You are on page 1of 71

‫القراءة التحليلية‬

‫حين نتبصممر الحركممة الكونيممة مممن خلل القممرآن ‪ ،‬ويصممعب المممدخل ‪،‬‬
‫فمشارعه متعددة ومحيطه ل سمماحل لممه‪ .‬إذ يممتراوح البصممر ممما بيممن اتخمماذ‬
‫سبيل قرآني إلى وعي موضوعات محددة ‪ ،‬تطممرح مجممزأة ضمممن محيطهمما‬
‫الكلي ‪ ،‬كموضوع القرآن وعلم المعرفة ‪ ،‬أو موضوع القممرآن وعلممم حركممة‬
‫التاريخ أو موضوع القرآن والحافز الحضاري ‪ ،‬أو موضوع القممرآن والمناهممج‬
‫الفلسفية للعلوم الطبيعية ‪ ،‬أو موضوع القممرآن ومراحممل المعرفممة النوعيممة‬
‫عنممد النبيمماء ‪ ،‬وهممي معرفممة توحيديممة تتخممذ أنماطما ً مختلفممة تبعما ً لتشممكلها‬
‫التاريخي ‪ ،‬أي مرحلتها التاريخية ‪ ،‬أو موضوع القرآن وعلم المسممتقبل كممما‬
‫يعطيه القرآن نفسه ‪ ،‬أو موضوع منهج القرآن في المعرفة‪ .‬وقد سبق لممي‬
‫أن طرحت معالم أولية لهذا الموضوع في دراستي لجدلية الغيب والنسان‬
‫والطبيعة في كتاب )العالمية السلمية الثانية(‪.‬‬
‫الحكمة القرآنية والمعرفة التفصيلية‪:‬‬
‫رأيت أن استيعاب هذه المواضيع وغيرها عبر القممرآن ‪ ،‬وبدقممة عمليممة‬
‫تحليلية ‪ ،‬سيقود في مجمل الطرح إلى اكتشاف الكيفية التي نسممتفتي بهمما‬
‫القرآن في حالت الحياة وقضاياها في الماضي والحاضممر والمسممتقبل‪ .‬أي‬
‫أن نصل إلى قواعد وقوانين الفتاء بالقرآن كما يوضحها لنا القرآن نفسه ‪،‬‬
‫عمبر منهجمه همو المحمدد للغايمة ‪ ،‬أسملوب اسممتمداد الرؤيممة القرآنيمة لكممل‬
‫ظواهر الحركة الكونية بخصائصها المتنوعة وأشكالها المختلفة‪.‬‬
‫إذن كنت أريد طرح الموضوعات المحددة على القممرآن كيفممما فصممل‬
‫الواقع المعاصر والنشاط الذهني هذه الموضوعات ‪ ،‬فيصبح علي في هممذه‬
‫الحالة أن أطرح عنوان الموضوع ثم أمر به على سور القرآن مممن فاتحتهمما‬
‫إلى ختامها محاول ً اسممتجلء المنظممور القرآنممي لهما غيممر أن هممذه المحاولممة‬
‫اعترضتها صعاب من ناحيتين‪:‬‬
‫الناحية الولى‪:‬‬
‫ً‬
‫وهممي طبيعممة تركيممب القممرآن نفسممه ‪ ،‬فممالقرآن ليممس مركبمما علممى‬
‫موضوعات يمكن أن نجليها من موضموع واحمد أو ممن مقطمع فمي سمورة‪.‬‬
‫وإن أخذ البعض بهذا السلوب حيممن يكتممب مثل ً حممول )تعممدد الزوجممات( أن‬
‫القممرآن يقممول فممي آيممة كممذا ممما نصممه ‪ ،‬ويسترسممل فممي فممرز النصمموص‬
‫والستدلل بها ليدرس في إطارها موضوعه‪ .‬أقول‪ :‬إن البعممض قممد اتخممذ‬
‫هذا السلوب وهو أسلوب يكاد يأخذ به الجميع حين البحث في القرآن عممن‬
‫موضوع معين ‪ ،‬ثم يضيفون إلى ذلك ثوابت الحديث النبمموي المسممندة إلممى‬
‫مراجممع محققممة ‪ ،‬ويزيممدون عليهمما إجماعمما ً وقياسمما ً ورأيمما ً لممه شممروطه‬
‫الموضوعية والنقدية‪ .‬وقد أثرى هذا السلوب حياتنا الفقهية والفكريممة إلممى‬
‫حد بعيد ‪ ،‬باعتباره السلوب المثل لطريقة البحث في حدود منهج المعرفة‬
‫ومفهوميته المتوافرة تاريخيا ً لولئك المجتهدين والباحثين‪.‬‬
‫الناحية الثانية‪:‬‬
‫وهي الطبيعة الكلية للتركيب القرآني ‪ ،‬فكليته هذه التي تعني وحممدته‬
‫من فاتحته وإلى خاتمته ‪ ،‬تعطى في حال استجلئها الكلي ما هو أكممبر مممن‬
‫التفاصيل وما هممو أكممبر مممن الموضمموعات المحممددة ‪ ،‬إنهمما تعطممي )المنهممج‬

‫‪1‬‬
‫المعرفي( المهيمن برؤيته الكلية والساسية على الموضمموعات التفصمميلية‪.‬‬
‫فكل الموضوعات المحددة التي تستصفي دللتهمما مممن النصمموص القرآنيممة‬
‫في مقاطع السور المفصلة ‪ ،‬غالبا ً ما نجد أساس الحكمممة منهمما فممي سممور‬
‫قرآنية أخرى ‪ ،‬تبدو ظاهريا ً أل علقة لها بموضوعنا التفصيلي المحدد‪.‬‬
‫إذن فممالدراك – فممي حممدود الممكممن – للقممرآن فممي كليتممه ووحممدته‬
‫والنسياب في مكنونه ‪ ،‬هو السمماس فممي فهممم أي جممزء مممن خلل الكممل ‪،‬‬
‫وفي فهم كل تفصمميل مممن خلل الجمممع‪ .‬هممذا الدراك الكلممي – فممي حممدود‬
‫الممكممن النسممبي – للقممرآن فممي وحممدته يسمممى )الحكمممة( ‪ ،‬وهممي حكمممة‬
‫تستقطب التفاصيل وتشدها إليها وتسبغ عليها معناها )الحقيقي(‪.‬‬
‫إن الحكمة ليسن نفيا ً للمعرفة التفصيلية ول نقيضا ً لها ‪ ،‬إنهمما اسممتلب‬
‫إيجممابي لهمما ‪ ،‬وهيمنممة عليهمما بممما يسممتمد مممن القممرآن فممي وحممدته وكليتممه‬
‫وشموله‪ .‬التفاصيل أحيانا ً كالشممجرة الممتي تحجممب الغابممة وممما وراءهمما عممن‬
‫النسان ‪ ،‬صحيح أن الغابة من طبيعة الشجرة ‪ ،‬غير أن رؤية الغابة بممالعين‬
‫الناظرة تؤدي إلى إبصممار )الكلممي( فممي علقمماته وتكمموينه وأفقممه واتسمماعه‬
‫وامتداداته ‪ ،‬مما يعمق إدراك وعينا لموقع الشممجرة مممن هممذا الكلممي وفممي‬
‫الكل‪ .‬في هذه الحالة نفقمة فصميلة الشمجرة ومميزاتهما ومما تنتممي إليمه ‪،‬‬
‫فنقف بعد ذلك أمام كممل شممجرة مممن أشممجار الغابممة وقممد اسممتوعب وعينمما‬
‫الفكرة الساسية عممن الشممجرة ‪ ،‬بهممذا )نقممف( بممما لنمما مممن علممم ‪ ،‬تأكيممدا ً‬
‫ل‬ ‫ؤاد َ ك ُم ّ‬ ‫صَر َوال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬
‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬ ‫عل ْ ٌ‬
‫م إِ ّ‬ ‫س لَ َ‬
‫ك ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫للمعنى اللهي‪ :‬وََل ت َ ْ‬
‫ق ُ‬
‫سُئوًل)‪ – (36‬السراء ‪ /‬ج ‪ .15‬إذ ل يكفي أن تسممتمع‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬
‫ن عَن ْ ُ‬
‫كا َ‬ ‫أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك َ‬
‫الذن والفؤاد أصم ل يسممع ‪ ،‬ول يكفمي أن تنظمر العيمن والفمؤاد أعممى ل‬
‫يبصر ‪ ،‬ول يكفي أن يتلقى القلب والفؤاد أبكم ل يفقه ‪ ،‬وقد قممال الشمماعر‬
‫العربي‪" :‬إن الكلم لفي الفؤاد وإنما جعل اللسففان علففى الفففؤاد‬
‫دليل"‪ .‬أو كما قال أفلطون‪" :‬التفكير كلم نفسي"‪.‬‬
‫إن الحكمممة المسممتمدة مممن كليممة القممرآن ووحممدته ‪ ،‬والمهيمنممة علممى‬
‫التفاصيل أو الموضوعات المحددة في تعددها وتنوعها ‪ ،‬تتطلممب منمما وعي ما ً‬
‫يبسط في شمولية القرآن ويقبض في التفاصيل‪.‬‬
‫هنا نجد أنفسنا أمام نوعيممة الدراك الصممعب ‪ ،‬أي إدراك القممرآن فممي‬
‫كليته والتوحد النفسي والفكري إلى مرحلة تقممارب الغيبوبممة ‪ ،‬ففممي كليتممه‬
‫تكاد تغيب الذات المدركة نفسها ‪ ،‬فل تسممتطيع هممذه الممذات أن ترجممع مممن‬
‫جديد لتفصل وتصنف وتبوب ‪ ،‬وصعوبة الموضوع هنا ليممس فممي اتسمماع ممما‬
‫نكتب حول كل موضمموع ‪ ،‬وإنممما فممي سممعة الموضمموع نفسممه ‪ ،‬إذ إزاء كممل‬
‫موضوع يجب أن يتحول القرآن كله وفي كليتممه إليممه ‪ ،‬إلممى هممذا الموضمموع‬
‫المحدد بحيث ل تصبح سور القرآن بل كل آية فيه شرحا ً لية واحدة‪.‬‬
‫لسممت مممن المرائيممن فممي قممولي هممذا عممن الكتمماب ‪ ،‬لسممتمطر ثنمماء‬
‫المؤمنين به ‪ ،‬ولكنه قممول فممي محممراب نسممك علمممي ليممس هممدفه تعظيممم‬
‫القرآن فهذا أمر خالص بين المرب وعبمده‪ .‬ولكمن اكتشماف العظممة فيمه ‪،‬‬
‫اكتشاف الحكمة في القرآن ‪ ،‬ليمس بقصمد )تحمدي( المعاصمرة وفلسمفات‬
‫اللحاد والوضممعية وصممرعها فممي المبممارزة اللفظيممة وتوزيممع السممباب علممى‬
‫الضالين ‪ ،‬وإنممما بقصممد تعريممف كممل هممؤلء )بممما فممي القممرآن( مممن حكمممة‬
‫تسممتوعب وتعلممو علممى مممدركاتهم الجدليممة ‪ ،‬ماديممة كممانت أم مثاليممة ‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫وفلسفاتهم الوضعية أيا ً كانت مصادر تكونهمما فممي العقممل الطممبيعي أم فممي‬
‫فلسفة العلوم الطبيعية أم في المنطق الوضعي‪ .‬مهمتنا أن نعرفهممم علممى‬
‫مكامن الحكمة في القرآن ‪ ،‬ومكنونات المنهممج ‪ ،‬لنستوضممح معهممم – فيممما‬
‫بعد – ما هو تفصيلي مقيد في حقيقته إلممى ممما هممو كلممي منهجممي‪ .‬بممالقرآن‬
‫نوضح لهممم حقيقممة ممما اكتسممبوا فممي مممداركهم ومنمماهجهم ‪ ،‬ليتسمماموا هممم‬
‫أنفسهم بحكمة القرآن ومكنون نهجه ‪ ،‬إلى ما يتجاوز محدوديتهم الفلسفية‬
‫‪ ،‬التي استمدوها من حركة الواقع المباشر وتأثير ه عليهم‪ .‬كممل ممما نحمماول‬
‫فعله باستخراج واستنباط مكامن الحكمة القرآنية ‪ ،‬أننا ننزع عن الحضممارة‬
‫البشرية بمستواها الراهن المتقدم ‪ ،‬ننزع الغشاوة مما بيمن العيمن النماظرة‬
‫والقلب العمى ليبصر ‪ ،‬وننزع الغشماوة مما بيممن الفمؤاد المتلقمي والقلمب‬
‫القلب البكم ليفقه‪ .‬فحوارنا بممالقرآن حمموار علممم وحضممارة وليممس مبممارزة‬
‫خطباء مفوهين ول مقارعممات محمماجين هنمما الفممرق فممي العلقممة بالكتمماب ‪،‬‬
‫الفممرق بيمن )تحملممه( و )حملممه( ‪ ،‬ولنمما عممبرة فممي الممذين )حملمموا( التمموراة‬
‫بمعانيها وحكمتها ومكنونها ثم لم )يحملوها( ‪ ،‬فأصبحوا في علقتهم بأسفار‬
‫التوراة كحمار يحمل أسفارا ً ل يفقه ما فيهمما‪ .‬فعظمممة القممرآن ليسممت فممي‬
‫حمله ولكن في )تحمله( ‪ ،‬وفي تقديمه للبشرية كرحمة لهمما وليممس مسممبة‬
‫عليها ‪ ،‬فمهمتنا بالنسممبة لنسممان الحضممارات المتقدمممة ‪ ،‬والمتضممخمة فممي‬
‫ذاتها ‪ ،‬والمصطرعة فممي تركيبهمما ‪ ،‬والمتعاليممة علممى النسممانية ‪ ،‬مهمتنمما أن‬
‫نقدم لنسان هذه الحضارات وبمستوى يتسممق مممع تطمموره العلمممي – مممن‬
‫خلل القرآن – ما يتسممامى بممه عممن ذاتيتممه الضمميقة وصممراعيته الجتماعيممة‬
‫وتعاليه النسانية‪.‬‬
‫أعود فأقول‪:‬‬
‫إننا نعاني نوعية الدراك الصعب للقرآن في كليته ‪ ،‬المممر الممذي يكمماد‬
‫يفقدنا قدرة ضبط الموضموعات التفصميلية بالمنهمج الكلمي‪ .‬هنما يظهمر لنما‬
‫القرآن فممي أخممذه الكلممي كمموعي )مطلممق( ل يمكممن لنسممبيتنا التكوينيممة أن‬
‫تسممتوعبه‪ .‬فممالقرآن متنممزل مممن اللممه ‪ ،‬مطلممق ‪ ،‬محيممط بممالوجود كلممه ‪،‬‬
‫"فالقرآن في كليته ل يدركه إل ّ الله"‪.‬‬

‫ما بين المطلق في التنزيل والنسبي في الوعي‬


‫ولكن الله المحيط بعلمه ‪ ،‬والعارف بنسبية تكويننمما الممتي خلقنمما بهمما ‪،‬‬
‫أوجد الرابط بين )مطلق التنزيل( و )نسبية وعينا( ‪ ،‬على مستوى الجماعممة‬
‫في العموم ‪ ،‬وعلى مستوى الفراد في الخصوص‪.‬‬
‫أول ً‪:‬‬
‫أنزله الله قرآنا ً عربيا ً أي )شيأه في لغممة( ليتسممنى إدراكممه موضمموعيًا‪.‬‬
‫غير أن اللغة هي )تعبير( ‪ ،‬والتعبير كيان مممادي محكمموم بنسممبية مبتدعيممة ‪،‬‬
‫نسبية تكونهم ونسبية وعيهم ونسبية علقاتهم بالوجود وخصائصممه وحركتممه‬
‫ومظاهره ‪ ،‬فكيف للعلم المطلق أن يتشيأ كتابة ولفظا ً فممي اللغممة النسممبية‬
‫المحدودة؟ علما ً أن كتاب العربية ‪ ،‬وهم مجرد بشممر ‪ ،‬يعممانون فممي عصممرنا‬
‫الراهن مما يرونه ضعفا ً في اللغة العربية عن استيعاب ما لديهم من أفكار‬
‫وإبممداع ‪ ،‬فلجئوا إلممى الرمممز ‪ ،‬أو أقحممموا عليهمما توليممدات ل تسممتمد مممن‬
‫اشتقاقاتها وجرسها‪ .‬إضافة إلى أن اللغة العربية وقت تنممزل القممرآن – لممم‬

‫‪3‬‬
‫تكممن متطممورة ضمممن بيئة حضممارية وعلميممة بحيممث تحمممل فممي تركيبهمما‬
‫إسقاطات هذا التطور المفترض عليها فتعنى به‪ .‬وكم من باحث يعاني الن‬
‫مشممكلت المصممطلح ليقابممل بممه مصممطلحات أخممرى وتحديممدا ً فممي مناهممج‬
‫الدراسات العلمية التطبيقية‪ .‬إذن نحن أمام وعي مطلق )هو القرآن( تشيأ‬
‫وأصبح مكتوبا ً ومقروءا ً في عالم المحسوسات النسبية بطبيعتهمما التكوينيممة‬
‫)اللغة( ‪ ،‬فيبدو منطقيا ً أن ثمة مسافة بيمن )المطلمق( المحممول والنسمبي‬
‫)الحامل( ‪ ،‬إضافة إلى أن اللغة فوق نسبيتها إلى المطلممق ‪ ،‬خاضممعة أيض ما ً‬
‫إلى نسبية أخرى في علقاتها بالواقع الحضاري وقممدرات وملكممات تعبيرهمما‬
‫عنه‪.‬‬
‫أكد الله على معنى المطلق في القرآن بأن حقيقته الكامنة فيه أكممبر‬
‫ت‬ ‫ممما ِ‬ ‫دا ل ِك َل ِ َ‬ ‫دا ً‬ ‫مم َ‬ ‫ح مُر ِ‬ ‫ن ال ْب َ ْ‬ ‫ل ل َوْ ك َمما َ‬ ‫وأوسع وأعمق مما ينالها العلم النسبي‪ :‬قُ ْ‬
‫ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ‬
‫دا)‪– (109‬‬ ‫م مد َ ً‬ ‫مث ْل ِمهِ َ‬ ‫جئ ْن َمما ب ِ ِ‬ ‫ت َرب ّممي وَل َموْ ِ‬ ‫ممما ُ‬ ‫فد َ ك َل ِ َ‬
‫ن َتن َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َ ِ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ ّ‬
‫الكهف ‪ /‬ج ‪.16‬‬
‫ً‬
‫فالقرآن حامل لمطلق الية )‪ (109‬فلو كان البحر مدادا لتفصيل هممذا‬
‫المطلق وشرحه لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا ً ‪،‬‬
‫إذن‪ ..‬كيف شيأ الله المطلق في النسبي؟ وكيف جعل هذه اللغة المزدوجة‬
‫النسبية ) في علقتها بالمطلق مممن ناحيممة ‪ ،‬وفمي علقتهمما بممتركيب واقعهمما‬
‫الحضاري من ناحية ثانية( قابلة لحمل المطلق؟‬
‫اللغة بين القرآن واللسان‬
‫بتحليل علمي للكيفية التي استخدمت بها مفردات اللغمة العربيمة فمي‬
‫القرآن ‪ ،‬ومقارنة ذلك بمعاني المفردات نفسممها فممي ممما كتممب عممن لسممان‬
‫العرب ‪ ،‬نجد فارقا ً جوهريا ً في كيفية الستخدام ‪ ،‬فكلمة )اهبطوا( ترد فممي‬
‫القرآن وفي سورة البقرة بالذات في حالتين تبدوان مختلفتين‪:‬‬
‫الولى‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ض مك ُ ْ‬ ‫كاَنا ِفيهِ وَقُل ْن َمما اهْب ِط ُمموا ب َعْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬‫ما ِ‬ ‫جهُ َ‬ ‫خَر َ‬ ‫ن عَن َْها فَأ ْ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫فَأَزل ّهُ َ‬
‫مَتاعٌ إ َِلى ِ‬ ‫َْ‬
‫ن)‪(36‬‬ ‫حي ٍ‬ ‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ‬ ‫ل ِب َعْ ٍ‬
‫الثانية‪:‬‬
‫َ‬
‫ج لن َمما‬ ‫خمرِ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حدٍ َفاد ْعُ لن َمما َرب ّمك ي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫صب َِر عَلى طَعام ٍ َوا ِ‬ ‫َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫َ‬
‫سى ل ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫ْ‬
‫وَإ ِذ ْ قُلت ُ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صل َِها َقا َ‬ ‫ت اْل َْر‬
‫ن‬ ‫سممت َب ْدِلو َ‬ ‫ل أت َ ْ‬ ‫َ‬ ‫سَها وَب َ‬ ‫مَها وَعَد َ ِ‬ ‫قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ض ِ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت ُن ْب ِ ُ‬‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ت‬ ‫ض مرِب َ ْ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫س مألت ُ ْ‬ ‫ممما َ‬ ‫م َ‬ ‫ن لك م ْ‬ ‫ص مًرا فَمإ ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫خي ٌْر اهْب ِطوا ِ‬ ‫ذي هُوَ َ‬ ‫ذي هُوَ أد َْنى ِبال ِ‬ ‫ال ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ن‬ ‫فمُرو َ‬ ‫ْ‬
‫م كماُنوا ي َك ُ‬ ‫َ‬ ‫ك ِبمأن ّهُ ْ‬ ‫ن اللمهِ ذ َِلم َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ضم ٍ‬ ‫ة وََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫َ‬
‫سكن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َوال َ‬ ‫م الذ ّل ُ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن)‪(61‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫وا وَ َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫ت الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫ِبآَيا ِ‬

‫في استخدام القرآن اللغة العربية نجد أن مفردات اللغة تتحممول إلممى‬
‫مصطلحات محددة المعنمى فمي السمياق القرآنمي كلممه ‪ ،‬فكلمممة )اهبطمموا(‬
‫مستخدمة في الحمالتين للتعمبير عمن أممر واحمد ‪ ،‬وهمذا مما سميثير البعمض‬
‫وتحديدا ً أولئك الذين ظنوا أنهم )بتأويل( المفردات يمكن أن يسمموغوا فهممم‬
‫المعنى مممتى ممما وردت مفممردات معينممة فممي مواقممف أو حممالت تبممدو لهممم‬
‫مختلفة ‪ ،‬فاهبطوا في الحالة الولى تفسر على أنها طرد من الجنة وهبوط‬
‫إلى الرض ‪ ،‬واهبطوا في الحالممة الثانيممة ‪" ،‬السممرائيلية" تفسممر علممى أنهمما‬
‫تهديد بإعادتهم إلى مصر ‪ .‬وفي الحقيقممة فممإن معنممى )اهبطمموا( واحممد فممي‬

‫‪4‬‬
‫الحالتين ‪ ،‬وفي كل موضع ترد فيه )اهبطموا( فممي سممياق القممرآن ‪ ،‬همذا مما‬
‫سيتضح في الدراسة الثالثة من هذه السلسلة حين نشرح معنى )الحاكمية‬
‫اللهية( بوصفها هيمنة الله المباشرة على النسان والرض ‪ ،‬فاستخدم الله‬
‫لبني إسرائيل كلمة )اهبطوا( كطرد من الرض المقدسة‪.‬‬
‫لهذا السبب رأيت ضرورة إعداد مستدرك لغوي يشرح مفردات اللغة‬
‫العربية ‪ ،‬ليس كما وردت استخداماتها على لسان العرب فحسممب ‪ ،‬ولكممن‬
‫كما استخدمت في القرآن وضمن ضوابط دقيقة للغاية‪ .‬وقممد شممرحت قبل ً‬
‫في كتاب العالمية السلمية الثانية خطأ المفسرين اللغوي في شرح‪:‬‬
‫ن)‬ ‫مط َهّمُرو َ‬
‫ه إ ِّل ال ْ ُ‬
‫سم ُ‬ ‫ن)‪َ(78‬ل ي َ َ‬
‫م ّ‬ ‫مك ْن ُممو ٍ‬
‫ب َ‬
‫م)‪(77‬فِممي ك ِت َمما ٍ‬ ‫ن كَ ِ‬
‫ري ٌ‬ ‫ه لَ ُ‬
‫قْرآ ٌ‬ ‫إ ِن ّ ُ‬
‫‪ – (79‬الواقعة ‪ /‬ج ‪.27‬‬
‫فالنتيجة التي وصل إليها المفسرون صحيحة ‪ ،‬طبقا ً للسممان العربممي ‪،‬‬
‫ولكنها خاطئة تماما ً في تفسير هممذه اليممة ‪ ،‬وقممد أوقعممت أخطمماء التفسممير‬
‫المسلمين في عنت شمديد‪ .‬عنمت مسملكي فمي )لمسمهم( الكتماب وليمس‬
‫)مسهم( وكذلك عنت في مناولته لغير المسلمين‪.‬‬
‫إن هذا مجرد إشارة نستدل بها على استخدام القرآن مفممردات اللغممة‬
‫العربية ضمن ضوابط دقيقة في المعنى بحيث ل تؤدي الكلمة فممي القممرآن‬
‫إل وظيفة محددة ل تقاربها ول تماثلها ول تشبهها فيها أي كلمة أخممرى فممي‬
‫منحاها ومعناها‪ .‬وأن الكلمممة فممي القممرآن وحيثممما اسممتخدمت تعنممي معنممى‬
‫واحدا ً غير قابل للتأويل‪ .‬أي بتأويل معنمى الكلممة لتلئم حالمة السمياق ممن‬
‫خلل معرفة الكلمة وإخضاع السياق لها وليس العكس‪.‬‬
‫هذه )معجزة( حيث يحل المطلق في النسبي وتتشيأ كلمات الله التي‬
‫لو كان البحر مممدادها لنفممد قبممل أن تنفممد كلممماته ولممو جيممء بمثلممه مممدادًا‪.‬‬
‫فالكتاب )مطلق( يتشيأ في لغة مكتوبة ملموسة‪.‬‬
‫ثانيا ً‪:‬‬
‫إن تشيؤ المطلق في النسبي ومممن دون أن يفقممد المطلممق إطلقممه ‪،‬‬
‫ومممن دون أن يختممل مظهممر النسممبي )اللغممة ودللتهمما العامممة( ‪ ،‬يعنممي أن‬
‫المحمول أكبر من الحامل ‪ ،‬ومع خطأ هممذه الفكممرة منطقي ما ً إل أن صممحتها‬
‫تبرهن عمليا ً عبر تحليلنا المحتوى القرآني المشيأ في هذه اللغممة‪ .‬إذ ليممس‬
‫لنا أن نقول أن القرآن قد سما باللغة لتناسب مطلقه ‪ ،‬فممالمعجزة أنممه قممد‬
‫شيأ المطلق فيها‪ .‬ولكن كيف ذلمك؟ السمؤال جموهري كيفمما جماء نقممدا ً أو‬
‫تجريحا ً أو تساؤ ً‬
‫ل‪.‬‬
‫إن أولى الخطوات العملية لدراك هذه الحقيقممة تكمممن فممي )تحليممل(‬
‫القرآن وفي كليته ووحدته ‪ ،‬ضمن أفق علمي موضوعي يستمد من القرآن‬
‫نفسه ‪ ،‬نهجه المستوعب لكل مناهج الفكر في عالمنمما الحضمماري المتقممدم‬
‫الراهن ‪ ،‬والمتسامي بها إلى ما هو أعمق من معطياتها التي كونتها‪.‬‬
‫إن المحتوى القرآني المتشيء في اللغة ل يعطيممك فلسممفة لممترد بهمما‬
‫علممى الفلسممفات الخممرى ‪ ،‬ول يعطيممك نظريممات علميممة لتثبممت بهمما دوران‬
‫الرض أو عدم دورانها ‪ ،‬وإنما يعطيك النهج المعرفي الذي تضبط به سممائر‬
‫المناهج الوضعية بإعادة صممياغة نظرياتهمما كوني مًا‪ .‬فكممل الفلسممفات الماديممة‬
‫والمثالية والوضعية لم تأت من فراغ ولم تصدر عن خممواء ‪ ،‬وليسممت نزهممة‬
‫أفكممار ‪ ،‬إنهمما تعممبر عممن رؤى مختلفممة اسممتمدها مفكروهمما عممن محمماولت‬

‫‪5‬‬
‫تحديدهم معنى الوجود وفق معطيات محددة‪ .‬هنا يممأتي المحتمموى القرآنممي‬
‫لتفكيك أسس هذه المعطيات التي أنتجت هذه الفلسفات المادية والمثالية‬
‫والوضممعية‪ .‬يسممتوعبها ويأخممذها ‪ ،‬ثممم يعيممد طرحهمما وتركيبهمما فممي موقعهمما‬
‫الصممحيح فممي إطممار الحركممة الكونيممة ومعنممى الوجممود‪ .‬إننمما ل ننتممف لحممي‬
‫الفلسفة والعلماء الوضعيين ‪ ،‬ولكننا نأخذهم بكل بسمماطة مممن مختممبراتهم‬
‫الصغيرة حيث يجرون تجاربهم إلى مختبر كوني أوسع يشتمل على حقممائق‬
‫وعلى وقائع في التطور وفي الجدلية وفي التكوين ‪ ،‬ونسألهم أن يضبطوها‬
‫ضمن مناهجهم ‪ ،‬أي أن يعطوها دللتها العلمية والفلسفية ‪ ،‬والسممؤال لممن‬
‫يوجه لفيلسوف أو عالم بعينه بل سيوجه لكل دعائم ومرتكممزات الفلسممفة‬
‫العالمية‪ .‬والهمدف ليمس نقمض همذه الفلسمفات ولكمن إعمادة وضمعها فمي‬
‫موقعها الصحيح‪.‬‬
‫قد يستعيد البعض طرح التناقض الظاهر ما بيممن الفلسممفات الوضممعية‬
‫المستمدة من العلوم الطبيعية ونهاياتها الفلسفية الماديممة مممن جهممة وبيممن‬
‫المفهوم )الغيبي( للوجمود المذي ل تخضمع فيمه القمدرات لمقماييس العلموم‬
‫الطبيعية ‪ ،‬حيث يدرج هذا البعض النهج القرآني ضمن التأملت الغيبية‪.‬‬
‫إن هذا المنطق ليس بصممحيح ‪ ،‬إذ يطممرح القممرآن فممي مقابممل )ماديممة‬
‫العلوم الطبيعية( مفهومه حول )كونيممة العلمموم الطبيعيممة( ‪ ،‬دون أن يبطممل‬
‫)المعلومة العلمية( ولكن يبطل منهجها ماديًا‪.‬‬
‫ن‬ ‫خي م ٌ‬ ‫وفي اْل َرض قط َع متجاورات وجنات م َ‬
‫وا ٌ‬ ‫ص من ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ب وََزْرعٌ وَن َ ِ‬ ‫ن أعْن َمما ٍ‬ ‫ْ ِ ِ ٌ ُ َ َ َِ ٌ َ َ ّ ٌ ِ ْ‬ ‫َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ِفممي‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ض ِفي الك ُ ِ‬ ‫ضَها عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ض ُ‬
‫ل ب َعْ َ‬ ‫ف ّ‬ ‫حدٍ وَن ُ َ‬ ‫ماٍء َوا ِ‬ ‫قى ب ِ َ‬ ‫س َ‬‫ن يُ ْ‬ ‫وا ٍ‬ ‫صن ْ َ‬ ‫وَغَي ُْر ِ‬
‫ن)‪ – (4‬الرعد ‪ /‬ج ‪[ .13‬فهنا )قطع متجاورات(‬ ‫قُلو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْ ِ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ك َلَيا ٍ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫‪) +‬يسقى بماء واحد( = تنوع ل نهائي]‪.‬‬
‫فالتربة ليست متباعدة أو مختلفة ‪ ،‬والماء واحممد ‪ ،‬والنتمماج غيممر مقيممد‬
‫بالنهايات التكوينية حيممن المحصمملة النهائيممة ‪ ،‬ولكممن هممذا النتمماج مقيممد إلممى‬
‫قوانين الطبيعة حين نأخذ به كحالت منظورة‪.‬‬
‫ثم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ه وَهَ م َ‬ ‫سممائ ِغٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ج‬ ‫جمما ٌ‬‫حأ َ‬ ‫مل م ٌ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ش مَراب ُ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ب ف مَرا ٌ‬ ‫ذا عَذ ْ ٌ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫حَرا ِ‬ ‫وي الب َ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫فلمك ِفيم ِ‬ ‫سممون ََها وَت َمَرى ال ُ‬ ‫ة ت َلب َ ُ‬
‫حلي َ ً‬ ‫ن ِ‬ ‫جو َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما طرِّيا وَت َ ْ‬ ‫ح ً‬ ‫نل ْ‬ ‫ل ت َأكلو َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ن)‪ – (12‬فاطر ‪ /‬ج ‪.22‬‬ ‫ُ‬
‫شكُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ضل ِهِ وَلعَلك ْ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫خَر ل ِت َب ْت َُغوا ِ‬ ‫وا ِ‬‫م َ‬‫َ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فمممن كممل – الفممرات والجمماج – لحممما طريمما وحليممة‪ .‬فهنمما افممترقت‬
‫الخصائص التكوينيممة الطبيعيممة واتحممد الناتممج ‪ ،‬خلف ما ً لممما كممان فممي سممورة‬
‫"الرعد" ‪ ،‬حيث اتحدت الخصائص وافترق الناتج الطبيعي‪.‬‬
‫فعلوم الطبيعممة – حيممن يعمممد إلممى صممياغة فلسممفتها مممن ذاتهمما ومممن‬
‫معلوماتها العلمية – إنما تفضي بنا إلى )فلسفة العلوم الطبيعية الكونيممة( ‪،‬‬
‫وليست )المادية الجدلية(‪.‬‬
‫ومن هذه البدايات بالذات نلغي الثنائية المتوهمة والمفترضة ممما بيممن‬
‫الغيب والواقع ‪ ،‬فيعاد إلى صياغتها ضمن )منهج الرؤية الكونيممة الواحممدة( ‪،‬‬
‫أي الرؤية التي تندمج فيها فلسفة العلوم الطبيعيممة مممع الفلسممفة الغيبيممة ‪،‬‬
‫المحققة للمتناهيات في الطبيعة ‪ ،‬ولكن من خلل الطبيعة‪.‬‬
‫صمحيح أن المعرفمة "البسمتمولوجية" المعاصمرة ‪ ،‬قمد أعمادت طمرح‬
‫المعلومة العلمية بشكل يجردها عن السخافات الفلسفية الماديممة ‪ ،‬معلنممة‬

‫‪6‬‬
‫أن التوظيف الفلسفي المممادي للعلمموم الطبيعيممة إنممما هممو محممض توظيممف‬
‫أيديولوجي ‪ ،‬غير أن هذا الموقف النقدي ل يعني تحديد التصممال الفلسممفي‬
‫بالغيب ‪ ،‬إنه مسار جديد للوضعية التي ل تريد البقاء رهن النهايات الماديممة‬
‫التي شكلتها الفلسفة الماركسية للعلوم الطبيعية ‪ ،‬فالثقممة فممي مثممل هممذه‬
‫المحاولت يجب أل تتحول إلى منحها شهادة براءة فلسفية ‪ ،‬طالممما ظلممت‬
‫بمعزل عن النهايات الغيبية لفلسفة العلوم الطبيعيممة ‪ ،‬وهممي تممدعي نقممدها‬
‫الذاتي ‪ ،‬السلبي للمادية الجدلية‪ .‬إنها محمماولت أيديولوجيممة مممن نمموع آخممر‬
‫لختراق )نظرية المعرفة( ‪ ،‬بمفهوم يتواصل مع حاجة الحضممارة الوروبيممة‬
‫المسيحية الرأسمالية للحفاظ علممى نفسممها بمنممأى عممن الماديممة الجدليممة ‪،‬‬
‫وبالرغم مما تثيره هذه المحاولت من إعجاب لدينا ‪ ،‬فيجب أل تحجمب عنما‬
‫حقيقة أننا نملك هذه النظرية للمنهج والمعرفة في العلوم الطبيعيممة ‪ ،‬وأن‬
‫بإمكاننا تعميقها لنتجه بها إلى المجتمع والتاريممخ ‪ ،‬وفهممم المموحي مممن خلل‬
‫الواقع ‪ ،‬وفهم الواقع من خلل الوحي ضمن )رؤية كونية واحدة(‪.‬‬
‫كما قلت فإن المحتوى القرآني ل يعطيك فلسفة ول نظريممة علميممة ‪،‬‬
‫إنه يعطيك ضوابط معرفية كونية شاملة في المكان وفي الزمممان ‪ ،‬بحيممث‬
‫تقيس بها مصداقية أي فلسفة مادية أو مثالية أو وضعية ‪ ،‬تأتي عبر تمثلهمما‬
‫العلوم الطبيعية أو المفاهيم العقلنية المنطقية الصورية‪.‬‬
‫لن نسأل القرآن عن الهلة ‪ ،‬فهي مممواقيت للنمماس والحممج ‪ ،‬إذ ليممس‬
‫البر أن تأتي إلى المور بغيممر مممدخلها الطممبيعي ‪ ،‬أي أن نممأتي الممبيوت مممن‬
‫ظهورها ‪ ،‬بل البر أن نتخذ المدخل الطبيعي ‪ ،‬أي البواب‪ .‬وباب الهلة علم‬
‫الفلك‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ال ْب ِمّر ب ِمأ ْ‬
‫ن‬ ‫ج وَل َي ْم َ‬‫حم ّ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫ت ِللن ّمما ِ‬ ‫واِقي ُ‬
‫مم َ‬
‫ي َ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ن اْلهِل ّةِ قُ ْ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫واب ِهَمما‬
‫ن أب ْ َ‬
‫مم ْ‬ ‫قممى وَأت ُمموا ال ْب ُي ُممو َ‬
‫ت ِ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫ن ال ْب ِمّر َ‬
‫مم ْ‬ ‫ها وَل َك ِم ّ‬
‫ن ظ ُُهورِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ‬
‫ن)‪ – (189‬البقرة ‪ /‬ج ‪.2‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫قوا الل ّ َ‬ ‫َوات ّ ُ‬
‫فالقرآن ليس نهجا ً دراسمميا ً لعلممم الفلممك أو الفيزيمماء ‪ ،‬وليممس فلسممفة‬
‫تصنيف في عداد المدارس الفلسممفية‪ .‬إنممه إطممار وعممي يسممتوعب الحركممة‬
‫الكونيممة فممي خصائصممها وتطورهمما واتجاهاتهمما وغاياتهمما ‪ ،‬مممما قبممل المنشممأ‬
‫النساني وإلى ما بعد الموت‪.‬‬

‫ثالثا ً‪:‬‬
‫بوجود اللغة كوسيط مادي محسمموس وحامممل للمطلممق ‪ ،‬يصممبح فهممم‬
‫القرآن ممكنا ً بالنسبة للبشر ‪ ،‬والمكانية هنا ل تتعلق بفهممم مطلقممه فممذلك‬
‫مستحيل ‪ ،‬وإنممما تتعلممق هممذه المكانيممة فممي حممدودها القصمموى والوسممطى‬
‫والدنيا بكيفية قراءة القرآن نفسممه ‪ ،‬المممر هنمما يرجممع إلممى طبيعممة القممارئ‬
‫ورؤيته لنفسه وللحركة الكونية‪ .‬وقد حدد الله ذلك في أولى سور التنزيل‪:‬‬
‫ق)‪(2‬اقْ مَرأ ْ وََرب ّم َ‬
‫ك‬ ‫مم ْ َ‬
‫ن عَل م ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫سمما َ‬ ‫خل َقَ ا ْ ِ‬
‫لن َ‬ ‫ق)‪َ (1‬‬ ‫خل َ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫سم ِ َرب ّ َ‬ ‫ْ‬
‫اقَْرأ ِبا ْ‬
‫َ‬
‫م)‪ – (5‬العلففق ‪ /‬ج‬ ‫م ي َعْل َم ْ‬
‫ما ل َ ْ‬‫ن َ‬‫سا َ‬ ‫ما ِْ‬
‫لن َ‬ ‫م)‪(4‬عَل ّ َ‬ ‫م ِبال ْ َ َ‬
‫قل ِ‬ ‫ذي عَل ّ َ‬ ‫م)‪(3‬ال ّ ِ‬ ‫اْلك َْر ُ‬
‫‪.30‬‬
‫حين أوضح الوحي القرآنممي‪ :‬افممتراق الخصممائص التكوينيممة الطبيعيممة ‪،‬‬
‫واتحاد الناتج كما في سورة "فاطر" ‪ ،‬ثم أوضح اتحاد الخصائص التكوينية‬
‫الطبيعية ‪ ،‬وافتراق الناتج كما في سورة "الرعد" ‪ ،‬فقممد طلممب الربممط ممما‬

‫‪7‬‬
‫بيممن القممدرة اللهيممة المطلقممة والمعلومممة العلميممة التطبيقيممة المحممددة ‪،‬‬
‫ويستمد هذا الربط منهجيا ً من أولى السمور المتنزلمة علمى غمار حمراء فمي‬
‫الرض المحرمة ‪ ،‬الربط بين قممراءة القممدرة اللهيممة المطلقممة وبيممن العلممم‬
‫التطبيقي الموضوعي ‪ ،‬أي قراءة أولى بالله ومن خلله بوصممفه )خالقممًا( ل‬
‫تتناهى قدرته ‪ ،‬ثم قراءة ثانية هي )مع( الله وليممس )بممه( بوصممفه )معلم مًا(‬
‫دال ً علممى القضممايا فممي تحديممدها ‪ ،‬أي علممم )القلممم( الممذي يشممكل إطممارا ً‬
‫موضوعيا ً لنتقال المعرفة دون تأويل أو لبس فكري‪:‬‬
‫القراءة الولى‪ :‬قراءة كلية تخلع ذاتهمما عممن نفسممها متجممردة للمطلممق ‪،‬‬
‫وهذه مرحلة قراءة لها سماتها ومعناها‪ .‬وقد توليت شممرح معلممم منهمما فممي‬
‫العالمية السلمية الثانية ‪ ،‬إنها قممراءة فممي الرادة اللهيممة كممما تتبممدى فممي‬
‫الحياة‪ .‬والقراءة الثانية قراءة تفصيلية موضوعية ‪) ،‬يجاب فيها السؤال عن‬
‫الهلة( ‪ ،‬قراءة علمية مميزة بقوانينها ‪ ،‬وهي قراءة في المشيئة اللهية‪.‬‬
‫ويدمج أيضا ً بين القراءتين ‪ ،‬في رؤية الكون وحركته واتجمماهه وغايمماته‬
‫بحيث يبصر النسان الرادة اللهية فاعلة في المشيئة الكونية ‪ ،‬وهذا جمممع‬
‫بين القراءتين ‪ ،‬نستدل بها على المعاني الكامنة في القرآن ‪ ،‬ونستدل بهمما‬
‫على غائية الخلق وأهداف التكوين‪.‬‬
‫أما القراءة الثانية‪ :‬فهي مصدر البلء وذلمك حيمن ينطلمق النسمان ممن‬
‫العلم بممالقلم ‪ ،‬فيضممخم ذاتممه ‪ ،‬وهيمنتممه بالقممانون علممى الطبيعممة ‪ ،‬فيتقممدم‬
‫باتجاه بناء الحضارات الفاقدة للتوازن الداخلي ‪ ،‬وفي تشخيص هذه الحالة‬
‫الدونية الخيرة بين الله ‪ ،‬كيف تتحول المعرفة العلمية لدى الذات البشرية‬
‫المتضخمة إلى قوة طغيان داخممل مجتمعهمما لصممالح الفئة المالكممة لمصممادر‬
‫المعرفة وبالتالي الثروة؟ وإلى قوة طغيان داخل العالم وضممد المجتمعممات‬
‫البشرية ‪ ،‬وذلك حيممن تممرى هممذا الممذات المتضممخمة علمما ً وثممروة إنهمما فممي‬
‫ن إ َِلمى‬ ‫َ‬
‫سمت َغَْنى)‪(7‬إ ِ ّ‬ ‫ن ل َي َط ْغَممى)‪(6‬أ ْ‬
‫ن َرآهُ ا ْ‬ ‫سمما َ‬
‫لن َ‬‫نا ِْ‬
‫موقممف المسممتغني‪ .‬ك َّل إ ِ ّ‬
‫جَعى)‪ – (8‬العلق ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫ك الّر ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ن ‪ ،‬خيال‪ .‬ولكمن دللتمه الخلقيمة والفلسمفية‬ ‫فالستغناء هنا مجرد أما ٍ‬
‫في منتهممى الخطممورة علممى تطممور الحضممارة البشممرية وتواصمملها وتوازنهمما‪.‬‬
‫ن‬ ‫ي عَ م ْ‬‫فمسألة اليمان بالله وعباداته ل تأتي من حاجة الله إليها ‪ ،‬فهو )غَِنمم ّ‬
‫ن( ولكنها تأتي مقابل عبادة الذات البشممرية لنفسممها فتتقاتممل )آلهممة‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬
‫الرض( وتفسد الرض‪ .‬أما اليمان بممالله فممإنه يرتبممط لزومما ً برؤيممة الرادة‬
‫اللهية فاعلة بالرحمة والكرم والعلممم فمي المشمميئة الكونيممة ‪ ،‬فل تسممتعلي‬
‫الذات البشرية ول تطغى في كون سخر لها ‪ ،‬ل تستعلي طبقيا ً ول سياسيا ً‬
‫ول اجتماعيا ً ول فكريما ً ‪ ،‬ول تطغممى فممي الرض علمموا ً واسممتكبارًا‪ .‬فاليمممان‬
‫بالله تحجيم للذات المتضخمة ‪ ،‬والبشرية في حاجة لهذا اليمممان المعنممي ‪،‬‬
‫لخلع الذات من أجل سلمها وأمنها في الرض‪.‬‬
‫إذن لنا أن نقرأ القممرآن بالدمممج بيممن القراءتيممن ‪ ،‬بهممذا نسممتجيب منممذ‬
‫البداية لدلئل القرآن وإشممارته ‪ ،‬لننمما نسممتجيب لطممبيعته باليمممان نفسممه ‪،‬‬
‫ونتجه إليه كمحيط وعي ل ساحل له‪ .‬وهكذا كممما حمممل اللممه نسممبية اللغممة‬
‫مطلق الوعي بمعجزة من عنممده ‪ ،‬فممإن اللممه قممادر علممى أن يحمممل نسممبية‬
‫التكوين البشري علما ً من لدنه ‪ ،‬مقوما ً برحمة متجممردة عممن الممذات ‪ ،‬فممي‬
‫عبودية تفني معها الذات نفسها‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫عل ْ ً‬
‫ممما)‬ ‫ن ل َمد ُّنا ِ‬
‫مم ْ‬ ‫عن ْدَِنا وَعَل ّ ْ‬
‫مَناهُ ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ِ‬
‫م ً‬‫ح َ‬
‫عَبادَِنا آت َي َْناهُ َر ْ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫دا ِ‬
‫دا عَب ْ ً‬ ‫فَوَ َ‬
‫ج َ‬
‫‪ – (65‬الكهف ‪ /‬ج ‪.15‬‬
‫ً‬
‫غير أن هذه المرحلة من الوعي ل تقوم )موضمموعيا( وليسممت بقممادرة‬
‫على تفريغ وعيها في قانون وضوابط منهجية ‪ ،‬إل في حالممة واحممدة ‪ ،‬وهممي‬
‫أن تتخذ من وعيها خلفية )إسناد( لتوضيح المور وتفصمميلها‪ .‬فتقمموم حجتهمما‬
‫على الواقع في الواقع نفسه‪ .‬وبمعنى آخر استخدام الدممج بيمن القراءتيمن‬
‫لضبط الحالة الفلسفية والمعرفية للقراءة بحيث ل تتحول إلى قراءة ذاتية‬
‫نرجسية تدمر مجتمعها والعالم‪.‬‬
‫بالدمج بين القراءتين يمتد النسان لمشارع المطلق ومداخله ‪ ،‬ولكنه‬
‫ل يصل أبدا ً لساحله ول وجود للساحل ‪ ،‬هو سرمد سممرمدي ‪ ،‬ولكممن كفممى‬
‫النسان أنه يعيش خلوده فيه ‪ ،‬فهذا هو النوع الوحيد من المعرفممة الممتي ل‬
‫حد لها ‪ ،‬ول يتمنى لها – من يدخلها – حدا ً ول نهاية ‪ ،‬وهي كذلك‪.‬‬
‫والربط بين العلمين رابط فلسفي بوحدة منهجية ‪ .‬فالعلم الموضممعي‬
‫المتكافئ وحقيقة النسمان مشممدود إلممى تجليممات القمدرة ‪ ،‬فل يتميمز عنهما‬
‫بالوضعية ‪ ،‬ويبحممث عممن التممأليه الممذاتي بممما يممراه مممن قممدرة بممالعلم علممى‬
‫السيطرة‪.‬‬
‫فكل قممراءة أشممبه بنصممف دائرة تممؤدي فممي حممال تطابقهمما إلممى دائرة‬
‫منهجية‪ .‬فطموحات النسممان العلميممة ومنجزاتممه الحضممارية تممأتي معطوفممة‬
‫على الخلق التكويني المستوي على قاعدة التسخير‪ .‬فهناك انممدماج كامممل‬
‫بالفعل البشري في الخلق اللهمي ‪ ،‬ول يتممم المموعي بممذلك وعيما ً حقيقيما ً إل‬
‫باندماج القراءتين في قراءة واحدة ‪ .‬وباندماجهما معا ً تتضح معمالم المنهممج‬
‫الفلسفي المستمد من القرآن‪ .‬إذ يممدرك النسممان وقتهمما أنممه يفعممل بعلمممه‬
‫الموضعي في كون مسخر بآيات الرحمممة ‪ ،‬فيسمموده الشممعور بالسمملم مممع‬
‫ربه ومع ذاته ومع الكون ومع مجتمعه‪.‬‬
‫والقراءتان فريضتان لنهما بلهجة المممر اللهممي )اقممرأ( ثممم أنهممما أول‬
‫كلمتين ‪ ،‬فل تستقيم الحكمة إل ّ بهممما‪ .‬فمممن تجمماوز القممراءة الثانيممة – دون‬
‫وعي بها – إلى السممتغراق الكلممي فممي القممراءة الولممى ‪) ،‬تجمماوز الصممفات‬
‫والتعلق بالممذات المقدسممة فممي مطلقهمما( ‪ ،‬فحكمممه إلممى اللممه فممي تجربتممه‬
‫الخاصممة ‪ ،‬ولكنممه يكممون بل أدنممى شممك قممد عطممل جانبما ً هامما ً فممي تجربتممه‬
‫الوجودية الخاصة ‪ ،‬وهو جانب تكوينه الحضاري في الدفع بالتجربة البشرية‬
‫إلى المام ‪ ،‬وهو يظل باستغراقه فممي آيممات القممدرة كيفما ً منفعل ً ‪ ،‬يتواضممع‬
‫عن الفعل فل يقدم عليه خشوعا ً لقدرة الله الطلقة‪.‬‬
‫وهذه الطريقة طريقة خاصة ولها نتائجها الروحية ومقامها غيممر مقممام‬
‫القراءتين في تلزمهما‪ .‬غير أن الخطورة تكمن في محاولة البعض التحمول‬
‫بهذه التجربة الخاصة إلممى منهممج فممي الحيمماة علممى أسمماس قاعممدة المموعي‬
‫البشري المشترك ‪ ،‬فكانت النتيجة سلبية للغاية إذ ارتبط البعض بمدلولت‬
‫القممراءة ‪ ،‬مممع إهمممال للنهممج القرآنممي الممذي استعصممى عليهممم نتيجممة هممذا‬
‫الموقف الجزئي ‪ ،‬فنراهممم يممدعون التحمماد بالحقيقممة فممي مطلقهمما بشممكل‬
‫وراثي أو طرائقي ‪ ،‬ويعجزون في نفس الوقت عن فهم شمممولية الحقممائق‬
‫القرآنية‪ .‬والنتيجة تعطيل للفكر البشري ونفور من الدنيا وعيش خارجها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وكنتيجة لتعطيل القراءة الثانية وقع الفكممر الصمموفي حيممن اتجممه نحممو‬
‫الفلسفة )لبناء قواعده الخاصممة أو للتصممدي بعلمممه الكشممفي( فممي أزمممات‬
‫متعاقبة حتى مع أبسط درجمات الدراك الموضمموعي لممدى النسممان‪ .‬ولعممل‬
‫أبرز مثال على ذلك قصة )صالح قبة( الذي عطممل القمراءة الثانيمة نهائيما ً‬
‫من سلوكه الفكري متجاوزا ً إكرام الله له إلى التعلق بقممدرته‪ .‬فصممالح قبممة‬
‫أو )صالح بفن عمفرو( ‪ ،‬يممدرجه الشهرسممتاني تممارة فممي عممداد متممأخري‬
‫الخوارج وفي عداد المرجئة من القدرية )أي المعتزلة( تارة أخرى‪.‬‬
‫))يروي الشعري أن صالحا ً هذا قد ذهب إلى أن النسممان ل يفعممل إل ّ‬
‫في نفسه ‪ ،‬وأنكر أن يكون بيممن الحممداث الطبيعيممة تلزم ما ً ضممروريا ً قممط ‪،‬‬
‫حرصا ً منه على صون مفهمموم القممدرة اللهيممة المطلقممة‪ .‬وعنممده أنممه يجممب‬
‫علينا أن نتحرى في كل حدث طبيعي فعممل اللممه المباشممر )القممدرة وليممس‬
‫التسخير(‪ .‬لذا قال‪ :‬إنه يمكن أن تماس النار الخشممب مممرارا ً عممدة دون أن‬
‫يخلق الله فيها احتراقا ً ‪ ،‬وأن الله قد يحممرق النسممان بالنممار دون أن يحممس‬
‫باللم ‪ ،‬بل قمد يحمس باللمذة إذا شماء اللمه ذلمك‪ .‬وأن اللمه قمد يخلمق فمي‬
‫النسان الدراك مع العمى والعلم مع الممموت بحسممب مممذهبه‪ .‬ولممما سممئل‬
‫ذات يوم‪ :‬أتنكر أنك الن في مكة جالس تحت قبة ‪ ،‬أم أنممك ل تممدرك ذلممك‬
‫لن الله لم يخلق العلم بذلك فيك؟ أجاب ل أنكر‪ .‬فما كان من السممائل إل ّ‬
‫أن أطلق عليه لقب صالح قبة )مقممالت السمملميين للشممعري ص ‪– 406‬‬
‫‪ .407‬والصياغة هنا لماجد فخري‪ :‬دراسات في الفكر العربي ‪.(83‬‬
‫وهكذا نجد أن تعطيل القراءة الثانية يممؤدي إلممى النتقمماص مممن قيمممة‬
‫الفعل البشري ‪ ،‬وبالتالي القيمة الوجودية للنسان فممي الحيمماة ‪ ،‬وهممو أمممر‬
‫يختلف عن النهممج القرآنمي ممما يجعلنمما نميممز بوضموح بيمن الفكمر القرآنمي‬
‫والفكر السلمي‪ .‬وذلك باعتبار أن هذه التجاهات التي يأخذ بها صممالح بممن‬
‫عمممرو جعلتممه يغفممل حقممائق التسممخير وموضمموعية العلممم كأسمماس فممي‬
‫المسممئولية البشممرية ‪ ،‬فاضممطرب تفكيممره أمممام تلزم الحممداث الطبيعيممة ‪،‬‬
‫فاتخذ )نظريممة التسمماق( ‪ ،‬وهممي توليممد عقلممي فممي المقممام الول مشممابهة‬
‫لنظرية )التساوق الزلي( لدى ليبنتز‪.‬‬
‫إن التحول بهذه )المواقف( إلممى )اتجاهممات فكريممة( دون وضممعها فممي‬
‫دائرة المنظور القرآني الشاملة ‪ ،‬قد أضممعف كممثيرا ً مممن انطلقممة النسممان‬
‫العربي الحضارية ‪ ،‬وشده إلى منطق العجز والبقماء قيممد النفعمال بالقمدرة‬
‫اللهية ‪ ،‬في وقت يحس فيه هذا النسان نفسه باحتجمماب اتجاهممات الدارة‬
‫اللهية في الخلق عن وعيه فل يعرف من أين يبدأ ‪ ،‬ول كيف يضع فعله في‬
‫إطار التسخير الكوني‪.‬‬
‫كذلك فقد أدى تعطيل القراءة الولى والستغراق الكلي في القممراءة‬
‫الثانية )علم القلم الموضعي( ‪ ،‬إلى نوع من روحية التحمماد بالطبيعممة الممتي‬
‫تجلممت بمممذهبياتها المختلفممة فممي المفمماهيم العلميممة الوضممعية وبناءاتهمما‬
‫الفلسفية المختلفة‪ .‬وهكذا كما غيب )صالح بن عمرو( النسان عن الحركة‬
‫‪ ،‬جاءت الفلسفة الوضعية لتقابله بتطرفها ومفهومها الجزئي ‪ ،‬فغيبت اللممه‬
‫عن وعيها بالحركة‪.‬‬
‫انطلقممت الفلسممفة الوضممعية بممروح برومممثيوس إلممى نتممائج العلممم‬
‫الوضعي ‪ ،‬ل بهدف تطوير فعالية الحركة البشممرية فممي كممون مسممخر قممائم‬

