You are on page 1of 140

‫العقيدة في ضوء الكتاب والسنة‬

‫العقيدة في الله‬

‫الدكتور عمر سليمان الشقر‬

‫أهمية اليمان بالله‬


‫م‬
‫الصل الول من الصول العتقادية هو اليمان بالله ‪ ،‬وهذا الصل هو أه ّ‬
‫ب القرآن ‪ ،‬ول نبالغ‬ ‫الصول العتقادية والعملية ‪ ،‬وعليه مدار السلم ‪ ،‬وهو ل ّ‬
‫ما حديث مباشر‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫القرآن‬ ‫ن القرآن كّله حديث عن هذا اليمان ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬ ‫إذا قلنا ‪ :‬إ ّ‬
‫عن الله تعالى ‪ :‬ذاته وأسمائه ‪ ،‬وصفاته ‪ ،‬وأفعاله ‪ ،‬كآية الكرسي ‪ ،‬وسورة‬
‫الخلص ‪.‬‬
‫ما دعوة إلى عبادته وحده ل شريك له ‪ ،‬وترك ما ُيعبد من دونه من آلهة‬ ‫وإ ّ‬
‫ي عن صرف ذلك‬ ‫قه ‪ ،‬ونه ٌ‬ ‫باطلة ‪ ،‬وهذا كله تعريف بالله ‪ ،‬ودعوة للقيام بح ّ‬
‫لغيره ‪.‬‬
‫وإما أمر بطاعته سبحانه ‪ ،‬ونهي عن معصيته ‪ ،‬وهذا من لوازم اليمان ‪.‬‬
‫ما إخبار عن أهل اليمان وما فعل بهم في الدنيا من الكرامة ‪ ،‬وما يثيبهم‬ ‫وإ ّ‬
‫به في الخرة ‪ ،‬وهذا جزاء أهل اليمان بالله ‪.‬‬
‫دنيا من النكال ‪ ،‬وما‬ ‫ما إخبار عن الكافرين ‪ ،‬وما فعل الله بهم في ال ّ‬ ‫وإ ّ‬
‫سيفعل بهم في الخرة في دار العذاب ‪ ،‬وهذا جزاء من أعرض عن اليمان ‪.‬‬
‫ن ذكر الله قد‬ ‫فالقرآن كله حديث عن اليمان بالله ‪ ،‬يوضح هذا أنّنا نجد أ ّ‬
‫كرر في القرآن باسم من أسمائه ‪ ،‬أو صفة من صفاته )‪ (10062‬مرة أي‬ ‫ت ّ‬
‫في الصفحة الواحدة قرابة عشرين مرة في المتوسط ‪.‬‬
‫ن اليمان بالله بالنسبة لبقية الصول والفروع كأصل‬ ‫إننا نستطيع أن نقول ‪ :‬إ ّ‬
‫دين ‪ ،‬وكلما‬ ‫الشجرة بالنسبة للسوق والفروع ‪ ،‬فهو أصل الصول ‪ ،‬وقاعدة ال ّ‬
‫كان حظ المرء من اليمان بالله عظيما ً كان حظه في السلم كبيرا ً ‪.‬‬
‫مسائل اليمان بالله ‪:‬‬
‫مسائل هذا الباب التي ل بد ّ للباحث من عرضها وتمحيصها هي ‪:‬‬
‫أول ً ‪ :‬أدلة وجود الله – تعالى – ورد ّ الشبهات التي تثار حول هذا الموضوع ‪.‬‬
‫م في القرآن من خلل طريقتين ‪:‬‬ ‫ثانيا ً ‪ :‬التعريف بالله – سبحانه – وهذا يت ّ‬
‫‪ -1‬بيان ما في المخلوقات من إبداع وإعجاز تدل على عظيم قدرة الله وبديع‬
‫صنعه ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -2‬دراسة اليات القرآنية التي تتحدث عن الله حديثا مباشرا ‪ :‬ذاته ‪ ،‬وأسمائه‬
‫‪ ،‬وصفاته ‪ ،‬وأفعاله ‪.‬‬

‫) ‪(1/1‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬توحيد الله وحده ل شريك له ‪ ،‬ونبذ ما يعبد من دونه ‪.‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬نظرة في تاريخ العقيدة اللهية ‪ ،‬وتحقيق القول في ذلك ‪.‬‬
‫أدلة وجود الخالق ج ّ‬
‫ل وعل‬
‫الدليل الول‬
‫دليل الفطرة‬
‫الفطرة السليمة تشهد بوجود الله من غير دليل ‪:‬‬
‫ن‬‫ن القرآن يقّرر أ ّ‬ ‫لم يطل القرآن في الستدلل على وجود الله تعالى ‪ ،‬ل ّ‬
‫الفطر السليمة ‪ ،‬والنفوس التي لم تتقذر بأقذار الشرك ‪ُ ،‬تقّر بوجوده من‬
‫ن توحيده – سبحانه – أمر فطري بدهي )‬ ‫غير دليل ‪ ،‬وليس كذلك فقط ‪ ،‬بل إ ّ‬
‫فأقم وجهك للدين حنيفا ً فطرت الله التي فطر الناس عليها ل تبديل لخلق‬
‫الله ذلك الدين القيم ( ] الروم ‪. [ 30 :‬‬
‫هذه الفطرة هي التي تفسر الظاهرة التي لحظها الباحثون في تاريخ الديان‬
‫ن المم جميعا ً – التي درسوا تاريخها – اتخذت معبودات تتجه إليها‬ ‫‪ ،‬وهي أ ّ‬
‫دسها ‪(1) .‬‬ ‫وتق ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد يقال هنا ‪ :‬لو كان التوجه إلى الله أمرا فطريا لما عبد الّناس في مختلف‬
‫العصور آلهة شتى ‪.‬‬
‫ن النسان‬ ‫ّ‬ ‫لك‬ ‫‪،‬‬ ‫الخالق‬ ‫إلى‬ ‫التجاه‬ ‫إلى‬ ‫المرء‬ ‫تدعو‬ ‫الفطرة‬ ‫ن‬
‫والجواب ‪ :‬أ ّ‬
‫تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق ‪.‬‬
‫فيما يغرسه الباء في نفوس البناء ‪ ،‬وما يلقيه الكّتاب والمعلمون والباحثون‬
‫دل هذه الفطرة ويقذرها ‪ ،‬ويلقي عليها غشاوة ‪ ،‬فل تتجه‬ ‫في أفكار الناشئة يب ّ‬
‫إلى الحقيقة ‪.‬‬
‫ص الرسول صلى الله عليه وسلم على صدق هذا الذي قررناه ‪ ،‬ففي‬ ‫وقد ن ّ‬
‫الصحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬كل مولود يولد على الفطرة ‪ ،‬فأبواه يهودانه ‪،‬‬
‫ق‬
‫مواف ٌ‬ ‫ن السلم ُ‬ ‫أو ينصرانه ‪ ،‬أو يمجسانه ( )‪ . (2‬ولم يقل ُيسلماِنه ‪ ،‬ل ّ‬
‫للفظرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/2‬‬

‫وقد يقال ‪ :‬إذا تركنا الطفل من غير أن ُنؤّثر في فطرته هل يخرج موحدا ً‬
‫دنسوا فطرهم ‪،‬‬ ‫عارفا ً برّبه ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إذا ترك شياطين النس البشر ‪ ،‬ولم ي ّ‬
‫ن لن يتركوهم ‪ ،‬فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلل‬ ‫ن شياطين الج ّ‬ ‫فإ ّ‬
‫بني آدم ‪ ) :‬قال فبعزتك لغوينهم أجمعين – إل عبادك المخلصين ( ] ص ‪:‬‬
‫‪. [ 83-82‬‬
‫وأعطي الشيطان القدرة على أن يصل إلى قلب النسان ‪ ،‬كما في الحديث‬
‫الصحيح ) إن الشيطان يجري من النسان مجرى الدم ‪ ،‬وإني خشيت أن‬
‫يقذف في قلوبكما شرا ً ( أو قال ‪ ) :‬شيئا ( ‪(3) .‬‬
‫والقرآن وصف الشيطان المطلوب الستعاذة منه بأّنه ) يوسوس في صدور‬
‫ن يأمره‬ ‫ن لكل إنسان قرينا ً من الج ّ‬‫الناس ( ] الناس ‪ ، [ 5 :‬وقد صح أيضا ً أ ّ‬
‫بالشّر ‪ ،‬ويحثه عليه ‪ ،‬وفي القرآن ) قال قرينه رّبنا ما أطغيته ولكن كان في‬
‫ضلل بعيد ٍ ( ] ق ‪. [ 27 :‬‬
‫ول يتخلص المرء من هذا إل باللتجاء إلى الله ) قل أعوذ برب الناس – ملك‬
‫الناس – إله الناس – من شر الوسواس الخناس – الذي يوسوس في صدور‬
‫الناس – من الجنة والناس ( ] الناس ‪. [ 6-1 :‬‬
‫ن يقومون بدور كبير في إفساد الفطرة وتدنيسها ‪ ،‬وقد ثبت‬ ‫وشياطين الج ّ‬
‫في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫خطب ذات يوم ‪ ،‬فكان مما جاء في خطبته ‪ ) :‬أل إن ربي أمرني أن أعلمكم‬
‫حل ٌ‬
‫ل ‪ ،‬وإني‬ ‫ل مال نحلته )‪ (4‬عبادي َ‬‫ما جهلتم مما علمني يومي هذا ‪ :‬ك ّ‬
‫خلقت عبادي حنفاء كلهم ‪ ،‬وإنهم أتتهم الشياطين ‪ ،‬فاجتالتهم عن دينهم ‪،‬‬
‫وحرمت عليهم ما أحللت لهم ‪ ،‬وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به‬
‫سلطانا ً ( ‪(5) .‬‬
‫المصائب تصفي جوهر الفطرة ‪:‬‬

‫) ‪(1/3‬‬

‫وكثيرا ً ما تنكشف الحجب عن الفطرة ‪ ،‬فتزول عنها الغشاوة التي رانت‬


‫عليها عندما تصاب بمصاب أليم ‪ ،‬أو تقع في مأزق ل تجد فيه من البشر‬
‫عونا ً ‪ ،‬وتفقد أسباب النجاة ‪ ،‬فكم من ملحد عرف رّبه وآب إليه عندما أحيط‬
‫به ‪ ،‬وكم من مشرك أخلص دينه لله لضّر نزل به ) حتى إذا كنتم في الفلك‬
‫ف وجاءهم الموج من كل‬ ‫وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاص ٌ‬
‫ن أنجيتنا من هذه‬ ‫مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئ ِ‬
‫ن من الشاكرين ( ] يونس ‪. [ 22 :‬‬ ‫لنكون ّ‬
‫وقد سمعنا كيف آب ركاب طائرة ما إلى رّبهم عندما أصاب طائرتهم خلل ‪،‬‬
‫فأخذت تهتز وتميل ‪ ،‬وتتأرجح في الفضاء ‪ ،‬والطيار ل يملك من أمره شيئا ً‬
‫دعاء ‪ ،‬ورغبت‬ ‫جت اللسنة بال ّ‬ ‫فضل ً عن الركاب ‪ ،‬هناك اختفى اللحاد ‪ ،‬وض ّ‬
‫القلوب إلى ربها بصدق وإخلص ‪ ،‬ولم يبق للشرك واللحاد وجود في مثل‬
‫هذا الموقف الرهيب ‪.‬‬
‫المشركون الذين ُبعث إليهم الرسول كانوا يقّرون بوجود الخالق ‪:‬‬
‫العرب الذين جابههم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مقّرين بوجود الله ‪،‬‬
‫ضار ‪... ،‬‬
‫وأّنه الخالق وحده للكون ‪ ،‬كما يقّرون بأّنه وحده الرزاق النافع ال ّ‬
‫ولكنهم كانوا يبعدون غيره معه ‪ ،‬ول يخلصون دينهم لله وحده ‪.‬‬
‫دين له كان‬ ‫وفي معرض إلزام المشركين بالعبودية لله وحده ‪ ،‬وإخلص ال ّ‬
‫يسألهم عن الخالق المالك للسماء والرض ‪ ،‬فكانوا يعترفون ‪ ،‬ول ينكرون ‪) ،‬‬
‫ن الله ( ] لقمان ‪. [ 25 :‬‬ ‫ولِئن سألتهم من خلق السماوات والرض ليقول ّ‬
‫وفي سورة المؤمنون ) قل لمن الرض ومن فيها إن كنتم تعلمون –‬
‫سيقولون لله قل أفل تذكرون – قل من رب السماوات السبع ورب العرش‬
‫العظيم – سيقولون لله قل أفل تتقون – قل من بيده ملكوت كل شيء وهو‬
‫يجير ول يجار عليه إن كنتم تعلمون – سيقولون لله قل فأّنى تسحرون (‬
‫ن العرب كانوا ُيعظمون الكعبة ‪،‬‬ ‫] المؤمنون ‪ . [89-84 :‬ومن المعروف أ ّ‬
‫سكون بها ‪.‬‬ ‫ويحجون ‪ ،‬ولهم بقية من عبادات يتن ّ‬
‫كفر الّناس – اليوم أعظم ‪:‬‬

‫) ‪(1/4‬‬
‫ن الفطرة النسانية تشهد‬ ‫كان حري ّا ً بنا أل نقف عند أدلة وجود الله كثيرا ً ‪ ،‬ل ّ‬
‫بذلك ‪ ،‬ول يكاد يعرف منكر لوجود الخالق في الماضي إل النزر اليسير ‪ ،‬وهم‬
‫ل يمثلون في البشرية نسبة تذكر ‪.‬‬
‫درك السفل ‪ ،‬فأصبحنا نرى أقواما ً يزعمون أن‬ ‫إل أن النحراف اليوم وصل ال ّ‬
‫ل خالق ‪ ،‬ويجعلون هذه المقولة مذهبا ً يقيمون عليه حياتهم ‪ ،‬وقامت دول‬
‫على هذا المذهب تعد ّ بمئات المليين من البشر ‪.‬‬
‫وانتشرت هذه المقولة في كل مكان ‪ ،‬وألفت فيها كتب ‪ ،‬وأصبح لها فلسفة‬
‫تدرس ‪ ،‬وحاول أصحابها أن يسموها بالمنهج العلمي ‪ ،‬ويدللوا عليها ‪.‬‬
‫من أجل ذلك كان ل ّبد أن نتوسع شيئا ً ما في الستدلل على هذه القضية ‪.‬‬
‫الدليل الثاني‬
‫المخلوق ل بد ّ له من خالق‬
‫ذبين المنكرين بحجة ل بد ّ للعقول من القرار بها ‪ ،‬ول‬ ‫ج القرآن على المك ّ‬ ‫يحت ّ‬
‫يجوز في منطق العقل السليم رفضها ‪ ،‬يقول تعالى ‪ ) :‬أم خلقوا من غير‬
‫شيٍء أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والرض بل ل يوقنون ( ] الطور‬
‫‪. [ 36-35 :‬‬
‫يقول لهم ‪ :‬أنتم موجودون هذه حقيقة ل تنكروها ‪ ،‬وكذلك السماوات والرض‬
‫موجودتان ‪ ،‬ول شك ‪.‬‬
‫ن الموجود ل بد ّ من سبب لوجوده ‪ ،‬وهذا يدركه راعي‬ ‫وقد تقرر في العقول أ ّ‬
‫ل على‬ ‫ل على البعير ‪ ،‬والثر يد ّ‬ ‫البل في الصحراء ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬البعرة تد ّ‬
‫المسير ‪ ،‬فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ‪ ،‬أل تدل على العليم الخبير " ‪.‬‬
‫ويدركه كبار العلماء الباحثين في الحياة والحياء ‪.‬‬
‫وهذا الذي أشارت إليه الية هو الذي يعرف عند العلماء باسم ‪ ) :‬قانون‬
‫السببية ( ‪ .‬هذا القانون يقول ‪ :‬إن شيئا ً من ) الممكنات ( )) ل يحدث بنفسه‬
‫من غير شيء (( ؛ لنه ل يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ‪ )) ،‬ول‬
‫يستقل بإحداث شيء (( ؛ لّنه ل يستطيع أن يمنح غيره شيئا ً ل يملكه هو ‪.‬‬
‫ولنضرب مثال ً نوضح به هذا القانون ‪:‬‬

‫) ‪(1/5‬‬

‫منذ سنوات تكشفت الّرمال في صحراء الربع الخالي إثر عواصف هبت على‬
‫المنطقة عن بقايا مدينة كانت مطموسة في الرمال ‪ ،‬فأخذ العلماء يبحثون‬
‫عن محتوياتها ويحاولون أن يحققوا العصر الذي بنيت فيه ‪ ،‬ولم يتبادر إلى‬
‫ذهن شخص واحد من علماء الثار أو من غيرهم أن هذه المدينة وجدت بفعل‬
‫العوامل الطبيعية من الرياح والمطار والحرارة والبرودة ل بفعل النسان ‪.‬‬
‫ولو قال بذلك واحد من الناس لعده الناس مخّرفا ً يستحقّ الشفقة والرحمة ‪،‬‬
‫ن هذه المدينة تكونت في الهواء من ل شيء في‬ ‫فكيف لو قال شخص ما ‪ :‬إ ّ‬
‫ل غرابة عن‬ ‫ن هذا القول ل يق ّ‬
‫الزمنة البعيدة ‪ ،‬ثم رست على الرض ؟ إ ّ‬
‫سابقه ‪ ،‬بل يفوقه ‪.‬‬
‫ً‬
‫ن العدم ل يوجد شيئا هذا أمر مقرر في بدائه العقول ‪ ،‬ولن الشيء‬ ‫لماذا ؟ ل ّ‬
‫ل يستطيع أن يوجد نفسه ‪.‬‬
‫والمدينة على النحو الذي نعرفه ل بد لها من موجد ‪ ،‬والفعل يشي ‪ ،‬ويعّرف‬
‫بصانعه ‪ ،‬فل بد ّ أن تكون المدينة صناعة قوم عقلء يحسنون البناء والتنسيق ‪.‬‬
‫ولو رأينا إنسانا ً انتقل من أسفل بناية إلى أعلها فل نستنكر ذلك ‪ ،‬ول‬
‫ن النسان لديه القدرة على ذلك ‪.‬‬ ‫نستغربه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ً‬
‫فإذا رأينا حجرا كان في ساحة البناية قد انتقل إلى أعلها ‪ ،‬فإّننا نجزم بأّنه لم‬
‫ن الحجر ليس لديه خاصية‬ ‫ينتقل بنفسه ‪ ،‬بل ل بد ّ من شخص رفعه ونقله ؛ ل ّ‬
‫الحركة والصعود ‪.‬‬
‫ن المدينة ل يمكن أن توجد من غير‬ ‫ن الناس يجزمون بأ ّ‬ ‫ومن الغريب أ ّ‬
‫موجد ‪ ،‬ول يمكن أن تبني نفسها ‪ ،‬ويجزمون بأّنه ل بد ّ للحجر من شخص‬
‫صعد به إلى أعلى ‪ ،‬ولكن يوجد فيهم من يجيز أن يصنع الكون من غير‬
‫ن بناء الكون أشد ّ تعقيدا ً وأعظم خلقة‬‫صانع ‪ ،‬ويوجد من غير موجد ‪ ،‬مع أ ّ‬
‫) لخلق السماوات والرض أكبر من خلق الناس ( ] غافر ‪. [ 57 :‬‬
‫ن المنكرين عندما يواجهون بذلك بمنطق علمي يخاطب العقل ‪ ،‬ل‬ ‫ولك ّ‬
‫يستطيعون إل أن يقروا أو يكابروا ‪.‬‬

‫) ‪(1/6‬‬

‫وبهذا الدليل كان علماء السلم ول يزالون يواجهون الجاحدين ‪ ،‬فهذا أحد‬
‫العلماء يعرض له بعض الزنادقة المنكرين للخالق ‪ ،‬فيقول لهم ‪ :‬ما تقولون‬
‫في رجل يقول لكم ‪ :‬رأيت سفينة مشحونة بالحمال ‪ ،‬مملوءة من النفال ‪،‬‬
‫قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلطمة ‪ ،‬ورياح مختلفة ‪ ،‬وهي من بينها‬
‫تجري مستوية ‪ ،‬ليس لها ملح ُيجريها ‪ ،‬ول متعهد يدفعها ‪ ،‬هل يجوز في‬
‫العقل ؟ ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬هذا شيء ل يقبله العقل ‪.‬‬
‫فقال ذلك العالم ‪ :‬يا سبحان الله ‪ ،‬إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في‬
‫دنيا على‬‫البحر مستوية من غير متعهد ول مجر ‪ ،‬فكيف يجوز قيام هذه ال ّ‬
‫اختلف أحوالها ‪ ،‬وتغّير أعمالها ‪ ،‬وسعة أطرافها ‪ ،‬وتباين أكنافها من غير صانع‬
‫ول حافظ ؟! فبكوا جميعا ً ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬صدقت وتابوا ‪.‬‬
‫هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الية‬
‫الكريمة ‪ ) :‬أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( ] الطور ‪ [ 35 :‬وهو‬
‫ن هناك خالقا ً معبودا ً ‪ ،‬إل أن الية صاغته‬
‫دليل ُيرغم العقلء على التسليم بأ ّ‬
‫صياغة بليغة مؤثرة ‪ ،‬فل تكاد الية تلمس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها ‪.‬‬
‫روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال ‪ " :‬سمعت رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ‪ ،‬فلما بلغ هذه الية ) أم‬
‫خلقوا من غير شيٍء أم هم الخالقون – أم خلقوا السماوات والرض بل ل‬
‫يوقنون – أم عندهم خزاِئن ربك أم هم المصيطرون ( ] الطور ‪ [ 37-35 :‬كاد‬
‫قلبي أن يطير " ‪(6) .‬‬
‫قال البيهقي )‪ : (7‬قال أبو سليمان الخطابي ‪ " :‬إنما كان انزعاجه عند سماع‬
‫هذه الية لحسن تلقيه معنى الية ‪ ،‬ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة ‪،‬‬
‫فاستدركها بلطيف طبعه ‪ ،‬واستشف معناها بزكي فهمه ‪. " ...‬‬

‫) ‪(1/7‬‬

‫واختار الخطابي في معنى ) أم خلقوا من غير شيء ( ] الطور ‪" [ 35 :‬‬


‫ن تعلق الخلق بالخالق من‬‫فوجدوا بل خالق ‪ ،‬وذلك ما ل يجوز أن يكون ‪ ،‬ل ّ‬
‫ضرورة المر ‪ ،‬فل بد ّ له من خالق ‪ ،‬فإذ قد أنكروا الله الخالق ‪ ،‬ولم يجز أن‬
‫يوجدوا بل خالق خلقهم ‪ ،‬أفهم الخالقون لنفسهم ؟ وذلك في الفساد أكثر ‪،‬‬
‫ن ما ل وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفا ً بالقدرة ‪،‬‬ ‫وفي الباطل أشد ‪ ،‬ل ّ‬
‫وكيف يخلق ؟ وكيف يتأتى منه الفعل ‪ ،‬وإذا بطل الوجهان معا ً قامت الحجة‬
‫عليهم بأن لهم خالقا ً ‪ ،‬فليؤمنوا به ‪.‬‬
‫ثم قال ‪ ) :‬أم خلقوا السماوات والرض بل ل يوقنون ( ] الطور ‪ [ 36 :‬وذلك‬
‫دعوه بوجه ‪ ،‬فهم منقطعون والحجة قائمة عليهم " ‪.‬‬ ‫شيء ل يمكنهم أن ي ّ‬
‫وهذا الذي قرر الخطابي أن الكفار ل يمكن أن يدعوه فائدة ذكره والسؤال‬
‫عنه قطع الحجاج والخصام ؛ إذ قد يوجد جاحد مكابر يقول ‪ " :‬أنا خلقت‬
‫ج‬
‫نفسي " كما زعم مثيل له من قبل بأنه يحي ويميت ) ألم تر إلى الذي حا ّ‬
‫إبراهيم في ربه أن آَتاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال‬
‫حِيي وأميت ( ] البقرة ‪. [ 258 :‬‬ ‫ُ‬
‫أنا أ ْ‬
‫فماذا كان الجواب ؟ سؤال آخر أبان عجزه وأكذبه في زعمه الول ) قال‬
‫ن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب (‬ ‫إبراهيم فإ ّ‬
‫] البقرة ‪ [ 258 :‬فكانت النتيجة ‪ ) :‬فبهت الذي كفر والله ل يهدي القوم‬
‫ظالمين ( ] البقرة ‪. [ 258 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫ب شخصا ً قال ‪ " :‬أنا خلقت نفسي " فهل يستطيع أن يزعم أّنه خلق‬ ‫وهنا هَ ْ‬
‫جد سماء ول أرضا ً ‪ ،‬وإذا كانت‬
‫السماوات والرض ؟! فإذا كان العدم ل ُيو ِ‬
‫السماء والرض لم توجدا نفسيهما ‪ ،‬وإذا كان هؤلء ل يستطيعون الدعاء‬
‫بأّنهم أوجدوا ذلك كله ‪ ،‬فإّنه ل بد ّ لهذا كله من موجد ‪ ،‬وهذا الموجد هو الله‬
‫سبحانه وتعالى ‪.‬‬
‫موقف العلوم التجريبية من هذا القانون ‪:‬‬

‫) ‪(1/8‬‬

‫ن طاقة البشر وطبيعة المخلوق ‪ ،‬أعجز من أن تحصي مراحل السباب‬ ‫إ ّ‬


‫مرحلة مرحلة ‪ ،‬وتتابع سلسلتها حلقة حلقة ‪ ،‬حتى تشهد بداية العالم ‪ ،‬ولذلك‬
‫يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الشياء ‪ ،‬وأعلنت عدولها عن هذه‬
‫المحاولة ‪ ،‬وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الوراء ‪ ،‬تاركة ما‬
‫بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلء ‪.‬‬
‫ل بد ّ للعقل من العتراف ‪:‬‬
‫ن هذا اليأس النساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيل ً في ماضيها‬ ‫ولك ّ‬
‫ل عقل على العتراف به طوعا ً أو‬ ‫ومستقبلها ‪ ،‬يقابله يقين إجمالي ينطوي ك ّ‬
‫كرها ً ‪ ،‬وهو أّنه مهما طالت السباب الممكنة ‪ ،‬وسواء أفرضت متناهية أو غير‬
‫متناهية ‪ ،‬فل بد ّ لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر‬
‫يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه ‪ ،‬بحيث يكون هو الول الحقيقي الذي‬
‫ي الكتمان ) إن لم‬ ‫ل هذه الممكنات في ط ّ‬ ‫ليس قبله شيء ‪ ،‬وإل لبقيت ك ّ‬
‫يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل ( ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬حتى الشيوعيين اليوم الذين أرادوا أن يتحرروا من عبادة اللهة بزعمهم‬
‫يعبدون مؤسس المذهب ‪ ،‬فتراهم يمرون أمام جثته المحنطة في الميدان‬
‫الحمر في ذكرى يوم وفاته خاضعين حانين رؤوسهم ‪ ،‬لقد جعلوه إلها ً ‪ ،‬وبدل ً‬
‫من أن يعبدوا خالق البشر عبدوا ميتا ً من البشر ‪ ،‬فبعدا ً لهم ‪ .‬هذا ما دونته‬
‫قبل خمس عشرة سنة ‪ ،‬وقبل سنوات هدم القائمون على المذهب‬
‫الشيوعي مذهبهم ‪ ،‬وألقوا جثث قادة المذهب ‪ ،‬كما ألقوا عقائدهم وأفكارهم‬
‫‪.‬‬
‫)‪ (2‬صحيح البخاري ‪ ، 3/245 :‬ورقمه ‪ ، 1385 :‬ورواه مسلم في صحيحه ‪:‬‬
‫‪ ، 4/2047‬ورقمه ‪. 2658 :‬‬
‫)‪ (3‬رواه مسلم في صحيحه ‪ . 4/1712 :‬ورقمه ‪. 2175 :‬‬
‫)‪ (4‬نحلته ‪ :‬منحته ‪.‬‬
‫)‪ (5‬صحيح مسلم ‪ ، 4/2197 :‬ورقمه ‪. 2865 :‬‬
‫)‪ (6‬صحيح البخاري ‪ ، 8/603 :‬ورقمه ‪. 4854 :‬‬
‫)‪ (7‬السماء والصفات للبيهقي ‪. 1/391 :‬‬
‫الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ) المصادفة (‬

‫) ‪(1/9‬‬

‫نسمع ونقرأ شبهات قيلت في القديم ‪ ،‬وتقال اليوم ‪ ،‬يحاول أصحابها أن‬
‫يعللوا بها وجود الكون ‪ ،‬وسنحاول أن نعرض لبعض هذه الشبهات ‪ ،‬ثم نبين‬
‫ما فيها من باطل ‪.‬‬
‫ا‪ -‬القول بالمصادفة‬
‫بعد توضيح الدليل القرآني الذي يخاطب العقول ‪ ،‬ويلزمها بالعتراف بوجود‬
‫ن هذا الكون خلق مصادفة من غير خالق ليس‬ ‫الخالق المعبود ‪ ،‬يبدو القول إ ّ‬
‫قول ً بعيدا ً عن الصواب فحسب ‪ ،‬بل قول بعيد عن المعقول يدخل صاحبه في‬
‫عداد المخرفين الذين فقدوا عقولهم أو كادوا ‪ ،‬فهم يكابرون في الدليل الذي‬
‫ل يجد العقل ب ُد ّا ً من التسليم به ‪.‬‬
‫لقد وجد من يقول ‪ " :‬لو جلست ستة من القردة على آلت كاتبة ‪ ،‬وظلت‬
‫تضرب على حروفها بليين السنين ‪ ،‬فل نستبعد أن نجد في بعض الوراق‬
‫الخيرة التي كتبتها قصيدة من قصائد شكسبير ‪ ،‬فكذلك الكون الموجود‬
‫الن ‪ ،‬إنما وجد نتيجة لعمليات عمياء ‪ ،‬ظلت تدور في )) المادة (( لبليين‬
‫السنين " ‪.‬‬
‫يقول وحيد الدين خان )‪ (1‬بعد نقله لهذه الفقرة من كلم ) هكسلي ( )‪: (2‬‬
‫ن أيّ كلم من هذا القبيل لغو مثير بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان ‪،‬‬ ‫"إ ّ‬
‫ن جميع علومنا تجهل – إلى يوم الناس هذا – أية مصادفة أنتجت واقعا ً‬ ‫فإ ّ‬
‫عظيما ً ذا روح عجيبة ‪ ،‬في روعة الكون " ‪.‬‬
‫ن القول إن الحياة وجدت‬ ‫وينقل عن عالم آخر إنكاره لهذه المقالة قوله ‪ " :‬إ ّ‬
‫نتيجة حادث اتفاقي شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة‬
‫انفجار صدفي يقع في مطبعة " ‪.‬‬
‫ن الرياضيات التي تعطينا نكتة المصادفة ‪ ،‬هي‬ ‫ويقرر وحيد الدين خان ‪ " :‬أ ّ‬
‫نفسها التي تنفي أيّ إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون‬
‫المصادفة " ‪.‬‬
‫وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم المريكي ) كريستي‬
‫موريسون ( يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة ‪:‬‬

‫) ‪(1/10‬‬
‫قال ‪ " :‬لو تناولت عشرة دراهم ‪ ،‬وكتبت عليها العداد من واحد إلى عشرة ‪،‬‬
‫ثم رميتها في جيبك ‪ ،‬وخلطتها جيدا ً ‪ ،‬ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى‬
‫ل درهم في جيبك بعد تناوله مرة‬ ‫العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي ك ّ‬
‫أخرى ‪ ،‬فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الولى‬
‫هو واحد في العشرة ‪ ،‬وإمكان أن نخرج الدراهم من )‪ (10-1‬بالترتيب واحد‬
‫في عشرة بليين " ‪(3) .‬‬
‫ن‬
‫وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والتفاق ؟ إ ّ‬
‫حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الحتمال خياليا ً يصعب حسابه فضل ً‬
‫عن تصوره ‪.‬‬
‫ن النسان‬ ‫ل ما في الكون يحكي أّنه إيجاد موجد حكيم عليم خبير ‪ ،‬ولك ّ‬ ‫نك ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ظلوم جهول ) قتل النسان ما أكفره – من أي شيء خلقه – من نطفةٍ خلقه‬
‫ما‬
‫فقدره – ثم السبيل يسره – ثم أماته فأقبره – ثم إذا شاء أنشره – كل ل ّ‬
‫يقض ما أمره – فلينظر النسان إلى طعامه – أنا صببنا الماء صبا ً – ثم شققنا‬
‫الرض شقا ً – فأنبتنا فيها حبا ً – وعنبا ً وقضبا ً – وزيتونا ً ونخل ً ( ] عبس ‪-17 :‬‬
‫‪. [ 29‬‬
‫كيف يمكن أن تتأتى المصادفة في خلق النسان وتكوينه ‪ ،‬وفي صنع طعامه‬
‫در الذي تشارك فيه الرض والسماء ‪ ،‬وصدق الله في‬ ‫على هذا النحو المق ّ‬
‫وصفه للنسان ) إّنه كان ظلوما ً جهول ً ( ] الحزاب ‪(4) . [ 72 :‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬السلم يتحدى ‪ :‬ص ‪. 66‬‬
‫)‪ ) (2‬هكسلي ( هو الكاتب الملحد الذي كتب كتابه المعروف ) النسان يقوم‬
‫خر الله له عالما ً من ملته هو ) أ‪ .‬كريستي موريسون رئيس‬ ‫وحده ( ‪ ،‬فس ّ‬
‫أكاديمية العلوم بنيويورك وعضو سابق في المجلس التنفيذي لمجلس‬
‫البحوث القومي بالوليات المتحدة ( ‪ ،‬فسطر كتابه القيم ) النسان ل يقوم‬
‫وحده ( ردا ً على )هكسلي( وقد ترجم هذا الكتاب تحت عنوان ) العلم يدعو‬
‫إلى اليمان ( ‪.‬‬
‫)‪ (3‬انظر ‪ :‬العلم يدعو إلى اليمان ‪ :‬ص ‪. 51‬‬

‫) ‪(1/11‬‬

‫)‪ (4‬وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند الكلم على اليات الكونية إن شاء‬
‫الله تعالى ‪.‬‬
‫الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ) الطبيعة (‬
‫‪ -2‬قالوا الطبيعة هي الخالق‬
‫وهذه فرية راجت في عصرنا هذا ‪ ،‬راجت حتى على الذين نبغوا في العلوم‬
‫الماّدية ‪ ،‬وعلل كثيرون وجود الشياء وحدوثها بها ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬الطبيعة هي التي‬
‫دث ‪.‬‬‫ُتوجد وُتح ِ‬
‫وهؤلء نوجه لهم هذا السؤال ‪ :‬ماذا تريدون بالطبيعة ؟ هل تعنون بالطبيعة‬
‫ذوات الشياء ؟ أم تريدون بها السنن والقوانين والضوابط التي تحكم‬
‫الكون ؟ أم تريدون بها قوة أخرى وراء هذا الكون أوجدته وأبدعته ؟‬
‫ن‬
‫إذا قالوا ‪ :‬نعني بالطبيعة الكون نفسه ‪ ،‬فإننا ل نحتاج إلى الرد ّ عليهم ‪ ،‬ل ّ‬
‫ما مضى ‪ ،‬فهذا القول يصبح ترديدا ً للقول السابق إ ّ‬
‫ن‬ ‫فساد قولهم معلوم م ّ‬
‫الشيء يوجد نفسه ‪ ،‬أي ‪ :‬إّنهم يقولون الكون خلق الكون ‪ ،‬فالسماء خلقت‬
‫السماء ‪ ،‬والرض خلقت الرض ‪ ،‬والكون خلق النسان والحيوان ‪ ،‬وقد بّينا‬
‫ن الشيء يوجد نفسه ‪ ،‬ونزيد المر‬ ‫ن العقل النساني يرفض التسليم بأ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫ً‬
‫إيضاحا فنقول ‪ :‬والشيء ل يخلق شيئا أرقى منه ‪ ،‬فالطبيعة من سماء وأرض‬ ‫ً‬
‫ونجوم وشموس وأقمار ل تملك عقل ً ول سمعا ً ول بصرا ً ‪ ،‬فكيف تخلق إنسانا ً‬
‫سميعا ً عليما ً بصيرا ً ! هذا ل يكون ‪.‬‬
‫خلق ذلك كله مصادفة ‪ ،‬قلنا ‪ :‬ثبت لدينا يقينا ً أن ل مصادفة في‬ ‫فإن قالوا ‪ُ :‬‬
‫خلق الكون ‪ ،‬وقد تبينا ذلك فيما سبق ‪.‬‬
‫نظرية التولد الذاتي ) شبهة ثبت بطلنها ( ‪:‬‬
‫ن الطبيعة هي‬‫وكان مما ساعد على انتشار الوثنية الجديدة ) القول إ ّ‬
‫الخالق ( هو ما شاهده العلماء الطبيعيون من تكون )دود( على براز النسان‬
‫ون بكتيريا تأكل الطعام فتفسده ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ها هي ذي‬ ‫أو الحيوان ‪ ،‬وتك ّ‬
‫حيوانات تتولد من الطبيعة وحدها ‪.‬‬

‫) ‪(1/12‬‬

‫وراجت هذه النظرية التي مكنت للوثن الجديد ) الطبيعة ( في قلوب الضالين‬
‫ن الحق ما لبن أن كشف باطل هذه‬ ‫التائهين بعيدا ً عن هدى الله الحق ‪ ،‬لك ّ‬
‫ن الدود‬
‫النظرية على يد العالم الفرنسي المشهور ) باستير ( الذي أثبت أ ّ‬
‫المتكون ‪ ،‬والبكتيريا المتكونة المشار إليها لم تتولد ذاتيا ً من الطبيعة ‪ ،‬وإّنما‬
‫من أصول صغيرة سابقة لم تتمكن العين من مشاهدتها ‪ ،‬وقام بتقديم الدلة‬
‫التي أقنعت العلماء بصدق قوله ‪ ،‬فوضع غذاء وعزله عن الهواء ‪ ،‬وأمات‬
‫البكتريا بالغليان ‪ ،‬فما تكونت بكتيريا جديدة ‪ ،‬ولم يفسد الطعام ‪ ،‬وهذه‬
‫النظرية التي قامت عليها صناعة الغذية المحفوظة ) المعلبات ( ‪(1) .‬‬
‫الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون ‪:‬‬
‫ن الطبيعة هي القوانين التي تحكم الكون ‪ ،‬وهذا تفسير‬ ‫ويرى فريق آخر أ ّ‬
‫ن الطبيعة هي الخالق ‪ ،‬فهم‬ ‫دعون العلم والمعرفة من القائلين إ ّ‬ ‫الذين ي ّ‬
‫ن هذا الكون يسير على سنن وقوانين تسّيره وتنظم أموره في‬ ‫يقولون ‪ :‬إ ّ‬
‫كل جزئية ‪ ،‬والحداث التي تحدث فيه تقع وفق هذه القوانين ‪ ،‬مثله كمثل‬
‫الساعة التي تسير بدقة وانتظام دهرا ً طويل ً ‪ ،‬فإنها تسير بذاتها بدون مسّير ‪.‬‬
‫وهؤلء في واقع المر ل يجيبون عن السؤال المطروح ‪ :‬من خلق الكون ؟‬
‫ولكنهم يكشفون لنا عن الكيفية التي يعمل الكون بها ‪ ،‬هم يكشفون لنا كيف‬
‫تعمل القوانين في الشياء ‪ ،‬ونحن نريد إجابة عن موجد الكون وموجد‬
‫القوانين التي تحكمه ‪.‬‬
‫ن السماء تمطر ‪ ،‬لكننا‬ ‫يقول وحيد الدين خان ‪ " :‬كان النسان القديم يعرف أ ّ‬
‫ل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر ‪ ،‬حتى نزول قطرات‬ ‫اليوم نعرف ك ّ‬
‫ل هذه المشاهدات صور للوقائع ‪ ،‬وليست في ذاتها‬ ‫الماء على الرض ‪ ،‬وك ّ‬
‫تفسيرا ً لها ‪ ،‬فالعلم ل يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين ؟ وكيف‬
‫ن‬
‫قامت بين الرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة ‪ ،‬حتى إ ّ‬
‫العلماء يستنبطون منها قوانين علمية ‪.‬‬

‫) ‪(1/13‬‬
‫ن ادعاء النسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أّنه قد كشف تفسير الكون ليس‬ ‫إ ّ‬
‫سوى خدعة لنفسه ‪ ،‬فإّنه قد وضع بهذا الدعاء حلقة من وسط السلسلة‬
‫مكان الحلقة الخيرة ‪.‬‬
‫سر شيئا ً ) من الكون ( وإّنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير ‪.‬‬ ‫إن الطبيعة ل تف ّ‬
‫واقرأ هذه المحاورة التي يمكن أن تجرى بين رجل نابه ‪ ،‬وأحد الطباء الفذاذ‬
‫في علمهم ‪:‬‬
‫السائل ‪ :‬ما السبب في احمرار الدم ؟‬
‫ن في الد ّم ِ خليا حمراء ‪ ،‬حجم كل خلية منها ‪ 1/700 :‬من‬ ‫الطبيب ‪ :‬ل ّ‬
‫البوصة ‪.‬‬
‫ً‬
‫السائل ‪ :‬حسنا ‪ ،‬ولكن لماذا تكون هذه الخليا حمراء ؟‬
‫الطبيب ‪ :‬في هذه الخليا مادة تسمى ) الهميوجلوبين ( ‪ ،‬وهي مادة تحدث‬
‫لها الحمرة حين تختلط بالكسجين في القلب ‪.‬‬
‫السائل ‪ :‬هذا جميل ‪ ،‬ولكن من أين تأتي هذه الخليا التي تحمل‬
‫) الهميوجلوبين ( ؟‬
‫الطبيب ‪ :‬إنها تصنع في كبدك ‪.‬‬
‫دم والخليا‬
‫السائل ‪ :‬عجيب ! ولكن كيف ترتبط هذه الشياء الكثيرة من ال ّ‬
‫والكبد وغيرها ‪ ،‬بعضها ببعض ارتباطا ً كليا ً وتسير نحو أداء واجبها المطلوب‬
‫دقة الفائقة ؟‬ ‫بهذه ال ّ‬
‫الطبيب ‪ :‬هذا ما نسميه بقانون الطبيعة ‪.‬‬
‫السائل ‪ :‬ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا يا سيادة الطبيب ؟‬
‫الطبيب ‪ :‬المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية‬
‫والكيماوية ‪.‬‬
‫ً‬
‫السائل ‪ :‬ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة ؟ وكيف تنظم‬
‫نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ‪ ،‬ويعيش السمك في الماء ‪ ،‬ويوجد‬
‫دنيا ‪ ،‬بجميع ما لديه من المكانات والكفاءات العجيبة المثيرة ؟‬ ‫إنسان في ال ّ‬
‫ن علمي ل يتكلم إل عما يحدث ‪ ،‬وليس له‬ ‫الطبيب ‪ :‬ل تسألني عن هذا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫أن يجيب ‪ :‬لماذا يحدث ؟‬

‫) ‪(1/14‬‬

‫يتضح من هذه السئلة مدى صلحية العلم الحديث لشرح العلل والسباب‬
‫وراء هذا الكون ‪ :‬إن مثل الكون كمثل آلة تدور تحت غطائها ‪ ،‬ل نعلم عنها إل‬
‫أّنها تدور )) ولكن لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبد هذه اللة‬
‫بدوائر وتروس كثيرة ‪ ،‬يدور بعضها ببعض ‪ ،‬ونشاهد حركاتها كّلها ‪ .‬هل معنى‬
‫هذا أّننا قد علمنا خالق هذه اللة بمجرد مشاهدتنا لما يدور بداخلها ؟ كيف‬
‫يفهم منطقيا ً أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن اللة جاءت من تلقاء ذاتها ‪ ،‬وتقوم‬
‫بدورها ذاتيا ً ؟! " ‪(2) .‬‬
‫الطبيعة قوة ‪:‬‬
‫فإن وجد من يقول ‪ :‬إن الطبيعة قوة أوجدت الكون ‪ ،‬وإنها قوة حّية سميعة‬
‫بصيرة حكيمة قادرة ‪ ...‬فإّننا نقول لهم ‪ :‬هذا صواب وحقّ ‪ ،‬وخطؤكم أنكم‬
‫ميتم هذه القوة )الطبيعة( ‪ ،‬وقد دلتنا هذه القوة المبدعة الخالقة ‪ ،‬على‬ ‫س ّ‬
‫السم الذي تستحقه وهو ) الله ( ‪ ،‬الله عّرفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا‬
‫مى به نفسه سبحانه وتعالى ‪.‬‬ ‫‪ ،‬فعلينا أن نسميه بما س ّ‬
‫كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ‪:‬‬
‫ً‬
‫هؤلء الذين نسبوا الخلق إلى الطبيعة لهم سلف قالوا قريبا من قولهم ‪ ،‬وهم‬
‫ن الصغير يكبر ‪،‬‬‫الدهرية الذين نسبوا الحداث إلى الدهر ‪ ،‬فقد شاهدوا أ ّ‬
‫رم يموت بمرور الزمان ‪ ،‬وتعاقب الليل والنهار ‪ ،‬فنسبوا‬ ‫والكبير يهرم ‪ ،‬واله ِ‬
‫الحياة والموت إلى الدهر ) وقالوا ما هي إل حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما‬
‫يهلكنا إل الدهر وما لهم بذلك من علم ٍ إن هم إل يظنون ( ] الجاثية ‪. [ 24 :‬‬
‫أولئك نسبوا الحداث إلى الزمان ‪ ،‬وهؤلء إلى ذوات الشياء فهما صنوان في‬
‫الضلل ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬كتاب التوحيد ‪ ،‬للزنداني ‪. 2/74‬‬
‫ً‬
‫من كلمه نقول عن‬ ‫)‪ (2‬السلم يتحدى ‪ ،‬لوحيد الدين خان ‪ ، 31-29 :‬وقد ض ّ‬
‫غيره من علماء الغرب ‪.‬‬
‫الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ) دارون (‬
‫‪ -3‬نظرية دارون )‪(1‬‬

‫) ‪(1/15‬‬

‫حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الحياء ‪ ،‬وقد شاعت هذه‬
‫النظرية ‪ ،‬وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية ‪ ،‬لظّنهم أّنها حقيقة علمية ‪،‬‬
‫وعمل آخرون على نشرها بسوء نية ‪ ،‬لّنها وافقت أهواءهم ‪ ،‬فهي تكذب‬
‫دين دليل ً من‬‫بالديان التي وصفت خلق النسان ‪ ،‬وبذلك يجد الطاعنون في ال ّ‬
‫العلم يرتكزون عليه ‪ ،‬ويدّلسون على الّناس به ‪.‬‬
‫ماذا تقول هذه النظرية ؟‬
‫ن أصل المخلوقات حيوان صغير ‪ ،‬نشأ من الماء ‪ ،‬ثم‬ ‫تزعم هذه النظرية أ ّ‬
‫ما أّدى إلى نشوء صفات‬ ‫أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه م ّ‬
‫جديدة في هذا الكائن ‪ ،‬أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في البناء حتى‬
‫تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر مليين السنين‬
‫إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقا ً أرقى ‪،‬‬
‫واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والرتقاء في المخلوقات ‪ ،‬حتى‬
‫وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالنسان ‪.‬‬
‫أساس النظرية ‪:‬‬
‫‪ -1‬تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن )) دارون (( من الحفريات‬
‫ن‬
‫ن الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫الرضية ‪ ،‬فقد وجدوا أ ّ‬
‫الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى ‪ .‬فقال )) دارون (( ‪" :‬‬
‫ن تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والرتقاء من الحيوانات‬ ‫إ ّ‬
‫والكائنات الولى " ‪.‬‬
‫‪ -2‬وتعتمد أيضا ً على ما كان معروفا في زمن )) دارون (( من تشابه جميع‬
‫ً‬
‫ن أصل الكائنات واحد ‪ ،‬كما‬ ‫أجّنة الحيوانات في أدوارها الولى ‪ ،‬فهو يوحي بأ ّ‬
‫ن الجنين واحد ‪ ،‬وحدث التطور على الرض كما يحدث في أرحام الكائنات‬ ‫أ ّ‬
‫الحّية ‪.‬‬
‫‪ -3‬كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في النسان التي هي‬
‫المساعد في هضم النباتات ‪ ،‬وليس لها الن عمل في النسان مما يوحي‬
‫بأّنها أثر بقي من القرود لم يتطور ؛ لنها تقوم بدورها في حياة القرود ‪.‬‬
‫مت ‪:‬‬
‫شرح )) دارون (( لعملية التطور وكيف ت ّ‬

‫) ‪(1/16‬‬

‫‪ -1‬النتخاب الطبيعي ‪ :‬تقوم عوامل الفناء بإهلك الكائنات الضعيفة الهزيلة ‪،‬‬
‫مى بزعمهم بقانون )) البقاء‬ ‫والبقاء على الكائنات القوية ‪ ،‬وذلك ما يس ّ‬
‫للصلح (( ‪ ،‬فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته ‪،‬‬
‫وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن ‪،‬‬
‫وذلك هو )) النشوء (( الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى‬
‫كائن أعلى ‪ ،‬وهكذا يستمر التطور ‪ ،‬وذلك هو الرتقاء ‪.‬‬
‫‪ -2‬النتخاب الجنسي ‪ :‬وذلك بوساطة ميل الذكر والنثى إلى التزوج بالقوى‬
‫والصلح ‪ ،‬فتورث بهذا صفات الصلح ‪ ،‬وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم‬
‫الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره ‪.‬‬
‫‪ -3‬كلما تكونت صفة جديدة ‪ ،‬ورثت في النسل ‪.‬‬
‫تفنيد الساس الذي قامت عليه النظرية ‪:‬‬
‫دعي أحد أّنه قد كمل التنقيب في جميع‬ ‫علم الحفريات ل يزال ناقصا ً ‪ ،‬فل ي ّ‬
‫طبقات الرض وتحت الجبال والبحار ‪ ،‬فلم يجد شيئا ً جديدا ً ينقض المقررات‬
‫السابقة ‪.‬‬
‫ن وجود الكائنات الولى البدائية أول ً ‪،‬‬ ‫وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإ ّ‬
‫ثم الرقى ليس دليل ً على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الدنى ‪ ،‬بل هو‬
‫دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملءمة البيئة لوجودها على‬
‫أي صورة كان هذا الوجود ‪ ،‬وإذا كانت الحفريات في زمن )) دارون ((‬
‫ن الكتشافات‬ ‫ن أقدم عمر للنسان هو ستمائة ألف سنة ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫تقول ‪ :‬إ ّ‬
‫ن عمر النسان يصل إلى عشرة‬ ‫درت أ ّ‬ ‫الجديدة في علم الحفريات قد ق ّ‬
‫مليين من السنين ‪.‬‬
‫ي‪،‬‬ ‫ن علم الحفريات متغّير ل يبنى عليه دليل قطع ّ‬ ‫أليس هذا أكبر دليل على أ ّ‬
‫وأّنه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كّنا نؤمل ؟‬

‫) ‪(1/17‬‬

‫ولقد كتب الدكتور مصطفى شاكر سليم تعليقا ً على كتاب )) النسان في‬
‫المرآة (( للمؤلف ) كليد كلوكهون ( حول إنسان ) يناندرتال ( الذي يزعم‬
‫أنصار نظرية )دارون( أّنه أّول إنسان تطور من القرود أو الغوريل ‪ .‬فقال‬
‫الدكتور مصطفى ‪ :‬ويتصف ) إنسان يناندرتال ( بالصفات الطبيعية الرئيسة‬
‫التية ‪ :‬مخ أكبر حجما ً من مخ النسان المعاصر ‪ ،‬وجمجمة كبيرة عريضة ‪.‬‬
‫ن السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير‬ ‫إلى أن قال ‪ :‬إلى جانب أ ّ‬
‫متصلة بما يسمى ) الحلقات المفقودة ( ‪.‬‬
‫دع مذهب دارون (( ‪:‬‬ ‫يقول الدكتور ) سوريال ( في كتابه )) تص ّ‬
‫ن الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الحياء ‪ ،‬وليست بالناقصة بين‬ ‫‪ -1‬إ ّ‬
‫النسان وما دونه فحسب ‪ ،‬فل توجد حلقات بين الحيوانات الولية ذات الخلية‬
‫الوحيدة والحيوانات ذوات الخليا المتعددة ‪ ،‬ول بين الحيوانات الرخوية وبين‬
‫الحيوانات المفصلية ‪ ،‬ول بين الحيوانات اللفقرية وبين السماك والحيوانات‬
‫البرمائية ‪ ،‬ول بين الخير وبين الزحافات والطيور ‪ ،‬ول بين الزواحف وبين‬
‫الحيوانات الدمية ‪ ،‬وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية ‪.‬‬
‫‪ -2‬تشابه أجنة الحيوانات ‪ :‬ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء ‪ ،‬نتيجة لعدم‬
‫تقدم اللت المكّبرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة‬
‫الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب ‪ ،‬إلى جانب‬
‫التزييف الذي قام به واضع صور الجّنة المتشابهة العالم اللماني ) أرنست‬
‫هيكل ( فإّنه أعلن بعد انتقاد علماء الجنة له أّنه اضطّر إلى تكملة الشبه في‬
‫نحو ثمانية في المئة من صور الجّنة لنقص الرسم المنقول ‪.‬‬

‫) ‪(1/18‬‬

‫‪ -3‬أما وجود الزائدة الدودية في النسان كعضو أثري للتطور القردي فليس‬
‫دليل ً قاطعا ً على تطور النسان من القرد ‪ ،‬بل يكون سبب وجودها هو وراثتها‬
‫من النسان الجد ّ الذي كان اعتماده على النباتات ‪ ،‬فخلقت لمساعدته في‬
‫ن لها حقيقة ل تزال غائبة عّنا‬ ‫ن العلم قد يكشف أ ّ‬ ‫هضم تلك النباتات ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫حتى اليوم ‪.‬‬
‫فالعلم كل يوم إلى ازدياد ‪ ،‬وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الولية‬
‫ن الثدي من أمارات‬ ‫الدنيا ‪ ،‬والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ‪ ،‬فإ ّ‬
‫النوثة ‪ ،‬ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للنسان ‪ ،‬في حين ذكور ذوات الحافر‬
‫كالحصان والحمار ل ثدي لها إل ما يشبه أمهاتها ‪ .‬فكيف بقي أثر الخنوثة في‬
‫ن النسان‬‫ن ) دارون ( يزعم أ ّ‬ ‫النسان ‪ ،‬ولم يبق فيما هو أدنى منه ؟ مع أ ّ‬
‫ور مما هو أدنى منه ‪.‬‬ ‫تط ّ‬
‫تفنيد شرح دارون لعملية التطور ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ن هناك ناموسا أو قانونا يعمل على إفناء الكائنات‬ ‫‪ -1‬يقول ))دارون(( ‪ :‬إ ّ‬
‫الحية ‪ ،‬فل يبقى إل الصلح الذي يورث صفاته لبنائه ‪ ،‬فتتراكم الصفات‬
‫القوية حتى تكون حيوانا ً جديدا ً ‪ ،‬حقا ً هناك نظام وناموس وقانون يعمل على‬
‫ل‬‫در الموت على ك ّ‬ ‫ن الله ق ّ‬
‫إهلك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن نظاما ً وناموسا ً يعمل بمقابلة هذا النظام ‪ ،‬ذلك هو قانون التكافل‬ ‫حي ؛ إل أ ّ‬
‫در الحياة فهّيأ أسبابها ‪ ،‬فنجد‬ ‫ن الله ق ّ‬
‫على الحياة بين البيئة والكائن ‪ ،‬ل ّ‬
‫ل هذه وغيرها‬ ‫الشمس والبحار والرياح والمطار والنباتات والجاذبية ‪ ،‬ك ّ‬
‫تتعاون للبقاء على حياة النسان وغيره من الحيوانات ‪.‬‬

‫) ‪(1/19‬‬

‫فالّنظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء ُيحدث خلل ً في‬
‫ل دوٌر في‬‫التفكير ‪ ،‬فإذا كان هناك سنة للهلك ‪ ،‬فهناك سنة للحياة ‪ ،‬ولك ٍ‬
‫الحياة ‪ ،‬وإذا كانت الظروف الطبيعية ‪ :‬من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف‬
‫وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه كطمس عين أو تهديهم بناء ‪،‬‬
‫فإّنه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة‬
‫والبليدة أن تنشئ عينا ً ‪ ،‬لمن ل يملك عينا ً ‪ ،‬أو تصلح بناء فيه نقص ‪.‬‬
‫ن العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لحداث الخراب والهلك ‪،‬‬ ‫إ ّ‬
‫لكّنه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع‬
‫والتصوير والتكوين المنظم المتقن ‪ ،‬إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية‬
‫ون بنظام ‪ ،‬ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محّيرة ‪ ،‬ونسق‬ ‫قد ُرسم بإتقان ‪ ،‬وك ّ‬
‫عمله مع غيره في غاية البداع ‪ ،‬ومن المحال أن ينسب ذلك التقان والنظام‬
‫البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء ‪.‬‬
‫قال )) جمال الدين الفغاني (( في كتابه )) الرد ّ على الدهريين (( بعد نقاش‬
‫ل جزء من أجزاء المادة‬ ‫لهذه النظرية ‪ :‬وبعد ذلك فإني سائلهم كيف اطلع ك ّ‬
‫ل جزء منها بقية‬‫مع انفصالها على مقاصد سائر الجزاء ؟ وبأية آلة أفهم ك ّ‬
‫الجزاء بما ينويه من مطلبه ؟ وأي ) برلمان أو سينات ( – مجلس الشيوخ –‬
‫عقدت لبداع هذه المكونات العالمية التركيب البديعة التأليف ؟ وأّنى لهذه‬
‫الجزاء أن تعلم – وهي في بيضة العصفور – ضرورة ظهورها في هيئة الطير‬
‫يأكل الحبوب ‪ ،‬فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته ؟ ‪.‬‬

‫) ‪(1/20‬‬

‫مر الحياة البشرية ‪،‬‬ ‫ن هذا المبدأ الذي أطلقه )دارون( )البقاء للصلح( قد د ّ‬ ‫إ ّ‬
‫ن الظالم وهو يمارس‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫حكومة‬ ‫أو‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫فرد‬ ‫ظالم‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫لك‬ ‫المسوغ‬ ‫أعطى‬ ‫نه‬
‫لّ‬
‫غصبه وظلمه وحربه ومكره ل يمارس رذائل خلقية ‪ ،‬إّنما هو يمارس قانونا ً‬
‫من قوانين الفطرة كما زعم ) دارون ( ‪ ،‬إنه يمارس قانون ) البقاء‬
‫ل بشاعتها ‪.‬‬ ‫للصلح ( ‪ ،‬وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الستعمار ك ّ‬
‫ما النتخاب الطبيعي الذي يكون به الميل في التناسل بين الفراد القوّية‬ ‫‪ -2‬أ ّ‬
‫مما سبب اندثار الفراد الضعاف ‪ ،‬وبقاء القوى ‪ ،‬فليس ذلك دليل ً على‬
‫حدوث تطور في النوع ‪ ،‬بل يفهم منه بقاء النوع القوي من النوع نفسه‬
‫واندثار النوع الضعيف ‪.‬‬
‫ن تطورا ً يحدث على كائن ما فإّنه يحدث فيه فتورا جنسيا ؛ ل ّ‬
‫ن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ما إذا قيل ‪ :‬إ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫اللفة بين الذكور والناث تنقص بقدر التباعد والختلف بينهما في الشكل ‪.‬‬
‫ذلك ما يقوله )دوير زانسكي( أشهر المختصين بالجيولوجية النوعية عام‬
‫‪1958‬م بعد قرن من )دارون( ‪ ،‬فمن قوله في هذا ‪ " :‬المخالفة في الشكل‬
‫تضعف الميل التناسلي منه ‪ ،‬فالميل إلى التناسل يضعف بين الشكال‬
‫ن الصفات المحسنة‬ ‫والنواع المختلفة بقدر ذلك الختلف ‪ .‬وليس صحيحا ً أ ّ‬
‫في فرد من الفراد تنقل بوساطة الوراثة ‪.‬‬
‫فمثل ً هذا الحداد القويّ العضلت ل تنتقل قوة عضلته إلى ذريته ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ن‬
‫العالم الغزيز العلم ل ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه " ‪.‬‬
‫‪ -3‬أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ‪ ،‬ثم توريثها‬
‫ل صفة ل تكمن في‬ ‫في النسل ‪ ،‬فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث ‪ .‬فك ّ‬
‫الناسلة ‪ ،‬ول تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة ‪ ،‬ل تنتقل إلى‬
‫الذرية بالوراثة ‪.‬‬

‫) ‪(1/21‬‬

‫ن النتخاب الطبيعي‬ ‫يقول الستاذ ) نبيل جورج ( أحد ثقات هذا العلم ‪ " :‬إ ّ‬
‫لجل هذا ل يصلح لتعليل مذهب النشوء ‪ ،‬أو مذهب التطور ؛ لّنه يعلل زوال‬
‫غير الصالح ونشأة المزايا الموروثة بين الفراد ‪ ،‬والقائلون بالطفرة يقصدون‬
‫ن الحيوان الذي لم يكن له عين تتكون له العين فجأة بوساطة بعض‬ ‫أ ّ‬
‫الشعة ‪.‬‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫لك‬ ‫‪،‬‬ ‫الناسلت‬ ‫في‬ ‫العدد‬ ‫ير‬
‫ّ‬ ‫تغ‬ ‫السينية‬ ‫الشعة‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫المختصين‬ ‫لدى‬ ‫ثبت‬ ‫فقد‬
‫أثر الشعة تغيير لما هو موجود ‪ ،‬ل إنشاء ما ليس له وجود ‪ ،‬فعدد ناسلت‬
‫القرد غير عدد ناسلت النسان ‪ ،‬والشعة ل تؤثر إل في الناسلت الموجودة‬
‫فضل ً من أن تحدث هذه الشعة التي ل عقل لها ول إدراك عقل ً للنسان‬
‫يتميز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات ‪.‬‬
‫ن الشعة تؤثر في الناسلت تأثيرا ً أقرب إلى التشويه منه إلى الصلح كما‬ ‫إ ّ‬
‫يحدث من الشعة الذرّية ‪ .‬وإلى جانب مخالفة علم الوراثة ) لنظرية دارون (‬
‫ن التجربة تنقضه ‪ ،‬فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ‪،‬‬ ‫فإ ّ‬
‫ولكن ذلك كله لم يسبب أن ُولد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين ‪ ،‬وهكذا‬
‫فكلما تقدم العلم أثبت بطلن نظرية )دارون(‪.‬‬
‫النظرية ل يؤيدها الواقع المشاهد ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬لو كانت النظرية حقا لشاهدنا كثيرا من الحيوانات والنسان تأتي إلى‬
‫الوجود عن طريق التطور ‪ ،‬ل عن طريق التناسل فقط ‪ .‬وإذا كان التطور‬
‫يحتاج إلى زمن طويل فذلك ل يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في‬
‫صورة دفعات متوالية ‪.‬‬
‫ن الظروف الطبيعية والنتخاب الطبيعي ؛ قد طورت قردا ً إلى‬ ‫‪ -2‬لو سلمنا أ ّ‬
‫رجل – مثل ً – فإّنا لن نسلم أبدا ً بأن هذه الظروف قد قّررت أيضا ً أن تكون‬
‫امرأة لذلك الرجل ‪ ،‬ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما ‪.‬‬

‫) ‪(1/22‬‬

‫‪ -3‬إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات كالحرباء التي تتلون‬
‫بحسب المكان ‪ ،‬هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات ‪ ،‬تولد معها ‪ ،‬وهي‬
‫عند بعضها وافرة ‪ ،‬وعند بعضها الخر تكاد تكون معدومة ‪،‬وهي عند جميع‬
‫المخلوقات محدودة ل تتجاوز حدودها ‪ ،‬فالقدرة على التكيف صفة كامنة ‪ ،‬ل‬
‫صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية ‪ ،‬وإل كانت البيئة‬
‫فرضت التكيف على الحجار والتربة وغيرها من الجمادات ‪.‬‬
‫‪ -4‬تمتاز الضفادع على النسان بمقدرة على الحياة في البر والماء ‪ ،‬كما‬
‫تمتاز الطيور عليه بمقدرة الطيران والنتقال السريع وذلك بدون آلة ‪ ،‬كما أن‬
‫أنف الكلب أشد ّ حساسية من أنف النسان ‪ ،‬فهل أنف الكلب أكثر رقيا ً من‬
‫أنف النسان ؟‬
‫وهل الضفادع والطيور أرقى من النسان في بعض الجوانب ؟‬
‫ن عين الجمل أو الحصان أو الحمار ترى في النهار وفي المساء على‬ ‫كما أ ّ‬
‫السواء ‪ ،‬في حين تعجز عين النسان عن الرؤية في الظلم ‪ ،‬كما أن عين‬
‫الصقر أشد ّ حدة من عين النسان ‪ .‬فهل الصقر أو الحمار أرقى من‬
‫النسان ؟ وإذا أخذنا الكتفاء الذاتي أساسا ً للرقي كما هو بالنسبة لحال‬
‫ن النبات يفوق النسان وجميع الحيوانات ‪ ،‬لّنه يصنع طعامه وطعام‬ ‫الدول فإ ّ‬
‫غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره ‪.‬‬
‫وإذا أخذنا الضخامة أساسا ً للرقي ‪ ،‬عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل‬
‫وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من النسان ‪.‬‬
‫موقف علماء الطبيعة من النظرية ‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬المؤيدون للنظرية وتأييدهم كان أكثره انتصارا لحرية الفكر الذي كانت‬
‫الكنيسة تحاربه وتقاومه ‪ ،‬فقد شن علماء الطبيعة حربا ً ضد قسس الكنيسة‬
‫وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين ‪.‬‬
‫‪ -2‬المعارضون ‪ ،‬وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل ) النتخاب‬
‫الطبيعي ( في تحويل النواع ‪ ،‬ول سيما نوع النسان ‪ ،‬فالمعترضون عليه‬
‫طلبا ً للدلة الطبيعية ل يقلون عددا ً أو اعتراضا ً عن المعترضين اللهوتيين في‬
‫أوربا ‪.‬‬

‫) ‪(1/23‬‬

‫ن‬
‫وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كما نقلها الستاذ إبراهيم حوراني ‪ " :‬إ ّ‬
‫العلماء لم يثبتوا مذهب ))دارون(( بل نفوه ‪ ،‬وطعنوا فيه ‪ ،‬مع علمهم أّنه‬
‫بحث فيه عشرين سنة " ‪ .‬ومنهم العلمة ))نشل(( ‪ ،‬والعلمة ))دلس(( قال‬
‫ن الرتقاء بالنتخاب الطبيعي ل يصدق على النسان ‪ ،‬ول بد‬ ‫ما خلصته ‪ " :‬إ ّ‬
‫ً‬
‫من القول بخلقه رأسا " ‪.‬‬
‫ومنهم ))فرخو(( قال ‪ " :‬إّنه يتبين لنا من الواقع أن بين النسان والقرد فرقا ً‬
‫ن النسان سللة قرد أو غيره من البهائم ‪ ،‬ول‬ ‫بعيدا ً ‪ ،‬فل يمكننا أن نحكم بأ ّ‬
‫وه بذلك " ‪.‬‬‫يحسن أن نتف ّ‬
‫ن‬
‫ومنهم ))ميفرت(( قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الحياء ‪ " :‬إ ّ‬
‫مذهب ))دارون(( ل يمكن تأييده ‪ ،‬وإّنه من آراء الصبيان " ‪.‬‬
‫ومنهم العلمة ))فون بسكون(( قال بعد أن درس هو و ))فرخو(( تشريح‬
‫ن الفرق بين الثنين أصلي وبعيد جدا ً ‪. " ...‬‬ ‫المقابلة بين النسان والقرد ‪ " :‬إ ّ‬
‫ومنهم العلمة ))أغاسيز(( قال في رسالة في أصل النسان تليت في ندوة‬
‫ن مذهب )دارون( خطأ على باطل في‬ ‫العلم الفيكتورية ‪ ،‬ما خلصته ‪ :‬إ ّ‬
‫الواقع ‪ ،‬وأسلوبه ليس من العلم في شيء ‪ ،‬ول طائل تحته ‪.‬‬
‫ومنهم العلمة ))هكسلي(( وهو من )اللأدرية( وصديق )لدارون( قال ‪ :‬إّنه‬
‫بموجب ما لنا من البينات لم يثبت قط أن نوعا ً من النبات أو الحيوان نشأ‬
‫بالنتخاب الطبيعي أو النتخاب الصناعي ‪.‬‬
‫ن الذين‬ ‫ومنهم العلمة ))تندل(( وهو مثل ))هيكل(( قال ‪ " :‬إّنه ل ريب في أ ّ‬
‫يعتقدون بالرتقاء يجهلون أّنه نتيجة مقدمات لم يعلم بها ‪ ،‬ومن المحقق‬
‫عندي أنه ل بد ّ من تغيير مذهب )دارون( " ‪.‬‬
‫نظرية ل حقيقة ‪:‬‬
‫لذلك كله فقد أطلق على ما قاله )دارون( بشأن التطور )نظرية التطور( ‪،‬‬
‫وهناك فرق كبير لدى العلماء بين النظرية والحقيقة أو القانون ‪ .‬فالنظرية‬
‫في اصطلحهم هي ما تحتمل التصديق والتكذيب ‪ ،‬أما الحقيقة أو القانون فل‬
‫يحتمل وجها ً من أوجه الباطل ‪.‬‬
‫لماذا انتشرت إذن؟‬

‫) ‪(1/24‬‬
‫مجيُئها في وقت أذن الله فيه أن يظهر باطل‬ ‫سبب انتشار هذه النظرية هو َ‬
‫دين المحرف المغير ) النصرانية ( على أيدي جماعة من أبنائه ‪ ،‬فكان‬ ‫ذلك ال ّ‬
‫لتقدم العلوم أثر كبير في كشف زيف ذلك الدين ‪ ،‬مما أّدى إلى نشوب‬
‫معركة ضارية ذهب ضحيتها آلف من علماء الطبيعة ‪ ،‬وفي المعترك الحامي‬
‫أخذ كل فريق في استخدام كل سلح ضد خصمه ‪ ،‬فانتشرت هذه النظرية‬
‫ل دين وطئت‬ ‫م في وجه ك ّ‬ ‫سلحا ً أشهره علماء الطبيعة في وجه دينهم ‪ ،‬ث ّ‬
‫ً‬
‫أقدامهم المستعمرة أرضه ؛ لعتقادهم بصدق هذه النظرية ‪ ،‬وانتقاما من‬
‫دين الباطل الذي وقف حجر عثرة أمام البحث في ميادين العلوم‬ ‫ذلك ال ّ‬
‫الطبيعية ‪ ،‬ثم وسيلة لتحطيم أديان المم المستعمرة حتى يسهل على‬
‫المستعمرين السيطرة على هذه الشعوب ‪.‬‬
‫وهكذا فرض التعليم الستعماري هذه النظرية بعد أن حطم دينها في مناهج‬
‫الدراسة ‪ ،‬وقدمها في ثوب ) علمي ( حتى يستطيع أن يقنع الطلب بصدق‬
‫هذه النظرية ليقرر ما ألقي في أذهان الطلب من خلف بين العلم الذي‬
‫دين ‪ ،‬فيكفر الناس بدينهم ‪.‬‬
‫زيفوه وال ّ‬
‫ويكفي أن يعرف القارئ أّنه بوساطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء‬
‫السلم عن دينهم ‪ ،‬ولذلك فقد حرص الستعمار على تعليم هذه النظرية‬
‫لبناء المسلمين في مدارسنا في الوقت الذي يحّرم فيه القانون المريكي‬
‫تعليم هذه النظرية في المدارس منذ سنة ‪1935‬م ‪.‬‬
‫ن نظرية )دارون(‬ ‫ولكن أوربا بعد أن قضت على دينها المحرف عادت لتعلن أ ّ‬
‫التي استخدمتها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ‪ ،‬وإنما هي‬
‫نظرية كلما تقدمت العلوم كشفت عن باطلها ‪.‬‬
‫القرآن ونظرية دارون ‪:‬‬

‫) ‪(1/25‬‬

‫حين يتكلم القرآن في الحقائق الزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ) وإذا‬
‫ُقرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ( ] العراف ‪ ، [ 204 :‬لنه من العليم‬
‫الخبير الذي أحاط بكل شيء علما ً ‪ ،‬وما علم النسان ‍! إّنه ل شيء بجانب‬
‫علم الله ) والله يعلم وأنتم ل تعلمون ( ] البقرة ‪. [ 216 :‬‬
‫وكيف ل يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ) أل يعلم من خلق وهو اللطيف‬
‫الخبير( ] الملك ‪. [ 14 :‬‬
‫وكيف يسمح الّناس لنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا‬
‫ما أشهدّتهم خلق السماوات والرض ول خلق أنفسهم (‬ ‫ذلك الخلق ) ّ‬
‫] الكهف ‪. [ 51 :‬‬
‫ن صوابهم في هذا المجال قليل ‪ ،‬وخطؤهم كثير ‪.‬‬ ‫وما داموا لم يشهدوا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫عكس هذه النظرية هو الصواب ‪:‬‬
‫ً‬
‫الذي يقرره العليم الخبير خالق النسان مخالف تماما لما قرره هؤلء‬
‫الجاهلون ‪ ،‬فالله يخبرنا أّنه خلق النسان خلقا ً مستقل ً مكتمل ً ‪ ،‬وقد أخبر‬
‫ل في‬ ‫ملئكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ) وإذ قال ربك للملِئكة إّني جاع ٌ‬
‫ة ( ] البقرة ‪. [ 30 :‬‬ ‫الرض خليف ً‬
‫وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ‪ ،‬فقد خلقه من تراب ) فإّنا خلقناكم من‬
‫ب ( ]الحج ‪. [5 :‬‬‫ترا ٍ‬
‫وفي الحديث عن أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال ‪ :‬سمعت رسول‬
‫ن الله خلق آدم من قبضة قبضها من‬ ‫الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪ ) :‬إ ّ‬
‫جميع الرض ‪ ،‬فجاء بنو آدم على قدر الرض ‪ ،‬منهم الحمر والبيض‬
‫ب ( ‪(2) .‬‬ ‫ث والطي ُ‬ ‫خِبي ُ‬
‫ن ‪ ،‬وال َ‬‫والسود ‪ ،‬وبين ذلك ‪ ،‬والسهل والحْز ُ‬
‫ماٍء ( ] النور ‪[ 45 :‬‬‫ّ‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫ة‬‫داب‬ ‫كل‬ ‫خلق‬ ‫والماء عنصر في خلق النسان ) والله‬
‫ن ( ] النعام ‪. [ 2 :‬‬ ‫‪ ،‬فهو من ماء وتراب ‪ ) :‬هو الذي خلقكم من طي ٍ‬
‫خار (‬
‫ل كالف ّ‬‫ول إلى صلصال كالفخار ) خلق النسان من صلصا ٍ‬ ‫هذا الطين تح ّ‬
‫]الرحمن ‪. [14 :‬‬
‫وقد خلقه الله بيديه ) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (‬
‫]ص‪. [75:‬‬

‫) ‪(1/26‬‬

‫وفا ً منذ البداية ‪ ،‬ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى‬ ‫وقد خلقه مج ّ‬
‫ور الله آدم في الجّنة تركه ما شاء الله أن‬ ‫الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬لما ص ّ‬
‫ً‬
‫خلق خلقا ل‬ ‫ما رآه ُ أجوف عرف أّنه ُ‬‫ف به ينظر ‪ ،‬فل ّ‬ ‫س يطي ُ‬
‫يتركه ‪ ،‬فجعل إبلي ُ‬
‫يتمالك ( ‪(3) .‬‬
‫دبت فيه الحياة ‪ ،‬فأصبح سميعا ً بصيرا ً‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫روحه‬ ‫من‬ ‫فيه‬ ‫الله‬ ‫نفخ‬ ‫هذا الطين‬
‫متكلما ً عاقل ً واعيا ً ‪ ،‬فقد أمر الله الملئكة بالسجود لدم حين ينفخ فيه الروح‬
‫ويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( ]‬ ‫ب فيه الحياة ) فإذا س ّ‬ ‫‪ ،‬وتد ّ‬
‫ص ‪. [ 72 :‬‬
‫وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ) وقلنا يا آدم اسكن أنت‬
‫وزوجك الجنة ( ] البقرة ‪. [ 35 :‬‬
‫م خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ‪ ،‬ففي القرآن ) وعلم آدم‬ ‫وبمجرد أن ت ّ‬
‫م عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلء إن كنتم‬ ‫السماء كلها ث ّ‬
‫ّ‬
‫صادقين – قالوا سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم – قال‬
‫يا آدم أنبئهم بأسماِئهم ( ] البقرة ‪. [ 33-31 :‬‬
‫وفي حديث أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬لما‬
‫خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ‪ ،‬فقال ‪ :‬الحمد لله ‪ ،‬فحمد الله بإذنه ‪،‬‬
‫فقال له ربه ‪ :‬يرحمك الله يا آدم ‪ ،‬اذهب إلى أولئك الملئكة – إلى مل ٍ منهم‬
‫قل ‪ :‬السلم عليكم ‪ .‬قالوا ‪ :‬عليك السلم ورحمة الله ‪(4) . ( ..‬‬ ‫س فَ ُ‬‫جلو ٌ‬
‫هذا النسان الول هو آدم وهو أبو الناس كافة ‪ ،‬وخلق الله من آدم زوجه‬
‫س واحدةٍ وخلق منها‬ ‫حواء ‪ ) ،‬يا أّيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نف ٍ‬
‫زوجها (]النساء‪. [1:‬‬
‫ور ؛‬ ‫ً‬
‫ولم يكن خلق النسان ناقصا ثم اكتمل ‪ ،‬كما يقول أصحاب نظرية التط ّ‬
‫م أخذ يتناقص الخلق ‪ ،‬ففي الحديث الذي يرويه البخاري‬ ‫بل كان كامل ً ‪ ،‬ث ّ‬
‫ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال ‪ ) :‬خلق الله‬
‫سّتون ذراعا ً ( ‪(5) .‬‬ ‫ه‪ِ :‬‬ ‫آدم وطول ُ ُ‬

‫) ‪(1/27‬‬

‫ولذلك فالمؤمنون يدخلون الجّنة مكتملين على صورة آدم ‪ ،‬ففي بقية‬
‫ل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا ً‬ ‫الحديث السابق ‪ ) :‬فك ّ‬
‫ص بعده حّتى الن (‬ ‫ق ُ‬ ‫( ‪ ،‬ثم يقول صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬فلم يزل الخلق ين ُ‬
‫‪(6) .‬‬
‫وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ‪،‬‬
‫ما أن‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫‪،‬‬ ‫فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الدنى‬
‫ول القرود والخنازير بشرا ً فهذا ل يوجد إل عند أصحاب العقول الضعيفة ‪.‬‬ ‫ُتح ّ‬
‫هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الحاديث عن خلق النسان الول ‪،‬‬
‫لم نستقص النصوص من الكتاب والسّنة في ذلك ‪ ،‬وإل فالقول في ذلك‬
‫أوسع وطويل ‪ ،‬وهو يعطي صورة واضحة لصل النسان ليس فيها غبش ول‬
‫ما‬
‫خيال ‪ ،‬وهذا الذي يبّينه السلم أصل كريم يعتز النسان بالنتساب إليه ‪ ،‬أ ّ‬
‫وره أصحاب نظرية التطور ‪ ،‬ذلك القرد الذي ترقى عن‬ ‫ذلك النسان الذي يص ّ‬
‫فأر أو صرصور فإّنه أصل يخجل النسان من النتساب إليه ‪.‬‬
‫وذلك النسان الذي ي ُد َّرسه علماء التاريخ للطفال ‪ :‬النسان المتوحش الذي‬
‫ل يفقه الكلم ‪ ،‬ول يحسن صنع شيء ‪ ،‬الذي يتعلم من الحيوان ‪ ...‬فيه الكثير‬
‫من التجني على أصل النسان الكريم ‪.‬‬
‫وبعد ‪:‬‬
‫فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ‪ ،‬ففيه الخير ) فيه‬
‫نبأ ما قبلكم ‪ ،‬وخبر ما بعدكم ‪ ،‬وحكم ما بينكم ‪ ،‬هو الفصل ليس بالهزل ‪،‬‬
‫من ابتغى الهدى من غيره أضله الله ‪. ( ...‬‬
‫ف عن نتاج العقول السنة المتعفنة في مثل هذه المجالت ‪،‬‬ ‫آن لنا أن ِنع ّ‬
‫أعني المجالت التي قال الله فيها كلمة الفصل ‪ ،‬ولم يترك لحد فيها قول ً ‪.‬‬
‫يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد‬
‫بدون روّية وتفكر ‪ ،‬ثم ل نفيق على خطأ ما أخذناه إل بعد أن يهدمه بناُته ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬كتاب التوحيد ‪ ،‬للزنداني ‪. 3/81 :‬‬
‫)‪ (2‬رواه أحمد والترمذي وأبو داود ) مشكاة المصابيح ‪ . 1/36‬ورقمه ‪:‬‬
‫‪. (100‬‬

