكل
تضعف الميل التناسلي منه ،فالميل إلى التناسل يضعف بين الشكال
ن الصفات المحسنة والنواع المختلفة بقدر ذلك الختلف .وليس صحيحا ً أ ّ
في فرد من الفراد تنقل بوساطة الوراثة .
فمثل ً هذا الحداد القويّ العضلت ل تنتقل قوة عضلته إلى ذريته ،كما أ ّ
ن
العالم الغزيز العلم ل ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه " .
-3أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ،ثم توريثها
ل صفة ل تكمن في في النسل ،فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث .فك ّ
الناسلة ،ول تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة ،ل تنتقل إلى
الذرية بالوراثة .
) (1/21
ن النتخاب الطبيعي يقول الستاذ ) نبيل جورج ( أحد ثقات هذا العلم " :إ ّ
لجل هذا ل يصلح لتعليل مذهب النشوء ،أو مذهب التطور ؛ لّنه يعلل زوال
غير الصالح ونشأة المزايا الموروثة بين الفراد ،والقائلون بالطفرة يقصدون
ن الحيوان الذي لم يكن له عين تتكون له العين فجأة بوساطة بعض أ ّ
الشعة .
ن
ّ لك ، الناسلت في العدد ير
ّ تغ السينية الشعة ن
ّ أ المختصين لدى ثبت فقد
أثر الشعة تغيير لما هو موجود ،ل إنشاء ما ليس له وجود ،فعدد ناسلت
القرد غير عدد ناسلت النسان ،والشعة ل تؤثر إل في الناسلت الموجودة
فضل ً من أن تحدث هذه الشعة التي ل عقل لها ول إدراك عقل ً للنسان
يتميز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات .
ن الشعة تؤثر في الناسلت تأثيرا ً أقرب إلى التشويه منه إلى الصلح كما إ ّ
يحدث من الشعة الذرّية .وإلى جانب مخالفة علم الوراثة ) لنظرية دارون (
ن التجربة تنقضه ،فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ، فإ ّ
ولكن ذلك كله لم يسبب أن ُولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين ،وهكذا
فكلما تقدم العلم أثبت بطلن نظرية )دارون(.
النظرية ل يؤيدها الواقع المشاهد :
ً
-1لو كانت النظرية حقا لشاهدنا كثيرا من الحيوانات والنسان تأتي إلى
الوجود عن طريق التطور ،ل عن طريق التناسل فقط .وإذا كان التطور
يحتاج إلى زمن طويل فذلك ل يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في
صورة دفعات متوالية .
ن الظروف الطبيعية والنتخاب الطبيعي ؛ قد طورت قردا ً إلى -2لو سلمنا أ ّ
رجل – مثل ً – فإّنا لن نسلم أبدا ً بأن هذه الظروف قد قّررت أيضا ً أن تكون
امرأة لذلك الرجل ،ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما .
) (1/22
-3إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات كالحرباء التي تتلون
بحسب المكان ،هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات ،تولد معها ،وهي
عند بعضها وافرة ،وعند بعضها الخر تكاد تكون معدومة ،وهي عند جميع
المخلوقات محدودة ل تتجاوز حدودها ،فالقدرة على التكيف صفة كامنة ،ل
صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية ،وإل كانت البيئة
فرضت التكيف على الحجار والتربة وغيرها من الجمادات .
-4تمتاز الضفادع على النسان بمقدرة على الحياة في البر والماء ،كما
تمتاز الطيور عليه بمقدرة الطيران والنتقال السريع وذلك بدون آلة ،كما أن
أنف الكلب أشد ّ حساسية من أنف النسان ،فهل أنف الكلب أكثر رقيا ً من
أنف النسان ؟
وهل الضفادع والطيور أرقى من النسان في بعض الجوانب ؟
ن عين الجمل أو الحصان أو الحمار ترى في النهار وفي المساء على كما أ ّ
السواء ،في حين تعجز عين النسان عن الرؤية في الظلم ،كما أن عين
الصقر أشد ّ حدة من عين النسان .فهل الصقر أو الحمار أرقى من
النسان ؟ وإذا أخذنا الكتفاء الذاتي أساسا ً للرقي كما هو بالنسبة لحال
ن النبات يفوق النسان وجميع الحيوانات ،لّنه يصنع طعامه وطعام الدول فإ ّ
غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره .
وإذا أخذنا الضخامة أساسا ً للرقي ،عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل
وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من النسان .
موقف علماء الطبيعة من النظرية :
ً
-1المؤيدون للنظرية وتأييدهم كان أكثره انتصارا لحرية الفكر الذي كانت
الكنيسة تحاربه وتقاومه ،فقد شن علماء الطبيعة حربا ً ضد قسس الكنيسة
وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين .
-2المعارضون ،وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل ) النتخاب
الطبيعي ( في تحويل النواع ،ول سيما نوع النسان ،فالمعترضون عليه
طلبا ً للدلة الطبيعية ل يقلون عددا ً أو اعتراضا ً عن المعترضين اللهوتيين في
أوربا .
) (1/23
ن
وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كما نقلها الستاذ إبراهيم حوراني " :إ ّ
العلماء لم يثبتوا مذهب ))دارون(( بل نفوه ،وطعنوا فيه ،مع علمهم أّنه
بحث فيه عشرين سنة " .ومنهم العلمة ))نشل(( ،والعلمة ))دلس(( قال
ن الرتقاء بالنتخاب الطبيعي ل يصدق على النسان ،ول بد ما خلصته " :إ ّ
ً
من القول بخلقه رأسا " .
ومنهم ))فرخو(( قال " :إّنه يتبين لنا من الواقع أن بين النسان والقرد فرقا ً
ن النسان سللة قرد أو غيره من البهائم ،ول بعيدا ً ،فل يمكننا أن نحكم بأ ّ
وه بذلك " .يحسن أن نتف ّ
ن
ومنهم ))ميفرت(( قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الحياء " :إ ّ
مذهب ))دارون(( ل يمكن تأييده ،وإّنه من آراء الصبيان " .
ومنهم العلمة ))فون بسكون(( قال بعد أن درس هو و ))فرخو(( تشريح
ن الفرق بين الثنين أصلي وبعيد جدا ً . " ... المقابلة بين النسان والقرد " :إ ّ
ومنهم العلمة ))أغاسيز(( قال في رسالة في أصل النسان تليت في ندوة
ن مذهب )دارون( خطأ على باطل في العلم الفيكتورية ،ما خلصته :إ ّ
الواقع ،وأسلوبه ليس من العلم في شيء ،ول طائل تحته .
ومنهم العلمة ))هكسلي(( وهو من )اللأدرية( وصديق )لدارون( قال :إّنه
بموجب ما لنا من البينات لم يثبت قط أن نوعا ً من النبات أو الحيوان نشأ
بالنتخاب الطبيعي أو النتخاب الصناعي .
ن الذين ومنهم العلمة ))تندل(( وهو مثل ))هيكل(( قال " :إّنه ل ريب في أ ّ
يعتقدون بالرتقاء يجهلون أّنه نتيجة مقدمات لم يعلم بها ،ومن المحقق
عندي أنه ل بد ّ من تغيير مذهب )دارون( " .
نظرية ل حقيقة :
لذلك كله فقد أطلق على ما قاله )دارون( بشأن التطور )نظرية التطور( ،
وهناك فرق كبير لدى العلماء بين النظرية والحقيقة أو القانون .فالنظرية
في اصطلحهم هي ما تحتمل التصديق والتكذيب ،أما الحقيقة أو القانون فل
يحتمل وجها ً من أوجه الباطل .
لماذا انتشرت إذن؟
) (1/24
مجيُئها في وقت أذن الله فيه أن يظهر باطل سبب انتشار هذه النظرية هو َ
دين المحرف المغير ) النصرانية ( على أيدي جماعة من أبنائه ،فكان ذلك ال ّ
لتقدم العلوم أثر كبير في كشف زيف ذلك الدين ،مما أّدى إلى نشوب
معركة ضارية ذهب ضحيتها آلف من علماء الطبيعة ،وفي المعترك الحامي
أخذ كل فريق في استخدام كل سلح ضد خصمه ،فانتشرت هذه النظرية
ل دين وطئت م في وجه ك ّ سلحا ً أشهره علماء الطبيعة في وجه دينهم ،ث ّ
ً
أقدامهم المستعمرة أرضه ؛ لعتقادهم بصدق هذه النظرية ،وانتقاما من
دين الباطل الذي وقف حجر عثرة أمام البحث في ميادين العلوم ذلك ال ّ
الطبيعية ،ثم وسيلة لتحطيم أديان المم المستعمرة حتى يسهل على
المستعمرين السيطرة على هذه الشعوب .
وهكذا فرض التعليم الستعماري هذه النظرية بعد أن حطم دينها في مناهج
الدراسة ،وقدمها في ثوب ) علمي ( حتى يستطيع أن يقنع الطلب بصدق
هذه النظرية ليقرر ما ألقي في أذهان الطلب من خلف بين العلم الذي
دين ،فيكفر الناس بدينهم .
زيفوه وال ّ
ويكفي أن يعرف القارئ أّنه بوساطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء
السلم عن دينهم ،ولذلك فقد حرص الستعمار على تعليم هذه النظرية
لبناء المسلمين في مدارسنا في الوقت الذي يحّرم فيه القانون المريكي
تعليم هذه النظرية في المدارس منذ سنة 1935م .
ن نظرية )دارون( ولكن أوربا بعد أن قضت على دينها المحرف عادت لتعلن أ ّ
التي استخدمتها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ،وإنما هي
نظرية كلما تقدمت العلوم كشفت عن باطلها .
القرآن ونظرية دارون :
) (1/25
حين يتكلم القرآن في الحقائق الزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ) وإذا
ُقرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( ] العراف ، [ 204 :لنه من العليم
الخبير الذي أحاط بكل شيء علما ً ،وما علم النسان ! إّنه ل شيء بجانب
علم الله ) والله يعلم وأنتم ل تعلمون ( ] البقرة . [ 216 :
وكيف ل يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ) أل يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير( ] الملك . [ 14 :
وكيف يسمح الّناس لنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا
ما أشهدّتهم خلق السماوات والرض ول خلق أنفسهم ( ذلك الخلق ) ّ
] الكهف . [ 51 :
ن صوابهم في هذا المجال قليل ،وخطؤهم كثير . وما داموا لم يشهدوا ،فإ ّ
عكس هذه النظرية هو الصواب :
ً
الذي يقرره العليم الخبير خالق النسان مخالف تماما لما قرره هؤلء
الجاهلون ،فالله يخبرنا أّنه خلق النسان خلقا ً مستقل ً مكتمل ً ،وقد أخبر
ل في ملئكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ) وإذ قال ربك للملِئكة إّني جاع ٌ
ة ( ] البقرة . [ 30 : الرض خليف ً
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ،فقد خلقه من تراب ) فإّنا خلقناكم من
ب ( ]الحج . [5 :ترا ٍ
وفي الحديث عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال :سمعت رسول
ن الله خلق آدم من قبضة قبضها من الله صلى الله عليه وسلم يقول ) :إ ّ
جميع الرض ،فجاء بنو آدم على قدر الرض ،منهم الحمر والبيض
ب ( (2) . ث والطي ُ خِبي ُ
ن ،وال َوالسود ،وبين ذلك ،والسهل والحْز ُ
ماٍء ( ] النور [ 45 :ّ من ٍ ةداب كل خلق والماء عنصر في خلق النسان ) والله
ن ( ] النعام . [ 2 : ،فهو من ماء وتراب ) :هو الذي خلقكم من طي ٍ
خار (
ل كالف ّول إلى صلصال كالفخار ) خلق النسان من صلصا ٍ هذا الطين تح ّ
]الرحمن . [14 :
وقد خلقه الله بيديه ) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (
]ص. [75:
) (1/26
وفا ً منذ البداية ،ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى وقد خلقه مج ّ
ور الله آدم في الجّنة تركه ما شاء الله أن الله عليه وسلم قال ) :لما ص ّ
ً
خلق خلقا ل ما رآه ُ أجوف عرف أّنه ُف به ينظر ،فل ّ س يطي ُ
يتركه ،فجعل إبلي ُ
يتمالك ( (3) .
دبت فيه الحياة ،فأصبح سميعا ً بصيرا ً ّ ف ، روحه من فيه الله نفخ هذا الطين
متكلما ً عاقل ً واعيا ً ،فقد أمر الله الملئكة بالسجود لدم حين ينفخ فيه الروح
ويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ] ب فيه الحياة ) فإذا س ّ ،وتد ّ
ص . [ 72 :
وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ) وقلنا يا آدم اسكن أنت
وزوجك الجنة ( ] البقرة . [ 35 :
م خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ،ففي القرآن ) وعلم آدم وبمجرد أن ت ّ
م عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلء إن كنتم السماء كلها ث ّ
ّ
صادقين – قالوا سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم – قال
يا آدم أنبئهم بأسماِئهم ( ] البقرة . [ 33-31 :
وفي حديث أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :لما
خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ،فقال :الحمد لله ،فحمد الله بإذنه ،
فقال له ربه :يرحمك الله يا آدم ،اذهب إلى أولئك الملئكة – إلى مل ٍ منهم
قل :السلم عليكم .قالوا :عليك السلم ورحمة الله (4) . ( .. س فَ ُجلو ٌ
هذا النسان الول هو آدم وهو أبو الناس كافة ،وخلق الله من آدم زوجه
س واحدةٍ وخلق منها حواء ) ،يا أّيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نف ٍ
زوجها (]النساء. [1:
ور ؛ ً
ولم يكن خلق النسان ناقصا ثم اكتمل ،كما يقول أصحاب نظرية التط ّ
م أخذ يتناقص الخلق ،ففي الحديث الذي يرويه البخاري بل كان كامل ً ،ث ّ
ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال ) :خلق الله
سّتون ذراعا ً ( (5) . هِ : آدم وطول ُ ُ
) (1/27
ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجّنة مكتملين على صورة آدم ،ففي بقية
ل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا ً الحديث السابق ) :فك ّ
ص بعده حّتى الن ( ق ُ ( ،ثم يقول صلى الله عليه وسلم ) :فلم يزل الخلق ين ُ
(6) .
وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ،
ما أن ّ أ ، فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الدنى
ول القرود والخنازير بشرا ً فهذا ل يوجد إل عند أصحاب العقول الضعيفة . ُتح ّ
هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الحاديث عن خلق النسان الول ،
لم نستقص النصوص من الكتاب والسّنة في ذلك ،وإل فالقول في ذلك
أوسع وطويل ،وهو يعطي صورة واضحة لصل النسان ليس فيها غبش ول
ما
خيال ،وهذا الذي يبّينه السلم أصل كريم يعتز النسان بالنتساب إليه ،أ ّ
وره أصحاب نظرية التطور ،ذلك القرد الذي ترقى عن ذلك النسان الذي يص ّ
فأر أو صرصور فإّنه أصل يخجل النسان من النتساب إليه .
وذلك النسان الذي ي ُد َّرسه علماء التاريخ للطفال :النسان المتوحش الذي
ل يفقه الكلم ،ول يحسن صنع شيء ،الذي يتعلم من الحيوان ...فيه الكثير
من التجني على أصل النسان الكريم .
وبعد :
فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ،ففيه الخير ) فيه
نبأ ما قبلكم ،وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم ،هو الفصل ليس بالهزل ،
من ابتغى الهدى من غيره أضله الله . ( ...
ف عن نتاج العقول السنة المتعفنة في مثل هذه المجالت ، آن لنا أن ِنع ّ
أعني المجالت التي قال الله فيها كلمة الفصل ،ولم يترك لحد فيها قول ً .
يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد
بدون روّية وتفكر ،ثم ل نفيق على خطأ ما أخذناه إل بعد أن يهدمه بناُته .
--------------------------------
) (1كتاب التوحيد ،للزنداني . 3/81 :
) (2رواه أحمد والترمذي وأبو داود ) مشكاة المصابيح . 1/36ورقمه :
. (100
) (1/28
) (1/29
ولقد طالعت الكثير مما توصل إليه العلم والعلماء في شتى جوانب الحياة
يبينون أسرار الخلق ،ودللة الخلق على الخالق ،فما وجدت في شيء من
ذلك كّله ما وجدته في القرآن من جمال وصف ،ووفرة علم ،واستثارة
مشاعر ،وحسن توجيه ،ودقة استنتاج ،وكيف ل يكون كذلك وهو تنزيل
الحكيم الحميد !!
فعل الله في الكون :
تعال معي لنقوم بجولة مع اليات القرآنية ؛ نرتاد هذا الكون ليرينا كيف تعمل
قدرة الله في مختلف أرجاء الكون :في الحّبة تلقى في التربة فتنفلق ،
وتضرب بجذورها في التربة ،فيخرج من الحّبة الجامدة حياة تتمثل في سوق
،وأوراق ،وأزهار تفوح بالشذى ،وثمار يتغذى بها النسان والحيوان .وفي
الصباح وهو ينبلج ...وفي سكون اليل ...ومسير الشمس والقمر ) ..إن
الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم
الله فأّنى تؤفكون – فالق الصباح وجعل اليل سكنا ً والشمس والقمر حسبانا ً
ذلك تقدير العزيز العليم ( ] النعام . [ 96-95 :
ونه ويصرفه وانظر إلى مشهد السحاب كيف يصنعه الله ،والبرد كيف يك ّ
) ألم تر أن الله ُيزجى سحابا ً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ُركاما ً فترى الودق يخرج
ل فيها من برد ٍ فيصيب به من يشاء من خلله وينزل من السماء من جبا ٍ
ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالبصار ( ] النور . [ 43 :
ل ) :ألم تر إلى ربك كيف مد ّ الظل ولو شاء ويحدثنا الله عن فعله في الظ ّ
لجعله ساكنا ً ثم جعلنا الشمس عليه دليل – ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (
ً ً ً
] الفرقان [ 46-45 :
وانظر إلى تصريفه شؤون الحياة والحياء والليل والنهار ) :قل اللهم مالك
ل من الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعّز من تشاء وتذ ّ
ي قديٌر – تولج الليل في النهار وتولج النهارتشاء بيدك الخير إنك على كل ش ٍ
في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء
بغير حساب ( ] آل عمران . [ 27-26 :
) (1/30
ل يكتفي القرآن بأن يرينا قدرة الله وهي تعمل في الكون ،وعلمه يحيط
بالمخلوقات ،وتصريفه للشؤون المختلفة ...ولكّنه – مع ذلك – يعرفنا بالغاية
التي خلق الكون من أجلها .
ما في الرض خلق الله هذه الرض من أجل النسان ) هو الذي خلق لكم ّ
جميعا ً ( ]البقرة [29 :خلقها لنا على نحو يتوافق مع طبيعتنا وتكويننا ويحقق
لنا الصلح ،وهذا ما سماه القرآن بالتسخير .
وهو ل يخبرنا بذلك مجرد إخبار ،وإّنما يوقفنا على هذا التسخير الذي جعله
سماوات وما في خر لكم ما في ال ّ ن الله س ّالله في الكون ) ،ألم تروا أ ّ
الرض ( ] لقمان [20 :فالنجوم خلقت لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر :
صلنا
ذي جعل لكم الّنجوم لتهتدوا بها في ظلمات الب ّرِ والبحرِ قد ف ّ ) وهو ال ّ
اليات لقوم ٍ يعلمون ( ] النعام . [ 97 :
والرض والسماء ،وإنزال الماء من السماء ،والسفن السابحة في البحر ،
والنهار الجارية في جنبات الرض ،والشمس والقمر ،وتعاقب الليل
سماوات ل ذلك مخلوق لنا ولخيرنا ولصلحنا ) الله الذي خلق ال ّ والنهار ...ك ّ
خر لكم ً
والرض وأنزل من السماء ماًء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وس ّ
خر لكم الشمس خر لكم النهار – وس ّ الفلك لتجري في البحر بأمره وس ّ
ل ما سألتموه ( ُ
خر لكم الليل والّنهار – َوآَتاكم من ك ّ والقمر داِئبين وس ّ
] إبراهيم . [ 34-32 :
-2نعم الله في الكون
ً
خره لنا ،فجعله متوافقا مع ن الله خلق هذا الكون وس ّ عّرفنا القرآن بأ ّ
دره تقديرا تصلح به حياة النسان ،والقرآن يتخذ من هذا الحديث ً جبلتنا ،وق ّ
والبيان سبيل ليشكر النسان رّبه ،إذ النسان مفطور على حب من أحسن ً
إليه ) هل جزاء الحسان إل ّ الحسان ( ] الرحمن . [ 60 :
) (1/31
ولذلك فقد أفاض القرآن في ذكر النعم التي حباها الله عباده في ذوات
أنفسهم ) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليل ً ما
تشكرون ( ]الملك ، [23 :وفي الكون من حولهم ) :الذي جعل لكم الرض
مهدا ً وجعل لكم فيها سبل ً لعلكم تهتدون – والذي نّزل من السماِء ماء بقدٍر
ميتا ً كذلك تخرجون – والذي خلق الزواج كلها وجعل لكم من فأنشرنا به بلدة ً ّ
م تذكروا نعمة ربكم إذاالفلك والنعام ما تركبون – لتستووا على ظهوره ث ّ
استويتم عليه ( ] الزخرف . [ 13-10 :
وخلق لنا الشمس والقمر على نحو يحقق النفع والصلح ) هو الذي جعل
دره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ( الشمس ضياًء والقمر نورا ً وق ّ
] يونس . [ 5 :
والنعام من الجمال والبقار والغنام ،وكذلك الخيل والبغال والحمير خلقها
لنا على نحو يفيدنا ويتناسب مع طبائعنا وتكويننا ) والنعام خلقها لكم فيها
دفٌء ومنافع ومنها تأكلون – ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون –
فن رّبكم لرءو ٌ
وتحمل أثقالكم إلى بلد ٍ لم تكونوا بالغيه إل بشق النفس إ ّ
ة ويخلق ما ل تعلمون ( م – والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزين ً رحي ٌ
] النحل . [ 8-5 :
ً
والبحر مخلوق لنا أيضا ،وفي خلقه على ما هو عليه ما يحقق لنا الشيء
خر البحر لتأكلوا منه لحما ً طريا ً وتستخرجوا منه حلي ً
ة ذي س ّ الكثير ) وهو ال ّ
ّ
تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (
] النحل . [14 :
والنحل خلقه الله ليقوم بذلك العمل الرائع ،لينتج لنا ذلك الشراب المختلف
اللوان ،ليتغذى به البشر ،ويكون لهم شفاء ) وأوحى رّبك إلى الّنحل أن
م كلى من كل ما يعرشون – ث ّ شجر وم ّاّتخذي من الجبال بيوتا ً ومن ال ّ
ف ألوانه فيه
ب مختل ٌ الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلل ً يخرج من بطونها شرا ٌ
ة لقوم ٍ يتفكرون ( ]النحل . [69-68 : ن في ذلك لي ً شفاٌء للّناس إ ّ
) (1/32
ث عليه القرآن : لح ّالتعرف على الله من خلل آياته الكونية سبي ٌ
حث القرآن عباد الله على النظر في آيات الله الكونية :الرض ،والسماء ،
وما فيهما وما بينهما ،وجعل النظر والتأمل في ذلك من الذكرى التي تنفع
المؤمنين .
وقد أعجبني تسمية بعض المعاصرين لهذا المنهج ) بقانون السير والنظر (
لكثرة حث اليات القرآنية على ذلك ،وقد يكون السير والنظر حسّيان ،
فيسير المرء بقدميه ،وينتقل من بلد لخر ،كما قد يكون النظر بالبصر ،وقد
يكونان بالفكر والعقل .
سماوات والرض ً ً
وقد جاء المر في القرآن أمرا عاما ) قل انظروا ماذا في ال ّ
م خلق ( ( ] يونس . [101 :وقد يأتي أمرا ً خاصا ً ) فلينظر النسان م ّ
] الطارق ) ، [5 :فلينظر النسان إلى طعامه ( ] عبس . [ 24 :
-3استدلل القرآن باليات الكونية على
استحقاق الخالق الربوبية واللوهية وبطلن ما يعبد من دون الله
يتخذ القرآن من اليات الكونية مادة يناقش بها المشركين ،ويقيم بها الحجة
سماوات والرض كانتا رتقا ً ففتقناهما ن ال ّ
عليهم ) أولم ير الذين كفروا أ ّ
ى أفل يؤمنون – وجعلنا في الرض رواسي أن يح ٍلش ٍ وجعلنا من الماء ك ّ
سماء سقفا ً ّ ً
تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبل ً لعلهم يهتدون – وجعلنا ال ّ
شمس محفوظا ً وهم عن آياتها معرضون – وهو الذي خلق الليل والّنهار وال ّ ّ
ك يسبحون ( ] النبياء . [ 32-30 : ل في فل ٍوالقمر ك ٌ
) (1/33
) (1/34
وهذا موسى كليم الله يستخدم الستدلل نفسه في مواجهة طاغية عصره
فرعون ،ول يزال يأتيه بالدليل في إثر الدليل حتى يعجزه ،فيلجأ إلى التهديد
سماوات والرض وما ب ال ّب العالمين – قال ر ّ والوعيد ) :قال فرعون وما ر ّ
ببينهما إن كنتم موقنين – قال لمن حوله أل تستمعون – قال ربكم ور ّ
ب ن – قال ر ّ ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنو ٌ آَبائ ِك ُ ُ
م الّولين – قال إ ّ
المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لِئن اتخذت إلها ً غيري
لجعلّنك من المسجونين ( ] الشعراء . [ 29-23 :
بل إن هذا النوع من الستدلل طريقة جميع الرسل ،ارجع إلى سورة
إبراهيم )آية ( 10 ، 9واقرأ ما قالته القوام المكذبة قوم نوح وعاد وثمود
ك فاطر والذين من بعدهم ،ثم إجابة الرسل حيث قالوا ) :أفي الله ش ٌ
سماوات والرض يدعوكم ليغفر لكم ( ]إبراهيم . [10 : ال ّ
سماوات والرض فاستدلوا على صدق دعوتهم بأن الله – سبحانه – فاطر ال ّ
أي موجدهما وخالقهما .
كر مستعجب مع وضوح الدلة : مسَتن َ
الكفر ُ
ً
ولذلك يسأل القرآن سؤال يشي بالعجب من كفر الكافرين مع وضوح الدلة
م يحييكم ث ُ ّ
م م يميتكم ث ّوالبراهين ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ً فأحياكم ث ّ
إليه ترجعون ( ] البقرة . [ 28 :
ويسأل في آية أخرى ) يا أيها النسان ما غّرك بربك الكريم – الذي خلقك
واك فعدلك – في أي صورة ما شاء ر ّ
كبك ( ] النفطار . [ 8-6 : فس ّ
إن مقتضى نظر النسان في نفسه وفي الكون من حوله يوجب عليه التوجه
إلى خالقه وتعظيمه ،ولذلك كان غريبا ً كفر الكافرين وجحد الجاحدين ) ّ
ما
لكم ل ترجون لله وقارا ً – وقد خلقكم أطوارا ً – ألم تروا كيف خلق الله سبع
شمس سراجا ً – واللهن نورا ً وجعل ال ّ
ت طباقا ً – وجعل القمر فيه ّ
سموا ٍ
ً ً
أنبتكم من الرض نباتا – ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( ] نوح [ 18-13 :
.
-4الذين ينتفعون بآيات الكون هم أولو اللباب
) (1/35
إن آيات الله في الكون ل تتجلى على حقيقتها الموحية إل للقلوب الذاكرة
العابدة ؛ لن هذه القلوب انكشفت عنها الحجب وتفتحت واتصلت بالكون
العجيب ،فالقرآن أقام الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون
الهائل الجميل ،وهذه الوصلة هي التي تجعل للنظر في كتاب الكون
والتعرف إليه أثرا ً في هذا القلب البشري ،وقيمة في الحياة البشرية .هذه
هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين النسان الذي يعلم
ص القرآن على أن الذي يهتدي بآيات الكون هم صنف ويعرف ،ولذلك ن ّ
سماوات والرض واختلف الليل والّنهار ن في خلق ال ّ معين من الناس ) إ ّ
ً ً ّ
ت لولي اللباب – الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ليا ٍ
سبحانك فقنا سماوات والرض رّبنا ما خلقت هذا باطل ً ُ كرون في خلق ال ّ ويتف ّ
عذاب الّنار ( ] آل عمران . [ 191-190 :
هؤلء هم الذين ينتفعون بآيات الكون ،لنهم لم يقفوا عند حدود المنظر
المشهود البادي للعيان ؛ بل نظروا إلى اليد التي تسيره والقدرة التي
تصنعه ،إنهم يستخدمون أبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأفكارهم على خير
وجه في هذا المجال ،مسترشدين بآيات الكتاب التي تعين السمع والبصر
والفكر والعقل على التوصل إلى خير ما يمكن للنسان أن يصل إليه ) ومن
آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحم ً
ة
سماوات والرض كرون – ومن آياته خلق ال ّ ت لقوم ٍ يتف ّ ن في ذلك ليا ٍ إ ّ
ت للعالمين – ومن آياته منامكم ٍ ليا ذلك في نّ إ وألوانكم ألسنتكم واختلف
ت لقوم ٍ يسمعون – ومن ٍ ليا ذلك في ن
ّ إ فضله بالليل والّنهار وابتغاؤكم من
سماء ماًء ُفيحيي به الرض بعد آياته يريكم البرق خوفا ً وطمعا ً وينزل من ال ّ
ت لقوم ٍ يعقلون ( ] الروم . [ 24-21 : ن في ذلك ليا ٍ موتها إ ّ
فاليات تتكشف للذين يتفكرون ويسمعون ويعقلون ؛ أي على وجه الحقيقة
المؤدية إلى المطلوب .
) (1/36
) (1/37
إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح الذي يقرأ بكل لغة ،ويدرك بكل
وسيلة ،ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة وساكن الكوخ ،
والمتحضر ساكن العمائر والقصور ،كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده ،
فيجد فيه زادا ً من الحق ،حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق ،وهو قائم
ب(]ق.[8: مفتوح في كل آن ) تبصرة ً وذكرى لكل عبد ٍ مني ٍ
ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة ،أو يقطع الوشيجة بين القلب
البشري والكون الناطق المبين ،لنه في رؤوس مطموسة رانت عليها
خرافة ) المنهج العلمي ( ،المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلئق التي
تعيش فيه .
ً
والمنهج اليماني ل ينقص شيئا من ثمار )) المنهج العلمي (( في إدراك
الحقائق المفردة ،لكنه يزيد ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض ،وردها
إلى الحقائق الكبرى ،ووصل القلب البشري بها ،أي وصله بنواميس الكون
وحقائق الوجود ،وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في
مشاعر الناس وحياتهم ،ل معلومات جامدة جافة متحيزة في الذهان ل
تفضي لها بشيء من سّرها الجميل ،والمنهج اليماني هو الذي يجب أن
تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي
يهتدي إليها ،بهذا الرباط الوثيق (1) ." ...
-6دللة الخلق على صفات الخالق
إذا نظرنا إلى آلة دقيقة الصنع ،بديعة التكوين ،غاية في القوة والمتانة ،
تقوم بعملها على خير وجه ،فل بد ّ أن ندرك بل كثير تفكير أن صانعها يتصف
بصفة الحياة والعلم ولديه قدرة وإرادة ...إلى آخر تلك الصفات التي تنبئنا
عنها اللة .
وهذا الكون يشي ويعّرف بكثير من صفات الخالق ،فمن ذلك :
) (1/38
قدرته وعلمه :هذا الكون الهائل الضخم الشاسع الواسع السائر وفق نظام
دقيق ل بد ّ أن يكون صانعه قديرا ً عليما ً ،والله خلق الخلق بهذا التكوين
الهائل وهذا النظام الكامل ليعرفنا بقدرته وعلمه ) الله الذي خلق سبع
ن الله على كل شيٍء ن لتعلموا أ ّ ل المر بينه ّ ن يتنّز ُت ومن الرض مثله ّ سماوا ٍ
ن الله قد أحاط بكل شيٍء علما ( ]الطلق . [12: قديٌر وأ ّ
ً ً
ول بد أن يكون العلم الذي يحكم هذا الكون شامل كامل ) ويعلم ما في البر
بظلمات الرض ول رط ٍ والبحر وما تسقط من ورقةٍ إل يعلمها ول حب ّةٍ في ُ
ن ( ] النعام . [ 59 : س إل ّ في كتا ٍ
ب مبي ٍ ول ياب ٍ
ل شيء وهو حكيم :فالنظر في هذا الكون يشي بأّنه محكم متقن قد وضع ك ّ
خلق بالمقدار المناسب ،في غاية الجودة منه في موضعه المناسب ،و ُ
سحاب صنع الله الذي والتقان ) وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمّر مّر ال ّ
ل شيٍء خلقه وبدأ خلق أتقن كل شيٍء ( ] النمل ) ، [ 88 :الذي أحسن ك ّ
ن ( ] السجدة . [ 7 : النسان من طي ٍ
ولذلك فإن الناظر المتبصر في خلق الله ل يرى إل الكمال والتقان ،ولو
ما ترى ت طباقا ً ّ
بحث عن عيب في الخلق لعجزه ) الذي خلق سبع سماوا ٍ
ت فارجع البصر هل ترى من فطورٍ – ثم ارجع في خلق الرحمن من تفاو ٍ
سئا وهو حسيٌر ( ] الملك . [ 4-3 : ً البصر كّرتين ينقلب إليك البصر خا ِ
) (1/39
صفات ُأخرى :ما ذكرناه من دللة الخلق على بعض صفات خالقه أردنا به
التمثيل ،ل الحصر والستقصاء ،وهو تمثيل يفتح الباب للستدلل والبحث ،
وإل ففي الكون الكثير من اليات الدالة على عظمة الله وعزته ولطفه ،
ل آية من اليات واستمع إلى الصفات اللهية التي ذكرها الله في ختام ك ّ
ن الله
سماء ماًء فتصبح الرض مخضّرةً إ ّ ن الله أنزل من ال ّ
التالية ) ألم تر أ ّ
ي الحميد ن الله لهو الغن ّ سماوات وما في الرض وإ ّ لطيف خبيٌر – له ما في ال ّ
خر لكم ما في الرض والفلك تجري في البحر بأمره ن الله س ّ– ألم تر أ ّ
م(]ف رحي ٌ ؤو ٌ َ سماء أن تقع على الرض إل ّ بإذنه إ ّ
ن الله بالّناس لَر ُ ويمسك ال ّ
الحج .[ 65-63 :
-7الله وحده المستحق للعبادة
الهداية التي يجلبها النظر والتفكر في اليات الكونية توجه إلى عبادة الله
وحده ،فالله وحده هو الخالق المدبر المقيم للسماوات والرض الرازق
المحيي المميت ...؛ لذلك فهو المستحق للعبادة دون سواه :
ّ
) يا أّيها الّناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تّتقون –
سماء ماًء فأخرج بهسماء بناًء وأنزل من ال ّالذي جعل لكم الرض فراشا ً وال ّ
من الّثمرات رزقا ً لكم فل تجعلوا لله أندادا ً وأنتم تعلمون ( ] البقرة -21 :
. [22
ق غير الله يرزقكم من ٍ خال من هل عليكم الله نعمت اذكروا ناسّ ال يها
) يا أ ّ
سماء والرض ل إله إل ّ هو فأّنى تؤفكون ( ] فاطر. [ 3 : ال ّ
وبهذا الطريق – كما سبق – أثبت القرآن بطلن اللهة المدعاة وعدم
سماوات بغير عمدٍ ترونها وألقى في استحقاقها شيئا ً من العبادة ) خلق ال ّ
سماء ماًء
ث فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من ال ّ الرض رواسي أن تميد بكم وب ّ
ل زوٍج كريم – هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من فأنبتنا فيها من ك ّ
ن ( ] لقمان . [ 11-10 : دونه بل ال ّ
ل مبي ٍ ظالمون في ضل ٍ
) (1/40
كر خلقه باليات الكونية وتصريفه المور وتدبيره الشؤون ثم ولذلك فإّنه يذ ّ
يعقب على ذلك في كثير من آي القرآن بقوله ) :ذلكم الله رّبكم ( ] الزمر :
[ 6أي ذلكم الله الذي يستحق العبادة دون سواه .
سماوات والرض ّ ال خلق استمع إلى هذه اليات وتأمل التعقيب عليها ) :
خر الشمس والقمر بالحقّ يكور الليل على الّنهار ويكور الّنهار على الليل وس ّ
س واحدةٍ ثمفار – خلقكم من نف ٍ ل مسمى أل هو العزيز الغ ّ ل يجري لج ٍ ك ٌ
جعل منها زوجها وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواٍج يخلقكم في بطون
ث ذلكم الله رّبكم له الملك ل إله ت ثل ٍ ظلما ٍأمهاتكم خلقا ً من بعد خلق في ُ
ٍ
إل هو فأّنى ُتصرفون ( ] الزمر . [ 6-5 :
--------------------------------
في ظلل القرآن :تفسير سورة )ق( ،آية ) تبصرة ً وذكرى لكل عبدٍ
ب(. مني ٍ
العلماء يبينون عجائب صنع الله في خلقه ) الجزء الول (
وكان العلماء ول يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه ،ويعظون أنفسهم
بذلك ،كما يعظون غيرهم ،وسننقل طرفا ً مما توصل إليه العلماء في هذا
المجال في القديم والحديث .
وأحب أن يضع القارئ نصب عينيه وهو يقرأ هذه المقتطفات قول موسى
م هدى ( ] طه . [ 50 : ل شيٍء خلقه ث ّ لفرعون ) :قال رّبنا الذي أعطى ك ّ
فالله أعطى كل شيء خلقه الذي يناسبه ،وهداه لما فيه صلحه ، ..وسنرى
نماذج من هذا العطاء وتلك الهداية .
-1تكون الجسام من الخليا وانقسامها
أ -مم تتكون أجسام الحياء وكيف ؟
ً
يقول باحث معاصر هو الدكتور يوسف عز الدين مجليا هذا الموضوع " :
معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة
الحجم التي نسميها )الخليا( ،كما يتكون المبنى من مجموعة من الحجار
المرصوصة " .
ً
ب -لماذا تنقسم الخليا دائما ؟
) (1/41
ويتابع الدكتور يوسف عز الدين كلمه مبينا ً السر في انقسام الخليا فيقول :
" وخليا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة النقسام ،وذلك
النقسام قد يكون لنمو الجسم ،أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخليا
ل خلية من هذه الخليا تتكون أساسا ً من مادة عجيبة لسباب عديدة .وك ّ
نطلق عليها اسم )) البروتوبلزم (( .
وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة ،ومن هذه
المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم
))الكروموسومات(( .
ل نوع من أنواع الحيوانات وعدد هذه ))الكروموسومات(( ثابت في خليا ك ّ
والنباتات المختلفة ،فعددها في خليا القط – مثل ً – يختلف عن عددها في
خليا الكلب أو الفيل أو نبات الجزر أو الفول .
وفي كل خلّية من الخليا التي يتكون منها جسم النسان يوجد ستة وأربعون
من هذه )الكروموسومات( .
ل خلية جديدة ل بد ّ أننك ّ وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا فإ ّ
تحتوي على العدد نفسه من )الكروموسومات( ،وهي ستة وأربعون ،إذ لو
اختل هذا العدد لما أصبح النسان إنسانا ً .والخليا كما ذكرت دائمة
النقسام ،يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا ،ونحن
حتى الن ل ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة :عملية
انقسام الخليا ،بل يكتفي العلم بوصف الخطوات العملية التي يمكن
ملحظتها تحت عدسات )الميكروسكوب( العادي أو عن طريق
)الميكروسكوب اللكتروني( الذي يكبر الشياء تكبيرا ً أكثر بكثير من تكبير
الميكروسكوب العادي " .
جـ -لماذا تختلف الخليا التناسلية عن غيرها ؟
) (1/42
وذكر الدكتور يوسف " :أن جميع الخليا الناتجة عن عمليات النقسام في
جسم النسان ل بد ّ أن تحتوي على ستة وأربعين )كروموسومًا( فيما عدا
نوعين من الخليا ،هما الخليا التناسلية ،أي الحيوان المنوي في الذكر
والبويضة في النثى ،وعندما تنقسم خليا النسجة لتكوين هذه الخليا
التناسلية فإنها تنتج خليا ل تحتوي على الستة والربعين )كروموسومًا( ،بل
تحتوي على نصف هذا العدد ،أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية
ثلثة وعشرون )كروموسومًا( فقط " .
ثم بين لماذا يحدث ذلك ،فقال " :يحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم ،
ن الخلية الذكرية )الحيوان المنوي( ل بد ّ أن تندمج مع الخلية النثوية
إذ إ ّ
)البويضة( لتكوين أول خلية في جسم الجنين ،وهي التي نطلق عليها اسم
)الخلية الملقحة( ،حيث ينضم الثلثة والعشرون )كروموسومًا( التي في
الخلية الذكرية إلى الثلثة والعشرين )كروموسومًا( التي في الخلية النثوية
لكي يعود عدد )الكروموسومات( في الخلية الجديدة إلى العدد الصلي ،وهو
ستة وأربعون )كروموسومًا( .
وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين )كروموسومًا(
توالي انقسامها ،فتصبح خليتين ،ثم أربع خليا ،ثم ثماني خليا وهكذا ،حتى
يتم تكوين الجنين الذي يخرج من رحم أمه ،ويستمر نموه عن طريق
ل خلية من خلياه ستة انقسام الخليا حتى يصبح إنسانا ً كامل النمو في ك ّ
وأربعون )كروموسومًا( كما هو الحال في خليا جسد أبيه وأمه وأجداده
وجميع أفراد الجنس البشري " .
ن اختزال عدد )الكروموسومات( إلى النصف عند تكوين الخليا التناسلية "إ ّ
بالذات لكي تندمج فيعود العدد الصلي )للكروموسومات( في الخليا ل يمكن
مطلقا ً أن يكون نتيجة مصادفة عمياء ،بل ل بد ّ أن يكون نتيجة تقدير دقيق
من قوة عليا تعلم ماذا تفعل .
) (1/43
وهي في الوقت نفسه ل يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ ،إذ لو
حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقضي على الكائن الحي قبل تكوين
ن هذا الترتيب ل بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين الجيل الثاني .أي أ ّ
ً
ظهر في الوجود ،أل يكفي هذا وحده دليل على وجود قوة عليا مدبرة مقدرة
حكيمة ؟ " .
د -لماذا ل تنقسم خليا المخ ؟
أما النوع الخر من الخليا التي تخالف بقية خليا الجسم فهي خليا الدماغ ،
وهي تخالف بقية الخليا في كونها ل تنقسم ،وعن السر في عدم انقسامها
يقول الدكتور يوسف عز الدين :
" ل يمكن أن يكون عن طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخليا
الوحيدة التي ل تنقسم هي الخليا العصبية التي يتكون منها المخ وباقي
الجهاز العصبي ،لو انقسمت كما يحدث لباقي الخليا لحدثت كارثة مروعة ،
ن خليا المخ في هذه الحالة لن يمكنها الحتفاظ بشخصية النسان ،وسوف إ ّ
تتلشى جميع معالم الذاكرة في خلل ساعات قلئل .