‫‪10‬‬
‫على التفاعل والوحدة ‪ ،‬ولكن بهدف انتزاع سر القدرة عممن اللممه والتحممول‬
‫بها إلى الرض أي إلى النسان‪ .‬بدأ العلم باتجاه النسان للتوحممد بالطبيعممة‬
‫كمحاولممة لتحجيممم القممدرة اللهيممة ‪ ،‬ومممن ثممم تطممور هممذا التجمماه بتطمموير‬
‫منجزات العلم نفسه ‪ ،‬والحضارة الموضعية إلى محاولة نفي نهائي وقمماطع‬
‫لفعل الله في الحركة‪ .‬بدأ بالتفسيرات الفلسفية لنظرية )نيوتن( فغدا الله‬
‫قوة ما ورائية مارست الخلق بقوة الدفع اللهي ‪ ،‬وهممو يسممتمر مممن بعممدها‬
‫على نحمو آلمي‪ ...‬وتطمور إلمى الحلوليمة المتي جعلمت اللمه حمال ً فمي قموى‬
‫الطبيعة ‪ ،‬وانتهى إلى المادية الجدلية التي غيبته نهائيا ً ‪ ،‬وطرحممت بممديل ً لممه‬
‫اتجاهات النمو عبر خصائص التطممور المعقممد‪ .‬كممل هممذه النظريممات ‪ ،‬كممانت‬
‫تتحه عبر تطورها العلمي وما تفيده من حقائق العلم الوضعي ‪ ،‬إلممى ربممط‬
‫النسممان نهائي ما ً بالطبيعممة ودمجممه بهمما ككممائن طممبيعي ‪ ،‬وهكممذا )يسممتغني(‬
‫النسان بارتكازه على القلم ووحدته مع الطبيعة‪) ...‬ذلك الرحم الذي يجده‬
‫مهيأ( عن الله‪ .‬لم يعد يرى الله بقممدرة التسممخير ول برحمممة التسممخير ‪ ،‬ول‬
‫باتخاذ الظواهر الطبيعية معنى إنسممانيًا‪ .‬ويحمماول أن يعلممو بممالعلم الوضممعي‬
‫على القدرة المطلقة وقد أحس أنه قد استغنى‪.‬‬
‫هنا بالتحديد نزل الوحي اللهي بإضافة مقطع في موضع مختلف إلممى‬
‫المقطع الول من سورة العلق بدءا ً من اليممة رقممم )‪ ، (6‬ليعطممي السممورة‬
‫َ‬
‫ن َرآهُ‬‫ن ل َي َط ْغَممى)‪(6‬أ ْ‬
‫سمما َ‬ ‫ناِْ‬
‫لن َ‬ ‫وحدتها الموضوعية وإطارهمما المنهجممي‪ :‬ك َّل إ ِ ّ‬
‫جَعى)‪ – (8‬العلق ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫ن إ َِلى َرب ّ َ‬
‫ك الّر ْ‬ ‫ست َغَْنى)‪(7‬إ ِ ّ‬
‫ا ْ‬
‫يقرر هذا المقطع ثلثة مبادئ مترابطة فيما بينها ‪ ،‬تتولد فممي النسممان‬
‫حين يأخذ بالقراءة الثانية فقط ‪ ،‬وبمعزل عن الولى‪ .‬أي حيممن يسممتند إلممى‬
‫القلممم الموضممعي بمعممزل عممن القممدرة المطلقممة‪ .‬فممي هممذه الحالممة يتوحممد‬
‫النسان توحدا ً قطعيا ً بالطبيعة في ظواهرها وحركتها ‪ ،‬ككون مستقل عممن‬
‫أي امتداد‪.‬‬
‫وحين يتحد النسان بالطبيعة ‪ ،‬فسيكتشف نفسه بل شك فاعل ً متعممدد‬
‫القممدرات ‪ ،‬ومبممدعا ً إلممى أقصممى حممدود البممداع‪ .‬فالحركممة الكونيممة مهيممأة‬
‫بالشروط الموضوعية ‪ ،‬ومقننة بشكل يستجيب للتحليل والتأليف العلمممي ‪،‬‬
‫أي مركبة على كل ضرورات الدفع الحضاري‪ .‬هذه الوضعية الكونية مع ممما‬
‫يقابلها من قدرات إنسانية مكافئة بممالوعي والعلممم ‪ ،‬تولممد لممدى النسممان –‬
‫حين ل يرتبط برؤية القدرة اللهية – شممعورا ً بالسممتغناء عممن أي تممأثير يممرد‬
‫عليه من خارج الطبيعممة‪ .‬يغفممل فمي هممذه الحالممة عمن آيممات التسممخير فممي‬
‫الطبيعة نفسها ‪ ،‬ويبتدئ بفعله من حيث يقف ل من حيث أتى‪.‬‬
‫كيف تكون علقة النسان بالطبيعة في هذه الحالة؟ تكون علقة قهممر‬
‫وصراع ‪ ،‬إذ تفقد الظاهرة الطبيعية معناها النساني المسخرة لممه ‪ ،‬ويتخممذ‬
‫الوجود كله شكل القمموى المتصممارعة والمتضممادة والمتنابممذة ‪ ،‬ويصممبح مممن‬
‫خلل إنجازاته الحضارية المتنامية‪.‬‬
‫هنا يتحول النسان إلى إله ‪ ،‬ولكنه إله يستمد قيمه من عالم الطبيعممة‬
‫الذي اندمج فيه وتوحد به‪ .‬يصبح قانون الطبيعة همو قمانونه وفلسمفتها همي‬
‫فلسفته ‪ ،‬فيتحول بالموضعي إلى المطلق ‪ ،‬وبالقلم إلممى القممدرة ‪ ،‬ويغفممل‬
‫عن وضعه الحقيقي في إطار الكون المسخر ‪ ،‬وعن وضع الكممون بممما فيممه‬
‫ذات النسان في إطار القدرة اللهية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫هذا النتصار القلمي هو الذي يولد الحساس بالسممتعلء عممبر منهجيممة‬
‫الصراع )الطغيان( ‪ .‬هاتان حقيقتان‪ :‬طغيان النسان المتولممد عممن ارتبمماطه‬
‫بالعلو الحضاري‪.‬‬
‫ً‬
‫ول ينهي الله المممر فممي هممذه الحممدود ‪ ،‬فيممدع النسممان مسممتمرا فممي‬
‫ن إ ِل َممى‬ ‫طغيانه مفجرا ً الصراع في الرض ‪ ،‬فيرده إلى الحقيقممة الكونيممة ))إ ِ ّ‬
‫جَعى((‪ .‬والرجعى هنا – خلفا ً لقممول المفسممرين – ل تعنممي الرجمماء‬ ‫ك الّر ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫الخروي ‪ ،‬وإنما هي دللممة العممودة علممى الثممر نفسممه ‪ ،‬وهممي تصممريف مممن‬
‫)الرجممع( أي السممترداد النممي ‪ ،‬كالسممماء ذات الرجممع‪ :‬فممي حالممة التفاعممل‬
‫المستمر بالحركة بين الرض والسماء‪ .‬وكقول الكافرين )ذلممك رجممع بعيممد(‬
‫بعد أن ظنوا بتلشيهم في الرض فل يبقى منهم ما يستردهم الله به‪ .‬فيرد‬
‫الله عليهم )قد علمنا ما تنقص الرض منهم( وهذه دللة على بقائهم ضمن‬
‫أشكال متحولة ‪ ،‬غير أن استمراريتهم الوجوديمة ل تنقطمع‪ .‬المعنمى هنما أن‬
‫الله يسترد الفعل إليه بنفي نتائجه على الصعيد الدنيوي نفسه‪.‬‬
‫مَنا لهذه المسألة هنا يحتاج إلى نوع مممن الممتركيز ‪ ،‬فارتممداد الفعممل‬ ‫َفه ُ‬
‫إلى الله ليهيمن على نتائجه ‪ ،‬ل يعني أن القممدرة اللهيممة كممانت غائبممة فممي‬
‫حال الفعل نفسه ‪ ،‬إل أن النسان باسممتعلئه القلمممي هممو الممذي غيبهمما مممن‬
‫َ‬
‫ن َرآهُ‬ ‫وعيه ‪ ،‬لذلك لم تقل الية‪) :‬كل إن النسان ليطغى أن استغنى( بل )أ ْ‬
‫ست َغَْنى( والرؤية هنا قضية إحساس وشعور ‪ ،‬ل تعممبر عممن الحقيقممة‪ .‬وهممي‬ ‫ا ْ‬
‫أن النسان ليس مستغنيا في الصل ‪ ،‬ففعله قممائم علممى التسممخير ‪ ،‬وقمموة‬ ‫ً‬
‫عمله تأتي على سطح قوة العمل اللهممي المضمممنة فممي الكممون بظممواهره‬
‫المنسقة ذات المعنى النساني ‪ ،‬كذلك فإن وعيه النساني مع خلق الله له‬
‫– هو علم متكافئ مع شروط الحركة الموضوعية نفسممها ‪ ،‬وليممس ظمماهرة‬
‫مستقلة التركيب ‪ ،‬لذلك فالسممتغناء هنمما هممو شممعور وهمممي وليممس حقيقممة‬
‫كونية‪.‬‬
‫النسان إذن في علمه واستعلئه بالعلم ل ينفممك عممن ملزمممة القممدرة‬
‫اللهية له‪ .‬فهو )أي النسان( بها يفتعل ‪ ،‬وذلك بحكم التكافؤ المخلوق بينممه‬
‫وبين عالمه‪ .‬وبحكم التسخير الرابط ‪)) ،‬والله خلقكم وما تعملممون(( أي أن‬
‫فعممل النسممان نفسممه أو عملممه مخلمموق بحكممم وجمموده وتحركممه فممي دائرة‬
‫التكافؤ بين مخلوقية العالم على نهممج طممبيعي معيممن ‪ ،‬ومخلوقيممة النسممان‬
‫على نفس النهج‪ .‬وتتضح معالم ))والله خلقكم وما تعملون(( في التفصمميل‬
‫م‬‫داك ُ ْ‬‫شمماَء ل َهَم َ‬ ‫جممائ ٌِر وَل َموْ َ‬ ‫من ْهَمما َ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫سمِبي ِ‬ ‫صمد ُ ال ّ‬ ‫الذي تحويه الية‪ :‬وَعََلى الل ّهِ قَ ْ‬
‫ن)‪ – (9‬النحل ‪ /‬ج ‪.14‬‬ ‫َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬ ‫أ ْ‬
‫فالنسممان – إذن – يتحممرك بفعلممه علممى سممطح قمموة الفعممل الربمماني‬
‫المبذولة في النسيج الكوني بما في ذلك وجممود النسممان نفسممه‪ .‬والمعنممى‬
‫ذاته يأخذ شكل ً تفصيليا ً أكثر من اليممات الممتي تربممط فعممل النسممان بقممدرة‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫قون َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫ن قَ مد ّْرَنا‬ ‫ح ُ‬ ‫ن)‪(59‬ن َ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫خل ُ ُ َ ُ‬‫م تَ ْ‬ ‫ن)‪(58‬أأن ْت ُ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫الله‪ :‬أفََرأي ْت ُ ْ‬
‫بينك ُم ال ْموت وما نحن بمسبوقين)‪(60‬عََلى أ َن نبد َ َ‬
‫م ِفمي‬ ‫شمئ َك ُ ْ‬ ‫مَثال َك ُ ْ‬
‫م وَن ُن ْ ِ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ْ َُ ّ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ِ َ ْ ُ ِ َ‬ ‫ََْ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ممما‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن)‪(62‬أفَرأي ْت ُم ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م الن ّشأةَ الولى فلوْل َتذكُرو َ‬ ‫ْ‬ ‫مت ُ ْ‬‫قد ْ عَل ِ ْ‬‫ن)‪(61‬وَل َ‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‪ – (64‬الواقعة ‪ /‬ج ‪.27‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عو َ‬ ‫ن الّزارِ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫عون َ ُ‬
‫م ت َْزَر ُ‬ ‫ن)‪(63‬أأن ْت ُ ْ‬ ‫حُرثو َ‬ ‫تَ ْ‬
‫الله – إذن – يرجع بالفعل على النسان ‪ ،‬لن الفعل فممي أصممله راجممع‬
‫إلى الله ضمن محتوى القدرة والتسخير والخلق النساني ‪ ،‬وهو ممما يعممرف‬

‫‪12‬‬
‫بالقتضاء في الحركة ‪ ،‬والتكافؤ في التقابل بين النسان والطبيعة بقوانينها‬
‫الموضوعية‪ .‬ورجوع الله بالفعل على النسان هممو مفهمموم )دنيمموي( وليممس‬
‫)أخرويا( كما رأينا‪ .‬وليس كما وقع في خاطر المفسرين ‪ ،‬فلو كممان القصممد‬
‫أخرويا ً لكان الرجح لغويا ً أن تختتم الية بم )وإن إلى ربك المنتهممى( وليممس‬
‫)الّرجعى(‪ .‬فالّرجعى هنا هي من مممماثلت و )إلممى اللممه عاقبممة المممور( أي‬
‫بارتداد القدرة اللهية على النسان ضمن مقومات الفعل نفسه وشممروطه‬
‫وبشكل دنيوي‪ .‬وفي هذا السياق أيضا ً يختلف الستخدام القرآني للفظ )ثم‬
‫إليه ترجعون( من الرجع عن )ثم إليه ترجعون( فهي ممن الرجموع‪ .‬فمالرجع‬
‫ارتداد في إطار الحركة نفسها ‪ ،‬في إطار الفعل نفسه ‪ ،‬فممي إطممار الخلممق‬
‫نفسه ‪ ،‬وعلى نحو آني دنيوي‪ .‬أما الرجوع فممإنه العممود إلممى ممما كممان المممر‬
‫عليه في السابق‪.‬‬
‫ويأتي سياق السورة ليؤكد الطار الدنيوي لوضعها‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫دى)‬ ‫ن عَلممى الهُم َ‬ ‫َ‬
‫ن كما َ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫صمّلى)‪(10‬أَرأي ْم َ‬ ‫َ‬ ‫ذا‬‫دا إ ِ َ‬
‫ذي ي َن َْهى)‪(9‬عَب ْ ً‬ ‫ت ال ّ ِ‬ ‫أَرأي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ه َيممَرى)‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م ب ِأ ّ‬ ‫م ي َعْل َ ْ‬ ‫ب وَت َوَّلى)‪(13‬أل َ ْ‬ ‫ن ك َذ ّ َ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫وى)‪(12‬أَرأي ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫مَر ِبالت ّ ْ‬ ‫‪(11‬أوْ أ َ‬
‫ة)‪(16‬فَل ْي َمد ْعُ‬ ‫خمماط ِئ َ ٍ‬ ‫كاذِب َمةٍ َ‬ ‫ص مي َةٍ َ‬‫ة)‪َ(15‬نا ِ‬ ‫ص مي َ ِ‬
‫فعَ ِبالّنا ِ‬ ‫سم َ‬ ‫م ي َن ْت َهِ ل َن َ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬‫‪(14‬ك َّل ل َئ ِ ْ‬
‫ب)‪ – (19‬العلق ‪/‬‬ ‫جد ْ َواقْت َرِ ْ‬ ‫س ُ‬‫ه َوا ْ‬‫ة)‪(18‬ك َّل َل ت ُط ِعْ ُ‬ ‫سن َد ْعُ الّزَبان ِي َ َ‬ ‫َنادَِيه)‪َ (17‬‬
‫ج ‪.30‬‬
‫ربما يبدو الشكال الوحيد هنا – في التشبيه على المعنى الخروي هو‬
‫ورود عبارة )سندع الزبانيممة( ‪ ،‬فالزبانيممة كمما ذهمب أغلممب المفسمرين هممم‬
‫ملئكة العذاب في النار ‪ ،‬حيث يدفعون بالكفرة إلممى جهنممم ‪ ،‬والحقيقممة أن‬
‫كلمة زبانية لم ترد إل مرة واحدة في القرآن وفي هذه السورة فقط ‪ ،‬أما‬
‫ملئكة العذاب في النار فقد ورد ذكرهم بعبارة )ملئكة غلظ شداد( وليس‬
‫زبانية‪ .‬وقد أطلق عليهم )زبانية( تسبيها ً لهم وليس اسما ً ‪ ،‬والتشممبيه يعممود‬
‫إلى الناقة الزبون التي تدفع عن ضرعها – وبهذا المعنى ترد عبارة )سممندع‬
‫الزبانية( بمعنى قوة مدافعة الشيء بالشيء ‪ ،‬وهي تعكس الرتداد اللهممي‬
‫على النسان بالفعل وضمن نفس شممروطه الموضمموعية )أضممل أعمممالهم(‬
‫في داخلها وضمنها‪ .‬ومما يؤكد المعنى الدنيوي في هذه اليممة‪:‬وضممع دعمموة‬
‫الزبانية كمقابل شرطي لم )فليدع ناديه( ‪ ،‬ونمماديه أي )جممماعته( دعمموة تتممم‬
‫في الدنيا ‪ ،‬حيث يتداعى الرهط وليس في الخرة ‪ ،‬فليس ثمة جماعة يلوذ‬
‫بها النسان هنمماك‪ .‬كممذلك )الناصممية( دللممة علممى )الجممبين( رمممز السممتعلء‬
‫والكبر والطغيان حيث يسفع بها رمزا ً للهانة‪.‬‬
‫فالقممدرة اللهيممة فممي تممداخلها مممع الفعممل البشممري )ضمممن الشممكال‬
‫الواردة في الملحظات( تظل مهيمنة على نتائج الفعل البشري الحضممارية‬
‫باحتوائه سلبيا ً إن كان فعل ً خاطئا ً ‪ ،‬وباحتوائه إيجابيا ً إن كان فعل ً صالحًا‪.‬‬
‫في الحالة السلبية ترتد عليه في الطار الموضوعي للحركة نفسها أو‬
‫من خارجها كما جاءت الحداث علممى أيممام الرسممل‪ .‬وفممي الحالممة اليجابيممة‬
‫أيضا ً يدفع الله بالفعل البشري نفسه ضمن الطار الموضمموعي للحركممة أو‬
‫من خارجها‪ .‬فالله موجود في مسيرة الفعل البشري وحركتممه مممن حيممث ل‬
‫نشعر ‪ ،‬غير أن هذا الوجود يتم بكيفيممة همي ممن خصمائص القممدرة ‪ ،‬بحيممث‬
‫يصبح النسان أيضا ً مسئول ً عن فعله ‪ ،‬فالتداخل ل يبطل التمايز ‪ ،‬ولن هذا‬
‫المر بالذات أي )وجود الله في مسيرة الفعممل البشممري والطممبيعي( يعتممبر‬

‫‪13‬‬
‫من المور المستعصية على الفهام‪ .‬فقد خططنمما – ضمممن هممذه السلسمملة‬
‫الترشيدية – لدراسة مستقلة حول )مراتب الفعل اللهممي فممي تممداخله مممع‬
‫النسان والطبيعة( ‪ ،‬فهنمماك مرتبممة )فعممل المممر المطلممق( ‪ ،‬وهنمماك مرتبممة‬
‫)فعل الرادة النسبي( ‪ ،‬وهناك مرتبممة )فعممل المشمميئة المقيممد إلمى السممنن‬
‫الكونية( ‪ ،‬ولكل من هذه المراتب خصائصها ‪ ،‬وقد شملتها اليات‪:‬‬
‫َ‬ ‫شيٍء إ َ َ‬
‫ن)‪ – (40‬النحل ‪ /‬ج‬ ‫ن فَي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫قو َ‬ ‫ن نَ ُ‬
‫ذا أَرد َْناهُ أ ْ‬ ‫ما قَوْل َُنا ل ِ َ ْ ِ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫‪.14‬‬
‫وكذلك‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‪ – (82‬يس ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫كو ُ‬‫ن فَي َ ُ‬‫ه كُ ْ‬‫ل لَ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫شي ًْئا أ ْ‬
‫ن يَ ُ‬ ‫ذا أَراد َ َ‬
‫مُرهُ إ ِ َ‬
‫ما أ ْ‬‫إ ِن ّ َ‬
‫ففي اليتين أمر إلهي )إنما قولنمما – إنممما أمممره(‪ .‬وفممي اليممتين تشمميؤ‬
‫للمر )لشيء – إذا أراد شيئًا( ‪ ،‬وفي اليتين توسط بين المممر والتشمميؤ )إذا‬
‫أردناه – إذا أراد(‪ .‬فهناك )صيرورة( للمر نحممو التشمميؤ عممبر الرادة‪ .‬وهممذه‬
‫من خصائص التداخل بين الفعل اللهممي والوجممود البشممري والطممبيعي عممبر‬
‫مراتب مختلفة‪ .‬وفي تلك الدراسة اللحقة – بإذن الله – والتي تعتمد علممى‬
‫القراءة المنهجية للقرآن ‪ ،‬سنحاول تجاوز إشكاليات المتكلمين حول الجبر‬
‫والختيممار والمنزلممة بيممن المنزلممتين ‪ ،‬ومممع تجمماوز إشممكاليات العلقممة بيممن‬
‫المطلق اللهي والنسبية البشرية‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫فيما سبق أن طرحنمماه توضممحت لنمما بعممض الخصممائص القرآنيممة الممتي‬
‫تعتبر مدخلنا لمنهجية القراءة التحليلية‪.‬‬
‫ل‪ :‬هناك الحاطة القرآنية المطلقمة بمالوجود متنزلمة علمى لغمة مشميأة‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫فماهية القرآن كلية ومحتوى اللغة نسبي‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هناك مطلق القرآن ونسبية الواقع نفسمه المذي تنمزل عليمه القمرآن‬
‫قبل أربعة عشر قرنا ً قمريًا‪.‬‬
‫م‬ ‫مث ْل ُك ُم ْ‬ ‫شٌر ِ‬ ‫ما أ ََنا ب َ َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬‫ثالثًا‪ :‬هناك مطلق القرآن ونسبية التلقي البشري‪ .‬قُ ْ‬
‫مًل‬ ‫يوحى إل َ َ‬
‫ل عَ َ‬ ‫مم ْ‬‫قمماَء َرب ّمهِ فَل ْي َعْ َ‬ ‫جمموا ل ِ َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬ ‫ن ك َمما َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ح مد ٌ فَ َ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬‫ما إ ِل َهُك ُ ْ‬‫ي أن ّ َ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ُ َ‬
‫دا)‪ – (110‬الكهف ‪ /‬ج ‪.16‬‬ ‫ح‬ ‫ك بعِبادة ربه أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ َ َ ِ َ ّ ِ َ ً‬ ‫صا ِ ً َ ُ ِ‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫حا‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫رابعا ً‪ :‬تفريغ المطلق – دون المساس بمطلقه – في حركة الواقع الحممي ‪،‬‬
‫بحيث تبمدو المطابقمة قائممة بيمن آيمات القمرآن وأسمباب النمزول المقيمدة‬
‫بالزمان والمكان‪ .‬مع أن القرآن كتاب ))مجيد(( ‪ ،‬أي يحيط بممالمتغيرات ول‬
‫د)‪(21‬فِممي ل َموٍْح‬ ‫جيم ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل هُموَ قُمْرآ ٌ‬ ‫تحيط به المتغيممرات فتتجمماوزه وتبليممه‪ :‬ب َم ْ‬
‫ظ)‪ – (22‬البروج ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫فو ٍ‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫َ‬
‫خامسا‪ :‬إعادة جمعه وترتيبه ل طبقا لتسلسممل النممزول التمماريخي ‪ ،‬ولكممن‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ضمن وحدة منهجيممة كتابيممة ‪ ،‬تخممرج بممالقرآن عممن حيممز التجربممة التاريخيممة‬
‫الموضعية إلى الكل العالمي زمانا ً ومكانًا‪ .‬وهذا ممما فعلممه الرسممول الخمماتم‬
‫والروح القدس جبريل ‪ ،‬عليهما الصلة والسلم‪.‬‬
‫سادسًا‪ :‬ربط السياق الكلي للكتاب بمحطات وقف تأملية ترتممد بممالمتفكر‬
‫إلى ما سبق ‪ ،‬لتعميق وتوسيع التلقي باتجاه ما يلحق‪ .‬وغالبا ً ما يممأتي ذلممك‬
‫في مواضع اليات التي تبدو للناس متماثلة‪.‬‬
‫إن القممرآن )المجيممد( ل يحيممط بممه إل ّ )ذو العممرش المجيممد( ‪ ،‬فمهممما‬
‫تعددت مجلدات الكتابة ‪ ،‬فإنها ليست سوى نصمميب وهبممه اللممه وبمماركه ‪ ،‬ل‬
‫دا‬ ‫دا ً‬ ‫مم َ‬ ‫حمُر ِ‬ ‫ن ال ْب َ ْ‬
‫ل ل َموْ ك َمما َ‬ ‫يتجاوز قمارورة واحممدة مممن مممداد كلممات اللممه‪ُ .‬قم ْ‬
‫ل ِك َل ِمات ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ‬
‫دا)‬ ‫ممد َ ً‬ ‫جئ ْن َمما ب ِ ِ‬
‫مث ْل ِمهِ َ‬ ‫ت َرب ّممي وَل َموْ ِ‬ ‫ممما ُ‬ ‫فمد َ ك َل ِ َ‬ ‫ن َتن َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َِ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ ِ َ ّ‬
‫‪ – (109‬الكهف ‪ /‬ج ‪.16‬‬
‫طوال أربعة عشر قرنا قمريا )هجريا( ومنذ تنزل القرآن على النممبي ‪/‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المي ‪ /‬في حراء ‪ ،‬وفي وسط ‪ /‬الميين ‪ /‬العرب ‪ ،‬ثم لحق بهم ‪ /‬الميون ‪/‬‬
‫ُ‬
‫م‬ ‫كيهِ ْ‬ ‫م آَيات ِهِ وَي َُز ّ‬ ‫م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫سوًل ِ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫مّيي َ‬ ‫ث ِفي اْل ّ‬ ‫ذي ب َعَ َ‬ ‫في العالم‪ :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫ن‬‫ريم َ‬ ‫خ ِ‬‫ن)‪َ(2‬وآ َ‬ ‫مِبيم ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضمَل ٍ‬ ‫فممي َ‬ ‫ل لَ ِ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ة وَإ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫وَي ُعَل ّ ُ‬
‫م)‪ – (3‬الجمعة ‪ /‬ج ‪.28‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫م وَهُوَ ال ْعَ ِ‬ ‫قوا ب ِهِ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ي َل ْ َ‬ ‫م لَ ّ‬‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫طوال هذه الفترة وإلى اليوم تعددت كتممب )تفسممير( القممرآن ممما بيممن‬
‫المحيطين الهادي شرقا ً والطلسي غربًا‪ .‬وقد أفادنمما علماؤنمما الجلء كممثيرا ً‬
‫على أي نهج كانوا ففسممروا ‪ ،‬نقل ً ومممأثورا ً أو رأيمًا‪ .‬ولكممن يممأتي ممن يعتقممد‬
‫اليوم أن القرآن قد كمل تفسيره بمن سبق ‪ ،‬وأنهم قمد عمالجوه ممن قبممل‬
‫على افممتراض أنهممم أهممل اللغممة الصمميلة والدرى بكنههمما والقممرآن عربممي ‪،‬‬
‫وأنهم القرب زمانا ً إلى حملة القرآن ممن كان الرسول بينهم‪ .‬وتممأتي فممي‬
‫هذا المضمار آراء وأسانيد شتى‪.‬‬
‫فكل ما ذكر صحيح ‪ ،‬فعلماؤنا أجلء وكانت فيهفم كفل تلفك‬
‫الحسنات ‪ ،‬لغة وقربا ً في الزمان‪ .‬فنحن هنا ل نناقش إضففعاف‬
‫ما أتوا به ‪ ،‬ول نصفه بما يقلففل مففن قففدره‪ .‬إننففا نففاقش قضففية‬

‫‪15‬‬
‫السففتمرارية فففي المبحففث القرآنففي نفسففه ‪ ،‬هففل هففي قائمففة‬
‫وممكنة أم غير قائمة وغير ممكنة‪.‬‬
‫فالممذين يقولممون‪ :‬إن اسممتمرارية المبحممث القرآنممي ‪ ،‬وممما يعرفممه البعممض‬
‫)بالجتهاد( أمر غير وارد ‪ ،‬لن مجلدات السابقين قد حوت ‪ ،‬وما سلف أفاد‬
‫وأفمماض ‪ ،‬هممؤلء يتجمماهلون مسممألتين هممامتين ‪ ،‬الولممى‪ :‬أن القممرآن كتمماب‬
‫ل‬ ‫)مجيد( والثانية نسبية البشر‪ .‬القرآن كتاب مجيد – وصفه اللممه بقمموله‪ :‬ب َم ْ‬
‫ظ)‪ – (22‬البروج ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫فو ٍ‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫د)‪ِ(21‬في ل َوٍْح َ‬ ‫جي ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َ‬ ‫هُوَ قُْرآ ٌ‬
‫والمجيممد يعنممي الخلممود والديمومممة ‪ ،‬وبالتحديممد الممذي ل يبلممي تمام ما ً‬
‫كالعرش المجيد‪ .‬والمر الذي ل يبلي من خصائصه أنه يستوعب كل زمممان‬
‫ومكان ول ينفرد زمان ومكان باستيعابه ‪ ،‬إل ّ إذا بطلت سنة الله فمي تغماير‬
‫وتبدل المكنة والزمنة‪ .‬فمالقول بممأن زمانما ً معينما ً ومكانما ً معينما ً ‪ ،‬خلل مما‬
‫مضى من الربعة عشر قرنا ً ‪ ،‬قد أحمماط بمممادة القممرآن واسممتوعباه شممرحا ً‬
‫وتفسيرا ً ‪ ،‬يحمل مظنة الطعممن فممي مجممد الكتمماب كممما فممي مجممد العممرش‬
‫اللهي‪ .‬إنه طعن في الزلية‪ .‬وللذين يعلمون أن يدركوا معنى هذا الطعن‪.‬‬
‫نسبية البشر – إن أي بشر ل يستطيع أن يحيط بعلم القرآن ومادته ل‬
‫تفسيرا ً ول شرحا ً ول تأويل ً ‪ ،‬ذلممك لن القممرآن متنممزل مممن مطلممق إلهممي ل‬
‫يحده بشر ‪ ،‬لن النسان كائن نسبي التكوين‪ .‬وقد نبه القممرآن لممذلك فيممما‬
‫دا‬ ‫دا ً‬‫مم َ‬ ‫حمُر ِ‬ ‫ن ال ْب َ ْ‬ ‫ل ل َموْ ك َمما َ‬ ‫أجرى من قول أمرا ً على لسممان خمماتم النممبيين‪ :‬قُم ْ‬
‫ل ِك َل ِمات ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ‬
‫دا)‬ ‫ممد َ ً‬ ‫جئ ْن َمما ب ِ ِ‬
‫مث ْل ِمهِ َ‬ ‫ت َرب ّممي وَل َموْ ِ‬ ‫ممما ُ‬ ‫فمد َ ك َل ِ َ‬ ‫ن َتن َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َِ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َ ِ َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ن ك َمما َ‬ ‫مم ْ‬‫حمد ٌ فَ َ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫م إ ِلم ٌ‬ ‫ممما إ ِلهُك ُم ْ‬ ‫ي أن ّ َ‬ ‫حى إ ِلم ّ‬ ‫م ُيو َ‬ ‫مث ْلك ُ ْ‬ ‫شٌر ِ‬ ‫ما أَنا ب َ َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬‫‪(109‬قُ ْ‬
‫َ‬ ‫حا وََل ي ُ ْ‬
‫دا)‪– (110‬‬ ‫حم ً‬ ‫ك ب ِعِب َمماد َةِ َرب ّمهِ أ َ‬ ‫شمرِ ْ‬ ‫صممال ِ ً‬ ‫مًل َ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫قاَء َرب ّهِ فَل ْي َعْ َ‬ ‫جوا ل ِ َ‬
‫ي َْر ُ‬
‫الكهف ‪ /‬ج ‪.16‬‬
‫فالرسول في علقته بالقرآن هي علقممة بشممر نسممبي بممادة مطلقممة‪.‬‬
‫علما ً بأن الرسول لم يورثنا كتبا ً في التفسير ‪ ،‬وما نسب إليه من قول ‪ ،‬أو‬
‫فعل ‪ ،‬أو إقرار فهو منقول‪ .‬إذن فليس من إمكانية للقول بممأن النظممر فممي‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ممم ْ‬ ‫مد ّهُ ِ‬‫حُر ي َ ُ‬ ‫م َوال ْب َ ْ‬ ‫جَرةٍ أقَْل ٌ‬ ‫ش َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫القرآن قد استوفى‪ :‬وَل َوْ أن ّ َ‬
‫بعده سبع ُ َ‬
‫م)‪ – (27‬لقمان ‪/‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ت الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ما ُ‬ ‫ت ك َل ِ َ‬ ‫فد َ ْ‬
‫ما ن َ ِ‬ ‫حرٍ َ‬ ‫ة أب ْ ُ‬ ‫َْ ِ ِ َ َْ‬
‫ج ‪.21‬‬
‫فهل لبشر أن يحيط بذلك؟‬
‫الستمرارية بنص القرآن‬
‫إن استمرارية المبحث القرآني وعممدم إغلق النظممر عليممه أمممر مؤكممد‬
‫بنممص آيممات القممرآن ول تتطلبهمما الحكمممة فقممط‪ .‬فالكتمماب كتمماب )مجيممد( ‪،‬‬
‫والبشر على نسبية تكوينهم في زمانهم ومكانهم ‪ ،‬فلكل فممترة حظهمما مممن‬
‫الكتاب ومجده تماما ً ‪ ،‬كما أن مجد الكتاب دللة على ختم النبمموة‪ .‬فلممو لممم‬
‫يكن الكتاب مجيدا ً لكان وضعه كوضع التوراة ‪ ،‬فيبعث الله الرسممل مقفيممن‬
‫في َْنمما‬ ‫ب وَقَ ّ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا ُ‬‫لبعضهم ليواصلوا مهمة الشرح والتشريع‪ :‬وَل َ َ‬
‫ل )‪ – (87‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫س ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫أما النبوة الخاتمة فمقابلها استمرارية الكتاب المجيد في العطاء لكل‬
‫الزمنة ولكل المكنة‪ .‬والعطاء ل يكون إل ّ من خلل بشممر يقممرءون الكتمماب‬
‫ويكتبون‪ .‬وإل ّ تقادم عهد الناس بالكتاب ولم يعد يممواكب متغيممرات زمممانهم‬

‫‪16‬‬
‫ومكانهم وقد ختمت النبوات‪ .‬فماذا يقول القرآن في هذه المسممألة بممل أن‬
‫نستمع لقوال البشر‪ :‬حين يطول المد يحيي الله الموات‪.‬‬
‫حقّ وَلَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ال َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما ن ََز َ‬ ‫م ل ِذِك ْرِ الل ّهِ وَ َ‬ ‫شعَ قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫مُنوا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫م ي َأ ِ‬ ‫أل َ ْ‬
‫َ‬ ‫كال ّذي ُ‬
‫م‬ ‫ت قُل ُمموب ُهُ ْ‬ ‫سم ْ‬ ‫ق َ‬ ‫ممد ُ فَ َ‬ ‫م اْل َ‬ ‫ل عَل َي ْهِم ْ‬ ‫ل فَط َمما َ‬ ‫ن قَب ْم ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫كوُنوا َ ِ َ‬ ‫يَ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫موْت َِها قَد ْ ب َي ّّنا ل َك ُ ْ‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬ ‫ي اْلْر َ‬ ‫ح ِ‬‫ه يُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ن)‪(16‬اعْل َ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫م َفا ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫وَك َِثيٌر ِ‬
‫ن)‪ – (17‬الحديد ‪ /‬ج ‪.27‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫ت ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫اْلَيا ِ‬
‫قد ربط الله ما بين الرض والقلوب الممتي تممموت حيممن يتقممادم عليهمما‬
‫العهد والمد ‪ ،‬فبالنسبة للرض ينزل الله عليها الممماء فتهممتز بعممد أن كممانت‬
‫ة ف َم إ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ن آَيات ِهِ أ َن ّ َ‬
‫ت‬ ‫ممماَء اهْت َمّز ْ‬ ‫ذا أنَزل ْن َمما عَل َي ْهَمما ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫شع َ ً‬ ‫خا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ك ت ََرى اْلْر َ‬ ‫م ْ‬ ‫ساكنة‪ :‬وَ ِ‬
‫ه عََلمى ُ‬ ‫َ‬
‫ديٌر) ‪– (39‬‬ ‫يٍء َقم ِ‬ ‫شم ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كم ّ‬ ‫مموَْتى إ ِّنم ُ‬ ‫حِيمي ال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫هما ل َ ُ‬ ‫حَيا َ‬‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ت إِ ّ‬ ‫وََرب َ ْ‬
‫فصلت ‪ /‬ج ‪.24‬‬
‫فالخشمموع هممو السممكون المتهيممأ وليممس السممكون العممدمي ‪ ،‬فممالرض‬
‫الخاشعة ‪ ،‬المهيأة ‪ ،‬تتلقى الماء فتهتز وتربو‪ .‬والقلمب الخاشممع يتلقممى ذكممر‬
‫الله فيهتز ويربو ‪ ،‬غير أن ‪ /‬المد حين يطول ‪ /‬يميت القلوب ويفقدها قدرة‬
‫التلقي ‪ ،‬يفقدها الخشوع‪ .‬فكيف يثير الله في قلمموب ‪ /‬الممذين آمنمموا قابليممة‬
‫التلقي؟ لول أن يكون ذلك ‪ /‬بإحياء ‪ /‬الذكر فممي نفوسممهم وقلمموبهم‪ .‬وكيممف‬
‫يكون ذلك دون الستمرار في الكتابممة والقممراءة والقممول؟ فممإن عمماد المممر‬
‫لكثرة المصاحف فإنها بالمليين ‪ ،‬وإن كانت المساجد فإنها بمئات اللوف‪.‬‬
‫ثم إن المسيحية قد قفزت لتكون الذين الثاني في العالم تعممدادا ً بعممد‬
‫البوذية وتنصر كثيرون من ديننا‪ .‬فممالقلوب الميتممة تحيممى بإحيمماء ذكممر اللممه‪.‬‬
‫والذكر كتابة وقول وقراءة واستنهاض‪ .‬ول يتم ذلممك إل بمغالبممة هممذا المممد‬
‫الطويممل ونفممض غبمماره وغسممل ممما ران علممى النفمموس‪ .‬فمممن ذا يواصممل‬
‫الستمرارية التي ذكرها الله في سورة الحديد؟ للكتاب ورثففة يحملففونه‬
‫ويستمرون‪:‬‬
‫َ‬
‫ه‬‫ن الل ّم َ‬ ‫ن ي َمد َي ْهِ إ ِ ّ‬ ‫ما ب َي ْم َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ب هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫ذي أوْ َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫صط َ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫من ْهُ م ْ‬ ‫عَبادِن َمما فَ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫في َْنا ِ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫م أوَْرث َْنا ال ْك َِتا َ‬ ‫صيٌر)‪(31‬ث ُ ّ‬ ‫خِبيٌر ب َ ِ‬ ‫ب ِعَِبادِهِ ل َ َ‬
‫و‬
‫ك هُ م َ‬ ‫ن الل ّمهِ ذ َل ِم َ‬ ‫ت ب ِمإ ِذ ْ ِ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫سمماب ِقٌ ب ِممال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُم ْ‬ ‫ص مد ٌ وَ ِ‬ ‫قت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫سه ِ و َ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ل ِن َ ْ‬ ‫ظال ِ ٌ‬‫َ‬
‫ل ال ْك َِبيُر)‪ – (32‬فاطر ‪ /‬ج ‪.22‬‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قد أوحى – من – الكتاب ما همو مصمدق للمذي بيمن يمديه ‪ ،‬فمي وقتمه‬
‫صمميٌر – والخممبرة تتجممه إلممى‬ ‫خِبيمٌر ب َ ِ‬ ‫ه ب ِعَِبادِهِ ل َ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وعصره ‪ ،‬وختمت الية ‪ -‬إ ِ ّ‬
‫التفصيل في المر ‪ ،‬ودقائق الواقع كذلك ما يستبصر مممن المممر‪ .‬ثممم أورث‬
‫الكتاب لمن اصطفاهم الله من عباده ‪ ،‬ولم يقل الله إنهممم أوليمماء يطيممرون‬
‫في الهواء أو يمشون على الماء ‪ ،‬ولم يقل إنه يرسل آيات يستشهدون بها‬
‫على أنهم ورثة الكتاب ‪ ،‬بل قال عنهم غير ما يتوقعه الناس عادة في مثممل‬
‫هذه الوضاع ‪ ،‬قال عنهم إن منهم من هو ظممالم لنفسممه ‪ ،‬ومنهممم مممن هممو‬
‫مممن ل ينضمموي‬ ‫مقتصد ‪ ،‬ومنهم من هو سابق بممالخيرات‪ .‬ومممن مممن البشممر َ‬
‫من ذا الذي يشترط على الله صممفات‬ ‫صفة ضمن قائمة من هذه القوائم‪ .‬و َ‬
‫الوريث؟!‬
‫ً‬
‫فالورثة موجودون ويستمرون في عملهممم أي ّما كممانت صممفاتهم‪ .‬وهممذه‬
‫مسممألة ترجممع إلممى اللممه وليممس مممن مجلممس يسممتطيع تحديممدها ‪ ،‬فيصممدر‬

‫‪17‬‬
‫مرسوما ً بأهليمة ممن ورث ‪ ،‬وإن كمان ظالمما ً لنفسمه أو مقتصمدا ً أو سمابقا ً‬
‫بالخيرات‪.‬‬
‫ويحذر الله الوارثين‬
‫ول يترك الله المر قيد الهوى ‪ ،‬وإن الهوى لصعب المراس فممي واقممع‬
‫كثير العنممت وعظيممم الحممزن فشممدد اللممه علممى الممدرس والتقيممد والمعرفممة‬
‫ذا اْل َد ْن َممى‬ ‫ض هَ م َ‬ ‫ن عَمَر َ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ب ي َأ ْ ُ‬ ‫ف وَرُِثوا ال ْك َِتا َ‬ ‫خل ْ ٌ‬
‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ف ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫الوثوقية‪ :‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ميث َمما ُ‬
‫ق‬ ‫م ِ‬ ‫خمذ ْ عَلي ْهِم ْ‬‫م ي ُؤْ َ‬ ‫ذوهُ ألم ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ه ي َأ ُ‬ ‫مث ْل ُ‬‫ض ِ‬ ‫م عََر ٌ‬ ‫ن ي َأت ِهِ ْ‬ ‫فُر لَنا وَإ ِ ْ‬ ‫سي ُغْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫وَي َ ُ‬
‫داُر اْل ِ‬ ‫َ‬
‫خي ْمٌر‬‫خمَرةُ َ‬ ‫ما ِفيمهِ َوالم ّ‬ ‫سوا َ‬ ‫حقّ وَد ََر ُ‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ إ ِّل ال ْ َ‬ ‫ن َل ي َ ُ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫صَلةَ إ ِّنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫ب وَأَقا ُ‬ ‫ن ِبال ْك َِتا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫س ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن)‪َ(169‬وال ّ ِ‬ ‫قُلو َ‬ ‫ن أفََل ت َعْ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ن ي َت ّ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن)‪ – (170‬العراف ‪ /‬ج ‪.9‬‬ ‫حي َ‬ ‫صل ِ ِ‬ ‫م ْ‬‫جَر ال ْ ُ‬ ‫ضيعُ أ ْ‬ ‫َل ن ُ ِ‬
‫فالورثة الحقيقيون )مصلحون( ‪ ،‬والصلح يأتي بعد فسمماد يلعممب فيممه‬
‫طول المد دوره ‪ ،‬والصلة عماد ومدخل‪ .‬والتحذير قائم في أل ّ يتخذ هممؤلء‬
‫الورثة مواقف التسهيل المفضية إلى التفريط محاولة منهم لجتذاب قلوب‬
‫الناس ‪ ،‬فيمضون ممن الصممغائر إلممى الكبممائر اسممتنادا ً إلمى سمموابق خففممت‬
‫الضرورات الخذ بها‪.‬‬
‫لم يضع الله عقاب مدرسية‬
‫إن الخذ بالكتاب يتطلممب السممتعداد وبممذل الجهممد ‪ ،‬غيممر أن اللممه قممد‬
‫أوضح أن )الذكر( قد يسمر ‪ ،‬والمذكر همو القمرآن ‪ ،‬فممن يعسمر فمي الخمذ‬
‫والتناول فقد جانب اليسر الذي يقتضي أيض ما ً عممدم التفريممط والستسممهال‬
‫ر)‪ – (17‬القمر ‪ /‬ج‬ ‫م مد ّك ِ ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ م ْ‬ ‫قْرآ َ‬ ‫سْرَنا ال ْ ُ‬ ‫قد ْ ي َ ّ‬ ‫والتسيب‪ .‬وَل َ َ‬
‫‪.27‬‬
‫فالقرآن قد يسر للذكر ‪ ،‬للعلم والمعرفة بممه ‪ ،‬والعلممم يسممبق اليمممان‬
‫ل ال ّذي ُ‬
‫ب الّلم ِ‬
‫ه‬ ‫م ِفمي ك ِت َمما ِ‬ ‫قمد ْ ل َب ِث ْت ُم ْ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬ ‫م َوا ْ ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫في كتاب الله‪ :‬وََقا َ‬
‫ن)‪ – (56‬الروم ‪ /‬ج‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ث وَل َك ِن ّك ُ ْ‬ ‫م ال ْب َعْ ِ‬ ‫ذا ي َوْ ُ‬ ‫ث فَهَ َ‬ ‫إ َِلى ي َوْم ِ ال ْب َعْ ِ‬
‫‪.21‬‬
‫فالله إذ يرفع بالعلم درجات إل أنه ل يجعل من شروط العلم والتعليم‬
‫عسرا ً دون جلء حقائق الذكر والتنزيل تماما ً كما فعممل القممدمون بكتبهممم ‪،‬‬
‫فقيدوها إلى قواعد شممدتها مممن كممل جممانب ‪ ،‬فأركسممت وأخلممدت بهمما إلممى‬
‫الرض وأثقلتها ‪ ،‬فل هي بالمتسامية إلى العل ول هي بالمستجيبة لنسمممات‬
‫الرياح فتدخلها ‪ ،‬وظنمموا أن فممي إثقالهمما بهممذه المشممدات والحجممارة تقويممة‬
‫لبنيانها ‪ ،‬وما فعلوا في الحقيقة سوى حجبهمما بحجممة المحافظممة عليهمما ‪ ،‬ممما‬
‫وجد الذكر إل ّ مشارع مفتوحة للداخلين ‪ ،‬ول يخشى اللممه علممى بنيممانه مممن‬
‫أحد في السموات أو في الرض فهو له من الحافظين‪.‬‬
‫لماذا التحليل وليس التفسير؟‬
‫إن التفسير هو تفصيل المعاني وشممرحها ‪ ،‬أممما التحليممل فهممو رد هممذه‬
‫المعاني إلى أصولها‪ .‬فالتحليل يأتي لحقا ً للتفسممير فممي السمملوك الفكممري‪.‬‬
‫وهدف التحليل همو الوصمول إلمى القصمد ممن وراء اليمة والسمورة وليمس‬
‫مجرد شرح الية والسممورة‪ .‬فممي اختصممام المل العلممى ليممس هممدفنا شممرح‬
‫موقف الختصام فحسب ولكن فهم نتممائجه‪ .‬فالتحليممل يتجممه إلممى )ماهيممة(‬
‫المر وليس إلى شكله‪ .‬فالتحليل ل يكتفي بالنظر إلى البل كيممف خلقممت ‪،‬‬
‫وإلى السماء كيف رفعت ‪ ،‬وإلى الجبال كيممف نصممبت ‪ ،‬وإلممى الرض كيممف‬

