You are on page 1of 69

‫السلم و الديمقراطية‬

‫بقلم‪ :‬سهيل أحمد بهجت‬


‫‪.......................................‬‬
‫تعتبر العلقة بين السلم "كدين" و أعمال العنف ‪ ،‬من ذبح و تفخيخ و قتل ‪ ،‬أحد أهم المواضيع‬
‫التي تحظى باهتمام الغرب و مؤسساته الحضارية ‪ ،‬المعاهد و الجامعات و مراكز الدراسات ‪ ،‬و‬
‫كواجب أخلقي فإن على المسلمين قبل غيرهم اللتفات إلى خطورة الستغلل الذي يتعرض له‬
‫الدين للوصول إلى أهداف سياسية أو مادية‪.‬‬
‫و من المهم ها هنا الستفادة من المصادر العقائدية و التاريخية لفك العلقة بين السلم "كدين و‬
‫فكرة" و بين التطبيق التاريخي البشري للسلم ‪ ،‬و مشكلة المسلمين الن تكمن في المزيج المعقد‬
‫بين السلم "التقليدي العنصري" و نظريات السلفية الجاهزة "سنية كانت أم شيعية" و تسخير‬
‫النّص المقدس لتطبيق هذه الرؤيا الرجعية على أرض الواقع و من ثم جرّ الواقع بحيث يلءم‬
‫الفهم المطروح حول النص بدل من ملئمة النص للواقع ‪ ،‬من هنا كان من الطبيعي أن يُعبر‬
‫الكاتب المريكي "توماس فريدمان" عن استغرابه من العالم السلمي الذي خرج في مظاهرات‬
‫مليونية "من أجل رسومات كرتونية" نالت من النبي محمد ‪ ،‬بينما تابع هؤلء المسلمون أنفسهم‬
‫جرائم البادة الطائفية ـ استشهد الكاتب هنا بالسيارة المفخخة التي أوقعت عشرات الطلب في‬
‫الجامعة المستنصرية و تفجير انتحاري سنّي استهدف مسجدا شيعيا ـ "و قد سبق لي أن قمت‬
‫بمقارنة كهذه في مقالي كاريكاتير العالم السلمي" و هذا مما يعني أن وزن العقلية السلمية‬
‫في القرن الـ ‪ 21‬هو ‪ %0‬و إفلسا حضاريا‪.‬‬
‫و للخروج من هذه الزمة الخلقية التي يسببها المسلمون لنفسهم و لغيرهم ‪ ،‬و لتغيير نمط‬
‫التفكير السلمي القابع في عبادة الذّات الخاوية أو العديمة القيمة ‪ ،‬ل بد من توفير الدوات‬
‫اللزمة لمراجعة الذاكرة السلمية التاريخية و النظر إلى التجربة السلمية بعين النقد و‬
‫التمحيص‪.‬‬
‫فإحقيقة‪،‬ية تفسير السلم و ماهيته هي من أصعب المواضيع التي قد يقوم بها أي باحث ‪،‬‬
‫خصوصا في ظل مجتمعات و أنظمة ل تفهم شيئا من تعدد الرأي و حرية التعبير ‪ ،‬فالغرب نجح‬
‫في فتح كل أجواء البحث و لم يترك أي مساحة فكرية أو موضوعا خارج البحث ‪ ،‬بالتالي وفـّر‬
‫الفرصة الكافية للصلح الديني ‪ ،‬و كانت بداية الصلح الديني هي نفسها الخطوة الولى‬
‫لتعايش الدين مع تعدد الراء‪.‬‬
‫و حقيقة ‪ ،‬فإن السلم يعاني الن من جانبه التشريعي ‪ ،‬إذ ليس هناك جانب عقائدي فقط من‬
‫السلم ‪ ،‬كما هو حال المسيحية التي تكيفت بسرعة مع الدولة العلمانية ‪ ،‬بينما بقي السؤال‬
‫السلمي المحير ‪ :‬ماذا نفعل بكل هذا الكم من التشريعات ‪..‬؟ فهل الن من واجب المسلمين‬
‫تطبيق أحكام الرجم و الجلد و القطع‪ ،‬فضل عن قتل المرتد كما هو في السلم التقليدي ـ‬
‫خصوصا المدرسة السنية ـ الرثوذكسية السلمية ؟!‬
‫و حقيقة فإن المطالبين بتطبيق الشريعة في الوسط السني هم أخطر على الديمقراطية ـ هذا إن‬
‫وجدت هذه الديمقراطية ـ من ذلك الطرف الشيعي ‪ ،‬و كمثال على ذلك ‪ ،‬نجد أن موجة المطالبة‬
‫بتطبيق الشريعة ـ و ليتها كانت شريعة واضحة فقد شوهها الفقهاء و الواعظون و صحاح‬
‫البخاري و مسلم تحوي من التناقضات ما ل يحصى ـ ابتداء من إندونيسيا و مرورا باليمن و‬
‫مصر و السودان و انتهاء بموريتانيا و نيجيريا ‪ ،‬و هذا البلد الخير ذو غالبية مسيحية و رغم‬
‫ذلك يعاند المسلمون في المطالبة بتطبيق الشريعة ـ حسب التفاسير السنية طبعا ـ بينما رفضها‬
‫المسيحيون و رفضها الشيخ إبراهيم الزقزقي الذي يمثل الشيعة موضحا ‪" :‬أن السلم ليس‬
‫قانون عقوبات فقط"‪.‬‬
‫كما أن حمّى المطالبة بتطبيق الشريعة تنامت أكثر من أي وقت مضى منذ ظهور حركة‬
‫"الخوان المسلمين" في مصر ‪ ،‬ثم انتقلت هذه الحمّى إلى البلدان الخرى ‪ ،‬و لقت هذه‬
‫المطالبات هوى في نفس الحكام في السودان ـ خصوصا أيام النميري ـ و كانت النتيجة أن‬
‫ارتكبت أفظع الجرائم ‪ ،‬و بالتأكيد فإن من يعترض يناله القتل بتهمة الردة عن الدين ‪ ،‬و هو الحكم‬
‫الشرعي الذي ابتدعه الخليفة الول أبو بكر لتصفية الخصوم و القضاء على عليهم‪.‬‬
‫و كان إعدام المفكر السلمي "الصلحي" محمود محمد طه في السودان و بتهمة الردة أحد هذه‬
‫الجرائم يقول الكاتب السوداني أحمد زكي عثمان في مقاله بعنوان "في ذكرى إعدام محمد محمود‬
‫طه ‪ ،‬البحث عن بديل للتصفية الجسدية للمختلف"‪:‬‬
‫‪ ،‬فى سابقة تاريخية هى الولى من نوعها فى التاريخ العربى الحديث‪ ،‬حيث لم يحدث أن‬
‫ارتقى مفكر عربى المقصلة بسبب "آرائه" الفكرية و التى اعتبرتها "الدولة العربية" ارتدادا عن‬
‫السلم‪ .‬نعم لقد شهد التاريخ العربى قبل و بعد ‪– 1985‬تاريخ إعدام المفكر محمود محمد‬
‫طه‪-‬حالت متعددة صدرت فيها قرارت التصفية الجسدية لمفكرين و نقاد وأصحاب رؤى‪،‬‬
‫لكن لم تقم "الدولة العربية الحديثة" من قبل بنزع حياة أحد من الكتاب أو المفكرين أو الباحثين‬
‫بسبب آرائه السياسية او الفكرية و التى يتوهم أنها تحمل فى طياتها ردة عن السلم‪ .‬فمثل‬
‫عندما تم إعدام المفكر السلمى سيد قطب فى أغسطس من عام ‪ 1966‬كان السبب هو خلفية‬
‫إنتمائه لجماعة الخوان المسلمين وإتهامه بمحاولة قلب نظام الحكم فى مصر الناصرية‪ .‬و فى‬
‫أبريل من عام ‪ 1980‬قام صدام حسين بإعدام المفكر الشيعى البارز محمد باقر الصدر وكان‬
‫السبب هو خلفية إنتمائة لحزب الدعوة السلمى‪ .‬و فى يونيو من عام ‪ 1992‬تم اغتيال المفكر‬
‫المصرى فرج فوده‪ ،‬و كان السبب ان القوى صاحبة التخطيط الفكرى و الميدانى لغتياله لم‬
‫تر مانعا من إستخدام آداة التصفية الجسدية كآداة سياسية‪ ،‬و هو نفس السيناريو الذى تكرر‬
‫لحقا مع الديب الكبير نجيب محفوظ فى عام ‪ 1993‬على خلفية روايته "أولد حارتنا"‪ ،‬و لكن‬
‫قدر ال أل يرحل الرجل فى هذه المؤامرة الدنيئة لكنه ظل لمدة الـ ‪ 13‬عاما اللحقة للحادثة‬
‫يشكو من التوابع الصحية و النفسية لمحاولة الغتيال هذه‪ .‬كذلك ل يمكن أن ننسى جرائم‬
‫الخطف و الختفاء والتى كانت أبرزها حادثة خطف(وقتل) المعارض اليسارى المغربى‬
‫المهدى بن بركة و ذلك فى العاصمة الفرنسية باريس فى عام ‪ .1965‬نهاية القتباس‪.‬‬
‫نود أن نضيف ملحظة أخرى إلى رأي هذا الكاتب العزيز بأن نقول ‪ ،‬أن عدم استعمال فكرة‬
‫استخدام تهمة "حدّ الردة في قتل محمد باقر الصدر أو سيد قطب لم يكن مسألة تتعلق بإيجاد‬
‫البدائل للقضاء على الخصوم السياسيين ‪ ،‬فالمسألة تعلقت آن ذاك بنظامين يدعيان العلمانية و‬
‫التقدمية "نظام العسكر و عبد الناصــر في مصر و نظام البعث في العراق" بالتالي لم يكن‬
‫يروق لهم ـ في تلك الفترة على القل ـ أن يستخدموا تهمة "الردة ـ و هو مصطلح ديني‬
‫يشبه تهمة الهرطقة في العالم المسيحي القديم و مصطلح زندقة في العصور الوسطى‬
‫السلمية" ‪ ،‬فقد استغل النظام العربي فرصة وجود مخاوف الغرب من السلم السياسي‬
‫للقضاء على الخصوم بحجة أنهم ضد التطور و التقدمية ‪ ،‬لكن هذه النظمة الن تحاول‬
‫استخدام السلميين كـ"فزاعة" لمنع الغرب من نشر و فرض الديمقراطية ‪ ،‬بمعنى أن‬
‫ظروف عبد الناصر و صدام و نظامهما منعتهما من استخدام حجة "الرتداد" و ليس لرفضهما‬
‫الفكرة من أصلها‪.‬‬
‫و النظمة العربية و السلمية تحاول الن توفير أجواء مناسبة لتنامي ظاهرة "المطالبة‬
‫بتطبيق الشريعة" و التي لها جذور في هذه المنطقة خلل الخمسين سنة الماضية ‪ ،‬بديل عن‬
‫المطالبة بالديمقراطية و الحريات المدنية الفردية و الجتماعية‪.‬‬
‫إن المطالبين بتطبيق الشريعة في الوسط السني يقومون بذلك دون دراسة أو بحث أو تدقيق‬
‫في الواقع ‪ ،‬و الواقع و الحداثة يمنعان من تطبيق شريعة هي في الغالب "نتاجات فقهاء" و بدع‬
‫متراكمة صاغها الزمن بصيغة "المقدس" و هي أصل مناقضة لكثير من آيات القرآن نفسه ‪،‬‬
‫كما أن تناقض الراء في المذهب الواحد ‪" ،‬الشافعي له في كل مسألة رأيان و مالك بن أنس و‬
‫أتباعه يكفرون الحنفية ـ أتباع أبو حنيفة النعمان بن ثابت ـ و أحمد بن حنبل له في كل‬
‫مسألة ثلث آراء أو أربعة ‪ ،‬يضاف إلى كل هذا أن الفقه السني قد توقف عن النتاج منذ‬
‫تسعة قرون أو أكثر حينما سد العباسيون باب الجتهاد و قصروا العمل بالمذاهب السنية‬
‫الربعة‪.‬‬
‫و للسف ‪ ،‬فإن الشيعة في الماضي كانوا أكثر تلئما ‪ ،‬عقائديا ‪ ،‬مع الدولة العلمانية و الحداثة ‪،‬‬
‫حينما كانت النظرية السائدة هي أنه ل يجوز إقامة الدولة السلمية "الدينية" ما دام المعصوم‬
‫غائبا ـ بالتالي كان من الممكن تأجيل أطروحة "الشريعة" إلى حين ظهور المام المعصوم ‪ ،‬لكن‬
‫ظهور نظرية "ولية الفقيه" طرح و بحدة تناقض السلم مع العلمانية و مفهوم الدولة الحديثة‪.‬‬
‫إن إشكالية "الدين" و "الدولة" ل زالت السؤال الكبر الذي يُطرح في عالمنا السلمي دون أن‬
‫يكون هناك إجابة قطعية أو واضحة لهذا الشكال الخطير ‪ ،‬طبعا باستثناء ـ الجمهورية التركية ـ‬
‫التي ألغت هيمنة رجال الدين و استغللهم الفاضح لقدسية الدين خدمة لرغبات السلطان و صدره‬
‫العظم‪.‬‬
‫لقد كانت خطوة مصطفى كمال في تركيا ‪ ،‬و الحبيب برقيبة في تونس ‪ ،‬خطوتين هامتين في‬
‫تاريخ العالم السلمي ‪ ،‬إنطلق النموذج التركي في خطوات متسارعة نحو الديمقراطية منذ‬
‫‪ ، 1979‬بينما ل تزال التجربة التونسية تراوح في مكانها ‪ ،‬و ل أستبعد أن تتخلى تونس عن‬
‫منجزاتها في العلقة بين الدين و الدولة في سبيل منع إنماء الديمقراطية‪.‬‬
‫إن السلم التقليدي ـ و هو ضد السلم العقلني الواقعي ـ أصبح أكبر عائق في سبيل تنمية‬
‫المجتمعات و النظم السلمية ‪ ،‬بالتالي نشأت في عالمنا السلمي ما يشبه ‪ ،‬محاكم تفتيش غير‬
‫معلنة ‪ ،‬و المجتمع نفسه يقوم بهذا الدور ‪ ،‬و المضحك المبكي في آن واحد هو أن الحزاب و‬
‫التنظيمات "السلمية" على نمط "الخوان المسلمين" و "الحركات السلفية" التي تعلن عدائها‬
‫للنظمة الدكتاتورية ‪ ،‬هي ذاتها التي تبقي على هذه النظمة الفاسدة و تحميها عبر منع المجتمع‬
‫من تفجير طاقاته بحجة التكفير تارة و بحجة احترام المقدس تارة أخرى و بالتالي يفرض على‬
‫هذه المجتمعات الصمت و الجمود‪.‬‬
‫و هناك جانب ل بد من اللتفات إليه ‪ ،‬فالخلف الول الذي ظهر في السلم و خلق كل ما تله‬
‫من خلفات مذهبية و عقائدية ‪ ،‬كان مبدأه خلفا سياسيا ‪ ،‬و حروب أبي بكر التي سميّت "حروب‬
‫الردة" لم تكن سوى خلفا سياسيا "اجتهاديا" ‪ ،‬إذ رأى اؤلئك المسلمون "المرتدون" أن خلفة‬
‫أبي بكر ليست شرعية أو غير قانونية بتعبير هذا الزمان و لو لم يقُم أبو بكر بشنّ تلك الحرب ‪،‬‬
‫كان من الممكن أن يتغيّر مسار التاريخ السلمي نحو إنماء الحوار و احترام الخلف ‪ ،‬لكن أبى‬
‫بكر بدأها بحرب و أنهاها بدكتاتوريّة حينما سلّم المور و بدون رضى الشّعب إلى عمر بن‬
‫الخطاب الّذي أعاد الحسّ القومي إلى العرب ليتحول السلم إلى دين قومي بحت و يصبح أداة‬
‫بيد العرب لستغلل الشّعوب الُخرى و استعمارها‪.‬‬
‫الحقيقة التي يجب أن يتوخاها الباحث هنا ‪ ،‬هي أن شعوب الشرق السلمي ـ بعكس الغرب‬
‫المسيحي ـ ل تمتلك جذورا ديمقراطية في الشرق الذي سبق السلم ‪ ،‬فحضارات "سومر" و‬
‫"أكد" و "بابل" و "مصر الفرعونية" و "ممالك إيران القديمة ‪ ،‬إيلم ‪ ،‬الخمينيون ‪ ،‬البارثيون ‪،‬‬
‫الساسانيون" و في تركيا "الحيثيّون" ‪ ،‬كل هذه الحضارات كانت تقوم على حكم الفرد الواحد ‪،‬‬
‫بعكس التجارب الديمقراطية في أثينا و روما ‪ ،‬و إن كانت تلك الديمقراطيات تختلف كثيرا عن‬
‫الديمقراطية الحديثة إلى أنها أوحت و عبر القرون بفكرة "المشاركة الشعبيّة في إصدار‬
‫القرارات" و حق الحتجاج ضد الحكومة و رفض قراراتها ‪ ،‬كما أن المسيحيّة الحديثة استطاعت‬
‫أن تنتزع نفسها من إستغلل السلطة أو إستغلل السلطة للدين‪.‬‬
‫إن تاريخ صدر السلم ‪ ،‬ابتداءا من النبي محمد و مرورا بالخلفاء الوائل ‪ ،‬مثلت ـ قياسا إلى‬
‫ذلك الزمن ـ حكومة شعبية أو سلطة تحاول أن تعكس رضا الغالبية من المحكومين ‪ ،‬فتجد محمدا‬
‫و هو النبي يجلس بين الفقراء و ينظر في مشاكلهم بل و كان يتعرض لنتقادات لذعة من العامّة‬
‫دون أن يرد عليهم بأوامر العتقال أو التّعسّف ‪ ،‬و كان الخرون ‪ ،‬أبو بكر و عمر و علي ـ‬
‫استثنينا عثمان لقيامه بتصرفات هي أقرب للحاكم المطلق ‪ ،‬يسيرون على هذا النهج ‪ ،‬ملحظة أن‬
‫عليا هو الوحيد الذي أظهر الجانب الكثر إنسانية من السلم و كان حريصا على عدم التفرقة‬
‫الدينية أو العنصرية تجاه مواطنيه ‪ ،‬مما ألّب عليه العرب لمساواته بينهم و بين الموالي "أي غير‬
‫العرب" و ألّب عليه قريشا لمساواته بينهم و بين سائر العرب ( أنظر‪ :‬وعاظ السلطين ـ للدكتور‬
‫المرحوم علي الوردي) ‪ ،‬كما أن النزعة الستعلئية العربية كانت في طريقها للذوبان و‬
‫النصهار لو ل أن عمر "الخليفة الثاني" أنشأ ديوان "النساب" فراح العرب يبحثون و يدققون‬
‫في أنسابهم (أنظر‪ :‬تأريخ العرب قبل السلم ج ‪ 1‬ـ تأليف الدكتور جواد علي) لربما كانت‬
‫النزعة القومية تكاد أن تكون شيئا من الماضي في العالم السلمي‪.‬‬
‫إن النصوص السلمية المقدسة "القرآن تحديدا" شبه صامتة عن إيجاد نموذج واضح للحكم ‪ ،‬و‬
‫حتى الشيعة الذين يقولون بأن النبي عيّن عليا خليفة و حاكما و إماما من بعده ‪ ،‬يستعينون‬
‫بأحاديث نبوية لن القرآن ها هنا ـ كما يصفه علي بن أبي طالب ـ هو "حمّـال أوجُه"!! بمعنى أن‬
‫يحتمل أكثر من تأويل و معنى و تفسير ‪. explanation‬‬
‫و لهذا السبب نجد أن التاريخ السلمي ـ السني تحديدا ـ شرع النقلبات الدموية و أن الحاكم‬
‫الشرعي هو من غلب ‪ ،‬و في الوقت الذي حكم في الفقهاء بعدم جواز التمرد على الحاكم الظالم ‪،‬‬
‫إل أنه من الواجب إطاعة المتغلب "أنظر ‪ :‬شرح العقيدة الطحاوية لبن أبي العز و أيضا‬
‫العواصم من القواصم لبن العربي الفقيه المالكي" ‪ ،‬و أعتقد أن هناك أمل ضئيل في نشوء‬
‫إصلح فكري و عقائدي في داخل هذه المدرسة "السنية" ‪ ،‬خصوصا و أن النماذج السائدة من‬
‫الحركات السلمية "الخوان المسلمون ـ في مصر" ‪ ،‬علينا أن ل ننسى أن حركات التطرف‬
‫السلمي كتنظيم القاعدة و الهجرة و التكفير وجدت لنفسها دعما و تأييدا من قبل قاعدة الخوان‬
‫و المصريين منهم على وجه الخصوص ‪ ،‬و "حماس ـ الراضي الفلسطينية" و "جبهة العمل‬
‫السلمي ـ الردن"‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫آفاق الصــلح في السلم السياسي‬
‫يعاني السلم السياسي ‪ ،‬حاله حال كل حركة سياسية قائمة على أساس آيديولوجي ‪ ،‬من ضيق‬
‫آفاق الصلح السياسي ‪ ،‬و نتيجة لنغلق العالم السلمي منذ القرن الخامس و بعد هيمنة‬
‫"السلم الرثوذكسي ـ التقليدي" من تفاسير ضيقة و غير متسامحة مع الخر ‪ ،‬و الملحظ أن‬
‫الحركات السلمية ‪" ،‬الخوان المسلمون ـ تأسسوا في مصر ‪ 1928‬على يد حسن البنا" ‪،‬‬
‫"الخوان في سوريا" ‪" ،‬جبهة النقاذ في الجزائر" ‪ ،‬كلها أحزاب قائمة على فكرة "الصراع مع‬
‫الخر" ـ رغم أن الثقافة الشيعية و حركات السلم السياسي الشيعي ها هنا لها اختلفاتها‬
‫الجذرية مع الحركات السلمية في الوسط السني و أظن أن هناك كثيرا من المساحات الل‬
‫مكتشفة في الفكر السياسي الشيعي ‪ ،‬إل أن الحركات السلمية الشيعية لم تنجو من هذه النمطية‬
‫الرجعية في التفكير‪.‬‬
‫و لن العالم السلمي قد وأد "مدرسة العقل" في فترة مبكرة من تاريخ السلم ‪ ،‬فإن التراث‬
‫السلمي ل يحفل بالكثير من التوازن في التسامح مع اليمان و غير اليمان ‪ ،‬و رغم أن الوسط‬
‫الشيعي كان أكثر تجاوبا مع تنوع و تعدد الفكار ‪ ،‬لكن نظرية "ولية الفقيه" أدخلت الفكر‬
‫الشيعي في عمق الزمة السائدة و بدل من خلق تجربة جديدة أو مختلفة في "إيران" ـ و هي دولة‬
‫ذات أغلبية شيعية إلى جانب العراق و البحرين ـ إل أن ثورة إيران ‪ 1979‬خلقت تجربة تطرف‬
‫مماثلة لحالة الحركات السلمية السنية ‪ ،‬و ل ننسى تأثير فترة ما يسمى بحركات التحرر من‬
‫الستعمار الغربي ‪ ،‬القرن ‪ 19‬و ‪ 20‬و ما تلها من قيام أنظمة قومية هي خليط من اليدولوجيات‬
‫"السلمية ـ القومية ـ الوطنية ـ الشيوعية"‪.‬‬
‫إن تراث الفكر السلمي مليء بفكرة رفض الخر ‪ ،‬فعندما جاء الغزالي توفي ‪ 505‬هـ ‪ 1111‬م‬
‫و أنكر قيمة العقل و أحكامه من جهة ربط ما يورده البحث المنطقي في كتابه "تهافت الفلسفة" ‪،‬‬
‫جاء إبن رشد توفي ‪ 595‬هـ ليفند الفكرة الغزالية و باتجاه معاكس تماما إذ جعل "العقل" أحد‬
‫المقدسات في كتابه "تهافت التهافت" ‪ ،‬و رغم تطرف كل الطرفين في رأيه ‪ ،‬إل أن المنطق‬
‫الرشدي "نسبة إلى ابن رشد" كان ليتطور لو قدّر له البقاء ‪ ،‬بينما كانت نتيجة منهج الغزالي هو‬
‫الدخول في عصر هيمنة "الدولة" على الدين و العقل في الوقت نفسه ‪ ،‬و هكذا كان الغزالي بحق‬
‫هو فيلسوف عصر الظلمات و النحطاط الثقافي‪.‬‬
‫و لنعد إلى الحركات السلمية و الفكر السلمي ‪ ،‬الذي اختلط للسف بالنظرية القومية و لم يعد‬
‫فكّ الرتباط بينهما ممكنا ‪ ،‬فنجد السلم إلى جانب النظريات القومية "العربية" ‪" ،‬التركية ـ إلى‬
‫حين ظهور مصطفى كمال و فصله بين الدين و الدولة" ‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫و حتى عندما ظهر جمال الدين الفغاني الذي ظهر بشخصيته البراغماتية كداعية للصلح ‪ ،‬إل‬
‫أن الرجل لم يكن مصلحا حقيقيا بسبب ضبابية آرائه و مواقفه المتناقضة مع الحكام ‪ ،‬تماما كما‬
‫فعل مع السلطان عبد الحميد الثاني حيث لم يكن موقفه واضحا أو لنقل على نسق واحد تجاه‬
‫المشروطة "الدستور العثماني" و مكافحة الدكتاتورية ‪ ،‬و كان "عبد الرحمن الكواكبي ـ مؤلف‬
‫طباع الستبداد" ينشد الحرية بمعنى أن ل يحكم "تركي أو عجمي" على "العرب" مما يعني أن‬
‫السلطان العثماني التركي لو كان "عربيا" لكان مقبول‪.‬‬
‫إن تلبّس ما يُسمّى بحركات التحرر في "العراق" ‪" ،‬مصر" ‪" ،‬سوريا" ‪" ،‬ليبيا" ‪" ،‬المغرب" ‪،‬‬
‫"السودان" ‪" ،‬إيران" ‪ ،‬إندونيسيا ‪ ،‬بلباس الدين و استخدام الدين كسلح بوجه من أسماهم أهل‬
‫هذه البلد بـ"المستعمرين الكفار" ‪ ،‬هذا المر جعل البنية الساسية لهذه الدول التي حصلت على‬
‫استقللها أو سيادتها الواحدة تلو الُخرى ‪ ،‬بنيانا هشّا و على أساس غير واضح ‪ ،‬فل هي مبنية‬
‫على أي نظرية إسلمية "دينية" واضحة ‪ ،‬بمعنى أن الهوية الدينية للبلد ضبابية و مطاطة قابلة‬
‫لتفسير الحاكم المهيمن على البلد ‪ ،‬و يستفد أهل هذه البلد من اؤلئك الذين استعمروهم أو‬
‫انتدبوهم أو لنقــُـل أداروا هذه البلد ‪ ،‬كالبريطانيين و الفرنسيين في بلدان الشرق الوسط ‪،‬‬
‫فالعراق مثل كان أفضل حال من حيث الحريات و تنظيم شؤون الدولة في فترة الهيمنة‬
‫البريطانية ‪ ،‬بينما تدهور العراق حينما تقوى الحكم المحلي‪.‬‬
‫يقول الدكتور جمال البنا في محاضرة ألقاها في منتدى "السلم و الصلح ‪ "2005‬و الذي‬
‫أقامه مركز ابن خلدون‪:‬‬
‫"وقد جربت هذه البلد الديمقراطية خلل المرحلة الليبرالية من تاريخ مصر التى بدأت بدستور‬
‫‪ 1923‬حتى قيام النقلب العسكرى سنة ‪ .52‬وكانت هذه الفترة هى أفضل فترة فى تاريخ مصر‬
‫الحديث وحققت مصر فيها معظم إنجازاتها‪ ،‬وتقبلها ولم تعترض عليها المؤسسة الدينية " الزهر‬
‫" كما أن المام حسن البنا المرشد المؤسس للخوان المسلمين أثنى على دستور ‪ 23‬وقال ‪ :‬إنه ل‬
‫يعارض السلم‪ .‬وليس أدل على ذلك من أنه فى ظل هذا الدستور أقام الخوان المسلمين دون أى‬
‫معارضة أو مضايقة" ـ السلم و الصلح ج ‪ 2‬ص ‪64‬‬
‫كذلك الحال بالنسبة للحركات السلمية التي غايتها "تحكيم الشريعة" ‪ ،‬دون أن تجعل غايتها‬
‫تحرير المواطن و النسان من كل استغلل ‪ ،‬حتى من ذلك الذي يتم تحت ستار الدين أو‬
‫الشعارات الوطنية ‪ ،‬كما أن تركيز السلميين على النماذج التاريخية الضبابية و إغراق المثقفين‬
‫في جدال بيزنطي فارغ حول التراث و النصوص ‪ ،‬أغرق المجتمع في أزمة تعريف العلقة بين‬
‫الدين و الدولة و المواطن‪.‬‬
‫و من هذا الرجوع المتشدد إلى الماضي النابع أصل من فلسفة ماضوية ‪ ،‬فإن الحركات السلمية‬
‫و تنظيماتهم الحزبية و الجتماعية و القتصادية ل تمتلك ممارسات ديمقراطية حقيقية ‪ ،‬باستثناء‬
‫مظاهر محدودة مما اصطلحوا عليه بـ"الشورى" ـ و هي عملية ليس لها أسس و آليات واضحة و‬
‫ل تتعدى أن تكون إل صورة أُخرى لمجالس شيوخ عشائر و قبائل في الجزيرة العربية ـ و من‬
‫المستغرب أن يتّخذ السلميون الشيعة هذا النمط من الشورى خصوصا و أنهم عقائديا يرفضون‬
‫النظام أو هرمية النظام المطبق منذ ‪ 1400‬عام ‪ ،‬باستثناء فترة حكم علي بن أبي طالب "المام‬
‫المعصوم الول حسب العقيدة الشيعية" ‪ ،‬و ما دام المام المعصوم ـ حسب النظرية الشيعية ـ‬
‫غائبا و الفقهاء و المراجع غير معصومين و عرضة للغلط ‪ ،‬فإن الولى هو تطوير مفهوم‬
‫"الشورى" نحو الديمقراطية الشاملة‪.‬‬
‫إن الحركات السلمية تعيش حالة من المرض و الجمود كجزء مما يعانية الشرق السلمي من‬
‫تخلف و جمود ‪ ،‬و إصلح البنية الفكرية و الجتماعية سيؤثر بالتأكيد على هذه الحركات ‪ ،‬كما‬
‫أن العالم السلمي ل زال يرزح تحت نير العقلية التي سادت بعد عصر المأمون ‪ ،‬هذه الثقافة‬
‫التي تعتبر الفلسفة و المنطق و طرح أسئلة عقائدية حول حقيقة السلم و ماهيته ضربا من الكفر‬
‫و الزندقة‪.‬‬
‫الجانب الخر من إصلح العالم السلمي يتعلق بـ"حقوق النسان" و "حقوق المرأة" و قوانين‬
‫العقوبات المعمول بها في الدول العربية و السلمية ‪ ،‬و في المملكة العربية السعودية تحديدا ‪،‬‬
‫هذه الدولة التي تُعتبر في ذيل القائمة العالمية من حيث الحريات و حقوق النسان و حقوق المرأة‬
‫على وجه التحديد‪.‬‬
‫يقول تقرير حقوق النسان للعام ‪ 2004‬الذي أصدره "مركز إبن خلدون للدراسات‪:‬‬
‫تعهد ولي العهد السعودي المير عبد ال بن عبد العزيز بالمضي قدمًا في تحديث النظام بإجراء‬
‫الصلحات اللزمة وقيادة البلد دون الدخول في "مغامرة طائشة"في كلمة ألقاها المير عبد ال‬
‫على التلفزيون بمناسبة فعاليات الملتقى الثاني للحوار الوطني الذي عقد بمكة المكرمة فى‬
‫السبوع الخير من ديسمبر ‪ .2003‬وقد شجع هذا التصريح قيام مئات الشخصيات السعودية‬
‫بالمطالبة فى بيان وجه الى السرة السعودية بوضع "جدول زمني" لتسريع "الصلحات" في‬
‫المملكة‪ ،‬وكان رد المير عبد ال بن عبد العزيز عليه بأن الحكومة السعودية ماضية في طريق‬
‫الصلح ولكن "بشكل تدريجي"‪ .‬ص ‪132‬‬
‫و حقيقة فإن عبارة "بشكل تدريجي" التي وضعها التقرير بين هللين ‪ ،‬تثير نوعا من الشك و‬
‫الريبة في نية الحكومة السعودية القيام بإصلحات حقيقية ‪ ،‬و هناك فعل خشية من أن يكون‬
‫"الصلح التدريجي" هو فقط للستهلك العلمي ليس إل‪.‬‬
‫و هكذا فإن التقرير نفسه يقول‪:‬‬
‫وفى خطوة مناقضة للشارات اليجابية التى حاولت المملكة ارسالها بداية العام فقد اعتقلت‬
‫السلطات السعودية فى ‪ 16/3/2004‬خمس شخصيات من الكاديميين معتبرة أن دعوتهم فى‬
‫عريضة الصلح التى طالبوا فيها بتحول السعودية إلى الملكية الدستورية "مس بوحدة‬
‫البلد"‪.‬وقد أفرج عن اثنين منهما بعد يومين إثر تعهدهم الكف عن المطالبة جهرًا‬
‫بإصلحات‪.‬وبقى الثلثة الخرون رهن المحاكمة حتى نهاية العام ‪ .‬كما توعدت الحكومة‬
‫السعودية فى ‪4/10/2004‬بمعاقبة أي موظف في مؤسساتها المدنية والعسكرية يناهض سياسات‬
‫الدولة أو برامجها بشكل مباشر أو غير مباشر سواء كان ذلك عن طريق إعداد أي بيان أو مذكرة‬
‫أو خطاب أو التوقيع على أي من ذلك أو المشاركة في أي حوار عبر وسائل العلم والتصال‬
‫الداخلية أو الخارجية بدعوى أن هذا يعتبر "إخللا بواجب الحياد والولء للوظيفة العامة"‪ .‬ص‬
‫‪ 131‬و ‪. 132‬‬
‫و هو ما يوضح أن الحكومة السعودية و التي تسببت بكل موجات الرهاب و المفخخات في‬
‫الشرق الوسط و العالم ‪ ،‬ل تصنـّف معارضيها أبدا بين "معتدل" و "متطرف" ‪ ،‬بل تتعامل مع‬
‫الجميع بمنطق الهيمنة و الرادة البوية التي ل تقبل أي نوع من المعارضة ‪ ،‬و مشكلة النظام‬
‫السعودي الذي تصفه بعض الوساط المريكية بـ"الحليف الخبيث"!! فإن النظام في شعاره‬
‫"الحرب على التطرف و المتطرفين" ل يقصد به إل أؤلئك الذين يهددون العرش السعودي و‬
‫مصالح السرة الحاكمة‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي يتمتع فيه المير السعودي الملياردير "الوليد بن طلل" بكل ملذات الحرية و من‬
‫خلل ثروة جناها من شعب "الجزيرة العربية" ‪ ،‬يعاني المواطنون السعوديون ليس من الفقر و‬
‫الحرمان فقط ‪ ،‬بل من امتهان كرامتهم كبشر و مواطنين ‪ ،‬و المواطنون من الشيعة الثني‬
‫عشرية و الشيعة السماعيليين يعانون يوميا حربا حقيقية من أجل البقاء‪.‬‬
‫الخوان المسلمـــون "الرهابيون و الضعفــــــــاء"‬
‫تأسست حركة الخوان المسلمين عام ‪ 1928‬في مصر على يد "حسن البنا" ‪ ،‬يقول الدكتور سعد‬
‫الدين إبراهيم مدير مؤسسة ابن خلدون للدراسات في مقدمة كتاب "التاريخ السري للخوان‬
‫المسلمين ‪ :‬مذكرات علي العشماوي آخر أعضاء التنظيم السري الخاص‪:‬‬
‫الخوان المسلمين هم أهم حركة إسلمية ـ سياسية في القرنين الخيرين‪ .‬فمنذ الحركة‬ ‫"‬
‫الوهابية التي ظهرت في الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر‪ ،‬على يد الداعية‬
‫المتشدد محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬لم تظهر حركة دينية سياسية تدانيها تنظيميا وقوة وتأثيرا ًـ‬
‫ل في الجزيرة العربية‪ ،‬ول خارجها ـ إلى أن ظهرت حركة الخوان المسلمين في مصر‪،‬‬
‫على يد الداعية حسن عبد الرحمن البنا‪ ،‬عام ‪ .1928‬صحيح‪ ،‬ظهرت بين الحركة الوهابية‬
‫وحركة الخوان المسلمين حركات إسلمية أخرى ـ مثل المهدية في السودان‪ ،‬والسنوسية في‬
‫المغرب العربي ـ ولكنها ظلت محصورة النطاق جغرافيا‪ ،‬ومحدودة التأثير سياسيا وزمانيا‪.‬‬
‫كذلك ظهرت حركات أخرى عديدة تحمل شعارات إسلمية خلل القرنين الخيرين‪ ،‬لم يكن‬
‫لها مثيل بين أيً من الحركات المذكورة في تأثيرها المستمر‪.‬‬

