Professional Documents
Culture Documents
حين نتبصممر الحركممة الكونيممة مممن خلل القممرآن ،ويصممعب المممدخل ،
فمشارعه متعددة ومحيطه ل سمماحل لممه .إذ يممتراوح البصممر ممما بيممن اتخمماذ
سبيل قرآني إلى وعي موضوعات محددة ،تطممرح مجممزأة ضمممن محيطهمما
الكلي ،كموضوع القرآن وعلم المعرفة ،أو موضوع القممرآن وعلممم حركممة
التاريخ أو موضوع القرآن والحافز الحضاري ،أو موضوع القممرآن والمناهممج
الفلسفية للعلوم الطبيعية ،أو موضوع القممرآن ومراحممل المعرفممة النوعيممة
عنممد النبيمماء ،وهممي معرفممة توحيديممة تتخممذ أنماطما ً مختلفممة تبعما ً لتشممكلها
التاريخي ،أي مرحلتها التاريخية ،أو موضوع القرآن وعلم المسممتقبل كممما
يعطيه القرآن نفسه ،أو موضوع منهج القرآن في المعرفة .وقد سبق لممي
أن طرحت معالم أولية لهذا الموضوع في دراستي لجدلية الغيب والنسان
والطبيعة في كتاب )العالمية السلمية الثانية(.
الحكمة القرآنية والمعرفة التفصيلية:
رأيت أن استيعاب هذه المواضيع وغيرها عبر القممرآن ،وبدقممة عمليممة
تحليلية ،سيقود في مجمل الطرح إلى اكتشاف الكيفية التي نسممتفتي بهمما
القرآن في حالت الحياة وقضاياها في الماضي والحاضممر والمسممتقبل .أي
أن نصل إلى قواعد وقوانين الفتاء بالقرآن كما يوضحها لنا القرآن نفسه ،
عمبر منهجمه همو المحمدد للغايمة ،أسملوب اسممتمداد الرؤيممة القرآنيمة لكممل
ظواهر الحركة الكونية بخصائصها المتنوعة وأشكالها المختلفة.
إذن كنت أريد طرح الموضوعات المحددة على القممرآن كيفممما فصممل
الواقع المعاصر والنشاط الذهني هذه الموضوعات ،فيصبح علي في هممذه
الحالة أن أطرح عنوان الموضوع ثم أمر به على سور القرآن مممن فاتحتهمما
إلى ختامها محاول ً اسممتجلء المنظممور القرآنممي لهما غيممر أن هممذه المحاولممة
اعترضتها صعاب من ناحيتين:
الناحية الولى:
ً
وهممي طبيعممة تركيممب القممرآن نفسممه ،فممالقرآن ليممس مركبمما علممى
موضوعات يمكن أن نجليها من موضموع واحمد أو ممن مقطمع فمي سمورة.
وإن أخذ البعض بهذا السلوب حيممن يكتممب مثل ً حممول )تعممدد الزوجممات( أن
القممرآن يقممول فممي آيممة كممذا ممما نصممه ،ويسترسممل فممي فممرز النصمموص
والستدلل بها ليدرس في إطارها موضوعه .أقول :إن البعممض قممد اتخممذ
هذا السلوب وهو أسلوب يكاد يأخذ به الجميع حين البحث في القرآن عممن
موضوع معين ،ثم يضيفون إلى ذلك ثوابت الحديث النبمموي المسممندة إلممى
مراجممع محققممة ،ويزيممدون عليهمما إجماعمما ً وقياسمما ً ورأيمما ً لممه شممروطه
الموضوعية والنقدية .وقد أثرى هذا السلوب حياتنا الفقهية والفكريممة إلممى
حد بعيد ،باعتباره السلوب المثل لطريقة البحث في حدود منهج المعرفة
ومفهوميته المتوافرة تاريخيا ً لولئك المجتهدين والباحثين.
الناحية الثانية:
وهي الطبيعة الكلية للتركيب القرآني ،فكليته هذه التي تعني وحممدته
من فاتحته وإلى خاتمته ،تعطى في حال استجلئها الكلي ما هو أكممبر مممن
التفاصيل وما هممو أكممبر مممن الموضمموعات المحممددة ،إنهمما تعطممي )المنهممج
1
المعرفي( المهيمن برؤيته الكلية والساسية على الموضمموعات التفصمميلية.
فكل الموضوعات المحددة التي تستصفي دللتهمما مممن النصمموص القرآنيممة
في مقاطع السور المفصلة ،غالبا ً ما نجد أساس الحكمممة منهمما فممي سممور
قرآنية أخرى ،تبدو ظاهريا ً أل علقة لها بموضوعنا التفصيلي المحدد.
إذن فممالدراك – فممي حممدود الممكممن – للقممرآن فممي كليتممه ووحممدته
والنسياب في مكنونه ،هو السمماس فممي فهممم أي جممزء مممن خلل الكممل ،
وفي فهم كل تفصمميل مممن خلل الجمممع .هممذا الدراك الكلممي – فممي حممدود
الممكممن النسممبي – للقممرآن فممي وحممدته يسمممى )الحكمممة( ،وهممي حكمممة
تستقطب التفاصيل وتشدها إليها وتسبغ عليها معناها )الحقيقي(.
إن الحكمة ليسن نفيا ً للمعرفة التفصيلية ول نقيضا ً لها ،إنهمما اسممتلب
إيجممابي لهمما ،وهيمنممة عليهمما بممما يسممتمد مممن القممرآن فممي وحممدته وكليتممه
وشموله .التفاصيل أحيانا ً كالشممجرة الممتي تحجممب الغابممة وممما وراءهمما عممن
النسان ،صحيح أن الغابة من طبيعة الشجرة ،غير أن رؤية الغابة بممالعين
الناظرة تؤدي إلى إبصممار )الكلممي( فممي علقمماته وتكمموينه وأفقممه واتسمماعه
وامتداداته ،مما يعمق إدراك وعينا لموقع الشممجرة مممن هممذا الكلممي وفممي
الكل .في هذه الحالة نفقمة فصميلة الشمجرة ومميزاتهما ومما تنتممي إليمه ،
فنقف بعد ذلك أمام كممل شممجرة مممن أشممجار الغابممة وقممد اسممتوعب وعينمما
الفكرة الساسية عممن الشممجرة ،بهممذا )نقممف( بممما لنمما مممن علممم ،تأكيممدا ً
ل ؤاد َ ك ُم ّ صَر َوال ْ ُ
ف َ معَ َوال ْب َ َ
س ْ
ن ال ّ عل ْ ٌ
م إِ ّ س لَ َ
ك ب ِهِ ِ ما ل َي ْ َ
ف َ للمعنى اللهي :وََل ت َ ْ
ق ُ
سُئوًل) – (36السراء /ج .15إذ ل يكفي أن تسممتمع م ْ ه َ
ن عَن ْ ُ
كا َ أ ُوْل َئ ِ َ
ك َ
الذن والفؤاد أصم ل يسممع ،ول يكفمي أن تنظمر العيمن والفمؤاد أعممى ل
يبصر ،ول يكفي أن يتلقى القلب والفؤاد أبكم ل يفقه ،وقد قممال الشمماعر
العربي" :إن الكلم لفي الفؤاد وإنما جعل اللسففان علففى الفففؤاد
دليل" .أو كما قال أفلطون" :التفكير كلم نفسي".
إن الحكمممة المسممتمدة مممن كليممة القممرآن ووحممدته ،والمهيمنممة علممى
التفاصيل أو الموضوعات المحددة في تعددها وتنوعها ،تتطلممب منمما وعي ما ً
يبسط في شمولية القرآن ويقبض في التفاصيل.
هنا نجد أنفسنا أمام نوعيممة الدراك الصممعب ،أي إدراك القممرآن فممي
كليته والتوحد النفسي والفكري إلى مرحلة تقممارب الغيبوبممة ،ففممي كليتممه
تكاد تغيب الذات المدركة نفسها ،فل تسممتطيع هممذه الممذات أن ترجممع مممن
جديد لتفصل وتصنف وتبوب ،وصعوبة الموضوع هنا ليممس فممي اتسمماع ممما
نكتب حول كل موضمموع ،وإنممما فممي سممعة الموضمموع نفسممه ،إذ إزاء كممل
موضوع يجب أن يتحول القرآن كله وفي كليتممه إليممه ،إلممى هممذا الموضمموع
المحدد بحيث ل تصبح سور القرآن بل كل آية فيه شرحا ً لية واحدة.
لسممت مممن المرائيممن فممي قممولي هممذا عممن الكتمماب ،لسممتمطر ثنمماء
المؤمنين به ،ولكنه قممول فممي محممراب نسممك علمممي ليممس هممدفه تعظيممم
القرآن فهذا أمر خالص بين المرب وعبمده .ولكمن اكتشماف العظممة فيمه ،
اكتشاف الحكمة في القرآن ،ليمس بقصمد )تحمدي( المعاصمرة وفلسمفات
اللحاد والوضممعية وصممرعها فممي المبممارزة اللفظيممة وتوزيممع السممباب علممى
الضالين ،وإنممما بقصممد تعريممف كممل هممؤلء )بممما فممي القممرآن( مممن حكمممة
تسممتوعب وتعلممو علممى مممدركاتهم الجدليممة ،ماديممة كممانت أم مثاليممة ،
2
وفلسفاتهم الوضعية أيا ً كانت مصادر تكونهمما فممي العقممل الطممبيعي أم فممي
فلسفة العلوم الطبيعية أم في المنطق الوضعي .مهمتنا أن نعرفهممم علممى
مكامن الحكمة في القرآن ،ومكنونات المنهممج ،لنستوضممح معهممم – فيممما
بعد – ما هو تفصيلي مقيد في حقيقته إلممى ممما هممو كلممي منهجممي .بممالقرآن
نوضح لهممم حقيقممة ممما اكتسممبوا فممي مممداركهم ومنمماهجهم ،ليتسمماموا هممم
أنفسهم بحكمة القرآن ومكنون نهجه ،إلى ما يتجاوز محدوديتهم الفلسفية
،التي استمدوها من حركة الواقع المباشر وتأثير ه عليهم .كممل ممما نحمماول
فعله باستخراج واستنباط مكامن الحكمة القرآنية ،أننا ننزع عن الحضممارة
البشرية بمستواها الراهن المتقدم ،ننزع الغشاوة مما بيمن العيمن النماظرة
والقلب العمى ليبصر ،وننزع الغشماوة مما بيممن الفمؤاد المتلقمي والقلمب
القلب البكم ليفقه .فحوارنا بممالقرآن حمموار علممم وحضممارة وليممس مبممارزة
خطباء مفوهين ول مقارعممات محمماجين هنمما الفممرق فممي العلقممة بالكتمماب ،
الفممرق بيمن )تحملممه( و )حملممه( ،ولنمما عممبرة فممي الممذين )حملمموا( التمموراة
بمعانيها وحكمتها ومكنونها ثم لم )يحملوها( ،فأصبحوا في علقتهم بأسفار
التوراة كحمار يحمل أسفارا ً ل يفقه ما فيهمما .فعظمممة القممرآن ليسممت فممي
حمله ولكن في )تحمله( ،وفي تقديمه للبشرية كرحمة لهمما وليممس مسممبة
عليها ،فمهمتنا بالنسممبة لنسممان الحضممارات المتقدمممة ،والمتضممخمة فممي
ذاتها ،والمصطرعة فممي تركيبهمما ،والمتعاليممة علممى النسممانية ،مهمتنمما أن
نقدم لنسان هذه الحضارات وبمستوى يتسممق مممع تطمموره العلمممي – مممن
خلل القرآن – ما يتسممامى بممه عممن ذاتيتممه الضمميقة وصممراعيته الجتماعيممة
وتعاليه النسانية.
أعود فأقول:
إننا نعاني نوعية الدراك الصعب للقرآن في كليته ،المممر الممذي يكمماد
يفقدنا قدرة ضبط الموضموعات التفصميلية بالمنهمج الكلمي .هنما يظهمر لنما
القرآن فممي أخممذه الكلممي كمموعي )مطلممق( ل يمكممن لنسممبيتنا التكوينيممة أن
تسممتوعبه .فممالقرآن متنممزل مممن اللممه ،مطلممق ،محيممط بممالوجود كلممه ،
"فالقرآن في كليته ل يدركه إل ّ الله".
3
تكممن متطممورة ضمممن بيئة حضممارية وعلميممة بحيممث تحمممل فممي تركيبهمما
إسقاطات هذا التطور المفترض عليها فتعنى به .وكم من باحث يعاني الن
مشممكلت المصممطلح ليقابممل بممه مصممطلحات أخممرى وتحديممدا ً فممي مناهممج
الدراسات العلمية التطبيقية .إذن نحن أمام وعي مطلق )هو القرآن( تشيأ
وأصبح مكتوبا ً ومقروءا ً في عالم المحسوسات النسبية بطبيعتهمما التكوينيممة
)اللغة( ،فيبدو منطقيا ً أن ثمة مسافة بيمن )المطلمق( المحممول والنسمبي
)الحامل( ،إضافة إلى أن اللغة فوق نسبيتها إلى المطلممق ،خاضممعة أيض ما ً
إلى نسبية أخرى في علقاتها بالواقع الحضاري وقممدرات وملكممات تعبيرهمما
عنه.
أكد الله على معنى المطلق في القرآن بأن حقيقته الكامنة فيه أكممبر
ت ممما ِ دا ل ِك َل ِ َ دا ً مم َ ح مُر ِ ن ال ْب َ ْ ل ل َوْ ك َمما َ وأوسع وأعمق مما ينالها العلم النسبي :قُ ْ
ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ
دا)– (109 م مد َ ً مث ْل ِمهِ َ جئ ْن َمما ب ِ ِ ت َرب ّممي وَل َموْ ِ ممما ُ فد َ ك َل ِ َ
ن َتن َ لأ ْ َ ِ َ َ ْ ُ ْ َ ّ
الكهف /ج .16
ً
فالقرآن حامل لمطلق الية ) (109فلو كان البحر مدادا لتفصيل هممذا
المطلق وشرحه لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدادا ً ،
إذن ..كيف شيأ الله المطلق في النسبي؟ وكيف جعل هذه اللغة المزدوجة
النسبية ) في علقتها بالمطلق مممن ناحيممة ،وفمي علقتهمما بممتركيب واقعهمما
الحضاري من ناحية ثانية( قابلة لحمل المطلق؟
اللغة بين القرآن واللسان
بتحليل علمي للكيفية التي استخدمت بها مفردات اللغمة العربيمة فمي
القرآن ،ومقارنة ذلك بمعاني المفردات نفسممها فممي ممما كتممب عممن لسممان
العرب ،نجد فارقا ً جوهريا ً في كيفية الستخدام ،فكلمة )اهبطوا( ترد فممي
القرآن وفي سورة البقرة بالذات في حالتين تبدوان مختلفتين:
الولى:
َ َ
مض مك ُ ْ كاَنا ِفيهِ وَقُل ْن َمما اهْب ِط ُمموا ب َعْ ُ ما َ م ّما ِ جهُ َ خَر َ ن عَن َْها فَأ ْ طا ُ شي ْ َ ما ال ّ فَأَزل ّهُ َ
مَتاعٌ إ َِلى ِ َْ
ن)(36 حي ٍ قّر وَ َ ست َ َ م ْ ض ُ م ِفي الْر ِ ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ ل ِب َعْ ٍ
الثانية:
َ
ج لن َمما خمرِ ْ َ َ
حدٍ َفاد ْعُ لن َمما َرب ّمك ي ُ ْ َ
صب َِر عَلى طَعام ٍ َوا ِ َ ن نَ ْ َ
سى ل ْ مو َ م َيا ُ ْ
وَإ ِذ ْ قُلت ُ ْ
ُ َ صل َِها َقا َ ت اْل َْر
ن سممت َب ْدِلو َ ل أت َ ْ َ سَها وَب َ مَها وَعَد َ ِ قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ ن بَ ْ ْ م
ض ِ ُ ما ت ُن ْب ِ ُم ّ ِ
ْ َ ُ َ ُ ّ َ ّ
ت ض مرِب َ ْ م وَ ُ س مألت ُ ْ ممما َ م َ ن لك م ْ ص مًرا فَمإ ِ ّ م ْ خي ٌْر اهْب ِطوا ِ ذي هُوَ َ ذي هُوَ أد َْنى ِبال ِ ال ِ
َ ّ ْ ّ
ن فمُرو َ ْ
م كماُنوا ي َك ُ َ ك ِبمأن ّهُ ْ ن اللمهِ ذ َِلم َ مم ْ ب ِ ضم ٍ ة وََباُءوا ب ِغَ َ َ
سكن َ ُ م ْ ة َوال َ م الذ ّل ُ عَل َي ْهِ ْ
ن)(61 دو َ كاُنوا ي َعْت َ ُ وا وَ َ ص ْ ما عَ َ ك بِ َ حقّ ذ َل ِ َ ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ ن الن ّب ِّيي َ قت ُُلو َ ت الل ّهِ وَي َ ْ ِبآَيا ِ
في استخدام القرآن اللغة العربية نجد أن مفردات اللغة تتحممول إلممى
مصطلحات محددة المعنمى فمي السمياق القرآنمي كلممه ،فكلمممة )اهبطمموا(
مستخدمة في الحمالتين للتعمبير عمن أممر واحمد ،وهمذا مما سميثير البعمض
وتحديدا ً أولئك الذين ظنوا أنهم )بتأويل( المفردات يمكن أن يسمموغوا فهممم
المعنى مممتى ممما وردت مفممردات معينممة فممي مواقممف أو حممالت تبممدو لهممم
مختلفة ،فاهبطوا في الحالة الولى تفسر على أنها طرد من الجنة وهبوط
إلى الرض ،واهبطوا في الحالممة الثانيممة " ،السممرائيلية" تفسممر علممى أنهمما
تهديد بإعادتهم إلى مصر .وفي الحقيقممة فممإن معنممى )اهبطمموا( واحممد فممي
4
الحالتين ،وفي كل موضع ترد فيه )اهبطموا( فممي سممياق القممرآن ،همذا مما
سيتضح في الدراسة الثالثة من هذه السلسلة حين نشرح معنى )الحاكمية
اللهية( بوصفها هيمنة الله المباشرة على النسان والرض ،فاستخدم الله
لبني إسرائيل كلمة )اهبطوا( كطرد من الرض المقدسة.
لهذا السبب رأيت ضرورة إعداد مستدرك لغوي يشرح مفردات اللغة
العربية ،ليس كما وردت استخداماتها على لسان العرب فحسممب ،ولكممن
كما استخدمت في القرآن وضمن ضوابط دقيقة للغاية .وقممد شممرحت قبل ً
في كتاب العالمية السلمية الثانية خطأ المفسرين اللغوي في شرح:
ن) مط َهّمُرو َ
ه إ ِّل ال ْ ُ
سم ُ ن)َ(78ل ي َ َ
م ّ مك ْن ُممو ٍ
ب َ
م)(77فِممي ك ِت َمما ٍ ن كَ ِ
ري ٌ ه لَ ُ
قْرآ ٌ إ ِن ّ ُ
– (79الواقعة /ج .27
فالنتيجة التي وصل إليها المفسرون صحيحة ،طبقا ً للسممان العربممي ،
ولكنها خاطئة تماما ً في تفسير هممذه اليممة ،وقممد أوقعممت أخطمماء التفسممير
المسلمين في عنت شمديد .عنمت مسملكي فمي )لمسمهم( الكتماب وليمس
)مسهم( وكذلك عنت في مناولته لغير المسلمين.
إن هذا مجرد إشارة نستدل بها على استخدام القرآن مفممردات اللغممة
العربية ضمن ضوابط دقيقة في المعنى بحيث ل تؤدي الكلمة فممي القممرآن
إل وظيفة محددة ل تقاربها ول تماثلها ول تشبهها فيها أي كلمة أخممرى فممي
منحاها ومعناها .وأن الكلمممة فممي القممرآن وحيثممما اسممتخدمت تعنممي معنممى
واحدا ً غير قابل للتأويل .أي بتأويل معنمى الكلممة لتلئم حالمة السمياق ممن
خلل معرفة الكلمة وإخضاع السياق لها وليس العكس.
هذه )معجزة( حيث يحل المطلق في النسبي وتتشيأ كلمات الله التي
لو كان البحر مممدادها لنفممد قبممل أن تنفممد كلممماته ولممو جيممء بمثلممه مممدادًا.
فالكتاب )مطلق( يتشيأ في لغة مكتوبة ملموسة.
ثانيا ً:
إن تشيؤ المطلق في النسبي ومممن دون أن يفقممد المطلممق إطلقممه ،
ومممن دون أن يختممل مظهممر النسممبي )اللغممة ودللتهمما العامممة( ،يعنممي أن
المحمول أكبر من الحامل ،ومع خطأ هممذه الفكممرة منطقي ما ً إل أن صممحتها
تبرهن عمليا ً عبر تحليلنا المحتوى القرآني المشيأ في هذه اللغممة .إذ ليممس
لنا أن نقول أن القرآن قد سما باللغة لتناسب مطلقه ،فممالمعجزة أنممه قممد
شيأ المطلق فيها .ولكن كيف ذلمك؟ السمؤال جموهري كيفمما جماء نقممدا ً أو
تجريحا ً أو تساؤ ً
ل.
إن أولى الخطوات العملية لدراك هذه الحقيقممة تكمممن فممي )تحليممل(
القرآن وفي كليته ووحدته ،ضمن أفق علمي موضوعي يستمد من القرآن
نفسه ،نهجه المستوعب لكل مناهج الفكر في عالمنمما الحضمماري المتقممدم
الراهن ،والمتسامي بها إلى ما هو أعمق من معطياتها التي كونتها.
إن المحتوى القرآني المتشيء في اللغة ل يعطيممك فلسممفة لممترد بهمما
علممى الفلسممفات الخممرى ،ول يعطيممك نظريممات علميممة لتثبممت بهمما دوران
الرض أو عدم دورانها ،وإنما يعطيك النهج المعرفي الذي تضبط به سممائر
المناهج الوضعية بإعادة صممياغة نظرياتهمما كوني مًا .فكممل الفلسممفات الماديممة
والمثالية والوضعية لم تأت من فراغ ولم تصدر عن خممواء ،وليسممت نزهممة
أفكممار ،إنهمما تعممبر عممن رؤى مختلفممة اسممتمدها مفكروهمما عممن محمماولت
5
تحديدهم معنى الوجود وفق معطيات محددة .هنا يممأتي المحتمموى القرآنممي
لتفكيك أسس هذه المعطيات التي أنتجت هذه الفلسفات المادية والمثالية
والوضممعية .يسممتوعبها ويأخممذها ،ثممم يعيممد طرحهمما وتركيبهمما فممي موقعهمما
الصممحيح فممي إطممار الحركممة الكونيممة ومعنممى الوجممود .إننمما ل ننتممف لحممي
الفلسفة والعلماء الوضعيين ،ولكننا نأخذهم بكل بسمماطة مممن مختممبراتهم
الصغيرة حيث يجرون تجاربهم إلى مختبر كوني أوسع يشتمل على حقممائق
وعلى وقائع في التطور وفي الجدلية وفي التكوين ،ونسألهم أن يضبطوها
ضمن مناهجهم ،أي أن يعطوها دللتها العلمية والفلسفية ،والسممؤال لممن
يوجه لفيلسوف أو عالم بعينه بل سيوجه لكل دعائم ومرتكممزات الفلسممفة
العالمية .والهمدف ليمس نقمض همذه الفلسمفات ولكمن إعمادة وضمعها فمي
موقعها الصحيح.
قد يستعيد البعض طرح التناقض الظاهر ما بيممن الفلسممفات الوضممعية
المستمدة من العلوم الطبيعية ونهاياتها الفلسفية الماديممة مممن جهممة وبيممن
المفهوم )الغيبي( للوجمود المذي ل تخضمع فيمه القمدرات لمقماييس العلموم
الطبيعية ،حيث يدرج هذا البعض النهج القرآني ضمن التأملت الغيبية.
إن هذا المنطق ليس بصممحيح ،إذ يطممرح القممرآن فممي مقابممل )ماديممة
العلوم الطبيعية( مفهومه حول )كونيممة العلمموم الطبيعيممة( ،دون أن يبطممل
)المعلومة العلمية( ولكن يبطل منهجها ماديًا.
ن خي م ٌ وفي اْل َرض قط َع متجاورات وجنات م َ
وا ٌ ص من ْ َ ل ِ ب وََزْرعٌ وَن َ ِ ن أعْن َمما ٍ ْ ِ ِ ٌ ُ َ َ َِ ٌ َ َ ّ ٌ ِ ْ َ ِ
ُ ْ َ
ن ِفممي ل إِ ّ ض ِفي الك ُ ِ ضَها عَلى ب َعْ ٍ ض ُ
ل ب َعْ َ ف ّ حدٍ وَن ُ َ ماٍء َوا ِ قى ب ِ َ س َن يُ ْ وا ٍ صن ْ َ وَغَي ُْر ِ
ن) – (4الرعد /ج [ .13فهنا )قطع متجاورات( قُلو َ قوْم ٍ ي َعْ ِ ت لِ َ ك َلَيا ٍ ذ َل ِ َ
) +يسقى بماء واحد( = تنوع ل نهائي].
فالتربة ليست متباعدة أو مختلفة ،والماء واحممد ،والنتمماج غيممر مقيممد
بالنهايات التكوينية حيممن المحصمملة النهائيممة ،ولكممن هممذا النتمماج مقيممد إلممى
قوانين الطبيعة حين نأخذ به كحالت منظورة.
ثم:
ُ ْ ه وَهَ م َ سممائ ِغٌ َ ُ ْ
ج جمما ٌحأ َ مل م ٌ ذا ِ ش مَراب ُ ُ ت َ ب ف مَرا ٌ ذا عَذ ْ ٌ ن هَ َ حَرا ِ وي الب َ ْ ست َ ِ ما ي َ ْ وَ َ
ه َ ْ ْ ْ ْ َ َ ُ ُ ْ ن كُ ّ
فلمك ِفيم ِ سممون ََها وَت َمَرى ال ُ ة ت َلب َ ُ
حلي َ ً ن ِ جو َ خرِ ُ ست َ ْ ما طرِّيا وَت َ ْ ح ً نل ْ ل ت َأكلو َ م ْ وَ ِ
ن) – (12فاطر /ج .22 ُ
شكُرو َ م تَ ْ ُ ّ َ
ضل ِهِ وَلعَلك ْ ن فَ ْ م ْ خَر ل ِت َب ْت َُغوا ِ وا ِم ََ
ً ً
فمممن كممل – الفممرات والجمماج – لحممما طريمما وحليممة .فهنمما افممترقت
الخصائص التكوينيممة الطبيعيممة واتحممد الناتممج ،خلف ما ً لممما كممان فممي سممورة
"الرعد" ،حيث اتحدت الخصائص وافترق الناتج الطبيعي.
فعلوم الطبيعممة – حيممن يعمممد إلممى صممياغة فلسممفتها مممن ذاتهمما ومممن
معلوماتها العلمية – إنما تفضي بنا إلى )فلسفة العلوم الطبيعية الكونيممة( ،
وليست )المادية الجدلية(.
ومن هذه البدايات بالذات نلغي الثنائية المتوهمة والمفترضة ممما بيممن
الغيب والواقع ،فيعاد إلى صياغتها ضمن )منهج الرؤية الكونيممة الواحممدة( ،
أي الرؤية التي تندمج فيها فلسفة العلوم الطبيعيممة مممع الفلسممفة الغيبيممة ،
المحققة للمتناهيات في الطبيعة ،ولكن من خلل الطبيعة.
صمحيح أن المعرفمة "البسمتمولوجية" المعاصمرة ،قمد أعمادت طمرح
المعلومة العلمية بشكل يجردها عن السخافات الفلسفية الماديممة ،معلنممة
6
أن التوظيف الفلسفي المممادي للعلمموم الطبيعيممة إنممما هممو محممض توظيممف
أيديولوجي ،غير أن هذا الموقف النقدي ل يعني تحديد التصممال الفلسممفي
بالغيب ،إنه مسار جديد للوضعية التي ل تريد البقاء رهن النهايات الماديممة
التي شكلتها الفلسفة الماركسية للعلوم الطبيعية ،فالثقممة فممي مثممل هممذه
المحاولت يجب أل تتحول إلى منحها شهادة براءة فلسفية ،طالممما ظلممت
بمعزل عن النهايات الغيبية لفلسفة العلوم الطبيعيممة ،وهممي تممدعي نقممدها
الذاتي ،السلبي للمادية الجدلية .إنها محمماولت أيديولوجيممة مممن نمموع آخممر
لختراق )نظرية المعرفة( ،بمفهوم يتواصل مع حاجة الحضممارة الوروبيممة
المسيحية الرأسمالية للحفاظ علممى نفسممها بمنممأى عممن الماديممة الجدليممة ،
وبالرغم مما تثيره هذه المحاولت من إعجاب لدينا ،فيجب أل تحجمب عنما
حقيقة أننا نملك هذه النظرية للمنهج والمعرفة في العلوم الطبيعيممة ،وأن
بإمكاننا تعميقها لنتجه بها إلى المجتمع والتاريممخ ،وفهممم المموحي مممن خلل
الواقع ،وفهم الواقع من خلل الوحي ضمن )رؤية كونية واحدة(.
كما قلت فإن المحتوى القرآني ل يعطيك فلسفة ول نظريممة علميممة ،
إنه يعطيك ضوابط معرفية كونية شاملة في المكان وفي الزمممان ،بحيممث
تقيس بها مصداقية أي فلسفة مادية أو مثالية أو وضعية ،تأتي عبر تمثلهمما
العلوم الطبيعية أو المفاهيم العقلنية المنطقية الصورية.
لن نسأل القرآن عن الهلة ،فهي مممواقيت للنمماس والحممج ،إذ ليممس
البر أن تأتي إلى المور بغيممر مممدخلها الطممبيعي ،أي أن نممأتي الممبيوت مممن
ظهورها ،بل البر أن نتخذ المدخل الطبيعي ،أي البواب .وباب الهلة علم
الفلك:
َ َ َ
س ال ْب ِمّر ب ِمأ ْ
ن ج وَل َي ْم َحم ّ س َوال ْ َ ت ِللن ّمما ِ واِقي ُ
مم َ
ي َ ل هِ َ ن اْلهِل ّةِ قُ ْ ك عَ ْ سأُلون َ َ يَ ْ
َ ْ ْ
واب ِهَمما
ن أب ْ َ
مم ْ قممى وَأت ُمموا ال ْب ُي ُممو َ
ت ِ ن ات ّ َ ن ال ْب ِمّر َ
مم ْ ها وَل َك ِم ّ
ن ظ ُُهورِ َ م ْ ت ِ ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ
ن) – (189البقرة /ج .2 حو َ فل ِ ُ
م تُ ْه ل َعَل ّك ُ ْ
قوا الل ّ َ َوات ّ ُ
فالقرآن ليس نهجا ً دراسمميا ً لعلممم الفلممك أو الفيزيمماء ،وليممس فلسممفة
تصنيف في عداد المدارس الفلسممفية .إنممه إطممار وعممي يسممتوعب الحركممة
الكونيممة فممي خصائصممها وتطورهمما واتجاهاتهمما وغاياتهمما ،مممما قبممل المنشممأ
النساني وإلى ما بعد الموت.
ثالثا ً:
بوجود اللغة كوسيط مادي محسمموس وحامممل للمطلممق ،يصممبح فهممم
القرآن ممكنا ً بالنسبة للبشر ،والمكانية هنا ل تتعلق بفهممم مطلقممه فممذلك
مستحيل ،وإنممما تتعلممق هممذه المكانيممة فممي حممدودها القصمموى والوسممطى
والدنيا بكيفية قراءة القرآن نفسممه ،المممر هنمما يرجممع إلممى طبيعممة القممارئ
ورؤيته لنفسه وللحركة الكونية .وقد حدد الله ذلك في أولى سور التنزيل:
ق)(2اقْ مَرأ ْ وََرب ّم َ
ك مم ْ َ
ن عَل م ٍ ن ِ سمما َ خل َقَ ا ْ ِ
لن َ ق)َ (1 خل َ َ
ذي َ ك ال ّ ِسم ِ َرب ّ َ ْ
اقَْرأ ِبا ْ
َ
م) – (5العلففق /ج م ي َعْل َم ْ
ما ل َ ْن َسا َ ما ِْ
لن َ م)(4عَل ّ َ م ِبال ْ َ َ
قل ِ ذي عَل ّ َ م)(3ال ّ ِ اْلك َْر ُ
.30
حين أوضح الوحي القرآنممي :افممتراق الخصممائص التكوينيممة الطبيعيممة ،
واتحاد الناتج كما في سورة "فاطر" ،ثم أوضح اتحاد الخصائص التكوينية
الطبيعية ،وافتراق الناتج كما في سورة "الرعد" ،فقممد طلممب الربممط ممما
7
بيممن القممدرة اللهيممة المطلقممة والمعلومممة العلميممة التطبيقيممة المحممددة ،
ويستمد هذا الربط منهجيا ً من أولى السمور المتنزلمة علمى غمار حمراء فمي
الرض المحرمة ،الربط بين قممراءة القممدرة اللهيممة المطلقممة وبيممن العلممم
التطبيقي الموضوعي ،أي قراءة أولى بالله ومن خلله بوصممفه )خالقممًا( ل
تتناهى قدرته ،ثم قراءة ثانية هي )مع( الله وليممس )بممه( بوصممفه )معلم مًا(
دال ً علممى القضممايا فممي تحديممدها ،أي علممم )القلممم( الممذي يشممكل إطممارا ً
موضوعيا ً لنتقال المعرفة دون تأويل أو لبس فكري:
القراءة الولى :قراءة كلية تخلع ذاتهمما عممن نفسممها متجممردة للمطلممق ،
وهذه مرحلة قراءة لها سماتها ومعناها .وقد توليت شممرح معلممم منهمما فممي
العالمية السلمية الثانية ،إنها قممراءة فممي الرادة اللهيممة كممما تتبممدى فممي
الحياة .والقراءة الثانية قراءة تفصيلية موضوعية ) ،يجاب فيها السؤال عن
الهلة( ،قراءة علمية مميزة بقوانينها ،وهي قراءة في المشيئة اللهية.
ويدمج أيضا ً بين القراءتين ،في رؤية الكون وحركته واتجمماهه وغايمماته
بحيث يبصر النسان الرادة اللهية فاعلة في المشيئة الكونية ،وهذا جمممع
بين القراءتين ،نستدل بها على المعاني الكامنة في القرآن ،ونستدل بهمما
على غائية الخلق وأهداف التكوين.
أما القراءة الثانية :فهي مصدر البلء وذلمك حيمن ينطلمق النسمان ممن
العلم بممالقلم ،فيضممخم ذاتممه ،وهيمنتممه بالقممانون علممى الطبيعممة ،فيتقممدم
باتجاه بناء الحضارات الفاقدة للتوازن الداخلي ،وفي تشخيص هذه الحالة
الدونية الخيرة بين الله ،كيف تتحول المعرفة العلمية لدى الذات البشرية
المتضخمة إلى قوة طغيان داخممل مجتمعهمما لصممالح الفئة المالكممة لمصممادر
المعرفة وبالتالي الثروة؟ وإلى قوة طغيان داخل العالم وضممد المجتمعممات
البشرية ،وذلك حيممن تممرى هممذا الممذات المتضممخمة علمما ً وثممروة إنهمما فممي
ن إ َِلمى َ
سمت َغَْنى)(7إ ِ ّ ن ل َي َط ْغَممى)(6أ ْ
ن َرآهُ ا ْ سمما َ
لن َنا ِْ
موقممف المسممتغني .ك َّل إ ِ ّ
جَعى) – (8العلق /ج .30 ك الّر ْ َرب ّ َ
ن ،خيال .ولكمن دللتمه الخلقيمة والفلسمفية فالستغناء هنا مجرد أما ٍ
في منتهممى الخطممورة علممى تطممور الحضممارة البشممرية وتواصمملها وتوازنهمما.
ن ي عَ م ْفمسألة اليمان بالله وعباداته ل تأتي من حاجة الله إليها ،فهو )غَِنمم ّ
ن( ولكنها تأتي مقابل عبادة الذات البشممرية لنفسممها فتتقاتممل )آلهممة ال َْعال َ ِ
مي َ
الرض( وتفسد الرض .أما اليمان بممالله فممإنه يرتبممط لزومما ً برؤيممة الرادة
اللهية فاعلة بالرحمة والكرم والعلممم فمي المشمميئة الكونيممة ،فل تسممتعلي
الذات البشرية ول تطغى في كون سخر لها ،ل تستعلي طبقيا ً ول سياسيا ً
ول اجتماعيا ً ول فكريما ً ،ول تطغممى فممي الرض علمموا ً واسممتكبارًا .فاليمممان
بالله تحجيم للذات المتضخمة ،والبشرية في حاجة لهذا اليمممان المعنممي ،
لخلع الذات من أجل سلمها وأمنها في الرض.
إذن لنا أن نقرأ القممرآن بالدمممج بيممن القراءتيممن ،بهممذا نسممتجيب منممذ
البداية لدلئل القرآن وإشممارته ،لننمما نسممتجيب لطممبيعته باليمممان نفسممه ،
ونتجه إليه كمحيط وعي ل ساحل له .وهكذا كممما حمممل اللممه نسممبية اللغممة
مطلق الوعي بمعجزة من عنممده ،فممإن اللممه قممادر علممى أن يحمممل نسممبية
التكوين البشري علما ً من لدنه ،مقوما ً برحمة متجممردة عممن الممذات ،فممي
عبودية تفني معها الذات نفسها:
8
عل ْ ً
ممما) ن ل َمد ُّنا ِ
مم ْ عن ْدَِنا وَعَل ّ ْ
مَناهُ ِ ن ِ
م ْ
ة ِ
م ًح َ
عَبادَِنا آت َي َْناهُ َر ْ
ن ِ
م ْ
دا ِ
دا عَب ْ ً فَوَ َ
ج َ
– (65الكهف /ج .15
ً
غير أن هذه المرحلة من الوعي ل تقوم )موضمموعيا( وليسممت بقممادرة
على تفريغ وعيها في قانون وضوابط منهجية ،إل في حالممة واحممدة ،وهممي
أن تتخذ من وعيها خلفية )إسناد( لتوضيح المور وتفصمميلها .فتقمموم حجتهمما
على الواقع في الواقع نفسه .وبمعنى آخر استخدام الدممج بيمن القراءتيمن
لضبط الحالة الفلسفية والمعرفية للقراءة بحيث ل تتحول إلى قراءة ذاتية
نرجسية تدمر مجتمعها والعالم.
بالدمج بين القراءتين يمتد النسان لمشارع المطلق ومداخله ،ولكنه
ل يصل أبدا ً لساحله ول وجود للساحل ،هو سرمد سممرمدي ،ولكممن كفممى
النسان أنه يعيش خلوده فيه ،فهذا هو النوع الوحيد من المعرفممة الممتي ل
حد لها ،ول يتمنى لها – من يدخلها – حدا ً ول نهاية ،وهي كذلك.
والربط بين العلمين رابط فلسفي بوحدة منهجية .فالعلم الموضممعي
المتكافئ وحقيقة النسمان مشممدود إلممى تجليممات القمدرة ،فل يتميمز عنهما
بالوضعية ،ويبحممث عممن التممأليه الممذاتي بممما يممراه مممن قممدرة بممالعلم علممى
السيطرة.
فكل قممراءة أشممبه بنصممف دائرة تممؤدي فممي حممال تطابقهمما إلممى دائرة
منهجية .فطموحات النسممان العلميممة ومنجزاتممه الحضممارية تممأتي معطوفممة
على الخلق التكويني المستوي على قاعدة التسخير .فهناك انممدماج كامممل
بالفعل البشري في الخلق اللهمي ،ول يتممم المموعي بممذلك وعيما ً حقيقيما ً إل
باندماج القراءتين في قراءة واحدة .وباندماجهما معا ً تتضح معمالم المنهممج
الفلسفي المستمد من القرآن .إذ يممدرك النسممان وقتهمما أنممه يفعممل بعلمممه
الموضعي في كون مسخر بآيات الرحمممة ،فيسمموده الشممعور بالسمملم مممع
ربه ومع ذاته ومع الكون ومع مجتمعه.
والقراءتان فريضتان لنهما بلهجة المممر اللهممي )اقممرأ( ثممم أنهممما أول
كلمتين ،فل تستقيم الحكمة إل ّ بهممما .فمممن تجمماوز القممراءة الثانيممة – دون
وعي بها – إلى السممتغراق الكلممي فممي القممراءة الولممى ) ،تجمماوز الصممفات
والتعلق بالممذات المقدسممة فممي مطلقهمما( ،فحكمممه إلممى اللممه فممي تجربتممه
الخاصممة ،ولكنممه يكممون بل أدنممى شممك قممد عطممل جانبما ً هامما ً فممي تجربتممه
الوجودية الخاصة ،وهو جانب تكوينه الحضاري في الدفع بالتجربة البشرية
إلى المام ،وهو يظل باستغراقه فممي آيممات القممدرة كيفما ً منفعل ً ،يتواضممع
عن الفعل فل يقدم عليه خشوعا ً لقدرة الله الطلقة.
وهذه الطريقة طريقة خاصة ولها نتائجها الروحية ومقامها غيممر مقممام
القراءتين في تلزمهما .غير أن الخطورة تكمن في محاولة البعض التحمول
بهذه التجربة الخاصة إلممى منهممج فممي الحيمماة علممى أسمماس قاعممدة المموعي
البشري المشترك ،فكانت النتيجة سلبية للغاية إذ ارتبط البعض بمدلولت
القممراءة ،مممع إهمممال للنهممج القرآنممي الممذي استعصممى عليهممم نتيجممة هممذا
الموقف الجزئي ،فنراهممم يممدعون التحمماد بالحقيقممة فممي مطلقهمما بشممكل
وراثي أو طرائقي ،ويعجزون في نفس الوقت عن فهم شمممولية الحقممائق
القرآنية .والنتيجة تعطيل للفكر البشري ونفور من الدنيا وعيش خارجها.
9
وكنتيجة لتعطيل القراءة الثانية وقع الفكممر الصمموفي حيممن اتجممه نحممو
الفلسفة )لبناء قواعده الخاصممة أو للتصممدي بعلمممه الكشممفي( فممي أزمممات
متعاقبة حتى مع أبسط درجمات الدراك الموضمموعي لممدى النسممان .ولعممل
أبرز مثال على ذلك قصة )صالح قبة( الذي عطممل القمراءة الثانيمة نهائيما ً
من سلوكه الفكري متجاوزا ً إكرام الله له إلى التعلق بقممدرته .فصممالح قبممة
أو )صالح بفن عمفرو( ،يممدرجه الشهرسممتاني تممارة فممي عممداد متممأخري
الخوارج وفي عداد المرجئة من القدرية )أي المعتزلة( تارة أخرى.
