You are on page 1of 38

‫الحوار بين الحضارات‬

‫‪th, 2006‬أبريل ‪17‬‬


‫د‪ .‬محمد بن قاسم ناصر بوحجام‬
‫مقّدمة‬
‫يعيش العالم اليوم متغّيرات كثيرة ‪ ،‬أنتجت تحّديات عديدة ‪ :‬اقتصادّية اجتماعّية‬
‫وسياسّية ‪ ،‬وأخطرها الّتحّديات الفكرّية والّثقافّية ‪ ،‬التي أفرزت مجموعتين من الّناس ‪:‬‬
‫ب على البسيطة ‪ ،‬عن طريق‬ ‫ل ما يد ّ‬
‫مجموعة تحاول بسط هيمنتها وقّوتها على ك ّ‬
‫فرض فكرها وثقافتها على العالم ؛ انطلقا من شعار عالمية الّثقافة أو كونيتها ووحدة‬
‫ط من قيمة ما يمتلكه‬‫الّثقافة ‪ .‬فسّنت لذلك قوانين ‪ ،‬وابتكرت أنظمة ‪ ،‬واخترعت نظرّيات ‪ ،‬تعلي من شأنها وتح ّ‬
‫سير في‬
‫غيرها ‪ ،‬وأجرت بحوثا ‪ ،‬وأخرجت دراسات ن تقنع بها أن ل فائدة لهامن الّتحليق في غير سربها ‪ ،‬أو ال ّ‬
‫… غير طريقها ‪ ،‬وتبّني غير فكرها وآرائها‬
‫ومجموعة ثانّية نظر إلى المجموعة الولى بعين الكبار والعجاب ‪ ،‬أو نظرة الّرهبة والخوف ‪ .‬فكانت تستجيب‬
‫ل عدم‬
‫ططاتها ‪ ،‬أو على الق ّ‬
‫لوامرها ‪ ،‬وتخضع لتوجيهاتها ‪ ،‬وتحرص على تحقيق مصالحها ‪ ،‬وتنفيذ مخ ّ‬
‫‪ .‬الوقوف في طريق مطامعها‬
‫ن فرض الفكر بالقّوة ‪ ،‬وبسط الهيمنة بالقهر ‪ ،‬قد يعّرض خططها للّنسف ‪ ،‬ويهّدد‬ ‫رأت المجموعة الولى أ ّ‬
‫سّم في الّدسم ‪،‬‬
‫س ال ّ‬
‫شعوب ‪ ،‬فابتكرت وسيلة ماكرة مخّدرة تنطوي على د ّ‬ ‫مصالحها بالّتعطيل ‪ ،‬وقد يؤّلب عليها ال ّ‬
‫وهي فكرة ” الحوار بين الحضارات ‪ ،‬لتمّرر من خلله مشروعاتها ‪ ،‬وتصل إلى اهدافها ‪ ،‬وهي الستيلء على‬
‫ب على المعمورة‬‫ل ما يد ّ‬
‫شعوب ‪ ،‬وفرض سيطرتها المطلقة على ك ّ‬ ‫‪ .‬مقّدرات ال ّ‬
‫فبعد زوال نظام ثنائي القطبّية وبروز العولمة ‪ ،‬تجّدد الحديث عن الحوار بين الحضارات ‪ ،‬إّما ليكون تكريسا‬
‫سيطرة الحادية على العالم بعد أفول نجم القطب المنافس ‪ ،‬أو لتحّدي العولمة نفسها ‪،‬‬ ‫طموح للهيمنة وال ّ‬
‫الّنظرة وال ّ‬
‫صراع بين الحضارات‬ ‫شكل الذي يعّزز فرص التذعاون بين الّثقافات المختلفة ‪ ،‬ويبعد شبح ال ّ‬ ‫‪ .‬وبال ّ‬
‫ث على الّتواصل‬
‫شعوب ن وتح ّ‬ ‫وقد تعالت أصوات من هنا وهناك نادي بالحوار ‪ ،‬وترّدز على الّتعاون بين ال ّ‬
‫صدام ‪ ،‬وإتاحة فرص الّتقارب والّتآلف والّتجاور‪ ،‬ومّد لجسور‬ ‫ل ذلك سعيا لزالة مظاهر الّتوّتر وال ّ‬ ‫الّثقافي ‪ .‬ك ّ‬
‫صة ‪ ،‬وتقدير الحضارات المتنّوعة ‪ .‬ومن جهة أخرى هناك من سعى إلى تأكيد هذا‬ ‫واحترام الهوّيات الّثقافّية الخا ّ‬
‫صة ‪ ،‬وبلوغ اهداف خبثة ‪ ،‬تخدم مصالحه ‪ ،‬وتغتصب حقوق الخرين‬ ‫‪ .‬الّنهج لتحقيق مكاسب خا ّ‬
‫وقد عقدت من أجل ذلك مؤتمرات ‪ ،‬وكتبت دراسات ‪ ،‬وأطلقت تصريحات ‪ ،‬وأقيمت ندوات ‪ ،‬وكّرست جهود‬
‫ل من قام بأحد هذه العمال‬
‫‪ … .‬اصطبغت بصبغة الهداف التي كان يرمي إلى تحقيقها ك ّ‬

‫نحن في هذا المجهود المتواضع نحاول الدلء بما نوّفق إليه في الموضوع ‪ .‬نشير إلى أّننا لنقّدم دراسة شاملة او‬
‫طاقات … إّنما أرّكز على تقديم‬ ‫معّمقة في هذه المسألة التي أسالت الحبر ‪ ،‬وأذابب المخاخ ‪ ،‬واستنفذت ال ّ‬
‫ملحظات عاّمة ‪ ،‬رّبما تسهم في أخذ الحتياطات فيما نحن مقدمون عليه ‪ ،‬والّتهّيؤ والستعداد والّتخطيط الكامل‬
‫‪ .‬للعمل في هذا المضمار الكبير والصذعب الّتحّرك فيه‬
‫ن للموضوع علقة بالّثقافة والعولمة‬‫وقد اكتفيت في هذهى المحاولة الحديث عن حوار الحضارات فقط ‪ .‬وبما ا ّ‬
‫‪ .‬فإّنني سمحت لنفسي الّتطّرق إليهما ؛ تحليل للمسألة ومناقشة لها ن وتعميقا لبعض المفهومات‬

‫حقائق‬
‫‪ :‬قبل الّتطّرق إلى موضوع الحوار بين الحضارات نريد أن نضع يدي هذا الموضوع بعض الحقائق‬
‫ل من تحّرك في – ‪1‬‬ ‫ن الّتعّدد والّتنّوع الثقافي سّنة الكون وناموس ثابت ‪ ،‬فالحياة أساسها الّتنّوع والّتعّدد ‪ ،‬ك ّ‬
‫إّ‬
‫طريق وأخطأ المسيرة ‪ ،‬وعاش على هامش الحياة ‪.‬‬ ‫ل ال ّ‬
‫نشاطه وعمله على غير هذه القاعدة ‪ ،‬عاكس الفطرة فض ّ‬
‫ن في ذلك ليات‬ ‫سموات والرض واختلف ألسنتكم وألوانكم إ ّ‬ ‫فال ال تبارك وتعالى ‪ { :‬ومن آياته خلق ال ّ‬
‫ن اختلف اللسن يعني تعّدد القوميات ‪ ،‬واختلف اللوان يعني تعّدد الجناس البشرّية ‪ .‬وقال‬ ‫للعالمين })‪ (1‬إ ّ‬
‫ل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء لجعلكم أّمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا‬ ‫تعالى ‪ …{ :‬لك ّ‬
‫شرائع والديان ‪ ،‬وإذا كانت الحضارة تنشا من فكرة دينّية ‪ ،‬وإذا كانت‬ ‫الخيرات…} )‪ ” (2‬وهذا يعني تعّدد ال ّ‬
‫ن اليمان بتعّدد‬‫ظواهر والمعطيات المنبثقة عن أّمة ما أو تصّور ما ) فكرة دينّية ( فإ ّ‬ ‫الحضارة مجموعة ال ّ‬
‫ن الذي‬‫شرائع والديان يفضي إلى اليمان بتعّدد الحضارات ‪ .‬وإذا كان هذا الختلف والّتعّدد من آيات ال ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫شكل الذي يهّدد الوجود النساني على سطح‬ ‫يسعى للغاء هذا الّتعّدد يعّد ساعيا إلى طمس آيات ال في الوجود ‪ ،‬بال ّ‬
‫المعمورة ‪ ،‬مّما يدفع بنا إلى الّتأكيد على ضرورة المحافظة على تنّوع الهوّية الّثقافّية لكونه يغني الحياة النسانّية ‪.‬‬
‫ل تراث مجتمعي يسهم في‬ ‫واحترامه أصبح أمرا واجبا {ل إكراه في الّدين } )‪ (3‬وجميع الجناس متساوية ‪ ،‬وك ّ‬
‫)الّتراث النساني‪4) ”.‬‬
‫فالّتعّددية الّثقافّية مكسب كبير يجب على البشرّية أن تستثمرها في الّتطّور والّتقّدم والثراء ” وهي أفضل ضمانة‬
‫لقدرة النسان على إبداء أجوبة مناسبة للّتحّديات المختلفة ‪ (5) ”.‬وهي صرورة عالمّية ؛ لّنها تسهم في نمّو‬
‫الفكر والقيم والمفهومات النسانّية المشتركة ‪ .‬وتساعد على إغناء الحضارة النسانّية ‪ ،‬باحتضانها لمختلف أنواع‬
‫‪ .‬البداع والعطاء‬
‫ن النسان هو محور الّتنمية والّتطّور ‪ ،‬وهو الذي صنع الحضارة بالّتعاون والشتراك مع آخر وآخر – ‪2‬‬ ‫بما أ ّ‬
‫طبيعي ‪ ،‬الذي‬ ‫ن حوار الحضارات ‪ ،‬يجب أن ينظر إليه ‪ ” :‬ضمن منظور الّنسق ال ّ‬ ‫عبر الحقب والزمان فإ ّ‬
‫ن العالم استطاعت حضارة‬ ‫جل لنا تاريخ النسان قاطبة أ ّ‬
‫تقتضيه سّنة الكون وناموس الجتماع النساني ‪ .‬إذ لم يس ّ‬
‫واحدة أن تتحّكم فيه وحدها ‪ .‬وإّنما نجد باستمرار حالت القطاب الحضارّية المتعّددة ‪ ،‬ل القطب الحضاري‬
‫الواحد هي التي تتحّكم في شؤون العالم بأسره “)‪ (6‬حتى ولو وجدنا اليوم من يعمل على فرض نموذج واحد ‪،‬‬
‫حد ‪ ،‬يجهد نفسه لفرضه على الّناس كّلهم ‪ ،‬نقول له إّنك تحلم ‪ ،‬وتطلب أمنّية مثالّية ‪ ،‬وتنشد أمرا‬
‫وتقديم نظام مو ّ‬
‫‪ .‬مستحيل‬
‫ل الحضارات ‪ ،‬سواء من حيث الّتأّثر بغيرها أو الّتأثير – ‪3‬‬ ‫ي قديم ‪ ،‬وهو أسلوب مارسته ك ّ‬ ‫ن الحوار تقليد ثقاف ّ‬
‫إّ‬
‫فيها ‪ ،‬أم من حيث فتح الّنقاش والمساءلة ‪ ،‬وإجراء لقاءات ‪ ،‬وعقد مجالس وتبادل وجهات الّنظر في بعض‬
‫ل أبلغ دليل على ذلك الحوار الحضاري الذي دار بين الحضارة‬ ‫المسائل التي تتطّلب معرفة ما عند الخر ‪ ” :‬ولع ّ‬
‫ي صّلى ال عليه وسّلم قساوسة نجران ورهبانهم …وكتب إلى‬ ‫السلمية والحضارة المسيحّية …وقد حاور الّنب ّ‬
‫لفي‬‫المقوقس والّنجاشي وهرقل…وتابع المسلمون هذا الحوار بالمشافهة والكتابة ‪ ،‬ليكادون يفترون عنه إ ّ‬
‫صليبّية ‪ ،‬ثمّفترة الستعمار الغربي ‪ .‬وفي‬ ‫صدام المؤسف بين أتباع الّدينين ‪ ،‬وأشّدها فترة الحروب ال ّ‬ ‫فترات ال ّ‬
‫العصر الحديث ‪ ،‬ومنذ أربعين عاما على وجه الّتحديد تجّدد الحوار السلمي المسيحي ‪ ،‬وعقدت له لقاءات‬
‫ظمة في برمانا‪ ،‬والّرياض‪ ،‬والفاتيكان‪ ،‬وطرابلس الغرب‪ ،‬وجنيف‪ ،‬وباريس‪ ،‬وساليبورج‪ ،‬والقاهرة‪،‬‬ ‫وندوات من ّ‬
‫سودان عام ‪1994‬م وغيرها ‪7) ”.‬‬ ‫)وبيروت‪ ،‬وليجون‪ ،‬وتونس‪ ،‬وهونغ كونغ‪ ،‬وقرطبة ‪ ،‬وال ّ‬
‫ل حضارة أن ل تقبل – ‪4‬‬ ‫سيطرة حضارة ما يؤّدي حتما إلى إضعاف الحضارات الخرى ‪ ،‬من هنا يجب على ك ّ‬
‫ساحة ‪ ،‬وبالّتفاعل‬
‫بهيمنة أّية حضارة عليها ‪ ،‬وأن تكون حاضرة بمحاورتها الخريات ‪ ،‬وبفرض وجودها في ال ّ‬
‫ن الّتواصل ل يق ّ‬
‫ل‬ ‫ن الحفاظ على الهوّية أمر مهّم ‪ ،‬وأ ّ‬
‫مع غيرها تأثيرا وتأّثرا ‪ .‬مع الوضع في عين الحسبان أ ّ‬
‫‪ .‬أهّمية أيضا‬
‫صة ‪ ،‬وقد يكون ذريعة لتمرير خطط ومشروعات ؛ نظرا لما قد – ‪5‬‬ ‫قد يّتخذ الحوار وسيلة لقضاء مصالح خا ّ‬
‫صغرى ‪ ،‬وإلغاء الخصوصّيات‬‫ل في إذابة الّثقافات ال ّ‬
‫يحمله هذا المصطلح المبهم من دسائس ومؤامرات يستغ ّ‬
‫طن إلى ذلك والّتعامل مع الحوار بحذر وتيّقظ ‪ ،‬والّتحّرك معه بخطط مدروسة ‪،‬‬‫ل حضارة الّتف ّ‬ ‫والهوّيات ‪ ،‬على ك ّ‬
‫سير معه بأهداف مرسومة ومحّددة‬ ‫‪ .‬ومناهج واضحة ‪ ،‬وال ّ‬
‫طرف الّثاني اختراق – ‪6‬‬
‫ي المهيمن على ال ّ‬ ‫طرف القو ّ‬ ‫من آثار الحوار بين طرفين غير متكافئين ‪ .‬فرض ال ّ‬
‫خل في مناهج تعليمها مثل ‪ ،‬وتوجيه منظومتها العلمّية ‪ ،‬وترتيب علقتها بفئات‬ ‫سيادة الّثقافّية لها بالّتد ّ‬
‫ال ّ‬
‫ل الّتقارب المكاني لنشر نموذجه‬
‫خل في وضع قوانينها ‪ .‬كما قد تستغ ّ‬ ‫المجتمع ‪ ،‬وتحديد نمط معيشتها ‪ ،‬والّتد ّ‬
‫‪ .‬الّثقافي في الحياة على حساب الخصوصّية الّثقافّية له‬
‫ل ما يملك من قّوة ‪ ،‬وأمريكا تعمل على أمركة العالم اقتصادّيا – ‪7‬‬ ‫سيطرة على العالم بك ّ‬ ‫ن الغرب يحاول ال ّ‬ ‫إّ‬
‫تمهيدا للهيمنة عليه ثقافّيا ‪ ،‬ومن ثّم إلغاء الّثقافات الخرى ‪ .‬فقد قال “روزفلت ” في الربعينّيات من القرن‬
‫ن قدرنا هو أمركة العالم ‪ .‬وقال ” نكسون ” ‪ :‬يجب على أمريكا أن تقود العالم ‪ .‬وقال “جورج بوش‬ ‫العشرين ‪ :‬إ ّ‬
‫ن القرن القادم ينبغي أن يكون أمريكّيا ‪ .‬وهذا ابنه اليوم ينّفذ دعوة أبيه ‪ ،‬ويعمل‬‫” الب في أوائل الّتسعينّيات ‪ :‬إ ّ‬
‫على الهيمنة على مقّدرات العالم ‪ ،‬وضرب أّية محاولة للّنهوض أو البروز ‪ ،‬ومحاولة ضرب الّثقافات وهدمها أو‬
‫تفكيكها من الّداخل … والمستهدف الّول هي الحضارة السلمّية أو العالم السلمي‪ .‬فالغرب عموما والوليات‬
‫ن المسلمين يملكون من مقّومات القّوة ‪ ،‬ومن أسباب الّنهوض ما يمّكنهم من‬ ‫المّتحدة المريكّية خصوصا ترى أ ّ‬
‫منافسة الحضارة الغربّية ‪ ،‬بذلك فهم يمّثلون الخطر الّول عليها ‪ ،‬لهذا يجب ضربهم وإضعافهم ‪ ،‬وقد تكون فكرة‬
‫‪ .‬فتح الحوار معهم إحدى وسائل إضعافهم‬
‫ل تغيب عّنا ونحن ندعو إلى الحوار مع الحضارات الخرى ‪ ،‬أو نستجيب‬ ‫هذه بعض الحقائق التي يجب أ ّ‬
‫لدعواتها ‪ ،‬أو نمارس هذا العمل ‪ ،‬نعيها جّيدا حّتى ل نفّوت الفرصة على أنفسنا في الّتقارب ‪ ،‬ول نفقد أنفسنا في‬
‫خضم هذه الحركات الهائلة المصيرّية في علقتنا مع الغير ‪.‬ولنعلم أّننا ” أمام حضارة قوّية طاغّية تركب فوق‬
‫ساحة ‪ ،‬وهما الّثقافة والعولمة ‪ ،‬من حيث‬ ‫ن للحوار المعروض للممارسة علقة بمصطلحين متداولين في ال ّ‬ ‫بما أ ّ‬
‫تأّثر الحوار بهما ‪ ،‬ومن حيث كونهما الميدان الذي يدور فيه الّنقاش ‪ ،‬فإّننا ارتأينا الشارة إليها ؛ لمزيد من تحليل‬
‫‪ .‬الموضوع‬
‫الّثقافة والعولمة‬
‫ن ثقافة أّية أّمة تتكّون بين العموميات والخصوصيات والمتغّيرات ‪ .‬والمتغّيرات أخطر ما يكون فيها باعتبار‬‫إّ‬
‫جح كّفة استمرارّية تلك الّثقافة أو توازنها واضمحللها أو اضطرابها ‪ .‬فإن أحسن الّتعامل مع هذه‬‫أّنها هي التي تر ّ‬
‫المتغّيرات بحكمة وعقلنية ‪ ،‬وبنظرة شمولّية مّتزة واعية بالمحيط الذي يدورأو يحيط بها ‪ ،‬وفاقهة لمعنى‬
‫الصالة والمعاصرة ‪ .‬كانت الّنتيجة – بإذن ال – مقبولة ‪ ،‬وفي صالح تلك الُثقافة ‪ .‬وإن كان العكس نالت عاقبة‬
‫سياق‬‫‪ .‬وخيمة ‪ .‬والحوار الذي يجرى بين الّثقافة يندرج في هذا ال ّ‬
‫صفات الخلقّية والقيم‬
‫هناك تعريفات كثيرة للّثقافة ‪ ،‬نأخذ بعض ما ذكره مالك بن نبي ‪ :‬هي ” مجموعة من ال ّ‬
‫الجتماعّية التي تؤّثر في الفرد منذ ولدته ‪ ،‬وتصبح ل شعوريا العلقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في‬
‫الوسط الذي ولد فيه ‪ ،‬فهي على هذا المحيط الذي يشّكل فيه الفرد طباعه وشخصّيته‪ .‬وهذا الّتعريف الشّامل‬
‫للّثقافة هو الذي يحّدد مفهومها ‪ ،‬فهي المحيط الذي يعكس حضارة معّينة ‪ ،‬والذي يتحّرك في نطاقه النسان‬
‫ضر ‪ ،‬وهي الوسط‬ ‫ضر ” )‪ (9‬ويقول أيضا ” هي الوسط الذي تتشّكل فيه جميع خصائص المجتمع المتح ّ‬ ‫المتح ّ‬
‫الذي تتشّكل فيه كلذ جزئية من جزيئاته تبعا للغاية العليا التي رسمها ‪ ،‬وبما في ذلك الحّداد والفّنان والّراعي‬
‫والعالم والمام ‪ .‬وهكذا فالّثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضّمنه من عادات متجانسة ‪ ،‬وعبقريات متقاربة ‪،‬‬
‫ل ما يعطي الحضارة سمتها‬ ‫وتقاليد متكاملة ‪ ،‬وأذواق متناسبة ‪ ،‬وعواطف متشابهة ‪ .‬وبعبارة جامعة ‪ :‬هي ك ّ‬
‫صة ” )‪10‬‬ ‫)الخا ّ‬
‫إذا كانت الّثقافة هي التي تشّكل أفراد الّمة ‪ ،‬وهي الوسط والمحيط الذي يتحّرك فيهما أفراد تلك الّثقافة ‪ ،‬وهي‬
‫التي ترسم لهم القيم والخصائص التي ينشؤون عليها ‪ ،‬وهي التي توجد النسجام والّتوافق والّتآلف التي يجب أن‬
‫سمات التي تمّيز أّمة ما ‪ .‬فإن العمل على المحافظة على هذه‬ ‫يسود أفرادها الذين ينتمون إليها ‪ ،‬وهي التي تعطي ال ّ‬
‫ك بها … يعّد‬‫الّثقافة لصيلة بتمّيزها ‪ ،‬منسجمة مع المحيط الذي توجد فيه ‪ ،‬متعاونة متقاربة مع الّثقافات التي تحت ّ‬
‫سبيل إلى‬
‫سليم ‪ ،‬ولم يبتعد عن المبادئ ولم يخطئ ال ّ‬ ‫طريق ال ّ‬‫مطلبا أساسّيا ‪ .‬وهو ما يوّفره الحوار إذا سار في ال ّ‬
‫‪ .‬الهداف المرسومة المنسجمة مع حقيقة الّثقافة كما اشار إليه مالك بن نبي‬
‫من هنا ينبغي معرفة ماذا يراد من الحوار بين الّثقافات ‪ ،‬العلم بحقيقة ما يقّدم في هذا المجال كالعولمة مثل‪.‬‬
‫صة إذا اّتخذنا )كذا( خطابا > حتمويا < فلتكن العولمة‬‫قيل ‪ ” :‬إذا كانت العولمة أمرا واقعا أو واقعا أمرا ‪ ،‬خا ّ‬
‫شعوب تمايزاتها الّثقافّية ‪ ،‬وأن تبرز خصوصّياتها الحضارّية وإبداعاتها الّدفينة ‪،‬‬ ‫عنذئد مناسبة كبرى لن تظهر ال ّ‬
‫حّتى ل تكون العولمة هيمنة ثقافّية واختراقا للّثقافات الخرى ‪ ،‬وإفقارا لها ‪ .‬فيمكن أن تكون العولمة مناسبة‬
‫)لبراز الموارد الّذاتّية في مختلف مجالت الحياة والّثقافة ‪11) ”.‬‬
‫إذن فالحذر مطلوب في الّتعامل مع العولمة ‪ .‬والكياسة والفطنة والعي ضرورية في هذا العمل ‪ ،‬وهذه‬
‫الملحظات أساسّية في أثناء الحوار ‪ .‬فالعولمة تحمل أبهادا كثيرة ‪ ،‬يجب الّتنّبه إليها كالبعاد القتصادّية والّثقافّية‬
‫سياسي‬ ‫شمل القتصادي وال ّ‬ ‫سياسّية والجتماعّية… وقد عّرفها بعضهم بقوله ‪ :‬إّنها ” القّوة بمفهومها ال ّ‬
‫وال ّ‬
‫والعسكري والّتقني والعلمي والّثقافي ‪ .‬وهي الساس التي سوف تصنع أو نكون شكل الّنظام العالمي في القرن‬
‫)الواحد والعشرين ” )‪12‬‬
‫ل المجالت ‪ ،‬القّوة الكاسحة التي تعطي من يظفر بتسليطها على غير القادرين‬ ‫شاملة لك ّ‬
‫فالعولمة تمّثل القّوة ال ّ‬
‫على ذلك ‪ ،‬تعطيه الفرصة كي يهيمن ويسيطر ويكتسح ‪ ،‬فليِع هذه الحقائق من يحاور‪ ،‬وليعرف كيف يتعامل معها‬
‫وهو يتحاور ‪ .‬وإذا نظرنا إلى العولمة في بعدها الّثقافي نجدها تدخل سوق الّتعامل والّتحاور والتحاكك كأّية سلعة‬
‫طلب ‪ ،‬والمساومة والمقايضة والمزايدة والحتكار … والعولمة تسهم‬ ‫تجارّية أخرى ‪ ،‬تخضع لقانون العرض وال ّ‬
‫في بروز تناقضات كثيرة تجمع بين الّتآلف والّتوحيد وبين المقاومة والختراق كما يقول ” كارل بوراني ” ‪،‬‬
‫ويقول ” جيمس ميلتلمان ” ‪ :‬هي ” عملّية مقابلة ثقافّية بينالحضارات‪ ،‬يعتريها الكثير من الّتناقض عدم‬
‫)الستمرار‪13) ” .‬‬
‫سيطرة والقهر التي ينطلق منه من‬ ‫ن العولمة في بعدها الّثقافي تكون خطيرة ‪ ،‬لروح الهيمنة وال ّ‬ ‫هكذا يتبّين لنا أ ّ‬
‫ي القاهر القادر على اختزال الحضارات الخرى ‪ ،‬بعد اختراقها ‪ .‬وهو ما ي{ّدي‬ ‫يحاور غيره من منطلق القو ّ‬
‫إلى صام بين الحضارات ‪ ،‬وصراع بين الّثقافات بدل الحوار ‪ .‬وفي هذا يقول ” صموئيل هنتغتون ” في مقاله ”‬
‫صراعات في هذا العالم الجديد لن‬ ‫ن المصدر الجوهري لل ّ‬ ‫صدام لحضارات ” الذي نشره في ” تفيد فرضينا أ ّ‬
‫يكون بالّدرجة الولى أيديولوجّيا أو اقتصادّيا ‪ ،‬فالنقسامات الكبيرة بين الجنس البشري والمصدر المهيمن‬
‫صراعات‬ ‫شؤون العالمّية ‪ .‬لكن ال ّ‬‫صراعات سيكون ثقافّيا ‪ ،‬وستبقى الّدولة القومّية صاحبة أقوى دور في ال ّ‬ ‫لل ّ‬
‫سياسات الكونّية ستحدث بين الّدول ولمجموعات المنتمية لحضارات مختلفة ‪ .‬وسيهيمن صدام‬ ‫الّرئيسّية لل ّ‬
‫صدع بين الحضارات هي خطوط معارك المستقبل ‪،‬‬ ‫سياسات الكونّية ‪ ،‬وستكون خطوط ال ّ‬ ‫الحضارات على ال ّ‬
‫وسيكون الّنزاع بين الحضارات أحدث مرحلة في تطّور الّنزاعات في العالم الحديث ‪ (13) ”.‬فالحوار الذي الذي‬
‫ظف‬‫ينطلق من مفهوم العولمة يكون مكّرسا لتغليب المصالح على تقديم المساعدة للذين يجّرون للحوار ‪ .‬ويو ّ‬
‫‪ .‬للهيمنة بدل الّتعاون والّتقارب والّتفاهم‬
‫سبيل القويم‬
‫ل ذلك ل نقطع الّياس من الستفادة من الحوار والّنقاش ‪ ،‬ومحاولة الّتقارب والّتفاهم ‪ ،‬لنذه ال ّ‬
‫مع ك ّ‬
‫صراعات‪ ” .‬والحوار بين النسان‬ ‫لنزع سوء الفهم ‪ ،‬وإعطاء الفرص لتضييق هّوة الخلفات ‪ ،‬وإزالة فتيل ال ّ‬
‫وأخيه النسان من الّنوافذ الساسّية لصناعة المشتركات التي ل تنهض حياة اجتماعّية سوّية بدونها‪ .‬وعليه‬
‫طبيعي ‪ ،‬وإّنما هو لكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والنطلق‬ ‫فالحوار ل يدعو الخر إلى مغادرة موقعه ال ّ‬
‫منها مجّددا ومعا في الّنظر إلى المور‪ (15) ”.‬وديننا الحنيف عّلمنا الحوار ‪ ،‬والمجادلة بالتي هي أحسن ‪ ،‬فما‬
‫هي نظرة السلم إلى الحوار ؟‬
‫السلم ودوره في تعزيز الحوار بين الّثقافات‬
‫ن السلم هو دين الحوار والعتراف بالخر ‪ ،‬وهو شريعة تطوير القواسم المشتركة بين النسان وأخيه النسان‬ ‫إّ‬
‫سبل الكفيلة يتحقيق ذلك بما يساغد على العيش بسلم وأمن وطمأنينة ‪ ،‬ويبتعد بالنسان أن يحيا حياة‬ ‫‪ ،‬وإيجاد ال ّ‬
‫البعاد والقصاء ونكران الخر ‪ .‬لهذا دعا إلى الحوار والّدعوة بالتي هي أحسن ‪ ،‬وسلوك السليب الحسنة ‪،‬‬
‫طرق السليمة في مخاطبة الخر‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬ادع إلى سبيل رّبك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي‬ ‫وال ّ‬
‫هي أحسن …} )‪ (16‬هذه الية تشير إلى حسن المخاطبة ‪ ،‬وحسن الحوار ؛ لكي نتعارف ونتقارب ‪ ،‬ولكن من‬
‫أن نتازل عن الّدعوة إلى سبيل ال ‪ ،‬أي لتنازل عن مبادئ السلم)‪ (17‬فليفقه جّيدا من يحاور المبدئ التي‬
‫ينطلق منها وهو يحاور ‪ .‬فالية تدعو إلى مخاطبة اللخر بالحسنى لكي يعرف ما عند المسلمين ‪ ،‬ل أن يحاوره‬
‫لالذين ظلموا منهم وقولوا‬ ‫ل بالتي هي أحسن إ ّ‬ ‫كي يتنازل له عن مبادئه ‪ .‬وقال أيضا ‪ { :‬ول تجادلوا أهل الكتاب إ ّ‬
‫ن هناك قواسم‬ ‫آمّنا بالذي أنزل إلينا زأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } )‪ (18‬فالحوار ممكن ل ّ‬
‫مشتركة ‪ ،‬وهناك مجال للّتفاهم والّتقارب ‪ ،‬وهي اليمان بما أنزل على المسلمين وغيررهم ‪ ،‬فالمصدر واحد وهو‬
‫ال ‪ ،‬والصل واحد وهو السلم ‪ .‬فليتعارفوا وليعرفوا بعضهم وليعترفوا بما عندهم حميعا ‪ ،‬ومن ثمذ فليتقاربا‬
‫ل نقط الّتلقي‬ ‫وليتعاونوا على ما هو صالح لهم حميعا‪ .‬فالقرآن يعطينا أسلوب بدء الّلقاء والحوار ‪ ،‬وكيف نستغ ّ‬
‫بين المتحاورين ‪.‬فيبّين الصول التي يمكن الّتفاق عليها ويركّز على ذلك فيقول ‪ { :‬قل يا أهل الكتاب تعالوا‬
‫ل ال ول نشرك به شيئا ول يّتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون ال فإن توّلوا‬ ‫ل نعبد إ ّ‬
‫إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أ ّ‬
‫فقولوا اشهدوا بأّنا مسلمون } )‪ (19‬ثّم يبّين السلم نوع العلقة التي يجب أن تسود المسلمين وغيرهم ‪ ،‬إّنها‬
‫سمّية ك { لينهاكم ال عن الذين لم‬ ‫علقة الّتعاون والحسان والبّر والعدل ‪ .‬فهذا هو الحوار الحضاري والعلقة ال ّ‬
‫ب المقسطين } )‪20‬‬‫ن ال يح ّ‬‫)يقاتلوكم في الّدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبّروهم وتقسطوا إليهم إ ّ‬
‫لكن في الوقت نفسه لم من المسلمين الّتنازل عن أصولهم ‪ ،‬والّتفريط في القضية الساسية وهي السلم ‪ .‬من‬
‫هنا يعلن القرآن عن حقيقة وفيما يجب أن يكون ‪ ،‬وكيف يجب أن يدور ‪ { :‬ومن يبتغ غير السلم دينا فلن يقبل‬
‫منه وهو في الخرة من الخاسرين } )‪ (21‬إذن فالسلم يقّر الحوار ويدعو إليه ولكن يؤّكد على الّثبات على‬
‫شروط التي يجب توّفرها لجراء حوار هادف مثمر بّناء‬ ‫المبادئ وعدم الّتنازل عن الهوّية ‪ .‬نتساءل بعد ذلك عن ال ّ‬
‫؟‬
‫سيادة والخصوصّيات الّثقافّية ‪ ،‬والبتعاد عن الّتسّلط وإلغاء الخر – ‪1‬‬
‫‪ .‬أن يحترم الحوار ال ّ‬
‫أن يتبّنى قاعدة ) المعرفة والّتعارف والعتراف ( ينطلق منها في سبيل الّتقارب ‪ .‬معرفة ما عند الخر – ‪2‬‬
‫شئ فرع عن تصّوره ‪ .‬والّتعارف الذي يزيل أسباب الخلفات ‪ ،‬ويبعد مظاهر‬ ‫ن الحكم على ال ّ‬
‫معرفة جّيدة ؛ ل ّ‬
‫صراعات ‪ .‬والعتراف الذي يثّمن ما عند الخر ‪ ،‬ويقّدر ما يملكه ‪ .‬وهو ما يعين على الّتقارب والّتعاون‬ ‫‪ .‬ال ّ‬
‫ل الهتمام بها ‪ ،‬أو هّمشت لسباب ‪ ،‬يسهم في دفع عملّية الحوار‬ ‫ن الّتعريف بالحضارات والّثقافات التي ق ّ‬ ‫مثل إ ّ‬
‫ن لجنة الخبراء في الّدراسات المقارنة للحضارات التي اجتمعت في شهر آذار ‪1949‬م‬ ‫إلى القطب اليجابي ‪.‬فإ ّ‬
‫ن ” مشكلة الّتفاهم النساني هي مشكلة العلقات بين الّثقافات ‪ .‬ومن هذه العلقات لبّد أن ينشأ مجتمع‬ ‫أقّرت بأ ّ‬
‫‪ (new‬عالمي جديد يقوم على الفهم والحترام المتبادل‪ .‬وهذا المجتمع ينبغي أن يّتخذ شكل مذهب إنساني جديد‬
‫أن تتحّقق من خلل العتراف بالقيم المشتركة بين ‪ (universalism‬والتي يمكن فيه للعالمّية )‪humanism‬‬
‫ص بترجمة الّروائع‬
‫جه أعدذذت اليونسكو برامج كثيرة ‪ ،‬منها ” البرنامج الخا ّ‬ ‫الحضارات‪ (22) ”.‬تطبقا لهذا الّتو ّ‬
‫)الدبّية وإحياء ذكرى كبار الفلسفة أو العلماء أو الدباء الذين ينتمون لمختلف الحضارات …” )‪23‬‬

