Professional Documents
Culture Documents
نحن في هذا المجهود المتواضع نحاول الدلء بما نوّفق إليه في الموضوع .نشير إلى أّننا لنقّدم دراسة شاملة او
طاقات … إّنما أرّكز على تقديم معّمقة في هذه المسألة التي أسالت الحبر ،وأذابب المخاخ ،واستنفذت ال ّ
ملحظات عاّمة ،رّبما تسهم في أخذ الحتياطات فيما نحن مقدمون عليه ،والّتهّيؤ والستعداد والّتخطيط الكامل
.للعمل في هذا المضمار الكبير والصذعب الّتحّرك فيه
ن للموضوع علقة بالّثقافة والعولمةوقد اكتفيت في هذهى المحاولة الحديث عن حوار الحضارات فقط .وبما ا ّ
.فإّنني سمحت لنفسي الّتطّرق إليهما ؛ تحليل للمسألة ومناقشة لها ن وتعميقا لبعض المفهومات
حقائق
:قبل الّتطّرق إلى موضوع الحوار بين الحضارات نريد أن نضع يدي هذا الموضوع بعض الحقائق
ل من تحّرك في – 1 ن الّتعّدد والّتنّوع الثقافي سّنة الكون وناموس ثابت ،فالحياة أساسها الّتنّوع والّتعّدد ،ك ّ
إّ
طريق وأخطأ المسيرة ،وعاش على هامش الحياة . ل ال ّ
نشاطه وعمله على غير هذه القاعدة ،عاكس الفطرة فض ّ
ن في ذلك ليات سموات والرض واختلف ألسنتكم وألوانكم إ ّ فال ال تبارك وتعالى { :ومن آياته خلق ال ّ
ن اختلف اللسن يعني تعّدد القوميات ،واختلف اللوان يعني تعّدد الجناس البشرّية .وقال للعالمين }) (1إ ّ
ل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء لجعلكم أّمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا تعالى …{ :لك ّ
شرائع والديان ،وإذا كانت الحضارة تنشا من فكرة دينّية ،وإذا كانت الخيرات…} ) ” (2وهذا يعني تعّدد ال ّ
ن اليمان بتعّددظواهر والمعطيات المنبثقة عن أّمة ما أو تصّور ما ) فكرة دينّية ( فإ ّ الحضارة مجموعة ال ّ
ن الذيشرائع والديان يفضي إلى اليمان بتعّدد الحضارات .وإذا كان هذا الختلف والّتعّدد من آيات ال ،فإ ّ ال ّ
شكل الذي يهّدد الوجود النساني على سطح يسعى للغاء هذا الّتعّدد يعّد ساعيا إلى طمس آيات ال في الوجود ،بال ّ
المعمورة ،مّما يدفع بنا إلى الّتأكيد على ضرورة المحافظة على تنّوع الهوّية الّثقافّية لكونه يغني الحياة النسانّية .
ل تراث مجتمعي يسهم في واحترامه أصبح أمرا واجبا {ل إكراه في الّدين } ) (3وجميع الجناس متساوية ،وك ّ
)الّتراث النساني4) ”.
فالّتعّددية الّثقافّية مكسب كبير يجب على البشرّية أن تستثمرها في الّتطّور والّتقّدم والثراء ” وهي أفضل ضمانة
لقدرة النسان على إبداء أجوبة مناسبة للّتحّديات المختلفة (5) ”.وهي صرورة عالمّية ؛ لّنها تسهم في نمّو
الفكر والقيم والمفهومات النسانّية المشتركة .وتساعد على إغناء الحضارة النسانّية ،باحتضانها لمختلف أنواع
.البداع والعطاء
ن النسان هو محور الّتنمية والّتطّور ،وهو الذي صنع الحضارة بالّتعاون والشتراك مع آخر وآخر – 2 بما أ ّ
طبيعي ،الذي ن حوار الحضارات ،يجب أن ينظر إليه ” :ضمن منظور الّنسق ال ّ عبر الحقب والزمان فإ ّ
ن العالم استطاعت حضارة جل لنا تاريخ النسان قاطبة أ ّ
تقتضيه سّنة الكون وناموس الجتماع النساني .إذ لم يس ّ
واحدة أن تتحّكم فيه وحدها .وإّنما نجد باستمرار حالت القطاب الحضارّية المتعّددة ،ل القطب الحضاري
الواحد هي التي تتحّكم في شؤون العالم بأسره “) (6حتى ولو وجدنا اليوم من يعمل على فرض نموذج واحد ،
حد ،يجهد نفسه لفرضه على الّناس كّلهم ،نقول له إّنك تحلم ،وتطلب أمنّية مثالّية ،وتنشد أمرا
وتقديم نظام مو ّ
.مستحيل
ل الحضارات ،سواء من حيث الّتأّثر بغيرها أو الّتأثير – 3 ي قديم ،وهو أسلوب مارسته ك ّ ن الحوار تقليد ثقاف ّ
إّ
فيها ،أم من حيث فتح الّنقاش والمساءلة ،وإجراء لقاءات ،وعقد مجالس وتبادل وجهات الّنظر في بعض
ل أبلغ دليل على ذلك الحوار الحضاري الذي دار بين الحضارة المسائل التي تتطّلب معرفة ما عند الخر ” :ولع ّ
ي صّلى ال عليه وسّلم قساوسة نجران ورهبانهم …وكتب إلى السلمية والحضارة المسيحّية …وقد حاور الّنب ّ
لفيالمقوقس والّنجاشي وهرقل…وتابع المسلمون هذا الحوار بالمشافهة والكتابة ،ليكادون يفترون عنه إ ّ
صليبّية ،ثمّفترة الستعمار الغربي .وفي صدام المؤسف بين أتباع الّدينين ،وأشّدها فترة الحروب ال ّ فترات ال ّ
العصر الحديث ،ومنذ أربعين عاما على وجه الّتحديد تجّدد الحوار السلمي المسيحي ،وعقدت له لقاءات
ظمة في برمانا ،والّرياض ،والفاتيكان ،وطرابلس الغرب ،وجنيف ،وباريس ،وساليبورج ،والقاهرة، وندوات من ّ
سودان عام 1994م وغيرها 7) ”. )وبيروت ،وليجون ،وتونس ،وهونغ كونغ ،وقرطبة ،وال ّ
ل حضارة أن ل تقبل – 4 سيطرة حضارة ما يؤّدي حتما إلى إضعاف الحضارات الخرى ،من هنا يجب على ك ّ
ساحة ،وبالّتفاعل
بهيمنة أّية حضارة عليها ،وأن تكون حاضرة بمحاورتها الخريات ،وبفرض وجودها في ال ّ
ن الّتواصل ل يق ّ
ل ن الحفاظ على الهوّية أمر مهّم ،وأ ّ
مع غيرها تأثيرا وتأّثرا .مع الوضع في عين الحسبان أ ّ
.أهّمية أيضا
صة ،وقد يكون ذريعة لتمرير خطط ومشروعات ؛ نظرا لما قد – 5 قد يّتخذ الحوار وسيلة لقضاء مصالح خا ّ
صغرى ،وإلغاء الخصوصّياتل في إذابة الّثقافات ال ّ
يحمله هذا المصطلح المبهم من دسائس ومؤامرات يستغ ّ
طن إلى ذلك والّتعامل مع الحوار بحذر وتيّقظ ،والّتحّرك معه بخطط مدروسة ،ل حضارة الّتف ّ والهوّيات ،على ك ّ
سير معه بأهداف مرسومة ومحّددة .ومناهج واضحة ،وال ّ
طرف الّثاني اختراق – 6
ي المهيمن على ال ّ طرف القو ّ من آثار الحوار بين طرفين غير متكافئين .فرض ال ّ
خل في مناهج تعليمها مثل ،وتوجيه منظومتها العلمّية ،وترتيب علقتها بفئات سيادة الّثقافّية لها بالّتد ّ
ال ّ
ل الّتقارب المكاني لنشر نموذجه
خل في وضع قوانينها .كما قد تستغ ّ المجتمع ،وتحديد نمط معيشتها ،والّتد ّ
.الّثقافي في الحياة على حساب الخصوصّية الّثقافّية له
ل ما يملك من قّوة ،وأمريكا تعمل على أمركة العالم اقتصادّيا – 7 سيطرة على العالم بك ّ ن الغرب يحاول ال ّ إّ
تمهيدا للهيمنة عليه ثقافّيا ،ومن ثّم إلغاء الّثقافات الخرى .فقد قال “روزفلت ” في الربعينّيات من القرن
ن قدرنا هو أمركة العالم .وقال ” نكسون ” :يجب على أمريكا أن تقود العالم .وقال “جورج بوش العشرين :إ ّ
ن القرن القادم ينبغي أن يكون أمريكّيا .وهذا ابنه اليوم ينّفذ دعوة أبيه ،ويعمل” الب في أوائل الّتسعينّيات :إ ّ
على الهيمنة على مقّدرات العالم ،وضرب أّية محاولة للّنهوض أو البروز ،ومحاولة ضرب الّثقافات وهدمها أو
تفكيكها من الّداخل … والمستهدف الّول هي الحضارة السلمّية أو العالم السلمي .فالغرب عموما والوليات
ن المسلمين يملكون من مقّومات القّوة ،ومن أسباب الّنهوض ما يمّكنهم من المّتحدة المريكّية خصوصا ترى أ ّ
منافسة الحضارة الغربّية ،بذلك فهم يمّثلون الخطر الّول عليها ،لهذا يجب ضربهم وإضعافهم ،وقد تكون فكرة
.فتح الحوار معهم إحدى وسائل إضعافهم
ل تغيب عّنا ونحن ندعو إلى الحوار مع الحضارات الخرى ،أو نستجيب هذه بعض الحقائق التي يجب أ ّ
لدعواتها ،أو نمارس هذا العمل ،نعيها جّيدا حّتى ل نفّوت الفرصة على أنفسنا في الّتقارب ،ول نفقد أنفسنا في
خضم هذه الحركات الهائلة المصيرّية في علقتنا مع الغير .ولنعلم أّننا ” أمام حضارة قوّية طاغّية تركب فوق
ساحة ،وهما الّثقافة والعولمة ،من حيث ن للحوار المعروض للممارسة علقة بمصطلحين متداولين في ال ّ بما أ ّ
تأّثر الحوار بهما ،ومن حيث كونهما الميدان الذي يدور فيه الّنقاش ،فإّننا ارتأينا الشارة إليها ؛ لمزيد من تحليل
.الموضوع
الّثقافة والعولمة
ن ثقافة أّية أّمة تتكّون بين العموميات والخصوصيات والمتغّيرات .والمتغّيرات أخطر ما يكون فيها باعتبارإّ
جح كّفة استمرارّية تلك الّثقافة أو توازنها واضمحللها أو اضطرابها .فإن أحسن الّتعامل مع هذهأّنها هي التي تر ّ
المتغّيرات بحكمة وعقلنية ،وبنظرة شمولّية مّتزة واعية بالمحيط الذي يدورأو يحيط بها ،وفاقهة لمعنى
الصالة والمعاصرة .كانت الّنتيجة – بإذن ال – مقبولة ،وفي صالح تلك الُثقافة .وإن كان العكس نالت عاقبة
سياق .وخيمة .والحوار الذي يجرى بين الّثقافة يندرج في هذا ال ّ
صفات الخلقّية والقيم
هناك تعريفات كثيرة للّثقافة ،نأخذ بعض ما ذكره مالك بن نبي :هي ” مجموعة من ال ّ
الجتماعّية التي تؤّثر في الفرد منذ ولدته ،وتصبح ل شعوريا العلقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في
الوسط الذي ولد فيه ،فهي على هذا المحيط الذي يشّكل فيه الفرد طباعه وشخصّيته .وهذا الّتعريف الشّامل
للّثقافة هو الذي يحّدد مفهومها ،فهي المحيط الذي يعكس حضارة معّينة ،والذي يتحّرك في نطاقه النسان
ضر ،وهي الوسط ضر ” ) (9ويقول أيضا ” هي الوسط الذي تتشّكل فيه جميع خصائص المجتمع المتح ّ المتح ّ
الذي تتشّكل فيه كلذ جزئية من جزيئاته تبعا للغاية العليا التي رسمها ،وبما في ذلك الحّداد والفّنان والّراعي
والعالم والمام .وهكذا فالّثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضّمنه من عادات متجانسة ،وعبقريات متقاربة ،
ل ما يعطي الحضارة سمتها وتقاليد متكاملة ،وأذواق متناسبة ،وعواطف متشابهة .وبعبارة جامعة :هي ك ّ
صة ” )10 )الخا ّ
إذا كانت الّثقافة هي التي تشّكل أفراد الّمة ،وهي الوسط والمحيط الذي يتحّرك فيهما أفراد تلك الّثقافة ،وهي
التي ترسم لهم القيم والخصائص التي ينشؤون عليها ،وهي التي توجد النسجام والّتوافق والّتآلف التي يجب أن
سمات التي تمّيز أّمة ما .فإن العمل على المحافظة على هذه يسود أفرادها الذين ينتمون إليها ،وهي التي تعطي ال ّ
ك بها … يعّدالّثقافة لصيلة بتمّيزها ،منسجمة مع المحيط الذي توجد فيه ،متعاونة متقاربة مع الّثقافات التي تحت ّ
سبيل إلى
سليم ،ولم يبتعد عن المبادئ ولم يخطئ ال ّ طريق ال ّمطلبا أساسّيا .وهو ما يوّفره الحوار إذا سار في ال ّ
.الهداف المرسومة المنسجمة مع حقيقة الّثقافة كما اشار إليه مالك بن نبي
من هنا ينبغي معرفة ماذا يراد من الحوار بين الّثقافات ،العلم بحقيقة ما يقّدم في هذا المجال كالعولمة مثل.
صة إذا اّتخذنا )كذا( خطابا > حتمويا < فلتكن العولمةقيل ” :إذا كانت العولمة أمرا واقعا أو واقعا أمرا ،خا ّ
شعوب تمايزاتها الّثقافّية ،وأن تبرز خصوصّياتها الحضارّية وإبداعاتها الّدفينة ، عنذئد مناسبة كبرى لن تظهر ال ّ
حّتى ل تكون العولمة هيمنة ثقافّية واختراقا للّثقافات الخرى ،وإفقارا لها .فيمكن أن تكون العولمة مناسبة
)لبراز الموارد الّذاتّية في مختلف مجالت الحياة والّثقافة 11) ”.
إذن فالحذر مطلوب في الّتعامل مع العولمة .والكياسة والفطنة والعي ضرورية في هذا العمل ،وهذه
الملحظات أساسّية في أثناء الحوار .فالعولمة تحمل أبهادا كثيرة ،يجب الّتنّبه إليها كالبعاد القتصادّية والّثقافّية
سياسي شمل القتصادي وال ّ سياسّية والجتماعّية… وقد عّرفها بعضهم بقوله :إّنها ” القّوة بمفهومها ال ّ
وال ّ
والعسكري والّتقني والعلمي والّثقافي .وهي الساس التي سوف تصنع أو نكون شكل الّنظام العالمي في القرن
)الواحد والعشرين ” )12
ل المجالت ،القّوة الكاسحة التي تعطي من يظفر بتسليطها على غير القادرين شاملة لك ّ
فالعولمة تمّثل القّوة ال ّ
على ذلك ،تعطيه الفرصة كي يهيمن ويسيطر ويكتسح ،فليِع هذه الحقائق من يحاور ،وليعرف كيف يتعامل معها
وهو يتحاور .وإذا نظرنا إلى العولمة في بعدها الّثقافي نجدها تدخل سوق الّتعامل والّتحاور والتحاكك كأّية سلعة
طلب ،والمساومة والمقايضة والمزايدة والحتكار … والعولمة تسهم تجارّية أخرى ،تخضع لقانون العرض وال ّ
في بروز تناقضات كثيرة تجمع بين الّتآلف والّتوحيد وبين المقاومة والختراق كما يقول ” كارل بوراني ” ،
ويقول ” جيمس ميلتلمان ” :هي ” عملّية مقابلة ثقافّية بينالحضارات ،يعتريها الكثير من الّتناقض عدم
)الستمرار13) ” .