‫) ‪(1/28‬‬

‫)‪ (3‬صحيح مسلم ‪ ، 4/2016 :‬ورقمه ‪. 2611 :‬‬


‫)‪ (4‬رواه الترمذي ‪ :‬مشكاة المصابيح ‪ ، 2/542‬ورقمه ‪ . 4662 :‬وقال‬
‫محقق المشكاة ‪ :‬صححه الحاكم ووافقه الذهبي ‪ .‬وهو كما قال ‪.‬‬
‫)‪ (5‬صحيح البخاري ‪ ، 6/362 :‬ورقمه ‪ ، 3326 :‬ورواه مسلم في صحيحه ‪:‬‬
‫‪ ، 4/2183‬ورقمه ‪ ، 2841 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (6‬المصدران السابقان ‪ ،‬إل أن اللفظ هنا لمسلم ‪.‬‬
‫التعريف بالله وربط القلوب به‬
‫تمهيد ‪:‬‬
‫ما كان لنا أن نطيل في عرض المسألة الولى لول ما أثير حولها من شكوك‬
‫وشبهات تقتضي من الباحث أن يبين عوارها ‪:‬‬
‫وقد آن لنا أن نبسط القول في المسألة الثانية ‪ ،‬وهي أهم مسائل هذا‬
‫الباب ‪ ،‬وصلب هذه المباحث ‪.‬‬
‫وقد سبق أن قررنا أن القرآن سلك سبيلين لتقرير هذه الحقيقة الكبيرة ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬الحديث عن بديع صنع الله في خلقه ‪ ،‬وبيان ما في هذا الكون من‬
‫إعجاز يشي بعظمة الخالق سبحانه ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬الحديث المباشر عن الله ‪ :‬ذاته ‪ ،‬وأسمائه ‪ ،‬وصفاته ‪ ،‬ونعمه‬
‫ومخلوقاته ‪ ،‬وسنحاول – إن شاء الله تعالى – أن نفصل القول في ذلك ‪،‬‬
‫والله المستعان ‪.‬‬
‫دللة اليات الكونية على خالقها ومبدعها‬
‫المطلب الول‬
‫منهج القرآن في الستدلل باليات الكونية‬
‫‪ -1‬ارتياد الكون عبر آيات القرآن‬
‫يأخذنا القرآن في جولت وجولت نرتاد آفاق السماء ‪ ،‬ونجول في جنبات‬
‫الرض ‪ ،‬ويقف بنا عند زهرات الحقول ‪ ،‬ويصعد بنا إلى النجوم في مداراتها ‪،‬‬
‫ل ذلك يفتح أبصارنا وبصائرنا ‪ ،‬فيرينا كيف تعمل قدرة الله وتقديره‬ ‫وهو في ك ّ‬
‫في المخلوقات ‪ ،‬ويكشف لنا أسرار الخلق والتكوين ‪ ،‬ويهدينا إلى الحكمة‬
‫من الخلق واليجاد والنشاء ‪ ،‬ويبين عظيم النعم التي حبانا بها في ذوات‬
‫أنفسنا وفي الكون من حولنا ‪.‬‬
‫إنه حديث طويل في كتاب الله يطالعك في طوال سوره وقصارها ‪ ،‬وهو‬
‫حديث مشوق تنصت إليه النفس ‪ ،‬ويلذه السمع ‪ ،‬ويستثير المشاعر‬
‫والحاسيس ‪.‬‬

‫) ‪(1/29‬‬

‫ولقد طالعت الكثير مما توصل إليه العلم والعلماء في شتى جوانب الحياة‬
‫يبينون أسرار الخلق ‪ ،‬ودللة الخلق على الخالق ‪ ،‬فما وجدت في شيء من‬
‫ذلك كّله ما وجدته في القرآن من جمال وصف ‪ ،‬ووفرة علم ‪ ،‬واستثارة‬
‫مشاعر ‪ ،‬وحسن توجيه ‪ ،‬ودقة استنتاج ‪ ،‬وكيف ل يكون كذلك وهو تنزيل‬
‫الحكيم الحميد !!‬
‫فعل الله في الكون ‪:‬‬
‫تعال معي لنقوم بجولة مع اليات القرآنية ؛ نرتاد هذا الكون ليرينا كيف تعمل‬
‫قدرة الله في مختلف أرجاء الكون ‪ :‬في الحّبة تلقى في التربة فتنفلق ‪،‬‬
‫وتضرب بجذورها في التربة ‪ ،‬فيخرج من الحّبة الجامدة حياة تتمثل في سوق‬
‫‪ ،‬وأوراق ‪ ،‬وأزهار تفوح بالشذى ‪ ،‬وثمار يتغذى بها النسان والحيوان ‪ .‬وفي‬
‫الصباح وهو ينبلج ‪ ...‬وفي سكون اليل ‪ ...‬ومسير الشمس والقمر ‪ ) ..‬إن‬
‫الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم‬
‫الله فأّنى تؤفكون – فالق الصباح وجعل اليل سكنا ً والشمس والقمر حسبانا ً‬
‫ذلك تقدير العزيز العليم ( ] النعام ‪. [ 96-95 :‬‬
‫ونه ويصرفه‬ ‫وانظر إلى مشهد السحاب كيف يصنعه الله ‪ ،‬والبرد كيف يك ّ‬
‫) ألم تر أن الله ُيزجى سحابا ً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ُركاما ً فترى الودق يخرج‬
‫ل فيها من برد ٍ فيصيب به من يشاء‬ ‫من خلله وينزل من السماء من جبا ٍ‬
‫ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالبصار ( ] النور ‪. [ 43 :‬‬
‫ل ‪ ) :‬ألم تر إلى ربك كيف مد ّ الظل ولو شاء‬ ‫ويحدثنا الله عن فعله في الظ ّ‬
‫لجعله ساكنا ً ثم جعلنا الشمس عليه دليل – ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫] الفرقان ‪[ 46-45 :‬‬
‫وانظر إلى تصريفه شؤون الحياة والحياء والليل والنهار ‪ ) :‬قل اللهم مالك‬
‫ل من‬ ‫الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعّز من تشاء وتذ ّ‬
‫ي قديٌر – تولج الليل في النهار وتولج النهار‬‫تشاء بيدك الخير إنك على كل ش ٍ‬
‫في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء‬
‫بغير حساب ( ] آل عمران ‪. [ 27-26 :‬‬

‫) ‪(1/30‬‬

‫ل يكتفي القرآن بأن يرينا قدرة الله وهي تعمل في الكون ‪ ،‬وعلمه يحيط‬
‫بالمخلوقات ‪ ،‬وتصريفه للشؤون المختلفة ‪ ...‬ولكّنه – مع ذلك – يعرفنا بالغاية‬
‫التي خلق الكون من أجلها ‪.‬‬
‫ما في الرض‬ ‫خلق الله هذه الرض من أجل النسان ) هو الذي خلق لكم ّ‬
‫جميعا ً ( ]البقرة ‪ [29 :‬خلقها لنا على نحو يتوافق مع طبيعتنا وتكويننا ويحقق‬
‫لنا الصلح ‪ ،‬وهذا ما سماه القرآن بالتسخير ‪.‬‬
‫وهو ل يخبرنا بذلك مجرد إخبار ‪ ،‬وإّنما يوقفنا على هذا التسخير الذي جعله‬
‫سماوات وما في‬ ‫خر لكم ما في ال ّ‬ ‫ن الله س ّ‬‫الله في الكون ‪ ) ،‬ألم تروا أ ّ‬
‫الرض ( ] لقمان ‪ [20 :‬فالنجوم خلقت لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر ‪:‬‬
‫صلنا‬
‫ذي جعل لكم الّنجوم لتهتدوا بها في ظلمات الب ّرِ والبحرِ قد ف ّ‬ ‫) وهو ال ّ‬
‫اليات لقوم ٍ يعلمون ( ] النعام ‪. [ 97 :‬‬
‫والرض والسماء ‪ ،‬وإنزال الماء من السماء ‪ ،‬والسفن السابحة في البحر ‪،‬‬
‫والنهار الجارية في جنبات الرض ‪ ،‬والشمس والقمر ‪ ،‬وتعاقب الليل‬
‫سماوات‬ ‫ل ذلك مخلوق لنا ولخيرنا ولصلحنا ) الله الذي خلق ال ّ‬ ‫والنهار ‪ ...‬ك ّ‬
‫خر لكم‬ ‫ً‬
‫والرض وأنزل من السماء ماًء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وس ّ‬
‫خر لكم الشمس‬ ‫خر لكم النهار – وس ّ‬ ‫الفلك لتجري في البحر بأمره وس ّ‬
‫ل ما سألتموه (‬ ‫ُ‬
‫خر لكم الليل والّنهار – َوآَتاكم من ك ّ‬ ‫والقمر داِئبين وس ّ‬
‫] إبراهيم ‪. [ 34-32 :‬‬
‫‪ -2‬نعم الله في الكون‬
‫ً‬
‫خره لنا ‪ ،‬فجعله متوافقا مع‬ ‫ن الله خلق هذا الكون وس ّ‬ ‫عّرفنا القرآن بأ ّ‬
‫دره تقديرا تصلح به حياة النسان ‪ ،‬والقرآن يتخذ من هذا الحديث‬ ‫ً‬ ‫جبلتنا ‪ ،‬وق ّ‬
‫والبيان سبيل ليشكر النسان رّبه ‪ ،‬إذ النسان مفطور على حب من أحسن‬ ‫ً‬
‫إليه ) هل جزاء الحسان إل ّ الحسان ( ] الرحمن ‪. [ 60 :‬‬

‫) ‪(1/31‬‬

‫ولذلك فقد أفاض القرآن في ذكر النعم التي حباها الله عباده في ذوات‬
‫أنفسهم ) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والبصار والفئدة قليل ً ما‬
‫تشكرون ( ]الملك ‪ ، [23 :‬وفي الكون من حولهم ‪ ) :‬الذي جعل لكم الرض‬
‫مهدا ً وجعل لكم فيها سبل ً لعلكم تهتدون – والذي نّزل من السماِء ماء بقدٍر‬
‫ميتا ً كذلك تخرجون – والذي خلق الزواج كلها وجعل لكم من‬ ‫فأنشرنا به بلدة ً ّ‬
‫م تذكروا نعمة ربكم إذا‬‫الفلك والنعام ما تركبون – لتستووا على ظهوره ث ّ‬
‫استويتم عليه ( ] الزخرف ‪. [ 13-10 :‬‬
‫وخلق لنا الشمس والقمر على نحو يحقق النفع والصلح ) هو الذي جعل‬
‫دره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب (‬ ‫الشمس ضياًء والقمر نورا ً وق ّ‬
‫] يونس ‪. [ 5 :‬‬
‫والنعام من الجمال والبقار والغنام ‪ ،‬وكذلك الخيل والبغال والحمير خلقها‬
‫لنا على نحو يفيدنا ويتناسب مع طبائعنا وتكويننا ) والنعام خلقها لكم فيها‬
‫دفٌء ومنافع ومنها تأكلون – ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون –‬
‫ف‬‫ن رّبكم لرءو ٌ‬
‫وتحمل أثقالكم إلى بلد ٍ لم تكونوا بالغيه إل بشق النفس إ ّ‬
‫ة ويخلق ما ل تعلمون (‬ ‫م – والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزين ً‬ ‫رحي ٌ‬
‫] النحل ‪. [ 8-5 :‬‬
‫ً‬
‫والبحر مخلوق لنا أيضا ‪ ،‬وفي خلقه على ما هو عليه ما يحقق لنا الشيء‬
‫خر البحر لتأكلوا منه لحما ً طريا ً وتستخرجوا منه حلي ً‬
‫ة‬ ‫ذي س ّ‬ ‫الكثير ) وهو ال ّ‬
‫ّ‬
‫تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (‬
‫] النحل ‪. [14 :‬‬
‫والنحل خلقه الله ليقوم بذلك العمل الرائع ‪ ،‬لينتج لنا ذلك الشراب المختلف‬
‫اللوان ‪ ،‬ليتغذى به البشر ‪ ،‬ويكون لهم شفاء ) وأوحى رّبك إلى الّنحل أن‬
‫م كلى من كل‬ ‫ما يعرشون – ث ّ‬ ‫شجر وم ّ‬‫اّتخذي من الجبال بيوتا ً ومن ال ّ‬
‫ف ألوانه فيه‬
‫ب مختل ٌ‬ ‫الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلل ً يخرج من بطونها شرا ٌ‬
‫ة لقوم ٍ يتفكرون ( ]النحل ‪. [69-68 :‬‬ ‫ن في ذلك لي ً‬ ‫شفاٌء للّناس إ ّ‬

‫) ‪(1/32‬‬

‫ث عليه القرآن ‪:‬‬ ‫لح ّ‬‫التعرف على الله من خلل آياته الكونية سبي ٌ‬
‫حث القرآن عباد الله على النظر في آيات الله الكونية ‪ :‬الرض ‪ ،‬والسماء ‪،‬‬
‫وما فيهما وما بينهما ‪ ،‬وجعل النظر والتأمل في ذلك من الذكرى التي تنفع‬
‫المؤمنين ‪.‬‬
‫وقد أعجبني تسمية بعض المعاصرين لهذا المنهج ) بقانون السير والنظر (‬
‫لكثرة حث اليات القرآنية على ذلك ‪ ،‬وقد يكون السير والنظر حسّيان ‪،‬‬
‫فيسير المرء بقدميه ‪ ،‬وينتقل من بلد لخر ‪ ،‬كما قد يكون النظر بالبصر ‪ ،‬وقد‬
‫يكونان بالفكر والعقل ‪.‬‬
‫سماوات والرض‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد جاء المر في القرآن أمرا عاما ) قل انظروا ماذا في ال ّ‬
‫م خلق (‬ ‫( ] يونس ‪ . [101 :‬وقد يأتي أمرا ً خاصا ً ) فلينظر النسان م ّ‬
‫] الطارق ‪ ) ، [5 :‬فلينظر النسان إلى طعامه ( ] عبس ‪. [ 24 :‬‬
‫‪ -3‬استدلل القرآن باليات الكونية على‬
‫استحقاق الخالق الربوبية واللوهية وبطلن ما يعبد من دون الله‬
‫يتخذ القرآن من اليات الكونية مادة يناقش بها المشركين ‪ ،‬ويقيم بها الحجة‬
‫سماوات والرض كانتا رتقا ً ففتقناهما‬ ‫ن ال ّ‬
‫عليهم ) أولم ير الذين كفروا أ ّ‬
‫ى أفل يؤمنون – وجعلنا في الرض رواسي أن‬ ‫يح ٍ‬‫لش ٍ‬ ‫وجعلنا من الماء ك ّ‬
‫سماء سقفا ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبل ً لعلهم يهتدون – وجعلنا ال ّ‬
‫شمس‬ ‫محفوظا ً وهم عن آياتها معرضون – وهو الذي خلق الليل والّنهار وال ّ‬ ‫ّ‬
‫ك يسبحون ( ] النبياء ‪. [ 32-30 :‬‬ ‫ل في فل ٍ‬‫والقمر ك ٌ‬

‫) ‪(1/33‬‬

‫ويبين لهم فساد معتقداتهم في معبوداتهم ‪ ،‬فهي ل تملك صفات الربوبية‬


‫واللوهية التي تستحق أن تعبد بها ‪ ،‬وتتخذ آلهة من دون الله ‪ ) :‬قل الحمد‬
‫من خلق‬ ‫ما يشركون – أ ّ‬ ‫ه خير أ ّ‬‫لله وسلم على عباده الذين اصطفى آلل ّ ُ‬
‫ما‬
‫سماوات والرض وأنزل لكم من السماء ماًء فأنبتنا به حداِئق ذات بهجةٍ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫من جعل الرض‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م يعدلون – أ ّ‬ ‫ه مع الله بل هم قو ٌ‬ ‫كان لكم أن تنبتوا شجرها أإ ِل ٌ‬
‫ه مع‬ ‫قرارا ً وجعل خللها أنهارا ً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ً أ َإ ِل ٌَ‬
‫سوء‬ ‫من يجيب المضطّر إذا دعاه ويكشف ال ّ‬ ‫الله بل أكثرهم ل يعلمون – أ ّ‬
‫َ‬
‫من يهديكم في‬ ‫كرون – أ ّ‬ ‫ه مع الله قليل ً ما تذ ّ‬ ‫ويجعلكم خلفاء الرض أإ ِل َ ٌ‬
‫َ‬
‫ه مع الله‬ ‫ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإ ِل َ ٌ‬
‫سماء‬ ‫ُ‬
‫من ي َب ْد َأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من ال ّ‬ ‫ما يشركون – أ ّ‬ ‫تعالى الله ع ّ‬
‫َ‬
‫ه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( ] النمل ‪[ 64-59 :‬‬ ‫والرض أإ ِل َ ٌ‬
‫‪.‬‬
‫ن اليات تبين عدم صلحية اللهة المدعاة للعبادة ‪ ،‬فالله وحده الخالق‬ ‫إ ّ‬
‫للسماء والرض ‪ ،‬المنزل للماء من السماء ‪ ،‬والمنبت به الحدائق التي تسّر‬
‫النفس ‪ ،‬وتبهج النظر ‪ ،‬وهو الذي جعل الرض قرارا ً وسّير خللها النهار ‪،‬‬
‫وثبتها بالجبال ‪ ، ...‬فهو المعبود الحق ‪ ،‬وغيره لم يفعل شيئا ً ‪ ،‬فل يستحق أن‬
‫يعبد من دون الله ‪.‬‬
‫وعلينا أن نستخدم هذا النوع من الستدلل في مواجهة الكفرة والملحدين ‪،‬‬
‫فقد استخدمه الرسل من قبل ‪ ،‬وأكثروا من الحتجاج به ‪ ،‬فهذا إبراهيم خليل‬
‫الرحمن يناقش الملحد ‪ ،‬ويقيم عليه الحجة بهذا النوع من الستدلل بحيث‬
‫يخرس لسانه ويدهش فكره‬
‫ج إبراهيم في ربه أن آَتاهُ الله الملك إذ قال إبراهيم‬ ‫) ألم تر إلى الذي حا ّ‬
‫حِيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ربي الذي ُيحيي ويميت قال أنا أ ْ‬
‫شمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله ل يهدي‬ ‫بال ّ‬
‫القوم الظالمين ( ] البقرة ‪. [ 258 :‬‬ ‫ّ‬

‫) ‪(1/34‬‬

‫وهذا موسى كليم الله يستخدم الستدلل نفسه في مواجهة طاغية عصره‬
‫فرعون ‪ ،‬ول يزال يأتيه بالدليل في إثر الدليل حتى يعجزه ‪ ،‬فيلجأ إلى التهديد‬
‫سماوات والرض وما‬ ‫ب ال ّ‬‫ب العالمين – قال ر ّ‬ ‫والوعيد ‪ ) :‬قال فرعون وما ر ّ‬
‫ب‬‫بينهما إن كنتم موقنين – قال لمن حوله أل تستمعون – قال ربكم ور ّ‬
‫ب‬ ‫ن – قال ر ّ‬ ‫ن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنو ٌ‬ ‫آَبائ ِك ُ ُ‬
‫م الّولين – قال إ ّ‬
‫المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون – قال لِئن اتخذت إلها ً غيري‬
‫لجعلّنك من المسجونين ( ] الشعراء ‪. [ 29-23 :‬‬
‫بل إن هذا النوع من الستدلل طريقة جميع الرسل ‪ ،‬ارجع إلى سورة‬
‫إبراهيم )آية ‪ ( 10 ، 9‬واقرأ ما قالته القوام المكذبة قوم نوح وعاد وثمود‬
‫ك فاطر‬ ‫والذين من بعدهم ‪ ،‬ثم إجابة الرسل حيث قالوا ‪ ) :‬أفي الله ش ٌ‬
‫سماوات والرض يدعوكم ليغفر لكم ( ]إبراهيم ‪. [10 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫سماوات والرض‬ ‫فاستدلوا على صدق دعوتهم بأن الله – سبحانه – فاطر ال ّ‬
‫أي موجدهما وخالقهما ‪.‬‬
‫كر مستعجب مع وضوح الدلة ‪:‬‬ ‫مسَتن َ‬
‫الكفر ُ‬
‫ً‬
‫ولذلك يسأل القرآن سؤال يشي بالعجب من كفر الكافرين مع وضوح الدلة‬
‫م يحييكم ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫م يميتكم ث ّ‬‫والبراهين ) كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ً فأحياكم ث ّ‬
‫إليه ترجعون ( ] البقرة ‪. [ 28 :‬‬
‫ويسأل في آية أخرى ) يا أيها النسان ما غّرك بربك الكريم – الذي خلقك‬
‫واك فعدلك – في أي صورة ما شاء ر ّ‬
‫كبك ( ] النفطار ‪. [ 8-6 :‬‬ ‫فس ّ‬
‫إن مقتضى نظر النسان في نفسه وفي الكون من حوله يوجب عليه التوجه‬
‫إلى خالقه وتعظيمه ‪ ،‬ولذلك كان غريبا ً كفر الكافرين وجحد الجاحدين ) ّ‬
‫ما‬
‫لكم ل ترجون لله وقارا ً – وقد خلقكم أطوارا ً – ألم تروا كيف خلق الله سبع‬
‫شمس سراجا ً – والله‬‫ن نورا ً وجعل ال ّ‬
‫ت طباقا ً – وجعل القمر فيه ّ‬
‫سموا ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أنبتكم من الرض نباتا – ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ( ] نوح ‪[ 18-13 :‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ -4‬الذين ينتفعون بآيات الكون هم أولو اللباب‬

‫) ‪(1/35‬‬

‫إن آيات الله في الكون ل تتجلى على حقيقتها الموحية إل للقلوب الذاكرة‬
‫العابدة ؛ لن هذه القلوب انكشفت عنها الحجب وتفتحت واتصلت بالكون‬
‫العجيب ‪ ،‬فالقرآن أقام الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون‬
‫الهائل الجميل ‪ ،‬وهذه الوصلة هي التي تجعل للنظر في كتاب الكون‬
‫والتعرف إليه أثرا ً في هذا القلب البشري ‪ ،‬وقيمة في الحياة البشرية ‪ .‬هذه‬
‫هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين النسان الذي يعلم‬
‫ص القرآن على أن الذي يهتدي بآيات الكون هم صنف‬ ‫ويعرف ‪ ،‬ولذلك ن ّ‬
‫سماوات والرض واختلف الليل والّنهار‬ ‫ن في خلق ال ّ‬ ‫معين من الناس ) إ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ت لولي اللباب – الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم‬ ‫ليا ٍ‬
‫سبحانك فقنا‬ ‫سماوات والرض رّبنا ما خلقت هذا باطل ً ُ‬ ‫كرون في خلق ال ّ‬ ‫ويتف ّ‬
‫عذاب الّنار ( ] آل عمران ‪. [ 191-190 :‬‬
‫هؤلء هم الذين ينتفعون بآيات الكون ‪ ،‬لنهم لم يقفوا عند حدود المنظر‬
‫المشهود البادي للعيان ؛ بل نظروا إلى اليد التي تسيره والقدرة التي‬
‫تصنعه ‪ ،‬إنهم يستخدمون أبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأفكارهم على خير‬
‫وجه في هذا المجال ‪ ،‬مسترشدين بآيات الكتاب التي تعين السمع والبصر‬
‫والفكر والعقل على التوصل إلى خير ما يمكن للنسان أن يصل إليه ) ومن‬
‫آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحم ً‬
‫ة‬
‫سماوات والرض‬ ‫كرون – ومن آياته خلق ال ّ‬ ‫ت لقوم ٍ يتف ّ‬ ‫ن في ذلك ليا ٍ‬ ‫إ ّ‬
‫ت للعالمين – ومن آياته منامكم‬ ‫ٍ‬ ‫ليا‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫وألوانكم‬ ‫ألسنتكم‬ ‫واختلف‬
‫ت لقوم ٍ يسمعون – ومن‬ ‫ٍ‬ ‫ليا‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫فضله‬ ‫بالليل والّنهار وابتغاؤكم من‬
‫سماء ماًء ُفيحيي به الرض بعد‬ ‫آياته يريكم البرق خوفا ً وطمعا ً وينزل من ال ّ‬
‫ت لقوم ٍ يعقلون ( ] الروم ‪. [ 24-21 :‬‬ ‫ن في ذلك ليا ٍ‬ ‫موتها إ ّ‬
‫فاليات تتكشف للذين يتفكرون ويسمعون ويعقلون ؛ أي على وجه الحقيقة‬
‫المؤدية إلى المطلوب ‪.‬‬

‫) ‪(1/36‬‬

‫أما الكفار فإنهم يشاهدون الحدث ول يتجاوزونه بعقولهم وأفكارهم إلى‬


‫صانعه وخالقه ‪ ،‬ول يدركون الحكمة من وراء الخلق ) يعلمون ظاهرا ً من‬
‫دنيا ( ] الروم ‪. [ 7 :‬‬
‫الحياة ال ّ‬
‫ولذلك لم ينتفعوا باليات الكونية ؛ لنهم لم ينظروا إليها من خلل المنظار‬
‫ت والّنذر‬
‫سماوات والرض وما تغني اليا ُ‬ ‫القرآني ‪ ) :‬قل انظروا ماذا في ال ّ‬
‫عن قوم ٍ ل يؤمنون ( ]يونس ‪. [ 10 :‬‬
‫ولذلك فإن القرآن ينكر على الكافرين والجاحدين تركهم النظر والعتبار‬
‫سماوات والرض وما خلق الله من شيٍء وأن‬ ‫) أولم ينظروا في ملكوت ال ّ‬
‫عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأيّ حديث بعده يؤمنون ( ] العراف ‪:‬‬
‫‪. [ 185‬‬
‫‪ -5‬العلوم الحديثة تقطع الوشيجة بين الناس والكون‬
‫يقول سيد قطب – رحمه الله – ‪ " :‬إن مناهج البحث التي يسمونها ))علمية((‬
‫في هذا الزمان تقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي‬
‫يعيشون فيه ‪.‬‬
‫فالناس قطعة من هذا الكون ل تصح حياتهم ول تستقيم إل حين تنبض قلوبهم‬
‫على نبض هذا الكون ‪ ،‬وإل حين تقوم وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون‬
‫الكبير ‪ ،‬وكل معرفة بنجم من النجوم ‪ ،‬أو فلك من الفلك ‪ ،‬أو خاصة من‬
‫خواص النبات والحيوان ‪ ،‬أو خواص الكون كله على وجه الجمال ‪ ،‬وما فيه‬
‫من عوالم حية وجامدة – إذا كانت هناك عوالم جامدة – أو أي شيء واحد‬
‫جامد في هذا الوجود !‬
‫كل معرفة ‍))علمية(( يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب‬
‫البشري ‪ ،‬وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون ‪ ،‬وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة‬
‫بين الناس والشياء والحياء ‪ ،‬وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه‬
‫الغاية الحية الموحية المؤثرة في حياة البشر ‪ ،‬هي معرفة ناقصة ‪ ،‬أو علم‬
‫زائف ‪ ،‬أو بحث عقيم ‪.‬‬

‫) ‪(1/37‬‬

‫إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح الذي يقرأ بكل لغة ‪ ،‬ويدرك بكل‬
‫وسيلة ‪ ،‬ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة وساكن الكوخ ‪،‬‬
‫والمتحضر ساكن العمائر والقصور ‪ ،‬كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده ‪،‬‬
‫فيجد فيه زادا ً من الحق ‪ ،‬حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق ‪ ،‬وهو قائم‬
‫ب(]ق‪.[8:‬‬ ‫مفتوح في كل آن ) تبصرة ً وذكرى لكل عبد ٍ مني ٍ‬
‫ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة ‪ ،‬أو يقطع الوشيجة بين القلب‬
‫البشري والكون الناطق المبين ‪ ،‬لنه في رؤوس مطموسة رانت عليها‬
‫خرافة ) المنهج العلمي ( ‪ ،‬المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلئق التي‬
‫تعيش فيه ‪.‬‬
‫ً‬
‫والمنهج اليماني ل ينقص شيئا من ثمار )) المنهج العلمي (( في إدراك‬
‫الحقائق المفردة ‪ ،‬لكنه يزيد ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض ‪ ،‬وردها‬
‫إلى الحقائق الكبرى ‪ ،‬ووصل القلب البشري بها ‪ ،‬أي وصله بنواميس الكون‬
‫وحقائق الوجود ‪ ،‬وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في‬
‫مشاعر الناس وحياتهم ‪ ،‬ل معلومات جامدة جافة متحيزة في الذهان ل‬
‫تفضي لها بشيء من سّرها الجميل ‪ ،‬والمنهج اليماني هو الذي يجب أن‬
‫تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي‬
‫يهتدي إليها ‪ ،‬بهذا الرباط الوثيق ‪(1) ." ...‬‬
‫‪ -6‬دللة الخلق على صفات الخالق‬
‫إذا نظرنا إلى آلة دقيقة الصنع ‪ ،‬بديعة التكوين ‪ ،‬غاية في القوة والمتانة ‪،‬‬
‫تقوم بعملها على خير وجه ‪ ،‬فل بد ّ أن ندرك بل كثير تفكير أن صانعها يتصف‬
‫بصفة الحياة والعلم ولديه قدرة وإرادة ‪ ...‬إلى آخر تلك الصفات التي تنبئنا‬
‫عنها اللة ‪.‬‬
‫وهذا الكون يشي ويعّرف بكثير من صفات الخالق ‪ ،‬فمن ذلك ‪:‬‬

‫) ‪(1/38‬‬

‫قدرته وعلمه ‪ :‬هذا الكون الهائل الضخم الشاسع الواسع السائر وفق نظام‬
‫دقيق ل بد ّ أن يكون صانعه قديرا ً عليما ً ‪ ،‬والله خلق الخلق بهذا التكوين‬
‫الهائل وهذا النظام الكامل ليعرفنا بقدرته وعلمه ) الله الذي خلق سبع‬
‫ن الله على كل شيٍء‬ ‫ن لتعلموا أ ّ‬ ‫ل المر بينه ّ‬ ‫ن يتنّز ُ‬‫ت ومن الرض مثله ّ‬ ‫سماوا ٍ‬
‫ن الله قد أحاط بكل شيٍء علما ( ]الطلق ‪. [12:‬‬ ‫قديٌر وأ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ول بد أن يكون العلم الذي يحكم هذا الكون شامل كامل ) ويعلم ما في البر‬
‫ب‬‫ظلمات الرض ول رط ٍ‬ ‫والبحر وما تسقط من ورقةٍ إل يعلمها ول حب ّةٍ في ُ‬
‫ن ( ] النعام ‪. [ 59 :‬‬ ‫س إل ّ في كتا ٍ‬
‫ب مبي ٍ‬ ‫ول ياب ٍ‬
‫ل شيء‬ ‫وهو حكيم ‪ :‬فالنظر في هذا الكون يشي بأّنه محكم متقن قد وضع ك ّ‬
‫خلق بالمقدار المناسب ‪ ،‬في غاية الجودة‬ ‫منه في موضعه المناسب ‪ ،‬و ُ‬
‫سحاب صنع الله الذي‬ ‫والتقان ) وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمّر مّر ال ّ‬
‫ل شيٍء خلقه وبدأ خلق‬ ‫أتقن كل شيٍء ( ] النمل ‪ ) ، [ 88 :‬الذي أحسن ك ّ‬
‫ن ( ] السجدة ‪. [ 7 :‬‬ ‫النسان من طي ٍ‬
‫ولذلك فإن الناظر المتبصر في خلق الله ل يرى إل الكمال والتقان ‪ ،‬ولو‬
‫ما ترى‬ ‫ت طباقا ً ّ‬
‫بحث عن عيب في الخلق لعجزه ) الذي خلق سبع سماوا ٍ‬
‫ت فارجع البصر هل ترى من فطورٍ – ثم ارجع‬ ‫في خلق الرحمن من تفاو ٍ‬
‫سئا وهو حسيٌر ( ] الملك ‪. [ 4-3 :‬‬ ‫ً‬ ‫البصر كّرتين ينقلب إليك البصر خا ِ‬

‫) ‪(1/39‬‬

‫صفات ُأخرى ‪ :‬ما ذكرناه من دللة الخلق على بعض صفات خالقه أردنا به‬
‫التمثيل ‪ ،‬ل الحصر والستقصاء ‪ ،‬وهو تمثيل يفتح الباب للستدلل والبحث ‪،‬‬
‫وإل ففي الكون الكثير من اليات الدالة على عظمة الله وعزته ولطفه ‪،‬‬
‫ل آية من اليات‬ ‫واستمع إلى الصفات اللهية التي ذكرها الله في ختام ك ّ‬
‫ن الله‬
‫سماء ماًء فتصبح الرض مخضّرةً إ ّ‬ ‫ن الله أنزل من ال ّ‬
‫التالية ) ألم تر أ ّ‬
‫ي الحميد‬ ‫ن الله لهو الغن ّ‬ ‫سماوات وما في الرض وإ ّ‬ ‫لطيف خبيٌر – له ما في ال ّ‬
‫خر لكم ما في الرض والفلك تجري في البحر بأمره‬ ‫ن الله س ّ‬‫– ألم تر أ ّ‬
‫م(]‬‫ف رحي ٌ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫َ‬ ‫سماء أن تقع على الرض إل ّ بإذنه إ ّ‬
‫ن الله بالّناس لَر ُ‬ ‫ويمسك ال ّ‬
‫الحج ‪.[ 65-63 :‬‬
‫‪ -7‬الله وحده المستحق للعبادة‬
‫الهداية التي يجلبها النظر والتفكر في اليات الكونية توجه إلى عبادة الله‬
‫وحده ‪ ،‬فالله وحده هو الخالق المدبر المقيم للسماوات والرض الرازق‬
‫المحيي المميت ‪ ...‬؛ لذلك فهو المستحق للعبادة دون سواه ‪:‬‬
‫ّ‬
‫) يا أّيها الّناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تّتقون –‬
‫سماء ماًء فأخرج به‬‫سماء بناًء وأنزل من ال ّ‬‫الذي جعل لكم الرض فراشا ً وال ّ‬
‫من الّثمرات رزقا ً لكم فل تجعلوا لله أندادا ً وأنتم تعلمون ( ] البقرة ‪-21 :‬‬
‫‪. [22‬‬
‫ق غير الله يرزقكم من‬ ‫ٍ‬ ‫خال‬ ‫من‬ ‫هل‬ ‫عليكم‬ ‫الله‬ ‫نعمت‬ ‫اذكروا‬ ‫ناس‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫يها‬
‫) يا أ ّ‬
‫سماء والرض ل إله إل ّ هو فأّنى تؤفكون ( ] فاطر‪. [ 3 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫وبهذا الطريق – كما سبق – أثبت القرآن بطلن اللهة المدعاة وعدم‬
‫سماوات بغير عمدٍ ترونها وألقى في‬ ‫استحقاقها شيئا ً من العبادة ) خلق ال ّ‬
‫سماء ماًء‬
‫ث فيها من كل دابةٍ وأنزلنا من ال ّ‬ ‫الرض رواسي أن تميد بكم وب ّ‬
‫ل زوٍج كريم – هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من‬ ‫فأنبتنا فيها من ك ّ‬
‫ن ( ] لقمان ‪. [ 11-10 :‬‬ ‫دونه بل ال ّ‬
‫ل مبي ٍ‬ ‫ظالمون في ضل ٍ‬
‫) ‪(1/40‬‬

‫كر خلقه باليات الكونية وتصريفه المور وتدبيره الشؤون ثم‬ ‫ولذلك فإّنه يذ ّ‬
‫يعقب على ذلك في كثير من آي القرآن بقوله ‪ ) :‬ذلكم الله رّبكم ( ] الزمر ‪:‬‬
‫‪ [ 6‬أي ذلكم الله الذي يستحق العبادة دون سواه ‪.‬‬
‫سماوات والرض‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫خلق‬ ‫استمع إلى هذه اليات وتأمل التعقيب عليها ‪) :‬‬
‫خر الشمس والقمر‬ ‫بالحقّ يكور الليل على الّنهار ويكور الّنهار على الليل وس ّ‬
‫س واحدةٍ ثم‬‫فار – خلقكم من نف ٍ‬ ‫ل مسمى أل هو العزيز الغ ّ‬ ‫ل يجري لج ٍ‬ ‫ك ٌ‬
‫جعل منها زوجها وأنزل لكم من النعام ثمانية أزواٍج يخلقكم في بطون‬
‫ث ذلكم الله رّبكم له الملك ل إله‬ ‫ت ثل ٍ‬ ‫ظلما ٍ‬‫أمهاتكم خلقا ً من بعد خلق في ُ‬
‫ٍ‬
‫إل هو فأّنى ُتصرفون ( ] الزمر ‪. [ 6-5 :‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫في ظلل القرآن ‪ :‬تفسير سورة )ق( ‪ ،‬آية ) تبصرة ً وذكرى لكل عبدٍ‬
‫ب(‪.‬‬ ‫مني ٍ‬
‫العلماء يبينون عجائب صنع الله في خلقه ) الجزء الول (‬
‫وكان العلماء ول يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه ‪ ،‬ويعظون أنفسهم‬
‫بذلك ‪ ،‬كما يعظون غيرهم ‪ ،‬وسننقل طرفا ً مما توصل إليه العلماء في هذا‬
‫المجال في القديم والحديث ‪.‬‬
‫وأحب أن يضع القارئ نصب عينيه وهو يقرأ هذه المقتطفات قول موسى‬
‫م هدى ( ] طه ‪. [ 50 :‬‬ ‫ل شيٍء خلقه ث ّ‬ ‫لفرعون ‪ ) :‬قال رّبنا الذي أعطى ك ّ‬
‫فالله أعطى كل شيء خلقه الذي يناسبه ‪ ،‬وهداه لما فيه صلحه ‪ ، ..‬وسنرى‬
‫نماذج من هذا العطاء وتلك الهداية ‪.‬‬
‫‪ -1‬تكون الجسام من الخليا وانقسامها‬
‫أ‪ -‬مم تتكون أجسام الحياء وكيف ؟‬
‫ً‬
‫يقول باحث معاصر هو الدكتور يوسف عز الدين مجليا هذا الموضوع ‪" :‬‬
‫معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة‬
‫الحجم التي نسميها )الخليا( ‪ ،‬كما يتكون المبنى من مجموعة من الحجار‬
‫المرصوصة " ‪.‬‬
‫ً‬
‫ب‪ -‬لماذا تنقسم الخليا دائما ؟‬

‫) ‪(1/41‬‬
‫ويتابع الدكتور يوسف عز الدين كلمه مبينا ً السر في انقسام الخليا فيقول ‪:‬‬
‫" وخليا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة النقسام ‪ ،‬وذلك‬
‫النقسام قد يكون لنمو الجسم ‪ ،‬أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخليا‬
‫ل خلية من هذه الخليا تتكون أساسا ً من مادة عجيبة‬ ‫لسباب عديدة ‪ .‬وك ّ‬
‫نطلق عليها اسم )) البروتوبلزم (( ‪.‬‬
‫وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة ‪ ،‬ومن هذه‬
‫المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم‬
‫))الكروموسومات(( ‪.‬‬
‫ل نوع من أنواع الحيوانات‬ ‫وعدد هذه ))الكروموسومات(( ثابت في خليا ك ّ‬
‫والنباتات المختلفة ‪ ،‬فعددها في خليا القط – مثل ً – يختلف عن عددها في‬
‫خليا الكلب أو الفيل أو نبات الجزر أو الفول ‪.‬‬
‫وفي كل خلّية من الخليا التي يتكون منها جسم النسان يوجد ستة وأربعون‬
‫من هذه )الكروموسومات( ‪.‬‬
‫ل خلية جديدة ل بد ّ أن‬‫نك ّ‬ ‫وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا فإ ّ‬
‫تحتوي على العدد نفسه من )الكروموسومات( ‪ ،‬وهي ستة وأربعون ‪ ،‬إذ لو‬
‫اختل هذا العدد لما أصبح النسان إنسانا ً ‪ .‬والخليا كما ذكرت دائمة‬
‫النقسام ‪ ،‬يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا ‪ ،‬ونحن‬
‫حتى الن ل ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة ‪ :‬عملية‬
‫انقسام الخليا ‪ ،‬بل يكتفي العلم بوصف الخطوات العملية التي يمكن‬
‫ملحظتها تحت عدسات )الميكروسكوب( العادي أو عن طريق‬
‫)الميكروسكوب اللكتروني( الذي يكبر الشياء تكبيرا ً أكثر بكثير من تكبير‬
‫الميكروسكوب العادي " ‪.‬‬
‫جـ ‪ -‬لماذا تختلف الخليا التناسلية عن غيرها ؟‬

‫) ‪(1/42‬‬

‫وذكر الدكتور يوسف ‪ " :‬أن جميع الخليا الناتجة عن عمليات النقسام في‬
‫جسم النسان ل بد ّ أن تحتوي على ستة وأربعين )كروموسومًا( فيما عدا‬
‫نوعين من الخليا ‪ ،‬هما الخليا التناسلية ‪ ،‬أي الحيوان المنوي في الذكر‬
‫والبويضة في النثى ‪ ،‬وعندما تنقسم خليا النسجة لتكوين هذه الخليا‬
‫التناسلية فإنها تنتج خليا ل تحتوي على الستة والربعين )كروموسومًا( ‪ ،‬بل‬
‫تحتوي على نصف هذا العدد ‪ ،‬أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية‬
‫ثلثة وعشرون )كروموسومًا( فقط " ‪.‬‬
‫ثم بين لماذا يحدث ذلك ‪ ،‬فقال ‪ " :‬يحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم ‪،‬‬
‫ن الخلية الذكرية )الحيوان المنوي( ل بد ّ أن تندمج مع الخلية النثوية‬
‫إذ إ ّ‬
‫)البويضة( لتكوين أول خلية في جسم الجنين ‪ ،‬وهي التي نطلق عليها اسم‬
‫)الخلية الملقحة( ‪ ،‬حيث ينضم الثلثة والعشرون )كروموسومًا( التي في‬
‫الخلية الذكرية إلى الثلثة والعشرين )كروموسومًا( التي في الخلية النثوية‬
‫لكي يعود عدد )الكروموسومات( في الخلية الجديدة إلى العدد الصلي ‪ ،‬وهو‬
‫ستة وأربعون )كروموسومًا( ‪.‬‬
‫وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين )كروموسومًا(‬
‫توالي انقسامها ‪ ،‬فتصبح خليتين ‪ ،‬ثم أربع خليا ‪ ،‬ثم ثماني خليا وهكذا ‪ ،‬حتى‬
‫يتم تكوين الجنين الذي يخرج من رحم أمه ‪ ،‬ويستمر نموه عن طريق‬
‫ل خلية من خلياه ستة‬ ‫انقسام الخليا حتى يصبح إنسانا ً كامل النمو في ك ّ‬
‫وأربعون )كروموسومًا( كما هو الحال في خليا جسد أبيه وأمه وأجداده‬
‫وجميع أفراد الجنس البشري " ‪.‬‬
‫ن اختزال عدد )الكروموسومات( إلى النصف عند تكوين الخليا التناسلية‬ ‫"إ ّ‬
‫بالذات لكي تندمج فيعود العدد الصلي )للكروموسومات( في الخليا ل يمكن‬
‫مطلقا ً أن يكون نتيجة مصادفة عمياء ‪ ،‬بل ل بد ّ أن يكون نتيجة تقدير دقيق‬
‫من قوة عليا تعلم ماذا تفعل ‪.‬‬

‫) ‪(1/43‬‬

‫وهي في الوقت نفسه ل يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ ‪ ،‬إذ لو‬
‫حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقضي على الكائن الحي قبل تكوين‬
‫ن هذا الترتيب ل بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين‬ ‫الجيل الثاني ‪ .‬أي أ ّ‬
‫ً‬
‫ظهر في الوجود ‪ ،‬أل يكفي هذا وحده دليل على وجود قوة عليا مدبرة مقدرة‬
‫حكيمة ؟ " ‪.‬‬
‫د‪ -‬لماذا ل تنقسم خليا المخ ؟‬
‫أما النوع الخر من الخليا التي تخالف بقية خليا الجسم فهي خليا الدماغ ‪،‬‬
‫وهي تخالف بقية الخليا في كونها ل تنقسم ‪ ،‬وعن السر في عدم انقسامها‬
‫يقول الدكتور يوسف عز الدين ‪:‬‬
‫" ل يمكن أن يكون عن طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخليا‬
‫الوحيدة التي ل تنقسم هي الخليا العصبية التي يتكون منها المخ وباقي‬
‫الجهاز العصبي ‪ ،‬لو انقسمت كما يحدث لباقي الخليا لحدثت كارثة مروعة ‪،‬‬
‫ن خليا المخ في هذه الحالة لن يمكنها الحتفاظ بشخصية النسان ‪ ،‬وسوف‬ ‫إ ّ‬
‫تتلشى جميع معالم الذاكرة في خلل ساعات قلئل ‪.‬‬
‫ن عدد خليا المخ عند ولدة النسان أو أي حيوان آخر ل تزيد عليها خلية‬ ‫إ ّ‬
‫ن الكرات الدموية الحمراء التي تسبح في‬ ‫واحدة حتى وفاته ‪ ،‬بينما نجد أ ّ‬
‫ل نحو مائة يوم ‪.‬‬‫ل محلها خليا جديدة ك ّ‬‫الدم ‪ ،‬ما هي إل خليا تموت ‪ ،‬ويح ّ‬
‫وتتكون الخليا الحمراء )الكرات الحمراء( في نخاع العظام ‪ ،‬ثم تنطلق لكي‬
‫تسبح في تيار الدم ؛ لتحل محل الخليا التي استهلكت " ‪.‬‬
‫هـ‪ -‬السر في تفاوت قوة عضلت الجسم ‪:‬‬
‫ويتحدث الدكتور عن هذا الموضوع فيقول ‪ " :‬أقوى عضلت في جسم‬
‫النسان أو الحيوانات الثديية هي عضلت الرحم عند النثى ‪ ،‬تلك هي التي‬
‫تدفع الجنين ليخرج من بطن أمه ‪ ،‬إذ لو لم تكن هذه العضلت بهذه القوة‬
‫منذ بدء خلق النسان أو غيره من الحيوانات لما خرج إلى الوجود أول جنين‬
‫من بطن أمه ‪.‬‬

‫) ‪(1/44‬‬

‫وتلي عضلت الرحم في القوة عضلت القلب والفكين ‪ ،‬فعضلت القلب ل بد‬
‫أن تكون قوية لتصمد للعمل ليل ً ونهارا ً لدفع الدم إلى الوعية الدموية لمدة‬
‫قد تطول لكثر من مائة عام ‪ ،‬وكذلك الحال في عضلت الفكين التي ينبغي‬
‫ل قادرة على دفع السنان لينطبق بعضها على بعض لكي تمضغ أطنانا ً‬ ‫أن تظ ّ‬
‫من الطعام طوال حياة النسان " ‪.‬‬
‫‪ -2‬مقاومة الحياء لعوامل الفناء‬
‫ويقرر الدكتور يوسف ‪ " :‬وجود صفة مهمة تشترك فيها جميع الكائنات الحية‬
‫ن خالق‬ ‫من أدناها إلى أرقاها ‪ ،‬هذه الصفة هي مقاومة عوامل الفناء ‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫جميع هذه الكائنات يريد لها البقاء ‪.‬‬
‫ن لخر بأشكال مختلفة ؛ لتصعب‬ ‫ن ) فيروس النفلونزا ( يتشكل من آ ٍ‬ ‫إ ّ‬
‫مقاومته والقضاء عليه ‪ ،‬والحشرات مع توالي الجيال تكتسب مناعة ضد ّ‬
‫المبيدات الكيميائية ؛ لكي تقاوم عوامل الفناء وانقراض الجنس ‪.‬‬
‫بل في النسان نفسه لوحظ كثرة النجاب في فترات الحروب ‪ ،‬كما لوحظ‬
‫ن أية سيدة تواظب على تناول حبوب منع الحمل مدة طويلة ثم تسهو عن‬ ‫أ ّ‬
‫ن النتيجة في معظم الحيان تكون إنجاب عدة توائم ؛‬ ‫تناولها بعض اليام – فإ ّ‬
‫لتعويض النقص في الذرية الذي حدث في أثناء فترة المتناع عن الحمل ‪.‬‬
‫ن الكلية الباقية‬‫وإذا استأصل النسان إحدى الكليتين لسبب من السباب فإ ّ‬
‫يزداد حجمها وتؤدي عمل الكليتين ؛ وكأن في الجسم عقل ً يدرك به ما حدث‬
‫من نقص فيسرع لتعويضه ‪.‬‬
‫الله وحده هو الذي زود هذه المخلوقات بهذه القدرة العجيبة على التوازن‬
‫حتى ل تنقرض وتتعرض للفناء ‪ ،‬كما زود العديد من الحيوانات بوسائل للدفاع‬
‫عن أنفسها ل يختلف في ذلك النسان عن العقرب أو الثعبان أو أم أربعة‬
‫وأربعين أو غيرها ‪.‬‬
‫ل يمكن أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من‬
‫ن المصادفة ل يمكن أن تتخذ‬ ‫صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلم ‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات " ‪.‬‬
‫‪ -3‬هداية النحل وشيء من عجائب صنع الله فيه‬

‫) ‪(1/45‬‬

‫ويحدثنا ابن القيم )‪ (1‬رحمه الله تعالى عن بدائع صنع الله في خلقه ‪ ،‬مبينا ً‬
‫هداية الله للنحل في أمور معاشه ‪ " :‬وأمر النحل في هدايتها من أعجب‬
‫العجب وذلك أن لها أميرا ً ومدبرا ً ‪ ،‬وهو اليعسوب ‪ ،‬وهو أكبر جسما ً من جميع‬
‫النحل ‪ ،‬وأحسن لونا ً وشكل ً ‪.‬‬
‫ن إناثا ً ‪ ،‬وإذا وقع فيها‬
‫وإناث النحل تلد في إقبال الربيع )‪ ، (2‬وأكثر أولدها يك ّ‬
‫ذكر لم تدعه بينها ‪ ،‬بل إما أن تطرده ‪ ،‬وإما أن تقتله ‪ ،‬إل طائفة يسيرة‬
‫منها ‪ ،‬وذلك أن الذكور منها ل تعمل شيئا ً ول تكسب ‪.‬‬
‫والنحل تقسم فرقا ً ‪ ،‬فمنها فرقة تلزم الملك ‪ ،‬ول تفارقه ‪ ،‬ومنها فرقة تهيئ‬
‫الشمع وتصنعه ‪ ،‬والشمع هو ثفل العسل ‪ ،‬وفيه حلوة كحلوة التين ‪ ،‬وللنحل‬
‫فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل ‪ ،‬فينظفه النحل ‪ ،‬ويصفيه ‪ ،‬ويخلصه‬
‫مما يخالطه من أبوالها وغيرها ‪ ،‬وفرقة تبني البيوت ‪ ،‬وفرقة تسقي الماء ‪,‬‬
‫وتحمله على متونها ‪ ،‬وفرقة تكنس الخليا وتنظفها من الوساخ والجيف‬
‫والزبل ‪ ،‬وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعتها وقتلتها حتى ل تفسد عليهن‬
‫بقية العمال ‪ ،‬وتعديهن ببطالتها ومهانتها ‪.‬‬
‫وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته ‪ ،‬فُيبنى له بيت مربع يشبه السرير‬
‫والتخت ‪ ،‬فيجلس عليه ‪ ،‬ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه المراء ‪،‬‬
‫والخدم والخواص ‪ ،‬ل يفارقنه ‪ ،‬ويجعل النحل بين يديه شيئا ً يشبه الحوض‬
‫يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ‪ ،‬ويمل منه الحوض ‪ ،‬ويكون ذلك‬
‫طعاما ً للملك وخواصه ‪.‬‬

‫) ‪(1/46‬‬

‫ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال ‪ ،‬وتبني‬
‫بيوتها مسدسة متساوية الضلع ‪ ،‬كأنها قرأت كتاب إقليدس ‪ ،‬حتى عرفت‬
‫ن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة ‪،‬‬ ‫أوفق الشكال لبيوتها ؛ ل ّ‬
‫والشكل المسدس دون سائر الشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض‬
‫صار شكل ً مستديرا ً كاستدارة الرحى ‪ ،‬ول يبقى فيه فروج ول خلل ‪ ،‬ويشد‬
‫بعضه بعضا ً ‪ ،‬حتى يصير طبقا ً واحدا ً محكما ً ‪ ،‬ل يدخل بين بيوته رؤوس البر ‪.‬‬
‫فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن‬
‫صنع مثله ‪ ،‬فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة‬
‫بصفتين ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أن ل تكون زواياها ضيقة حتى ل يبقى الموضع الضيق‬
‫معطل ً ‪ .‬والثانية ‪ :‬أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى‬
‫بعض ‪ ،‬وامتلت العرصة منها فل يبقى منها ضائعا ً ‪ ،‬ثم إنها علمت أن الشكل‬
‫الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط ؛ فإن المثلثات والمربعات ‪،‬‬
‫وإن أمكن امتلء العرصة منها إل أن زواياها ضيقة ‪ ،‬وأما سائر الشكال وإن‬
‫كانت زواياها واسعة إل أنها ل تمتلئ العرصة منها ‪ ،‬بل يبقى فيما بينها فروج‬
‫خالية ضائعة ‪ ،‬وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين ‪ ،‬فهداها –‬
‫سبحانه – إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطرة ول آلة ‪ ،‬ول مثال‬
‫يحتذى عليه ‪ ،‬وأصنع بني آدم ل يقدر على بناء بيت المسدس إل باللت‬
‫الكبيرة ‪.‬‬
‫ً‬
‫فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتيها ذلل ل تستعصي‬
‫عليها ‪ ،‬ول تضل عنها ‪ ،‬وأن تجتني أطيب ما في المراعي وألطفه ‪ ،‬وأن تعود‬
‫إلى بيوتها الخالية ‪ ،‬فتصب فيها شرابا ً مختلفا ً ألوانه ‪ ،‬فيه شفاء للناس ‪ ،‬إن‬
‫في ذلك ليات لقول يتفكرون ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهل وجبل ‪ ،‬فأكلت من‬
‫الحلوات المرتفعة على رؤوس الزهار وورق الشجار ‪ ،‬فترجع بطانا ً ‪.‬‬

‫) ‪(1/47‬‬

‫وجعل – سبحانه – في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته ‪ ،‬فتعيده حلوة‬


‫ونضجا ً ‪ ،‬ثم تمجه في البيوت ‪ ،‬حتى إذا امتلت ختمتها ‪ ،‬وسدت رؤوسها‬
‫بالشمع المصفى ‪ ،‬فإذا امتلت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن‬
‫صادفته ‪ ،‬فاتخذت فيه بيوتا ً ‪ ،‬وفعلت كما فعلت في البيوت الولى ‪ ،‬فإذا برد‬
‫الهواء ‪ ،‬وأخلف المرعى ‪ ،‬وحيل بينها وبين الكسب ‪ ،‬لزمت بيوتها ‪ ،‬واغتذت‬
‫بما ادخرته من العسل ‪ ،‬وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح‬
‫في المراتع ‪ ،‬وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل ‪ ،‬فإذا أمست‬
‫رجعت إلى بيوتها ‪.‬‬
‫ً‬
‫وأما الملك فل يكثر الخروج من الخلية إل نادرا إذا اشتهى التنزه ‪ ،‬فيخرج ‪،‬‬
‫ف في المروج والرياض والبساتين ساعة‬ ‫ومعه أمراء النحل والخدم ‪ ،‬فيطو ُ‬
‫من النهار ‪ ،‬ثم يعود إلى مكانه ‪.‬‬
‫ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من‬
‫خدمه ‪ ،‬فيغضب ويخرج من الخلية ‪ ،‬ويتباعد عنها ‪ ،‬ويتبعه جميع النحل ‪،‬‬
‫وتبقى الخلية خالية ‪.‬‬
‫فإذا رأى صاحبها ذلك ‪ ،‬وخاف أن يأخذ النحل ‪ ،‬ويذهب بها إلى مكان آخر‬
‫احتال لسترجاعه وطلب رضاه ‪ ،‬فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل ‪،‬‬
‫فيعرفه باجتماع النحل إليه ‪ ،‬فإنها ل تفارقه ‪ ،‬وتجتمع عليه حتى تصير عليه‬
‫عنقودا ً ‪ ،‬وهو إذا خرج غضبا ً جلس على مكان مرتفع من الشجرة ‪ ،‬وطافت‬
‫به النحل ‪ ،‬وانضمت إليه ‪ ،‬حتى يصير كالكرة ‪ ،‬فيأخذ صاحب النحل رمحا ً أو‬
‫قصبة طويلة ‪ ،‬ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر‬
‫النظيف ‪ ،‬ويدنيه إلى محل الملك ‪ ،‬ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من‬
‫آلت الطرب فيحركه ‪ ،‬وقد أدنى إليه ذلك الحشيش ‪ ،‬فل يزال كذلك إلى أن‬
‫يرضى الملك ‪ ،‬فإذا رضي غضبه طفر ووقع على الضغث ‪ ،‬وتبعه خدمه‬
‫وسائر النحل ‪ ،‬فيحمله صاحبه إلى الخلية ‪ ،‬فينزل ويدخلها هو وجنوده ‪ ،‬ول‬
‫يقع النحل على جيفة ول حيوان ول طعام ‪.‬‬

‫) ‪(1/48‬‬

‫ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ‪ ،‬ول تدين لطاعتها ‪،‬‬
‫والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة ‪ ،‬وهي تحاول مقاتلة الطوال‬
‫القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخليا ‪ ،‬وإذا فعلت ذلك جاد العسل ‪،‬‬
‫وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته ‪.‬‬
‫ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم ‪ ،‬وبينها وبين العسالة حرب ‪ ،‬فهي‬
‫تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها ‪ ،‬وتقصد هلكها ‪ ،‬والعسالة شديدة التيقظ‬
‫والتحفظ منها ‪ ،‬فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب‬
‫ل طويل‬ ‫البيوت فتتلطخ بالعسل ‪ ،‬فل تقدر على الطيران ‪ ،‬ول يفلت منها إل ك ّ‬
‫العمر ‪ ،‬فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى ‪ ،‬فحملتها وألقتها‬
‫خارج الخلية ‪.‬‬
‫وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد ‪ ،‬وفيها لئام كسالى قليلة‬
‫النفع مؤثرة للبطالة ‪ ،‬فالكرام دائما ً تطردها وتنفيها عن الخلية ‪ ،‬ول تساكنها‬
‫خشية أن تعدي كرامها وتفسدها ‪.‬‬
‫والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ‪ ،‬ولذلك ل تلقي زبلها إل حين تطير ‪ ،‬وتكره‬
‫النتن والروائح الخبيثة ‪ ،‬وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا ً من الكبار ‪،‬‬
‫وأقل لسعا ً وأجود عسل ً ‪ ،‬ولسعها إذا لسعت أقل ضررا ً من لسع الكبار ‪.‬‬
‫ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه فقد خصت من وحي الرب تعالى‬
‫وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ‪ ،‬وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من‬
‫السقام والنور الذي يضيء في الظلم بمنزلة الهداة من النام كان أكثر‬
‫الحيوان له أعداء ؛ وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعة وبركة ‪ ،‬هذه سنة‬
‫الله في خلقه وهو العزيز الحكيم " ‪(3) .‬‬
‫الباحثون المعاصرون يتحدثون عن عالم النحل )‪(4‬‬
‫تقدم العلم اليوم ‪ ،‬وبتقدمه تعرفنا على كثير من عجائب الخلق وأسرار‬
‫الكون ‪ ،‬لقد أكد لنا العلماء ما عرفناه من قبل أن من أن عالم النحل ينقسم‬
‫إلى ثلثة أقسام ‪ :‬النحلة الملكة ‪ ،‬والنحلة الذكر ‪ ،‬والنحلة الشغالة ‪.‬‬
‫) ‪(1/49‬‬

‫أما ملكة النحل فهي أم الخلية كلها ‪ ،‬وجميع النحل في الخلية أبناؤها ‪ ،‬ويكفي‬
‫أن تعلم أن الملكة تضع في كل يوم تطلع فيها الشمس ما بين )‪(1500‬‬
‫بيضة إلى )‪ (2000‬بيضة ‪ ،‬بل يزيد العدد إلى )‪ (3500‬بيضة ‪ .‬ويستمر هذا‬
‫على امتداد موسم التكاثر الذي يبدأ من إقبال الربيع ‪ ،‬وينتهي بانتهاء‬
‫الصيف ‪.‬‬
‫وما هذا العدد الهائل من البيض إل لمواجهة النقص المستمر الذي يصيب‬
‫خلية النحل ‪ ،‬فالنحلة عمرها قصير ‪ ،‬فهو يتراوح بين خمسة أسابيع وسبعة‬
‫ن الخلية تحتاج إلى أجيال جديدة ترفد الخلية بأعداد كبيرة‬ ‫أسابيع ‪ ،‬ولذلك فإ ّ‬
‫تواجه النقص الذي يلحق بها ‪ ،‬كي تستمّر الخلية في القيام بالواجبات التي‬
‫يحتاج إليها عالم النحل ‪ ،‬وحتى تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة العداء‬
‫والخطار ‪ ،‬ولول ذلك ل نقرضت الخلية وبادت ‪.‬‬
‫ومن بديع صنع الله في ملكة النحل أنها تضع بيضها في البيوت التي تبنيها‬
‫الشغالة بمقاسات مختلفة ‪ ،‬فالمقاس الكير يعده النحل لملكة المستقبل ‪،‬‬
‫والبيضة التي تضعها الملكة فيه تكون ملكة ‪ ،‬والبيضة التي تضعها الملكة في‬
‫البيت الصغر حجما ً ومقاسه ربع إنش تصبح نحلة ذكرا ً ‪ ،‬أما البيضة التي‬
‫تضعها في البيت الصغير ومقاسه خمس إنش فتنتج نحلة شغالة ‪ ،‬بقي أن‬
‫نعلم أن الملكة تضع مع بيضة النحلة الشغالة ثلثة إلى أربعة حيوانات منوية‬
‫لخصابها ‪ ،‬فتكون نحلة شغالة ‪ ،‬بينما تضع ‪ ،‬في بيت النحلة الذكر بيضة غير‬
‫مخصبة ‪.‬‬
‫ح إل في الهواء في أثناء‬ ‫ّ‬
‫ومن عجيب صنع الله في النحلة الملكة أنها ل ت ُلق ُ‬
‫سر عجيب ‪ ،‬فالنحلة الذكر ل يمكنها تلقيح الملكة وهي‬ ‫طيرانها ‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫رابضة على الرض ‪ ،‬ذلك أن عضو التذكير عندها كامن ‪ ،‬ول يمكن ظهوره إل‬
‫إذا حلقت في الفضاء ‪ ،‬وعند ذلك تمتلئ أكياس موجودة في النحلة الذكر‬
‫بالهواء ‪ ،‬فتنتفخ في أثناء الطيران ‪ ،‬ويؤدي انتفاخها إلى الضغط على عضو‬
‫التذكير ‪ ،‬فيخرج من مكمنه ‪.‬‬

‫) ‪(1/50‬‬

‫ومن عجائب صنع الله في الملكة العذراء قدرتها على دعوة الذكر لتلقيحها ‪،‬‬
‫وذلك بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إليها ‪ ،‬وتخرج من خليتها حائمة حولها‬
‫مصدرة تلك الصوات ‪ ،‬وتستقبل الذكور هذه الدعوة ل في الخلية وحدها ‪،‬‬
‫بل في جميع الخليا المجاورة ‪ ،‬وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة ‪ ،‬وهي‬
‫تغذ السير منطلقة في الفضاء الرحب ‪ ،‬ويفوز بتلقيحها أقوى الذكور وأشدها‬
‫وأسرعها ‪ ،‬ولكنه يفقد حياته بعد ذلك ‪ ،‬ذلك أنه بعد تلقيحه الملكة يفقد عضو‬
‫تذكيره ‪ ،‬إذ يبقى عضوه فيها مما يسبب له نزيفا ً يفقده حياته ‪.‬‬
‫ويسأل القارئ عن كيفية سماع الذكور لدعوة الملكة ‪ ،‬والجواب ‪ :‬أن الله‬
‫زود كل نحلة بقرني استشعار ‪ ،‬وهذان القرنان يتألفان من حلقات متصل‬
‫بعضها ببعض ‪ ،‬عليها عدد كبير من الثقوب ‪ ،‬ويبلغ عدد الحلقات في الذكر‬
‫اثنتا عشرة حلقة ‪ ،‬في حين أن عددها في الشغالة أو الملكة إحدى عشرة‬
‫حلقة ‪.‬‬
‫وتبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الستشعار عند الذكر )‪(2800‬‬
‫ب ‪ ،‬وفي الشغالة )‪ ، (2400‬وفي الملكة )‪. (1600‬‬ ‫ثق ٍ‬
‫والحقيقة أن قرني الستشعار في النحلة بمنزلة هوائي الذاعة يستخدمه‬
‫للتقاط الصوات الصادرة من الملكة ‪ ،‬ولغير ذلك من الصوات ‪ ،‬كما‬
‫تستخدمه في الشم والسمع واللمس ‪.‬‬
‫وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة قرني الستشعار فإنها ل‬
‫تستطيع أن تقوم بدورها ‪ ،‬ففيه يتركز معظم حواسها ‪ :‬السمع والشم‬
‫واللمس كما سبق ‪.‬‬
‫وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق من أجلها ‪ ،‬فهو كبير‬
‫قوي ‪ ،‬يأكل كثيرا ً ‪ ،‬ول يعمل شيئا ً ‪ ،‬فل يجمع الرحيق ‪ ،‬ول يصنعه ‪ ،‬ول يبني ‪،‬‬
‫ول يحرس ‪ ،‬حتى طعامه ‪ ،‬تضعه النحلة الشغالة في فمه ‪ ،‬كل ما يستطيع‬
‫القيام به هو تلقيح الملكة ‪ ،‬ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع‬
‫عن إمداده بالغذاء ‪ ،‬وأكثر من هذا تهاجم الشغالة الذكور فتقتلها أو تطردها ‪.‬‬

‫) ‪(1/51‬‬

‫بقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليل بالنسبة لتعداد النحل ‪ ،‬فل‬
‫يتجاوز عددها في الخلية الواحدة المائتين ‪.‬‬
‫أما النحلة الشغالة فإنها تكون العدد الكثر في الخلية ‪ ،‬كما أنها العنصر‬
‫الفعال فيها ‪ ،‬وهي التي تقوم بالعمال المختلفة ‪ ،‬والمهمات الصعبة ‪.‬‬
‫فهي التي تجني الرحيق ‪ ،‬وتجمع غبار الطلع ‪ ،‬وتصنع العسل ‪ ،‬وتمد ّ الملكة‬
‫بغذائها الخاص ‪ ،‬وتبني القراص التي يحفظ فيها العسل ‪ ،‬وتربي فيها الجيال‬
‫الجديدة من النحل ‪ ،‬وتحرس الخلية ‪ ،‬وتقوم بتنظيفها ‪ ،‬والمحافظة عليها ‪،‬‬
‫بل تقوم بتهويتها وتدفئتها ‪.‬‬
‫والمهمات في الخلية موزعة في تخصصات وهذه التخصصات ترتبط بعمر‬
‫النحلة ‪ ،‬فلكل سن من النحل عمل يقوم به ‪ ،‬وكلما امتد العمر بالنحلة فإنها‬
‫تتحول إلى عمل آخر ‪ ،‬وبذلك تقوم النحلة بعد أن تستكمل عمرها بالمرور‬
‫على كل العمال والمهمات التي تحتاج إليها الخلية ‪ ،‬ويلحظ أن النحلة تبدأ‬
‫بالعمال السهلة التي ل تحتاج إلى جهد كبير ‪ ،‬وتنتهي إلى أشق العمال‬
‫وأصعبها وهي الجولن في الحقول ‪ ،‬وجني الرحيق وغبار الطلع والماء ‪ ،‬ثم‬
‫صنع العسل وتخزينه ‪ ،‬ونلحظ أيضا ً أنها تتدرج في الوظائف بحسب تكامل‬
‫الخصائص التي يهبها الله إياها ‪ ،‬فكل مهمة تصير إليها وتعمل فيها تتواءم مع‬
‫تكامل أجهزتها التي تمكنها من القيام بالدور الجديد والمهمة الجديدة ‪.‬‬
‫فالنحلة الشغالة في يومها الول والثاني تقوم بمهمة تنظيف البيوت التي‬
‫خرجت منها أجيال النحل التي تكامل خلقها ‪ ،‬فتنظف هذه البيوت ‪ ،‬وتعدها‬
‫لجيال أخرى ‪ ،‬ول تضع الملكة البيض في هذه البيوت إل بعد أن تتفحصها‬
‫وتجدها نظيفة تماما ً ‪.‬‬
‫وفي يومها الثالث والرابع تقوم بدور الحاضنة ليرقات النحل الشغالة والذكور‬
‫التي يزيد عمرها على ثلثة أيام ‪ ،‬فتقدم لها ما يسميه العلماء ) بخبز النحل (‬
‫وهو مزيج من العسل وحبوب اللقاح ‪ ،‬تأخذه مما خزنته النحل في العيون‬
‫السداسية ‪.‬‬

‫) ‪(1/52‬‬
‫وبعد اليوم الخامس حتى اليوم الثاني عشر من عمر النحلة تقوم بتغذية‬
‫النحلة الملكة بالغذاء الملكي طيلة عمرها ‪ ،‬كما تمد ّ الغذاء الفاخر صغيرات‬
‫الشغالة والذكور في يومهن الول والثاني والثالث ‪ ،‬والنحل يقوم بهذه‬
‫المهمة في هذه السن )‪ (12-5‬لنمو غدد خاصة في هذه الفترة في جانبي‬
‫البلعوم ‪ ،‬تتمكن بها النحل من صناعة الغذاء الملكي ‪.‬‬
‫ً‬
‫وبعد اليوم الثاني عشر تتمكن النحلة من الطيران ‪ ،‬ولكنها ل تذهب بعيدا ‪،‬‬
‫كل ما تفعله أن تتعلم وتتمرن ‪ ،‬ومهمتها الرئيسية من اليوم الثاني عشر إلى‬
‫اليوم الثامن عشر هو بناء القراص الشمعية التي تعد لتخزين العسل ‪،‬‬
‫وتربية أجيال النحل الجديدة ‪.‬‬
‫والسبب في تخصصها بهذا الدور في هذه السن هو نمو أربعة أزواج من‬
‫الغدد الموجودة على حلقات البطن ‪ ،‬ومن هذا الشمع تقوم النحلة باستخدام‬
‫فكيها في هذه السن ببناء تلك البيوت التي بلغت الغاية في الدقة والتقان‬
‫بأبعاد محددة وأشكال هندسية في غاية الروعة والتنظيم ‪.‬‬
‫وفي اليوم التاسع عشر واليوم العشرين تقوم النحلة بتنظيف الخلية‬
‫وحراستها ‪ ،‬وبعد اليوم العشرين تقوم النحلة بالنطلق إلى الحقول وجمع‬
‫الرحيق وغبار الطلع وصنع العسل ‪ ،‬وجلب الماء إلى الخلية ‪ ،‬وهذه المرحلة‬
‫الخيرة تمثل الجزء الكبر من عمر النحلة ‪.‬‬
‫أجيال تذهب من النحل ‪ ،‬وأجيال تأتي ‪ ،‬ويترقى النحل في سلسلة متوالية‬
‫من العمال تضمن القيام بالعمال كلها باستمرار من غير أن تتخصص طائفة‬
‫من النحل بعمل طيلة عمرها ‪ ،‬ولكن التخصص يأتي في كل مرحلة من‬
‫مراحل العمر ‪.‬‬
‫سبحان الواحد الحد ‪ ،‬الفرد الصمد ‪ ،‬الذي خلق هذه الكائنات الصغيرة ‪،‬‬
‫وعلمها أن تقوم بهذه العمال بمثل هذه الدقة والتقان ‪ ،‬إنه إبداع وإعجاز‬
‫يدل على العليم الخبير ‪.‬‬

‫) ‪(1/53‬‬

‫ومن البداع اللهي في النحلة هذا التكوين الذي أعطاه الله إياها ‪ ،‬فقد جعل‬
‫لها الباري سبحانه معدتين ‪ ،‬إحداهما تستعملها لجمع المواد الولية التي‬
‫تستخلصها من رحيق الزهار ‪ ،‬أو تحمل بها الماء ‪ ،‬وتنقله إلى الخلية ‪،‬‬
‫والمعدة الخرى مخصصة للطعام الذي تهضمه وتتغذى به ‪.‬‬
‫ومن عجب أن النحلة إذ تجمع في معدتها الولى ما تجنيه من الرحيق ‪ ،‬ل‬
‫تكتفي بنقله ‪ ،‬ولكنها في أثناء حملها له وتوصيله للخلية تقوم بعملية أولية‬
‫لتحويله إلى العسل ‪ ،‬وذلك بإفراز الخمائر اللزمة لتحقيق ذلك ‪.‬‬
‫والنحلة تحتاج إلى غبار الطلع لمور مختلفة في الخلية ‪ ،‬وقد زودها خالقها‬
‫بتجويف خاص لخزن هذه الحبوب في الوجه الخارجي لساق الرجل الخلفية ‪،‬‬
‫تسمى سلة الطلع ‪ ،‬وجعل لها على الوجه الداخلي لرسغ الرجل الخلفية ما‬
‫يشبه الفرشاة تستعملها الشغالة في تمشيط غبار الطلع وتكتيله تمهيدا ً‬
‫لجمعه في سلة الطلع ‪.‬‬
‫ومن العجائب المذهلة التي اكتشفها العلماء في النحلة ‪ ،‬تلك الغدة التي في‬
‫مؤخرة البطن ‪ ،‬وقد سماها العلماء ) غدة ناسانوف( ‪ ،‬وهذه الغدة تفرز‬
‫رائحة خاصة ‪ ،‬ومن العجيب أن نحل كل خلية يتعارف على رائحة تميز نحلها‬
‫عن غيره ‪ ،‬وتستطيع النحلة أن تعود إلى بيتها من مكان بعيد تهديها تلك‬
‫الرائحة المميزة عن رائحة غيرها من النحل ‪ ،‬وبوابو الخلية وحراسها يعرفون‬
‫النحلة التي تتبع الخلية عن طريق تلك الرائحة المميزة المنبعثة من النحلة ‪.‬‬
‫والعجب أن النحل قادر على التعارف على رائحة جديدة عندما يحصل ما‬
‫يستدعي ذلك ‪ ،‬فمثل ً عندما تخرج طائفة من النحل لتشكل خلية جديدة ‪ ،‬فإن‬
‫الخلية الجديدة تتعارف على رائحة جديدة ‪ ،‬وعندما مزج العلماء بطريقة‬
‫علمية طائفة من النحل مع طائفة أخرى وجدوا أن النحل بعد دمجه تعارف‬
‫على رائحة واحدة جديدة تميزه عن غيره ‪.‬‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫ومن عجائب هداية النحل أنه يبني جدران البيوت السداسية من الشمع‬
‫الخالص الذي ل ينفذ منه الهواء ‪ ،‬ولكنه عندما يغلق أبواب البيوت التي تحوي‬
‫يرقات النحل يخلط الشمع بحبوب اللقاح ‪ ،‬وبهذا يتسرب الهواء من خلل‬
‫حبوب اللقاح ‪ ،‬فتبقى اليرقات حّية ‪ ،‬ولو لم يهدها ربها إلى ذلك لماتت‬
‫اليرقات ‪ ،‬وزال النحل من فوق ظهر البسيطة ‪.‬‬
‫وقد حدثنا ربنا فيما حدثنا عنه من آياته الباهرة التي تستدعي التأمل والتفكر‬
‫إلى هدايته العجيبة للنحل ) وأوحى رّبك إلى الّنحل أن اّتخذي من الجبال بيوتا ً‬
‫م كلي من كل الّثمرات فاسلكي سبل ربك‬ ‫شجر ومما يعرشون – ث ُ ّ‬ ‫ومن ال ّ‬
‫ة‬
‫ن في ذلك لي ً‬ ‫ف ألوانه فيه شفاٌء للّناس إ ّ‬
‫ب مختل ٌ‬ ‫ُذلل ً يخرج من بطونها شرا ٌ‬
‫لقوم ٍ يتفكرون (]النحل‪. [69-68 :‬‬
‫وقد اهتدى المسلمون للمنافع العظيمة التي في العسل ‪ ،‬ولكن الضالون عن‬
‫هدى الله لم يكتشفوا ما فيه من المنافع إل في هذه اليام ‪ ،‬وقد اكتشف‬
‫الباحثون حقائق مذهلة ‪ ،‬فوجدوا أن العسل غذاء ودواء ‪ ،‬وهو غذاء من نوع‬
‫راق ‪ ،‬يحوي على خصائص ل تكاد توجد في غيره ‪ ،‬ووجدوا أنه علج يكاد‬
‫يصلح لجميع أنواع المراض ‪ ،‬ول يزال العلم يكتشف في كل يوم في العسل‬
‫نفعا ً جديدا ً ‪.‬‬
‫كيف يدل النحل بعضه بعضا ً على مكان الغذاء ؟‬
‫مما لحظه العلماء المعاصرون الطريقة التي يدل بها النحل بعضه بعضا ً على‬
‫مكان الغذاء ‪ ،‬يقول الدكتور يوسف عز الدين ‪ " :‬لو اكتشف أحد عمال النحل‬
‫حقل ً أو كمية من النباتات تعتبر مصدرا ً للغذاء ‪ ،‬فإّنه يعود للمستعمرة ليخبر‬
‫باقي العمال ‪ ،‬عن هذا الكنز الذي اكتشفه ‪ ،‬وذلك عن طريق طقوس رقص‬
‫عجيبة تفعلها النحلة بطريقة غريزية دون أن تدري لماذا تفعل هذا ‪.‬‬
‫إنها ترقص رقصات غريبة ذات مدلولت معينة ‪ ،‬إذ إن جسمها يصنع في أثناء‬
‫الرقص زاوية تدل على زاوية الشمس ‪،‬وإذا كان الحقل الذي اكتشفه قريبا ً‬
‫ن الرقصة في هذه الحالة تختلف عنها في حالة ُبعد الحقل‬ ‫من المستعمرة فإ ّ‬
‫مسافة أطول ‪.‬‬