‫الفكار عند مالك بن نبي‬


‫‪th, 2006‬أبريل ‪13‬‬
‫الفكار عند مالك بن نبي‬
‫‪:‬عموميات في استعمال مالك للمصطلح‪-‬‬

‫يستعمل مالك بن نبي مصطلح “الفكار” بطرق مختلفة‪،‬فلم يكن بن نبي ممن يحرص على وضع التعاريف‬
‫الواضحة الدقيقة المضطردة للمفاهيم التي يستعملها‪،‬وإن كان قارئ أعماله يخرج في النهاية في اعتقادي بمنظومة‬
‫‪.‬نظرية واضحة في مجملها وأصيلة‪ ،‬ولو اعترت تفاصيلها ألوان من الغموض وسوء اللغة‬
‫وكثير من مصطلحات بن نبي ل يتوافق مفهومه لها مع المفاهيم الشائعة مما يقود قارئه غير المتمرس إلى سوء‬
‫فهم‪،‬وقبل أن أشرع في تبيان جوانب أساسية من استعمال بن نبي لمصطلح “الفكار” سأذكر الن مصطلح‬
‫)“الصراع الفكري”)‪1‬‬
‫ل يعني بن نبي بمصطلح “الصراع الفكري” ‪،‬كما قد يتبادر إلى الذهن‪ ،‬صراع اليديولوجيات‪ ،‬بل هو يعني‬
‫النهج المنظم الذي ينفذه الستعمار لتشويه الوعي عند شعوب المستعمرات‪،‬ومنعها من امتلك الوعي الصحيح‬
‫ل لوصف هذا النهج وحيله والليات النفسية‬
‫الذي يقودها للتخلص من الظاهرة الستعمارية‪،‬وهو يكرس كتابًا كام ً‬
‫‪.‬والمادية التي يرتكز إليها‪ ،‬منطلقًا من تجارب خاصة خاضها هو ومن تجارب خاضها غيره من أفراد وجماعات‬
‫‪”:‬ولعد إلى موضوع هذا المقال‪”:‬الفكار‬
‫يرى مالك بن نبي أن عالم الفرد يتألف من ثلثة مركبات‪”:‬أشياء” و “أشخاص” و”أفكار”‪.‬والفرد يمر في‬
‫ل على “الشياء” ثم يتعرف بعدها على “الشخاص” ثم يتعرف‬‫طفولته بمراحل ثلث متلحقة يتعرف فيها أو ً‬
‫أخيرًا على “الفكار”‪ ،‬وكذلك يمر المجتمع في تطوره الحضاري بهذه المراحل‪.‬وحين يشيخ الفرد ينكص وعيه‬
‫‪.‬فيعود بعكس الطريق الذي سلكه أولً‪ ،‬وكذلك تفعل الحضارة حين تشيخ‬
‫‪”:‬الفكار” بمعنى “الحقائق”‪-‬‬
‫الفكار” قد يستعملها بن نبي بمعنى “الحقائق” ‪،‬ول سيما “الحقائق الكبرى”ذات الطابع الكوني الشامل ‪،‬وهذا“‬
‫ل عن طريقتين مختلفتين تميزان الحضارة الغربية وحضارة الشرق السلمي في “ملء الفراغ‬ ‫حين يتحدث مث ً‬
‫‪”:‬الكوني‬
‫إما أن ينظر النسان حول قدميه أي نحو الرض ‪،‬وإما أن يرفع بصره نحو السماء‪.‬والطريقة الولى تؤدي إلى“‬
‫شغل فراغ النسان بأشياء‪،‬أي أن نظرته المتسلطة تريد أن تستحوذ على أشياء‪ ،‬بينما الثانية تؤدي إلى شغل هذا‬
‫)الفراغ بالفكار‪،‬أي أن نظرته المستفسرة ستكون في بحث دائب عن الحقيقة”)‪2‬‬
‫والمثل الذي يضربه على الطريقة الولى هو طريقة روبنسون كروزو في ملء فراغه بالعمل لصناعة أشياء‬
‫والصيد وتقسيم وقته في انشغالت مادية‪،‬على حين كان مثله على الطريقة الثانية نظير روبنسون كروزو‬
‫‪.‬السلمي “حي بن يقظان” يقضي وقته في البحث عن الحقيقة المطلقة‬
‫وهو يصادر على أن الطريقة الولى تنسجم مع الطبع الوروبي الري الذي يهتم بتركيب الشياء والشكال‬
‫والتركيب التقني والجمالي ويفتقد العنصر الغيبي ‪،‬على حين تنسجم الطريقة الثانية مع العنصر السامي الذي‬
‫يطغى لديه العنصر الديني ول ينشغل بالمشاغل الرضية‪ .‬هو ليؤلف الشياء بل يؤلف بين فكرتين‪”:‬الشرق‬
‫)السلمي يؤلف بين فكرتين‪:‬فكرة الحق وفكرة الخير”"مشكلة الفكار” – ص ‪142‬‬
‫وليس بودي هنا مناقشة صوابية هذا التعميم المأخوذ من الفكر الستشراقي الذي يثبت للباحث في تاريخ الثقافة‬
‫العربية المعاصرة أنه يستطيع التغلغل والتسلل حتى إلى كتابات أكثر المفكرين ذكاء ونقدية)بن نبي بالذات له‬
‫مناقشات كثيرة مع المستشرقين دحض فيها زعمهم أن السلم هو سبب تأخر المسلمين وسنرى لحقًا أنه يقول‬
‫)!إن تفلت المسلمين من السلم هو سبب تأخرهم وليس تمسكهم به‬
‫‪:‬الفكار” كخبرة حضارية جماعية“‬
‫ولكن مصطلح “الفكار” يعني عنده غالبًا خبرة متموضعة على شكل بنية جماعية عقلية –نفسية تجعل المجتمع‬
‫‪.‬يبني الهيكل المادي للحضارة ويعيد بناءه بسرعة‪ ،‬حتى لو تعرضت للتدمير بفعل كارثة كالحرب مث ً‬
‫ل‬
‫ومثاله المفضل هو المجتمعان الياباني واللماني اللذان كانا بعد الحرب العالمية في حالة عوز هائل في‬
‫“الشياء”‪ ،‬ولكنهما كانا غنيين “بالفكار”‪ ،‬مما مكنهما من إعادة بناء الهيكل المادي لهما بسرعة قياسية‪ ،‬بخلف‬
‫ل الذي كان غنيًا بالموارد المادية المطلوبة للبناء‪ ،‬ولكن الخطة التي وضعها الدكتور‬
‫المجتمع الندونيسي مث ً‬
‫شاخت لبناء ألمانيا بعد الحرب العالمية الولى‪،‬ونجحت فيها نجاحًا باهرًا‪ ،‬لم تنجح في أندونيسيا حين استدعت‬
‫الحكومة الندونيسية شاخت بالذات للشراف على تطبيق خطته ذاتها في الواقع الندونيسي‪ ،‬وذلك للعوز في‬
‫‪“.‬الفكار” في المجتمع الندونيسي‪.‬وهذا الخير هو نموذج عنده للمجتمع السلمي عمومًا‬
‫‪”:‬الفكار المطبوعة” و “الفكار الموضوعة“‬
‫يرى مالك بن نبي أن الفكار تشبه أسطوانة يحملها الفرد عند ميلده ‪ ،‬وهي تختلف من مجتمع لخر‪،‬والفراد‬
‫والجيال يعزفون أنغامهم الخاصة التي تتوافق تردداتها مع النغام الساسية أو النماذج المثالية )القوالب‬
‫‪.‬لتلك السطوانة )‪archetypes‬‬
‫تلك النغام يسميها مالك بن نبي “الفكار المطبوعة” وأما التوافقات الموسيقية التي تخص الفراد والجيال‬
‫‪”.‬فيسميها “الفكار الموضوعة‬
‫الفكار المطبوعة” اليونانية كما يقول اتخذت شكلها وقالبها على الفكار المطبوعة التي أبرزها هوميروس“‬
‫وإقليدس وفيثاغورث وسقراط وأمبدوكل وعلى الفكار الموضوعة لفلطون وأرسطو ثم أخرجت الجيال التالية‬
‫‪.‬توافقات مع هذه الفكار كونت لحنًا بديعًا لم يزل له أثر في الحياة المعاصرة‬
‫والقرآن كان هو الرسالة المطبوعة التي جاء بها الوحي من السماء فعدلت الطاقة الحيوية للمجتمع الجاهلي‬
‫‪.‬ووجهتها وجهة جديدة‪ ،‬وغيرت طريقة تفكير هذا المجتمع ومنظومته الخلقية‬
‫وفي غمرة حماس المجتمع الذي انسجم كله مع التوافقات الساسية للفكار المطبوعة الجديدة صار عند كل فرد‬
‫حساسية ضد أي خروج أو نشاز في اللحن ويسارع إلى تصحيحه‪،‬ولو كان النشاز من عنده كما في حالة المخلفين‬
‫‪.‬الثلثة في غزوة تبوك وفي حالة المرأة التي زنت وجاءت تطلب من النبي عليه السلم أن يطهرها‬
‫ويقول بن نبي أنه حين ينحط المجتمع تسكت تلك التوافقات الساسية بالتدريج جالبة معها‪ -‬كما نعلم من الفيزياء‪-‬‬
‫صمت التوافقات المنسجمة معها‪،‬أي تختفي الفكار الموضوعة أيضًا ويحل الصمت وتختفي الحساسية فل يظهر‬
‫‪ .‬أي رد فعل للنشاز ويختفي العنصر الروحي وتختفي الدوافع الجماعية من المجتمع ويفنى ويتحول إلى ذرات‬
‫‪:‬الفكار الميتة والفكار القاتلة‬
‫الفكرة الميتة” يعرفها بن نبي بأنها “فكرة خذلت أصولها وانحرفت عن نموذجها المثالي ولم يعد لها جذور في“‬
‫‪”.‬محيط ثقافتها الصلي‬
‫و”الفكرة القاتلة” هي عنده “فكرة فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت في مكانها في‬
‫‪”.‬عالمها الثقافي الصلي‬
‫هاتان الفكرتان اللتان تعيشان جنبًا إلى جنب في “عالم ما بعد الحضارة” )أي عالم الحضارة المنتهية التي لم تنشأ‬
‫بعد على أنقاضها حضارة فتية جديدة( وتشكلن انعكاسًا فكريًا لوجهي مأساة المجتمع المبتلى بالستعمار‪:‬وجه‬
‫‪.‬القابلية للستعمار ووجه الستعمار‬
‫الفكار الميتة” إذن هي تلك الفكار التي تشد النسان في الوضع الحضاري المنحط إلى انحطاطه وتمنعه من“‬
‫النهوض ‪،‬و “الفكار القاتلة” هي أفكار يستوردها هذا النسان نفسه لتحدث تأثيرًا اجتماعيًا سامًا‪،‬ويحرص بن‬
‫نبي على لفت انتباه قارئه إلى أن النوعين من الفكار يرتبطان مع بعضهما إذ الفكار الميتة هي التي تختار من‬
‫الحضارة الخرى الفكار القاتلة تحديدًا ‪،‬مع أن الحضارة الخرى فيها أفكار أخرى!‪،‬يقول‪”:‬ل يجوز أن نتساءل‬
‫لماذا تنطوي الثقافة الغربية على عناصر قاتلة‪،‬وإنما يجب أن نسأل لماذا تقصد الصفوة المسلمة هذه العناصر‬
‫)بالذات وتأخذ منها‪،‬وعلى هذا النحو تكون المشكلة مطروحة بطريقة سليمة”)”مشكلة الفكار‪-”..‬ص ‪202‬‬
‫الفكار القاتلة” هي نفايات فكرية للمجتمع الخر تطفو على سطحه ‪،‬ولكن النحطاط الجتماعي عندنا يجعلنا“‬
‫نأخذ هذه العناصر السطحية ونعتقد أنها هي ول غيرها “جوهر الحضارة الغربية” )أو لنتكلم بلسان حال ما‬
‫أصطلح على تسميته “بالستلب”‪ ”:‬هي “جوهر الحضارة” !أي على وجه العموم والطلق إذ المستلب يرى‬
‫أن الحضارة الغربية هي “الحضارة” أي الشكل الوحيد المعياري بل المشروع للحضارة ‪،‬إذ هوعاجز عن رؤية‬
‫نسبية الحضارة الغربية وكونها حضارة من حضارات العالم وخيار واحد من خيارات حضارية كثيرة كان يمكن‬
‫‪).‬للبشرية أن تأخذ بها‬
‫وإذا كانت الفكار القاتلة سامة في مجتمعها بالذات فهي فيه تواجه بمضادات للسمية تخفف من أثرها أو تزيله‬
‫ولكنها حين تستورد إلى مجتمعنا ل يستورد معها إطارها الكامل الذي يحد من تأثيرها )قد نضرب على ذلك مث ً‬
‫ل‬
‫انهيار التضامن بين أفراد العائلة في الغرب‪ ،‬فالقوم هناك وجدوا لثاره السلبية مخففًا في أشكال الضمان‬
‫الجتماعي‪ ،‬أما عندما نستورد القيم التي تقود التضامن العائلي عندنا للتفكك ‪،‬وليس بإمكاننا نقل الضمان‬
‫الجتماعي الغربي‪ ،‬فإن هذا يعني أن الفرد عندنا معرض لخطر النمحاق تحت ضغط الظروف الصعبة دون أن‬
‫)يجد من يحميه ويتكافل معه‬
‫وفي اعتقادي أننا يمكن أن نرى هنا رؤية مالك بن نبي لطبيعة “التثاقف” الذي جرى في القرن العشرين الميلدي‬
‫بين المجتمع المسلم والغرب‪،‬فهذا المجتمع لم يأخذ الجوانب السليمة القوية من الحضارة الغربية بل أخذ نتاجاتها‬
‫المتعفنة‪،‬نفاياتها إن جاز التعبير‪،‬ولك أن ترى أمثلة على هذا في استيراد النحلل العائلي بل استيراد المدارس‬
‫الفنية والدبية التي ل تعكس جوانب قوة النسان وفاعليته بل تعكس جوانب انحلله الخلقي وتحلل شخصيته‬
‫‪.‬الجتماعية‪.‬آلية الستيراد هذه تعكس هشاشة الشخصية المسلمة وعيوب تركيبها النفسي‪-‬العقلي‬
‫ويقارن بن نبي بمرارة بين النموذج الياباني في “التثاقف” مع الغرب وهو النموذج المؤلف مما استورده‬
‫اليابانيون من التجربة الحضارية الغربية وهو جوانبها الفعالة وما استبقوه من شخصيتهم الحضارية ‪،‬وبين‬
‫النموذج المقابل للتثاقف الذي قام به المجتمع المسلم حيث استورد الجوانب السامة واستبقى الجوانب الميتة من‬
‫‪.‬شخصيته‬
‫الفكار الميتة” عند بن نبي هي أفكار فارقت النموذج المثالي‪،‬القالب الصلي للفكار التي كانت العامل الباني“‬
‫للحضارة‪،‬وفقدت الصلة به‪،‬ومثالها عنده الذي كان قريب العهد مواقف بعض علماء الدين في إيران من مصدق‬
‫ومشاركتهم في إسقاطه‪.‬ويستطيع القارئ في اعتقادي أن يرى في زماننا هذا عددًا كبيرًا من الفكار التي تنسب‬
‫‪.‬نفسها إلى السلم وتقف سدًا مانعًا أمام التجديد والنبعاث الحضاري‬
‫‪:‬في التثاقف‬
‫لبن نبي في كتابه “مشكلة الفكار في العالم السلمي” ملحظات مركزة في موضوع ازدواج اللغة الذي هو‬
‫الظاهرة البارزة في ثقافة البلد السلمية ول سيما بلده هو فقد قاد هذا الزدواج إلى ظهور طائفتين‪ :‬طائفة‬
‫تتكلم العربية وتحاول وصل الصلة مع الصول السلمية وطائفة تتكلم الفرنسية وفيها من يريد قطع الصلة مع‬
‫العربية والسلم‪“ :‬لم يعد في البلد الواحد نخبتان فحسب وإنما مجتمعان متراكبان أحدهما يمثل البلد التقليدي‬
‫والتاريخي‪ ،‬والثاني يريد أن يصنع تاريخه مبتدئًا من الصفر‪ ،‬فالفكار المطبوعة لهذا الفريق والفكار الموضوعة‬
‫للفريق الخر ل تستطيع أن تتعايش في عالم ثقافي واحد فقد كان المجتمعان يتحدثان بلغتين مختلفتين فما كان يقال‬
‫في المذياع وفي الصحافة وحتى في بعض الكتب المدرسية إذا كان في استطاعته أن يعبر عن الفكار الموضوعة‬
‫عند أحد المجتمعين‪ ،‬لم يكن له أي معنى بالنسبة للفكار المطبوعة الخاصة بالمجتمع الخر” )”مشكلة الفكار”‪-‬‬
‫)ص ‪190‬‬
‫ل النقاش في صفوف الثورة الجزائرية الذي دعا إلى إلغاء‬ ‫ومن علمات عدم النسجام يضرب بن نبي مث ً‬
‫مصطلح المجاهد ووضع مصطلح الجندي مكانه‪.‬ومن المثلة التي يضربها ما ورد في كتاب عن فن العمارة في‬
‫الجزائر‪“ :‬كان يطلق على المهندس المعماري في الماضي اسم معلم البناء وكان يدعى لبناء القصور والمعابد‬
‫والكنائس والبنية الدفاعية” ملحظًا بسخرية أن هذه القائمة أغفلت المسجد بينما هو من أهم معالم العمارة حتى‬
‫‪!.‬تلك التي تدرس في فرنسا أو انكلترا أو ألمانيا‬
‫ومن انتقاداته الوجيهة للدب العربي نقده لمسرحية لتوفيق الحكيم كانت في تقريظ القاضي العز بن عبد السلم‬
‫الذي جعله توفيق الحكيم يستعمل مصطلح “القانون” وليس “الشريعة” ويعلق بن نبي‪“ :‬الشريعة لها مصطلحاتها‬
‫ويحمل كل مصطلح إلى جانبه اللغوي والبلغي قدرًا من العاطفة والخلق ترسم فيه عبر تاريخ الثقافة ”‬
‫))”مشكلة الفكار” –ص ‪195‬‬
‫وفي هذا الموضع نرى أن مالك بن نبي ليس مبتوت الصلة كليًا بالنزعة التأصيلية التي تركز على مساوئ‬
‫استيراد المكونات الثقافية من المجتمع الخر‪،‬بل كان واعيًا لهذه المساوئ‪،‬ولكنه في الحقيقة كرس أغلب جهده‬
‫الفكري لبحث مشكلة نهوض المجتمع المسلم من الهوة الحضارية التي يعاني منها‪ ،‬وفي سبيل دراسة هذا‬
‫النهوض وشروطه‪،‬لم يركز الهتمام على مشكلة الحفاظ على الهوية‪،‬وأعتقد أن المطلوب إحداث تركيب خلق‬
‫بين الطريقة التأصيلية المتمركزة حول فكرة الدفاع عن الهوية الثقافية الخاصة‪ ،‬والطريقة المركزة على هدف‬
‫النهضة التي يتبعها مفكرون كثر على رأسهم مالك بن نبي‪،‬وأنا أسمي هذا التركيب “التأصيل الفاعل” وأكتفي هنا‬
‫‪.‬فقط بالشارة إلى هذه النقطة تاركًا مناقشتها إلى مقال آخر إن شاء ال‬
‫مع كل ما تقدم فإن اللغة الغريبة المستوردة قد تقوم بدور إيجابي في تفجير الحركة في عالم ثقافي راكد‬
‫“فبالمعاني الواردة من ثقافة أخرى والمترجمة بإخلص إلى حد كبير‪ ،‬تستعيد الفكار المطبوعة قدرتها على‬
‫الكلم بعد أن كانت بغير صدى وبغير حوار مع الحياة وبغير سيطرة عليها‪ ،‬وتشرع في إنتاج أفكار موضوعة قد‬
‫تتضمن قدرًا من الغموض بسبب أصلها المزدوج ولكنها تظل في ركاب الفكار الولى فعندما كان الشيخ محمد‬
‫عبده يكتب بحثه في العقيدة كان يستلهم بل شك التجاه شبه الكلسيكي الذي كانت عليه الثقافة الزهرية في‬
‫عصره ولكن بطريقته الجديدة في الصياغة وفي التعبير افتتح الشيخ محمد عبده برسالة التوحيد عهدًا جديدًا في‬
‫‪).‬المذهب الكلسيكي” )”مشكلة الفكار”‪-‬ص ‪186‬‬
‫ازدواج اللغة إذًا قد يساعد في التجديد وقد يؤدي إلى الخروج على الصول الساسية )على هذه الحالة الخيرة‬
‫يضرب بن نبي مثال علي عبد الرازق( وقد يؤدي أخيرًا إلى شق النخبة المتعلمة إلى مجتمعين متناقضين كما في‬
‫‪.‬الجزائر‬
‫‪:‬الفكار المخذولة وانتقامها‬
‫في الثلثي المكون للعالم المحيط بالفرد‪ :‬الشياء‪ ،‬الشخاص‪ ،‬الفكار يرى بن نبي أن الفكار هي التي تقود العالم‬
‫‪.‬بغض النظر عن نوعية هذه الفكار وحكمنا عليها‬
‫أعتقد أن هيغل يشغل مكانه الفريد في تاريخ الفلسفة بوصفه الوحيد الذي حاول أن يصف الوقائع الجتماعية‬
‫‪.‬وتغيرها على أنها أفكار وتغيرها يتبع منطق تغير الفكار‪ :‬المنطق الجدلي‬
‫وانطلقًا من هذه النظرة الفريدة لنا أن نقول إن هيغل هو فيلسوف الجتماع النساني بامتياز ومن جهة أخرى‬
‫بإمكاننا أن نقول إن هيغل هو أكمل الفلسفة المثاليين فقد نظر للكون بأسره بمكوناته كافة على أنها أفكار تتغير‬
‫‪.‬وفق المنطق الجدلي‬
‫بن نبي يتفق مع هيغل في أن الفكار تتحول إلى واقع كما أن الواقع يتحول إلى أفكار )”مشكلة الفكار” –ص‬
‫ل على أن “النظمة التي ليس لها سند من الفكار هي في طريقها إلى الفناء” إذ أن إلغاء‬
‫‪ (95‬ويضرب بالرق مث ً‬
‫الرق بدأ في عالم الفكار عند المفكرين في القرن التاسع عشر ولو أن آلت القرن العشرين كانت ستقضي عليه‬
‫لو لم يقض عليه الفكر! )”مشكلة الفكار”‪-‬ص ‪ (211‬ويقرر مالك بوضوح مناصرته للمبدأ المثالي في الفلسفة‬
‫الذي يطبقه في ميدان علم الجتماع “إن التغييرات ذات الصبغة النفسية هي التي تؤدي إلى ظهور تغيرات‬
‫اقتصادية وسياسية على سطح الحياة الجتماعية فالجانب النفسي هو الذي يسبق و ينظم الجانب الجتماعي ومن‬
‫كل الطرق التي نسلكها نصل دائمًا إلى المبدأ الذي قرره القرآن على شكل حكم تقريري‪“ :‬إن ال ل يغير ما بقوم‬
‫حتى يغيروا ما بأنفسهم” الرعد‪ .11-‬لقد تضمنت الية خلصة النتائج التي يمكننا الخروج بها عن انتقام الفكار‬
‫‪) .‬المخذولة” )”مشكلة الفكار”‪-‬ص ‪212‬‬
‫حين ل ينسجم السلوك مع فكرته المثالية تنتقم هذه الفكرة المخذولة لنفسها‪ :‬يقول بن نبي‪”:‬الفكار الموضوعة‬
‫تختلف عن الفكار المطبوعة التي كانت في القوالب الصلية‪ ،‬وهذا الختلف أو هذا الغدر يدوي في كل نشاطنا‬
‫ويعرض هذا النشاط للنتقام من طرف الفكار الصلية انتقامًا يكون أحيانًا غاية في العنف على الصعيد السياسي‬
‫عندما تنتقم الفكار المخذولة‪ .‬وقد يكون من اليسر تصور هذا النتقام في المجال التقني عندما تصمم خطًأ إحدى‬
‫الماكينات وتنفجر أو أحد الجسور فينهار لن النتقام في هذه الحالة يكون فوريًا‪ .‬ولكن المجتمعات والحضارات‬
‫والممالك قد تنهار هي أيضًا بنفس الطريقة وليست كوارث التاريخ في غالب الحيان إل آثارًا مباشرة لنوع من‬
‫‪).‬انتقام الفكار المخذولة” )”مشكلة الفكار” –ص ‪76‬‬
‫يعلق بن نبي في نفس الصفحة على الهامش‪“ :‬نستطيع القول بأن العالم السلمي يواجه اليوم عقوبة مستحقة من‬
‫”السلم‪ ،‬للتفاته عنه وليس كما يظن بعض السذج لتمسكه به‬
‫إذا وصلت الفكار الموضوعة في المجتمع إلى مرحلة انبتت فيها صلتها بالفكار المطبوعة انتقمت هذه الخيرة‬
‫ل في أول خذلن في التاريخ قام به المسلمون‬
‫لنفسها على شكل فقدان المجتمع لفعاليته‪ .‬ويضرب بن نبي لذلك مث ً‬
‫لفكرة القرآن المطبوعة )النموذج المثالي ( التي تعبر عنها الية الكريمة “إن صلتي ونسكي و محياي ومماتي ل‬
‫رب العالمين‪ ،‬ل شريك له” النعام –‪ .162 -161‬والتي كان من الواجب أن يتوافق المسلمون في شخصيتهم‬
‫وسلوكهم معها وذلك حين فصلوا بين سلوكهم المتعلق بطلب الدنيا وسلوكهم التعبدي فصار بعضهم يقول”صلتي‬
‫وراء علي أصلح لديني وطعامي عند معاوية أقوم لبدني!” ونتج عن هذا ذلك الشرخ المرير في صفين الذي كان‬
‫‪ .‬بداية المرض الحضاري‬
‫وحين ينفصل السلوك عن الفكرة المطبوعة تنتج عن السلوك المنفصل فكرة جديدة مفارقة للنموذج المثالي تنتقل‬
‫‪ .‬من جيل إلى آخر كأنها الجرثومة التي تنقل المرض الحضاري‬
‫‪:‬الفكار الصادقة والفكار الفعالة‬
‫!يرى بن نبي أن الفكرة الصادقة ليست دائمًا فعالة والفكرة الفعالة ليست دائمًا صادقة‬
‫الفكرة هي صحيحة أو باطلة‪ ،‬ولكن هذه الفكرة رغم صحتها قد تفقد فاعليتها‪.‬وقد تظل فترة طويلة كامنة في عالم‬
‫ل بفكرة ابن النفيس عن‬
‫اللفاعلية رغم وجودها‪ ،‬حتى يأتي زمان تخرج إلى الفاعلية ويضرب بن نبي لهذا مث ً‬
‫)الدورة الدموية الصغرى‪ ،‬فهي لم تستخدم إل بعد قرون حين أخذها الوروبيون )ونسبوها إلى هارفي‬
‫!وفي المقابل ما أكثر الفكار الباطلة بذاتها التي قلبت الحداث وغيرت التاريخ‬
‫إن العقيدة الدهرية المادية التي تقوم عليها الحضارة المعاصرة هي عقيدة ل نشك في بطلنها‪ ،‬ولكنها عقيدة‬
‫فاعلة‪ )،‬وقد أضيف‪ :‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬بل هي تستطيع في بعض الحالت بالقوة أن تطفئ جذوة أفكار صادقة‬
‫)!من الحضارات المهزومة وتهيل عليها رماد النسيان‬
‫والخلط بين الفاعلية والصدق يستخدم لتشكيك المسلمين في إسلمهم‪ ،‬إذ يقال لهم‪ :‬أتكون صحيحة عقيدة أهلها في‬
‫أسفل درجات السلم الحضاري‪ ،‬وتكون خاطئة عقيدة تغزو القمر؟‬
‫‪”.‬بن نبي يرى أن المسلمين لم يفقدوا فعاليتهم لتمسكهم بالسلم بل لهجرهم لروحه الحقيقية و “أفكاره المطبوعة‬
‫المجتمع يفقد فعاليته عندما تنبت الصلة بين “أفكاره المطبوعة” و”أفكاره الموضوعة”‪،‬وقد نقول بعبارة‬
‫!أخرى‪:‬بين معتقداته وسلوكه‬
‫ويقول بن نبي‪”:‬كثير من المفكرين المسلمين اليوم يفتنون بالشياء الحديثة وبالتالي بمنطق الفعالية من غير تمييز‬
‫بين حدود توافقها مع المهام التي يريد المجتمع أن ينهض بها دون أن يفقد أصالته‪ ،‬فهؤلء المفكرون يخلطون بين‬
‫”‪-‬أمرين‪ :‬بين “النفتاح الكامل لكل فكر تأتي به الرياح” وبين تسليم القلعة للمهاجمين‪-‬كما يفعل الجيش الخائن‬
‫‪:‬ول ينبغي للمسلمين أن يتعزوا بصدق أفكارهم عن مصيبة انعدام فاعليتهم‬
‫ينبغي على الفكرة السلمية لكي تقاوم الفكار الفعالة والخاصة بمجتمعات القرن العشرين المتحركة‪،‬أن تسترد“‬
‫)فعاليتها الخاصة بمعنى أن تأخذ مكانها من بين الفكار التي تصنع التاريخ”)”مشكلة الفكار” –ص ‪144‬‬
‫‪:‬الفكرة والوثن‬
‫!يرى بن نبي أن الجاهلية إنما كانت وثنية لنها لم تكن علقاتها المقدسة مع أفكار وإنما مع أوثان‬
‫وإيمان الفرد بالوثن يترافق مع تخليه عن كل مجهود )أو بتعبير بن نبي الثير تخليه عن القيام “بالواجب”‬
‫‪).‬وانتظاره “لحقوقه” بل أداء لواجبه من طرف خارجي ما‬
‫في عام ‪ 1936‬تحولت النهضة الجتماعية الشاملة في الجزائر التي تجلت في حركة العلماء وبلغت ذروتها في‬
‫الدعوة إلى “المؤتمر السلمي” ورافقتها نهضة غير فيها الفراد ما في أنفسهم )أي قاموا بواجباتهم( تحو ً‬
‫ل‬
‫خاطئًا في اتجاه ذكره بن نبي مرارًا بغضب وتقريع لشعبه‪ :‬بعد أن نبذ الشعب أوثان الصوفية في فترة انحطاطها‪،‬‬
‫وكف عن الذهاب إلى قبور أوليائها لتقديم النذور والتماس الخيرات و البركات منها‪ ،‬وهب لجني الخيرات من‬
‫عمله وعرقه وقيامه بواجبه )وهو مبدأ عمر رضي ال عنه النهضوي المستند إلى “فكرة السلم المطبوعة” عن‬
‫التوكل الحقيقي‪“ :‬إن السماء ل تمطر ذهبًا ول فضة!”( إذا به ينحرف ليسير وراء زعماء سياسيين تحولوا من‬
‫هذا المنظور السلمي الصيل إلى منظور انتخابي سقيم يعزف على نغمة طلب الحقوق من الحكومة‬
‫‪.‬الستعمارية‬
‫لقد انتصر الوثن على الفكرة‪ ،‬ورجعت “زردة” الصوفية في مرحلة انحطاطها على شكل زردة انتخابية‪ ،‬ونشأت‬
‫دروشة جديدة “ل تبيع الحروز والبركة والجنة ونعيمها وإنما تشتري الحقوق السياسية وصفة المواطن و …‬
‫القمر بأوراق النتخابات‪ .‬ولقد غاب عن الذهان أن الحق هو صنو الواجب وأن الشعب هو الذي يخلق ميثاقه‬
‫)وقانونه الجتماعي و السياسي “عندما يغير ما بنفسه”" )”مشكلة الفكار” –ص ‪131-130‬‬
‫ل من أن تصبح البلد ورشة للعمل تحولت إلى سرادق انتخابي‪ ،‬وانقلب العمل الجتماعي المنتج الفعال إلى‬ ‫وبد ً‬
‫ل من العمل بهدي الفكرة صار العمل مشخصًا‬ ‫‪.‬خطابة‪ .‬لقد استبدلت الفكرة بالشخاص‪ -‬الوثان وبد ً‬
‫وقد ذكر بن نبي أمثلة من بلد أخرى على انتقال الولء من الفكرة إلى الشخص منها صياح المتظاهرين في‬
‫شوارع القاهرة في العشرينات “الحماية بيد زغلول ول الستقلل بيد عدلي”‪ .‬والستعمار يشجع هذه النزعة‬
‫للتشخيص و التوثين لسبب واضح وهو أن الستعمار يحب أن ينام الشعب ويتوقف عن أداء دوره تاركًا مصيره‬
‫بيد شخص وهذا الشخص يمكن إفساده‪ ،‬وحتى لو لم يفسد فهو يمكن قتله أو انتظار موته أو إفساد الحاشية التي‬
‫هي حوله بحيث تشل فاعليته ويفقد التصال مع مجتمعه‪ .‬ومن المثلة التي يذكرها بن نبي على هذا الوضع‬
‫نيكروما وسوكارنو‪ ،‬وأعتقد أنه كان يعني عبد الناصر أيضًا و إن كانت علقاته الطيبة مع مصر الناصرية منعته‬
‫من التصريح بهذا السم مكتفيًا بعد ذكر سوكارنو و نيكروما بقوله “وهما حالتان من بين حالت كثيرة ”‬
‫‪”)) .‬مشكلة الفكار” –ص ‪167‬‬
‫‪:‬اختلل التوازن بين الشياء والشخاص والفكار‬
‫صحيح أن بن نبي يضع الفكار في موقع متميز بين المكونات الثلثة‪ ،‬ولكنه مع ذلك يرى أن العلقة بين هذه‬
‫المكونات علقة جدلية يجب أن تخضع للتوافق‪ ،‬إل أنه في أوقات معينة يختل التوازن بين هذه العناصر ويزيد‬
‫‪.‬فيها ثقل واحد منها على غيره بحيث تدور حركة المجتمع في فلك الشياء أو الشخاص أو الفكار‬
‫‪”:‬وهو يسمي هذه الحالة “بالطغيان‬
‫‪:‬طغيان الشياء‪-‬‬
‫وفي هذه الحالة تحتل الشياء قمة سلم القيم وتتحول الحكام النوعية خلسة إلى أحكام كمية فتظهر النزعة إلى‬
‫مراكمة الشياء‪ ،‬ويصبح عدد هذه الشياء هو المعيار للنجاح وليس استخدامها الفعلي )بن نبي لم يضرب المثال‬
‫التالي ولكنه خطر على بالي‪ :‬أليس خير مثال على ذلك مراكمة الجيوش العربية للسلحة دون أن يخطر على بال‬
‫القادة ولو لمرة واحدة أن هذه السلحة التي بذلت فيها المليارات أثبتت التجارب أنها لم تقم بأي دور إيجابي حتى‬
‫‪!).‬ولو كان على مستوى المصلحة القطرية أو مستوى مصلحة الحاكم‬
‫وملحظة بن نبي الوجيهة عن النزلق من الحكام النوعية إلى الحكام الكمية نجدها بالفعل في بعض البلد التي‬
‫قادها شعورها بالعجز الفكري‪ ،‬وعدم قدرتها على الخوض في غمار المعالجة الناجحة للفكر المعاصر وفصل‬
‫حبه عن زيوانه‪ ،‬إلى التوقف عن القدرة على اكتشاف قيمة أصحاب الفكار المبدعة والقيمة انطلقًا من نتاجاتهم‪،‬‬
‫والنتقال إلى العبادة الخرافية للمعايير الكمية الخارجية التي انطلقًا منها تحدد قيمة الشخص ويوضع في‬
‫المواضع التي يجب أن يوضع فيها أصحاب الفكار‪ ،‬ومما يلحظ أنه كلما زادت عقدة النقص في بلد من بلدنا‬
‫تجاه الفكر المعاصر زاد احتفاله باللقاب العلمية الجامعية‪ ،‬وقلت قدرته على اكتشاف المبدعين الصلء‪ ،‬فالمفكر‬
‫ليس بمفكر ما لم يسبق اسمه بلقب ما‪ ،‬والديب ل يكون مبدعًا حتى ينال جائزة عالمية )كما حصل مع نجيب‬
‫محفوظ الذي ظلت مكانته بين أخذ ورد حتى نال جائزة نوبل “فاطمأنت” الوساط العلمية المتنفذة في مصر‬
‫‪).‬وغيرها إلى هذه المكانة‬
‫‪:‬طغيان الشخاص‪-‬‬
‫يضع بن نبي يده هنا على مشكلة كبرى فادحة تواجهنا بالفعل أل وهي أننا غير قادرين على الفصل بين المبادئ‬
‫والشخاص الذين يمثلونها ويجسدونها‪ .‬أو بمصطلحات بن نبي عدم القدرة على الفصل بين “الفكرة المجردة” و‬
‫‪“”.‬الفكرة المجسدة‬
‫يقول بن نبي‪“ :‬عندما يتجسد المثل العلى في شخص يظهر خطران أولهما أن جميع أخطاء هذا الشخص تحسب‬
‫على عاتق المجتمع الذي جسم فيه مثله العلى وثانيهما أن جميع انحرافاته يقع وزرها أيضًا على المجتمع‪،‬‬
‫وتظهر إما في صورة تنحية للمثل العلى الذي هوى‪ ،‬وإما بالرتداد عندما يعتقد أن تعويض الحرمان يكون‬
‫باعتناق مثل أعلى جديد دون أن يفطن أحد في كل هذه الحالت إلى أنه حدث استبدال خفي لمشكلة الفكار بمشكلة‬
‫‪.‬الشخاص‬
‫ولقد أدى هذا الستبدال إلى إلحاق أضرار كبيرة بالفكرة السلمية عندما تجسمت في أشخاص لم يكونوا أه ً‬
‫ل‬
‫لحملها‪ .‬فمن ذا الذي يستطيع أن يجسد أفكارًا لمجتمع ما بدون أخطاء؟‬
‫وهل تترك الفكرة تموت مع موت الشخص الذي يجسدها؟‬
‫لقد حذر القرآن الكريم جماعة المسلمين من هذا الموقف الخاطئ صراحة عندما قال‪“ :‬وما محمد إل رسول قد‬
‫)خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟” آل عمران‪”)“ 144 -‬مشكلة الفكار”‪ -‬ص ‪103‬‬
‫وقد تلقى المسؤولية على شخص عند إخفاق مشروع فيعفى بهذا المجتمع من المسؤولية كما ألقت إذاعة القاهرة‬
‫‪ .‬كل مسؤولية انفصال سورية عن مصر على عاتق ضابط سوري محدد هو الكزبري‬
‫يصف بن نبي بهذه المناسبة المثقف المسلم بعبارة لذعة‪“ :‬أقل الناس اقتناعًا بالقيمة الجتماعية للفكار هو في‬
‫الغالب المثقف المسلم‪ ،‬وهذا يوضح لنا السبب في أن أعدادًا من المثقفين في الجزائر فضلوا أن يدوروا في فلك‬
‫ل من أن يكرسوا جهودهم لخدمة بعض الفكار” )”مشكلة الفكار” –ص‬ ‫بعض الوثان منذ نحو ثلثين عامًا بد ً‬
‫)‪105‬‬
‫‪:‬طغيان الفكار‪-‬‬
‫قد يصل المر ببعض المثقفين إلى البتعاد عن المجتمع وانقطاع علقة أفكاره بهذا المجتمع كما في حالة بعض‬
‫المثقفين الوروبيين الذين ساروا في ركاب الفلسفة الوجودية‪ ،‬وقد نجد حالت في بلدان العالم النامي يلغي فيها‬
‫‪.‬المثقف الواقع ويضع الكتب مكانه‬
‫في اعتقادي أن بإمكاننا أن نعمم ملحظات بن نبي هذه على حالت أخرى ووقائع مستجدة في زماننا هذا الذي لم‬
‫‪:‬يدركه مالك رحمه ال وسأذكر حالتين معاصرتين خطيرتين أراهما في غاية الهمية‬
‫ل‪ -‬الطغيان المطلق للفكار اليديولوجية ورفض الواقع رفضًا مطلقًا‬
‫‪:‬أو ً‬
‫ونجد هذه الحالة عند الحركات السياسية التي عادت المجتمع عداء تامًا واعتقدت أن لديها الحقيقة المطلقة التي‬
‫‪.‬تعطيها الحق في تفكيك المجتمع ولو بالعنف وإعادة بنائه ولو بالعنف أيضًا‬
‫وخلفًا للشائع في وسائط العلم لم يبدأ هذا المرض عند الحركات المتدينة بل بدأ عند الحركات العلمانية كما‬
‫‪.‬رأينا في أمثلة عربية كثيرة وفي أمثلة من العالم كنظام بول بوت في كمبوديا ونظام ستالين في روسيا وغيرهما‬
‫ولكن بعض الحركات الصغيرة المحسوبة على السلم وقعت في هذا المطب أيضًا حين اتبعت نهجًا يكفر‬
‫”المجتمع بأسره وعدت نفسها “جماعة المسلمين” وليس “جماعة من المسلمين‬
‫‪:‬ثانيًا‪ -‬حالة خاصة من طغيان الشياء‪ :‬وثنية البندقية‬
‫بعد الذلل العظيم الذي حاق بالمسلمين والعرب في السنوات الخيرة تزايد النزوع إلى حصر حل المأزق‬
‫الحضاري السلمي ببعد وحيد هو العنف والبندقية‪ .‬وفي اعتقادي أن القوى الظالمة ل مانع عندها في هذا‬
‫النحراف‪ ،‬إذ أن المسلمين إن اختاروا خيار البندقية لوحدها وأهملوا خيار النهضة الحضارية الشاملة‪ ،‬بما‬
‫تتضمنه من إصلح سياسي واجتماعي ينهض بالمجتمع والسياسة فيحول المجتمع إلى بنيان مرصوص فاعل‬
‫مليء بالحركة والنشاط والعمل الجاد‪ ،‬أي يحوله إلى خلية نحل فيها جدية النحل وتقسيمه للعمل ونشاطه وعدم‬
‫كسله‪ ،‬ويحول البنيان السياسي إلى بنيان وحدوي كبير متماسك‪ ،‬يلغي التجزئة ويزيل عوامل الفرقة الداخلية‪،‬‬
‫“ويغير ما بالنفوس” من أنانية مزمنة‪ ،‬ونزعة للشرذمة والصراع الداخلي أهلكت أمتنا وجعلتها أسفل سافلين‪،‬‬
‫فإنهم بهذا الختيار قد وضعوا أنفسهم في موضع يهزمون فيه بسهولة‪ ،‬إذ أنهم اختاروا الساحة التي هم فيها‬
‫أضعف‪ .‬والعنف في العلقات بين الدول والمجتمعات ل شك أن له دورًا ل يمكن للمؤرخ أو عالم الجتماع أن‬
‫ينكره‪ .‬ولكنه ليس العامل الوحيد بل قد ل يكون العامل الحاسم‪ ،‬وحتى النصر في منازلة عسكرية معينة ل يكفل‬
‫ل أعظم مأساوية‬ ‫للمجتمع على المدى الطويل أنه سيبقى في منأى عن خطر الهيمنة الخارجية‪ ،‬ولعلنا ل نجد مثا ً‬
‫من مثال البلد البطل‪ :‬بلد مالك بن نبي الجزائر‪ ،‬فبعد مليوني شهيد ظلت الجزائر وإن استقلت تتخبط في مشاكلها‬
‫الداخلية وتبعيتها القتصادية بل تبعيتها الثقافية في جانب من سكانها أيضًا للخارج‪ ،‬وإذا كانت فقدت مئات اللوف‬
‫في الحروب مع المستعمر فهاهي ذي تفقد عشرات اللوف من الضحايا البريئة في عنف داخلي ل يفيدنا أن‬
‫نستبعد مسؤولية المجتمع عنه بوضعه على عاتق فئة معينة في الداخل‪ ،‬أو طرف معين في الخارج‪ ،‬إذ أن‬
‫المجتمع السليم حقًا‪ ،‬المسيطر على حركته‪ ،‬والقادر على تنظيم نفسه ووضع جهاز الحكم تحت رقابته‪ ،‬ما كان‬
‫ليسمح بهذا ويبدو لي أن عبقرية مالك بن نبي الكبرى وحدسه النفاذ كان يكمن في هذه النقطة بالذات‪ ،‬وهو الحدس‬
‫الذي يميزه عن كافة رجال عصره من مفكرين وسياسيين‪ ،‬فقد كان دومًا يذّكر بما نسيه هؤلء‪ :‬إن الستعمار ليس‬
‫‪.‬موجودًا عرضًا‪ ،‬بل هو موجود لن المجتمع غير قادر على مقاومته‬
‫ومن الطريف أن نرى هنا سخرية مالك بن نبي من تنظيرات أحد المؤيدين المخلصين للثورة الجزائرية‪ ،‬وهو‬
‫ظر في كتابه الشهر “المعذبون في الرض” للثورة الجزائرية مستخلصًا من‬ ‫الثائر الشهير فرانتز فانون‪ ،‬الذي ن ّ‬
‫تجربتها نتيجة تمجد العنف على أنه هو الذي يعيد للنسان المستعمر)بفتح الميم( ثقته بنفسه‪ .‬يقول مالك بن نبي‬
‫عن كتاب فانون‪“ :‬يحصر معنى الثورة في مجرد عمل من أعمال العنف‪ ،‬ولعل المؤلف بدون أن يدري قد خلص‬
‫الزعماء وصغار الزعماء من هّم التفكير‪ ،‬وخصوصًا من عقدة الذنب تجاه الفكار المخدوعة‪ ،‬ولكن الفكار‬
‫)المخذولة تنتقم وانتقامها ظاهر للعيان في العالم السلمي” )”مشكلة الفكار” –ص ‪171‬‬
‫شروط النهضة عند مالك بن نبي‬
‫‪th, 2006‬أبريل ‪10‬‬
‫*بقلم‪ :‬د‪ .‬عبود العسكري‬