ن عدد خليا المخ عند ولدة النسان أو أي حيوان آخر ل تزيد عليها خلية إ ّ
ن الكرات الدموية الحمراء التي تسبح في واحدة حتى وفاته ،بينما نجد أ ّ
ل نحو مائة يوم .ل محلها خليا جديدة ك ّالدم ،ما هي إل خليا تموت ،ويح ّ
وتتكون الخليا الحمراء )الكرات الحمراء( في نخاع العظام ،ثم تنطلق لكي
تسبح في تيار الدم ؛ لتحل محل الخليا التي استهلكت " .
هـ -السر في تفاوت قوة عضلت الجسم :
ويتحدث الدكتور عن هذا الموضوع فيقول " :أقوى عضلت في جسم
النسان أو الحيوانات الثديية هي عضلت الرحم عند النثى ،تلك هي التي
تدفع الجنين ليخرج من بطن أمه ،إذ لو لم تكن هذه العضلت بهذه القوة
منذ بدء خلق النسان أو غيره من الحيوانات لما خرج إلى الوجود أول جنين
من بطن أمه .
) (1/44
وتلي عضلت الرحم في القوة عضلت القلب والفكين ،فعضلت القلب ل بد
أن تكون قوية لتصمد للعمل ليل ً ونهارا ً لدفع الدم إلى الوعية الدموية لمدة
قد تطول لكثر من مائة عام ،وكذلك الحال في عضلت الفكين التي ينبغي
ل قادرة على دفع السنان لينطبق بعضها على بعض لكي تمضغ أطنانا ً أن تظ ّ
من الطعام طوال حياة النسان " .
-2مقاومة الحياء لعوامل الفناء
ويقرر الدكتور يوسف " :وجود صفة مهمة تشترك فيها جميع الكائنات الحية
ن خالق من أدناها إلى أرقاها ،هذه الصفة هي مقاومة عوامل الفناء ،إذ إ ّ
جميع هذه الكائنات يريد لها البقاء .
ن لخر بأشكال مختلفة ؛ لتصعب ن ) فيروس النفلونزا ( يتشكل من آ ٍ إ ّ
مقاومته والقضاء عليه ،والحشرات مع توالي الجيال تكتسب مناعة ضد ّ
المبيدات الكيميائية ؛ لكي تقاوم عوامل الفناء وانقراض الجنس .
بل في النسان نفسه لوحظ كثرة النجاب في فترات الحروب ،كما لوحظ
ن أية سيدة تواظب على تناول حبوب منع الحمل مدة طويلة ثم تسهو عن أ ّ
ن النتيجة في معظم الحيان تكون إنجاب عدة توائم ؛ تناولها بعض اليام – فإ ّ
لتعويض النقص في الذرية الذي حدث في أثناء فترة المتناع عن الحمل .
ن الكلية الباقيةوإذا استأصل النسان إحدى الكليتين لسبب من السباب فإ ّ
يزداد حجمها وتؤدي عمل الكليتين ؛ وكأن في الجسم عقل ً يدرك به ما حدث
من نقص فيسرع لتعويضه .
الله وحده هو الذي زود هذه المخلوقات بهذه القدرة العجيبة على التوازن
حتى ل تنقرض وتتعرض للفناء ،كما زود العديد من الحيوانات بوسائل للدفاع
عن أنفسها ل يختلف في ذلك النسان عن العقرب أو الثعبان أو أم أربعة
وأربعين أو غيرها .
ل يمكن أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من
ن المصادفة ل يمكن أن تتخذ صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلم ،إذ إ ّ
مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات " .
-3هداية النحل وشيء من عجائب صنع الله فيه
) (1/45
ويحدثنا ابن القيم ) (1رحمه الله تعالى عن بدائع صنع الله في خلقه ،مبينا ً
هداية الله للنحل في أمور معاشه " :وأمر النحل في هدايتها من أعجب
العجب وذلك أن لها أميرا ً ومدبرا ً ،وهو اليعسوب ،وهو أكبر جسما ً من جميع
النحل ،وأحسن لونا ً وشكل ً .
ن إناثا ً ،وإذا وقع فيها
وإناث النحل تلد في إقبال الربيع ) ، (2وأكثر أولدها يك ّ
ذكر لم تدعه بينها ،بل إما أن تطرده ،وإما أن تقتله ،إل طائفة يسيرة
منها ،وذلك أن الذكور منها ل تعمل شيئا ً ول تكسب .
والنحل تقسم فرقا ً ،فمنها فرقة تلزم الملك ،ول تفارقه ،ومنها فرقة تهيئ
الشمع وتصنعه ،والشمع هو ثفل العسل ،وفيه حلوة كحلوة التين ،وللنحل
فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل ،فينظفه النحل ،ويصفيه ،ويخلصه
مما يخالطه من أبوالها وغيرها ،وفرقة تبني البيوت ،وفرقة تسقي الماء ,
وتحمله على متونها ،وفرقة تكنس الخليا وتنظفها من الوساخ والجيف
والزبل ،وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعتها وقتلتها حتى ل تفسد عليهن
بقية العمال ،وتعديهن ببطالتها ومهانتها .
وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته ،فُيبنى له بيت مربع يشبه السرير
والتخت ،فيجلس عليه ،ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه المراء ،
والخدم والخواص ،ل يفارقنه ،ويجعل النحل بين يديه شيئا ً يشبه الحوض
يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ،ويمل منه الحوض ،ويكون ذلك
طعاما ً للملك وخواصه .
) (1/46
ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال ،وتبني
بيوتها مسدسة متساوية الضلع ،كأنها قرأت كتاب إقليدس ،حتى عرفت
ن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة ، أوفق الشكال لبيوتها ؛ ل ّ
والشكل المسدس دون سائر الشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض
صار شكل ً مستديرا ً كاستدارة الرحى ،ول يبقى فيه فروج ول خلل ،ويشد
بعضه بعضا ً ،حتى يصير طبقا ً واحدا ً محكما ً ،ل يدخل بين بيوته رؤوس البر .
فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن
صنع مثله ،فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة
بصفتين :إحداهما :أن ل تكون زواياها ضيقة حتى ل يبقى الموضع الضيق
معطل ً .والثانية :أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى
بعض ،وامتلت العرصة منها فل يبقى منها ضائعا ً ،ثم إنها علمت أن الشكل
الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط ؛ فإن المثلثات والمربعات ،
وإن أمكن امتلء العرصة منها إل أن زواياها ضيقة ،وأما سائر الشكال وإن
كانت زواياها واسعة إل أنها ل تمتلئ العرصة منها ،بل يبقى فيما بينها فروج
خالية ضائعة ،وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين ،فهداها –
سبحانه – إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطرة ول آلة ،ول مثال
يحتذى عليه ،وأصنع بني آدم ل يقدر على بناء بيت المسدس إل باللت
الكبيرة .
ً
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتيها ذلل ل تستعصي
عليها ،ول تضل عنها ،وأن تجتني أطيب ما في المراعي وألطفه ،وأن تعود
إلى بيوتها الخالية ،فتصب فيها شرابا ً مختلفا ً ألوانه ،فيه شفاء للناس ،إن
في ذلك ليات لقول يتفكرون .
ً ً ً
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهل وجبل ،فأكلت من
الحلوات المرتفعة على رؤوس الزهار وورق الشجار ،فترجع بطانا ً .
) (1/47
) (1/48
ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ،ول تدين لطاعتها ،
والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة ،وهي تحاول مقاتلة الطوال
القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخليا ،وإذا فعلت ذلك جاد العسل ،
وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته .
ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم ،وبينها وبين العسالة حرب ،فهي
تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها ،وتقصد هلكها ،والعسالة شديدة التيقظ
والتحفظ منها ،فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب
ل طويل البيوت فتتلطخ بالعسل ،فل تقدر على الطيران ،ول يفلت منها إل ك ّ
العمر ،فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى ،فحملتها وألقتها
خارج الخلية .
وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد ،وفيها لئام كسالى قليلة
النفع مؤثرة للبطالة ،فالكرام دائما ً تطردها وتنفيها عن الخلية ،ول تساكنها
خشية أن تعدي كرامها وتفسدها .
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ،ولذلك ل تلقي زبلها إل حين تطير ،وتكره
النتن والروائح الخبيثة ،وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا ً من الكبار ،
وأقل لسعا ً وأجود عسل ً ،ولسعها إذا لسعت أقل ضررا ً من لسع الكبار .
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه فقد خصت من وحي الرب تعالى
وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ،وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من
السقام والنور الذي يضيء في الظلم بمنزلة الهداة من النام كان أكثر
الحيوان له أعداء ؛ وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعة وبركة ،هذه سنة
الله في خلقه وهو العزيز الحكيم " (3) .
الباحثون المعاصرون يتحدثون عن عالم النحل )(4
تقدم العلم اليوم ،وبتقدمه تعرفنا على كثير من عجائب الخلق وأسرار
الكون ،لقد أكد لنا العلماء ما عرفناه من قبل أن من أن عالم النحل ينقسم
إلى ثلثة أقسام :النحلة الملكة ،والنحلة الذكر ،والنحلة الشغالة .
) (1/49
أما ملكة النحل فهي أم الخلية كلها ،وجميع النحل في الخلية أبناؤها ،ويكفي
أن تعلم أن الملكة تضع في كل يوم تطلع فيها الشمس ما بين )(1500
بيضة إلى ) (2000بيضة ،بل يزيد العدد إلى ) (3500بيضة .ويستمر هذا
على امتداد موسم التكاثر الذي يبدأ من إقبال الربيع ،وينتهي بانتهاء
الصيف .
وما هذا العدد الهائل من البيض إل لمواجهة النقص المستمر الذي يصيب
خلية النحل ،فالنحلة عمرها قصير ،فهو يتراوح بين خمسة أسابيع وسبعة
ن الخلية تحتاج إلى أجيال جديدة ترفد الخلية بأعداد كبيرة أسابيع ،ولذلك فإ ّ
تواجه النقص الذي يلحق بها ،كي تستمّر الخلية في القيام بالواجبات التي
يحتاج إليها عالم النحل ،وحتى تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة العداء
والخطار ،ولول ذلك ل نقرضت الخلية وبادت .
ومن بديع صنع الله في ملكة النحل أنها تضع بيضها في البيوت التي تبنيها
الشغالة بمقاسات مختلفة ،فالمقاس الكير يعده النحل لملكة المستقبل ،
والبيضة التي تضعها الملكة فيه تكون ملكة ،والبيضة التي تضعها الملكة في
البيت الصغر حجما ً ومقاسه ربع إنش تصبح نحلة ذكرا ً ،أما البيضة التي
تضعها في البيت الصغير ومقاسه خمس إنش فتنتج نحلة شغالة ،بقي أن
نعلم أن الملكة تضع مع بيضة النحلة الشغالة ثلثة إلى أربعة حيوانات منوية
لخصابها ،فتكون نحلة شغالة ،بينما تضع ،في بيت النحلة الذكر بيضة غير
مخصبة .
ح إل في الهواء في أثناء ّ
ومن عجيب صنع الله في النحلة الملكة أنها ل ت ُلق ُ
سر عجيب ،فالنحلة الذكر ل يمكنها تلقيح الملكة وهي طيرانها ،ولذلك ّ
رابضة على الرض ،ذلك أن عضو التذكير عندها كامن ،ول يمكن ظهوره إل
إذا حلقت في الفضاء ،وعند ذلك تمتلئ أكياس موجودة في النحلة الذكر
بالهواء ،فتنتفخ في أثناء الطيران ،ويؤدي انتفاخها إلى الضغط على عضو
التذكير ،فيخرج من مكمنه .
) (1/50
ومن عجائب صنع الله في الملكة العذراء قدرتها على دعوة الذكر لتلقيحها ،
وذلك بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إليها ،وتخرج من خليتها حائمة حولها
مصدرة تلك الصوات ،وتستقبل الذكور هذه الدعوة ل في الخلية وحدها ،
بل في جميع الخليا المجاورة ،وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة ،وهي
تغذ السير منطلقة في الفضاء الرحب ،ويفوز بتلقيحها أقوى الذكور وأشدها
وأسرعها ،ولكنه يفقد حياته بعد ذلك ،ذلك أنه بعد تلقيحه الملكة يفقد عضو
تذكيره ،إذ يبقى عضوه فيها مما يسبب له نزيفا ً يفقده حياته .
ويسأل القارئ عن كيفية سماع الذكور لدعوة الملكة ،والجواب :أن الله
زود كل نحلة بقرني استشعار ،وهذان القرنان يتألفان من حلقات متصل
بعضها ببعض ،عليها عدد كبير من الثقوب ،ويبلغ عدد الحلقات في الذكر
اثنتا عشرة حلقة ،في حين أن عددها في الشغالة أو الملكة إحدى عشرة
حلقة .
وتبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الستشعار عند الذكر )(2800
ب ،وفي الشغالة ) ، (2400وفي الملكة ). (1600 ثق ٍ
والحقيقة أن قرني الستشعار في النحلة بمنزلة هوائي الذاعة يستخدمه
للتقاط الصوات الصادرة من الملكة ،ولغير ذلك من الصوات ،كما
تستخدمه في الشم والسمع واللمس .
وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة قرني الستشعار فإنها ل
تستطيع أن تقوم بدورها ،ففيه يتركز معظم حواسها :السمع والشم
واللمس كما سبق .
وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق من أجلها ،فهو كبير
قوي ،يأكل كثيرا ً ،ول يعمل شيئا ً ،فل يجمع الرحيق ،ول يصنعه ،ول يبني ،
ول يحرس ،حتى طعامه ،تضعه النحلة الشغالة في فمه ،كل ما يستطيع
القيام به هو تلقيح الملكة ،ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع
عن إمداده بالغذاء ،وأكثر من هذا تهاجم الشغالة الذكور فتقتلها أو تطردها .
) (1/51
بقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليل بالنسبة لتعداد النحل ،فل
يتجاوز عددها في الخلية الواحدة المائتين .
أما النحلة الشغالة فإنها تكون العدد الكثر في الخلية ،كما أنها العنصر
الفعال فيها ،وهي التي تقوم بالعمال المختلفة ،والمهمات الصعبة .
فهي التي تجني الرحيق ،وتجمع غبار الطلع ،وتصنع العسل ،وتمد ّ الملكة
بغذائها الخاص ،وتبني القراص التي يحفظ فيها العسل ،وتربي فيها الجيال
الجديدة من النحل ،وتحرس الخلية ،وتقوم بتنظيفها ،والمحافظة عليها ،
بل تقوم بتهويتها وتدفئتها .
والمهمات في الخلية موزعة في تخصصات وهذه التخصصات ترتبط بعمر
النحلة ،فلكل سن من النحل عمل يقوم به ،وكلما امتد العمر بالنحلة فإنها
تتحول إلى عمل آخر ،وبذلك تقوم النحلة بعد أن تستكمل عمرها بالمرور
على كل العمال والمهمات التي تحتاج إليها الخلية ،ويلحظ أن النحلة تبدأ
بالعمال السهلة التي ل تحتاج إلى جهد كبير ،وتنتهي إلى أشق العمال
وأصعبها وهي الجولن في الحقول ،وجني الرحيق وغبار الطلع والماء ،ثم
صنع العسل وتخزينه ،ونلحظ أيضا ً أنها تتدرج في الوظائف بحسب تكامل
الخصائص التي يهبها الله إياها ،فكل مهمة تصير إليها وتعمل فيها تتواءم مع
تكامل أجهزتها التي تمكنها من القيام بالدور الجديد والمهمة الجديدة .
فالنحلة الشغالة في يومها الول والثاني تقوم بمهمة تنظيف البيوت التي
خرجت منها أجيال النحل التي تكامل خلقها ،فتنظف هذه البيوت ،وتعدها
لجيال أخرى ،ول تضع الملكة البيض في هذه البيوت إل بعد أن تتفحصها
وتجدها نظيفة تماما ً .
وفي يومها الثالث والرابع تقوم بدور الحاضنة ليرقات النحل الشغالة والذكور
التي يزيد عمرها على ثلثة أيام ،فتقدم لها ما يسميه العلماء ) بخبز النحل (
وهو مزيج من العسل وحبوب اللقاح ،تأخذه مما خزنته النحل في العيون
السداسية .
) (1/52
وبعد اليوم الخامس حتى اليوم الثاني عشر من عمر النحلة تقوم بتغذية
النحلة الملكة بالغذاء الملكي طيلة عمرها ،كما تمد ّ الغذاء الفاخر صغيرات
الشغالة والذكور في يومهن الول والثاني والثالث ،والنحل يقوم بهذه
المهمة في هذه السن ) (12-5لنمو غدد خاصة في هذه الفترة في جانبي
البلعوم ،تتمكن بها النحل من صناعة الغذاء الملكي .
ً
وبعد اليوم الثاني عشر تتمكن النحلة من الطيران ،ولكنها ل تذهب بعيدا ،
كل ما تفعله أن تتعلم وتتمرن ،ومهمتها الرئيسية من اليوم الثاني عشر إلى
اليوم الثامن عشر هو بناء القراص الشمعية التي تعد لتخزين العسل ،
وتربية أجيال النحل الجديدة .
والسبب في تخصصها بهذا الدور في هذه السن هو نمو أربعة أزواج من
الغدد الموجودة على حلقات البطن ،ومن هذا الشمع تقوم النحلة باستخدام
فكيها في هذه السن ببناء تلك البيوت التي بلغت الغاية في الدقة والتقان
بأبعاد محددة وأشكال هندسية في غاية الروعة والتنظيم .
وفي اليوم التاسع عشر واليوم العشرين تقوم النحلة بتنظيف الخلية
وحراستها ،وبعد اليوم العشرين تقوم النحلة بالنطلق إلى الحقول وجمع
الرحيق وغبار الطلع وصنع العسل ،وجلب الماء إلى الخلية ،وهذه المرحلة
الخيرة تمثل الجزء الكبر من عمر النحلة .
أجيال تذهب من النحل ،وأجيال تأتي ،ويترقى النحل في سلسلة متوالية
من العمال تضمن القيام بالعمال كلها باستمرار من غير أن تتخصص طائفة
من النحل بعمل طيلة عمرها ،ولكن التخصص يأتي في كل مرحلة من
مراحل العمر .
سبحان الواحد الحد ،الفرد الصمد ،الذي خلق هذه الكائنات الصغيرة ،
وعلمها أن تقوم بهذه العمال بمثل هذه الدقة والتقان ،إنه إبداع وإعجاز
يدل على العليم الخبير .
) (1/53
ومن البداع اللهي في النحلة هذا التكوين الذي أعطاه الله إياها ،فقد جعل
لها الباري سبحانه معدتين ،إحداهما تستعملها لجمع المواد الولية التي
تستخلصها من رحيق الزهار ،أو تحمل بها الماء ،وتنقله إلى الخلية ،
والمعدة الخرى مخصصة للطعام الذي تهضمه وتتغذى به .
ومن عجب أن النحلة إذ تجمع في معدتها الولى ما تجنيه من الرحيق ،ل
تكتفي بنقله ،ولكنها في أثناء حملها له وتوصيله للخلية تقوم بعملية أولية
لتحويله إلى العسل ،وذلك بإفراز الخمائر اللزمة لتحقيق ذلك .
والنحلة تحتاج إلى غبار الطلع لمور مختلفة في الخلية ،وقد زودها خالقها
بتجويف خاص لخزن هذه الحبوب في الوجه الخارجي لساق الرجل الخلفية ،
تسمى سلة الطلع ،وجعل لها على الوجه الداخلي لرسغ الرجل الخلفية ما
يشبه الفرشاة تستعملها الشغالة في تمشيط غبار الطلع وتكتيله تمهيدا ً
لجمعه في سلة الطلع .
ومن العجائب المذهلة التي اكتشفها العلماء في النحلة ،تلك الغدة التي في
مؤخرة البطن ،وقد سماها العلماء ) غدة ناسانوف( ،وهذه الغدة تفرز
رائحة خاصة ،ومن العجيب أن نحل كل خلية يتعارف على رائحة تميز نحلها
عن غيره ،وتستطيع النحلة أن تعود إلى بيتها من مكان بعيد تهديها تلك
الرائحة المميزة عن رائحة غيرها من النحل ،وبوابو الخلية وحراسها يعرفون
النحلة التي تتبع الخلية عن طريق تلك الرائحة المميزة المنبعثة من النحلة .
والعجب أن النحل قادر على التعارف على رائحة جديدة عندما يحصل ما
يستدعي ذلك ،فمثل ً عندما تخرج طائفة من النحل لتشكل خلية جديدة ،فإن
الخلية الجديدة تتعارف على رائحة جديدة ،وعندما مزج العلماء بطريقة
علمية طائفة من النحل مع طائفة أخرى وجدوا أن النحل بعد دمجه تعارف
على رائحة واحدة جديدة تميزه عن غيره .
) (1/54
ومن عجائب هداية النحل أنه يبني جدران البيوت السداسية من الشمع
الخالص الذي ل ينفذ منه الهواء ،ولكنه عندما يغلق أبواب البيوت التي تحوي
يرقات النحل يخلط الشمع بحبوب اللقاح ،وبهذا يتسرب الهواء من خلل
حبوب اللقاح ،فتبقى اليرقات حّية ،ولو لم يهدها ربها إلى ذلك لماتت
اليرقات ،وزال النحل من فوق ظهر البسيطة .
وقد حدثنا ربنا فيما حدثنا عنه من آياته الباهرة التي تستدعي التأمل والتفكر
إلى هدايته العجيبة للنحل ) وأوحى رّبك إلى الّنحل أن اّتخذي من الجبال بيوتا ً
م كلي من كل الّثمرات فاسلكي سبل ربك شجر ومما يعرشون – ث ُ ّ ومن ال ّ
ة
ن في ذلك لي ً ف ألوانه فيه شفاٌء للّناس إ ّ
ب مختل ٌ ُذلل ً يخرج من بطونها شرا ٌ
لقوم ٍ يتفكرون (]النحل. [69-68 :
وقد اهتدى المسلمون للمنافع العظيمة التي في العسل ،ولكن الضالون عن
هدى الله لم يكتشفوا ما فيه من المنافع إل في هذه اليام ،وقد اكتشف
الباحثون حقائق مذهلة ،فوجدوا أن العسل غذاء ودواء ،وهو غذاء من نوع
راق ،يحوي على خصائص ل تكاد توجد في غيره ،ووجدوا أنه علج يكاد
يصلح لجميع أنواع المراض ،ول يزال العلم يكتشف في كل يوم في العسل
نفعا ً جديدا ً .
كيف يدل النحل بعضه بعضا ً على مكان الغذاء ؟
مما لحظه العلماء المعاصرون الطريقة التي يدل بها النحل بعضه بعضا ً على
مكان الغذاء ،يقول الدكتور يوسف عز الدين " :لو اكتشف أحد عمال النحل
حقل ً أو كمية من النباتات تعتبر مصدرا ً للغذاء ،فإّنه يعود للمستعمرة ليخبر
باقي العمال ،عن هذا الكنز الذي اكتشفه ،وذلك عن طريق طقوس رقص
عجيبة تفعلها النحلة بطريقة غريزية دون أن تدري لماذا تفعل هذا .
إنها ترقص رقصات غريبة ذات مدلولت معينة ،إذ إن جسمها يصنع في أثناء
الرقص زاوية تدل على زاوية الشمس ،وإذا كان الحقل الذي اكتشفه قريبا ً
ن الرقصة في هذه الحالة تختلف عنها في حالة ُبعد الحقل من المستعمرة فإ ّ
مسافة أطول .
) (1/55
) (1/56
) (1/58
وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم )) نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد
والصرد (( ) ، (5وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال ) :نزل نبي من النبياء تحت شجرة ،فلدغته نملة ،فأمر بجهازه
فأخرج ،وأمر بقرية النمل فأحرقت ،فأوحى الله إليه :أن قرصْتك نملة
ح ! فهل نملة واحدة !( (6) . أحرقت أمة من المم ُتسب ُ
وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير ،قال :قال أبو موسى
الشعري :إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة .
ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه ،كما رواه
يالمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه ،قال ) :خرج نب ّ
قون ،فإذا هم بنملة رافعة َقواِئمها إلى السماء س ُ
ست َ ْ
من النبياء بالناس ي َ ْ
مستلقية على ظهرها ،فقال ) :ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم ( تدعو ُ
وِلهذا الثر عدة طرق ،ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره .
وفي مسند المام أحمد ) :أن سليمان بن داود خرج يستسقي ،فرأى نملة
مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقو ُ
ل :اللهم إنا خلق ُ
من خلقك ،ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك ،فإما أن ُتسقينا وترزقنا ،وإما
غيركم ( .م بدعوة َ
سقيت ُ ْ
أن تهلكنا ،فقال :ارجعوا فقد ُ
دثت أن نملة خرجت من بيتها ،فصادفت شق جرادة ،فحاولت أن ح ّ
ولقد ُ
ت
تحمله فلم تطق ،فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها ،قال :فرفع ُ
ذلك من الرض ،فطافت في مكانه فلم تجده ،فانصرفوا وتركوها .
قال :فوضعته ،فعادت تحاول حمله فلم تقدر ،فذهبت ،وجاءت بهم ،
فرفعته ،فطافت فلم تجده فانصرفوا ،قال :فعلت ذلك مرارا ً ،فلما كان
في المرة الخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها ،وقطعوها
عضوا ً عضوا ً ،قال شيخنا :وقد حكيت له هذه الحكاية فقال :هذا النمل
فطرها الله – سبحانه – على قبح الكذب وعقوبة الكذاب .
) (1/59
) (1/60
يحدثنا الستاذ يوسف عز الدين :عما كشف العلم من أسرار هذا الكائن " :
ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل ،يجعل
كل ذي عقل من البشر يخّر ساجدا ً للخالق العظيم .
على سبيل المثال ما نراه في مستعمرة نوع من الحشرات نطلق عليه اسم
) النمل البيض ( ،تعيش هذه الحشرات أيضا ً في مستعمرات ،إذا زاد أفراد
ن هذهالمستعمرة عن الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة ،فإ ّ
الحشرات تدرك هذه الحقيقة عن طريق الغريزة ،فتبدأ الفراد في التهام
ل مشكلة زيادة أفراد المستعمرة عدد كبير من البيض ،وبذلك يسهم في ح ّ
ومشكلة الغذاء ،إذ أن التهام البيض يعتبر تغذية ،وفي الوقت نفسه يقلل
من عدد الذرية .
ن هذه الحشرات ل تدرك لماذا تفعل ذلك ،ولكّنها النفحة اللهية التي تلهمها إ ّ
لعمل ما ل يمكن أن تدركه من الشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء
.
هذه الحشرات نفسها تتغذى على الخشاب وتلتهمها بشراهة ،إذ في بعض
الماكن الموبوءة بها قد يتناول أفراد السرة طعامهم على منضدة الطعام ،
ثم يذهبون في الصباح لتناول إفطارهم ،فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت
أركانها ،وانهارت في ليلة واحدة .
وفي بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد
السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عن اسم القرية التي رآها على مدى
البصر ،فيعتريه الذهول عندما يخبرونه أن تلك القرية ل تضم آدميين ،ولكنها
المساكن التي أقامها النمل البيض ليعيش بها .
هذه المساكن ترتفع عن سطح الرض عدة أمتار وتصنعها الحشرات من مادة
غريبة ،هي خليط من لعابها وبعض المواد الخرى ،وهي أقوى من السمنت
المسلح ،ول يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إليها الماء من خلل
جدرانها ،وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فيها النمل البيض .
) (1/61
) (1/62
ن حشرات المن التي يطلق عليها أحيانا ً ) قمل النبات ( التي نراها على إ ّ
أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها .ففي الربيع الباكر يرسل
النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ،فإذا جاؤوا به وضعوه في
مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم ،ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما
يهتمون ببيضهم ،فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها
وأكرموها ،وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائل ً حلوا ً كالعسل كما تدر
البقرة اللبن ،ويتولى النمل حلب هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها
أبقار .
ول يعتني النمل بتربية ))المواشي(( هذه وحدها ،بل يعتني كذلك بالزرع
وفلحة الرض ،لقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الرض
قد نما بها أرز قصير من نوع نصف بري ،كانت مساحة القطعة خمسة أقدام
طول ً في ثلثة عرضا ً ،وكان طول الرز نحو ستة ))سنتيمترات(( ،ويتراءى
ن أحدا ً ل بد يعتني بها ،فالطينة حولللناظر إلى هذه البقعة من الرض أ ّ
الجذور كانت مشققة ،والعشاب الغريبة كانت مستأصلة ،والغريب أّنه لم
يكن على مقربة من هذا المكان عود آخر من الرز ،فهذا الرز لم ينم من
تلقاء نفسه ،وإّنما زرعه زارع .
ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إلى هذا المزروع وتذهب عنه ،فانبطح العالم
ن هذا النمل هو القائمعلى الرض يلحظ ما يصنعه ،ولم يلبث أن عرف أ ّ
بزراعة الرز في تلك البقعة من الرض ،وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له ،
تشغل كل وقته ،فبعضه كان يشق الرض ويحرثها ،وبعض آخر كان يزيل
العشاب الضارة ،فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إليه بعض النمل ،
فيقضمونه ،ثم يحملونه بعيدا ً عن المزرعة .
) (1/63
نما الرز حتى بلغ طوله ستين سنتيمترا ً ،وكانت حبوب الرز قد نضجت ،
فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفا ً من شغالة النمل ل ينقطع متجها ً نحو
العيدان ،فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الرز ،فتنزع كل شغالة من
النمل حبة من تلك الحبوب ،وتهبط بها سريعا ً إلى الرض ،ثم تذهب بها إلى
مخازن تحت الرض .
ن طائفة من الّنمل كانت تتسلق العواد ،فتلتقط بل العجب من ذلك أ ّ
الحب ،ثم تلقي به ،بينما طائفة أخرى تتلقاه ،وتذهب به إلى المخازن ..
ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية في بيوت كبيوتنا ذات شقق
وطبقات ،أجزاء منها تحت الرض ،وأجزاء فوق الرض ،في هذه المدن نجد
الخدم والعبيد .
ً ً
بل العجب من ذلك نجد الممرضات اللتي تعني بالمرضى ليل ونهارا ،ونجد
منها من يرفع جثث من يموت من النمل ....
ل هذا بدون تفكير ،إذ يتم بالغريزة التي أودعها يفعل ذلك النوع من النمل ك ّ
الله في أجسامهم الصغيرة .
-5هداية الهدهد وعجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم بأسلوبه السهل الخاذ عن نوع آخر من مخلوقات الله التي
كر ،أل وهو الهدهد ،متحدثا ً عن هداية الله له فيقول :لها في كتاب الله ذِ ْ
) (1/64
" وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الرض ،ل يراه
غيره ،ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان ،
دره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وقد فقده وتوعده ،فلما جاء ب َ َ
وخاطبه خطابا ً هيجه به على الصغاء إليه والقبول منه ،فقال ) :أحطت بما
لم ُتحط به ( ] النمل ، [ 22 :وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق
المعرفة بحيث أحطت به ،وهو خبر عظيم له شأن ،فلذلك قال ) :وجئتك
ن ( ] النمل ، [ 22 :والنبأ هو الخبر الذي له شأن ،والنفوس من سبإ بنبإ ٍ يقي ٍ
متطلعة إلى معرفته ،ثم وصفه بأنه نبأ يقين ،ل شك فيه ول ريب ،فهذه
مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي
الخبر ،وأوجبت له التشوق التام إلى سماعه ومعرفته ،وهذا نوع من براعة
الستهلل وخطاب التهييج .
ً ً
ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد ،فقال ) :إّني وجدت
امرأة ً تملكهم ( ] النمل ، [ 23 :ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ،وأنها من
ل الملوك بحث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ،ثم زاد في أج ّ
عظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه ،وأنه عرش عظيم ،ثم أخبره
بما يدعوه إلى قصدهم ،وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله ،
شمس من دون الله ( ] النمل . [ 24 : فقال ) :وجدّتها وقومها يسجدون لل ّ
وحذف أداة العطف من هذه الجملة ،وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما
قبلها ،إيذانا ً بأنها هي المقصودة ،وما قبلها توطئة لها ،ثم أخبر عن المغوي
لهم ،الحامل لهم على ذلك ،وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم ،حتى صدهم
عن السبيل المستقيم ،وهو السجود لله وحده ،ثم أخبر أن ذلك الصد حال
بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي ل ينبغي السجود إل له .
) (1/65
) (1/66
والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية العتناء بحث إذا رأوا
حماما ً ساقطا ً لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ،ويعظمون صاحب
التجربة والمعرفة ،وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له .
ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها ،ويقولون :هو أحن إلى بيته
لمكان أنثاه ،وهو أشد متنا ً ،وأقوى بدنا ً وأحسن اهتداء ،وطائفة منهم يختار
ن إلى الناث وتاقت لذلك الناث ،ويقولون :الذكر إذا سافر وبعد عهده ح ّ
نفسه إليهن ،فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فل يصبر عنها ،فيترك
السير ،ومال إلى قضاء وطره منها .
من واللف وهدايته على قدر التعليم والتوطين ،والحمام موصوف بالي ُ ْ
للناس ،ويحب الناس ويحبونه ،ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء
لصاحبه ،وإن أساء إليه ،ويعود إليه من مسافات بعيدة ،وربما صد فترك
وطنه عشر حجج ،وهو ثابت على الوفاء ،حتى إذا وجد فرصة واستطاعة
عاد إليه .
والحمام إذا أراد السفاد يلطف للنثى غاية اللطف ،وإذا علم الذكر أنه أودع
رحم النثى ما يكون منه الولد يقوم هو والنثى بطلب القصب والحشيش
وصغار العيدان ،فيعملن منه أفحوصة ،وينسجانها نسجا ً متداخل ً في الوضع
الذي يكون بقدر حيمان الحمامة ،ويجعلن حروفها شاخصة مرتفعة ،لئل
يتدحرج عنها البيض ،ويكون حصنا ً للحاضن ،ثم يتعاودان ذلك المكان ،
ويتعاقبان الفحوص يسخنانه ،ويطيبانه وينفيان طباعه الول ،ويحدثان فيه
طبعا ً آخر مشتقا ً ومستخرجا ً من طباع أبدانهما ورائحتهما ،لكي تقع البيضة
إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام ،ويكون على مقدار
من الحر والبرد والرخاوة والصلبة .
ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ،ووضعت فيه البيض ،فإن
أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيأته كالمرأة التي
ُتسقط من الفزع .
) (1/67
فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزال يتعاقبان الحضن ،حتى إذا بلغ
الحضن مداه وانتهت أيامه انصدع عن الفراخ ،فأعاناه على خروجه ،فيبدآن
أول ً بفتح الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته ،علما ً بأن الحوصلة تضيق عن
الغذاء ،فتتسع الحوصلة بعد التحامها ،وتنفتق بعد ارتتاقها .
ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئا ً فإنها في أول المر ل
تحتمل الغذاء ،فيزقانه بلعابهما المختلط بالغذاء ،وفيه قوى الطعم .
ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء ،وأنها تحتاج إلى دفع
وتقوية ،لتكون لها بعض المتانة ،فيلقطان من الغيطان الحب اللين الرخو ،
ويزقانه الفرخ ،ثم يزقانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشد .
ول يزالن يزقانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ ،وهو يطلب
ذلك منهما ،حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ،ليحتاج إلى
اللقط ويعتاده ،وإذا علما أن رئته قد قويت ونمت ،وأنهما إن فطماه فطما ً
تاما ً قوي على اللقط وتبلغ لنفسه ضرباه إذا سألهما الزق ،ومنعاه .
ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما ،وينسيان ذلك التعطف المتمكن حين
يعلمان أنه قد أطاق القيام بالتكسب بنفسه ،ثم يبتدآن ابتداء ذلك النظام .
ومن عجيب هداها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى
ومواضع الناس ؛ لئل يعرض لها من يصدها ،ول يرد مياههم ،بل يرد المياه
التي ل يردها الناس .
ومن هداية الحمام أن الذكر والنثى يتقاسمان أمر الفراخ ،فتكون الحضانة
ن الب هو والتربية والكفالة على النثى ،وجلب القوت والزق على الذكر ،فإ ّ
صاحب العيال والكاسب لهم ،والم هي التي تحبل وتلد وترضع .
) (1/68
ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ :أن رجل ً كان له زوج حمام مقصوص ،
وزوج طيار ،وللطيار فرخان ،قال :ففتحت لهما في أعلى الغرفة كوة
للدخول والخروج وزق فراخهما ،قال :فحبسني السلطان فجأة ،فاهتممت
بشأن المقصوص غاية الهتمام ،ولم أشك في موتهما ؛ لنها ل يقدران على
الخروج من الكوة ،وليس عندهما ما يأكلن ويشربان .
قال :فلما خلي سبيلي ،لم يكن لي هم غيرهما ،ففتحت البيت فوجدت
الفراخ قد كبرت ،ووجدت المقصوص على أحسن حال ،فعجبت ،فلم ألبث
أن جاء الزوج الطيار ،فدن الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما
يستطعم الفرخ فزقاهما .
فانظر إلى هذه الهداية ،فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ ،للبوين
وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش ،فعل كفعل الفرخين ،
فأدركتهما رحمة الطيارين ،فزقاهما كما يزقان فرخيهما .
ومن هدايتها أيضا ً أنه إذا رأى الناس في الهواء عرف أي صنف يريده ،وأي
نوع من النواع ضده ،فيخالف فعله ليسلم منه ،ومن هدايته أنه في أول
نهوضه يغفل ،ويمر بين النسر والعقاب ،وبين الرخم والبازي ،وبين الغراب
والصقر ،فيعرف من يقصده ،ومن ل يقصده ،وإن رأى الشاهين فكأنه يرى
السم الناقع ،وتأخذه حيرة كما يأخذ الشاة عند رؤية الذئب ،والحمار عند
مشاهدة السد .
مزيد من عجائب هداية الله مخلوقاته
ويعرض علينا ابن القيم جملة من عجائب هداية الله في مخلوقاته مما توصل
إليه أهل العم في زمانه ،ولحظوه من الوقائع في عهدهم فمن ذلك :
-7كلبة ترضع طفل ً مات أهله
) (1/69
قال الجاحظ :لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار ،فلم يشك أهل
تلك المحنة أنه لم يبق منهم أحد ،فعمدوا إلى باب الدار فسدوه ،وكان قد
بقي صبي صغير يرضع ،ولم يفطنوا له ،فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها
بعض ورثة القوم ،ففتح الباب ،فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي
يلعب مع جراء كلبة قد كانت لهل الدار فراعه ذلك ،فلم يلبث أن أقبلت
كلبة قد كانت لهل الدار ،فلما رآها الصبي حبها إليها ،فأمكنته من أطبائها ،
فمصها ،وذلك أن الصبي لما اشتد جوعه ورأى جراء الكلبة يرتضعون من
أطباء الكلبة حبا إليها ،فعطفت عليه ،فلما سقته مرة أدامت له ذلك ،وأدام
هو الطلب .
-8المكاء يقتل الفعى
وذكر ابن العرابي قال :أكلت حية بيض مكاء ،فجعل المكاء يصوت ويطير
على رأسها ،ويدنو منها ،حتى إذا فتحت فاها وهمت به ألقى حسكة ،
فأخذت بحلقها حتى ماتت ،وأنشد أبو عمر الشيباني في ذلك قول السدي :
إن كنت أبصرتني عيل ً ومصطلما ً ××× فربما قتل المكاء ثعبانا ً
-9هداية الثعلب وحيله
ومن عجيب هداية الثعلب أنه إذا امتل من البراغيث أخذ صوفة بفمه ،ثم
عمد إلى ماء رقيق ،فنزل فيه قليل ً ،حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة ،
فيلقيها في الماء ويخرج .
ومن عجيب أمره أن ذئبا ً أكل أولده ،وكان للذئب أولد وهناك زبية ،فعمد
الثعلب وألقى نفسه فيها ،وحفر فيها سردابا ً يخرج منه ،ثم عمد إلى أولد
الذئب فقتلهم ،وجلس ناحية ينتظر الذئب ،فلما أقبل وعرف أنها فعلته
هرب قدامه ،وهو يتبعه ،فألقى نفسه في الزبية ،ثم خرج من السرداب ،
فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده ،ولم يطق الخروج ،فقتله أهل
الناحية .
) (1/70
ومن عجيب أمره أن رجل ً كان معه دجاجتان ،فاختفى له ،وخطف إحداهما
وفر ،ثم أعمل فكره في أخذ الخرى ،فتراءى لصاحبها من بعيد وفي فمه
شيء شبيه بالطائر ،وأطعمه في استعادتها بأن تركه وفر ،فظن الرجل أنها
الدجاجة ،فأسرع نحوها ،وخالفه الثعلب إلى أختها ،فأخذها وذهب .
ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير ،فأعمل الحيلة كيف يأخذ
منها شيئا ً فلم يطق ،فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء
الذي نحو الطير ففزع منه ،فمل عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها ،
فعاد لذلك مرة ثانية ،وثالثة ،ورابعة ،حتى تواظب الطير على ذلك وألفته ،
فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك ،فدخل عليها وعبر إلى الطير ،فلم يشك
الطير أنه من جنس ما قبله ،فلم تنفر منه ،فوثب على طائر منها وعدا به .
ومن عجيب أمره أنه إذا اشتد به الجوه انتفخ ،ورمى بنفسه في الصحراء
كأّنه جيفة ،فتتداوله الطير ،فل يظهر حركة ول نفسا ً ،فل تشك أنه ميت ،
حتى إذا نقر بمنقاره ،وثب عليها ،فضمها ضمة الموت .
ه لجل شوكه ،فيجتمع القنفذ ومن عجيب أمره أنه إذا أصاب القنفذ ،قَل َب َ ُ
حتى يصير كبة شوك ،فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى
فكيه ،فإذا أصابه البول اعتراه السر ،فانبسط ،فيسلخه الثعلب من بطنه ،
ويأكل مسلوخه .
-10من عجائب الذئاب
ومن عجيب الذئب أنه عرض لنسان يريد قتله ،فرأى معه قوسا ً وسهما ً ،
فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه ،وأقبل نحو الرجل ،فجعل الرجل
كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه ،وعاين نفاد سهمه ،
فصادف من استعان به على طرد الذئب .
--------------------------------
) (1شفاء العليل ، 101 :وما نقلناه عن ابن القيم يدلنا على أن السلف
الصالح كانوا يعنون بالتأمل في خلق الله ،ويدلنا على أن ملحظة العلماء
المسلمين بلغت مبلغا ً كبيرا ً ،إل أنها لم تخل من أخطاء ،فالنحل ليس له
ملك بل ملكة .
) (1/71
) (1/72
والطباء تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار ،إذا تعسر عليه
الذرق جاء إلى البحر المالح ،وأخذ بمنقاره منه واحتقن به ،فيخرج الذرق
بسرعة .
وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكل الفاعي والحيات عمدا إلى الصتر النهري ،
فأكله كالترياق لذلك .
وهذا الثعلب إذا أصابه صدع أو جرح يأتي إلى صبغ معروف ،فيأخذ منه ،
ب إذا أصابه جرح يأتي إلى نبت قد عرفه ، ويضعه على جرحه كالمرهم ،والد ّ
وجهله صاحب الحشائش ،فيتداوى به فيبرأ !