))يروي الشعري أن صالحا ً هذا قد ذهب إلى أن النسممان ل يفعممل إل ّ
في نفسه ،وأنكر أن يكون بيممن الحممداث الطبيعيممة تلزم ما ً ضممروريا ً قممط ،
حرصا ً منه على صون مفهمموم القممدرة اللهيممة المطلقممة .وعنممده أنممه يجممب
علينا أن نتحرى في كل حدث طبيعي فعممل اللممه المباشممر )القممدرة وليممس
التسخير( .لذا قال :إنه يمكن أن تماس النار الخشممب مممرارا ً عممدة دون أن
يخلق الله فيها احتراقا ً ،وأن الله قد يحممرق النسممان بالنممار دون أن يحممس
باللم ،بل قمد يحمس باللمذة إذا شماء اللمه ذلمك .وأن اللمه قمد يخلمق فمي
النسان الدراك مع العمى والعلم مع الممموت بحسممب مممذهبه .ولممما سممئل
ذات يوم :أتنكر أنك الن في مكة جالس تحت قبة ،أم أنممك ل تممدرك ذلممك
لن الله لم يخلق العلم بذلك فيك؟ أجاب ل أنكر .فما كان من السممائل إل ّ
أن أطلق عليه لقب صالح قبة )مقممالت السمملميين للشممعري ص – 406
.407والصياغة هنا لماجد فخري :دراسات في الفكر العربي .(83
وهكذا نجد أن تعطيل القراءة الثانية يممؤدي إلممى النتقمماص مممن قيمممة
الفعل البشري ،وبالتالي القيمة الوجودية للنسان فممي الحيمماة ،وهممو أمممر
يختلف عن النهممج القرآنمي ممما يجعلنمما نميممز بوضموح بيمن الفكمر القرآنمي
والفكر السلمي .وذلك باعتبار أن هذه التجاهات التي يأخذ بها صممالح بممن
عمممرو جعلتممه يغفممل حقممائق التسممخير وموضمموعية العلممم كأسمماس فممي
المسممئولية البشممرية ،فاضممطرب تفكيممره أمممام تلزم الحممداث الطبيعيممة ،
فاتخذ )نظريممة التسمماق( ،وهممي توليممد عقلممي فممي المقممام الول مشممابهة
لنظرية )التساوق الزلي( لدى ليبنتز.
إن التحول بهذه )المواقف( إلممى )اتجاهممات فكريممة( دون وضممعها فممي
دائرة المنظور القرآني الشاملة ،قد أضممعف كممثيرا ً مممن انطلقممة النسممان
العربي الحضارية ،وشده إلى منطق العجز والبقماء قيممد النفعمال بالقمدرة
اللهية ،في وقت يحس فيه هذا النسان نفسه باحتجمماب اتجاهممات الدارة
اللهية في الخلق عن وعيه فل يعرف من أين يبدأ ،ول كيف يضع فعله في
إطار التسخير الكوني.
كذلك فقد أدى تعطيل القراءة الولى والستغراق الكلي في القممراءة
الثانية )علم القلم الموضعي( ،إلى نوع من روحية التحمماد بالطبيعممة الممتي
تجلممت بمممذهبياتها المختلفممة فممي المفمماهيم العلميممة الوضممعية وبناءاتهمما
الفلسفية المختلفة .وهكذا كما غيب )صالح بن عمرو( النسان عن الحركة
،جاءت الفلسفة الوضعية لتقابله بتطرفها ومفهومها الجزئي ،فغيبت اللممه
عن وعيها بالحركة.
انطلقممت الفلسممفة الوضممعية بممروح برومممثيوس إلممى نتممائج العلممم
الوضعي ،ل بهدف تطوير فعالية الحركة البشممرية فممي كممون مسممخر قممائم
10
على التفاعل والوحدة ،ولكن بهدف انتزاع سر القدرة عممن اللممه والتحممول
بها إلى الرض أي إلى النسان .بدأ العلم باتجاه النسان للتوحممد بالطبيعممة
كمحاولممة لتحجيممم القممدرة اللهيممة ،ومممن ثممم تطممور هممذا التجمماه بتطمموير
منجزات العلم نفسه ،والحضارة الموضعية إلى محاولة نفي نهائي وقمماطع
لفعل الله في الحركة .بدأ بالتفسيرات الفلسفية لنظرية )نيوتن( فغدا الله
قوة ما ورائية مارست الخلق بقوة الدفع اللهي ،وهممو يسممتمر مممن بعممدها
على نحمو آلمي ...وتطمور إلمى الحلوليمة المتي جعلمت اللمه حمال ً فمي قموى
الطبيعة ،وانتهى إلى المادية الجدلية التي غيبته نهائيا ً ،وطرحممت بممديل ً لممه
اتجاهات النمو عبر خصائص التطممور المعقممد .كممل هممذه النظريممات ،كممانت
تتحه عبر تطورها العلمي وما تفيده من حقائق العلم الوضعي ،إلممى ربممط
النسممان نهائي ما ً بالطبيعممة ودمجممه بهمما ككممائن طممبيعي ،وهكممذا )يسممتغني(
النسان بارتكازه على القلم ووحدته مع الطبيعة) ...ذلك الرحم الذي يجده
مهيأ( عن الله .لم يعد يرى الله بقممدرة التسممخير ول برحمممة التسممخير ،ول
باتخاذ الظواهر الطبيعية معنى إنسممانيًا .ويحمماول أن يعلممو بممالعلم الوضممعي
على القدرة المطلقة وقد أحس أنه قد استغنى.
هنا بالتحديد نزل الوحي اللهي بإضافة مقطع في موضع مختلف إلممى
المقطع الول من سورة العلق بدءا ً من اليممة رقممم ) ، (6ليعطممي السممورة
َ
ن َرآهُن ل َي َط ْغَممى)(6أ ْ
سمما َ ناِْ
لن َ وحدتها الموضوعية وإطارهمما المنهجممي :ك َّل إ ِ ّ
جَعى) – (8العلق /ج .30 ن إ َِلى َرب ّ َ
ك الّر ْ ست َغَْنى)(7إ ِ ّ
ا ْ
يقرر هذا المقطع ثلثة مبادئ مترابطة فيما بينها ،تتولد فممي النسممان
حين يأخذ بالقراءة الثانية فقط ،وبمعزل عن الولى .أي حيممن يسممتند إلممى
القلممم الموضممعي بمعممزل عممن القممدرة المطلقممة .فممي هممذه الحالممة يتوحممد
النسان توحدا ً قطعيا ً بالطبيعة في ظواهرها وحركتها ،ككون مستقل عممن
أي امتداد.
وحين يتحد النسان بالطبيعة ،فسيكتشف نفسه بل شك فاعل ً متعممدد
القممدرات ،ومبممدعا ً إلممى أقصممى حممدود البممداع .فالحركممة الكونيممة مهيممأة
بالشروط الموضوعية ،ومقننة بشكل يستجيب للتحليل والتأليف العلمممي ،
أي مركبة على كل ضرورات الدفع الحضاري .هذه الوضعية الكونية مع ممما
يقابلها من قدرات إنسانية مكافئة بممالوعي والعلممم ،تولممد لممدى النسممان –
حين ل يرتبط برؤية القدرة اللهية – شممعورا ً بالسممتغناء عممن أي تممأثير يممرد
عليه من خارج الطبيعممة .يغفممل فمي هممذه الحالممة عمن آيممات التسممخير فممي
الطبيعة نفسها ،ويبتدئ بفعله من حيث يقف ل من حيث أتى.
كيف تكون علقة النسان بالطبيعة في هذه الحالة؟ تكون علقة قهممر
وصراع ،إذ تفقد الظاهرة الطبيعية معناها النساني المسخرة لممه ،ويتخممذ
الوجود كله شكل القمموى المتصممارعة والمتضممادة والمتنابممذة ،ويصممبح مممن
خلل إنجازاته الحضارية المتنامية.
هنا يتحول النسان إلى إله ،ولكنه إله يستمد قيمه من عالم الطبيعممة
الذي اندمج فيه وتوحد به .يصبح قانون الطبيعة همو قمانونه وفلسمفتها همي
فلسفته ،فيتحول بالموضعي إلى المطلق ،وبالقلم إلممى القممدرة ،ويغفممل
عن وضعه الحقيقي في إطار الكون المسخر ،وعن وضع الكممون بممما فيممه
ذات النسان في إطار القدرة اللهية.
11
هذا النتصار القلمي هو الذي يولد الحساس بالسممتعلء عممبر منهجيممة
الصراع )الطغيان( .هاتان حقيقتان :طغيان النسان المتولممد عممن ارتبمماطه
بالعلو الحضاري.
ً
ول ينهي الله المممر فممي هممذه الحممدود ،فيممدع النسممان مسممتمرا فممي
ن إ ِل َممى طغيانه مفجرا ً الصراع في الرض ،فيرده إلى الحقيقممة الكونيممة ))إ ِ ّ
جَعى(( .والرجعى هنا – خلفا ً لقممول المفسممرين – ل تعنممي الرجمماء ك الّر ْ َرب ّ َ
الخروي ،وإنما هي دللممة العممودة علممى الثممر نفسممه ،وهممي تصممريف مممن
)الرجممع( أي السممترداد النممي ،كالسممماء ذات الرجممع :فممي حالممة التفاعممل
المستمر بالحركة بين الرض والسماء .وكقول الكافرين )ذلممك رجممع بعيممد(
بعد أن ظنوا بتلشيهم في الرض فل يبقى منهم ما يستردهم الله به .فيرد
الله عليهم )قد علمنا ما تنقص الرض منهم( وهذه دللة على بقائهم ضمن
أشكال متحولة ،غير أن استمراريتهم الوجوديمة ل تنقطمع .المعنمى هنما أن
الله يسترد الفعل إليه بنفي نتائجه على الصعيد الدنيوي نفسه.
مَنا لهذه المسألة هنا يحتاج إلى نوع مممن الممتركيز ،فارتممداد الفعممل َفه ُ
إلى الله ليهيمن على نتائجه ،ل يعني أن القممدرة اللهيممة كممانت غائبممة فممي
حال الفعل نفسه ،إل أن النسان باسممتعلئه القلمممي هممو الممذي غيبهمما مممن
َ
ن َرآهُ وعيه ،لذلك لم تقل الية) :كل إن النسان ليطغى أن استغنى( بل )أ ْ
ست َغَْنى( والرؤية هنا قضية إحساس وشعور ،ل تعممبر عممن الحقيقممة .وهممي ا ْ
أن النسان ليس مستغنيا في الصل ،ففعله قممائم علممى التسممخير ،وقمموة ً
عمله تأتي على سطح قوة العمل اللهممي المضمممنة فممي الكممون بظممواهره
المنسقة ذات المعنى النساني ،كذلك فإن وعيه النساني مع خلق الله له
– هو علم متكافئ مع شروط الحركة الموضوعية نفسممها ،وليممس ظمماهرة
مستقلة التركيب ،لذلك فالسممتغناء هنمما هممو شممعور وهمممي وليممس حقيقممة
كونية.
النسان إذن في علمه واستعلئه بالعلم ل ينفممك عممن ملزمممة القممدرة
اللهية له .فهو )أي النسان( بها يفتعل ،وذلك بحكم التكافؤ المخلوق بينممه
وبين عالمه .وبحكم التسخير الرابط )) ،والله خلقكم وما تعملممون(( أي أن
فعممل النسممان نفسممه أو عملممه مخلمموق بحكممم وجمموده وتحركممه فممي دائرة
التكافؤ بين مخلوقية العالم على نهممج طممبيعي معيممن ،ومخلوقيممة النسممان
على نفس النهج .وتتضح معالم ))والله خلقكم وما تعملون(( في التفصمميل
مداك ُ ْشمماَء ل َهَم َ جممائ ٌِر وَل َموْ َ من ْهَمما َ ل وَ ِ سمِبي ِ صمد ُ ال ّ الذي تحويه الية :وَعََلى الل ّهِ قَ ْ
ن) – (9النحل /ج .14 َ
مِعي َ ج َ أ ْ
فالنسممان – إذن – يتحممرك بفعلممه علممى سممطح قمموة الفعممل الربمماني
المبذولة في النسيج الكوني بما في ذلك وجممود النسممان نفسممه .والمعنممى
ذاته يأخذ شكل ً تفصيليا ً أكثر من اليممات الممتي تربممط فعممل النسممان بقممدرة
ن ال ْ َ قون َ ََ َ َ
ن قَ مد ّْرَنا ح ُ ن)(59ن َ ْ قو َ خال ِ ُ ح ُ م نَ ْ هأ ْ خل ُ ُ َ ُم تَ ْ ن)(58أأن ْت ُ ْ مُنو َ ما ت ُ ْ م َ الله :أفََرأي ْت ُ ْ
بينك ُم ال ْموت وما نحن بمسبوقين)(60عََلى أ َن نبد َ َ
م ِفمي شمئ َك ُ ْ مَثال َك ُ ْ
م وَن ُن ْ ِ لأ ْ ْ َُ ّ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ ِ َ ْ ُ ِ َ ََْ ْ
َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ
ممما م َ َ
ن)(62أفَرأي ْت ُم ْ ّ َ
م الن ّشأةَ الولى فلوْل َتذكُرو َ ْ مت ُ ْقد ْ عَل ِ ْن)(61وَل َ مو َ ما َل ت َعْل ُ
َ َ
ن) – (64الواقعة /ج .27 َ َ َ ُ
عو َ ن الّزارِ ُ ح ُ م نَ ْ هأ ْ عون َ ُ
م ت َْزَر ُ ن)(63أأن ْت ُ ْ حُرثو َ تَ ْ
الله – إذن – يرجع بالفعل على النسان ،لن الفعل فممي أصممله راجممع
إلى الله ضمن محتوى القدرة والتسخير والخلق النساني ،وهو ممما يعممرف
12
بالقتضاء في الحركة ،والتكافؤ في التقابل بين النسان والطبيعة بقوانينها
الموضوعية .ورجوع الله بالفعل على النسان هممو مفهمموم )دنيمموي( وليممس
)أخرويا( كما رأينا .وليس كما وقع في خاطر المفسرين ،فلو كممان القصممد
أخرويا ً لكان الرجح لغويا ً أن تختتم الية بم )وإن إلى ربك المنتهممى( وليممس
)الّرجعى( .فالّرجعى هنا هي من مممماثلت و )إلممى اللممه عاقبممة المممور( أي
بارتداد القدرة اللهية على النسان ضمن مقومات الفعل نفسه وشممروطه
وبشكل دنيوي .وفي هذا السياق أيضا ً يختلف الستخدام القرآني للفظ )ثم
إليه ترجعون( من الرجع عن )ثم إليه ترجعون( فهي ممن الرجموع .فمالرجع
ارتداد في إطار الحركة نفسها ،في إطار الفعل نفسه ،فممي إطممار الخلممق
نفسه ،وعلى نحو آني دنيوي .أما الرجوع فممإنه العممود إلممى ممما كممان المممر
عليه في السابق.
ويأتي سياق السورة ليؤكد الطار الدنيوي لوضعها:
ْ َ َ َ َ َ
دى) ن عَلممى الهُم َ َ
ن كما َ ت إِ ْ صمّلى)(10أَرأي ْم َ َ ذادا إ ِ َ
ذي ي َن َْهى)(9عَب ْ ً ت ال ّ ِ أَرأي ْ َ
َ َ َ َ َ َ
ه َيممَرى) ن الل ّ َ م ب ِأ ّ م ي َعْل َ ْ ب وَت َوَّلى)(13أل َ ْ ن ك َذ ّ َ ت إِ ْ وى)(12أَرأي ْ َ ق َ مَر ِبالت ّ ْ (11أوْ أ َ
ة)(16فَل ْي َمد ْعُ خمماط ِئ َ ٍ كاذِب َمةٍ َ ص مي َةٍ َة)َ(15نا ِ ص مي َ ِ
فعَ ِبالّنا ِ سم َ م ي َن ْت َهِ ل َن َ ْ ن لَ ْ(14ك َّل ل َئ ِ ْ
ب) – (19العلق / جد ْ َواقْت َرِ ْ س ُه َوا ْة)(18ك َّل َل ت ُط ِعْ ُ سن َد ْعُ الّزَبان ِي َ َ َنادَِيه)َ (17
ج .30
ربما يبدو الشكال الوحيد هنا – في التشبيه على المعنى الخروي هو
ورود عبارة )سندع الزبانيممة( ،فالزبانيممة كمما ذهمب أغلممب المفسمرين هممم
ملئكة العذاب في النار ،حيث يدفعون بالكفرة إلممى جهنممم ،والحقيقممة أن
كلمة زبانية لم ترد إل مرة واحدة في القرآن وفي هذه السورة فقط ،أما
ملئكة العذاب في النار فقد ورد ذكرهم بعبارة )ملئكة غلظ شداد( وليس
زبانية .وقد أطلق عليهم )زبانية( تسبيها ً لهم وليس اسما ً ،والتشممبيه يعممود
إلى الناقة الزبون التي تدفع عن ضرعها – وبهذا المعنى ترد عبارة )سممندع
الزبانية( بمعنى قوة مدافعة الشيء بالشيء ،وهي تعكس الرتداد اللهممي
على النسان بالفعل وضمن نفس شممروطه الموضمموعية )أضممل أعمممالهم(
في داخلها وضمنها .ومما يؤكد المعنى الدنيوي في هذه اليممة:وضممع دعمموة
الزبانية كمقابل شرطي لم )فليدع ناديه( ،ونمماديه أي )جممماعته( دعمموة تتممم
في الدنيا ،حيث يتداعى الرهط وليس في الخرة ،فليس ثمة جماعة يلوذ
بها النسان هنمماك .كممذلك )الناصممية( دللممة علممى )الجممبين( رمممز السممتعلء
والكبر والطغيان حيث يسفع بها رمزا ً للهانة.
فالقممدرة اللهيممة فممي تممداخلها مممع الفعممل البشممري )ضمممن الشممكال
الواردة في الملحظات( تظل مهيمنة على نتائج الفعل البشري الحضممارية
باحتوائه سلبيا ً إن كان فعل ً خاطئا ً ،وباحتوائه إيجابيا ً إن كان فعل ً صالحًا.
في الحالة السلبية ترتد عليه في الطار الموضوعي للحركة نفسها أو
من خارجها كما جاءت الحداث علممى أيممام الرسممل .وفممي الحالممة اليجابيممة
أيضا ً يدفع الله بالفعل البشري نفسه ضمن الطار الموضمموعي للحركممة أو
من خارجها .فالله موجود في مسيرة الفعل البشري وحركتممه مممن حيممث ل
نشعر ،غير أن هذا الوجود يتم بكيفيممة همي ممن خصمائص القممدرة ،بحيممث
يصبح النسان أيضا ً مسئول ً عن فعله ،فالتداخل ل يبطل التمايز ،ولن هذا
المر بالذات أي )وجود الله في مسيرة الفعممل البشممري والطممبيعي( يعتممبر
13
من المور المستعصية على الفهام .فقد خططنمما – ضمممن هممذه السلسمملة
الترشيدية – لدراسة مستقلة حول )مراتب الفعل اللهممي فممي تممداخله مممع
النسان والطبيعة( ،فهنمماك مرتبممة )فعممل المممر المطلممق( ،وهنمماك مرتبممة
)فعل الرادة النسبي( ،وهناك مرتبممة )فعممل المشمميئة المقيممد إلمى السممنن
الكونية( ،ولكل من هذه المراتب خصائصها ،وقد شملتها اليات:
َ شيٍء إ َ َ
ن) – (40النحل /ج ن فَي َ ُ
كو ُ ه كُ ْ ل لَ ُ
قو َ ن نَ ُ
ذا أَرد َْناهُ أ ْ ما قَوْل َُنا ل ِ َ ْ ِ إ ِن ّ َ
.14
وكذلك:
َ َ َ
ن) – (82يس /ج .23 كو ُن فَي َ ُه كُ ْل لَ ُ قو َ شي ًْئا أ ْ
ن يَ ُ ذا أَراد َ َ
مُرهُ إ ِ َ
ما أ ْإ ِن ّ َ
ففي اليتين أمر إلهي )إنما قولنمما – إنممما أمممره( .وفممي اليممتين تشمميؤ
للمر )لشيء – إذا أراد شيئًا( ،وفي اليتين توسط بين المممر والتشمميؤ )إذا
أردناه – إذا أراد( .فهناك )صيرورة( للمر نحممو التشمميؤ عممبر الرادة .وهممذه
من خصائص التداخل بين الفعل اللهممي والوجممود البشممري والطممبيعي عممبر
مراتب مختلفة .وفي تلك الدراسة اللحقة – بإذن الله – والتي تعتمد علممى
القراءة المنهجية للقرآن ،سنحاول تجاوز إشكاليات المتكلمين حول الجبر
والختيممار والمنزلممة بيممن المنزلممتين ،ومممع تجمماوز إشممكاليات العلقممة بيممن
المطلق اللهي والنسبية البشرية.
14
فيما سبق أن طرحنمماه توضممحت لنمما بعممض الخصممائص القرآنيممة الممتي
تعتبر مدخلنا لمنهجية القراءة التحليلية.
ل :هناك الحاطة القرآنية المطلقمة بمالوجود متنزلمة علمى لغمة مشميأة. أو ً
فماهية القرآن كلية ومحتوى اللغة نسبي.
ثانيًا :هناك مطلق القرآن ونسبية الواقع نفسمه المذي تنمزل عليمه القمرآن
قبل أربعة عشر قرنا ً قمريًا.
م مث ْل ُك ُم ْ شٌر ِ ما أ ََنا ب َ َ ل إ ِن ّ َثالثًا :هناك مطلق القرآن ونسبية التلقي البشري .قُ ْ
مًل يوحى إل َ َ
ل عَ َ مم ْقمماَء َرب ّمهِ فَل ْي َعْ َ جمموا ل ِ َ ن ي َْر ُ ن ك َمما َ مم ْ ح مد ٌ فَ َ ه َوا ِ م إ ِل َ ٌما إ ِل َهُك ُ ْي أن ّ َ ِ ّ ُ َ
دا) – (110الكهف /ج .16 ح ك بعِبادة ربه أ َ ْ ْ َ
ِ َ َ ِ َ ّ ِ َ ً صا ِ ً َ ُ ِ
ر ش ي ل و حا ل َ
رابعا ً :تفريغ المطلق – دون المساس بمطلقه – في حركة الواقع الحممي ،
بحيث تبمدو المطابقمة قائممة بيمن آيمات القمرآن وأسمباب النمزول المقيمدة
بالزمان والمكان .مع أن القرآن كتاب ))مجيد(( ،أي يحيط بممالمتغيرات ول
د)(21فِممي ل َموٍْح جيم ٌ م ِ ن َ ل هُموَ قُمْرآ ٌ تحيط به المتغيممرات فتتجمماوزه وتبليممه :ب َم ْ
ظ) – (22البروج /ج .30 فو ٍ ح ُم ْ َ
خامسا :إعادة جمعه وترتيبه ل طبقا لتسلسممل النممزول التمماريخي ،ولكممن ً ً
ضمن وحدة منهجيممة كتابيممة ،تخممرج بممالقرآن عممن حيممز التجربممة التاريخيممة
الموضعية إلى الكل العالمي زمانا ً ومكانًا .وهذا ممما فعلممه الرسممول الخمماتم
والروح القدس جبريل ،عليهما الصلة والسلم.
سادسًا :ربط السياق الكلي للكتاب بمحطات وقف تأملية ترتممد بممالمتفكر
إلى ما سبق ،لتعميق وتوسيع التلقي باتجاه ما يلحق .وغالبا ً ما يممأتي ذلممك
في مواضع اليات التي تبدو للناس متماثلة.
إن القممرآن )المجيممد( ل يحيممط بممه إل ّ )ذو العممرش المجيممد( ،فمهممما
تعددت مجلدات الكتابة ،فإنها ليست سوى نصمميب وهبممه اللممه وبمماركه ،ل
دا دا ً مم َ حمُر ِ ن ال ْب َ ْ
ل ل َموْ ك َمما َ يتجاوز قمارورة واحممدة مممن مممداد كلممات اللممهُ .قم ْ
ل ِك َل ِمات ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ
دا) ممد َ ً جئ ْن َمما ب ِ ِ
مث ْل ِمهِ َ ت َرب ّممي وَل َموْ ِ ممما ُ فمد َ ك َل ِ َ ن َتن َ لأ ْ َِ َ َ ْ ُ ْ َ ِ َ ّ
– (109الكهف /ج .16
طوال أربعة عشر قرنا قمريا )هجريا( ومنذ تنزل القرآن على النممبي / ً ً ً
المي /في حراء ،وفي وسط /الميين /العرب ،ثم لحق بهم /الميون /
ُ
م كيهِ ْ م آَيات ِهِ وَي َُز ّ م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ من ْهُ ْسوًل ِ ن َر ُ مّيي َ ث ِفي اْل ّ ذي ب َعَ َ في العالم :هُوَ ال ّ ِ
نريم َ خ ِن)َ(2وآ َ مِبيم ٍ ل ُ ضمَل ٍ فممي َ ل لَ ِن قَب ْ ُ م ْ كاُنوا ِ ن َ ة وَإ ِ ْ م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ مه ُ ْ وَي ُعَل ّ ُ
م) – (3الجمعة /ج .28 كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ م وَهُوَ ال ْعَ ِ قوا ب ِهِ ْ ح ُ ما ي َل ْ َ م لَ ّمن ْهُ ْ ِ
طوال هذه الفترة وإلى اليوم تعددت كتممب )تفسممير( القممرآن ممما بيممن
المحيطين الهادي شرقا ً والطلسي غربًا .وقد أفادنمما علماؤنمما الجلء كممثيرا ً
على أي نهج كانوا ففسممروا ،نقل ً ومممأثورا ً أو رأيمًا .ولكممن يممأتي ممن يعتقممد
اليوم أن القرآن قد كمل تفسيره بمن سبق ،وأنهم قمد عمالجوه ممن قبممل
على افممتراض أنهممم أهممل اللغممة الصمميلة والدرى بكنههمما والقممرآن عربممي ،
وأنهم القرب زمانا ً إلى حملة القرآن ممن كان الرسول بينهم .وتممأتي فممي
هذا المضمار آراء وأسانيد شتى.
فكل ما ذكر صحيح ،فعلماؤنا أجلء وكانت فيهفم كفل تلفك
الحسنات ،لغة وقربا ً في الزمان .فنحن هنا ل نناقش إضففعاف
ما أتوا به ،ول نصفه بما يقلففل مففن قففدره .إننففا نففاقش قضففية
15
السففتمرارية فففي المبحففث القرآنففي نفسففه ،هففل هففي قائمففة
وممكنة أم غير قائمة وغير ممكنة.
فالممذين يقولممون :إن اسممتمرارية المبحممث القرآنممي ،وممما يعرفممه البعممض
)بالجتهاد( أمر غير وارد ،لن مجلدات السابقين قد حوت ،وما سلف أفاد
وأفمماض ،هممؤلء يتجمماهلون مسممألتين هممامتين ،الولممى :أن القممرآن كتمماب
ل )مجيد( والثانية نسبية البشر .القرآن كتاب مجيد – وصفه اللممه بقمموله :ب َم ْ
ظ) – (22البروج /ج .30 فو ٍ ح ُم ْ د)ِ(21في ل َوٍْح َ جي ٌ م ِ ن َ هُوَ قُْرآ ٌ
والمجيممد يعنممي الخلممود والديمومممة ،وبالتحديممد الممذي ل يبلممي تمام ما ً
كالعرش المجيد .والمر الذي ل يبلي من خصائصه أنه يستوعب كل زمممان
ومكان ول ينفرد زمان ومكان باستيعابه ،إل ّ إذا بطلت سنة الله فمي تغماير
وتبدل المكنة والزمنة .فمالقول بممأن زمانما ً معينما ً ومكانما ً معينما ً ،خلل مما
مضى من الربعة عشر قرنا ً ،قد أحمماط بمممادة القممرآن واسممتوعباه شممرحا ً
وتفسيرا ً ،يحمل مظنة الطعممن فممي مجممد الكتمماب كممما فممي مجممد العممرش
اللهي .إنه طعن في الزلية .وللذين يعلمون أن يدركوا معنى هذا الطعن.
نسبية البشر – إن أي بشر ل يستطيع أن يحيط بعلم القرآن ومادته ل
تفسيرا ً ول شرحا ً ول تأويل ً ،ذلممك لن القممرآن متنممزل مممن مطلممق إلهممي ل
يحده بشر ،لن النسان كائن نسبي التكوين .وقد نبه القممرآن لممذلك فيممما
دا دا ًمم َ حمُر ِ ن ال ْب َ ْ ل ل َموْ ك َمما َ أجرى من قول أمرا ً على لسممان خمماتم النممبيين :قُم ْ
ل ِك َل ِمات ربي ل َنفد ال ْبحر قَب َ َ
دا) ممد َ ً جئ ْن َمما ب ِ ِ
مث ْل ِمهِ َ ت َرب ّممي وَل َموْ ِ ممما ُ فمد َ ك َل ِ َ ن َتن َ لأ ْ َِ َ َ ْ ُ ْ َ ِ َ ّ
َ َ َ َ ُ َ
ن ن ك َمما َ مم ْحمد ٌ فَ َ ه َوا ِ م إ ِلم ٌ ممما إ ِلهُك ُم ْ ي أن ّ َ حى إ ِلم ّ م ُيو َ مث ْلك ُ ْ شٌر ِ ما أَنا ب َ َ ل إ ِن ّ َ(109قُ ْ
َ حا وََل ي ُ ْ
دا)– (110 حم ً ك ب ِعِب َمماد َةِ َرب ّمهِ أ َ شمرِ ْ صممال ِ ً مًل َ ل عَ َ م ْ قاَء َرب ّهِ فَل ْي َعْ َ جوا ل ِ َ
ي َْر ُ
الكهف /ج .16
فالرسول في علقته بالقرآن هي علقممة بشممر نسممبي بممادة مطلقممة.
علما ً بأن الرسول لم يورثنا كتبا ً في التفسير ،وما نسب إليه من قول ،أو
فعل ،أو إقرار فهو منقول .إذن فليس من إمكانية للقول بممأن النظممر فممي
َ َْ َ
ن ممم ْ مد ّهُ ِحُر ي َ ُ م َوال ْب َ ْ جَرةٍ أقَْل ٌ ش َ ن َ م ْ ض ِ ما ِفي الْر ِ القرآن قد استوفى :وَل َوْ أن ّ َ
بعده سبع ُ َ
م) – (27لقمان / كي ٌ ح ِ زيٌز َ ه عَ ِ ن الل ّ َ ت الل ّهِ إ ِ ّ ما ُ ت ك َل ِ َ فد َ ْ
ما ن َ ِ حرٍ َ ة أب ْ ُ َْ ِ ِ َ َْ
ج .21
فهل لبشر أن يحيط بذلك؟
الستمرارية بنص القرآن
إن استمرارية المبحث القرآني وعممدم إغلق النظممر عليممه أمممر مؤكممد
بنممص آيممات القممرآن ول تتطلبهمما الحكمممة فقممط .فالكتمماب كتمماب )مجيممد( ،
والبشر على نسبية تكوينهم في زمانهم ومكانهم ،فلكل فممترة حظهمما مممن
الكتاب ومجده تماما ً ،كما أن مجد الكتاب دللة على ختم النبمموة .فلممو لممم
يكن الكتاب مجيدا ً لكان وضعه كوضع التوراة ،فيبعث الله الرسممل مقفيممن
في َْنمما ب وَقَ ّ سى ال ْك َِتا َ مو َ قد ْ آت َي َْنا ُلبعضهم ليواصلوا مهمة الشرح والتشريع :وَل َ َ
ل ) – (87البقرة /ج .1 س ِ ن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ م ِْ
أما النبوة الخاتمة فمقابلها استمرارية الكتاب المجيد في العطاء لكل
الزمنة ولكل المكنة .والعطاء ل يكون إل ّ من خلل بشممر يقممرءون الكتمماب
ويكتبون .وإل ّ تقادم عهد الناس بالكتاب ولم يعد يممواكب متغيممرات زمممانهم
16
ومكانهم وقد ختمت النبوات .فماذا يقول القرآن في هذه المسممألة بممل أن
نستمع لقوال البشر :حين يطول المد يحيي الله الموات.
حقّ وَلَ ْ َ ْ َ
ن ال َ م ْ ل ِ ما ن ََز َ م ل ِذِك ْرِ الل ّهِ وَ َ شعَ قُُلوب ُهُ ْ خ َ ن تَ ْ مُنوا أ ْ نآ َ ذي َ ن ل ِل ّ ِ م ي َأ ِ أل َ ْ
َ كال ّذي ُ
م ت قُل ُمموب ُهُ ْ سم ْ ق َ ممد ُ فَ َ م اْل َ ل عَل َي ْهِم ْ ل فَط َمما َ ن قَب ْم ُ م ْ ب ِ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ كوُنوا َ ِ َ يَ ُ
َ َ
م موْت َِها قَد ْ ب َي ّّنا ل َك ُ ْ ض ب َعْد َ َ ي اْلْر َ ح ِه يُ ْ ن الل ّ َ موا أ ّ ن)(16اعْل َ ُ قو َ س ُ م َفا ِ من ْهُ ْ وَك َِثيٌر ِ
ن) – (17الحديد /ج .27 قُلو َ م ت َعْ ِ ت ل َعَل ّك ُ ْ اْلَيا ِ
قد ربط الله ما بين الرض والقلوب الممتي تممموت حيممن يتقممادم عليهمما
العهد والمد ،فبالنسبة للرض ينزل الله عليها الممماء فتهممتز بعممد أن كممانت
ة ف َم إ َ َ َ ن آَيات ِهِ أ َن ّ َ
ت ممماَء اهْت َمّز ْ ذا أنَزل ْن َمما عَل َي ْهَمما ال ْ َ ِ شع َ ً خا ِ ض َ ك ت ََرى اْلْر َ م ْ ساكنة :وَ ِ
ه عََلمى ُ َ
ديٌر) – (39 يٍء َقم ِ شم ْ ل َ كم ّ مموَْتى إ ِّنم ُ حِيمي ال ْ َ م ْ هما ل َ ُ حَيا َذي أ ْ ن ال ّ ِ ت إِ ّ وََرب َ ْ
فصلت /ج .24
فالخشمموع هممو السممكون المتهيممأ وليممس السممكون العممدمي ،فممالرض
الخاشعة ،المهيأة ،تتلقى الماء فتهتز وتربو .والقلمب الخاشممع يتلقممى ذكممر
الله فيهتز ويربو ،غير أن /المد حين يطول /يميت القلوب ويفقدها قدرة
التلقي ،يفقدها الخشوع .فكيف يثير الله في قلمموب /الممذين آمنمموا قابليممة
التلقي؟ لول أن يكون ذلك /بإحياء /الذكر فممي نفوسممهم وقلمموبهم .وكيممف
يكون ذلك دون الستمرار في الكتابممة والقممراءة والقممول؟ فممإن عمماد المممر
لكثرة المصاحف فإنها بالمليين ،وإن كانت المساجد فإنها بمئات اللوف.
ثم إن المسيحية قد قفزت لتكون الذين الثاني في العالم تعممدادا ً بعممد
البوذية وتنصر كثيرون من ديننا .فممالقلوب الميتممة تحيممى بإحيمماء ذكممر اللممه.
والذكر كتابة وقول وقراءة واستنهاض .ول يتم ذلممك إل بمغالبممة هممذا المممد
الطويممل ونفممض غبمماره وغسممل ممما ران علممى النفمموس .فمممن ذا يواصممل
الستمرارية التي ذكرها الله في سورة الحديد؟ للكتاب ورثففة يحملففونه
ويستمرون:
َ
هن الل ّم َ ن ي َمد َي ْهِ إ ِ ّ ما ب َي ْم َ صد ًّقا ل ِ َ م َ حق ّ ُ ب هُوَ ال ْ َ ن ال ْك َِتا ِ م ْ ك ِ حي َْنا إ ِل َي ْ َ ذي أوْ َ َوال ّ ِ
صط َ َ َ
م من ْهُ م ْ عَبادِن َمما فَ ِ ن ِ مم ْ في َْنا ِ نا ْ ذي َ ب ال ّ ِ م أوَْرث َْنا ال ْك َِتا َ صيٌر)(31ث ُ ّ خِبيٌر ب َ ِ ب ِعَِبادِهِ ل َ َ
و
ك هُ م َ ن الل ّمهِ ذ َل ِم َ ت ب ِمإ ِذ ْ ِ خي َْرا ِ سمماب ِقٌ ب ِممال ْ َ م َ من ْهُم ْ ص مد ٌ وَ ِ قت َ ِ م ْ م ُ من ْهُ ْ سه ِ و َ ِ ف ِ م ل ِن َ ْ ظال ِ ٌَ
ل ال ْك َِبيُر) – (32فاطر /ج .22 ض ُ ف ْ ال ْ َ
قد أوحى – من – الكتاب ما همو مصمدق للمذي بيمن يمديه ،فمي وقتمه
صمميٌر – والخممبرة تتجممه إلممى خِبيمٌر ب َ ِ ه ب ِعَِبادِهِ ل َ َ ن الل ّ َ وعصره ،وختمت الية -إ ِ ّ
التفصيل في المر ،ودقائق الواقع كذلك ما يستبصر مممن المممر .ثممم أورث
الكتاب لمن اصطفاهم الله من عباده ،ولم يقل الله إنهممم أوليمماء يطيممرون
في الهواء أو يمشون على الماء ،ولم يقل إنه يرسل آيات يستشهدون بها
على أنهم ورثة الكتاب ،بل قال عنهم غير ما يتوقعه الناس عادة في مثممل
هذه الوضاع ،قال عنهم إن منهم من هو ظممالم لنفسممه ،ومنهممم مممن هممو
مممن ل ينضمموي مقتصد ،ومنهم من هو سابق بممالخيرات .ومممن مممن البشممر َ
من ذا الذي يشترط على الله صممفات صفة ضمن قائمة من هذه القوائم .و َ
الوريث؟!
ً
فالورثة موجودون ويستمرون في عملهممم أي ّما كممانت صممفاتهم .وهممذه
مسممألة ترجممع إلممى اللممه وليممس مممن مجلممس يسممتطيع تحديممدها ،فيصممدر
17
مرسوما ً بأهليمة ممن ورث ،وإن كمان ظالمما ً لنفسمه أو مقتصمدا ً أو سمابقا ً
بالخيرات.
ويحذر الله الوارثين
ول يترك الله المر قيد الهوى ،وإن الهوى لصعب المراس فممي واقممع
كثير العنممت وعظيممم الحممزن فشممدد اللممه علممى الممدرس والتقيممد والمعرفممة
ذا اْل َد ْن َممى ض هَ م َ ن عَمَر َ ذو َ خ ُ ب ي َأ ْ ُ ف وَرُِثوا ال ْك َِتا َ خل ْ ٌ
م َ ن ب َعْدِهِ ْ ْ م
ف ِ خل َ َ الوثوقية :فَ َ
َ َ َ ْ ُ ْ َ
ميث َمما ُ
ق م ِ خمذ ْ عَلي ْهِم ْم ي ُؤْ َ ذوهُ ألم ْ خ ُ ه ي َأ ُ مث ْل ُض ِ م عََر ٌ ن ي َأت ِهِ ْ فُر لَنا وَإ ِ ْ سي ُغْ َ ن َ قوُلو َ وَي َ ُ
داُر اْل ِ َ
خي ْمٌرخمَرةُ َ ما ِفيمهِ َوالم ّ سوا َ حقّ وَد ََر ُ قوُلوا عََلى الل ّهِ إ ِّل ال ْ َ ن َل ي َ ُ بأ ْ ال ْك َِتا ِ
صَلةَ إ ِّنا َ َ
موا ال ّ ب وَأَقا ُ ن ِبال ْك َِتا ِ كو َ س ُ م ّ ن يُ َ ذي َ ن)َ(169وال ّ ِ قُلو َ ن أفََل ت َعْ ِ قو َ ن ي َت ّ ُ
ذي َ ل ِل ّ ِ
َ
ن) – (170العراف /ج .9 حي َ صل ِ ِ م ْجَر ال ْ ُ ضيعُ أ ْ َل ن ُ ِ
فالورثة الحقيقيون )مصلحون( ،والصلح يأتي بعد فسمماد يلعممب فيممه
طول المد دوره ،والصلة عماد ومدخل .والتحذير قائم في أل ّ يتخذ هممؤلء
الورثة مواقف التسهيل المفضية إلى التفريط محاولة منهم لجتذاب قلوب
الناس ،فيمضون ممن الصممغائر إلممى الكبممائر اسممتنادا ً إلمى سمموابق خففممت
الضرورات الخذ بها.
لم يضع الله عقاب مدرسية
إن الخذ بالكتاب يتطلممب السممتعداد وبممذل الجهممد ،غيممر أن اللممه قممد
أوضح أن )الذكر( قد يسمر ،والمذكر همو القمرآن ،فممن يعسمر فمي الخمذ
والتناول فقد جانب اليسر الذي يقتضي أيض ما ً عممدم التفريممط والستسممهال
ر) – (17القمر /ج م مد ّك ِ ٍ ن ُ مم ْ ل ِ ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ م ْ قْرآ َ سْرَنا ال ْ ُ قد ْ ي َ ّ والتسيب .وَل َ َ
.27
فالقرآن قد يسر للذكر ،للعلم والمعرفة بممه ،والعلممم يسممبق اليمممان
ل ال ّذي ُ
ب الّلم ِ
ه م ِفمي ك ِت َمما ِ قمد ْ ل َب ِث ْت ُم ْ ن لَ َ ما َ لي َ م َوا ْ ِ ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ ِ َ في كتاب الله :وََقا َ
ن) – (56الروم /ج مو َ م َل ت َعْل َ ُ كنت ُ ْ م ُ ث وَل َك ِن ّك ُ ْ م ال ْب َعْ ِ ذا ي َوْ ُ ث فَهَ َ إ َِلى ي َوْم ِ ال ْب َعْ ِ
.21
فالله إذ يرفع بالعلم درجات إل أنه ل يجعل من شروط العلم والتعليم
عسرا ً دون جلء حقائق الذكر والتنزيل تماما ً كما فعممل القممدمون بكتبهممم ،
فقيدوها إلى قواعد شممدتها مممن كممل جممانب ،فأركسممت وأخلممدت بهمما إلممى
الرض وأثقلتها ،فل هي بالمتسامية إلى العل ول هي بالمستجيبة لنسمممات
الرياح فتدخلها ،وظنمموا أن فممي إثقالهمما بهممذه المشممدات والحجممارة تقويممة
لبنيانها ،وما فعلوا في الحقيقة سوى حجبهمما بحجممة المحافظممة عليهمما ،ممما
وجد الذكر إل ّ مشارع مفتوحة للداخلين ،ول يخشى اللممه علممى بنيممانه مممن
أحد في السموات أو في الرض فهو له من الحافظين.
لماذا التحليل وليس التفسير؟
إن التفسير هو تفصيل المعاني وشممرحها ،أممما التحليممل فهممو رد هممذه
المعاني إلى أصولها .فالتحليل يأتي لحقا ً للتفسممير فممي السمملوك الفكممري.