‫ل كأن لم يكن له هدف‪ ،‬فاستسلم المريض‬ ‫لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهرًا طوي ً‬
‫للمرض‪ ،‬وفقد شعوره باللم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءًا من كيانه ‪.‬وقبل ميلد القرن‬
‫العشرين سمع من يذكره بمرضه‪ ،‬ومن يحدثه عن العناية اللهية التي استقرت على وسادته‪ ،‬فلم‬
‫يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور باللم ‪ .‬وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم‬
‫‪ .‬السلمي والعربي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها ‪ :‬النهضة‬
‫ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا )المرض( بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا‬
‫‪) .‬عنه فكرة سليمة‪ ،‬فإن الحديث عن المرض أو الشعور به ل يعني بداهة )الدواء‬
‫ونقطة النطلق هي أن الخمسين عامًا الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم العربي اليوم‪ ،‬والتي‬
‫يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين ‪ :‬فهي من ناحية ‪ :‬النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من‬
‫‪ .‬الزمان من أجل النهضة‬
‫وهي من ناحية أخرى ‪ :‬النتيجة الخائبة لتطور استمر خلل هذه الحقبة دون أن تشترك الراء في تحديد أهدافه أو‬
‫‪ .‬اتجاهاته‬
‫ومن الممكن أن نفحص الن سجلت هذه الحقبة‪ ،‬ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالت الصحف‬
‫والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الستعمار والجهل هنا‪ ،‬والفقر والبؤس هناك‪،‬‬
‫وانعدام التنظيم واختلل القتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى‪ ،‬ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض‪ ،‬أعني‬
‫ل للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون‬ ‫‪ .‬دراسة مرضية للمجتمع العربي‪ ،‬دراسة ل تدع مجا ً‬
‫ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعًا لرأيه أو مزاجه أو مهنته ‪ .‬فرأى رجل سياسي‬
‫كجمال الدين الفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية‪ ،‬بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن‬
‫المشكلة ل تحل إل بإصلح العقيدة والوعظ …الخ … على حين أن كل هذا التشخيص ل يتناول في الحقيقة‬
‫‪ .‬المرض بل يتحدث عن أعراضه‬
‫وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام ل يعالجون المرض‪ ،‬وإنما يعالجون العراض‪ ،‬وكانت النتيجة قريبة من تلك‬
‫التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل‪ ،‬فل يهتم بمكافحة الجراثيم‪ ،‬وإنما يهتم بهيجان الحمى عند‬
‫‪ .‬المريض‬
‫والمريض نفسه يريد ‪ -‬ومنذ مائة عام ‪ -‬أن يبرأ من آلم كثيرة ‪ :‬من الستعمار ونتائجه‪ ،‬من المية بأشكالها‪ ،‬من‬
‫الفقر رغم غنى البلد بالمادة الولية‪ ،‬من الظلم والقهر والستعباد‪ ،‬من ومن‪ ،‬ومن‪ ،‬وهو ل يعرف حقيقة مرضه‬
‫ولم يحاول أن يعرفه‪ ،‬بل كل ما في المر أنه شعر باللم‪ ،‬ول يزال اللم يشتد‪ ،‬فجرى نحو الصيدلية‪ ،‬يأخذ من‬
‫‪ .‬آلف الزجاجات ليواجه آلف اللم‬
‫وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية‪ ،‬فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض‬
‫‪ .‬لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواًء أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في‬
‫‪ .‬الداخل‬
‫لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبًا الشفاء‪ ،‬ولكن من أي مرض ؟ وبأي دواء ؟ وبدهي أننا ل‬
‫نعرف شيئًا عن مدة علج كهذا‪ ،‬ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن‪ ،‬لها دللة اجتماعية‬
‫يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل ‪ .‬وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك‬
‫‪ .‬الحقبة التاريخية التي نحياها‪ ،‬ويمكننا أيضًا أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها‬
‫إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلث مشكلت أولية ‪ :‬مشكلة النسان‪ ،‬ومشكلة التراب‪ ،‬ومشكلة الوقت‪ ،‬فلكي نقيم‬
‫‪ .‬بناء نهضة ل يكون ذلك بأن نكدس المنتجات‪ ،‬وإنما بأن نحل هذه المشكلت الثلث من أساسها‬
‫ل ‪ :‬مشكلة النسان‬
‫… أو ً‬
‫… ثانيًا ‪ :‬مشكلة التراب‬
‫… ثالثًا ‪ :‬مشكلة الوقت‬
‫‪ :‬النسان ‪1ً-‬‬
‫‪ .‬إن المشروع الصلحي يبدأ بتغيير النسان‪ ،‬ثم بتعليمه النخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء‬
‫وتبدأ عملية التطور من النسان لنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء‪ ،‬وتحقيق قفزات‬
‫نوعية‪ ،‬تمهيدًا لظهور الحضارة ‪ .‬أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديسًا وزيادة‪ ،‬فإنها تبقى تجميع كمي ل يعطي‬
‫‪) .‬معنى كيفيًا نوعيًا‪ ،‬إل بسلمة استخدام النسان له)‪201،200:8‬‬
‫ل في أنفسنا وإل فإن العربي لن يستطيع إنقاذ نفسه ول إنقاذ‬ ‫فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أو ً‬
‫ل … لقوله تعالى‬ ‫الخرين‪ ،‬ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير‪ ،‬والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أو ً‬
‫“إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” )سورة الرعد‪ ،‬الية ‪ ،(11 :‬وعندها يجب على العربي أن يحقق‬
‫‪ :‬بمفرده شروطًا ثلثة‬
‫‪ .‬أن يعرف نفسه ‪1-‬‬
‫) أن يعرف الخرين‪ ،‬وأن ل يتعالى عليهم وأن ل يتجاهلهم )‪2- 59،58:8‬‬
‫ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة‪ ،‬بالصورة التي أجريت عليها ‪3-‬‬
‫كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للستعمار والتخلف وأصناف التقهقر‬
‫فالنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء‪ ،‬ومهما جرت محاولت تحديثية بوساطة‬
‫الستعارة‪ ،‬أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية‪ ،‬فإن هذه المحاولت ستكون عقيمة‪ ،‬طالما أنها لم تبدأ من‬
‫حيث يجب‪ ،‬فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ‪ ،‬والغني بأفكاره على حساب اشيائه‬
‫إن العلوم الخلقية والجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطرًا في مجتمع‬
‫مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده‪ ،‬أشق كثيرًا من صنع‬
‫محرك أو تقنية متطورة‪ ،‬ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الختصاصات هم الكثر عددًا في‬
‫ل على مسيرة‬ ‫البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إل حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري‪ ،‬فصاروا عبئًا ثقي ً‬
‫التنمية والصلح‪ ،‬فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلت بطريقة‬
‫علمية عملية‪ ،‬وإل لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر‪ ،‬ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل‬
‫‪ .‬في سائر مستويات عملنا‬
‫ل في مستوى الحديث المجرد‪ ،‬لن كل عمل اجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من‬ ‫فلتبدأ المنهجية او ً‬
‫‪ .‬الشخاص‬
‫إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الفكار‪ ،‬وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد‬
‫الحديث إذن ل تخص حسن الداب فقط‪ ،‬بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل ‪ .‬ونحن نجد هذه الصلة‪ ،‬بصورة‬
‫ل في تشييد برج بابل‪ ،‬عندما اختلفت‬ ‫رمزية‪ ،‬في العهد القديم عندما يقص علينا‪ :‬كيف اصبح عمل القوم مستحي ً‬
‫‪ .‬ألسنتهم‪ ،‬ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد ما تعطل تبليغ الفكار بالكلم‬
‫فالقضية إذن ل تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات والصالونات والمقاهي فحسب‪،‬‬
‫بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية‪ ،‬فحيث ل يكون الحديث لمجرد التسلية‪ ،‬يجب أن يخضع لقواعد‬
‫العمل‪ ،‬الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة‪ ،‬سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الفكار‪ ،‬وفي هذا‬
‫المستوى‪ ،‬يتداخل الجانب الخلقي والجانب المنطقي ليكونا معًا العمل الفعال أو العمل التافه)‪ (40:8‬وأظن أننا ل‬
‫‪ .‬نزال كأمة في المستوى الثاني‬
‫فليس من الضروري ‪ -‬ول من الممكن ‪ -‬أن يكون لمجتمع فقير‪ ،‬المليارات من الذهب كي ينهض‪ ،‬وإنما ينهض‬
‫بالرصيد الذي ل يستطيع الدهر ان ينقص من قيمته شيئًا‪ ،‬الرصيد الذي وضعته العناية اللهية بين يديه ‪ :‬النسان‪،‬‬
‫والوقت)‪ ،(60:2‬فالثورة ل ترتجل‪ ،‬إنها إطراد طويل‪ ،‬يحتوى ما قبل الثورة والثورة نفسها‪ ،‬وما‬ ‫والتراب‪،‬‬
‫بعدها والمراحل الثلث هذه ل تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية‪ ،‬بل تمثل فيه نموًا عضويًا وتطورًا تاريخيًا‬
‫‪) .‬مستمرًا‪ ،‬وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب المال)‪12،11:2‬‬
‫فالثورة قد تتغير إلى “ل ثورة” بل قد تصبح “ضد الثورة” بطريقة واضحة خفية‪ ،‬والمر الذي ل يجوز أن يغيب‬
‫عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعًا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح ‪ -‬ما ضد‬
‫الثورة ‪ -‬طبقًا لمبدأ التناقض تناقضًا مستمرًا‪ .‬حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات ‪.‬‬
‫‪) .‬بحيث ل يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما‪ ،‬بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك)‪14،13:2‬‬
‫وطالما كانت الرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار‬
‫هذه الرادة حتى ل تقوى على احتضان المصير‪ ،‬والصراع الفكري يجد إطاره الوسع في البلد المحكومة بشبكة‬
‫من اليحاءات‪ ،‬تدلي بها مراصد الستعمار‪ ،‬لتصنع متقلب الحداث وسوء منقلبها حيال كل نهضة فاعلة في‬
‫‪ .‬عالمنا العربي والسلمي‬
‫فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية‪ ،‬لننا بها ننظم خطانا في ثبات الديم‪ ،‬وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة‪ ،‬ونحشد‬
‫‪ .‬وسائلنا في وثيق النجاز‬
‫إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها ‪ .‬وخيار العالم الغربي ذي الصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى‬
‫ما حوله مما يحيط به ‪ :‬نحو الشياء‪ ،‬بينما الحضارة العربية السلمية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح‬
‫‪ .‬خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة ‪ :‬نحو الفكار‬
‫والنسان حينما ينظم شبكة علقاته الجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها‪ ،‬فإنه يتحرك في مسيرته عبر الشخاص‬
‫والشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعًا للعلقة بين العناصر‬
‫‪ .‬الثلثة المتحركة ‪ :‬الشياء‪ ،‬الشخاص‪ ،‬الفكار‬
‫فهناك توازن لبد منه بين هذه العناصر الثلثة يسكب مزيجها في قوالب النجاز الحضاري‪ ،‬فإذا ما استبد واحد‬
‫من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج‬
‫‪ .‬التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص‬
‫ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته‪ ،‬تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في‬
‫الطار القتصادي إسرافًا محضًا ‪ .‬أما في البلد المتقدم وطبقًا لدرجة تقدمه‪ ،‬فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج‬
‫ل نحو الهروب‬ ‫نوعًا من الشباع‪ ،‬إنه يفرض شعورًا ل يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله‪ ،‬فيولد مي ً‬
‫‪ .‬إلى المام الذي يدفع النسان المتحضر دائمًا إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله‬
‫لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه ‪ .‬وكثيرًا‬
‫ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا التجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم‬
‫الفكرة البناءة من وراء سقوط الشخاص الذين يمثلونها في النهاية‪ ،‬وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة‬
‫‪ .‬الصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد‬
‫فعدم التوازن في العناصر الثلثة يفضي بنا على انهيار المجتمع‪ ،‬والمجتمع العربي السلمي يعاني في الوقت‬
‫الحاضر بصورة خاصة من هذه التجاهات‪ ،‬لن نهضته لم ُيخطط لها ‪ .‬ولم ُيفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها‬
‫‪ .‬عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي‪ ،‬وعلى الغلب الثنين معًا‬
‫إن أهمية الفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين ‪ :‬فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة‬
‫‪ .‬الجتماعية‪ ،‬وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة‪ ،‬تجعل النمو الجتماعي صعبًا أو مستحي ً‬
‫ل‬
‫ل عن ذلك جانب آخر لهمية الفكار في العالم الحديث ‪ :‬ففي القرن التاسع عشر كانت العلقات بين‬ ‫وهنالك فض ً‬
‫المم والشعوب علقات قوة‪ ،‬وكان مركز المة يقدر بعدد مصانعها‪ ،‬ومدافعها‪ ،‬واساطيلها البحرية‪ ،‬ورصيدها‬
‫من الذهب‪ ،‬ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطورًا معلومًا‪ ،‬هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها‬
‫قيمة قومية ودولية ‪ .‬هذا التطور لم تشعر به كثيرًا البلدان المتخلفة‪ ،‬لن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها‬
‫‪) .‬ضربًا من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على )الشياء‬
‫فالنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق )عالم الشياء(‪ ،‬أو هو بتعبير‬
‫‪ .‬آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف…الخ‬
‫وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الجتماعية‪ ،‬إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة‬
‫الجتماعية إلى تكديس المشكلت‪ ،‬فلكي يصبح مركب النقص لديه َفّعال مؤثرًا ينبغي أن يرد النسان تخلفه إلى‬
‫‪ .‬مستوى الفكار ل إلى مستوى الشياء‪ ،‬فإن تطور العالم الجديد دائمًا يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية‬
‫ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الفكار‪ ،‬ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام‬
‫لفكرة التوجيه‪ ،‬فهو بصفة عامة قوة في الساس‪ ،‬وتوافق في السير‪ ،‬ووحدة في الهدف‪ ،‬فكم من طاقات وقوى لم‬
‫ُتستخدم؛ لننا ل نعرف كيف ُنكّتلها‪ ،‬وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى‬
‫)صادرة عن المصدر نفسه‪ ،‬ومتجهة إلى الهدف نفسه)‪67:3‬‬
‫فالتوجيه هو تجنب السراف في الجهد وفي الوقت‪ ،‬فهناك مليين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلد‬
‫السلمية صالحة لن تستخدم في كل وقت‪ ،‬والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من مليين السواعد‬
‫والعقول‪ ،‬في أحسن ظروفه الزمنية والنتاجية‪ .‬وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف‬
‫‪ .‬المنشود‬
‫)فل يكفي مطلقًا أن ننتج أفكارًا‪ ،‬بل يجب أن نوجهها طبقًا لمهمتها الجتماعية التي نريد تحقيقها)‪67:3‬‬
‫إننا نرى في حياتنا اليومية جانبًا كبيرًا من الل فاعلية في أعمالنا‪ ،‬إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي‬
‫‪ .‬المحاولت الهازلة‬
‫وإذا ما أردنا حصرًا لهذه القضية فإننا نرى سببها الصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الشياء ووسائلها‪،‬‬
‫وبين الشياء وأهدافها‪ ،‬فثقافتنا ل تعرف مثلها العليا وفكرتنا ل تعرف التحقيق‪ ،‬وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل‬
‫)نعمله وفي كل خطوة نخطوها )‪87:3‬‬
‫إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة‪ ،‬ولكن منطق العمل والحركة‪ ،‬وهو ل يفكر ليعمل بل ليقول كلمًا‬
‫مجردًا‪ ،‬بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرًا مؤثرًا ويقولون كلمًا منطقيًا من شأنه أن يتحول‬
‫‪ .‬في الحال إلى عمل ونشاط‬
‫أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملحظات ويكفينا لذلك أن نرى‬
‫‪.‬بالعين المجردة ما يدور في حياته القتصادية والسياسية‬
‫إننا لو وضعنا سلمًا للقيم الثقافية جنبًا إلى جنب مع السلم الجتماعي لقررنا مبدئيًا أن السلمين يتجهان في التجاه‬
‫‪ .‬نفسه من السفل إلى العلى أي أن المراكز الجتماعية تكون تلقائيًا موزعة حسب الدرجات الثقافية‬
‫وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الزمة الثقافية على شرط أنها لم تبلغ درجة‬
‫اللرجوع‪ ،‬أما في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة‪ ،‬فإن السلمين ينعكسان‪ ،‬الواحد بالنسبة للخر إنعكاسًا تصبح معه‬
‫القاعدة الشعبية ‪ -‬على القل بمحافظتها على الخلق – أثرى ثقافيًا من قيادتها‪ ،‬فمن يرقى درجات السلم ويأخذ‬
‫مكانه ودوره الجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية‪ ،‬بل من يرضى عليه أولو‬
‫)المر في السلطة)‪94:3‬‬
‫لكن كيف نخلص النسان من الستعمار الثقافي ؟ والذي معناه استمرار الستعمار السياسي والقتصادي إن‬
‫النسان المطلوب تغييره من أجل تنشيط عملية البناء الحضاري ل يمكن تغييره وتخليصه من الدونية باتجاه‬
‫ل ‪ .‬وشعورًا متعاليًا‬ ‫الخر المستعمر‪ ،‬إل إذا هيأنا له مناخًا تربويًا متحررًا من النفوذ الستعماري وجوًا ثقافيًا أصي ً‬
‫بالشخصية وعلى أي حال فإن الفرد منذ ولدته في عالم من الفكار والشياء يعتبر معها في حوار دائم‪ ،‬فالمحيط‬
‫الثقافي الداخلي الذي ينام النسان في ثناياه ويصحو‪ ،‬والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية ُتَكّون في الحقيقة‬
‫إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة مّلفزة‪ ،‬ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتها مفهومة لنا‬
‫ولمعاصرينا‪ ،‬عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الفكار وعالم الشياء وعالم العناصر‪،‬‬
‫) فإذا بها تكشف عن مضمونها تمامًا كما كشفت التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية )‪55:3‬‬
‫ل خفايا عالم الشياء في هذه الحالة تتوالى‬‫فالبداع والعطاء لن يكونا إل عندما نترك لعالم الفكار أن يحاول ح ّ‬
‫الحلول تترى‪ ،‬وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما‪ ،‬أما إذا كان عالم الفكار مستعارًا فسيكون عنده قصور‬
‫‪ .‬في الكشف‪ ،‬وتراوح المور العلمية مكانها‬
‫وإذا أردنا أن ننشئ ذاتًا جديدة لنسان اليوم في العالم العربي والسلمي‪ ،‬فيقتضي ذلك قبل كل شيء تنقية المحيط‬
‫السروي‪ ،‬والمدرسي‪ ،‬والجتماعي العام‪ ،‬من الستعارات التي تحمل في طياتها هدفًا إستعماريًا تخريبيًا‪ ،‬يحاول‬
‫زرع التفقير والتجهيل والنحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل‪ ،‬وأهمها استغلل غفلتنا )‪ (222:8‬ويتحدد دور‬
‫ومكانة الفرد في أمته تبعًا لعلقة المجتمع بالشياء أم بالشخاص أم بالفكار‪ ،‬إذ يمكن الشارة إلى أوجه التشابه‬
‫بين بعض مظاهر النمو العقلي عند الفرد‪ ،‬والتطور النفسي – الجتماعي للمجتمع‪ ،‬وهذا الخير يمر هو أيضًا‬
‫بالعمار الثلثة‬
‫‪ .‬مرحلة الشيء‪1-‬‬
‫‪ .‬مرحلة الشخص‪2-‬‬
‫‪ .‬مرحلة الفكرة‪3-‬‬
‫بيد أن النتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد ‪ .‬فكل مجتمع مهما كان‬
‫مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد‪ ،‬ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلثة ‪ :‬الشياء‬
‫والشخاص‪ ،‬والفكار‪ ،‬ولكن يظل هنالك دائمًا رجحان لحد هذه العوالم الثلثة‪ ،‬وبهذا الرجحان الذي يظهر في‬
‫‪) .‬سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات)‪36:4‬‬
‫فالمجتمع المتخلف ليس موسومًا حتمًا بنقص في الوسائل المادية )الشياء(‪ ،‬وإنما بافتقاره للفكار‪ ،‬ويتجلى بصفة‬
‫خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه‪ ،‬بقدر متفاوت من الفاعلية‪ ،‬وفي عجزه عن إيجاد غيرها‪،‬‬
‫وعلى الخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الطلق‪ ،‬عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة‬
‫‪ .‬بالتصدي لها‪ ،‬أما حاله مع عالم الشخاص‪ ،‬فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثنًا ُيعبد‬
‫ول خلص لمجتمع من تخلفه إل إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم الفكار‪ ،‬فالثورة حين تخشى‬
‫‪ .‬أخطاءها ليست بثورة‪ ،‬وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالمر أدهى وأمر‬
‫‪) .‬وفي هذا يقول ماركس ‪ :‬يجب دائمًا أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى ل تلتهمنا)‪16،15:2‬‬
‫‪) .‬فإن أي ثورة‪ ،‬لن تستطيع تغيير النسان إن لم تكن لها قاعدة أخلقية قوية)‪- 21:2‬‬
‫إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة‪ ،‬وليس غريبًا في هذا المناخ من ‪-‬‬
‫الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات‪ ،‬ولو كان ثمنها مزيدًا من التقشف لن الصعوبات ل تزال بين عشية وضحاها‬
‫‪ .‬بعصا سحرية)‪ ،(24،23:2‬وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق‬
‫أما الحق … فما أغراها من كلمة ! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب النتفاعيين والوصوليين والنتفاعين ‪-‬‬
‫النتهازيين بينما كلمة الواجب ل تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقًا لنهضة مجتمعهم)‪ .(29:2‬فالفرد في‬
‫المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته‪ ،‬بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على‬
‫‪) .‬الحقوق‪ ،‬فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك)‪34:2‬‬
‫‪ .‬التراب ‪ :‬وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع النسان والوقت في فكر مالك ابن نبي‪2-‬‬
‫وحيث يتكلم عن التراب ل يبحث في خصائصه وطبيعته‪ ،‬ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الجتماعية‪،‬‬
‫وهذه القيمة الجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه‪ ،‬فحينما تكون قيمة المة مرتفعة‪ ،‬وحضارتها متقدمة‪،‬‬
‫يكون التراب غالي القيمة‪ ،‬وحيث تكون المة متخلفة – كما هو الحال اليوم ‪ -‬يكون التراب على قدرها من‬
‫النحطاط‪ ،‬وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه‪ ،‬فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء‬
‫‪) .‬على امتداد الوطن العربي ‪ .‬فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة)‪140:1‬‬
‫وبدهي أنه ل حل لهذه الزمة غير الشجرة‪ ،‬لكن إذا كان النسان الزارع لهذه الشجرة أو المؤتمن على رعايتها‪،‬‬
‫يعيش حالة تصحر داخلي‪ ،‬فل أمل من رؤية اللون الخضر مرة ثانية تحت نظر ويد إنسان كهذا ‪ .‬ولنا في‬
‫سورية تجربة لوقف التصحر يمكن أن نعتبرها متقدمة‪ ،‬فسنويًا يعلن المسؤولون أنه تم غرس عشرات المليين‬
‫من الغراس‪ ،‬لكننا على يقين أن واقع الحال غير ذلك سواء لعدم العناية المستمرة‪ ،‬أو لعدم الدقة في الرقم‬
‫‪.‬الحصائي‬
‫إن ترابنا العربي ل يزال بكرًا‪ ،‬رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في السطح أو في العمق من قبل‬
‫‪ .‬الخرين‪ ،‬وعلى الغلب بسبب إهمالنا له وبشكل عدواني‬