سيطرة والقهر التي ينطلق منه من ن العولمة في بعدها الّثقافي تكون خطيرة ،لروح الهيمنة وال ّ هكذا يتبّين لنا أ ّ
ي القاهر القادر على اختزال الحضارات الخرى ،بعد اختراقها .وهو ما ي{ّدي يحاور غيره من منطلق القو ّ
إلى صام بين الحضارات ،وصراع بين الّثقافات بدل الحوار .وفي هذا يقول ” صموئيل هنتغتون ” في مقاله ”
صراعات في هذا العالم الجديد لن ن المصدر الجوهري لل ّ صدام لحضارات ” الذي نشره في ” تفيد فرضينا أ ّ
يكون بالّدرجة الولى أيديولوجّيا أو اقتصادّيا ،فالنقسامات الكبيرة بين الجنس البشري والمصدر المهيمن
صراعات شؤون العالمّية .لكن ال ّصراعات سيكون ثقافّيا ،وستبقى الّدولة القومّية صاحبة أقوى دور في ال ّ لل ّ
سياسات الكونّية ستحدث بين الّدول ولمجموعات المنتمية لحضارات مختلفة .وسيهيمن صدام الّرئيسّية لل ّ
صدع بين الحضارات هي خطوط معارك المستقبل ، سياسات الكونّية ،وستكون خطوط ال ّ الحضارات على ال ّ
وسيكون الّنزاع بين الحضارات أحدث مرحلة في تطّور الّنزاعات في العالم الحديث (13) ”.فالحوار الذي الذي
ظفينطلق من مفهوم العولمة يكون مكّرسا لتغليب المصالح على تقديم المساعدة للذين يجّرون للحوار .ويو ّ
.للهيمنة بدل الّتعاون والّتقارب والّتفاهم
سبيل القويم
ل ذلك ل نقطع الّياس من الستفادة من الحوار والّنقاش ،ومحاولة الّتقارب والّتفاهم ،لنذه ال ّ
مع ك ّ
صراعات ” .والحوار بين النسان لنزع سوء الفهم ،وإعطاء الفرص لتضييق هّوة الخلفات ،وإزالة فتيل ال ّ
وأخيه النسان من الّنوافذ الساسّية لصناعة المشتركات التي ل تنهض حياة اجتماعّية سوّية بدونها .وعليه
طبيعي ،وإّنما هو لكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والنطلق فالحوار ل يدعو الخر إلى مغادرة موقعه ال ّ
منها مجّددا ومعا في الّنظر إلى المور (15) ”.وديننا الحنيف عّلمنا الحوار ،والمجادلة بالتي هي أحسن ،فما
هي نظرة السلم إلى الحوار ؟
السلم ودوره في تعزيز الحوار بين الّثقافات
ن السلم هو دين الحوار والعتراف بالخر ،وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين النسان وأخيه النسان إّ
سبل الكفيلة يتحقيق ذلك بما يساغد على العيش بسلم وأمن وطمأنينة ،ويبتعد بالنسان أن يحيا حياة ،وإيجاد ال ّ
البعاد والقصاء ونكران الخر .لهذا دعا إلى الحوار والّدعوة بالتي هي أحسن ،وسلوك السليب الحسنة ،
طرق السليمة في مخاطبة الخر .قال تعالى { :ادع إلى سبيل رّبك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي وال ّ
هي أحسن …} ) (16هذه الية تشير إلى حسن المخاطبة ،وحسن الحوار ؛ لكي نتعارف ونتقارب ،ولكن من
أن نتازل عن الّدعوة إلى سبيل ال ،أي لتنازل عن مبادئ السلم) (17فليفقه جّيدا من يحاور المبدئ التي
ينطلق منها وهو يحاور .فالية تدعو إلى مخاطبة اللخر بالحسنى لكي يعرف ما عند المسلمين ،ل أن يحاوره
لالذين ظلموا منهم وقولوا ل بالتي هي أحسن إ ّ كي يتنازل له عن مبادئه .وقال أيضا { :ول تجادلوا أهل الكتاب إ ّ
ن هناك قواسم آمّنا بالذي أنزل إلينا زأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } ) (18فالحوار ممكن ل ّ
مشتركة ،وهناك مجال للّتفاهم والّتقارب ،وهي اليمان بما أنزل على المسلمين وغيررهم ،فالمصدر واحد وهو
ال ،والصل واحد وهو السلم .فليتعارفوا وليعرفوا بعضهم وليعترفوا بما عندهم حميعا ،ومن ثمذ فليتقاربا
ل نقط الّتلقي وليتعاونوا على ما هو صالح لهم حميعا .فالقرآن يعطينا أسلوب بدء الّلقاء والحوار ،وكيف نستغ ّ
بين المتحاورين .فيبّين الصول التي يمكن الّتفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول { :قل يا أهل الكتاب تعالوا
ل ال ول نشرك به شيئا ول يّتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون ال فإن توّلوا ل نعبد إ ّ
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أ ّ
فقولوا اشهدوا بأّنا مسلمون } ) (19ثّم يبّين السلم نوع العلقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم ،إّنها
سمّية ك { لينهاكم ال عن الذين لم علقة الّتعاون والحسان والبّر والعدل .فهذا هو الحوار الحضاري والعلقة ال ّ
ب المقسطين } )20ن ال يح ّ)يقاتلوكم في الّدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبّروهم وتقسطوا إليهم إ ّ
لكن في الوقت نفسه لم من المسلمين الّتنازل عن أصولهم ،والّتفريط في القضية الساسية وهي السلم .من
هنا يعلن القرآن عن حقيقة وفيما يجب أن يكون ،وكيف يجب أن يدور { :ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل
منه وهو في الخرة من الخاسرين } ) (21إذن فالسلم يقّر الحوار ويدعو إليه ولكن يؤّكد على الّثبات على
شروط التي يجب توّفرها لجراء حوار هادف مثمر بّناء المبادئ وعدم الّتنازل عن الهوّية .نتساءل بعد ذلك عن ال ّ
؟
سيادة والخصوصّيات الّثقافّية ،والبتعاد عن الّتسّلط وإلغاء الخر – 1
.أن يحترم الحوار ال ّ
أن يتبّنى قاعدة ) المعرفة والّتعارف والعتراف ( ينطلق منها في سبيل الّتقارب .معرفة ما عند الخر – 2
شئ فرع عن تصّوره .والّتعارف الذي يزيل أسباب الخلفات ،ويبعد مظاهر ن الحكم على ال ّ
معرفة جّيدة ؛ ل ّ
صراعات .والعتراف الذي يثّمن ما عند الخر ،ويقّدر ما يملكه .وهو ما يعين على الّتقارب والّتعاون .ال ّ
ل الهتمام بها ،أو هّمشت لسباب ،يسهم في دفع عملّية الحوار ن الّتعريف بالحضارات والّثقافات التي ق ّ مثل إ ّ
ن لجنة الخبراء في الّدراسات المقارنة للحضارات التي اجتمعت في شهر آذار 1949م إلى القطب اليجابي .فإ ّ
ن ” مشكلة الّتفاهم النساني هي مشكلة العلقات بين الّثقافات .ومن هذه العلقات لبّد أن ينشأ مجتمع أقّرت بأ ّ
(newعالمي جديد يقوم على الفهم والحترام المتبادل .وهذا المجتمع ينبغي أن يّتخذ شكل مذهب إنساني جديد
أن تتحّقق من خلل العتراف بالقيم المشتركة بين (universalismوالتي يمكن فيه للعالمّية )humanism
ص بترجمة الّروائع
جه أعدذذت اليونسكو برامج كثيرة ،منها ” البرنامج الخا ّ الحضارات (22) ”.تطبقا لهذا الّتو ّ
)الدبّية وإحياء ذكرى كبار الفلسفة أو العلماء أو الدباء الذين ينتمون لمختلف الحضارات …” )23
يستعمل مالك بن نبي مصطلح “الفكار” بطرق مختلفة،فلم يكن بن نبي ممن يحرص على وضع التعاريف
الواضحة الدقيقة المضطردة للمفاهيم التي يستعملها،وإن كان قارئ أعماله يخرج في النهاية في اعتقادي بمنظومة
.نظرية واضحة في مجملها وأصيلة ،ولو اعترت تفاصيلها ألوان من الغموض وسوء اللغة
وكثير من مصطلحات بن نبي ل يتوافق مفهومه لها مع المفاهيم الشائعة مما يقود قارئه غير المتمرس إلى سوء
فهم،وقبل أن أشرع في تبيان جوانب أساسية من استعمال بن نبي لمصطلح “الفكار” سأذكر الن مصطلح
)“الصراع الفكري”)1
ل يعني بن نبي بمصطلح “الصراع الفكري” ،كما قد يتبادر إلى الذهن ،صراع اليديولوجيات ،بل هو يعني
النهج المنظم الذي ينفذه الستعمار لتشويه الوعي عند شعوب المستعمرات،ومنعها من امتلك الوعي الصحيح
ل لوصف هذا النهج وحيله والليات النفسية
الذي يقودها للتخلص من الظاهرة الستعمارية،وهو يكرس كتابًا كام ً
.والمادية التي يرتكز إليها ،منطلقًا من تجارب خاصة خاضها هو ومن تجارب خاضها غيره من أفراد وجماعات
”:ولعد إلى موضوع هذا المقال”:الفكار
يرى مالك بن نبي أن عالم الفرد يتألف من ثلثة مركبات”:أشياء” و “أشخاص” و”أفكار”.والفرد يمر في
ل على “الشياء” ثم يتعرف بعدها على “الشخاص” ثم يتعرفطفولته بمراحل ثلث متلحقة يتعرف فيها أو ً
أخيرًا على “الفكار” ،وكذلك يمر المجتمع في تطوره الحضاري بهذه المراحل.وحين يشيخ الفرد ينكص وعيه
.فيعود بعكس الطريق الذي سلكه أولً ،وكذلك تفعل الحضارة حين تشيخ
”:الفكار” بمعنى “الحقائق”-
الفكار” قد يستعملها بن نبي بمعنى “الحقائق” ،ول سيما “الحقائق الكبرى”ذات الطابع الكوني الشامل ،وهذا“
ل عن طريقتين مختلفتين تميزان الحضارة الغربية وحضارة الشرق السلمي في “ملء الفراغ حين يتحدث مث ً
”:الكوني
إما أن ينظر النسان حول قدميه أي نحو الرض ،وإما أن يرفع بصره نحو السماء.والطريقة الولى تؤدي إلى“
شغل فراغ النسان بأشياء،أي أن نظرته المتسلطة تريد أن تستحوذ على أشياء ،بينما الثانية تؤدي إلى شغل هذا
)الفراغ بالفكار،أي أن نظرته المستفسرة ستكون في بحث دائب عن الحقيقة”)2
والمثل الذي يضربه على الطريقة الولى هو طريقة روبنسون كروزو في ملء فراغه بالعمل لصناعة أشياء
والصيد وتقسيم وقته في انشغالت مادية،على حين كان مثله على الطريقة الثانية نظير روبنسون كروزو
.السلمي “حي بن يقظان” يقضي وقته في البحث عن الحقيقة المطلقة
وهو يصادر على أن الطريقة الولى تنسجم مع الطبع الوروبي الري الذي يهتم بتركيب الشياء والشكال
والتركيب التقني والجمالي ويفتقد العنصر الغيبي ،على حين تنسجم الطريقة الثانية مع العنصر السامي الذي
يطغى لديه العنصر الديني ول ينشغل بالمشاغل الرضية .هو ليؤلف الشياء بل يؤلف بين فكرتين”:الشرق
)السلمي يؤلف بين فكرتين:فكرة الحق وفكرة الخير”"مشكلة الفكار” – ص 142
وليس بودي هنا مناقشة صوابية هذا التعميم المأخوذ من الفكر الستشراقي الذي يثبت للباحث في تاريخ الثقافة
العربية المعاصرة أنه يستطيع التغلغل والتسلل حتى إلى كتابات أكثر المفكرين ذكاء ونقدية)بن نبي بالذات له
مناقشات كثيرة مع المستشرقين دحض فيها زعمهم أن السلم هو سبب تأخر المسلمين وسنرى لحقًا أنه يقول
)!إن تفلت المسلمين من السلم هو سبب تأخرهم وليس تمسكهم به
:الفكار” كخبرة حضارية جماعية“
ولكن مصطلح “الفكار” يعني عنده غالبًا خبرة متموضعة على شكل بنية جماعية عقلية –نفسية تجعل المجتمع
.يبني الهيكل المادي للحضارة ويعيد بناءه بسرعة ،حتى لو تعرضت للتدمير بفعل كارثة كالحرب مث ً
ل
ومثاله المفضل هو المجتمعان الياباني واللماني اللذان كانا بعد الحرب العالمية في حالة عوز هائل في
“الشياء” ،ولكنهما كانا غنيين “بالفكار” ،مما مكنهما من إعادة بناء الهيكل المادي لهما بسرعة قياسية ،بخلف
ل الذي كان غنيًا بالموارد المادية المطلوبة للبناء ،ولكن الخطة التي وضعها الدكتور
المجتمع الندونيسي مث ً
شاخت لبناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الولى،ونجحت فيها نجاحًا باهرًا ،لم تنجح في أندونيسيا حين استدعت
الحكومة الندونيسية شاخت بالذات للشراف على تطبيق خطته ذاتها في الواقع الندونيسي ،وذلك للعوز في
“.الفكار” في المجتمع الندونيسي.وهذا الخير هو نموذج عنده للمجتمع السلمي عمومًا
”:الفكار المطبوعة” و “الفكار الموضوعة“
يرى مالك بن نبي أن الفكار تشبه أسطوانة يحملها الفرد عند ميلده ،وهي تختلف من مجتمع لخر،والفراد
والجيال يعزفون أنغامهم الخاصة التي تتوافق تردداتها مع النغام الساسية أو النماذج المثالية )القوالب
.لتلك السطوانة )archetypes
تلك النغام يسميها مالك بن نبي “الفكار المطبوعة” وأما التوافقات الموسيقية التي تخص الفراد والجيال
”.فيسميها “الفكار الموضوعة
الفكار المطبوعة” اليونانية كما يقول اتخذت شكلها وقالبها على الفكار المطبوعة التي أبرزها هوميروس“
وإقليدس وفيثاغورث وسقراط وأمبدوكل وعلى الفكار الموضوعة لفلطون وأرسطو ثم أخرجت الجيال التالية
.توافقات مع هذه الفكار كونت لحنًا بديعًا لم يزل له أثر في الحياة المعاصرة
والقرآن كان هو الرسالة المطبوعة التي جاء بها الوحي من السماء فعدلت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي
.ووجهتها وجهة جديدة ،وغيرت طريقة تفكير هذا المجتمع ومنظومته الخلقية
وفي غمرة حماس المجتمع الذي انسجم كله مع التوافقات الساسية للفكار المطبوعة الجديدة صار عند كل فرد
حساسية ضد أي خروج أو نشاز في اللحن ويسارع إلى تصحيحه،ولو كان النشاز من عنده كما في حالة المخلفين
.الثلثة في غزوة تبوك وفي حالة المرأة التي زنت وجاءت تطلب من النبي عليه السلم أن يطهرها
ويقول بن نبي أنه حين ينحط المجتمع تسكت تلك التوافقات الساسية بالتدريج جالبة معها -كما نعلم من الفيزياء-
صمت التوافقات المنسجمة معها،أي تختفي الفكار الموضوعة أيضًا ويحل الصمت وتختفي الحساسية فل يظهر
.أي رد فعل للنشاز ويختفي العنصر الروحي وتختفي الدوافع الجماعية من المجتمع ويفنى ويتحول إلى ذرات
:الفكار الميتة والفكار القاتلة
الفكرة الميتة” يعرفها بن نبي بأنها “فكرة خذلت أصولها وانحرفت عن نموذجها المثالي ولم يعد لها جذور في“
”.محيط ثقافتها الصلي
و”الفكرة القاتلة” هي عنده “فكرة فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في
”.عالمها الثقافي الصلي
هاتان الفكرتان اللتان تعيشان جنبًا إلى جنب في “عالم ما بعد الحضارة” )أي عالم الحضارة المنتهية التي لم تنشأ
بعد على أنقاضها حضارة فتية جديدة( وتشكلن انعكاسًا فكريًا لوجهي مأساة المجتمع المبتلى بالستعمار:وجه
.القابلية للستعمار ووجه الستعمار
الفكار الميتة” إذن هي تلك الفكار التي تشد النسان في الوضع الحضاري المنحط إلى انحطاطه وتمنعه من“
النهوض ،و “الفكار القاتلة” هي أفكار يستوردها هذا النسان نفسه لتحدث تأثيرًا اجتماعيًا سامًا،ويحرص بن
نبي على لفت انتباه قارئه إلى أن النوعين من الفكار يرتبطان مع بعضهما إذ الفكار الميتة هي التي تختار من
الحضارة الخرى الفكار القاتلة تحديدًا ،مع أن الحضارة الخرى فيها أفكار أخرى!،يقول”:ل يجوز أن نتساءل
لماذا تنطوي الثقافة الغربية على عناصر قاتلة،وإنما يجب أن نسأل لماذا تقصد الصفوة المسلمة هذه العناصر
)بالذات وتأخذ منها،وعلى هذا النحو تكون المشكلة مطروحة بطريقة سليمة”)”مشكلة الفكار-”..ص 202
الفكار القاتلة” هي نفايات فكرية للمجتمع الخر تطفو على سطحه ،ولكن النحطاط الجتماعي عندنا يجعلنا“
نأخذ هذه العناصر السطحية ونعتقد أنها هي ول غيرها “جوهر الحضارة الغربية” )أو لنتكلم بلسان حال ما
أصطلح على تسميته “بالستلب” ”:هي “جوهر الحضارة” !أي على وجه العموم والطلق إذ المستلب يرى
أن الحضارة الغربية هي “الحضارة” أي الشكل الوحيد المعياري بل المشروع للحضارة ،إذ هوعاجز عن رؤية
نسبية الحضارة الغربية وكونها حضارة من حضارات العالم وخيار واحد من خيارات حضارية كثيرة كان يمكن
).للبشرية أن تأخذ بها
وإذا كانت الفكار القاتلة سامة في مجتمعها بالذات فهي فيه تواجه بمضادات للسمية تخفف من أثرها أو تزيله
ولكنها حين تستورد إلى مجتمعنا ل يستورد معها إطارها الكامل الذي يحد من تأثيرها )قد نضرب على ذلك مث ً
ل
انهيار التضامن بين أفراد العائلة في الغرب ،فالقوم هناك وجدوا لثاره السلبية مخففًا في أشكال الضمان
الجتماعي ،أما عندما نستورد القيم التي تقود التضامن العائلي عندنا للتفكك ،وليس بإمكاننا نقل الضمان
الجتماعي الغربي ،فإن هذا يعني أن الفرد عندنا معرض لخطر النمحاق تحت ضغط الظروف الصعبة دون أن
)يجد من يحميه ويتكافل معه
وفي اعتقادي أننا يمكن أن نرى هنا رؤية مالك بن نبي لطبيعة “التثاقف” الذي جرى في القرن العشرين الميلدي
بين المجتمع المسلم والغرب،فهذا المجتمع لم يأخذ الجوانب السليمة القوية من الحضارة الغربية بل أخذ نتاجاتها
المتعفنة،نفاياتها إن جاز التعبير،ولك أن ترى أمثلة على هذا في استيراد النحلل العائلي بل استيراد المدارس
الفنية والدبية التي ل تعكس جوانب قوة النسان وفاعليته بل تعكس جوانب انحلله الخلقي وتحلل شخصيته
.الجتماعية.آلية الستيراد هذه تعكس هشاشة الشخصية المسلمة وعيوب تركيبها النفسي-العقلي