وهدف التحليل همو الوصمول إلمى القصمد ممن وراء اليمة والسمورة وليمس
مجرد شرح الية والسممورة .فممي اختصممام المل العلممى ليممس هممدفنا شممرح
موقف الختصام فحسب ولكن فهم نتممائجه .فالتحليممل يتجممه إلممى )ماهيممة(
المر وليس إلى شكله .فالتحليل ل يكتفي بالنظر إلى البل كيممف خلقممت ،
وإلى السماء كيف رفعت ،وإلى الجبال كيممف نصممبت ،وإلممى الرض كيممف
18
َ
ف ماِء ك َي ْم َسم َ ت) (17وَإ ِل َممى ال ّقم ْ
خل ِ َ ف ُ ل ك َي ْم َن إ ِل َممى اْل ِب ِم ِسممطحت :أفََل ي َن ْظ ُمُرو َ
َْ َ
ت)– (20 ح ْ سط ِ َ
ف ُض ك َي ْ َ ت)(19وَإ ِلى الْر ِ صب َ ْف نُ ِ ل ك َي ْ َ جَبا ِ ت)(18وَإ َِلى ال ْ ِ ُرفِعَ ْ
الغاشية /ج .30
وإنما يحاول معرفممة العلقممة بيممن خلممق البممل وهممذا الخلممق الكمموني ،
مضاهاة ارتفاع البل على قوائمها والسماء بل عمد .ونصب الجبال وأسنمة
البل ،وتسطيح الرض وخف البل .فالوحممدة التخليقيممة للبممل فممي مقابممل
الوحدة التخليقية لظواهر الكون .ثم نمضي إلى المركب البعممد ،فالوحممدة
التخليقية للبل هادفة وذات غائية ،فالبممل ليسممت جسممدا ً ل يطممابق حاجممة
النسان ،فهي يسير بخفها وتحمل على سنامها ،وتعطي من ضممرعها كممما
السماء مممن سممحبها ،كممما الجبممال وحجارتهمما وفجاجهمما والرض وسممهولها.
ترابط التكوين الخلقي بالهدف ،بالغاية ،كما خلق لنا ما في البممل جميع ما ً
َْ
ميًعا ) – (29البقرة /ج .1 ج ِ
ض َ ما ِفي الْر ِ م َ خل َقَ ل َك ُ ْ ذي َ تمامًا :هُوَ ال ّ ِ
فهنا أ /خلممق – ب /خصممائص خلممق مكيفممة علممى حاجممة النسممان – ج/
مضاهاة خلق متماثل داخل خلق متماثل.
هنمما يصممل التحليممل إلممى اسممتخلص المبممدأ ،الرتبمماط بيممن الخلممق
والتسخير أي )التوافقية( ،فيوضع هذا المبدأ فممي مقابممل المبممدأ الممدهري /
الشتراكي الخفي /الذي يقرر اللغائية في الخلق وفي اتجاه الحركممة .ثممم
يعاد تركيب مبدأ الغائية القرآني في الخلق ضمن علقة الله بالنسان الذي
خلممق لممه الكممون مممن زاويممة )قيمممة الخلممق اللهممي( فممي مقابممل )الفعممل
النساني( .فحليب البل نتاج قوة عمل – خلق – تكوين إلهممي ،قيمممة قمموة
عمل النسان محددة بالناتج فقط – الحلب – الركوب ،فقيمة العمممل تممرد
بالتحليممل إلممى مصممدرها .المصممدر هنمما هممو اللممه ،ثممم تحلممل قيمممة العمممل
النساني التي تأتي على )سطح( قوة العمممل اللهممي ،إذن ..ل طغيممان ،ل
استبداد ،الزكاة أقل مقدارها مممن قيمممة العطمماء اللهممي لنممه الصممل فممي
الناتج القتصادي .ل نخلق الحليب ولكن نحلبه ،وخلق الحليممب مممن الناقممة
وجعله فيها كجعل المطر في السممماء ،وهممي الممتي تحيممي لنمما الرض .هنمما
نمتد من الغاشية إلممى الحديممد ،والنمممل ،والنفطممار ضمممن سممياق ومنهممج
متسلسل عضوي واحد خلفا ً للتفسير.
بالمنهج التحليلي الذي يركب القضممايا فممي بعضممها ويولممد منهمما قضممية
جديدة ،سنجد أننا ل نكاد نبممدأ بفاتحممة الكتمماب إل وقممد لزمنمما الكتمماب كلممه
لشممرح فمماتحته .فاليممة تبممدأ بسمميطة وسممهلة فممي معناهمما ومبناهمما )) ،أ َفََل
ت(( كمما فمي سممورة الغاشممية ،ثمم تسمتوعب ق ْخل ِ َف ُ ل ك َي ْ َ ن إ َِلى اْل ِب ِ ِ ي َن ْظ ُُرو َ
هذه النظرة آيات في الكتاب كله .فالذي ينظر بالعين الحقيقية ل يمكن أن
يبدأ في حياته بغير )بسم الله الرحمن الرحيم( .فالتحليل يبممدأ بالبسمميط ،
ثم مركب المركب ليصل إلى غاية التعقيد فممي التوليممد أي إلممى )الجدليممة(.
فالبل في سورة )الغاشية( حيث ترمز لمظاهر البناء الكوني هممي )البممدن(
في سورة )الحج( والتي جعلها الله من شعائر وهممي )الذبممح العظيممم( فممي
سممورة )الصممافات( ففممي )الغاشممية( نفهممم معنممى القربممان المموارد فممي
)الصافات( ،ومعنى البدن في الحج ..الكتاب كل منهجي مترابط.
التحليل الجدلي تدقيق منهجي
19
إن من أساسيات التحليممل أنممه قممائم علممى التممدقيق وإل انهممارت كفممة
أساسات البناء للقضية .فالتحليل يعمد إلى إعمادة البحمث والكتشماف فمي
معاني الشياء ،وفق ممما تممرد فممي القممرآن نفسممه وليممس وفممق ممما يشممكل
القناعات العامة .هل كممان إسممماعيل طفل ً صممغيرا ً حيممن عرضممت لبراهيممم
ممما ب َل َم َ
غ رؤية الذبح؟ فإن كان صغيرا ً فكيف جرى ذلك الحمموار المممؤمن؟ :فَل َ ّ
َ َ َ
ل ذا ت ََرى َقا َ ما َ ك َفانظ ُْر َ ح َ مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ ي إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ ل َياب ُن َ ّ ي َقا َ سعْ َ ه ال ّ معَ ُ َ
ن)– (102 ري ب صمما ال ن ممم ه ّ
لمم ال َ ء شمما َ ن إ ني ِ د ج ت سمم ر م ْ ؤ تمم ممما لْ عمم ْ ف ا ت ب يمماأ َ
ّ ِ ِ َ ْ ِ ُ ِ ْ َ
َ ُ َ ِ ُ ُ َ َ ِ َ َ
الصافات /ج .23
فهل قالها وهو صغير؟ أم قالها وهو رجل؟ ))فلما بلغ معه السممعي(( ،
وماذا يقصد بالسعي؟ وما هي مواصفاته البدنية والعقلية؟
هل أمر الله إبراهيم بذبح ابنه الحليم أم أن إبراهيم قد رأى ذلممك فممي
رؤيا منامية ودون أن يعبرها أو يتأولها ثم فسرها له ابنممه بأنهمما أمممر إلهممي؟
ي إ ِن ّممي أ ََرى فِممي ل ي َمماب ُن َ ّ ي قَمما َ س مع ْ َ ه ال ّ معَ ُ ما ب َل َغَ َ م)(101فَل َ ّ حِلي ٍ شْرَناهُ ب ِغَُلم ٍ َ فَب َ ّ
َ َ َ
ن جد ُِني إ ِ ْ سمت َ ِ مُر َ مما ت ُمؤْ َ ل َ ت افْعَم ْ ل َياأب َ ِ ذا ت ََرى َقا َ ما َ ك َفانظ ُْر َ ح َ مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ ال ْ َ
ن) .(102ثم لماذا تدخل الله ومنع الذبح إن كان أمرا ً ري َ صاب ِ ِ ن ال ّ م ْ ه ِ شاَء الل ّ ُ َ
َ ْ ّ َ َ َ
م)(104قَ مد ْ هي ُ ن ي َمماإ ِب َْرا ِ ن)(103وََناد َي ْن َمماهُ أ ْ جِبي م ِ ه ل ِل َ ما وَت َل م ُ س مل َ ممما أ ْ منممه؟ :فَل ّ
ن) مِبيم ُ ْ َ ْ
ذا لهُموَ الب َلُء ال ُ َ ن هَ م َ ن)(105إ ِ ّ س مِني َ ح ِ م ْ ْ
زي ال ُ ج ِ َ َ
ت الّرؤَْيا إ ِّنا كذ َل ِك ن َ ْ صد ّقْ َ َ
م) – (107الصافات /ج .23 ٍ ظي
ِ َ ع ح ْ
ُ ِ ٍ ب ِ ذ ب ه ناَ ْ يَ د َ ف َ و (106
صحيح أن في تصديق الرؤيا ابتلء لبراهيم ولبنممه الحليممم ،فقممد أرادا
تنفيذ ما ظناه أمرا ً من الله ،فجزاهم الله جممزاء المحسممنين ،ولكممن المممر
اللهي لم يكن يذبح البن الحليممم ،وإنممما كممان بالقربممان عممن المكممان فممي
صمورة البمن الذبيمح فمي الرؤيما ،والرؤيما ُتمؤَّول وتعمبر ممن الصممورة إلمى
الصل ،ولهذا جمماء نممداء اللممه لبراهيممم ليسممتدرك عبممور الرؤيمما وتأويلهمما ل
تصديقها على صورتها )وناديناه يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا( أن يا إبراهيممم.
فليس الله الرحيم ،الذي وهب إبراهيم خليله الواه الحليم ،ابنه الحليممم ،
أن يأمره بذبحه ،وإنما هو الفارق بين )تصديق( الرؤيا و )عبورها( كما نجد
ذلك عند يوسف ،وعليهم جميعا ً الصلة والسلم.
وفلك نوح هل هي مجرد سفينة وما الفرق بين الطوفممان والفيضممان ،
ن)– (40 ن اث ْن َي ْ ِ جي ْ ِ ل َزوْ َ ن كُ ّ م ْ وكيف كانت مواصفات البناء وهي قد حملت ) ِ
هود /ج .(12
أي من كل نوع ثمانية ،وقد جرت بهم موج كالجبممال ،وليممس )فمموق(
موج ول )على( موج ،والموج كالجبال ،فكيف كان حال من فيها وهي في
ماءِ َ هذا الموج وما بين ماءين ،من السماء ومن الرض :فَ َ
سمم َب ال ّ وا َ حَنا أب ْ َ فت َ ْ
َ َ
مرٍ قَد ْ قُدَِر)– (12 ماُء عََلى أ ْ قى ال ْ َ ض عُُيوًنا َفال ْت َ َ جْرَنا اْلْر َ ر)(11وَفَ ّ م ٍ من ْهَ ِ ماٍء ُ بِ َ
القمر /ج .27
فهل كانت السفينة /الفلك/مغلقممة؟ وإن كممانت مغلقممة فكيممف عاشمموا
داخلها طوال فترة الطوفان؟ هل قضى الله عليهم وهم داخلهمما سممنة أهممل
الكهف.
تساؤلت تستتبع التحليل ،وللتحليل غاية تتعلق بمرحلة نوح ومن معه
لحل لغز هاروت وماروت ،وحقيقممة بابممل التاريخيممة الحقيقيممة ،أهممي بابممل
20
المعروفممة منممذ القممرن العشممرين قبممل الميلد ،أم بابممل الممتي بنيممت علممى
أطللها؟
هذا كله سيكتشف في مواضعه من التحليل ،فالقرآن فممي كليتممه هممو
بالنسبة لنا مصدر المعرفة المهيمنة على كممل المعممارف بالدقممة والطلق ،
وعليه فمإن ممن واجبمات التحليمل ،التعاممل ممع القمرآن فمي دقتمه وعلمى
مسممتوى الحممرف ورمممزه .فبهممذا نخممرج عممن ضمموابط المعرفممة التفسمميرية
لضوابط معرفية أشد وأدق وأكثر معانمماة ،فليسممت اللغممة وحممدها سممتكون
معيننا ،ولكن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية ،أي سنمضي إلى حيممث
يتاح لنا في علومنا والله المستعان.
في القرآن بين المطلق والنسبي
يتضح أننا سنتبع أسمملوب ممما رتممب عليممه القممرآن ،وذلممك لممما يحمممل
الترتيب نفسه من معنى وماهية رابطة لسياقه المنهجي ،فالقرآن كوحممدة
عضوية ،يحمممل فمي داخمل تكموينه اتجاهما ً فمي الحركمة المحكومممة بغائيمة
معرفية متطورة ومتنامية ،من مبتداه إلى تمامه.
)فمهمتنا أن ننفذ عبر التشيؤ اللغففوي للقففرآن إلففى نفسففه
المتكلمة ،لنلج في داخلها المتحركة بالقراءة ،أو بالدمففج بيففن
القراءتين ،طبيعففة التجففاه والغايففة .هنففا يصففبح القففرآن أشففبه
بكائن عضوي حي وناطق ،ومتشففيئ بالكلمففات المندمجففة فففي
اليات وفي السور وفي وحدة الكتاب(.
أسلوبنا المعرفي لن يكون تفسيريا ً بممل )تحليلي ما( كممما ذكرنمما حيممث ل
ً
تحصرنا فيه امتيازات )المهنة( ،التي جعلت البعض يحظر علممى الخريممن –
من دونه – دراسة الغيبيات والمتشممابهة ،فممي وقممت تعتمممد فيممه الحضممارة
العالمية الراهنة علممى نفممي هممذه الغيبيممات ،لتأكيممد ذاتهمما بإنكممار ذات اللممه
المنزهممة والمقدسممة ،خلف ما ً لممما كممان عليممه المممر طيلممة قممرون البشممرية
السالفة ،والتي لممم تكممن تنكممر فكممرة اللوهيممة ،ولكممن مسممختها بالشممرك
والتعالي .فدراسة الغيبيات وإنشاء علم يبحث فيها وفي كل مدرك فوقي ،
أمر علمي وتاريخي ملح للغاية .وأي تأخير في تدقيق هذا العلم هو خسارة
لنفسنا وللبشرية .ويجب أن نميز أن العلم الذي أدعو إليه ليس هو دراسة
)علم الغيب( ،فالغيب ل يعلمه إل ّ اللممه ،ولكنممي أدعممو إلممى دراسممة )علممم
الغيممب( ,فهممو علممم يختممص باكتشمماف قمموة )الخلممق( علمي ما ً وموضمموعيا ً ،
وبدراسة خصائص التكوين ومقومات الحركة ،وتحديد وجود )الغائيممة( فممي
الخلق والحركة .ووجود اتجاه في سيولة الحركة باتجاه هممذه الغائيممة .فهممل
نجيب على التساؤلت العلمية المادية الجدليممة حممول كمممال الحركممة ونفممي
التأثير عليها من خارجها؟ هل نجيب على ذلممك بوجممود خممالق لهممذه المممادة
وخصائصممها وحركتهمما ،وأن المممادة )ناقصممة( ،ونكتفممي بهممذا القممول فممي
مواجهة المقولت العلمية للثورة الفيزيائية ؟
تغييب الرادة اللهية في الوعي المعاصر
إن أدمغة الحضارة العالمية المتقدمة الراهنة ،محشوة بنظريات فممي
العلوم الطبيعية ،انعطفت بها نحو تطبيقات اجتماعية وفلسفية ،فإلحادهمما
ليس ناتجا ً عن رغبتها الذاتية في اللحاد أو ضلل السبيل ،ولكنه ناتممج عممن
رؤيممة هممذه الفلسممفات لكممون ممنهممج بدقممة علميممة فائقممة فممي خصائصممه
21
وحركتممه ،بحيممث يمكممن للنسممان اكتشمماف قمموانين هممذه الحركممة الماديممة
والسيطرة بها على )تسيير( الكممون ،فممي هممذه الحالممة – أي حالممة القممدرة
على تسيير الكون علميا ً وضمن حالت الثورة الفيزيائية الن ،يجد النسان
نفسه غير مبصر لوجود إرادة ربممه فممي هممذا الكممون المشمميأ ،فتضمممر فممي
واعيته العلقة بالله ول يعود يفهم معنى لعبارة )إن شاء الله( و )بإذن الله(
طالما أنه – أي النسان – يرى نفسه قادرا ً على إطلق قمممر صممناعي إلممى
أي من الكواكب بممل والسمميطرة علممى المركبممة الفضممائية وتحديممد مممدارها
وهبوطها ،كذلك إصلح العطب فيها من محطة التحكم الرضي .وإذا أدرك
إنسان الحضارة المعاصرة وجود الله ،فسرعان ما يجممد أمممامه تفسمميرات
مضلة وخاطئة عن العلقة بالله كمسألة المممر اللهممي ،المتمموهم لبراهيممم
بذبح ابنه ،فيرجع إلى الكفر من جديد .فليس ثمة تكافؤ بين الفكر الممديني
التراثي والعقل العلمي.
العلو العلمي المادي يفضي إلى العلمانية
هذا الواقع المادي يممؤدي إلمى تصممور ذهنممي يفممارق بممه النسمان فعممل
الخلق اللهي في التكوين ،والرادة اللهية في المشمميئة وفمي الحركممة ،ل
يعود النسان المسيطر بعلمه على المادة التي يقلبها طوع بنانه قادرا ً على
رؤية )عنصر ناقص( فيها .ثم يتحول النسان بهذه المنظورات العلمية إلممى
تصور ذهني )أيديولوجي( ،يسحبه على حركممة المجتمممع والتاريممخ والتطممور
المادي والنساني ،فيسير إلى مراحل تشيئات مادية أو إنسممانية ليربطهمما
بمقوماتها المادية )اقتصادية – اجتماعية( فيطرح علم )تطممور المجتمعممات(
ومراحل هذا التطور ،ول يصر مثل هذا الطرح العلمي المادي على أنه قممد
حدد نهائيما ً أشممكال التطممور ونماذجهمما ،ولكنممه يصممر علممى الذاتيممة للحركممة
والتطور.
مثل هذه المفاهيم النافية لفعل الغيب قد حوربت في إطار الحضممارة
الغربية نفسها ،ولكنها حروب كان المدافعون فيهمما عممن )عقيممدة اليمممان(
أقل أصالة وأكثر سطحية .فحين طرح "نيمموتن" التصممور اللممي الميكممانيكي
للكون ،وأن كل شيء خاضع لقانون السببية الليممة ،وتمكممن مممن تفصمميل
الممبراهين علممى نظريتممه سممعى المؤمنممون تحممت ضممغط القتنمماع بالنظريممة
العلمية الميكانيكية للقول بأن الله قد كون الكون ،وحدد خصائصه المادية
،وضمنه حركته اللية الذاتية ،ودفع بممه فممي اتجمماه الزممن ،وهممذه نظريممة
عرفت وجود الله بأنه أعطى )الدفعة الولية( للكون ،وهذا المنطق يحتمل
بالضرورة أن الله قد خلق الكممون ودفعممه ثممم )غماب( عنممه ليسممتعيده فيمما
بعد ،أي في يوم البعث)) .ايزاك نيوتن .((1727-1642 /
وحين حلت النظريات العلمية التطورية على يد )داروين( وبالذات في
مجال الخليا والنسجة وتكونها واستخلص نماذج تطورهمما ،لجممأ الممماديون
إلى استلب هذا المفهوم التطوري لتأكيد التطور الحيائي وبمستوى أرقممى
من قوانين العلقات الليممة ،فتحولمموا بهممذه النظريممة مممع تعميقهمما بممالعلوم
القتصممادية والجتماعيممة ،وعلممم الحفريممات الثريممة إلممى حركممة المجتمممع
التطورية على نحو ل أثر فيمه لرادة خارجيمة ممؤثرة فمي مسميرة التطمور.
)تشارلس داروين .(1882-1809 /
22
ولم يستطع المؤمنون في مواجهتهم سوى استلب المفهوم التطوري
– مع القرار به – وتحويله إلى منحى مثالي أشبه بالوضعي ،يفسممر دوافممع
التطور بأنها كامنة في )فكرة( في )مطلق( يحدد )ماهيممة( الشممياء ويمموجه
حركتها نحو الغاية – الفكرة التي انتهت "بهيجل" إلى )الدولة( .كشكل مممن
أشكال توليد المطلق للفكرة في داخل المادة وحركتها .و "هيجل" هذا هو
الذي قال عنه ماركس :إنه قد وجده يمشممي علممى رأسممه فأعمماده ليمشممي
على ساقيه ،أي تحول من الفكرة المطلقة التي تمشممي فممي المممادة إلممى
مادة تمشي على ساقين ماديين) .هيجل .(1831-1770 /
وما بين إشكالية الرادة اللهية التي شيأت الكممون وحممددت خصائصممه
وغايممة الحركممة واتجاههمما ،وممما بيممن نظريممات العلمموم الطبيعيممة وإحالتهمما
الفلسفية ،اتخذ عديد من الفلسفة موقف الحياد أو السلبية فهممم ممماديون
فممي مختممبراتهم ،ولهوتيممون فممي حيمماتهم ،فظهممرت فلسممفات ترقيعيممة
وتوفيقية وانتقائية ،ل إلممى هممؤلء ول إلممى هممؤلء ،وتمماهت فممي ركممام مممن
التحديممدات غيممر المحممددة .وممما ذلممك إل ّ لعممدم التكممافؤ ممما بيممن المفمماهيم
الخرافية التي تلبست اليديولوجية الدينية وتحرر العقل العلمي.
وجود الله بين التجريد والواقع الموضوعي
المشكلة ليست بسيطة كما يظنها البعض ،فكثير مممن النمماس يطلممق
ل)) :أل يفكر هؤلء العلماء الماديون في كيفية العبارات بسهولة كالقائل مث ً
الخلق العظيم والمقتن ،بحيث أصبح فممي دقممة تنظيمممه طمموع بنممانهم ،أل ّ
يفكر هؤلء في وجود خالق عظيم ...إذن هم مجرد أغبياء وكفرة((.
بهذه الحجة يغلق السجل .غير أن هممذه الحجممة لممم تكممن كافيممة حممتى
لقناع مشركي قريش قبل النبوة ،فقد قال لهم أحد الحناف)) :بعرة تدل
على بعير ،وأقدام تدل على مسير ،فأرض ذات فجاج ،وسماء ذات أبراج
،أفل يدل ذلك على حكيم خبير؟ (( .ولكن بممالنبوة تحممول المشممركون إلممى
اليمان وإدراك حقائق ما نطق به ذلك الحنفي ،فلماذا؟
المر هنا ل يفسر من زاوية أنه كان على قلوبهم أقفممال لممم تكسممرها
إل ّ النبوة ،وإن كانت النبوة قد فعلت ذك ،ولكن كيف فعلته؟ فعلتممه حيممن
أبصر عرب الجزيرة فعل الرادة في الحركة الماثلة أمامهم ،فعممل المموحي
واليات المنزلة مرتبطة بكل حدث حيوي متحرك فممي واقعهممم ،رأوا فعممل
الرادة ،فممآمنوا وتيقنمموا ،أي أنهممم رأوا فعممل الغيممب فممي المممادة ،فممي
الحركة ،أحسوا به حاضرا ً موجودا ً .وعلموا صدق ما أنبأهم الله به.
إذن إشكالية النسان الذهنيففة ليسففت فففي دللت المنطففق
الفعلي على وجود الخالق ،ولكن الشكالية في أن يففدرك هففذا
النسفان ويحفس إحساسفا ً ملموسفا ً بوجفود الخفالق ففي حركفة
الكون والحياة بغير مفففاهيم خرافيففة وأسففطورية ،فيففدرك أنففه
مرتبط بفه ماديفا ً وفعليفا ً ،وأن وجفوده ككفائن بشفري وتطفوره
ككائن إنسان ،مرتبط في دقائق حركته بإرادة إلهية مباشففرة ،
محجوبة فففي ذاتهففا ،وليسففت معلومففة فقففط بآثارهفا وتصففورنا
العقلففي لهففذا الثففر ،ولكففن بفعلهففا الضففمني ،إضففافة إلففى
استرجاع المفاهيم الدينيففة واستصفففائها مففن الطففر الخرافيففة
والسطورية التي زيفت معاني العلقة النسانية مع الله.
23
علم الغيبيات وليس علم الغيب
إننا ل نريد علم ما ً كعلممم المممدركات أو )الدراك فمموق العقلممي( ،وإنممما
نريد )علم الغيبيات( وليس علم الغيب لتأكيد فعمل الغيمب )الرادة اللهيمة(
في الحركة الماديممة ،ودون أن نقممول للحضممارة البشممرية :إن ثمممة )عنصممر
مفقود( أو )ناقص( في الحركة المادية وهو دليل وجممود اللممه .إننمما نريممد أن
نخممرج بممالفكرة الدينيممة مممن إطارهمما )الخلقممي( إلممى إطارهمما الحضمماري
الموضوعي الشمل ،بحيث نفهم القيمة العلمية الفعليممة لهممذه الخلقيممات
في حياتنا الجتماعية وتطورنا الحضاري وتقدمنا العلمي ،أي الدين كما هو
في حقيقته من أجممل الحيمماة .مواكبما ً لتطممور العقممل النسمماني وموجهما ً لممه
ومتقدما ً عليه.
ل زال ثمة من يقول :إن الفكرة الدينية والغيبية صممادرة عممن مراحممل
عجز النسان عن فهم حركة الظواهر الطبيعية والسيطرة عليهمما .أممما الن
وقد تطورت مممدارك النسممان ووصممل مرحلممة التحكممم مممن علممى بعممد فممي
المركبة الفضائية ،فلم يتبقّ إل ّ القليل ليتخلى النسان عن فكرة الله.
ذهنية المرحلة العقلية الحيائية
في الحقيقة كان هذا التصور أحد مصادر تفكير النسان في وجود الله
،فاتجه إلى عبادته فممي شممكل ظممواهر طبيعيممة كالشمممس وكممالقمر ،كممما
جسد فكرة اللوهية في رموز ضممنمية .ومضممى النسممان لكممثر مممن ذلممك ،
حين جعلت كل فئة لنفسها إلها ً )خاصًا( بها ،يحميها وينصممرها ويممدفع عنهمما
شر الخرين ويقودها .وقد كانت فكرة الله الخاص استلب بممدائي لليمممان
بالله الواحد الخالق .وقد مضى النسان لكثر من ذلممك حيممن جعممل نفسممه
معبودا ً يتشيأ الله في شخصه أو يقع منه موقع الظل .وذلك كله نجده فممي
علممم )تاريممخ تطممور الديممان( وعلممم )الديممان المقارنممة( ،وفممي النظريممات
الجتماعية حول تكون المفاهيم ونوعية التصورات الذهنية.
مشكلة البشرية فممي مرحلممة وعيهمما )النيمممي( ) ،الحيممائي( ،الدراك
عبر الظواهر الطبيعية الحية المستقلة عن بعضها ،أنها قد جسممدت وعيهمما
باللوهية الخالقة والفاعلة في رمز تراه وتخاطبه وجعلت ما بينها وممما بيممن
هذا الرمز الجامد الخرس وسمميطا ً حيما ً ناطقما ً )الكهنممة( ،وقممد قممام هممؤلء
بدورهم في بلورة وتحديد مفهوم الدين وشعائره من حول هذا الرمز.
المهم أن البشممرية قممد ارتبطممت بالصممنام والهياكممل الوثنيممة والمعابممد
والطقوس والشعائر ،من خلل إحساسها بالله ،ومن خلل حاجتهمما إليممه ،
ضمن حياتها المليئة بظواهر الطبيعة المتحرشة والحياة المتوحشممة .كممانت
تريد إلها ً )تراه( و )تخاطبه( و )تنظر إلى فعله( وهممو يقمموم بإحممداثه أمامهمما
وفي القرآن شممواهد كممثيرة علممى ذلممك .وكمان السممحر هممو وسمميلة إحممداث
التغيير المادي في المرحلة الولية ضمن ثقافات تلك الشعوب.
النبوات تصارع في جبهتين
جاءت النبوات لتصارع في لطمار تلمك المرحلممة التاريخيمة )الحيائيممة-
النيمية( في جبهتين:
جبهة استخلص الوعي النساني من أسر تصوره الذهني لقوى الكون
الطبيعية ،وإسقاط فكرة اللوهية عليها وتجسيد الفكرة في الرمز مؤكممدة
24
أن هذا )الله – الصنم ( الذي يرى ويخاطب ،سواء في السماء شمسمما ً أو
ََ
ت ت فَعَل ْم َ في الرض وثنا ً ،هو إله عاجز حتى عن حماية نفسممه ))قَمماُلوا أأن ْم َ
م) – (62النبياء /ج .((17ونفت عن الله خصوصية هي ُ ذا ِبآل ِهَت َِنا َياإ ِب َْرا ِ هَ َ
النتماء لعصبة بشرية معينة ،ونفت عنه صفة التجسيد والحلول.
في الجبهة الثانية كان على النبوات أن تجيممب علممى تسمماؤلت تتعلممق
بإلهها غير المرئي وغير المتجسد ،فالنسممان يريممد أن يخمماطب إلهممه ،بممل
ك) – (143العراف /ج ب أ َرِِني َأنظ ُْر إ ِل َي ْ َ يريد أن يراه ،وحتى النبياء ))َر ّ
.((9وكانت الجابممة واضممحة فممي فعممل اللممه المممرئي للخمموارق المعجممزة ،
انفلق البحر ليعبر بنممو إسممرائيل وعممدم احممتراق إبراهيممم بالنممار ،والمثممال
المادية المحسوسة الخارقة عديدة.
إذن كان ثمة فارق بين تصممورات الممذهن الحيممائي )النيمممي( وعقيممدة
التوحيد لله الفاعل الخالق المريد غير المرئي ،وقد تجمماوز اللممه بهممم هممذه
المرحلة عبر النبوات وجهمماد النبيمماء لثبممات وجممود اللممه أو فكممرة اللوهيممة
ولكن إثبات الحضور اللهي بممالرادة فممي الفعممل الجمماري المتمثممل أمممامهم
رحمة أو عقابًا.
هنا حولت تلك الجماعات البشرية رؤيتها لللوهية باتجاه الله الواحد –
غير المرئي ،غير المتجسد – ولكنه الفعال ،الموجود فمي حركمة الحمداث
المادية .غير أن تلك الشعوب لم تتخمل عمن تصمورها لمعنمى اللوهيمة :وَإ ِذ ْ
م ق ُ َ
ة وَأن ْت ُم ْ ع َ
صمما ِم ال ّ جهَْرةً فَأ َ َ
خ مذ َت ْك ُ ْ ه َ حّتى ن ََرى الل ّ َ
ك َن لَ َ ن ن ُؤْ ِ
م َ سى ل َ ْ مو َ م َيا ُ قُل ْت ُ ْ
ن) – (55البقرة /ج .1فكان تأكيد الله لوجوده فيممما أحممدث مممن َتنظ ُُرو َ
خوارق مقدمة لصمتهم.
إذن فالشكال الذي كان يعالج في تلك المراحل ليس إنكار وجود الله
أو العتقاد به ،فقد كانت فكرة اللوهيمة قائممة ،ولكنهما أسمقطت بذهنيمة
الحيممائيين علممى ظممواهر الطبيعممة ومجسممدات الرمممز ،فحممول اللممه – عمبر
النبوات – تموجه العتقماد إلمى وحدانيمة مؤكمدا ً علمى حضموره بفعلمه وهمذا
الجانب الخير هو الجانب الهم.
الرادة اللهية والعلوم المادية
الن ،وفممي المرحلممة الحضممارية العلميممة الراهنممة ل يبممدو الشممكال
الساسي قائما ً حول وجود الله أو إنكمماره ،وإنممما هممو أيضما ً ذلممك الشممكال
البممدائي حممول موجوديممة اللممه – الغيممر مممرئي والغيممر متجسممد – فممي إطممار
الحركة المادية للكون .فإذا كانت الحضارات الولية قد نظممرت إلممى المممر
من زاوية ضعفها وعجزها أمام ظواهر الطبيعممة واسممتبدادية ملوكهمما ،فممإن
الحضارات الراهنة علميا ً تنظر إلممى المممر مممن زاويممة إحساسممها بالقممدرات
العلمية للسميطرة علمى الظمواهر الطبيعيمة ،بفهمهما واسمتخلص قوانينهما
وتحليلها إلى جزئياتها وإعادة تركيبها.
هنا ينتهي أثر اليممان الحيمائي الولممي بمالله ،والقمائم علمى العجمز ،
لتحل محله عقائد الرتداد إلممى الممذات وإلممى الموضممع الممذي تسمميطر عليممه
الذات البشرية وتتحكم فيه .هنا الرتممداد إلممى القممدرة الذاتيممة ،وتضممخيمها
على نحو فردي أو طبقممي أو شمموفيني والسممتعلء علممى العممالم .إن فكممرة
اللوهية تنسحب هنا على فعاليات القدرة العلمية ،وكما قلنمما فممي أحسممن
25
الحوال يتمثل البعممض الفكممرة اللهيممة فممي الدفعممة الليممة الوليممة ،أو فممي
الماهية كفكرة مطلقة موجهة للتطور بطريقة هيجلية.
إذن فالقضممية أن نسممتعيد مممع الحضممارات العلميممة المتقدمممة مفهمموم
وجود الله بالفعل والرادة في الحدث الجاري ،في التكوين ،في الخصائي
،في علم الحركة ،في إحالت النظريممات العلميممة فلسممفيا ً ،إنهمما مشممكلة
َ
ن)كي َ م ْ
شممرِ ِ ن َقاُلوا َوالل ّهِ َرب َّنا َ
ما ك ُّنا ُ م إ ِّل أ ْ م ت َك ُ ْ
ن فِت ْن َت ُهُ ْ م لَ ْ
الشرك الدهري :ث ُ ّ
– (23النعام /ج .7
ولكن ...هذه المممرة ،ليممس بمالطلب ممن اللمه إحمداث الخموارق فممي
ظممواهر الطبيعممة ،وليممس بممالنبوات .فقممد ختمممت تلممك المراحممل بممالقرآن
المتنممزل علممى ضمموء الحممداث والسممباب فممي حركممة الواقممع ،أممما هممذه
المرحلة ،فقد بدئت بنفس القرآن معادا ً ترتيبه في وحدة عضمموية منهجيممة
إنها معجزة بعد معجزة.
فكما تبدى الله في الحركة بممالخوارق فممي إطممار المرحلممة الحيائيممة ،
يتبدى الله في عصر الحركة العلمية المادية المعاصرة ،بتجاوز وعممي هممذه
الحركة العلمية المادية نفسها .إن الله يبقى على مقومات الحركة الكونيممة
علميا ً وماديما ً ،ول يتممدخل فيهمما بخممارق العجمماز ،ولممو شمماء لفعممل .ولكنممه
سبحانه وتعالى يعطي هذه المرحلة طبيعمة محاوراتهما ممن ذاتهما ،أي ممن
علميتها وجدليتها وتطوريتها .ليتضح الفارق ما بيممن العلممم والعلمانيممة ،وممما
بين الجدل والجدلية ،وما بين التطور والتطورية ،وما بين المادة والمادية.
فالمشممكلة ليسممت فممي مكونممات وخصممائص المممادة ،وليسممت فممي العلممم
بقوانين الحركة في الكون ،وليست في اكتشاف عمليممة التطممور والتشمميؤ
الكوني والبشري ،وليست في جممدل الممتركيب للظممواهر بمتراكم عناصممرها
المختلفة وتحولتها النوعية ،ليسممت المشممكلة فمي كمل ذلممك ،فهممذا واقمع
موضوعي ملممموس فممي الكممون كلممه .إن المشممكلة تكمممن فممي )إحالممة( أو
)سحب( هذه )الشكال( من المعرفة إلى )مفهوم مادي( للمعرفممة .فممالهم
أن يعطي القرآن من داخل منهجيته مفاهيم للوجود متكافئة – إن لممم تكممن
متجاوزة – مع تطور العقل البشري خارج تراث المرحلة الحيائية.
شكل المعرفة والتوظيف المنهجي
إننا ل ننفي مطلقا ً )أشكال( هذه المعرفة العلمية في حركممة الواقممع ،
فخصائص الكون الماديمة المتشميئة تسمتجيب للمعرفمة العلميمة بمنظورهما
التطوري والجدلي ،تمام ما ً كممما اسممتجابت مممن قبممل لمعرفممة علميممة أكممثر
محدوديمممة وبدائيمممة ،وهمممي المعرفمممة العلميمممة الليمممة )العلمممة والمعلمممول
وروابطهما( ،ومن قبلهمما المعرفممة العقليممة الطبيعيممة ضمممن قابليممة العقممل
للقياسات النقدية والوضعية.
إن كل هذه الشكال من المعرفة ،وإن نسخت بعضممها بتطممور العلممم
نحو أشكال معرفة أرقى اتسممع بهمما مجممال حركممة النسممان ،إل ّ أنهمما تبقممى
صحيحة في مجالها التطبيقي ،وفي كونها أسس ما ً بنائيممة لحضممارة النسممان
وتقدمه.
هنمماك مممن يحمماول اليمموم إيجمماد علمموم إسمملمية )بديلممة( عممن العلمموم
المعاصممرة وبالممذات فممي مجممال التاريممخ وعلممم الجتممماع ،أو ينطلممق مممن
)أسلمة( العلوم الموجودة .متناسيا ً أن كافة علوم البشر إنما تنمدرج ضممن
26
)القراءة الثانية العلمية( فليس المطلوب إيجاد بديل عن هذه العلوم وإنممما
المطلوب ربطها بالقراءة الولى في سممورة العلممق ،ربطهمما بممالله بوصممفه
خالقا ً ،وما شرحناه حول )الجمع بين القراءتيممن( ،فحيممن يتجممه همنمما إلممى
محاولة )القراءة القرآنية للتاريخ( فيجب أل ّ يعني ذلممك قممط طممرح )تفسممير
إسلمي لكل التاريخ( نبطل بموجبه مناهممج القممراءات الخممرى فممي التاريممخ
وحركممة التطممور البشممري ،فمشممروعنا فممي القممراءة القرآنيممة للتاريممخ ،ل
ل( عممن القممراءات الخممرى ،ولكنممه يكشممف جممانب لممم تسممتطع يشكل )بدي ً
القراءات الخرى الوصول إليه نتيجة التزامها بمناهج وضعية في الساس ،
أهملت )البعممد الغيممبي( فممي تكمموين الوجممود وتشممكيل الحركممة ،فتجمماوزت
بالتالي )الغاية اللهية( من خلق العالم.
فهنمماك قممراءة للتاريممخ البشممري تأخممذ بجممدل الطبيعممة ،ومممن خللممه
النسان وفق منهج مادي تطوري ،وهي القراءة الماركسية التي اسممتهدت
بالتطورية الداروينية والجدلية الهيجيليممة ،واسممتندت إلممى ممموروث العقليممة
الوروبية الجديدة بعد الحقبة النيوتينية ،الممتي افترضممت أن وجممود )نظممام(
في الطبيعة يفترض وجود نظام لقانون طبيعي في الخلق.
القراءة الماركسية للتاريممخ هممي قممراءة اقتصممادية واجتماعيممة صممارمة
استهدفت البحث في )قانون الظاهرات( وتحولتها ،فقممد كممان ثمممة شمميء
واحد يشغل ماركس وهممو ..)) :أن يجممد قممانون الظمماهرات الممتي يدرسممها ،
وليس فقط القانون الذي يتحكم في شكلها المتوقف ،وفي ارتباطها الذي
يمكن ملحظته خلل برهة معينة من الزمن ،ل ،فالذي يهم ماركس فمموق
كل شيء إنما هو قانون تغيرها ،قانون نموهمما ،يعنممي قممانون انتقالهمما مممن
شكل إلى شكل لخر ،من نظام ارتباط إلى نظممام آخممر ،وحيممن يكتشممف
ماركس هذا القانون ،يفحص بالتفصيل النتائج التي يظهممر بهمما فممي الحيمماة
الجتماعية (( )رأس المال – كارل ماركس – الجزء الول – نشرت فقرات
هذا المقال في مجلة – الرسل الوروبمي – بطرسمبرح – عمدد ممايو/أيمار –
.(187
تخصصت القراءة الماركسية للتاريخ بالكشف عن أهمية مبدأ تقسمميم
العمل وتشكل الطبقات .هناك قراءات أخرى للتاريخ منها التفسير المثالي
الهجيلي والحضاري لشبنجلر والجنسي لفرويد .وقممد أفمماض الممدكتور/عممماد
الدين خليل في شرحه وتقديمه لبعض نماذج هذه القراءات [د .عماد الدين
خليل – التفسير السلمي للتاريخ – دار العلم للملييممن – بيممروت – ص 18
– ط ع .]1982 -كما قدم نقدا ً لمحاولت التفسير السلمي للتاريخ حيممث
عرض لها بممالقول)) :إننمما ل نجممد إزاء هممذا كلممه دراسممات منهجيممة متكاملممة
لعرض التفسير السلمي للتاريخ ،من خلل الرؤية القرآنية عرضما ً تحليليما ً
مستقل ً ،فهناك شذرات عن المسألة في كتاب محمد إقبال )تجديد الفكممر
الممديني فممي السمملم( ،يطفممي فيهمما التحليممل العقلممي علممى السممتمداد
الموضوعي من القرآن ،وبحث التفسير السلمي فممي كتماب عبممد الحميممد
صديقي )تفسير التاريخ( ،ل يعدو أن يكون محاولة مستعجلة لتقديم بعممض
ملمح الموقف ،تفتقد في كثير مممن جوانبهمما العمممق المنهجممي والتماسممك
،على ما فيها من جرأة ودقة في طرق باب جديد ،أما كتاب راشد البراوي
)التفسير القرآني للتاريخ( ،فهو مجموعة دراسممات اقتصممادية فممي القممرآن
27
الكريم ل علقة لها بتفسير التاريخ ،اللهم إل ّ الصفحات الخيرة من الكتاب
،والتي يمر فيها بالمسألة مرورا ً سطحيا ً سريعا ً ،وكان الحرى أن يسمممى
الكتاب )دراسات اقتصادية في القرآن( بدل ً من تسميته تلك..
..ويبقى المثقف المسلم ،والمؤرخ المتخصص ،والطممالب الجممامعي
– بعد هذا – في حاجة إلى مرجع منهجي يرتبط بالقرآن ارتباطا ً عضويا ً ،ما
دام يسعى إلى كشف الرؤية القرآنية نفسها تجاه حركة التاريممخ ..ويسممتمد
مادة بنيانه من معطيات القرآن ذاته ،ويعتمد المنهج الحديث للبحث.(( ..
قد أراد الدكتور /عماد الدين خليممل ،وبعممد نقممده لهمذه المحماولت أن
يصل إلى )التفسير السلمي للتاريخ( عبر إجراء مقارنات بين كممل مممذهب
من مذاهب التاريخ ،وما يعتبره هو في المقابممل منظممورا ً قرآني ما ً ،منطلق ما ً
من الصول الفلسفية لهذه المممذاهب ونقممدها بممأكثر مممما أعطممى التفسممير
الذي ينشده )إسلميًا( للتاريخ .وتتلخص الشكالية هنمما فممي محاولتنمما إيجمماد
)بديل كلي( عن مفهوميات الغير للتاريخ بهدف تأصيل القراءة السمملمية ،
فممي حيممن أن هممذه القممراءة السمملمية للتاريممخ تختلممف نوعي ما ً فممي مجممال
تخصصها ،إذ ليس مطلوبا ً لصياغة المفهوم السمملمي للتاريممخ ،أن نبطممل
مبدأ السمتجابة والتحمدي كمما طرحممه "توينمبي" ،أو نلغمي نظريممة تقسمميم
العمل ،وإنما المطلوب تحديممد الطممار الممذي نممدرس مممن خللممه ممما نعنيممه
بالقراءة للتاريخ.