‫الوقت ‪ :‬وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة ‪3-‬‬


‫إن الزمن نهر قديم يعبر العالم‪ ،‬ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب؛ والحقل الذي‬
‫يعمل به وهذه الساعات التي تصبح تاريخًا هنا و هناك ؛ قد تصير عدمًا إذا مرت فوق رؤوس ل تسمع خريرها‪،‬‬
‫‪) .‬وإذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون ل تساوي شيئًا)‪59:2‬‬
‫لكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحيانًا‪ ،‬وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي ل تعوض)‬
‫‪ ،(145:1‬وحينما ل يكون الوقت من أجل الثراء أو تحصيل النعم الفانية‪ ،‬أي حينما يكون ضروريًا للمحافظة‬
‫على البقاء‪ ،‬أو لتحقيق الخلود والنتصار على الخطار‪ ،‬يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة‪ ،‬ويدركون‬
‫قيمتها التي ل تعوض‪ ،‬ففي هذه الساعات ل تهم الناس الثروة أو السعادة أو اللم‪ ،‬وإنما الساعات نفسها ‪.‬‬
‫فيتحدثون حينئذ عن )ساعات العمل(‪ ،‬فهي العملة الوحيدة المصقلة التي ل تبطل‪ ،‬ول تسترد إذا ضاعت‪ ،‬إن‬
‫العملة الذهبية يمكن أن تضيع‪ ،‬وأن يجدها المرء بعد ضياعها‪ ،‬ولكن ل تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة‪،‬‬
‫‪).‬ول أن تستعيدها إذا مضت)‪146:1‬‬
‫وحظ الشعب العربي والسلمي من الساعات كحظ أي شعب متحضر‪ ،‬ولكن عندما يدق الناقوس مناديًا الرجال‬
‫والنساء والطفال إلى مجالت العمل في البلد المتحضرة … فأين يذهب الشعب ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة ‪..‬‬
‫فنحن في العالم السلمي نعرف شيئًا يسمى )الوقت(! ‪ .‬ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم‪ ،‬ولننا ل ندرك معناه‬
‫ول تجزئته الفنية ؛ لننا ل ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية‪ ،‬ولسنا نعرف إلى الن فكرة )الزمن( الذي‬
‫ل وثيقًا بالتاريخ)‪ (146:7‬وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والنتاج‪ ،‬وهو معنى الحياة‬
‫يتصل اتصا ً‬
‫الحاضرة الذي ينقصنا‪ ،‬هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد‪ ،‬هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط‪ ،‬في‬
‫‪ .‬تكوين المعاني والشياء‬
‫فالتاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما‪ ،‬فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق‪،‬‬
‫وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا ‪ .‬ويكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة‪ ،‬من الساعات‬
‫‪) .‬الربع والعشرين التي تمر على أرضنا يوميًا)‪147:1‬‬
‫إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ‪ ،‬ل يجب أن يضيع هباء‪ ،‬كما يهرب الماء من ساقية خربة‪ .‬ول شك أن التربية‬
‫هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي السلمي تمامًا قيمة هذا المر ‪ .‬ولكن بأية وسيلة تربوية ؟‬
‫)إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب! )‪147:1‬‬
‫إن شعبًا هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة‪ ،‬وطنية‪ ،‬قيادية‪ ،‬حازمة في تطبيق القانون على الجميع‪ ،‬ول تسمح لي‬
‫انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه ريثما يعتاد الفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات‬
‫العمل حقيقية ومن خلل إنسان يستطيع استغلل الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول ‪ :‬أننا بدأنا نهضة عملية‬
‫‪.‬علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الجتماعي التي تناسبنا‪ ،‬و النهضة ل تقوم إل بأيدي التقياء و الذكياء‬
‫وقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلت التخلف المزمنة متجاوزا الظواهر الطافية على السطوح إلى‬
‫الجذور المتغلغلة في العماق‪،‬وباحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة‬
‫والفعالية‪ ،‬ومن مشكلة الستعمار إلى مرض القابلية للستعمار‪ ،‬ومن حالة تكديس الشياء إلى حالة البناء‪ ،‬ومن‬
‫المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أول‪ ،‬والنتقال من عالم الشياء والشخاص إلى عالم الفكار التي بها نبدأ‬
‫‪.‬بحل مشكلة التخلف‪ ،‬ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلت هي في الذات ل عند الخر‬
‫مفهوم النسان العربي الجديد بين البناء الثقافي والبناء الجتماعي‬
‫‪th, 2006‬أبريل ‪16‬‬
‫د‪ .‬الخضر شريط‬
‫جامعة الجزائر‬
‫إن الغرض من هذا الموضوع هو إبراز الكيفية التي يجب أن ُيعرف بها النسان كمفهوم سبق لهل العلم والفلسفة‬
‫الولين أن تناولوه‪ .‬ومنه نأتي على معنى النسان العربي في أتم صورة عنده للوقت المعاصر‪ .‬وهي الصورة‬
‫التي يجب أن تخضع – في نظرنا لعمليتين‪ :‬عملية تنحية لرواسب عصر ما بعد الموحدين‪ .‬وعملية بناء للدللة‬
‫‪.‬الثقافية التي يجب أن يسبغ بها‪ .‬تلك الدللة التي ل نراها إل في عملية تنمية‬
‫‪.‬أول‪ :‬لمحصوله التاريخي‬
‫‪.‬وثانيا لمحصوله الجتماعي‬
‫على هذا النسان أن ينتقي الفكار الصحيحة والصالحة‪ ،‬من الراهن الذي يحيط به ‪ .‬فإذا كان هذا النسان قد قام‬
‫بدور ما يشبه إرهاصات النهضة ومنه لم يتمكن من تطوير المجتمع العربي‪ .‬فإن ما يقوم به هذا النسان الجديد‬
‫‪ .‬هو عملية ثقافية جد معقدة‬
‫وإذا كان هذا الخير يحتوي على الجذور والوراق للتنفس‪ .‬فما هو السب في عدم إقلعه الثقافي؟‬
‫‪.‬لمعالجة إشكالية هذا الموضوع سوف نتخذ من التحليل النفسي منهجا للذات العربية دون أن نكون عبيدا له‬
‫كما أننا نستعين بالدراسات الجتماعية التي حللت المجتمع العربي كنموذج دون أن ُنمكنها من تصورنا لهذا‬
‫‪.‬النسان الجديد‪ .‬وعليه سوف تمكننا التنوغرافيا من الولوج إلى خبايا هذا المجتمع ومنه خفايا هذا النسان‬
‫‪.‬في المفهوم الكلسيكي للنسان‬
‫لقد قال الفلسفة قديما أن النسان حيوان ناطق وهم يعنون بذلك انه الوحيد الذي تميز بخاصية التفكير‬
‫وخاصية اللغة‪ ،‬والبحوث المعاصرة تؤكد على أن النسان )ذلك المجهول ()]‪([1‬هو مفهوم ل يخضع لتعريف‬
‫واحد وحسب‪ ،‬بل من الممكن أن يكون جملة تعار يف تشترك فيها مختلف التخصصات العلمية‪ .‬كأن نعثر على‬
‫التعريف الفيزيائي للنسان كما أننا نعثر على التعريف الكيميائي له والبيولوجي والجتماعي والنفساني‬
‫والقتصادي وإلخ … والمهم هنا أن النسان هو تظافر التعاريف هذه كلها على مختلف موضوعاتها‪ .‬وصدق‬
‫‪:‬الشاعر العربي حين قال‬
‫وفيك انطوى العالم الكبر‬ ‫‪.‬وتحسب أنك جرم صغير‬
‫‪.‬ومن هنا ما هي دللة أو مفهوم النسان العربي ؟وما المقصود بالجديد‪ .‬ذاك ما سنتناوله في النقطة الموالية‬
‫‪:‬مفهوم النسان العربي الجديد‬
‫كي نصل إلى إعطاء مفهوم يضبط هذا التحديد ل بد وأن نستعين بالتاريخ الثقافي لهذا النسان دون أن نكون‬
‫عبيدا له‪ .‬كما أننا سوف نستعين بأهم الدراسات الجتماعية التي أقيمت حول هذا الموضوع‪ .‬وكذا الحال بالنسبة‬
‫للدراسات التربوية والقتصادية‪ .‬بمعنى أننا سوف نقوم بعملية تحليل لمختلف الدراسات هذه من أجل تنحية ما‬
‫يتنحى منها‪ ،‬بغرض الوقوف على مفهوم النسان العربي الجديد ‪ .‬وسوف نقوم بعملية بناء أيضا تصب في‬
‫الغرض نفسه‪.‬أول ماذا عن التاريخ الثقافي للنسان العربي؟‬
‫‪.‬فبل الخوض في هذا بودنا أن نتفحص أول معنى ودللة عربي‪ ،‬كما تفحصنا دللة النسان في السابق‬
‫عندما نتحدث عن هذه الدللة نجدها تعني في ما تعني أنها نسبة إلى العرب وهذه الخيرة إنما هم ولد إسماعيل‬
‫والعراب جمعه في الصل وصار ذلك اسما لسكان البادية ) قالت العراب آمنا الية‪ .‬والعراب أشد كفرا ونفاقا‬
‫الية‪.‬ومن العراب من يؤمن بال واليوم الخر (وقيل في جمع العراب أعاريب‪ ،‬قال الشاعر‪ :‬أعاريب ذووا‬
‫ف في المقال‬
‫ك وألسنٍة لطا ٍ‬
‫‪.‬فخر بإف ٍ‬
‫والعرابي في التعارف صار اسما للمنسوبين إلى سكان البادية‪ ،‬والعربي‪ ،‬المفصح والعراب البيان يقال‪ :‬أعرب‬
‫عن نفسه‪ … .‬والعربي الفصيح البين من الكلم قال ال تعالى قرآنا عربا…‪.‬والعربي إذا نسب إليه قيل عربي‬
‫فيكون لفظه كلفظ المنسوب إليه‪ ،‬ويعرب قيل هو أول من نقل السريانية إلى العربية فسمي باسم فعله‪]).‬‬
‫‪.([2‬ويقابل معنى عربي لفظ أعجمي ” والعجمة خلف البانة‪ ،‬والعجام البهام‪ ،‬واستعجمت الدار إذا بان أهلها‬
‫ولم يبق فيها عريب أي من يبين جوابا‪ ،‬ولذلك قال بعض العرب‪ :‬خرجت عن بلد تنطق‪ ،‬كناية عن عمارتها‬
‫عجمة عربيا كان أو غير عربي‪ ،‬اعتبارا بقلة‬ ‫وكون السكان فيها‪.‬والعجمي منسوب إليهم‪ ،‬والعجم من في لسانه ُ‬
‫)]فهمهم عن العجم …‪3]).‬‬
‫وإذا ما تفحصنا مقدمة العلمة بن خلدون نجده يعطي الدللة تقريبا نفسها لكلمة العرب يقول‪ :‬إن العرب ل‬
‫يزالون موسومين بين المم بالبيان في الكلم‪ ،‬والفصاحة في المنطق‪ ،‬والذلقة في اللسان‪ ،‬ولذلك سموا بهذا السم‬
‫‪]).‬فإنه مشتق من البانة لقولهم‪ ”:‬أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه…” )]‪4‬‬
‫بينا في السابق ان النطق خاصية النسان وبينا كيف أنها على علقة متينة بالتفكير‪ :‬وبينا كيف أن العربي موسوم‬
‫بين المم في البيان في الكلم‪ :‬بمعنى أنه بالسليقة واضح المعاني كما ‪،‬أنه واضح التفكير وسنبين كيف أن التاريخ‬
‫تحدث عنه أنه قاد حضارة تلك الحضارة التي خلفت للنسانية إرثا وتراثا أقل ما يقال عنه أنه ساهم في بناء‬
‫الحضارة المعاصرة بشهادة الخرين له )]‪([5‬وتغيرت الصورة التي كان ينظر منها للعربي من الحالة التي كان‬
‫إذا طلعت هامة قال الفرنجة أنها هامة أبو الفداء الرحالة الجغرافي العربي إلى وضع مقلوب تماما ولعله في‬
‫نظرنا يتحمل مسؤولية هذا النقلب الهائل )ما فعله( عصر النحطاط في هذا العربي ‪ ،‬كما يتحمل القرن‬
‫‪:‬التاسع)]‪ ([6‬عشر عبء المسؤوليتين‬
‫‪1-‬‬ ‫مسؤولية أن العربي بقي غير مكترث بما فعله به الستعمار ولم يغير الليات التي تمكنه من القلع في‬
‫التنمية الحقيقية‬
‫وثاني المسؤولية أنه لم يستغل فرصة”النهاك الذي تعرضت له تلك “العجوز الشمطاء” ‪ -‬بعد استقلله‪2- -‬‬
‫لصالح تنمية وتطوير تلك الذات العربية التي كانت بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى‪ .‬ومن هنا رأينا أن مسألة‬
‫تطوير وتنمية النسان العربي تنمية مستدامة هي أول وقبل كل شيء تنمية وتطوير للذات العربية ولكن وكيف‬
‫‪ :‬ذلك ؟ تلك هي المحاولة التي سوف نكشف عن خيوطه في النقاط التالية‬
‫بعد تذليلنا لما يمكنه أن ل يوضح المقصد ننظر الن في عمليتي التنحية والبناء الثقافي لمفهوم النسان‬
‫العربي الجديد‪ .‬أول‪ :‬يحدد لناأحد المفكرين المعاصرين‪ :‬مفهوم النسان‪ ،‬فهو في نشأته يوجد على شكله الطبيعي‬
‫أي تكون مجموع الصفات البيولوجية هي التي تصنع سمات شخصيته سوء أكانت هذه الصفات صفات جسمانية‪،‬‬
‫كالطول أو القصر‪ ،‬والسمنة والنحافة‪ ،‬وضخامة البنية الجسدية … إلخ‪ ” .‬أو كانت هذه الصفات صفات وراثية‪،‬‬
‫‪.‬كوراثة الصفات السائدة من الباء والجداد والصفات الخاصة بالجانب الطبيعي في النسان‬
‫والنسان بهذه الحالة شبيه بعالم الحيوان من حيث الخاصة البيولوجية لكنه يختلف عن هذا العالم الحيواني‬
‫ن عالم النسان اليوم بيولوجيا غير عالم الحيوان والمهم هو أن الخاصية‬‫كليا‪ ،‬إذ أكد اليوم علماء البيولوجيا‪ ،‬أ ّ‬
‫الطبيعية في النسان ل توجد سوى في الحيوان‪ .‬وهكذا فإن الحياة الطبيعية في عالم النسان ل تؤهله فقط أن يلبي‬
‫حاجياته البيولوجية‪ ،‬لكن إلى جانب ذلك ُتوجد فيه أيضا مجموع الستعدادات الفطرية التي ُتمّكن الفرد من عمل‬
‫التغيير‪ .‬فالطبيعة عندما تأتي بالنوع النساني تأتي به كما هو بيولوجيا فقط –بينما‪ -‬حتى يكتمل دور النسان‬
‫وحتى ل يبقى النسان مجرد فرد بل يتحول إلى شخص – هناك عمل آخر ينتظر هذا النسان‪ ،‬هذا العمل هو‬
‫القيام بعملية تغيير وشحن للملكات الفطرية فيه‪ ،‬كي يوجهها نحو أهداف نبيلة ونحو غايات ترضي النسان في‬
‫جانبه القيمي‪ ،‬الخلقي خاصة‪ .‬إن هذا العمل هو ما يقوم به الفرد من عملية تغيير نفسي تتماشى والوجهة التي‬
‫تحددها له الشرائع واليديولوجية الخاصة به‪ .‬والنسان بهذا الحال يمكن له أن يتغير من فرد إلى شخص عندما‬
‫يغير أول‪ :‬الجانب الذاتي فيه‪ ،‬من حالة ” الطين ” إلى حال ” العقل “‪ .‬حينئذ يمكنه أن يغير الواقع المحيط به‪ ،‬ثم‬
‫‪ :‬أن عملية التغيير هذه تكون وفق شروط هي‬
‫‪.‬أول ‪ :‬أن يقتنع النسان بالفكرة الموجهة لمنهجه في الحياة‬
‫)]ثانيا‪ :‬أن ُيقنع الخرين بهذه الفكرة‪7]).‬‬
‫وإذا قام النسان بهذا العمل الثنائي‪ ،‬فإنه يستطيع أن يكون مساهما إلى حد ما في صنع التاريخ‪ .‬وبالتالي‬
‫‪.‬نستطيع أن نقول عنه أنه شخص مساهم في صنع الحضارة‬
‫إلى كونه شخصا ” ‪ ” INDIVUDU‬إن عمل التغيير الذي يحول النسان من كونه فردا‬ ‫”‬
‫‪ :‬يقتضي أيضا عدة شروط ” ‪PERSONNE‬‬
‫‪.‬أول‪ :‬على النسان أن يتمكن من فهم نفسه‪ ،‬ومن فهم الواقع المحيط به‬
‫‪.‬ثانيا‪ :‬أن يكون متفهما للفكرة التي توجهه في فهم ذاته وفي فهم ذاك الواقع الذي يحيط به‬
‫والحقيقة أن المراد من هذا اللفظ هو أن النسان هذا يكون جديدا بما يتوفر عليه من مبرر ثقافي يؤهله لهذه‬
‫الجدة ‪ ،‬هذا المبرر الثقافي هو الذي بإمكاننا أن نعثر عليه في جملة المعطيات التي أشرنا إليها سابقا ‪ ،‬والتي تؤهله‬
‫أول تؤهله لهذا الصفة أي صفة الجدية‪.‬وإل وقعنا كمجتمع عربي في ما آل إليه َواقع أوروبا من فقدان لهذه‬
‫المبررات الثقافية التي عبرت عنها مثل حنه أِرْندت قفالت ‪ ” :‬لقد احتقر دعي)مدعوا( الثقافة الموضوعات‬
‫الثقافية بادئ المر لنها عديمة الفائدة إلى أن التقفها دعي الثقافة كعملة يشتري بها مركزا رفيعا في المجتمع أو‬
‫يكتسب بها درجة أعلى من العتداد بالنفس أي أعلى مما يعتقد أنه يستحق بطبيعته أو بمحتده ‪ .‬وفي هذه العملية‬
‫اعتبرت القيم الثقافية كغيرها من القيم الخرى – فكانت كسائر القيم‪ ،‬قيما للتبادل وبتنقلها من يد إلى يد بليت‬
‫كقطع النقود القديمة‪ .‬إنها فقدت القدرة التي تتميز بها كل الشياء الثقافية في الصل ‪ ،‬قدرة استرعت انتباهنا‬
‫وإدارة عواطفنا ‪ .‬فلما حدث هذا بدأ الناس يتحدثون عن ” تخفيض قيمة القيم “‪ .‬وجاءت نهاية هذه العملية كلها‬
‫في العشرينيات والثلثينيات في ألمانيا ‪ ،‬والربعينيات ‪ “Ausverkauf der werte‬بمجيء “سوق تصفية القيم‬
‫والخمسينيات في فرنسا ‪ ،‬حين بيعت القيم الثقافية والخلقية معا بأكملها “)]‪… ([8‬ونقصد بالمبررات الثقافية‪ .‬أي‬
‫تلك المجموعة الهائلة من الفكار والعلوم والفنون والمعارف التي يمكنها أول يمكنها أن تساهم في إنتاج الفرد‬
‫النموذج أو الفرد المثال ‪ .‬ولعلنا ونحن بصدد تحليلنا لهذا الكل يتبين لنا مدى قابليتها للقيام بالدور المنوط بها لدى‬
‫‪.‬الفرد العربي‬
‫‪:‬أول النسان العربي والبناء الجتماعي الثقافي‬
‫قلنا إن “الطبيعة توجد النوع‪ ،‬ولكن التاريخ يصنع المجتمع‪ .‬وهدف الطبيعة هو المحافظة على البقاء بينما‬
‫غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية هو منا نطلق عليه اسم الحضارة “‪([9]) .‬‬
‫‪ .‬ومن هنا باتت العودة‬
‫‪ :‬إلى التاريخ ضرورية ‪.‬فإذا قمنا بتحليل للموروث التاريخي للنسان العربي نجد أنه يتوفر على المعطيات التالية‬
‫أول أن النسان العربي بات ومنذ الهزة الولى التي تعرض لها في تاريخه ‪ :‬تلك التي اصطلح على تسميتها‬
‫بـ‪”:‬الفتنة الكبرى”)]‪([10‬يفرق بين ماهو من أتباع معاوية أو ما إن كان من أتباع )علي رضي ال عنه (‬
‫وبالضبط على أيام معركة صفين سنة ‪ 37‬هـ‪ .‬إذن كانت تلك بداية الهزة التي تعرض لها ضمير المسلم‪ .‬إل أن‬
‫تلك الهزة لم تكن لتأثر في عقله بالسرعة التي افتعلتها حكاية غاليليو والكنيسة المسيحية)]‪ . ([11‬ومن هنا رأينا‬
‫أن العقل تمتع بما يليق له من الزدهار والنمو والتطور إلى أيام ابن خلدون حيث باتت مثل مقدمته حروفا ميتة‬
‫أمام رجل ما بعد الموحدين‪ -‬حسب تعبير بن نبي‪ .-‬الشيء الذي جعل من المحاولت التي تلت هذا العصر‬
‫تشوبها شوائب عصر النحطاط ومن ثمة فل مكان لتقلد مهام التاريخ أمام هذا المجتمع الذي كنا نراه أنذاك‬
‫مترهل تارة وجامدا تارة أخرى) حيث ضاعت العقيدة بين جاحد وجامد( ‪ .‬ومؤرخو الفكر العربي يعودن بمحطته‬
‫إلى نقطة البداية في النهضة والتي كانت حسبهم تعود إلى صيحات كل من المدرستين ‪ :‬المدرسة الصلحية‬
‫والمدرسة الحديثة‪ .‬وأن كل من هاتين المدرستين بقيت تراوح مكانها في إيجاد المخرج للنهوض وللتطور‪.‬لكن‬
‫هيهات والسبب يعود إلى انه يجب فهم الذات العربية ومنها المجتمع العربي والسلمي وذلك بإعادة بنائه‬
‫‪.‬الجتماعي‬
‫وللحقيقة نقول أن البناء الجتماعي إنما يتم من البناء النفسي‪ .‬أي بمعنى أنه ل بد من توفر عمليتين‪ :‬أولها أن‬
‫نبني ذات الفرد والتي بموجب ‪-‬هذا البناء‪ -‬يتحول الفرد إلى شخص‪ .‬ثانيها ذاك الذي يتم في تطابق تام مع هذا‬
‫البناء والذي )هو البناء الجتماعي‪ .‬فيا ترى ما هي مقومات البناء النفساني أول؟ ثم ما هي مقومات البناء‬
‫‪. .‬الجتماعي‬
‫للحقيقة نقول أنه كي يتم البناء النفسي للذات العربية ل بد من عمليتين يجب أن تتمتع بهما هذه الذات ‪ ،‬العملية‬
‫الولى وهي عملية تنحية لما علق بها من شوائب رجل ما بعد الموحدين ذاك الذي ل يزال بيننا يحمل صوره‬
‫وأفكاره ‪ ،‬كما أن التنحية هذه تتطلب ما يسمى بالتغيير الجذري للفكار وللعادات التي ورثناها من ذاك العصر‬
‫) ولعل اجتهاد المفكر زكي نجيب محمود في هذا الباب جدير بالملحظة في كتابه تجديد الفكر العربي إل أن هذا‬
‫الخير بات طرحه متعلقا بتغيير في المنهج قبل الموضوعات أي في طريقة تفكيرنا وتعاملنا مع الشياء ()]‬
‫‪.([12‬إل أننا نقول أن التغيير هذا وإن كان جذريا فإنه ليس من قبيل “مستقبل الثقافة في مصر”)]‪ .([13‬لسبب‬
‫‪.‬بسيط هو أنه جرب كمنهج وأثبت فشله‬
‫ثم انه التغيير الذي هو مقام على أرضية صلبة أي على قواعد أساسها الغنى أي غنى النفس‪ ،‬حتى أن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم لما سئل عن المفلس فقال ليس المفلس من ل درهم له ول دينار وإنما المفلس هو الذي‬
‫يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا وضرب هذا و‪ ..‬أو كما قال‪ .‬من هذا الحديث نفهم أن الرسول الكريم كان بقوله هذا‬
‫يريد بناء ذات الفرد ‪ :‬ومن هنا فإن جملة شروط أخرى تكون في مقدمة هذا البناء أولها البناء الفكري ‪ :‬علينا أن‬
‫نرسخ في الجيال أن غنى الفرد من غنى أفكاره وأن إفلسه من إفلس أفكاره‪ .‬كأننا نسترشد بالقاعدة التي تقول‬
‫كون لي جيل من الشخاص )بل من الفكار( أقول لك من أنت‪ .‬إن التقويم الفكري للذات العربية مهم للغاية‪ ،‬وهو‬
‫الخر يتطلب بناء لعاملي الجذب والطراد النفسي‪ .‬أردت أن أقول أنه علينا في الوقت الذي نهتم فيه بتصحيح‬
‫وتوجيه علقات الفرد مع غيره‪ ،‬علينا أن نهتم بانعكاس هذه العلقة على ذاتية الفرد نفسه‪ .‬وهو ما يتطلبه منا‬
‫العمل التربوي‪ .‬يقول مالك بن نبي في هذا المعنى”فكما أن الفرد والمجتمع – في الظروف العادية – يعملن في‬
‫نفس التجاه‪ ،‬فإن هناك تبادل بين النعكاس الفردي والعلقة الجتماعية وبفضل هذا التبادل ينبغي أن نتوقع تدخل‬
‫الواقع الديني في هذا الجانب الجديد من المسالة‪ .([14])”.‬ومن هنا فإن البناء النفسي هو في الحقيقة كما أسلفنا‬
‫عملية تنحية وعملية بناء من جديد‪ :‬عملية تنحية لمفاهيم ولفكار ولسلوكات ولعادات ولتقاليد‪ ،‬أثبتت –تاريخيا‪-‬‬
‫أنها بالية ومن المثلة على ذلك السلوكات التي تجعل الفرد محاطا بهالة من القمامة تطارده أنى ما حل ‪ :‬هذه‬
‫السلوكات لبد من توجيه جمالي يقومها‪ .‬وكذلك فكرة تكديس الشياء كأن يكدس الفرد مجموعة هائلة من الشياء‬
‫وليكن مثل هذه المرة مجموعة من الهواتف في مكتبه هذا السلوك المشين ل يتقبله العقل وترفضه السلوكات‬
‫المتحضرة ومنه فعلى عامل التوجيه الثقافي أن يحل محله ‪ ،‬أي أن يمارس مهامه بل أن يتدخل بقوة السلطان لن)‬
‫ال يزع بالسلطان مال يزع بالقرآن(‪ .‬وكذا الحال مع تسيير وتيرة العمل في المصانع وفي المؤسسات القتصادية‬
‫والجتماعية والثقافية وحتى المؤسسات الكبر لي بلد من بلداننا العربية ‪ ،‬فلبد من حسن استعمال الوقت وهو‬
‫أيضا عمل شاق لن به عملية تنحية لما لصق بالذات العربية التي كانت تبني على أيام العباسيين‪ ،‬وأصبحت‬
‫مترهلة على أيامنا) مقارنة بوتيرة العمل والنتاج التي تعرفها البلدان المتقدمة( إن المجهودات “الجبارة” التي‬
‫يصدر ‪ Rotterdam 10‬بذلت في ميادين التنمية لم تصل إلى المستوى المطلوب )لما نعلم أن ميناء روتردام‬
‫‪ ).‬مرات ما تصدره كل الدول العربية مجتمعة‬
‫‪ () .‬إذن إن النسان العربي يعيش المسغبة والغبن رغم ثراء طبيعته‪.‬هذا الثراء الذي سبب له مشاكل‬
‫هذه وليس المشكل في أنها “شفيت عرجاء”‪-‬كما يقال‪ -‬وإنما المشكل في أن نتمادى في تركها وشانها ‪.‬على‬
‫الذات العربية هذه أن توفر القيام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق وهي المعادلة التي باتت تؤرق سياسيينا لسبب‬
‫بسيط هو أن هذه الذات العربية‪ ،‬نسيت أو تناست أن القيام بالواجب سابق على المطالبة بالحق أو القتصار على‬
‫هذه المطالبة فقط – طبعا لما لحق بهذه الذات من شوائب النحطاط‪ -‬في هذا المجال والذي بدوره سبب النطفاء‬
‫النفسي فلم تعد النفس هذه أو الذات العربية هذه فعالة بالكيفية المطلوبة منها‪ .‬وهو مرض كان قد أشار إليه حديث‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم يوما ما حين قال‪“ :‬نعمتان مغبونان فيهم بني آدم الصحة والفراغ”‪ ) .‬والقانون‬
‫الشاقولي بهذا الشأن ينزل كالصاعقة كلما دب في النفس هذا المرض‪.‬ومنه فلكي نتحول من هذا الوضع بالذات‬
‫‪ .‬العربية ل بد من مسايرة الجرومية للمنطق العملي بهذا الشأن‬
‫‪.‬وأما عن البناء الجتماعي ونقصد به ما يمكن أن يقوم به المجتمع للنسان العربي الجديد هذا‬
‫هناك قاعدة تقول ” والفاعلية تكون أقوى في الوسط الذي ينتج أقوى الدوافع وأنشط الحركات وأقوم‬
‫التوجيهات “) ]‪ .([15‬فإذا كانت الماركسية قد جعلت من الفرد بمثابة الخلية من الجسم من دافع تغليبها للكل على‬
‫الجزء‪ ،‬فإننا نقول أن هذا الكل أي المجتمع ل يقوم إل انطلقا من فعالية أفراده‪ .‬والمجتمع العربي ‪ :‬يواجهه تحدي‬
‫في مجاله الجتماعي ‪ :‬هذا التحدي هو أن علقاته الجتماعية قد تعرضت للتمزيق مع ذاك العهد)عهد النحطاط(‬
‫الذي ل زلنا نعاني من ترسباته في هذا الشأن‪.‬وأما اليوم فإن تلك “الحالة” لزالت معنا تطاردنا أنى ما حللنا‪.‬‬
‫ومرة قيل “أن الفرد للمجموع والمجموع للفرد”‪ .‬ومعنى هذا أن المجتمع يكون في عملية مد لعلقاته بالفراد‬
‫فيه‪ -.‬طبعا حتى ل تخلق تلك الهوة السحيقة التي عبرت عنها حنة أ رندت حيث قالت‪…“ :‬وبما أن المجتمع‬
‫بمعنى “المجتمع الصالح”اشتمل على مجموعة السكان التي لم يوجد لديها المال فقط‪ ،‬بل وجدت لديها إلى جانب‬
‫ذلك أوقات الفراغ ‪ ،‬أي الوقت الذي يخصص للثقافة ‪ ،‬فإن المجتمع الجماهيري يدل بل ريب على وضع جديد‬
‫تحررت فيه جمهرة السكان من عبء العمل المضني جسديا ‪ ،‬فأصبح لديها هي أيضا من أوقات الفراغ ما يكفي‬
‫“للثقافة”‪،‬إذن فالمجتمع الجماهيري والثقافة الجماهيرية ظاهرتان مترابطتان ‪ ،‬لكن القاسم المشترك بينهما ليس‬
‫)]الجمهور بل المجتمع الذي أدمج فيه الجمهور أيضا‪16]) -”… .‬‬
‫أعود وأقول هؤلء الفراد الذين يزودون المجتمع بما يملك من أفكار ومن قيم ومن مادة اقتصادية‪ .‬وسنأتي‬
‫‪.‬على تحليل لهذا الكل لنبين مدى إمكانية مساهمة النسان العربي في التنمية‬
‫بداية قلنا أنه كي ينطلق هذا المجتمع العربي ومنه النسان العربي ل بد له من عملية تنحية للقوارض‬
‫الجتماعية التي غالبا ما تأتي على تمزيق علقاته الجتماعية‪ .‬بمعنى ل بد من تربية المجتمع وكيف يعيش‬
‫للفراد فيه فنحن نشاهد أن النسان العربي يترهل في تقديمه للقيمة الخلقية أو للمادة القتصادية للغير‪ .‬وأن هذا‬
‫الغير غير مبال بما يقدم له مما يخلق نوعا من النكوص للذات الجتماعية‪ .‬هذه الخيرة التي عليها واجبان واجب‬
‫حماية الفراد وواجب انتقاء المجتمع المدني‪ .‬ولنبدأ بواجب حماية الفراد‪ :‬إن العلقة هذه تشبه إلى حد ما العلقة‬
‫العضوية التي تربط الباء بالبناء في السرة فكما أنه من واجب الباء على الولد حماية أبناءهم فكذلك من‬
‫واجب المجتمع حماية أفراده وذلك بتوفير الرعاية اللزمة لهم من تراحم ومن توادد ومن قيم أخرى‪ ،‬تزيد هذه‬
‫العلقات متانة‪ .‬وكذلك من واجبه أن يقدم لهم العون على نوائب الدهر‪ .‬أعني أن يقدم لهم المادة القتصادية‪ .‬التي‬
‫‪.‬تساعد على التنمية‪ .‬وبهذا يكونون مكونين للمجتمع التاريخي‬
‫إن النسان العربي عليه أن يبني أيضا عالم أفكاره الخاص به‪ :‬كأن يتميز بلون يرسم من خلله الفكرة التي‬
‫‪.‬تقود نشاطه الثقافي والعلمي والفني وكذا القيمي‪.‬وأن تشترك كل الوحدات السياسية في هذا اللون‬
‫إن كل مجتمع يرسم قبل انطلقه استراتيجيته كأن يسطر لنفسه أن يرتقي إلى مصاف الدول المتقدمة ‪ ،‬أو‬
‫‪.‬كأن يرسم معالمه الخاصة به التي قد تجعله متطورا إلى المنتهى‬
‫فبالنسبة لنا نحن في العالم العربي ل زال مشكل تحديد هذه الستراتيجية غير وارد بسبب أننا ل زلنا نعاني من‬
‫عدم امتلك الفكار التي تؤهلنا لذلك ‪ .‬هذه الفكار مع السف ل هي منمية للفكار التي اتفق على تسميتها‬
‫بالفكار اليسارية في الوصف السياسي ول هي بالفكار التي اتفق على وصفها بالفكار اليمينية ‪ .‬وذلك لسبب‬
‫واحد ووحيد هو أن التاريخ الحديث والمعاصر أكد فشلها‪ .‬والذي أكده الفشل ل ينتج سوى الفشل‪ ،‬كما أن العدم ل‬
‫يؤتي سوى العدم‪ .‬ومن هنا يطرح السؤال الذي من واجب العرب أن يفكروا فيه لماذا فشلنا في حين نجح غيرنا ؟‬
‫إن المسألة تتعلق إذن بإعادة النظر في البناء الثقافي للعالم العربي هذا البناء الذي يتطلب تصحيح الفكار كما‬
‫أشرنا ‪ ،‬وسوف نسوق أمثلة نوضح من خللها فشلنا في الفكرة‪.‬إننا نتذكر هزائمنا المتتالية في المجال السياسي‬
‫وفي المجال العسكري وفي المجال القتصادي وحتى في المجال الجتماعي‪.‬لقد سيقت إلينا كل تلك الهزائم بسبب‬
‫أننا نملك في كثير من الحيان البرامج ولكننا ل نملك الفكرة أو اليديولوجيا فالمفهومية أو اليديولوجية هي‬
‫النشيد الذي يقود عمل الشعب بأسره فهي الصوت الحيادي الذي يضبط إيقاع مجهود المة…‪ .‬كي تتظافر على‬
‫إنهاض مصيرها …‪ .‬فهذا النشيد ل يمكن أن ينبعث إلمن روح الشعب]‪ ،([17‬إنها من تقاليده من تاريخه ومن ما‬
‫يجعل عمله أو نضاله مقدسا في ناظريه “‪ .‬وهو يعني بذلك أن المفهومية هي ذاك النسق من الفكار الوظيفية من‬
‫أجل القيام الجماعي للعمل المشترك في التاريخ‪.‬ولكي تتحقق هذه المفهومية أو اليديولوجية ل بد من توفر شرط‬
‫‪:‬وهي‬
‫أول ‪ ” :‬الجماع ” لن الجماع هو بالتالي المقياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة]‪ ([18‬غير أن هذا‬
‫– أي التضارب‬ ‫الجماع ل يكون مجديا هو الخر إل إذا تجانس عمل الفرد مع الدولة وإل فإن العكس‬
‫الذي يقع بين الفراد والدولة – يؤدي حتما إلى أن تكون السياسة ديكتاتورية وهو ما يحصل حاليا في بلدان العالم‬
‫‪.‬الثالث‬
‫ثانيا‪ :‬التعاون بين الدولة والفرد على الصعيد الجتماعي والقتصادي والثقافي ‪ .‬إن التعاون هذا في جميع هذه‬
‫المجالت‪ ،‬هو المحفز للسياسة المؤثرة في واقع الوطن وإذا ما تصورنا أنه حدث العكس‪ ،‬فإن التشتت والتمزق‬
‫هو الذي يأكل مصير المة وهذا ما يحدث في بعض البلدان العربية بكل أسف‪ :‬لبنان‪ ،‬الجزائر… ‪ :‬مما يعني‬
‫معه أنه ل عمل سوى ” عدم النسجام وعدم التناغم ومعارضات طاعنة في فوضى شاملة يسودها شعار ” عليك‬
‫بخاصة نفسك “‪ .‬ويضيف مالك بن نبي أن التجانس بين الفرد والدولة في نطاق التعاون له شرط آخر هو أن هذا‬
‫الخير ” يتحقق في ضمير الفرد ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية‪ ،‬وحكما من ناحية أخرى‪ .‬إن وجود هذا‬
‫المحكمة ” الضمير ” كشاهد ” وممثل ” هو الذي يقوم قلته في نظام الحكم حين يكون من قبيل ما يعبر عنه ”‬
‫أبراهام لنكون ” رئيس الوليات المتحدة – إن التغرير بفرد ممكن دائما‪ ،‬والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام إل أنه‬
‫)]غير ممكن كل يوم “‪19]) .‬‬
‫هذه الواقعية هي التي أملت على واحد كلينين في روسيا أن يوقعن شعارته السلم للجندي‪ ،‬والخبز للعامل‪،‬‬
‫والرض للفلح‪ ،‬ولم يكن ليقدم للشعب الروسي ” رأس المال” كنظرية‪ ،‬ولكنه ترجم فحواها‪ ،‬على صورة هي‬
‫‪.‬في متناول الدراك الشعبي‬
‫!ولكن هيهات لتلك الشعارات أن تبقى حين دقت ساعة الكلخوز ؟‬
‫يقول مالك بن نبي في هذا المعنى ” إن اليديولوجية التي ل تتضمن كأفكار موجهة –إل مصالح عاجلة‪،‬‬
‫فإنها وإن كانت محترمة‪ ،‬سوف ل تفتح الطريق لغير سياسة قصير محدودة المدى على قدر الشعارات التي‬
‫)]دفعتها “‪20]).‬‬
‫نتائج البحث‬
‫‪:‬وخلصة القول أن النسان العربي الجديد يكنه أن يكون كذلك بأحد الشروط‬
‫أول‪ :‬أن يقوم بعملية تنحية لما لصق به من عادات فكرية أردته إلى سفح الحضارة‪ .‬ومن هنا فالتنمية هي ‪-‬‬
‫‪.‬أول وقبل كل شيء هي تنمية للموارد البشرية في العالم العربي حتى نتمكن من إيجاد هذا النموذج الذي يقتدي به‬
‫ثانيا‪ :‬أن النسان العربي الجديد يحتاج هو الخر لعملية بناء في عالمه الثقافي‪ .‬ذاك العالم الذي يجب أن يرسم‬
‫بداية معالمه الخلقية الموجهة من التعاون الذي يحصل بينه وبين الدولة التي تدير شؤون الفرد‪ .‬من جهة‪ ،‬ومن‬
‫‪:‬جهة أخرى ل بد من استثمار الجوانب الخرى في النسان العربي‪ ،‬والتي هي‬
‫ثالثا‪:‬جانب التوجيه العملي )يجب أن ُنعّلم هذا النسان أن الواجب يتقدم على المطالبة بالحق من أجل أن‬
‫يضمن بيدين اكتفاءه الذاتي اقتصاديا ومن أجل أن يضمن أبلغ غيره ما عملته يداه ‪.‬كما أنه لبد من ضمان مراعاة‬
‫مع كل هذا‪ :‬ثالثا التوجيه الجمالي للنسان العربي‪ .‬والمسألة هنا تأخذ طابعها الثقافي أيضا وعلينا “أن ل نعلم‬
‫الناس أن يقولوا أو يكتبوا أشياء جميلة وإنما علينا أن نعلمهم فن الحياة مع زملئهم “أعني أن نعلمهم كيف‬
‫‪.‬يتحضرون‪.‬لن الجمال هو وجه الوطن لذ ل بد من العتناء بهذا الجانب الذي يحتاج هو الخر إلى توجيه‬
‫ورابعا‪ :‬لبد من البناء الجتماعي للنسان العربي ذاك البناء الذي ل يمكننا أن نرى صورته إل في ذك الشكل من‬
‫التعاون بين العالم السياسي والعالم الجتماعي في ذات الفرد‪ .‬وهي في نظرنا تنمية للجانب النساني للذات‬
‫لحضارة‪ .‬ومنه فإن عملية‬ ‫العربية‪ .‬تلك الذات التي ما انفكت تتلل بحضارة كانت لها لتصبح اليوم تتلل بال ّ‬
‫إنشاء لمعالم التنمية في هذه الذات مهمة للغاية حتى أن النسان العربي الجديد يمكنه أن يعود إلى حلبة التاريخ‬
‫‪.‬وعليه نستطيع أن نقول أنه سيبني تاريخه الخاص به وحضارته الخصيبة‬

