You are on page 1of 178

‫س‬ ‫تزكية الن ّ ُ‬

‫فو ْ‬

‫لفضيلة الشيخ‬
‫د‪ .‬أحمد فريد‬
‫غفر الله له ‪ ،‬ولجميع المسلمين‬

‫الدعوة السلفية بالسكندرية‬

‫المكتبة العصرية‬
‫والدار العالمية للنشر والتوزيع‬
‫بالسكندرية‬
‫حقوق الطبع محفوظة‬
‫الطبعة الولى‬

‫‪ 1426‬هـ ‪ 2005 -‬م‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫مقدمة المؤلف‬
‫نسأل الله تعالى حسن الخاتمة‬
‫إن الحمد لله نحمده ‪ ،‬ونســتعينه ‪ ،‬ونســتغفره ‪،‬‬
‫ونعــوذ بــالله مــن شــرور أنفســنا ومــن ســيئات‬
‫أعمالنا ‪ ،‬من يهده الله فل مضل له ومن يضــلل‬

‫‪-2-‬‬
‫فل هادى له ‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحــده ل‬
‫شريك لــه ‪ ،‬وأشــهد أن محمــدا ً عبــده ورســوله‬
‫صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ً‬
‫‪.‬‬

‫أما بعدُ ‪:‬‬

‫فمن أكثر من خمسة عشر عاما ً ‪ ،‬ومــع تباشــير‬


‫الصحوة السلمية وفقنى الله عــز وجــل لجمــع‬
‫كتاب مختصر فى الرقائق وأســميته " دقققائق‬
‫الخبار فى رقائق الخبار " ‪.‬‬

‫وطبع هذا الكتاب أكثر من طبعة غير محققة ثم‬


‫استأذننى الخ شرف حجازى فــى طبــع الكتــاب‬
‫بعد أن حققه بعض الخوة الفاضــل فــأذنت لــه‬
‫ومضى على ذلك مدة ‪ ،‬ثم نزل الكتاب باســم "‬
‫تزكية النفوس " وبتحقيــق الخ‪ " :‬ماجــد أبــو‬
‫الليل " وانتشــر الكتــاب بفضــل اللــه عــزّ وجــلّ‬
‫وفوجئت بطبعات بيروتية باسم دار القلم ليــس‬
‫لهــا خطــام ول زمــام ‪ ،‬فل أدرى هــل كــان هــذا‬
‫باتفاق مع المحقــق أو علـى الطريقــة البيروتيـة‬
‫في الطباعة وعلــى كــل حــال ليــس ذلــك بــإذن‬
‫المؤلف ‪ ،‬ولما كان الكتاب من أول ما كتبته مع‬
‫قلة المراجع وقلة العلم والخبرة اشتمل الكتاب‬
‫على بعض الحاديث الضعيفة فأردت أن أبرىــء‬

‫‪-3-‬‬
‫ساحتى من هذه الحاديث وأن أتعامل معها كما‬
‫تعــاملت مــع " البحققر الققرائق" و " مختصققر‬
‫بغية النسان" وغيرهما من حــذف الضــعيف‬
‫وإعادة تحقيق الكتاب وتجهيزه لطبعة اقتصادية‬
‫‪ ،‬وتسهيل الحصول عليه لخواننا مـن المبتـدئين‬
‫فى طلب العلم ‪.‬‬

‫وزدت فـــى هـــذه الطبعـــة بعـــض الزيـــادات‬


‫واســتبدلت بعــض الحــاديث الضــعيفة بأحــاديث‬
‫صحيحة وربمــا اســتبدلت بعــض الصــحيح الــذى‬
‫ليس فى الصحيحين بما يغنى عنه من أحــاديث‬
‫الصــحيحين ول شــك أن مؤلــف الكتــاب أولــى‬
‫بتحقيقه والناظر فى الجهد المبذول سوف يجــد‬
‫بإذن الله تعالى فائدة جديدة ‪ ،‬وكــم مــن كتــاب‬
‫حققــه أكــثر مــن محقــق واســتفاد النــاس مــن‬
‫مجهود كل محقــق ‪ ،‬وقــد حــافظت علــى اســم‬
‫الكتاب دفعا ً للتدليس وحتى ليشتريه أحــد وهــو‬
‫يملكه ظنا ً منه أنه مصنف جديد ‪.‬‬

‫أما عن موضوع الكتاب فهو كتاب مختصر عــن‬


‫تزكيققة النفققوس ‪ ،‬ويقصــد بتزكيــة النفــوس‬
‫تطهيرها وتطييبها ‪ ،‬حتى تستجيب لربهــا وتفلــح‬
‫د‬ ‫فــى دنياهــا وآخرتهــا كمــا قــال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫ق ْ‬
‫ها ‪‬‬ ‫سققا َ‬
‫مققن دَ ّ‬
‫ب َ‬
‫خا َ‬ ‫و َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫ها َ‬ ‫من َز ّ‬
‫كا َ‬ ‫ح َ‬ ‫أَ ْ‬
‫فل َ َ‬
‫) الشمس ‪. (10-9 :‬‬

‫‪-4-‬‬
‫وهى دعوة النبى ‪ ) :‬اللهم آت نفسى تقواهــا‬
‫وزكها أنت خير من زكاها أنــت وليهــا ومولهــا (‬
‫)‪. (1‬‬

‫فيبدأ الكتــاب بمعرفــة مــا يقبــل بــه العلــم مــن‬


‫شــرطى الخلص والمتابعــة ثــم فضــل العلــم‬
‫والعلمــاء‪ ،‬ثــم بيــان أحــوال القلــوب وأقســامها‬
‫وعلمــات مرضــها وســقمها‪ ،‬وأســباب صــحتها‬
‫وأســباب ســقمها فــإن النــاس ل يحتــاجون إلــى‬
‫الوصية بأجسادهم لحفـظ حياتهـا ودفـع هلكهـا‪،‬‬
‫فكلهم يأكل ما يفيده ويترك ما يتحقق مضــرته‪،‬‬
‫ولكنهــم يتنــاولون الســموم الضــارة المهلكــة‬
‫لقلوبهم‪ ،‬ويزهدون فى الغذية النافعة لها‪ ،‬حتى‬
‫صــارت الجســام لهــا قبــوٌر إل مــن رحــم ربــك‬
‫وقليل ما هم ‪.‬‬

‫ثم ذكرت بابا ً فى محاســبة النفــس ‪ ،‬وباب ـا ً فــى‬


‫الزهد وأضرار حب الدنيا ‪ ،‬وللســف قســم هــذا‬
‫الموضوع فى جميع الطبعــات الســابقة مــع أنــه‬
‫موضوع واحد فالتأم شمله بفضل الله عّز وجـ ّ‬
‫ل‬
‫فى هذه الطبعة ‪.‬‬

‫)( رواه مسلم ) ‪ ( 17/41‬الذكر بزيــادة فــى أولــه وآخــره‪ ،‬وأحمــد )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (4/371‬و )‪.(6/209‬‬

‫‪-5-‬‬
‫ثم ذكرت عدة عبادات من أحب العبــادات إلــى‬
‫ل ل تصــلح القلــوب إل بهــا كالصــبر‬ ‫الله عّز وج ـ ّ‬
‫والشــكر والرجــاء والخــوف والمحبــة والتوكــل‬
‫والرضــا‪ ،‬وختمــت هــذه الجولــة الطيبــة فــى‬
‫الرقائق وما تزكو به النفس بالتوبــة الــتى هــى‬
‫وظيفة العمر والسبب الموصل إلى محبة اللــه‬
‫ب‬
‫ح ّ‬ ‫وي ُ ِ‬
‫ن َ‬
‫واِبي َ‬
‫ب الت ّ ّ‬
‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫ل ‪  :‬إِ ّ‬ ‫عّز وج ّ‬
‫ن ‪ ) ‬البقرة ‪ :‬من الية‪. (222‬‬ ‫ري َ‬ ‫مت َطَ ّ‬
‫ه ِ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫فنسأل الله أن يوفقنــا لتوبــة نصــوح وأن يتقبــل‬


‫منـا صـالح العمـال وأن يتجـاوز عمـا فيهـا مـن‬
‫نقص وزلـل‪ ،‬وأن يجعــل خيـر أعمالنــا خواتيمهــا‬
‫وخير أيامنا يوم نلقاه ‪ ،‬وصلى الله وسلم وبارك‬
‫على محمد وعلى آله وصــحبه والحمــد للــه رب‬
‫العالمين ‪.‬‬
‫المؤلف‬

‫‪-6-‬‬
‫الخلص والمتابعة‬
‫شرطان لقبول العمل‪:‬‬

‫ل يقبل اللــه عــز وجــل عمل ً مــن العمــال‬


‫حتى يتوفر فيه شــرطان فــالول ‪ :‬هــو الخلص‬
‫وهو شرط الباطن ‪ ،‬والثانى ‪ :‬هــو متابعــة ســنة‬
‫الرسول‪ ‬وهو شرط الظاهر ‪ ،‬ودل على هــذا‬
‫المعنى كتاب الله المنزل وسنة النبى المرســل‬
‫‪.‬‬

‫ت‬
‫و َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مق ْ‬ ‫خل َ ق َ‬
‫ق‬ ‫ذي َ‬ ‫قال الله تعالى ‪  :‬ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫م أ َي ّ ُ‬
‫مل ‪‬‬ ‫ع َ‬‫َ‬ ‫ن‬‫سقق ُ‬‫ح َ‬‫مأ ْ‬ ‫كقق ْ‬ ‫حَيققاةَ ل ِي َب ُْلقق َ‬
‫وك ُ ْ‬ ‫وال ْ َ‬
‫َ‬
‫) الملك ‪ :‬من الية‪. (2‬‬

‫قال الفضيل بققن عيققاض‪ :‬هــو أخلصــه‬


‫فإن العمل إذا كان خالصا ً ولــم يكــن صــوابا ً لــم‬
‫يقبــل ‪ ،‬وإذا كــان صــوابا ً ولــم يكــن خالص ـا ً لــم‬
‫يقبل ‪.‬‬

‫قققاء‬‫جققو ل ِ َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬
‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫وقال تعالى‪َ  :‬‬
‫ف َ‬
‫ر ْ‬
‫ك‬ ‫شققق ِ‬ ‫حا ول ي ُ ْ‬ ‫مل ً َ‬
‫صققال ِ ً‬ ‫ع َ‬
‫ل َ‬‫مققق ْ‬
‫ع َ‬‫فل ْي َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫َرب ّققق ِ‬
‫دا ‪ ) ‬الكهــف مــن اليــة ‪:‬‬ ‫َ‬
‫حق ً‬
‫هأ َ‬ ‫ة َرب ّق ِ‬ ‫عَبادَ ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫‪. (110‬‬

‫‪-7-‬‬
‫فالعمل الصالح هو الموافق للســنة وعــدم‬
‫الشرك هو الخلص ‪.‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مق ْ‬
‫م ّ‬
‫ن ِدين ًققا ّ‬
‫سق ُ‬‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫مق ْ‬ ‫وقــال تعــالى‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ن ‪ ) ‬النساء‬ ‫س ٌ‬
‫ح ِ‬‫م ْ‬ ‫و ُ‬‫ه َ‬
‫و ُ‬‫ه لله َ‬‫ه ُ‬
‫ج َ‬
‫و ْ‬ ‫سل َ َ‬
‫م َ‬ ‫أ ْ‬
‫‪ :‬من الية ‪. (125‬‬

‫فإسلم الوجه هو الخلص‪ ،‬والحســان هــو‬


‫متابعة سنة النبى ‪. ‬‬

‫أ ‪ -‬الخلص‪-:‬‬

‫الخلص‪ :‬هو تجريد قصد التقرب إلى الله عــز‬


‫وجل عن جميع الشوائب ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬هو إفراد الله عز وجل بالقصد فــى‬


‫الطاعات ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر‬


‫إلى الخالق ‪.‬‬

‫والخلص شرط لقبول العمل الصالح الموافــق‬


‫لسنة رسول الله ‪ ، ‬وقد أمرنا الله عــز وجــل‬
‫ُ‬
‫دوا‬ ‫مققُروا إل ّ ل ِي َ ْ‬
‫عُبقق ُ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫به فقال تعالى ‪َ  :‬‬
‫و َ‬

‫‪-8-‬‬
‫حن َ َ‬
‫فقققاء ‪‬‬ ‫ن ُ‬
‫دي َ‬ ‫ن َلققق ُ‬
‫ه الققق ّ‬ ‫صقققي َ‬
‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫الّلققق َ‬
‫ه ُ‬
‫) البينة ‪ :‬من الية ‪. (5‬‬

‫وعن أبقى أمامقة ‪ ‬ققال‪ :‬جــاء رجــل إلــى‬


‫رسول الله ‪ ‬فقال ‪ :‬أرأيت رجل غــزا يلتمــس‬
‫كر ماله ؟ فقال رسول اللــه ‪ ) : ‬ل‬ ‫الجَر والذ ْ‬
‫شىء له (‪ ،‬بأعادها ثلث مــرات ويقــول رســول‬
‫الله ‪) : ‬لشىء لـه(‪ ،‬ثـم قــال‪ ) :‬إن اللـه عـز‬
‫وجل ل يقبل من العمــل إل مــا كــان لــه خالصـا ً‬
‫وابتغى به وجهه ( )‪. (1‬‬

‫وعن أبى سعيد الخدرى ‪ ‬عــن النــبى ‪ ‬أنــه‬


‫قال فى حجة الــوداع‪) :‬نضــر اللــه امــرءا ً ســمع‬
‫مقالتى فوعاها ‪ ،‬فرب حامل لفقه ليس بفقيه ‪،‬‬
‫ثلث ليغل عليهن قلب امرىء مــؤمن‪ :‬إخلص‬
‫العمل لله‪ ،‬والمناصحة لئمة المسلمين ‪ ،‬ولزوم‬
‫جماعتهم ( )‪. (2‬‬

‫والمعنقققى‪ :‬أن هـــذه الثلثـــة تستصـــلح بهـــا‬


‫القلوب ‪ ،‬فمن تخلق بها طهر قلبه مــن الخيانــة‬
‫والدغل والشر ‪.‬‬
‫)( رواه النسائى) ‪ (6/25‬الجهاد‪ ،‬وحسنه العراقى فى تخريج الحيــاء‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ ،(4/28‬وقال المنذرى فى الترغيب )‪ :(1/24‬إسـناده جيـد‪ ،‬وحسـنه‬


‫اللبانى فى الصحيحة رقم )‪.(52‬‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ (10/126‬العلم‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪ ،‬وابن‬ ‫‪2‬‬

‫ماجه )‪ (1/84‬المقدمة‪ ،‬والدارمى )‪، (1/76‬والبغوى فى شرح السنة‬


‫) ‪ ،(1/236‬وأحمد )‪ ، (4/80،82‬وصححه اللبانى ‪.‬‬

‫‪-9-‬‬
‫ول يتخلــص العبــد مــن الشــيطان إل بــالخلص‬
‫لقول الله عز وجل‪:‬‬

‫ن‪‬‬ ‫خل َ ِ‬
‫صققي َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫هقق ُ‬
‫من ْ ُ‬ ‫عَبققادَ َ‬
‫ك ِ‬ ‫‪ِ ‬إل ِ‬
‫) ص ‪ :‬الية ‪ . (83‬وروى أن أحد الصالحين كان‬
‫يقول لنفسه ‪ " :‬يانفس أخلصى تتخلصى "‪.‬‬

‫وكــل حــظ مــن حظــوظ الــدنيا تســتريح إليــه‬


‫ل أم كــثر‪ ،‬إذا‬ ‫النفــس‪ ،‬ويميــل إليــه القلــب‪ ،‬ق ـ ّ‬
‫تطرق إلــى العمــل ‪ ،‬تكــدربه صــفوه ‪ ،‬وزال بــه‬
‫إخلصـــه‪ ،‬والنســـان مرتبـــط فـــى حظـــوظه ‪،‬‬
‫ل مــن‬ ‫منغمس فــى شــهواته ‪ ،‬قلمــا ينفــك فع ـ ٌ‬
‫أفعــاله ‪ ،‬وعبــادةٌ مــن عبــاداته عــن حظــوظ‬
‫وأغراض عاجلة من هذه الجناس‪ ،‬فلذلك قيل‬
‫ة‬‫ة واحدةٌ خالص ٌ‬ ‫‪ " :‬من سلم له من عمره لحظ ٌ‬
‫ر‬
‫ســ ِ‬‫لوجه الله نجا " ‪ ،‬وذلك لعــزة الخلص‪ ،‬وعُ ْ‬
‫تنقية القلب عــن الشــوائب ‪ ،‬فــالخلص‪ :‬تنقيــة‬
‫القلــب مــن الشــوائب كلهــا ‪ ،‬قليلهــا وكثيرهــا‪،‬‬
‫حــتى يتجــرد فيــه قصـد ُ التقــرب فل يكــون فيــه‬
‫ث سواه ‪ ،‬وهذا ل يتصور إل مــن محــب للــه‬ ‫باع ُ‬
‫مستغرق الهم بالخرة‪،‬بحيث لم يبق لحب الدنيا‬
‫من قلبه قراٌر ‪ ،‬فمثل هذا لو أكل ‪ ،‬أو شرب‪ ،‬أو‬
‫قضى حاجته ‪ ،‬كان خالص العمل ‪،‬صــحيح النيــة‪،‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫ب الخلص مسدود ٌ عليه إل‬ ‫ومن ليس كذلك فبا ُ‬
‫على الندور ‪.‬‬
‫ن غلــب عليــه حــب اللــه ‪ ،‬وحــب‬ ‫مــ ْ‬
‫وكمــا أن َ‬
‫ه العتيادية صفة همه ‪،‬‬ ‫الخرة‪ ،‬فاكتسبت حركات ُ‬
‫وصارت إخلصا ً ‪ ،‬فالذى يغلب على نفسه الدنيا‬
‫والعلو والرياسة ‪ ،‬وبالجملة غير الله ‪ ،‬اكتســبت‬
‫جميع حركاته تلك الصــفة‪ ،‬فل تســلم لــه عبــادةٌ‬
‫من صوم ٍ ‪ ،‬وصلة وغير ذلك إل نادرا ً ‪.‬‬

‫ع‬
‫فعلج الخلص كســُر حظــوظ النفــس‪ ،‬وقطــ ُ‬
‫الطمع عن الدنيا‪ ،‬والتجرد للخرة ‪ ،‬بحيث يغلب‬
‫ذلك على القلب‪ ،‬فــإذ ذاك يتيســر بــه الخلص‪،‬‬
‫وكم من أعمل يتعب النسان فيها ‪ ،‬ويظن أنها‬
‫ة لوجه الله‪ ،‬ويكون فيها مــن المغروريــن‪،‬‬ ‫خالص ٌ‬
‫ه الفة ‪.‬‬
‫لنه لم ي ََر وج َ‬

‫حكى عن بعضهم‪ :‬أنه كان يصلى دائما ً فــى‬ ‫كما ُ‬


‫الصف الول‪ ،‬فتأخر يوما ً عن الصلة فصلى فى‬
‫ة مــن النــاس حيــث‬ ‫الصف الثانى‪ ،‬فاعترْته خجل ٌ‬
‫رأْوه فى الصف الثانى‪ ،‬فََعلم أن مسرته وراحــة‬
‫ن الصلة فى الصف الول كــانت بســبب‬ ‫قلبه م ِ‬
‫ض قَّلما تســلم‬ ‫نظر الناس إليه‪ ،‬وهذا دقيقٌ غام ٌ‬
‫ل مــن ينتبــه لــه إل مــن‬ ‫العمال من أمثاله ‪ ،‬وق ّ‬
‫ن‬
‫وفقـــه اللـــه تعـــالى‪ ،‬والغـــافلون عنـــه ي َـــَروْ َ‬
‫حســــناتهم يــــوم القيامــــة ســــيئات ‪ ،‬وهــــم‬

‫‪- 11 -‬‬
‫ن‬
‫مقق َ‬ ‫هم ّ‬ ‫دا ل َ ُ‬ ‫المقصودون بقوله تعالى ‪َ  :‬‬
‫وب َ َ‬
‫م‬ ‫دا ل َ ُ‬
‫هق ْ‬ ‫وب َق َ‬‫ن َ‬ ‫س قُبو َ‬
‫حت َ ِ‬
‫كون ُققوا ي َ ْ‬ ‫ما ل َق ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫ه َ‬‫الل ّ ِ‬
‫سُبوا ‪ ) ‬الزمر ‪ :‬من اليتين‬ ‫ما ك َ َ‬‫ت َ‬ ‫سي َّئا ُ‬‫َ‬
‫‪. (48، 47‬‬

‫م‬ ‫كقق ْ‬‫ل ن ُن َب ّئ ُ ُ‬


‫هقق ْ‬ ‫ل َ‬‫ققق ْ‬ ‫وبقــوله عــز وجــل‪ُ  :‬‬
‫م‬‫ه ْ‬‫عي ُ ُ‬‫سق ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ضق ّ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫مقال اّلق ِ‬ ‫ع َ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ري َ‬ ‫سق ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ِبال ْ‬
‫َ‬
‫م‬
‫هق ْ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫س قُبو َ‬‫ح َ‬ ‫م يَ ْ‬
‫هق ْ‬ ‫و ُ‬
‫ة ال قدّن َْيا َ‬ ‫في ال ْ َ‬
‫حي َققا ِ‬ ‫ِ‬
‫عا ‪ ) ‬الكهــف ‪ :‬اليــة ‪- 103‬‬ ‫صن ْ ً‬‫ن ُ‬ ‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬
‫يُ ْ‬
‫‪. (104‬‬
‫بعض الثار عن الخلص‬

‫قال يعقوب‪ " :‬المخلــص مــن يكتــم حســناته‬


‫كما يكتم سيئاته " ‪.‬‬

‫قال السوسي‪ " :‬الخلص فَْقد ُ رؤية الخلص‬


‫ن شــاهد فــى إخلصــه الخلص َفقــد‬ ‫مـ ْ‬
‫‪ ،‬فــإن َ‬
‫احتاج إخلصه إلــى إخلص " ‪ .‬ومــا ذكــر إشــارة‬
‫جــب بالفعــل ‪ ،‬فــإن‬‫إلى تصفية العمــل مــن العُ ْ‬
‫جب ‪ ،‬وهو‬ ‫اللتفات إلى الخلص‪ ،‬والنظر إليه عٌ ْ‬
‫من جملة الفات ‪ ،‬والخالص ما صفا عن جميع‬
‫الفات ‪.‬‬

‫مــال أشــد‬
‫قال أيوب‪" :‬تخليص النيات على العُ ّ‬
‫عليهم من جميع العمال" ‪.‬‬

‫‪- 12 -‬‬
‫وقال بعضققهم‪ " :‬إخلص ســاعة نجــاة البــد‪،‬‬
‫ن الخلص عزيٌز"‪.‬‬‫ولك ّ‬

‫وقيل لسهل‪ :‬أى شــىء أشــد علــى النفــس؟‬


‫قال ‪ " :‬الخلص ‪،‬إذ ليس لها فيه نصيب " ‪.‬‬

‫ضْيل‪ " :‬ترك العمل من أجل الناس‬ ‫وقال ال ُ‬


‫ف َ‬
‫ل من أجل الناس شرك‪ ،‬والخلص‬ ‫رياء ‪ ،‬والعم ُ‬
‫‪ :‬أن يعافيك الله منهما " ‪.‬‬

‫فضل النّية‬
‫عن عمر بن الخطاب ‪ ‬أنه قال‪ " :‬أفضل‬
‫العمال أداُء ما افترض الله تعالى‪ ،‬والورعُ عمــا‬
‫حّرم الله‪ ،‬وصدقٌ النية فيما عند الله تعالى " ‪.‬‬

‫ر‬
‫ل صــغي ٍ‬ ‫وقققال بعققض السققلف‪ " :‬رب عمــ ٍ‬
‫ب عمل كبير تصغيره النية " ‪.‬‬
‫تعظمه النية ‪ ،‬ور ّ‬

‫وعن يحيى بن أبي كثير‪ " :‬تعّلمــوا النيــة ‪،‬‬


‫فإنها أبلغ من العمل " ‪.‬‬

‫ح عن ابن عمر أنه ســمع رجل ً عنــد إحرامــه‬


‫وص ّ‬
‫يقول ‪ :‬اللهم إنى أريد الحج والعمرة فقال لــه ‪:‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫" أت ُْعلــم النــاس ‪ ،‬أوَ ليــس اللــه يعلــم مــا فــى‬
‫نفسك"‪ :‬وذلك لن النيــة هــى ‪ :‬قصــد القلــب ‪،‬‬
‫ول يجب التلفــظ بهــا فــى شــىء مــن العبــادات‬
‫وإنمــا يشــرع فــى الحــج والعمــرة أن يقــول ‪:‬‬
‫لبيك اللهم بحجة أو بعمرة أو بعمرة وحجــة إن‬
‫كان قارنا ً ‪ ،‬وهو الذى يسمى بالهلل ‪.‬‬

‫متابعة السّنة‬
‫والشرط الثانى لقبول العمــل أن يكــون العمــل‬
‫مطابقا ً لســنة النــبى ‪ ‬لحــديث عاشــئة رضــى‬
‫الله عنهــا قــالت‪ :‬قــال رســول اللــه ‪ " :‬مــن‬
‫أحدث فــى أمرنــا هــذا مــا ليــس منــه فهــو رد"‬
‫وفى رواية لمسلم‪ :‬من عمــل عمل ً ليــس عليــه‬
‫أمرنا فهو رد )‪. (1‬‬

‫فهذا الحديث أصل عظيم من أصــول الســلم ‪،‬‬


‫فكمــا أن حــديث‪ " :‬العمــال بالنيــات " ميــزان‬
‫للعمال فــى باطنهــا فهــو ميــزان للعمــال فــى‬
‫ظاهرها فكما أن كل عمل ليــراد بــه وجــه اللــه‬

‫)( رواه البخـــارى ) ‪ (5/301‬الصـــلح ‪ ،‬ومســـلم )‪ (12/16‬القضـــية‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والرد هنا بمعنى المردود أى فهو باطل غير مقيد به ‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫تعالى فليس لعامله فيه ثواب فكذلك كل عمــل‬
‫ل يكــون عليــه أمــر اللــه ورســوله فهــو ردعلــى‬
‫عامله فقوله‪ " :‬ليس عليه أمرنــا " إشــارة إلــى‬
‫أن أعمال العاملين كلها ينبغــى أن تكــون تحــت‬
‫أحكام الشريعة فتكون أحكام الشــريعة حاكمــة‬
‫عليهــا بأمرهــا ونهيهــا‪ ،‬فمــن كــان عملــه جاري ـا ً‬
‫تحت أحكام الشريعة موافقا ً لها فهــو مقبــول‪،‬‬
‫ومن كان خارجا ً عن ذلك فهو مردود‪.‬‬

‫أوجب الله عزّ وجلّ علينا طاعة رسوله ‪ ‬قال‬


‫ما‬
‫و َ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوهُ َ‬ ‫ل َ‬
‫ف ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫ما آَتاك ُ ُ‬
‫م الّر ُ‬ ‫تعالى‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫هوا ‪ ) ‬الحشر ‪ :‬من اليــة‬ ‫فانت َ ُ‬‫ه َ‬‫عن ْ ُ‬ ‫هاك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫نَ َ‬
‫‪(7‬‬

‫ة‬
‫من َ ٍ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ول ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫ن لِ ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫وقال تعالى‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م قًرا أن ي َك ُققو َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫سققول ُ ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ضققى الل ّق ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ذا َ‬ ‫إِ َ‬
‫َ‬
‫ه‬‫ص الل ّق َ‬ ‫عق ِ‬ ‫مققن ي َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ر ِ‬‫م ِ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫خي ََرةُ ِ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫لَ ُ‬
‫ه ُ‬
‫مِبين ًقققا ‪‬‬ ‫ل ضقققلل ً ّ‬ ‫ضققق ّ‬ ‫ققققدْ َ‬ ‫ف َ‬‫ه َ‬‫سقققول َ ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫) الحزاب ‪ :‬الية ‪(36‬‬

‫وجعل الله عز وجل اتباع ســنة رســول اللــه ‪‬‬


‫ل ِإن‬ ‫علمــة علــى محبتــه فقــال تعــالى‪ُ  :‬‬
‫ق ْ‬
‫م الل ّ ق ُ‬
‫ه‬ ‫حب ِب ْك ُق ُ‬
‫عوِني ي ُ ْ‬
‫فات ّب ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫حّبو َ‬
‫م تُ ِ‬ ‫ُ‬
‫كنت ُ ْ‬
‫‪ ) ‬آل عمران ‪ :‬من الية ‪(31‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫قال الحسن البصققرى‪ :‬ادعــى نــاس محبــة‬
‫قق ْ‬
‫ل‬ ‫الله عز وجل فــابتلهم بهــذه اليــة ‪ُ  :‬‬
‫عوِني ‪... ‬‬ ‫فققات ّب ِ ُ‬ ‫ن الل ّ ق َ‬
‫ه َ‬ ‫حب ّققو َ‬
‫م تُ ِ‬ ‫ِإن ُ‬
‫كنت ُ ق ْ‬
‫الية ‪.‬‬

‫كما أوصــى النــبى ‪ ‬بالتمســك بســنته وســنة‬


‫خلفائه الراشدين فقال ‪ " : ‬فــإنه مــن يعــش‬
‫منكــم فســيرى اختلف ـا ً كــثيرا ً فعليكــم بســنتى‬
‫وسنة الخلفــاء الراشــدين المهــديين مــن بعــدى‬
‫ضوا عليها بالنواجــذ وإيــاكم ومحــدثات المــور‬ ‫ع ّ‬
‫فإن كل بدعة ضللة " ‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫قققال الزهققري‪ :‬العتصــام بالســنة نجــاة لن‬


‫السنة كما قال مالك ‪ :‬مثل ســفينة نــوح ‪ ،‬مــن‬
‫ركبها نجا ‪ ،‬ومن تخلف عنها هلك ‪.‬‬

‫وقققال سققفيان‪ :‬ليقبــل قــول إل بعمــل‪ ،‬ول‬


‫يستقيم قول وعمــل إل بنيــة‪ ،‬ول يســتقيم قــول‬
‫وعمل ونية إل بمتابعة السنة ‪.‬‬

‫)( رواه أحمد ) ‪ ، (127 ،4/126‬وأبو داود ) ‪ (360 ،12/359‬السنة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والترمذى )‪ (10/144‬العلم ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا حديث حسن صــحيح‪ ،‬وابــن‬


‫ماجه )‪ (43‬المقدمـة‪ ،‬والدارمى ) ‪ (45 ،1/44‬اتباع السنة ‪ ،‬والبغوى‬
‫فى شرح السنة )‪ (1/205‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن‪.‬‬

‫‪- 16 -‬‬
‫وعن ابن شوذب قققال‪ :‬إن مــن نعمــة اللــه‬
‫ك أن يــوفقه اللــه إلــى‬‫ســ َ‬
‫علــى الشــاب إذا ن َ ُ‬
‫صاحب سنة يحمله عليها ‪.‬‬

‫فضل العلم والعلماء‬


‫والعلم هو ما قام عليه الــدليل ويقصــد بــه علــم‬
‫الكتاب والســنة بفهــم ســلف المــة رضــى اللــه‬
‫عنهم ‪.‬‬

‫قال‬ ‫العلم قال الله قال رسولقققه‬


‫الصحابقة ليس بلتمويقه‬
‫ما العلم نصبك للخلف سفاهة‬
‫بين الرسول وبين قول فقيقه‬

‫فضائله فى القرآن كثيرة‪ ،‬منها قوله عــزّ وجــلّ‪:‬‬


‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ق ِ‬ ‫منك ُق ْ‬
‫م َ‬ ‫من ُققوا ِ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫ع الل ّ ُ‬ ‫ف ِ‬‫‪ ‬ي َْر َ‬
‫ت ‪ ) ‬المجادلة من الية‬ ‫جا ٍ‬‫م دََر َ‬ ‫ُأوُتوا ال ْ ِ‬
‫عل ْ َ‬
‫‪. ( 11 :‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫ن‬ ‫وي اّلقق ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ه ْ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫وجل‪ُ  :‬‬
‫ّ‬ ‫وقولـه عزّ‬
‫ن ‪ ) ‬الزمر من‬ ‫مو َ‬‫عل َ ُ‬‫ن ل يَ ْ‬
‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫ن َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫الية ‪. ( 9 :‬‬

‫وأما الخبار ‪ ،‬فقول رسول اللــه ‪ " :‬مــن يــرد‬


‫الله به خيرا ً يفقهه فى الدين)‪ ، (1‬وقــوله ‪" : ‬‬
‫من سلك طريقا ً يلتمس فيه علما ً سهل الله لــه‬
‫به طريقا ً إلى الجنة " )‪. (2‬‬
‫وســلوك الطريــق للتمــاس العلــم يــدخل فيــه‬
‫سلوك الطريق الحقيقى وهــو المشــى بالقـدام‬
‫إلــى مجــالس العلمــاء‪ ،‬ويــدخل فيــه ســلوك‬
‫الطريــق المعنويــة المؤديــة إلــى حصــول العلــم‬
‫ل حفظهِ ومدارسته ‪.‬‬ ‫مث ُ‬

‫وقوله ‪ " :‬سهل الله له به طريقا ً إلى الجنة "‬


‫قد يــراد بــذلك أن اللــه يســهل لــه العلــم الــذى‬
‫طلبه وسلك طريقه ‪ ،‬وييسره عليه‪ ،‬فإن العلــم‬
‫طريقٌ يوصل إلى الجنة‪ ،‬كما قال بعض الســلف‬
‫‪ " :‬هل من طالب علم ٍ فيعان عليه"‪ ،‬وقــد يــراد‬

‫)( رواه البخارى )‪ (1/164‬العلــم‪ ،‬ومســلم )‪ (13/67‬المــارة‪ ،‬ورواه‬ ‫‪1‬‬

‫الترمذى )‪ (10/114‬عن ابن عباس وقال ‪ :‬حديث حسن صحيح ‪.‬‬


‫قال ابن الثير‪ :‬الفقه ‪ :‬الفهم والدراية والعلم فى الصــل وقــد جعلــه‬
‫العرف خاصا ً بعلم الشريعة ‪.‬‬
‫)( رواه مسلم ) ‪ ( 22 ، 17/21‬الذكر والدعاء‪ ،‬والترمذى )‪(10/115‬‬ ‫‪2‬‬

‫وأبواب العلم‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن‪ ،‬وأبــو داود )‪ ( 10/73‬العلــم ‪،‬‬
‫وابن ماجه )‪ ( 225‬المقدمة ‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫به طريق الجنة يوم القيامة وهــو الصــراط ومــا‬
‫قبله وما بعده ‪.‬‬