-15تعلم النسان من الحيوان
ً
وكثير من العقلء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلقه
وصناعته وحربه وحزمه وصبره ،وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال
ن أكثرهم يسمعون أو يعقلون عن هم إل ّ كالنعام بل م تحسب أ ّ تعالى ) :أ ّ
ل سبيل ً ( ] الفرقان [ 44 :قال أبو جعفر الباقر :والله ما اقتصر هم أض ّ
على تشبيههم بالنعام ،حتى جعلهم أضل سبيل ً منها ،فن هدى النثى من
السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياما ً تهرب به من الذر والنمل ،
لنها تضعه كقطعة من لحم ،فهي تخاف عليه الذر والنمل ،فل تزال ترفعه
وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد .
ن علمك هذا كله ،وإنما يعرف م ّوقال ابن العرابي :قيل لشيخ من قريش َ :
مثله أصحاب التجارب والتكسب ؟ قال :علمني الله ما علم الحمامة تقلب
بيضها حتى تعطي الوجهين جميعا ً نصيبهما من حضانتها ،ولخوف طباع
الرض على البيض إذا استمر على جانب واحد .
ن علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى م ْ
وقيل لخر َ :
ن علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ،ثم م ْ
تظفر بها ؟ قال ِ :
تصعد ،ثم تسقط مرارا ً عديدة ،حتى تستمر صاعدة .
ن علمك البكور في حوائجك أول النهار ل تخل به ؟ قال :من م ْ
وقيل لخر َ :
ً
علم الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها ،ل
تسأم ذلك ،ول تخاف ما يعرض لها في الجو والرض .
) (1/73
ن علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك ،فإذا م ْ وقيل لخر َ :
سّنورة أنظفرت به وثبت وثوب السد على فريسته ؟ فقال :الذي علم ال ّ
ترصد جحر الفأرة ،فل تتحرك ول تتلوى ،ول تختلج كأنها ميتة ،حتى إذا
برزت لها الفأرة وثبت عليها كالسد .
ن علمك الصبر والجلد والحتمال وعدم السكون ؟ قال :من م ْ وقيل لخر َ :
علم ابا أيوب صبره على الثقال والحمال الثقيلة ،والمشي والتعب وغلظة
مال وضربه ،فالثقل والكل على ظهره ،ومرارة الجوع والعطش في الج ّ
كبده ،وجهد التعب والمشقة مل جوارحه ول يعدل به ذلك عن الصبر .
ن علمك حسن اليثار والسماحة بالبذل ؟ قال :من علم الديك م ْ وقيل لخر َ :
يصادف الحبة في الرض ،وهو يحتاج إليها فل يأكلها ؛ بل يستدعي الدجاج
ويطلبهن طلبا ً حثيثا ً ،حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها ،وهو مسرور بذلك
طيب النفس به ،وإذا وضع له الحب الكثير فّرقه هنا وها هنا ،وإن لم يكن
هناك دجاج ،لن طبعه قد ألف البذل والجود ،فهو يرى من اللؤم أن يستبد
وحده بالطعام .
ن علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله ؟ قال : م ْ وقيل لخر َ :
من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلء عن علمها وعملها ،وهي أكثر
من أن تذكر .
ن علم السد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب ،عفى أثر مشيته م ْ
و َ
ب ِذ َن َِبه ،ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ،فينفخ في
منخريه ،لن اللبوة تضعه جروا ً كالميت ،فل تزال تحرسه حتى يأتي أبوه
فيفعل به ذلك ! .
ومن ألهم كرام السود وأشرافها أن ل تأكل إل من فريستها ،وإذا مر
بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !
) (1/74
ومن علم النثى من الفيلة إذا دنا وقت ولدتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ،
لنها دون الحيوانات ل تلد إل قائمة ،لن أوصالها على خلف أوصال
الحيوان ،وهي عالية ،فتخاف أن تسقطه على الرض فينصدع أو ينشق ،
فتأتي ماء وسطا ً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم .
ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون
الخر !
ن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره ،والذكر من م ْ
و َ
ن عدوه أشد وأبعد وثبة ،ويدع النثى على النثى ،فيقصد الذكر مع علمه بأ ّ
ً
نقصان عدوها ؛ لّنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله ،
وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ،وإذا حقن الذكر لم يستطع
البول مع شدة العدو ،فيقل عدوه ،فيدركه الكلب ،وأما النثى فتحذف بولها
لسعة القبل وسهولة المخرج ،فيدوم عدوها !.
ن علمه أنه إذا كسا الثلج الرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد م ْو َ
انخسف ،فيعلم أن تحته حجر الرانب ،فينبشه ،ويصطادها علما ً منه بأن
حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق !
ً
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه ،فينام بإحداهما ،حتى
إذا نعست الخرى نام بها ،وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب :
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ××× بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
ن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ،فل يبقى عصفور بجوارها م ْو َ
حتى يجيء ،فيطيرون حول الفرخ ،ويحركونه بأفعالهم ،ويحدثون له قوة
وهمة وحركة ،حتى يطير معهم !
قال بعض الصيادين :ربما رأيت العصفور على الحائط ،فأومي بيدي كأني
أرميه فل يطير ،وربما أهويت إلى الرض كأني أتناول شيئا ً فل يتحرك ،فإن
مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي .
ومن علم )) اللبب (( وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالرض ،ويجمع
نفسه ،فيرى الذبابة أنه له عنها ،ثم يثب عليها وثوب الفهد !
) (1/75
ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة ،وتجعل في
أعلها خيطا ً ثم تتعلق به ،فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها
فاصطادتها !
ً
ومن علم الظبي أن ل يدخل كناسه إل مستدبرا ،ليستقبل بعينه ما يخافه
على نفسه وخشفه !
ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها
بالعود ،ثم يشير إليها بالرجوع ،وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط !
ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى
السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ،ويعمقه ثم يتخذ يف زواياه
أبوابا ً عديدة ،ويجعل بينها وبين وجه الرض حاجزا ً رقيقا ً ،فإذا أحس بالشر
فتح بعضها بأيسر شيء ،وخرج منه ،ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إل
عند أكمة أو صخرة علمة له على البيت ،إذا ضل عنه!
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك
السمن ،ثم يظهر !
ن سلحه قد ذهب ،فيسمن ومن علم اليل إذا سقط قرنه أن يتوارى ،ل ّ
لذلك ،فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح ،وأكثر من الحركة ليشتد
لحمه ،ويزول السمن المانع له من العدو .
وهذا باب واسع جدا ً ،ويكفي فيه قوله – سبحانه – ) وما من داب ّةٍ في الرض
م إلى
ما فّرطنا في الكتاب من شيء ث ّ ول طائ ِرٍ يطير بجناحيه إل ّ أمم أمثالكم ّ
شإ ِ الله م في ال ّ
ظلمات من ي َ َ م وبك ٌ ربهم يحشرون – واّلذين ك ّ
ذبوا ِبآَيات َِنا ص ّ
ط مستقيم ٍ ( ] النعام . [ 39-38 : يضلله ومن يشأ يجعله على صرا ٍ
وجه المماثلة بين الحيوانات وبني النسان :
قال ابن عباس في رواية عطاء ) :إل ّ أمم أمثالكم ( ] النعام ، [ 38 :
ويريد :يعرفونني ،ويوحدونني ،ويسبحونني ،ويحمدونني ،مثل قوله
تعالى ) :وإن من شيٍء إل ّ يسبح بحمده ( ] السراء ، [ 44 :ومثل قوله :
ل قدتك ّ سماوات والرض وال ّ
طير صافا ٍ ن الله يسبح له من في ال ّ) ألم تر أ ّ
علم صلته وتسبيحه ( ] النور . [ 41 :
) (1/76
) (1/77
والله – سبحانه – قد جعل بعض الدواب كسوبا ً محتال ً ،وبعضها متوكل ً غير
محتال ،وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ،وبعضها يتكل على الثقة
بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقا ً مضمونا ً وأمرا ً مقطوعا ً ،وبعضها ل
يعرف ولده ألبتة ،وبعض الناث تكفل ولدها ل تعدوه ،وبعضها تضيع ولدها ،
وتكفل ولد غيرها ،وبعضها ل تعرف ولدها إذا استغنى عنها ،وبعضها يدخر ،
وبعضها ل تكسب له ،وبعض الذكور يعول ولده ،وبعضها ل تزال تعرفه
وتعطف عليه .
وجعل بعض الحيوانات ُيتمها من ِقبل أمهاتها ،وبعضها ُيتمها من قبل آبائها ،
وبعضها ل يلتمس الولد ،وبعضها يستفرغ الهم في طلبه ،وبعضها يعرف
الحسان ويشكره ،وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ً ،وبعضها يؤثر على نفسه ،
وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا ً يدنو منه .
وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ،وبعضها يستوحش منهم ،وينفر غاية
النفار ،وبعضها ل يأكل إل الطيب ،وبعضها ل يأكل إل الخبائث ،وبعضها
يجمع بين المرين .
وبعضها ل يؤذي إل من بالغ في أذاها ،وبعضها يؤذي من ل يؤذيها ،وبعضها
حقود ل ينسى الساءة ،وبعضها ل يذكرها ألبتة ،وبعضها ل يغضب ،وبعضها
يشتد غضبه ،فل يزال يسترضى حتى يرضى ،وبعضها عنده علم ومعرفة
بأمور دقيقة ل يهتدي إليها أكثر الناس ،وبعضها ل معرفة له بشيء من ذلك
ألبتة ،وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ،وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده
،وبعضها يقبل التعليم بسرعة ،وبعضها مع الطول ،وبعضها ل يقبل ذلك
بحال .
) (1/78
وهذا كله من أدل الدلئل على الخالق لها سبحانه ،وعلى إتقان صنعه ،
وعجيب تدبيره ،ولطيف حكمته ،فإن فيما أودعها من غرائب المعارف ،
وغوامض الحيل ،وحسن التدبير ،والتأني لما تريده ،ما يستنطق الفواه
بالتسبيح ،ويمل القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ،وما يعلم به كل
عاقل أنه لم يخلق عبثا ً ،ولم يترك سدى ،وأن له – سبحانه – في كل
مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا ً قاطعا ً ،يدل على أنه رب كل شيء
ومليكه ،وأنه المتفرد بكل كمال دون خلقه ،وأنه على كل شيء قدير ،
وبكل شيء عليم .
-16هداية الخالق الكائنات لطريقة التكاثر
يقول الدكتور يوسف عز الدين موضحا ً هذا الموضوع " :من الشياء العجيبة
التي تشترك فيها جميع الكائنات الحية القدرة على التكاثر ،لتكوين ذرية
يكون من شأنها الستمرار بالحياة ،واستمرار بقاء النوع وعدم انقراضه .
وتتم عملية إنجاب الذرية في الكائنات الحية المختلفة بطرق شتى ،ولكّنها
تصل إلى الهدف المنشود ) .فالبكتريا( )وهي من النباتات( تتكاثر ،وكذلك
تفعل باقي النباتات والحيوانات على اختلف درجة فيها .ول يمكن من وجهة
نظر العلوم الرياضية أن تحدث مصادفات يكون من شأنها إيجاد ذكر أو أنثى
في آلف من النباتات والحيوانات لهدف مرسوم ومحدد وهو إنجاب ذرية
تبقى بعد الفناء .
ومن الحيوانات والنباتات ما ل يتميز فيها ذكر وأنثى ،ومع ذلك فإّنها تتكاثر
وتنجب ذرية ،فحيوان صغير الحجم أّولي مثل حيوان )الميبا( الذي يعيش
ن
كون جسمه من خلية واحدة يتكاثر بطريقة عجيبة ،إذ إ ّ في الماء والم ّ
الحيوان الواحد ينقسم إلى قسمين ،وكل قسم يتحول إلى حيوان ،
والحيوانات المتكونة من النقسام تنقسم بدورها إلى حيوانين وهكذا ...
يحدث هذا عندما تكون ظروف الحياة ملئمة وعادية .
) (1/79
ما إذا شعر هذا الحيوان بما ينذر بالخطر فإّنه يتحوصل ؛ أي يفرز حول أ ّ
جسمه حوصلة ،وينقسم إلى حيوانين ،بل عشرات الحيوانات داخل
الحوصلة ؛ لكي يعوض الوقت الذي قد يضيع هباء داخل الحوصلة إلى حين
رجوع الظروف الملئمة لحياته .
ويحدث التكاثر عن طريق النقسام في الحيوانات أولية عديدة غير ) الميبا (
مثل الحيوان المسمى ) :البراميسيوم( وهو يعيش في الماء ،ويتكاثر أيضا ً
بالنقسام الثنائي في الظروف الملئمة كما تنقسم )الميبا( ،ولكنه من آن
لخر يحتاج إلى تجديد نشاطه وحيويته ،فيلجأ إلى طريقة أخرى للتكاثر بالغة
التعقيد يكون من شأنها تجنيد الّنوى ) ولكل خلية نواة كما هو معلوم ( حيث
ينجب كل فرخ في هذه الحالة أربعة أفراد بدل ً من انقسام حيوان إلى
حيوانين فقط .
وفي الحيوانات الرقى من هذه الحيوانات الولية ،إذا كانت ظروف الحياة
ن الحيوان في هذه تحول دون سهولة التقاء النثى بالذكر لنجاب الذرية ،فإ ّ
الحالة يصبح أنثى ذكرا ً في الوقت نفسه ،أي يصبح خنثى حيث يضم جسمه
أعضاء التناسل النثوية والذكرية جنبا ً إلى جنب ،فيستطيع بذلك أن ينجب
ذريته دون حاجة إلى انتظار فرصة التقاء الجنسين ،يحدث هذا مثل ً في
الدودة الكبدية التي تعيش في القنوات المرارية لبعض الحيوانات حيث
يصعب على أحد الجنسين التنقل والتجول في هذا المكان الضيق للعثور على
الجنس الخر ،وفي الوقت نفسه إذا حدث أن التقى حيوانان من هذه
الديدان من الممكن أن يلقح أحدهما الخر حيث يصبح أحدهما وكأنه أنثى ،
ويصبح الخر وكأنه ذكر .
إن حدوث مليين المصادفات في آن واحد لهدف معين مشترك وفي
حيوانات مختلفة وبوسائل متباينة شيء ل يقره العلم ،ول تقره علوم
الرياضيات ،وفي هذه الحالة ل بد ّ أن يسلم بوجود قوة خالقة عاملة وراء هذا
كله .
) (1/80
ومنذ وجود أول حيوان ثديي على هذه الرض ،والنثى مزودة بمصنع لنتاج
اللبن ،وذلك لكي يضمن الصغير الحصول على غذائه بمجرد خروجه من بطه
أمه ،ولو لم يجد هذا الثدي الذي يبرز من جسم الم منذ أول حيوان ثديي
لما أتيحت فرصة النمو والبقاء على قيد الحياة لول مولود ،أي أنها عملية
مدبرة ومقدرة منذ البداية ،ول تخضع للتجربة والخطأ ،إذ أنها ل تحتمل
الخطأ مرة واحدة .
فهل يمكن أن يتصور أيّ إنسان عاقل أن تزويد الم بطعام الصغير المولود
يأتي نتيجة مصادفة عمياء ؟ ولبن أنثى الحيوانات الثديية – علوة على فائدته
الغذائية – نجده مزودا ً بمواد تحمل للمولود مناعة ضد المراض إلى أن يشب
عن الطوق ،ويمكن جسمه من الدفاع عن نفسه .وجميع الجهود التي
تضافرت لصنع اللبان اللزمة لتغذية الصغار فشلت في صنع اللبان التي
تحمل نفس صفات اللبن الذي أمد الله به النثى " .
أهمية الغريزة الجنسية :
ويحدثنا الدكتور يوسف عن الغريزة الجنسية وأهميتها وعظيم أثرها فيقول :
" ومن الشياء التي حيرت العلماء كنه الغريزة الجنسية ،تلك الغريزة التي
تجعل الذكر ينجذب إلى النثى ،والنثى تنجذب إلى الذكر .
والغريزة الجنسية هي أقوى الغرائز ؛ لنها أهما بالنسبة لبقاء النوع وعدم
انقراضه ،والهدف الرئيسي لبقاء بعض الحيوانات هو إتمام اللتقاء
الجنسي ،ثم يموت بعد ذلك .
فالطور الكامل للحشرات المسماة )ذباب مايو( ،ل يزيد عن بضعة أيام ،
وهي في طورها الكامل هذا ل تتغذى إذ ل توجد بها أجزاء للفم تصلح لتناول
الطعام إطلقا ً ،وإنما وظيفتها الرئيسية في هذه الفترة القصيرة من العمر
هي التقاء الذكر بالنثى لنجاب الذرية ،حيث تموت الم بعد ذلك مباشرة بعد
أن تكون أّدت رسالتها وكذلك يموت الب .
-17هداية الخالق تعويض ما يفقده من أجزاء جسمه
) (1/81
ويتعرض الدكتور يوسف في مقالته في جريدة الهرام عما زود الله به
مخلوقاته من خاصية تعويض الحيوان عما يفقده من أجزاء جسده فيقول " :
ومن الصفات الخرى المذهلة التي نجدها في جميع الحيوانات والنباتات
القدرة على تعويض الجزاء المفقودة ،وتوجد بدرجات مختلفة في الكائنات
الحية .
ففي حيوانات عديدة مثل ذلك الحيوان المسمى ))الهيدرا(( نجد شيئا ً عجيبا ً
يكتفي العلم بوصفه ،ولكّنه ل يستطيع له تفسيرا ً ،هذا الحيوان يعيش في
الماء ،وهو أنبوبي الشكل ل يزيد طوله عن بضعة مليمترات ،ذو قاعدة
مقفلة وفتحة أمامية تستخدم كفم لدخول الطعام ،وفي الوقت نفسه
تستعمل كفتحة )) است (( تخرج منها الفضلت .وحول تلك الفتحة نجد عددا ً
من الزوائد المجوفة ،يتصل تجويفها بتجويف الجسم .
إذا قطعنا هذا الحيوان إلى نصفين ،نصف علوي ،ونصف سفلي ،فإننا نجد
ن بعض الخليا في كل نصف تتكاثر بحث تستكمل الجزاء الناقصة ،فتكون أ ّ
النتيجة تكوين حيوانين يشبهان الحيوان الصلي ،ول يقتصر المر على ذلك ،
ن كل جزء ينمو ويعوض إذ أننا لو قطعنا ذلك الحيوان ،إلى عدة أجزاء فإ ّ
جميع الجزاء المفقودة ،ويصبح حيوانا ً كامل التكوين .
ويتركب جدار الجسم لهذا الحيوان من طبقتين من الخليا :طبقة خارجية
وطبقة داخلية تحيط بالتجويف الداخلي للجسم ،وفي كل طبقة من
الطبقتين توجد أنواع مختلفة من الخليا لكل نوع منها وظيفة محددة ،
ومعظم خليا الطبقة الخارجية وظيفتها الساسية حماية جسم الحيوان ،أما
الطبقة الداخلية فوظيفتها الرئيسة هضم الغذاء الذي يبتلعه الحيوان من خلل
فتحة الفم .
) (1/82
ن الخليا التي كانت خارجيةولو قلبنا ذلك الحيوان كما يقلب الجورب ،فإ ّ
تصبح داخلية ،أي تحيط بتجويف الجسم ،بينما الخليا التي كانت داخلية
تصبح خارجية ،فماذا يحدث في هذه الحالة ؟ لقد وجد العلماء الذين أجروا
هذه التجارب أن الخليا التي أصبحت الن خارجية تهاجر نحو الداخل ،بينما
الخليا التي أصبحت داخلية تهاجر نحو الخارج لكي يعود تركيب الحيوان إلى
ما كان عليه ،ولو لم يحدث ذلك لمات الحيوان ،إذ إن الخليا التي تحيط
بتجويف الجسم ل بد ّ أن تكون الخليا الهاضمة ،لتتم عملية هضم المواد
الغذائية التي في تجويف الجسم ،بينما الخليا الخارجية ل بد ّ أن تكون الخليا
الوقائية التي تحفظ الجسم وتقيه من التلف .
ن كل جزء ينمو ،ويعوض الجزء وإذا قطعنا دودة الرض إلى جزءين ،فإ ّ
المفقود .
وفي حيوانات أخرى ) كالجمبري ،أو الكابوريا ( وغيرهما إذا فقدت إحدى
ن رجل ً جديدة تتكون بدل ً من المفقودة .الرجل فإ ّ
ً
والبرص إذا استشعر خطرا أو أمسكه من ذنبه إنسان أو حيوان فإنه يفصل
ذلك الذنب عن جسمه ،وينجو من الخطر ،وينمو له ذنب جديد .
ونحن إذا جرحنا أنفسنا في أثناء الحلقة أو لي سبب آخر ،فإن خليا جديدة
تتكون بدل ً من الخليا التي أتلفها الجرح ،ولو لم يحدث ذلك لما أصبح في
المكان إجراء أية عملية جراحية .
ن خليا جديدة تتكون ويلتئم الكسر . وإذا كسرت لنا عظمة فإ ّ
ل يمكن أن يحدث هذا نتيجة للمصادفة ،بل ل بد ّ أن يكون نتيجة تدبير يتجه
نحو هدف معين ،وهو المحافظة على حياة الفرد ،وتحكمه قوى كامنة في
الحيوان لم يتوصل العلم إلى كنهها ،إنها قوى أودعها الله في الحيوان ،
والحيوان ل يعلم عنها شيئا ً ،ول يدرك ماذا يفعل " .
-18اتفاق جميع الحياء في التنفس وإن اختلفت طرائقه
) (1/83
ويعرض الدكتور يوسف في مقالته القيمة لهذا الموضوع ،فيقول " :إن
عملية التنفس التي نجدها في جميع الكائنات الحية من أدناها إلى أرقاها
عملية عجيبة ،وهي في جميع الحالت ليست سوى عملية أكسدة ،أي اتحاد
الكسجين بالمواد الغذائية التي في خليا الجسم ،ونتيجة لهذه الكسدة
تنطلق طاقة اللزمة للكائن الحي التي لولها ما استطاع القيام بأيّ نشاط
من أنشطته المختلفة .
تتم هذه الكسدة في الحيوانات المختلفة بطرق متباينة ،ولكن النتيجة في
جميع الحوال واحدة ،وهي انطلق الطاقة ،وفي الوقت نفسه يتكون الماء
) وثاني أكسيد الكربون ( نتيجة لهذه العملية ،ولذا فالمظهر الواضح لعملية
التنفس هو أخذ )الكسجين( اللزم )لكسدة( المواد الغذائية وبإخراج )ثاني
أوكسيد الكربون( والماء الناتجين عن هذه العملية .
ففي حيوان بسيط )كالميبا( حيث يتكون الجسم من خلية واحدة ،تتم عملية
ن هذا الحيوان الذي يشبه قطعة دقيقة التنفس بطريقة غاية في البساطة ،إ ّ
من )الجيلتين( الرخو يعيش في الماء ،ويوجد بالماء المحيط به قدر من
)الوكسجين( المذاب ،هذا )الوكسجين( الذائب في الماء ينفذ إلى جسم
)الميبا( حيث يؤكسد المواد الغذائية التي في جسمها ،فتنطلق الطاقة
اللزمة لحركتها ونموها ،وغيرها من العمليات الضرورة للحياة .
ويتكون )ثاني أوكسيد الكربون( والماء نتيجة لعملية )الكسدة( ،علوة على
انطلق الطاقة .
وتتخلص )الميبا( من الماء الزائد بطريقة تثير الدهشة ،حيث تتجمع قطيرات
الماء حتى تتكون فجوة مليئة بالماء ،هذه الفجوة تتحرك نحو حافة جسم
الحيوان ،ثم تنفجر ملقية بالماء خارج الجسم ،ثم تعود لتتكون من جديد ...
وهكذا .
أما ثاني )أوكسيد الكربون( فينفذ من داخل الجسم إلى الماء المحيط به .
) (1/84
) (1/85
ويحدثنا الدكتور يوسف عن هذا الموضوع فيقول " :وجميع الكائنات الحية
نباتات وحيوانات ل بد ّ أن تتغذى ،وتتغذى النباتات بطريقة تختلف تمام
الختلف عن طريقة تغذية الحيوانات ،فالنباتات ثابتة في مكانها ،ل يمكنها
أن تتحرك لتحصل على غذائها كما يفعل الحيوان ،ولذا فهي تصنع غذاءها
وهي مغروسة في مكانها مستخدمة في ذلك الطاقة الشمسية .
ما الحيوان فيحصل على غذائه جاهزا ً من مواد نباتية أو حيوانية ،والغذاء أ ّ
الذي يتناوله الحيوان ل بد ّ أن يهضم ليمتصه الجسم ويستفيد منه ،وعمليات
الهضم عمليات بالغة التعقيد من شأنها تحويل المواد المعقدة التركيب إلى
مواد بسيطة التركيب يستطيع الجسم امتصاصها والفادة منها .
والمواد الغذائية قد تكون دهنية أو بروتينية أو نشوية ...إلخ .
وكل نوع من الغذاء يقوم بهضمه أنزيم معين يؤثر في مادة بعينها ،ول يؤثر
في المواد الخرى الموجودة معها جنبا ً إلى جنب ،فأنزيم يؤثر في المواد
الدهنية ،ول يؤثر في المواد البروتينية ،وآخر يؤثر في المواد البروتينية ،ول
يؤثر في المواد الدهنية .
ل ذلك نتيجة خبط عشواء أو مصادفة عمياء أو فهل من الممكن أن يحدث ك ّ
نتيجة تجارب عديدة تحتمل الخطأ والصواب ؟
ن أيّ عقل قادر على التفكير ل بد أن يدرك أن هذا من المستحيل ،كما إ ّ
ً ً
ترفضه رفضا باتا نظرية الحتمالت في العلوم الرياضية .
ففي حيوان )الميبا( الدقيق الحجم المكون من خلية واحدة تتم عملية
التغذية بطريقة غريبة ،إذ تمتد منه أذرع تلتف حول المادة الغذائية الموجودة
حوله في الماء ،والتي قد تكون حيوانا ً ضئيل الحجم أو نباتا ً وحيد الخلية
أصغر حجما ً من الميبا ،والمواد الغذائية في هذه الحالة قد تكون متحركة إذا
كانت حيوانا ً صغيرا ً ،وقد تكون ثابتة إذا كانت نباتا ً أوليا ً وحيد الخلية كبعض
الطحالب .
) (1/86
) (1/87
وشبكة الوعية الدموية بأوردتها وشرايينها وشعيراتها الدموية تصميم مذهل ،
ن الشرايين تتفرع إلى أنابيب أصغر فأصغر ،حتى تصبح شعيرات دموية إ ّ
رقيقة الجدران ،والحكمة من رقة جدران الشعيرات الدموية هي إمكان
تبادل غازي )الوكسجين( من )هيموجلوبين( الكرات الدموية الحمراء ،وينفذ
إلى أنسجة الجسم ،وفي الوقت نفسه ينفذ ) ثاني أوكسيد الكربون ( من
النسجة إلى الشعيرات الدموية ،فتلتقطه الكرات الحمراء ،ثم تتجمع
الشعيرات الدموية لتكوين أوردة تحمل الدم إلى الرئتين ،حيث تتخلص
الكرات الدموية من ) ثاني أوكسيد الكربون ( ،وتلتقط ) أوكسجينا ً ( جديدا ً
وهكذا .
والقلب ينبض نبضات إيقاعية مدى الحياة ،حيث تتمدد بعض حجراته وتنقبض
حجرات أخرى دافعا ً الدم النقي الحامل )للوكسجين( في الوعية الدموية ،
ومستقبل ً له بعد دورانه في الجسم محمل ً ) بثاني أوكسيد الكربون ( ،
ليرسله إلى الرئتين حيث يتحمل )الوكسجين( ،ويتخلص من )ثاني أوكسيد
الكربون( .
ويتجول داخل جسم النسان ،وعديد من الحيوانات الخرى سوائل ذات
وظائف محددة مثل الدم ) واللمف ( .و )اللمف ( وسيط بين الدم والنسجة
.وللدم وظائف عديدة ،منها توصيل المواد الغذائية إلى جميع أجزاء
الجسم .
ن ً
وإذا لم يوجد الدم في أجسام بعض الحيوانات كالدودة الكبدية مثل ،فإ ّ
تركيب الجسم في مثل هذه الحيوانات نجده مصمما ً بحيث تتم عملية نقل
الغذية وغيرها بوسائل أخرى .
ويتكون الدم في أجسامنا وأجسام عديد من الحيوانات الخرى ،من سائل
يسبح فيه عدد هائل من الخليا المختلفة الشكال والوظائف نطلق عليها
أحيانا ً اسم الكرات الدموية الحمراء ،والكرات الدموية البيضاء .
) (1/88
والكرات الحمراء – كما ذكرت – ذات وظيفة تنفسية ،أما الكرات البيضاء
فمتعددة الشكال والوظائف ،بعضها ملتهم ،وظيفته التهام أي جرثومة
تتسرب إلى جسم النسان أو الحيوان ،فتلتهمها بطريقة تشبه التهام الميبا
لغذائها ،ونحن نستنشق من الهواء مليين الجراثيم طول النهار والليل ،
ن هذه الخليا العجيبة السابحة في الدم ،والتي ولكّننا ل نمرض ك ّ
ل يوم ،ل ّ
من الممكن أن تخترق تيار الدم وتنفذ إلى النسجة في حالة الطوارئ تلتهم
هذه الجراثيم وتقضي عليها ،ول يعترينا المرض إل إذا ضعفت مقاومة
الجسم ليّ سبب من السباب ،أي إذا ازداد عدد الجراثيم عن الحد ّ المألوف
".
-21تركيب الحواس في الحياء
ويبين لنا الدكتور يوسف أن " لمعظم الحيوانات أعضاء للحس كحاسة
البصار والشم واللمس والسمع ،والتركيب الساسي للعين يتشابه في جميع
الثدييات وغيرها ،وهو تركيب مذهل وشديد التعقيد ،فللعين عدسة تستقبل
الضوء ،وفتحة ينفذ الضوء من خللها ؛ ليخترق العدسة ،وتلك الفتحة التي
ينفذ منها الضوء في العين تتسع تلقائيا ً في الضوء الخافت ،وتضيق تلقائيا ً إذا
كان الضوء شديدا ً ،والحكمة من ذلك واضحة ،ففي حالة الضوء الخافت
ما في حالة الضوء الشديد تحتاج عملية البصار إلى كمية كبيرة من الضوء ،أ ّ
فتكفي كمية قليلة منه لكي تتضح الشياء المرئية .
والعين ترى الشياء في ضوء خافت ،ولم يتمكن عقل النسان من اختراع
آلة تصوير يمكنها التقاط صور المرئيات في مثل هذا الضوء .
ن البومة في
ن النحل قادر على رؤية الشعة فوق البنفسجية ،فإ ّ وكما أ ّ
إمكانها رؤية الشعة تحت الحمراء التي ل نراها ،وهي أشعة حرارية ،ولذا
فالبومة تستطيع أن تبصر الفأر في الظلم الدامس عن طريق الشعة
الحرارية تحت الحمراء التي تشع من جسده الدافئ .
) (1/89
وينفذ شعاع الضوء من العدسة ليقع على الشبكية عند قاع العين ،وتتكون
الشبكية من تسع طبقات مختلفة ،ول تزيد في مجموعها عن سمك ورقة
رقيقة ،والطبقة التي في أقصي قاع العين تتكون من مليين من العواد
والمخروطات منتظمة في تناسب محكم يمكنها أن تميز اللوان .ويتولى
العصب البصري نقل هذا الحساس إلى مركز معين في المخ يترجم
الحساس إلى صورة مرئية تبصرها العين بوضوح .
وتلك التنظيمات العجيبة للعدسات والعواد والمخروطات والعصاب ل بد ّ أن
تكون قد حدثت في وقت واحد ..إذ إنه إذا لم توجد جميعها معا ً في وقت
ن البصار يصبح مستحيل ً ،فكيف استطاعت جميع هذه العوامل أن واحد فإ ّ
ً
مل بعضها بعضا في وقت واحد ؟ ُيك ّ
ن العلوم الرياضية تقول لنا :إن حدوث هذه الشياء دفعة واحدة عن طريق إ ّ
المصادفة أمر مستحيل ،إن آلة التصوير التلفزيونية ما هي إل محاكاة بدائية
لعملية البصار التي تتم عن طريق العين ،بل كل ما ابتكره الذهن البشري
من اختراعات ما هو سوى محاكاة بدائية لما هو موجود في الخلق ،وإذا
كانت آلة التصوير البسيطة يلزمها فكر وعقل لبتكارها ،فهل من المعقول
أن تكون العين في النسان وغيره من الحيوانات تكونت عن طريق
المصادفة ؟
ل من هو في حاجة إلى البصار من الحيوانات خلق الله له نك ّومن العجيب أ ّ
ن تلك العيون قد تختلف في تركيبها عن عيوننا اختلفا ً عيونا ً يرى بها ،ولو أ ّ
كبيرا ً ،ولكّنها توصل إلى الهدف نفسه وهو البصار ،فنجد في دودة الرض
ل ما تحتاج إليهمثل ً خليا في جلدها ذات حساسية للنور والظلم ،وهذا هو ك ّ
مثل هذه الدودة التي تعيش في النفاق من الطين داخل التربة .
) (1/90
وللحشرات عيون تختلف في تركيبها عن عين النسان أو القرد أو البقرة أو
السلحفاة أو السمكة ،ولكن على الرغم من هذا الختلف إل أن الحشرات
ترى بها الشياء التي تنظر إليها ،واختلف الوسائل مع تشابه الهدف ل يمكن
أن يأتي عن طريق المصادفة ؛ بل يأتي نتيجة لتخطيط يقصد من ورائه
الوصول إلى هدف معين .
ي من الحواس والدراك على قدر حاجته فالذبابة ل كائن ح ّ ولقد منح الله ك ّ
المنزلية مثل ً بحاجة إلى عين ترى بها الغذاء ،وتدرك أيّ حركة يقصد بها
العتداء على حياتها ؛ ولذا فقد زودها الخالق كما هي الحال في معظم
ل عين من هذه العيون مكونة نك ّ
الحشرات بزوج من العيون المركبة ؛ إذ إ ّ
ل وحدة من من مئات الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض ،ك ّ
ل وحدة من هذه هذه الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض ،ك ّ
الوحدات ترى نقطة من الشيء المرئي ،وتتجمع هذه النقط فترى الذبابة
الشيء كامل ً ،كما زودها خالقها بنوع آخر إضافي من العيون نسميه العيون
البسيطة ،إذ توجد ثلثة من هذه العيون البسيطة عند قمة رأسها ،وظيفتها
إدراك أّية حركة ،وهذه العيون هي التي تجعل المساك بالذبابة يكاد يكون
في حكم المستحيل " .
-22كيفية تصميم العظام والمفاصل
والعظام في أجسامنا وأجسام عديد من الحيوانات نحركها عند المفاصل ،
فتنقبض عضلت معينة وتنبسط عضلت أخرى في الوقت نفسه في توافق
عجيب ،فتتحرك اليد أو الساق أو الصبع وغيرها في التجاه الذي يرغب فيه
النسان أو الحيوان ،وتركيب المفاصل مصمم بشكل يسمح بالنزلق ،فل
يشعر الحيوان بأي احتكاك .
) (1/91
) (1/92
ول يمكن أن يكون عن طريق المصادفة أن قرني استشعار ذكر البعوض به
شعيرات أطول من تلك التي في قرني استشعاره أنثاه ،وكان العتقاد فيما
ن هذه الشعيرات الطويلة مظهر من مظاهر الزينة ،لكي يبدو الذكر مضى أ ّ
جميل ً في عين النثى ،ولكن اتضح أّنه هذه الشعيرات التي في قرني
استشعار الذكر قادرة على التقاط أصوات خاصة تحدثها أنثى البعوض وهي
بعيدة عن الذكر بعدا ً شاسعا ً ،وأصوات النثى هذه ذات موجات خاصة تشبه
إلى حد كبير موجات الذاعة .
ويحرك الذكور قرني استشعاره في شتى التجاهات كما نحرك نحن هوائي
التلفزيون لتصبح الصورة الملتقطة أكثر وضوحا ً ،وفي وضع خاص يلتقط
قرنا الستشعار صوت النثى واضحا ً ،وعن طريق زاوية قرن استشعاره
يدرك الذكر غريزيا ً مكان النثى التي تحدث الصوت ،فيطير نحوها بأقصى
سرعته حيث يتم التزاوج بينهما .
ن البعوض قد منحه خالقه هذه القدرة العجيبة التي تمكنه من وهكذا نرى أ ّ
إدراك صوت النثى البعيدة عنه بعشرات )) المتار (( على الرغم من وجود
أصوات أخرى عديدة يموج بها الجو ،ولو لم يحدث ذلك لما تمكن الذكر من
العثور على النثى بسهولة ،ولما تمكن البعوض من البقاء جيل ً بعد جيل .
إنها محطة استقبال إذاعي في قرني استشعاره استخدمها البعوض قبل أن
يتمكن النسان من التوصل إلى أسرار الرسال اللسلكي بمليين السنين ،
فهل يمكن أن يحدث مثل هذا عن طريق مصادفة عمياء ؟
-25حيوانات تومض في الظلم
ومن الحشرات ما تنبعث من أنثاها أضواء تومض في الظلم ومضات ذات
تردد معين يميزها ذكر هذا النوع من الحشرات بالذات ،ول تختلط عليه مع
ومضات ضوئية لحشرات أخرى ذات تردد مختلف .عندما يرى الذكر هذه
الومضات التي ل تكاد تدركها عيوننا يطير إلى أنثاه ،فيحدث التزاوج ليستمر
بقاء النوع .
) (1/93
) (1/94
وفي معظم الحيوانات – ومنها النسان – تتكون بين الطبقتين طبقة خلوية
ل طبقة من الطبقات ثالثة ،وتستمر الخليا في النقسام ،فتتكون من ك ّ
الثلث أعضاء معينة .
فمن الطبقة الخارجية يتكون الجلد والجهاز العصبي ،وبعض أجزاء أخرى ،
ومن الطبقة الوسطى تتكون العضلت والعظام ،ومن الطبقة الداخلية
تتكون بعض أجزاء الجهاز الهضمي ،ويستمر انقسام الخليا ،حتى يتم تكوين
الجنين داخل الرحم في الحيوانات الثديية أو داخل البيضة في الحيوانات التي
تبيض ،وعند اكتمال تكوين الجنين يلفظ الرحم ذلك الجنين خارج الجسم في
الحيوانات الثديية ،ويكسر البيضة ويخرج منها في الحيوانات التي تضع بيضا ً .
-28تركيب الذن
وتركيب الذن في النسان وفي عدد من الحيوانات الخرى ل يمكن لي
عاقل أن يتصور حدوثه عن طريق المصادفة ،فللذن طبلة تستقبل الموجات
الصوتية فتتذبذب ،وهذه الذبذبات تؤثر في ثلث عظام دقيقة مرتبة ترتيبا ً
رائعا ً .والضغط على جانبي الطبلة ينبغي أن يكون متساويا ً ،ولهذا الغرض
تمتد أنبوبة خلف الطبلة توصل إلى تجويف النف ،ويصل بالجزء الداخلي
للذن عظمة تشبه القوقعة في شكلها ،ووظيفتها تحليل الصوت ،وتمييز
ن من وظيفتها أيضا ً إحداث التزان ،إذ لولها لما
النغام المختلفة ،كما أ ّ
استطعنا أن نخطو خطوة واحدة دون أن نترنح ونسقط .
وتنتقل الذبذبات بعد ذلك عن طريق العصاب إلى مركز السمع بالمخ ،
ليدرك النسان أو الحيوان سماع الصوات المختلفة بعضها عن بعض .هل
يمكن أن يحدث كل هذا في وقت واحد عن طريق المصادفة ؟ إن نظرية
الحتمالت في العلوم الرياضية تنفي إمكان ذلك نفيا ً قاطعا ً .
-29ديدان الفلريا
) (1/95
ل على وجود وتحدث في الكائنات الحية أشياء عجيبة ،ل تعد ول تحصى ،تد ّ
قوة عليا ترتب وتقدر لستمرار بقاء الكائنات ،أشياء ل يمكن أن تحدث عن
طريق المصادفة ،منها مثل ً :ما يحدث في دورة حياة الديدان التي تسبب
المرض المسمى بمرض الفيل ،وهي التي نسميها ديدان )الفيلريا( .
تغيض هذه الديدان في طورها الكامل في الوعية اللمفاوية والغدد اللمفاوية
للنسان ،وتسد الوعية اللمفاوية ،فتسبب تضخم بعض العضاء ،وعلى
الخص الساقين أو إحداهما ،حيث تصبح ساق النسان في حجم ساق
الفيل .
وتتزاوج هذه الديدان في أثناء وجودها داخل الوعية اللمفاوية للنسان ،
وتنتج ديدانا ً صغيرة تنتقل من الوعية اللمفاوية إلى الوعية الدموية ،وإذا
بقيت هذه الديدان في الوعية الدموية للنسان فإنها تعجز أن إتمام دورة
حياتها إذ ل بد لها من أن تنتقل إلى جسم بعض أنواع البعوض لكي تتم تلك
الدورة ،وتصبح قادرة على عدوى النسان ،فإذا امتصت البعوضة دم إنسان
دم عددا ً من هذه الديدان الصغيرة التي تنمو داخل مصاب فإّنها تمتص مع ال ّ
جسم البعوض حتى يكتمل نموها ،وتصبح قادرة على عدوى النسان إذا
حقنتها البعوضة في دمه في أثناء عملية امتصاصها لدم النسان الذي تتغذى
عليه .
ولقد حاول العلماء الحصول على هذه الديدان من دم المصابين بهذا المرض
ولكن جميع محاولتهم كانت تبوء بالفشل إلى أن حدث شيء عجيب .
في إحدى الليالي كان أحد العلماء ساهرا ً في معمله حتى ساعة متأخرة من
الليل ،فأخذ عينة من دم إنسان مصاب وفحصها تحت الميكروسكوب ،
وفوجئ بعدد هائل من هذه الديدان في العينة التي أخذها ،وفي أثناء النهار
في اليوم التالي أخذ عينة من المصاب نفسه فلم يجد للديدان أثرا ً ،احتار
في تفسير هذه الظاهرة العجيبة ،لماذا توجد هذه الديدان في عينة الدم إذا
أخذها من المصاب ليل ً ،ول تظهر إذا أخذها نهارا ً ؟
) (1/96
ن تلك الديدان الصغيرة تهرب إلى الوعية الدموية الداخلية في أثناء واتضح أ ّ
النهار ،ثم تعود إلى الوعية الدموية القريبة من سطح الجلد في أثناء الليل ،
ن البعوض الذي يتغذى على دم النسان في هذه والحكمة من ذلك هي أ ّ
ن الديدان تنتقل إلى الوعية
الماكن ل ينشط إل في أثناء الليل ؛ ولذا فإ ّ
الدموية القريبة من سطح الجلد ؛ لكي يتمكن البعوض من امتصاصها مع
الدم لتتم دورة حياتها داخل جسم البعوضة ،ومن الطبيعي أن هذه الديدان ل
تدرك شيئا ً ول تعلم شيئا ً عن البعوض التي ستتم دورة حياتها داخل جسمه ؛
ن هناك قوة عليا تملي عليها هذا التصرف لكي بل تفعل هذا عن غريزة ،أي أ ّ
تستمر حياتها .