‫) ‪(1/55‬‬

‫ن حقل ً من البرسيم أو غيره من النباتات‬


‫ومن هذه الرقصات يفهم النحل أ ّ‬
‫ذات الزهار التي يحضر النحل غذاءه منها ‪ ،‬يقع على بعد معين ‪ ،‬والطريق‬
‫إليه يقتضي السير بزاوية معينة بالنسبة لمكان الشمس ‪.‬‬
‫فيؤدي بعض العمال الرقصة نفسها ‪ ،‬عند ذلك تطمئن النحلة التي اكتشفت‬
‫ن باقي النحل قد فهم ما تريد أن تقوله ‪ ،‬فيطير باقي الفراد ‪،‬‬ ‫الحقل إلى أ ّ‬
‫ويصلون مباشرة إلى ذلك الحقل لحضار مزيد من الغذاء ‪.‬‬
‫ن النحلة المكتشفة قد نقلت إلى النحل الذي في المستعمرة عددا ً من‬ ‫إ ّ‬
‫المعلومات برقصتها ‪ ،‬ولو حاولنا نحن البشر أن نتوصل إلى ما توصل إليه‬
‫النحل من فهم لهذه الطلسم عن طريق رسم بياني لستغرق منا وقتا ً ل‬
‫يقل عن ثلث ساعة إن كان لدينا إلمام كاف بالعلوم الرياضية ‪ ،‬ولكن النحل‬
‫ل ذلك في الحال ‪ ،‬ويطير نحو الحقل في خط مستقيم ليحضر ما‬ ‫يفهم ك ّ‬
‫يلزمه من غذاء ‪.‬‬
‫شيء مذهل ل يمكن تفسيره إل إذا آمنا بوجود نفحة إلهية أودعها خالق‬
‫الكون في هذه الكائنات الصغيرة التي ل تملك قدرا ً من العقل أو قدرة على‬
‫التفكير تمكنها من القيام بما يلزمها " ‪.‬‬
‫رؤية النحل ما ل نراه من اللوان‬
‫ً‬
‫ويذكر لنا الدكتور يوسف أن من عجائب النحل رؤيته " لونا ل نراه نحن‬
‫البشر ‪ ،‬ول يمكن أن نتصوره ‪ ،‬وهو اللون فوق البنفسجي الذي نراه نحن‬
‫أسود ‪ ،‬فالنحل يرى الشعة فوق البنفسجية " ‪ ،‬ثم يبين لنا الحكمة من وراء‬
‫رؤية النحل لذلك اللون فيقول ‪ " :‬والحكمة في ذلك هي أن تلك الشعة هي‬
‫الوحيدة القادرة على اختراق السحاب ‪.‬‬

‫) ‪(1/56‬‬

‫والنحل قد يعيش في مناطق يكسوها السحاب معظم شهور السنة ‪ ،‬ورؤية‬


‫الشمس ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي بها الغذاء ‪ ،‬وهنا تكمن الحكمة‬
‫في رؤية النحل لذلك اللون فوق البنفسجي ‪ ،‬فإنها بذلك يصبح في إمكانها‬
‫رؤية الشمس من خلل السحب ‪ ،‬فل يموت النحل جوعا ً في حالة اختفاء‬
‫ل على وجود خالق مدبر ومقدر يعلم‬ ‫الشمس خلف الغمام ‪ ،‬حقيقة مذهلة تد ّ‬
‫ما يصنع ‪ ،‬إذ إن القدرة على رؤية ذلك اللون ل يمكن أن تكون قد اكتسبها‬
‫النحل مع مرور الزمن ‪ ،‬بل ل بد أن تكون قد وجدت منذ أول لحظة خلق الله‬
‫فيها النحل ‪ ،‬إذ لو لم توجد من أول المر ‪ ،‬لنقرض النحل في تلك المناطق‬
‫منذ أمد بعيد " ‪.‬‬
‫‪ -4‬هداية النمل وعجائب صنع الله فيه‬
‫ويحدثنا ابن القيم عن نوع آخر من مخلوقات الله ‪ ،‬ويبين لنا هداية الله لها‬
‫في معاشها فيقول ‪:‬‬
‫" وهذا النمل من أهدى الحيوانات ‪ ،‬وهدايتها من أعجب شيء ‪ ،‬فإن النملة‬
‫الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها ‪ ،‬وإن بعدت عليها الطريق ‪ ،‬فإذا‬
‫ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية‬
‫من التوعر حتى تصل إلى بيوتها ‪ ،‬فتخزن فيها أقواتها في وقت المكان ‪.‬‬
‫فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين ؛ لئل ينبت فإن كان ينبت‬
‫مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة ‪ ،‬فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد‬
‫انتظرت به يوما ً ذا شمس فخرجت به ‪ ،‬فنشرته على أبواب بيوتها ‪ ،‬ثم‬
‫أعادته إليها ‪ ،‬ول تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها ‪.‬‬
‫) ‪(1/57‬‬

‫ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله – سبحانه – في القرآن عن النملة التي‬


‫سمع سليمان كلمها وخطابها لصحابها بقولها ‪ ) :‬يا أّيها الّنمل ادخلوا‬
‫مساكنكم ل يحطمّنكم سليمان وجنوده وهم ل يشعرون ( ] النمل ‪، [ 18 :‬‬
‫فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ‪ ،‬ثم أتت بالسم المبهم ‪،‬‬
‫ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة العموم ‪ ،‬ثم أمرتهم بأن يدخلوا‬
‫مساكنهم فيتحصنون من العسكر ‪ ،‬ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول ‪ ،‬وهو‬
‫خشية أن يصيبهم معّرة الجيش ‪ ،‬فيحطمهم سليمان وجنوده ‪ ،‬ثم اعتذرت‬
‫عن نبي الله وجنوده بأنهم ل يشعرون بذلك ‪ ،‬وهذا من أعجب الهداية ‪.‬‬
‫وتأمل كيف عظم الله – سبحانه – شأن النمل بقوله ‪ ) :‬وحشر لسليمان‬
‫طير فهم يوزعون ( ] النمل ‪ ، [ 17 :‬ثم قال ‪:‬‬ ‫ن والنس وال ّ‬‫جنوده من الج ّ‬
‫) حّتى إذا أتوا على واد الّنمل ( ] النمل ‪ ، [ 18 :‬فأخبر أنهم بأجمعهم مروا‬
‫ف بالنمل كوادي السباع‬ ‫على ذلك الوادي ‪ ،‬ودل على أن ذلك الوادي معرو ٌ‬
‫ونحوه ‪ ،‬ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث‬
‫أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم ‪ ،‬فقد عرفت هي والنمل أن لكل‬
‫طائفة منها مسكنا ً ل يدخل عليهم فيه سواهم ‪ ،‬ثم قالت ‪ ) :‬ل يحطمّنكم‬
‫سليمان وجنوده ( ] النمل ‪ ، [ 18 :‬فجمعت بين اسمه وعينه ‪ ،‬وعرفته بهما ‪،‬‬
‫وعرفت جنوده وقائدهم ‪ ،‬ثم قالت ‪ ) :‬وهم ل يشعرون ( ] النمل ‪[ 18 :‬‬
‫فكأنها جمعت بين العتذار عن مضرة الجيش بكونهم ل يشعرون وبين لومة‬
‫أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ‪ ،‬ويدخلوا مساكنهم ‪ ،‬ولذلك تبسم نبي الله‬
‫ضاحكا ً من قولها ‪ ،‬وإنه لموضع تعجب وتبسم ‪.‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم )) نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد‬
‫والصرد (( )‪ ، (5‬وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم قال ‪ ) :‬نزل نبي من النبياء تحت شجرة ‪ ،‬فلدغته نملة ‪ ،‬فأمر بجهازه‬
‫فأخرج ‪ ،‬وأمر بقرية النمل فأحرقت ‪ ،‬فأوحى الله إليه ‪ :‬أن قرصْتك نملة‬
‫ح ! فهل نملة واحدة !( ‪(6) .‬‬ ‫أحرقت أمة من المم ُتسب ُ‬
‫وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير ‪ ،‬قال ‪ :‬قال أبو موسى‬
‫الشعري ‪ :‬إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة ‪.‬‬
‫ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه ‪ ،‬كما رواه‬
‫ي‬‫المام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه ‪ ،‬قال ‪ ) :‬خرج نب ّ‬
‫قون ‪ ،‬فإذا هم بنملة رافعة َقواِئمها إلى السماء‬ ‫س ُ‬
‫ست َ ْ‬
‫من النبياء بالناس ي َ ْ‬
‫مستلقية على ظهرها ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم (‬ ‫تدعو ُ‬
‫وِلهذا الثر عدة طرق ‪ ،‬ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره ‪.‬‬
‫وفي مسند المام أحمد ‪ ) :‬أن سليمان بن داود خرج يستسقي ‪ ،‬فرأى نملة‬
‫مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقو ُ‬
‫ل ‪ :‬اللهم إنا خلق‬ ‫ُ‬
‫من خلقك ‪ ،‬ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك ‪ ،‬فإما أن ُتسقينا وترزقنا ‪ ،‬وإما‬
‫غيركم ( ‪.‬‬‫م بدعوة َ‬
‫سقيت ُ ْ‬
‫أن تهلكنا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ارجعوا فقد ُ‬
‫دثت أن نملة خرجت من بيتها ‪ ،‬فصادفت شق جرادة ‪ ،‬فحاولت أن‬ ‫ح ّ‬
‫ولقد ُ‬
‫ت‬
‫تحمله فلم تطق ‪ ،‬فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها ‪ ،‬قال ‪ :‬فرفع ُ‬
‫ذلك من الرض ‪ ،‬فطافت في مكانه فلم تجده ‪ ،‬فانصرفوا وتركوها ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فوضعته ‪ ،‬فعادت تحاول حمله فلم تقدر ‪ ،‬فذهبت ‪ ،‬وجاءت بهم ‪،‬‬
‫فرفعته ‪ ،‬فطافت فلم تجده فانصرفوا ‪ ،‬قال ‪ :‬فعلت ذلك مرارا ً ‪ ،‬فلما كان‬
‫في المرة الخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها ‪ ،‬وقطعوها‬
‫عضوا ً عضوا ً ‪ ،‬قال شيخنا ‪ :‬وقد حكيت له هذه الحكاية فقال ‪ :‬هذا النمل‬
‫فطرها الله – سبحانه – على قبح الكذب وعقوبة الكذاب ‪.‬‬

‫) ‪(1/59‬‬

‫والنمل من أحرص الحيوانات ‪ ،‬ويضرب بحرصه المثل ‪ ،‬ويذكر أن سليمان‬


‫صلوات الله وسلمه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء‬
‫استحضر نملة ‪ ،‬وسألها ‪ :‬كم تأكل النملة من الطعام كل سنة ؟ فقالت ‪:‬‬
‫ثلث حبات من الحنطة ‪ ،‬فأمر بإلقائها في قارورة ‪ ،‬وسد فم القارورة ‪،‬‬
‫وجعل معها ثلث حبات حنطة ‪ ،‬وتركها سنة بعد ما قالت ‪ :‬ثم أمر بفتح‬
‫القارورة عند فراغ السنة ‪ ،‬فوجد حبة ونصف حبة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أين زعمك ؟ أنت‬
‫زعمت أن قوتك كل سنة ثلث حبات ‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكن لما رأيتك مشغول ً بمصالح بني جنسك حسبت الذي بقي‬
‫من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة ‪ ،‬فاقتصرت على نصف القوت ‪،‬‬
‫واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي ‪ ،‬فعجب سليمان من شدة حرصها ‪ ،‬وهذا‬
‫من أعجب الهداية والعطية ‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن حرصها أنها تكد ّ طول الصيف ‪ ،‬وتجمع للشتاء علما منها بإعواز الطلب‬
‫في الشتاء ‪ ،‬وت َعَذ ّرِ الكسب فيه ‪ ،‬وهي على ضعفها شديدة القوى ‪ ،‬فإنها‬
‫تحمل أضعاف أضعاف وزنها ‪ ،‬وتجره إلى بيتها ‪.‬‬
‫ً‬
‫وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إل أن رائدا يطلب الرزق ‪،‬‬
‫فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات ‪ ،‬وكل نملة تجتهد في صلح‬
‫العامة منها غير مختلسة من الحب شيئا ً لنفسها دون صواحباتها ‪.‬‬
‫ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل ل يسقط في عسل‬
‫أو نحوه ‪ ،‬فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيرا ً ‪ ،‬ويملؤه‬
‫ماء ‪ ،‬ثم يضع فيه ذلك الشيء ‪ ،‬فيأتي الذي يطيف به فل يقدر عليه ‪،‬‬
‫فيتسلق في الحائط ‪ ،‬ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء ‪،‬‬
‫فتلقي نفسها عليه ‪ ،‬وجربنا نحن ذلك ‪.‬‬
‫وأحمى صانع مرة طوقا ً بالنار ورماه على الرض ليبرد ‪ .‬واتفق أن اشتمل‬
‫الطوق على نمل ‪ ،‬فتوجه في الجهات ليخرج ‪ ،‬فلحقه وهج النار ‪ ،‬فلزم‬
‫المركز ووسط الطوق ‪ ،‬وكان ذلك مركزا ً له ‪ ،‬وهو أبعد مكان من المحيط‬
‫" ‪(7) .‬‬
‫النمل البيض غذاؤه ومساكنه ‪:‬‬

‫) ‪(1/60‬‬
‫يحدثنا الستاذ يوسف عز الدين ‪ :‬عما كشف العلم من أسرار هذا الكائن ‪" :‬‬
‫ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل ‪ ،‬يجعل‬
‫كل ذي عقل من البشر يخّر ساجدا ً للخالق العظيم ‪.‬‬
‫على سبيل المثال ما نراه في مستعمرة نوع من الحشرات نطلق عليه اسم‬
‫) النمل البيض ( ‪ ،‬تعيش هذه الحشرات أيضا ً في مستعمرات ‪ ،‬إذا زاد أفراد‬
‫ن هذه‬‫المستعمرة عن الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الحشرات تدرك هذه الحقيقة عن طريق الغريزة ‪ ،‬فتبدأ الفراد في التهام‬
‫ل مشكلة زيادة أفراد المستعمرة‬ ‫عدد كبير من البيض ‪ ،‬وبذلك يسهم في ح ّ‬
‫ومشكلة الغذاء ‪ ،‬إذ أن التهام البيض يعتبر تغذية ‪ ،‬وفي الوقت نفسه يقلل‬
‫من عدد الذرية ‪.‬‬
‫ن هذه الحشرات ل تدرك لماذا تفعل ذلك ‪ ،‬ولكّنها النفحة اللهية التي تلهمها‬ ‫إ ّ‬
‫لعمل ما ل يمكن أن تدركه من الشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء‬
‫‪.‬‬
‫هذه الحشرات نفسها تتغذى على الخشاب وتلتهمها بشراهة ‪ ،‬إذ في بعض‬
‫الماكن الموبوءة بها قد يتناول أفراد السرة طعامهم على منضدة الطعام ‪،‬‬
‫ثم يذهبون في الصباح لتناول إفطارهم ‪ ،‬فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت‬
‫أركانها ‪ ،‬وانهارت في ليلة واحدة ‪.‬‬
‫وفي بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد‬
‫السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عن اسم القرية التي رآها على مدى‬
‫البصر ‪ ،‬فيعتريه الذهول عندما يخبرونه أن تلك القرية ل تضم آدميين ‪ ،‬ولكنها‬
‫المساكن التي أقامها النمل البيض ليعيش بها ‪.‬‬
‫هذه المساكن ترتفع عن سطح الرض عدة أمتار وتصنعها الحشرات من مادة‬
‫غريبة ‪ ،‬هي خليط من لعابها وبعض المواد الخرى ‪ ،‬وهي أقوى من السمنت‬
‫المسلح ‪ ،‬ول يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إليها الماء من خلل‬
‫جدرانها ‪ ،‬وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فيها النمل البيض ‪.‬‬

‫) ‪(1/61‬‬

‫وتستخدم هذه الحشرات للتخابر عن بعد نوعا ً من الشيفرة تشبه شيفرة‬


‫التلغراف ‪ ،‬إذ تدق على جدران النفق برأسها عدة دقات فيفهم باقي النمل‬
‫ما تريد عن طريق تلك الدقات الشفرية ‪ ،‬تفعل ذلك دون أن تدري ماذا تفعل‬
‫‪ ،‬إذ إنها تفعلها عن طريق اللهام المسمى الغريزة ‪.‬‬
‫ولقد احتار العلماء فترة طويلة من الزمن في تفسير إمكان حياة مثل هذه‬
‫الحشرات عن طريق الغذاء على الخشاب ‪ ،‬والخشب ل يحتوي على أية‬
‫مواد عضوية قابلة للهضم ‪ ،‬وأخيرا ً اكتشفوا السر ‪.‬‬
‫لقد وجدوا في داخل الجهاز الهضمي لفراد هذه الحشرات حيوانات دقيقة‬
‫أولية يتكون جسمها من خلية واحدة ‪ ،‬وهذه الحيوانات الولية تفرز أجسامها‬
‫إفرازات تحول الخشب إلى مواد غذائية قابلة للهضم هي التي تغذي النمل‬
‫البيض ‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن العجيب أّنه لم يحدث إطلقا أن اكتشفت نملة بيضاء واحدة تخلو‬
‫أمعاؤها من هذه الحيوانات الولية ‪ ،‬ولو لم توجد هذه الحيوانات داخل أمعاء‬
‫النمل البيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة ‪ ،‬ولنقرضت منذ أول جيل من‬
‫أجيالها ‪ ،‬هل من الممكن أن يحدث هذا عن طريق المصادفة أم هو شيء‬
‫مقدر مدبر مرسوم ؟ " ‪.‬‬
‫النمل يربي المواشي ويفلح الرض ‪:‬‬
‫ومن عجائب النمل ما ذكره الدكتور يوسف عز الدين ‪ ،‬فقد ذكر أن النمل‬
‫استأنس مئات من الجناس من الحيوانات الدنى منه شأنا ً ‪ ،‬بينما لم‬
‫يستأنس النسان سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها‬
‫لمنفعته ومتعته ‪ ،‬ولقد عرف النمل الزرع والرعي عن طريق الغريزة ‪.‬‬

‫) ‪(1/62‬‬

‫ن حشرات المن التي يطلق عليها أحيانا ً ) قمل النبات ( التي نراها على‬ ‫إ ّ‬
‫أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها ‪ .‬ففي الربيع الباكر يرسل‬
‫النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ‪ ،‬فإذا جاؤوا به وضعوه في‬
‫مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم ‪ ،‬ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما‬
‫يهتمون ببيضهم ‪ ،‬فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها‬
‫وأكرموها ‪ ،‬وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائل ً حلوا ً كالعسل كما تدر‬
‫البقرة اللبن ‪ ،‬ويتولى النمل حلب هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها‬
‫أبقار ‪.‬‬
‫ول يعتني النمل بتربية ))المواشي(( هذه وحدها ‪ ،‬بل يعتني كذلك بالزرع‬
‫وفلحة الرض ‪ ،‬لقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الرض‬
‫قد نما بها أرز قصير من نوع نصف بري ‪ ،‬كانت مساحة القطعة خمسة أقدام‬
‫طول ً في ثلثة عرضا ً ‪ ،‬وكان طول الرز نحو ستة ))سنتيمترات(( ‪ ،‬ويتراءى‬
‫ن أحدا ً ل بد يعتني بها ‪ ،‬فالطينة حول‬‫للناظر إلى هذه البقعة من الرض أ ّ‬
‫الجذور كانت مشققة ‪ ،‬والعشاب الغريبة كانت مستأصلة ‪ ،‬والغريب أّنه لم‬
‫يكن على مقربة من هذا المكان عود آخر من الرز ‪ ،‬فهذا الرز لم ينم من‬
‫تلقاء نفسه ‪ ،‬وإّنما زرعه زارع ‪.‬‬
‫ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إلى هذا المزروع وتذهب عنه ‪ ،‬فانبطح العالم‬
‫ن هذا النمل هو القائم‬‫على الرض يلحظ ما يصنعه ‪ ،‬ولم يلبث أن عرف أ ّ‬
‫بزراعة الرز في تلك البقعة من الرض ‪ ،‬وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له ‪،‬‬
‫تشغل كل وقته ‪ ،‬فبعضه كان يشق الرض ويحرثها ‪ ،‬وبعض آخر كان يزيل‬
‫العشاب الضارة ‪ ،‬فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إليه بعض النمل ‪،‬‬
‫فيقضمونه ‪ ،‬ثم يحملونه بعيدا ً عن المزرعة ‪.‬‬

‫) ‪(1/63‬‬

‫نما الرز حتى بلغ طوله ستين سنتيمترا ً ‪ ،‬وكانت حبوب الرز قد نضجت ‪،‬‬
‫فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفا ً من شغالة النمل ل ينقطع متجها ً نحو‬
‫العيدان ‪ ،‬فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الرز ‪ ،‬فتنزع كل شغالة من‬
‫النمل حبة من تلك الحبوب ‪ ،‬وتهبط بها سريعا ً إلى الرض ‪ ،‬ثم تذهب بها إلى‬
‫مخازن تحت الرض ‪.‬‬
‫ن طائفة من الّنمل كانت تتسلق العواد ‪ ،‬فتلتقط‬ ‫بل العجب من ذلك أ ّ‬
‫الحب ‪ ،‬ثم تلقي به ‪ ،‬بينما طائفة أخرى تتلقاه ‪ ،‬وتذهب به إلى المخازن ‪..‬‬
‫ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية في بيوت كبيوتنا ذات شقق‬
‫وطبقات ‪ ،‬أجزاء منها تحت الرض ‪ ،‬وأجزاء فوق الرض ‪ ،‬في هذه المدن نجد‬
‫الخدم والعبيد ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بل العجب من ذلك نجد الممرضات اللتي تعني بالمرضى ليل ونهارا ‪ ،‬ونجد‬
‫منها من يرفع جثث من يموت من النمل ‪....‬‬
‫ل هذا بدون تفكير ‪ ،‬إذ يتم بالغريزة التي أودعها‬ ‫يفعل ذلك النوع من النمل ك ّ‬
‫الله في أجسامهم الصغيرة ‪.‬‬
‫‪ -5‬هداية الهدهد وعجائب صنع الله فيه‬
‫ويحدثنا ابن القيم بأسلوبه السهل الخاذ عن نوع آخر من مخلوقات الله التي‬
‫كر ‪ ،‬أل وهو الهدهد ‪ ،‬متحدثا ً عن هداية الله له فيقول ‪:‬‬‫لها في كتاب الله ذِ ْ‬

‫) ‪(1/64‬‬

‫" وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الرض ‪ ،‬ل يراه‬
‫غيره ‪ ،‬ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان ‪،‬‬
‫دره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ‪،‬‬ ‫وقد فقده وتوعده ‪ ،‬فلما جاء ب َ َ‬
‫وخاطبه خطابا ً هيجه به على الصغاء إليه والقبول منه ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬أحطت بما‬
‫لم ُتحط به ( ] النمل ‪ ، [ 22 :‬وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق‬
‫المعرفة بحيث أحطت به ‪ ،‬وهو خبر عظيم له شأن ‪ ،‬فلذلك قال ‪ ) :‬وجئتك‬
‫ن ( ] النمل ‪ ، [ 22 :‬والنبأ هو الخبر الذي له شأن ‪ ،‬والنفوس‬ ‫من سبإ بنبإ ٍ يقي ٍ‬
‫متطلعة إلى معرفته ‪ ،‬ثم وصفه بأنه نبأ يقين ‪ ،‬ل شك فيه ول ريب ‪ ،‬فهذه‬
‫مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي‬
‫الخبر ‪ ،‬وأوجبت له التشوق التام إلى سماعه ومعرفته ‪ ،‬وهذا نوع من براعة‬
‫الستهلل وخطاب التهييج ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفا مؤكدا بأدلة التأكيد ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬إّني وجدت‬
‫امرأة ً تملكهم ( ] النمل ‪ ، [ 23 :‬ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ‪ ،‬وأنها من‬
‫ل الملوك بحث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ‪ ،‬ثم زاد في‬ ‫أج ّ‬
‫عظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه ‪ ،‬وأنه عرش عظيم ‪ ،‬ثم أخبره‬
‫بما يدعوه إلى قصدهم ‪ ،‬وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله ‪،‬‬
‫شمس من دون الله ( ] النمل ‪. [ 24 :‬‬ ‫فقال ‪ ) :‬وجدّتها وقومها يسجدون لل ّ‬
‫وحذف أداة العطف من هذه الجملة ‪ ،‬وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما‬
‫قبلها ‪ ،‬إيذانا ً بأنها هي المقصودة ‪ ،‬وما قبلها توطئة لها ‪ ،‬ثم أخبر عن المغوي‬
‫لهم ‪ ،‬الحامل لهم على ذلك ‪ ،‬وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم ‪ ،‬حتى صدهم‬
‫عن السبيل المستقيم ‪ ،‬وهو السجود لله وحده ‪ ،‬ثم أخبر أن ذلك الصد حال‬
‫بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي ل ينبغي السجود إل له ‪.‬‬

‫) ‪(1/65‬‬

‫ثم ذكر من أفعاله – سبحانه – إخراج الخبء في السماوات والرض ‪ ،‬وهو‬


‫المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء ‪ ،‬وما‬
‫يخرج من الرض ‪ ،‬وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى‬
‫بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الرض ‪.‬‬
‫قال صاحب الكشاف ‪ :‬وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلم الهدهد‬
‫ن يخرج الخبء في‬ ‫م ْ‬
‫لهندسته ومعرفته الماء تحت الرض ‪ ،‬وذل بإلهام َ‬
‫السماوات والرض جلت قدرته ولطف علمه ‪ ،‬ول يكاد يخفى على ذي‬
‫الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من المعلم في‬
‫روائه ومنطقه وشمائله ‪ ،‬فما عمل آدمي عمل ً إل ألقى عليه رداء عمله " ‪.‬‬
‫‪ -6‬هداية الحمام وعجائب صنع الله فيه‬
‫أما حديث ابن القيم عن الحمام وبدائع صنع الله فيه ‪ ،‬وعجيب هدايته إلى ما‬
‫هداه إليه فحديث طويل ممتع ‪ ،‬يدل على أن التفكير في خلق الله منهج أخذ‬
‫به أهل العلم أنفسهم تحقيقا ً لمر الله لعباده ‪ ،‬وفي هذا يقول ابن القيم ‪:‬‬
‫وهذا الحمام من أعجب الحيوان هداية ‪ ،‬حتى قال الشافعي ‪ :‬أعقل الطير‬
‫الحمام ‪ ،‬وُبرد ُ الحمام هي التي تحمل الرسائل والكتب ‪ ،‬وربما زادت قيمة‬
‫الطير منها على قيمة المملوك والعبد ‪ ،‬فإن الغرض الذي يحصل به ل يحصل‬
‫بمملوك ول بحيوان غيره ؛ لنه يذهب ويرجع إلى مكانه من مسيرة ألف‬
‫فرسخ فما دونها ‪ ،‬وتنهي الخبار والغراض ‪ ،‬والمقاصد التي تتعلق بها مهمات‬
‫الممالك والدول ‪.‬‬
‫ً‬
‫والقيمون بأمرها يعتنون بأنسابها اعتناء عظيما ‪ ،‬فيفرقون بين ذكورها وإناثها‬
‫وقت الفساد ‪ ،‬وتنقل الذكور عن إناثها إلى غيرها ‪ ،‬والناث عن ذكورها ‪،‬‬
‫ويخافون عليها من فساد أنسابها وحملها من غيرها ‪ ،‬ويتعرفون صحة طرقها‬
‫ومحلها ‪ ،‬ول يأمنون أن تفسد النثى ذكرا ً من عرض الحمام فتعتريها الهجنة ‪،‬‬
‫والقيمون بأمرها ل يحفظون أرحام نسائهم ويحتاطون لها كما يحفظون‬
‫أرحام حمامهم ويحتاطون لها ‪.‬‬

‫) ‪(1/66‬‬

‫والقيمون لهم في ذلك قواعد وطرق يعتنون بها غاية العتناء بحث إذا رأوا‬
‫حماما ً ساقطا ً لم يخف عليهم حسبها ونسبها وبلدها ‪ ،‬ويعظمون صاحب‬
‫التجربة والمعرفة ‪ ،‬وتسمح أنفسهم بالجعل الوافر له ‪.‬‬
‫ويختارون لحمل الكتب والرسائل الذكور منها ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬هو أحن إلى بيته‬
‫لمكان أنثاه ‪ ،‬وهو أشد متنا ً ‪ ،‬وأقوى بدنا ً وأحسن اهتداء ‪ ،‬وطائفة منهم يختار‬
‫ن إلى الناث وتاقت‬ ‫لذلك الناث ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬الذكر إذا سافر وبعد عهده ح ّ‬
‫نفسه إليهن ‪ ،‬فربما رأى أنثى في طريقه ومجيئه فل يصبر عنها ‪ ،‬فيترك‬
‫السير ‪ ،‬ومال إلى قضاء وطره منها ‪.‬‬
‫من واللف‬ ‫وهدايته على قدر التعليم والتوطين ‪ ،‬والحمام موصوف بالي ُ ْ‬
‫للناس ‪ ،‬ويحب الناس ويحبونه ‪ ،‬ويألف المكان ويثبت على العهد والوفاء‬
‫لصاحبه ‪ ،‬وإن أساء إليه ‪ ،‬ويعود إليه من مسافات بعيدة ‪ ،‬وربما صد فترك‬
‫وطنه عشر حجج ‪ ،‬وهو ثابت على الوفاء ‪ ،‬حتى إذا وجد فرصة واستطاعة‬
‫عاد إليه ‪.‬‬
‫والحمام إذا أراد السفاد يلطف للنثى غاية اللطف ‪ ،‬وإذا علم الذكر أنه أودع‬
‫رحم النثى ما يكون منه الولد يقوم هو والنثى بطلب القصب والحشيش‬
‫وصغار العيدان ‪ ،‬فيعملن منه أفحوصة ‪ ،‬وينسجانها نسجا ً متداخل ً في الوضع‬
‫الذي يكون بقدر حيمان الحمامة ‪ ،‬ويجعلن حروفها شاخصة مرتفعة ‪ ،‬لئل‬
‫يتدحرج عنها البيض ‪ ،‬ويكون حصنا ً للحاضن ‪ ،‬ثم يتعاودان ذلك المكان ‪،‬‬
‫ويتعاقبان الفحوص يسخنانه ‪ ،‬ويطيبانه وينفيان طباعه الول ‪ ،‬ويحدثان فيه‬
‫طبعا ً آخر مشتقا ً ومستخرجا ً من طباع أبدانهما ورائحتهما ‪ ،‬لكي تقع البيضة‬
‫إذا وقعت في مكان هو أشبه المواضع بأرحام الحمام ‪ ،‬ويكون على مقدار‬
‫من الحر والبرد والرخاوة والصلبة ‪.‬‬
‫ثم إذا ضربها المخاض بادرت إلى ذلك المكان ‪ ،‬ووضعت فيه البيض ‪ ،‬فإن‬
‫أفزعها رعد قاصف رمت بالبيضة دون ذلك المكان الذي هيأته كالمرأة التي‬
‫ُتسقط من الفزع ‪.‬‬

‫) ‪(1/67‬‬

‫فإذا وضعت البيض في ذلك المكان لم يزال يتعاقبان الحضن ‪ ،‬حتى إذا بلغ‬
‫الحضن مداه وانتهت أيامه انصدع عن الفراخ ‪ ،‬فأعاناه على خروجه ‪ ،‬فيبدآن‬
‫أول ً بفتح الريح في حلقه حتى تتسع حوصلته ‪ ،‬علما ً بأن الحوصلة تضيق عن‬
‫الغذاء ‪ ،‬فتتسع الحوصلة بعد التحامها ‪ ،‬وتنفتق بعد ارتتاقها ‪.‬‬
‫ثم يعلمان أن الحوصلة وإن كانت قد اتسعت شيئا ً فإنها في أول المر ل‬
‫تحتمل الغذاء ‪ ،‬فيزقانه بلعابهما المختلط بالغذاء ‪ ،‬وفيه قوى الطعم ‪.‬‬
‫ثم يعلمان أن طبع الحوصلة تضعف عن استمرار الغذاء ‪ ،‬وأنها تحتاج إلى دفع‬
‫وتقوية ‪ ،‬لتكون لها بعض المتانة ‪ ،‬فيلقطان من الغيطان الحب اللين الرخو ‪،‬‬
‫ويزقانه الفرخ ‪ ،‬ثم يزقانه بعد ذلك الحب الذي هو أقوى وأشد ‪.‬‬
‫ول يزالن يزقانه بالحب والماء على تدريج بحسب قوة الفرخ ‪ ،‬وهو يطلب‬
‫ذلك منهما ‪ ،‬حتى إذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ‪ ،‬ليحتاج إلى‬
‫اللقط ويعتاده ‪ ،‬وإذا علما أن رئته قد قويت ونمت ‪ ،‬وأنهما إن فطماه فطما ً‬
‫تاما ً قوي على اللقط وتبلغ لنفسه ضرباه إذا سألهما الزق ‪ ،‬ومنعاه ‪.‬‬
‫ثم تنزع تلك الرحمة العجيبة منهما ‪ ،‬وينسيان ذلك التعطف المتمكن حين‬
‫يعلمان أنه قد أطاق القيام بالتكسب بنفسه ‪ ،‬ثم يبتدآن ابتداء ذلك النظام ‪.‬‬
‫ومن عجيب هداها أنها إذا حملت الرسائل سلكت الطرق البعيدة عن القرى‬
‫ومواضع الناس ؛ لئل يعرض لها من يصدها ‪ ،‬ول يرد مياههم ‪ ،‬بل يرد المياه‬
‫التي ل يردها الناس ‪.‬‬
‫ومن هداية الحمام أن الذكر والنثى يتقاسمان أمر الفراخ ‪ ،‬فتكون الحضانة‬
‫ن الب هو‬ ‫والتربية والكفالة على النثى ‪ ،‬وجلب القوت والزق على الذكر ‪ ،‬فإ ّ‬
‫صاحب العيال والكاسب لهم ‪ ،‬والم هي التي تحبل وتلد وترضع ‪.‬‬

‫) ‪(1/68‬‬

‫ومن عجيب أمرها ما ذكره الجاحظ ‪ :‬أن رجل ً كان له زوج حمام مقصوص ‪،‬‬
‫وزوج طيار ‪ ،‬وللطيار فرخان ‪ ،‬قال ‪ :‬ففتحت لهما في أعلى الغرفة كوة‬
‫للدخول والخروج وزق فراخهما ‪ ،‬قال ‪ :‬فحبسني السلطان فجأة ‪ ،‬فاهتممت‬
‫بشأن المقصوص غاية الهتمام ‪ ،‬ولم أشك في موتهما ؛ لنها ل يقدران على‬
‫الخروج من الكوة ‪ ،‬وليس عندهما ما يأكلن ويشربان ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فلما خلي سبيلي ‪ ،‬لم يكن لي هم غيرهما ‪ ،‬ففتحت البيت فوجدت‬
‫الفراخ قد كبرت ‪ ،‬ووجدت المقصوص على أحسن حال ‪ ،‬فعجبت ‪ ،‬فلم ألبث‬
‫أن جاء الزوج الطيار ‪ ،‬فدن الزوج المقصوص إلى أفواههما يستطعمانهما كما‬
‫يستطعم الفرخ فزقاهما ‪.‬‬
‫فانظر إلى هذه الهداية ‪ ،‬فإن المقصوصين لما شاهدا تلطف الفراخ ‪ ،‬للبوين‬
‫وكيف يستطعمانهما إذا اشتد بهما الجوع والعطش ‪ ،‬فعل كفعل الفرخين ‪،‬‬
‫فأدركتهما رحمة الطيارين ‪ ،‬فزقاهما كما يزقان فرخيهما ‪.‬‬
‫ومن هدايتها أيضا ً أنه إذا رأى الناس في الهواء عرف أي صنف يريده ‪ ،‬وأي‬
‫نوع من النواع ضده ‪ ،‬فيخالف فعله ليسلم منه ‪ ،‬ومن هدايته أنه في أول‬
‫نهوضه يغفل ‪ ،‬ويمر بين النسر والعقاب ‪ ،‬وبين الرخم والبازي ‪ ،‬وبين الغراب‬
‫والصقر ‪ ،‬فيعرف من يقصده ‪ ،‬ومن ل يقصده ‪ ،‬وإن رأى الشاهين فكأنه يرى‬
‫السم الناقع ‪ ،‬وتأخذه حيرة كما يأخذ الشاة عند رؤية الذئب ‪ ،‬والحمار عند‬
‫مشاهدة السد ‪.‬‬
‫مزيد من عجائب هداية الله مخلوقاته‬
‫ويعرض علينا ابن القيم جملة من عجائب هداية الله في مخلوقاته مما توصل‬
‫إليه أهل العم في زمانه ‪ ،‬ولحظوه من الوقائع في عهدهم فمن ذلك ‪:‬‬
‫‪ -7‬كلبة ترضع طفل ً مات أهله‬

‫) ‪(1/69‬‬

‫قال الجاحظ ‪ :‬لما وقع الطاعون الجارف أتى على أهل دار ‪ ،‬فلم يشك أهل‬
‫تلك المحنة أنه لم يبق منهم أحد ‪ ،‬فعمدوا إلى باب الدار فسدوه ‪ ،‬وكان قد‬
‫بقي صبي صغير يرضع ‪ ،‬ولم يفطنوا له ‪ ،‬فلما كان بعد ذلك بمدة تحول إليها‬
‫بعض ورثة القوم ‪ ،‬ففتح الباب ‪ ،‬فلما أفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبي‬
‫يلعب مع جراء كلبة قد كانت لهل الدار فراعه ذلك ‪ ،‬فلم يلبث أن أقبلت‬
‫كلبة قد كانت لهل الدار ‪ ،‬فلما رآها الصبي حبها إليها ‪ ،‬فأمكنته من أطبائها ‪،‬‬
‫فمصها ‪ ،‬وذلك أن الصبي لما اشتد جوعه ورأى جراء الكلبة يرتضعون من‬
‫أطباء الكلبة حبا إليها ‪ ،‬فعطفت عليه ‪ ،‬فلما سقته مرة أدامت له ذلك ‪ ،‬وأدام‬
‫هو الطلب ‪.‬‬
‫‪ -8‬المكاء يقتل الفعى‬
‫وذكر ابن العرابي قال ‪ :‬أكلت حية بيض مكاء ‪ ،‬فجعل المكاء يصوت ويطير‬
‫على رأسها ‪ ،‬ويدنو منها ‪ ،‬حتى إذا فتحت فاها وهمت به ألقى حسكة ‪،‬‬
‫فأخذت بحلقها حتى ماتت ‪ ،‬وأنشد أبو عمر الشيباني في ذلك قول السدي ‪:‬‬
‫إن كنت أبصرتني عيل ً ومصطلما ً ××× فربما قتل المكاء ثعبانا ً‬
‫‪ -9‬هداية الثعلب وحيله‬
‫ومن عجيب هداية الثعلب أنه إذا امتل من البراغيث أخذ صوفة بفمه ‪ ،‬ثم‬
‫عمد إلى ماء رقيق ‪ ،‬فنزل فيه قليل ً ‪ ،‬حتى ترتفع البراغيث إلى الصوفة ‪،‬‬
‫فيلقيها في الماء ويخرج ‪.‬‬
‫ومن عجيب أمره أن ذئبا ً أكل أولده ‪ ،‬وكان للذئب أولد وهناك زبية ‪ ،‬فعمد‬
‫الثعلب وألقى نفسه فيها ‪ ،‬وحفر فيها سردابا ً يخرج منه ‪ ،‬ثم عمد إلى أولد‬
‫الذئب فقتلهم ‪ ،‬وجلس ناحية ينتظر الذئب ‪ ،‬فلما أقبل وعرف أنها فعلته‬
‫هرب قدامه ‪ ،‬وهو يتبعه ‪ ،‬فألقى نفسه في الزبية ‪ ،‬ثم خرج من السرداب ‪،‬‬
‫فألقى الذئب نفسه وراءه فلم يجده ‪ ،‬ولم يطق الخروج ‪ ،‬فقتله أهل‬
‫الناحية ‪.‬‬

‫) ‪(1/70‬‬
‫ومن عجيب أمره أن رجل ً كان معه دجاجتان ‪ ،‬فاختفى له ‪ ،‬وخطف إحداهما‬
‫وفر ‪ ،‬ثم أعمل فكره في أخذ الخرى ‪ ،‬فتراءى لصاحبها من بعيد وفي فمه‬
‫شيء شبيه بالطائر ‪ ،‬وأطعمه في استعادتها بأن تركه وفر ‪ ،‬فظن الرجل أنها‬
‫الدجاجة ‪ ،‬فأسرع نحوها ‪ ،‬وخالفه الثعلب إلى أختها ‪ ،‬فأخذها وذهب ‪.‬‬
‫ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة فيها طير ‪ ،‬فأعمل الحيلة كيف يأخذ‬
‫منها شيئا ً فلم يطق ‪ ،‬فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء‬
‫الذي نحو الطير ففزع منه ‪ ،‬فمل عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها ‪،‬‬
‫فعاد لذلك مرة ثانية ‪ ،‬وثالثة ‪ ،‬ورابعة ‪ ،‬حتى تواظب الطير على ذلك وألفته ‪،‬‬
‫فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك ‪ ،‬فدخل عليها وعبر إلى الطير ‪ ،‬فلم يشك‬
‫الطير أنه من جنس ما قبله ‪ ،‬فلم تنفر منه ‪ ،‬فوثب على طائر منها وعدا به ‪.‬‬
‫ومن عجيب أمره أنه إذا اشتد به الجوه انتفخ ‪ ،‬ورمى بنفسه في الصحراء‬
‫كأّنه جيفة ‪ ،‬فتتداوله الطير ‪ ،‬فل يظهر حركة ول نفسا ً ‪ ،‬فل تشك أنه ميت ‪،‬‬
‫حتى إذا نقر بمنقاره ‪ ،‬وثب عليها ‪ ،‬فضمها ضمة الموت ‪.‬‬
‫ه لجل شوكه ‪ ،‬فيجتمع القنفذ‬ ‫ومن عجيب أمره أنه إذا أصاب القنفذ ‪ ،‬قَل َب َ ُ‬
‫حتى يصير كبة شوك ‪ ،‬فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى‬
‫فكيه ‪ ،‬فإذا أصابه البول اعتراه السر ‪ ،‬فانبسط ‪ ،‬فيسلخه الثعلب من بطنه ‪،‬‬
‫ويأكل مسلوخه ‪.‬‬
‫‪ -10‬من عجائب الذئاب‬
‫ومن عجيب الذئب أنه عرض لنسان يريد قتله ‪ ،‬فرأى معه قوسا ً وسهما ً ‪،‬‬
‫فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه ‪ ،‬وأقبل نحو الرجل ‪ ،‬فجعل الرجل‬
‫كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه ‪ ،‬وعاين نفاد سهمه ‪،‬‬
‫فصادف من استعان به على طرد الذئب ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬شفاء العليل ‪ ، 101 :‬وما نقلناه عن ابن القيم يدلنا على أن السلف‬
‫الصالح كانوا يعنون بالتأمل في خلق الله ‪ ،‬ويدلنا على أن ملحظة العلماء‬
‫المسلمين بلغت مبلغا ً كبيرا ً ‪ ،‬إل أنها لم تخل من أخطاء ‪ ،‬فالنحل ليس له‬
‫ملك بل ملكة ‪.‬‬

‫) ‪(1/71‬‬

‫)‪ (2‬الذي يبيض من النحل ملكة النحل فحسب ‪.‬‬


‫)‪ (3‬شفاء العليل ‪ :‬ص ‪. 101‬‬
‫)‪ (4‬المعلومات التي أوردناها في هذا المبحث مأخوذة من كتاب ‪ )) :‬النحلة‬
‫تسبح لله (( ‪ ،‬لمحمد حسن حمصي ‪ ،‬ولكن بتصرف كثير في الصياغة ‪،‬‬
‫والتقديم والتأخير والختصار ‪.‬‬
‫)‪ (5‬عزاه المجد ابن تيمية في المنتقى ص ‪ 759 :‬إلى أحمد وأبي داود وابن‬
‫ماجة بلفظ ‪ :‬نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع ‪:‬‬
‫)) النملة ‪ ،‬والنحلة ‪ ،‬والهدهد ‪ ،‬والصرد (( ‪.‬‬
‫)‪ (6‬صحيح البخاري ‪ ، 6/154 :‬ورقمه ‪ ، 3019 :‬وانظر ‪ ، 6/356 :‬ورقمه ‪:‬‬
‫‪ ، 3318‬ورواه مسلم ‪ ، 4/1759 :‬ورقمه ‪ ، 2241 :‬والحديث مأخوذ من‬
‫مجموع الروايات الواردة فيه ‪.‬‬
‫)‪ (7‬شفاء العليل ‪ ،‬لبن القيم ‪ :‬ص ‪. 104‬‬
‫‪ -11‬من عجائب القرود‬
‫ومن عجيب أمر القرود ما ذكره البخاري في صحيحه ‪ ،‬عن عمرو بن ميمون‬
‫الودي ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت في الجاهلية قردا ً وقردة زنيا ‪ ،‬فاجتمع عليهما القرود‬
‫فرجموهما حتى ماتا ‪ ،‬فهؤلء القرود أقاموا حد الله حين عطله بنو آدم ‪.‬‬
‫‪ -12‬من عجائب البقر‬
‫وهذه البقر يضرب ببلدتها المثل ‪ ،‬وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫سوق بقرة إذ ركبها فقالت ‪ ) :‬لم أخلق لهذا ( فقال‬ ‫ن رجل ً بينما هو ي ُ‬‫)أ ّ‬
‫الناس ‪ :‬سبحان الله بقرة تتكلم ؟! فقال ‪ ) :‬فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر‬
‫م(‪.‬‬ ‫وعمر ‪ ،‬وما هما ث َ ّ‬
‫ب على شاة منها فاستنفذها‬ ‫ً‬
‫قال ‪ ) :‬وبينما رجل يرعى غنما له إذا عدا الذئ ُ‬
‫منه ‪ ،‬فقال الذئب ‪ :‬هذه استنفذتها مني ‪ ،‬فمن لها يوم السُبع يوم ل راعي لها‬
‫غيري ( ‪ ،‬فقال الناس ‪ :‬سبحان الله ذئب يتكلم ؟! فقال رسول الله صلى‬
‫م(‪.‬‬ ‫ن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ث ّ‬
‫الله عليه وسلم ) إني أوم ُ‬
‫‪ -13‬من عجائب الفئران‬
‫ومن عجيب أمر الفئران أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة‬
‫فنقص وعّز عليها الوصول إليه ذهبت ‪ ،‬وحملت في أفواهها ماًء وصبته في‬
‫الجرة ‪ ،‬حتى يرتفع الزيت فتشربه ‪.‬‬
‫‪ -14‬من عجائب الحيوان استخدامه الدواء‬

‫) ‪(1/72‬‬

‫والطباء تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار ‪ ،‬إذا تعسر عليه‬
‫الذرق جاء إلى البحر المالح ‪ ،‬وأخذ بمنقاره منه واحتقن به ‪ ،‬فيخرج الذرق‬
‫بسرعة ‪.‬‬
‫وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكل الفاعي والحيات عمدا إلى الصتر النهري ‪،‬‬
‫فأكله كالترياق لذلك ‪.‬‬
‫وهذا الثعلب إذا أصابه صدع أو جرح يأتي إلى صبغ معروف ‪ ،‬فيأخذ منه ‪،‬‬
‫ب إذا أصابه جرح يأتي إلى نبت قد عرفه ‪،‬‬ ‫ويضعه على جرحه كالمرهم ‪ ،‬والد ّ‬
‫وجهله صاحب الحشائش ‪ ،‬فيتداوى به فيبرأ !‬
‫‪ -15‬تعلم النسان من الحيوان‬
‫ً‬
‫وكثير من العقلء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلقه‬
‫وصناعته وحربه وحزمه وصبره ‪ ،‬وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال‬
‫ن أكثرهم يسمعون أو يعقلون عن هم إل ّ كالنعام بل‬ ‫م تحسب أ ّ‬ ‫تعالى ‪ ) :‬أ ّ‬
‫ل سبيل ً ( ] الفرقان ‪ [ 44 :‬قال أبو جعفر الباقر ‪ :‬والله ما اقتصر‬ ‫هم أض ّ‬
‫على تشبيههم بالنعام ‪ ،‬حتى جعلهم أضل سبيل ً منها ‪ ،‬فن هدى النثى من‬
‫السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياما ً تهرب به من الذر والنمل ‪،‬‬
‫لنها تضعه كقطعة من لحم ‪ ،‬فهي تخاف عليه الذر والنمل ‪ ،‬فل تزال ترفعه‬
‫وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد ‪.‬‬
‫ن علمك هذا كله ‪ ،‬وإنما يعرف‬ ‫م ّ‬‫وقال ابن العرابي ‪ :‬قيل لشيخ من قريش ‪َ :‬‬
‫مثله أصحاب التجارب والتكسب ؟ قال ‪ :‬علمني الله ما علم الحمامة تقلب‬
‫بيضها حتى تعطي الوجهين جميعا ً نصيبهما من حضانتها ‪ ،‬ولخوف طباع‬
‫الرض على البيض إذا استمر على جانب واحد ‪.‬‬
‫ن علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى‬ ‫م ْ‬
‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫ن علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ‪ ،‬ثم‬ ‫م ْ‬
‫تظفر بها ؟ قال ‪ِ :‬‬
‫تصعد ‪ ،‬ثم تسقط مرارا ً عديدة ‪ ،‬حتى تستمر صاعدة ‪.‬‬
‫ن علمك البكور في حوائجك أول النهار ل تخل به ؟ قال ‪ :‬من‬ ‫م ْ‬
‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫ً‬
‫علم الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها ‪ ،‬ل‬
‫تسأم ذلك ‪ ،‬ول تخاف ما يعرض لها في الجو والرض ‪.‬‬

‫) ‪(1/73‬‬

‫ن علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك ‪ ،‬فإذا‬ ‫م ْ‬ ‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫سّنورة أن‬‫ظفرت به وثبت وثوب السد على فريسته ؟ فقال ‪ :‬الذي علم ال ّ‬
‫ترصد جحر الفأرة ‪ ،‬فل تتحرك ول تتلوى ‪ ،‬ول تختلج كأنها ميتة ‪ ،‬حتى إذا‬
‫برزت لها الفأرة وثبت عليها كالسد ‪.‬‬
‫ن علمك الصبر والجلد والحتمال وعدم السكون ؟ قال ‪ :‬من‬ ‫م ْ‬ ‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫علم ابا أيوب صبره على الثقال والحمال الثقيلة ‪ ،‬والمشي والتعب وغلظة‬
‫مال وضربه ‪ ،‬فالثقل والكل على ظهره ‪ ،‬ومرارة الجوع والعطش في‬ ‫الج ّ‬
‫كبده ‪ ،‬وجهد التعب والمشقة مل جوارحه ول يعدل به ذلك عن الصبر ‪.‬‬
‫ن علمك حسن اليثار والسماحة بالبذل ؟ قال ‪ :‬من علم الديك‬ ‫م ْ‬ ‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫يصادف الحبة في الرض ‪ ،‬وهو يحتاج إليها فل يأكلها ؛ بل يستدعي الدجاج‬
‫ويطلبهن طلبا ً حثيثا ً ‪ ،‬حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها ‪ ،‬وهو مسرور بذلك‬
‫طيب النفس به ‪ ،‬وإذا وضع له الحب الكثير فّرقه هنا وها هنا ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫هناك دجاج ‪ ،‬لن طبعه قد ألف البذل والجود ‪ ،‬فهو يرى من اللؤم أن يستبد‬
‫وحده بالطعام ‪.‬‬
‫ن علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله ؟ قال ‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫وقيل لخر ‪َ :‬‬
‫من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلء عن علمها وعملها ‪ ،‬وهي أكثر‬
‫من أن تذكر ‪.‬‬
‫ن علم السد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب ‪ ،‬عفى أثر مشيته‬ ‫م ْ‬
‫و َ‬
‫ب ِذ َن َِبه ‪ ،‬ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ‪ ،‬فينفخ في‬
‫منخريه ‪ ،‬لن اللبوة تضعه جروا ً كالميت ‪ ،‬فل تزال تحرسه حتى يأتي أبوه‬
‫فيفعل به ذلك ! ‪.‬‬
‫ومن ألهم كرام السود وأشرافها أن ل تأكل إل من فريستها ‪ ،‬وإذا مر‬
‫بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !‬

‫) ‪(1/74‬‬

‫ومن علم النثى من الفيلة إذا دنا وقت ولدتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ‪،‬‬
‫لنها دون الحيوانات ل تلد إل قائمة ‪ ،‬لن أوصالها على خلف أوصال‬
‫الحيوان ‪ ،‬وهي عالية ‪ ،‬فتخاف أن تسقطه على الرض فينصدع أو ينشق ‪،‬‬
‫فتأتي ماء وسطا ً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم ‪.‬‬
‫ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون‬
‫الخر !‬
‫ن علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره ‪ ،‬والذكر من‬ ‫م ْ‬
‫و َ‬
‫ن عدوه أشد وأبعد وثبة ‪ ،‬ويدع النثى على‬ ‫النثى ‪ ،‬فيقصد الذكر مع علمه بأ ّ‬
‫ً‬
‫نقصان عدوها ؛ لّنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله ‪،‬‬
‫وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ‪ ،‬وإذا حقن الذكر لم يستطع‬
‫البول مع شدة العدو ‪ ،‬فيقل عدوه ‪ ،‬فيدركه الكلب ‪ ،‬وأما النثى فتحذف بولها‬
‫لسعة القبل وسهولة المخرج ‪ ،‬فيدوم عدوها !‪.‬‬
‫ن علمه أنه إذا كسا الثلج الرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد‬ ‫م ْ‬‫و َ‬
‫انخسف ‪ ،‬فيعلم أن تحته حجر الرانب ‪ ،‬فينبشه ‪ ،‬ويصطادها علما ً منه بأن‬
‫حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق !‬
‫ً‬
‫ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه ‪ ،‬فينام بإحداهما ‪ ،‬حتى‬
‫إذا نعست الخرى نام بها ‪ ،‬وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب ‪:‬‬
‫ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ××× بأخرى المنايا فهو يقظان نائم‬
‫ن علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ‪ ،‬فل يبقى عصفور بجوارها‬ ‫م ْ‬‫و َ‬
‫حتى يجيء ‪ ،‬فيطيرون حول الفرخ ‪ ،‬ويحركونه بأفعالهم ‪ ،‬ويحدثون له قوة‬
‫وهمة وحركة ‪ ،‬حتى يطير معهم !‬
‫قال بعض الصيادين ‪ :‬ربما رأيت العصفور على الحائط ‪ ،‬فأومي بيدي كأني‬
‫أرميه فل يطير ‪ ،‬وربما أهويت إلى الرض كأني أتناول شيئا ً فل يتحرك ‪ ،‬فإن‬
‫مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي ‪.‬‬
‫ومن علم )) اللبب (( وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالرض ‪ ،‬ويجمع‬
‫نفسه ‪ ،‬فيرى الذبابة أنه له عنها ‪ ،‬ثم يثب عليها وثوب الفهد !‬

‫) ‪(1/75‬‬

‫ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة ‪ ،‬وتجعل في‬
‫أعلها خيطا ً ثم تتعلق به ‪ ،‬فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها‬
‫فاصطادتها !‬
‫ً‬
‫ومن علم الظبي أن ل يدخل كناسه إل مستدبرا ‪ ،‬ليستقبل بعينه ما يخافه‬
‫على نفسه وخشفه !‬
‫ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها‬
‫بالعود ‪ ،‬ثم يشير إليها بالرجوع ‪ ،‬وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط !‬
‫ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى‬
‫السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ‪ ،‬ويعمقه ثم يتخذ يف زواياه‬
‫أبوابا ً عديدة ‪ ،‬ويجعل بينها وبين وجه الرض حاجزا ً رقيقا ً ‪ ،‬فإذا أحس بالشر‬
‫فتح بعضها بأيسر شيء ‪ ،‬وخرج منه ‪ ،‬ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إل‬
‫عند أكمة أو صخرة علمة له على البيت ‪ ،‬إذا ضل عنه!‬
‫ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك‬
‫السمن ‪ ،‬ثم يظهر !‬
‫ن سلحه قد ذهب ‪ ،‬فيسمن‬ ‫ومن علم اليل إذا سقط قرنه أن يتوارى ‪ ،‬ل ّ‬
‫لذلك ‪ ،‬فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح ‪ ،‬وأكثر من الحركة ليشتد‬
‫لحمه ‪ ،‬ويزول السمن المانع له من العدو ‪.‬‬
‫وهذا باب واسع جدا ً ‪ ،‬ويكفي فيه قوله – سبحانه – ) وما من داب ّةٍ في الرض‬
‫م إلى‬
‫ما فّرطنا في الكتاب من شيء ث ّ‬ ‫ول طائ ِرٍ يطير بجناحيه إل ّ أمم أمثالكم ّ‬
‫شإ ِ الله‬ ‫م في ال ّ‬
‫ظلمات من ي َ َ‬ ‫م وبك ٌ‬ ‫ربهم يحشرون – واّلذين ك ّ‬
‫ذبوا ِبآَيات َِنا ص ّ‬
‫ط مستقيم ٍ ( ] النعام ‪. [ 39-38 :‬‬ ‫يضلله ومن يشأ يجعله على صرا ٍ‬
‫وجه المماثلة بين الحيوانات وبني النسان ‪:‬‬
‫قال ابن عباس في رواية عطاء ‪ ) :‬إل ّ أمم أمثالكم ( ] النعام ‪، [ 38 :‬‬
‫ويريد ‪ :‬يعرفونني ‪ ،‬ويوحدونني ‪ ،‬ويسبحونني ‪ ،‬ويحمدونني ‪ ،‬مثل قوله‬
‫تعالى ‪ ) :‬وإن من شيٍء إل ّ يسبح بحمده ( ] السراء ‪ ، [ 44 :‬ومثل قوله ‪:‬‬
‫ل قد‬‫تك ّ‬ ‫سماوات والرض وال ّ‬
‫طير صافا ٍ‬ ‫ن الله يسبح له من في ال ّ‬‫) ألم تر أ ّ‬
‫علم صلته وتسبيحه ( ] النور ‪. [ 41 :‬‬

‫) ‪(1/76‬‬

‫سماوات‬ ‫ن الله يسجد له من في ال ّ‬ ‫ويدل على هذا قوله تعالى ‪ ) :‬ألم تر أ ّ‬


‫دواب (‬‫شجر وال ّ‬‫شمس والقمر والّنجوم والجبال وال ّ‬ ‫ومن في الرض وال ّ‬
‫سماوات وما في الرض من‬ ‫] الحج ‪ [ 18 :‬وقوله ‪ ) :‬ولله يسجد ما في ال ّ‬
‫داب ّةٍ والملئكة وهم ل يستكبرون ( ]النحل ‪ ، [ 49 :‬ويدل عليه قوله تعالى ‪) :‬‬
‫طير ( ] سبأ ‪ ، [ 10 :‬ويدل عليه قوله ‪ ) :‬وأوحى رّبك‬ ‫يا جبال أّوبي معه وال ّ‬
‫ة يا أّيها الّنمل ( ] النمل ‪:‬‬
‫إلى الّنحل ( ] النحل ‪ ، [ 68 :‬وقوله ‪ ) :‬قالت نمل ٌ‬
‫طير ( ] النمل ‪. [ 16 :‬‬ ‫‪ ، [ 18‬وقول سليمان ) عُّلمنا منطق ال ّ‬
‫وقال مجاهد ‪ :‬أمم أمثالكم ‪ ،‬أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ‪ ،‬وقال الزجاج ‪:‬‬
‫أمم أمثالكم في أنها تبعث ‪.‬‬
‫وقال ابن قتيبة ‪ :‬أمم أمثالكم في طلب الغذاء ‪ ،‬وابتغاء الرزق ‪ ،‬وتوقي‬
‫المهالك ‪.‬‬
‫وقال سفيان بن عيينة ‪ :‬ما في الرض آدمي إل وفيه شبه من البهائم ‪ ،‬فمنهم‬
‫من يهتصر اهتصار السد ‪ ،‬ومنهم من يعدو عدو الذئب ‪ ،‬ومنهم من ينبح نباح‬
‫الكلب ‪ ،‬ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ‪ ،‬ومنهم من يشبه الخنازير التي‬
‫لو ألقي عليها الطعام الطيب عافته ‪ ،‬فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه ‪،‬‬
‫فلذلك تجد من الدميين من لو سمع خمسين كلمة لم يحفظ واحدة منها ‪،‬‬
‫وإن أخطأ رجل تّرواه وحفظه ‪.‬‬
‫قال الخطابي ‪ :‬ما أحسن ما تأول سفيان هذه الية واستنبط منها هذه‬
‫الحكمة ‪ ،‬وذلك أن الكلم إذا لم يكن حكمه مطاوعا ً لظاهره وجب المصير‬
‫إلى باطنه ‪ ،‬وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين النسان وبين كل طائر‬
‫ودابة ‪ ،‬وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة ‪ ،‬وعدم من جهة النطق‬
‫والمعرفة ‪ ،‬فوجب أن يكون منصرفا ً إلى المماثلة في الطباع والخلق ‪.‬‬

‫) ‪(1/77‬‬

‫والله – سبحانه – قد جعل بعض الدواب كسوبا ً محتال ً ‪ ،‬وبعضها متوكل ً غير‬
‫محتال ‪ ،‬وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ‪ ،‬وبعضها يتكل على الثقة‬
‫بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقا ً مضمونا ً وأمرا ً مقطوعا ً ‪ ،‬وبعضها ل‬
‫يعرف ولده ألبتة ‪ ،‬وبعض الناث تكفل ولدها ل تعدوه ‪ ،‬وبعضها تضيع ولدها ‪،‬‬
‫وتكفل ولد غيرها ‪ ،‬وبعضها ل تعرف ولدها إذا استغنى عنها ‪ ،‬وبعضها يدخر ‪،‬‬
‫وبعضها ل تكسب له ‪ ،‬وبعض الذكور يعول ولده ‪ ،‬وبعضها ل تزال تعرفه‬
‫وتعطف عليه ‪.‬‬
‫وجعل بعض الحيوانات ُيتمها من ِقبل أمهاتها ‪،‬وبعضها ُيتمها من قبل آبائها ‪،‬‬
‫وبعضها ل يلتمس الولد ‪ ،‬وبعضها يستفرغ الهم في طلبه ‪ ،‬وبعضها يعرف‬
‫الحسان ويشكره ‪ ،‬وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ً ‪ ،‬وبعضها يؤثر على نفسه ‪،‬‬
‫وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحدا ً يدنو منه ‪.‬‬
‫وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ‪ ،‬وبعضها يستوحش منهم ‪ ،‬وينفر غاية‬
‫النفار ‪ ،‬وبعضها ل يأكل إل الطيب ‪ ،‬وبعضها ل يأكل إل الخبائث ‪ ،‬وبعضها‬
‫يجمع بين المرين ‪.‬‬
‫وبعضها ل يؤذي إل من بالغ في أذاها ‪ ،‬وبعضها يؤذي من ل يؤذيها ‪ ،‬وبعضها‬
‫حقود ل ينسى الساءة ‪ ،‬وبعضها ل يذكرها ألبتة ‪ ،‬وبعضها ل يغضب ‪ ،‬وبعضها‬
‫يشتد غضبه ‪ ،‬فل يزال يسترضى حتى يرضى ‪ ،‬وبعضها عنده علم ومعرفة‬
‫بأمور دقيقة ل يهتدي إليها أكثر الناس ‪ ،‬وبعضها ل معرفة له بشيء من ذلك‬
‫ألبتة ‪ ،‬وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ‪ ،‬وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده‬
‫‪ ،‬وبعضها يقبل التعليم بسرعة ‪ ،‬وبعضها مع الطول ‪ ،‬وبعضها ل يقبل ذلك‬
‫بحال ‪.‬‬

‫) ‪(1/78‬‬

‫وهذا كله من أدل الدلئل على الخالق لها سبحانه ‪ ،‬وعلى إتقان صنعه ‪،‬‬
‫وعجيب تدبيره ‪ ،‬ولطيف حكمته ‪ ،‬فإن فيما أودعها من غرائب المعارف ‪،‬‬
‫وغوامض الحيل ‪ ،‬وحسن التدبير ‪ ،‬والتأني لما تريده ‪ ،‬ما يستنطق الفواه‬
‫بالتسبيح ‪ ،‬ويمل القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ‪ ،‬وما يعلم به كل‬
‫عاقل أنه لم يخلق عبثا ً ‪ ،‬ولم يترك سدى ‪ ،‬وأن له – سبحانه – في كل‬
‫مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا ً قاطعا ً ‪ ،‬يدل على أنه رب كل شيء‬
‫ومليكه ‪ ،‬وأنه المتفرد بكل كمال دون خلقه ‪ ،‬وأنه على كل شيء قدير ‪،‬‬
‫وبكل شيء عليم ‪.‬‬
‫‪ -16‬هداية الخالق الكائنات لطريقة التكاثر‬
‫يقول الدكتور يوسف عز الدين موضحا ً هذا الموضوع ‪ " :‬من الشياء العجيبة‬
‫التي تشترك فيها جميع الكائنات الحية القدرة على التكاثر ‪ ،‬لتكوين ذرية‬
‫يكون من شأنها الستمرار بالحياة ‪ ،‬واستمرار بقاء النوع وعدم انقراضه ‪.‬‬
‫وتتم عملية إنجاب الذرية في الكائنات الحية المختلفة بطرق شتى ‪ ،‬ولكّنها‬
‫تصل إلى الهدف المنشود ‪) .‬فالبكتريا( )وهي من النباتات( تتكاثر ‪ ،‬وكذلك‬
‫تفعل باقي النباتات والحيوانات على اختلف درجة فيها ‪ .‬ول يمكن من وجهة‬
‫نظر العلوم الرياضية أن تحدث مصادفات يكون من شأنها إيجاد ذكر أو أنثى‬
‫في آلف من النباتات والحيوانات لهدف مرسوم ومحدد وهو إنجاب ذرية‬
‫تبقى بعد الفناء ‪.‬‬
‫ومن الحيوانات والنباتات ما ل يتميز فيها ذكر وأنثى ‪ ،‬ومع ذلك فإّنها تتكاثر‬
‫وتنجب ذرية ‪ ،‬فحيوان صغير الحجم أّولي مثل حيوان )الميبا( الذي يعيش‬
‫ن‬
‫كون جسمه من خلية واحدة يتكاثر بطريقة عجيبة ‪ ،‬إذ إ ّ‬ ‫في الماء والم ّ‬
‫الحيوان الواحد ينقسم إلى قسمين ‪ ،‬وكل قسم يتحول إلى حيوان ‪،‬‬
‫والحيوانات المتكونة من النقسام تنقسم بدورها إلى حيوانين وهكذا ‪...‬‬
‫يحدث هذا عندما تكون ظروف الحياة ملئمة وعادية ‪.‬‬

‫) ‪(1/79‬‬
‫ما إذا شعر هذا الحيوان بما ينذر بالخطر فإّنه يتحوصل ؛ أي يفرز حول‬ ‫أ ّ‬
‫جسمه حوصلة ‪ ،‬وينقسم إلى حيوانين ‪ ،‬بل عشرات الحيوانات داخل‬
‫الحوصلة ؛ لكي يعوض الوقت الذي قد يضيع هباء داخل الحوصلة إلى حين‬
‫رجوع الظروف الملئمة لحياته ‪.‬‬
‫ويحدث التكاثر عن طريق النقسام في الحيوانات أولية عديدة غير ) الميبا (‬
‫مثل الحيوان المسمى ‪) :‬البراميسيوم( وهو يعيش في الماء ‪ ،‬ويتكاثر أيضا ً‬
‫بالنقسام الثنائي في الظروف الملئمة كما تنقسم )الميبا( ‪ ،‬ولكنه من آن‬
‫لخر يحتاج إلى تجديد نشاطه وحيويته ‪ ،‬فيلجأ إلى طريقة أخرى للتكاثر بالغة‬
‫التعقيد يكون من شأنها تجنيد الّنوى ) ولكل خلية نواة كما هو معلوم ( حيث‬
‫ينجب كل فرخ في هذه الحالة أربعة أفراد بدل ً من انقسام حيوان إلى‬
‫حيوانين فقط ‪.‬‬
‫وفي الحيوانات الرقى من هذه الحيوانات الولية ‪ ،‬إذا كانت ظروف الحياة‬
‫ن الحيوان في هذه‬ ‫تحول دون سهولة التقاء النثى بالذكر لنجاب الذرية ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الحالة يصبح أنثى ذكرا ً في الوقت نفسه ‪ ،‬أي يصبح خنثى حيث يضم جسمه‬
‫أعضاء التناسل النثوية والذكرية جنبا ً إلى جنب ‪ ،‬فيستطيع بذلك أن ينجب‬
‫ذريته دون حاجة إلى انتظار فرصة التقاء الجنسين ‪ ،‬يحدث هذا مثل ً في‬
‫الدودة الكبدية التي تعيش في القنوات المرارية لبعض الحيوانات حيث‬
‫يصعب على أحد الجنسين التنقل والتجول في هذا المكان الضيق للعثور على‬
‫الجنس الخر ‪ ،‬وفي الوقت نفسه إذا حدث أن التقى حيوانان من هذه‬
‫الديدان من الممكن أن يلقح أحدهما الخر حيث يصبح أحدهما وكأنه أنثى ‪،‬‬
‫ويصبح الخر وكأنه ذكر ‪.‬‬
‫إن حدوث مليين المصادفات في آن واحد لهدف معين مشترك وفي‬
‫حيوانات مختلفة وبوسائل متباينة شيء ل يقره العلم ‪ ،‬ول تقره علوم‬
‫الرياضيات ‪ ،‬وفي هذه الحالة ل بد ّ أن يسلم بوجود قوة خالقة عاملة وراء هذا‬
‫كله ‪.‬‬

‫) ‪(1/80‬‬

‫ومنذ وجود أول حيوان ثديي على هذه الرض ‪ ،‬والنثى مزودة بمصنع لنتاج‬
‫اللبن ‪ ،‬وذلك لكي يضمن الصغير الحصول على غذائه بمجرد خروجه من بطه‬
‫أمه ‪ ،‬ولو لم يجد هذا الثدي الذي يبرز من جسم الم منذ أول حيوان ثديي‬
‫لما أتيحت فرصة النمو والبقاء على قيد الحياة لول مولود ‪ ،‬أي أنها عملية‬
‫مدبرة ومقدرة منذ البداية ‪ ،‬ول تخضع للتجربة والخطأ ‪ ،‬إذ أنها ل تحتمل‬
‫الخطأ مرة واحدة ‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يتصور أيّ إنسان عاقل أن تزويد الم بطعام الصغير المولود‬
‫يأتي نتيجة مصادفة عمياء ؟ ولبن أنثى الحيوانات الثديية – علوة على فائدته‬
‫الغذائية – نجده مزودا ً بمواد تحمل للمولود مناعة ضد المراض إلى أن يشب‬
‫عن الطوق ‪ ،‬ويمكن جسمه من الدفاع عن نفسه ‪ .‬وجميع الجهود التي‬
‫تضافرت لصنع اللبان اللزمة لتغذية الصغار فشلت في صنع اللبان التي‬
‫تحمل نفس صفات اللبن الذي أمد الله به النثى " ‪.‬‬
‫أهمية الغريزة الجنسية ‪:‬‬
‫ويحدثنا الدكتور يوسف عن الغريزة الجنسية وأهميتها وعظيم أثرها فيقول ‪:‬‬
‫" ومن الشياء التي حيرت العلماء كنه الغريزة الجنسية ‪ ،‬تلك الغريزة التي‬
‫تجعل الذكر ينجذب إلى النثى ‪ ،‬والنثى تنجذب إلى الذكر ‪.‬‬
‫والغريزة الجنسية هي أقوى الغرائز ؛ لنها أهما بالنسبة لبقاء النوع وعدم‬
‫انقراضه ‪ ،‬والهدف الرئيسي لبقاء بعض الحيوانات هو إتمام اللتقاء‬
‫الجنسي ‪ ،‬ثم يموت بعد ذلك ‪.‬‬
‫فالطور الكامل للحشرات المسماة )ذباب مايو( ‪ ،‬ل يزيد عن بضعة أيام ‪،‬‬
‫وهي في طورها الكامل هذا ل تتغذى إذ ل توجد بها أجزاء للفم تصلح لتناول‬
‫الطعام إطلقا ً ‪ ،‬وإنما وظيفتها الرئيسية في هذه الفترة القصيرة من العمر‬
‫هي التقاء الذكر بالنثى لنجاب الذرية ‪ ،‬حيث تموت الم بعد ذلك مباشرة بعد‬
‫أن تكون أّدت رسالتها وكذلك يموت الب ‪.‬‬
‫‪ -17‬هداية الخالق تعويض ما يفقده من أجزاء جسمه‬

‫) ‪(1/81‬‬

‫ويتعرض الدكتور يوسف في مقالته في جريدة الهرام عما زود الله به‬
‫مخلوقاته من خاصية تعويض الحيوان عما يفقده من أجزاء جسده فيقول ‪" :‬‬
‫ومن الصفات الخرى المذهلة التي نجدها في جميع الحيوانات والنباتات‬
‫القدرة على تعويض الجزاء المفقودة ‪ ،‬وتوجد بدرجات مختلفة في الكائنات‬
‫الحية ‪.‬‬
‫ففي حيوانات عديدة مثل ذلك الحيوان المسمى ))الهيدرا(( نجد شيئا ً عجيبا ً‬
‫يكتفي العلم بوصفه ‪ ،‬ولكّنه ل يستطيع له تفسيرا ً ‪ ،‬هذا الحيوان يعيش في‬
‫الماء ‪ ،‬وهو أنبوبي الشكل ل يزيد طوله عن بضعة مليمترات ‪ ،‬ذو قاعدة‬
‫مقفلة وفتحة أمامية تستخدم كفم لدخول الطعام ‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫تستعمل كفتحة )) است (( تخرج منها الفضلت ‪ .‬وحول تلك الفتحة نجد عددا ً‬
‫من الزوائد المجوفة ‪ ،‬يتصل تجويفها بتجويف الجسم ‪.‬‬
‫إذا قطعنا هذا الحيوان إلى نصفين ‪ ،‬نصف علوي ‪ ،‬ونصف سفلي ‪ ،‬فإننا نجد‬
‫ن بعض الخليا في كل نصف تتكاثر بحث تستكمل الجزاء الناقصة ‪ ،‬فتكون‬ ‫أ ّ‬
‫النتيجة تكوين حيوانين يشبهان الحيوان الصلي ‪ ،‬ول يقتصر المر على ذلك ‪،‬‬
‫ن كل جزء ينمو ويعوض‬ ‫إذ أننا لو قطعنا ذلك الحيوان ‪ ،‬إلى عدة أجزاء فإ ّ‬
‫جميع الجزاء المفقودة ‪ ،‬ويصبح حيوانا ً كامل التكوين ‪.‬‬
‫ويتركب جدار الجسم لهذا الحيوان من طبقتين من الخليا ‪ :‬طبقة خارجية‬
‫وطبقة داخلية تحيط بالتجويف الداخلي للجسم ‪ ،‬وفي كل طبقة من‬
‫الطبقتين توجد أنواع مختلفة من الخليا لكل نوع منها وظيفة محددة ‪،‬‬
‫ومعظم خليا الطبقة الخارجية وظيفتها الساسية حماية جسم الحيوان ‪ ،‬أما‬
‫الطبقة الداخلية فوظيفتها الرئيسة هضم الغذاء الذي يبتلعه الحيوان من خلل‬
‫فتحة الفم ‪.‬‬

‫) ‪(1/82‬‬

‫ن الخليا التي كانت خارجية‬‫ولو قلبنا ذلك الحيوان كما يقلب الجورب ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تصبح داخلية ‪ ،‬أي تحيط بتجويف الجسم ‪ ،‬بينما الخليا التي كانت داخلية‬
‫تصبح خارجية ‪ ،‬فماذا يحدث في هذه الحالة ؟ لقد وجد العلماء الذين أجروا‬
‫هذه التجارب أن الخليا التي أصبحت الن خارجية تهاجر نحو الداخل ‪ ،‬بينما‬
‫الخليا التي أصبحت داخلية تهاجر نحو الخارج لكي يعود تركيب الحيوان إلى‬
‫ما كان عليه ‪ ،‬ولو لم يحدث ذلك لمات الحيوان ‪ ،‬إذ إن الخليا التي تحيط‬
‫بتجويف الجسم ل بد ّ أن تكون الخليا الهاضمة ‪ ،‬لتتم عملية هضم المواد‬
‫الغذائية التي في تجويف الجسم ‪ ،‬بينما الخليا الخارجية ل بد ّ أن تكون الخليا‬
‫الوقائية التي تحفظ الجسم وتقيه من التلف ‪.‬‬
‫ن كل جزء ينمو ‪ ،‬ويعوض الجزء‬ ‫وإذا قطعنا دودة الرض إلى جزءين ‪ ،‬فإ ّ‬
‫المفقود ‪.‬‬
‫وفي حيوانات أخرى ) كالجمبري ‪ ،‬أو الكابوريا ( وغيرهما إذا فقدت إحدى‬
‫ن رجل ً جديدة تتكون بدل ً من المفقودة ‪.‬‬‫الرجل فإ ّ‬
‫ً‬
‫والبرص إذا استشعر خطرا أو أمسكه من ذنبه إنسان أو حيوان فإنه يفصل‬
‫ذلك الذنب عن جسمه ‪ ،‬وينجو من الخطر ‪ ،‬وينمو له ذنب جديد ‪.‬‬
‫ونحن إذا جرحنا أنفسنا في أثناء الحلقة أو لي سبب آخر ‪ ،‬فإن خليا جديدة‬
‫تتكون بدل ً من الخليا التي أتلفها الجرح ‪ ،‬ولو لم يحدث ذلك لما أصبح في‬
‫المكان إجراء أية عملية جراحية ‪.‬‬
‫ن خليا جديدة تتكون ويلتئم الكسر ‪.‬‬ ‫وإذا كسرت لنا عظمة فإ ّ‬
‫ل يمكن أن يحدث هذا نتيجة للمصادفة ‪ ،‬بل ل بد ّ أن يكون نتيجة تدبير يتجه‬
‫نحو هدف معين ‪ ،‬وهو المحافظة على حياة الفرد ‪ ،‬وتحكمه قوى كامنة في‬
‫الحيوان لم يتوصل العلم إلى كنهها ‪ ،‬إنها قوى أودعها الله في الحيوان ‪،‬‬
‫والحيوان ل يعلم عنها شيئا ً ‪ ،‬ول يدرك ماذا يفعل " ‪.‬‬
‫‪ -18‬اتفاق جميع الحياء في التنفس وإن اختلفت طرائقه‬