ويقارن بن نبي بمرارة بين النموذج الياباني في “التثاقف” مع الغرب وهو النموذج المؤلف مما استورده
اليابانيون من التجربة الحضارية الغربية وهو جوانبها الفعالة وما استبقوه من شخصيتهم الحضارية ،وبين
النموذج المقابل للتثاقف الذي قام به المجتمع المسلم حيث استورد الجوانب السامة واستبقى الجوانب الميتة من
.شخصيته
الفكار الميتة” عند بن نبي هي أفكار فارقت النموذج المثالي،القالب الصلي للفكار التي كانت العامل الباني“
للحضارة،وفقدت الصلة به،ومثالها عنده الذي كان قريب العهد مواقف بعض علماء الدين في إيران من مصدق
ومشاركتهم في إسقاطه.ويستطيع القارئ في اعتقادي أن يرى في زماننا هذا عددًا كبيرًا من الفكار التي تنسب
.نفسها إلى السلم وتقف سدًا مانعًا أمام التجديد والنبعاث الحضاري
:في التثاقف
لبن نبي في كتابه “مشكلة الفكار في العالم السلمي” ملحظات مركزة في موضوع ازدواج اللغة الذي هو
الظاهرة البارزة في ثقافة البلد السلمية ول سيما بلده هو فقد قاد هذا الزدواج إلى ظهور طائفتين :طائفة
تتكلم العربية وتحاول وصل الصلة مع الصول السلمية وطائفة تتكلم الفرنسية وفيها من يريد قطع الصلة مع
العربية والسلم“ :لم يعد في البلد الواحد نخبتان فحسب وإنما مجتمعان متراكبان أحدهما يمثل البلد التقليدي
والتاريخي ،والثاني يريد أن يصنع تاريخه مبتدئًا من الصفر ،فالفكار المطبوعة لهذا الفريق والفكار الموضوعة
للفريق الخر ل تستطيع أن تتعايش في عالم ثقافي واحد فقد كان المجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين فما كان يقال
في المذياع وفي الصحافة وحتى في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الفكار الموضوعة
عند أحد المجتمعين ،لم يكن له أي معنى بالنسبة للفكار المطبوعة الخاصة بالمجتمع الخر” )”مشكلة الفكار”-
)ص 190
ل النقاش في صفوف الثورة الجزائرية الذي دعا إلى إلغاء ومن علمات عدم النسجام يضرب بن نبي مث ً
مصطلح المجاهد ووضع مصطلح الجندي مكانه.ومن المثلة التي يضربها ما ورد في كتاب عن فن العمارة في
الجزائر“ :كان يطلق على المهندس المعماري في الماضي اسم معلم البناء وكان يدعى لبناء القصور والمعابد
والكنائس والبنية الدفاعية” ملحظًا بسخرية أن هذه القائمة أغفلت المسجد بينما هو من أهم معالم العمارة حتى
!.تلك التي تدرس في فرنسا أو انكلترا أو ألمانيا
ومن انتقاداته الوجيهة للدب العربي نقده لمسرحية لتوفيق الحكيم كانت في تقريظ القاضي العز بن عبد السلم
الذي جعله توفيق الحكيم يستعمل مصطلح “القانون” وليس “الشريعة” ويعلق بن نبي“ :الشريعة لها مصطلحاتها
ويحمل كل مصطلح إلى جانبه اللغوي والبلغي قدرًا من العاطفة والخلق ترسم فيه عبر تاريخ الثقافة ”
))”مشكلة الفكار” –ص 195
وفي هذا الموضع نرى أن مالك بن نبي ليس مبتوت الصلة كليًا بالنزعة التأصيلية التي تركز على مساوئ
استيراد المكونات الثقافية من المجتمع الخر،بل كان واعيًا لهذه المساوئ،ولكنه في الحقيقة كرس أغلب جهده
الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها ،وفي سبيل دراسة هذا
النهوض وشروطه،لم يركز الهتمام على مشكلة الحفاظ على الهوية،وأعتقد أن المطلوب إحداث تركيب خلق
بين الطريقة التأصيلية المتمركزة حول فكرة الدفاع عن الهوية الثقافية الخاصة ،والطريقة المركزة على هدف
النهضة التي يتبعها مفكرون كثر على رأسهم مالك بن نبي،وأنا أسمي هذا التركيب “التأصيل الفاعل” وأكتفي هنا
.فقط بالشارة إلى هذه النقطة تاركًا مناقشتها إلى مقال آخر إن شاء ال
مع كل ما تقدم فإن اللغة الغريبة المستوردة قد تقوم بدور إيجابي في تفجير الحركة في عالم ثقافي راكد
“فبالمعاني الواردة من ثقافة أخرى والمترجمة بإخلص إلى حد كبير ،تستعيد الفكار المطبوعة قدرتها على
الكلم بعد أن كانت بغير صدى وبغير حوار مع الحياة وبغير سيطرة عليها ،وتشرع في إنتاج أفكار موضوعة قد
تتضمن قدرًا من الغموض بسبب أصلها المزدوج ولكنها تظل في ركاب الفكار الولى فعندما كان الشيخ محمد
عبده يكتب بحثه في العقيدة كان يستلهم بل شك التجاه شبه الكلسيكي الذي كانت عليه الثقافة الزهرية في
عصره ولكن بطريقته الجديدة في الصياغة وفي التعبير افتتح الشيخ محمد عبده برسالة التوحيد عهدًا جديدًا في
).المذهب الكلسيكي” )”مشكلة الفكار”-ص 186
ازدواج اللغة إذًا قد يساعد في التجديد وقد يؤدي إلى الخروج على الصول الساسية )على هذه الحالة الخيرة
يضرب بن نبي مثال علي عبد الرازق( وقد يؤدي أخيرًا إلى شق النخبة المتعلمة إلى مجتمعين متناقضين كما في
.الجزائر
:الفكار المخذولة وانتقامها
في الثلثي المكون للعالم المحيط بالفرد :الشياء ،الشخاص ،الفكار يرى بن نبي أن الفكار هي التي تقود العالم
.بغض النظر عن نوعية هذه الفكار وحكمنا عليها
أعتقد أن هيغل يشغل مكانه الفريد في تاريخ الفلسفة بوصفه الوحيد الذي حاول أن يصف الوقائع الجتماعية
.وتغيرها على أنها أفكار وتغيرها يتبع منطق تغير الفكار :المنطق الجدلي
وانطلقًا من هذه النظرة الفريدة لنا أن نقول إن هيغل هو فيلسوف الجتماع النساني بامتياز ومن جهة أخرى
بإمكاننا أن نقول إن هيغل هو أكمل الفلسفة المثاليين فقد نظر للكون بأسره بمكوناته كافة على أنها أفكار تتغير
.وفق المنطق الجدلي
بن نبي يتفق مع هيغل في أن الفكار تتحول إلى واقع كما أن الواقع يتحول إلى أفكار )”مشكلة الفكار” –ص
ل على أن “النظمة التي ليس لها سند من الفكار هي في طريقها إلى الفناء” إذ أن إلغاء
(95ويضرب بالرق مث ً
الرق بدأ في عالم الفكار عند المفكرين في القرن التاسع عشر ولو أن آلت القرن العشرين كانت ستقضي عليه
لو لم يقض عليه الفكر! )”مشكلة الفكار”-ص (211ويقرر مالك بوضوح مناصرته للمبدأ المثالي في الفلسفة
الذي يطبقه في ميدان علم الجتماع “إن التغييرات ذات الصبغة النفسية هي التي تؤدي إلى ظهور تغيرات
اقتصادية وسياسية على سطح الحياة الجتماعية فالجانب النفسي هو الذي يسبق و ينظم الجانب الجتماعي ومن
كل الطرق التي نسلكها نصل دائمًا إلى المبدأ الذي قرره القرآن على شكل حكم تقريري“ :إن ال ل يغير ما بقوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم” الرعد .11-لقد تضمنت الية خلصة النتائج التي يمكننا الخروج بها عن انتقام الفكار
) .المخذولة” )”مشكلة الفكار”-ص 212
حين ل ينسجم السلوك مع فكرته المثالية تنتقم هذه الفكرة المخذولة لنفسها :يقول بن نبي”:الفكار الموضوعة
تختلف عن الفكار المطبوعة التي كانت في القوالب الصلية ،وهذا الختلف أو هذا الغدر يدوي في كل نشاطنا
ويعرض هذا النشاط للنتقام من طرف الفكار الصلية انتقامًا يكون أحيانًا غاية في العنف على الصعيد السياسي
عندما تنتقم الفكار المخذولة .وقد يكون من اليسر تصور هذا النتقام في المجال التقني عندما تصمم خطًأ إحدى
الماكينات وتنفجر أو أحد الجسور فينهار لن النتقام في هذه الحالة يكون فوريًا .ولكن المجتمعات والحضارات
والممالك قد تنهار هي أيضًا بنفس الطريقة وليست كوارث التاريخ في غالب الحيان إل آثارًا مباشرة لنوع من
).انتقام الفكار المخذولة” )”مشكلة الفكار” –ص 76
يعلق بن نبي في نفس الصفحة على الهامش“ :نستطيع القول بأن العالم السلمي يواجه اليوم عقوبة مستحقة من
”السلم ،للتفاته عنه وليس كما يظن بعض السذج لتمسكه به
إذا وصلت الفكار الموضوعة في المجتمع إلى مرحلة انبتت فيها صلتها بالفكار المطبوعة انتقمت هذه الخيرة
ل في أول خذلن في التاريخ قام به المسلمون
لنفسها على شكل فقدان المجتمع لفعاليته .ويضرب بن نبي لذلك مث ً
لفكرة القرآن المطبوعة )النموذج المثالي ( التي تعبر عنها الية الكريمة “إن صلتي ونسكي و محياي ومماتي ل
رب العالمين ،ل شريك له” النعام – .162 -161والتي كان من الواجب أن يتوافق المسلمون في شخصيتهم
وسلوكهم معها وذلك حين فصلوا بين سلوكهم المتعلق بطلب الدنيا وسلوكهم التعبدي فصار بعضهم يقول”صلتي
وراء علي أصلح لديني وطعامي عند معاوية أقوم لبدني!” ونتج عن هذا ذلك الشرخ المرير في صفين الذي كان
.بداية المرض الحضاري
وحين ينفصل السلوك عن الفكرة المطبوعة تنتج عن السلوك المنفصل فكرة جديدة مفارقة للنموذج المثالي تنتقل
.من جيل إلى آخر كأنها الجرثومة التي تنقل المرض الحضاري
:الفكار الصادقة والفكار الفعالة
!يرى بن نبي أن الفكرة الصادقة ليست دائمًا فعالة والفكرة الفعالة ليست دائمًا صادقة
الفكرة هي صحيحة أو باطلة ،ولكن هذه الفكرة رغم صحتها قد تفقد فاعليتها.وقد تظل فترة طويلة كامنة في عالم
ل بفكرة ابن النفيس عن
اللفاعلية رغم وجودها ،حتى يأتي زمان تخرج إلى الفاعلية ويضرب بن نبي لهذا مث ً
)الدورة الدموية الصغرى ،فهي لم تستخدم إل بعد قرون حين أخذها الوروبيون )ونسبوها إلى هارفي
!وفي المقابل ما أكثر الفكار الباطلة بذاتها التي قلبت الحداث وغيرت التاريخ
إن العقيدة الدهرية المادية التي تقوم عليها الحضارة المعاصرة هي عقيدة ل نشك في بطلنها ،ولكنها عقيدة
فاعلة )،وقد أضيف :وليس ذلك فحسب ،بل هي تستطيع في بعض الحالت بالقوة أن تطفئ جذوة أفكار صادقة
)!من الحضارات المهزومة وتهيل عليها رماد النسيان
والخلط بين الفاعلية والصدق يستخدم لتشكيك المسلمين في إسلمهم ،إذ يقال لهم :أتكون صحيحة عقيدة أهلها في
أسفل درجات السلم الحضاري ،وتكون خاطئة عقيدة تغزو القمر؟
”.بن نبي يرى أن المسلمين لم يفقدوا فعاليتهم لتمسكهم بالسلم بل لهجرهم لروحه الحقيقية و “أفكاره المطبوعة
المجتمع يفقد فعاليته عندما تنبت الصلة بين “أفكاره المطبوعة” و”أفكاره الموضوعة”،وقد نقول بعبارة
!أخرى:بين معتقداته وسلوكه
ويقول بن نبي”:كثير من المفكرين المسلمين اليوم يفتنون بالشياء الحديثة وبالتالي بمنطق الفعالية من غير تمييز
بين حدود توافقها مع المهام التي يريد المجتمع أن ينهض بها دون أن يفقد أصالته ،فهؤلء المفكرون يخلطون بين
”-أمرين :بين “النفتاح الكامل لكل فكر تأتي به الرياح” وبين تسليم القلعة للمهاجمين-كما يفعل الجيش الخائن
:ول ينبغي للمسلمين أن يتعزوا بصدق أفكارهم عن مصيبة انعدام فاعليتهم
ينبغي على الفكرة السلمية لكي تقاوم الفكار الفعالة والخاصة بمجتمعات القرن العشرين المتحركة،أن تسترد“
)فعاليتها الخاصة بمعنى أن تأخذ مكانها من بين الفكار التي تصنع التاريخ”)”مشكلة الفكار” –ص 144
:الفكرة والوثن
!يرى بن نبي أن الجاهلية إنما كانت وثنية لنها لم تكن علقاتها المقدسة مع أفكار وإنما مع أوثان
وإيمان الفرد بالوثن يترافق مع تخليه عن كل مجهود )أو بتعبير بن نبي الثير تخليه عن القيام “بالواجب”
).وانتظاره “لحقوقه” بل أداء لواجبه من طرف خارجي ما
في عام 1936تحولت النهضة الجتماعية الشاملة في الجزائر التي تجلت في حركة العلماء وبلغت ذروتها في
الدعوة إلى “المؤتمر السلمي” ورافقتها نهضة غير فيها الفراد ما في أنفسهم )أي قاموا بواجباتهم( تحو ً
ل
خاطئًا في اتجاه ذكره بن نبي مرارًا بغضب وتقريع لشعبه :بعد أن نبذ الشعب أوثان الصوفية في فترة انحطاطها،
وكف عن الذهاب إلى قبور أوليائها لتقديم النذور والتماس الخيرات و البركات منها ،وهب لجني الخيرات من
عمله وعرقه وقيامه بواجبه )وهو مبدأ عمر رضي ال عنه النهضوي المستند إلى “فكرة السلم المطبوعة” عن
التوكل الحقيقي“ :إن السماء ل تمطر ذهبًا ول فضة!”( إذا به ينحرف ليسير وراء زعماء سياسيين تحولوا من
هذا المنظور السلمي الصيل إلى منظور انتخابي سقيم يعزف على نغمة طلب الحقوق من الحكومة
.الستعمارية
لقد انتصر الوثن على الفكرة ،ورجعت “زردة” الصوفية في مرحلة انحطاطها على شكل زردة انتخابية ،ونشأت
دروشة جديدة “ل تبيع الحروز والبركة والجنة ونعيمها وإنما تشتري الحقوق السياسية وصفة المواطن و …
القمر بأوراق النتخابات .ولقد غاب عن الذهان أن الحق هو صنو الواجب وأن الشعب هو الذي يخلق ميثاقه
)وقانونه الجتماعي و السياسي “عندما يغير ما بنفسه”" )”مشكلة الفكار” –ص 131-130
ل من أن تصبح البلد ورشة للعمل تحولت إلى سرادق انتخابي ،وانقلب العمل الجتماعي المنتج الفعال إلى وبد ً
ل من العمل بهدي الفكرة صار العمل مشخصًا .خطابة .لقد استبدلت الفكرة بالشخاص -الوثان وبد ً
وقد ذكر بن نبي أمثلة من بلد أخرى على انتقال الولء من الفكرة إلى الشخص منها صياح المتظاهرين في
شوارع القاهرة في العشرينات “الحماية بيد زغلول ول الستقلل بيد عدلي” .والستعمار يشجع هذه النزعة
للتشخيص و التوثين لسبب واضح وهو أن الستعمار يحب أن ينام الشعب ويتوقف عن أداء دوره تاركًا مصيره
بيد شخص وهذا الشخص يمكن إفساده ،وحتى لو لم يفسد فهو يمكن قتله أو انتظار موته أو إفساد الحاشية التي
هي حوله بحيث تشل فاعليته ويفقد التصال مع مجتمعه .ومن المثلة التي يذكرها بن نبي على هذا الوضع
نيكروما وسوكارنو ،وأعتقد أنه كان يعني عبد الناصر أيضًا و إن كانت علقاته الطيبة مع مصر الناصرية منعته
من التصريح بهذا السم مكتفيًا بعد ذكر سوكارنو و نيكروما بقوله “وهما حالتان من بين حالت كثيرة ”
”)) .مشكلة الفكار” –ص 167
:اختلل التوازن بين الشياء والشخاص والفكار
صحيح أن بن نبي يضع الفكار في موقع متميز بين المكونات الثلثة ،ولكنه مع ذلك يرى أن العلقة بين هذه
المكونات علقة جدلية يجب أن تخضع للتوافق ،إل أنه في أوقات معينة يختل التوازن بين هذه العناصر ويزيد
.فيها ثقل واحد منها على غيره بحيث تدور حركة المجتمع في فلك الشياء أو الشخاص أو الفكار
”:وهو يسمي هذه الحالة “بالطغيان
:طغيان الشياء-
وفي هذه الحالة تحتل الشياء قمة سلم القيم وتتحول الحكام النوعية خلسة إلى أحكام كمية فتظهر النزعة إلى
مراكمة الشياء ،ويصبح عدد هذه الشياء هو المعيار للنجاح وليس استخدامها الفعلي )بن نبي لم يضرب المثال
التالي ولكنه خطر على بالي :أليس خير مثال على ذلك مراكمة الجيوش العربية للسلحة دون أن يخطر على بال
القادة ولو لمرة واحدة أن هذه السلحة التي بذلت فيها المليارات أثبتت التجارب أنها لم تقم بأي دور إيجابي حتى
!).ولو كان على مستوى المصلحة القطرية أو مستوى مصلحة الحاكم
وملحظة بن نبي الوجيهة عن النزلق من الحكام النوعية إلى الحكام الكمية نجدها بالفعل في بعض البلد التي
قادها شعورها بالعجز الفكري ،وعدم قدرتها على الخوض في غمار المعالجة الناجحة للفكر المعاصر وفصل
حبه عن زيوانه ،إلى التوقف عن القدرة على اكتشاف قيمة أصحاب الفكار المبدعة والقيمة انطلقًا من نتاجاتهم،
والنتقال إلى العبادة الخرافية للمعايير الكمية الخارجية التي انطلقًا منها تحدد قيمة الشخص ويوضع في
المواضع التي يجب أن يوضع فيها أصحاب الفكار ،ومما يلحظ أنه كلما زادت عقدة النقص في بلد من بلدنا
تجاه الفكر المعاصر زاد احتفاله باللقاب العلمية الجامعية ،وقلت قدرته على اكتشاف المبدعين الصلء ،فالمفكر
ليس بمفكر ما لم يسبق اسمه بلقب ما ،والديب ل يكون مبدعًا حتى ينال جائزة عالمية )كما حصل مع نجيب
محفوظ الذي ظلت مكانته بين أخذ ورد حتى نال جائزة نوبل “فاطمأنت” الوساط العلمية المتنفذة في مصر
).وغيرها إلى هذه المكانة
:طغيان الشخاص-
يضع بن نبي يده هنا على مشكلة كبرى فادحة تواجهنا بالفعل أل وهي أننا غير قادرين على الفصل بين المبادئ
والشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها .أو بمصطلحات بن نبي عدم القدرة على الفصل بين “الفكرة المجردة” و
“”.الفكرة المجسدة