‫‪-‬التغيير النساني في فكر ‪-‬مالك بن نبي‬


‫‪st, 2006‬نوفمبر ‪21‬‬

‫الستاذ‪ /‬وليد بوعديلة‬


‫جامعة سكيكدة‬
‫‪:‬تمهيد‬
‫تصعب عملية القبض على خصوصية أي خطاب إنساني‪ ،‬إل بتوفر حلقة معرفية شمولية‪ ،‬ذلك أن تشكيل‬
‫الخطاب ورؤاه تتفاعل مع البدائل الخرى‪ ،‬وتتحاوران مع مختلف الخطابات‪ ،‬ومن هنا تأسست هذه الورقة التي‬
‫تطمح إلى القبض على سؤال معنى المرجع في كل خطاب‪ ،‬متجاوزين الوقوف الطويل عند المفاهيم و‬
‫المصطلحات‪ ،‬على أساس أننا نطمح ‘إلى فتح أسئلة المرجع‪ ،‬إثراء لنقاش معرفي ينفتح على كل الفضاءات و‬
‫‪.‬شعارنا‪ ”“ :‬السؤال نحو معرفة الجواب”"‪/‬المعنى‬
‫إن من أبجديات البحث في الخطاب‪ ،‬النطلق من وعي معرفي يرى بأن كل أداء أو سلوك يحمل في عمقه‬
‫منطلقا ته ومرجعياته و نجاح الداء ل يكون إل إذا حمل مرجعه بدور و آليات النجاح‪ ،‬ورغم الطابع المعنوي‬
‫القيمي للمرجع‪ ،‬إل أنه ل ينفصل ” في فلسفة السلوك” عن الجانب المادي أو عن الحضور الواقعي‪ ،‬لكن – أسفا‪-‬‬
‫الكثير من التحاليل و القراءات ) معرفية‪ ،‬سياسية‪ ،‬اجتماعية‪ (..‬تقف مطول عند النتائج و عند الثار المادية‬
‫متخوفة من السؤال الجدري‪ ،‬أي سؤال الرحيل في دللت المرجع و أبجديات المنطلق‪ ،‬وهو ما ساهم في تعقيد‬
‫المشهد الحضاري‪ ،‬بمختلف تجلياته و بمختلف مستوياته‪ ،‬وكان المجتمع المدني صورة حية لجدليات الخواء‬
‫‪.‬والفراغ تشكيل و رؤية‬
‫‪:‬النسان‪ ،‬خطاب الحداثة وسؤال المرجع ‪01 -‬‬
‫من دللت النفصال الفكري السليم عن المواقف السياسية أو الجتماعية في الخارطة العربية‪ ،‬حصر‬
‫الخطاب الواحد في مرجعية واحدة فقط‪ ،‬ورفض الوعي الذي يرى بأن كل خطاب يمكن أن يستفيد من غيره‪،‬‬
‫سواء على مستوى التوظيف لبعض علمات المرجع اليجابية‪ ،‬أو التي تتقارب مع الخطاب الواحد أو ل تلغي‬
‫ثوابته‪ ،‬أو في مستوى الستفادة من الدوات الجرائية للخر عند القيام بعملية التجسيد لمرجع الذات)مرجع‬
‫الخطاب(‪ ،‬ول نريد في هذا السياق أن نقف عند الخطاب السياسي‪ ،‬لن طرحنا يفتح أسئلة الخطابات بمختلف‬
‫مرجعياتها وأداءاتها‪ ،‬رغم أن الفعل الديموقراطي العربي يحتم على كل باحث في العلوم الجتماعية و النسانية‬
‫الوقوف عند الخطاب السياسي‪ ،‬تجنبا لما تشهده الخارطة العربية من أزمات وفتن‪ ،‬كانت نتيجة لضبابية المرجع‬
‫و سلبية الوعي و عبثيه الموقف)‪ .(1‬ليعلم القارئ بأن هذه السطور يكتبها قلم بخلفية التكوين الدبي – الجمالي‪،‬‬
‫لكن ليحذر من هذا التصريح‪ ،‬لن الكثير من الخطابات التي تحاور الراهن وتسائل أسئلة المنظومة الحضارية ل‬
‫تنفصل عن بعضها البعض‪ ،‬فيلتقي فيها الجمالي‪ ،‬العلمي‪ ،‬الفلسفي‪ ،‬الديني…لذلك فإن الفضاء مفتوح لكل‬
‫مساهمة معرفية‪ ،‬في سياق مرجعها ومنطلقها‪ ،‬لجل طموح الوصول إلى معرفة شمولية عميقة بجوهر الخطاب‬
‫‪.‬الحداثي‪ ،‬وفي علقته بقيمنا و عقيدتنا‬
‫ومن هنا نصل إلى سؤال البداية في طرحنا‪:‬ماهي مرجعيات الخطاب الحداثي؟ وماهي مواقفه من المرجعية‬
‫الدينية السلمية؟ كيف ينظر لمرجعيات الخطاب السلمي) بحضوره السياسي‪ ،‬الجمالي‪ ،‬الفلسفي…‪(.‬؟ هذه‬
‫السئلة وأخرى نبحث في سرها وعلماتها‪ ،‬وهي أسئلة كثيرة لكنها تلتقي لتضع – في عمقها‪ -‬سؤال واحدا‪ ،‬نريده‬
‫‪.‬سؤال البداية إنه سؤال الحداثة و المرجع‪ ،‬وقد يحضر هذا السؤال من غير حضور الجابة الشافية‬
‫في بدايات التأسيس لنطلق النهوض ووعي الحداثة‪ ،‬وجدا لوعي العربي نفسه محاصرا بقيود المرجع الديني‬
‫وبقداسة الخطاب الوطني‪ ،‬فكان لزاما أن يحاور الخر ‪،‬حتى لو كان ذلك على حساب وعي ضميرا لذات‪،‬‬
‫فارتفعت أصوات العودة إلى المرجع الغربي للبحث في بواعث النهضة ومنطلقات الحداثة‪،‬وكانت البداية من‬
‫الخطاب الكاديمي قبل أن يلتقط الخطاب السياسي جوهرا لفعل الحداثي‪،‬وهو جوهر أراده بعض أعلم الثقافة‬
‫العربية حوارا حميما‪ ،‬بل تفاعل لهثا و قويا مع الخر‪ ،‬مثل ما فعل طه حسين في مصر‪،‬وكان الطموح يختلج‬
‫‪.‬صدره وفكره أن تصل المرجعية الغربية نحو الفضاء العربي كله‬
‫هكذا كانت أبجدية الداء المعرفي ترى في انفصال الخطاب العربي )نقصد الخطابات العربية المختلفة وبخاصة‬
‫الخطاب المعرفي( عن كل ما هو تراثي‪ ،‬الخطوة الولى نحو الوصول على سفينة القلع نحو بحر‬
‫الخطاب‪/‬الحداثة‪،‬ولم تكن الخطوات الخرى ‪)،‬سواء كانت سلمية أو عنيفة ( إل نتيجة للخطوة الولى‪،‬فنحن نرى‬
‫بأن العنف المادي ليس إل نتيجة للعنف الفكري‪ ،‬وكلهما ينطلق من تربة خطاب واحد‪ ،‬يحمل روح اللغاء و‬
‫القصاء‪ ،‬وقبل ذلك يحمل وعي النفصال الحضاري عن جسد النا‪ ،‬ولو بطرق عنيفة)فكريا وماديا( قصد‬
‫التصال الحضاري بجسد الخر فكأن المشهد يحيل القراء إلى عالم البيولوجيا و الهندسة الو راثية‪ ،‬حيث تنجز‬
‫‪.‬العمليات الجامعة بين الخليا والعضاء في انتظار التفاعل أو التنافر‬
‫ولم يقف الخطاب الحداثي عند رفض المرجع العربي و الحوار مع المرجع الغربي فحسب‪ ،‬وإنما أخد يقوم‬
‫‪.‬بعمليات التهديم و التخريب)قيميا وماديا( لكل ماهو دليل على التراث و الذاكرة بمختلف الوسائل‬
‫وكانت الوسائل التصالية أكثر الوسائل التي شهدت علمات الصراع بين خطاب مرجعي عربي وآخر يرفض‬
‫بل يتمرد على هذا المرجع‪ ،‬ويمكن أن نضيف الوسائل الجمالية التي طمح أهلها إلى الدخول في كل ماهو عالمي‬
‫)تشكيل و رؤية( ولو كلن ذلك على حساب المرجعية الجمالية العربية‪ ،‬ولو أن هذه المواقف النفصالية قد‬
‫عاودت كل قراءاتها فيما بعد‪ ،‬وأعادت أسئلة المرجع إلى ساحة الخطاب العربي في محاولة لمكاشفة فلسفية للذات‬
‫‪.‬والكون‪ ،‬قبل الحوار مع الخر‬
‫نعود إلى جدلية الحداثة و المرجع‪ ،‬ومحاولت النفصال فالمشهد الثقافي‪ -‬السياسي يتحرك في الزمن العربي‬
‫ضمن أفق الصراعات و الختلفات المتلحقة‪ ،‬قد يكون ذلك علمة صحة ونشاط وجودي‪ ،‬وقد يكون علمة‬
‫إخفاق وغياب الفصل في وعي الهوية‪ ،‬ومن ثمة الحضور السلبي في الحركية التاريخية النسانية‪ .‬و البحث في‬
‫النفصال كثيرا ما يجعل القارئ يتأرجح بين أسئلة الذين يريدونه انفصال نهائيا و بين من يريدونه انفصال‬
‫‪).‬جزئيا‪ ،‬وهذا لختلف وعى القراءة و طموح الحضور في الميدان الجتماعي‪ ،‬السياسي‪ ،‬الثقافي)‪2) (..‬‬
‫كل تلك الفضاءات الثقافية تعيد إلى الوعي وإلى الذاكرة المعرفية متاهات الخطاب الفكري العربي ورحلته‬
‫الفلسفية في التراث و العصر الراهن‪ ،‬وقد اخترنا أن نفتح الجانب المرجعي في الخطاب الحداثي‪ ،‬لهمية المرجع‬
‫في كشف جوهر كل خطاب‪ ،‬وقد يستغرب القارئ عدم الدخول المعرفي لمور كثيرة‪ ،‬فإذا واصلنا القراءة و‬
‫البحث‪ ،‬لنفتحنا على مسائل أخرى كثيرة ذات امتدادات إعلمية‪ ،‬سياسية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬أدبية)…(‪ .‬ونحن في هذه‬
‫‪.‬الورقة نريد أن نتوقف عند فكر مالك بن نبي فقط‬
‫‪:‬فكر الثورة‪ /‬تغيير النسان‪ ،‬بدائل مالك بن نبي ‪2-‬‬
‫يعد المفكر الجزائري “”مالك بن النبي”" من أبرز المفكرين الذين عنوا بالبحث العميق في جذور البناء‬
‫الحضاري‪ ،‬ويكفي أن نقر أله كتاباته الفكرية الكثيرة‪ ”:‬مشكلة الثقافة”‪ ” ،‬وجهة العالم السلمي “‪“ ،‬الفكرة‬
‫الفروآسيوية”‪“ ،‬الصراع الفكري في البلد المستعمرة”‪“ ،‬بين الرشاد و التيه”… لنكشف قوة التحليل وعمق‬
‫الطرح فيما يخص عملية التغيير الثقافي في المجتمع‪ ،‬أو طرق السيطرة الفكرية‪..‬أما الثورة وكيف ينظر لها‬
‫المفكر مالك بن النبي؟ وماهي السس التي تنطلق منها؟ وماهي نتائجها على مستوى المجتمع؟ هذه أسئلة وأسئلة‬
‫‪).‬أخرى سنحاول الجابة عنها في المنظور الفكري لهذا المفكر الجزائري)‪3‬‬
‫في البداية يحرص”"مالك بن نبي”" على أن تقوم أية ثورة على أسس صلبة‪ ،‬وعلى مبادئ متينة‪ ،‬يقول‪"”:‬‬
‫الثورة ليست كإحدى الحروب تدور ريحها مع العدد و العتاد‪ ،‬بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة”"وهذا ما نجده‬
‫في كتابات كثيرة لهذا المفكر‪ ،‬فلساس في البناء الحضاري ل يقوم على الوسائل المادية فقط‪ ،‬ولكنه يقوم قبل ذلك‬
‫على الفكار والرؤى التي تنظر لهذا البناء‪ ،‬وتعطيه إطاره الفلسفي‪ ،‬لذلك كانت غاية أية ثورة هي تغيير النسان‪،‬‬
‫والنتقال به من حالة شعورية وموقف فكري سلبيين‪ ،‬إلى حالة شعورية دافعة وموقف فكري تحرري‪ ،‬يقول”"‬
‫مالك بن نبي”"‪ ** :‬الثورة ل تستطيع الوصول إلى أهدافها‪ ،‬إذا هي لم تغير النسان بطريقة ل رجعة فيها من‬
‫حيث سلوكه وأفكاره وكلماته** ولكن ماذا يجب أن يتوفر لهذه الثورة كي تضمن نتائجها وتحفظها من التراجع و‬
‫الموت البطيء؟‬
‫الكيد أنه على الثورة عدم التنازل عن المبادئ التي قامت عليها لجل تحقيق مط امح مادية‪ ،‬أو أهداف آنية‪،‬‬
‫يقول”" مالك بن نبي”"‪** :‬إن لكل ثورة ما بعدها‪ ،‬فإما أن يكون مواصلة للثورة‪ ،‬وإما أن يكون في اتجاه معاكس‬
‫يتنكر لها و يمسخها‪ ،‬وإن صراع أصحاب المصالح بعد كل ثورة ماهو إل دليل ضعف في النيات‪ ،‬و هشاشة‬
‫المبادئ‪ ..‬إضافة إلى تجاهل للتضحيات‪ ،‬وتنكر للزملء الذين سقطوا في ميدان الشرف‪ ،‬دفاعا عن أخلقيات هذه‬
‫الثورة‪ ،‬وهذا يؤدي إلى فقدان الروح الثورية‪ ،‬الذي هو نتيجة حتمية لعدم حفظ الذهنية الثائرة لمقدمات ومسلمات‬
‫الثورة**‪.‬وإذا فرضنا أن الثورة تمكنت من تحقيق هدفها الول‪ ،‬أي الستقلل السياسي‪ ،‬فإن هذا الستقلل يبقى‬
‫ناقصا‪ ،‬بل مبتورا‪ ،‬إذا لم يتحقق الهدف الجوهري للثورة)تغيير النسان(‪ ،‬يقول مالك بن نبي‪ **:‬وقد يسند إلى‬
‫أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها‪ ،‬وقد تستبدل في البلد العربية مثل بالحروف اللتينية حروف‬
‫عربية على واجهات ولفتات الحوانيت‪ ،‬إل أن التغيرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للبصار‪ ،‬ول يستقر‬
‫أمرها إذا لم يتغير النسان** وهذا للسف مع تراجع يكاد يكون كليا للخصوصية الثقافية‪ ،‬وللثقافة الذاتية لهذا‬
‫الوطن‪ ،‬لذلك كانت تصفية الستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة‪،‬‬
‫فهي ل تتحقق بمجرد انسحاب جيوش الستعمار‪ ،‬ومجرد إعلن الستقلل‪ ،‬وتحرير الدستور‪.‬و يحدثنا “”مالك‬
‫بن نبي”" عن القابلية للستعمار‪ ،‬التي تسيطر على شخصية النسانية في البلد المستعمرة –بالفتح‪ -‬وهي نتيجة‬
‫طبيعية لهشاشة البناء الثقافي لهذا النسان‪ ،‬يقول “”مالك بن نبي”"‪ ” :‬أينما حل الستعمار كان يلوث النسان‪،‬‬
‫حتى أصبحت تصفيته من رواسب الستعمار‪ ،‬أهم عمل ثوري في الثورة”‪ ،‬فل يمكن بناء وطن مستقل‪ ،‬من غير‬
‫بناء إنسان مستقل‪ ،‬ول يتم بناء ذلك الوطن وهذا النسان ‪ ،‬إل بفكر تحرري‪ ،‬وبثقافة أساسها النا الثقافي)الهوية(‬
‫وغايتها التفتح على الخر) العصرنة(‪ ،‬لذلك فقد كانت تصفية الستعمار في النسان مقدمة عند مفكرنا على‬
‫‪.‬تصفيته في الرض‬
‫وبالنسبة لثورة الشعب الجزائري‪ ،‬فالمعروف أنها قد قامت على أسس متينة تقوم بالساس على العقيدة السلمية‪،‬‬
‫يقول مالك بن نبي‪ :‬لقد كان السلم الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولت التي استهدفت سلب‬
‫الشعب الجزائري شخصيته على مدى قرن من الزمان‪ ،‬كما كان الحاضر اليديولوجي الرئيسي الذي دعم جهده‬
‫البطولي خلل الثورة”‪ ،‬فالسلم أعطى للثورة الجزائرية الدافع العقدي لمواجهة الستعمار‪ ،‬فقد كان كافيا‬
‫للنسان الجزائري أن يسمع قوله تعالى*** ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل ال أمواتا بل أحياء عند ربهم‬
‫يرزقون*** حتى ينطلق كالسد نحو العدو‪ ،‬متحصنا بثقافة إسلمية‪،‬وبفكر وطني تحرري‪ ،‬لكن ما حققه أولئك‬
‫الوطنيون ل يكفي إذا لم يواصل أبناؤهم الدرب‪ ،‬فالثورة ل تقف عند الستقلل السياسي‪ -‬كما سبق ذكره بل يجب‬
‫أن تكون هناك استمرارية‪ ،‬وعلى كل وطن أفلت من اليد التي تمشيه )بالشدة( الم طفلها‪ ،‬عليه أن يتعلم أيضا ا‬
‫المشي وحده في الميدان القتصادي دون يد تمسكه‪،‬بل عليه أن يتعلم أيضا المشي في جميع الميادين ) الثقافية‪-‬‬
‫الرياضية‪ -‬المنظومة التربوية‪ -‬المنهج النقدية…(‪ ،‬دون أن تمسكه يد الغير‪ ،‬إل بما يحفظ خصوصيته‪ ،‬و يساعده‬
‫‪.‬على النهوض‪ ،‬من غير استلب ثقافي‪ ،‬أو إمحاء حضاري‬
‫وكما يقول “مالك بن نبي”"‪**:‬إن ثورة ما‪ ،‬لبد لها أن تسير طبقا للقانون الجتماعي الذي تشير إليه الية‬
‫‪**.‬الكريمة‪ ”:‬إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فهل نعي الدرس؟‬
‫‪:‬الحضارة وهذا النسان ‪3-‬‬
‫عندما نعيش التخلف وبقى في الذيل‪ ..‬عندما نغرق في الزمات والهزائم‪ ..‬عندما ل نجد حلول لمشاكلنا‪ ..‬بل‬
‫عندما نجد أنفسنا أمام مشهد مأساوي‪ ..‬ينبض بالرداءة والهشاشة و الرثاثة… يصبح لزاما علينا أن نعيد ترتيب‬
‫أوراقنا وأن نعيد قراءة ذاتنا‪ ..‬ففي هذا الزمن الذي تتقدم فيه النظمة اللكترونية – المعلوماتية على حساب‬
‫‪.‬النظمة البشرية‪ ..‬في زمن يعرف النسان كل شيء إل ذاته‪ ..‬يجب أن نقف عند الفيلسوف المفكر مالك بن نبي‬
‫‪”:‬أ‪ -‬الحضارة بين “الفكار “و”الشياء‬
‫يؤكد مالك بن نبي في الكثير من كتبه على أن جوهر البناء الحضاري ينطلق من الفكر‪ ،‬لذا فالحضارة هي التي‬
‫تلد منتجاتها‪“ ،‬ول يمكن بناء حضارة بشراء منتجات حضارة أخرى”)‪. (4‬وقيمة كل أمة ل تتجسد فيما تملكه من‬
‫أشياء ولكن في أفكارها‪ ،‬أي “الرأسمال المفاهيمي”‪ ،‬وليس “الرأسمال المادي”‪ .‬وما هو موجود في السواق‬
‫العربية)وكل أسواق العالم الثالث(وهو في الحقيقة قد تم شراؤه من مجتمعات تملك أفكار صناعة و تكوين الشياء‬
‫‪.‬التي تعرض في تلك السواق‬
‫ويرى مالك بن نبي أن المجتمع السلمي هو مجتمع يفتقد للفكار‪ ،‬فهو أعزل من حيث المفاهيم‪ ،‬ل لعدم وجود‬
‫الفكار والمفاهيم‪ ،‬ولكن لنه مجتمع يحارب بالسلحة وليس بالفكار؟! وعند البحث في عوامل البناء الحضاري‬
‫يجب أن نقف عند محطة “الفكار” ل”الشياء”‪ ،‬بمعنى البناء الحضاري وليس”التشييد المادي”)‪ .(5‬وهذا في‬
‫محاولة لمضاعفة أفكار الحضارة‪ ،‬مع الستفادة من أشيائها‪ ،‬لن اليابان مثل قد تمثلت أفكار الحضارة الغربية‪،‬‬
‫في وقت بقي المجتمع السلمي يغرق في شراء” الشياء” يقول‪”:‬إن قيمة مجتمع معين في فترة ما من تاريخه‪،‬‬
‫ل يعبر عنها بمجموعة الشياء في هذا المجتمع‪ ،‬ولكن بمجموعة أفكاره”)‪ (6‬لهذا يسعى أبناء الحضارة الغربية‬
‫لبيع أشيائهم) منتجاتهم الحضارية( للعالم الثالث‪ ،‬في نفس الن الذي يسعون إلى احتكار الفكار التي تقف عند‬
‫‪.‬هذه الشياء‬
‫ثم إن اليابان قد كان ذكيا في تعامله مع الغرب‪ ،‬لنه وقف منه موقف “التلميذ”‪ ،‬بينما وقفنا نحن‬
‫موقف”الزبون”‪ ،‬فكيف ستكون النتائج؟ يجيبنا مفكرنا قائل‪”:‬إنه استورد منها الفكار خاصة‪ ،‬ونحن إستوردنا‬
‫منها الشياء خاصة إنه كان خلل سنوات)‪ (1905—1868‬ينشئ حضارة وكنا نشتري بضاعة حضارة )‪(7‬‬
‫وقع ذلك لن جوهر عملية البناء الحضاري لتتم إل عندما يعطي المجتمع أهمية كبيرة لعالم “الفكار” على‬
‫حساب عالم “الشياء”‪ ،‬بمعنى تقديم الدوافع التي تحرك المنتجات المادية‪.‬ولحل مشكلة الحضارة‪ ،‬يستوجب حسب‬
‫‪).‬بن نبي حل ثلث مشكلت جزئية)‪8‬‬
‫‪:‬مشكلة النسان‪ ،‬و تحديد الشروط لنسجامه مع سير التاريخ ‪01-‬‬
‫‪.‬مشكلة التراب‪ ،‬وشروط استغلله في العملية الجتماعية ‪01-‬‬
‫‪.‬مشكلة الوقت‪ ،‬وبث معناه في روح المجتمع و نفسية الفرد ‪02-‬‬
‫إن حل تلك المشكلت ل يتحقق إل إذا آمنا بأمر هام‪ ،‬وهو أن المشكلة أو القضية “ليست قضية أدوات ول‬
‫إمكانيات‪ ،‬إن القضية في أنفسنا…فإذا تحرك النسان تحرك المجتمع والتاريخ‪ ،‬وإذا سكن)النسان( سكن المجتمع‬
‫‪).‬و التاريخ”")‪9‬‬
‫‪ :‬ب‪-‬أزمة الثقافة ومشكلة المجتمع‬
‫و الحديث عن البناء الحضاري يدفعنا إلى تتبع ما قاله مالك بن نبي عن “الثقافة”‪ ،‬ليس بمفهومها الفلسفي‪-‬‬
‫الفكري فحسب‪ ،‬ولكن بمفهومها البراغماتي‪-‬العملي‪..‬لن المشكلة الساس ل تنحصر في فهم الثقافة‪ ،‬وإنما في‬
‫تحقيقها عمليا‪ ..‬لكن قبل هذا يرى هذا الفكر بأن “الثقافة هي التركيب العام لتراكيب جزئيـة أربعـة هي‪ :‬الخلق‪،‬‬
‫والجمال‪ ،‬و المنطق العملي‪ ،‬والصناعة)‪ (10‬وإذا فهمنا الخلق والنطق العملي والصناعة‪،‬فإن مقصود الجمال‬
‫عند مالك بن نبي يرتبط بالطار الحضاري للمة‪ ،‬حيث يتصل هذا الطار بذوق الجمال‪ ،‬بل” إن الجمال هو‬
‫‪).‬الطار الذي تتكون فيه أي حضارة”")‪11‬‬
‫الحقيقة أن الزمة الثقافية‪-‬حسب بن نبي‪ -‬هي المعدن الذي تصاغ منه الكثير من الزمات في الميادين‬
‫الخرى‪ ،‬ومن هنا” فل يمكن لنا أن نتصور تاريخنا بل ثقافة‪ ،‬فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه”)‪،(12‬‬
‫وإذا كان المجتمع ينظر إلى النسان الذي يتوفى على أنه قد مات موتا ماديا‪ ،‬فكذلك المر إذا”فقد صلته بالمجال‬
‫الثقافي فإنه يموت موتا ثقافيا معنويا “‪ .‬وتبقى القيمة الثقافية لكل “فكرة” ولكل”شيء” تقوم على علقاتها بأفراد‬
‫‪.‬المجتمع‪ ،‬مع العلم أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية‪.،‬لهذا تختلف المجتمعات باختلف ثقافتها‬
‫ونحن إذا أردنا البحث في مشكلة الثقافة‪ ،‬فإننا‪ -‬كما يقول مالك بن نبي‪ ”-‬وجدنا أنفسنا نواجه ضمنا مشكلة‬
‫أسلوب الحياة ومشكلة السلوك الذي ينسجم معها”‪ ،‬ذلك على المجتمعات التي تبغي النهوض أن تطهر عاداتها و‬
‫تقاليدها و إطارها الثقافي بصفة عامة مما يسميه بن نبي ” العوامل القتالة”‪ .‬و”المم التي ل فائدة منها”‪ ،‬وهذا كي‬
‫تفسح المجال “للعوامل الحية “و”الداعية إلى الحياة”‪.‬ورغم كثرة التعاريف التي وضعها بن نبي للثقافة في‬
‫‪:‬كتابه”مشكلة الثقافة” إل أنها تعار يف تدور في فلك واحد مثل‬
‫الثقافة مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الجتماعية التي تؤثر في الفرد مند ولدته‪ ،‬وتصبح ل شعوريا ‪1-‬‬
‫‪.‬العلقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة و الوسط الذي ولد فيه‬
‫‪.‬الثقافة هي المحيط الذي يعكس حضارة معينة‪ ،‬والذي يتحرك في نطاقه النسان المتحضر ‪2-‬‬
‫الثقافة هي الجسر الذي يعبره الناس إلى الرقي و التمدن‪ ،‬وهي أيضا ذلك الحاجز الذي يحفظ بعضهم الخر ‪3-‬‬
‫‪.‬من السقوط من أعلى الجسر إلى الهاوية‬
‫وهكذا يتضح أن مجال ثقافة ما يحيل إلى الطار الذي تنمو فيه حضارة تلك الثقافة‪ ..‬وعلى النخبة المثقفة أن‬
‫تحمل المشعل‪ ..‬فهي القاعدة التي ترتفع عليها الجماهير إلى مستوى الحضارة كما يقول مفكرنا‪..‬لكن تبقى الفاعلية‬
‫أهم شيء في حركية البناء ‪ ،‬يقول مالك بن نبي‪ ”:‬إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة‪،‬ولكن منطق العمل و‬
‫الحركة‪ ،‬وهو ل يفكر ليعمل‪ ،‬بل ليقول كلما مجردا” )‪ (13‬لهذا فمشكلة المجتمع تعود إلى أزمته الثقافية‪ ،‬كما أن‬
‫‪.‬سلبية الثقافة تعود إلى عدم فاعليتها‪.‬فهل ندرك هذا المر‬
‫‪ :‬ج‪ -‬في الوعي السياسي و أثره على النسان‬
‫معروف عن مالك بن نبي تميزه بين “السياسة”و” البوليتيك”)‪ (14‬فالولى هي الصورة المثلي لخدمة الشعب‪،‬‬
‫أي هي المبادئ و القيم التي ينطلق منها البحث إلى غاية الوقوف عند “العلوم السياسية”‪ ..‬أما الثانية فهي ليست‬
‫أي الترجمة الفرنسية للكلمة العربية‪ ،‬لكنها المفهوم الشعبي لمعنى السياسة‪ ،‬بما فيها ‪“POLITIQUE”،‬‬
‫من”قذف مجرد للكلمات‪ ،‬وصرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه”‪ ..‬وإذا كان غياب الفكار من شأنه أن‬
‫يؤدي بالمة أو المجتمع نحو السقوط‪ ،‬فإن السياسة من دون أخلق ما هي إل خراب المة ويحرص مالك بن نبي‬
‫على أن تكون سياسة الدولة في خدمة مصالح المة‪ ،‬وذلك بتحقيق الحريات العامة‪ ،‬وضمان حقوق النسان‪،‬و‬
‫الحرص بكل نزاهة على التداول على السلطة‪ ،‬وكل هذا يتحقق بالرتباط بضمير المة‪ ،‬والحفاظ على‬
‫هويتها)ثوابتها(‪ ،‬وإذا لم يتحقق هذا تفقد السياسة فعاليتها على المستوى الداخلي‪،‬أما إذا انفصلت عن الضمير‬
‫العملي‪ ،‬فهي”تضيف إلى العالم خطرا فوق الخطار التي تهدده” ولعل انتشار ثقافة القيام بالواجب على حساب‬
‫المطالبة بالحق من شأنه أن يحقق فاعليته السياسية التي تغير وجه الشياء في التجاه الذي يخدم الشعب‪ ،‬وفي‬
‫‪.‬حالة العكس فإن المصالح الذاتية ستدفع بالوطان نحو الهاوية‬
‫ويمكن السياسة أن تحقق فعاليتها كذلك إذا كانت المؤسسات التي تقف خلف هذه السياسة تستند إلى أفكار واضحة‬
‫المعالم‪ ،‬وإل كان محكوما على هذه المؤسسات بالفناء‪ ،‬على حد تعبير مالك بن نبي‪..‬ومن هنا‪ ،‬فإن التخطيط‬
‫المحكم‪ ،‬وعدم تجاوز الواقع الجتماعي‪ ،‬مع البحث في عمق المشاكل من غير الهروب إلى المام‪ ،‬يضمن تجاوز‬
‫الكثير من الصعاب السياسية ‪ ..‬هذه الصعوبات التي هي نتاج لخلل عام على جميع الصعدة‪ ،‬خاصة الصعيد‬
‫الفكري‪.‬لهذا فإن معرفة أهل السياسة )معارضة و سلطة( لعلم الجتماع و النفس و النثربولوجيا‪ ،‬وباختصار فإن‬
‫العلم بثقافة المة التي تتحرك في فضائها الوجوه السياسية‪ ،‬يصبح أكثر من ضرورة لضمان الستقرار و المن‬
‫في كل أمة‪ ،‬وفي حالة العكس فإن المجتمع سيتجه نحو الزمات التي تعصف باستقراره نتيجة لكثرة التزييف‪ ،‬و‬
‫التزوير والكذب و مخادعة الشعب…يقول مالك بن نبي‪ ”:‬إن السياسة التي تجعل القوانين الساسية لعلم‬
‫الجتماع‪،‬وهو الذي يعتبر علم بيولوجيا البنى و الجهزة الجتماعية ليست إل ثرثرة عاطفية‪،‬ولعبا باللفاظ و‬
‫طنطنة غوغائية)‪ (15‬ولكي نتجاوز الخطار التي تهدد الكيان الجتماعي نتيجة النظمة السياسية السلبية والهشة‪،‬‬
‫يقترح مالك بن نبي‪”:‬أن نعقد فصل خاصا للمراض الجتماعية‪ ،‬يعالج القصور الذي يصيب النظمة الجتماعية‬
‫‪.‬والمؤسسات العامة‪ ،‬كما تعالج في الطب المراض العضوية”)‪ (16‬و هذا ما تحتاجه الكثير من الدول النامية‬
‫‪:‬د‪ -‬فـــي المنظومـــة القتصادية‬
‫لمالك بن نبي –كذلك‪ -‬آراء ومواقف حول المشروع القتصادي‪ ،‬وله كتاب “المسلم في عالم القتصاد”‪ ،‬وهو في‬
‫كل مرة يربط النجاح على المستوى القتصادي بدرجة الرتباط بالثقافة )الفكار(‪ ،‬ومن ثمة بالنسان‪ ،‬لن‬
‫القضية القتصادية ليست في الدوات و المكانيات‪ ،‬و لكنها في النفس البشرية يقول‪ ”:‬حل المشكلة القتصادية‬
‫ينحصر في تكوين وعي اقتصادي بكل ما يستتبعه في التكوين الشخصي للفرد‪ ،‬وفي عاداته‪ ،‬وفي نسق نشاطاته‪..‬‬
‫)‪ (17‬ويذكرنا مفكرنا بأمر‪ ،‬كثيرا ما ننساه‪ ،‬وهو أن النمو القتصادي يتوقف على المن الجتماعي‪ ،‬فهو‬
‫يقول‪”:‬ل يتصور في الواقع أن نواجه مشكلة اقتصاد موحد في منطقة لم يزل عنها خطر الحرب نهائيا ‪،‬فإن‬
‫المرء ل ينشئ شركة مالية مع رفيق لن يسير معه إل جزءا من الطريق”)‪ (18‬فغياب المن يفسر غياب‬
‫‪).‬الستثمار)وطني أو أجنبي‬
‫إن كل ما يحدث من تغير على المستوى القتصادي في المستقبل هو في عمقه‪ .‬تغير على المستوى الحضاري و‬
‫البحث في المسألة القتصادية يقتضي بالضرورة البحث في المسألة النفسية –الثقافية ‪ -‬النسانية‪ ،‬لن القتصاد‬
‫“ليس قضية إنشاء بنك و تشييد مصانع فحسب‪ ،‬بل هو قبل ذلك تشييد النسان وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل‬
‫‪ .‬المشكلت”)‪ (19‬وما انهيارا لمصانع إل من انهيار أفكار أصاحبها‬
‫وإن كان المجتمع العربي و السلمي شهد النتقال من النظام القتصادي الشتراكي نحو اقتصاد السوق‪ ،‬فإن بن‬
‫نبي يقترح البديل‪ ،‬حيث ينطلق من تحليل علمي جد عميق‪ ،‬يرى فيه أن التفكير الذي يجعل المجتمع العربي يحد‬
‫من مناهجه القتصادية بين منهجين)اشتراكي أو رأسمالي(”يجعله أمام مشكلت فنية‪ ،‬أو مذهبية أو على القل‬
‫أخلقية‪ ،‬تضيف إلى متاعبه ما شاء ال‪ ،‬لنه ل يجد لها حل في نطاق اختياره في كل التجاهين‪ ،‬إل على حساب‬
‫مبادئه الولية‪،‬وبالتالي على حساب شخصيته و هويته”)‪ (20‬وهناك أفكار أخرى حول “القتصاد” نذكر منها‪):‬‬
‫‪21) .‬‬
‫إذا بدأ تزايد السكان في بلد مختلفة كارثة)مثل كارثة زحف الجراد على أرض ذات زراعة ومرعى( فإنما ‪-‬‬
‫‪..‬لسبب واحد هو أن التخلف القتصادي مبطن بتخلف ذهني‬
‫‪..‬أي مشروع نفكر فيه بأفكار الخرين و نحاول إنجازه بوسائل غيرنا معرض للفشل ل محالة ‪-‬‬
‫‪..‬كي يكون لقتصاد البلد النامية فعاليته في الخارج‪ ،‬يجب أن يكون له نظامه الدقيق في الداخل ‪-‬‬
‫إن المعارك القتصادية عندما تدور رحاها‪ ،‬فهي تدور حول قطب القيم الخلقية‪ ،‬وإن وسعنا المصطلح ‪-‬‬
‫‪..‬قلنا‪:‬حول القيم الثقافية‬
‫‪ :‬الخاتمة‬
‫إنها وقفة سريعة مع مفكر عملق‪..‬يمكن أن نجزم بأن ما كتب حوله خارج الثقافة العربية أكثر مما كتب داخلها‪،‬‬
‫بل إن فكره و آراءه الفلسفية قد أنجزت حولها الكثير من البحاث الكاديمية‪ ..‬ومهما يكن فإن مالك بن نبي ل‬
‫يزال مظلوما في حضارتنا الراهنة‪ ،‬لننا لم نتعمق في كتبه‪ ،‬ولم يسع الكثير ممن وصلوا إلى مقاليد الحكم عندنا‬
‫إلى العمل بما قدمه من مواقف‪ ،‬أبسط ما يمكن أن نقوله عنها‪ ،‬بأنها تقدمية‪ ،‬وبأنها تتجاوز الراهن بكثير‪ ..‬تلك‬
‫…)المواقف التي تتحرك وفقها اللة الحضارية الغربية)في جانبها الفكري‬
‫‪.‬في حين نبقـى نحـن نتهم مفكرنا بالرجعية و لكنها في الحقيقة مراجعة للذات‬
‫هذه محاولة لكشف النقاب عن بعض آراء المفكر “مالك بن نبي” وهي آراء تضاف إلى أخرى في القتصاد‪،‬‬
‫الثقافة‪ ،‬السياسة‪ ،‬البناء الحضاري‪..‬تزخر بها المنظومة الفكرية لهذا المفكر الجزائري وطرح مسألة “الثورة” في‬
‫هذا الوقت‪ ،‬يعد شيئا أكثر من ضروري لنه ل يكفي أن نرفع الشعارات كما ل يكفي أن نتغنى بما فعلناه في‬
‫الماضي‪،‬في وقت يشهد فيه حاضرنا تراجعا عن مبادئ كانت أساسا لتمتعنا بالحرية‪ ،‬وقبل ذلك كانت مقوما‬
‫‪.‬لوحدتنا الوطنية‬
‫لقد كانت المنظومة الفكرية لمالك بن نبي منظومة تتحاور فيها كل العلوم النسانية‪ ،‬قصد خدمة النسان‬
‫المسلم‪،‬ففيها يتفاعل البعد الديني مع المعالم الفكرية والفلسفية لدى الغرب‪ ،‬كما تتفاعل في أفقها القراءة التاريخية‬
‫التراثية مع البدائل الفلسفية العقلية مع عدم إقصاء أي جانب من جوانب النسان بحثا عن الهدف الوحيد‪ ،‬وهو‬
‫‪.‬التغيير النساني‬

