Professional Documents
Culture Documents
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ،ونجح السلم في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ،عاد النصار إلى المدينة
ينتظرون هجرة النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ إليهم بتلهف كبير .وأذن رسول ال ـ صلى ال عليه وسلم ـ للمسلمين بالهجرة إلى هذا
الوطن ،الذي اختاره ال مهجرًا لرسوله ـ صلى ال عليه وسلم .
ولم تكن الهجرة مجرد التخلص من إيذاء المشركين أو الفرار من الفتنة في الدين ،بل كانت كذلك إيذانًا بميلد دولة السلم ،
وإقامة مجتمع التوحيد الذي تهفوا إليه نفوس المؤمنين .
ل في اليذاء والتعذيب وتحمل ألوان السخرية والستهزاء والتكذيب فإن الهجرة وإذا كان امتحان المسلمين قبل الهجرة متمث ً
كانت تمثل امتحانًا ليس أقل ضراوة ،حيث سيترك المهاجر الوطان والديار والقرابات والموال ،والصحاب والذكريات ،بل
سيغامر بنفسه وربما فقدها في أثناء الطريق ،فقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة أمام المهاجرين ،مرة بحجز أموالهم
ومنعهم من حملها ،ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم ،وثالثة بالحتيال لعادتهم إلى مكة ،لكن شيئًا من ذلك كله ،لم يعق موكب
الهجرة ،فالمهاجرون كانوا على أتم استعداد للنخلع من أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لنداء العقيدة ،ونصرة لدين ال وتأسيسًا
وإقامة لمجتمع اليمان .
لقد ضرب المسلمون بهجرتهم أروع أمثلة التضحية من أجل الدين ،فهذه أم سلمة تحكي قصة هجرتها مع زوجها وابنها ،وهم
ل بأهله قالوا :هذه نفسك غلبتنا عليها ! أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علم نتركك تسير بها فيأول أهل بيت هاجر ،فلما رآه أصهاره مرتح ً
البلد فأخذوا منه زوجته ! ،وغضب آل أبي سلمة لصاحبهم فقالوا :ل و ال ل نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا !
وتجاذبوا الغلم بينهم حتى خلعوا يده ! وانطلق أبو سلمة مهاجرًا وحده إلى المدينة ،وحبست أم سلمة عند قومها وذهب قوم أبي سلمة
بالولد ! قالت :فُفّرق بيني وبين زوجي وبين ابني ! فكنت أخرج كل غداة بالبطح فما أزال أبكي حتى أمسي ،سنة أو قريبا منها
حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني ،فقال لقومه أل تخرجون هذه المسكينة ،فَرقتم بينها وبين زوجها وولدها ؟ فقالوا لي الحقي
بزوجك إن شئت ،فاسترجعت ابنها من أعمامه ،وارتحلت بعيرها ،فخرجت بولدها تريد المدينة ما معها من أحد من خلق ال .وفي
الطريق لقيها عثمان بن طلحة ،وكان مشركًا فأخذته مروءة العرب ونخوتهم فقال :ما لهذه من مْتَرك فانطلق بها يقودها إلى
ل استأخر عنها مروءة .كما قال صاحبه الجاهلي :
المدينة ،كلما نزل منز ً
فلما وصل قباء قال :زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة ال ثم انصرف رجعًا إلى مكة .فكانت أم سلمة ـ رضي ال
عنها ـ تقول :و ال ما أعلم أهل بيت في السلم أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة .وما رأيت صاحبًا قط أكرم من عثمان بن طلحة .
قصة هجرة عجيبة ،وأعجب منها موقف ذلك المشرك الذي صاحب هذه المرأة المسلمة التي ليست على دينه ليوصلها ،
وأحسن معاملتها ،وغض بصره عنها طيلة خمسمائة من الكيلو مترات قطعها في أيام ،ثم عاد إلى مكة دون راحة .فأي مروءة ،
وأي شهامة يتعلمها شباب المسلمون الن من رجل كافر ملك نفسه وملك إرادته ،وغض بصره ،إنها سلمة الفطرة التي قادته أخيرًا
إلى السلم بعد صلح الحديبية .
ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة .
ومن الصور المضيئة لتضحيات المهاجرين ـ رضي ال عنهم :هجرة صهيب ـ رضي ال عنه ـ فإنه لما أراد الهجرة قال له كفار
قريش :أتيتنا صعلوكًا حقيرًا فكثر مالك عندنا ،وبلغت الذي بلغت ،ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ! و ال ل يكون ذلك ! فقال لهم
صهيب :أرأيتم إن جعلت لكم مالي ،أتخلون سبيلي ؟ قالوا نعم ! قال :فإني قد جعلت لكم مالي .فبلغ ذلك رسول ال ـ صلى ال
عليه وسلم ـ فقال :ربح صهيب .
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة تباعًا ،حتى كادت تخلوا من المسلمين ،وشعرت قريش أن السلم أضحت له دار يأرز
إليها ،وحصن يحتمي به ،فتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد ـ صلى ال عليه وسلم ـ وهاجت في
دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته فقررت قتل النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ للقضاء على الدعوة التي أقلقت
ك َوَيْمُكُرو َ
ن جو َ
خِر ُ
ك َأْو ُي ْ
ك َأْو َيْقُتُلو َ
ن َكَفُروا ِلُيْثِبُتو َ
ك اّلِذي َ
مضاجعهم .فأخبر ال رسوله ـ صلى ال عليه وسلم ـ بمكرهم } َوِإْذ َيْمُكُر ِب َ
ن { … )النفال. (30:خْيُر اْلَماِكِري َ
َوَيْمكُُر الُ َو الُ َ
وأذن ال لرسوله ـ صلى ال عليه وسلم ـ بالهجرة ،فجاء منزل أبي بكر نحو الظهيرة ،وقد اشتد الحر في وقت ل يخرج فيه
أحد عادة .لقد عرف النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ أن قريشًا ترصده فأراد أن يأخذ حذره ،وعندما ُأخبر أبو بكر بقدومه في هذا
الوقت ،عرف أن المر خطير ،ولما أخبر النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ أبا بكر أن ال أذن له في الخروج ،قال :الصحبة يا
رسول ال ؟ قال :الصحبة ! تقول عائشة :فو ال ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ
يبكي ! ووضع النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ خطة الهجرة مراعيًا ما يمكنه من أسباب دون تواكل على النصر الموعود .