‫والعلم أيضا ً يــدل علــى اللــه تعــالى مــن أقــرب‬


‫طريق‪ ،‬فمن سلك طريقه وصل إلى الله تعالى‬
‫وإلــى الجنــة مــن أقــرب طريــق‪ ،‬والعلــم أيضــا‬
‫يهتـــدى بـــه فـــى ظلمـــات الجهـــل والشـــبه‬
‫والشكوك ‪ ،‬ولهذا سمى الله كتابه نــورا ً ‪ ،‬وعــن‬
‫عبد الله بن عمرو عن النبى ‪ ‬أنه قال ‪ " :‬إن‬
‫الله ل يقبض العلـم انتزاعــا ينــتزعه مـن صــدور‬
‫الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء‪ ،‬فإذا لم يبــق‬
‫جهال ً فســئلوا فــأفتوا‬ ‫عالم اتخذ الناس رؤوسا ً ُ‬
‫بغير علم فضلوا وأضلوا " )‪. (1‬‬
‫ن الصامت عن هذا الحديث فقال‬ ‫سئل عبادة ب ُ‬‫و ُ‬
‫‪ " :‬لو شئت لخبرتك بأول علم يرفع من الناس‬
‫‪ :‬الخشوع " ‪.‬‬

‫وإنمققا قققال عبققادة ‪ ‬هققذا لن العلققم‬


‫قسققمان‪ :‬أحــدهما مــا كــان ثمرتــه فــى قلــب‬
‫النســان ‪ ،‬هــو العلــم بــالله تعــالى ‪ ،‬وأســمائه ‪،‬‬
‫وصفاته‪ ،‬وأفعــاله المقتضــى لخشــيته ‪ ،‬ومهــابته‬
‫‪،‬وإجلله ‪ ،‬ومحبته‪ ،‬ورجائه‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬فهــذا‬
‫‪ ()1‬رواه البخارى )‪ (1/234‬العلم‪ ،‬ومسلم ) ‪ (224 ،16/223‬العلم ‪.‬‬
‫وقال الحــافظ ‪ " :‬ليقبــض العلــم انتزاع ـا ً ‪ :‬أى محــوا ً مــن الصــدور‪،‬‬
‫وكان تحديث النبى ‪ ‬بذلك فى حجة الوداع ‪.‬‬
‫وقال ابن المنّير ‪ :‬محو العلم من الصدور جــائز فــى القــدرة ‪ :‬إل أن‬
‫هذا الحديث دل على عدم وقوعه‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫هو العلــم النــافع كمــا قــال ابــن مســعود ‪ " :‬إن‬
‫أقواما ً يقرؤون القرآن ل يجاوز تراقيهــم‪ ،‬ولكــن‬
‫ســخ فيــه نفــع"‪ ،‬وقــال‬
‫إذا وقــع فــى القلــب فر َ‬
‫الحسن ‪ " :‬العلــم علمــان‪ :‬علــم اللسـان فــذاك‬
‫حجـــة علـــى ابـــن آدم ‪ ،‬كمـــا فـــى الحـــديث "‬
‫الققرآن حجة لك أو عليققك" )‪ ،(1‬وعلــم فــى‬
‫القلب فذاك العلم النافع ‪ ،‬فــأول مــا يرفــع مــن‬
‫م النــافع‪ ،‬وهــو العلــم البــاطن الــذى‬
‫العلــم العلـ ُ‬
‫يخالط القلوب ويصــلحها‪ ،‬ويبقــى علــم اللســان‬
‫فيتهــاون النــاس بــه ول يعملــون بمقتضــاه‪ ،‬ل‬
‫حملته ول غيرهم‪ ،‬ثم يذهب هذا العلــم بــذهاب‬
‫حملته وتقوم الساعة على شرار الخلق " ‪.‬‬
‫ومققن الدلققة علققى فضققل‬ ‫•‬
‫العلم وأهله كذلك ‪:‬‬

‫قوله ‪ " : ‬ل حسد إل فى اثنتين رجل آتاه الله‬


‫مال ً فسلطه على هلكته فى الحق ‪ ،‬ورجل آتــاه‬
‫الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " )‪. (2‬‬

‫وقوله ‪ " : ‬إنما الدنيا لربعة نفــر‪ :‬عبــد رزقــه‬


‫الله مال وعلما ً فهو يتقى فى مــاله ربــه ويصــل‬
‫)( رواه مســلم ) ‪ ،3/99‬ـ ‪ ( 100‬الطهــارة ‪ ،‬وقــال النــووى ‪ :‬فمعنــاه‬ ‫‪1‬‬

‫ظاهر أى تنتفع به إن تلوته وعملت به وإل فهو حجة عليك ‪.‬‬


‫)( رواه البخـــارى ) ‪ (1/165‬العلـــم‪ ،‬ومســـلم )‪،6/97‬ـــ ‪ (98‬صـــلة‬ ‫‪2‬‬

‫المسافرين‪ ،‬وقال الحافظ ‪ :‬قــوله ‪ " :‬ل حســد " ‪ :‬أى ل رخصــة فــى‬
‫الحسد إل فــى خصــلتين ‪ :‬أو ل يحســن الحســد إن حســن‪ ،‬أو أطلــق‬
‫الحسد مبالغة فى الحث على تحصيل الخصلتين ‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫فيــه رحمـه ويعلـم للـه فيــه حقـا ً فهـذا بأحسـن‬
‫المنازل عند الله ‪ ،‬ورجل آتــاه اللــه علم ـا ً ولــم‬
‫يؤته مــال ً فهــو يقــول ‪ :‬لــو أن لــى مــال ً لعملــت‬
‫بعمل فلن فهو بنيتــه وهمــا فــى الجــر ســواء ‪،‬‬
‫ورجل آتاه الله مال ً ولم يؤته علما ً فهــو يخبــط‬
‫فى ماله ل يتقى فيه ربه ول يصل فيه رحمه ول‬
‫يعلم لله فيــه حق ـا ً فهــذا بأســوأ المنــازل عنــد‬
‫الله‪ ،‬ورجل لم يؤته الله مال ً ول علما فهو يقول‬
‫‪ :‬لو أن لى مال ً لعملــت بعمــل فلن فهــو بنيتــه‬
‫وهما فى الوزر سواء")‪. (1‬‬

‫فعادت الســعادة بحملتهــا علــى العلــم ومــوجبه‬


‫والشقاوة بجملتها على الجهل وثمرته ‪.‬‬

‫ققال المقام أحمقد ‪ :‬النــاس محتــاجون إلــى‬


‫العلم أكثر من حاجتهم إلــى الطعــام والشــراب‬
‫لن الطعام والشراب يحتاج إليه فى اليوم مرة‬
‫أو مرتين والعلم يحتاج إليه بعدد النفاس ‪.‬‬

‫وقال سفيان بن عيينة ‪ :‬أرفع الناس منزلة‬


‫مــن كــان بيــن اللــه وبيــن عبــاده وهــم النبيــاء‬
‫والعلماء ‪.‬‬
‫علققى الهققدى لققم‬ ‫ما الفخر إل لهققل‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ (200 ،9/199‬أبواب الزهد‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ورواه أحمد )‪ ، (4/230،231‬وابن ماجه ) ‪ (4228‬الزهــد ‪ ،‬وصــححه‬


‫اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫اسقققققققتهدى أدلء‬ ‫العلم إنهم وقققدر‬
‫والجققاهلون لهققل‬ ‫كل أمرىء ما كققان‬
‫العلقققققم أعقققققداء‬ ‫يحسققققنه ففقققققز‬
‫النققققاس مققققوتى‬ ‫بعلم ٍ تعش حقيا ً بقه‬
‫وأهل العلم أحياء‬ ‫أبدا‬

‫‪ – 3‬أنواع القلوب وأقسامها‪:‬‬


‫وال ْب َ َ‬
‫صققَر‬ ‫ع َ‬‫م َ‬
‫سقق ْ‬‫ن ال ّ‬ ‫قــال تعــالى ‪  :‬إ ِ ّ‬
‫ؤول ً ‪‬‬ ‫سقق ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه َ‬
‫عن ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َ‬‫ل ُأولقئ ِ َ‬‫ؤادَ ك ُ ّ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫َ‬
‫) السراء من الية ‪. ( 36 :‬‬
‫ولمـــا كـــان القلـــب لهـــذه العضـــاء كالملـــك‬
‫المتصرف فــى الجنــود‪ ،‬الــذى تصــدر كلهــا عــن‬
‫أمره ‪ ،‬ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته‬
‫وقهره‪ ،‬وتكتسب منه الستقامة والزيغ ‪ ،‬وتتبعــه‬
‫فيما يعقده من العزم‪ ،‬أو يحله قال النبى ‪" : ‬‬
‫أل وإن فــى الجســد مضــغة إذا صــلحت صــلح‬
‫الجسد ُ كله ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلــه ‪ ،‬أل‬
‫وهى القلب " )‪. (1‬‬
‫)( جــزء مــن حــديث رواه البخــارى )‪ (1/126‬اليمــان ‪ ،‬ومســلم )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ،11/27‬ـ ‪ (28‬المساقاة والمزارعة وأول الحديث ‪ " :‬إن الحلل بي ّــن‬


‫وإن الحرام بّين "‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ‪ :‬فيه إشارة إلى أن صلح حركــات‬
‫العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقــائه للشــبهات بحســب صــلح‬
‫قلبه فإن كان قلبه سليما ً ليس فيه إل محبة الله وخشية الوقوع فيما‬

‫‪- 22 -‬‬
‫فهــو مل ُ‬
‫كهــا ‪ ،‬وهــى المنفــذة لمــا يأمرهــا بــه ‪،‬‬
‫القابلة لما يأتيها من هديه‪ ،‬ول يستقيم لها شىء‬
‫من أعمالها حتى تصــدر عــن قصــده نيتــه‪ ،‬وهــو‬
‫المسئول عنها كلهــا‪ ،‬لن كــل راٍع مســئول عــن‬
‫رعيته‪ :‬كان الهتمام بتصحيحه‪ ،‬وتسديده‪ ،‬أولــى‬
‫ما اعتمد عليه السالكون ‪ ،‬والنظر فى أمراضــه‬
‫وعلجها أهم ما تنسك به الناسكون ‪.‬‬
‫لما كان القلب يوصف بالحيــاة وضــدها‪ ،‬انقســم‬
‫بحســـب ذلـــك إلـــى ثلثـــة أقســـام‪ :‬القلققب‬
‫الصققحيح أو السققليم ‪ ،‬والقلققب الميققت ‪،‬‬
‫والقلب المريض ‪.‬‬

‫‪ - 1‬القلب الصحيح ‪:‬‬

‫هو القلب السليم الــذى لينجــو يــوم القيامــة إل‬


‫م‬ ‫ن أتى الله تعالى به‪ ،‬كما قال تعالى ‪  :‬ي َ ْ‬
‫و َ‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫َ‬
‫ن أت َققى الل ّق َ‬
‫ه‬ ‫مق ْ‬
‫ن ِإل َ‬
‫ول ب َن ُققو َ‬ ‫ما ٌ‬
‫ل َ‬ ‫ع َ‬‫ف ُ‬‫ل َين َ‬
‫سقِليم ٍ ‪ ) ‬الشــعراء ‪:‬اليــة ‪- 88 :‬‬ ‫ب َ‬ ‫قل ْق ٍ‬‫بِ َ‬
‫‪. ( 89‬‬

‫يكرهــه صــلحت حركــات الجــوارح كلهــا ونشــأ عــن ذلــك اجتنــاب‬


‫المحرمات كلها واتقاء الشبهات حــذرا ً مــن الوقــوع فــى المحرمــات‪،‬‬
‫وإن كان القلب فاسدا ً قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب مــا يحبــه‬
‫ولــو كرهــه اللــه فســدت حركــات الجــوارح كلهــا وانبعــث إلــى كــل‬
‫المعاصى والشبهات بحسب اتباع هوى القلب ) ‪ (285 ،1/284‬جامع‬
‫العلوم والحكم بتحقيق الحمدى أبو النور ‪.‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫وقيل في تعريفه‪ :‬إنه القلب الذي سلم من‬
‫كل شهوة تخــالف أمــر اللــه ونهيــه ‪ ،‬ومــن كــل‬
‫شــبهة تعــارض خــبره ‪ ،‬فســلم مــن عيوديــة مــا‬
‫سواه‪ ،‬وسلم من تحكيم غير رسوله ‪ ،‬فخلصــت‬
‫عبــوديته للــه تعــالى ‪ ،‬إرادة ومحبــة ‪ ،‬وتــوكيل ً ‪،‬‬
‫وإنابة ‪ ،‬وإخباتا ً وخشية ‪ ،‬ورجاء ‪ ،‬وخلــص عملــه‬
‫ب ف ـي اللــه ‪ ،‬وإن أبغــض‬ ‫للــه ‪ ،‬فــإن أحــبّ أَحَ ـ ّ‬
‫أبغض في الله ‪ ،‬وإن أعطى أعطــى للــه ‪ ،‬وإن‬
‫منع منع للــه ‪ ،‬ول يكفيــه هــذا حــتى يســلم مــن‬
‫ن عدا رسوله ‪ ‬فيعقد‬ ‫م ْ‬ ‫النقياد والتحكيم لكل َ‬
‫قلبه معه عقدا ً محكما ً على التمام والقتداء بــه‬
‫وحده ‪ ،‬دون كل أحد فى القوال والعمال ‪ ،‬فل‬
‫يتقــدم بيــن يــديه بعقيــدة ول قــول ‪ ،‬ول عمــل ‪،‬‬
‫قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫موا ب َي ْ َ‬‫قد ّ ُ‬ ‫مُنوا ل ت ُ َ‬
‫ن آ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫‪َ ‬يا أي ّ َ‬
‫ن الّلق َ‬
‫ه‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ققوا الّلق َ‬‫وات ّ ُ‬‫ه َ‬ ‫سقول ِ ِ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الّلق ِ‬‫ي َدَ ِ‬
‫م ‪) ‬الحجرات ‪. ( 1 :‬‬ ‫عِلي ٌ‬‫ع َ‬ ‫مي ٌ‬‫س ِ‬
‫َ‬

‫‪ – 2‬القلب الميت ‪:‬‬

‫وهو ضد القلب السليم ‪ ،‬فهو ليعـرف ربـه ‪ ،‬ول‬


‫يعبده بأمره ‪ ،‬وما يحبه ويرضاه ‪ ،‬بل هو واقــف‬
‫مع شهواته ‪ ،‬ولذاته ‪ ،‬ولو كان فيهــا ســخط ربــه‬
‫وغضــبه ‪ ،‬فهــو ليبــالى إذا فــاز بشــهوته وحظــه‬
‫رضى ربه أم سخط ‪ ،‬فهو متعبد لغير اللــه ‪ ،‬إن‬

‫‪- 24 -‬‬
‫أحب أحــب لهــواه ‪ ،‬وإن أبغــض أبغــض لهــواه ‪،‬‬
‫وأن أعطى أعطى لهواه ‪ ،‬وإن منع منع لهــواه ‪،‬‬
‫فهواه آثر عنده ‪ ،‬وأحب إليه من رضــى مــوله‪،‬‬
‫فالهوى إمامه والشهوة قائده ‪ ،‬والجهلُ سائقه ‪،‬‬
‫ه ‪ ،‬فهــو بــالفكر فــي تحصــيل‬ ‫ة مركبــ ُ‬
‫والغفلــ ُ‬
‫أغراضه الدنيوية مغمور ‪ ،‬وبسكرة الهوى وحــب‬
‫العاجلــة مخمــور‪ ،‬ينــادى إلــى اللــه وإلــى الــدار‬
‫الخرة مــن مكــان بعيــد فل يســتجيب للناصــح ‪،‬‬
‫ويتبــع كــل شــيطان مريــد ‪ ،‬الــدنيا تســخطه‬
‫وترضــيه ‪ ،‬والهــوى يصــمه عمــا ســوى الباطــل‬
‫ويعميه ‪ ،‬فمخالطــة صــاحب هــذا القلــب ســقم‬
‫م ‪ ،‬ومجالسته هلك‪.‬‬ ‫ومعاشرته س ّ‬

‫‪ -3‬القلب المريض ‪:‬‬

‫قلب له حيـاة وبـه علـة تمـده هـذه مـرة وهـذه‬


‫أخرى ‪ ،‬وهو لما غلــب عليــه منهمــا ‪ ،‬ففيــه مــن‬
‫محبــة اللــه تعــالى ‪ ،‬واليمــان بــه والخلص لــه‬
‫والتوكل عليه‪ ،‬مــا هــو مــادة حيــاته ‪ ،‬وفيــه مــن‬
‫محبــة الشــهوات ‪ ،‬وإيثارهــا ‪ ،‬والحــرص علــى‬
‫تحصيلها ‪ ،‬والحســد والكــبر ‪ ،‬والعجــب ‪ ،‬مــا هــو‬
‫مادة هلكه وعطبه ‪ ،‬فهو ممتحــن مــن داعييــن‪:‬‬
‫داع يدعوه إلــى اللــه ورســوله والــدار الخــرة ‪،‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫وداع يــدعوه إلــى العاجلــة ‪ ،‬وهــو إنمــا يجيــب‬
‫أقربهما منه بابا ً ‪ ،‬وأدناهما إليه جوارا ً ‪.‬‬

‫ي ‪ ،‬مخبت ‪ ،‬لين واع‪.‬‬


‫فالقلب الول ‪ :‬ح ّ‬

‫والثانى ‪ :‬يابس ‪ ،‬ميت ‪.‬‬

‫والثققالث ‪ :‬مريــض ‪ ،‬فإمــا إلــى الســلمة‬


‫أدنى‪ ،‬إما إلى العطب أدنى‪.‬‬

‫* * *‬

‫علمات مرض القلب وصحته‬


‫علمات مرض القلب ‪:‬‬ ‫‪o‬‬

‫قــد يمــرض قلــب العبــد ‪ ،‬ويشــتد المــرض ‪ ،‬ول‬


‫يعــرف بــه صــاحبه ‪ ،‬بــل قــد يمــوت وصــاحبه‬
‫ليعــرف بمــوته ‪ ،‬وعلمــة مرضــه أو مــوته ‪ ،‬أن‬
‫صاحبه ل تؤلمه جراحات المعاصى ‪ ،‬ول يــوجعه‬
‫جهله بالحق ‪ ،‬وعقائده الباطلة ‪ ،‬فإن القلب إذا‬
‫كان حيا ً تألم بورود القبائح عليه ‪ ،‬وتــألم بجهلــه‬
‫بالحق – بحسب حياته – وقد يشـعر بـالمرض ‪،‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫ويشتد عليه مرارة الدواء ‪ ،‬فهو يؤثر بقاء اللـم‬
‫على مشقة الدواء ‪.‬‬

‫ومــن علمــات أمــراض القلــوب عــدولها عــن‬


‫الغذية النافعة إلى الضارة‪ ،‬وعدولها عن الدواء‬
‫النافع إلى دائهـا الضـار‪ ،‬فـالقلب الصـحيح يـؤثر‬
‫النافع الشــافى علــى الضــار المــؤذى ‪ ،‬والقلــب‬
‫المريض بضد ّ ذلك‪ ،‬وأنفع الغذية ‪ :‬غذاء اليمان‬
‫‪ ،‬وأنفع الدوية ‪ :‬دواء القرآن ‪.‬‬

‫علمات صحة القلب ‪:‬‬ ‫‪o‬‬

‫أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بــالخرة‪ ،‬ويحــل‬


‫فيها حتى يبقى كأنه من أهلهــا‪ ،‬أو أبنائهــا ‪ ،‬جــاء‬
‫إلى هذه الدار غريبا ً يأخذ منها حاجته ويعود إلى‬
‫وطنه‪ ،‬كما قال ‪ ‬لعبد الله بن عمر‪ " :‬كن فى‬
‫الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " )‪. (1‬‬

‫وكلما مرض القلب آثر الدنيا‪ ،‬واستوطنها‪ ،‬حــتى‬


‫يصير من أهلها‪.‬‬

‫)( رواه البخارى ) ‪ (11/233‬الرقاق‪ ،‬وأحمد ) ‪ ،(41 ،2/24‬والترمذى‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (9/203‬الزهد‪ ،‬وأبو نعيم فى الحلية ) ‪. (301 /3‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صحة القلب‪ :‬أنــه ليــزال‬
‫يضــرب علــى صــاحبه حــتى ينيــب إلــى اللــه‪،‬‬
‫ويخبت إليه ‪ ،‬ويتعلق به تعلق المحب المضطر‬
‫إلــى محبــوبه‪ ،‬فيســتغنى بحبــه عــن حــب مــا‬
‫سواه‪ ،‬وبذكره عن ذكــر مــا ســواه ‪ ،‬وبخــدمته‬
‫عن خدمة ما سواه ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صحة القلب‪ :‬أنــه إذا فــاته‬
‫جـد َ لــذلك ألمـا ً‬‫وِْردهُ أو طاعة من الطاعــات‪ ،‬و َ‬
‫أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن علمققات صققحته‪ :‬أنــه يشــتاق إلــى‬
‫الخدمـــة كمـــا يشـــتاق الجـــائع إلـــى الطعـــام‬
‫والشراب ‪.‬‬
‫‪ -‬قال يحيى بن معاذ‪ " :‬من ســر بخدمــة‬
‫سرت الشياء كلها بخدمته ‪ ،‬ومــن قــرت‬ ‫الله ُ‬
‫عينه بالله قرت عيون كل أحــد بــالنظر إليــه‬
‫"‪.‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صحته‪ :‬أن يكون همه واحدا ً‬
‫‪ ،‬وأن يكون فى الله يعنى فى طاعة الله ‪.-‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صحته‪ :‬أن يكون أشح بوقته‬
‫أن يذهب ضائعا ً كأشد الناس شحا ً بماله ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صققحته‪ :‬أن يكــون إذا دخــل‬
‫فى الصلة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا ووجــد‬
‫فيها راحته ‪ ،‬ونعيمه وقرةَ عينه ‪ ،‬وسرور قلبه‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫‪ -‬ومن علمات صحته‪ :‬أن ل يفتر عــن ذكــر‬
‫ربه ‪ ،‬ول يسأم من خــدمته‪ ،‬ول يــأنس بغيــره‬
‫إل بمن يدله عليه ويذكره به ‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها‪ :‬أن يكون اهتمــامه بتصــحيح العمــل‬
‫أعظم منه بالعمــل ‪ ،‬فيحــرص علــى الخلص‬
‫فيــه ‪ ،‬والنصــيحة ‪ ،‬والمتابعــة ‪ ،‬والحســان ‪،‬‬
‫ة الله عليه فيــه ‪ ،‬وتقصــيره‬
‫ويشهد مع ذلك من َ‬
‫فى حق الله ‪.‬‬

‫* * *‬

‫ب‬
‫ض القل ِ‬
‫أسباب مر ُ‬
‫والفتن التى ُتعرض علــى القلــوب هــى أســباب‬
‫مرضـــها‪ ،‬وهـــى فتـــن الشـــهوات والشـــبهات‬
‫‪،‬فـــالولى ‪ :‬تـــوجب فســـاد القصـــد والرادة ‪،‬‬
‫والثانية‪ :‬توجب فساد العلم والعتقاد ‪.‬‬

‫عن حذيفة بن اليمان ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول‬


‫الله ‪ " : ‬تعرض الفتن علــى القلــوب كعــرض‬
‫الحصير ‪ ،‬عودا ً عودا ً ‪ ،‬بــأى قلــب أشــربه نكتــت‬

‫‪- 29 -‬‬
‫فيه نكتة سوداء ‪ ،‬وأى قلــب أنكرهــا نكتــت فيــه‬
‫نكتة بيضــاء ‪ ،‬حــتى تعــود القلــب علــى قلــبين ‪:‬‬
‫قلــب أســود مربــادا ً كــالكوز مجخيــا ً ‪ ،‬ليعــرف‬
‫معروفا ً ‪ ،‬ل ينكر منكرا ً إل ما أشرب من هـواه ‪،‬‬
‫وقلب أبيض لتضره فتنـة ما دامت السمـــاوات‬
‫والرض ")‪. (1‬‬
‫سققم ‪ ‬القلققوب عنققد عققرض الفتققن‬ ‫فق ّ‬
‫عرضــت عليــه‬ ‫عليها إلى قسمين‪ :‬قلب إذا ُ‬
‫فتنة أشربها كما يشرب السفنج المــاء ‪،‬فتنكــت‬
‫فيـه نكتـة سـوداء ‪ ،‬فل يـزال يشـرب كـل فتنـة‬
‫تعرض عليه حتى يســود ّ وينتكــس ‪ ،‬وهــو معنــى‬
‫قوله ‪ " :‬كالكوز مجخيـا ً " أى مكبوبـا ً منكوسـا ً ‪،‬‬
‫فــإذا اســود ّ وانتعكــس عــرض لــه مــن هــاتين‬
‫الفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلك‬
‫‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬اشتباه المعروف عليــه بــالمنكر‪،‬‬
‫فل يعرف معروفا ً ول ينكر منكرا ً وربما استحكم‬
‫عليه هذا المرض حتى يعتقــد المعــروف منكــرا ً‬
‫والمنكر معروفا ً والسنة بدعة ‪ ،‬والبدعــة ســنة ‪،‬‬
‫والحق باطل ً والباطل حقا ً‬
‫الثانى‪ :‬تحكيمــه هــواه علــى مــا جــاء بــه‬
‫الرسول ‪ ‬وانقياده للهوى واتباعه له ‪.‬‬

‫)( رواه مسلم ) ‪ ( 272 ، 2/270‬اليمان ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫مربادًا" المربد الذى لونه ُربدة وهى بين السواد والغــبرة ‪،‬‬
‫وقوله ‪ُ " :‬‬
‫و " المجخى " هو المائل عن الستقامة والعتدال ‪.‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫وقلققب أبيققض‪ :‬قـــد أشـــرق فيـــه نـــور‬
‫اليمــان ‪ ،‬وأزهــر فيــه مصــباحه‪ ،‬فــإذا عرضــت‬
‫الفتنة أنكرها وردها ‪ ،‬فازداد نوره وإشراقه ‪.‬‬
‫‪ – 4‬سموم القلب الربعة ‪:‬‬

‫أعلم أن المعاصى كلها سموم للقلــب وأســباب‬


‫لمرضــه وهلكــه‪ ،‬وهــى منتجــة لمــرض القلــب‬
‫وإرادته غير إرادة الله عز وجل ‪ ،‬وسبب لزيــادة‬
‫مرضه‪.‬‬
‫قال ابن المبارك ‪:‬‬
‫رأيت الذنوب ُتميت القلوب‬
‫وقد يورث الذل إدماُنها‪.‬‬
‫وترك الذنوب حياة القلقوب‬
‫وخيُر لنفسك عصياُنهقا‪.‬‬
‫فمن أراد سـلمة قلبـه وحيـاته فعليـه بتخليـص‬
‫قلبه من آثار تلك السموم ‪ ،‬ثم بالمحافظة عليه‬
‫بعدم تعاطى ســموم جديــدة ‪ ،‬وإذا تنــاول شــيئا ً‬
‫من ذلــك خطــأ ســارع إلــى محــو أثرهــا بالتوبــة‬
‫والستغفار ‪ ،‬والحسنات الماحية ‪.‬‬
‫ونقصــد بالســموم الربعــة‪ :‬فضققول الكلم ‪،‬‬
‫وفضقققول النظقققر ‪ ،‬وفضقققول الطعقققام ‪،‬‬
‫وفضققول المخالطققة ‪ ،‬وهـــي أشـــهر هـــذه‬
‫الســموم انتشــارا ً ‪ ،‬وأشــدها تــأثيرا ً فــى حيــاة‬
‫القلب ‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫‪ – 1‬فضول الكلم ‪:‬‬

‫دله ‪،‬‬‫الحمد لله الذى أحسن خلــق النســان وع ـ ّ‬


‫ه وعلمــه‬ ‫وألهمــه نــور اليمــان فزينــه بــه وجمل ـ ُ‬
‫البيان فقدمه به وفضله ‪ ،‬وأمده بلســان يــترجم‬
‫به عما حواه القلب وعقلـه‪ ،‬فاللســان مــن نعـم‬
‫اللــه العظيمــة ولطــائف صــنعه الغريبــة ‪ ،‬فــإنه‬
‫جرمـــه ‪ ،‬إذ ل‬ ‫ه عظيـــم طـــاعته و ُ‬ ‫مـــ ُ‬
‫صـــغير جر ُ‬
‫يستبين الكفر واليمان إل بشهادة اللسان وهما‬
‫غايــة الطاعــة والعصــيان‪ ،‬ومــن أطلــق عذبــة‬
‫اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان‬
‫فى كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هــارٍ إلــى‬
‫أن يضطره إلى البوار‪ ،‬ول يكب الناس فى النار‬
‫على مناخرهم إل حصائد ألسنتهم‪ ،‬عن معــاذ ‪‬‬
‫عن النبى ‪ ‬قال‪ " :‬وهل يكب الناس فى النــار‬
‫على وجــوههم – أو قــال ‪ :‬علــى منــاخرهم – إل‬
‫حصائد ألسنتهم ؟ " )‪. (1‬‬
‫والمققراد بحصققائد اللسققنة‪ :‬جـــزاء الكلم‬
‫المحــرم وعقوبــاته فــإن النســان يــزرع بقــوله‬
‫وعملــه الحســنات والســيئات ‪ ،‬ثــم يحصــد يــوم‬
‫ل أو‬‫القيامــة مــا زرع‪ ،‬فمــن زرع خيــرا ً مــن قــو ٍ‬

‫)( رواه الترمذى )‪ ،10/87‬ـ ‪ (88‬اليمان وقــال‪ :‬حســن صــحيح وابــن‬ ‫‪1‬‬

‫مــاجه )‪ (3973‬الفتــن ‪ ،‬والحــاكم )‪ (2/413‬التفســير‪ ،‬وقــال صــحيح‬


‫على شرط الشيخين ووافقه الذهبى وصححه اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫ل حصد الرامة‪ ،‬من زرع عشرا ً مــن قــول أو‬
‫عم ٍ‬
‫عمل حصد الندامة ‪.‬‬

‫وقد وردت الخبار الكثيرة فى لتحذير من آفات‬


‫اللسان وبيان خطره‪.‬‬

‫مقن‬ ‫ظ ِ‬‫فق ُ‬
‫مقا ي َل ْ ِ‬
‫فمــن ذلــك قــوله تعــالى ‪َ  :‬‬
‫د ‪ ) ‬ق ‪:‬اليــة ‪:‬‬ ‫عِتي ق ٌ‬
‫ب َ‬
‫قي ٌ‬ ‫ل ِإل ل َدَي ْ ِ‬
‫ه َر ِ‬ ‫و ٍ‬ ‫َ‬
‫ق ْ‬
‫‪. ( 18‬‬

‫وعن سفيان بن عبد الله الثقفققى قققال‪:‬‬


‫ى؟‬‫ـوف‪(1‬مــا تخــاف عل ـ ّ‬
‫قلت يارسول الله ما أخـ‬
‫قال ‪ " :‬هذا وأخذ بلسانه " ) ‪.‬‬

‫وعن عقبة بن عامر ‪ ‬قال‪ :‬قلت يارسول‬


‫الله ما النجاة ؟ قال ‪ " :‬أمسك عليك لسانك ‪...‬‬
‫" )‪. (2‬‬
‫وقـال ‪ " :‬من كان يؤمن بــالله واليــوم الخــر‬
‫فليقل خيرا ً أو ليصمت" )‪.(3‬‬

‫)( رواه الترمذى )‪ (9/249‬الزهد وقال حسن صــحيح‪ ،‬وابــن ماجــة )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (3972‬الفتــن‪ ،‬والــدارمى )‪ (2/298‬الرقــاق ‪ ،‬والحــاكم )‪(2/313‬‬


‫وقال صحيح السناد ووافقه الذهبى واللبانى ‪.‬‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ (9/247‬الزهد‪ ،‬وأحمد )‪ ،(5/259‬وابن المبــارك )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ (134‬الزهد‪ ،‬وصححه اللبانى لطرقه فى الصحيحة رقم )‪.(890‬‬


‫)( رواه البخارى )‪ (10/445‬الدب ‪ ،‬ومســلم )‪ (2/18‬اليمــان ‪ ،‬وأبــو‬ ‫‪3‬‬

‫داود )‪ (5032‬الدب ‪ ،‬وابن ماجة ) ‪ (3971‬الفتن ‪.‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫وهو من جوامع كلمه ‪ ‬فــالكلم إمــا أن يكــون‬
‫خيرا ً فيكون العبد مأمورا بقوله‪ ،‬وإمــا أن يكــون‬
‫غير ذلك فيكون مأمورا ً بالصمت عنه ‪.‬‬

‫وعن أبى هريرة ‪ ‬أنه سمع رسول الله‬


‫‪ ‬يقول ‪ " :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتــبين‬
‫فيها يزل بها فــى النــار أبعــد مــا بيــن المشـرق‬
‫والمغرب " )‪. (1‬‬
‫وعققن عبققد اللققه بققن مسققعود ‪ ‬قققال ‪" :‬‬
‫والله الذى ل إله إل هو ليس شــىء أحــوج إلــى‬
‫طول سجن من لسانى " ‪.‬‬

‫وكان يقول‪" :‬يا لسان قل خيرا ً تغنم ‪ ،‬واســكت‬


‫عن شر تسلم من قبل أن تندم " ‪.‬‬
‫وعن أبى الدرداء ‪ ‬قال ‪ " :‬أنصــف أذنيــك‬
‫من فيك وإنما جعل لك أذنان وفم واحد ٌ لتســمع‬
‫أكثر مما تتكلم " ‪.‬‬

‫وعقققن الحسقققن البصقققرى ‪ :‬قـــال ‪ :‬كـــانوا‬


‫يقولون ‪ :‬إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد‬

‫)( رواه البخــارى )‪ (11/266‬الرقــاق ‪ ،‬ومســلم )‪ (18/117‬الزهــد‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والترمذى )‪ (9/195‬الزهد بلفظ ‪ " :‬إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليــرى‬


‫بها بأسا ً يهوى بها سبعين خريفا ً فى النار " وقال‪ :‬هذا حــديث حســن‬
‫غريب من هذا الوجه ‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫ا‪ ،‬يتكلـم بشـىء تـدبره بقلبـه ثـم أمضـاه ‪ ،‬وإن‬
‫لســان المنــافق أمــام قلبــه ‪ ،‬فــإذا هــم بشــىء‬
‫أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه ‪.‬‬

‫فققإذا قلققت ‪ :‬فهققذا الفضققل‬ ‫•‬


‫الكبير للصمت ما سببه ؟‬

‫فاعلم أن سببه كثرة آفات اللســان مــن الخطــأ‬


‫والكــذب والغيبــة والنميمــة والفحــش والمــراء‬
‫وتزكية النفس والخوض فى الباطل والخصــومة‬
‫والفضول والتحريف والزيادة والنقصــان وإيــذاء‬
‫الخلق وهتك العورات فهذه آفات كــثيرة وهــى‬
‫سياقة إلى اللسان ل تثقل عليه ولها حلوة فــى‬
‫القلـــب وعليهـــا بـــواعث مـــن الطبـــع ومـــن‬
‫الشيطان ‪ ،‬فلذلك عظمت فضيلة الصمت ‪ ،‬مــع‬
‫ما فيـه مــن جمـع الهــم‪ ،‬ودوام الوقـار والفـراغ‬
‫للفكر والذكر والعبــادة ‪ ،‬والســلمة مــن تبعــات‬
‫القول فى الدنيا ‪ ،‬ومن حسابه فى الخــرة فقــد‬
‫ل ِإل‬‫و ٍ‬ ‫مققن َ‬
‫قق ْ‬ ‫فق ُ‬
‫ظ ِ‬ ‫مققا ي َل ْ ِ‬
‫قــال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫د ‪ ) ‬ق ‪:‬الية ‪. ( 18 :‬‬ ‫عِتي ٌ‬
‫ب َ‬
‫قي ٌ‬ ‫ل َدَي ْ ِ‬
‫ه َر ِ‬