‫‪18‬‬
‫َ‬
‫ف‬ ‫ماِء ك َي ْم َ‬‫سم َ‬ ‫ت) ‪(17‬وَإ ِل َممى ال ّ‬‫قم ْ‬
‫خل ِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ل ك َي ْم َ‬‫ن إ ِل َممى اْل ِب ِم ِ‬‫سممطحت‪ :‬أفََل ي َن ْظ ُمُرو َ‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ت)‪– (20‬‬ ‫ح ْ‬ ‫سط ِ َ‬
‫ف ُ‬‫ض ك َي ْ َ‬ ‫ت)‪(19‬وَإ ِلى الْر ِ‬ ‫صب َ ْ‬‫ف نُ ِ‬ ‫ل ك َي ْ َ‬ ‫جَبا ِ‬ ‫ت)‪(18‬وَإ َِلى ال ْ ِ‬ ‫ُرفِعَ ْ‬
‫الغاشية ‪ /‬ج ‪.30‬‬
‫وإنما يحاول معرفممة العلقممة بيممن خلممق البممل وهممذا الخلممق الكمموني ‪،‬‬
‫مضاهاة ارتفاع البل على قوائمها والسماء بل عمد‪ .‬ونصب الجبال وأسنمة‬
‫البل ‪ ،‬وتسطيح الرض وخف البل‪ .‬فالوحممدة التخليقيممة للبممل فممي مقابممل‬
‫الوحدة التخليقية لظواهر الكون‪ .‬ثم نمضي إلى المركب البعممد ‪ ،‬فالوحممدة‬
‫التخليقية للبل هادفة وذات غائية ‪ ،‬فالبممل ليسممت جسممدا ً ل يطممابق حاجممة‬
‫النسان ‪ ،‬فهي يسير بخفها وتحمل على سنامها ‪ ،‬وتعطي من ضممرعها كممما‬
‫السماء مممن سممحبها ‪ ،‬كممما الجبممال وحجارتهمما وفجاجهمما والرض وسممهولها‪.‬‬
‫ترابط التكوين الخلقي بالهدف ‪ ،‬بالغاية ‪ ،‬كما خلق لنا ما في البممل جميع ما ً‬
‫َْ‬
‫ميًعا )‪ – (29‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َقَ ل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫تمامًا‪ :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫فهنا أ‪ /‬خلممق – ب‪ /‬خصممائص خلممق مكيفممة علممى حاجممة النسممان – ج‪/‬‬
‫مضاهاة خلق متماثل داخل خلق متماثل‪.‬‬
‫هنمما يصممل التحليممل إلممى اسممتخلص المبممدأ ‪ ،‬الرتبمماط بيممن الخلممق‬
‫والتسخير أي )التوافقية( ‪ ،‬فيوضع هذا المبدأ فممي مقابممل المبممدأ الممدهري ‪/‬‬
‫الشتراكي الخفي ‪ /‬الذي يقرر اللغائية في الخلق وفي اتجاه الحركممة‪ .‬ثممم‬
‫يعاد تركيب مبدأ الغائية القرآني في الخلق ضمن علقة الله بالنسان الذي‬
‫خلممق لممه الكممون مممن زاويممة )قيمممة الخلممق اللهممي( فممي مقابممل )الفعممل‬
‫النساني(‪ .‬فحليب البل نتاج قوة عمل – خلق – تكوين إلهممي ‪ ،‬قيمممة قمموة‬
‫عمل النسان محددة بالناتج فقط – الحلب – الركوب ‪ ،‬فقيمة العمممل تممرد‬
‫بالتحليممل إلممى مصممدرها‪ .‬المصممدر هنمما هممو اللممه ‪ ،‬ثممم تحلممل قيمممة العمممل‬
‫النساني التي تأتي على )سطح( قوة العمممل اللهممي ‪ ،‬إذن‪ ..‬ل طغيممان ‪ ،‬ل‬
‫استبداد ‪ ،‬الزكاة أقل مقدارها مممن قيمممة العطمماء اللهممي لنممه الصممل فممي‬
‫الناتج القتصادي‪ .‬ل نخلق الحليب ولكن نحلبه ‪ ،‬وخلق الحليممب مممن الناقممة‬
‫وجعله فيها كجعل المطر في السممماء ‪ ،‬وهممي الممتي تحيممي لنمما الرض‪ .‬هنمما‬
‫نمتد من الغاشية إلممى الحديممد ‪ ،‬والنمممل ‪ ،‬والنفطممار ضمممن سممياق ومنهممج‬
‫متسلسل عضوي واحد خلفا ً للتفسير‪.‬‬
‫بالمنهج التحليلي الذي يركب القضممايا فممي بعضممها ويولممد منهمما قضممية‬
‫جديدة ‪ ،‬سنجد أننا ل نكاد نبممدأ بفاتحممة الكتمماب إل وقممد لزمنمما الكتمماب كلممه‬
‫لشممرح فمماتحته‪ .‬فاليممة تبممدأ بسمميطة وسممهلة فممي معناهمما ومبناهمما ‪)) ،‬أ َفََل‬
‫ت(( كمما فمي سممورة الغاشممية ‪ ،‬ثمم تسمتوعب‬ ‫ق ْ‬‫خل ِ َ‬‫ف ُ‬ ‫ل ك َي ْ َ‬ ‫ن إ َِلى اْل ِب ِ ِ‬ ‫ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫هذه النظرة آيات في الكتاب كله‪ .‬فالذي ينظر بالعين الحقيقية ل يمكن أن‬
‫يبدأ في حياته بغير )بسم الله الرحمن الرحيم( ‪ .‬فالتحليل يبممدأ بالبسمميط ‪،‬‬
‫ثم مركب المركب ليصل إلى غاية التعقيد فممي التوليممد أي إلممى )الجدليممة(‪.‬‬
‫فالبل في سورة )الغاشية( حيث ترمز لمظاهر البناء الكوني هممي )البممدن(‬
‫في سورة )الحج( والتي جعلها الله من شعائر وهممي )الذبممح العظيممم( فممي‬
‫سممورة )الصممافات( ففممي )الغاشممية( نفهممم معنممى القربممان المموارد فممي‬
‫)الصافات( ‪ ،‬ومعنى البدن في الحج‪ ..‬الكتاب كل منهجي مترابط‪.‬‬
‫التحليل الجدلي تدقيق منهجي‬

‫‪19‬‬
‫إن من أساسيات التحليممل أنممه قممائم علممى التممدقيق وإل انهممارت كفممة‬
‫أساسات البناء للقضية‪ .‬فالتحليل يعمد إلى إعمادة البحمث والكتشماف فمي‬
‫معاني الشياء ‪ ،‬وفق ممما تممرد فممي القممرآن نفسممه وليممس وفممق ممما يشممكل‬
‫القناعات العامة‪ .‬هل كممان إسممماعيل طفل ً صممغيرا ً حيممن عرضممت لبراهيممم‬
‫ممما ب َل َم َ‬
‫غ‬ ‫رؤية الذبح؟ فإن كان صغيرا ً فكيف جرى ذلك الحمموار المممؤمن؟‪ :‬فَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ذا ت ََرى َقا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ك َفانظ ُْر َ‬ ‫ح َ‬ ‫مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ‬ ‫ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ‬ ‫ل َياب ُن َ ّ‬ ‫ي َقا َ‬ ‫سعْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫معَ ُ‬ ‫َ‬
‫ن)‪– (102‬‬ ‫ري‬ ‫ب‬ ‫صمما‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ممم‬ ‫ه‬ ‫ّ‬
‫لمم‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫شمما‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ت‬ ‫سمم‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫تمم‬ ‫ممما‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫عمم‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫يمماأ َ‬
‫ّ ِ ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ‬
‫َ ُ َ ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬
‫الصافات ‪ /‬ج ‪.23‬‬
‫فهل قالها وهو صغير؟ أم قالها وهو رجل؟ ))فلما بلغ معه السممعي(( ‪،‬‬
‫وماذا يقصد بالسعي؟ وما هي مواصفاته البدنية والعقلية؟‬
‫هل أمر الله إبراهيم بذبح ابنه الحليم أم أن إبراهيم قد رأى ذلممك فممي‬
‫رؤيا منامية ودون أن يعبرها أو يتأولها ثم فسرها له ابنممه بأنهمما أمممر إلهممي؟‬
‫ي إ ِن ّممي أ ََرى فِممي‬ ‫ل ي َمماب ُن َ ّ‬ ‫ي قَمما َ‬ ‫س مع ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫معَ ُ‬ ‫ما ب َل َغَ َ‬ ‫م)‪(101‬فَل َ ّ‬ ‫حِلي ٍ‬ ‫شْرَناهُ ب ِغَُلم ٍ َ‬ ‫فَب َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫جد ُِني إ ِ ْ‬ ‫سمت َ ِ‬ ‫مُر َ‬ ‫مما ت ُمؤْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ت افْعَم ْ‬ ‫ل َياأب َ ِ‬ ‫ذا ت ََرى َقا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ك َفانظ ُْر َ‬ ‫ح َ‬ ‫مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن)‪ .(102‬ثم لماذا تدخل الله ومنع الذبح إن كان أمرا ً‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م)‪(104‬قَ مد ْ‬ ‫هي ُ‬ ‫ن ي َمماإ ِب َْرا ِ‬ ‫ن)‪(103‬وََناد َي ْن َمماهُ أ ْ‬ ‫جِبي م ِ‬ ‫ه ل ِل َ‬ ‫ما وَت َل م ُ‬ ‫س مل َ‬ ‫ممما أ ْ‬ ‫منممه؟ ‪ :‬فَل ّ‬
‫ن)‬ ‫مِبيم ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ذا لهُموَ الب َلُء ال ُ‬ ‫َ‬ ‫ن هَ م َ‬ ‫ن)‪(105‬إ ِ ّ‬ ‫س مِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت الّرؤَْيا إ ِّنا كذ َل ِك ن َ ْ‬ ‫صد ّقْ َ‬ ‫َ‬
‫م)‪ – (107‬الصافات ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫ٍ‬ ‫ظي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ح‬ ‫ْ‬
‫ُ ِ ٍ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪106‬‬
‫صحيح أن في تصديق الرؤيا ابتلء لبراهيم ولبنممه الحليممم ‪ ،‬فقممد أرادا‬
‫تنفيذ ما ظناه أمرا ً من الله ‪ ،‬فجزاهم الله جممزاء المحسممنين ‪ ،‬ولكممن المممر‬
‫اللهي لم يكن يذبح البن الحليممم ‪ ،‬وإنممما كممان بالقربممان عممن المكممان فممي‬
‫صمورة البمن الذبيمح فمي الرؤيما ‪ ،‬والرؤيما ُتمؤَّول وتعمبر ممن الصممورة إلمى‬
‫الصل ‪ ،‬ولهذا جمماء نممداء اللممه لبراهيممم ليسممتدرك عبممور الرؤيمما وتأويلهمما ل‬
‫تصديقها على صورتها )وناديناه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا( أن يا إبراهيممم‪.‬‬
‫فليس الله الرحيم ‪ ،‬الذي وهب إبراهيم خليله الواه الحليم ‪ ،‬ابنه الحليممم ‪،‬‬
‫أن يأمره بذبحه ‪ ،‬وإنما هو الفارق بين )تصديق( الرؤيا و )عبورها( كما نجد‬
‫ذلك عند يوسف ‪ ،‬وعليهم جميعا ً الصلة والسلم‪.‬‬
‫وفلك نوح هل هي مجرد سفينة وما الفرق بين الطوفممان والفيضممان ‪،‬‬
‫ن)‪– (40‬‬ ‫ن اث ْن َي ْ ِ‬ ‫جي ْ ِ‬ ‫ل َزوْ َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫وكيف كانت مواصفات البناء وهي قد حملت ) ِ‬
‫هود ‪ /‬ج ‪.(12‬‬
‫أي من كل نوع ثمانية ‪ ،‬وقد جرت بهم موج كالجبممال ‪ ،‬وليممس )فمموق(‬
‫موج ول )على( موج ‪ ،‬والموج كالجبال ‪ ،‬فكيف كان حال من فيها وهي في‬
‫ماءِ‬ ‫َ‬ ‫هذا الموج وما بين ماءين ‪ ،‬من السماء ومن الرض‪ :‬فَ َ‬
‫سمم َ‬‫ب ال ّ‬ ‫وا َ‬ ‫حَنا أب ْ َ‬ ‫فت َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مرٍ قَد ْ قُدَِر)‪– (12‬‬ ‫ماُء عََلى أ ْ‬ ‫قى ال ْ َ‬ ‫ض عُُيوًنا َفال ْت َ َ‬ ‫جْرَنا اْلْر َ‬ ‫ر)‪(11‬وَفَ ّ‬ ‫م ٍ‬ ‫من ْهَ ِ‬ ‫ماٍء ُ‬ ‫بِ َ‬
‫القمر ‪ /‬ج ‪.27‬‬
‫فهل كانت السفينة ‪/‬الفلك‪/‬مغلقممة؟ وإن كممانت مغلقممة فكيممف عاشمموا‬
‫داخلها طوال فترة الطوفان؟ هل قضى الله عليهم وهم داخلهمما سممنة أهممل‬
‫الكهف‪.‬‬
‫تساؤلت تستتبع التحليل ‪ ،‬وللتحليل غاية تتعلق بمرحلة نوح ومن معه‬
‫لحل لغز هاروت وماروت ‪ ،‬وحقيقممة بابممل التاريخيممة الحقيقيممة ‪ ،‬أهممي بابممل‬

‫‪20‬‬
‫المعروفممة منممذ القممرن العشممرين قبممل الميلد ‪ ،‬أم بابممل الممتي بنيممت علممى‬
‫أطللها؟‬
‫هذا كله سيكتشف في مواضعه من التحليل ‪ ،‬فالقرآن فممي كليتممه هممو‬
‫بالنسبة لنا مصدر المعرفة المهيمنة على كممل المعممارف بالدقممة والطلق ‪،‬‬
‫وعليه فمإن ممن واجبمات التحليمل ‪ ،‬التعاممل ممع القمرآن فمي دقتمه وعلمى‬
‫مسممتوى الحممرف ورمممزه‪ .‬فبهممذا نخممرج عممن ضمموابط المعرفممة التفسمميرية‬
‫لضوابط معرفية أشد وأدق وأكثر معانمماة ‪ ،‬فليسممت اللغممة وحممدها سممتكون‬
‫معيننا ‪ ،‬ولكن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ‪ ،‬أي سنمضي إلى حيممث‬
‫يتاح لنا في علومنا والله المستعان‪.‬‬
‫في القرآن بين المطلق والنسبي‬
‫يتضح أننا سنتبع أسمملوب ممما رتممب عليممه القممرآن ‪ ،‬وذلممك لممما يحمممل‬
‫الترتيب نفسه من معنى وماهية رابطة لسياقه المنهجي ‪ ،‬فالقرآن كوحممدة‬
‫عضوية ‪ ،‬يحمممل فمي داخمل تكموينه اتجاهما ً فمي الحركمة المحكومممة بغائيمة‬
‫معرفية متطورة ومتنامية ‪ ،‬من مبتداه إلى تمامه‪.‬‬
‫)فمهمتنا أن ننفذ عبر التشيؤ اللغففوي للقففرآن إلففى نفسففه‬
‫المتكلمة ‪ ،‬لنلج في داخلها المتحركة بالقراءة ‪ ،‬أو بالدمففج بيففن‬
‫القراءتين ‪ ،‬طبيعففة التجففاه والغايففة‪ .‬هنففا يصففبح القففرآن أشففبه‬
‫بكائن عضوي حي وناطق ‪ ،‬ومتشففيئ بالكلمففات المندمجففة فففي‬
‫اليات وفي السور وفي وحدة الكتاب(‪.‬‬
‫أسلوبنا المعرفي لن يكون تفسيريا ً بممل )تحليلي ما( كممما ذكرنمما حيممث ل‬
‫ً‬
‫تحصرنا فيه امتيازات )المهنة( ‪ ،‬التي جعلت البعض يحظر علممى الخريممن –‬
‫من دونه – دراسة الغيبيات والمتشممابهة ‪ ،‬فممي وقممت تعتمممد فيممه الحضممارة‬
‫العالمية الراهنة علممى نفممي هممذه الغيبيممات ‪ ،‬لتأكيممد ذاتهمما بإنكممار ذات اللممه‬
‫المنزهممة والمقدسممة ‪ ،‬خلف ما ً لممما كممان عليممه المممر طيلممة قممرون البشممرية‬
‫السالفة ‪ ،‬والتي لممم تكممن تنكممر فكممرة اللوهيممة ‪ ،‬ولكممن مسممختها بالشممرك‬
‫والتعالي‪ .‬فدراسة الغيبيات وإنشاء علم يبحث فيها وفي كل مدرك فوقي ‪،‬‬
‫أمر علمي وتاريخي ملح للغاية‪ .‬وأي تأخير في تدقيق هذا العلم هو خسارة‬
‫لنفسنا وللبشرية‪ .‬ويجب أن نميز أن العلم الذي أدعو إليه ليس هو دراسة‬
‫)علم الغيب( ‪ ،‬فالغيب ل يعلمه إل ّ اللممه ‪ ،‬ولكنممي أدعممو إلممى دراسممة )علممم‬
‫الغيممب( ‪ ,‬فهممو علممم يختممص باكتشمماف قمموة )الخلممق( علمي ما ً وموضمموعيا ً ‪،‬‬
‫وبدراسة خصائص التكوين ومقومات الحركة ‪ ،‬وتحديد وجود )الغائيممة( فممي‬
‫الخلق والحركة‪ .‬ووجود اتجاه في سيولة الحركة باتجاه هممذه الغائيممة‪ .‬فهممل‬
‫نجيب على التساؤلت العلمية المادية الجدليممة حممول كمممال الحركممة ونفممي‬
‫التأثير عليها من خارجها؟ هل نجيب على ذلممك بوجممود خممالق لهممذه المممادة‬
‫وخصائصممها وحركتهمما ‪ ،‬وأن المممادة )ناقصممة( ‪ ،‬ونكتفممي بهممذا القممول فممي‬
‫مواجهة المقولت العلمية للثورة الفيزيائية ؟‬
‫تغييب الرادة اللهية في الوعي المعاصر‬
‫إن أدمغة الحضارة العالمية المتقدمة الراهنة ‪ ،‬محشوة بنظريات فممي‬
‫العلوم الطبيعية ‪ ،‬انعطفت بها نحو تطبيقات اجتماعية وفلسفية ‪ ،‬فإلحادهمما‬
‫ليس ناتجا ً عن رغبتها الذاتية في اللحاد أو ضلل السبيل ‪ ،‬ولكنه ناتممج عممن‬
‫رؤيممة هممذه الفلسممفات لكممون ممنهممج بدقممة علميممة فائقممة فممي خصائصممه‬

‫‪21‬‬
‫وحركتممه ‪ ،‬بحيممث يمكممن للنسممان اكتشمماف قمموانين هممذه الحركممة الماديممة‬
‫والسيطرة بها على )تسيير( الكممون ‪ ،‬فممي هممذه الحالممة – أي حالممة القممدرة‬
‫على تسيير الكون علميا ً وضمن حالت الثورة الفيزيائية الن ‪ ،‬يجد النسان‬
‫نفسه غير مبصر لوجود إرادة ربممه فممي هممذا الكممون المشمميأ ‪ ،‬فتضمممر فممي‬
‫واعيته العلقة بالله ول يعود يفهم معنى لعبارة )إن شاء الله( و )بإذن الله(‬
‫طالما أنه – أي النسان – يرى نفسه قادرا ً على إطلق قمممر صممناعي إلممى‬
‫أي من الكواكب بممل والسمميطرة علممى المركبممة الفضممائية وتحديممد مممدارها‬
‫وهبوطها ‪ ،‬كذلك إصلح العطب فيها من محطة التحكم الرضي‪ .‬وإذا أدرك‬
‫إنسان الحضارة المعاصرة وجود الله ‪ ،‬فسرعان ما يجممد أمممامه تفسمميرات‬
‫مضلة وخاطئة عن العلقة بالله كمسألة المممر اللهممي ‪ ،‬المتمموهم لبراهيممم‬
‫بذبح ابنه ‪ ،‬فيرجع إلى الكفر من جديد‪ .‬فليس ثمة تكافؤ بين الفكر الممديني‬
‫التراثي والعقل العلمي‪.‬‬
‫العلو العلمي المادي يفضي إلى العلمانية‬
‫هذا الواقع المادي يممؤدي إلمى تصممور ذهنممي يفممارق بممه النسمان فعممل‬
‫الخلق اللهي في التكوين ‪ ،‬والرادة اللهية في المشمميئة وفمي الحركممة ‪ ،‬ل‬
‫يعود النسان المسيطر بعلمه على المادة التي يقلبها طوع بنانه قادرا ً على‬
‫رؤية )عنصر ناقص( فيها‪ .‬ثم يتحول النسان بهذه المنظورات العلمية إلممى‬
‫تصور ذهني )أيديولوجي( ‪ ،‬يسحبه على حركممة المجتمممع والتاريممخ والتطممور‬
‫المادي والنساني ‪ ،‬فيسير إلى مراحل تشيئات مادية أو إنسممانية ليربطهمما‬
‫بمقوماتها المادية )اقتصادية – اجتماعية( فيطرح علم )تطممور المجتمعممات(‬
‫ومراحل هذا التطور ‪ ،‬ول يصر مثل هذا الطرح العلمي المادي على أنه قممد‬
‫حدد نهائيما ً أشممكال التطممور ونماذجهمما ‪ ،‬ولكنممه يصممر علممى الذاتيممة للحركممة‬
‫والتطور‪.‬‬
‫مثل هذه المفاهيم النافية لفعل الغيب قد حوربت في إطار الحضممارة‬
‫الغربية نفسها ‪ ،‬ولكنها حروب كان المدافعون فيهمما عممن )عقيممدة اليمممان(‬
‫أقل أصالة وأكثر سطحية‪ .‬فحين طرح "نيمموتن" التصممور اللممي الميكممانيكي‬
‫للكون ‪ ،‬وأن كل شيء خاضع لقانون السببية الليممة ‪ ،‬وتمكممن مممن تفصمميل‬
‫الممبراهين علممى نظريتممه سممعى المؤمنممون تحممت ضممغط القتنمماع بالنظريممة‬
‫العلمية الميكانيكية للقول بأن الله قد كون الكون ‪ ،‬وحدد خصائصه المادية‬
‫‪ ،‬وضمنه حركته اللية الذاتية ‪ ،‬ودفع بممه فممي اتجمماه الزممن ‪ ،‬وهممذه نظريممة‬
‫عرفت وجود الله بأنه أعطى )الدفعة الولية( للكون ‪ ،‬وهذا المنطق يحتمل‬
‫بالضرورة أن الله قد خلق الكممون ودفعممه ثممم )غماب( عنممه ليسممتعيده فيمما‬
‫بعد ‪ ،‬أي في يوم البعث‪)) .‬ايزاك نيوتن ‪.((1727-1642 /‬‬
‫وحين حلت النظريات العلمية التطورية على يد )داروين( وبالذات في‬
‫مجال الخليا والنسجة وتكونها واستخلص نماذج تطورهمما ‪ ،‬لجممأ الممماديون‬
‫إلى استلب هذا المفهوم التطوري لتأكيد التطور الحيائي وبمستوى أرقممى‬
‫من قوانين العلقات الليممة ‪ ،‬فتحولمموا بهممذه النظريممة مممع تعميقهمما بممالعلوم‬
‫القتصممادية والجتماعيممة ‪ ،‬وعلممم الحفريممات الثريممة إلممى حركممة المجتمممع‬
‫التطورية على نحو ل أثر فيمه لرادة خارجيمة ممؤثرة فمي مسميرة التطمور‪.‬‬
‫)تشارلس داروين ‪.(1882-1809 /‬‬

‫‪22‬‬
‫ولم يستطع المؤمنون في مواجهتهم سوى استلب المفهوم التطوري‬
‫– مع القرار به – وتحويله إلى منحى مثالي أشبه بالوضعي ‪ ،‬يفسممر دوافممع‬
‫التطور بأنها كامنة في )فكرة( في )مطلق( يحدد )ماهيممة( الشممياء ويمموجه‬
‫حركتها نحو الغاية – الفكرة التي انتهت "بهيجل" إلى )الدولة(‪ .‬كشكل مممن‬
‫أشكال توليد المطلق للفكرة في داخل المادة وحركتها‪ .‬و "هيجل" هذا هو‬
‫الذي قال عنه ماركس‪ :‬إنه قد وجده يمشممي علممى رأسممه فأعمماده ليمشممي‬
‫على ساقيه ‪ ،‬أي تحول من الفكرة المطلقة التي تمشممي فممي المممادة إلممى‬
‫مادة تمشي على ساقين ماديين‪) .‬هيجل ‪.(1831-1770 /‬‬
‫وما بين إشكالية الرادة اللهية التي شيأت الكممون وحممددت خصائصممه‬
‫وغايممة الحركممة واتجاههمما ‪ ،‬وممما بيممن نظريممات العلمموم الطبيعيممة وإحالتهمما‬
‫الفلسفية ‪ ،‬اتخذ عديد من الفلسفة موقف الحياد أو السلبية فهممم ممماديون‬
‫فممي مختممبراتهم ‪ ،‬ولهوتيممون فممي حيمماتهم ‪ ،‬فظهممرت فلسممفات ترقيعيممة‬
‫وتوفيقية وانتقائية ‪ ،‬ل إلممى هممؤلء ول إلممى هممؤلء ‪ ،‬وتمماهت فممي ركممام مممن‬
‫التحديممدات غيممر المحممددة‪ .‬وممما ذلممك إل ّ لعممدم التكممافؤ ممما بيممن المفمماهيم‬
‫الخرافية التي تلبست اليديولوجية الدينية وتحرر العقل العلمي‪.‬‬
‫وجود الله بين التجريد والواقع الموضوعي‬
‫المشكلة ليست بسيطة كما يظنها البعض ‪ ،‬فكثير مممن النمماس يطلممق‬
‫ل‪)) :‬أل يفكر هؤلء العلماء الماديون في كيفية‬ ‫العبارات بسهولة كالقائل مث ً‬
‫الخلق العظيم والمقتن ‪ ،‬بحيث أصبح فممي دقممة تنظيمممه طمموع بنممانهم ‪ ،‬أل ّ‬
‫يفكر هؤلء في وجود خالق عظيم‪ ...‬إذن هم مجرد أغبياء وكفرة((‪.‬‬
‫بهذه الحجة يغلق السجل‪ .‬غير أن هممذه الحجممة لممم تكممن كافيممة حممتى‬
‫لقناع مشركي قريش قبل النبوة ‪ ،‬فقد قال لهم أحد الحناف‪)) :‬بعرة تدل‬
‫على بعير ‪ ،‬وأقدام تدل على مسير ‪ ،‬فأرض ذات فجاج ‪ ،‬وسماء ذات أبراج‬
‫‪ ،‬أفل يدل ذلك على حكيم خبير؟ ((‪ .‬ولكن بممالنبوة تحممول المشممركون إلممى‬
‫اليمان وإدراك حقائق ما نطق به ذلك الحنفي ‪ ،‬فلماذا؟‬
‫المر هنا ل يفسر من زاوية أنه كان على قلوبهم أقفممال لممم تكسممرها‬
‫إل ّ النبوة ‪ ،‬وإن كانت النبوة قد فعلت ذك ‪ ،‬ولكن كيف فعلته؟ فعلتممه حيممن‬
‫أبصر عرب الجزيرة فعل الرادة في الحركة الماثلة أمامهم ‪ ،‬فعممل المموحي‬
‫واليات المنزلة مرتبطة بكل حدث حيوي متحرك فممي واقعهممم ‪ ،‬رأوا فعممل‬
‫الرادة ‪ ،‬فممآمنوا وتيقنمموا ‪ ،‬أي أنهممم رأوا فعممل الغيممب فممي المممادة ‪ ،‬فممي‬
‫الحركة ‪ ،‬أحسوا به حاضرا ً موجودا ً ‪ .‬وعلموا صدق ما أنبأهم الله به‪.‬‬
‫إذن إشكالية النسان الذهنيففة ليسففت فففي دللت المنطففق‬
‫الفعلي على وجود الخالق ‪ ،‬ولكن الشكالية في أن يففدرك هففذا‬
‫النسفان ويحفس إحساسفا ً ملموسفا ً بوجفود الخفالق ففي حركفة‬
‫الكون والحياة بغير مفففاهيم خرافيففة وأسففطورية ‪ ،‬فيففدرك أنففه‬
‫مرتبط بفه ماديفا ً وفعليفا ً ‪ ،‬وأن وجفوده ككفائن بشفري وتطفوره‬
‫ككائن إنسان ‪ ،‬مرتبط في دقائق حركته بإرادة إلهية مباشففرة ‪،‬‬
‫محجوبة فففي ذاتهففا ‪ ،‬وليسففت معلومففة فقففط بآثارهفا وتصففورنا‬
‫العقلففي لهففذا الثففر ‪ ،‬ولكففن بفعلهففا الضففمني ‪ ،‬إضففافة إلففى‬
‫استرجاع المفاهيم الدينيففة واستصفففائها مففن الطففر الخرافيففة‬
‫والسطورية التي زيفت معاني العلقة النسانية مع الله‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫علم الغيبيات وليس علم الغيب‬
‫إننا ل نريد علم ما ً كعلممم المممدركات أو )الدراك فمموق العقلممي( ‪ ،‬وإنممما‬
‫نريد )علم الغيبيات( وليس علم الغيب لتأكيد فعمل الغيمب )الرادة اللهيمة(‬
‫في الحركة الماديممة ‪ ،‬ودون أن نقممول للحضممارة البشممرية‪ :‬إن ثمممة )عنصممر‬
‫مفقود( أو )ناقص( في الحركة المادية وهو دليل وجممود اللممه‪ .‬إننمما نريممد أن‬
‫نخممرج بممالفكرة الدينيممة مممن إطارهمما )الخلقممي( إلممى إطارهمما الحضمماري‬
‫الموضوعي الشمل ‪ ،‬بحيث نفهم القيمة العلمية الفعليممة لهممذه الخلقيممات‬
‫في حياتنا الجتماعية وتطورنا الحضاري وتقدمنا العلمي ‪ ،‬أي الدين كما هو‬
‫في حقيقته من أجممل الحيمماة‪ .‬مواكبما ً لتطممور العقممل النسمماني وموجهما ً لممه‬
‫ومتقدما ً عليه‪.‬‬
‫ل زال ثمة من يقول‪ :‬إن الفكرة الدينية والغيبية صممادرة عممن مراحممل‬
‫عجز النسان عن فهم حركة الظواهر الطبيعية والسيطرة عليهمما‪ .‬أممما الن‬
‫وقد تطورت مممدارك النسممان ووصممل مرحلممة التحكممم مممن علممى بعممد فممي‬
‫المركبة الفضائية ‪ ،‬فلم يتبقّ إل ّ القليل ليتخلى النسان عن فكرة الله‪.‬‬
‫ذهنية المرحلة العقلية الحيائية‬
‫في الحقيقة كان هذا التصور أحد مصادر تفكير النسان في وجود الله‬
‫‪ ،‬فاتجه إلى عبادته فممي شممكل ظممواهر طبيعيممة كالشمممس وكممالقمر ‪ ،‬كممما‬
‫جسد فكرة اللوهية في رموز ضممنمية‪ .‬ومضممى النسممان لكممثر مممن ذلممك ‪،‬‬
‫حين جعلت كل فئة لنفسها إلها ً )خاصًا( بها ‪ ،‬يحميها وينصممرها ويممدفع عنهمما‬
‫شر الخرين ويقودها‪ .‬وقد كانت فكرة الله الخاص استلب بممدائي لليمممان‬
‫بالله الواحد الخالق‪ .‬وقد مضى النسان لكثر من ذلممك حيممن جعممل نفسممه‬
‫معبودا ً يتشيأ الله في شخصه أو يقع منه موقع الظل‪ .‬وذلك كله نجده فممي‬
‫علممم )تاريممخ تطممور الديممان( وعلممم )الديممان المقارنممة( ‪ ،‬وفممي النظريممات‬
‫الجتماعية حول تكون المفاهيم ونوعية التصورات الذهنية‪.‬‬
‫مشكلة البشرية فممي مرحلممة وعيهمما )النيمممي( ‪) ،‬الحيممائي( ‪ ،‬الدراك‬
‫عبر الظواهر الطبيعية الحية المستقلة عن بعضها ‪ ،‬أنها قد جسممدت وعيهمما‬
‫باللوهية الخالقة والفاعلة في رمز تراه وتخاطبه وجعلت ما بينها وممما بيممن‬
‫هذا الرمز الجامد الخرس وسمميطا ً حيما ً ناطقما ً )الكهنممة( ‪ ،‬وقممد قممام هممؤلء‬
‫بدورهم في بلورة وتحديد مفهوم الدين وشعائره من حول هذا الرمز‪.‬‬
‫المهم أن البشممرية قممد ارتبطممت بالصممنام والهياكممل الوثنيممة والمعابممد‬
‫والطقوس والشعائر ‪ ،‬من خلل إحساسها بالله ‪ ،‬ومن خلل حاجتهمما إليممه ‪،‬‬
‫ضمن حياتها المليئة بظواهر الطبيعة المتحرشة والحياة المتوحشممة‪ .‬كممانت‬
‫تريد إلها ً )تراه( و )تخاطبه( و )تنظر إلى فعله( وهممو يقمموم بإحممداثه أمامهمما‬
‫وفي القرآن شممواهد كممثيرة علممى ذلممك‪ .‬وكمان السممحر هممو وسمميلة إحممداث‬
‫التغيير المادي في المرحلة الولية ضمن ثقافات تلك الشعوب‪.‬‬
‫النبوات تصارع في جبهتين‬
‫جاءت النبوات لتصارع في لطمار تلمك المرحلممة التاريخيمة )الحيائيممة‪-‬‬
‫النيمية( في جبهتين‪:‬‬
‫جبهة استخلص الوعي النساني من أسر تصوره الذهني لقوى الكون‬
‫الطبيعية ‪ ،‬وإسقاط فكرة اللوهية عليها وتجسيد الفكرة في الرمز مؤكممدة‬

‫‪24‬‬
‫أن هذا )الله – الصنم ( الذي يرى ويخاطب ‪ ،‬سواء في السماء شمسمما ً أو‬
‫ََ‬
‫ت‬ ‫ت فَعَل ْم َ‬ ‫في الرض وثنا ً ‪ ،‬هو إله عاجز حتى عن حماية نفسممه ))قَمماُلوا أأن ْم َ‬
‫م)‪ – (62‬النبياء ‪ /‬ج ‪ .((17‬ونفت عن الله خصوصية‬ ‫هي ُ‬ ‫ذا ِبآل ِهَت َِنا َياإ ِب َْرا ِ‬ ‫هَ َ‬
‫النتماء لعصبة بشرية معينة ‪ ،‬ونفت عنه صفة التجسيد والحلول‪.‬‬
‫في الجبهة الثانية كان على النبوات أن تجيممب علممى تسمماؤلت تتعلممق‬
‫بإلهها غير المرئي وغير المتجسد ‪ ،‬فالنسممان يريممد أن يخمماطب إلهممه ‪ ،‬بممل‬
‫ك)‪ – (143‬العراف ‪ /‬ج‬ ‫ب أ َرِِني َأنظ ُْر إ ِل َي ْ َ‬ ‫يريد أن يراه ‪ ،‬وحتى النبياء ))َر ّ‬
‫‪ .((9‬وكانت الجابممة واضممحة فممي فعممل اللممه المممرئي للخمموارق المعجممزة ‪،‬‬
‫انفلق البحر ليعبر بنممو إسممرائيل وعممدم احممتراق إبراهيممم بالنممار ‪ ،‬والمثممال‬
‫المادية المحسوسة الخارقة عديدة‪.‬‬
‫إذن كان ثمة فارق بين تصممورات الممذهن الحيممائي )النيمممي( وعقيممدة‬
‫التوحيد لله الفاعل الخالق المريد غير المرئي ‪ ،‬وقد تجمماوز اللممه بهممم هممذه‬
‫المرحلة عبر النبوات وجهمماد النبيمماء لثبممات وجممود اللممه أو فكممرة اللوهيممة‬
‫ولكن إثبات الحضور اللهي بممالرادة فممي الفعممل الجمماري المتمثممل أمممامهم‬
‫رحمة أو عقابًا‪.‬‬
‫هنا حولت تلك الجماعات البشرية رؤيتها لللوهية باتجاه الله الواحد –‬
‫غير المرئي ‪ ،‬غير المتجسد – ولكنه الفعال ‪ ،‬الموجود فمي حركمة الحمداث‬
‫المادية‪ .‬غير أن تلك الشعوب لم تتخمل عمن تصمورها لمعنمى اللوهيمة‪ :‬وَإ ِذ ْ‬
‫م‬ ‫ق ُ َ‬
‫ة وَأن ْت ُم ْ‬ ‫ع َ‬
‫صمما ِ‬‫م ال ّ‬ ‫جهَْرةً فَأ َ َ‬
‫خ مذ َت ْك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫حّتى ن ََرى الل ّ َ‬
‫ك َ‬‫ن لَ َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬
‫م َ‬ ‫سى ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫قُل ْت ُ ْ‬
‫ن)‪ – (55‬البقرة ‪ /‬ج ‪ .1‬فكان تأكيد الله لوجوده فيممما أحممدث مممن‬ ‫َتنظ ُُرو َ‬
‫خوارق مقدمة لصمتهم‪.‬‬
‫إذن فالشكال الذي كان يعالج في تلك المراحل ليس إنكار وجود الله‬
‫أو العتقاد به ‪ ،‬فقد كانت فكرة اللوهيمة قائممة ‪ ،‬ولكنهما أسمقطت بذهنيمة‬
‫الحيممائيين علممى ظممواهر الطبيعممة ومجسممدات الرمممز ‪ ،‬فحممول اللممه – عمبر‬
‫النبوات – تموجه العتقماد إلمى وحدانيمة مؤكمدا ً علمى حضموره بفعلمه وهمذا‬
‫الجانب الخير هو الجانب الهم‪.‬‬
‫الرادة اللهية والعلوم المادية‬
‫الن ‪ ،‬وفممي المرحلممة الحضممارية العلميممة الراهنممة ل يبممدو الشممكال‬
‫الساسي قائما ً حول وجود الله أو إنكمماره ‪ ،‬وإنممما هممو أيضما ً ذلممك الشممكال‬
‫البممدائي حممول موجوديممة اللممه – الغيممر مممرئي والغيممر متجسممد – فممي إطممار‬
‫الحركة المادية للكون‪ .‬فإذا كانت الحضارات الولية قد نظممرت إلممى المممر‬
‫من زاوية ضعفها وعجزها أمام ظواهر الطبيعممة واسممتبدادية ملوكهمما ‪ ،‬فممإن‬
‫الحضارات الراهنة علميا ً تنظر إلممى المممر مممن زاويممة إحساسممها بالقممدرات‬
‫العلمية للسميطرة علمى الظمواهر الطبيعيمة ‪ ،‬بفهمهما واسمتخلص قوانينهما‬
‫وتحليلها إلى جزئياتها وإعادة تركيبها‪.‬‬
‫هنا ينتهي أثر اليممان الحيمائي الولممي بمالله ‪ ،‬والقمائم علمى العجمز ‪،‬‬
‫لتحل محله عقائد الرتداد إلممى الممذات وإلممى الموضممع الممذي تسمميطر عليممه‬
‫الذات البشرية وتتحكم فيه‪ .‬هنا الرتممداد إلممى القممدرة الذاتيممة ‪ ،‬وتضممخيمها‬
‫على نحو فردي أو طبقممي أو شمموفيني والسممتعلء علممى العممالم‪ .‬إن فكممرة‬
‫اللوهية تنسحب هنا على فعاليات القدرة العلمية ‪ ،‬وكما قلنمما فممي أحسممن‬

‫‪25‬‬
‫الحوال يتمثل البعممض الفكممرة اللهيممة فممي الدفعممة الليممة الوليممة ‪ ،‬أو فممي‬
‫الماهية كفكرة مطلقة موجهة للتطور بطريقة هيجلية‪.‬‬
‫إذن فالقضممية أن نسممتعيد مممع الحضممارات العلميممة المتقدمممة مفهمموم‬
‫وجود الله بالفعل والرادة في الحدث الجاري ‪ ،‬في التكوين ‪ ،‬في الخصائي‬
‫‪ ،‬في علم الحركة ‪ ،‬في إحالت النظريممات العلميممة فلسممفيا ً ‪ ،‬إنهمما مشممكلة‬
‫َ‬
‫ن)‬‫كي َ‬ ‫م ْ‬
‫شممرِ ِ‬ ‫ن َقاُلوا َوالل ّهِ َرب َّنا َ‬
‫ما ك ُّنا ُ‬ ‫م إ ِّل أ ْ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬
‫ن فِت ْن َت ُهُ ْ‬ ‫م لَ ْ‬
‫الشرك الدهري‪ :‬ث ُ ّ‬
‫‪ – (23‬النعام ‪ /‬ج ‪.7‬‬
‫ولكن‪ ...‬هذه المممرة ‪ ،‬ليممس بمالطلب ممن اللمه إحمداث الخموارق فممي‬
‫ظممواهر الطبيعممة ‪ ،‬وليممس بممالنبوات‪ .‬فقممد ختمممت تلممك المراحممل بممالقرآن‬
‫المتنممزل علممى ضمموء الحممداث والسممباب فممي حركممة الواقممع ‪ ،‬أممما هممذه‬
‫المرحلة ‪ ،‬فقد بدئت بنفس القرآن معادا ً ترتيبه في وحدة عضمموية منهجيممة‬
‫إنها معجزة بعد معجزة‪.‬‬
‫فكما تبدى الله في الحركة بممالخوارق فممي إطممار المرحلممة الحيائيممة ‪،‬‬
‫يتبدى الله في عصر الحركة العلمية المادية المعاصرة ‪ ،‬بتجاوز وعممي هممذه‬
‫الحركة العلمية المادية نفسها‪ .‬إن الله يبقى على مقومات الحركة الكونيممة‬
‫علميا ً وماديما ً ‪ ،‬ول يتممدخل فيهمما بخممارق العجمماز ‪ ،‬ولممو شمماء لفعممل‪ .‬ولكنممه‬
‫سبحانه وتعالى يعطي هذه المرحلة طبيعمة محاوراتهما ممن ذاتهما ‪ ،‬أي ممن‬
‫علميتها وجدليتها وتطوريتها‪ .‬ليتضح الفارق ما بيممن العلممم والعلمانيممة ‪ ،‬وممما‬
‫بين الجدل والجدلية ‪ ،‬وما بين التطور والتطورية ‪ ،‬وما بين المادة والمادية‪.‬‬
‫فالمشممكلة ليسممت فممي مكونممات وخصممائص المممادة ‪ ،‬وليسممت فممي العلممم‬
‫بقوانين الحركة في الكون ‪ ،‬وليست في اكتشاف عمليممة التطممور والتشمميؤ‬
‫الكوني والبشري ‪ ،‬وليست في جممدل الممتركيب للظممواهر بمتراكم عناصممرها‬
‫المختلفة وتحولتها النوعية ‪ ،‬ليسممت المشممكلة فمي كمل ذلممك ‪ ،‬فهممذا واقمع‬
‫موضوعي ملممموس فممي الكممون كلممه‪ .‬إن المشممكلة تكمممن فممي )إحالممة( أو‬
‫)سحب( هذه )الشكال( من المعرفة إلى )مفهوم مادي( للمعرفممة‪ .‬فممالهم‬
‫أن يعطي القرآن من داخل منهجيته مفاهيم للوجود متكافئة – إن لممم تكممن‬
‫متجاوزة – مع تطور العقل البشري خارج تراث المرحلة الحيائية‪.‬‬
‫شكل المعرفة والتوظيف المنهجي‬
‫إننا ل ننفي مطلقا ً )أشكال( هذه المعرفة العلمية في حركممة الواقممع ‪،‬‬
‫فخصائص الكون الماديمة المتشميئة تسمتجيب للمعرفمة العلميمة بمنظورهما‬
‫التطوري والجدلي ‪ ،‬تمام ما ً كممما اسممتجابت مممن قبممل لمعرفممة علميممة أكممثر‬
‫محدوديمممة وبدائيمممة ‪ ،‬وهمممي المعرفمممة العلميمممة الليمممة )العلمممة والمعلمممول‬
‫وروابطهما( ‪ ،‬ومن قبلهمما المعرفممة العقليممة الطبيعيممة ضمممن قابليممة العقممل‬
‫للقياسات النقدية والوضعية‪.‬‬
‫إن كل هذه الشكال من المعرفة ‪ ،‬وإن نسخت بعضممها بتطممور العلممم‬
‫نحو أشكال معرفة أرقى اتسممع بهمما مجممال حركممة النسممان ‪ ،‬إل ّ أنهمما تبقممى‬
‫صحيحة في مجالها التطبيقي ‪ ،‬وفي كونها أسس ما ً بنائيممة لحضممارة النسممان‬
‫وتقدمه‪.‬‬
‫هنمماك مممن يحمماول اليمموم إيجمماد علمموم إسمملمية )بديلممة( عممن العلمموم‬
‫المعاصممرة وبالممذات فممي مجممال التاريممخ وعلممم الجتممماع ‪ ،‬أو ينطلممق مممن‬
‫)أسلمة( العلوم الموجودة‪ .‬متناسيا ً أن كافة علوم البشر إنما تنمدرج ضممن‬

‫‪26‬‬
‫)القراءة الثانية العلمية( فليس المطلوب إيجاد بديل عن هذه العلوم وإنممما‬
‫المطلوب ربطها بالقراءة الولى في سممورة العلممق ‪ ،‬ربطهمما بممالله بوصممفه‬
‫خالقا ً ‪ ،‬وما شرحناه حول )الجمع بين القراءتيممن( ‪ ،‬فحيممن يتجممه همنمما إلممى‬
‫محاولة )القراءة القرآنية للتاريخ( فيجب أل ّ يعني ذلممك قممط طممرح )تفسممير‬
‫إسلمي لكل التاريخ( نبطل بموجبه مناهممج القممراءات الخممرى فممي التاريممخ‬
‫وحركممة التطممور البشممري ‪ ،‬فمشممروعنا فممي القممراءة القرآنيممة للتاريممخ ‪ ،‬ل‬
‫ل( عممن القممراءات الخممرى ‪ ،‬ولكنممه يكشممف جممانب لممم تسممتطع‬ ‫يشكل )بدي ً‬
‫القراءات الخرى الوصول إليه نتيجة التزامها بمناهج وضعية في الساس ‪،‬‬
‫أهملت )البعممد الغيممبي( فممي تكمموين الوجممود وتشممكيل الحركممة ‪ ،‬فتجمماوزت‬
‫بالتالي )الغاية اللهية( من خلق العالم‪.‬‬
‫فهنمماك قممراءة للتاريممخ البشممري تأخممذ بجممدل الطبيعممة ‪ ،‬ومممن خللممه‬
‫النسان وفق منهج مادي تطوري ‪ ،‬وهي القراءة الماركسية التي اسممتهدت‬
‫بالتطورية الداروينية والجدلية الهيجيليممة ‪ ،‬واسممتندت إلممى ممموروث العقليممة‬
‫الوروبية الجديدة بعد الحقبة النيوتينية ‪ ،‬الممتي افترضممت أن وجممود )نظممام(‬
‫في الطبيعة يفترض وجود نظام لقانون طبيعي في الخلق‪.‬‬
‫القراءة الماركسية للتاريممخ هممي قممراءة اقتصممادية واجتماعيممة صممارمة‬
‫استهدفت البحث في )قانون الظاهرات( وتحولتها ‪ ،‬فقممد كممان ثمممة شمميء‬
‫واحد يشغل ماركس وهممو‪ ..)) :‬أن يجممد قممانون الظمماهرات الممتي يدرسممها ‪،‬‬
‫وليس فقط القانون الذي يتحكم في شكلها المتوقف ‪ ،‬وفي ارتباطها الذي‬
‫يمكن ملحظته خلل برهة معينة من الزمن ‪ ،‬ل ‪ ،‬فالذي يهم ماركس فمموق‬
‫كل شيء إنما هو قانون تغيرها ‪ ،‬قانون نموهمما ‪ ،‬يعنممي قممانون انتقالهمما مممن‬
‫شكل إلى شكل لخر ‪ ،‬من نظام ارتباط إلى نظممام آخممر ‪ ،‬وحيممن يكتشممف‬
‫ماركس هذا القانون ‪ ،‬يفحص بالتفصيل النتائج التي يظهممر بهمما فممي الحيمماة‬
‫الجتماعية (( )رأس المال – كارل ماركس – الجزء الول – نشرت فقرات‬
‫هذا المقال في مجلة – الرسل الوروبمي – بطرسمبرح – عمدد ممايو‪/‬أيمار –‬
‫‪.(187‬‬
‫تخصصت القراءة الماركسية للتاريخ بالكشف عن أهمية مبدأ تقسمميم‬
‫العمل وتشكل الطبقات‪ .‬هناك قراءات أخرى للتاريخ منها التفسير المثالي‬
‫الهجيلي والحضاري لشبنجلر والجنسي لفرويد‪ .‬وقممد أفمماض الممدكتور‪/‬عممماد‬
‫الدين خليل في شرحه وتقديمه لبعض نماذج هذه القراءات [د‪ .‬عماد الدين‬
‫خليل – التفسير السلمي للتاريخ – دار العلم للملييممن – بيممروت – ص ‪18‬‬
‫– ط ع ‪ .]1982 -‬كما قدم نقدا ً لمحاولت التفسير السلمي للتاريخ حيممث‬
‫عرض لها بممالقول‪)) :‬إننمما ل نجممد إزاء هممذا كلممه دراسممات منهجيممة متكاملممة‬
‫لعرض التفسير السلمي للتاريخ ‪ ،‬من خلل الرؤية القرآنية عرضما ً تحليليما ً‬
‫مستقل ً ‪ ،‬فهناك شذرات عن المسألة في كتاب محمد إقبال )تجديد الفكممر‬
‫الممديني فممي السمملم( ‪ ،‬يطفممي فيهمما التحليممل العقلممي علممى السممتمداد‬
‫الموضوعي من القرآن ‪ ،‬وبحث التفسير السلمي فممي كتماب عبممد الحميممد‬
‫صديقي )تفسير التاريخ( ‪ ،‬ل يعدو أن يكون محاولة مستعجلة لتقديم بعممض‬
‫ملمح الموقف ‪ ،‬تفتقد في كثير مممن جوانبهمما العمممق المنهجممي والتماسممك‬
‫‪،‬على ما فيها من جرأة ودقة في طرق باب جديد ‪ ،‬أما كتاب راشد البراوي‬
‫)التفسير القرآني للتاريخ( ‪ ،‬فهو مجموعة دراسممات اقتصممادية فممي القممرآن‬