فالقراءة القرآنية للتاريخ هي ما تختص بالكشف عن مراحل الخطاب
اللهي المتدرج للبشرية من العائليممة الدميممة ،وإلممى القبليممة السممرائيلية ،
وإلى المية العربية ،وإلى العالمية الشاملة .ول علقة لممذلك بنفممي مناهممج
الخرين ،فهذه القراءة لنوعية الخطاب اللهي ،وليس قراءة في نظريات
تاريخية.
قممد أكممدت مممرارا ً علممى أن المنهممج القرآنممي ل ينفممي حصمميلة الجهممد
البشري المعرفي ،وإنما يعيد صياغته )كوني مًا( أي ضمممن المنظممور الكمموني
وعبر )الجمع بين القراءتين( ،بذلك نتجاوز مادية هذه المناهج وقصممورها و
)نستعيدها( أو )نسترجعها( للمنهجية القرآنية التي )تستوعبها( و )تتجاوزها(
بذات الوقت.
إننا لسنا كبعض المدارس اللهوتية التي لم تستطع أن تفهم )أشكال(
هممذه المعرفممة ،المتناقضممة مممع تصمموراتها الذهنيممة المتخلفممة عممن الكممون
وحركته .قلنا أننا لسنا )حماة مهنممة( كهنوتيممة تخشممى منافسممة فئة العلممماء
والمخترعين ،الذين يمأتون فمي كمل يموم يقمض مضماجع سمكونها الفكمري
الرتيب.
إن )أشكال( المعرفة وتطورها يعني قدرتنا نحن ،ككممل بشممري علممى
استيعاب مزيد مممن التقممدم العلمممي الممذي يفتممح أمامنمما مزيممدا ً مممن الفمماق
والتحليل والدراك .غير أن هذه الشكال من المعرفة من شممأنها أن تممؤدي
إلى نتيجتين متناقضتين:
النتيجة الولى :أن تدمج همذه الشمكال ممن المعرفمة الموضموعية
في إطار التعرف علممى الرادة اللهيممة ،بحيممث يعتممبر الكممون كلممه وحركتممه
متشمميئا ً عممن هممذه الرادة .وقتهمما تنخلممع الذاتيممة البشممرية عممن نرجسمميتها
28
وصراعيتها واستعلئها وإفناء ذاتها بذاتها ،فتندفع بكل طاقات البشرية فممي
تواصل حضاري ل يعرف النهيار ،لنه ل يحمل مقومات النهيار التنابذية.
النتيجة الثانية :أن تدمج هممذه الشممكال مممن المعرفممة الموضمموعية
لتأكيد الذات عبر صراعيتها وتنابذها ،فتتضخم هذه الممذات طبقي ما ً وشمموفيا ً
وعالميا ً ،لن هدف الموجود كله سمميتمحور منطقيما ً حممول الممذات البشممرية
نفسها ،هي التي تبدع وتركب وتسمع وتغتني ،ولهمما أن تسممطو علممى مممن
يليها في سلم القوى .فالبقاء للقوى والبقاء للصلح ،لن القوى هو وحده
الممذي يسممتمر حيممث يضممعف الضممعفاء ،وهكممذا تسممتمد فلسممفة )القمموة(
مرتكزاتها ممن إحالمة )علممم التطمور إلممى مفهمموم( للحيمماة .والطبقممة تفنممي
الطبقة الممتي ولممدت فممي أحشممائها ،وهكممذا تعمممد كممل طبقممة إلممى دراسممة
إمكانيممات تمحورهمما القتصممادي والجتممماعي حممول نفسممها للنتصممار فممي
صراعها على الخرى ،هنا من علم )الجممدل( تسممتمد الفلسممفة الجتماعيممة
موجبات الصراع الحتمية كأمر طبيعي وكقانون للعالم .فممي هممذه الحممالت
للعلم من )أشكال معرفة( إلى )مفاهيم معرفة( ،ينتهي كل شمميء إيجممابي
في علقات النسممان مممع الخممر ،وفممي علقممات النسممان مممع الحيمماة ومممع
الموجود كمجال لستمتاعه الذاتي ،كون كهذا يممبرر السممرقات الجتماعيممة
)طبقيًا( والصراعات العالمية )إمبرياليًا( ،تتأكممد الحيمماة كغممزو ضممد الخممر ،
ويتأكد حق الخر ل في رد الغمزو فحسمب ،ولكممن فمي ممارسمة حقمه همو
الخر في غزو الخرين متى ما تجمعت له أسباب القوة.
المنهج المادي تضخيم للذات الغريزية
البشرية في مأزق ،لن فلسفاتها الممتي أحممالت معطيممات العلممم إلممى
مفاهيم الحياة الكونية ،قد دمرت ذاتها بذاتها .فلممو لممم يكممن اللممه موجممودا ً
فإن اختراع فكرة وجوده هي المخرج الوحيد أمممام البشممرية لتخلممع ذاتهمما ،
فبمقدار ما ترتممد البشممرية إلمى اللممه بمقممدار مما تسمممو فمموق ذاتهما وفمموق
مصطرعاتها.
فإذا كانت فكرة وجود اللففه ناشففئة فففي مراحففل النسففانية
الحيائية عن )عجزها( في مواجهة ظواهر الطبيعة ،فإن فكرة
وجود الله تنشأ في مراحل النسانية العلمية عن )عجزها( فففي
مواجهففة ذاتهففا ،الففتي تنفلففت لتففدمر ذاتهففا خففارج أي ضففوابط
أخلقية.
هكذا انكشفت وبشكل عملي وحضماري ومصميري ،أن طبيعمة حياتنما
ووجودنا ل تستقيم إل ّ بنكران الذات المتضخمة ،فأي مستمع بهيمي يمكن
له أن يصممنع حضممارة باسممتعلء سممادته علممى شممعبه ،ولكممن ل يمكممن لهممذا
المجتمع أن يعيش حضارته ،سمميعيش صممراعاتها ومآزقهمما وتوترهمما .وكلممما
تطور الفرز والصراع كلما فقد النسان إنسانيته ،حتى يرجممع إلممى مرحلممة
الغريزية البهيمية ،في تلك الحالة :ما هو المعنى الخلقي الممذي يمكممن أن
يعطي لرابطة الزواج أو حتى الحب أو حتى الجمال ،ستكون الحياة مجرد
بداية غريزية تنتهي إلى موت ،وتصبح أهميممة التقممدم الحضمماري محصممورة
فقط في إشباع هذه الغريممزة والسممتعلء بهمما علممى الخريممن ،وتسممخيرهم
للذات المتضخمة ،وكل قول غير هممذا تزيممن بممه الفلسممفة الماديممة نفسممها
أخلقيا ً إنما يخالف طبيعتها.
29
الن:
كيف لنا أن نعزل بيمن )أشمكال( المعرفمة العلميمة و )مناهجهما( المتي
أحيلت على مستوى الحياة كلها؟ أي كيف نزيل الغشمماوة بيممن أذن تسممتمع
وفؤاد أصم ل يسمع ،وبين عيممن تنظممر وفممؤاد أصممم ل يبصممر ،وبيممن قلممب
يتلقى وفؤاد أبكم ل يفقه؟
إن الوسيلة الواضحة لممذلك هممي أن نطبممق أشممكال المعرفممة العلميممة
نفسها ومع )مفاهيمها( على القرآن ،أن نحلل بها القرآن ،ومحتوى الوعي
المتضمن فيه .وقتها سنجد أن التحليل المباشر بمه سميتجاوز مفمماهيم هممذه
المعرفة – وليس أشكالها – ويعيد موضعتها مفهومي ما ً فممي إطارهمما الكمموني
الصحيح.
مفاهيم المعرفة وليس أشكالها هممي الممتي تممبرز للمحمماورة الخصممبة ،
وفي القرآن عمق ومتسع للتحليل والبحث ،بما سمميؤدي فممي النهايممة إلممى
دمج أشكال المعرفة بمفهوم المعرفة التوحيدية في حدود ما هو متاح لنا.
إذن أسمملوبنا فممي محمماورة اليممات سمميكون تحليلي ما ً وليممس تفسمميريا ً ،
وسيرفع علمى قواعمد الموعي الطمبيعي والمكتسمب فمي أشمكال المعرفمة
ومفاهيمها .غير أننا وخلفا ً لكل منهج أو مفهومية معرفية ،لن نفرض على
أي ظاهرة أن تخضع لتفسيرات منهج محدد ،بل المهم أن يستطيع المنهج
تفسير الظاهرة ،المهم أن يعطي المنهج معنى للظاهرة وليس أن تعطممي
الظمماهرة معنممى للمنهممج ،أي أننمما ل نعمممد إلممى تقطيممع أوصممال الظمماهرة
لتتناسب هي والرداء الضيق ،بل نوسع الرداء ليتناسب هو وحجم الظاهرة
،وشكرا ً لله علمى أولئك المذين قممدموا لنما أشممكال ً متطممورة ممن المعرفممة
العلمية ،فدفعوا بوعينا التحليلي خطموات إلمى الممام ،وأمل ً فمي اللمه أن
يسترد بالقرآن أولئك الذين أسرتهم مناهممج المعرفممة الوضممعية فاسممتعبدت
غيرهم بهم.
القرآن هل هو كتاب مدرسي أم إلهي؟
قد أورد البعض أن )لتفسير( القرآن )مؤهلت( ل بد مممن توفرهمما فممي
)المفسر( وأولها الحاطة بخمسين علم ما ً مممن علمموم القممرآن ،منهمما )علممم
الصول( فيما يحتمله اللفظ من معنيين ،فل بد علم حدود اللفاظ ،وعلممم
صيغ المر والنهممي ،والخممبر ،والمجمممل والمممبين ،والعممموم والخصمموص ،
والمقيد والمطلق ،والمحكممم والمتشممابه ،والظمماهر والمممؤول ،والحقيقممة
والمجاز ،والصريح والكيانة ،أما )علوم الفروع( ففيها استنباط واسممتدلل.
وذلك فوق أسباب النممزول ومواضممع اليممات المكيممة والمدنيممة .وهممذه كلهمما
علوم من )وضممع البشممر( .ولهمما ظروفهمما الخاصممة بهمما ،تاريخيما ً واجتماعيما ً
وفكريا ً ،ولها أساليبها في التدقيق والتحقيق والتوليممد .بقممول آخممر يطمموف
القرآن بمواد علوم )وضعية( ويحول إلى كتاب مدرسممي .تمامما ً كممن يريممد
أن تخصص في فيزياء أو كيمياء فينممال شممهادة الممبراءة الممتي تممؤهله لفهممم
القرآن .والغريب أن مئات اللف من الذين نالوا شممهادة الممبراءة الممتي لمم
)يوظفوها( في مجال )شغلهم( .وقد كان يمكن أن تكون الجابة ،أنهم لممم
يستطيعوا التفسير ،لنهم شممغلوا بمممؤهلت التفسممير ،تمامما ً كممما شممغلت
البشرية بتفاصيل العبادات عممن العبممادات ،وبتفاصمميل الممدين عممن الممدين ،
حُر فد َ ال ْب َ ْ
ت َرّبي ل َن َ ِ دا ل ِك َل ِ َ
ما ِ دا ً
م َ ن ال ْب َ ْ
حُر ِ ل ل َوْ َ
كا َ فضيقوا حيث وسع القرآن :قُ ْ
30
مكمم ْمث ْل ُ ُشٌر ِما أ ََنا ب َ َ دا)(109قُ ْ
ل إ ِن ّ َ مد َ ً ت َرّبي وَل َوْ ِ
جئ َْنا ب ِ ِ
مث ْل ِهِ َ ما ُ فد َ ك َل ِ َ ن َتن َ قَب َ َ
لأ ْ ْ
ملً ْ َ َ ُ َ َ َ
ل عَ َ قمماَء َرب ّمهِ فَلي َعْ َ
مم ْ جمموا ل ِ َ
ن ي َْر ُ ن كمما َ مم ْ ح مد ٌ فَ َ ه َوا ِم إ ِل ٌ
ما إ ِلهُك ْ ي أن ّ َ حى إ ِل ّ ُيو َ
دا) – (110الكهف /ج .16 َ ْ َ
حا وَل ي ُ ْ
ح ً شرِك ب ِعَِباد َةِ َرب ّهِ أ َ صال ِ ً َ
هكذا ترد كل التفاصيل إلى جوهر واحد ،إله واحد ل يشرك به وعمل
صممالح نعملممه .والحقيقتممان متلزمتممان عضممويا ً ،فالتوحيممد نفممي لي ذات
مشاركة للذات اللهية في الرادة أو المشيئة ،في عالم الغيب أو الشهادة
،في التكوين وفي حركة التكوين ،في التجمماه وفممي الغايممة .بممذلك ينتفممي
تضخم ذاتنما ،وإسمقاطاتها المنحرفمة فمي الوجمود ،فمال يبقمى بالضمرورة
سوى عمل صالح صادر عن ذات منكممرة لنفسممها مرتممدة إلممى خالقهمما .أممما
الممذوات المرتممدة بالفعممل والحركممة والمشمميئة إلممى أنفسممها وإلممى عملهمما
وقدراتها ،مطلقا ً ل نسبيا ً ،أي أنها مريدة لكل شيء وفاعلة لكممل شمميء ،
وتلك أمانيها أي ظنونها .فإنها تتحول تلقائيا ً إلممى تعبممد ذاتهما وتعبممد الممذوات
المتعالية عليها بالسلطة والثروة ،فتشرق بالله ثم تشرق ببعضها ،وتتنابممذ
فيممما بينهمما ،كممل ذات تريممد أن تحقممق مطلقهمما بقهممر الممذوات الخممرى أو
الخضوع لها ،فتتعدد المطلقات الممنية لنفسها وتفسد الرض بصراعها ول
تصلحها )راجع سورة النعام /ج / 7اليات .(33 / 21
حقيقة سهلة غير ممتنعة على الفهم ،فلو كممان البحممر مممداد ً لكلمممات
ربي ما كفى لشرحها وتفصيلها ولو جمماء اللممه بمثلممه مممددا ً ،كفممى أن هممذه
الحقيقة قد أوحيت في جملة موجزة تلقاها بشر .وهنا حكمة الدين وأصممله
وجوهره.
إن نزعة التحففول بففالبحث فففي قضففايا الففدين إلففى وظيفففة
تخصصية ذات ضوابط مهنية فإنها -فوق رفضها – ستؤدي إلى
سلبيات جد خطيرة.
أول ً :إن البحث الديني إيمانما ً وكفممرا ً مسممألة مصمميرية خاصممة بكممل
البشر ،فهو مثار اهتمام الجميع ،وليس كنوع البحوث التخصصية )الكيمياء
– الهندسة – الطب ( ،والتي يقتصر الهتمام بها على من تستهويه وتقوده
إلى التخصص فيها وفهم قواعدها وأسسها العلمية.
فممالبحث فممي أمممور الممدين ضممرورة طبيعيممة عفويممة ،ومحمماورة الراء
الواردة في الدين حتمية تفرض نفسها على الجميع ،لن من هذه الراء ما
يحدد طريقة نومي وأكلي وشربي وعلقتي حتى مع زوجممتي .إذن فالعلقممة
بالبحث الديني تمتد إلى جزيئيممات تفاصمميل الحيمماة الذاتيممة للنسممان خلف ما ً
للهندسة والطب.
ً
هنا نجد أن الهتمام بالمسائل الدينية على نحو بشري عام خلفا لعلم
الهندسة – مثل ً – من شأنه توسيع مدى المحاورات والمداخلت لتسممتوعب
البشرية كلهما ،وتتفاعمل بمما لهمذه البشمرية ممن ثقافمات وأفكمار ومناهمج
معرفة مختلفة الشكال .فاقتصار البحمث المديني علمى مفهموم معيمن ممن
أشكال الوعي يعني عزلممه عممن تطممور حركيممة الثقافممة النسممانية ،كممما أن
حبس مزاولة بحوثه ضمن سياج مهني وظيفي مممن شممأنه أن يممؤدي لحالممة
انفصام بين الهتمام النسمماني بممالبحث الممديني وفممرض الخصوصممية عليممه.
فمهنة العلماء الحقيقية هي مواكبة أبحاث الناس وليس منعها.
31
إن أقرب فرضية لهذا النوع من الهتمام العام تكمن في علقة الناس
باختيار الموقف السياسي تجاه قضية ما ،الصلح مع إسرائيل أو عدمه ،إذ
ل يمكن في هذه الحالة صرف الناس عن الموضوع ليعالجه /أهل العلممم /
في قواعد السياسة وفنونها أو /أولي المر /فممي الرئاسممة الممذين ترأسمموا
ببيعة أو دون بيعممة .أو تممرك المممر /للفتمماء الممديني /تخصصممي باعتبممار أن
ن
القضية تتعلق ببني إسرائيل ،ويستمد الموقف في حكمها من الية)) :وَإ ِ ْ
م)– (61 ميعُ ال ْعَِلي م ُ
سم ِ ل عَل َممى الل ّمهِ إ ِن ّم ُ
ه هُموَ ال ّ ح ل ََها وَت َوَك ّ ْ سل ْم ِ َفا ْ
جن َ ْ حوا ِلل ّ
جن َ ُ
َ
النفال /ج .((10
فالمسألة هنا ستعود لمممدى انطبمماق مضمممون اليممة علممى السمملم مممع
إسرائيل ،إذ كيف جنحوا للسلم من بعد أن أخرجونا مممن ديارنمما ،أو ليممس
الجنوح يعني عودتنا لديارنا أو قتالهم حتى في الشهر الحرم؟
إزاء هممذا الموقممف المتنمماقض كليممة مممع حكممم القممرآن فممي أصمموله
وفروعه ،والذي يتخذ ممن القممرآن ومكمانته فمي نفموس المممؤمنين وسميلة
لغاية ،فيحرف الكلم عن مواضعه ويخفي ما بي ّممن اللممه .إزاء هممذا الموقممف
الصادر عن )مهنيين متخصصين( ،يحملون براءة المهنممة أل يحممق للنمماس ،
كل الناس أن يتحاوروا في أمور دينهم وآياته وكلماته ونصوصه .فالصلح مع
إسرائيل أو عدم الصلح معهما ليمس أمممرا ً تخصصمميا ً كيميائيما ً نقتصممره علمى
المختبريين.
ثم من هم )أولي المر( هؤلء ،وكيف صارت لهممم الوليممة ،وممما هممي
مقاييس البيعة وشروطها ،أم أن الله لم ينص عليها في )محكم التنزيل(؟
ل ..ثم ل ..ثم ل .إن الدين هو شأن للناس جميعا ً ،والمحاورة فيه من
شأن النماس جميعما ،لنمه موقممف ممن الممذات والوجمود والحيماة والمصممير
النساني .في هذه الحالة تصبح مهمة )المتخصصين( في علوم الدين وفقه
اللغمة والمتفرغيمن لدراسمة علموم أصموله وفروعمه والمراجعيمن للكتابمات
المتعلقة به .تصبح مهمة هؤلء )المتخصصين( ،والذين يبدي لهمم المجتمممع
احترامه وتقممديره ،ليممس لشخصممهم ولكممن لمما يحملممونه ويرمممزون إليممه ،
تصبح مهمتهم متابعممة محمماورات النمماس والمثقفيممن منهممم بشممكل خمماص ،
بهممدف تمموجيههم وإرشممادهم وتصممويبهم دون أن ينعتمموا الجاهممل بالجهممل ،
فمهمتهم تعليمية طالما أنه أراد بالمحاورة أن يلج شئون دينه ،وهممذه فممي
حممد ذاتهمما ظمماهرة إيجابيممة تشممجعها وتعليمهمما ل تثبيطهمما وتجهيلهمما .فالممذي
يتخوف من المثقفين هو القل ثقافة وعلمًا.
ثم أن اتساع المحاورة وتعدد المتحاورين ،وتنوعهم ،واختلف مصادر
ثقافتهم ،ومناهجهم العلمية ،يؤدي لن يتفهممم )المتخصصممون( فممي الممدين
مختلف مصادر الفكر ،لنهم يكونوا في حالة التفاعل بها ،إذ كيممف لممي أن
أفهم أن نصف سممكان العممالم تحكمهممم أنظمممة ماركسممية .والنصممف الخممر
تتفممرع فيممه أحزابهممم دون أن نجممد كتابممات علميممة متقدمممة صممادرة عممن
متخصصممين فممي شممئون الممدين تحلممل علميمما ً وفلسممفيا ً الماديممة الجدليممة
التطورية .إن معظم – وليس كل – الكتابات الدينية والصممادرة فيممما تظنممه
أنه مجال نفي المادية ل تنفممي فممي الحقيقممة سمموى معرفتهمما هممي للماديممة
ة واتجاهًا. الجدلية التطورية ،فلسف ً
32
إذن فالحتماء بالتخصصية في الدين – فوق كونه يفصم ما بين الممدين
والناس ،ويبقى المجتمممع رهمن فتمماوة متخصصممين حيثمما شماءوا ،وكيفمما
شاءوا – فمإن همذه التخصصمية ترتمد بمذاتها علمى المتخصصمين ،فتزيمدهم
تجهيل ً بالواقع الثقافي العالمي ،وتزيدهم بعدا ً وابتعادا ً عن المجتمع.
ثانيا ً :الظاهرة الخطرة الثانية أن احتماء )المتخصصين( بقدسية المهنممة
وحرمها ،سيضعهم فممي مواجهممة مممع المجتمممع مممن ناحيممة وتطممور الثقافممة
العالمية من ناحية أخممرى ،وهممي ثقافممة ل يسممتطيعون بنمماء سممور صمميني ،
ول بينها وبين شعوبهم خصوصما ً وأن همذه الثقافمات زيمادة علمى قيمتهما يح ّ
العلمية المتقدمة ،وليس مناهجها المعرفية ،تدخل مجتمعاتنا محدثممة فممي
داخلها قواعد جديدة في البناء الجتماعي والمفمماهيم السياسممية ،وبالممذات
الجانب الديمقراطي الليبرالي فيتأثر بها مجتمعنا .إن كل ممما ألحظممه حممتى
الن أن أفواج )المتخصصين( يتعاملون مع هممذا التطممور العممالمي وتممأثيراته
في مجتمعنا بمنطق انفعالي سطحي ،فإذا استحسنوا فكرة كروية الرض
َ
همما)– (30 حا َ ك دَ َض ب َْعممد َ ذ َِلمم َقممالوا إنهمما موجممودة فممي القممرآن ))َواْلْر َ
النازعات /ج .((30
ولكن فاتهم أن النشاط الوروبي قد أتى المبيوت ممن أبوابهما )تطموير
العلم التطبيقي( ولم يأت البيوت من ظهورها كالذين سممألوا الرسممول عممن
)الهلة( .ثممم إذا استحسممنوا الشممتراكية قممالوا :إن ممما يماثلهمما موجممود فممي
م) ن اْل َغْن َِياِء ِ
من ْك ُ ْ دول َ ً
ة ب َي ْ َ ن ُ
كو َ ي َل ي َ ُالقرآن فكتبوا عن العدالة الجتماعية .ك َ ْ
– (7الحشر /ج .28
ولكن فاتهم أن الشممتراكية بممالمنطق الجممدلي التطمموري المممادي هممي
فلسفة الصمراع وتنابمذ المتضمادات الطبقيمة ،وعدالمة السملم همي ،منمع
وحد ،ضد الصراع بتفممتيت القممرآن للممتركز الطبقممي ونسممف تراكممم فممائض
القيمة عبر تشريعات منممع الربمما والزكمماة وتفممتيت الرث ،فعدالممة السمملم
ليست مجرد عدالة أخلقية بالخذ من الغنياء ورد ذلك إلى الفقراء فقط ،
بل هي نسف السس المادية للتكون الطبقممي نفسممه .كلممك إذا استحسممنوا
فكرة الديمقراطية سرعان ما نسبوها إلى الشورى غير مممدركين للتنمماقض
الكبير بين الديمقراطية الليبرالية التي توازن سياسمميا ً ممما بيممن المتضممادات
الجتماعية ،والشورى التي تقوم على نفي التضاد في التكممون القتصممادي
والجتماعي والسياسي ،فحكمممة اللممه هممي الرقممى وليممس منطممق البشممر
الوضممعي .فقاعممدة الحكممم فممي الرادة السياسممية السمملمية تعتمممد علممى
جماعية القرار )ادخلوا في السلم كافة( وليممس علممى صممراع الغلبيممة ضممد
القلية.
فليممس القممرآن بكتمماب مدرسممي فممي النظريممات العلميممة التطبيقيممة ،
وليست الشورى والتي هممي أرقممى نظممام فممي الحيمماة السياسممية – مماثلممة
للمسخ الديمقراطي الطبقي الليبرالي ،وليست العدالة السلمية القائمممة
على التفممتيت الطبقممي ونسممف فممائض القيمممة مماثلممة للمسممخ الشممتراكي
القائم على تنابذ المتضممادات الطبقيممة ،وليممس ممما يستحسممن أخلقيما ً فممي
السمملم ونهجممه المعرفممي المتجمماوز لقممدرات البشممرية هممو كالخلقيممات
الممسوخة في مجتمع الحضارات الغريزيممة .قولمموا بربكممم لمماذا منمع اللمه
التبني في وقت تتظاهر فيه أخلق الحضممارة المسممخ بممالتراحم مممع مجممازر
33
فيتنام ،وتتبنى أيتامهم الذين أيتممموهم؟ أليممس جمموهر أخلقيممة التضمماد هممو
الذي حول فيتنام إلى جحيم؟ فإذا استحسممنا تبنيهممم ليتممامى المجممازر الممتي
أقاموها فكيف لنا أن نفهم الحقيقة الخلقية المنافية للتبني؟
إن أمام المتخصصين مشوارا ً طويل ً لمعرفة حقيقة ما تخصصوا فيممه ،
زلن يعرفوا هذه الحقيقة إل ّ إذا خرجوا من عقدة المهنمة ،وحماوروا النماس
في المقاهي والشوارع والزقة.
ثالثا ً :إن الخلد إلممى عقممدة المهنممة والتخصممص تممدفعهم – إضممافة إلممى
عزلتهممم عممن المجتمممع وتطمموراته ومظمماهره الثقافيممة – إلممى بنمماء خطمموط
دفاعية يسيجون بها المهنممة .ولممن يجممدوا فممي هممذه الحالممة سمموى مممداميك
مغايرة في طبيعتها لكل انفتاح وتفاعل مع الحياة ،أي مداميك مغايرة في
طبيعتها لطبيعة الدين نفسه ،فالذي يؤمن بربه وهداه ويسبح جيدا ً فممإنه ل
يخشى الغرق.
إن هذا الموقف الدفاعي المهني قمد أدى بمالمثقفين إلمى مفماهيم خطيمرة
جدا ً حول الدين ومتخصصمميه ،إذ يلجممأ المتخصصممون فمي مواجهمة تحليلت
المثقفيممن وأبحمماثهم الدينيممة إلممى الحتممماء بقواعممد ونصمموص العلمموم الممتي
تكونت وتفرعت عبر أربعممة عشممر قرنما ً فممي إطممار البحممث الممديني ،هنمما ل
تطرح هذه العلوم باعتبارها سندا ً ودعمما ً لتحليلت المثقفيممن ،ولكممن قيممدا ً
عليهم وتضييقا ً على انطلقتهم وتجهيل ً لهممم ،فممإذا أثممار المثقممف وغضممب ،
دفعه المتخصصون إلى ما هممو أخطممر ،قممول ً منهممم :إنممه قممد أخممذته العممزة
بالثم .هنا يعزل المثقف عن التفاعممل مممع رصمميد غنممي وثممري أبممدعت فيممه
مرحل التاريخ السلمي ،وتميز فيه أئممة المممذاهب والفقهماء والمفسمرين
بعطاء كثير كبير متسع عميق ،يحتاجه المثقف الباحث فع ً
ل.
إننا نحتاج لهذا الرصيد وكل قول بالستغناء عنه – ولو كان دافممع ذلممك
احتماء الغير به – هو قول غير موضوعي.
صحيح أن البعض يعتبر ما لدى المتخصصين من أصحاب المهنة )تراثا ً
سلفيًا( تكون ضمن مرحلة ذات وعي ذهني مفارق في مفهوميته الدراكيممة
لمرحلة التحليل العلمي الراهنة .وعلى هذا يجب أن نميز فممي هممذا الممتراث
السلفي بين ما هو للقرآن وما هو للنسان ،أي بين ما يعطيه القممرآن فممي
كل المراحل ولكل المراحل ،بين تصممورات النسممان فممي أي مرحلممة لهممذا
الذي يعطيه القرآن.
ً ً
هنا يتخذ الموقف من الرصيد السلفي الممتراثي موقفما )عممدميا( ،فممي
الوقت الذي يفترض فيه اتخاذ موقف )نسممبي( لفهممم ممما بيممن القممرآن مممن
جهة والمكونات العقلية والمفهومية لممذلك الرصمميد الغنممي الهممام مممن جهممة
أخممرى .فمرحلتنمما الراهنممة – مممع تميزهمما اليممديولوجي – وفمموارق أشممكال
معرفتها ليست منفصمة عن مراحل التطممور السمابقة الممتي تشممكل خلفيممة
لها.
أهمية تلك المرحلة أنها معارف متراكمة ،ومخزون عقلي كبير ،اجتهد فيه
العقل تنظيما ً وتصنيفا ً وتحقيقا ً بحيث وصل إلى مستوى )النظام الفكري( ،
فمهمتنا ليست فممي تجمماوزه باسممم التجديممد ،ولكممن فممي اسممتيعابه كنظممام
مقوم ضمن مرحلته الذهنيممة وتكممونه الجتممماعي والتمماريخي .فهممذا النظممام
الذي يسميه البعض )التراث الفلسفي( يجب أن يحتل ممموقعه فممي البحممث
34
العلمي التحليلي للتصال بممه والتواصممل معممه ،ومعرفممة خصممائص مرحلتممه
ونوعيتها ،من خلله هو نفسممه ،أي أننمما مممن خلل ذلممك الممتراث ومنمماهجه
وضمموابطه وتحقيقمماته نسممتطيع أن نممدرك ممما يعنيممه )التبمماع( و )التقليممد( ،
والموقع المفهومي لفكرة )القدوة( ضمن تلك المرحلة الوضعية التفسيرية
،ونستطيع أن نفهممم مميممزات )المممذاهب( ومممؤثرات تكونهمما فممي مدرسممة
المدينة والعراق ومصر والشام.
بمعنممى آخممر يمكممن باسممتيعابنا السممتذكاري والتحليلممي لممذاك الرصمميد
المهم ،أن نتفهم من خلله معاني أحكامه ما هو مطلق فيها وما هو نسبي
،وأن نتعرف بدراسة نتاج تلممك المرحلممة علممى تأثيراتهمما الذهنيممة والفكريممة
التي ل زالت فاعلة في مجتمعنا.
هنمماك قضممية أساسممية ل بممد مممن أن يسممتوعبها كممل مممن المثقممف
والمتخصص في العلوم الدينية على حد سواء .فمجتمعنا من ناحيممة تركيبممه
ومكوناته القتصادية والجتماعية العامة ،لم يدخل بعد مرحلة تحول نوعية
تعيد صياغته ،وبالطبع فإن إعادة الصممياغة هممذه يجممب أل ّ تفهممم علممى أنهمما
اقتلع من الجذور لترحيل مجتمعنا إلى أوروبا ،بل هي – أي إعادة الصياغة
– تأتي مستجيبة لمكونات تطورنمما التمماريخي والجتممماعي والفكممري وكافممة
العوامل الجدلية المرئية وغير المرئية الفاعلممة فممي تركيبتممه .بهممذا المعنممى
فإن ما يسميه المثقف بالسلفية التراثية هممو حيمماة ثقافيممة معاصممرة وحالممة
في تكويننا الراهن .ربما يتبرم بها المثقف المتأثر بعقلية التطور الوروبي ،
أو يحاول التميز عنها ،ولكنه لن يفعل في الحقيقة سوى إعدام ذاتممه هممو ،
أي أن عدميته ترتد عليه لعزله عن ثقافة ل زالت حيممة ويظنهمما أنهمما مجممرد
تراث سلفي.
أما على صعيد رجل الدين المتخصص ،فإنه يخادع نفسه بظنه أنممه ل
يزال متصل ً بتلك الحياة الثقافية الفاعلة في قرون السمملم الولممى وصممدر
الخلفة العباسية ،فالحقيقة أنه ل يشكل سمموى اسممتمرار )أرشمميفي( لهمما.
وقد اكتشف المتخصصون في العلم الديني هذه الستمرارية السلبية حيممن
بممدأت تممداهمهم الحضممارة الوروبيممة بمفاهيمهمما ومنطلقاتهمما الجديممدة ،
فوضعتهم فممي موضممع المسممتفز والمتحممدي ،فلجممأ بعضممهم إلممى )التجديممد
المقارن( أي باسممتنباط مبممادئ مقاربممة فممي السمملم لممما استحسممنوه مممن
مبممادئ أوروبمما وفلسممفاتها فممي الديمقراطيممة والشممتراكية وغيممر ذلممك مممن
ضوابط نظام الحكم .والبعض رفمض حممتى )التجديممد المقمارن( فأكمد علمى
فهم )ماضوى( وليس سلفيا ً للمسائل المثارة حول الخلفة والبيعممة ونظممام
الحكم .فبدأ هذا النوع ليس مقارعا ً لوروبا فحسممب ،ولكممن حممتى للتجديممد
الذي أراد استيعاب مقدمات التغير في المجتمع.
هؤلء ليسوا سلفيين ،فممإذا كممان رجمموعهم للسمملف كمفهمموم زمنممي ،
وللسلف كأشخاص أي إلى الماضي فقط فهؤلء )ماضويون( ،أما إذا كممان
رجوعهم إلى السلف ،رجوعا ً إلى عمر الذي أبطل حد السرقة النصي في
عام المجاعة ،ورجوعا ً إلى الئمة المجتهدين الذين اعتصروا لباب قلمموبهم
وعقولهم لبيان الرأي ،إذا كان الرجوع لهذا فهو رجموع إلمى سملفية نهجهما
ودينها ليس )التباعية الماضوية( ولكن الجتهاد ،إن تعممدد المممذاهب وحممده
دليل على الحيوية العقلية والقلبية ،دليل على قلب يتلقى وفؤاد غير أبكممم
35
فيفقه ،ودليل على عين تنظر وفؤاد غير أعمى فيبصممر ،ودليممل علممى أذن
تستمع وفؤاد غير أصم فيسمع .ثم إنهم لم يكونمموا كالممذين حملمموا التمموراة
فلم يحملوها.
فادعاء القربى بأولئك ليس سوى ستر لعيوب الصم الوهمي والبكم ،
وها أولء نحن ومنممذ أولئك نممراوح فممي خطونمما ،فممإذا اجتهممد بعضممنا اجتهممد
ليغلق باب الجتهاد .ويجعل البحث الديني مهنة مسيجة بمداميك مشوهة.
إن واقعنمما ل زال ماضممويا ً يعيممش باجتهمماد أولئك ،ولممم تتغيممر بنيتممه
القتصممادية والجتماعيممة والفكريممة بعممد ،ول زال مثقفمموه يعيشممون حالممة
النفصام ما بين أوربة لم يتكونوا ضمنها ،وواقع يتبرمون فيه.
خطورة المر أن مدعي السلفية زورا ً من )الماضويين( الذين يحتمون
بأئمة متقين أعلم ،ويعجزون عن الرؤيممة مثلهممم ،ل يملكممون فممي النهايممة
سوى حماية المهنة بإشهار سيف الشممرع وخنجممر السمملطة بمموجه المثقممف
والمتغيرات الحضارية ،وذلك عوضا ً عن الخذ بيد هذا المثقف في تحليلته
– وبكل الحب – وإجلسه إلى أبي حنيفة النعمان )ت 150هم( ،والليث بن
سعد )ت 175هم( ،وداود ،وابن جرير ،وإذا شاء أن يجلسممه إلممى آخريممن
فهناك ما يزيممد علممى خمسمممائة مممن الئمممة المتقيممن ،الممذين أثممروا حياتنمما
وأغنوها تصوفا ً وفقها ً وعلوما ً شتى.
ا :إن موقف المثقف الكممثر وعي ما ً بممالمتغيرات الحضممارية وأشممكال رابع ً
وعيها ،يجب أل ّ ينفعل برد الفعل الذي يعكسممه عليممه الماضممويون ،فيظممن
أنهم يعبرون عن السلف ،فشتان بيممن الماضمموية والسمملفية ،إذ إن الئمممة
المتقين العلم /فممي سممالف )ماضممينا نحممن( ،وحاضممر واقعهممم هممم /لممم
يكونوا أبدا ً سلفيين .بل كانوا رجال جهاد واجتهاد ،وحتى أولئك الذين أكدوا
على النص وظاهره اجتهدوا وجاهدوا ليؤكدوا ذلك ،في وقت أشرعت فممي
وجوههم سيوف السلطة.
إذن ل يخطئن المثقف التقدير فيخلط ما بين الماضويين فمي حاضمرنا
وما سلف من أئمتنا المتقين ،فل يستلب السلف لمصلحة خلف ل صلة له
بهم ،فأدعياء السلفية ليسوا سلفيين ،لنهم غير مجتهدين كالسلف .إنهممم
ماضويون.
كذلك ل يخطئن المثقممف التقممدير فيتعامممل مممع ثقافممة واقعنمما الراهممن
تعامل ً أيديولوجيا ً مفارقا ً باعتبارها ثقافة تراثية ،وهممي فممي حقيقتهمما ثقافممة
حيممة قائمممة فممي الواقممع وراسممخة بجممذورها ومقوماتهمما .وهممي إحممدى أهممم
أساسيات المكون الجدلي في تطورنا التاريخي باتجاه مراحل متقدمة.
فنحن ل نستطيع أن نرتحل بمجتمعنمما إلممى خممارج زمممانه ومكممانه ،ول
يمكن أن نعطي صفة التراثية لما هو حي فينا .ثم أننا ل نريد أن نرتحل عن
مجتمعنا ومكوناته ،وإنممما نريممد دفممع التقممدم بأفضممل ممما لممدينا .وإذا قررنمما
الرتحال فإننا ل نريد أن نرتد إلى أخلقية ومنهجية التضاد الغريزيممة ،الممتي
تممدمر فممي النسممان ذاتممه وتواصممله الحضمماري ،ثممم تممدمر فيممه أخلقيمماته
وجمالياته وأحاسيسه بإنسانيته ،فتجعلمه مغتربما ً عمن الكممون متعاليما ً عليمه
بالسيطرة ،ومغتربا ً عن مجتمعه ،طاغيا ً فيممه بقمموة البقمماء ،ومغترب ما ً عممن
ذاته النسانية بردها إلى بهيميتها وغريزيتها .فل يبقى من بعد معنممى للبمموة
ول للمومة.
36
وتدريجيا ً ينحدر البداع الجمالي والفني إلى استنطاق الوجود بالشكل
كمرحلة النقش الحجري البدائي المكيف تماما ً على الفهم الغريزي للمور.
بروميثيوس لم يسرق شيئا ً
قممد أعلممن بعضممهم )بروميممثيوس( ،تلممك الشخصممية السممطورية الممتي
سرقت أسرار الوجود من اللهة وأعطتها النسان ليتمرد بهمما علممى آلهتممه ،
أعلنوه كأول )شهيد( في التقويم المممادي .أممما نحممن فإننمما نعلممن أن أوروبمما
التي جلست بكل قواها الضاربة في مؤتمر برلين عممام ) ، (1884لتقسمميم
العالم كمستعمرات فيما بينها ،هي آخر الحضارات الساقطة فممي التقممويم
المادي نفسه.
إنه تقويم بدأ بالنظرة إلى )تكريم( الله للنسممان بممالعلم فأحالهمما إلممى
)سرقة( اختلس بهمما النسممان العلممم )أسممرار الكممون( ،فممإذا كممان العقمماب
السطوري قد حل ببروميثيوس ودفعه إلى حمل الصخرة إلى أعلى الجبممل
لترتد كجلمود حطه السيل من عل ،فيكرر بروميثيوس المحاولممة الفاشمملة
دائممما ً كعقمماب لممه ،فممإن أوروبمما قممد فعلممت فممي حياتهمما الحضممارية فعممل
بروميثيوس نفسه ،دائما ً في صعود وهبوط ،وكل صعود يحمل في داخلممه
عناصر هبوطه ،فكانت قمة الصعود في برلين عممام 1844حيممن اقتسممموا
العامل ،ثم كانت قمة الهبوط في برليممن عممام 1914حيممن اختلفمموا حممول
القتسام ،ثم كممانت قمممة التنابممذ فممي برليممن 1944وقممد دمممروا أنفسممهم
ودمروا ما حممواهم ،ثممم عممادوا للبنمماء مممن جديممد وتجالسمموا كبهممائم بأنيمماب
نووية ،فتوازنوا بالرعب وحرب العصمماب ،كممل يخشممى أن يسممبقه الخممر
إلى الضغط على الزر المحرم .وكما عاشت حضارتهم من قبل فممي القلع
الحجرية ،فإنها تعيش اليوم في القلع النووية.
هذا عالم ل نريد أن نرتحل إليه ،بل نريد نهاية بربريته .فموقعنمما مممن
هذه الحضارة الوروبية البروميثيوسية يجب أل ّ يكون متأثرا ً بهمما بممل مممؤثرا ً
فيها .يجب أن نذكرها بما كان عليه إبداعها النساني والجمممالي والخلقممي
قبل أن تجلس في مؤتمر برلين.
إن دورنا الحضمماري العممالمي الشممامل مرهممون بتطورنمما ،ومممن خلل
رصيدنا من السلف المعطاء ،وأشكال المعرفة العلميممة المتطممورة ،ومممن
خلل رؤيتنا في الكون دمجما ً بيممن القراءتيممن ،ليتفتممح الكممون فممي حضممارة
ذي هموَ اّلم ِإنسانية في الرض .وقتهما يتحقمق مما أراده اللمه فمي مشميئته )) ُ
َ
ن ك ُل ّمهِ وَل موْ ك مرِهَ
َ َ ح مقّ ل ِي ُظ ْهِمَرهُ عَل َممى ال م ّ
دي ِ ن ال ْ َدى وَِدي م ِه ِبال ْهُ م َ
سممول َ ُل َر ُسم َ
أْر َ
ن) – (33التوبة /ج .((10 كو َ شرِ ُ
م ْال ْ ُ
وإلى تلك المشيئة المرادة تتجه قلوبنا جميعا ً وتتفاعل أفئدتنمما بوقعهمما
وخطراتها.