‫‪ -2‬فضول النظر‪:‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫فضققول النظققر‪ :‬هــو إطلقــه بــالنظر إلــى‬
‫الشىء بملـء العيــن‪ ،‬والنظــر إلــى مـا ل يحـل‬
‫النظر إليه وهو على العكس من غض البصر ‪.‬‬

‫والغض‪ :‬هو النقص وقد أمر الله عــز وجــل بــه‬


‫ن‬‫مقق ْ‬ ‫ضققوا ِ‬ ‫غ ّ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬‫مقق ْ‬‫قققل ل ّل ْ ُ‬ ‫فقـــال ‪ُ  :‬‬
‫كققى‬ ‫َ‬
‫ك أْز َ‬ ‫م ذَل ِ َ‬ ‫ظوا ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬ ‫ج ُ‬
‫فُرو َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬‫ر ِ‬‫صا ِ‬ ‫أب ْ َ‬
‫قققل‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫عو َ‬ ‫ص قن َ ُ‬ ‫مققا ي َ ْ‬‫خِبي قٌر ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّق َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫هق ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ه ّ‬‫ر ِ‬ ‫صقققا ِ‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫مققق ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ضققق َ‬ ‫ض ْ‬ ‫غ ُ‬ ‫ت يَ ْ‬ ‫مَنقققا ِ‬‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّل ْ ُ‬
‫ن ‪) ‬النور ‪ :‬الية ‪– 30 :‬‬ ‫ه ّ‬ ‫ج ُ‬‫فُرو َ‬ ‫ن ُ‬ ‫فظْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫وجزء من ‪. ( 31‬‬

‫وعن أبى هريرة ‪ ‬عن النبى ‪ " :‬كتــب‬


‫على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلــك ل‬
‫محالة‪ ،‬العينان زناهمــا النظــر ‪،‬والذنــان زناهمــا‬
‫الســتماع‪ ،‬واللســان زنــاه الكلم‪ ،‬واليــد زناهــا‬
‫جل زناها الخطى‪ ،‬والقلــب يهــوى‬ ‫البطش ‪ ،‬والرِ ْ‬
‫ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه " ‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫وعن جرير ‪ ‬قال ‪ :‬سألت رسول اللــه ‪: ‬‬


‫عن النظر الفجأة فقال‪ " :‬اصرف بصرك " )‪. (2‬‬
‫)( رواه البخارى )‪ (10/26‬الستئذان ‪ ،‬وســملم )‪ ،205 /16‬ـ ‪(206‬‬ ‫‪1‬‬

‫القدر‪ ،‬وأبـو داود )‪ ،(2139‬النكاح‪ ،‬وأحمد ) ‪. (2/276‬‬


‫)( رواه مســـلم ) ‪ (14/139‬الدب ‪ ،‬والترمـــذى )‪ (10/229‬الدب ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫والدارمى)‪ (2/228‬الستئذان‪ ،‬وأحمــد )‪ ،4/358‬ـ ‪(361‬ومعنــى نظــر‬


‫الفجأة أن يقع بصره علىالجنبية من= =غير قصد فل إثم عليــه فــى‬
‫أول ذلك ويجب عليه أن يصرف بصره فى الحال ‪ ،‬فــإن صــرف فــى‬
‫الحال فل إثم عليه وإن استدام النظر أثم لهذا الحــديث فــإن رســول‬

‫‪- 36 -‬‬
‫وفضول النظر يدعو إلـى الستحسـان ‪ ،‬ووقـوع‬
‫صور المنظور فى قلب الناظر ‪ ،‬فيحدث أنواع ـا ً‬
‫من الفساد فى قلب العبد منها ‪:‬‬

‫أن النظرة سهم مســموم مــن ســهام إبليــس ‪،‬‬


‫ض بصــره للــه أورثــه حلوة يجــدها فــى‬
‫فمن غ ّ‬
‫قلبه إلى يوم يلقاه ‪.‬‬

‫ومنها ‪ :‬دخول الشيطان مع النظرة ‪ ،‬فــإنه ينفــذ‬


‫معها أسرع من نفوذ الهواء فى المكان الخالى‪،‬‬
‫ليزين صورة المنظــور ‪ ،‬ويجعلهــا صــنما ً يعكــف‬
‫ـب ‪ ،‬ثــم يعــده ويمنيــه ‪ ،‬ويوقــد علــى‬
‫عليــه القلـ ُ‬
‫القلب نار الشــهوات ويلقــى حطــب المعاصــى‬
‫التى لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ‪.‬‬

‫ومنهــا‪ :‬أنــه يشــغل القلــب ‪ ،‬وينســيه مصــالحه‪،‬‬


‫ويحول بينه وبينها ‪ ،‬فينفرط عليــه أمــره‪ ،‬ويقــع‬
‫فى اتباع الهوى والغفلة ‪.‬‬

‫فل ْن َققا‬‫غ َ‬ ‫ن أَ ْ‬‫مق ْ‬‫ع َ‬‫ول ت ُطِ ْ‬‫قــال اللــه تعــالى ‪َ  :‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫مقُر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫كقا َ‬‫و َ‬‫واهُ َ‬
‫هق َ‬‫ع َ‬
‫وات َّبق َ‬ ‫عن ِذك ْ ِ‬
‫رَنا َ‬ ‫ه َ‬‫قل ْب َ ُ‬
‫َ‬
‫طا ‪ ) ‬الكهف ‪ :‬من الية ‪( 28 :‬‬ ‫فُر ً‬ ‫ُ‬

‫ن‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫قل ل ّل ْ ُ‬
‫مق ْ‬ ‫الله ‪ ‬أمره بصرف بصره مــع قــوله تعــالى ‪ُ  :‬‬
‫م ‪ ‬شرح النووى على صحيح مسلم هــامش‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫ر ِ‬
‫صا ِ‬
‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬
‫ضوا ِ‬
‫غ ّ‬
‫يَ ُ‬
‫) ‪.(139 /14‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫وإطلق البصر يققوجب هققذه‬ ‫•‬
‫المور الثلثة ‪:‬‬

‫وقال أطبققاء القلققوب‪ :‬بيــن العيــن والقلــب‬


‫منفذ وطريق ‪ ،‬فإذا خربت العين وفسدت خرب‬
‫القلب وفسد وصــار كالمزبلــة الــتى هــى محــل‬
‫النجاســات والقــاذورات والوســاخ ‪ ،‬فل يصــلح‬
‫لســكن معرفــة اللــه ومحبتــه‪ ،‬والنابــة إليــه ‪،‬‬
‫والنس به ‪ ،‬والسرور بقربه ‪ ،‬وإنما يســكن فيــه‬
‫أضداد ذلك ‪.‬‬

‫وإطلق البصر معصية لله عز وجل لقوله تعالى‬


‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬
‫ر ِ‬
‫صققا ِ‬‫ن أب ْ َ‬
‫مقق ْ‬‫ضوا ِ‬‫غ ّ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫قل ل ّل ْ ُ‬ ‫‪ُ :‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م إِ ّ‬ ‫كققى ل َ ُ‬
‫هقق ْ‬ ‫ك أْز َ‬
‫م ذَِلقق َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ج ُ‬‫فُرو َ‬ ‫ظوا ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ح َ‬ ‫وي َ ْ‬
‫َ‬
‫ن ‪ ) ‬النور ‪ :‬الية ‪:‬‬ ‫عو َ‬ ‫صن َ ُ‬‫ما ي َ ْ‬‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫‪( 30‬‬

‫وما سعد من سعد فى الدنيا إل بامتثال أمر الله‬


‫‪ ،‬ول نجاة للعبــد فــى الخــرة إل بامتثــال أوامــر‬
‫الله عز وج َ‬
‫ل‪.‬‬
‫وإطلق البصر كذلك ُيلبس القلب ظلمــة‪ ،‬كمــا‬
‫ل ُيلبسه نورا ً ‪.‬‬
‫ض البصر لله عّز وج َ‬‫أن غ ّ‬

‫ه ُنققوُر‬‫وقد ذكر الله عّز وجل آية النور ‪  :‬الل ّ ُ‬


‫ة‬ ‫شق َ‬
‫كا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ه كَ ِ‬‫ر ِ‬ ‫مث َق ُ‬ ‫ت وال َ‬
‫ل ن ُققو ِ‬ ‫ض َ‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫وا ِ َ‬
‫ما َ‬
‫س َ‬
‫ال ّ‬

‫‪- 38 -‬‬
‫ح ‪ ) ‬النور ‪ :‬من الية ‪، ( 35 :‬‬ ‫مصَبا ٌ‬ ‫ها ِ‬‫في َ‬
‫ن‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫قققل ل ّل ْ ُ‬
‫مقق ْ‬ ‫بعــد قــوله عــز وجــل ‪ُ  :‬‬
‫م ‪ )  .....‬النــور ‪:‬‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬
‫ر ِ‬
‫صققا ِ‬
‫ن أب ْ َ‬ ‫مق ْ‬‫ضققوا ِ‬
‫غ ّ‬‫يَ ُ‬
‫من الية ‪( 30 :‬‬

‫وإذا استنار القلب ‪ ،‬أقبلت وفــود الخيــرات إليــه‬


‫مــن كــل ناحيــة ‪ ،‬كمــا أنــه إذا أظلــم ‪ ،‬أقبلــت‬
‫سحائب البلء والشر عليه من كل مكان ‪.‬‬

‫وإطلق البصر كذلك يعمى القلــب عــن التمييــز‬


‫ه‬
‫بين الحق والباطل ‪ ،‬والسنة والبدعــة ‪ ،‬وغضــ ُ‬
‫لله عّز وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها‪.‬‬

‫مــر ظــاهره‬ ‫ققال أحقد الصقالحين‪ " :‬مــن ع ّ‬


‫باتباع الســنة ‪،‬وبــاطنه بــدوام المراقبــة ‪ ،‬وغــض‬
‫ف نفســـه عـــن‬ ‫بصـــره عـــن المحـــارم ‪ ،‬وكـــ ّ‬
‫الشــبهات ‪ ،‬واغتــذى بــالحلل لــم تخطىــء لــه‬
‫فراسة " ‪.‬‬
‫ض بصــره‬‫والجزاء من جنــس العمــل ‪ ،‬فمــن غ ـ ّ‬
‫عن محارم الله أطلق الله نور بصيرته ‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫‪ – 3‬فضول الطعام ‪:‬‬

‫قلة الطعام تــوجب رقــة القلــب‪ ،‬وقــوة الفهــم‪،‬‬


‫وإنكســار النفــس‪ ،‬وضــعف الهــوى والغضــب ‪،‬‬
‫وكثرة الطعام توجد ضد ذلك ‪.‬‬

‫ت‬ ‫رب قال ‪ :‬ســمع ُ‬ ‫عد يك ِ‬ ‫م ْ‬


‫عن المقدام بن َ‬
‫ل الله ‪ ‬يقول ‪ " :‬مــا مل ابــن آدم وعــاْءا ً‬‫رسو َ‬
‫شرا ً من بطنه‪ ،‬بحسب ابــن آدم لقيمــات يقمــن‬
‫صلبه‪ ،‬فإن كان ل محالة فثلث لطعــامه ‪ ،‬وثلــث‬
‫لشرابه ‪ ،‬وثلث لنفسه " )‪. (1‬‬

‫وفضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة مــن الشــر‬


‫‪ ،‬فإنه يحرك الجــوارح إلــى المعاصــى ‪ ،‬ويثقلهــا‬
‫عن الطاعات والعبادات‪ ،‬وحسبك بهذين شــرا ً ‪،‬‬
‫ل الطعــام ‪،‬‬‫فكم من معصية جلبها الشبعُ وفضو ُ‬
‫وكم من طاعة حال دونها‪ ،‬فمن وقى شّر بطنــه‬
‫فقد وقى شرا ً عظيم ـا ً ‪ ،‬والشــيطان أعظــم مــا‬
‫يتحكم فى النسان إذا مل بطنــه مــن الطعــام ‪،‬‬
‫ولهذا جاء فى بعــض الثــار ‪ :‬إذا امتلت المعــدة‬
‫نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت العضاء‬
‫عن العبادة ‪.‬‬

‫)( رواه الترمذى )‪ (9/244‬الزهد وقال ‪ :‬هــذا حــديث حســن صــحيح‬ ‫‪1‬‬

‫وابن ماجه )‪ (3349‬الطعمــة‪ ،‬والحــاكم ) ‪ (4/121‬وصــححه ووافقــه‬


‫الذهبى اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫وقال بعض السلف‪ :‬كان شباب يتعبدون من‬
‫بنى إسرائيل‪ ،‬فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم‬
‫فقـــال ‪ " :‬ل تـــأكلوا كـــثيرا ً ‪،‬فتشـــربوا كـــثيرا ً ‪،‬‬
‫فتناموا كثيرا ً فتخسروا كثيرا ً " ‪.‬‬

‫وقد كان النبى ‪ ‬وأصحابه يجوعون كثيرًا‪ -‬وإن‬


‫كــان ذلــك لعــدم وجــود الطعــام – إل ان اللــه‬
‫ليختــار لرســوله إل أكمــل الحــوال وأفضــلها‪،‬‬
‫ولهذا كان ابن عمر يتشبه به فى ذلك مع قدرته‬
‫على الطعام ‪ ،‬وكذلك كان أبوه من قبله ‪.‬‬

‫عن عائشة ) رضــى اللــه عنهــا( قــالت ‪ " :‬مــا‬


‫شبع آل محمد ‪ ‬منذ قدم المدينة من خبز ب ُ ٍ‬
‫ر‬
‫ثلث ليال تباعا ً حتى قبض " )‪. (1‬‬

‫قال إبراهيم بن أدهقم‪ " :‬مــن ضــبط بطنــه‬


‫ضــبط دينــه ‪ ،‬ومــن ملــك جــوعه ملــك الخلق‬
‫الصالحة ‪ ،‬وإن معصــية اللــه بعيــدة مــن الجــائع‬
‫قريبة من الشبعان " ‪.‬‬

‫‪ – 4‬فضول المخالطة‪:‬‬

‫)( رواه البخارى ) ‪ (11/282‬الرقاق ‪ ،‬ومسلم ) ‪( 106 ، 18/105‬‬ ‫‪1‬‬

‫الزهد ‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫هــى الــداء العضــال الجــالب لكــل شــر ‪ ،‬وكــم‬
‫سلبت المخالطة والمعاشــرة مــن نعمــة ‪ ،‬وكــم‬ ‫َ‬
‫زرعت من عداوة ‪ ،‬وكم غرست فى القلب من‬
‫ت وهــى فــى‬ ‫حــزازات تــزول الجبــال الراســيا ُ‬
‫القلـــوب ل تـــزول ‪ ،‬ففـــى فضـــول المخالطـــة‬
‫خسارة الدنيا والخــرة ‪ ،‬وإنمــا ينبغــى للعبــد أن‬
‫يأخذ من المخالطة بقدر الحاجة‪ ،‬ويجعل النــاس‬
‫فيها أربعة أقسام متى خلط أحد القسام بالخر‬
‫ولم يميز بينها دخل عليه الشر ‪:‬‬

‫من مخالطته كالغذاء ل يسـتغنى عنـه‬ ‫احدهما‪َ :‬‬


‫فــى اليــوم والليلــة فــإذا أخــذ حــاجته منــه تــرك‬
‫الخلطة ‪ ،‬ثم إذا احتاج إليه خالطه ‪ ،‬هكــذا علــى‬
‫هم العلماء بالله وأمره ومكايــد عــدوه ‪،‬‬ ‫الدوام‪ُ ،‬‬
‫وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه‬
‫ولرســـوله ‪ ‬ولخلقـــه فهـــذا الضـــرب فـــى‬
‫ل الربح ‪.‬‬ ‫مخالطتهم الربح ك ّ‬

‫من مخالطته كالدواء ‪،‬يحتاج‬ ‫القمسم الثاني‪َ :‬‬


‫ت صــحيحا ً فل حاجــة‬
‫دم ـ َ‬
‫إليه عند المرض ‪ ،‬فما ُ‬
‫لــك فــى خلطتــه ‪،‬وهــم مــن ليســتغنى عــن‬
‫مخالطتهم فى مصلحة المعاش وما أنت تحتــاج‬
‫إليه من أنواع المعاملت والستشــارة ونحوهــا‪،‬‬
‫فإذا قضت حاجتــك مــن مخالطــة هــذا الضــرب‬
‫بقيت مخالطتهم من ‪:‬‬

‫‪- 42 -‬‬
‫ن مخــالطته كالــداء‬ ‫مــ ْ‬
‫القسم الثققالث‪ :‬وهــم َ‬
‫علـى اختلف مراتبـه وأنـواعه وقـوته وضـعفه ‪،‬‬
‫فمنهم من مخــالطته كالــداء العضــال والمــرض‬
‫المزمن ‪،‬وهو من لتربح عليه دين ول دنيا ‪ ،‬ومع‬
‫ذلــك فل بــد أن تخســر عليــه الــدين والــدنيا أو‬
‫أحــدهما ‪ ،‬فهــذا إذا تمكنــت منــك مخــالطته‬
‫ض الموت المخــوف ‪ ،‬ومنهــم‬ ‫واتصلت فهى مر ُ‬
‫الذى ليحسن أن يتكلم فيفيـدك‪ ،‬ول يحسـن أن‬
‫ينصـــت فيســـتفيد منـــك ‪ ،‬ول يعـــرف نفســـه‬
‫فيضعفها فــى منزلتهــا ‪ ،‬بــل إذا تكلــم فكلمــه‬
‫كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه‬
‫بكلمه وفرحــه بــه‪ ،‬فهــو ُيحــدث مــن فيــه كلمــا‬
‫تحدث ويظن أنه مسك يطيب بــه المجلــس ‪،‬‬
‫وإذا ســكت فأثقــل مــن نصــف الرحــا العظيمــة‬
‫التى ل يطاق حملها ول جرها على الرض ‪.‬‬

‫وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للــروح‬


‫فعرضية ولزمة ‪ ،‬ومن نكد الدنيا على العبــد أن‬
‫يبتلى بواحد من هذا الضرب وليــس لــه بــد مــن‬
‫معاشرته ‪ ،‬فليعاشره بالمعروف ويعطيه ظاهره‬
‫ويبخل عليــه ببــاطنه حــتى يجعــل اللــه لـه مــن‬
‫أمره فَرجا ً ‪ ،‬ومخرجا ً ‪.‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬مــن مخــالطته الهلــك كلــه ‪،‬‬
‫فهى بمنزلة أكل السم ‪ ،‬فإذا اتفق لكله ترياق‬
‫وإل فأحسن الله العزاء ‪ ،‬وما أكثر هــذا الضــرب‬
‫فى النــاس – لكــثرهم اللــه – وهــم أهــل البــدع‬
‫والضللة ‪ ،‬الصادون عن سنة رســول اللــه ‪، ‬‬
‫الــداعون إلــى خلفهــا ‪ ،‬فيجعلــون الســنة بدعــة‬
‫والبدعة سنة ‪ ،‬وهذا الضرب لينبغى للعاقل أن‬
‫يجالسهم أو يخــالطهم‪ ،‬وإن فعــل فإمــا المــوت‬
‫لقلبه أو المرض ‪.‬‬

‫نسأل الله لنا ولهم العافية‬


‫والرحمة ‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫‪ - 5‬أسقققباب حيقققاة القلقققب وأغقققذيته‬
‫النافعة‪:‬‬

‫اعلم أن الطاعات لزمة لحياة قلب العبد لــزوم‬


‫الطعـــام والشـــراب لحيـــاة الجســـد‪ ،‬وجميـــع‬
‫المعاصى بمثابة الطعمة المسمومة التى تفسد‬
‫القلب ولبد‪ ،‬والعبد محتاج إلــى عبــادة ربــه عـّز‬
‫ل فقير إليــه فقــرا ً ذاتي ـا ً ‪ ،‬وكمــا يأخــذ العبــد‬
‫وج ّ‬
‫بالسباب لحياة جسده من المداومة على تناول‬
‫الغذية النافعة فى أوقات متتقاربــة ‪ ،‬وإذا تــبين‬
‫له أنه تناول طعاما ً مسموما ً عن طريق الخطــأ‬
‫أسرع فى تخليص جسده من الخلط الــرديئة ‪،‬‬
‫فحياة قلب العبد أْولى بالهتمــام مــن جســده ‪،‬‬
‫فــإن كــانت حيــاة الجســد تــؤهله لمعيشــة غيــر‬
‫منغضة بالمرض فى الدنيا‪ ،‬فحياة القلب تــؤهله‬
‫لحياة طيبة فى الدنيا وسعادة غير محدودة فــى‬
‫الخرة‪ ،‬وكذلك موت الجسد يقطعه عن الدنيا ‪،‬‬
‫وموت القلب تبقى آلمه أبد الباد ‪.‬‬

‫وقال أحد الصالحين‪ " :‬يا عجبا ً مــن النــاس‬


‫يبكون على من مات جسدهُ ول يبكون على من‬
‫مات قلبــه وهــو أشــد " ‪ ،‬فــإذن الطاعــات كلهــا‬
‫لزمــة لحيــاة القلــب وتخــص هــذه بالــذكر –‬
‫لضرورتها لقلب العبد وشدة الحاجة إليها – ذكر‬

‫‪- 45 -‬‬
‫اللــه عــز وجــل ‪ ،‬وتلوة القــرآن ‪ ،‬والســتغفار ‪،‬‬
‫والدعاء ‪ ،‬والصلة على النبى‪ ، ‬وقيام الليل ‪.‬‬

‫‪ -1‬ذكر الله وتلوة القرآن‪:‬‬

‫وضرورة الذكر للقلـب كمـا قـال شـيخ السـلم‬


‫ابن تيمية‪ -‬قدس الله روحه ‪ " : -‬الــذكر للقلــب‬
‫كالماء للسمك‪ ،‬فكيــف يكــون حــال الســمك إذا‬
‫أخرج من الماء" ‪ ،‬وقد ذكر المام شمس الدين‬
‫ابــن القي ّــم مــا يقــرب مــن ثمــانين فــائدة فــى‬
‫كتابه ‪ " :‬الوابل الصيب " ‪ ،‬فننقــل بعضــها بــإذن‬
‫الله تعالى‪ ،‬وننصح بالعودة إلى الكتاب المــذكور‬
‫لعظيم نفعه‪ ،‬ومن هذه الفوائد ‪:‬‬

‫أن الذكر قوت القلب والــروح‪ ،‬فــإذا فقــه العبــد‬


‫صار بمنزلة الجسم إذا حيــل بينــه وبيــن قــوته ‪،‬‬
‫ومنها أنه يطرد الشيطان ‪ ،‬ويقمعــه ‪ ،‬ويكســره‪،‬‬
‫م‬‫م والغ ـ ّ‬ ‫ويرضى الرحمن عّز وج ـ ّ‬
‫ل ويزيــل الهـ ّ‬
‫عـــن القلـــب‪ ،‬ويجلـــب لـــه الفـــرح والســـرور‬
‫والبسط ‪ ،‬وينور القلب والوجه‪ ،‬ويكســو الــذاكر‬
‫المهابة والحلوة والنضرة‪ ،‬ويورثه محبة الله عّز‬
‫وجــل ‪ ،‬وتقــواه ‪ ،‬والنابــة إليــه‪ ،‬وكــذلك يــورث‬
‫العبد ّ ذكر الله عّز وجل ‪ ،‬كما قــال تعــالى ‪ :‬‬
‫َ‬
‫م ‪ ) ‬البقــرة ‪:‬مــن اليــة‬ ‫فاذْك ُُروِني أذْك ُْرك ُق ْ‬
‫َ‬
‫‪. ( 152‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫ولو لم يكن فى الذكر إل هذه وحدها لكفــى بهــا‬
‫فضل ً وشــرفا ً ويــورث جلء القلــب مــن الغفلــة‪،‬‬
‫ويحط الخطايا ‪.‬‬

‫ورغم أنه من أيسر العبــادات‪ ،‬العطــاء والفضــل‬


‫الــذى رتــب عليــه لــم يرتــب علــى غيــره مــن‬
‫العمال‪.‬‬

‫عققن أبققى هريققرة ‪ ‬أن رسققول اللققه ‪‬‬


‫قال‪ " :‬من قال ل إله إل اللــه وحــده ل شــريك‬
‫له ‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو علــى كــل شــىء‬
‫قــديٌر ‪ ،‬فــى اليــوم مــائة مــرة كــانت لــه عــدل‬
‫عشرة رقاب ‪ ،‬وكتبت له مائة حســنة ‪ ،‬ومحيــت‬
‫عنه مائة سيئة ‪ ،‬وكانت له حرزا مــن الشــيطان‬
‫يومه ذلك حتى يمسـى‪ ،‬ولـم يـأت أحـد بأفضـل‬
‫مما جاء به إل رجل عمل أكثر منه " )‪. (1‬‬

‫وعن جابر عن النبى ‪ ‬قققال‪ " :‬مــن قــال‬


‫سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنــة‬
‫")‪. (2‬‬
‫)( رواه البخارى ؛ )‪ ،6/338‬ـ ‪ (339‬بدء الخلــق‪ ،‬ومســلم )‪(17/17‬‬ ‫‪1‬‬

‫الذكـر‪ ،‬والترمذى )‪ . (13/16،17‬الدعاء ‪.‬‬


‫)( رواه الترمــذى ) ‪ 3531‬تحفــة( الــدعوات‪ ،‬وابــن حبــان ) ‪(2335‬‬ ‫‪2‬‬

‫موارد‪ ،‬والحاكم ) ‪ (502 ،1/501‬وقال الترمذى ‪ :‬حسن صحيح وقال‬


‫الحاكم ‪ :‬صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى وصــححه اللبــانى‬
‫فى الصحيحة ‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫وقققال ابققن مسققعود ‪ " :‬لن أســبح اللــه‬
‫ى من أن أنفق عــددهم‬ ‫تعالى تسبيحات أحب إل ّ‬
‫ل"‪.‬‬‫دنانير فى سبيل الله عّز وج ّ‬

‫والذكر دواء لقســوة القلــوب ‪ ،‬كمــا قــال رجــل‬


‫للحســن ‪ :‬يــا أبــا ســعيد ‪ :‬أشــكو إليــك قســوة‬
‫قلبى ‪ ،‬قال ‪ " :‬أذبه بالذكر " ‪ ،‬وقــال مكحــول ‪:‬‬
‫" ذكر الله شفاٌء وذكر الناس داٌء "‪ ،‬قال رجل‬
‫لسلمان‪ :‬أى العمال أفضل ؟ فقال ‪ :‬أمــا تقــرأ‬
‫ه أ َك ْب َقُر ‪ ) ‬العنكبــوت‬
‫ذك ُْر الل ّ ِ‬
‫ول َ ِ‬
‫القرآن ‪َ  :‬‬
‫من الية ‪.( 45 :‬‬

‫وعن أبى موسققى عققن النققبى ‪ ‬ققال‪" :‬‬


‫ى‬
‫يذكر ربه والذى ليذكر ربه مثل الح ّ‬ ‫مثل الذى‬
‫والميت " )‪.(1‬‬

‫ودوام الذكر تكثير لشــهود العبــد يــوم القيامــة ‪،‬‬


‫وسبب لشتغال العبــد عــن الكلم الباطــل مــن‬
‫الغيبة والنميمة وغير ذلك‪ ،‬فإما لسان ذاكر وإما‬
‫ب الذكر فقد ُفتــح لــه‬ ‫لسان لِغ‪ ،‬فمن ُفتح له با ُ‬
‫ب الــدخول علــى اللــه عــز وجــل‪ ،‬فليتطهــر‬ ‫بــا ُ‬
‫)( رواه البخـــارى )‪ (11/208‬الـــدعوات‪ ،‬ومســـلم )‪ (6/68‬صـــلة‬ ‫‪1‬‬

‫المسافرين بلفظ ‪ " :‬مثل البيت الذى ل يذكر الله فيه ‪ ،‬والبيت الذى‬
‫ى والميت " ‪.‬‬
‫يذكر الله فيه مثل الح ّ‬

‫‪- 48 -‬‬
‫وليدخل على ربه عز وجل ‪ ،‬يجد عنده ما يريــد‪،‬‬
‫فإن وجد ربـه عـز وجـل وجـد كـل شـىء ‪ ،‬وإن‬
‫فاته ربه عز وجل فاته كل شىء ‪.‬‬

‫وللذكر أنواع ‪ :‬منها ‪ :‬ذكر أسماء الله عز وجل ‪،‬‬


‫وصــفاته ‪ ،‬ومــدحه‪ ،‬والثنــاء عليــه بهــا‪ ،‬نحــو ‪" :‬‬
‫سبحان الله " ‪ ،‬و " الحمققد اللققه " ‪ ،‬و " ل‬
‫إله إل الله " ‪ ،‬ومنها‪ :‬الخبر عن الله عز وجــل‬
‫بأحكام أسمائه وصفاته ‪ ،‬نحــو ‪ :‬اللــه عــز وج ـ ّ‬
‫ل‬
‫يسمع أصوات عباده ويــرى حركــاتهم ‪ ،‬ومنهــا ‪:‬‬
‫ذكر المر والنهى كأن تقول ‪ :‬إن الله عــز وجــل‬
‫أمر بكذا ‪ ،‬ونهى عن كذا ‪.‬‬

‫ومن ذكره سبحانه وتعالى ذكُر آلئه وإحســانه ‪،‬‬


‫وأفضــل الــذكر ‪ :‬تلوة القــرآن ‪ ،‬وذلــك لتضــمنه‬
‫لدوية القلب وعلجه من جميع المراض ‪ ،‬قــال‬
‫جققاءت ْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫كم‬ ‫قققدْ َ‬ ‫الله تعالى ‪َ  :‬يا أي ّ َ‬
‫ها الّنا ُ‬
‫فققي‬ ‫فاء ل ّ َ‬
‫مققا ِ‬ ‫شقق َ‬
‫و ِ‬‫م َ‬ ‫مققن ّرب ّ ُ‬
‫كقق ْ‬ ‫ة ّ‬ ‫ع َ‬
‫ظقق ٌ‬ ‫و ِ‬
‫م ْ‬
‫ّ‬
‫ر ‪ ) ‬يونس من الية ‪. ( 57 :‬‬ ‫دو ِ‬‫ص ُ‬‫ال ّ‬

‫مققا‬
‫ن َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫قْرآ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ون ُن َّز ُ‬
‫ل ِ‬ ‫وقال الله تعالى‪َ  :‬‬
‫ن ‪ ) ‬السراء‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ة ل ّل ْ ُ‬
‫م ٌ‬
‫ح َ‬
‫وَر ْ‬ ‫ش َ‬
‫فاء َ‬ ‫و ِ‬‫ه َ‬
‫ُ‬
‫من الية ‪( 82 :‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫وأمــراض القلــب تجمعهــا أمــراض الشــبهات‬
‫والشهوات ‪،‬والقرآن شفاء للنوعين ‪ ،‬ففيــه مــن‬
‫البينات والبراهين القطعية مــا يــبين الحــق مــن‬
‫الباطل فتزول أمــراض الشــبه المفيــدة للعلــم‪،‬‬
‫والتصور ‪ ،‬والدراك بحيث يرى الشياء على ما‬
‫هى ‪.‬‬

‫فمن درس القرآن وخــالط قلبــه ‪ ،‬أبصــر الحــق‬


‫والباطل وميّز بينهما‪ ،‬كما يميز بعينيه بين الليل‬
‫والنهار ‪ ،‬وأما شــفاؤه لمــرض الشــهوات فــذلك‬
‫بمــا فيــه مــن الحكمــة والموعظــة الحســنة‪،‬‬
‫بالتزهيد فى الدنيا ‪ ،‬والترغيب فى الخرة‪.‬‬

‫وبالجملة فأنفع شــىء للعبــد هــو ذكــر اللــه عـّز‬


‫َ‬
‫قل ُققو ُ‬
‫ب‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ه ت َطْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ر الل ّق ِ‬
‫ذك ْ ِ‬‫ل ‪  :‬أل َ ب ِ ِ‬
‫وجــ ّ‬
‫‪ ) ‬الرعد ‪. (28:‬‬

‫وأفضل الذكر تلوة كتققاب اللققه عقّز‬


‫وجل ‪.‬‬

‫ب‬‫ن ك ِت َققا َ‬‫ن ي َت ْل ُققو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪  :‬إ ِ ّ‬


‫َ‬ ‫وأ َ َ‬
‫مقققا‬
‫م ّ‬ ‫ققققوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫وأن َ‬ ‫صقققَلةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ققققا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّققق ِ‬
‫جاَرةً ّلققن‬ ‫ن تِ َ‬ ‫جو َ‬ ‫ة ي َْر ُ‬‫عَلن ِي َ ً‬‫و َ‬‫سّرا َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫َرَز ْ‬
‫قَنا ُ‬
‫مققن‬ ‫ُ‬ ‫و ّ‬
‫هم ّ‬ ‫زيققدَ ُ‬ ‫وي َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫جققوَر ُ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ه ْ‬
‫في َ ُ‬ ‫ت َُبققوَر ل ُِيقق َ‬

‫‪- 50 -‬‬
‫‪ ) ‬فاطر ‪- 29:‬‬ ‫ش ُ‬
‫كوٌر‬ ‫فوٌر َ‬ ‫ه َ‬
‫غ ُ‬ ‫ه إ ِن ّ ُ‬
‫ضل ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ف ْ‬
‫‪. (30‬‬

‫وعن عثمان ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اللــه ‪" :‬‬


‫خيركم من تعلم القرآن وعلمه " )‪. (1‬‬

‫وعن عائشة )رضى اللــه عنهــا( قــالت ‪ :‬قــال‬


‫رسول الله ‪ ": ‬الذى يقرأ القرآن وهــو مــاهر‬
‫فيــه مــع الســفرة الكــرام الــبررة ‪ ،‬الــذى يقــرأ‬
‫القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجــران‬
‫" )‪. (2‬‬

‫وعققن عبققد اللققه بققن مسققعود قققال‪ :‬قــال‬


‫رسول الله ‪ " :‬إن من قــرأ حرف ـا ً مــن كتــاب‬
‫الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشــر أمثالهــا ل‬
‫أقول ألم حرف ولكن ألــف حــرف ولم حــرف‬
‫وميم حرف " )‪. (3‬‬
‫وقققال خبققاب ‪ " :‬تقـــرب إلـــى اللـــه مـــا‬
‫استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشىء أحب إليه‬
‫من كلمه " ‪.‬‬

‫)( رواه البخارى )‪ (9/66/67‬فضائل القــرآن‪ ،‬والترمــذى )‪(11/32‬‬ ‫‪1‬‬

‫ثواب القرآن ‪ ،‬وأبو داود )‪ (1439‬الصلة ‪.‬‬


‫)( رواه البخـــارى )‪ (8/691‬التفســـير ‪ ،‬ومســـلم ) ‪ (6/84‬صـــلة‬ ‫‪2‬‬

‫المســـافرين ‪ ،‬وأبـــو داود ) ‪ (1441‬الصـــلة ‪ ،‬والترمـــذى ) ‪(12/29‬‬


‫فضائل القرآن ‪.‬‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ (11/34‬فضــائل القــرآن ‪ ،‬وقــال ‪ :‬هــذا حــديث‬ ‫‪3‬‬