يقول بن نبي“ :عندما يتجسد المثل العلى في شخص يظهر خطران أولهما أن جميع أخطاء هذا الشخص تحسب
على عاتق المجتمع الذي جسم فيه مثله العلى وثانيهما أن جميع انحرافاته يقع وزرها أيضًا على المجتمع،
وتظهر إما في صورة تنحية للمثل العلى الذي هوى ،وإما بالرتداد عندما يعتقد أن تعويض الحرمان يكون
باعتناق مثل أعلى جديد دون أن يفطن أحد في كل هذه الحالت إلى أنه حدث استبدال خفي لمشكلة الفكار بمشكلة
.الشخاص
ولقد أدى هذا الستبدال إلى إلحاق أضرار كبيرة بالفكرة السلمية عندما تجسمت في أشخاص لم يكونوا أه ً
ل
لحملها .فمن ذا الذي يستطيع أن يجسد أفكارًا لمجتمع ما بدون أخطاء؟
وهل تترك الفكرة تموت مع موت الشخص الذي يجسدها؟
لقد حذر القرآن الكريم جماعة المسلمين من هذا الموقف الخاطئ صراحة عندما قال“ :وما محمد إل رسول قد
)خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟” آل عمران”)“ 144 -مشكلة الفكار” -ص 103
وقد تلقى المسؤولية على شخص عند إخفاق مشروع فيعفى بهذا المجتمع من المسؤولية كما ألقت إذاعة القاهرة
.كل مسؤولية انفصال سورية عن مصر على عاتق ضابط سوري محدد هو الكزبري
يصف بن نبي بهذه المناسبة المثقف المسلم بعبارة لذعة“ :أقل الناس اقتناعًا بالقيمة الجتماعية للفكار هو في
الغالب المثقف المسلم ،وهذا يوضح لنا السبب في أن أعدادًا من المثقفين في الجزائر فضلوا أن يدوروا في فلك
ل من أن يكرسوا جهودهم لخدمة بعض الفكار” )”مشكلة الفكار” –ص بعض الوثان منذ نحو ثلثين عامًا بد ً
)105
:طغيان الفكار-
قد يصل المر ببعض المثقفين إلى البتعاد عن المجتمع وانقطاع علقة أفكاره بهذا المجتمع كما في حالة بعض
المثقفين الوروبيين الذين ساروا في ركاب الفلسفة الوجودية ،وقد نجد حالت في بلدان العالم النامي يلغي فيها
.المثقف الواقع ويضع الكتب مكانه
في اعتقادي أن بإمكاننا أن نعمم ملحظات بن نبي هذه على حالت أخرى ووقائع مستجدة في زماننا هذا الذي لم
:يدركه مالك رحمه ال وسأذكر حالتين معاصرتين خطيرتين أراهما في غاية الهمية
ل -الطغيان المطلق للفكار اليديولوجية ورفض الواقع رفضًا مطلقًا
:أو ً
ونجد هذه الحالة عند الحركات السياسية التي عادت المجتمع عداء تامًا واعتقدت أن لديها الحقيقة المطلقة التي
.تعطيها الحق في تفكيك المجتمع ولو بالعنف وإعادة بنائه ولو بالعنف أيضًا
وخلفًا للشائع في وسائط العلم لم يبدأ هذا المرض عند الحركات المتدينة بل بدأ عند الحركات العلمانية كما
.رأينا في أمثلة عربية كثيرة وفي أمثلة من العالم كنظام بول بوت في كمبوديا ونظام ستالين في روسيا وغيرهما
ولكن بعض الحركات الصغيرة المحسوبة على السلم وقعت في هذا المطب أيضًا حين اتبعت نهجًا يكفر
”المجتمع بأسره وعدت نفسها “جماعة المسلمين” وليس “جماعة من المسلمين
:ثانيًا -حالة خاصة من طغيان الشياء :وثنية البندقية
بعد الذلل العظيم الذي حاق بالمسلمين والعرب في السنوات الخيرة تزايد النزوع إلى حصر حل المأزق
الحضاري السلمي ببعد وحيد هو العنف والبندقية .وفي اعتقادي أن القوى الظالمة ل مانع عندها في هذا
النحراف ،إذ أن المسلمين إن اختاروا خيار البندقية لوحدها وأهملوا خيار النهضة الحضارية الشاملة ،بما
تتضمنه من إصلح سياسي واجتماعي ينهض بالمجتمع والسياسة فيحول المجتمع إلى بنيان مرصوص فاعل
مليء بالحركة والنشاط والعمل الجاد ،أي يحوله إلى خلية نحل فيها جدية النحل وتقسيمه للعمل ونشاطه وعدم
كسله ،ويحول البنيان السياسي إلى بنيان وحدوي كبير متماسك ،يلغي التجزئة ويزيل عوامل الفرقة الداخلية،
“ويغير ما بالنفوس” من أنانية مزمنة ،ونزعة للشرذمة والصراع الداخلي أهلكت أمتنا وجعلتها أسفل سافلين،
فإنهم بهذا الختيار قد وضعوا أنفسهم في موضع يهزمون فيه بسهولة ،إذ أنهم اختاروا الساحة التي هم فيها
أضعف .والعنف في العلقات بين الدول والمجتمعات ل شك أن له دورًا ل يمكن للمؤرخ أو عالم الجتماع أن
ينكره .ولكنه ليس العامل الوحيد بل قد ل يكون العامل الحاسم ،وحتى النصر في منازلة عسكرية معينة ل يكفل
ل أعظم مأساوية للمجتمع على المدى الطويل أنه سيبقى في منأى عن خطر الهيمنة الخارجية ،ولعلنا ل نجد مثا ً
من مثال البلد البطل :بلد مالك بن نبي الجزائر ،فبعد مليوني شهيد ظلت الجزائر وإن استقلت تتخبط في مشاكلها
الداخلية وتبعيتها القتصادية بل تبعيتها الثقافية في جانب من سكانها أيضًا للخارج ،وإذا كانت فقدت مئات اللوف
في الحروب مع المستعمر فهاهي ذي تفقد عشرات اللوف من الضحايا البريئة في عنف داخلي ل يفيدنا أن
نستبعد مسؤولية المجتمع عنه بوضعه على عاتق فئة معينة في الداخل ،أو طرف معين في الخارج ،إذ أن
المجتمع السليم حقًا ،المسيطر على حركته ،والقادر على تنظيم نفسه ووضع جهاز الحكم تحت رقابته ،ما كان
ليسمح بهذا ويبدو لي أن عبقرية مالك بن نبي الكبرى وحدسه النفاذ كان يكمن في هذه النقطة بالذات ،وهو الحدس
الذي يميزه عن كافة رجال عصره من مفكرين وسياسيين ،فقد كان دومًا يذّكر بما نسيه هؤلء :إن الستعمار ليس
.موجودًا عرضًا ،بل هو موجود لن المجتمع غير قادر على مقاومته
ومن الطريف أن نرى هنا سخرية مالك بن نبي من تنظيرات أحد المؤيدين المخلصين للثورة الجزائرية ،وهو
ظر في كتابه الشهر “المعذبون في الرض” للثورة الجزائرية مستخلصًا من الثائر الشهير فرانتز فانون ،الذي ن ّ
تجربتها نتيجة تمجد العنف على أنه هو الذي يعيد للنسان المستعمر)بفتح الميم( ثقته بنفسه .يقول مالك بن نبي
عن كتاب فانون“ :يحصر معنى الثورة في مجرد عمل من أعمال العنف ،ولعل المؤلف بدون أن يدري قد خلص
الزعماء وصغار الزعماء من هّم التفكير ،وخصوصًا من عقدة الذنب تجاه الفكار المخدوعة ،ولكن الفكار
)المخذولة تنتقم وانتقامها ظاهر للعيان في العالم السلمي” )”مشكلة الفكار” –ص 171
شروط النهضة عند مالك بن نبي
th, 2006أبريل 10
*بقلم :د .عبود العسكري
ل كأن لم يكن له هدف ،فاستسلم المريض لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهرًا طوي ً
للمرض ،وفقد شعوره باللم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءًا من كيانه .وقبل ميلد القرن
العشرين سمع من يذكره بمرضه ،ومن يحدثه عن العناية اللهية التي استقرت على وسادته ،فلم
يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور باللم .وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم
.السلمي والعربي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها :النهضة
ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا )المرض( بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا
) .عنه فكرة سليمة ،فإن الحديث عن المرض أو الشعور به ل يعني بداهة )الدواء
ونقطة النطلق هي أن الخمسين عامًا الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم العربي اليوم ،والتي
يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين :فهي من ناحية :النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من
.الزمان من أجل النهضة
وهي من ناحية أخرى :النتيجة الخائبة لتطور استمر خلل هذه الحقبة دون أن تشترك الراء في تحديد أهدافه أو
.اتجاهاته
ومن الممكن أن نفحص الن سجلت هذه الحقبة ،ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالت الصحف
والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الستعمار والجهل هنا ،والفقر والبؤس هناك،
وانعدام التنظيم واختلل القتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ،ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض ،أعني
ل للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون .دراسة مرضية للمجتمع العربي ،دراسة ل تدع مجا ً
ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعًا لرأيه أو مزاجه أو مهنته .فرأى رجل سياسي
كجمال الدين الفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية ،بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن
المشكلة ل تحل إل بإصلح العقيدة والوعظ …الخ … على حين أن كل هذا التشخيص ل يتناول في الحقيقة
.المرض بل يتحدث عن أعراضه
وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام ل يعالجون المرض ،وإنما يعالجون العراض ،وكانت النتيجة قريبة من تلك
التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل ،فل يهتم بمكافحة الجراثيم ،وإنما يهتم بهيجان الحمى عند
.المريض
والمريض نفسه يريد -ومنذ مائة عام -أن يبرأ من آلم كثيرة :من الستعمار ونتائجه ،من المية بأشكالها ،من
الفقر رغم غنى البلد بالمادة الولية ،من الظلم والقهر والستعباد ،من ومن ،ومن ،وهو ل يعرف حقيقة مرضه
ولم يحاول أن يعرفه ،بل كل ما في المر أنه شعر باللم ،ول يزال اللم يشتد ،فجرى نحو الصيدلية ،يأخذ من
.آلف الزجاجات ليواجه آلف اللم
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية ،فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض
.لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواًء أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في
.الداخل
لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبًا الشفاء ،ولكن من أي مرض ؟ وبأي دواء ؟ وبدهي أننا ل
نعرف شيئًا عن مدة علج كهذا ،ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن ،لها دللة اجتماعية
يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل .وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك
.الحقبة التاريخية التي نحياها ،ويمكننا أيضًا أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلث مشكلت أولية :مشكلة النسان ،ومشكلة التراب ،ومشكلة الوقت ،فلكي نقيم
.بناء نهضة ل يكون ذلك بأن نكدس المنتجات ،وإنما بأن نحل هذه المشكلت الثلث من أساسها
ل :مشكلة النسان
… أو ً
… ثانيًا :مشكلة التراب
… ثالثًا :مشكلة الوقت
:النسان 1ً-
.إن المشروع الصلحي يبدأ بتغيير النسان ،ثم بتعليمه النخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء
وتبدأ عملية التطور من النسان لنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء ،وتحقيق قفزات
نوعية ،تمهيدًا لظهور الحضارة .أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديسًا وزيادة ،فإنها تبقى تجميع كمي ل يعطي
) .معنى كيفيًا نوعيًا ،إل بسلمة استخدام النسان له)201،200:8
ل في أنفسنا وإل فإن العربي لن يستطيع إنقاذ نفسه ول إنقاذ فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أو ً
ل … لقوله تعالى الخرين ،ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير ،والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أو ً
“إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” )سورة الرعد ،الية ،(11 :وعندها يجب على العربي أن يحقق
:بمفرده شروطًا ثلثة
.أن يعرف نفسه 1-
) أن يعرف الخرين ،وأن ل يتعالى عليهم وأن ل يتجاهلهم )2- 59،58:8
ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة ،بالصورة التي أجريت عليها 3-
كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للستعمار والتخلف وأصناف التقهقر
فالنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء ،ومهما جرت محاولت تحديثية بوساطة
الستعارة ،أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية ،فإن هذه المحاولت ستكون عقيمة ،طالما أنها لم تبدأ من
حيث يجب ،فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ ،والغني بأفكاره على حساب اشيائه
إن العلوم الخلقية والجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطرًا في مجتمع
مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده ،أشق كثيرًا من صنع
محرك أو تقنية متطورة ،ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الختصاصات هم الكثر عددًا في
ل على مسيرة البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إل حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري ،فصاروا عبئًا ثقي ً
التنمية والصلح ،فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلت بطريقة
علمية عملية ،وإل لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر ،ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل
.في سائر مستويات عملنا
ل في مستوى الحديث المجرد ،لن كل عمل اجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من فلتبدأ المنهجية او ً
.الشخاص
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الفكار ،وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد
الحديث إذن ل تخص حسن الداب فقط ،بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل .ونحن نجد هذه الصلة ،بصورة
ل في تشييد برج بابل ،عندما اختلفت رمزية ،في العهد القديم عندما يقص علينا :كيف اصبح عمل القوم مستحي ً
.ألسنتهم ،ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد ما تعطل تبليغ الفكار بالكلم
فالقضية إذن ل تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات والصالونات والمقاهي فحسب،
بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية ،فحيث ل يكون الحديث لمجرد التسلية ،يجب أن يخضع لقواعد
العمل ،الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة ،سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الفكار ،وفي هذا
المستوى ،يتداخل الجانب الخلقي والجانب المنطقي ليكونا معًا العمل الفعال أو العمل التافه) (40:8وأظن أننا ل
.نزال كأمة في المستوى الثاني
فليس من الضروري -ول من الممكن -أن يكون لمجتمع فقير ،المليارات من الذهب كي ينهض ،وإنما ينهض
بالرصيد الذي ل يستطيع الدهر ان ينقص من قيمته شيئًا ،الرصيد الذي وضعته العناية اللهية بين يديه :النسان،
والوقت) ،(60:2فالثورة ل ترتجل ،إنها إطراد طويل ،يحتوى ما قبل الثورة والثورة نفسها ،وما والتراب،
بعدها والمراحل الثلث هذه ل تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية ،بل تمثل فيه نموًا عضويًا وتطورًا تاريخيًا
) .مستمرًا ،وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب المال)12،11:2
فالثورة قد تتغير إلى “ل ثورة” بل قد تصبح “ضد الثورة” بطريقة واضحة خفية ،والمر الذي ل يجوز أن يغيب
عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعًا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح -ما ضد
الثورة -طبقًا لمبدأ التناقض تناقضًا مستمرًا .حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات .
) .بحيث ل يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما ،بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك)14،13:2
وطالما كانت الرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار
هذه الرادة حتى ل تقوى على احتضان المصير ،والصراع الفكري يجد إطاره الوسع في البلد المحكومة بشبكة
من اليحاءات ،تدلي بها مراصد الستعمار ،لتصنع متقلب الحداث وسوء منقلبها حيال كل نهضة فاعلة في
.عالمنا العربي والسلمي
فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية ،لننا بها ننظم خطانا في ثبات الديم ،وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة ،ونحشد
.وسائلنا في وثيق النجاز