دم نهارا ًومن العجيب أّنه في الماكن التي تنشط أنواع البعوض التي تمتص ال ّ
ن الديدان تفعل العكس ،حيث تبقى في الوعية الدموية ول تنشط ليل ً نجد أ ّ
الداخلية ليل ً ،وتهاجر إلى الوعية الدموية نهارا ً ،ليتمكن البعوض في هذه
الحالة أيضا ً من امتصاصها مع الدم ،فهل من الممكن أن يحدث هذا عن
طرق المصادفة ؟
-30مغناطيسية الرض
إذا تركنا تركيب الكائنات الحية وما فيه من إعجاز تتيه فيه العقول ،وتأملنا
في الكون الرحب وجدنا عجبا ً ،أولى هذه العجائب المغناطيسية الكامنة في
الكرة الرضية ،وهي التي تربطنا بالرض ،وتمنعنا من أن نتبعثر في الفضاء
في أثناء دورانها .
هذه المغناطيسية تختلف عن المغناطيسية التي نجدها في القضيب
ن القضيب المغناطيسي قادر على جذب بعض المغناطيسي ، ...إننا نعلم أ ّ
الشياء ،ولكّنه يعجز عن جذب أشياء أخرى كاللحم والورق والزجاج
لوالحجارة والرمل والماء وغيرها ، ....ولكن مغناطيسية الرض تجذب ك ّ
شيء ،تجذب أجسامنا ،وتجذب الزجاج والرمل والماء والحجارة والورق ،إذ
لو لم تجذب الرض إليها هذه الشياء لما بقي على سطحها شيء .
-31أحجام الجرام السماوية وأبعادها ومداراتها
) (1/97
ولقد ذكر )فردهويل( أستاذ الفلك بجامعة لندن في كتابه ) طبيعة الكون ( أن
من الكواكب ما يبلغ حجما ً مذهل ً ل يكاد يتصوره العقل ،إذ تبدو الكرة
الرضية بالنسبة لحد هذه الكواكب العملقة كحبة الرمل .
يقول العالم المريكي الكبير )كريستي موريسون( الرئيس السابق لكاديمية
ن وضع الجرام السماوية ليس مجرد مصادفة عشواء ؛ العلوم بنيويورك " :إ ّ
ً
بل هي موضوعة في الفضاء بحسبان ؛ إذ إن القمر مثل لو كان أقرب إلى
الرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لصبح المد والجزر عنيفين حيث
يغرق المد جميع أجزاء اليابسة ،فتموت غرقا ً جميع حيوانات اليابسة نتيجة
لذلك ،كما أن محور الرض لو لم يكن منحرفا ً بمقدار نحو ثلث وعشرين
ون من بخار ماء درجة لترتب على ذلك وجود ليل دائم عند القطبين ،وتك ّ
المحيطات كميات هائلة من الجليد تضغط على القطبين فيتفرطح خط
الستواء ،ويقل هطول المطار بدرجة تجعل الحياة مستحيلة على الكرة
الرضية .
وتبلغ سرعة دوران الرض نحو ألف ميل في الساعة ،فلو فرضنا أنها تدور
بسرعة مائة ميل في الساعة فقط ،لطال كل من الليل والنهار ،وترتب
على ذلك أن جميع النباتات والحيوانات تحترق نهارا ً من شدة الحرارة ،
وَتتجمد ليل ً من شدة البرد " .
وفي كتاب ضخم للدكتور جود أستاذ الفلسفة بجامعة لندن تناول بالدراسة
ضمن ما تناوله شتى احتمالت نشأة الكون ،ونشأة الحياة من الوجهة
العلمية والفلسفية ،وخلص من هذه الدراسة المستفيضة إلى أن الكون ل بد
أن يكون نشأ نتيجة لعملية خلق رائعة ،وصدق الله إذ يقول ) :سنريهم آَيات َِنا
في الفاق وفي أنفسهم حّتى يتبّين لهم أّنه الحقّ ( ]فصلت . [53 :
التعرف إلى الله من خلل النصوص
) مباحث الصفات والسماء (
ذكرنا أن السبيل الثاني الذي يعرفنا بالله هو النصوص القرآنية والحديثية التي
تتحدث عن الله حديثا ً مباشرا ً مبينة صفاته وأسماءه وأفعاله .
) (1/98
وهذا السبيل سبيل نّير مأمون العواقب ؛ لن التعرف إلى الله من خلل
كلمه وكلم رسوله ل يبقي مجال ً للشك واللتباس .
وقد حرصنا على أن نسوق النصوص ذاتها في أكثر الموضوعات ؛ فإنها أقدر
على التعبير والتوضيح من نصوص البشر وكلمهم ،كما حرصت على أل
أزيف النصوص بالتأويل والتحريف كما فعل كثير من السابقين كي توافق
آراء البشر ومقاييسهم ،والواجب أن يغير البشر من آرائهم ومقاييسهم كي
توافق النصوص .
المطلب الول
مدى إدراك العقل لصفات الله
صفات الله جاء بها القرآن وتحدثت عنها السنة النبوية قسمان :
الول :ما ل يستطيع العقل النساني التعرف عليه وإدراكه بنفسه ،أي من
غير طريق النصوص كإثبات اليد والوجه لله .
ل عليه بالعقل كاتصافه بالقدرة والحكمة ،ونحن الثاني :ما يمكن أن يستد ّ
لن نستقصي ذكر صفات الله ،ولكن سنذكر جملة منها توضح المراد ،وتحرر
المقصود ،وتعطي تصورا ً وافيا ً إن شاء الله تعالى .
المطلب الثاني
جملة من الصفات التي جاءت بها النصوص ) الجزء الول (
-1لله ذات
لله – سبحانه – ذات متصفة بصفات الكمال منّزهة عن صفات النقص ،
ن له ذاتا ً ) الله ل إله إل ّوالذي يقرأ حديث القرآن عن الله يعلم علما ً قاطعا ً بأ ّ
م ( ] البقرة . [ 255 : ة ول نو ُ
هو الحي القّيوم ل تأخذه سن ٌ
ً
) قل هو الله أحد – الله الصمد – لم يلد ولم يولد – ولم يكن له كفوا أحد (
]الخلص[ ،وعندما أراد الكفار قتل خبيب أنشد ): (1
ت أبالي حين ُأقتل مسلما ً ××× على أيّ شقّ كان لله مصرعي ولس ُ
وذلك في ذات الله وإن يشأ ××× يبارك على أوصال شلوٍ ممّزع
ن صفاته ل تشبه شيئا ً من صفات وذات الله ل تشبه ذوات المخلوقين ،كما أ ّ
ل مخلوق ل بد ّ أن يكون المخلوقين ،فالله هو الكمال الذي ل كمال بعده ،وك ّ
فيه نقص في جانب من الجوانب ،أدناها حاجته وفقره إلى غيره .
) (1/99
سميع يقول تعالى نافيا ً المشابهة بينه وبين خلقه ) :ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ
البصير ( ] الشورى . [ 11 :
-2نفسه سبحانه
لله تعالى نفس تليق بكماله وجلله ،ل تشبه نفوس المخلوقات ،وقد أخبرنا
الله بذلك في محكم كتابه ،قال تعالى ) :وإذا جاءك اّلذين يؤمنون ِبآَيات َِنا
م عليكم كتب رّبكم على نفسه الّرحمة أّنه من عمل منكم سوءا ً فقل سل ٌ
م ( ] النعام . [ 54 :
م تاب من بعده وأصلح فأّنه غفوٌر ّرحي ٌ بجهالةٍ ث ّ
ص الله ن له نفسا ،وأّنه كتب على نفسه الرحمة ،ون ّ ً فقد أخبر – سبحانه – أ ّ
سماوات والرض قل لله كتب ّ ال في ماّ لمن قل ) على ذلك في آية أخرى
على نفسه الّرحمة ليجمعّنكم إلى يوم القيامة ل ريب فيه ( ] النعام . [ 12 :
وقد فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا ً من هذه الكتابة ،ففي الحديث
ما
الذي يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) :ل ّ
ن رحمتي تسبق قضى الله الخلق كتب كتابا ً ،فهو عنده فوق العرش :إ ّ
غضبي ( وفي رواية ) تغلب غضبي ( ،متفق عليه ) ، (2وإثبات النفس لله
منهج الرسل من قبل ،فهذا عيسى يقول لرب العزة ) :تعلم ما في نفسي
م الغيوب ( ] المائدة ، [ 116 :وقال الله عل ُ
ول أعلم ما في نفسك إّنك أنت ّ
م جئت على قدرٍ يا موسى – واصطنعتك لنفسي ( ] طه لرسوله موسى ) :ث ّ
. [ 41-40 :
ف بالعباد ( ذركم الله نفسه والله َر ُ
ؤو ُ وقد حذرنا الحقّ نفسه فقال ) :ويح ّ
] آل عمران . [ 30 :
والله يذكر عباده في عباده الذين يذكرونه في أنفسهم ،فقد روى البخاري
ن الرسول صلى الله عليه وسلم ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أ ّ
قال ) :يقول الله تعالى :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني ،فإن
ذكرني في نفسه ،ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير
منهم ( (3) .
) (1/100
وذكر الله يرضي نفس ربنا تبارك وتعالى ،ففي حديث مسلم عن ابن عباس
ن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى عن جويرية :أ ّ
الصبح ،وهي في مسجدها ،ثم رجع بعد أن أضحى ،وهي جالسة ،فقال :
) ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ ( .قالت :نعم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم ) :لقد قلت بعدك أربع كلمات ،ثلث مرات
،لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن :سبحان الله وبحمده ،عدد خلقه ،
ورضا نفسه ،وزنة عرشة ،ومداد كلماته ( (4) .
-3وجه ربنا سبحانه
ن
دق بذلك ونؤمن به ؛ ل ّ لله – سبحانه – وجه ل يشبه وجوه المخلوقين ،نص ّ
ص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الله أخبرنا بذلك في كتابه ،ون ّ
أحاديثه .
قال تعالى ) :ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ( ]الرحمن ، [27:يقول
ابن جرير عند تفسيره لهذه الية :و ) ذو الجلل والكرام ( من نعت الوجه ،
فلذلك رفع ) ذو ( (5) .
ن الوصف بقوله : وقد نفى بعض السابقين إثبات الوجه لله تعالى ،وزعموا أ ّ
ما هو للرب فالمنعوت بـ ) ذو الجلل والكرام ( ) ذو الجلل والكرام ( إن ّ
ب ل الوجه . عندهم الر ّ
دعيها جاهل بلغة وقد رد ّ هذا الزعم المام ابن خزيمة ،فقال " :هذه دعوى ي ّ
ل وعل – قال ) :ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ( ن الله – ج ّ العرب ،ل ّ
ً ً
فذكر الوجه مضموما في هذا الموضع مرفوعا ،وذكر الرب بخفض الباء
بإضافة الوجه ،ولو كان قوله ) :ذو الجلل والكرام ( مردودا ً إلى ذكر الرب
في هذا الموضع لكانت القراءة ذي الجلل والكرام مخفوضا ً (6) . " ...
ل شيٍء هالكومن النصوص التي جاء فيها إثبات الوجه لله قوله تعالى ) :ك ّ
إل ّ وجهه ( ] القصص . [ 88 :
أثر اليمان بوجه الله تعالى
أ -قصد وجه الله بصالح العمال
) (1/101
إذا علمنا ما قرره الله فعلينا أن نقصد وجه ربنا بأعمالنا كما أرشد الله إلى
ل شيٍء ذلك في محكم كتابه ،فالعمل الذي ل يقصد به وجهه باطل ) :ك ّ
هالك إل ّ وجهه ( ] القصص . [ 88 :
كاةٍ تريدون وجه الله ومن ذلك إنفاق المال ابتغاء وجهه ) :وما آت َي ُْتم من َز َ
فأولِئك هم المضعفون ( ] الروم . [ 39 :
وقد وصف عباده الصالحين بأّنهم يريدون بعملهم وجهه ،ول شيء غير وجهه
) إّنما نطعمكم لوجه الله ل نريد منكم جزاًء و ل شكورا ً ( ] النسان ) ، [ 9 :
وما لحد ٍ عنده من نعمةٍ تجزى – إل ّ ابتغاء وجه ربه العلى ( ] الليل 20-19 :
ي يريدون وجهه ( ش ّداةِ َوال ْعَ ِ
[ ) واصبر نفسك مع اّلذين يدعون رّبهم ِبال ْغَ َ
] الكهف . [ 28 :
وفي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال ) :فإن الله قد حرم على النار من قال :ل إله إل الله ،يبتغي
بذلك وجه الله ( (7) .
ب -الستعاذة بوجهه سبحانه
وقد فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى جابر بن عبد الله أّنه
)) لما نزلت هذه الية ) :قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ً من
فوقكم ( ]النعام ، [65 :قال النبي صلى الله عليه وسلم ) :أعوذ بوجهك (
فقال ) :أو من تحت أرجلكم ( ]النعام ، [65 :فقال النبي صلى الله عليه
وسلم ) :أعوذ بوجهك ( ،قال ) :أو يلبسكم شيعا ً ويذيق بعضكم بأس
ض ( ] النعام [ 65 :فقال النبي صلى الله عليه وسلم ) :هذا أيسر ( ) . بع ٍ
(8
وعن علي بن أبي طالب :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول
عند مضجعه ) :اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم ،وبكلماتك التامات من شّر
كل دابة أنت آخذ بناصيتها ( .رواه أبو داود )(9
ج -إجابة من سألك بوجه الله
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذوه ُ ،ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ( (10) . ) :من استعاذ بالله فأعي ِ ُ
د -الطمع في رؤية وجه الله
) (1/102
عن عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول :
ً
) اللهم بعلمك الغيب ،وقدرتك على الخلق ،أحيني ما علمت الحياة خيرا لي
،وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا ً لي .
اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة .
وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والّرضا .
وأسألك القصد في الفقر والغنى .
وأسألك نعيما ً ل يبيد ُ .
وأسألك قرة عين ل تنقطع .
وأسألك الرضا بعد القضاء .
وأسألك برد العيش بعد الموت .
وأسألك لذة النظر إلى وجهك .
وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ،ول فتنة مضلة .
اللهم زينا بزينة اليمان ،واجعلنا هداة مهتدين ( (11) .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة المذكورة في قوله تعالى :
) لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس [ 26 :بأنها النظر إلى وجه ربنا
ل ،ونقل القول بذلك عن أبي بكر وحذيفة ثم قال ) :الثار في معنى عّز وج ّ
هذا عن الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – كثيرة ( (12) .
وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :
إذا دخل أهل الجنة الجنة ،قال :يقول الله تبارك وتعالى :تريدون شيئا ً
أزيدكم ؟ فيقولون :ألم تبّيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة ،وتنجنا من النار ؟
قال :فيكشف الحجاب ،فما أعطوا شيئا ً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عّز
م تل هذه الية ) :لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس . [ 26 : وجل ( ث ّ
)(13
ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) :جنتان وقد جاء في الصحيحين أ ّ
من فضة :آنيتهما وما فيهما ،وجنتان من ذهب :آنيتهما وما فيهما ،وما بين
القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إل رداُء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ( .
)(14
حجاب وجهه تبارك وتعالى :
) (1/103
عن أبي موسى قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :إن الله – عّز
ل – ل ينام ول ينبغي له أن ينام ،يخفض القسط ويرفعه ،يرفع إليه عمل وج ّ
ه النور ) وفي جاب ُ ُ
ح َ الليل قبل عمل النهار ،وعم ُ
ل النهار قبل عمل الليل ِ ،
ت وجهه ما انتهى إليه بصره ت سبحا ُرواية أبي بكر :النار ( لو كشفه لحرق ْ
من خلقه ( (15) .
وهذا التردد من الراوي في لفظ الّنور والّنار ل يضّر ،فإن مثل هذه الّنار
مى الله نار الصافية التي كلم الله بها موسى يقال لها :نور ونار كما س ّ
المصباح نورا ً ،بخلف الّنار المظلمة كنار جهّنم فتلك ل تسمى نورا .
ً
وهذه الحجب تحجب العباد عن الدراك ،كما قد يحجب الغمام والسقوف
عنهم الشمس والقمر ،فإذا زالت تجلت الشمس والقمر ،وليس المراد أّنها
ن الله ل يخفى عليه شيء تحجب الله عن الرؤية ،فهذا ل يقوله مسلم ،فإ ّ
في السماء ول في الرض ،ولكن يحجب أنواره إلى مخلوقاته .كما قال :
) لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ( فالبصر
يدرك الخلق كلهم ،وأما السبحات فهي محجوبة بحجابه النور أو الّنار .
-4لله سبحانه يدان
ً
ولله – سبحانه وتعالى – يدان تليقان بجلله وكماله ،ل تشبهان شيئا من
أيدي المخلوقين ،قال تعالى ) :بل يداه مبسوطتان ( ] المائدة ، [ 64 :
س ما منعك أن وقال مقّرعا ً إبليس حين رفض السجود لدم ) :قال َيا إ ِب ِْلي ُ
تسجد لما خلقت ب ِي َد َيّ ( ] ص . [ 75 :
تمجيد الله بذكر يديه :
وردت أحاديث عديدة فيها تمجيد الرب – تبارك وتعالى – بذكر يديه ،وأن
الخير فيهما ،فأهل الجنة يناديهم ربهم فيقول لهم ) :يا أهل الجّنة ،فيقولون
:لبيك ربنا وسعديك ،والخير في يديك ( (16) .
ً
وينادي ربنا آدم عليه السلم يوم القيامة ،فيقول آدم مجيبا ) :لبّيك وسعديك
،والخير كله في يديك ( (17) .
) (1/104
وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلة من الليل :
) لبيك وسعديك ،والخير في يديك ( (18) .
وكان من تلبية ابن عمر " :لبيك وسعديك ،والخير في يديك " (19) .
ب يديه :بسط الر ّ
وهو – سبحانه – كريم يبسط يديه بالعطاء والنفاق ) بل يداه مبسوطتان
ينفق كيف يشاء ( ] المائدة . [ 64 :
كما أّنه يبسط يديه بالليل والّنهار ليتوب العباد ،ففي صحيح مسلم عن أبي
موسى الشعري رضي الله عنه ،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :إن
الله يبسط يده بالليل ،ليتوب مسيء النهار ،ويبسط يده بالنهار ،ليتوب
مسيء الليل ،حتى تطلع الشمس من مغربها ( (20) .
الشياء التي خلقها الرحمن بيده :
ً
ل يعجز الله شيء ،فإذا أراد شيئا خلقه بكلمة )كن( ،فيكون كما أراد ،إل
ل على تكريمها ،ورفع منزلتها ،وعناية الله بها ، أّنه خلق بيده أشياء مما يد ّ
والمخلوقات التي خلقها الله بيده ،وذكرها لنا في كتابه أو وردت في سنة
رسوله هي :
أ -آدم :
وفي ذلك يقول تعالى لبليس ) :ما منعك أن تسجد لما خلقت ب ِي َد َيّ ( ]ص:
. [75
وفي حدث الشفاعة الطويل ) :فيأتون آدم فيقولون :أنت آدم أبو الناس ،
خلقك الله بيده ،وأسكنك جنته ( متفق عليه )(21
وفي حديث احتجاج آدم وموسى ،قال موسى لدم ) :أنت الذي خلقك الله
بيده ،ونفخ فيك من ُروحه ( (22) .
فأخبر الحقّ – تبارك وتعالى – أنه خلق آدم بيده ،وأخبر الرسول صلى الله
ن الناس يستشفعون إلى آدم ،ويذكرون أعظم ما فضله الله به عليه وسلم أ ّ
ل الله بهض َ ،وهو خلق الله له بيده ،وكذلك موسى عليه السلم ذكر ما فَ ّ
آدم ،وهو خلقه بيده ،وذكر هذه الخصوصية تدل على أمر امتاز به آدم عن
غيره ،وإل فلو كانت اليد هنا القدرة فأي فضل لدم على غيره ،حتى يمتدح
بذلك .
ب -كتب التوراة بيده :
) (1/105
جة بين آدم وموسى ،أن آدم قال ورد في بعض روايات حديث المحا ّ
لموسى ) :أنت موسى اصطفاك الله بكلمه ،وخط لك التوراة بيده ( )
. (23وفي رواية في الصحيحين ) :اصطفاك الله بكلمه ،وخط لك بيده ( .
)(24
ً ً
ج -كتب بيده كتابا موضوعا عنده :
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :لما قضى الله الخلق
كتب كتابا ً عنده :غلبت – أو قال :سبقت – رحمتي غضبي ،فهو عنده فوق
العرش ( .
وفي رواية ) :إن الله كتب كتابا ً قبل أن يخلق الخلق :أن رحمتي سبقت
غضبي ،فهو مكتوب عنده فوق العرش ( (25) .
ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ ) :كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن
يخلق الخلق :رحمتي سبقت غضبي ( (26) .
ورد إثبات كتابة الرحمن الكتاب بيده في كتاب السنة لبن أبي عاصم ،
ولفظه ) :لما قضى الله تعالى الخلق كتب بيده في كتاب عنده :غلبت أو
قال :سبقت رحمتي غضبي ،فهو عنده فوق العرش ( أو كما قال (27) .
د -غرس جنة عدن بيده :
ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) :سأل
موسى ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال هو رجل يجئ بعدما أْدخل أهل الجنة
الجنة ،فُيقال له :ادخل الجنة ،فيقول :أي رب ،وقد نزل الناس منازلهم ،
ملوك وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له :أترضى أن يكون لك مثل ملك من ُ
ه ،فقال هو ِ ُ
مثل مثل ُ
هو ِ
مثل ُ
ب ،فيقول :لك ذلك ،و ِ تر ّ الدنيا ؟ فيقول :رضي ُ
ل :هذا لك ،وعشرة أمثاله ،ولك ما ب ،فيقو ُ في الخامسة :رضيت ر ّ
ب.اشتهت نفسك ،ولذت عينك فيقول :رضيت ر ّ
هم منزلة ؟ قال :أولئك الذين أردت ،غرست كرامتهم ب فأعل ُ قال :ر ّ
بيدي ،وختمت عليها ،فلم تر عين ،ولم تسمع أذن ،ولم يخطر على قلب
يف َ ما أ ُ ْ
خ ِ س ّبشر ،قال :ومصداقه في كتاب الله – عز وجل – ) فل تعلم نف ٌ
ن جزاء بما كانوا يعملون ( ] السجدة . (28) [ 17 :فقد لهم من قُّرةِ أعي ٍ
أخبر :أنه غرس جنتهم بيده سبحانه .
عظم يدي الرب سبحانه وتعالى :
) (1/106
جاء في كتاب الله قوله تعالى ) :وما قدروا الله حقّ قدره والرض جميعا ً
مط ْوِّيا ٌ
ت بيمينه ( ] الزمر . [ 67 : سماوات َ قبضته يوم القيامة وال ّ
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال ) :يقبض الله – تبارك وتعالى – الرض يوم القيامة ،
ملوك الرض ( (29) . قول :أنا الملك ،أين ُ سماء بيمي ِِنه ث ُ ّ
م يَ ُ وََيطوي ال ّ
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال :قال
وي الله – عّز وجل – السماوات يوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :يط ِ
القيامة ،ثم يأخذهن بيده اليمنى ،ثم يقول :أنا الملك ،أين الجبارون ؟ أين
ل :أنا الملك ،أين الجبارون م يطوي الرضين بشماله ،ثم يقو ُ متكبرون ؟ ث ّ ال ُ
،أين المتكبرون ؟ ( .
وفي لفظ قال :رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو
ل -سمواته وأرضيه بيديه ،فيقول :أنا الله خذ ُ الجبار – عّز وج ّ يقول ) :يأ ُ
) ويقبض أصابعه ويبسطها ( أنا الملك ( )) ،حتى نظرت إلى المنبر يتحرك
ط هو برسول الله صلى الله ل شيء منه ،حتى إّني لقول :أساق ٌ من أسف ِ
عليه وسلم (( (30) .
كلتا يديه – سبحانه – يمين :
ورد في رواية في صحيح مسلم ) :ثم يطوي الرضين بشماله ( وقد ضعف
هذه الرواية البيهقي من ناحية السناد فقال " :ذكر الشمال فيه ،تفرد به
عمر بن حمزة عن سالم ،وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم
عن ابن عمر ،لم يذكرا فيه الشمال " (31) .
ح عن النبي صلى ح ذلك وقد ص ّ ص ّ
وضعفها من ناحية المتن فقال " :وكيف ي ِ
مى كلتا يديه َيمينا ً " (32) .هس ّ الله عليه وسلم أن ّ ُ
وعن عبد الله بن عمرو قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :إن
ل – َوكلتاالمقسطين عند الله على منابر من ُنور على يمين الرحمن – عّز وج ّ
دلون في حكمهم وأهليهم وما ُولوا ( (33) . ن ،الذين يع ِ يديه يمي ٌ
-5أصابع الرحمن
) (1/107
-2وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
متجبرين ، جت الجنة والنار ،فقالت النار :أوثرت بالمتكبرين وال ُ قال ) :تحا ّ
م ،قال م َوغّرهُ ُقطهُ ُضعفاء الّناس َوس َخلني إل ُ ة :فما لي ل يد ُوقالت الجن ُ
ك من أشاء من عبادي ،وقال للنار :إنما حمتي أرحم ب ِ الله للجّنة :أنت ر ْ
ما
ؤها ،فأ ّ ل واحدةٍ منكما مل ُ ُ
أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ،ولك ّ
الّنار فل تمتلئ حتى يضع الله – تبارك وتعالى – رجله ،فتقول :قط قط
ً
قط ،فهنالك تمتلئ وي ُْزَوى بعضها إلى بعض ،ول يظلم الله من خلقه أحدا ،
خلقا ً ( (37) . ن الله ُينشئ لها َة فإ ّما الجن ُ
وأ ّ
سماوات -3وعن ابن عباس أّنه قال في الكرسي ) :وسع كرسّيه ال ّ
والرض ( ]البقرة ) : [255:موضع القدمين ( (38) .
-7لله سبحانه ساق
ذبه ،لّنه – سبحانه – قد أخبرنا بذلك ،قال يجب علينا أن نصدق بذلك ول نك ّ
سجود فل يستطيعون ( ] القلم ق ويدعون إلى ال ّ تعالى ) :يوم يكشف عن سا ٍ
[ 42 :وقد ورد في الصحيحين ما يفسر هذه الية ويوضحها ،فعن أبي سعيد
الخدري قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ) :يكشف ربنا
عن ساقه ،فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ،ويبقى من كان يسجد في الدنيا
رئاء وسمعة ،فيذهب ليسجد ،فيعود ظهُره ُ طبقا ً واحدا ً ( (39) .
وينبغي أن ننبه هنا إلى أن إثبات الساق لله كإثبات اليد والسمع والبصر
وغيرها من الصفات ،وما ورد عن ابن عباس أنه فسر كشف الساق بمعنى
شدة المر معارض بما ثبت عن ابن مسعود أن ربنا يكشف عن ساقه (40) .
وما أحسن ما قاله الشوكاني حيث قال " :قد أغنانا الله سبحانه في تفسير
هذه الية بما صح عن رسول الله ،وذلك ل يستلزم تجسيما ً ول تشبيها ً ،
فليس كمثله شيء " (41) .
) (1/109
وقد أورد ابن جرير الطبري وابن كثير تفسير ابن عباس كما أوردا روايات
الحديث المفسر للنص القرآني ،ولم يؤول الحديث بحمله على غير ظاهره
مما يدل على أنه ل تعارض عندهما بين الحديث وكلم ابن عباس ،فإن المر
شديد في يوم القيامة ،ول ينافي هذا أن يكشف عن ساقه .
-8استواؤه على العرش
ص الله في سبعة مواضع من كتابه العرش أعظم المخلوقات كلها ،وقد ن ّ
على استوائه على العرش بقوله ) :الّرحمن على العرش استوى ( ] طه 5 :
[.
ن العرش مخلوق من مخلوقات الله قوله تعالى ) :ويحمل ّ أ على والدليل
ة ( ] الحاقة [ 17 :أي في يوم القيامة ،وقوله ٌ ثماني ٍ ذ يومئ فوقهم عرش ربك
) :اّلذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ن للعرش حملة ،وأّنهمويستغفرون لّلذين آمنوا ( ] غافر [ 7 :فقد أخبر أ ّ
يستغفرون للمؤمنين ،وهذا ينفي قول من يقول إن العرش هو الملك .
وفي الحديث الذي يرويه البخاري ) :إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ،فإّنه
جُر أْنهاُر الجنة (
أوسط الجنة ،وأعلى الجنة ،وفوقه عرش الرحمن ،ومنه ُتف ّ
(42) .
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) :ل
ن الناس يصعقون يوم القيامة ،فأكون أول من تخّيروني على موسى ،فإ ّ
يفيق ،فإذا موسى باطش بجانبي العرش ،فل أدري أكان موسى فيمن صعق
،فأفاق قبلي ،أو كان ممن استثنى الله ( (43) .
وفي رواية في الصحيح عن أبي سعيد الخدري ) :فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة
من قوائم العرش ( (44) .
ً
فكيف ل يكون العرش خلقا من خلق الله وهو سقف الفردوس ،وكيف
يمكن لموسى أن يمسك بقائمة من قوائمه لو كان غير مخلوق !!
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ) :أن الله لما قضى الخلق كتب
عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي ( (45) .
ظم العرش :ع َ
ِ
ب العرش العظيم ( ] المؤمنون . [ 86 : وصف الله العرش بأنه عظيم ) ور ّ
) (1/110
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم عظمة العرش بوجهين من البيان :
الول :بإخباره عن عظم الملئكة الذين يحملون العرش ،ففي سنن أبي
دث داود بإسناد صحيح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ) :أذن لي أن أح ّ
عن ملك من ملئكة الله ،من حملة العرش :ما بين شحمة أذن ِهِ إلى عاتقه
مسيرة سبعمائة عام ( (46) .
ور سعة العرش بالنسبة ه بأن ص ّ م ُ
عظ َ
والوجه الثاني :بين الرسول ِ
للسماوات والرض ،وصغرهما بالنسبة إليه ،قال صلى الله عليه وسلم :
) ما السماوات السبع في الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة ،وفضل
العرش على الكرسي ،كفضل تلك الفلة على تلك الحلقة ( (47) .
ب العرش : تمجيد الله نفسه باستوائه على العرش وأنه ر ّ
ب نفسه بأّنه مستو على عرشه ،كقوله ) طه – ما أنزلنا عليك وقد امتدح الر ّ
سماوات من خلق الرض وال ّ ً ّ
القرآن لتشقى – إل تذكرة ً لمن يخشى – تنزيل م ّ
ال ْعَُلى – الّرحمن على العرش استوى ( ] طه . [ 5-1 :وقوله ) :هو الذي
ّ
م استوى على العرش يعلم ما يلج سماوات والرض في سّتة أيام ث ُ ّ خلق ال ّ
سماء وما يعرج فيها وهو معكم أين في الرض وما يخرج منها وما ينزل من ال ّ
ما كنتم والله بما تعملون بصير ( ]الحديد . [4:
وامتدح نفسه في أكثر من آية بأنه صاحب العرش ) ذو العرش المجيد –
ل لما يريد ( ] البروج ) [ 16-15 :إذا ً لبتغوا إلى ِذي العرش سبيل ً ( فّعا ٌ
] السراء . [ 42 :
ب العرش العظيم ( ّ
وامتدح نفسه بأنه رب العرش ) عليه توكلت وهو ر ّ
ما يصفون ( ] النبياء ، [ 22 : ب العرش ع ّ ]التوبة ) ، [129 :فسبحان الله ر ّ
ب العرش العظيم ( ] المؤمنون . [ 86 : سبع ور ّ سماوات ال ّ ب ال ّ
) قل من ّر ّ
ومن شعر عبد الله بن رواحة يمجد رّبه سبحانه وتعالى :
ن الّنار مثوى الكافرينا شهدت بأن وعد الله حق ××× وأ ّ
ب العالمينا
وأن العرش فوق الماء طاف ××× وفوق العرش ر ّ
ومينا وتحمله ملئكة كرام ××× ملئكة الله مس ّ
) (1/111
روى هذا الشعر ابن عبد البر في الستيعاب ،وقال :رويناه من وجوه صحاح
.
معنى استوائه على العرش :
نحن نجهل كيفية استوائه سبحانه ،لننا نجهل كيفية ذاته ،ولكّننا نعرف معنى
دون استوى بـ ))على(( يقصدون استوى في لغة العرب ،فالعرب عندما ُيع ّ
بهذه الكلمة معاني أربعة هي :استقر ،وعل ،وارتفع ،وصعد ،كما حقق
ذلك ابن القيم (48) .
وقد نقل أبو الحسن الشعري عن المعتزلة أنهم فسروا ) استوى على
العرش ( بمعنى استولى عليه ) ، (49فالذي يؤول الستواء هذا التأويل سلفه
في هذا المعتزلة ،وبئس السلف هم .
أما أهل السنة وأصحاب الحديث فإنهم يثبتون استواءه على العرش ،ول
ينفونه ،ول يكيفونه كما نقل ذلك عنهم أبو الحسن الشعري رحمه الله ) .
(50
وقد نقل لنا أهل اللغة أن العلماء بالعربية الذين لم تتدنس فطرهم بقاذورات
الفلسفات الوافدة أبوا أن يفسروا استوى باستولى .
قال داود بن علي الصبهاني :كنت عند ابن العرابي ،فأتاه رجل فقال :ما
ل ) :الّرحمن على العرش استوى ( ] طه [ 5 :فقال ابن معنى قوله عّز وج ّ
العرابي :هو على عرشه كما أخبر ،فقال :يا أبا عبد الله :إنما معناه
استولى ،فقال ابن العرابي :فما يدريك ؟ العرب ل تقول استولى على
الشيء حتى يكون له مضاد ،فأيهما غلب فقد استولى عليه ،أما سمعت
قول النابغة :
إل لمثلك أو من أنت سابقه ××× سبق الجواد إذا استولى على المد )(51
وهذا النهج ،وهو معرفة معنى الستواء وجهل الكيفية والنهي عن البحث فيها
هو منهج السلف الصالح ،فعندما سئل المام مالك ) :الّرحمن على العرش
استوى ( ]طه [5:كيف استوى ؟
أطرق مالك ،وأخذته الرحضاء ،ثم رفع رأسه فقال " :الرحمن على العرش
استوى كما وصف نفسه ،ول يقال :كيف ؟ وكيف عنه مرفوع ،وأنت
صاحب بدعة ،أخرجوه " (52) .
) (1/112
وفي رواية عن مالك أنه قال " :الكيف غير معقول ،والستواء منه غير
مجهول ،واليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة " (53) .
وقوله " :غير مجهول " أي :معلوم ،والمعلوم منه معناه ،فإن له في لغة
العرب معنى تفقهه العرب ،وتعيه ،ويمكن للعالم أن يفسره ،ويترجمه ،
ولذا فإن كثيرا ً من الذين حكوا عن المام مالك مقالته السابقة ينقلونها عنه
بالمعنى ،فيذكرون أنه قال في الرد على الرجل " :الستواء معلوم ،
والكيف مجهول ،واليمان به واجب ،والسؤال عنه بدعة " ) . (54ول فرق
في الحقيقة بين القول إن الستواء معلوم ،أو أنه غير مجهول ،فمعناهما
واحد .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى " :كان السلف الول – رضي الله عنهم – ل
يقولون بنفي الجهة ول ينطقون بذلك ،بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله
تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله .
ولم ينكر أحد أنه استوى على عرشه حقيقة ،وخص العرش بذلك لنه أعظم
مخلوقاته ،وإنما جهلوا كيفية الستواء ،فإنه ل تعلم حقيقته .
قال مالك " :الستواء معلوم – يعني في اللغة – والكيف مجهول ،والسؤال
عنه بدعة ،وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها .وهذا قدر كاف " (55) .
-9أين الله ؟
من في َ َ
منُتم ّأخبرنا – سبحانه – أّنه في السماء ،مستوى على عرشه ) أأ ِ
سماء أن السماء أن يخسف بكم الرض فإذا هي تمور – أ َ
من في ال ّ منُتم ّ
مأ ِّ َ ُ ُ ّ
ً
يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ( ] الملك . [ 17-16 :
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن رّبه أّنه في السماء ،ففي
ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أ ّ
) أل تأمنوني وأنا أمين من في السماء ،يأتيني خبر السماء صباح مساء ( ) .
(56
) (1/113
وشهد للجارية باليمان عندما أخبرته أن الله في السماء ،ففي صحيح مسلم
ن معاوية بن الحكم السلمي ضرب جارية له لتقصيرها في وسنن أبي داود :أ ّ
الحفاظ على أغنامه ،ثم ندم فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نادما ً
يستأذنه في إعتاقها ،فطلبها الرسول صلى الله عليه وسلم وسألها ) أين
الله ؟ ( قالت :في السماء .قال ) :من أنا ؟ ( قالت :أنت رسول الله ،
قال ) :أعتقها فإنها مؤمنة ( (57) .
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المريض أن يدعو لنفسه أو يدعو له
أخوه بهذا الدعاء – وفيه النص على أنه تعالى في السماء – ) ربنا الله الذي
دس اسمك ،أمُرك في السماء والرض ،كما رحمتك في في السماء تق ّ
السماء فاجعل رحمتك في الرض ،اغفر لنا حوبنا وخطايانا ،أنت رب
ن ،أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ( . الطيبي َ
)(58
وفي حديث عبد الله بن عمرو قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
) الراحمون يرحمهم الرحمن ،ارحموا من في الرض يرحمكم من في
السماء ( (59) .
معنى كونه في السماء :
ن جرم السماء يحتويه – سبحانه وتعالى عن وليس المراد بأنه في السماء أ ّ
ذلك – بل المراد بالسماء العلو والفوقية ،فقد وصف نفسه – سبحانه – بأنه
العلى ) سّبح اسم رّبك العلى ( ] العلى ، [ 1 :وبأنه العلي العظيم :
ي العظيم ( ؤود ُه ُ حفظهما وهو ال ْعَل ِ ّ
سماوات والرض ول ي َ ُ ) وسع كرسّيه ال ّ
] البقرة . [ 255 :
وأخبر تعالى أّنه فوق عباده ) :يخافون رّبهم من فوقهم ( ] النحل ) ، [ 50 :
وهو القاهر فوق عباده ( ] النعام [ 18 :وفي تمجيد الرسول صلى الله عليه
وسلم لرّبه في دعائه يقول ) :وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ( (60) .
وكانت زينب تفخر على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول :
) زوجكن أهاليكن وزّوجني الله من فوق سبع سموات ( (61) .
) (1/114
ن الله في السماء بمعنى ول يمكن لمسلم يفقه عقيدته حق الفقه أن يظن أ ّ
ن السماء تحويه ،وأّنه في جرم السماء ،تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً ، أ ّ
سماوات مطوّيات كيف والسماوات ليس بشيء بالنسبة إليه سبحانه ) وال ّ
ل للكتب ( ج ّس ِي ال ّسماء ك َط َ ّ بيمينه ( ] الزمر ) ، [ 67 :يوم نطوي ال ّ
] النبياء . [ 104 :
كثرة الدلة :
والدلة من الكتاب والسنة على أّنه تعالى في السماء فوق عباده ظاهر
عليهم كثيرة جدا ً ،ويحتاج استقصاؤها إلى صفحات طويلة ،ويمكن أن
نصنفها على النحو التالي :
-1الدلة الدالة على أّنه في السماء ،وقد ذكرناها .
-2الدلة الدالة على أّنه مستو على العرش ،وقد سبقت .
-3الدلة الدالة على علوه ،وأنه فوق عباده ،وقد ذكرنا طرفا ً منها .
ن اّلذين عند -4النصوص الدالة على أن بعض مخلوقاته عنده ،كقوله ) :إ ّ
رّبك ل يستكبرون عن عبادته ( ] العراف . [ 206 :
وقال في الشهداء ) :بل أحياء عند ربهم يرزقون ( ] آل عمران . [ 169 :
وهي نصوص كثيرة .
-5النصوص المخبرة برفع بعض الشياء أو عروجها وصعودها إليه ،كاليات
المصرحة برفع عيسى ابن مريم ) بل ّرفعه الله إليه ( ] النساء [ 158 :
صالحم الطّيب والعمل ال ّ والمخبرة بصعود العمال إليه ) :إليه يصعد ال ْك َل ِ ُ
ن
يرفعه ( ] فاطر ، [ 10 :والنصوص المخبرة بصعود أرواح المؤمنين ) إ ّ
سماء ( ] العراف : ح لهم أبواب ال ّ فت ّ ُ اّلذين ك ّ
ذبوا ِبآَيات َِنا واستكبروا عنها ل ت ُ َ
. [ 40
ن المؤمنين تفتح لهم ،وقد جاءت الحاديث مفسرة ذلك ص على أ ّ فدل الن ّ
وموضحة له .
ومن ذلك عروج الملئكة إليه ) تعرج الملِئكة والّروح إليه ( ] المعارج . [ 4 :
-6ومنها إخباره بإنزال الملئكة ) ينّزل الملِئكة بالّروح من أمره ( ] النحل :
ك ( ] النعام . [ 92 : ، [ 2وإخباره بإنزال الكتب ) وهذا كتاب أنزلناه مبار ٌ
) (1/115
-7ومنها رفع اليدي والبصار إليه ،وقد وردت أحاديث كثيرة ذكر فيها رفع
ن حَزبه أمٌر فإنه يرفع
لم ْالرسول صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء ،وك ّ
يديه إلى العلو يدعو الله .
وكذلك رفع البصر ،فإنه ثبت في الدعاء بعد الوضوء .
-8ومن ذلك إشارته صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى العلو كما في حديث
حجة الوداع عندما قالوا :نشهد أّنك قد بلغت وأديت ونصحت ،فقال بإصبعيه
السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ) :اللهم اشهد ،اللهم
اشهد ( (62) .
وإن أحببت المزيد من ذكر الدلة وأقوال سلف المة فراجع ما جمعه أهل
العلم في مدوناتهم في هذا الموضوع .
علوه – سبحانه – ل ينافي قربه :
فهو قريب يجب دعوة الداعي إذا دعاه ،ويعلم سّره ونجواه ،وهو أقرب إلى
داعيه من عنق راحلته ،ويعلم ما توسوس به النفوس ،وهو أقرب إليه من
حبل الوريد ،وهو يعلم السّر وأخفى ،ويعلم ما يلج في الرض ،وما يخرج
ل من السماء ،وما يعرج فيها ،وهو مع خلقه بعلمه وقدرته ،ل منها ،وما ينز ُ
تخفى عليه منهم خافية ،وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الرض ول في
وه ،
السماء ،ول أصغر من ذلك ول أكبر ،فهو – سبحانه – القريب في عل ّ
وه وهو الول والخر والظاهر والباطن . العلي في دن ّ
-10ضحك ربنا سبحانه
دقه ،ولوهو – سبحانه – يضحك متى شاء ،كيف شاء ،نؤمن بذلك ونص ّ
ندري كيفيته ،ولسنا مطالبين بأن ندري .