‫الوهابيون والخوان المسلمون ـ إذن من هما الهم والكثر تأثيرا واستمرارا‪ .‬وكما‬
‫ضُربت الحركة الوهابية أكثر من مرة وسقطت‪ ،‬وأفاقت ونهضت من جديد‪ ،‬كذلك حدث‬
‫لحركة الخوان المسلمين‪ .‬ولم تظهر بعد‪ ،‬على حد علم هذا الكاتب‪ ،‬دراسات علمية موثقة عن‬
‫العلقة بين الحركتين في القرن العشرين‪ .‬ولكن من الثابت أنه حينما ضُربت حركة الخوان‬
‫المسلمين بواسطة الرئيس المصري جمـال عبد الناصر في الخمسينيات وفي الستينيات‪ ،‬فرّ‬
‫عدد كبير من الخوان إلى المملكة العربية السعودية‪ ،‬المعقل الحصين للوهابية‪ ،‬حيث أحسنت‬
‫وفادتهم وحمايتهم‪ .‬كما أن عددا كبيرا منهم قد شاركوا في بناء الدولة السعودية الثالثة‪،‬‬
‫واستفادوا أيضا بقدر ما أفادوا أدبيا وماديا‪ ،‬ودخلوا في شركات متعددة ومتشعبة معا‪ ،‬ظل‬
‫تأثيرها قائما إلى الوقت الحاضر " ص ‪. 3 – 2‬‬

‫و فعل ‪ ،‬فإن هذه الحركة تمتلك جمهورا عريضا في أوساط الشعب الفقير ‪ ،‬لكن المشكلة‬
‫الساسية تبقى كونهم متطرفين نحو أحد الجانبين ‪ ،‬إما أن تنكفيء نحو العمل السلمي "إلى حد‬
‫التبعية" لحزاب السلطة ‪ ،‬أو تنحو نحو العنف و الرهاب و خلق تنظيمات تؤمن بالعنف و‬
‫الوصول إلى الهدف عبر استعمال القوة‪.‬‬

‫و لحد الن لم تستطع هذه الحركة أن تتجه إلى المواجهة السلمية و ممارسة الديمقراطية بشكل‬
‫حقيقي ‪ ،‬بل إن ثقافة هذه المجموعة ل تتسم بأي طابع حواري ‪ ،‬مما يعني حقا أنهم ل‬
‫يتلئمون ـ على القل لحد الن ـ مع الديمقراطية و النظام التعددي العلماني ‪ ،‬و منذ نشأة‬
‫هذا الحزب أو الجماعة ‪ ،‬تظهر أدبياته أنه ل يردد إل خطاب "المقاومة ـ مصر و الراضي‬
‫الفلسطينية و العراق" و المواجهة مع الغير‪.‬‬

‫يقول علي العشماوي في مذكراته‪:‬‬

‫" هل هم ـ يعني جماعة الخوان ـ مستعدون للقبول بالدستور المدنى واحترام بنوده أم أن‬
‫نبذ العنف بأشكاله وصوره مجرد شعارات للمرحلة الحالية‪ ،‬ثم تعود المور إلى ما كانت‬
‫عليه‪ ،‬هل يدركون أن فى مصر عددا ليس بقليل من القباط‪ ،‬أنه ينبغى طمأنتهم على أحوالهم‬
‫خاصة ان أحد قادة الخوان السابقين كان قد ألعن كلما ضد القباط‪ ،‬ثم اضطر أن يعتذر عنه‬
‫وهو المرشد السبق مصطفى مشهور‪ ،‬كل هذه المور ينبغى أن تدرس بجدية وأن يتضح‬
‫الموقف من كل أمر بوضوح‪ ،‬ولعلهم يدركون الن أنهم يتحركون وحدهم بعيدا عن باقة القوى‬
‫الوطنية التى ابتعدت عنهم الواحدة تلو الخرى لن السلوب المتبع غير مقنع والموقف ل‬
‫يحتمل المغامرات" ص ‪. 12 – 11‬‬

‫إن هذا السؤال أو مجموعة السئلة التي يطرحها العشماوي ل تقتصر على المجتمعات العربية‬
‫و السلمية ـ رغم أنه ل يوجد نظام ديمقراطي عربي أو إسلمي ياستثناء العراق ما بعد‬
‫‪ 2003‬و لبنان حيث يعود الفضل للمسيحيين في خلق هذه الديمقراطية ـ فهذا السؤال المهم ‪:‬‬
‫هل من الممكن أن يُشارك إسلميون في التغيير الديمقراطي و تحديدا الخوان "؟ يطرح و‬
‫بشكل أكثر إلحاحا من قبل المؤسسات و الخبراء المريكيين ‪ ،‬خصوصا و أن طيفا إسلميا‬
‫كبيرا طرأ في العراق "بعد أن أطاح المريكيون بنظامه البعثي" و انتخابات الراضي‬
‫الفلسطينية حيث فازت حماس و اكتسحت الساحة السياسية‪.‬‬
‫يقول جيرمي شارب المحلل السياسي بالشرق الوسط قسم الشئون الخارجية والدفاع والتجارة‬
‫في بحثه " سياسية الوليات المتحدة المريكية لتعزيز الديمقراطية في الشرق الوسط‬
‫المعضلة السلمية" ـ و هو بحث قدمه إلى الكونغرس المريكي في ‪ 15‬يونيو ‪:2005‬‬
‫" وردا على هذه المعضلة ‪ :‬تسائل بعض الباحثين هل سوف تقوم الوليات المتحدة المريكية‬
‫بالحد من ضغوطها على الحكومات العربية حتى تفتح مجال لنظمتها السياسية واحترام حقوق‬
‫النسان مع العلم بأن مثل هذه الخطوات‪ -‬في حال نجاحها‪ -‬قد تصبح ذا فائدة كبيرة للجماعات‬
‫السلمية‪ .‬إن تقديم قوة سياسية شعبية ومحبوبة في العالم العربي اليوم‪ ,‬إن العديد من الجماعات‬
‫والمؤسسات السلمية السياسية تعتبر على القل في مستوى الخطاب معارضة بشكل كبير كافة‬
‫مظاهر السياسة الخارجية للوليات المتحدة المريكية في الشرق الوسط وعلى سبيل المثال‬
‫دعمها لسرائيل واحتلل العراق وحشد الوجود العسكري في الخليج العربي‪ .‬والحق أن‬
‫النتخابات التي تمت بتأييد الوليات المتحدة المريكية في كل من العراق ومصر والسلطة‬
‫الفلسطينية قد عملت على تقوية الوضع السياسي للمؤسسات السلمية بما في ذلك ما يتعلق‬
‫بحركة حماس وهي الجماعة المسلحة التي رفضت نبذ السلح‪ ".‬ص ‪2 – 1‬‬
‫إن النقطة الخرى التي ينبغي على الباحث المريكي جيرمي شارب اللتفات إليها ها هنا ‪ ،‬هو‬
‫أن أكثر ‪ ،‬هذا إن لم نقل جميع ‪ ،‬الحركات السلمية و تنظيماتهم ل يقتصر عداءها على الوليات‬
‫المتحدة ‪ ،‬بل هم يعيشون حالة من كراهية "الحداثة" و يكرهون النمط الديمقراطي في الحكم ‪ ،‬و‬
‫لكن هذا العداء يظهر جليا تجاه أمريكا كونها أبرز و أقوى مدافع عن النمط الحديث في‬
‫الديمقراطية‪.‬‬
‫هذا التردد من قبل المجتمع الدولي حول إشراك السلميين في النظام التعددي الديمقراطي ‪،‬‬
‫الذي يُراد خلقه في الشرق الوسط و شمال أفريقيا ‪ ،‬في جزء منه يعود إلى السلطات في البلدان‬
‫العربية و السلمية ‪ ،‬هذه النظمة تستخدم مخاوف الغرب من تكرار التجربة اليرانية المشؤومة‬
‫و تمنع حصول أي تطور على أرض الواقع بفضل هذه الشكالية ‪ ،‬لكن أيضا تبقى ثقافة‬
‫"الحرب" و لغة النتقام و المؤامرة و المعارك ‪ ،‬كجزء أساس من ثقافة السلميين ـ حتى اؤلئك‬
‫المنشقين عنهم ـ و التي عززت بدورها مخاوف الغربيين من التغيير مع رغبتهم فيه‪.‬‬
‫مع ملحظة أن هذه الحركات تتفاوت في التعامل مع هذه ال ِقيَم ككُل و تصنيفها إلى مقبول و غير‬
‫مقبول ‪ ،‬فمثل يوافق أغلب أو كُل الحركات السلمية "الشيعية" النتخابات كوسيلة لدارة الحكم‬
‫‪ ،‬بينما هناك قطاع إسلمي "الوهابية السلفية" و مجموعة من "علماء الزهر" يعتبرون‬
‫النتخاب "كفرا محضا" و الديمقراطية على أنها "بدعة مسيحية" ‪ ،‬و هذه الحركات ليست بحاجة‬
‫إلى تبريرات لعدائها للغرب و مظاهر الحداثة ‪ ،‬فالتاريخ مليء بالتبريرات للدفع باتجاه "العنف"‬
‫أو "المواجهة المسلحة" مع الخر‪.‬‬
‫و الخوان المسلمون كونهم امتدادا للحركة الوهابية "رغم تمظهرها في البداية بمظهر الصوفية"‬
‫فهي قابلة أن تكون جزءا من حركات العنف ‪ ،‬و حتى اؤلئك المنشقـّون عنهم يتعاطفون معهم ‪،‬‬
‫هم متأثرون بالمنهج الوهابي و ابن تيمية ‪ ،‬يقول علي العشماوي في مذكراته ص ‪: 21‬‬
‫"‪ ،‬ولكنها لم توجب تكفير المجتمع‪ ،‬ول تكفير الحاكم أو الخروج عليه‪ ،‬والصبر على الحاكم‬
‫الجائر أولى من الخروج عليه‪ ،‬المر بالمعروف والنهى عن المنكر من واجبات الحاكم حسب‬
‫نص فتوى ابن تيمية‪ ،‬والذى بلبل الفرق السلمية الحديثة والتى تنجو منحى الخوارج فى فقه ابن‬
‫تيمية" ا ه ‪.‬‬
‫و الملحظ أن الخوان رغم كل ما تعرضوا له من تضييق و منع و إيذاء ‪ ،‬إل أن ثقافتهم و التي‬
‫تتمحور حول "العنصرية السلمية" أو كما يصفها الرئيس المريكي جورج بوش بـ"الفاشية‬
‫السلمية" ‪ ،‬هذه الثقافة نفسها هي التي تُبقي على النظمة الدكتاتورية و تمنع المجتمع من‬
‫التغيير ‪ ،‬فهذه الحركات و من ضمنها الخوان ‪ ،‬ل تتعامل مع الدين كوسيلة ثقافية للتغيير نحو‬
‫مجتمع ينعم بالتسامح و العدل و المساواة ‪ ،‬بل تتعامل مع الدين كغاية و طقوس الدين تكون هي‬
‫الهدف ‪ ،‬فأي مجتمع "يرجم الزانية" و "يقطع يد السارق" و "يفرض الحجاب" ‪ ،‬هو مجتمع‬
‫سعيد أو مثالي ‪ ،‬حتى لو كان هذا المجتمع يعيش كارثة حقيقية ‪ ،‬كتطبيق الحدود و القوانين على‬
‫الطبقة المسحوقة فقط ‪ ،‬و كما قلنا ‪ ،‬فالخوان يتأرجحون بين "الستسلم الجبان للحاكم أو‬
‫الدكتاتور" أو الخيار الخر "العنف و التفخيخ و الذبح في سبيل التغيير"‪.‬‬
‫يقول علي العشماوي في مذكّراته ص ‪: 22‬‬
‫" وينبغى أن نذكر هنا أن أتباع الشيخ ـ يعني ابن تيمية الحنبلي الكردي ـ لم يقوموا بعقاب أحد‬
‫يفعل المعصية‪ ،‬ولكنهم كانوا يقبضون عليه ويسلمونه للشرطة أو للقاضى‪ ،‬وهو الذى يقيم يحق له‬
‫عقاب أهل الجنايات وقهر الناس على إلزام الجادة‪ ،‬إتباع حكم الشريعة وأن ال أوجب المر‬
‫بالمعروف والنهى عن المنكر‪ ،‬ول يتم ذلك إل بقوة وإمارة‪ ،‬وكذلك سائر ما أوجبه ال من الجهاد‬
‫والعدل‪ ،‬وإقامة الحج والجمع والعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود‪ ،‬ل تتم إل بالقوة والمارة‪،‬‬
‫لهذا روى "أن السلطان ظل ال فى أرض" ويقال "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة‬
‫بل سلطان" وهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون ‪" :‬لو كانت‬
‫لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان "وهو يعنى السلطان برأ كان أو فاجراً"‪.‬‬
‫الملحظ في هذه العبارات أنها تعكس ثقافة أو "عقلية" مريضة بحق ‪ ،‬و من الطبيعي أن هذه‬
‫العقلية حينما تصل إلى أعلى هرم السلطة فإنها تتحول إلى "الحاكم الواجب طاعته" و أي مخالفة‬
‫ل ال في الرض" ‪ ،‬بالتالي ل أجد نفسي متفائل في أن يكون لهؤلء‬ ‫له تعني الصطدام مع "ظ ّ‬
‫الخوان دور إيجابي في التغيير القادم ‪ ،‬إن كان هناك تغيير أصل‪.‬‬
‫يقول العشماوي أيضا في مذكّراته ص ‪: 22‬‬
‫" وكذلك قرر ابن تيمية أن الصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه‪ ،‬لما فى ذلك من منع‬
‫للفتنة التى تنتج من الخروج عليه‪ ،‬وتلك للبرياء وكل المرين مكروه‪ ،‬ولكن أقوى المكروهين ـ‬
‫أى الفتنة والقتل ـ أولى بالترك‪ ،‬وقد كان الشيخ حريصاً على علقات جيدة مع أولى المر مع‬
‫عدم التفريط فى جانب ال أو حقوق الناس‪ ،‬وقد أفادته كثيراً من تلك العلقات الطيبة مع أولى‬
‫المر فى إسداء النصح لهم فهذا أمر شرعي"‪.‬‬
‫من هنا نجد أن من الصّعب ـ هذا إن لم يكن من المستحيل ـ أن ينضم عقل بهذه الضحالة و التبعية‬
‫في المنطق و التفكير إلى المجتمع المدني الديمقراطي ‪ ،‬و كأنه ل يوجد خيار ثالث ‪ ،‬فإما الطاعة‬
‫العمياء للحاكم أو تكفير الحاكم و المجتمع على حدّ سواء‪.‬‬
‫و ل أعرف حقيقة لماذا لم يتجه هؤلء إلى خيار ثالث (و هذا الخيار يتناقض بالتأكيد مع الفاشية‬
‫السلمية) و هو أن الدين شأن شخصي للحاكم و أن إسلم الحاكم أو من هو على رأس السلطة‬
‫ل يزيد أو ينقص في "عدالته" و أهليته لدارة الحكم ‪ ،‬و يكفي دليل على ذلك أن النبي محمد مدح‬
‫"النجاشي" ملك الحبشة و قال عنه‪ :‬إنه ملك ل يُظلم عنده أحد ‪ !!"..‬و هي عبارة قطعية على أن‬
‫الدين هو "أمر شخصي"‪.‬‬
‫إن حركة الخوان كانت أقرب إلى العمل السلمي في بدايات إنشاءها بسبب تأثيرات الزهر آنذاك‬
‫ـ حين كان نوع من التصوف يهيمن على هذه الجامعة العريقة ـ لكن بمرور الزمن و عبر تغلغل‬
‫الفكر الوهابي في منظومة التنظيم و إلى الزهر نفسه ‪ ،‬توجه الخوان نحو العنف و هي إحدى‬
‫أعراض الصابة بالفيروس الوهابي ـ و ل زالت المملكة السعودية الوهابية تفتخر بصورة السيف‬
‫على علمها ـ مما أبعدها شيئا فشيئا عن الممارسة الواقعية للسياسية و جعلها ذات تبعية غير‬
‫وطنية ‪ ،‬بمعنى أنها أصبحت حركة تابعة لدولة إقليمية لها مصالحها المختلفة و المتناقضة أحيانا‬
‫أخرى مع مصلحة مصر كدولة‪.‬‬
‫إن الخوان المسلمين ـ حاله حال أغلب التنظيمات السياسية السلمية و السنّي منها خصوصا ـ‬
‫ل تستطيع العيش في ظل القوانين العلمانية و المدنية ‪ ،‬يقول الدكتور طلعت رضوان و هو أحد‬
‫المشاركين في منتدى "السلم و الصلح" المصدر السابق ج ‪ 2‬ص ‪76‬‬
‫" أما أ‪ .‬محمد حبيب نائب المرشد الحالي ـ يعني الخوان ـ فقال "نحن جماعة الخوان المسلمون‬
‫نرفض أي دستور يقوم على القوانين المدنية العلمانية ‪ ،‬وعليه فإنه ل يمكن للقباط (يقصد‬
‫المسيحيين لن كل المصريين أقباط) أن يُشكلوا كيانًا سياسياً في هذه البلد‪ .‬وحين تتسلم الجماعة‬
‫مقاليد السلطة والحكم في مصر فإنها سوف تُبدل الدستور الحالي بدستور إسلمي يحرم بموجبه‬
‫كافة غير المسلمين من تقلد أي مناصب عليا في الدولة أو في القوات المسلحة‪ ،‬وأنه من‬
‫الضروري أن نوضح أن هذه الحقوق إنما ستكون قاصرة على المسلمين وحدهم دون سواهم"‬
‫وما ذكره أ‪ .‬محمد حبيب هو ترديد والتزام بما ورد في كتيب باسم (نموذج الدستور السلمي)‪،‬‬
‫صدر في لندن عام ‪ 1984‬نص فيه على أن "مواطنة الدولة حق لكل مسلم فقط" بل إن الشطط‬
‫الصولي وصل إلى درجة أن يعلن أ‪ .‬محمد مهدي عاكف مرشد الخوان الحالي أن "الحكم‬
‫العثماني لمصر لم يكن احتللً‪ ،‬ولو أن خليفة من ماليزيا حكم مصر ل يكون محتلً"‪.‬‬
‫من هنا فإن من حق الجميع أن يُشكك في مصداقية السلميين ـ الخوان تحديدا ـ تجاه الممارسة‬
‫الديمقراطية و العيش مع مفهوم المواطنة بالمصطلح الحديث ‪ ،‬و أن المساواة التي يحدثنا‬
‫السلميون عنها ‪ ،‬ل تعدوا أن تكون مساواة شكلية و غير حقيقية ‪ ،‬كما أن تعريفهم و مصطلحهم‬
‫السياسي ضبابي على الغلب‪.‬‬
‫إن الخوان في الواقع يمزجون بين نقيضين ‪ ،‬فتارة يتقربون من الحداثة و إن كان بحذر ‪ ،‬و تارة‬
‫أُخرى يحلقون في فضاء التنظير المثالي لدولة "الخلفة" المزعومة ‪ ،‬مما يعني تنظيرا شبيها‬
‫لطروحة طالبان و تنظيم القاعدة ‪ ،‬و هذا المزج هو أمر غير مقبول في العرف السياسي و هو‬
‫أشبه بقبول الحتكام إلى القانون و رفضه في آن واحد ‪ ،‬كما أن تعاطف الحركة مع النظمة‬
‫الستبدادية "تعاطفوا مع صدام حسين و اعتبروه رمزا لما يُسمى بالمقاومة كما هو واضح مما‬
‫هو منشور على موقع الخوان في مصر على النترنت ‪ " www.ikhwanonline.org‬يجعلنا‬
‫نشكّك مع المشككين في نواياهم الحقيقية‪.‬‬
‫و لكن هذا ل يعني أيضا أن التغيير غير ممكن ‪ ،‬بالتالي فإن الوليات المتحدة و معها البريطانيون‬
‫و الوربيون يحاولون دفع الخوان نحو هذا التغيير عن طريق الحوار معهم و مع حزب ال‬
‫اللبناني ‪ ،‬لكن موقع الخوان على الشبكة العالمية ينفي و بشكل متكرر أنه أقام أي حوار مع‬
‫الوليات المتحدة أو أي جهة حكومية غربية ‪ ،‬بالمقابل يُصرّ "علي العشماوي" في مذكراته على‬
‫أن الخوان هم "عملء أمريكا و الغرب" ‪ ،‬و هي محاولة واضحة لكسب رأي الطبقة الشعبية‬
‫للخوان الّتي تؤمن بنظرية "المؤامرة" ‪ ،‬يقول العشماوي‪:‬‬
‫"ولقد ورد على لسان أحمد منصور فى مقال السبوع الماضى الخبر التي (نجح اليستر كروك‬
‫فى عقد لقاء غير مسبوق فى بيروت يومى ‪ 22 ،21‬مارس الماضى بين شخصيات أمريكية مقربة‬
‫من دوائر صنع القرار فى الوليات المتحدة‪ ،‬وقادة أو ممثلين لبعض الحركات السلمية فى‬
‫المنطقة‪ ،‬وكان من أبرز الشخصيات من الجانب المريكى مليك بيرن مدير عمليات وكالة‬
‫الستخبارات المركزية المريكية السابق فى أفغانستان‪ ،‬وجراهام فولر هو مسئول سابق عن‬
‫مركز دراسات الشرق الوسط فى الـ (سى أي أيه) والفريد وهوف مساعد وزير الخارجية‬
‫المريكي السبق ومدير هيئة ميتشل التى قادت المفاوضات فى أيرلندا‪ ،‬وجورج كرايل المنتج‬
‫التنفيذي لبرنامج "ستون دقيقة" أشهر برنامج للتحقيق الوثائقي التليفزيوني فى الوليات المتحدة‪،‬‬
‫وبوبى مولر رئيس جمعية المحاربين القدامى فى فيتنام وأحد الشخصيات البارزة فى الحزب‬
‫الديمقراطى المريكى وهو صديق مقرب من مرشح الرياسة السابق جون كيرى والسيدة هيلري‬
‫كلينتون‪ ،‬أما عن الجانب البريطاني بخلف كروك فقد حضر سفير بريطانيا السابق عن سوريا‬
‫والدكتورة بيفرلى مليتون إدوارز المحاضرة بجامعة كوينز فى بيلفاست بأيرلندا‪ ،‬وحضر‬
‫مندوبون من محطتى الجزيرة الفضائية والبى بى سى ممثلة الحركات السلمية‪ ،‬فقد حضر‬
‫ممثلون لربعة تنظيمات إسلمية هى حزب ال اللبنانى ومثله نواف الموسوى المسئول السياسى‬
‫فى الحزب‪ ،‬ومن الجماعات السلمية فى لبنان ومثلها إبراهيم المصرى وأحمد هرموش‪،‬‬
‫وحركة المقاومة السلمية "حماس" ومثلها موسى أبو حمدان وترددت حركة الخوان فى مصر‬
‫عن الحضور ولكن حضر مندوب الجماعة السلمية فى لبنان الذى يعتبر امتدادًا طبيعياً‬
‫للخوان‪ ،‬وقبلها عبدالغفار عزيز ومحمد إبراهيم خالد وعاطف لقمان قاضى" – التاريخ السري‬
‫للخوان ص ‪ 28‬ـ ‪29‬‬
‫إنني ها هنا لست في موقع المدافع عن الخوان ‪ ،‬فعدم عمالتهم للغرب ليس تنزيها لهذا التيار‬
‫المتطرف و بالتالي النظر إليه على أنه تيار وطني ‪ ،‬الخوان المسلمون كانوا دوما سببا في‬
‫استمرار الدكتاتورية و تجميد المجتمع و نشر ثقافة الرهاب ‪ ،‬بل على العكس ‪ ،‬أعتقد أن‬
‫الخوان يخدمون النظمة الدكتاتورية في العالم العربي و السلمي من خلل وقوفهم بوجه‬
‫التحديث ‪ ،‬و العشماوي نفسه في مذكراته يظهر هذا المر بالقول‪:‬‬
‫" الهجوم على مركز التجارة العالمى بنيويورك ومعه مبنى البنتاجون بواشنطن ثم الهجوم الكبير‬
‫الذى حدث فى مدريد‪ ،‬وانتهى المر بتفجير قطارات لندن‪ ،‬ويعلم ال هل هذا ستكون النهاية‪ ،‬أم‬
‫أن هناك عمليات أخرى فى الغيب؟ عمليًا جعلت من المسلمين والسلم أمراً مخيفًا مرعبًا للناس‬
‫فى جميع أنحاء العالم‪ ،‬ووضعت المسلمين فى موضع الدفاع والتراجع المستمر‪ ،‬خسارة كل يوم‪،‬‬
‫وهجوم على المسلمين يوميًا حتى صار المسلمون إرهابيين وقتلة وسفاكى دماء‪ ،‬هذه صورة‬
‫المسلمين الن‪ ،‬حتى الهجوم على السلم موضة شائعة فى الغرب‪ .‬قد أعلنت باكستان أنها سوف‬
‫تراقب المدارس السلمية‪ ،‬وسوف تغلق أية مدرسة تدرس الجهاد‪ ،‬أين الخوان من كل ذلك‪ ،‬فلم‬
‫أسمع منهم أى دفاع عن السلم أو تبرير وشرح للجهاد الذى هو أحد الركان الساسية فى‬
‫سياسة الخوان المعلنة‪ ،‬والحقيقة أن الدفاع الذى أرقأه منهم كل يوم أن سياسة أمريكا وبريطانيا‬
‫هى التى تدفع الناس إلى هذه الفعال قول مردود‪ ،‬فل ينبغى أن يكون هذا هو استعمال الدين‪ ،‬فإن‬
‫السكوت على الخطأ أورث المة السلمية الكثير من التراجع والنحسار" المصدر السابق ص‬
‫‪.31‬‬
‫فلو كان الخوان عملء للغرب كما يزعم البعض و العشماوي أحدهم ‪ ،‬فلماذا يقوم الخوان‬
‫بالتبرير و الدفاع عن الرهابيين و النتحاريين و إطلق صفة "المقاومة" على هذه الجرائم ؟!‬
‫لكي نستطيع أن نحلل أي ظاهرة أو منهج سياسي يتوجب علينا أن نحللها بدون نظريات خيالية أو‬
‫غير واقعية و من ضمنها "نظرية المؤامرة" التي كانت و ل زال السبب في هيمنة أنظمة‬
‫دكتاتورية مستبدة‪.‬‬
‫فأين كانت هذه المة يا ترى؟! هل كانت نائمة في قمقم "علء الدين" و تظن هذه المة أنها‬
‫ل تزال في العصر العباسي ؟! إن المسألة ليست كما يفسرها السلميون بقدر ما يتعلق حقيقة‬
‫بالصراع بين أُمة إسلمية تقف مع الرجعية و التخلف و النماط القديمة للحكم أو النضمام إلى‬
‫المعسكر الديمقراطي الحر ‪ ،‬لكنني أعتقد أيضا أن بقاء النظمة الدكتاتورية هو أحد أهم أسباب‬
‫ترسّخ نظريات المؤامرة الخارجية‪.‬‬
‫يقول علي العشماوي في مذكراته ص ‪: 41‬‬
‫" وفى النهاية فى مرحلتنا هذه فإن تلك الديمقراطية التى يتكلمون عنها الن هى وافدة من‬
‫أمريكا‪ ،‬بل أن يكون لهم فيها مأرب كثيرة ومنافع شتى وإل ما حاولوا فرضها على العالم‪ ،‬لقد‬
‫وصل بنا الشك فى كل ما يأتى من هناك إلى هذا المدى لن التجربة مريرة فيما يحاولون فرضه‬
‫على الدول النامية منذ زمن بعيد‪ .‬والحقيقة هنا فى كل الحوال نسير خلفاً يطلب منا مفقودى‬
‫الرادة‪ ،‬مسلوبى الفكر والعزم‪ ،‬حتى ولو أدى بنا هذا إلى الوقوع فى المهالك‪ ،‬نهم يخططون‬
‫ونحن ننفذ‪ ،‬والغريب أن البعض يتصور أنه يناقش ويضغط وأنه يغير ما هو موضوع ‪ ..‬ولكن‬
‫الحقيقة أنها لعبة ونحن أدواتها ولسنا لعبين أصليين فيها‪ ،‬بل ول نملك أدوات الدخول فى الملعب‬
‫كلعبين‪ ،‬هل أدرك الخوان ذلك حين ينتقلون من مطب ويقعون فى حفرة أعمق وهكذا‪،‬‬
‫فالمسيرة ليس فيها منهاج إسلمى ولكن كلها أفكار مستوردة ونحن نتعامل معها بنفس السلوب‬
‫الذى نجيده ‪ ..‬وهكذا فقد فقدنا الرؤية وضلنا الطريق حيث الوسيلة غير إسلمية وسوف تؤدى‬
‫إلى نتائج غير إسلمية فالمناهج السلمية لبد أن يؤدى بالضرورة إلى نتائج إسلمية والعكس‬
‫صحيح"‪.‬‬
‫إن العشماوي و إن كتب ضد الخوان فهو إبن البيئة الخوانية القائمة على فكرة الصراع و‬
‫الكراهية و التشكيك باستمرار بالخر و نيته ‪ ،‬و هو يشبه إلى حدّ ما عقلية و منطق "صبحي‬
‫الطفيلي ـ المين العام السابق لحزب ال اللبناني" ‪ ،‬فكلهما اتخذ موقف المعارضة بحجة أن‬
‫"الخوان" و "حزب ال" لم يدخل في مواجهة حقيقية مع إسرائيل و الغرب ‪ ،‬و هذه حقا ظاهرة‬
‫خطيرة أن يحدث انشقاق داخل هذه التيارات ‪ ،‬ليس من أجل الصلح و التغيير ‪ ،‬بل من أجل‬
‫اتخاذ المزيد من مواقف التطرف و سبل العنف و الرهاب ‪ ،‬بل إن هؤلء ر يعرفون حتى أبسط‬
‫أساليب "المواجهة السلمية" مع النظمة و مع الغرب‪.‬‬
‫لقد كان "سيد قطب" هو الخطوة الواضحة الولى في العصر الحديث باتجاه دفع السلميين‬
‫نحو "التطرف" و "الرهاب" و قمع الخر ‪ ،‬بالتالي كان ضحية القمع "سيد قطب" هو صانع‬
‫القمع و العنف ‪ ،‬و هو أيضا الب الروحي لرهابيي القاعدة و يقوم فكره العنفي على نقطتين‬
‫أساسيتين‪:‬‬
‫" أولً ‪ :‬إن الحاكيمة ل‪ ،‬وهو بهذا يلغى أى ولء آخر لحكام الرض‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬إن الشعوب السلمية الحالية تعيش فى جاهلية ينبغى دعوتهم مرة أخرى ليجدوا إسلمهم‬
‫ويتبعوا الخوان المسلمين‪ ،‬ومن هنا جاء استحلل أرواح الناس وأموالهم" التاريخ السري‬
‫لللخوان ص ‪45‬‬
‫من هنا نجد أن الخوان و في صراعهم الفكري مع الواقع و المحيط البيئي انتهوا إلى الفلس‬
‫فكان أن اتهموا الخر بالفلس ‪ ،‬يقول سيد قطب في كتابه معالم في الطريق‪:‬‬

‫تقف البشرية اليوم على حافة الاوية ‪ ..‬ل بسبب التهديد بالفناء العلق على‬ ‫"‬
‫ض للمرض وليس هو الرض ‪ ..‬ولكن سبب إفلسها ف عال " القيم‬
‫رأسها ‪ ..‬فهذا َعرَ ٌ‬
‫" الت يكن أن تنمو الياة النسانية ف ظللا نوًا سليمًا وتترقى ترقيًا صحيحًا ‪ .‬وهذا‬
‫واضح كل الوضوح ف العال الغرب ‪ ،‬الذي ل يعد لديه ما يعطيه للبشرية من " القيم‬
‫" ‪ ،‬بل الذي ل يعد لديه ما يُقنع ضميه باستحقاقه للوجود ‪ ،‬بعدما انتهت الديقراطية‬
‫فيه إل ما يشبه الفلس ‪ ،‬حيث بدأت تستعي‪ -‬ببطء ‪ -‬وتقتبس من أنظمة العسكر‬
‫!" ص ‪1‬‬ ‫الشرقي وباصة ف النظمة القتصادية ! تت إسم الشتراكية‬

‫إن هذا المنطق المتكلم بضمير "النا" المحتكر لكل معايير الذات الكاملة و المهيمنة و التي‬
‫تحتكر اسم ال و الحق و الحقيقة ‪ ،‬من الطبيعي أن تنتج لنا فكرا يريد "هداية العالم" عبر النتحار‬
‫و التفخيخ ! و ذلك ليس بغريب أن يصدر عن مفكّر "هذا إن جاز أن نسمّيه بالمفكّر" هو وليد‬
‫المذهب السني الذي عرف عنه أنه قام على أكتاف السلطان "الطاغية" و إرهاب الخوارج ‪ ،‬كما‬
‫أن فكر سيد قطب هو نتاج نظريات ل علقة لها بالواقع أو لنقل أن فكره "مثالي" أقرب إلى‬
‫الخيال و هو ل يمثل حل إل لجنونه الشخصي و نفسه المريضة‪.‬‬

‫فمن جهة نرى أنه يقول عن التحاد السوفيتي أنه قد فشل ‪ ،‬و هذا ما ل نختلف معه بشأنه ‪ ،‬و‬
‫لكنه يتحدث عن الغرب بالقول أنه لم يعد يصلُح لقيادة العالم ‪ ،‬و تبريره ها هنا يثير الستغراب‬
‫حقا إذ يقول‪:‬‬

‫" إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال ‪ ..‬ل لن الحضارة الغربية قد‬

‫أفلست ماديًا أو ضعفت من ناحية القوة القتصادية والعسكرية ‪ ..‬ولكن لن النظام الغربي قد‬

‫انتهى دوره لنه لم يعد يملك رصيداً من " القيم " يسمح له بالقيادة ‪.‬‬

‫لبد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ‪ ،‬عن طريق‬

‫العبقرية الوروبية في البداع المادي ‪ ،‬وتزود البشرية بقيم جديدة جدّة كاملة ‪ -‬بالقياس إلى ما‬

‫عرفته البشرية – وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته"‪ .‬معالم على الطريق ص ‪.2‬‬

‫إن هذا الكلم يُناقض نفسه بنفسه ‪ ،‬فـ"سيد قطب" كشخص يكفي وحده كي يحكم على‬

‫"الغرب" بالفشل ‪ ،‬و هو كما ترى منطق يناقض و ينهش في نفسه ‪ ،‬إن أي فكرة لكي تطرح‬

‫نفسها كبديل عن فكرة أُخرى ‪ ،‬عليها أن تملك رصيدا واقعيا من حريات و كرامة إنسانية و‬

‫إنجازات ‪ ،‬فالـ"البديل السلمي" المزعوم ليس لديه أي إنجاز ملموس على أرض الواقع ‪ ،‬كما‬

‫أن "العالم السلمي"! هو من أفقر و أسوأ الدول سجل في كافة مناحي الحياة ‪ ،‬كما أن زعمه‬

‫بأن الغرب لم يعد يملك "القيم" غريب جدا ‪ ،‬فأكبر قيمة يملكها الغرب و منذ القرون الثلث‬

‫الخيرة هي "الحرية" و "كرامة النسان" ‪ ،‬و أثبت الغربيّون ‪ ،‬و ل زالوا ‪ ،‬أنهم حققوا ما كان‬

‫يوما من اليام يُعتبر حلما أو قصة خرافية ‪ ،‬فمن التصالت ‪ ،‬النترنت ‪ ،‬التلفزيون ‪،‬‬

‫السيارات ‪ ،‬المركبات الفضائية ‪ ،‬إختراعات الطب الحديث ‪ ،‬إختصار الزمن و انتهاءا بالتسامح‬
‫الديني و نظم الحكم الحديثة ‪ ،‬كلها " ِقيَم" ل أعتقد أن فائدتها ستنفذ ما دام النسان على هذه‬

‫الرض ‪ ،‬بل ما دام موجودا ‪ ،‬ترى ما "ال ِقيَم العظيمة"! التي يحدثنا عنها سيد قطب ؟! أعتقد أنها‬

‫المدينة الفاضلة التي كتب عنها أفلطون و الفارابي ؟! و هو حلم يراود الجميع‪.‬‬

‫يقول سيد قطب‪:‬‬

‫" ولقد جاء دور " السلم " ودور " المة " في أشد الساعات حرجاً وحيرة‬

‫واضطرابًا ‪ ..‬جاء دور السلم الذي ل يتنكّر للبداع المادي في الرض ‪ ،‬لنه يعدّه من وظيفة‬

‫النسان الولى منذ أن عهد ال إليه بالخلفة في الرض ‪ ،‬ويعتبره ‪ -‬تحت شروط خاصة ‪-‬‬

‫عبادة ل ‪ ،‬وتحقيقًا لغاية الوجود النساني" معالم ص ‪.3‬‬

‫هذه "الشروط الخاصة" لها تفصيل و يحتاج سيد قطب إلى أن يؤلف مجلدات كاملة عنها ‪،‬‬