‫يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملمح الفكر‬
‫السلمي الحديث‪ ،‬خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الخرى بدراسة مشكلت المة‬
‫السلمية؛ انطلقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة‪ .‬فقد كانت جهوده لبناء الفكر السلمي الحديث وفي دراسة‬
‫المشكلت الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك‬
‫‪.‬التناول‬
‫وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة‪ ،‬ويحدد العناصر الساسية في الصلح‪ ،‬ويبعد في البحث”‬
‫عن العوارض‪ ،‬وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس‬
‫‪.‬والجتماع وسنة التاريخ”‪1‬‬
‫ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته‪ ،‬بل كان في جوهره‬
‫“شخص الفكرة”‪ ،‬كان بالساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة‪ ،‬ومفكرا معرفيا‪ ،‬أدرك أزمة المة الفكرية‪،‬‬
‫ووضع مبضعه على ُأس الداء‪ ،‬وهو بنيتها المعرفية والمنهجية‪ ،‬إنه ‪-‬من دون شك‪ -‬واحد من أهم رواد مدرسة‬
‫“إسلمية المعرفة” وإصلح مناهج الفكر‪ ،‬وإن مفاتيح مالك ل تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع‬
‫‪.‬والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها”‪2‬‬
‫ابن خلدون العصر‬
‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬
‫الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية‬
‫الحضارة هي التي تلد منتجاتها‬
‫القابلية للستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والبداع‬
‫ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية‬
‫الدورة الحضارية عند ابن نبي‬
‫ابن خلدون العصر‬
‫ل غرابة أن نجد من الدارسين للفكر السلمي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر‬
‫الحديث‪ ،‬وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون‪ ،‬ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة‬
‫تمثل عميقا‪ ،‬واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه‬
‫‪.‬الول وملهمه الكبر” ‪3‬‬
‫ومالك نفسه ل يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري‪ ،‬بل أشار إلى ذلك في مواضع‬
‫‪ .‬شتى من كتبه‪ ،‬كما ذكر ذلك في مذكرات حياته “شاهد القرن” ‪4‬‬
‫وهكذا ظهر “مالك بن نبي” وكأنه صدى لعلم ابن خلدون‪ ،‬يهمس في وعي المة بلغة القرن العشرين‪ ،‬فأظهر‬
‫أمراض المة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات‪ ،‬ووضع الستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته‪ ،‬ورصد‬
‫أساليبه الخبيثة في السيطرة على المم المستضعفة‪ ،‬وخاصة المسلمين‪ ،‬ووضع لهم معادلت وقوانين “القلع‬
‫‪”..‬الحضاري‬
‫ولكن المة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها‪ ،‬وإما لضعف المحرك‬
‫المقرر أن يقلع بها‪ ،‬وإما لجتماع السببين معا‪ .‬ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلت والقوانين “نظريات” مفيدة‬
‫للمحركين الذي يهتمون بانطلق “المشروع الحضاري” للمة‪5.‬‬
‫مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي‬
‫ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن “مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة‬
‫حضارية‪ ،‬ول يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الحداث النسانية‪ ،‬وما لم يتعمق‬
‫‪”.‬في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها‬
‫وانطلقا من هذا العتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة “فقه” حركتها منذ انطلقتها الولى إلى أفولها‬
‫يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة‪ ،‬يتحدد عنده في ضرورة “توفر مجموع الشروط الخلقية‬
‫والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى‬
‫الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه”‪6 .‬‬
‫وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية‪ ،‬وحقوق ضرورية تمثل جميعها‬
‫أشكال مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه‪7 .‬‬
‫ويتبين من خلل هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شــديد الرتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء‬
‫في صعوده في مدارج الرقي والزدهار‪ ،‬أو في انحطاطه وتخلفه‪ ،‬وبالتالي فل بد من فهم عميق‪ ،‬و”فقه‬
‫حضاري” نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة‬
‫تخضع كغيرها من الظواهر النسانية “لسنن” و”قوانين” اجتماعية وتاريخية ثابتة‪ ،‬ل بد من الحاطة بها‪،‬‬
‫وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لمته مجدها الحضاري‪ ،‬ويحقق لها ازدهارها المنشود‪ .‬وهذا ما أكده‬
‫بقوله‪“ :‬إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي‬
‫في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليل علميا‪ ،‬ويجد أنه يتكون من عنصرين )الهيدروجين‬
‫والكسجين(‪ ،‬ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء‪ ،‬وهذا بناء ليس‬
‫”بتكديس‬
‫والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات ‪-‬حسب مالك‪ -‬هي ثلثة‪ :‬النسان ‪ +‬التراب ‪ +‬الوقت‪8.‬‬
‫الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية‬
‫يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة‬
‫السلمية بدل استيرادها كما هي من الغرب الوربي‪ .‬ويلح على ضرورة الستقلل الفكري في دراسة مشكلتنا‬
‫الحضارية والجتماعية؛ لنه يعتقد ‪-‬كغيره من الدارسين للحضارات النسانية‪ -‬أن هناك خصوصيات كثيرة‬
‫تتميز بها كل حضارة عن غيرها‪“ .‬فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها‪ ،‬وخيار العالم الغربي ذي الصول‬
‫الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الشياء‪ ،‬بينما الحضارة السلمية عقيدة‬
‫”التوحيد المتصل بالرسل قبلها‪ ،‬سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة‪ ..‬نحو الفكار‬
‫ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة السلمية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها‬
‫حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها‪“ ،‬فجزيرة العرب‪ ..‬لم يكن بها قبل نزول القرآن‬
‫إل شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء ل ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلثة‪ :‬النسان‪،‬‬
‫التراب‪ ،‬والوقت راكدة خامدة‪ ،‬وبعبارة أصح‪ :‬مكدسة ل تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح‬
‫بغار حراء ‪-‬كما تجلت من قبل بالوادي المقدس‪ ،‬أو بمياه الردن‪ -‬نشأت بين هذه العناصر الثلثة )النسان ‪+‬‬
‫التراب ‪ +‬الوقت( المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة “اقرأ” التي أدهشت النبي المي‪ ،‬وأثارت معه‬
‫‪.‬وعليه العالم” ‪9‬‬
‫ولهذا “فالحضارة” ل يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لن ‪.‬‬
‫“الحضارة” إبداع‪ ،‬وليست تقليدا أو استسلما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الشياء التي أنتجتها‬
‫حضارات أخرى؛ “فبعض القيم ل تباع ول تشترى‪ ،‬ول تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو‬
‫هبة تهبها السماء‪ ،‬كما يهب الخلد للرواح الطاهرة‪ ،‬ويضع الخير في قلوب البرار ‪ .10‬فالحضارة من بين هذه‬
‫القيم التي ل تباع ول تشترى‪ ..‬ول يمكن لحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقال واحدا‪ ،‬ول يستطيع‬
‫”زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها‬
‫الحضارة هي التي تلد منتجاتها‬
‫وبما أن الحضارة إنجاز ل يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك‬
‫النسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع “الفعالية” و”العطاء”‬
‫و”النتاج”؛ لن “المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها”‪ ،‬وسيكون من‬
‫‪.‬السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة‪ ،‬حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها” ‪11‬‬
‫وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته‪ ،‬والكتفاء بذلك سبيل للتقدم‪ ..‬أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض‬
‫المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان‪ ،‬بدل أن يعالج أسبابه العميقة‪ ،‬وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض‬
‫في الظاهر كأنه قد اختفى‪ ،‬لكنه في الحقيقة ل يزال ينخر صحة المريض‪ ،‬ويستنزف قواه في الباطن‪ .‬لهذا علينا‬
‫في معاجلة تخلفنا ‪-‬كما يرى أحد تلميذه ابن نبي‪ -‬أل نتبع سبيل الستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا‬
‫المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها‪ ،‬ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية‬
‫شديدة الركان‪ .‬فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن‬
‫ينقض البناء‪ ،‬ل تاجرا يمل البيت بالدوات والثاث” ‪12‬‬
‫وطالما بقي المجتمع السلمي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ ‪.‬‬
‫ق أفكاره بعُد إلى درجة الستقلل والتحرر‬ ‫فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف‪ ،‬ولم تر َ‬
‫الشاملين‪ ،‬وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لن “المجتمع الذي ل‬
‫يصنع أفكاره الرئيسية ل يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لستهلكه‪ ،‬ول المنتجات‬
‫الضرورية لتصنيعه‪ ،‬ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالفكار المستوردة أو المسلطة عليه من‬
‫الخارج‪ ..‬فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا‪ ،‬وأل نسلم بأن تحدد لنا بكلمة‪ ،‬علينا أن‬
‫نستعيد أصالتنا الفكرية‪ ،‬واستقللنا في ميدان الفكار حتى نحقق بذلك استقللنا القتصادي والسياسي”‪13‬‬
‫القابلية للستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والبداع‬
‫يرى ابن نبي أن الضطراب والفوضى والتناقض والغموض‪ ،‬وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض‬
‫النتائج الفكرية في العالم السلمي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك “القابلية للستعمار” التي تسكن‬
‫نفوس أبناء هذا المجتمع‪ ،‬وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة‬
‫‪.‬دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات السلمية والمجتمعات الغربية ‪14‬‬
‫وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للمة السلمية‪ ،‬نجدهم يلجئون إلى تكديس‬
‫“المعارف”‪ ،‬والنجذاب إلى الكثار من اللفاظ الرنانة‪ ،‬وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد‬
‫قلعها من بيئتها الحضارية الصيلة في الغرب‪ .‬وطبيعي أن هذا التكديس ل يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لن‬
‫‪“.‬البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة ل التكديس‪ ،‬ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة‬
‫إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية ل تأتي بالحضارة‪ ..‬فالحضارة هي التي تكون منتجاتها‪،‬‬
‫وليست المنتجات هي التي تكون حضارة‪ ..‬فالغلط منطقي‪ ،‬ثم هو تاريخي؛ لننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا‬
‫‪”.‬سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم ل نخرج بشيء‬
‫وهكذا نجد هؤلء المغتربين والمتمثلين تقليديا لفكار الغرب ل ينظرون إلى الحضارة الغربية إل من خلل‬
‫قشورها‪ ،‬ول ينقلون منها إل ما يسميه ابن نبي “بالفكار الميتة” أو “القاتلة” التي ترمي بها إليهم هذه‬
‫الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين ل مبدعين‪ ،‬منفعلين ل فاعلين‪ .‬وهذا عكس ما فعلته‬
‫“النخبة المثقفة” في اليابان مثل التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للقتباس‪ ،‬ل‬
‫بد منه ول ضرر يخشى منه‪ ،‬وما هو طالح وخاص بالقيم والخلق الغربية التي تتعارض مع قيم النسان‬
‫‪.‬الياباني وأخلقياته ‪15‬‬
‫ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية‬
‫شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم السلمي نموذجا يختزل‬
‫كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من‬
‫مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت النطلقة الحديثة للمجتمع السلمي ‪-‬في نظره‪ -‬معاصرة لنطلقة‬
‫أخرى في اليابان؛ “فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية‪ ،‬واليوم هاهي اليابان القوة‬
‫القتصادية الثالثة في العالم‪“ .‬فالفكار الميتة” في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها‪..‬‬
‫‪”.‬لتقاليدها‪ ..‬لماضيها‬
‫وفي مقابل هذا يرى الستاذ أن المجتمع السلمي ‪-‬رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة‪ -‬ما يزال‬
‫مجتمعا متخلفا؛ لنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعامل علميا ونقديا‪ ،‬يقول‪“ :‬الواضح أن‬
‫المشكلة التي تطرح نفسها ل تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية‪ ،‬بل بالطبيعة الخاصة بعلقتنا بها‪ .‬فالطالب المسلم‬
‫الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين‪ :‬الطالب المجد‪ ،‬والطالب السائح‪ .‬وكل الطالبين )المجد والسائح( ل‬
‫‪.‬يذهبان إلى منابع الحضارة‪ ،‬بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها” ‪16‬‬
‫فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب‪ ،‬وتعامل النسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الخير ترك‬
‫القشور واهتم بالجوهر‪ ،‬فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها‪ .‬دون أن يؤدي به‬
‫ذلك إلى فقدان هويته‪ ،‬والسقوط في التبعية والتقليد‪“ .‬فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل‬
‫الشياء من أبوابها‪ ،‬وطلب الشياء كحجة‪ ،‬درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته‪ ،‬وليس بالنسبة لشهواته‪.‬‬
‫فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلقه‪ ،‬أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة‪ ،‬وأحيانا نأخذ‬
‫‪.‬منها بعض الشياء الطيبة التي قدرها ال لنا” ‪17‬‬
‫وقد خصص ابن نبي مقالت عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي ل تفرق في اقتباسها واستلهامها لفكار‬
‫ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للقتباس وما هو خاص بحضارة معينة‪ ،‬ل يمكن نقله لي بيئة‬
‫حضارية أخرى مغايرة‪18.‬‬
‫الدورة الحضارية عند ابن نبي‬
‫استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته‪ ،‬ولتاريخ الحضارة السلمية على وجه‬
‫الخصوص أن مسيرة المم والجماعات تخضع لنـظام دوري‪ ،‬قلما تنجو أي أمة من المم من جريانه‪ .‬وهذا في‬
‫نظره هو الذي يجعل المة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة‪ ،‬تبقى‬
‫خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها‪ ،‬كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم‬
‫حضارية وعمرانية وعسكرية‪ ،‬وغير ذلك من الحالت المرضية التي تهوي بالمة إلى مهاوي التخلف‬
‫‪.‬والنحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية‬
‫وهكذا تلعب الشعوب دورها‪ ،‬وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات‪ ،‬حينما تدق ساعة‬
‫”البعث‪ ،‬معلنة قيام حضارة جديدة‪ ،‬ومؤذنة بزوال أخرى‬
‫ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات ال في‬
‫هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال‪ ،‬ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلم على الكون‪ ،‬والشهر كذلك يبدأ‬
‫ببزوغ الهلل‪ ،‬ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر‪ ،‬واحدا بعد الخر في إطار‬
‫سلسلة دورية مستمرة‪ .‬انطلقا من هذا يقول ابن نبي‪“ :‬إذا نظرنا إلى الشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى‬
‫الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الرض مشرقة في أفق هذا الشعب‪ ،‬ثم متحولة إلى أفق‬
‫شعب آخر” ‪19‬‬
‫ول يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه‪ ،‬أو يوزع أمجاده لي كان‪ ،‬كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن‬
‫بالشروق‪ ،‬لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس اللـهية التي تتحكم في توجيه الفراد والمجتمعات على‬
‫السواء‪ .‬وهذه السنن والقوانين ل بد من استيعابها‪ ،‬والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية‪.‬‬
‫أما الذين ل يحترمونها ول يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة ل يحكمها ضابط‬
‫ول هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول‪ .‬و”من عادة التاريخ أل‬
‫يلتفت للمم التي تغط في نومها‪ ،‬وإنما يتركها لحلمها التي تطربها حينا‪ ،‬وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى‬
‫في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم‪ ،‬وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد” ‪20‬‬
‫ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الن من سبات حضاري وخذلن ل بد أن يستوعبوا سنن ال الثابتة في‬
‫الكون التي يخضع لها الفراد والجماعات؛ لنهم بهذا الستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة‬
‫ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الن حركة عشوائية تحكمها الصدف‪ ،‬وتوجهها الهواء الفردية‬
‫والنزوات الشخصية‪“ .‬فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ‪ ،‬سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط‬
‫في حياتنا‪ ،‬ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا‪ ،‬ولعل أكبر‬
‫أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملحظة الجتماعية‪ ،‬ومن هنا تبدأ الكارثة‪ ،‬ويخرج قطارنا عن‬
‫طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء” ‪21‬‬
‫ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات النسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي‬
‫تخضع له الحضارة السلمية بدورها‪22 .‬‬
‫‪.‬وختاما ل بد من الشارة إلى جملة من الملحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي‬
‫أول‪ :‬على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلته منحى‬
‫التجريد والنظر البعيدين عن هموم المة السلمية وقضاياها الجتماعية والقتصادية والفكرية؛ بل ظل على‬
‫‪.‬الدوام ملتصقا بواقع المة‪ ،‬وراصدا لمختلف التحولت التي تطرأ عليها‬
‫ثانيا‪ :‬تتّبع مالك بن نبي لواقع المة السلمية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول‬
‫جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر‪ ،‬وليضع الحلول‬
‫‪.‬المناسبة لمشكلت المة‪ ،‬على شكل معادلت رياضية وقوانين دقيقة‬
‫ثالثا‪ :‬إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى‬
‫‪:‬مقاصدها‪ ،‬وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر‪ ،‬وذلك بالتي‬
‫‪.‬إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق ‪1-‬‬
‫وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالت‪ ،‬وتعميق النظر في “المفردات” ‪2-‬‬
‫و”المفاهيم” و”المعادلت” و”القوانين” التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها‪ ،‬وتوظيفها لتحليل وتوليد‬
‫‪.‬الحلول المناسبة لكثير من المشكلت الحضارية المستجدة في واقع المة‬

‫إشكال العلقة بين المسلمين والغرب‬


‫‪rd, 2009‬مايو ‪3‬‬
‫من أجل بناء مشترك إنساني‬
‫د‪ .‬أحمد الفراك‬
‫إن الحمد ل تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له‬
‫وأشهد أن سيدنا محمدا عبد ال ورسوله‪ ،‬بعثه ال تعالى بالهدى ودين الحق‪ ،‬هاديا‬
‫للعالمين‪ ،‬حامل نداء العالمية الخالد للناس أجمعين‪ ،‬قائل في كتابه المبين‪} :‬يا أيها‬
‫الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند ال‬
‫‪.‬أتقاكم‪ .‬إن ال عليم خبير{ سورة الحجرات‪ ،‬الية ‪ .13‬أما بعد‬
‫من التحديات الكبرى التي تواجه الفكر السلمي المعاصر‪ :‬اكتشاف المنهاج القرآني النبوي لفهم مفاتيح وأسس‬
‫التعامل مع الخر‪ ،‬وخاصة الغرب المتقدم تقنيا وعسكريا‪ .‬التحدي اكتشاف منهاج يجيب عن كيفية بناء رؤية‬
‫حضارية في مستوى خصائص الرسالة القرآنية العالمية الخاتمة‪ ،‬لتأسيس محيط حضاري تنويري جديد يجيب‬
‫عن سؤال‪ :‬كيف يتحقق المسلمون من بسط خيرية القرأن دون استضعاف للذات ول استعلء على الغير؟ كيف‬
‫تتأسس لدى المسلمين الرؤية الشمولية التكاملية المتخلصة من آفات التجزيء والسطحية والجمود والتغريب؟‬
‫كيف نحفظ مقومات مجالنا التداولي الصلي من التصدع والقلق ونحن نطالع ونستعمل معرفة الخر وعقيدته‬
‫ولغته؟ كيف نقرب تقريبا تداوليا تلك المفاهيم التي أنتجها الخرون دون أن نضر بمقومات مجال تداولنا؟ كيف‬
‫نبلغ رسالة الخالق إلى خلقه بقوة وأمانة؟‬
‫استنادا إلى العنوان “إشكال العلقة بين المسلمين والغرب” نبدأ أول بتحديد أطراف هذه العلقة‪ :‬المسلمون‬
‫والغرب‪ ،‬فما معنى السلم؟ وما معنى المسلمون؟ وما معنى الغرب؟ وما العلقة التي تجمع بين هذه‬
‫المصطلحات الثلث؟ ثم ننتقل إلى تاريخية هذه العلقة‪ ،‬من حيث أصلها وامتداداتها‪ ،‬ثم يأتي الحديث عن مركزية‬
‫الديان في هذه العلقة‪ :‬السلم‪ ،‬النصرانية واليهودية‪ ،‬وعن حوار الحضارات‪ ،‬وحوار الديان‪ ،‬ودور الدين في‬
‫‪.‬بناء النسان وتأثيث العقل‪ ،‬ثم إبراز الحل القرآني لهذا الشكال‬