‫‪27‬‬
‫الكريم ل علقة لها بتفسير التاريخ ‪ ،‬اللهم إل ّ الصفحات الخيرة من الكتاب‬
‫‪ ،‬والتي يمر فيها بالمسألة مرورا ً سطحيا ً سريعا ً ‪ ،‬وكان الحرى أن يسمممى‬
‫الكتاب )دراسات اقتصادية في القرآن( بدل ً من تسميته تلك‪..‬‬
‫‪ ..‬ويبقى المثقف المسلم ‪ ،‬والمؤرخ المتخصص ‪ ،‬والطممالب الجممامعي‬
‫– بعد هذا – في حاجة إلى مرجع منهجي يرتبط بالقرآن ارتباطا ً عضويا ً ‪ ،‬ما‬
‫دام يسعى إلى كشف الرؤية القرآنية نفسها تجاه حركة التاريممخ‪ ..‬ويسممتمد‬
‫مادة بنيانه من معطيات القرآن ذاته ‪ ،‬ويعتمد المنهج الحديث للبحث‪.(( ..‬‬
‫قد أراد الدكتور‪ /‬عماد الدين خليممل ‪ ،‬وبعممد نقممده لهمذه المحماولت أن‬
‫يصل إلى )التفسير السلمي للتاريخ( عبر إجراء مقارنات بين كممل مممذهب‬
‫من مذاهب التاريخ ‪ ،‬وما يعتبره هو في المقابممل منظممورا ً قرآني ما ً ‪ ،‬منطلق ما ً‬
‫من الصول الفلسفية لهذه المممذاهب ونقممدها بممأكثر مممما أعطممى التفسممير‬
‫الذي ينشده )إسلميًا( للتاريخ‪ .‬وتتلخص الشكالية هنمما فممي محاولتنمما إيجمماد‬
‫)بديل كلي( عن مفهوميات الغير للتاريخ بهدف تأصيل القراءة السمملمية ‪،‬‬
‫فممي حيممن أن هممذه القممراءة السمملمية للتاريممخ تختلممف نوعي ما ً فممي مجممال‬
‫تخصصها ‪ ،‬إذ ليس مطلوبا ً لصياغة المفهوم السمملمي للتاريممخ ‪ ،‬أن نبطممل‬
‫مبدأ السمتجابة والتحمدي كمما طرحممه "توينمبي" ‪ ،‬أو نلغمي نظريممة تقسمميم‬
‫العمل ‪ ،‬وإنما المطلوب تحديممد الطممار الممذي نممدرس مممن خللممه ممما نعنيممه‬
‫بالقراءة للتاريخ‪.‬‬
‫فالقراءة القرآنية للتاريخ هي ما تختص بالكشف عن مراحل الخطاب‬
‫اللهي المتدرج للبشرية من العائليممة الدميممة ‪ ،‬وإلممى القبليممة السممرائيلية ‪،‬‬
‫وإلى المية العربية ‪ ،‬وإلى العالمية الشاملة‪ .‬ول علقة لممذلك بنفممي مناهممج‬
‫الخرين ‪ ،‬فهذه القراءة لنوعية الخطاب اللهي ‪ ،‬وليس قراءة في نظريات‬
‫تاريخية‪.‬‬
‫قممد أكممدت مممرارا ً علممى أن المنهممج القرآنممي ل ينفممي حصمميلة الجهممد‬
‫البشري المعرفي ‪ ،‬وإنما يعيد صياغته )كوني مًا( أي ضمممن المنظممور الكمموني‬
‫وعبر )الجمع بين القراءتين( ‪ ،‬بذلك نتجاوز مادية هذه المناهج وقصممورها و‬
‫)نستعيدها( أو )نسترجعها( للمنهجية القرآنية التي )تستوعبها( و )تتجاوزها(‬
‫بذات الوقت‪.‬‬
‫إننا لسنا كبعض المدارس اللهوتية التي لم تستطع أن تفهم )أشكال(‬
‫هممذه المعرفممة ‪ ،‬المتناقضممة مممع تصمموراتها الذهنيممة المتخلفممة عممن الكممون‬
‫وحركته‪ .‬قلنا أننا لسنا )حماة مهنممة( كهنوتيممة تخشممى منافسممة فئة العلممماء‬
‫والمخترعين ‪ ،‬الذين يمأتون فمي كمل يموم يقمض مضماجع سمكونها الفكمري‬
‫الرتيب‪.‬‬
‫إن )أشكال( المعرفة وتطورها يعني قدرتنا نحن ‪ ،‬ككممل بشممري علممى‬
‫استيعاب مزيد مممن التقممدم العلمممي الممذي يفتممح أمامنمما مزيممدا ً مممن الفمماق‬
‫والتحليل والدراك‪ .‬غير أن هذه الشكال من المعرفة من شممأنها أن تممؤدي‬
‫إلى نتيجتين متناقضتين‪:‬‬
‫النتيجة الولى‪ :‬أن تدمج همذه الشمكال ممن المعرفمة الموضموعية‬
‫في إطار التعرف علممى الرادة اللهيممة ‪ ،‬بحيممث يعتممبر الكممون كلممه وحركتممه‬
‫متشمميئا ً عممن هممذه الرادة‪ .‬وقتهمما تنخلممع الذاتيممة البشممرية عممن نرجسمميتها‬

‫‪28‬‬
‫وصراعيتها واستعلئها وإفناء ذاتها بذاتها ‪ ،‬فتندفع بكل طاقات البشرية فممي‬
‫تواصل حضاري ل يعرف النهيار ‪ ،‬لنه ل يحمل مقومات النهيار التنابذية‪.‬‬
‫النتيجة الثانية‪ :‬أن تدمج هممذه الشممكال مممن المعرفممة الموضمموعية‬
‫لتأكيد الذات عبر صراعيتها وتنابذها ‪ ،‬فتتضخم هذه الممذات طبقي ما ً وشمموفيا ً‬
‫وعالميا ً ‪ ،‬لن هدف الموجود كله سمميتمحور منطقيما ً حممول الممذات البشممرية‬
‫نفسها ‪ ،‬هي التي تبدع وتركب وتسمع وتغتني ‪ ،‬ولهمما أن تسممطو علممى مممن‬
‫يليها في سلم القوى‪ .‬فالبقاء للقوى والبقاء للصلح ‪ ،‬لن القوى هو وحده‬
‫الممذي يسممتمر حيممث يضممعف الضممعفاء ‪ ،‬وهكممذا تسممتمد فلسممفة )القمموة(‬
‫مرتكزاتها ممن إحالمة )علممم التطمور إلممى مفهمموم( للحيمماة‪ .‬والطبقممة تفنممي‬
‫الطبقة الممتي ولممدت فممي أحشممائها ‪ ،‬وهكممذا تعمممد كممل طبقممة إلممى دراسممة‬
‫إمكانيممات تمحورهمما القتصممادي والجتممماعي حممول نفسممها للنتصممار فممي‬
‫صراعها على الخرى ‪ ،‬هنا من علم )الجممدل( تسممتمد الفلسممفة الجتماعيممة‬
‫موجبات الصراع الحتمية كأمر طبيعي وكقانون للعالم‪ .‬فممي هممذه الحممالت‬
‫للعلم من )أشكال معرفة( إلى )مفاهيم معرفة( ‪ ،‬ينتهي كل شمميء إيجممابي‬
‫في علقات النسممان مممع الخممر ‪ ،‬وفممي علقممات النسممان مممع الحيمماة ومممع‬
‫الموجود كمجال لستمتاعه الذاتي ‪ ،‬كون كهذا يممبرر السممرقات الجتماعيممة‬
‫)طبقيًا( والصراعات العالمية )إمبرياليًا( ‪ ،‬تتأكممد الحيمماة كغممزو ضممد الخممر ‪،‬‬
‫ويتأكد حق الخر ل في رد الغمزو فحسمب ‪ ،‬ولكممن فمي ممارسمة حقمه همو‬
‫الخر في غزو الخرين متى ما تجمعت له أسباب القوة‪.‬‬
‫المنهج المادي تضخيم للذات الغريزية‬
‫البشرية في مأزق ‪ ،‬لن فلسفاتها الممتي أحممالت معطيممات العلممم إلممى‬
‫مفاهيم الحياة الكونية ‪ ،‬قد دمرت ذاتها بذاتها‪ .‬فلممو لممم يكممن اللممه موجممودا ً‬
‫فإن اختراع فكرة وجوده هي المخرج الوحيد أمممام البشممرية لتخلممع ذاتهمما ‪،‬‬
‫فبمقدار ما ترتممد البشممرية إلمى اللممه بمقممدار مما تسمممو فمموق ذاتهما وفمموق‬
‫مصطرعاتها‪.‬‬
‫فإذا كانت فكرة وجود اللففه ناشففئة فففي مراحففل النسففانية‬
‫الحيائية عن )عجزها( في مواجهة ظواهر الطبيعة ‪ ،‬فإن فكرة‬
‫وجود الله تنشأ في مراحل النسانية العلمية عن )عجزها( فففي‬
‫مواجهففة ذاتهففا ‪ ،‬الففتي تنفلففت لتففدمر ذاتهففا خففارج أي ضففوابط‬
‫أخلقية‪.‬‬
‫هكذا انكشفت وبشكل عملي وحضماري ومصميري ‪ ،‬أن طبيعمة حياتنما‬
‫ووجودنا ل تستقيم إل ّ بنكران الذات المتضخمة ‪ ،‬فأي مستمع بهيمي يمكن‬
‫له أن يصممنع حضممارة باسممتعلء سممادته علممى شممعبه ‪ ،‬ولكممن ل يمكممن لهممذا‬
‫المجتمع أن يعيش حضارته ‪ ،‬سمميعيش صممراعاتها ومآزقهمما وتوترهمما‪ .‬وكلممما‬
‫تطور الفرز والصراع كلما فقد النسان إنسانيته ‪ ،‬حتى يرجممع إلممى مرحلممة‬
‫الغريزية البهيمية ‪ ،‬في تلك الحالة‪ :‬ما هو المعنى الخلقي الممذي يمكممن أن‬
‫يعطي لرابطة الزواج أو حتى الحب أو حتى الجمال ‪ ،‬ستكون الحياة مجرد‬
‫بداية غريزية تنتهي إلى موت ‪ ،‬وتصبح أهميممة التقممدم الحضمماري محصممورة‬
‫فقط في إشباع هذه الغريممزة والسممتعلء بهمما علممى الخريممن ‪ ،‬وتسممخيرهم‬
‫للذات المتضخمة ‪ ،‬وكل قول غير هممذا تزيممن بممه الفلسممفة الماديممة نفسممها‬
‫أخلقيا ً إنما يخالف طبيعتها‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الن‪:‬‬
‫كيف لنا أن نعزل بيمن )أشمكال( المعرفمة العلميمة و )مناهجهما( المتي‬
‫أحيلت على مستوى الحياة كلها؟ أي كيف نزيل الغشمماوة بيممن أذن تسممتمع‬
‫وفؤاد أصم ل يسمع ‪ ،‬وبين عيممن تنظممر وفممؤاد أصممم ل يبصممر ‪ ،‬وبيممن قلممب‬
‫يتلقى وفؤاد أبكم ل يفقه؟‬
‫إن الوسيلة الواضحة لممذلك هممي أن نطبممق أشممكال المعرفممة العلميممة‬
‫نفسها ومع )مفاهيمها( على القرآن ‪ ،‬أن نحلل بها القرآن ‪ ،‬ومحتوى الوعي‬
‫المتضمن فيه‪ .‬وقتها سنجد أن التحليل المباشر بمه سميتجاوز مفمماهيم هممذه‬
‫المعرفة – وليس أشكالها – ويعيد موضعتها مفهومي ما ً فممي إطارهمما الكمموني‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫مفاهيم المعرفة وليس أشكالها هممي الممتي تممبرز للمحمماورة الخصممبة ‪،‬‬
‫وفي القرآن عمق ومتسع للتحليل والبحث ‪ ،‬بما سمميؤدي فممي النهايممة إلممى‬
‫دمج أشكال المعرفة بمفهوم المعرفة التوحيدية في حدود ما هو متاح لنا‪.‬‬
‫إذن أسمملوبنا فممي محمماورة اليممات سمميكون تحليلي ما ً وليممس تفسمميريا ً ‪،‬‬
‫وسيرفع علمى قواعمد الموعي الطمبيعي والمكتسمب فمي أشمكال المعرفمة‬
‫ومفاهيمها‪ .‬غير أننا وخلفا ً لكل منهج أو مفهومية معرفية ‪ ،‬لن نفرض على‬
‫أي ظاهرة أن تخضع لتفسيرات منهج محدد ‪ ،‬بل المهم أن يستطيع المنهج‬
‫تفسير الظاهرة ‪ ،‬المهم أن يعطي المنهج معنى للظاهرة وليس أن تعطممي‬
‫الظمماهرة معنممى للمنهممج ‪ ،‬أي أننمما ل نعمممد إلممى تقطيممع أوصممال الظمماهرة‬
‫لتتناسب هي والرداء الضيق ‪ ،‬بل نوسع الرداء ليتناسب هو وحجم الظاهرة‬
‫‪ ،‬وشكرا ً لله علمى أولئك المذين قممدموا لنما أشممكال ً متطممورة ممن المعرفممة‬
‫العلمية ‪ ،‬فدفعوا بوعينا التحليلي خطموات إلمى الممام ‪ ،‬وأمل ً فمي اللمه أن‬
‫يسترد بالقرآن أولئك الذين أسرتهم مناهممج المعرفممة الوضممعية فاسممتعبدت‬
‫غيرهم بهم‪.‬‬
‫القرآن هل هو كتاب مدرسي أم إلهي؟‬
‫قد أورد البعض أن )لتفسير( القرآن )مؤهلت( ل بد مممن توفرهمما فممي‬
‫)المفسر( وأولها الحاطة بخمسين علم ما ً مممن علمموم القممرآن ‪ ،‬منهمما )علممم‬
‫الصول( فيما يحتمله اللفظ من معنيين ‪ ،‬فل بد علم حدود اللفاظ ‪ ،‬وعلممم‬
‫صيغ المر والنهممي ‪ ،‬والخممبر ‪ ،‬والمجمممل والمممبين ‪ ،‬والعممموم والخصمموص ‪،‬‬
‫والمقيد والمطلق ‪ ،‬والمحكممم والمتشممابه ‪ ،‬والظمماهر والمممؤول ‪ ،‬والحقيقممة‬
‫والمجاز ‪ ،‬والصريح والكيانة ‪ ،‬أما )علوم الفروع( ففيها استنباط واسممتدلل‪.‬‬
‫وذلك فوق أسباب النممزول ومواضممع اليممات المكيممة والمدنيممة‪ .‬وهممذه كلهمما‬
‫علوم من )وضممع البشممر(‪ .‬ولهمما ظروفهمما الخاصممة بهمما ‪ ،‬تاريخيما ً واجتماعيما ً‬
‫وفكريا ً ‪ ،‬ولها أساليبها في التدقيق والتحقيق والتوليممد‪ .‬بقممول آخممر يطمموف‬
‫القرآن بمواد علوم )وضعية( ويحول إلى كتاب مدرسممي‪ .‬تمامما ً كممن يريممد‬
‫أن تخصص في فيزياء أو كيمياء فينممال شممهادة الممبراءة الممتي تممؤهله لفهممم‬
‫القرآن‪ .‬والغريب أن مئات اللف من الذين نالوا شممهادة الممبراءة الممتي لمم‬
‫)يوظفوها( في مجال )شغلهم(‪ .‬وقد كان يمكن أن تكون الجابة ‪ ،‬أنهم لممم‬
‫يستطيعوا التفسير ‪ ،‬لنهم شممغلوا بمممؤهلت التفسممير ‪ ،‬تمامما ً كممما شممغلت‬
‫البشرية بتفاصيل العبادات عممن العبممادات ‪ ،‬وبتفاصمميل الممدين عممن الممدين ‪،‬‬
‫حُر‬ ‫فد َ ال ْب َ ْ‬
‫ت َرّبي ل َن َ ِ‬ ‫دا ل ِك َل ِ َ‬
‫ما ِ‬ ‫دا ً‬
‫م َ‬ ‫ن ال ْب َ ْ‬
‫حُر ِ‬ ‫ل ل َوْ َ‬
‫كا َ‬ ‫فضيقوا حيث وسع القرآن‪ :‬قُ ْ‬

‫‪30‬‬
‫م‬‫كمم ْ‬‫مث ْل ُ ُ‬‫شٌر ِ‬‫ما أ ََنا ب َ َ‬ ‫دا)‪(109‬قُ ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫مد َ ً‬ ‫ت َرّبي وَل َوْ ِ‬
‫جئ َْنا ب ِ ِ‬
‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فد َ ك َل ِ َ‬ ‫ن َتن َ‬ ‫قَب َ َ‬
‫لأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ملً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل عَ َ‬ ‫قمماَء َرب ّمهِ فَلي َعْ َ‬
‫مم ْ‬ ‫جمموا ل ِ َ‬
‫ن ي َْر ُ‬ ‫ن كمما َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ح مد ٌ فَ َ‬ ‫ه َوا ِ‬‫م إ ِل ٌ‬
‫ما إ ِلهُك ْ‬ ‫ي أن ّ َ‬ ‫حى إ ِل ّ‬ ‫ُيو َ‬
‫دا)‪ – (110‬الكهف ‪ /‬ج ‪.16‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حا وَل ي ُ ْ‬
‫ح ً‬ ‫شرِك ب ِعَِباد َةِ َرب ّهِ أ َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ‬
‫هكذا ترد كل التفاصيل إلى جوهر واحد ‪ ،‬إله واحد ل يشرك به وعمل‬
‫صممالح نعملممه‪ .‬والحقيقتممان متلزمتممان عضممويا ً ‪ ،‬فالتوحيممد نفممي لي ذات‬
‫مشاركة للذات اللهية في الرادة أو المشيئة ‪ ،‬في عالم الغيب أو الشهادة‬
‫‪ ،‬في التكوين وفي حركة التكوين ‪ ،‬في التجمماه وفممي الغايممة‪ .‬بممذلك ينتفممي‬
‫تضخم ذاتنما ‪ ،‬وإسمقاطاتها المنحرفمة فمي الوجمود ‪ ،‬فمال يبقمى بالضمرورة‬
‫سوى عمل صالح صادر عن ذات منكممرة لنفسممها مرتممدة إلممى خالقهمما‪ .‬أممما‬
‫الممذوات المرتممدة بالفعممل والحركممة والمشمميئة إلممى أنفسممها وإلممى عملهمما‬
‫وقدراتها ‪ ،‬مطلقا ً ل نسبيا ً ‪ ،‬أي أنها مريدة لكل شيء وفاعلة لكممل شمميء ‪،‬‬
‫وتلك أمانيها أي ظنونها‪ .‬فإنها تتحول تلقائيا ً إلممى تعبممد ذاتهما وتعبممد الممذوات‬
‫المتعالية عليها بالسلطة والثروة ‪ ،‬فتشرق بالله ثم تشرق ببعضها ‪ ،‬وتتنابممذ‬
‫فيممما بينهمما ‪ ،‬كممل ذات تريممد أن تحقممق مطلقهمما بقهممر الممذوات الخممرى أو‬
‫الخضوع لها ‪ ،‬فتتعدد المطلقات الممنية لنفسها وتفسد الرض بصراعها ول‬
‫تصلحها )راجع سورة النعام ‪ /‬ج ‪ / 7‬اليات ‪.(33 / 21‬‬
‫حقيقة سهلة غير ممتنعة على الفهم ‪ ،‬فلو كممان البحممر مممداد ً لكلمممات‬
‫ربي ما كفى لشرحها وتفصيلها ولو جمماء اللممه بمثلممه مممددا ً ‪ ،‬كفممى أن هممذه‬
‫الحقيقة قد أوحيت في جملة موجزة تلقاها بشر‪ .‬وهنا حكمة الدين وأصممله‬
‫وجوهره‪.‬‬
‫إن نزعة التحففول بففالبحث فففي قضففايا الففدين إلففى وظيفففة‬
‫تخصصية ذات ضوابط مهنية فإنها ‪ -‬فوق رفضها – ستؤدي إلى‬
‫سلبيات جد خطيرة‪.‬‬
‫أول ً‪ :‬إن البحث الديني إيمانما ً وكفممرا ً مسممألة مصمميرية خاصممة بكممل‬
‫البشر ‪ ،‬فهو مثار اهتمام الجميع ‪ ،‬وليس كنوع البحوث التخصصية )الكيمياء‬
‫– الهندسة – الطب ( ‪ ،‬والتي يقتصر الهتمام بها على من تستهويه وتقوده‬
‫إلى التخصص فيها وفهم قواعدها وأسسها العلمية‪.‬‬
‫فممالبحث فممي أمممور الممدين ضممرورة طبيعيممة عفويممة ‪ ،‬ومحمماورة الراء‬
‫الواردة في الدين حتمية تفرض نفسها على الجميع ‪ ،‬لن من هذه الراء ما‬
‫يحدد طريقة نومي وأكلي وشربي وعلقتي حتى مع زوجممتي‪ .‬إذن فالعلقممة‬
‫بالبحث الديني تمتد إلى جزيئيممات تفاصمميل الحيمماة الذاتيممة للنسممان خلف ما ً‬
‫للهندسة والطب‪.‬‬
‫ً‬
‫هنا نجد أن الهتمام بالمسائل الدينية على نحو بشري عام خلفا لعلم‬
‫الهندسة – مثل ً – من شأنه توسيع مدى المحاورات والمداخلت لتسممتوعب‬
‫البشرية كلهما ‪ ،‬وتتفاعمل بمما لهمذه البشمرية ممن ثقافمات وأفكمار ومناهمج‬
‫معرفة مختلفة الشكال‪ .‬فاقتصار البحمث المديني علمى مفهموم معيمن ممن‬
‫أشكال الوعي يعني عزلممه عممن تطممور حركيممة الثقافممة النسممانية ‪ ،‬كممما أن‬
‫حبس مزاولة بحوثه ضمن سياج مهني وظيفي مممن شممأنه أن يممؤدي لحالممة‬
‫انفصام بين الهتمام النسمماني بممالبحث الممديني وفممرض الخصوصممية عليممه‪.‬‬
‫فمهنة العلماء الحقيقية هي مواكبة أبحاث الناس وليس منعها‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫إن أقرب فرضية لهذا النوع من الهتمام العام تكمن في علقة الناس‬
‫باختيار الموقف السياسي تجاه قضية ما ‪ ،‬الصلح مع إسرائيل أو عدمه ‪ ،‬إذ‬
‫ل يمكن في هذه الحالة صرف الناس عن الموضوع ليعالجه ‪ /‬أهل العلممم ‪/‬‬
‫في قواعد السياسة وفنونها أو ‪ /‬أولي المر ‪ /‬فممي الرئاسممة الممذين ترأسمموا‬
‫ببيعة أو دون بيعممة‪ .‬أو تممرك المممر ‪ /‬للفتمماء الممديني ‪ /‬تخصصممي باعتبممار أن‬
‫ن‬
‫القضية تتعلق ببني إسرائيل ‪ ،‬ويستمد الموقف في حكمها من الية‪)) :‬وَإ ِ ْ‬
‫م)‪– (61‬‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي م ُ‬
‫سم ِ‬ ‫ل عَل َممى الل ّمهِ إ ِن ّم ُ‬
‫ه هُموَ ال ّ‬ ‫ح ل ََها وَت َوَك ّ ْ‬ ‫سل ْم ِ َفا ْ‬
‫جن َ ْ‬ ‫حوا ِلل ّ‬
‫جن َ ُ‬
‫َ‬
‫النفال ‪ /‬ج ‪.((10‬‬
‫فالمسألة هنا ستعود لمممدى انطبمماق مضمممون اليممة علممى السمملم مممع‬
‫إسرائيل ‪ ،‬إذ كيف جنحوا للسلم من بعد أن أخرجونا مممن ديارنمما ‪ ،‬أو ليممس‬
‫الجنوح يعني عودتنا لديارنا أو قتالهم حتى في الشهر الحرم؟‬
‫إزاء هممذا الموقممف المتنمماقض كليممة مممع حكممم القممرآن فممي أصمموله‬
‫وفروعه ‪ ،‬والذي يتخذ ممن القممرآن ومكمانته فمي نفموس المممؤمنين وسميلة‬
‫لغاية ‪ ،‬فيحرف الكلم عن مواضعه ويخفي ما بي ّممن اللممه‪ .‬إزاء هممذا الموقممف‬
‫الصادر عن )مهنيين متخصصين( ‪ ،‬يحملون براءة المهنممة أل يحممق للنمماس ‪،‬‬
‫كل الناس أن يتحاوروا في أمور دينهم وآياته وكلماته ونصوصه‪ .‬فالصلح مع‬
‫إسرائيل أو عدم الصلح معهما ليمس أمممرا ً تخصصمميا ً كيميائيما ً نقتصممره علمى‬
‫المختبريين‪.‬‬
‫ثم من هم )أولي المر( هؤلء ‪ ،‬وكيف صارت لهممم الوليممة ‪ ،‬وممما هممي‬
‫مقاييس البيعة وشروطها ‪ ،‬أم أن الله لم ينص عليها في )محكم التنزيل(؟‬
‫ل‪ ..‬ثم ل‪ ..‬ثم ل‪ .‬إن الدين هو شأن للناس جميعا ً ‪ ،‬والمحاورة فيه من‬
‫شأن النماس جميعما ‪ ،‬لنمه موقممف ممن الممذات والوجمود والحيماة والمصممير‬
‫النساني‪ .‬في هذه الحالة تصبح مهمة )المتخصصين( في علوم الدين وفقه‬
‫اللغمة والمتفرغيمن لدراسمة علموم أصموله وفروعمه والمراجعيمن للكتابمات‬
‫المتعلقة به‪ .‬تصبح مهمة هؤلء )المتخصصين( ‪ ،‬والذين يبدي لهمم المجتمممع‬
‫احترامه وتقممديره ‪ ،‬ليممس لشخصممهم ولكممن لمما يحملممونه ويرمممزون إليممه ‪،‬‬
‫تصبح مهمتهم متابعممة محمماورات النمماس والمثقفيممن منهممم بشممكل خمماص ‪،‬‬
‫بهممدف تمموجيههم وإرشممادهم وتصممويبهم دون أن ينعتمموا الجاهممل بالجهممل ‪،‬‬
‫فمهمتهم تعليمية طالما أنه أراد بالمحاورة أن يلج شئون دينه ‪ ،‬وهممذه فممي‬
‫حممد ذاتهمما ظمماهرة إيجابيممة تشممجعها وتعليمهمما ل تثبيطهمما وتجهيلهمما‪ .‬فالممذي‬
‫يتخوف من المثقفين هو القل ثقافة وعلمًا‪.‬‬
‫ثم أن اتساع المحاورة وتعدد المتحاورين ‪ ،‬وتنوعهم ‪ ،‬واختلف مصادر‬
‫ثقافتهم ‪ ،‬ومناهجهم العلمية ‪ ،‬يؤدي لن يتفهممم )المتخصصممون( فممي الممدين‬
‫مختلف مصادر الفكر ‪ ،‬لنهم يكونوا في حالة التفاعل بها ‪ ،‬إذ كيممف لممي أن‬
‫أفهم أن نصف سممكان العممالم تحكمهممم أنظمممة ماركسممية‪ .‬والنصممف الخممر‬
‫تتفممرع فيممه أحزابهممم دون أن نجممد كتابممات علميممة متقدمممة صممادرة عممن‬
‫متخصصممين فممي شممئون الممدين تحلممل علميمما ً وفلسممفيا ً الماديممة الجدليممة‬
‫التطورية‪ .‬إن معظم – وليس كل – الكتابات الدينية والصممادرة فيممما تظنممه‬
‫أنه مجال نفي المادية ل تنفممي فممي الحقيقممة سمموى معرفتهمما هممي للماديممة‬
‫ة واتجاهًا‪.‬‬ ‫الجدلية التطورية ‪ ،‬فلسف ً‬

‫‪32‬‬
‫إذن فالحتماء بالتخصصية في الدين – فوق كونه يفصم ما بين الممدين‬
‫والناس ‪ ،‬ويبقى المجتمممع رهمن فتمماوة متخصصممين حيثمما شماءوا ‪ ،‬وكيفمما‬
‫شاءوا – فمإن همذه التخصصمية ترتمد بمذاتها علمى المتخصصمين ‪ ،‬فتزيمدهم‬
‫تجهيل ً بالواقع الثقافي العالمي ‪ ،‬وتزيدهم بعدا ً وابتعادا ً عن المجتمع‪.‬‬
‫ثانيا ً‪ :‬الظاهرة الخطرة الثانية أن احتماء )المتخصصين( بقدسية المهنممة‬
‫وحرمها ‪ ،‬سيضعهم فممي مواجهممة مممع المجتمممع مممن ناحيممة وتطممور الثقافممة‬
‫العالمية من ناحية أخممرى ‪ ،‬وهممي ثقافممة ل يسممتطيعون بنمماء سممور صمميني ‪،‬‬
‫ول بينها وبين شعوبهم خصوصما ً وأن همذه الثقافمات زيمادة علمى قيمتهما‬ ‫يح ّ‬
‫العلمية المتقدمة ‪ ،‬وليس مناهجها المعرفية ‪ ،‬تدخل مجتمعاتنا محدثممة فممي‬
‫داخلها قواعد جديدة في البناء الجتماعي والمفمماهيم السياسممية ‪ ،‬وبالممذات‬
‫الجانب الديمقراطي الليبرالي فيتأثر بها مجتمعنا‪ .‬إن كل ممما ألحظممه حممتى‬
‫الن أن أفواج )المتخصصين( يتعاملون مع هممذا التطممور العممالمي وتممأثيراته‬
‫في مجتمعنا بمنطق انفعالي سطحي ‪ ،‬فإذا استحسنوا فكرة كروية الرض‬
‫َ‬
‫همما)‪– (30‬‬ ‫حا َ‬ ‫ك دَ َ‬‫ض ب َْعممد َ ذ َِلمم َ‬‫قممالوا إنهمما موجممودة فممي القممرآن ))َواْلْر َ‬
‫النازعات ‪ /‬ج ‪.((30‬‬
‫ولكن فاتهم أن النشاط الوروبي قد أتى المبيوت ممن أبوابهما )تطموير‬
‫العلم التطبيقي( ولم يأت البيوت من ظهورها كالذين سممألوا الرسممول عممن‬
‫)الهلة(‪ .‬ثممم إذا استحسممنوا الشممتراكية قممالوا‪ :‬إن ممما يماثلهمما موجممود فممي‬
‫م)‬ ‫ن اْل َغْن َِياِء ِ‬
‫من ْك ُ ْ‬ ‫دول َ ً‬
‫ة ب َي ْ َ‬ ‫ن ُ‬
‫كو َ‬ ‫ي َل ي َ ُ‬‫القرآن فكتبوا عن العدالة الجتماعية‪ .‬ك َ ْ‬
‫‪ – (7‬الحشر ‪ /‬ج ‪.28‬‬
‫ولكن فاتهم أن الشممتراكية بممالمنطق الجممدلي التطمموري المممادي هممي‬
‫فلسفة الصمراع وتنابمذ المتضمادات الطبقيمة ‪ ،‬وعدالمة السملم همي ‪ ،‬منمع‬
‫وحد ‪ ،‬ضد الصراع بتفممتيت القممرآن للممتركز الطبقممي ونسممف تراكممم فممائض‬
‫القيمة عبر تشريعات منممع الربمما والزكمماة وتفممتيت الرث ‪ ،‬فعدالممة السمملم‬
‫ليست مجرد عدالة أخلقية بالخذ من الغنياء ورد ذلك إلى الفقراء فقط ‪،‬‬
‫بل هي نسف السس المادية للتكون الطبقممي نفسممه‪ .‬كلممك إذا استحسممنوا‬
‫فكرة الديمقراطية سرعان ما نسبوها إلى الشورى غير مممدركين للتنمماقض‬
‫الكبير بين الديمقراطية الليبرالية التي توازن سياسمميا ً ممما بيممن المتضممادات‬
‫الجتماعية ‪ ،‬والشورى التي تقوم على نفي التضاد في التكممون القتصممادي‬
‫والجتماعي والسياسي ‪ ،‬فحكمممة اللممه هممي الرقممى وليممس منطممق البشممر‬
‫الوضممعي‪ .‬فقاعممدة الحكممم فممي الرادة السياسممية السمملمية تعتمممد علممى‬
‫جماعية القرار )ادخلوا في السلم كافة( وليممس علممى صممراع الغلبيممة ضممد‬
‫القلية‪.‬‬
‫فليممس القممرآن بكتمماب مدرسممي فممي النظريممات العلميممة التطبيقيممة ‪،‬‬
‫وليست الشورى والتي هممي أرقممى نظممام فممي الحيمماة السياسممية – مماثلممة‬
‫للمسخ الديمقراطي الطبقي الليبرالي ‪ ،‬وليست العدالة السلمية القائمممة‬
‫على التفممتيت الطبقممي ونسممف فممائض القيمممة مماثلممة للمسممخ الشممتراكي‬
‫القائم على تنابذ المتضممادات الطبقيممة ‪ ،‬وليممس ممما يستحسممن أخلقيما ً فممي‬
‫السمملم ونهجممه المعرفممي المتجمماوز لقممدرات البشممرية هممو كالخلقيممات‬
‫الممسوخة في مجتمع الحضارات الغريزيممة‪ .‬قولمموا بربكممم لمماذا منمع اللمه‬
‫التبني في وقت تتظاهر فيه أخلق الحضممارة المسممخ بممالتراحم مممع مجممازر‬

‫‪33‬‬
‫فيتنام ‪ ،‬وتتبنى أيتامهم الذين أيتممموهم؟ أليممس جمموهر أخلقيممة التضمماد هممو‬
‫الذي حول فيتنام إلى جحيم؟ فإذا استحسممنا تبنيهممم ليتممامى المجممازر الممتي‬
‫أقاموها فكيف لنا أن نفهم الحقيقة الخلقية المنافية للتبني؟‬
‫إن أمام المتخصصين مشوارا ً طويل ً لمعرفة حقيقة ما تخصصوا فيممه ‪،‬‬
‫زلن يعرفوا هذه الحقيقة إل ّ إذا خرجوا من عقدة المهنمة ‪ ،‬وحماوروا النماس‬
‫في المقاهي والشوارع والزقة‪.‬‬
‫ثالثا ً‪ :‬إن الخلد إلممى عقممدة المهنممة والتخصممص تممدفعهم – إضممافة إلممى‬
‫عزلتهممم عممن المجتمممع وتطمموراته ومظمماهره الثقافيممة – إلممى بنمماء خطمموط‬
‫دفاعية يسيجون بها المهنممة‪ .‬ولممن يجممدوا فممي هممذه الحالممة سمموى مممداميك‬
‫مغايرة في طبيعتها لكل انفتاح وتفاعل مع الحياة ‪ ،‬أي مداميك مغايرة في‬
‫طبيعتها لطبيعة الدين نفسه ‪ ،‬فالذي يؤمن بربه وهداه ويسبح جيدا ً فممإنه ل‬
‫يخشى الغرق‪.‬‬
‫إن هذا الموقف الدفاعي المهني قمد أدى بمالمثقفين إلمى مفماهيم خطيمرة‬
‫جدا ً حول الدين ومتخصصمميه ‪ ،‬إذ يلجممأ المتخصصممون فمي مواجهمة تحليلت‬
‫المثقفيممن وأبحمماثهم الدينيممة إلممى الحتممماء بقواعممد ونصمموص العلمموم الممتي‬
‫تكونت وتفرعت عبر أربعممة عشممر قرنما ً فممي إطممار البحممث الممديني ‪ ،‬هنمما ل‬
‫تطرح هذه العلوم باعتبارها سندا ً ودعمما ً لتحليلت المثقفيممن ‪ ،‬ولكممن قيممدا ً‬
‫عليهم وتضييقا ً على انطلقتهم وتجهيل ً لهممم ‪ ،‬فممإذا أثممار المثقممف وغضممب ‪،‬‬
‫دفعه المتخصصون إلى ما هممو أخطممر ‪ ،‬قممول ً منهممم‪ :‬إنممه قممد أخممذته العممزة‬
‫بالثم‪ .‬هنا يعزل المثقف عن التفاعممل مممع رصمميد غنممي وثممري أبممدعت فيممه‬
‫مرحل التاريخ السلمي ‪ ،‬وتميز فيه أئممة المممذاهب والفقهماء والمفسمرين‬
‫بعطاء كثير كبير متسع عميق ‪ ،‬يحتاجه المثقف الباحث فع ً‬
‫ل‪.‬‬
‫إننا نحتاج لهذا الرصيد وكل قول بالستغناء عنه – ولو كان دافممع ذلممك‬
‫احتماء الغير به – هو قول غير موضوعي‪.‬‬
‫صحيح أن البعض يعتبر ما لدى المتخصصين من أصحاب المهنة )تراثا ً‬
‫سلفيًا( تكون ضمن مرحلة ذات وعي ذهني مفارق في مفهوميته الدراكيممة‬
‫لمرحلة التحليل العلمي الراهنة‪ .‬وعلى هذا يجب أن نميز فممي هممذا الممتراث‬
‫السلفي بين ما هو للقرآن وما هو للنسان ‪ ،‬أي بين ما يعطيه القممرآن فممي‬
‫كل المراحل ولكل المراحل ‪ ،‬بين تصممورات النسممان فممي أي مرحلممة لهممذا‬
‫الذي يعطيه القرآن‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هنا يتخذ الموقف من الرصيد السلفي الممتراثي موقفما )عممدميا( ‪ ،‬فممي‬
‫الوقت الذي يفترض فيه اتخاذ موقف )نسممبي( لفهممم ممما بيممن القممرآن مممن‬
‫جهة والمكونات العقلية والمفهومية لممذلك الرصمميد الغنممي الهممام مممن جهممة‬
‫أخممرى‪ .‬فمرحلتنمما الراهنممة – مممع تميزهمما اليممديولوجي – وفمموارق أشممكال‬
‫معرفتها ليست منفصمة عن مراحل التطممور السمابقة الممتي تشممكل خلفيممة‬
‫لها‪.‬‬
‫أهمية تلك المرحلة أنها معارف متراكمة ‪ ،‬ومخزون عقلي كبير ‪ ،‬اجتهد فيه‬
‫العقل تنظيما ً وتصنيفا ً وتحقيقا ً بحيث وصل إلى مستوى )النظام الفكري( ‪،‬‬
‫فمهمتنا ليست فممي تجمماوزه باسممم التجديممد ‪ ،‬ولكممن فممي اسممتيعابه كنظممام‬
‫مقوم ضمن مرحلته الذهنيممة وتكممونه الجتممماعي والتمماريخي‪ .‬فهممذا النظممام‬
‫الذي يسميه البعض )التراث الفلسفي( يجب أن يحتل ممموقعه فممي البحممث‬

‫‪34‬‬
‫العلمي التحليلي للتصال بممه والتواصممل معممه ‪ ،‬ومعرفممة خصممائص مرحلتممه‬
‫ونوعيتها ‪ ،‬من خلله هو نفسممه ‪ ،‬أي أننمما مممن خلل ذلممك الممتراث ومنمماهجه‬
‫وضمموابطه وتحقيقمماته نسممتطيع أن نممدرك ممما يعنيممه )التبمماع( و )التقليممد( ‪،‬‬
‫والموقع المفهومي لفكرة )القدوة( ضمن تلك المرحلة الوضعية التفسيرية‬
‫‪ ،‬ونستطيع أن نفهممم مميممزات )المممذاهب( ومممؤثرات تكونهمما فممي مدرسممة‬
‫المدينة والعراق ومصر والشام‪.‬‬
‫بمعنممى آخممر يمكممن باسممتيعابنا السممتذكاري والتحليلممي لممذاك الرصمميد‬
‫المهم ‪ ،‬أن نتفهم من خلله معاني أحكامه ما هو مطلق فيها وما هو نسبي‬
‫‪ ،‬وأن نتعرف بدراسة نتاج تلممك المرحلممة علممى تأثيراتهمما الذهنيممة والفكريممة‬
‫التي ل زالت فاعلة في مجتمعنا‪.‬‬
‫هنمماك قضممية أساسممية ل بممد مممن أن يسممتوعبها كممل مممن المثقممف‬
‫والمتخصص في العلوم الدينية على حد سواء‪ .‬فمجتمعنا من ناحيممة تركيبممه‬
‫ومكوناته القتصادية والجتماعية العامة ‪ ،‬لم يدخل بعد مرحلة تحول نوعية‬
‫تعيد صياغته ‪ ،‬وبالطبع فإن إعادة الصممياغة هممذه يجممب أل ّ تفهممم علممى أنهمما‬
‫اقتلع من الجذور لترحيل مجتمعنا إلى أوروبا ‪ ،‬بل هي – أي إعادة الصياغة‬
‫– تأتي مستجيبة لمكونات تطورنمما التمماريخي والجتممماعي والفكممري وكافممة‬
‫العوامل الجدلية المرئية وغير المرئية الفاعلممة فممي تركيبتممه‪ .‬بهممذا المعنممى‬
‫فإن ما يسميه المثقف بالسلفية التراثية هممو حيمماة ثقافيممة معاصممرة وحالممة‬
‫في تكويننا الراهن‪ .‬ربما يتبرم بها المثقف المتأثر بعقلية التطور الوروبي ‪،‬‬
‫أو يحاول التميز عنها ‪ ،‬ولكنه لن يفعل في الحقيقة سوى إعدام ذاتممه هممو ‪،‬‬
‫أي أن عدميته ترتد عليه لعزله عن ثقافة ل زالت حيممة ويظنهمما أنهمما مجممرد‬
‫تراث سلفي‪.‬‬
‫أما على صعيد رجل الدين المتخصص ‪ ،‬فإنه يخادع نفسه بظنه أنممه ل‬
‫يزال متصل ً بتلك الحياة الثقافية الفاعلة في قرون السمملم الولممى وصممدر‬
‫الخلفة العباسية ‪ ،‬فالحقيقة أنه ل يشكل سمموى اسممتمرار )أرشمميفي( لهمما‪.‬‬
‫وقد اكتشف المتخصصون في العلم الديني هذه الستمرارية السلبية حيممن‬
‫بممدأت تممداهمهم الحضممارة الوروبيممة بمفاهيمهمما ومنطلقاتهمما الجديممدة ‪،‬‬
‫فوضعتهم فممي موضممع المسممتفز والمتحممدي ‪ ،‬فلجممأ بعضممهم إلممى )التجديممد‬
‫المقارن( أي باسممتنباط مبممادئ مقاربممة فممي السمملم لممما استحسممنوه مممن‬
‫مبممادئ أوروبمما وفلسممفاتها فممي الديمقراطيممة والشممتراكية وغيممر ذلممك مممن‬
‫ضوابط نظام الحكم‪ .‬والبعض رفمض حممتى )التجديممد المقمارن( فأكمد علمى‬
‫فهم )ماضوى( وليس سلفيا ً للمسائل المثارة حول الخلفة والبيعممة ونظممام‬
‫الحكم‪ .‬فبدأ هذا النوع ليس مقارعا ً لوروبا فحسممب ‪ ،‬ولكممن حممتى للتجديممد‬
‫الذي أراد استيعاب مقدمات التغير في المجتمع‪.‬‬
‫هؤلء ليسوا سلفيين ‪ ،‬فممإذا كممان رجمموعهم للسمملف كمفهمموم زمنممي ‪،‬‬
‫وللسلف كأشخاص أي إلى الماضي فقط فهؤلء )ماضويون( ‪ ،‬أما إذا كممان‬
‫رجوعهم إلى السلف ‪ ،‬رجوعا ً إلى عمر الذي أبطل حد السرقة النصي في‬
‫عام المجاعة ‪ ،‬ورجوعا ً إلى الئمة المجتهدين الذين اعتصروا لباب قلمموبهم‬
‫وعقولهم لبيان الرأي ‪ ،‬إذا كان الرجوع لهذا فهو رجموع إلمى سملفية نهجهما‬
‫ودينها ليس )التباعية الماضوية( ولكن الجتهاد ‪ ،‬إن تعممدد المممذاهب وحممده‬
‫دليل على الحيوية العقلية والقلبية ‪ ،‬دليل على قلب يتلقى وفؤاد غير أبكممم‬