‫) ‪(1/83‬‬

‫ويعرض الدكتور يوسف في مقالته القيمة لهذا الموضوع ‪ ،‬فيقول ‪ " :‬إن‬
‫عملية التنفس التي نجدها في جميع الكائنات الحية من أدناها إلى أرقاها‬
‫عملية عجيبة ‪ ،‬وهي في جميع الحالت ليست سوى عملية أكسدة ‪ ،‬أي اتحاد‬
‫الكسجين بالمواد الغذائية التي في خليا الجسم ‪ ،‬ونتيجة لهذه الكسدة‬
‫تنطلق طاقة اللزمة للكائن الحي التي لولها ما استطاع القيام بأيّ نشاط‬
‫من أنشطته المختلفة ‪.‬‬
‫تتم هذه الكسدة في الحيوانات المختلفة بطرق متباينة ‪ ،‬ولكن النتيجة في‬
‫جميع الحوال واحدة ‪ ،‬وهي انطلق الطاقة ‪ ،‬وفي الوقت نفسه يتكون الماء‬
‫) وثاني أكسيد الكربون ( نتيجة لهذه العملية ‪ ،‬ولذا فالمظهر الواضح لعملية‬
‫التنفس هو أخذ )الكسجين( اللزم )لكسدة( المواد الغذائية وبإخراج )ثاني‬
‫أوكسيد الكربون( والماء الناتجين عن هذه العملية ‪.‬‬
‫ففي حيوان بسيط )كالميبا( حيث يتكون الجسم من خلية واحدة ‪ ،‬تتم عملية‬
‫ن هذا الحيوان الذي يشبه قطعة دقيقة‬ ‫التنفس بطريقة غاية في البساطة ‪ ،‬إ ّ‬
‫من )الجيلتين( الرخو يعيش في الماء ‪ ،‬ويوجد بالماء المحيط به قدر من‬
‫)الوكسجين( المذاب ‪ ،‬هذا )الوكسجين( الذائب في الماء ينفذ إلى جسم‬
‫)الميبا( حيث يؤكسد المواد الغذائية التي في جسمها ‪ ،‬فتنطلق الطاقة‬
‫اللزمة لحركتها ونموها ‪ ،‬وغيرها من العمليات الضرورة للحياة ‪.‬‬
‫ويتكون )ثاني أوكسيد الكربون( والماء نتيجة لعملية )الكسدة( ‪ ،‬علوة على‬
‫انطلق الطاقة ‪.‬‬
‫وتتخلص )الميبا( من الماء الزائد بطريقة تثير الدهشة ‪ ،‬حيث تتجمع قطيرات‬
‫الماء حتى تتكون فجوة مليئة بالماء ‪ ،‬هذه الفجوة تتحرك نحو حافة جسم‬
‫الحيوان ‪ ،‬ثم تنفجر ملقية بالماء خارج الجسم ‪ ،‬ثم تعود لتتكون من جديد ‪...‬‬
‫وهكذا ‪.‬‬
‫أما ثاني )أوكسيد الكربون( فينفذ من داخل الجسم إلى الماء المحيط به ‪.‬‬

‫) ‪(1/84‬‬

‫وتحدث عملية التنفس في الحشرات عن طريق فتحات على جانبي الجسم‬


‫توصل إلى شبكة من النابيب الدقيقة تتفرع داخل جسم الحشرة إلى أنابيب‬
‫أصغر فأصغر ‪ ،‬حتى تصل في النهاية إلى جميع الخليا تقريبا ً ‪ ،‬وبهذا التنظيم‬
‫يدخل )الوكسجين( من الفتحات الخارجية ‪ ،‬ويصل مباشرة إلى خليا‬
‫الجسم ‪.‬‬
‫ن )الوكسجين( يصل إلى‬ ‫ما في النسان وفي عديد من الحيوانات الخرى فإ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫أنسجة الجسم عن طريق الخليا الدموية الحمراء التي تسبح في الدم ‪،‬‬
‫ويوجد بداخل هذه الخليا الدموية المادة المسماة )بالهيموجولبين( ‪.‬‬
‫ومن الخواص العجيبة لهذه المادة سرعة اتحادها ) بالوكسجين ‪ ،‬وثاني‬
‫أوكسيد الكربون ( والقدرة على النفصال عنهما بسهولة ‪ .‬فإذا وصلت هذه‬
‫الخليا الدموية إلى الرئتين ‪ ،‬فإنها تتحمل الوكسجين ‪ ،‬وتسير مع الدورة‬
‫الدموية حتى تصل إلى الشعيرات الدموية الدقيقة التي في النسجة ‪،‬‬
‫فينفصل الوكسجين عنها وينفذ إلى النسجة من خلل الجدران الرقيقة‬
‫للشعيرات الدموية حيث يستخدم )لكسدة( المواد الغذائية ‪ ،‬وينفذ إليها من‬
‫النسجة ) ثاني أوكسيد الكربون ( الناتج من عملية ) الكسدة ( الذي تحمله‬
‫إلى الرئتين حيث ينفصل عن ) الهيموجلوبين ( ‪ ،‬ويتخلص منه الجسم عن‬
‫طريق الزفير ‪ ،‬ثم يتحمل من جديد )بالوكسجين( ‪...‬وهكذا ‪.‬‬
‫ويحدث التنفس بوسائل عديدة في الحيوانات المختلفة ‪ ،‬ولكن النتيجة في‬
‫جميع الحالت واحدة ‪ ،‬وهي وصول )الوكسجين( إلى خليا الجسم ‪،‬‬
‫والتخلص من ) ثاني أوكسيد الكربون( ‪.‬‬
‫وهذا يدل دللة قاطعة على شيئين ‪:‬‬
‫ن هذا التقدير الدقيق ل بد أن يكون من فعل خالق مدبر مقدر ‪ ،‬إذ‬ ‫الول ‪ :‬أ ّ‬
‫إّنه ل يمكن أن يحدث شيء بطرق مختلفة ‪ ،‬ليؤدي لنتيجة واحدة عن طريق‬
‫المصادفة ‪.‬‬
‫ن الخالق واحد أحد ‪ ،‬إذ أن أسلوب الخلق مبني على‬ ‫والشيء الثاني ‪ :‬أ ّ‬
‫أساس واحد ‪ ،‬ويؤدي إلى نتيجة واحدة ل تتغير " ‪.‬‬
‫‪ -19‬حصول الحياء على الغذاء بطرق مختلفة‬

‫) ‪(1/85‬‬

‫ويحدثنا الدكتور يوسف عن هذا الموضوع فيقول ‪ " :‬وجميع الكائنات الحية‬
‫نباتات وحيوانات ل بد ّ أن تتغذى ‪ ،‬وتتغذى النباتات بطريقة تختلف تمام‬
‫الختلف عن طريقة تغذية الحيوانات ‪ ،‬فالنباتات ثابتة في مكانها ‪ ،‬ل يمكنها‬
‫أن تتحرك لتحصل على غذائها كما يفعل الحيوان ‪ ،‬ولذا فهي تصنع غذاءها‬
‫وهي مغروسة في مكانها مستخدمة في ذلك الطاقة الشمسية ‪.‬‬
‫ما الحيوان فيحصل على غذائه جاهزا ً من مواد نباتية أو حيوانية ‪ ،‬والغذاء‬ ‫أ ّ‬
‫الذي يتناوله الحيوان ل بد ّ أن يهضم ليمتصه الجسم ويستفيد منه ‪ ،‬وعمليات‬
‫الهضم عمليات بالغة التعقيد من شأنها تحويل المواد المعقدة التركيب إلى‬
‫مواد بسيطة التركيب يستطيع الجسم امتصاصها والفادة منها ‪.‬‬
‫والمواد الغذائية قد تكون دهنية أو بروتينية أو نشوية ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬
‫وكل نوع من الغذاء يقوم بهضمه أنزيم معين يؤثر في مادة بعينها ‪ ،‬ول يؤثر‬
‫في المواد الخرى الموجودة معها جنبا ً إلى جنب ‪ ،‬فأنزيم يؤثر في المواد‬
‫الدهنية ‪ ،‬ول يؤثر في المواد البروتينية ‪ ،‬وآخر يؤثر في المواد البروتينية ‪ ،‬ول‬
‫يؤثر في المواد الدهنية ‪.‬‬
‫ل ذلك نتيجة خبط عشواء أو مصادفة عمياء أو‬ ‫فهل من الممكن أن يحدث ك ّ‬
‫نتيجة تجارب عديدة تحتمل الخطأ والصواب ؟‬
‫ن أيّ عقل قادر على التفكير ل بد أن يدرك أن هذا من المستحيل ‪ ،‬كما‬ ‫إ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترفضه رفضا باتا نظرية الحتمالت في العلوم الرياضية ‪.‬‬
‫ففي حيوان )الميبا( الدقيق الحجم المكون من خلية واحدة تتم عملية‬
‫التغذية بطريقة غريبة ‪ ،‬إذ تمتد منه أذرع تلتف حول المادة الغذائية الموجودة‬
‫حوله في الماء ‪ ،‬والتي قد تكون حيوانا ً ضئيل الحجم أو نباتا ً وحيد الخلية‬
‫أصغر حجما ً من الميبا ‪ ،‬والمواد الغذائية في هذه الحالة قد تكون متحركة إذا‬
‫كانت حيوانا ً صغيرا ً ‪ ،‬وقد تكون ثابتة إذا كانت نباتا ً أوليا ً وحيد الخلية كبعض‬
‫الطحالب ‪.‬‬

‫) ‪(1/86‬‬

‫ن حيوان )الميبا( البسيط التركيب الذي ل يوجد به مخ أو جهاز‬ ‫ومن العجيب أ ّ‬


‫عصبي يستطيع التفرقة بين المواد الغذائية الثابتة والمواد الغذائية المتحركة ‪،‬‬
‫ن أذرع )الميبا( تمتد ّ في حذر بعيدا ً عن‬ ‫فإذا كان الغذاء حيوانا ً متحركا ً ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الذرع تمتد ّ‬ ‫الحيوان لكي ل يهرب ‪ ،‬أما إذا كان الغذاء ثابتا ً غير متحرك ‪ ،‬فإ ّ‬
‫حوله ملصقة له بل احتياط أو احتراس ‪ ،‬إن المادة الغذائية في هذه الحالة‬
‫لن تستطيع الهرب ‪ ،‬فكيف يدرك هذه الشياء حيوان ضئيل )كالميبا( – ل‬
‫خ له ول أعصاب‬ ‫تكاد تراه العين إل من خلل عدسات الميكروسكوب – ل م ّ‬
‫أو عيون أو أية أعضاء للحساس ! ‪.‬‬
‫فإذا أطبقت الذرع على المادة الغذائية أصبحت في داخل الجسم محاطة‬
‫بقطرة ماء ‪ ،‬عند ذلك يبدأ جسم )الميبا( في إفراز أنزيم هاضم حامض ليقتل‬
‫الفريسة التي التهمتها )الميبا( إذا كانت ل تزال على قيد الحياة ‪ ،‬ثم تفرز‬
‫ن أهم ) النزيمات ( وهو ) النزيم ( الذي‬ ‫) أنزيما ً قلويا ً ( ‪ ،‬ولذلك حكمة ‪ ،‬إذ إ ّ‬
‫يهضم المواد ) البروتينية ( ل يعمل إل في وسط قلوي " ‪.‬‬
‫‪ -20‬دوران الدم في جميع أجزاء أجسام الحياء‬
‫ويحدثنا الدكتور يوسف عن الدورة الدموية قائل ً ‪ " :‬والدورة الدموية في‬
‫شعب وظائف الحيوانات المختلفة تتم بطرق عديدة ‪ ،‬كما يختلف تركيب‬
‫القلب في المجموعات المختلفة للحيوانات ‪ ،‬ولكنها تؤدي إلى نتيجة واحدة ‪،‬‬
‫وهي دوران الدم في جميع أجزاء الجسم ‪.‬‬
‫وإذا تأملنا تركيب القلب والجهاز الدوري في النسان ‪ ،‬وفي عديد من‬
‫ن القلب – ذلك العضو الرائع التصميم ‪ -‬يتكون من‬ ‫الحيوانات ‪ ،‬وجدنا أ ّ‬
‫حجرات ُيوصل بعضها مع بعض فتحات ذات صمامات ‪ ،‬ووظيفة هذه‬
‫الصمامات السماح للدم بالمرور في اتجاه واحد ‪ ،‬وتمنع رجوعه في التجاه‬
‫المضاد ‪.‬‬
‫ونجد مثل هذه الصمامات في الوعية الدموية الكبرى للغرض نفسه ‪.‬‬

‫) ‪(1/87‬‬

‫وشبكة الوعية الدموية بأوردتها وشرايينها وشعيراتها الدموية تصميم مذهل ‪،‬‬
‫ن الشرايين تتفرع إلى أنابيب أصغر فأصغر ‪ ،‬حتى تصبح شعيرات دموية‬ ‫إ ّ‬
‫رقيقة الجدران ‪ ،‬والحكمة من رقة جدران الشعيرات الدموية هي إمكان‬
‫تبادل غازي )الوكسجين( من )هيموجلوبين( الكرات الدموية الحمراء ‪ ،‬وينفذ‬
‫إلى أنسجة الجسم ‪ ،‬وفي الوقت نفسه ينفذ ) ثاني أوكسيد الكربون ( من‬
‫النسجة إلى الشعيرات الدموية ‪ ،‬فتلتقطه الكرات الحمراء ‪ ،‬ثم تتجمع‬
‫الشعيرات الدموية لتكوين أوردة تحمل الدم إلى الرئتين ‪ ،‬حيث تتخلص‬
‫الكرات الدموية من ) ثاني أوكسيد الكربون ( ‪ ،‬وتلتقط ) أوكسجينا ً ( جديدا ً‬
‫وهكذا ‪.‬‬
‫والقلب ينبض نبضات إيقاعية مدى الحياة ‪ ،‬حيث تتمدد بعض حجراته وتنقبض‬
‫حجرات أخرى دافعا ً الدم النقي الحامل )للوكسجين( في الوعية الدموية ‪،‬‬
‫ومستقبل ً له بعد دورانه في الجسم محمل ً ) بثاني أوكسيد الكربون ( ‪،‬‬
‫ليرسله إلى الرئتين حيث يتحمل )الوكسجين( ‪ ،‬ويتخلص من )ثاني أوكسيد‬
‫الكربون( ‪.‬‬
‫ويتجول داخل جسم النسان ‪ ،‬وعديد من الحيوانات الخرى سوائل ذات‬
‫وظائف محددة مثل الدم ) واللمف ( ‪ .‬و )اللمف ( وسيط بين الدم والنسجة‬
‫‪ .‬وللدم وظائف عديدة ‪ ،‬منها توصيل المواد الغذائية إلى جميع أجزاء‬
‫الجسم ‪.‬‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫وإذا لم يوجد الدم في أجسام بعض الحيوانات كالدودة الكبدية مثل ‪ ،‬فإ ّ‬
‫تركيب الجسم في مثل هذه الحيوانات نجده مصمما ً بحيث تتم عملية نقل‬
‫الغذية وغيرها بوسائل أخرى ‪.‬‬
‫ويتكون الدم في أجسامنا وأجسام عديد من الحيوانات الخرى ‪ ،‬من سائل‬
‫يسبح فيه عدد هائل من الخليا المختلفة الشكال والوظائف نطلق عليها‬
‫أحيانا ً اسم الكرات الدموية الحمراء ‪ ،‬والكرات الدموية البيضاء ‪.‬‬

‫) ‪(1/88‬‬

‫والكرات الحمراء – كما ذكرت – ذات وظيفة تنفسية ‪ ،‬أما الكرات البيضاء‬
‫فمتعددة الشكال والوظائف ‪ ،‬بعضها ملتهم ‪ ،‬وظيفته التهام أي جرثومة‬
‫تتسرب إلى جسم النسان أو الحيوان ‪ ،‬فتلتهمها بطريقة تشبه التهام الميبا‬
‫لغذائها ‪ ،‬ونحن نستنشق من الهواء مليين الجراثيم طول النهار والليل ‪،‬‬
‫ن هذه الخليا العجيبة السابحة في الدم ‪ ،‬والتي‬ ‫ولكّننا ل نمرض ك ّ‬
‫ل يوم ‪ ،‬ل ّ‬
‫من الممكن أن تخترق تيار الدم وتنفذ إلى النسجة في حالة الطوارئ تلتهم‬
‫هذه الجراثيم وتقضي عليها ‪ ،‬ول يعترينا المرض إل إذا ضعفت مقاومة‬
‫الجسم ليّ سبب من السباب ‪ ،‬أي إذا ازداد عدد الجراثيم عن الحد ّ المألوف‬
‫"‪.‬‬
‫‪ -21‬تركيب الحواس في الحياء‬
‫ويبين لنا الدكتور يوسف أن " لمعظم الحيوانات أعضاء للحس كحاسة‬
‫البصار والشم واللمس والسمع ‪ ،‬والتركيب الساسي للعين يتشابه في جميع‬
‫الثدييات وغيرها ‪ ،‬وهو تركيب مذهل وشديد التعقيد ‪ ،‬فللعين عدسة تستقبل‬
‫الضوء ‪ ،‬وفتحة ينفذ الضوء من خللها ؛ ليخترق العدسة ‪ ،‬وتلك الفتحة التي‬
‫ينفذ منها الضوء في العين تتسع تلقائيا ً في الضوء الخافت ‪ ،‬وتضيق تلقائيا ً إذا‬
‫كان الضوء شديدا ً ‪ ،‬والحكمة من ذلك واضحة ‪ ،‬ففي حالة الضوء الخافت‬
‫ما في حالة الضوء الشديد‬ ‫تحتاج عملية البصار إلى كمية كبيرة من الضوء ‪ ،‬أ ّ‬
‫فتكفي كمية قليلة منه لكي تتضح الشياء المرئية ‪.‬‬
‫والعين ترى الشياء في ضوء خافت ‪ ،‬ولم يتمكن عقل النسان من اختراع‬
‫آلة تصوير يمكنها التقاط صور المرئيات في مثل هذا الضوء ‪.‬‬
‫ن البومة في‬
‫ن النحل قادر على رؤية الشعة فوق البنفسجية ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫وكما أ ّ‬
‫إمكانها رؤية الشعة تحت الحمراء التي ل نراها ‪ ،‬وهي أشعة حرارية ‪ ،‬ولذا‬
‫فالبومة تستطيع أن تبصر الفأر في الظلم الدامس عن طريق الشعة‬
‫الحرارية تحت الحمراء التي تشع من جسده الدافئ ‪.‬‬

‫) ‪(1/89‬‬

‫وينفذ شعاع الضوء من العدسة ليقع على الشبكية عند قاع العين ‪ ،‬وتتكون‬
‫الشبكية من تسع طبقات مختلفة ‪ ،‬ول تزيد في مجموعها عن سمك ورقة‬
‫رقيقة ‪ ،‬والطبقة التي في أقصي قاع العين تتكون من مليين من العواد‬
‫والمخروطات منتظمة في تناسب محكم يمكنها أن تميز اللوان ‪ .‬ويتولى‬
‫العصب البصري نقل هذا الحساس إلى مركز معين في المخ يترجم‬
‫الحساس إلى صورة مرئية تبصرها العين بوضوح ‪.‬‬
‫وتلك التنظيمات العجيبة للعدسات والعواد والمخروطات والعصاب ل بد ّ أن‬
‫تكون قد حدثت في وقت واحد ‪ ..‬إذ إنه إذا لم توجد جميعها معا ً في وقت‬
‫ن البصار يصبح مستحيل ً ‪ ،‬فكيف استطاعت جميع هذه العوامل أن‬ ‫واحد فإ ّ‬
‫ً‬
‫مل بعضها بعضا في وقت واحد ؟‬ ‫ُيك ّ‬
‫ن العلوم الرياضية تقول لنا ‪ :‬إن حدوث هذه الشياء دفعة واحدة عن طريق‬ ‫إ ّ‬
‫المصادفة أمر مستحيل ‪ ،‬إن آلة التصوير التلفزيونية ما هي إل محاكاة بدائية‬
‫لعملية البصار التي تتم عن طريق العين ‪ ،‬بل كل ما ابتكره الذهن البشري‬
‫من اختراعات ما هو سوى محاكاة بدائية لما هو موجود في الخلق ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت آلة التصوير البسيطة يلزمها فكر وعقل لبتكارها ‪ ،‬فهل من المعقول‬
‫أن تكون العين في النسان وغيره من الحيوانات تكونت عن طريق‬
‫المصادفة ؟‬
‫ل من هو في حاجة إلى البصار من الحيوانات خلق الله له‬ ‫نك ّ‬‫ومن العجيب أ ّ‬
‫ن تلك العيون قد تختلف في تركيبها عن عيوننا اختلفا ً‬ ‫عيونا ً يرى بها ‪ ،‬ولو أ ّ‬
‫كبيرا ً ‪ ،‬ولكّنها توصل إلى الهدف نفسه وهو البصار ‪ ،‬فنجد في دودة الرض‬
‫ل ما تحتاج إليه‬‫مثل ً خليا في جلدها ذات حساسية للنور والظلم ‪ ،‬وهذا هو ك ّ‬
‫مثل هذه الدودة التي تعيش في النفاق من الطين داخل التربة ‪.‬‬

‫) ‪(1/90‬‬
‫وللحشرات عيون تختلف في تركيبها عن عين النسان أو القرد أو البقرة أو‬
‫السلحفاة أو السمكة ‪ ،‬ولكن على الرغم من هذا الختلف إل أن الحشرات‬
‫ترى بها الشياء التي تنظر إليها ‪ ،‬واختلف الوسائل مع تشابه الهدف ل يمكن‬
‫أن يأتي عن طريق المصادفة ؛ بل يأتي نتيجة لتخطيط يقصد من ورائه‬
‫الوصول إلى هدف معين ‪.‬‬
‫ي من الحواس والدراك على قدر حاجته فالذبابة‬ ‫ل كائن ح ّ‬ ‫ولقد منح الله ك ّ‬
‫المنزلية مثل ً بحاجة إلى عين ترى بها الغذاء ‪ ،‬وتدرك أيّ حركة يقصد بها‬
‫العتداء على حياتها ؛ ولذا فقد زودها الخالق كما هي الحال في معظم‬
‫ل عين من هذه العيون مكونة‬ ‫نك ّ‬
‫الحشرات بزوج من العيون المركبة ؛ إذ إ ّ‬
‫ل وحدة من‬ ‫من مئات الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض ‪ ،‬ك ّ‬
‫ل وحدة من هذه‬ ‫هذه الوحدات المتشابهة المتراصة بعضها بجوار بعض ‪ ،‬ك ّ‬
‫الوحدات ترى نقطة من الشيء المرئي ‪ ،‬وتتجمع هذه النقط فترى الذبابة‬
‫الشيء كامل ً ‪ ،‬كما زودها خالقها بنوع آخر إضافي من العيون نسميه العيون‬
‫البسيطة ‪ ،‬إذ توجد ثلثة من هذه العيون البسيطة عند قمة رأسها ‪ ،‬وظيفتها‬
‫إدراك أّية حركة ‪ ،‬وهذه العيون هي التي تجعل المساك بالذبابة يكاد يكون‬
‫في حكم المستحيل " ‪.‬‬
‫‪ -22‬كيفية تصميم العظام والمفاصل‬
‫والعظام في أجسامنا وأجسام عديد من الحيوانات نحركها عند المفاصل ‪،‬‬
‫فتنقبض عضلت معينة وتنبسط عضلت أخرى في الوقت نفسه في توافق‬
‫عجيب ‪ ،‬فتتحرك اليد أو الساق أو الصبع وغيرها في التجاه الذي يرغب فيه‬
‫النسان أو الحيوان ‪ ،‬وتركيب المفاصل مصمم بشكل يسمح بالنزلق ‪ ،‬فل‬
‫يشعر الحيوان بأي احتكاك ‪.‬‬

‫) ‪(1/91‬‬

‫كما أن تصميم الفقرات في العمود الفقري من شأنه تحمل الضغط ‪ ،‬وتجنب‬


‫الحتكاك ‪ ،‬وترابط الفقرات مع بعضها ‪ ،‬فهو مصمم تصميما ً مذهل ً ‪ ،‬ويحيط‬
‫العمود الفقري بالحبل العصبي لحمايته ‪ ،‬كما تحمي الجمجمة المخ الذي‬
‫بداخلها ‪ ،‬وتنفذ العصاب من الحبل العصبي من خلل ثقوب بالفقرات ‪،‬‬
‫وجميع هذه التصميمات ل بد ّ أن تكون قد تكونت في وقت واحد ‪ ،‬إذ لو اختل‬
‫جانب منها لصبحت حركة الحيوان غير ممكنة ‪ ،‬فهل من المعقول أن تحدث‬
‫كل هذه الترتيبات في وقت واحد نتيجة مصادفة ؟‬
‫‪ -23‬الحكمة في تجلط الدم‬
‫ن الدم الذي يخرج من‬ ‫ومن المعروف أّنه إذا حدث جرح في أجسامنا فإ ّ‬
‫الوعية الدموية المجروحة ل يلبث أن يتجلط عند مكان الجرح ‪ ،‬وهذا تصميم‬
‫ن الدم المتجمد يقفل الوعاء الدموي المجروح ‪،‬‬ ‫مقصود له حكمته إذ إ ّ‬
‫فيوقف بذلك استمرار تدفق الدم من الجرح ‪ ،‬ولو لم يحدث هذا التجلط‬
‫دم ينزف حتى الموت ‪.‬‬ ‫لظ ّ‬
‫ل ال ّ‬
‫ن هذا التدبير مقصود من الخالق لحفظ الكائن الحي أّننا‬ ‫ما يدل على أ ّ‬ ‫وم ّ‬
‫ن النتيجة في جميع‬ ‫نجده يحدث بطرق متباينة في الحيوانات المختلفة ‪ ،‬ولك ّ‬
‫الحالت واحدة ‪ ،‬ففي معظم الحشرات إذا جرح جسم حشرة كالصرصار مثل ً‬
‫ن عددا ً من الخليا يتجمع ‪ ،‬ويكون سدادة تقفل الجرح حتى ل ينزف‬ ‫‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الدم يتجلط في بعض الحشرات كما يتجلط دمنا ‪.‬‬ ‫الدم ‪ ،‬بينما نجد أ ّ‬
‫والوصول إلى هدف معين بطرق مختلفة ‪ ..‬كما سبق أن ذكرت ‪ ...‬دليل‬
‫قاطع على وجود خالق يدبر ويقدر بشتى الطرق للتوصل إلى نتيجة معينة‬
‫يكون من شأنها حفظ الكائن الحي ‪.‬‬
‫‪ -24‬قرنا الستشعار عند البعوض‬

‫) ‪(1/92‬‬

‫ول يمكن أن يكون عن طريق المصادفة أن قرني استشعار ذكر البعوض به‬
‫شعيرات أطول من تلك التي في قرني استشعاره أنثاه ‪ ،‬وكان العتقاد فيما‬
‫ن هذه الشعيرات الطويلة مظهر من مظاهر الزينة ‪ ،‬لكي يبدو الذكر‬ ‫مضى أ ّ‬
‫جميل ً في عين النثى ‪ ،‬ولكن اتضح أّنه هذه الشعيرات التي في قرني‬
‫استشعار الذكر قادرة على التقاط أصوات خاصة تحدثها أنثى البعوض وهي‬
‫بعيدة عن الذكر بعدا ً شاسعا ً ‪ ،‬وأصوات النثى هذه ذات موجات خاصة تشبه‬
‫إلى حد كبير موجات الذاعة ‪.‬‬
‫ويحرك الذكور قرني استشعاره في شتى التجاهات كما نحرك نحن هوائي‬
‫التلفزيون لتصبح الصورة الملتقطة أكثر وضوحا ً ‪ ،‬وفي وضع خاص يلتقط‬
‫قرنا الستشعار صوت النثى واضحا ً ‪ ،‬وعن طريق زاوية قرن استشعاره‬
‫يدرك الذكر غريزيا ً مكان النثى التي تحدث الصوت ‪ ،‬فيطير نحوها بأقصى‬
‫سرعته حيث يتم التزاوج بينهما ‪.‬‬
‫ن البعوض قد منحه خالقه هذه القدرة العجيبة التي تمكنه من‬ ‫وهكذا نرى أ ّ‬
‫إدراك صوت النثى البعيدة عنه بعشرات )) المتار (( على الرغم من وجود‬
‫أصوات أخرى عديدة يموج بها الجو ‪ ،‬ولو لم يحدث ذلك لما تمكن الذكر من‬
‫العثور على النثى بسهولة ‪ ،‬ولما تمكن البعوض من البقاء جيل ً بعد جيل ‪.‬‬
‫إنها محطة استقبال إذاعي في قرني استشعاره استخدمها البعوض قبل أن‬
‫يتمكن النسان من التوصل إلى أسرار الرسال اللسلكي بمليين السنين ‪،‬‬
‫فهل يمكن أن يحدث مثل هذا عن طريق مصادفة عمياء ؟‬
‫‪ -25‬حيوانات تومض في الظلم‬
‫ومن الحشرات ما تنبعث من أنثاها أضواء تومض في الظلم ومضات ذات‬
‫تردد معين يميزها ذكر هذا النوع من الحشرات بالذات ‪ ،‬ول تختلط عليه مع‬
‫ومضات ضوئية لحشرات أخرى ذات تردد مختلف ‪ .‬عندما يرى الذكر هذه‬
‫الومضات التي ل تكاد تدركها عيوننا يطير إلى أنثاه ‪ ،‬فيحدث التزاوج ليستمر‬
‫بقاء النوع ‪.‬‬

‫) ‪(1/93‬‬

‫ن مثل هذا التنظيم والترتيب ل يمكن مطلقا ً أن‬


‫إن العلوم الرياضية تثبت أ ّ‬
‫يكون من صنع )) طبيعة (( ل عقل لها ‪ ،‬بل هو تخطيط من صنع خالق يعلم‬
‫ماذا يصنع ويرتب ويقدر أروع تقدير لبلوغ هدف معين ‪.‬‬
‫‪ -26‬عملية الهضم في الحيوان‬
‫ونحن نعلم أن تقطيع الطعام إلى أجزاء صغيرة أمر ضروري لتسهيل عملية‬
‫الهضم ‪ ،‬والسنان ذات تركيب وتنظيم متباين في الحيوانات المختلفة ‪،‬‬
‫ولكّنها تؤدي الوظيفة نفسها وهي تقطيع الطعام ‪.‬‬
‫وترتيب السنان في النسان ترتيب مذهل إذ توجد قواطع وأنياب وأضراس‬
‫ل نوع منها وظيفة معينة ‪ .‬ول توجد أسنان‬ ‫مرتبة ترتيبا ً خاصا ً يجعل لك ّ‬
‫للحيوانات التي ل تحتاج إليها ‪ ،‬كتلك التي تتغذى على السوائل حيث تزود‬
‫بوسائل خاصة لرتشاف الغذاء السائل وتوصيله إلى القناة الهضمية ‪ .‬وفي‬
‫أثناء المضغ في الحيوانات ذات السنان تفرز الغدد اللعابية إفرازها ليختلط‬
‫بالغذاء حيث تبدأ عملية هضمه ‪.‬‬
‫وفي المعدة والمعاء – كما ذكرت فيما سبق – يفرز الحيوان )أنزيمات( يؤثر‬
‫ل واحد منها في نوع معين من الغذاء ‪ ،‬ول يؤثر في النواع الخرى ‪.‬‬ ‫ك ّ‬
‫‪ -27‬تكون الجنين‬
‫وعملية تكوين الجنين في أي حيوان عملية مذهلة ‪ ،‬يكتفي العلم بملحظة‬
‫وشرح خطواتها ‪ ،‬ولكّنه يقف عاجزا ً عن معرفة كنهها ‪ ،‬والقوى التي تدفع بها‬
‫نحو هدف محدود هو تكون جنين لحيوان معين ‪.‬‬
‫تبدأ هذه العملية بانجذاب الخلية الذكرية ) الحيوان المنوي للذكر ( نحو‬
‫الخلية النثوية ) بويضة النثى ( فتتكون الخلية الملقحة ‪ ،‬وتبدأ الخلية الملقحة‬
‫بعد ذلك في النقسام بوساطة قوة عجيبة كامنة فيها ‪ ،‬فتصبح الخلية‬
‫خليتين ‪ ،‬ثم أربع خليا ‪ ،‬ثم ثماني خليا ‪ ،‬وهكذا ‪ ..‬حتى يصل عدد الخليا إلى‬
‫حد معين ‪ ،‬فتصبح على هيئة كرة جوفاء جدارها مكون من طبقة واحدة من‬
‫الخليا ‪ ،‬ثم ينغمد نصف الكرة داخل النصف الخر ‪ ،‬فتصبح ذات جدارين‬
‫خلويين ‪.‬‬

‫) ‪(1/94‬‬

‫وفي معظم الحيوانات – ومنها النسان – تتكون بين الطبقتين طبقة خلوية‬
‫ل طبقة من الطبقات‬ ‫ثالثة ‪ ،‬وتستمر الخليا في النقسام ‪ ،‬فتتكون من ك ّ‬
‫الثلث أعضاء معينة ‪.‬‬
‫فمن الطبقة الخارجية يتكون الجلد والجهاز العصبي ‪ ،‬وبعض أجزاء أخرى ‪،‬‬
‫ومن الطبقة الوسطى تتكون العضلت والعظام ‪ ،‬ومن الطبقة الداخلية‬
‫تتكون بعض أجزاء الجهاز الهضمي ‪ ،‬ويستمر انقسام الخليا ‪ ،‬حتى يتم تكوين‬
‫الجنين داخل الرحم في الحيوانات الثديية أو داخل البيضة في الحيوانات التي‬
‫تبيض ‪ ،‬وعند اكتمال تكوين الجنين يلفظ الرحم ذلك الجنين خارج الجسم في‬
‫الحيوانات الثديية ‪ ،‬ويكسر البيضة ويخرج منها في الحيوانات التي تضع بيضا ً ‪.‬‬
‫‪ -28‬تركيب الذن‬
‫وتركيب الذن في النسان وفي عدد من الحيوانات الخرى ل يمكن لي‬
‫عاقل أن يتصور حدوثه عن طريق المصادفة ‪ ،‬فللذن طبلة تستقبل الموجات‬
‫الصوتية فتتذبذب ‪ ،‬وهذه الذبذبات تؤثر في ثلث عظام دقيقة مرتبة ترتيبا ً‬
‫رائعا ً ‪ .‬والضغط على جانبي الطبلة ينبغي أن يكون متساويا ً ‪ ،‬ولهذا الغرض‬
‫تمتد أنبوبة خلف الطبلة توصل إلى تجويف النف ‪ ،‬ويصل بالجزء الداخلي‬
‫للذن عظمة تشبه القوقعة في شكلها ‪ ،‬ووظيفتها تحليل الصوت ‪ ،‬وتمييز‬
‫ن من وظيفتها أيضا ً إحداث التزان ‪ ،‬إذ لولها لما‬
‫النغام المختلفة ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫استطعنا أن نخطو خطوة واحدة دون أن نترنح ونسقط ‪.‬‬
‫وتنتقل الذبذبات بعد ذلك عن طريق العصاب إلى مركز السمع بالمخ ‪،‬‬
‫ليدرك النسان أو الحيوان سماع الصوات المختلفة بعضها عن بعض ‪ .‬هل‬
‫يمكن أن يحدث كل هذا في وقت واحد عن طريق المصادفة ؟ إن نظرية‬
‫الحتمالت في العلوم الرياضية تنفي إمكان ذلك نفيا ً قاطعا ً ‪.‬‬
‫‪ -29‬ديدان الفلريا‬

‫) ‪(1/95‬‬

‫ل على وجود‬ ‫وتحدث في الكائنات الحية أشياء عجيبة ‪ ،‬ل تعد ول تحصى ‪ ،‬تد ّ‬
‫قوة عليا ترتب وتقدر لستمرار بقاء الكائنات ‪ ،‬أشياء ل يمكن أن تحدث عن‬
‫طريق المصادفة ‪ ،‬منها مثل ً ‪ :‬ما يحدث في دورة حياة الديدان التي تسبب‬
‫المرض المسمى بمرض الفيل ‪ ،‬وهي التي نسميها ديدان )الفيلريا( ‪.‬‬
‫تغيض هذه الديدان في طورها الكامل في الوعية اللمفاوية والغدد اللمفاوية‬
‫للنسان ‪ ،‬وتسد الوعية اللمفاوية ‪ ،‬فتسبب تضخم بعض العضاء ‪ ،‬وعلى‬
‫الخص الساقين أو إحداهما ‪ ،‬حيث تصبح ساق النسان في حجم ساق‬
‫الفيل ‪.‬‬
‫وتتزاوج هذه الديدان في أثناء وجودها داخل الوعية اللمفاوية للنسان ‪،‬‬
‫وتنتج ديدانا ً صغيرة تنتقل من الوعية اللمفاوية إلى الوعية الدموية ‪ ،‬وإذا‬
‫بقيت هذه الديدان في الوعية الدموية للنسان فإنها تعجز أن إتمام دورة‬
‫حياتها إذ ل بد لها من أن تنتقل إلى جسم بعض أنواع البعوض لكي تتم تلك‬
‫الدورة ‪ ،‬وتصبح قادرة على عدوى النسان ‪ ،‬فإذا امتصت البعوضة دم إنسان‬
‫دم عددا ً من هذه الديدان الصغيرة التي تنمو داخل‬ ‫مصاب فإّنها تمتص مع ال ّ‬
‫جسم البعوض حتى يكتمل نموها ‪ ،‬وتصبح قادرة على عدوى النسان إذا‬
‫حقنتها البعوضة في دمه في أثناء عملية امتصاصها لدم النسان الذي تتغذى‬
‫عليه ‪.‬‬
‫ولقد حاول العلماء الحصول على هذه الديدان من دم المصابين بهذا المرض‬
‫ولكن جميع محاولتهم كانت تبوء بالفشل إلى أن حدث شيء عجيب ‪.‬‬
‫في إحدى الليالي كان أحد العلماء ساهرا ً في معمله حتى ساعة متأخرة من‬
‫الليل ‪ ،‬فأخذ عينة من دم إنسان مصاب وفحصها تحت الميكروسكوب ‪،‬‬
‫وفوجئ بعدد هائل من هذه الديدان في العينة التي أخذها ‪ ،‬وفي أثناء النهار‬
‫في اليوم التالي أخذ عينة من المصاب نفسه فلم يجد للديدان أثرا ً ‪ ،‬احتار‬
‫في تفسير هذه الظاهرة العجيبة ‪ ،‬لماذا توجد هذه الديدان في عينة الدم إذا‬
‫أخذها من المصاب ليل ً ‪ ،‬ول تظهر إذا أخذها نهارا ً ؟‬

‫) ‪(1/96‬‬

‫ن تلك الديدان الصغيرة تهرب إلى الوعية الدموية الداخلية في أثناء‬ ‫واتضح أ ّ‬
‫النهار ‪ ،‬ثم تعود إلى الوعية الدموية القريبة من سطح الجلد في أثناء الليل ‪،‬‬
‫ن البعوض الذي يتغذى على دم النسان في هذه‬ ‫والحكمة من ذلك هي أ ّ‬
‫ن الديدان تنتقل إلى الوعية‬
‫الماكن ل ينشط إل في أثناء الليل ؛ ولذا فإ ّ‬
‫الدموية القريبة من سطح الجلد ؛ لكي يتمكن البعوض من امتصاصها مع‬
‫الدم لتتم دورة حياتها داخل جسم البعوضة ‪ ،‬ومن الطبيعي أن هذه الديدان ل‬
‫تدرك شيئا ً ول تعلم شيئا ً عن البعوض التي ستتم دورة حياتها داخل جسمه ؛‬
‫ن هناك قوة عليا تملي عليها هذا التصرف لكي‬ ‫بل تفعل هذا عن غريزة ‪ ،‬أي أ ّ‬
‫تستمر حياتها ‪.‬‬
‫دم نهارا ً‬‫ومن العجيب أّنه في الماكن التي تنشط أنواع البعوض التي تمتص ال ّ‬
‫ن الديدان تفعل العكس ‪ ،‬حيث تبقى في الوعية الدموية‬ ‫ول تنشط ليل ً نجد أ ّ‬
‫الداخلية ليل ً ‪ ،‬وتهاجر إلى الوعية الدموية نهارا ً ‪ ،‬ليتمكن البعوض في هذه‬
‫الحالة أيضا ً من امتصاصها مع الدم ‪ ،‬فهل من الممكن أن يحدث هذا عن‬
‫طرق المصادفة ؟‬
‫‪ -30‬مغناطيسية الرض‬
‫إذا تركنا تركيب الكائنات الحية وما فيه من إعجاز تتيه فيه العقول ‪ ،‬وتأملنا‬
‫في الكون الرحب وجدنا عجبا ً ‪ ،‬أولى هذه العجائب المغناطيسية الكامنة في‬
‫الكرة الرضية ‪ ،‬وهي التي تربطنا بالرض ‪ ،‬وتمنعنا من أن نتبعثر في الفضاء‬
‫في أثناء دورانها ‪.‬‬
‫هذه المغناطيسية تختلف عن المغناطيسية التي نجدها في القضيب‬
‫ن القضيب المغناطيسي قادر على جذب بعض‬ ‫المغناطيسي ‪ ، ...‬إننا نعلم أ ّ‬
‫الشياء ‪ ،‬ولكّنه يعجز عن جذب أشياء أخرى كاللحم والورق والزجاج‬
‫ل‬‫والحجارة والرمل والماء وغيرها ‪ ، ....‬ولكن مغناطيسية الرض تجذب ك ّ‬
‫شيء ‪ ،‬تجذب أجسامنا ‪ ،‬وتجذب الزجاج والرمل والماء والحجارة والورق ‪ ،‬إذ‬
‫لو لم تجذب الرض إليها هذه الشياء لما بقي على سطحها شيء ‪.‬‬
‫‪ -31‬أحجام الجرام السماوية وأبعادها ومداراتها‬

‫) ‪(1/97‬‬

‫ولقد ذكر )فردهويل( أستاذ الفلك بجامعة لندن في كتابه ) طبيعة الكون ( أن‬
‫من الكواكب ما يبلغ حجما ً مذهل ً ل يكاد يتصوره العقل ‪ ،‬إذ تبدو الكرة‬
‫الرضية بالنسبة لحد هذه الكواكب العملقة كحبة الرمل ‪.‬‬
‫يقول العالم المريكي الكبير )كريستي موريسون( الرئيس السابق لكاديمية‬
‫ن وضع الجرام السماوية ليس مجرد مصادفة عشواء ؛‬ ‫العلوم بنيويورك ‪ " :‬إ ّ‬
‫ً‬
‫بل هي موضوعة في الفضاء بحسبان ؛ إذ إن القمر مثل لو كان أقرب إلى‬
‫الرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لصبح المد والجزر عنيفين حيث‬
‫يغرق المد جميع أجزاء اليابسة ‪ ،‬فتموت غرقا ً جميع حيوانات اليابسة نتيجة‬
‫لذلك ‪ ،‬كما أن محور الرض لو لم يكن منحرفا ً بمقدار نحو ثلث وعشرين‬
‫ون من بخار ماء‬ ‫درجة لترتب على ذلك وجود ليل دائم عند القطبين ‪ ،‬وتك ّ‬
‫المحيطات كميات هائلة من الجليد تضغط على القطبين فيتفرطح خط‬
‫الستواء ‪ ،‬ويقل هطول المطار بدرجة تجعل الحياة مستحيلة على الكرة‬
‫الرضية ‪.‬‬
‫وتبلغ سرعة دوران الرض نحو ألف ميل في الساعة ‪ ،‬فلو فرضنا أنها تدور‬
‫بسرعة مائة ميل في الساعة فقط ‪ ،‬لطال كل من الليل والنهار ‪ ،‬وترتب‬
‫على ذلك أن جميع النباتات والحيوانات تحترق نهارا ً من شدة الحرارة ‪،‬‬
‫وَتتجمد ليل ً من شدة البرد " ‪.‬‬
‫وفي كتاب ضخم للدكتور جود أستاذ الفلسفة بجامعة لندن تناول بالدراسة‬
‫ضمن ما تناوله شتى احتمالت نشأة الكون ‪ ،‬ونشأة الحياة من الوجهة‬
‫العلمية والفلسفية ‪ ،‬وخلص من هذه الدراسة المستفيضة إلى أن الكون ل بد‬
‫أن يكون نشأ نتيجة لعملية خلق رائعة ‪ ،‬وصدق الله إذ يقول ‪ ) :‬سنريهم آَيات َِنا‬
‫في الفاق وفي أنفسهم حّتى يتبّين لهم أّنه الحقّ ( ]فصلت ‪. [53 :‬‬
‫التعرف إلى الله من خلل النصوص‬
‫) مباحث الصفات والسماء (‬
‫ذكرنا أن السبيل الثاني الذي يعرفنا بالله هو النصوص القرآنية والحديثية التي‬
‫تتحدث عن الله حديثا ً مباشرا ً مبينة صفاته وأسماءه وأفعاله ‪.‬‬

‫) ‪(1/98‬‬

‫وهذا السبيل سبيل نّير مأمون العواقب ؛ لن التعرف إلى الله من خلل‬
‫كلمه وكلم رسوله ل يبقي مجال ً للشك واللتباس ‪.‬‬
‫وقد حرصنا على أن نسوق النصوص ذاتها في أكثر الموضوعات ؛ فإنها أقدر‬
‫على التعبير والتوضيح من نصوص البشر وكلمهم ‪ ،‬كما حرصت على أل‬
‫أزيف النصوص بالتأويل والتحريف كما فعل كثير من السابقين كي توافق‬
‫آراء البشر ومقاييسهم ‪ ،‬والواجب أن يغير البشر من آرائهم ومقاييسهم كي‬
‫توافق النصوص ‪.‬‬
‫المطلب الول‬
‫مدى إدراك العقل لصفات الله‬
‫صفات الله جاء بها القرآن وتحدثت عنها السنة النبوية قسمان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬ما ل يستطيع العقل النساني التعرف عليه وإدراكه بنفسه ‪ ،‬أي من‬
‫غير طريق النصوص كإثبات اليد والوجه لله ‪.‬‬
‫ل عليه بالعقل كاتصافه بالقدرة والحكمة ‪ ،‬ونحن‬ ‫الثاني ‪ :‬ما يمكن أن يستد ّ‬
‫لن نستقصي ذكر صفات الله ‪ ،‬ولكن سنذكر جملة منها توضح المراد ‪ ،‬وتحرر‬
‫المقصود ‪ ،‬وتعطي تصورا ً وافيا ً إن شاء الله تعالى ‪.‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫جملة من الصفات التي جاءت بها النصوص ) الجزء الول (‬
‫‪ -1‬لله ذات‬
‫لله – سبحانه – ذات متصفة بصفات الكمال منّزهة عن صفات النقص ‪،‬‬
‫ن له ذاتا ً ) الله ل إله إل ّ‬‫والذي يقرأ حديث القرآن عن الله يعلم علما ً قاطعا ً بأ ّ‬
‫م ( ] البقرة ‪. [ 255 :‬‬ ‫ة ول نو ُ‬
‫هو الحي القّيوم ل تأخذه سن ٌ‬
‫ً‬
‫) قل هو الله أحد – الله الصمد – لم يلد ولم يولد – ولم يكن له كفوا أحد (‬
‫]الخلص[ ‪ ،‬وعندما أراد الكفار قتل خبيب أنشد )‪: (1‬‬
‫ت أبالي حين ُأقتل مسلما ً ××× على أيّ شقّ كان لله مصرعي‬ ‫ولس ُ‬
‫وذلك في ذات الله وإن يشأ ××× يبارك على أوصال شلوٍ ممّزع‬
‫ن صفاته ل تشبه شيئا ً من صفات‬ ‫وذات الله ل تشبه ذوات المخلوقين ‪ ،‬كما أ ّ‬
‫ل مخلوق ل بد ّ أن يكون‬ ‫المخلوقين ‪ ،‬فالله هو الكمال الذي ل كمال بعده ‪ ،‬وك ّ‬
‫فيه نقص في جانب من الجوانب ‪ ،‬أدناها حاجته وفقره إلى غيره ‪.‬‬

‫) ‪(1/99‬‬

‫سميع‬ ‫يقول تعالى نافيا ً المشابهة بينه وبين خلقه ‪ ) :‬ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ‬
‫البصير ( ] الشورى ‪. [ 11 :‬‬
‫‪ -2‬نفسه سبحانه‬
‫لله تعالى نفس تليق بكماله وجلله ‪ ،‬ل تشبه نفوس المخلوقات ‪ ،‬وقد أخبرنا‬
‫الله بذلك في محكم كتابه ‪ ،‬قال تعالى ‪ ) :‬وإذا جاءك اّلذين يؤمنون ِبآَيات َِنا‬
‫م عليكم كتب رّبكم على نفسه الّرحمة أّنه من عمل منكم سوءا ً‬ ‫فقل سل ٌ‬
‫م ( ] النعام ‪. [ 54 :‬‬
‫م تاب من بعده وأصلح فأّنه غفوٌر ّرحي ٌ‬ ‫بجهالةٍ ث ّ‬
‫ص الله‬ ‫ن له نفسا ‪ ،‬وأّنه كتب على نفسه الرحمة ‪ ،‬ون ّ‬ ‫ً‬ ‫فقد أخبر – سبحانه – أ ّ‬
‫سماوات والرض قل لله كتب‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ما‬‫ّ‬ ‫لمن‬ ‫قل‬ ‫)‬ ‫على ذلك في آية أخرى‬
‫على نفسه الّرحمة ليجمعّنكم إلى يوم القيامة ل ريب فيه ( ] النعام ‪. [ 12 :‬‬
‫وقد فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا ً من هذه الكتابة ‪ ،‬ففي الحديث‬
‫ما‬
‫الذي يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬ل ّ‬
‫ن رحمتي تسبق‬ ‫قضى الله الخلق كتب كتابا ً ‪ ،‬فهو عنده فوق العرش ‪ :‬إ ّ‬
‫غضبي ( وفي رواية ) تغلب غضبي ( ‪ ،‬متفق عليه )‪ ، (2‬وإثبات النفس لله‬
‫منهج الرسل من قبل ‪ ،‬فهذا عيسى يقول لرب العزة ‪ ) :‬تعلم ما في نفسي‬
‫م الغيوب ( ] المائدة ‪ ، [ 116 :‬وقال الله‬ ‫عل ُ‬
‫ول أعلم ما في نفسك إّنك أنت ّ‬
‫م جئت على قدرٍ يا موسى – واصطنعتك لنفسي ( ] طه‬ ‫لرسوله موسى ‪ ) :‬ث ّ‬
‫‪. [ 41-40 :‬‬
‫ف بالعباد (‬ ‫ذركم الله نفسه والله َر ُ‬
‫ؤو ُ‬ ‫وقد حذرنا الحقّ نفسه فقال ‪ ) :‬ويح ّ‬
‫] آل عمران ‪. [ 30 :‬‬
‫والله يذكر عباده في عباده الذين يذكرونه في أنفسهم ‪ ،‬فقد روى البخاري‬
‫ن الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أ ّ‬
‫قال ‪ ) :‬يقول الله تعالى ‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي ‪ ،‬وأنا معه إذا ذكرني ‪ ،‬فإن‬
‫ذكرني في نفسه ‪ ،‬ذكرته في نفسي ‪ ،‬وإن ذكرني في مل ذكرته في مل خير‬
‫منهم ( ‪(3) .‬‬

‫) ‪(1/100‬‬

‫وذكر الله يرضي نفس ربنا تبارك وتعالى ‪ ،‬ففي حديث مسلم عن ابن عباس‬
‫ن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى‬ ‫عن جويرية ‪ :‬أ ّ‬
‫الصبح ‪ ،‬وهي في مسجدها ‪ ،‬ثم رجع بعد أن أضحى ‪ ،‬وهي جالسة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫) ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ ( ‪ .‬قالت ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬لقد قلت بعدك أربع كلمات ‪ ،‬ثلث مرات‬
‫‪ ،‬لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن ‪ :‬سبحان الله وبحمده ‪ ،‬عدد خلقه ‪،‬‬
‫ورضا نفسه ‪ ،‬وزنة عرشة ‪ ،‬ومداد كلماته ( ‪(4) .‬‬
‫‪ -3‬وجه ربنا سبحانه‬
‫ن‬
‫دق بذلك ونؤمن به ؛ ل ّ‬ ‫لله – سبحانه – وجه ل يشبه وجوه المخلوقين ‪ ،‬نص ّ‬
‫ص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في‬ ‫الله أخبرنا بذلك في كتابه ‪ ،‬ون ّ‬
‫أحاديثه ‪.‬‬
‫قال تعالى ‪ ) :‬ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ( ]الرحمن ‪ ، [27:‬يقول‬
‫ابن جرير عند تفسيره لهذه الية ‪ :‬و ) ذو الجلل والكرام ( من نعت الوجه ‪،‬‬
‫فلذلك رفع ) ذو ( ‪(5) .‬‬
‫ن الوصف بقوله ‪:‬‬ ‫وقد نفى بعض السابقين إثبات الوجه لله تعالى ‪ ،‬وزعموا أ ّ‬
‫ما هو للرب فالمنعوت بـ ) ذو الجلل والكرام (‬ ‫) ذو الجلل والكرام ( إن ّ‬
‫ب ل الوجه ‪.‬‬ ‫عندهم الر ّ‬
‫دعيها جاهل بلغة‬ ‫وقد رد ّ هذا الزعم المام ابن خزيمة ‪ ،‬فقال ‪ " :‬هذه دعوى ي ّ‬
‫ل وعل – قال ‪ ) :‬ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام (‬ ‫ن الله – ج ّ‬ ‫العرب ‪ ،‬ل ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فذكر الوجه مضموما في هذا الموضع مرفوعا ‪ ،‬وذكر الرب بخفض الباء‬
‫بإضافة الوجه ‪ ،‬ولو كان قوله ‪ ) :‬ذو الجلل والكرام ( مردودا ً إلى ذكر الرب‬
‫في هذا الموضع لكانت القراءة ذي الجلل والكرام مخفوضا ً ‪(6) . " ...‬‬
‫ل شيٍء هالك‬‫ومن النصوص التي جاء فيها إثبات الوجه لله قوله تعالى ‪ ) :‬ك ّ‬
‫إل ّ وجهه ( ] القصص ‪. [ 88 :‬‬
‫أثر اليمان بوجه الله تعالى‬
‫أ‪ -‬قصد وجه الله بصالح العمال‬

‫) ‪(1/101‬‬

‫إذا علمنا ما قرره الله فعلينا أن نقصد وجه ربنا بأعمالنا كما أرشد الله إلى‬
‫ل شيٍء‬ ‫ذلك في محكم كتابه ‪ ،‬فالعمل الذي ل يقصد به وجهه باطل ‪ ) :‬ك ّ‬
‫هالك إل ّ وجهه ( ] القصص ‪. [ 88 :‬‬
‫كاةٍ تريدون وجه الله‬ ‫ومن ذلك إنفاق المال ابتغاء وجهه ‪ ) :‬وما آت َي ُْتم من َز َ‬
‫فأولِئك هم المضعفون ( ] الروم ‪. [ 39 :‬‬
‫وقد وصف عباده الصالحين بأّنهم يريدون بعملهم وجهه ‪ ،‬ول شيء غير وجهه‬
‫) إّنما نطعمكم لوجه الله ل نريد منكم جزاًء و ل شكورا ً ( ] النسان ‪) ، [ 9 :‬‬
‫وما لحد ٍ عنده من نعمةٍ تجزى – إل ّ ابتغاء وجه ربه العلى ( ] الليل ‪20-19 :‬‬
‫ي يريدون وجهه (‬ ‫ش ّ‬‫داةِ َوال ْعَ ِ‬
‫[ ) واصبر نفسك مع اّلذين يدعون رّبهم ِبال ْغَ َ‬
‫] الكهف ‪. [ 28 :‬‬
‫وفي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم قال ‪ ) :‬فإن الله قد حرم على النار من قال ‪ :‬ل إله إل الله ‪ ،‬يبتغي‬
‫بذلك وجه الله ( ‪(7) .‬‬
‫ب‪ -‬الستعاذة بوجهه سبحانه‬
‫وقد فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى جابر بن عبد الله أّنه‬
‫)) لما نزلت هذه الية ‪ ) :‬قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا ً من‬
‫فوقكم ( ]النعام‪ ، [65 :‬قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أعوذ بوجهك (‬
‫فقال ‪ ) :‬أو من تحت أرجلكم ( ]النعام ‪ ، [65 :‬فقال النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ) :‬أعوذ بوجهك ( ‪ ،‬قال ‪ ) :‬أو يلبسكم شيعا ً ويذيق بعضكم بأس‬
‫ض ( ] النعام ‪ [ 65 :‬فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬هذا أيسر ( ‪) .‬‬ ‫بع ٍ‬
‫‪(8‬‬
‫وعن علي بن أبي طالب ‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‬
‫عند مضجعه ‪ ) :‬اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم ‪ ،‬وبكلماتك التامات من شّر‬
‫كل دابة أنت آخذ بناصيتها ( ‪ .‬رواه أبو داود )‪(9‬‬
‫ج‪ -‬إجابة من سألك بوجه الله‬
‫فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫ذوه ُ ‪ ،‬ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ( ‪(10) .‬‬ ‫‪ ) :‬من استعاذ بالله فأعي ِ ُ‬
‫د‪ -‬الطمع في رؤية وجه الله‬

‫) ‪(1/102‬‬

‫عن عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول ‪:‬‬
‫ً‬
‫) اللهم بعلمك الغيب ‪ ،‬وقدرتك على الخلق ‪ ،‬أحيني ما علمت الحياة خيرا لي‬
‫‪ ،‬وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا ً لي ‪.‬‬
‫اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ‪.‬‬
‫وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والّرضا ‪.‬‬
‫وأسألك القصد في الفقر والغنى ‪.‬‬
‫وأسألك نعيما ً ل يبيد ُ ‪.‬‬
‫وأسألك قرة عين ل تنقطع ‪.‬‬
‫وأسألك الرضا بعد القضاء ‪.‬‬
‫وأسألك برد العيش بعد الموت ‪.‬‬
‫وأسألك لذة النظر إلى وجهك ‪.‬‬
‫وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ‪ ،‬ول فتنة مضلة ‪.‬‬
‫اللهم زينا بزينة اليمان ‪ ،‬واجعلنا هداة مهتدين ( ‪(11) .‬‬
‫وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة المذكورة في قوله تعالى ‪:‬‬
‫) لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس ‪ [ 26 :‬بأنها النظر إلى وجه ربنا‬
‫ل ‪ ،‬ونقل القول بذلك عن أبي بكر وحذيفة ثم قال ‪ ) :‬الثار في معنى‬ ‫عّز وج ّ‬
‫هذا عن الصحابة والتابعين – رضي الله عنهم – كثيرة ( ‪(12) .‬‬
‫وروى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪) :‬‬
‫إذا دخل أهل الجنة الجنة ‪ ،‬قال ‪ :‬يقول الله تبارك وتعالى ‪ :‬تريدون شيئا ً‬
‫أزيدكم ؟ فيقولون ‪ :‬ألم تبّيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة ‪ ،‬وتنجنا من النار ؟‬
‫قال ‪ :‬فيكشف الحجاب ‪ ،‬فما أعطوا شيئا ً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عّز‬
‫م تل هذه الية ‪ ) :‬لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس ‪. [ 26 :‬‬ ‫وجل ( ث ّ‬
‫)‪(13‬‬
‫ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬جنتان‬ ‫وقد جاء في الصحيحين أ ّ‬
‫من فضة ‪ :‬آنيتهما وما فيهما ‪ ،‬وجنتان من ذهب ‪ :‬آنيتهما وما فيهما ‪ ،‬وما بين‬
‫القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إل رداُء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ( ‪.‬‬
‫)‪(14‬‬
‫حجاب وجهه تبارك وتعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/103‬‬

‫عن أبي موسى قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إن الله – عّز‬
‫ل – ل ينام ول ينبغي له أن ينام ‪ ،‬يخفض القسط ويرفعه ‪ ،‬يرفع إليه عمل‬ ‫وج ّ‬
‫ه النور ) وفي‬ ‫جاب ُ ُ‬
‫ح َ‬ ‫الليل قبل عمل النهار ‪ ،‬وعم ُ‬
‫ل النهار قبل عمل الليل ‪ِ ،‬‬
‫ت وجهه ما انتهى إليه بصره‬ ‫ت سبحا ُ‬‫رواية أبي بكر ‪ :‬النار ( لو كشفه لحرق ْ‬
‫من خلقه ( ‪(15) .‬‬
‫وهذا التردد من الراوي في لفظ الّنور والّنار ل يضّر ‪ ،‬فإن مثل هذه الّنار‬
‫مى الله نار‬ ‫الصافية التي كلم الله بها موسى يقال لها ‪ :‬نور ونار كما س ّ‬
‫المصباح نورا ً ‪ ،‬بخلف الّنار المظلمة كنار جهّنم فتلك ل تسمى نورا ‪.‬‬
‫ً‬
‫وهذه الحجب تحجب العباد عن الدراك ‪ ،‬كما قد يحجب الغمام والسقوف‬
‫عنهم الشمس والقمر ‪ ،‬فإذا زالت تجلت الشمس والقمر ‪ ،‬وليس المراد أّنها‬
‫ن الله ل يخفى عليه شيء‬ ‫تحجب الله عن الرؤية ‪ ،‬فهذا ل يقوله مسلم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫في السماء ول في الرض ‪ ،‬ولكن يحجب أنواره إلى مخلوقاته ‪ .‬كما قال ‪:‬‬
‫) لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ( فالبصر‬
‫يدرك الخلق كلهم ‪ ،‬وأما السبحات فهي محجوبة بحجابه النور أو الّنار ‪.‬‬
‫‪ -4‬لله سبحانه يدان‬
‫ً‬
‫ولله – سبحانه وتعالى – يدان تليقان بجلله وكماله ‪ ،‬ل تشبهان شيئا من‬
‫أيدي المخلوقين ‪ ،‬قال تعالى ‪ ) :‬بل يداه مبسوطتان ( ] المائدة ‪، [ 64 :‬‬
‫س ما منعك أن‬ ‫وقال مقّرعا ً إبليس حين رفض السجود لدم ‪ ) :‬قال َيا إ ِب ِْلي ُ‬
‫تسجد لما خلقت ب ِي َد َيّ ( ] ص ‪. [ 75 :‬‬
‫تمجيد الله بذكر يديه ‪:‬‬
‫وردت أحاديث عديدة فيها تمجيد الرب – تبارك وتعالى – بذكر يديه ‪ ،‬وأن‬
‫الخير فيهما ‪ ،‬فأهل الجنة يناديهم ربهم فيقول لهم ‪ ) :‬يا أهل الجّنة ‪ ،‬فيقولون‬
‫‪ :‬لبيك ربنا وسعديك ‪ ،‬والخير في يديك ( ‪(16) .‬‬
‫ً‬
‫وينادي ربنا آدم عليه السلم يوم القيامة ‪ ،‬فيقول آدم مجيبا ‪ ) :‬لبّيك وسعديك‬
‫‪ ،‬والخير كله في يديك ( ‪(17) .‬‬

‫) ‪(1/104‬‬

‫وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلة من الليل ‪:‬‬
‫) لبيك وسعديك ‪ ،‬والخير في يديك ( ‪(18) .‬‬
‫وكان من تلبية ابن عمر ‪ " :‬لبيك وسعديك ‪ ،‬والخير في يديك " ‪(19) .‬‬
‫ب يديه ‪:‬‬‫بسط الر ّ‬
‫وهو – سبحانه – كريم يبسط يديه بالعطاء والنفاق ) بل يداه مبسوطتان‬
‫ينفق كيف يشاء ( ] المائدة ‪. [ 64 :‬‬
‫كما أّنه يبسط يديه بالليل والّنهار ليتوب العباد ‪ ،‬ففي صحيح مسلم عن أبي‬
‫موسى الشعري رضي الله عنه ‪ ،‬عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬إن‬
‫الله يبسط يده بالليل ‪ ،‬ليتوب مسيء النهار ‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ‪ ،‬ليتوب‬
‫مسيء الليل ‪ ،‬حتى تطلع الشمس من مغربها ( ‪(20) .‬‬
‫الشياء التي خلقها الرحمن بيده ‪:‬‬
‫ً‬
‫ل يعجز الله شيء ‪ ،‬فإذا أراد شيئا خلقه بكلمة )كن( ‪ ،‬فيكون كما أراد ‪ ،‬إل‬
‫ل على تكريمها ‪ ،‬ورفع منزلتها ‪ ،‬وعناية الله بها ‪،‬‬ ‫أّنه خلق بيده أشياء مما يد ّ‬
‫والمخلوقات التي خلقها الله بيده ‪ ،‬وذكرها لنا في كتابه أو وردت في سنة‬
‫رسوله هي ‪:‬‬
‫أ‪ -‬آدم ‪:‬‬
‫وفي ذلك يقول تعالى لبليس ‪ ) :‬ما منعك أن تسجد لما خلقت ب ِي َد َيّ ( ]ص‪:‬‬
‫‪. [75‬‬
‫وفي حدث الشفاعة الطويل ‪ ) :‬فيأتون آدم فيقولون ‪ :‬أنت آدم أبو الناس ‪،‬‬
‫خلقك الله بيده ‪ ،‬وأسكنك جنته ( متفق عليه )‪(21‬‬
‫وفي حديث احتجاج آدم وموسى ‪ ،‬قال موسى لدم ‪ ) :‬أنت الذي خلقك الله‬
‫بيده ‪ ،‬ونفخ فيك من ُروحه ( ‪(22) .‬‬
‫فأخبر الحقّ – تبارك وتعالى – أنه خلق آدم بيده ‪ ،‬وأخبر الرسول صلى الله‬
‫ن الناس يستشفعون إلى آدم ‪ ،‬ويذكرون أعظم ما فضله الله به‬ ‫عليه وسلم أ ّ‬
‫ل الله به‬‫ض َ‬ ‫‪ ،‬وهو خلق الله له بيده ‪ ،‬وكذلك موسى عليه السلم ذكر ما فَ ّ‬
‫آدم ‪ ،‬وهو خلقه بيده ‪ ،‬وذكر هذه الخصوصية تدل على أمر امتاز به آدم عن‬
‫غيره ‪ ،‬وإل فلو كانت اليد هنا القدرة فأي فضل لدم على غيره ‪ ،‬حتى يمتدح‬
‫بذلك ‪.‬‬
‫ب‪ -‬كتب التوراة بيده ‪:‬‬
‫) ‪(1/105‬‬

‫جة بين آدم وموسى ‪ ،‬أن آدم قال‬ ‫ورد في بعض روايات حديث المحا ّ‬
‫لموسى ‪ ) :‬أنت موسى اصطفاك الله بكلمه ‪ ،‬وخط لك التوراة بيده ( )‬
‫‪ . (23‬وفي رواية في الصحيحين ‪ ) :‬اصطفاك الله بكلمه ‪ ،‬وخط لك بيده ( ‪.‬‬
‫)‪(24‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ج‪ -‬كتب بيده كتابا موضوعا عنده ‪:‬‬
‫عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬لما قضى الله الخلق‬
‫كتب كتابا ً عنده ‪ :‬غلبت – أو قال ‪ :‬سبقت – رحمتي غضبي ‪ ،‬فهو عنده فوق‬
‫العرش ( ‪.‬‬
‫وفي رواية ‪ ) :‬إن الله كتب كتابا ً قبل أن يخلق الخلق ‪ :‬أن رحمتي سبقت‬
‫غضبي ‪ ،‬فهو مكتوب عنده فوق العرش ( ‪(25) .‬‬
‫ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة بلفظ ‪ ) :‬كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن‬
‫يخلق الخلق ‪ :‬رحمتي سبقت غضبي ( ‪(26) .‬‬
‫ورد إثبات كتابة الرحمن الكتاب بيده في كتاب السنة لبن أبي عاصم ‪،‬‬
‫ولفظه ‪ ) :‬لما قضى الله تعالى الخلق كتب بيده في كتاب عنده ‪ :‬غلبت أو‬
‫قال ‪ :‬سبقت رحمتي غضبي ‪ ،‬فهو عنده فوق العرش ( أو كما قال ‪(27) .‬‬
‫د‪ -‬غرس جنة عدن بيده ‪:‬‬
‫ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬سأل‬
‫موسى ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال هو رجل يجئ بعدما أْدخل أهل الجنة‬
‫الجنة ‪ ،‬فُيقال له ‪ :‬ادخل الجنة ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أي رب ‪ ،‬وقد نزل الناس منازلهم ‪،‬‬
‫ملوك‬ ‫وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له ‪ :‬أترضى أن يكون لك مثل ملك من ُ‬
‫ه ‪ ،‬فقال‬ ‫هو ِ ُ‬
‫مثل‬ ‫مثل ُ‬
‫هو ِ‬
‫مثل ُ‬
‫ب ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لك ذلك ‪ ،‬و ِ‬ ‫تر ّ‬ ‫الدنيا ؟ فيقول ‪ :‬رضي ُ‬
‫ل ‪ :‬هذا لك ‪ ،‬وعشرة أمثاله ‪ ،‬ولك ما‬ ‫ب ‪ ،‬فيقو ُ‬ ‫في الخامسة ‪ :‬رضيت ر ّ‬
‫ب‪.‬‬‫اشتهت نفسك ‪ ،‬ولذت عينك فيقول ‪ :‬رضيت ر ّ‬
‫هم منزلة ؟ قال ‪ :‬أولئك الذين أردت ‪ ،‬غرست كرامتهم‬ ‫ب فأعل ُ‬ ‫قال ‪ :‬ر ّ‬
‫بيدي ‪ ،‬وختمت عليها ‪ ،‬فلم تر عين ‪ ،‬ولم تسمع أذن ‪ ،‬ولم يخطر على قلب‬
‫ي‬‫ف َ‬ ‫ما أ ُ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫س ّ‬‫بشر ‪ ،‬قال ‪ :‬ومصداقه في كتاب الله – عز وجل – ) فل تعلم نف ٌ‬
‫ن جزاء بما كانوا يعملون ( ] السجدة ‪ . (28) [ 17 :‬فقد‬ ‫لهم من قُّرةِ أعي ٍ‬
‫أخبر ‪ :‬أنه غرس جنتهم بيده سبحانه ‪.‬‬
‫عظم يدي الرب سبحانه وتعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/106‬‬

‫جاء في كتاب الله قوله تعالى ‪ ) :‬وما قدروا الله حقّ قدره والرض جميعا ً‬
‫مط ْوِّيا ٌ‬
‫ت بيمينه ( ] الزمر ‪. [ 67 :‬‬ ‫سماوات َ‬ ‫قبضته يوم القيامة وال ّ‬
‫وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬يقبض الله – تبارك وتعالى – الرض يوم القيامة ‪،‬‬
‫ملوك الرض ( ‪(29) .‬‬ ‫قول ‪ :‬أنا الملك ‪ ،‬أين ُ‬ ‫سماء بيمي ِِنه ث ُ ّ‬
‫م يَ ُ‬ ‫وََيطوي ال ّ‬
‫وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال ‪ :‬قال‬
‫وي الله – عّز وجل – السماوات يوم‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬يط ِ‬
‫القيامة ‪ ،‬ثم يأخذهن بيده اليمنى ‪ ،‬ثم يقول ‪ :‬أنا الملك ‪ ،‬أين الجبارون ؟ أين‬
‫ل ‪ :‬أنا الملك ‪ ،‬أين الجبارون‬ ‫م يطوي الرضين بشماله ‪ ،‬ثم يقو ُ‬ ‫متكبرون ؟ ث ّ‬ ‫ال ُ‬
‫‪ ،‬أين المتكبرون ؟ ( ‪.‬‬
‫وفي لفظ قال ‪ :‬رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو‬
‫ل ‪ -‬سمواته وأرضيه بيديه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أنا الله‬ ‫خذ ُ الجبار – عّز وج ّ‬ ‫يقول ‪ ) :‬يأ ُ‬
‫) ويقبض أصابعه ويبسطها ( أنا الملك ( ‪ )) ،‬حتى نظرت إلى المنبر يتحرك‬
‫ط هو برسول الله صلى الله‬ ‫ل شيء منه ‪ ،‬حتى إّني لقول ‪ :‬أساق ٌ‬ ‫من أسف ِ‬
‫عليه وسلم (( ‪(30) .‬‬
‫كلتا يديه – سبحانه – يمين ‪:‬‬
‫ورد في رواية في صحيح مسلم ‪ ) :‬ثم يطوي الرضين بشماله ( وقد ضعف‬
‫هذه الرواية البيهقي من ناحية السناد فقال ‪ " :‬ذكر الشمال فيه ‪ ،‬تفرد به‬
‫عمر بن حمزة عن سالم ‪ ،‬وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم‬
‫عن ابن عمر ‪ ،‬لم يذكرا فيه الشمال " ‪(31) .‬‬
‫ح عن النبي صلى‬ ‫ح ذلك وقد ص ّ‬ ‫ص ّ‬
‫وضعفها من ناحية المتن فقال ‪ " :‬وكيف ي ِ‬
‫مى كلتا يديه َيمينا ً " ‪(32) .‬‬‫هس ّ‬ ‫الله عليه وسلم أن ّ ُ‬
‫وعن عبد الله بن عمرو قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إن‬
‫ل – َوكلتا‬‫المقسطين عند الله على منابر من ُنور على يمين الرحمن – عّز وج ّ‬
‫دلون في حكمهم وأهليهم وما ُولوا ( ‪(33) .‬‬ ‫ن ‪ ،‬الذين يع ِ‬ ‫يديه يمي ٌ‬
‫‪ -5‬أصابع الرحمن‬

‫) ‪(1/107‬‬

‫ولله – سبحانه – أصابع ل تشبه شيئا ً من أصابع المخلوقين ‪ ،‬وهي تليق‬


‫بكماله وجلله سبحانه وتعالى ‪ ،‬ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبد‬
‫الله بن مسعود – رضي الله عنه ‪ " :‬أن يهوديا ً جاء إلى النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم فقال ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬إن الله يمسك السماوات على إصبع ‪ ،‬والرضين‬
‫على إصبع ‪ ،‬والجبال على إصبع ‪ ،‬والشجر على إصبع ‪ ،‬والخلئق على إصبع ‪،‬‬
‫ثم يقول ‪ :‬أنا الملك ‪ ،‬فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت‬
‫نواجذه ‪ ،‬ثم قرأ ) وما قدروا الله حقّ قدره ( ] الزمر ‪. " [ 67 :‬‬
‫وفي لفظ " فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا ً وتصديقا " ‪) .‬‬
‫ً‬
‫‪(34‬‬
‫وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أنه‬
‫كلها بين أصبعين‬ ‫سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬إن ُقلوب بني آدم ُ‬
‫من أصابع الرحمن كقلب واحد يصّرفه كيف يشاء ( ‪ ،‬ثم قال عليه الصلة‬
‫ك ( ‪(35) .‬‬‫مصرف القلوب صرف ُقلوبنا إلى طاعت ِ َ‬ ‫والسلم ‪ ) :‬اللهم ُ‬
‫‪ -6‬ما ذكر في القدم‬
‫عنون البيهقي بالعنوان السابق في كتابه ) السماء والصفات ‪ ( 348 :‬وذكر‬
‫فيه عدة أحاديث ‪:‬‬
‫‪ -1‬منها الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬ل تزال جهنم تقول ‪ :‬هل من مزيد حتى يضع‬
‫ب العّزة قدمه ‪ ،‬فتقول ‪ :‬قط قط وعزتك ‪ ،‬وي ُْزَوى بعضها إلى بعض (‬ ‫فيها ر ّ‬
‫ً‬
‫ل حتى ي ُْنشئ الله لها خلقا ‪،‬‬‫وفي بعض الروايات ‪ ) :‬ول يزال في الجنة فض ٌ‬
‫فيسكنهم فضل الجنة ( ‪(36) .‬‬
‫) ‪(1/108‬‬

‫‪ -2‬وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫متجبرين ‪،‬‬ ‫جت الجنة والنار ‪ ،‬فقالت النار ‪ :‬أوثرت بالمتكبرين وال ُ‬ ‫قال ‪ ) :‬تحا ّ‬
‫م ‪ ،‬قال‬ ‫م َوغّرهُ ُ‬‫قطهُ ُ‬‫ضعفاء الّناس َوس َ‬‫خلني إل ُ‬ ‫ة ‪ :‬فما لي ل يد ُ‬‫وقالت الجن ُ‬
‫ك من أشاء من عبادي ‪ ،‬وقال للنار ‪ :‬إنما‬ ‫حمتي أرحم ب ِ‬ ‫الله للجّنة ‪ :‬أنت ر ْ‬
‫ما‬
‫ؤها ‪ ،‬فأ ّ‬ ‫ل واحدةٍ منكما مل ُ‬ ‫ُ‬
‫أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ‪ ،‬ولك ّ‬
‫الّنار فل تمتلئ حتى يضع الله – تبارك وتعالى – رجله ‪ ،‬فتقول ‪ :‬قط قط‬
‫ً‬
‫قط ‪ ،‬فهنالك تمتلئ وي ُْزَوى بعضها إلى بعض ‪ ،‬ول يظلم الله من خلقه أحدا ‪،‬‬
‫خلقا ً ( ‪(37) .‬‬ ‫ن الله ُينشئ لها َ‬‫ة فإ ّ‬‫ما الجن ُ‬
‫وأ ّ‬
‫سماوات‬ ‫‪ -3‬وعن ابن عباس أّنه قال في الكرسي ‪ ) :‬وسع كرسّيه ال ّ‬
‫والرض ( ]البقرة ‪ ) : [255:‬موضع القدمين ( ‪(38) .‬‬
‫‪ -7‬لله سبحانه ساق‬
‫ذبه ‪ ،‬لّنه – سبحانه – قد أخبرنا بذلك ‪ ،‬قال‬ ‫يجب علينا أن نصدق بذلك ول نك ّ‬
‫سجود فل يستطيعون ( ] القلم‬ ‫ق ويدعون إلى ال ّ‬ ‫تعالى ‪ ) :‬يوم يكشف عن سا ٍ‬
‫‪ [ 42 :‬وقد ورد في الصحيحين ما يفسر هذه الية ويوضحها ‪ ،‬فعن أبي سعيد‬
‫الخدري قال ‪ :‬سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪ ) :‬يكشف ربنا‬
‫عن ساقه ‪ ،‬فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ‪ ،‬ويبقى من كان يسجد في الدنيا‬
‫رئاء وسمعة ‪ ،‬فيذهب ليسجد ‪ ،‬فيعود ظهُره ُ طبقا ً واحدا ً ( ‪(39) .‬‬
‫وينبغي أن ننبه هنا إلى أن إثبات الساق لله كإثبات اليد والسمع والبصر‬
‫وغيرها من الصفات ‪ ،‬وما ورد عن ابن عباس أنه فسر كشف الساق بمعنى‬
‫شدة المر معارض بما ثبت عن ابن مسعود أن ربنا يكشف عن ساقه ‪(40) .‬‬
‫وما أحسن ما قاله الشوكاني حيث قال ‪ " :‬قد أغنانا الله سبحانه في تفسير‬
‫هذه الية بما صح عن رسول الله ‪ ،‬وذلك ل يستلزم تجسيما ً ول تشبيها ً ‪،‬‬
‫فليس كمثله شيء " ‪(41) .‬‬

‫) ‪(1/109‬‬

‫وقد أورد ابن جرير الطبري وابن كثير تفسير ابن عباس كما أوردا روايات‬
‫الحديث المفسر للنص القرآني ‪ ،‬ولم يؤول الحديث بحمله على غير ظاهره‬
‫مما يدل على أنه ل تعارض عندهما بين الحديث وكلم ابن عباس ‪ ،‬فإن المر‬
‫شديد في يوم القيامة ‪ ،‬ول ينافي هذا أن يكشف عن ساقه ‪.‬‬
‫‪ -8‬استواؤه على العرش‬
‫ص الله في سبعة مواضع من كتابه‬ ‫العرش أعظم المخلوقات كلها ‪ ،‬وقد ن ّ‬
‫على استوائه على العرش بقوله ‪ ) :‬الّرحمن على العرش استوى ( ] طه ‪5 :‬‬
‫[‪.‬‬
‫ن العرش مخلوق من مخلوقات الله قوله تعالى ‪ ) :‬ويحمل‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫على‬ ‫والدليل‬
‫ة ( ] الحاقة ‪ [ 17 :‬أي في يوم القيامة ‪ ،‬وقوله‬ ‫ٌ‬ ‫ثماني‬ ‫ٍ‬ ‫ذ‬ ‫يومئ‬ ‫فوقهم‬ ‫عرش ربك‬
‫‪ ) :‬اّلذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به‬
‫ن للعرش حملة ‪ ،‬وأّنهم‬‫ويستغفرون لّلذين آمنوا ( ] غافر ‪ [ 7 :‬فقد أخبر أ ّ‬
‫يستغفرون للمؤمنين ‪ ،‬وهذا ينفي قول من يقول إن العرش هو الملك ‪.‬‬
‫وفي الحديث الذي يرويه البخاري ‪ ) :‬إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ‪ ،‬فإّنه‬
‫جُر أْنهاُر الجنة (‬
‫أوسط الجنة ‪ ،‬وأعلى الجنة ‪ ،‬وفوقه عرش الرحمن ‪ ،‬ومنه ُتف ّ‬
‫‪(42) .‬‬
‫وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬ل‬
‫ن الناس يصعقون يوم القيامة ‪ ،‬فأكون أول من‬ ‫تخّيروني على موسى ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يفيق ‪ ،‬فإذا موسى باطش بجانبي العرش ‪،‬فل أدري أكان موسى فيمن صعق‬
‫‪ ،‬فأفاق قبلي ‪ ،‬أو كان ممن استثنى الله ( ‪(43) .‬‬
‫وفي رواية في الصحيح عن أبي سعيد الخدري ‪ ) :‬فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة‬
‫من قوائم العرش ( ‪(44) .‬‬
‫ً‬
‫فكيف ل يكون العرش خلقا من خلق الله وهو سقف الفردوس ‪ ،‬وكيف‬
‫يمكن لموسى أن يمسك بقائمة من قوائمه لو كان غير مخلوق !!‬
‫وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أن الله لما قضى الخلق كتب‬
‫عنده فوق عرشه أن رحمتي سبقت غضبي ( ‪(45) .‬‬
‫ظم العرش ‪:‬‬‫ع َ‬
‫ِ‬
‫ب العرش العظيم ( ] المؤمنون ‪. [ 86 :‬‬ ‫وصف الله العرش بأنه عظيم ) ور ّ‬