ي لكيفية القراءة المنهجية للقممرآن ،القابممل لهمما فممي بعد عرضنا الّول ّ
إطممار وحممدته العضمموية الكتابيممة ،وباعتممماد أسمملوب التحليممل والجمممع بيممن
القراءتين وفق استخدام مناهج معرفية متطممورة ،نعممود فممي هممذا الفصممل
لنطرح الكيفية التي يستجيب بها القرآن لهذه القراءة ،والتي تكشممف عممن
فهم )غير أسطوري( و )غير خرافي( لموضوعاته.
إن مشكلة غياب القراءة المنهجية للقرآن إنما يرجع لمرين:
37
المر الول :وهو إحاطممة المفسممرين لموضمموعات القممرآن بممالتراث
اليهودي واعتبار كتابات اليهود )مرجعًا( وبالذات فمي قصمص النبيماء ،وقمد
أدى ذلك ل إلى تزييف محددات القرآن لهذه الموضوعات فحسب ،ولكممن
إلى تزييف وعي البشرية بموضوعية الطرح الديني قاطبمة لهمذه القضمايا ،
في حين أن القرآن – كما أوضحنا – قد استرجع الممتراث الروحممي للبشممرية
استرجاعا ً نقديا ً طهر ما به من تزييف.
والمففر الثففاني ويرجممع إلممى طبيعممة التصممور اليممديولوجي العربممي
التاريخي للوجود ،بما كان يشكل وعيما ً عربيما ً مفارقما ً فممي بنممائيته الذهنيممة
للدراك القرآني المميز بمعرفية متقدمة جدًا.
إنه من واجبنا – تجاه الله وتجمماه أنفسممنا وتجمماه البشممرية – أن نبحممث
بموضمموعية فممي كيفيممة السممترجاع النقممدي القرآنممي للممموروث الروحممي
للبشرية لتنقيته من شوائب التصورات الخرافية من جهة ،وأن نضع حدودا ً
واضحة بين ما يعود لصل المعرفة القرآنيممة ،وممما يعممود لتلبسممات الذهنيممة
العربية التاريخية من جهة أخرى.
على مسممتوى التمييممز بيممن ممما هممو للقممرآن وممما هممو للذهنيممة العربيممة
التاريخية ،علينا أن نتعممرف أول ً علممى خصممائص الذهنيممة العربيممة التاريخيممة
والكيفية التي أسقطت بها نفسها على موضوعات المعرفممة القرآنيممة ،ثممم
نتعرف على ما يطرحه القرآن من داخل نسقه المعرفي ،بذلك سيتأكد لنا
الفارق المفهومي بين ما هو بشري ومحتوي الوعي القرآني المتقدم على
هذه المفهومية البشرية وبما يعني أن القرآن ل يكممون – ضممرورة – إل ّ مممن
عند الله.
إن مناهففج المعرفففة الففتي تبحففث فففي )تاريخانيففة( الفكففار
والتساق الذهنية والتي استمرت على قولها بأن القرآن )نتاج
بشري( مقيد إلى الذهنية العربية وخصائصففها ،سففتتعرض فففي
هذا الفصل بالذات لقسى امتحان يمر بها ،إذ إننففا سنسففتخدم
)نفس مقولتها( للكشف عففن خصففائص الذهنيففة العربيففة الففتي
)يظن( أنها أنتجت القرآن ،ثم نقففارن هففذه الذهنيففة العربيففة –
التي يفترض أنها أنتجت القرآن – بما يطرحه القرآن من تصور
مفففارق لهففا ،وذلففك حيففن نطبففق هففذا المنهففج المقففارن علففى
المسألة الدمية .بذلك سيكتشف هؤلء حقيقففة القففرآن ككتففاب
من عند الله متجاوز بمنهجيته المعرفية للعقل البشري.
لقممد وضممع علممماء السمملوك الجتممماعي معممايير علميممة عامممة يقمماس
بموجبها تأثير المجال على حالة النسان بكل أبعادهمما العقليممة والسمملوكية ،
ول محال لن يرتماب أحمد اليموم فمي بعمض النتمائج التطبيقيمة لهمذا الفمرع
العلمي الهممام .وحيممن نأخممذ بنتممائج هممذا العلممم لكتشمماف خصممائص العقليممة
العربية وحالتها السلوكية في مرحلة نزول القرآن ،فإننا ،سممنلمس ،دون
شممك ،وبتحليممل علمممي واضممح ،الفممارق الكممبير بيممن وعممي القممرآن لكافممة
المواضيع التي طرحها وبين الوعي المفهممومي التمماريخي الممذي عمماش فممي
ظله العربي آنذاك .لم تكن ثمة علقة موضمموعية )توليديممة( بيممن المفمماهيم
القرآنية والفكر العربي التاريخي ،ول أقصد على صعيد النشمماء والبيممان –
فتلك معجزة أخرى – ولكن على صعيد المعنى والمفاهيم.
38
المفارقففة العجازيففة بيففن المعرفففة القرآنيففة والففوعي العربففي
التاريخي
توضممح الماركسممية عممبر أنجلممر فممي كتممابه )لودفيممغ فيوربمماخ ونهايممة
الفلسفية الكلسيكية اللمانية /ص " (38إن الواقع هو الذي ينتممج الفكممر ،
فالفكار الحاصلة في الوعي هي انعكاسات الشياء والحداث الواقعيممة " ،
هكذا تصبح جدلية الدراك وعي ما ً لحركممة العممالم الممواقعي الجدليممة .ويوضممح
ماركس في )اليممديولوجيا اللمانيممة( أن التشممكلت المبهمممة الحاصمملة فممي
رهم الحيوية الواقعية التي يمكممن أذهان الناس ،هي بالضرورة ملحق ِلسي َ ِ
إدراكهمما واقعي ما ً ،والممتي ترتبممط بحممالت ماديممة عينيممة ،فممالخلق والممدين
والميتافيزيق وسائر تجليات اليديولوجيا ،وكذلك أشممكال المموعي المقابلممة
لهمما ،ل تقممدر إذن ،أن تحممافظ علممى مظهرهمما السممتقللي لمممدة أطممول ،
فليس الوعي هو الذي يكيف الحياة ،إنما الحياة هممي الممتي تكيممف المموعي.
فاليديولوجيا كبنية فوقية هي أنها مجموعة التصورات الممتي يكونهمما النمماس
عممن علقتهممم بأوضمماعهم الوجوديممة ،الثقافممة وطريقممة العيممش ،والفكممار
والقيم والذواق ،الواعية منهمما والغافلممة ،سممواء علممى الصممعيد الفممردي أو
الطبقي أو المجتمعي )راجع /ملحظات حول الفهم الفلسفي لليديولوجيا
/رشيد مسعود /الفكر العربي /عدد / 15س / 2أيار – مايو / 1980ص
.(54
بهذه المقدمممة وضممعت الماركسممية السمماس النظممري لتعلممق الفكممار
بالواقع الموضوعي باعتبار الفكار نتاجا ً لهذا الواقع وتتغير بتغيممره بممما فممي
ذلك الخلق والدين والقيم .وقد شيد عالم الجتماع الفرنسممي الماركسممي
)أميل دوركهايم( – ) (1917-1858نظريتمه فمي تحديمد الواقعمات الذهنيمة
على هذا الساس متجها ً نحو صياغة )علم اليديولوجيا( ،فبدل ً من ملحظة
الشممياء ووصممفها ومقارنتهمما ،نكتفممي ،إذ ذاك ،بمموعي أفكارنمما وتحليلهمما
وتأليفها بعضها إلى البعض الخر ،أي عوضا ً عن إنشاء علم يتناول الحقائق
الواقعية ،ل نعود نصوغ سوى علم أيديولوجي _دوركهايم /قواعممد المنهممج
الجتماعي /ص .(21
ثم جماء )إيريممك فممروم( ليعطمي دفعممة تطبيقيممة علممى صممعيد التحليممل
النفسي لما بدأه ماركس وانجلر وطوره دوركهايم ،ذلك حين بممدأ بتفسممير
ما لم يفسره ماركس حول كيفية أن يكممون النتقممال مممن الشممياء الماديممة
إلممى الفكممر النسمماني عممبر )رأس النسممان( أي العمليممة النفسممية لنتمماج
اليممديولوجيا المرتبطممة بممالواقع القتصممادي والجتممماعي) .راجممع د .عبمماس
مكي /أريك فروم وعلم النفس الجتماعي التحليلممي /المصممدر السممابق /
ص .(206
على هذا النحو صاغت الماركسية نظريتها حول تشكيل البنية الذهنيممة
فممي مرحلممة تاريخيممة معينممة وعلممى ضمموء خصوصمميات الواقممع القتصممادي
والجتماعي .وليس لنا أن نطلب الن سوى تطبيق هذه النظرية بحذافيرها
على علقة )القرآن( بوصفه محصلة وعي أيديولوجي – )بظنهم البشري( –
على الواقع الجتماعي والقتصادي العربي الممذي يكممون قممد أنتجممه – وفق ما ً
للماركسية .وذلك لنصل إلى تحديد أو عدم تحديممد أن المموعي القرآنممي هممو
انعكاس الواقع العربي ،وأن النمبي الكريمم قمد اسمتلهمه ممن بنيمة الواقمع
39
ونسيجه .فإذا أثبتنا – بمنطق التحليل العلمي لتشكلت الذهنية – أن ما في
القرآن من وعي هو إدراك يتجاوز حالة العرب الذهنية ،فلن نطلممب وقتهمما
من المفكرين الماركسيين أن يغيروا من تصوراتهم لعلقة الفكممر بممالواقع ،
وإنما سنطلب منهم العتراف بالقرآن كظاهرة غيممر بشممرية )غيبيممة( ،وأن
يبقوا بعد ذلك ما شاءوا على فكرهم المرتبط بالواقع.
تكون البداية بدراسة الذهنية العربية في تلك المرحلممة ،أي مممن قبممل
أربعة عشر قرنا ً بهدف تحديد بنيتها اليديولوجية ثم مقايسة تلك البنية على
الدراك القرآني .هنا يتوجب علينا القيام بعمليتين ،الولى لتحديممد الذهنيممة
العربية ،والثانية لتحديد بنائية القممرآن المعرفيممة ،الممتي ترقممى علممى كافممة
التمثلت اليديولوجية ،وبما أن هذا المنهج في )البحث المقممارن( سمميعتمد
علممى نصمموص القممرآن ذاتهمما ،فإننمما لممن نتقيممد كممثيرا ً بإسممقاطات الذهنيممة
اليديولوجية العربية على معاني هذه النصوص ،فإذا قيممدنا أنفسممنا بممالفهم
العربممي التمماريخي فممي تلممك المرحلممة لهممذه النصمموص ،نكممون قممد أفممدنا
الماركسية وكافة التيمارات الوضمعية ،وذلمك لننما نكمون قمد أيمدنا القمرآن
بممالفهم الممذي كممانت عليممه ذهنيممة تلممك المرحلممة ،أي الفهممم اليممديولوجي
التاريخي الخاص بالعرب ،ومن هنا تضيع خاصية القرآن المتميزة ،ويصممبح
أسيرا ً لعقول بعينهمما ،تكممونت ذهنيتهمما ضمممن واقممع اجتممماعي وتمماريخي لممه
دللته اليديولوجية الخاصة.
إن حسم أسلوب التعامل في هذا البحممث المقمارن مهممم للغايممة ،لن
قوة المدارس الماركسية و )الوضعية( من جهة واليهودية مممن جهممة أخممرى
إنما تكمن في الربط بين القرآن والتفسممير العربممي التمماريخي المقيممد إلممى
مرحلة معينة .فيصبح القمرآن )تابعمًا( للعقممل العربممي ،و )منقممادًا( لمرحلممة
معينة من مراحممل تطمموره ،أي تطممور العقممل العربممي ،ومممن هنمما يسممتلب
المعنى الطلقي المميز في القرآن لصالح عقلية بشرية تكون هممي الدالممة
عليه والعنوان له .في حين أننا نعتمد في هذا البحث المقارن علممى القممول
بوجود مفارقة بين الدراك القرآني والوعي اليممديولوجي البشممري ،بحيممث
نؤكد أن الوعي اليممديولوجي البشممري العربممي التمماريخي لممم يكممن بإمكممانه
)إنتمماج القممرآن( .فالهميممة الداحضممة للمممدارس الماركسممية و )الوضممعية(
واليهودية ،إنما تكمن في اكتشاف هذه المفارقة من بعد التطبيق العملي.
العقلية العربية إحيائية أنيمية والقرآن تأكيد للجدل الكوني
بمالرجوع إلمى مما كتبمه علمماء الجتمماع حمول كيفيمة تشمكل الذهنيمة
ونمطها في عمليات الوعي والدراك ،يمكننا بوضمموح أن نقممرر أن العقليممة
العربية كانت عقلية إحيائية أنيمية تميل إلى أمرين:
ل :التعامل مع الظواهر الطبيعية كل ّ على حممدة كممأن ل علقممة للظمماهرة أو ً
الطبيعية بالخرى.
ثانيًا :أنها تحيي هذه الظواهر أي تجعل لها )نفوسا ً ذاتية( تتحكم بها تمام ما ً
كنفس النسان ،أي أن لكل ظاهرة طبيعية حركة ذاتية خاصة بها وصممادرة
من تلقائها .ويقوم هذا النمط من التفكير النيمي )الحيمائي( ،علمى فكمرة
أن النسان بصفة عامة والنسان المتخلممف بصممفة خاصممة إنممما يميممل إلممى
تصور العالم الخممارجي علممى نحممو سممبيه بتصمموره لممذاته ،فالنسممان حينممما
تعوزه القدرات على فهم حقيقة الظممواهر فهمما ً علميما ً ،فممإنه يسممبغ علممى
40
هذه الظواهر فهمه لنفسه ،فالرؤية تتم هنا على أساس الكثرة المسممتقلة
في وجود عناصرها عن بعضها ،ولذلك نجد )تصورات الخليقة( فممي الكتممب
القديمة تتم وفق منظور التجزئة المستقلة ،حيث ل رابط في التكوين بين
ظواهر الخلق ،فيوما ً تخلق النار ،وفي اليمموم التممالي يتممم خلمق الخشماب
والغابات.
ً ً
كان يمكن أن يكون القرآن – لو جاء نتاجا فكريا للواقممع – أن يكممرس
هذا المفهوم النيمي باتجاه الكثرة المستقلة القائمة بحياتها الذاتية ،ولكن
النقيض تماما ً هو ما يطرحه القرآن .فيأخذ القرآن بمفهوم الترابط الجدلي
للظواهر الطبيعية المتعددة والمتنوعة في إطار فلكي كوني واحد ،ووفممق
)نظام طبيعي( يفرض ضوابطها على الحركة المادية:
س
م ُ شم ْ م)َ(39ل ال ّ دي ِ قم ِن ال ْ َ جو ِ حت ّممى عَمماد َ ك َممال ْعُْر ُ ل َ مَر قَمد ّْرَناهُ َ
من َممازِ َ ق َ َوال ْ َ
َ
ن) حو َس مب َ ُ
ك يَ ْ ل فِممي فَل َم ٍ ساب ِقُ الن َّهارِ وَك ُم ّ ل َ مَر وََل الل ّي ْ ُ ق َ ك ال ْ َ ن ت ُد ْرِ َي َن ْب َِغي ل ََها أ ْ
– (40يس /ج .23
ثم يتناول القرآن الجانب الثاني والخاص بفرضية قيام النفس الذاتيممة
للظواهر الطبيعية ،فالفتراض النيمي بأن للشمس نفس ما ً ،وأن الشمممس
قاهرة بحرارتها وضوئها ،ومتعالية ببعدها ،كل ذلممك جعلهمما محممط تقممديس
لدى العرب ولدى الشعوب الخرى ،فجاء القممرآن ليجممرد الشمممس وكافممة
الظواهر الطبيعية عن قيامها بنفس ذاتية الحركة:
مس وَلَ دوا ِلل ّ َ س َوال ْ َ ل َوالن َّهماُر َوال ّ ن آي َممات ِهِ الل ّي ْم ُ
شم ْ ِ ج ُسم ُ ممُر ل ت َ ْ ق َ م ُ شم ْ م ْ وَ ِ
ن) – (37فصلت /ج دو َ م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ ن ك ُن ْت ُ ْن إِ ْقه ُ ّ َ
خل َذي َ ّ
دوا ل ِلهِ ال ِّ ج ُ س ُ مرِ َوا ْ ق َل ِل ْ َ
.24
وهناك العديد من اليات التي أفرغت عن الوعي العربي ما كان عليممه
من حالة تقديس الظواهر الطبيعية ،وبالذات تلك التي تتراءى بقوة التأثير
على حياته.
[نسف مفهوم استقللية الظممواهر وإحلل مفهمموم النظممام الكمموني +
تجريد الظممواهر الطبيعيممة عممن إرادتهمما الذاتيممة = نسممف العقليممة الحيائيممة
النيميمممة /النتيجمممة /أن الدراك القرآنمممي مفمممارق بمعرفيتمممه للتصمممور
اليديولوجي العربي] ،وهنا يأتي سؤلنا وليس سؤالنا ،سؤلنا لمن يكتشف
ذلك بالتحليل العلمي لنصوص القممرآن فممي معممرض المقارنممة ممع مركبممات
العقلية العربية ،أن يكون نزيها ً في علميته وعلمانيته ،ليكتشف بالضرورة
أن القرآن ظاهرة غيبية ل تمت للواقع الذهني العربي بصلة ،وليس نتيجممة
مستلهمة بعبقرية من ذاك الواقع.
بعد هذا التجريد والنفي القرآني لحياة الظواهر الطبيعية اندفع العرب
يسممألون عممن الحقممائق المفترضممة والبديلممة فيممما يختممص بهممذه )الهلممة( ،
لن اْل َهِل ّمةِ قُم ْ ك عَم ْ سمأ َُلون َ َ فأجابهم الله بما يعرفونه عنها ولم يضف جديدًا :ي َ ْ
ج) – (189البقرة /ج .2والعممرب يعرفممون أن س َوال ْ َ
ح ّ ت ِللّنا ِ واِقي ُ م َ
ي َ هِ َ
الهلة هي دللة مواقيت للناس ،شهورا ً وأيام ما ً ،وأن الحممج موقمموت بهمما ،
فلماذا كانت الجابة اللهية الكريمة في حدود ما يعرفه السائل؟
هنا نكمل الية:
41
َ ن اْل َهِل ّةِ قُ ْ سأ َُلون َ َ
نس ال ْب ِمّر ب ِمأ ْ ج وَل َي ْم َ حم ّ س َوال ْ َ ِ ت ِللن ّمما واِقي ُ مم َي َ ل هِ َ ك عَ ْ يَ ْ
َ ْ ْ ْ َ ُ ْ
واب ِهَمما ن أب ْ َ مم ْ ت ِ قممى وَأت ُمموا الب ُي ُممو َ ن ات ّ َ مم ْ ن الب ِمّر َ ها وَلك ِم ّ ن ظُهورِ َ م ْ ت ِ ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ
ن)(189 حو َ فل ِ ُ م تُ ْه ل َعَل ّك ُ ْ قوا الل ّ َ َوات ّ ُ
فالسائل عن الهلة قد أتى البيت من ظهره وليممس مممن بممابه ،وبمماب
البيت في مثل هذا السؤال هو )الكتشاف العلمي( من بعد تقوى الله التي
تجرد هذه الظواهر الطبيعية من صممفة التقممديس ،فربممط اللممه فممي جملممة
واحدة غير مجزأة بين السؤال عن الهلة ودخول البيوت من أبوابها ،وجاء
بالبر لربط اتقاء التقديس الخاطئ لهذه الظممواهر ،فيسممتقيم المعنممى بممأن
البر في عدم تقديس هذه الظواهر الطبيعية كما أمر الله وبممما ل يعنممي أن
يتحول القرآن إلى مسمماق فممي العلمموم الطبيعيممة ،وأن الممبر إذ يجممرد هممذه
الظواهر عن قدسيتها ،فممإنه يفتممح الطريممق لمعرفتهمما علميما ً – حيممن نممأتي
البيوت من أبوابها – فنتعامل معها كظواهر جديرة بالدراسممة والكتشمماف ،
ذلك حين نتقي الله فل نعبدها.
قد وجه الله في القرآن إلى ضرورة فهم البنائية الكونية بشكل جدلي
موحد ومترابط ،مع التعامل مع ظواهرها من أرض وسممماء وجبممال ضمممن
رؤية تقوم على وحدة التكوين .ولن هممذا التمموجيه المعرفممي القرآنممي كممان
مفارقا ً للذهنية العربية وقتها ،لم تجد اليممات والنصمموص القرآنيممة الخاصممة
بذلك وعيها المطلوب .بل كثيرا ً مما فسممرت هممذه النصمموص القرآنيممة وفمق
تصور أيممديولوجي عربممي ذاتممي ،ويمكننمما أن نممأتي بمثممال علممى ذلممك فيممما
يختص بالشارة إلى )البل( ،فكثيرون قد اتخذوا من هذه الشممارات دللممة
على النتاج العربي للنصوص القرآنية في حين أن المعنى يختلف عن ذلممك
جذريًا.
نعممم ،قممد أشممار اللممه علممى العممرب أن ينظممروا إلممى البممل ،ولكنممه –
سبحانه – قد طلب إليهم أن ينظروا إلى )كيممف( خلقممت ،ثممم حممدد طبيعممة
النظممرة )بمماثلممة( كونيممة ،حيممث ربممط بيممن كيفيممة خلممق البممل وبيممن
)السماء/الجبال/الرض( ،فالسماء مرفوعة بعمد ل نستطيع رؤيتها ،وهممي
عمد تشد البناء الكمموني إلممى بعضممه بالكيفيممة الممتي تشممد بهمما قمموائم البممل
دا)– (12 دا ًش َ سب ًْعا ِ م َ ظواهر خلقها ،فالسماء هي أعمدة شد ))وَب َن َي َْنا فَوْقَك ُ ْ
نبأ /ج .((30
فهنا مماثلممة بيممن قمموائم البممل الرافعممة والسممماء الممتي تشممد ببنائيتهمما
ذي َرفَ َ
ع ه ال ّ ِ الحسم الكوني القائم على عمد كقوائم البل ولكن ل نراها :الل ّ ُ
سم َ شم ْ خَر ال ّ سم ّ ش وَ َ ْ َ ممدٍ ت ََروْن َهَمما ث ُم ّ
وى عَلممى العَمْر ِ سمت َ َ
َ
ما ْ ت ب ِغَْيمرِ عَ َ
َ
ماَوا ِ سم َ ال ّ
م قمماِء َرب ّك ُم ْ م ب ِل ِ َ ّ َ
ت لعَلك ُ ْ ل الَيا ِ ص ُ
ف ّ مَر ي ُ َ ْ
مى ي ُد َب ُّر ال ْ س ّ م َل ُ ج ٍري ِل َ ج ِ ل يَ ْ مَر ك ُ ّ َوال ْ َ
ق َ
ن) – (2الرعد /ج .13 ُتوقُِنو َ
ودليلنا على أن النص القرآني يشير إلى وجود عمد غير مرئيممة لنمما أن
الله قد أتى بكلمة )ترونها( بعد القول )بغير عمممد( فلممو كممان القصممد )بغيممر
عمد( لما لزمت إضافة )ترونها( ولكانت زائدة ،ولغممة القممرآن منزهممة عممن
الزيادة والنقصان.
عمد السممماء كعمممد البممل ولكممن ل نراهمما ،ثممم هنمماك مماثلممة الجبممال
المنصوبة كأوتاد ،بعد ذلك تممأتي الرض المسممطحة الممتي يقابلهمما تسممطيح
َ
ف ماِء ك َي ْم َ سم َ ت)(17وَإ ِل َممى ال ّ قم ْ خل ِ َ ف ُ ل ك َي ْم َ ن إ ِل َممى اْل ِب ِم ِ خف البل :أفََل ي َن ْظ ُُرو َ
42
َْ َ
ت)– (20 ح ْ سط ِ َ ف ُ ض ك َي ْ َ ت)(19وَإ ِلى الْر ِ صب َ ْ ف نُ ِ ل ك َي ْ َ جَبا ِ ت)(18وَإ َِلى ال ْ ِ ُرفِعَ ْ
الغاشية /ج .30
فهنا بنائية كونية مترابطة تمت الشارة إليهمما عممبر بنائيممة البممل ،فلممم
تقصد البل لذاتها كما يظن البعض الذين ربطوا بين القرآن والعقل العربي
،وجعلوا القرآن نتاجا ً لهذا العقل العربي وظواهره البيئية والجتماعية.
هذه البنائية الكونية ل يدعها الله )ساكنة( ،وإنما يشير إلى ما بداخلها
من حركة تقوم على التفاعل الجدلي ،الذي يولد نتائج تكاثرية أخرى ،ثممم
يستخدم إشارة )المماثلة( التي استخدمها لظهار العلقة بيممن بنائيممة البممل
ج
خ مُر ُ ق)(6ي َ ْ دافِ م ٍماٍء َ ن َ م ْ خل ِقَ ِ ق)ُ (5 خل ِ َ م ُ م ّ ن ِ سا ُ لن َ والبنائية الكونية :فَل َْينظ ُْر ا ْ ِ
س مَرائ ُِر) م ت ُب ْل َممى ال ّ قممادٌِر)(8ي َموْ َ جعِ مهِ ل َ َ ه عََلى َر ْ ب)(7إ ِن ّ ُ ب َوالت َّرائ ِ ِ صل ْ ِ ن ال ّ ن ب َي ْ ِ م ْ
ِ
تض ذا َِ َ ْ َ َ ُ َ َ
ج مِع)َ(11والْر ِ ت الّر ْ ماِء ذا ِ سم َر)َ(10وال ّ صم ٍ ن ق موّةٍ وَل َنا ِ مم ْ ه ِ ما ل م ُ (9ف َ
صد ِْع) – (12الطارق /ج .30 ال ّ
أين الحركية الجدلية هنا؟ وأين المماثلة هنا؟
إن السماء )ذات الرجمع( المتي تقمذف بالمماء إلمى الرض ) (+الرض
)ذات الصدع( ،التي تستوعب بشقها الماء ،ثم يكون النتاج الزراعممي )=(
الصلب الذي يقذف الماء ) (+ماء الممترائب الممذي يمممتزج بممماء الممذكر )=(
الناتج المولود .فالحركيممة الكونيممة تعتمممد فممي التكمماثر علممى مبممدأ التكامممل
والتفاعمل الجمدلي ،ضممن الكمون وبيمن البشمر .فكافمة الظمواهر الكونيمة
الفيزيائية والبيولوجية إنما تتحرك وفق قانون التفاعل الجممدلي التكمماملي ،
فكممما يممتزاوج النسممان تممتزاوج الطبيعممة ضمممن بيئة كونيممة واحممدة خصممبة
ومخصممبة .هكممذا ل ينظممر النسممان لنفسممه بوصممفه نشممازا ً ل تنطبممق عليممه
القوانين الطبيعية الكونية كيفما سنها الله العليممم الخممبير .فهنمما تمموجه نحممو
رؤية الكون في وحدته إلى أقصى إيقاعات العلم الممكن.
في هذا النموذج )السماء/الرض( – )الصلب/الترائب( يعطممي القممرآن
جبريمة التفاعمل الحركممي الممادي ،يؤكممد القمانون الطممبيعي وحتميمماته .ثمم
يعطي القرآن مقابل الجبرية الطبيعية حرية النفس وليس المادة .فالمممادة
محكومة بالقانون الطبيعي ،أما النفس فإنها تنشأ ضمن التعممارض الثنممائي
بين مواد التفاعل الكونية لتأخذ مساحة الحرية ،بممذلك يؤكممد القممرآن علممى
)الجبرية المادية( وعلى )الحرية النفسية( بذات المموقت وبكيفيممة معرفيممة ،
وتظل تتفوق على كل الفكر البشري إلى قيام الساعة.
نموذج الفصل بين الجبرية المادية والحرية النفسية والعقلية:
ذال إِ َ جّلهَمما)َ(3والل ّي ْم ِ ذا َ ها)َ(2والن َّهارِ إ ِ َ ذا ت ََل َ مرِ إ ِ َ ق َ ها)َ(1وال ْ َ حا َ ض َ س وَ ُ م ِ ش َْوال ّ
ها) وا َ َ َ ْ ي َغْ َ
سم ّ ممما َ س وَ َف ٍ ها)(6وَن َ ْ حا َ ما ط َ ض وَ َ ها)َ(5والْر ِ ما ب ََنا َ ماِء وَ َ س َها)َ(4وال ّ شا َ
َ
ها) – (8الشمس /ج .30 وا َ ق َ ها وَت َ ْ جوَر َ مَها فُ ُ ْ
(7فَألهَ َ
والقممر إذا تلهمما)(2 والشمس وضحاهما)(1
والليمل إذا يغشاهما ) والنهار إذا جلهما )(3
(4
والرض وما طحاها ) والسماء وما بناهما )(5
(6
ونفس وممما سواهما)(7
فألهمها فجورها وتقواها)(8
43
يأخذ التصنيف بوضع متقممابلت ثنائيممة )شمممس/قمممر( – )نهممار/ليممل( –
)سماء/أرض( ،وهذه ضفة أفقية للتصنيف ،ولكممن الصممفة الفقيممة تتحممول
إلى صفة رأسية تجعل كلمة شمس تسبق ذكممر القمممر ،ثممم يسممبق النهممار
المرتبط بالشمس ذكر كلمة الليل المرتبط بالقمر ،ثم كلمة سماء تسممبق
أرض ،فيكون التصنيف العمودي في هذه الحالة )شمس/نهار/سممماء( فممي
مقابممل )قمممر/ليممل/أرض( ،والثنائيممة قائمممة فممي حممالتي التصممنيف الفقممي
ت ذا ِماِء َسم َ
والرأسي ،فالتعامممل قممائم بيممن الجممانبين بممما يماثممل حالممة )َوال ّ
صد ِْع) ، ((12ثم يكون الميلد. ض َ َْ
ت ال ّ ذا ِ جِع)َ(11والْر ِ الّر ْ
الميلد الذي اختاره الله – سبحانه – للتقابل العمودي والفقي ما بيممن
)شمممس/نهممار/سممماء( مممن جهممة مشممابهة لقمموة الممذكر الممذي يعطممي )(+
)قمر/ليممل/أرض( فيممما يشممابه قمموة النممثى الممتي تسممتوعب )=( نتمماج غيممر
مستلب ل للذكر وحده ول للنثى وحدها .أي النتاج الذي يكتسب حريته لنه
َ
همما جوَر َ ها)(7فَأل ْهَ َ
مَها فُ ُ وا َس ّ
ما َ س وَ َ
ف ٍ نتاج التفاعل الثنائي ،هذا النتاج هو :وَن َ ْ
َ
ها) – (10الشمس /ج سا َن دَ ّم ْ
ب َخا َ ها)(9وَقَد ْ َ ن َز ّ
كا َ م ْ
ح َ ها)(8قَد ْ أفْل َ َ
وا َ
ق َوَت َ ْ
.30
هنما اسمتخلص اللمه – إمكانيمة الحريمة للنفمس والعقمل – ممن )ثنائيمة
التكوين الجدلي الكوني( ،وعبر التفاعل بين عنصرين لهما امتداداتهما في
الكون ،فالشمس – مثل ً – يشار إليها مقترنممة بالضمموء ،باعتبارهمما مصممدرا ً
حراريا ً ،أما القمر فيشار إليه مقترنما ً بممالنور ،بوصمف همذا النمور انعكاسما ً
لضوء الشمس ،فالمماثلة تحمل التقابليممة والتفاعليممة ،ول يمكممن أن تجممد
في كل آيات القرآن – الذي يشير إليه بعضهم بأنه نتاج عقلي عربي ملهممم
– أي ربط بين قمر وضوء أو شمس ونور.
إذن ،تأكدت لنا بعض مبادئ الدراك القرآني المكنون المفارقة نوعيا ً
بطبيعتها للوعي اليديولوجي العربي التاريخي ،ومن هنا تقوم دللة المعنى
الغيبي للقرآن باعتباره من عند الله ،فلو كان من عند غيره – تنزه وتعالى
– لوجدوا فيه اختلفا ً كثيرًا .وقد ركزنا هذه المبادئ الدراكية المفارقة حتى
الن في التي:
) (1التعامل مع الظواهر الطبيعية ضمممن وحممدتها الكونيممة الماديممة
)يس /ى .(39/40
) (2تفريغ الظواهر الطبيعية من صفاتها الحيائية النيمية )فصلت
/ى .(37
) (3وحدة البنائية الكونية )الغاشية /ى 17إلى .(30
) (4جبرية التفاعممل الجممدلي الكمموني الطممبيعي باتحمماد المتقممابلت
)الطارق /ى 5إلى .(11
) (5حرية التكوين النفسي والعقلممي عممبر ثنائيممة التفاعممل الجممدلي
الكوني )الشمس /ى 1إلى .(10
كان العربي يشعر ضمن تكوينه البيئي الجغرافي الطبيعي أنممه الكممائن
الوحيد ذو القدرة على الحركة الحرة في السكون الصممحراوي ل تممماثله إل
حيوانممات البريممة أو طيممور السممماء الممتي يماثلهمما فمي الحريممة ويتميممز عنهمما
بالوعي والنطق .فكان هو الذي يكسب الشياء من حمموله معمماني وصممفات
وأسماء ،فتحممول إلممى مطلممق متفمموق بممالوجود الممواعي علممى ممما سممواه ،
44
فابتدأت في النشوء لديه بدايات نزعممة الممتركز علممى الممذات .وهممي النزعممة
الممتي فسممر بهمما الممدكتور /حممافظ الجمممالي سمملبيات العربممي فمي العصممور
المتأخرة دون أن يعطي تاريخها النفسي.
هذا المطلق الذاتي الداخلي الذي ولدته الممبيئة الطبيعيممة فممي نفسممية
العربي ،لم يتسع مجالها الجتممماعي لكممثر مممن القبليممة كحممدود اجتماعيممة
نهائية ،فظلت القبلية مرادفا ً للعصبية ،إليها يرتد لحمايممة المطلممق الممذاتي
وبها يحتمي .فكانت القبلية هي الطار الذي يعبر فيه عن بطولته وقممدراته.
هي دائرة النتماء والطموح.
وبالتداخل بين نزعة التركز على الذات علممى نحممو فممردي موغممل فممي
النفرادية ،والنا والفخر الذاتي ،وبين القبلية كأكبر حدود اجتماعية ينتهممي
لديها الحساس بهذه الذات الفردية ،فقد كانت أتفه السباب تثير القتتممال
،اقتتال الذوات المتماثلة فففي تركيبهففا والففتي تحتمففل التنففافر
بحكم التماثل ،إذ لم يعرف العربي نظاما ً اجتماعيا ً متراكبا ً يحد
من كبريائه ،بل عرف أشففكال ً اجتماعيففة متماثلففة يتمحففور كففل
شكل منها حول مطلقه الذاتي.
وكلنا يقرأ فممي التاريممخ أيممام العممرب كحممرب )داحممس والغممبراء( الممتي
استمرت أربعين عاما ّ ل صراعا ً حول الماء والكل كممما هممو المفممترض علممى
نحو طبيعي بين قبائل الرعاة البدو ،ولكن ترجع المسألة إلى جرح طفيممف
أثار المطلق الفردي الذاتي وأثار فيه كممل كمموامن التفممرد والعلممو ،فطغممى
على التكيف أو التلؤم مع الخرين .وهكذا فقدت اللفة بين القوام:
م ن قُل ُمموب ِهِ ْ ت ب َي ْ َ ف َ ما أ َل ّ ْميًعا َ ج ِ ض َ َْ
ما ِفي الْر ِ ت َ ق َ ف ْم ل َوْ َأن َ ن قُُلوب ِهِ ْ ف ب َي ْ َوَأ َل ّ َ
م) – (63النفال /ج .10 كي ٌ ح ِزيٌز َ ه عَ ِ م إ ِن ّ ُ ف ب َي ْن َهُ ْه أ َل ّ َن الل ّ َ وَل َك ِ ّ
م إ ِذ ْة الل ّمهِ عَل َي ْك ُم ْ مم َ فّرقُمموا َواذ ْك ُمُروا ن ِعْ َ ميًعا وََل ت َ َ ج ِ ل الل ّهِ َ حب ْ ِ موا ب ِ َ ص َُواعْت َ ِ
م عََلمى َ َ َ ك ُنت َ
فاشم َ وان ًمما وَك ُن ُْتم ْ خ َ مِتمهِ إ ِ ْ م ب ِن ِعْ َحت ُ ْ
صمب َ ْم فَأ ْ ن قُل ُمموب ِك ُ ْ ف َب َي ْم َ داًء فَأل ّ َ م أعْ َ ُْ ْ
ن) دو َ م ت َهْت َم ُ ُ ّ َ
م آي َممات ِهِ لعَلك م ْ ُ
ه لكم ْ َ ّ
ن اللم ُ َ َ
من َْها كمذ َل ِك ي ُب َي ّم ُ م ِ ُ
قذ َك ْ َ
ن الّنارِ فأن ْ َ م ْ فَرةٍ ِ ح ْ ُ
– (103آل عمران /ج .4
لم يشر الله هنا إلى أنه )وحد( بين قلمموبهم ،بممل ألممف بيممن قلمموبهم ،
واللفة أقل درجة من )الوحدة( وفي هذا تعامممل إلهممي مممع )جممدل الواقممع(
ففردية العربي لم تكن تتيح التحول باتجاه الوحدة وقتها.
لم يكن ذلك المطلق الفممردي القبلممي يسممتجيب لي داع خممارج حممدود
انتمائه القبلي في أحسن الحممالت ،وبالممذات حيمن يممرى فممي المممر مجممدا ً
وفخرا ً يمضي عنه إلى آخرين في مجتمع قائم على تنافس المتماثلين .وقد
صادف محمد عليه أفضممل الصمملة والسملم الكممثير وعمانى ممن جممراء همذا
التكوين النفسي ،ولكنه كان تكونا ً طبيعيا ً ل مجال لتجاوزه إل ّ بتممدخل اللممه
الغيبي ،ليجمع تلك القبائل على كلمممة واحممدة ورجممل واحممد .وأوضممح اللممه
المر بجلء لرسوله )لو أنفقت ما في الرض جميعًا( وإل ّ لتوافر للعرب من
قبل محمد من يسودهم أو يقممودهم .بممل تمضممي تلممك الممروح الفرديممة فممي
تركيزها حول ذاتها حدا ً ترفض معه الذعان لمحمد ل تكذيبا ً له فهو الصادق
الميين ،ولكن لن القرآن قد نزل عليه وليس عليها.
ن ب َي ْن َِنا) – (8ص /ج .23 م ْ ل عَل َي ْهِ الذ ّك ُْر ِ ؤنزِ َ أَ ُ
45
م)– (31 ظي م ٍ
ن عَ ِ قْري َت َي ْم ِن ال ْ َ
مم ْل ِ ن عَل َممى َر ُ
جم ٍ ذا ال ْ ُ
قْرآ ُ وََقاُلوا ل َوَْل ن ُّز َ
ل هَ َ
الزخرف /ج .25
كذلك فإن آثار نزعة المطلق الذاتي القبلي لم تنته في حدود السلوك
الجتماعي اللتلؤمممي بيممن الوحممدات القبليممة المتماثلممة ،بممل تلبسممت كممل
الحوال الفكرية والنفسية للنسان العربي .وهذه لزمة طبيعية أيضمًا .كممان
العربي ل يميل بحكم فرديته وتخلفه إلممى النظممر فممي النمماظم الموضمموعي
للشياء ما عدا قلة من الحنفاء الذين كانوا أشبه برهبان العرب .كان يميممل
لتجريد الظواهر من علقاتها ومعانيها ليعطيها هو وبحرية مطلقة أحاسيسه
بها .كان يتمثممل مطلقممه الممذاتي فيممما هممو خممارجه مكرسما ً لوجمموده الممذاتي
ودافعا ً به إلى أقصى الحممدود .ومممن هنمما ينظممر العربممي إلممى الظممواهر فممي
تفردها وكثرتها وتنوعها وصفاتها .كان يريد أن يصل إلى الخصممائص الذاتيممة
لكل شيء ،فإذا وصف أسهب وعدد ونمموع وراقممب ودق واسممتدق ،فكممان
طبعه ساحرا ً في وصفه ،دقيقا ً في استخداماته وتوظيفاته اللغوية ،نممافرا ً
من العموميات ذاتي ما ً ومسممتغرقا ً فممي الذاتيممة .وبهممذه الروحيممة حيممن تمموجه
العربي إلى تحديد علقاته بالغيب ،لم يستطيع إل ّ أن يسقط عليه نفسمميته
فجاء اللهة آلهة قبممائل ل يعلممو إلممه إل ّ بممما تعلممو بممه القبممائل نفسممها .كممانوا
يعبدونها ولكنها لم تكن في الحقيقة سوى رممموز لهممم يجسممدون بهمما فهمما ً
خاصا ً بهم لقوى الغيب ،لذلك يجد أنهم في القرآن لم يكونوا يدافعون عن
هذه اللهة بل كانوا يدافعون أكممثر عممن )مفهوميممة تعممددها( ،وهممي مسممألة
ذان هَ م َ ة إ ِل َهًمما َوا ِل اْلل ِهَ َ
جعَ َ َ
دا إ ِ ّ
حم ً ترتبط أكثر بتكوينهم الجتماعي والفكري :أ َ
ب) – (5ص /ج .23 جا ٌيٌء عُ َ لَ َ
ش ْ
وقد جاء كل حوارهم للدفاع عن هذه اللهة حوارا ً سممطحيا ً ل يتناسممب
ولسان العرب وحجتهم ،بل كانت تمضي حججهم مع محمممد بمقمماييس لممم
يكن لوجود آلهتهم نصيب فيها .فالقول ))أأنزل عليه الذكر مممن بيننمما(( فيممه
اعتراف ضمني بمصدر للتنزيل يرقى على آلهتهم ،كما أنهم كانوا يسممألون
محمدا ً كبرهان على رسالته أمورا ً كانوا ل يعزونها للهتهم كإنزال الملئكة ،
وتفجير الرض ينابيع وهي أمور لم يسبق لهم أن سممألوها آلهتهممم فممي حممر
مكة وجفافها الصحراوي.
لهذه السباب الجتماعية والفكريممة لممم تسممتطع أي ثقافممة دينيممة مممن
خارج الوسط الصحراوي أن تممؤثر فيهممم البتممة مما عممدا بقايما ممن الحنيفيممة
البراهيمية لدى بعض من حكماء العرب .كان العربي يرفض كل ممما حمموله
بفردية مطلقة ،ولم تستطع المسيحية ول اليهودية أن يتوغل إل ّ في شمال
الجزيرة وجنوبها أي في أطرافها الزراعيممة ،حيممث تختلممف التجربممة جممذريا ً
عن واقع الوسط الصحراوي ،ولم يتهود في يثرب إل ّ بعض الطفال الممذين
جاءوا بعد وفاة أسلفهم فنذرهم أهلوهم لغير دينهم إن عاشوا.