‫‪35‬‬
‫فيفقه ‪ ،‬ودليل على عين تنظر وفؤاد غير أعمى فيبصممر ‪ ،‬ودليممل علممى أذن‬
‫تستمع وفؤاد غير أصم فيسمع‪ .‬ثم إنهم لم يكونمموا كالممذين حملمموا التمموراة‬
‫فلم يحملوها‪.‬‬
‫فادعاء القربى بأولئك ليس سوى ستر لعيوب الصم الوهمي والبكم ‪،‬‬
‫وها أولء نحن ومنممذ أولئك نممراوح فممي خطونمما ‪ ،‬فممإذا اجتهممد بعضممنا اجتهممد‬
‫ليغلق باب الجتهاد‪ .‬ويجعل البحث الديني مهنة مسيجة بمداميك مشوهة‪.‬‬
‫إن واقعنمما ل زال ماضممويا ً يعيممش باجتهمماد أولئك ‪ ،‬ولممم تتغيممر بنيتممه‬
‫القتصممادية والجتماعيممة والفكريممة بعممد ‪ ،‬ول زال مثقفمموه يعيشممون حالممة‬
‫النفصام ما بين أوربة لم يتكونوا ضمنها ‪ ،‬وواقع يتبرمون فيه‪.‬‬
‫خطورة المر أن مدعي السلفية زورا ً من )الماضويين( الذين يحتمون‬
‫بأئمة متقين أعلم ‪ ،‬ويعجزون عن الرؤيممة مثلهممم ‪ ،‬ل يملكممون فممي النهايممة‬
‫سوى حماية المهنة بإشهار سيف الشممرع وخنجممر السمملطة بمموجه المثقممف‬
‫والمتغيرات الحضارية ‪ ،‬وذلك عوضا ً عن الخذ بيد هذا المثقف في تحليلته‬
‫– وبكل الحب – وإجلسه إلى أبي حنيفة النعمان )ت ‪ 150‬هم( ‪ ،‬والليث بن‬
‫سعد )ت ‪ 175‬هم( ‪ ،‬وداود ‪ ،‬وابن جرير ‪ ،‬وإذا شاء أن يجلسممه إلممى آخريممن‬
‫فهناك ما يزيممد علممى خمسمممائة مممن الئمممة المتقيممن ‪ ،‬الممذين أثممروا حياتنمما‬
‫وأغنوها تصوفا ً وفقها ً وعلوما ً شتى‪.‬‬
‫ا‪ :‬إن موقف المثقف الكممثر وعي ما ً بممالمتغيرات الحضممارية وأشممكال‬ ‫رابع ً‬
‫وعيها ‪ ،‬يجب أل ّ ينفعل برد الفعل الذي يعكسممه عليممه الماضممويون ‪ ،‬فيظممن‬
‫أنهم يعبرون عن السلف ‪ ،‬فشتان بيممن الماضمموية والسمملفية ‪ ،‬إذ إن الئمممة‬
‫المتقين العلم ‪ /‬فممي سممالف )ماضممينا نحممن( ‪ ،‬وحاضممر واقعهممم هممم ‪ /‬لممم‬
‫يكونوا أبدا ً سلفيين‪ .‬بل كانوا رجال جهاد واجتهاد ‪ ،‬وحتى أولئك الذين أكدوا‬
‫على النص وظاهره اجتهدوا وجاهدوا ليؤكدوا ذلك ‪ ،‬في وقت أشرعت فممي‬
‫وجوههم سيوف السلطة‪.‬‬
‫إذن ل يخطئن المثقف التقدير فيخلط ما بين الماضويين فمي حاضمرنا‬
‫وما سلف من أئمتنا المتقين ‪ ،‬فل يستلب السلف لمصلحة خلف ل صلة له‬
‫بهم ‪ ،‬فأدعياء السلفية ليسوا سلفيين ‪ ،‬لنهم غير مجتهدين كالسلف‪ .‬إنهممم‬
‫ماضويون‪.‬‬
‫كذلك ل يخطئن المثقممف التقممدير فيتعامممل مممع ثقافممة واقعنمما الراهممن‬
‫تعامل ً أيديولوجيا ً مفارقا ً باعتبارها ثقافة تراثية ‪ ،‬وهممي فممي حقيقتهمما ثقافممة‬
‫حيممة قائمممة فممي الواقممع وراسممخة بجممذورها ومقوماتهمما‪ .‬وهممي إحممدى أهممم‬
‫أساسيات المكون الجدلي في تطورنا التاريخي باتجاه مراحل متقدمة‪.‬‬
‫فنحن ل نستطيع أن نرتحل بمجتمعنمما إلممى خممارج زمممانه ومكممانه ‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن نعطي صفة التراثية لما هو حي فينا‪ .‬ثم أننا ل نريد أن نرتحل عن‬
‫مجتمعنا ومكوناته ‪ ،‬وإنممما نريممد دفممع التقممدم بأفضممل ممما لممدينا‪ .‬وإذا قررنمما‬
‫الرتحال فإننا ل نريد أن نرتد إلى أخلقية ومنهجية التضاد الغريزيممة ‪ ،‬الممتي‬
‫تممدمر فممي النسممان ذاتممه وتواصممله الحضمماري ‪ ،‬ثممم تممدمر فيممه أخلقيمماته‬
‫وجمالياته وأحاسيسه بإنسانيته ‪ ،‬فتجعلمه مغتربما ً عمن الكممون متعاليما ً عليمه‬
‫بالسيطرة ‪ ،‬ومغتربا ً عن مجتمعه ‪ ،‬طاغيا ً فيممه بقمموة البقمماء ‪ ،‬ومغترب ما ً عممن‬
‫ذاته النسانية بردها إلى بهيميتها وغريزيتها‪ .‬فل يبقى من بعد معنممى للبمموة‬
‫ول للمومة‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وتدريجيا ً ينحدر البداع الجمالي والفني إلى استنطاق الوجود بالشكل‬
‫كمرحلة النقش الحجري البدائي المكيف تماما ً على الفهم الغريزي للمور‪.‬‬
‫بروميثيوس لم يسرق شيئا ً‬
‫قممد أعلممن بعضممهم )بروميممثيوس(‪ ،‬تلممك الشخصممية السممطورية الممتي‬
‫سرقت أسرار الوجود من اللهة وأعطتها النسان ليتمرد بهمما علممى آلهتممه ‪،‬‬
‫أعلنوه كأول )شهيد( في التقويم المممادي‪ .‬أممما نحممن فإننمما نعلممن أن أوروبمما‬
‫التي جلست بكل قواها الضاربة في مؤتمر برلين عممام )‪ ، (1884‬لتقسمميم‬
‫العالم كمستعمرات فيما بينها ‪ ،‬هي آخر الحضارات الساقطة فممي التقممويم‬
‫المادي نفسه‪.‬‬
‫إنه تقويم بدأ بالنظرة إلى )تكريم( الله للنسممان بممالعلم فأحالهمما إلممى‬
‫)سرقة( اختلس بهمما النسممان العلممم )أسممرار الكممون( ‪ ،‬فممإذا كممان العقمماب‬
‫السطوري قد حل ببروميثيوس ودفعه إلى حمل الصخرة إلى أعلى الجبممل‬
‫لترتد كجلمود حطه السيل من عل ‪ ،‬فيكرر بروميثيوس المحاولممة الفاشمملة‬
‫دائممما ً كعقمماب لممه ‪ ،‬فممإن أوروبمما قممد فعلممت فممي حياتهمما الحضممارية فعممل‬
‫بروميثيوس نفسه ‪ ،‬دائما ً في صعود وهبوط ‪ ،‬وكل صعود يحمل في داخلممه‬
‫عناصر هبوطه ‪ ،‬فكانت قمة الصعود في برلين عممام ‪ 1844‬حيممن اقتسممموا‬
‫العامل ‪ ،‬ثم كانت قمة الهبوط في برليممن عممام ‪ 1914‬حيممن اختلفمموا حممول‬
‫القتسام ‪ ،‬ثم كممانت قمممة التنابممذ فممي برليممن ‪ 1944‬وقممد دمممروا أنفسممهم‬
‫ودمروا ما حممواهم ‪ ،‬ثممم عممادوا للبنمماء مممن جديممد وتجالسمموا كبهممائم بأنيمماب‬
‫نووية ‪ ،‬فتوازنوا بالرعب وحرب العصمماب ‪ ،‬كممل يخشممى أن يسممبقه الخممر‬
‫إلى الضغط على الزر المحرم‪ .‬وكما عاشت حضارتهم من قبل فممي القلع‬
‫الحجرية ‪ ،‬فإنها تعيش اليوم في القلع النووية‪.‬‬
‫هذا عالم ل نريد أن نرتحل إليه ‪ ،‬بل نريد نهاية بربريته‪ .‬فموقعنمما مممن‬
‫هذه الحضارة الوروبية البروميثيوسية يجب أل ّ يكون متأثرا ً بهمما بممل مممؤثرا ً‬
‫فيها‪ .‬يجب أن نذكرها بما كان عليه إبداعها النساني والجمممالي والخلقممي‬
‫قبل أن تجلس في مؤتمر برلين‪.‬‬
‫إن دورنا الحضمماري العممالمي الشممامل مرهممون بتطورنمما ‪ ،‬ومممن خلل‬
‫رصيدنا من السلف المعطاء ‪ ،‬وأشكال المعرفة العلميممة المتطممورة ‪ ،‬ومممن‬
‫خلل رؤيتنا في الكون دمجما ً بيممن القراءتيممن ‪ ،‬ليتفتممح الكممون فممي حضممارة‬
‫ذي‬ ‫هموَ اّلم ِ‬‫إنسانية في الرض‪ .‬وقتهما يتحقمق مما أراده اللمه فمي مشميئته )) ُ‬
‫َ‬
‫ن ك ُل ّمهِ وَل موْ ك مرِهَ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ح مقّ ل ِي ُظ ْهِمَرهُ عَل َممى ال م ّ‬
‫دي ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫دى وَِدي م ِ‬‫ه ِبال ْهُ م َ‬
‫سممول َ ُ‬‫ل َر ُ‬‫سم َ‬
‫أْر َ‬
‫ن)‪ – (33‬التوبة ‪ /‬ج ‪.((10‬‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬
‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫وإلى تلك المشيئة المرادة تتجه قلوبنا جميعا ً وتتفاعل أفئدتنمما بوقعهمما‬
‫وخطراتها‪.‬‬
‫ي لكيفية القراءة المنهجية للقممرآن ‪ ،‬القابممل لهمما فممي‬ ‫بعد عرضنا الّول ّ‬
‫إطممار وحممدته العضمموية الكتابيممة ‪ ،‬وباعتممماد أسمملوب التحليممل والجمممع بيممن‬
‫القراءتين وفق استخدام مناهج معرفية متطممورة ‪ ،‬نعممود فممي هممذا الفصممل‬
‫لنطرح الكيفية التي يستجيب بها القرآن لهذه القراءة ‪ ،‬والتي تكشممف عممن‬
‫فهم )غير أسطوري( و )غير خرافي( لموضوعاته‪.‬‬
‫إن مشكلة غياب القراءة المنهجية للقرآن إنما يرجع لمرين‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫المر الول‪ :‬وهو إحاطممة المفسممرين لموضمموعات القممرآن بممالتراث‬
‫اليهودي واعتبار كتابات اليهود )مرجعًا( وبالذات فمي قصمص النبيماء ‪ ،‬وقمد‬
‫أدى ذلك ل إلى تزييف محددات القرآن لهذه الموضوعات فحسب ‪ ،‬ولكممن‬
‫إلى تزييف وعي البشرية بموضوعية الطرح الديني قاطبمة لهمذه القضمايا ‪،‬‬
‫في حين أن القرآن – كما أوضحنا – قد استرجع الممتراث الروحممي للبشممرية‬
‫استرجاعا ً نقديا ً طهر ما به من تزييف‪.‬‬
‫والمففر الثففاني ويرجممع إلممى طبيعممة التصممور اليممديولوجي العربممي‬
‫التاريخي للوجود ‪ ،‬بما كان يشكل وعيما ً عربيما ً مفارقما ً فممي بنممائيته الذهنيممة‬
‫للدراك القرآني المميز بمعرفية متقدمة جدًا‪.‬‬
‫إنه من واجبنا – تجاه الله وتجمماه أنفسممنا وتجمماه البشممرية – أن نبحممث‬
‫بموضمموعية فممي كيفيممة السممترجاع النقممدي القرآنممي للممموروث الروحممي‬
‫للبشرية لتنقيته من شوائب التصورات الخرافية من جهة ‪ ،‬وأن نضع حدودا ً‬
‫واضحة بين ما يعود لصل المعرفة القرآنيممة ‪ ،‬وممما يعممود لتلبسممات الذهنيممة‬
‫العربية التاريخية من جهة أخرى‪.‬‬
‫على مسممتوى التمييممز بيممن ممما هممو للقممرآن وممما هممو للذهنيممة العربيممة‬
‫التاريخية ‪ ،‬علينا أن نتعممرف أول ً علممى خصممائص الذهنيممة العربيممة التاريخيممة‬
‫والكيفية التي أسقطت بها نفسها على موضوعات المعرفممة القرآنيممة ‪ ،‬ثممم‬
‫نتعرف على ما يطرحه القرآن من داخل نسقه المعرفي ‪ ،‬بذلك سيتأكد لنا‬
‫الفارق المفهومي بين ما هو بشري ومحتوي الوعي القرآني المتقدم على‬
‫هذه المفهومية البشرية وبما يعني أن القرآن ل يكممون – ضممرورة – إل ّ مممن‬
‫عند الله‪.‬‬
‫إن مناهففج المعرفففة الففتي تبحففث فففي )تاريخانيففة( الفكففار‬
‫والتساق الذهنية والتي استمرت على قولها بأن القرآن )نتاج‬
‫بشري( مقيد إلى الذهنية العربية وخصائصففها ‪ ،‬سففتتعرض فففي‬
‫هذا الفصل بالذات لقسى امتحان يمر بها ‪ ،‬إذ إننففا سنسففتخدم‬
‫)نفس مقولتها( للكشف عففن خصففائص الذهنيففة العربيففة الففتي‬
‫)يظن( أنها أنتجت القرآن ‪ ،‬ثم نقففارن هففذه الذهنيففة العربيففة –‬
‫التي يفترض أنها أنتجت القرآن – بما يطرحه القرآن من تصور‬
‫مفففارق لهففا ‪ ،‬وذلففك حيففن نطبففق هففذا المنهففج المقففارن علففى‬
‫المسألة الدمية‪ .‬بذلك سيكتشف هؤلء حقيقففة القففرآن ككتففاب‬
‫من عند الله متجاوز بمنهجيته المعرفية للعقل البشري‪.‬‬
‫لقممد وضممع علممماء السمملوك الجتممماعي معممايير علميممة عامممة يقمماس‬
‫بموجبها تأثير المجال على حالة النسان بكل أبعادهمما العقليممة والسمملوكية ‪،‬‬
‫ول محال لن يرتماب أحمد اليموم فمي بعمض النتمائج التطبيقيمة لهمذا الفمرع‬
‫العلمي الهممام‪ .‬وحيممن نأخممذ بنتممائج هممذا العلممم لكتشمماف خصممائص العقليممة‬
‫العربية وحالتها السلوكية في مرحلة نزول القرآن ‪ ،‬فإننا ‪ ،‬سممنلمس ‪ ،‬دون‬
‫شممك ‪ ،‬وبتحليممل علمممي واضممح ‪ ،‬الفممارق الكممبير بيممن وعممي القممرآن لكافممة‬
‫المواضيع التي طرحها وبين الوعي المفهممومي التمماريخي الممذي عمماش فممي‬
‫ظله العربي آنذاك‪ .‬لم تكن ثمة علقة موضمموعية )توليديممة( بيممن المفمماهيم‬
‫القرآنية والفكر العربي التاريخي ‪ ،‬ول أقصد على صعيد النشمماء والبيممان –‬
‫فتلك معجزة أخرى – ولكن على صعيد المعنى والمفاهيم‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫المفارقففة العجازيففة بيففن المعرفففة القرآنيففة والففوعي العربففي‬
‫التاريخي‬
‫توضممح الماركسممية عممبر أنجلممر فممي كتممابه )لودفيممغ فيوربمماخ ونهايممة‬
‫الفلسفية الكلسيكية اللمانية ‪ /‬ص ‪" (38‬إن الواقع هو الذي ينتممج الفكممر ‪،‬‬
‫فالفكار الحاصلة في الوعي هي انعكاسات الشياء والحداث الواقعيممة " ‪،‬‬
‫هكذا تصبح جدلية الدراك وعي ما ً لحركممة العممالم الممواقعي الجدليممة‪ .‬ويوضممح‬
‫ماركس في )اليممديولوجيا اللمانيممة( أن التشممكلت المبهمممة الحاصمملة فممي‬
‫رهم الحيوية الواقعية التي يمكممن‬ ‫أذهان الناس ‪ ،‬هي بالضرورة ملحق ِلسي َ ِ‬
‫إدراكهمما واقعي ما ً ‪ ،‬والممتي ترتبممط بحممالت ماديممة عينيممة ‪ ،‬فممالخلق والممدين‬
‫والميتافيزيق وسائر تجليات اليديولوجيا ‪ ،‬وكذلك أشممكال المموعي المقابلممة‬
‫لهمما ‪ ،‬ل تقممدر إذن ‪ ،‬أن تحممافظ علممى مظهرهمما السممتقللي لمممدة أطممول ‪،‬‬
‫فليس الوعي هو الذي يكيف الحياة ‪ ،‬إنما الحياة هممي الممتي تكيممف المموعي‪.‬‬
‫فاليديولوجيا كبنية فوقية هي أنها مجموعة التصورات الممتي يكونهمما النمماس‬
‫عممن علقتهممم بأوضمماعهم الوجوديممة ‪ ،‬الثقافممة وطريقممة العيممش ‪ ،‬والفكممار‬
‫والقيم والذواق ‪ ،‬الواعية منهمما والغافلممة ‪ ،‬سممواء علممى الصممعيد الفممردي أو‬
‫الطبقي أو المجتمعي )راجع ‪ /‬ملحظات حول الفهم الفلسفي لليديولوجيا‬
‫‪ /‬رشيد مسعود ‪ /‬الفكر العربي ‪ /‬عدد ‪ / 15‬س ‪ / 2‬أيار – مايو ‪ / 1980‬ص‬
‫‪.(54‬‬
‫بهذه المقدمممة وضممعت الماركسممية السمماس النظممري لتعلممق الفكممار‬
‫بالواقع الموضوعي باعتبار الفكار نتاجا ً لهذا الواقع وتتغير بتغيممره بممما فممي‬
‫ذلك الخلق والدين والقيم‪ .‬وقد شيد عالم الجتماع الفرنسممي الماركسممي‬
‫)أميل دوركهايم( – )‪ (1917-1858‬نظريتمه فمي تحديمد الواقعمات الذهنيمة‬
‫على هذا الساس متجها ً نحو صياغة )علم اليديولوجيا( ‪ ،‬فبدل ً من ملحظة‬
‫الشممياء ووصممفها ومقارنتهمما ‪ ،‬نكتفممي ‪ ،‬إذ ذاك ‪ ،‬بمموعي أفكارنمما وتحليلهمما‬
‫وتأليفها بعضها إلى البعض الخر ‪ ،‬أي عوضا ً عن إنشاء علم يتناول الحقائق‬
‫الواقعية ‪ ،‬ل نعود نصوغ سوى علم أيديولوجي _دوركهايم ‪ /‬قواعممد المنهممج‬
‫الجتماعي ‪ /‬ص ‪.(21‬‬
‫ثم جماء )إيريممك فممروم( ليعطمي دفعممة تطبيقيممة علممى صممعيد التحليممل‬
‫النفسي لما بدأه ماركس وانجلر وطوره دوركهايم ‪ ،‬ذلك حين بممدأ بتفسممير‬
‫ما لم يفسره ماركس حول كيفية أن يكممون النتقممال مممن الشممياء الماديممة‬
‫إلممى الفكممر النسمماني عممبر )رأس النسممان( أي العمليممة النفسممية لنتمماج‬
‫اليممديولوجيا المرتبطممة بممالواقع القتصممادي والجتممماعي‪) .‬راجممع د‪ .‬عبمماس‬
‫مكي ‪ /‬أريك فروم وعلم النفس الجتماعي التحليلممي ‪ /‬المصممدر السممابق ‪/‬‬
‫ص ‪.(206‬‬
‫على هذا النحو صاغت الماركسية نظريتها حول تشكيل البنية الذهنيممة‬
‫فممي مرحلممة تاريخيممة معينممة وعلممى ضمموء خصوصمميات الواقممع القتصممادي‬
‫والجتماعي‪ .‬وليس لنا أن نطلب الن سوى تطبيق هذه النظرية بحذافيرها‬
‫على علقة )القرآن( بوصفه محصلة وعي أيديولوجي – )بظنهم البشري( –‬
‫على الواقع الجتماعي والقتصادي العربي الممذي يكممون قممد أنتجممه – وفق ما ً‬
‫للماركسية‪ .‬وذلك لنصل إلى تحديد أو عدم تحديممد أن المموعي القرآنممي هممو‬
‫انعكاس الواقع العربي ‪ ،‬وأن النمبي الكريمم قمد اسمتلهمه ممن بنيمة الواقمع‬

‫‪39‬‬
‫ونسيجه‪ .‬فإذا أثبتنا – بمنطق التحليل العلمي لتشكلت الذهنية – أن ما في‬
‫القرآن من وعي هو إدراك يتجاوز حالة العرب الذهنية ‪ ،‬فلن نطلممب وقتهمما‬
‫من المفكرين الماركسيين أن يغيروا من تصوراتهم لعلقة الفكممر بممالواقع ‪،‬‬
‫وإنما سنطلب منهم العتراف بالقرآن كظاهرة غيممر بشممرية )غيبيممة( ‪ ،‬وأن‬
‫يبقوا بعد ذلك ما شاءوا على فكرهم المرتبط بالواقع‪.‬‬
‫تكون البداية بدراسة الذهنية العربية في تلك المرحلممة ‪ ،‬أي مممن قبممل‬
‫أربعة عشر قرنا ً بهدف تحديد بنيتها اليديولوجية ثم مقايسة تلك البنية على‬
‫الدراك القرآني‪ .‬هنا يتوجب علينا القيام بعمليتين ‪ ،‬الولى لتحديممد الذهنيممة‬
‫العربية ‪ ،‬والثانية لتحديد بنائية القممرآن المعرفيممة ‪ ،‬الممتي ترقممى علممى كافممة‬
‫التمثلت اليديولوجية ‪ ،‬وبما أن هذا المنهج في )البحث المقممارن( سمميعتمد‬
‫علممى نصمموص القممرآن ذاتهمما ‪ ،‬فإننمما لممن نتقيممد كممثيرا ً بإسممقاطات الذهنيممة‬
‫اليديولوجية العربية على معاني هذه النصوص ‪ ،‬فإذا قيممدنا أنفسممنا بممالفهم‬
‫العربممي التمماريخي فممي تلممك المرحلممة لهممذه النصمموص ‪ ،‬نكممون قممد أفممدنا‬
‫الماركسية وكافة التيمارات الوضمعية ‪ ،‬وذلمك لننما نكمون قمد أيمدنا القمرآن‬
‫بممالفهم الممذي كممانت عليممه ذهنيممة تلممك المرحلممة ‪ ،‬أي الفهممم اليممديولوجي‬
‫التاريخي الخاص بالعرب ‪ ،‬ومن هنا تضيع خاصية القرآن المتميزة ‪ ،‬ويصممبح‬
‫أسيرا ً لعقول بعينهمما ‪ ،‬تكممونت ذهنيتهمما ضمممن واقممع اجتممماعي وتمماريخي لممه‬
‫دللته اليديولوجية الخاصة‪.‬‬
‫إن حسم أسلوب التعامل في هذا البحممث المقمارن مهممم للغايممة ‪ ،‬لن‬
‫قوة المدارس الماركسية و )الوضعية( من جهة واليهودية مممن جهممة أخممرى‬
‫إنما تكمن في الربط بين القرآن والتفسممير العربممي التمماريخي المقيممد إلممى‬
‫مرحلة معينة‪ .‬فيصبح القمرآن )تابعمًا( للعقممل العربممي ‪ ،‬و )منقممادًا( لمرحلممة‬
‫معينة من مراحممل تطمموره ‪ ،‬أي تطممور العقممل العربممي ‪ ،‬ومممن هنمما يسممتلب‬
‫المعنى الطلقي المميز في القرآن لصالح عقلية بشرية تكون هممي الدالممة‬
‫عليه والعنوان له‪ .‬في حين أننا نعتمد في هذا البحث المقارن علممى القممول‬
‫بوجود مفارقة بين الدراك القرآني والوعي اليممديولوجي البشممري ‪ ،‬بحيممث‬
‫نؤكد أن الوعي اليممديولوجي البشممري العربممي التمماريخي لممم يكممن بإمكممانه‬
‫)إنتمماج القممرآن(‪ .‬فالهميممة الداحضممة للمممدارس الماركسممية و )الوضممعية(‬
‫واليهودية ‪ ،‬إنما تكمن في اكتشاف هذه المفارقة من بعد التطبيق العملي‪.‬‬
‫العقلية العربية إحيائية أنيمية والقرآن تأكيد للجدل الكوني‬
‫بمالرجوع إلمى مما كتبمه علمماء الجتمماع حمول كيفيمة تشمكل الذهنيمة‬
‫ونمطها في عمليات الوعي والدراك ‪ ،‬يمكننا بوضمموح أن نقممرر أن العقليممة‬
‫العربية كانت عقلية إحيائية أنيمية تميل إلى أمرين‪:‬‬
‫ل‪ :‬التعامل مع الظواهر الطبيعية كل ّ على حممدة كممأن ل علقممة للظمماهرة‬ ‫أو ً‬
‫الطبيعية بالخرى‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬أنها تحيي هذه الظواهر أي تجعل لها )نفوسا ً ذاتية( تتحكم بها تمام ما ً‬
‫كنفس النسان ‪ ،‬أي أن لكل ظاهرة طبيعية حركة ذاتية خاصة بها وصممادرة‬
‫من تلقائها‪ .‬ويقوم هذا النمط من التفكير النيمي )الحيمائي( ‪ ،‬علمى فكمرة‬
‫أن النسان بصفة عامة والنسان المتخلممف بصممفة خاصممة إنممما يميممل إلممى‬
‫تصور العالم الخممارجي علممى نحممو سممبيه بتصمموره لممذاته ‪ ،‬فالنسممان حينممما‬
‫تعوزه القدرات على فهم حقيقة الظممواهر فهمما ً علميما ً ‪ ،‬فممإنه يسممبغ علممى‬

‫‪40‬‬
‫هذه الظواهر فهمه لنفسه ‪ ،‬فالرؤية تتم هنا على أساس الكثرة المسممتقلة‬
‫في وجود عناصرها عن بعضها ‪ ،‬ولذلك نجد )تصورات الخليقة( فممي الكتممب‬
‫القديمة تتم وفق منظور التجزئة المستقلة ‪ ،‬حيث ل رابط في التكوين بين‬
‫ظواهر الخلق ‪ ،‬فيوما ً تخلق النار ‪ ،‬وفي اليمموم التممالي يتممم خلمق الخشماب‬
‫والغابات‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان يمكن أن يكون القرآن – لو جاء نتاجا فكريا للواقممع – أن يكممرس‬
‫هذا المفهوم النيمي باتجاه الكثرة المستقلة القائمة بحياتها الذاتية ‪ ،‬ولكن‬
‫النقيض تماما ً هو ما يطرحه القرآن‪ .‬فيأخذ القرآن بمفهوم الترابط الجدلي‬
‫للظواهر الطبيعية المتعددة والمتنوعة في إطار فلكي كوني واحد ‪ ،‬ووفممق‬
‫)نظام طبيعي( يفرض ضوابطها على الحركة المادية‪:‬‬
‫س‬
‫م ُ‬ ‫شم ْ‬ ‫م)‪َ(39‬ل ال ّ‬ ‫دي ِ‬ ‫قم ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫جو ِ‬ ‫حت ّممى عَمماد َ ك َممال ْعُْر ُ‬ ‫ل َ‬ ‫مَر قَمد ّْرَناهُ َ‬
‫من َممازِ َ‬ ‫ق َ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫َ‬
‫ن)‬ ‫حو َ‬‫س مب َ ُ‬
‫ك يَ ْ‬ ‫ل فِممي فَل َم ٍ‬ ‫ساب ِقُ الن َّهارِ وَك ُم ّ‬ ‫ل َ‬ ‫مَر وََل الل ّي ْ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن ت ُد ْرِ َ‬‫ي َن ْب َِغي ل ََها أ ْ‬
‫‪ – (40‬يس ‪ /‬ج ‪.23‬‬
‫ثم يتناول القرآن الجانب الثاني والخاص بفرضية قيام النفس الذاتيممة‬
‫للظواهر الطبيعية ‪ ،‬فالفتراض النيمي بأن للشمس نفس ما ً ‪ ،‬وأن الشمممس‬
‫قاهرة بحرارتها وضوئها ‪ ،‬ومتعالية ببعدها ‪ ،‬كل ذلممك جعلهمما محممط تقممديس‬
‫لدى العرب ولدى الشعوب الخرى ‪ ،‬فجاء القممرآن ليجممرد الشمممس وكافممة‬
‫الظواهر الطبيعية عن قيامها بنفس ذاتية الحركة‪:‬‬
‫مس وَلَ‬ ‫دوا ِلل ّ‬ ‫َ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫ل َوالن َّهماُر َوال ّ‬ ‫ن آي َممات ِهِ الل ّي ْم ُ‬
‫شم ْ ِ‬ ‫ج ُ‬‫سم ُ‬ ‫ممُر ل ت َ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫م ُ‬ ‫شم ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ن)‪ – (37‬فصلت ‪ /‬ج‬ ‫دو َ‬ ‫م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ن إِ ْ‬‫قه ُ ّ‬ ‫َ‬
‫خل َ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫دوا ل ِلهِ ال ِ‬‫ّ‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫مرِ َوا ْ‬ ‫ق َ‬‫ل ِل ْ َ‬
‫‪.24‬‬
‫وهناك العديد من اليات التي أفرغت عن الوعي العربي ما كان عليممه‬
‫من حالة تقديس الظواهر الطبيعية ‪ ،‬وبالذات تلك التي تتراءى بقوة التأثير‬
‫على حياته‪.‬‬
‫[نسف مفهوم استقللية الظممواهر وإحلل مفهمموم النظممام الكمموني ‪+‬‬
‫تجريد الظممواهر الطبيعيممة عممن إرادتهمما الذاتيممة = نسممف العقليممة الحيائيممة‬
‫النيميمممة ‪ /‬النتيجمممة ‪ /‬أن الدراك القرآنمممي مفمممارق بمعرفيتمممه للتصمممور‬
‫اليديولوجي العربي] ‪ ،‬وهنا يأتي سؤلنا وليس سؤالنا ‪ ،‬سؤلنا لمن يكتشف‬
‫ذلك بالتحليل العلمي لنصوص القممرآن فممي معممرض المقارنممة ممع مركبممات‬
‫العقلية العربية ‪ ،‬أن يكون نزيها ً في علميته وعلمانيته ‪ ،‬ليكتشف بالضرورة‬
‫أن القرآن ظاهرة غيبية ل تمت للواقع الذهني العربي بصلة ‪ ،‬وليس نتيجممة‬
‫مستلهمة بعبقرية من ذاك الواقع‪.‬‬
‫بعد هذا التجريد والنفي القرآني لحياة الظواهر الطبيعية اندفع العرب‬
‫يسممألون عممن الحقممائق المفترضممة والبديلممة فيممما يختممص بهممذه )الهلممة( ‪،‬‬
‫ل‬‫ن اْل َهِل ّمةِ قُم ْ‬ ‫ك عَم ْ‬ ‫سمأ َُلون َ َ‬ ‫فأجابهم الله بما يعرفونه عنها ولم يضف جديدًا‪ :‬ي َ ْ‬
‫ج)‪ – (189‬البقرة ‪ /‬ج ‪ .2‬والعممرب يعرفممون أن‬ ‫س َوال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫واِقي ُ‬ ‫م َ‬
‫ي َ‬ ‫هِ َ‬
‫الهلة هي دللة مواقيت للناس ‪ ،‬شهورا ً وأيام ما ً ‪ ،‬وأن الحممج موقمموت بهمما ‪،‬‬
‫فلماذا كانت الجابة اللهية الكريمة في حدود ما يعرفه السائل؟‬
‫هنا نكمل الية‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫َ‬ ‫ن اْل َهِل ّةِ قُ ْ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫ن‬‫س ال ْب ِمّر ب ِمأ ْ‬ ‫ج وَل َي ْم َ‬ ‫حم ّ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِللن ّمما‬ ‫واِقي ُ‬ ‫مم َ‬‫ي َ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫واب ِهَمما‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫قممى وَأت ُمموا الب ُي ُممو َ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ن الب ِمّر َ‬ ‫ها وَلك ِم ّ‬ ‫ن ظُهورِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ‬
‫ن)‪(189‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م تُ ْ‬‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫َوات ّ ُ‬
‫فالسائل عن الهلة قد أتى البيت من ظهره وليممس مممن بممابه ‪ ،‬وبمماب‬
‫البيت في مثل هذا السؤال هو )الكتشاف العلمي( من بعد تقوى الله التي‬
‫تجرد هذه الظواهر الطبيعية من صممفة التقممديس ‪ ،‬فربممط اللممه فممي جملممة‬
‫واحدة غير مجزأة بين السؤال عن الهلة ودخول البيوت من أبوابها ‪ ،‬وجاء‬
‫بالبر لربط اتقاء التقديس الخاطئ لهذه الظممواهر ‪ ،‬فيسممتقيم المعنممى بممأن‬
‫البر في عدم تقديس هذه الظواهر الطبيعية كما أمر الله وبممما ل يعنممي أن‬
‫يتحول القرآن إلى مسمماق فممي العلمموم الطبيعيممة ‪ ،‬وأن الممبر إذ يجممرد هممذه‬
‫الظواهر عن قدسيتها ‪ ،‬فممإنه يفتممح الطريممق لمعرفتهمما علميما ً – حيممن نممأتي‬
‫البيوت من أبوابها – فنتعامل معها كظواهر جديرة بالدراسممة والكتشمماف ‪،‬‬
‫ذلك حين نتقي الله فل نعبدها‪.‬‬
‫قد وجه الله في القرآن إلى ضرورة فهم البنائية الكونية بشكل جدلي‬
‫موحد ومترابط ‪ ،‬مع التعامل مع ظواهرها من أرض وسممماء وجبممال ضمممن‬
‫رؤية تقوم على وحدة التكوين‪ .‬ولن هممذا التمموجيه المعرفممي القرآنممي كممان‬
‫مفارقا ً للذهنية العربية وقتها ‪ ،‬لم تجد اليممات والنصمموص القرآنيممة الخاصممة‬
‫بذلك وعيها المطلوب‪ .‬بل كثيرا ً مما فسممرت هممذه النصمموص القرآنيممة وفمق‬
‫تصور أيممديولوجي عربممي ذاتممي ‪ ،‬ويمكننمما أن نممأتي بمثممال علممى ذلممك فيممما‬
‫يختص بالشارة إلى )البل( ‪ ،‬فكثيرون قد اتخذوا من هذه الشممارات دللممة‬
‫على النتاج العربي للنصوص القرآنية في حين أن المعنى يختلف عن ذلممك‬
‫جذريًا‪.‬‬
‫نعممم ‪ ،‬قممد أشممار اللممه علممى العممرب أن ينظممروا إلممى البممل ‪ ،‬ولكنممه –‬
‫سبحانه – قد طلب إليهم أن ينظروا إلى )كيممف( خلقممت ‪ ،‬ثممم حممدد طبيعممة‬
‫النظممرة )بمماثلممة( كونيممة ‪ ،‬حيممث ربممط بيممن كيفيممة خلممق البممل وبيممن‬
‫)السماء‪/‬الجبال‪/‬الرض( ‪ ،‬فالسماء مرفوعة بعمد ل نستطيع رؤيتها ‪ ،‬وهممي‬
‫عمد تشد البناء الكمموني إلممى بعضممه بالكيفيممة الممتي تشممد بهمما قمموائم البممل‬
‫دا)‪– (12‬‬ ‫دا ً‬‫ش َ‬ ‫سب ًْعا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ظواهر خلقها ‪ ،‬فالسماء هي أعمدة شد ))وَب َن َي َْنا فَوْقَك ُ ْ‬
‫نبأ ‪ /‬ج ‪.((30‬‬
‫فهنا مماثلممة بيممن قمموائم البممل الرافعممة والسممماء الممتي تشممد ببنائيتهمما‬
‫ذي َرفَ َ‬
‫ع‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫الحسم الكوني القائم على عمد كقوائم البل ولكن ل نراها‪ :‬الل ّ ُ‬
‫س‬‫م َ‬ ‫شم ْ‬ ‫خَر ال ّ‬ ‫سم ّ‬ ‫ش وَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ممدٍ ت ََروْن َهَمما ث ُم ّ‬
‫وى عَلممى العَمْر ِ‬ ‫سمت َ َ‬
‫َ‬
‫ما ْ‬ ‫ت ب ِغَْيمرِ عَ َ‬
‫َ‬
‫ماَوا ِ‬ ‫سم َ‬ ‫ال ّ‬
‫م‬ ‫قمماِء َرب ّك ُم ْ‬ ‫م ب ِل ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت لعَلك ُ ْ‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ص ُ‬
‫ف ّ‬ ‫مَر ي ُ َ‬ ‫ْ‬
‫مى ي ُد َب ُّر ال ْ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬‫ل ُ‬ ‫ج ٍ‬‫ري ِل َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫مَر ك ُ ّ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫ق َ‬
‫ن)‪ – (2‬الرعد ‪ /‬ج ‪.13‬‬ ‫ُتوقُِنو َ‬
‫ودليلنا على أن النص القرآني يشير إلى وجود عمد غير مرئيممة لنمما أن‬
‫الله قد أتى بكلمة )ترونها( بعد القول )بغير عمممد( فلممو كممان القصممد )بغيممر‬
‫عمد( لما لزمت إضافة )ترونها( ولكانت زائدة ‪ ،‬ولغممة القممرآن منزهممة عممن‬
‫الزيادة والنقصان‪.‬‬
‫عمد السممماء كعمممد البممل ولكممن ل نراهمما ‪ ،‬ثممم هنمماك مماثلممة الجبممال‬
‫المنصوبة كأوتاد ‪ ،‬بعد ذلك تممأتي الرض المسممطحة الممتي يقابلهمما تسممطيح‬
‫َ‬
‫ف‬ ‫ماِء ك َي ْم َ‬ ‫سم َ‬ ‫ت)‪(17‬وَإ ِل َممى ال ّ‬ ‫قم ْ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ل ك َي ْم َ‬ ‫ن إ ِل َممى اْل ِب ِم ِ‬ ‫خف البل‪ :‬أفََل ي َن ْظ ُُرو َ‬

‫‪42‬‬
‫َْ‬ ‫َ‬
‫ت)‪– (20‬‬ ‫ح ْ‬ ‫سط ِ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ض ك َي ْ َ‬ ‫ت)‪(19‬وَإ ِلى الْر ِ‬ ‫صب َ ْ‬ ‫ف نُ ِ‬ ‫ل ك َي ْ َ‬ ‫جَبا ِ‬ ‫ت)‪(18‬وَإ َِلى ال ْ ِ‬ ‫ُرفِعَ ْ‬
‫الغاشية ‪ /‬ج ‪.30‬‬
‫فهنا بنائية كونية مترابطة تمت الشارة إليهمما عممبر بنائيممة البممل ‪ ،‬فلممم‬
‫تقصد البل لذاتها كما يظن البعض الذين ربطوا بين القرآن والعقل العربي‬
‫‪ ،‬وجعلوا القرآن نتاجا ً لهذا العقل العربي وظواهره البيئية والجتماعية‪.‬‬
‫هذه البنائية الكونية ل يدعها الله )ساكنة( ‪ ،‬وإنما يشير إلى ما بداخلها‬
‫من حركة تقوم على التفاعل الجدلي ‪ ،‬الذي يولد نتائج تكاثرية أخرى ‪ ،‬ثممم‬
‫يستخدم إشارة )المماثلة( التي استخدمها لظهار العلقة بيممن بنائيممة البممل‬
‫ج‬
‫خ مُر ُ‬ ‫ق)‪(6‬ي َ ْ‬ ‫دافِ م ٍ‬‫ماٍء َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫خل ِقَ ِ‬ ‫ق)‪ُ (5‬‬ ‫خل ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫سا ُ‬ ‫لن َ‬ ‫والبنائية الكونية‪ :‬فَل َْينظ ُْر ا ْ ِ‬
‫س مَرائ ُِر)‬ ‫م ت ُب ْل َممى ال ّ‬ ‫قممادٌِر)‪(8‬ي َموْ َ‬ ‫جعِ مهِ ل َ َ‬ ‫ه عََلى َر ْ‬ ‫ب)‪(7‬إ ِن ّ ُ‬ ‫ب َوالت َّرائ ِ ِ‬ ‫صل ْ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ب َي ْ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫ت‬‫ض ذا ِ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ج مِع)‪َ(11‬والْر ِ‬ ‫ت الّر ْ‬ ‫ماِء ذا ِ‬ ‫سم َ‬‫ر)‪َ(10‬وال ّ‬ ‫صم ٍ‬ ‫ن ق موّةٍ وَل َنا ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ما ل م ُ‬ ‫‪(9‬ف َ‬
‫صد ِْع)‪ – (12‬الطارق ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫ال ّ‬
‫أين الحركية الجدلية هنا؟ وأين المماثلة هنا؟‬
‫إن السماء )ذات الرجمع( المتي تقمذف بالمماء إلمى الرض )‪ (+‬الرض‬
‫)ذات الصدع( ‪ ،‬التي تستوعب بشقها الماء ‪ ،‬ثم يكون النتاج الزراعممي )=(‬
‫الصلب الذي يقذف الماء )‪ (+‬ماء الممترائب الممذي يمممتزج بممماء الممذكر )=(‬
‫الناتج المولود‪ .‬فالحركيممة الكونيممة تعتمممد فممي التكمماثر علممى مبممدأ التكامممل‬
‫والتفاعمل الجمدلي ‪ ،‬ضممن الكمون وبيمن البشمر‪ .‬فكافمة الظمواهر الكونيمة‬
‫الفيزيائية والبيولوجية إنما تتحرك وفق قانون التفاعل الجممدلي التكمماملي ‪،‬‬
‫فكممما يممتزاوج النسممان تممتزاوج الطبيعممة ضمممن بيئة كونيممة واحممدة خصممبة‬
‫ومخصممبة‪ .‬هكممذا ل ينظممر النسممان لنفسممه بوصممفه نشممازا ً ل تنطبممق عليممه‬
‫القوانين الطبيعية الكونية كيفما سنها الله العليممم الخممبير‪ .‬فهنمما تمموجه نحممو‬
‫رؤية الكون في وحدته إلى أقصى إيقاعات العلم الممكن‪.‬‬
‫في هذا النموذج )السماء‪/‬الرض( – )الصلب‪/‬الترائب( يعطممي القممرآن‬
‫جبريمة التفاعمل الحركممي الممادي ‪ ،‬يؤكممد القمانون الطممبيعي وحتميمماته‪ .‬ثمم‬
‫يعطي القرآن مقابل الجبرية الطبيعية حرية النفس وليس المادة‪ .‬فالمممادة‬
‫محكومة بالقانون الطبيعي ‪ ،‬أما النفس فإنها تنشأ ضمن التعممارض الثنممائي‬
‫بين مواد التفاعل الكونية لتأخذ مساحة الحرية ‪ ،‬بممذلك يؤكممد القممرآن علممى‬
‫)الجبرية المادية( وعلى )الحرية النفسية( بذات المموقت وبكيفيممة معرفيممة ‪،‬‬
‫وتظل تتفوق على كل الفكر البشري إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫نموذج الفصل بين الجبرية المادية والحرية النفسية والعقلية‪:‬‬
‫ذا‬‫ل إِ َ‬ ‫جّلهَمما)‪َ(3‬والل ّي ْم ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ها)‪َ(2‬والن َّهارِ إ ِ َ‬ ‫ذا ت ََل َ‬ ‫مرِ إ ِ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ها)‪َ(1‬وال ْ َ‬ ‫حا َ‬ ‫ض َ‬ ‫س وَ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ش ْ‬‫َوال ّ‬
‫ها)‬ ‫وا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي َغْ َ‬
‫سم ّ‬ ‫ممما َ‬ ‫س وَ َ‬‫ف ٍ‬ ‫ها)‪(6‬وَن َ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫ما ط َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ها)‪َ(5‬والْر ِ‬ ‫ما ب ََنا َ‬ ‫ماِء وَ َ‬ ‫س َ‬‫ها)‪َ(4‬وال ّ‬ ‫شا َ‬
‫َ‬
‫ها)‪ – (8‬الشمس ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫وا َ‬ ‫ق َ‬ ‫ها وَت َ ْ‬ ‫جوَر َ‬ ‫مَها فُ ُ‬ ‫ْ‬
‫‪(7‬فَألهَ َ‬
‫والقممر إذا تلهمما)‪(2‬‬ ‫والشمس وضحاهما)‪(1‬‬
‫والليمل إذا يغشاهما )‬ ‫والنهار إذا جلهما )‪(3‬‬
‫‪(4‬‬
‫والرض وما طحاها )‬ ‫والسماء وما بناهما )‪(5‬‬
‫‪(6‬‬
‫ونفس وممما سواهما)‪(7‬‬
‫فألهمها فجورها وتقواها)‪(8‬‬

‫‪43‬‬
‫يأخذ التصنيف بوضع متقممابلت ثنائيممة )شمممس‪/‬قمممر( – )نهممار‪/‬ليممل( –‬
‫)سماء‪/‬أرض( ‪ ،‬وهذه ضفة أفقية للتصنيف ‪ ،‬ولكممن الصممفة الفقيممة تتحممول‬
‫إلى صفة رأسية تجعل كلمة شمس تسبق ذكممر القمممر ‪ ،‬ثممم يسممبق النهممار‬
‫المرتبط بالشمس ذكر كلمة الليل المرتبط بالقمر ‪ ،‬ثم كلمة سماء تسممبق‬
‫أرض ‪ ،‬فيكون التصنيف العمودي في هذه الحالة )شمس‪/‬نهار‪/‬سممماء( فممي‬
‫مقابممل )قمممر‪/‬ليممل‪/‬أرض( ‪ ،‬والثنائيممة قائمممة فممي حممالتي التصممنيف الفقممي‬
‫ت‬ ‫ذا ِ‬‫ماِء َ‬‫سم َ‬
‫والرأسي ‪ ،‬فالتعامممل قممائم بيممن الجممانبين بممما يماثممل حالممة )َوال ّ‬
‫صد ِْع)‪ ، ((12‬ثم يكون الميلد‪.‬‬ ‫ض َ‬ ‫َْ‬
‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫جِع)‪َ(11‬والْر ِ‬ ‫الّر ْ‬
‫الميلد الذي اختاره الله – سبحانه – للتقابل العمودي والفقي ما بيممن‬
‫)شمممس‪/‬نهممار‪/‬سممماء( مممن جهممة مشممابهة لقمموة الممذكر الممذي يعطممي )‪(+‬‬
‫)قمر‪/‬ليممل‪/‬أرض( فيممما يشممابه قمموة النممثى الممتي تسممتوعب )=( نتمماج غيممر‬
‫مستلب ل للذكر وحده ول للنثى وحدها‪ .‬أي النتاج الذي يكتسب حريته لنه‬
‫َ‬
‫همما‬ ‫جوَر َ‬ ‫ها)‪(7‬فَأل ْهَ َ‬
‫مَها فُ ُ‬ ‫وا َ‬‫س ّ‬
‫ما َ‬ ‫س وَ َ‬
‫ف ٍ‬ ‫نتاج التفاعل الثنائي ‪ ،‬هذا النتاج هو‪ :‬وَن َ ْ‬
‫َ‬
‫ها)‪ – (10‬الشمس ‪ /‬ج‬ ‫سا َ‬‫ن دَ ّ‬‫م ْ‬
‫ب َ‬‫خا َ‬ ‫ها)‪(9‬وَقَد ْ َ‬ ‫ن َز ّ‬
‫كا َ‬ ‫م ْ‬
‫ح َ‬ ‫ها)‪(8‬قَد ْ أفْل َ َ‬
‫وا َ‬
‫ق َ‬‫وَت َ ْ‬
‫‪.30‬‬
‫هنما اسمتخلص اللمه – إمكانيمة الحريمة للنفمس والعقمل – ممن )ثنائيمة‬
‫التكوين الجدلي الكوني( ‪ ،‬وعبر التفاعل بين عنصرين لهما امتداداتهما في‬
‫الكون ‪ ،‬فالشمس – مثل ً – يشار إليها مقترنممة بالضمموء ‪ ،‬باعتبارهمما مصممدرا ً‬
‫حراريا ً ‪ ،‬أما القمر فيشار إليه مقترنما ً بممالنور ‪ ،‬بوصمف همذا النمور انعكاسما ً‬
‫لضوء الشمس ‪ ،‬فالمماثلة تحمل التقابليممة والتفاعليممة ‪ ،‬ول يمكممن أن تجممد‬
‫في كل آيات القرآن – الذي يشير إليه بعضهم بأنه نتاج عقلي عربي ملهممم‬
‫– أي ربط بين قمر وضوء أو شمس ونور‪.‬‬
‫إذن ‪ ،‬تأكدت لنا بعض مبادئ الدراك القرآني المكنون المفارقة نوعيا ً‬
‫بطبيعتها للوعي اليديولوجي العربي التاريخي ‪ ،‬ومن هنا تقوم دللة المعنى‬
‫الغيبي للقرآن باعتباره من عند الله ‪ ،‬فلو كان من عند غيره – تنزه وتعالى‬
‫– لوجدوا فيه اختلفا ً كثيرًا‪ .‬وقد ركزنا هذه المبادئ الدراكية المفارقة حتى‬
‫الن في التي‪:‬‬
‫)‪ (1‬التعامل مع الظواهر الطبيعية ضمممن وحممدتها الكونيممة الماديممة‬
‫)يس ‪ /‬ى ‪.(39/40‬‬
‫)‪ (2‬تفريغ الظواهر الطبيعية من صفاتها الحيائية النيمية )فصلت‬
‫‪ /‬ى ‪.(37‬‬
‫)‪ (3‬وحدة البنائية الكونية )الغاشية ‪ /‬ى ‪ 17‬إلى ‪.(30‬‬
‫)‪ (4‬جبرية التفاعممل الجممدلي الكمموني الطممبيعي باتحمماد المتقممابلت‬
‫)الطارق‪ /‬ى ‪ 5‬إلى ‪.(11‬‬
‫)‪ (5‬حرية التكوين النفسي والعقلممي عممبر ثنائيممة التفاعممل الجممدلي‬
‫الكوني )الشمس ‪ /‬ى ‪ 1‬إلى ‪.(10‬‬
‫كان العربي يشعر ضمن تكوينه البيئي الجغرافي الطبيعي أنممه الكممائن‬
‫الوحيد ذو القدرة على الحركة الحرة في السكون الصممحراوي ل تممماثله إل‬
‫حيوانممات البريممة أو طيممور السممماء الممتي يماثلهمما فمي الحريممة ويتميممز عنهمما‬
‫بالوعي والنطق‪ .‬فكان هو الذي يكسب الشياء من حمموله معمماني وصممفات‬
‫وأسماء ‪ ،‬فتحممول إلممى مطلممق متفمموق بممالوجود الممواعي علممى ممما سممواه ‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫فابتدأت في النشوء لديه بدايات نزعممة الممتركز علممى الممذات‪ .‬وهممي النزعممة‬
‫الممتي فسممر بهمما الممدكتور ‪ /‬حممافظ الجمممالي سمملبيات العربممي فمي العصممور‬
‫المتأخرة دون أن يعطي تاريخها النفسي‪.‬‬
‫هذا المطلق الذاتي الداخلي الذي ولدته الممبيئة الطبيعيممة فممي نفسممية‬
‫العربي ‪ ،‬لم يتسع مجالها الجتممماعي لكممثر مممن القبليممة كحممدود اجتماعيممة‬
‫نهائية ‪ ،‬فظلت القبلية مرادفا ً للعصبية ‪ ،‬إليها يرتد لحمايممة المطلممق الممذاتي‬
‫وبها يحتمي‪ .‬فكانت القبلية هي الطار الذي يعبر فيه عن بطولته وقممدراته‪.‬‬
‫هي دائرة النتماء والطموح‪.‬‬
‫وبالتداخل بين نزعة التركز على الذات علممى نحممو فممردي موغممل فممي‬
‫النفرادية ‪ ،‬والنا والفخر الذاتي ‪ ،‬وبين القبلية كأكبر حدود اجتماعية ينتهممي‬
‫لديها الحساس بهذه الذات الفردية ‪ ،‬فقد كانت أتفه السباب تثير القتتممال‬
‫‪ ،‬اقتتال الذوات المتماثلة فففي تركيبهففا والففتي تحتمففل التنففافر‬
‫بحكم التماثل ‪ ،‬إذ لم يعرف العربي نظاما ً اجتماعيا ً متراكبا ً يحد‬
‫من كبريائه ‪ ،‬بل عرف أشففكال ً اجتماعيففة متماثلففة يتمحففور كففل‬
‫شكل منها حول مطلقه الذاتي‪.‬‬
‫وكلنا يقرأ فممي التاريممخ أيممام العممرب كحممرب )داحممس والغممبراء( الممتي‬
‫استمرت أربعين عاما ّ ل صراعا ً حول الماء والكل كممما هممو المفممترض علممى‬
‫نحو طبيعي بين قبائل الرعاة البدو ‪ ،‬ولكن ترجع المسألة إلى جرح طفيممف‬
‫أثار المطلق الفردي الذاتي وأثار فيه كممل كمموامن التفممرد والعلممو ‪ ،‬فطغممى‬
‫على التكيف أو التلؤم مع الخرين‪ .‬وهكذا فقدت اللفة بين القوام‪:‬‬
‫م‬ ‫ن قُل ُمموب ِهِ ْ‬ ‫ت ب َي ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ما أ َل ّ ْ‬‫ميًعا َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫َْ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ق َ‬ ‫ف ْ‬‫م ل َوْ َأن َ‬ ‫ن قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ف ب َي ْ َ‬‫وَأ َل ّ َ‬
‫م)‪ – (63‬النفال ‪ /‬ج ‪.10‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ف ب َي ْن َهُ ْ‬‫ه أ َل ّ َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫وَل َك ِ ّ‬
‫م إ ِذ ْ‬‫ة الل ّمهِ عَل َي ْك ُم ْ‬ ‫مم َ‬ ‫فّرقُمموا َواذ ْك ُمُروا ن ِعْ َ‬ ‫ميًعا وََل ت َ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫حب ْ ِ‬ ‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬‫َواعْت َ ِ‬
‫م عََلمى َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُنت َ‬
‫فا‬‫شم َ‬ ‫وان ًمما وَك ُن ُْتم ْ‬ ‫خ َ‬ ‫مِتمهِ إ ِ ْ‬ ‫م ب ِن ِعْ َ‬‫حت ُ ْ‬
‫صمب َ ْ‬‫م فَأ ْ‬ ‫ن قُل ُمموب ِك ُ ْ‬ ‫ف َب َي ْم َ‬ ‫داًء فَأل ّ َ‬ ‫م أعْ َ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ن)‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م آي َممات ِهِ لعَلك م ْ‬ ‫ُ‬
‫ه لكم ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللم ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من َْها كمذ َل ِك ي ُب َي ّم ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫قذ َك ْ‬ ‫َ‬
‫ن الّنارِ فأن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فَرةٍ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ُ‬
‫‪ – (103‬آل عمران ‪ /‬ج ‪.4‬‬
‫لم يشر الله هنا إلى أنه )وحد( بين قلمموبهم ‪ ،‬بممل ألممف بيممن قلمموبهم ‪،‬‬
‫واللفة أقل درجة من )الوحدة( وفي هذا تعامممل إلهممي مممع )جممدل الواقممع(‬
‫ففردية العربي لم تكن تتيح التحول باتجاه الوحدة وقتها‪.‬‬
‫لم يكن ذلك المطلق الفممردي القبلممي يسممتجيب لي داع خممارج حممدود‬
‫انتمائه القبلي في أحسن الحممالت ‪ ،‬وبالممذات حيمن يممرى فممي المممر مجممدا ً‬
‫وفخرا ً يمضي عنه إلى آخرين في مجتمع قائم على تنافس المتماثلين‪ .‬وقد‬
‫صادف محمد عليه أفضممل الصمملة والسملم الكممثير وعمانى ممن جممراء همذا‬
‫التكوين النفسي ‪ ،‬ولكنه كان تكونا ً طبيعيا ً ل مجال لتجاوزه إل ّ بتممدخل اللممه‬
‫الغيبي ‪ ،‬ليجمع تلك القبائل على كلمممة واحممدة ورجممل واحممد‪ .‬وأوضممح اللممه‬
‫المر بجلء لرسوله )لو أنفقت ما في الرض جميعًا( وإل ّ لتوافر للعرب من‬
‫قبل محمد من يسودهم أو يقممودهم‪ .‬بممل تمضممي تلممك الممروح الفرديممة فممي‬
‫تركيزها حول ذاتها حدا ً ترفض معه الذعان لمحمد ل تكذيبا ً له فهو الصادق‬
‫الميين ‪ ،‬ولكن لن القرآن قد نزل عليه وليس عليها‪.‬‬
‫ن ب َي ْن َِنا)‪ – (8‬ص ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫م ْ‬ ‫ل عَل َي ْهِ الذ ّك ُْر ِ‬ ‫ؤنزِ َ‬ ‫أَ ُ‬

‫‪45‬‬
‫م)‪– (31‬‬ ‫ظي م ٍ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫قْري َت َي ْم ِ‬‫ن ال ْ َ‬
‫مم ْ‬‫ل ِ‬ ‫ن عَل َممى َر ُ‬
‫جم ٍ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬
‫قْرآ ُ‬ ‫وََقاُلوا ل َوَْل ن ُّز َ‬
‫ل هَ َ‬
‫الزخرف ‪ /‬ج ‪.25‬‬
‫كذلك فإن آثار نزعة المطلق الذاتي القبلي لم تنته في حدود السلوك‬
‫الجتماعي اللتلؤمممي بيممن الوحممدات القبليممة المتماثلممة ‪ ،‬بممل تلبسممت كممل‬
‫الحوال الفكرية والنفسية للنسان العربي‪ .‬وهذه لزمة طبيعية أيضمًا‪ .‬كممان‬
‫العربي ل يميل بحكم فرديته وتخلفه إلممى النظممر فممي النمماظم الموضمموعي‬
‫للشياء ما عدا قلة من الحنفاء الذين كانوا أشبه برهبان العرب‪ .‬كان يميممل‬
‫لتجريد الظواهر من علقاتها ومعانيها ليعطيها هو وبحرية مطلقة أحاسيسه‬
‫بها‪ .‬كان يتمثممل مطلقممه الممذاتي فيممما هممو خممارجه مكرسما ً لوجمموده الممذاتي‬
‫ودافعا ً به إلى أقصى الحممدود‪ .‬ومممن هنمما ينظممر العربممي إلممى الظممواهر فممي‬
‫تفردها وكثرتها وتنوعها وصفاتها‪ .‬كان يريد أن يصل إلى الخصممائص الذاتيممة‬
‫لكل شيء ‪ ،‬فإذا وصف أسهب وعدد ونمموع وراقممب ودق واسممتدق ‪ ،‬فكممان‬
‫طبعه ساحرا ً في وصفه ‪ ،‬دقيقا ً في استخداماته وتوظيفاته اللغوية ‪ ،‬نممافرا ً‬
‫من العموميات ذاتي ما ً ومسممتغرقا ً فممي الذاتيممة‪ .‬وبهممذه الروحيممة حيممن تمموجه‬
‫العربي إلى تحديد علقاته بالغيب ‪ ،‬لم يستطيع إل ّ أن يسقط عليه نفسمميته‬
‫فجاء اللهة آلهة قبممائل ل يعلممو إلممه إل ّ بممما تعلممو بممه القبممائل نفسممها‪ .‬كممانوا‬
‫يعبدونها ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى رممموز لهممم يجسممدون بهمما فهمما ً‬
‫خاصا ً بهم لقوى الغيب ‪ ،‬لذلك يجد أنهم في القرآن لم يكونوا يدافعون عن‬
‫هذه اللهة بل كانوا يدافعون أكممثر عممن )مفهوميممة تعممددها( ‪ ،‬وهممي مسممألة‬
‫ذا‬‫ن هَ م َ‬ ‫ة إ ِل َهًمما َوا ِ‬‫ل اْلل ِهَ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫دا إ ِ ّ‬
‫حم ً‬ ‫ترتبط أكثر بتكوينهم الجتماعي والفكري‪ :‬أ َ‬
‫ب)‪ – (5‬ص ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫جا ٌ‬‫يٌء عُ َ‬ ‫لَ َ‬
‫ش ْ‬
‫وقد جاء كل حوارهم للدفاع عن هذه اللهة حوارا ً سممطحيا ً ل يتناسممب‬
‫ولسان العرب وحجتهم ‪ ،‬بل كانت تمضي حججهم مع محمممد بمقمماييس لممم‬
‫يكن لوجود آلهتهم نصيب فيها‪ .‬فالقول ))أأنزل عليه الذكر مممن بيننمما(( فيممه‬
‫اعتراف ضمني بمصدر للتنزيل يرقى على آلهتهم ‪ ،‬كما أنهم كانوا يسممألون‬
‫محمدا ً كبرهان على رسالته أمورا ً كانوا ل يعزونها للهتهم كإنزال الملئكة ‪،‬‬
‫وتفجير الرض ينابيع وهي أمور لم يسبق لهم أن سممألوها آلهتهممم فممي حممر‬
‫مكة وجفافها الصحراوي‪.‬‬
‫لهذه السباب الجتماعية والفكريممة لممم تسممتطع أي ثقافممة دينيممة مممن‬
‫خارج الوسط الصحراوي أن تممؤثر فيهممم البتممة مما عممدا بقايما ممن الحنيفيممة‬
‫البراهيمية لدى بعض من حكماء العرب‪ .‬كان العربي يرفض كل ممما حمموله‬
‫بفردية مطلقة ‪ ،‬ولم تستطع المسيحية ول اليهودية أن يتوغل إل ّ في شمال‬
‫الجزيرة وجنوبها أي في أطرافها الزراعيممة ‪ ،‬حيممث تختلممف التجربممة جممذريا ً‬
‫عن واقع الوسط الصحراوي ‪ ،‬ولم يتهود في يثرب إل ّ بعض الطفال الممذين‬
‫جاءوا بعد وفاة أسلفهم فنذرهم أهلوهم لغير دينهم إن عاشوا‪.‬‬
‫فات بعض المستشرقين هذا التركيب الجتماعي النفسي حيممن ظنمموا‬
‫أن ما أتى به محمد إلى العرب كان تلفيقا ً انتقائيا ً للتراث الديني المسيحي‬
‫واليهودي ‪ ،‬فقد عايش العرب هذا التراث ورفضوه ‪ ،‬وكانوا يعرفونه معرفة‬
‫تامة ويعتقدونه أمممرا ً خاصما ً بهممذه الشممعوب مممن دونهممم‪ .‬وليممس مممن طبممع‬
‫البدوي أن يتذلل للخرين ليعلموه ما عندهم‪ .‬كان يرى نفسممه )أمي مًا( وهممي‬
‫لفظة تقابل )كتابي( وليس عديم القراءة والكتابة كما وقع في الخطممأ جممل‬