‫) ‪(1/110‬‬

‫وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم عظمة العرش بوجهين من البيان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬بإخباره عن عظم الملئكة الذين يحملون العرش ‪ ،‬ففي سنن أبي‬
‫دث‬ ‫داود بإسناد صحيح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أذن لي أن أح ّ‬
‫عن ملك من ملئكة الله ‪ ،‬من حملة العرش ‪ :‬ما بين شحمة أذن ِهِ إلى عاتقه‬
‫مسيرة سبعمائة عام ( ‪(46) .‬‬
‫ور سعة العرش بالنسبة‬ ‫ه بأن ص ّ‬ ‫م ُ‬
‫عظ َ‬
‫والوجه الثاني ‪ :‬بين الرسول ِ‬
‫للسماوات والرض ‪ ،‬وصغرهما بالنسبة إليه ‪ ،‬قال صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫) ما السماوات السبع في الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة ‪ ،‬وفضل‬
‫العرش على الكرسي ‪ ،‬كفضل تلك الفلة على تلك الحلقة ( ‪(47) .‬‬
‫ب العرش ‪:‬‬ ‫تمجيد الله نفسه باستوائه على العرش وأنه ر ّ‬
‫ب نفسه بأّنه مستو على عرشه ‪ ،‬كقوله ) طه – ما أنزلنا عليك‬ ‫وقد امتدح الر ّ‬
‫سماوات‬ ‫من خلق الرض وال ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫القرآن لتشقى – إل تذكرة ً لمن يخشى – تنزيل م ّ‬
‫ال ْعَُلى – الّرحمن على العرش استوى ( ] طه ‪ . [ 5-1 :‬وقوله ‪ ) :‬هو الذي‬
‫ّ‬
‫م استوى على العرش يعلم ما يلج‬ ‫سماوات والرض في سّتة أيام ث ُ ّ‬ ‫خلق ال ّ‬
‫سماء وما يعرج فيها وهو معكم أين‬ ‫في الرض وما يخرج منها وما ينزل من ال ّ‬
‫ما كنتم والله بما تعملون بصير ( ]الحديد ‪. [4:‬‬
‫وامتدح نفسه في أكثر من آية بأنه صاحب العرش ) ذو العرش المجيد –‬
‫ل لما يريد ( ] البروج ‪ ) [ 16-15 :‬إذا ً لبتغوا إلى ِذي العرش سبيل ً (‬ ‫فّعا ٌ‬
‫] السراء ‪. [ 42 :‬‬
‫ب العرش العظيم (‬ ‫ّ‬
‫وامتدح نفسه بأنه رب العرش ) عليه توكلت وهو ر ّ‬
‫ما يصفون ( ] النبياء ‪، [ 22 :‬‬ ‫ب العرش ع ّ‬ ‫]التوبة ‪ ) ، [129 :‬فسبحان الله ر ّ‬
‫ب العرش العظيم ( ] المؤمنون ‪. [ 86 :‬‬ ‫سبع ور ّ‬ ‫سماوات ال ّ‬ ‫ب ال ّ‬
‫) قل من ّر ّ‬
‫ومن شعر عبد الله بن رواحة يمجد رّبه سبحانه وتعالى ‪:‬‬
‫ن الّنار مثوى الكافرينا‬ ‫شهدت بأن وعد الله حق ××× وأ ّ‬
‫ب العالمينا‬
‫وأن العرش فوق الماء طاف ××× وفوق العرش ر ّ‬
‫ومينا‬ ‫وتحمله ملئكة كرام ××× ملئكة الله مس ّ‬
‫) ‪(1/111‬‬

‫روى هذا الشعر ابن عبد البر في الستيعاب ‪ ،‬وقال ‪ :‬رويناه من وجوه صحاح‬
‫‪.‬‬
‫معنى استوائه على العرش ‪:‬‬
‫نحن نجهل كيفية استوائه سبحانه ‪ ،‬لننا نجهل كيفية ذاته ‪ ،‬ولكّننا نعرف معنى‬
‫دون استوى بـ ))على(( يقصدون‬ ‫استوى في لغة العرب ‪ ،‬فالعرب عندما ُيع ّ‬
‫بهذه الكلمة معاني أربعة هي ‪ :‬استقر ‪ ،‬وعل ‪ ،‬وارتفع ‪ ،‬وصعد ‪ ،‬كما حقق‬
‫ذلك ابن القيم ‪(48) .‬‬
‫وقد نقل أبو الحسن الشعري عن المعتزلة أنهم فسروا ) استوى على‬
‫العرش ( بمعنى استولى عليه )‪ ، (49‬فالذي يؤول الستواء هذا التأويل سلفه‬
‫في هذا المعتزلة ‪ ،‬وبئس السلف هم ‪.‬‬
‫أما أهل السنة وأصحاب الحديث فإنهم يثبتون استواءه على العرش ‪ ،‬ول‬
‫ينفونه ‪ ،‬ول يكيفونه كما نقل ذلك عنهم أبو الحسن الشعري رحمه الله ‪) .‬‬
‫‪(50‬‬
‫وقد نقل لنا أهل اللغة أن العلماء بالعربية الذين لم تتدنس فطرهم بقاذورات‬
‫الفلسفات الوافدة أبوا أن يفسروا استوى باستولى ‪.‬‬
‫قال داود بن علي الصبهاني ‪ :‬كنت عند ابن العرابي ‪ ،‬فأتاه رجل فقال ‪ :‬ما‬
‫ل ‪ ) :‬الّرحمن على العرش استوى ( ] طه ‪ [ 5 :‬فقال ابن‬ ‫معنى قوله عّز وج ّ‬
‫العرابي ‪ :‬هو على عرشه كما أخبر ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أبا عبد الله ‪ :‬إنما معناه‬
‫استولى ‪ ،‬فقال ابن العرابي ‪ :‬فما يدريك ؟ العرب ل تقول استولى على‬
‫الشيء حتى يكون له مضاد ‪ ،‬فأيهما غلب فقد استولى عليه ‪ ،‬أما سمعت‬
‫قول النابغة ‪:‬‬
‫إل لمثلك أو من أنت سابقه ××× سبق الجواد إذا استولى على المد )‪(51‬‬
‫وهذا النهج ‪ ،‬وهو معرفة معنى الستواء وجهل الكيفية والنهي عن البحث فيها‬
‫هو منهج السلف الصالح ‪ ،‬فعندما سئل المام مالك ‪ ) :‬الّرحمن على العرش‬
‫استوى ( ]طه ‪ [5:‬كيف استوى ؟‬
‫أطرق مالك ‪ ،‬وأخذته الرحضاء ‪ ،‬ثم رفع رأسه فقال ‪ " :‬الرحمن على العرش‬
‫استوى كما وصف نفسه ‪ ،‬ول يقال ‪ :‬كيف ؟ وكيف عنه مرفوع ‪ ،‬وأنت‬
‫صاحب بدعة ‪ ،‬أخرجوه " ‪(52) .‬‬

‫) ‪(1/112‬‬

‫وفي رواية عن مالك أنه قال ‪ " :‬الكيف غير معقول ‪ ،‬والستواء منه غير‬
‫مجهول ‪ ،‬واليمان به واجب ‪ ،‬والسؤال عنه بدعة " ‪(53) .‬‬
‫وقوله ‪ " :‬غير مجهول " أي ‪ :‬معلوم ‪ ،‬والمعلوم منه معناه ‪ ،‬فإن له في لغة‬
‫العرب معنى تفقهه العرب ‪ ،‬وتعيه ‪ ،‬ويمكن للعالم أن يفسره ‪ ،‬ويترجمه ‪،‬‬
‫ولذا فإن كثيرا ً من الذين حكوا عن المام مالك مقالته السابقة ينقلونها عنه‬
‫بالمعنى ‪ ،‬فيذكرون أنه قال في الرد على الرجل ‪ " :‬الستواء معلوم ‪،‬‬
‫والكيف مجهول ‪ ،‬واليمان به واجب ‪ ،‬والسؤال عنه بدعة " )‪ . (54‬ول فرق‬
‫في الحقيقة بين القول إن الستواء معلوم ‪ ،‬أو أنه غير مجهول ‪ ،‬فمعناهما‬
‫واحد ‪.‬‬
‫يقول القرطبي رحمه الله تعالى ‪ " :‬كان السلف الول – رضي الله عنهم – ل‬
‫يقولون بنفي الجهة ول ينطقون بذلك ‪ ،‬بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله‬
‫تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ‪.‬‬
‫ولم ينكر أحد أنه استوى على عرشه حقيقة ‪ ،‬وخص العرش بذلك لنه أعظم‬
‫مخلوقاته ‪ ،‬وإنما جهلوا كيفية الستواء ‪ ،‬فإنه ل تعلم حقيقته ‪.‬‬
‫قال مالك ‪ " :‬الستواء معلوم – يعني في اللغة – والكيف مجهول ‪ ،‬والسؤال‬
‫عنه بدعة ‪ ،‬وكذا قالت أم سلمة رضي الله عنها ‪ .‬وهذا قدر كاف " ‪(55) .‬‬
‫‪ -9‬أين الله ؟‬
‫من في‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫منُتم ّ‬‫أخبرنا – سبحانه – أّنه في السماء ‪ ،‬مستوى على عرشه ) أأ ِ‬
‫سماء أن‬ ‫السماء أن يخسف بكم الرض فإذا هي تمور – أ َ‬
‫من في ال ّ‬ ‫منُتم ّ‬
‫مأ ِ‬‫ّ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ( ] الملك ‪. [ 17-16 :‬‬
‫وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن رّبه أّنه في السماء ‪ ،‬ففي‬
‫ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أ ّ‬
‫) أل تأمنوني وأنا أمين من في السماء ‪ ،‬يأتيني خبر السماء صباح مساء ( ‪) .‬‬
‫‪(56‬‬

‫) ‪(1/113‬‬

‫وشهد للجارية باليمان عندما أخبرته أن الله في السماء ‪ ،‬ففي صحيح مسلم‬
‫ن معاوية بن الحكم السلمي ضرب جارية له لتقصيرها في‬ ‫وسنن أبي داود ‪ :‬أ ّ‬
‫الحفاظ على أغنامه ‪ ،‬ثم ندم فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نادما ً‬
‫يستأذنه في إعتاقها ‪ ،‬فطلبها الرسول صلى الله عليه وسلم وسألها ) أين‬
‫الله ؟ ( قالت ‪ :‬في السماء ‪ .‬قال ‪ ) :‬من أنا ؟ ( قالت ‪ :‬أنت رسول الله ‪،‬‬
‫قال ‪ ) :‬أعتقها فإنها مؤمنة ( ‪(57) .‬‬
‫وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المريض أن يدعو لنفسه أو يدعو له‬
‫أخوه بهذا الدعاء – وفيه النص على أنه تعالى في السماء – ) ربنا الله الذي‬
‫دس اسمك ‪ ،‬أمُرك في السماء والرض ‪ ،‬كما رحمتك في‬ ‫في السماء تق ّ‬
‫السماء فاجعل رحمتك في الرض ‪ ،‬اغفر لنا حوبنا وخطايانا ‪ ،‬أنت رب‬
‫ن ‪ ،‬أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ( ‪.‬‬ ‫الطيبي َ‬
‫)‪(58‬‬
‫وفي حديث عبد الله بن عمرو قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫) الراحمون يرحمهم الرحمن ‪ ،‬ارحموا من في الرض يرحمكم من في‬
‫السماء ( ‪(59) .‬‬
‫معنى كونه في السماء ‪:‬‬
‫ن جرم السماء يحتويه – سبحانه وتعالى عن‬ ‫وليس المراد بأنه في السماء أ ّ‬
‫ذلك – بل المراد بالسماء العلو والفوقية ‪ ،‬فقد وصف نفسه – سبحانه – بأنه‬
‫العلى ) سّبح اسم رّبك العلى ( ] العلى ‪ ، [ 1 :‬وبأنه العلي العظيم ‪:‬‬
‫ي العظيم (‬ ‫ؤود ُه ُ حفظهما وهو ال ْعَل ِ ّ‬
‫سماوات والرض ول ي َ ُ‬ ‫) وسع كرسّيه ال ّ‬
‫] البقرة ‪. [ 255 :‬‬
‫وأخبر تعالى أّنه فوق عباده ‪ ) :‬يخافون رّبهم من فوقهم ( ] النحل ‪) ، [ 50 :‬‬
‫وهو القاهر فوق عباده ( ] النعام ‪ [ 18 :‬وفي تمجيد الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم لرّبه في دعائه يقول ‪ ) :‬وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ( ‪(60) .‬‬
‫وكانت زينب تفخر على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وتقول ‪:‬‬
‫) زوجكن أهاليكن وزّوجني الله من فوق سبع سموات ( ‪(61) .‬‬

‫) ‪(1/114‬‬

‫ن الله في السماء بمعنى‬ ‫ول يمكن لمسلم يفقه عقيدته حق الفقه أن يظن أ ّ‬
‫ن السماء تحويه ‪ ،‬وأّنه في جرم السماء ‪ ،‬تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً ‪،‬‬ ‫أ ّ‬
‫سماوات مطوّيات‬ ‫كيف والسماوات ليس بشيء بالنسبة إليه سبحانه ) وال ّ‬
‫ل للكتب (‬ ‫ج ّ‬‫س ِ‬‫ي ال ّ‬‫سماء ك َط َ ّ‬ ‫بيمينه ( ] الزمر ‪ ) ، [ 67 :‬يوم نطوي ال ّ‬
‫] النبياء ‪. [ 104 :‬‬
‫كثرة الدلة ‪:‬‬
‫والدلة من الكتاب والسنة على أّنه تعالى في السماء فوق عباده ظاهر‬
‫عليهم كثيرة جدا ً ‪ ،‬ويحتاج استقصاؤها إلى صفحات طويلة ‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نصنفها على النحو التالي ‪:‬‬
‫‪ -1‬الدلة الدالة على أّنه في السماء ‪ ،‬وقد ذكرناها ‪.‬‬
‫‪ -2‬الدلة الدالة على أّنه مستو على العرش ‪ ،‬وقد سبقت ‪.‬‬
‫‪ -3‬الدلة الدالة على علوه ‪ ،‬وأنه فوق عباده ‪ ،‬وقد ذكرنا طرفا ً منها ‪.‬‬
‫ن اّلذين عند‬ ‫‪ -4‬النصوص الدالة على أن بعض مخلوقاته عنده ‪ ،‬كقوله ‪ ) :‬إ ّ‬
‫رّبك ل يستكبرون عن عبادته ( ] العراف ‪. [ 206 :‬‬
‫وقال في الشهداء ‪ ) :‬بل أحياء عند ربهم يرزقون ( ] آل عمران ‪. [ 169 :‬‬
‫وهي نصوص كثيرة ‪.‬‬
‫‪ -5‬النصوص المخبرة برفع بعض الشياء أو عروجها وصعودها إليه ‪ ،‬كاليات‬
‫المصرحة برفع عيسى ابن مريم ) بل ّرفعه الله إليه ( ] النساء ‪[ 158 :‬‬
‫صالح‬‫م الطّيب والعمل ال ّ‬ ‫والمخبرة بصعود العمال إليه ‪ ) :‬إليه يصعد ال ْك َل ِ ُ‬
‫ن‬
‫يرفعه ( ] فاطر ‪ ، [ 10 :‬والنصوص المخبرة بصعود أرواح المؤمنين ) إ ّ‬
‫سماء ( ] العراف ‪:‬‬ ‫ح لهم أبواب ال ّ‬ ‫فت ّ ُ‬ ‫اّلذين ك ّ‬
‫ذبوا ِبآَيات َِنا واستكبروا عنها ل ت ُ َ‬
‫‪. [ 40‬‬
‫ن المؤمنين تفتح لهم ‪ ،‬وقد جاءت الحاديث مفسرة ذلك‬ ‫ص على أ ّ‬ ‫فدل الن ّ‬
‫وموضحة له ‪.‬‬
‫ومن ذلك عروج الملئكة إليه ) تعرج الملِئكة والّروح إليه ( ] المعارج ‪. [ 4 :‬‬
‫‪ -6‬ومنها إخباره بإنزال الملئكة ) ينّزل الملِئكة بالّروح من أمره ( ] النحل ‪:‬‬
‫ك ( ] النعام ‪. [ 92 :‬‬ ‫‪ ، [ 2‬وإخباره بإنزال الكتب ) وهذا كتاب أنزلناه مبار ٌ‬

‫) ‪(1/115‬‬

‫‪ -7‬ومنها رفع اليدي والبصار إليه ‪ ،‬وقد وردت أحاديث كثيرة ذكر فيها رفع‬
‫ن حَزبه أمٌر فإنه يرفع‬
‫لم ْ‬‫الرسول صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء ‪ ،‬وك ّ‬
‫يديه إلى العلو يدعو الله ‪.‬‬
‫وكذلك رفع البصر ‪ ،‬فإنه ثبت في الدعاء بعد الوضوء ‪.‬‬
‫‪ -8‬ومن ذلك إشارته صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى العلو كما في حديث‬
‫حجة الوداع عندما قالوا ‪ :‬نشهد أّنك قد بلغت وأديت ونصحت ‪ ،‬فقال بإصبعيه‬
‫السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ‪ ) :‬اللهم اشهد ‪ ،‬اللهم‬
‫اشهد ( ‪(62) .‬‬
‫وإن أحببت المزيد من ذكر الدلة وأقوال سلف المة فراجع ما جمعه أهل‬
‫العلم في مدوناتهم في هذا الموضوع ‪.‬‬
‫علوه – سبحانه – ل ينافي قربه ‪:‬‬
‫فهو قريب يجب دعوة الداعي إذا دعاه ‪ ،‬ويعلم سّره ونجواه ‪ ،‬وهو أقرب إلى‬
‫داعيه من عنق راحلته ‪ ،‬ويعلم ما توسوس به النفوس ‪ ،‬وهو أقرب إليه من‬
‫حبل الوريد ‪ ،‬وهو يعلم السّر وأخفى ‪ ،‬ويعلم ما يلج في الرض ‪ ،‬وما يخرج‬
‫ل من السماء ‪ ،‬وما يعرج فيها ‪ ،‬وهو مع خلقه بعلمه وقدرته ‪ ،‬ل‬ ‫منها ‪ ،‬وما ينز ُ‬
‫تخفى عليه منهم خافية ‪ ،‬وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الرض ول في‬
‫وه ‪،‬‬
‫السماء ‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول أكبر ‪ ،‬فهو – سبحانه – القريب في عل ّ‬
‫وه وهو الول والخر والظاهر والباطن ‪.‬‬ ‫العلي في دن ّ‬
‫‪ -10‬ضحك ربنا سبحانه‬
‫دقه ‪ ،‬ول‬‫وهو – سبحانه – يضحك متى شاء ‪ ،‬كيف شاء ‪ ،‬نؤمن بذلك ونص ّ‬
‫ندري كيفيته ‪ ،‬ولسنا مطالبين بأن ندري ‪.‬‬
‫وقد ثبت في ذلك أخبار صحاح منها ‪:‬‬
‫ن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫‪ -1‬عن أبي هريرة رضي الله عنه ‪ :‬أ ّ‬
‫جلين يقتل أحدهما الخر ‪ ،‬يدخلن الجنة ‪ُ ،‬يقاتل هذا‬ ‫قال ‪ ) :‬يضحك الله إلى ر ُ‬
‫ل ‪ ،‬ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد ( ‪(63) .‬‬ ‫في سبيل الله فُيقت َ ُ‬
‫‪ -2‬عن أبي هريرة رضي الله عنه ‪ :‬أن رجل ً أتى النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫فقال ‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬أصابني الجهد ‪ ،‬فأرسل إلى نسائه ‪ ،‬فلم يجد عندهن‬
‫شيئا ً ‪.‬‬

‫) ‪(1/116‬‬

‫فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أل رجل يضيفه الليلة يرحمه الله (‬
‫‪ .‬فقام رجل من النصار ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا يا رسول الله ‪.‬‬
‫ً‬
‫فذهب إلى أهله فقال لمرأته ‪ :‬ضيف رسول الله ل تدخريه شيئا ‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬والله ما عندي إل قوت الصبية ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ‪ ،‬وتعالي ‪ ،‬فأطفئي السراج ‪ ،‬ونطوي‬
‫بطوننا الليلة ‪ ،‬ففعلت ‪.‬‬
‫م غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‪ ) :‬لقد عجب – عّز وج ّ‬
‫ل‬ ‫ث ّ‬
‫ل ‪ ) :‬ويؤِثرون على أنفسهم‬ ‫– أو ضحك من فلن وفلنة ( ‪ ،‬فأنزل الله عّز وج ّ‬
‫ة ( ] الحشر ‪(64) . [ 9 :‬‬ ‫ولو كان بهم خصاص ٌ‬
‫م يفرغ‬ ‫‪ -3‬وفي صحيح البخاري من حديث طويل عن أبي هريرة يرفعه ‪ ) :‬ث ّ‬
‫الله تعالى من القضاء بين العباد ‪ ،‬ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار ‪ ،‬هو‬
‫ه قد‬‫ب اصرف وجهي عن النار ‪ ،‬فإن ّ ُ‬ ‫آخر أهل النار دخول ً الجنة ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أي ر ّ‬
‫شب َِني ريحها ‪ ،‬وأحرقني ذكاؤها ‪ ،‬فيدعو الله ما شاء أن يدعوه ‪.‬‬ ‫قَ َ‬
‫ثم يقول الله ‪ :‬هل عسيت إن أعطيت ذلك أن تسألني غيره ؟ فيقول ‪ :‬ل‬
‫وعزك ‪ ،‬ل أسألك غيره ‪ ،‬ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء ‪ ،‬فيصرف‬
‫الله وجهه عن النار ‪.‬‬
‫ب‬‫فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ‪ ،‬ثم يقول ‪ :‬أي ر ّ‬
‫ت قد أعطيت عهودك ومواثيقك‬ ‫س َ‬
‫دمني إلى باب الجنة ‪ ،‬فيقول الله له ‪ :‬أل ْ‬ ‫ق ّ‬
‫ً‬
‫ل تسألني غير الذي أعطيت أبدا ‪ ،‬ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ‪ .‬فيقول ‪ :‬أي‬
‫سأل غيره ؟‬
‫عو الله حتى يقول ‪ :‬هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن ت ْ‬ ‫ب ويد ُ‬
‫ر ّ‬
‫عهود ٍ ومواثيق ‪.‬‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫طي ما شاَء ِ‬
‫فيقول ‪ :‬ل وعّزتك ل أسألك غيره ‪ .‬وي ُعْ ِ‬

‫) ‪(1/117‬‬

‫ه الجنة ‪ ،‬فرأى ما‬ ‫تل ُ‬ ‫ق ْ‬‫فهَ َ‬‫م إلى باب الجنة ان ْ َ‬‫جن ّةِ ‪ ،‬فإذا َقا َ‬
‫دمه إلى َباب ال َ‬ ‫ق ّ‬
‫في ُ َ‬
‫م يقول ‪ :‬أي‬ ‫ت ما شاء الله أن يسكت ‪ ،‬ث ّ‬ ‫سك ُ‬ ‫حب َْرةِ والسرور ‪ ،‬فَي َ ْ‬‫فيها من ال َ‬
‫ك ومواثيقك أن ل‬ ‫خلني الجنة ‪ ،‬فيقول الله ‪ :‬ألست قد أعطيت عُُهود َ َ‬ ‫ب أد ْ ِ‬ ‫ر ّ‬
‫ب‬‫طيت ‪ .‬فيقول ‪ :‬ويلك يا ابن آدم ما أغدرك ‪ ،‬فيقول ‪ :‬أي ر ّ‬ ‫تسأل غير ما أع ِ‬
‫ل أكون أشقى خلقك ‪ ،‬فل يزال يدعو حتى يضحك الله منه ‪ ،‬فإذا ضحك الله‬
‫منه ‪ ،‬قال ‪ :‬ادخل الجنة ( ‪(65) .‬‬
‫ن الله يقول لهذا‬ ‫وفي رواية عند مسلم في حديث عبد الله بن مسعود ‪ :‬أ ّ‬
‫ب أتستهزِ ُ‬
‫ئ‬ ‫الرجل ‪ ) :‬أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ فيقول ‪ :‬يا َر ّ‬
‫ب العالمين ؟ ( وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬ ‫مني وأنت ر ّ‬
‫ب العالمين حين قال‬ ‫ك َر ّ‬ ‫ح ِ‬‫فقالوا ‪ :‬مم تضحك يا رسول الله ؟ قال ‪ ) :‬من ض ِ‬
‫زئ منك ‪ ،‬ولكني‬ ‫ب العالمين ؟ فيقول ‪ :‬إني ل أسته ِ‬ ‫‪ :‬أتستهزئ مني وأنت ر ّ‬
‫على ما أشاء قادر ( ‪(66) .‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬صحيح البخاري بشرحه فتح الباري ‪. 13/381 :‬‬
‫)‪ (2‬مشكاة المصابيح ‪ ، 1/726‬ورقمه ‪ . 2364 :‬صحيح البخاري ‪، 3194 :‬‬
‫‪ ، 7404‬وصحيح مسلم ‪. 2751 :‬‬
‫)‪ (3‬صحيح البخاري ‪ . 7405 :‬وصحيح مسلم ‪. 2675 :‬‬
‫)‪ (4‬رواه مسلم في صحيحه ‪،4/2090 :‬ورقمه ‪. 2726 :‬‬
‫)‪ (5‬تفسير الطبري ‪ :‬انظر تفسير آية رقم ‪ 27 :‬من سورة الرحمن ‪.‬‬
‫)‪ (6‬التوحيد ‪ ،‬لبن خزيمة ‪ :‬ص ‪. 21 :‬‬
‫)‪ (7‬صحيح البخاري بشرحه فتح الباري ‪ ، 1/519 :‬ورقمه ‪ ، 425 :‬وصحيح‬
‫مسلم ‪. 1/455‬‬
‫)‪ (8‬صحيح البخاري ‪ . 13/338 :‬ورقمه ‪. 7406 :‬‬
‫)‪ (9‬جامع الصول ‪ . 4/271 :‬ورقمه ‪ ، 2263 :‬وإسناده حسن ‪ ،‬كما ذكر‬
‫محقق جامع الصول ‪.‬‬
‫)‪ (10‬رواه أبو داود في سننه ‪ ،‬انظر صحيح سنن أبي داود ‪، 3/961 :‬‬
‫ورقمه ‪ ، 4260 :‬وقال اللباني فيه ‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬والسماء والصفات ‪،‬‬
‫للبيهقي ‪. 1/306 :‬‬

‫) ‪(1/118‬‬

‫)‪ (11‬رواه ابن خزيمة في التوحيد ‪ :‬ص ‪ ، 12 :‬والنسائي في سننه ‪ :‬انظر‬


‫صحيح سنن النسائي ‪ ، 1/280 :‬ورقمه ‪ ، 1238 ، 1237 :‬وإسناده صحيح ‪.‬‬
‫)‪ (12‬السماء والصفات ‪ ،‬للبيهقي ‪ :‬ص ‪. 308 :‬‬
‫)‪ (13‬رواه مسلم في صحيحه‪ ، 1/163 :‬ورقمه ‪. 180 :‬‬
‫)‪ (14‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 13/423 :‬ورقمه ‪ ، 7444 :‬ورواه أيضا ً‬
‫في ‪ ، 8/623 :‬ورقمه ‪ ، 4878 :‬بلفظ مقارب ‪ ،‬ورواه مسلم في صحيحه ‪:‬‬
‫‪ ، 1/163‬ورقمه ‪ ، 180 :‬ورواه ابن خزيمة بلفظ ‪ ) :‬وما بين القوم وبين أن‬
‫ينظروا إلى وجه ربهم ( ‪ ،‬وقال محقق كتاب التوحيد معلقا ً على الحديث ‪:‬‬
‫ورواه البيهقي في السماء والصفات ص ‪. 222 :‬‬
‫)‪ (15‬رواه مسلم في صحيحه ‪ ، 1/161 :‬ورقمه ‪. 179 :‬‬
‫)‪ (16‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 13/487 :‬ورقمه ‪. 7518 :‬‬
‫)‪ (17‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 11/388 :‬ورقمه ‪ ، 6530 :‬وانظر أيضا ً ‪:‬‬
‫‪ . 6/382‬رقم ‪ . 3348 :‬ورواه مسلم ‪ . 1/201 :‬ورقمه ‪. 201 :‬‬
‫)‪ (18‬رواه مسلم ‪ ، 1/543 :‬ورقمه ‪. 771 :‬‬
‫)‪ (19‬رواه مسلم ‪ ، 2/841 :‬ورقمه ‪. 1184 :‬‬
‫)‪ (20‬صحيح مسلم ‪ ، 4/2113 :‬ورقمه ‪. 276 :‬‬
‫)‪ (21‬مشكاة المصابيح ‪ ، 3/69 :‬ورقمه ‪. 5572 :‬‬
‫)‪ (22‬رواه مسلم ‪ ، 4/2043:‬ورقمه ‪. 2652 :‬‬
‫)‪ (23‬صحيح سنن أبي داود ‪ ، 3/891 :‬ورقم الحديث ‪ ، 3934 :‬وصحيح سنن‬
‫ابن ماجة ‪ ، 1/20 :‬ورقمه ‪. 65 :‬‬
‫)‪ (24‬صحيح البخاري ‪ ، 11 :‬ورقمه ‪ ، 6614 :‬وصحيح مسلم ‪، 4/2042 :‬‬
‫ورقمه ‪. 2652 :‬‬
‫)‪ (25‬صحيح البخاري ‪ ، 13/522 :‬ورقمه ‪ . 7554 :‬والحديث في صحيح‬
‫مسلم ‪ ، 4/2107 :‬ورقمه ‪. 2751 :‬‬
‫)‪ (26‬ابن ماجة ‪ .‬انظر صحيح سنن ابن ماجة ‪ ، 1/37 :‬ورقمه ‪. 156 :‬‬
‫)‪ (27‬كتاب السنة ‪ ،‬لبن أبي عاصم ‪ . 1/270 :‬ورقمه ‪. 608 :‬‬
‫)‪ (28‬صحيح مسلم ‪ ، 1/176 :‬ورقمه ‪. 189 :‬‬
‫)‪ (29‬رواه البخاري ‪ ، 8/551 :‬ورقمه ‪ ، 4812 :‬ورواه مسلم ‪، 4/2148 :‬‬
‫ورقمه ‪. 2787 :‬‬
‫)‪ (30‬رواه مسلم ‪ ، 4/2148 :‬ورقمه ‪. 2788 :‬‬
‫)‪ (31‬السماء والصفات ‪ ،‬للبيهقي ‪. 1/324 :‬‬
‫)‪ (32‬المصدر السابق ‪.‬‬

‫) ‪(1/119‬‬

‫)‪ (33‬رواه مسلم في صحيحه ‪ ، 3/1458 :‬ورقمه ‪. 1827 :‬‬


‫)‪ (34‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 13/393 :‬ورقمه ‪ . 7414 :‬ومسلم ‪:‬‬
‫‪ . 4/2147‬ورقمه ‪. 2786 :‬‬
‫)‪ (35‬صحيح مسلم ‪ ، 4/2045 :‬ورقمه ‪. 2655 :‬‬
‫)‪ (36‬صحيح البخاري ‪ ، 8/594 :‬ورقمه ‪ ، 4849 ، 4848 :‬ورواه مسلم ‪:‬‬
‫‪ ، 2188 ، 4/2187‬ورقمه ‪ . 2848 :‬واللفظ لمسلم ‪.‬‬
‫)‪ (37‬صحيح البخاري ‪ ، 8/595 :‬ورقمه ‪ ، 4850 :‬ورواه مسلم ‪، 4/2168 :‬‬
‫ورقمه ‪ ، 2846 :‬واللفظ لمسلم ‪.‬‬
‫)‪ (38‬انظر مختصر العلو ‪ ،‬للذهبي ص ‪ ، 102 :‬وقال فيه محققه الشيخ ناصر‬
‫الدين اللباني ‪ :‬صحيح موقوف ‪ ،‬وعزاه إلى ابن خزيمة ‪ ،‬في التوحيد ‪-71 :‬‬
‫‪ ، 72‬والدارمي في الرد على المريسي ‪، 74-73 ، 71 :‬وابن أبي شيبة ‪،‬في‬
‫العرش ‪. 2/114 :‬‬
‫)‪ (39‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 8/664 :‬ورقمه ‪ ، 4419 :‬ورواه مسلم ‪:‬‬
‫‪ ، 1/167‬ورقمه ‪ ، 183 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (40‬فتح القدير للشوكاني ‪. 5/319 :‬‬
‫)‪ (41‬المصدر السابق ‪. 5/320 :‬‬
‫)‪ (42‬صحيح البخاري ‪ ، 13/404 :‬ورقمه ‪. 7423 :‬‬
‫)‪ (43‬صحيح البخاري ‪ ، 11/367 :‬ورقمه ‪ ، 6518 ، 6517 :‬والحديث في‬
‫مسلم أيضا ً ‪ ، 4/1834 :‬ورقمه ‪. 2373 :‬‬
‫)‪ (44‬صحيح البخاري ‪ ، 13/405 :‬ورقمه ‪. 7427 :‬‬
‫)‪ (45‬صحيح البخاري ‪ ، 13/404 :‬ورقمه ‪. 7422 :‬‬
‫)‪ (46‬صحيح سنن أبي داود ‪ ، 3/895 :‬ورقمه ‪. 3953 :‬‬
‫)‪ (47‬أخرجه محمد بن أبي شيبة في كتاب العرش ‪ ،‬والبيهقي في السماء‬
‫والصفات ‪ ،‬وابن جرير وغيرهم ‪ ،‬وهو صحيح بمجموع طرقه ‪ ،‬انظر كلم‬
‫الشيخ اللباني على إسناده في سلسلة الحاديث الصحيحة ‪ ،‬حديث رقم‬
‫‪. 109‬‬
‫)‪ (48‬انظر شرح الواسطية للهراس ‪ :‬ص ‪. 80‬‬
‫)‪ (49‬مقالت السلميين ‪ :‬ص ‪. 211 ، 157‬‬
‫)‪ (50‬مقالت السلميين‪:‬ص ‪. 290 ، 211‬‬
‫)‪ (51‬لسان العرب ‪. 2/249 :‬‬
‫)‪ (52‬رواه البيهقي ‪ ،‬وصححه الذهبي ‪ :‬انظر مختصر العلو للعلي الغفار ‪،‬‬
‫للذهبي ‪ :‬ص ‪ 141‬حديث رقم ‪. 131 :‬‬
‫)‪ (53‬انظر مختصر العلو ‪ :‬ص ‪ ، 141‬وحديث رقم ‪. 132‬‬
‫)‪ (54‬تفسير القرطبي ‪. 2/219 :‬‬
‫)‪ (55‬تفسير القرطبي ‪. 2/219 :‬‬

‫) ‪(1/120‬‬

‫)‪ (56‬صحيح البخاري ‪ ، 8/66 :‬ورقمه ‪ ، 4351 :‬وصحيح مسلم ‪، 2/742 :‬‬
‫ورقمه ‪. 1064 :‬‬
‫)‪ (57‬رواه مسلم في صحيحه ‪ ، 1/382 :‬ورقم الحديث ‪ ، 537 :‬ورواه أبو‬
‫داود في سننه ‪ ،‬انظر صحيح سنن أبي داود ‪ ، 1/175 :‬ورقمه ‪ ، 823 :‬وانظر‬
‫‪ ، 3/632 :‬ورقمه ‪. 2809 :‬‬
‫)‪ (58‬سنن أبي داود ‪ ، 4/16 :‬ورقمه ‪. 3892 :‬‬
‫)‪ (59‬رواه الترمذي ‪ ،‬انظر صحيح سنن الترمذي ‪ ، 2/180 :‬ورقمه ‪، 1569 :‬‬
‫وقال الترمذي فيه ‪ :‬حديث حسن صحيح ‪.‬‬
‫)‪ (60‬رواه مسلم في صحيحه ‪ ، 4/2084 :‬ورقمه ‪. 2713 :‬‬
‫)‪ (61‬صحيح سنن الترمذي ‪ ، 3/92 :‬ورقمه ‪. 2566 :‬‬
‫)‪ (62‬رواه أبو داود ‪ ، 1/358 :‬ورقمه ‪ ، 1905 :‬وأصل الحديث في‬
‫الصحيحين ‪ ،‬ولكني لم أجد فيهما رفع الرسول صلى الله عليه وسلم إصبعه‬
‫إلى السماء ونكتها إليهم ‪.‬‬
‫)‪ (63‬رواه البخاري في صحيحه ‪ . 6/39 :‬ورقمه ‪ ، 2826 :‬ورواه مسلم ‪:‬‬
‫‪ . 3/1504‬ورقمه ‪ ، 1890 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (64‬رواه البخاري في صحيحه ‪ ، 8/631 :‬ورقمه ‪ . 4889 :‬ورواه مسلم ‪:‬‬
‫‪ . 3/1625‬ورقمه ‪ 2054 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (65‬رواه البخاري ‪ ، 13/420 :‬ورقمه ‪. 7437 :‬‬
‫)‪ (66‬رواه مسلم ‪.1/175 :‬ورقمه‪. 187:‬‬
‫جملة من الصفات التي جاءت بها النصوص ) الجزء الثاني (‬
‫‪ -12 ، 11‬نزوله – سبحانه – ومجيئه‬
‫عن أبي هريرة رضي الله عنه ‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‪) :‬‬
‫دنيا ‪ ،‬حين يبقى ثلث الليل‬ ‫ينزل ربنا – تبارك وتعالى – كل ليلة إلى سماء ال ّ‬
‫الخر ‪ ،‬يقول ‪ :‬من يدعوِني فأستجيب له ‪ ،‬من يسألني فأعطيه ‪ ،‬من‬
‫يستغفرني فأغفر له ( ‪(1) .‬‬
‫ن الله يأتي يوم القيامة لفصل القضاء ) هل ينظرون‬ ‫ص القرآن على أ ّ‬ ‫وقد ن ّ‬
‫مام ِ والملِئكة وقضى المر ( ] البقرة ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ل من الغَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫إل ّ أن يأتيهم الله في ظل ٍ‬
‫ً‬
‫فا (‬ ‫ً‬
‫فا ص ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كت الرض دك ّا دك ّا – وجاء رّبك والملك ص ّ‬ ‫‪ ) ، [ 210‬كل ّ إذا د ُ ّ‬
‫] الفجر ‪. [ 22-21 :‬‬

‫) ‪(1/121‬‬

‫وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫) يجمع الله الولين والخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة ‪ ،‬شاخصة‬
‫ل من‬ ‫ظل ٍ‬ ‫ل الله في ُ‬ ‫أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء ‪ ،‬وينز ُ‬
‫كرسي ( ‪(2) .‬‬ ‫الغمام ِ من العرش إلى ال ُ‬
‫‪ -13‬كلم الله‬
‫والله – سبحانه – يتكلم متى شاء كيف يشاء ‪ ،‬ل يشبه كلمه كلم‬
‫المخلوقين ‪ ،‬وقد كلم الله بعض خلقه وكلموه ‪ ،‬منهم نبي الله موسى ) وكّلم‬
‫ه‬‫قات َِنا وكّلم ُ‬
‫مي َ‬
‫ما جاء موسى ل ِ ِ‬ ‫الله موسى تكليما ً ( ]النساء ‪ ) ، [ 164 :‬ول ّ‬
‫رّبه ( ]العراف ‪. [143 :‬‬
‫وقد ذكر لنا الله ما دار بينه وبين موسى ‪ ) :‬قال رب أرني أنظر إليك قال لن‬
‫ما تجّلى رّبه‬ ‫تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقّر مكانه فسوف تراني فل ّ‬
‫ك تبت إليك وأنا أول‬ ‫حان َ َ‬‫سب ْ َ‬‫ما أفاق قال ُ‬ ‫للجبل جعله دك ّا ً وخّر موسى صعقا ً فل ّ‬
‫سال َِتي وبكلمي فخذ‬ ‫المؤمنين – قال يا موسى إّني اصطفيتك على الّناس ب ِرِ َ‬
‫شاكرين ( ] العراف‪. [144-143 :‬‬ ‫ك وكن من ال ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ َ‬
‫شجرة وأقل‬ ‫وكلم الله آدم وحواء ) وناداهما رّبهما ألم أنهكما عن تلكما ال ّ‬
‫ن ( ] العراف ‪. [ 22 :‬‬ ‫مبي ٌ‬
‫شيطان لكما عدوّ ّ‬ ‫ن ال ّ‬‫ّلكما إ ّ‬
‫ويكلم الله جبريل ‪ ،‬ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ‪ :‬قال‬
‫ن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا ً‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إ ّ‬
‫ه جبريل ‪ ،‬ثم ينادي جبريل في‬ ‫ب فلنا ً فأحبه ‪ ،‬فُيحب ُ‬ ‫ن الله أح ّ‬ ‫نادى جبريل ‪ :‬إ ّ‬
‫ن الله قد أحب فلنا ً فأحبوه ‪،‬فيحبه أهل السماء ‪،‬ويوضع له‬ ‫أهل السماء ‪ :‬إ ّ‬
‫القبول في الرض ( ‪(3) .‬‬
‫وتسمع الملئكة ربهم حين يتكلم ‪ ،‬ففي الصحيح عن أبي هريرة يبلغ به النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ ) :‬إذا قضى الله المر في السماء ضربت‬
‫خضعانا ً لقوله ‪ ،‬كأّنه سلسلة على صفوان ‪ ،‬فإذا فّزع عن‬ ‫الملئكة بأجنحتها ُ‬
‫قلوبهم قالوا ‪ :‬ماذا قال ربكم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬الحقّ ‪ ،‬وهو العلي الكبير ( ‪(4) .‬‬

‫) ‪(1/122‬‬
‫شفاعة عنده‬ ‫وهذا الحديث أورده البخاري تفسيرا ً لقوله تعالى ‪ ) :‬ول تنفع ال ّ‬
‫إل ّ لمن أذن له حّتى إذا فُّزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال رّبكم قالوا الحقّ وهو‬
‫ي الكبير ( ]سبأ ‪. [ 23 :‬‬ ‫العل ّ‬
‫فقد جعل البخاري هذه الية بابا ً ‪ ،‬ثم قال ‪ " :‬ولم يقل ماذا خلق ربكم " ‪،‬‬
‫وأورد في هذا الباب ما رواه مسروق عن ابن مسعود معلقا ً موقوفا ً عليه ‪" :‬‬
‫إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا ً ‪ ،‬فإذا فزع عن قلوبهم ‪،‬‬
‫وسكن الصوت ‪ ،‬عرفوا أنه الحق ‪ ،‬ونادوا ‪ :‬ماذا قال ربكم " ‪.‬‬
‫وأورد حديثا ً معلقا ً يرويه جابر عن عبد الله بن أنيس قال ‪ :‬سمعت رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم يقول ‪ ) :‬يحشر الله العباد فيناديهم بصوت ‪،‬‬
‫ب ‪ :‬أنا الملك أنا الديان ( ‪(5) .‬‬ ‫يسمعه من ب َعُد َ ‪ ،‬كما يسمعه من قَُر َ‬
‫ً‬
‫وقال البخاري في كتابه ) خلق أفعال العباد ( معلقا على هذا الحديث ‪ " :‬في‬
‫ل ذكره‬ ‫هذا دليل أن صوت الله ل يشبه أصوات الخلق ؛ لن صوت الله ج ّ‬
‫ب ‪ ،‬وأن الملئكة يصعقون من صوته " ‪(6) .‬‬ ‫من ب ُعْد ٍ كما ُيسمع من قُْر ٍ‬ ‫يسمع ِ‬
‫ً‬
‫ويتكلم الله – سبحانه – بصوت ل يشبه شيئا من أصوات الخلق كما في‬
‫الحديث الذي يرويه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ‪ :‬قال‬
‫م ‪ ،‬فيقول ‪ :‬لبيك‬ ‫رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬يقول الله يا آد ُ‬
‫ن الله يأمرك أن تخرج من أمتك بعثا ً إلى‬ ‫وسعديك ‪ ،‬في َُناِدي بصوت ‪ :‬إ ّ‬
‫النار ( ‪(7) .‬‬
‫م يقول للملِئكة‬ ‫وفي يوم القيامة يكلم الملئكة ) ويوم يحشرهم جميعا ً ث ّ‬
‫أهؤلء إّياكم كانوا يعبدون – قالوا سبحانك أنت ولّينا من دونهم بل كانوا‬
‫مومنون ( ] سبأ ‪. [ 41-40 :‬‬ ‫ن أكثرهم بهم ّ‬ ‫ج ّ‬
‫يعبدون ال ِ‬
‫مةٍ فوجا ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ويخاطب الكفرة المكذبين مقّرعا ومبكتا ) ويوم نحشر من كل أ ّ‬
‫ذبتم بآياتي ولم‬ ‫ؤوا قال أك ّ‬ ‫جا ُ‬‫ب بآياتنا فهم يوزعون – حّتى إذا َ‬ ‫من يكذ ّ ُ‬ ‫م ّ‬
‫ّ‬
‫ماذا كنتم تعملون ( ] النمل ‪. [ 84-83 :‬‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ا‬‫علم‬ ‫بها‬ ‫تحيطوا‬

‫) ‪(1/123‬‬

‫ويخاطب الله أهل الجنة ويكلمهم ‪ ،‬فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‬
‫ن الله يقول‬‫الله عليه وسلم قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إ ّ‬
‫لهل الجنة ‪ :‬يا أهل الجنة ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬لبيك وسعديك والخير في يديك ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬هل رضيتم ؟ فيقولون ‪ :‬وما لنا ل نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم‬
‫تعط أحدا ً من خلقك ‪ .‬فيقول ‪ :‬أل أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون ‪ :‬يا‬
‫م رضواني ‪ ،‬فل أسخ ُ‬
‫ط‬ ‫ل من ذلك ؟ فيقول ‪ :‬أحل عليك ُ‬ ‫رب ‪ ،‬وأيّ شيء أفض ُ‬
‫عليكم بعدهُ أبدا ً ( ‪(8) .‬‬
‫كلم الله ل يحصى ول يستقصى ‪:‬‬
‫قال الله تبارك وتعالى ‪ ) :‬قل ّلو كان البحر مدادا لكلمات رّبي لنفذ البحر‬
‫ً‬
‫قبل أن تنفذ كلمات رّبي ولو جئنا بمثله مددا ً ( ] الكهف ‪. [ 109 :‬‬
‫القرآن كلم الله حقيقة ‪:‬‬
‫والقرآن كلم الله حقيقة ل شك في ذلك ‪ ،‬قال تعالى ‪ ) :‬وإن أحد ٌ من‬
‫المشركين استجارك فأجره حّتى يسمع كلم الله ( ] التوبة ‪ ، [ 6 :‬وقال‬
‫مخّلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نّتبعكم‬ ‫تعالى ‪ ) :‬سيقول ال ُ‬
‫م قال الله من قبل ( ] الفتح ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫دلوا كلم الله قل لن تّتبعونا كذ َل ِك ْ‬ ‫يريدون أن يب ّ‬
‫‪. [ 15‬‬
‫ده من بعده‬ ‫م والبحر يم ّ‬‫وقال تعالى ‪ ) :‬ولو أّنما في الرض من شجرةٍ أقل ٌ‬
‫ما نفذت كلمات الله ( ] لقمان ‪. [ 27 :‬‬ ‫سبعة أبحرٍ ّ‬
‫ً‬
‫يقول ابن كثير في تفسير هذه الية )‪ " : (9‬يقول الله تعالى مخبرا عن‬
‫عظمته ‪ ،‬وكبريائه ‪ ،‬وجلله ‪ ،‬وأسمائه الحسنى ‪ ،‬وصفاته العل ‪ ،‬وكلماته التامة‬
‫التي ل يحيط بها أحد ‪ ،‬ول اطلع لبشر على كنهها وإحصائها ‪ ،‬كما قال سيد‬
‫البشر ‪ ) :‬ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ( )‪ (10‬فقال‬
‫ن‬
‫م ( ]لقمان ‪ [27 :‬أي ‪ :‬ولو أ ّ‬ ‫تعالى ‪ ) :‬ولو أّنما في الرض من شجرةٍ أقل ٌ‬
‫ده سبعة أبحر معه‬ ‫جميع أشجار الرض جعلت أقلما ً ‪ ،‬وجعل البحر مدادا ‪ ،‬وم ّ‬
‫ً‬
‫سرت‬ ‫‪ ،‬فكتبت بها كلمات الله تعالى الدالة على عظمته وصفاته وجلله لتك ّ‬
‫القلم ‪ ،‬ونفد ماء البحر ‪ ،‬ولو جاء أمثالها مددا ً " ‪.‬‬

‫) ‪(1/124‬‬

‫وقال الحسن البصري ‪ " :‬لو جعل شجر الرض أقلما ً ‪ ،‬وجعل البحر مدادا ً ‪،‬‬
‫وقال الله تعالى ‪ :‬إن من أمري كذا ‪ ،‬ومن أمري كذا ‪ ،‬لنفد ما في البحور ‪،‬‬
‫سرت القلم " وصدق الله إذ يقول ‪ ) :‬وما ُأوتيتم من العلم إل ّ قليل ً (‬ ‫وتك ّ‬
‫] السراء ‪. [ 85 :‬‬
‫‪ -14‬محبة الله‬
‫ن الله تعالى يحب أفعال ً معينة ‪ ،‬كما يحب كلما ً‬ ‫جاء في الكتاب والسنة أ ّ‬
‫ب بعض خلقه الذين اتصفوا بصفات خاصة بّينها ‪.‬‬ ‫معينا ً ‪ ،‬ويح ّ‬
‫وما أخبرنا بذلك إل لكي نبادر إلى التصاف بما يحّبه من الخلق ‪ ،‬والقيام‬
‫بالعمال التي يحبها ‪ ،‬والكثار من ذكر الكلم الذي يحبه ‪ ،‬وبذلك يحبنا سبحانه‬
‫وتعالى ‪.‬‬
‫ب المّتقين ( ] التوبة ‪ ، [ 4 :‬ويحب‬ ‫ن الله يح ّ‬ ‫ب المتقين ‪ ) :‬إ ّ‬ ‫والله تعالى يح ّ‬
‫ب التوابين‬ ‫ب المحسنين( ] آل عمران ‪ ، [ 146 :‬ويح ّ‬ ‫المحسنين ‪ ) :‬والله يح ّ‬
‫ب المتطّهرين ( ] البقرة ‪، [ 222 :‬‬ ‫وابين ويح ّ‬
‫ب الت ّ ّ‬ ‫ن الله يح ّ‬ ‫والمتطهرين ‪ ) :‬إ ّ‬
‫صابرين ( ] آل عمران ‪ ، [ 146 :‬ويحب‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ويحب الصابرين ‪ ) :‬والله يح ّ‬
‫ب المقسطين ( ] المائدة ‪ ، [ 42 :‬ويحب المتوكلين‬ ‫ن الله يح ّ‬‫العادلين ) إ ّ‬
‫ب المتوكلين ( ] آل عمران ‪ ، [ 159 :‬ويحب الذين يقاتلون في‬ ‫ن الله يح ّ‬ ‫)إ ّ‬
‫ن‬ ‫ً‬
‫ب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأّنهم بنيا ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ن الله يح ّ‬ ‫ً‬
‫سبيله صفا ‪ ) :‬إ ّ‬
‫ص ( ]الصف ‪. [4 :‬‬ ‫مرصو ٌ‬ ‫ّ‬
‫وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم قال ‪ ) :‬كلمتان خفيفتان على اللسان ‪ ،‬ثقيلتان في الميزان ‪ ،‬حبيبتان‬
‫إلى الرحمن ‪ ،‬سبحان الله وبحمده ‪ ،‬سبحان الله العظيم ( ‪(11) .‬‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫وعن سمرة بن جندب قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أح ّ‬
‫الكلم إلى الله أربع ‪ :‬سبحان الله ‪ ،‬والحمد لله ‪ ،‬ول إله إل الله ‪ ،‬والله أكبر ‪،‬‬
‫ضّرك بأيهن بدأت ( ‪(12) .‬‬ ‫لي ُ‬
‫خصلتين ُيحبهما الله‬ ‫ن فيك َ‬ ‫وقال صلى الله عليه وسلم لشج عبد القيس ‪ ) :‬إ ّ‬
‫م ‪ ،‬والناة ُ ( ‪(13) .‬‬ ‫‪ :‬الحل ُ‬

‫) ‪(1/125‬‬
‫ب ِلقاء‬
‫وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬من أح ّ‬
‫ب الله لقاءه ُ ‪ ،‬ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ُ ( ‪(14) .‬‬ ‫الله أح ّ‬
‫وجماع العمال والخلق والقوال التي يحبها الله هو ما جاء به الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬وما اتصف به عليه السلم ‪ ،‬ولذا فقد بّين الله في آية‬
‫جامعة أن السبيل إلى محبته هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬قل‬
‫إن كنتم تحّبون الله فاّتبعوني يحببكم الله( ] آل عمران ‪. [ 31 :‬‬
‫‪ -15-16‬كراهة الله وبغضه‬
‫هناك أعمال ل يحبها الله ‪ ،‬بل يكرهها ويبغضها ‪ ،‬وكراهيته وبغضه – سبحانه –‬
‫ب‬
‫حق على وجه يليق بذاته الكريمة ‪ ،‬من هذه العمال الفساد ) والله ل يح ّ‬
‫ب المفسدين ( ] المائدة ‪[ 64 :‬‬ ‫الفساد ( ] البقرة ‪ ، [ 205 :‬ولذا فإّنه ) ل يح ّ‬
‫‪.‬‬
‫وجاء في النصوص أّنه ل يحب ‪ :‬الكافرين ‪ ،‬والظالمين ‪ ،‬والمسرفين ‪،‬‬
‫والمستكبرين ‪ ،‬والمعتدين ‪ ،‬والخائنين ‪ ،‬والفرحين ‪ .‬ول يحب كل مختال فخور‬
‫وان أثيم ‪ .‬وفي القرآن ) ولكن كره الله انبعاثهم فثّبطهم (‬ ‫فار أثيم ‪ ،‬وخ ّ‬
‫‪ ،‬وك ّ‬
‫] التوبة ‪. [ 46 :‬‬
‫َ‬
‫وسبق ذكر الحديث الذي فيه ‪ ) :‬ومن كره ِلقاء الله كره الله لقاءه ُ ( ‪(15) .‬‬
‫وعن عائشة رضي الله عنها قالت ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪) :‬‬
‫م ( ‪(16) .‬‬‫ص ُ‬
‫خ ِ‬
‫أبغض الرجال إلى الله اللد ّ ال َ‬
‫وعن البراء بن عازب أّنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في‬
‫النصار ‪ ) :‬من أحبهم أحبه الله ‪ ،‬ومن أبغضهم أبغضه الله ( ‪(17) .‬‬
‫‪ -17‬رؤية الله‬
‫ل ُيرى الله في الدنيا ‪ ،‬وقد طمع موسى في رؤية الله ‪ ،‬فأخبره رّبه أّنه لن‬
‫دنيا ‪ ،‬ول يستطيع ذلك ‪ ،‬بل الجبل القويّ الصلد ل يطيق ذلك‬ ‫يراه في ال ّ‬
‫ّ‬
‫ما جاء موسى لميقاتنا وكلمه رّبه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني‬ ‫) ول ّ‬
‫ّ‬
‫ما تجلى رّبه للجبل‬ ‫ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوق تراني فل ّ‬
‫صِعقا ً ( ] العراف ‪. [ 143 :‬‬ ‫جعله دك ّا ً وخّر موسى َ‬

‫) ‪(1/126‬‬

‫عرج به‬ ‫وقد اختلف العلماء في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم رّبه حين ُ‬
‫ح عن عائشة –‬ ‫إلى السماء ‪ ،‬والصحيح أّنه لم ير رّبه في المعراج ‪ ،‬وقد ص ّ‬
‫ن محمدا ً صلى الله عليه وسلم‬ ‫رضي الله عنها – أنها قالت ‪ ) :‬ومن زعم أ ّ‬
‫رأى رّبه فقد أعظم على الله الفرية( ‪(18) .‬‬
‫ن العباد يخلقون خلقا ً جديدا ً‬ ‫ما في الخرة فالمر مختلف ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫هذا في الدنيا ‪ ،‬أ ّ‬
‫ن الشمس تدنو من رؤوس الناس في يوم القيامة حتى ل يكون‬ ‫‪ ،‬أل ترى أ ّ‬
‫ن‬
‫بينها وبينهم إل ميل واحد ‪ ،‬ومع ذلك فل يذوبون ول ينصهرون ! أل ترى أ ّ‬
‫الناس بعد البعث والنشور غير قابلين للموت ! بل يدخل الكفار الّنار كلما‬
‫ما الموت فل ‪.‬‬ ‫دلهم الله جلودا ً غيرها ليذوقوا العذاب ‪ ،‬أ ّ‬
‫نضجت جلودهم ب ّ‬
‫ن أعظم نعيم يعطاه‬ ‫نعم في يوم القيامة يطيق المؤمنون رؤية ربهم ‪ ،‬بل إ ّ‬
‫العباد في الجّنة هو النظر إلى وجه ربهم العظيم الكريم سبحانه ‪.‬‬
‫هذا النعيم العظيم يحرمه الكفار ) كل ّ إّنهم عن ّربهم يومئذ ٍ ّلمحجوبون (‬
‫سن وجوههم فل يحجبون ‪،‬‬ ‫]المطففين‪ [15 :‬أما الذين اصطفاهم الله وح ّ‬
‫ن البرار لفي‬ ‫) وجوهٌ يومئذٍ ناضرة ٌ ( ]القيامة ‪ [22 :‬وهؤلء هم البرار ) إ ّ‬
‫نعيم ٍ – على الراِئك ينظرون ( ]المطففين ‪ ، [23-22 :‬وهذا النظر إلى وجهه‬
‫الكريم هو الزيادة التي ُوعد بها المؤمنون ) لّلذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ]‬
‫يونس ‪. [ 26 :‬‬
‫ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ٌ ( ]ق ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫لهم‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫الية‬ ‫هذه‬ ‫في‬ ‫المذكور‬ ‫وهو المزيد‬
‫‪. [35‬‬

‫) ‪(1/127‬‬

‫وقد جاءت الحاديث المتواترة مصّرحة بذلك غاية التصريح ‪ ،‬ففي الصحيحين‬
‫ن ناسا ً قالوا لرسول الله صلى الله عليه‬ ‫عن أبي هريرة رضي الله عنه ‪ :‬أ ّ‬
‫وسلم ‪ :‬يا رسول الله هل نرى رّبنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله‬
‫ن في رؤية القمر ليلة البدر ؟ ( قالوا ‪ :‬ل ‪ ،‬يا‬ ‫عليه وسلم ‪ ) :‬هل ُتضاّرو َ‬
‫ب؟(‬ ‫ن في رؤية الشمس ليس ُدونها سحا ٌ‬ ‫رسول الله ‪ ،‬قال ‪ ) :‬هل ُتضاّرو َ‬
‫ُ‬
‫قالوا ‪ :‬ل ‪ ،‬يا رسول الله ‪ ،‬قال ‪ ) :‬فإن ّكم ترونه كذلك ( ‪(19) .‬‬
‫ً‬
‫وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ‪ ،‬قال ‪ ) :‬كنا جلوسا عند‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬إّنكم‬
‫ن استطعتم أن ل تغلبوا‬ ‫مون ‪ ،‬فإ ْ‬ ‫سترون ربكم كما ترون هذا القمر ل تضا ّ‬
‫على صلة قبل طلوع الشمس ‪ ،‬وصلة قبل غروب الشمس فافعلوا ( ‪(20) .‬‬
‫وفي صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫دون شيئا ً أزيدكم ؟‬ ‫ل الجنة ‪ ،‬يقول الله تبارك وتعالى ‪ :‬تري ُ‬ ‫قال ‪ ) :‬إذا دخل أه ُ‬
‫ن الّنار ؟ ( قال ‪:‬‬ ‫م َ‬
‫جنا ِ‬
‫جوهنا ؟ ألم ُتدخلنا الجنة وت ُن ْ ِ‬ ‫ض وُ ُ‬‫يقولون ‪ :‬ألم ُتبي ْ‬
‫ً‬
‫ف الحجاب ‪ ،‬فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عّز‬ ‫فيكش ُ‬
‫ّ‬
‫م َتل هذه الية ‪ ) :‬للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ٌ ( ] يونس ‪) . [ 26 :‬‬ ‫وج ّ‬
‫ل‪،‬ث ّ‬
‫‪(21‬‬
‫وفي الصحيحين عن أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم قال ‪ ) :‬جّنتان من فضة آنيت ُُهما وما فيهما ‪ ،‬وجنتان من ذهب آنيتهما‬
‫وما فيهما ‪ ،‬وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى رّبهم إل رداُء الكبرياء على‬
‫ن ( ‪(22) .‬‬ ‫وجهه في جنة عد ٍ‬
‫‪ -18‬علم الله‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫ونعلم أن الله – سبحانه – متصف بصفة العلم ‪ ،‬وقد سمى نفسه – سبحانه –‬
‫سميع العليم (‬
‫بعدة أسماء تفيد هذه الصفة ‪ ،‬منها ) العليم ( ) إّنه هو ال ّ‬
‫] الشعراء ‪ ، [ 220 :‬ومنها ‪ ) :‬الخبير ( ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن‬
‫يكون ‪ .‬ومنها ) الحكيم ( ويختص بأن يعلم دقائق الوصاف ‪ .‬ومنها ‪ ) :‬الشهيد‬
‫( ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ‪ .‬ومعناه أّنه ل يغيب عنه شيء ‪ .‬ومنها‬
‫) الحافظ ( ويختص بأّنه ل ينسى ما علم ‪ .‬ومنها ) المحصي ( ويختص بأنه ل‬
‫تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ‪ ،‬واشتداد الريح ‪ ،‬وتساقط الوراق ‪،‬‬
‫فيعلم عند ذلك عدد أجزاء الحركات في كل ورقة ‪.‬‬
‫علمه تعالى شامل للكليات والجزئيات ‪:‬‬
‫ن الله يعلم الكليات ‪ ،‬ول يعلم الجزئيات ‪ ،‬وكذبوا في قولهم ‪،‬‬ ‫زعم الفلسفة أ ّ‬
‫فعلم الله محيط شامل ل تخفى عليه خافية من الرض ‪ ،‬ول في السماء ‪،‬‬
‫يعلم كل حركة في بّر أو بحر ‪ ،‬فما من ورقة تسقط من شجرة ‪ ،‬أو حّبة‬
‫تندثر في الرمال ‪ ،‬أو نبتة صغيرة تشق الرض ‪ ،‬أو نبتة تيبس أو تموت إل‬
‫وعلم الله محيط بها ) ويعلم ما في البّر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إل ّ‬
‫ن(‬ ‫مبي ٍ‬‫س إل ّ في كتاب ّ‬
‫ب ول ياب ٍ‬
‫ت الرض ول رط ٍ‬ ‫يعلمها ول حب ّةٍ في ظ ُل ُ َ‬
‫ما ِ‬
‫]النعام ‪. [59 :‬‬
‫وهذه العداد التي ل حصر لها من الدواب ل يخفى على الله منها شيء ) وما‬
‫ل في‬ ‫من داب ّةٍ في الرض إل ّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ك ٌ‬
‫ن ( ]هود‪ ، [6 :‬وليس من شيء يصل إلى الرض ‪ ،‬أو يصعد من‬ ‫مبي ٍ‬
‫ب ّ‬
‫كتا ٍ‬
‫ً‬
‫الرض إلى السماء إل وقد أحاط الله به علما ) يعلم ما يلج في الرض وما‬
‫سماء وما يعرج فيها وهو الّرحيم الغفور ( ] سبأ ‪:‬‬‫يخرج منها وما ينزل من ال ّ‬
‫‪.[2‬‬

‫) ‪(1/129‬‬

‫وهذا النسان ل يخفى على الله منه شيء ‪ ،‬فعلم الله به محيط يعلم عمله‬
‫البادي الظاهر‪ ،‬ويعلم ما استكن في أعماق نفسه ‪ ) ،‬قل إن تخفوا ما في‬
‫سماوات‬ ‫صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ( ] آل عمران ‪ )، [ 29 :‬وهو الله في ال ّ‬
‫وفي الرض يعلم سّركم وجهركم ( ] النعام ‪ ، [ 3 :‬وهو علم محيط‬
‫ن ول‬ ‫ن وما تتلوا منه من قرآ ٍ‬ ‫بالجزئيات من أمور النسان ) وما تكون في شأ ٍ‬
‫ل إل ّ ك ُّنا عليكم شهودا ً إذ تفيضون فيه( ] يونس ‪. [ 61 :‬‬ ‫تعملون من عم ٍ‬
‫ي إّنها إن ت َ ُ‬
‫ك‬ ‫وانظر إلى هذا العلم الذي ل تفلت منه الذرة الصغيرة ) يا بن ّ‬
‫سماوات أو في الرض يأت‬ ‫ل فتكن في صخرةٍ أو في ال ّ‬ ‫مثقال حب ّةٍ من خرد ٍ‬
‫ن الله لطيف خبيٌر( ] لقمان ‪. [ 16 :‬‬ ‫بها الله إ ّ‬
‫لقد استوى في علم الله السّر والعلنية ‪ ،‬والصغير والكبير ‪ ،‬والغيب والشهادة‬
‫ل شيٍء عنده‬ ‫ل أنثى وما تغيض الرحام وما تزداد وك ّ‬ ‫‪ ) :‬الله يعلم ما تحمل ك ّ‬
‫من أسّر القول‬ ‫شهادة الكبير المتعال – سواٌء منكم ّ‬ ‫بمقدارٍ – عالم الغيب وال ّ‬
‫ل وسارب بالّنهار ( ] الرعد ‪. [ 10-8 :‬‬ ‫ّ‬
‫ف ِباللي ْ ِ‬‫خ ٍ‬
‫ست َ ْ‬‫م ْ‬
‫ومن جهر به ومن هو ُ‬
‫وصدق الله إذ يقول ‪ ) :‬وما يعزب عن ّرّبك من مثقال ذّرةٍ في الرض ول في‬
‫ن ( ] يونس ‪. [ 61 :‬‬ ‫مبي ٍ‬ ‫سماء ول أصغر من ذلك ول أكبر إل ّ في كتا ٍ‬
‫ب ّ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ -20 ، 19‬حياته وقيوميته سبحانه‬
‫ي ل إله إل ّ هو ( ] غافر ‪ [ 65 :‬وحياته منافية‬ ‫ي حياة أزلية ) هو الح ّ‬ ‫وهو ح ّ‬
‫لحياة الحياء من الخلق فكلهم يموت ويفنى ‪ ،‬ول يبقى إل الله سبحانه ‪ ) :‬ك ّ‬
‫ل‬
‫ن – ويبقى وجه ربك ذو الجلل والكرام ( ] الرحمن ‪. [ 27-26 :‬‬ ‫من عليها فا ٍ‬
‫وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫س‬
‫ن والن ُ‬ ‫كان يقول ‪ ) :‬أعوذ بعّزِتك الذي ل إله إل أنت الذي ل يموت والج ّ‬
‫يموُتون ( ‪(23) .‬‬
‫ّ‬
‫ومن كان كذلك فهو الذي يستحق أن يعتمد عليه ويتوكل عليه ) وتوكل على‬
‫ي اّلذي ل يموت ( ] الفرقان ‪. [ 58 :‬‬ ‫الح ّ‬
‫) ‪(1/130‬‬
‫وهو قيوم سبحانه فهو قيوم مقيم لغيره ‪ ،‬وجميع المخلوقات مفتقرة إليه ‪،‬‬
‫ماء والرض بأمره ( ] الروم ‪:‬‬ ‫ول قوام لها بدونه ‪ ) :‬ومن آَيات ِهِ أن تقوم الس ّ‬
‫‪. [ 25‬‬
‫جمعه – سبحانه – بين هذين السمين ‪:‬‬
‫وقد جمع – سبحانه – في أكثر من آية بين هذين السمين ) الله ل إله إل ّ هو‬
‫ي القّيوم ( ] آل عمران ‪. [ 2 :‬‬ ‫الح ّ‬
‫من تمام حياته وقيوميته ‪:‬‬
‫ومن تمام حياته وقيوميته – سبحانه – أّنه ل ينام ) الله ل إله إل ّ هو الح ّ‬
‫ي‬
‫م ( ] البقرة ‪ ، [ 255 :‬والسنة ‪ :‬أوائل النوم ‪،‬‬ ‫ة ول نو ٌ‬‫القّيوم ل تأخذه سن ٌ‬
‫والسنة والنوم نقص يتنزه الخالق عنهما ‪ ،‬ففي صحيح مسلم عن أبي موسى‬
‫– رضي الله عنه – قال ‪ :‬قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس‬
‫ل – ل ينام ‪ ،‬ول ينبغي له أن ينام ‪ ،‬يخفض‬ ‫ن الله – عّز وج ّ‬ ‫كلمات ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬إ ّ‬
‫القسط ويرفعه ‪ُ ،‬يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ‪ ،‬وعمل الّنهار قبل‬
‫عمل الليل ( ‪(24) .‬‬
‫تمجيده تعالى بذكر حياته وقيوميته ‪:‬‬
‫جد نفسه – سبحانه – بوصف نفسه بالحياة والقيومية ‪ ،‬كما سبق في‬ ‫وقد م ّ‬
‫النصوص التي ذكرناها ‪ ،‬وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمجد رّبه‬
‫بذكر هذه الصفات ‪ ،‬فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ‪ :‬كان النبي صلى‬
‫م لك الحمد ‪ ،‬أنت قيم‬ ‫الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال ‪ ) :‬الله ّ‬
‫مْلك السماوات والرض‬ ‫ك ُ‬‫السماوات والرض ومن فيهن ‪ ،‬ولك الحمد ُ ‪ ،‬ل َ َ‬
‫ومن فيهن ‪ ،‬ولك الحمد ‪ ،‬أنت ُنور السماوات والرض ‪ ،‬ولك الحمد أنت ملك‬
‫السماوات والرض ‪(25) . ( ...‬‬
‫‪ -22 ، 21‬سمعه وبصره – سبحانه وتعالى –‬
‫ص القرآن ) ليس كمثله شيٌء وهو‬ ‫وهاتان الصفتان ثابتتان لله تعالى بن ّ‬
‫ّ‬
‫ن الله يولج الليل في الّنهار‬ ‫سميع البصير( ] الشورى ‪ ) ، [ 11 :‬ذلك بأ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ن الله سميع بصيٌر ( ] الحج ‪. [ 61 :‬‬ ‫ّ‬
‫ويولج الّنهار في الليل وأ ّ‬
‫وقال لموسى وهارون ‪ ) :‬إّنني معكما أسمع وأرى ( ] طه ‪. [ 46 :‬‬
‫ظم سمع الله وبصره ‪:‬‬ ‫ع َ‬‫ِ‬

‫) ‪(1/131‬‬

‫سماوات والرض أبصر به‬ ‫يقول تعالى ‪ ) :‬قل الله أعلم بما لبثوا له غيب ال ّ‬
‫وأسمع ( ]الكهف ‪ ، [26 :‬قال ابن جرير ‪ " :‬وذلك في معنى المبالغة في‬
‫المدح كأّنه قيل ‪ :‬ما أبصره وأسمعه ‪ ،‬وتأويل الكلم ‪ :‬ما أبصر الله لكل‬
‫موجود ‪ ،‬وأسمعه لكل مسموع ‪ ،‬ل يخفى عليه من ذلك شيء " ‪(26) .‬‬
‫وهو يسمع ويرى الصالحين ‪ ،‬فيثيبهم ) اّلذي يراك حين تقوم ‪ -‬وتقّلبك في‬
‫سميع العليم ( ] الشعراء ‪. [ 220-218 :‬‬ ‫ساجدين – إّنه هو ال ّ‬
‫ال ّ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وهو – سبحانه – يرى الطالحين فيجزيهم ) لقد سمع الله قول الذين قالوا إ ّ‬
‫ق ونقول ذوقوا‬ ‫الله فقيٌر ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم النبياء بغير ح ٍ‬
‫عذاب الحريق ( ]آل عمران ‪. [ 181 :‬‬
‫تقول عائشة – رضي الله عنها – مبينة سعة سمع الله ‪ " :‬الحمد لله الذي‬
‫وسع سمعه الصوات " )‪ ، (27‬لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم تكلمه في جانب البيت ما أسمع ما تقول ‪ ،‬فأنزل الله عّز وج ّ‬
‫ل ‪ ) :‬قد‬
‫سمع الله قول اّلتي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع‬
‫ن الله سميع بصير ( ] المجادلة ‪(28) . [ 1 :‬‬ ‫تحاوركما إ ّ‬
‫وفي صحيح البخاري عن أبي موسى الشعري – رضي الله عنه – قال ‪ :‬كّنا‬
‫مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ‪ ،‬فكّنا إذا علونا كبرنا ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫م ول غاِئبا ً ‪ ،‬تدعون سميعا ً بصيرا ً‬‫ن أص ّ‬
‫عو َ‬
‫كم ل تد ْ ُ‬‫م ‪ ،‬فإن ّ ُ‬
‫سك ُ ْ‬
‫ف ِ‬
‫) أرب ُِعوا على أن ُ‬
‫قريبا ً ( ‪(29) .‬‬
‫جهل المشركين بنفاذ سمع الله ‪:‬‬

‫) ‪(1/132‬‬

‫روى البخاري في صحيحه عن عبد الله – رضي الله عنه – قال ‪ :‬اجتمع عند‬
‫البيت ) الكعبة ( ثقفيان وقرشي ‪ ،‬أو قرشيان وثقفي ‪ ،‬كثيرة ٌ شحم بطوِنهم ‪،‬‬
‫ن الله يسمع ما نقول ؟ قال‬ ‫قليلة فقه قلوِبهم ‪ ،‬فقال أحدهم ‪ :‬أترون أ ّ‬
‫الخر ‪ :‬يسمع إن جهرنا ‪ ،‬ول يسمع إن أخفينا ‪ ،‬وقال الخر ‪ :‬إن كان يسمع إذا‬
‫ل – ) وما كنتم تستترون أن‬ ‫جهرنا فإّنه يسمع إذا أخفينا ‪ ،‬فأنزل الله – عّز وج ّ‬
‫ن الله ل يعلم‬
‫يشهد عليكم سمعكم ول أبصاركم ول جلودكم ولكن ظننتم أ ّ‬
‫ما تعملون ( ] فصلت ‪(30) . [ 22 :‬‬ ‫كثيرا ً ّ‬
‫م ّ‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري ‪ . 29 /3:‬ورقمه ‪. 1145 :‬ورواه مسلم ‪. 1/521 :‬ورقمه ‪:‬‬
‫‪، 758‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (2‬رواه ابن منده ‪ ،‬وقال الذهبي ‪ :‬إسناده حسن ‪ ،‬وصححه جمع من حفاظ‬
‫الحديث ونقاده كالحاكم والمنذري والهيثمي ‪.‬‬
‫)‪ (3‬رواه البخاري‪ ، 13/461:‬ورقمه ‪ . 7458 :‬ورواه مسلم ‪. 4/2030 :‬‬
‫ورقمه ‪ ، 2637 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (4‬رواه البخاري ‪ ، 13/453 :‬ورقمه ‪. 7481 :‬‬
‫)‪ (5‬صحيح البخاري ‪. 13/452 :‬‬
‫)‪ (6‬خلق أفعال العباد ‪ :‬ص ‪. 149‬‬
‫)‪ (7‬رواه البخاري ‪ ، 13/453 :‬ورقمه ‪ ، 7483 :‬وانظر ‪ . 8/441 :‬رقم ‪:‬‬
‫‪ ، 4741‬ورواه مسلم ‪ ، 1/201 :‬ورقمه ‪ .222 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (8‬رواه البخاري ‪ ، 13/487 :‬ورقمه ‪ ، 7518 :‬ورواه مسلم ‪، 4/2176 :‬‬
‫ورقمه ‪ ، 2829 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (9‬تفسير ابن كثير ‪. 5/394 :‬‬
‫)‪ (10‬رواه مسلم ‪ ، 1/353 :‬ورقمه ‪. 486 :‬‬
‫)‪ (11‬رواه البخاري ‪ ، 11/206 :‬ورقمه ‪ ، 1406 :‬ورواه مسلم ‪. 4/2072 :‬‬
‫ورقمه ‪. 2694 :‬‬
‫)‪ (12‬رواه مسلم ‪ . 3/1685 :‬ورقمه ‪. 2137 :‬‬
‫)‪ (13‬رواه مسلم في صحيحه ‪ . 1/48 :‬ورقمه ‪. 17 :‬‬
‫)‪ (14‬رواه مسلم ‪ ، 4/2065 :‬ورقمه ‪. 2684 :‬‬
‫)‪ (15‬رواه مسلم ‪ . 4/2065:‬ورقمه ‪. 2684 :‬‬
‫)‪ (16‬رواه البخاري ‪ . 13/180 :‬ورقمه ‪ ، 7188 :‬ورواه مسلم ‪. 4/2054 :‬‬
‫ورقمه ‪ . 2668 :‬واللد ‪ :‬شديد الخصومة ‪ .‬والخصم ‪ :‬الحاذق بالخصومة ‪.‬‬