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها .وخيار العالم الغربي ذي الصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى
ما حوله مما يحيط به :نحو الشياء ،بينما الحضارة العربية السلمية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح
.خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة :نحو الفكار
والنسان حينما ينظم شبكة علقاته الجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها ،فإنه يتحرك في مسيرته عبر الشخاص
والشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعًا للعلقة بين العناصر
.الثلثة المتحركة :الشياء ،الشخاص ،الفكار
فهناك توازن لبد منه بين هذه العناصر الثلثة يسكب مزيجها في قوالب النجاز الحضاري ،فإذا ما استبد واحد
من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج
.التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص
ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته ،تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في
الطار القتصادي إسرافًا محضًا .أما في البلد المتقدم وطبقًا لدرجة تقدمه ،فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج
ل نحو الهروب نوعًا من الشباع ،إنه يفرض شعورًا ل يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله ،فيولد مي ً
.إلى المام الذي يدفع النسان المتحضر دائمًا إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله
لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه .وكثيرًا
ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا التجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم
الفكرة البناءة من وراء سقوط الشخاص الذين يمثلونها في النهاية ،وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة
.الصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد
فعدم التوازن في العناصر الثلثة يفضي بنا على انهيار المجتمع ،والمجتمع العربي السلمي يعاني في الوقت
الحاضر بصورة خاصة من هذه التجاهات ،لن نهضته لم ُيخطط لها .ولم ُيفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها
.عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي ،وعلى الغلب الثنين معًا
إن أهمية الفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين :فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة
.الجتماعية ،وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة ،تجعل النمو الجتماعي صعبًا أو مستحي ً
ل
ل عن ذلك جانب آخر لهمية الفكار في العالم الحديث :ففي القرن التاسع عشر كانت العلقات بين وهنالك فض ً
المم والشعوب علقات قوة ،وكان مركز المة يقدر بعدد مصانعها ،ومدافعها ،واساطيلها البحرية ،ورصيدها
من الذهب ،ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطورًا معلومًا ،هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها
قيمة قومية ودولية .هذا التطور لم تشعر به كثيرًا البلدان المتخلفة ،لن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها
) .ضربًا من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على )الشياء
فالنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق )عالم الشياء( ،أو هو بتعبير
.آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف…الخ
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الجتماعية ،إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة
الجتماعية إلى تكديس المشكلت ،فلكي يصبح مركب النقص لديه َفّعال مؤثرًا ينبغي أن يرد النسان تخلفه إلى
.مستوى الفكار ل إلى مستوى الشياء ،فإن تطور العالم الجديد دائمًا يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية
ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الفكار ،ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام
لفكرة التوجيه ،فهو بصفة عامة قوة في الساس ،وتوافق في السير ،ووحدة في الهدف ،فكم من طاقات وقوى لم
ُتستخدم؛ لننا ل نعرف كيف ُنكّتلها ،وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى
)صادرة عن المصدر نفسه ،ومتجهة إلى الهدف نفسه)67:3
فالتوجيه هو تجنب السراف في الجهد وفي الوقت ،فهناك مليين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلد
السلمية صالحة لن تستخدم في كل وقت ،والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من مليين السواعد
والعقول ،في أحسن ظروفه الزمنية والنتاجية .وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف
.المنشود
)فل يكفي مطلقًا أن ننتج أفكارًا ،بل يجب أن نوجهها طبقًا لمهمتها الجتماعية التي نريد تحقيقها)67:3
إننا نرى في حياتنا اليومية جانبًا كبيرًا من الل فاعلية في أعمالنا ،إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي
.المحاولت الهازلة
وإذا ما أردنا حصرًا لهذه القضية فإننا نرى سببها الصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الشياء ووسائلها،
وبين الشياء وأهدافها ،فثقافتنا ل تعرف مثلها العليا وفكرتنا ل تعرف التحقيق ،وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل
)نعمله وفي كل خطوة نخطوها )87:3
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة ،ولكن منطق العمل والحركة ،وهو ل يفكر ليعمل بل ليقول كلمًا
مجردًا ،بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرًا مؤثرًا ويقولون كلمًا منطقيًا من شأنه أن يتحول
.في الحال إلى عمل ونشاط
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملحظات ويكفينا لذلك أن نرى
.بالعين المجردة ما يدور في حياته القتصادية والسياسية
إننا لو وضعنا سلمًا للقيم الثقافية جنبًا إلى جنب مع السلم الجتماعي لقررنا مبدئيًا أن السلمين يتجهان في التجاه
.نفسه من السفل إلى العلى أي أن المراكز الجتماعية تكون تلقائيًا موزعة حسب الدرجات الثقافية
وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الزمة الثقافية على شرط أنها لم تبلغ درجة
اللرجوع ،أما في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة ،فإن السلمين ينعكسان ،الواحد بالنسبة للخر إنعكاسًا تصبح معه
القاعدة الشعبية -على القل بمحافظتها على الخلق – أثرى ثقافيًا من قيادتها ،فمن يرقى درجات السلم ويأخذ
مكانه ودوره الجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية ،بل من يرضى عليه أولو
)المر في السلطة)94:3
لكن كيف نخلص النسان من الستعمار الثقافي ؟ والذي معناه استمرار الستعمار السياسي والقتصادي إن
النسان المطلوب تغييره من أجل تنشيط عملية البناء الحضاري ل يمكن تغييره وتخليصه من الدونية باتجاه
ل .وشعورًا متعاليًا الخر المستعمر ،إل إذا هيأنا له مناخًا تربويًا متحررًا من النفوذ الستعماري وجوًا ثقافيًا أصي ً
بالشخصية وعلى أي حال فإن الفرد منذ ولدته في عالم من الفكار والشياء يعتبر معها في حوار دائم ،فالمحيط
الثقافي الداخلي الذي ينام النسان في ثناياه ويصحو ،والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية ُتَكّون في الحقيقة
إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة مّلفزة ،ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتها مفهومة لنا
ولمعاصرينا ،عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الفكار وعالم الشياء وعالم العناصر،
) فإذا بها تكشف عن مضمونها تمامًا كما كشفت التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية )55:3
ل خفايا عالم الشياء في هذه الحالة تتوالىفالبداع والعطاء لن يكونا إل عندما نترك لعالم الفكار أن يحاول ح ّ
الحلول تترى ،وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما ،أما إذا كان عالم الفكار مستعارًا فسيكون عنده قصور
.في الكشف ،وتراوح المور العلمية مكانها
وإذا أردنا أن ننشئ ذاتًا جديدة لنسان اليوم في العالم العربي والسلمي ،فيقتضي ذلك قبل كل شيء تنقية المحيط
السروي ،والمدرسي ،والجتماعي العام ،من الستعارات التي تحمل في طياتها هدفًا إستعماريًا تخريبيًا ،يحاول
زرع التفقير والتجهيل والنحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل ،وأهمها استغلل غفلتنا ) (222:8ويتحدد دور
ومكانة الفرد في أمته تبعًا لعلقة المجتمع بالشياء أم بالشخاص أم بالفكار ،إذ يمكن الشارة إلى أوجه التشابه
بين بعض مظاهر النمو العقلي عند الفرد ،والتطور النفسي – الجتماعي للمجتمع ،وهذا الخير يمر هو أيضًا
بالعمار الثلثة
.مرحلة الشيء1-
.مرحلة الشخص2-
.مرحلة الفكرة3-
بيد أن النتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد .فكل مجتمع مهما كان
مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد ،ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلثة :الشياء
والشخاص ،والفكار ،ولكن يظل هنالك دائمًا رجحان لحد هذه العوالم الثلثة ،وبهذا الرجحان الذي يظهر في
) .سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات)36:4
فالمجتمع المتخلف ليس موسومًا حتمًا بنقص في الوسائل المادية )الشياء( ،وإنما بافتقاره للفكار ،ويتجلى بصفة
خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه ،بقدر متفاوت من الفاعلية ،وفي عجزه عن إيجاد غيرها،
وعلى الخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الطلق ،عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة
.بالتصدي لها ،أما حاله مع عالم الشخاص ،فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثنًا ُيعبد
ول خلص لمجتمع من تخلفه إل إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم الفكار ،فالثورة حين تخشى
.أخطاءها ليست بثورة ،وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالمر أدهى وأمر
) .وفي هذا يقول ماركس :يجب دائمًا أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى ل تلتهمنا)16،15:2
) .فإن أي ثورة ،لن تستطيع تغيير النسان إن لم تكن لها قاعدة أخلقية قوية)- 21:2
إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة ،وليس غريبًا في هذا المناخ من -
الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات ،ولو كان ثمنها مزيدًا من التقشف لن الصعوبات ل تزال بين عشية وضحاها
.بعصا سحرية) ،(24،23:2وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق
أما الحق … فما أغراها من كلمة ! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب النتفاعيين والوصوليين والنتفاعين -
النتهازيين بينما كلمة الواجب ل تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقًا لنهضة مجتمعهم) .(29:2فالفرد في
المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته ،بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على
) .الحقوق ،فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك)34:2
.التراب :وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع النسان والوقت في فكر مالك ابن نبي2-
وحيث يتكلم عن التراب ل يبحث في خصائصه وطبيعته ،ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الجتماعية،
وهذه القيمة الجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه ،فحينما تكون قيمة المة مرتفعة ،وحضارتها متقدمة،
يكون التراب غالي القيمة ،وحيث تكون المة متخلفة – كما هو الحال اليوم -يكون التراب على قدرها من
النحطاط ،وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ،فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء
) .على امتداد الوطن العربي .فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة)140:1
وبدهي أنه ل حل لهذه الزمة غير الشجرة ،لكن إذا كان النسان الزارع لهذه الشجرة أو المؤتمن على رعايتها،
يعيش حالة تصحر داخلي ،فل أمل من رؤية اللون الخضر مرة ثانية تحت نظر ويد إنسان كهذا .ولنا في
سورية تجربة لوقف التصحر يمكن أن نعتبرها متقدمة ،فسنويًا يعلن المسؤولون أنه تم غرس عشرات المليين
من الغراس ،لكننا على يقين أن واقع الحال غير ذلك سواء لعدم العناية المستمرة ،أو لعدم الدقة في الرقم
.الحصائي
إن ترابنا العربي ل يزال بكرًا ،رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في السطح أو في العمق من قبل
.الخرين ،وعلى الغلب بسبب إهمالنا له وبشكل عدواني
يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملمح الفكر
السلمي الحديث ،خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الخرى بدراسة مشكلت المة
السلمية؛ انطلقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة .فقد كانت جهوده لبناء الفكر السلمي الحديث وفي دراسة
المشكلت الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك
.التناول
وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة ،ويحدد العناصر الساسية في الصلح ،ويبعد في البحث”
عن العوارض ،وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس
.والجتماع وسنة التاريخ”1
ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته ،بل كان في جوهره
“شخص الفكرة” ،كان بالساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة ،ومفكرا معرفيا ،أدرك أزمة المة الفكرية،
ووضع مبضعه على ُأس الداء ،وهو بنيتها المعرفية والمنهجية ،إنه -من دون شك -واحد من أهم رواد مدرسة
“إسلمية المعرفة” وإصلح مناهج الفكر ،وإن مفاتيح مالك ل تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع
.والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها”2
ابن خلدون العصر
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
القابلية للستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والبداع
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
الدورة الحضارية عند ابن نبي
ابن خلدون العصر
ل غرابة أن نجد من الدارسين للفكر السلمي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر
الحديث ،وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون ،ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة
تمثل عميقا ،واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه
.الول وملهمه الكبر” 3
ومالك نفسه ل يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري ،بل أشار إلى ذلك في مواضع
.شتى من كتبه ،كما ذكر ذلك في مذكرات حياته “شاهد القرن” 4
وهكذا ظهر “مالك بن نبي” وكأنه صدى لعلم ابن خلدون ،يهمس في وعي المة بلغة القرن العشرين ،فأظهر
أمراض المة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات ،ووضع الستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته ،ورصد
أساليبه الخبيثة في السيطرة على المم المستضعفة ،وخاصة المسلمين ،ووضع لهم معادلت وقوانين “القلع
”..الحضاري
ولكن المة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها ،وإما لضعف المحرك
المقرر أن يقلع بها ،وإما لجتماع السببين معا .ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلت والقوانين “نظريات” مفيدة
للمحركين الذي يهتمون بانطلق “المشروع الحضاري” للمة5.
مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن “مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة
حضارية ،ول يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الحداث النسانية ،وما لم يتعمق
”.في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها
وانطلقا من هذا العتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة “فقه” حركتها منذ انطلقتها الولى إلى أفولها
يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة ،يتحدد عنده في ضرورة “توفر مجموع الشروط الخلقية
والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى
الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”6 .
وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية ،وحقوق ضرورية تمثل جميعها
أشكال مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه7 .
ويتبين من خلل هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شــديد الرتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء
في صعوده في مدارج الرقي والزدهار ،أو في انحطاطه وتخلفه ،وبالتالي فل بد من فهم عميق ،و”فقه
حضاري” نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة
تخضع كغيرها من الظواهر النسانية “لسنن” و”قوانين” اجتماعية وتاريخية ثابتة ،ل بد من الحاطة بها،
وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لمته مجدها الحضاري ،ويحقق لها ازدهارها المنشود .وهذا ما أكده
بقوله“ :إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي
في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليل علميا ،ويجد أنه يتكون من عنصرين )الهيدروجين
والكسجين( ،ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء ،وهذا بناء ليس
”بتكديس
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك -هي ثلثة :النسان +التراب +الوقت8.
الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة
السلمية بدل استيرادها كما هي من الغرب الوربي .ويلح على ضرورة الستقلل الفكري في دراسة مشكلتنا
الحضارية والجتماعية؛ لنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات النسانية -أن هناك خصوصيات كثيرة
تتميز بها كل حضارة عن غيرها“ .فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها ،وخيار العالم الغربي ذي الصول
الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الشياء ،بينما الحضارة السلمية عقيدة
”التوحيد المتصل بالرسل قبلها ،سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة ..نحو الفكار
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة السلمية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها
حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها“ ،فجزيرة العرب ..لم يكن بها قبل نزول القرآن
إل شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء ل ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلثة :النسان،
التراب ،والوقت راكدة خامدة ،وبعبارة أصح :مكدسة ل تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح
بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس ،أو بمياه الردن -نشأت بين هذه العناصر الثلثة )النسان +
التراب +الوقت( المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة “اقرأ” التي أدهشت النبي المي ،وأثارت معه
.وعليه العالم” 9
ولهذا “فالحضارة” ل يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لن .
“الحضارة” إبداع ،وليست تقليدا أو استسلما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الشياء التي أنتجتها
حضارات أخرى؛ “فبعض القيم ل تباع ول تشترى ،ول تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو
هبة تهبها السماء ،كما يهب الخلد للرواح الطاهرة ،ويضع الخير في قلوب البرار .10فالحضارة من بين هذه
القيم التي ل تباع ول تشترى ..ول يمكن لحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقال واحدا ،ول يستطيع
”زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها
الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز ل يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك
النسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع “الفعالية” و”العطاء”
و”النتاج”؛ لن “المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها” ،وسيكون من
.السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة ،حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها” 11
وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته ،والكتفاء بذلك سبيل للتقدم ..أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض
المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان ،بدل أن يعالج أسبابه العميقة ،وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض
في الظاهر كأنه قد اختفى ،لكنه في الحقيقة ل يزال ينخر صحة المريض ،ويستنزف قواه في الباطن .لهذا علينا
في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلميذه ابن نبي -أل نتبع سبيل الستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا
المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها ،ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية
شديدة الركان .فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن
ينقض البناء ،ل تاجرا يمل البيت بالدوات والثاث” 12
وطالما بقي المجتمع السلمي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ .
ق أفكاره بعُد إلى درجة الستقلل والتحرر فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف ،ولم تر َ
الشاملين ،وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لن “المجتمع الذي ل
يصنع أفكاره الرئيسية ل يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لستهلكه ،ول المنتجات
الضرورية لتصنيعه ،ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالفكار المستوردة أو المسلطة عليه من
الخارج ..فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا ،وأل نسلم بأن تحدد لنا بكلمة ،علينا أن
نستعيد أصالتنا الفكرية ،واستقللنا في ميدان الفكار حتى نحقق بذلك استقللنا القتصادي والسياسي”13
القابلية للستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والبداع
يرى ابن نبي أن الضطراب والفوضى والتناقض والغموض ،وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض
النتائج الفكرية في العالم السلمي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك “القابلية للستعمار” التي تسكن
نفوس أبناء هذا المجتمع ،وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة
.دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات السلمية والمجتمعات الغربية 14
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للمة السلمية ،نجدهم يلجئون إلى تكديس
“المعارف” ،والنجذاب إلى الكثار من اللفاظ الرنانة ،وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد
قلعها من بيئتها الحضارية الصيلة في الغرب .وطبيعي أن هذا التكديس ل يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لن
“.البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة ل التكديس ،ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية ل تأتي بالحضارة ..فالحضارة هي التي تكون منتجاتها،
وليست المنتجات هي التي تكون حضارة ..فالغلط منطقي ،ثم هو تاريخي؛ لننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا
”.سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم ل نخرج بشيء
وهكذا نجد هؤلء المغتربين والمتمثلين تقليديا لفكار الغرب ل ينظرون إلى الحضارة الغربية إل من خلل
قشورها ،ول ينقلون منها إل ما يسميه ابن نبي “بالفكار الميتة” أو “القاتلة” التي ترمي بها إليهم هذه
الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين ل مبدعين ،منفعلين ل فاعلين .وهذا عكس ما فعلته
“النخبة المثقفة” في اليابان مثل التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للقتباس ،ل
بد منه ول ضرر يخشى منه ،وما هو طالح وخاص بالقيم والخلق الغربية التي تتعارض مع قيم النسان
.الياباني وأخلقياته 15
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم السلمي نموذجا يختزل
كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من
مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت النطلقة الحديثة للمجتمع السلمي -في نظره -معاصرة لنطلقة
أخرى في اليابان؛ “فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية ،واليوم هاهي اليابان القوة
القتصادية الثالثة في العالم“ .فالفكار الميتة” في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها..
”.لتقاليدها ..لماضيها
وفي مقابل هذا يرى الستاذ أن المجتمع السلمي -رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة -ما يزال
مجتمعا متخلفا؛ لنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعامل علميا ونقديا ،يقول“ :الواضح أن
المشكلة التي تطرح نفسها ل تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية ،بل بالطبيعة الخاصة بعلقتنا بها .فالطالب المسلم
الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين :الطالب المجد ،والطالب السائح .وكل الطالبين )المجد والسائح( ل
.يذهبان إلى منابع الحضارة ،بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها” 16
فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب ،وتعامل النسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الخير ترك
القشور واهتم بالجوهر ،فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها .دون أن يؤدي به
ذلك إلى فقدان هويته ،والسقوط في التبعية والتقليد“ .فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل
الشياء من أبوابها ،وطلب الشياء كحجة ،درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته ،وليس بالنسبة لشهواته.
فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلقه ،أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة ،وأحيانا نأخذ
.منها بعض الشياء الطيبة التي قدرها ال لنا” 17
وقد خصص ابن نبي مقالت عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي ل تفرق في اقتباسها واستلهامها لفكار
ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للقتباس وما هو خاص بحضارة معينة ،ل يمكن نقله لي بيئة
حضارية أخرى مغايرة18.
الدورة الحضارية عند ابن نبي
استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته ،ولتاريخ الحضارة السلمية على وجه
الخصوص أن مسيرة المم والجماعات تخضع لنـظام دوري ،قلما تنجو أي أمة من المم من جريانه .وهذا في
نظره هو الذي يجعل المة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة ،تبقى
خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها ،كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم
حضارية وعمرانية وعسكرية ،وغير ذلك من الحالت المرضية التي تهوي بالمة إلى مهاوي التخلف
.والنحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية
وهكذا تلعب الشعوب دورها ،وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات ،حينما تدق ساعة
”البعث ،معلنة قيام حضارة جديدة ،ومؤذنة بزوال أخرى
ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات ال في
هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال ،ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلم على الكون ،والشهر كذلك يبدأ
ببزوغ الهلل ،ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر ،واحدا بعد الخر في إطار
سلسلة دورية مستمرة .انطلقا من هذا يقول ابن نبي“ :إذا نظرنا إلى الشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى
الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الرض مشرقة في أفق هذا الشعب ،ثم متحولة إلى أفق
شعب آخر” 19
ول يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه ،أو يوزع أمجاده لي كان ،كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن
بالشروق ،لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس اللـهية التي تتحكم في توجيه الفراد والمجتمعات على
السواء .وهذه السنن والقوانين ل بد من استيعابها ،والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية.
أما الذين ل يحترمونها ول يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة ل يحكمها ضابط
ول هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول .و”من عادة التاريخ أل
يلتفت للمم التي تغط في نومها ،وإنما يتركها لحلمها التي تطربها حينا ،وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى
في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم ،وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد” 20
ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الن من سبات حضاري وخذلن ل بد أن يستوعبوا سنن ال الثابتة في
الكون التي يخضع لها الفراد والجماعات؛ لنهم بهذا الستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة
ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الن حركة عشوائية تحكمها الصدف ،وتوجهها الهواء الفردية
والنزوات الشخصية“ .فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ ،سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط
في حياتنا ،ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا ،ولعل أكبر
أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملحظة الجتماعية ،ومن هنا تبدأ الكارثة ،ويخرج قطارنا عن
طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء” 21
ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات النسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي
تخضع له الحضارة السلمية بدورها22 .