‫فأول ما سيطبّق من هذه الشروط هو "ممنوع التّبسّم" ‪" ،‬السعادة ممنوعة" ‪" ،‬تكسير قناني الخمر‬

‫و مصانعها" ‪" ،‬كسر آلت الطرب و الموسيقى" ‪" ،‬إتلف جميع اللوحات العالمية لنها كفر بال‬

‫و منافسة له على الخلق" ‪" ،‬إسقاط جميع القمار الصناعية لكي ل تبث الخلعة و المجون" ‪،‬‬

‫"قتل كل من يتحدث ضد النبياء و الصحابة حتى أؤلئك النذال منهم" ‪ ،‬و أخيرا يُخيّر الغربيون‬

‫بين "السلم" أو "الجزية ـ الضريبة" أو "نهب و سلب و إبادة"‪.‬‬

‫هذه هي ِقيَم الشيخ سيد قطب ‪ ،‬و هي قيم ل تجسد إل عقلية القرون الوسطى و المظلمة و‬

‫تجسيد للعقل الوهابي ‪ ،‬و كان على الغربيين منذ عقود أن يتوقعوا من "السعودية ـ الداعم الول‬

‫للوهابية" أن تتسبب في موجات إرهابية تطال العالم كله ‪ ،‬لكنني أعتقد أن الغرب أيضا كان غافل‬

‫أو يتغافل عن المد الوهابي لمصالح جيو سياسية في المنطقة و كان لبريطانيا حينها دور قذر في‬

‫هيمنة آل سعود على شبه الجزيرة العربية و انتشار مذهب الذّبح ‪ ،‬و سيّد قطب يعطي لنفسه ـ و‬

‫لمن هُم على شاكلته ـ الشرعيّة اللزمة عبر الستشهاد ببعض اليات القرآنيّة ‪ ،‬و الّتي يمكن لي‬
‫طرف أن يستشهد بها و كأنها نزلت فيه ‪ ،‬و طبعا فإن النّص الدّيني القابل للتأويل من السّهل أن‬

‫يُستخدم لقناع البعض ‪ ،‬خصوصا من ذوي الثّقافة البسيطة أو من الطبقة الجاهلة ‪ ،‬فهذه الطبقة‬

‫أو العيّنة من النّاس ل تطرح الكثير من السئلة ‪ ،‬و لهذا السبب نجد أن المقتنعين بنظرية‬

‫"الوهّابيّة القُطبية" ينتشرون بين الشعوب الجاهلة المسحوقة ‪ ،‬أفغانستان ‪ ،‬الصّومال ‪ ،‬اليمن ‪،‬‬

‫شمال باكستان ‪ ،‬غرب الهند ‪ ،‬مناطق الصحارى السعوديّة ‪ ،‬صعيد مصر ‪ ،‬و مناطق غرب‬

‫العراق حيث البدو ال ّرحّل‪.‬‬

‫يقول سيد قطب‪:‬‬

‫" ولكن السلم ل يملك أن يؤدي دوره إل أن يتمثل في مجتمع ‪ ،‬أي أن يتمثل في أمة ‪..‬‬

‫فالبشرية ل تستمع ‪ -‬وبخاصة في هذا الزمان ‪ -‬إلى عقيدة مجردة ‪ ،‬ل ترى مصداقها الواقعي‬

‫في حياة مشهودة ‪ ..‬و " وجود " المة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة ‪ ..‬فالمة‬

‫المسلمة ليست " أرضًا " كـان يعـيش فيها السـلم ‪ .‬وليست " قومًا " كان أجدادهم في عصر‬

‫من عصور التاريخ يعيشون بالنظام السلمي ‪ ..‬إنما " المة المسلمة " جماعة من البشر‬

‫تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج السلمي‬

‫‪ ...‬وهذه المة ‪ -‬بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة ال من فوق‬

‫ظهر الرض جميعًا" معالم ص ‪.4 – 3‬‬

‫إنّه يطرح كمقدمة للحرب الشّاملة التي سيشنّها "خلفاء ال على الرض" ضد "البشريّة‬

‫الضّالة" ‪ ،‬أن هناك واجب في خلق "ُأمّة"! تكون مثال للشعوب الخرى ‪ ،‬بمعنى أن نجعل شعب‬

‫"أفغانستان" ‪ ،‬مثل ‪ ،‬أفضل من النروجيين أو الدنماركيين! و يبدو أن الخطوة الولى لجعل‬

‫ل السحري في نظر "سيّد قطب"‬


‫أفغانستان أجمل من النروج هو "تطبيق الشريعة"! و هو الح ّ‬

‫لخلق دولة أفضل من تلك المثلة الغربية الّتي طرحناها ‪ ،‬لقد كانت الشريعة مطبّقة أيّام الخليفة‬
‫الثّالث عثمان بن عفّان ‪ ،‬و هي نفسها كتطبيق لم تمنع النّاس "المسلمين" من رفض خلفته ‪ ،‬و‬

‫رفض هو بدوره أن يتنحّى عن الحُكم ‪ ،‬فانتهى المر إلى قتله و دفنه في مقبرة اليهود "أُنظر ـ‬

‫الحقيقة الغائبة للكاتب فرج فودة و فسئلوا أهل الذّكر لمحمّد التيجاني" ‪ ،‬فتطبيق ما يُسمّى‬

‫بالشريعة ليس سببا كافيا في دفع أيّ ُأمّة إلى المام ‪ ،‬هذا إن لم يكن سببا في تخلّفِها أصل ‪ ،‬فما‬

‫يُسمّى بالشريعة ليس إل "آراء" و "قناعات" لُناسٍ عاشوا قبل ألف عام من الن‪.‬‬

‫إن الشّعوب ل تتطور بالقدر الّذي تتعصّب فيه لعقائدها الموروثة ‪ ،‬بقدر ما تتطور عبر‬

‫"التّسامح" مع الخر و توفير "حُريّة التفكير" للجميع ‪ ،‬فهل سيكون "قطع يد السارق" ‪" ،‬رجم‬

‫لمّة السلميّة"! عن باقي الُمم و الديان؟! و إذا‬


‫الزاني" ‪" ،‬فرض الحجاب" هو ما سيُميّز "ا ُ‬

‫كان الجّواب هو نعم فإن الكارثة ستكون فعل قد حلّت ‪ ،‬لنّه سيكون من الفضل "حسب هؤلء‬

‫المتطرفين" أن يكون الشّعب ُأ ّميّا تماما حتّى يستوعب "مفاهيم الشريعة المزعومة"! من أفواه‬

‫الوعاظ و المتفيقهين دون تشويش من أحد‪.‬‬

‫و هذه الطروحة "القطبية" ل تختلف قط عن أُطروحة "البعث القومي" حيث يقول سيّد‬

‫قطب‪:‬‬

‫" ل بد من " بعث " لتلك المة التي واراها ركام الجيال وركام التصورات ‪ ،‬وركام‬

‫الوضاع ‪ ،‬وركام النظمـة ‪ ،‬التي ل صلة لها بالسلم ‪ ،‬ول بالمنهج السلمي ‪ ..‬وإن كانت ما‬

‫تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم السلمي " !!!" معالم ص ‪.4‬‬

‫تذكرت و أنا أقرأ هذه العبارات ‪ ،‬النصيحة الّتي قدمها "فتحي يكن ـ و هو أحد المعجبين‬

‫بقطب" إلى القوميين البعثيين و السلميين أن يزاوجوا بين اليدولوجيتين "القومية" و‬

‫"السلمية" لكي يُنشئوا حزبا جديدا تحت عنوان "حزب البعث العربي السلمي" ‪ ،‬و هي فكرة‬

‫و نصيحة توضح مدى أواصِر الشّبه بين فكرين إرهابييّن‪.‬‬


‫ل ما هو موجود على‬
‫إن سيد قطب يُدرِك تماما أنه يريد البدء من الصفر ‪ ،‬بمعنى أن كُ ّ‬

‫أرض المسلمين يختلف كُّليّا عن ذلك الموجود في ذهن سيد قطب ‪ ،‬لكن الشكال الّذي يبقى‬

‫ل ما هو موجود على الرض‬


‫مطروحا على سيد قطب ‪ ،‬و هو إشكال سلبي ‪ ،‬هو اعتباره أن كُ ّ‬

‫هو إنجاز "غير إسلمي" ‪ ،‬و كأن الفكرة هي أصل "نزيهة"! بينما التطبيق و الفهم هما الخاطئان‬

‫‪ ،‬و كأن أي إنجاز كان ‪ ،‬حتى لو خدم النسانية ‪ ،‬هو إمّا أن يكون "إسلميا" أو "كافرا" ‪ ،‬من هنا‬

‫نستطيع الحكم على هذه النّظريّة على أنها "نظريّة صراع" ل مجال فيها للتسويات أو الحلول‬

‫ل سيفرض على البشريّة قسرا و بالرهاب‪.‬‬


‫الوسطى ‪ ،‬بل هو ح ّ‬

‫و المُثير للهتمام هنا ‪ ،‬هو أن سيّد ُقطُب نفسه يُدرك أن ل مجال لما يسمّيه بالمّة‬

‫السلميّة الّتي ينتظر بعثها ‪ ،‬لن تتفوق "ما ّديّا" على الحضارة الغربيّة الحديثة ‪ ،‬إذاً عن أيّ نوع‬

‫ن للمادّة دورا مهمّا في إنشاء الحضارات‬


‫من التفوق يتحدث سيّد قطب؟! إنّه ل يستطيع أن يُنكر أ ّ‬

‫و من هنا نجده يقول‪:‬‬

‫" إن هذا ل يعني أن نهمل البداع المادي ‪ .‬فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا ‪ .‬ولكن ل‬

‫بوصفه " المؤهل " الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة ‪ .‬إنما بوصفه ضرورة‬

‫ذاتية لوجودنا ‪ .‬كذلك بوصفه واجباً يفرضه علينا " التصور السلمي " الذي ينوط بالنسان‬

‫خلفة الرض ‪ ،‬ويجعلها ‪ -‬تحت شروط خاصة ‪ -‬عبادة ل ‪ ،‬وتحقيقًا لغاية الوجود النساني"‬

‫معالم ص ‪.5‬‬

‫إن المؤهّل الحضاري الّذي يحدثنا عنه هنا و الّذي يسمّيه "عبادة ال" ل يعني إل "نظرية‬

‫هذه المجموعة و فهمها الخاص للسلم"! إن قطب يُذ ّكرُنا بشخصيّة محمّد بن عبد الوهاب‬

‫"مؤسّس المذهب الوهابي" الّذي رآى آن ذاك أن المسلمين انقطعت صلتهم بالسلم كدين ‪ ،‬و‬

‫كان يعني و بكُل معنى الكلمة أن المسلمين "كُفّار مشركون يعبدون الصنام و هم يستحقون‬
‫خ هذه النظرية الرهابية و صاغها في قالب منطقي شاعري‬
‫القتل" ‪ ،‬لقد أكمل قطب و رسّ َ‬

‫كئيب ‪ ،‬نجده يقول‪:‬‬

‫" ل بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية ‪ -‬غير البداع المادي ‪ -‬ولن يكون هذا المؤهل‬

‫سوى " العقيدة " و " المنهج " الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية ‪ ،‬تحت‬

‫إشراف تصور آخر يلبّي حاجة الفطرة كما يلبيِّها البداع المادي ‪ ،‬وأن تتمثل العقيدة والمنهج‬

‫في تجمع إنساني ‪ .‬أي في مجتمع مسلم" معالم ص ‪.5‬‬

‫ن هذا المجتمع الّذي يُزمع قطب و‬


‫إنّ محاولة إلغاء الواقع بفعل "تصوّر" يُشير بالفعل إلى أ ّ‬

‫منظّروا القاعدة ـ فتحي يكن ـ أُسامة بن لدن ـ أيمَن الظواهري ـ تحقيق ُه على الرض ليس سوى‬

‫ت لي تجربة بأي صلة ‪ ،‬و المثير للهتمام أيضا هنا هو أن هؤلء نصّبوا‬
‫فهما خاصّا بهم ل يم ّ‬

‫أنفُسهم وكلء عن النبياء و البشرية ليقرّروا ما هو الطريق النسب لهذه البشريّة ‪ ،‬و الخطر في‬

‫المر هو أن هذا التيار الوهّابي يبدو و كأنّه جاء فقط ليهدم الحضارة و الحداثة و التطور ‪ ،‬و أن‬

‫العالم كُلّه مُسخّر فقط لمجموعة صغيرة تحتكر فهم السلم و الديان و العالم‪:‬‬

‫" هذه الجاهلية تقوم على أساس العتداء على سلطان ال في الرض وعلى أخص‬

‫خصائص اللوهية ‪ ..‬وهي الحاكمية ‪ ..‬إنها تسند الحاكمية إلى البشر ‪ ،‬فتجعل بعضهم لبعض‬

‫أرباباً ‪ ،‬ل في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الولى ‪ ،‬ولكن في صورة ادعاء‬

‫حق وضع التصورات والقيم ‪ ،‬والشرائع والقوانين ‪ ،‬والنظمة والوضاع ‪ ،‬بمعزل عن منهج‬

‫ال للحياة ‪ ،‬وفيما لم يأذن به ال ‪ ..‬فينشأ عن هذا العتداء على سلطان ال اعتداء على عباده‬

‫‪ ..‬وما مهانة " النسان " عامة في النظمة الجماعية ‪ ،‬وما ظلم " الفراد " والشعوب‬

‫بسيطرة رأس المال والستعمار في النظم " الرأسمالية " إل أثرًا من آثار العتداء على سلطان‬

‫ال ‪ ،‬وإنكار الكرامة التي قررها ال للنسان !" معالم ص ‪.6 – 5‬‬
‫إن الحاكمية اللهية و حسب تعبير قطب تنحصر في فهم فئة من المسلمين لمصطلح‬

‫"الحاكمية" ‪ ،‬و هي بالحرى مستوحاة من عقلية "الخوارج" الّذين كانوا يرفعون شعار "ل حُكم‬

‫ل ل" و ل يعتقدون إل بإسقاط الدولة و الحاكم و أن من الممكن خلق مجتمع جديد من خلل‬
‫إّ‬

‫الرهاب أوّل و الفوضى ثانيا ‪ ،‬و فرض هذا الفهم على الخر "المسلمين الّذين ل يؤمنون بهذه‬

‫النظرية – المسيحي – اليهودي – الملحد" هو بحدّ ذاته مؤشّر على الفلس الخلقي و الثقافي‬

‫و حتى العقلي ‪ ،‬فعن أي كرامة إنسانيّة يتحدث قطب و هو ينوي و منذ الصفحات الولى لنظريّته‬

‫السوداويّة أن يُدمّر كل مُنجَزات البشرية و ماذا سيكون بقي للنسان إذا دمّر آلف العوام من‬

‫التّقدم و العقل و الحكمة مقابِل حياة يقضيها في طقوس و حركات بلهاء وسط أكوام اللم و‬

‫الدّموع ‪ ،‬إنّ هؤلء و بقدر ما يكرهون الحضارة ـ كونها ما ّديّة ـ يكرهون ال لنّه خلق النسان‬

‫شهوانيّا ما ّديّا ‪ ،‬إن شعار "الكرامة النسانيّة" الذي يلوّح به قطب هنا ليس إل كلمات جوفاء ل‬

‫معنى لها و ل تختلف عن شعار "الحريّة" الّذي رفعه البعثيّون ـ و كذلك يفعل كل القوميّين ـ و‬

‫كان نتيجته أنهم قتلوا الحريّة و أعطوا الطاغية الحريّة الكامِلة في تصريف المور ‪ ،‬و ل أعتقد‬

‫ن هذا التّفسير و الفهم القبيح للسلم سيستمر طويل‪.‬‬


‫أّ‬

‫إن ما أسماه قطب بـ"حق وضع التصورات و القيم" الّتي يسندها إلى ال وحده ‪ ،‬هو فهم‬

‫مبسط للمور و الكثر سذاجة ‪ ،‬فالنّص الدّيني نفسه "القرآن و الحديث" يحملن معاني متعددة و‬

‫متناقضة و حتى متضاربة ‪ ،‬و إذا ما تمعّنّا في هذا فمن سيكون "الشخص أو الجهة" الّتي ستقرر‬

‫أن هذا المعنى أو ذاك هو المقصود في الكلمات اللهيّة! و بمجرد أن يفعلوا ذلك ‪ ،‬كأن يحصر‬

‫حقّ التفسير و الشرح في "آل سعود" أو "آل لدن" أو "آل الظواهري"! فإننا سنعود إلى المربع‬

‫الول ‪ ،‬بمعنى إسناد إسقاط الكلمات على المعاني من ِقبَل جهة بشرية ‪ ،‬و إذا كان النّبي محمد‬
‫إستطاع أن ل يَظلم أحدا بفضل الوحي! فمن أين لهم بوحي مماثل؟! و ل أستبعد أن يفعلوا شيئا‬

‫مماثل في مستقبل اليام لتجاوز هذا الشكال‪.‬‬

‫يقول قطب‪:‬‬

‫" وفي هذا يتفرد المنهج السلمي ‪ ..‬فالناس في كل نظام غير النظام السلمي ‪ ،‬يعبد‬

‫بعضهم بعضًا – في صورة من الصور ‪ -‬وفي المنهج السلمي وحده يتحرر الناس جميعًا من‬

‫عبادة بعضهم لبعض ‪ ،‬بعبادة ال وحده ‪ ،‬والتلقي من ال وحده ‪ ،‬والخضوع ل وحده ‪.‬‬

‫وهذا هو مفترق الطريق ‪ ..‬وهذا كذلك هو التصور الجديد الذي نملك إعطاءه للبشرية ‪-‬‬

‫هو وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية ‪ -‬وهذا هو الرصيد الذي‬

‫ل تملكه البشرية ‪ ،‬لنه ليس من " منتجات " الحضـارة الغربية ‪ ،‬وليس من منتجات العبقرية‬

‫الوروبية ! شرقية كانت أو غربية" معالم ص ‪.6‬‬

‫ن هذا التبسيط لنظرية "ستحكم البشريّة"!! حسب هذا العقل المريض ‪ ،‬هو خلق عبودية‬
‫إّ‬

‫بشعة تحت شعار "العبودية ل" ‪ ،‬و كما أسلفنا ‪ ،‬فإن حياة الغربيين و مواطني النظمة‬

‫الديمقراطية ليست محصورة في شهوات الجنس و الطعام كما يظن قطب و أمثاله ‪ ،‬و قد فعلوا‬

‫ذلك و بفعل حياة الكبت و الممنوعات الّتي عاشوها ‪ ،‬فالغربيون ـ المريكيون خصوصا ـ يهتمون‬

‫بالحياة الرّوحية و الخدمة الدّينيّة ‪ ،‬لكن هذا يتمّ طبعا في إيطار الحرية البشرية ‪ ،‬إن البحث عن‬

‫ِقيَم بديلة لتلك السائدة في الغرب هو بحث في الفراغ و العدم ‪ ،‬و محكوم على هذه المحاولة‬

‫بالفشل الذّريع ‪ ،‬إن رفع شعار "الحريّة" الّذي يروّج له قطب و أمثاله كبديل لمفهوم الحريّة السائد‬

‫في الغرب و جنوب شرق آسيا ‪ ،‬ليس سوى شعار فارغ يخفي تحته ذلك الكُفر الحقيقي ـ إحتكار‬

‫تفسير النّص ـ و هو المر الّذي سيجعل من قطب ‪ ،‬بن لدن ‪ ،‬الظواهري و القرضاوي كبدلء‬
‫عن ال ‪ ،‬فما دام التفسير جاهزا لتوجيه النّص المقدس فذلك يعني ـ حسب نظرية قطب و القاعدة ـ‬

‫أن ال بعزّته و جلله ل يعدو كونه جنديّا في صفوف النتحاريين و المفجّرين‪.‬‬

‫و من الطبيعي ها هنا أن قطب و جماعته لن يجدوا "نموذجا" واقعيا لما يسمّونه المثال أو‬

‫النموذج إل في العودة إلى سيرة "الصحابة" ‪ ،‬و هي كما ترى عزيزي القاريء مجرد إعادة تقليد‬

‫مرّة أُخرى لما يعيشه العالم السلمي من إستغراق في الماضويّة ‪ ،‬إن جيل الصحابة هو أكثر‬

‫الجيال إنحطاطا و إثارة للجدل ‪ ،‬و لكن ماذا نفعل مع من ينظر إلى الشياء بعين واحدة !!‬

‫فالصحابة لعنوا بعضهم البعض "فقد كفّرت عائش ُة عثمانا و لعن معاويةُ عليَ بن أبي طالب على‬

‫المنابر ـ أنظر‪ :‬عائشة أم المؤمنين لمرتضى العسكري و الحقيقة الغائبة لفرج فودة" ثم قتلوا‬

‫بعضهم بعضا ـ قُتل عثمان ثم حرب الجمل و صفّين و قتل الحسين و آله ذبحا و حرق الكعبة و‬

‫استباحة المدينة من ِقبَل جيش يزيد و اعتداءه و اغتصاب جنوده لبنات المدينة ـ و هذا اختصار‬

‫سريع جدا لخلق جيل الصحابة الذي يستشهدون به دوما‪.‬‬

‫أنظر إلى نمط هذا التفكير ‪ ،‬يقول قطب‪:‬‬

‫" كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه ‪ ،‬ويتكيفون به ‪ ،‬ويتخرجون عليه ‪،‬‬

‫ولم يكن ذلك كذلك لنه لم يكن للبشرية يومها حضارة ‪ ،‬ول ثقافة ‪ ،‬ول علم ‪ ،‬ول مؤلفات ‪ ،‬ول‬

‫دراسات ‪ ..‬كل ! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا‬

‫تعيش عليه ‪ ،‬أو على امتداده ‪ .‬وكانت هناك مخلفات الحضارة الغريقية ومنطقها وفلسفتها‬

‫وفنها ‪ ،‬وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم ‪ .‬وكانت هناك حضارة الفرس وفنها‬

‫وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك ‪ .‬وحضارات أخـرى قاصية ودانية ‪ :‬حضارة‬

‫الهند وحضارة الصين إلخ‪ "..‬معالم ص ‪.10‬‬


‫إن حصر العقل البشري في منهج معيّن هو أول الخطوات نحو عبودية النّاس لغير ال ‪ ،‬و‬

‫استخفاف الرّجل ـ أي قطب ـ بمنجزات الحضارات هو إشارات واضحة إلى أن هذا المنهج أو‬

‫ي تعايش بشري قائم على الرض ‪ ،‬و أنهم يعادون "الحضارة" ما‬
‫المنطق يريد القضاء على أ ّ‬

‫دامت ليست في صالحهم ‪ ،‬كما أن الطاعة العمياء هو الساس لهذه النظرية الجديدة القديمة ـ‬

‫فهي تستمد كل دعائمها من الوهابية ـ بمعنى أنها ل تختلف في دكتاتوريتها عن النظمة القومية ‪،‬‬

‫و أعتقد أن عبد الناصر لو لم يُعدم سيّد قطب لرأينا قطب يعدم الخرين بتهمة "ال ّردّة" أو "الكُفر"‬

‫أو "الهرطقة" ‪ ،‬يقول قطب‪:‬‬

‫" إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الول ـ يقصِد الصّحابة ـ ‪ .‬ومنهج‬

‫التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرّج الجيال التي تليه ‪ .‬وما من شك أن هذا العامل الثاني كان‬

‫ل أساسيًا كذلك في اختلف الجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد" معالم ص ‪.13‬‬
‫عام ً‬

‫فالطاعة العمياء و التّقليد و العزلة هي الّتي تخلق "الجيل المثالي" حسب ما يراه قطب ‪ ،‬و‬

‫أن عصور الترجمة و مدارس العقل من شيعة و معتزلة و حتى سنّة ‪ ،‬ل تساوي في نظره يوما‬

‫من أيام "الفتوحات" و الستعمار السلمي للبلدان ‪ ،‬و لكن هنا يجدر بنا أيضا ملحظة هؤلء‬

‫بشكل ساذج تماما مع أطروحة الدين ‪ ،‬فالدين هو أحد مكوّنات الشخصيّة و ليس المكوّن الوحيد ‪،‬‬

‫ن للدّين حدودا يقف عندها ‪ ،‬و من ضمنها مجالت البداع العلمي و الفنّي ‪ ،‬فالدّين لديه‬
‫كما أ ّ‬

‫حدود ل يستطيع أن يتخطّاها ‪ ،‬بل إن قطب يجعل من السلم أقرب إلى السّحر حيث يقول‪:‬‬

‫" لقـد كان الرجل حين يدخل في السلم يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية ‪ .‬كان‬

‫ل كل النفصال عن‬
‫يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى السلم أنه يبدأ عهداً جديدًا ‪ ،‬منفص ً‬

‫حياته التي عاشها في الجاهلية ‪ .‬وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب‬

‫الشاك الحذر المتخوف ‪ ،‬الذي يحس أن كل هذا رجس ل يصلح للسلم ! وبهذا الحساس كان‬
‫يتلقى هَدْي السلم الجديد ‪ ،‬فإذا غلبته نفسه مرة ‪ ،‬وإذا اجتذبته عاداته مرة ‪ ،‬وإذا ضعف عن‬

‫تكاليف السلم مرة ‪ ..‬شعر في الحال بالثم والخطيئة ‪ ،‬وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة‬

‫إلى التطهر مما وقع فيه ‪ ،‬وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني" معالم‬

‫ص ‪.14‬‬

‫و هذا يُناقض الحاديث و الواقع ‪ ،‬فكم من أُناس كانوا جيدين و مثاليين مع السلم أو‬

‫بدونه ‪ ،‬يقول النبي محمد‪ :‬خياركم في الجّاهليّة خياركم في السلم"! إما الفكرة التي يُحدّثنا عنها‬

‫قطب فهي تذكّرنا بالدراما المصرية التي تصور الصحابة على أنّهم "ملئكة"!‪ .‬و معلوم أن‬

‫النسان هو مركّب مُعقّد من الرغبات و النزوات و الدّوافع ‪ ،‬و أيّ محاولة فوقية لتحويله إلى‬

‫"ملك" هي محاولة فاشلة و غير مجدية ‪ ،‬النسان يتكامل حينما يحصل على شروط التكامل ‪،‬‬

‫راتب جيّد ‪ ،‬سكن مضمون ‪ ،‬زوجة أو زوج مناسب ‪ ،‬حريّة ‪ ،‬و إحترام كرامته كإنسان ‪ ،‬إن‬

‫السلم يعيش الن في أزمة حقيقية ‪ ،‬فقد أصبح أداة قمع و غير قابل للحوار ‪ ،‬فضل عن تحويله‬

‫سنّي ل يملك مؤسسة شبيهة بالفاتيكان أو‬


‫إلى "عقيدة غزو و حرب" ل تنتهي ‪ ،‬كما أن العالم ال ّ‬

‫المرجعية الشيعية الّتي تتعاطى بالشأن العامّ ‪ ،‬بالتالي فإن العالم السنّي يترنح الن بسبب فوضى‬

‫"الفتاوى" ‪ ،‬كما أن الفقيه السنّي عرف عنه تأريخيا أنه "فقيه السلطان" أو الحاكم ‪ ،‬حتّى أن الفقيه‬

‫ل فقهي لكي يجامع "أمير المؤمنين"! غلمه و هو مرتاح الضّمير ‪ ،‬بل‬


‫السنّي كان يبحث عن ح ّ‬

‫إن محاولت القاعدة ‪ ،‬و قطب واحد من هؤلء ‪ ،‬لتخطّي هذه الصورة النمطية باءت بالفشل ‪ ،‬و‬

‫القاعدة هي التّابع المشاغب لل سعود ‪ ،‬ففي الوقت الّذي كان فيه بن لدن يُصدِر فتاوى‬

‫"التكفير" بحق آل سعود ‪ ،‬كان السّعوديون يدعمون نظام طالبان دبلوماسيا و سياسيا و كانت‬

‫المملكة العربية السعودية إحدى ثلث دول إعترفت بنظام طالِبان التابع لبن لدن‪.‬‬
‫إن قطب ينتقد كثيرا ما يسمّيه "تقاليد المجتمع الجاهلي" بينما تظهِر لغته هذه بأنّه يرفض‬

‫كل "تقليد غير إسلمي"! أما التقليد السلمي و الغباء السلمي و الظلم السلمي ‪ ،‬فكله مقبول‬

‫لنه محصور في كلمة "إسلم ـ حسب الفهم الوهّابي طبعا" ‪ ،‬إن سيد قطب يؤمن فقط بسيد قطب‬

‫و كأن هناك عالما خاصّا بسيد قطب ‪ ،‬يقول قطب‪:‬‬

‫" نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها السلم أو أظلم ‪ .‬كل ما حولنا جاهلية‬

‫‪ ..‬تصورات الناس وعقائدهم ‪ ،‬عاداتهم وتقاليدهم ‪ ،‬موارد ثقافتهم ‪ ،‬فنونهم وآدابهم ‪ ،‬شرائعهم‬

‫وقوانينهم ‪ .‬حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلمية ‪ ،‬ومراجع إسلمية ‪ ،‬وفلسفة إسلمية ‪،‬‬

‫وتفكيرًا إسلميًا ‪ ..‬هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!" معالم ص ‪.15‬‬

‫أو بالحرى يا سيد قطب فإن "الحياة" كلها "جاهلية" ‪ ،‬و النتيجة الطبيعية لهذا الفكر‬

‫المريض هو "النتحار بالقنابل" و توزيع الموت ‪ ،‬إن الب الروحي لطالبان و القاعدة ليس‬

‫"أُسامة بن لدن" ‪ ،‬بل هو قطب المريض بهوس خلق مجتمع يناسب ذوقه المريض ‪ ،‬إنه‬

‫بصراحة يرفض أيّ نوع من التّسوية أو الحلول الوسطى ‪ ،‬بل ل بد من الهيمنة على المجتمعات‬

‫ن فكرته الّتي استمدّها هنا من قراءاته الدّينية جيدة في أصل فكرته القائلة ‪" :‬بأنّ ل‬
‫و إلغائها ‪ ،‬إ ّ‬

‫فرق بين طاغوت فارسي أو روماني أو عربي"! لكن الشكال يعود ثانية حينما نسأل ‪ :‬ما هو‬

‫"الطاغوت"!! و طبعا تكون الجابة الدّائمة ‪ :‬أنّه كُل قانون ل يكون مصدره الشريعة"! بالتالي‬

‫فكلمة "طاغوت" ل علقة لها بالطغاة أو المستبدّين ‪ ،‬بل إنهم ـ أي الوهابية و الصوليون‬

‫المتطرّفون ـ يفسّرونها بأنّها‪ :‬كُل قانون ل يُست َمدّ من الشريعة"! بمعنى أن الحاكم مهما كان‬

‫مستبدا غشوما هو "حاكم شرعي" ما دام يُطبق مظاهِر الشريعة و حدودها ‪ ،‬سواء كان هذا‬

‫الحاكِم هو "بن سعود" ‪" ،‬بن لدن" أو "بن العاهرة" ـ مع إحترامنا و تقديرنا لكل العاهرات فهُنّ‬
‫أشرف من هؤلء الطغاة ـ بالتالي بدل من الستفادة من أمثال هذه اليات في دفع الظلم و تحقيق‬

‫العدالة و المساواة ‪ ،‬تحول النّص الدّيني إلى عائق حقيقي أمام تحديث العالم السلمي‪.‬‬

‫من هنا نلحظ مدى الدور السلبي الّذي يلعبه قطب و أمثاله في نشر الجمود الفكري و‬

‫العقلي ‪ ،‬بمعنى أن النّص الّذي هو من المُفترض أنّه يصلُح لكُل زمان و مكان ‪ ،‬لم يعُد يصلح إل‬

‫لحياة القرن السّابع الميلدي ‪ ،‬دون محاولة إيجاد معاني جديدة كامنة في ما وراء النّص‪.‬‬

‫يحاول قطب في أن يصف في كتابه بعض العلقات الجنسية بين الرجل و المرأة في‬

‫العصر الجاهلي في حديث نقله عن عائشة بنت أبي بكر ‪ ،‬ليُظهر لنا مثل على مدى النحطاط‬

‫الخلقي الّذي كان سائدا آنذاك "معالم ص ‪ ."24 – 23‬لكن هذه المحاولة باءت بالفشل ‪ ،‬لن حقيقة‬

‫الزواج لم تتحقق في المجتمعات السلمية ‪ ،‬و الزواج كما يشترطه الفقهاء هو "رضا‬

‫الطرفين" ‪ ،‬بمعنى أنه يُناسب الزواج المدني الحديث ‪ ،‬لكن الزواج "السلمي" الرائج الن هو‬

‫اغتصاب مُغلّف بشرعيّة كاذبة ‪ ،‬فغالبا ما ترضخ المرأة لزوجها بحكم المر الواقع‪.‬‬

‫يقول قطب عن زمن النبي محمد‪:‬‬

‫" وتطهرت النفوس والخلق ‪ ،‬وزكت القلوب والرواح ‪ ،‬دون أن يحتاج المر حتى‬

‫للحدود والتعازير التي شرعها ال ‪ -‬إل في الندرة النادرة ‪ -‬لأن الرقابة قامت هناك في الضمائر‬

‫‪ ،‬ولأن الطمع في رضى ال وثوابه ‪ ،‬والحياء والخوف من غضبه وعقابه ‪ ،‬قد قاما مقام‬

‫الرقابة ومكان العقوبات" معالم ص ‪.25‬‬

‫ألَم أقل لكم أن الرجل يحلُم! إن كل فترة التاريخ السلمي المثالي ل تزيد على عامين ‪،‬‬

‫هذا لو أخذنا المسألة بدءا بحكم النّبي محمد و إلى حين وفاته ‪ ،‬فطوال حكمه أو إدارته لم يكن له‬

‫شيء من السلطة الدنيوية ‪ ،‬كالشرطة و السجون و جني الضرائب ‪ ،‬بل إن حكم النبي محمد كان‬
‫أقرب إلى "الطريقة السويسرية" منه بخلفاءه ‪ ،‬حتى أن قطب نفسه شكّ في أنه أقام أيّا من هذه‬

‫الحدود الشرعية حينما قال ‪ ، ":‬دون أن يحتاج المر حتى للحدود والتعازير التي شرعها ال ‪-‬‬

‫إل في الندرة النادرة" و هذه الندرة النادرة ربّما كانت من الحاديث الّتي يُشك بها ‪ ،‬و لنّ‬

‫السلم أصبح يتدخل في كُل صغيرة و كبيرة في حياة الناس "معالم ص ‪ "27‬فإنّه تحول إلى ثِقل‬

‫حقيقي على كاهل المجتمعات الّتي تؤمن به‪.‬‬

‫يتهكم قطب على الوليات المتحدة لنها لم تستطع منع الخمر ‪ ،‬بينما نجح السلم في‬

‫منعها بعد أن نزلت فيها ثلث آيات متتالية ‪ ،‬إنها واحدة أُخرى من المحاولت البائسة الّتي‬

‫يطرحها في كتابه ‪ ،‬فمقارنة مجتمع متعدد الديان و الحزاب و النتماءات في منتصف القرن‬

‫العشرين بمجتمع آخر يسبقه بـ ‪ 14‬قرنا و يعاني من الجهل و العزلة ‪ ،‬هي حقّا مقارنة غير‬

‫ن هذا المر‬
‫ناجحة أو موفـّقة ‪ ،‬كما أننا ل نملك تعدادا أو إحصاءات لمجتمع النبي حتى نعرف أ ّ‬

‫تحقق أم ل !! بل إن عمر بن الخطاب كان يذهب إلى الصلة و هو سكران‪.‬‬


‫إذا كان قطب يريد حقا أن يحكم الرض "شرع ال"!! و من دون أن يتحكم إنسان في‬
‫ي يُفسّر لهم ما يشكل من نصوص ‪ ،‬و‬ ‫البشر ‪ ،‬فعليه و على المؤمنين بمنهجه أن يبحثوا عن نب ّ‬
‫بدون ذلك نعود إلى الشكال الول و هو "تحكّم البشر بالبشر" ‪ ،‬إذ سنعود إلى حيث بدأنا و هو ‪:‬‬
‫من يمِلك صلحية التفسير و الفتوى"! و قراءة بسيطة و متأنيّة لمدونات قطب و جماعة القاعدة‬
‫تظهر بوضوح أن النبوة و العصمة لدى هؤلء تختص بقطب و بن لدن و من على منهجهم‬
‫ن مجتمعهم "المثالي"! المزعوم كان منهج "طالبان" الّذي يكره‬
‫الرهابي و الجرامي ‪ ،‬و أ ّ‬
‫الحياة و البشر‪.‬‬
‫إن قطب يُلغي دور العقل تماما ‪ ،‬و يلغي الجمال أيضا ‪ ،‬فعلى الجميع أن يطيع اليمان‬
‫مهما كان هذا اليمان قبيحا أو قاسيا و غير واقعي ‪ ،‬يقول قطب‪:‬‬

‫" إن نظام ال خير في ذاته ‪ ،‬لنه من شرع ال ‪ ..‬ولن يكون شرع العبيد يوم ًا كشرع ال‬

‫‪ ..‬ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة ‪ .‬إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع ال وحده أيّا كان ‪ ،‬ورفض‬