‫حسن صحيح ‪.‬‬

‫‪- 51 -‬‬
‫وقال عثمان بققن عفققان ‪ " :‬لــو طهــرت‬
‫قلوبكم ما شبعتم من كلم ربكم " ‪.‬‬

‫وقال ابن مسعود ‪ " :‬مــن كــان يحــب أن‬


‫يعلــم أنــه يحــب اللــه فليعــرض نفســه علــى‬
‫القرأن ‪ ،‬فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنمــا‬
‫القرآن كلم الله "‪.‬‬

‫‪ - 2‬الستغفار‪:‬‬

‫وهو طلب المغفرة ‪ ،‬والمغفرة ‪ :‬هى وقاية شـر‬


‫الذنوب مع سترها وقد كثر ذكر الســتغفار فــى‬
‫القرآن ‪ ،‬فتارة يؤمر به كقوله سبحانه وتعــالى ‪:‬‬
‫م‬‫حي ق ٌ‬ ‫غ ُ‬
‫فققوٌر ّر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫فُروا الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫غ ِ‬
‫ست َ ْ‬ ‫‪َ ‬‬
‫وا ْ‬
‫‪ ) ‬المزمل من الية ‪. ( 20 :‬‬

‫وتــــارة يمــــدح أهلــــه كقــــوله تعــــالى‪ :‬‬


‫َ‬
‫ر ‪ ) ‬آل عمــران‬ ‫حا ِ‬
‫سقق َ‬
‫ن ِبال ْ‬
‫ري َ‬‫ف ِ‬
‫غ ِ‬
‫سققت َ ْ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َ‬
‫من الية ‪. ( 17 :‬‬

‫وتارة يذكر أن الله يغفر لمــن اســتغفره كقــوله‬


‫ل سققو ً َ‬
‫م‬‫و ي َظِْلقق ْ‬
‫ءا أ ْ‬ ‫مقق ْ ُ‬ ‫ع َ‬
‫مققن ي َ ْ‬ ‫و َ‬‫تعــالى‪َ  :‬‬
‫فققوًرا‬ ‫ه َ‬
‫غ ُ‬ ‫د الل ّق َ‬
‫جق ِ‬ ‫ر الل ّ َ‬
‫ه يَ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫غ ِ‬
‫ست َ ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬
‫م يَ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬‫نَ ْ‬
‫ما ‪ ) ‬النساء من الية ‪. ( 110 :‬‬ ‫حي ً‬‫ّر ِ‬

‫‪- 52 -‬‬
‫وكثيرا ً ما يقرن الستغفار بذكر التوبــة ‪ ،‬فيكــون‬
‫الســتغفار حينئذ عبــارة عــن طلــب المغفــرة‬
‫باللسان ‪.‬‬

‫والتوبة عبارة عن‪ :‬القلع عــن الــذنوب بــالقلب‬


‫والجــوارح ‪ ،‬وحكــم الســتغفار كحكــم الــداء ‪،‬‬
‫فإن شاء الله أجابه وغفر لصــاحبه ‪ ،‬لســيما إذا‬
‫خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صدف ساعة‬
‫من ساعات الجابة كالسحار وإدبار الصلوات ‪.‬‬

‫ود‬
‫ويروى عن لقمان أنـه قــال لبنــه‪ :‬يــا بنــى عـ ّ‬
‫لسانك ‪ " :‬اللهم اغفر لى " فإن لله ســاعات ل‬
‫يــرد فيهــا ســائل ً ‪،‬وقــال الحســن‪ " :‬أكــثروا مــن‬
‫الستغفار فى بيوتكم ‪ ،‬وعلــى مــوائدكم ‪ ،‬وفــى‬
‫طرقكــم ‪ ،‬وفــى أســواقكم‪ ،‬وفــى مجالســكم ‪،‬‬
‫وأينمــا كنتــم ‪ ،‬فــإنكم مــا تــدرون مــتى تنــزل‬
‫المغفرة " ‪.‬‬

‫وعققن ابققن عمققر ‪ ‬قققال‪ " :‬إن كنــا لنعــد‬


‫لرسول الله ‪ ‬فى المجلس الواحد مــائة مــرة‬
‫ى إنــك أنــت‬‫اغفــر لــى وتــب عل ـ ّ‬ ‫يقــول ‪" :‬رب‬
‫التواب الغفور")‪.(1‬‬

‫)(رواه أحمد) ‪,(4726‬أبو داود) ‪(1500‬الصلة‪,‬وبن ماجة) ‪(3815‬الدب‬ ‫‪1‬‬

‫وصححه اللباني‬

‫‪- 53 -‬‬
‫وعن أبققى هريققرة ‪ ‬عققن النققبى ‪ ‬أنققه‬
‫قال‪ " :‬والله إنى لستغفر الله وأتوب إليه فــى‬
‫اليوم أكثر من سبعين مرة ")‪. (1‬‬

‫وعنه ‪ ‬قال‪ " :‬إنه ليغــان علــى قلــبى وإنــى‬


‫)‪(2‬‬
‫لسغفر الله فى اليوم مائة مرة " ‪.‬‬
‫وبّين الله عز وجل فى الحــديث القدســى ثلثــة‬
‫أسباب من أعظم أسباب المغفــرة ‪ ،‬عــن أنــس‬
‫‪ ‬قال ‪ :‬قال رسول الله ‪ : ‬قال الله تعالى ‪:‬‬
‫" ياابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك‬
‫ما كان منك ول أبالى‪ ،‬يابن آدم لو بلغت ذنوبك‬
‫عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك ‪ ،‬يــاابن‬
‫آدم لو أتيتنى بقراب الرض خطايا ثم لقيتنى ل‬
‫تشرك بى شيئا ً لتيتك بقرابها مغفرة " ‪.‬‬

‫وبالجملة فدواء الذنوب الستغفار ‪ ،‬قال قتادة ‪:‬‬


‫إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودواءكم فأما‬
‫داؤكــم فالــذنوب ‪ ،‬وأمــا دواؤكــم بالســتغفار ‪،‬‬
‫وقــال علـى ‪ : ‬مــا ألهــم اللــه ســبحانه عبــدا ً‬
‫ّ‬
‫الستغفار وهو يريد أن يعذبه ‪.‬‬

‫)( رواه رواه البخاري )‪(11/101‬الدعوات ‪ ,‬ومسلم عن ابن عمــر )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (17/24‬الذكر بلفظ "فإني أتوب إليه فققي اليققوم مققائة‬


‫مرة"‬
‫)( رواه مسلم )‪ (17/23‬الــذكر ‪ ,‬وأبــو داود )‪ (1501‬الصــلة وقــوله‬ ‫‪2‬‬

‫"ليغان" أي ليغطي ويغشى ‪ ,‬والمراد به السهو ‪.‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫‪ -3‬الدعاء ‪:‬‬

‫عققوِني‬ ‫م ادْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُق ُ‬ ‫و َ‬


‫قا َ‬ ‫قــال اللــه تعــالى‪َ  :‬‬
‫َ‬
‫م ‪ ) ‬غــافر‪:‬مــن اليــة ‪. ( 60 :‬‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬‫ج ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫فأمرنا الله عز وحل بالدعاء ووعــدنا بالجابــة ‪،‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن اّلقق ِ‬‫ثــم عقــب بقــوله عــز وجـــل ‪  :‬إ ِ ّ‬
‫م‬‫هّنقق َ‬‫ج َ‬ ‫ن َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫سي َدْ ُ‬ ‫عَبادَِتي َ‬
‫ن ِ‬
‫ع ْ‬
‫ن َ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن ‪ ) ‬غافر ‪ :‬من الية ‪. ( 60 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫دا ِ‬‫َ‬
‫فســبحان اللــه العظيــم ‪ ،‬ذى الكــرم الفيــاض‬
‫والجود المتتابع ‪ ،‬جعــل ســؤال عبــده لحــوائجه‬
‫وقضاء مآربه عبادة له ‪ ،‬وطلبه منه وذمــه علــى‬
‫تركه بأبلغ أنواع الذم فجعله مستكبرا ً عليه‪.‬‬

‫وعن أبى هريرة عن النبى ‪ ‬أنه قال‪" :‬‬


‫من لم يسأل الله يغضب عليه " )‪ (1‬وما أحســن‬
‫قول القائل ‪:‬‬

‫ة‬
‫م حاجـ ً‬ ‫ل تسألن بنى آدّ َ‬
‫ب‪.‬‬
‫ج ُ‬
‫ح َ‬
‫هلت ْ‬ ‫س َ‬
‫ل الذى أبواب ُ ُ‬ ‫و َ‬

‫سؤال َ ُ‬
‫ه‬ ‫ت ُ‬‫ب إن ترك َ‬
‫الله يغض ُ‬
‫ب‪.‬‬‫ض ُ‬
‫وإذا سألت بنى آدم يغ َ‬

‫)( رواه أحمد ) ‪ ، (2/442‬والترمـذى ) ‪ (268 ،12/267‬التفسـير ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وابن ماجـه ) ‪ (3827‬الدعاء‪ ،‬والبخارى فــى الدب المفــرد )‪(658‬ـ ‪،‬‬


‫والحاكم ) ‪ ، (1/491‬صححه ووافقه اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 55 -‬‬
‫َ‬
‫ب‬
‫جيققق ُ‬
‫مقققن ي ُ ِ‬‫وقـــال عـــز وجـــل ‪  :‬أ ّ‬
‫سققوءَ ‪‬‬ ‫ف ال ّ‬
‫شقق ُ‬‫وي َك ْ ِ‬
‫عققاهُ َ‬ ‫ضققطَّر إ ِ َ‬
‫ذا دَ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫) النمل‪ :‬من الية ‪. ( 62 :‬‬

‫عَبققاِدي‬ ‫ك ِ‬ ‫سققأ َل َ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬‫وقــال تعــالى‪َ  :‬‬


‫ذا‬ ‫ع إِ َ‬ ‫ُ‬ ‫فإ ِّني َ‬
‫عّني َ‬
‫دا ِ‬ ‫وةَ الق ّ‬ ‫عق َ‬ ‫ب دَ ْ‬ ‫جي ق ُ‬ ‫بأ ِ‬ ‫ري ٌ‬
‫ق ِ‬ ‫َ‬
‫ن ‪ ) ‬البقرة ‪ :‬من الية ‪. ( 186 :‬‬ ‫عا ِ‬ ‫دَ َ‬
‫وعن النعمان بن بشير قققال‪ :‬قــال ‪" : ‬‬
‫قققا َ‬
‫ل‬ ‫و َ‬ ‫الدعاء هــو العبــادة " ثــم تل اليــة ‪َ  :‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن اّلقق ِ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫كقق ْ‬‫ب لَ ُ‬‫ج ْ‬ ‫سققت َ ِ‬ ‫عققوِني أ ْ‬ ‫م ادْ ُ‬‫كقق ُ‬‫َرب ّ ُ‬
‫م‬ ‫هّنقق َ‬ ‫ج َ‬‫ن َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫سي َدْ ُ‬‫عَبادَِتي َ‬ ‫ن ِ‬‫ع ْ‬‫ن َ‬‫ست َك ْب ُِرو َ‬‫يَ ْ‬
‫ن ‪ ) ‬غافر‪ :‬الية ‪.(1) ( 60 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫دا ِ‬ ‫َ‬

‫والدعاء يقطع بقوله لعموم اليــات الــتى قــدمنا‬


‫ذكرها ‪ ،‬وكذلك الحاديث التيــة ‪ -‬إذا اســتوفى‬
‫شروط الصحة ‪.‬‬

‫وعن سلمان ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله‬


‫ى كريم يستحى إذا رفع‬ ‫‪ " :‬إن الله حيي ّ‬
‫)‪(2‬‬
‫الرجـل يديه أن يردهما صفـرا ً خائبتـين " ‪.‬‬

‫)( رواه أبــوداود )‪ (1446‬الصــلة ‪ ,‬والترمــذي )‪(12/267‬التفســير‬ ‫‪1‬‬

‫وقــال حســن صــحيح ‪ ,‬وأبــن ماجــة ) ‪(3828‬الــدعاء ‪ ,‬والحــاكم )‬


‫‪ , (1/491‬وصححه ووافقه اللباني ‪.‬‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ (13/68‬الدعاء ‪ ،‬وقال ‪ :‬حسن غريب ‪ ،‬وأبو داود‬ ‫‪2‬‬

‫) ‪ (1474‬الصلة ‪ ،‬ابـن حبـان )‪ (2399‬مـوارد ‪ ،‬والحــاكم ) ‪(1/497‬‬


‫وصححه ووافقه الذهبى‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وعققن أبققى سققعيد الخققدرى ‪ ،‬أن النــبى ‪‬‬
‫قال ‪ " :‬ما من مسلم يــدعو بــدعوة ليــس فيهــا‬
‫إثم ول قطيعة رحــم إل أعطــاه اللــه بهــا إحــدى‬
‫ثلث ‪ :‬إما أن يعجلله دعــوته ‪ ،‬وإمــا أن يــدخرها‬
‫فى الخــرة‪ ،‬وأمــا أن يصــرف عنــه مــن الســوء‬
‫)‪(1‬‬
‫مثلها" ‪.‬‬
‫وعن عمر بن الخطققاب ‪ " : ‬أنــا ل أحمــل‬
‫م الجابة ولكن أحمل هــم الــدعاء فمــن ألهــم‬ ‫ه ّ‬
‫الدعاء فإن الجابة معه " ‪.‬‬

‫ض للجابــة إذا تــوفرت‬ ‫فالــدعاء ســبب مقتــ ِ‬


‫الشــرائط وانتفــت الموانــع أى إذا راعــى العبــد‬
‫آداب الدعاء ‪ ،‬فما هى آداب الدعاء ؟‪.‬‬
‫آداب الدعاء‬

‫أن يترصققد لققدعائه الوقققات الشققريفة‪:‬‬


‫كيوم عرفة من السنة‪ ،‬ورمضان من الشــهر ‪،‬‬
‫ويوم الجمعة من السبوع ‪ ،‬ووقت الســحر مــن‬
‫الليل‪.‬‬

‫أن يغتنم الحوال الشريفة‪ :‬كنزول المطر‪،‬‬


‫وزحف الصفوف فى سبيل الله ‪ ،‬وحال السجود‬
‫)( رواه الحاكم )‪ ،(1/493‬وصححه ووافقه الــذهبى‪ ،‬لــه شــاهد رواه‬ ‫‪1‬‬

‫الترمــذى ) ‪ (3621‬عــن جــابر قــال ‪ :‬ســمعت رســول اللــه ‪‬‬


‫يقول ‪":‬مامن أحد يدعو بدعاء إل آتاه الله ما= =ســأل أو كــف عنــه‬
‫من سوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " ‪ .‬وحسنه اللبانى فى‬
‫تحقيق المشكاة وصحيح الترمذى ‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫‪ ،‬لحديث أبى هريرة ‪ ‬عن رسول الله ‪ ‬قال‬
‫‪ " :‬أقرب ما يكـون العبـد مـن ربـه وهـو سـاجد‬
‫)‪(1‬‬
‫فأكثروا من الدعاء " ‪.‬‬

‫وكــذلك بيــن الذان والقامــة ‪ ،‬لقــوله ‪" : ‬‬


‫الدعاء بين الذان والقامة ل يرد " )‪.(2‬‬
‫أن يجققزم بالققدعاء ‪ ،‬ويــوقن بالجابــة ‪ ،‬قــال‬
‫‪ " : ‬ل يقــولن أحــدكم ‪ :‬اللهــم اغفــر لــى إن‬
‫شئت اللهم ارحمنى إن شئت ‪ ،‬ليعزم المســألة‬
‫فإنه ل مستكره له " )‪.(3‬‬
‫أن يكون علققى طهققارة ‪ ،‬مســتقبل القبلــة ‪،‬‬
‫ويكرر الدعاء ثلثا ً ‪.‬‬
‫عن ابن سمعود ‪ ‬قال‪ :‬كان رســول اللــه‬
‫ً )‪(4‬‬
‫‪ ‬إذا دعا ‪ ،‬دعا ثلثا ً ‪ ،‬وإذا سأل سأل ثلثا ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬ويثنى عليه بأســمائه ‪،‬‬ ‫يبدأ بحمد الله عّز وج ّ‬
‫وصــفاته ‪ ،‬وآلئه ‪ ،‬ويثنــى بالصــلة علــى رســول‬
‫اللــه ‪ ‬ثــم يســمى حــاجته ‪ ،‬ويختتــم كــذلك‬
‫بالصلة علــى رســول اللــه ‪ ‬وحمــد اللــه عــز‬
‫وجل ‪.‬‬

‫)( رواه مســلم )‪ (4/200‬الصــلة ‪ ،‬وأبــو داود ) ‪ (3/128‬الصــالة ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والنسائى ) ‪ (2/226‬الصلة ‪.‬‬


‫)( رواه الترمذى )‪ (2/13‬أبواب الصــلة وحســنه ‪ ،‬وأبــو داود )‪(517‬‬ ‫‪2‬‬

‫الصلة ‪ ،‬وصححه اللبانى‪.‬‬


‫)( رواه البخارى ) ‪ (11/139‬الدعوات‪ ،‬ومسلم )‪ (17/6‬الذكر ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( رواه مسلم ) ‪ (12/152‬الجهاد والسير ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫ويطيققب مطعمققه ‪ ،‬ول يققدعو بققإثم ‪،‬‬
‫ول بقطيعة رحم ‪.‬‬

‫ول ينبغى تعجل الجابة ‪ ،‬ول يقول ‪ :‬دعوت ولــم‬


‫يستجب لى‪ ،‬لحديث أبى هريرة أن رسول اللــه‬
‫‪ ‬قــال ‪ : " :‬يســتجاب لحــدكم مــا لــم يعجــل‬
‫يقول ‪ :‬دعوت فلم يستجب لى " )‪. (1‬‬
‫قال ابن بطال ‪ " :‬المعنى أنــه يســأم فيــترك‬
‫ن بــدعائه‪ ،‬أو أنــه آتــى مــن‬
‫الدعاء فيكون كالمــا ّ‬
‫الدعاء ما يستحق به الجابــة‪ ،‬فيصــبر كالمبخــل‬
‫للرب الكريم الذى لتعجــزه الجابــة ول ينقصــه‬
‫العطاء " أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وفي هذا الحديث أدب مــن آداب الــدعاء ‪ ،‬وهــو‬


‫أن يلزم الطلب ول ييأس من الجابة ‪ ،‬لما فى‬
‫ذلك من الستسلم والنقياد وإظهار الفتقار ‪.‬‬

‫‪ -4‬الصلة على النبى ‪: ‬‬

‫ملئ ِك ََتقق ُ‬
‫ه‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬‫ن الّلقق َ‬ ‫قـــال اللـــه تعـــالى‪  :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫من ُققوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫هققا ال ّق ِ‬ ‫عَلى الن ّب ِ ّ‬
‫ي ي َققا أي ّ َ‬ ‫صّلو َ‬
‫ن َ‬ ‫يُ َ‬

‫)( رواه البخــارى )‪ (11/140‬الــدعوات ‪ ،‬وســملم )‪ (17/51‬الــذكر‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والترمذى ) ‪ (12/276‬الدعاء ‪ ،‬وأبو داود )‪ (1470‬الصلة ‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫ما ‪ ) ‬الحزاب‪:‬‬
‫سِلي ً‬ ‫سل ّ ُ‬
‫موا ت َ ْ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬
‫صّلوا َ‬
‫َ‬
‫الية ‪. ( 56 :‬‬

‫قال ابن كثير رحمه الله‪ :‬المقصود من هذه‬


‫الية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة‬
‫عبــده ونـبيه عنـده فـى المل العلـى بـأنه يثنـى‬
‫عليه فى المل العلــى عنــد الملئكــة المقربيــن‬
‫وأن الملئكة تصلى عليه‪ ،‬ثم أمر تعــالى العــالم‬
‫السفلى بالصلة والتســليم عليــه ليجتمــع الثنــاء‬
‫عليه من أهل العالمين العلوى والسفلى جميعا ً‬
‫‪.‬‬

‫وقال ابن القّيم ‪ :‬والمعنى أنه إذا كان اللــه‬


‫وملئكته يصلون على رسوله فصلوا أنتــم أيض ـا ً‬
‫عليه لما نالكم ببركة رسالته وُيمن سفارته مــن‬
‫خير شرف الدنيا والخــرة ‪ ،‬والصــلة مــن اللــه‬
‫ع ـّز وجــل هــى الثنــاء وإظهــار الشــرف‪ ،‬وإرادة‬
‫التكريم ‪ ،‬وصلة المخلوقين الــدعاء بمزيــد مــن‬
‫الشرف والتكريم ‪.‬‬

‫عــن أبــى هريــرة ‪ ‬أن رســول اللــه ‪‬‬


‫ى واحدة ص ـّلى اللــه عليــه‬
‫ى عل ّ‬
‫من صل ّ‬ ‫قال ‪" :‬‬
‫عشرا ً " )‪. (1‬‬

‫)( رواه مســلم ) ‪ (4/128‬الصــلة ‪ ،‬والترمــذى ) ‪ (2/270‬الصــلة ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وأبو داود ) ‪ (1516‬الصلة ‪ ،‬والنسائى ) ‪ (50/ 3‬السهو ‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫أى عشر صلوات وذلك لن الحسنة بعشــر‬
‫أمثالهــا والصــلة علــى النــبى ‪ ‬مــن أعظــم‬
‫الحسنات ‪.‬‬

‫قــال ابــن العربــى ‪ " :‬إن قيــل ‪ :‬قــال اللــه‬


‫ع ْ‬
‫ش قُر‬ ‫ه َ‬‫فل َ ق ُ‬
‫ة َ‬‫س قن َ ِ‬ ‫جققاء ِبال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫تعالى ‪َ  :‬‬
‫من َ‬
‫َ‬
‫ها ‪ ) ‬النعام ‪ :‬من الية ‪. ( 160 :‬‬ ‫مَثال ِ َ‬
‫أ ْ‬
‫فما فائدة هذا الحديث؟ قلنا ‪ :‬أعظم فائدة‬
‫وذلــك أن القــرآن اقتضــى أن مــن جــاء بحســنة‬
‫تضاعف عشرة ‪ ،‬والصلة على النبى ‪ ‬حســنة‬
‫بمقتضى القرآن أن يعطــى عشــر درجــات فــى‬
‫الجنة ‪ ،‬فأخبر أن اللــه تعــالى يص ـّلى علــى مــن‬
‫صــلى علــى رســوله عشــرا ً ‪ ،‬وذك ْـُر اللــه للعبــد‬
‫أعظم من الحســنة مضــاعفة‪ ،‬ويحقــق ذلــك أن‬
‫اللــه تعــالى لــم يجعــل جــزاء ذكــره إل ذكــره‪،‬‬
‫وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه ذكــر مــن ذكــره " أ‪.‬‬
‫هـ ‪.‬‬

‫قال العراقى‪ :‬ولم يقتصر على ذلــك حــتى‬


‫زاده كتابــة عشــر حســنات‪ ،‬وحــط عنــه عشــر‬
‫ســيئات‪ ،‬ورفعــه عشــر درجــات‪ ،‬كمــا ورد فــى‬
‫الحاديث ‪.‬‬

‫وعن أبى هريرة ‪ ‬قـال ‪ :‬قال رسول الله‬


‫‪ " : ‬رغم أنف رجل ذكــرت عنــده فلــم يص ـ ّ‬
‫ل‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ى ‪ ،‬ورغم أنف رجل أدرك أبويه عنده الكبـــر‬ ‫عل ّ‬
‫فلم يدخله الجنـة‪ ،‬ورغم أنف رجل دخــل عليــه‬
‫رمضـان ثم انسلخ قبل أن يغفـر له" )‪. (1‬‬

‫وعن عبد الله بن مسعود ‪ ‬عن النــبى ‪‬‬


‫قــال ‪ " :‬إن للــه ملئكــة ســياحين يبلغــونى مــن‬
‫أمتى السلم ")‪. (2‬‬
‫وعن عبــد اللــه بــن عمــرو ‪ ‬قــال ‪ :‬قــال‬
‫ى أو ســأل لــى‬‫ّ‬ ‫رسول الله ‪ " : ‬من صلى عل ـ‬
‫الوسيلة حقت عليه شفاعتى يوم القيامة " )‪.(3‬‬
‫وعن أبى هريرة ‪ ‬قال ‪ :‬قال رسول اللــه‬
‫‪ " : ‬ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله ولم‬
‫يصلوا على نبيهم ‪ ‬إل كــان مجلســهم عليهــم‬
‫ترة يوم القيامة‪ ،‬إن شــاء عفــا عنهــم وإن شــاء‬
‫أخذهم ")‪. (4‬‬
‫ويستحب كثرة الصلة على رسول الله ‪‬‬
‫يوم الجمعة لحديث أوس ابــن أوس ‪ ‬قــال ك‬
‫قال رسول الله ‪ " : ‬من أفضــل أيــامكم يــوم‬

‫)( رواه الترمذى ) ‪ 6413‬تحفة( الدعاء‪ ،‬وقال ‪ :‬هــذا حــديث حســن‬ ‫‪1‬‬

‫غريب من هذا الوجه والحاكم ) ‪ (1/549‬الدعاء مقتصرا ً على الفقرة‬


‫الولى ‪ ،‬وقال اللبانى ‪ :‬إسناده صحيح رجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫)( رواه النســائى ) ‪ (3/43‬الســهو ‪ ،‬والحــاكم ) ‪ (2/421‬التفســير‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫وصححه ووافقه الذهبى‪ ،‬وقال اللبانى ‪ :‬إسناده صحيح رجــاله رجــال‬


‫الصحيح ‪.‬‬
‫)( رواه مســـلم ) ‪ (4/85‬الصـــلة ‪ ،‬وأبـــو داود ) ‪ (519‬الصـــلة ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫والترمذى ) ‪ (13/102‬المناقب ‪ ،‬والنسائى ) ‪ ( 26 ،25/ 2‬الذان ‪.‬‬


‫)( رواه الترمذى )‪ 3440‬تحفــة( الــدعاء‪ ،‬وحســنه وصــححه اللبــانى‬ ‫‪4‬‬

‫فى الصحيحة‪ ،‬ومعنى ترة ‪ :‬أى حسرة‪.‬‬

‫‪- 62 -‬‬
‫الجمعــة‪ ،‬فيــه خلــق آدم‪ ،‬وفيــه قبــض ‪ ،‬وفيــه‬
‫ى من الصــلة‬ ‫النفخة‪ ،‬وفيه الصعقة‪ ،‬فأكثروا عل ّ‬
‫ى‪ ،‬قــالوا ‪:‬‬‫ففيــه فــإن صــلتكم معروضــة علــ ّ‬
‫يارسول الله وكيــف تعــرض صــلتنا عليــك وقــد‬
‫أرمت)‪ (1‬يعنى بليت ؟ فقال ‪ " :‬إن الله عز وجل‬
‫حّرم على الرض أن تأكل أجساد النبياء ")‪. (2‬‬

‫أما صيغة الصلة على رسول الله ‪‬‬


‫‪:‬‬

‫فعن ابن مســعود النصــارى قــال ‪ " :‬أتانــا‬


‫رســول اللــه ‪ ‬ونحــن فــى مجلــس ســعد بــن‬
‫عبادة‪ ،‬فقال له بشير بن ســعد ‪ :‬أمرنــا اللــه أن‬
‫نصلى عليك يارسول الله‪ ،‬فكيف نصلى عليك ؟‬
‫قال‪ :‬فسكت رسول الله ‪ ‬حتى تمنينا أنــه لــم‬
‫يسأله ‪ ،‬ثم قال رسول الله ‪ : ‬قولوا ‪ " :‬اللهم‬
‫ل على محمد وعلى آل محمــد ‪ ،‬كمــا صــليت‬ ‫ص ّ‬
‫على آل إبراهيم‪ ،‬وبارك على محمــد‪ ،‬وعلــى آل‬
‫محمــد‪ ،‬كمــا بــاركت علــى آل إبراهيــم فــى‬

‫)( رواه أبوداود )‪ (1034‬الصــلة‪ ،‬والنســائى )‪ ،3/91‬ـ ‪ (92‬الجمعــة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وابن مــاجه )‪ (1085‬الصــلة ‪ ،‬والحــاكم )‪ (1/278‬الجمعــة‪ ،‬وصــححه‬


‫على شرطهما‪ ،‬ووافقه الذهبى على شرط البخارى‪ ،‬وصححه اللبانى‬
‫‪.‬‬
‫)( رواه مسلم ) ‪ ،4/124‬ـ ‪ (125‬الصــلة ‪ ،‬ومالــك فــى الموطــأ )‪/1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪،165‬ــ ‪ ، (166‬والترمــذى ) ‪ (12/95‬الســهو ‪ ،‬والنســائى ) ‪،45/ 3‬‬


‫‪. ( 46‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫العـالمين‪ ،‬إنـك حميـد ٌ مجيـد‪ ،‬والسـلم كمـا قـد‬
‫علمتم " ‪.‬‬

‫‪ - 5‬قيام الليل‬

‫اليات فى فضيلة قيام الليل ‪:‬‬

‫ن‬
‫مق َ‬ ‫قِليًل ّ‬‫قــال اللــه تعــالى ‪  :‬ك َققاُنوا َ‬
‫م‬‫هققق ْ‬‫ر ُ‬
‫حا ِ‬
‫سققق َ‬
‫وِبالل ْ‬ ‫ن َ‬
‫عقققو َ‬
‫ج ُ‬
‫ه َ‬
‫مقققا ي َ ْ‬ ‫الل ّي ْققق ِ‬
‫ل َ‬
‫ن ‪ ) ‬الذاريات‪ :‬الية ‪. ( 18 -17 :‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫غ ِ‬
‫ست َ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫وهى فى وصف المحسنين ‪.‬‬

‫عن قتادة ومجاهد قال‪ :‬كانوا لينامون ليلـة‬


‫حتى الصباح ‪.‬‬

‫وعن ابن عباس ‪ :‬لــم تكــن تمضــى عليهــم‬


‫ليلة إل يأخذوا منها شيئا ً ‪.‬‬

‫وقال تعالى فى وصف عبــاد الرحمــن ‪ :‬‬


‫مققا ‪‬‬
‫قَيا ً‬
‫و ِ‬
‫دا َ‬
‫ج ً‬
‫سق ّ‬
‫م ُ‬
‫هق ْ‬‫ن ل َِرب ّ ِ‬
‫ن ي َِبيت ُققو َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫) الفرقان‪ :‬الية ‪. ( 64 :‬‬

‫وذكر الله تعـالى هــذه العبــادة الجليلـة ثــم‬


‫فى‬ ‫جققا َ‬ ‫عقبهــا بــالجزاء فقــال تعـــالى ‪  :‬ت َت َ َ‬
‫م‬
‫هقق ْ‬‫ن َرب ّ ُ‬ ‫عو َ‬‫ع َيققدْ ُ‬
‫ج ِ‬
‫ضققا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫عقق ِ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫جُنققوب ُ ُ‬
‫ُ‬

‫‪- 64 -‬‬
‫ن‪‬‬ ‫ف ُ‬
‫قققو َ‬ ‫م ُين ِ‬
‫ه ْ‬ ‫ما َرَز ْ‬
‫قَنا ُ‬ ‫م ّ‬
‫و ِ‬
‫عا َ‬ ‫وطَ َ‬
‫م ً‬ ‫و ً‬
‫فا َ‬ ‫خ ْ‬
‫َ‬
‫) السجدة ‪ :‬الية ‪. ( 16 :‬‬

‫م‬‫عَلقق ُ‬
‫فَل ت َ ْ‬‫ثــم عقــب بقــوله تعــالى ‪َ  :‬‬
‫ج قَزاء‬ ‫ن َ‬ ‫ة أَ ْ‬
‫عي ُ ٍ‬ ‫من ُ‬
‫قّر ِ‬ ‫هم ّ‬‫ي لَ ُ‬‫ف َ‬ ‫خ ِ‬‫ما أ ُ ْ‬
‫س ّ‬ ‫ف ٌ‬ ‫نَ ْ‬
‫ن ‪ ) ‬الســجدة ‪ :‬اليــة ‪:‬‬ ‫مل ُققو َ‬ ‫مققا ك َققاُنوا ي َ ْ‬
‫ع َ‬ ‫بِ َ‬
‫‪. ( 17‬‬

‫ولما أخفوا العمــل واســتتروا بجنــح الظلم‬


‫أخفى الله عز وجل لهم الجر ‪.‬‬
‫أما الخبار فقوله ‪ " : ‬أفضل الصلة بعــد‬
‫المكتوبة قيام الليل " )‪. (1‬‬

‫وعن عاشئة رضى الله عنها قالت ‪ " :‬كان‬


‫رســول اللــه ‪ ‬يصــلى مــا بيــن أن يفــرغ مــن‬
‫صــلة العشــاء إلــى الفجــر إحــدى عشــر ركعــة‬
‫يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة " )‪. (2‬‬

‫وفى الخبر إنه ذكر عنده الرجــل ينــام كــل‬


‫الليل حتى يصــبح فيقــال ‪ " : ‬ذاك رجــل بــال‬
‫الشيطان فى أذنيه " )‪. (3‬‬

‫)( رواه مســـلم ) ‪ (8/55‬الصـــيام ‪ ،‬وأبـــو داود )‪ (2412‬الصـــوم‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والترمذى ) ‪ (2/227‬الصلة ‪ ،‬والنسائى ) ‪ (207/ 3‬قيام الليل ‪.‬‬


‫)( رواه البخارى ) ‪ (3/7‬التهجد ‪ ،‬ومسلم )‪ ، (16 /6‬الصلة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( رواه البخـــارى )‪ (3/34‬التهجـــد‪ ،‬ومســـلم )‪،6/63‬ـــ ‪ (64‬صـــلة‬ ‫‪3‬‬

‫المسافرين ‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫وعن أبى هريرة ‪ ‬قال رسول اللــه ‪: ‬‬
‫" يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هــو نــام‬
‫ثلث عقد‪ ،‬يضرب مكان كــل عقــدة عليــك ليــل‬
‫طويل فارقد‪ ،‬فــإذا اســتيقظ وذكــر اللــه تعــالى‬
‫انحلت عقدة ‪ ،‬فإن توضــأ انحلــت عقــدة ‪ ،‬فــإن‬
‫صلى انحلت عقدة‪ ،‬فأصبح نشيطا ً طيب النفس‬
‫وإل أصبح خبيث النفس كسلن ")‪. (1‬‬

‫الثار‬

‫كان ابن مسعود ‪ ‬إذا هدأت العيــون قــام‬


‫فيسمع له دوىّ كدوىّ النحل حتى يصبح ‪.‬‬
‫قيل للحسن ‪ :‬مــا بــال المتهجــدين أحســن‬
‫الناس وجوهـا ً ؟ قــال ‪ " :‬لنهــم خلــوا بــالرحمن‬
‫فألبسهم نورا ً من نوره " ‪.‬‬
‫وقال ‪ " :‬إن الرجل ليــذنب الــذنب فيحــرم‬
‫به قيام الليل " ‪.‬‬

‫وقــال رجــل لحــد الصــالحين ‪ :‬ل أســتطيع‬


‫قيام الليل فصف لــى دواءا ً ‪ ،‬فقــال ‪ :‬ل تعصــه‬
‫بالنهار وهو يقيمك بين يديه بالليل ‪.‬‬