‫) ‪(1/133‬‬
‫)‪ (17‬رواه البخاري ‪ ، 7/113 :‬ورقمه ‪ ، 3783 :‬ورواه مسلم ‪، 1/85 :‬‬
‫ورقمه ‪. 75 :‬‬
‫)‪ (18‬رواه مسلم ‪ . 1/159 :‬ورقمه ‪. 177 :‬‬
‫)‪ (19‬رواه البخاري ‪ . 13/419 :‬ورقمه ‪ ، 7437 :‬ورواه مسلم ‪. 1/163 :‬‬
‫ورقمه ‪ . 182 :‬واللفظ لمسلم ‪.‬‬
‫)‪ (20‬رواه البخاري ‪ . 13/419 :‬ورقمه ‪. 7434 :‬‬
‫)‪ (21‬رواه مسلم ‪ . 1/163 :‬ورقمه ‪. 181 :‬‬
‫)‪ (22‬رواه البخاري ‪ . 13/423 :‬ورقمه ‪ . 7444 :‬ورواه مسلم ‪. 1/163 :‬‬
‫ورقمه ‪. 180 :‬‬
‫)‪ (23‬رواه البخاري ‪ . 13/368 :‬ورقمه ‪. 7383 :‬‬
‫)‪ (24‬رواه مسلم ‪ . 1/162 :‬ورقمه ‪. 179 :‬‬
‫)‪ (25‬رواه البخاري ‪ . 3/3 :‬ورقمه ‪ . 1120 :‬ورواه مسلم ‪ . 1/532 :‬ورقمه‬
‫‪ . 799 :‬واللفظ للبخاري ‪.‬‬
‫)‪ (26‬تفسير ابن جرير ‪. 15/232 :‬‬
‫)‪ (27‬رواه البخاري في صحيحه تعليقا ً ‪ : 13/372 :‬وقال ابن حجر في‬
‫الفتح ‪ " . 13/373 :‬ووصله أحمد والنسائي وابن ماجه باللفظ المذكور هنا‬
‫"‪.‬‬
‫)‪ (28‬هذه التكملة رواها أحمد والنسائي وابن ماجه ‪ ،‬كما أفاده الحافظ في‬
‫الفتح ‪. 13/374 :‬‬
‫)‪ (29‬رواه البخاري ‪ . 13/372 :‬ورقمه ‪. 7386 :‬‬
‫)‪ (30‬رواه البخاري ‪ . 8/562 :‬ورقمه ‪. 4817 :‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫أسماء الله الحسنى )‪(1‬‬
‫لله تعالى أسماء كلها حسنى ) ولله السماء الحسنى فادعوه بها ( ] العراف‬
‫‪ [ 180 :‬منها ما ذكره الله في سورة الحشر ) هو الله اّلذي ل إله إل ّ هو‬
‫شهادة هو الّرحمن الّرحيم – هو الله اّلذي ل إله إل هو الملك‬ ‫عالم الغيب وال ّ‬
‫ما‬
‫سبحان الله ع ّ‬ ‫سلم المؤمن المهيمن العزيز الجّبار المتكبر ُ‬ ‫دوس ال ّ‬ ‫الق ّ‬
‫ُ‬
‫يشركون – هو الله الخالق البارئ المصور له السماء الحسنى يسبح له ما‬
‫سماوات والرض وهو العزيز الحكيم ( ] الحشر ‪. [ 24-22 :‬‬ ‫في ال ّ‬
‫‪ -1‬عدد أسمائه‬
‫ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال ‪:‬‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬إن لله تسعة وتسعين اسما ً ‪ ،‬مائة إل‬
‫واحدا ً ‪ ،‬من أحصاها دخل الجنة ‪ ،‬وإن الله وِت ٌْر ُيح ّ‬
‫ب الوْتر ( ‪(2) .‬‬

‫) ‪(1/134‬‬

‫ن لله – سبحانه – عددا ً محددا ً من السماء وقد ن ّ‬


‫ص‬ ‫هذا الحديث يدل على أ ّ‬
‫على أّنها تسعة وتسعون ‪.‬‬
‫ولكن يشكل على هذا ما رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫دك ‪ ،‬ابن‬
‫ن فقال ‪ :‬اللهم إني عب ُ‬ ‫أنه قال ‪ ) :‬ما أصاب أحدا ً قط ه ّ‬
‫م ول حز ٌ‬
‫ي قضاؤك ‪،‬‬ ‫لف ّ‬ ‫ي حكمك ‪ ،‬عد ٌ‬ ‫عِبدك ‪ ،‬ابن أمِتك ؛ ناصيتي بيدك ‪ ،‬ماض ف ّ‬
‫ً‬
‫ه أحدا من خلقك ‪ ،‬أو‬ ‫ل اسم هو لك ‪ ،‬سميت به نفسك ‪ ،‬أو علمت ْ ُ‬ ‫أسألك بك ّ‬
‫ن تجعل القرآن‬ ‫أنزلته في كتابك ‪ ،‬أو استأثرت به في علم الغيب عندك ‪ ،‬أ ْ‬
‫حزني وذهاب همي ‪ ،‬إل أذهب الله همه‬ ‫ربيع قلبي ‪ ،‬وُنوَر صدري ‪ ،‬وجلء ُ‬
‫وحزنه ‪ ،‬وأبدله مكانه فرحا ً ( ‪(3) .‬‬
‫وجاء في ثناء الرسول على ربه سبحانه ) ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت‬
‫ن من أسماء‬ ‫ل على أ ّ‬ ‫على نفسك ( )‪ . (4‬والشكال في هذا الحديث أّنه يد ّ‬
‫الله تعالى أسماء لم ينزلها في كتابه ‪ ،‬بل اختص بها بعض عباده ‪ ،‬أو اختص‬
‫ل على أن‬ ‫بها نفسه ‪ ،‬فلم يعّرفها أحدا ً من خلقه ‪ ،‬بينما حديث أبي هريرة يد ّ‬
‫أسماء الله التسعة والتسعين كلها منزلة معروفة بدللة قوله ) من‬
‫أحصاها ( ‪ ،‬فالحصاء لها ل يمكن ما لم تكن منزلة معروفة معلومة ‪ ،‬ومن‬
‫ن ما استأثر الله بعلمه أو اختص به بعض خلقه غير التسعة‬ ‫هذا ينتج أ ّ‬
‫والتسعين ‪.‬‬
‫ن عدد السماء التي عّرفنا الله إياها في‬ ‫والحق الذي ينبغي أن يصار إليه أ ّ‬
‫ص‬
‫كتابه ‪ ،‬أو ذكرها رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬تسعة وتسعون ل تزيد ‪ ،‬لن ّ‬
‫ن أحصاها ( ‪،‬‬‫م ْ‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا العدد ‪ ،‬ولقوله ‪َ ) :‬‬
‫ن ما زاد على هذه التسعة والتسعين فهو مما ل نعرفه ‪ ،‬لّنه من مكنون‬ ‫وأ ّ‬
‫علم الله أو مما اختص الله به بعض خلقه ‪ ،‬وإل فما فائدة تحديد عدد أسماء‬
‫الله بتسعة وتسعين ؟!‬
‫‪ -2‬تحديد أسماء الله الحسنى‬
‫ن أسماء الله تعالى المنزلة التي يمكننا‬ ‫أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أ ّ‬
‫معرفتها وإحصاؤها تسعة وتسعون اسما ً ‪.‬‬

‫) ‪(1/135‬‬

‫ولم يرد حديث صحيح يسرد هذه السماء سردا ً ل يترك مجال ً للخلف في‬
‫تحديدها ‪ ،‬بل وردت هذه السماء متفرقة في كتاب الله وفي سنة رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬تذكر الية السم والسمين أو أكثر ‪ ،‬أو تختم الية‬
‫بواحد أو أكثر ‪ ،‬وقد تسرد اليات جملة من هذه السماء ‪.‬‬
‫وقد عني العلماء بجمع أسماء الله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله‬
‫عليه وسلم كما عنوا بتفسيرها وشرحها ‪.‬‬
‫فالقرطبي له كتاب ) معاني أسماء الله الحسنى ( ‪ ،‬وقد سردها ابن جرير‬
‫الطبري ‪ ،‬وأبو بكر ابن العربي ‪ ،‬وابن حجر العسقلني ‪ ،‬وغيرهم ‪ .‬وقد اتفق‬
‫العلماء في عد ّ جملة كبيرة من أسماء الله تعالى ‪ ،‬واختلفوا في جملة قليلة ‪،‬‬
‫دها من أسمائه تعالى ‪ ،‬ومنهم من نازع في ذلك ‪(5) .‬‬ ‫فبعضهم ع ّ‬
‫ل ما أطلقه القرآن على‬ ‫نك ّ‬ ‫والسبب في هذا الخلف أن بعض العلماء ظن أ ّ‬
‫الله – سبحانه – يجوز عده اسما ً ‪ ،‬ويجوز إطلقه مجردا على الله تعالى ‪.‬‬
‫ً‬
‫فأبو بكر ابن العربي عد ّ في أسمائه ‪ :‬رابع ثلثة ‪ ،‬وسادس خمسة ‪ ،‬أخذا ً من‬
‫سماوات وما في الرض ما يكون‬ ‫ن الله يعلم ما في ال ّ‬ ‫قوله تعالى ‪ ) :‬ألم تر أ ّ‬
‫وى ثلثةٍ إل ّ هو رابعهم ول خمسةٍ إل هو سادسهم ( ] المجادلة ‪. [ 7 :‬‬
‫ّ‬ ‫ج َ‬
‫من ن ّ ْ‬
‫ق‬ ‫ً‬
‫كما عد ّ في أسمائه الفاعل والزارع أخذا من قوله ‪ ) :‬كما بدأنا أّول خل ٍ‬
‫نعيده وعدا ً علينا إّنا كّنا فاعلين ( ] النبياء ‪. [ 104 :‬‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫م نحن الّزارعون (‬ ‫م تزرعونه أ ّ‬ ‫ومن قوله ‪ ) :‬أفََرأي ُْتم ما تحرثون – أأنت ُ ْ‬
‫] الواقعة ‪. [64-63 :‬‬
‫والحق أن هذه ليست أسماء لله تعالى ‪ ،‬بمعنى أّنه ل يطلق على الله تعالى‬
‫رابع ثلثة ‪ ،‬وسادس خمسة ‪ ،‬والفاعل ‪ ،‬والزارع ‪(6) .‬‬

‫) ‪(1/136‬‬

‫ل – على نفسه على سبيل‬ ‫وقد ورد في القرآن أفعال أطلقها الله – عّز وج ّ‬
‫الجزاء والعدل والمقابلة ‪ ،‬وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال ‪ ،‬ولكن ل يجوز‬
‫أن يشتق لله تعالى منها أسماء ‪ ،‬ول تطلق عليه في غير ما سبقت فيه من‬
‫ن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ( ] النساء ‪[ 142 :‬‬ ‫اليات كقوله ‪ ) :‬إ ّ‬
‫وقوله ‪ ) :‬ومكروا ومكر الله ( ] آل عمران ‪ [ 54 :‬وقوله ‪ ) :‬نسو الله‬
‫فنسيهم ( ] التوبة ‪ ، [ 67 :‬وقوله ‪ ) :‬وإذا لقوا اّلذين آمنوا قالوا آمّنا وإذا‬
‫ن – الله يستهزئ‬ ‫ست َهْزِ ُ‬
‫ؤو َ‬ ‫م ْ‬‫خلوا إلى شياطينهم قالوا إّنا معكم إّنما نحن ُ‬
‫بهم ( ] البقرة ‪. [ 15-14 :‬‬
‫فل يطلق على الله مخادع ‪ ،‬ماكر ‪ ،‬ناس ‪ ،‬مستهزى ‪ ،‬ونحو ذلك مما يتعالى‬
‫الله عنه ‪ ،‬ول يقال ‪ :‬الله يستهزى ‪ ،‬ويخادع ‪ ،‬ويمكر ‪ ،‬وينسى ‪ ،‬على سبيل‬
‫الطلق ‪ .‬وقد أخطأ الذين عدوا ذلك من أسمائه الحسنى خطأ كبيرا ً ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن‬
‫الخداع والمكر يكون مدحا ً ويكون ذما ً ‪ ،‬فل يجوز أن يطلق على الله إل مقيدا ً‬
‫بما يزيل الحتمال المذموم منه كما ورد مقيدا ً في اليات ‪(7) .‬‬
‫ومن أجل ذلك لم يرد في أسمائه تعالى ‪ :‬المتكلم ‪ ،‬المريد ‪ ،‬الفاعل ‪ ،‬الصانع‬
‫ن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم ‪ .‬ولو جاز أن يشتق لله من‬ ‫؛ل ّ‬
‫أفعاله أسماء مثل ‪ :‬الماكر ‪ ،‬المخادع ‪ ،‬بحجة إطلق أفعالها في القرآن على‬
‫الله لجاز أن يجعل من أسمائه ‪ :‬الداعي ‪ ،‬والتي ‪ ،‬والجائي ‪ ،‬والذاهب ‪،‬‬
‫والقادم ‪ ،‬والناسي ‪ ،‬والقاسم ‪ ،‬والساخط ‪ ،‬والغضبان ‪ ،‬واللعن ‪ ...‬وغير ذلك‬
‫من تلك التي أطلق القرآن أفعالها على نفسه ‪.‬‬
‫فالله لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إل على وجه الجزاء لمن فعل‬
‫ذلك بغير حق ‪ ،‬والمجازاة على ذلك تعد ّ حسنة من المخلوق فكيف من‬
‫الخالق ؟ ‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫ومن أسماء الله تعالى ما ل ُيطلق عليه إل مقترنا ً بمقابله ‪ ،‬فإنه إذا أطلق‬
‫وحده أوهم نقصا ً ‪ ،‬فمن ذلك ‪ :‬المانع ‪ ،‬الضار ‪ ،‬القابض ‪ ،‬المذل ‪ ،‬الخافض ‪،‬‬
‫فل تطلق على الله منفردة ‪ ،‬بل يجب قرنها بما يقابلها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬المعطي‬
‫المانع ‪ ،‬الضاّر النافع ‪ ،‬القابض الباسط ‪ ،‬المعّز المذل ‪ ،‬الخافض الرافع ‪.‬‬
‫ومن ذلك المنتقم ‪ ،‬لم يأت في القرآن إل مضافا ً إلى ‪) :‬ذو( كقوله تعالى ‪:‬‬
‫) والله عزيٌز ذو انتقام ٍ ( ] المائدة ‪ [ 95 :‬أو مقيدا ً بالمجرمين ‪ ) :‬إّنا من‬
‫المجرمين منتقمون ( ] السجدة ‪. [ 22 :‬‬
‫‪ -3‬السم العظم‬
‫ً‬
‫ن لله اسما أعظم‬ ‫أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث أ ّ‬
‫له مميزات عن بقية أسمائه سبحانه وتعالى ‪ ،‬فمن هذه الحاديث ‪:‬‬
‫‪ -1‬عن زبيدة السلمي ‪ ،‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجل ً‬
‫م إني أسألك بأنك أنت الله ‪ ،‬ل إله إل أنت ‪ ،‬الحد الصمد ‪ ،‬الذي‬ ‫يقول ‪ " :‬الله ّ‬
‫لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا ً أحد " ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬دعا الله باسمه العظم‬
‫عي به أجاب ( ‪ .‬رواه الترمذي وأبو داود ‪) .‬‬ ‫الذي إذا سئل به أعطى ‪ ،‬وإذا د ُ ِ‬
‫‪(8‬‬
‫‪ -2‬وعن أنس قال ‪ :‬كنت جالسا ً مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد‬
‫ن لك الحمد ‪ ،‬ل إله إل أنت‬ ‫م إني أسألك بأ ّ‬ ‫ورجل يصلي ‪ ،‬فقال ‪ " :‬الله ّ‬
‫ي يا‬
‫الحنان المنان ‪ ،‬بديع السماوات والرض ‪ ،‬يا ذا الجلل والكرام ‪ ،‬يا ح ّ‬
‫مه العظم‬ ‫قيوم ‪ ،‬أسألك " فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬دعا الله باس ِ‬
‫ل به أعطى ( ‪ .‬رواه الترمذي وأبو داود وابن‬ ‫سئ َ‬ ‫الذي إذا ُدعي به أجاب ‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ماجة والدارمي ‪(9) .‬‬
‫‪ -3‬وفي سنن ابن ماجة عن أبي أمامة ‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫سور من القرآن الثلث ‪ :‬في ) البقرة ( ‪َ ،‬و‬ ‫م الله العظم في ُ‬ ‫قال ‪ ) :‬اس ُ‬
‫) آل عمران ( ‪ ،‬وَ )طه( ‪ .‬أخرجه ابن ماجة ‪ ،‬والطحاوي في مشكل الثار ‪،‬‬
‫وابن معين في التاريخ والعلل ‪ ،‬وغيرهم ‪(10) .‬‬

‫) ‪(1/138‬‬

‫‪ -4‬وقد ورد تحديد آيتي البقرة وآل عمران اللتين ورد فيهما اسم الله العظم‬
‫‪ ،‬فقد روى الترمذي ‪ ،‬وأبو داود ‪ ،‬وابن ماجة ‪ ،‬والدارمي عن أسماء بنت يزيد‬
‫رضي الله عنها ‪ :‬أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬اسم الله العظم‬
‫ه واحد ٌ ل إله إل ّ هو الّرحمن الّرحيم (‬
‫في هاتين اليتين ‪ ) :‬وإلهكم إل ٌ‬
‫] البقرة ‪ [ 163 :‬وفاتحة ) آل عمران ( ‪ ) :‬الم – الله ل إله إل ّ هو الح ّ‬
‫ي‬
‫القّيوم ( ] آل عمران ‪(11) . [ 2-1 :‬‬
‫والذي يظهر من المقارنة بين النصوص التي ورد فيها اسم الله العظم أّنه ‪:‬‬
‫) الله ( ‪ ،‬فهذا السم هو السم الوحيد الذي يوجد في جميع النصوص التي‬
‫ن اسم الله العظم ورد فيها ‪.‬‬ ‫قال الرسول صلى الله عليه وسلم إ ّ‬
‫جح أن ) الله ( هو السم العظم أنه تكرر في القرآن الكريم )‬ ‫ومما ُير ّ‬
‫‪ (2697‬سبعا وتسعين وستمائة وألفين ) حسب إحصاء المعجم المفهرس (‬ ‫ً‬
‫ن اسما ً آخر مما يختص بالله‬ ‫وورد بلفظ ) اللهم ( خمس مرات في حين أ ّ‬
‫تعالى وهو )الرحمن( لم يرد ذكره إل سبعا ً وخمسين مرة ‪ ،‬ويرجحه أيضا ما‬
‫ً‬
‫تضمنه هذا السم من المعاني العظيمة الكثيرة ‪.‬‬
‫‪ -4‬وجوب اليمان بأسمائه‬
‫وقد اتفق السلف الصالح على أنه يجب اليمان بجميع أسماء الله الحسنى ‪،‬‬
‫وما دلت عليه من الصفات ‪ ،‬وما ينشأ عنها من الفعال ‪ ،‬فمثل ً ‪ :‬اسم الله‬
‫القدير يجب اليمان بأّنه سبحانه على كل شيء قدير ‪ ،‬واليمان بكمال قدرته‬
‫ن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات ‪.‬‬ ‫‪ ،‬واليمان بأ ّ‬
‫‪ -5‬كيف يحصي المسلم أسماء الله الحسنى )‪(12‬‬
‫ورد في الحديث الترغيب بإحصاء أسماء الله الحسنى ‪ ،‬فقد وعد من أحصاها‬
‫بدخول الجنة ‪.‬‬
‫واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬من أحصاها " ‪.‬‬
‫قال الخطابي يحتمل وجوها ‪:‬‬
‫دها حتى يستوفيها بمعنى أن ل يقتصر على بعضها فيدعو الله‬ ‫أحدها ‪ :‬أن يع ّ‬
‫بها كلها ‪ ،‬ويثني عليه بجميعها ‪ ،‬فيستوجب الموعود عليها من الثواب ‪.‬‬
‫) ‪(1/139‬‬

‫سر الحصاء بالحفظ ‪ ،‬وذلك‬ ‫وهذا الوجه هو الذي اختاره البخاري ‪ ،‬فقد ف ّ‬
‫لورود رواية أخرى فيها " من حفظها " ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬المراد بالحصاء الطاقة ‪ ،‬والمعنى من أطاق القيام بحق هذه السماء‬
‫والعمل بمقتضاها ‪ ،‬وهو أن يعتبر معانيها ‪ ،‬فيلزم نفسه بموجبها ‪ ،‬فإذا قال ‪:‬‬
‫" الرّزاق " وثق بالرزق ‪ ،‬وكذا سائر السماء ‪.‬‬
‫ثالثهما ‪ :‬المراد بها الحاطة بجميع معانيها ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬أحصاها عمل بها ‪ ،‬فإذا قال ‪ " :‬الحكيم " سلم لجميع أوامره‬
‫وأقداره ‪ ،‬وأنها جميعها على مقتضى الحكمة ‪.‬‬
‫وقال ابن بطال ‪ :‬طريق العمل بها ‪:‬‬
‫‪ -1‬ما يسوغ القتداء به كالرحيم والكريم ‪ ،‬فيمرن العبد نفسه على أن يصح‬
‫له التصاف بها ‪ ،‬يعني فيما يقوم به ‪.‬‬
‫‪ -2‬وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم ‪ ،‬فعلى العبد القرار بها ‪،‬‬
‫والخضوع لها ‪ ،‬وعدم التحلي بصفة منها ‪.‬‬
‫‪ -3‬وما كان فيها معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة ‪.‬‬
‫‪ -4‬وما كان فيها معنى الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة ‪.‬‬
‫ن القرآن ل ينفع‬ ‫ن معنى إحصائها حفظها ‪ ،‬والقيام بعبوديتها كما أ ّ‬ ‫والظاهر أ ّ‬
‫دين أّنهم‬‫حفظ ألفاظه من ل يعمل به ‪ ،‬بل جاء في صفة المّراق من ال ّ‬
‫يقرؤون القرآن ل يجاوز حناجرهم ‪(13) .‬‬
‫‪ -6‬سرد أسماء الله تعالى‬
‫ل ابن حجر العسقلني قد قارب الصواب عندما عد ّ تسعة وتسعين اسما ً‬ ‫ولع ّ‬
‫آخذا ً إياها من القرآن الكريم ‪ ،‬وبذلك يوافق حديث أبي هريرة في عددها ‪،‬‬
‫ونحن نسوقها كما سردها ‪:‬‬
‫‪ -5‬الرحمن ‪ -4 ...‬الواحد ‪ -3 ...‬الله ‪ -2 ...‬الرب ‪ -1 ...‬الله‬
‫‪ -10‬المؤمن ‪ -9 ...‬السلم ‪ -8 ...‬القدوس ‪ -7 ...‬الملك ‪-6 ...‬الرحيم‬
‫‪ -15‬الخالق ‪ -14 ...‬المتكبر ‪ -13 ...‬الجبار ‪ -12 ...‬العزيز ‪ -11 ...‬المهيمن‬
‫‪-20‬الظاهر ‪ -19 ...‬الخر ‪-18 ...‬الول ‪-17 ...‬المصور ‪-16 ...‬البارى‬
‫ي ‪-23 ...‬القيوم ‪-22 ...‬الحي ‪-21 ...‬الباطن‬ ‫‪-25‬العظيم ‪-24 ...‬العل ّ‬
‫‪ -30‬الشاكر ‪ -29 ...‬الحكيم ‪-28 ...‬الواسع ‪-27 ...‬الحليم ‪-26 ...‬التواب‬

‫) ‪(1/140‬‬

‫‪ -35‬القدير ‪ -34 ...‬العفو ‪ -33 ...‬الكريم ‪ -32 ...‬الغني ‪ -31 ...‬العليم‬


‫‪ -40‬المولى ‪ -39 ...‬البصير ‪ -38 ...‬السميع ‪ -37 ...‬الخبير ‪-36 ...‬اللطيف‬
‫‪ -45‬الحسيب ‪ -44 ...‬الرقيب ‪ -43 ...‬المجيب ‪ -42 ...‬القريب ‪-41 ...‬‬
‫النصير‬
‫‪ -50‬المحيط ‪ -49 ...‬المجيد ‪ -48 ...‬الحميد ‪-47 ...‬الشهيد ‪-46 ...‬القوي‬
‫فار ‪ -53 ...‬المبين ‪ -52 ...‬الحقّ ‪ -51 ...‬الحفيظ‬
‫‪ -55‬القهار ‪ -54 ...‬الغ ّ‬
‫‪ -60‬الرؤوف ‪ -59 ...‬الغفور ‪ -58 ...‬الودود ‪ -57 ...‬الفتاح ‪ -56 ...‬الخلق‬
‫‪ -65‬المستعان ‪ -64 ...‬المقيت ‪ -63 ...‬المتعال ‪ -62 ...‬الكبير ‪-61 ...‬‬
‫الشكور‬
‫‪ -70‬القائم ‪ -69 ...‬الولي ‪ -68 ...‬الوارث ‪ -67 ...‬الحفي ‪ -66 ...‬الوهاب‬
‫‪ -75‬الحافظ ‪ -74 ...‬البر ‪ -73 ...‬القاهر ‪ -72 ...‬الغالب ‪ -71 ...‬القادر‬
‫‪ -80‬الوكيل ‪ -79 ...‬المقتدر ‪ -78 ...‬المليك ‪ -77 ...‬الصمد ‪ -76 ...‬الحد‬
‫‪ -85‬العلى ‪ -84 ...‬الكرم ‪ -83 ...‬الكافي ‪ -82 ...‬الكفيل ‪ -81 ...‬الهادي‬
‫‪ -90‬شديد العقاب ‪-89 ...‬قابل التوب ‪-88 ...‬غافر الذنب ‪ -87 ...‬ذو القوة‬
‫المتين ‪ -86 ...‬الرزاق‬
‫‪-95‬بديع السماوات والرض ‪-94 ...‬فاطر السماوات والرض ‪ -93 ...‬سريع‬
‫الحساب ‪-92 ...‬رفيع الدرجات ‪-91 ...‬ذو الطول‬
‫‪ – 99 ، 98 ...‬ذو الجلل والكرام ‪-97 ...‬مالك الملك ‪-96 ...‬نور السماوات‬
‫والرض‬
‫‪ -7‬خواص أسماء الله الحسنى‬
‫ذكر الشيخ حسن البنا في كتابه ‪ ) :‬العقائد ( )‪ ، (14‬أن بعض الّناس يذكر‬
‫ص وأسرارا ً تتعلق به على إفاضة فيها أو‬
‫ل اسم من أسماء الله تعالى خوا ّ‬ ‫لك ّ‬
‫إيجاز ‪ ،‬وقد يغالي بعض الناس فيتجاوز هذا القدر إلى زعم أن لكل اسم‬
‫خادما ً روحاني ّا ً يخدم من يواظب على الذكر به ‪.‬‬
‫ويذكر أن بعض الّناس يدعي أن اسم الله العظم سّر من السرار ‪ ،‬يمنح‬
‫لبعض الفراد ‪ ،‬فيفتحون به المغلقات ‪ ،‬ويخرقون به العادات ‪ ،‬ويكون لهم به‬
‫من الخواص ما ليس لغيرهم من الناس ‪.‬‬

‫) ‪(1/141‬‬

‫وهؤلء الذين أشار إليهم الشيخ قالوا بغير علم ‪ ،‬ونطقوا بأمور لم يأت بها‬
‫نص صحيح من كتاب ربنا ‪ ،‬وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وما كان‬
‫جة فيه ؛ عمل ً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم‬ ‫كذلك فل اعتبار له ‪ ،‬ول ح ّ‬
‫ل ليس عليه أمُرنا فهو رد ّ ( ‪.‬‬ ‫ل عم ٍ‬‫‪ ) :‬كُ ّ‬
‫وهذه القوال والدعاءات فتحت الباب للخرافة ‪ ،‬فبذلت الجهود وضاعت‬
‫الساعات في سبل خاطئة ‪ ،‬وحصل من ذلك ضلل كبير ‪.‬‬
‫ص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لسم الله العظم‬ ‫والفضيلة التي ن ّ‬
‫سئل به أعطى ‪.‬‬ ‫أنه إذا دعي به أجاب ‪ ،‬وإذا ُ‬
‫‪ -8‬فائدة العلم بهذه السماء‬
‫ما الفوائد الحقيقية التي يجنيها المسلم من هذه المعرفة بأسماء الله‬ ‫أ ّ‬
‫وصفاته فيمكن أن نوجزها في عدة أمور ‪:‬‬
‫‪ -1‬التعرف على الله سبحانه وتعالى ‪ ،‬فأسماء الله وصفاته هي أعظم وسيلة‬
‫تعرفنا بربنا سبحانه وتعالى ‪ ،‬وبدون ذلك سيبقى اليمان بالله فكرة غامضة ل‬
‫صلنا القول في صفاته وأسمائه فيما سبق ‪ ،‬ولله‬ ‫تعطي ثمارا ً طيبة ‪ ،‬وقد ف ّ‬
‫الحمد والمنة‪.‬‬
‫‪ -2‬تمجيده والثناء عليه بأسمائه وصفاته ‪ ،‬وتمجيد الله بأسمائه وصفاته أعظم‬
‫ما نمجد الله به ونثني عليه به ‪ ،‬وهو من أعظم الذكر الذي أمرنا به في‬
‫قوله ‪ ) :‬يا أّيها اّلذين آمنوا اذكروا الله ذكرا ً كثيرا ً ( ] الحزاب ‪. [ 41 :‬‬
‫‪ -3‬دعاؤه بأسمائه وصفاته ‪ ،‬كما قال ‪ ) :‬وللهِ السماُء الحسنى فادعوه بها ( ]‬
‫ن‬
‫العراف ‪ . [ 180 :‬وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أ ّ‬
‫واحدا ً من الصحابة دعا الله باسمه العظم الذي إذا سئل به أجاب ‪.‬‬
‫‪ -4‬زيادة اليمان ‪ :‬فكلما علم العبد شيئا ً عن الله وصفاته ازداد إيمانه ‪.‬‬
‫‪ -5‬الشعور بالقوة والثبات ؛ لن العبد يركن إلى القوي القادر الغالب ‪.‬‬
‫‪ -6‬تعليق القلب بالله ‪ ،‬فالذي يعلم أن الرزق من عند الله يطلب منه الرزق ‪،‬‬
‫والذي يعلم أن الله جبار يخاف منه ‪ ،‬والذي يعلم أن الله عليم يراقبه …‬
‫وهكذا ‪.‬‬

‫) ‪(1/142‬‬

‫‪ -7‬الجر العظيم الذي نحصله من وراء هذه المعرفة ‪ ،‬فتعلم هذه السماء‬
‫والصفات أشرف ما يمكن أن يدرس ‪ ،‬وتعلمها وتعليمها خير عمل يقام به ‪.‬‬
‫نماذج من تمجيد الرسول عليه السلم لربه وثنائه عليه ودعائه له ‪:‬‬
‫أحب أن نسوق نماذج من الكلم النبوي فيه تمجيد وثناء وحمد الله بأسمائه‬
‫وصفاته ‪ ،‬ودعاء له بها علوة على ما تقدم ‪:‬‬
‫‪ -1‬عن أبي هريرة ‪ :‬أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال لرسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ )) :‬مرني بشيء أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت ‪.‬‬
‫ب‬‫م الغيب والشهادة ‪ ،‬فاطر السماوات والرض ‪ ،‬ر ّ‬ ‫قال ‪ ) :‬قل ‪ :‬اللهم عال َ‬
‫ل شيء ومليكه ‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت ‪ ،‬أعوذ بك من شر نفسي ‪ ،‬ومن‬ ‫ك ّ‬
‫شر الشيطان وشركه ( ‪ .‬رواه الترمذي وأبو داود والدارمي ‪(15) .‬‬
‫‪ -2‬عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال ‪ :‬كان رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال ‪ ) :‬رّبنا لك الحمد ُ ‪ ،‬ملُء‬
‫ق‬
‫ت من شيء بعد ‪ ،‬أهل الثناء والمجد ‪ ،‬أح ّ‬ ‫شئ ْ َ‬
‫ما ِ‬‫ملُء َ‬‫السماوات والرض ‪ ،‬و ِ‬
‫ما قال العبد ُ ‪ ،‬وك ُّلنا لك عبد ٌ ‪ ،‬اللهم ل مانع لما أعطيت ‪ ،‬ول معطي لما منعت‬
‫‪ ،‬ول ينفع ذا الجد منك الجد ّ ( ‪(16) .‬‬
‫‪ -3‬عن ثوبان – رضي الله عنه – قال ‪ :‬كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫م ‪ ،‬ومن َ‬
‫ك‬ ‫إذا انصرف من صلته استغفر ثلثا ً ‪ ،‬وقال ‪ ) :‬اللهم أنت السل ُ‬
‫السلم ‪ ،‬تباركت يا ذا الجلل والكرام ( ‪(17) .‬‬
‫‪ -4‬عن ابن عباس ‪ :‬أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند‬
‫ش العظيم ‪،‬‬ ‫ب العر ِ‬ ‫م ‪ ،‬ل إله إل الله ر ّ‬
‫م الحلي ُ‬ ‫الكرب ‪ ) :‬ل إله إل الله العظي ُ‬
‫ب العرش الكريم ( ‪(18) .‬‬ ‫ب الرض ‪ ،‬ر ّ‬ ‫ب السماوات ور ّ‬ ‫ل إله إل الله ر ّ‬

‫) ‪(1/143‬‬

‫‪ -5‬عن سمرة بن جندب قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬
‫ب الكلم إلى الله أربعٌ ‪ :‬سبحان الله ‪ ،‬والحمد لله ‪ ،‬ول إله إل الله ‪ ،‬والله‬ ‫) أح ّ‬
‫سبحان الله ‪،‬‬ ‫أكبر ‪ ،‬ل يضرك بأيهن بدأت ( وفي وجه آخر ‪ ) :‬أفض ُ‬
‫ل الكلم ‪ُ :‬‬
‫والحمد لله ‪ ،‬ول إله إل الله ‪ ،‬والله أكبر ( ‪(19) .‬‬
‫‪ -6‬وعن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬كلمتان‬
‫ن ‪ :‬سبحان‬ ‫خفيفتان على اللسان ‪ ،‬ثقيلتان في الميزان ‪ ،‬حبيبتان إلى الرحم ِ‬
‫ن الله العظيم ( ‪(20) .‬‬ ‫سْبحا َ‬
‫الله وِبحمدِهِ ‪ُ ،‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫)‪ (1‬ألف أ ‪ .‬د ‪ .‬عمر الشقر في أسماء الله وصفاته مؤلفا مستقل عنون له بـ‬
‫) أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة ( فإن شئت التوسع‬
‫في الموضوع فارجع إليه ‪.‬‬
‫)‪ (2‬رواه البخاري في صحيحه ‪ . 11/214 :‬ورقمه ‪ ، 6410‬ورواه مسلم في‬
‫صحيحه ‪ ، 4/2062 :‬ورقمه ‪ ، 2677 :‬واللفظ لمسلم ‪.‬‬
‫)‪ (3‬رواه أحمد في مسنده ‪ ، 1/391 :‬وعزاه ابن حجر في فتح الباري إلى‬
‫أحمد وابن حبان ‪ ،‬فتح الباري ‪. 11/220 :‬‬
‫)‪ (4‬صحيح مسلم ‪ ، 1/353 :‬ورقمه ‪. 486 :‬‬
‫)‪ (5‬راجع تلخيص الحبير ‪. 4/172 :‬‬
‫)‪ (6‬معارج القبول ‪. 1/77 :‬‬
‫)‪ (7‬معارج القبول ‪. 1/76 :‬‬
‫)‪ (8‬مشكاة المصابيح ‪ ، 1/703 :‬ورقمه ‪ ، 2289 :‬وحكم محقق المشكاة‬
‫على إسناده بالصحة ‪.‬‬
‫)‪ (9‬مشكاة المصابيح ‪ ، 1/704 :‬ورقمه ‪ ، 2290 :‬وحكم محقق المشكاة‬
‫على إسناده بالصحة ‪.‬‬
‫)‪ (10‬انظر تخريجه في سلسلة الحاديث الصحيحة ‪ ،‬للشيخ ناصر الدين‬
‫اللباني ‪ ، 2/382‬ورقمه ‪. 746 :‬‬
‫)‪ (11‬مشكاة المصابيح ‪ ، 1/704 :‬ورقمه ‪. 2291 :‬‬
‫)‪ (12‬راجع في هذا الموضوع ‪ :‬معارج القبول ‪ . 1/84 :‬وما بعدها ‪.‬‬
‫)‪ (13‬يقول أ ‪ .‬د ‪ .‬عمر الشقر ‪ :‬تبين لنا بعد أن توسعنا في دارسة هذا‬
‫الموضوع في كتابنا ) أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة ( أن القول‬
‫الراجح في معنى ) أحصاها ( ‪ :‬حفظها ‪.‬‬
‫)‪ (14‬مجموع الرسائل ‪ ، 447-444 :‬والشيخ البنا رحمه الله ذكر هذا منكرا ً‬
‫له ‪.‬‬

‫) ‪(1/144‬‬

‫)‪ (15‬مشكاة المصابيح ‪ . 1/734 :‬ورقمه ‪. 2390 :‬‬


‫)‪ (16‬رواه مسلم ‪ . 1/347 :‬ورقمه ‪. 477 :‬‬
‫)‪ (17‬رواه مسلم ‪ . 1/414 :‬ورقمه ‪. 592 :‬‬
‫)‪ (18‬صحيح البخاري ‪ . 11/145 :‬ورواه مسلم ‪ . 4/2093 :‬ورقمه ‪:‬‬
‫‪. 2730‬‬
‫)‪ (19‬رواه مسلم ‪ :‬انظر مشكاة المصابيح ‪ ، 1/706 :‬ورقمه ‪. 2294 :‬‬
‫)‪ (20‬رواه مسلم ‪ ، 4/2072 :‬ورقمه ‪. 2694 :‬‬
‫المطلب الرابع‬
‫المنهج الذي ُتفهم صفات الله في ضوئه )‪(1‬‬
‫ذكر الشيخ محمد المين الشنقيطي – رحمه الله – أن القرآن العظيم د ّ‬
‫ل‬
‫على أن مبحث الصفات يرتكز على ثلثة أسس ‪ ،‬من جاء بها كلها فقد وافق‬
‫الصواب ‪ ،‬وكان على العتقاد الذي كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم –‬
‫ل‪.‬‬ ‫ل بواحد من تلك السس الثلثة فقد ض ّ‬ ‫وأصحابه السلف الصالح ‪ ،‬ومن أخ ّ‬
‫ل هذه السس الثلثة يد ّ‬
‫ل عليها القرآن العظيم ‪:‬‬ ‫نك ّ‬‫وذكر أ ّ‬
‫ً‬
‫ل وعل – عن أن يشبه شيء من صفاته شيئا من‬ ‫الساس الول ‪ :‬تنزيهه – ج ّ‬
‫صفات المخلوقين ‪ .‬وهذا الصل يدل عليه قوله تعالى ‪ ) :‬ليس كمثله شيٌء (‬
‫ّ‬
‫ه كفوا ً أحد ( ] الخلص ‪ ) [ 4 :‬فل تضربوا‬ ‫] الشورى ‪ ) ، [ 11 :‬ولم يكن ل ّ ُ‬
‫لله المثال ( ] النحل‪. [74 :‬‬
‫الساس الثاني ‪ :‬هو اليمان بما وصف الله به نفسه ‪ ،‬لّنه ل يصف الله أعلم‬
‫ه ( ] البقرة ‪. [ 140 :‬‬ ‫ََ‬
‫م أم ِ الل ُ‬‫م أعل ُ‬
‫بالله من الله ) أأنت ُ ْ‬
‫واليمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لّنه ل أعلم بالله بعد الله‬
‫ن‬‫قه ‪ ) :‬وما َينط ِقُ عَ ِ‬
‫من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في ح ّ‬
‫حى ( ] النجم ‪. [ 4-3 :‬‬ ‫الهوى – إن هو إل ّ وح ٌ‬
‫ي ُيو َ‬
‫ضلل الذين أخذوا بأحد هذين الصلين دون الخر ‪:‬‬
‫ل بأحد هذين الصلين ‪،‬‬ ‫وقد حمل الشيخ – رحمه الله – تعالى على من أخ ّ‬
‫وعد ّ من نفى عن الله وصفا ً أثبته لنفسه بأنه متنطع بين يدي رب السماوات‬
‫والرض ‪ ،‬وعد ّ فعل هذا النافي عن الله ما أثبته لنفسه متجرئا ً على الله جرأة‬
‫عظيمة ‪.‬‬

‫) ‪(1/145‬‬

‫وعد ّ الشيخ هذا ضلل ً ليس بعده ضلل ‪ ،‬لن هذا النافي عمد إلى ما أثبته الله‬
‫لنفسه من صفات الكمال والجلل ‪ ،‬فتقدم هذا الجاهل المسكين بين يدي‬
‫جبار السماوات والرض قائل ً ‪ :‬هذا الذي وصفت به نفسك ل يليق بك ‪،‬‬
‫ويلزمه من النقص كذا ‪ ،‬فأنا أؤوله وأنفيه ‪ ،‬وآتي ببدله من تلقاء نفسي ‪ ،‬من‬
‫غير أن يستند فيما ذهب إليه إلى كتاب ول سنة ‪.‬‬
‫ومثله في الضلل ذلك الذي أثبت الصفات لله – تبارك وتعالى – ولكنه شبه‬
‫صفات الباري بصفات خلقه ‪.‬‬
‫والمفلح الناجي السائر على الصراط المستقيم هو الذي آمن بهذين‬
‫الصلين ‪ ،‬ولم يفرق بينهما ‪ ،‬آمن بما أثبته الله لنفسه من الصفات ‪ ،‬ونزهه‬
‫في الوقت نفسه عن أن تشبه صفاته صفات خلقه ‪ ،‬فهو مؤمن منزه سالم‬
‫من ورطة التشبيه والتعطيل ‪.‬‬
‫دلت على هذا الصل آية من كتاب الله ‪:‬‬
‫ل على هذين الصلين آية من كتاب الله ‪ ،‬هي قوله تعالى ‪ ) :‬ليس‬ ‫وقد د ّ‬
‫سميع البصير ( ] الشورى ‪. [ 11 :‬‬ ‫كمثله شيٌء وهو ال ّ‬
‫فالحق يثبت في هذه الية لنفسه السمع والبصر في الوقت الذي يقرر فيه‬
‫أنه ليس كمثله شيء ‪ ،‬وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه ل يجوز للخلق أن‬
‫ينفوا عن الله سمعه وبصره بدعوى أن المخلوقات الحادثة تملك سمعا ً‬
‫وأبصارا ً ‪ ،‬وأن إثبات السمع والبصر لله يؤدي إلى تشبيه الله بمخلوقاته ‪.‬‬
‫إن المعنى الذي تدل الية عليه أن الله يتصف بالسمع والبصر ‪ ،‬وسمع الله‬
‫وبصره ل يشبهه شيء من أسماع المخلوقات وأبصارها ‪ ،‬فسمع الله وبصره‬
‫يليقان بجلل الله وكماله ‪ ،‬وأسماع المخلوقات وأبصارها تناسب حالهم ‪ ،‬فل‬
‫تشابه بين صفات الله وصفات المخلوقات ‪.‬‬

‫) ‪(1/146‬‬

‫والساس الثالث ‪ :‬الذي ترتكز عليه مباحث الصفات – كما يقول الشيخ‬
‫ن إدراك حقيقة‬‫الشنقيطي – قطع الطماع عن إدراك حقيقة الكيفية ‪ ،‬ل ّ‬
‫الكيفية مستحيل ‪ .‬وهذا نص الله عليه في سورة ) طه ( حيث قال ‪ ) :‬يعلم‬
‫ما بين أيديهم وما خلفهم ول يحيطون به علما ً ( ] طه ‪ [ 110 :‬فقوله ‪:‬‬
‫) يحيطون ( فعل مضارع ‪ ،‬والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع‬
‫ل عند النحويين عن ) مصدر ‪ ،‬وزمن ( ‪.‬‬ ‫وفعل المر والفعل الماضي ينح ّ‬
‫ّ‬
‫وقد حّرر علماء البلغة في بحث الستعارة التبعية أّنه ينحل عن ) مصدر ‪،‬‬
‫وزمن ‪ ،‬ونسبة ( فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ً ‪ ) ،‬فيحيطون ( تكمن‬
‫في مفهومها ) الحاطة ( ‪ ،‬فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل ‪،‬‬
‫ويكون معه كالنكرة المبنية على الفتح ‪ ،‬فيصير المعنى ‪ :‬ل إحاطة للعلم‬
‫ب السماوات والرض ‪.‬‬ ‫البشري بر ّ‬
‫فينفي جنس أنواع الحاطة عن كيفيتها ‪ ،‬فالحاطة المسندة للعلم منفية عن‬
‫ب العالمين ‪.‬‬
‫ر ّ‬
‫وهذا الذي ذكره الشيخ العلمة من استحالة معرفة كيفية الله أو صفاته‬
‫ن العقل النساني مهما بلغ من الذكاء وقوة الدراك قاصر‬ ‫منطق سليم ؛ ل ّ‬
‫غاية القصور وعاجز نهاية العجز عن معرفة حقائق الشياء ‪.‬‬
‫ن النسان عاجز عن معرفة حقيقة الروح التي تتردد بين جنبيه ‪ ،‬وعاجز عن‬ ‫إ ّ‬
‫معرفة حقيقة الضوء الذي هو من أظهر الشياء لديه ‪ ،‬وعاجز عن إدراك‬
‫حقيقة المادة ‪ ،‬وحقيقة الذرات التي تتألف منها المادة ‪ ،‬فكيف يطمح إلى‬
‫معرفة حقيقة الذات والصفات اللهية ؟‬
‫المنحرفون عن المنهج السليم وأسباب انحرافهم‬
‫والنحراف عن المنهج السليم في أسماء الله تعالى وصفاته قد جاء من‬
‫الخلل بأصل من الصول الثلثة التي ذكرناها ‪ ،‬ونستطيع أن نقسم انحراف‬
‫الناس قديما ً وحديثا ً في أسماء وصفاته إلى ثلثة أقسم ‪:‬‬
‫أول ً ‪ :‬انحراف المشركين ‪:‬‬

‫) ‪(1/147‬‬

‫وانحراف المشركين ‪ ،‬ذكره ابن عباس وابن جريج ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬فالمشركون‬


‫عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه ‪ ،‬فسموا بها أوثانهم ‪ ،‬فزادوا ونقصوا ‪،‬‬
‫فاشتقوا اللت من الله ‪ ،‬والعّزى من العزيز ‪ ،‬ومناة من المنان ‪.‬‬
‫ومن إلحادهم تكذيبهم بجملة من أسماء الله تعالى ‪ ،‬كتكذيبهم باسم الرحمن‬
‫) وهم يكفرون بالّرحمن ( ] الرعد ‪ ) ، [ 30 :‬وإذا قيل لهم اسجدوا للّرحمن‬
‫قالوا وما الّرحمن ( ] الفرقان ‪. [ 60 :‬‬
‫ويدخل في زمرة هؤلء الذين يصفون الله بصفات النقص ‪ ،‬كقول خبثاء‬
‫ن الله فقيٌر ونحن أغنياء ( ] آل عمران ‪ ، [ 181 :‬وقولهم ‪ُ َ :‬‬
‫د‬ ‫ي‬ ‫)‬ ‫اليهود ‪ ) :‬إ ّ‬
‫الله مغلولة غُّلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ( ] المائدة ‪. [ 64 :‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬انحراف المشبهة ‪:‬‬
‫وهؤلء أثبتوا لله ما أثبته لنفسه ‪ ،‬ولكّنهم لم ينزهوا الله تعالى عن مشابهة‬
‫سميع‬‫المخلوقين ‪ ،‬فأعملوا من الية الكريمة ) ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ‬
‫البصير ( ] الشورى ‪ [ 11 :‬عجزها ‪ ،‬ولم يعملوا صدرها ‪ ،‬إذ لو أعملوا صدرها‬
‫ن الله ل يشبهه شيء ‪ ،‬ولما اجترؤوا على أن يقولوا قولتهم التي‬ ‫لعلموا أ ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ن لله يدا وبصرا وسمعا كيدنا‬‫ً‬ ‫تقشعّر لهولها البدان ‪ ،‬وتضطرب لها القلوب ‪ :‬إ ّ‬
‫وسمعنا وبصرنا ‪ ،‬تعالى الله عما يقولون علوا ً كبيرا ‪.‬‬
‫ً‬
‫وهؤلء جعلوا معبودهم كالصنام ‪ ،‬ولذا قال علماء السلف ‪ ) :‬المشبه يعبد‬
‫وثنا ً ( ‪ ،‬وقد كفروا بمقالتهم هذه وخرجوا عن المّلة ‪ ،‬ومن هؤلء داود‬
‫الجواربي ‪ ،‬وهشام بن الحكم الرافضي ‪ ،‬وهذا الفريقان إلحادهما متقابل ‪:‬‬
‫فالولون من المشركين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق وسووه به ‪ ،‬والمشبهة‬
‫جعلوا الخالق بمنزلة الجسام المخلوقة ‪ ،‬وشبهوه بها ‪ ،‬تعالى الله وتقدس‬
‫عن إفكهم وضللهم ‪.‬‬
‫ثالثا ً ‪ :‬انحراف النفاة وهم ثلث فرق ‪:‬‬
‫ل عليه من المعاني ‪ ،‬ووصفوا الله تعالى بالعدم‬‫‪ -1‬فريق نفوا السماء وما تد ّ‬
‫ن تحريف هؤلء تكذيب لله‬ ‫المحض ‪ ،‬وهؤلء هم الجهمية ‪ ،‬والحقيقة أ ّ‬
‫كتحريف المشركين ‪.‬‬

‫) ‪(1/148‬‬

‫‪ -2‬وفريق أثبتوا ألفاظ أسمائه دون ما تضمنته من صفات الكمال ‪ ،‬فقالوا ‪:‬‬
‫رحمن رحيم بل رحمة ‪ ،‬حكيم بل حكمة ‪ ،‬قدير بل قدرة ‪ ،‬سميع بل سمع ‪..‬‬
‫إلخ ‪ ،‬وهؤلء هم المعتزلة ‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -3‬وفريق ثالث ‪ :‬أثبت سبعا من صفات المعاني ‪ ،‬وهي ‪ :‬الحياة ‪ ،‬والعلم ‪،‬‬
‫والقدرة ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬والسمع ‪ ،‬والبصر ‪ ،‬والكلم ‪ ،‬ونفوا ‪ ،‬ما عداها ‪ ،‬وهؤلء‬
‫هم الشاعرة ‪(2) .‬‬
‫والمكذبون بأسماء الله وصفاته ‪ ،‬والمشبهون صفاته بصفات خلقه ‪ ،‬والنافون‬
‫لسمائه وصفاته – ضللهم واضح ‪ ،‬إذ هم مشاقون لله ورسوله ‪ ،‬مكذبون‬
‫للكتاب والسنة ‪ ،‬وأمرهم معلوم ل يحتاج إلى بيان ‪.‬‬
‫ما الذين يحتاج إلى كشف ما في مقالتهم من زيف ‪ ،‬فهم أهل الكلم الذي‬ ‫أ ّ‬
‫يزعمون أّنهم ينزهون الله تعالى عن مشابهة المخلوقين ‪ ،‬وبهذا ينفون‬
‫صفات الله تعالى التي وردت في الكتاب والسنة ‪ ،‬بحجة أّنها توهم التشبيه ‪،‬‬
‫وليجؤون في سبيل ذلك إلى تأويل هذه الصفات تأويل ً يصرفها عن معانيها‬
‫الحقة ‪(3) .‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬راجع ‪ :‬منهج ودراسات ليات السماء والصفات ‪ ،‬للشيخ محمد المين‬
‫الشنقيطي رحمه الله ‪.‬‬
‫)‪ (2‬لم يذهب أبو الحسن الشعري رحمه الله هذا المذهب كما سيأتي ذكر‬
‫معتقده في صفات الباري تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫)‪ (3‬حاول بعض المعاصرين كالشيخ حسن البنا والشيخ حسن أيوب وغيرهما‬
‫أن يهونوا من خطيئة هؤلء الذين عرفوا باسم )الخلف( ‪ ،‬وأن يقربوا بين‬
‫ن الحقيقة التي يجب أن تدرك أن مذهب‬ ‫وجهة نظر السلف والخلف ‪ ،‬ولك ّ‬
‫الخلف الزاعمين أن ظاهر الصفات غير مراد المؤولين لها مذهب بعيد عن‬
‫الصواب ‪ ،‬ول لقاء بينه وبين مذهب السلف ‪ .‬ول يشفع لبعض الخلف حسن‬
‫نيتهم ‪ ،‬فحسن النية ل يجعل الباطل حقا ً ‪.‬‬
‫المطلب الخامس‬
‫أقسام الصفات عند علماء الكلم ) الجزء الول (‬

‫) ‪(1/149‬‬

‫بين الشيخ العلمة محمد المين الشنقيطي – رحمه الله تعالى – منهج علماء‬
‫الكلم في تقسيماتهم لصفات الله تعالى ‪ ،‬وبيان ما أثبتوه منها وما نفوه ‪،‬‬
‫وما وقعوا فيه من أخطاء ومغالطات ‪ ،‬ثم بّين دللة القرآن على اتصاف الله‬
‫بهذه الصفات ‪ ،‬وعدم جواز نفيها عن الله بحجة أن المخلوقين يتصفون بها ؛‬
‫ن صفات الله لئقة بجلله وصفات المخلوقين مناسبة لعجزهم ‪.‬‬ ‫ل ّ‬
‫ن المتكلمين الذين خاضوا في الكلم ‪ ،‬وجاؤوا بأدلة يسمونها‬ ‫فقد بّين الشيخ أ ّ‬
‫أدلة عقلية ‪ ،‬ركبوها في أقيسة منطقية ‪ ،‬قسموا صفات الله إلى ستة أقسام‬
‫هي ‪:‬‬
‫‪ -3‬صفة معنوية ‪ -2 ... .‬صفة معنى ‪ -1 ... .‬صفة نفسية ‪.‬‬
‫‪ -6‬صفة جامعة ‪ -5 ... .‬صفة سلبية ‪ -4 ... .‬صفة فعلية ‪.‬‬
‫أما الصفات الضافية ‪ ،‬فقد جعلوها أمورا ً اعتبارية ل وجود لها في الخارج ‪،‬‬
‫وسببوا بذلك إشكالت عظيمة ‪.‬‬
‫محاكمة المنهج الكلمي إلى الكتاب والسنة‬
‫بين الشيخ الشنقيطي – رحمه الله تعالى – ما جاء في القرآن العظيم من‬
‫ل وعل – بتلك الصفات ‪ ،‬ووصف المخلوقين بتلك‬ ‫وصف الخالق – ج ّ‬
‫ن‬
‫ن صفة خالق السماوات والرض حق ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫الصفات ‪ ،‬وبيان القرآن العظيم أ ّ‬
‫صفة المخلوقين حقّ ‪ ،‬وأنه ل مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق ‪،‬‬
‫فصفة الخالق لئقة بذاته ‪ ،‬وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وافتقاره ‪ ،‬وبين‬
‫الصفة والصفة من الفرق كمثل ما بين الذات والذات ‪.‬‬
‫صفات المعاني عند المتكلمين‬
‫وبين الشيخ أن صفات المعاني عند علماء الكلم سبع صفات فقط ‪ ،‬وينكرون‬
‫ما عدا هذه السبع ‪.‬‬
‫ل على معنى وجودي قائم‬ ‫وضابط صفة المعنى عند علماء الكلم ‪ :‬ما د ّ‬
‫بالذات ‪.‬‬

‫) ‪(1/150‬‬

‫والصفات السبع التي أثبتوها هي ‪ :‬القدرة ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬والعلم ‪ ،‬والحياة ‪،‬‬


‫والسمع ‪ ،‬والبصر ‪ ،‬والكلم ‪ .‬وأنكر هذه المعاني السبعة المعتزلة ‪ ،‬وأثبتوا‬
‫ي بذاته ‪ ،‬ولم‬ ‫أحكامها ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هو قادر بذاته ‪ ،‬سميع بذاته ‪ ،‬عليم بذاته ‪ ،‬ح ّ‬
‫يثبتوا لله قدرة ‪ ،‬ول علما ً ‪ ،‬ول حياة ‪ ،‬ول سمعا ً ‪ ،‬ول بصرا ً ‪ ،‬فرارا من تعدد‬
‫ً‬
‫ب كل العقلء يعرفون ضلله وتناقضه ‪ ،‬وأنه إذا لم يقم‬ ‫القديم ‪ ،‬وهو مذه ٌ‬
‫بالذات علم استحال أن تقول ‪ :‬هي عالمة بل علم ‪ ،‬وهو تناقض واضح بأوائل‬
‫العقول ‪.‬‬
‫ثم أورد الشيخ أدلة صفات المعاني ‪ ،‬وذكر الفرق بين صفات الباري وصفات‬
‫المخلوق ‪:‬‬
‫ل وعل – يقول‬ ‫‪ -1‬وصفوا الله تعالى بالقدرة ‪ ،‬وأثبتوا له القدرة ‪ ،‬والله – ج ّ‬
‫ن الله على كل شيٍء قديٌر ( ] البقرة ‪ [ 20 :‬ونحن نقطع أنه‬ ‫في كتابه ‪ ) :‬إ ّ‬
‫تعالى متصف بصفة القدرة على الوجه اللئق بكماله وجلله ‪.‬‬
‫كذلك وصف بعض المخلوقين بالقدرة فقال ‪ ) :‬إل ّ اّلذين تابوا من قبل أن‬
‫تقدروا عليهم ( ] المائدة ‪ [ 34 :‬فأسند القدرة لبعض الحوادث ونسبها‬
‫إليهم ‪.‬‬
‫ل وعل – قدرة‬ ‫ن للمولى – ج ّ‬ ‫ل ما في القرآن حقّ ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫نك ّ‬‫ونحن نعلم أ ّ‬
‫حقيقية تليق بكماله وجلله ‪ ،‬كما أن للمخلوقين قدرة حقيقية مناسبة لحالهم‬
‫وعجزهم وفنائهم وافتقارهم ‪ ،‬وبين قدرة الخالق وقدرة المخلوق من‬
‫المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق ‪ ،‬وحسبك بونا ً‬
‫بذلك ‪.‬‬
‫‪ -3 ، 2‬ووصف تبارك وتعالى نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه ‪،‬‬
‫ن الله سميع بصير ( ] المجادلة ‪ ) ، [ 1 :‬ليس كمثله شيٌء وهو‬‫قال ‪ ) :‬إ ّ‬
‫سميع البصير ( ]الشورى ‪. [11 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫ة‬
‫ووصف بعض الحوادث بالسمع والبصر ‪ ،‬قال ‪ ) :‬إّنا خلقنا النسان من نطف ٍ‬
‫أمشاٍج ّنبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ً ( ]النسان ‪ ) [2 :‬أسمع بهم وأبصر يوم‬
‫يأتوننا ( ] مريم ‪. [ 38 :‬‬

‫) ‪(1/151‬‬

‫ل وعل – سمع وبصر حقيقيان‬ ‫ونحن ل نشك أن ما في القرآن حقّ ‪ ،‬فلله – ج ّ‬


‫لئقان بجلله وكماله ‪ ،‬كما أن للمخلوق سمعا ً وبصرا حقيقيين مناسبين لحاله‬
‫ً‬
‫من فقره وفنائه وعجزه ‪ .‬وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من‬
‫المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق ‪.‬‬
‫ي القّيوم ( ] البقرة ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫‪ -4‬ووصف نفسه بالحياة ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬الله ل إله إل هو الح ّ‬
‫ي الذي ل‬ ‫ّ‬ ‫كل على الح ّ‬ ‫ي ل إله إل ّ هو( ]غافر ‪ )، [65 :‬وتو ّ‬ ‫‪ ) ، [255‬هو الح ّ‬
‫يموت (] الفرقان ‪. [ 58 :‬‬
‫ل شيٍء‬ ‫ووصف أيضا ً بعض المخلوقين بالحياة ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وجعلنا من الماء ك ُ ّ‬
‫حي ( ] النبياء ‪ ) ، [ 30 :‬وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حي ّا ً (‬
‫ي ( ] الروم ‪:‬‬ ‫ي من المّيت ويخرج المّيت من الح ّ‬ ‫]مريم ‪ ) ، [15:‬يخرج الح ّ‬
‫‪. [ 19‬‬
‫ل وعل – صفة حياة حقيقية لئقة بكماله ‪ ،‬وجلله ‪،‬‬ ‫ونحن نقطع بأن لله – ج ّ‬
‫كما أن للمخلوقين حياة مناسبة لحالهم ‪ ،‬وعجزهم وفنائهم وافتقارهم ‪ ،‬وبين‬
‫صفة الخالق وصفة المخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق وذات‬
‫المخلوق ‪ ،‬وذلك بون شاسع بين الخالق وخلقه ‪.‬‬
‫ل لما يريد ( ] البروج ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ل وعل – نفسه بالرادة قال ‪ ) :‬فّعا ٌ‬ ‫‪ -5‬ووصف – ج ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫‪ ) ، [16‬إّنما أمرهُ إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ] يس ‪. [ 82 :‬‬
‫دنيا ( ]النفال ‪[67:‬‬ ‫ووصف بعض المخلوقين بالرادة قال ‪ ) :‬تريدون عرض ال ّ‬
‫ؤوا نور الله (‬ ‫ف ُ‬‫‪ ) ،‬إن يريدون إل ّ فرارا ً ( ]الحزاب ‪ ) ، [13:‬يريدون ل ِي ُط ْ ِ‬
‫]الصف ‪. [8 :‬‬
‫ول شك أن لله إرادة حقيقية لئقة بكماله ‪ ،‬كما أن للمخلوقين إرادة مناسبة‬
‫لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم ‪ .‬وبين إرادة الخالق والمخلوق كمثل ما‬
‫بين ذات الخالق والمخلوق ‪.‬‬
‫م(‬‫ل وعل – بالعلم ‪ ،‬قال ‪ ) :‬والله بكل شيٍء علي ٌ‬ ‫‪ -6‬ووصف نفسه – ج ّ‬
‫]النور‪ّ ) ، [35 :‬لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ( ] النساء ‪[ 166 :‬‬
‫ن عليهم بعلم ٍ وما ك ُّنا غاِئبين ( ] العراف ‪. [ 7 :‬‬ ‫ص ّ‬
‫ق ّ‬
‫‪ ) ،‬فلن ُ‬

‫) ‪(1/152‬‬

‫ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال ‪ ) :‬وبشروه بغلم ٍ عليم ٍ ( ]الذاريات ‪:‬‬
‫علم ٍ ّلما عّلمناه ( ] يوسف ‪. [ 68 :‬‬
‫‪ ) ،[28‬وإّنه لذو ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ول شك أن للخالق – جل وعل – علما حقيقي ّا لئقا بكماله وجلله محيطا بكل‬
‫شيء ‪ .‬كما أن للمخلوقين علما ً مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ‪،‬‬
‫وبين علم الخالق وعلم المخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات‬
‫الخالق وذات المخلوق ‪.‬‬
‫ل وعل – بالكلم ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وكّلم الله موسى تكليما ً (‬ ‫‪ -7‬ووصف نفسه – ج ّ‬
‫جرهُ حّتى يسمع كلم الله ( ] التوبة ‪. [ 6 :‬‬ ‫]النساء ‪ ) ، [164 :‬فأ ِ‬
‫ما كّلمه قال إّنك اليوم لدينا مكين‬ ‫ووصف بعض المخلوقين بالكلم قال ‪ ):‬فل ّ‬
‫ن ( ] يوسف ‪ ) ، [ 54 :‬وتكّلمنا أيديهم ( ] يس ‪ . [ 65 :‬ول ش ّ‬
‫ك أن‬ ‫أمي ٌ‬
‫للخالق تعالى كلما ً حقيقيا ً يليق بكماله وجلله ‪ ،‬كما أن للمخلوقين كلما ً‬
‫مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ‪ ،‬وبين كلم الخالق وكلم‬
‫المخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق ‪.‬‬
‫الكلم على الصفات السلبية عند المتكلمين‬
‫بين الشيخ الشنقيطي – رحمه الله تعالى – ضابط الصفة السلبية عند‬
‫المتكلمين فقال ‪ :‬هي الصفة التي دلت على عدم محض ‪ .‬والمراد بها أن‬
‫تدل على سلب ما ل يليق بالله عن الله ‪ ،‬من غير أن تدل على معنى وجودي‬
‫قائم بالذات ‪.‬‬
‫ً‬
‫والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمسا ل سادس لها ‪ ،‬وهي عندهم ‪:‬‬
‫القدم ‪ ،‬والبقاء ‪ ،‬والمخالفة للخلق ‪ ،‬والوحدانية ‪ ،‬والغنى المطلق الذي‬
‫يسمونه القيام بالنفس ‪ ،‬الذي يعنون به الستغناء عن الحيز والمحل ‪.‬‬
‫‪ -2 ، 1‬القدم والبقاء ‪:‬‬
‫ونبه الشيخ رحمه الله تعالى إلى أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون‬
‫ل وعل – زاعمين أنه وصف بهما نفسه هما المرادان بقوله‬ ‫بهما الله – ج ّ‬
‫ل والخُر ( ] الحديد ‪. [ 3 :‬‬ ‫تعالى ‪ ) :‬هو الوّ ُ‬

‫) ‪(1/153‬‬

‫والقدم عندهم عبارة عن سلب العدم السابق ‪ ،‬إل أنه عندهم أخص من الزل‬
‫‪ ،‬لن الزل عبارة عما ل افتتاح له ‪ ،‬سواء أكان وجوديا ً كذات الله وصفاته ‪،‬‬
‫أو عدميا ً ‪ ،‬والقدم عندهم عبارة عما ل أول له ‪ ،‬بشرط أن يكون وجوديا ً ‪،‬‬
‫كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلل ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبين الشيخ – رحمه الله – أن الله – عّز وجل – وصف المخلوقين بالقدم ‪،‬‬
‫ن‬
‫جو ِ‬ ‫قال ‪ ) :‬قالوا تالله إّنك لفي ضللك القديم ( ] يوسف ‪ ) ، [ 95 :‬كالُعر ُ‬
‫م القدمون ( ]الشعراء ‪. [76 :‬‬ ‫القديم ( ] يس ‪ ) ، [ 39 :‬أنتم َوآَباؤُك ُ ُ‬
‫ووصف المخلوقين بالبقاء قال ‪ ) :‬وجعلنا ُذرّيته هم الباقين ( ] الصافات ‪77 :‬‬
‫ق ( ] النحل ‪ [ 96 :‬ول شك أن ما وصف‬ ‫[ ‪ ) ،‬ما عندكم ينفد ُ وما عند الله با ٍ‬
‫به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به الخالق ‪.‬‬
‫وصف الله بالقدم والبقاء لم يرد في الكتاب والسنة ‪:‬‬
‫وبين الشيخ – رحمه الله – تعالى أن الله لم يصف في كتابه نفسه بالقدم ‪،‬‬
‫وبعض السلف كره وصفه بالقدم ؛ لنه قد يطلق مع سبق العدم ‪ ،‬نحو‬
‫) كالعرجون القديم ( ]يس ‪ ) ، [39 :‬إّنك لفي ضللك القديم ( ]يوسف ‪[95 :‬‬
‫م القدمون ( ]الشعراء ‪. [76 :‬‬ ‫‪ ) ،‬أنتم َوآَباؤُك ُ ُ‬
‫وقد زعم بعضهم أنه جاء فيه حديث ‪ ،‬وبعض العلماء يقول ‪ :‬هو يدل على‬
‫وصفه بهذا ‪ ،‬وبعضهم يقول ‪ :‬لم يثبت ‪.‬‬
‫ُ‬
‫أما الولية والخرية التي نص عليهما في قوله ‪ ) :‬هو الوّل والخُر ( ] الحديد‪:‬‬
‫‪ ، [3‬فقد وصف المخلوقين أيضا ً بالولية والخرية ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ألم ُنهلك الّولين‬
‫ن ( ] المرسلت ‪ . [ 17-16 :‬ول شك أن ما وصف الله به‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬ ‫– ثُ ّ‬
‫م نتبعهم ال ِ‬
‫نفسه من ذلك لئق بجلله وكماله كما أن للمخلوقين أوليه وآخرية مناسبة‬
‫لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ‪.‬‬
‫‪ -4 ، 3‬الوحدانية والغنى بالنفس ‪:‬‬
‫ه واحد ٌ ( ] البقرة ‪ [ 163 :‬ووصف‬ ‫وصف نفسه بأنه واحد ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وإلهكم إل ٌ‬
‫بعض المخلوقين بذلك ‪ ،‬قال ‪ُ ) :‬يسقى بماٍء واحد ٍ ( ] الرعد ‪. [ 4 :‬‬

‫) ‪(1/154‬‬

‫ن الله لغني‬ ‫ووصف نفسه بالغنى ) إن تكفروا أنتم ومن في الرض جميعا ً فإ ّ‬
‫ي حميد ٌ (‬ ‫حميد ( ]إبراهيم ‪ ) ، [8 :‬فكفروا وتوّلوا ّواستغنى الله والله غن ّ‬
‫] التغابن ‪ [ 6 :‬ووصف بعض المخلوقين بذلك ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ومن كان غني ّا ً‬
‫من َفضل ِهِ ( ] النور‬ ‫م الله ِ‬ ‫فف ( ] النساء ‪ ) ، [6 :‬إن يكونوا فقراء ُيغنه ُ‬
‫فليستع ِ‬
‫‪. [ 32 :‬‬
‫فهذه صفات السلب ‪ ،‬جاء في القرآن وصف الخالق ووصف المخلوق بها ‪.‬‬
‫ول شك أن ما وصف به الخالق منها لئق بكماله وجلله ‪ ،‬وما وصف به‬
‫المخلوق مناسب لحاله وعجزه وفنائه وافتقاره ‪.‬‬
‫تحقيق القول في الصفات المعنوية‬
‫ثم تكلم الشيخ على ما أسماه علماء الكلم بالصفات السبع المعنوية التي‬
‫هي كونه تعالى قادرا ً ومريدا ً وعالما ً وحيا ً وسميعا ً وبصيرا ً ومتكلما ً ‪ ،‬وبين أن‬
‫حقيقتها هي كيفية التصاف بالمعاني السبعة التي ذكرنا ‪.‬‬
‫دها من المتكلمين عدها بناء على ثبوت ما يسمونه الحال المعنوية‬ ‫ومن ع ّ‬
‫التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية ‪ ،‬ل معدومة ول موجودة ‪.‬‬
‫ولم يرتض الشيخ إثبات هذا النوع من الصفات ‪ ،‬فقال ‪ " :‬والتحقيق أن هذه‬
‫خرافة وخيال ‪ ،‬وأن العقل الصحيح ل يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة‬
‫ألبتة ‪ ،‬فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعا ً ‪ ،‬وكل ما ليس بمعدوم فهو‬
‫موجود قطعا ً ‪ ،‬ول واسطة ألبتة ‪ ،‬كما هو معروف عند العقلء " ‪.‬‬
‫صفات الفعال‬
‫ثم تكلم الشيخ على صفات الفعال ‪ ،‬فقال ‪ :‬وهذه صفات الفعال جاء في‬
‫القرآن كثيرا ً وصف الخالق بها ووصف المخلوق بها ‪ ،‬ول شك أن ما وصف به‬
‫الخالق منها مخالف لما وصف به المخلوق ‪،‬كالمخالفة التي بين ذات الخالق‬
‫وذات المخلوق ‪ ،‬ومن هذه الصفات ‪:‬‬

‫) ‪(1/155‬‬

‫ُ‬ ‫‪ -1‬الرزق ‪ :‬وصف الله نفسه – ج ّ‬


‫ل وعل – أنه يرزق خلقه فقال ‪ ) :‬ما أريد ُ‬
‫ن الله هو الّرّزاق ذو القوّةِ المتين (‬ ‫ُ‬
‫ق وما أريد ُ أن ُيطعمون – إ ّ‬
‫منهم من رز ٍ‬
‫ه وهو خير‬
‫ف ُ‬
‫]الذاريات ‪ ) ، [ 58-57 :‬وما أنفقتم من شيٍء فهو يخل ُ‬
‫الّرازقين ( ] سبأ ‪ ) ، [ 39 :‬قل ما عند الله خيٌر من الّلهو ومن التجارة والله‬
‫خير الّرازقين ( ] الجمعة ‪. [ 11 :‬‬
‫ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وإذا حضر القسمة أولوا‬
‫القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ( ] النساء ‪ ) ، [ 8 :‬ول تؤتوا‬
‫سفهاء أموالكم اّلتي جعل الله لكم قياما ً وارزقوهم فيها ( ] النساء ‪، [ 5 :‬‬ ‫ال ّ‬
‫ن ( ]البقرة ‪. [233 :‬‬ ‫ُ‬
‫) وعلى المولود له ِرزقهُ ّ‬
‫ول شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه‬
‫المخلوق ‪ ،‬كمخالفة ذات الله لذات المخلوق ‪.‬‬
‫ل وعل – بصفة الفعل وهو العمل ‪ ،‬قال ) أولم‬ ‫‪ -2‬العمل ‪ :‬ووصف نفسه – ج ّ‬
‫ً‬
‫ما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( ] يس ‪. [ 71 :‬‬ ‫م ّ‬‫يروا أّنا خلقنا لهم ّ‬
‫ووصف المخلوقين بصفة الفعل التي هي العمل قال ‪ ) :‬إّنما تجزون ما كنتم‬
‫تعملون( ] الطور ‪ ، [ 16 :‬ول شك أن ما وصف به المخلوق مخالف له‬
‫كمخالفة ذات الخالق ذات المخلوق ‪.‬‬
‫م القرآن – خلق‬ ‫ّ‬
‫‪ -3‬التعليم ‪ :‬وصف نفسه بأنه يعلم خلقه ‪ ) :‬الّرحمن – عل َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ه البيان ( ] الرحمن ‪ ) ، [ 4-1 :‬اقرأ ورّبك الكرم – الذي علم‬ ‫النسان – عّلم ُ‬
‫بالقلم – عّلم النسان ما لم يعلم ( ] العلق ‪ ) ، [ 5-3 :‬وعّلمك ما لم تكن‬
‫م وكان فضل الله عليك عظيما ً ( ] النساء ‪. [ 113 :‬‬ ‫تعل ُ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ووصف بعض خلقه بهذه الصفة أيضا ‪ ،‬قال ‪ ) :‬هو الذي بعث في المي ّّين‬
‫رسول ً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ( ] الجمعة ‪:‬‬
‫ما عّلمكم الله ( ] المائدة ‪[ 4 :‬‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬
‫‪ ، [ 2‬وجمع المثالين في قوله ‪ ) :‬تعلمون َهُ ّ‬
‫‪.‬‬

‫) ‪(1/156‬‬

‫ل وعل – بأنه ينبئ ‪ ،‬ووصف المخلوق بأنه‬ ‫‪ -4‬النباء ‪ :‬ووصف نفسه – ج ّ‬


‫ي إلى‬ ‫ل وعل ‪ ) :‬وإذ أسّر الّنب ّ‬ ‫ينبئ ‪ ،‬وجمع بين الفعل في المرين في قوله ج ّ‬
‫ما نّبأت به وأظهره الله عليه عّرف بعضه وأعرض عن‬ ‫بعض أزواجه حديثا ً فل ّ‬
‫ما نّبأها به قالت من أنبأك هذا قال نّبأني العليم الخبير ( ] التحريم ‪:‬‬ ‫ض فل ّ‬
‫بع ٍ‬
‫ن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه‬ ‫‪ . [ 3‬ول شك أ ّ‬
‫العبد ‪،‬كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق ‪.‬‬
‫ل وعل ‪:‬‬ ‫‪ -5‬اليتاء ‪ :‬ووصف نفسه بصفة الفعل الذي هو اليتاء ‪ .‬قال ج ّ‬
‫ه(‬‫ل فضل ُ‬ ‫ل ذي فض ٍ‬ ‫) يؤتي الحكمة من يشاُء ( ] البقرة ‪ ) ، [ 269 :‬ويؤت ك ّ‬
‫] هود ‪. [3 :‬‬
‫ن ِقنطارا ً ( ]‬ ‫ُ ّ‬ ‫ه‬ ‫إحدا‬ ‫وآتيتم‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫اليتاء‬ ‫هو‬ ‫الذي‬ ‫بالفعل‬ ‫المخلوقين‬ ‫ووصف‬
‫ة ( ] النساء ‪. [ 4 :‬‬ ‫النساء ‪ ) ، [ 20 :‬وآتوا النساء صدقاتهن ِنحل ً‬
‫ول شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به العبد من‬
‫هذا الفعل كمخالفة ذاته لذاته ‪.‬‬
‫أقسام الصفات عند علماء الكلم ) الجزء الثاني (‬
‫الصفات الجامعة‬
‫ثم تكلم الشيخ محمد المين الشنقيطي – رحمه الله – على الصفات الجامعة‬
‫‪ ،‬كالعلو والعظم والك َِبر والملك والك ِْبر والجبروت والعزة والقوة وما جرى‬
‫مجرى ذلك من الصفات الجامعة ‪.‬‬
‫‪ :1-3‬صفات العلو والكبر والعظم ‪:‬‬
‫ؤود ُه ُ حفظهما وهو‬ ‫وصف الله نفسه بالعلو والكبر والعظم فقال ‪ ) :‬ول ي َ ُ‬
‫ي العظيم ( ] البقرة ‪ ، [ 255 :‬وقال في وصف نفسه بالعلو والكبر ‪:‬‬ ‫العل ّ‬
‫ن الله كان علي ّا ً كبيرا ً ( ] النساء ‪ ) ، [ 34 :‬عالم الغيب وال ّ‬
‫شهادةِ الكبيُر‬ ‫)إ ّ‬
‫المتعال ( ] الرعد ‪. [ 9 :‬‬

‫) ‪(1/157‬‬

‫طودِ‬ ‫ق كال ّ‬ ‫ل ِفر ٍ‬‫ووصف بعض المخلوقين بالعظم قال ‪ ) :‬فانفلق فكان ك ُ ّ‬
‫العظيم ( ]الشعراء ‪ ) ، [63 :‬إّنكم لتقولون قول ً عظيما ً ( ] السراء ‪، [ 40 :‬‬
‫م ( ] النمل ‪ [ 23 :‬ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال ‪:‬‬ ‫) ولها عرش عظي ٌ‬
‫ً‬
‫ق علي ّا (‬‫) ورفعناه مكانا ً علي ّا ( ] مريم ‪ ) ، [ 57 :‬وجعلنا لهم لسان صد ٍ‬
‫ً‬
‫مغفرةٌ وأجٌر كبيٌر ( ]‬ ‫] مريم ‪ . [ 50 :‬ووصف بعض المخلوقات بالكبر ‪ ) :‬لهم ّ‬
‫هود ‪ ) ، [ 11 :‬بل فعله كبيرهم هذا ( ] النبياء ‪. [ 63 :‬‬
‫ول شك أن ما وصف الله به نفسه من هذه الصفات الجامعة كالعلو والكبر‬
‫ل وعل‬ ‫والعظم مناف لما وصف به المخلوق منها ‪ ،‬كمخالفة ذات الخالق – ج ّ‬
‫– لذات المخلوق ‪ ،‬فل مناسبة بين ذات الخالق وذات المخلوق ‪ ،‬كما ل‬
‫مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق ‪.‬‬
‫‪ -4‬صفة الملك ‪:‬‬
‫سماوات وما في الرض‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ما‬ ‫لله‬ ‫ح‬
‫ّ ُ‬ ‫ب‬ ‫يس‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫بالملك‬ ‫ووصف نفسه‬
‫مقتدر (‬ ‫ك ّ‬ ‫ق عند ملي ٍ‬ ‫دوس ( ] الجمعة ‪ ) ، [ 1 :‬في مقعد صد ٍ‬ ‫الملك الق ّ‬
‫] القمر ‪. [ 55 :‬‬
‫ت‬‫ك إّني أرى سبع بقرا ٍ‬ ‫ووصف بعض المخلوقين بالملك ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وقال المل ُ‬
‫ن ( ] يوسف ‪ ) ، [ 43 :‬وقال الملك ائتوني به ( ] يوسف ‪، [ 50 :‬‬ ‫سما ٍ‬
‫ل سفينةٍ غصبا ( ] الكهف ‪ ) ، [ 79 :‬تؤتي الملك‬ ‫ً‬ ‫ك يأخذ ك ّ‬ ‫) وكان وراءهم مل ٌ‬
‫من تشاء ( ] آل عمران ‪. [ 26 :‬‬ ‫من تشاء وتنزعُ الملك م ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ك أن لله – جل وعل – ملكا حقيقيا لئقا بكماله وجلله ‪ ،‬كما أن‬ ‫ول ش ّ‬
‫للمخلوقين ملكا مناسبا ً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ‪.‬‬
‫‪ -6 ، 5‬صفة الجبروت والكبرياء ‪:‬‬
‫ووصف نفسه بأنه جبار متكبر في قوله ‪ ) :‬العزيز الجّبار المتكبر ( ] الحشر ‪:‬‬
‫‪ [ 23‬ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال ‪ ) :‬كذلك يطبع الله على‬
‫كل قلب متكبر جّبارٍ ( ] غافر ‪ ) ، [ 35 :‬وإذا بطشتم بطشتم جّبارين (‬
‫] الشعراء ‪ ) ، [ 130 :‬أليس في جهّنم مثوىً للمتكبرين ( ] الزمر ‪[ 60 :‬‬
‫ل جّبارٍ عنيد ٍ ( ]إبراهيم ‪. [15 :‬‬ ‫) واستفتحوا وخاب ك ّ‬