‫كل شرع غيره أيّا كان ‪ ،‬هو ذاته السلم ‪ ،‬وليس للسلم مدلول سواه ‪ ،‬فمن رغب في السلم‬
‫ابتداء فقد فصل في القضية ‪ ،‬ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته ‪ ..‬فهذه إحدى‬

‫بديهيات اليمان !" معالم ص ‪.34‬‬

‫فل حاجة للناس ـ حسب عقله المريض ـ في نظام دقيق يساوي بين مواطنيه و يوفر لهم‬

‫ل الحاجات النسانية ‪ ،‬فالمهم هو الجلد و القطع و الذّبح و تهميش المرأة و الحتفاظ بها في‬
‫كل ك ّ‬

‫البيت كحيوان مفيد جنسيا و طبخ الطعام و توفير الستقرار للمواطنين "المحاربين" الذين‬

‫سينشرون رعب السلم و سياراته المفخخة في العالم أجمع! الكيد أيضا أن قطب هو عنصري‬

‫من الطراز الول ‪ ،‬فهو جادّ في التهجم على النظمة الديمقراطية و حتى الشوعية ‪ ،‬لكنه صامت‬

‫صمت القبور عن انتقاد أي نظام عربي أو إسلمي ‪ ،‬السعودية على وجه التحديد ‪ ،‬و هذا يعني‬

‫أن الشرقيين و العرب هم ملئكة فوق النقد مهما أخطأوا ‪ ،‬أمّا الغربيون فهم ـ حسب قطب ـ أعداء‬

‫يجب احتقارهم و حربهم مهما أبدعوا‪.‬‬

‫إن صلحية السلم لكل زمان و مكان ـ حسب نظرية قطب ـ تكمن في البقاء على‬

‫المجتمع جاهل و متخلفا و تصاغ هذه الجهالة و التخلف تحت عنوان "الفطرة" ‪ ،‬بالتالي ل يصلح‬

‫ن هذا‬
‫السلم للمجتمعات العقلية و المثقفة و الّتي ل تترك موضوعا دون أن تشبعه جدل ‪ ،‬إ ّ‬

‫السلم "البدوي" القاسي لم يعد يصلح حتى للصحراء العربية نفسها ‪ ،‬فقد امتلت الصحراء‬

‫بعلئم الحضارة من أبنية و خدمات و اتّصالت ‪ ،‬و أعتقد أن قطب هو ملهم أبشع نظرية دينية‬

‫في التاريخ "تنظيم القاعدة" حيث يقول‪:‬‬

‫" وإنه لمن الضروري لصحاب الدعوة السلمية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه‬

‫في الحركة على هذا النحو الذي بينَّاه ‪ .‬ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد‬

‫المكي على هذا النحو ‪ ،‬لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركـة السلمية ‪ ،‬والبناء‬

‫الواقعي للجماعة المسلمة ‪ .‬لم تكـن مرحلة تلقّي " النظرية " ودراستها ! ولكنها كانت مرحلة‬
‫البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معاً ‪ ..‬وهكذا ينبغي أن تكون كلما‬

‫أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى" معالم ص ‪.34‬‬

‫فما سمّاه هنا بـ"البناء القاعدي" هو الّذي جعل شخصا كـ"بن لدن" يختار اسم "القاعدة"‬

‫ن سنّته السّيئة ‪ ،‬هي نهاية أو نتيجة‬


‫لتنظيمه ‪ ،‬إن النهاية و النتيجة الّتي انتهى إليها قطب و من س ّ‬

‫مغلوطة أو لنقل غير مفيدة ‪ ،‬بمعنى ـ و أنا هنا ل أناقش السلم كونه حقّا أو باطل ـ أن هذه‬

‫النظرية تبدأ كمنهج دعوي شفهي و تنتهي بالعنف و الكراه و الجرام ‪ ،‬و بالتالي ل يكون هذا‬

‫دينا بقدر ما هو نوع آخر من الطغيان و الدكتاتورية و الهيمنة بسم ال و المقدسات ‪ ،‬بل يبدو لنا‬

‫قطب و هو ينظّر ها هنا و كأنه بصدد بناء عصابة إجرامية و ليس "جماعة دينية"! و كأن النبي‬

‫محمد كان يتعامل مع السلم كـ"تكتيك" مرحلي لكي يقوم بعدها ـ حين يصبح قويا ـ بالنقلب‬

‫على الواقع و بالقوة ‪ ،‬و محمد النبي ـ حسب نظرية قطب ـ يشبه هنا أدولف هتلر الّذي استغل‬

‫النظام الدّيمقراطي ليُهيّء للنقلب النازي أو القوميين الّذين يقومون بانقلبات عسكرية هنا و‬

‫هناك ‪ ،‬كما أن هذه النظرية هي الّتي جعلت خبراء الغرب و السياسيين في الوليات المتحدة‬

‫يتردّدون في القيام بأيّ تغيير جذري في المنطقة المسلمة ‪ ،‬إذ يبدو قبول السلميين للليّات‬

‫الديمقراطية و كأنه مجرّد "تكتيك" مرحلي و بمجرد أن تصبح لديهم القوة فإنهم سيطيحون‬

‫بالديمقراطية "الكافرة ـ حسب تعبيرهم"! و يحولون هذه البلدان إلى قواعد "لهداية البشر إلى‬

‫الذبح و سيارات التفخيخ"‪.‬‬

‫إن أبغض شيء إلى قطب و القاعدة هو "العقل" و استخدام المنطق و إعمال الذّهن ‪ ،‬يقول‬

‫قطب‪:‬‬

‫" وخطأ أي خطأ ‪ -‬بالقياس إلى السلم ‪ -‬أن تتبلور العقيدة في صورة " نظرية "‬

‫مجردة للدراسة الذهنية ‪ ..‬المعرفية الثقافية ‪ ..‬بل خطر أي خطر كذلك ‪.‬‬
‫إن القرآن لم يقض ثلثة عشر عام ًا كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة‬

‫الولى ‪ ..‬كل ! فلو أراد ال لنزل هذا القرآن جملة واحدة ‪ ،‬ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلثة‬

‫عشر عاماً ‪ ،‬أو أكثر أو أقل ‪ ،‬حتى يستوعبوا " النظرية السلمية " ‪.‬‬

‫ولكن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬كان يريد أمرًا آخر ‪ ،‬كان يريد منهج ًا معين ًا متفرداً ‪ .‬كان يريد بناء‬

‫جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد" معالم ص ‪.34‬‬

‫و من الواضح أنّ قطب يعتبر حديث القرآن و النبي محمد عن "العقل" و "أولي اللباب ـ‬

‫العقول" هو محض هراء و أكاذيب ل صلة لها بالواقع ‪ ،‬و تذكّرت و أنا أقرأ عبارات قطب‬

‫شعارا من شعارات "حزب البعث الدكتاتوري" الّذي كان يُردّد‪ :‬نفّذ و ل تناقش"! فالطاعة‬

‫العمياء هي الساس الول لهذا المنهج التفجيري ‪ ،‬و نحن نطرح هنا سؤال‪ :‬إذا لم يكن السلم‬

‫خاضعا للذهن و العقل و المنطق ؟! فكيف تسنّى لجيل النبي محمد و لقطب و جماعته أن يعرفوا‬

‫ق أو باطل ؟! الكيد أنهم ل يملكون هذا الجواب لنهم بمجرد أن يعترفوا و لو بدور‬
‫ن السلم ح ّ‬
‫أّ‬

‫بسيط للعقل فإن نظريّتهم تنهار في الحال ‪ ،‬و لنهم يؤمنون فقط بـ"العقيدة المهيمنة" فمن الطبيعي‬

‫أن يرفضوا أي دور للعقل أو الحوار ‪ ،‬حتى مع المسلمين ‪ ،‬فالشيعة و المعتزلة و الخوارج و‬

‫الحمدية القاديانية هم مجموعة "كفّار"! ينتظرون في طابور الختيار بين "الذّبح أو السلم"!‬

‫هذا فضل عن اليهود و المسيحيين و البوذيين و ‪ ..‬إلخ ‪ ،‬بمعنى أن بضعة مليين فقط من البشرية‬

‫ستتمكن من الحياة في ظل النظرية ‪ ،‬بينما يُرسل ‪ 6‬مليار إنسان إلى الموت!‪.‬‬

‫إن كلمات "الواقعية" ‪" ،‬الحياة" ‪" ،‬الحركة" و "الحراك الجتماعي" الّتي يرددها قطب ‪،‬‬

‫ليست إل كلمات ل علقة لها بالمعاني ‪ ،‬إل كعلقة صهيل الحصان بتلك المعاني ‪ ،‬فبمجرد أن‬

‫رفض "الذهن" و "العقل" ألغى أي فارق حقيقي بين دينه و أديان الخرين ‪ ،‬و تكون النتيجة أن‬

‫البشرية ستفنى لو فكر اليهود و المسيحيون و البوذيون في صياغة أديانهم على نمط هذه النظرية‬
‫الّتي تؤمن بدون الرّجوع إلى أي أُسس عقلنية و فرض قناعاتها بالقوة ل بالعقل و الحكمة ‪ ،‬بل‬

‫ستحل المصيبة بالمسلمين لن الشرق و الغرب يملكان مئات القنابل النووية الّتي ستمحو هذه‬

‫الشعوب في غضون ساعات ‪ ،‬يقول قطب‪:‬‬

‫" إن التصور الٍسلمي لللوهية ‪ ،‬وللوجود الكوني ‪ ،‬وللحياة ‪ ،‬وللنسان ‪ ..‬تصور‬

‫شامل كامل ‪ .‬ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي ‪ .‬وهو يكره ‪ -‬بطبيعته ‪ -‬أن يتمثل في مجرد‬

‫تصور ذهني معرفي ‪ ،‬لن هذا يخالف طبيعته وغايته ‪ .‬ويجب أن يتمثل في أناسى ‪ ،‬وفي تنظيم‬

‫حي ‪ ،‬وفي حركة واقعية ‪ ..‬وطريقته في التكون أن ينمو من خلل الناسى والتنظيم الحي‬

‫والحركة الواقعية ‪ ،‬حتى يكتمل نظرياً في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعياً ‪ -‬ول ينفصل في‬

‫صورة " النظرية " بل يظل ممثلً في صورة " الواقع " الحركي ‪ "..‬معالم ص ‪.36‬‬

‫هرب قطب من "العقل" و "المنطق" إلى "عقل و منطق" آخر هو بالتالي نقيض النقيض ‪،‬‬

‫إذ وجد أن الل عقلية ستعني أنه ل فارق بينه و بين أيّ حيوان ‪ ،‬فلجأ مرة أُخرى إلى "تصوّر" ‪،‬‬

‫و طبعا لم يستخدم كلمة "منطق" الّتي يكرهها ‪ ،‬و هذا التصور ل يُفهَم إل على أنه "ضد العقل"‬

‫أو "منطق الل منطق" ‪ ،‬كما أن إسلمه هو ضد كل ما يحترم "الخر" ‪ ،‬و كأن قطب و أتباعه‬

‫أرادوا أن يقوموا بدور "ال" فيزيلوا الخرين ـ مع أن ال تحاور مع الشيطان حسب القرآن‬

‫الكريم و أعطاه مهلة للف السنين ـ و بالتالي ينعكس "توحيد الُلوهية" على "توحيد الحكومة و‬

‫العقيدة" ‪ ،‬و من الطبيعي أن تنقسم هذه التنظيمات السلموية و تقتل بعضها البعض ـ أفغانستان‬

‫مثال ـ لن كل أحد منهم يعتبر نفسه وكيل ل و محيطا بالحقيقة الكاملة‪.‬‬

‫لكن لغة قطب لم تنجو من صيغة التّشكيك ‪ ،‬و هو لم يشعر بها ‪ ،‬فكلمة "تصوّر" هي‬

‫أضعف مدلول من كلمة "نظرية" أو "منطق" ‪ ،‬فالتّصوّر هو نوع من الظن بمعنى أنه‬

‫"جزئي" ‪ ،‬و يحدث التّناقض حينما يصف قطب هذا "التّصوّر السلمي"! بأنه‪ :‬شامل كامل‪ "..‬و‬
‫هذا يُناقض مفهوم و مدلول كلمة "تصوّر" ‪ ،‬إنها و بشكل أوضح كلمات "شاعر" خيالي ‪ ،‬يريد‬

‫أن يحوّل أوهامه إلى واقع ‪ ،‬و قطب يضع نفسه في ضمن هذه "النخبة ال ّربّانيّة" الّتي تفكر‬

‫بالمنهج اللهي الشّامل و الكامل ‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫" إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا ‪ -‬نحن أصحاب الدعوة السلمية ‪ -‬منهجاً خاصاً‬

‫للتفكير ‪ ،‬نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الرض ‪ ،‬والتي تضغط على‬

‫عقولنا ‪ ،‬وتترسب في ثقافتنا ‪ ..‬فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن‬

‫طبيعته ‪ ،‬من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ‪ ،‬كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ‪،‬‬

‫وحرمنا أنفسنا فرصة الخلص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ‪ ،‬وفرصة الخلص‬

‫من رواسبه في عقولنا وتكويننا" معالم ص ‪.38‬‬

‫فقطب و من على شاكلته ‪ ،‬هم وحدهم المهيمنون و الوكلء و المفسّرون لدين ال و للنبي و‬

‫ن كل ما هو غير هذا المنهج هو باطل و واجب القتل و البادة‬


‫ل يحق لحدٍ أن يعترض حينها ‪ ،‬ل ّ‬

‫ن فكر الهيمنة و السّيطرة هو لُبّ و خُلصة هذه النظريّة ‪ ،‬من هنا فل مجال أبدا‬
‫و السحق ‪ ،‬إ ّ‬

‫للحوار أو التّفاهم مع هذا الخط الّذي ل يفهم إل أمرا واحدا و أُسلوبا واحدا هو "العنف و‬

‫الصراع" إلى أن يُدمّر العالم أو ُي َدمّر ُه العالم ‪ ،‬و قُطب يريد من النّاس أن يُجسّدوا "العقيدة" حتّى‬

‫ل النظريات الفكرية ‪ ،‬بل إن إستدلله بنزول‬


‫قبل أن يعرفوها ‪ ،‬و هذا نقيض الواقع و المنطق و كُ ّ‬

‫القرآن على فترات ينفي نظريّته و ل يُثبتها ‪ ،‬بمعنى أن هذا القرآن الّذي نزل على فترات‪:‬‬

‫ل } [ السراء ‪] 106 :‬‬


‫ث وَنَزّلْنَاهُ تَ ْنزِي ً‬
‫{ وَ ُقرْآنًا فَ َرقْنَاهُ لِ َتقْ َرأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَى ُمكْ ٍ‬
‫‪And )it is( a Quran which We have divided )into parts(, in order that you‬‬
‫‪might recite it to men at intervals. And We have revealed it by stages.‬‬
‫‪.sorah of Israe 106‬‬

‫هو لغرض "الستيعاب العقلي" و ليس العكس‪.‬‬


‫إن أول كلمات تراثيّة يستشهد بها قطب في كتابه ‪ ،‬هي كلمات "إبن قيّم الجوزيّة" أحد‬

‫مؤسسي الفكر الرهابي السلفي ‪ ،‬و ذلك في فصل كتبه عن "الجِهاد" معالم ص ‪ 50‬و من خلل‬

‫هذا الفصل يتضح أنّ غاية النظرية و نهايتها تتلخص في كلمتين "السلم أو القتال"! بالتّالي و‬

‫كما قلنا سابقا أن ل فائدة من الحوار مع هؤلء ‪ ،‬بل على العالم المتحضر حربهم بالفكر و السّلح‬

‫إلى أن يتم القضاء عليهم‪.‬‬

‫نعود إلى مسألة إيجاد إصلح داخل هذه الحركات السلمية ‪ ،‬فهناك جملة شروط ل بُد و أن‬
‫تتوفر لكي ينضموا إلى الحراك السياسي ‪ ،‬و القتباس هنا يتعلق بإخوان مصر ‪ ،‬و قد طرحها‬
‫الخوانيون أنفسهم‪:‬‬