‫ويــروى عــن ســفيان الثــورى أنــه قــال ‪" :‬‬


‫حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته "‪.‬‬
‫)( رواه البخــارى )‪ (3/30‬التهجــد ‪،‬ومســلم )‪، 6/65‬ــ ‪ (66‬صــلة‬ ‫‪1‬‬

‫المسافرين ‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫وقال ابن المبارك ‪:‬‬

‫إذا ما الليل أظلم كابدونه‬


‫فيسفر عنهم وهم هجققوع‬

‫أطار الخوف نومهم فقاموا‬


‫وأهل المن فى الدنيا هجوع‬

‫وقال أبو سليمان ‪ " :‬أهل الليل فى ليلهــم‬


‫ألذ من أهل اللهو فــى لهــوهم‪ ،‬ولــول الليــل مــا‬
‫أحببت البقاء فى الدنيا " ‪.‬‬

‫قال ابــن المنكــدر ‪ " :‬مــا بقــى مــن لــذات‬


‫الدنيا إل ثلث ‪ :‬قيــام الليــل ‪ ،‬ولقــاء الخــوان ‪،‬‬
‫وصلة الجماعة " ‪.‬‬

‫‪ -6‬الزهد فى الدنيا وبيان حقارتها‬

‫الزهد ‪ :‬هوانصــراف الرغبــة عــن الشــىء‬


‫إلى مــاهو خيــر منــه‪ ،‬وأمــا العلــم المثمــر لهــذه‬
‫الحال فهو العلم بكون المتروك حقيرا ً بالضافة‬
‫ق‪،‬‬‫إلى المأخوذ فما عــرف أن مــا عنــد اللــه بــا ٍ‬
‫وأن الخــرة خيــر وأبقــى كمــا أن الجــوهر خيــر‬
‫وأبقى من الثلج‪ ،‬فالــدنيا كالثلــج الموضــوع فــى‬

‫‪- 67 -‬‬
‫الشــمس ليــزال فــى الــذوبان إلــى النقــراض‬
‫‪،‬والخرة كالجوهر الذى لفناء له ‪ ،‬وبقدر اليقين‬
‫بالتفاوت بين الدنيا والخــرة تقــوى الرغبــة فــى‬
‫البيع‪ ،‬وقد مــدح القــرآن الزهــد فــى الــدنيا وذم‬
‫الرغبة فيها‪.‬‬

‫ن ال ْ َ‬
‫حي َققاةَ‬ ‫ل ت ُق ْ‬
‫ؤث ُِرو َ‬ ‫فقال تعــــالى ‪  :‬ب َ ْ‬
‫قققى ‪ ) ‬العلــى‪:‬‬ ‫وأ َب ْ َ‬
‫خي ْ قٌر َ‬
‫خَرةُ َ‬‫وال ِ‬
‫الدّن َْيا َ‬
‫الية ‪. ( 17-16 :‬‬

‫ض ال قدّن َْيا‬
‫ع قَر َ‬
‫ن َ‬
‫دو َ‬ ‫وقال تعالى ‪  :‬ت ُ ِ‬
‫ري ُ‬
‫ة ‪ ) ‬النفــال‪ :‬مــن اليــة ‪:‬‬ ‫خَر َ‬
‫ريدُ ال ِ‬ ‫والل ّ ُ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫َ‬
‫‪. ( 67‬‬

‫ة الدّن َْيا‬ ‫حوا ْ ِبال ْ َ‬


‫حَيا ِ‬ ‫ر ُ‬ ‫و َ‬
‫ف ِ‬ ‫وقال تعالى ‪َ  :‬‬
‫ع‪)‬‬ ‫ة إ ِل ّ َ‬
‫مَتا ٌ‬ ‫خَر ِ‬‫في ال ِ‬ ‫ما ال ْ َ‬
‫حَياةُ الدّن َْيا ِ‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫الرعد‪ :‬من الية ‪. ( 26 :‬‬

‫والحاديث فــى ذم الــدنيا وزبيــان حقارتهــا‬


‫عند الله كثيرة جدا ً ‪.‬‬

‫عــن جــابر ‪ ‬أن النــبى ‪ ‬مــّر بالســوق‬


‫والناس كنفتيه ‪ ،‬فمر بجدى أسك ميــت فتنــاوله‬
‫فاخذ بــأذنه ‪ ،‬فقــال ‪ " :‬أيكــم يحــب أن هــذا لــه‬
‫بدرهم " فقالوا ‪ :‬مــا نحــب أنــه لنــا بشــىء ومــا‬

‫‪- 68 -‬‬
‫نصنع به ؟ قــال ‪ " :‬أتحبــون أنــه لكــم " قــالوا ‪:‬‬
‫ك فكيــف‬ ‫والله لو كان حيا ً كان عيبا ً فيه أنه أســ ّ‬
‫وهو ميت؟ فقال‪ " :‬والله للدنيا أهون على اللــه‬
‫من هذا عليكم " )‪.(1‬‬

‫وعــن المســتورد بــن شــداد الفهــرى عــن‬


‫النبى ‪ ‬قال‪ " :‬ما الدنيا فى الخرة إل مثل مــا‬
‫يجعــل أحــدكم إصــبعه فــى اليــم فلينظــر بــم‬
‫يرجع")‪. (2‬‬

‫وعن سهل بن سعد عن النبى ‪ ‬قــال ‪" :‬‬


‫لو كانت الدنيا تعدل عند اللــه جنــاح بعوضــة مــا‬
‫سقى كافرا ً منها شربة ماء " )‪. (3‬‬

‫فالزهققد ‪ :‬هـــو العـــراض عـــن الشـــىء‬


‫لستقلله‪ ،‬واحتقاره‪،‬وارتفاع الهمة عنه ‪ ،‬يقال ‪:‬‬
‫شىء زهيد أى قليل حقير ‪.‬‬

‫)( رواه مسلم ) ‪ (18/93‬الزهد‪ ،‬وأبو داود )‪ (184‬الطهارة ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫" والناس كنفتيه " أى حوله وفيه أدب سير طلب العلم مع العــالم ‪،‬‬
‫وقوله‪ " :‬أسك " أى صغير الذنين ‪.‬‬
‫)( رواه مسلم )‪ (18/93‬الجنة وصفة نعيمها ‪ ،‬والترمــذى ) ‪(9/199‬‬ ‫‪2‬‬

‫الزهد ‪ ،‬ابن ماجه ) ‪. (4108‬‬


‫)( رواه الترمــذى ) ‪ (9/198‬الزهــد‪ ،‬وقــال ‪ :‬صــحيح الســناد ولــم‬ ‫‪3‬‬

‫يخرجاه وقال الذهبى‪ :‬زكريا ضـعفوه‪ ،‬وقـال اللبـانى ‪ :‬والصـواب أن‬


‫الحديث صـحيح لغيـره فـإن لـه شـواهد تقـويه وانظـر شـواهده فـى‬
‫الصحيحة رقم ‪.943‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫قال يونس بــن ميســرة ‪ " :‬ليــس الزهــادة‬
‫فــى الــدنيا بتحريــم الحلل ‪ ،‬ول إضــاعة المــال‪،‬‬
‫ولكن الزهادة فى الــدنيا أن تكــون بمــا فــى يــد‬
‫الله أوثق منك بما فــى يــدك‪ ،‬وأن تكــون حالــك‬
‫فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها ســواء وأن‬
‫مكم فى الحق سواء " ‪.‬‬ ‫يكون مادحكم وذا ّ‬

‫ففسر الزهد فى الــدنيا بثلثــة أشــياء كلهــا‬


‫من أعمال القلوب لمن أعمال الجوارح‪ ،‬ولهــذا‬
‫كان أبو سليمان يقول ‪ :‬لتشهد لحد بالزهد ‪.‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن يكون العبــد بمــا فــى يــد اللــه‬


‫أوثق منه بمــا فـى يـد نفسـه‪ ،‬وهـذا ينشــأ مــن‬
‫صحة اليقين وقوته ‪ ،‬قيل لبى حازم الزاهد‪ :‬مــا‬
‫مالك ؟ قال ‪ " :‬مالن ل أخشى معهمــا الفقــر ‪:‬‬
‫الثقة بالله ‪ ،‬واليأس مما فى أيدى الناس "‪.‬‬

‫وقيل له ‪ :‬أما تخاف الفقــر ؟ فقــل ‪ " :‬أنــا‬


‫أخاف الفقر ومولى له ما فى الســموات ‪ ،‬ومــا‬
‫فى الرض ‪ ،‬وما بينهما ‪ ،‬وما تحت الثرى ؟ " ‪.‬‬

‫قال الفضيل ‪ :‬أصــل الزهــد ‪ :‬الرضــى عــن‬


‫الله عّز وج ّ‬
‫ل‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫وقــال ‪ :‬القنــوع هــو الزاهــد‪ ،‬وهــو الغنــى ‪،‬‬
‫فمن حقق اليقين‪ ،‬وثق بالله فــى أمــوره كلهــا ‪،‬‬
‫ورضـــى بتـــدبيره لـــه ‪ ،‬وانقطـــع عـــن التعلـــق‬
‫بالمخلوقين رجاءا ً وخوفـا ً ‪ ،‬ووضــعه ذلــك مــن‬
‫طلــب الــدنيا بالســباب المكروهــة‪ ،‬ومــن كــان‬
‫كذلك كان زاهدا ً حقا ً ‪ ،‬وكان من أغنى النــاس ‪،‬‬
‫وإن لم يكن له شىء من الدنيا ‪ ،‬كما قال عمار‬
‫‪ : ‬كفى بالموت واعظا ً ‪ ،‬وكفى باليقين غنــى‪،‬‬
‫وكفى بالعبادة شغل ً " ‪.‬‬

‫وقــال ابــن مســعود ‪ " : ‬اليقيــن أن ل‬


‫ُترضى الناس بسخط الله‪ ،‬ول تحسد أحدا ً علــى‬
‫رزق الله ‪ ،‬ول تلم أحدا ً على مــالم يؤتــك اللــه ‪،‬‬
‫فــإن رزق اللــه ل يســوقه حــرص حريــص ‪ ،‬ول‬
‫يرده كراهية كاره‪ ،‬فإن الله يقســطه ‪ ،‬وعلمــه ‪،‬‬
‫وحكمتــه ‪ ،‬جعــل الــروح والفــرح فــى اليقيــن‬
‫والرضــى‪ ،‬وجعــل الهــم والحــزن فــى الســخط‬
‫والشك " ‪.‬‬

‫الثانى ‪ :‬أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة‬


‫فى دنياه ‪ :‬من ذهاب مال‪ ،‬أو ولد‪ ،‬أو غير ذلك ‪،‬‬
‫أرغب فى ثواب ذلك مما ذهب منــه مــن الــدنيا‬
‫أن يبقى له‪ ،‬وهذا أيضا ً ينشأ من كمال اليقين‪.‬‬

‫‪- 71 -‬‬
‫ى كرم الله وجهه ‪ " :‬من زهــد فــى‬‫قال عل ّ‬
‫الــدنيا هــانت عليــه المصــيبات "‪ .‬وقــال بعــض‬
‫السلف ‪ :‬لول مصائب الدنيا لوردنا الخــرة مــن‬
‫المفاليس ‪.‬‬

‫الثققالث ‪ :‬أن يســتوى عنــد العبــد مــادحه‬


‫وذامه فى الحق‪ ،‬وإذا عظمت الدنيا فــى قلــب‬
‫العبد اختار المدح وكره الذم ‪ ،‬وربما حمله ذلك‬
‫على ترك كـثير مـن الحـق خشـية الــذم‪ ،‬علــى‬
‫فعل كثير من الباطل رجاء المدح‪.‬‬

‫فمن استوى عنده حامده وذامه فى الحــق‬


‫د ّ‬
‫ل علــى ســقوط منزلــة المخلــوقين مــن قلبــه‬
‫وامتله من محبة الحق‪ ،‬وما فيــه رضــى مــوله‪،‬‬
‫كما قال ابن مسعود ‪ " : ‬اليقين أن ل ترضــى‬
‫الناس بسخط الله " ‪.‬‬

‫ل الذين يجاهدون فى‬ ‫وقد مدح الله عّز وج ّ‬


‫ســبيله ‪ ،‬ول يخــافون لومــة لئم‪ ،‬وقــد ورد عــن‬
‫السلف روايات أخرى فى تفسير الزهد‪.‬‬

‫قال الحسن ‪ " :‬الزاهد الذى إذا رأى أحــدا ً‬


‫قال ‪ :‬هو أزهد منــى "‪ .‬وســئل بعضــهم – أظنــه‬
‫المام أحمد – عمن معه مال هل يكون زاهدا ً ؟‬

‫‪- 72 -‬‬
‫قال ‪ " :‬إن كان ليفرح بزيادته ول يحزن بنقصه‬
‫فهو زاهد " ‪.‬‬

‫وقــال إبراهيــم بــن أدهــم ‪ " :‬الزهــد ثلثــة‬


‫أقســام ‪ :‬فزهــد فــرض ‪ ،‬وزهــد فضــل ‪ ،‬وزهــد‬
‫سلمة " ‪.‬‬

‫فأما الزهد الفــرض ‪ :‬فالزهــد فــى الحــرام‬


‫‪،‬والزهــد الفضــل ‪ :‬فالزهــد فــى الحلل ‪ ،‬الزهــد‬
‫السلمة ‪ :‬فالزهد فى الشبهات ‪.‬‬

‫وكل من باع الدنيا بالخرة فهــو زاهــد فــى‬


‫الدنيا ‪ ،‬وكل من بــاع الخــرة بالــدنيا فهــو زاهــد‬
‫أيضا ً ‪ ،‬ولكن فى الخرة ‪.‬‬

‫قال رجل لحد الصالحين ‪ :‬ما رأيــت أزهــد‬


‫منك ‪ ،‬قال ‪:‬أنت أزهد منى لقد زهدت فــى دنيــا‬
‫ل بقاء لها‪ ،‬ول وفاء ‪ ،‬وأنت زهدت فى الخــرة ‪،‬‬
‫فمن أزهد منك ؟ ‪.‬‬

‫ولكــن العـادة جاريـة علــى تخصــيص اسـم‬


‫الزهدعلى الزهد فى الــدنيا‪ ،‬الزهــد يكــون فيمــا‬
‫هــو مقــدور عليــه ولــذا قيــل لبــن المبــارك ‪:‬‬
‫يازاهــد ‪ ،‬قـــال ‪ " :‬الزاهــد هــو عمــر بــن عبــد‬

‫‪- 73 -‬‬
‫العزيز إذ جــائته الــدنيا راغمــة فتركهــا وأمــا أنــا‬
‫ففى ماذا زهدت " ‪.‬‬

‫قــال الحســن البصــرى ‪ " :‬أدركــت أقوامـا ً‬


‫وصحبت طوائف ‪ ،‬ما كانوا يفرحون بشىء مــن‬
‫الدنيا أقبل ‪ ،‬ول يأسفون على شىء منهــا أدبــر‪،‬‬
‫ولهى كانت فى أعينهم أهون من التراب ‪ ،‬كان‬
‫أحدهم يعيش خمسين ســنة أو ســتين ســنة لــم‬
‫ب ‪ ،‬ولم ُينصب له قــدٌر ‪ ،‬ولــم يجعــل‬ ‫ُيطوَ له ثو ٌ‬
‫ن فــى بيتــه‬‫مـ ْ‬ ‫بينه وبيــن الرض شــيئًا‪ ،‬ول أ َ‬
‫م ـَر َ‬
‫بصنعة طعام قط ‪ ،‬فإذا كان الليل ‪ ،‬فقيام علــى‬
‫أقدامهم يفترشــون وجــوههم ‪ ،‬تجــرى دمــوعهم‬
‫على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقــابهم ‪،‬‬
‫كــانوا إذا عملــوا الحســنة دأبــوا فــى شــكرها‪،‬‬
‫وســألوا اللــه أن يقبلهــا‪ ،‬وإذا عملــوا الســيئة‬
‫أحزنتهم ‪ ،‬وسألوا اللــه أن يغفرهــا‪ ،‬فلــم يزالــوا‬
‫على ذلك ‪ ،‬ووالله ‪ :‬ما ســلموا مــن الــذنوب ول‬
‫نجوا إل بالمغفرة ‪ ،‬فرحمة الله عليهم ورضوانه‬
‫"‪.‬‬

‫درجات الزهد‬
‫الدرجة الولى‬

‫‪- 74 -‬‬
‫مشت َهٍ ‪ ،‬وقلبــه‬
‫أن يزهده فى الدنيا وهو لها ُ‬
‫إليها مائل ‪ ،‬ونفسه إليها ملتفتة‪ ،‬ولكن يجاهــدها‬
‫ويكفيها ‪ ،‬وهذا يسمى ‪ :‬متزهد ‪.‬‬

‫الدرجة الثانية‪:‬‬

‫الذى يترك الدنيا طوعا ً لســتحقاره إياهــا ‪،‬‬


‫بالضافة غلى ما طمع فيــه‪ ،‬ولكنــه يــرى زهــده‬
‫‪،‬ويلتفـــت إليـــه‪ ،‬كالـــذى يـــترك درهمـــا ً لجـــل‬
‫درهمين‪.‬‬

‫الدرحة الثالثة ‪:‬‬

‫أن يزهــد فــى الــدنيا طوع ـا ً ‪ ،‬ويزهــد فــى‬


‫زهده ‪ ،‬فل يرى أنه ترك شيئا فيكون كمن تــرك‬
‫ة وأخذ جوهرةٌ ‪.‬‬‫خَزفَ َ‬
‫َ‬

‫ويمثل صاحب هذه الدرجة بمن منعــه مــن‬


‫ب على بابه‪ ،‬فألقى إليه‬ ‫الدخول على الملك كل ُ‬
‫لقمة من خبز فشغله بها ‪ ،‬ودخل على الملــك ‪،‬‬
‫ب على باب الله‬ ‫ونال القرب منه فالشيطان كل ٌ‬
‫عز وجــل ‪ ،‬يمنــع النــاس مــن الــدخول ‪ ،‬مــع أن‬

‫‪- 75 -‬‬
‫الباب مفتوح والحجاب مرفوعٌ ‪ ،‬والــدنيا كلقمــة‬
‫فمن تركها لينال عز الملك فكيف يلتفت إليها‪.‬‬

‫ذم الدنيا‬
‫اعلم أن الذم الــوارد فــى الكتــاب والس ـّنة‬
‫راجــع إلــى زمانهــا الــذى هــو الليــل والنهــار‬
‫المتعاقبان إلى يوم القيامة ‪ ،‬فإن الله عز وجــل‬
‫شكورا ً ‪.‬‬
‫ذكر أو أراد ُ‬‫جعلهما خلفة لمن أراد أن ي ّ‬

‫وورد فــى الثــر ‪ " :‬إن هــذا الليــل والنهــار‬


‫خزانتان فانتظروا ماتصنعون فيهما " ‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫وقال مجاهد ‪ " :‬ما من يوم إل يقول ‪ :‬ابــن‬
‫آدم ‪ :‬قد دخلت ‪ ،‬عليك اليــوم ولــن أرجــع إليــك‬
‫بعد اليوم فانظر ماذا تعمل فــى ‪ ،‬فــإذا انقضــى‬
‫طوى‪ ،‬ثم يختم عليه فل يفــك حــتى يكــون اللــه‬
‫هو الذى يقضيه يوم القيامة " ‪.‬‬

‫وأنشد بعضهم ‪:‬‬

‫إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقٌ والليــالى‬


‫متجُر النسان واليام سوقٌ فــالوقت هـــو رأس‬
‫مال العبد ‪ ،‬وقــد صــح عــن رســول اللــه ‪ ‬أنــه‬
‫قـــال ‪ " :‬مــن قــال ‪ :‬ســبحان اللــه وبحمــده‬
‫غرست له نخلة فى الجنة " )‪. (1‬‬

‫ضيع الساعات كم يفوته مــن‬


‫م َ‬
‫فانظر إلى ُ‬
‫النخيل ‪.‬‬

‫وكان أحد الصــالحين إذا أثقــل النــاس فــى‬


‫الجلوس عنده يقول ‪" :‬أما تريدون أن تقومــوا ‪،‬‬
‫إن ملك الشمس يجرها ل يفتر " ‪.‬‬

‫وقال رجل لحد العلمــاء‪ " :‬قــف أكلمــك "‬


‫قــال ‪ " :‬أوقــف الشــمس " ‪ .‬وكــذلك ليــس ذم‬
‫الدنيا راجعا ً إلى مكان الــدنيا وهــو الرض ‪ ،‬ومــا‬

‫)( تقدم تخريجه ص )‪. (39‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫أودع فيها من جبال وبحار وأنهار ومعادن ‪ ،‬فــإن‬
‫ذلك كله من نعم الله على عباده ‪ ،‬لما لهم فيها‬
‫مــن المنــافع ‪ ،‬والعتبــار ‪ ،‬والســتدلل علــى‬
‫وحدانيــة الصــانع ســبحانه‪ ،‬وقــدرته وعظمتــه ‪،‬‬
‫وإنما الذم راجع إلى أفعال بنى آدم الواقعة فى‬
‫الدنيا ‪ ،‬لن غالبها واقـع علـى غيـر الـوجه الـذى‬
‫مققوا‬ ‫عل َ ُ‬ ‫تحمد عاقبته ‪ ،‬كما قال عز وجل ‪  :‬ا ْ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫زيَنقق ٌ‬ ‫و ِ‬‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬
‫هقق ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫عقق ٌ‬‫حَيققاةُ الققدّن َْيا ل َ ِ‬ ‫مققا ال ْ َ‬‫أن ّ َ‬
‫ل‬‫وا ِ‬‫مقق َ‬ ‫فققي ال ْ‬ ‫كققاث ٌُر ِ‬ ‫وت َ َ‬‫م َ‬ ‫خٌر ب َي ْن َ ُ‬
‫كقق ْ‬ ‫وت َ َ‬
‫فققا ُ‬ ‫َ‬
‫والولد َ ‪ ) ‬الحديد ‪ :‬من الية ‪. ( 20 :‬‬

‫وانقسقققم بنقققو آدم فقققى القققدنيا إلقققى‬


‫قسمين ‪:‬‬

‫أحــدهما ‪ :‬مــن أنكــر أن للعبــاد دارا ً بعــد‬


‫الدنيا للثواب‪ ،‬والعقاب ‪ ،‬هؤلء هــم الــذين قــال‬
‫قاءن َققا‬ ‫ن لِ َ‬ ‫جققو َ‬ ‫ن ل َ ي َْر ُ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّق ِ‬‫الله فيهم ‪  :‬إ َ ّ‬
‫َ‬
‫هققا‬ ‫مققأّنوا ْ ب ِ َ‬ ‫واطْ َ‬ ‫ة الققدّن َْيا َ‬ ‫حيققا ِ‬ ‫ضققوا ْ ِبال ْ َ‬‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫وَلق قئ ِ َ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫نأ ْ‬ ‫فُلو َ‬ ‫ن آَيات ِن َققا َ‬
‫غققا ِ‬ ‫عق ْ‬‫م َ‬ ‫هق ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‪‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سققُبو َ‬ ‫مققا كققاُنوا ي َك ِ‬ ‫م الّنققاُر ب ِ َ‬ ‫ه ُ‬‫وا ُ‬
‫مققأ َ‬ ‫َ‬
‫) يونس‪ :‬الية ‪. ( 8- 7 :‬‬

‫وهؤلء همهم التمتــع فــى الــدنيا واغتنــام لــذاتها‬


‫ن‬
‫ذي َ‬‫وال ّق ِ‬
‫قبــل المــوت كمــا قـــال تعـــالى ‪َ  :‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫مققا ت َأ ْ ُ‬
‫كقق ُ‬
‫ل‬ ‫ْ‬
‫وَيققأك ُُلو َ‬
‫ن كَ َ‬ ‫ن َ‬
‫عققو َ‬ ‫مت ّ ُ‬ ‫كَ َ‬
‫فققُروا ي َت َ َ‬
‫م ‪) ‬محمــد ‪ :‬مــن‬ ‫هق ْ‬ ‫وى ل ّ ُ‬ ‫مث ْ ً‬
‫والّناُر َ‬ ‫النعام َ‬
‫الية ‪. ( 12 :‬‬

‫والقسققم الثققانى ‪ :‬مــن يقــر بــدار بعــد‬


‫الموت للثواب والعقاب ‪ ،‬وهم المنتســبون إلــى‬
‫المرسلين‪ ،‬وهم منقسمون إلــى ثلثــة أقســام ‪:‬‬
‫ظالم لنفسه ومقتصد ‪ ،‬وسابق بــالخيرات بــإذن‬
‫الله ‪.‬‬

‫والظققالم لنفسققه ‪ :‬هـــم الكـــثرون ‪،‬‬


‫وأكــثرهم واقــف مــع زهــرة الــدنيا وزينتهــا ‪،‬‬
‫فأخذها مــن غيــر وجههــا ‪ ،‬واســتعملها فــى غيــر‬
‫مه ‪ ،‬بها يرضــى ‪،‬‬ ‫وجهها ‪ ،‬وصارت الدنيا أكبر ه ّ‬
‫وبهــا يغضــب ‪ ،‬ولهــا يــوالى ‪ ،‬وعليهــا يعــادى ‪،‬‬
‫وهؤلء أهل اللعــب واللهــو والزينــة ‪ ،‬وإن كــانوا‬
‫يؤمنون بــالخرة إيمان ـا ً مجمل ً فهــم لــم يعرفــوا‬
‫المقصود من الدنيا ‪ ،‬ول أنها منزلة يــتزود فيهــا‬
‫لما بعدها ‪.‬‬

‫والمقصتد ‪ :‬من أخذ الــدنيا مــن وجوههــا‬


‫المباحــة‪ ،‬وأدى واجبهــا‪ ،‬وأمســك لنفســه الــزائد‬
‫على الــواجب يتوســع بــه فــى التمتــع بشــهوات‬
‫الدنيا ‪ ،‬وهؤلء ل عقاب عليهم فــى ذلــك إل أنــه‬
‫ينقص درحاتهم كما قال عمر بن الخطاب ‪: ‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫لول أن تنقص من حسناتى لخالفتكم فــى ليــن‬
‫عيشكم ولكن سمعت الله عّير قوما ً فقال ‪ :‬‬
‫حَيققات ِك ُ ُ‬
‫م الققدّن َْيا‬ ‫فققي َ‬ ‫م طَي َّبققات ِك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫أ َذْ َ‬
‫هب ُْتقق ْ‬
‫هقا ‪ ) ‬الحقــاف‪ :‬مــن اليــة ‪:‬‬ ‫عُتم ب ِ َ‬
‫مت َ ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫‪. ( 20‬‬

‫وأما السابق بققالخيرات بققإذن اللققه ‪ :‬فهــم‬


‫الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضــى‬
‫ذلك ‪ ،‬فعلمــوا أن اللــه إنمــا أســكن عبــادة فــى‬
‫الدار ليبلوهم أيهم أحسن عمل ً كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ة لّ َ‬
‫هققا‬ ‫زين َق ً‬
‫ض ِ‬
‫مققا َ َ‬
‫علققى الْر ِ‬ ‫عل ْن َققا َ‬ ‫ج َ‬‫‪ ‬إ ِن ّققا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مل ً ‪ ) ‬الكهــف‪:‬‬ ‫ع َ‬
‫ن َ‬
‫سق ُ‬‫ح َ‬‫مأ ْ‬ ‫هق ْ‬
‫م أي ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل ِن َب ْل ُق َ‬
‫و ُ‬
‫الية ‪. ( 7 :‬‬

‫يعنى ‪ :‬أزهد فى الدنيا وأرغب فى الخــرة ‪ ،‬ثــم‬


‫عل َي ْ َ‬
‫هققا‬ ‫مققا َ‬ ‫عُلو َ‬
‫ن َ‬ ‫وإ ِن ّققا ل َ َ‬
‫جققا ِ‬ ‫قــال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫جُرًزا ‪ ) ‬الكهف‪ :‬الية ‪. ( 8 :‬‬ ‫دا ُ‬ ‫عي ً‬
‫ص ِ‬
‫َ‬

‫فاكتفى السابقون منها بما يكفى المســافر مــن‬


‫الزاد‪ ،‬كما قال النبى ‪ " :‬مالى وللدنيا ‪ ،‬ما أنــا‬
‫فى الدنيا إل كراكب اســتظل تحــت شــجرة ثــم‬
‫راح وتركها " )‪. (1‬‬
‫)( رواه الترمذى )‪ (9/223‬الزهد وقال ‪ :‬حســن صــحيح‪ ،‬والحــاكم )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (4/301‬الرقــاق‪ ،‬وقــال ‪ :‬صــحيح علــى شــرط الشــيخين ووافقــه‬


‫الــذهبى‪ ،‬ورواه أحمــد )‪ (1/391‬وصــححه اللبــانى فــى الصــحيحة‬
‫بشاهده رقم ‪.( 439‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫ووصى ابن عمر ‪ " :  ‬كن فى الدنيا كأنك‬
‫غريب أو عابر سبيل " )‪. (1‬‬

‫ومــتى نــوى مــن تنــاول شــهواته المباحــة‬


‫التقوى على طاعة الله كانت شهواته له طاعــة‬
‫يثاب عليها ‪ ،‬كما قال معاذ ‪ " : ‬إنى لحتسب‬
‫نومتى كما أحتسب قومتى " ‪.‬‬

‫قــال ســعيد بــن جــبير‪ " :‬متــاع الغــرور مــا‬


‫يلهيك عن طلب الخرة‪ ،‬ومــا لــم يلهــك فليــس‬
‫بمتاع الغرور ولكن متــاع بلغ إلــى مــا هــو خيــر‬
‫منه " ‪.‬‬

‫وقال يحيى بن معاذ ‪ " :‬كيف ل أحــب دنيــا‬


‫ُقدر لى فيها قوت أكتســب بــه حيــاة ‪ ،‬أدرك بــه‬
‫طاعة ‪ ،‬أنال بها الجنة " ‪.‬‬

‫سئل أبو صفوان الرعينى‪ :‬مــا هــى الــدنيا‬


‫و ُ‬
‫التى ذمها الله فى القرآن والتى ينبغــى للعاقــل‬
‫أن يتجنبها ؟ ‪ ،‬فقال ‪ " :‬كل ما أصبت فى الــدنيا‬
‫تريد به الدنيا فهو مــذموم‪ ،‬وكــل ماأصــبت منــا‬
‫تريد به الخرة فليس منها " ‪.‬‬

‫)( تقدم تخريجه ص )‪. (23‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫وقــال الحســن‪ " :‬نعمــت الــدار الــدنيا كــانت‬
‫للمؤمن ‪ ،‬وذلك أنه عمل قليل ً وأخــذ زاده منهــا‬
‫للجنة ‪ ،‬وبئست الدار كــانت للكــافر والمنــافق ‪،‬‬
‫وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار "‬
‫‪.‬‬

‫قال عون بــن عبــد اللــه‪ " :‬الــدنيا والخــرة فــى‬


‫القلب ككفتى الميزان ما ترجــح إحـداهما تخـف‬
‫الخرى "‪.‬‬
‫وقال وهب‪ " :‬إنما الدنيا والخرة كرجل‬
‫له امرأتان إذا أرضى إحــداهما أســخط الخــرى‬
‫"‪.‬‬

‫وقال أبو الدرداء‪ " :‬لئن حلفتم لى على‬


‫رجل أنه أزهدكم لحلفن لكم أنه خيركم " ‪.‬‬

‫وقال رجل للتابعين‪ " :‬لنتم أكثر عمل ً‬


‫من أصحاب رسول الله ‪ ‬ولكنهم كانوا خيــرا ً‬
‫منكم ‪ ،‬كانوا أزهد فى الدنيا "‪.‬‬
‫أضرار حب الدنيا‬

‫مــر النــار بأهلهــا ‪،‬‬


‫حــب الــدنيا هــو الــذى ع ّ‬
‫مــر الجنــة بأهلهــا ‪،‬‬ ‫الزهد فى الدنيا هــو الــذى ع ّ‬
‫والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بــالخمر‪،‬‬
‫فصاحبه ل ييق إل فى ظلمة اللحد‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫قققال يحيققى بققن معققاذ‪ " :‬الــدنيا خمــر‬
‫الشــيطان ‪ ،‬مــن ســكر منهــا فل يفيــق إل فــى‬
‫عسكر الموتى نادما ً بين الخاسرين " ‪ ،‬وأقل ما‬
‫فيها أنه يلهى عن حب الله وذكره ‪ ،‬ومن ألهــاه‬
‫ماله فهو من الخاسرين ‪ ،‬وإذا لهى القلــب عــن‬
‫ذكر الله سكنه الشيطان ‪ ،‬وصرفه حيث أراد ‪...‬‬
‫ومن فقهه فى الشــر أن يرضــيه ببعــض أعمــال‬
‫الخير ليريه أنه يفعل الخير‪.‬‬
‫ويقول ابــن مســعود ‪ " : ‬ماأصــبح أحــد فــى‬
‫الدنيا إل ضيف وماله عاريـة ‪ ،‬فالضــيف مرتحــل‬
‫والعارية مؤداة " ‪.‬‬

‫قــالوا‪ :‬وإنمــا كــان حــب الــدنيا رأس الخطايــا ‪،‬‬


‫ومفسدا ً للدين من وجوه‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن حبها يقتضى تعظيمها وهى حقيــرة‬


‫عند اللــه ‪،‬ومــن أكــبر الــذنوب تعظيــم مــا حّقــر‬
‫الله ‪.‬‬

‫ثانيها ‪ :‬أن الله لعنها ‪ ،‬ومقتها‪ ،‬وأبغضها‪ ،‬إل مــا‬


‫كان له فيها ‪ ،‬ومــن أحــب مــا لعنــه اللــه ومقتــه‬
‫وأبغضه فقد تعرض للفتنة ‪ ،‬ومقته وغضبه ‪.‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫وثالثها ‪ :‬أنه إذا أحبها ص ـّيرها غــايته ‪ ،‬وتوســل‬
‫إليهــا بالعمــال الــتى جعلهــا اللــه وســائل إليــه‬
‫وإلــى الــدار الخــرة‪ ،‬فعكــس المــر وقلــب‬
‫الحكمة‪ ،‬فها هنا أمران‪ :‬أحدهما ‪ :‬جعل الوسيلة‬
‫غايــة ‪ ،‬والثــانى ‪ :‬التوســل بأعمــال الخــرة إلــى‬
‫الدنيا‪ ،‬وهذا شر معكوس من كل وجــه ‪ ،‬وقلــب‬
‫منكوس غاية النتكاس ‪ ،‬وهذا هو الذى انطبــق‬
‫من‬ ‫ذة ‪ ،‬قوله تعالى ‪َ  :‬‬ ‫عليه‪ :‬حذ ْوَ الُقذة بالُق ّ‬
‫ف‬ ‫و ّ‬ ‫هققا ن ُ ق َ‬ ‫زين َت َ َ‬
‫و ِ‬‫حي َققاةَ ال قدّن َْيا َ‬ ‫ري قدُ ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ن يُ‬‫ك َققا َ‬
‫هقققا ل َ‬ ‫في َ‬‫م ِ‬ ‫هققق ْ‬ ‫و ُ‬
‫هقققا َ‬ ‫في َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫مقققال َ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫م أَ ْ‬‫هققق ْ‬ ‫ِ‬ ‫إ ِل َي ْ‬
‫ُ‬
‫فققي‬ ‫م ِ‬ ‫هق ْ‬‫س لَ ُ‬ ‫ن ل َي ْق َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّق ِ‬ ‫وَلق قئ ِ َ‬‫نأ ْ‬ ‫سو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ي ُب ْ َ‬
‫هققا‬
‫في َ‬‫عوا ْ ِ‬ ‫صقن َ ُ‬ ‫مققا َ‬ ‫ط َ‬ ‫حب ِق َ‬ ‫و َ‬ ‫ة إ ِل ّ الن ّققاُر َ‬ ‫خَر ِ‬‫ال ِ‬
‫ن ‪ ) ‬هــود‪ :‬اليــة ‪:‬‬ ‫مُلقو َ‬ ‫ع َ‬‫كاُنوا ْ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ل ّ‬ ‫وَباطِ ٌ‬ ‫َ‬
‫‪. ( 16 - 15‬‬