.وختاما ل بد من الشارة إلى جملة من الملحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي
أول :على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلته منحى
التجريد والنظر البعيدين عن هموم المة السلمية وقضاياها الجتماعية والقتصادية والفكرية؛ بل ظل على
.الدوام ملتصقا بواقع المة ،وراصدا لمختلف التحولت التي تطرأ عليها
ثانيا :تتّبع مالك بن نبي لواقع المة السلمية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول
جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر ،وليضع الحلول
.المناسبة لمشكلت المة ،على شكل معادلت رياضية وقوانين دقيقة
ثالثا :إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى
:مقاصدها ،وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر ،وذلك بالتي
.إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق 1-
وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالت ،وتعميق النظر في “المفردات” 2-
و”المفاهيم” و”المعادلت” و”القوانين” التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها ،وتوظيفها لتحليل وتوليد
.الحلول المناسبة لكثير من المشكلت الحضارية المستجدة في واقع المة
وإذا كان واقع الغرب اليوم يتلخص في قيم عبادة العجل الذهبي وتقديس المادة والمتعة فهل من الضروري أن
يتخذ هذا التاريخ اتجاها خطيا تصاعديا في الصراع؟ أَوليس ممكنا أن ُيجتهد في بناء نموذج جديد للعلقة بين
المسلمين والغرب يتجاوز الوضع الصراعي القتالي الحربي إلى وضع التكامل والتعاون والنسجام؟ أوليس
الحوار الحقيقي مع الغرب هو الذي ينبغي أن ينصب على تحرير هذه الغاية النسانية النبيلة ،وذلك باستصناع
وإبداع آليات تقريبية استيعابية تجديدية تمكن النسانية من الفادة من بعضها البعض؟ ألم يحن الوقت لتذكر
المشترك المنسي بين الديانات السماوية التي تشكل عمق الحضارتين السلمية والغربية؟هل يمكن أن تلتقي
مصالح المسلمين والغرب؟ وبأي معنى يمكننا الحديث عن تخطي العداء المدمر الذي تكنه بعض الثقافات للكون
والنسان؟ أل يمكننا أن نؤسس اليوم تأسيسا جماعيا لكليات فكرية جامعة للستخلف التشاركي في الرض
وتحقيق العمران النساني؟ كيف نتجاوز الفهم المنغلق كلية على التراث وفهم المؤامرة المتخفي كما نتجاوز الفهم
المستلب من الغرب؟ أل يمكن للفكر السلمي المعاصر أن ُيدشن نموذجه البنائي الجديد لعلقة السلم كدين
خاتم وكوني مع الغرب؟ أل يمكن أن ننتقل من تحديد هويتنا في مقابل الخر إلى تحديدها إلى جانبه؟ هل يمكن أن
نتجاوز النظرة الستعلئية والعدائية المنكرة لفضل الغير وتفوقه؟ أل يمكننا أن نستوعب نمط التفكير الغربي
ونتجاوزه؟
الفكر السلمي اليوم باعتباره فكرا مستمدا من رسالة نبوية خاتمة تحمل قيما إنسانية رحيمة بالنسان ورفيقة به
صدامي الذي يشكلُمطالب بالقطع مع تلك المعارك الماضية التي خاض فيها القدامى ،والقطع مع العقل التقليدي ال ِ
عقبة في وجه أية نهضة جديدة للمة السلمية ،والتأسيس لمنهج قرآني تجديدي يوسع دائرة المشترك ويؤدي إلى
“إبرام عقد اجتماعي دولي” على حد تعبير د.عبد الوهاب المسيري رحمه ال ،يتم بمقتضاه تنظيم العلقة بين
.المسلمين والغرب على أساس من الحترام المتبادل والحرية والعدل والتعايش
مع ذلك ل ينبغي أن ننظر إلى الغرب كعقل موحد وواقع واحد ،إنما الغرب طوائف ومواقف ،تشترك وتفترق،
مثلما أن المسلمين اليوم ليسوا على أتقى قلب رجل واحد ،فمنهم المجتهد ومنهم المقتصد وفيهم الظالم لنفسه ،كما
في الغرب القاسطون والعادلون والظالمون .لذا يجب أن نكف عن تعميم التهم قبل إتمام التعرف والفهم .فل
مناص من معرفة التصور الذي يحمله النسان الغربي عن الكون والحياة والتاريخ والدين والخر ،فهي التي
.تحدد اختياراته وأولوياته ومصالحه ،وفي نهاية المر سلوكه وقراراته
الحاجة إلى الدين
وينبغي أن نركز في تعايشنا مع الغرب على المشترك بين الشرائع ،إذ لو استثمرنا مضمون الرسائل التشريعية
السماوية لحققنا ما عجزت عن تحقيقه تلك الدعوات التي تتهم الخطاب التجديدي ب “القفز على التاريخ” ،فجميع
الشرائع السماوية تدعوا إلى اليمان بال وإلى حفظ حرمة النسان والحرص على هدايته لما فيه خير له في
العاجل والجل ،كما تدعوا إلى إقامة العدل بين بني البشر ونشر الخير بين الناس وإحقاق الحق بالمر بالمعروف
والنهي عن المنكر .وتحمل منظومات أخلقية تتعارض مع تقديس القيم المادية النفعية الشهوانية التي ل ترى في
الكائن البشري سوى دودة تشتهي المتعة واللذة ،آلة تستهلك بل نهاية ول قيمة ،جسم يلتهم الطعام والشراب حتى
.يفنى .وكلها تنكر الكفر والظلم والبغي والفساد والستبداد
الغرب في حاجة إلى الدين كي يقوم هو الخر بمراجعة أحكامه ويقينياته وتهذيب نظرته الستيهامية التي تتغنى
بالتفوق والنرجسية ،وتتمركز حول النظر إلى الذات باعتبارها القطب الذي يستدير الرحى ،مما أظهره بوجه
س على النسان والكون ،حتى أعمى الناس كارٍه للغير رافض للتعايش معه ،طالبا لسيادته في عبودية الخر ،قا ٍ
عن مواقع قوته وإشعاع حضارته .وقد أكد على هذا الدكتور سعيد شبار في سياق حديثه عن الحداثة بقوله“ :أن
هذا المفهوم حمل من القيم الغربية السلبية ك »النزعة الفردانية والحرية المطلقة ،والعقلنية الداتية ،وتحطيم
وتجاوز المقدسات والمطلقات والقيم والخلق… إلخ« ،وهذه المعاني والقيم ل توافق حضارة تدعي أنها عالمية
وأنها عقلنية ،وقد انتبه إلى هذا مجموعة من المفكرين الغربيين أنفسهم في نقدهم للبنية المفهومية للعقل الغربي:
…الديمقراطية ،العولمة ،الحداثة
وبما أنه لن يصلح أخر هذا المر إل بما صلح به أوله ،فكذلك لن يتجدد أمر الدين حتى يتجدد فهم الدين ،ولن“
يتجدد فهم الدين ،حتى ُيهتدى في منهج الفهم للتي هي أقوم .وما أشق ذلك في المة اليوم !! لكثرة الموانع وقلة
السباب ،فكم من ترسبات منهجية فاسدة أفرزتها وراكمتها قرون الضعف والنحطاط في المة ل تزال مستمرة
)التأثير!”)1
ينظر الدين إلى النسانية على أنها أسرة بشرية ممتدة وإلى الرض على أنها مجال الستخلف والتعمير.
فرشحها لتكون مستأمنة مستخلفة تعمر الكون باليمان والعمل الصالح ،وإلى الرسالة على أنها للناس كافة ،لكن
طرأ على الدين ما حرف رسالته ومزق وحدته فانغلق النسق وانكمشت الرؤية في أطر مذهبية ومدرسية
حَيت النزعات القوميةوسلطوية ضيقة .وتحول التعايش إلى صراع والوحدة إلى تعدد والجماعة إلى فرق و َ
والعرقية والقبلية .فتوارث الجيال هذا النغلق والنكماش والفرقة حتى استحالت بفعل عامل الزمن إلى أصل
.يقاس عليه ومرجع يستند إليه
ل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا ول يتخذ قال ال تعالى} :قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أ ّ
بعضنا بعضا أربابا من دون ال{ سورة آل عمران ،الية .63:فهذا هو الدين المشترك الذي يضع السس الكلية
الجامعة التي من شأنها أن تقيم في النسان إنسانيته على أتم وجه .فأهل الكتاب دون غيرهم من أهل الهواء
والملل والنحل يشتركون مع المسلمين في مراعاة الكليات الخمس ،والسعي إلى تحقيقها والعمل على حفظها .وهذا
القدر يشكل أساسا ومرجعا للحتكام عند محاورة أهل الكتاب .وهو ما يغيب عند محاورة الطوائف الخرى .لذا
.وجب التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم ،لنهم أهل كتاب ونبوة
الدعوة إلى الكلمة السواء ،دعوة لمراعاة المقاصد الخمس ،التي نصت الشرائع السماوية على حفظها إن ُوجدت،
وعلى المطالبة بها إن غابت .وبهذا تكون الكلمة السواء ،هي الصل الجامع ،والساس المشترك الذي يحسم كثيرا
من نقط الخلف وُيجعل أرضية لبناء مشترك إنساني .لهذا يجب على الفكر السلمي المعاصر أن يحتاط من
الخلط بين الصل وبين الصورة ،بين النص وبين التعليق ،بين الكتاب/الوحي وبين تفسير المفسرين وفقه الفقهاء.
التفسير عمل بشري ،وهو فهم المفسرين لمضمون الكتاب ،وأي مفسر أو مؤول أو قارئ إنما يفسر أو يؤول أو
يقرأ في إطار ثقافته وقدرته وذكائه وعلمه وظروفه ،وكل ذلك نابع مما حصله من معرفة ومما عاشه من
أوضاع .ناهيك عن تأثر المفسر بالثقافة الشفوية ومعلوم أن هذه الثقافة عبارة عن خليط من المعتقدات والساطير
والحكايات القديمة…مما ينعكس سلبا على فهم النص و تفسيره .. .فأهل الكتاب هناك كان لهم تأثيرهم من خلل
تلك الثقافة الشفوية ..فنقلوا أفكاًرا كثيرة ..مثل “جعلوا الملئكة إناثا” ،وفكرة أن الملئكة إناث فكرة موجودة في
.العقل اليهودي ،فانتقلت من الثقافة الشفوية إلى العرب ،ومنهم إلى التفسير والكلم والفقه والفلسفة
ومن أمثلة ما طرأ على الصل من تحريف وقراءات تارخية مغرضة نذكر أن التأويل اليهودي للتوراة يشير إلى
وهو مصطلح يتضمن نظرة دونية واحتقار ،وتنظر كتبهم نظرة Gentiles،جميع الجناس غير اليهود بكلمة
تحقيرية للخر وتعتبره خدم لسرائيل ،وهذه فكرة متشعبة في الثقافة اليهودية حتى في فترة ضعفهم إذ كانوا
يحرصون على العيش في الملحات والماكن المنعزلة ظنا منهم أنهم مقدسين فيما الخرين دنس .حتى أنهم
.يرون أن تناول الطعام مع غير اليهودي ،كتناوله مع الكلب
وإذا كان للتوراة والتلمود دور في تكوين صور الخر لدى اليهود ،فإن هذا ل ينكر السياق التاريخي والجتماعي
الذي ظهرت فيه تلك النصوص ،خاصة إذا نظرنا للتلمود ككتاب تراثي حوى التجربة اليهودية على مدى قرون،
.ومن خلل العديد من الشخاص ،وهذا هو سبب التناقض في تأويلت وأفكار التلمود حول مفهوم الخر
ومع بروز فكرة الصهيونية ،ظهر العائق الكبر الذي يتمثل في تبني عقيدة عنصرية وعدائية وتدميرية تجاه
الخر ،وإلصاقها بنصوص يدعى فيها أنها مقدسة ،في محاولة لسقاطها على الواقع والحاضر ..وبذلك فإن لدى
اليهود سواء المحافظين أو المعاصرين نفس الصورة النمطية عن الخر سواء من التوراة أو التلمود أو الظروف
! التاريخية والجتماعية .وقد برزت اليوم بعض الصوات اليهودية التي تدعوا إلى مراجعة التلمود وتصحيحه
أما النصرانية فلم تكن في درجة خطورة الفكر اليهودي ،بحيث تكاد تحافظ الكنائس على رؤية موحدة عن الغير،
وهي مستقاة من الكتاب المقدس ،حيث يرى الكتاب المقدس أن ال ميز النسان عن غيره من الموجودات ،ولكن
الخطيئة هي التي أدت لضطراب علقات النسان بأخيه النسان الخر ،واعتبر كل الموجودات حتى العداء
قريب ،لذلك فإن الموقف من الخر يرتبط بأقوال المسيح عليه السلم وأفعاله ،والتي منها “أحبوا أعداءكم وصلوا
من أجل مضطهديكم” .إل أنه تاريخيا تعددت التأويلت لنص النجيل -كما طرأ المر في تاريخ جميع الديان-
حتى هيمنت الصليبية على المسيحية .مما يوجب على الفكر النصراني المعاصر أن يجدد ذاته بما يوافق أصوله
.التي تتسم بالتفاهم وقبول الخر
أما القرآن الذي حفظ نصه من التحريف فيخاطب في النسان فطرته ومخلوقيته وإنسانيته ،وفطرة النسان دين،
لذلك فعمق الكائن البشري أينما ُوجد عمق ديني،فبالحرى من ُولد في بيئٍة الدين فيها مصدر للتفكير والسلوك
والحوار .إن الدين كما يذهب إميل دوركايم هو أقدم ظاهرة اجتماعية على الطلق ،أي أن النسان كائن متدين
سواء أكان فردا أو حضارة .وجميع الخلق الفاضلة في النسان أخلق من الدين ،أو قل :ل أخلق بل دين كما
يقول الدكتور طه عبد الرحمن .إن الغرب رغم الطبيعة العلمانية لنظمته ففي دعوته المسلمين للحوار يصدر من
منطلقات دينية -مسيحية يهودية -واضحة ،كما عاد الغرب إلى التأكيد على أهمية الُبعد الديني فيما بات يعرف ِ
ب
“”….الصراع الحضاري” و”الحوار الحضاري” و”حوار الثقافات
لهذا فالمشترك بين الديان أصل في التعايش والبناء ،مثال ذلك نبذها للعنف ،إذ “الصل في الديان نبذ العنف ل
تشريعه ،وتهذيب وتشذيب سلوك النسان العدواني وردع وزجر نوازعه النانية ،بما يجعله صالحا في نفسه
ومصلحا في مجتمعه ،أي أداة بناء وتعمير ل أداة هدم وتدمير .فالعدوان إذن من النسان ل من الديان ،ومن
نسب شيئا من ذلك إلى الدين فبما حرفه وبدله هذا النسان من الدين ،أو بما فهمه فهما سيئا من الدين .فالقرآن
والسنة مثل لم يشرعا القتال إل دفاعا عن النفس أو ردا لعدوان وليس كما يفهم البعض اعتمادا على فهم ل أساس
له تحت راية آية اسمها »آية السيف« تجب كثيرا من الحقوق والحريات والخلق التي هي عماد الدين .ولو
تكاملت الديان فعل في دائرة ما هو مشترك بينها وهو كثير وعلى رأسه تحريم القتل ،لصينت دماء كثيرة من
}.الهدر ،(2) ”.وهذا ما يعبر عنه القرآن ب }ل إكراه في الدين
الديان ل يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصِدام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب النسان من أخيه النسان.
وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضًا هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات النسان في
.العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف والتحريض والستضعاف والكراهية
الديان كلها تقف صفا واحد ضد الفات التي تجتاح النسان كالعولمة المتوحشة والنزعة المادية المصلحية
….والبراغماتية الهمجية والفردانية النانية و الشهوانية العبثية
المشترك النساني العالمي :وحدة الواجد :وهو ال سبحانه الخالق المدبر ،ووحدة الوالد :كلنا من آدم عليه السلم ،
ووحدة الزمان والمكان :أي وحدة الكون الذي نعيش فيه وُنسأل عنه إن أحسنا أو أسأنا .ووحدة الحاجة إلى السلم
.والمن والعدل والحرية
السس التي وضعها القرآن الكريم لوحدة البشرية
ل قوة للمسلمين إل من القرآن ،ول ذات لهم ول هوية ول مستقبل إل مع القرآن ،المة اليوم في حاجة إلى فقه
القرآن ،لن “القرآن هو المصدر المنشئ والسنة هي المصدر المبين له في إطار علقة تكاملية ل تسمح بإسقاط
أحدهما على حساب الخر كما ل تسمح بالفصل بينهما” ) ، (3فما هي أسس الحل القرآني لشكال العلقة مع
الغرب؟
نظر السلم إلى البشرية على أنها أسرة واحدة منتشرة في الكون ،ل فرق بين عربي وأعجمي ،ول بين أحمر
وأبيض ،فتغيرت بهذه النظرة الموازين والمقاييس ،ولم تعد هناك قيمة لي شيء ذي طابع حصري ،فل العرق
ول اللون ول البقعة الجغرافية التي يعيش فيها النسان ،ول القبيلة التي ينتمي إليها ،وإنما هي أسرة واحدة ممتدة
غايتها التعارف والتعايش ،والتعارف يؤدي إلي التآلف ،والتآلف يؤدي إلي التعاون ،وبالتالي تتحقق القيم اللهية
.التي أراد ال أن تتحقق .فهذه عالمية القرآن ،وقد سبق الحديث عنها
السلم رحمة كونية تستوعب البشرية كاملة على اختلف العقول والماكن والزمان لذلك وجب على المسلمين
علماء ومفكرين ودعاة أن يبدعوا وسائل جديدة في توصيل روح القرآن إلى الغرب ،وهذا رأس الجهاد مع الغرب
وليس العنف عليه .القرآن يسعى لبناء أمة وليس لبناء مجرد دويلة .الهدف القرآني والهدف النبوي بناء أمة
ب النبي صلى ال عليه وسلم الملوك والحكام يدعوهم جعلت لي الرض مسجدا وطهورا” ،ومن أجل ذلك كاَت َ “ُ
.للسلم والتعايشَ ،يعرض عليهم دين ال الخالد وليس دين القلية المستضعفة
والسلم دين الوسطية }وكذلك جعلناكم أمة وسطا{ ،والوسطية رفعة وقوة ،قال المام علي كرم ال وجهه:
“عليكم بالنمط الوسط يرجع إليه الغالي ويلحق به التالي” ،فل إفراط ول تفريط ،ل قعود ول تسيب ،ل جمود
…ول تغريب ول انغلق ول تبعية
ل يصح أن ننجر وراء تلك القراءات الختزالية التي تلتقط من القرآن الكريم بضع شواهد منتقاة للتدليل على
أغراض محسومة بشكل تقليدي مسبق ،بل ينبغي النصراف ابتداء إلى التلمذة على نص الوحي مباشرة ودون
.حواجز ،تلمذة تقرأ القرآن الكريم في وحدته البنائية المتكاملة
ونتيجة لتلك القراءات فهم بعض المسلمين من سنة التدافع الصراع والعداوة المطلقة والقتال لكل ما هو غرب،
والصواب غير ذلك لن التدافع ل يعني الصراع التدميري الحاقد ،وإنما يعني التنافس والمسابقة في الخير
….والبحث عن الفضل والجود والقوى والنفع في دين والدنيا ،في الروح والمادة ،في النفس والكون
المة السلمية اليوم في حاجة إلى نظرة كلية إلى القرآن لتنتج اجتهادا فكريا معاصرا يستوعب الصول
والمصادر مثلما يستوعب المفاهيم والشكالت المطروحة اليوم ،ونذكر في هذا الطار مجموعة من الجتهادات
التي تشكل في مجموعها مشروعا حضاريا يحاول بناء أصول شرعية وعقلية كلية تجمع بين الرحمة والحكمة،
بين الروح والمادة ،بين الغيب والشهادة ،بين الوحي والعقل ،أو قل بعبارة مختصرة :بناء منهاج جامع بين الوحي
والعقل والكون ،بغية تحقيق الستخلف المقاصدي المنشود لحياء أمة واستمرارها بناء على المقاصد الكلية
الكبرى للشريعة السلمية التي تجمع بين التوجه إلى ال والتوجه إلى النفس والتوجه إلى الكون ،أو قل بعبارة
مختصرة“ :التلمذة على الوحي لعمال العقل في الواقع” .وكل عمل مخل بهذه المصادر الكبر فهو فساد ،وال
تعالى يقول“ :ول تعثوا في الرض مفسدين” ) العنكبوت} (36:إن الرض يرثها عبادي الصالحون{ )النبياء:
)4) ،(105
إذن فالحل كما يقول الدكتور سعيد شبار هو“ :بلورة منهاج قرآني تجديدي ..كلي من خلل؛ العمل على قراءة
مصادر المعرفة السلمية في تكاملها ،واستصحاب قيم الهداية والرحمة في هذه القراءة ،وأن تقوم هذه القراءة
على خصائص توحيدية عالمية وسطية” .حذرة من ثلث قراءات مناوئة للحق والعلم ،وهي القراءة الفلسفية
.والقراءة اليديولوجية والقراءة الستشراقية
الحاجة إلى تجديد الفكر السلمي في ضوء القرآن
إن تجديد الدين اليوم ل بد أن يمر عبر تجديد آليات قراءة النص ومنه تجديد آليات التعامل مع إشكالية علقة
المسلمين مع الغرب ،فمادام التجديد عملية متجددة فم ل تكون العلقة مع الغرب أيضا متجددة بمفاهيمها
وقضاياها وإشكالتها وأسئلتها وأجوبتها .في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة“ :إن
جدد لها أمر دينها” ،فالتجديدجدد لها دينه” وفي رواية“ :من ي ّ ال يبعث لهذه المة على رأس كل مائة سنة من ي ّ
من صميم الدين ومرتبط بطبيعته .يقول الدكتور يوسف القرضاوي“ :يوجب علينا أن نجتهد لعصرنا ..وأن نفكر
بعقولنا لتنظيم حياتنا… وأن نراعي زماننا وبيئتنا وأحوال عيشنا إذا أفتينا أو قضينا أو بحثنا أو تعاملنا مع أنفسنا
)أو مع الخرين …،وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا…وأن نبتكر في أمور دنيانا كما ابتكروا” )5
بالعودة الصادقة المخلصة التامة إلى القرآن المكنون قوله تعالى} :إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{ .يمكن أن
تبدأ مسيرة المة السلمية الكبرى وانطلقتها الشاملة لتأسيس “البديل الحضاري السلمي العالمي” القائم على
الهدى والحق ،فالقرآن بخصائصه باستطاعته الهيمنة على سائر المناهج المطروحة في عالم اليوم ،وبإمكانه
إعادة صياغتها ضمن منهاجه الكوني ،وذلك من خلل التوصل إلى منهجية معرفية قرآنية ،منهجية قائمة على
.قراءة تستوعب مشكلت الوجود النساني وأزماته الفكرية والحضارية
ل يزال الفكر السلمي العربي المعاصر يعاني من عدة أزمات :التقليد ،الستعجال ،التعصب ،الحزبية
والطائفية ،النظرة التجزيئية ..لذلك وجب التحول من هذا الوضع الزماتي إلى وضع يعوض فيه التجديد التقليد،
والتريث الستعجال ،والتسامح التعصب ،والنسانية الحزبية ،والنظرة التكاملية النظرة التجزيئية الذرية والتوحيد
.الفرقة ،والوسطية الغلو
ل ينبغي أن يعول الفكر السلمي المعاصر على التفكير السياسي اللحظي الذي يلفه الحريق اليومي للحداث،
مثلما ل ينبغي أن يعول على اجتهادات السابقين المظروفة بظروفهم والمقيدة بمعرفتهم واجتهادهم .والتي ل تكاد
تجاوز النظر التقليدية التي ُتقسم العالم إلى دار إسلم ودار حرب .ينبغي أن يقوم بنقد مزدوج ،أن يرى بعينين
اثنتين ،عين على الذات ،وعين على الغير ،عين على تراثنا وواقعنا وعين على تراث الخر وواقعه ،وهذا الجهاد
متوقف على مدى إعداد الُعدة المنهجية التكاملية للتمكن من تهذيب أنانيتنا المتعالية من جهة ،وإعادة صياغة
.الوعي السلمي تجاه الخر ،ونقد فردانية الغرب العنصرية من جهة ثانية
المة السلمية في حاجة إلى اجتهاد جماعي إبداعي في القضايا المعاصرة الملحة ،اجتهاد قادر على تجاوز
الجمود الفكري الذي دخلت فيه المة منذ زمن طويل ،وتجاوز النظرة التجزيئية المائلة التي بعضت المعرفة
السلمية فاشتغلت ببعضها اشتغال كامل وهمشت بعضها وكأنها بل قيمة .إذ من التناقضات التي وقع فيها الفكر
السلمي تفضيل العلوم المسماة “شرعية” واعتبار النظر فيها عبادة على حساب العلوم الخرى التي تسمى
العلوم “الحقة” أو “النسانية” أو “الكونية” وكأنها ملهاة عن العبادة .ثم لما ظهر تفريط المة في هذه العلوم التي
أبدع فيها الغرب فكانت سر تقدمه وتفوقه اعترف الفكر السلمي المعاصر بوجوب تعلمها وإتقانها والبداع
فيها؟
فكيف يتم ذلك وقد سبقه الطعن في العلوم المادية باعتبارها تلهي عن اليمان والخرة ،أو أنها علم غير نافع،
وهذا أدى في نظر د .سعيد شبار “إلى إضعاف الثقافة والحضارة السلمية ،والدليل على ذلك قلة النتاج العلمي
في العلوم النسانية والجتماعية والطبيعية” .فغالبا ما نجد العبارة المحتشمة في كتابات رواد الحركة السلمية
“.النفتاح على الغرب” ،وهو انفتاح يفيد النغلق
قضايا معاصرة بين المسلمين والغرب
من القضايا التي تتأطر ضمن الشكال الكبير “علقة المسلمين بالغرب” نذكر :العلمانية ،الحداثة ،العولمة…
وهي مصطلحات لغوية ومفاهيم فلسفية غربية لها حمولت حضارية ترتبط بتاريخ وفلسفة وثقافة ونمط حياة.
أنتجها الغرب عبر مخاض طويل كان للمسلمين حظ كبير فيه ،إذ ل ُينكر فضلهم في النهضة العلومية والتقنية
.والفكرية التي تعيشها الحضارة الغربية اليوم
الغرب اليوم غالب بتقنيته وتقانته وعلومه واقتصاده وقوته العسكرية ونفوذه السياسي والثقافي والعلمي ،يهجم
علينا بمفاهيمه وقضاياه مثلما يغرقنا بسلعه المختلفة ،ويفرض علينا التبعية والنقياد .لكن القرأن يخاطب فيه
النسان من حيث هو مخلوق مستخلف ومسؤول .فكيف نقنعه بهذه الرسالة ؟ بل كيف نحاوره حوارا نديا يلغي
الفروق المادية من أجل التفاهم .أفل يوجد من حل سوى رفضه ُكلية أو تلقُفه كما هو؟ أليس لنا من خيار سوى
اللتحاق “الممسوخ” بالغرب أو التدتر بذاتية عاجزة؟
بلى ،بينهما يكمن الحل القرآني الوسطي الواقعي ،بين حماسة المتغربين وشكوى العاجزين .الرض أرض ال،
والدين دين ال والمصلحة مشتركة بين خلق ال السواء في آدميتهم أمام ال .ذلك ما سيكون موضوع هذا البحث
.بإذن ال تعالى
يعاني الفكر الغربي المعاصر من فلسفة موت النسان ،واختفائه جراء النتائج المعاصرة التي كشفت عنها
الدراسات المتخصصة في الظاهرة النسانية ،حيث تحول الكائن العاقل المفكر من ذات متطابقة مع ذاتها تعي
وجودها وتعي ما حولها إلى شبه كائن فاقد للوعي والحرية والمسؤولية ،تم تذويبه في سلسلة من الحتميات:
الوراثية والبيولوجية والنفسية والجتماعية والقتصادية واللغوية والسياسية… حتى أضحى عالما دون ذات.
.رغم أنف رينيه ديكارت وجان بول سارتر
العولمة أو العولمية كما يسميها عادل العوا فضحت إيديولوجية الغرب وأبانت عن ضعفه مع قوته ،فكيف نستثمر
“قيمتها” من حيث آلياتها ووسائلها وأدواتها ،ونقد أخطائها والستفادة من أزماتها من أجل تقديم قيم السلم
وتوصيل رسالته للعالمين؟ فل يكفي أن نعدد مثالبها ثم نتولى إلى الظل .ول ينبغي أن ننبطح لها لتفعل بنا ول
نفعل .ليست العولمة شيطانا لعينا وليست ملكا كريما ،ل ينبغي التخويف منها مثلما ل ينبغي التبشير بها ،ل نخشى
”العولمة لن لنا أقوى رابطة حتى باعتراف صمويل هنتغتون“ :رابطة الدين
أل يمكن أن نخلع وجهًا إنسانيًا على العولمة الرأسمالية؟ أل يمكن تحويلها من عولمة متوحشة ظالمة إلى عولمة
ذات وجه إنساني؟
نحلة الغالب” مقولة يفسر بها ابن خلدون كون المم الضعيفة مولعة باقتفاء أثر الغالب واتباع سننه ،وكذلك“
.وضع المة اليوم ،فهي في حالة ضعف وفرقة ل توفقها إلى إيقاع التأثير وإبداء الموقف القوي
” Out Ofالغرب مطالب بمراجعة الفلسفة المادية والتفكير المنبثق عنها ” ففي كتابه “خارج حدود السيطرة
يدعو برجنسكي الغرب بصفة عامة وأمريكا على وجه الخصوص إلى مراجعة الفلسفة المادية التي Control
تقوم عليها السياسات الغربية ،ويؤكد على ضرورة إيجاد ضوابط أخلقية لكتساب القوة واستعمالها وإل فإنها
ستؤدي إلى إفناء الجنس البشري وإنهائه” ) ،(6مطالب بالقطع مع النظرة الداروينية الدوابية التي تقلص قيمة
النسان في حجم حشرة ساقتها الصدفة طورا بعد طور بل مبدأ ول غاية .ومطالب بمعالجة العائق الكبر مع
.المسلمين :تجدر العقيدة الصهيونية في الغرب ،ودعم الدول الغربية لسرائيل
خاتمة
بناء على ما سبق نريد من الفكر السلمي أن يكون معاصرا لنا من حيث تناوله ومعالجته لمختلف القضايا التي
يعيشها المسلم اليوم ،وهو الهتمام شبه الغائب عن العقل المسلم نتيجة لظروف النحراف التي عرفتها المة
السلمية تاريخيا :النحراف السياسي حيث فسد الحكم ،والنحراف الفكري المعرفي حيث انصرف المسلمون
….أشتاتا إلى الخوض في معارك وهمية من قبيل الحديث المستفيض في مرتكب الكبيرة وذكاة الحلزون
ما يشهده العالم اليوم من تصدع فكري وثقافي وسياسي ،وما آلت إليه العلقة بين المسلمين وغير المسلمين مع
تزايد عدد مليين المسلمين بالغرب ،مقابل إدبار الحضارة الغربية عن النجاب ،وما يعرفه العالم اليوم من تجديد
.للوعي الديني ومراجعة للموقف من الدين وتراجع للمد العلماني اللئيكي
ثم أن نهضة المة السلمية ل يمكن أن تتم إل مرورا بإعادة النظر في أصول العلقة بين السلم كشريعة
خاتمة وبين الغرب ،مستحضرة أن النموذج في العلقات البشرية هو الذي يستوعب بالضافة إلى أصل القرآن
حرفية لفهٍم طرأ علىالكريم كل من أصل العقل وأصل الواقع .فل يصح أن تبقى المة السلمية حبيسة رؤية َ
النص في فترة معينة من تارخها .وقد آن الوان للقضاء على بنية تلك “الثنائيات الزائفة” كما كان يسميها علل
…الفاسي رحمه ال :تراث/تجديد ،أصالة /معاصرة ،دين/دولة ،إسلم/غرب
إن هذه المصادر الثلث في تكاملها وتداخلها لهي الركن الصيل الذي يمكن للمة أن تسهم به في بناء مشترك
سخر .الوحي والعقل والواقع .إنساني يعيد العتبار للنسان كمخلوق عامل وللكون كمخلوق م َ
نحتاج اليوم إلى منهاج قرآني يمكننا من إدراك النص ،وإدراك الواقع ،وإدراك كيفية إنزال هذا النص على
الواقع…حتى نؤسس لرؤية عالمية تجمع بين الرحمة والحكمة ،وبين الختلف والتسامح ،وبين التعدد والتعاون،
نحتاج إلى منهاج تغييري ُكلي يعالج إشكالتنا التاريخية الموروثة بنظرة تجديدية نقدية تمحيصية فحصية ،مثلما
يعالج إشكالتنا المعاصرة الموجودة ،يجمع بين ما أثله العقل المسلم من قواعد بعد عرضها على القرآن .منهاج
مؤيد بالنص المطلق باعتباره النص الهادي المرشد الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه ،ل بالتاريخ
المقيد بفهم الناس وظروفهم وتأويلهم وثقافتهم ،منهاج جامع بين الغيب والشهادة ،وبين العلم والعمل ،وبين الحل
الفردي والحل الجماعي ،وبين العاجل والجل ،وبين حل النفس وحل الكوان .منهاج يعكس عالمية السلم
.وشموليته وربانيته ووسطيته وواقعيته وإنسانيته