‫‪46‬‬
‫المفسرين ‪ ،‬وكثيرا ً ما كان أبو سفيان يخاطب بعممض اليهممود بقمموله‪) :‬نحممن‬
‫أميون وأنتم أهل كتاب(‪ .‬وقد أشمار القمرآن إلمى أن بعمض العمرب المييمن‬
‫ُ‬ ‫كون َ‬
‫دى اْل َ‬
‫م مم ِ –‬ ‫حم َ‬
‫ن إِ ْ‬
‫مم ْ‬
‫دى ِ‬ ‫كان يتمنى لو أنزل عليه كتاب خاص به‪ :‬ل َي َ ُ ُ ّ‬
‫ن أه ْ َ‬
‫فاطر ‪ /‬ج ‪.22‬‬
‫ولكنهم لم يتناولوا قط كتاب اليهود ول كتاب النصارى ‪ ،‬فلممو كممان ممما‬
‫أتى به محمد هو استنساخ انتقائي عن الكتب المعروفة لديهم لرفضوه في‬
‫حينه ‪ ،‬ولكنه جاء بأمر كان العربي وحده يدرك أنه له وليممس استنسمماخا ً أو‬
‫تلفيقًا‪.‬‬
‫في تلك البيئة الطبيعية الناسجة لشخصية العربي ‪ ،‬المتفردة بنزوعهمما‬
‫الذاتي ومطلقها القبلي المحدود في صحرائه الممتدة الفق بجلل سكونها‬
‫وهيبة جبالها ‪ ،‬لم يكن ثمة وسيلة لتفجير كوامن البداع وطاقة التخيل لدى‬
‫العربي إل ّ في حدود ما يعطيه إبداعه الذاتي ‪ ..‬فطالما أن الشياء تكتسممب‬
‫معانيها من هذه الذات الداخلية ‪ ،‬فإن تعممبير هممذه الممذات عممن نفسممها هممي‬
‫الحقيقة الوحيدة التي يقبلها البداع‪.‬‬
‫وفي هذه الحالة تصبح اللغة هي مجال البداع ومحتممواه ‪ ،‬لنهمما البنمماء‬
‫الوحيد الذي يصدر عن الذات مباشرة ويستجيب لعماقها‪ .‬لممم يكممن البممدي‬
‫قادرا ً على تجسيد إبداعه في إنشاء مادي ‪ ،‬فاستعاض عنه بالنشاء اللغوي‬
‫الذاتي والذي كان القرب إليه ‪ ،‬ليحمل ذاتممه المتفممردة فهممي وحممدها الممتي‬
‫بمقدورها أن تكافئ همة العربي الحضارية في التدفق والتفصمميل وإعطمماء‬
‫الموضوع ذاته المتفردة‪.‬‬
‫اهتم العربي بجعل اللغة أداته الحضارية ‪ ،‬مجال إبداعه ومحممور قمموته‬
‫وقدرته ‪ ،‬فبقدر ما يجيد العربي التعبير عن أعماق رؤيته الذاتيممة للموضمموع‬
‫المقابل بقدر ما يفرض شخصية تصوره على الخريمن ويقهرهمم‪ .‬فالقضمية‬
‫هنا ليست بباعث الحاجة الموضوعية لوصف ظماهرة مما علمة نحمو جممالي‬
‫متفوق ‪ ،‬ولكنها ليأتي هذا الوصف مسممقطا ً لحيمماة خاصممة علممى الموضمموع‪.‬‬
‫ومن هنا فقد احتملت اللغة العربية ما لم تحتمله أي لغة أخرى في إنشائها‬
‫وتركيبها‪ ..‬وخلفا ً لقول كممثيرين ل يوجممد فممي اللغممة العربيممة علممى اتسمماعها‬
‫كلمة تنوب عن الخرى في حدسممها ومعناهمما ولسممانها ‪ ،‬فكلماتهمما كممالعربي‬
‫الذي أنشأها تتميز بذاتية خاصة بكل منها ‪ ،‬وكمثال على ذلك أي على عدم‬
‫تبين شخصية كل كلمة في هذه اللغة المتميزة أوردنمما سممابقا ً مما وقممع فيممه‬
‫الكثير من المفسرين حين لم يميزوا بين )مس( و )لمس(‪.‬‬
‫اللغة العربية – إذن – متميزة وذاتية ولسانها متفمرد فمي دقتمه كتفمرد‬
‫العربي بذاته‪ .‬أصبح التعبير اللغوي هو )النشاء الحضاري( الذي يقابل أبنية‬
‫وهياكل الشعوب الخرى‪ .‬المعلقات على أستار الكعبة توازي أعمدة هرقل‬
‫وإيوان كسرى‪ .‬إنها حضارة اللسان وعبقريته والعربي فقط هو الذي يدرك‬
‫محتوى حضارته وأسرارها‪.‬‬
‫اللغة العربية شأنها شأن اللغات البشرية فممي العممالم كلممه ذات دللممة‬
‫وجودية لسانية ‪ ،‬وليست دللت قاموسية فقط‪ .‬وهناك مممن حمماول دراسممة‬
‫عبقرية النسممان العربممي مممن خلل لسممانه ‪ ،‬ليكشممف فيهمما ل عممن جمموانب‬
‫البداع فقط ‪ ،‬ولكن عن جمموانب التفممرد اللسمماني أيضمًا‪ .‬وفممي تقممديري أن‬
‫تفرد اللغة العربية عن غيرها من اللغات العالمية ل يمكن الوصول إليممه إل ّ‬

‫‪47‬‬
‫ممن خلل فهمم العربمي ممن المداخل فهمما ً وجوديما ً عميقما ً ‪ ،‬يفصمل ذاتيتمه‬
‫الممعنة في التمييز والفرز والتدقيق ‪ ،‬والتي تدل على الكيفية الممتي ينظممر‬
‫بها العربي للشياء ‪ ،‬والسلوب الذي يعطيممه بهمما تمايزهمما وشخصمميتها‪ .‬إنهمما‬
‫تجربة لغوية عميقة ومتميزة ومتفردة عن سائر لغات العممالم ‪ ،‬لن صممفاتها‬
‫من صفات العربممي الجتماعيممة والسمملوكية وهممي انعكمماس مباشممر لعلقتممه‬
‫بالحياة وموضوعاتها حتى شيد منها برجه الحضمماري علممى رمممال الصممحراء‬
‫المتحركة‪.‬‬
‫وجاء القرآن مبينا ً بهذه المادة رفيعة المستوى التي ل يدرك بعممدها إل‬
‫العربي لسانا ً وليس مجممرد العربممي لغمة لنهمما متولممدة عمن حيمماته وليسممت‬
‫جماعا ً لشتات قاموسي‪ .‬جمماء القممرآن ليتحممدى ببنممائه الحضمماري مممن أصممل‬
‫اللغة كل البناءات الحضارية العربية فيها أو من مادتها‪ .‬صيغ بنهج إنشمائي ‪،‬‬
‫دفممع بممه اللغممة إلممى كمالهمما الحضمماري ‪ ،‬وإلممى أرقممى مممن تلممك الكمممالت‬
‫الحضارية التي وصل إليها العرب صممياغة وبنمماء ‪ ،‬وتحممداهم أن يممأتوا بمثلممه‬
‫وهو من أصل حضارتهم ومممن مادتهمما‪ .‬فعجممزوا عممن بلمموغ الكمممال اللغمموي‬
‫النشائي الذي ارتقت إليه اللغة في القرآن واحتاروا وتحيروا وعجممزوا عممن‬
‫أن يأتوا بمثله‪ .‬ل هو بالشعر ول هممو بممالنثر ‪ ،‬ولكنممه توليممد جديممد مممن أصممل‬
‫المادة ودون خروج عن خصائصها‪ .‬غير قابممل للتماثممل ول للتطممابق‪ .‬متفممرد‬
‫ومتميز‪ .‬غير أن العربي لغة والمترجمين ل يفوتهم إدراك صممفاته البلغيممة ‪،‬‬
‫ولكن شأن معظم روائع الكتب الخرى‪.‬‬
‫لم يتوقف العلماء المؤرخون لدى تلك الظاهرة اللغوية )الغيبيممة( كممما‬
‫لم يتوقفوا لدى )غيبيات( المعارك و )غيبيات( التأليف بين الممذوات القبليممة‬
‫المتنافرة‪ .‬مروا عليها مرورا ً سممريعا ً وأحيانما ً مممرور اللئام‪ .‬وممما كممان ينبغممي‬
‫للعرب منهم خاصة وهم يعالجون تاريخ أمة تعتممبر اللغممة فيهمما هممي العامممل‬
‫الوحيد المشترك‪ .‬ولكنه الخوف من الوقوع فممي دائرة التعامممل مممع الغيممب‬
‫تحت طائلة التخوف من فقدان النهج العلمي‪.‬‬
‫التفرد القرآنممي فممي النشمماء اللغمموي كممان هممو العامممل الوحيممد الممذي‬
‫يسممتطيع أن يقهممر شخصممية التفممرد العربممي بمطلقهمما الممذاتي ‪ ،‬لن تجربممة‬
‫العرب الوجودية قد اختارت اللغة كمجال لتجسيد ذاتها والتعبير عن تفوقها‬
‫فلم يكن من الممكن أن يقهر العربي إل ّ من لسانه وبإبداع يفوق ما أبممدع‪.‬‬
‫عبر النشاء القرآني القاهر للمطلق الذاتي في النسان العربي المستعلي‬
‫عليه حضاريا ً ‪ ،‬أذلت أعناق العرب وهي ما تذل لغير هذا فلم يجد الخصمموم‬
‫ردا ً سوى القول بأنه "سحر يؤثر"‪.‬‬
‫كممانت التجربممة العربيممة قممد حممددت سمملفا ً مجممال تحممديها الحضمماري‬
‫واستجاب اللممه وأنزلممه قرآنما ً عربي ما ً ‪ ،‬يتلبممس كممل حممالت اللسممان العربممي‬
‫ويقوده من داخله ‪ ،‬تلممك كممانت عمليممة ثممورة حقيقيممة أداتهمما اللغممة وعنفهمما‬
‫الكلمات‪.‬‬
‫ولم يقتصر المر على النشاء ‪ ،‬فقممد ارتقممى القممرآن بكمممالت التميممز‬
‫والتفرد في خصائص الكلمات فما من كلمة إل ّ ولها معناها المحدد الممذي ل‬
‫يحتمل كنفسية العربي تماما ً أي تماثل أو تطابق مع كلمة أخرى‪ .‬وممن هنما‬
‫يصبح تفسير القرآن من أدق العمليات اللغوية الحضارية التي يعرفها تاريخ‬
‫اللغات والثقافات في العالم‪ .‬ما مممن كلمممة إل ّ ولهمما دللتهمما المتميممزة ولممو‬

‫‪48‬‬
‫بممدت مترادفممة أو متشممابهة ‪ ،‬لممذلك ل يمكممن تفسممير القممرآن بالسممتطراد‬
‫والتداعي على السياق‪ .‬وليممس المممر قضممية ظمماهر وبمماطن ‪ ،‬وإنممما حممرف‬
‫محدد وقد رأينا في المثال السابق كيف أن فرقا ً لم يبد للناس جوهريا ً بين‬
‫)مس( و )لمس( قاد إلى اجتهادات كلها خطأ في خطأ‪ .‬وأقول صراحة‪ :‬إن‬
‫الخطمماء كممثيرة وترجممع السممباب فممي معظمهمما إلممى مراحممل النحطمماط‬
‫الحضاري اللغوي منذ القرن الهجري الثالث ‪ ،‬فحمل القرآن ممما ليممس مممن‬
‫طبيعته وفهمت مكنوناته خطأ في جمموانب هامممة تتصممل بحيمماة المسمملمين‪.‬‬
‫وسنعرض لهذا في دراسات لحقة إن شاء الله‪.‬‬
‫إذن جاء القرآن ليقهر العربي من الداخل بصممعوده اللغمموي إلممى قمممة‬
‫النشماء الحضماري وأضماف إلمى ذلمك – بالضمرورة – وضمع الكلممة ضممن‬
‫خصائصها المتفردة التي تقابل خاصية التكوين العربي ‪ ،‬وهذه أمور )غيبية(‬
‫المصدر لم تأت نتاجا ً منعكسا ً عن شخصية تلك المرحلة‪ .‬وهذا المر الغيبي‬
‫كان هو الوسيلة الوحيدة لجذب العربي باتجاه التحمول – أي فمرض التغييمر‬
‫عليه من الداخل وهو أسلوب يخممالف كممل أدوات التحويممل الفكممري ‪ ،‬الممتي‬
‫عرفها التاريخ على مستوى الثورات الحضارية‪.‬‬
‫ولكففن إلففى أيففن تتجففه هففذه الداة الغيبيففة بففالعربي وإلففى أيففن‬
‫تحوله؟‬
‫كل ثورة فممي التاريممخ تلجممأ للوسممائل الوضممعية لتغييممر المجتمممع ‪ ،‬أممما‬
‫العربممي فقممد كممان عليممه أن يخمموض غمممار ثممورة دينيممة لتغييممر نفسممه مممن‬
‫الداخل ‪ ،‬والثورة تحتاج إلى أداة تهز الوجدان وتفجممر تناقضمماته ‪ ،‬والنشمماء‬
‫القرآنممي كممما قلنمما كممان هممذه الداة ‪ ،‬وهممو أمممر ل يفهممم إل بفهممم تركيممب‬
‫الشخصية العربية نفسها‪ .‬كلمة تحييها وكلمة تميتها‪ .‬وقد أوضممحنا خصممائص‬
‫هذه الكلمة وبعدها في حياة العربي‪.‬‬
‫غير أن هدف القرآن من إنشائه الحضمماري ‪ ،‬لممم يكممن مجممرد التعممالي‬
‫الحضاري اللغوي عليه بل اتخاذ ذلممك وسمميلة إلممى جممذبه وإخضمماعه لمموعي‬
‫ديني ‪ ،‬لم يكن من طبيعة ممما تعطيممه تجربتممه‪ .‬فممالمحتوى القرآنممي لتجربممة‬
‫الوجود والحياة كان على النقيض من فهم العربي لتجربتممه الحيويممة‪ .‬وعممبر‬
‫هذا التناقض نكتشف أيضا ً أن القرآن كما أنه ليس في إنشائه نتاجا ً عربيا ً ‪،‬‬
‫فإنه في محتواه قد أتى خارج وعي المرحلممة التاريخيممة العربيممة بمضمممونها‬
‫الجتماعي والحضاري‪ .‬أي أن المحتوى نفسه كان صادرا ً مممن خممارج الممبيئة‬
‫العربية ‪ ،‬ويمكن لعلماء السلوك الجتماعي التاريخي اليوم إجراء مقارنممات‬
‫حضارية بين محتويات الفكر القرآني وما أعطتممه الشخصممية العربيممة وقتهمما‬
‫من فكر خاص بها على مستوى قيمها ومثلها‪.‬‬
‫طرح القرآن أمام العربممي مفهومما ً حممول انتظممام الوجممود كلممه ضمممن‬
‫ناظم واحد ‪ ،‬وقيامه في وحدته بمطلق واحد ‪ ،‬وجعل الكثرة مع تميزها كل‬
‫بخصائصه مظاهرا ً لوحدة واحدة‪ .‬إله واحد أحد صمد‪ .‬تدور حمموله الشممياء ‪،‬‬
‫وتخضع له الظواهر الكونية ‪ ،‬وهو الذي أعطاها معناها وصممفاتها وأسممماءها‬
‫وحدد حكمته فيها‪ .‬لم يعد المطلق الذاتي الفردي هو الذي يكسب الشممياء‬
‫معناها )إن هي إل ّ أسماء سميتموها(‪ .‬ولم تعد القبلية ولم يعممد الكممون قبممة‬
‫مرصعة بالنجوم في السماء ورمال تتحرك بين جلميد صممخر فممي الرض ‪،‬‬
‫وإنما كون واسع بشكل فلكي منظم ‪ ،‬يمضي القممرآن فممي تعممداد ظممواهره‬

‫‪49‬‬
‫وصول ً بهم إلى ما يبصرون وما ل يبصرون‪ .‬امتداد ل متنماه بالمذات العربيمة‬
‫إلى خارج وعائها القبلي ‪ ،‬لتندمج في وحدة البشرية الممتممدة عممبر الرض‪.‬‬
‫وامتداد ل متناه بالذات العربية نفسها عبر كونية شاملة ل تحدها جبال مكة‬
‫ول رمال الصحراء‪ ..‬امتداد بشري وكمموني ‪ ،‬وتعلممق بمطلممق كامممل الوجممود‬
‫مستقطب لهذه الكونية بكل اتساعها‪ .‬هو الذي يعطيها وجودها ومعناها‪.‬‬
‫ثورة مفهومية على مدى القرآن ‪ ،‬تلتممف حممول ذات النسممان العربممي‬
‫وتمزقها من الداخل وتفرغهمما عممن محتوياتهمما المنعكسممة عليهمما مممن الممبيئة‬
‫الطبيعية والتركيب الجتماعي‪ .‬وعممن نقيممض ومفمماهيم نقيضممة واتجمماه إلممى‬
‫معارج الحكمة‪.‬‬
‫تلك الداة الغيبية وذلك المحتوى المفهومي الذي يتجاوز كل ما يعطيه‬
‫المموعي التمماريخي للنسممان العربممي أحممدثا التحممول الحقيقممي فممي النسممان‬
‫العربي من الداخل‪ .‬إنه إجممراء تحممويلي تممم ضمممن بنيممة النشمماء الحضمماري‬
‫العربي وانقلب عليه بأداة من بعضه‪ .‬قد أعيد تكمموين العربممي وجممذب اللممه‬
‫مطلقه الذاتي إليه وامتد به كونيًا‪.‬‬
‫ظل القرآن في مجمله جاذبا ً متعدد الزوايمما لعقليممة النسممان العربممي‪.‬‬
‫يأتيه من كل جانب عبر مختلف الوسممائل التعبيريممة ‪ ،‬يمتممد بممه تاريخ ما ً إلممى‬
‫آدم ‪ ،‬ويقوده إلى مضمارب شمعوب عديممدة ‪ ،‬ويمل إحساسممه بعمموالم وأممم‬
‫تعيش في الكون كله ‪ ،‬من حوت البحر الذي لم يممره إلممى جمموارح السممماء‬
‫التي رأى بعضها وامتد به إلممى ممما وراء حجممب الزمممان والمكممان ‪ ،‬ممما قبممل‬
‫الدنيا وما بعدها وما بين السموات والرض وما فيهن‪ .‬كانت عمليممة واسممعة‬
‫لتغيير العربي من الداخل وإحلل عقلية وجودية كونية بديلة‪.‬‬
‫العربي والتحول القرآني‬
‫ذكرنا أن القرآن قد نزل مستهدفا ً تغيير شخصية النسان العربي مممن‬
‫الداخل ‪ ،‬ليتحول به من الذاتية الفردية القبلية القائمة علممى عقليممة الكممثرة‬
‫والنحصممار الممبيئي ‪ ،‬إلممى الكونيممة الشمماملة بامتممدادها البشممري والطممبيعي‬
‫وتعلقها بالله‪.‬‬
‫ً‬
‫هذا التحول لم يكن سهل ضمن التحليل العلمي الموضوعي للتاريممخ ‪،‬‬
‫غير أننا أوضحنا كيف أن القرآن بوصفه أداة غيبية حققت التعالي الحضاري‬
‫على المطلق الفردي العربي ‪ ،‬قد جذبت النسان العربي من الممداخل إلممى‬
‫هذا التحول بحيث تقف تاريخيا ً أمام ظمماهرة مذهلممة كممان أساسممها الغيممب‪.‬‬
‫وقد رأينا كيف أن الله وقد جذب الذات العربية عبر النشمماء القرآنممي إلممى‬
‫هذا المحتوى الجديد المكنون في القرآن ‪ ،‬فقد دفع بالنسان العربممي عممبر‬
‫دروس تطبيقية عديدة في معارك التحويممل نحممو السمملم ‪ ،‬ليممدرك أعممماق‬
‫الكلمة القرآنية وحكمة الله في التدبير الكوني‪.‬‬
‫تلك كانت المعالم الغيبيممة الرئيسممية فممي بدايممة صممنع التاريممخ العربممي‬
‫وتركيز مقدماته العالمية ليخرج العربي ل من صحراء الجزيرة إلممى سممهول‬
‫العالم ‪ ،‬ولكن ليخرج أول ً من فرديته إلممى كممونيته‪ .‬وأن يخممرج مممن سممطوح‬
‫الفكر إلى أعماقها ‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ‪ ،‬ومن ظواهر الموجودات‬
‫والحركة إلى حقائقها‪ .‬وأن يأتي هذا التحول خلفا ً للطممرق المباشممرة الممتي‬
‫أجراها الله في علقاته مع الشعوب السابقة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫طوال ثلثة وعشرين عاما ً تم النجمماز الضمخم كمما قمدره اللمه ‪ ،‬وبمما‬
‫يرضي رسوله ‪ ،‬وتمكنت الشخصية العربية من العبور إلممى المموعي الجديممد‬
‫مدفوعممة بممالقرآن ومدعومممة بتجاربهمما التطبيقيممة ‪ ،‬فممي سلسمملة المعممارك‬
‫والوقائع الخرى‪.‬‬
‫كانت تلك المرحلة )مرحلة تحويلية بممالقرآن( ‪ ،‬بلممغ البعممض قمممة مممن‬
‫قممها في تدبر المنهج اللهي الكوني وبقي البعض فيما تعطيه اسممتعداداته‬
‫على حسب اعتبارات عدة‪ .‬كانت تلك إنجازات هائلة توقف عليها فيما بعممد‬
‫المسممير كلممه‪ .‬لممذلك جمماءت علقممة العربممي بممالقرآن – كمموعي يسممتمر مممع‬
‫البشرية للمام – مهمة في تلك المرحلة المتقدممة‪ .‬غيمر أننما نتوقمف لمدى‬
‫هذه الفقرة لنناقش أمرا ً جوهريا ً ‪ ،‬فهناك من يقممول أن اختيممار اللممه إنممزال‬
‫كتابه فممي تلممك الفممترة ‪ ،‬زائدا ً وجممود الرسممول يسممعى حيما ً بينهممم بالتنزيممل‬
‫والتمموجيه ‪ ،‬زائدا ً صممفاء اللغممة فممي أصمملها‪ ...‬كلهمما اعتبممارات جعلممت الفهممم‬
‫العربي السلفي للقممرآن ومحتويمماته هممو الفهممم المثممل والصممحيح ‪ ،‬وأن ممما‬
‫يطرأ من بعد يرد إلى شبيهه بالقياس‪ .‬لهذا نشأت مممدارس التفسممير علممى‬
‫فهم موقف السلف الصالح وما تداولوه من آراء وتعليقممات بشمأن اليمات ‪،‬‬
‫إضافة إلى فهم أسباب النزول‪ .‬وتقف هذه المممدارس موقف ما ً صممارما ً تجمماه‬
‫من يقول برأيه في آيات الكتاب وصممول ً إلممى التكفيممر ‪ ،‬كممما تتحفممظ بعممض‬
‫أقسامها بالنسبة لما يسمى بالتفسير العصري للقرآن‪.‬‬
‫إن المسألة ل تحتاج إلى كل هذا التشنج لو فهمنا طبيعة القرآن‪ .‬وأنمما‬
‫ل أتهم هنا السمملفيين بقممدر ممما أتهممم معارضمميهم أيض مًا‪ .‬إن طبيعممة القممرآن‬
‫ليست في كونه كتابا ً يحتوي على سور مفصلة بفواتحها وخواتمهمما تتضمممن‬
‫عبادات ومعاملت‪ .‬إنممه جممماع حقيقممة البعثممة المحمديممة الممتي أجملهمما اللممه‬
‫ُ‬
‫م‬
‫كيهِم ْ‬ ‫م ي َت ْل ُممو عَل َي ْهِم ْ‬
‫م آي َممات ِهِ وَي َُز ّ‬ ‫سمموًل ِ‬
‫من ْهُم ْ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫مّيي َ‬ ‫ث ِفي اْل ّ‬ ‫ذي ب َعَ َ‬ ‫بقوله‪ :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫ن)‪– (2‬‬ ‫مِبي م ٍ‬‫ل ُ‬ ‫ض مَل ٍ‬
‫ل ل َفِممي َ‬ ‫ن قَب ْم ُ‬‫مم ْ‬ ‫ن ك َمماُنوا ِ‬‫ة وَإ ِ ْ‬ ‫مم َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫م ال ْك ِت َمما َ‬ ‫وَي ُعَل ّ ُ‬
‫مه ُ م ْ‬
‫الجمعة ‪ /‬ج ‪.28‬‬
‫فالقرآن هو مصدر كامل يعقممب بالتحليممل والتوضمميح علممى آيممات اللممه‬
‫بتفاصيلها وكلياتها ‪ ،‬وسجل إلهي مفتوح علممى التجربممة الوجوديممة الكونيممة ‪،‬‬
‫ومصدر الحكمة الشاملة في التعامل معهمما عممبر التزكيممة اللهيممة للنسممان‪.‬‬
‫نزل هذا القرآن ليرقى بالنسان إلى معارج الحكمة اللهية الكونيممة ليبصممر‬
‫النسان كل شيء كما يريد لممه اللممه أن يبصممره ‪ ،‬وهممو فممي خلصممته منهممج‬
‫الدمج بين القراءتين كما خوطب محمد في أول التنزيل‪ .‬ثممم تنممزل القممرآن‬
‫كله فيما بعد ‪ ،‬ليفصل هذه الحقيقة ويعطي أبعادها في تجارب النبيماء ممن‬
‫قبل ‪ ،‬كما سبق لنا أن أوضحنا وفصلنا على قدر استعدادنا‪.‬‬
‫في الطار الفسيح لتلممك الحقيقممة اليمانيممة تكممونت ونشممأت التجربممة‬
‫المحمديممة العربيممة كمقدمممة لمنهممج إلهممي حضمماري كمموني ترسممى دعممائمه‬
‫التفصيلية على مستوى الفكر البشري ككل‪ .‬إنه البديل الذي أتى مممن عنممد‬
‫الله‪ .‬وقد عاش العرب تلك الحقيقممة عممبر انجممذابهم اللغمموي للقممرآن وعممبر‬
‫إرشاد الله إخباريا ً لهم بما يشابه التطبيق لمعمماني ذلممك المنهممج مممع تقممديم‬
‫النماذج السابقة ‪ ،‬لذلك ل يمكممن القممول الن أن ثمممة فهمما ً جديممدا ً للقممرآن‬
‫كان غائبا ً فيما مضى ويمكن أن يفهم به اليوم‪ .‬فقط يمكن القول وهذا هممو‬
‫الصحيح أن هناك أشكال ً تبدو للنمماس جديممدة فممي ظمماهر فهمهممم للقممرآن ‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫تحتاج لعادة اكتشافها ضمممن المنهممج اللهممي الموجممود بحقيقتممه وتفاصمميله‬
‫ل‪ .‬أي منذ التجربة المحمدية العربية‪.‬‬ ‫أص ً‬
‫إذن ليست ثمة جديد يضاف ‪ ،‬ولكنه فهم للحديث المستجد في إطممار‬
‫الوعي المنهجي بالقديم المتجدد‪ .‬ونتوقممف هنمما لممما نسممميه بمموعي المنهممج‬
‫متسائلين‪ :‬لماذا لم نرث هذه المدرسة بتمامها عن السلف الصممالح؟ ليممس‬
‫ثمة تقصير ول لوم ول عتاب‪.‬‬
‫ً‬
‫إن فهم القرآن في كليته أمر كان متاحا – إلى حد كبير – ومنذ البدايمة‬
‫للكثيرين من الذين انفتحوا عليه بكل استعداداتهم‪ .‬كان يتنزل على قلوبهم‬
‫وحيا ً صافيا ً ‪ ،‬ول أريد أن أحدد أو أسمي فمظان الناس قممد أصممبحت أهممواء‬
‫شتى‪ .‬غير أنه لم تكن من طبيعة تلكم الفممترة الرائعممة منهجممة المممور كممما‬
‫هي طبيعة عصرنا‪ .‬كانت علقتهم بالحكمة التي يلنقونها أن يمارسوها ل أن‬
‫يمنهجوها – وجاء من بعدهم خلف جعل همه أن يتسممقط أخبممارهم دون أن‬
‫يضع اللينات في حائطها‪.‬‬
‫لو فصلنا مجموعة من سير خاصة المتلقيممن مممن الصممحابة لمكننمما أن‬
‫نكشف في حياتهم أثرا ً كممبيرا ً طبعهمما بممه فهمهممم اللهممي فممي الكممون كلممه‪.‬‬
‫ويلحق بهم في هذا المجال آخرون من رجمال هممذه الممة ‪ ،‬غيمر أن تحليمل‬
‫السيرة وصول ً إلى الكشف عن كوامن الشخصية أمر لم يعرفه العرب من‬
‫قبل ‪ ،‬وهي من المور المسممتحدثة فممي الذهنيممة الغربيممة مممن خلل القصممة‬
‫والنقد‪ .‬أما القرآن فإنه يشتمل بطريقة فريدة على هذا المبنممى مممن الفممن‬
‫الحضمماري ‪ ،‬ولكممن بأسمملوب خمماص ومتميممز فممي التحليممل ضمممن السممرد ‪،‬‬
‫)وراودته الممتي هممو فمي بيتهما( بممما يعنممي تحليل ً للحالممة الممتي تمممت ضممنها‬
‫المراودة‪ .‬فالمر ليس محض رغبة جنسية كما فهمه البعض‪.‬‬
‫إذن منهجيتنا هي منهجية القرآن التي نشأت ضمنها التجربة المحمدية‬
‫العربية ‪ ،‬ول ندعي أن ثمة جديدا ً يضاف ‪ ،‬سوى محاولة الوعي بالقرآن في‬
‫إطاره المنهجي الكلممي علممى نحممو كمموني شممامل ‪ ،‬بوصممفه معممادل ً للحركممة‬
‫الكونية وكل دللتها‪.‬‬
‫ً‬
‫هذا الفهم ليس جديدا في ذاته ولكنه جديممد فمي تنماوله ‪ ،‬أي أنممه كمان‬
‫موجممودا ًَ فممي القممرآن غيممر أن العممرب لممم يكممن مممن شممأنهم وطممبيعتهم أن‬
‫يتناولوه بشكله المنهجي الكلي ‪ ،‬ول يعود المر لنقص فيهممم وكمممال فينمما ‪،‬‬
‫وإنممما يعممود لطبيعممة مقومممات تجربتهممم وخصممائص تكمموينهم التمماريخي‬
‫والجتماعي‪.‬‬
‫تلقى العرب القرآن ضمن )مواضع النزول( وبدا لهم أنه يشممير عليهممم‬
‫في كل حالة إلمى السملوب المثممل لتناولهما والتعامممل معهما‪ .‬ويرتبمط هممذا‬
‫السمملوب بالكيفيممة التحويليممة الممتي كممان ينممزع إليهمما القممرآن فممي تحممويله‬
‫التدريجي للعربي من مطلقه الفممردي إلممى الكونيممة‪ .‬فهنمماك مواضممع نممزول‬
‫يقابلها تحممول تممدريجي للنسممان العربممي باتجمماه منهجيممة القممرآن الكونيممة ‪،‬‬
‫وكليته التي هي معادل موضوعي للحركة الكونيمة كلهما ‪ ،‬ولعقيمدة التوحيمد‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫ً‬
‫نتيجة لذلك وعلى نحو طبيعي جمماء فهممم العربممي للقممرآن فهمما مجممزأ‬
‫يعطممي دللت الحكمممة ولكنممه – أي العربممي – ل يحيممط بهمما منهجيما ً ضمممن‬
‫القممراءة القرآنيممة الواحممدة بمنهجهمما الواحممد‪ .‬كممانت علقتهممم بحكمتممه أن‬

‫‪52‬‬
‫يمارسوها في مواضعها ل أن يمنهجوها بشممكلها الكلممي كممما أوضممحنا علممى‬
‫مستوى الدمج بي نالقراءتين‪.‬‬
‫في هذا الطار مضى العربي يرد كل معنى فممي القممرآن إلممى موضممعه‬
‫المحدد مممن النممزول ‪ ،‬ونشممأ علممم كامممل فيممما بعممد يسمممى بعلممم )أسممباب‬
‫النزول(‪ .‬وقد كفى العربي ضمن مرحلة التحول أنه يعيش القرآن ومعممانيه‬
‫في الممارسة السلوكية ‪ ،‬وأنه يتلقى عنممه حكمممه فممي كممل مسممألة ويطيممع‬
‫المر وينفذه ‪ ،‬فالتجاه كانت تطغى عليه )السملوكية( أكمثر ممن )المنهجيمة‬
‫العلمية(‪.‬‬
‫بذلك السلوب الوضعي التدريجي أمكن تحقيق المممدى الممذي تتحملممه‬
‫التجربة العربية في تحولها نحو مهمتها ‪ ،‬لتخرج بالقرآن إلى الناس‪.‬‬
‫كان خروج العرب يعني النفتاح علممى الحضممارات التقليديممة العالميممة‪.‬‬
‫وقد قطعت تلك الحضارات شوطا ًَ بعيدا ً في منهجة أفكارها وتأطيرها علممى‬
‫نحو فلسفي شبه متكامل ‪ ،‬لذلك لم يكن من طبيعة تجاربهمما الحضممارية أن‬
‫تتلقى القرآ‪ ،‬بنفس الكيفية التي يعيه بهمما العربممي ضمممن لزوميممات مرحلممة‬
‫تحوله التدريجي‪ .‬كانت هذه الحضارات قد طرحممت علممى نفسممها مممن قبممل‬
‫تساؤلت فلسممفية عميقممة ‪ ،‬عممن اللممه والممدين والنسممان ومصمميره وخيمماره‬
‫وجبريته وماضيه ومستقبله وعلقته بالفعل في الحياة‪.‬‬
‫تلك كانت بيئات حضارية متقدمة ‪ ،‬وقممد سممبقت العممرب بممألوان شممتى‬
‫من تعقيدات الفكر كما استقبلت في ماضيها – قبل خروج العممرب – أربعممة‬
‫وعشرين نبيا ً كان لها معهم شأن مختلف‪.‬‬
‫قد قدر الله هذا الفارق مسبقًا‪ :‬بين كيفية تنمماول القممرآن فممي مرحلممة‬
‫التحويل العربي ‪ ،‬وكيفية تناوله حضاريا ً لدى التجممارب البشممرية المتقدمممة‪.‬‬
‫وتجلى هذا التقدير في المر لمحمد بإعادة ترتيب آيممات القممرآن علممى غيممر‬
‫مواضع النزول ‪ ،‬ليعطي الكتاب وحدته العضمموية المنهجيممة الكاملممة ‪ ،‬الممتي‬
‫تقابل أي منهجية حضارية بشرية مقابلة‪.‬‬
‫ً‬
‫لممم يتوقممف العممرب ول المفسممرون كممثيرا لممدى حكمممة إعممادة ترتيممب‬
‫القرآن‪ .‬وقفوا في حدود أن المر توقيفي وفقط ‪ ،‬وذلممك كممان مممن طبيعممة‬
‫وضعهم ‪ ،‬فل لوم ول عتاب ول تقصير – فقد كممانت مهمممة القممرآن بالنسممبة‬
‫للعربي هي مهمة تحويلية من وعي إلى وعي إلهي بممديل ‪ ،‬ولمم يكمن ذلمك‬
‫ممكن ما ً ضمممن مرحلممة تكممون العربممي الحضممارية إل ّ بممالمزج بيممن الرشمماد‬
‫الخبمماري والتجربممة العمليممة ‪ ،‬وتممرك اللممه المممر لسممتعدادات العربممي فممي‬
‫المضي إلى المنهج الكلي عبر تراكم التجارب واتصال مواضع النزول‪.‬‬
‫غير أن القرآن لم يكن للعربي فقط بل للعالم أجمممع فرتبممه الرسممول‬
‫ضمن منهجيته التي تجاوزت مواضممع النممزول وأسممبابها المحليممة التحويليممة‪.‬‬
‫الصل لم يتغير غير أن القرآن وزع إلممى سممور ‪ ،‬تحمممل كممل سممورة معنممى‬
‫خاصا ً بها في إطار المعنى الكلممي العممام الممذي يوحممد بينهما‪ ..‬أصممبح للبقممرة‬
‫سياق موضوعي محدد يتصل مندمجا ً في )آل عمران(‪ .‬ويسممتمر إلممى آخممر‬
‫الكتاب ‪ ،‬ليعطي عبر وحدته الكلية المنهج الكلي‪ .‬وكمثمال علمى ذلممك رأينما‬
‫الطريقة التي ألحق بهمما الرسممول آيممات متممأخرة النممزول بافتتاحيممة القممرآن‬
‫الولى في سورة )العلق( بحيث اكتمل نهجها الواحد كممما فصمملنا وشممرحنا‪.‬‬
‫والمر على هذا النحو في كل السور‪ .‬أي أن الرسول قد أخرج القرآن مممن‬

‫‪53‬‬
‫محليته إلى عالميته بإعادة ترتيبه من مواضع للنزول إلى منهج لوعي كلممي‬
‫واحد متماسك الفقرات‪ .‬وبقي على الحضارات العالميممة مممن بعممد أن تعممبر‬
‫بالعربي نفسه ومن خلل القرآن إلى درب المنهجيممة الكاملممة الممتي تحمممل‬
‫كل أبعاد الحضارة البديلة‪.‬‬
‫انصب جهدنا في الصفحات السابقة على إظهار الفارق بيممن المعرفممة‬
‫القرآنية في مطلقها ‪ ،‬وبين غقليممة التنمماول اليديولوجيممة لعالميممة المييممن ‪،‬‬
‫التي تميزت بذهنية إحيائية أنيمية اتجهت للقرآن ضمن حالة التنزل المجممزأ‬
‫المرتبطة بالسباب التي تبدو مستقلة عن بعضها‪ .‬ونتجه الن لبحممث نفممس‬
‫النصوص القرآنية الممتي سممبق تناولهمما بنمطيممة ذلممك المموعي لنعيممد قراءتهمما‬
‫ضمن وعي استكشافي جديد ‪ ،‬يعتمد على وحدة القرآن العضوية ومنهجيممة‬
‫الفهم الجدلي له‪ .‬أي التوجه نحو )التحليل( عوضا ً عن )التفسير( ‪ ،‬والتوجه‬
‫نحممو )وحممدة( الكتمماب عوضما ً عممن )أسممباب النممزول( ‪ ،‬مممع اسممتخدام نمممط‬
‫المعرفممة )الجدليممة( الممتي توحممد الجممزء فممي الكممل عوضمما ً عممن المعرفممة‬
‫)الصورية( التي ل تأخذ بداخلية المبنى وتقف لدى أشكاله الخارجية‪.‬‬
‫سنتعرض لنممموذج هممام هممو )المسممألة الدميممة( لنطبممق عليهمما نممموذج‬
‫المموعيين ‪ ،‬المممي ثممم المنهجممي‪ .‬مممع التقيممد بحرفيممة النممص اللغمموي فممي‬
‫الحالتين ‪ ،‬ووقتها سيتضح أن إطلقية القرآن ومعرفيتممه )أم الكتمماب( تظممل‬
‫مهيمنة على وعي كافة الزمنة ومتغيرات المكان ‪ ،‬فيتأكد أن القممرآن فعل ً‬
‫هو الكتاب المكنون والمجيد والكريم‪ .‬ومن خلل هذا التأكيد سنكتشف أيممة‬
‫آفاق معرفية متقدمة تلك التي يفتحها القرآن أمممام البشممرية جمعمماء وفممي‬
‫حاضممرنا المعاصممر علممى طريممق حممل أزماتهمما الفكريممة وتصممحيح مسمميرتها‬
‫الحضارية‪ .‬فجهدنا ينصب أول ً وأخيرا ً باتجاه التفاعل اليجابي مممع مشممكلت‬
‫النسممان العممالمي المعاصممر ‪ ،‬وعممبر رؤيممة استكشممافية متلئمممة والمموعي‬
‫الحضمماري المعاصممر‪ .‬وهممذه هممي القيمممة المعرفيممة وليممس الديولوجيممة‬
‫الماضوية لهذا الكتاب العظيم ‪ ،‬والذي تتبدى عظمته كلما تقادمت العصممور‬
‫وتغيرت المكنة‪.‬‬
‫كيف فهم الميون مسألة آدم في القرآن؟‬
‫في بداية سورة البقرة ‪ /‬الجزء الول ‪ /‬نجد النص التالي‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ل ِفيهَمما‬ ‫جع َ م ُ‬ ‫ة قَممالوا أت َ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ل ِفي الْر ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬ ‫مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل إ ِن ّممي‬ ‫س لمك قَمما َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قمد ّ ُ‬ ‫ممدِك وَن ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ماَء وَن َ ْ‬ ‫فك الد ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫س ِ‬ ‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أَ‬
‫ملئ ِكم ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫مى‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫ر‬‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ما‬‫ْ َ‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫آ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫(‬ ‫‪30‬‬ ‫ن)‬ ‫َ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ما‬‫ُ َ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ع‬
‫م ل َن َمما‬ ‫َ‬ ‫قا َ َ‬
‫عل ْم َ‬ ‫ك َل ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ن)‪َ(31‬قاُلوا ُ‬ ‫َ‬ ‫صادِِقي‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ماِء هَؤَُلء إ ِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ل أن ْب ُِئوِني ب ِأ ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ممما‬ ‫م فَل ّ‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫سم َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫م أن ْب ِئ ْهُ ْ‬ ‫ل َياآد َ ُ‬ ‫م)‪َ (32‬قا َ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ت العَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫مت ََنا إ ِن ّ َ‬ ‫ما عَل ْ‬ ‫إ ِّل َ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫م أ َقُم ْ‬ ‫أ َنبأ َهُم بأ َسمائ ِهم قَمما َ َ‬
‫ض‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫سم َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫م غَي ْم َ‬ ‫م إ ِن ّممي أعْل َم ُ‬ ‫ل ل َك ُم ْ‬ ‫ل أل َم ْ‬ ‫َْ ْ ِ ْ َ ِ ْ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫دوا ِلد َ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫سم ُ‬ ‫مَلئ ِك َمةِ ا ْ‬ ‫ن)‪(33‬وَإ ِذ ْ قُل ْن َمما ل ِل ْ َ‬ ‫مممو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫كنت ُم ْ‬ ‫ممما ُ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ممما ت ُب ْم ُ‬ ‫م َ‬ ‫وَأعْل َم ُ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫سممك ُ ْ‬ ‫ما ْ‬ ‫ن)‪(34‬وَقُل َْنا َياآد َ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ست َك ْب ََر وَ َ‬ ‫س أَبى َوا ْ‬ ‫دوا إ ِّل إ ِب ِْلي َ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫فَ َ‬
‫ما وََل ت َ ْ‬ ‫َ‬
‫جَرةَ‬ ‫شم َ‬ ‫قَرب َمما هَمذِهِ ال ّ‬ ‫شمئ ْت ُ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫حي ْم ُ‬ ‫دا َ‬ ‫من ْهَمما َرغَم ً‬ ‫ة وَك َُل ِ‬ ‫جن ّم َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫جم َ‬ ‫ت وََزوْ ُ‬ ‫أن ْ َ‬
‫ن عَن َْها فَأ َ ْ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫كان َمما ِفيم ِ‬ ‫ممما َ‬ ‫م ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫جه ُ َ‬‫خَر َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ن)‪ (35‬فَأَزل ّهُ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫كوَنا ِ‬ ‫فَت َ ُ‬
‫مَتاعٌ إ َِلى ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن)‬ ‫حيمم ٍ‬ ‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫طوا ب َعْ ُ‬ ‫وَقُل َْنا اهْب ِ ُ‬
‫م)‪(37‬قُل ْن َمما‬ ‫حي م ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ه هُوَ الت ّم ّ‬ ‫ب عَل َي ْهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫ت فََتا َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ن َرب ّهِ ك َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قى آد َ ُ‬ ‫‪(36‬فَت َل َ ّ‬