‫والحاديث كثيرة ‪ ،‬منها حديث أبــى هريــرة فــى‬


‫الثلثــة الــذين هــم أول مــن تس ـّعر بهــم النــار‪:‬‬
‫الغازى ‪ ،‬والمتصــدق ‪ ،‬والقــارىء ‪ ،‬الــذين أرادوا‬
‫بذلك الدنيا ‪ ،‬والنصيب ‪ .‬وهو فى مسلم )‪. (1‬‬

‫ت هؤلء من الجر‪،‬‬ ‫حَرم ْ‬‫فانظر محبة الدنيا كيف َ‬


‫وأفســــدت عليهــــم عملهــــم ‪ ،‬وجعلتهــــم أول‬
‫الداخلين إلى النار ‪.‬‬

‫)( رواه مسلم ) ‪ ( 51 ،13/50‬الجهاد والسير ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعــل‬
‫ما يعود عليــه نفعــه فــى الخــرة باشــتغاله عنــه‬
‫بمحبوه ‪ ،‬والناس هــا هنــا مراتــب ‪ :‬فمنهــم مــن‬
‫يشغله محبوبه عن اليمــان وشــرائعه ‪ ،‬ومنهــم‬
‫من يشغله حبها عن كثير من الواجبات ‪ ،‬ومنهم‬
‫من يشغله عـن واجـب يعـارض تحصـيلها – وإن‬
‫قــام بغيــره – ومنهــم مــن يشــغله عــن القيــام‬
‫بالواجب فى الــوقت الــذى ينبغــى علــى الــوجه‬
‫الذى ينبغى ‪ ،‬فيفــرط فــى وقتــه وفــى حقــوقه‪،‬‬
‫ومنهــم مــن يشــغله عــن عبوديــة قلبــه فــى‬
‫الواجب ‪ ،‬وتفريغه لله عند أدائه ‪ ،‬فيؤديه ظاهرا ً‬
‫ل باطنا ً ‪ ،‬وأين هذا من عشاق الــدنيا ومحبيهــا ‪،‬‬
‫هذا من أندرهم وأقل درجــات حبهــا أن يشــغل‬
‫عن سعادة العبد ‪ ،‬وهو تفريغ القلب لحب الله ‪،‬‬
‫و لسانه لذكره ‪ ،‬وجمع قلبه على لسانه ‪ ،‬وجمع‬
‫لسانه وقلبه على ربه ‪ ،‬فعشقها ومحبتهــا تضــر‬
‫بالخرة ول بد ‪ ،‬كما أن محبة الخرة تضر بالدنيا‬
‫‪.‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬أن محبتها تجعلها أكبر ه ّ‬


‫م العبد‪ ،‬وقد‬
‫روى الترمــذى مــن حـديث أنـس بيــن مالــك ‪‬‬
‫قال ‪ :‬قال رسول الله ‪ " : ‬من كــانت الخــرة‬
‫همه جعل الله غناه فى قلبه ‪،‬وجمع له شــمله ‪،‬‬
‫وأتته الدنيا وهى راغمة‪ ،‬ومن كانت الدنيا همه ‪،‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫جعل الله فقره بين عينيه ‪ ،‬وفرق عليــه شــمله‪،‬‬
‫ولم يأته من الدنيا إل ما قدر له " )‪. (1‬‬

‫سادسها ‪ :‬أن محبهــا أشــد النــاس عــذابا ً بهــا‪،‬‬


‫وهو معذب فى دوره الثلث ‪ :‬يعذب فــى الــدنيا‬
‫بتحصيلها والسعى فيها ومنازعة أهلها‪ ،‬وفى دار‬
‫البرزخ بفواتها والحسرة عليها ‪ ،‬وكونه قد حيــل‬
‫بينه وبين محبوبه على وجه ل يرجو اجتماعه بــه‬
‫أبدا ً ‪ ،‬ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنــه‪،‬‬
‫فهذا أشد الناس عــذابا ً فــى قــبره‪ ،‬يعمــل الهـ ّ‬
‫م‬
‫ن والغم والحســرة فــى روحــه مــا تعمــل‬ ‫والحز ُ‬
‫الديدان وهوام الرض فى جسمه ‪.‬‬

‫والمقصود‪ :‬أن محـب الـدنيا يعـذب فـى قـبره ‪،‬‬


‫فل َ‬‫ويعــذب يــوم لقــاء ربــه قــال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫َ‬ ‫ك أ َم قوال ُهم ول َ أ َ‬
‫د‬
‫ري ق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫قا‬
‫ق‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫جب ْ َ ْ َ ُ ْ َ‬ ‫ع ِ‬‫تُ ْ‬
‫ة الققدّن َْيا‬ ‫حَيققا ِ‬ ‫فققي ال ْ َ‬ ‫هققا ِ‬ ‫هم ب ِ َ‬ ‫عققذّب َ ُ‬ ‫ه ل ِي ُ َ‬‫الّلقق ُ‬
‫ن ‪ ) ‬التوبة‪:‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫س ُ‬‫ف ُ‬ ‫ق َأن ُ‬ ‫ه َ‬ ‫وت َْز َ‬ ‫َ‬
‫الية ‪. ( 55 :‬‬

‫قال بعض السلف ‪ " :‬يعــذبهم بجمعهــا‪ ،‬وتزهــق‬


‫أنفسهم بحبها‪ ،‬وهم كافرون بمنع حق الله فيهــا‬
‫"‪.‬‬
‫)( رواه الترمذى ) ‪ 2583‬تحفة ( صفة القيامــة وســكت عنــه وقــال‬ ‫‪1‬‬

‫اللبانى ‪ :‬وهو إسناد ضعيف لكنه حســن فــى المتابعــات ولــه شــاهد‬
‫عند ابن ماجه وابن حبان ‪ :‬وهو فى الصحيحة رقم ‪.949‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫وسابعها ‪ :‬أن عاشــقها ومحبهــا الــذى يؤثرهــا‬
‫على الخرة من أسفه الخلــق وأقلهــم عقل ً ‪ ،‬إذ‬
‫آثر الخيال على الحقيقة‪ ،‬والمنام على اليقظــة‪،‬‬
‫والظــل الــزائل علــى النعيــم الــدائم ‪ ،‬والــدار‬
‫الفانية على الدار الباقية‪ ،‬وبــاع حيــاة البــد فــى‬
‫أرغد عيش بحياة إنما هى أحلم نــوم‪ ،‬أو كظــل‬
‫زائل‪ ،‬إن اللبيب بمثلها ل يخدع‪.‬‬

‫وكان بعض السلف يتمثل هذا البيت ‪:‬‬

‫إن‬ ‫يا أهل لذات دنيا ل بقاء لها‬


‫اغترارا ً بظل زائل حمق‬

‫قال يونس بن عبد العلى ‪ " :‬ما شبهت الــدنيا‬


‫إل كرجل نــام فــرأى فــى منــامه مــا يكــره ومــا‬
‫يحب ‪ ،‬فبينما هو كذلك انتبه " ‪.‬‬

‫وأشبه الشياء بالدنيا‪ :‬الظل تحسـب لـه حقيقـة‬


‫ثابتة وهو فى تقلص وانقباض فتتبعه لتدركه فل‬
‫تلحقــه‪ ،‬وأشــبه الشــياء بهــا الســراب يحســبه‬
‫الظمــآن مــاًء حــتى إذا جــاءه لــم يجــده شــيئا ً ‪،‬‬
‫ووجد اللـه عنـده فوفـاه حسـابه ‪ ،‬واللـه سـريع‬
‫الحساب ‪ ،‬وأشــبه الشــياء بهــا ‪ :‬عجــوز شــوهاء‬
‫قبيحة المنظر والمخبر ‪ ،‬غدارة بالزواج‪ ،‬تزينــت‬

‫‪- 87 -‬‬
‫للخطاب بكل زينة ‪ ،‬وســترت كــل قبــح‪ ،‬فــاغتر‬
‫بهامن لم يجاوز بصره ظاهرها‪ ،‬فطلــب النكــاح‪،‬‬
‫فقالت ‪ :‬ل مهر إل فقد الخرة ‪ ،‬فإننا ضــرتان ‪،‬‬
‫واجتماعنــا غيــر مــأذون فيــه ول مســتباح‪ ،‬فــآثر‬
‫مــن واصــل‬ ‫الخطاب العاجلة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما علــى َ‬
‫حــبيبته مــن جنــاح‪ ،‬فلمــا كشــف قناعهــا ‪ ،‬وحــل‬
‫إزارهــا‪ ،‬إذا كــل آفــة وبليــة ‪ ،‬فمنهــم مــن طلــق‬
‫واسترح‪ ،‬ومنهم من اختار المقام‪ ،‬فما استتمت‬
‫ليلة عرسه إل بالعويل والصياح ‪.‬‬

‫تــــالله لقــــد أذن مؤذنهــــا علــــى رؤوس‬


‫ى علــــى غيــــر الفلح‪ ،‬فقــــام‬ ‫الخلئق ‪ ،‬بحــــ ّ‬
‫المجتهدون والمصلون لها فواصــلوا فــى طلبهــا‬
‫الغدو بالرواح‪ ،‬وسروا ليلهم ‪ ،‬فلم يحمــد القــوم‬
‫السرى عنــد الصــباح‪،‬طــاروا فــى صــيدها ‪ ،‬فمــا‬
‫رجع أحد منهم إل وهو مكسور الجناح ‪ ،‬فوقعــوا‬
‫فى شبكتها‪ ،‬فأسلمتهم للذّباح ‪.‬‬
‫‪ - 7‬أحوال النفس ومحاسبتها ‪:‬‬

‫اتفــق الســالكون إلــى اللــه علــى اختلف‬


‫طرقهم وتباين سولكهم على أن النفس قاطعة‬
‫ب ‪ ،‬وأنه ليدخل‬ ‫بين القب وبين الصول إلى الر ّ‬
‫عليــه ســبحانه ول يوصــل إليــه إل بعــد إماتتهــا‪،‬‬
‫وتركها بمخالفتها ‪ ،‬والظفر بها‪.‬‬

‫‪- 88 -‬‬
‫فإن الناس على قسمين‪ :‬قسم ظفرت بــه‬
‫نفسه فملكته وأهلكته‪ ،‬وصــار طوع ـا ً لهــا تحــت‬
‫م ظفــروا بنفوســهم فقهروهــا‬ ‫أوامرهــا ‪ ،‬وقســ ٌ‬
‫فصارت طوعا ً لهم ‪ ،‬منقادة لوامرهم ‪.‬‬

‫ل بعــض العــارفين‪ :‬انتهــى ســفر الطــالبين إلــى‬


‫الظفر أنفسهم ‪ ،‬فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح‪،‬‬
‫ومن ظفرت به نفسه خســر وهلــك ‪ ،‬قــال اللــه‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫‪َ َ ‬‬
‫حي َققاةَ القدّن َْيا‬ ‫وآث َقَر ال ْ َ‬
‫غققى َ‬ ‫مققن طَ َ‬ ‫مققا َ‬ ‫فأ ّ‬
‫َ‬ ‫حيم هي ال ْ ْ‬
‫ف‬‫خققا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫وى َ‬ ‫مأ َ‬‫َ‬ ‫ج ِ َ ِ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫فإ ِ ّ‬‫َ‬
‫ن‬
‫فققإ ِ ّ‬‫وى َ‬ ‫ه َ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ع ِ‬
‫س َ‬ ‫ف َ‬ ‫هى الن ّ ْ‬ ‫ون َ َ‬‫ه َ‬ ‫م َرب ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫وى ‪‬‬ ‫مأ َ‬ ‫ي ال ْ َ‬‫ه َ‬ ‫ة ِ‬ ‫جن ّ َ‬‫ال ْ َ‬
‫) النازعات‪ :‬الية ‪. ( 41-37 :‬‬

‫والنفس تدع إلى الطغيان ‪ ،‬وإيثار الحيــاة الــدنيا‬


‫ب يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفــس عــن‬ ‫والر ّ‬
‫ب بيـن الـداعيين‪ ،‬يميـل إلـى هـذا‬ ‫الهوى‪ ،‬والقلـ ُ‬
‫الــداعى مــرة ‪ ,‬وإلــى هــذا مــرة ‪ ،‬وهــذا موضــع‬
‫المحنــة والبتلء ‪ ،‬وقــد وصــف اللــه ســبحانه‬
‫النفس فى القــرآن بثلث صــفات ‪ :‬المطمئنــة ‪،‬‬
‫واللوامة ‪ ،‬والمــارة بالســوء فــاختلف النــاس ‪:‬‬
‫هل النفس واحدة وهذه أوصاف لهــا‪ ،‬أم للعبــد‬
‫ثلثة أنفس ؟ ‪.‬‬

‫‪- 89 -‬‬
‫فالول قول الفقهاء والمفسرين ‪ ،‬والثانى قــول‬
‫كثير من أهل التصــوف‪ ،‬والتحقيـق ‪ :‬أنــه لنــزاع‬
‫بين الفريقين‪ ،‬فإنها واحدة باعتبــار ذاتهــا وثلثــة‬
‫باعتبار صفاتها ‪.‬‬

‫النفس المطمئنة ‪:‬‬

‫ل واطمــأنت‬ ‫إذا سكنت النفس إلى الله عّز وج ـ ّ‬


‫بــذكره‪ ،‬وأنــابت إليــه‪ ،‬واشــتاقت إلــى لقــائه‪،‬‬
‫وأنست بقربه ‪ ،‬فهى مطمئنة ‪ ،‬وهى التى يقــال‬
‫لها عند الوفاة ‪.‬‬
‫َ‬
‫عي‬‫ج ِ‬
‫ة اْر ِ‬ ‫مطْ َ‬
‫مئ ِن ّ ُ‬ ‫س ال ْ ُ‬
‫ف ُ‬‫ها الن ّ ْ‬ ‫‪َ ‬يا أي ّت ُ َ‬
‫ضققّية ‪) ‬الفجــر ‪-27 :‬‬ ‫مْر ِ‬ ‫ة ّ‬‫ضي َ ً‬‫ك َرا ِ‬ ‫إ َِلى َرب ّ ِ‬
‫‪. ( 28‬‬

‫قال ابن عباس ‪ : ‬المطمئنة المصدقة‪ ،‬وقــال‬


‫قتادة ‪ :‬هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى مــا وعــد‬
‫الله ‪ ،‬وصاحبها يطمئن فى باب معرفــة أســمائه‬
‫وصفاته إلى خبره الذى أخبر عن نفســه وأخــبر‬
‫به عند رسوله ص ثم يطمئن إلى خبره عما بعد‬
‫الموت من أمور الــبرزخ ومــا بعــده مــن أحــوال‬
‫القيامة حتى كــأنه يشــاهد ذلــك كلــه عيان ـا ً ‪،‬ثــم‬
‫ل فيســلم لــه‬ ‫يطمئن إلــى قــدر اللــه عــّز وجــ ّ‬
‫ويرضى ن فل يسخط ‪ ،‬ول يشكو‪ ،‬ول يضــطرب‬

‫‪- 90 -‬‬
‫إيمانه‪ ،‬فل يأسى على مــا فــاته ‪ ،‬ول يفــرح بمــا‬
‫آتاه ‪ ،‬لن المصيبة فيهمقدرة قبل أن تصل إليه‬
‫َ‬
‫ب‬‫صققا َ‬ ‫مققا أ َ‬ ‫‪ ،‬وقبل أن يخلق ‪ ،‬قال تعالى ‪َ  :‬‬
‫من ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫من ي ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ة إل ّ ب ِإ ِذْ ِ‬
‫صيب َ ٍ‬ ‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫ِ‬
‫ه ‪) ‬التغابن ‪ :‬من الية ‪. (11‬‬ ‫قل ْب َ ُ‬
‫د َ‬‫ه ِ‬
‫يَ ْ‬

‫قال غير واحــد مــن الســلف ‪ :‬هــو العبــد تصــيبه‬


‫المصــيبة فيعلــم أنــا مــن عنــد اللــه فيرضــى‬
‫ويسلم ‪.‬‬

‫وأما طمأنينة الحسان فهى الطمأنينة إلى أمره‬


‫امتثال ً وإخلص ـا ً ونصــحا ً ‪ ،‬فل يقــدم علــى أمــره‬
‫إرادة ول هــوى ‪ ،‬ول تقليــدا ً ‪ ،‬ول يســاكن شــبهة‬
‫تعارض خبره‪ ،‬ول شهوة تعارض أمــره ‪ ،‬بــل إذا‬
‫مّرت به أنزلها منزلة الوســاوس الــتى لئن يخــر‬
‫مــن الســماء إلــى الرض أحــب إليــه مــن أن‬
‫يجــدها‪ ،‬فهــذا كمــا قــال النــبى ‪ " : ‬صــريح‬

‫‪- 91 -‬‬
‫اليمان)‪ ، (1‬وكذلك يطمئن من قلق المعصية ‪،‬‬
‫وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلوتها ‪.‬‬

‫ك إلى اليقين‪ ،‬ومن الجهــل‬ ‫فإذا اطمأن من الش ّ‬


‫إلى العلم‪ ،‬ومن الغفلة إلى الذكر‪ ،‬ومن الخيانة‬
‫إلــى التوبــة ومــن الريــاء إلــى الخلص‪،‬ومــن‬
‫الكذب إلى الصدق‪ ،‬ومن العجــز إلــى الكيــس ‪،‬‬
‫ومن صولة العجب إلى ذلة الخبات ‪ ،‬ومن التيه‬
‫إلى التواضع‪ ،‬فعند ذلك تكون نفسه مطمئنة ‪.‬‬

‫وأصل ذلك كله هى اليقظة ‪ ،‬التى كشــفت‬


‫سنة الغفلة وأضاءت له قصور الجنــة ‪،‬‬ ‫عن قلبه ِ‬
‫فصاح قائل ً ‪:‬‬

‫)( رواه مسلم )‪ (2/153‬اليمان ولفظه عن أبى هريــرة قــال ‪ :‬جــاء‬ ‫‪1‬‬

‫ناس من أصحاب النبى ‪ r‬فسألوه‪ ،‬إنــا نجــد فــى أنفســنا مــا يتعــاظم‬
‫أحدنا أن يتكلم به قال ‪ " :‬وقد وجدموه ؟ قالوا ‪ :‬نعم ‪ ،‬قــال ‪ " :‬ذاك‬
‫صريح اليمان"‪.‬‬
‫وروى مســلم كــذلك عــن ابــن مســعود قــال ‪ :‬ســئل النــبى ‪ r‬عــن‬
‫الوسوسة قال ‪ " :‬تلك محض اليمــان " قــال النــووى ‪ :‬اســتعظامكم‬
‫الكلم به هو صريح اليمان فـإن اسـتعظام هـذا وشـدة الخـوف منـه‬
‫ومن النطق به فضل ً عن اعتقاده إنما يكون لمــن اســتكمل اليمــان‬
‫استكمال محققا ً وانتفت عنــه الريبــة والشــك – شــرح النــووى علــى‬
‫صحيح مسلم ) ‪.(154/ 2‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫أل يا نفس ويحك ساعدينى‬
‫بسعى منك فى ظلم الليالى‬

‫لعلك فى القيامة أن تفوزى‬


‫بطيب العيش فى تلك العللى‬
‫فرأى فى ضوء هذه اليقظــة مــا خلــق لــه‪،‬‬
‫ومــا ســيلقاه بيــن يــديه مــن حيــن المــوت إلــى‬
‫دخول دار القرار‪ ،‬ورأى سرعة انقضــاء الــدنيا ‪،‬‬
‫وقلة وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها ‪ ،‬وفعلها بهــم‬
‫أنــواع المثلت ‪ ،‬فنهــض فــى ذلــك الضــوء علــى‬
‫س قَرَتى عل َققى َ‬
‫مققا‬ ‫ح ْ‬‫ساق عزمه قائل ً ‪َ  :‬يا َ‬
‫ه ‪) ‬الزمــر ‪ :‬مــن‬ ‫ب الل ّق ِ‬
‫جنق ِ‬
‫فققي َ‬
‫ت ِ‬‫فّرط ُ‬ ‫َ‬
‫الية ‪. (56‬‬

‫فاستقبل بقية عمــره مســتدركا ً مــا فــات ‪،‬‬


‫محييــا ً مــا مــات ‪ ،‬مســتقبل ً مــا تقــدم لــه مــن‬
‫العثرات‪ ،‬منتهزا ً فرصة المكــان الــتى إن فــاتت‬
‫فاته جميــع الخيــرات‪ ،‬ثــم يلحــظ فــى نــور تلــك‬
‫س‬
‫اليقظة وفور نعمة ربه عليه ‪ ،‬ويــرى أنــه آي ـ ٌ‬
‫من حصرها وإحصائها ‪ ،‬عــاجٌز عــن آداء حقهــا ‪،‬‬
‫ويرى فى تلك اليقظــة عيــوب نفســه ‪ ،‬وآفــات‬
‫عمله ‪ ،‬وما تقدم لــه مــن الجنايــات والســاءات‬
‫والتقاعــد عــن كــثير مــن الحقــوق والواجبــات‬
‫‪،‬فتنكسر نفسه وتخشــع جــوارجه ‪ ،‬ويســير إلــى‬
‫اللـــه نـــاكس الـــرأس بيـــن مشـــاهدة نعمـــه‪،‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫ومطالعة جناياته ‪ ،‬وعيوب نفســه ‪ ،‬ويــرى أيضـا ً‬
‫فى ضــوء تلــك اليقظــة عــزة وقتــه ‪ ،‬وخطــره ‪،‬‬
‫وأنه رأس مال سعادته فيبخل به فيمــا ل يقربــه‬
‫إلى ربه ‪ ،‬فإن فى إضاعته الخسران والحسرة‬
‫‪ ،‬وفى حفظه الربح والسعادة ‪.‬‬

‫فهذه آثــار اليقظــة وموجباتهــا ‪ ،‬وهــى أول‬


‫منازل النفس المطمئنة التى ينشأ منها سفرها‬
‫إلى الله والدار الخرة‪.‬‬

‫النفس اللوامة‬

‫قالت طائفة ‪ :‬هى التى لتثبــت علــى حــال‬


‫واحــدة ‪ ،‬فهــى كــثيرة التقلــب والتلــون‪ ،‬فتــذكر‬
‫وتغفــل ‪ ،‬وتقبــل وتعــرض ‪ ،‬وتحــب وتبغــض ‪،‬‬
‫وتفــرح وتحــزن ‪ ،‬وترضــى وتغضــب ‪ ،‬وتطيــع‬
‫وتتقى ‪.‬‬

‫وقالت أخرى ‪ :‬هــى نفــس المــؤمن ‪ ،‬قــال‬


‫الحسن البصرى‪ :‬إن المــؤمن ل تــراه إل يلــوم‬
‫نفسه دائما ً يقـول ‪ :‬مـا أردت هـذا ؟ لـم فعلـت‬
‫هذا ؟ كان هـذا أولـى مـن هـذا ؟ أو نحــو هــذا‬
‫الكلم ‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫وقالت أخـرى ‪ :‬اللـوم يـوم القيامـة ‪ ،‬فـإن‬
‫ل أحد يلوم نفسه إن كان مسيئا ً على إساءته‬ ‫ك ّ‬
‫‪ ،‬وإن كان محسنا ً على تقصيره ‪.‬‬

‫يقول المام ابن القّيم ‪ :‬وهذا كله حق ‪.‬‬


‫واللوامة نوعان ‪ :‬لوامة ملومــة ‪ ،‬ولوامــة‬
‫غير ملومة ‪.‬‬

‫اللوامــة الملومــة ‪ :‬هــى النفــس الجاهلــة‬


‫الظالمة ‪ ،‬التى يلومها الله وملئكته‪.‬‬

‫اللوامة غير الملومــة ‪ :‬وهــى الــتى لتــزال‬


‫تلوم صاحبها على تقصيره فى طاعة الله ‪ -‬مع‬
‫بذله جهده – فهذه غير ملومة وأشرف النفوس‬
‫من لمت نفسها فــى طاعــة اللــه‪ ،‬واحتملــت‬
‫ملم اللوام فى مرضــاته‪ ،‬فل تأخـذها فــى اللـه‬
‫لومة لئم ‪ ،‬فهذه قد تخلصت من لوم الله‪ ،‬وأما‬
‫من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها‪ ،‬ولم تحتمل‬
‫فى الله ملم اللوام ‪ ،‬فهى التى يلومها الله عز‬
‫ل‪.‬‬ ‫وج ّ‬

‫النفس المارة السوء ‪:‬‬

‫وهذه النفس المذمومة ‪ ،‬فإنهــا تــأمر بكــل‬


‫سوء ‪،‬وهذا من طبيعتها ‪ ،‬فمــا تخلــص أحــد مــن‬

‫‪- 95 -‬‬
‫شرها إل بتوفيق الله ‪ ،‬كما قال تعالى حاكيا ً عن‬
‫أمرأة العزيز‪:‬‬

‫س‬
‫فقق َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬‫سققي إ ِ ّ‬‫ف ِ‬ ‫مققا أ ُب َّرىققءُ ن َ ْ‬ ‫‪َ ‬‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ن َرّبققي‬ ‫ي إِ ّ‬
‫م َرّبقق َ‬‫ح َ‬
‫ما َر ِ‬ ‫ء إ ِل ّ َ‬‫سو ِ‬‫ماَرةٌ ِبال ّ‬ ‫ل ّ‬
‫م ‪) ‬يوسف ‪ :‬الية ‪. (53‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬‫غ ُ‬ ‫َ‬

‫ل الل ّ ق ِ‬
‫ه‬ ‫ضق ُ‬ ‫وقال عز وجــل ‪  :‬ولول َ َ‬
‫ف ْ‬
‫كم من أ َح َ‬
‫دا‬‫د أب َ ً‬
‫ّ ْ َ ٍ‬ ‫من ُ‬
‫كا ِ‬‫ما َز َ‬
‫ه َ‬
‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬
‫وَر ْ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫َ‬
‫‪) ‬النور ‪ :‬من الية ‪. (21‬‬

‫وكــان ‪ r‬يعلمهــم خطبــة الحاجــة ‪ " :‬إن‬


‫الحمــد اللــه نحمــده ‪ ،‬ونســتعينه‪ ،‬ونســنغفره ‪،‬‬
‫ونعوذ بالله مــن شــرور أنفســنا ‪ ،‬ومــن ســيئات‬
‫أعمالنا " )‪. (1‬‬

‫ن فــى النفــس ‪ ،‬وهــو يــوجب‬


‫فالشــر كــام ٌ‬
‫سيئات العمال ‪ ،‬فإذا خلى الله بين العبد وبين‬
‫نفسه هلك بين شرها ‪،‬ـ وما تقتضيه من سيئات‬
‫العمـال وإن وفقـه اللـه وأعـانه نجـا مـن ذلـك‬
‫كله ‪.‬‬

‫)( رواه أبــو داود )‪ (2118‬النكــاح ‪ ،‬وقــال اللبــانى‪ :‬صــحيح‪ ،‬وانظــر‬ ‫‪1‬‬

‫رسالته ‪ :‬خطبة الحاجة لللبانى ‪.‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫فنسأل الله العظيم أن يعيــذنا مــن شــرور‬
‫أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪.‬‬

‫وخلصة القول ‪ :‬إن النفس واحــدة تكــون‪:‬‬


‫أمارة ‪ ،‬ثم لوامة ‪،‬ثم مطمئنة وهى غاية كمالها‬
‫وصلحها‪.‬‬

‫والنفــس المطمئنــة قرينهــا الملــك‪ ،‬يليهــا‪،‬‬


‫ويســددها‪ ،‬ويقــذف فيهــا الحــق‪ ،‬ويرغبهــا فيــه ‪،‬‬
‫ويريهــا حســن صــورته ويزجرهــا عــن الباطــل‬
‫ويزهدها فيه‪ ،‬ويريها قبح صورته‪ ،‬وبالجملة فمــا‬
‫كان لله وبالله فهو من عنـد النفـس المطمئنـة‪،‬‬
‫وأما النفس المــارة فجعــل الشــيطان قرينهــا ‪،‬‬
‫وصــاحبها الــذى يليهــا ‪،‬فهــو يعــدها ‪ ،‬ويمنيهــا‪،‬‬
‫ويقـــذف فيهـــا الباطـــل ‪ ،‬ويأمرهـــا الســـوء ‪،‬‬
‫ويزينهلها ‪ ،‬ويطيل فــى المــل ‪ ،‬ويريهــا الباطــل‬
‫فى صورة تقبلها وتستحسنها‪.‬‬

‫فالنفس المنطمئنة والملــك يقتضــيان مــن‬


‫النفــس المطمئنــة ‪ :‬التوحيــد‪ ،‬والحســان والــبر‬
‫والتقــوى ‪ ،‬والتوكــل والتوبـة ‪ ،‬والنابـة والقبــال‬
‫على الله ‪ ،‬وقصــر المــل ‪ ،‬والســتعداد للمــوت‬
‫وما بعده ‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫والشيطان وجنده من الكفرة يقتضيان من‬
‫النفس المارة ضــد ذلــك وأصــعب شــىء علــى‬
‫النغس المطمئنة تخليص العمال من الشيطان‬
‫ومن المارة فلو وصل منها عمل واحد لنجا بــه‬
‫العبد ‪ ،‬ولكن أبت المارة والشيطان أن يدعا له‬
‫عمل ً واحــدا ً يصــل إلــى اللــه ‪،‬كمــا قــال بعــض‬
‫العارفين بالله وبنفسه " والله لو أعلــم أن لــى‬
‫عمل ً واحدا ً وصل إلى الله لكنت أفــرح بــالموت‬
‫من الغائب يقدم على أهله" ‪ ،‬وقال عبد الله بن‬
‫عمر ‪ " : ‬لو أعلم أن الله قبل منــى ســجدة‬
‫واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت "‪.‬‬

‫وقد انتصبت المارة فى مقابلة المطمئنــة‬


‫‪ ،‬فكلما جـاءت بـه تلـك مــن خيــر ضـاهتها هـذه‬
‫وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليهــا‪،‬‬
‫وتريه حقيقة الجهاد فى صــور تقتيــل النفــس ‪،‬‬
‫وتنكــح الزوجــة ‪ ،‬ويصــير الولد يتــامى ويقســم‬
‫المال وتريه حقيقة الزكاة والصدقة فــى صــورة‬
‫مفارقـــة المـــال ونقصـــه‪ ،‬وخلـــو اليـــد منـــه ‪،‬‬
‫واحتياجه إلى الناس ‪ ،‬ومساواته للفقير ‪.‬‬

‫‪- 98 -‬‬
‫محاسبة النفس‬
‫علمة استيلء النفس المارة بالسوء على قلب‬
‫المؤمن محاسبتها والتضييق عليها وسؤالها عــن‬
‫كل قول وعمل ‪.‬‬

‫قال الحسن ‪ " :‬المؤمن قــوام علــى نفســه ‪،‬‬


‫يحاسب نفسه للــه ‪ ،‬وإنمــا خــف الحســاب يــوم‬
‫القيامة لى قــوم حاســبوا أنفســهم فــى الــدنيا ‪،‬‬
‫وإنمــا شــق الحســاب يــوم القيامــة علــى قــوم‬
‫أخذوا هذا المر على غير محاسبة " ‪.‬‬

‫إن المــؤمن يفــاجئه الشــىء ويعجبــه فيقــول ‪:‬‬


‫والله إنى لشتهيك ‪ ،‬وإنك لمن حــاجتى ‪ ،‬ولكــن‬
‫واللــه مــا مــن حيلــة إليــك ‪ ،‬هيهــات حيــل بينــى‬
‫وبينك ويفرط منه الشىء فيرجــع إلــى نفســه‬
‫فيقول ‪ :‬ما أردت إلى هذا ؟ ! مــا لــى ولهــذا ؟ّ‬
‫والله ل أعود إلى هذا أبــدا ً ‪ .‬إن المــؤمنين قــوم‬
‫أوقفهم القرآن وحال بين هلكتهم ‪ ،‬إن المؤمن‬
‫أســير فــى الــدنيا يســعى فــى فكــاك رقبتــه ‪ ،‬ل‬

‫‪- 99 -‬‬
‫يأمن شيئا ً حــتى يلقــى اللــه ‪ ،‬يعلــم أنــه مــأخوذ‬
‫عليه فى سمعه‪ ،‬وفــى بصــره ‪ ،‬وفــى لســانه ‪،‬‬
‫وفى جوارحه ‪ ،‬مأخوذ عليه فى ذلك كله ‪.‬‬

‫قــال مالــك بــن دينــار‪ " :‬رحــم اللــه عبــدا ً قــال‬


‫لنفســه ‪ :‬ألســت صــاحبة كــذا؟ ألســت صــاحبة‬
‫كذا؟ ثم ذمها ‪ ،‬ثم خطمهــا ‪ ،‬ثــم ألزمهــا كتــاب‬
‫الله عز وجل‪ ،‬فكان لها قائدا ً " ‪.‬‬

‫فحق على الحازم المؤمن بــالله وبــاليوم الخــر‬


‫أن ليغفل عن محاسبة نفسه‪ ،‬والتضييق عليهــا‬
‫فى حركاتها وسكناتها ‪ ،‬وخطراتها‪ ،‬فكــل نفــس‬
‫مــن انفــاس العمــر جــوهرة نفيســة ‪ ،‬يمكــن أن‬
‫يشترى بها كنزا ً من الكنوز ل يتناهى نعيمــه أبــد‬
‫البــاد ‪ ،‬فإضــاعة هــذه النفــاس ‪ ،‬أو اشــتراء‬
‫صاحبها بها مما يجلب هلكــه خســران عظيــم ل‬
‫يسمح بمثله إل أجهل النــاس وأحمقهــم وأقلهــم‬
‫عقل ً ‪ ،‬وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يــوم‬
‫س‬
‫فق ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جدُ ك ُق ّ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫و َ‬ ‫التغابن ‪ ،‬قال تعالى‪  :‬ي َ ْ‬
‫من‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫ضًرا َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬
‫ر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خي ْ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬‫ع ِ‬‫ما َ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دا ‪‬‬ ‫عيقق ً‬ ‫دا ب َ ِ‬
‫م ً‬
‫هأ َ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬ ‫ها َ‬ ‫ن ب َي ْن َ َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫ودّ ل َ ْ‬‫ء تَ َ‬‫و ٍ‬
‫س َ‬
‫ُ‬
‫)آل عمران ‪ :‬من الية ‪. (30‬‬