‫"‪-1 :‬إعلن الجماعة أن الدستور هو المرجعية العليا للنظام السياسي‪ -2 ،‬أن نعلن الجماعة عن‬
‫رغبتها أن تكون حزباً سياسيًا شرعياً وليس جماعة دينية‪ -3 ،‬أن البرلمان هو الجهة الوحيدة‬
‫للتشريع فى البلد‪ -4 ،‬أنها مثل أى حزب شرعي تؤمن بأن الوصول إلى السلطة والحكم يتم عن‬
‫طريق الصندوق النتخابى وليس عن طريق أى أسلوب آخر‪ -5 ،‬أنها لو فرضنا و وصلت للحكم‬
‫فإنها تلتزم بعدم الخلل بقواعد الحكم الديمقراطى القائم على تداول السلطة لمن يملك الغلبية و‬
‫استحقها من خلل الصندوق النتخابى و كافة الوسائل الديمقراطية المتعارف عليها‪ -6 .‬أنها تلتزم‬
‫بكافة المواثيق و المعاهدات و التفاقات القليمية و الدولية التى وقعتها الحكومات المصرية‬
‫متعاقبة" التاريخ السري ص ‪50‬‬
‫هذه النقاط ستشكل فعل ـ لو حدث ذلك طبعا ـ خطوة أساسية أولى تفتح البواب نحو التغيير في‬
‫أنماط الفكر السائد و القائم على الهيمنة و رفض الخر ‪ ،‬إذ ليس هناك من هو في حاجة إلى‬
‫الحرية كما هم "أي السلميون" في حاجة لحرية التعبير ‪ ،‬لكن المشكلة مرة أخرى هو في سيادة‬
‫المنهج السلمي التقليدي المتطرف و الذي يعتبر الحرب و المواجهة أساسا و السلم و التفاهم‬
‫استثناءا ‪ ،‬و اعتناق سيد قطب للمذهب الوهابي هو الذي رسخ عقيدة التكفير و الكراهية لدى‬
‫السلميين و جعلهم في حرب دائمة ضد التغيير و ضد الداخل و الخارج ‪ ،‬كما أن إعدام سيد‬
‫قطب من قِبل نظام عبد الناصر ‪ ،‬جعله شهيدا في أعين أنصاره من الرهابيين و المتطرفين ‪ ،‬و‬
‫لو لم يُعدم لمات كأي مجنون أو معتوه متطرف‪.‬‬
‫يقول المفكر مختار قاسم و هو أحد المشاركين في منتدى (السلم و الصلح ‪: )2005‬‬
‫" وحتى هذه اللحظة لم يُعلن الخوان صراحة‪ ،‬ما إذا كانت فتوى مفتي الجماعة قد ُنسِخَت أو‬
‫حتى نُ ّقحَت أم مازالت سارية المفعول‪ ،‬علوة أن الحجج التي يذكرها أنصار التيار الديني‬
‫السياسي من واقع النصوص‪ .‬تتجاهل حقيقة أن البشر هم الذين يطبقون النصوص ويفسرونها‬
‫حسب مقتضيات الحوال وأن مكتب الرشاد (أعلى سلطة في الجماعة) لم يعتمد هذه الرؤى‬
‫المتقدمة كموقف استراتيجي للجماعة‪ ،‬فهناك نصوص مغايرة يقول بها بعض مناظريهم وتثير‬
‫البلبلة حول وجهات نظرهم الحقيقية مع السلم‪ ،‬فل نعتقد أن أحداً لديه مشكلة وإنمًا المشكلة مع‬
‫بعض اجتهادات وقناعات ممثلي الحل السلمي‪ .‬فالشكالية كيف نؤصل حقوق القباط على‬
‫أرضية المواطنة تاريخياً وقانونياً؟ إن هذه عملية معقدة تحتاج إلى مبادرات خلقة من كل‬
‫الطراف‪ .‬وإعادة هندسة البنية التشريعية والقانونية لتخليق انتخابات سياسية تجعل القتراع العام‬
‫على أسس الكفاءة والموهبة والبرامج‪ .‬وساعتها يمكن أن يعزز العمل السياسي والمدني قيادات‬
‫جديدة بعيدة عن سيطرة المؤسسات الدينية ورجال الكهنوت‪ .‬أما النكتة التي أضحكتنا فهي أن‬
‫السيد محمود غزلن ربما ل يدري أن المسيحية تحرم شرب الخمر وأكل الخنزير‪ ،‬وعلى هذا‬
‫فإن تنازلته بالنسبة للقباط في هذا المجال ستذهب أدراج الرياح‪ .‬على محمود غزلن أن يقرأ‬
‫ل في العهد القديم‪ .‬إذا أراد أن يتحدث عن حقوق المسيحيين‪ ،‬أو يجيب عن المعضلة التي‬ ‫قلي ً‬
‫تتناقض مع رؤيته المستنيرة‪ .‬لماذا لم يرشح الخوان عدد من القباط على قوائمهم في انتخابات‬
‫‪2005‬؟ أو يدعموا عدد من الشخصيات القبطية البارزة كمنى مكرم عبيد أو منير فخري عبد‬
‫النور؟ مجرد سؤال نطرحه قبل انتخابات ‪ 2010‬أو ربما قبلها بكثير"‪ .‬ص ‪ 97‬و ‪98‬‬
‫إن تعامل السلميين مع القليات غير السلمية ل زال ينمّ عن "تسامح مصطنع" أو بعبارة‬
‫أوضح يبدو لنا أن هذا التسامح "و هو لحدّ الن تسامح إعلمي فقط" يُقدّم و كأنه هبة أو منّة‬
‫يمنّها المسلمون على الخرين ‪ ،‬كما أن صيغة المطالبة بـ"حاكم مسلم"!! هو أحد أخطر مظاهر‬
‫الفاشية السلمية ‪ ،‬و مؤخرا في العراق و عندما عبر المرجع الشيعي العلى السيد السيستاني‬
‫عن قبوله برئيس "مسيحي" للعراق ‪ ،‬خرجت تظاهرات سنية مطالبة بإدراج "أن الحاكم يجب أن‬
‫يكون مسلما"‪.‬‬
‫لربما لم يكن من الغريب ‪ ،‬قبل خمسة قرون من الن ‪ ،‬أن تدفع أقلية أو مجموعة دينية أو عرقية‬
‫جزية أو ضريبة للدولة أو السلطة ‪ ،‬لكن في عصر لم يعد فيه أحد يستطيع العيش منعزل دون‬
‫التعامل مع الغير و خلق مساواة حقيقية بين المواطنين لتطوير مفهوم الدولة و أن مسألة الجنة و‬
‫النار و يوم الحساب هي من حق ال وحده و ليس لحد أن يجعل من نفسه وكيل ل ‪ ،‬ل بد من‬
‫تغيير هذه العقلية ‪ ،‬فمن جهة يُصرّ السلميون على ما يُسمّى بالحكم السلمي بحجة "أن‬
‫المسلمين أكثرية" دون اللتفات إلى أن المسلمين هم أقلية في العالم ‪ ،‬فالكاثوليك وحدهم يعادلون‬
‫العالم السلمي ‪ ،‬هذا فضل عن البروتستانت و الرثودوكس و الديان الخري كالبوذيين و‬
‫الهندوس و اليهود ‪ ،‬بالضافة إلى الل دينيين و الملحدين‪.‬‬
‫السلميون في العراق‬
‫يشكل العراق أحد أهم دول المنطقة الشرق أوسطية ‪ ،‬من هنا فطنت الوليات المتحدة إلى أهمية‬
‫بدأ التغيير في المنطقة من خلل العراق ‪ ،‬و مشكلة عراق ما بعد صدام تكمن في هيمنة تيارين‬
‫إسلميين متعاديين "الشيعي ـ السني" و ظهور معادلة أخرى في الساحة العراقية ‪ ،‬و أعتقد أن‬
‫الساحة الكردية أيضا ستشهد انحسارا للتيار العلماني ـ أو الذي يدّعي العلمانية ـ و طغيان‬
‫التطرف السلمي بسبب إخفاق العلمانية و اللبرالية في تحقيق رفاهية للمواطنين ‪ ،‬كما أن كلّ‬
‫التجارب الستبدادية الفاشية الطائفية قامت تحت شعار "العلمانية" أو المفهوم الوطني للدولة‬
‫العراقية و هذا ما شوّه كلمة "علمانية" في العقل العراقي و جعله يُنظر بعين الرّيبة و الشّك إلى‬
‫ل من يدعوا إلى فصل الدّين عن النظام السّياسي‪.‬‬ ‫كّ‬
‫من هنا كان ردّ الفعل الشعبي باتجاه احتضان السلميين "الشيعة منهم خصوصا" ‪ ،‬لكنني أعتقد‬
‫أن التيار السلمي الشيعي "حزب الدعوة السلمية" تحديدا ‪ ،‬قد خطى خطوات جبارة باتجاه‬
‫الديمقراطية في العراق ‪ ،‬صحيح أن هذا التيار السلمي الشيعي يحوي متطرفين ‪ ،‬لكن الخط‬
‫العام منسجم مع مفاهيم الدولة الديمقراطية "النتخاب" ‪" ،‬حرية العقيدة و التعبير" ‪" ،‬حرية‬
‫التظاهر السلمي" و أيضا "حرية التجارة" ‪ ،‬كما أن اعتراف "المجلس العلى للثورة السلمية‬
‫في العراق" الّذي تحول إلى "المجلس العلى السلمي العراقي" بتداول السّلطة سلميا و عبر‬
‫الدّيمقراطية و حذف كلمة "ثورة" من شعار الحزب و اتّخاذه المرجعية النجفيّة العراقيّة كقدوة ‪،‬‬
‫كل هذا كان خطوات جيّدة بالرغم أنّي كنت أُفضّل لو كان تمّ تغيير في قمّة الهرم للمجلس أسوة‬
‫بحزب الدّعوة الّذي انتخب نوري المالكي أمينا عاما للحزب خلفا لبراهيم الجعفري ترسيخا‬
‫للديمقراطية ‪ ،‬بينما التيار السلمي السني "العربي و الكردي" يعتبر الديمقراطية نوعا من الكفر‬
‫و الخروج عن السلم ‪ ،‬باستثناء تحول طفيف في الحزب السلمي العراقي باتجاه المنظومة‬
‫الديمقراطية‪.‬‬
‫المشكلة التي يعيشها العراق الن هو كيف نفض الشتباك الديني و القومي ‪ ،‬فالصراع ليس‬
‫حصرا بين سنة و شيعة كما يظن كثيرون ‪ ،‬فحتى الصراع القومي في العراق يرتدي زيّا دينيا و‬
‫يسخّر "الدين" لصالح العصابات القومية و المليشيات العنصرية التي تريد "استعادة"!! مناطق‬
‫محتلة من قبل قومية أخرى كانت نظريتها العنصرية تحكم العراق ذات يوم ‪ ،‬لقد أخطأ المجتمع‬
‫الدولي خطأ كبيرا حينما منع "شيعة العراق" من تشكيل حكومة ـ فهم الغلبية و الغلبية هي التي‬
‫تحكم مع مراعاة حقوق القليات ـ لكن عندما حُشر الخرون حشرا في الحكومة تحت شعار‬
‫"حكومة الوحدة الوطنية" ‪ ،‬شاع مفهوم خاطيء لدى الطراف السياسية ‪ ،‬و هو أن العراق‬
‫"كعكة" يجب أن يقتسمها الجميع ‪ ،‬و كان هذا نقطة لصالح القاعدة و حركات الرهاب الخرى ‪،‬‬
‫إذ أوجد هذا شرخا كبيرا في كيان الدولة العراقية و كأن الشيعة "مشكوك في ولئهم الوطني"!!‬
‫حسب المفهوم الجديد السائد‪.‬‬
‫تتسم الحركات السلمية الشيعية بميولها الوطنية ‪ ،‬لكنها تتفاوت في ذلك بسبب قوّة الحِس الدّيني‬
‫(و قد أشارت السيدة ‪ Phebe Marr‬إلى هذه النقطة عبر تقرير خاص أصدرته لصالح معهد‬
‫السلم المريكي و التقرير متوفر على الموقع ‪ ، ) www.usip.org‬فحزب الدعوة السلمية‬
‫معروف عنه أنه أكثر تركيزا على الجانب الوطني "النتماء إلى العراق" من سائر الحركات‬
‫كـ"المجلس العلى" و "التيار الصدري" ‪ ،‬بالرغم من وجود بقايا لفكار الماضي الممية و‬
‫رغم أن حزب الدعوة خطى خطوات مهمة في النسجام مع آليات الديمقراطية في عراق ما بعد‬
‫الطاحة بصدام ‪ ،‬لكن هذا الحزب يحتاج إلى المزيد من التطوير و أعتقد أن هذا ما سيحدث‬
‫تراكميا عبر الممارسة السياسية‪.‬‬
‫و ما يُهمني هنا الن هو مراجعة سريعة لطروحات الصدر الول ‪ ،‬و أنا لن أنطلق في النقد إل‬
‫و أنا أعلم اليقين أن السيد الشهيد الصدر الول لو كان حيا لرحب بكل نقد ‪ ،‬إنطلقا من فهم الخط‬
‫الشيعي العام لمسألة تطوير الفكار كنوع من ممارسة الجتهاد العقلي و حرصا منّي على أن أُفيد‬
‫الخوة في "حزب الدعوة السلمية" باتجاه تنشيط الممارسة الديمقراطية في داخله و دفعا لسيادة‬
‫"التقليد" و الجمود ‪ ،‬و نحن نعلم أن العلمة الحلّي " الحسن بن يوسف المطهر (ت ‪ 726‬قام بنقد‬
‫أفكار و اجتهادات العلمة نصير الدين الطوسي رغم عظمته الفقهية لكي ل يسود "التقليد" و‬
‫بفضل عمله هذا استمرت ظاهرة الجتهاد في الوسط الشيعي ‪ ،‬في حين توقف السنيون في إعمال‬
‫عقولهم و فضّلوا التقليد ‪ ،‬ففي كتابه القيّم "فلسفتنا" يطرح الصدر نقدا سريعا للرأسمالية‬
‫الغربية ‪ ،‬بينما كان نقده يكاد يكون مفصّل للنظامين "الشتراكي" و "الشيوعي" ‪ ،‬و هي إشارة‬
‫واضحة إلى أن سلبيات "النظم الغربية الديمقراطية الرأسمالية" ل تكاد تُقارن بالنظم "الشتراكية‬
‫الشيوعية الدكتاتورية" ‪ ،‬و انحصر نقد الصدر الول للحضارة الغربية في جزئية هي "دور‬
‫الدين في الدولة"!! ‪ ،‬لكن يبدو لي أنه هو نفسه ـ أي الصدر الول ـ لم يكن مقتنعا بنقده للغرب‪.‬‬
‫يقول محمد باقر الصدر في كتابه "فلسفتنا" عن النظام الرأسمالي الديمقراطي ‪:‬‬
‫" هذا النظام الذي أطاح بلون من‬
‫الظلم ف الياة القتصادية‪ ,‬وبالكم الدكتاتوري ف الياة السياسية‪ .‬وبمود الكنيسة وما إليها ف الياة‬
‫الفكرية‪ ,‬وهيأ مقاليد الكم والنفوذ لفئة حاكمة‬
‫جديدة حلت مل السابقي‪ ,‬وقامت بنفس دورهم الجتماعي ف أسلوب‬
‫جديد‪.‬‬
‫وقد قامت الديقراطية الرأسالية على اليان بالفرد إيانا ل حد له‪ .‬وبان مصاله الاصة بنفسها تكفل ـ‬
‫بصورة طبيعية ـ مصلحة الجتمع ف متلف‬
‫اليادين" ص ‪.13‬‬
‫فالسيد الصدر ها هنا يكاد يجزم أن النظام الغربي يكاد يكون القرب إلى ذات النسان بفضل‬
‫توفيره للحريات الساسية و التي تكاد تتحرك في إطارها الطبيعي "الفِطري" و الذي يمنع‬
‫احتكار فئة معينة من الناس أن تحتكر ال و الدين و الحقيقة لنفسها ‪ ،‬و أن مفهوم "الظلم" و‬
‫"العدل" يبقى مسألة نسبية ـ ما لم تخرج عن الحد الطبيعي ـ فالعدام لبعض مرتكبي الجرائم‬
‫الكبرى ‪ ،‬هو أمر طبيعي و ل غبار عليه في بعض المجتمعات ‪ ،‬بينما تعتبر مجتمعات أُخرى أن‬
‫العدام عقوبة جديرة باللغاء و أن إلغاء الحياة أفظع من الجريمة المرتكبة ‪ ،‬كما أن المجتمعات‬
‫السلمية نفسها تتفاوت في هذا الشأن ‪ ،‬ففي بعض البلدان نجد أن "الزواج المؤقت" أو "المتعة"‬
‫مقبولة اجتماعيا و تعتبر حل لكثير من المشاكل الخلقية ‪ ،‬بينما نجد مجتمعا إسلميا آخر‬
‫يعتبرها أمرا مشينا و ظالما ‪ ،‬و لست هنا بصدد مناقشة الموضوع من حيث الدلة الفقهية‬
‫الشرعية ‪ ،‬لكننا نناقش الموضوع من حيث نسبية الخلق‪.‬‬
‫و يلخص الصدر أهداف النظام الديمقراطي في حماية الُسس الربعة " السياسية‪,‬‬
‫والقتصادية‪ ,‬والفكرية‪ ,‬والشخصية" فلسفتنا ص ‪. 14‬‬
‫و هي كما ترى من أساسيات أو الثوابت المنطقية و الواقعية التي يقوم عليها أي مجتمع ‪،‬‬
‫فالحرية السياسية تكفل حق العمل السياسي و الحزبي للجميع ‪ ،‬و الحرية القتصادية تمنع أي‬
‫طرف من احتكار السوق و بالتالي تتحكم الحريات الخرى بالسوق من حيث الوضوح و كشف‬
‫الفساد أو جوانب القصور ‪ ،‬بينما تقوم الحرية الفكرية على أساس أن من حق كل الفكار أن‬
‫تتنافس ما لم تلجأ إلى الوسائل غير الفكرية كـ"العنف" أو "الكراه" أو أي نوع من التهديد ‪ ،‬و‬
‫هو المر الذي لم تستطع القيام به أي دولة دينية "إسلمية أو مسيحية أو أي دين آخر" ‪ ،‬من هنا‬
‫كان من الحتمي أن تكون الرأسمالية الديمقراطية ـ رغم عيوبها ـ أفضل نظام عرفه التاريخ‪.‬‬
‫يقول الصدر ـ المصدر السابق ص ‪:14‬‬
‫" فالحرية السياسية ـ يعني في النظام الديمقراطي ـ تجعل لكل فرد كلماً مسموعاً ورأياً‬
‫محترماً في تقرير‬
‫الحياة العامة للمة‪ :‬وضع خططها‪ ,‬ورسم قوانينها‪ ,‬وتعيين السلطات القائمة لحمايتها‪ .‬وذلك‬
‫لن النظام الجتماعي للمة‪ ,‬والجهاز الحاكم فيها‪ ,‬مسألة‬
‫تتصل اتصالً مباشراً بحياة كل فرد من أفرادها‪ ,‬وتؤثر تأثيراً حاسماً في سعادته‬
‫أو شقائه‪ ,‬فمن الطبيعي حينئذ أن يكون لكل فرد حق المشاركة في بناء النظام‬
‫والحكم‪.‬‬
‫وإذا كانت المسألة الجتماعية ـ كما قلنا مسألة حياة أو موت‪ ,‬ومسألة‬
‫سعادة أو شقاء للمواطنين‪ ,‬الذين تسري عليهم القوانين والنظمة العامة‪...‬‬
‫فمن الطبيعي‪ ,‬أيضاً أن ل يباح الضطلع بمسؤوليتها لفرد‪ ,‬أو لمجموعة‬
‫خاصة من الفراد ـ مهما كانت الظروف ـ ما دام لم يوجد الفرد الذي يرتفع في‬
‫نزاهة قصده ورجاحة عقله‪ ,‬على الهواء والخطاء‪.‬‬
‫فل بد إذن من إعلن المساواة التامة في الحقوق السياسية بين المواطنين‬
‫كافة‪ ,‬لنهم يتساوون في تحمل نتائج المسألة الجتماعية‪ ,‬والخضوع لمقتضيات السلطات‬
‫التشريعية والتنفيذية‪ .‬وعلى هذا الساس قام حق التصويت ومبدأ‬
‫النتخاب العام‪ ,‬الذي يضمن انبثاق الجهاز الحاكم ـ بكل سلطاته وشعبه ـ عن‬
‫أكثرية المواطنين‪".‬‬
‫إذا كنا نبحث ها هنا ‪ ،‬كما فعل السيد الصدر ‪ ،‬عن الفرد الذي يرتفع "في نزاهته" فوق‬
‫الهواء و الخطاء ؟!! فإن هذا الشخص أو النوع من الفرد ل يوجد إل في مجتمع "المدينة‬
‫الفاضلة" المثالية التي خلقها أفلطون و الفارابي و أربابهما من الفلسفة الحالمين ‪ ،‬و لكن‬
‫النسان الواقعي يبقى صاحب هوى و شهوة و رغبات ‪ ،‬بل إن السيد الصدر نفسه في كتابه‬
‫ب الذّات" قبل أن يكون الجنس ـ حسب نظرية‬ ‫اقتصادنا يوضح أن مركز حركة التاريخ هو "حُ ّ‬
‫فرويد ـ أو القتصاد ـ حسب كارل ماركس ـ ‪ ،‬بالتالي فإن أفضل ما يمكن للنسان أن يقوم به هنا‬
‫هو إيجاد آليات لتنظيم العلقة بين "الفراد" و إيجاد نوع من الرقابة الجتماعية و الشعبية على‬
‫الفراد المتنفذين في القرار و من هنا نجد أن العلقة بين الحاكم و المحكوم في النظام الديمقراطي‬
‫ل تعدو كونها علقة أخرى بين فردين ‪ ،‬بل إن الفرد المسئول أكثر عرضة للهانة و النقد من‬
‫المواطن العادي ‪ ،‬كون المسئولية تعني إلغاء أي نوع من الحصانة‪.‬‬
‫يقول الصدر "المصدر السابق ص ‪:"15 – 14‬‬
‫" والحرية القتصادية ترتكز على اليمان بالقتصاد الحر‪ ,‬وتقرر فتح جميع البواب‪,‬‬
‫وتهيئة كل الميادين ‪ ...‬أمام المواطن في المجال القتصادي‪ .‬فيباح‬
‫التملك للستهلك وللنتاج معاً‪ ,‬وتباح هذه الملكية النتاجية التي يتكون منها‬
‫رأس المال من غير حد وتقييد‪ ,‬وللجميع على حد سواء‪ .‬فلكل فرد مطلق‬
‫الحرية في إنتاج أي أسلوب وسلوك أي طريق‪ ,‬لكسب الثروة وتضخيمها‪,‬‬
‫ومضاعفاتها‪ ,‬على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية‪.‬‬
‫وفي زعم بعض المدافعين عن هذه الحرية القتصادية أن قوانين القتصاد السياسي‪ ,‬التي‬
‫تجري على أصول عامة بصورة طبيعية‪ ,‬كفيلة بسعادة المجتمع‬
‫وحفظ التوازن القتصادي فيه‪ ...‬وإن المصلحة الشخصية‪ ,‬التي هي الحافز‬
‫القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه‪ ,‬هي خير ضمان للمصلحة الجتماعية‬
‫العامة وإن التنافس الذي يقوم في السوق الحرة‪ ,‬نتيجة لتساوي‬
‫المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية القتصادية‪ ,‬يكفي وحده لتحقيق روح‬
‫العدل والنصاف‪ ,‬في شتى التفاقات والمعاملت‪ .‬فالقوانين الطبيعية للقتصاد‬
‫ل ـ في حفظ المستوى الطبيعي للثمن‪ ,‬بصورة تكاد أن تكون آلية‪,‬‬ ‫تتدخل ـ مث ً‬
‫وذلك أن الثمن إذا ارتفع عن حدوده الطبيعية العادلة‪ ,‬انخفض الطلب‬
‫بحكم القانون الطبيعي الذي يحكم بأن ارتفاع الثمن يؤثر في انخفاض‬
‫الطلب‪ ,‬وانخفاض الطب بدوره يقوم بتخفيض الثمن‪ ,‬تحقيقاً لقانون طبيعي‬
‫آخر‪ ,‬ول يتركه حتى ينخفض به إلى مستواه السابق ويزول الشذوذ بذلك"‪.‬‬
‫نود ها هنا أن نعقّـب على كلم الشهيد الصدر الول بالقول أن هذا النقد النظري يقوم على‬
‫افتراض هو ناتج عن مقارنة خاطئة بين الشيوعية كـ"آيدولوجيا" تدعي و تزعم الكمال المطلق و‬
‫تتعامل مع الواقع و المجتمع بشمولية ل تختلف كثيرا عن النظم الدينية و اليمانية التي تنظر إلى‬
‫المجتمع و علقاته القتصادية و السياسية بفوقية واضحة ‪ ،‬بينما الرأسمالية كنظام ديمقراطي ل‬
‫تدّعي أن القوانين و العلقات الرأسمالية كاملة و ل عيب فيها ‪ ،‬لكن النظام الرأسمالي الغربي‬
‫الذي يرتكز على الحرية و حقوق النسان ‪ ،‬يقوم بإزالة كل ما هو قبيح و شائن في العلقة‬
‫الرأسمالية من خلل حماية المستهلك و الطبقة الفقيرة عبر فرض ضرائب كبيرة على الرساميل‬
‫الضخمة لتتحول إلى نفقات للرعاية الجتماعية و الضمانات المتعددة "كضمان السكن و الصحة‬
‫و توفير مقومات الحياة الساسية" ‪ ،‬فالرأسمالية المتطرفة في الحقيقة ليست موجودة في ما هو‬
‫مطبق في النظمة الديمقراطية ‪ ،‬فكثير من الدول الرأسمالية ‪ ،‬كالمملكة المتحدة البريطانية و‬
‫السويد و النروج و غيرها ‪ ،‬أضافت إلى قوانينها تعديلت عدة لخلق توازن بين حرية التجارة و‬
‫التبادل القتصادي و بين حقوق الفراد و مكونات المجتمع ‪ ،‬مع ملحظة أن الطبقية ـ خصوصا‬
‫في مظاهرها البشعة ـ تكاد أو أنها فعل اختفت في الدول الغربية ‪ ،‬بينما الطبقية موجودة و بشكل‬
‫سافر في النظمة الفوضوية و الشرقية السلمية و الشتراكية‪.‬‬
‫و يضيف الصدر قائل‪:‬‬
‫" والتنافس يقتضي ـ بصورة طبيعية ـ تحديد أثمان البضائع وأجور العمال والمستخدمين‬
‫بشكل عادل‪ ,‬ل ظلم فيه ول إجحاف‪ .‬لن كل بائع أو منتج‬
‫يخشى من رفع أثمان بضائعه‪ ,‬أو تخفيض أجور عماله‪ ,‬بسبب منافسة‬
‫الخرين له من البائعين والمنتجين‪ ".‬المصدر السابق ص ‪.15‬‬
‫إن التنافس القتصادي ل يجري هكذا في الدول الغربية ‪ ،‬إذ ل يكفي أن نطلع على النظريات‬
‫القتصادية المكتوبة و المسطرة في كتب ‪ ،‬و نحكم عليها كما فعل الفلسفة القدماء الذين كانوا‬
‫يستعملون "النظر و الستنتاج العقلي" دون متابعة الفكرة في أجواء تطبيقها على أرض الواقع و‬
‫في ظل المحيط القانوني للتطبيق ‪ ،‬من هنا نجد أن هناك اسنتاجا مختلفا عن أي قضية إذا كانت‬
‫نتيجة عن نظر محض ‪ ،‬بينما تكون نتيجة الستنتاج مختلفة في ظل التجربة و التطبيق الواقعي ‪،‬‬
‫من هنا تختلف الديمقراطية الرأسمالية عن المجتمعات و النظمة الشمولية في كونها تطرح كل‬
‫المواضيع و المشاكل على بساط البحث و النقد و عبر كافة وسائل العلم الحرة ‪ ،‬و مهما قيل‬
‫عن تبعية وسائل العلم هذه لجهات رأسمالية ‪ ،‬يبقى هناك إعلم آخر تابع للدولة و لمصالح‬
‫أخرى منافسة تعطي المجال الفسيح للتعبير‪.‬‬
‫إن الملئمة بين النظام الرأسمالي الديمقراطي القائم على حفظ حقوق الفرد و بين السلم‬
‫كحرية اختيار فردية ‪ ،‬سيشكل التحدي الرئيسي و الواقعي لمستقبل العلقة بين إشكالية الدين و‬
‫الدولة في العالم السلمي و العراق على وجه التحديد ‪ ،‬و من خلل رؤيتنا إلى أن رؤية الصدر ـ‬
‫و هو مؤسس حزب الدعوة ـ للرأسمالية الديمقراطية لم تكن تنم عن مواجهة ‪ ،‬فيما يبدو كونه‬
‫اختلفا جذريا عن الرؤية التي طرحها الخمينيون تجاه الغرب و الوليات المتحدة تحديدا ‪ ،‬و يبدو‬
‫من هنا لماذا استطاع حزب الدعوة أن يُكيّف المصالح العراقية مع مصالح الوليات المتحدة و‬
‫الغرب الذي قاد عملية التغيير‪.‬‬
‫يقول الصدر بعد انتهائه من سرد السس التي قام عليها النظام الرأسمالي الغربي‪:‬‬
‫" هذه هي الديمقراطية الرأسمالية في ركائزها الساسية‪ ,‬التي قامت من‬
‫اجلها جملة من الثورات‪ ,‬وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والمم‪ .‬في ظل‬
‫قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه‪ ,‬يصفون‬
‫الجنة في نعيمها وسعادتها‪ ,‬وما تحفل به من انطلق وهناء وكرامة وثراء‪ .‬وقد أجريت عليها‬
‫بعد ذلك عدة من التعديلت‪ ,‬غير أنها لم تمس جوهرها‬
‫بالصميم‪ ,‬بل بقيت محتفظة بأهم ركائزها وأسسها‪ ".‬فلسفتنا ص ‪.16‬‬
‫إن هذه العبارات و أن بدى من خللها بعض "التحامل" أو عدم الرضا ‪ ،‬إل أنها ل تنم عن‬
‫رفض قطعي و كلي ‪ ،‬بل يُظهر أن السيد الصدر الول يختلف مع المنظومة الغربية الديمقراطية‬
‫الرأسمالية في بعض الموارد ‪ ،‬فالسلم يؤمن بالسوق الحرة و إن فرض عليها بعض القيود‬
‫المانعة للحتكار ‪ ،‬و إن كنت أعتقد أنه ل توجد صيغة أو نظرية متكاملة لما يمكن تسميته‬
‫"إقتصادا إسلمية"؟ فهذا يتوقف على ما يخرج به الباحث من آراء قد يتقبلها البعض و يرفضها‬
‫آخرون ‪ ،‬بل إن المسلمين ـ حالهم حال كل المتدينين ‪ ،‬وجدوا في ظل النظام الديمقراطي‬
‫الرأسمالي حرية و كرامة أكثر من الدول "السلمية" نفسها‪.‬‬
‫ل السلمي" كبحث عن هوية أو إنتماء‬ ‫و لكن يبقى السيد الصدر الول يطرح موضوع "الح ّ‬
‫للمنطقة ‪ ،‬دون أن يُطرح السؤال الهم و هو‪ :‬لماذا يطرح السلميون دينهم كـ"بديل" لكل‬
‫شيء ‪ ،‬و لماذا نجعل "القتصاد السلمي" كندّ و خصم للقتصاد الرأسمالي ‪ ،‬بينما الرأسمالية‬
‫ل تدّعي أو تزعم أنها "رأسمالية مسيحية" أو "يهودية"!! فلماذا لم يقُم السلميون ‪ ،‬من ضمنهم‬
‫السيد الصدر الول ‪ ،‬بخلق ظروف إقتصادية و بنفس النسق و الخطوط العامة لهذه النظرية‬
‫"السلمية" دون صبغها بالصبغة الدينية ‪ ،‬و قد أوقعنا هؤلء الباحثون في إشكال كبير آخر ‪،‬‬
‫فعندما طرح كل المفكرين السلميين محمد باقر الصدر و سيد ُقطُب ـ رغم أني أشكك في أن‬
‫يكون سيد قطب مفكرا ـ نظرية "فشل الحضارة الغربية"! فهم بالتالي لم يضعوا بديل حقيقيا لهذا‬
‫الفشل المفترض ‪ ،‬مما سيعني أخيرا أننا سنرى أهل واشنطن أو لندن ـ و هم مسيحيون يفخرون‬
‫بدينهم و غير مستعدين للتخلي عنه ـ يلجأون إلى الفقهاء و الملية لتسيير حياتهم الجديدة‬
‫"السعيدة"!!‬
‫من الواضح أيضا ‪ ،‬أنه ل يكفي ‪ ،‬لكي نضع أُسس دولة متكاملة ‪ ،‬أن نُـنظـّـر لطروحات‬
‫"إقتصادية" دون أن يكون هناك وضوح في تركيبة العمل العملية السياسية أو آليات تبادل السلطة‬
‫بالطرق السلمية ‪ ،‬الهم ها هنا هو أن أي دولة دينية لن تنجح مهما كان اقتصادها قويا ‪ ،‬طبعا من‬
‫ناحية التنظير فكل نظرية هي قوية إلى أن يُثبت الواقع نجاحها أو فشلها ‪ ،‬من هذا الجانب نجد أن‬
‫هجين الدين ‪ +‬الديمقراطية أو بعبارة أُخرى ما نستطيع تسميته بنظرية "الديمقراطية الدينية" ل‬
‫حظ لها من النجاح ‪ ،‬مثاله الدولة الدينية في إيران ‪ ،‬فالدولة بطبعها ل بُد و أن تنحاز إلى أحد‬
‫الطرفين ‪ ،‬إما الدين أو الديمقراطية ‪ ،‬لن آليات الديمقراطية لن تعمل ما دامت مصبوغة بالدين ‪،‬‬
‫فالدين ل بد أن يبدي الدولة ببعض مظاهره ‪ ،‬كبعض المظاهر المسيحية في الغرب ‪ ،‬لكن ل‬
‫يمكنه أن يطغى على الدولة و مثل الدولة ها هنا مثل "السيارة" التي تحتاج إلى "بعض" الزيت‬
‫لتعمل ‪ ،‬لكن ما أن يتم إغراقها بالزيت حتى تتوقف كليا‪.‬‬
‫من هنا كانت الدولة "العلمانية" هي حلّ وسط بين اختلف الديان و المذاهب و حتى اليمان‬
‫و اللحاد ‪ ،‬فالنظام العلماني المعتدل ـ من أمثلة النظمة العلمانية المعتدلة الوليات المتحدة و‬
‫بريطانيا ـ قادر على استيعاب الجميع و العمل على جلب المنفعة لهم ‪ ،‬بينما نجد النظمة الدينية و‬
‫اليدولوجية الشمولية "أمثلة‪ :‬إيران ‪ ،‬أفغانستان طالبان ‪ ،‬عراق البعث و غيرها" ل تنتج إل‬
‫المزيد من الفرقة و النقسام‪.‬‬
‫يقول السيد الصّدر ‪:‬‬
‫" وكان من جراء هذه المادية التي زخر النظام بروحها أن أقصيت الخلق‬
‫من الحساب‪ ,‬ولم يلحظ لها وجود في ذلك النظام‪ ,‬أو بالحرى تبدلت‬
‫مفاهيمها ومقاييسها‪ ,‬وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى‪ ,‬والحريات‬
‫جميعا كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة‪ .‬فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم‬
‫الحديث من محن وكوارث‪ ,‬ومآسي ومصائب‪.‬‬
‫وقد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية‪ ,‬عن وجهة نظرها في الفرد‬
‫ومصالحه الشخصية قائلين أن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة‬
‫الجتماعية‪ ,‬وأن النتائج التي تحققها الخلق بقيمها الروحية تحقق في المجتمع الديمقراطي‬
‫الرأسمالي‪ ,‬لكن ل عن طريق الخلق بل عن طريق الدوافع‬
‫الخاصة وخدمتها‪ .‬فإن النسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك‬
‫مصلحة شخصية أيضاً‪ ,‬باعتباره جزءاً للمجتمع الذي سعى في سبيله‪ ,‬وحين‬
‫ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضاً‪ ,‬لن حياة الشخص‬
‫سوف تقوم بخدمة للهيئة الجتماعية فيعود عليه نصيب منها‪ ,‬وإذن فالدافع الشخصي والحس‬
‫النفعي يكفيان لتأمين المصالح الجتماعية وضمانها‪ ,‬ما‬
‫دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصة ومنافع فردية" ـ فلسفتنا ص ‪.19‬‬
‫ما يعنيني في هذا النص الذي اقتبسناه ‪ ،‬هو أن السيد الصدر يبقى ‪ ،‬كونه إسلميا ‪ ،‬يبحث‬
‫عن "المثالي" في عالم الواقع ‪ ،‬فالنظام الديمقراطي عبر ترسيخه لمفاهيم "الحرية" على كافة‬
‫المستويات ‪ ،‬يترك الباب مفتوحا في سبيل رقيّ المجتمع روحيا و ماديا ‪ ،‬بعبارة أخرى فإنه ل‬
‫يمكن أن ترتقي الخلق و الروحانيات دون سدّ رغبات النسان و حاجته المادية ‪ ،‬فعندما يقوم‬
‫ل المشاكل المادية و النفسية عبر القضاء على مسبّباتها من طغيان‬ ‫المجتمع ‪ ،‬أي مجتمع ‪ ،‬بحلّ ك ّ‬
‫الحكم أو الغنياء ‪ ،‬عندها ستجد أن الفراد و الجماعات سيبحثون و بملء إرادتهم و حريتهم عن‬
‫الراحة النفسية سواء عبر الدين و طقوسه أو العمل الخيري‪.‬‬
‫ب و أساس كل نتاج إنساني ‪ ،‬الدين ‪ ،‬النظم السياسية و‬ ‫إن الدافع الشخصي و الفردي يشكل لُ ّ‬
‫الجتماعية و الفردية ‪ ،‬و بالمقابل ‪ ،‬فحينما انتقد السيد الصدر هيمنة فكرة إلغاء الفرد في سبيل‬
‫الجماعة ـ كما هو معروف في الفلسفة الماركسية و الشتراكية الشعبية ‪ ،‬إل أنه عاد لينتقد جعل‬
‫"الفرد" كغاية لكل النظام الرأسمالي الديمقراطي ‪ ،‬إذ يبقى الشكال هو ‪" :‬هل من حل وسط"؟! و‬
‫ل وسط ‪ ،‬فقد رأينا‬‫الجواب الواضح ‪ ،‬الظاهر لحدّ الن من كل التجارب السياسية ‪ ،‬أنه ل ح ّ‬
‫بشاعة النظم الشمولية كـ"نظام البعث" ‪" ،‬الشيوعية في التحاد السوفيتي" ‪" ،‬نظاما إيران و‬
‫طالبان أفغانستان" ‪ ،‬بينما تتوفر الحرية التامة في كل النظمة الديمقراطية الرأسمالية ‪ ،‬طبعا‬
‫باستثناء بعض القوانين الجديدة التي حدّت ‪ ،‬كحدّ أدنى ‪ ،‬من بعض الحريات بعد ظهور النزعة‬
‫النتحارية في السلم السياسي ‪ ،‬خصوصا بعد أحداث ‪ 11‬سبتمبر أيلول‪.‬‬
‫إن كل نظام سياسي ‪ ،‬بما فيه الديمقراطي الرأسمالي ‪ ،‬ل يخلو من عيوب و مفاسد و ضُعف‬
‫إدارة أحيانا ‪ ،‬و كما قال رئيس وزراء بريطانيا السيد تشرشل‪ :‬الديمقراطية هي أفضل أسوأ النظم‬
‫السياسية ‪ ."..‬و هذا يعني أن هذه ال ُنظُم حالها حال صانعها النسان ‪ ،‬مليئة بالعيوب و النواقص ‪،‬‬
‫و لكنها تتطور عبر التاريخ نحو الفضل و الحسن‪.‬‬
‫يحاول السيد الصدر بعدها أن يحلّل "نظريا" ليخرج لنا باستنتاج يُظهر عيبا ـ ربما يبدو في‬
‫نظره أساسيا في صميم النظام الديمقراطي الرأسمالي حيث يقول‪:‬‬
‫" فأول تلك الحلقات‪ :‬تحكم الكثرية في القلية ومصالحها ومسائلها‬
‫الحيوية‪ .‬فإن الحرية السياسية كانت تعني أن وضع النظام والقوانين وتمشيتها‬
‫من حق الكثرية‪ ,‬ولنتصور أن الفئة التي تمثل الكثرية في المة ملكت زمام‬
‫الحكم والتشريع‪ ,‬وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية‪ ,‬وهي عقلية‬
‫مادية خالصة في اتجاهها‪ ,‬ونزعاتها وأهدافها وأهوائها فماذا يكون مصير الفئة الخرى؟ أو‬
‫ماذا ترتقب للقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب‬
‫الكثرية ولحفظ مصالحها؟!‪ ,‬وهل يكون من الغريب حينئذ إذا شرعت‬
‫الكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصة‪ ,‬وأهملت مصالح القلية واتجهت‬
‫الى تحقيق رغباتها اتجاها مجحفا بحقوق الخرين؟ فمن الذي يحفظ لهذه القلية‬
‫كيانها الحيوي ويذب عن وجهها الظلم‪ ,‬ما دامت المصلحة الشخصية هي‬
‫مسألة كل فرد وما دامت الكثرية ل تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوماً في عقليتها‬
‫الجتماعية ؟؟ وبطبيعة الحال‪ ,‬إن التحكم سوف يبقى في ظل النظام‬
‫كما كان في السابق وأن مظاهر الستغلل والستهتار بحقوق الخرين ومصالحهم‪ ...‬ستحفظ‬
‫في الجو الجتماعي لهذا النظام كحالها في الجواء الجتماعية القديمة‪ .‬وغاية ما في الموضوع‬
‫من فرق‪ :‬ان الستهتار بالكرامة‬
‫النسانية كان من قبل أفراد بأمة‪ ,‬وأصبح في هذا النظام من الفئات التي‬
‫تمثل الكثريات بالنسبة إلى القليات‪ ,‬التي تشكل بمجموعها عدداً هائلً من‬
‫البشر‪ ".‬فلسفتنا ص ‪.21 – 20‬‬
‫و نحن ها هنا سنحاول أن نخرج بنقد موضوعي لهذا الرأي ‪ ،‬و أجزم بأن السيد الصدر لو‬
‫كان حاضرا بيننا الن و قرأ هذا النقد المتواضع لفكاره لرحب به و برحابة صدر ‪ ،‬فغاية كل‬
‫فكرة هي أن تخلق أفكارا أُخرى‪.‬‬
‫لو تابعنا تطبيقات النظمة الديمقراطية و أكثرها قائم على أساس أن الغلبية هي التي تحكم ‪،‬‬
‫إل أن هذا ل يعني قط أن القلية تبتلع من قبل الكثرية ‪ ،‬سواء كانت هذه القليات دينية أو عرقية‬
‫‪ ،‬إل أن حقوق القليات تبقى مثبّتة في دساتير هذه الدول و خصوصا أن حقوق القليات تصبح‬
‫جزءا من حقوق الشعب بكل أفراده ‪ ،‬فقد انتقل بنا السيد الصدر من نقد مفهوم "الفرد" إلى مفهوم‬
‫آخر كان عليه أن يُفرِد له بابا أو فصل خاصا مستقل به و هو موضوع الكثرية و القلية‪.‬‬
‫و الجانب الخر المهم الذي يظهر بوضوح في كل النظمة الديمقراطية الرأسمالية و التي‬
‫هي الن من أقوى أنظمة العالم و في كافة المجالت ‪ ،‬أن كل النظمة السياسيّة غير‬
‫الديمقراطية ‪ ،‬تعيش مشكلة الكثرية و القلية ‪ ،‬و حتى التحاد السوفيتي تفتت بسبب شعور‬
‫القليات القومية بالظلم و الضظهاد ‪ ،‬بينما دولة ديمقراطية متعددة القوميات كـ"سويسرا"‬
‫راسخة على الرض منذ ‪ 500‬عام ‪ ،‬عموما فإن النظام الديمقراطي و لنه يُلغي كل الفوارق‬
‫الطبقية و الدينية و القومية فهو يُلغي الشعور بالضطهاد و بأكثر الوسائل سلميّة ‪ ،‬فمثل لو نظرنا‬
‫إلى مشكلة التفرقة العنصرية التي كانت موجودة في الوليات المتحدة إلى نهاية الستّينيّات ‪ ،‬لو‬
‫كنت هذه المشكلة موجودة في أي دولة أخرى لكانت كفيلة بإنهيارها و تقسيمها‪.‬‬
‫و من المهم هنا أيضا أن نوضح نقطة مهمة ‪ ،‬ل توجد هناك و في كل العالم نظام ديمقراطي‬
‫قومي أو ديني ‪ ،‬و عندما يدخل الشعور الديني أو القومي في صلب أي نظام فإنه يبدأ بتفكيكه ‪،‬‬
‫مثاله "يوغسلفيا التحادية سابقا" ‪" ،‬الدولة اللبنانية" ‪ ،‬و الهم هنا هو المثال العراقي الذي امتل‬
‫دستوره بالمشاعر الدينية و القومية ‪ ،‬و لهذا السبب تجد العراق و هو الذي خرج من أبشع نظام‬
‫عرفه التاريخ ‪ ،‬أنه غير مستقر و منظم بسبب صراع الهويات‪.‬‬
‫ل حكومة منتخبة ديمقراطيا ‪ ،‬و هذا‬ ‫و السيد الصدر في عباراته هذه يبدو و كأنه يجعل من ك ّ‬
‫يتم كُلّ أربعة سنوات أو خمسة ‪ ،‬و كأنها ستأتي بدستور جديد ‪ ،‬مع أن دساتير هذه الدول‬
‫الديمقراطية كـ"الدستور المريكي الذي يزيد عمره عن مائتي عام" ل يتغير إل قليل جدا و بعد‬
‫أن يطلع عليها أغلبية الشعب و تحصل على موافقة في استفتاء عام ‪ ،‬ملحظة أخرى مهمة ‪ :‬هي‬
‫أن المعسكر الديمقراطي قد رسم لنفسه خطوطا عامة من خلل قرارات الُمم المتحدة و منظمات‬
‫حقوق النسان ‪ ،‬بالتالي فمهما تغيّرت هذه الدساتير فمن الممنوع عليها خرق حقوق الفراد أو‬
‫الحريات و القليات و يبدو لي أن السيد الصدر و هو يصف لنا مساويء النظام الرأسمالي‬
‫الديمقراطي و كأنه يعني بدايات ظهور هذا النظام في القرون ‪ 17‬و ‪ 18‬و ‪ 19‬و ليس ما تمخض‬
‫عنه العالم بعد الحرب العالمية الثانية ‪ ،‬و مقصدُنا هذا يتجلّى في استطراده التالي‪:‬‬
‫"وليت المر وقف عند هذا الحد‪ ,‬إذاً لكانت المأساة هينة‪ ,‬ولكان المسرح يحتفل بالضحكات‬
‫أكثر مما يعرض من دموع‪ ,‬بل أن المر تفاقم واشتد حين‬
‫برزت المسألة القتصادية من هذا النظام بعد ذلك‪ ,‬فقررت الحرية القتصادية‬
‫على هذا النحو الذي عرضناه سابقاً‪ ,‬وأجازت مختلف أساليب الثراء وألوانه‬
‫مهما كان فاحشاً‪ ,‬ومهما كان شاذاً في طريقته وأسبابه‪ ,‬وضمنت تحقيق ما‬
‫أعلنت عنه‪ .‬في الوقت الذي كان العالم يحتفل بانقلب صناعي كبير‪ ,‬والعلم يتمحض عن ولدة‬
‫اللة التي قلبت وجه الصناعة وكسحت الصناعات اليدوية ونحوها" فلسفتنا ـ ص ‪.21‬‬
‫فطبيعي أن يكون النظام الرأسمالي قبيحا و سيئا ‪ ،‬و هذا الوصف أطلقه الشيوعيون بشكل‬
‫أكثر تطرفا ‪ ،‬و لكن الرأسمالية التي نتحدث عنها هنا تتحرك في ظل الديمقراطية و حقوق‬
‫النسان ‪ ،‬و فعل ‪ ،‬فإن الرأسمالية "القبيحة" تمّ تجميلها بفعل الديمقراطية و حقوق النسان و‬
‫حماية المستهلك من استغلل غير أخلقي ‪ ،‬و كم من مواطنين في هذه الدول حصلوا على مليين‬
‫الدولرات على سبيل التعويض من قِبل شركات أنتجت بضاعة كان فيها نوع من الضرر للفرد‬
‫أو المجتمع‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫"‪ ,‬فانكشف الميدان عن ثراء فاحش من جانب القلية من أفراد المة‪,‬‬
‫ممن أتاحت لهم الفرص وسائل النتاج الحديث وزودتهم الحريات الرأسمالية‬
‫غير المحدودة بضمانات كافية لستثمارها واستغللها إلى أبعد حد‪ ,‬والقضاء بها‬
‫على كثير من فئات المة التي اكتسحت اللة البخارية صناعتها‪ ,‬وزعزعت‬
‫حياتها‪ ,‬ولم تجد سبيلً للصمود في وجه التيار‪ ,‬ما دام أرباب الصناعات‬
‫الحديثة مسلحين بالحرية القتصادية وبحقوق الحريات المقدسة كلها‪ ,‬وهكذا‬
‫خل الميدان إل من تلك الصفوة من أرباب الصناعة والنتاج‪ ,‬وتضاءلت الفئة الوسطى واقتربت‬
‫إلى المستوى العام المنخفض‪ ,‬وصارت هذه الكثرية المحطمة‬
‫تحت رحمة تلك الصفوة‪ ,‬التي ل تفكر ول تحسب إل على الطريقة الديمقراطية الرأسمالية‪.‬‬
‫ومن الطبيعي حينئذ ان ل تمد يد العطف والمعونة إلى هؤلء‪,‬‬
‫لتنشلهم من الهوة وتشركهم في مغانمها الضخمة‪ .‬ولماذا تفعل ذلك؟! ما دام‬
‫المقياس الخلقي هو المنفعة واللذة‪ ,‬وما دامت الدولة تضمن لها مطلق الحرية‬
‫فيما تعمل‪ ,‬وما دام النظام الديمقراطي الرأسمالي يضيق بالفلسفة المعنوية‬
‫للحياة ومفاهيمها الخاصة؟!" فلسفتنا ص ‪.21‬‬
‫مقارنة بسيطة بين حقوق الطبقة العمالية و المهن البسيطة و بين الطبقة العمالية في ظل‬
‫الديمقراطية الرأسمالية ‪ ،‬تُظهر بما ل يقبل أدنى شك ‪ ،‬الفارق الشاسع و الكبير بين الحالتين ‪،‬‬
‫فالضمانات الجتماعية و الصحية و دور الرعاية في بلدان أمريكا ‪ ،‬اليابان ‪ ،‬بريطانيا ‪ ،‬الدول‬
‫السكندنافية ‪ ،‬تظهر أنه لم يعد المنتمون إلى الطبقة الوسطى و الفقيرة "إن كان يجوز أن نسميها‬
‫بالفقيرة" لم تعُد تأبه بالغنياء و درجة غناهم ما دام النظام العام يكفل لهم حياة مضمونة ‪ ،‬و إل‬
‫فلماذا تتجه كل أو أكثر خطوط اللجوء نحو هذه البلدان ؟! أليس ذلك عائدا للمستوى المعيشي‬
‫الممتاز الذي يحصل عليه مواطنوا تلك الدول‪.‬‬
‫فمن جهة ينتقد السيد الصدر تلك القلية التي تتحكم و "تسيّر" القتصاد ‪ ،‬و قبلها بقليل كان‬
‫ينتقد "تحكّم" الكثرية بالقلية ‪ ،‬و هذا تناقض كما أظن ‪ ،‬إذ يبقى أكثرية الشعب قادرين على‬
‫تسليم مقاليد الحكم إلى من يمثل مصالحهم ‪ ،‬و من المهم هنا ملحظة أن الساسية التي قام عليها‬
‫المجتمع الغربي "المصلحة" أو "المنفعة" التي انتقدها الصدر ‪ ،‬هي إحدى أهم ركائز الفقه و‬
‫الدين السلمي و معروفة تلك القاعدة الفقهية التي اتفق عليها أرباب جميع المذاهب و القائلة‪ :‬أن‬
‫هدف الشريعة الساسي هو جلب المنفعة و درء المفسدة"!! مع ملحظة أن هذه العبارة استغِلّت‬
‫من قبل فقهاء السلطان بشكل بشع‪.‬‬
‫من جُملة تلك النتقادات التي وجهها السيد الصدر هو تحكم القلية "الرأسمالية" بسياسية‬
‫الدولة لتمكّنها ماديا ‪ ،‬و يبدو لي أنه استعار هذه النتقادات من جملة النقاط التي وجهها "كارل‬
‫ماركس" و "إنجلز" إلى النظام الرأسمالي الغربي ‪ ،‬يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" وهنا يتبلور الحق السياسي للمة من جديد بشكل آخر‪ .‬فالمساواة في‬
‫الحقوق السياسية بين أفراد المواطنين‪ ,‬وإن لم تمح من سجل النظام‪ ,‬غير أنها‬
‫لم تعد بعد هذه الزعازع إل خيا ًل وتفكيراً خالصاً‪ .‬فإن الحرية القتصادية‬
‫حين تسجل ما عرضناه من نتائج‪ ,‬تنتهي إلى النقسام الفظيع الذي مر في‬
‫العرض‪ ,‬وتكون هي المسيطرة على المواقف والماسكة بالزمام‪ ,‬وتقهر الحرية السياسية‬
‫أمامها‪ .‬فإن الفئة الرأسمالية بحكم مركزها القتصادي من المجتمع‪,‬‬
‫وقدرتها على استعمال جميع وسائل الدعاية‪ ,‬وتمكنها من شراء النصار‬
‫والعوان ‪ ...‬تهيمن على تقاليد الحكم في المة‪ ,‬وتتسلم السلطة لتسخيرها في مصالحها‬
‫والسهر على مآربها‪ ,‬ويصبح التشريع والنظام الجتماعي خاضعاً‬
‫لسيطرة رأس المال‪ ,‬بعد أن كان المفروض في المفاهيم الديمقراطية أنه من حق‬
‫المة جمعاء‪ .‬وهكذا تعود الديمقراطية الرأسمالية في نهاية المطاف حكماً تستاثر‬
‫به القلية‪ ,‬وسلطان ًا يحمي به عدة من الفراد كيانهم على حساب الخرين‪,‬‬
‫بالعقلية النفعية التي يستوحونها من الثقافة الديمقراطية الرأسمالية" فلسفتنا ص ‪.22‬‬
‫و الواقع الغربي يعكس صورة مختلفة لتصورات كانت نتاج تفكير محض غير متّصل‬
‫بالواقع التجريبي ‪ ،‬فالتحاد الوروبي و أمريكا هي دول أو تكتلت أكثر تماسكا من تلك التي‬
‫تسيّر نفسها بنظم أُخرى ‪ ،‬كما أننا لم نسمع حتى الن أن تجمعات سياسية لها وزنها كانت‬
‫تعارض هذه النظمة الديمقراطية الرأسمالية من خارج أراضيها ‪ ،‬بمعنى أن أكبر دليل على أن‬
‫هذه النظمة منبثقة عن شعوبها هو أنها استوعبت كل أنواع المعارضة ‪ ،‬ما دامت تعتمد على‬
‫الرأي و النقاش الحر ‪ ،‬مما يعني أن توقعاتنا عن إنهيار أو "إضمحلل" الحضارة الغربية‬
‫متجسدة في الديمقراطية الرأسمالية ليست بصحيحة ‪ ،‬كما أن تحول الغرب إلى كونه الطرف‬
‫القوى حضاريا لم يكن نتاج صدفة أو شأن إعتباطيا ‪ ،‬بل تنظيما عقلنيا حياديا "علمانيا ‪+‬‬
‫إنسانيا" للحياة و الواقع‪.‬‬
‫كما أن فكرة رفض القتداء بالخر "الغرب = المسيحي ‪ +‬اليهودي" جعلت من الفكر‬
‫السلمي يدور حول الذات أو النا المغلقة التي تريد إبداع جديد مقابل الخر و تفرض قيمومتها‬
‫على الخر ‪ ،‬يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" حينمــــا أخــــذ العالم الســــلمي ينفتــــح على حياة النســــان الوروبــــي ويذعــــن‬
‫لمامتـــــه الفكريـــــة وقيادتـــــه لموكـــــب الحضارة بدلً عـــــن إيمانـــــه برســـــالته الصـــــيلة‬
‫وقيمومتهــــــا على الحياة البشريــــــة بدأ يدرك دوره فــــــي الحياة ضمــــــن إطار التقســــــيم‬
‫التقاليدي لبلد العالم الذي درج عليـــــــه النســـــــان الوروبــــــي حيـــــــن قســــــم العالم على‬
‫أســــاس المســــتوي القتصــــادي للبلد وقدرتــــه المنتجــــة إلى بلد راقيــــة اقتصــــادياً وبلد‬
‫فقيرة أو متخلفــــة اقتصــــادياً وكانــــت بلد العالم الســــلمي كلهــــا مــــن القســــم الثانــــي‬
‫الذي كان يجـــــب عليـــــه فـــــي منطـــــق النســــــان الوروبـــــي أن يعترف بإمامــــــة البلد‬
‫الراقية ويفسح المجال لها لكي تنفث روحها فيه وتخطط له طريق الرتفاع‪.‬‬
‫وهكذا دشـــــن العالم الســـــلمي حياتـــــه مـــــع الحضارة الغريـــــب بوصـــــفه مجموعـــــة‬
‫مــــــن البلد الفقيرة اقتصــــــادياً ووعــــــى مشكلتــــــه على أســــــاس أنهــــــا هــــــي التخلف‬
‫القتصــــــادي عــــــن مســــــتوي البلد المتقدمــــــة الذي أتاح لهــــــا تقدمهــــــا القتصــــــادي‬
‫زعامة العالم ولقنته تلك البلد المقتدمة أن السلوب الوحيد للتغلب على هذه المشكلة واللتحاق‬
‫بركـــــــــــــب البلد المتقدمـــــــــــــة هـــــــــــــو اتخاذ حياة النســـــــــــــان الوروبـــــــــــــي‬
‫تجربــــــة رائدة وقائدة وترســــــّم خطوات هذه التجربــــــة لبناء اقتصــــــاد كامــــــل شامــــــل‬
‫قادر على الرتفاع بالبلد الســــــــلمية المتخلفــــــــة إلى مســــــــتوي الشعوب الوروبيــــــــة‬
‫الحديثة" إقتصادنا ص ‪.4 – 3‬‬
‫إن مسألة كون الشرق السلمي "متخلّـفا" ل يقتصر على الجانب القتصادي و النتاجي ‪ ،‬بل‬
‫تتعدى القتصــاد نحــو الهــم و هــو التخلف القيمــي و الخلقــي الثقافــي ‪ ،‬و للســف فإن مجرد‬
‫استخدامنا كشرقيين لكلمة "أخلق" تجعل العقل الواعي و الل واعي تفسرها و تختزلها من كلمة‬
‫شاملة إلى شأن جنسـي بحـت ‪ ،‬كمـا أن النظـم المذهبيـة و الفقهيـة هـي التـي خلقـت الحاكـم المسـتبد ‪،‬‬
‫كما أن الحاكم المستبد بدوره خلق فقهاء البلط ‪ ،‬و هنا يُطرح السؤال الخطير ‪ :‬إذا ما الذي أغفل‬
‫"العالم السلمي" الذي أفضّل أن أسميه بـ"العالم الظلمي" ‪ ،‬عن اتباع منهجه الخاص و رسالته‬
‫النسـانية ؟! إن الرسـالة السـلمية إن كان لهـا أن توجـد ‪ ،‬فإنهـا لن توجـد إل بعـد أن تخلق مجتمعـا‬
‫محبـا للحريـة ل ككلمـة بـل كتطـبيق ‪ ،‬كمـا أن بعـض أُطروحات المفكّريـن السـلميين ‪ ،‬بمـا فيهـم‬
‫الشهيد الصدر ‪ ،‬تتسم بنوع من المثالية ‪ ،‬و كأن المطلوب من الناس أن يكونوا ملئكة أو أنبياء و‬
‫يتخلّوا عن رغباتهم و طبيعتهم كبشر‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" إن شدة حركــــــــة النتاج وقوتهــــــــا‪ ,‬بدافــــــــع مــــــــن الحرص على كثرة الربــــــــح‬
‫مـــن ناحيـــة‪ ,‬ومـــن ناحيـــة أخرى انخفاض المســـتوى المعيشـــي لكثيـــر مـــن المواطنيـــن‪,‬‬
‫بدافــــــع مـــــــن الشره المادي للفئة الرأســـــــمالية‪ ,‬ومغالبتهــــــا للعامـــــــة على حقوقهــــــا‬
‫بأســــــاليبها النفعيــــــة‪ ,‬التــــــي تجعــــــل المواطنيــــــن عاجزيــــــن عــــــن شراء المنتجات‬
‫واســــتهلكها ـــــ كــــل ذلك يجعــــل كبار المنتجيــــن فــــي حاجــــة ماســــة إلى أســــواق جديدة‬
‫لبيــــــع المنتجات الفائضــــــة فيهــــــا‪ ,‬وإيجاد تلك الســــــواق يعنــــــي التفكيــــــر فــــــي بلد‬
‫جديدة‪ ".‬فلسفتنا ص ‪.23‬‬
‫و هكذا فإن مـا اصـطلح عليـه بالحديـث عـن "انخفاض المسـتوى المعيشـي" لم يكـن قـط السـبب‬
‫الوحيـد فـي صـراع الدول الصـناعية الغربيـة على المسـتعمرات ‪ ،‬كنماذج على ذلك لم تكـن المملكـة‬
‫الســبانية و البرتغاليــة و ألمانيــا أو روســيا القيصــرية دول ديمقراطيــة ‪ ،‬ففترة الصــراع على‬
‫المسـتعمرات لم تكـن قـد شهدت اكتمال و نضوج الديمقراطيـة ‪ ،‬و فـي عصـرنا الحالي فإن الغرب‬
‫يسـتفيد مـن ثروات الخريـن ليـس عـبر الغزو أو مـا كان يُسـمّى "السـتعمار" ‪ ،‬بـل عـبر الحاجـة‬
‫الطبيعيـة ‪ ،‬بمعنـى أن الخريـن هـم دومـا فـي حاجـة لتسـويق ثرواتهـم الطبيعيـة و الصـناعية ‪ ،‬ممـا‬
‫ســيخلق اكتمال اقتصــاديا دون أن تُطلق رصــاصة واحدة ‪ ،‬كمــا أن دخول الغرب إلى دول العالم‬
‫الثالث الفقيـر لم يكـن كـل مـا فيـه سـلبيا ــ اللهـم إل فـي نظـر السـلميين ــ فلو ل التحول الصـناعي و‬
‫الديمقراطــي مــا كان للشرق الســلمي أن يُفكــر و لو حتــى مجرد تفكيــر فــي مراجعــة الخلل فــي‬
‫أنظمته السياسية ‪ ،‬بل و حتى الفقهية‪.‬‬
‫بـل إن أكـبر نظام رأسـمالي فـي العالم "الوليات المتحدة المريكيـة" لم يُعرف عنهـا أنهـا كانـت‬
‫أو أصـبحت دولة "إسـتعمارية" و كانـت على الكثـر دولة شبـه منعزلة حتـى بدايـة الحرب العالميـة‬
‫الثانية ‪ ،‬و هذا الستنتاج ـ أن كُلّ دولة رأسمالية ل ُبدّ أن تكون استعمارية ـ يحصل للمفكر حينما‬
‫يدرس المسـائل و يحكـم عليهـا مـن الجانـب المادّي فقـط ‪ ،‬بـل إن هناك دورا كـبيرا للديـن فـي هذه‬
‫الدول ‪ ،‬و هذا مال يتناهى إلى عقولنا إذا حكمنا على الغرب من خلل نتاجاته القتصادية فقط أو‬
‫عبر إنتاجه السينمائي و الدرامي‪.‬‬
‫كما أن هناك نظرية سائدة بين المفكرين السلميين مفادها أن الغرب توسع و استعمر البلدان‬
‫بفعـل سـيادة "النظـم الديمقراطيـة الرأسـمالية" ‪ ،‬بينمـا الواقـع معكوس تمامـا ‪ ،‬إذ كان تعامـل الغرب‬
‫مـع الخـر مـن خلل مـا سـمّي بــ"الحروب الصـليبية" أو اسـتعمار البلدان خلل القرون الوسـطى ‪،‬‬
‫هذه الحتكاكات جعلت الغرب يدرس هذه الشعوب و يفهـم و يسـتوعب ثقافاتهـا و أديانهـا ممـا خلق‬
‫تطورا على مراحـل نتـج منهـا ظهور العلمانيـة أو مفهوم "الحكومـة المحايدة" التـي ل تتحيّز باتجاه‬
‫أي دين أو قومية‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" وهكذا تدرس المسألة بذهنية مادية خالصة‪ .‬ومن الطبيعي لمثل هذه‬
‫الذهنية التي لم يرتكز نظامها على القيم الروحية والخلقية‪ ,‬ولم يتعرف مذهبها الجتماعي بغاية‬
‫إل إسعاد هذه الحياة المحدودة بمختلف المتع والشهوات‪...‬‬
‫ان ترى في هذين السببين مبررًا ومسوغ ًا منطقياً للعتداء على البلد المنة‪ ,‬وانتهاك‬
‫كرامتها والسيطرة على مقدراتها ومواردها الطبيعية الكبرى واستغلل ثرواتها لترويج البضائع‬
‫الفائضة‪ .‬فكل ذلك أمر معقول وجائز في عرف‬
‫المصالح الفردية التي يقوم على أساسها النظام الرأسمالي والقتصاد الحر‪.‬‬
‫وينطلق من هنا عملق المادة يغزو ويحارب‪ ,‬ويقيد ويكبل‪ ,‬ويستعمر ويستثمر‪ ,‬إرضاء‬
‫للشهوات وإشباعاً للرغبات‪.‬‬
‫فانظر ماذا قاست النسانية من ويلت هذا النظام‪ ,‬باعتباره مادياً في‬
‫روحه وصياغته وأساليبه وأهدافه‪ ,‬وإن لم يكن مركزاً على فلسفة محددة تتفق‬
‫مع تلك الروح والصياغة‪ ,‬وتنسجم مع هذه الساليب والهداف كما المعنا إليه؟!!" فلسفتنا ص‬
‫‪.23‬‬
‫الحقيقة أن الدول الديمقراطية هي آخر الدول التي تشنّ الحروب ضد الخرين و هي ل تفعل‬
‫ذلك إل إذا كان هناك تهديد محدق ‪ ،‬فالوليات المتحدة المريكية لم تدخل الحرب العالمية الثانية‬
‫إلى جانب بريطانيا ضد ألمانيا و اليابان إل عندما تعرضت لتهديد دولتين دكتاتوريتين ‪،‬‬
‫المبراطورية اليابانية و ألمانيا النازية اللتان أعلنتا عن نيّتهما على كل مقومات النظمة‬
‫الديمقراطية ‪ ،‬و ل أعرف ما الذي يقصده العلمة الصدر بعبارة "البلد المنة" هل كان يقصد‬
‫"المبراطورية العثمانية" التي لم يكن لها همّ سوى جمع الضرائب من الشعب الجائع و بناء‬
‫التكايا و الجوامع !! أم كان يعني بلدا أخرى لم نسمع عنها ربّما !! و إذا كان طرف ما يريد أن‬
‫يستشهد باستعمار بريطانيا للهند و يعزو تخلف الهنود إلى البريطانيين ‪ ،‬فهو استشهاد غير ناجح‬
‫لن هناك أسبابا أخرى إضافية لتخلف الهند من بعض النواحي و أنا ها هنا لست بصدد تبرئة‬
‫البريطانيين كليا ‪ ،‬إذ ل تخلو سياسة من أخطاء ‪ ،‬لكن الديانتين "الهندوس ـ المؤمنون بالطبقية" و‬
‫"المسلمون الذين يتعاطون بالعنف" هما أحد أهم أسباب التخلف الهندي ‪ ،‬و لو لم تكن بريطانيا‬
‫هي التي تحكم شبه القارة الهندية ‪ ،‬لما كانت الهند لتصبح ديمقراطية و هي ذلك البلد المعروف‬
‫بتعدده الثني و الديني‪.‬‬
‫إن هذا هو غاية النتقاد الذي قدم له السيد الصدر تجاه الديمقراطية الرأسمالية و هي ل تكاد‬
‫تُقارن بالقسم الكبر من الكتاب "فلسفتنا" و الذي دحض فيه الشيوعية و ركيزتها الشتراكية ‪ ،‬و‬
‫نعم ما فعل في هذا الجانب ‪ ،‬و لكن هناك نقاط أُخرى أوردها في كتابه "اقتصادنا" حول نوع‬
‫العلقة بين ما يُسمّى "العالم السلمي" و "الدول الصناعية الوربية" حدّدها في النقاط التّالية‪:‬‬
‫" الول‪ :‬التبعيـــة الســـياسية التـــي تمثلت فـــي ممارســـة الشعوب الوروبيـــة الراقيـــة‬
‫اقتصادي ًا حكم الشعوب المتخلفة بصورة مباشرة‪.‬‬
‫الثانــــــي‪ :‬التبعيــــــة القتصــــــادية التــــــي رافقــــــت قيام كيانات حكوميــــــة مســــــتقلة‬
‫مــــن الناحيـــة الســــياسية فـــي البلد المتخلفـــة وعـــبرت عـــن نفســـها فـــي فســــح المجال‬
‫للقتصـــــاد الوروبـــــي لكـــــي يلعـــــب على مســـــرح تلك البلد بأشكال مختلفـــــة ويســـــتثمر‬
‫موادهــــا الوليــــة ويمل فراغاتهــــا برؤوس أموال أجنبيــــة و يحتكــــر عدداً مــــن مرافــــق‬
‫الحياة القتصــــــادية فيهــــــا بحجــــــة تمريــــــن أبناء البلد المتخلفيــــــن على تحمــــــل أعباء‬
‫التطوير القتصادي لبلدهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التبعيـــــة فـــــي المنهـــــج التـــــي مارســـــتها تجارب عديدة فـــــي داخـــــل العالم‬
‫الســـــلمي حاولت أن تســـــتقل ســـــياسياً وتتخلص مـــــن ســـــيطرة القتصـــــاد الوروبـــــي‬
‫اقتصـــــادي ًا وأخذت تفكـــــر فـــــي العتماد على قدرتهـــــا الذاتيـــــة فـــــي تطويـــــر اقتصـــــادها‬
‫والتغلب على تخلفهـــا غيـــر أنهـــا لم تســـتطع أن تخرج فـــي فهمهـــا لطبيعـــة المشكلة التـــي‬
‫يجســـــدها تخلفهـــــا القتصـــــادي عـــــن إطار الفهـــــم الوروبـــــي لهـــــا فوجدت نفســـــها‬
‫مدعوة لختيار نفـــــس المنهـــــج الذي ســـــلكه النســـــان الوروبـــــي فـــــي بنائه الشامـــــخ‬
‫لقتصاده الحديث" ـ إقتصادنا ص ‪.4‬‬
‫مـن المعروف أن القتصـاد و التبادل التجاري ل يعرفان شيئا مـن مسـئلة مراعاة الفوارق بيـن‬
‫دول ذات اقتصـاديّات ضخمـة و أسـواعريضة و دول أُخرى بالكاد لديهـا شيـء إسـمه إقتصـاد أو‬
‫لنقل‪ :‬أنها تعيش في عصر "ما قبل القتصاد"!! بالتالي فهي ستكون تابعة ‪ ،‬سواء تعمد القوياء‬
‫ذلك أم ل ! فقبــل أن تحصــل أي دولة على اقتصــاد قوي حقيقــي ‪ ،‬عليهــا أن تســارع فــي إصــلح‬
‫أنظمتهــا الســياسية و الثقافيــة ‪ ،‬فاليابان أيام المبراطوريــة غيّر ـ كثيرا مــن آلياتــه الجتماعيــة و‬
‫التربويـة ليصـبح فـي مصـاف الدول الكـبرى ‪ ،‬لكنـه كان إمبراطوريـة دكتاتوريـة فسـارع الخراب‬
‫إليها‪.‬‬
‫من هنا نجد أن لوم الغرب و تحميله أسباب تخلف العالم السلمي ليس موضوعيا ‪ ،‬خصوصا‬
‫و أن الهـم ‪ ،‬لفهـم أسـباب التخلف ‪ ،‬هـو مراجعـة التركيبـة الجيـو سـياسية و المنظومـة الفقهيـة التـي‬
‫عاشهـا المسـلمون و حولهـا إلى تقليـد أعمـى غيـر قابـل للنقـد أو التغييـر "أن روح التحري كانـت‬
‫عصب الحياة في عصر السلم الذهبي بين حوالي ‪ 750‬و ‪ 1250‬ميلدية‪ .‬وفي العراق ‪ ،‬قلب‬
‫المبراطورية السلمية ‪ ،‬كان المسيحيون يعملون جنبا الى جنب مع المسلمين لترجمة الفلسفة‬
‫الغريقية واحيائها‪ .‬وفي اسبانيا ‪ ،‬الطرف الغربي لمشارف السلم ‪ ،‬قام المسلمون بتطوير ما‬
‫يسميه مؤرخ من جامعة يال "ثقافة تسامح" مع اليهود" الخلل في السلم ـ إرشاد منجي ص‬
‫‪ .54‬و لو اسـتمرت تلك المناهـج العقلنيـة لرأينـا علقـة مختلفـة بيـن الشرق السـلمي المتطور و‬
‫الغرب المتطور ‪ ،‬لكن ما حدث هو العكس‪.‬‬
‫أمـا النقطـة الُخرى حول التبعيـة القتصـادية التـي نشأت فـي ظـل الدول السـلمية التـي تكونـت‬
‫خلل القرن العشرين ‪ ،‬فهـي تبعية منطقيـة ‪ ،‬بل إن تبعية إسـبانيا إلى العالم السـلمي كانت أقرب‬
‫شبهـا بمـا يُصـطلح عليـه بالسـتعمار لنّـ الفاتحيـن الجدد فرضوا حتـى لغتهـم على المحكوميـن ‪،‬‬
‫فلماذا لم يسـتطع الشرق السـلمي التخلص مـن هذه التبعيـة؟! و هـل كان بمقدورهـم أن يفعلوا شيئا‬
‫من هذا القبيل ‪ ،‬و المسألة المطروحة ها هنا تشبه وضع العربة أمام الحصان ‪ ،‬فالمسلمون كانوا‬
‫أصل متخلفين و لم يكن لديهم أصل شيء إسمه "إقتصاد" ‪ ،‬بالتالي لم يكن الغرب بحاجة إلى أن‬
‫يجعلهم تابعين له ‪ ،‬بل هم ساروا في طريق التبعية لعدم امتلكهم أيا من أسباب التطور‪.‬‬
‫إن سـبيل التطور و القتصـاد الناجـح ليـس مسـألة أمور فنيـة فقـط ‪ ،‬كامتلك أدوات التوزيـع و‬
‫النتاج ‪ ،‬بـل هـو يعتمـد أسـاسا على "النسـان" و وزنـه ال ِقيَمـي و حريّتـه ‪ ،‬فل إقتصـاد ناجـح بدون‬
‫أفراد أحرار ‪ ،‬و لهذا السـبب كانـت نتيجـة كـل القتصـاديات الصـناعية غيـر الديمقراطيـة "التحاد‬
‫السوفيتي ‪ ،‬المبراطورية اليابانية و ألمانيا النازية" هو النهيار و الفشل ‪ ،‬و لو كان السيد الصدر‬
‫أرهق عقله العبقري الجبّار في خلق ديمقراطية في عمق الفكر السلمي ‪ ،‬لكان باستطاعته حينها‬
‫أن يتحدث عن إقتصاد قوي في بلد المسلمين‪.‬‬
‫فـي النقطـة الثالثـة و التـي تتعلق بمحاولت ذاتيـة لهـل البلد السـلمية فـي تطـبيق ذات المنهـج‬
‫الوروبــي و محاولة منافســته فيمــا بعــد و هذه المحاولت التــي انتهــت على مــا يبدو بالفشــل ــ و‬
‫للسـف لم يضرب لنـا الشهيـد الصـدر أي مثال واقعـي ــ و يعزو السـبب إلى اتخاذهـم ذات المنهـج‬
‫الغربي الرأسمالي ‪ ،‬غير أن الصورة لم تكتمل ‪ ،‬و كما قلنا ‪ ،‬فالمسألة ليست "افتقار إلى أدوات أو‬
‫آليات القتصـاد الناجـح" بقدر مـا هـو مشكلة "السـتعمار الداخلي" و حكومات القليات المسـتبدة‬
‫التــي تحرص على إبقاء الشعـب فقيرا لكــي ل يتمرد على الطبقـة الحاكمـة ‪ ،‬و كان الصـدر نفسـه‬
‫ضحيـة لحـد أنماط الحكـم الطائفيـة السـتبدادية ‪ ،‬و أنـا حقـا حائر فـي ترك السـيد الصـدر إشكال‬
‫خطيرا كهذا دون أن يبحثه و بعمق‪.‬‬
‫و الســيد الصــدر يشيــر إلى أن العلقــة "الســيئة" بيــن الشعوب المســلمة و الدول الوروبيــة‬
‫الستعمارية لم تستطع السير باتجاه التكامل بسبب الش كّ من نيات الخر الذي كان مستعمرا ذات‬
‫يوم ‪ ،‬يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" فهناك مثلً الشعور النفســــــي الخاص الذي تعيشــــــه المــــــة فــــــي العالم الســــــلمي‬
‫تجاه الســـــتعمار الذي يتســـــم بالشـــــك والتهام والخوف نتيجـــــة لتاريـــــخ مريـــــر طويـــــل‬
‫مــــــــــن الســــــــــتغلل والصــــــــــراع‪ ،‬فإن هذا الشعور خلق نوعاً مــــــــــن النكماش لدى‬
‫المــــة عــــن المعطيات التنظيميــــة للنســــان الوروبــــي وشيئاً مــــن القلق تجاه النظمــــة‬