وقد ثبت في ذلك أخبار صحاح منها :
ن رسول الله صلى الله عليه وسلم -1عن أبي هريرة رضي الله عنه :أ ّ
جلين يقتل أحدهما الخر ،يدخلن الجنة ُ ،يقاتل هذا قال ) :يضحك الله إلى ر ُ
ل ،ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد ( (63) . في سبيل الله فُيقت َ ُ
-2عن أبي هريرة رضي الله عنه :أن رجل ً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال :يا رسول الله ،أصابني الجهد ،فأرسل إلى نسائه ،فلم يجد عندهن
شيئا ً .
) (1/116
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :أل رجل يضيفه الليلة يرحمه الله (
.فقام رجل من النصار ،فقال :أنا يا رسول الله .
ً
فذهب إلى أهله فقال لمرأته :ضيف رسول الله ل تدخريه شيئا .
فقالت :والله ما عندي إل قوت الصبية .
قال :فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ،وتعالي ،فأطفئي السراج ،ونطوي
بطوننا الليلة ،ففعلت .
م غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ) :لقد عجب – عّز وج ّ
ل ث ّ
ل ) :ويؤِثرون على أنفسهم – أو ضحك من فلن وفلنة ( ،فأنزل الله عّز وج ّ
ة ( ] الحشر (64) . [ 9 : ولو كان بهم خصاص ٌ
م يفرغ -3وفي صحيح البخاري من حديث طويل عن أبي هريرة يرفعه ) :ث ّ
الله تعالى من القضاء بين العباد ،ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ،هو
ه قدب اصرف وجهي عن النار ،فإن ّ ُ آخر أهل النار دخول ً الجنة ،فيقول :أي ر ّ
شب َِني ريحها ،وأحرقني ذكاؤها ،فيدعو الله ما شاء أن يدعوه . قَ َ
ثم يقول الله :هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره ؟ فيقول :ل
وعزك ،ل أسألك غيره ،ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء ،فيصرف
الله وجهه عن النار .
بفإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ،ثم يقول :أي ر ّ
ت قد أعطيت عهودك ومواثيقك س َ
دمني إلى باب الجنة ،فيقول الله له :أل ْ ق ّ
ً
ل تسألني غير الذي أعطيت أبدا ،ويلك يا ابن آدم ما أغدرك .فيقول :أي
سأل غيره ؟
عو الله حتى يقول :هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن ت ْ ب ويد ُ
ر ّ
عهود ٍ ومواثيق .
ن ُ
م ْ
طي ما شاَء ِ
فيقول :ل وعّزتك ل أسألك غيره .وي ُعْ ِ
) (1/117
ه الجنة ،فرأى ما تل ُ ق ْفهَ َم إلى باب الجنة ان ْ َجن ّةِ ،فإذا َقا َ
دمه إلى َباب ال َ ق ّ
في ُ َ
م يقول :أي ت ما شاء الله أن يسكت ،ث ّ سك ُ حب َْرةِ والسرور ،فَي َ ْفيها من ال َ
ك ومواثيقك أن ل خلني الجنة ،فيقول الله :ألست قد أعطيت عُُهود َ َ ب أد ْ ِ ر ّ
بطيت .فيقول :ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ،فيقول :أي ر ّ تسأل غير ما أع ِ
ل أكون أشقى خلقك ،فل يزال يدعو حتى يضحك الله منه ،فإذا ضحك الله
منه ،قال :ادخل الجنة ( (65) .
ن الله يقول لهذا وفي رواية عند مسلم في حديث عبد الله بن مسعود :أ ّ
ب أتستهزِ ُ
ئ الرجل ) :أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ فيقول :يا َر ّ
ب العالمين ؟ ( وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مني وأنت ر ّ
ب العالمين حين قال ك َر ّ ح ِفقالوا :مم تضحك يا رسول الله ؟ قال ) :من ض ِ
زئ منك ،ولكني ب العالمين ؟ فيقول :إني ل أسته ِ :أتستهزئ مني وأنت ر ّ
على ما أشاء قادر ( (66) .
--------------------------------
) (1صحيح البخاري بشرحه فتح الباري . 13/381 :
) (2مشكاة المصابيح ، 1/726ورقمه . 2364 :صحيح البخاري ، 3194 :
، 7404وصحيح مسلم . 2751 :
) (3صحيح البخاري . 7405 :وصحيح مسلم . 2675 :
) (4رواه مسلم في صحيحه ،4/2090 :ورقمه . 2726 :
) (5تفسير الطبري :انظر تفسير آية رقم 27 :من سورة الرحمن .
) (6التوحيد ،لبن خزيمة :ص . 21 :
) (7صحيح البخاري بشرحه فتح الباري ، 1/519 :ورقمه ، 425 :وصحيح
مسلم . 1/455
) (8صحيح البخاري . 13/338 :ورقمه . 7406 :
) (9جامع الصول . 4/271 :ورقمه ، 2263 :وإسناده حسن ،كما ذكر
محقق جامع الصول .
) (10رواه أبو داود في سننه ،انظر صحيح سنن أبي داود ، 3/961 :
ورقمه ، 4260 :وقال اللباني فيه :حسن صحيح ،والسماء والصفات ،
للبيهقي . 1/306 :
) (1/118
) (1/119
) (1/120
) (56صحيح البخاري ، 8/66 :ورقمه ، 4351 :وصحيح مسلم ، 2/742 :
ورقمه . 1064 :
) (57رواه مسلم في صحيحه ، 1/382 :ورقم الحديث ، 537 :ورواه أبو
داود في سننه ،انظر صحيح سنن أبي داود ، 1/175 :ورقمه ، 823 :وانظر
، 3/632 :ورقمه . 2809 :
) (58سنن أبي داود ، 4/16 :ورقمه . 3892 :
) (59رواه الترمذي ،انظر صحيح سنن الترمذي ، 2/180 :ورقمه ، 1569 :
وقال الترمذي فيه :حديث حسن صحيح .
) (60رواه مسلم في صحيحه ، 4/2084 :ورقمه . 2713 :
) (61صحيح سنن الترمذي ، 3/92 :ورقمه . 2566 :
) (62رواه أبو داود ، 1/358 :ورقمه ، 1905 :وأصل الحديث في
الصحيحين ،ولكني لم أجد فيهما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم إصبعه
إلى السماء ونكتها إليهم .
) (63رواه البخاري في صحيحه . 6/39 :ورقمه ، 2826 :ورواه مسلم :
. 3/1504ورقمه ، 1890 :واللفظ للبخاري .
) (64رواه البخاري في صحيحه ، 8/631 :ورقمه . 4889 :ورواه مسلم :
. 3/1625ورقمه 2054 :واللفظ للبخاري .
) (65رواه البخاري ، 13/420 :ورقمه . 7437 :
) (66رواه مسلم .1/175 :ورقمه. 187:
جملة من الصفات التي جاءت بها النصوص ) الجزء الثاني (
-12 ، 11نزوله – سبحانه – ومجيئه
عن أبي هريرة رضي الله عنه :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) :
دنيا ،حين يبقى ثلث الليل ينزل ربنا – تبارك وتعالى – كل ليلة إلى سماء ال ّ
الخر ،يقول :من يدعوِني فأستجيب له ،من يسألني فأعطيه ،من
يستغفرني فأغفر له ( (1) .
ن الله يأتي يوم القيامة لفصل القضاء ) هل ينظرون ص القرآن على أ ّ وقد ن ّ
مام ِ والملِئكة وقضى المر ( ] البقرة : ْ
ل من الغَ َ َ ُ
إل ّ أن يأتيهم الله في ظل ٍ
ً
فا ( ً
فا ص ّ ً ً
كت الرض دك ّا دك ّا – وجاء رّبك والملك ص ّ ) ، [ 210كل ّ إذا د ُ ّ
] الفجر . [ 22-21 :
) (1/121
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
) يجمع الله الولين والخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة ،شاخصة
ل من ظل ٍ ل الله في ُ أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء ،وينز ُ
كرسي ( (2) . الغمام ِ من العرش إلى ال ُ
-13كلم الله
والله – سبحانه – يتكلم متى شاء كيف يشاء ،ل يشبه كلمه كلم
المخلوقين ،وقد كلم الله بعض خلقه وكلموه ،منهم نبي الله موسى ) وكّلم
هقات َِنا وكّلم ُ
مي َ
ما جاء موسى ل ِ ِ الله موسى تكليما ً ( ]النساء ) ، [ 164 :ول ّ
رّبه ( ]العراف . [143 :
وقد ذكر لنا الله ما دار بينه وبين موسى ) :قال رب أرني أنظر إليك قال لن
ما تجّلى رّبه تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقّر مكانه فسوف تراني فل ّ
ك تبت إليك وأنا أول حان َ َسب ْ َما أفاق قال ُ للجبل جعله دك ّا ً وخّر موسى صعقا ً فل ّ
سال َِتي وبكلمي فخذ المؤمنين – قال يا موسى إّني اصطفيتك على الّناس ب ِرِ َ
شاكرين ( ] العراف. [144-143 : ك وكن من ال ّ ما آت َي ْت ُ َ
شجرة وأقل وكلم الله آدم وحواء ) وناداهما رّبهما ألم أنهكما عن تلكما ال ّ
ن ( ] العراف . [ 22 : مبي ٌ
شيطان لكما عدوّ ّ ن ال ّّلكما إ ّ
ويكلم الله جبريل ،ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال
ن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا ً رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :إ ّ
ه جبريل ،ثم ينادي جبريل في ب فلنا ً فأحبه ،فُيحب ُ ن الله أح ّ نادى جبريل :إ ّ
ن الله قد أحب فلنا ً فأحبوه ،فيحبه أهل السماء ،ويوضع له أهل السماء :إ ّ
القبول في الرض ( (3) .
وتسمع الملئكة ربهم حين يتكلم ،ففي الصحيح عن أبي هريرة يبلغ به النبي
صلى الله عليه وسلم ،قال ) :إذا قضى الله المر في السماء ضربت
خضعانا ً لقوله ،كأّنه سلسلة على صفوان ،فإذا فّزع عن الملئكة بأجنحتها ُ
قلوبهم قالوا :ماذا قال ربكم ،قالوا :الحقّ ،وهو العلي الكبير ( (4) .
) (1/122
شفاعة عنده وهذا الحديث أورده البخاري تفسيرا ً لقوله تعالى ) :ول تنفع ال ّ
إل ّ لمن أذن له حّتى إذا فُّزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال رّبكم قالوا الحقّ وهو
ي الكبير ( ]سبأ . [ 23 : العل ّ
فقد جعل البخاري هذه الية بابا ً ،ثم قال " :ولم يقل ماذا خلق ربكم " ،
وأورد في هذا الباب ما رواه مسروق عن ابن مسعود معلقا ً موقوفا ً عليه " :
إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا ً ،فإذا فزع عن قلوبهم ،
وسكن الصوت ،عرفوا أنه الحق ،ونادوا :ماذا قال ربكم " .
وأورد حديثا ً معلقا ً يرويه جابر عن عبد الله بن أنيس قال :سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول ) :يحشر الله العباد فيناديهم بصوت ،
ب :أنا الملك أنا الديان ( (5) . يسمعه من ب َعُد َ ،كما يسمعه من قَُر َ
ً
وقال البخاري في كتابه ) خلق أفعال العباد ( معلقا على هذا الحديث " :في
ل ذكره هذا دليل أن صوت الله ل يشبه أصوات الخلق ؛ لن صوت الله ج ّ
ب ،وأن الملئكة يصعقون من صوته " (6) . من ب ُعْد ٍ كما ُيسمع من قُْر ٍ يسمع ِ
ً
ويتكلم الله – سبحانه – بصوت ل يشبه شيئا من أصوات الخلق كما في
الحديث الذي يرويه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :قال
م ،فيقول :لبيك رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :يقول الله يا آد ُ
ن الله يأمرك أن تخرج من أمتك بعثا ً إلى وسعديك ،في َُناِدي بصوت :إ ّ
النار ( (7) .
م يقول للملِئكة وفي يوم القيامة يكلم الملئكة ) ويوم يحشرهم جميعا ً ث ّ
أهؤلء إّياكم كانوا يعبدون – قالوا سبحانك أنت ولّينا من دونهم بل كانوا
مومنون ( ] سبأ . [ 41-40 : ن أكثرهم بهم ّ ج ّ
يعبدون ال ِ
مةٍ فوجا ً ً ً
ويخاطب الكفرة المكذبين مقّرعا ومبكتا ) ويوم نحشر من كل أ ّ
ذبتم بآياتي ولم ؤوا قال أك ّ جا ُب بآياتنا فهم يوزعون – حّتى إذا َ من يكذ ّ ُ م ّ
ّ
ماذا كنتم تعملون ( ] النمل . [ 84-83 : ّ أ ً اعلم بها تحيطوا
) (1/123
ويخاطب الله أهل الجنة ويكلمهم ،فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى
ن الله يقولالله عليه وسلم قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :إ ّ
لهل الجنة :يا أهل الجنة ،فيقولون :لبيك وسعديك والخير في يديك ،
فيقول :هل رضيتم ؟ فيقولون :وما لنا ل نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم
تعط أحدا ً من خلقك .فيقول :أل أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون :يا
م رضواني ،فل أسخ ُ
ط ل من ذلك ؟ فيقول :أحل عليك ُ رب ،وأيّ شيء أفض ُ
عليكم بعدهُ أبدا ً ( (8) .
كلم الله ل يحصى ول يستقصى :
قال الله تبارك وتعالى ) :قل ّلو كان البحر مدادا لكلمات رّبي لنفذ البحر
ً
قبل أن تنفذ كلمات رّبي ولو جئنا بمثله مددا ً ( ] الكهف . [ 109 :
القرآن كلم الله حقيقة :
والقرآن كلم الله حقيقة ل شك في ذلك ،قال تعالى ) :وإن أحد ٌ من
المشركين استجارك فأجره حّتى يسمع كلم الله ( ] التوبة ، [ 6 :وقال
مخّلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نّتبعكم تعالى ) :سيقول ال ُ
م قال الله من قبل ( ] الفتح : ُ َ ّ
دلوا كلم الله قل لن تّتبعونا كذ َل ِك ْ يريدون أن يب ّ
. [ 15
ده من بعده م والبحر يم ّوقال تعالى ) :ولو أّنما في الرض من شجرةٍ أقل ٌ
ما نفذت كلمات الله ( ] لقمان . [ 27 : سبعة أبحرٍ ّ
ً
يقول ابن كثير في تفسير هذه الية ) " : (9يقول الله تعالى مخبرا عن
عظمته ،وكبريائه ،وجلله ،وأسمائه الحسنى ،وصفاته العل ،وكلماته التامة
التي ل يحيط بها أحد ،ول اطلع لبشر على كنهها وإحصائها ،كما قال سيد
البشر ) :ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ( ) (10فقال
ن
م ( ]لقمان [27 :أي :ولو أ ّ تعالى ) :ولو أّنما في الرض من شجرةٍ أقل ٌ
ده سبعة أبحر معه جميع أشجار الرض جعلت أقلما ً ،وجعل البحر مدادا ،وم ّ
ً
سرت ،فكتبت بها كلمات الله تعالى الدالة على عظمته وصفاته وجلله لتك ّ
القلم ،ونفد ماء البحر ،ولو جاء أمثالها مددا ً " .
) (1/124
وقال الحسن البصري " :لو جعل شجر الرض أقلما ً ،وجعل البحر مدادا ً ،
وقال الله تعالى :إن من أمري كذا ،ومن أمري كذا ،لنفد ما في البحور ،
سرت القلم " وصدق الله إذ يقول ) :وما ُأوتيتم من العلم إل ّ قليل ً ( وتك ّ
] السراء . [ 85 :
-14محبة الله
ن الله تعالى يحب أفعال ً معينة ،كما يحب كلما ً جاء في الكتاب والسنة أ ّ
ب بعض خلقه الذين اتصفوا بصفات خاصة بّينها . معينا ً ،ويح ّ
وما أخبرنا بذلك إل لكي نبادر إلى التصاف بما يحّبه من الخلق ،والقيام
بالعمال التي يحبها ،والكثار من ذكر الكلم الذي يحبه ،وبذلك يحبنا سبحانه
وتعالى .
ب المّتقين ( ] التوبة ، [ 4 :ويحب ن الله يح ّ ب المتقين ) :إ ّ والله تعالى يح ّ
ب التوابين ب المحسنين( ] آل عمران ، [ 146 :ويح ّ المحسنين ) :والله يح ّ
ب المتطّهرين ( ] البقرة ، [ 222 : وابين ويح ّ
ب الت ّ ّ ن الله يح ّ والمتطهرين ) :إ ّ
صابرين ( ] آل عمران ، [ 146 :ويحب ب ال ّ ويحب الصابرين ) :والله يح ّ
ب المقسطين ( ] المائدة ، [ 42 :ويحب المتوكلين ن الله يح ّالعادلين ) إ ّ
ب المتوكلين ( ] آل عمران ، [ 159 :ويحب الذين يقاتلون في ن الله يح ّ )إ ّ
ن ً
ب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأّنهم بنيا ٌ ّ ن الله يح ّ ً
سبيله صفا ) :إ ّ
ص ( ]الصف . [4 : مرصو ٌ ّ
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال ) :كلمتان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان
إلى الرحمن ،سبحان الله وبحمده ،سبحان الله العظيم ( (11) .
ب َ
وعن سمرة بن جندب قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :أح ّ
الكلم إلى الله أربع :سبحان الله ،والحمد لله ،ول إله إل الله ،والله أكبر ،
ضّرك بأيهن بدأت ( (12) . لي ُ
خصلتين ُيحبهما الله ن فيك َ وقال صلى الله عليه وسلم لشج عبد القيس ) :إ ّ
م ،والناة ُ ( (13) . :الحل ُ
) (1/125
ب ِلقاء
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :من أح ّ
ب الله لقاءه ُ ،ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ُ ( (14) . الله أح ّ
وجماع العمال والخلق والقوال التي يحبها الله هو ما جاء به الرسول صلى
الله عليه وسلم ،وما اتصف به عليه السلم ،ولذا فقد بّين الله في آية
جامعة أن السبيل إلى محبته هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ) :قل
إن كنتم تحّبون الله فاّتبعوني يحببكم الله( ] آل عمران . [ 31 :
-15-16كراهة الله وبغضه
هناك أعمال ل يحبها الله ،بل يكرهها ويبغضها ،وكراهيته وبغضه – سبحانه –
ب
حق على وجه يليق بذاته الكريمة ،من هذه العمال الفساد ) والله ل يح ّ
ب المفسدين ( ] المائدة [ 64 : الفساد ( ] البقرة ، [ 205 :ولذا فإّنه ) ل يح ّ
.
وجاء في النصوص أّنه ل يحب :الكافرين ،والظالمين ،والمسرفين ،
والمستكبرين ،والمعتدين ،والخائنين ،والفرحين .ول يحب كل مختال فخور
وان أثيم .وفي القرآن ) ولكن كره الله انبعاثهم فثّبطهم ( فار أثيم ،وخ ّ
،وك ّ
] التوبة . [ 46 :
َ
وسبق ذكر الحديث الذي فيه ) :ومن كره ِلقاء الله كره الله لقاءه ُ ( (15) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :
م ( (16) .ص ُ
خ ِ
أبغض الرجال إلى الله اللد ّ ال َ
وعن البراء بن عازب أّنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في
النصار ) :من أحبهم أحبه الله ،ومن أبغضهم أبغضه الله ( (17) .
-17رؤية الله
ل ُيرى الله في الدنيا ،وقد طمع موسى في رؤية الله ،فأخبره رّبه أّنه لن
دنيا ،ول يستطيع ذلك ،بل الجبل القويّ الصلد ل يطيق ذلك يراه في ال ّ
ّ
ما جاء موسى لميقاتنا وكلمه رّبه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ) ول ّ
ّ
ما تجلى رّبه للجبل ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوق تراني فل ّ
صِعقا ً ( ] العراف . [ 143 : جعله دك ّا ً وخّر موسى َ
) (1/126
عرج به وقد اختلف العلماء في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم رّبه حين ُ
ح عن عائشة – إلى السماء ،والصحيح أّنه لم ير رّبه في المعراج ،وقد ص ّ
ن محمدا ً صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها – أنها قالت ) :ومن زعم أ ّ
رأى رّبه فقد أعظم على الله الفرية( (18) .
ن العباد يخلقون خلقا ً جديدا ً ما في الخرة فالمر مختلف ،فإ ّ هذا في الدنيا ،أ ّ
ن الشمس تدنو من رؤوس الناس في يوم القيامة حتى ل يكون ،أل ترى أ ّ
ن
بينها وبينهم إل ميل واحد ،ومع ذلك فل يذوبون ول ينصهرون ! أل ترى أ ّ
الناس بعد البعث والنشور غير قابلين للموت ! بل يدخل الكفار الّنار كلما
ما الموت فل . دلهم الله جلودا ً غيرها ليذوقوا العذاب ،أ ّ
نضجت جلودهم ب ّ
ن أعظم نعيم يعطاه نعم في يوم القيامة يطيق المؤمنون رؤية ربهم ،بل إ ّ
العباد في الجّنة هو النظر إلى وجه ربهم العظيم الكريم سبحانه .
هذا النعيم العظيم يحرمه الكفار ) كل ّ إّنهم عن ّربهم يومئذ ٍ ّلمحجوبون (
سن وجوههم فل يحجبون ، ]المطففين [15 :أما الذين اصطفاهم الله وح ّ
ن البرار لفي ) وجوهٌ يومئذٍ ناضرة ٌ ( ]القيامة [22 :وهؤلء هم البرار ) إ ّ
نعيم ٍ – على الراِئك ينظرون ( ]المطففين ، [23-22 :وهذا النظر إلى وجهه
الكريم هو الزيادة التي ُوعد بها المؤمنون ) لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ]
يونس . [ 26 :
ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ٌ ( ]ق :
ّ لهم ) : الية هذه في المذكور وهو المزيد
. [35
) (1/127
وقد جاءت الحاديث المتواترة مصّرحة بذلك غاية التصريح ،ففي الصحيحين
ن ناسا ً قالوا لرسول الله صلى الله عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه :أ ّ
وسلم :يا رسول الله هل نرى رّبنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله
ن في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ( قالوا :ل ،يا عليه وسلم ) :هل ُتضاّرو َ
ب؟( ن في رؤية الشمس ليس ُدونها سحا ٌ رسول الله ،قال ) :هل ُتضاّرو َ
ُ
قالوا :ل ،يا رسول الله ،قال ) :فإن ّكم ترونه كذلك ( (19) .
ً
وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ،قال ) :كنا جلوسا عند
النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ،فقال ) :إّنكم
ن استطعتم أن ل تغلبوا مون ،فإ ْ سترون ربكم كما ترون هذا القمر ل تضا ّ
على صلة قبل طلوع الشمس ،وصلة قبل غروب الشمس فافعلوا ( (20) .
وفي صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
دون شيئا ً أزيدكم ؟ ل الجنة ،يقول الله تبارك وتعالى :تري ُ قال ) :إذا دخل أه ُ
ن الّنار ؟ ( قال : م َ
جنا ِ
جوهنا ؟ ألم ُتدخلنا الجنة وت ُن ْ ِ ض وُ ُيقولون :ألم ُتبي ْ
ً
ف الحجاب ،فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عّز فيكش ُ
ّ
م َتل هذه الية ) :للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس ) . [ 26 : وج ّ
ل،ث ّ
(21
وفي الصحيحين عن أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال ) :جّنتان من فضة آنيت ُُهما وما فيهما ،وجنتان من ذهب آنيتهما
وما فيهما ،وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى رّبهم إل رداُء الكبرياء على
ن ( (22) . وجهه في جنة عد ٍ
-18علم الله
) (1/128
ونعلم أن الله – سبحانه – متصف بصفة العلم ،وقد سمى نفسه – سبحانه –
سميع العليم (
بعدة أسماء تفيد هذه الصفة ،منها ) العليم ( ) إّنه هو ال ّ
] الشعراء ، [ 220 :ومنها ) :الخبير ( ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن
يكون .ومنها ) الحكيم ( ويختص بأن يعلم دقائق الوصاف .ومنها ) :الشهيد
( ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر .ومعناه أّنه ل يغيب عنه شيء .ومنها
) الحافظ ( ويختص بأّنه ل ينسى ما علم .ومنها ) المحصي ( ويختص بأنه ل
تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ،واشتداد الريح ،وتساقط الوراق ،
فيعلم عند ذلك عدد أجزاء الحركات في كل ورقة .
علمه تعالى شامل للكليات والجزئيات :
ن الله يعلم الكليات ،ول يعلم الجزئيات ،وكذبوا في قولهم ، زعم الفلسفة أ ّ
فعلم الله محيط شامل ل تخفى عليه خافية من الرض ،ول في السماء ،
يعلم كل حركة في بّر أو بحر ،فما من ورقة تسقط من شجرة ،أو حّبة
تندثر في الرمال ،أو نبتة صغيرة تشق الرض ،أو نبتة تيبس أو تموت إل
وعلم الله محيط بها ) ويعلم ما في البّر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إل ّ
ن( مبي ٍس إل ّ في كتاب ّ
ب ول ياب ٍ
ت الرض ول رط ٍ يعلمها ول حب ّةٍ في ظ ُل ُ َ
ما ِ
]النعام . [59 :
وهذه العداد التي ل حصر لها من الدواب ل يخفى على الله منها شيء ) وما
ل في من داب ّةٍ في الرض إل ّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ك ٌ
ن ( ]هود ، [6 :وليس من شيء يصل إلى الرض ،أو يصعد من مبي ٍ
ب ّ
كتا ٍ
ً
الرض إلى السماء إل وقد أحاط الله به علما ) يعلم ما يلج في الرض وما
سماء وما يعرج فيها وهو الّرحيم الغفور ( ] سبأ :يخرج منها وما ينزل من ال ّ
.[2
) (1/129
وهذا النسان ل يخفى على الله منه شيء ،فعلم الله به محيط يعلم عمله
البادي الظاهر ،ويعلم ما استكن في أعماق نفسه ) ،قل إن تخفوا ما في
سماوات صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ( ] آل عمران )، [ 29 :وهو الله في ال ّ
وفي الرض يعلم سّركم وجهركم ( ] النعام ، [ 3 :وهو علم محيط
ن ول ن وما تتلوا منه من قرآ ٍ بالجزئيات من أمور النسان ) وما تكون في شأ ٍ
ل إل ّ ك ُّنا عليكم شهودا ً إذ تفيضون فيه( ] يونس . [ 61 : تعملون من عم ٍ
ي إّنها إن ت َ ُ
ك وانظر إلى هذا العلم الذي ل تفلت منه الذرة الصغيرة ) يا بن ّ
سماوات أو في الرض يأت ل فتكن في صخرةٍ أو في ال ّ مثقال حب ّةٍ من خرد ٍ
ن الله لطيف خبيٌر( ] لقمان . [ 16 : بها الله إ ّ
لقد استوى في علم الله السّر والعلنية ،والصغير والكبير ،والغيب والشهادة
ل شيٍء عنده ل أنثى وما تغيض الرحام وما تزداد وك ّ ) :الله يعلم ما تحمل ك ّ
من أسّر القول شهادة الكبير المتعال – سواٌء منكم ّ بمقدارٍ – عالم الغيب وال ّ
ل وسارب بالّنهار ( ] الرعد . [ 10-8 : ّ
ف ِباللي ْ ِخ ٍ
ست َ ْم ْ
ومن جهر به ومن هو ُ
وصدق الله إذ يقول ) :وما يعزب عن ّرّبك من مثقال ذّرةٍ في الرض ول في
ن ( ] يونس . [ 61 : مبي ٍ سماء ول أصغر من ذلك ول أكبر إل ّ في كتا ٍ
ب ّ ال ّ
-20 ، 19حياته وقيوميته سبحانه
ي ل إله إل ّ هو ( ] غافر [ 65 :وحياته منافية ي حياة أزلية ) هو الح ّ وهو ح ّ
لحياة الحياء من الخلق فكلهم يموت ويفنى ،ول يبقى إل الله سبحانه ) :ك ّ
ل
ن – ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ( ] الرحمن . [ 27-26 : من عليها فا ٍ
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
س
ن والن ُ كان يقول ) :أعوذ بعّزِتك الذي ل إله إل أنت الذي ل يموت والج ّ
يموُتون ( (23) .
ّ
ومن كان كذلك فهو الذي يستحق أن يعتمد عليه ويتوكل عليه ) وتوكل على
ي اّلذي ل يموت ( ] الفرقان . [ 58 : الح ّ
) (1/130
وهو قيوم سبحانه فهو قيوم مقيم لغيره ،وجميع المخلوقات مفتقرة إليه ،
ماء والرض بأمره ( ] الروم : ول قوام لها بدونه ) :ومن آَيات ِهِ أن تقوم الس ّ
. [ 25
جمعه – سبحانه – بين هذين السمين :
وقد جمع – سبحانه – في أكثر من آية بين هذين السمين ) الله ل إله إل ّ هو
ي القّيوم ( ] آل عمران . [ 2 : الح ّ
من تمام حياته وقيوميته :
ومن تمام حياته وقيوميته – سبحانه – أّنه ل ينام ) الله ل إله إل ّ هو الح ّ
ي
م ( ] البقرة ، [ 255 :والسنة :أوائل النوم ، ة ول نو ٌالقّيوم ل تأخذه سن ٌ
والسنة والنوم نقص يتنزه الخالق عنهما ،ففي صحيح مسلم عن أبي موسى
– رضي الله عنه – قال :قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس
ل – ل ينام ،ول ينبغي له أن ينام ،يخفض ن الله – عّز وج ّ كلمات ،فقال ) :إ ّ
القسط ويرفعه ُ ،يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ،وعمل الّنهار قبل
عمل الليل ( (24) .
تمجيده تعالى بذكر حياته وقيوميته :
جد نفسه – سبحانه – بوصف نفسه بالحياة والقيومية ،كما سبق في وقد م ّ
النصوص التي ذكرناها ،وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمجد رّبه
بذكر هذه الصفات ،فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :كان النبي صلى
م لك الحمد ،أنت قيم الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال ) :الله ّ
مْلك السماوات والرض ك ُالسماوات والرض ومن فيهن ،ولك الحمد ُ ،ل َ َ
ومن فيهن ،ولك الحمد ،أنت ُنور السماوات والرض ،ولك الحمد أنت ملك
السماوات والرض (25) . ( ...
-22 ، 21سمعه وبصره – سبحانه وتعالى –
ص القرآن ) ليس كمثله شيٌء وهو وهاتان الصفتان ثابتتان لله تعالى بن ّ
ّ
ن الله يولج الليل في الّنهار سميع البصير( ] الشورى ) ، [ 11 :ذلك بأ ّ ال ّ
ن الله سميع بصيٌر ( ] الحج . [ 61 : ّ
ويولج الّنهار في الليل وأ ّ
وقال لموسى وهارون ) :إّنني معكما أسمع وأرى ( ] طه . [ 46 :
ظم سمع الله وبصره : ع َِ
) (1/131
سماوات والرض أبصر به يقول تعالى ) :قل الله أعلم بما لبثوا له غيب ال ّ
وأسمع ( ]الكهف ، [26 :قال ابن جرير " :وذلك في معنى المبالغة في
المدح كأّنه قيل :ما أبصره وأسمعه ،وتأويل الكلم :ما أبصر الله لكل
موجود ،وأسمعه لكل مسموع ،ل يخفى عليه من ذلك شيء " (26) .
وهو يسمع ويرى الصالحين ،فيثيبهم ) اّلذي يراك حين تقوم -وتقّلبك في
سميع العليم ( ] الشعراء . [ 220-218 : ساجدين – إّنه هو ال ّ
ال ّ
ن ّ ّ
وهو – سبحانه – يرى الطالحين فيجزيهم ) لقد سمع الله قول الذين قالوا إ ّ
ق ونقول ذوقوا الله فقيٌر ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم النبياء بغير ح ٍ
عذاب الحريق ( ]آل عمران . [ 181 :
تقول عائشة – رضي الله عنها – مبينة سعة سمع الله " :الحمد لله الذي
وسع سمعه الصوات " ) ، (27لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول ،فأنزل الله عّز وج ّ
ل ) :قد
سمع الله قول اّلتي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع
ن الله سميع بصير ( ] المجادلة (28) . [ 1 : تحاوركما إ ّ
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الشعري – رضي الله عنه – قال :كّنا
مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ،فكّنا إذا علونا كبرنا ،فقال :
م ول غاِئبا ً ،تدعون سميعا ً بصيرا ًن أص ّ
عو َ
كم ل تد ْ ُم ،فإن ّ ُ
سك ُ ْ
ف ِ
) أرب ُِعوا على أن ُ
قريبا ً ( (29) .
جهل المشركين بنفاذ سمع الله :
) (1/132
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله – رضي الله عنه – قال :اجتمع عند
البيت ) الكعبة ( ثقفيان وقرشي ،أو قرشيان وثقفي ،كثيرة ٌ شحم بطوِنهم ،
ن الله يسمع ما نقول ؟ قال قليلة فقه قلوِبهم ،فقال أحدهم :أترون أ ّ
الخر :يسمع إن جهرنا ،ول يسمع إن أخفينا ،وقال الخر :إن كان يسمع إذا
ل – ) وما كنتم تستترون أن جهرنا فإّنه يسمع إذا أخفينا ،فأنزل الله – عّز وج ّ
ن الله ل يعلم
يشهد عليكم سمعكم ول أبصاركم ول جلودكم ولكن ظننتم أ ّ
ما تعملون ( ] فصلت (30) . [ 22 : كثيرا ً ّ
م ّ
--------------------------------
) (1رواه البخاري . 29 /3:ورقمه . 1145 :ورواه مسلم . 1/521 :ورقمه :
، 758واللفظ للبخاري .
) (2رواه ابن منده ،وقال الذهبي :إسناده حسن ،وصححه جمع من حفاظ
الحديث ونقاده كالحاكم والمنذري والهيثمي .
) (3رواه البخاري ، 13/461:ورقمه . 7458 :ورواه مسلم . 4/2030 :
ورقمه ، 2637 :واللفظ للبخاري .
) (4رواه البخاري ، 13/453 :ورقمه . 7481 :
) (5صحيح البخاري . 13/452 :
) (6خلق أفعال العباد :ص . 149
) (7رواه البخاري ، 13/453 :ورقمه ، 7483 :وانظر . 8/441 :رقم :
، 4741ورواه مسلم ، 1/201 :ورقمه .222 :واللفظ للبخاري .
) (8رواه البخاري ، 13/487 :ورقمه ، 7518 :ورواه مسلم ، 4/2176 :
ورقمه ، 2829 :واللفظ للبخاري .
) (9تفسير ابن كثير . 5/394 :
) (10رواه مسلم ، 1/353 :ورقمه . 486 :
) (11رواه البخاري ، 11/206 :ورقمه ، 1406 :ورواه مسلم . 4/2072 :
ورقمه . 2694 :
) (12رواه مسلم . 3/1685 :ورقمه . 2137 :
) (13رواه مسلم في صحيحه . 1/48 :ورقمه . 17 :
) (14رواه مسلم ، 4/2065 :ورقمه . 2684 :
) (15رواه مسلم . 4/2065:ورقمه . 2684 :
) (16رواه البخاري . 13/180 :ورقمه ، 7188 :ورواه مسلم . 4/2054 :
ورقمه . 2668 :واللد :شديد الخصومة .والخصم :الحاذق بالخصومة .
) (1/133
) (17رواه البخاري ، 7/113 :ورقمه ، 3783 :ورواه مسلم ، 1/85 :
ورقمه . 75 :
) (18رواه مسلم . 1/159 :ورقمه . 177 :
) (19رواه البخاري . 13/419 :ورقمه ، 7437 :ورواه مسلم . 1/163 :
ورقمه . 182 :واللفظ لمسلم .
) (20رواه البخاري . 13/419 :ورقمه . 7434 :
) (21رواه مسلم . 1/163 :ورقمه . 181 :
) (22رواه البخاري . 13/423 :ورقمه . 7444 :ورواه مسلم . 1/163 :
ورقمه . 180 :
) (23رواه البخاري . 13/368 :ورقمه . 7383 :
) (24رواه مسلم . 1/162 :ورقمه . 179 :
) (25رواه البخاري . 3/3 :ورقمه . 1120 :ورواه مسلم . 1/532 :ورقمه
. 799 :واللفظ للبخاري .
) (26تفسير ابن جرير . 15/232 :
) (27رواه البخاري في صحيحه تعليقا ً : 13/372 :وقال ابن حجر في
الفتح " . 13/373 :ووصله أحمد والنسائي وابن ماجه باللفظ المذكور هنا
".
) (28هذه التكملة رواها أحمد والنسائي وابن ماجه ،كما أفاده الحافظ في
الفتح . 13/374 :
) (29رواه البخاري . 13/372 :ورقمه . 7386 :
) (30رواه البخاري . 8/562 :ورقمه . 4817 :
المطلب الثالث
أسماء الله الحسنى )(1
لله تعالى أسماء كلها حسنى ) ولله السماء الحسنى فادعوه بها ( ] العراف
[ 180 :منها ما ذكره الله في سورة الحشر ) هو الله اّلذي ل إله إل ّ هو
شهادة هو الّرحمن الّرحيم – هو الله اّلذي ل إله إل هو الملك عالم الغيب وال ّ
ما
سبحان الله ع ّ سلم المؤمن المهيمن العزيز الجّبار المتكبر ُ دوس ال ّ الق ّ
ُ
يشركون – هو الله الخالق البارئ المصور له السماء الحسنى يسبح له ما
سماوات والرض وهو العزيز الحكيم ( ] الحشر . [ 24-22 : في ال ّ
-1عدد أسمائه
ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم ) :إن لله تسعة وتسعين اسما ً ،مائة إل
واحدا ً ،من أحصاها دخل الجنة ،وإن الله وِت ٌْر ُيح ّ
ب الوْتر ( (2) .
) (1/134
) (1/135
ولم يرد حديث صحيح يسرد هذه السماء سردا ً ل يترك مجال ً للخلف في
تحديدها ،بل وردت هذه السماء متفرقة في كتاب الله وفي سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم ،تذكر الية السم والسمين أو أكثر ،أو تختم الية
بواحد أو أكثر ،وقد تسرد اليات جملة من هذه السماء .
وقد عني العلماء بجمع أسماء الله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم كما عنوا بتفسيرها وشرحها .
فالقرطبي له كتاب ) معاني أسماء الله الحسنى ( ،وقد سردها ابن جرير
الطبري ،وأبو بكر ابن العربي ،وابن حجر العسقلني ،وغيرهم .وقد اتفق
العلماء في عد ّ جملة كبيرة من أسماء الله تعالى ،واختلفوا في جملة قليلة ،
دها من أسمائه تعالى ،ومنهم من نازع في ذلك (5) . فبعضهم ع ّ
ل ما أطلقه القرآن على نك ّ والسبب في هذا الخلف أن بعض العلماء ظن أ ّ
الله – سبحانه – يجوز عده اسما ً ،ويجوز إطلقه مجردا على الله تعالى .
ً
فأبو بكر ابن العربي عد ّ في أسمائه :رابع ثلثة ،وسادس خمسة ،أخذا ً من
سماوات وما في الرض ما يكون ن الله يعلم ما في ال ّ قوله تعالى ) :ألم تر أ ّ
وى ثلثةٍ إل ّ هو رابعهم ول خمسةٍ إل هو سادسهم ( ] المجادلة . [ 7 :
ّ ج َ
من ن ّ ْ
ق ً
كما عد ّ في أسمائه الفاعل والزارع أخذا من قوله ) :كما بدأنا أّول خل ٍ
نعيده وعدا ً علينا إّنا كّنا فاعلين ( ] النبياء . [ 104 :
ََ َ َ
م نحن الّزارعون ( م تزرعونه أ ّ ومن قوله ) :أفََرأي ُْتم ما تحرثون – أأنت ُ ْ
] الواقعة . [64-63 :
والحق أن هذه ليست أسماء لله تعالى ،بمعنى أّنه ل يطلق على الله تعالى
رابع ثلثة ،وسادس خمسة ،والفاعل ،والزارع (6) .
) (1/136
ل – على نفسه على سبيل وقد ورد في القرآن أفعال أطلقها الله – عّز وج ّ
الجزاء والعدل والمقابلة ،وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال ،ولكن ل يجوز
أن يشتق لله تعالى منها أسماء ،ول تطلق عليه في غير ما سبقت فيه من
ن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ( ] النساء [ 142 : اليات كقوله ) :إ ّ
وقوله ) :ومكروا ومكر الله ( ] آل عمران [ 54 :وقوله ) :نسو الله
فنسيهم ( ] التوبة ، [ 67 :وقوله ) :وإذا لقوا اّلذين آمنوا قالوا آمّنا وإذا
ن – الله يستهزئ ست َهْزِ ُ
ؤو َ م ْخلوا إلى شياطينهم قالوا إّنا معكم إّنما نحن ُ
بهم ( ] البقرة . [ 15-14 :
فل يطلق على الله مخادع ،ماكر ،ناس ،مستهزى ،ونحو ذلك مما يتعالى
الله عنه ،ول يقال :الله يستهزى ،ويخادع ،ويمكر ،وينسى ،على سبيل
الطلق .وقد أخطأ الذين عدوا ذلك من أسمائه الحسنى خطأ كبيرا ً ،ل ّ
ن
الخداع والمكر يكون مدحا ً ويكون ذما ً ،فل يجوز أن يطلق على الله إل مقيدا ً
بما يزيل الحتمال المذموم منه كما ورد مقيدا ً في اليات (7) .
ومن أجل ذلك لم يرد في أسمائه تعالى :المتكلم ،المريد ،الفاعل ،الصانع
ن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم .ولو جاز أن يشتق لله من ؛ل ّ
أفعاله أسماء مثل :الماكر ،المخادع ،بحجة إطلق أفعالها في القرآن على
الله لجاز أن يجعل من أسمائه :الداعي ،والتي ،والجائي ،والذاهب ،
والقادم ،والناسي ،والقاسم ،والساخط ،والغضبان ،واللعن ...وغير ذلك
من تلك التي أطلق القرآن أفعالها على نفسه .
فالله لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إل على وجه الجزاء لمن فعل
ذلك بغير حق ،والمجازاة على ذلك تعد ّ حسنة من المخلوق فكيف من
الخالق ؟ .
) (1/137
ومن أسماء الله تعالى ما ل ُيطلق عليه إل مقترنا ً بمقابله ،فإنه إذا أطلق
وحده أوهم نقصا ً ،فمن ذلك :المانع ،الضار ،القابض ،المذل ،الخافض ،
فل تطلق على الله منفردة ،بل يجب قرنها بما يقابلها ،فيقال :المعطي
المانع ،الضاّر النافع ،القابض الباسط ،المعّز المذل ،الخافض الرافع .