فات بعض المستشرقين هذا التركيب الجتماعي النفسي حيممن ظنمموا
أن ما أتى به محمد إلى العرب كان تلفيقا ً انتقائيا ً للتراث الديني المسيحي
واليهودي ،فقد عايش العرب هذا التراث ورفضوه ،وكانوا يعرفونه معرفة
تامة ويعتقدونه أمممرا ً خاصما ً بهممذه الشممعوب مممن دونهممم .وليممس مممن طبممع
البدوي أن يتذلل للخرين ليعلموه ما عندهم .كان يرى نفسممه )أمي مًا( وهممي
لفظة تقابل )كتابي( وليس عديم القراءة والكتابة كما وقع في الخطممأ جممل
46
المفسرين ،وكثيرا ً ما كان أبو سفيان يخاطب بعممض اليهممود بقمموله) :نحممن
أميون وأنتم أهل كتاب( .وقد أشمار القمرآن إلمى أن بعمض العمرب المييمن
ُ كون َ
دى اْل َ
م مم ِ – حم َ
ن إِ ْ
مم ْ
دى ِ كان يتمنى لو أنزل عليه كتاب خاص به :ل َي َ ُ ُ ّ
ن أه ْ َ
فاطر /ج .22
ولكنهم لم يتناولوا قط كتاب اليهود ول كتاب النصارى ،فلممو كممان ممما
أتى به محمد هو استنساخ انتقائي عن الكتب المعروفة لديهم لرفضوه في
حينه ،ولكنه جاء بأمر كان العربي وحده يدرك أنه له وليممس استنسمماخا ً أو
تلفيقًا.
في تلك البيئة الطبيعية الناسجة لشخصية العربي ،المتفردة بنزوعهمما
الذاتي ومطلقها القبلي المحدود في صحرائه الممتدة الفق بجلل سكونها
وهيبة جبالها ،لم يكن ثمة وسيلة لتفجير كوامن البداع وطاقة التخيل لدى
العربي إل ّ في حدود ما يعطيه إبداعه الذاتي ..فطالما أن الشياء تكتسممب
معانيها من هذه الذات الداخلية ،فإن تعممبير هممذه الممذات عممن نفسممها هممي
الحقيقة الوحيدة التي يقبلها البداع.
وفي هذه الحالة تصبح اللغة هي مجال البداع ومحتممواه ،لنهمما البنمماء
الوحيد الذي يصدر عن الذات مباشرة ويستجيب لعماقها .لممم يكممن البممدي
قادرا ً على تجسيد إبداعه في إنشاء مادي ،فاستعاض عنه بالنشاء اللغوي
الذاتي والذي كان القرب إليه ،ليحمل ذاتممه المتفممردة فهممي وحممدها الممتي
بمقدورها أن تكافئ همة العربي الحضارية في التدفق والتفصمميل وإعطمماء
الموضوع ذاته المتفردة.
اهتم العربي بجعل اللغة أداته الحضارية ،مجال إبداعه ومحممور قمموته
وقدرته ،فبقدر ما يجيد العربي التعبير عن أعماق رؤيته الذاتيممة للموضمموع
المقابل بقدر ما يفرض شخصية تصوره على الخريمن ويقهرهمم .فالقضمية
هنا ليست بباعث الحاجة الموضوعية لوصف ظماهرة مما علمة نحمو جممالي
متفوق ،ولكنها ليأتي هذا الوصف مسممقطا ً لحيمماة خاصممة علممى الموضمموع.
ومن هنا فقد احتملت اللغة العربية ما لم تحتمله أي لغة أخرى في إنشائها
وتركيبها ..وخلفا ً لقول كممثيرين ل يوجممد فممي اللغممة العربيممة علممى اتسمماعها
كلمة تنوب عن الخرى في حدسممها ومعناهمما ولسممانها ،فكلماتهمما كممالعربي
الذي أنشأها تتميز بذاتية خاصة بكل منها ،وكمثال على ذلك أي على عدم
تبين شخصية كل كلمة في هذه اللغة المتميزة أوردنمما سممابقا ً مما وقممع فيممه
الكثير من المفسرين حين لم يميزوا بين )مس( و )لمس(.
اللغة العربية – إذن – متميزة وذاتية ولسانها متفمرد فمي دقتمه كتفمرد
العربي بذاته .أصبح التعبير اللغوي هو )النشاء الحضاري( الذي يقابل أبنية
وهياكل الشعوب الخرى .المعلقات على أستار الكعبة توازي أعمدة هرقل
وإيوان كسرى .إنها حضارة اللسان وعبقريته والعربي فقط هو الذي يدرك
محتوى حضارته وأسرارها.
اللغة العربية شأنها شأن اللغات البشرية فممي العممالم كلممه ذات دللممة
وجودية لسانية ،وليست دللت قاموسية فقط .وهناك مممن حمماول دراسممة
عبقرية النسممان العربممي مممن خلل لسممانه ،ليكشممف فيهمما ل عممن جمموانب
البداع فقط ،ولكن عن جمموانب التفممرد اللسمماني أيضمًا .وفممي تقممديري أن
تفرد اللغة العربية عن غيرها من اللغات العالمية ل يمكن الوصول إليممه إل ّ
47
ممن خلل فهمم العربمي ممن المداخل فهمما ً وجوديما ً عميقما ً ،يفصمل ذاتيتمه
الممعنة في التمييز والفرز والتدقيق ،والتي تدل على الكيفية الممتي ينظممر
بها العربي للشياء ،والسلوب الذي يعطيممه بهمما تمايزهمما وشخصمميتها .إنهمما
تجربة لغوية عميقة ومتميزة ومتفردة عن سائر لغات العممالم ،لن صممفاتها
من صفات العربممي الجتماعيممة والسمملوكية وهممي انعكمماس مباشممر لعلقتممه
بالحياة وموضوعاتها حتى شيد منها برجه الحضمماري علممى رمممال الصممحراء
المتحركة.
وجاء القرآن مبينا ً بهذه المادة رفيعة المستوى التي ل يدرك بعممدها إل
العربي لسانا ً وليس مجممرد العربممي لغمة لنهمما متولممدة عمن حيمماته وليسممت
جماعا ً لشتات قاموسي .جمماء القممرآن ليتحممدى ببنممائه الحضمماري مممن أصممل
اللغة كل البناءات الحضارية العربية فيها أو من مادتها .صيغ بنهج إنشمائي ،
دفممع بممه اللغممة إلممى كمالهمما الحضمماري ،وإلممى أرقممى مممن تلممك الكمممالت
الحضارية التي وصل إليها العرب صممياغة وبنمماء ،وتحممداهم أن يممأتوا بمثلممه
وهو من أصل حضارتهم ومممن مادتهمما .فعجممزوا عممن بلمموغ الكمممال اللغمموي
النشائي الذي ارتقت إليه اللغة في القرآن واحتاروا وتحيروا وعجممزوا عممن
أن يأتوا بمثله .ل هو بالشعر ول هممو بممالنثر ،ولكنممه توليممد جديممد مممن أصممل
المادة ودون خروج عن خصائصها .غير قابممل للتماثممل ول للتطممابق .متفممرد
ومتميز .غير أن العربي لغة والمترجمين ل يفوتهم إدراك صممفاته البلغيممة ،
ولكن شأن معظم روائع الكتب الخرى.
لم يتوقف العلماء المؤرخون لدى تلك الظاهرة اللغوية )الغيبيممة( كممما
لم يتوقفوا لدى )غيبيات( المعارك و )غيبيات( التأليف بين الممذوات القبليممة
المتنافرة .مروا عليها مرورا ً سممريعا ً وأحيانما ً مممرور اللئام .وممما كممان ينبغممي
للعرب منهم خاصة وهم يعالجون تاريخ أمة تعتممبر اللغممة فيهمما هممي العامممل
الوحيد المشترك .ولكنه الخوف من الوقوع فممي دائرة التعامممل مممع الغيممب
تحت طائلة التخوف من فقدان النهج العلمي.
التفرد القرآنممي فممي النشمماء اللغمموي كممان هممو العامممل الوحيممد الممذي
يسممتطيع أن يقهممر شخصممية التفممرد العربممي بمطلقهمما الممذاتي ،لن تجربممة
العرب الوجودية قد اختارت اللغة كمجال لتجسيد ذاتها والتعبير عن تفوقها
فلم يكن من الممكن أن يقهر العربي إل ّ من لسانه وبإبداع يفوق ما أبممدع.
عبر النشاء القرآني القاهر للمطلق الذاتي في النسان العربي المستعلي
عليه حضاريا ً ،أذلت أعناق العرب وهي ما تذل لغير هذا فلم يجد الخصمموم
ردا ً سوى القول بأنه "سحر يؤثر".
كممانت التجربممة العربيممة قممد حممددت سمملفا ً مجممال تحممديها الحضمماري
واستجاب اللممه وأنزلممه قرآنما ً عربي ما ً ،يتلبممس كممل حممالت اللسممان العربممي
ويقوده من داخله ،تلممك كممانت عمليممة ثممورة حقيقيممة أداتهمما اللغممة وعنفهمما
الكلمات.
ولم يقتصر المر على النشاء ،فقممد ارتقممى القممرآن بكمممالت التميممز
والتفرد في خصائص الكلمات فما من كلمة إل ّ ولها معناها المحدد الممذي ل
يحتمل كنفسية العربي تماما ً أي تماثل أو تطابق مع كلمة أخرى .وممن هنما
يصبح تفسير القرآن من أدق العمليات اللغوية الحضارية التي يعرفها تاريخ
اللغات والثقافات في العالم .ما مممن كلمممة إل ّ ولهمما دللتهمما المتميممزة ولممو
48
بممدت مترادفممة أو متشممابهة ،لممذلك ل يمكممن تفسممير القممرآن بالسممتطراد
والتداعي على السياق .وليممس المممر قضممية ظمماهر وبمماطن ،وإنممما حممرف
محدد وقد رأينا في المثال السابق كيف أن فرقا ً لم يبد للناس جوهريا ً بين
)مس( و )لمس( قاد إلى اجتهادات كلها خطأ في خطأ .وأقول صراحة :إن
الخطمماء كممثيرة وترجممع السممباب فممي معظمهمما إلممى مراحممل النحطمماط
الحضاري اللغوي منذ القرن الهجري الثالث ،فحمل القرآن ممما ليممس مممن
طبيعته وفهمت مكنوناته خطأ في جمموانب هامممة تتصممل بحيمماة المسمملمين.
وسنعرض لهذا في دراسات لحقة إن شاء الله.
إذن جاء القرآن ليقهر العربي من الداخل بصممعوده اللغمموي إلممى قمممة
النشماء الحضماري وأضماف إلمى ذلمك – بالضمرورة – وضمع الكلممة ضممن
خصائصها المتفردة التي تقابل خاصية التكوين العربي ،وهذه أمور )غيبية(
المصدر لم تأت نتاجا ً منعكسا ً عن شخصية تلك المرحلة .وهذا المر الغيبي
كان هو الوسيلة الوحيدة لجذب العربي باتجاه التحمول – أي فمرض التغييمر
عليه من الداخل وهو أسلوب يخممالف كممل أدوات التحويممل الفكممري ،الممتي
عرفها التاريخ على مستوى الثورات الحضارية.
ولكففن إلففى أيففن تتجففه هففذه الداة الغيبيففة بففالعربي وإلففى أيففن
تحوله؟
كل ثورة فممي التاريممخ تلجممأ للوسممائل الوضممعية لتغييممر المجتمممع ،أممما
العربممي فقممد كممان عليممه أن يخمموض غمممار ثممورة دينيممة لتغييممر نفسممه مممن
الداخل ،والثورة تحتاج إلى أداة تهز الوجدان وتفجممر تناقضمماته ،والنشمماء
القرآنممي كممما قلنمما كممان هممذه الداة ،وهممو أمممر ل يفهممم إل بفهممم تركيممب
الشخصية العربية نفسها .كلمة تحييها وكلمة تميتها .وقد أوضممحنا خصممائص
هذه الكلمة وبعدها في حياة العربي.
غير أن هدف القرآن من إنشائه الحضمماري ،لممم يكممن مجممرد التعممالي
الحضاري اللغوي عليه بل اتخاذ ذلممك وسمميلة إلممى جممذبه وإخضمماعه لمموعي
ديني ،لم يكن من طبيعة ممما تعطيممه تجربتممه .فممالمحتوى القرآنممي لتجربممة
الوجود والحياة كان على النقيض من فهم العربي لتجربتممه الحيويممة .وعممبر
هذا التناقض نكتشف أيضا ً أن القرآن كما أنه ليس في إنشائه نتاجا ً عربيا ً ،
فإنه في محتواه قد أتى خارج وعي المرحلممة التاريخيممة العربيممة بمضمممونها
الجتماعي والحضاري .أي أن المحتوى نفسه كان صادرا ً مممن خممارج الممبيئة
العربية ،ويمكن لعلماء السلوك الجتماعي التاريخي اليوم إجراء مقارنممات
حضارية بين محتويات الفكر القرآني وما أعطتممه الشخصممية العربيممة وقتهمما
من فكر خاص بها على مستوى قيمها ومثلها.
طرح القرآن أمام العربممي مفهومما ً حممول انتظممام الوجممود كلممه ضمممن
ناظم واحد ،وقيامه في وحدته بمطلق واحد ،وجعل الكثرة مع تميزها كل
بخصائصه مظاهرا ً لوحدة واحدة .إله واحد أحد صمد .تدور حمموله الشممياء ،
وتخضع له الظواهر الكونية ،وهو الذي أعطاها معناها وصممفاتها وأسممماءها
وحدد حكمته فيها .لم يعد المطلق الذاتي الفردي هو الذي يكسب الشممياء
معناها )إن هي إل ّ أسماء سميتموها( .ولم تعد القبلية ولم يعممد الكممون قبممة
مرصعة بالنجوم في السماء ورمال تتحرك بين جلميد صممخر فممي الرض ،
وإنما كون واسع بشكل فلكي منظم ،يمضي القممرآن فممي تعممداد ظممواهره
49
وصول ً بهم إلى ما يبصرون وما ل يبصرون .امتداد ل متنماه بالمذات العربيمة
إلى خارج وعائها القبلي ،لتندمج في وحدة البشرية الممتممدة عممبر الرض.
وامتداد ل متناه بالذات العربية نفسها عبر كونية شاملة ل تحدها جبال مكة
ول رمال الصحراء ..امتداد بشري وكمموني ،وتعلممق بمطلممق كامممل الوجممود
مستقطب لهذه الكونية بكل اتساعها .هو الذي يعطيها وجودها ومعناها.
ثورة مفهومية على مدى القرآن ،تلتممف حممول ذات النسممان العربممي
وتمزقها من الداخل وتفرغهمما عممن محتوياتهمما المنعكسممة عليهمما مممن الممبيئة
الطبيعية والتركيب الجتماعي .وعممن نقيممض ومفمماهيم نقيضممة واتجمماه إلممى
معارج الحكمة.
تلك الداة الغيبية وذلك المحتوى المفهومي الذي يتجاوز كل ما يعطيه
المموعي التمماريخي للنسممان العربممي أحممدثا التحممول الحقيقممي فممي النسممان
العربي من الداخل .إنه إجممراء تحممويلي تممم ضمممن بنيممة النشمماء الحضمماري
العربي وانقلب عليه بأداة من بعضه .قد أعيد تكمموين العربممي وجممذب اللممه
مطلقه الذاتي إليه وامتد به كونيًا.
ظل القرآن في مجمله جاذبا ً متعدد الزوايمما لعقليممة النسممان العربممي.
يأتيه من كل جانب عبر مختلف الوسممائل التعبيريممة ،يمتممد بممه تاريخ ما ً إلممى
آدم ،ويقوده إلى مضمارب شمعوب عديممدة ،ويمل إحساسممه بعمموالم وأممم
تعيش في الكون كله ،من حوت البحر الذي لم يممره إلممى جمموارح السممماء
التي رأى بعضها وامتد به إلممى ممما وراء حجممب الزمممان والمكممان ،ممما قبممل
الدنيا وما بعدها وما بين السموات والرض وما فيهن .كانت عمليممة واسممعة
لتغيير العربي من الداخل وإحلل عقلية وجودية كونية بديلة.
العربي والتحول القرآني
ذكرنا أن القرآن قد نزل مستهدفا ً تغيير شخصية النسان العربي مممن
الداخل ،ليتحول به من الذاتية الفردية القبلية القائمة علممى عقليممة الكممثرة
والنحصممار الممبيئي ،إلممى الكونيممة الشمماملة بامتممدادها البشممري والطممبيعي
وتعلقها بالله.
ً
هذا التحول لم يكن سهل ضمن التحليل العلمي الموضوعي للتاريممخ ،
غير أننا أوضحنا كيف أن القرآن بوصفه أداة غيبية حققت التعالي الحضاري
على المطلق الفردي العربي ،قد جذبت النسان العربي من الممداخل إلممى
هذا التحول بحيث تقف تاريخيا ً أمام ظمماهرة مذهلممة كممان أساسممها الغيممب.
وقد رأينا كيف أن الله وقد جذب الذات العربية عبر النشمماء القرآنممي إلممى
هذا المحتوى الجديد المكنون في القرآن ،فقد دفع بالنسان العربممي عممبر
دروس تطبيقية عديدة في معارك التحويممل نحممو السمملم ،ليممدرك أعممماق
الكلمة القرآنية وحكمة الله في التدبير الكوني.
تلك كانت المعالم الغيبيممة الرئيسممية فممي بدايممة صممنع التاريممخ العربممي
وتركيز مقدماته العالمية ليخرج العربي ل من صحراء الجزيرة إلممى سممهول
العالم ،ولكن ليخرج أول ً من فرديته إلممى كممونيته .وأن يخممرج مممن سممطوح
الفكر إلى أعماقها ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ،ومن ظواهر الموجودات
والحركة إلى حقائقها .وأن يأتي هذا التحول خلفا ً للطممرق المباشممرة الممتي
أجراها الله في علقاته مع الشعوب السابقة.
50
طوال ثلثة وعشرين عاما ً تم النجمماز الضمخم كمما قمدره اللمه ،وبمما
يرضي رسوله ،وتمكنت الشخصية العربية من العبور إلممى المموعي الجديممد
مدفوعممة بممالقرآن ومدعومممة بتجاربهمما التطبيقيممة ،فممي سلسمملة المعممارك
والوقائع الخرى.
كانت تلك المرحلة )مرحلة تحويلية بممالقرآن( ،بلممغ البعممض قمممة مممن
قممها في تدبر المنهج اللهي الكوني وبقي البعض فيما تعطيه اسممتعداداته
على حسب اعتبارات عدة .كانت تلك إنجازات هائلة توقف عليها فيما بعممد
المسممير كلممه .لممذلك جمماءت علقممة العربممي بممالقرآن – كمموعي يسممتمر مممع
البشرية للمام – مهمة في تلك المرحلة المتقدممة .غيمر أننما نتوقمف لمدى
هذه الفقرة لنناقش أمرا ً جوهريا ً ،فهناك من يقممول أن اختيممار اللممه إنممزال
كتابه فممي تلممك الفممترة ،زائدا ً وجممود الرسممول يسممعى حيما ً بينهممم بالتنزيممل
والتمموجيه ،زائدا ً صممفاء اللغممة فممي أصمملها ...كلهمما اعتبممارات جعلممت الفهممم
العربي السلفي للقممرآن ومحتويمماته هممو الفهممم المثممل والصممحيح ،وأن ممما
يطرأ من بعد يرد إلى شبيهه بالقياس .لهذا نشأت مممدارس التفسممير علممى
فهم موقف السلف الصالح وما تداولوه من آراء وتعليقممات بشمأن اليمات ،
إضافة إلى فهم أسباب النزول .وتقف هذه المممدارس موقف ما ً صممارما ً تجمماه
من يقول برأيه في آيات الكتاب وصممول ً إلممى التكفيممر ،كممما تتحفممظ بعممض
أقسامها بالنسبة لما يسمى بالتفسير العصري للقرآن.
إن المسألة ل تحتاج إلى كل هذا التشنج لو فهمنا طبيعة القرآن .وأنمما
ل أتهم هنا السمملفيين بقممدر ممما أتهممم معارضمميهم أيض مًا .إن طبيعممة القممرآن
ليست في كونه كتابا ً يحتوي على سور مفصلة بفواتحها وخواتمهمما تتضمممن
عبادات ومعاملت .إنممه جممماع حقيقممة البعثممة المحمديممة الممتي أجملهمما اللممه
ُ
م
كيهِم ْ م ي َت ْل ُممو عَل َي ْهِم ْ
م آي َممات ِهِ وَي َُز ّ سمموًل ِ
من ْهُم ْ ن َر ُ مّيي َ ث ِفي اْل ّ ذي ب َعَ َ بقوله :هُوَ ال ّ ِ
ن)– (2 مِبي م ٍل ُ ض مَل ٍ
ل ل َفِممي َ ن قَب ْم ُمم ْ ن ك َمماُنوا ِة وَإ ِ ْ مم َ ب َوال ْ ِ
حك ْ َ م ال ْك ِت َمما َ وَي ُعَل ّ ُ
مه ُ م ْ
الجمعة /ج .28
فالقرآن هو مصدر كامل يعقممب بالتحليممل والتوضمميح علممى آيممات اللممه
بتفاصيلها وكلياتها ،وسجل إلهي مفتوح علممى التجربممة الوجوديممة الكونيممة ،
ومصدر الحكمة الشاملة في التعامل معهمما عممبر التزكيممة اللهيممة للنسممان.
نزل هذا القرآن ليرقى بالنسان إلى معارج الحكمة اللهية الكونيممة ليبصممر
النسان كل شيء كما يريد لممه اللممه أن يبصممره ،وهممو فممي خلصممته منهممج
الدمج بين القراءتين كما خوطب محمد في أول التنزيل .ثممم تنممزل القممرآن
كله فيما بعد ،ليفصل هذه الحقيقة ويعطي أبعادها في تجارب النبيماء ممن
قبل ،كما سبق لنا أن أوضحنا وفصلنا على قدر استعدادنا.
في الطار الفسيح لتلممك الحقيقممة اليمانيممة تكممونت ونشممأت التجربممة
المحمديممة العربيممة كمقدمممة لمنهممج إلهممي حضمماري كمموني ترسممى دعممائمه
التفصيلية على مستوى الفكر البشري ككل .إنه البديل الذي أتى مممن عنممد
الله .وقد عاش العرب تلك الحقيقممة عممبر انجممذابهم اللغمموي للقممرآن وعممبر
إرشاد الله إخباريا ً لهم بما يشابه التطبيق لمعمماني ذلممك المنهممج مممع تقممديم
النماذج السابقة ،لذلك ل يمكممن القممول الن أن ثمممة فهمما ً جديممدا ً للقممرآن
كان غائبا ً فيما مضى ويمكن أن يفهم به اليوم .فقط يمكن القول وهذا هممو
الصحيح أن هناك أشكال ً تبدو للنمماس جديممدة فممي ظمماهر فهمهممم للقممرآن ،
51
تحتاج لعادة اكتشافها ضمممن المنهممج اللهممي الموجممود بحقيقتممه وتفاصمميله
ل .أي منذ التجربة المحمدية العربية. أص ً
إذن ليست ثمة جديد يضاف ،ولكنه فهم للحديث المستجد في إطممار
الوعي المنهجي بالقديم المتجدد .ونتوقممف هنمما لممما نسممميه بمموعي المنهممج
متسائلين :لماذا لم نرث هذه المدرسة بتمامها عن السلف الصممالح؟ ليممس
ثمة تقصير ول لوم ول عتاب.
ً
إن فهم القرآن في كليته أمر كان متاحا – إلى حد كبير – ومنذ البدايمة
للكثيرين من الذين انفتحوا عليه بكل استعداداتهم .كان يتنزل على قلوبهم
وحيا ً صافيا ً ،ول أريد أن أحدد أو أسمي فمظان الناس قممد أصممبحت أهممواء
شتى .غير أنه لم تكن من طبيعة تلكم الفممترة الرائعممة منهجممة المممور كممما
هي طبيعة عصرنا .كانت علقتهم بالحكمة التي يلنقونها أن يمارسوها ل أن
يمنهجوها – وجاء من بعدهم خلف جعل همه أن يتسممقط أخبممارهم دون أن
يضع اللينات في حائطها.
لو فصلنا مجموعة من سير خاصة المتلقيممن مممن الصممحابة لمكننمما أن
نكشف في حياتهم أثرا ً كممبيرا ً طبعهمما بممه فهمهممم اللهممي فممي الكممون كلممه.
ويلحق بهم في هذا المجال آخرون من رجمال هممذه الممة ،غيمر أن تحليمل
السيرة وصول ً إلى الكشف عن كوامن الشخصية أمر لم يعرفه العرب من
قبل ،وهي من المور المسممتحدثة فممي الذهنيممة الغربيممة مممن خلل القصممة
والنقد .أما القرآن فإنه يشتمل بطريقة فريدة على هذا المبنممى مممن الفممن
الحضمماري ،ولكممن بأسمملوب خمماص ومتميممز فممي التحليممل ضمممن السممرد ،
)وراودته الممتي هممو فمي بيتهما( بممما يعنممي تحليل ً للحالممة الممتي تمممت ضممنها
المراودة .فالمر ليس محض رغبة جنسية كما فهمه البعض.
إذن منهجيتنا هي منهجية القرآن التي نشأت ضمنها التجربة المحمدية
العربية ،ول ندعي أن ثمة جديدا ً يضاف ،سوى محاولة الوعي بالقرآن في
إطاره المنهجي الكلممي علممى نحممو كمموني شممامل ،بوصممفه معممادل ً للحركممة
الكونية وكل دللتها.
ً
هذا الفهم ليس جديدا في ذاته ولكنه جديممد فمي تنماوله ،أي أنممه كمان
موجممودا ًَ فممي القممرآن غيممر أن العممرب لممم يكممن مممن شممأنهم وطممبيعتهم أن
يتناولوه بشكله المنهجي الكلي ،ول يعود المر لنقص فيهممم وكمممال فينمما ،
وإنممما يعممود لطبيعممة مقومممات تجربتهممم وخصممائص تكمموينهم التمماريخي
والجتماعي.
تلقى العرب القرآن ضمن )مواضع النزول( وبدا لهم أنه يشممير عليهممم
في كل حالة إلمى السملوب المثممل لتناولهما والتعامممل معهما .ويرتبمط هممذا
السمملوب بالكيفيممة التحويليممة الممتي كممان ينممزع إليهمما القممرآن فممي تحممويله
التدريجي للعربي من مطلقه الفممردي إلممى الكونيممة .فهنمماك مواضممع نممزول
يقابلها تحممول تممدريجي للنسممان العربممي باتجمماه منهجيممة القممرآن الكونيممة ،
وكليته التي هي معادل موضوعي للحركة الكونيمة كلهما ،ولعقيمدة التوحيمد
الكبرى.
ً
نتيجة لذلك وعلى نحو طبيعي جمماء فهممم العربممي للقممرآن فهمما مجممزأ
يعطممي دللت الحكمممة ولكنممه – أي العربممي – ل يحيممط بهمما منهجيما ً ضمممن
القممراءة القرآنيممة الواحممدة بمنهجهمما الواحممد .كممانت علقتهممم بحكمتممه أن
52
يمارسوها في مواضعها ل أن يمنهجوها بشممكلها الكلممي كممما أوضممحنا علممى
مستوى الدمج بي نالقراءتين.
في هذا الطار مضى العربي يرد كل معنى فممي القممرآن إلممى موضممعه
المحدد مممن النممزول ،ونشممأ علممم كامممل فيممما بعممد يسمممى بعلممم )أسممباب
النزول( .وقد كفى العربي ضمن مرحلة التحول أنه يعيش القرآن ومعممانيه
في الممارسة السلوكية ،وأنه يتلقى عنممه حكمممه فممي كممل مسممألة ويطيممع
المر وينفذه ،فالتجاه كانت تطغى عليه )السملوكية( أكمثر ممن )المنهجيمة
العلمية(.
بذلك السلوب الوضعي التدريجي أمكن تحقيق المممدى الممذي تتحملممه
التجربة العربية في تحولها نحو مهمتها ،لتخرج بالقرآن إلى الناس.
كان خروج العرب يعني النفتاح علممى الحضممارات التقليديممة العالميممة.
وقد قطعت تلك الحضارات شوطا ًَ بعيدا ً في منهجة أفكارها وتأطيرها علممى
نحو فلسفي شبه متكامل ،لذلك لم يكن من طبيعة تجاربهمما الحضممارية أن
تتلقى القرآ ،بنفس الكيفية التي يعيه بهمما العربممي ضمممن لزوميممات مرحلممة
تحوله التدريجي .كانت هذه الحضارات قد طرحممت علممى نفسممها مممن قبممل
تساؤلت فلسممفية عميقممة ،عممن اللممه والممدين والنسممان ومصمميره وخيمماره
وجبريته وماضيه ومستقبله وعلقته بالفعل في الحياة.
تلك كانت بيئات حضارية متقدمة ،وقممد سممبقت العممرب بممألوان شممتى
من تعقيدات الفكر كما استقبلت في ماضيها – قبل خروج العممرب – أربعممة
وعشرين نبيا ً كان لها معهم شأن مختلف.
قد قدر الله هذا الفارق مسبقًا :بين كيفية تنمماول القممرآن فممي مرحلممة
التحويل العربي ،وكيفية تناوله حضاريا ً لدى التجممارب البشممرية المتقدمممة.
وتجلى هذا التقدير في المر لمحمد بإعادة ترتيب آيممات القممرآن علممى غيممر
مواضع النزول ،ليعطي الكتاب وحدته العضمموية المنهجيممة الكاملممة ،الممتي
تقابل أي منهجية حضارية بشرية مقابلة.
ً
لممم يتوقممف العممرب ول المفسممرون كممثيرا لممدى حكمممة إعممادة ترتيممب
القرآن .وقفوا في حدود أن المر توقيفي وفقط ،وذلممك كممان مممن طبيعممة
وضعهم ،فل لوم ول عتاب ول تقصير – فقد كممانت مهمممة القممرآن بالنسممبة
للعربي هي مهمة تحويلية من وعي إلى وعي إلهي بممديل ،ولمم يكمن ذلمك
ممكن ما ً ضمممن مرحلممة تكممون العربممي الحضممارية إل ّ بممالمزج بيممن الرشمماد
الخبمماري والتجربممة العمليممة ،وتممرك اللممه المممر لسممتعدادات العربممي فممي
المضي إلى المنهج الكلي عبر تراكم التجارب واتصال مواضع النزول.
غير أن القرآن لم يكن للعربي فقط بل للعالم أجمممع فرتبممه الرسممول
ضمن منهجيته التي تجاوزت مواضممع النممزول وأسممبابها المحليممة التحويليممة.
الصل لم يتغير غير أن القرآن وزع إلممى سممور ،تحمممل كممل سممورة معنممى
خاصا ً بها في إطار المعنى الكلممي العممام الممذي يوحممد بينهما ..أصممبح للبقممرة
سياق موضوعي محدد يتصل مندمجا ً في )آل عمران( .ويسممتمر إلممى آخممر
الكتاب ،ليعطي عبر وحدته الكلية المنهج الكلي .وكمثمال علمى ذلممك رأينما
الطريقة التي ألحق بهمما الرسممول آيممات متممأخرة النممزول بافتتاحيممة القممرآن
الولى في سورة )العلق( بحيث اكتمل نهجها الواحد كممما فصمملنا وشممرحنا.
والمر على هذا النحو في كل السور .أي أن الرسول قد أخرج القرآن مممن
53
محليته إلى عالميته بإعادة ترتيبه من مواضع للنزول إلى منهج لوعي كلممي
واحد متماسك الفقرات .وبقي على الحضارات العالميممة مممن بعممد أن تعممبر
بالعربي نفسه ومن خلل القرآن إلى درب المنهجيممة الكاملممة الممتي تحمممل
كل أبعاد الحضارة البديلة.
انصب جهدنا في الصفحات السابقة على إظهار الفارق بيممن المعرفممة
القرآنية في مطلقها ،وبين غقليممة التنمماول اليديولوجيممة لعالميممة المييممن ،
التي تميزت بذهنية إحيائية أنيمية اتجهت للقرآن ضمن حالة التنزل المجممزأ
المرتبطة بالسباب التي تبدو مستقلة عن بعضها .ونتجه الن لبحممث نفممس
النصوص القرآنية الممتي سممبق تناولهمما بنمطيممة ذلممك المموعي لنعيممد قراءتهمما
ضمن وعي استكشافي جديد ،يعتمد على وحدة القرآن العضوية ومنهجيممة
الفهم الجدلي له .أي التوجه نحو )التحليل( عوضا ً عن )التفسير( ،والتوجه
نحممو )وحممدة( الكتمماب عوضما ً عممن )أسممباب النممزول( ،مممع اسممتخدام نمممط
المعرفممة )الجدليممة( الممتي توحممد الجممزء فممي الكممل عوضمما ً عممن المعرفممة
)الصورية( التي ل تأخذ بداخلية المبنى وتقف لدى أشكاله الخارجية.
سنتعرض لنممموذج هممام هممو )المسممألة الدميممة( لنطبممق عليهمما نممموذج
المموعيين ،المممي ثممم المنهجممي .مممع التقيممد بحرفيممة النممص اللغمموي فممي
الحالتين ،ووقتها سيتضح أن إطلقية القرآن ومعرفيتممه )أم الكتمماب( تظممل
مهيمنة على وعي كافة الزمنة ومتغيرات المكان ،فيتأكد أن القممرآن فعل ً
هو الكتاب المكنون والمجيد والكريم .ومن خلل هذا التأكيد سنكتشف أيممة
آفاق معرفية متقدمة تلك التي يفتحها القرآن أمممام البشممرية جمعمماء وفممي
حاضممرنا المعاصممر علممى طريممق حممل أزماتهمما الفكريممة وتصممحيح مسمميرتها
الحضارية .فجهدنا ينصب أول ً وأخيرا ً باتجاه التفاعل اليجابي مممع مشممكلت
النسممان العممالمي المعاصممر ،وعممبر رؤيممة استكشممافية متلئمممة والمموعي
الحضمماري المعاصممر .وهممذه هممي القيمممة المعرفيممة وليممس الديولوجيممة
الماضوية لهذا الكتاب العظيم ،والذي تتبدى عظمته كلما تقادمت العصممور
وتغيرت المكنة.
كيف فهم الميون مسألة آدم في القرآن؟
في بداية سورة البقرة /الجزء الول /نجد النص التالي:
َ ُ َْ
ل ِفيهَمما جع َ م ُ ة قَممالوا أت َ ْ ف ً خِلي َ ض َ ل ِفي الْر ِ ع ٌ جا ِ مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ ك ل ِل ْ َ ل َرب ّ َ وَإ ِذ ْ َقا َ
ل إ ِن ّممي س لمك قَمما َ َ َ قمد ّ ُ ممدِك وَن ُ َ َ ح ْ ح بِ َ سب ّ ُ ن نُ َ ح ُ ماَء وَن َ ْ فك الد ّ َ ُ س ِ سد ُ ِفيَها وَي َ ْ ف ِ ن يُ ْ م ْ َ
ة َ َ ْ َ ُ ّ ُ َ ْ ّ َ َ َ أَ
ملئ ِكم ِ َ ل ا مى م ل َ ع م
ُ ْ ه م ض
َ رّ َ َ ع م م ث ها َ ل ك َ ء ماْ َ س ل ا م
َ َ د آ م
َ ل َ ع َ و ( 30 ن) َ مو ُ ل ْ عَ ت ل ماُ َ م ل ْ ع
م ل َن َمما َ قا َ َ
عل ْم َ ك َل ِ حان َ َ سب ْ َ ن)َ(31قاُلوا ُ َ صادِِقي َ م كنت ُ ْ ن ُ ماِء هَؤَُلء إ ِ ْ س َ ل أن ْب ُِئوِني ب ِأ ْ فَ َ
َ َ َ ْ ْ َ ّ
ممما م فَل ّ مائ ِهِ ْ سم َ م ب ِأ ْ م أن ْب ِئ ْهُ ْ ل َياآد َ ُ م)َ (32قا َ كي ُ ح ِ م ال َ ت العَِلي ُ ك أن ْ َ مت ََنا إ ِن ّ َ ما عَل ْ إ ِّل َ
َْ َ م أ َقُم ْ أ َنبأ َهُم بأ َسمائ ِهم قَمما َ َ
ضت َوالْر ِ ماَوا ِ سم َ ب ال ّ م غَي ْم َ م إ ِن ّممي أعْل َم ُ ل ل َك ُم ْ ل أل َم ْ َْ ْ ِ ْ َ ِ ْ
َ
م دوا ِلد َ َ ج ُ سم ُ مَلئ ِك َمةِ ا ْ ن)(33وَإ ِذ ْ قُل ْن َمما ل ِل ْ َ مممو َ م ت َك ْت ُ ُ كنت ُم ْ ممما ُ ن وَ َ دو َ ممما ت ُب ْم ُ م َ وَأعْل َم ُ
َ
ن سممك ُ ْ ما ْ ن)(34وَقُل َْنا َياآد َ ُ ري َ كافِ ِ ن ال ْ َ م ْ ن ِ كا َ ست َك ْب ََر وَ َ س أَبى َوا ْ دوا إ ِّل إ ِب ِْلي َ ج ُ س َ فَ َ
ما وََل ت َ ْ َ
جَرةَ شم َ قَرب َمما هَمذِهِ ال ّ شمئ ْت ُ َ ث ِ حي ْم ُ دا َ من ْهَمما َرغَم ً ة وَك َُل ِ جن ّم َ ك ال ْ َ جم َ ت وََزوْ ُ أن ْ َ
ن عَن َْها فَأ َ ْ شي ْ َ َ
ه
كان َمما ِفيم ِ ممما َ م ّ ما ِ جه ُ َخَر َ طا ُ ما ال ّ ن) (35فَأَزل ّهُ َ مي َ ظال ِ ِ ن ال ّ م ْ كوَنا ِ فَت َ ُ
مَتاعٌ إ َِلى ِ َ ْ
ن) حيمم ٍ قّر وَ َ ست َ َ م ْ ض ُ م ِفي الْر ِ ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ م ل ِب َعْ ٍ ضك ُ ْ طوا ب َعْ ُ وَقُل َْنا اهْب ِ ُ
م)(37قُل ْن َمما حي م ُ ب الّر ِ وا ُ ه هُوَ الت ّم ّ ب عَل َي ْهِ إ ِن ّ ُ ت فََتا َ ما ٍ ن َرب ّهِ ك َل ِ َ م ْ م ِ قى آد َ ُ (36فَت َل َ ّ
54
ْ
مف عَل َي ِْهمم ْ
خمموْ ٌ دايَ فََل َ
ن ت َب ِعَ هُ َ
م ْ دى فَ َ مّني هُ ً ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ
م ِ ميًعا فَإ ِ ّ
ج ِمن َْها َ
طوا ِ اهْب ِ ُ
ن) – (38البقرة /ج .1 حَزُنو َ وََل هُ ْ
م يَ ْ
تجمع كتب )التفاسير( أن الله – سبحانه – من بعد أن خلق السممموات
والرض قبض قبضة من تممراب ونفممح فيهمما فأصممبحت )آدم( ،ثممم خلممق لممه
زوجة هي )حواء( من ضلعه ،ثم أمر الملئكة بالسجود له كخليفة عنه فممي
الرض ،وسجد الملئكة واستكبر إبليس .ثمم علمم اللمه آدم كافمة السمماء
وتعني أسماء الشجر وأنواعها والبهائم والنجوم وغيرها ،وأمره بعدم الكل
من شجرة معينة فلما أكل منها بإغواء إبليس له طرد من الجنة.
هذا مختصممر مفيممد ،غيممر أن هممذا التفسممير يممأتي بممالنص إن لممم يكممن
بالحرف في الصحاح الول والثاني والثالث من سفر التكوين في )التوراة(
،وسأجتزئ بعضا ً من النصوص )التوراتية( المتي توضمح ذلمك) :فخلمق اللمه
النسان على صورته .على صورة الله خلقه ،ذكرا ً وأنثى خلقهم ..وغممرس
الرب الله جنة في عدن شرقًا..وأوصى الرب اللممه آدم قممائل ً ،مممن جميممع
تأكل أكل ،وأما شجرة معرفة الخيممر والشممر فل تأكممل منهمما ..وقممال الممرب
الله ليس جيدا ً أن يكون آدم وحده .فأصنع له معينا ً نظيممره ،فأخممذ واحممدة
من أضلعه ومل مكانها لحما ً ،وبنى الرب الله الضلع التي أخممذها مممن آدم
امرأة وأحضرها إلى آدم .وجبل الرب الله من الرض كل حيوانممات البريممة
وكل طيور السماء فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها ،وكممل ممما دعمما بممه
آدم ذات نفس حية فهو اسمها ..وتناولت حواء من ثمرة الشجرة التي فممي
وسط الجنة ،وأكلت وأعطت رجلهمما معهمما أيض ما ً فأكممل ،فممانتفخت أعينهمما
وعلما أنهما عريانان ،فخاطمما أوراق تيممن وصممنعا لنفسممهما مممآزر ..فطممرد
النسان وأقام شرقي جنة عدن.(..
قد نقول إن العقلية اليديولوجية العربية لم تصنع هذا التفسير الدارج
في كتبنا الن ،وأن الميين العممرب قممد قبلمموه علممى علتممه كتفسممير ليممات
القرآن الكريم الخاصة بالخليقة والتكوين ،وبالطبع فإن تبني هذا التفسممير
)التوراتي( يعني القبول به ،وهذا يعني انسجام الذهنية العربيممة وقتهمما مممع
مقممولته ،خصوص ما ً وأن العممرب ل يملكممون ثقافممة )كتابيممة( تراثيممة سممابقة
يقيسون عليها ما جاء به القرآن من مواضمميع كونيممة ،ثممم إن بعممض اليممات
القرآنية في شكلها المجممتزئ يمكممن أن تعطممي )انطباعمًا( بصممحة إشممارات
َ
م)– (4 وي ٍق ِ
ن تَ ْ
س ِح َ
ن ِفي أ ْ سا َ لن َ قَنا ا ْ ِ
خل َ ْ التوراة التفسيرية للوهلة الولى :ل َ َ
قد ْ َ
التين /ج ، 30مما يعني أن آدم قد خلق من جبلة الممماء والطيممن بشممرا ً
للوهلة الولى بالمر اللهمي ،ثمم تمم نفمخ المروح فيمه .وكممذلك مما تشميعه
معاني آية )وعلم آدم السماء كلها( بما يعني الرتباط الظرفي في اللحظة
بين خلق آدم وتعليمه السماء كلها .ومع تحديد هذه السماء تفسمميريا ً بأنهمما
أسماء الشجر والحجر.
دعونا نخرج الن من أسر التفسممير )التمموراتي( الممذي أسممقطه اليهممود
على آيات القرآن ،ولتكممن البدايممة بهممذه اليممة السمابقة الممذكر حممول خلممق
النسان في )أحسممن تقممويم( ،فهممذه اليممة الممواردة فممي الجممزء ) (30مممن
سورة )التين( إنما تشكل أحد مفاتيح مقدمة سورة البقرة فممي الجممزء )(1
حول معنى التقويم الحسن الذي خلق ضمنه آدم.
55
التقويم هو التوقيت ،أي اللحظة المحددة فممي الزمممن ،فالدللممة هنمما
تعود إلى لحظة كان لديها الخلق النساني في أرقى حمالته وأبلمغ كممالته.