‫ومحاسبة النفققس نوعققان ‪ :‬نــوع مــن‬


‫قبل العلم ونوع بعده ‪:‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫أما النوع الول ‪ :‬فهو أن يقف عنــد أول‬
‫مه وإرادته ‪ ،‬ول يبــادر بالعمــل حــتى يتــبين لــه‬‫ه ّ‬
‫ه على تركه ‪.‬‬ ‫رجحان ُ‬

‫قال الحسن رحمه الله ‪ " :‬رحم الله عبدا ً وقف‬


‫عند همه‪ ،‬فإن كان لله أمضاه ‪ ،‬وإن كان لغيــره‬
‫تأخر "‬

‫وشــرح بعضــهم هــذا فقــال ‪ :‬إذا تحركــت‬


‫م به العبد‪ ،‬وقــف‬ ‫النفس لعمل من العمال‪ ،‬وه ّ‬
‫أول ً ونظر ‪ :‬هل ذلك العلم مقدور عليه‪ ،‬أو غيــر‬
‫مقدور ‪ ،‬ول مستطاع ‪ ،‬فإن لم يكن مقــدور لــم‬
‫يقدم عليه‪ ،‬وإن كان مقدورا ً عليــه وقــف وقفــة‬
‫ه خير لــه مــن تركــه‪ ،‬أم‬ ‫أخرى ‪ ،‬ونظر ‪ :‬هل فعل ُ‬
‫تركه خير له من فعلــه‪ ،‬فــإن كــان الثــانى تركــه‬
‫ولــم يقــدم عليــه ‪ ،‬وإن كــان الول وقــف وقفــة‬
‫ثالثة ‪ :‬هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل‬
‫وثــوابه ‪،‬أم إرادة الجــاه والثنــاء والمــال مــن‬
‫المخلــوق ‪ ،‬فــإن كــان الثــانى لــم يقــدم ‪ ،‬وإن‬
‫أفضــى بــه إلــى مطلــوبه ‪ ،‬لئل تعتــاد النفــس‬
‫الشرك ‪ ،‬ويخف عليها العمل لغير اللــه ‪ ،‬فبقــرد‬
‫ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعــالى‬
‫حتى يصير أثقــل شــىء عليهــا ‪ ،‬وإن كــان الول‬
‫وقف وقفة أخرى‪ :‬ونظر هل هو معان عليه وله‬

‫‪- 101 -‬‬


‫أعــوان يســاعدونه وينصــرونه إذا كــان العمــل‬
‫محتاج إلى ذلك أم ل ؟ فإن لم يكــن لــه أعــوان‬
‫أمســك عنــه كمــا أمســك النــبى ‪ r‬عــن الجهــاد‬
‫بمكة حتى صار له شــوكة وأنصــار ‪ ،‬وإن وجــده‬
‫معانا ً عليه فليقدم عليه فإنه منصور بإذن اللــه ‪،‬‬
‫ول يفوت النجاح إل من فــوت خصــلة مــن هــذه‬
‫الخصال ‪ ،‬وإل فمع اجتماعهــا ل يفــوته النجــاح ‪،‬‬
‫فهذه أربعة مقامات يحتاج العبــد إلــى محاســبة‬
‫نفسه عليها قبل العمل ‪.‬‬

‫والنققوع الثققانى‪ :‬محاســبة النفــس بعــد‬


‫العمل وهو ثلثة أنواع ‪:‬‬

‫أحقدها ‪ :‬محاســبتها علــى طاعــة قصــرت‬


‫فيها من حق الله تعالى‪ ،‬فلم توقعها على الوجه‬
‫الذى ينبغى وحق الله فى الطاعة ستةأمور هى‬
‫‪ : :‬الخلص فى العمــل ‪ ،‬والنصــيحة للــه فيــه ‪،‬‬
‫ومتابعة الرسول ‪ ،r‬وشــهود مشــهد الحســان ‪،‬‬
‫وشهود منة الله عليه ‪ ،‬وشهود تقصيره فيه بعد‬
‫ذلــك كلــه ‪ ،‬فيحاســب نفســه هــل وفــى هــذه‬
‫المقامــات حقهــا ؟ وهــل اتــى بهــا فــى هــذه‬
‫الطاعة ؟ ‪.‬‬
‫الثققانى ‪ :‬أن يحاســب نفســه علــى كــل‬
‫عمل كان تركه خيرا ً له من فعله‪.‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫الثالث ‪ :‬أن يحاسب نفسه على أمر مباح‬
‫لم فعله‪ ،‬وهل أراد به الله تعالى والــدار الخــرة‬
‫فيكـــون رابحـــا ً ‪ ،‬أو أراد بـــه الـــدنيا وعاجلهـــا ‪،‬‬
‫فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به ‪.‬‬

‫وآخر ما عليــه الهمــال‪ ،‬وتــرك المحاســبة‪،‬‬


‫والسترسال ‪ ،‬وتسهيل المور وتمشــيتها ‪ ،‬فــإن‬
‫هــذا يــؤول بــه إلــى الهلك‪ ،‬وهــذه حــال أهــل‬
‫الغــرور‪ ،‬يغمــض الواحــد عينيــه عــن العــواقب‬
‫ويتكــل علــى العفــو ‪ ،‬فيهمــل محاســبة نفســه‬
‫والنظر فى العاقبة ‪ ،‬وإذا فعل ذلك ســهل عليــه‬
‫مواقعة الذنوب وأنس بها وعسر عليه فطامها‪.‬‬

‫وجماعُ ذلــك أن يحاســب نفســه أول ً علــى‬


‫الفرائض فإن تذكر فيها نقصا ً تداركه إما بقضاء‬
‫أو إصلح‪ ،‬ثم يحاسبها على المناهى فإن عــرف‬
‫أنـــه ارتكـــب منهـــا شـــيئا ً تـــداركه بالتوبـــة‬
‫والســتغفار ‪ ،‬والحســنات الماحيــة ثــم يحاســب‬
‫خلــق‬‫نفسه على الغفلة‪ ،‬فإن كان قد غفل عما ُ‬
‫له تداركه بالذكر والقبال على اللــه تعــالى‪ ،‬ثــم‬
‫يحاسبها بمـا تكلــم بـه‪ ،‬أو مشـت بـه رجله ‪ ،‬أو‬
‫بطشت يداه‪ ،‬أو سمعته أذناه‪ ،‬ماذا أردت بهذا ‪،‬‬
‫ولم فعلُته ؟ ولمن فعلته‪ ،‬وعلى أى وجه فعلته‪،‬‬
‫ويعلــم أنــه لبــد أن ينشــر لكــل حركــة وكلمــة‬
‫ديوانان ‪ :‬لمن فعلته ؟ وكيف فعلت َــه ؟ فــالول ‪:‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫ســؤال عــن الخلص ‪ ،‬والثــانى ‪ :‬ســؤال عــن‬
‫سققَألَ‬
‫ْ‬ ‫المتابعـــة ‪ ،‬قـــال اللـــه تعـــالى ‪ِ  :‬ليَ‬
‫م ‪) ‬الحزاب ‪ :‬من‬ ‫ه ْ‬
‫ق ِ‬
‫د ِ‬
‫عن صِ ْ‬ ‫قينَ َ‬ ‫اد ِ‬
‫الص ِ‬
‫ّ‬
‫الية ‪. (8‬‬

‫فـــإذا ســـُئل الصـــادقون عـــن صـــدقهم‪،‬‬


‫وحوسبوا على صدقهم ‪ ،‬فما الظن بالكاذبين ‪.‬‬

‫فوائد محاسبة النفس‬

‫‪ – 1‬الطلع على عيوب نفســه ‪ :‬ومــن لــم‬


‫يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتهــا ‪ ،‬قــال‬
‫يونس بن عبيــد‪ " :‬إنــى لجــد مــائة خصــلة مــن‬
‫خصال الخير ما أعلم أن فى نفسى منها واحدة‬
‫"‪.‬‬

‫وقال محمد بــن واســع ‪ :‬لــو كــان للــذنوب‬


‫ى‪.‬‬ ‫ح ما قدر أحد أن يجلس إل ّ‬‫ري ٌ‬

‫وعن أبى الــدرداء قــال‪ " :‬ل يفقــه الرجــل‬


‫كل الفقه حتى يمقت النـاس فـى جنـب اللـه ‪،‬‬
‫ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتا ً " ‪.‬‬

‫‪ -3‬أن يعرف حــق اللــه تعــالى عليــه‪ ،‬فــإن‬


‫ذلـــك يـــورثه مقـــت نفســـه ‪ ،‬والزراء عليهـــا‬

‫‪- 104 -‬‬


‫ويخلصه من العجــب ورؤيــة العمــل ‪ ،‬ويفتــح لــه‬
‫باب الخضوع والذل والنكسار بيــن يــدى ربــه ‪،‬‬
‫واليأس من نفسه ‪ ،‬وأن النجاة ل تحصــل لــه إل‬
‫بعفو الله ومغفرته ورحمته ‪ ،‬فــإن مــن حقــه أن‬
‫يطاع فل يعصى وأن يذكر فل ُينسى وأن ُيشــكر‬
‫فل ُيكفر ‪.‬‬
‫‪ - 8‬الصبر والشكر‬

‫فلمــا كــان اليمــان نصــفين فنصــف صــبر‬


‫ونصف شكر‪ ،‬كان حقيقا ً على مــن نصــح نفســه‬
‫وأحب نجاتهــا وآثــر ســعادتنها أن ليهمــل هــذين‬
‫الصلين العظيمين‪ ،‬وأن يجعل ســيره إلــى اللــه‬
‫عــز وجــل فــى هــذين الطريقيــن القاصــدين ‪،‬‬
‫ليجعله الله يوم القيامة مع خير الفريقين ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬الصبر‬
‫فضائله ‪:‬‬

‫أن الله سبحانه جعل الصبر جوادا ً ليكبــو ‪،‬‬


‫وصــارما ً لينبــو ‪ ،‬وجنــدا ً غالب ـا ً ليهــزم ‪ ،‬وحصــنا ً‬
‫حصينا ً ليهــدم‪ ،‬فهــو والنصــر أخــوان شــقيقان ‪،‬‬
‫وقد مدح الله عــز وجــل فــى كتــابه الصــابرين ‪،‬‬
‫وأخبر أنه يؤتيهم أجرهــم بغيــر حســاب ‪ ،‬وأخــبر‬
‫أنــه معهــم بهــدايته ونصـــره العزيــز‪ ،‬وفتحــه‬
‫ن‬ ‫ص قب ُِروا ْ إ ِ ّ‬
‫وا ْ‬
‫َ‬ ‫المــبين ‪ ،‬فقـــال تعـــالى ‪ :‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫ن ‪) ‬النفــال ‪ :‬مــن اليــة‬
‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫ع ال ّ‬
‫م َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َ‬
‫‪(46‬‬

‫فظفر الصابرون بهذه المعيــة بخيــر الــدنيا‬


‫والخرة‪ ،‬ففازوا بها ينعمــه الباطنــة والظــاهرة ‪،‬‬
‫وجعل سبحانه المامة فى الدين منوطة بالصبر‬
‫واليقيــــن فقــــال تعــــالى – وبقــــوله اهتــــدى‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ة يَ ْ‬
‫م ً‬‫م أئ ِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل َْنا ِ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫المهتدون ‪َ  : :‬‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫قُنققو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنققا ُيو ِ‬ ‫و َ‬‫صب َُروا َ‬‫ما َ‬ ‫رَنا ل َ ّ‬
‫م ِ‬ ‫ب ِأ ْ‬
‫‪) ‬السجدة ‪ :‬الية ‪(24‬‬
‫وأخبر تعـالى أن الصبر خي ـٌر لهلــه مؤكــدا ً‬
‫م‬ ‫صب َْرت ُ ْ‬‫ول َِئن َ‬ ‫َ‬ ‫بــاليمين ‪ ،‬فقـــال تعــالى ‪ :‬‬
‫ن ‪) ‬النحــل ‪ :‬مــن اليــة‬ ‫صاِبري َ‬‫خي ٌْر ّلل ّ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫لَ ُ‬
‫‪(126‬‬

‫وأخبر أن مع الصــبر والتقــوى ل يضــر كيـد ٌ‬


‫العـدو ولـو كـان ذا تسـليط ‪ ،‬فقـال تعــالى ‪ :‬‬
‫م‬ ‫م ك َي ْ قدُ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫قققوا ْ ل َ ي َ ُ‬
‫ض قّرك ُ ْ‬ ‫ص قب ُِروا ْ َ‬
‫وت َت ّ ُ‬ ‫وِإن ت َ ْ‬ ‫َ‬
‫حيققط ‪) ‬آل‬ ‫ٌ‬ ‫م ِ‬
‫ن ُ‬‫ملققو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬‫شي ًْئا إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫عمران ‪ :‬من الية ‪(120‬‬

‫وعلـــق الفلح بالصـــبر والتقـــوى‪ ،‬فقـــال‬


‫ص قب ُِروا ْ‬ ‫َ‬
‫من ُققوا ْ ا ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫هققا ال ّق ِ‬
‫تعالى ‪َ  :‬يا أي ّ َ‬
‫م‬ ‫عل ّ ُ‬
‫كقق ْ‬ ‫ه لَ َ‬
‫قققوا ْ الّلقق َ‬‫وات ّ ُ‬‫وَراب ِطُققوا ْ َ‬ ‫صققاب ُِروا ْ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن ‪) ‬آل عمران ‪ :‬الية ‪(200‬‬ ‫حو َ‬ ‫ْ‬
‫ت ُفل ِ ُ‬

‫‪- 106 -‬‬


‫وأخبر عن محبته لهله ‪ ،‬وفى ذلــك أعظــم‬
‫والل ّ ق ُ‬
‫ه‬ ‫ترغيــب للراغــبين‪ ،‬فقــال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫ن ‪) ‬آل عمــران ‪ :‬مــن اليــة‬ ‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫ب ال ّ‬‫ح ّ‬
‫يُ ِ‬
‫‪(146‬‬

‫شر الصابرين بثلث كــل منهــا خيــر ممــا‬ ‫وب ّ‬


‫عليه أهل الدنيا يتحاسدون ‪ :‬فقال تعالى ‪ : :‬‬
‫هم‬ ‫شقققر الصقققابرين ال ّقققذين إ َ َ‬ ‫وب َ ّ‬
‫صقققاب َت ْ ُ‬
‫ذا أ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫جعققو َ‬ ‫ه َرا ِ‬ ‫َ‬
‫وإ ِّنقققا إ ِلي ْق ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫قالوا إ ِّنا ل ِلق ِ‬ ‫ُ‬ ‫ة َ‬ ‫صيب َ ٌ‬‫م ِ‬ ‫ّ‬
‫ة‬
‫مق ٌ‬‫ح َ‬ ‫وَر ْ‬ ‫م َ‬ ‫هق ْ‬‫من ّرب ّ ِ‬ ‫ت ّ‬ ‫وا ٌ‬ ‫صل َ َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬
‫ك َ َ‬ ‫ُأوَلقئ ِ َ‬
‫ن ‪) ‬البقــرة ‪ :‬مــن‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫وُأوَلقئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫الية ‪ 155‬والية ‪(157 ،156‬‬

‫وجعل الفــوز بالجنــة ‪ ،‬والنجــاة مــن النــار‪،‬‬


‫ل‪::‬‬ ‫ليحظى به إل الصابرون‪ ،‬فقال عز وجــ ّ‬
‫َ‬
‫م‬‫هقق ُ‬
‫م ُ‬‫هقق ْ‬‫صب َُروا أن ّ ُ‬
‫ما َ‬
‫م بِ َ‬ ‫م ال ْي َ ْ‬
‫و َ‬ ‫ه ُ‬
‫جَزي ْت ُ ُ‬
‫إ ِّني َ‬
‫ن ‪) ‬المؤمنون ‪ :‬الية ‪(111‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫فائ ُِزو َ‬

‫وخــص فــى النتفــاع بآيــاته أهــل الصــبر ‪،‬‬


‫وأهل الشكر ‪ ،‬تمييزا ً لهم بهذا الحظ الموفــور ‪،‬‬
‫فقال فى أربــع آيــات مــن كتــابه جــل وعل ‪ :‬‬
‫ر‪‬‬ ‫شقق ُ‬
‫كو ٍ‬ ‫ر َ‬
‫صققّبا ٍ‬
‫ل َ‬ ‫ت لّ ُ‬
‫كقق ّ‬ ‫في ذَل ِ َ‬
‫ك لَيا ٍ‬ ‫ن ِ‬
‫إِ ّ‬
‫)من اليــات ‪ :‬إبراهيــم ‪ ، 5 :‬لقمــان ‪ ، 31‬ســبأ‬
‫‪ ، 19‬الشورى ‪(33‬‬

‫‪- 107 -‬‬


‫والصبر آخية المؤمن التى يجول ثــم يرجــع‬
‫إليهــا ‪ ،‬وســاقُ إيمــانه الــتى ل اعتمــاد لــه إل‬
‫عليهــا ‪ ،‬فل إيمــان لمــن ل صــبر لــه‪ ،‬وإن كــان‬
‫فإيمان قليل فى غاية الضعف ‪ ،‬وصـاحبه ممـن‬
‫يعبد الله على حرف ‪ ،‬فإن أصــابه خيــر اطمــأن‬
‫ة انقلــب علــى وجهــه خســر‬ ‫به‪ ،‬وإن أصابته فتنـ ٌ‬
‫الــدنيا والخــرة ‪ ،‬ولــم يحــظ منهــا إل بالصــفقة‬
‫الخاسرة ‪ ،‬فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم‪،‬‬
‫وترقوا إلى أعلــى المنــازل بشــكرهم فســاروا‬
‫بين جناحى الصبر والشكر إلــى جنــات النعيــم ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ه ُيق ْ‬
‫ؤِتي ِ‬ ‫ل الّلق ِ‬ ‫ضق ُ‬‫ف ْ‬‫ك َ‬ ‫لقوله تعــالى ‪  :‬ذَِلق َ‬
‫ظي قم ِ ‪‬‬ ‫ع ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬‫ضق ِ‬‫ف ْ‬‫ذو ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫والل ّ ق ُ‬ ‫من ي َ َ‬
‫شققاء َ‬ ‫َ‬
‫)الحديد ‪ :‬من الية ‪(21‬‬

‫معنى الصبر وحقيقتة‬

‫الصبر لغة ‪ :‬هو المنع والحبس ‪ ،‬وشــرعا ً‬


‫فهــو حبــس النفــس عــن الجــزع واللســان عــن‬
‫التشــكى‪ ،‬والجــوارح عــن لطــم الخــدود وشــق‬
‫الجيوب‪ ،‬ونحوهما ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬هو خلق فاضل مــن أخلق النفــس‬


‫يمتنع به من فعل ما ل يحسن ول يجمــل ‪ ،‬وهــو‬

‫‪- 108 -‬‬


‫قـوة مـن قـوى النفـس الـتى بهـا صـلح شـأنها‬
‫وقوام أمرها ‪.‬‬
‫سئل عنه الجنيد فقــال ‪ " :‬تجــرع المــرارة‬
‫من غير تعبس " ‪.‬‬

‫وقال ذو النون المصرى‪ " :‬هو التباعد عــن‬


‫غصص البلية‪،‬‬ ‫المخالفات ‪ ،‬والسكون عند تجرع ُ‬
‫وإظهــار الغنــى مــع الحلــول الفقــر بســاحات‬
‫المعيشة "‪.‬‬

‫وقيــل ‪ " :‬الصــبر هــو الوقــوف مــع البلء‬


‫بحسن الدب " ‪.‬‬

‫وقيل ‪ " :‬هو الغنــى فــى البلــوى بل ظهــور‬


‫شكوى " ‪.‬‬

‫ورأى أحد الصالحين رجل ً يشتكى إلى أخيه‬


‫فقال له ‪ :‬ياهذا ‪ ،‬والله ما زدت على أن شكوت‬
‫من يرحمك إلى من ل يرحمك ‪.‬‬

‫وقيل فى ذلك ‪:‬‬

‫وإذا شقققكوت إلقققى ابقققن آدم إنمقققا‬


‫م‬
‫تشكى الرحيم إلى الذى ليرح ُ‬

‫‪- 109 -‬‬


‫والشكوى نوعان‪ :‬شكوى إلى الله عــز‬
‫وجل وهذه ل تنافى الصبر ‪ ،‬كقول يعقوب ‪‬‬
‫ه‪‬‬ ‫حْزِني إ َِلى الل ّ ِ‬ ‫كو ب َّثي َ‬
‫و ُ‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫ش ُ‬ ‫‪ : ‬إ ِن ّ َ‬
‫)يوســف ‪ :‬مــن اليــة ‪ (86‬مــع قــوله ‪ : :‬‬
‫ل ‪) ‬يوسف ‪ :‬من الية ‪(83‬‬ ‫مي ٌ‬ ‫ج ِ‬ ‫صب ٌْر َ‬ ‫َ‬
‫ف َ‬

‫والنوع الثانى ‪ :‬شكوى المبتلــى بلســان‬


‫الحال أوالمقال‪ ،‬فهذه لتجامع الصبر بل تضــاده‬
‫وتبطله ‪.‬‬

‫وســاحة العافيــة أوســع للعبــد مــن ســاحة‬


‫الصبر ‪ ،‬ول يناقض هذا قوله ‪ : r‬وما أعطــا أحــد‬
‫عطاءا ً خيرا ً وأوسع من الصبر " ‪ ،‬فإن هــذا بعــد‬
‫نزول البلء فساحة الصبر أوسع الساحات ‪ ،‬أمــا‬
‫قبل نزوله فساحة العافية أوسع ‪.‬‬

‫والنفس مطية العبد التى يسير عليهــا إلــى‬


‫الجنــة أو النــار‪ ،‬والصــبر لهــا بمنزلــة الخطــام‬
‫والزمام للمطية ‪ ،‬فإن لم يكــن للمطيــة خطــام‬
‫ول زمام شردت فى كــل مــذهب ‪ ،‬وحفــظ مــن‬
‫خطب الحجــاج‪ " :‬إقــدعوا هــذه النفــوس فإنهــا‬
‫طلعة إلى كل ســوء ‪ ،‬فرحــم اللــه امــرءا ً جعــل‬
‫لنفســه خطام ـا ً وزمام ـا ً فقادهــا بخاطمهــا إلــى‬
‫طاعة الله ‪ ،‬وصرفها بزمامها عن معاصى اللــه‪،‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫فإن الصبر عن محــارم اللــه أيســر مــن الصــبر‬
‫على عذابه ‪.‬‬
‫والنفــس لهــا قوتــان‪ :‬قــوة القــدام وقــوة‬
‫الحجــام ‪ .. ،‬فحقيقــة الصــبر أن يجعــل قــوة‬
‫القدام مصروفة إلى ما ينفعــه‪ ،‬وقــوة الحجــام‬
‫إمساكا عما يضره ‪ ،‬ومن الناس من يصبر علـى‬
‫قيــام الليــل ومشــقة الصــيام ‪ ،‬ول يصــبر علــى‬
‫نظرة محرمة ‪ ،‬ومنهم مــن يصــبر علــى النظــر‬
‫واللتفات إلى الصور ‪ ،‬ول صبر له علــى المــر‬
‫بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد ‪.‬‬

‫وقيل ‪ :‬الصبر شجاعة النفس ‪ ،‬ومن ها هنا‬


‫أخذ القائل قــوله ‪ " :‬الشــجاعة صــبر ســاعة " ‪،‬‬
‫والصــبر والجــزع ضــدان ‪ ،‬كمــا أخــبر ســبحانه‬
‫عل َي َْنققآ‬
‫واء َ‬ ‫سقق َ‬
‫َ‬ ‫وتعــالى عــن أهــل النــار‪ :‬‬
‫ص‪‬‬ ‫حيق‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫مقن‬ ‫نقا‬
‫َ‬ ‫مقا ل َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ب‬‫صق‬ ‫م‬ ‫عَنا أ َ‬
‫ْ‬ ‫ز‬ ‫ج‬ ‫أَ‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫)إبراهيم ‪ :‬من الية ‪(21‬‬

‫أقسام الصبر باعتبار متعلقه‬

‫والصبر باعتبار متعلقة ثلثة أقســام ‪ :‬صــبر‬


‫على الوامر والطاعات حتى يؤديها ‪ ،‬وصبر عن‬
‫المنـــاهى والمخالفـــات حـــتى ل يقـــع فيهـــا‪،‬‬
‫وصــبرعلى القضــية حــتى ليتســخطها‪ ،‬وهــذه‬
‫القسام هى التى قيل فيها ‪:‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫" لبد للعبد من أمر يفعله ‪ ،‬ونهى يجتنبــه‪،‬‬
‫وقدر يصبر عليه "‪.‬‬

‫والصـــــبر أيضـــــا ً نوعـــــان ‪ :‬اختيـــــارى‬


‫واضـــــطرارى ‪ ،‬والختيـــــارى أكمـــــل مـــــن‬
‫الضــطرارى ‪ ،‬فــإن الضــطرارى يشــترك فيــه‬
‫النـــاس ويتـــأنى ممـــن ل يتـــأتى منـــه الصـــبر‬
‫الختيارى ولــذلك كــان صــبر يوســف ‪ ‬عــن‬
‫مطاوعة امرأة العزيز أعظم من صبره على مــا‬
‫ناله من إخوته لما ألقوه فى الجب ‪.‬‬

‫فالنسان ل يستغنى عن الصــبر فــى حــال‬


‫من الحــوال لنــه يتقلــب بيــن أمــر يجــب عليــه‬
‫امتثــاله وتنفيــذه ‪ ،‬ونهــى يجــب عليــه اجتنــابه‬
‫وتركه‪ ،‬وقدر يجــرى عليــه اتفاقــا ‪،‬ونعمــة يجــب‬
‫شكر المنعم بها عليه وإذا كانت هذه الحــوال ل‬
‫تفارقه ‪ ،‬فالصبر لزم له إلى الممات ‪.‬‬

‫وكل ما يلقى العبد فـى هـذه الـدار ليخلـو‬


‫من نوعين ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬يوافق هواه ومراده ‪.‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫والخر ‪ :‬يخالفه ‪،‬وهو محتــاج إلــى الصــبر‬
‫فــى كــل منهمــا ‪ ،‬أمــا النــوع الموافــق لغرضــه‬
‫كالصحة ‪،‬والجــاه ‪ ،‬والمــال ‪ ،‬فهــو أحــوج شــىء‬
‫إلى الصبر فيها من وجوه ‪:‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أن ليركن إليها ‪ ،‬ول يغــتر بهــا ‪،‬‬


‫ول تحمله على البطر ‪ ،‬والفـرح المـذموم الـذى‬
‫ليحب الله أهله ‪.‬‬

‫والثانى ‪ :‬أن ل ينهمك فى نيلها ‪.‬‬

‫والثالث ‪ :‬أن يصــبر علــى أداء حــق اللــه‬


‫فيها ‪.‬‬

‫والرابققع‪ :‬أن يصـــبر عـــن صـــرفها مـــن‬


‫الحرام‪ ،‬قال بعض السلف ‪ " :‬البلء يصبر عليــه‬
‫المــؤمن والكــافر‪ ،‬ول يصــبر علــى العافيــة إل‬
‫الصديقون "‪.‬‬

‫وقــال عبــد الرحمــن بــن عــوف ‪ :‬ابتلينــا‬


‫بالضراء فصبرنا ‪ ،‬وابتلينا بالسراء فلم نصبر !!‪،‬‬
‫ولذلك يحذر الله عباده من فتنة المال ‪،‬والزواج‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫هققا ال ّ ق ِ‬‫والولد ‪ .‬فقــال تعــالى ‪  :‬ي َققا أي ّ َ‬
‫َ‬ ‫آمُنوا ل ت ُل ْهك ُ َ‬
‫عققن‬ ‫م َ‬ ‫وَلدُك ُق ْ‬ ‫ول أ ْ‬ ‫وال ُك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م َ‬
‫مأ ْ‬‫ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ه ‪) ‬المنافقون ‪ :‬من الية ‪(9‬‬ ‫ّ‬ ‫ِذك ْ ِ‬
‫ر الل ِ‬

‫‪- 113 -‬‬


‫أما النوع الثققانى المخققالف للهققوى ‪:‬‬
‫فل يخلو إما أن يرتبط باختيار العبــد كالطاعــات‬
‫والمعاصى‪ ،‬أو ل يرتبط أوله باختياره كالمصائب‬
‫‪ ،‬أو يرتبط أوله باختياره ولكن ل اختيار له فــى‬
‫إزالته بعد الدخول فيه‪.‬‬

‫فها هنا ثلثة أقسام ‪:‬‬

‫القسم الول ‪:‬‬

‫ما يرتبط باختياره ‪ ،‬وهو جميع أفعاله الــتى‬


‫توصف بكونهــا طاعــة أو معصــية فأمــا الطاعــة‬
‫فالعبــد محتــاج إلــى الصــبر عليهــا لن النفــس‬
‫بطبعها تنفر عــن كــثير مــن العبوديــة‪ ،‬أمــا فــى‬
‫الصلة فلما فيها من الكســل وإيثــار لراحــة ل‬
‫ســيما إذ اتفــق مــع ذلــك قســوة القلــب‪ ،‬وريــن‬
‫الذنب والميل إلــى الشــهوات ‪ ،‬ومخالطــة أهــل‬
‫الغفلة ‪.‬‬

‫وأمــا الزكــاة فلمــا فــى طبــع النفــس مــن‬


‫الشح والبخل ‪ ،‬وكذلك الحــج‪ ،‬والجهــاد للمريــن‬
‫جميعــا ً ‪ ،‬ويحتــاج العبــد إلــى الصــبر فــى ثلثــة‬
‫أحــوال‪ :‬قبــل الشــروع فــى الطاعــة ‪ ،‬وذلــك‬
‫بتصحيح النيـة ‪ ،‬والخلص فـى الطاعـة ‪ ،‬وحيــن‬

‫‪- 114 -‬‬


‫الشروع فى الطاعة ‪ ،‬وذلك بالصبر على دواعى‬
‫التقصير والتفريط ‪ ،‬واستصحاب النية ول يعطله‬
‫قيام الجــوارح بالعبوديــة عــن حضــور قلبــه بيــن‬
‫يديه سبحانه ‪.‬‬

‫والثالثــة بعــد الفــراغ مــن الطاعــة ‪ ،‬وذلــك‬


‫بالصــبر علــى مــا يبطلهــا ‪ ،‬فليــس الشــأن فــى‬
‫التيان بالطاعة ‪ ،‬وإنما الشأن فى حفظهــا ممــا‬
‫يبطلها‪ ،‬فيصبر عن رؤيتها والعجب بهــا والتكــبر‪،‬‬
‫وكذلك يصبر عــن نقلهـا مــن ديــوان الســر إلــى‬
‫ديوان العلنية ‪ ،‬فإن العبد يعمل العمل سرا ً بينه‬
‫وبين الله ســبحانه‪ ،‬فيكتــب فــى ديــوان الســر ‪،‬‬
‫فإن تحدث به نقل من ديوان السر إلــى ديــوان‬
‫العلنيــة‪ ،‬فل يظــن أن بســاط الصــبر انطــوى‬
‫بالفراغ من العمل‪.‬‬

‫أما الصــبر عــن المعاصــى فــأمره ظــاهر ‪،‬‬


‫وأعظـــم مــا يعيــن عليــه قطـــع المألوفـــات ‪،‬‬
‫ومفارقة العوان عليه فى المجالسة والمحادثة‬
‫‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫القسم الثانى ‪:‬‬

‫مال يدخل تحت الختيار‪ ،‬وليس للعبد حيلة‬


‫فى دفعه كالمصائب‪ ،‬وهى إما أن تكــون ممــا ل‬
‫صنع لدمى فيه كالموت والمــرض والثــانى‪ :‬مــا‬
‫أصابه من جهة آدمى كالسب والضرب ‪.‬‬

‫فالنوع الول‪ :‬للعبد فيه أربعــة مقامــات ‪:‬‬


‫مقام العجز ‪ ،‬وهو الجزع والشــكوى ‪ ,‬والثــانى ‪:‬‬
‫مقام الصبر ‪ ،‬والثالث ‪ :‬مقام الرضى‪ ،‬والرابــع ‪:‬‬
‫مقام الشكر وهو بأن يشهد البلية نعمة فيشــكر‬
‫المبتلى عليها ‪.‬‬

‫وما أصابه من جهــة النــاس فلــه فيــه هــذه‬


‫المقامات مضافا ً إليها أربعة أخر‪ :‬الول ‪ :‬مقــام‬
‫العفو ‪ ،‬والثانى‪ :‬مقام سلمة الصدر مــن إرادة‬
‫التشفى‪ ،‬الثالث‪ :‬مقام القدر ‪ ،‬والرابع ‪ :‬مقــام‬
‫الحسان إلى المسىء ‪.‬‬

‫القسم الثالث‬

‫‪- 116 -‬‬


‫مما يكون وروده باختياره ‪ ،‬فإذا تمكــن منــه لــم‬
‫يكن له اختيار‪ ،‬ول حيلة فى دفعه ‪.‬‬

‫الخبار الواردة فى فضيلة‬


‫الصبر‬
‫عن أم ســلمة قــالت ‪ :‬ســمعت رســول اللــه ‪‬‬
‫يقول ‪ " :‬ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول مــا‬
‫أمــره اللــه ) إنــا للــه وإنــا إليــه راجعــون اللهــم‬
‫أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيرا ً منها ( ‪ ،‬إل‬

‫‪- 117 -‬‬


‫أخلــف اللــه لــه خيــرا ً منهــا‪ ،‬قــالت‪ :‬فلمــا مــات‬
‫أبوســلمة قلــت ‪ :‬أى المســلمين خيـٌر مــن أبــى‬
‫سلمة ‪ ،‬أول بيت هاجر إليه رســول اللــه ‪ ‬ثــم‬
‫إنى قلتها فأخلف الله لى رسول اللــه ‪. " ... ‬‬
‫الحديث)‪. (1‬‬

‫وعن أبى هريرة ‪ ‬أن رسول اللــه ‪ ‬قــال ‪" :‬‬


‫من يرد الله به خيرا ً يصب منه ")‪. (2‬‬

‫وعن عائشة رضى الله عنها قالت ‪:‬قال رســول‬


‫الله ‪ " : ‬ما من مصيبة تصيب المؤمن إل كّفر‬
‫الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها ")‪. (3‬‬

‫وعن أبى موسى ‪ ‬قال ‪ :‬قال رسول الله ‪: ‬‬


‫" إذ مرض العبد أو سافر كتب له مثل مــا كــان‬
‫يعمل مقيما ً صحيحا ً " )‪.(4‬‬

‫عن خباب بن الرت قــال ‪ :‬شــكونا إلــى رســول‬


‫الله ‪ - ‬وهو متوسد ببردة له فى ظــل الكعبــة‬
‫)( رواه مســلم ) ‪،6/220‬ــ ‪ (221‬الجنــائز‪ ،‬ومالــك فــى الموطــأ )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (1/236‬الجنائز ‪ ،‬وأبو داود ) ‪ (3309‬الجنائر بمعنــاه ‪ ،‬وابــن مــاجه )‬


‫‪ (1598‬الجنائر ‪.‬‬
‫)( رواه البخــارى ) ‪ (103 / 10‬المرضــى‪ ،‬ومالــك فــى الموطــأ )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ (2/941‬العين ‪.‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (103 / 10‬المرضى‪ ،‬ومسلم ) ‪ (16/129‬الــبر‬ ‫‪3‬‬