‫المســــتمدة مــــن الوضاع الجتماعيــــة فــــي بلد المســــتعمرين وحســــاسية شديدة ضدهــــا‬
‫وهذه الحســـاسية تجعـــل تلك النظمـــة حتـــى لو كانـــت صـــالحة ومســـتقلة عـــن الســـتعمار‬
‫مــــن الناحيــــة الســــياسية غيــــر قادرة على تفجيــــر طاقات المــــة وقيادتهــــا فــــي معركــــة‬
‫البناء فل بــــد للمــــة إذن بحكــــم ظروفهــــا النفســــية التــــي خلقهــــا عصــــر الســــتعمار‬
‫وانكماشهـــا تجاه مـــا يتصـــل بـــه أن تقيـــم نهضتهـــا الحديثـــة على أســـاس نظام اجتماعـــي‬
‫ومعالم حضارية ل تمت إلى بلد المستعمرين بنسب" اقتصادنا ص ‪.9‬‬
‫إن هذا الكلم يحوي جزءا مـن الحقيقـة ‪ ،‬و لكـن تبقـى جوانـب أُخرى غيـر مسـتكشفة ‪ ،‬فرفـض‬
‫الشرق السـلمي للغرب "السـتعماري"!! كان رفضـا عاطفيـا أكثـر مـن كونـه "فكريـا" ‪ ،‬كمـا أن‬
‫هناك تجارب لشعوب "هونـج كونـج ــ إيران مـا قبـل الثورة ــ مثال" سـارت فـي طريـق تطويـر‬
‫إقتصادياتها و أنظمتها السياسية و الجتماعية ‪ ،‬و المشكلة أيضا ‪ ،‬أن النظمة الحاكمة في عالمنا‬
‫الســلمي ــ بمــا فيهــا إيران الســلمية ــ تنتهــج دائمــا ســياسات "عاطفيــة" قائمــة على شعارات‬
‫"تحريــر فلســطين" ‪" ،‬رمــي اليهود فــي البحــر" ‪" ،‬الموت لمريكــا"!! و غيرهــا مــن الشعارات‬
‫العبثيـة التـي حولت إقتصـاديات هذه الدول تعيـش كـل يوم أزمـة جديدة مـع القتصـاديات الجبارة ‪،‬‬
‫كمـا أن مـا يُسـمّى بالقتصـاد السـلمي يعانـي مـن عقبات كـبيرة ‪ ،‬خصـوصا و أنـه ل يختلف كثيرا‬
‫عـن القتصـاديات الشتراكيـة و التـي توجّه مـن السـلطة العليـا فـي الدولة ‪ ،‬و هـي غالبـا مـا تجتمـع‬
‫خيوطها في يد "الولي الفقيه" أو المجموعة المعممة التي تتحكم بشؤون النظام‪.‬‬
‫نعود إلى السيد الصدر حيث يقول‪:‬‬
‫"عملية التنمية‬
‫القتصـــادية ليســـت عمليـــة تمارســـها الدولة وتتبناهـــا وتشرّع لهـــا فحســـب وإنمـــا هـــي‬
‫عمليــــــة يجــــــب أن تشترك فيهــــــا وتســــــاهم بلون وآخــــــر المــــــة كلهــــــا‪ .‬فإذا كانــــــت‬
‫المـــــة تحـــــس بتناقـــــض بيـــــن الطار المفروض للتنميـــــة وبيـــــن عقيدة ل تزال تعتـــــز‬
‫بهــــا وتحافــــظ على بعــــض وجهات نظرهــــا فــــي الحياة فســــوف تحجــــم بدرجــــة تفاعلهــــا‬
‫مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والندماج في إطارها المفروض" إقتصادنا ص ‪– 11‬‬
‫‪.12‬‬
‫إن مصــطلح "المــة" هــا هنــا ل يبدو لي أنــه يوافــق كلمــة "شعــب" ‪ ،‬لننــا إذا ترجمناهــا إلى‬
‫"الشعـب" فإن ذلك لن يختلف عـن النظام الديمقراطـي الرأسـمالي الذي يصـيغ فيـه الشعـب بعـض‬
‫القوانيـن التـي تمنـع ملّك رؤوس الموال مـن إنجاز بعـض الصـفقات التجاريـة و الصـناعيّة إذا مـا‬
‫كانــت ســتض ّر بمصــالح الدولة و الشعــب ‪ ،‬و خيــر مثال على ذلك أن حكومــة الوليات المتحدة‬
‫المريكيـة و هـي رأس الهرم الديمقراطـي الرأسـمالي تسـتطيع أن تمنـع بعـض أضخـم الشركات مـن‬
‫إنجاز بعـض الصـفقات مـع دول تسـبب الضرر للوليات المتحدة ‪ ،‬مـن هنـا ــ و نعود إلى تعريـف‬
‫كلمة "ُأمّة" الواردة في القتباس ـ و أظن أن السيد الصدر يعني بها قيمومة "رجال الدين" الّذين‬
‫يُمثلون "المّة" حسب تنظيره للقتصاد السلمي ‪ ،‬و قد استنتجت ذلك من خلل عباراته التالية‬
‫التي وضّح فيها أن القتصاد يجب أن ل يُناقض أو يصطدم بـ"العقيدة"!! و هذا ل يتم بدون رجل‬
‫الدّين‪.‬‬
‫إن القتصـاد "المؤدلج" ‪ ،‬سـواء كان قوميـا أو ماركسـيا أو إسـلميا ‪ ،‬فإنـه ل يسـتطيع مجارات‬
‫التطورات فـي السـواق الحرة ‪ ،‬لن التاجـر أو مديـر الشركـة ل يسـتطيع إمضاء أي صـفقة مهمـة‬
‫خوفـا مـن أن تناقـض "الفتوى الشرعيـة" أو "الخـط الدّينـي للدولة" ‪ ،‬كمـا أن التنظيـر و السـياسة‬
‫اليدولوجية للنظمة "القومي الشتراكي و السلمي" يعرقلهما سلسلة الزمات التي يتسبب بها‬
‫الخطاب اليدولوجـي ‪ ،‬أمثلة ذلك واضحـة فـي فشـل إيران "السـلمية" فـي تسـويق بضاعتهـا فـي‬
‫السـواق العالميـة بسـبب الزمات التـي يسـببها قادة النظام ‪ ،‬فتارة هناك أزمـة "سـلمان رشدي" و‬
‫تارة أخرى اتهامات بـــــ"دعــــم الرهاب" و تصــــدير أســــلحة إلى حزب ال و حركــــة حماس‬
‫الرهابيـة ‪ ،‬و أخيرا الزمـة التـي تتعلق بـبرنامج إيران النووي ‪ ،‬فلم يعـد العالم يصـدق تصـريحات‬
‫التهدئة اليرانيــة بعــد كــل التصــريحات الناريــة للمرشــد "علي الخامنئي" و رئيــس جمهوريّتــه‬
‫"نجاد"‪.‬‬
‫كمـا أن تحكيـم "الشريعـة" و "الحكام السـلمية" ليـس كافيـا لترسـيخ أيّـ إقتصـاد ‪ ،‬يقول السـيد‬
‫الصدر‪:‬‬
‫وخلفاً لذلك ل يواجــــــــه النظام الســــــــلمي هذا التعقيــــــــد ول يمنــــــــي بتناقــــــــض‬
‫مـــن ذلك القبيـــل بـــل إنـــه إذا وضـــع موضـــع التطـــبيق ســـوف يجـــد فـــي العقيدة الدينيـــة‬
‫ســــــندًا كــــــبيراً له وعاملً مســــــاعداً على إنجاح التنميــــــة الموضوعــــــة فــــــي إطاره لن‬
‫أســــاس النظام الســــلمي أحكام الشريعــــة الســــلمية وهــــي أحكام يؤمــــن المســــلمون‬
‫عادة بقدســـــيتها وحرمتهـــــا ووجوب تنفيذهـــــا يحـــــف عقيدتهـــــم الســـــلمية وإيمانهـــــم‬
‫بأن السلم دين نزل من الشماء على خاتم النبيين (ص)‪.‬‬
‫ومـــا مـــن ريـــب فـــي أن مـــن أهـــم العوامـــل فـــي نجاح المناهـــج التـــي تتخـــذ لتنظيـــم‬
‫الحياة الجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقها في التنفيذ والتطبيق" إقتصادنا ص ‪.12‬‬
‫فمــا دامــت التنميــة "مؤطّرة" و "مقولبــة" وفــق قوانيــن معينــة ‪ ،‬فذلك ليــس إل عصـيّ أُخرى‬
‫موضوعـة فـي الدواليـب القتصـادية ‪ ،‬فمـا يُسـمّى بــ"الشريعـة" هـي غالبـا آراء شخصـية تعود إلى‬
‫الفقيه أو رجـل الدّيـن و بالتالي فهـي مليئة بالراء المتعددة و التـي تناقـض بعضهـا بعضـا و ل تتفـق‬
‫إل نادرا جدا ‪ ،‬و أعتقد أن مايُطلق عليه السيد الصدر تعبير "القتصاد السلمي" يعني بها دائرة‬
‫س ّنيّة وحدها تتناقض بين بعضها البعض و يُكفـّر أحدُها‬ ‫أوسع من المذهب الشيعي ‪ ،‬و المذاهب ال ّ‬
‫الخر ‪ ،‬فكيف لهذه المذاهب أن تتفق مع النظرية الشيعية و هي ل تتسامح بينها فضل عن غيرها‬
‫‪ ،‬المشكلة هـا هنـا أنـه مـن الخطـأ أن نعامـل السـوق و القتصـاد و قوانينـه و كأننـا نتعامـل مـع آلة‬
‫محدّدة التجاهات و العمل ‪ ،‬دون أن نربط هذه الثقافة بعوامل المجتمع الثقافة و الدينية و السياسية‬
‫‪ ،‬فإذا مان ديــن أو مذهــب مــن المذاهــب يتعامــل مــع التجارة و القتصــاد نظرة مليئة بالحذر و‬
‫الخوف ممــا يســمّيه البعــض "الختراق أو الغزو الثقافــي"!! أو الخوف و الحرص على "هويــة‬
‫لمّة و أخلقها" ‪ ،‬فإن هذه القتصاد محكوم عليه بالفشل مقدّما و ل يمكن له إل أن ينتهي بالفشل‬ ‫اُ‬
‫الذريع و العودة إلى نقطة الصفر‪.‬‬
‫و المـر المهـم الخـر ‪ ،‬هـو إغفال حقوق القليات الّتـي ل تؤمـن بــ"القتصـاد السـلمي" مـن‬
‫غيـر المسـلمين و الملحديـن ‪ ،‬إذ يؤمـن المواطـن المسـيحي و اليهودي أن ل مشكلة ــ مثل ــ فـي بيـع‬
‫الخمر و المسكرات ‪ ،‬بينما السلميون يمنعونها ‪ ،‬بل و يُعاقبون عليها ‪ ،‬و هناك سبب آخر للحكم‬
‫على أن أي إقتصـاد "إسـلمي" بالفشـل ‪ ،‬هـو عدم تمثيله لكـل قطاعات المجتمـع ‪ ،‬فهناك فـي بلداننـا‬
‫السلمية مسيحيون ‪ ،‬يهود ‪ ،‬صابئة ‪ ،‬و حتى ملحدون ل يؤمنون بأي دين فضل عن السلم ‪ ،‬و‬
‫علينا أن ل نغفل أيضا أننا سنخسر استثمارا كبيرا لمستثمرين من دول بعيدة قد يجدون في قوانيننا‬
‫"الفقهيـة" سـداً أمام اسـتثمار أموالهـم ‪ ،‬بينمـا القتصـاد الحرّ يوفــّر حتـى للمتديـن أن يتعامـل مـع‬
‫الخريـن وفـق شريعتـه و دينـه ‪ ،‬كأن يتعامـل مـع بنوك ل تتعامـل بالربـا ‪ ،‬و هـو مـا أقرتـه بنوك‬
‫عالمية جذبا لرساميل المتدينين ‪ ،‬مما أفقد "البنوك السلمية" أي ميزة على تلك الرأسمالية‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" وهــــب أن تجربــــة للتنميــــة القتصــــادية على أســــاس مناهــــج القتصــــاد الوروبــــي‬
‫اســـــتطاعت أن تقضـــــي على العقيدة الدينيـــــة وقوتهـــــا الســـــلبية تجاه تلك المناهـــــج فإن‬
‫هذا ل يكفـــــــــــي للقضاء على كـــــــــــل البناء العلوي الذي قام على أســـــــــــاس تلك العقيدة‬
‫عـــبر تاريـــخ طويـــل امتـــد أكثـــر مـــن أربعـــة عشـــر قرناً وســـاهم على درجـــة كـــبيرة فـــي‬
‫تكويـــــــن الطار النفســـــــي والفكري للنســـــــان داخـــــــل العالم الســـــــلمي‪ .‬كمـــــــا أن‬
‫القضاء على العقيدة الدينيـــــة ل يعنـــــي إيجاد الرضيـــــة الوروبيـــــة لتلك المناهـــــج التـــــي‬
‫نجحــــت على يــــد النســــان الوروبــــي لنهــــا وجدت الرضيــــة الصــــالحة لهــــا والقادرة‬
‫على التفاعل معها" إقتصادنا ص ‪.12‬‬
‫ل يمكـن لنـا أن نسـتخدم هذه النظرة العقائديـة فـي تحليلنـا للنظام القتصـادي الرأسـمالي ‪ ،‬لسـبب‬
‫بسيط ‪ ،‬و هو أن الرأسمالية ل تتبنى أي آيدولوجية أصل ‪ ،‬فهي ليست "مسيحية" أو "يهودية" ‪،‬‬
‫و قــد تعدّى هذا النظام الغرب كمركــز و انتشــر فــي دول جنوب شرق آســيا "اليابان" ‪" ،‬كوريــا‬
‫الجنوبية" ‪" ،‬تايوان" و "ماليزيا" ‪ ،‬و حتى "جمهورية الصين الشعبية" الّتي تتبنّى "الشتراكية"‬
‫هي "رأسمالية مُقنّعة" ‪ ،‬فلماذا يدخل الجميع و بنجاح في هذه التجربة و نكون نحن الستثناء؟!‪.‬‬
‫و لماذا ل نقـــل أن الرضيـــة الناجحـــة تتوفـــر لنجاح التجربـــة فـــي بلدنـــا إذا أضفنـــا إلى‬
‫"الرأسمالية" نظاما ديمقراطيا كامل يقوم على التعددية الحزبية و الفكرية و العقائدية‪.‬‬
‫و كإضافـة توضيحيـة حول اختلف الرضيـة البشريـة و النفسـية فـي التعامـل مـع القتصـاد بيـن‬
‫"العالم السلمي" و "الغربي" يقول‪:‬‬
‫" فهناك فــــــي الواقــــــع أخلقيــــــة إســــــلمية تعيــــــش بدرجــــــة وأخرى داخــــــل العالم‬
‫السلمي وهناك أخلقية القتصاد الوروبي التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة ونسجت لها‬
‫روحها العامة ومهدت لنجاحها على الصعيد القتصادي‪.‬‬
‫والخلقيتان تختلفان اختلفاً جوهرياً فــــــــــــــــي التجاه والنظرة والتقييــــــــــــــــم وبقدر‬
‫مــــا تصــــلح أخلقيــــة النســــان الغربــــي الحديــــث لمناهــــج القتصــــاد الوروبــــي تتعارض‬
‫أخلقيــــة إنســــان العالم الســــلمي معهــــا وهــــي أخلقيــــة راســــخة ل يمكــــن اســــتئصال‬
‫جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية" إقتصادنا ص ‪ 12‬ـ ‪.13‬‬
‫أود أن أضيــف إلى مــا قاله الســيد الشهيــد نقطــة أهــم تتعلق بالفوارق بيننــا و بيــن الغرب ‪ ،‬إن‬
‫الفارق بيـن الرضيتيـن ليسـت مجرد اختلف دينـي و عقائدي ‪ ،‬فالختلف الكثـر تجذّرا هنـا هـو‬
‫أن مجتمعاتنـا ل تؤمـن بالحريـة و كـل مواطـن يجعـل مـن نفسـه "ضابـط مخابرات" يتجسـس على‬
‫الخريـن ‪ ،‬رغـم أن السـيد الصـدر وضـع نصـاب عينيـه هذا الختلف ‪ ،‬ليـس لنـه يرفـض التجربـة‬
‫القتصـادية لمجرد العاطفـة ‪ ،‬بـل لنـه يعتقـد أننـا لن نسـتطيع النجاح فـي مـا أسـماه "المعركـة ضـد‬
‫التخلف" ما لم نستجب للشروط الموضوعية و مراعاة المنطق السائد في مجتمعاتنا ‪ ،‬لكنني أعتقد‬
‫أنّـ هذا مـا سـيزيد المشكلة تعقيدا و سـيعني هروبـا للمام ‪ ،‬لننـا مـا لم نعلم مجتمعاتنـا و مواطنينـا‬
‫ثقافـة "الحريـة" و "احترام الرأي الخـر" ‪ ،‬فإن كـل مشروع إقتصـادي محكوم عليـه بالفشـل ‪ ،‬كمـا‬
‫أننا إذا تعاملنا مع عقلية مجتمعنا بالستجابة لشروطه الضيقة ‪ ،‬فإن ذلك يعني أننا نشجّع مجتمعنا‬
‫على أن يوغــل فــي تعص ـّبه و انغلقــه و ســنخسر الوقــت أكثــر مــن أي شيــء ‪ ،‬فل بأس مــن أن‬
‫يتعرضنا مجتمعنا "السلمي" لضربة ثقافية ‪ ،‬يفيق منها قويا و واعيا ‪ ،‬فذلك أفضل من النعزال‬
‫على طريقة الهنود الحمر الذين انقرضوا أو كادوا بمجرد رؤيتهم للنسان البيض‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" إن النســــــــان الوروبــــــــي ينظــــــــر إلى الرض دائماً ل إلى الســــــــماء وحتــــــــى‬
‫المســــيحية بوصــــفها الديــــن الذي آمــــن بــــه هذا النســــان مئات الســــنين لم تســــتطع أن‬
‫تتغلب على النزعـــــة الرضيـــــة فـــــي النســـــان الوروبـــــي بـــــل بدلً عـــــن أن ترفـــــع‬
‫نظره إلى الســــماء اســــتطاع هــــو أن يســــتنزل إله المســــيحية مــــن الســــماء إلى الرض‬
‫ويجسده في كائن أرضي" إقتصادنا ص ‪.13‬‬
‫سيّد الصّدر من خللها أن يجعل "أوروبا"‬ ‫أود ها هنا أن أعلق على هذه العبارات التي حاول ال ّ‬
‫مكانــا له ظروفــه و عقليتــه الخاصــة المتلئمــة مــع "الرأســمالية" كنظام ‪ ،‬بالتالي و لنّـ النســان‬
‫الوروبي ذو منطق "أرضي ـ مادّي" ‪ ،‬فقد حول المسيحية من دين سماوي إلى دين أرضي ‪ ،‬و‬
‫حقيقـة أننـي مسـتغرب مـن هذا السـتنتاج ‪ ،‬فالديان الّتـي كانـت قائمـة على "التثليـث" و "نزول إبن‬
‫الله إلى الرض و موتـه فداءا للبشريــة" ‪ ،‬هذه العقائد و الثقافات الّتـي سـبقت المســيحيّة ‪ ،‬كانـت‬
‫ســائدة فــي الشّرق الوســط ‪" ،‬الكنعانيّون" ‪" ،‬الفراعنــة" ‪" ،‬البابليون" ‪ ..‬و "عودة إيزيــس إلى‬
‫الحياة" فــي السـاطير الفرعونيـة كانـت أشهــر مـن أي أُســطورة أُخرى ‪ ،‬بالتالي فإن فرض نمـط‬
‫معيـن مـن التفكيـر على بقعـة أرضيـة مـا ليـس بالسـتنتاج السـليم ‪ ،‬خـذ مثل أديان الشرق القديمـة‬
‫كعبادة "عشتار" ‪" ،‬رع" ‪" ،‬بعــل" و غيرهــا مــن اللهــة ‪ ،‬كانــت تتســم بحفلت جنسـيّة جماعيــة‬
‫يُشارك فيهـا آلف النسـاء و الرجال مـن غيـر حرج ‪ ،‬بـل إن الحتفال بالتحول الصـّيفي فـي "بابـل‬
‫القديمــة" كان يصــاحبه احتفالت تتخللهــا علقات جنســية و بشكــل علنــي ‪ ،‬لكــن طبيعــة شعوب‬
‫المنطقة تغيرت منذ ظهور المدّ الدّيني الول "اليهودية" ث ّم "المسيحية و السلم" ليتحول الشرقي‬
‫إلى شخـص مختلف تمامـا ‪ ،‬بينمـا حدث فـي الغرب عكـس ذلك تمامـا حيـث أن "الجنـس" و الحياة‬
‫المادية هي من أكثر المور الطبيعية في الحياة‪.‬‬
‫إذا لماذا حدث ذلك؟ أعتقد أن للمر علقة بـ"ردود الفعل" ‪ ،‬فالشرق و حينما كان يتعامل مع‬
‫موضوعـة "الجنـس" على أنهـا "متعـة" ل أكثـر ‪ ،‬أصـابه و مـن خلل أجيال مـن الوعـظ و التقريـع‬
‫ردّ فعل غير متناسب ‪ ،‬بمعنى أنه بدل من تنظيم هذه العلقة الجنسية للستفادة من ميزاتها و دفع‬
‫أضرارها ‪ ،‬حولها إلى "حرام" و "ممنوع" و تم تضييقها في أضيق الحدود ‪ ،‬مما جعل شخصية‬
‫الشرقـي "المسـلم تحديدا" شخصـية إنطوائيـة و "مكبوتـة"‪ .‬أمـا فـي الغرب فقـد حدث العكـس ‪ ،‬فقـد‬
‫كان الوروبي القديم يعيش في مجتمع تسوده ال ِقيَم العشائرية و القبلية ‪ ،‬ثم انتقل من العشيرة التي‬
‫تضيّق على المسـائل الخلقيـة إلى نظام "الكنيسـة" و "البابويـة" التـي تعاملت بصـرامة مـع مسـألة‬
‫العفة و كانت النتيجة أن حصلت ردّة فعل قوية و معاكسة باتجاه الحرية المطلقة‪.‬‬
‫و أخشى ‪ ،‬بل هذا ما نرجوه ‪ ،‬أن الشرق السلمي ـ و هم ليسوا استثناء في القوانين البشرية ـ‬
‫سـيحدث له ردّ فعـل مماثـل باتجاه التخلص مـن كـل تقليـد و إعادة دور العقـل فـي صـياغة المفاهيـم‬
‫الدينية و الجتماعية‪.‬‬
‫سيّد الصدر‪:‬‬ ‫يقول ال ّ‬
‫" كمـــــا أن انقطاع الصـــــلة الحقيقـــــة للنســـــان الوروبـــــي بال تعالى ونظرتـــــه إلى‬
‫الرض بدلً عـــــــن النظرة إلى الســـــــماء انتزع مـــــــن ذهنـــــــه أي فكرة حقيقيـــــــة عـــــــن‬
‫قيمومـــــة رفيعـــــة مـــــن جهـــــة أعلى أو تحديدات تفرض عليـــــه مـــــن خارج نطاق ذاتـــــه‬
‫وهيأه ذلك نفســــــياً وفكرياً لليمان بحقــــــه فــــــي الحريــــــة وغمره بفيــــــض مــــــن الشعور‬
‫بالســــــتقلل والفرديــــــة المــــــر الذي اســــــتطاعت بعــــــد هذا أن تترجمــــــه إلى اللغــــــة‬
‫الفلســــفية أو تعــــبر عنــــه على الصــــعيد الفلســــفي فلســــفة كــــبرى فــــي تاريــــخ أوروبــــا‬
‫الحديثــــة وهــــي الوجوديــــة إذ توجــــت تلك المشاعــــر التــــي غمرت النســــان الوروبــــي‬
‫الحديـث بالصـيغة الفلسـفية فوجـد فيهـا إنسـان أوروبـا الحديـث أماله وأحاسـيسه‪ ".‬إقتصـادنا ص‬
‫‪.14‬‬
‫إن مسألة اللحاد في الغرب و تحول التيار الثقافي و العقائدي الغربي نحو رفض "الدّين" في‬
‫تفسيره الذي حاول الهيمنة باتجاه تعليل كل شيء ‪ ،‬ليس مسألة تتعلق بجينات أو مورّثات النسان‬
‫الوروبــي و الغربــي ‪ ،‬بــل هــي تتعلق بالدور الس ـّلبي الذي لعبــه الديــن فــي القرون الوســطى و‬
‫خصوصا هيمنة "البابوية" في روما و استغلل رجال الدين لسم المسيح و الكرسي الرسولي في‬
‫روما للحصول على المزيد من السلطة و النفوذ و وقف أي نوع من العقلنية يصطدم مع مصالح‬
‫الكليروس و المجامـــع الكنســية ‪ ،‬و كان مـــن الطــبيعي أن تظهـــر حركــة الصـــلح الدّينـــي (‬
‫‪ )Religion Reformation‬خلل القرن ‪ 16‬الميلدي ‪ ،‬إنقلب على إثره العالم الوروبي إلى‬
‫معسـكرين ‪ ،‬كاثوليكـي و بروتيسـتانتي ‪ ،‬و نتـج عـن صـراع الفكرتيـن "نزع السـلطة عـن البابويـة‬
‫مقابـل هيمنتهـا الشاملة" سـقوط ملييـن القتلى و الجرحـى ‪ ،‬بـل إن ربـع سـكان ألمانيـا كانوا قـد قتلوا‬
‫بفعـل هذه الحرب فـي بدايـة القرن ‪ 17‬و بالتالي كان مـن الطـبيعي أن يتوصـل العقـل الوروبـي إلى‬
‫صــياغة جديدة لدور الديــن فــي الحياة ‪ ،‬صــحيح أن التعامــل مــع الديــن كان يتحول فــي فترة مــن‬
‫الفترات إلى تعامـل متطرف ضـد الديـن بسـبب التراكـم السـّيء الذي تركـه الديـن فـي تاريـخ العقـل‬
‫الوروبي ‪ ،‬و ل يعني هذا أن الغرب أو أوروبا تحديدا لم تحاول البحث عن نظرية بديلة ‪ ،‬فكانت‬
‫أن تنازعت القومية الشوفينية "النازية و البلشفية" على السيطرة و الهيمنة على العقل الوروبي ‪،‬‬
‫و مقابلها أيضا كانت "الشيوعية الماركسية" تحاول تقديم نفسها كبديل للفراغ الذي تركه الدين ‪،‬‬
‫أثبتـت القوميـة فشلهـا خلل الحرب العالميـة الثّانيـة و اندحار النازيـة الهتلريـة ‪ ،‬ثـم تلهـا التحاد‬
‫السـوفيتي و المعسـكر الشرقـي فـي نهايات القرن العشريـن ‪ ،‬و اسـتقر المـر أخيرا ‪ ،‬فـي التنظيـر‬
‫الوروبـي لمفهوم "الدولة" ‪ ،‬على أن تكون الدولة جهازا محايدا للحكـم و ل يش ِعرَ أي مواطـن بأن‬
‫هناك تمييزا ضده ‪ ،‬و لحُســن حــظ الجاليات العربيــة و المســلمة فــي أوروبــا و الغرب أن الســلطة‬
‫هناك ل تقيس المور بمقاييس دينيّة ‪ ،‬و إل لكانوا طُرِدوا من هناك منذ أحداث ‪ 11‬سبتمبر ‪2001‬‬
‫و تفجيرات لندن و مدريد‪.‬‬
‫إذا فالعقل الوروبـي ‪ ،‬حاله كحال كـل مجتمع إنساني ‪ ،‬يعكـس طوال تاريخه ردود فِعل معينة‬
‫على مواضيــع خارجيــة معينــة ‪ ،‬فل يمكــن لنــا أن نجاري النازيــة فنقول أن لكــل عرق أو شعــب‬
‫تركيبة جينية مُعيّنة تجعله يفكر بطريقة ما "يبدو المر كحتمية عقائدية" مما يوصلنا إلى القرار‬
‫بنظريـة "نيتشـة" التـي انتهـت بالفكـر اللمانـي إلى الحزب القومـي الشتراكـي "النازي" ليقودهـم‬
‫هتلر نحـو الموت الشامـل‪ .‬بـل إن ردود الفعـل البشريـة فـي الرفـض الخفيـف أو الرفـض العنيـف و‬
‫المتطرف يبقى نتيجة لتراكمات معيّنة و يتوقف أيضا على نوع و درجة التجربة التي تم خوضها‪.‬‬
‫لكن السّيد الصدر بالمقابل و حينما يحدثنا عن تركيبة الفرد "المسلم" في مجتمعه ل يبدو لنا إن‬
‫كان يذمّـ الفهـم السـيء للديـن إلى حدّ أن الكسـل كان يقنـع بلباس التقوى و الزهـد ‪ ،‬بالتالي يبدو لنـا‬
‫المســلم الشرقــي كائنــا أقرب إلى عالم الموات و ل يملك رغبــة حقيقيــة فــي الحياة و هــو بانتظار‬
‫الموت على كلّ حال ‪ ،‬و ل يَهمّـ بعــد ذلك مــا إذا كان الحكــم الذي يعيــش فــي ظله هذا المســلم ‪،‬‬
‫ديمقراطيا أم دكتاتوريا إستبداديا! لنه فقد الرغبة في الحياة على كُلّ حال‪.‬‬
‫سيّد الصدر‪:‬‬‫يقول ال ّ‬
‫" وهذه الغيبيــــــة العميقــــــة فــــــي مزاج النســــــان المســــــلم حددت مــــــن قوة أغراء‬
‫المادة للنســــان المســــلم وقابليتهــــا لثارتــــه المــــر الذي يتجــــه بالنســــان فــــي العالم‬
‫الســــلمي حيــــن يتجرد عــــن دوافــــع معنويــــة للتفاعــــل مــــع المادة وإغرائه باســــتثمارها‬
‫إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة‪.‬‬
‫وقـــد روّضتـــه هذه الغيبيـــة على الشعور برقابـــة غيـــر منظورة قـــد تعـــبر فـــي وعـــي‬
‫المســـلم التقـــي عـــن مســـؤولية صـــريحة بيـــن يدي ال تعالى وقـــد تعـــبر فـــي ذهـــن مســـلم‬
‫آخــــر عــــن ضميــــر محدّد وموجّـــه وهــــي على أي حال تبتعــــد بإنســــان العالم الســــلمي‬
‫عـــن الحســـاس بالحريـــة الشخصـــية والحريـــة الخلقيـــة بالطريقـــة التـــي أحـــس بهـــا‬
‫النسان الوروبي"‪ .‬إقتصادنا ص ‪.16‬‬
‫هذه العبارات ذات المغزى ‪ ،‬توضح لنا و إلى أبعد الحدود ‪ ،‬مدى ذوبان "الفرد" كذات إنسانية‬
‫فـي نقيضهـا "الجماعـة" ‪ ،‬بالتالي فالشبـه بيـن مجتمعاتنـا المسـلمة و مجتمعات الحيوان "النحـل" ‪،‬‬
‫"الزنابيـر" ‪" ،‬النمـل" و غيرهـا ‪ ،‬شبهـا كـبيرا ‪ ،‬هذا إن لم تكـن مجتمعاتنـا أكثـر جمودا ‪ ،‬فالنحـل و‬
‫منذ آلف السنين ينفذ مهامه بشكل آلي متكرّر و دون أن يطرأ عليها أي تغيير يُذكر ‪ ،‬بالتالي فل‬
‫أمـل مـن تغييـر أو تطويـر هكذا مجتمـع ‪ ،‬و ل داعـي أيضـا أن يرهـق المفكّرون أنفسـهم فـي خلق‬
‫"فلسـفات إقتصـادية" ‪ ،‬بينمـا ثنائيـا الفرد و المجتمـع ل يملكان الرغبـة فـي الحياة ‪ ،‬و هـي الرغبـة‬
‫السـاس لي إقتصـاد ‪ ،‬و كمـا قال الصـدر حرفيـا "و هـي ــ يقصـد ضميـر و عقـل المسـلم ــ على أي‬
‫حال تبتعد بإنسان العالم السلمي عن الحساس بالحرية الشخصية و الحرية الخلقية بالطريقة‬
‫التي أحس بها النسان الوروبي"!! إنها كلمات كبيرة و مؤلمة و تمسّ الحقيقة ‪ ،‬و بينما كان من‬
‫المنتظر أن تتحول إصهارات ثقافة رفض الظلم و الطغيان التي زرعها الحسين بن علي و روّاها‬
‫بدمائه و أبناءه فـي عمـق عالمنـا السـلمي إلى ثورة "عقليـة" و أسـاسا لحريـة تجعـل مـن النسـان‬
‫إنســانا يحــب الحياة لنفســه و لغيره ‪ ،‬إل أن المؤمنيــن بالثورة رضخوا للعقليــة القائمــة و خلقوا‬
‫لمجتمعاتهــم "ثوابــت" و "هويات" و "تقاليــد" يجــب الدفاع عنهــا كمــا دافــع أبــو ســفيان عــن قِيــم‬
‫العشيرة و القبيلة ‪" ،‬هُبل" ‪" ،‬اللت" ‪" ،‬ال ُعزّى"‪.‬‬
‫أيها الصدر الكبير ‪ ،‬لقد أصاب قلبك الحقيقة لكن عقلك أخطأ الستنتاج ‪ ،‬فالقتصاد المطروح‬
‫مـن قبـل السـيد الصـدر كـبرنامج متكامـل ‪ ،‬ل يمكـن تطـبيقه إل فـي ظـل شعـب فيلسـوف يكون أفراده‬
‫نسخا أخرى تشبه عبقرية الصدر و هذا غير ممكن طبعا ‪ ،‬لن العالم السلمي و قبل أن نتحدث‬
‫عــن أي إقتصــاد ل يملك حريــة ليبدي رأيــه فــي أبســط مشاكله الحياتيــة فضل عــن الســياسيّة و‬
‫القتصـاديّة ‪ ،‬لذلك كان الولى لو كانـت صـيغة البحـث الذي صـاغه الشهيـد الصـدر تحـت عنوان‬
‫"حريّتنـا" قبـل أن تكون "فلسـفتنا" أو "إقتصـادنا" ‪ ،‬إذ أن التعايـش مـع الطغاة مـن قبـل هذه المـة‬
‫"السلمية"! هو أكبر دليل على فشل هذه المة ‪ ،‬و بالطبع فإن الصدر لم يستطع أن يكون مثلهم‬
‫و فضّل الموت حرّا على أن يعيش ذليل لطاغية سفـّاح‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" وقــــــــد عزز فكرة الجماعــــــــة لدى النســــــــان المســــــــلم الطار‬
‫العالمـــي لرســـالة الســـلم الذي ينيـــط بحملة هذه الرســـالة مســـؤولية وجودهـــا عالمي ًا‬
‫وامتدادهــــا مــــع الزمان والمكان فإن تفاعــــل إنســــان العالم الســــلمي على مــــر التاريــــخ‬
‫مـــع رســـالة عالميــة منفتحــة على الجماعـــة البشريــة يرســخ فــي نفســه الشعور بالعالميـــة‬
‫والرتباط بالجماعــــــة‪ .‬وهذه الخلقيــــــة التــــــي يعيشهــــــا إنســــــان العالم الســــــلمي إذا‬
‫لحظناهـــا بوصـــفها حقيقـــة مائلة فـــي كيان المـــة يمكـــن الســـتفادة منهـــا فـــي المنهجـــة‬
‫للقتصــــــاد داخــــــل العالم الســــــلمي ووضعــــــه فــــــي إطار يواكــــــب تلك الخلقيــــــة‬
‫لكــــي تصــــبح قوة دفــــع وتحريــــك كمــــا كانــــت أخلقيــــة مناهــــج القتصــــاد الوروبــــي‬
‫الحديث عاملً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام" إقتصادنا ص ‪.17 – 16‬‬
‫فليعذرنـي السـلميون و حزب الدعوة خصـوصا إن أبديـت تحفّظاتـي على تعـبير "ُأمّة" ‪ ،‬فهـي‬
‫تبدو لي كلمــة ضبابيــة و غيــر واضحــة ‪ ،‬كمــا أن الواقــع ينفيهــا ‪ ،‬فامتدادا مــن إندونيســيا و حتــى‬
‫موريتانيـا و مالي ‪ ،‬ل توجـد دولة إسـلمية تعيـش نوعـا حقيقيـا مـن السـتقرار و النسـجام ‪ ،‬و إن‬
‫وجــد شيــء مــن ذلك فهــو ظاهري و يخفــي تحتــه كثيرا مــن القســر و الكراه ‪ ،‬بمعنــى أنــه إتحاد‬
‫يتجاوز حتــى الجبار إلى "الرهاب" ‪ ،‬بينمــا العراق الجديــد الذي يتــم صــياغته بعــد الطاحــة‬
‫بالطاغية صدّام ‪ ،‬فهو يحاول خلق أول تجربة من نوعها ‪ ،‬و لكن ها هنا ل بد من إتحاد إجباري‬
‫"بصيغ قانونية" و ليس التحاد الجباري على طريقة الدول العربية الطائفية‪.‬‬
‫فمنطقتنا تفتقد "النسجام القائم على الحرية" ‪ ،‬و ل إنسجام بدون الديمقراطية و حرية الختيار‬
‫‪ ،‬و أي إنسـجام يظهـر إلى السـطح تحـت حراب الدكتاتوريـة و أنظمـة البوليـس هـو إنسـجام كاذب و‬
‫ينفرط عقده بمجرد ضعـف الدكتاتور أو موتـه ‪ ،‬مـن هنـا كان اللزم لتوفيـر بيئة إقتصـادية التهيئة‬
‫لهـا عـبر توفيـر الحريـة و اختيار "صـيغة تعايـش" بيـن الشعوب يكون التفكيـر الح ّر أسـاسها ‪ ،‬أمـا‬
‫النسجام الديني و المذهبي أو القومي فهو إنسجام "صوري" ل "جوهري" ناتج عن إختيار حرّ‬
‫للفراد الذين يشكلون المجموع‪.‬‬
‫إن العلقة بين النسان و البيئة يربطها معتقده و أُلوب فهمه للبيئة و المجتمع ‪ ،‬فالملحد المادّي‬
‫الّذي ل يؤمـن بأي شيـء عدا القوانيـن الماديـة ‪ ،‬ينتهـي الحال بـه إلى أن يكون هـو الخـر جزءا مـن‬
‫المحيط الجامد و الغير إنساني ‪ ،‬و النسان الموغل في التدين أيضا يمثل الجانب السلبي المقابل‬
‫للملحـد ‪ ،‬إذ غالبـا مـا يكون هؤلء المتديّنون إنطوائييـن و منغلقيـن و كسـالى "تحـت شعار التّوكـل‬
‫على ال" ‪ ،‬لكن يبقى هذا الموضوع شأنا شخصيا ‪ ،‬إذ ل يمكن ليّ أحد أن يفرض هذه القناعة أو‬
‫تلك على الرأسـمالي "صـاحب رأس المال" ‪ ،‬لكـن فـي الحضارة الغربيـة ــ و تحديدا فـي النموذج‬
‫المريكي ـ نجد الملّك و الغنياء يتبرعون بمليين الدولرات لصالح الكنائس ‪ ،‬و حتى المساجد‬
‫‪ ،‬و العمال الخيريّة كالنفاق على المشرديـن و الذيـن يحتاجون المسـاعدة ‪ ،‬و هذا ممـا يؤكـد أن‬
‫النظام الديمقراطـي الرأسمالي قـد تخطـى تحدّي "الغراق فـي الما ّديّة" و استطاع خلق علقة بين‬
‫أصحاب الموال و العمل الخيري‪.‬‬
‫يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫" فنظرة إنســــــان العالم الســــــلمي إلى الســــــماء قبــــــل الرض يمكــــــن أن تؤدي إلى‬
‫موقــــــف ســــــلبي تجاه الرض ومــــــا فــــــي الرض مــــــن ثروات وخيرات يتمثــــــل فــــــي‬
‫الزهـــــد أو القناعـــــة أو الكســـــل إذا فصـــــلت الرض عـــــن الســـــماء وأمـــــا إذا ألبســـــت‬
‫الرض إطار الســـــماء وأعطـــــي العمـــــل مـــــع الطبيعـــــة صـــــفة الواجـــــب ومفهوم العبادة‬
‫فســـــوف تتحول تلك النظرة الغيبيـــــة لدى النســـــان المســـــلم إلى طاقـــــة محركـــــة وقوة‬
‫دفـــع نحـــو المســـاهمة بأكـــبر قدر ممكـــن فـــي رفـــع المســـتوى القتصـــادي‪ .‬وبدلً عمـــا‬
‫يحســــه اليوم المســــلم الســــلبي مــــن برود تجاه الرض أو مــــا يحســــه المســــلم النشيــــط‬
‫الذي يتحرك وفـــــق أســـــاليب القتصـــــاد الحـــــر أو الشتراكـــــي مـــــن قلق نفســـــي فـــــي‬
‫أكثــــــر الحيان ولو كان مســــــلم ًا متميعاً ســــــوف يولد انســــــجام كامــــــل بيــــــن نفســــــية‬
‫إنسان العالم السلمي ودوره اليجابي المرتقب في عملية التنمية" إقتصادنا ـ ص ‪.17‬‬
‫إنّـ كلم السـيد الصـدر هـا هنـا يبدو لي و كأنـه اسـتشراف لحقيقـة العلقـة الواجـب إيجادهـا بيـن‬
‫ال ِقيَم الدينيّة و القتصاديّة الدنيويّة ‪ ،‬المر الذي سيحقق للمجتمع هدفين أساسيين هما‪ :‬أول‪ :‬تنشيط‬
‫التجارة و حركتها السريعة في تبادل رؤوس الموال و الرباح‪ .‬ثانيا‪ :‬توفير المال للعمل الخيري‬
‫و الخدمات الساسيّة من طعام و مأوى للمسحوقين أو الذين لم ينجحوا في الحياة‪ .‬لكن يبقى المر‬
‫هـا هنـا هـو مسـألة تنظيـم قوانيـن ل تتغلف بغلف الديـن ‪ ،‬بمعنـى أن أي قوانيـن يُصـاحبها خطاب‬
‫ديني أو وعظ ‪ ،‬تُقابَل عادة بالرفض و التهرب ‪ ،‬و لنه ل يوجد إنسان كامل ‪ ،‬و حتى أؤلئك الّذين‬
‫رافقوا النــبياء كانوا بشرا لهــم رغبات و شهوات و حتــى أن كثيرا منهــم أطاع الشيطان ‪ ،‬إذا ل‬
‫يمكـن لنـا أن نتّهـم إقتصـادا مـن القتصـادات ‪ ،‬كالرأسـماليّة هنـا ‪ ،‬بأنهـا فاشلة لنّـ بعـض الغنياء و‬
‫المترفين تهرّبوا من دفع الضّريبة للدولة ‪ ،‬و حتى في إيام النبي محمد عُرف أحد المسلمين و هو‬
‫"ثعلبـة" بأنـه بخـل و لم يدفـع الزكاة و بالتالي تركـه النـبي محمـد و هـو حزيـن دون أن يُعاقبـه أيّـ‬
‫عقاب‪.‬‬
‫إن الصــدر فـي محاولتـه خلق علقــة مماثلة بيـن الرأسـمالي "المســلم" و القوانيـن الطبيعيـة و‬
‫البيئيّة ‪ ،‬قد نجح إلى حدّ كبير في فهم العلقة بين القتصاد و خدمة المجتمع ‪ ،‬لكن يبقى الشكال‬
‫هـا هنـا هـو ‪ :‬هـل مـن الممكـن وضـع رقابـة فوقيـة "دينيـة" على القتصـاد؟ الحقيقـة أن المجتمـع‬
‫الشيعـي اليرانـي كان أقوى حينمـا كان يُديـر تجارتـه و تعاملتـه فـي ظـل نظام الشاه الذي كان قـد‬
‫فتح أبواب القتصاديّات الكبرى أمام اليرانيين ‪ ،‬و كانت المدارس الدينية في إيران تحصل على‬
‫ملييــن الدولرات مــن التــبرعات و الصـّدقات ‪ ،‬لكــن منــذ ثورة ‪ 1979‬و هيمنــة النظام الدينــي ‪،‬‬
‫تراجعت مداخيل الدّولة اليرانية و راحت بعض مدارس الدولة "الدّينية" تتلقى أموال حكومية ‪،‬‬
‫بمعنى أنه ل يجوز لهم أصل التّصرف بهذه الموال لنها تعود للقطاع العام‪.‬‬
‫إن الظّن بأن إقتصــادا "إســلميا" قائمــا على المباديــء الخلقيــة ســيكون ناجحــا ‪ ،‬هــو ظنّ‬
‫خاطيـء ‪ ،‬فمـا أسـهل على تاجـر أو رأسـمالي أنانـي أن يُطيـل اللّحيـة و يحمـل مسـبحة و يتمسـّح‬
‫بالكعبـة و القرآن و يذرف دموع "التقوى و الورع" ‪ ،‬لكـن فـي السـّوق و التعامـل المباشـر ل تجده‬
‫يختلف عن عن أسوأ المرابين و المحتالين ‪ ،‬يقول السيد الصدر‪:‬‬
‫"ومفهوم إنســـــان العالم الســـــلمي عـــــن التحديـــــد الداخلي والرقابـــــة الغيبيـــــة الذي‬
‫يجعله ل يعيـــــش فكرة الحريـــــة بالطريقـــــة الوروبيـــــة يمكـــــن أن يســـــاعد إلى درجـــــة‬
‫كـــــبيرة فـــــي تفادي الصـــــعاب التـــــي تنجـــــم عـــــن القتصـــــاد الحـــــر والمشاكـــــل التـــــي‬
‫تواجههـــا التنميـــة القتصـــادية فـــي ظله عـــن تخطيـــط عام يســـتمد مشروعيتـــه فـــي ذهـــن‬
‫إنســـان العالم الســـلمي مـــن مفهومـــه عـــن التحديـــد الداخلي و الرقابـــة غيـــر المنظورة‬
‫أي يستند إلى مبررات أخلقية" إقتصادنا ـ ص ‪.17‬‬
‫و المـبررات الخلقيـة هنـا ل فائدة منهـا ‪ ،‬على صـعيد الملموس ‪ ،‬لنّـ المسـألة الخلقيّة تبقـى‬
‫مسألة شخصيّة و ذاتية ‪ ،‬و لكن يُمكن فرض قوانين ـ و هذا ممكن في كلّ المجتمعات و القتصاد‬
‫المريكـي معروف بضرائبـه الباهظـة و عقوباتـه الشّديدة على المخالفيـن ــ و بموجـب هذه القوانيـن‬
‫المشدّدة ‪ ،‬الّتي تراعِ مصلحة المجتمع ‪ ،‬من الممكن أن يتردّد التاجر و الرأسمالي و المستثمر ألف‬
‫مرّة قبل أن يُقدم ـ مثل ـ على التهرب من الضّريبة‪.‬‬
‫أردنـا مـن هذا النقـد البسـيط لبعـض أفكار الشهيـد الصـّدر الول أن نوضـح أن حزب الدعوة ــ و‬
‫مـن خلل مؤسـّسه ــ هـو أقرب إلى الديمقراطيـة مـن الحركات السـلمية الُخرى ‪ ،‬و كأن هناك‬
‫خطوة واحدة بقيـت للسـيد الصـدر ليكون فـي وسـط المعسـكر الديمقراطـي ‪ ،‬إذ أنـه لم ينتقـد النظام‬
‫الديمقراطــي الرأســمالي إل على مســتوى بســيط إذا مــا قورن بمواجهتــه للنظاميــن الشتراكــي ‪،‬‬
‫الشيوعـي ‪ ،‬و القومـي ‪ ..‬إذ كان نقده لهذه النظريات نقدا على مسـتوى "الصـراع" و إيقاف امتداد‬
‫هذه النظريات الشّموليّة ‪ ،‬و الملحظ أنه لم ينتقد "النظام الرأسمالي المريكي" ‪ ،‬ربّما لنه أعتقد‬
‫أنّ عليه الطلع أكثر على مزايا هذا النظام أو لقناعته أنه أفضل نظام موجود‪.‬‬
‫إن حزب الدعوة و مـن خلل متابعتـي لتصـريحات الدكتوريـن الجعفري و المالكـي ‪ ،‬معجبان‬
‫بالتجربــة التركيــة الحاليــة و التــي ضمنــت مشاركــة "إســلميّين" فــي الســلطة مقابــل الحفاظ على‬
‫"علمانيّة" و حياديّة الدولة ‪ ،‬و فعل فمنذ خروج الحزب من العراق في نهاية السبعينيات و لجوءه‬
‫ن الدعوة دخل في خلفات مع "النظام الدّيني في إيران" حول استقلليته‬ ‫إلى إيران و الغرب ‪ ،‬فإ ّ‬
‫السـياسية و تمسـّكه بالخيار الوطنـي العراقـي ‪ ،‬لكننـي أسـتثني و أتحفـظ على "الصـدريين ــ جماعـة‬
‫مُقتدى الصـــدر" الّذيـــن شوهوا حزب الدّعوة عـــبر تبنيهـــم الخطاب المتطرف ‪ ،‬و مهمـــا حاول‬
‫"البعثيون" و آخرون يريدون إزاحــة هذا الحزب مــن المشاركــة ‪ ،‬و رغــم تحفـ ـّظاتي على كثيــر‬
‫مواقــف و آراء حزب الدعوة ‪ ،‬إلّ أنــه و للحقيقــة أكثــر تمس ـّكا بالبرامــج الوطنيــة مــن كثيــر مــن‬
‫الحزاب التي ترفع "شعار" الوطنية و العلمانية و هي ليست إل عصابات وراثية‪.‬‬
‫العراق الذي تشكّل بعد تحريره من نظام البعث و حكم صدام في ‪ 2003‬هو بيئة خصبة لنشر‬
‫ل مـا يجري مـن أعمال إرهابيـة يشنهـا بعثيون مـن أنصـار النظام القديـم و‬ ‫الديمقراطيـة ‪ ،‬رغـم ك ّ‬
‫سلفيين تكفيريين "الحركة الوهابية" و أحزاب قومية و طائفية لم تتمكن بعد من فهم الديمقراطية ‪،‬‬
‫و الصح أنها ل تريد التعامل بالديمقراطية كونها تؤمن بالـ"قوميّة" على نسق "حزب البعث" إل‬
‫أنهــا قــد تكون منتميــة إلى قوميّة أُخرى غيــر عربيّة ‪ ،‬و المشكلة التــي يعيشهــا العراقيون الن ‪،‬‬
‫بالضافـة إلى الفلتان المنـي ‪ ،‬هو دسـتورهم المليـء بالثغرات و الذي سـيتسبب مسـتقبل ــ و أرجـو‬
‫أن أكون مخطئا ـ ـ فــي إفشال العمليــة الســياسية برمّتهــا و بالتالي دخول العراق فــي نفــق مظلم ‪،‬‬
‫فالعراق ‪ ،‬كمـا وصـف البعـض دسـتوره الجديـد ‪ ،‬خلطـة مثيرة للعجـب و للشمئزاز فـي آن واحـد ‪،‬‬
‫فل هو دولة علمانية و ل إسلمية دينية ‪ ،‬و ل هو فدرالية أو مركزية أو حتى مؤلّف منهما ‪ ،‬إنه‬
‫باختصار دستور موزّع على هيئات سياسية معيّنة ‪ ،‬و إضافة إلى التشوهات الجينية التي أضافها‬
‫القوميون "العرب و غيـــر العرب" إلى هذا الدســـتور حول هويـــة العراق "القوميـــة" ‪ ،‬عمـــل‬
‫السـلميون إيضـا ــ سـّنيّهم و شيعيّهـم ــ على تشويـه الدسـتور بإضافـة نصـوص دينيـة يختلف فـي‬
‫تفسيرها حتى أصحاب المذهب الواحد‪.‬‬
‫مـن الصـعب ‪ ،‬إن لم يكـن مـن المسـتحيل ‪ ،‬إقامـة نظام ديمقراطـي راسـخ و قوي ‪ ،‬فـي ظـل سـلطة‬
‫مركزيـة هزيلة و صـوريّة و ل تملك سـلطة فعليـة ‪ ،‬و أيّ مراجعـة للنظمـة الفدراليـة العالميّة ‪،‬‬
‫تظهر لنا و بوضوح أهمية تقوية المركـز للحفاظ على التناسـق بين القاليـم و المحافظات ‪ ،‬و لكن‬
‫هذه الدولة تسـير بصـعوبة لنّـ كـل طرف كوّن لنفسـه نظريّة كاملة و شاملة عـن مفهوم الدّولة فـي‬
‫العراق و لكــي تتناســق الدولة مــع "مفهومهــا" لدى كــل حزب ‪ ،‬ل ُبدّ مــن البدء مــن الصــفر ‪،‬‬
‫فالســلمي يدعــو إلى الديمقراطيــة و الحريــة مضافــا إليهــا عبارة "و ‪ ..‬لكــن" ‪ ،‬فمــن إحترام‬
‫"السلم" مرورا بـ"ثوابت السلم" ث ّم "شخصيات التاريخ السلمي"! ‪ ،‬تصبح الديمقراطية و‬
‫الحرية مجرد كلمات رنّانة ‪ ،‬و نفس الشيء يحدث مع الحزاب المؤمنة بالصراع القومي و بناء‬
‫دولة داخـل الدولة ‪ ،‬إذ ل يجوز التطاول على "الهُويّة القوميّة" و واجـب هـو "إحترام المناضليـن"‬
‫الموجودين في السلطة و أن الوطن العراقي نفسه حافل بالعداء !!‪ ..‬إن الديمقراطية ليست مجرّد‬
‫انتخابات ــ رغـم أهميّة النتخابات الحرّة و النزيهـة ــ إلى أن هناك حريّات تعتــبر مـن أسـاسيّات‬
‫حقوق النســان و المواطنــة و ل تســتطيع أي أكثريّة أو أقليــة أن تُلغــي هذه الحقوق كونهــا قائمــة‬
‫بذاتها‪.‬‬
‫حــــــــــول حــــــــــــــــقــوق المرأة‬
‫مما ل شكّ فيه أن مسألة حقوق المرأة في العالم السلمي أو العالم المسلم ‪ ،‬تعدّ من أكثر المسائل‬
‫تعقيدا و صـعوبة فـي الملئمـة بيـن مـا أصـبح نظرة متوارثـة تجاه المرأة و مـا بلغتـه الدّول الحديثـة‬
‫مـن إنجازات فـي هذا المضمار ‪ ،‬فالنظرة السـلميّة السـّائدة و حتّى أكثرهــا اعتدال ‪ ،‬تنظــر إلى‬
‫الُنثى و المرأة على أنها أقلّ مرتبة من الرّجل ‪ ،‬و غالبا ما تُقارن المرأة بالطفال أو الحيوانات ‪،‬‬
‫و كلّ محاولت السـلميين ‪ ،‬الّتـي يمكننـا متابعتهـا فـي كتاباتهـم و محاضراتهـم ‪ ،‬فـي إقناعنـا بأن‬
‫المرأة ل تعانــي مــن أي تهميــش أو إقصــاء هــي محاولت فاشلة و تجانــب الواقــع ‪ ،‬صــحيح أن‬
‫الوضاع تتفاوت مـن مكان إلى آخـر و هناك فروقات حتّى فـي البلد الواحـد فـي التّعامـل مـع المرأة‬
‫سلبا أو إيجابا‪.‬‬
‫إن معاناة المرأة فــي العالم المســلم ل تقتصــر على تجاهــل حقوق النّســاء مــن قبَل الســلطة فقــط ‪،‬‬
‫فالمجتمع له دور كبير أيضا في إقصاءها عن الحياة أو تحجيم مشاركتها في الشأن العامّ ‪ ،‬كما أنّ‬
‫السلميين ـ و حتى كثير من النظمة و الحزاب الّتي تعلن أنها علمانية ـ يق صّرون دور المرأة‬
‫على أن تكون تبعا للرجل سواء كان هذا الرجل هو زوجها أو أباها أو أخوها أو حتّى إبنها ‪ ،‬لقد‬
‫كان السلم في أوّل أيّامه قد أنجز تغييرات ثورية في المساواة بينها و بين الرّجل ‪ ،‬لكن حاليا و‬
‫بعــد ‪ 1400‬عام ‪ ،‬فقــد آن لكثيــر مــن الشياء أن تتغيّر ـ ‪ ،‬و مــن ضمنهــا مســألة "ضرب الرّجــل‬
‫زوجتــه" ‪ ،‬و ليــت المــر اقتصــر على الضّرب ‪ ،‬إذ غالبــا مــا تُقتَلُ المرأة أو الفتاة فــي المجتمــع‬
‫الشرقـي لمجرّد الشّك فـي أنّـ لهـا علقـة غيـر شرعيّة بشخـص مـا ! و غالبـا مـا يتـم تغطيـة الجرائم‬
‫ضــد النّســاء بـــ"جرائم الشّرف" أو بحجــة "غســل العار" و هــي فعل مثلبــة و نقيصــة فــي جــبين‬
‫المجتمعات و الدول "السلمية"‪.‬‬
‫صـحيح أيضـا أن المرأة اليرانيّة ــ مثل ــ تمتلك حقوقـا كـبيرة إذا مـا قورنـت بالمرأة السـعودية و‬
‫الخليجيّة ‪ ،‬إلّ أن هناك أيضا معاملة سيئة ضد المرأة فيما يتعلق بالضرب أو الحريّة الشخصيّة ‪،‬‬
‫لكن أيضا على المنظمات الغربية الّتي تتابع حقوق النسان و حقوق المرأة أن ل تنظر إلى حقوق‬
‫المرأة من زاوية واحدة كمسألة "الحجاب" ‪ ،‬صحيح أن فرض الحجاب بالقوة ‪ ،‬كما هو الحال في‬
‫السـّعوديّة و بشكـل أخفّـ قليل فـي إيران ‪ ،‬هـو أحـد الجوانـب السـلبية الّتـي تُمارَس ضدّ المرأة ‪ ،‬إذ‬
‫حرّ ‪ ،‬أمّا فرض نمـط‬ ‫ينبغـي أن تكون مسـألة الحجاب إختياريـة و نابعـة مـن الختيار الشخصـي ال ُ‬
‫معين من التّصرّف الشخصي فهو مما يطعن في شرعية أي نظام ‪ ،‬بما في ذلك النظام السلمي‪.‬‬
‫يُحاول السـلميون ‪ ،‬كمـا هـو حالهـم فـي كـل شيـء ‪ ،‬إقناعنـا أن المور فـي العالم المسـلم ممتازة و‬
‫أن المرأة تمتلك كافة حقوقها و هي سعيدة في أن تكون تابعة للرّجل "لنّ هذا ما يريده ال لها"! ‪،‬‬
‫بل إن هناك من النسوة من يدافعن عن هيمنة الرّجال بحجة أن هذا هو النظام الطّبيعي الّذي ينبغي‬
‫للمرأة أن تعيشه‪.‬‬
‫لكــن الواقــع يُكذّب هذه الدعاءات و وقوع إعتداءات جنســية أو عنــف أو قتــل هــي فــي إزدياد‬
‫مضطرد ‪ ،‬و كُلّما سادت ال ِقيَم الدّينيّة في أي مجتمع ‪ ،‬كلما زاد العنف تجاه المرأة ‪ ،‬كما أن تبعيّة‬
‫المرأة إلى الرّجـل إقتصـاديّا هـي أحـد أهـم السـباب الّتـي تجعـل المرأة متردّدة و خائفـة فـي الحديـث‬
‫عن معاناتها أو المطالبة بحقوقها ‪ ،‬و إذا ظنّ السلميّون من أمثال محمد قطب و آية ال مطهّري‬
‫أن مجرد تغطيـة معاناة المرأة بلحاف ثخيـن هـو كفيـل بإسـعاد المرأة ‪ ،‬فهذا خطـأ ل حاجـة لنـا فـي‬
‫تفنيده ‪ ،‬و غايـة مـا يفعله هؤلء هـو مقارنـة حقوق المرأة المسـلمة مـع نظيرتهـا الغربيـة قبـل ‪1000‬‬
‫عام من الن ‪ ،‬و ل يستطيعون مناقشة الموضوع على ضوء الواقع الحالي و المعاصِر‪.‬‬
‫و سـنأخذ عبارات تتردّد بيـن السـلميين كنموذج للمناقشـة حول كيفيّة تعامـل المسـلمين و السـلم‬
‫"السـائد حاليّا" مـع المرأة أو الجنـس اللطيـف بشكـل عام ‪ ،‬فالمرأة فـي العالم المسـلم تتعرض لكثيـر‬
‫مـن العنـف الُسـَري و الجتماعـي و السـياسي ‪ ،‬و ل غرابـة فـي أن نجـد المرأة الّتـي تتعرض إلى‬
‫الغتصـاب فـي بعـض البلدان تُرجـم حتـى الموت بحجـة أنهـا "زانيـة"! أُنظـر‪ :‬الخلل فـي السـلم ــ‬
‫إرشاد منجي ص ‪.6‬‬
‫يقول أحدهم‪:‬‬
‫" السؤال الذي يطرح نفسه ونحن نتحدث عن قضية تحرير المرأة هو‪:‬هل للمرأة قضية في‬
‫مجتمعنا؟ولماذا هذه الثارة حول المرأة؟هل ضاعت هويتها لدرجة أن تطرح أسئلة عريضة‬
‫مثل‪ :‬أيتها المرأة أين هويتك؟أو هل هي مظلومة حتى تعلن المرافعة ضد الرجل؟‬
‫إن وضع المرأة ومهمتها في المجتمع قضية واضحة في دين ال‪ ،‬لذلك جاءت التشريعات‬
‫الخاصة ببناء البيت المسلم والمجتمع المسلم وبالعلقات بين الرجل والمرأة محددة وواضحة‪،‬‬
‫بل إن الصل الذي قام عليه مبدأ الذكر والنثى في الكون هو الذي أصله الدين‪ ،‬وهو وضوح‬
‫هوية المرأة ووضوح مهمتها في الحياة"‬
‫أن ترفض سؤال مطروحا بشدة فهذا يعني أنّ هؤلء ينظرون بشكل سلبي ‪ ،‬و كأنهم يُعلنون لنا‬
‫ن الرّجل يعاني في مجتمعاتنا فضل عن المرأة و هي‬ ‫أنهم يرفضون الموضوع جملة و تفصيل ‪ ،‬إ ّ‬
‫ن هذا هو ما تريده‬‫ذلك الكائن الضعيف المحبوس في قفص فرض عليها قسرا و بحجة أ ّ‬
‫النّصوص المقدّسة! فالمرأة لها دور وحيد هو "البيت" فبين هذه الجدران يكمُن عالمها كما يقول‬
‫هؤلء المعمّمون ‪ ،‬و دائما يكون جواب هؤلء المُنظّرين الدّينيّين هو أن للمرأة "هُوية إسلمية"!‬
‫ل يمكن لها أن تتخطّاها ‪ ،‬و من الواضح أنّ هذه خدعة فكريّة تنطلي على كثير من النّساء ‪ ،‬و‬
‫غالبا ما يتم النظر إلى المرأة على أنها "كُتلة من الغراء" و بمجرد أن تخرج إلى الحياة و العمل‬
‫تكون عُرضة للنحلل الخلقي! و هي خدعة مكشوفة لتجاوز السؤال الحقيقي الّذي يقول‪ :‬و ماذا‬
‫ن مقارنة بسيطة بين ما يتوفر في الغرب من ح ّريّة ارتداء‬ ‫عن هويّة المرأة النسانيّة ‪ !"..‬إ ّ‬
‫الحجاب أو عدمه ‪ ،‬و تضاءل هذه الحريات في البلدان المسلمة يُظهر أن هناك جبال من الجليد‬
‫يُريد المشايخ و المللي و حكومات المنطقة "القوميّة" تجاوزها و بكل بساطة ‪ ،‬خصوصا و أنّهم‬
‫ل يملكون حقّ احتكار تفسير النصوص المقدسة ‪ ،‬خصوصا و أنّ هؤلء المدّعين للتديّن يقفون‬
‫ضد تطوير فهم النصوص فضل عن فهم الواقع ‪ ،‬كما أن التّفاسير الحاليّة للقرآن و الحاديث ل‬
‫يمكن لها أن تكون الفهم النّهائي للنّصوص المقدسة و بالتّالي ل بد من محاكمة و نقد "التّراث‬
‫الدّيني" الّذي اختطف الدّين من أيدي المتديّنين‪.‬‬
‫من هنا نجد أحدهم يقول‪:‬‬
‫" لقد تخصص كل من الرجل والمرأة بمهمة ل يستطيع الخر أن يقوم بها بالصورة المطلوبة‪:‬‬
‫فالمرأة مشغولة في البيت‪ ،‬فالصل بقاؤها فيه لتؤدي رسالتها إل لحاجة تخرجها عن الصل‪.‬‬
‫والرجل يتولى أمور ما خارج البيت‪ ،‬وإذا اختلطت المهام بينهما حصل الضطراب حتى يشمل‬
‫المجتمع‪ ،‬ثم الحياة كلها"‪.‬‬
‫العجيب هو أمرُ هذا التّخصّص الّذي يطرحُهُ هؤلء المشايخ ! أيّ اختلط في المهام هو الّذي‬
‫ن الحياة في تغيّر و تطوّر مستمر ‪ ،‬و بالمس كانت المرأة ل تقدر على‬ ‫يُحدثنا عنه الشيخ ! إ ّ‬
‫منافسة الرّجل و هي اليوم ‪ ،‬في أكثر بلدان العالم ‪ ،‬رئيسة ‪ ،‬رياضية ‪ ،‬صحفيّة ‪ ،‬قائدة طائرة و‬
‫غير ذلك من الُمور الّتي كانت حكرا على الرّجال ‪ ،‬أمّا أن يفرض المشايخ رؤىً تعود لقرون‬
‫خلت على أساس أنها "السلم"! فهو غير مقبول ‪ ،‬إن النظرية تكون عديمة الجدوى حينما ل‬
‫يكون لها حظّ من التطبيق ‪ ،‬و الواقع يُناقِض كُلّ أُطروحات المشايخ و فقهاء الجمود العقلي ‪ ،‬و‬
‫حينما يجدون أن بقاء المرأة في البيت يخلق الكثير من المشاكل و ليس سجنها بديل عن‬
‫خروجها ! يلجأ هؤلء الفقهاء و السلميّون إلى التّمسّك بأهداب نظريّة أُخرى أش ّد ضعفا من‬
‫الولى فتراهم يدّعون أنّ‪ :‬ديننا السلمي يختلف عن ذلك المسيحي الغربي ‪ !"..‬و كأنّهم يقولونها‬
‫ن السلم هو دين التّخلّف و الرّجعيّة ‪ ،‬ففي الغرب المسيحي و تركيا السلميّة و‬ ‫و بل حياء أ ّ‬
‫ل النظام و الحياة ‪،‬‬‫اليابان التّاوية تخرج النسوة للعمل و منافسة أقرانهنّ من الرجال دون أن يخت ّ‬
‫ن المرأة تُساهم بدورها حينما تخرج للعمل في‬ ‫فبدل من أن يكون للعائلة مصدر واحد للدّخل فإ ّ‬
‫إضافة مدخول جديد للُسرة‪.‬‬
‫ي تغيير أو‬‫ل إثارة الرّعب في وسط المجتمع من أ ّ‬ ‫إنّ الشيخ و من هُم على شاكلته ل يتقنون إ ّ‬
‫جديد ‪ ،‬بمعنى أنّهم ل يختلفون عن أؤلئك "الكُفّار" الّذين وقفوا في وجه النّبي محمد و كانوا دوما‬
‫يصفون دين ُه بالبدعة ـ بمعنى أنها الحداثة بعينها ـ بالتّالي يجب تجاهُل هؤلء المُقلّدين ‪ ،‬فنجد‬
‫الشيخ يقول‪:‬‬
‫" ونقول بعد ذلك‪ :‬إذا كانت لقضايا المرأة المطروحة ما يفسر أسباب إثارتها في مجتمعات‬
‫معينة‪ ،‬نقول يفسرها ول يبررها‪ ،‬فإننا ل نجد تبريرا بل ول تفسيرا لطرح هذه القضايا وإثارتها‬
‫في مجتمعنا‪ ،‬حيث تسود قيم السلم الضابطة لوضع المرأة في المجتمع‪.‬‬
‫لذلك يأتي تحذيرنا لكل الغيورين في مجتمعنا من مثل هذه الدعوات التي تريد إخراج المرأة عن‬
‫بيتها وعن مهمتها ورسالتها وطبيعتها‪ ،‬وإذا حصل ذلك‪ -‬ل سمح ال‪ -‬فل تسأل عن هلكة‬
‫المجتمع"‬
‫ن وضعنا المزري و المُتخلّف هو "السلم بعينه" و أن محاولة تغييره سينتهي‬ ‫ن الشّيخ يعتبر أ ّ‬
‫إّ‬
‫بهلك المجتمع كما يزعم ‪ ،‬و حسب الشّيخ فإن علينا مواجهة هذا "السلم"! إذا أردنا أن نقوم‬
‫بأيّ تغيير ‪ ،‬و هذا النمط من التّفكير الجامد الّذي يستكين للجمود و الثبات هو النمط المُفضّل‬
‫للنظمة الدّكتاتورية و حكومات الطّغيان ‪ ،‬فالصّحيح أن أيّ نوع من التّغيير ‪ ،‬مهما كان طفيفا ‪،‬‬
‫يُخشى منه تغيير النّظام السياسي القائم على الحبس و القهر و السّجن ‪ ،‬سجن العقول ‪ ،‬سجن‬
‫الفواه و تكميمها و حبس المرأة في البيت ‪ ،‬و محاولة هؤلء في وصف وضع المرأة في بلداننا‬
‫يشبه دور الذّئب الّذي يحاول إقناع "الخروف" باتباع تعليماته حفاظا على حياة "الخروف" من‬
‫الحيوانات المفترسة ‪ ،‬و نسألهم ‪ :‬إذا كان بقاء المرأة رهينة بيتها هو ما يريده السلم ؟ فلماذا‬
‫ي و تتسبّب في‬ ‫خرجت ُأمّ المؤمنين عائشة من المدينة و حتى البصرة و تخوض حربا ضدّ عل ّ‬
‫مقتل ‪ 30‬ألف شخص ؟ فإذا كانت عائشة مخطئة فعلى الشيخ و مدرسته إعادة النّظر في مجمل‬
‫نظريّاتهم السلمية الّتي بنو عليها قناعاتهم منذ ‪ 1400‬عام من الن ‪ ،‬أو أن يتراجعوا عن‬
‫موقفهم السّلبي من عمل المرأة و مشاركتها في المجتمع و السياسة و القتصاد‪.‬‬
‫يقول أيضا‪:‬‬
‫"إن وضع المرأة في مجتمعنا ل يمكن أن تحلم به تلك المرأة الغربية سواء كانت بنتا أو‬
‫زوجة أو أما‪.‬‬
‫وبنظرة موضوعية لوضع المرأة في الغرب‪ :‬وهي بنت تتقاذفها أيدي الذئاب البشرية‪.‬‬
‫أو زوجة كادحة ل تأوي إلى بيتها إل كالة مرهقة لتشارك الرجل حتى في دفع أقساط‬
‫السيارة وإل فل قيمة لها‪.‬‬
‫وأما يقذفها أولدها بالنهاية في إحدى دور الرعاية الجتماعية"‬
‫من الواضح أن الشّيخ يتحدث عن أوهامه الخاصة ‪ ،‬فالمرأة الغربيّة ل تمارس الحياة الباحية كما‬
‫يتوهم ـ و ربّما يشاهد هو الكثير من أفلم هوليود ـ إل كإختيار شخصي ‪ ،‬و المرأة الغربيّة ل تكاد‬
‫تصل قمّة الشّباب إل و قد شاهدت و زارت عددا من الدّول ‪ ،‬بينما المرأة عندنا ل تكاد تخرج من‬
‫البيت إلّ محاطةً بالعين و الرّقابة المشددة ‪ ،‬ثمّ إنّ المرأة الغربيّة لديها فرصة في شيخوخة‬
‫مريحة ‪ ،‬بينما المرأة المسلمة في كثير من المجتمعات المسلمة تموت قبل أن تبلغ ‪ 65‬عاما‬
‫بالضافة إلى أنّه من غير المتاح لها الدّفاع عن نفسِها في ظل تبع ّيتِها للرّجل‪.‬‬
‫و كونها حاجة من حاجيات الرّجل أو جزء من اهتماماته المتعددة ‪ ،‬و يقول‪:‬‬
‫" نقول بنظرة منصفة إلى حال المرأة المسلمة في مجتمعنا وهي بنت مصونة يحافظ عليها‬
‫الرجل كجزء من حياته‪.‬‬
‫أو وهي زوجة مكفولة بواسطة الرجل حتى ولو ملكت ما ملكت من المال"‬
‫ن مسألة كرامة المرأة و حمايتها مرهونة بطبيعة الب أو الزّوج أو أيّ ذ َك ٍر يتحكم‬ ‫معنى هذا أ ّ‬
‫بحياتها ‪ ،‬و مجتمع كهذا ل يمكن أن يكون سليما ‪ ،‬إذ ل دور للقانون أو النظام "الدّولة" في حماية‬
‫ض النظر عن طبيعة القوانين هناك‬ ‫المرأة كونها ضعيفة و بحاجة لحماية ‪ ،‬فدول الغرب و بغ ّ‬
‫طنّانة و إنما عبر تطبيق القانون الّذي يكفل الحماية‬ ‫تحمي مواطنيها ل عبر الشّعارات و الكلمات ال ّ‬
‫و المساواة‪.‬‬
‫إن الديمقراطية في دولنا ‪ ،‬حتى في حال وجدت كما في العراق بعد تحريره من نظام البعث‬
‫‪ ، 2003‬تبقى ديمقراطيّة شوهاء و شبه عاجزة بفعل الدّساتير الّتي تقوم على العواطف الدّينيّة و‬
‫القومية ‪ ،‬كإحترام "ثوابت السلم"! الّتي ل يعرف أحد عنها شيئا ‪ ،‬فما هو ثابت في مذهب من‬
‫سنّة ‪ ،‬نجده غير ثابت في‬ ‫المذاهب ‪ ،‬مثال ُه مسألة تقديس الصّحابة فاسقهم و فاجرهم و تق ّيهِم عند ال ّ‬
‫المذهب الشّيعي الّذي يصنّف الصحابة أتقياء صالحين و آخرين مجرمين محترفين ‪ ،‬و المسألة‬
‫سنّي ل‬ ‫ذاتها تتكرّر في مسألة ميراث أبناء البنت الّتي تموت قبول أبيها ‪ ،‬فحسب المذهب ال ّ‬
‫يصلهم شيء من الميراث ‪ ،‬أما الشيعة فهم على العكس يعطونها حِصّة كاملة‪.‬‬
‫من هنا كانت حاجة بلداننا إلى القوانين المدنيّة ل تقل عن حاجة الغربيين إليها ‪ ،‬إن لم تكن أشدّ‬
‫حاجة ‪ ،‬و مرّة أخرى يخرج الواعظ المرعِب الشّيخ ليقول‪:‬‬
‫" وتذكروا قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ ...((:‬اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة‬
‫بني إسرائيل كانت في النساء))‪ .‬وحديث‪(( :‬ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء))‬
‫وغير ذلك من التحذيرات من الذي ل ينطق عن الهوى"‬
‫فهو لدراكهِ ضعف منطقهِ و لنّه يعلم تماما أن المرأة ستحرّر ‪ ،‬حالها حال سائر قطاعات‬
‫ن المرأة الشّرقيّة‬
‫المجتمع و الحياة ‪ ،‬فإنّه يخوّف المجتمع عبر التّهديد ‪ ،‬و يُظهر عبر كلماته أ ّ‬
‫المسلمة هي فعل بحاجة إلى تحرير و تغيير أوضاع و أن ننتقل بها من حيوان للتمتّع الجنسي و‬
‫النجاب إلى شريكة للرّجل في كل مناحي الحياة ‪ ،‬و حتّى هذان الحديثان المزعومان فإنّهما‬
‫ي تُذكّرنا بموقف التوراة من حواء حيث حمّلتها كُل تبِعات‬ ‫يطعنان في أصل خلقة المرأة ‪ ،‬و ه َ‬
‫جنّة ‪ ،‬فإذا كانت المرأة عدوّة للرّجل إلى هذا الحدّ فلماذا خُلِقَت أصل‪.‬‬‫خروج آدم من ال ّ‬
‫ن المجتمع‬ ‫ل نظام ديني ـ هو أ ّ‬‫ن اليجابيّة المهمة في وضع المرأة اليرانية ـ و هي في ظ ّ‬ ‫إّ‬
‫يقبل بأغلبيّته مشاركة المرأة في الحياة العامّة فنجد هناك الصحفيات و السّياسيّات و الرّياضيّات و‬
‫حتّى الممثّلت المشهورات ‪ ،‬بينما ل تتوفر كُلّ هذه الخطوات في دول الخليج و دول شمال‬
‫أفريقيا ‪ ،‬و هذا ل يعني أنّ النظام اليراني هو نظام جيّد ‪ ،‬بل هو جيّد بالمقارنة مع أنظمة إسلميّة‬
‫أُخرى و ليس مقارنة بالغرب و العالم المتحضّر‪.‬‬
‫و قراءة بسيطة لراء الخوان و مشايخهم من أمثال محمد قطب و محمد الغزالي و‬
‫القرضاوي ‪ ،‬تظهر لنا أنّ هؤلء ل يتعاملون مع الموضوع تعامُل الباحث المجتهد الّذي يُحاول‬
‫العثور على فهم جديد للنّص لمشاكل معاصرة ‪ ،‬بل ينظر هؤلء للموضوع على أنّه "معركة" من‬
‫ضمن "المعارك" الكثيرة الّتي يخوضونها و الّتي ينبغي أن تنتهي لهم بنصرٍ مؤزّر على الغرب‬
‫"الصّليبي" و على المرأة الجاسوسة العميلة ! إن شريعة مضى عليها ‪ 1000‬عام من الرّكود و‬
‫توقف البحث العلمي و العقلي ‪ ،‬جدير بهكذا "شريعة"! أن تزيح نفسها من أمام عجلة التطور و‬
‫الصلح و تحرير المرأة هو جزء مهم من هذا الصلح ‪ ،‬و معروف أن أن أكثر من نصف‬
‫مجتمعاتنا هم من النّساء ‪ ،‬خصوصا في بل ٍد كالعراق خاضَ عدة حروب متتابعة ‪ ،‬و تعطيل أكثر‬
‫من نصف المجتمع يعني الحكم على مجتمعاتنا بالموت‪.‬‬
‫ن العرف العشائري يضفي على نفسه "شرعيّة دينيّة" و من ُث ّم تتم كثير من الجرائم‬ ‫كما أ ّ‬
‫تحت شعار "الدّين" أو بتبريرات دينيّة ‪ ،‬فمثل ليس هناك نصّ صريح يأذن بقتل المرأة أو الرّجل‬
‫المتّهمين بالزنا ‪ ،‬صحيح أن هناك موروثا من الرّجم ـ يشبه الموروث اليهودي التّوراتي ـ و حتى‬
‫ن المُطبّق فقهيا عبر تاريخ المسلمين هو "الرّجم" ‪،‬‬ ‫النّص القرآني يتحدث عن "جلد الزّاني" إل أ ّ‬
‫و حتى هذا الخلط بين "الجلد" و "الرجم" يبقى ضبابيا من نواحي أُخرى ‪ ،‬كنوع الحجارة‬
‫المستخدمة في الرجم من حيث نوع الحجارة أو الحصى و الجلد من حيث نوعية الداة‬
‫ن المسلمين عموما ينظرون إلى مسألة العلقة الجنسية ‪ ،‬خصوصا بين الرّجال و‬ ‫المستخدمة ‪ ،‬إ ّ‬
‫النساء ‪ ،‬نظرة مليئة بالتضييق و المحاسبة و تتبّع حريّة الخرين ‪ ،‬و هو ما يخلق الكثير من‬
‫المشاكل الجتماعية و الزمات النفسيّة‪.‬‬
‫و حسب العصر الحديث و نحن نبني أبنيتنا من السمنت و الجدران العالية ‪ ،‬فمن شبه‬
‫المستحيل أن يحدث و يُشاهد أربعة شهود "عدول"! حالة تورط في الزنا ‪ ،‬يقول المرحوم فرج‬
‫فودة بعد أن يُحدّثنا عن إيقاف حكم الرّجم من ِقبَل عمر بن الخطاب على المغيرة بن شعبة لمجرد‬
‫أن شاهدا من أربعة شهود شكّ في ما رأى‪:‬‬