ولكي يمكننا الله – سبحانه – من تحديد هذا المعنى للتقويم بشكل محدد ،
أتممى باليممة المقابلممة الممتي توضممع )النقيممض( لحممال الكمممال المشممار إليممه ،
والنقيض هو) :ثم رددناه أسفل سافلين( ،فالرد أو الرتداد هو رجمموع إلممى
أصمل كمانت منممه البدايممة ،وإل لمما اسمتخدم اللممه تعممبير )رددنماه( ،تمامما ً
ُ
ن)– (13 ح مَز َق مّر عَي ْن ُهَمما وََل ت َ ْ ي تَ َ م مهِ ك َم ْ كخطاب الله لموسى :فََرد َد َْناهُ إ َِلى أ ّ
القصص /ج .20أي الرجوع إلى المبتدأ بعممد الفممراق ،وكممذلك النسممان
خلق في حال الكمال ثم يرد إلى الصل ما قبل الكمال والردة مقترنة هنمما
بالسفلية ،أي الوضاعة البهيمية الممتي ل تعممرف للنفممس تزكيممة ول طهممرا ً ،
وقد حدد الله حال هذه السفلية النفسية والعقلية والخلقية حيممن اسممتثنى
مل ُمموا من ُمموا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ن ال ّ ِ منها الذين يحافظون على اليمان والعمل الصالح :إ ِ ّ
الصال ِحات ل َه َ
ن) – (8فصلت /ج ، 24من هنمما نعلممم أن مُنو ٍ م ْ جٌر غَي ُْر َ مأ ْ ّ َ ِ ُ ْ
أحسن تقويم هو أحسن حال من ناحية العبودية للممه ،وممما تتصممف بممه مممن
كمممال روحممي وعقلممي ونفسممي ،ثممم يكممون الرتممداد إلممى الصممل )أسممفل
سافلين( لغير الصالحين المؤمنين ،ويؤكد الله بعد ذلك أن همذا همو حكممه
ك بعد بالدين)(7أ َل َيس الل ّ َ
ن) – (8التين / مي َ حاك ِ ِ حك َم ِ ال ْ َه ب ِأ ُْ ْ َ ما ي ُك َذ ّب ُ َ َ ْ ُ ِ ّ ِ الزلي :فَ َ
ج .30
بعد إدراكنا لمعنى التقويم الحسن الممذي خلممق لممديه النسممان مكتمل ً
بالروح والدينونة لله ،من بعد اكتشاف أصل )سافل( كممان فيممه ويمكممن أن
)يرد( إليه إن لم يكن مؤمنا ً صالحا ً ،ندخل إلى آيات الخليقة والتكوين فممي
الجزء ) (1من سورة البقممرة ،ولكممن بعممد النطلق مممن سممورة الممتين فممي
الجزء ).(30
قد اتخذ الملئكممة البممرار مممن هممذا الصممل )السممفلي( للنسممان مممادة
للرتياب في استحقاق النسان للخلفة عممن اللممه فممي الرض ،فحيممن :وَإ ِذ ْ
َ ل ِفي اْل َْر
س مد ُ ف ِ ن يُ ْم ْ ل ِفيَها َ جع َ ُ ة َقاُلوا أت َ ْ ف ًخِلي َ ض َِ ع ٌجا ِ مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ ك ل ِل ْ َل َرب ّ َ َقا َ
ممما َل َ
م َ ل إ ِن ّممي أعْل َم ُ ك قَمما َ س لَ َ
قد ّ ُ ك وَن ُ َ مدِ َ ح ْح بِ َ
سب ّ ُن نُ َح ُ ماَء وَن َ ْك الد ّ َف ُ س ِ
ِفيَها وَي َ ْ
ن) – (30البقرة /ج .1 مو َ ت َعْل َ ُ
في هذه الية نجد عدة موضوعات:
ل :إخبار إلهي للملئكة بأنه )جاعل( في الرض خليفة ،والجعل هنا إرادة أو ً
مستقبلية لن الخطاب اللهممي ل ينممص علممى فعممل الماضممي )جعلممت(
ولكنممي )جاعممل( ،فهنمما فممترة زمانيممة بيممن الخبممار النممي والجعممل
المستقبلي.
ثانيًا :قد ارتابت الملئكة في سياق الخطمماب النممي بممأن مممن يممراد لممه أن
يكون مستخلفا ً هو الن – وقت الخبار اللهي – يسفك الدماء ويفسممد
في الرض .وسفك الدماء يتعلق بمعرفة مادة عضوية حمراء اللممون ،
وعبارة يسفك صفة لفعل مادي ومعنوي ،ثم يرتبمط تعريمف سملوكية
النسان بأنه كائن )يفسد( في الرض ،فهنمما إشممارة إلممى وجممود ذلممك
الكائن راهنا ً في الرض ومن قبل الستخلف .فهنا إخبممار ملئكممي لنمما
عبر الرتياب فممي أن هممذا الكممائن الممذي يممراد اسممتخلفه موجممود قبممل
السممتخلف ،وموجممود جغرافيمما ً فممي بيئة طبيعيممة هممي الرض ،وأن
56
أخلقيته يهيمية بحكم أنه يسفك دم بعضه البعض ،ويفسد في الرض
دون ضوابط أخلقية أو عقلية ،يقتل ويفعل حين يشتهي إلخ . ...أممما
الملئكة فقد ميزت نفسها بأنها تسبح اللممه )تنزهممه( وتقممدس لممه ،أي
تقدس أفعاله عممن مثيلتهمما عنممد المخلوقممات ،فهنمما تنزيممه ثممم تشممبيه
مقدس.
ثالثًا :في مقابل ما ساقته الملئكة من الحالممة )السممفلية( للنسممان الممذي
يتجه الله لستخلفه مستقبل ً ،لم يلجأ الله لسكات الملئكة البممرار ،
وإنما أوضح لهم أن ثمة أمر يرتبط بمستقبلية الزمن ) ،قال إني أعلم
ما ل تعلمون( ،ثم نجد مستقبلية الزمن هذه تكرر نفسها كحجة إلهية
على الملئكة بعد أن نال آدم الستخلف ،وبعد أن تعلم السممماء ،إذ
َْ َ م أ َقُ ْ َ
ض ت َوالْر ِ ماَوا ِ سم َ ب ال ّ م غَي ْم َ م إ ِّني أعْل َم ُ ل ل َك ُ ْ قال لهم الله وقتها :أل َ ْ
َ
ن) – (33البقرة /ج .1فالله قد رد مو َ م ت َك ْت ُ ُكنت ُ ْ ما ُ ن وَ َ دو َ ما ت ُب ْ ُم َ وَأعْل َ ُ
ارتياب الملئكة بالحجة على ما سيكون بعد فترة مممن الزمممن ل علممى
ما هو كائن وقت خطابه للملئكة ،فوقتها لم يقممل اللممه لهممم بممأن ممما
يرونه من دماء أو فساد ليس سفكا ً وليممس أخلقما ً سممفلية ،بممل تممرك
للزمن أن يقنع الملئكة بأن هذا الكائن الذي يرونه الن سيكون – عن
قريب أو بعد وقت – في )أحسن تقويم( فلما حدث وكان في أحسممن
تقويم ،علمه السماء ثم قدمه للملئكة.
هل كان خلق آدم ماديا ً تطوريا ً ؟
قد يعتقد البعض بأن قولنا بوجود الكائن النسان كمخلوق همجي مممن
قبل استخلف آدم ،إنما يتضمن إشارة إلى المبدأ التطوري الدارويني فممي
خلق الحياء ونموهمما .غيممر أن القممرآن المكنممون ينبئنمما بحقيقممة أخممرى أكممثر
أهمية وتفصيل ً ،فآدم لم يكن متطورا ً في أصول تكمموينه الممذاتي مممن خليممة
حية وإلى إنسان ،وإنما هو نتاج الصطفاء اللهي له من بين تلك الكائنممات
البشرية الممتي وصممفتها الملئكممة بأنهمما همجيممة بربريممة ،تفسممد فممي الرض
وتسفك الدماء .فالله قد أخبر الملئكممة مممن قبممل بممأنه سمميخلق بشممرا ً مممن
طين ،ثم أخبر الملئكة أن من بين هؤلء البشر سيكون خليفة .فهنا فممارق
زمني كبير بين مرحلة )خلممق( فيهمما اللممه النسممان مممن طيممن ،ثممم مرحلممة
)جعل( الله فيها خليفة له في الرض من بين هؤلء البشر .فآدم ليممس أول
البشر ،ولكنه أول إنسان اصطفاه الله ليكون خليفة له ،فنفح فيممه روحممه
وعلمه السماء.
قد حدد الله مراحل الخلق البشري البتدائي للملئكة بقوله تعالى :إ ِذ ْ
ه
ت ِفي م ِ خم ُ
ف ْه وَن َ َ
س موّي ْت ُ ُ
ذا َ ن)(71فَ مإ ِ َ طي ٍ
ن ِ م ْشًرا ِ خال ِقٌ ب َ َ مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ ك ل ِل ْ َل َرب ّ ََقا َ
ن) – (72ص /ج .23 دي َ ج ِ
سا ِ ه َ َ
قُعوا ل ُ حي فَ َ ن ُرو ِ م ْ
ِ
فهنا نجممد ) (1خلمق ممن طيممن (2) .تسمموية لهممذا المخلموق (3) .نفممخ
للروح اللهي فيه (4) .سجود لتأمين الستخلف .فهذه اليات الممواردة فممي
سورة )ص( إنما تعبر تفصيليا ً عن سياق المراحممل كلهمما ،مممن الخلممق إلممى
التسوية إلى النفخ إلى الستخلف .وقد أوضممح اللممه فممي الجممزء ) (30مممن
سورة )النفطار( ممما جعلممه مجمل ً فممي الجممزء ) (23مممن سممورة )ص( ،إذ
ك قم َخل َ َ
ذي َ م)(6ال ّم ِ ريم ِ ك ال ْك َ ِ ك ب َِرب ّم َ ممما غَمّر َ ن َ سمما ُ لن َ ما ا ْ ِ يذكر اللممه تعممالىَ :ياأ َي ّهَم
شاَء َرك ّب َ َ َ ك فَعَد َل َ َ وا َ
ك) – (8النفطار /ج .30 ما َ صوَرةٍ َ ك)ِ(7في أيّ ُ س ّفَ َ
57
فاليممة ) (7تشممير إلممى ) (1خلممق .ثممم ) (2تسمموية .ثممم ) (3اعتممدال .وهممذه
مراحل تكوين ،فالتسوية هممي )اسممتواء( أفقممي كممما تمشممي البهممائم علممى
أربع ،ثم العتدال )قيام رأسي( كممما يسممعى النسممان ،ثممم مممن بعممد ذلممك
يشير الله تعالى إلى )تعدد الصور( التي يخلممق اللممه فيهمما النسممان ،وكلهمما
صور ترتبط بماضي النشأة والتكوين البيولوجي والعضوي ،فبقممدر ممما فممي
العالم من كائنات عضوية نجد أن النسان قممد اسممتمد تكمموينه منهمما ،وهممذا
معنى غاية في الدقة العلمية وبأرقى من الدارونية ول يوصل إليه إل ّ بفهممم
فسمك ُ َ ل ل َك ُم مم َ َْ
نمم ْ جمما وَ ِ م أْزَوا ً ْ ن أن ْ ُ ِ ْ ِ ْ جعَ َ ض َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ قلبي تجاهَ :فاط ُِر ال ّ
َ
صمميُر)- (11 ميعُ الب َ ِ سم ِ يٌء وَهُموَ ال ّ شم ْ مث ْل ِهِ َ س كَ ِ م ِفيهِ ل َي ْ َ جا ي َذ َْرؤُك ُ ْ اْل َن َْعام ِ أْزَوا ً
فاطر /ج .25فهذه الية توضح لمن يعمممل فكممره الن ممماذا تعنممي اليممة
ك) .(8وكممذلك: شمماَء َرك ّب َم َ ممما َ َ
صمموَرةٍ َ رقم ) (8من سورة النفطار :فِممي أيّ ُ
دوا إ ِّل ج ُ سم َ م فَ َ دوا ِلد َ َ ج ُ سم ُ مَلئ ِك َمةِ ا ْ م قُل ْن َمما ل ِل ْ َ م ث ُم ّ ص موّْرَناك ُ ْ م َ م ث ُم ّ قن َمماك ُ ْ خل َ ْ قد ْ َ وَل َ َ
ن) - (11العراف /ج .8وقد وضع الله آية دي َ ج ِسا ِ ن ال ّ م ْ ن ِ م ي َك ُ ْ س لَ ْ إ ِب ِْلي َ
ذرء الصور المتعددة للتركيب النساني عن المنشأ فممي سممورة )الشممورى(
لن بعض البشر يستبدون بذواتهم وأصولهم على الشورى وعلى الخرين ،
فنبههم الله – من طرف خفي – إلى حقيقتهم .كذلك وكما نبه اللممه البشممر
إلى أصلهم حين استبدوا على بعضممهم البعممض ،كممذلك يظهممر اللممه للبشممر
حقيقة أصلهم كرة أخرى حين ينسبون إليه – سبحانه – الولد من جنسهم ،
وفي هذا ردع لممن ألقمى السممع وهمو شمهيدَ :لمو أ َراد الّلم َ
داخمذ َ وََلم ً ن ي َت ّ ِهأ ْ ُ ْ َ َ
قّهاُر) – (4الزمر / ْ
حد ُ ال َ وا ِه ال ْ َ ه هُوَ الل ّ ُ حان َ ُ سب ْ َ شاُء ُ ما ي َ َ خل ُقُ َ ما ي َ ْ م ّ فى ِ صط َ َ َل ْ
ج .23
وكذلك:
َ مم ْ ْ َ
ن الن ْعَممام ِ م ِ ل ل َك ُم ْ جَها وَأن َْز َ من َْها َزوْ َ ل ِ جعَ َ م َ حد َةٍ ث ُ ّ س َوا ِ ف ٍ ن نَ ْ م ْ م ِ قك ُ ْ خل َ َ َ
ُ َ
تممما ٍ ق فِممي ظ ُل ُ َ ن ب َعْمدِ َ ْ
خل م ٍ مم ْ قا ِ خل ْ ً
م َ مَهات ِك ُ ْ نأ ّ طو ِ م ِفي ب ُ ُ قك ُ ْ خل ُ ُ
ة أْزَواٍج ي َ ْ مان ِي َ َ ثَ َ
َ
ن) – (6الزمففر / صَرُفو َ ه إ ِّل هُوَ فَأّنى ت ُ ْ ك َل إ ِل َ َ مل ْ ُه ال ْ ُم لَ ُ ه َرب ّك ُ ْ م الل ّ ُ ث ذ َل ِك ُ ْ ث ََل ٍ
ج .23
ً
إذن فأصل النسممان مممن طيممن – ثممم نممما حممامل فممي تركيبتممه الصممور
المتعممددة لشممكال المملكممة البهيميممة ،فليممس القممرد أصمل ً لممه كممما تزعممم
الداروينيمة .ثمم نمما إلمى أن اسمتوى علمى أربمع – ثمم اعتمدل إنسمانا ً علمى
قدمين .ووقتها رأت فيه الملئكة إنسانا ً يسفك الدماء ويفسممد فممي الرض.
ثم جاء الصطفاء اللهي لدم حيث نفممخ فيممه مممن روحممه وعلمممه السممماء.
فآدم ليس أول البشر ولكنه أول مخلوق مممن جنممس البشممر اصممطفاه اللممه
بالنفممخ الروحممي ،بممذلك يتأكممد )جممدل الغيممب والطبيعممة( ،فممالمر اللهممي
)الغيب( قد تنزل على عالم الطبيعة )المشمميأة( ،فكممان النسممان الروحممي
)آدم( هو الخلصة المستصفاة من بعد مراحل تاريخية تكوينية ممتممدة إلممى
ما شاء الله.
تساؤلت ل بد للقارئ من طرحها:
قممد يممرى القممارئ الكريممم أننمما قممد نقممدنا تلممك التصممورات )التوراتيممة(
اللهوتية التي أسقطت على النص القرآنممي المحكممم بتممأثيرات المفسممرين
اليهود ككعممب الحبممار ووهممب بممن منبممه ،وكممذلك أزحنمما جانبما ً روح التلقممي
العفوية التي قبلت بهمما عالميممة المييممن بتلممك التصممورات اللهوتيممة ،الممتي
58
كانت تجد لنفسها الصدى نتيجة تشكل الذهنية الحيائية النيمية ،التي تأخذ
)بالخلق المستقل( للظاهرات بممما فيهمما آدم دون معرفممة أن المممر اللهممي
يتنزل من عممالم الغيممب علممى عممالم المشمميئة ضمممن جدليممة تأخممذ بالزمممان
والمكان )إني أعلم غيب السموات والرض( .غير أن هممذا التحليممل النقممدي
الذي يأخذ بالكتاب في كليته العضمموية ،مستصممفيا ً اليممات المتعلقممة بممذات
الموضوع من مختلف الجزاء والمواقع ،يثير بالضرورة تساؤلت عدة ل بد
من طرحها والجابة الممكنة عليها .علما ً بممأن التسمماؤلت وإجاباتهمما تشممكل
جزءا ً من هذا البحث.
ل :إن كمان آدم قمد )جعمل( عممبر الستصممفاء اللهمي لمه ممن بيممن بشممر أو ً
سبقوه في التكوين ،والله يشير إلى ارتباط الروح بآدم ،وأن آدم هو
)النفس( الواحدة الممتي خلممق اللممه منهمما النمماس ،فكيممف كممان يعيممش
البشر من قبله دون روح.
ثانيًا :تشير اليات إلى أن آدم بعد خلقه مباشرة قمد أممر بمأن يسمكن هممو
وزوجه )الجنمة( ،ثمم أممر )بمالهبوط( منهما ،فمأين همو موضمع البشمر
الخريممن مممن سممكن الجنممة ومممن أمممر الهبمموط منهمما؟ خصوص ما ً وأن
التفاسير توضح اكتشاف آدم وزوجه لنفسهما )عاريين( بعد الهبمموط ،
أو حين ذاقا الشجرة المحرمة ،فطفقا يخصممفان علممى أنفسممهما مممن
ورق الجنة.
ويسألونك عن الروح
ً
هنا مفتاح القضية كلها ،خصوصما وأن الفكمر النسماني عمومما يربمط ً
بين الروح وما بين )الحياة( ،حممتى إن الدراسممات العلميممة المعاصممرة إنممما
تحاول التعرف على الروح كطاقة فيزيائية بالغة التعقيد والحساسممية .وقممد
تقترض الدراسات العلمية القائمة على الفلسفة المادية أن الروح ل تخممرج
عن كونها ظاهرة مادية ناتجة عن مركبات النسان العضوية .ويسيطر هممذا
التجاه المادي في مقابل التجاه العام في الفكر النساني بأن الممروح هممي
هبة الحياة لكممل الكائنممات الحيممة مممن اللممه ،وبالتممالي فهممي مممن )السممرار
الربانية( الممتي ل يمكممن معرفممة كنههمما ،خصوصما ً وأن سممؤال ً سممابقا ً سممأله
العرب فتلقوا – في تقديرهم – إجابة تمنعهم عن الخوض في هذه المسألة
ن
مم ْ ح ِ ل ال مّرو ُ ن الّروِح قُ ْ ك عَ ْ سأ َُلون َ َ التي خص الله – سبحانه – بها نفسه :وَي َ ْ
َ ّ َ ُ َ
حي َْنمماذي أوْ َ ن ِبالمم ِ شئ َْنا لن َذ ْهَب َ ّ
ن ِ ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليًل)(85وَلئ ِ ْ
َ م ْ م ِ ما أوِتيت ُ ْ مرِ َرّبي وَ َ أ ْ
كن عَل َي ْ َ كا َ ه َ ضل َ ُن فَ ْ ك إِ ّ ن َرب ّ َ م ْة ِ م ً كيًل)(86إ ِّل َر ْ
ح َ ك ب ِهِ عَل َي َْنا وَ ِ جد ُ ل َ َ م َل ت َ ِ ك ثُ ّإ ِل َي ْ َ
ن َل ذا ال ْ ُ ْ َ
قمْرآ ِ ل ه َم َ مث ْ ِن ي َأُتوا ب ِ ِن عََلى أ ْ ج ّ س َوال ْ ِ
لن ُ تا ِْ مع َ ْ جت َ َنا ْ ل ل َئ ِ ْ ك َِبيًرا)(87قُ ْ
ض ظِهيًرا) – (88السراء /ج .15 َ َ
مث ْل ِهِ وَلوْ َ ْ
م ل ِب َعْ ٍ
ضه ُ ْن ب َعْ ُ كا َ ن بِ ِي َأُتو َ
إن الله – سبحانه – برحمته وفضل منه يجيب على كممل سممؤال ،غيممر
أن الكشف عن مواطن الجابة هو معضلة البعض .فاليات هنا وبالذات من
منتصف آية السؤال رقم ) (85وما بعد ذلك إلى ) (88إنممما تحمممل الجابممة
الشافية .فالروح من )أمر( ربي ،وهممذه إشممارة ترجممع بممالروح إلممى )عممالم
المر( الذي يتجاوز عالمي )الرادة( و )المشيئة(.
ففي عالم المشيئة تتمظهر الرادة اللهية بقمموانين الطبيعممة وحركتهمما
وسنتها ،أما في عالم الرادة فيتمظهر المر اللهي بوسائط مادية ل تؤدي
العمل من خلل وظيفتها المعهودة بها طبيعيا ً ،كعصا موسممى الممتي شممقت
59
البحر .أما في عالم المر فليس ثمممة قممانون طممبيعي تتمظهممر بممه الرادة ،
وليس ثمة وسائط مادية كعصا موسى ،فالموضوع يتعلق هنا بما هو فمموق
الطبيعة المادية وفوق إسقاطات الوسائل .إنه أمممر غيممبي صممرف .فممالروح
من أمر ربي إنما تعني أنها من عمالم مما فموق الطبيعمة والرادة ،فليسمت
بخاضعة في تكوينها لما تتكون منه المواد العضوية ،وليست من مقومممات
عالم المادة ،إنها أمر من خارج عالم المادة المشيأة عضويًا.
هذا التعريف للروح بأنها من أمر الله بممما يعنممي أنهمما مممن فمموق عممالم
ذي ن ِبال ّم ِ
شمئ َْنا ل َن َمذ ْهَب َ ّ الطبيعة يجد توضيحا ً آخممر لممه فممي اليممة بعممدها )وَل َئ ِ ْ
ن ِ
ك( فربط الله ما بين )الممروح( و )المموحي( ،فممالروح هممي القابلممة حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ
أوْ َ
لتلقى الوحي عن الله ،أي أن من خاصيتها أن تكون )الصلة( الممتي يسمتمد
بها النسان كلمات الله وإلهاماته عبر أمر اللممه أو إرادتممه أو مشمميئته .فممإذا
استرد الله الروح من النبي أو غيره من البشر ل تنقطع علقة الممموحى لممه
م َلبالوحي فقط ،وإنما ل يعود يتذكر ما سبق وأن أوحى اللممه بممه إليممه )ث ُم ّ
كيًل( .وتظهر هذه الية معنى خطيرا ً للغاية [ ،فاسترداد ك ب ِهِ عَل َي َْنا وَ ِ جد ُ ل َ َتَ ِ
الروح التي يسترد معها الوحي تعقبه حالة أل يجد النبي قدرة ما علممى
تذكر ما كان من وحي ،وهذا يعني – من الجانب الخممر – عممدم قممدرة
إنسان )حممي( علممى عمدم تمذكر ممما كممان لممديه بعممد أن فمارقته الممروح
وحملت معها ما تحمل ] ،والفارق الزمني يبحث عنه هنا فممي موضممع
)ثم( ل تجد ،فالنسان يجد أول ً بعد بحث ذاتي في الموضوع ول يكون
البحث في حمال المموت .ثمم يؤكمد اللمه أن وجمود المروح لمدى النمبي
المتلقي بواسممطتها كلممات اللممه ،إنمما هممو خصممائص الرحمممة اللهيممة
ن عَل َي ْ َ
ك ك َِبيًرا(. كا َ ضل َ ُ
ه َ ن فَ ْ ن َرب ّ َ
ك إِ ّ م ْ
ة ِ
م ً والفضل الكبير )ِّل َر ْ
ح َ
بعد همذا التوضميح يعممزز اللمه هممذه المعرفمة بتمدقيق آخممر ،إذ يتنماول
وضعية القرآن الموحى به من عنده – سبحانه – تجاه مسألة الروح وعممالم
المر .فالله – من بعد أن رد الوحي إلى الروح وعالم المر ،فإنما جرد كل
)قوى الطبيعة المادية( أو بالحرى )مقومات عممالم المشمميئة( مممن إمكانيممة
إنتاج القرآن بمجرد الوعي والممذكاء الفطممري والقممدرات اللغويممة ،أو حممتى
العلميممة فممي أرقممى أشممكالها ،وحممتى حيممن يتجمماوز الجهممد قممدرات النممس
تمَعمم ْ جت َ َ
نا ْ ل ل َئ ِ ْ
بمفردهم أو الجن بمفردهم ،ليأتي نتاجا ً للتحالف بينهما :قُ ْ
ْ ْ
مث ْل ِهِ وَل َوْ َ َ
م
ضه ُ ْ ن ب َعْ ُكا َ ن َل ي َأُتو َ
ن بِ ِ ِ ذا ال ْ ُ
قْرآ ل هَ َ
ِ مث ْ ن عََلى أ ْ
ن ي َأُتوا ب ِ ِ ج ّس َوال ْ ِ
لن ُا ِْ
َ
ل فَمأَبى ن ك ُم ّ ذا ال ْ ُ ض ظ َِهيًرا)(88وَل َ َ
مث َم ٍ
ل َ مم ْ ن ِق مْرآ ِ س ِفي هَ َ صّرفَْنا ِللّنا ِ قد ْ َ ل َِب َعْ ٍ
ُ ّ
فوًرا) – (89السراء /ج .15 س إ ِل ك ُأك ْث َُر الّنا ِ
الروح من عالم المر ،وليس يهمنا هنا كنهها ،وإنما يهمنمما أن نعممرف
أن قمموانين الطبيعممة فممي الحركممة أو مواصممفات المممادة فممي التكمموين
والخصائص ل تنطبق عليها .وما يهمنا هذا هو مفتاحنا للقممول بممأن الكائنممات
ذات المنشأ الطبيعي بما فيها البشممر أنفسممهم يمكممن لهممم أن يوجممدوا وأن
يعيشوا وأن يستمروا في الحياة دون روح .غير أن عدم التممدقيق فممي هممذه
المسألة بالذات جعل كثيرا ً من الناس ل يميزون بين الروح وطاقممة الحيمماة
المادية الطبيعية ،فافترضوا أن للبهائم روحا ً وغاب عنهممم أن هممذه البهممائم
من النعام قد أباح الله ذبحها وأكلها ،فكيممف يكممون لهمما تلممك الممروح الممتي
تشكل قناة اتصال بخالقها – على ضوء ما أوضحنا عن الروح – ثم يبيح الله
60
ذبحها وتقديمها؟ بل أين تكون )الرحمة( اللهية حيممن نمضممي دون إغضمماب
الله في ذبح )ذوات الرواح( ؟
أثر هذا الفهم اليديولوجي التاريخي العام الذي يزاوج بيممن )الممروح( و
)طاقة الحياة الطبيعية( على كيفية فهم الناس لمختلف اليات الممتي تشممير
إلى حالت الموت ،فبالرغم مممن أن القممرآن لممم يشممر إلممى أن هممذه الممتي
تخرج من النسان هي الروح ،فإن كتب التفاسير قد امتلت بالشارة إلممى
ما يتم وقت الوفاة بأنه خروج للروح ،فكيف لنمما أن نقممرر مثل ً أن المعنيممة
بالخروج من البدن هي الروح في حالة الوفاة طبقا ً للنص القرآنممي دون أن
َ حل ْ ُ
مم)(83وَأن ْت ُم ْ قممو َ ت ال ْ ُ ذا ب َل َغَ م ْ يكون هذا النص قد أشار تحديدا ً إليها؟ فَل َوَْل إ ِ َ
حينئ ِذ تنظ ُرون)(84ونح َ
نن)(85فَل َموَْل إ ِ ْ ص مُرو َ ن َل ت ُب ْ ِ م وَل َك ِم ْ من ْك ُ ْ ب إ ِل َي ْهِ ِ ن أقَْر ُ ََ ْ ُ ِ َ ٍ َ ُ َ
ن) – (87الواقعة /ج .27 صادِِقي َ م َ ُ
ن كنت ُ ْ جُعون ََها إ ِ ْ ن)(86ت َْر ِ ديِني َ م ِ م غَي َْر َ كنت ُ ُْ
فالشارة هنا إلى خروج أمر ما يممؤدي إلممى الوفمماة ولكممن دون إشممارة إلممى
الروح ،فتفسير هذه الية رجوعا ً إلى أ ،المعنية بممالخروج هممي الممروح إنممما
يستلزمه الرجوع إلى آيات أخرى في القرآن تشير إلى حالت الوفاة لنرى
إن كان الله يشير فيها إلى الروح أم إلى شيء آخر.
بمراجعة مثل هذه اليات المطلوبة نجد أن الله يشممير إلممى )النفممس(
وليس إلى الروح مقترنة بحالة الوفاة:
َ َ َ ُ َ
ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ كذًِبا أوْ َقا َ وم َ
ه
ح إ ِلي ْم ِ م ُيو َ ي وَل ْ ي إ ِل ّ ح َ ل أو ِ َ م ْ م ّ م ِ ن أظ ْل َ ُ َ َ ْ
ت َ ّ ْ َ ّ َ ل ما َ َ ْ ُ ُ َ َ َ
مَرا ِ َ غ في ِ ن
َ مو ُ ِ ل ظا ال ذ ِ إ رى َ
ُ َ ْ َت و ل و ه ل ال ل ز
َ أن َ ث م
ِ ل ز
َ ِ أن س ل قا ن
م ْ يٌء وَ َ ش ْ
ْ َ َ َ ُ َ ْ
ب ذا َ ن ع َم َ ج مَزوْ َ م تُ ْ م الي َموْ َ س مك ُ ْ ف َ جمموا أن ُ خرِ ُ مأ ْ ديهِ ْ س مطوا أي ْم ِ ة َبا ِ ملئ ِك َ ُ ت َوال َ موْ ِ ال ْ َ
ن) (93 ست َك ْب ُِرو َ ن آَيات ِهِ ت َ ْ م عَ ْ كنت ُ ْ حق ّ و َ ُ ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ قوُلو َ م تَ ُ كنت ُ ْ ما ُ ن بِ َ ال ُْهو ِ
-النعام /ج .7
قد تحممددت الوفماة فمي همذه اليممة بخممروج )النفمس( وليممس المروح ،
فالملئكة تبسط أيديها لتتلقى النفممس الخارجممة مممن البممدن ،ففيهمما تكمممن
)قوة الحياة( .وقد ربط الله في مواضع أخممرى مممن آيمماته بيممن )النفممس( و
)الموت( وذلك حين قوله تعالى:
ً ّ ّ َ مما َ
جل) - (145آل ممؤَ ّ ن اللمهِ ك َِتاًبما ُ ت إ ِل ِبمإ ِذ ْ ِ مممو َ ن تَ ُ سأ ْ فم ٍ ن ل ِن َ ْ كما َ وَ َ
عمران /ج .4
وكذلك:
ْ ُ ُ ْ كُ ّ
ة) – (185آل م ِ قَيا َ م ال ِ م ي َوْ َ جوَرك ْ نأ ُ ما ت ُوَفّوْ َ ت وَإ ِن ّ َ موْ ِ ة ال َ ق ُ ذائ ِ َ س َ ف ٍ ل نَ ْ
عمران /ج .4
كممذلك لممم يربممط اللممه قممط ممما بيممن )النشممأة( الممتي تعنممي )التكمموين
العضوي( للنسان والروح ،وإنما ربط النشأة بالنفس:
ْ وهو ال ّذي َأن َ َ
ص ملَنا س مت َوْد َعٌ قَمد ْ فَ ّ م ْ قّر وَ ُ س مت َ َ م ْ ح مد َةٍ فَ ُ س َوا ِ فم ٍ ن نَ ْ مم ْ م ِ شأك ُ ْ َ ُ َ ِ
ن) - (98النعام /ج .7 قُهو َ ف َ قوْم ٍ ي َ ْ ت لِ َ اْلَيا ِ
النفس تنقسم أما الروح فجوهر آحادي
قد جعممل اللممه النفممس )طاقممة الحيمماة( لنهمما مسممتولدة مممن الممتركيب
العضوي الكمموني الممذي اسممتخلص النسممان مممن ثنممائيته الماديممة المتقابلممة:
ذا ل إِ َ هما)َ(3والل ّْيم ِ جّل َ ذا َ هما)َ(2والن َّهمارِ إ ِ َ ذا ت ََل َ ممرِ إ ِ َ ق َ ها)َ(1وال ْ َ حا َ ضم َ س وَ ُ م ِ شم ْ َوال ّ
ها) وا َ َ َ ْ ي َغْ َ
سم ّ ممما َ س وَ َ ف ٍ ها)(6وَن َ ْ حا َ ما ط َ ض وَ َ ها)َ(5والْر ِ ما ب ََنا َ ماِء وَ َ س َ ها)َ(4وال ّ شا َ
َ
ها) - (8الشمس /ج .30 وا َ ق َ ها وَت َ ْ جوَر َ مَها فُ ُ ْ
(7فَألهَ َ
61
فالنفس هي عصارة الثنائية الكونيممة فممي حممال تفاعلهمما الجممدلي عممبر
ثنائية التقابل ،ومن هنا تصبح مكونات النفس فممي النسممان )قانونما ً عاممًا(
يستوي لديه كافة البشر .أما حين نأتي للروح فإنها ل تنقسممم لنهمما ليسممت
متولدة في التكوين عن هذه الثنائية الطبيعية ،وإنما )يهبها( اللممه تخصيص ما ً
وليس تعميما ً لمن يشاء فقط:
َ عباده أ َ َ ة بالروح م َ
ه ن أنذُِروا أن ّ ُ ن ِ َ ِ ِ ْ م ْ شاُء ِ ن يَ َم ْمرِهِ عََلى َ نأ ْمَلئ ِك َ َ ِ ّ ِ ِ ْ ل ال ْ َ ي ُن َّز ُ
َ
ه إ ِّل أَنا َفات ّ ُ
قوِني) - (2النحل /ج .14 َل إ ِل َ َ
شمماُء( ن يَ َ م ْ فهبة الروح للنسان ترتبط هنا بإرادة إلهية تخصصية )عََلى َ
فليس بقانون طبيعي عام .ثم ربط اللممه ممما بيممن هبممة الممروح وعمالم المممر
ن مم ْ ة ب ِممالّروِح ِ مَلئ ِك َ َ ل ال ْ َ اللهي – أي ما فوق عالمي الرادة والمشيئة – )ي ُن َّز ُ
ه(. َ
مرِ ِ أ ْ
كذلك تتأكد معاني الية المتصلة بالروح في سممورة )النحممل( بممما يممرد
في آية أخرى في سورة )غافر( حيث يقول الله تعالى:
ن ن يَ َ َ ذو ال ْعرش يل ْقي الروح م َ ت ُ
مم ْ شمماُء ِ مم ْ مرِهِ عَلممى َ نأ ْ ّ َ ِ ْ َ ْ ِ ُ ِ جا ِ َرِفيعُ الد َّر َ
م الت ّلِقي) – (15غافر /ج .24 َ عَبادِهِ ل ِي ُن ْذَِر ي َوْ َ ِ
فهنا نجد أيضا اقترانا في الذكر ما بين الممروح والمممر اللهممي ،وكممون ً ً
الروح إلقاء إلهيا ً عبر الملئكة إلى صفوة وخلصة من البشر وليممس كلهممم:
ه(. عَبادِ ِ
ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ)عََلى َ
مع تخصيص إلقاء الروح على من يشاء الله نجد ارتباطا ً آخر وثيقا ً ممما
بين إلقاء الروح وقيام التكليف بالمهمة الربانية ،نجد هذا الرتباط فمي آيمة
م )النحل /ى (2حيث يأتي ذكر )أن أنذروا( ،وكذلك يممأتي ذكممر )ل ِي ُن ْمذَِر ي َموْ َ
الت َّلِقي( في الية من سورة )غافر /ج (15؟ فمماقترن إلقمماء الممروح بمهمممة
م الت َّلقِممي( ، قوِني( وكذلك بمهمة) :ل ِي ُن ْمذَِر ي َموْ َ ه إ ِّل أ ََنا َفات ّ ُ ه َل إ ِل َ َ
َ
ن أنذُِروا أن ّ ُ
)أ َ َ
ْ
فالروح والمهمة الربانية يرتبطان.
هنا نعود مباشرة لتوضيح معنى هذا الرتباط إلى الكيفيممة الممتي أجمماب
بها الله – سبحانه – حين السؤال عن الروح ،ولما شممرحناه حممول إمكانيممة
أن يذهب الله بالوحي الذي يصل عبر الروح إلى النممبي ،ثممم ل يجممد النممبي
ر
ممم ِ نأ ْ
ل الروح م َ
ن الّروِح قُ ْ ّ ُ ِ ْ ك عَ ْ سأ َُلون َ َ بعد ذلك مدخل ً لستعادته وتذكره :وَي َ ْ
حي َْنا إ ِل َْيمم َ َ ُ
ك ذي أوْ َ ن ِبال ّ ِ شئ َْنا ل َن َذ ْهَب َ ّن ِ ن ال ْعِل ْم ِ إ ِّل قَِليًل)(85وَل َئ ِ ْ م ْم ِ ما أوِتيت ُ ْ َرّبي وَ َ
كيل) – (86السراء /ج .15 ً َ
جد ُ لك ب ِهِ عَلي َْنا وَ ِ َ َ م َل ت َ ِ ثُ ّ
قد استكملنا القول إلى هنا بأن الروح جوهر آحادي غير منقسم خلفا ً
للنفس التي يحيا بها النسان ،وأن الروح هممي هبممة إلهيممة تممأتي مممن عممالم
)المر اللهي( فوق مكونات الطبيعة ،وأنها تلقى عبر الملئكممة وبممأمر مممن
الله )على من يشاء من عباده( ،وأن هذا اللقاء يقرن )بمهمة ربانية(.
من هنا تحديدا ً يمكننا أن نفهم كيف خص اللممه آدم بممالروح واصممطفاه
بها من بيممن البشممر الممذي سممبقوا آدم فممي الوجممود ،وكممانوا يفسممدون فممي
الرض ويسفكون الدماء .فأولئك البشر قد عاشوا بطاقة )النفممس( وقوتهمما
)الحياتية( ،فليس من الضرورة أن يكون ثمة ارتباط بين الروح والحياة.
إن العودة إلى النصوص القرآنية في سممورة )الممتين( والخاصممة بخلممق
النسان في )أحسن تقويم( ،إنما ترجع لحالممة )كمممال الممروح( الممتي كممانت
لدم.
62
ما هي السماء التي علمها الله لدم؟
63
والرضين ومعهما القرآن العظيم كوداد لوعي كوني ،يعادل موضوعيا ً هممذا
البناء الكوني ،ويحمممل منهممج الحممق فممي إدارة هممذا الكممون وقممد سممبق أن
أوضحنا ذلك في الكتاب الول في هذه السلسلة.
حقيقة )أحمد( أكبر مما ظهر بهما بيممن المييممن العممرب ،فالممذي أوتمي
السبع المثاني والقرآن العظيم لم يسممتخدم قمموته الكونيممة وحقيقممة اسمممه
لفرض نبوته عبر الخوارق على الميين العرب ،واكتفممى بمقابلممة مشممقات
)عالم المشيئة( دون خمموارق ،ليثبممت الطممار التمماريخي لشممرعة التخفيممف
التي تشكل علممة ظهموره وصممدقه ،وليجعلهما أساسما ً لنطلقممة البشمرية
بكامل الوعي نحممو الظهممور الكلممي للهممدى وديممن الحممق )منهج مًا( للصممحوة
الروحية القادمة بإذن الله.
قد أدرك عيسى بن مريم ،ولكن بحكم قوة اسمه الذاتيممة )المسمميح(
حقيقة محمد كأحمد ،فلممم يسممتخدم اسممم محمممد ،ولكنممه اسممتخدم اسممم
)أحمد( تأكيدا ً لمكانته الكونية:
م ل الّلمهِ إ ِل َي ْ ُ
كم ْ سمو ُ ل إ ِن ّممي َر ُسمَراِئي َ م َيماب َِني إ ِ ْ مْرَيم َن َ سممى اْبم ُ عي َ ل ِ وَإ ِذ ْ َقما َ
ْ
ه
م ُ سم ُ دي ا ْ ن ب َعْم ِ
مم ْل ي َمأِتي ِ سممو ٍشمًرا ب َِر ُ مب َ ّن الت ّموَْراةِ وَ ُ م َ ن ي َد َيّ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َم َ ُ
ُ
ت َقالوا هَ َ ْ َ َ
ن) – (6الصف /ج .28 مِبي ٌ
حٌر ُ س ْ
ذا ِ م ِبالب َي َّنا ِ جاَءهُ ْ ما َ مد ُ فَل ّح َأ ْ
فعيسى إذ يقمموم بممالخوارق لدرجممة إحيمماء الممموتى اتسمماقا ً مممع اسمممه
)المسيح( ،كان عليه أن يبشر بمن هو أقوى منه فنطق المسمى الحقيقي
لمحمد وهو )أحمد( ،وهذا باب يحتاج لدراسة خاصة.
فليس الرتباط هنا بين )اسمه( و )أحمد( من مجريات اللسان العادية
فممي الشممارة ،وإنممما هممي مممن بمماب التممدقيق فممي الكشممف عممن )حقيقممة
المسمى( ومكانته الكونية.
ثم إن عيسى لم يكن لينطق اسم أحمد مستدل ً على مكانته الكونية ،
لول أن عيسى كان ناطقا ً منذ مهده وعابدا ً منذ نشأته وآتي ما ً بممالخوارق مممن
خلل اسمه الحقيقي هو نفسه ،أي )المسيح( ،فذاك السم يحمل حقيقته
الكونية ،فاستدل عيسى )المسيح( على أحمد بما للمسيح من قوة السممم
وإدراكه لحيوية المعاني المرتبطة بهذا السممم الكمموني .وقممد تنبممه المسمميح
لوضعه الذاتي جيدا ً حين أجريت على يده خوارق المعجزات كإحياء الموتى
،فعمد إلى تنبيه الناس بأن ما يأتي به هو )آيممة مممن عنممد الممه( وليممس مممن
لسَراِئي َ سوًل إ َِلى ب َِني إ ِ ْ تلقاء ذاته دفعا ً لستهواءات الشرك في النفوس :وََر ُ
ر)- (49 ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْ ِ ّ
ن الطي ِ م ْ م ِ خل ُقُ ل َك ُ ْم أ َّني أ َ ْ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ِبآي َةٍ ِ جئ ْت ُك ُ ْ
أّني قَد ْ ِ
َ
آل عمران /ج .3
فاستخدم المسيح هنا كلمة )أني أخلق لكم( ،ولكنه كان قد ردها في
مبتدأ الية إلى الله )أني قد جئتكم بآية من ربكم( إغلقا ً لباب الشرك.