‫‪54‬‬
‫ْ‬
‫م‬‫ف عَل َي ِْهمم ْ‬
‫خمموْ ٌ‬ ‫دايَ فََل َ‬
‫ن ت َب ِعَ هُ َ‬
‫م ْ‬ ‫دى فَ َ‬ ‫مّني هُ ً‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ميًعا فَإ ِ ّ‬
‫ج ِ‬‫من َْها َ‬
‫طوا ِ‬ ‫اهْب ِ ُ‬
‫ن)‪ – (38‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫وََل هُ ْ‬
‫م يَ ْ‬
‫تجمع كتب )التفاسير( أن الله – سبحانه – من بعد أن خلق السممموات‬
‫والرض قبض قبضة من تممراب ونفممح فيهمما فأصممبحت )آدم( ‪ ،‬ثممم خلممق لممه‬
‫زوجة هي )حواء( من ضلعه ‪ ،‬ثم أمر الملئكة بالسجود له كخليفة عنه فممي‬
‫الرض ‪ ،‬وسجد الملئكة واستكبر إبليس‪ .‬ثمم علمم اللمه آدم كافمة السمماء‬
‫وتعني أسماء الشجر وأنواعها والبهائم والنجوم وغيرها ‪ ،‬وأمره بعدم الكل‬
‫من شجرة معينة فلما أكل منها بإغواء إبليس له طرد من الجنة‪.‬‬
‫هذا مختصممر مفيممد ‪ ،‬غيممر أن هممذا التفسممير يممأتي بممالنص إن لممم يكممن‬
‫بالحرف في الصحاح الول والثاني والثالث من سفر التكوين في )التوراة(‬
‫‪ ،‬وسأجتزئ بعضا ً من النصوص )التوراتية( المتي توضمح ذلمك‪) :‬فخلمق اللمه‬
‫النسان على صورته‪ .‬على صورة الله خلقه ‪ ،‬ذكرا ً وأنثى خلقهم‪ ..‬وغممرس‬
‫الرب الله جنة في عدن شرقًا‪..‬وأوصى الرب اللممه آدم قممائل ً ‪ ،‬مممن جميممع‬
‫تأكل أكل ‪ ،‬وأما شجرة معرفة الخيممر والشممر فل تأكممل منهمما‪ ..‬وقممال الممرب‬
‫الله ليس جيدا ً أن يكون آدم وحده‪ .‬فأصنع له معينا ً نظيممره ‪ ،‬فأخممذ واحممدة‬
‫من أضلعه ومل مكانها لحما ً ‪ ،‬وبنى الرب الله الضلع التي أخممذها مممن آدم‬
‫امرأة وأحضرها إلى آدم‪ .‬وجبل الرب الله من الرض كل حيوانممات البريممة‬
‫وكل طيور السماء فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ‪ ،‬وكممل ممما دعمما بممه‬
‫آدم ذات نفس حية فهو اسمها‪ ..‬وتناولت حواء من ثمرة الشجرة التي فممي‬
‫وسط الجنة ‪ ،‬وأكلت وأعطت رجلهمما معهمما أيض ما ً فأكممل ‪ ،‬فممانتفخت أعينهمما‬
‫وعلما أنهما عريانان ‪ ،‬فخاطمما أوراق تيممن وصممنعا لنفسممهما مممآزر‪ ..‬فطممرد‬
‫النسان وأقام شرقي جنة عدن‪.(..‬‬
‫قد نقول إن العقلية اليديولوجية العربية لم تصنع هذا التفسير الدارج‬
‫في كتبنا الن ‪ ،‬وأن الميين العممرب قممد قبلمموه علممى علتممه كتفسممير ليممات‬
‫القرآن الكريم الخاصة بالخليقة والتكوين ‪ ،‬وبالطبع فإن تبني هذا التفسممير‬
‫)التوراتي( يعني القبول به ‪ ،‬وهذا يعني انسجام الذهنية العربيممة وقتهمما مممع‬
‫مقممولته ‪ ،‬خصوص ما ً وأن العممرب ل يملكممون ثقافممة )كتابيممة( تراثيممة سممابقة‬
‫يقيسون عليها ما جاء به القرآن من مواضمميع كونيممة ‪ ،‬ثممم إن بعممض اليممات‬
‫القرآنية في شكلها المجممتزئ يمكممن أن تعطممي )انطباعمًا( بصممحة إشممارات‬
‫َ‬
‫م)‪– (4‬‬ ‫وي ٍ‬‫ق ِ‬
‫ن تَ ْ‬
‫س ِ‬‫ح َ‬
‫ن ِفي أ ْ‬ ‫سا َ‬ ‫لن َ‬ ‫قَنا ا ْ ِ‬
‫خل َ ْ‬ ‫التوراة التفسيرية للوهلة الولى‪ :‬ل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫التين ‪ /‬ج ‪ ، 30‬مما يعني أن آدم قد خلق من جبلة الممماء والطيممن بشممرا ً‬
‫للوهلة الولى بالمر اللهمي ‪ ،‬ثمم تمم نفمخ المروح فيمه‪ .‬وكممذلك مما تشميعه‬
‫معاني آية )وعلم آدم السماء كلها( بما يعني الرتباط الظرفي في اللحظة‬
‫بين خلق آدم وتعليمه السماء كلها‪ .‬ومع تحديد هذه السماء تفسمميريا ً بأنهمما‬
‫أسماء الشجر والحجر‪.‬‬
‫دعونا نخرج الن من أسر التفسممير )التمموراتي( الممذي أسممقطه اليهممود‬
‫على آيات القرآن ‪ ،‬ولتكممن البدايممة بهممذه اليممة السمابقة الممذكر حممول خلممق‬
‫النسان في )أحسممن تقممويم( ‪ ،‬فهممذه اليممة الممواردة فممي الجممزء )‪ (30‬مممن‬
‫سورة )التين( إنما تشكل أحد مفاتيح مقدمة سورة البقرة فممي الجممزء )‪(1‬‬
‫حول معنى التقويم الحسن الذي خلق ضمنه آدم‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫التقويم هو التوقيت ‪ ،‬أي اللحظة المحددة فممي الزمممن ‪ ،‬فالدللممة هنمما‬
‫تعود إلى لحظة كان لديها الخلق النساني في أرقى حمالته وأبلمغ كممالته‪.‬‬
‫ولكي يمكننا الله – سبحانه – من تحديد هذا المعنى للتقويم بشكل محدد ‪،‬‬
‫أتممى باليممة المقابلممة الممتي توضممع )النقيممض( لحممال الكمممال المشممار إليممه ‪،‬‬
‫والنقيض هو‪) :‬ثم رددناه أسفل سافلين( ‪ ،‬فالرد أو الرتداد هو رجمموع إلممى‬
‫أصمل كمانت منممه البدايممة ‪ ،‬وإل لمما اسمتخدم اللممه تعممبير )رددنماه( ‪ ،‬تمامما ً‬
‫ُ‬
‫ن)‪– (13‬‬ ‫ح مَز َ‬‫ق مّر عَي ْن ُهَمما وََل ت َ ْ‬ ‫ي تَ َ‬ ‫م مهِ ك َم ْ‬ ‫كخطاب الله لموسى‪ :‬فََرد َد َْناهُ إ َِلى أ ّ‬
‫القصص ‪ /‬ج ‪ .20‬أي الرجوع إلى المبتدأ بعممد الفممراق ‪ ،‬وكممذلك النسممان‬
‫خلق في حال الكمال ثم يرد إلى الصل ما قبل الكمال والردة مقترنة هنمما‬
‫بالسفلية ‪ ،‬أي الوضاعة البهيمية الممتي ل تعممرف للنفممس تزكيممة ول طهممرا ً ‪،‬‬
‫وقد حدد الله حال هذه السفلية النفسية والعقلية والخلقية حيممن اسممتثنى‬
‫مل ُمموا‬ ‫من ُمموا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫منها الذين يحافظون على اليمان والعمل الصالح‪ :‬إ ِ ّ‬
‫الصال ِحات ل َه َ‬
‫ن)‪ – (8‬فصلت ‪ /‬ج ‪ ، 24‬من هنمما نعلممم أن‬ ‫مُنو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫جٌر غَي ُْر َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ّ َ ِ ُ ْ‬
‫أحسن تقويم هو أحسن حال من ناحية العبودية للممه ‪ ،‬وممما تتصممف بممه مممن‬
‫كمممال روحممي وعقلممي ونفسممي ‪ ،‬ثممم يكممون الرتممداد إلممى الصممل )أسممفل‬
‫سافلين( لغير الصالحين المؤمنين ‪ ،‬ويؤكد الله بعد ذلك أن همذا همو حكممه‬
‫ك بعد بالدين)‪(7‬أ َل َيس الل ّ َ‬
‫ن)‪ – (8‬التين ‪/‬‬ ‫مي َ‬ ‫حاك ِ ِ‬ ‫حك َم ِ ال ْ َ‬‫ه ب ِأ ْ‬‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ما ي ُك َذ ّب ُ َ َ ْ ُ ِ ّ ِ‬ ‫الزلي‪ :‬فَ َ‬
‫ج ‪.30‬‬
‫بعد إدراكنا لمعنى التقويم الحسن الممذي خلممق لممديه النسممان مكتمل ً‬
‫بالروح والدينونة لله ‪ ،‬من بعد اكتشاف أصل )سافل( كممان فيممه ويمكممن أن‬
‫)يرد( إليه إن لم يكن مؤمنا ً صالحا ً ‪ ،‬ندخل إلى آيات الخليقة والتكوين فممي‬
‫الجزء )‪ (1‬من سورة البقممرة ‪ ،‬ولكممن بعممد النطلق مممن سممورة الممتين فممي‬
‫الجزء )‪.(30‬‬
‫قد اتخذ الملئكممة البممرار مممن هممذا الصممل )السممفلي( للنسممان مممادة‬
‫للرتياب في استحقاق النسان للخلفة عممن اللممه فممي الرض ‪ ،‬فحيممن‪ :‬وَإ ِذ ْ‬
‫َ‬ ‫ل ِفي اْل َْر‬
‫س مد ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ل ِفيَها َ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫ة َقاُلوا أت َ ْ‬ ‫ف ً‬‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬‫ِ‬ ‫ع ٌ‬‫جا ِ‬ ‫مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬‫ل َرب ّ َ‬ ‫َقا َ‬
‫ممما َل‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ل إ ِن ّممي أعْل َم ُ‬ ‫ك قَمما َ‬ ‫س لَ َ‬
‫قد ّ ُ‬ ‫ك وَن ُ َ‬ ‫مدِ َ‬ ‫ح ْ‬‫ح بِ َ‬
‫سب ّ ُ‬‫ن نُ َ‬‫ح ُ‬ ‫ماَء وَن َ ْ‬‫ك الد ّ َ‬‫ف ُ‬ ‫س ِ‬
‫ِفيَها وَي َ ْ‬
‫ن)‪ – (30‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫في هذه الية نجد عدة موضوعات‪:‬‬
‫ل‪ :‬إخبار إلهي للملئكة بأنه )جاعل( في الرض خليفة ‪ ،‬والجعل هنا إرادة‬ ‫أو ً‬
‫مستقبلية لن الخطاب اللهممي ل ينممص علممى فعممل الماضممي )جعلممت(‬
‫ولكنممي )جاعممل( ‪ ،‬فهنمما فممترة زمانيممة بيممن الخبممار النممي والجعممل‬
‫المستقبلي‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬قد ارتابت الملئكة في سياق الخطمماب النممي بممأن مممن يممراد لممه أن‬
‫يكون مستخلفا ً هو الن – وقت الخبار اللهي – يسفك الدماء ويفسممد‬
‫في الرض‪ .‬وسفك الدماء يتعلق بمعرفة مادة عضوية حمراء اللممون ‪،‬‬
‫وعبارة يسفك صفة لفعل مادي ومعنوي ‪ ،‬ثم يرتبمط تعريمف سملوكية‬
‫النسان بأنه كائن )يفسد( في الرض ‪ ،‬فهنمما إشممارة إلممى وجممود ذلممك‬
‫الكائن راهنا ً في الرض ومن قبل الستخلف‪ .‬فهنا إخبممار ملئكممي لنمما‬
‫عبر الرتياب فممي أن هممذا الكممائن الممذي يممراد اسممتخلفه موجممود قبممل‬
‫السممتخلف ‪ ،‬وموجممود جغرافيمما ً فممي بيئة طبيعيممة هممي الرض ‪ ،‬وأن‬

‫‪56‬‬
‫أخلقيته يهيمية بحكم أنه يسفك دم بعضه البعض ‪ ،‬ويفسد في الرض‬
‫دون ضوابط أخلقية أو عقلية ‪ ،‬يقتل ويفعل حين يشتهي إلخ‪ . ...‬أممما‬
‫الملئكة فقد ميزت نفسها بأنها تسبح اللممه )تنزهممه( وتقممدس لممه ‪ ،‬أي‬
‫تقدس أفعاله عممن مثيلتهمما عنممد المخلوقممات ‪ ،‬فهنمما تنزيممه ثممم تشممبيه‬
‫مقدس‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬في مقابل ما ساقته الملئكة من الحالممة )السممفلية( للنسممان الممذي‬
‫يتجه الله لستخلفه مستقبل ً ‪ ،‬لم يلجأ الله لسكات الملئكة البممرار ‪،‬‬
‫وإنما أوضح لهم أن ثمة أمر يرتبط بمستقبلية الزمن ‪) ،‬قال إني أعلم‬
‫ما ل تعلمون( ‪ ،‬ثم نجد مستقبلية الزمن هذه تكرر نفسها كحجة إلهية‬
‫على الملئكة بعد أن نال آدم الستخلف ‪ ،‬وبعد أن تعلم السممماء ‪ ،‬إذ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫م أ َقُ ْ‬ ‫َ‬
‫ض‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫سم َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫م غَي ْم َ‬ ‫م إ ِّني أعْل َم ُ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫قال لهم الله وقتها‪ :‬أل َ ْ‬
‫َ‬
‫ن)‪ – (33‬البقرة ‪ /‬ج ‪ .1‬فالله قد رد‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت ُب ْ ُ‬‫م َ‬ ‫وَأعْل َ ُ‬
‫ارتياب الملئكة بالحجة على ما سيكون بعد فترة مممن الزمممن ل علممى‬
‫ما هو كائن وقت خطابه للملئكة ‪ ،‬فوقتها لم يقممل اللممه لهممم بممأن ممما‬
‫يرونه من دماء أو فساد ليس سفكا ً وليممس أخلقما ً سممفلية ‪ ،‬بممل تممرك‬
‫للزمن أن يقنع الملئكة بأن هذا الكائن الذي يرونه الن سيكون – عن‬
‫قريب أو بعد وقت – في )أحسن تقويم( فلما حدث وكان في أحسممن‬
‫تقويم ‪ ،‬علمه السماء ثم قدمه للملئكة‪.‬‬
‫هل كان خلق آدم ماديا ً تطوريا ً ؟‬
‫قد يعتقد البعض بأن قولنا بوجود الكائن النسان كمخلوق همجي مممن‬
‫قبل استخلف آدم ‪ ،‬إنما يتضمن إشارة إلى المبدأ التطوري الدارويني فممي‬
‫خلق الحياء ونموهمما‪ .‬غيممر أن القممرآن المكنممون ينبئنمما بحقيقممة أخممرى أكممثر‬
‫أهمية وتفصيل ً ‪ ،‬فآدم لم يكن متطورا ً في أصول تكمموينه الممذاتي مممن خليممة‬
‫حية وإلى إنسان ‪ ،‬وإنما هو نتاج الصطفاء اللهي له من بين تلك الكائنممات‬
‫البشرية الممتي وصممفتها الملئكممة بأنهمما همجيممة بربريممة ‪ ،‬تفسممد فممي الرض‬
‫وتسفك الدماء‪ .‬فالله قد أخبر الملئكممة مممن قبممل بممأنه سمميخلق بشممرا ً مممن‬
‫طين ‪ ،‬ثم أخبر الملئكة أن من بين هؤلء البشر سيكون خليفة‪ .‬فهنا فممارق‬
‫زمني كبير بين مرحلة )خلممق( فيهمما اللممه النسممان مممن طيممن ‪ ،‬ثممم مرحلممة‬
‫)جعل( الله فيها خليفة له في الرض من بين هؤلء البشر‪ .‬فآدم ليممس أول‬
‫البشر ‪ ،‬ولكنه أول إنسان اصطفاه الله ليكون خليفة له ‪ ،‬فنفح فيممه روحممه‬
‫وعلمه السماء‪.‬‬
‫قد حدد الله مراحل الخلق البشري البتدائي للملئكة بقوله تعالى‪ :‬إ ِذ ْ‬
‫ه‬
‫ت ِفي م ِ‬ ‫خم ُ‬
‫ف ْ‬‫ه وَن َ َ‬
‫س موّي ْت ُ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫ن)‪(71‬فَ مإ ِ َ‬ ‫طي ٍ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫شًرا ِ‬ ‫خال ِقٌ ب َ َ‬ ‫مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬‫ل َرب ّ َ‬‫َقا َ‬
‫ن)‪ – (72‬ص ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬
‫سا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫قُعوا ل ُ‬ ‫حي فَ َ‬ ‫ن ُرو ِ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫فهنا نجممد )‪ (1‬خلمق ممن طيممن‪ (2) .‬تسمموية لهممذا المخلموق‪ (3) .‬نفممخ‬
‫للروح اللهي فيه‪ (4) .‬سجود لتأمين الستخلف‪ .‬فهذه اليات الممواردة فممي‬
‫سورة )ص( إنما تعبر تفصيليا ً عن سياق المراحممل كلهمما ‪ ،‬مممن الخلممق إلممى‬
‫التسوية إلى النفخ إلى الستخلف‪ .‬وقد أوضممح اللممه فممي الجممزء )‪ (30‬مممن‬
‫سورة )النفطار( ممما جعلممه مجمل ً فممي الجممزء )‪ (23‬مممن سممورة )ص( ‪ ،‬إذ‬
‫ك‬ ‫قم َ‬‫خل َ َ‬
‫ذي َ‬ ‫م)‪(6‬ال ّم ِ‬ ‫ريم ِ‬ ‫ك ال ْك َ ِ‬ ‫ك ب َِرب ّم َ‬ ‫ممما غَمّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫سمما ُ‬ ‫لن َ‬ ‫ما ا ْ ِ‬ ‫يذكر اللممه تعممالى‪َ :‬ياأ َي ّهَم‬
‫شاَء َرك ّب َ َ‬ ‫َ‬ ‫ك فَعَد َل َ َ‬ ‫وا َ‬
‫ك)‪ – (8‬النفطار ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫ما َ‬ ‫صوَرةٍ َ‬ ‫ك)‪ِ(7‬في أيّ ُ‬ ‫س ّ‬‫فَ َ‬

‫‪57‬‬
‫فاليممة )‪ (7‬تشممير إلممى )‪ (1‬خلممق‪ .‬ثممم )‪ (2‬تسمموية‪ .‬ثممم )‪ (3‬اعتممدال‪ .‬وهممذه‬
‫مراحل تكوين ‪ ،‬فالتسوية هممي )اسممتواء( أفقممي كممما تمشممي البهممائم علممى‬
‫أربع ‪ ،‬ثم العتدال )قيام رأسي( كممما يسممعى النسممان ‪ ،‬ثممم مممن بعممد ذلممك‬
‫يشير الله تعالى إلى )تعدد الصور( التي يخلممق اللممه فيهمما النسممان ‪ ،‬وكلهمما‬
‫صور ترتبط بماضي النشأة والتكوين البيولوجي والعضوي ‪ ،‬فبقممدر ممما فممي‬
‫العالم من كائنات عضوية نجد أن النسان قممد اسممتمد تكمموينه منهمما ‪ ،‬وهممذا‬
‫معنى غاية في الدقة العلمية وبأرقى من الدارونية ول يوصل إليه إل ّ بفهممم‬
‫فسمك ُ َ‬ ‫ل ل َك ُم مم َ‬ ‫َْ‬
‫ن‬‫مم ْ‬ ‫جمما وَ ِ‬ ‫م أْزَوا ً‬ ‫ْ‬ ‫ن أن ْ ُ ِ‬ ‫ْ ِ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫قلبي تجاه‪َ :‬فاط ُِر ال ّ‬
‫َ‬
‫صمميُر)‪- (11‬‬ ‫ميعُ الب َ ِ‬ ‫سم ِ‬ ‫يٌء وَهُموَ ال ّ‬ ‫شم ْ‬ ‫مث ْل ِهِ َ‬ ‫س كَ ِ‬ ‫م ِفيهِ ل َي ْ َ‬ ‫جا ي َذ َْرؤُك ُ ْ‬ ‫اْل َن َْعام ِ أْزَوا ً‬
‫فاطر ‪ /‬ج ‪ .25‬فهذه الية توضح لمن يعمممل فكممره الن ممماذا تعنممي اليممة‬
‫ك)‪ .(8‬وكممذلك‪:‬‬ ‫شمماَء َرك ّب َم َ‬ ‫ممما َ‬ ‫َ‬
‫صمموَرةٍ َ‬ ‫رقم )‪ (8‬من سورة النفطار‪ :‬فِممي أيّ ُ‬
‫دوا إ ِّل‬ ‫ج ُ‬ ‫سم َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫دوا ِلد َ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫سم ُ‬ ‫مَلئ ِك َمةِ ا ْ‬ ‫م قُل ْن َمما ل ِل ْ َ‬ ‫م ث ُم ّ‬ ‫ص موّْرَناك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ث ُم ّ‬ ‫قن َمماك ُ ْ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫وَل َ َ‬
‫ن)‪ - (11‬العراف ‪ /‬ج ‪ .8‬وقد وضع الله آية‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬‫سا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫س لَ ْ‬ ‫إ ِب ِْلي َ‬
‫ذرء الصور المتعددة للتركيب النساني عن المنشأ فممي سممورة )الشممورى(‬
‫لن بعض البشر يستبدون بذواتهم وأصولهم على الشورى وعلى الخرين ‪،‬‬
‫فنبههم الله – من طرف خفي – إلى حقيقتهم‪ .‬كذلك وكما نبه اللممه البشممر‬
‫إلى أصلهم حين استبدوا على بعضممهم البعممض ‪ ،‬كممذلك يظهممر اللممه للبشممر‬
‫حقيقة أصلهم كرة أخرى حين ينسبون إليه – سبحانه – الولد من جنسهم ‪،‬‬
‫وفي هذا ردع لممن ألقمى السممع وهمو شمهيد‪َ :‬لمو أ َراد الّلم َ‬
‫دا‬‫خمذ َ وََلم ً‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫قّهاُر) ‪ – (4‬الزمر ‪/‬‬ ‫ْ‬
‫حد ُ ال َ‬ ‫وا ِ‬‫ه ال ْ َ‬ ‫ه هُوَ الل ّ ُ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫شاُء ُ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫خل ُقُ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫فى ِ‬ ‫صط َ َ‬ ‫َل ْ‬
‫ج ‪.23‬‬
‫وكذلك‪:‬‬
‫َ‬ ‫مم ْ ْ‬ ‫َ‬
‫ن الن ْعَممام ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُم ْ‬ ‫جَها وَأن َْز َ‬ ‫من َْها َزوْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫جعَ َ‬ ‫م َ‬ ‫حد َةٍ ث ُ ّ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ممما ٍ‬ ‫ق فِممي ظ ُل ُ َ‬ ‫ن ب َعْمدِ َ ْ‬
‫خل م ٍ‬ ‫مم ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫خل ْ ً‬
‫م َ‬ ‫مَهات ِك ُ ْ‬ ‫نأ ّ‬ ‫طو ِ‬ ‫م ِفي ب ُ ُ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫خل ُ ُ‬
‫ة أْزَواٍج ي َ ْ‬ ‫مان ِي َ َ‬ ‫ثَ َ‬
‫َ‬
‫ن)‪ – (6‬الزمففر ‪/‬‬ ‫صَرُفو َ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ فَأّنى ت ُ ْ‬ ‫ك َل إ ِل َ َ‬ ‫مل ْ ُ‬‫ه ال ْ ُ‬‫م لَ ُ‬ ‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ث ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫ث ََل ٍ‬
‫ج ‪.23‬‬
‫ً‬
‫إذن فأصل النسممان مممن طيممن – ثممم نممما حممامل فممي تركيبتممه الصممور‬
‫المتعممددة لشممكال المملكممة البهيميممة ‪ ،‬فليممس القممرد أصمل ً لممه كممما تزعممم‬
‫الداروينيمة‪ .‬ثمم نمما إلمى أن اسمتوى علمى أربمع – ثمم اعتمدل إنسمانا ً علمى‬
‫قدمين‪ .‬ووقتها رأت فيه الملئكة إنسانا ً يسفك الدماء ويفسممد فممي الرض‪.‬‬
‫ثم جاء الصطفاء اللهي لدم حيث نفممخ فيممه مممن روحممه وعلمممه السممماء‪.‬‬
‫فآدم ليس أول البشر ولكنه أول مخلوق مممن جنممس البشممر اصممطفاه اللممه‬
‫بالنفممخ الروحممي ‪ ،‬بممذلك يتأكممد )جممدل الغيممب والطبيعممة( ‪ ،‬فممالمر اللهممي‬
‫)الغيب( قد تنزل على عالم الطبيعة )المشمميأة( ‪ ،‬فكممان النسممان الروحممي‬
‫)آدم( هو الخلصة المستصفاة من بعد مراحل تاريخية تكوينية ممتممدة إلممى‬
‫ما شاء الله‪.‬‬
‫تساؤلت ل بد للقارئ من طرحها‪:‬‬
‫قممد يممرى القممارئ الكريممم أننمما قممد نقممدنا تلممك التصممورات )التوراتيممة(‬
‫اللهوتية التي أسقطت على النص القرآنممي المحكممم بتممأثيرات المفسممرين‬
‫اليهود ككعممب الحبممار ووهممب بممن منبممه ‪ ،‬وكممذلك أزحنمما جانبما ً روح التلقممي‬
‫العفوية التي قبلت بهمما عالميممة المييممن بتلممك التصممورات اللهوتيممة ‪ ،‬الممتي‬

‫‪58‬‬
‫كانت تجد لنفسها الصدى نتيجة تشكل الذهنية الحيائية النيمية ‪ ،‬التي تأخذ‬
‫)بالخلق المستقل( للظاهرات بممما فيهمما آدم دون معرفممة أن المممر اللهممي‬
‫يتنزل من عممالم الغيممب علممى عممالم المشمميئة ضمممن جدليممة تأخممذ بالزمممان‬
‫والمكان )إني أعلم غيب السموات والرض(‪ .‬غير أن هممذا التحليممل النقممدي‬
‫الذي يأخذ بالكتاب في كليته العضمموية ‪ ،‬مستصممفيا ً اليممات المتعلقممة بممذات‬
‫الموضوع من مختلف الجزاء والمواقع ‪ ،‬يثير بالضرورة تساؤلت عدة ل بد‬
‫من طرحها والجابة الممكنة عليها‪ .‬علما ً بممأن التسمماؤلت وإجاباتهمما تشممكل‬
‫جزءا ً من هذا البحث‪.‬‬
‫ل‪ :‬إن كمان آدم قمد )جعمل( عممبر الستصممفاء اللهمي لمه ممن بيممن بشممر‬ ‫أو ً‬
‫سبقوه في التكوين ‪ ،‬والله يشير إلى ارتباط الروح بآدم ‪ ،‬وأن آدم هو‬
‫)النفس( الواحدة الممتي خلممق اللممه منهمما النمماس ‪ ،‬فكيممف كممان يعيممش‬
‫البشر من قبله دون روح‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬تشير اليات إلى أن آدم بعد خلقه مباشرة قمد أممر بمأن يسمكن هممو‬
‫وزوجه )الجنمة( ‪ ،‬ثمم أممر )بمالهبوط( منهما ‪ ،‬فمأين همو موضمع البشمر‬
‫الخريممن مممن سممكن الجنممة ومممن أمممر الهبمموط منهمما؟ خصوص ما ً وأن‬
‫التفاسير توضح اكتشاف آدم وزوجه لنفسهما )عاريين( بعد الهبمموط ‪،‬‬
‫أو حين ذاقا الشجرة المحرمة ‪ ،‬فطفقا يخصممفان علممى أنفسممهما مممن‬
‫ورق الجنة‪.‬‬
‫ويسألونك عن الروح‬
‫ً‬
‫هنا مفتاح القضية كلها ‪ ،‬خصوصما وأن الفكمر النسماني عمومما يربمط‬ ‫ً‬
‫بين الروح وما بين )الحياة( ‪ ،‬حممتى إن الدراسممات العلميممة المعاصممرة إنممما‬
‫تحاول التعرف على الروح كطاقة فيزيائية بالغة التعقيد والحساسممية‪ .‬وقممد‬
‫تقترض الدراسات العلمية القائمة على الفلسفة المادية أن الروح ل تخممرج‬
‫عن كونها ظاهرة مادية ناتجة عن مركبات النسان العضوية‪ .‬ويسيطر هممذا‬
‫التجاه المادي في مقابل التجاه العام في الفكر النساني بأن الممروح هممي‬
‫هبة الحياة لكممل الكائنممات الحيممة مممن اللممه ‪ ،‬وبالتممالي فهممي مممن )السممرار‬
‫الربانية( الممتي ل يمكممن معرفممة كنههمما ‪ ،‬خصوصما ً وأن سممؤال ً سممابقا ً سممأله‬
‫العرب فتلقوا – في تقديرهم – إجابة تمنعهم عن الخوض في هذه المسألة‬
‫ن‬
‫مم ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ل ال مّرو ُ‬ ‫ن الّروِح قُ ْ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫التي خص الله – سبحانه – بها نفسه‪ :‬وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حي َْنمما‬‫ذي أوْ َ‬ ‫ن ِبالمم ِ‬ ‫شئ َْنا لن َذ ْهَب َ ّ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليًل)‪(85‬وَلئ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫مرِ َرّبي وَ َ‬ ‫أ ْ‬
‫ك‬‫ن عَل َي ْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ضل َ ُ‬‫ن فَ ْ‬ ‫ك إِ ّ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬ ‫م ً‬ ‫كيًل)‪(86‬إ ِّل َر ْ‬
‫ح َ‬ ‫ك ب ِهِ عَل َي َْنا وَ ِ‬ ‫جد ُ ل َ َ‬ ‫م َل ت َ ِ‬ ‫ك ثُ ّ‬‫إ ِل َي ْ َ‬
‫ن َل‬ ‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قمْرآ ِ‬ ‫ل ه َم َ‬ ‫مث ْ ِ‬‫ن ي َأُتوا ب ِ ِ‬‫ن عََلى أ ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫س َوال ْ ِ‬
‫لن ُ‬ ‫تا ِْ‬ ‫مع َ ْ‬ ‫جت َ َ‬‫نا ْ‬ ‫ل ل َئ ِ ْ‬ ‫ك َِبيًرا)‪(87‬قُ ْ‬
‫ض ظِهيًرا)‪ – (88‬السراء ‪ /‬ج ‪.15‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مث ْل ِهِ وَلوْ َ‬ ‫ْ‬
‫م ل ِب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ‬‫ن ب َعْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن بِ ِ‬‫ي َأُتو َ‬
‫إن الله – سبحانه – برحمته وفضل منه يجيب على كممل سممؤال ‪ ،‬غيممر‬
‫أن الكشف عن مواطن الجابة هو معضلة البعض‪ .‬فاليات هنا وبالذات من‬
‫منتصف آية السؤال رقم )‪ (85‬وما بعد ذلك إلى )‪ (88‬إنممما تحمممل الجابممة‬
‫الشافية‪ .‬فالروح من )أمر( ربي ‪ ،‬وهممذه إشممارة ترجممع بممالروح إلممى )عممالم‬
‫المر( الذي يتجاوز عالمي )الرادة( و )المشيئة(‪.‬‬
‫ففي عالم المشيئة تتمظهر الرادة اللهية بقمموانين الطبيعممة وحركتهمما‬
‫وسنتها ‪ ،‬أما في عالم الرادة فيتمظهر المر اللهي بوسائط مادية ل تؤدي‬
‫العمل من خلل وظيفتها المعهودة بها طبيعيا ً ‪ ،‬كعصا موسممى الممتي شممقت‬

‫‪59‬‬
‫البحر‪ .‬أما في عالم المر فليس ثمممة قممانون طممبيعي تتمظهممر بممه الرادة ‪،‬‬
‫وليس ثمة وسائط مادية كعصا موسى ‪ ،‬فالموضوع يتعلق هنا بما هو فمموق‬
‫الطبيعة المادية وفوق إسقاطات الوسائل‪ .‬إنه أمممر غيممبي صممرف‪ .‬فممالروح‬
‫من أمر ربي إنما تعني أنها من عمالم مما فموق الطبيعمة والرادة ‪ ،‬فليسمت‬
‫بخاضعة في تكوينها لما تتكون منه المواد العضوية ‪ ،‬وليست من مقومممات‬
‫عالم المادة ‪ ،‬إنها أمر من خارج عالم المادة المشيأة عضويًا‪.‬‬
‫هذا التعريف للروح بأنها من أمر الله بممما يعنممي أنهمما مممن فمموق عممالم‬
‫ذي‬ ‫ن ِبال ّم ِ‬
‫شمئ َْنا ل َن َمذ ْهَب َ ّ‬ ‫الطبيعة يجد توضيحا ً آخممر لممه فممي اليممة بعممدها )وَل َئ ِ ْ‬
‫ن ِ‬
‫ك( فربط الله ما بين )الممروح( و )المموحي( ‪ ،‬فممالروح هممي القابلممة‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫أوْ َ‬
‫لتلقى الوحي عن الله ‪ ،‬أي أن من خاصيتها أن تكون )الصلة( الممتي يسمتمد‬
‫بها النسان كلمات الله وإلهاماته عبر أمر اللممه أو إرادتممه أو مشمميئته‪ .‬فممإذا‬
‫استرد الله الروح من النبي أو غيره من البشر ل تنقطع علقة الممموحى لممه‬
‫م َل‬‫بالوحي فقط ‪ ،‬وإنما ل يعود يتذكر ما سبق وأن أوحى اللممه بممه إليممه )ث ُم ّ‬
‫كيًل(‪ .‬وتظهر هذه الية معنى خطيرا ً للغاية ‪ [ ،‬فاسترداد‬ ‫ك ب ِهِ عَل َي َْنا وَ ِ‬ ‫جد ُ ل َ َ‬‫تَ ِ‬
‫الروح التي يسترد معها الوحي تعقبه حالة أل يجد النبي قدرة ما علممى‬
‫تذكر ما كان من وحي ‪ ،‬وهذا يعني – من الجانب الخممر – عممدم قممدرة‬
‫إنسان )حممي( علممى عمدم تمذكر ممما كممان لممديه بعممد أن فمارقته الممروح‬
‫وحملت معها ما تحمل ] ‪ ،‬والفارق الزمني يبحث عنه هنا فممي موضممع‬
‫)ثم( ل تجد ‪ ،‬فالنسان يجد أول ً بعد بحث ذاتي في الموضوع ول يكون‬
‫البحث في حمال المموت‪ .‬ثمم يؤكمد اللمه أن وجمود المروح لمدى النمبي‬
‫المتلقي بواسممطتها كلممات اللممه ‪ ،‬إنمما هممو خصممائص الرحمممة اللهيممة‬
‫ن عَل َي ْ َ‬
‫ك ك َِبيًرا(‪.‬‬ ‫كا َ‬ ‫ضل َ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫ن َرب ّ َ‬
‫ك إِ ّ‬ ‫م ْ‬
‫ة ِ‬
‫م ً‬ ‫والفضل الكبير )ِّل َر ْ‬
‫ح َ‬
‫بعد همذا التوضميح يعممزز اللمه هممذه المعرفمة بتمدقيق آخممر ‪ ،‬إذ يتنماول‬
‫وضعية القرآن الموحى به من عنده – سبحانه – تجاه مسألة الروح وعممالم‬
‫المر‪ .‬فالله – من بعد أن رد الوحي إلى الروح وعالم المر ‪ ،‬فإنما جرد كل‬
‫)قوى الطبيعة المادية( أو بالحرى )مقومات عممالم المشمميئة( مممن إمكانيممة‬
‫إنتاج القرآن بمجرد الوعي والممذكاء الفطممري والقممدرات اللغويممة ‪ ،‬أو حممتى‬
‫العلميممة فممي أرقممى أشممكالها ‪ ،‬وحممتى حيممن يتجمماوز الجهممد قممدرات النممس‬
‫ت‬‫مَعمم ْ‬ ‫جت َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫ل ل َئ ِ ْ‬
‫بمفردهم أو الجن بمفردهم ‪ ،‬ليأتي نتاجا ً للتحالف بينهما‪ :‬قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مث ْل ِهِ وَل َوْ َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ضه ُ ْ‬ ‫ن ب َعْ ُ‬‫كا َ‬ ‫ن َل ي َأُتو َ‬
‫ن بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬
‫قْرآ‬ ‫ل هَ َ‬
‫ِ‬ ‫مث ْ‬ ‫ن عََلى أ ْ‬
‫ن ي َأُتوا ب ِ ِ‬ ‫ج ّ‬‫س َوال ْ ِ‬
‫لن ُ‬‫ا ِْ‬
‫َ‬
‫ل فَمأَبى‬ ‫ن ك ُم ّ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ض ظ َِهيًرا)‪(88‬وَل َ َ‬
‫مث َم ٍ‬
‫ل َ‬ ‫مم ْ‬ ‫ن ِ‬‫ق مْرآ ِ‬ ‫س ِفي هَ َ‬ ‫صّرفَْنا ِللّنا ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ل َِب َعْ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫فوًرا)‪ – (89‬السراء ‪ /‬ج ‪.15‬‬ ‫س إ ِل ك ُ‬‫أك ْث َُر الّنا ِ‬
‫الروح من عالم المر ‪ ،‬وليس يهمنا هنا كنهها ‪ ،‬وإنما يهمنمما أن نعممرف‬
‫أن قمموانين الطبيعممة فممي الحركممة أو مواصممفات المممادة فممي التكمموين‬
‫والخصائص ل تنطبق عليها‪ .‬وما يهمنا هذا هو مفتاحنا للقممول بممأن الكائنممات‬
‫ذات المنشأ الطبيعي بما فيها البشممر أنفسممهم يمكممن لهممم أن يوجممدوا وأن‬
‫يعيشوا وأن يستمروا في الحياة دون روح‪ .‬غير أن عدم التممدقيق فممي هممذه‬
‫المسألة بالذات جعل كثيرا ً من الناس ل يميزون بين الروح وطاقممة الحيمماة‬
‫المادية الطبيعية ‪ ،‬فافترضوا أن للبهائم روحا ً وغاب عنهممم أن هممذه البهممائم‬
‫من النعام قد أباح الله ذبحها وأكلها ‪ ،‬فكيممف يكممون لهمما تلممك الممروح الممتي‬
‫تشكل قناة اتصال بخالقها – على ضوء ما أوضحنا عن الروح – ثم يبيح الله‬

‫‪60‬‬
‫ذبحها وتقديمها؟ بل أين تكون )الرحمة( اللهية حيممن نمضممي دون إغضمماب‬
‫الله في ذبح )ذوات الرواح( ؟‬
‫أثر هذا الفهم اليديولوجي التاريخي العام الذي يزاوج بيممن )الممروح( و‬
‫)طاقة الحياة الطبيعية( على كيفية فهم الناس لمختلف اليات الممتي تشممير‬
‫إلى حالت الموت ‪ ،‬فبالرغم مممن أن القممرآن لممم يشممر إلممى أن هممذه الممتي‬
‫تخرج من النسان هي الروح ‪ ،‬فإن كتب التفاسير قد امتلت بالشارة إلممى‬
‫ما يتم وقت الوفاة بأنه خروج للروح ‪ ،‬فكيف لنمما أن نقممرر مثل ً أن المعنيممة‬
‫بالخروج من البدن هي الروح في حالة الوفاة طبقا ً للنص القرآنممي دون أن‬
‫َ‬ ‫حل ْ ُ‬
‫م‬‫م)‪(83‬وَأن ْت ُم ْ‬ ‫قممو َ‬ ‫ت ال ْ ُ‬ ‫ذا ب َل َغَ م ْ‬ ‫يكون هذا النص قد أشار تحديدا ً إليها؟ فَل َوَْل إ ِ َ‬
‫حينئ ِذ تنظ ُرون)‪(84‬ونح َ‬
‫ن‬‫ن)‪(85‬فَل َموَْل إ ِ ْ‬ ‫ص مُرو َ‬ ‫ن َل ت ُب ْ ِ‬ ‫م وَل َك ِم ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ب إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫ن أقَْر ُ‬ ‫ََ ْ ُ‬ ‫ِ َ ٍ َ ُ َ‬
‫ن)‪ – (87‬الواقعة ‪ /‬ج ‪.27‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن كنت ُ ْ‬ ‫جُعون ََها إ ِ ْ‬ ‫ن)‪(86‬ت َْر ِ‬ ‫ديِني َ‬ ‫م ِ‬ ‫م غَي َْر َ‬ ‫كنت ُ ْ‬‫ُ‬
‫فالشارة هنا إلى خروج أمر ما يممؤدي إلممى الوفمماة ولكممن دون إشممارة إلممى‬
‫الروح ‪ ،‬فتفسير هذه الية رجوعا ً إلى أ‪ ،‬المعنية بممالخروج هممي الممروح إنممما‬
‫يستلزمه الرجوع إلى آيات أخرى في القرآن تشير إلى حالت الوفاة لنرى‬
‫إن كان الله يشير فيها إلى الروح أم إلى شيء آخر‪.‬‬
‫بمراجعة مثل هذه اليات المطلوبة نجد أن الله يشممير إلممى )النفممس(‬
‫وليس إلى الروح مقترنة بحالة الوفاة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ كذًِبا أوْ َقا َ‬ ‫وم َ‬
‫ه‬
‫ح إ ِلي ْم ِ‬ ‫م ُيو َ‬ ‫ي وَل ْ‬ ‫ي إ ِل ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ل أو ِ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل ما َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مَرا ِ‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫ال‬ ‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫رى‬ ‫َ‬
‫ُ َ ْ َ‬‫ت‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫َ ِ‬ ‫أن‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫قا‬ ‫ن‬
‫م ْ‬ ‫يٌء وَ َ‬ ‫ش ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب‬ ‫ذا َ‬ ‫ن ع َم َ‬ ‫ج مَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م الي َموْ َ‬ ‫س مك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫جمموا أن ُ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫س مطوا أي ْم ِ‬ ‫ة َبا ِ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ت َوال َ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن) ‪(93‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ن آَيات ِهِ ت َ ْ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫حق ّ و َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ال ُْهو ِ‬
‫‪ -‬النعام ‪ /‬ج ‪.7‬‬
‫قد تحممددت الوفماة فمي همذه اليممة بخممروج )النفمس( وليممس المروح ‪،‬‬
‫فالملئكة تبسط أيديها لتتلقى النفممس الخارجممة مممن البممدن ‪ ،‬ففيهمما تكمممن‬
‫)قوة الحياة(‪ .‬وقد ربط الله في مواضع أخممرى مممن آيمماته بيممن )النفممس( و‬
‫)الموت( وذلك حين قوله تعالى‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫مما َ‬
‫جل)‪ - (145‬آل‬ ‫ممؤَ ّ‬ ‫ن اللمهِ ك َِتاًبما ُ‬ ‫ت إ ِل ِبمإ ِذ ْ ِ‬ ‫مممو َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫سأ ْ‬ ‫فم ٍ‬ ‫ن ل ِن َ ْ‬ ‫كما َ‬ ‫وَ َ‬
‫عمران ‪ /‬ج ‪.4‬‬
‫وكذلك‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫ة)‪ – (185‬آل‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫جوَرك ْ‬ ‫نأ ُ‬ ‫ما ت ُوَفّوْ َ‬ ‫ت وَإ ِن ّ َ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ة ال َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ذائ ِ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬
‫عمران ‪ /‬ج ‪.4‬‬
‫كممذلك لممم يربممط اللممه قممط ممما بيممن )النشممأة( الممتي تعنممي )التكمموين‬
‫العضوي( للنسان والروح ‪ ،‬وإنما ربط النشأة بالنفس‪:‬‬
‫ْ‬ ‫وهو ال ّذي َأن َ َ‬
‫ص ملَنا‬ ‫س مت َوْد َعٌ قَمد ْ فَ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫قّر وَ ُ‬ ‫س مت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ح مد َةٍ فَ ُ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫فم ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫شأك ُ ْ‬ ‫َ ُ َ ِ‬
‫ن)‪ - (98‬النعام ‪ /‬ج ‪.7‬‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫اْلَيا ِ‬
‫النفس تنقسم أما الروح فجوهر آحادي‬
‫قد جعممل اللممه النفممس )طاقممة الحيمماة( لنهمما مسممتولدة مممن الممتركيب‬
‫العضوي الكمموني الممذي اسممتخلص النسممان مممن ثنممائيته الماديممة المتقابلممة‪:‬‬
‫ذا‬ ‫ل إِ َ‬ ‫هما)‪َ(3‬والل ّْيم ِ‬ ‫جّل َ‬ ‫ذا َ‬ ‫هما)‪َ(2‬والن َّهمارِ إ ِ َ‬ ‫ذا ت ََل َ‬ ‫ممرِ إ ِ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ها)‪َ(1‬وال ْ َ‬ ‫حا َ‬ ‫ضم َ‬ ‫س وَ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫شم ْ‬ ‫َوال ّ‬
‫ها)‬ ‫وا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي َغْ َ‬
‫سم ّ‬ ‫ممما َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ها)‪(6‬وَن َ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫ما ط َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ها)‪َ(5‬والْر ِ‬ ‫ما ب ََنا َ‬ ‫ماِء وَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ها)‪َ(4‬وال ّ‬ ‫شا َ‬
‫َ‬
‫ها)‪ - (8‬الشمس ‪ /‬ج ‪.30‬‬ ‫وا َ‬ ‫ق َ‬ ‫ها وَت َ ْ‬ ‫جوَر َ‬ ‫مَها فُ ُ‬ ‫ْ‬
‫‪(7‬فَألهَ َ‬

‫‪61‬‬
‫فالنفس هي عصارة الثنائية الكونيممة فممي حممال تفاعلهمما الجممدلي عممبر‬
‫ثنائية التقابل ‪ ،‬ومن هنا تصبح مكونات النفس فممي النسممان )قانونما ً عاممًا(‬
‫يستوي لديه كافة البشر‪ .‬أما حين نأتي للروح فإنها ل تنقسممم لنهمما ليسممت‬
‫متولدة في التكوين عن هذه الثنائية الطبيعية ‪ ،‬وإنما )يهبها( اللممه تخصيص ما ً‬
‫وليس تعميما ً لمن يشاء فقط‪:‬‬
‫َ‬ ‫عباده أ َ َ‬ ‫ة بالروح م َ‬
‫ه‬ ‫ن أنذُِروا أن ّ ُ‬ ‫ن ِ َ ِ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫مرِهِ عََلى َ‬ ‫نأ ْ‬‫مَلئ ِك َ َ ِ ّ ِ ِ ْ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ي ُن َّز ُ‬
‫َ‬
‫ه إ ِّل أَنا َفات ّ ُ‬
‫قوِني)‪ - (2‬النحل ‪ /‬ج ‪.14‬‬ ‫َل إ ِل َ َ‬
‫شمماُء(‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فهبة الروح للنسان ترتبط هنا بإرادة إلهية تخصصية )عََلى َ‬
‫فليس بقانون طبيعي عام‪ .‬ثم ربط اللممه ممما بيممن هبممة الممروح وعمالم المممر‬
‫ن‬ ‫مم ْ‬ ‫ة ب ِممالّروِح ِ‬ ‫مَلئ ِك َ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫اللهي – أي ما فوق عالمي الرادة والمشيئة – )ي ُن َّز ُ‬
‫ه(‪.‬‬ ‫َ‬
‫مرِ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫كذلك تتأكد معاني الية المتصلة بالروح في سممورة )النحممل( بممما يممرد‬
‫في آية أخرى في سورة )غافر( حيث يقول الله تعالى‪:‬‬
‫ن‬ ‫ن يَ َ‬ ‫َ‬ ‫ذو ال ْعرش يل ْقي الروح م َ‬ ‫ت ُ‬
‫مم ْ‬ ‫شمماُء ِ‬ ‫مم ْ‬ ‫مرِهِ عَلممى َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ّ َ ِ ْ‬ ‫َ ْ ِ ُ ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫َرِفيعُ الد َّر َ‬
‫م الت ّلِقي)‪ – (15‬غافر ‪ /‬ج ‪.24‬‬ ‫َ‬ ‫عَبادِهِ ل ِي ُن ْذَِر ي َوْ َ‬ ‫ِ‬
‫فهنا نجد أيضا اقترانا في الذكر ما بين الممروح والمممر اللهممي ‪ ،‬وكممون‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الروح إلقاء إلهيا ً عبر الملئكة إلى صفوة وخلصة من البشر وليممس كلهممم‪:‬‬
‫ه(‪.‬‬ ‫عَبادِ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫)عََلى َ‬
‫مع تخصيص إلقاء الروح على من يشاء الله نجد ارتباطا ً آخر وثيقا ً ممما‬
‫بين إلقاء الروح وقيام التكليف بالمهمة الربانية ‪ ،‬نجد هذا الرتباط فمي آيمة‬
‫م‬ ‫)النحل ‪ /‬ى ‪ (2‬حيث يأتي ذكر )أن أنذروا( ‪ ،‬وكذلك يممأتي ذكممر )ل ِي ُن ْمذَِر ي َموْ َ‬
‫الت َّلِقي( في الية من سورة )غافر ‪ /‬ج ‪(15‬؟ فمماقترن إلقمماء الممروح بمهمممة‬
‫م الت َّلقِممي( ‪،‬‬ ‫قوِني( وكذلك بمهمة‪) :‬ل ِي ُن ْمذَِر ي َموْ َ‬ ‫ه إ ِّل أ ََنا َفات ّ ُ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬
‫َ‬
‫ن أنذُِروا أن ّ ُ‬
‫)أ َ َ‬
‫ْ‬
‫فالروح والمهمة الربانية يرتبطان‪.‬‬
‫هنا نعود مباشرة لتوضيح معنى هذا الرتباط إلى الكيفيممة الممتي أجمماب‬
‫بها الله – سبحانه – حين السؤال عن الروح ‪ ،‬ولما شممرحناه حممول إمكانيممة‬
‫أن يذهب الله بالوحي الذي يصل عبر الروح إلى النممبي ‪ ،‬ثممم ل يجممد النممبي‬
‫ر‬
‫ممم ِ‬ ‫نأ ْ‬
‫ل الروح م َ‬
‫ن الّروِح قُ ْ ّ ُ ِ ْ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫بعد ذلك مدخل ً لستعادته وتذكره‪ :‬وَي َ ْ‬
‫حي َْنا إ ِل َْيمم َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ذي أوْ َ‬ ‫ن ِبال ّ ِ‬ ‫شئ َْنا ل َن َذ ْهَب َ ّ‬‫ن ِ‬ ‫ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليًل)‪(85‬وَل َئ ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫َرّبي وَ َ‬
‫كيل)‪ – (86‬السراء ‪ /‬ج ‪.15‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫جد ُ لك ب ِهِ عَلي َْنا وَ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َل ت َ ِ‬ ‫ثُ ّ‬
‫قد استكملنا القول إلى هنا بأن الروح جوهر آحادي غير منقسم خلفا ً‬
‫للنفس التي يحيا بها النسان ‪ ،‬وأن الروح هممي هبممة إلهيممة تممأتي مممن عممالم‬
‫)المر اللهي( فوق مكونات الطبيعة ‪ ،‬وأنها تلقى عبر الملئكممة وبممأمر مممن‬
‫الله )على من يشاء من عباده( ‪ ،‬وأن هذا اللقاء يقرن )بمهمة ربانية(‪.‬‬
‫من هنا تحديدا ً يمكننا أن نفهم كيف خص اللممه آدم بممالروح واصممطفاه‬
‫بها من بيممن البشممر الممذي سممبقوا آدم فممي الوجممود ‪ ،‬وكممانوا يفسممدون فممي‬
‫الرض ويسفكون الدماء‪ .‬فأولئك البشر قد عاشوا بطاقة )النفممس( وقوتهمما‬
‫)الحياتية( ‪ ،‬فليس من الضرورة أن يكون ثمة ارتباط بين الروح والحياة‪.‬‬
‫إن العودة إلى النصوص القرآنية في سممورة )الممتين( والخاصممة بخلممق‬
‫النسان في )أحسن تقويم( ‪ ،‬إنما ترجع لحالممة )كمممال الممروح( الممتي كممانت‬
‫لدم‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ما هي السماء التي علمها الله لدم؟‬

‫فيما أخذه المفسرون عن نصوص التوراة أن )الرب الله قد جبل من‬


‫الرض كل ما بالبرية من حيوانات وكل ما بالسماء من طيور فأحضرها إلى‬
‫آدم ليرى ماذا يدعوها‪ .‬وكل ممما دعمما بممه آدم ذات نفممس حيممة فهممو اسمممها‪.‬‬
‫فدعا آدم بأسماء جميمع البهممائم وطيممور السممماء وجميممع حيوانممات البريممة ‪/‬‬
‫تكوين ‪ /‬الصممحاح الثمماني(‪ .‬ومممن يومهمما رسممخ بأذهممان النمماس أن السممماء‬
‫المعنية هي أسماء البهائم والطيور والشجار‪ ،‬أي أسماء المحسوسات‪.‬‬
‫حين نعود إلى القرآن المكنون لنستنبط منه معنممى )السممم( ودللتممه‬
‫التعريفيممة ‪ ،‬نجممد أن القممرآن يعممرف السممم بوصممفه )حقيقممة المسمممى( ل‬
‫مظهره ‪ ،‬فالسم ينبئ عن معرفة )الذات( في كنهها وجوهرها ‪ ،‬ولهذا ميممز‬
‫الله – سبحانه – بين السم الذي يدعوه به الناس وبين حقيقته ‪ ،‬أي اسمممه‬
‫صممط َب ِْر ل ِعَِبمماد َت ِ ِ‬ ‫َْ‬
‫ه‬ ‫ما َفاعْب ُد ْهُ َوا ْ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫فقال سبحانه‪َ :‬ر ّ‬
‫مّيا)‪ – (65‬مريم ‪ /‬ج ‪ .16‬وما من أحد منا يعلم لله سميا ‪،‬‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫م لَ ُ‬ ‫ل ت َعْل َ ُ‬ ‫هَ ْ‬
‫ولكنا ندعوه بأسمائه الحسنى كالرحمن والرحيم والقدوس والملك ‪ ،‬وهذه‬
‫السماء التي ندعوه بها إنما تعكممس )حممالت فهممم( لصممفاته – المقدسممة –‬
‫وليس لحقيقته المنزهة‪ .‬أي اسمه – سبحانه‪.‬‬
‫يممأتي توضمميح آخممر للتميممز بيممن السممم الممدال علممى الحقيقممة والسممم‬
‫الصوري الدال على الحالمة بالنسمبة لعيسمى بمن مريمم حيمث أسمماه اللمه‬
‫)المسيح( ‪ ،‬تماما ً كمالتمييز القمائم بيمن اسمم )محممد( ومسممى )محممد( ‪،‬‬
‫فأحمد تعكس الحقيقة العينية والقوة الذاتية لخصائص سيدنا محمد الكونية‬
‫التي خصه الله بها ‪ ،‬حيث تأتي قوته الكونية من خلل اسمه أحمد كخليفممة‬
‫عن الله بممالقرآن العظيممم علممى السممبع المثمماني )السممبع سممموات والسممبع‬
‫أرضين( ‪ ،‬ومن هنا اتخذ صممفته كخماتم للنممبيين ‪ ،‬يتممأخر عنهممم فمي الظهممور‬
‫ويتقدم عليهم في المكانة ومرتبة الستخلف الكوني ‪ ،‬ولهذا المعنى أشممار‬
‫إليه الله بوصفه المعاهد في عالم المر من قبل هؤلء النبياء لينصروه بين‬
‫أقوامهم ويبشروا به لحين ظهوره وكان الله شماهدا ً علمى ذلمك العهمد فمي‬
‫عالم المر‪:‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫جمماَءك ْ‬ ‫م َ‬ ‫ممةٍ ث ُم ّ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ب وَ ِ‬‫ن ك ِت َمما ٍ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ممما آت َي ْت ُكم ْ‬ ‫َ‬
‫نل َ‬ ‫ميَثاقَ الن ّب ِّيي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫خذ َ الل ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫م عَل َممى‬ ‫خمذ ْت ُ ْ‬‫م وَأ َ َ‬ ‫ل مصدقٌ ل ِما معك ُم ل َتؤْمنن به ول َتنصمرنه قَمما َ َ َ‬
‫ل أأقَْرْرت ُم ْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ِ ُ ّ ِ ِ َ َْ ُ ُ ّ ُ‬ ‫سو ٌ ُ َ ّ‬ ‫َر ُ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل َفا ْ‬ ‫َ‬
‫ري َقالوا أقَْرْرَنا َقا َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن)‪ – (81‬آل‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫معَك ْ‬ ‫دوا وَأَنا َ‬ ‫شه َ ُ‬ ‫ص ِ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ذ َل ِك ْ‬
‫عمران ‪ /‬ج ‪.3‬‬
‫وكذلك خصه الله بالخلفة الكونية في قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ما إ ِّل ب ِممال َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫ة لت ِي َم ٌ‬ ‫سمماعَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫حقّ وَإ ِ ّ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬
‫ض وَ َ‬ ‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫وَ َ‬
‫سب ًْعا‬ ‫ك َ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا َ‬ ‫م)‪(86‬وَل َ َ‬ ‫خّلقُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫ك هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ل)‪(85‬إ ِ ّ‬ ‫مي َ‬‫ج ِ‬ ‫ح ال ْ َ‬ ‫ف َ‬‫ص ْ‬‫ح ال ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫َفا ْ‬
‫ص َ‬
‫م)‪ – (87‬الحجر ‪ /‬ج ‪.14‬‬ ‫ن ال ْعَ ِ‬
‫ظي َ‬ ‫قْرآ َ‬ ‫مَثاِني َوال ْ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫هنا يكشف الله عن حقيقة سمميدنا )أحمممد( الكونيممة ‪ ،‬إذ يوضممح لممه ممما‬
‫تقوم عليه السبع سموات والسبع أرضين ‪ ،‬أي )الحممق( ولكنممه يطلممب منممه‬
‫)الصفح الجميل( ‪ ،‬فمما كممل النماس يعلممون حقيقمة الحمق )ى ‪ ، (85 /‬ثمم‬
‫يشير إليه بمعرفة الخلق العليم التامة بخصممائص ممما خلممق )ى ‪ ، (86 /‬ثممم‬
‫يذكره بحقيقته كخليفة أوتي السبع المثاني )سبعا ً متقابلت( من السموات‬