ومن ذلك المنتقم ،لم يأت في القرآن إل مضافا ً إلى ) :ذو( كقوله تعالى :
) والله عزيٌز ذو انتقام ٍ ( ] المائدة [ 95 :أو مقيدا ً بالمجرمين ) :إّنا من
المجرمين منتقمون ( ] السجدة . [ 22 :
-3السم العظم
ً
ن لله اسما أعظم أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث أ ّ
له مميزات عن بقية أسمائه سبحانه وتعالى ،فمن هذه الحاديث :
-1عن زبيدة السلمي ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجل ً
م إني أسألك بأنك أنت الله ،ل إله إل أنت ،الحد الصمد ،الذي يقول " :الله ّ
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا ً أحد " ،فقال ) :دعا الله باسمه العظم
عي به أجاب ( .رواه الترمذي وأبو داود ) . الذي إذا سئل به أعطى ،وإذا د ُ ِ
(8
-2وعن أنس قال :كنت جالسا ً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد
ن لك الحمد ،ل إله إل أنت م إني أسألك بأ ّ ورجل يصلي ،فقال " :الله ّ
ي يا
الحنان المنان ،بديع السماوات والرض ،يا ذا الجلل والكرام ،يا ح ّ
مه العظم قيوم ،أسألك " فقال النبي صلى الله عليه وسلم ) :دعا الله باس ِ
ل به أعطى ( .رواه الترمذي وأبو داود وابن سئ َ الذي إذا ُدعي به أجاب ،وإذا ُ
ماجة والدارمي (9) .
-3وفي سنن ابن ماجة عن أبي أمامة :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سور من القرآن الثلث :في ) البقرة ( َ ،و م الله العظم في ُ قال ) :اس ُ
) آل عمران ( ،وَ )طه( .أخرجه ابن ماجة ،والطحاوي في مشكل الثار ،
وابن معين في التاريخ والعلل ،وغيرهم (10) .
) (1/138
-4وقد ورد تحديد آيتي البقرة وآل عمران اللتين ورد فيهما اسم الله العظم
،فقد روى الترمذي ،وأبو داود ،وابن ماجة ،والدارمي عن أسماء بنت يزيد
رضي الله عنها :أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :اسم الله العظم
ه واحد ٌ ل إله إل ّ هو الّرحمن الّرحيم (
في هاتين اليتين ) :وإلهكم إل ٌ
] البقرة [ 163 :وفاتحة ) آل عمران ( ) :الم – الله ل إله إل ّ هو الح ّ
ي
القّيوم ( ] آل عمران (11) . [ 2-1 :
والذي يظهر من المقارنة بين النصوص التي ورد فيها اسم الله العظم أّنه :
) الله ( ،فهذا السم هو السم الوحيد الذي يوجد في جميع النصوص التي
ن اسم الله العظم ورد فيها . قال الرسول صلى الله عليه وسلم إ ّ
جح أن ) الله ( هو السم العظم أنه تكرر في القرآن الكريم ) ومما ُير ّ
(2697سبعا وتسعين وستمائة وألفين ) حسب إحصاء المعجم المفهرس ( ً
ن اسما ً آخر مما يختص بالله وورد بلفظ ) اللهم ( خمس مرات في حين أ ّ
تعالى وهو )الرحمن( لم يرد ذكره إل سبعا ً وخمسين مرة ،ويرجحه أيضا ما
ً
تضمنه هذا السم من المعاني العظيمة الكثيرة .
-4وجوب اليمان بأسمائه
وقد اتفق السلف الصالح على أنه يجب اليمان بجميع أسماء الله الحسنى ،
وما دلت عليه من الصفات ،وما ينشأ عنها من الفعال ،فمثل ً :اسم الله
القدير يجب اليمان بأّنه سبحانه على كل شيء قدير ،واليمان بكمال قدرته
ن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات . ،واليمان بأ ّ
-5كيف يحصي المسلم أسماء الله الحسنى )(12
ورد في الحديث الترغيب بإحصاء أسماء الله الحسنى ،فقد وعد من أحصاها
بدخول الجنة .
واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم " :من أحصاها " .
قال الخطابي يحتمل وجوها :
دها حتى يستوفيها بمعنى أن ل يقتصر على بعضها فيدعو الله أحدها :أن يع ّ
بها كلها ،ويثني عليه بجميعها ،فيستوجب الموعود عليها من الثواب .
) (1/139
سر الحصاء بالحفظ ،وذلك وهذا الوجه هو الذي اختاره البخاري ،فقد ف ّ
لورود رواية أخرى فيها " من حفظها " .
ثانيها :المراد بالحصاء الطاقة ،والمعنى من أطاق القيام بحق هذه السماء
والعمل بمقتضاها ،وهو أن يعتبر معانيها ،فيلزم نفسه بموجبها ،فإذا قال :
" الرّزاق " وثق بالرزق ،وكذا سائر السماء .
ثالثهما :المراد بها الحاطة بجميع معانيها .
وقيل :أحصاها عمل بها ،فإذا قال " :الحكيم " سلم لجميع أوامره
وأقداره ،وأنها جميعها على مقتضى الحكمة .
وقال ابن بطال :طريق العمل بها :
-1ما يسوغ القتداء به كالرحيم والكريم ،فيمرن العبد نفسه على أن يصح
له التصاف بها ،يعني فيما يقوم به .
-2وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم ،فعلى العبد القرار بها ،
والخضوع لها ،وعدم التحلي بصفة منها .
-3وما كان فيها معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة .
-4وما كان فيها معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة .
ن القرآن ل ينفع ن معنى إحصائها حفظها ،والقيام بعبوديتها كما أ ّ والظاهر أ ّ
دين أّنهمحفظ ألفاظه من ل يعمل به ،بل جاء في صفة المّراق من ال ّ
يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم (13) .
-6سرد أسماء الله تعالى
ل ابن حجر العسقلني قد قارب الصواب عندما عد ّ تسعة وتسعين اسما ً ولع ّ
آخذا ً إياها من القرآن الكريم ،وبذلك يوافق حديث أبي هريرة في عددها ،
ونحن نسوقها كما سردها :
-5الرحمن -4 ...الواحد -3 ...الله -2 ...الرب -1 ...الله
-10المؤمن -9 ...السلم -8 ...القدوس -7 ...الملك -6 ...الرحيم
-15الخالق -14 ...المتكبر -13 ...الجبار -12 ...العزيز -11 ...المهيمن
-20الظاهر -19 ...الخر -18 ...الول -17 ...المصور -16 ...البارى
ي -23 ...القيوم -22 ...الحي -21 ...الباطن -25العظيم -24 ...العل ّ
-30الشاكر -29 ...الحكيم -28 ...الواسع -27 ...الحليم -26 ...التواب
) (1/140
) (1/141
وهؤلء الذين أشار إليهم الشيخ قالوا بغير علم ،ونطقوا بأمور لم يأت بها
نص صحيح من كتاب ربنا ،وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وما كان
جة فيه ؛ عمل ً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك فل اعتبار له ،ول ح ّ
ل ليس عليه أمُرنا فهو رد ّ ( . ل عم ٍ ) :كُ ّ
وهذه القوال والدعاءات فتحت الباب للخرافة ،فبذلت الجهود وضاعت
الساعات في سبل خاطئة ،وحصل من ذلك ضلل كبير .
ص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لسم الله العظم والفضيلة التي ن ّ
سئل به أعطى . أنه إذا دعي به أجاب ،وإذا ُ
-8فائدة العلم بهذه السماء
ما الفوائد الحقيقية التي يجنيها المسلم من هذه المعرفة بأسماء الله أ ّ
وصفاته فيمكن أن نوجزها في عدة أمور :
-1التعرف على الله سبحانه وتعالى ،فأسماء الله وصفاته هي أعظم وسيلة
تعرفنا بربنا سبحانه وتعالى ،وبدون ذلك سيبقى اليمان بالله فكرة غامضة ل
صلنا القول في صفاته وأسمائه فيما سبق ،ولله تعطي ثمارا ً طيبة ،وقد ف ّ
الحمد والمنة.
-2تمجيده والثناء عليه بأسمائه وصفاته ،وتمجيد الله بأسمائه وصفاته أعظم
ما نمجد الله به ونثني عليه به ،وهو من أعظم الذكر الذي أمرنا به في
قوله ) :يا أّيها اّلذين آمنوا اذكروا الله ذكرا ً كثيرا ً ( ] الحزاب . [ 41 :
-3دعاؤه بأسمائه وصفاته ،كما قال ) :وللهِ السماُء الحسنى فادعوه بها ( ]
ن
العراف . [ 180 :وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أ ّ
واحدا ً من الصحابة دعا الله باسمه العظم الذي إذا سئل به أجاب .
-4زيادة اليمان :فكلما علم العبد شيئا ً عن الله وصفاته ازداد إيمانه .
-5الشعور بالقوة والثبات ؛ لن العبد يركن إلى القوي القادر الغالب .
-6تعليق القلب بالله ،فالذي يعلم أن الرزق من عند الله يطلب منه الرزق ،
والذي يعلم أن الله جبار يخاف منه ،والذي يعلم أن الله عليم يراقبه …
وهكذا .
) (1/142
-7الجر العظيم الذي نحصله من وراء هذه المعرفة ،فتعلم هذه السماء
والصفات أشرف ما يمكن أن يدرس ،وتعلمها وتعليمها خير عمل يقام به .
نماذج من تمجيد الرسول عليه السلم لربه وثنائه عليه ودعائه له :
أحب أن نسوق نماذج من الكلم النبوي فيه تمجيد وثناء وحمد الله بأسمائه
وصفاته ،ودعاء له بها علوة على ما تقدم :
-1عن أبي هريرة :أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم )) :مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت .
بم الغيب والشهادة ،فاطر السماوات والرض ،ر ّ قال ) :قل :اللهم عال َ
ل شيء ومليكه ،أشهد أن ل إله إل أنت ،أعوذ بك من شر نفسي ،ومن ك ّ
شر الشيطان وشركه ( .رواه الترمذي وأبو داود والدارمي (15) .
-2عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال :كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال ) :رّبنا لك الحمد ُ ،ملُء
ق
ت من شيء بعد ،أهل الثناء والمجد ،أح ّ شئ ْ َ
ما ِملُء َالسماوات والرض ،و ِ
ما قال العبد ُ ،وك ُّلنا لك عبد ٌ ،اللهم ل مانع لما أعطيت ،ول معطي لما منعت
،ول ينفع ذا الجد منك الجد ّ ( (16) .
-3عن ثوبان – رضي الله عنه – قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
م ،ومن َ
ك إذا انصرف من صلته استغفر ثلثا ً ،وقال ) :اللهم أنت السل ُ
السلم ،تباركت يا ذا الجلل والكرام ( (17) .
-4عن ابن عباس :أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند
ش العظيم ، ب العر ِ م ،ل إله إل الله ر ّ
م الحلي ُ الكرب ) :ل إله إل الله العظي ُ
ب العرش الكريم ( (18) . ب الرض ،ر ّ ب السماوات ور ّ ل إله إل الله ر ّ
) (1/143
-5عن سمرة بن جندب قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ب الكلم إلى الله أربعٌ :سبحان الله ،والحمد لله ،ول إله إل الله ،والله ) أح ّ
سبحان الله ، أكبر ،ل يضرك بأيهن بدأت ( وفي وجه آخر ) :أفض ُ
ل الكلم ُ :
والحمد لله ،ول إله إل الله ،والله أكبر ( (19) .
-6وعن أبي هريرة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :كلمتان
ن :سبحان خفيفتان على اللسان ،ثقيلتان في الميزان ،حبيبتان إلى الرحم ِ
ن الله العظيم ( (20) . سْبحا َ
الله وِبحمدِهِ ُ ،
--------------------------------
ً ً
) (1ألف أ .د .عمر الشقر في أسماء الله وصفاته مؤلفا مستقل عنون له بـ
) أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة ( فإن شئت التوسع
في الموضوع فارجع إليه .
) (2رواه البخاري في صحيحه . 11/214 :ورقمه ، 6410ورواه مسلم في
صحيحه ، 4/2062 :ورقمه ، 2677 :واللفظ لمسلم .
) (3رواه أحمد في مسنده ، 1/391 :وعزاه ابن حجر في فتح الباري إلى
أحمد وابن حبان ،فتح الباري . 11/220 :
) (4صحيح مسلم ، 1/353 :ورقمه . 486 :
) (5راجع تلخيص الحبير . 4/172 :
) (6معارج القبول . 1/77 :
) (7معارج القبول . 1/76 :
) (8مشكاة المصابيح ، 1/703 :ورقمه ، 2289 :وحكم محقق المشكاة
على إسناده بالصحة .
) (9مشكاة المصابيح ، 1/704 :ورقمه ، 2290 :وحكم محقق المشكاة
على إسناده بالصحة .
) (10انظر تخريجه في سلسلة الحاديث الصحيحة ،للشيخ ناصر الدين
اللباني ، 2/382ورقمه . 746 :
) (11مشكاة المصابيح ، 1/704 :ورقمه . 2291 :
) (12راجع في هذا الموضوع :معارج القبول . 1/84 :وما بعدها .
) (13يقول أ .د .عمر الشقر :تبين لنا بعد أن توسعنا في دارسة هذا
الموضوع في كتابنا ) أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة ( أن القول
الراجح في معنى ) أحصاها ( :حفظها .
) (14مجموع الرسائل ، 447-444 :والشيخ البنا رحمه الله ذكر هذا منكرا ً
له .
) (1/144
) (1/145
وعد ّ الشيخ هذا ضلل ً ليس بعده ضلل ،لن هذا النافي عمد إلى ما أثبته الله
لنفسه من صفات الكمال والجلل ،فتقدم هذا الجاهل المسكين بين يدي
جبار السماوات والرض قائل ً :هذا الذي وصفت به نفسك ل يليق بك ،
ويلزمه من النقص كذا ،فأنا أؤوله وأنفيه ،وآتي ببدله من تلقاء نفسي ،من
غير أن يستند فيما ذهب إليه إلى كتاب ول سنة .
ومثله في الضلل ذلك الذي أثبت الصفات لله – تبارك وتعالى – ولكنه شبه
صفات الباري بصفات خلقه .
والمفلح الناجي السائر على الصراط المستقيم هو الذي آمن بهذين
الصلين ،ولم يفرق بينهما ،آمن بما أثبته الله لنفسه من الصفات ،ونزهه
في الوقت نفسه عن أن تشبه صفاته صفات خلقه ،فهو مؤمن منزه سالم
من ورطة التشبيه والتعطيل .
دلت على هذا الصل آية من كتاب الله :
ل على هذين الصلين آية من كتاب الله ،هي قوله تعالى ) :ليس وقد د ّ
سميع البصير ( ] الشورى . [ 11 : كمثله شيٌء وهو ال ّ
فالحق يثبت في هذه الية لنفسه السمع والبصر في الوقت الذي يقرر فيه
أنه ليس كمثله شيء ،وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه ل يجوز للخلق أن
ينفوا عن الله سمعه وبصره بدعوى أن المخلوقات الحادثة تملك سمعا ً
وأبصارا ً ،وأن إثبات السمع والبصر لله يؤدي إلى تشبيه الله بمخلوقاته .
إن المعنى الذي تدل الية عليه أن الله يتصف بالسمع والبصر ،وسمع الله
وبصره ل يشبهه شيء من أسماع المخلوقات وأبصارها ،فسمع الله وبصره
يليقان بجلل الله وكماله ،وأسماع المخلوقات وأبصارها تناسب حالهم ،فل
تشابه بين صفات الله وصفات المخلوقات .
) (1/146
والساس الثالث :الذي ترتكز عليه مباحث الصفات – كما يقول الشيخ
ن إدراك حقيقةالشنقيطي – قطع الطماع عن إدراك حقيقة الكيفية ،ل ّ
الكيفية مستحيل .وهذا نص الله عليه في سورة ) طه ( حيث قال ) :يعلم
ما بين أيديهم وما خلفهم ول يحيطون به علما ً ( ] طه [ 110 :فقوله :
) يحيطون ( فعل مضارع ،والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع
ل عند النحويين عن ) مصدر ،وزمن ( . وفعل المر والفعل الماضي ينح ّ
ّ
وقد حّرر علماء البلغة في بحث الستعارة التبعية أّنه ينحل عن ) مصدر ،
وزمن ،ونسبة ( فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ً ) ،فيحيطون ( تكمن
في مفهومها ) الحاطة ( ،فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل ،
ويكون معه كالنكرة المبنية على الفتح ،فيصير المعنى :ل إحاطة للعلم
ب السماوات والرض . البشري بر ّ
فينفي جنس أنواع الحاطة عن كيفيتها ،فالحاطة المسندة للعلم منفية عن
ب العالمين .
ر ّ
وهذا الذي ذكره الشيخ العلمة من استحالة معرفة كيفية الله أو صفاته
ن العقل النساني مهما بلغ من الذكاء وقوة الدراك قاصر منطق سليم ؛ ل ّ
غاية القصور وعاجز نهاية العجز عن معرفة حقائق الشياء .
ن النسان عاجز عن معرفة حقيقة الروح التي تتردد بين جنبيه ،وعاجز عن إ ّ
معرفة حقيقة الضوء الذي هو من أظهر الشياء لديه ،وعاجز عن إدراك
حقيقة المادة ،وحقيقة الذرات التي تتألف منها المادة ،فكيف يطمح إلى
معرفة حقيقة الذات والصفات اللهية ؟
المنحرفون عن المنهج السليم وأسباب انحرافهم
والنحراف عن المنهج السليم في أسماء الله تعالى وصفاته قد جاء من
الخلل بأصل من الصول الثلثة التي ذكرناها ،ونستطيع أن نقسم انحراف
الناس قديما ً وحديثا ً في أسماء وصفاته إلى ثلثة أقسم :
أول ً :انحراف المشركين :
) (1/147
) (1/148
-2وفريق أثبتوا ألفاظ أسمائه دون ما تضمنته من صفات الكمال ،فقالوا :
رحمن رحيم بل رحمة ،حكيم بل حكمة ،قدير بل قدرة ،سميع بل سمع ..
إلخ ،وهؤلء هم المعتزلة .
ً
-3وفريق ثالث :أثبت سبعا من صفات المعاني ،وهي :الحياة ،والعلم ،
والقدرة ،والرادة ،والسمع ،والبصر ،والكلم ،ونفوا ،ما عداها ،وهؤلء
هم الشاعرة (2) .
والمكذبون بأسماء الله وصفاته ،والمشبهون صفاته بصفات خلقه ،والنافون
لسمائه وصفاته – ضللهم واضح ،إذ هم مشاقون لله ورسوله ،مكذبون
للكتاب والسنة ،وأمرهم معلوم ل يحتاج إلى بيان .
ما الذين يحتاج إلى كشف ما في مقالتهم من زيف ،فهم أهل الكلم الذي أ ّ
يزعمون أّنهم ينزهون الله تعالى عن مشابهة المخلوقين ،وبهذا ينفون
صفات الله تعالى التي وردت في الكتاب والسنة ،بحجة أّنها توهم التشبيه ،
وليجؤون في سبيل ذلك إلى تأويل هذه الصفات تأويل ً يصرفها عن معانيها
الحقة (3) .
--------------------------------
) (1راجع :منهج ودراسات ليات السماء والصفات ،للشيخ محمد المين
الشنقيطي رحمه الله .
) (2لم يذهب أبو الحسن الشعري رحمه الله هذا المذهب كما سيأتي ذكر
معتقده في صفات الباري تبارك وتعالى .
) (3حاول بعض المعاصرين كالشيخ حسن البنا والشيخ حسن أيوب وغيرهما
أن يهونوا من خطيئة هؤلء الذين عرفوا باسم )الخلف( ،وأن يقربوا بين
ن الحقيقة التي يجب أن تدرك أن مذهب وجهة نظر السلف والخلف ،ولك ّ
الخلف الزاعمين أن ظاهر الصفات غير مراد المؤولين لها مذهب بعيد عن
الصواب ،ول لقاء بينه وبين مذهب السلف .ول يشفع لبعض الخلف حسن
نيتهم ،فحسن النية ل يجعل الباطل حقا ً .
المطلب الخامس
أقسام الصفات عند علماء الكلم ) الجزء الول (
) (1/149
بين الشيخ العلمة محمد المين الشنقيطي – رحمه الله تعالى – منهج علماء
الكلم في تقسيماتهم لصفات الله تعالى ،وبيان ما أثبتوه منها وما نفوه ،
وما وقعوا فيه من أخطاء ومغالطات ،ثم بّين دللة القرآن على اتصاف الله
بهذه الصفات ،وعدم جواز نفيها عن الله بحجة أن المخلوقين يتصفون بها ؛
ن صفات الله لئقة بجلله وصفات المخلوقين مناسبة لعجزهم . ل ّ
ن المتكلمين الذين خاضوا في الكلم ،وجاؤوا بأدلة يسمونها فقد بّين الشيخ أ ّ
أدلة عقلية ،ركبوها في أقيسة منطقية ،قسموا صفات الله إلى ستة أقسام
هي :
-3صفة معنوية -2 ... .صفة معنى -1 ... .صفة نفسية .
-6صفة جامعة -5 ... .صفة سلبية -4 ... .صفة فعلية .
أما الصفات الضافية ،فقد جعلوها أمورا ً اعتبارية ل وجود لها في الخارج ،
وسببوا بذلك إشكالت عظيمة .
محاكمة المنهج الكلمي إلى الكتاب والسنة
بين الشيخ الشنقيطي – رحمه الله تعالى – ما جاء في القرآن العظيم من
ل وعل – بتلك الصفات ،ووصف المخلوقين بتلك وصف الخالق – ج ّ
ن
ن صفة خالق السماوات والرض حق ،وأ ّ الصفات ،وبيان القرآن العظيم أ ّ
صفة المخلوقين حقّ ،وأنه ل مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق ،
فصفة الخالق لئقة بذاته ،وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وافتقاره ،وبين
الصفة والصفة من الفرق كمثل ما بين الذات والذات .
صفات المعاني عند المتكلمين
وبين الشيخ أن صفات المعاني عند علماء الكلم سبع صفات فقط ،وينكرون
ما عدا هذه السبع .
ل على معنى وجودي قائم وضابط صفة المعنى عند علماء الكلم :ما د ّ
بالذات .
) (1/150
) (1/151
) (1/152
ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال ) :وبشروه بغلم ٍ عليم ٍ ( ]الذاريات :
علم ٍ ّلما عّلمناه ( ] يوسف . [ 68 :
) ،[28وإّنه لذو ِ
ً ً ً ً
ول شك أن للخالق – جل وعل – علما حقيقي ّا لئقا بكماله وجلله محيطا بكل
شيء .كما أن للمخلوقين علما ً مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ،
وبين علم الخالق وعلم المخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات
الخالق وذات المخلوق .
ل وعل – بالكلم ،قال ) :وكّلم الله موسى تكليما ً ( -7ووصف نفسه – ج ّ
جرهُ حّتى يسمع كلم الله ( ] التوبة . [ 6 : ]النساء ) ، [164 :فأ ِ
ما كّلمه قال إّنك اليوم لدينا مكين ووصف بعض المخلوقين بالكلم قال ):فل ّ
ن ( ] يوسف ) ، [ 54 :وتكّلمنا أيديهم ( ] يس . [ 65 :ول ش ّ
ك أن أمي ٌ
للخالق تعالى كلما ً حقيقيا ً يليق بكماله وجلله ،كما أن للمخلوقين كلما ً
مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ،وبين كلم الخالق وكلم
المخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق .
الكلم على الصفات السلبية عند المتكلمين
بين الشيخ الشنقيطي – رحمه الله تعالى – ضابط الصفة السلبية عند
المتكلمين فقال :هي الصفة التي دلت على عدم محض .والمراد بها أن
تدل على سلب ما ل يليق بالله عن الله ،من غير أن تدل على معنى وجودي
قائم بالذات .
ً
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمسا ل سادس لها ،وهي عندهم :
القدم ،والبقاء ،والمخالفة للخلق ،والوحدانية ،والغنى المطلق الذي
يسمونه القيام بالنفس ،الذي يعنون به الستغناء عن الحيز والمحل .
-2 ، 1القدم والبقاء :
ونبه الشيخ رحمه الله تعالى إلى أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون
ل وعل – زاعمين أنه وصف بهما نفسه هما المرادان بقوله بهما الله – ج ّ
ل والخُر ( ] الحديد . [ 3 : تعالى ) :هو الوّ ُ
) (1/153
والقدم عندهم عبارة عن سلب العدم السابق ،إل أنه عندهم أخص من الزل
،لن الزل عبارة عما ل افتتاح له ،سواء أكان وجوديا ً كذات الله وصفاته ،
أو عدميا ً ،والقدم عندهم عبارة عما ل أول له ،بشرط أن يكون وجوديا ً ،
كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلل .
ّ
وبين الشيخ – رحمه الله – أن الله – عّز وجل – وصف المخلوقين بالقدم ،
ن
جو ِ قال ) :قالوا تالله إّنك لفي ضللك القديم ( ] يوسف ) ، [ 95 :كالُعر ُ
م القدمون ( ]الشعراء . [76 : القديم ( ] يس ) ، [ 39 :أنتم َوآَباؤُك ُ ُ
ووصف المخلوقين بالبقاء قال ) :وجعلنا ُذرّيته هم الباقين ( ] الصافات 77 :
ق ( ] النحل [ 96 :ول شك أن ما وصف [ ) ،ما عندكم ينفد ُ وما عند الله با ٍ
به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به الخالق .
وصف الله بالقدم والبقاء لم يرد في الكتاب والسنة :
وبين الشيخ – رحمه الله – تعالى أن الله لم يصف في كتابه نفسه بالقدم ،
وبعض السلف كره وصفه بالقدم ؛ لنه قد يطلق مع سبق العدم ،نحو
) كالعرجون القديم ( ]يس ) ، [39 :إّنك لفي ضللك القديم ( ]يوسف [95 :
م القدمون ( ]الشعراء . [76 : ) ،أنتم َوآَباؤُك ُ ُ
وقد زعم بعضهم أنه جاء فيه حديث ،وبعض العلماء يقول :هو يدل على
وصفه بهذا ،وبعضهم يقول :لم يثبت .
ُ
أما الولية والخرية التي نص عليهما في قوله ) :هو الوّل والخُر ( ] الحديد:
، [3فقد وصف المخلوقين أيضا ً بالولية والخرية ،قال ) :ألم ُنهلك الّولين
ن ( ] المرسلت . [ 17-16 :ول شك أن ما وصف الله به ري َ
خ ِ – ثُ ّ
م نتبعهم ال ِ
نفسه من ذلك لئق بجلله وكماله كما أن للمخلوقين أوليه وآخرية مناسبة
لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم .
-4 ، 3الوحدانية والغنى بالنفس :
ه واحد ٌ ( ] البقرة [ 163 :ووصف وصف نفسه بأنه واحد ،قال ) :وإلهكم إل ٌ
بعض المخلوقين بذلك ،قال ُ ) :يسقى بماٍء واحد ٍ ( ] الرعد . [ 4 :
) (1/154
ن الله لغني ووصف نفسه بالغنى ) إن تكفروا أنتم ومن في الرض جميعا ً فإ ّ
ي حميد ٌ ( حميد ( ]إبراهيم ) ، [8 :فكفروا وتوّلوا ّواستغنى الله والله غن ّ
] التغابن [ 6 :ووصف بعض المخلوقين بذلك ،قال ) :ومن كان غني ّا ً
من َفضل ِهِ ( ] النور م الله ِ فف ( ] النساء ) ، [6 :إن يكونوا فقراء ُيغنه ُ
فليستع ِ
. [ 32 :
فهذه صفات السلب ،جاء في القرآن وصف الخالق ووصف المخلوق بها .
ول شك أن ما وصف به الخالق منها لئق بكماله وجلله ،وما وصف به
المخلوق مناسب لحاله وعجزه وفنائه وافتقاره .
تحقيق القول في الصفات المعنوية
ثم تكلم الشيخ على ما أسماه علماء الكلم بالصفات السبع المعنوية التي
هي كونه تعالى قادرا ً ومريدا ً وعالما ً وحيا ً وسميعا ً وبصيرا ً ومتكلما ً ،وبين أن
حقيقتها هي كيفية التصاف بالمعاني السبعة التي ذكرنا .
دها من المتكلمين عدها بناء على ثبوت ما يسمونه الحال المعنوية ومن ع ّ
التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية ،ل معدومة ول موجودة .
ولم يرتض الشيخ إثبات هذا النوع من الصفات ،فقال " :والتحقيق أن هذه
خرافة وخيال ،وأن العقل الصحيح ل يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة
ألبتة ،فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعا ً ،وكل ما ليس بمعدوم فهو
موجود قطعا ً ،ول واسطة ألبتة ،كما هو معروف عند العقلء " .
صفات الفعال
ثم تكلم الشيخ على صفات الفعال ،فقال :وهذه صفات الفعال جاء في
القرآن كثيرا ً وصف الخالق بها ووصف المخلوق بها ،ول شك أن ما وصف به
الخالق منها مخالف لما وصف به المخلوق ،كالمخالفة التي بين ذات الخالق
وذات المخلوق ،ومن هذه الصفات :
) (1/155
) (1/156
) (1/157
طودِ ق كال ّ ل ِفر ٍووصف بعض المخلوقين بالعظم قال ) :فانفلق فكان ك ُ ّ
العظيم ( ]الشعراء ) ، [63 :إّنكم لتقولون قول ً عظيما ً ( ] السراء ، [ 40 :
م ( ] النمل [ 23 :ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال : ) ولها عرش عظي ٌ
ً
ق علي ّا () ورفعناه مكانا ً علي ّا ( ] مريم ) ، [ 57 :وجعلنا لهم لسان صد ٍ
ً
مغفرةٌ وأجٌر كبيٌر ( ] ] مريم . [ 50 :ووصف بعض المخلوقات بالكبر ) :لهم ّ
هود ) ، [ 11 :بل فعله كبيرهم هذا ( ] النبياء . [ 63 :
ول شك أن ما وصف الله به نفسه من هذه الصفات الجامعة كالعلو والكبر
ل وعل والعظم مناف لما وصف به المخلوق منها ،كمخالفة ذات الخالق – ج ّ
– لذات المخلوق ،فل مناسبة بين ذات الخالق وذات المخلوق ،كما ل
مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق .
-4صفة الملك :
سماوات وما في الرض ّ ال في ما لله ح
ّ ُ ب يس ) : قال ، بالملك ووصف نفسه
مقتدر ( ك ّ ق عند ملي ٍ دوس ( ] الجمعة ) ، [ 1 :في مقعد صد ٍ الملك الق ّ
] القمر . [ 55 :
تك إّني أرى سبع بقرا ٍ ووصف بعض المخلوقين بالملك ،قال ) :وقال المل ُ
ن ( ] يوسف ) ، [ 43 :وقال الملك ائتوني به ( ] يوسف ، [ 50 : سما ٍ
ل سفينةٍ غصبا ( ] الكهف ) ، [ 79 :تؤتي الملك ً ك يأخذ ك ّ ) وكان وراءهم مل ٌ
من تشاء ( ] آل عمران . [ 26 : من تشاء وتنزعُ الملك م ّ
ً ً ً
ك أن لله – جل وعل – ملكا حقيقيا لئقا بكماله وجلله ،كما أن ول ش ّ
للمخلوقين ملكا مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم .
-6 ، 5صفة الجبروت والكبرياء :
ووصف نفسه بأنه جبار متكبر في قوله ) :العزيز الجّبار المتكبر ( ] الحشر :
[ 23ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال ) :كذلك يطبع الله على
كل قلب متكبر جّبارٍ ( ] غافر ) ، [ 35 :وإذا بطشتم بطشتم جّبارين (
] الشعراء ) ، [ 130 :أليس في جهّنم مثوىً للمتكبرين ( ] الزمر [ 60 :
ل جّبارٍ عنيد ٍ ( ]إبراهيم . [15 : ) واستفتحوا وخاب ك ّ
) (1/158
) (1/159
ن -2 ، 1صفة الرأفة والرحمة :وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم ،قال ) إ ّ
م ( ] النحل . [ 7 :ووصف بعض المخلوقين بذلك ،فقال ف ّرحي ٌ
كم لرؤو ٌ رب ّ ُ
ل من أنفسكم في وصف نبينا صلوات الله وسلمه عليه ) :لقد جاءكم رسو ٌ
م ( ] التوبة . [ 128 : ف رحي ٌعزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤو ٌ
-3صفة الحلم :وصف نفسه – سبحانه – بالحلم ،قال ) :ليدخلّنهم مدخل ً
ن الله يعلم ما في م ( ] الحج ) [ 59 :واعلموا أ ّ ن الله لعليم حلي ٌيرضونه وإ ّ
م ( ] البقرة ) ، [ 235 :قو ٌ
ل ن الله غفور حلي ٌ أنفسكم فاحذروه واعلموا أ ّ
ف ومغفرة خيٌر من صدقةٍ يتبعها أذى والله غني حليم ( ] البقرة 263 : معرو ٌ
[.
شرناه بغلم ٍ حليم ٍ ( ]الصافات : ووصف بعض المخلوقين بالحلم ،قال ) :فب ّ
م ( ] التوبة . [ 114 :ن إبراهيم لّواه حلي ٌ ) ، [101إ ّ
ن الله ّ إ ) : فقال ، بالمغفرة – سبحانه – نفسه وصف : المغفرة -4صفة
ب من يشاء ( م ( ] البقرة ) ، [ 173 :فيغفر لمن يشاء ويعذ ّ ُ غفوٌر رحي ٌ
] البقرة . [ 284 :
ن ذلك لمن ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة ،قال ) :ولمن صبر وغفر إ ّ
ف ومغفرة ( ] البقرة : معرو ٌ عزم المور ( ] الشورى ) ، [ 43 :قو ٌ
ل ّ
) ، [ 263قل ل ّّلذين آمنوا يغفروا لّلذين ل يرجون أّيام الله ( ] الجاثية [ 14 :
.
ول شك أن ما وصف به خالق السماوات والرض من هذه الصفات حق لئق
بكماله وجلله ل يجوز أن ينفى خوفا ً من التشبيه بالخلق ،وأن ما وصف به
الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم .
حال النافين لصفات الكمال والجلل
وبعد أن بين الشيخ ما في منهج علماء الكلم من خلل ،وفصل القول في
المنهج القرآني اليماني الذي كشف الحق وأنار الدرب ختم كلمه قائل ً :
) (1/160
ل وعل " وعلى كل حال فل يجوز للنسان أن يتنطع إلى وصف أثبته الله – ج ّ
ب السماوات والرض ، – لنفسه فينفي هذا الوصف عن الله متهجما ً على ر ّ
مدعيا ً عليه أن هذا الوصف الذي تمدح به نفسه أنه ل يليق به ،وأنه ينفيه
عنه ،ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص ،فهذا جنون وهوس ،ول يذهب إليه
إل من طمس الله بصائرهم " .
صفة الستواء صفة كمال ل صفة نقص
ولبيان عظم جناية علماء الكلم على صفات الباري ضرب الشيخ الشنقيطي
– رحمه الله – مثل ً بصفة عظيمة من صفاته هي صفة الستواء ،فقال :
فهذه صفة الستواء التي كثر فيها الخوض ،ونفاها كثير من الناس بفلسفة
منطقية ،وأدلة جدلية أبطلوا بها الحق ،وأحقوا بها الباطل ،قد تجرأ اللف
ب السماوات والرض بأدلة منطقية . ممن يدعون السلم فنفوها عن ر ّ
فيقولون مثل ً :لو كان مستويا ً على عرشه لكان مشابها للخلق ،لكنه غير
ً
مشابه للخلق ،فينتج أنه غير مستو على العرش .وهذه النتيجة باطلة
لمخالفتها صريح القرآن .
وبين الشيخ – رحمه الله – أن صفة الستواء صفة كمال وجلل ،تمدح بها
رب السماوات والرض نفسه ،والقرينة على أنها صفة كمال وجلل أن الله
ما ذكرها في موضع من كتابه إل مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلله
وكماله ،التي هي منها ،ثم استعرض النصوص التي وردت فيها هذه الصفة
للتدليل على صحة ما قرره :
-1أول سورة ذكر الله فيها صفة الستواء حسب ترتيب المصحف سورة
سماوات والرض في سّتة أ ّ ٍ
م يا ن رّبكم الله اّلذي خلق ال ّ العراف ،قال ) :إ ّ
شمس والقمر م استوى على العرش يغشي الّليل الّنهار يطلبه حثيثا ً وال ّ ثُ ّ
ب العالمين (خرات بأمره أل له الخلق والمر تبارك الله ر ّ والّنجوم مس ّ
] العراف ، [ 54 :فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه الصفات الدالة على
الجلل والكمال ؟
) (1/161
ن رّبكم الله اّلذي خلق -2الموضع الثاني في سورة يونس ،قال ) :إ ّ
سماوات والرض في سّتة أّيام ٍ ثم استوى على العرش يدبر المر ما من ال ّ
ّ
شفيع إل من بعد إذنه ذلكم الله رّبكم فاعبدوه أفل تذكرون – إليه مرجعكم ّ
م يعيده ليجزي اّلذين آمنوا وعملوا ُ
قا ً إّنه ي َب ْد َأ الخلق ث ّ
جميعا ً وعد الله ح ّ
ب من حميم ٍ وعذاب أليم بما كانوا صالحات بالقسط واّلذين كفروا لهم شرا ٌ ال ّ
دره منازل لتعلموا ً ّ
يكفرون – هو الذي جعل الشمس ضياًء والقمر نورا وق ّ ّ
ل اليات لقوم ٍ يعلمون عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إل ّ بالحق يفص ُ
ت
سماوات والرض ليا ٍ ن في اختلف اّلليل والّنهار وما خلق الله في ال ّ –إ ّ
لقوم ٍ يّتقون ( ]يونس . [6-3 :
فهل لحد أن ينفي شيئا ُ من هذه الصفات الدالة على هذا الكمال والجلل ؟
ل وعل ) : -الله اّلذي -3الموضع الثالث في سورة الرعد ،في قوله – ج ّ
شمس خر ال ّ
م استوى على العرش وس ّ سماوات بغير عمدٍ ترونها ث ّ رفع ال ّ
مى يدبر المر يفصل اليات لعّلكم بلقاء ربكم ل مس ّ والقمر ك ّ
ل يجري لج ٍ
ً ّ
توقنون – وهو الذي مد ّ الرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات
ت لقوم ٍ يتفكرون –ن في ذلك ليا ٍ جعل فيها زوجين اثنين ُيغشي اّلليل الّنهار إ ّ
ن وغير
ل صنوا ٌ ب وزرعٌ ونخي ٌ
ت من أعنا ٍ ت وجّنا ٌمتجاورا ٌ
وفي الرض قطعٌ ّ
ن في ذلك ن ُيسقى بماٍء واحدٍ ونفضل بعضها على بعض في الكل إ ّ صنوا ٍ
ت لقوم ٍ يعقلون ( ] الرعد ، [ 4-2 :فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه ليا ٍ
الصفات الدالة على الجلل والكمال ؟
) (1/162
) (1/163
) (1/164
وإن قلتم :إن الغضب غليان دم القلب لطلب النتقام ،فكذلك يقال :الرادة
ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة ،فإن قلتم :هذه إرادة مخلوق ،
قلنا :هذا غضب مخلوق .
ب -الذين يثبتون السماء وينفون الصفات ،فيقولون حي بل حياة ،عليم بل
علم ...الخ .
فهؤلء يقال لهم :ل فرق بين إثبات السماء ،وإثبات الصفات ،فإنك إن
قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لنا ل نجد
متصفا ً بالصفات إل وهو جسم ،قلنا :وكذلك في السماء ،إذ ل نجد ما هو
مسمى بحي وعليم وقدير إل ما هو جسم ،فانف أسماء الله ،فإن قالوا :
هذه السماء تليق بكماله وجلله ،قلنا :وكذلك صفاته .
ج -الذين ينفون السماء والصفات ،فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى ل يشبهوا
الله بالموجودات ،فيقال لهم :نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي
خشية أن تشبهوه بالموجودات ،ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله
بالمعدومات .
القاعدة الثانية :القول في الصفات كالقول في الذات ): (2
فالله – سبحانه – له ذات ل تشبه ذوات المخلوقين ،وكذلك صفاته وأفعاله ل
تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم .
إذ يلزم من أقر بأن الله حقيقة ثابتة في نفس المر مستوجبة لصفات
الكمال ل يماثلها شيء أن يقول :إن سمعه وبصره وكلمه الثابت في نفس
المر ل يشابهه سمع المخلوقين ول بصرهم ول كلمهم .
فإن قال قائل :أنا أنفي استواء الله خشية من تشبيه الله بخلقه ،فيقال له :
انف وجود الله وذاته ،لنه يلزم من ذلك تشبيه الله بخلقه ،فإن قال :لله
وجود يخصه ،وذات تخصه ل تشبه ذوات المخلوقين ،قلنا :وكذلك نزوله
واستواؤه .
القاعدة الثالثة :التفاق في السماء ل يقتضي التساوي في المسميات :
) (1/165
فإننا نعلم أن ما أخبرنا الله تعالى به مما في الجنة من لبن وعسل وخمر حق
،وهذه الحقائق وإن كانت موافقة في السماء للحقائق الموجودة في الدنيا
فإنها ل تماثلها ،بل بينها وبين ما في الدنيا من المباينة ما ل يعلمه إل الله
تعالى ،فالخالق أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ،بل
قد تسمي في الدنيا عدة أشياء باسم واحد ،ويكون لكل واحد حقيقة تخصه ،
فإننا نقول مثل ً :يد الجمل ،ويد الباب ،ويد النسان ،واليد في كل لفظة
من اللفاظ الثلثة لها معنى يخصها .
القاعدة الرابعة :ل يوصف الله بالنفي المحض :
أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه أسماء وصفات ،ونفى عن نفسه أسماء
وصفات .
والثبات والنفي في أسمائه وصفاته مجمل ومفصل ،فالثبات المجمل يكون
بإثبات الثناء المطلق ،والحمد المطلق ،والمجد المطلق لله تعالى ،ونحو
ب العالمين ( ] الفاتحة ، [ 2 :وقوله ذلك كما يشير إليه قوله ) :الحمد لله ر ّ
) :ولله المثل العلى ( النحل . [60 :
وأما التفصيل في الثبات فهو متناول لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب
والسنة .
ل – كل ما يضاد كماله من والنفي المجمل يكون بأن ينفي عن الله – عّز وج ّ
أنواع العيوب والنقائص مثل قوله ) :ليس كمثله شيء ( ] الشورى [ 11 :
سمي ّا ً ( ] مريم . [ 65 :
وقوله ) :هل تعلم له َ
وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه الله عن كل واحد من هذه العيوب
والنقائص بخصومه ،فينزه عن الوالد والولد والشريك والصاحبة والند
والجهل والعجز والسنة والنوم والعبث ...إلخ .
) (1/166
إل أن منهج القرآن في النفي أن ل ينفي نفيا ً محضا ً ،فل ينفي القرآن صفة
نقص عن الله إل إذا كانت متضمنة صفة مدح وكمال ،فل ينفي نفيا ً مجردا ً ،
ي القّيوم ل كما تفعل بعض الفرق ) ، (3فقوله تعالى ) :الله ل إله إل ّ هو الح ّ
ذي يشفع سماوات وما في الرض من ذا ال ّ م ّله ما في ال ّ
ة ول نو ٌ
تأخذه ُ سن ٌ
عنده إل ّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ول يحيطون بشيٍء من علمه إل ّ
ؤود ُه ُ حفظهما ( ] البقرة 255 : سماوات والرض ول ي َ ُ بما شاء وسع كرسّيه ال ّ
[ فيه نفي السنة والنوم عن الله تعالى ،ونفيهما يتضمن كمال الحياة والقيام
،فمن كمال حياته :أل تأخذه سنة ) وهي أوائل النوم ( ول نوم ،وقوله ):ول
ؤود ُه ُ حفظهما ( ]البقرة [255 :مستلزم لكمال قدرته وتمامها ،إذ المعنى يَ ُ
) ل يكرثه ول يثقله ( .