إن هذه المعاني توضح أن الله يدخر للنسان اسما ً حقيقيا ً بقوة كونية
ل يحلم بها النسان عادة ،فالحياة ليست في غايتهمما وهممدفها كممما ينظرهمما
الناس اليمموم ،مجممرد أكممل وشممرب ونمموم ولممذة ،إنهمما كممبيرة بقممدر )اسممم
النسان الحقيقي( ،أم الذين يعرفهم الله على حقائق أسمائهم في الحياة
الدنيا فهم قلة ومنهم )أحمد( و )المسمميح( و )يحيممى( و )إليمماس( ،غيممر أن
قلة من الناس يدركون حقائق هذه السماء ،وما كنت لتي بهذا الشرح إل
لنه ملزم كمقدمة ضرورية لمعرفة السماء الممتي تعلمهمما آدم بمعممزل عممن
64
الرث التمموراتي المضممل ،والممتراث البشممري الممذي جنممح نحممو الخرافممة
والسطورية فعين تلك السماء بأنها أسماء الطيور والبهائم ،فممي حيممن أن
الملئكة كانت تعلم بأسماء الطيور والبهائم وتعلم كممثيرا ً فمموق ذلممك ،فلممم
تكن تنتظر أن يأتي آدم أو أحمد ممن البشمر ليقمول بمأن همذا الطيمر اسممه
غراب .وقد أشارت في محاوراتها لله إلى اسم الرض والدم وغير.
كانت السماء التي تلقاها آدم على صلة بالوضع الذي أصبح عليه مممن
بعد نفخ الممروح فيممه ،وقتهمما حممدث الصممطفاء لدم مممن بيممن بشممر ،كممانوا
ل حما َوآ َ م وَُنو ً فى آد َ َ صمط َ َ ها ْ ن الّلم َ يفسدون فمي الرض ويسمفكون المدماء .إ ِ ّ
ن) – (33آل عمران /ج .3 مي َ ن عََلى ال َْعال َ ِ مَرا َ ع ْ ل ِ م َوآ َ هي َ إ ِب َْرا ِ
فبممموجب الصممطفاء هنمما كممان علممى أن يتجمماوز المسمملكية الخلقيممة
والعقلية لولئك البشممر المفسممدين الممذين اصممطفاه اللممه مممن بينهممم .وأول
مظاهر الفساد الستجابة البهيمية الغريزية للشممهوة الجنسممية الممتي تفممرغ
ت كيفما كان ،فجاء منطق تحريم العلقة الباحيممة .وقُل ْنمما يمماآدم اس مك ُ َ
ن أن ْم َ ْ َ َ َ َ ُ ْ
ة) – (35البقرة /ج .1 جن ّ َ ك ال ْ َ ج َ وََزوْ ُ
فهنا انتقلت العلقة الغريزية بالمقابممل النثمموي كمجممرد كممائن عضمموي
لشباع الحاجة ،قد أصبحت هذه النثى )زوجة( ،وهذا هو )السمم( الجديمد
الممذي لممم يكممن معروفمما ً لممدى أولئك الممذين كممانوا يفسممدون فممي الرض
ويسفكون الدماء .والملئكة ل تتزوج لتعرف خصائص هذا السممم ،فكممانت
البدايممة أن يتكافممأ الصممطفاء الدمممي مممع موجبممات الممروح المتعاليممة علممى
الغريزة البهيمية ،فحوصرت دائرة الشهوات الطبيعية ،لن الممروح تتعممالى
بالنسان عن كونه مجرد كائن مادي ،ولهذا ربط الله – سممبحانه – ممما بيممن
الهبوط والتحذير من الفاحشة:
مَتماعٌ إ َِلمى َ ْ
قّر وَ َ سمت َ َ م ْ ض ُ م ِفمي الْر ِ ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ م ل ِب َعْ ٍ ضك ُ ْ طوا ب َعْ ُ ل اهْب ِ ُ َقا َ
م قَ مد ْ ن)(25ي َمماب َِني آد َ َ جممو َ خَر ُ من َْها ت ُ ْ ن وَ ِ موُتو َ ن وَِفيَها ت َ ُ حي َوْ َ ل ِفيَها ت َ ْ ن)َ(24قا َ حي ٍ ِ
َ َ ُ ُ َ ْ َ
ن ممم ْ خي ٌْر ذ َل ِك ِ وى ذ َل ِك َ ق َ س الت ّ ْ شا وَل َِبا ُ م وَِري ً وآت ِك ْ س ْ واِري َ سا ي ُ َ م ل َِبا ً أنَزلَنا عَلي ْك ْ
ج خمَر َ ممما أ َ ْ ن كَ َ طا ُ شمي ْ َ م ال ّ فت ِن َن ّك ُم ْ م َل ي َ ْ ن)َ (26يماب َِني آد َ َ م ي َمذ ّك ُّرو َ ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ آَيا ِ
ه ُ َ ُ ْ ُ َ
م هُوَ وَقِبيل م ُ ه ي ََراك ْ ما إ ِن ّ ُ وآت ِهِ َ س ْ ما َ ما ل ِي ُرِي َهُ َ سه ُ َ ما ل َِبا َ جن ّةِ َينزِعُ عَن ْهُ َ ن ال َ م ْ م ِ أب َوَي ْك ْ
شمياطي َ
ذا ن)(27وَإ ِ َ من ُممو َ ن َل ي ُؤْ ِ َ ذي ن أوْل ِي َمماَء ل ِل ّم ِ جعَل ْن َمما ال ّ َ ِ َ م إ ِن ّمما َ ث َل ت ََروْن َهُ ْ حي ْ ُ ن َ م ْ ِ
ْ َ ّ مَرَنما ب َِهما ُقم ْ َ ّ َ ُ ُ
مُر ه ل َيمأ ُ ن اللم َ ل إِ ّ هأ َ جد َْنا عَلي َْها آَباَءَنا َواللم ُ ة َقالوا وَ َ ش ً ح َ فَعَلوا َفا ِ
ط ْ َ ن) (28قُم ْ َ َ ّ َ ُ َ ح َ ِبال ْ َ
سم ِ ق ْ ممَر َرب ّممي ِبال ِ لأ َ مممو َ ممما ل ت َعْل ُ ن عَلممى اللمهِ َ قولو َ شاِء أت َ ُ ف ْ
َ َ
م مما ب َمد َأك ُ ْ ن كَ َ دي َ ه الم ّ ن َلم ُ صممي َ خل ِ ِ م ْ جدٍ َواد ْعُمموهُ ُ سم ِ م ْ ل َ عن ْد َ ك ُ ّ م ِ جوهَك ُ ْ موا وُ ُ وَأِقي ُ
ن) – (29العراف /ج .8 دو َ ت َُعو ُ
أن تتخذ النثى اسم )زوجة( فهذا يعني أن يتخممذ الممذكر اسممم )الب( ،
وأن يتخذ النسل اسم )الولد( ،ثم تتفرع )السماء( إلى )أخممت( وإلمى )أخ(
وإلى )خالة( وإلى )عمة( ،فتصاغ كلها في دائرة )التحريممم( علممى النسممان
عبر التوالد الرأسي أو المصاهرة الفقية:
ةشم ً ح َ ن َفا ِ كما َ ه َ ف إ ِّنم ُ سل َ َ ما قَد ْ َ ساِء إ ِّل َ ن الن ّ َ م ْ م ِ ح آَباؤُك ُ ْ ما ن َك َ َ حوا َ وََل َتنك ِ ُ
َ ُ
م مممات ُك ُ ْ م وَعَ ّ وات ُك ُ ْ خ َم وَأ َ م وَب ََنات ُك ُ ْ مَهات ُك ُ ْ مأ ّ ت عَل َي ْك ُ ْ م ْ حّر َ سِبيًل)ُ (22 ساَء َ قًتا وَ َ م ْ وَ َ
ن ُ َ ُ َ ّ ُ ُ ُ ْ َ ْ ُ َ
مم ْ م ِ وات ُك ْ خ َ م وَأ َ ضعْن َك ْ م اللِتي أْر َ مَهات ُك ْ ت وَأ ّ خ ِ ت ال ْ ت الِخ وَب ََنا ُ م وَب ََنا ُ خالت ُك ْ وَ َ
م اللِتممي ّ ُ ُ ّ ُ ُ ُ
سائ ِك ْ ن نِ َ م ْ م ِ جورِك ْ ح ُ م اللِتي ِفي ُ م وََرَبائ ِب ُك ْ سائ ِك ْ ت نِ َ مَها ُ ضاعَةِ وَأ ّ الّر َ
ّ َ َ َ َ ْ َ
ن ذي َ م ال م ِ ُ
ل أب َْنائ ِك ْ ح لئ ِ ُ م وَ َ ُ
ح عَلي ْك ْ جَنا َ ن فَل ُ م ب ِهِ ّ خلت ُ ْ م ت َكوُنوا د َ َ ُ نل ْ ن فَإ ِ ْ م ب ِهِ ّ خل ْت ُ ْ دَ َ
65
ن اْل ُ ْ َ م َ
فمموًرا ن غَ ُ ه ك َمما َ ن الل ّم َ ف إِ ّ س مل َ َ ما قَد ْ َ ن إ ِّل َ خت َي ْ ِ مُعوا ب َي ْ َ ج َ ن تَ ْ م وَأ ْ صَلب ِك ُ ْ نأ ْ ِ ْ
ما) – (23النساء /ج .4 حي ً َر ِ
إنها السماء )كلها( ،فالعلم بها هنا علم معين ،فلو كانت أسماء حجر
وبحر وشجر لما تميز بها آدم عن علم الملئكة ،ولما ذكر اللممه أن آدم قممد
تعلم أسماء كل ما في الكون )كلها( ،فهنا تحديد وحصر وليس إطلقا ً كممما
يتبادر إلى الذهن مممن الوهلممة الولممى ،بممل إن آدم ليممس بحاجممة لن يعلممم
أسماء كافممة الموجممودات كلهمما إن كممان مغممزى )كلهمما( يتجممه للمتعيممن مممن
الشياء .أي ما هي حاجته لن يعلم أسممماء ديممدان الرض وصممنوف الطيممور
المختلفة؟ ثم إن الله قد ربط ما بيممن التعلممم اللزم لتنميممة حركيممة الممدماغ
البشري وبين موجودات الكون ،فدون هممذه الحركيممة ل تصممبح ثمممة حاجممة
للعقل ،ول للتمارين الذهنية التي يكتسبها ويتطور مممن خللهمما عممبر تعلقممه
بالكشف عن خصائص ما هو موجممود فممي الكممون ،لهممذا أمممر اللممه المييممن
العرب باتخاذ المممداخل العقليممة القويمممة لكتشمماف الكمون والتعممرف علمى
يل ه ِم َ ن اْل َهِل ّةِ قُم ْ ك عَ ْ سأ َُلون َ َ الهلة عوضا ً عن تفسيره هو – سبحانه – لها :ي َ ْ
ن ظ ُُهورِهَمما)– (189 ْ َ
مم ْ ت ِ ن ت َمأُتوا ال ْب ُي ُممو َس ال ْب ِّر ب ِأ ْ ج وَل َي ْ َ ح ّ س َوال ْ َ ت ِللّنا ِ واِقي ُ م َ َ
البقرة /ج .2
قد تعلم آدم السماء التي ترتبط بخصائصه السلوكية والعقلية من بعد
اصطفائه بالنفممخ الروحممي ،وهممي السممماء الممتي فممارق بهمما سممنة الطبيعممة
البهيمية في علقاته مممع زوجممه وولممده ،إذ امتممد )التحريممم( ليشممل هممؤلء
جميعا ً ،وحتى يوضح الله تعيينا ً هذه السماء التي أشير إليها ،فقد أتى الله
في الية المقصودة بصيغة الشممارة إلممى )المسممميات( الممتي يطلممق عليهمما
مَلئ ِك َ ِ َ
ة م عََلى ال ْ َ ضه ُ ْ م عََر َ ماَء ك ُل َّها ث ُ ّ م اْل ْ
س َ م آد َ َ السم ،وذلك ليعرفها لنا :وَعَل ّ َ
َ قمما َ َ
م ن ُ
كنت ُم ْ ماِء هَ مؤَُلء )والشممارة هنمما إلممى المسممميات( إ ِ ْ سم َ ل أن ْب ُِئون ِممي ب ِأ ْ فَ َ
َ
م) كي ُح ِ م ال ْ َ ت ال ْعَِلي ُ ك أن ْ َ مت ََنا إ ِن ّ َ ما عَل ّ ْم ل ََنا إ ِّل َ عل ْ َ ك َل ِ حان َ َ سب ْ َ ن)َ(31قاُلوا ُ صادِِقي َ َ
م َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ
مائ ِهِ ْ سم َ م ب ِأ ْ ممما أن ْب َمأهُ ْ م )وليممس بأسمممائها( فل ّ مائ ِهِ ْ سم َ م ب ِأ ْ م أن ْب ِئهُ ْ (32قال َياآد َ ُ
َ َ َ ْ َ َ َ م أ َقُ ْ َقا َ َ
ممما ن وَ َ دو َ ممما ت ُب ْم ُ م َ ض وَأعْل ُ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َب ال ّ َ
م غي ْ َ م إ ِّني أعْل ُ ُ
ل لك ْ ل أل َ ْ
ن) – (33البقرة /ج .1 مو َ م ت َك ْت ُ ُ كنت ُ ْ ُ
فغيممب السممموات والرض بممما يعنممي مسممتقبلية الزمممان قممد اتجممه
لستخلص إنسان الروح الذي يسمو على علقات الطبيعة الغريزية ،حيث
تتحول النثى إلى اسم محرم هو )الزوجة( وحيممث ل ينبغمي للب أن يكممون
على علقة بأنثى يلدها هي )ابنته( .فالسماء )كلها( في الصل )ثلث( هممي
)الب – الم – الولد( ،وتتفرع منها باقي السماء )نسبا ً وصهرًا( في حممدود
ما حرم الله.
ما بيننا وبين عالمية الميين
ليس من حقنا وليس مممن أدبنمما أن نسممتجهل تممراث مرحلممة المييممن ،
ولكن من حقنا بل ومن واجبنا أن نستكشف السباب التي أحاطت بكيفيممة
تفسيرهم لهذه النصوص القرآنية ،فالمعالجممة هنمما تتجممه لمعرفممة مركبممات
ذهنية تلك المرحلة وشروط وعيها التمماريخي كيفمما أسممقطت ذلمك المموعي
على نصوص التنزيممل ،ممع اسممتدراك كامممل إلمى غلبممة الممتراث التفسمميري
)التوراتي( في صياغة وتشكيل رؤية الميين لهذه النصوص بحكممم مرجعيممة
اليهود الوحيدة في تلك المرحلة إزاء هذه الموضوعات.
66
مع أنهم ل يفقهون شيئا ً عن حقائق التنزيل
َ ومنه ُ
ل ن)(78فَوَي ْ ٌ م إ ِّل ي َظ ُّنو َ ن هُ ْ ي وَإ ِ ْ مان ِ ّ ب إ ِّل أ َ ن ال ْك َِتا َ مو َ ن َل ي َعْل َ ُ مّيو َ مأ ّ َ ِ ُْ ْ
ّ ُ َ ْ
مًنمما شت َُروا ِبممهِ ث َ َ عن ْدِ اللهِ ل ِي َ ْ ن ِ م ْ ذا ِ ن هَ َ قولو َ م يَ ُ م ثُ ّ ديهِ ْ ب ب ِأي ْ ِ ن الك َِتا َ ن ي َك ْت ُُبو َ ذي َ ل ِل ّ ِ
َ
ن) – (79البقرة / سُبو َ ما ي َك ْ ِ م ّ م ِ ل ل َهُ ْ م وَوَي ْ ٌ ديهِ ْ ت أي ْ ِ ما ك َت َب َ ْ م ّ م ِ ل ل َهُ ْ قَِليًل فَوَي ْ ٌ
ج .1
وصف الله بعض اليهود بالميين مع أنهم من الكتابيين ،وذلك ليوضممح
أن علقتهم بالتوراة إنما هي علقة وراثية ووهمية وليست حقيقية ،وأوضح
ذلك بأنهم ل يعلمون الكتاب إل أماني ،أي تخيلت وتوهمات وظنا ً ،فهؤلء
شكلوا بجهلهم مصدرا ً من مصادر استلهاماتنا لبعممض ممما يممرد فممي نصمموص
كتابنا الكريم .كما أن دسهم علينا مقصود ومتعمد بغير دافع الجهل المحض
،فهم فيما يرجعوننا إليه من نصوص توراتهم المحرفة ،إنما يرجعوننا إلممى
َ
م م ُثمم ّ ديهِ ْ ب ب ِأْيمم ِ ن ال ْك َِتا َ ن ي َك ْت ُُبو َ ذي َ ل ل ِل ّ ِ ل) :فَوَي ْ ٌ ما كتبوه هم بأيديهم زيغا ً وضل ً
َ
م ديهِ ْ ت أي ْم ِ ما ك َت َب َم ْ م ّ م ِ ل ل َهُ ْ مًنا قَِليًل فَوَي ْ ٌ شت َُروا ب ِهِ ث َ َ عن ْدِ الل ّهِ ل ِي َ ْ ن ِ م ْ ذا ِ ن هَ َ قوُلو َ يَ ُ
ن(. سُبو َ ْ
ما ي َك ِ م ّم ِ ل له ُ ْ َ وَوَي ْ ٌ
عقل اليهود ما جاء بالكتماب ،وعلمموه ،ثممم بعمد ذلممك حرفمموه معنممى
وليس لفظا ً حين دسوا على المسلمين هذه التراثيات الجاهلة:
أ َفَتط ْمعو َ
مم الل ّهِ ث ُم ّ ن ك ََل َ مُعو َ س َ م يَ ْ من ْهُ ْ ريقٌ ِ ن فَ ِ كا َ م وَقَد ْ َ مُنوا ل َك ُ ْ ن ي ُؤْ ِ نأ ْ َ َ ُ َ
ن) – (75البقرة /ج .1 مو َ َ
م ي َعْل ُ قلوهُ وَهُ ْ ُ ما عَ َ ن ب َعْدِ َ م ْ ه ِ حّرُفون َ ُ يُ َ
ضرورة القطيعة مع الرث اليهودي في الدين
قد يستغرب كثيرون حين أضع عنوانما ً فرعيما ً بهممذا المعنممى ،فممالتوهم
السائد أن القرآن بوصفه )مصدقًا( للتوراة إنما يلزمنمما بالخممذ عممن التمموراة
وعممن اليهممود الممذين يعلمممون بهمما ،والممذين سممبقونا باليمممان .إن مقولممة
)التصديق( هذه قد فهمت على نحو مضل أوقع الكثير منا في غفلممة الخممذ
ما عن اليهود دون يقظة كاملة وتفهم لما حذرنا الله منه تجاه هؤلء القومَ :
شركي َ فروا م َ
ر
خي ْم ٍ ن َ مم ْ م ِ ل عَل َي ْك ُم ْ ن ي ُن َمّز َ نأ ْ م ْ ِ ِ َ ب وََل ال ْ ُ ل ال ْك َِتا ِ ن أه ْ ِ ِ ْ ن كَ َ ُ ذي َ ي َوَد ّ ال ّ ِ
م)– (105 ظيمم ِ ل ال ْعَ ِ ض ِ ف ْ ذو ال ْ َ ه ُ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ م ْ مت ِهِ َ ح َص ب َِر ْ خت َ ّ ه يَ ْ م َوالل ّ ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْ ِ
البقرة /ج .1
فهذه إشارة تحذيرية واضحة ،علم ما بممأن اليممات الممتي أوردناهمما قبممل ً
قليل تشير صراحة إلى معرفتهم لحقيقة القممرآن ،وعلمممات ظهممور النممبي
المممي القممائم علممى شممرعة التخفيممف ،ومحمماولتهم المضممادة للكفممر بممه
وبرسالته )العالمية( بل وتزييف معانيها .إضافة إلى جهلهم وقول الله عنهم
،إنهم أميون ل يعلمون الكتاب إل أماني وإن هم إل يظنون.
إن التصديق ل يعني )الخذ( عنهم ول عن التوراة نفسها ،وإنما يعنممي
)القرار( بصحة نزولها من عند الله ،وبصحة أن يكون موسى مرسممل ً مممن
عند الله ،أما الخذ عن التوراة فقد أمرنا بالمتناع عنه بنص الية الناسممخة
والتي تأتي مباشرة بعممد آيممة تحممذيرنا مممن اليهممود)) :ممما ننسممخ مممن آيممة أو
ننسها(( أي آية المرحلة اليهودية الحسية القبلية بمما فيهمما ممن تمموطن فممي
الرض المقدسة ،وشرائع حسية)) :نأتي بخير منها أو مثلهمما(( والخيممر مممن
آية اليهودية هو السلم العالمي غير القبلي حصرا ً ،والمستند إلى الخممروج
ن مم ْ خ ِ سم ْ ما َنن َ جهادا ً في سبيل الله وليس التوطين ،مع الشرعة المخففةَ :
ه عََلى ك ُ ّ خير منها أ َو مث ْل ِها أ َل َم تعل َ َ ْ َ
ديٌر) يٍء َقمم ِ ش ْ ل َ ن الل ّ َ مأ ّ ْ َْ ْ ت بِ َ ْ ٍ ِ ْ َ ْ ِ َ سَها ن َأ ِ آي َةٍ أوْ ُنن ِ
67
َْ (106أ َل َم تعل َ َ
ن الل ّمهِ دو ِن ُ مم ْ م ِمما ل َك ُم ْ ض وَ َت ََوالْر ِ ماَوا ِ س َ
ك ال ّ مل ْ ُ ه ُ ه لَ ُ ن الل ّ َ مأ ّ ْ َْ ْ
َ ُ َ َ
سمى مو َ ل ُ سمئ ِ َمما ُ َ
مك َ ُ
سمولك ْ سألوا َر ُ ن تَ ْ نأ ْ دو َري ُ م تُ ِر)(107أ ْ صي ٍ ي وََل ن َ ِ ن وَل ِ ّ م ْ ِ
َ
ل) (108وَد ّ كِثي مٌر س مِبي ِ واَء ال ّ س َل َ ض ّ قد ْ َ ن فَ َ ما ِلي َ ْ
فَر ِبا ِ ُ
ل الك ْ ْ ن ي َت َب َد ّ ْ م ْ ل وَ َ ن قَب ْ ُ م ْ ِ
م َ ُ ُ ُ َ ْ َ
سممهِ ْ ف ِ عن ْدِ أن ُ ن ِ م ْ دا ِ س ً ح َ فاًرا َ مك ّ مان ِك ْ ن ب َعْدِ ِإي َ م ْ م ِ دون َك ْ ب لوْ ي َُر ّ ل الك َِتا ِ ن أه ْ ِ م ْ ِ
ه ّ َ ّ ْ حقّ َفاعْ ُ ْ َ
ن اللم َ مرِهِ إ ِ ّ ه ب ِمأ ْي اللم ُ حّتى ي َمأت ِ َ حوا َ ف ُص َفوا َوا ْ م ال َ ن لهُ ْ ما ت َب َي ّ َ ن ب َعْدِ َ م ْ ِ
ديٌر) – (109البقرة /ج .1 يٍء قَ ِ ش ْ ل َ عَلى ك ُ ّ َ
قد قدمنا المسألة الدمية كنموذج تطبيقي لما يكون عليه فارق الفهم
من نفس نصوص القرآن فيما إذا استخدمنا المنهج التحليلي الجدلي القائم
علمى معرفيمة القمرآن عوضما ً عمن اسمتخدام النهمج التفسميري الظماهراتي
القائم على أيديولوجية ذهنية تنظر إلى الشممياء فمي تمايزهما واسمتقلليتها.
فنحن لم نحدث في معاني القرآن جديدا ً ،وإنما كشفنا عما هو في القرآن
باستخدام أسلوب في المعرفممة والدراك يختلممف عممن ذلممك الممذي أخممذ بممه
القرآن من قبل .غير أننا نتوقف هنا لدى مسألة هامة ل بد من توضيحها.
هل نخضع القرآن للغة العصر؟
كثيرون يحاولون فعل ً ما يسمى )بعصرنة( القرآن والدين ،هممؤلء ،إذ
تقممض مضمماجعهم الجفمموة القائمممة بيممن الممدين والفكممر المعاصممر ،فإنممما
يحاولون )عصرنة( الدين بشكل ساذج يدعو إلى الشفقة ،فهممم – وعوضمما ً
عن محاولة اكتشاف منهج المعرفة فممي القممرآن نفسممه – يجتهممدون لجعممل
آيات القرآن في حالة رضوخ لما يكون فممي أذهممانهم علممى ضمموء معطيممات
ثقافتهم المعاصرة ،بل إنهم يبحثون عن تممدقيق لمعلومممة علميممة تطبيقيممة
معينة داخل القرآن ،متناسين قول الله )وأتمموا الممبيوت مممن أبوابهمما( دفع ما ً
للذين سألوا عن الهلة.
إن الهدف الذي يتسق مع المانة العلمية وصدق المؤمن ل يكمن في
تصديق القرآن بمعطيات العصر الراهن العلميممة ،وإنمما يكممن فمي إعمادة
اكتشمماف القممرآن نفسممه علممى ضمموء ممما فممي العصممر مممن مناهممج معرفيممة
متقدمة ،تستند إلى النظر في كلية الموضمموع ووحممدته العضمموية كمقدمممة
لكتشاف )النظام الفكممري( ،الممذي يربممط بيممن آيمماته أو ظممواهره ،ووقتهمما
يتحدث القرآن عن نفسه ليهيمممن هممو – أي القممرآن – علممى العصممر وعلممى
مناهجه.
قد رأينا حين أعدنا اكتشاف المسألة الدمية من داخل القرآن وعبر وحمدته
العضوية:
ل :كيف أن الروح هي قوة متعالية على مركبات الطبيعة ،وأنهمما تمموهب أو ً
ً
عبر المر اللهي لمن يشاء مممن البشممر ارتباطما بمهمممة ربانيممة معينممة
غالبا ً هي تعليم النسان .وأوضحنا في المقابل أن )النفس( هي مصدر
الطاقممة )الحياتيممة( وأن خروجهمما مممن أبممداننا العضمموية يعنممي الممموت.
فممالروح غيممر النفممس ،وهممذه معلومممة ليسممت موجممودة فممي الكتممب
العصرية.
ثانيًا :إن آدم ليس أول البشر وإنما هو المصطفى بالنبوة والعلممم والممروح
من بينهم ،وأن خلق البشر قد اتخذ مراحممل فممي التشمميؤ والتكمموين ،
تمتد إلممى ممما قبممل آدم بزمممن طويممل .غيممر أن هممذا القممول ل يربطنمما
بحتمية النظرية )الداروينية( في كيفية النشوء المتصل بالقرد ،فآيات
68
القرآن التي ذكرناها تربط بيممن ميلد النسممان التطمموري وكافممة صممور
النعممام المختلفممة ،باعتبممار أن النسممان قممد ركممب مممن هممذه الصممور
المختلفة عبر تقلبه فيها حتى استوى )نفسا ً عقلنيًا( واحدة جعل منهمما
زوجها وبث الله منها رجال ً كثيرا ً ونساء .فالمنطق الدارويني هو الكثر
تخلفا ً في هذا التحديد العلمي مما يعطيه لنا القرآن.
ثالثًا :إن مفهوم )السماء( التي تعلمها آدم قد تحددت قرآنيا ً بتحول صممفة
البشر من مجرد كائنات عضوية بايولوجية ،ذكممر وأنممثى ،إلممى كائنممات
تتمتع بصممفة )التحريممم( الممتي تفممرض تقممديرات خاصممة فممي العلقممات
بينها ،وذلك ارتباطا ً بمقام الروح وقيمها المتجمماوزة للسمملوك العقلممي
والخلقي البهيمي .فالرتباط بمقممام الممروح يسممتوجب الرتقمماء فمموق
السلوك الغريزي البهيمي ،ومن هنمما تصممبح النممثى زوجممة فممي نفممس
الوقت الذي يصبح فيه الذكر أبا ً والمولود أو المولممودة ابنمًا .هنمما تتخممذ
السماء )سلطانًا( أي قوة خاصة بها ،وهذا السلطان هو الدللة علممى
السم الحقيقي العيني وليس مجرد الصممورة الظاهريمة ،ولهمذا سممأل
الله – سبحانه – عبدة الوثان التي )أسموها( آلهة لهم عن )سمملطان(
هذه السماء العينيمة ،كيمف يعبمدون إلهما ً للقممر ل يهيممن بقموة همذا
ة اْل ُ ْ َ َ
خ مَرى) من َمماةَ الّثال ِث َم َ ت َوال ْعُّزى)(19وَ َ م الّل َ السم على القمر؟ أفََرأي ْت ُ ْ
ي إ ِّل ك إِ ً لنَثى)(21ت ِل ْ َ (20أ َل َك ُم الذ ّك َر ول َه ا ْ ُ
ن هِ م َ ضمميَزى)(22إ ِ ْ ة ِ م ٌ سم َ ذا قِ ْ ُ َ ُ ْ
ن َ ْ ّ َ ها أ َنتم وآباؤُك ُم ما َ َ
ن ي َت ّب ُِعو َ ن إِ ْ ٍ طا ل س
ْ ُ ن م
ِ ها ُ َِ ب ه ل ال ل ز
َ أن ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ مو ماٌء َ ّ ُ
ُ ت ْ ي م س س َأ ْ
دى)- (23 م ال ْهُم َ ن َرب ّهِم ْ مم ْ م ِ جمماءَهُ ْ قمد ْ َ س وَل َ َ فم ُ وى اْل َن ْ ُ مما ت َهْم َ ن وَ َ إ ِّل الظ ّم ّ
النجم /ج .27
فتلك السماء التي أطلقها الميون العممرب علممى معبمموداتهم لممم تكممن
تحمل )سملطانًا( فمي حقيقتهما ،وقمد سمأل النبيماء ممن يليهمم نفمس
َ
ماءً سم َ دون ِمهِ إ ِّل أ ْ ن ُ م ْن ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُ السؤال ،ولهذا راجعهم يوسف بقولهَ :
م إ ِّل ل ِّلمم ِ
ه حك ْ ُ ن ال ْ ُ ن إِ ْ طا ٍ سل ْ َ ن ُ م ْ ه ب َِها ِ ل الل ّ ُ ما َأنَز َ م َ م َوآَباؤُك ُ ْ
سميتمو َ َ
ها أن ْت ُ ْ َ ّ ُْ ُ
َ َ َ َ ْ ّ َ َ
ن) مممو َ س ل ي َعْل ُ ن أكثمَر الن ّمما ِ َ ْ م وَلك ِم ّ قي ّ ُ ن ال َ دي ُ َ
دوا إ ِل إ ِّياهُ ذ َل ِك ال ّ مَر أّل ت َعْب ُ ُ أ َ
– (40يوسف /ج .12
ولنفس السباب التي تحيط بحرمة السماء كما تعلمهمما آدم مممن اللممه
منع الله إطلق اسم الم على الزوجة كما منع التبني:
ّ َ م ْ ْ
م اللِئي جك م ْ ُ ل أْزَوا َ جعَم َ ممما َ ج موْفِهِ وَ َ ن فِممي َ ن قَلب َي ْم ِ ل ِ ج ٍ ه ل َِر ُ ل الل ّ ُ جع َ َ ما َ َ
م ُ ك ه وا ْ فَ أ بم م ُ ك ُ ل و َ ق م ُ ك ل َ ذ م ُ ك َ ء نا ب َ أ م ُ ك َ ء يا ع د َ أ َ
ل ع ج ما و م ُ ك ت ها م ُ أ ن ه نم ن رو تُ َ
ْ ِ ْ ْ ْ ِ َ ِ ْ َ ْ ْ َ ِ ْ َ َ ْ َ َ ِ ُ ّ ّ َ ْ ِ َ ظاهِ ُ
ل) – (4الحزاب /ج .21 سِبي َ دي ال ّ حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ ل ال ْ َ قو ُ ه يَ ُ َوالل ّ ُ
ليس الدين أساطير الولين والمعرفة القرآنية ملحة للعصر
لم نطبق نممموذج المعرفممة القرآنيممة علممى المسممألة الدميممة إل لنؤكممد
خطممل القممول :بممأن الممدين ليممس سمموى حامممل لثقممال البشممرية الخرافيممة
والسطورية ،وأنه مستودع للوهممام الممتي سمماقتها البشممرية أمممام معضمملة
عدم فهم ماضيها بأسلوب علمي .ولكنمما ل ننفممي أن عنمماك دوافممع قممد أدت
إلى هذا الخطل العقلي ،وأكبرها الكيفية التحريفية والخرافيممة الممتي صمماغ
بهمما اليهممود القصممص الممديني كممتراث سممبقوا بممه النصممارى ثممم المسمملمين ،
فظهرت كافة المعاني التي من شأنها العيب في المعرفة الدينية.
69
إن حصرنا علمى توضمميح المعرفممة القرآنيمة بنهممج صمحيح إنمما يعكممس
حرصنا على مستقبل البشممرية الممتي تعيمش أزماتهما الفكريممة والحضممارية ،
متخبطة عبر دروب مختلفممة الفلسممفات دون أن تصممل إلممى حلممول جذريممة
لمشكلتها ،مع وجود هذه الحلول بشكل واضح في مكنون اليات القرآنيمة
وفي نهج المعرفة القرآنية .ولكن ل يمكممن تحقيممق الرتبمماط بيممن النفمموس
المتطلعة لهممذه الحلممول الكامنممة فممي القممرآن ،والقممرآن ،إل بإزاحممة تلممك
السدود المترتبة من خطممل الذهنيممة السممرائيلية الممتي دفعممت بالممدين إلممى
ملجئ الخرافة والسطورية .فالبداية بالنسممبة لنمما ،وكممذلك بالنسممبة لكممل
البشرية ،أن نعيممد اكتشمماف أثممر الغيممب فممي حركيممة واقعنمما الموضمموعي ،
وبالكيفية الملئمة لقوى الدراك النسماني المذي جعلمه اللمه محممول ً علمى
أوعيممة السمممع والبصممر والفممؤاد .وحيممن يتحقممق هممذا التلحممم بيممن الغيممب
والنسان فإن القرآن سيؤدي وظيفته كقراءة كونية ،مممن شممأنها أن تيسممر
على النسان فهم وجوده وحل أزماته .فليس مقصدنا من إعممادة اكتشمماف
القرآن المكنون بنهج معرفي ،مجرد إثبات لعجاز القرآن ،والتغنمي بمذلك
أمام من كان لبائهم فضل اليمان به ،وإنما مقصدنا هممو أن نتعممرف علممى
القرآن وأن نتعلم منه ،وأن نحاوره ونسأله ،أن نعيش داخله وليممس علممى
هامشه مكتفين بممما روى عنممه وعمن معممانيه ،ممما يهمنمما هممو نصممه وليسممت
ظلله .ما يهمنا هو أن نحمله عن علم ل كما حمل اليهود التوراة عن جهل:
حمممار يحمم ُ َ
فاًرا سم َ
لأ ْ ل ال ْ ِ َ ِ َ ْ ِ مث َ ِ ها ك َ َ مُلو َ ح ِم يَ ْ م لَ ْمُلوا الت ّوَْراةَ ث ُ ّ ح ّ ن ُ ذي َ ل ال ّ ِ مث َ ُ َ
ن) – (5 َ ميِ ِ ل ظاّ ال م
ْ َ و َ قْ ل ا دي ِ ه
َْ ي لَ ه
َ ُّ لوال ِ هّ لال تِ يا بآ
ُ ِ َ بوا ّ ذ َ ك ن
َ ذي ِ ّ ل ا م و َ ق ْ لا ُ
ل َ ثمس َ ب ِئ ْ َ
ْ ِ
الجمعة /ج .28
حجتنا فيما نكتشف الوجه الثاني للمثاني
قد ينبري سائل ليتساءل كيف لنا أن نأتي بمموجه مممن وجمموه المعرفممة
فممي القممرآن ومممن ذات النممص دون أن يسمممبقنا إليممه أحممد الجلء مممن
المتقدمين؟ ونحن بدورنا ل ننكر ما للمتقدمين من فضل ومن نممور يسممعى
بين أيديهم ،ولم نستجهلهم ،ولكنا – نكشممف – بممإذن اللممه – بممما هممو مممن
متاحات وعي عصرنا ونهجه ،ومن ذات النص وبما يختلف عما قيضممه اللممه
لهم ،وهنا يكمن سر )أحسممن الحممديث( الممذي ثبممت اللممه نصممه ثممم أكسممبه
وجهين من وجوه المعرفة تبعا ً لفوارق النهج ما بين عالمية الميين وعالمية
الظهور الكلي للهدى ودين الحق ،وهكذا قال الله تعالى فممي آيممات سممورة
)الزمر(:
َ ْ َ َ ّ َ َ
م ض ث ُم ّ
ه ي َن َمماِبيعَ فِممي الْر ِ س ملك َ ُ ممماًء فَ َ ماِء َ س َن ال ّ م ْل ِ ه أن َْز َ ن الل َ م ت ََرى أ ّ أل َ ْ
ح َ ختل ِ ً َ
ن فِممي ما إ ِ ّ طا ً ه ُ جعَل ُ ُ م يَ ْ فّرا ث ُ ّ ص َ م ْ ج فَت ََراهُ ُ م ي َِهي ُه ثُ ّوان ُ ُ فا أل ْ َ م ْ َ عا ُ ج ب ِهِ َزْر ً خرِ ُ
يُ ْ
ْ َ ْ ُ َ
ب) – (21الزمر /ج .23 ك لذِك َْرى ِلوِْلي اللَبا ِ ذ َل ِ َ
هذه الية تشكل مقدمة هامة ،فماء واحد ،كالنص القرآنممي الواجممد ،
يتخلل الرض كما يتخلل النص القرآني وعي النمماس ،ثممم يخممرج بممه زرع ما ً
مختلفا ً ألوانه ،فالقرآن رحمة كالماء ،وكلهما من السماء يتخلل ما أنممزل
عليه )الماء/الرض( – )القرآن /النسان( ،فالقرآن يتخلل النسان فيخممرج
ألوانا ً مختلفة من المعرفة تماما ً كالماء يتخلل الرض فيخرج ألوانا ً مختلفممة
من الزرع .هذه الية – كما قلنمما – تشممكل مقدمممة أمممر كممبير يممدركه )أولممو
70
اللباب( ،ولهذا تسائل الله – سبحانه – في الية التاليممة عممن قابليممة بعممض
الناس لنور المعرفة:
ْ َ َ ْ َ
ة
س مي َ ِ
قا ِ ل ل ِل َن َرب ّمهِ فَوَي ْم ٌ م ْسلم ِ فَهُوَ عَلى ُنورٍ ِ صد َْرهُ ل ِل ِ ْ ه َ ح الل ّ ُ شَر َ ن َ م ْ أف َ َ
ن) – (22الزمر /ج .23 مِبي ٍ ل ُ ضَل ٍ ك ِفي َ ن ذِك ْرِ الل ّهِ أ ُوْل َئ ِ َ م ْ م ِ قُُلوب ُهُ ْ
ثم يوضح الله معنى هذه المعرفة التي تنتج عن تخلممل القممرآن لمموعي
النسان الذي شرح صدره للسلم وعلى نور من ربه:
ّ ُ الل ّه نز َ َ
نذي َ جلممود ُ ال م ِ ه ُ من ْ ُ
شعِّر ِ ق َ مَثان ِ َ
ي تَ ْ شاب ًِها َ مت َ َ ث ك َِتاًبا ُ دي ِ ن ال ْ َ
ح ِ س َح َلأ ْ ُ َّ
دي دى الل ّمهِ ي َهْ م ِ ك هُ َم إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ ذ َل ِ َ م وَقُُلوب ُهُ ْ جُلود ُهُ ْ ن ُ م ت َِلي ُم ثُ ّ ن َرب ّهُ ْ شوْ َ خ َيَ ْ
هاٍد) – (23الزمر /ج .23 ن َ م ْ ه ِ ما ل َ ُ ه فَ َ ل الل ّ ُ ضل ِ ْ ن يُ ْم ْ شاُء وَ َ ن يَ َ م ْ ب ِهِ َ
قد أنزل الله أحسن الحديث قرآن ما ً ،وجعلممه مثمماني متشممابهة بمموجهي
معرفة مع وحدة النص ،معرفة تؤخذ بذهنية الميين فيما يتجه لهم وعيهممم
اليديولوجي التاريخي القائم على العقلية الظواهرية والممترابط ممع أسممباب
النزول الحديثة ،ومعرفة تقابممل تلممك المعرفممة ،أي الثانيممة الممتي تقابلهمما ،
مثناها ،كالشمس مثنى القمر ،وكالسموات السبع مثنى الرضين السممبع ،
وهذه المعرفة الثانية تؤخذ بذهنية التحليل وليس التفسير ،ويقوم التحليممل
علممى النظممر إلممى الكتمماب )أحسممن الحممديث( فممي كليتممه ،وعممبر وحممدته
العضوية ،ومن داخل بنائيته المنهجية .وهذه هي معرفتنمما ومعرفممة عصممرنا
التي أتاحها الله – سبحانه – لنا منذ أن أعاد الرسول الموقر )إعادة ترتيب(
آيات القرآن.
ً
يكفينا الن أننا قد قدمنا نموذجا تطبيقيا للمعرفة القرآنية الممتي تقابممل ً
بمثناهمما المموجه التمماريخي الول دون أن ننفممي متعلقممات الزمممن ومتغيممرات
المكان ،وقممد اتخممذنا ممن المسممألة الدميممة نموذجما ً علممى هممذا النمموع مممن
المعرفة .وبإمكاننا أن نتطرق إلى نماذج تطبيقية أخممرى عديممدة تؤكممد فممي
النهايممة اسممتيعاب القممرآن وتجمماوزه بممذات المموقت لكافممة مناهممج المعرفممة
المعاصرة ،ل بهدف إلغائها ،ولكن بهممدف تقويمهمما ثممم توظيفهمما ،معتدلممة
مستقيمة ضمن دائرة التفاعل بين )الغيب والنسان والطبيعة( .فل يحممدث
)النفصام( المتوهم في ثقافتنمما المعاصممرة بيممن هممذه البعمماد الثلثممة ،كممما
نستخلص الدين من أسر الخرافة والسطورة ،ليحتل ممموقعه فممي مقدمممة
وعي النسان وبهدف حل أزماته الحضارية والفكرية .ول يمكن تحقيق هممذا
الجهد بمجرد تكرار القول بصلحية القرآن لكل زمان ومكان ،فممالمهم هممو
إثبات ذلك مع توضيح أثر الغيب في حركممة التاريممخ البشممري ،لنعلممم كيممف
يهيئ الله الزمان والمكان لظهور الدين الكلي تماما ً كما هيأ وحممي القممرآن
لقيادة هذا الظهور الكلي ،فالبعد الغيبي لم يتوقف عن التأثير لدى عالمية
الميين فقط ،بل هو مستمر بإكمال مشروعه التاريخي للنسانية جمعاء ،
وعلينا أن نتابع معرفة ذلك داخل القرآن وداخل حركة الزمان والمكان.
...والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
71