‫الدين المشترك أو المشترك المنسي‬


‫المسلمون نسبة إلى السلم والسلم‪ ،‬فهم مجموع الناس الذين يدينون بالسلم –دين النبياء جميعا‪ -‬وفي معاجم‬
‫ن الّدُم‪ (1) ”.‬وعند‬ ‫حَق ُ‬
‫سلُم إظهاُر الخضوع والقبول لما َأتى به النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وبه ُي ْ‬ ‫اللغة‪“ :‬ال ْ‬
‫الراغب الصفهاني‪“ :‬السلم‪ :‬الدخول في السلم…كما قال ال تعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلم‪} :‬إذ قال ال‬
‫له أسلم‪ ،‬قال‪ :‬أسلمت لرب العالمين{”)‪ .(2‬أي أن السلم رسالة عالمية خاتمة‪ ،‬تشمل الوجود البشري منذ بداية‬
‫سْلِم‪،‬‬
‫سَلَم‪ ،‬أي دخل في ال َ‬ ‫سّلَم‪ .‬وَأ ْ‬ ‫سَلَم أمَره إلى ال‪ ،‬أي َ‬ ‫النبوة إلى ختمها ختما نهائيا‪ .‬وفي معجم الصحاح للغة‪َ“ :‬أ ْ‬
‫سَلَمُه‪ ،‬أي خذله‪ .‬والَتساُلُم‪ :‬التصالح‪ .‬والُمساَلَمُة‪ :‬المصالحة‬ ‫سَلَم من السلم‪ ،‬وَأ ْ‬ ‫”‪.‬وهو الستسلم‪ ،‬وَأ ْ‬
‫جاء السلم دينا للعالمين علي أيدي جميع المرسلين متدرجًا‪ ،‬ولكن منهم من ُبعث إلى قومه فقط بما يخصهم وإن‬
‫اشتركوا في بعضه مع غيرهم من القوام‪ ،‬مثل سيدنا شعيب وسيدنا يونس وسيدنا عيسى عليهم الصلة والسلم‪،‬‬
‫ومنهم من جاء للناس كافة برسالة عالمية‪ ،‬وهو النبي الخاتم محمد صلى ال عليه وسلم‪ .‬لذلك يعتبر القرآن هو‪:‬‬
‫“الصدار الخير للسلم”)‪ ،(3‬فهو ليس دينا جديدا بالمعنى العام للدين وإنما هو تجديٌد للدين وختٌم له‪ ،‬وانطلقا‬
‫من عالمية دعوته تأسست “الدولة العالمية الولى” التي استوعبت جميع الديان والثقافات والخصوصيات‬
‫‪.‬القومية‬
‫ومما يدل على أن السلم دين العالمين ول دين غيره‪ ،‬قول ال سبحانه وتعالى‪} :‬من يبتغي غير السلم دينًا فلن‬
‫يقبل منه‪ ،‬وهو في الخرة من الخاسرين{‪ ،‬وقد يعترض معترض فيقول ما بال دين اليهود ودين النصارى؟ أليس‬
‫لهم دينهم الخاص الذي يختلف عن دين السلم؟ وما معنى “لكم دينكم ولي دين”؟‬
‫لما كان السلم دينا عالميا جامعا بمقتضاه يتوجه العبد بالتسليم إلى ال خالقه ورازقه تصديقا برسالته واتباعا‬
‫لرسله فإن ُمسمى الديانة اليهودية والديانة النصرانية وصحف إبراهيم وصحف موسى وزبور داود تنسلك‬
‫وتندرج ضمن ُمسمى السلم عموما‪ ،‬بمعنى إسلم الوجه ل سبحانه‪ ،‬أو ما يسميه ابن تيمية رحمه ال ب “الدين‬
‫صْيَنا ِبِه ِإْبَراِهيَم‬
‫ك َوَما َو ّ‬ ‫حْيَنا ِإَلْي َ‬‫صى ِبِه ُنوحًا َواّلِذي َأْو َ‬
‫ن َما َو ّ‬ ‫ن الّدي ِ‬
‫ع َلُكم ّم َ‬
‫شَر َ‬‫المشترك” ‪ .‬ففي قول ال تعالى‪َ } :‬‬
‫ل َتَتَفّرُقوا ِفيِه{ الشورى ‪ ، 13‬نجد أن الدين الذي ارتضاه ال للنسانية هو دين‬ ‫ن َو َ‬
‫ن َأِقيُموا الّدي َ‬
‫سى َأ ْ‬
‫عي َ‬
‫سى َو ِ‬
‫َوُمو َ‬
‫المرسلين جميعا من لدن سيدنا نوح عليه السلم الذي قال لقومه‪ُ} :‬أمرت أن أكون من المسلمين{ ومرورًا بسيدنا‬
‫إبراهيم عليه السلم الذي قال‪} :‬وأنا أول المسلمين{ وهو الذي سمانا مسلمين‪ ،‬وكذا سائر النبياء والمرسلين‪،‬‬
‫وهو الدين الذي أعلن ال تمامه وكماله للبشرية كلها على يدي خاتم النبيين صلى ال عليه وعلى آله وسلم بقوله‪:‬‬
‫}اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا{ فأمسى الناس بموجبه معِنّيين بنفس‬
‫‪.‬الدرجة بدعوة السلم‪ .‬منهم من استجاب وآمن بال ومنهم من كفر أو أشرك به‬
‫قال الحق سبحانه‪}:‬إن الدين عند ال السلم{ قال الرازي في تفسيره‪» :‬وأما السلم ففي معناه في أصل اللغة‬
‫ثلثة أوجه‪ :‬الول‪ :‬أنه عبارة عن الدخول في السلم أي في النقياد والمتابعة‪ ،‬قال تعالى‪} :‬ول تقولوا لمن ألقى‬
‫إليكم السلم{ أي من صار منقادًا لكم ومتابعًا لكم‪ ،‬والثاني‪ :‬من أسلم أي دخل في السلم كقولهم‪ :‬أسني وأقحط وأصل‬
‫قولهم السلم والسلمة‪ ،‬والثالث لبن النباري‪ :‬المسلم معناه المخلص ل في عبادته من قولهم‪ :‬سلم الشيء لفلن‬
‫)أي خلص له فالسلم معناه إخلص الدين والعقيدة ل تعالى«‪4) .‬‬
‫ونفس الدللة يشير لها ابن تيمية عن السلم‪ » :‬وهو يجمع معنيين أحدهما‪ :‬النقياد والستسلم‪ ،‬والثاني‪ :‬إخلص‬
‫ذلك وإفراده‪ ،‬وعنوانه قوله‪) :‬ل إله إل ال( وله معنيان أحدهما‪ :‬الدين المشترك وهو عبادة ال وحده ل شريك له‬
‫الذي بعث به جميع النبياء‪ ،‬والثاني‪ :‬اختص به محمد صلى ال عليه وسلم من الدين والشرعة والمنهاج‪ ،‬وهو‬
‫الشريعة والطريقة‪ ،‬وله مرتبتان‪ :‬إحداهما من القول والعمل‪ :‬وهي المباني الركان الخمسة‪ .‬والثانية‪ :‬أن يكون‬
‫)ذلك الظاهر مطابقًا للباطن{« )‪5‬‬
‫انطلقا من هذا العتبار القائم على بديهية كون السلم هو دين العالم وأن القرآن هو الكتاب الخاتم الملخص لما‬
‫سبقه من الكتب تتحرر مرجعية النظر في طبيعة العلقة بين المسلمين والغرب من مجموعة من الفات والمزالق‬
‫المنهجية والمعرفية‪ .‬لتكون الرسالة الخاتمة الجامعة لجميع الرسائل التي سبقتها بمثابة الصل الثابت والمصدر‬
‫المطلق الذي ننطلق منه ونرجع إليه‪ .‬وليكون المسلمون هم كل من آمن بجميع الرسالت وبجميع الرسل‪ ،‬وذلك‬
‫هو السلم‪ .‬لذلك كان مطلب جميع النبياء من أقوامهم هو أن يكونوا مسلمين‪“ :‬قولوا ل إله إل ال تفلحوا”‪ ،‬وأن‬
‫يعيشوا مسلمين وأن يموتوا مسلمين‪ ،‬فقد جاء على لسان سيدنا يوسف عليه السلم‪} :‬فاطر السماوات والرض‬
‫أنت وليي في الدنيا والخرة‪ ،‬توفني مسلما وألحقني بالصالحين{ سورة يوسف‪ ،‬الية ‪ ،101‬وسيدنا سليمان يقول‪:‬‬
‫}بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬أن ل تعلوا علي وآتوني مسلمين{ سورة النمل‪ ،‬اليات ‪ ،30.31‬وفي سورة المائدة‪:‬‬
‫‪}.‬وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي‪ ،‬قالوا آمنا‪ ،‬واشهد بأننا مسلمون{ الية ‪111‬‬
‫يطلب القرآن إذن من الناس جميعا بمختلف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وثقافاتهم وجغرافياتهم وتاريخهم أن‬
‫يكونوا مسلمين‪ ،‬فيخاطبهم‪} :‬قولوا آمنا بال وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والسباط وما‬
‫أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم ل نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون{ فهو إذًا مستبطن لكل‬
‫الرسائل السماوية وجميع الشرائع باعتبار إيمانها برسلها واعتقاده بإسلمها‪ ،‬وهذا ما يجعل رسالة القرآن أحق‬
‫بهؤلء الرسل والنبياء ممن قد يدعي إتباعهم‪ ،‬وهو يحرف ويبدل‪ ،‬أو يقدس ويؤله‪ ،‬أو يغدر ويقتل‪ ،‬والقرآن بذلك‬
‫س{ ) سورة سبأ‪ ،‬الية “‪ ،(″28‬لهذا ف “الصل‬ ‫ل َكاّفًة ِللّنا ِ‬
‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫هو وارث الرسالت‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬وَما َأْر َ‬
‫في رسالة الناس أن تكون للناس وأن تنفتح عليهم بمللهم ونحلهم المختلفة‪ ،‬بل وأن تكون قيمها ومبادؤها وعلومها‬
‫)ومعارفها من الستيعاب للزمان والمكان والقابلية للتجدد بما يحقق فيها صفة الخلود والختم والعالمية”‪6) .‬‬
‫مفهوم الغرب‪ :‬من الجغرافيا إلى منظومة القيم‬
‫المراد بمفهوم “الغرب” ل تحمله المعاجم اللغوية‪ ،‬فهي تقتصر على الدللت الجغرافية والجتماعية المتداولة‬
‫‪.‬قديما‪ ،‬ونحن نقصد نظاما معرفيا تتداخل فيه العقيدة بالفلسفة بالقانون بالجغرافيا‪ ،‬الغرب كواقع معاصر‬
‫ب؛ قال‬ ‫غِترا ُ‬
‫طن وال ْ‬ ‫ح عن الَو َ‬ ‫في لسان العرب لبن منظور‪“ :‬الغْرب خلف الشرق…والُغْربُة والُغْرب‪ :‬الّنزو ُ‬
‫‪:‬الـُمَتَلّم ُ‬
‫س‬
‫ب جاِنـُبْه‬
‫ك * ِرسالَة َمن قد صار في الُغْر ِ‬ ‫سعِد بن مال ٍ‬ ‫َأل َأْبِلغا َأفناَء َ‬
‫خمة شاكة‬ ‫ضْ‬ ‫غّربه الدهُر…والَغْرب شجرة َ‬ ‫ب‪ ،‬وقد َ‬ ‫غَتَر َ‬
‫ب‪ ،‬وا ْ‬‫ب والتغّرب كذلك؛ تقول منه‪َ :‬تَغّر َ‬
‫غِترا ُ‬
‫وال ْ‬
‫حّدُه‬
‫شيِء‪ ،‬و َ‬ ‫ل ال ّ‬
‫حي‪ ،‬وأّو ُ‬ ‫ب‪ ،‬والّتَن ّ‬
‫ب‪ ،‬والّذها ُ‬
‫ب‪ :‬الَمْغِر ُ‬‫ضراُء والَغْرب الدلو”‪ ،‬وفي القاموس المحيط‪“ :‬الَغْر ُ‬ ‫خ ْ‬‫”… َ‬
‫أما عن كلمة غرب في القرآن‪ ،‬فقد وردت مادة )غ‪.‬ر‪.‬ب( في حوالي ‪ 15‬مرة‪ ،‬وبعدة تصاريف‪ :‬مغرب‪ ،‬المغرب‪،‬‬
‫)مغارب‪ ،‬غربت‪ ،‬تغرب‪ ،‬غربية‪ ،‬الغربي‪ ،‬الغروب‪ ،‬المغربين‪ ،‬وذلك في سور عديدة‪7).‬‬
‫كان يطلق لفظ “الغرب” قديما على أهل المغرب والندلس‪ ،‬وكان الشرق يطلق على الصين والهند…‪ ،‬ثم تلشى‬
‫جوِوز من جديد لُيطلق على‬ ‫هذا التحديد ليصبح مفهوم الغرب يطلق على أمريكا في مقابل التحاد السوفييتي‪ ،‬ثم ُت ُ‬
‫‪.‬أوربا وأمريكا معا ثم هما معا وروسيا واليابان حيث أضيفت اليابان إلى الغرب‪ ،‬وهي تقع في أقصى الشرق‬
‫الغرب” إذن تشكل بصورة تدريجية تراكمية عبر قرون‪ ،‬إلى أن وصل إلى الشكل الذي آل إليه الن‪ ،‬وهناك من“‬
‫يعتبر أن تشكل الغرب الحديث انطلق سنة ‪1492‬م‪ ،‬وهي سنة اكتشاف أميركا وخروج المسلمين واليهود من‬
‫إسبانيا‪ .‬كما يمكن القول أن الغرب المعاصر هو الذي تشكل غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬أي بعد ‪1945‬م‪،‬‬
‫وتعزز اليوم بتضامن أوربا مع أمريكا بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر‪ ،‬مثلما أن النخراط معها في حربها على أفغانستان‬
‫ف إلى حد كبير‬ ‫‪.‬والعراق سمح بظهور “غرب” شبه موحد وجدانّيا‪ ،‬ومتعاط ٍ‬
‫الغرب باختصار هو أوربا وأمريكا‪ ،‬من حيث الحضارة والثقافة والتاريخ وليس بالضرورة الجغرافيا‪ .‬إذ قد نجد‬
‫امتدادات للغرب خارج القارتين الوربية والمريكية‪ .‬أي أن مفهوم الغرب وإن كان في أصله اللغوي يحيل إلى‬
‫جغرافية معينة‪ ،‬فإنه يختزل دللت متعددة على المستويات الفكرية والدينية والسياسية والقتصادية والجتماعية‪،‬‬
‫‪.‬تتضافر لتحدد ماهية الغرب في تفاعله مع قيم الحضارات الخرى ومنها الحضارة السلمية‬
‫وتنبني أسس هذا “الغرب” على ثلث مرجعيات متداخلة‪ :‬مرجعية فلسفية إغريقية‪ ،‬مرجعية قانونية رومانية‪،‬‬
‫مرجعية دينية نصرانية‪ .‬ومع اكتشاف أميركا والتوسع في العالم ونزوح المليين من الوروبيين إلى أميركا‬
‫وأستراليا فقدت أوروبا مركزيتها لصالح مفهوم الغرب الذي أخذ مع بداية القرن العشرين يتشكل كمنظومة قيم‬
‫‪….‬ترتبط بنمط حياة معينة قائمة على الليبرالية والحداثة والديمقراطية والعولمة‬
‫لكن الغرب ليس واحدا‪ ،‬فداخله تتعدد القيم وتختلف الحكام وتتباين المواقف‪ ،‬فعدد كبير في الغرب غير موافق‬
‫على غزو العراق‪ ،‬واحتلل فلسطين‪ ،‬في مقابل ذلك انسحبت إدارة بوش من اتفاق كيوتو لمواجهة ارتفاع حرارة‬
‫الرض‪ ،‬وعارضت حظر اللغام الرضية‪ ،‬وعارضت قيام المحكمة الجنائية الدولية‪ ،‬والدول الغربية اليوم تؤاخذ‬
‫أمريكا على معاملتها اللإنسانية للسرى في غوانتانامو‪ ،‬وخروجها على القانون الدولي‪ ،‬وضغوطها النفرادية‬
‫…على المم المتحدة‪ ،‬واستثناء الجنود الميركيين من المحاكمة وغيرها‬
‫السلم والغرب‪ :‬الجذور والمتدادات‬
‫سنة وسيرًة‪ ،‬من‬
‫موضوع الحوار بين السلم والغرب موضوع قديم يجد أصله في موقف السلم‪ ،‬كتابا و ُ‬
‫ل تثبته النصوص وتؤكده التجربة التاريخية للمسلمين‪،‬‬
‫ف حواٍر وتفاع ٍ‬
‫“الخر” المخالف عقيدة وفكرا؛ وهو موق ُ‬
‫فأهل الكتاب كانوا يسكنون الجزيرة العربية‪ ،‬النصارى في نجران‪ ،‬وفي المناطق التي تسمى اليوم الجزيرة‪،‬‬
‫واليهود كانوا يسكنون الحجاز )المدينة ومكة(‪ ،‬وقد نزحوا إلى منطقة الحجاز بالذات قبل سبعة قرون من بعثة‬
‫‪.‬النبي صلى ال عليه وسلم‪ .‬فكان التعايش قائما على المؤاخاة والتحالف‬
‫ولما كان السلم دين العالم وكان الغرب جزء من هذا العالم فإنه من الواجب أن يتوجه السلم إلى الغرب‪ .‬فمع‬
‫البعثة النبوية الخاتمة تحددت المهمة العمرانية للبشرية قاطبة وفق الغاية الكونية من الخلق وهي التعمير‬
‫والستخلف‪ ،‬قال ال تعالى‪} :‬هو أنشأكم من الرض واستعمركم فيها{ هود ‪ ،61‬كي تعمروها جميعا بالخير‬
‫والحق والعدل والمن والسلم‪ .‬وهذا ما جسدته السيرة النبوية عبر ‪ 23‬سنة‪ ،‬فدخل الناس في السلم من كل‬
‫الجناس وحملوا مشعل الهداية إلى كافة الناس‪ .‬وقد كان أصحاب الرسول صلى ال عليه وسلم من أعراق‬
‫وأجناس وألوان شتى‪ ،‬جمعهم اليمان بال ورسوله صلى ال عليه وسلم ووصف الرسول دعاوى التعصب‬
‫‪.‬العرقي واللوني بأنها من دعاوى الجاهلية التي يرفضها السلم ويستهجنها‬
‫ثم الخلفة الراشدة التي لم تعرف خيريتها حدودا جغرافية ول وطنا ُمحجرا‪ ،‬ول سلطة مغلقة‪ ،‬وإنما عم فضلها‬
‫العالمين وانتشرت رحمتها في الفاق‪ .‬وما الفتوحات السلمية سوى امتداد حضاري لرسالة القرآن العالمية‪ .‬لكن‬
‫بعد زمن الخلفة الولى عاد الناس إلى زمن العصبية والفرقة والتسلط والنفراد بالمجد حسب تعبير ابن خلدون‪،‬‬
‫وظهرت الفرق الكلمية التي انشغلت بالجدل الحاد وخاضت في المقدور والمحضور‪ ،‬وتخلت عن المأمور‪،‬‬
‫ففرطت في قيمة التوحيد والعالمية للرسالة‪ .‬واستأسدت دويلت تكرس الفرقة والصراع الداخلي‪ ،‬ول يهمها سوى‬
‫‪.‬حفظ كرسي الحكم وفق مبدأ “فرق تسد”على حساب وحدة المة ووسطيتها ورساليتها التوحيدية العالمية‬
‫توارثت المة الشتات والتسلط إلى يومنا هذا‪ ،‬فزاد الستعمار الغربي من فرقتها وضعفها وتجزئتها‪ .‬رغم تلك‬
‫الصيحات التي أطلقها الرواد الوائل لعصر النهضة العربية المعاصرة مع جمال الدين الفغاني ومحمد عبده‬
‫ورشيد رضا وغيرهم‪ ،‬وأصبحت بعد ذلك في أشد الحاجة إلى بوصلة ونور يخرجها من ظلمات التأفف والتغرب‬
‫والجمود والتنطع‪ .‬إذ ل يكفي أن نرد وندافع‪ ،‬بل ينبغي أن نؤسس ونوجه ونبني‪ .‬ومن استقبل البحر استقل‬
‫‪.‬السواقي‬
‫إن الغاية التي يتوجه بها القرآن إلى الناس أجمعين هي نفسها منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة‪ ،‬إذ القرآن كتاب‬
‫هداية ودللة‪ ،‬هداية إلى الخير ودللة على الحق‪ ،‬ولذلك فهو يوجب على من آمن به أن يبلغه للعالمين‪ ،‬أفرادا‬
‫حيث يجب ربطهم بخالقهم ودللتهم على سلوك الطريق إليه‪ ،‬وجماعات حيث يجب تنبيههم إلى وجوب الجتماع‬
‫‪.‬على القيم العالمية العليا‪ :‬كالخير والحق والعدل والرحمة…لتحقيق الغاية العمرانية الستخلفية في الكون‬
‫يتوجه القرآن إلى النسان ‪-‬باعتباره مخلوق مستخلف مكلف‪ -‬لعداده إعدادا ربانيا وسطيا متكامل‪ ،‬وبناء نموذج‬
‫النسان المسلم السوي‪ ،‬في ذاته وفي علقته بالخرين‪ .‬إذ باستقامته يفهم الخرون رسالته ويقبلونها ويتعاملوا بها‪.‬‬
‫وبالموازاة مع ذلك يهدف السلم إلى بناء عمران إنساني تشاركي تتعارف فيه المم وتتعاون فيه الشعوب‪،‬‬
‫ن{‬ ‫حَمًة ِلْلَعاَلِمي َ‬
‫ل َر ْ‬ ‫ك ِإ ّ‬
‫سْلَنا َ‬
‫وينتظم فيه الفراد‪ ،‬وفق قواعد النص المطلق المؤسسة على الرحمة والعدل‪َ} ،‬وَما َأْر َ‬
‫)سورة النبياء‪ ،‬آية ‪ .(107‬واستنادا إلى رؤية فكرية منهاجية تجديدية‪ ،‬وإلى واقع العمران البشري المشهود‪ ،‬أي‬
‫‪.‬كما يعيشه الناس ل كما يفترضونه أو يظنونه‬
‫الحاجة ماسة إذن إلى ما يمكن تسميته ب “علم علقة المسلمين بالغرب” تؤكدها حاجة الغرب إلى الخروج من‬
‫كونية الزمة التي صنعها بيديه والساطير المؤسسة لعقله الجمعي‪ ،‬وبالتالي حاجته إلى فهم قيم القرآن باعتباره‬
‫“كتاب كوني معجز صادر عن مصدر متعال متجاوز يعرف كيف يقضي على الساطير العرقية والعنصرية‬
‫التي شادت بناءها أساطير علوم الناسة واللغويات وأصل النواع وما بني عليها ليعيد للنسانية إيمانها بخالقها ثم‬
‫)بوحدتها النسانية‪ ،‬ووحدة الكون الذي تعيش عليه‪ ،‬وإعادة بناء العلقات الطبيعية بين هذه كلها” )‪8‬‬
‫إن تعاقب الجيال في الغرب يضاعف المسؤولية على المسلمين ويفرض عليهم أن يجددوا رؤيتهم لطبيعة‬
‫الرسالة التي تقع على عاتقهم في تبليغ تلك القيم العالمية الراقية إلى العالم‪ ،‬ول يمكن أن تصل هذه القيم إلى هؤلء‬
‫الذين يجهلونها كما هي إل إذا استطاع المسلمون أن يعرفوا الواقع الغربي كما هو‪ ،‬ل كما ُتصوره المواقف‬
‫السوداوية المتشائمة ول كما تزينه الدعوات الطرائية‪“ ،‬ول تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إل بمعرفة‬
‫العناصر الفاعلة فيه والموجهة له والمؤثرة في تكوينه وتلوينه سواء أكانت عناصر مادية أو معنوية‪ ،‬بشرية أم‬
‫)غير بشرية‪ ،‬ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية” )‪9‬‬
‫إل أنه ل سبيل إلى أن تتجدد نظرتنا لغيرنا إل لما تتجدد نظرتنا لذاتنا ول تتجدد نظرتنا لذاتنا إل لما تتجدد نظرتنا‬
‫لمصادر معرفتنا تحديدا وترتيبا‪ ،‬ول تتجدد هذه إل بتجدد نظرتنا للقرآن‪ .‬يقول مراد هوفمان بهذا الصدد‪“ :‬أعتقد‬
‫أن التجديد يأتي بأن تعيد الجيال الجديدة قراءة القرآن باستمرار وتسعى دائما لتطبيقه على ما يستجد من أمور‪،‬‬
‫وأعتقد أن كل جيل جديد يأتي بعد الجيل الذي سبقه يجب أن يعيد اعتناقه للسلم‪ ..‬وهو ما يعني إعادة فهمه‬
‫للسلم ويعيد قراءته‪ ..‬وللشاعر اللماني المعروف “جوتة” حكمة يقول فيها‪ :‬إنه يجب عليك الحصول على‬
‫)إرثك حتى تمتلكه؛ يعني ل يكفي أنك ترث السلم بل عليك أن تمتلكه وتكتسبه بجدارة”‪10) .‬‬
‫جِميًعا { )سورة العراف‪،‬‬ ‫ل ِإَلْيُكْم َ‬
‫ل ا ِّ‬
‫سو ُ‬‫س ِإّني َر ُ‬
‫ل َيا َأّيَها الّنا ُ‬
‫مما سبق نقف على كون السلم رسالة عالمية }ُق ْ‬
‫الية ‪ .(158‬ونقف على حق البشر جميعا في معرفة هذه الرسالة وقراءتها والتخلق بأخلقها والعمل بتشريعها‪،‬‬
‫مثلما نقف كذلك على وجوب إبلغ هذه الرسالة إلى جميع الناس بكل الوسائل المشروعة المتاحة في هذا العصر‪،‬‬
‫شريطة أن تنسجم تلك الوسائل مع خصائص الرسالة العالمية الخاتمة‪ .‬مستلهمة رشدها من روح القرآن‪} :‬إنا‬
‫ظِة‬‫عَ‬‫حْكَمِة َواْلَمْو ِ‬ ‫ك ِباْل ِ‬
‫ل َرّب َ‬‫سِبي ِ‬
‫ع ِإَلى َ‬ ‫أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى ال بإذنه وسراجا منيرا{ و}اْد ُ‬
‫ن { )سورة النحل الية‪125“ :‬‬ ‫سُ‬
‫حَ‬‫ي َأ ْ‬
‫جاِدْلُهْم ِباّلِتي ِه َ‬
‫سَنِة َو َ‬
‫حَ‬‫‪″).‬اْل َ‬
‫يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ُ“ :‬بعثت إلى كل أحمر وأسود”‪ .‬وهذا يعني أن البشر كلهم أمته المخاطبون‬
‫بدعوته‪ ،‬ومن حقهم الستماع إليها‪ ،‬ومن واجب المسلمين إبلغ الدعوة في نواحي الرض كلها‪ ،‬ومن قواعد‬
‫السلم التي وردت في القرآن الكريم‪ ،‬أن الحساب والجزاء يكون بعد البلغ والعذار والنذار‪ ،‬يقول ال تعالى‪:‬‬
‫ل{ )سورة السراء‪ ،‬الية “‪ .(″15‬وأن كرامة الدمي متعلقة به كإنسان ول‬ ‫سو ً‬
‫ث َر ُ‬
‫حّتى َنْبَع َ‬
‫ن َ‬
‫}َوَما ُكّنا ُمَعّذِبي َ‬
‫يجوز لحد أن ينزعها عنه‪ ،‬يقول تعالى‪َ} :‬وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَم { )سورة السراء آية‪ .(70 ،‬لذلك فحق الحياة‪،‬‬
‫والكرامة النسانية‪ ،‬وحق المن والعدل والسلم وحرمة العرض والمال‪ ،‬كلها حقوق مكفولة لجميع بني آدم دون‬
‫‪.‬أي اعتبار آخر‬
‫حروب الفرنجة وما إليها وفترة الستعمار والدولة العثمانية‬
‫كما للظروف أثرها فكذلك للتاريخ أثره على الرؤية المعاصرة لعلقة المسلمين بالغرب‪ ،‬فل يمكن أن نتجاوز‬
‫تلك المحطات الكبرى التي تلقى فيها المسلمون والغرب وجها لوجه فتركت صورتها في العقل الجمعي للمسلمين‬
‫وتوارثوها عبر الجيال‪ .‬كيف وهل نطوي صفحة التاريخ لنؤسس من جديد لعلقتنا مع الغرب؟ أم نعيد قراءة‬
‫التاريخ لستيعابه وتجاوزه؟ وهل تلك الصورة النمطية التي تشكلت عبر الزمن الماضي هي النموذج والمثال‬
‫الذي نبني عليه وننطلق منه؟‬
‫شهد تاريخ علقة المسلمين بالغرب فترات تفاهم وتعاون مثلما عرف فترات تنافر ومواجهة‪ ،‬أبرز المثلة‬
‫للمواجهة كانت هي لحظات الستعمار‪ ،‬سواء ما يسمى بحروب الفرنجة‪ ،‬حيث يطلق المؤرخون المسلمون لفظ‬
‫عرفوا في الغرب بالصليبيين‪ ،‬وقد بدأت غارتهم عام ‪498‬هـ في أولى‬ ‫الفرنجة على الغزاة الوربيين الذين ُ‬
‫حملتهم التي شاركت فيها فرنسا وألمانيا وبريطانيا والبابا‪ ،‬وأسسوا في بلد المسلمين ما سمي بالمارات‬
‫اللتينية الربع‪ :‬بيت المقدس‪ ،‬أنطاكيا‪ ،‬طرابلس والرها‪ ،‬ولم يتم إخراجهم منها إل عام ‪692‬هـ‪1292/‬م )‪ ،(11‬أو‬
‫الستعمار الحديث الذي بدأ مع الحملة الفرنسية في ‪ 19‬مايو ‪ 1798‬وبداية الغزو الوربي ومقدمة للحتلل‬
‫‪).‬البريطاني لمصر )‪1930-1882‬‬
‫وأبز المثلة للتعايش نذكر الندلس التي شهدت أنموذج الحياة المشتركة بين المسلمين والنصارى واليهود‪.‬‬
‫وكانت قرطبة أكبر عاصمة أوروبية حضارًة وعلما وثقافة وتعايشا‪ ،‬وكانت مكتبة قرطبة أعظم مكتبات العالم‬
‫‪..‬قاطبة‬
‫لكن ل التفاهم يلغي الختلف ول التنافر يعدم الحوار‪ ،‬فكلهما في اختلف دائم وفي حوار مستمر‪ ،‬فمقومات‬
‫الحضارة السلمية كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري مجاورة لمقومات الحضارة الغربية )النصراينة‬
‫خاصة(‪ ،‬و”عبر التاريخ كان اتساع رقعة العالم السلمي يتم على حساب التشكيل الحضاري الغربي المسيحي‪،‬‬
‫‪”.‬والعكس صحيح‪ .‬فقد اتسعت رقعت العالم الغربي )ابتداًء من القرن السادس عشر( على حساب العالم السلمي‬
‫السلم والغرب‪ :‬تساؤلت وإشكالت‬
‫‪rd, 2009‬مايو ‪3‬‬
‫د‪ .‬أحمد الفراك‪ ،‬المغرب‬
‫من ثقل التاريخ وذاكرة الماضي وشهادة الحاضر ُتطرح علينا السئلة الكبيرة مثل‪:‬‬
‫إلى أي حد وبأي معنى يمكن للمسلمين أن يتعايشوا مع الغرب وفق تعاقد يوفر‬
‫للطرفين السلم والمن والعدل؟ ونحن نقرأ ونعيش ونكتوي بنار ظلم الغرب‬
‫للمسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والصومال وغيرها؟ أيمكننا أن‬
‫نستشرف مستقبل يعود فيه الغرب إلى رشده وتتضح له رسالة السلم الخالدة كما‬
‫هي ل كما زورتها القوال والفعال؟‬

‫وإذا كان واقع الغرب اليوم يتلخص في قيم عبادة العجل الذهبي وتقديس المادة والمتعة فهل من الضروري أن‬
‫يتخذ هذا التاريخ اتجاها خطيا تصاعديا في الصراع؟ أَوليس ممكنا أن ُيجتهد في بناء نموذج جديد للعلقة بين‬
‫المسلمين والغرب يتجاوز الوضع الصراعي القتالي الحربي إلى وضع التكامل والتعاون والنسجام؟ أوليس‬
‫الحوار الحقيقي مع الغرب هو الذي ينبغي أن ينصب على تحرير هذه الغاية النسانية النبيلة‪ ،‬وذلك باستصناع‬
‫وإبداع آليات تقريبية استيعابية تجديدية تمكن النسانية من الفادة من بعضها البعض؟ ألم يحن الوقت لتذكر‬
‫المشترك المنسي بين الديانات السماوية التي تشكل عمق الحضارتين السلمية والغربية؟هل يمكن أن تلتقي‬
‫مصالح المسلمين والغرب؟ وبأي معنى يمكننا الحديث عن تخطي العداء المدمر الذي تكنه بعض الثقافات للكون‬
‫والنسان؟ أل يمكننا أن نؤسس اليوم تأسيسا جماعيا لكليات فكرية جامعة للستخلف التشاركي في الرض‬
‫وتحقيق العمران النساني؟ كيف نتجاوز الفهم المنغلق كلية على التراث وفهم المؤامرة المتخفي كما نتجاوز الفهم‬
‫المستلب من الغرب؟ أل يمكن للفكر السلمي المعاصر أن ُيدشن نموذجه البنائي الجديد لعلقة السلم كدين‬
‫خاتم وكوني مع الغرب؟ أل يمكن أن ننتقل من تحديد هويتنا في مقابل الخر إلى تحديدها إلى جانبه؟ هل يمكن أن‬
‫نتجاوز النظرة الستعلئية والعدائية المنكرة لفضل الغير وتفوقه؟ أل يمكننا أن نستوعب نمط التفكير الغربي‬
‫ونتجاوزه؟‬
‫الفكر السلمي اليوم باعتباره فكرا مستمدا من رسالة نبوية خاتمة تحمل قيما إنسانية رحيمة بالنسان ورفيقة به‬
‫صدامي الذي يشكل‬‫ُمطالب بالقطع مع تلك المعارك الماضية التي خاض فيها القدامى‪ ،‬والقطع مع العقل التقليدي ال ِ‬
‫عقبة في وجه أية نهضة جديدة للمة السلمية‪ ،‬والتأسيس لمنهج قرآني تجديدي يوسع دائرة المشترك ويؤدي إلى‬
‫“إبرام عقد اجتماعي دولي” على حد تعبير د‪.‬عبد الوهاب المسيري رحمه ال‪ ،‬يتم بمقتضاه تنظيم العلقة بين‬
‫‪.‬المسلمين والغرب على أساس من الحترام المتبادل والحرية والعدل والتعايش‬