سماوات ول في الرض ( ومثل ذلك قوله ) :ل يعزب عنه مثقال ذّرةٍ في ال ّ
]سبأ [3:فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والرض .
سماوات والرض وما بينهما في سّتة أيام ٍ وما وكذلك قوله ) :ولقد خلقنا ال ّ
ب ( ] ق [ 38 :فإن نفي اللغوب ) وهو التعب والعياء ( دل سنا من ّلغو ٍ
م ّ
على كمال القدرة ونهاية القوة .وكذلك قوله ) :ل ّ ُتدركه البصار (
] النعام [ 103 :أي :ل تحيط به البصار فهو وإن رئي في الخرة ،ولكنه
لعظمته – سبحانه – ل تحيط به البصار .
وكذلك كل ما نفاه الله عن نفسه ،فإنه يستلزم صفة ثبوتية يمدح الله بها .
ولم يصف الله نفسه بنفي محض ل يستلزم صفة ثبوتية ،وبذلك يتضح أن
الذين يتجهون إلى الكثار من النفي ) أو ما يسمونه السلوب ( أخطؤوا ؛ لن
النفي ليس فيه مدح ول كمال ما لم يتضمن إثباتا ً ؛ لن النفي المحض عدم
محض ،والعدم المحض ليس بشيء .
) (1/167
وقد أكثر المبتدعون من النفي المحض فقالوا :ل يتكلم ،ول يرى ،وليس
فوق العالم ،وغل بعضهم فقالوا :ليس بداخل العالم ول خارجه ،ول مباينا ً
للعالم ،ول مخالطا ً له ...إلى آخر هذا الكلم الغث الذي يجعلون الله به
عدما ً ...تعالى وتقدس .
القاعدة الخامسة :اللفاظ الموهمة حقا ً وباطل ً ): (4
الصفات التي وردت في الكتاب والسنة حق يجب اليمان بها ،وإن لم نفقه
معناها .
أما ما يطلقه الناس على الله – سبحانه – مما لم يرد في الكتاب والسنة مما
يتنازع فيه الناس فل نثبته ول ننفيه حتى نتبين مراد قائله منه .
فمثل ً يقال لمن نفى الجهة :ماذا تعني بالجهة ؟ إن كنت تعني أن الله في
داخل جرم السماء ،وأن السماء تحويه ،فل يجوز أن نقول :إن الله في
جهة ،وإن كنت تريد أن الله فوق مخلوقاته فوق السماوات فهذا حق .
ً
وكذلك التحيز ،إن كان المراد أن الله تحوزه المخلوقات فهذا باطل قطعا ،
وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات ،أي :مباين لها فهذا حق .
القاعدة السادسة :التعطيل سببه اعتقاد التشبيه أو ل :
) (1/168
وقد وضح هذه القاعدة العلمة الشيخ محمد المين الشنقيطي رحمه الله
تعالى ،وبين أن أصل البلء وأسه هو تنجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار
التشبيه ،فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات
الكمال ،التي أثنى الله بها على نفسه ،كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث
الليل الخير ،وكاستوائه على عرشه ،وكمجيئه يوم القيامة ،وغير ذلك من
صفات الجلل والكمال ،فإن أول ما يخطر في ذهنه أن هذه الصفة تشبه
در الله حق قدره ،صفة الخلق ،فيكون قلبه متنجسا ً بأقذار التشبيه ،ل يق ّ
ول يعظم الله حق عظمته ،حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة
المخلوق ،فيكون أول نجس القلب متقذرا ً بأقذار التشبيه ،فيدعوه شؤم هذا
ل وعل – عنه ،بادعاء أنها تشبه صفات التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق – ج ّ
المخلوق ،فيكون أول ً مشبها ً ،وثانيا ً معطل ً ،فصار ابتداء وانتهاءً متهجما ً على
رب العالمين ،ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة ل تليق به .
وذكر الشيخ – رحمه الله تعالى – قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من
أهل العلم .وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ل يجوز في حقه تأخير
البيان عن وقت الحاجة ،ول سيما في العقائد .ولو مشينا على فرضهم
الباطل ،أن ظاهر آيات الصفات الكفر ،فالنبي صلى الله عليه وسلم لم
يؤول الستواء ) بالستيلء ( ،ولم يؤول شيئا ً من هذه التأويلت ،ولو كان
المراد بها هذه التأويلت لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها ؛ لنه ل
يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة .
) (1/169
وبين الشيخ – رحمه الله تعالى – أن الواجب على المسلم إذا سمع وصفا ً
وصف به خالق السماوات والرض نفسه ،أو وصفه به رسوله صلى الله
عليه وسلم أن يمل صدره من التعظيم ،ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من
غايات الكمال والجلل والشرف والعلو ما يقطع جميع علئق أوهام المشابهة
ل وعل ،غير بينه وبين صفات المخلوقين ،فيكون القلب منّزها معظما له ج ّ
متنجس بأقذار التشبيه ،فتكون أرض قلبه قابلة لليمان والتصديق بصفات
دح بها ،وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ،على غرار الله التي تم ّ
سميع البصير ( ] الشورى ، [ 11 :والشر قوله ) :ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ
كل الشر في عدم تعظيم الله ،وأن يسبق في ذهن النسان أن صفة الخالق
تشبه صفة المخلوق ،فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى
الكاذبة الخائنة .
القاعدة السابعة :آيات الصفات ليست من المتشابه :
ذكر الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – أن كثيرا ً من الناس يطلق على آيات
سوغ كما بينه الصفات اسم المتشابه ،وهذا من جهة غلط ،ومن جهة قد ي َ ُ
المام مالك بن أنس بقوله " :الستواء غير مجهول ،والكيف غير معقول ،
والسؤال عنه بدعة ،واليمان به واجب " .
كذلك يقال في النزول :النزول غير مجهول ،والكيف غير معقول ،والسؤال
عنه بدعة ،واليمان به واجب ،واطرده في جميع الصفات ؛ لن هذه
الصفات معروفة عند العرب ،إل أن ما وصف به خالق السماوات والرض
منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئا ً من صفات المخلوقين ،كما أن
ل وعل – حق ،والمخلوقون لهم ذوات ،وذات الخالق – ج ّ
ل ذات الخالق – ج ّ
ً
وعل – أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئا من ذوات المخلوقين .
القاعدة الثامنة :ليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل :
) (1/170
) (1/171
-1يطلق على ما تؤول إليه حقيقة المر في ثاني حال ،وهذا هو معناه في
القرآن نحو قوله تعالى ) :ذلك خيٌر وأحسن تأويل ً ( ] النساء ) ، [ 59 :ول ّ
ما
يأتهم تأويله ( ]يونس ) ، [39 :يوم يأتي تأويله يقول اّلذين نسوه من قبل (
] العراف [ 53 :؛ أي ما تؤول إليه حقيقة المر في ثاني حال .
-2ويطلق التأويل بمعنى التفسير ،وهذا قول معروف كقول ابن جرير :
القول في تأويل قوله تعالى كذا ،أي تفسيره .
-3أما في اصطلح الصوليين فالتأويل :هو صرف اللفظ عن ظاهره
المتبادر منه لدليل .
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الصول ثلث حالت :
أ -إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة ،
وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول ل نزاع فيه .ومثال هذا النوع ما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ) :الجار أحق بصقبه ( ) (6فظاهر
هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار .
وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح
غير ظاهر متبادر ،إل أن حديث جابر الصحيح ) فإذا وقعت الحدود وصرفت
الطرق فل شفعة ( ) (7دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه
خصوص الشريك المقاسم .فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر
منه لدليل واضح من كتاب وسنة يجب الرجوع إليه ،وهذا تأويل يسمى تأويل ً
صحيحا ً وتأويل ً قريبا ً .
ب -الثانية هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد
دليل ً ،وهو في نفس المر ليس دليل ً ،فهذا يسمى تأويل ً بعيدا ً ،ويقال له :
فاسد .ومثل له بتأويل أبي حنيفة لفظ ) :امرأة ( في قوله صلى الله عليه
وسلم ) :أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ( ) (8قالوا :حمل
هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد ،لنه صرف للفظ عن ظاهره المتبادر
منه ،لن ) أي ( في قوله ) أي امرأة ( صيغة عموم .
) (1/172
وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد ،فحمل هذا على صورة نادرة هي
المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره من غير دليل .
ً
ج -أما حمل اللفظ على غير ظاهره ل لدليل :فهذا ل يسمى تأويل في
الصطلح بل يسمى لعبا ً ،لنه تلعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه
ن الله يأمركم أنوسلم .ومن هذا تفسير غلة الروافض قوله تعالى ) :إ ّ
تذبحوا بقرة ً ( ] البقرة [ 67 :قالوا :عائشة .
ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملت ما أنزل الله
بها من سلطان ،كقولهم ) :استوى ( بمعنى :استولى .فهذا ل يدخل في
اسم التأويل ،لنه ل دليل عليه ألبتة .وإنما يسمى في اصطلح أهل
ل وعل – من غير دليل ول مستند . الصول :لعبا ً ،لنه تلعب بكتاب الله – ج ّ
جم على كلم رب العالمين ،والقاعدة المعروفة فهذا النوع ل يجوز ؛ لنه ته ّ
عند علماء السلف أنه ل يجوز صرف شيء من كتاب الله ول سنة رسوله عن
ظاهره المتبادر منه ،إل بدليل يجب الرجوع إليه .
--------------------------------
) (1مجموع فتاوى شيخ السلم . 3/17 :
) (2مجموع فتاوى شيخ السلم . 3/25 :
) (3الجهمية المحضة .انظر مجموع الفتاوى . 3/39 :
) (4مجموع فتاوى شيخ السلم . 3/41
) (5ألف أ .د .عمر الشقر في هذا الموضوع رسالة بعنوان :التأويل
خطورته وآثاره .
) (6رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ) .منتقى الخبار :ص . 492 :ورقمه :
. ( 3177
) (7رواه البخاري وأبو داود والترمذي وأحمد ) .منتقى الخبار :ص :
. ( 492
) (8رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد ) منتقى الخبار ، 539 :
ورقمه . ( 3452 :
المطلب السابع
مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله
لخص ابن تيمية مذهب السلف الصالح في هذا الباب فقال :
" فالصل في هذا الباب أن يوصف بما وصف به نفسه ،وبما وصفه به
رسوله صلى الله عليه وسلم نفيا ً وإثباتا ً ،فيثبت لله ما أثبته لنفسه ،وينفي
عنه ما نفاه عن نفسه .
) (1/173
وقد علم أن طريقة سلف المة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير
تكييف ول تمثيل ،ومن غير تحريف ول تعطيل " (1) .
وقد حذرنا الله من النحراف عن النهج الذي قرره الله في كتابه في أسمائه
تعالى وصفاته ،فقال ) :ولله السماء الحسنى فادعوه بها وذروا اّلذين
يلحدون في أسماِئه ( ]العراف . [180 :وأصل اللحاد في كلم العرب
العدول عن القصد والميل والجور والنحراف ،ومنه اللحد في القبر لنحرافه
إلى جهة القبلة عن سمة القبر " (2) .
وقال تعالى منزها ً نفسه عما يصفه به الملحدون في أسمائه الضالون
ما يصفون ( ] الصافات ) ، [ 159 :سبحان المشركون ) :سبحان الله ع ّ
ما يصفون ( ] الصافات ) ، [ 180 :إل ّ عباد الله ربك رب العّزة ع ّ
المخلصين ( ] الصافات ، [ 160 :وفي الية الخرى سلم على المرسلين
لسلمة ما قالوه :ووصفوا الله به ) وسلم على المرسلين ( ] الصافات :
. [ 181
عقيدة المام أبي الحسن الشعري في صفات الله
ً
يشغب بعض من لم يرتض مذهب أهل السنة على أهل السنة مدعيا أن
مذهب الشاعرة يخالف هذا الذي قررناه ،ويدعي أن مذهبهم مذهب أهل
السنة ،ونحن نورد هنا المذهب الذي حكاه أبو الحسن الشعري عن أهل
السنة وأصحاب الحديث ،ونص في ختامه أنه معتقده قائل به .
عنون لهذا المبحث بقوله " :هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل
السنة " ثم قال " :جملة ما عليه أهل الحديث والسنة القرار بالله وملئكته
وكتبه ورسله ،وما جاء من عند الله ،وما رواه الثقات عن رسول الله صلى
ه واحد فرد الله عليه وسلم ل يرّدون من ذلك شيئا ً ) ، (3وأن الله سبحانه إل ٌ
صمد ل إله غيره لم يتخذ صاحبة ول ولدا ً وأن محمدا ً عبده ورسوله ،وأن
الجنة حقٌ ،وأن النار حقٌ ،وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن الله يبعث من
في القبور .
) (1/174
وأن الله سبحانه على عرشه كما قال ) :الّرحمن على العرش استوى ( ]طه
، [5:وأن له يدين بل كيف كما قال ) :خلقت بيديّ ( ]ص [75 :وكما قال :
) بل يداه مبسوطتان ( ] المائدة [ 64 :وأن له عينين بل كيف كما قال :
ن له وجها كما قال ) :ويبقى وجه ربك ذو ) تجري بأعيننا ( ] القمر ،[14:وأ ّ
الجلل والكرام ( ]الرحمن . [27:
وأن أسماء الله ل يقال :إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج ،وأقّروا
مهِ ( ] النساء [ 166 :وكما قال ) : أن لله سبحانه علما ً كما قال ) :أنزله بعل ِ
وما تحمل من أنثى ول تضعُ إل ّ بعل ِ
مهِ ( ] فاطر . [ 11 :
وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة ،وأثبتوا لله
ن الله اّلذي خلقهم هو أشد منهم قوّة ً ( القوة كما قال ) :أو لم يروا أ ّ
] فصلت . [ 15 :
ن القرآن كلم الله غير مخلوق ،والكلم في الوقف واللفظ من ويقولون إ ّ
قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم ،ل يقال :اللفظ بالقرآن مخلوق ،
ول يقال :غير مخلوق .
ن الله سبحانه ُيرى بالبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ، ويقولون إ ّ
يراه المؤمنون ،ول يراه الكافرون ؛ لنهم عن الله محجوبون قال عز وجل
) كل ّ إّنهم عن ّربهم يومئ ِذ ٍ ّلمحجوبون ( ] المطففين ، [ 15 :وأن موسى
عليه السلم سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ،وأن الله سبحانه تجلى
للجبل فجعله دكا ً ،فأعلمه بذلك أنه ل يراه في الدنيا ،بل يراه في الخرة .
دقون بالحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ويص ّ
الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول ) :هل من مستغفر ( كما جاء
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ويقرون أن الله سبحانه
ك صفا ً صفا ً ( ] الفجر ، [ 22 :
يجيء يوم القيامة كما قال ) :وجاء رّبك والمل ُ
وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ) :ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد ( ] ق . [ 16 :
) (1/175
وختم أبو الحسن الشعري جملة ما حكاه عن أهل السنة وأصحاب الحديث
بقوله " :فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ،وبكل ما ذكرنا من
قولهم نقول ،وإليه نذهب ،وما توفيقنا إل بالله ،وهو حسبنا ونعم الوكيل ،
وبه نستعين ،وعليه نتوكل ،وإليه المصير " (4) .
وبهذا النقل يتضح لك موافقة معتقد أبي الحسن الشعري لمعتقد أهل السنة
والجماعة في باب أسماء الله وصفاته (5) .
--------------------------------
) (1مجموع الفتاوى . 3/3 :وقد قرر عقيدة السلف جمع كبير من العلماء ،
منهم الطحاوي ،وقد شرح عقيدته محمد بن أبي العز الحنفي في مؤلف
معنون بـ ) بشرح العقيدة الطحاوية ( ،وأبو الحسن الشعري في كتابه
الجليل ) البانة عن أصول الديانة ( ،والصابوني في كتابه ) عقيدة السلف ( ،
وغيرهم كثير ،ونحن اقتفينا أثرهم ،وسرنا على دربهم ،سائلين الله أن
يحشرنا في زمرتهم في يوم الدين .
) (2معارج القبول . 1/88 :
جة في العقائد ؛ لن كلمه هنا في ّ ح الحديث ) (3لحظ كيف جعل صحيح
العقائد ل الحكام ،فهو ل يفرق بين المتواتر والحاد ،وفعله في استدلله
على مسائل العتقاد في كتبه يدل على صحة ما قررناه .
) (4راجع مقالت السلميين :ص ، 297-290وقد اقتصرنا على نقل ما
يتعلق بصفات الله فحسب ،أما بقية معتقد أهل السنة وأهل الحديث الذي
رضيه فلم ننقله منه .
) (5وقد ألف أ .د .عمر الشقر رسالة لطيفة تبين معتقد أبي الحسن
الشعري ومنهجه .
توحيد الله )(1
معناه وأقسامه
) (1/176
الله – سبحانه – واحد في ذاته ،ليس له مثيل ول نظير ،تعالى عن الصاحبة
والولد ) قل هو الله أحد – الله الصمد – لم يلد ولم يولد – ولم يكن له كفوا ً
أحد ( ] الخلص [ 4-1 :وهو سبحانه متصف بصفات الكمال ،ل يشبهه
سميعشيء من مخلوقاته في صفة من صفاته ) :ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ
البصير ( ] الشورى [ 11 :وهو وحده الخالق المحيي المميت قيوم
السماوات والرض ،ول يعد مؤمنا ً من لم يعلم علما ً يقينيا ًً بأن الله متفرد
بذلك كله .
ل يكفي التوحيد العلمي ،بل ل بد ّ من التوحيد العملي :
ً
إل أن هذا التوحيد النظري ل يكفي كي يعد المرء مؤمنا ،بل ل بد من اتخاذه
وحده إلها ً معبودا ً بالتوجه إليه بالعبادة دون سواه .
لن الخالق الرزاق المنعم المتفضل المحيي المميت المتصف بصفات الكمال
المنزه عن صفات النقص هو المستحق أن ُيعَبد دون سواه ،فغيره مربوب
مألوه ل يملك لنفسه ضرا ً ول نفعا ً ،فكيف يعبد من دون الله تعالى ؟
تناقض الذين ل يعبدون الله وحده :
والكفرة من مشركي العرب وكثير غيرهم كانوا يعتقدون بوحدانية الله في
الخلق واليجاد ،وتفرده في الرزق والحياء والماتة والملك ،ولكنهم
يرفضون عبادته وحده دون غيره ،وقصده دون سواه ،وهذا تناقض شنيع ،
فالمتفرد بالخلق واليجاد هو المستحق للعبادة والخضوع والتعظيم ،وقد
أطال القرآن في مناقشة المشركين وبيان تناقضهم في هذا وبين لهم أن
الذي أقروا به من تفرده بالخلق والرزق ...إلخ يلزمهم بعبادته وإخلص الدين
له .
--------------------------------
) (1/177
) (1التوحيد الحق :العتقاد بوحدانية الله سبحانه في ذاته وصفاته ،ثم
عبادته وحده ل شريك له ،وقد حرف هذا المفهوم ،فزعم قوم أن التوحيد
يقتضي نفي صفات الله ،لنه يلزم منه بزعمهم تعدد الواجب ،وزعم بعض
الصوفية أن التوحيد الذي أشرنا إليه توحيد العامة ،أما توحيد الخاصة فهو
الذي يثبت بالحقائق ،وزعموا أن هناك توحيد خاصة الخاصة ،وكل ذلك
ضلل .
كلمة التوحيد :معناها ،فضلها ،شروطها
) ل إله إل الله ( كلمة التوحيد ،جمعت اليمان واحتوته ،وهذه الكلمة عنوان
السلم وأساسه .
ومعناها :ل معبود يستحق العبادة إل الله سبحانه ،وقد أخطأ من فسرها بأنه
ل موجود إل الله ،لن معنى الله :المعبود ،فيصبح المعنى بناء على قول
نك ّ
ل هؤلء ،ل معبود موجود إل الله ،وهذا غير صحيح ؛ لنه يلزم منه أ ّ
معبود بحق أو باطل هو الله ،فيكون ما عبده المشركون من شمس وقمر
ونجوم ...إلخ هو الله ،فكأنه قيل :ما عُِبد على هذا التقدير إل الله ،وهذا
من أبطل الباطل .
ً
فالمعنى الصحيح المتعين هو ما ذكرناه أول :أنه ل معبود يستحق العبادة إل
الله وحده .
وقد جاَءت النصوص دالة على فضل ) ل إله إل الله ( ،وعظيم نفعها ،وقد
سبق ذكر النصوص الدالة على أن من قال ) :ل إله إل الله خالصا ً من قلبه
دخل الجنة ( .وبهذه الكلمة يعصم العبد ماله ودمه ،ويصبح مسلما ً .
ولكن ليس المراد بهذه الكلمة مجرد النطق ،فل تنفع هذه الكلمة قائلها عند
ربه إل بسبعة شروط :
-1العلم بمعناها :قال تعالى ) :فاعلم أّنه ل إله إل ّ الله ( ] محمد [ 19 :
مون ( ] الزخرف . [ 86 : وقال ) :إل ّ من شِهد بالحق وهم يعل ُ
وفي الصحيح عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال :قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ) :من مات وهو يعلم أنه ل إله إل الله دخل الجنة ( ) .
(1
) (1/178
-2اليقين :بأن يكون القائل مستيقنا ً بمدلول هذه الكلمة يقينا ً جازما ً ،فإن
اليمان ل يغني فيه إل اليقين ل الظن ،قال تعالى ) :إّنما المؤمنون اّلذين
م لم يرتابوا ( ] الحجرات [ 15 :فاشترط في صدق آمنوا بالله ورسوله ث ُ ّ
إيمانهم كونهم لم يرتابوا ،أي لم يشكوا ،وفي الصحيح من حديث أبي هريرة
– رضي الله عنه – قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) :أشهد أن
ك فيهما ل إله إل الله ،وأني رسول الله ،ل يلقى الله بهما عبد غير شا ّ
فيحجب عن الجنة ( (2) .
وفي الصحيح أيضا ً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل أبا هريرة بنعليه
قائل ً له ) :من لقت من وراء هذا الحائط يشهد أن ل إله إل الله مستيقنا ً بها
قلبه فبشره بالجنة ( ) (3فاشترط دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا ً بها
ك فيها ،وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط . قلبه غير شا ّ
-3القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه ،وقد حدثنا القرآن أن الله
عذب المكذبين من المم الذين رفضوا هذه الكلمة ،واستكبروا عنها ) :إّنهم
كانوا إذا قيل لهم ل إله إل ّ الله يستكبرون – ويقولون أئ ِّنا لتاركوا آل ِهَت َِنا لشاع ٍ
ر
مجنون ( ] الصافات [ 36-35 :جعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم
عن قول ل إله إل الله ،وتكذيبهم من جاء بها .
-4النقياد لما دلت عليه ،قال ) :وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ( ] الزمر :
ن فقد استمسك بالعروة [ 54وقال ) :ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محس ٌ
الوثقى ( ] لقمان ، [ 22 :ومعنى يسلم وجهه أي ينقاد ،وهو محسن ؛ أي
موحد ،والعروة الوثقى فسرت ) بل إله إل الله ( .
) (1/179
-5الصدق :وهو أن يقولها صادقا ً من قلبه ،يواطئ قلبه لسانه ،قال الله
ل ) :ومن الّناس من يقول آمّنا بالله وباليوم الخر وما هم بمؤمنين – عّز وج ّ
ّ ّ
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون ( ] البقرة :
. [ 9-8فهم كاذبون في قولهم ،يبطنون غير ما يعلنون ،وفي الصحيحين عن
معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ) :ما
من أحد يشهد أن ل إله إل الله ،وأن محمدا ً رسول الله صدقا ً من قلبه إل
حرمه الله على النار ( ) ، (4فاشترط في النجاة من النار أن يقولها صدقا ً
من قلبه .
-6الخلص :وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك ،قال
الله تعالى ) :أل لله الدين الخالص ( ] الزمر [ 3 :وقال ) :وما أمروا إل ّ
ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ( ] البينة . [ 5 :
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ) :أسعد الناس
بشفاعتي من قال ل إله إل الله خالصا ً من قلبه ونفسه ( (5) .
وفي الصحيح عن عتبان بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال ) :إن الله قد حرم على النار من قال ل إله إل الله يبتغي
بذلك وجه الله عّز وج ّ
ل ( (6) .
-7المحبة :لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولهلها العاملين بها
ل ) :ومن الّناس الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك ،قال الله عّز وج ّ
من يّتخذ من دون الله أندادا ً يحّبونهم كحب الله واّلذين آمنوا أشد ّ حب ّا لله (
ً
] البقرة [ 165 :فأخبر أن عباده المؤمنين أشد حبا ً له ،وذلك لنهم لم
يتخذوا من دونه أندادا ً ،وعلمة حب العبد ربه تقديم محابه ،وإن خالفت
هواه ،وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه ،وموالة من والى الله
ورسوله ،ومعاداة من عاداه الله ورسوله ،واتباع رسول الله صلى الله عليه
وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه .
إشارة السلف إلى بعض هذه الشروط :
) (1/180
قال الحسن البصري للفرزدق – الشاعر المعروف – وهو يدفن امرأته :ما
أعددت لهذا اليوم ؟ قال :شهادة أن ل إله إل الله منذ سبعين سنة .قال
دة ،لكن لل إله إل الله شروطا ً ،فإياك وقذف المحصنات . الحسن :نعم الع ّ
ً
وقيل للحسن البصري :إن ناسا يقولون :من قال ل إله إل الله دخل الجنة ،
فقال :من قال :ل إله إل الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة .
وقال وهب بن منبه لمن سأله :أليس مفتاح الجنة ل إله إل الله ؟ قال :
بلى ،ولكن ما من مفتاح إل له أسنان ،فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك ،
وإل لم يفتح لك .
--------------------------------
) (1رواه مسلم ، 1/55 :ورقمه . 26:
) (2رواه مسلم . 1/57 :ورقمه . 27 :
) (3رواه مسلم . 1/60 :ورقمه . 31 :
) (4رواه البخاري . 1/226 :ورقمه . 128 :
) (5رواه البخاري . 1/193 :ورقمه . 99 :
) (6رواه البخاري . 1/519 :ورقمه . 425 :
العبادة
المطلب الول
تعريف العبادة
التوحيد ل يتحقق إل بأمرين :
الول :الشهادة لله بالوحدانية في ذاته وصفاته .
الثاني :قصده وإرادته وحده دون سواه في جميع العبادات .
والعبادة :اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من القوال والعمال الظاهرة
والباطنة ،فالظاهرة كالتلفظ بالشهادتين والصلة والصوم ،والباطنة
كاليمان بالله وملئكته والكتب والرسل والخوف والرجاء ....
المطلب الثاني
العابد هو الذي يتقلب بين الخوف والرجاء
العبادة الحقة هي التي يتقلب صاحبها بين حب الله ،والخوف منه والتذلل له
،ورجائه والطمع في رحمته .
فالعابد ل حبا ً ول خوفا ً ول رجاًء إنما يؤدي حركات جوفاء ل تعني بالنسبة له
شيئا ً .
) (1/181
والعابد حبا ً بل تذلل ول خوف ول رجاء كثيرا ً ما يقع في الذنوب والمعاصي ،
فيزعم أنه يحب الله ويترك العمل ويتجرأ على الذنوب ،وقديما ً زعم قوم
حب الله من غير عمل فاختبرهم الله بقوله ) :قل إن كنتم ُتحّبون الله
فاّتبعوني ُيحببكم الله ( ] آل عمران [ 31 :فمن ادعى محبة الله ولم يكن
متبعا ً رسوله فهو كاذب .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى " :إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ،
ويطير في الهواء فل تصدقوه حتى تعلموا متابعته لرسول الله " .
وكذلك الرجاء وحده إذا لم يقترن بخوف الله وخشيته فإن صاحبه يتجرأ على
م الخاسرون ( ن مكر الله إل ّ القو ُ معاصي الله ،ويأمن مكره ):فل يأم ُ
]العراف . [99 :
وكذلك الخوف إذا لم يقترن بالرجاء فإن العابد يسوء ظنه بالله ،ويقنط من
س من ّروح الله إل ّ َ
رحمته ،وييأس من روحه ،وقد قال تعالى ) :إّنه ل ي َي ْأ ُ
القوم الكافرون ( ]يوسف . [87 :
فالعبادة الحقة هي التي يكون صاحبها بين الخوف والرجاء ) ويرجون رحمته
من هو قانت آَناء اّلليل ساجدا ً وقاِئما ً ويخافون عذابه ( ]السراء ) ، [57 :أ ّ
يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه ( ] الزمر [ 9 :كما يكون بين الرغبة والرهبة
كما قال تعالى في آل زكريا عليهم السلم ) :إّنهم كانوا يسارعون في
الخيرات ويدعوننا رغبا ً ورهبا ً وكانوا لنا خاشعين ( ] النبياء . [ 90 :
فالعبد الصالح تارة يمده الرجاء والرغبة ،فيكاد يطير شوقا ً إلى الله ،وطورا ً
يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى ،فهو دائب في
طلب مرضاة ربه مقبل عليه خائف من عقوباته ،ملتجئ منه إليه ،عائذ به
منه ،راغب فيما لديه .
المطلب الثالث
أركان العبادة
للعبادة أركان ثلثة :
) (1/182
الول :الخلص :بأن يقصد العبد وجه ربه والدار الخرة ،قال صلى الله
عليه وسلم ) :إنما العمال بالنيات ،وإنما لكل امرىء ما نوى ،فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله ،فهجرته إلى الله ورسوله ،ومن كانت هجرته إلى
دنيا يصيبها ،أو امرأةٍ ينحكها ،فهجرته إلى ما هاجر إليه ( ) (1وترك الخلص
يبطل العبادة .
الثاني :الصدق :ونريد به الصدق في العزيمة ،بأن يبذل العبد جهده في
امتثال أمر الله واجتناب نهيه ،والستعداد للقائه ،وترك العجز ،وترك
التكاسل عن طاعة الله .
الثالث :متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ،فل يعبد الله إل وفق ما
ما أن يعبد الناس شرعه الله ،وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،أ ّ
ربهم بغير علم فهذه هي البدعة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه
وسلم وذم فاعلها ،وأخبر أن عمله ضللة .فقال " :كل محدثة بدعة ،وكل
بدعة ضللة ،وكل ضللة في النار " .وصاحب البدعة عمله مردود عليه غير
مقبول منه .
ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت :قال الرسول صلى
الله عليه وسلم " :من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي
رواية لمسلم " :من عمل عمل ً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) .
ل عبادة إل بهذه الركان :
فما لم توجد العزيمة الصادقة ل توجد العبادة ،إذ تصبح العبادة تمنيات وآمال ً
ل يكاد يهم المرء بفعلها حتى تخبوا إرادته وتنحل .وما لم يوجد الخلص
ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العبادة ل يقبلها الله تعالى .
المطلب الرابع
أنواع العبادات التي ل يجوز أن يقصد بها غير الله
والعبادات التي ل يجوز أن يقصد ويراد بها غير الله أنواع :
الول :عبادات اعتقادية :
وهذه أساس العبادات كلها ،وهي أن يعتقد العبد أن الله هو الرب الواحد
الحد الذي له الخلق والمر ،وبيده النفع والضر ،الذي ل شريك له ،ول
يشفع عنده أحد إل بإذنه ،وأنه ل معبود بحق غيره .
الثاني :عملية قلبية :
) (1/183
والعبادات القلبية التي ل يجوز أن يقصد بها إل الله وحده ،وصرفها لغيره
شرك كثيرة ،كالخوف والرجاء ،والرغبة والرهبة ،والخشوع والخشية
،والحب ،والنابة ،والتوكل ،والخضوع .
الثالث :قولية :
كالنطق بكلمة التوحيد ؛ إذ ل يكفي اعتقاد معناها ،بل ل بد من النطق بها ،
وكالستعاذة بالله ،والستعانة والستغاثة به ،والدعاء له ،وتسبيحه ،
وتمجيده ،وتلوة القرآن .
الرابع :بدنية :
كالصلة ،والصوم ،والحج ،والذبح ،والنذر ،وغير ذلك .
الخامس :مالية :
كالزكاة ،وأنواع الصدقات ،والكفارات ،والضحية ،والنفقة .
--------------------------------
) (1رواه البخاري ومسلم ،وهو حديث مشهور تغني شهرته عن تخريجه .
وانظر كتابنا )) مقاصد المكلفين (( ص ، 519 :فقد ذكرنا فيه طرقه
ومخرجيه .
) (2عزاه ابن الثير في جامع الصول ، 1/289 :ورقمه 75 :إلى البخاري
ومسلم وأبي داود .
ما يضاد التوحيد وينافيه
الذي ينافي التوحيد ويضاده الشرك ،يقال :شركته في المر إذا صرت له
شريكا ً ،ومنه قوله تعالى ) :وأشركه في أمري ( ] طه [ 32 :أي اجعله
شريكي فيه .
الشرك نوعان :وفي مصطلح الشريعة السلمية الشرك نوعان :
الول :الشرك الكبر :
) (1/184
والمشرك شركا ً أكبر هو الذي يجعل مع الله ربا ً آخر كشرك النصارى الذي
جعلوه ثالث ثلثة ،وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور ،
وحوادث الشر إلى الظلمة ،وكشرك الصابئة الذين ينسبون إلى الكواكب
العلوية تدبير أمر العالم ،ومثل هؤلء كثير من عُّباد القبور الذين يزعمون بأن
أرواح الولياء تتصرف بعد الموت ،فيقضون الحاجات ،ويفّرجون الكربات ،
وينصرون من دعاهم ،ويحفظون من التجأ إليهم ،ولذ بحماهم .ومن
الشرك الكبر أن يجعل مع الله إلها ً آخر :ملكا ً ،أو رسول ً ،أو وليا ً ،أو
شمسا ً ،أو قمرا ً ،أو حجرا ً ،أو بشرا ً ُ ،يعبد كما ُيعبد الله ،وذلك بدعائه
والستعانة به ،والذبح له والنذر له ،وغير ذلك من أنواع العبادة .
ل تشترط مساواة الشريك لله حتى يصبح شركا ً :
ول يشترط أن يساوي المشرك في شركه مع الله غيره من كل وجه ،بل
يسمى مشركا ً في الشرع بإثباته شريكا ً لله ،ولو جعله دونه في القدرة
والعلم مثل ً .
ن – إذ
مبي ٍل ّفأما حكايته تعالى عن المشركين قولهم ) :تالله إن ك ُّنا لفي ضل ٍ
كم برب العالمين ( ] الشعراء ، [ 98-97 :فهي التسوية في المحبة نسوي ُ
والخوف والرجاء والطاعة والنقياد ،ل في القدرة على الخلق واليجاد ،
لنهم كانوا يقولون بوحدانيته في الخلق واليجاد .
خطورة هذا الشرك :
الشرك الكبر في غاية الخطورة فهو يحبط العمل ،قال تعالى ) :ولو
ما كانوا يعملون ( ] النعام . [ 88 : أشركوا لحبط عنهم ّ
ي إليك وإلى اّلذين من ُ
ح َ
وقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ) :ولقد أو ِ
ن من الخاسرين ( ] الزمر . [ 65 : ن عملك ولتكون ّ قبلك لِئن أشركت ليحبط ّ
) (1/185
وصاحبه خالد مخّلد في نار جهنم ل يغفر الله له ،ول يدخله الجّنة ) :إ ّ
ن الله
ل يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ] النساء ) ، [ 48 :لقد
ح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل كفر اّلذين قالوا إ ّ
ن الله هو المسي ُ
اعبدوا الله ربي ورّبكم إّنه من يشرك بالله فقد حّرم الله عليه الجّنة ومأواه
ظالمين من أنصارٍ ( ] المائدة . [ 72 : الّناُر وما لل ّ
أعظم جريمة وأفظع ظلم :
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال ) :أن تدعو لله ندا ً وهو خلقك (
م ( ]لقمان ، [13 : ن الشرك لظلم عظي ٌ متفق عليه ) ، (1وقال تعالى ) :إ ّ
وقال ) :ومن يشرك بالله فقد افترى إثما ً عظيما ً ( ] النساء . [ 48 :
النوع الثاني :الشرك الصغر :
والشرك الصغر كيسير الرياء ،والتصنع للمخلوق ،وعدم الخلص لله تعالى
في العبادة ،بل يعمل لحظ نفسه تارة ،ولطلب الدنيا تارة ،ولطلب المنزلة
والجاه تارة ،فلله من عمله نصيب ،ولغيره منه نصيب ،ويتبع هذا النوع
الشرك بالله في اللفاظ كالحلف بغير الله ،وقول :ما شاء الله وشئت ،وما
لي إل الله وأنت .
وقد يكون شركا ً أكبر بحسب قائله ومقصده .
ج من الملة فإن خرِ ُ
وهذا النوع من الشرك ) :الشرك الصغر ( وإن كان ل ي ُ ْ
صاحبه على خطر عظيم ،ينقص من أجره شيء كثير ،وقد يحبط منه العمل
،ففي الصحيحين عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال :جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال :الرجل يقاتل للمغنم ،والرجل يقاتل
للذكر ،والرجل يقاتل ليرى مكانه ،فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ) :من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل
الله ( (2) .
وفي صحيح مسلم فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ) :أنا
ن عمل عمل ً أشرك فيه معي غيري تركته م ْأغنى الشركاء عن الشرك َ ،
وشركه ( (3) .
) (1/186
وفي المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ) :إن أخوف ما أخاف
عليكم الشرك الصغر ( قالوا :يا رسول الله وما الشرك الصغر ؟ قال :
) الرياء ( .وزاد البيهقي في شعب اليمان ) :يقول الله لهم يوم يجازي
العباد بأعمالهم :اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ،فانظروا هل
تجدون عندهم جزاًء وخيرا ً ( (4) .
وفي النهي عن هذا الشرك نزل قوله تعالى ) :فمن كان يرجوا لقاء ربه
فليعمل عمل ً صالحا ً ول يشرك بعبادة ربه أحدا ً ( ] الكهف . [ 110 :
--------------------------------
) (1مشكاة المصابيح ، 1/21 :ورقمه . 49 :
) (2رواه البخاري . 6/28 :ورقمه . 281 :ورواه مسلم . 3/1512 :ورقمه
. 1904 :
) (3رواه مسلم .انظر جامع الصول . 4/545 :ورقمه . 2651 :
) (4مشكاة المصابيح ، 2/687 :ورقمه . 5334 :
نظرة في تاريخ العقيدة
هل تطورت العقيدة عبر الزمان
يرى كثير من الباحثين الغربيين أن النسان لم يعرف العقيدة على ما يعرفها
عليه اليوم مرة واحدة ،ولكنها ترقت ،وتطورت في فترات وقرون متعاقبة .
ول عجب أن يقول بهذا القول الباطل قوم لم يمنحهم الله كتابه الذي يحكي
تاريخ العقيدة بوضوح ل لبس فيه ،إل أن العجيب أن يذهب هذا المذهب
رجال يعدون أنفسهم باحثين مسلمين .
فهذا عباس محمود العقاد يرى في كتابه )الله( ) - (1وهو كتاب يبحث في
نشأة العقيدة اللهية – أن " النسان ترقى في العقائد " ،ويرى أن ترقي
النسان في العقائد موافق تماما ً لترقيه في العلوم .
ويقول " :كانت عقائد النسان الولى مساوية لحياته الولى ،وكذلك كانت
علومه وصناعاته ،فليس أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديان
والعبادات ،وليس عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة
في الخرى " .
) (1/187
بل يرى أن تطور العقيدة لدى النسان كان أشق من تطور العلوم
والصناعات ،يقول في هذا " :وينبغي أن تكون محاولت النسان في سبيل
دين أشق وأطول من محاولته في سبيل العلوم والصناعات ؛ لن حقيقة ال ّ
ً ً
الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الشياء المتفرقة
التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى " .
ويرى أن الحقيقة اللهية لم تتجل للناس مرة واحدة ،يقول " :فالرجوع إلى
ل على بطلن التدين ،ول على أصول الديان في عصور الجاهلية الولى ل يد ّ
ن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى أنها تبحث عن محال ،كل ما يد ّ
ل عليه أ ّ
للناس كاملة في عصر واحد " .
ن السبب ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة ،فمنهم من يرى أ ّ
في نشأة العقيدة هو ضعف النسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى
الطبيعة والحياء ... ،وبعضهم يرى أن العقيدة الدينية حالة مرضية في الحاد
والجماعات ،ويرى بعضهم أن أصل العقيدة الدينية عبادة )) الطوطم (( ،
كأن تتخذ بعض القبائل حيوانا ً )طوطميًا( تزعمه أبا ً لها .وقد يكون شجرا ً أو
حجرا ً يقدسونه ،إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين
الغربيين .
ومع السف فقد سرت هذه النظرية ) (2إلى كثير من الكّتاب ،واعتنقها
جملة من الدارسين ) ، (3والذي أوقع هؤلء في هذا الخطأ أمور :
خلق خلقا ً ناقصا ً ،غير مؤهل لن يتلقى دروا أن النسان الول ُ الول :أنهم ق ّ
الحقائق العظمى كاملة ،بل إن تصوراتهم عن النسان الول تجعله أقرب
إلى الحيوان منه إلى النسان .
الثاني :أنهم ظنوا أن النسان اهتدى إلى العقيدة بنفسه بدون معلم يعلمه ،
ومرشد يوضح له .فما دام المر كذلك فل بد أن يترقى في معرفته بالله كما
ترقى في العلوم والصناعات .
) (1/188
الثالث :أنهم عندما بحثوا في الديان ليتبينوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إل تلك
الديان المحرفة أو الضالة ،فجعلوها ميدان بحثهم ،فأخضعوها للدراسة
والتمحيص ،وأنى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الديان التي تمثل انحراف
النسان في فهم العقيدة .
القرآن وحده يوضح تاريخ العقيدة :
ليس هناك كتاب في الرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إل كتاب الله سبحانه
وتعالى ،ففيه علم غزير في هذا الموضوع ،وعلم البشر ل يمكن أن يدرك
هذا الجانب إدراكا ً وافيا ً لسباب :
الول :أن ما نعرفه عن التاريخ قبل خمسة آلف عام قليل ،أما ما نعرفه
قبل عشرة آلف عام فيعتبر أقل من القليل ،وما قبل ذلك فيعتبر مجاهيل ل
يدري علم التاريخ من شأنها شيئا ً ،لذا فإن كثيرا ً من الحقيقة ضاع بضياع
التاريخ النساني .
الثاني :أن الحقائق التي ورثها النسان اختلطت بباطل كثير ،بل ضاعت في
أمواج متلطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف ،ومما
يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر
الحديث تعتبر من أشقّ المور ،فكيف بتاريخ يمتد ّ إلى فجر البشرية ؟ !
الثالث :أن قسما ً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الرض ،بل في
السماء .