‫" وإذا كان أسلوب بناء المساكن في عهد عمر هو السبب في فضيحة المغيرة ‪ ،‬فماذا يكون الحال‬
‫بالنسبة لمبانينا الحديثة ‪ ،‬التي ل يستطيع فيها الهواء أن يرفع شيش النافذة أو زجاجها ‪ ،‬ناهيك‬
‫عن أبوابها ومغاليقها وأقفالها ؟‬
‫وإذا كان تلجلج أحد الشهود هو مبرر نجاة المغيرة ‪ ،‬فماذا يكون الحال في مواجهة شهود مهنتهم‬
‫الشهادة ‪ ،‬ولو زادهم المغيرة خمساً لقسموا أنه كان مستقبلهم وأنها كانت زوجته ‪ ،‬ولو أنقصهم‬
‫خمساً لقسموا أنه كان مستدبرهم وأنها كانت أم جميل" الحقيقة الغائبة ص ‪.57‬‬

‫إن غياب النّبي و المعصوم "المام معصوم كالنّبي حسب العقيدة الشّيعيّة" كفيل بإيقاف تنفيذ هذه‬
‫الحدود كون الصّورة أصبحت ضبابيّة إلى أبعد حد و ليس هناك حدود أو أحكام واضحة بهذا‬
‫الشأن ‪ ،‬و بدون العلمانية و حقوق الفرد و من ضمنها حقّ المرأة في إختيار شريك حياتها و‬
‫ي أمل بالتقدم و التطور‪.‬‬‫أسلوب و نمط الحياة ‪ ،‬ل يمكن أن يكون هناك أ ّ‬