‫) ‪(1/158‬‬

‫ول شك أن ما وصف به الخالق من هذه الصفات مخالف لما وصف به‬


‫المخلوق كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق ‪.‬‬
‫‪ -7‬صفة العزة ‪:‬‬
‫م ( ] البقرة ‪) ، [ 220 :‬‬‫ن الله عزيز حكي ٌ‬‫ل وعل – نفسه بالعزة ) إ ّ‬‫وصف – ج ّ‬
‫هاب ( ] ص ‪. [ 9 :‬‬ ‫أم عندهم خزاِئن رحمة رّبك العزيز الو ّ‬
‫ووصف بعض المخلوقين بالعزة ‪ ،‬قال ‪ ) :‬قالت امرأة العزيز ( ] يوسف ‪51 :‬‬
‫[ ) وعّزني في الخطاب ( ] ص ‪ ، [ 23 :‬وجمع المثالين في قوله ‪ ) :‬ولله‬
‫العّزة ولرسوله وللمؤمنين ( ] المنافقون ‪. [ 8 :‬‬
‫ول شك أن ما وصف به الخالق من هذا الوصف مناف لما وصف به المخلوق‬
‫‪ ،‬كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق ‪.‬‬
‫‪ -8‬صفة القوة ‪:‬‬
‫ق وما أريد‬‫ٍ‬ ‫رز‬ ‫من‬ ‫منهم‬ ‫أريد‬ ‫ما‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫بالقوة‬ ‫–‬ ‫وعل‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ج‬ ‫ووصف نفسه –‬
‫ن الله هو الّرّزاق ذو القوة المتين ( ] الذاريات ‪) ، [ 58-57 :‬‬ ‫أن يطعمون – إ ّ‬
‫ن الله لقويّ عزيز ( ] الحج ‪. [ 40 :‬‬ ‫ن الله من ينصره إ ّ‬ ‫ولينصر ّ‬
‫ووصف بعض المخلوقين بالقوة ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ويزدكم قوة ً إلى قوتكم ( ] هود‪:‬‬
‫ف ثم جعل من بعد‬ ‫ل وعل – ) الله الذي خلقكم من ضع ٍ‬ ‫‪ ، [52‬وقال – ج ّ‬
‫ة ( ] الروم ‪. [ 54 :‬‬ ‫ً‬
‫م جعل من بعد قوةٍ ضعفا وشيب ً‬ ‫ف قوةً ث ّ‬
‫ضع ٍ‬
‫ما عاد ٌ فاستكبروا في الرض بغير الحق‬ ‫وجمع بين المثالين في قوله ‪ ) :‬فأ ّ‬
‫ن الله الذي خلقهم هو أشد ّ منهم قوةً‬ ‫وقالوا من أشد ّ مّنا قوةً أولم يروا أ ّ‬
‫وكانوا بآياتنا يجحدون ( ] فصلت ‪. [ 15 :‬‬
‫الصفات التي اختلف فيها المتكلمون‬
‫ثم تكلم الشيخ على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون ‪ ،‬هل هي صفات‬
‫فعل أو صفات معنى ؟ والذي حققه الشيخ أنها صفات معان قائمة بذات الله‬
‫ل وعل – ومن هذه الصفات ‪:‬‬ ‫–ج ّ‬

‫) ‪(1/159‬‬

‫ن‬‫‪ -2 ، 1‬صفة الرأفة والرحمة ‪ :‬وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم ‪ ،‬قال ) إ ّ‬
‫م ( ] النحل ‪ . [ 7 :‬ووصف بعض المخلوقين بذلك ‪ ،‬فقال‬ ‫ف ّرحي ٌ‬
‫كم لرؤو ٌ‬ ‫رب ّ ُ‬
‫ل من أنفسكم‬ ‫في وصف نبينا صلوات الله وسلمه عليه ‪ ) :‬لقد جاءكم رسو ٌ‬
‫م ( ] التوبة ‪. [ 128 :‬‬ ‫ف رحي ٌ‬‫عزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤو ٌ‬
‫‪ -3‬صفة الحلم ‪ :‬وصف نفسه – سبحانه – بالحلم ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ليدخلّنهم مدخل ً‬
‫ن الله يعلم ما في‬ ‫م ( ] الحج ‪ ) [ 59 :‬واعلموا أ ّ‬ ‫ن الله لعليم حلي ٌ‬‫يرضونه وإ ّ‬
‫م ( ] البقرة ‪ ) ، [ 235 :‬قو ٌ‬
‫ل‬ ‫ن الله غفور حلي ٌ‬ ‫أنفسكم فاحذروه واعلموا أ ّ‬
‫ف ومغفرة خيٌر من صدقةٍ يتبعها أذى والله غني حليم ( ] البقرة ‪263 :‬‬ ‫معرو ٌ‬
‫[‪.‬‬
‫شرناه بغلم ٍ حليم ٍ ( ]الصافات ‪:‬‬ ‫ووصف بعض المخلوقين بالحلم ‪ ،‬قال ‪ ) :‬فب ّ‬
‫م ( ] التوبة ‪. [ 114 :‬‬‫ن إبراهيم لّواه حلي ٌ‬ ‫‪ ) ، [101‬إ ّ‬
‫ن الله‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫)‬ ‫‪:‬‬ ‫فقال‬ ‫‪،‬‬ ‫بالمغفرة‬ ‫–‬ ‫سبحانه‬ ‫–‬ ‫نفسه‬ ‫وصف‬ ‫‪:‬‬ ‫المغفرة‬ ‫‪ -4‬صفة‬
‫ب من يشاء (‬ ‫م ( ] البقرة ‪ ) ، [ 173 :‬فيغفر لمن يشاء ويعذ ّ ُ‬ ‫غفوٌر رحي ٌ‬
‫] البقرة ‪. [ 284 :‬‬
‫ن ذلك لمن‬ ‫ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة ‪ ،‬قال ‪ ) :‬ولمن صبر وغفر إ ّ‬
‫ف ومغفرة ( ] البقرة ‪:‬‬ ‫معرو ٌ‬ ‫عزم المور ( ] الشورى ‪ ) ، [ 43 :‬قو ٌ‬
‫ل ّ‬
‫‪ ) ، [ 263‬قل ل ّّلذين آمنوا يغفروا لّلذين ل يرجون أّيام الله ( ] الجاثية ‪[ 14 :‬‬
‫‪.‬‬
‫ول شك أن ما وصف به خالق السماوات والرض من هذه الصفات حق لئق‬
‫بكماله وجلله ل يجوز أن ينفى خوفا ً من التشبيه بالخلق ‪ ،‬وأن ما وصف به‬
‫الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم ‪.‬‬
‫حال النافين لصفات الكمال والجلل‬
‫وبعد أن بين الشيخ ما في منهج علماء الكلم من خلل ‪ ،‬وفصل القول في‬
‫المنهج القرآني اليماني الذي كشف الحق وأنار الدرب ختم كلمه قائل ً ‪:‬‬
‫) ‪(1/160‬‬

‫ل وعل‬ ‫" وعلى كل حال فل يجوز للنسان أن يتنطع إلى وصف أثبته الله – ج ّ‬
‫ب السماوات والرض ‪،‬‬ ‫– لنفسه فينفي هذا الوصف عن الله متهجما ً على ر ّ‬
‫مدعيا ً عليه أن هذا الوصف الذي تمدح به نفسه أنه ل يليق به ‪ ،‬وأنه ينفيه‬
‫عنه ‪ ،‬ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص ‪ ،‬فهذا جنون وهوس ‪ ،‬ول يذهب إليه‬
‫إل من طمس الله بصائرهم " ‪.‬‬
‫صفة الستواء صفة كمال ل صفة نقص‬
‫ولبيان عظم جناية علماء الكلم على صفات الباري ضرب الشيخ الشنقيطي‬
‫– رحمه الله – مثل ً بصفة عظيمة من صفاته هي صفة الستواء ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫فهذه صفة الستواء التي كثر فيها الخوض ‪ ،‬ونفاها كثير من الناس بفلسفة‬
‫منطقية ‪ ،‬وأدلة جدلية أبطلوا بها الحق ‪ ،‬وأحقوا بها الباطل ‪ ،‬قد تجرأ اللف‬
‫ب السماوات والرض بأدلة منطقية ‪.‬‬ ‫ممن يدعون السلم فنفوها عن ر ّ‬
‫فيقولون مثل ً ‪ :‬لو كان مستويا ً على عرشه لكان مشابها للخلق ‪ ،‬لكنه غير‬
‫ً‬
‫مشابه للخلق ‪ ،‬فينتج أنه غير مستو على العرش ‪ .‬وهذه النتيجة باطلة‬
‫لمخالفتها صريح القرآن ‪.‬‬
‫وبين الشيخ – رحمه الله – أن صفة الستواء صفة كمال وجلل ‪ ،‬تمدح بها‬
‫رب السماوات والرض نفسه ‪ ،‬والقرينة على أنها صفة كمال وجلل أن الله‬
‫ما ذكرها في موضع من كتابه إل مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلله‬
‫وكماله ‪ ،‬التي هي منها ‪ ،‬ثم استعرض النصوص التي وردت فيها هذه الصفة‬
‫للتدليل على صحة ما قرره ‪:‬‬
‫‪ -1‬أول سورة ذكر الله فيها صفة الستواء حسب ترتيب المصحف سورة‬
‫سماوات والرض في سّتة أ ّ ٍ‬
‫م‬ ‫يا‬ ‫ن رّبكم الله اّلذي خلق ال ّ‬ ‫العراف ‪ ،‬قال ‪ ) :‬إ ّ‬
‫شمس والقمر‬ ‫م استوى على العرش يغشي الّليل الّنهار يطلبه حثيثا ً وال ّ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ب العالمين (‬‫خرات بأمره أل له الخلق والمر تبارك الله ر ّ‬ ‫والّنجوم مس ّ‬
‫] العراف ‪ ، [ 54 :‬فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه الصفات الدالة على‬
‫الجلل والكمال ؟‬

‫) ‪(1/161‬‬

‫ن رّبكم الله اّلذي خلق‬ ‫‪ -2‬الموضع الثاني في سورة يونس ‪ ،‬قال ‪ ) :‬إ ّ‬
‫سماوات والرض في سّتة أّيام ٍ ثم استوى على العرش يدبر المر ما من‬ ‫ال ّ‬
‫ّ‬
‫شفيع إل من بعد إذنه ذلكم الله رّبكم فاعبدوه أفل تذكرون – إليه مرجعكم‬ ‫ّ‬
‫م يعيده ليجزي اّلذين آمنوا وعملوا‬ ‫ُ‬
‫قا ً إّنه ي َب ْد َأ الخلق ث ّ‬
‫جميعا ً وعد الله ح ّ‬
‫ب من حميم ٍ وعذاب أليم بما كانوا‬ ‫صالحات بالقسط واّلذين كفروا لهم شرا ٌ‬ ‫ال ّ‬
‫دره منازل لتعلموا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫يكفرون – هو الذي جعل الشمس ضياًء والقمر نورا وق ّ‬ ‫ّ‬
‫ل اليات لقوم ٍ يعلمون‬ ‫عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إل ّ بالحق يفص ُ‬
‫ت‬
‫سماوات والرض ليا ٍ‬ ‫ن في اختلف اّلليل والّنهار وما خلق الله في ال ّ‬ ‫–إ ّ‬
‫لقوم ٍ يّتقون ( ]يونس ‪. [6-3 :‬‬
‫فهل لحد أن ينفي شيئا ُ من هذه الصفات الدالة على هذا الكمال والجلل ؟‬
‫ل وعل ‪ ) : -‬الله اّلذي‬ ‫‪ -3‬الموضع الثالث في سورة الرعد ‪ ،‬في قوله – ج ّ‬
‫شمس‬ ‫خر ال ّ‬
‫م استوى على العرش وس ّ‬ ‫سماوات بغير عمدٍ ترونها ث ّ‬ ‫رفع ال ّ‬
‫مى يدبر المر يفصل اليات لعّلكم بلقاء ربكم‬ ‫ل مس ّ‬ ‫والقمر ك ّ‬
‫ل يجري لج ٍ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫توقنون – وهو الذي مد ّ الرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات‬
‫ت لقوم ٍ يتفكرون –‬‫ن في ذلك ليا ٍ‬ ‫جعل فيها زوجين اثنين ُيغشي اّلليل الّنهار إ ّ‬
‫ن وغير‬
‫ل صنوا ٌ‬ ‫ب وزرعٌ ونخي ٌ‬
‫ت من أعنا ٍ‬ ‫ت وجّنا ٌ‬‫متجاورا ٌ‬
‫وفي الرض قطعٌ ّ‬
‫ن في ذلك‬ ‫ن ُيسقى بماٍء واحدٍ ونفضل بعضها على بعض في الكل إ ّ‬ ‫صنوا ٍ‬
‫ت لقوم ٍ يعقلون ( ] الرعد ‪ ، [ 4-2 :‬فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه‬ ‫ليا ٍ‬
‫الصفات الدالة على الجلل والكمال ؟‬

‫) ‪(1/162‬‬

‫‪ -4‬الموضع الرابع في سورة طه ‪ ) :‬طه – ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى – إل ّ‬


‫سماوات الُعلى – الّرحمن‬ ‫من خلق الرض وال ّ‬ ‫تذكرة ً لمن يخشى – تنزيل ً م ّ‬
‫سماوات وما في الرض وما بينهما وما‬ ‫على العرش استوى – له ما في ال ّ‬
‫ّ‬
‫تحت الّثرى – وإن تجهر بالقول فإّنه يعلم السّر وأخفى – الله ل إله إل هو له‬
‫السماء الحسنى ( ] طه ‪. [ 8-1 :‬‬
‫فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه الصفات الدالة على الجلل والكمال ؟‬
‫ي اّلذي‬ ‫كل على الح ّ‬ ‫‪ -5‬الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله ‪ ) :‬وتو ّ‬
‫سماوات‬ ‫ل يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ً – اّلذي خلق ال ّ‬
‫َ‬
‫ل به‬‫سأ ْ‬ ‫م استوى على العرش الّرحمن َفا ْ‬ ‫والرض وما بينهما في ستة أيام ٍ ث ّ‬
‫خبيرا ً ( ] الفرقان ‪. [ 59-58 :‬‬
‫فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه الصفات الدالة على هذا الكمال والجلل ؟‬
‫‪ -6‬الموضع السادس في سورة السجدة في قوله تعالى ‪ ) :‬أم يقولون افتراه‬
‫ما آتاهم من ّنذيرٍ من قبلك لعّلهم يهتدون –‬ ‫بل هو الحقّ من ّربك لتنذر قوما ً ّ‬
‫م استوى على‬ ‫سماوات والرض وما بينهما في ستة أيام ٍ ث ّ‬ ‫الله اّلذي خلق ال ّ‬
‫ي ول شفيٍع أفل تتذكرون – يدبر المر من‬ ‫العرش ما لكم من دونه من ول ٍ‬
‫دون –‬ ‫ما تع ّ‬ ‫م يعرج إليه في يوم ٍ كان مقداره ألف سنةٍ م ّ‬ ‫سماء إلى الرض ث ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ّ‬
‫شهادة العزيز الّرحيم – الذي أحسن كل شيٍء خلقه وبدأ‬ ‫ذلك عالم الغيب وال ّ‬
‫واه‬‫مس ّ‬ ‫ن – ثُ ّ‬
‫مهي ٍ‬ ‫م جعل نسله من سللة من ماٍء ّ‬ ‫ن–ث ّ‬ ‫خلق النسان من طي ٍ‬
‫ما تشكرون (‬ ‫ً‬
‫سمع والبصار والفئدة قليل ّ‬ ‫ونفخ فيه من ّروحه وجعل لكم ال ّ‬
‫]السجدة ‪. [9-3 :‬‬
‫فهل لحد أن ينفي شيئا ً من هذه الصفات الدالة على الغاية من الجلل‬
‫والكمال ؟‬

‫) ‪(1/163‬‬

‫‪ -7‬الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى ‪ ) :‬هو الول والخر‬


‫سماوات والرض‬ ‫ن وهو بكل شيٍء عليم – هو اّلذي خلق ال ّ‬‫ظاهر والباط ُ‬ ‫وال ّ‬
‫م استوى على العرش يعلم ما يلج في الرض وما يخرج منها‬ ‫في سّتة أيام ٍ ث ُ ّ‬
‫سماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون‬
‫وما ينزل من ال ّ‬
‫بصيٌر ( ] الحديد ‪. [ 4-3 :‬‬
‫فالشاهد أن هذه الصفات التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص ويتهجمون‬
‫على رب السماوات والرض بأنه وصف نفسه بصفة نقص ‪ .‬ثم يسببون عن‬
‫دح بها ‪ ،‬وجعلها من‬ ‫هذا أن ينفوها ويؤولوها ‪ ،‬مع أن الله – ج ّ‬
‫ل وعل – تم ّ‬
‫صفات الجلل والكمال ‪ ،‬مقرونة بما يبهر من صفات الجلل والكمال ‪ ،‬وهذا‬
‫ل وعل – بالتأويل ‪.‬‬ ‫يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله – ج ّ‬
‫المطلب السادس‬
‫قواعد مهمة في صفات الله وأسمائه‬
‫هناك عدة قواعد مهمة ‪ ،‬ونقاط رئيسة ‪ ،‬نبه إليها العلماء في هذا الباب‬
‫نسوقها موجزة مختصرة ‪.‬‬
‫القاعدة الولى ‪ :‬القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الخر )‪: (1‬‬
‫بهذه القاعدة نرد على عدة طوائف ‪:‬‬
‫أ‪ -‬الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها ‪ ،‬كالذين يثبتون لله الحياة ‪،‬‬
‫والعلم ‪ ،‬والقدرة ‪ ،‬والسمع ‪ ،‬والبصر ‪ ،‬والكلم ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬ويجعلونها صفات‬
‫حقيقية ‪ ،‬ثم ينازعون في محبة الله ورضاه ‪ ،‬وغضبه وكراهيته ‪ ،‬ويجعلون ذلك‬
‫مجازا ً ‪ ،‬أو يفسرونه بالرادة ‪ ،‬أو يفسرونه بالنعم والعقوبات ‪.‬‬
‫فيقال لهؤلء ‪ :‬ل فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ‪ ،‬بل القول في أحدهما‬
‫كالقول في الخر ‪ ،‬فإن كنتم تقولون ‪ :‬حياته وعلمه كحياة المخلوقين‬
‫وعلمهم ‪ ،‬فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك ‪.‬‬
‫وإن قلتم له حياة وعلم وإرادة تليق به ول تشبه حياة المخلوقين وعلمهم‬
‫وإرادتهم ‪ ،‬فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته وغضبه كذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/164‬‬

‫وإن قلتم ‪ :‬إن الغضب غليان دم القلب لطلب النتقام ‪ ،‬فكذلك يقال ‪ :‬الرادة‬
‫ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة ‪ ،‬فإن قلتم ‪ :‬هذه إرادة مخلوق ‪،‬‬
‫قلنا ‪ :‬هذا غضب مخلوق ‪.‬‬
‫ب‪ -‬الذين يثبتون السماء وينفون الصفات ‪ ،‬فيقولون حي بل حياة ‪ ،‬عليم بل‬
‫علم ‪ ...‬الخ ‪.‬‬
‫فهؤلء يقال لهم ‪ :‬ل فرق بين إثبات السماء ‪ ،‬وإثبات الصفات ‪ ،‬فإنك إن‬
‫قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لنا ل نجد‬
‫متصفا ً بالصفات إل وهو جسم ‪ ،‬قلنا ‪ :‬وكذلك في السماء ‪ ،‬إذ ل نجد ما هو‬
‫مسمى بحي وعليم وقدير إل ما هو جسم ‪ ،‬فانف أسماء الله ‪ ،‬فإن قالوا ‪:‬‬
‫هذه السماء تليق بكماله وجلله ‪ ،‬قلنا ‪ :‬وكذلك صفاته ‪.‬‬
‫ج‪ -‬الذين ينفون السماء والصفات ‪ ،‬فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى ل يشبهوا‬
‫الله بالموجودات ‪ ،‬فيقال لهم ‪ :‬نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي‬
‫خشية أن تشبهوه بالموجودات ‪ ،‬ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله‬
‫بالمعدومات ‪.‬‬
‫القاعدة الثانية ‪ :‬القول في الصفات كالقول في الذات )‪: (2‬‬
‫فالله – سبحانه – له ذات ل تشبه ذوات المخلوقين ‪ ،‬وكذلك صفاته وأفعاله ل‬
‫تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم ‪.‬‬
‫إذ يلزم من أقر بأن الله حقيقة ثابتة في نفس المر مستوجبة لصفات‬
‫الكمال ل يماثلها شيء أن يقول ‪ :‬إن سمعه وبصره وكلمه الثابت في نفس‬
‫المر ل يشابهه سمع المخلوقين ول بصرهم ول كلمهم ‪.‬‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬أنا أنفي استواء الله خشية من تشبيه الله بخلقه ‪ ،‬فيقال له ‪:‬‬
‫انف وجود الله وذاته ‪ ،‬لنه يلزم من ذلك تشبيه الله بخلقه ‪ ،‬فإن قال ‪ :‬لله‬
‫وجود يخصه ‪ ،‬وذات تخصه ل تشبه ذوات المخلوقين ‪ ،‬قلنا ‪ :‬وكذلك نزوله‬
‫واستواؤه ‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة ‪ :‬التفاق في السماء ل يقتضي التساوي في المسميات ‪:‬‬

‫) ‪(1/165‬‬

‫فإننا نعلم أن ما أخبرنا الله تعالى به مما في الجنة من لبن وعسل وخمر حق‬
‫‪ ،‬وهذه الحقائق وإن كانت موافقة في السماء للحقائق الموجودة في الدنيا‬
‫فإنها ل تماثلها ‪ ،‬بل بينها وبين ما في الدنيا من المباينة ما ل يعلمه إل الله‬
‫تعالى ‪ ،‬فالخالق أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ‪ ،‬بل‬
‫قد تسمي في الدنيا عدة أشياء باسم واحد ‪ ،‬ويكون لكل واحد حقيقة تخصه ‪،‬‬
‫فإننا نقول مثل ً ‪ :‬يد الجمل ‪ ،‬ويد الباب ‪ ،‬ويد النسان ‪ ،‬واليد في كل لفظة‬
‫من اللفاظ الثلثة لها معنى يخصها ‪.‬‬
‫القاعدة الرابعة ‪ :‬ل يوصف الله بالنفي المحض ‪:‬‬
‫أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه أسماء وصفات ‪ ،‬ونفى عن نفسه أسماء‬
‫وصفات ‪.‬‬
‫والثبات والنفي في أسمائه وصفاته مجمل ومفصل ‪ ،‬فالثبات المجمل يكون‬
‫بإثبات الثناء المطلق ‪ ،‬والحمد المطلق ‪ ،‬والمجد المطلق لله تعالى ‪ ،‬ونحو‬
‫ب العالمين ( ] الفاتحة ‪ ، [ 2 :‬وقوله‬ ‫ذلك كما يشير إليه قوله ‪ ) :‬الحمد لله ر ّ‬
‫‪ ) :‬ولله المثل العلى ( النحل ‪. [60 :‬‬
‫وأما التفصيل في الثبات فهو متناول لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب‬
‫والسنة ‪.‬‬
‫ل – كل ما يضاد كماله من‬ ‫والنفي المجمل يكون بأن ينفي عن الله – عّز وج ّ‬
‫أنواع العيوب والنقائص مثل قوله ‪ ) :‬ليس كمثله شيء ( ] الشورى ‪[ 11 :‬‬
‫سمي ّا ً ( ] مريم ‪. [ 65 :‬‬
‫وقوله ‪ ) :‬هل تعلم له َ‬
‫وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه الله عن كل واحد من هذه العيوب‬
‫والنقائص بخصومه ‪ ،‬فينزه عن الوالد والولد والشريك والصاحبة والند‬
‫والجهل والعجز والسنة والنوم والعبث ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬

‫) ‪(1/166‬‬

‫إل أن منهج القرآن في النفي أن ل ينفي نفيا ً محضا ً ‪ ،‬فل ينفي القرآن صفة‬
‫نقص عن الله إل إذا كانت متضمنة صفة مدح وكمال ‪ ،‬فل ينفي نفيا ً مجردا ً ‪،‬‬
‫ي القّيوم ل‬ ‫كما تفعل بعض الفرق )‪ ، (3‬فقوله تعالى ‪ ) :‬الله ل إله إل ّ هو الح ّ‬
‫ذي يشفع‬ ‫سماوات وما في الرض من ذا ال ّ‬ ‫م ّله ما في ال ّ‬
‫ة ول نو ٌ‬
‫تأخذه ُ سن ٌ‬
‫عنده إل ّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ول يحيطون بشيٍء من علمه إل ّ‬
‫ؤود ُه ُ حفظهما ( ] البقرة ‪255 :‬‬ ‫سماوات والرض ول ي َ ُ‬ ‫بما شاء وسع كرسّيه ال ّ‬
‫[ فيه نفي السنة والنوم عن الله تعالى ‪ ،‬ونفيهما يتضمن كمال الحياة والقيام‬
‫‪ ،‬فمن كمال حياته ‪ :‬أل تأخذه سنة ) وهي أوائل النوم ( ول نوم ‪ ،‬وقوله ‪ ):‬ول‬
‫ؤود ُه ُ حفظهما ( ]البقرة‪ [255 :‬مستلزم لكمال قدرته وتمامها ‪ ،‬إذ المعنى‬ ‫يَ ُ‬
‫) ل يكرثه ول يثقله ( ‪.‬‬
‫سماوات ول في الرض (‬ ‫ومثل ذلك قوله ‪ ) :‬ل يعزب عنه مثقال ذّرةٍ في ال ّ‬
‫]سبأ‪ [3:‬فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والرض ‪.‬‬
‫سماوات والرض وما بينهما في سّتة أيام ٍ وما‬ ‫وكذلك قوله ‪ ) :‬ولقد خلقنا ال ّ‬
‫ب ( ] ق ‪ [ 38 :‬فإن نفي اللغوب ) وهو التعب والعياء ( دل‬ ‫سنا من ّلغو ٍ‬
‫م ّ‬
‫على كمال القدرة ونهاية القوة ‪ .‬وكذلك قوله ‪ ) :‬ل ّ ُتدركه البصار (‬
‫] النعام ‪ [ 103 :‬أي ‪ :‬ل تحيط به البصار فهو وإن رئي في الخرة ‪ ،‬ولكنه‬
‫لعظمته – سبحانه – ل تحيط به البصار ‪.‬‬
‫وكذلك كل ما نفاه الله عن نفسه ‪ ،‬فإنه يستلزم صفة ثبوتية يمدح الله بها ‪.‬‬
‫ولم يصف الله نفسه بنفي محض ل يستلزم صفة ثبوتية ‪ ،‬وبذلك يتضح أن‬
‫الذين يتجهون إلى الكثار من النفي ) أو ما يسمونه السلوب ( أخطؤوا ؛ لن‬
‫النفي ليس فيه مدح ول كمال ما لم يتضمن إثباتا ً ؛ لن النفي المحض عدم‬
‫محض ‪ ،‬والعدم المحض ليس بشيء ‪.‬‬

‫) ‪(1/167‬‬

‫وقد أكثر المبتدعون من النفي المحض فقالوا ‪ :‬ل يتكلم ‪ ،‬ول يرى ‪ ،‬وليس‬
‫فوق العالم ‪ ،‬وغل بعضهم فقالوا ‪ :‬ليس بداخل العالم ول خارجه ‪ ،‬ول مباينا ً‬
‫للعالم ‪ ،‬ول مخالطا ً له ‪ ...‬إلى آخر هذا الكلم الغث الذي يجعلون الله به‬
‫عدما ً ‪ ...‬تعالى وتقدس ‪.‬‬
‫القاعدة الخامسة ‪ :‬اللفاظ الموهمة حقا ً وباطل ً )‪: (4‬‬
‫الصفات التي وردت في الكتاب والسنة حق يجب اليمان بها ‪ ،‬وإن لم نفقه‬
‫معناها ‪.‬‬
‫أما ما يطلقه الناس على الله – سبحانه – مما لم يرد في الكتاب والسنة مما‬
‫يتنازع فيه الناس فل نثبته ول ننفيه حتى نتبين مراد قائله منه ‪.‬‬
‫فمثل ً يقال لمن نفى الجهة ‪ :‬ماذا تعني بالجهة ؟ إن كنت تعني أن الله في‬
‫داخل جرم السماء ‪ ،‬وأن السماء تحويه ‪ ،‬فل يجوز أن نقول ‪ :‬إن الله في‬
‫جهة ‪ ،‬وإن كنت تريد أن الله فوق مخلوقاته فوق السماوات فهذا حق ‪.‬‬
‫ً‬
‫وكذلك التحيز ‪ ،‬إن كان المراد أن الله تحوزه المخلوقات فهذا باطل قطعا ‪،‬‬
‫وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات ‪ ،‬أي ‪ :‬مباين لها فهذا حق ‪.‬‬
‫القاعدة السادسة ‪ :‬التعطيل سببه اعتقاد التشبيه أو ل ‪:‬‬

‫) ‪(1/168‬‬

‫وقد وضح هذه القاعدة العلمة الشيخ محمد المين الشنقيطي رحمه الله‬
‫تعالى ‪ ،‬وبين أن أصل البلء وأسه هو تنجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار‬
‫التشبيه ‪ ،‬فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات‬
‫الكمال ‪ ،‬التي أثنى الله بها على نفسه ‪ ،‬كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث‬
‫الليل الخير ‪ ،‬وكاستوائه على عرشه ‪ ،‬وكمجيئه يوم القيامة ‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫صفات الجلل والكمال ‪ ،‬فإن أول ما يخطر في ذهنه أن هذه الصفة تشبه‬
‫در الله حق قدره ‪،‬‬‫صفة الخلق ‪ ،‬فيكون قلبه متنجسا ً بأقذار التشبيه ‪ ،‬ل يق ّ‬
‫ول يعظم الله حق عظمته ‪ ،‬حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة‬
‫المخلوق ‪ ،‬فيكون أول نجس القلب متقذرا ً بأقذار التشبيه ‪ ،‬فيدعوه شؤم هذا‬
‫ل وعل – عنه ‪ ،‬بادعاء أنها تشبه صفات‬ ‫التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق – ج ّ‬
‫المخلوق ‪ ،‬فيكون أول ً مشبها ً ‪ ،‬وثانيا ً معطل ً ‪ ،‬فصار ابتداء وانتهاءً متهجما ً على‬
‫رب العالمين ‪ ،‬ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة ل تليق به ‪.‬‬
‫وذكر الشيخ – رحمه الله تعالى – قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من‬
‫أهل العلم ‪ .‬وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ل يجوز في حقه تأخير‬
‫البيان عن وقت الحاجة ‪ ،‬ول سيما في العقائد ‪ .‬ولو مشينا على فرضهم‬
‫الباطل ‪ ،‬أن ظاهر آيات الصفات الكفر ‪ ،‬فالنبي صلى الله عليه وسلم لم‬
‫يؤول الستواء ) بالستيلء ( ‪ ،‬ولم يؤول شيئا ً من هذه التأويلت ‪ ،‬ولو كان‬
‫المراد بها هذه التأويلت لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها ؛ لنه ل‬
‫يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ‪.‬‬

‫) ‪(1/169‬‬

‫وبين الشيخ – رحمه الله تعالى – أن الواجب على المسلم إذا سمع وصفا ً‬
‫وصف به خالق السماوات والرض نفسه ‪ ،‬أو وصفه به رسوله صلى الله‬
‫عليه وسلم أن يمل صدره من التعظيم ‪ ،‬ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من‬
‫غايات الكمال والجلل والشرف والعلو ما يقطع جميع علئق أوهام المشابهة‬
‫ل وعل ‪ ،‬غير‬ ‫بينه وبين صفات المخلوقين ‪ ،‬فيكون القلب منّزها معظما له ج ّ‬
‫متنجس بأقذار التشبيه ‪ ،‬فتكون أرض قلبه قابلة لليمان والتصديق بصفات‬
‫دح بها ‪ ،‬وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬على غرار‬ ‫الله التي تم ّ‬
‫سميع البصير ( ] الشورى ‪ ، [ 11 :‬والشر‬ ‫قوله ‪ ) :‬ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ‬
‫كل الشر في عدم تعظيم الله ‪ ،‬وأن يسبق في ذهن النسان أن صفة الخالق‬
‫تشبه صفة المخلوق ‪ ،‬فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى‬
‫الكاذبة الخائنة ‪.‬‬
‫القاعدة السابعة ‪ :‬آيات الصفات ليست من المتشابه ‪:‬‬
‫ذكر الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – أن كثيرا ً من الناس يطلق على آيات‬
‫سوغ كما بينه‬ ‫الصفات اسم المتشابه ‪ ،‬وهذا من جهة غلط ‪ ،‬ومن جهة قد ي َ ُ‬
‫المام مالك بن أنس بقوله ‪ " :‬الستواء غير مجهول ‪ ،‬والكيف غير معقول ‪،‬‬
‫والسؤال عنه بدعة ‪ ،‬واليمان به واجب " ‪.‬‬
‫كذلك يقال في النزول ‪ :‬النزول غير مجهول ‪ ،‬والكيف غير معقول ‪ ،‬والسؤال‬
‫عنه بدعة ‪ ،‬واليمان به واجب ‪ ،‬واطرده في جميع الصفات ؛ لن هذه‬
‫الصفات معروفة عند العرب ‪ ،‬إل أن ما وصف به خالق السماوات والرض‬
‫منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئا ً من صفات المخلوقين ‪ ،‬كما أن‬
‫ل وعل – حق ‪ ،‬والمخلوقون لهم ذوات ‪ ،‬وذات الخالق – ج ّ‬
‫ل‬ ‫ذات الخالق – ج ّ‬
‫ً‬
‫وعل – أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئا من ذوات المخلوقين ‪.‬‬
‫القاعدة الثامنة ‪ :‬ليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل ‪:‬‬

‫) ‪(1/170‬‬

‫المقرر في الصول أن الكلم إن دل على معنى ل يحتمل غيره فهو المسمى‬


‫) نصا ً ( كقوله تعالى ‪ ) :‬تلك عشرةٌ كامل ٌ‬
‫ة ( ] البقرة ‪ ، [ 196 :‬فإذا كان‬
‫يحتمل معنيين أو أكثر فل يخلو من حالتين ‪ :‬إما أن يكون أظهر في أحد‬
‫الحتمالين من الخر ‪ ،‬وإما أن يتساوى بينهما ‪.‬‬
‫فإن كان الحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الصطلح ‪ ) :‬المجمل‬
‫( كما لو قلت ‪ ) :‬عدا اللصوص البارحة على عين زيد ( فإنه يحتمل أن تكون‬
‫عينه الباصرة عوروها ‪ ،‬أو عينه الجارية غوروها ‪ ،‬أو عينه ذهبا ً وفضة‬
‫سرقوها ‪ ،‬فهذا مجمل ‪ ،‬وحكم المجمل أن يتوقف عنه إل بدليل يدل على‬
‫التفصيل ‪.‬‬
‫أما إذا كان نصا صريحا ً ‪ ،‬فالنص يعمل به ‪ ،‬ول يعدل عنه إل بثبوت النسخ ‪.‬‬
‫فإذا كان أظهر في أحد الحتمالين فهو المسمى بـ ) الظاهر ( ‪ ،‬ومقابله‬
‫يسمى ) محتمل ً مرجوحا ً ( ‪ ،‬والظاهر يجب الحمل عليه إل لدليل صارف‬
‫عنه ‪ ،‬كما لو قلت ‪ " :‬رأيت أسدا ً " فهذا ظاهر في الحيوان المفترس ‪،‬‬
‫محتمل للرجل الشجاع ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فهل المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله ‪ ) :‬يد الله فوق‬
‫أيديهم ( ]الفتح ‪ [10 :‬وما جرى مجرى ذلك هو مشابهة الخلق ‪ ،‬حتى يجب‬
‫علينا أن نؤول ونصرف اللفظ عن ظاهره ؟ أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه‬
‫رب السماوات حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه ‪ ،‬والجواب ‪:‬‬
‫أن كل وصف أسند إلى رب السماوات والرض ‪ ،‬فظاهره المتبادر منه عند‬
‫كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق ‪.‬‬
‫فإقراره على ظاهره هو الحق ‪ ،‬وهو تنزيه رب السماوات والرض عن‬
‫مشابهة الخلق في شيء من صفاته ‪ .‬فهل ينكر عاقل أن المتبادر للذهان‬
‫السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته ‪ .‬ل والله ل يعارض‬
‫في هذا إل مكابر ‪.‬‬
‫القاعدة التاسعة ‪ :‬حقيقة التأويل )‪: (5‬‬
‫التأويل الذي فتن به الخلق ‪ ،‬وضل به اللف من هذه المة يطلق في‬
‫الصطلح مشتركا ً بين ثلثة معان ‪:‬‬

‫) ‪(1/171‬‬

‫‪ -1‬يطلق على ما تؤول إليه حقيقة المر في ثاني حال ‪ ،‬وهذا هو معناه في‬
‫القرآن نحو قوله تعالى ‪ ) :‬ذلك خيٌر وأحسن تأويل ً ( ] النساء ‪ ) ، [ 59 :‬ول ّ‬
‫ما‬
‫يأتهم تأويله ( ]يونس ‪ ) ، [39 :‬يوم يأتي تأويله يقول اّلذين نسوه من قبل (‬
‫] العراف ‪ [ 53 :‬؛ أي ما تؤول إليه حقيقة المر في ثاني حال ‪.‬‬
‫‪ -2‬ويطلق التأويل بمعنى التفسير ‪ ،‬وهذا قول معروف كقول ابن جرير ‪:‬‬
‫القول في تأويل قوله تعالى كذا ‪ ،‬أي تفسيره ‪.‬‬
‫‪ -3‬أما في اصطلح الصوليين فالتأويل ‪ :‬هو صرف اللفظ عن ظاهره‬
‫المتبادر منه لدليل ‪.‬‬
‫وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الصول ثلث حالت ‪:‬‬
‫أ‪ -‬إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة ‪،‬‬
‫وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول ل نزاع فيه ‪ .‬ومثال هذا النوع ما ثبت‬
‫عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‪ ) :‬الجار أحق بصقبه ( )‪ (6‬فظاهر‬
‫هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار ‪.‬‬
‫وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح‬
‫غير ظاهر متبادر ‪ ،‬إل أن حديث جابر الصحيح ) فإذا وقعت الحدود وصرفت‬
‫الطرق فل شفعة ( )‪ (7‬دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه‬
‫خصوص الشريك المقاسم ‪ .‬فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر‬
‫منه لدليل واضح من كتاب وسنة يجب الرجوع إليه ‪ ،‬وهذا تأويل يسمى تأويل ً‬
‫صحيحا ً وتأويل ً قريبا ً ‪.‬‬
‫ب‪ -‬الثانية هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد‬
‫دليل ً ‪ ،‬وهو في نفس المر ليس دليل ً ‪ ،‬فهذا يسمى تأويل ً بعيدا ً ‪ ،‬ويقال له ‪:‬‬
‫فاسد ‪ .‬ومثل له بتأويل أبي حنيفة لفظ ‪ ) :‬امرأة ( في قوله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ) :‬أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ( )‪ (8‬قالوا ‪ :‬حمل‬
‫هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد ‪ ،‬لنه صرف للفظ عن ظاهره المتبادر‬
‫منه ‪ ،‬لن ) أي ( في قوله ) أي امرأة ( صيغة عموم ‪.‬‬

‫) ‪(1/172‬‬

‫وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد ‪ ،‬فحمل هذا على صورة نادرة هي‬
‫المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره من غير دليل ‪.‬‬
‫ً‬
‫ج‪ -‬أما حمل اللفظ على غير ظاهره ل لدليل ‪ :‬فهذا ل يسمى تأويل في‬
‫الصطلح بل يسمى لعبا ً ‪ ،‬لنه تلعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه‬
‫ن الله يأمركم أن‬‫وسلم ‪ .‬ومن هذا تفسير غلة الروافض قوله تعالى ‪ ) :‬إ ّ‬
‫تذبحوا بقرة ً ( ] البقرة ‪ [ 67 :‬قالوا ‪ :‬عائشة ‪.‬‬
‫ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملت ما أنزل الله‬
‫بها من سلطان ‪ ،‬كقولهم ‪ ) :‬استوى ( بمعنى ‪ :‬استولى ‪ .‬فهذا ل يدخل في‬
‫اسم التأويل ‪ ،‬لنه ل دليل عليه ألبتة ‪ .‬وإنما يسمى في اصطلح أهل‬
‫ل وعل – من غير دليل ول مستند ‪.‬‬ ‫الصول ‪ :‬لعبا ً ‪ ،‬لنه تلعب بكتاب الله – ج ّ‬
‫جم على كلم رب العالمين ‪ ،‬والقاعدة المعروفة‬ ‫فهذا النوع ل يجوز ؛ لنه ته ّ‬
‫عند علماء السلف أنه ل يجوز صرف شيء من كتاب الله ول سنة رسوله عن‬
‫ظاهره المتبادر منه ‪ ،‬إل بدليل يجب الرجوع إليه ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬مجموع فتاوى شيخ السلم ‪. 3/17 :‬‬
‫)‪ (2‬مجموع فتاوى شيخ السلم ‪. 3/25 :‬‬
‫)‪ (3‬الجهمية المحضة ‪ .‬انظر مجموع الفتاوى ‪. 3/39 :‬‬
‫)‪ (4‬مجموع فتاوى شيخ السلم ‪. 3/41‬‬
‫)‪ (5‬ألف أ ‪ .‬د ‪ .‬عمر الشقر في هذا الموضوع رسالة بعنوان ‪ :‬التأويل‬
‫خطورته وآثاره ‪.‬‬
‫)‪ (6‬رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ‪ ) .‬منتقى الخبار ‪ :‬ص ‪ . 492 :‬ورقمه ‪:‬‬
‫‪. ( 3177‬‬
‫)‪ (7‬رواه البخاري وأبو داود والترمذي وأحمد ‪ ) .‬منتقى الخبار ‪ :‬ص ‪:‬‬
‫‪. ( 492‬‬
‫)‪ (8‬رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد ) منتقى الخبار ‪، 539 :‬‬
‫ورقمه ‪. ( 3452 :‬‬
‫المطلب السابع‬
‫مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله‬
‫لخص ابن تيمية مذهب السلف الصالح في هذا الباب فقال ‪:‬‬
‫" فالصل في هذا الباب أن يوصف بما وصف به نفسه ‪ ،‬وبما وصفه به‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم نفيا ً وإثباتا ً ‪ ،‬فيثبت لله ما أثبته لنفسه ‪ ،‬وينفي‬
‫عنه ما نفاه عن نفسه ‪.‬‬
‫) ‪(1/173‬‬

‫وقد علم أن طريقة سلف المة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير‬
‫تكييف ول تمثيل ‪ ،‬ومن غير تحريف ول تعطيل " ‪(1) .‬‬
‫وقد حذرنا الله من النحراف عن النهج الذي قرره الله في كتابه في أسمائه‬
‫تعالى وصفاته ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬ولله السماء الحسنى فادعوه بها وذروا اّلذين‬
‫يلحدون في أسماِئه ( ]العراف ‪ . [180 :‬وأصل اللحاد في كلم العرب‬
‫العدول عن القصد والميل والجور والنحراف ‪ ،‬ومنه اللحد في القبر لنحرافه‬
‫إلى جهة القبلة عن سمة القبر " ‪(2) .‬‬
‫وقال تعالى منزها ً نفسه عما يصفه به الملحدون في أسمائه الضالون‬
‫ما يصفون ( ] الصافات ‪ ) ، [ 159 :‬سبحان‬ ‫المشركون ‪ ) :‬سبحان الله ع ّ‬
‫ما يصفون ( ] الصافات ‪ ) ، [ 180 :‬إل ّ عباد الله‬ ‫ربك رب العّزة ع ّ‬
‫المخلصين ( ] الصافات ‪ ، [ 160 :‬وفي الية الخرى سلم على المرسلين‬
‫لسلمة ما قالوه ‪ :‬ووصفوا الله به ) وسلم على المرسلين ( ] الصافات ‪:‬‬
‫‪. [ 181‬‬
‫عقيدة المام أبي الحسن الشعري في صفات الله‬
‫ً‬
‫يشغب بعض من لم يرتض مذهب أهل السنة على أهل السنة مدعيا أن‬
‫مذهب الشاعرة يخالف هذا الذي قررناه ‪ ،‬ويدعي أن مذهبهم مذهب أهل‬
‫السنة ‪ ،‬ونحن نورد هنا المذهب الذي حكاه أبو الحسن الشعري عن أهل‬
‫السنة وأصحاب الحديث ‪ ،‬ونص في ختامه أنه معتقده قائل به ‪.‬‬
‫عنون لهذا المبحث بقوله ‪ " :‬هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل‬
‫السنة " ثم قال ‪ " :‬جملة ما عليه أهل الحديث والسنة القرار بالله وملئكته‬
‫وكتبه ورسله ‪ ،‬وما جاء من عند الله ‪ ،‬وما رواه الثقات عن رسول الله صلى‬
‫ه واحد فرد‬ ‫الله عليه وسلم ل يرّدون من ذلك شيئا ً )‪ ، (3‬وأن الله سبحانه إل ٌ‬
‫صمد ل إله غيره لم يتخذ صاحبة ول ولدا ً وأن محمدا ً عبده ورسوله ‪ ،‬وأن‬
‫الجنة حقٌ ‪ ،‬وأن النار حقٌ ‪ ،‬وأن الساعة آتية ل ريب فيها وأن الله يبعث من‬
‫في القبور ‪.‬‬

‫) ‪(1/174‬‬

‫وأن الله سبحانه على عرشه كما قال ‪ ) :‬الّرحمن على العرش استوى ( ]طه‬
‫‪ ، [5:‬وأن له يدين بل كيف كما قال ‪ ) :‬خلقت بيديّ ( ]ص ‪ [75 :‬وكما قال ‪:‬‬
‫) بل يداه مبسوطتان ( ] المائدة ‪ [ 64 :‬وأن له عينين بل كيف كما قال ‪:‬‬
‫ن له وجها كما قال ‪ ) :‬ويبقى وجه ربك ذو‬ ‫) تجري بأعيننا ( ] القمر ‪ ،[14:‬وأ ّ‬
‫الجلل والكرام ( ]الرحمن ‪. [27:‬‬
‫وأن أسماء الله ل يقال ‪ :‬إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج ‪ ،‬وأقّروا‬
‫مهِ ( ] النساء ‪ [ 166 :‬وكما قال ‪) :‬‬ ‫أن لله سبحانه علما ً كما قال ‪ ) :‬أنزله بعل ِ‬
‫وما تحمل من أنثى ول تضعُ إل ّ بعل ِ‬
‫مهِ ( ] فاطر ‪. [ 11 :‬‬
‫وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة ‪ ،‬وأثبتوا لله‬
‫ن الله اّلذي خلقهم هو أشد منهم قوّة ً (‬ ‫القوة كما قال ‪ ) :‬أو لم يروا أ ّ‬
‫] فصلت ‪. [ 15 :‬‬
‫ن القرآن كلم الله غير مخلوق ‪ ،‬والكلم في الوقف واللفظ من‬ ‫ويقولون إ ّ‬
‫قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم ‪ ،‬ل يقال ‪ :‬اللفظ بالقرآن مخلوق ‪،‬‬
‫ول يقال ‪ :‬غير مخلوق ‪.‬‬
‫ن الله سبحانه ُيرى بالبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ‪،‬‬ ‫ويقولون إ ّ‬
‫يراه المؤمنون ‪ ،‬ول يراه الكافرون ؛ لنهم عن الله محجوبون قال عز وجل‬
‫) كل ّ إّنهم عن ّربهم يومئ ِذ ٍ ّلمحجوبون ( ] المطففين ‪ ، [ 15 :‬وأن موسى‬
‫عليه السلم سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ‪ ،‬وأن الله سبحانه تجلى‬
‫للجبل فجعله دكا ً ‪ ،‬فأعلمه بذلك أنه ل يراه في الدنيا ‪ ،‬بل يراه في الخرة ‪.‬‬
‫دقون بالحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن‬ ‫ويص ّ‬
‫الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا فيقول ‪ ) :‬هل من مستغفر ( كما جاء‬
‫الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬ويقرون أن الله سبحانه‬
‫ك صفا ً صفا ً ( ] الفجر ‪، [ 22 :‬‬
‫يجيء يوم القيامة كما قال ‪ ) :‬وجاء رّبك والمل ُ‬
‫وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ‪ ) :‬ونحن أقرب إليه من حبل‬
‫الوريد ( ] ق ‪. [ 16 :‬‬

‫) ‪(1/175‬‬

‫وختم أبو الحسن الشعري جملة ما حكاه عن أهل السنة وأصحاب الحديث‬
‫بقوله ‪ " :‬فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ‪ ،‬وبكل ما ذكرنا من‬
‫قولهم نقول ‪ ،‬وإليه نذهب ‪ ،‬وما توفيقنا إل بالله ‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل ‪،‬‬
‫وبه نستعين ‪ ،‬وعليه نتوكل ‪ ،‬وإليه المصير " ‪(4) .‬‬
‫وبهذا النقل يتضح لك موافقة معتقد أبي الحسن الشعري لمعتقد أهل السنة‬
‫والجماعة في باب أسماء الله وصفاته ‪(5) .‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬مجموع الفتاوى ‪ . 3/3 :‬وقد قرر عقيدة السلف جمع كبير من العلماء ‪،‬‬
‫منهم الطحاوي ‪ ،‬وقد شرح عقيدته محمد بن أبي العز الحنفي في مؤلف‬
‫معنون بـ ) بشرح العقيدة الطحاوية ( ‪ ،‬وأبو الحسن الشعري في كتابه‬
‫الجليل ) البانة عن أصول الديانة ( ‪ ،‬والصابوني في كتابه ) عقيدة السلف ( ‪،‬‬
‫وغيرهم كثير ‪ ،‬ونحن اقتفينا أثرهم ‪ ،‬وسرنا على دربهم ‪ ،‬سائلين الله أن‬
‫يحشرنا في زمرتهم في يوم الدين ‪.‬‬
‫)‪ (2‬معارج القبول ‪. 1/88 :‬‬
‫جة في العقائد ؛ لن كلمه هنا في‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫الحديث‬ ‫)‪ (3‬لحظ كيف جعل صحيح‬
‫العقائد ل الحكام ‪ ،‬فهو ل يفرق بين المتواتر والحاد ‪ ،‬وفعله في استدلله‬
‫على مسائل العتقاد في كتبه يدل على صحة ما قررناه ‪.‬‬
‫)‪ (4‬راجع مقالت السلميين ‪ :‬ص ‪ ، 297-290‬وقد اقتصرنا على نقل ما‬
‫يتعلق بصفات الله فحسب ‪ ،‬أما بقية معتقد أهل السنة وأهل الحديث الذي‬
‫رضيه فلم ننقله منه ‪.‬‬
‫)‪ (5‬وقد ألف أ ‪ .‬د ‪ .‬عمر الشقر رسالة لطيفة تبين معتقد أبي الحسن‬
‫الشعري ومنهجه ‪.‬‬
‫توحيد الله )‪(1‬‬
‫معناه وأقسامه‬

‫) ‪(1/176‬‬
‫الله – سبحانه – واحد في ذاته ‪ ،‬ليس له مثيل ول نظير ‪ ،‬تعالى عن الصاحبة‬
‫والولد ) قل هو الله أحد – الله الصمد – لم يلد ولم يولد – ولم يكن له كفوا ً‬
‫أحد ( ] الخلص ‪ [ 4-1 :‬وهو سبحانه متصف بصفات الكمال ‪ ،‬ل يشبهه‬
‫سميع‬‫شيء من مخلوقاته في صفة من صفاته ‪ ) :‬ليس كمثله شيٌء وهو ال ّ‬
‫البصير ( ] الشورى ‪ [ 11 :‬وهو وحده الخالق المحيي المميت قيوم‬
‫السماوات والرض ‪ ،‬ول يعد مؤمنا ً من لم يعلم علما ً يقينيا ًً بأن الله متفرد‬
‫بذلك كله ‪.‬‬
‫ل يكفي التوحيد العلمي ‪ ،‬بل ل بد ّ من التوحيد العملي ‪:‬‬
‫ً‬
‫إل أن هذا التوحيد النظري ل يكفي كي يعد المرء مؤمنا ‪ ،‬بل ل بد من اتخاذه‬
‫وحده إلها ً معبودا ً بالتوجه إليه بالعبادة دون سواه ‪.‬‬
‫لن الخالق الرزاق المنعم المتفضل المحيي المميت المتصف بصفات الكمال‬
‫المنزه عن صفات النقص هو المستحق أن ُيعَبد دون سواه ‪ ،‬فغيره مربوب‬
‫مألوه ل يملك لنفسه ضرا ً ول نفعا ً ‪ ،‬فكيف يعبد من دون الله تعالى ؟‬
‫تناقض الذين ل يعبدون الله وحده ‪:‬‬
‫والكفرة من مشركي العرب وكثير غيرهم كانوا يعتقدون بوحدانية الله في‬
‫الخلق واليجاد ‪ ،‬وتفرده في الرزق والحياء والماتة والملك ‪ ،‬ولكنهم‬
‫يرفضون عبادته وحده دون غيره ‪ ،‬وقصده دون سواه ‪ ،‬وهذا تناقض شنيع ‪،‬‬
‫فالمتفرد بالخلق واليجاد هو المستحق للعبادة والخضوع والتعظيم ‪ ،‬وقد‬
‫أطال القرآن في مناقشة المشركين وبيان تناقضهم في هذا وبين لهم أن‬
‫الذي أقروا به من تفرده بالخلق والرزق ‪ ...‬إلخ يلزمهم بعبادته وإخلص الدين‬
‫له ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬

‫) ‪(1/177‬‬

‫)‪ (1‬التوحيد الحق ‪ :‬العتقاد بوحدانية الله سبحانه في ذاته وصفاته ‪ ،‬ثم‬
‫عبادته وحده ل شريك له ‪ ،‬وقد حرف هذا المفهوم ‪ ،‬فزعم قوم أن التوحيد‬
‫يقتضي نفي صفات الله ‪ ،‬لنه يلزم منه بزعمهم تعدد الواجب ‪ ،‬وزعم بعض‬
‫الصوفية أن التوحيد الذي أشرنا إليه توحيد العامة ‪ ،‬أما توحيد الخاصة فهو‬
‫الذي يثبت بالحقائق ‪ ،‬وزعموا أن هناك توحيد خاصة الخاصة ‪ ،‬وكل ذلك‬
‫ضلل ‪.‬‬
‫كلمة التوحيد ‪ :‬معناها ‪ ،‬فضلها ‪ ،‬شروطها‬
‫) ل إله إل الله ( كلمة التوحيد ‪ ،‬جمعت اليمان واحتوته ‪ ،‬وهذه الكلمة عنوان‬
‫السلم وأساسه ‪.‬‬
‫ومعناها ‪ :‬ل معبود يستحق العبادة إل الله سبحانه ‪ ،‬وقد أخطأ من فسرها بأنه‬
‫ل موجود إل الله ‪ ،‬لن معنى الله ‪ :‬المعبود ‪ ،‬فيصبح المعنى بناء على قول‬
‫نك ّ‬
‫ل‬ ‫هؤلء ‪ ،‬ل معبود موجود إل الله ‪ ،‬وهذا غير صحيح ؛ لنه يلزم منه أ ّ‬
‫معبود بحق أو باطل هو الله ‪ ،‬فيكون ما عبده المشركون من شمس وقمر‬
‫ونجوم ‪ ...‬إلخ هو الله ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬ما عُِبد على هذا التقدير إل الله ‪ ،‬وهذا‬
‫من أبطل الباطل ‪.‬‬
‫ً‬
‫فالمعنى الصحيح المتعين هو ما ذكرناه أول ‪ :‬أنه ل معبود يستحق العبادة إل‬
‫الله وحده ‪.‬‬
‫وقد جاَءت النصوص دالة على فضل ) ل إله إل الله ( ‪ ،‬وعظيم نفعها ‪ ،‬وقد‬
‫سبق ذكر النصوص الدالة على أن من قال ‪ ) :‬ل إله إل الله خالصا ً من قلبه‬
‫دخل الجنة ( ‪ .‬وبهذه الكلمة يعصم العبد ماله ودمه ‪ ،‬ويصبح مسلما ً ‪.‬‬
‫ولكن ليس المراد بهذه الكلمة مجرد النطق ‪ ،‬فل تنفع هذه الكلمة قائلها عند‬
‫ربه إل بسبعة شروط ‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم بمعناها ‪ :‬قال تعالى ‪ ) :‬فاعلم أّنه ل إله إل ّ الله ( ] محمد ‪[ 19 :‬‬
‫مون ( ] الزخرف ‪. [ 86 :‬‬ ‫وقال ‪ ) :‬إل ّ من شِهد بالحق وهم يعل ُ‬
‫وفي الصحيح عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قال ‪ :‬قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬من مات وهو يعلم أنه ل إله إل الله دخل الجنة ( ‪) .‬‬
‫‪(1‬‬

‫) ‪(1/178‬‬

‫‪ -2‬اليقين ‪ :‬بأن يكون القائل مستيقنا ً بمدلول هذه الكلمة يقينا ً جازما ً ‪ ،‬فإن‬
‫اليمان ل يغني فيه إل اليقين ل الظن ‪ ،‬قال تعالى ‪ ) :‬إّنما المؤمنون اّلذين‬
‫م لم يرتابوا ( ] الحجرات ‪ [ 15 :‬فاشترط في صدق‬ ‫آمنوا بالله ورسوله ث ُ ّ‬
‫إيمانهم كونهم لم يرتابوا ‪ ،‬أي لم يشكوا ‪ ،‬وفي الصحيح من حديث أبي هريرة‬
‫– رضي الله عنه – قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أشهد أن‬
‫ك فيهما‬ ‫ل إله إل الله ‪ ،‬وأني رسول الله ‪ ،‬ل يلقى الله بهما عبد غير شا ّ‬
‫فيحجب عن الجنة ( ‪(2) .‬‬
‫وفي الصحيح أيضا ً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل أبا هريرة بنعليه‬
‫قائل ً له ‪ ) :‬من لقت من وراء هذا الحائط يشهد أن ل إله إل الله مستيقنا ً بها‬
‫قلبه فبشره بالجنة ( )‪ (3‬فاشترط دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا ً بها‬
‫ك فيها ‪ ،‬وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط ‪.‬‬ ‫قلبه غير شا ّ‬
‫‪ -3‬القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه ‪ ،‬وقد حدثنا القرآن أن الله‬
‫عذب المكذبين من المم الذين رفضوا هذه الكلمة ‪ ،‬واستكبروا عنها ‪ ) :‬إّنهم‬
‫كانوا إذا قيل لهم ل إله إل ّ الله يستكبرون – ويقولون أئ ِّنا لتاركوا آل ِهَت َِنا لشاع ٍ‬
‫ر‬
‫مجنون ( ] الصافات ‪ [ 36-35 :‬جعل الله علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم‬
‫عن قول ل إله إل الله ‪ ،‬وتكذيبهم من جاء بها ‪.‬‬
‫‪ -4‬النقياد لما دلت عليه ‪ ،‬قال ‪ ) :‬وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ( ] الزمر ‪:‬‬
‫ن فقد استمسك بالعروة‬ ‫‪ [ 54‬وقال ‪ ) :‬ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محس ٌ‬
‫الوثقى ( ] لقمان ‪ ، [ 22 :‬ومعنى يسلم وجهه أي ينقاد ‪ ،‬وهو محسن ؛ أي‬
‫موحد ‪ ،‬والعروة الوثقى فسرت ) بل إله إل الله ( ‪.‬‬

‫) ‪(1/179‬‬

‫‪ -5‬الصدق ‪ :‬وهو أن يقولها صادقا ً من قلبه ‪ ،‬يواطئ قلبه لسانه ‪ ،‬قال الله‬
‫ل ‪ ) :‬ومن الّناس من يقول آمّنا بالله وباليوم الخر وما هم بمؤمنين –‬ ‫عّز وج ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إل أنفسهم وما يشعرون ( ] البقرة ‪:‬‬
‫‪ . [ 9-8‬فهم كاذبون في قولهم‪ ،‬يبطنون غير ما يعلنون ‪ ،‬وفي الصحيحين عن‬
‫معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬ما‬
‫من أحد يشهد أن ل إله إل الله ‪ ،‬وأن محمدا ً رسول الله صدقا ً من قلبه إل‬
‫حرمه الله على النار ( )‪ ، (4‬فاشترط في النجاة من النار أن يقولها صدقا ً‬
‫من قلبه ‪.‬‬
‫‪ -6‬الخلص ‪ :‬وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك ‪ ،‬قال‬
‫الله تعالى ‪ ) :‬أل لله الدين الخالص ( ] الزمر ‪ [ 3 :‬وقال ‪ ) :‬وما أمروا إل ّ‬
‫ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ( ] البينة ‪. [ 5 :‬‬
‫وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬أسعد الناس‬
‫بشفاعتي من قال ل إله إل الله خالصا ً من قلبه ونفسه ( ‪(5) .‬‬
‫وفي الصحيح عن عتبان بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم قال ‪ ) :‬إن الله قد حرم على النار من قال ل إله إل الله يبتغي‬
‫بذلك وجه الله عّز وج ّ‬
‫ل ( ‪(6) .‬‬
‫‪ -7‬المحبة ‪ :‬لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولهلها العاملين بها‬
‫ل ‪ ) :‬ومن الّناس‬ ‫الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك ‪ ،‬قال الله عّز وج ّ‬
‫من يّتخذ من دون الله أندادا ً يحّبونهم كحب الله واّلذين آمنوا أشد ّ حب ّا لله (‬
‫ً‬
‫] البقرة ‪ [ 165 :‬فأخبر أن عباده المؤمنين أشد حبا ً له ‪ ،‬وذلك لنهم لم‬
‫يتخذوا من دونه أندادا ً ‪ ،‬وعلمة حب العبد ربه تقديم محابه ‪ ،‬وإن خالفت‬
‫هواه ‪ ،‬وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه ‪ ،‬وموالة من والى الله‬
‫ورسوله ‪ ،‬ومعاداة من عاداه الله ورسوله ‪ ،‬واتباع رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم واقتفاء أثره وقبول هداه ‪.‬‬
‫إشارة السلف إلى بعض هذه الشروط ‪:‬‬

‫) ‪(1/180‬‬

‫قال الحسن البصري للفرزدق – الشاعر المعروف – وهو يدفن امرأته ‪ :‬ما‬
‫أعددت لهذا اليوم ؟ قال ‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله منذ سبعين سنة ‪ .‬قال‬
‫دة ‪ ،‬لكن لل إله إل الله شروطا ً ‪ ،‬فإياك وقذف المحصنات ‪.‬‬ ‫الحسن ‪ :‬نعم الع ّ‬
‫ً‬
‫وقيل للحسن البصري ‪ :‬إن ناسا يقولون ‪ :‬من قال ل إله إل الله دخل الجنة ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬من قال ‪ :‬ل إله إل الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة ‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه لمن سأله ‪ :‬أليس مفتاح الجنة ل إله إل الله ؟ قال ‪:‬‬
‫بلى ‪ ،‬ولكن ما من مفتاح إل له أسنان ‪ ،‬فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك ‪،‬‬
‫وإل لم يفتح لك ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬رواه مسلم ‪ ، 1/55 :‬ورقمه ‪. 26:‬‬
‫)‪ (2‬رواه مسلم ‪ . 1/57 :‬ورقمه ‪. 27 :‬‬
‫)‪ (3‬رواه مسلم ‪ . 1/60 :‬ورقمه ‪. 31 :‬‬
‫)‪ (4‬رواه البخاري ‪ . 1/226 :‬ورقمه ‪. 128 :‬‬
‫)‪ (5‬رواه البخاري ‪ . 1/193 :‬ورقمه ‪. 99 :‬‬
‫)‪ (6‬رواه البخاري ‪ . 1/519 :‬ورقمه ‪. 425 :‬‬
‫العبادة‬
‫المطلب الول‬
‫تعريف العبادة‬
‫التوحيد ل يتحقق إل بأمرين ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الشهادة لله بالوحدانية في ذاته وصفاته ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قصده وإرادته وحده دون سواه في جميع العبادات ‪.‬‬
‫والعبادة ‪ :‬اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من القوال والعمال الظاهرة‬
‫والباطنة ‪ ،‬فالظاهرة كالتلفظ بالشهادتين والصلة والصوم ‪ ،‬والباطنة‬
‫كاليمان بالله وملئكته والكتب والرسل والخوف والرجاء ‪....‬‬
‫المطلب الثاني‬
‫العابد هو الذي يتقلب بين الخوف والرجاء‬
‫العبادة الحقة هي التي يتقلب صاحبها بين حب الله ‪ ،‬والخوف منه والتذلل له‬
‫‪ ،‬ورجائه والطمع في رحمته ‪.‬‬
‫فالعابد ل حبا ً ول خوفا ً ول رجاًء إنما يؤدي حركات جوفاء ل تعني بالنسبة له‬
‫شيئا ً ‪.‬‬

‫) ‪(1/181‬‬

‫والعابد حبا ً بل تذلل ول خوف ول رجاء كثيرا ً ما يقع في الذنوب والمعاصي ‪،‬‬
‫فيزعم أنه يحب الله ويترك العمل ويتجرأ على الذنوب ‪ ،‬وقديما ً زعم قوم‬
‫حب الله من غير عمل فاختبرهم الله بقوله‪ ) :‬قل إن كنتم ُتحّبون الله‬
‫فاّتبعوني ُيحببكم الله ( ] آل عمران ‪ [ 31 :‬فمن ادعى محبة الله ولم يكن‬
‫متبعا ً رسوله فهو كاذب ‪.‬‬
‫وقال الشافعي رحمه الله تعالى ‪ " :‬إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ‪،‬‬
‫ويطير في الهواء فل تصدقوه حتى تعلموا متابعته لرسول الله " ‪.‬‬
‫وكذلك الرجاء وحده إذا لم يقترن بخوف الله وخشيته فإن صاحبه يتجرأ على‬
‫م الخاسرون (‬ ‫ن مكر الله إل ّ القو ُ‬ ‫معاصي الله ‪ ،‬ويأمن مكره ‪ ):‬فل يأم ُ‬
‫]العراف ‪. [99 :‬‬
‫وكذلك الخوف إذا لم يقترن بالرجاء فإن العابد يسوء ظنه بالله ‪ ،‬ويقنط من‬
‫س من ّروح الله إل ّ‬ ‫َ‬
‫رحمته ‪ ،‬وييأس من روحه ‪ ،‬وقد قال تعالى ‪ ) :‬إّنه ل ي َي ْأ ُ‬
‫القوم الكافرون ( ]يوسف ‪. [87 :‬‬
‫فالعبادة الحقة هي التي يكون صاحبها بين الخوف والرجاء ) ويرجون رحمته‬
‫من هو قانت آَناء اّلليل ساجدا ً وقاِئما ً‬ ‫ويخافون عذابه ( ]السراء ‪ ) ، [57 :‬أ ّ‬
‫يحذر الخرة ويرجو رحمة ربه ( ] الزمر ‪ [ 9 :‬كما يكون بين الرغبة والرهبة‬
‫كما قال تعالى في آل زكريا عليهم السلم ‪ ) :‬إّنهم كانوا يسارعون في‬
‫الخيرات ويدعوننا رغبا ً ورهبا ً وكانوا لنا خاشعين ( ] النبياء ‪. [ 90 :‬‬
‫فالعبد الصالح تارة يمده الرجاء والرغبة ‪ ،‬فيكاد يطير شوقا ً إلى الله ‪ ،‬وطورا ً‬
‫يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى ‪ ،‬فهو دائب في‬
‫طلب مرضاة ربه مقبل عليه خائف من عقوباته ‪ ،‬ملتجئ منه إليه ‪ ،‬عائذ به‬
‫منه ‪ ،‬راغب فيما لديه ‪.‬‬
‫المطلب الثالث‬
‫أركان العبادة‬
‫للعبادة أركان ثلثة ‪:‬‬

‫) ‪(1/182‬‬

‫الول ‪ :‬الخلص ‪ :‬بأن يقصد العبد وجه ربه والدار الخرة ‪ ،‬قال صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ) :‬إنما العمال بالنيات ‪ ،‬وإنما لكل امرىء ما نوى ‪ ،‬فمن كانت‬
‫هجرته إلى الله ورسوله ‪ ،‬فهجرته إلى الله ورسوله ‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى‬
‫دنيا يصيبها ‪ ،‬أو امرأةٍ ينحكها ‪ ،‬فهجرته إلى ما هاجر إليه ( )‪ (1‬وترك الخلص‬
‫يبطل العبادة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الصدق ‪ :‬ونريد به الصدق في العزيمة ‪ ،‬بأن يبذل العبد جهده في‬
‫امتثال أمر الله واجتناب نهيه ‪ ،‬والستعداد للقائه ‪،‬وترك العجز ‪،‬وترك‬
‫التكاسل عن طاعة الله ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فل يعبد الله إل وفق ما‬
‫ما أن يعبد الناس‬ ‫شرعه الله ‪ ،‬وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬أ ّ‬
‫ربهم بغير علم فهذه هي البدعة التي حذر منها الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم وذم فاعلها ‪ ،‬وأخبر أن عمله ضللة ‪ .‬فقال ‪ " :‬كل محدثة بدعة ‪ ،‬وكل‬
‫بدعة ضللة ‪ ،‬وكل ضللة في النار " ‪ .‬وصاحب البدعة عمله مردود عليه غير‬
‫مقبول منه ‪.‬‬
‫ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت ‪ :‬قال الرسول صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ " :‬من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي‬
‫رواية لمسلم ‪ " :‬من عمل عمل ً ليس عليه أمرنا فهو رد " ‪(2) .‬‬
‫ل عبادة إل بهذه الركان ‪:‬‬
‫فما لم توجد العزيمة الصادقة ل توجد العبادة ‪ ،‬إذ تصبح العبادة تمنيات وآمال ً‬
‫ل يكاد يهم المرء بفعلها حتى تخبوا إرادته وتنحل ‪ .‬وما لم يوجد الخلص‬
‫ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العبادة ل يقبلها الله تعالى ‪.‬‬
‫المطلب الرابع‬
‫أنواع العبادات التي ل يجوز أن يقصد بها غير الله‬
‫والعبادات التي ل يجوز أن يقصد ويراد بها غير الله أنواع ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬عبادات اعتقادية ‪:‬‬
‫وهذه أساس العبادات كلها ‪ ،‬وهي أن يعتقد العبد أن الله هو الرب الواحد‬
‫الحد الذي له الخلق والمر ‪ ،‬وبيده النفع والضر ‪ ،‬الذي ل شريك له ‪ ،‬ول‬
‫يشفع عنده أحد إل بإذنه ‪ ،‬وأنه ل معبود بحق غيره ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬عملية قلبية ‪:‬‬

‫) ‪(1/183‬‬

‫والعبادات القلبية التي ل يجوز أن يقصد بها إل الله وحده ‪ ،‬وصرفها لغيره‬
‫شرك كثيرة ‪ ،‬كالخوف والرجاء ‪ ،‬والرغبة والرهبة ‪ ،‬والخشوع والخشية‬
‫‪،‬والحب ‪ ،‬والنابة ‪ ،‬والتوكل ‪ ،‬والخضوع ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬قولية ‪:‬‬
‫كالنطق بكلمة التوحيد ؛ إذ ل يكفي اعتقاد معناها ‪ ،‬بل ل بد من النطق بها ‪،‬‬
‫وكالستعاذة بالله ‪ ،‬والستعانة والستغاثة به ‪ ،‬والدعاء له ‪ ،‬وتسبيحه ‪،‬‬
‫وتمجيده ‪ ،‬وتلوة القرآن ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬بدنية ‪:‬‬
‫كالصلة ‪ ،‬والصوم ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والذبح ‪ ،‬والنذر ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬مالية ‪:‬‬
‫كالزكاة ‪ ،‬وأنواع الصدقات ‪ ،‬والكفارات ‪ ،‬والضحية ‪ ،‬والنفقة ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري ومسلم ‪ ،‬وهو حديث مشهور تغني شهرته عن تخريجه ‪.‬‬
‫وانظر كتابنا )) مقاصد المكلفين (( ص ‪ ، 519 :‬فقد ذكرنا فيه طرقه‬
‫ومخرجيه ‪.‬‬
‫)‪ (2‬عزاه ابن الثير في جامع الصول ‪ ، 1/289 :‬ورقمه ‪ 75 :‬إلى البخاري‬
‫ومسلم وأبي داود ‪.‬‬
‫ما يضاد التوحيد وينافيه‬
‫الذي ينافي التوحيد ويضاده الشرك ‪ ،‬يقال ‪ :‬شركته في المر إذا صرت له‬
‫شريكا ً ‪ ،‬ومنه قوله تعالى ‪ ) :‬وأشركه في أمري ( ] طه ‪ [ 32 :‬أي اجعله‬
‫شريكي فيه ‪.‬‬
‫الشرك نوعان ‪ :‬وفي مصطلح الشريعة السلمية الشرك نوعان ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬الشرك الكبر ‪:‬‬

‫) ‪(1/184‬‬

‫والمشرك شركا ً أكبر هو الذي يجعل مع الله ربا ً آخر كشرك النصارى الذي‬
‫جعلوه ثالث ثلثة ‪ ،‬وشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور ‪،‬‬
‫وحوادث الشر إلى الظلمة ‪ ،‬وكشرك الصابئة الذين ينسبون إلى الكواكب‬
‫العلوية تدبير أمر العالم ‪ ،‬ومثل هؤلء كثير من عُّباد القبور الذين يزعمون بأن‬
‫أرواح الولياء تتصرف بعد الموت ‪ ،‬فيقضون الحاجات ‪،‬ويفّرجون الكربات ‪،‬‬
‫وينصرون من دعاهم ‪ ،‬ويحفظون من التجأ إليهم ‪ ،‬ولذ بحماهم ‪ .‬ومن‬
‫الشرك الكبر أن يجعل مع الله إلها ً آخر ‪ :‬ملكا ً ‪ ،‬أو رسول ً ‪ ،‬أو وليا ً ‪ ،‬أو‬
‫شمسا ً ‪ ،‬أو قمرا ً ‪ ،‬أو حجرا ً ‪ ،‬أو بشرا ً ‪ُ ،‬يعبد كما ُيعبد الله ‪ ،‬وذلك بدعائه‬
‫والستعانة به ‪ ،‬والذبح له والنذر له ‪ ،‬وغير ذلك من أنواع العبادة ‪.‬‬
‫ل تشترط مساواة الشريك لله حتى يصبح شركا ً ‪:‬‬
‫ول يشترط أن يساوي المشرك في شركه مع الله غيره من كل وجه ‪ ،‬بل‬
‫يسمى مشركا ً في الشرع بإثباته شريكا ً لله ‪ ،‬ولو جعله دونه في القدرة‬
‫والعلم مثل ً ‪.‬‬
‫ن – إذ‬
‫مبي ٍ‬‫ل ّ‬‫فأما حكايته تعالى عن المشركين قولهم ‪ ) :‬تالله إن ك ُّنا لفي ضل ٍ‬
‫كم برب العالمين ( ] الشعراء ‪ ، [ 98-97 :‬فهي التسوية في المحبة‬ ‫نسوي ُ‬
‫والخوف والرجاء والطاعة والنقياد ‪ ،‬ل في القدرة على الخلق واليجاد ‪،‬‬
‫لنهم كانوا يقولون بوحدانيته في الخلق واليجاد ‪.‬‬
‫خطورة هذا الشرك ‪:‬‬
‫الشرك الكبر في غاية الخطورة فهو يحبط العمل ‪ ،‬قال تعالى ‪ ) :‬ولو‬
‫ما كانوا يعملون ( ] النعام ‪. [ 88 :‬‬ ‫أشركوا لحبط عنهم ّ‬
‫ي إليك وإلى اّلذين من‬ ‫ُ‬
‫ح َ‬
‫وقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬ولقد أو ِ‬
‫ن من الخاسرين ( ] الزمر ‪. [ 65 :‬‬ ‫ن عملك ولتكون ّ‬ ‫قبلك لِئن أشركت ليحبط ّ‬
‫) ‪(1/185‬‬

‫وصاحبه خالد مخّلد في نار جهنم ل يغفر الله له ‪ ،‬ول يدخله الجّنة ‪ ) :‬إ ّ‬
‫ن الله‬
‫ل يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ] النساء ‪ ) ، [ 48 :‬لقد‬
‫ح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل‬ ‫كفر اّلذين قالوا إ ّ‬
‫ن الله هو المسي ُ‬
‫اعبدوا الله ربي ورّبكم إّنه من يشرك بالله فقد حّرم الله عليه الجّنة ومأواه‬
‫ظالمين من أنصارٍ ( ] المائدة ‪. [ 72 :‬‬ ‫الّناُر وما لل ّ‬
‫أعظم جريمة وأفظع ظلم ‪:‬‬
‫عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ‪ :‬سألت رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال ‪ ) :‬أن تدعو لله ندا ً وهو خلقك (‬
‫م ( ]لقمان ‪، [13 :‬‬ ‫ن الشرك لظلم عظي ٌ‬ ‫متفق عليه )‪ ، (1‬وقال تعالى ‪ ) :‬إ ّ‬
‫وقال ‪ ) :‬ومن يشرك بالله فقد افترى إثما ً عظيما ً ( ] النساء ‪. [ 48 :‬‬
‫النوع الثاني ‪ :‬الشرك الصغر ‪:‬‬
‫والشرك الصغر كيسير الرياء ‪ ،‬والتصنع للمخلوق ‪ ،‬وعدم الخلص لله تعالى‬
‫في العبادة ‪ ،‬بل يعمل لحظ نفسه تارة ‪ ،‬ولطلب الدنيا تارة ‪ ،‬ولطلب المنزلة‬
‫والجاه تارة ‪ ،‬فلله من عمله نصيب ‪ ،‬ولغيره منه نصيب ‪ ،‬ويتبع هذا النوع‬
‫الشرك بالله في اللفاظ كالحلف بغير الله ‪ ،‬وقول ‪ :‬ما شاء الله وشئت ‪،‬وما‬
‫لي إل الله وأنت ‪.‬‬
‫وقد يكون شركا ً أكبر بحسب قائله ومقصده ‪.‬‬
‫ج من الملة فإن‬ ‫خرِ ُ‬
‫وهذا النوع من الشرك ‪ ) :‬الشرك الصغر ( وإن كان ل ي ُ ْ‬
‫صاحبه على خطر عظيم ‪ ،‬ينقص من أجره شيء كثير ‪ ،‬وقد يحبط منه العمل‬
‫‪ ،‬ففي الصحيحين عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال ‪ :‬جاء رجل إلى‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‪ :‬الرجل يقاتل للمغنم ‪ ،‬والرجل يقاتل‬
‫للذكر ‪ ،‬والرجل يقاتل ليرى مكانه ‪ ،‬فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪ ) :‬من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل‬
‫الله ( ‪(2) .‬‬
‫وفي صحيح مسلم فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ‪ ) :‬أنا‬
‫ن عمل عمل ً أشرك فيه معي غيري تركته‬ ‫م ْ‬‫أغنى الشركاء عن الشرك ‪َ ،‬‬
‫وشركه ( ‪(3) .‬‬