لذا فإن الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي ل لبس فيه هو الله – سبحانه
سماء ( ] آلن الله ل يخفى عليه شيٌء في الرض ول في ال ّ وتعالى – ) إ ّ
عمران . [ 5 :
--------------------------------
) (1نشرته دار الهلل – القاهرة :انظر :ص 10 :وما بعداه .
) (2ممن جنح إلى القول بهذه النظرية مصطفى محمود في كتابه )الله( .
) (3لست أدري أي عقيدة هذه التي تطورت ،أهي العقيدة اليهودية المحرفة
،أم النصرانية المبدلة ،أم عقيدة الفلسفة ...إن هذه العقائد ل تمثل إل
انحرافات عقائدية ،ول تمثل العقيدة السليمة .
تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم
) (1/189
أعلمنا الله سبحانه أنه خلق آدم خلقا ً مستقل ً سويا ً متكامل ً ،ثم نفخ فيه من
روحه ،وأسكنه جنته ،وأباح له أن يأكل هو وزوجته منها كيف شاءا إل شجرة
واحدة ،فأغراه عدّوه إبليس بالكل من الشجرة ،فأطاع عدوه ،وعصى
رّبه ،فأهبطه الله من الجنة إلى الرض ،وقبل الهبوط وعده الله – سبحانه –
هداه ،كي يعرف النسان بربه ومنهجه وتشريعه ، بأن ينزل عليه وعلى ذريته ُ
وعد
ووعد المستجيبين بالهداية في الدنيا والسعادة في الخرى ،وت ّ
دنيا وبالشقاء في الخرة ) :قلنا اهبطوا المستكبرين بالمعيشة الضنكة في ال ّ
ما يأتيّنكم مني هدىً فمن تبع هداي فل خوف عليهم ول هم منها جميعا ً فإ ّ
ذبوا بآياتنا أولِئك أصحاب الّنار هم فيه خالدون ( يحزنون – واّلذين كفروا وك ّ
] البقرة [39-38:
ما
ض عدوّ فإ ّوفي سورة طه يقول ) :قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبع ٍ
ل ول يشقى – ومن أعرض عن يأتيّنكم مني هدىً فمن اّتبع هداي فل يض ّ
ة ضنكا ً ونحشره يوم القيامة أعمى – قال رب لم ن له معيش ً ذكري فإ ّ
ً
حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا – قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم
تنسى ( ] طه . [ 126-123 :
الجيل الول من البشرية كان على التوحيد :
هبط آدم إلى الرض ،وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص
ة واحدة ( ] البقرة ، [ 213 :أي على م ً
كما قال الله تعالى ) :كان الّناس أ ّ
التوحيد والدين الحق فاختلفوا ) فبعث الله الّنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل
معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الّناس فيما اختلفوا فيه ( ] البقرة ، [ 213 :
وفي حديث أبي أمامة أن رجل ً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال :يا
رسول الله أنبي كان آدم ؟ قال ) :نعم ،مكلم ( قال :قال :فكم بينه وبين
نوح ؟ قال ) عشرة قرون ( رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه .وقال ابن
كثير " :هذا على شرط مسلم ،ولم يخرجه " (1) .
) (1/190
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال ) :وكان بين آدم ونوح عشرة قرون
كلهم على السلم ( (2) .
ومقدار القرن مائة سنة ،وعلى ذلك يكون بين آدم ونوح ألف سنة .
وقد تكون المدة بينهما أكثر من ذلك ،إذ قيد ابن عباس هذه القرون العشرة
بأنها كانت على السلم ،فل ينفي أن يكون بينهما قرون أخرى على غير
السلم .
وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس كما قال تعالى ) :وكم أهلكنا من
م أنشأنا من بعدهم قرنا ً ن من بعد نوٍح ( ] السراء ، [ 17 :وقوله ) :ث ّ قُرو ِ ال ُ
ن ( ] نوح (3) . [ 23 : ري َ
خ ِآ َ
أول انحراف عن العقيدة وأول رسول :
وبعد أن كان الناس أمة واحدة على التوحيد حصل الزيغ والنحراف ،وكان
أول انحراف حدث هو الغلو في تعظيم الصالحين ،ورفعهم إلى مرتبة اللهة
المعبودة .
ففي صحيح البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عند
سواعا ً ول يغوث ن ود ّا ً ول ُن آلهتكم ول تذُر ّ
تفسير قوله تعالى ) :وقالوا ل تذُر ّ
ويعوق ونسرا ً ( ]نوح . [23 :قال " :هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح
،فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا
يجلسون فيها أنصابا ً وسموها بأسمائهم ،ففعلوا ،فلم تعبد ،حتى إذا هلك
عبدت " (4) .أولئك ،وانتسخ العلم ) ُنسي ودرس ( ُ
فهذا أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد ،فأرسل الله إليهم
أول رسله نوحا ً عليه السلم مصداقا ً لوعده الذي أعطاه لبي البشر آدم
بإرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للبشرية .
) (1/191
والدليل على أن نوحا ً كان أول رسول مبعوث حديث الشفاعة الثابت في
الصحيح ،وفيه ) :أن الناس يأتون بعد آدم نوحا ً فيقولون له فيما يقولون :يا
نوح ،أنت أول الرسل إلى الرض ،وسماك الله عبدا ً شكورا ً ( ). (5
والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا تدل دللة واضحة على أن نوحا ً قد
ه
دعا إلى التوحيد الخالص ،فقد قال لقومه ) :اعبدوا الله ما لكم من إل ٍ
ف عليكم عذاب يوم ٍ عظيم ٍ ( ] العراف ، [ 59 :وقال ) :أن ل ّ غيره إني أخا ُ
ف عليكم عذاب يوم ٍ أليم ٍ ( ] هود [ 26 :وقال ) :ياتبعدوا إل ّ الله إني أخا ُ
قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره أفل تّتقون ( ] المؤمنون . [ 23 :
والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس ،وتن ّ
كر لها السادة
والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والذكاء حيث استكبروا عن متابعة
ن ( ] العراف [ 60 : مبي ٍ
ل ّالحق ) :قال المل من قومه إّنا لنراك في ضل ٍ
والمل المذكورون في الية هم السادة والكبراء ،وقالوا له ) :وما نراك
اّتبعك إل ّ اّلذين هم أراذلنا بادي الّرأي ( ]هود [27 :؛ أي :اتبعوك بدون تأمل
عميق ،وتفكير ونظر ،وهذا الذي رموهم به هو ما يجب أن ُيمدحوا به ،فإن
الحق إذا ظهر ل يحتاج إلى نظر ،بل يجب اتباعه .
وتعجبوا أن يبعث الله رسول ً بشرا ً فقالوا ) :ما نراك إل بشرا مثلنا ( ]هود:
ً ّ
) ، [27فقال المل ُ اّلذين كفروا من قومه ما هذا إل ّ بشٌر مثلكم يريد أن
ضل عليكم ولو شاء الله لنزل ملِئكةٍ ( ] المؤمنون ، [ 24 :وطلبوا منه يتف ّ
أن يطرد الضعفاء والمساكين الذين تابعوه فرفض طلبهم ) وما أنا بطارد
مل َُقو ربهم ولكني أراكم قوما ً تجهلون ( ] هود . [ 29 :
اّلذين آمنوا إّنهم ّ
) (1/192
وقد تطاول الزمان وكثرت المجادلة بينه وبينهم كما قال الله تعالى ) :فلبث
فيهم ألف سنةٍ إل ّ خمسين عاما ً ( ] العنكبوت [ 14 :فدعا عليهم ) :وقال
ح رب ل تذر على الرض من الكافرين دّيارا ً – إّنك إن تذرهم يضّلوا عبادك نو ٌ
فارا ( ] نوح [ 27-26 :فأهلكهم الله بالطوفان ) :وقوم ً ً
ول يلدوا إل ّ فاجرا ك ّ
ً
ذبوا الّرسل أغرقناهم ( ] الفرقان ، [ 37 :وأنجى نوحا والمؤمنين نوح ل ّ ّ
ما ك ّ
برحمة منه ،وخلت الرض من الظالمين ،ولم يبق فيها إل الموحدون ،فلما
م أنشأنا من بعدهم قرنا ً انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسول ً ) ث ّ
آخرين – فأرسلنا فيهم رسول ً منهم ( ] المؤمنون ، [ 32-31 :فدعاهم إلى
توحيد الله ) أن اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ( ] المؤمنون . [ 32 :
وهكذا استمرت رحمة الله وعنايته ببني آدم كلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم
ة ّرسولها م ً ل ما جاء أ ّ م أرسلنا رسلنا تترا ك ّ هداه يضيء لهم الظلمات ) :ث ُ ّ ُ
ّ ً ً
كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ٍ ل يؤمنون ( ّ
] المؤمنون . [ 44 :
هذه هي قصة البشرية الحقيقية صراع طويل بين الحق والباطل ،بين
الرسل الذين يعرضون الهدى والحق ،وبين الضالين المعرضين عن التوحيد
وا عليه الباء والجداد ،وبأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة : المتمسكين بما أل ْ َ
ف ْ
) ألم يأتكم ن َب َأ ُ اّلذين من قبلكم قوم نوٍح وعادٍ وثمود واّلذين من بعدهم ل
يعلمهم إل ّ الله جاءتهم رسلهم بالبينات فرّدوا أيديهم في أفواههم وقالوا إّنا
ب – قالت رسلهم مري ٍما تدعوننا إليه ُ
م ّ
ك ّ كفرنا بما أرسلتم به وإّنا لفي ش ٍ
سماوات والرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ك فاطر ال ّ أفي الله ش ّ
ما
دونا ع ّ ى قالوا إن أنتم إل ّ بشٌر مثلنا تريدون أن تص ّ م ً
مس ّ ل ّ ويؤخركم إلى أج ٍ
ن ( ] إبراهيم . [ 10-9 : مبي ٍن ّ كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطا ٍ
) (1/193
وبالتأمل في دعوة الرسل التي عرضها القرآن تتبين لنا الحقائق التالية :
الولى :أن الله خلق النسان منذ البداية خلقا ً سويا ً مكتمل ً لغاية محددة ،
هي عبادته ،وأن خلقه مؤهل ً لذلك .
الثانية :أن الله عرفه على نفسه منذ البداية ،ولم يتركه لفكره يتعرف على
ربه بطريق التفكير والتأمل ،بل أرسل إليه رسل ً ،وقد كان هؤلء الرسل
من الكثرة بحيث إنهم بّلغوا البشرية كلها ) وإن من أ ّ
مةٍ إل ّ خل فيها نذيٌر (
] فاطر . [ 24 :
لذا فإننا ل نعلم أسماء جميع الرسل الذين أرسلهم الله ) ولقد أرسلنا رسل ً
من ّلم نقصص عليك ( ] غافر : من قصصنا عليك ومنهم ّ من قبلك منهم ّ
. [ 78
ومما يدل على ذلك أن المم المكذبة في يوم القيامة تقر وتعترف بتبليغ
ج سألهم خزنتها ألم الرسل لها دعوة الله قوله تعالى ) :كّلما ألقى فيها فو ٌ
ذبنا وقلنا ما نّزل الله من شيٍء إن يأتكم نذيٌر – قالوا بلى قد جاءنا نذيٌر فك ّ
ل كبيرٍ ( ]الملك [9-8 :أنتم إل ّ في ضل ٍ
وما هذا التتابع في إرسال الرسل على مدار التاريخ إل رحمة من الله بعباده ،
ووفاء بوعده الذي وعد به آدم أبا البشرية ،وإعذارا ً منه لخلقه ) :لئل ّ يكون
جة بعد الّرسل ( ]النساء ) ،[165 :وما ك ُّنا معذبين حّتى للّناس على الله ح ّ
نبعث رسول ً ( ]السراء . [ 15:
الثالثة :دعوة الرسل واحدة ،فأصل دعوتهم جميعا ً ولبها التوحيد ،بتعريف
الناس على ربهم ومعبودهم ،وبيان الطريقة التي يعبدونه بها .
) (1/194
الرابعة :أن دين الرسل جميعا ً السلم ل دين لهم سواه ) :ومن يبتغ غير
السلم دينا ً فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين ( ] آل عمران 85 :
[ فنوح يقول ) :وأمرت أن أكون من المسلمين ( ] يونس . [ 72 :وقال
الله عن التوراة ) :يحكم بها النبّيون اّلذين أسلموا لّلذين هادوا ( ] المائدة :
كلوا إن كنتم ، [ 44وقال موسى لقومه ) :إن كنتم آمنتم بالله فعليه تو ّ
مسلمين ( ] يونس ، [ 84 :وأمر الله خليله إبراهيم بالسلم ،فقال : ّ
صى بها إبراهيم بنيه ) أسلمت لرب العالمين ( ] البقرة ) ، [ 131 :وو ّ
مسلمون ( ّ وأنتم ّ لإ ن
ن الله اصطفى لكم الدين فل تموت ُ ّ ويعقوب يا بني إ ّ
]البقرة .[132 :
وعندما سأل يعقوب بنيه عن معبودهم من بعده ) قالوا نعبد إلهك وإله آباِئك
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها ً واحدا ً ونحن له مسلمون ( ] البقرة [ 133 :
،وملكة سبأ قالت ) :رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب
العالمين ( ] النمل ، [ 44 :ويوسف كان من دعائه ) :توّفني مسلما ً
وألحقني بالصالحين ( ] يوسف ، [ 101 :والرسول صلى الله عليه وسلم
ت ،أمهاُتهم شتى ودينهم واحد ( (7) (6) . يقول ) :والنبياء إخوة لعل ّ ٍ
وهذا التنوع الذي نراه في الشرائع ل يدل على أن دينهم كان مختلفا ً ؛ لن
الله قد يشرع أمرا ً لحكمة ،ثم يشرع أمرا ً آخر في وقت آخر لحكمة أخرى ،
بل قد يكون هذا في الشريعة الواحدة ،كما شرع الله في بداية المر التجاه
إلى بيت المقدس في الصلة ،ثم نسخ ذلك بأن أمر بالتوجه إلى البيت
الحرام فكان السلم أول ً التوجه إلى القدس ،ثم أصبح التوجه إلى الكعبة ،
وكذلك شرائع النبياء ،فالمتأخر ينسخ المتقدم ،وأصبحت الشريعة المنزلة
على محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الخاتمة الناسخة لما قبلها من
الشرائع .
) (1/195
) (1/196
) (1/197
ونكتفي بثلثة نماذج :واحد منها يمثل عقيدة دولة من الدول التي يعدها
الناس متمدنة في القديم .والثاني انحراف أهل ديانة سماوية عن الحق .
والثالث الوثنية العربية قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم .
الّرب عند الرومان )(1
يعد الباحثون الرومان من المم المتحضرة في القديم ،فلننظر إلى عقيدة
ب الرباب عندهم ،وكانت ن )) جوبيتر (( هو ر ّ
هذه المة الضالة .يزعمون أ ّ
صورته عندهم أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الرباب المنزهين ،
فقد كان حقودا ً لدودا ً مشغول ً بشهوات الطعام والغرام ،ل يبالي من شؤون
الرباب والمخلوقات إل ما يعينه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه ،
وكان يغضب على )) أسقولب (( إله الطب ،لّنه يداوي المرضى ،فيحرمه
جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الرض إلى باطن
الهاوية .
ويزعمون أنه كان يغضب على )) برومثيوس (( إله المعرفة والصناعة ،لّنه
يعّلم النسان أن يستخدم الّنار في الصناعة ،وأن يتخذ من المعرفة قوة
تضارع قوة الرباب ،وقد حكم عليه بالعقاب الدائم ،فلم يقنع بموته ول
بِإقصائه عن حظيرة اللهة ،بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له ،فقّيده
إلى جبل سحيق ،وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار ،حتى
ن الليل عادت سليمة في بدنه ،لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع إذا ج ّ
الشمس ، ...ول يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة
مرفوض الدعاء .
ومما تخيله الشاعر الوثني الفيلسوف )) هزيود (( عن علة غضب الله على
))برومثيوس(( :أّنه قسم له نصيبه من الطعام في وليمة الرباب ،فأكثر فيه
من العظام ،وأقل فيه من اللحوم والشحوم ،فاعتقد )) جوبيتر (( أنه تعالى
عليه بمعرفته وحكمته وفطنته ،لنه اشتهر بين اللهة بمعرفة وافرة وفطنة
نافذة لم يشتهر بها الله الكبير .
) (1/198
وقد اجتهد )هزيود( الشاعر الفيلسوف قصارى اجتهاده في تنزيه )) جوبيتر ((
وتصويره للناس في صورة القداسة والعظمة ،تناسب صورة الله المعبود
بعد ارتقاء العبادة شيئا ً ما في ديانة اليونان القدمين .
ومع ذلك فإن الباحثين الرومان يتحدثون عن )) جوبيتر (( أّنه كان يخادع
زوجته )) هيرة (( ويرسل إله الغمام لمدارة الشمس في مطلعها حذرا ً من
هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار ومفاجأته بين عشيقاته على عرش
)) الولمب (( .
وحدث مرة أّنها فاجأته وهو يقبل ساقيه )) جانيميد (( راعي الضأن الجميل
الذي لمحه في الخلء ،فاختطفه ،وصعد به إلى السماء .... ،فلم يتنصل
)) جوبيتر (( من تهمة الشغف بساقيه ،ومضى يسوغ مسلكه لزوجته بما
جهلته من لذة الجمع بين رحيق الكأس ورحيق الشفاه .
هذا نموذج للعقيدة الشركية الضالة صنعتها الخرافة والوهم ،فغدت
ن اللهة عند الرومان آلهة متعددة تتصارع وتتقاتل ،ويعذب بعضها أساطير .إ ّ
بعضا ً ،وهي كالبشر تأكل وتشرب ،وتتزوج ،ويخون الله زوجته ،ويلوط
ويبرر خطأه ،فكيف يكون أثر هذه العقيدة في نفوس معتنقيها ؟ وكيف
يكون أثرها في سلوكهم أفرادا ً ومجتمعات ؟ وأي قيم تقرها هذه العقيدة
الشركية الضالة المنحرفة ؟
--------------------------------
) (1حقائق السلم وأباطيل خصومه .
الله عند اليهود )(1
) (1/199
) (1/200
ن إلههم قومي ،ل يحاسبهم بقانون الخلق إل ومن لوثة القومية واعتقادهم أ ّ
في سلوك بعضهم مع بعض ،أما الغرباء ) غير اليهود ( فهو ل يحاسبهم على
سلوك معيب بهم .
من إن تأمنهمن هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم ) :ومنهم ّ
بدينارٍ ل يؤده إليك إل ّ ما دمت عليه قاِئما ً ذلك بأّنهم قالوا ليس علينا في
ل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( ] آل عمران ، [ 75 : ميين سبي ٌ
ال ّ
ً ً
وقد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافا للههم ل ترتفع كثيرا على أوصاف
الغريق في وثنيتهم للهتهم .
جاء في الصحاح الثالث من سفر التكوين " :بعد ارتكاب آدم لخطيئة الكل
من الشجرة ) وهي كما يقول كاتب الصحاح شجرة معرفة الخير والشر (
وسمعا صوت الرب الله ماشيا ً في الجنة عند هبوب ريح النهار ،فاختبأ آدم
وامرأته من وجه الرب الله في وسط الجنة ،فنادى الرب الله آدم ،وقال
له :أين أنت ؟ فقال :سمعت صوتك في الجنة ،فخشيتك ،لني عريان ،
فاختبأت ،فقال :من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي
أوصيتك أل تأكل منها ؟ .
ً
وقال الرب الله :هوذا النسان صار كواحد منا عارفا الخير والشر ،والن
لعله يمد يده ،ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ً ،أو يأكل ويحيا إلى البد ،
ب الله من جنة عدن ،ليعمل في الرض التي أخذ منها ،فطرد فأخرجه الر ّ
النسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ،ولهيب سيف متقلب لحراسة
شجرة الحياة " .
واضح ما في هذه النقول من وصف الله – سبحانه – بالجهل ،وأنه ل يدري
أين آدم حتى عّرفه هو ،وأنه كالبشر يتمشى كما يتمشى البشر ،وأن
السبب في إخراج آدم من الجنة ليس هو معصية آدم لربه كما وضحه القرآن
،وإنما هو خوف الله تعالى من أن يأكل النسان من شجرة الحياة فيكون
من الخالدين ! وأن الله لم ُيعّرف النسان الخير والشر ،وإنما علم ذلك
عندما أكل من الشجرة ،وكل ذلك كذب وافتراء على الله سبحانه وتعالى .
) (1/202
ويفهم من كلمهم أن حياة الله التي ل آخر لها إنما كانت بسبب أكله من
شجرة الحياة – سبحانه – عما يقولون .
لوكما نسبوا إلى الله – سبحانه – الجهل نسبوا إليه الحزن والندم على فِعْ ٍ
فَعََله ،فهم يذكرون أنه حزن على خلق النسان لما كثر شّره وفساده في
ب أن شّر النسان قد كثر في الرض ،وأن كل تصور عهد نوح " :ورأى الر ّ
ب أنه عمل النسان في أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم ،فحزن الر ّ
ب :أمحو عن وجه الرض النسان الذي الرض ،وتأسف في قلبه ،فقال الر ّ
خلقته .النسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء ،لني حزنت أني عملتهم ،
وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب .
واستمع إلى هذه الخرافة التي وردت في الصحاح الحادي عشر من سفر
التكوين " :بعدما عمرت الرض بذرية نوح ،وكانت كّلها لسانا ً واحدا ً ولغة
واحدة ،وحدث في ارتحالهم شرقا ً أنهم وجدوا نعمة في أرض شنعار ،
وسكنوا هناك ،وقال بعضهم لبعض :هلم نصنع لبنا ً ونشويه شيا ً ،فكان لهم
اللبن مكان الحجر ،وكان لهم الحجر مكان الطين ،وقالوا :هلم نبني
لنفسنا مدينة وبرجا ً رأسه في السماء ونصنع اسما ً ،لئل نتبدد على وجه كل
الرض .
فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كانوا بنو آدم يبنونهما ،وقال الرب :
هوذا شعب واحد ،ولسان واحد لجميعهم ،وهذا ابتداؤهم بالعمل ،والن ل
يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه .هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم ،حتى
ل يسمع بعضهم لسان بعض ،فبددهم الرب من هناك على وجه كل الرض ،
فكفوا عن بنيان المدينة ،لذلك دعي اسمها بابل ،لن الرب هناك بلبل لسان
كل الرض ،ومن هناك بددهم الرب على وجه الرض " .
) (1/203
أي خرافة هذه التي تزّور الحقيقة ،وتكاد تمحو معالمها ! ،وأي إله هذا الذي
ترسمه هذه الخرافة ؟ هذا الله الذي يخاف البشر ،ويخاف تكتلهم
واجتماعهم ،فإذا به يحاربهم قبل أن تجتمع كلمتهم ،ويصلب عوُدهم ،
ويشتتهم في أقطار الرض بعد أن يبلبل ألسنتهم .
ونسب اليهود إلى الله فعل الشر ،كما نسبوا إليه الندم على ما فعل ،ففي
ب وباء في سفر صموئيل الثاني ،الصحاح الرابع والعشرون " :فجاء الر ّ
إسرائيل من الصباح إلى الميعاد ،فمات من الشعب من دان إلى بئر السبع
سبعون ألف رجل ،وبسط الملك يده على أورشليم ليهلكها ،فندم الرب
على الشر .فقال للملك المهلك الشعب :كفى الن ،رويدك " .
فإذا تركنا ما حكاه القرآن عن ضللة اليهود في وصفهم لربهم ،وما في
التوراة من تحريف وزيف ونظرنا في ) التلمود ( وهو الكتاب الذي سطره
علماء اليهود وحاخاماتهم ،وله من الهمية في نظرهم فوق ما للتوراة ،لو
نظرنا فيه لهالنا ذلك الضلل الذي وقع فيه اليهود ل في العقيدة فحسب ،بل
في شتى مناحي الشريعة .
وسأكتفي بأن أنقل من كتاب )) الكنز المرصود في قواعد التلمود (( ما
يتعلق بالعزة اللهية ،فمن ذلك أن الله عندهم يحتاج إلى أن يقرأ ويتعلم ،
كما أنه يهزل ويلعب سبحانه وتعالى ،فقد ورد في تلمودهم )) أن النهار اثنتا
عشرة ساعة :في الثلثة الولى منها يجلس ويطالع الشريعة ،وفي الثلثة
الثانية يحكم ،وفي الثلثة الثالثة يطعم العالم ،وفي الثلثة الخيرة يجلس
ويلعب مع الحوت ملك السماك (( .
واسمع ما هو أدهى وأعظم " :أنه ل شغل لله غير تعلمه التلمود مع الملئكة
" ،وليس الملئكة فقط ،بل مع ) أسمودية ( ملك الشياطين في مدرسة
السماء .
) (1/204
وما الحوت الذي يلعب معه الرب ؟ إنه حوت كبير جدا ً يمكن أن يدخل في
حلقه سمكة طولها ثلثمائة فرسخ بدون أن تضايقه ،وبما أن له هذا الحجم
فإن الله خاف إذا ما تناسل أن يهلك الدنيا ،ولذا فإنه رأى أن يحرمه زوجته ،
لنه لو لم يفعل ذلك لمتلت الدنيا وحوشا ً أهلكت من فيها ،ولذلك حبس
الله الذكر بقوته اللهية ،وقتل النثى وملحها وأعدها لطعام المؤمنين في
الفردوس .
ويضيفون إلى هذه الخرافات التي أصبحت عقائد لهم أن " :الله لم يلعب مع
الحوت بعد هدم الهيكل ،ولم يمل بعدم هدم الهيكل إلى الرقص مع حواء
بعدما زينها بملبسها ،وعقص لها شعرها " .
تبا ً لهم وُبعدا ً ،إنهم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ،قول المم الضالة
المشركة ،فإلههم حسب تصورهم ل يختلف عن البشر ،يفكر تفكيرهم ،
ويفعل ِفعلهم ،يلعب ،ويرقص ،ويحزن ،ويبكي ،على ماذا ؟ على هدم
هيكل اليهود الذي بناه لهم سليمان .
هدم فيه ُ الذي التاريخ ذلك من الله جعلوا والهيكل يرمز إلى مجد اليهود وقد
الهيكل إلى اليوم يبكي ثلثة أرباع الليل يزأر كالسد قائل ً " :تبا ً لي لني
صّرحت بخراب بيتي وإحراق الهيكل ونهب أولدي " .
بل يغالون في التحريف والتدجيل ،فيقولون :إن الله تضاءلت ذاته – سبحانه
وتعالى – عما يقولون علوا ً عظيما ً – بسبب حزنه على خراب الهيكل " وشغل
الله مساحة أربع سماوات بعد أن كان ملء السماوات والرض في جميع
الزمان " .
جده عباده – ويصفون العلي المجيد بأنه يحقر نفسه – سبحانه – عندما يم ّ
ويقصدون بهم اليهود طبعا ً – " ولما يسمع الباري – تعالى – تمجيد الناس له ،
يطرق رأسه ويقول :ما أسعد الملك الذي يمدح ويبجل مع استحقاقه لذلك ،
ولكن ل يستحق شيئا ً من المدح الب الذي يترك أولده في الشقاء " .
قاتلهم الله أّنى يؤفكون .
) (1/205
هذه نماذج من العقيدة اليهودية المحرفة المزيفة التي تشكل قاعدة دينهم ،
وهي ل تقل في انحطاطها عن أساطير الغريق والوثنيين في آلهتهم .
--------------------------------
) (1خصائص التصور السلمي ،لسيد قطب بتصرف يسير ...ص . 11
) (2هذا قليل من كثير مما سطرته أيدي اليهود في ) تلمودهم ( .
انحراف العرب عن التوحيد
كان العرب على دين التوحيد دين أبيهم إبراهيم عليه السلم ،واستمروا على
ذلك إلى ما قبل البعثة بأربعمائة سنة حيث ظهر فيهم رئيس مسموع الكلمة
مطاع ل يخاَلف ،فغير دينهم ،ذلك هو عمرو بن عامر الخزاعي .
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
ه في النار ،كان أول من سيب ) رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُ ْ
صب َ ُ
ً
السوائب ( ) ، (1وفي صحيح البخاري أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله
ه، عليه وسلم قال ) :رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ً ،ورأيت عمرا ً يجر قُ ْ
صب َ ُ
وهو أول من سيب السوائب ( (2) .
فعمرو هذا غّير دين العرب بدعوتهم لعبادة الصنام ،وباستحداث بدع في
ل فيها وحّرم بهواه ،ومن ذلك ما ذكره الله في كتابه : دين الله تعالى ،أح ّ
ّ
ن الذين كفروا ) ما جعل الله من بحيرةٍ ول ساِئبةٍ ول وصيلةٍ ول حام ٍ ولك ّ
يفترون على الله الكذب وأكثرهم ل يعقلون ( ] المائدة (3) . [ 103 :
وتختلف الروايات في الكيفية التي نشر عمرو بها الصنام في الجزيرة
ي من الجن هو الذي دله على الصنام ن عمرا ً كان له رئ ٌ
العربية ،فمن قائل إ ّ
التي كانت مدفونة منذ عهد نوح ،وكان قوم نوح يعبدونها ،فاستخرجها عمرو
،ووزعها في العرب ،وقيل :إنه جاء بالصنام من بلد الشام ،عندما رآهم
يعبدونها ،فطلب منهم صنما ً ،فأعطوه واحدا ً نصبه بمكة ). (4
) (1/207
والسبب في أن العرب تابعت عمرو بن لحي أنه كان ذا مكانة فيهم ،فقد
كان سيد خزاعة في حال غلبتها على مكة وعلى البيت بعد أن نفت قبيلة
جرهم من مكة ،وكانت العرب قد جعلته ربا ً ،ل يبتدع بدعة إل اتخذوها
شرعة ،لنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم ،فربما نحر في
الموسم عشرة آلف بدنة ،وكسا عشرة آلف حلة .
ويقال :إن عمرا ً هذا هو الذي دعا الناس إلى عبادة اللت ،وكان رجل يلت
ً
السويق للحاج بالطائف على صخرة هناك ،فلما مات زعم عمرو بن لحي أنه
لم يمت ،وأنه دخل في الصخرة التي يلت عليها ،وأمرهم بعبادتها .
ومما يذكر عنه أيضا ً أنه هو الذي غير التلبية التي كانت تعلن التوحيد لله
وحده ،فقد كانت التلبية من عهد إبراهيم عليه السلم ) لبيك اللهم لبيك،
لبيك ل شريك لك لبيك ( واستمر الحال حتى كان عمرو بن عامر ،فبينما هو
يطوف بالكعبة يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه ،فقال :
) لبيك ل شريك لك ( ،فقال الشيخ :إل شريكا ً هو لك ،فأنكر هذا عمرو ،
فقال :ما هذا ؟ فقال الشيخ :قل تملكه وما ملك ،فإنه ل بأس بهذا ،فقالها
عمرو ،فدانت بها العرب .
بداية النحراف :
ويذكر لنا ابن إسحاق كيف كانت بداية النحراف عند العرب من نسل
إسماعيل عليه السلم في عبادتهم الحجار ،فقد كان )) أول أمرهم أنهم
كانوا يعظمون الحرم ،فل يرتحلون منه حتى كثروا وضاق بهم ،فأخذوا
يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلد ،فكان ل يظعن ظاعن منهم
عن الحرم إلى غيره إل حمل معه حجرا ً من حجارة الحرم تعظيما ً له ،فحيث
ما نزلوا وضعوه ،فطافوا به كطوافهم بالكعبة ،ثم أدى بهم ذلك إلى عبادة
هذه الحجار ،ثم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة (( ). (5
) (1/208
وانظر إلى ما صار إليه أمرهم وحالهم :عن أبي رجاء العطاردي قال " :كنا
نعبد الحجر في الجاهلية ،فإذا وجدنا حجرا ً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ،
فإذا لم نجد حجرا ً جمعنا حثية من تراب ،ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا
به " .
ومن عجائب أمر الجاهلية أن الرجل منهم كان إذا سافر حمل معه أربعة
أحجار ،ثلثة لقدره والرابع يعبده .
أصنام العرب :
واتخذوا الصنام والوثان ،قال هشام بن محمد السائب الكلبي " :وكان من
أقدم أصنامهم )مناة( ،وكان منصوبا ً على ساحل البحر الحمر من ناحية
)المشلل( بقديد بين مكة والمدينة ،وكانت العرب جميعا ً تعظمه ،وكانت
الوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه
ويذبحون له ،ويهدون له ،ولم يكن أحد أشد إعظاما ً له من الوس
والخزرج ،وبلغ من تعظيم الوس ومن جاورهم من عرب يثرب له أنهم كانوا
يحجون ،فيقفون مع الناس المواقف كلها ،ول يحلقون رؤوسهم ،فإذا نفروا
أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم ،وأقاموا عنده ل يرون لحجمهم تماما ً إل بذلك .
وكانت )مناة( لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ً
عام الفتح فهدمها ،ثم اتخذوا )اللت( بالطائف وهي أحدث من مناة ،وكانت
صخرة مربعة ،وكانت سدنتها من ثقيف ،وكانوا قد بنوا عليها ،وكانت
قريش وجميع العرب يعظمونها ،وبها كانت تسمى زيد اللت ،وتيم اللت ،
وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم ،فم تزل كذلك حتى
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة ابن شعبة ،وأبا سفيان بن
حرب لما أسلمت ثقيف ،فهدماها وحرقاها بالنار .
َ َ
غير أن ابن جرير يروي في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى ) :أفََرأي ْت ُ ُ
م
اّللت والعُّزى ( ] النجم [ 19 :قال :كان اللت يلت السويق للحاج ،فمات
تفعكفوا على قبره ،وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس :كان يل ّ
السويق للحاج .رواه البخاري بنحوه .
) (1/209
ثم اتخذوا )العزى( وهي أحدث من اللت ،اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة
فوق ذات عرق ،وبنوا عليها بيتا ً ،فكانوا يسمعون منها الصوت ،قال الكلبي
فيما يرويه عن ابن عباس قال :كانت للعزى شيطانة تأتي ثلث سمرات
ببطن نخلة .
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال :
ائت بطن نخلة ،فإنك ستجد ثلث سمرات ،فاعضد الولى ،فأتاها
فعضدها ،فلما جاء إليه قال :هل رأيت شيئا ً ؟ قال :ل .قال :فاعضد
الثانية ،فعضدها ،ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال :هل رأيت شيئا ً ؟
قال ل ،قال :فاعضد الثالثة ،فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة
يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها ،فقال خالد :
كفرانك ل سبحانك ،إني رأيت الله قد أهانك .
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ،ثم عضد الشجرة ،وقتل السادن ،
ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ،فقال ) :تلك العزى ،ول عزى
بعدها للعرب ( .وكانت العزى لهل مكة في موضع قريب من عرفات ،
وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون .
وقال الكلبي في كتابه ) الصنام ( " :وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة
وحولها ،وأعظمها عندهم )هبل( ،وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على
صورة النسان ،وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا ً أتوه ،
فاستقسموا عنده بالقداح .
ومن أصنامهم إساف ونائلة ،ويروي بعض الرواة أن رجل ً وامرأة زنيا في
البيت الحرام ،فمسخهما الله حجرين ،ووضعتهما قريش عند الكعبة ليتعظ
بهما الناس ،فلما طال مكثهما وعبدت الصنام عبدا معها .
) (1/210
ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين
صنما ً ،فجعل يطعن بقوسه في وجوهها وعيونها ويقول ) :جاء الحقّ وزهق
ن الباطل كان زهوقا ً ( ] السراء ) ، [ 81 :جاء الحقّ وما ُيبد ُ
ئ الباطل إ ّ
الباطل وما ُيعيد ( ] سبأ [49:وهي تتساقط على رؤوسها ،ثم أمر بها
فأخرجت من المسجد وحرقت .أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود
بنحوه ولم يذكرا " وهي تتساقط ...إلخ " وعندهما يطعنها بعود كان في
يده .
وقد انتشرت عبادة الصنام حتى إنه كان لكل دار في مكة صنم يعبده أهلها ،
فإذا أراد أحدهم السفر فكان أول ما يصنع في منزله أن يتمسح به ،وإذا
قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به .
قال ابن إسحاق الكلبي " :وكان ) ذو الخلصة ( لدوس وخثعم وبجيلة ومن
مْروَة ً بيضاء منقوشا ً عليها كهيئة التاج ،وكانكان ببلدهم من العرب ،وكان َ
له بيت ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي ):
أل تكفيني ذا الخلصة؟ ( فسار إليه بأحمس ،فقاتلته خثعم وباهلة ،فظفر
بهم ،وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار " .
وفي البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال :قال لي رسول الله صلى
ة ( ،وكان بيتا ً في خثعم يسمى ص َ
خل َ
الله عليه وسلم ) أل تريحني من ذي ال َ
الكعبة اليمانية ،فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس إلى ذي
الخلصة ،وكانوا أصحاب خيل ،فقلت :يا رسول الله ،إني ل أثبت على
الخيل ،فضرب بيده في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال :
) اللهم ثبته واجعله هاديا ً مهديا ً ( ،فانطلق إليها فكسرها .
والصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية أكثر من هذا الذي ذكرناه .
ظلمة دامسة عند البعثة :
) (1/211
ولم يكن قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من بقايا النور السماوي
الذي جاءت به النبياء إل أضواء خافتة ل تكفي للهداية والستقامة على
المنهج الرباني ،لضياع ذلك المنهج واختلطه بذلك الباطل الكثير ،وفي
الحديث ) :إن الله نظر – قبيل البعثة – إلى أهل الرض ،فمقتهم عربهم
وعجمهم ،إل بقايا من أهل الكتاب ( .
وقد حفظت لنا النصوص التاريخية أن أربعة من عقلء قريش اعتزلوا قومهم
في أحد أعياد قريش عند وثن من الوثان ،وهم ورقة بن نوفل ،وعبيد الله
بن جحش ،وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى ،وزيد بن عمرو بن
نفيل .
فقال بعضهم لبعض :تعلمون والله ما قومكم على شيء ،ولقد أخطؤوا دين
أبيهم إبراهيم ،ما حجر نطيف به ،ل يسمع ول يبصر ،ول يضر ول ينفع ؟ يا
قوم التمسوا لنفسكم دينا ،فإنكم – والله – ما أنتم على شيء ،فتفرقوا
في البلدان يلتمسون دين إبراهيم .
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ،واتبع الكتب من أهلها ،حتى
علم علما ً من أهل الكتاب .
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من اللتباس حتى أسلم ،ثم
هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان
مسلمة ،فلما قدمها تنصر ،وترك السلم حتى هلك نصرانيا ً .
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر ،وحسنت
منزلته عنده .
وأما زيد فوقف ،فلم يدخل في يهودية ول نصرانية ،وفارق قومه ،فاعتزل
الوثان ،واجتنب الميتة والدم والذبائح التي تذبح على الوثان ،ونهى عن
قتل الموءودة ،وقال أعبد رب إبراهيم ،وبدأ قومه بعيب ما هم عليه .
) (1/212
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما )) :أن النبي
صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ) واد غربي
مكة ( قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ،فقدمت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم سفرة ،فأبى أن يأكل منها ،ثم قال زيد :إني
لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ،ول آكل إل ما ذكر اسم الله عليه ،
وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ،ويقول :الشاة خلقها الله
،وأنزل لها من السماء ماء ،وأنبت لها من الرض ،ثم تذبحونها على غير
اسم الله ؟ إنكارا ً لذلك وإعظاما ً له (( ). (6
قال موسى بن عقبة حدثني سالم بن عبد الله – ول أعلمه يحدث به إل عن
ابن عمر – )) إن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين
ويتبعه ،فلقي عالما ً من اليهود ،فسأله عن دينهم فقال :إني لعلي أن أدين
دينكم ،فأخبرني ،فقال :ل تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب
الله ،قال زيد :ما أفر إل من غضب الله ،ول أحمل من غضب الله شيئا ً أبدا ً
،وأنى أستطيعه ! فهل تدلني على غيره ؟ قال :ما أعلمه إل أن يكون
حنيفا ً ،قال زيد :وما الحنيف ؟ قال :دين إبراهيم ،لم يكن يهوديا ً ول
نصرانيا ً ،ول يعبد إل الله .
فخرج زيد فلقي عالما ً من النصارى ،فذكر مثله .فقال :لن تكون على ديننا
حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله .قال :ما أفر إل من لعنة الله ،ول أحمل
من لعنة الله ول غضبه شيئا ً ،وأنى أستطيع ،هل تدلني على غيره ؟ قال :
ما أعلمه إل أن يكون حنيفا ً .قال :وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم ،لم يكون
يهوديا ً ول نصرانيا ً .
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلم خرج ،فلما برز رفع يديه ،
فقال :اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم (( ). (7
) (1/213
ي هشام بن عروة ،عن أبيه ،عن أسماء بنت أبي قال :وقال الليث :كتب إل ّ
بكر رضي الله عنها قالت )) :رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما ً مسندا ً
ظهره إلى الكعبة يقول :يا معشر قريش ،والله ما منكم على دين إبراهيم
غيري .وكان يحي الموءودة .ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته :ل
تقتلها ،أنا أكفيك مؤونتها ،فيأخذها ،فإذا ترعرعت قال لبيها :إن شئت
دفعتها إليك ،وإن شئت كفيتك مؤونتها (( ). (8
ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيد هذا فقال ُ ) :يحشر ذاك
أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم ( قال ابن كثير إسناده جيد حسن .
وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ) :دخلت الجنة فرأيت
لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين ( قال ابن كثير :وهذا إسناد جيد .
وبعد هذه الظلمة الشديدة أذن الله ببزوغ فجر السلم ،فاستنار الناس
بنوره ،واهتدوا بهديه فله الحمد والمنة .
--------------------------------
) (1رواه البخاري . 8/283 :ورقمه . 4623 :
) (2رواه البخاري في صحيحه . 8/283 :ورقمه . 4624 :
) (3البحيرة :الناقة تبحر أذنها ،أي تشق ثم ترسل ،وتكون هذه علمة
تعرفها العرب ،فل يركبها أحد ول يحملون عليها ،يفعلون بها ذلك إذا ولدت
خمس بطون آخرها ذكر .والسائبة :أن ينذر الرجل إذا حدث أمر ما يحبه أن
يسيب ناقة وتجعل كالبحيرة في عدم النتفاع بها .والوصيلة :كانت العرب إذا
ولدت الناقة أنثى لهم ،وإذا ولدت ذكرا ً للهتهم ،وإذا ولدتهما قالوا :وصلت
أخاها فيحرم ذبح الذكر .والحام :الفحل يحمل من ظهره عشرة أبطن ،
فيحرم ذبحه وظهره ،ول يمنع من مرعى ول ماء .وهم إنما يفعلون هذا
بالنعام تقربا ً بذلك إلى طواغيتهم .
) (4راجع :السيرة النبوية ،لبن هشام . 1/121 :
) (5السيرة ،لبن هشام . 1/122 :
) (6رواه البخاري ، 7/142 :ورقمه . 3826 :
) (7رواه البخاري . 7/142 :ورقمه . 3827 :
) (1/214
) (1/215