‫مناقشة عـــــامّــة‪.‬‬
‫يعيش الشّرق المسلم الن حالة خطيرة من الجمود العقلي ‪ ،‬النظمة الفاسدة ‪ ،‬فقهاء النحطاط ‪،‬‬
‫الثّقافة الفاشيّة القوميّة و السلمية ‪ ،‬ترسيخ ثقافة عبادة الذّات و إنكار الخر ‪ ،‬تبرير العنف‬
‫بمختلف الحُجج الدّينيّة و القوميّة ‪ ،‬مركزية العقل و الحكم على الخرين بحيث أصبح كُلّ شخصٍ‬
‫سجّان و الجلد"! ليغرق المجتمع في خِضمّ التّناقضات و الصراعات و يكون‬ ‫حكَم و ال ّ‬
‫هو "ال َ‬
‫مصيره الخراب و الكساد و الموت‪.‬‬

‫ن ما حصَلَ في العراق ‪ 2003‬و إسقاط نظام البعث و طاغيت ِه صدّام التّكريتي كان بحق زلزال‬ ‫إّ‬
‫هزّ العقل السلمي المنعزِل في الصّميم و طرح في مجتمعاتنا المُتخلّفة السّؤال الخطير التالي‪:‬‬
‫لماذا ثقافتنا تنبُذ الحُريّة و السّلم و حق النسان في الختيار ! و لماذا تكون جريمة إذا قرر أحد‬
‫المسلمين أن يُغيّر دينه أو يعتقد عقيدة أُخرى ؟! و لماذا تكون آيات التسامح و الحُريّة و استخدام‬
‫العقل "منسوخة"! و تكون آي ُة السّيف و الحرب هي "النّاسخة"!! لثلثة أرباع القرآن ! لماذا‬
‫نستبدل أنظمتنا الفاسدة بأنظمة أفسد ؟! فمثل كانت النظمة الملكيّة في العراق و مصر و ليبيا‬
‫أنظمة فاسدة ‪ ،‬و لكن حينما حلّت محلّها جمهوريّات "معاوية" ‪ ،‬اكتشفنا أنّ هذه الشّعوب الّتي‬
‫تركض دوما وراء الشّعارات ‪ ،‬هي الخاسرة ‪ ،‬ففي النظمة الملكيّة الدّستورية يكون هناك دوما‬
‫صدّامي" و "القومي‬ ‫س دستوريّة ‪ ،‬لكن في ظل أنظمة كـ"البعث ال ّ‬ ‫أمل في إصلح على ُأسُ ٍ‬
‫النّاصري" و "الجماهيري القذّافي" أو "النقاذ السوداني عمر حسن البشير" فإنّه ل أمل‬
‫بالصلح ‪ ،‬لنّ هذه النظمة تقوم بـ"مكافحة الصلح" كما يقوم الغرب الدّيمقراطي بـ"مكافحة‬
‫الفساد"‪.‬‬

‫إنّ الخلل ـ كما تقول إرشاد منجي ـ يكمن في مفهومنا الدّيني أوّل ‪ ،‬فنحن نفضّل "طاغية محليّا"‬
‫على أن يأتينا إصلح أو حُريّة و مساواة من "الجنبي = الكافِر = المحتلّ" ‪ ،‬إن تفسير القرآن‬
‫تفسيرا ما ! هو أخطر من النّص نفسه ‪ ،‬فالقرآن مهما كان فيه حديث عن "العنف" و "القتل" و‬
‫ل يكاد يكون حرّا في توجيه النّص‬ ‫إخضاع الخر ‪ ،‬إل أن التفاسير تتصرف في هذا النّص و بشك ٍ‬
‫نحو جعله أداة استغلل ل أداة استدلل ‪ ،‬من هنا كان ل ُبدّ من جعل القرآن مُلكاً شخصيّا ‪ ،‬فالفرد‬
‫ـ كونه المسؤول عن خلصِ ِه الشّخصي ـ يستطيع أن يتدارس النّصوص و يدرسها في إيطار‬
‫الحُريّة ‪ ،‬و ما دام يفعل ذلك في إيطار الحُريّة فإنّه و ل ُبدّ سيُقدّس هذه الحُريّة ‪ ،‬و نحن نجد في‬
‫القرآن الكثير من اليات الّتي تحُثّ على التّفكير الحرّ و إشاعة المنطق العقلي ‪ ،‬بينما الواقع الّذي‬
‫نعيشُ ُه مختلف كليّا عن هذا ‪ ،‬فتجد "المؤمنين" قد جمّدوا عقولهم و راحوا "يُقلّدون" المفتي و‬
‫الشّيخ و المرجِع و حتّى "السياسي القومي"! في عمليّة ل عقلنيّة تعطّل فيها حتّى أبسط مقومات‬
‫حرّ‪.‬‬
‫التفكير المنطقي ال ُ‬

‫ن "الثّوابت الدّينيّة"! تُمثّل مشكلةً حقيقية ‪ ،‬فما قد يراه البعض "ثابِتاً" قد يراه آخر "مُتغيّرا" أو‬
‫إّ‬
‫ن قائمة الثّوابت في توسع مُستمر و هي ذات المشكلة الّتي حدثت في‬ ‫"مؤقّتا" ‪ ،‬و المشكلة أ ّ‬
‫سنّي حينما توسّعت دائرة "المقدّس" لتتجاوز القرآن و النّبي إلى عصر "الصحابة" و أنه‬ ‫الوسط ال ّ‬
‫ل يجوز الطّعن أو المناقشة في شخصيّاتهم أو تأريخهِم ‪ ،‬ثمّ توسّعت لتشمل التاريخ السلمي‬
‫عموما ‪ ،‬و إذا كان السلم "فقهيا" يعتبر أن الصل في كلّ شيء هو "الباحة" و "الحلل" فإن‬
‫ل شيء تحت دائرة الشّك "الحرام" ‪ ،‬فـ"الرّسم" ‪" ،‬الموسيقى" ‪،‬‬ ‫الفقهاء و المفتين جعلوا كُ ّ‬
‫"السينما" ‪" ،‬التلفزيون و الراديو" و ما إلى ذلك يدخُل ضمن "الحرام" ‪ ،‬و أذكر أنني حينما كُنتُ‬
‫ن الرّاديو في أصله ليس محرّما إستعماله و‬ ‫سنّة سمعته يقول‪ :‬أ ّ‬
‫أتردّد على دروس أحد الشّيوخ ال ّ‬
‫ل ما أدّى إلى حرام فهو حرام"!! و أذكُر‬ ‫ن كُ ّ‬
‫لكن لن الرّاديو يبُثّ أغاني "محرمة"! فهو حرام ل ّ‬
‫حينها أنّني ضحكتُ من هذا المنطق العجيب‪.‬‬

‫إنّ القاعدة الفقهيّة "سد باب الذّرائع" و أنّ كلّ ما أدّى إلى حرام فهو حرام ‪ ،‬هي قاعدة تناقض‬
‫ن الصل في الشياء الباحة"! و‬ ‫قاعدة فقهية أخرى موجودة في أغلبية المذاهب الفقهية و هي "أ ّ‬
‫ن المحرّمات هي الستثناء و ليس العكس ‪ ،‬و لو اتّبعنا هذا المنطق الفقهي في سد باب الذّرائع‬ ‫أّ‬
‫ن كل شيء و حسب ـ هذا المنطق ـ ل ُبدّ و أن‬ ‫فلن يبقى هناك شيء اسمه "حلل" أو "مباح" ل ّ‬
‫يؤدّي إلى محرم ‪ ،‬فالزواج مثل قد يتسبب في إغراق شخص ما في الملذات الجنسيّة و بالتالي‬
‫يؤدي إلى ارتكابه المحرمات ‪ ،‬أو يُمنع شرب عصير معيّن لنّه قد يدفع النّاس إلى إدمان‬
‫المسكّرات ‪ ،‬إن خلق أمثال هذه الذرائع كان في الحقيقة ذريعة لخلق وصاية من نوع ما على عقل‬
‫المُقلّد أو المتعبّد بالفتوى‪.‬‬

‫ن هذا الباب "الطارئ على الفقه" قد يكون أحد أبرز السباب في تعطيل العقل المسلم و جعله‬ ‫إّ‬
‫يئن تحت وطأة رقابة "الفقهاء" خصوصا و أن هؤلء الفقهاء هم تبع للسّلطة ‪ ،‬من هنا كان من‬
‫اللزم على المدارس الفقهيّة الحديثة حذف كل ما له صلة بباب "س ّد الذّرائع" ‪ ،‬إذ باستطاعة أيّ‬
‫ل ما أدّى إلى الحلل و إن كان حراما‬ ‫فقيه أن يقوم بقلب النظرية و عكسها فيصبح من الحلل ك ّ‬
‫فيكون لدينا حينها فقه عجيب غريب‪.‬‬

You might also like