‫مع ذلك ل ينبغي أن ننظر إلى الغرب كعقل موحد وواقع واحد‪ ،‬إنما الغرب طوائف ومواقف‪ ،‬تشترك وتفترق‪،‬‬
‫مثلما أن المسلمين اليوم ليسوا على أتقى قلب رجل واحد‪ ،‬فمنهم المجتهد ومنهم المقتصد وفيهم الظالم لنفسه‪ ،‬كما‬
‫في الغرب القاسطون والعادلون والظالمون‪ .‬لذا يجب أن نكف عن تعميم التهم قبل إتمام التعرف والفهم‪ .‬فل‬
‫مناص من معرفة التصور الذي يحمله النسان الغربي عن الكون والحياة والتاريخ والدين والخر‪ ،‬فهي التي‬
‫‪.‬تحدد اختياراته وأولوياته ومصالحه‪ ،‬وفي نهاية المر سلوكه وقراراته‬
‫الحاجة إلى الدين‬
‫وينبغي أن نركز في تعايشنا مع الغرب على المشترك بين الشرائع‪ ،‬إذ لو استثمرنا مضمون الرسائل التشريعية‬
‫السماوية لحققنا ما عجزت عن تحقيقه تلك الدعوات التي تتهم الخطاب التجديدي ب “القفز على التاريخ”‪ ،‬فجميع‬
‫الشرائع السماوية تدعوا إلى اليمان بال وإلى حفظ حرمة النسان والحرص على هدايته لما فيه خير له في‬
‫العاجل والجل‪ ،‬كما تدعوا إلى إقامة العدل بين بني البشر ونشر الخير بين الناس وإحقاق الحق بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ .‬وتحمل منظومات أخلقية تتعارض مع تقديس القيم المادية النفعية الشهوانية التي ل ترى في‬
‫الكائن البشري سوى دودة تشتهي المتعة واللذة‪ ،‬آلة تستهلك بل نهاية ول قيمة‪ ،‬جسم يلتهم الطعام والشراب حتى‬
‫‪.‬يفنى‪ .‬وكلها تنكر الكفر والظلم والبغي والفساد والستبداد‬
‫الغرب في حاجة إلى الدين كي يقوم هو الخر بمراجعة أحكامه ويقينياته وتهذيب نظرته الستيهامية التي تتغنى‬
‫بالتفوق والنرجسية‪ ،‬وتتمركز حول النظر إلى الذات باعتبارها القطب الذي يستدير الرحى‪ ،‬مما أظهره بوجه‬
‫س على النسان والكون‪ ،‬حتى أعمى الناس‬ ‫كارٍه للغير رافض للتعايش معه‪ ،‬طالبا لسيادته في عبودية الخر‪ ،‬قا ٍ‬
‫عن مواقع قوته وإشعاع حضارته‪ .‬وقد أكد على هذا الدكتور سعيد شبار في سياق حديثه عن الحداثة بقوله‪“ :‬أن‬
‫هذا المفهوم حمل من القيم الغربية السلبية ك »النزعة الفردانية والحرية المطلقة‪ ،‬والعقلنية الداتية‪ ،‬وتحطيم‬
‫وتجاوز المقدسات والمطلقات والقيم والخلق… إلخ«‪ ،‬وهذه المعاني والقيم ل توافق حضارة تدعي أنها عالمية‬
‫وأنها عقلنية‪ ،‬وقد انتبه إلى هذا مجموعة من المفكرين الغربيين أنفسهم في نقدهم للبنية المفهومية للعقل الغربي‪:‬‬
‫…الديمقراطية‪ ،‬العولمة‪ ،‬الحداثة‬
‫وبما أنه لن يصلح أخر هذا المر إل بما صلح به أوله‪ ،‬فكذلك لن يتجدد أمر الدين حتى يتجدد فهم الدين‪ ،‬ولن“‬
‫يتجدد فهم الدين‪ ،‬حتى ُيهتدى في منهج الفهم للتي هي أقوم‪ .‬وما أشق ذلك في المة اليوم !! لكثرة الموانع وقلة‬
‫السباب‪ ،‬فكم من ترسبات منهجية فاسدة أفرزتها وراكمتها قرون الضعف والنحطاط في المة ل تزال مستمرة‬
‫)التأثير!”)‪1‬‬
‫ينظر الدين إلى النسانية على أنها أسرة بشرية ممتدة وإلى الرض على أنها مجال الستخلف والتعمير‪.‬‬
‫فرشحها لتكون مستأمنة مستخلفة تعمر الكون باليمان والعمل الصالح‪ ،‬وإلى الرسالة على أنها للناس كافة‪ ،‬لكن‬
‫طرأ على الدين ما حرف رسالته ومزق وحدته فانغلق النسق وانكمشت الرؤية في أطر مذهبية ومدرسية‬
‫حَيت النزعات القومية‬‫وسلطوية ضيقة‪ .‬وتحول التعايش إلى صراع والوحدة إلى تعدد والجماعة إلى فرق و َ‬
‫والعرقية والقبلية‪ .‬فتوارث الجيال هذا النغلق والنكماش والفرقة حتى استحالت بفعل عامل الزمن إلى أصل‬
‫‪.‬يقاس عليه ومرجع يستند إليه‬
‫ل نعبد إل ال ول نشرك به شيئا ول يتخذ‬ ‫قال ال تعالى‪} :‬قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أ ّ‬
‫بعضنا بعضا أربابا من دون ال{ سورة آل عمران‪ ،‬الية‪ .63:‬فهذا هو الدين المشترك الذي يضع السس الكلية‬
‫الجامعة التي من شأنها أن تقيم في النسان إنسانيته على أتم وجه‪ .‬فأهل الكتاب دون غيرهم من أهل الهواء‬
‫والملل والنحل يشتركون مع المسلمين في مراعاة الكليات الخمس‪ ،‬والسعي إلى تحقيقها والعمل على حفظها‪ .‬وهذا‬
‫القدر يشكل أساسا ومرجعا للحتكام عند محاورة أهل الكتاب‪ .‬وهو ما يغيب عند محاورة الطوائف الخرى ‪ .‬لذا‬
‫‪ .‬وجب التمييز بين أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬لنهم أهل كتاب ونبوة‬
‫الدعوة إلى الكلمة السواء‪ ،‬دعوة لمراعاة المقاصد الخمس‪ ،‬التي نصت الشرائع السماوية على حفظها إن ُوجدت‪،‬‬
‫وعلى المطالبة بها إن غابت‪ .‬وبهذا تكون الكلمة السواء‪ ،‬هي الصل الجامع‪ ،‬والساس المشترك الذي يحسم كثيرا‬
‫من نقط الخلف وُيجعل أرضية لبناء مشترك إنساني‪ .‬لهذا يجب على الفكر السلمي المعاصر أن يحتاط من‬
‫الخلط بين الصل وبين الصورة‪ ،‬بين النص وبين التعليق‪ ،‬بين الكتاب‪/‬الوحي وبين تفسير المفسرين وفقه الفقهاء‪.‬‬
‫التفسير عمل بشري‪ ،‬وهو فهم المفسرين لمضمون الكتاب‪ ،‬وأي مفسر أو مؤول أو قارئ إنما يفسر أو يؤول أو‬
‫يقرأ في إطار ثقافته وقدرته وذكائه وعلمه وظروفه‪ ،‬وكل ذلك نابع مما حصله من معرفة ومما عاشه من‬
‫أوضاع‪ .‬ناهيك عن تأثر المفسر بالثقافة الشفوية ومعلوم أن هذه الثقافة عبارة عن خليط من المعتقدات والساطير‬
‫والحكايات القديمة…مما ينعكس سلبا على فهم النص و تفسيره‪ .. .‬فأهل الكتاب هناك كان لهم تأثيرهم من خلل‬
‫تلك الثقافة الشفوية‪ ..‬فنقلوا أفكاًرا كثيرة‪ ..‬مثل “جعلوا الملئكة إناثا”‪ ،‬وفكرة أن الملئكة إناث فكرة موجودة في‬
‫‪.‬العقل اليهودي‪ ،‬فانتقلت من الثقافة الشفوية إلى العرب‪ ،‬ومنهم إلى التفسير والكلم والفقه والفلسفة‬
‫ومن أمثلة ما طرأ على الصل من تحريف وقراءات تارخية مغرضة نذكر أن التأويل اليهودي للتوراة يشير إلى‬
‫وهو مصطلح يتضمن نظرة دونية واحتقار‪ ،‬وتنظر كتبهم نظرة ‪ Gentiles،‬جميع الجناس غير اليهود بكلمة‬
‫تحقيرية للخر وتعتبره خدم لسرائيل‪ ،‬وهذه فكرة متشعبة في الثقافة اليهودية حتى في فترة ضعفهم إذ كانوا‬
‫يحرصون على العيش في الملحات والماكن المنعزلة ظنا منهم أنهم مقدسين فيما الخرين دنس‪ .‬حتى أنهم‬
‫‪.‬يرون أن تناول الطعام مع غير اليهودي‪ ،‬كتناوله مع الكلب‬
‫وإذا كان للتوراة والتلمود دور في تكوين صور الخر لدى اليهود‪ ،‬فإن هذا ل ينكر السياق التاريخي والجتماعي‬
‫الذي ظهرت فيه تلك النصوص‪ ،‬خاصة إذا نظرنا للتلمود ككتاب تراثي حوى التجربة اليهودية على مدى قرون‪،‬‬
‫‪.‬ومن خلل العديد من الشخاص‪ ،‬وهذا هو سبب التناقض في تأويلت وأفكار التلمود حول مفهوم الخر‬
‫ومع بروز فكرة الصهيونية‪ ،‬ظهر العائق الكبر الذي يتمثل في تبني عقيدة عنصرية وعدائية وتدميرية تجاه‬
‫الخر‪ ،‬وإلصاقها بنصوص يدعى فيها أنها مقدسة‪ ،‬في محاولة لسقاطها على الواقع والحاضر‪ ..‬وبذلك فإن لدى‬
‫اليهود سواء المحافظين أو المعاصرين نفس الصورة النمطية عن الخر سواء من التوراة أو التلمود أو الظروف‬
‫! التاريخية والجتماعية‪ .‬وقد برزت اليوم بعض الصوات اليهودية التي تدعوا إلى مراجعة التلمود وتصحيحه‬
‫أما النصرانية فلم تكن في درجة خطورة الفكر اليهودي‪ ،‬بحيث تكاد تحافظ الكنائس على رؤية موحدة عن الغير‪،‬‬
‫وهي مستقاة من الكتاب المقدس‪ ،‬حيث يرى الكتاب المقدس أن ال ميز النسان عن غيره من الموجودات‪ ،‬ولكن‬
‫الخطيئة هي التي أدت لضطراب علقات النسان بأخيه النسان الخر‪ ،‬واعتبر كل الموجودات حتى العداء‬
‫قريب‪ ،‬لذلك فإن الموقف من الخر يرتبط بأقوال المسيح عليه السلم وأفعاله‪ ،‬والتي منها “أحبوا أعداءكم وصلوا‬
‫من أجل مضطهديكم”‪ .‬إل أنه تاريخيا تعددت التأويلت لنص النجيل ‪-‬كما طرأ المر في تاريخ جميع الديان‪-‬‬
‫حتى هيمنت الصليبية على المسيحية‪ .‬مما يوجب على الفكر النصراني المعاصر أن يجدد ذاته بما يوافق أصوله‬
‫‪.‬التي تتسم بالتفاهم وقبول الخر‬
‫أما القرآن الذي حفظ نصه من التحريف فيخاطب في النسان فطرته ومخلوقيته وإنسانيته‪ ،‬وفطرة النسان دين‪،‬‬
‫لذلك فعمق الكائن البشري أينما ُوجد عمق ديني‪،‬فبالحرى من ُولد في بيئٍة الدين فيها مصدر للتفكير والسلوك‬
‫والحوار‪ .‬إن الدين كما يذهب إميل دوركايم هو أقدم ظاهرة اجتماعية على الطلق‪ ،‬أي أن النسان كائن متدين‬
‫سواء أكان فردا أو حضارة‪ .‬وجميع الخلق الفاضلة في النسان أخلق من الدين‪ ،‬أو قل‪ :‬ل أخلق بل دين كما‬
‫يقول الدكتور طه عبد الرحمن‪ .‬إن الغرب رغم الطبيعة العلمانية لنظمته ففي دعوته المسلمين للحوار يصدر من‬
‫منطلقات دينية ‪-‬مسيحية يهودية‪ -‬واضحة‪ ،‬كما عاد الغرب إلى التأكيد على أهمية الُبعد الديني فيما بات يعرف ِ‬
‫ب‬
‫‪“”….‬الصراع الحضاري” و”الحوار الحضاري” و”حوار الثقافات‬
‫لهذا فالمشترك بين الديان أصل في التعايش والبناء‪ ،‬مثال ذلك نبذها للعنف‪ ،‬إذ “الصل في الديان نبذ العنف ل‬
‫تشريعه‪ ،‬وتهذيب وتشذيب سلوك النسان العدواني وردع وزجر نوازعه النانية‪ ،‬بما يجعله صالحا في نفسه‬
‫ومصلحا في مجتمعه‪ ،‬أي أداة بناء وتعمير ل أداة هدم وتدمير‪ .‬فالعدوان إذن من النسان ل من الديان‪ ،‬ومن‬
‫نسب شيئا من ذلك إلى الدين فبما حرفه وبدله هذا النسان من الدين‪ ،‬أو بما فهمه فهما سيئا من الدين‪ .‬فالقرآن‬
‫والسنة مثل لم يشرعا القتال إل دفاعا عن النفس أو ردا لعدوان وليس كما يفهم البعض اعتمادا على فهم ل أساس‬
‫له تحت راية آية اسمها »آية السيف« تجب كثيرا من الحقوق والحريات والخلق التي هي عماد الدين‪ .‬ولو‬
‫تكاملت الديان فعل في دائرة ما هو مشترك بينها وهو كثير وعلى رأسه تحريم القتل‪ ،‬لصينت دماء كثيرة من‬
‫‪}.‬الهدر‪ ،(2) ”.‬وهذا ما يعبر عنه القرآن ب }ل إكراه في الدين‬
‫الديان ل يمكن أن تكون بذاتها وسيلة للصِدام والمجابهة بل هي بذاتها وسيلة لتقارب النسان من أخيه النسان‪.‬‬
‫وكما أن الدين وسيلة للتفاهم فإن الحضارة أيضًا هي خير وسيلة للتعبير عن احتياجات ورغبات النسان في‬
‫‪.‬العيش الهانئ دون اللجوء إلى لغة العنف والتحريض والستضعاف والكراهية‬
‫الديان كلها تقف صفا واحد ضد الفات التي تجتاح النسان كالعولمة المتوحشة والنزعة المادية المصلحية‬
‫‪….‬والبراغماتية الهمجية والفردانية النانية و الشهوانية العبثية‬
‫المشترك النساني العالمي‪ :‬وحدة الواجد‪ :‬وهو ال سبحانه الخالق المدبر‪ ،‬ووحدة الوالد‪ :‬كلنا من آدم عليه السلم ‪،‬‬
‫ووحدة الزمان والمكان‪ :‬أي وحدة الكون الذي نعيش فيه وُنسأل عنه إن أحسنا أو أسأنا‪ .‬ووحدة الحاجة إلى السلم‬
‫‪.‬والمن والعدل والحرية‬
‫السس التي وضعها القرآن الكريم لوحدة البشرية‬
‫ل قوة للمسلمين إل من القرآن‪ ،‬ول ذات لهم ول هوية ول مستقبل إل مع القرآن‪ ،‬المة اليوم في حاجة إلى فقه‬
‫القرآن‪ ،‬لن “القرآن هو المصدر المنشئ والسنة هي المصدر المبين له في إطار علقة تكاملية ل تسمح بإسقاط‬
‫أحدهما على حساب الخر كما ل تسمح بالفصل بينهما” )‪ ، (3‬فما هي أسس الحل القرآني لشكال العلقة مع‬
‫الغرب؟‬
‫نظر السلم إلى البشرية على أنها أسرة واحدة منتشرة في الكون‪ ،‬ل فرق بين عربي وأعجمي‪ ،‬ول بين أحمر‬
‫وأبيض‪ ،‬فتغيرت بهذه النظرة الموازين والمقاييس‪ ،‬ولم تعد هناك قيمة لي شيء ذي طابع حصري‪ ،‬فل العرق‬
‫ول اللون ول البقعة الجغرافية التي يعيش فيها النسان‪ ،‬ول القبيلة التي ينتمي إليها‪ ،‬وإنما هي أسرة واحدة ممتدة‬
‫غايتها التعارف والتعايش‪ ،‬والتعارف يؤدي إلي التآلف‪ ،‬والتآلف يؤدي إلي التعاون‪ ،‬وبالتالي تتحقق القيم اللهية‬
‫‪.‬التي أراد ال أن تتحقق‪ .‬فهذه عالمية القرآن‪ ،‬وقد سبق الحديث عنها‬
‫السلم رحمة كونية تستوعب البشرية كاملة على اختلف العقول والماكن والزمان لذلك وجب على المسلمين‬
‫علماء ومفكرين ودعاة أن يبدعوا وسائل جديدة في توصيل روح القرآن إلى الغرب‪ ،‬وهذا رأس الجهاد مع الغرب‬
‫وليس العنف عليه‪ .‬القرآن يسعى لبناء أمة وليس لبناء مجرد دويلة‪ .‬الهدف القرآني والهدف النبوي بناء أمة‬
‫ب النبي صلى ال عليه وسلم الملوك والحكام يدعوهم‬ ‫جعلت لي الرض مسجدا وطهورا”‪ ،‬ومن أجل ذلك كاَت َ‬ ‫“ُ‬
‫‪.‬للسلم والتعايش‪َ ،‬يعرض عليهم دين ال الخالد وليس دين القلية المستضعفة‬
‫والسلم دين الوسطية }وكذلك جعلناكم أمة وسطا{ ‪ ،‬والوسطية رفعة وقوة‪ ،‬قال المام علي كرم ال وجهه‪:‬‬
‫“عليكم بالنمط الوسط يرجع إليه الغالي ويلحق به التالي”‪ ،‬فل إفراط ول تفريط‪ ،‬ل قعود ول تسيب‪ ،‬ل جمود‬
‫…ول تغريب ول انغلق ول تبعية‬
‫ل يصح أن ننجر وراء تلك القراءات الختزالية التي تلتقط من القرآن الكريم بضع شواهد منتقاة للتدليل على‬
‫أغراض محسومة بشكل تقليدي مسبق‪ ،‬بل ينبغي النصراف ابتداء إلى التلمذة على نص الوحي مباشرة ودون‬
‫‪.‬حواجز‪ ،‬تلمذة تقرأ القرآن الكريم في وحدته البنائية المتكاملة‬
‫ونتيجة لتلك القراءات فهم بعض المسلمين من سنة التدافع الصراع والعداوة المطلقة والقتال لكل ما هو غرب‪،‬‬
‫والصواب غير ذلك لن التدافع ل يعني الصراع التدميري الحاقد‪ ،‬وإنما يعني التنافس والمسابقة في الخير‬
‫‪….‬والبحث عن الفضل والجود والقوى والنفع في دين والدنيا‪ ،‬في الروح والمادة‪ ،‬في النفس والكون‬
‫المة السلمية اليوم في حاجة إلى نظرة كلية إلى القرآن لتنتج اجتهادا فكريا معاصرا يستوعب الصول‬
‫والمصادر مثلما يستوعب المفاهيم والشكالت المطروحة اليوم‪ ،‬ونذكر في هذا الطار مجموعة من الجتهادات‬
‫التي تشكل في مجموعها مشروعا حضاريا يحاول بناء أصول شرعية وعقلية كلية تجمع بين الرحمة والحكمة‪،‬‬
‫بين الروح والمادة‪ ،‬بين الغيب والشهادة‪ ،‬بين الوحي والعقل‪ ،‬أو قل بعبارة مختصرة‪ :‬بناء منهاج جامع بين الوحي‬
‫والعقل والكون‪ ،‬بغية تحقيق الستخلف المقاصدي المنشود لحياء أمة واستمرارها بناء على المقاصد الكلية‬
‫الكبرى للشريعة السلمية التي تجمع بين التوجه إلى ال والتوجه إلى النفس والتوجه إلى الكون‪ ،‬أو قل بعبارة‬
‫مختصرة‪“ :‬التلمذة على الوحي لعمال العقل في الواقع”‪ .‬وكل عمل مخل بهذه المصادر الكبر فهو فساد‪ ،‬وال‬
‫تعالى يقول‪“ :‬ول تعثوا في الرض مفسدين” ) العنكبوت‪} (36:‬إن الرض يرثها عبادي الصالحون{ )النبياء‪:‬‬
‫)‪4) ،(105‬‬
‫إذن فالحل كما يقول الدكتور سعيد شبار هو‪“ :‬بلورة منهاج قرآني تجديدي ‪..‬كلي من خلل؛ العمل على قراءة‬
‫مصادر المعرفة السلمية في تكاملها‪ ،‬واستصحاب قيم الهداية والرحمة في هذه القراءة‪ ،‬وأن تقوم هذه القراءة‬
‫على خصائص توحيدية عالمية وسطية”‪ .‬حذرة من ثلث قراءات مناوئة للحق والعلم‪ ،‬وهي القراءة الفلسفية‬
‫‪.‬والقراءة اليديولوجية والقراءة الستشراقية‬
‫الحاجة إلى تجديد الفكر السلمي في ضوء القرآن‬
‫إن تجديد الدين اليوم ل بد أن يمر عبر تجديد آليات قراءة النص ومنه تجديد آليات التعامل مع إشكالية علقة‬
‫المسلمين مع الغرب‪ ،‬فمادام التجديد عملية متجددة فم ل تكون العلقة مع الغرب أيضا متجددة بمفاهيمها‬
‫وقضاياها وإشكالتها وأسئلتها وأجوبتها‪ .‬في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة‪“ :‬إن‬
‫جدد لها أمر دينها”‪ ،‬فالتجديد‬‫جدد لها دينه” وفي رواية‪“ :‬من ي ّ‬ ‫ال يبعث لهذه المة على رأس كل مائة سنة من ي ّ‬
‫من صميم الدين ومرتبط بطبيعته‪ .‬يقول الدكتور يوسف القرضاوي‪“ :‬يوجب علينا أن نجتهد لعصرنا ‪..‬وأن نفكر‬
‫بعقولنا لتنظيم حياتنا… وأن نراعي زماننا وبيئتنا وأحوال عيشنا إذا أفتينا أو قضينا أو بحثنا أو تعاملنا مع أنفسنا‬
‫)أو مع الخرين‪ …،‬وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا…وأن نبتكر في أمور دنيانا كما ابتكروا” )‪5‬‬
‫بالعودة الصادقة المخلصة التامة إلى القرآن المكنون قوله تعالى‪} :‬إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم{‪ .‬يمكن أن‬
‫تبدأ مسيرة المة السلمية الكبرى وانطلقتها الشاملة لتأسيس “البديل الحضاري السلمي العالمي” القائم على‬
‫الهدى والحق‪ ،‬فالقرآن بخصائصه باستطاعته الهيمنة على سائر المناهج المطروحة في عالم اليوم‪ ،‬وبإمكانه‬
‫إعادة صياغتها ضمن منهاجه الكوني‪ ،‬وذلك من خلل التوصل إلى منهجية معرفية قرآنية‪ ،‬منهجية قائمة على‬
‫‪.‬قراءة تستوعب مشكلت الوجود النساني وأزماته الفكرية والحضارية‬
‫ل يزال الفكر السلمي العربي المعاصر يعاني من عدة أزمات‪ :‬التقليد‪ ،‬الستعجال‪ ،‬التعصب‪ ،‬الحزبية‬
‫والطائفية‪ ،‬النظرة التجزيئية‪ ..‬لذلك وجب التحول من هذا الوضع الزماتي إلى وضع يعوض فيه التجديد التقليد‪،‬‬
‫والتريث الستعجال‪ ،‬والتسامح التعصب‪ ،‬والنسانية الحزبية‪ ،‬والنظرة التكاملية النظرة التجزيئية الذرية والتوحيد‬
‫‪.‬الفرقة‪ ،‬والوسطية الغلو‬
‫ل ينبغي أن يعول الفكر السلمي المعاصر على التفكير السياسي اللحظي الذي يلفه الحريق اليومي للحداث‪،‬‬
‫مثلما ل ينبغي أن يعول على اجتهادات السابقين المظروفة بظروفهم والمقيدة بمعرفتهم واجتهادهم‪ .‬والتي ل تكاد‬
‫تجاوز النظر التقليدية التي ُتقسم العالم إلى دار إسلم ودار حرب‪ .‬ينبغي أن يقوم بنقد مزدوج‪ ،‬أن يرى بعينين‬
‫اثنتين‪ ،‬عين على الذات‪ ،‬وعين على الغير‪ ،‬عين على تراثنا وواقعنا وعين على تراث الخر وواقعه‪ ،‬وهذا الجهاد‬
‫متوقف على مدى إعداد الُعدة المنهجية التكاملية للتمكن من تهذيب أنانيتنا المتعالية من جهة‪ ،‬وإعادة صياغة‬
‫‪.‬الوعي السلمي تجاه الخر‪ ،‬ونقد فردانية الغرب العنصرية من جهة ثانية‬
‫المة السلمية في حاجة إلى اجتهاد جماعي إبداعي في القضايا المعاصرة الملحة‪ ،‬اجتهاد قادر على تجاوز‬
‫الجمود الفكري الذي دخلت فيه المة منذ زمن طويل‪ ،‬وتجاوز النظرة التجزيئية المائلة التي بعضت المعرفة‬
‫السلمية فاشتغلت ببعضها اشتغال كامل وهمشت بعضها وكأنها بل قيمة‪ .‬إذ من التناقضات التي وقع فيها الفكر‬
‫السلمي تفضيل العلوم المسماة “شرعية” واعتبار النظر فيها عبادة على حساب العلوم الخرى التي تسمى‬
‫العلوم “الحقة” أو “النسانية” أو “الكونية” وكأنها ملهاة عن العبادة‪ .‬ثم لما ظهر تفريط المة في هذه العلوم التي‬
‫أبدع فيها الغرب فكانت سر تقدمه وتفوقه اعترف الفكر السلمي المعاصر بوجوب تعلمها وإتقانها والبداع‬
‫فيها؟‬
‫فكيف يتم ذلك وقد سبقه الطعن في العلوم المادية باعتبارها تلهي عن اليمان والخرة‪ ،‬أو أنها علم غير نافع‪،‬‬
‫وهذا أدى في نظر د‪ .‬سعيد شبار “إلى إضعاف الثقافة والحضارة السلمية‪ ،‬والدليل على ذلك قلة النتاج العلمي‬
‫في العلوم النسانية والجتماعية والطبيعية”‪ .‬فغالبا ما نجد العبارة المحتشمة في كتابات رواد الحركة السلمية‬
‫‪“.‬النفتاح على الغرب”‪ ،‬وهو انفتاح يفيد النغلق‬
‫قضايا معاصرة بين المسلمين والغرب‬
‫من القضايا التي تتأطر ضمن الشكال الكبير “علقة المسلمين بالغرب” نذكر‪ :‬العلمانية‪ ،‬الحداثة‪ ،‬العولمة…‬
‫وهي مصطلحات لغوية ومفاهيم فلسفية غربية لها حمولت حضارية ترتبط بتاريخ وفلسفة وثقافة ونمط حياة‪.‬‬
‫أنتجها الغرب عبر مخاض طويل كان للمسلمين حظ كبير فيه‪ ،‬إذ ل ُينكر فضلهم في النهضة العلومية والتقنية‬
‫‪.‬والفكرية التي تعيشها الحضارة الغربية اليوم‬
‫الغرب اليوم غالب بتقنيته وتقانته وعلومه واقتصاده وقوته العسكرية ونفوذه السياسي والثقافي والعلمي‪ ،‬يهجم‬
‫علينا بمفاهيمه وقضاياه مثلما يغرقنا بسلعه المختلفة‪ ،‬ويفرض علينا التبعية والنقياد‪ .‬لكن القرأن يخاطب فيه‬
‫النسان من حيث هو مخلوق مستخلف ومسؤول‪ .‬فكيف نقنعه بهذه الرسالة ؟ بل كيف نحاوره حوارا نديا يلغي‬
‫الفروق المادية من أجل التفاهم‪ .‬أفل يوجد من حل سوى رفضه ُكلية أو تلقُفه كما هو؟ أليس لنا من خيار سوى‬
‫اللتحاق “الممسوخ” بالغرب أو التدتر بذاتية عاجزة؟‬
‫بلى‪ ،‬بينهما يكمن الحل القرآني الوسطي الواقعي‪ ،‬بين حماسة المتغربين وشكوى العاجزين‪ .‬الرض أرض ال‪،‬‬
‫والدين دين ال والمصلحة مشتركة بين خلق ال السواء في آدميتهم أمام ال‪ .‬ذلك ما سيكون موضوع هذا البحث‬
‫‪.‬بإذن ال تعالى‬
‫يعاني الفكر الغربي المعاصر من فلسفة موت النسان‪ ،‬واختفائه جراء النتائج المعاصرة التي كشفت عنها‬
‫الدراسات المتخصصة في الظاهرة النسانية‪ ،‬حيث تحول الكائن العاقل المفكر من ذات متطابقة مع ذاتها تعي‬
‫وجودها وتعي ما حولها إلى شبه كائن فاقد للوعي والحرية والمسؤولية‪ ،‬تم تذويبه في سلسلة من الحتميات‪:‬‬
‫الوراثية والبيولوجية والنفسية والجتماعية والقتصادية واللغوية والسياسية… حتى أضحى عالما دون ذات‪.‬‬
‫‪.‬رغم أنف رينيه ديكارت وجان بول سارتر‬
‫العولمة أو العولمية كما يسميها عادل العوا فضحت إيديولوجية الغرب وأبانت عن ضعفه مع قوته‪ ،‬فكيف نستثمر‬
‫“قيمتها” من حيث آلياتها ووسائلها وأدواتها‪ ،‬ونقد أخطائها والستفادة من أزماتها من أجل تقديم قيم السلم‬
‫وتوصيل رسالته للعالمين؟ فل يكفي أن نعدد مثالبها ثم نتولى إلى الظل‪ .‬ول ينبغي أن ننبطح لها لتفعل بنا ول‬
‫نفعل‪ .‬ليست العولمة شيطانا لعينا وليست ملكا كريما‪ ،‬ل ينبغي التخويف منها مثلما ل ينبغي التبشير بها‪ ،‬ل نخشى‬
‫”العولمة لن لنا أقوى رابطة حتى باعتراف صمويل هنتغتون‪“ :‬رابطة الدين‬
‫أل يمكن أن نخلع وجهًا إنسانيًا على العولمة الرأسمالية؟ أل يمكن تحويلها من عولمة متوحشة ظالمة إلى عولمة‬
‫ذات وجه إنساني؟‬
‫نحلة الغالب” مقولة يفسر بها ابن خلدون كون المم الضعيفة مولعة باقتفاء أثر الغالب واتباع سننه‪ ،‬وكذلك“‬
‫‪.‬وضع المة اليوم‪ ،‬فهي في حالة ضعف وفرقة ل توفقها إلى إيقاع التأثير وإبداء الموقف القوي‬
‫‪” Out Of‬الغرب مطالب بمراجعة الفلسفة المادية والتفكير المنبثق عنها ” ففي كتابه “خارج حدود السيطرة‬
‫يدعو برجنسكي الغرب بصفة عامة وأمريكا على وجه الخصوص إلى مراجعة الفلسفة المادية التي ‪Control‬‬
‫تقوم عليها السياسات الغربية‪ ،‬ويؤكد على ضرورة إيجاد ضوابط أخلقية لكتساب القوة واستعمالها وإل فإنها‬
‫ستؤدي إلى إفناء الجنس البشري وإنهائه” )‪ ،(6‬مطالب بالقطع مع النظرة الداروينية الدوابية التي تقلص قيمة‬
‫النسان في حجم حشرة ساقتها الصدفة طورا بعد طور بل مبدأ ول غاية‪ .‬ومطالب بمعالجة العائق الكبر مع‬
‫‪.‬المسلمين‪ :‬تجدر العقيدة الصهيونية في الغرب‪ ،‬ودعم الدول الغربية لسرائيل‬
‫خاتمة‬
‫بناء على ما سبق نريد من الفكر السلمي أن يكون معاصرا لنا من حيث تناوله ومعالجته لمختلف القضايا التي‬
‫يعيشها المسلم اليوم‪ ،‬وهو الهتمام شبه الغائب عن العقل المسلم نتيجة لظروف النحراف التي عرفتها المة‬
‫السلمية تاريخيا‪ :‬النحراف السياسي حيث فسد الحكم‪ ،‬والنحراف الفكري المعرفي حيث انصرف المسلمون‬
‫‪….‬أشتاتا إلى الخوض في معارك وهمية من قبيل الحديث المستفيض في مرتكب الكبيرة وذكاة الحلزون‬
‫ما يشهده العالم اليوم من تصدع فكري وثقافي وسياسي‪ ،‬وما آلت إليه العلقة بين المسلمين وغير المسلمين مع‬
‫تزايد عدد مليين المسلمين بالغرب‪ ،‬مقابل إدبار الحضارة الغربية عن النجاب‪ ،‬وما يعرفه العالم اليوم من تجديد‬
‫‪.‬للوعي الديني ومراجعة للموقف من الدين وتراجع للمد العلماني اللئيكي‬
‫ثم أن نهضة المة السلمية ل يمكن أن تتم إل مرورا بإعادة النظر في أصول العلقة بين السلم كشريعة‬
‫خاتمة وبين الغرب‪ ،‬مستحضرة أن النموذج في العلقات البشرية هو الذي يستوعب بالضافة إلى أصل القرآن‬
‫حرفية لفهٍم طرأ على‬‫الكريم كل من أصل العقل وأصل الواقع‪ .‬فل يصح أن تبقى المة السلمية حبيسة رؤية َ‬
‫النص في فترة معينة من تارخها‪ .‬وقد آن الوان للقضاء على بنية تلك “الثنائيات الزائفة” كما كان يسميها علل‬
‫…الفاسي رحمه ال‪ :‬تراث‪/‬تجديد‪ ،‬أصالة ‪/‬معاصرة‪ ،‬دين‪/‬دولة‪ ،‬إسلم‪/‬غرب‬
‫إن هذه المصادر الثلث في تكاملها وتداخلها لهي الركن الصيل الذي يمكن للمة أن تسهم به في بناء مشترك‬
‫سخر‪ .‬الوحي والعقل والواقع‬ ‫‪.‬إنساني يعيد العتبار للنسان كمخلوق عامل وللكون كمخلوق م َ‬
‫نحتاج اليوم إلى منهاج قرآني يمكننا من إدراك النص‪ ،‬وإدراك الواقع‪ ،‬وإدراك كيفية إنزال هذا النص على‬
‫الواقع…حتى نؤسس لرؤية عالمية تجمع بين الرحمة والحكمة‪ ،‬وبين الختلف والتسامح‪ ،‬وبين التعدد والتعاون‪،‬‬
‫نحتاج إلى منهاج تغييري ُكلي يعالج إشكالتنا التاريخية الموروثة بنظرة تجديدية نقدية تمحيصية فحصية‪ ،‬مثلما‬
‫يعالج إشكالتنا المعاصرة الموجودة‪ ،‬يجمع بين ما أثله العقل المسلم من قواعد بعد عرضها على القرآن‪ .‬منهاج‬
‫مؤيد بالنص المطلق باعتباره النص الهادي المرشد الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬ل بالتاريخ‬
‫المقيد بفهم الناس وظروفهم وتأويلهم وثقافتهم‪ ،‬منهاج جامع بين الغيب والشهادة‪ ،‬وبين العلم والعمل‪ ،‬وبين الحل‬
‫الفردي والحل الجماعي‪ ،‬وبين العاجل والجل‪ ،‬وبين حل النفس وحل الكوان‪ .‬منهاج يعكس عالمية السلم‬
‫‪.‬وشموليته وربانيته ووسطيته وواقعيته وإنسانيته‬

You might also like