‫) ‪(1/186‬‬

‫وفي المسند أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬إن أخوف ما أخاف‬
‫عليكم الشرك الصغر ( قالوا ‪ :‬يا رسول الله وما الشرك الصغر ؟ قال ‪:‬‬
‫) الرياء ( ‪ .‬وزاد البيهقي في شعب اليمان ‪ ) :‬يقول الله لهم يوم يجازي‬
‫العباد بأعمالهم ‪ :‬اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ‪ ،‬فانظروا هل‬
‫تجدون عندهم جزاًء وخيرا ً ( ‪(4) .‬‬
‫وفي النهي عن هذا الشرك نزل قوله تعالى ‪ ) :‬فمن كان يرجوا لقاء ربه‬
‫فليعمل عمل ً صالحا ً ول يشرك بعبادة ربه أحدا ً ( ] الكهف ‪. [ 110 :‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬مشكاة المصابيح ‪ ، 1/21 :‬ورقمه ‪. 49 :‬‬
‫)‪ (2‬رواه البخاري ‪ . 6/28 :‬ورقمه ‪ . 281 :‬ورواه مسلم ‪ . 3/1512 :‬ورقمه‬
‫‪. 1904 :‬‬
‫)‪ (3‬رواه مسلم ‪ .‬انظر جامع الصول ‪ . 4/545 :‬ورقمه ‪. 2651 :‬‬
‫)‪ (4‬مشكاة المصابيح ‪ ، 2/687 :‬ورقمه ‪. 5334 :‬‬
‫نظرة في تاريخ العقيدة‬
‫هل تطورت العقيدة عبر الزمان‬
‫يرى كثير من الباحثين الغربيين أن النسان لم يعرف العقيدة على ما يعرفها‬
‫عليه اليوم مرة واحدة ‪ ،‬ولكنها ترقت ‪ ،‬وتطورت في فترات وقرون متعاقبة ‪.‬‬
‫ول عجب أن يقول بهذا القول الباطل قوم لم يمنحهم الله كتابه الذي يحكي‬
‫تاريخ العقيدة بوضوح ل لبس فيه ‪ ،‬إل أن العجيب أن يذهب هذا المذهب‬
‫رجال يعدون أنفسهم باحثين مسلمين ‪.‬‬
‫فهذا عباس محمود العقاد يرى في كتابه )الله( )‪ - (1‬وهو كتاب يبحث في‬
‫نشأة العقيدة اللهية – أن " النسان ترقى في العقائد " ‪ ،‬ويرى أن ترقي‬
‫النسان في العقائد موافق تماما ً لترقيه في العلوم ‪.‬‬
‫ويقول ‪ " :‬كانت عقائد النسان الولى مساوية لحياته الولى ‪ ،‬وكذلك كانت‬
‫علومه وصناعاته ‪ ،‬فليس أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديان‬
‫والعبادات ‪ ،‬وليس عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة‬
‫في الخرى " ‪.‬‬

‫) ‪(1/187‬‬

‫بل يرى أن تطور العقيدة لدى النسان كان أشق من تطور العلوم‬
‫والصناعات ‪ ،‬يقول في هذا ‪ " :‬وينبغي أن تكون محاولت النسان في سبيل‬
‫دين أشق وأطول من محاولته في سبيل العلوم والصناعات ؛ لن حقيقة‬ ‫ال ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكون الكبرى أشق مطلبا وأطول طريقا من حقيقة هذه الشياء المتفرقة‬
‫التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى " ‪.‬‬
‫ويرى أن الحقيقة اللهية لم تتجل للناس مرة واحدة ‪ ،‬يقول ‪ " :‬فالرجوع إلى‬
‫ل على بطلن التدين ‪ ،‬ول على‬ ‫أصول الديان في عصور الجاهلية الولى ل يد ّ‬
‫ن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى‬ ‫أنها تبحث عن محال ‪ ،‬كل ما يد ّ‬
‫ل عليه أ ّ‬
‫للناس كاملة في عصر واحد " ‪.‬‬
‫ن السبب‬ ‫ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تاريخ العقيدة ‪ ،‬فمنهم من يرى أ ّ‬
‫في نشأة العقيدة هو ضعف النسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى‬
‫الطبيعة والحياء ‪ ... ،‬وبعضهم يرى أن العقيدة الدينية حالة مرضية في الحاد‬
‫والجماعات ‪ ،‬ويرى بعضهم أن أصل العقيدة الدينية عبادة )) الطوطم (( ‪،‬‬
‫كأن تتخذ بعض القبائل حيوانا ً )طوطميًا( تزعمه أبا ً لها ‪ .‬وقد يكون شجرا ً أو‬
‫حجرا ً يقدسونه ‪ ،‬إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين‬
‫الغربيين ‪.‬‬
‫ومع السف فقد سرت هذه النظرية )‪ (2‬إلى كثير من الكّتاب ‪ ،‬واعتنقها‬
‫جملة من الدارسين )‪ ، (3‬والذي أوقع هؤلء في هذا الخطأ أمور ‪:‬‬
‫خلق خلقا ً ناقصا ً ‪ ،‬غير مؤهل لن يتلقى‬ ‫دروا أن النسان الول ُ‬ ‫الول ‪ :‬أنهم ق ّ‬
‫الحقائق العظمى كاملة ‪ ،‬بل إن تصوراتهم عن النسان الول تجعله أقرب‬
‫إلى الحيوان منه إلى النسان ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أنهم ظنوا أن النسان اهتدى إلى العقيدة بنفسه بدون معلم يعلمه ‪،‬‬
‫ومرشد يوضح له ‪ .‬فما دام المر كذلك فل بد أن يترقى في معرفته بالله كما‬
‫ترقى في العلوم والصناعات ‪.‬‬

‫) ‪(1/188‬‬

‫الثالث ‪ :‬أنهم عندما بحثوا في الديان ليتبينوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إل تلك‬
‫الديان المحرفة أو الضالة ‪ ،‬فجعلوها ميدان بحثهم ‪ ،‬فأخضعوها للدراسة‬
‫والتمحيص ‪ ،‬وأنى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الديان التي تمثل انحراف‬
‫النسان في فهم العقيدة ‪.‬‬
‫القرآن وحده يوضح تاريخ العقيدة ‪:‬‬
‫ليس هناك كتاب في الرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إل كتاب الله سبحانه‬
‫وتعالى ‪ ،‬ففيه علم غزير في هذا الموضوع ‪ ،‬وعلم البشر ل يمكن أن يدرك‬
‫هذا الجانب إدراكا ً وافيا ً لسباب ‪:‬‬
‫الول ‪ :‬أن ما نعرفه عن التاريخ قبل خمسة آلف عام قليل ‪ ،‬أما ما نعرفه‬
‫قبل عشرة آلف عام فيعتبر أقل من القليل ‪ ،‬وما قبل ذلك فيعتبر مجاهيل ل‬
‫يدري علم التاريخ من شأنها شيئا ً ‪ ،‬لذا فإن كثيرا ً من الحقيقة ضاع بضياع‬
‫التاريخ النساني ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن الحقائق التي ورثها النسان اختلطت بباطل كثير ‪ ،‬بل ضاعت في‬
‫أمواج متلطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف ‪ ،‬ومما‬
‫يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصية أو جماعة ما في العصر‬
‫الحديث تعتبر من أشقّ المور ‪ ،‬فكيف بتاريخ يمتد ّ إلى فجر البشرية ؟ !‬
‫الثالث ‪ :‬أن قسما ً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الرض ‪ ،‬بل في‬
‫السماء ‪.‬‬
‫لذا فإن الذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيقي ل لبس فيه هو الله – سبحانه‬
‫سماء ( ] آل‬‫ن الله ل يخفى عليه شيٌء في الرض ول في ال ّ‬ ‫وتعالى – ) إ ّ‬
‫عمران ‪. [ 5 :‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬نشرته دار الهلل – القاهرة‪ :‬انظر ‪ :‬ص ‪ 10 :‬وما بعداه ‪.‬‬
‫)‪ (2‬ممن جنح إلى القول بهذه النظرية مصطفى محمود في كتابه )الله( ‪.‬‬
‫)‪ (3‬لست أدري أي عقيدة هذه التي تطورت ‪ ،‬أهي العقيدة اليهودية المحرفة‬
‫‪ ،‬أم النصرانية المبدلة ‪ ،‬أم عقيدة الفلسفة ‪ ...‬إن هذه العقائد ل تمثل إل‬
‫انحرافات عقائدية ‪ ،‬ول تمثل العقيدة السليمة ‪.‬‬
‫تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم‬

‫) ‪(1/189‬‬

‫أعلمنا الله سبحانه أنه خلق آدم خلقا ً مستقل ً سويا ً متكامل ً ‪ ،‬ثم نفخ فيه من‬
‫روحه ‪ ،‬وأسكنه جنته ‪ ،‬وأباح له أن يأكل هو وزوجته منها كيف شاءا إل شجرة‬
‫واحدة ‪ ،‬فأغراه عدّوه إبليس بالكل من الشجرة ‪ ،‬فأطاع عدوه ‪ ،‬وعصى‬
‫رّبه ‪ ،‬فأهبطه الله من الجنة إلى الرض ‪ ،‬وقبل الهبوط وعده الله – سبحانه –‬
‫هداه ‪ ،‬كي يعرف النسان بربه ومنهجه وتشريعه ‪،‬‬ ‫بأن ينزل عليه وعلى ذريته ُ‬
‫وعد‬
‫ووعد المستجيبين بالهداية في الدنيا والسعادة في الخرى ‪ ،‬وت ّ‬
‫دنيا وبالشقاء في الخرة ‪ ) :‬قلنا اهبطوا‬ ‫المستكبرين بالمعيشة الضنكة في ال ّ‬
‫ما يأتيّنكم مني هدىً فمن تبع هداي فل خوف عليهم ول هم‬ ‫منها جميعا ً فإ ّ‬
‫ذبوا بآياتنا أولِئك أصحاب الّنار هم فيه خالدون (‬ ‫يحزنون – واّلذين كفروا وك ّ‬
‫] البقرة ‪[39-38:‬‬
‫ما‬
‫ض عدوّ فإ ّ‬‫وفي سورة طه يقول ‪ ) :‬قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبع ٍ‬
‫ل ول يشقى – ومن أعرض عن‬ ‫يأتيّنكم مني هدىً فمن اّتبع هداي فل يض ّ‬
‫ة ضنكا ً ونحشره يوم القيامة أعمى – قال رب لم‬ ‫ن له معيش ً‬ ‫ذكري فإ ّ‬
‫ً‬
‫حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا – قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم‬
‫تنسى ( ] طه ‪. [ 126-123 :‬‬
‫الجيل الول من البشرية كان على التوحيد ‪:‬‬
‫هبط آدم إلى الرض ‪ ،‬وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص‬
‫ة واحدة ( ] البقرة ‪ ، [ 213 :‬أي على‬ ‫م ً‬
‫كما قال الله تعالى ‪ ) :‬كان الّناس أ ّ‬
‫التوحيد والدين الحق فاختلفوا ) فبعث الله الّنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل‬
‫معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الّناس فيما اختلفوا فيه ( ] البقرة ‪، [ 213 :‬‬
‫وفي حديث أبي أمامة أن رجل ً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال ‪ :‬يا‬
‫رسول الله أنبي كان آدم ؟ قال ‪ ) :‬نعم ‪ ،‬مكلم ( قال ‪ :‬قال ‪ :‬فكم بينه وبين‬
‫نوح ؟ قال ) عشرة قرون ( رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ‪ .‬وقال ابن‬
‫كثير ‪ " :‬هذا على شرط مسلم ‪ ،‬ولم يخرجه " ‪(1) .‬‬

‫) ‪(1/190‬‬

‫وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال ‪ ) :‬وكان بين آدم ونوح عشرة قرون‬
‫كلهم على السلم ( ‪(2) .‬‬
‫ومقدار القرن مائة سنة ‪ ،‬وعلى ذلك يكون بين آدم ونوح ألف سنة ‪.‬‬
‫وقد تكون المدة بينهما أكثر من ذلك ‪ ،‬إذ قيد ابن عباس هذه القرون العشرة‬
‫بأنها كانت على السلم ‪ ،‬فل ينفي أن يكون بينهما قرون أخرى على غير‬
‫السلم ‪.‬‬
‫وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس كما قال تعالى ‪ ) :‬وكم أهلكنا من‬
‫م أنشأنا من بعدهم قرنا ً‬ ‫ن من بعد نوٍح ( ] السراء ‪ ، [ 17 :‬وقوله ‪ ) :‬ث ّ‬ ‫قُرو ِ‬ ‫ال ُ‬
‫ن ( ] نوح ‪(3) . [ 23 :‬‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬‫آ َ‬
‫أول انحراف عن العقيدة وأول رسول ‪:‬‬
‫وبعد أن كان الناس أمة واحدة على التوحيد حصل الزيغ والنحراف ‪ ،‬وكان‬
‫أول انحراف حدث هو الغلو في تعظيم الصالحين ‪ ،‬ورفعهم إلى مرتبة اللهة‬
‫المعبودة ‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عند‬
‫سواعا ً ول يغوث‬ ‫ن ود ّا ً ول ُ‬‫ن آلهتكم ول تذُر ّ‬
‫تفسير قوله تعالى ‪ ) :‬وقالوا ل تذُر ّ‬
‫ويعوق ونسرا ً ( ]نوح ‪ . [23 :‬قال ‪ " :‬هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح‬
‫‪ ،‬فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا‬
‫يجلسون فيها أنصابا ً وسموها بأسمائهم ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فلم تعبد ‪ ،‬حتى إذا هلك‬
‫عبدت " ‪(4) .‬‬‫أولئك ‪ ،‬وانتسخ العلم ) ُنسي ودرس ( ُ‬
‫فهذا أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد ‪ ،‬فأرسل الله إليهم‬
‫أول رسله نوحا ً عليه السلم مصداقا ً لوعده الذي أعطاه لبي البشر آدم‬
‫بإرسال الرسل وإنزال الكتب هداية للبشرية ‪.‬‬

‫) ‪(1/191‬‬

‫والدليل على أن نوحا ً كان أول رسول مبعوث حديث الشفاعة الثابت في‬
‫الصحيح ‪ ،‬وفيه ‪ ) :‬أن الناس يأتون بعد آدم نوحا ً فيقولون له فيما يقولون ‪ :‬يا‬
‫نوح ‪ ،‬أنت أول الرسل إلى الرض ‪ ،‬وسماك الله عبدا ً شكورا ً ( )‪. (5‬‬
‫والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا تدل دللة واضحة على أن نوحا ً قد‬
‫ه‬
‫دعا إلى التوحيد الخالص ‪ ،‬فقد قال لقومه ‪ ) :‬اعبدوا الله ما لكم من إل ٍ‬
‫ف عليكم عذاب يوم ٍ عظيم ٍ ( ] العراف ‪ ، [ 59 :‬وقال ‪ ) :‬أن ل ّ‬ ‫غيره إني أخا ُ‬
‫ف عليكم عذاب يوم ٍ أليم ٍ ( ] هود ‪ [ 26 :‬وقال ‪ ) :‬يا‬‫تبعدوا إل ّ الله إني أخا ُ‬
‫قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره أفل تّتقون ( ] المؤمنون ‪. [ 23 :‬‬
‫والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس ‪ ،‬وتن ّ‬
‫كر لها السادة‬
‫والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والذكاء حيث استكبروا عن متابعة‬
‫ن ( ] العراف ‪[ 60 :‬‬ ‫مبي ٍ‬
‫ل ّ‬‫الحق ‪ ) :‬قال المل من قومه إّنا لنراك في ضل ٍ‬
‫والمل المذكورون في الية هم السادة والكبراء ‪ ،‬وقالوا له ‪ ) :‬وما نراك‬
‫اّتبعك إل ّ اّلذين هم أراذلنا بادي الّرأي ( ]هود ‪ [27 :‬؛ أي ‪ :‬اتبعوك بدون تأمل‬
‫عميق ‪ ،‬وتفكير ونظر ‪ ،‬وهذا الذي رموهم به هو ما يجب أن ُيمدحوا به ‪ ،‬فإن‬
‫الحق إذا ظهر ل يحتاج إلى نظر ‪ ،‬بل يجب اتباعه ‪.‬‬
‫وتعجبوا أن يبعث الله رسول ً بشرا ً فقالوا ‪ ) :‬ما نراك إل بشرا مثلنا ( ]هود‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫‪ ) ، [27‬فقال المل ُ اّلذين كفروا من قومه ما هذا إل ّ بشٌر مثلكم يريد أن‬
‫ضل عليكم ولو شاء الله لنزل ملِئكةٍ ( ] المؤمنون ‪ ، [ 24 :‬وطلبوا منه‬ ‫يتف ّ‬
‫أن يطرد الضعفاء والمساكين الذين تابعوه فرفض طلبهم ) وما أنا بطارد‬
‫مل َُقو ربهم ولكني أراكم قوما ً تجهلون ( ] هود ‪. [ 29 :‬‬
‫اّلذين آمنوا إّنهم ّ‬

‫) ‪(1/192‬‬

‫وقد تطاول الزمان وكثرت المجادلة بينه وبينهم كما قال الله تعالى ‪ ) :‬فلبث‬
‫فيهم ألف سنةٍ إل ّ خمسين عاما ً ( ] العنكبوت ‪ [ 14 :‬فدعا عليهم ‪ ) :‬وقال‬
‫ح رب ل تذر على الرض من الكافرين دّيارا ً – إّنك إن تذرهم يضّلوا عبادك‬ ‫نو ٌ‬
‫فارا ( ] نوح ‪ [ 27-26 :‬فأهلكهم الله بالطوفان ‪ ) :‬وقوم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ول يلدوا إل ّ فاجرا ك ّ‬
‫ً‬
‫ذبوا الّرسل أغرقناهم ( ] الفرقان ‪ ، [ 37 :‬وأنجى نوحا والمؤمنين‬ ‫نوح ل ّ ّ‬
‫ما ك ّ‬
‫برحمة منه ‪ ،‬وخلت الرض من الظالمين ‪ ،‬ولم يبق فيها إل الموحدون ‪ ،‬فلما‬
‫م أنشأنا من بعدهم قرنا ً‬ ‫انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسول ً ) ث ّ‬
‫آخرين – فأرسلنا فيهم رسول ً منهم ( ] المؤمنون ‪ ، [ 32-31 :‬فدعاهم إلى‬
‫توحيد الله ) أن اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ( ] المؤمنون ‪. [ 32 :‬‬
‫وهكذا استمرت رحمة الله وعنايته ببني آدم كلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم‬
‫ة ّرسولها‬ ‫م ً‬ ‫ل ما جاء أ ّ‬ ‫م أرسلنا رسلنا تترا ك ّ‬ ‫هداه يضيء لهم الظلمات ‪ ) :‬ث ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم ٍ ل يؤمنون (‬ ‫ّ‬
‫] المؤمنون ‪. [ 44 :‬‬
‫هذه هي قصة البشرية الحقيقية صراع طويل بين الحق والباطل ‪ ،‬بين‬
‫الرسل الذين يعرضون الهدى والحق ‪ ،‬وبين الضالين المعرضين عن التوحيد‬
‫وا عليه الباء والجداد ‪ ،‬وبأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة ‪:‬‬ ‫المتمسكين بما أل ْ َ‬
‫ف ْ‬
‫) ألم يأتكم ن َب َأ ُ اّلذين من قبلكم قوم نوٍح وعادٍ وثمود واّلذين من بعدهم ل‬
‫يعلمهم إل ّ الله جاءتهم رسلهم بالبينات فرّدوا أيديهم في أفواههم وقالوا إّنا‬
‫ب – قالت رسلهم‬ ‫مري ٍ‬‫ما تدعوننا إليه ُ‬
‫م ّ‬
‫ك ّ‬ ‫كفرنا بما أرسلتم به وإّنا لفي ش ٍ‬
‫سماوات والرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم‬ ‫ك فاطر ال ّ‬ ‫أفي الله ش ّ‬
‫ما‬
‫دونا ع ّ‬ ‫ى قالوا إن أنتم إل ّ بشٌر مثلنا تريدون أن تص ّ‬ ‫م ً‬
‫مس ّ‬ ‫ل ّ‬ ‫ويؤخركم إلى أج ٍ‬
‫ن ( ] إبراهيم ‪. [ 10-9 :‬‬ ‫مبي ٍ‬‫ن ّ‬ ‫كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطا ٍ‬
‫) ‪(1/193‬‬
‫وبالتأمل في دعوة الرسل التي عرضها القرآن تتبين لنا الحقائق التالية ‪:‬‬
‫الولى ‪ :‬أن الله خلق النسان منذ البداية خلقا ً سويا ً مكتمل ً لغاية محددة ‪،‬‬
‫هي عبادته ‪ ،‬وأن خلقه مؤهل ً لذلك ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أن الله عرفه على نفسه منذ البداية ‪ ،‬ولم يتركه لفكره يتعرف على‬
‫ربه بطريق التفكير والتأمل ‪ ،‬بل أرسل إليه رسل ً ‪ ،‬وقد كان هؤلء الرسل‬
‫من الكثرة بحيث إنهم بّلغوا البشرية كلها ) وإن من أ ّ‬
‫مةٍ إل ّ خل فيها نذيٌر (‬
‫] فاطر ‪. [ 24 :‬‬
‫لذا فإننا ل نعلم أسماء جميع الرسل الذين أرسلهم الله ) ولقد أرسلنا رسل ً‬
‫من ّلم نقصص عليك ( ] غافر ‪:‬‬ ‫من قصصنا عليك ومنهم ّ‬ ‫من قبلك منهم ّ‬
‫‪. [ 78‬‬
‫ومما يدل على ذلك أن المم المكذبة في يوم القيامة تقر وتعترف بتبليغ‬
‫ج سألهم خزنتها ألم‬ ‫الرسل لها دعوة الله قوله تعالى ‪ ) :‬كّلما ألقى فيها فو ٌ‬
‫ذبنا وقلنا ما نّزل الله من شيٍء إن‬ ‫يأتكم نذيٌر – قالوا بلى قد جاءنا نذيٌر فك ّ‬
‫ل كبيرٍ ( ]الملك ‪[9-8 :‬‬‫أنتم إل ّ في ضل ٍ‬
‫وما هذا التتابع في إرسال الرسل على مدار التاريخ إل رحمة من الله بعباده ‪،‬‬
‫ووفاء بوعده الذي وعد به آدم أبا البشرية ‪ ،‬وإعذارا ً منه لخلقه‪ ) :‬لئل ّ يكون‬
‫جة بعد الّرسل ( ]النساء ‪ ) ،[165 :‬وما ك ُّنا معذبين حّتى‬ ‫للّناس على الله ح ّ‬
‫نبعث رسول ً ( ]السراء ‪. [ 15:‬‬
‫الثالثة ‪ :‬دعوة الرسل واحدة ‪ ،‬فأصل دعوتهم جميعا ً ولبها التوحيد ‪ ،‬بتعريف‬
‫الناس على ربهم ومعبودهم ‪ ،‬وبيان الطريقة التي يعبدونه بها ‪.‬‬

‫) ‪(1/194‬‬

‫الرابعة ‪ :‬أن دين الرسل جميعا ً السلم ل دين لهم سواه ‪ ) :‬ومن يبتغ غير‬
‫السلم دينا ً فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين ( ] آل عمران ‪85 :‬‬
‫[ فنوح يقول ‪ ) :‬وأمرت أن أكون من المسلمين ( ] يونس ‪ . [ 72 :‬وقال‬
‫الله عن التوراة ‪ ) :‬يحكم بها النبّيون اّلذين أسلموا لّلذين هادوا ( ] المائدة ‪:‬‬
‫كلوا إن كنتم‬‫‪ ، [ 44‬وقال موسى لقومه ‪ ) :‬إن كنتم آمنتم بالله فعليه تو ّ‬
‫مسلمين ( ] يونس ‪ ، [ 84 :‬وأمر الله خليله إبراهيم بالسلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫صى بها إبراهيم بنيه‬ ‫) أسلمت لرب العالمين ( ] البقرة ‪ ) ، [ 131 :‬وو ّ‬
‫مسلمون (‬ ‫ّ‬ ‫وأنتم‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ن‬
‫ن الله اصطفى لكم الدين فل تموت ُ ّ‬ ‫ويعقوب يا بني إ ّ‬
‫]البقرة ‪.[132 :‬‬
‫وعندما سأل يعقوب بنيه عن معبودهم من بعده ) قالوا نعبد إلهك وإله آباِئك‬
‫إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها ً واحدا ً ونحن له مسلمون ( ] البقرة ‪[ 133 :‬‬
‫‪ ،‬وملكة سبأ قالت ‪ ) :‬رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب‬
‫العالمين ( ] النمل ‪ ، [ 44 :‬ويوسف كان من دعائه ‪ ) :‬توّفني مسلما ً‬
‫وألحقني بالصالحين ( ] يوسف ‪ ، [ 101 :‬والرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫ت ‪ ،‬أمهاُتهم شتى ودينهم واحد ( ‪(7) (6) .‬‬ ‫يقول ‪ ) :‬والنبياء إخوة لعل ّ ٍ‬
‫وهذا التنوع الذي نراه في الشرائع ل يدل على أن دينهم كان مختلفا ً ؛ لن‬
‫الله قد يشرع أمرا ً لحكمة ‪ ،‬ثم يشرع أمرا ً آخر في وقت آخر لحكمة أخرى ‪،‬‬
‫بل قد يكون هذا في الشريعة الواحدة ‪ ،‬كما شرع الله في بداية المر التجاه‬
‫إلى بيت المقدس في الصلة ‪ ،‬ثم نسخ ذلك بأن أمر بالتوجه إلى البيت‬
‫الحرام فكان السلم أول ً التوجه إلى القدس ‪ ،‬ثم أصبح التوجه إلى الكعبة ‪،‬‬
‫وكذلك شرائع النبياء ‪ ،‬فالمتأخر ينسخ المتقدم ‪ ،‬وأصبحت الشريعة المنزلة‬
‫على محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الخاتمة الناسخة لما قبلها من‬
‫الشرائع ‪.‬‬

‫) ‪(1/195‬‬

‫الخامسة ‪ :‬ليس الترقي في العتقاد عبر القرون هو السبب في الشرك‬


‫واتخاذ معبودات من دون الله كما ذهب إليه ) العقاد ( والذين تابعهم من‬
‫الغربيين ‪ ،‬بل سبب انحراف أتباع الرسل عما جاءت به الرسل ‪ ،‬وتركهم ما‬
‫ة ضنكا ً ( ] طه ‪:‬‬ ‫ن له معيش ً‬ ‫جاءت به الرسل ) ومن أعرض عن ذكري فإ ّ‬
‫ن وما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ، [ 124‬واتباعهم الظن والهوى وتركهم الهدى ‪ ) :‬إن يّتبعون إل الظ ّ‬
‫تهوى النفس ولقد جاءهم من ّربهم الهدى ( ]النجم ‪ ) ، [23:‬ول تّتبعوا أهواء‬
‫سبيل ( ]المائدة ‪:‬‬ ‫قوم ٍ قد ضّلوا من قبل وأضّلوا كثيرا ً وضّلوا عن سواء ال ّ‬
‫‪. [77‬‬
‫ة‬
‫وقال في اليهود ‪ ) :‬فبما نقضهم ميثاقهم لعّناهم وجعلنا قلوبهم قاسي ً‬
‫يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا ً مما ذكروا به ( ] المائدة ‪، [ 13 :‬‬
‫وقال في النصارى ‪ ) :‬ومن اّلذين قالوا إّنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا ً‬
‫مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ( ] المائدة ‪:‬‬
‫‪ [ 14‬وقال فيهم مبينا ً انحرافهم عن التوحيد الذي أمروا به ‪ ) :‬اتخذوا‬
‫أحبارهم ورهبانهم أربابا ً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إل ّ ليعبدوا‬
‫ما يشركون ( ] التوبة ‪. [ 31 :‬‬ ‫إلها ً واحدا ً ل إله إل ّ هو سبحانه ع ّ‬
‫لذا فإن الرسل يتبرؤون من الذين انحرفوا عن منهجهم ) وإذ قال الله يا‬
‫عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال‬
‫ق إن كنت قلته فقد علمته تعلم‬ ‫سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بح ٍ‬
‫لم الغيوب – ما قلت لهم إل ّ‬ ‫ما في نفسي ول أعلم ما في نفسك إّنك أنت ع ّ‬
‫ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي ورّبكم ( ] المائدة ‪. [ 117-116 :‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬البداية والنهاية ‪. 1/101 :‬‬
‫)‪ (2‬البداية والنهاية ‪. 1/101 :‬‬
‫)‪ (3‬راجع البداية والنهاية ‪. 1/101 :‬‬
‫)‪ (4‬صحيح البخاري ‪ . 8/667 :‬ورقمه ‪. 4920 :‬‬
‫)‪ (5‬رواه مسلم ‪ . 1/185 :‬ورقمه ‪. 194 :‬‬
‫)‪ (6‬رواه البخاري ‪ ، 6/478 :‬ورقمه ‪. 3443 :‬‬

‫) ‪(1/196‬‬

‫)‪ (7‬إخوة لعلت هم الخوة لب ‪ ،‬أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة ‪ ،‬وكذلك‬


‫النبياء دينهم واحد وشرائعهم مختلفة ‪.‬‬
‫تصورات المم الضالة للمعبود‬
‫ل نريد من وراء هذا البحث في هذا الموضوع أن نؤرخ للجانب المنحرف في‬
‫العقيدة ‪ ،‬فذلك ليس في مكنة الباحث لكثرة أنواع النحراف ‪ ،‬وما الفائدة‬
‫من التأريخ للجانب المظلم والكفر ملة واحد ! إنما مرادنا من وراء ذلك أن‬
‫ندرك شيئا ً مما وقعت فيه المم ‪ ،‬كي نعلم القيمة العظيمة التي تمتاز بها‬
‫العقيدة السلمية‪.‬‬
‫ن الذين يدركون الباطل ويعرفونه هم أقدر على معرفة الحقّ إذا اعتنقوه‬ ‫إ ّ‬
‫ن الذين يتبعون السلم ول يعلمون الجانب المقابل له ‪ ،‬وهو الباطل‬ ‫وإ ّ‬
‫يخشى عليهم من النزلق في طرق الباطل ‪ ،‬وصدق عمر بن الخطاب حيث‬
‫عرى السلم عروة إذا نشأ في السلم من ل‬ ‫يقول ‪" :‬توشك أن تنقض ُ‬
‫ن الذي يعرف ظلم الليل أقدر على معرفة ضوء‬ ‫يعرف الجاهلية"‪ ،‬ول شك أ ّ‬
‫النهار ‪ ،‬والصحة تاج على رؤوس الصحاء ل يراه إل المرضى ‪.‬‬
‫وقد أدرك هذه الحقيقة سيد قطب حيث يقول ‪ " :‬النسان ل يدرك ضرورة‬
‫هذه الرسالة ‪ ،‬وضرورة هذا النفكاك عن الضللت التي كانت البشرية تائهة‬
‫في ظلماتها ‪ ،‬وضرورة الستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة ‪ ...‬حتى‬
‫طلع على ضخامة ذلك الركام ‪ ،‬وحتى يرتاد ذلك التيه ‪ ،‬من العقائد‬ ‫ي ّ‬
‫والتصورات ‪ ،‬والفلسفات والساطير ‪ ،‬والفكار والوهام ‪ ،‬والشعائر‬
‫والتقاليد ‪ ،‬والوضاع والحوال ‪ ،‬التي جاء السلم فوجدها ترين على الضمير‬
‫البشري في كل مكان ‪ ،‬حتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد التي‬
‫كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية التي دخلها التحريف والتأويل ‪،‬‬
‫والضافات البشرية إلى المصادر اللهية والتي التبست بالفلسفات والوثنيات‬
‫والساطير " ‪.‬‬

‫) ‪(1/197‬‬

‫ونكتفي بثلثة نماذج ‪ :‬واحد منها يمثل عقيدة دولة من الدول التي يعدها‬
‫الناس متمدنة في القديم ‪ .‬والثاني انحراف أهل ديانة سماوية عن الحق ‪.‬‬
‫والثالث الوثنية العربية قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫الّرب عند الرومان )‪(1‬‬
‫يعد الباحثون الرومان من المم المتحضرة في القديم ‪ ،‬فلننظر إلى عقيدة‬
‫ب الرباب عندهم ‪ ،‬وكانت‬ ‫ن )) جوبيتر (( هو ر ّ‬
‫هذه المة الضالة ‪ .‬يزعمون أ ّ‬
‫صورته عندهم أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الرباب المنزهين ‪،‬‬
‫فقد كان حقودا ً لدودا ً مشغول ً بشهوات الطعام والغرام ‪ ،‬ل يبالي من شؤون‬
‫الرباب والمخلوقات إل ما يعينه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه ‪،‬‬
‫وكان يغضب على )) أسقولب (( إله الطب ‪ ،‬لّنه يداوي المرضى ‪ ،‬فيحرمه‬
‫جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الرض إلى باطن‬
‫الهاوية ‪.‬‬
‫ويزعمون أنه كان يغضب على )) برومثيوس (( إله المعرفة والصناعة ‪ ،‬لّنه‬
‫يعّلم النسان أن يستخدم الّنار في الصناعة ‪ ،‬وأن يتخذ من المعرفة قوة‬
‫تضارع قوة الرباب ‪ ،‬وقد حكم عليه بالعقاب الدائم ‪ ،‬فلم يقنع بموته ول‬
‫بِإقصائه عن حظيرة اللهة ‪ ،‬بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له ‪ ،‬فقّيده‬
‫إلى جبل سحيق ‪ ،‬وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار ‪ ،‬حتى‬
‫ن الليل عادت سليمة في بدنه ‪ ،‬لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع‬ ‫إذا ج ّ‬
‫الشمس ‪ ، ...‬ول يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة‬
‫مرفوض الدعاء ‪.‬‬
‫ومما تخيله الشاعر الوثني الفيلسوف )) هزيود (( عن علة غضب الله على‬
‫))برومثيوس(( ‪ :‬أّنه قسم له نصيبه من الطعام في وليمة الرباب ‪ ،‬فأكثر فيه‬
‫من العظام ‪ ،‬وأقل فيه من اللحوم والشحوم ‪ ،‬فاعتقد )) جوبيتر (( أنه تعالى‬
‫عليه بمعرفته وحكمته وفطنته ‪ ،‬لنه اشتهر بين اللهة بمعرفة وافرة وفطنة‬
‫نافذة لم يشتهر بها الله الكبير ‪.‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫وقد اجتهد )هزيود( الشاعر الفيلسوف قصارى اجتهاده في تنزيه )) جوبيتر ((‬
‫وتصويره للناس في صورة القداسة والعظمة ‪ ،‬تناسب صورة الله المعبود‬
‫بعد ارتقاء العبادة شيئا ً ما في ديانة اليونان القدمين ‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن الباحثين الرومان يتحدثون عن )) جوبيتر (( أّنه كان يخادع‬
‫زوجته )) هيرة (( ويرسل إله الغمام لمدارة الشمس في مطلعها حذرا ً من‬
‫هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار ومفاجأته بين عشيقاته على عرش‬
‫)) الولمب (( ‪.‬‬
‫وحدث مرة أّنها فاجأته وهو يقبل ساقيه )) جانيميد (( راعي الضأن الجميل‬
‫الذي لمحه في الخلء ‪ ،‬فاختطفه ‪ ،‬وصعد به إلى السماء ‪ .... ،‬فلم يتنصل‬
‫)) جوبيتر (( من تهمة الشغف بساقيه ‪ ،‬ومضى يسوغ مسلكه لزوجته بما‬
‫جهلته من لذة الجمع بين رحيق الكأس ورحيق الشفاه ‪.‬‬
‫هذا نموذج للعقيدة الشركية الضالة صنعتها الخرافة والوهم ‪ ،‬فغدت‬
‫ن اللهة عند الرومان آلهة متعددة تتصارع وتتقاتل ‪ ،‬ويعذب بعضها‬ ‫أساطير ‪ .‬إ ّ‬
‫بعضا ً ‪ ،‬وهي كالبشر تأكل وتشرب ‪ ،‬وتتزوج ‪ ،‬ويخون الله زوجته ‪ ،‬ويلوط‬
‫ويبرر خطأه ‪ ،‬فكيف يكون أثر هذه العقيدة في نفوس معتنقيها ؟ وكيف‬
‫يكون أثرها في سلوكهم أفرادا ً ومجتمعات ؟ وأي قيم تقرها هذه العقيدة‬
‫الشركية الضالة المنحرفة ؟‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬حقائق السلم وأباطيل خصومه ‪.‬‬
‫الله عند اليهود )‪(1‬‬

‫) ‪(1/199‬‬

‫حفلت ديانة بني إسرائيل – اليهودية – بالتصورات الوثنية وباللوثة القومية‬


‫على السواء ‪ ،‬فبنو إسرائيل – وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهما‬
‫السلم – جاءتهم رسلهم ‪ ،‬وفي أولهم إسرائيل ‪ ،‬بالتوحيد الخالص الذي‬
‫علمهم إياه أبوهم إبراهيم ‪ ،‬ثم جاءهم نبيهم الكبر موسى عليه السلم بدعوة‬
‫التوحيد أيضا ً مع الشريعة الموسوية المبنية على أساسه ‪ ،‬ولكّنهم انحرفوا‬
‫على مدى الزمن ‪ ،‬وهبطوا في تصوراتهم إلى مستوى الوثنيات ‪ ،‬وأثبتوا في‬
‫صلب التوراة أساطير وتصورات عن الله – سبحانه‬ ‫كتبهم ) المقدسة ( وفي ُ‬
‫– ل ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للغريق وغيرهم من الوثنيين الذين لم‬
‫يتلقوا رسالة سماوية ‪ ،‬ول كان لهم من عند الله كتاب ‪.‬‬
‫ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أنزلها الله على إبراهيم عقيدة خالصة ناصعة‬
‫شاملة متكاملة ‪ ،‬واجه بها الوثنية مواجهة حاسمة كما صورها القرآن الكريم ‪،‬‬
‫ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه قبل أن يموت ‪ ) :‬واتل‬
‫عليهم نبأ إبراهيم – إذ قال لبيه وقومه ما تعبدون – قالوا نعبد أصناما ً فنظ ّ‬
‫ل‬
‫ضرون – قالوا‬ ‫لها عاكفين – قال هل يسمعونكم إذ تدعون – أو ينفعونكم أو ي ّ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ما كنتم تعبدون – أنتم َوآَباؤُك ُ‬
‫م‬ ‫بل وجدنا آَباءَنا كذلك يفعلون – قال أفََرأي ُْتم ّ‬
‫ب العالمين – الذي خلقني فهو يهدين – واّلذي‬ ‫القدمون – فإّنهم عدوّ لي إل ّ ر ّ‬
‫م يحيين –‬ ‫هو يطعمني ويسقين – وإذا مرضت فهو يشفين – واّلذي يميتني ث ّ‬
‫ب هب لي حكما ً وألحقني‬ ‫واّلذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين – ر ّ‬
‫ن ( ] الشعراء ‪. [ 84-69 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ق في اْل ِ‬
‫خ ِ‬ ‫صالحين – واجعل لي لسان صد ٍ‬ ‫بال ّ‬

‫) ‪(1/200‬‬

‫) ومن يرغب عن مّلة إبراهيم إل ّ من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا‬


‫ب‬‫صالحين – إذ قال له رّبه أسلم قال أسلمت لر ّ‬ ‫خَرةِ لمن ال ّ‬ ‫وإّنه في ال ِ‬
‫ن الله اصطفى لكم الدين‬ ‫يإ ّ‬ ‫صى بها إبراهيم ب َِنيهِ ويعقوب يا بن ّ‬ ‫العالمين – وو ّ‬
‫ن إل ّ وأنتم مسلمون – أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال‬ ‫فل تموت ُ ّ‬
‫َ‬
‫ل ِب َِنيهِ ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آَبائ ِك إبراهيم وإسماعيل‬
‫وإسحق إلها ً واحدا ً ونحن له مسلمون ( ]البقر‪. [133-130 :‬‬
‫ومن هذا التوحيد الخالص وهذه العقيدة الناصعة وهذا العتقاد في الخرة‬
‫انتكس الحفاد ‪ ،‬وظلوا في انتكاستهم حتى جاءهم موسى عليه السلم‬
‫بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد ‪ ،‬ولكنهم لم يستقيموا عليها ‪ ،‬بل انحرفوا‬
‫عنها ‪.‬‬
‫ولقد بدأ انحرافهم وموسى عليه السلم بين أظهرهم ‪ ،‬من ذلك عبادتهم‬
‫ي‬
‫للعجل الذي صنعه لهم السامري من الذهب الذي حملوه معهم من حل ّ‬
‫نساء المصريين ) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكّنا حملنا أوزارا ً من زينة‬
‫القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامريّ – فاخرج لهم عجل ً جسدا ً ّله خواٌر‬
‫فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي ( ] طه ‪. [88-87 :‬‬
‫ً‬
‫وقبل ذلك طلبوا من موسى – عليه السلم – أن يقيم لهم صنما يعبدونه ‪:‬‬
‫) وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم ٍ يعكفون على أصنام ٍ لهم قالوا‬
‫م تجهلون ( ] العراف ‪:‬‬ ‫ة قال إّنكم قو ٌ‬ ‫يا موسى اجعل لنا إلها ً كما لهم آل ِهَ ٌ‬
‫‪.[ 138‬‬
‫وحكى القرآن الكثير عن انحرافهم وسوء تصورهم لله – سبحانه – وشركهم‬
‫ووثنيتهم ‪ ،‬فنسبوا لله الولد ) وقالت اليهود عزيز ابن الله ( ] التوبة‪[ 30 :‬‬
‫ونعتوه – سبحانه – بالبخل والفقر ‪ ) :‬وقالت اليهود يد الله مغلولة غّلت‬
‫أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( ] المائدة ‪:‬‬
‫ن الله فقيٌر ونحن أغنياء سنكتب ما‬ ‫‪ّ ) ، [ 64‬لقد سمع الله قول الذين قالوا إ ّ‬
‫ق ( ] آل عمران ‪. [ 181 :‬‬ ‫قالوا وقتلهم النبياء بغير ح ٍ‬
‫) ‪(1/201‬‬

‫ن إلههم قومي ‪ ،‬ل يحاسبهم بقانون الخلق إل‬ ‫ومن لوثة القومية واعتقادهم أ ّ‬
‫في سلوك بعضهم مع بعض ‪ ،‬أما الغرباء ) غير اليهود ( فهو ل يحاسبهم على‬
‫سلوك معيب بهم ‪.‬‬
‫من إن تأمنه‬‫من هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم ‪ ) :‬ومنهم ّ‬
‫بدينارٍ ل يؤده إليك إل ّ ما دمت عليه قاِئما ً ذلك بأّنهم قالوا ليس علينا في‬
‫ل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ( ] آل عمران ‪، [ 75 :‬‬ ‫ميين سبي ٌ‬
‫ال ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافا للههم ل ترتفع كثيرا على أوصاف‬
‫الغريق في وثنيتهم للهتهم ‪.‬‬
‫جاء في الصحاح الثالث من سفر التكوين ‪ " :‬بعد ارتكاب آدم لخطيئة الكل‬
‫من الشجرة ) وهي كما يقول كاتب الصحاح شجرة معرفة الخير والشر (‬
‫وسمعا صوت الرب الله ماشيا ً في الجنة عند هبوب ريح النهار ‪ ،‬فاختبأ آدم‬
‫وامرأته من وجه الرب الله في وسط الجنة ‪ ،‬فنادى الرب الله آدم ‪ ،‬وقال‬
‫له ‪ :‬أين أنت ؟ فقال ‪ :‬سمعت صوتك في الجنة ‪ ،‬فخشيتك ‪ ،‬لني عريان ‪،‬‬
‫فاختبأت ‪ ،‬فقال ‪ :‬من أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي‬
‫أوصيتك أل تأكل منها ؟ ‪.‬‬
‫ً‬
‫وقال الرب الله ‪ :‬هوذا النسان صار كواحد منا عارفا الخير والشر ‪ ،‬والن‬
‫لعله يمد يده ‪ ،‬ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ً ‪ ،‬أو يأكل ويحيا إلى البد ‪،‬‬
‫ب الله من جنة عدن ‪ ،‬ليعمل في الرض التي أخذ منها ‪ ،‬فطرد‬ ‫فأخرجه الر ّ‬
‫النسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ‪ ،‬ولهيب سيف متقلب لحراسة‬
‫شجرة الحياة " ‪.‬‬
‫واضح ما في هذه النقول من وصف الله – سبحانه – بالجهل ‪ ،‬وأنه ل يدري‬
‫أين آدم حتى عّرفه هو ‪ ،‬وأنه كالبشر يتمشى كما يتمشى البشر ‪ ،‬وأن‬
‫السبب في إخراج آدم من الجنة ليس هو معصية آدم لربه كما وضحه القرآن‬
‫‪ ،‬وإنما هو خوف الله تعالى من أن يأكل النسان من شجرة الحياة فيكون‬
‫من الخالدين ! وأن الله لم ُيعّرف النسان الخير والشر ‪ ،‬وإنما علم ذلك‬
‫عندما أكل من الشجرة ‪ ،‬وكل ذلك كذب وافتراء على الله سبحانه وتعالى ‪.‬‬

‫) ‪(1/202‬‬

‫ويفهم من كلمهم أن حياة الله التي ل آخر لها إنما كانت بسبب أكله من‬
‫شجرة الحياة – سبحانه – عما يقولون ‪.‬‬
‫ل‬‫وكما نسبوا إلى الله – سبحانه – الجهل نسبوا إليه الحزن والندم على فِعْ ٍ‬
‫فَعََله ‪ ،‬فهم يذكرون أنه حزن على خلق النسان لما كثر شّره وفساده في‬
‫ب أن شّر النسان قد كثر في الرض ‪ ،‬وأن كل تصور‬ ‫عهد نوح ‪ " :‬ورأى الر ّ‬
‫ب أنه عمل النسان في‬ ‫أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم ‪ ،‬فحزن الر ّ‬
‫ب ‪ :‬أمحو عن وجه الرض النسان الذي‬ ‫الرض ‪ ،‬وتأسف في قلبه ‪ ،‬فقال الر ّ‬
‫خلقته ‪ .‬النسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء ‪ ،‬لني حزنت أني عملتهم ‪،‬‬
‫وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب ‪.‬‬
‫واستمع إلى هذه الخرافة التي وردت في الصحاح الحادي عشر من سفر‬
‫التكوين ‪ " :‬بعدما عمرت الرض بذرية نوح ‪ ،‬وكانت كّلها لسانا ً واحدا ً ولغة‬
‫واحدة ‪ ،‬وحدث في ارتحالهم شرقا ً أنهم وجدوا نعمة في أرض شنعار ‪،‬‬
‫وسكنوا هناك ‪ ،‬وقال بعضهم لبعض ‪ :‬هلم نصنع لبنا ً ونشويه شيا ً ‪ ،‬فكان لهم‬
‫اللبن مكان الحجر ‪ ،‬وكان لهم الحجر مكان الطين ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هلم نبني‬
‫لنفسنا مدينة وبرجا ً رأسه في السماء ونصنع اسما ً ‪ ،‬لئل نتبدد على وجه كل‬
‫الرض ‪.‬‬
‫فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كانوا بنو آدم يبنونهما ‪ ،‬وقال الرب ‪:‬‬
‫هوذا شعب واحد ‪ ،‬ولسان واحد لجميعهم ‪ ،‬وهذا ابتداؤهم بالعمل ‪ ،‬والن ل‬
‫يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه ‪ .‬هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم ‪ ،‬حتى‬
‫ل يسمع بعضهم لسان بعض ‪ ،‬فبددهم الرب من هناك على وجه كل الرض ‪،‬‬
‫فكفوا عن بنيان المدينة ‪ ،‬لذلك دعي اسمها بابل ‪ ،‬لن الرب هناك بلبل لسان‬
‫كل الرض ‪ ،‬ومن هناك بددهم الرب على وجه الرض " ‪.‬‬

‫) ‪(1/203‬‬

‫أي خرافة هذه التي تزّور الحقيقة ‪ ،‬وتكاد تمحو معالمها !‪ ،‬وأي إله هذا الذي‬
‫ترسمه هذه الخرافة ؟ هذا الله الذي يخاف البشر ‪ ،‬ويخاف تكتلهم‬
‫واجتماعهم ‪ ،‬فإذا به يحاربهم قبل أن تجتمع كلمتهم ‪ ،‬ويصلب عوُدهم ‪،‬‬
‫ويشتتهم في أقطار الرض بعد أن يبلبل ألسنتهم ‪.‬‬
‫ونسب اليهود إلى الله فعل الشر ‪ ،‬كما نسبوا إليه الندم على ما فعل ‪ ،‬ففي‬
‫ب وباء في‬ ‫سفر صموئيل الثاني ‪ ،‬الصحاح الرابع والعشرون ‪ " :‬فجاء الر ّ‬
‫إسرائيل من الصباح إلى الميعاد ‪ ،‬فمات من الشعب من دان إلى بئر السبع‬
‫سبعون ألف رجل ‪ ،‬وبسط الملك يده على أورشليم ليهلكها ‪ ،‬فندم الرب‬
‫على الشر ‪ .‬فقال للملك المهلك الشعب ‪ :‬كفى الن ‪ ،‬رويدك " ‪.‬‬
‫فإذا تركنا ما حكاه القرآن عن ضللة اليهود في وصفهم لربهم ‪ ،‬وما في‬
‫التوراة من تحريف وزيف ونظرنا في ) التلمود ( وهو الكتاب الذي سطره‬
‫علماء اليهود وحاخاماتهم ‪ ،‬وله من الهمية في نظرهم فوق ما للتوراة ‪ ،‬لو‬
‫نظرنا فيه لهالنا ذلك الضلل الذي وقع فيه اليهود ل في العقيدة فحسب ‪ ،‬بل‬
‫في شتى مناحي الشريعة ‪.‬‬
‫وسأكتفي بأن أنقل من كتاب )) الكنز المرصود في قواعد التلمود (( ما‬
‫يتعلق بالعزة اللهية ‪ ،‬فمن ذلك أن الله عندهم يحتاج إلى أن يقرأ ويتعلم ‪،‬‬
‫كما أنه يهزل ويلعب سبحانه وتعالى ‪ ،‬فقد ورد في تلمودهم )) أن النهار اثنتا‬
‫عشرة ساعة ‪ :‬في الثلثة الولى منها يجلس ويطالع الشريعة ‪ ،‬وفي الثلثة‬
‫الثانية يحكم ‪ ،‬وفي الثلثة الثالثة يطعم العالم ‪ ،‬وفي الثلثة الخيرة يجلس‬
‫ويلعب مع الحوت ملك السماك (( ‪.‬‬
‫واسمع ما هو أدهى وأعظم ‪ " :‬أنه ل شغل لله غير تعلمه التلمود مع الملئكة‬
‫" ‪ ،‬وليس الملئكة فقط ‪ ،‬بل مع ) أسمودية ( ملك الشياطين في مدرسة‬
‫السماء ‪.‬‬

‫) ‪(1/204‬‬

‫وما الحوت الذي يلعب معه الرب ؟ إنه حوت كبير جدا ً يمكن أن يدخل في‬
‫حلقه سمكة طولها ثلثمائة فرسخ بدون أن تضايقه ‪ ،‬وبما أن له هذا الحجم‬
‫فإن الله خاف إذا ما تناسل أن يهلك الدنيا ‪ ،‬ولذا فإنه رأى أن يحرمه زوجته ‪،‬‬
‫لنه لو لم يفعل ذلك لمتلت الدنيا وحوشا ً أهلكت من فيها ‪ ،‬ولذلك حبس‬
‫الله الذكر بقوته اللهية ‪ ،‬وقتل النثى وملحها وأعدها لطعام المؤمنين في‬
‫الفردوس ‪.‬‬
‫ويضيفون إلى هذه الخرافات التي أصبحت عقائد لهم أن ‪ " :‬الله لم يلعب مع‬
‫الحوت بعد هدم الهيكل ‪ ،‬ولم يمل بعدم هدم الهيكل إلى الرقص مع حواء‬
‫بعدما زينها بملبسها ‪ ،‬وعقص لها شعرها " ‪.‬‬
‫تبا ً لهم وُبعدا ً ‪ ،‬إنهم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ‪ ،‬قول المم الضالة‬
‫المشركة ‪ ،‬فإلههم حسب تصورهم ل يختلف عن البشر ‪ ،‬يفكر تفكيرهم ‪،‬‬
‫ويفعل ِفعلهم ‪ ،‬يلعب ‪ ،‬ويرقص ‪ ،‬ويحزن ‪ ،‬ويبكي ‪ ،‬على ماذا ؟ على هدم‬
‫هيكل اليهود الذي بناه لهم سليمان ‪.‬‬
‫هدم فيه‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬ ‫التاريخ‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫الله‬ ‫جعلوا‬ ‫والهيكل يرمز إلى مجد اليهود وقد‬
‫الهيكل إلى اليوم يبكي ثلثة أرباع الليل يزأر كالسد قائل ً ‪ " :‬تبا ً لي لني‬
‫صّرحت بخراب بيتي وإحراق الهيكل ونهب أولدي " ‪.‬‬
‫بل يغالون في التحريف والتدجيل ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬إن الله تضاءلت ذاته – سبحانه‬
‫وتعالى – عما يقولون علوا ً عظيما ً – بسبب حزنه على خراب الهيكل " وشغل‬
‫الله مساحة أربع سماوات بعد أن كان ملء السماوات والرض في جميع‬
‫الزمان " ‪.‬‬
‫جده عباده –‬ ‫ويصفون العلي المجيد بأنه يحقر نفسه – سبحانه – عندما يم ّ‬
‫ويقصدون بهم اليهود طبعا ً – " ولما يسمع الباري – تعالى – تمجيد الناس له ‪،‬‬
‫يطرق رأسه ويقول ‪ :‬ما أسعد الملك الذي يمدح ويبجل مع استحقاقه لذلك ‪،‬‬
‫ولكن ل يستحق شيئا ً من المدح الب الذي يترك أولده في الشقاء " ‪.‬‬
‫قاتلهم الله أّنى يؤفكون ‪.‬‬

‫) ‪(1/205‬‬

‫دس عما يقولون – أنه يلطم ويبكي ‪،‬‬ ‫ب العزة – ج ّ‬


‫ل وتق ّ‬ ‫ومما افتروه على ر ّ‬
‫ل بهم ‪ " .‬يتندم الله على‬ ‫وتتساقط دموعه ‪ ،‬كل ذلك على شقاء اليهود وما ح ّ‬
‫تركه اليهود في حالة التعاسة ‪ ،‬حتى إذا يلطم ويبكي كل يوم ‪ ،‬فتسقط من‬
‫عينه دمعتان في البحر ‪ ،‬فيسمع دويهما من بدء العالم إلى أقصاه ‪،‬‬
‫وتضطرب المياه ‪ ،‬وترتجف الرض في أغلب الحيان ‪ ،‬فتحصل الزلزل " ‪.‬‬
‫وينسبون إليه الخطأ والعتراف بالذنب ‪ ،‬والتكفير عن الذنب ‪ ،‬فيزعمون كذبا ً‬
‫وزورا ً أن القمر خطأ الله سبحانه ‪ ،‬وقال للرب – سبحانه – عما يقولون ‪" :‬‬
‫أخطأت حيث خلقتني أصغر من الشمس ‪ ،‬فأذعن الله لذلك ‪ ،‬واعترف‬
‫بخطئه ‪ ،‬وقال ‪ :‬اذبحوا لي ذبيحة أكفر بها عن ذنبي ‪ ،‬لني خلقت القمر أصغر‬
‫فر ‪ ،‬وترى لمن يكفر‬ ‫من الشمس " ول أدري كيف ساغ أن يزعموا أن الله يك ّ‬
‫؟!‬
‫إن العقول التي تفتري هذا الفتراء سخيفة سخافة كبيرة ‪ ،‬وإن العقول التي‬
‫تؤمن بهذه السخافة وتصدقها ل تقل عنها سخافة ‪ ،‬والحمد لله الذي هدانا‬
‫للحق والنور المبين ‪.‬‬
‫ومن جملة سخافاتهم التي هي عقائد عندهم " أن الله يستولي عليه‬
‫الطيش ‪ ،‬كما حصل ذلك منه يوم غضب على بني إسرائيل ‪ ،‬وحلف بحرمانهم‬
‫من الحياة البدية ‪ ،‬ولكنه ندم على ذلك بعد ذهاب الطيش منه ‪ ،‬ولم ينفذ‬
‫ل ضد العدالة " ‪.‬‬‫ذلك اليمين لنه فَعَ َ‬
‫فر ‪ ،‬بل‬ ‫ً‬
‫ولم يقف المر عند كونه يحلف ‪ ،‬ويحلف جهل ً وطيشا ‪ ،‬ويظلم ويك ّ‬
‫زعموا أنه يحتاج إلى التكفير عن يمينه ‪ ،‬فقد جاء في تلمودهم " إن الله إذا‬
‫حلف يمينا ً غير قانونية احتاج إلى من يحلله من يمينه ‪ ،‬وقد سمع أحد العقلء‬
‫من السرائيليين أن الله تعالى يقول ‪ :‬من يحللني من اليمين التي أقسمت‬
‫بها ؟ ولما علم باقي الحاخامات أنه لم يحلله منها اعتبروه حمارا ً ‪ ،‬لنه لم‬
‫يحلل الله من يمينه ‪ ،‬ولذلك نصبوا ملكا ً بين السماء والرض اسمه )مي(‬
‫لتحليل الله من أيمانه ونذوره عند اللزوم " ‪(2) .‬‬
‫) ‪(1/206‬‬

‫هذه نماذج من العقيدة اليهودية المحرفة المزيفة التي تشكل قاعدة دينهم ‪،‬‬
‫وهي ل تقل في انحطاطها عن أساطير الغريق والوثنيين في آلهتهم ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬خصائص التصور السلمي ‪ ،‬لسيد قطب بتصرف يسير ‪ ...‬ص ‪. 11‬‬
‫)‪ (2‬هذا قليل من كثير مما سطرته أيدي اليهود في ) تلمودهم ( ‪.‬‬
‫انحراف العرب عن التوحيد‬
‫كان العرب على دين التوحيد دين أبيهم إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬واستمروا على‬
‫ذلك إلى ما قبل البعثة بأربعمائة سنة حيث ظهر فيهم رئيس مسموع الكلمة‬
‫مطاع ل يخاَلف ‪ ،‬فغير دينهم ‪ ،‬ذلك هو عمرو بن عامر الخزاعي ‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫ه في النار ‪ ،‬كان أول من سيب‬ ‫) رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُ ْ‬
‫صب َ ُ‬
‫ً‬
‫السوائب ( )‪ ، (1‬وفي صحيح البخاري أيضا عن عائشة عن النبي صلى الله‬
‫ه‪،‬‬ ‫عليه وسلم قال ‪ ) :‬رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ً ‪ ،‬ورأيت عمرا ً يجر قُ ْ‬
‫صب َ ُ‬
‫وهو أول من سيب السوائب ( ‪(2) .‬‬
‫فعمرو هذا غّير دين العرب بدعوتهم لعبادة الصنام ‪ ،‬وباستحداث بدع في‬
‫ل فيها وحّرم بهواه ‪ ،‬ومن ذلك ما ذكره الله في كتابه ‪:‬‬ ‫دين الله تعالى ‪ ،‬أح ّ‬
‫ّ‬
‫ن الذين كفروا‬ ‫) ما جعل الله من بحيرةٍ ول ساِئبةٍ ول وصيلةٍ ول حام ٍ ولك ّ‬
‫يفترون على الله الكذب وأكثرهم ل يعقلون ( ] المائدة ‪(3) . [ 103 :‬‬
‫وتختلف الروايات في الكيفية التي نشر عمرو بها الصنام في الجزيرة‬
‫ي من الجن هو الذي دله على الصنام‬ ‫ن عمرا ً كان له رئ ٌ‬
‫العربية ‪ ،‬فمن قائل إ ّ‬
‫التي كانت مدفونة منذ عهد نوح ‪ ،‬وكان قوم نوح يعبدونها ‪ ،‬فاستخرجها عمرو‬
‫‪ ،‬ووزعها في العرب ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه جاء بالصنام من بلد الشام ‪ ،‬عندما رآهم‬
‫يعبدونها ‪ ،‬فطلب منهم صنما ً ‪ ،‬فأعطوه واحدا ً نصبه بمكة )‪. (4‬‬

‫) ‪(1/207‬‬

‫والسبب في أن العرب تابعت عمرو بن لحي أنه كان ذا مكانة فيهم ‪ ،‬فقد‬
‫كان سيد خزاعة في حال غلبتها على مكة وعلى البيت بعد أن نفت قبيلة‬
‫جرهم من مكة ‪ ،‬وكانت العرب قد جعلته ربا ً ‪ ،‬ل يبتدع بدعة إل اتخذوها‬
‫شرعة ‪ ،‬لنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم ‪ ،‬فربما نحر في‬
‫الموسم عشرة آلف بدنة ‪ ،‬وكسا عشرة آلف حلة ‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬إن عمرا ً هذا هو الذي دعا الناس إلى عبادة اللت ‪ ،‬وكان رجل يلت‬
‫ً‬
‫السويق للحاج بالطائف على صخرة هناك ‪ ،‬فلما مات زعم عمرو بن لحي أنه‬
‫لم يمت ‪ ،‬وأنه دخل في الصخرة التي يلت عليها ‪ ،‬وأمرهم بعبادتها ‪.‬‬
‫ومما يذكر عنه أيضا ً أنه هو الذي غير التلبية التي كانت تعلن التوحيد لله‬
‫وحده ‪ ،‬فقد كانت التلبية من عهد إبراهيم عليه السلم ) لبيك اللهم لبيك‪،‬‬
‫لبيك ل شريك لك لبيك ( واستمر الحال حتى كان عمرو بن عامر ‪ ،‬فبينما هو‬
‫يطوف بالكعبة يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫) لبيك ل شريك لك ( ‪ ،‬فقال الشيخ ‪ :‬إل شريكا ً هو لك ‪ ،‬فأنكر هذا عمرو ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬ما هذا ؟ فقال الشيخ ‪ :‬قل تملكه وما ملك ‪ ،‬فإنه ل بأس بهذا ‪ ،‬فقالها‬
‫عمرو ‪ ،‬فدانت بها العرب ‪.‬‬
‫بداية النحراف ‪:‬‬
‫ويذكر لنا ابن إسحاق كيف كانت بداية النحراف عند العرب من نسل‬
‫إسماعيل عليه السلم في عبادتهم الحجار ‪ ،‬فقد كان )) أول أمرهم أنهم‬
‫كانوا يعظمون الحرم ‪ ،‬فل يرتحلون منه حتى كثروا وضاق بهم ‪ ،‬فأخذوا‬
‫يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلد ‪ ،‬فكان ل يظعن ظاعن منهم‬
‫عن الحرم إلى غيره إل حمل معه حجرا ً من حجارة الحرم تعظيما ً له ‪ ،‬فحيث‬
‫ما نزلوا وضعوه ‪ ،‬فطافوا به كطوافهم بالكعبة ‪ ،‬ثم أدى بهم ذلك إلى عبادة‬
‫هذه الحجار ‪ ،‬ثم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة (( )‪. (5‬‬

‫) ‪(1/208‬‬

‫وانظر إلى ما صار إليه أمرهم وحالهم ‪ :‬عن أبي رجاء العطاردي قال ‪ " :‬كنا‬
‫نعبد الحجر في الجاهلية ‪ ،‬فإذا وجدنا حجرا ً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ‪،‬‬
‫فإذا لم نجد حجرا ً جمعنا حثية من تراب ‪ ،‬ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا‬
‫به " ‪.‬‬
‫ومن عجائب أمر الجاهلية أن الرجل منهم كان إذا سافر حمل معه أربعة‬
‫أحجار ‪ ،‬ثلثة لقدره والرابع يعبده ‪.‬‬
‫أصنام العرب ‪:‬‬
‫واتخذوا الصنام والوثان ‪ ،‬قال هشام بن محمد السائب الكلبي ‪ " :‬وكان من‬
‫أقدم أصنامهم )مناة( ‪ ،‬وكان منصوبا ً على ساحل البحر الحمر من ناحية‬
‫)المشلل( بقديد بين مكة والمدينة ‪ ،‬وكانت العرب جميعا ً تعظمه ‪ ،‬وكانت‬
‫الوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه‬
‫ويذبحون له ‪ ،‬ويهدون له ‪ ،‬ولم يكن أحد أشد إعظاما ً له من الوس‬
‫والخزرج ‪ ،‬وبلغ من تعظيم الوس ومن جاورهم من عرب يثرب له أنهم كانوا‬
‫يحجون ‪ ،‬فيقفون مع الناس المواقف كلها ‪ ،‬ول يحلقون رؤوسهم ‪ ،‬فإذا نفروا‬
‫أتوه فحلقوا عنده رؤوسهم ‪ ،‬وأقاموا عنده ل يرون لحجمهم تماما ً إل بذلك ‪.‬‬
‫وكانت )مناة( لهذيل وخزاعة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ً‬
‫عام الفتح فهدمها ‪ ،‬ثم اتخذوا )اللت( بالطائف وهي أحدث من مناة ‪ ،‬وكانت‬
‫صخرة مربعة ‪ ،‬وكانت سدنتها من ثقيف ‪ ،‬وكانوا قد بنوا عليها ‪ ،‬وكانت‬
‫قريش وجميع العرب يعظمونها ‪ ،‬وبها كانت تسمى زيد اللت ‪ ،‬وتيم اللت ‪،‬‬
‫وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم ‪ ،‬فم تزل كذلك حتى‬
‫بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة ابن شعبة ‪ ،‬وأبا سفيان بن‬
‫حرب لما أسلمت ثقيف ‪ ،‬فهدماها وحرقاها بالنار ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غير أن ابن جرير يروي في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى ‪ ) :‬أفََرأي ْت ُ ُ‬
‫م‬
‫اّللت والعُّزى ( ] النجم ‪ [ 19 :‬قال ‪ :‬كان اللت يلت السويق للحاج ‪ ،‬فمات‬
‫ت‬‫فعكفوا على قبره ‪ ،‬وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس ‪ :‬كان يل ّ‬
‫السويق للحاج ‪ .‬رواه البخاري بنحوه ‪.‬‬

‫) ‪(1/209‬‬
‫ثم اتخذوا )العزى( وهي أحدث من اللت ‪ ،‬اتخذها ظالم بن سعد بوادي نخلة‬
‫فوق ذات عرق ‪ ،‬وبنوا عليها بيتا ً ‪ ،‬فكانوا يسمعون منها الصوت ‪ ،‬قال الكلبي‬
‫فيما يرويه عن ابن عباس قال ‪ :‬كانت للعزى شيطانة تأتي ثلث سمرات‬
‫ببطن نخلة ‪.‬‬
‫فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال ‪:‬‬
‫ائت بطن نخلة ‪ ،‬فإنك ستجد ثلث سمرات ‪ ،‬فاعضد الولى ‪ ،‬فأتاها‬
‫فعضدها ‪ ،‬فلما جاء إليه قال ‪ :‬هل رأيت شيئا ً ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬فاعضد‬
‫الثانية ‪ ،‬فعضدها ‪ ،‬ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال ‪ :‬هل رأيت شيئا ً ؟‬
‫قال ل ‪ ،‬قال ‪ :‬فاعضد الثالثة ‪ ،‬فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة‬
‫يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها ‪ ،‬فقال خالد ‪:‬‬
‫كفرانك ل سبحانك ‪ ،‬إني رأيت الله قد أهانك ‪.‬‬
‫ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة ‪ ،‬ثم عضد الشجرة ‪ ،‬وقتل السادن ‪،‬‬
‫ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ‪ ،‬فقال ‪ ) :‬تلك العزى ‪ ،‬ول عزى‬
‫بعدها للعرب ( ‪ .‬وكانت العزى لهل مكة في موضع قريب من عرفات ‪،‬‬
‫وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون ‪.‬‬
‫وقال الكلبي في كتابه ) الصنام ( ‪ " :‬وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة‬
‫وحولها ‪ ،‬وأعظمها عندهم )هبل( ‪ ،‬وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على‬
‫صورة النسان ‪ ،‬وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرا ً أتوه ‪،‬‬
‫فاستقسموا عنده بالقداح ‪.‬‬
‫ومن أصنامهم إساف ونائلة ‪ ،‬ويروي بعض الرواة أن رجل ً وامرأة زنيا في‬
‫البيت الحرام ‪ ،‬فمسخهما الله حجرين ‪ ،‬ووضعتهما قريش عند الكعبة ليتعظ‬
‫بهما الناس ‪ ،‬فلما طال مكثهما وعبدت الصنام عبدا معها ‪.‬‬

‫) ‪(1/210‬‬

‫ولما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين‬
‫صنما ً ‪ ،‬فجعل يطعن بقوسه في وجوهها وعيونها ويقول ‪ ) :‬جاء الحقّ وزهق‬
‫ن الباطل كان زهوقا ً ( ] السراء ‪ ) ، [ 81 :‬جاء الحقّ وما ُيبد ُ‬
‫ئ‬ ‫الباطل إ ّ‬
‫الباطل وما ُيعيد ( ] سبأ‪ [49:‬وهي تتساقط على رؤوسها ‪ ،‬ثم أمر بها‬
‫فأخرجت من المسجد وحرقت ‪ .‬أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود‬
‫بنحوه ولم يذكرا " وهي تتساقط ‪ ...‬إلخ " وعندهما يطعنها بعود كان في‬
‫يده ‪.‬‬
‫وقد انتشرت عبادة الصنام حتى إنه كان لكل دار في مكة صنم يعبده أهلها ‪،‬‬
‫فإذا أراد أحدهم السفر فكان أول ما يصنع في منزله أن يتمسح به ‪ ،‬وإذا‬
‫قدم من سفر كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به ‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق الكلبي ‪ " :‬وكان ) ذو الخلصة ( لدوس وخثعم وبجيلة ومن‬
‫مْروَة ً بيضاء منقوشا ً عليها كهيئة التاج ‪ ،‬وكان‬‫كان ببلدهم من العرب ‪ ،‬وكان َ‬
‫له بيت ‪ ،‬فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي ‪):‬‬
‫أل تكفيني ذا الخلصة؟ ( فسار إليه بأحمس ‪ ،‬فقاتلته خثعم وباهلة ‪ ،‬فظفر‬
‫بهم ‪ ،‬وهدم بيت ذي الخلصة وأضرم فيه النار " ‪.‬‬
‫وفي البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال ‪ :‬قال لي رسول الله صلى‬
‫ة ( ‪ ،‬وكان بيتا ً في خثعم يسمى‬ ‫ص َ‬
‫خل َ‬
‫الله عليه وسلم ) أل تريحني من ذي ال َ‬
‫الكعبة اليمانية ‪ ،‬فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس إلى ذي‬
‫الخلصة ‪ ،‬وكانوا أصحاب خيل ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬إني ل أثبت على‬
‫الخيل ‪ ،‬فضرب بيده في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال ‪:‬‬
‫) اللهم ثبته واجعله هاديا ً مهديا ً ( ‪ ،‬فانطلق إليها فكسرها ‪.‬‬
‫والصنام التي كانت منتشرة في الجاهلية أكثر من هذا الذي ذكرناه ‪.‬‬
‫ظلمة دامسة عند البعثة ‪:‬‬

‫) ‪(1/211‬‬

‫ولم يكن قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من بقايا النور السماوي‬
‫الذي جاءت به النبياء إل أضواء خافتة ل تكفي للهداية والستقامة على‬
‫المنهج الرباني ‪ ،‬لضياع ذلك المنهج واختلطه بذلك الباطل الكثير ‪ ،‬وفي‬
‫الحديث ‪ ) :‬إن الله نظر – قبيل البعثة – إلى أهل الرض ‪ ،‬فمقتهم عربهم‬
‫وعجمهم ‪ ،‬إل بقايا من أهل الكتاب ( ‪.‬‬
‫وقد حفظت لنا النصوص التاريخية أن أربعة من عقلء قريش اعتزلوا قومهم‬
‫في أحد أعياد قريش عند وثن من الوثان ‪ ،‬وهم ورقة بن نوفل ‪ ،‬وعبيد الله‬
‫بن جحش ‪ ،‬وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى ‪ ،‬وزيد بن عمرو بن‬
‫نفيل ‪.‬‬
‫فقال بعضهم لبعض ‪ :‬تعلمون والله ما قومكم على شيء ‪ ،‬ولقد أخطؤوا دين‬
‫أبيهم إبراهيم ‪ ،‬ما حجر نطيف به ‪ ،‬ل يسمع ول يبصر ‪ ،‬ول يضر ول ينفع ؟ يا‬
‫قوم التمسوا لنفسكم دينا ‪ ،‬فإنكم – والله – ما أنتم على شيء ‪ ،‬فتفرقوا‬
‫في البلدان يلتمسون دين إبراهيم ‪.‬‬
‫فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية ‪ ،‬واتبع الكتب من أهلها ‪ ،‬حتى‬
‫علم علما ً من أهل الكتاب ‪.‬‬
‫وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من اللتباس حتى أسلم ‪ ،‬ثم‬
‫هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان‬
‫مسلمة ‪ ،‬فلما قدمها تنصر ‪ ،‬وترك السلم حتى هلك نصرانيا ً ‪.‬‬
‫وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر ‪ ،‬وحسنت‬
‫منزلته عنده ‪.‬‬
‫وأما زيد فوقف ‪ ،‬فلم يدخل في يهودية ول نصرانية ‪ ،‬وفارق قومه ‪ ،‬فاعتزل‬
‫الوثان ‪ ،‬واجتنب الميتة والدم والذبائح التي تذبح على الوثان ‪ ،‬ونهى عن‬
‫قتل الموءودة ‪ ،‬وقال أعبد رب إبراهيم ‪ ،‬وبدأ قومه بعيب ما هم عليه ‪.‬‬

‫) ‪(1/212‬‬

‫وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ‪ )) :‬أن النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح ) واد غربي‬
‫مكة ( قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ‪ ،‬فقدمت إلى‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم سفرة ‪ ،‬فأبى أن يأكل منها ‪ ،‬ثم قال زيد ‪ :‬إني‬
‫لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ‪ ،‬ول آكل إل ما ذكر اسم الله عليه ‪،‬‬
‫وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ‪ ،‬ويقول ‪ :‬الشاة خلقها الله‬
‫‪ ،‬وأنزل لها من السماء ماء ‪ ،‬وأنبت لها من الرض ‪ ،‬ثم تذبحونها على غير‬
‫اسم الله ؟ إنكارا ً لذلك وإعظاما ً له (( )‪. (6‬‬
‫قال موسى بن عقبة حدثني سالم بن عبد الله – ول أعلمه يحدث به إل عن‬
‫ابن عمر – )) إن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين‬
‫ويتبعه ‪ ،‬فلقي عالما ً من اليهود ‪ ،‬فسأله عن دينهم فقال ‪ :‬إني لعلي أن أدين‬
‫دينكم ‪ ،‬فأخبرني ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب‬
‫الله ‪ ،‬قال زيد ‪ :‬ما أفر إل من غضب الله ‪ ،‬ول أحمل من غضب الله شيئا ً أبدا ً‬
‫‪ ،‬وأنى أستطيعه ! فهل تدلني على غيره ؟ قال ‪ :‬ما أعلمه إل أن يكون‬
‫حنيفا ً ‪ ،‬قال زيد ‪ :‬وما الحنيف ؟ قال ‪ :‬دين إبراهيم ‪ ،‬لم يكن يهوديا ً ول‬
‫نصرانيا ً ‪ ،‬ول يعبد إل الله ‪.‬‬
‫فخرج زيد فلقي عالما ً من النصارى ‪ ،‬فذكر مثله ‪ .‬فقال ‪ :‬لن تكون على ديننا‬
‫حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله ‪ .‬قال ‪ :‬ما أفر إل من لعنة الله ‪ ،‬ول أحمل‬
‫من لعنة الله ول غضبه شيئا ً ‪ ،‬وأنى أستطيع ‪ ،‬هل تدلني على غيره ؟ قال ‪:‬‬
‫ما أعلمه إل أن يكون حنيفا ً ‪ .‬قال ‪ :‬وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم ‪ ،‬لم يكون‬
‫يهوديا ً ول نصرانيا ً ‪.‬‬
‫فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلم خرج ‪ ،‬فلما برز رفع يديه ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم (( )‪. (7‬‬

‫) ‪(1/213‬‬

‫ي هشام بن عروة ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬عن أسماء بنت أبي‬ ‫قال ‪ :‬وقال الليث ‪ :‬كتب إل ّ‬
‫بكر رضي الله عنها قالت ‪ )) :‬رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما ً مسندا ً‬
‫ظهره إلى الكعبة يقول ‪ :‬يا معشر قريش ‪ ،‬والله ما منكم على دين إبراهيم‬
‫غيري ‪ .‬وكان يحي الموءودة ‪ .‬ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته ‪ :‬ل‬
‫تقتلها ‪ ،‬أنا أكفيك مؤونتها ‪ ،‬فيأخذها ‪ ،‬فإذا ترعرعت قال لبيها ‪ :‬إن شئت‬
‫دفعتها إليك ‪ ،‬وإن شئت كفيتك مؤونتها (( )‪. (8‬‬
‫ولقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن زيد هذا فقال ‪ُ ) :‬يحشر ذاك‬
‫أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم ( قال ابن كثير إسناده جيد حسن ‪.‬‬
‫وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ‪ ) :‬دخلت الجنة فرأيت‬
‫لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين ( قال ابن كثير ‪ :‬وهذا إسناد جيد ‪.‬‬
‫وبعد هذه الظلمة الشديدة أذن الله ببزوغ فجر السلم ‪ ،‬فاستنار الناس‬
‫بنوره ‪ ،‬واهتدوا بهديه فله الحمد والمنة ‪.‬‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬رواه البخاري ‪ . 8/283 :‬ورقمه ‪. 4623 :‬‬
‫)‪ (2‬رواه البخاري في صحيحه ‪ . 8/283 :‬ورقمه ‪. 4624 :‬‬
‫)‪ (3‬البحيرة ‪ :‬الناقة تبحر أذنها ‪ ،‬أي تشق ثم ترسل ‪ ،‬وتكون هذه علمة‬
‫تعرفها العرب ‪ ،‬فل يركبها أحد ول يحملون عليها ‪ ،‬يفعلون بها ذلك إذا ولدت‬
‫خمس بطون آخرها ذكر ‪ .‬والسائبة ‪ :‬أن ينذر الرجل إذا حدث أمر ما يحبه أن‬
‫يسيب ناقة وتجعل كالبحيرة في عدم النتفاع بها ‪ .‬والوصيلة ‪:‬كانت العرب إذا‬
‫ولدت الناقة أنثى لهم ‪ ،‬وإذا ولدت ذكرا ً للهتهم ‪ ،‬وإذا ولدتهما قالوا ‪ :‬وصلت‬
‫أخاها فيحرم ذبح الذكر ‪ .‬والحام ‪ :‬الفحل يحمل من ظهره عشرة أبطن ‪،‬‬
‫فيحرم ذبحه وظهره ‪ ،‬ول يمنع من مرعى ول ماء ‪ .‬وهم إنما يفعلون هذا‬
‫بالنعام تقربا ً بذلك إلى طواغيتهم ‪.‬‬
‫)‪ (4‬راجع ‪ :‬السيرة النبوية ‪ ،‬لبن هشام ‪. 1/121 :‬‬
‫)‪ (5‬السيرة ‪ ،‬لبن هشام ‪. 1/122 :‬‬
‫)‪ (6‬رواه البخاري ‪ ، 7/142 :‬ورقمه ‪. 3826 :‬‬
‫)‪ (7‬رواه البخاري ‪ . 7/142 :‬ورقمه ‪. 3827 :‬‬

‫) ‪(1/214‬‬

‫)‪ (8‬رواه البخاري ‪ . 7/143 :‬ورقمه ‪. 3828 :‬‬

‫) ‪(1/215‬‬

You might also like