ل إلى غار ثور .ومن جهة غير الجهة المعتادة التي يذهب الناس إلى المدينة منها ،وأن يمكثا فقد اتفق مع أبي بكر على الخروج لي ً
ل ماهرًا بمسالك الصحراء ليقودهما إلى المدينة ،وقد استأمنه مع كونه في الغار ثلثة أيام حتى يخف الطلب عنهما .واستأجرا دلي ً
مشركا ،ودفعا إليه راحلتيهما اللتين كان أعدهما أبو بكر لذلك .لكن رسول ال ـ صلى ال عليه وسلم ـ أبى إل أن يدفع ثمن راحلته
كي يبذل في الهجرة من ماله كما يبذل من نفسه ! وزودتهما أسماء بالطعام .
وكان عبد ال ابن أبي بكر يتسمع لما يقوله الناس بالنهار ثم يخبرهما في الليل ،فيعفى عامر بن فهيرة على آثار قدميه بأن يروح
بغنمه عليها .كما أمر النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ عليًا أن يبيت في فراشه .ومع روعة التخطيط البشري واستفراغ الواسع ،وأخذ
ل عليه ،موقنًا بحسن الحيطة البالغة ،إل أن النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ ما كان ليركن إلى السباب ،وإنما كان واثقًا بربه ،متوك ً
تدبيره لنبيه ،ونصرته لدينه ،فحينما وجد فوارس قريش ،وقصاص الثر في طلب النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ وانتشروا في
الجبال والوديان ،وصل بعضهم إلى فم الغار ،حتى رأى الصديق أقدامهم ،فخاف على النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ لن مستقبل
المة متعلق به ،فقال :يا نبي ال لو أن بعضهم طأطأ رأسه لرآنا فقال النبي ـ صلى ال عليه وسلم :يا أبا بكر :ما ظنك باثنين ال
ن الَ
ن ِإ ّ
حَز ْ
حِبِه ل َت ْ
صا ِ
ل ِل َ
ن ِإْذ ُهَما ِفي اْلَغاِر ِإْذ َيُقو ُ
ي اْثَنْي ِ
ثالثهما ؟ ! وقد أثنى ال على ذلك اليقين والتوكل التام بقوله َ } :ثاِن َ
َمَعَنا { ) ...التوبة :من الية . (40
ومن عظيم توكله ـ صلى ال عليه وسلم ـ وكمال يقينه ما جرى مع سراقة بن مالك ،الذي علم أن قريشًا جعلت مائة ناقة لمن
يدل على النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ حيًا أو ميتًا فتتبعهما بفرسه حتى دنا منهما ،وكان أبو بكر يكثر اللتفاف خوفاً على النبي ـ
صلى ال عليه وسلم ـ وإشفاقًا على المة أن تصاب في نبيها ،وكان رسول ال ـ صلى ال عليه وسلم ـ ثابتًا ل يلتفت ،ولم يزد على
أن قال لما علم بقرب سراقة :ال م اصرعه ! فاستجاب ال له ،فساخت قدما فرسه في الرض .وعلم أن النبي ـ صلى ال عليه
وسلم ـ ممنوع ،وأنه ظاهر ،فطلب منه أن يكتب له كتاب أمان ،وعرض على النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ المساعدة ،فقال أخف
عنا ! ،فأصبح أول النهار جاهدًا عليهما ،وأمسى آخره حارسًا لهما .
وواصل النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ رحلته إلى المدينة .وتعددت مظاهر عناية ال له .وظهرت دلئل بركته .واشتد شوق
أهل المدينة إليه لما علموا بخروجه .فكانوا ينتظرونه كل يوم ،ول يرجعون حتى يشتد الحر ،فلما شرفت المدينة بمقدمه ،لم يفرح
الناس بشيء فرحهم برسول ال ـ صلى ال عليه وسلم ـ حتى جعلت النساء والصبيان والماء يقولون :جاء رسول ال ،جاء رسول
ال .
ونزل رسول ال ـ صلى ال عليه وسلم ـ على أخواله من بني النجار ،وعمت الفرحة أرجاء يثرب التي تغير فيها كل شيء منذ
ذلك اليوم ،حتى اسمها ،إنها الن المدينة المنورة ،مدينة النبي ـ صلى ال عليه وسلم ـ وحتى سكانها ،إنهم الن أنصار رسول ال ـ
ن ِبِهْم
سِهْم َوَلْو َكا َ
عَلى َأْنُف ِ
ن َ
جًة ِمّما ُأوُتوا َوُيْؤِثُرو َ
حا َ
صُدوِرِهْم َ
ن ِفي ُ
جُدو َ
جَر ِإَلْيِهْم َول َي ِن َها َ ن َم ْحّبو َصلى ال عليه وسلم ـ الذين } ُي ِ
ن { ) ...الحشر :من الية . (9 حو َ ك ُهُم اْلُمْفِل ُ
سِه َفُأوَلِئ َ
ح َنْف ِ
شّق ُ
ن ُيو َ
صٌة َوَم ْ
صا َ
خ َ
َ