‫‪63‬‬
‫والرضين ومعهما القرآن العظيم كوداد لوعي كوني ‪ ،‬يعادل موضوعيا ً هممذا‬
‫البناء الكوني ‪ ،‬ويحمممل منهممج الحممق فممي إدارة هممذا الكممون وقممد سممبق أن‬
‫أوضحنا ذلك في الكتاب الول في هذه السلسلة‪.‬‬
‫حقيقة )أحمد( أكبر مما ظهر بهما بيممن المييممن العممرب ‪ ،‬فالممذي أوتمي‬
‫السبع المثاني والقرآن العظيم لم يسممتخدم قمموته الكونيممة وحقيقممة اسمممه‬
‫لفرض نبوته عبر الخوارق على الميين العرب ‪ ،‬واكتفممى بمقابلممة مشممقات‬
‫)عالم المشيئة( دون خمموارق ‪ ،‬ليثبممت الطممار التمماريخي لشممرعة التخفيممف‬
‫التي تشكل علممة ظهموره وصممدقه ‪ ،‬وليجعلهما أساسما ً لنطلقممة البشمرية‬
‫بكامل الوعي نحممو الظهممور الكلممي للهممدى وديممن الحممق )منهج مًا( للصممحوة‬
‫الروحية القادمة بإذن الله‪.‬‬
‫قد أدرك عيسى بن مريم ‪ ،‬ولكن بحكم قوة اسمه الذاتيممة )المسمميح(‬
‫حقيقة محمد كأحمد ‪ ،‬فلممم يسممتخدم اسممم محمممد ‪ ،‬ولكنممه اسممتخدم اسممم‬
‫)أحمد( تأكيدا ً لمكانته الكونية‪:‬‬
‫م‬ ‫ل الّلمهِ إ ِل َي ْ ُ‬
‫كم ْ‬ ‫سمو ُ‬ ‫ل إ ِن ّممي َر ُ‬‫سمَراِئي َ‬ ‫م َيماب َِني إ ِ ْ‬ ‫مْرَيم َ‬‫ن َ‬ ‫سممى اْبم ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ل ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقما َ‬
‫ْ‬
‫ه‬
‫م ُ‬ ‫سم ُ‬ ‫دي ا ْ‬ ‫ن ب َعْم ِ‬
‫مم ْ‬‫ل ي َمأِتي ِ‬ ‫سممو ٍ‬‫شمًرا ب َِر ُ‬ ‫مب َ ّ‬‫ن الت ّموَْراةِ وَ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َد َيّ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫ت َقالوا هَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‪ – (6‬الصف ‪ /‬ج ‪.28‬‬ ‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬ ‫س ْ‬
‫ذا ِ‬ ‫م ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫مد ُ فَل ّ‬‫ح َ‬‫أ ْ‬
‫فعيسى إذ يقمموم بممالخوارق لدرجممة إحيمماء الممموتى اتسمماقا ً مممع اسمممه‬
‫)المسيح( ‪ ،‬كان عليه أن يبشر بمن هو أقوى منه فنطق المسمى الحقيقي‬
‫لمحمد وهو )أحمد( ‪ ،‬وهذا باب يحتاج لدراسة خاصة‪.‬‬
‫فليس الرتباط هنا بين )اسمه( و )أحمد( من مجريات اللسان العادية‬
‫فممي الشممارة ‪ ،‬وإنممما هممي مممن بمماب التممدقيق فممي الكشممف عممن )حقيقممة‬
‫المسمى( ومكانته الكونية‪.‬‬
‫ثم إن عيسى لم يكن لينطق اسم أحمد مستدل ً على مكانته الكونية ‪،‬‬
‫لول أن عيسى كان ناطقا ً منذ مهده وعابدا ً منذ نشأته وآتي ما ً بممالخوارق مممن‬
‫خلل اسمه الحقيقي هو نفسه ‪ ،‬أي )المسيح( ‪ ،‬فذاك السم يحمل حقيقته‬
‫الكونية ‪ ،‬فاستدل عيسى )المسيح( على أحمد بما للمسيح من قوة السممم‬
‫وإدراكه لحيوية المعاني المرتبطة بهذا السممم الكمموني‪ .‬وقممد تنبممه المسمميح‬
‫لوضعه الذاتي جيدا ً حين أجريت على يده خوارق المعجزات كإحياء الموتى‬
‫‪ ،‬فعمد إلى تنبيه الناس بأن ما يأتي به هو )آيممة مممن عنممد الممه( وليممس مممن‬
‫ل‬‫سَراِئي َ‬ ‫سوًل إ َِلى ب َِني إ ِ ْ‬ ‫تلقاء ذاته دفعا ً لستهواءات الشرك في النفوس‪ :‬وََر ُ‬
‫ر)‪- (49‬‬ ‫ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الطي ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خل ُقُ ل َك ُ ْ‬‫م أ َّني أ َ ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِبآي َةٍ ِ‬ ‫جئ ْت ُك ُ ْ‬
‫أّني قَد ْ ِ‬
‫َ‬
‫آل عمران ‪ /‬ج ‪.3‬‬
‫فاستخدم المسيح هنا كلمة )أني أخلق لكم( ‪ ،‬ولكنه كان قد ردها في‬
‫مبتدأ الية إلى الله )أني قد جئتكم بآية من ربكم( إغلقا ً لباب الشرك‪.‬‬
‫إن هذه المعاني توضح أن الله يدخر للنسان اسما ً حقيقيا ً بقوة كونية‬
‫ل يحلم بها النسان عادة ‪ ،‬فالحياة ليست في غايتهمما وهممدفها كممما ينظرهمما‬
‫الناس اليمموم ‪ ،‬مجممرد أكممل وشممرب ونمموم ولممذة ‪ ،‬إنهمما كممبيرة بقممدر )اسممم‬
‫النسان الحقيقي( ‪ ،‬أم الذين يعرفهم الله على حقائق أسمائهم في الحياة‬
‫الدنيا فهم قلة ومنهم )أحمد( و )المسمميح( و )يحيممى( و )إليمماس( ‪ ،‬غيممر أن‬
‫قلة من الناس يدركون حقائق هذه السماء ‪ ،‬وما كنت لتي بهذا الشرح إل‬
‫لنه ملزم كمقدمة ضرورية لمعرفة السماء الممتي تعلمهمما آدم بمعممزل عممن‬

‫‪64‬‬
‫الرث التمموراتي المضممل ‪ ،‬والممتراث البشممري الممذي جنممح نحممو الخرافممة‬
‫والسطورية فعين تلك السماء بأنها أسماء الطيور والبهائم ‪ ،‬فممي حيممن أن‬
‫الملئكة كانت تعلم بأسماء الطيور والبهائم وتعلم كممثيرا ً فمموق ذلممك ‪ ،‬فلممم‬
‫تكن تنتظر أن يأتي آدم أو أحمد ممن البشمر ليقمول بمأن همذا الطيمر اسممه‬
‫غراب‪ .‬وقد أشارت في محاوراتها لله إلى اسم الرض والدم وغير‪.‬‬
‫كانت السماء التي تلقاها آدم على صلة بالوضع الذي أصبح عليه مممن‬
‫بعد نفخ الممروح فيممه ‪ ،‬وقتهمما حممدث الصممطفاء لدم مممن بيممن بشممر ‪ ،‬كممانوا‬
‫ل‬ ‫حما َوآ َ‬ ‫م وَُنو ً‬ ‫فى آد َ َ‬ ‫صمط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الّلم َ‬ ‫يفسدون فمي الرض ويسمفكون المدماء‪ .‬إ ِ ّ‬
‫ن)‪ – (33‬آل عمران ‪ /‬ج ‪.3‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َوآ َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫فبممموجب الصممطفاء هنمما كممان علممى أن يتجمماوز المسمملكية الخلقيممة‬
‫والعقلية لولئك البشممر المفسممدين الممذين اصممطفاه اللممه مممن بينهممم‪ .‬وأول‬
‫مظاهر الفساد الستجابة البهيمية الغريزية للشممهوة الجنسممية الممتي تفممرغ‬
‫ت‬ ‫كيفما كان ‪ ،‬فجاء منطق تحريم العلقة الباحيممة‪ .‬وقُل ْنمما يمماآدم اس مك ُ َ‬
‫ن أن ْم َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ‬
‫ة)‪ – (35‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫وََزوْ ُ‬
‫فهنا انتقلت العلقة الغريزية بالمقابممل النثمموي كمجممرد كممائن عضمموي‬
‫لشباع الحاجة ‪ ،‬قد أصبحت هذه النثى )زوجة( ‪ ،‬وهذا هو )السمم( الجديمد‬
‫الممذي لممم يكممن معروفمما ً لممدى أولئك الممذين كممانوا يفسممدون فممي الرض‬
‫ويسفكون الدماء‪ .‬والملئكة ل تتزوج لتعرف خصائص هذا السممم ‪ ،‬فكممانت‬
‫البدايممة أن يتكافممأ الصممطفاء الدمممي مممع موجبممات الممروح المتعاليممة علممى‬
‫الغريزة البهيمية ‪ ،‬فحوصرت دائرة الشهوات الطبيعية ‪ ،‬لن الممروح تتعممالى‬
‫بالنسان عن كونه مجرد كائن مادي ‪ ،‬ولهذا ربط الله – سممبحانه – ممما بيممن‬
‫الهبوط والتحذير من الفاحشة‪:‬‬
‫مَتماعٌ إ َِلمى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قّر وَ َ‬ ‫سمت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفمي الْر ِ‬ ‫ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫طوا ب َعْ ُ‬ ‫ل اهْب ِ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫م قَ مد ْ‬ ‫ن)‪(25‬ي َمماب َِني آد َ َ‬ ‫جممو َ‬ ‫خَر ُ‬ ‫من َْها ت ُ ْ‬ ‫ن وَ ِ‬ ‫موُتو َ‬ ‫ن وَِفيَها ت َ ُ‬ ‫حي َوْ َ‬ ‫ل ِفيَها ت َ ْ‬ ‫ن)‪َ(24‬قا َ‬ ‫حي ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ممم ْ‬ ‫خي ٌْر ذ َل ِك ِ‬ ‫وى ذ َل ِك َ‬ ‫ق َ‬ ‫س الت ّ ْ‬ ‫شا وَل َِبا ُ‬ ‫م وَِري ً‬ ‫وآت ِك ْ‬ ‫س ْ‬ ‫واِري َ‬ ‫سا ي ُ َ‬ ‫م ل َِبا ً‬ ‫أنَزلَنا عَلي ْك ْ‬
‫ج‬ ‫خمَر َ‬ ‫ممما أ َ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شمي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فت ِن َن ّك ُم ْ‬ ‫م َل ي َ ْ‬ ‫ن)‪َ (26‬يماب َِني آد َ َ‬ ‫م ي َمذ ّك ُّرو َ‬ ‫ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫آَيا ِ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م هُوَ وَقِبيل م ُ‬ ‫ه ي ََراك ْ‬ ‫ما إ ِن ّ ُ‬ ‫وآت ِهِ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ما ل ِي ُرِي َهُ َ‬ ‫سه ُ َ‬ ‫ما ل َِبا َ‬ ‫جن ّةِ َينزِعُ عَن ْهُ َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫أب َوَي ْك ْ‬
‫شمياطي َ‬
‫ذا‬ ‫ن)‪(27‬وَإ ِ َ‬ ‫من ُممو َ‬ ‫ن َل ي ُؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ن أوْل ِي َمماَء ل ِل ّم ِ‬ ‫جعَل ْن َمما ال ّ َ ِ َ‬ ‫م إ ِن ّمما َ‬ ‫ث َل ت ََروْن َهُ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مَرَنما ب َِهما ُقم ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مُر‬ ‫ه ل َيمأ ُ‬ ‫ن اللم َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫هأ َ‬ ‫جد َْنا عَلي َْها آَباَءَنا َواللم ُ‬ ‫ة َقالوا وَ َ‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬ ‫فَعَلوا َفا ِ‬
‫ط‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن)‪ (28‬قُم ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫سم ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ممَر َرب ّممي ِبال ِ‬ ‫لأ َ‬ ‫مممو َ‬ ‫ممما ل ت َعْل ُ‬ ‫ن عَلممى اللمهِ َ‬ ‫قولو َ‬ ‫شاِء أت َ ُ‬ ‫ف ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫مما ب َمد َأك ُ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه الم ّ‬ ‫ن َلم ُ‬ ‫صممي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جدٍ َواد ْعُمموهُ ُ‬ ‫سم ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫موا وُ ُ‬ ‫وَأِقي ُ‬
‫ن)‪ – (29‬العراف ‪ /‬ج ‪.8‬‬ ‫دو َ‬ ‫ت َُعو ُ‬
‫أن تتخذ النثى اسم )زوجة( فهذا يعني أن يتخممذ الممذكر اسممم )الب( ‪،‬‬
‫وأن يتخذ النسل اسم )الولد( ‪ ،‬ثم تتفرع )السماء( إلى )أخممت( وإلمى )أخ(‬
‫وإلى )خالة( وإلى )عمة( ‪ ،‬فتصاغ كلها في دائرة )التحريممم( علممى النسممان‬
‫عبر التوالد الرأسي أو المصاهرة الفقية‪:‬‬
‫ة‬‫شم ً‬ ‫ح َ‬ ‫ن َفا ِ‬ ‫كما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ف إ ِّنم ُ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما قَد ْ َ‬ ‫ساِء إ ِّل َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ح آَباؤُك ُ ْ‬ ‫ما ن َك َ َ‬ ‫حوا َ‬ ‫وََل َتنك ِ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫مممات ُك ُ ْ‬ ‫م وَعَ ّ‬ ‫وات ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬‫م وَأ َ‬ ‫م وَب ََنات ُك ُ ْ‬ ‫مَهات ُك ُ ْ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫سِبيًل)‪ُ (22‬‬ ‫ساَء َ‬ ‫قًتا وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫وات ُك ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م وَأ َ‬ ‫ضعْن َك ْ‬ ‫م اللِتي أْر َ‬ ‫مَهات ُك ْ‬ ‫ت وَأ ّ‬ ‫خ ِ‬ ‫ت ال ْ‬ ‫ت الِخ وَب ََنا ُ‬ ‫م وَب ََنا ُ‬ ‫خالت ُك ْ‬ ‫وَ َ‬
‫م اللِتممي‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سائ ِك ْ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جورِك ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫م اللِتي ِفي ُ‬ ‫م وََرَبائ ِب ُك ْ‬ ‫سائ ِك ْ‬ ‫ت نِ َ‬ ‫مَها ُ‬ ‫ضاعَةِ وَأ ّ‬ ‫الّر َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال م ِ‬ ‫ُ‬
‫ل أب َْنائ ِك ْ‬ ‫ح لئ ِ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ُ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫ن فَل ُ‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خلت ُ ْ‬ ‫م ت َكوُنوا د َ َ‬ ‫ُ‬ ‫نل ْ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬ ‫دَ َ‬

‫‪65‬‬
‫ن اْل ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬
‫فمموًرا‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫ه ك َمما َ‬ ‫ن الل ّم َ‬ ‫ف إِ ّ‬ ‫س مل َ َ‬ ‫ما قَد ْ َ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫خت َي ْ ِ‬ ‫مُعوا ب َي ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫صَلب ِك ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫ما)‪ – (23‬النساء ‪ /‬ج ‪.4‬‬ ‫حي ً‬ ‫َر ِ‬
‫إنها السماء )كلها( ‪ ،‬فالعلم بها هنا علم معين ‪ ،‬فلو كانت أسماء حجر‬
‫وبحر وشجر لما تميز بها آدم عن علم الملئكة ‪ ،‬ولما ذكر اللممه أن آدم قممد‬
‫تعلم أسماء كل ما في الكون )كلها( ‪ ،‬فهنا تحديد وحصر وليس إطلقا ً كممما‬
‫يتبادر إلى الذهن مممن الوهلممة الولممى ‪ ،‬بممل إن آدم ليممس بحاجممة لن يعلممم‬
‫أسماء كافممة الموجممودات كلهمما إن كممان مغممزى )كلهمما( يتجممه للمتعيممن مممن‬
‫الشياء‪ .‬أي ما هي حاجته لن يعلم أسممماء ديممدان الرض وصممنوف الطيممور‬
‫المختلفة؟ ثم إن الله قد ربط ما بيممن التعلممم اللزم لتنميممة حركيممة الممدماغ‬
‫البشري وبين موجودات الكون ‪ ،‬فدون هممذه الحركيممة ل تصممبح ثمممة حاجممة‬
‫للعقل ‪ ،‬ول للتمارين الذهنية التي يكتسبها ويتطور مممن خللهمما عممبر تعلقممه‬
‫بالكشف عن خصائص ما هو موجممود فممي الكممون ‪ ،‬لهممذا أمممر اللممه المييممن‬
‫العرب باتخاذ المممداخل العقليممة القويمممة لكتشمماف الكمون والتعممرف علمى‬
‫ي‬‫ل ه ِم َ‬ ‫ن اْل َهِل ّةِ قُم ْ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫الهلة عوضا ً عن تفسيره هو – سبحانه – لها‪ :‬ي َ ْ‬
‫ن ظ ُُهورِهَمما)‪– (189‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مم ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ت َمأُتوا ال ْب ُي ُممو َ‬‫س ال ْب ِّر ب ِأ ْ‬ ‫ج وَل َي ْ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫واِقي ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫البقرة ‪ /‬ج ‪.2‬‬
‫قد تعلم آدم السماء التي ترتبط بخصائصه السلوكية والعقلية من بعد‬
‫اصطفائه بالنفممخ الروحممي ‪ ،‬وهممي السممماء الممتي فممارق بهمما سممنة الطبيعممة‬
‫البهيمية في علقاته مممع زوجممه وولممده ‪ ،‬إذ امتممد )التحريممم( ليشممل هممؤلء‬
‫جميعا ً ‪ ،‬وحتى يوضح الله تعيينا ً هذه السماء التي أشير إليها ‪ ،‬فقد أتى الله‬
‫في الية المقصودة بصيغة الشممارة إلممى )المسممميات( الممتي يطلممق عليهمما‬
‫مَلئ ِك َ ِ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫م عََلى ال ْ َ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫م عََر َ‬ ‫ماَء ك ُل َّها ث ُ ّ‬ ‫م اْل ْ‬
‫س َ‬ ‫م آد َ َ‬ ‫السم ‪ ،‬وذلك ليعرفها لنا‪ :‬وَعَل ّ َ‬
‫َ‬ ‫قمما َ َ‬
‫م‬ ‫ن ُ‬
‫كنت ُم ْ‬ ‫ماِء هَ مؤَُلء )والشممارة هنمما إلممى المسممميات( إ ِ ْ‬ ‫سم َ‬ ‫ل أن ْب ُِئون ِممي ب ِأ ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬
‫م)‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت ال ْعَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫مت ََنا إ ِن ّ َ‬ ‫ما عَل ّ ْ‬‫م ل ََنا إ ِّل َ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ك َل ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ن)‪َ(31‬قاُلوا ُ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مائ ِهِ ْ‬ ‫سم َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫ممما أن ْب َمأهُ ْ‬ ‫م )وليممس بأسمممائها( فل ّ‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫سم َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫م أن ْب ِئهُ ْ‬ ‫‪(32‬قال َياآد َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م أ َقُ ْ‬ ‫َقا َ َ‬
‫ممما‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ممما ت ُب ْم ُ‬ ‫م َ‬ ‫ض وَأعْل ُ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ب ال ّ‬ ‫َ‬
‫م غي ْ َ‬ ‫م إ ِّني أعْل ُ‬ ‫ُ‬
‫ل لك ْ‬ ‫ل أل َ ْ‬
‫ن)‪ – (33‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫فغيممب السممموات والرض بممما يعنممي مسممتقبلية الزمممان قممد اتجممه‬
‫لستخلص إنسان الروح الذي يسمو على علقات الطبيعة الغريزية ‪ ،‬حيث‬
‫تتحول النثى إلى اسم محرم هو )الزوجة( وحيممث ل ينبغمي للب أن يكممون‬
‫على علقة بأنثى يلدها هي )ابنته(‪ .‬فالسماء )كلها( في الصل )ثلث( هممي‬
‫)الب – الم – الولد( ‪ ،‬وتتفرع منها باقي السماء )نسبا ً وصهرًا( في حممدود‬
‫ما حرم الله‪.‬‬
‫ما بيننا وبين عالمية الميين‬
‫ليس من حقنا وليس مممن أدبنمما أن نسممتجهل تممراث مرحلممة المييممن ‪،‬‬
‫ولكن من حقنا بل ومن واجبنا أن نستكشف السباب التي أحاطت بكيفيممة‬
‫تفسيرهم لهذه النصوص القرآنية ‪ ،‬فالمعالجممة هنمما تتجممه لمعرفممة مركبممات‬
‫ذهنية تلك المرحلة وشروط وعيها التمماريخي كيفمما أسممقطت ذلمك المموعي‬
‫على نصوص التنزيممل ‪ ،‬ممع اسممتدراك كامممل إلمى غلبممة الممتراث التفسمميري‬
‫)التوراتي( في صياغة وتشكيل رؤية الميين لهذه النصوص بحكممم مرجعيممة‬
‫اليهود الوحيدة في تلك المرحلة إزاء هذه الموضوعات‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫مع أنهم ل يفقهون شيئا ً عن حقائق التنزيل‬
‫َ‬ ‫ومنه ُ‬
‫ل‬ ‫ن)‪(78‬فَوَي ْ ٌ‬ ‫م إ ِّل ي َظ ُّنو َ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ي وَإ ِ ْ‬ ‫مان ِ ّ‬ ‫ب إ ِّل أ َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن َل ي َعْل َ ُ‬ ‫مّيو َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫َ ِ ُْ ْ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مًنمما‬ ‫شت َُروا ِبممهِ ث َ َ‬ ‫عن ْدِ اللهِ ل ِي َ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫قولو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ب ب ِأي ْ ِ‬ ‫ن الك َِتا َ‬ ‫ن ي َك ْت ُُبو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن)‪ – (79‬البقرة ‪/‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫م وَوَي ْ ٌ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما ك َت َب َ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫قَِليًل فَوَي ْ ٌ‬
‫ج ‪.1‬‬
‫وصف الله بعض اليهود بالميين مع أنهم من الكتابيين ‪ ،‬وذلك ليوضممح‬
‫أن علقتهم بالتوراة إنما هي علقة وراثية ووهمية وليست حقيقية ‪ ،‬وأوضح‬
‫ذلك بأنهم ل يعلمون الكتاب إل أماني ‪ ،‬أي تخيلت وتوهمات وظنا ً ‪،‬فهؤلء‬
‫شكلوا بجهلهم مصدرا ً من مصادر استلهاماتنا لبعممض ممما يممرد فممي نصمموص‬
‫كتابنا الكريم‪ .‬كما أن دسهم علينا مقصود ومتعمد بغير دافع الجهل المحض‬
‫‪ ،‬فهم فيما يرجعوننا إليه من نصوص توراتهم المحرفة ‪ ،‬إنما يرجعوننا إلممى‬
‫َ‬
‫م‬ ‫م ُثمم ّ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ب ب ِأْيمم ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫ن ي َك ْت ُُبو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬ ‫ل‪) :‬فَوَي ْ ٌ‬ ‫ما كتبوه هم بأيديهم زيغا ً وضل ً‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْم ِ‬ ‫ما ك َت َب َم ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫مًنا قَِليًل فَوَي ْ ٌ‬ ‫شت َُروا ب ِهِ ث َ َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ ل ِي َ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫ْ‬
‫ما ي َك ِ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ل له ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫وَوَي ْ ٌ‬
‫عقل اليهود ما جاء بالكتماب ‪ ،‬وعلمموه ‪ ،‬ثممم بعمد ذلممك حرفمموه معنممى‬
‫وليس لفظا ً حين دسوا على المسلمين هذه التراثيات الجاهلة‪:‬‬
‫أ َفَتط ْمعو َ‬
‫م‬‫م الل ّهِ ث ُم ّ‬ ‫ن ك ََل َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫س َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ريقٌ ِ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫م وَقَد ْ َ‬ ‫مُنوا ل َك ُ ْ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ن)‪ – (75‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫م ي َعْل ُ‬ ‫قلوهُ وَهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫حّرُفون َ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫ضرورة القطيعة مع الرث اليهودي في الدين‬
‫قد يستغرب كثيرون حين أضع عنوانما ً فرعيما ً بهممذا المعنممى ‪ ،‬فممالتوهم‬
‫السائد أن القرآن بوصفه )مصدقًا( للتوراة إنما يلزمنمما بالخممذ عممن التمموراة‬
‫وعممن اليهممود الممذين يعلمممون بهمما ‪ ،‬والممذين سممبقونا باليمممان‪ .‬إن مقولممة‬
‫)التصديق( هذه قد فهمت على نحو مضل أوقع الكثير منا في غفلممة الخممذ‬
‫ما‬ ‫عن اليهود دون يقظة كاملة وتفهم لما حذرنا الله منه تجاه هؤلء القوم‪َ :‬‬
‫شركي َ‬ ‫فروا م َ‬
‫ر‬
‫خي ْم ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُم ْ‬ ‫ن ي ُن َمّز َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ ِ ِ َ‬ ‫ب وََل ال ْ ُ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي َوَد ّ ال ّ ِ‬
‫م)‪– (105‬‬ ‫ظيمم ِ‬ ‫ل ال ْعَ ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ذو ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫مت ِهِ َ‬ ‫ح َ‬‫ص ب َِر ْ‬ ‫خت َ ّ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬
‫فهذه إشارة تحذيرية واضحة ‪ ،‬علم ما بممأن اليممات الممتي أوردناهمما قبممل‬ ‫ً‬
‫قليل تشير صراحة إلى معرفتهم لحقيقة القممرآن ‪ ،‬وعلمممات ظهممور النممبي‬
‫المممي القممائم علممى شممرعة التخفيممف ‪ ،‬ومحمماولتهم المضممادة للكفممر بممه‬
‫وبرسالته )العالمية( بل وتزييف معانيها‪ .‬إضافة إلى جهلهم وقول الله عنهم‬
‫‪ ،‬إنهم أميون ل يعلمون الكتاب إل أماني وإن هم إل يظنون‪.‬‬
‫إن التصديق ل يعني )الخذ( عنهم ول عن التوراة نفسها ‪ ،‬وإنما يعنممي‬
‫)القرار( بصحة نزولها من عند الله ‪ ،‬وبصحة أن يكون موسى مرسممل ً مممن‬
‫عند الله ‪ ،‬أما الخذ عن التوراة فقد أمرنا بالمتناع عنه بنص الية الناسممخة‬
‫والتي تأتي مباشرة بعممد آيممة تحممذيرنا مممن اليهممود‪)) :‬ممما ننسممخ مممن آيممة أو‬
‫ننسها(( أي آية المرحلة اليهودية الحسية القبلية بمما فيهمما ممن تمموطن فممي‬
‫الرض المقدسة ‪ ،‬وشرائع حسية‪)) :‬نأتي بخير منها أو مثلهمما(( والخيممر مممن‬
‫آية اليهودية هو السلم العالمي غير القبلي حصرا ً ‪ ،‬والمستند إلى الخممروج‬
‫ن‬ ‫مم ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫سم ْ‬ ‫ما َنن َ‬ ‫جهادا ً في سبيل الله وليس التوطين ‪ ،‬مع الشرعة المخففة‪َ :‬‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫خير منها أ َو مث ْل ِها أ َل َم تعل َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ديٌر)‬ ‫يٍء َقمم ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ َْ ْ‬ ‫ت بِ َ ْ ٍ ِ ْ َ ْ ِ َ‬ ‫سَها ن َأ ِ‬ ‫آي َةٍ أوْ ُنن ِ‬

‫‪67‬‬
‫َْ‬ ‫‪(106‬أ َل َم تعل َ َ‬
‫ن الل ّمهِ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬‫مما ل َك ُم ْ‬ ‫ض وَ َ‬‫ت ََوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ك ال ّ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ َْ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سمى‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫سمئ ِ َ‬‫مما ُ‬ ‫َ‬
‫مك َ‬ ‫ُ‬
‫سمولك ْ‬ ‫سألوا َر ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬‫ري ُ‬ ‫م تُ ِ‬‫ر)‪(107‬أ ْ‬ ‫صي ٍ‬ ‫ي وََل ن َ ِ‬ ‫ن وَل ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ل)‪ (108‬وَد ّ كِثي مٌر‬ ‫س مِبي ِ‬ ‫واَء ال ّ‬ ‫س َ‬‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬‫لي َ‬ ‫ْ‬
‫فَر ِبا ِ‬ ‫ُ‬
‫ل الك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ن ي َت َب َد ّ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سممهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ْدِ أن ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫س ً‬ ‫ح َ‬ ‫فاًرا َ‬ ‫مك ّ‬ ‫مان ِك ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ِإي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دون َك ْ‬ ‫ب لوْ ي َُر ّ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫حقّ َفاعْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن اللم َ‬ ‫مرِهِ إ ِ ّ‬ ‫ه ب ِمأ ْ‬‫ي اللم ُ‬ ‫حّتى ي َمأت ِ َ‬ ‫حوا َ‬ ‫ف ُ‬‫ص َ‬‫فوا َوا ْ‬ ‫م ال َ‬ ‫ن لهُ ْ‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ديٌر)‪ – (109‬البقرة ‪ /‬ج ‪.1‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫قد قدمنا المسألة الدمية كنموذج تطبيقي لما يكون عليه فارق الفهم‬
‫من نفس نصوص القرآن فيما إذا استخدمنا المنهج التحليلي الجدلي القائم‬
‫علمى معرفيمة القمرآن عوضما ً عمن اسمتخدام النهمج التفسميري الظماهراتي‬
‫القائم على أيديولوجية ذهنية تنظر إلى الشممياء فمي تمايزهما واسمتقلليتها‪.‬‬
‫فنحن لم نحدث في معاني القرآن جديدا ً ‪ ،‬وإنما كشفنا عما هو في القرآن‬
‫باستخدام أسلوب في المعرفممة والدراك يختلممف عممن ذلممك الممذي أخممذ بممه‬
‫القرآن من قبل‪ .‬غير أننا نتوقف هنا لدى مسألة هامة ل بد من توضيحها‪.‬‬
‫هل نخضع القرآن للغة العصر؟‬
‫كثيرون يحاولون فعل ً ما يسمى )بعصرنة( القرآن والدين ‪ ،‬هممؤلء ‪ ،‬إذ‬
‫تقممض مضمماجعهم الجفمموة القائمممة بيممن الممدين والفكممر المعاصممر ‪ ،‬فإنممما‬
‫يحاولون )عصرنة( الدين بشكل ساذج يدعو إلى الشفقة ‪ ،‬فهممم – وعوضمما ً‬
‫عن محاولة اكتشاف منهج المعرفة فممي القممرآن نفسممه – يجتهممدون لجعممل‬
‫آيات القرآن في حالة رضوخ لما يكون فممي أذهممانهم علممى ضمموء معطيممات‬
‫ثقافتهم المعاصرة ‪ ،‬بل إنهم يبحثون عن تممدقيق لمعلومممة علميممة تطبيقيممة‬
‫معينة داخل القرآن ‪ ،‬متناسين قول الله )وأتمموا الممبيوت مممن أبوابهمما( دفع ما ً‬
‫للذين سألوا عن الهلة‪.‬‬
‫إن الهدف الذي يتسق مع المانة العلمية وصدق المؤمن ل يكمن في‬
‫تصديق القرآن بمعطيات العصر الراهن العلميممة ‪ ،‬وإنمما يكممن فمي إعمادة‬
‫اكتشمماف القممرآن نفسممه علممى ضمموء ممما فممي العصممر مممن مناهممج معرفيممة‬
‫متقدمة ‪ ،‬تستند إلى النظر في كلية الموضمموع ووحممدته العضمموية كمقدمممة‬
‫لكتشاف )النظام الفكممري( ‪ ،‬الممذي يربممط بيممن آيمماته أو ظممواهره ‪ ،‬ووقتهمما‬
‫يتحدث القرآن عن نفسه ليهيمممن هممو – أي القممرآن – علممى العصممر وعلممى‬
‫مناهجه‪.‬‬
‫قد رأينا حين أعدنا اكتشاف المسألة الدمية من داخل القرآن وعبر وحمدته‬
‫العضوية‪:‬‬
‫ل‪ :‬كيف أن الروح هي قوة متعالية على مركبات الطبيعة ‪ ،‬وأنهمما تمموهب‬ ‫أو ً‬
‫ً‬
‫عبر المر اللهي لمن يشاء مممن البشممر ارتباطما بمهمممة ربانيممة معينممة‬
‫غالبا ً هي تعليم النسان‪ .‬وأوضحنا في المقابل أن )النفس( هي مصدر‬
‫الطاقممة )الحياتيممة( وأن خروجهمما مممن أبممداننا العضمموية يعنممي الممموت‪.‬‬
‫فممالروح غيممر النفممس ‪ ،‬وهممذه معلومممة ليسممت موجممودة فممي الكتممب‬
‫العصرية‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬إن آدم ليس أول البشر وإنما هو المصطفى بالنبوة والعلممم والممروح‬
‫من بينهم ‪ ،‬وأن خلق البشر قد اتخذ مراحممل فممي التشمميؤ والتكمموين ‪،‬‬
‫تمتد إلممى ممما قبممل آدم بزمممن طويممل‪ .‬غيممر أن هممذا القممول ل يربطنمما‬
‫بحتمية النظرية )الداروينية( في كيفية النشوء المتصل بالقرد ‪ ،‬فآيات‬

‫‪68‬‬
‫القرآن التي ذكرناها تربط بيممن ميلد النسممان التطمموري وكافممة صممور‬
‫النعممام المختلفممة ‪ ،‬باعتبممار أن النسممان قممد ركممب مممن هممذه الصممور‬
‫المختلفة عبر تقلبه فيها حتى استوى )نفسا ً عقلنيًا( واحدة جعل منهمما‬
‫زوجها وبث الله منها رجال ً كثيرا ً ونساء‪ .‬فالمنطق الدارويني هو الكثر‬
‫تخلفا ً في هذا التحديد العلمي مما يعطيه لنا القرآن‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬إن مفهوم )السماء( التي تعلمها آدم قد تحددت قرآنيا ً بتحول صممفة‬
‫البشر من مجرد كائنات عضوية بايولوجية‪ ،‬ذكممر وأنممثى ‪ ،‬إلممى كائنممات‬
‫تتمتع بصممفة )التحريممم( الممتي تفممرض تقممديرات خاصممة فممي العلقممات‬
‫بينها ‪ ،‬وذلك ارتباطا ً بمقام الروح وقيمها المتجمماوزة للسمملوك العقلممي‬
‫والخلقي البهيمي‪ .‬فالرتباط بمقممام الممروح يسممتوجب الرتقمماء فمموق‬
‫السلوك الغريزي البهيمي ‪ ،‬ومن هنمما تصممبح النممثى زوجممة فممي نفممس‬
‫الوقت الذي يصبح فيه الذكر أبا ً والمولود أو المولممودة ابنمًا‪ .‬هنمما تتخممذ‬
‫السماء )سلطانًا( أي قوة خاصة بها ‪ ،‬وهذا السلطان هو الدللة علممى‬
‫السم الحقيقي العيني وليس مجرد الصممورة الظاهريمة ‪ ،‬ولهمذا سممأل‬
‫الله – سبحانه – عبدة الوثان التي )أسموها( آلهة لهم عن )سمملطان(‬
‫هذه السماء العينيمة ‪ ،‬كيمف يعبمدون إلهما ً للقممر ل يهيممن بقموة همذا‬
‫ة اْل ُ ْ‬ ‫َ َ‬
‫خ مَرى)‬ ‫من َمماةَ الّثال ِث َم َ‬ ‫ت َوال ْعُّزى)‪(19‬وَ َ‬ ‫م الّل َ‬ ‫السم على القمر؟ أفََرأي ْت ُ ْ‬
‫ي إ ِّل‬ ‫ك إِ ً‬ ‫لنَثى)‪(21‬ت ِل ْ َ‬ ‫‪(20‬أ َل َك ُم الذ ّك َر ول َه ا ْ ُ‬
‫ن هِ م َ‬ ‫ضمميَزى)‪(22‬إ ِ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ٌ‬ ‫سم َ‬ ‫ذا قِ ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ها أ َنتم وآباؤُك ُم ما َ‬ ‫َ‬
‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫طا‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ْ ُ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ها‬ ‫ُ َِ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مو‬ ‫ماٌء َ ّ ُ‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫س َ‬‫أ ْ‬
‫دى)‪- (23‬‬ ‫م ال ْهُم َ‬ ‫ن َرب ّهِم ْ‬ ‫مم ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جمماءَهُ ْ‬ ‫قمد ْ َ‬ ‫س وَل َ َ‬ ‫فم ُ‬ ‫وى اْل َن ْ ُ‬ ‫مما ت َهْم َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫إ ِّل الظ ّم ّ‬
‫النجم ‪ /‬ج ‪.27‬‬
‫فتلك السماء التي أطلقها الميون العممرب علممى معبمموداتهم لممم تكممن‬
‫تحمل )سملطانًا( فمي حقيقتهما ‪ ،‬وقمد سمأل النبيماء ممن يليهمم نفمس‬
‫َ‬
‫ماءً‬ ‫سم َ‬ ‫دون ِمهِ إ ِّل أ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫السؤال ‪ ،‬ولهذا راجعهم يوسف بقوله‪َ :‬‬
‫م إ ِّل ل ِّلمم ِ‬
‫ه‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫طا ٍ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ب َِها ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنَز َ‬ ‫م َ‬ ‫م َوآَباؤُك ُ ْ‬
‫سميتمو َ َ‬
‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ ّ ُْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫مممو َ‬ ‫س ل ي َعْل ُ‬ ‫ن أكثمَر الن ّمما ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م وَلك ِم ّ‬ ‫قي ّ ُ‬ ‫ن ال َ‬ ‫دي ُ‬ ‫َ‬
‫دوا إ ِل إ ِّياهُ ذ َل ِك ال ّ‬ ‫مَر أّل ت َعْب ُ ُ‬ ‫أ َ‬
‫‪ – (40‬يوسف ‪ /‬ج ‪.12‬‬
‫ولنفس السباب التي تحيط بحرمة السماء كما تعلمهمما آدم مممن اللممه‬
‫منع الله إطلق اسم الم على الزوجة كما منع التبني‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫م ْ ْ‬
‫م اللِئي‬ ‫جك م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل أْزَوا َ‬ ‫جعَم َ‬ ‫ممما َ‬ ‫ج موْفِهِ وَ َ‬ ‫ن فِممي َ‬ ‫ن قَلب َي ْم ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫ه ل َِر ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫وا‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫بم‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫يا‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ها‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫تُ َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ْ ْ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ّ ّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ظاهِ ُ‬
‫ل)‪ – (4‬الحزاب ‪ /‬ج ‪.21‬‬ ‫سِبي َ‬ ‫دي ال ّ‬ ‫حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ليس الدين أساطير الولين والمعرفة القرآنية ملحة للعصر‬
‫لم نطبق نممموذج المعرفممة القرآنيممة علممى المسممألة الدميممة إل لنؤكممد‬
‫خطممل القممول‪ :‬بممأن الممدين ليممس سمموى حامممل لثقممال البشممرية الخرافيممة‬
‫والسطورية ‪ ،‬وأنه مستودع للوهممام الممتي سمماقتها البشممرية أمممام معضمملة‬
‫عدم فهم ماضيها بأسلوب علمي‪ .‬ولكنمما ل ننفممي أن عنمماك دوافممع قممد أدت‬
‫إلى هذا الخطل العقلي ‪ ،‬وأكبرها الكيفية التحريفية والخرافيممة الممتي صمماغ‬
‫بهمما اليهممود القصممص الممديني كممتراث سممبقوا بممه النصممارى ثممم المسمملمين ‪،‬‬
‫فظهرت كافة المعاني التي من شأنها العيب في المعرفة الدينية‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫إن حصرنا علمى توضمميح المعرفممة القرآنيمة بنهممج صمحيح إنمما يعكممس‬
‫حرصنا على مستقبل البشممرية الممتي تعيمش أزماتهما الفكريممة والحضممارية ‪،‬‬
‫متخبطة عبر دروب مختلفممة الفلسممفات دون أن تصممل إلممى حلممول جذريممة‬
‫لمشكلتها ‪ ،‬مع وجود هذه الحلول بشكل واضح في مكنون اليات القرآنيمة‬
‫وفي نهج المعرفة القرآنية‪ .‬ولكن ل يمكممن تحقيممق الرتبمماط بيممن النفمموس‬
‫المتطلعة لهممذه الحلممول الكامنممة فممي القممرآن ‪ ،‬والقممرآن ‪ ،‬إل بإزاحممة تلممك‬
‫السدود المترتبة من خطممل الذهنيممة السممرائيلية الممتي دفعممت بالممدين إلممى‬
‫ملجئ الخرافة والسطورية‪ .‬فالبداية بالنسممبة لنمما ‪ ،‬وكممذلك بالنسممبة لكممل‬
‫البشرية ‪ ،‬أن نعيممد اكتشمماف أثممر الغيممب فممي حركيممة واقعنمما الموضمموعي ‪،‬‬
‫وبالكيفية الملئمة لقوى الدراك النسماني المذي جعلمه اللمه محممول ً علمى‬
‫أوعيممة السمممع والبصممر والفممؤاد‪ .‬وحيممن يتحقممق هممذا التلحممم بيممن الغيممب‬
‫والنسان فإن القرآن سيؤدي وظيفته كقراءة كونية ‪ ،‬مممن شممأنها أن تيسممر‬
‫على النسان فهم وجوده وحل أزماته‪ .‬فليس مقصدنا من إعممادة اكتشمماف‬
‫القرآن المكنون بنهج معرفي ‪ ،‬مجرد إثبات لعجاز القرآن ‪ ،‬والتغنمي بمذلك‬
‫أمام من كان لبائهم فضل اليمان به ‪ ،‬وإنما مقصدنا هممو أن نتعممرف علممى‬
‫القرآن وأن نتعلم منه ‪ ،‬وأن نحاوره ونسأله ‪ ،‬أن نعيش داخله وليممس علممى‬
‫هامشه مكتفين بممما روى عنممه وعمن معممانيه ‪ ،‬ممما يهمنمما هممو نصممه وليسممت‬
‫ظلله‪ .‬ما يهمنا هو أن نحمله عن علم ل كما حمل اليهود التوراة عن جهل‪:‬‬
‫حمممار يحمم ُ َ‬
‫فاًرا‬ ‫سم َ‬
‫لأ ْ‬ ‫ل ال ْ ِ َ ِ َ ْ ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫ها ك َ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ح ِ‬‫م يَ ْ‬ ‫م لَ ْ‬‫مُلوا الت ّوَْراةَ ث ُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن) ‪– (5‬‬ ‫َ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫ْ َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫َْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫يا‬ ‫بآ‬
‫ُ ِ َ‬ ‫بوا‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫م‬‫س َ‬ ‫ب ِئ ْ َ‬
‫ْ ِ‬
‫الجمعة ‪ /‬ج ‪.28‬‬
‫حجتنا فيما نكتشف الوجه الثاني للمثاني‬
‫قد ينبري سائل ليتساءل كيف لنا أن نأتي بمموجه مممن وجمموه المعرفممة‬
‫فممي القممرآن ومممن ذات النممص دون أن يسمممبقنا إليممه أحممد الجلء مممن‬
‫المتقدمين؟ ونحن بدورنا ل ننكر ما للمتقدمين من فضل ومن نممور يسممعى‬
‫بين أيديهم ‪ ،‬ولم نستجهلهم ‪ ،‬ولكنا – نكشممف – بممإذن اللممه – بممما هممو مممن‬
‫متاحات وعي عصرنا ونهجه ‪ ،‬ومن ذات النص وبما يختلف عما قيضممه اللممه‬
‫لهم ‪ ،‬وهنا يكمن سر )أحسممن الحممديث( الممذي ثبممت اللممه نصممه ثممم أكسممبه‬
‫وجهين من وجوه المعرفة تبعا ً لفوارق النهج ما بين عالمية الميين وعالمية‬
‫الظهور الكلي للهدى ودين الحق ‪ ،‬وهكذا قال الله تعالى فممي آيممات سممورة‬
‫)الزمر(‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ض ث ُم ّ‬
‫ه ي َن َمماِبيعَ فِممي الْر ِ‬ ‫س ملك َ ُ‬ ‫ممماًء فَ َ‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ه أن َْز َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م ت ََرى أ ّ‬ ‫أل َ ْ‬
‫ح َ‬ ‫ختل ِ ً َ‬
‫ن فِممي‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫طا ً‬ ‫ه ُ‬ ‫جعَل ُ ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫فّرا ث ُ ّ‬ ‫ص َ‬ ‫م ْ‬ ‫ج فَت ََراهُ ُ‬ ‫م ي َِهي ُ‬‫ه ثُ ّ‬‫وان ُ ُ‬ ‫فا أل ْ َ‬ ‫م ْ َ‬ ‫عا ُ‬ ‫ج ب ِهِ َزْر ً‬ ‫خرِ ُ‬
‫يُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب)‪ – (21‬الزمر ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫ك لذِك َْرى ِلوِْلي اللَبا ِ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫هذه الية تشكل مقدمة هامة ‪ ،‬فماء واحد ‪ ،‬كالنص القرآنممي الواجممد ‪،‬‬
‫يتخلل الرض كما يتخلل النص القرآني وعي النمماس ‪ ،‬ثممم يخممرج بممه زرع ما ً‬
‫مختلفا ً ألوانه ‪ ،‬فالقرآن رحمة كالماء ‪ ،‬وكلهما من السماء يتخلل ما أنممزل‬
‫عليه )الماء‪/‬الرض( – )القرآن ‪ /‬النسان( ‪ ،‬فالقرآن يتخلل النسان فيخممرج‬
‫ألوانا ً مختلفة من المعرفة تماما ً كالماء يتخلل الرض فيخرج ألوانا ً مختلفممة‬
‫من الزرع‪ .‬هذه الية – كما قلنمما – تشممكل مقدمممة أمممر كممبير يممدركه )أولممو‬

‫‪70‬‬
‫اللباب( ‪ ،‬ولهذا تسائل الله – سبحانه – في الية التاليممة عممن قابليممة بعممض‬
‫الناس لنور المعرفة‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫س مي َ ِ‬
‫قا ِ‬ ‫ل ل ِل َ‬‫ن َرب ّمهِ فَوَي ْم ٌ‬ ‫م ْ‬‫سلم ِ فَهُوَ عَلى ُنورٍ ِ‬ ‫صد َْرهُ ل ِل ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ح الل ّ ُ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫أف َ َ‬
‫ن)‪ – (22‬الزمر‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضَل ٍ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫ن ذِك ْرِ الل ّهِ أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قُُلوب ُهُ ْ‬
‫ثم يوضح الله معنى هذه المعرفة التي تنتج عن تخلممل القممرآن لمموعي‬
‫النسان الذي شرح صدره للسلم وعلى نور من ربه‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الل ّه نز َ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫جلممود ُ ال م ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫من ْ ُ‬
‫شعِّر ِ‬ ‫ق َ‬ ‫مَثان ِ َ‬
‫ي تَ ْ‬ ‫شاب ًِها َ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ث ك َِتاًبا ُ‬ ‫دي ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫س َ‬‫ح َ‬‫لأ ْ‬ ‫ُ َّ‬
‫دي‬ ‫دى الل ّمهِ ي َهْ م ِ‬ ‫ك هُ َ‬‫م إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ ذ َل ِ َ‬ ‫م وَقُُلوب ُهُ ْ‬ ‫جُلود ُهُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ت َِلي ُ‬‫م ثُ ّ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫شوْ َ‬ ‫خ َ‬‫يَ ْ‬
‫هاٍد)‪ – (23‬الزمر ‪ /‬ج ‪.23‬‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ضل ِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬ ‫شاُء وَ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِهِ َ‬
‫قد أنزل الله أحسن الحديث قرآن ما ً ‪ ،‬وجعلممه مثمماني متشممابهة بمموجهي‬
‫معرفة مع وحدة النص ‪ ،‬معرفة تؤخذ بذهنية الميين فيما يتجه لهم وعيهممم‬
‫اليديولوجي التاريخي القائم على العقلية الظواهرية والممترابط ممع أسممباب‬
‫النزول الحديثة ‪ ،‬ومعرفة تقابممل تلممك المعرفممة ‪ ،‬أي الثانيممة الممتي تقابلهمما ‪،‬‬
‫مثناها ‪ ،‬كالشمس مثنى القمر ‪ ،‬وكالسموات السبع مثنى الرضين السممبع ‪،‬‬
‫وهذه المعرفة الثانية تؤخذ بذهنية التحليل وليس التفسير ‪ ،‬ويقوم التحليممل‬
‫علممى النظممر إلممى الكتمماب )أحسممن الحممديث( فممي كليتممه ‪ ،‬وعممبر وحممدته‬
‫العضوية ‪ ،‬ومن داخل بنائيته المنهجية‪ .‬وهذه هي معرفتنمما ومعرفممة عصممرنا‬
‫التي أتاحها الله – سبحانه – لنا منذ أن أعاد الرسول الموقر )إعادة ترتيب(‬
‫آيات القرآن‪.‬‬
‫ً‬
‫يكفينا الن أننا قد قدمنا نموذجا تطبيقيا للمعرفة القرآنية الممتي تقابممل‬ ‫ً‬
‫بمثناهمما المموجه التمماريخي الول دون أن ننفممي متعلقممات الزمممن ومتغيممرات‬
‫المكان ‪ ،‬وقممد اتخممذنا ممن المسممألة الدميممة نموذجما ً علممى هممذا النمموع مممن‬
‫المعرفة‪ .‬وبإمكاننا أن نتطرق إلى نماذج تطبيقية أخممرى عديممدة تؤكممد فممي‬
‫النهايممة اسممتيعاب القممرآن وتجمماوزه بممذات المموقت لكافممة مناهممج المعرفممة‬
‫المعاصرة ‪ ،‬ل بهدف إلغائها ‪ ،‬ولكن بهممدف تقويمهمما ثممم توظيفهمما ‪ ،‬معتدلممة‬
‫مستقيمة ضمن دائرة التفاعل بين )الغيب والنسان والطبيعة(‪ .‬فل يحممدث‬
‫)النفصام( المتوهم في ثقافتنمما المعاصممرة بيممن هممذه البعمماد الثلثممة ‪ ،‬كممما‬
‫نستخلص الدين من أسر الخرافة والسطورة ‪ ،‬ليحتل ممموقعه فممي مقدمممة‬
‫وعي النسان وبهدف حل أزماته الحضارية والفكرية‪ .‬ول يمكن تحقيق هممذا‬
‫الجهد بمجرد تكرار القول بصلحية القرآن لكل زمان ومكان ‪ ،‬فممالمهم هممو‬
‫إثبات ذلك مع توضيح أثر الغيب في حركممة التاريممخ البشممري ‪ ،‬لنعلممم كيممف‬
‫يهيئ الله الزمان والمكان لظهور الدين الكلي تماما ً كما هيأ وحممي القممرآن‬
‫لقيادة هذا الظهور الكلي ‪ ،‬فالبعد الغيبي لم يتوقف عن التأثير لدى عالمية‬
‫الميين فقط ‪ ،‬بل هو مستمر بإكمال مشروعه التاريخي للنسانية جمعاء ‪،‬‬
‫وعلينا أن نتابع معرفة ذلك داخل القرآن وداخل حركة الزمان والمكان‪.‬‬
‫‪...‬والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‬

‫‪71‬‬

You might also like