‫والصلة ‪.‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (136 / 6‬الجهاد‪ ،‬وأبو داود ) ‪ (3075‬الجنائز ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫– فقلنا ‪ :‬أل تستنصر لنا ‪ ،‬أل تدعو لنــا ‪ ،‬فقــال ‪:‬‬
‫" قد كان من قبلكم يؤخــذ الرجــل ‪ ،‬فيحفــر لــه‬
‫فـــى الرض ‪ ،‬فيجعــل فيهـــا فيجـــاء بالمنشــار‬
‫فيوضع علــى رأســه فيجعــل نصــفين ‪ ،‬ويمشــط‬
‫بأمشاط الحديد مــن دون لحمــه ‪ ،‬وعظمــه ‪،‬مــا‬
‫يصده ذلك عن دينه‪ ،‬والله ليتمن الله هذا المــر‬
‫حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضــرموت ل‬
‫يخــاف إل اللــه والــذئب علــى غنمــه ‪ ،‬ولكنكــم‬
‫تستعجلون " )‪. (1‬‬

‫الثار ‪ :‬قال بعض السلف ‪ :‬لول مصائب الــدنيا‬


‫لوردنا الخرة من المفاليس " ‪.‬‬

‫قـال سـفيان بـن عيينـة فـى قـوله تعـالى ‪ :‬‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫رن َققا ل َ ّ‬
‫مققا‬ ‫م ِ‬
‫ن ب ِأ ْ‬
‫دو َ‬‫هق ُ‬ ‫ة يَ ْ‬‫مق ً‬‫م أئ ِ ّ‬
‫هق ْ‬ ‫عل ْن َققا ِ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن ‪‬‬ ‫قُنقققو َ‬ ‫كقققاُنوا ِبآَيات َِنقققا ُيو ِ‬ ‫و َ‬ ‫صقققب َُروا َ‬ ‫َ‬
‫)السجدة ‪ :‬من الية ‪(24‬‬

‫لما أخذوا برأس المــر جعلنــاهم رؤوسـا ً ‪ ،‬ولمــا‬


‫أرادوا قطع رجل عروة ابن الزبير قالوا له ‪ :‬لــو‬
‫ســقيناك شــيئا ً كيل تشــعر بــالوجع‪ ،‬قــال ‪ :‬إنمــا‬
‫ابتلنى ليرى صبرى أفأعارض أمره ؟!‬

‫)( رواه البخارى ) ‪ (202 / 7‬مناقب النصار ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫قال عمر بن عبد العزيز‪ " :‬مــا أنعــم اللــه علــى‬
‫عبد نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصــبر إل‬
‫كان ما عوضه خيرا ً مما انتزعه ‪.‬‬

‫ومرض أبو بكر الصديق فعادوه فقالوا‪ :‬أل ندعو‬


‫لك الطبيب‪ ،‬فقال " قد رآنــى الطــبيب‪ ،‬قــالوا ‪:‬‬
‫فأى شىء قال لك ؟ فقال ‪ :‬قال ‪ " :‬إنى فعــال‬
‫ما أريد " ‪.‬‬

‫ورُوى أن ســـعيد بـــن جـــبير قـــال‪ " :‬الصـــبر ‪:‬‬


‫اعتراف العبد لله بما أصابه منه واحتسابه عنــد‬
‫الله ‪ ،‬ورجاء ثوابه ‪ ،‬وقد يجزع العبد وهــو يتجلــد‬
‫ل يرى منه إل الصبر " ‪.‬‬
‫فقققوله‪ :‬اعــتراف العبــد للــه بمــا أصــابه كــأنه‬
‫ه ‪) ‬البقــرة ‪ :‬مــن‬ ‫تفسير لقــوله ‪  :‬إ ِّنا ل ِل ّق ِ‬
‫الية ‪ . (156‬فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه‬
‫مــالكه بمــا يريــد‪ ،‬وراحي ـا ً بهمــا عنــد اللــه كــأنه‬
‫ن‪‬‬ ‫جعقو َ‬ ‫وإ ِّنققا إ ِل َْيق ِ‬
‫ه َرا ِ‬ ‫تفســير لقــوله ‪َ  :‬‬
‫)البقرة ‪ :‬من الية ‪ . (156‬أى نرد إليــه فيجزينــا‬
‫على صبرنا ‪ ،‬ول يضيع أجر المصيبة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشكر‬

‫الشكر ‪ :‬هو الثناء على المنعم بمــا أولكـه مــن‬


‫معروف ‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫وشكر العبد يــدور علــى ثلثــة أركــان – ليكــون‬
‫شـــكرا ً إل بمجموعهمـــا – وهـــى ‪ :‬العـــتراف‬
‫بالنعمة باطنا ً ‪ ،‬والتحدث بها ظاهرا ً والســتعانة‬
‫بها على طاعــة اللــه ‪ ،‬فالشــكر يتعلــق بــالقلب‬
‫واللسان ‪ ،‬والجــوارح ‪ ،‬لســتعمالها فــى طاعــة‬
‫المشكور وكفها عن معاصيه ‪.‬‬

‫وقد قرن الله سبحانه وتعالى الشــكر باليمــان‪،‬‬


‫وأخــبر أنــه ل غــرض لــه فــى عــذاب خلقــه إن‬
‫شــكروا وآمنــوا بهــه ‪ ،‬فقــال تعــالى ‪ّ  :‬‬
‫مققا‬
‫م‪‬‬ ‫منت ُ ْ‬
‫وآ َ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ذاب ِك ُ ْ‬
‫م ِإن َ‬ ‫ع َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ع ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ف َ‬
‫)النساء ‪ :‬من الية ‪(147‬‬

‫وأخــــبر ســــبحانه عــــن أهــــل الشــــكر هــــم‬


‫المخصوصون بمنته عليهم من بين عبادة فقال‬
‫ض‬
‫عق ٍ‬ ‫هم ب ِب َ ْ‬‫ضق ُ‬‫ع َ‬ ‫فت َّنا ب َ ْ‬ ‫ك َ‬‫وك َذَل ِ َ‬ ‫عز وجل ‪َ  :‬‬
‫من ب َي ْن ِن َققا‬ ‫هم ّ‬ ‫ه َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬‫ؤلء َ‬ ‫هق ُ‬ ‫قولوا ْ أ َ َ‬
‫ل ّي َ ُ‬
‫ن ‪) ‬النعــام ‪:‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫عل َ َ‬‫ه ب ِأ َ ْ‬‫س الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫أل َي ْ َ‬
‫الية ‪(53‬‬

‫وقســم النــاس إلــى شــكور وكفــور ‪ ،‬فــأبغض‬


‫الشياء إليه الكفر وأهلــه ‪ ،‬وأحــب الشــياء إليــه‬
‫ه‬ ‫الشكر وأهلــه ‪ ،‬قــال تعــالى ‪  :‬إ ِن ّققا َ‬
‫هقدَي َْنا ُ‬
‫فققوًرا ‪‬‬ ‫مققا ك َ ُ‬‫وإ ِ ّ‬ ‫مققا َ‬
‫شققاك ًِرا َ‬ ‫سققِبي َ‬
‫ل إِ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫)النسان ‪ :‬الية ‪(3‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫م ل َِئن‬ ‫ن َرب ّ ُ‬ ‫َ‬
‫كقق ْ‬ ‫وقـــال تعـــالى ‪َ  :‬‬
‫وإ ِذْ َتققأذّ َ‬
‫ول َِئن ك َ َ‬ ‫َ‬
‫ذاِبي‬ ‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫فْرت ُ ْ‬ ‫زيدَن ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مل ِ‬‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫د ‪) ‬إبراهيم ‪ :‬الية ‪(7‬‬ ‫دي ٌ‬ ‫ش ِ‬ ‫لَ َ‬

‫فعلــق ســبحانه المزيــد بالشــكر ‪ ،‬والمزيــد‬


‫منه ل نهاية له كما ل نهاية لشكره ‪ ،‬وقــد وقــف‬
‫الله سبحانه كثيرا ً من الجزاء على المشيئة ‪.‬‬

‫مققن‬ ‫م الل ّ ق ُ‬
‫ه ِ‬ ‫غِنيك ُ ُ‬
‫ف يُ ْ‬
‫و َ‬
‫س ْ‬ ‫كقوله تعالى‪َ  :‬‬
‫ف َ‬
‫شاء ‪) ‬التوبة ‪ :‬من الية ‪(28‬‬ ‫ه ِإن َ‬
‫ضل ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ف ْ‬

‫شاء ‪‬‬
‫من ي َ َ‬
‫فُر ل ِ َ‬
‫غ ِ‬ ‫وقال فى المغفرة‪َ  :‬‬
‫وي َ ْ‬
‫)المائدة ‪ :‬من الية ‪(40‬‬

‫عَلققى َ‬
‫مققن‬ ‫ب الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫وقال فى التوبة‪َ  :‬‬
‫وي َُتو ُ‬
‫شاء ‪) ‬التوبة ‪ :‬من الية ‪(15‬‬ ‫يَ َ‬

‫وأطلق جزاء الشكر إطلقا ً حيــث ذكــره كقــوله‬


‫ن‬
‫ري َ‬ ‫شققاك ِ ِ‬‫زي ال ّ‬ ‫ج ِ‬‫سن َ ْ‬
‫و َ‬ ‫تـبارك وتعـ‪،‬الى ‪َ  :‬‬
‫‪) ‬آل عمران ‪ :‬من الية ‪(145‬‬
‫ولما عرف عدو الله إبليس قدر مقــام الشــكر ‪،‬‬
‫وأنه من أجل المقامـات وأعلهـا ‪ ،‬يجعـل غـايته‬
‫م‬‫أن يسعى فى قطع الناس عنه ‪ ،‬فقال ‪  :‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫خل ْ ِ‬ ‫َ‬
‫هق ْ‬‫ف ِ‬ ‫ن َ‬‫مق ْ‬
‫و ِ‬
‫م َ‬‫ه ْ‬‫دي ِ‬ ‫ن أي ْ ق ِ‬
‫مققن ب َي ْق ِ‬
‫هم ّ‬
‫لت ِي َن ّ ُ‬

‫‪- 122 -‬‬


‫ع قن أ َ‬
‫د‬
‫جق ُ‬‫ول َ ت َ ِ‬
‫م َ‬‫ه ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫مآ‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫قن‬ ‫ق‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫قا‬
‫ق‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫و َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن ‪) ‬العــراف ‪ :‬مــن اليــة‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫أ َك ْث ََر ُ‬
‫ه ْ‬
‫‪(17‬‬
‫ووصف سبحانه الشاكرين بأنهم قليل من عباده‬
‫كوُر‬‫ش ُ‬ ‫ي ال ّ‬‫عَباِد َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قِلي ٌ‬
‫ل ّ‬ ‫و َ‬ ‫فقال تعالى ‪َ  :‬‬
‫‪) ‬سبأ ‪ :‬من الية ‪(13‬‬

‫وثبت فى الصحيحين عــن النــبى ‪ : ‬أنــه قــام‬


‫حتى تفطرت قدماه فقيل له ‪ :‬أتفعل هــذا وقــد‬
‫غفر الله لــك مــا تقــدم مــن ذنبــك ومــا تــأخر ؟‬
‫قال ‪ " :‬أفل أكون عبدا ً شكورا ً " )‪. (1‬‬

‫وعنه ‪ ‬قال‪ " :‬ان الله ليرضى عن العبد يأكل‬


‫الكلة فيحمده عليها ويشــرب الشــربة فيحمــده‬
‫عليها " )‪. (2‬‬

‫فكان هذا الجزاء العظيم الــذى هــو أكــبر أنــواع‬


‫ن‬
‫مق َ‬
‫ن ّ‬ ‫وا ٌ‬‫ض َ‬
‫ر ْ‬
‫و ِ‬‫الجزاء كمــا قـــال تعـــالى ‪َ  :‬‬
‫ه أ َك ْب َُر ‪) ‬التوبة ‪ :‬من الية ‪. (72‬‬
‫الل ّ ِ‬

‫)( رواه البخارى ) ‪ (41 / 3‬التهجد ‪ .‬ومسـلم ) ‪ (17/162‬صـفات‬ ‫‪1‬‬

‫المنافقين ‪ ،‬والترمذى ) ‪،2/204‬ـ ‪ ، (205‬والنسـائى ) ‪ (3/219‬قيـام‬


‫الليل ‪.‬‬
‫)( رواه مســــلم ) ‪ (17/51‬الـــذكر والـــدعاء ‪ ،‬والترمـــذى ) ‪(8/9‬‬ ‫‪2‬‬

‫الطعمة ‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫فى مقابلة شــكره بالحمــد والشــكر قيــد النعــم‬
‫وسبب المزيد ‪ ،‬قــال عمــر ابــن عبــد العزيــز‪" :‬‬
‫قيدوا نعم الله بشكر الله" وذكر ابن أبى الــدنيا‬
‫ى بن أبى طالب ‪ ‬أنه قــال لرجــل مــن‬ ‫عن عل ّ‬
‫همذان ‪ " :‬أن النعمة موصولة بالشكر والشــكر‬
‫يتعلق بالمزيد ‪،‬وهما مقرونان فــى قــرن ‪ ،‬فلــن‬
‫ينقطع المزيد من الله حتى ينقطــع الشــكر مــن‬
‫العبد " ‪.‬‬

‫وقال الحسن‪ :‬أكثروا من ذكر هذه النعــم‪ ،‬فــإن‬


‫ذكرهــا شــكر‪ ،‬وقــد أمــر اللــه نــبيه أن يحــدث‬
‫ة َرّبقق َ‬
‫ك‬ ‫بنمعمــة ربــه فقــال ‪َ  :‬‬
‫مقق ِ‬
‫ع َ‬
‫مققا ب ِن ِ ْ‬
‫وأ ّ‬
‫َ‬
‫ث ‪) ‬الضحى ‪ :‬الية ‪. (11‬‬ ‫حد ّ ْ‬ ‫َ‬
‫ف َ‬

‫والله تعالى يحب أن يرى أثُر نعمته على عبده ‪،‬‬


‫فإن ذلك شكرها بلسان الحال‪.‬‬

‫وكان أبو المغيرة إذا قيل له‪ :‬كيــف أصــبحت يــا‬


‫أبا محمد ؟ قال ‪ " :‬أصبحنا مغرقين فـى النعــم‪،‬‬
‫ى‬
‫عاجزين عن الشكر‪ ،‬يتحبب إلينا ربنا وهــو غن ـ ٌ‬
‫عنا ‪ ،‬ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون " ‪.‬‬

‫وقال شريح‪ " :‬ما أصــيب عب ـد ٌ بمصــيبة إل كــان‬


‫لله عليه فيها ثلث نعــم ‪ :‬أل تكــون كــانت فــى‬

‫‪- 124 -‬‬


‫دينه ‪ ،‬وأل تكون أعظــم ممــا كــانت‪ ،‬وأنهــا لبــد‬
‫كائنة فقد كانت "‪.‬‬

‫وقال يونس بن عبيد‪ :‬قــال رجــل لبــى تميمــة ‪،‬‬


‫كيف أصبحت ؟ قال ‪ " :‬أصبحت بيــن نعمــتين ل‬
‫ى فل‬ ‫أدرى أيتها أفضل ‪ :‬ذنوب ســترها اللــه عل ـ ّ‬
‫يستطيع أن يعيرنى بها أحد ‪ ،‬ومودة قذفها اللــه‬
‫فى قلوب العباد ل يبلغه‪،‬ا عملى " ‪.‬‬

‫وعــن ســفيان فــى قــوله تبــارك وتعــالى‪ :‬‬


‫ن‪‬‬ ‫عل َ ُ‬
‫مققو َ‬ ‫ث ل يَ ْ‬
‫حْيقق ُ‬
‫ن َ‬‫مقق ْ‬
‫هم ّ‬
‫ج ُ‬
‫ر ُ‬
‫سققت َدْ ِ‬
‫سن َ ْ‬
‫َ‬
‫)القلم ‪ :‬من الية ‪. (44‬‬

‫قال‪ :‬يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر ‪ ،‬وقال‬


‫غير واحد‪ " :،‬كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهــم نعمــة‬
‫"‪.‬‬

‫قال رجل لبى حــازم‪ :‬مــا شــكر العينيــن يــا أبــا‬


‫حازم ؟ فقال‪ :‬إنى رأيت بهما خيرا ً أعلنته‪ ،‬وإن‬
‫رأيت بها شرا ً سترته‪.‬‬

‫قال فما شكر الذنيــن؟ قــال ‪ :‬إن ســمعت‬


‫بهما خيرا ً وعيته‪ ،‬وإن سمعت بهما شرا ً دفعته‪.‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫قال ‪ :‬فما شكر اليدين ؟ قال ل تأخذ بهمــا‬
‫ما ليس لهما ‪ ،‬ول تمنع حقا ً لله هو فيهما ‪.‬‬

‫قال ‪ :‬فما شكر البطن ؟ أن يكــون أســفله‬


‫طعاما وأعله علما ً ‪.‬‬

‫قــال ‪ :‬فمــا شــكر الفــرج ‪ :‬قــال تعــالى ‪ :‬‬


‫عَلى‬ ‫ن ِإل َ‬ ‫ظو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ِ‬ ‫ج‬ ‫فُرو ِ‬ ‫م لِ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫م َ‬
‫ف قإ ِن ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫مققان ُ ُ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َق ْ‬‫مققا َ‬ ‫و َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫هق ْ‬ ‫ج ِ‬‫وا ِ‬ ‫أْز َ‬
‫وَراء ذَِلقق َ‬
‫ك‬ ‫غققى َ‬ ‫ن اب ْت َ َ‬
‫مقق ِ‬ ‫ف َ‬ ‫مين َ‬ ‫مُلققو ِ‬ ‫غْيققُر َ‬ ‫َ‬
‫َ ُ‬
‫دون ‪) ‬المؤمنــون ‪ :‬اليــة‬ ‫م ال ْ َ‬
‫عا ُ‬ ‫ه ُ‬‫ك ُ‬ ‫ول َئ ِ َ‬‫فأ ْ‬
‫‪.(7–5‬‬

‫قال ‪ :‬فما شكر الرجلين ؟ قال ‪ :‬إن علمت ميتا ً‬


‫تغبطه استعملت بهما عملــه‪ ،‬وإن مقتــه رغبــت‬
‫عن عمله وأنت شاكرالله ‪.‬‬

‫وأمــا مــن شــكر بلســانه ‪ ،‬ولــم يشــكر بجميــع‬


‫أعضــائه ‪ ،‬فمثلــه كمثــل رجــل لــه كســاء فأخــذ‬
‫بطرفه ولم يلبسه ‪ ،‬فما ينفعه ذلــك مــن الحــر‪،‬‬
‫والبرد ‪ ،‬والثلج‪ ،‬والمطر ‪.‬‬

‫وكتب بعض العلمــاء إلــى أخ لــه‪ :‬أمــا بعــد فقــد‬


‫أصبح بنا من نعم الله مال نحصيه من كــثرة مــا‬

‫‪- 126 -‬‬


‫سر ‪،‬‬
‫نعصيه‪ ،‬فما ندرى أيهما نشكر‪ ،‬أجميل ما ي َ ّ‬
‫أم قبيح ما ستر ؟ ! ‪.‬‬

‫‪ - 9‬التوكل ‪:‬‬

‫التوكل‪ :‬هو صدق اعتماد القلــب علــى اللــه عــز‬


‫وجل فى استجلب المصالح ودفع المضــار فــى‬
‫أمور الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫عققل‬
‫ج َ‬‫ه يَ ْ‬‫ق الل ّ َ‬
‫من ي َت ّ ِ‬‫و َ‬‫قال الله عز وجل ‪َ  :‬‬
‫ب‬
‫سق ُ‬‫حت َ ِ‬‫ث ل يَ ْ‬ ‫حي ْ ق ُ‬‫ن َ‬‫مق ْ‬‫ه ِ‬ ‫وي َْرُز ْ‬
‫ق ُ‬ ‫جا َ‬
‫خَر ً‬
‫م ْ‬ ‫لّ ُ‬
‫ه َ‬
‫‪) ‬الطلق ‪ :‬من الية ‪. ( 3 ، 2‬‬

‫فمن حقق التقوى والتوكل ‪ ،‬اكتفــى بــذلك‬


‫فى مصالح دينه ودنياه‪.‬‬

‫وعن عمر بن الخطاب ‪ ‬عن النبى ‪ ‬قال ‪" :‬‬


‫لــو أنكـم كنتـم تتوكلـون علــى اللـه حـق تـوكله‬
‫لرزقكم كما ترزق الطيــر تغــدو خماص ـا ً وتــروح‬
‫بطانا ً " )‪ – .(1‬حسن صحيح ‪. -‬‬

‫)( رواه الترمذى ) ‪ (10/208‬الزهد‪ ،‬وقال صــحيح ل نعرفــه إل مــن‬ ‫‪1‬‬

‫هذا الوجه‪ ،‬وابــن مــاجه ) ‪، 64‬ـ ‪ ،( 41‬والحــاكم ) ‪ (4/318‬الرقــاق‪،‬‬


‫وقال صحيح ولم يخرجاه‪ ،‬وصححه اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 127 -‬‬


‫قال أبو حاتم الرازى‪ :‬هــذا الحــديث أصــل فــى‬
‫التوكل وأنه من أعظم السباب الــتى يســتجلب‬
‫بها الرزق ‪.‬‬

‫وقال سعيد ابن جبير‪ " :‬التوكل جماع اليمان" ‪،‬‬


‫وتحقيق التوكل ل ينــافى الخــذ بالســباب الــتى‬
‫قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها‪ ،‬وجـرت‬
‫سنته فــى خلقــه بــذلك ‪ ،‬فــإن اللــه تعــالى أمــر‬
‫بتعاطى السباب‪ ،‬مع أمــره بالتوكــل ‪ ،‬فالســعى‬
‫فــى الســباب بــالجوارح طاعــة للــه‪ ،‬والتوكــل‬
‫َ‬
‫بالقلب عليه إيمان به ‪ ،‬قال تعالى ‪َ  :‬يا أي ّ َ‬
‫ها‬
‫م ‪) ‬النساء ‪ :‬من‬ ‫ذوا ْ ِ‬
‫حذَْرك ُ ْ‬ ‫مُنوا ْ ُ‬
‫خ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫الية ‪. ( 71‬‬

‫قال سهل‪ " :‬من طعن فــى الحركــة يعنــى فــى‬


‫السعى والكسب فقــد طعــن فــى الســنة ‪ ،‬مــن‬
‫طعــن فــى التوكــل فقــد طعــن فــى اليمــان"‪،‬‬
‫ب ســنته فمــن‬ ‫فالتوكــل حــال النــبى ‪ ‬والكسـ ُ‬
‫عمل على حاله فل يتركن سننه ‪.‬‬

‫وقيـــل‪ " :‬عـــدم الخـــذ بالســـباب طعـــن فـــى‬


‫التشــريع‪ ،‬والعتقــاد فــى الســباب طعــن فــى‬
‫التوحيد " ‪.‬‬

‫والعمال التى يعملها العبد ثلثة أقسام ‪:‬‬

‫‪- 128 -‬‬


‫القسم الول‪ :‬الطاعــات الــتى أمــر اللــه بهــا‬
‫عباده‪ ،‬وجعلهــا ســببا ً للنجــاة مــن النــار ودخــول‬
‫الجنة‪ ،‬فهذا لبد من فعله‪ ،‬مع التوكل على اللــه‬
‫عز وجل فيه‪ ،‬والستعانة به عليــه‪ ،‬فــإنه لحــول‬
‫ول قوة إل به‪ ،‬وما شاء سبحانه كان ومالم يشــأ‬
‫صر فى شىء مما وجب عليــه‬ ‫لم يكن ‪ ،‬فمن ق ّ‬
‫من ذلك اســتحق العقوبــة فــى الــدنيا والخــرة‬
‫شرعا ً وقدرا ً ‪.‬‬

‫ل رجل‬ ‫ل عم َ‬‫قال يوسف بن أسباط‪ " :‬قال اعم ْ‬


‫مُله‪ ،‬وتوكل توكل رجــل ليصــيبه إل‬‫لينجيه إل عَ َ‬
‫كتب له " ‪.‬‬ ‫ما ُ‬

‫القسم الثانى‪ :‬ما أجرى اللـه العـادة بـه فــى‬


‫الدنيا وأمر عباده بتعــاطيه كالكــل عنــد الجــوع‪،‬‬
‫والشرب عند العطش‪ ،‬والســتظلل مــن الحــر‪،‬‬
‫والتــدفؤ مــن الــبرد ‪ ،‬ونحــو ذلــك ‪ ،‬فهــذا أيض ـا ً‬
‫صــر‬‫واجب على المرء تعــاطى أســبابه ومــن ق ّ‬
‫فيــه حــتى تضــرر بــتركه – مــع القــدرة علــى‬
‫استعماله – فهو مفرط يستحق العقوبة ‪.‬‬

‫القسم الثالث‪ :‬ما أجرى الله العادة بــه فــى‬


‫الدنيا فى العم الغلب ‪ ،‬وقد يخرق العادة فــى‬
‫ذلك لمن شاء من عباده وهى أنــواع ‪ :‬كالدويــة‬

‫‪- 129 -‬‬


‫مثل ً وقــا اختلــف العلمــاء ‪ :‬هــل الفضــل لمــن‬
‫أصــابه المــرض التــداوى أم تركــه لمــن حقــق‬
‫التوكل على الله ؟‬

‫فيه قولن مشهوران‪ ،‬وظاهر كلم المام أحمــد‬


‫أن التوكل لمن قوى عليه أفضل لمــا صــح عــن‬
‫النــبى ‪ ‬أنــه قــال " يــدخل الجنــة مــن أمــتى‬
‫سبعون ألفا ً بغير حساب ثم قال ‪ :‬هم الــذين ل‬
‫يتطيرون ول يسترقون ول يكتوون وعلــى ربهــم‬
‫يتوكلون ")‪. (1‬‬

‫ومن رجح التداوى قال ‪ :‬إنه حال النبى ‪ ‬الذى‬


‫كــان يــداوم عليــه – وهــو ليفعــل إل الفضــل –‬
‫وحمــل الحــديث علــى الرقــى المكروهــة‪ ،‬الــتى‬
‫يخشى منها الشــرك ‪ ،‬بــدليل أنــه قرنهــا بــالكى‬
‫والطيرة وكلهما مكروه ‪.‬‬

‫قال مجاهد ‪ ،‬وعكرمة ‪ ،‬والَنخعــى ‪ ،‬وغيــر واحــد‬


‫من السلف‪ :‬ل يرخص فى تلك الســبب بالكليــة‬
‫إل لمــن انقطــع قلبــه عــن الستشــراف إلــى‬
‫المخلوقين بالكلية ‪.‬‬

‫)( رواه البخــارى ) ‪ (10/155‬الطــب ‪ (3/88)،‬اليمــان‪ ،‬الترمــذى )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (9/267‬صفة القيامة وفيه زيادة ‪ " :‬مع كل ألف سبعون ألف ـا ً وثلث‬
‫حثيات من حثياته"‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وحسن اللبــانى‬
‫هذه الزيادة ‪.‬‬

‫‪- 130 -‬‬


‫وسئل إسحق بن راهويه‪ :‬هل للرجل أن يدخل‬
‫المفازة بغير زاد؟ فقال ‪ " :‬إن كان الرجل مثل‬
‫عبد الله بن جبير فلــه أن يــدخل المفــازة بغيــر‬
‫زاد‪ ،‬وإل لم يكن له " ‪.‬‬

‫‪ – 10‬محبة الله عز وج ّ‬
‫ل‪:‬‬

‫المحبة لله هى الغاية القصوى مــن المقامــات ‪،‬‬


‫والذروة العليــا مــن الــدرجات ‪ ،‬فمــا بعــد إدراك‬
‫المحبة مقام إل وهو ثمــرة مــن ثمارهــا‪ ،‬وتــابع‬
‫من توابعها كالشوق ‪ ،‬والنس والرضى‪ ،‬ول قبل‬
‫المحبــة مقــام إل وهــو مقدمــة مــن مقــدماتها‬
‫كالتوبة ‪ ،‬والصبر‪ ،‬والزهد‪ ،‬وغيرها ‪.‬‬

‫وأنفع المحبــة علــى الطلق وأوجبهــا‪ ،‬وأعلهــا‪،‬‬


‫وأجلها‪ ،‬محبة من جبلت القلوب علــى محبتــه ‪،‬‬
‫وفطرت الخليقة علــى تــأليهه‪ ،‬فــإن اللــه هــى‬
‫الــــتى تــــألهه القلــــوب بالمحبــــة ‪ ،‬والجلل‪،‬‬
‫والتعظيــم‪ ،‬والــذل لــه ‪ ،‬والخضــوع‪ ،‬والتعبــد‪،‬‬
‫والعبادة ل تصلح إل لــه وحــده ‪ ،‬والعبــادة ‪ :‬هــى‬
‫كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ‪.‬‬

‫ب لذاته من جميع الوجــوه ‪ ،‬ومــا‬ ‫ح ّ‬‫والله تعالى ي ُ َ‬


‫سواه فإنمــا يحــب تبعـا ً لمحبتــه‪ ،‬وقــد دل علــى‬
‫وجــوب محبتــه ســبحانه جميــع كتبــه المنزلــة‪،‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫ودعوة جميع الرسل‪ ،‬وفطرته التى فطر عبــاده‬
‫كب فيهم من العقول‪ ،‬ومــا أســبغ‬ ‫عليها ‪ ،‬وما ر ّ‬
‫عليهم من النعم‪ ،‬فإن القلوب مفطورة مجبولــة‬
‫علــى محبــة مــن أنعــم عليهــا‪ ،‬وأحســن إليهــا‪،‬‬
‫فكيــف بمــن كــل الحســان منــه ‪ ،‬وةمــا يخلقــه‬
‫جميعهم من نعمة فمنه وحده لشريك له ‪ ،‬كمــا‬
‫ن‬
‫مق َ‬ ‫ف ِ‬‫ة َ‬‫مق ٍ‬
‫ع َ‬ ‫ما ب ِك ُققم ّ‬
‫مققن ن ّ ْ‬ ‫و َ‬‫قال تعــالى ‪َ  :‬‬
‫فقإل َيه ت َ َ‬
‫ن‬‫جقأُرو َ‬ ‫ضقّر َ ِ ْ ِ ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫س قك ُ ُ‬
‫م ّ‬
‫ذا َ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫ه ثُ ّ‬
‫م إِ َ‬
‫‪) ‬النحل ‪ :‬الية ‪. ( 53‬‬

‫وما تعرف به إلى عباده مــن أســمائه الحســنى‪،‬‬


‫وصفاته العل‪ ،‬وما دلت عليه آثار مصنوعاته مــن‬
‫كمالته ونهاية جلله وعظمته ‪.‬‬

‫مققن‬ ‫خققذُ ِ‬
‫من ي َت ّ ِ‬‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬‫قال تعالى‪َ  :‬‬
‫دون الّلقق َ‬
‫ب الّلقق ِ‬
‫ه‬ ‫حقق ّ‬ ‫م كَ ُ‬
‫ه ْ‬‫حّبققون َ ُ‬ ‫دادا ً ي ُ ِ‬ ‫ه أنقق َ‬‫ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫َ‬
‫ه ‪) ‬البقرة ‪ :‬من‬ ‫حّبا ل ّل ّ ِ‬ ‫شد ّ ُ‬ ‫مُنوا ْ أ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫الية ‪. ( 165‬‬

‫مُنققوا ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل اّلقق ِ‬ ‫قققو ُ‬ ‫وي َ ُ‬ ‫وقـــال تعـــالى‪َ  :‬‬


‫د‬
‫هققق َ‬ ‫ج ْ‬ ‫ه َ‬ ‫موا ْ ب ِقققالل ّ ِ‬ ‫سققق ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ؤلء ال ّققق ِ‬ ‫هقققق ُ‬ ‫أَ َ‬
‫م‬ ‫مقال ُ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ت أَ ْ‬ ‫طق ْ‬‫حب ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫كق ْ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬‫م لَ َ‬ ‫هق ْ‬‫م إ ِن ّ ُ‬‫ه ْ‬‫ِ‬ ‫مقان ِ‬‫أي ْ َ‬
‫َ‬
‫من ُققوا ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫هققا ال ّ ق ِ‬ ‫ن َيا أي ّ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫خا ِ‬ ‫حوا ْ َ‬ ‫صب َ ُ‬ ‫فأ ْ‬
‫ف ي َقأ ِْتي‬ ‫و َ‬ ‫سق ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬‫عققن ِدين ِق ِ‬ ‫م َ‬ ‫منك ُق ْ‬ ‫من ي َْرت َدّ ِ‬ ‫َ‬
‫علققى‬‫َ‬ ‫ة َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ه أِذل ق ٍ‬ ‫حب ّققون َ ُ‬ ‫وي ُ ِ‬‫م َ‬ ‫هق ْ‬ ‫حب ّ ُ‬ ‫وم ٍ ي ُ ِ‬ ‫قق ْ‬ ‫الل ق ُ‬

‫‪- 132 -‬‬


‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ؤمِنين أ َ‬
‫ن‬
‫دو َ‬‫هق ُ‬‫جا ِ‬
‫ن يُ َ‬ ‫ري َ‬‫ِ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ز‬ ‫ّ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ ِ‬
‫ة لئ ِم ٍ ‪‬‬ ‫م َ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫و َ‬ ‫فو َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ول َ ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ِ‬ ‫سِبي ِ‬
‫في َ‬ ‫ِ‬
‫)المائدة ‪ :‬من اليتين ‪. ( 54 ،53‬‬

‫وقد أقســم النــبى ‪ ‬إنــه‪ " :‬ليــؤمن عبــد حــتى‬


‫يكون هو أحب إليه من ولده‪ ،‬ووالــده ‪ ،‬والنــاس‬
‫أجمعين " )‪. (1‬‬

‫وقـال لعمر بن الخطــاب ‪ " : ‬ل حــتى أكــون‬


‫أحـب إليــك مــن نفســك ")‪ .(2‬أى ل تــؤمن حــتى‬
‫تصل محبتك إلى هذه الغاية ‪.‬‬

‫وإذا كــان النــبى ‪ ‬أولــى بنــا مــن أنفســنا فــى‬


‫ب جل جلله أولى‬ ‫المحبة ولوازمها‪ ،‬أفليس الر ّ‬
‫بمحبته وعبادته من أنفسنا ؟ ‪.‬‬

‫وكل ما منه إلى عبده يدعوه إلــى محبتــه ممــا‬


‫يحب العبد ويكــره‪ ،‬فعطــاؤه ومنعــه‪ ،‬ومعافــاته‪،‬‬
‫وابتلؤه‪ ،‬وقبضـــــــه وبســـــــطه‪ ،‬وعـــــــدله ‪،‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (1/58‬اليمان‪ ،‬وســملم ) ‪ (2/15‬اليمــان‪ ،‬وقــال‬ ‫‪1‬‬

‫الحافظ‪ :‬قوله ‪":‬ليؤمن " أى إيمانا كامل ً ‪.‬وقال القاضى عياض وابــن‬
‫بطال وغيرهما‪ :‬المحبة= =ثلثة أقسام‪ :‬محبة إحلل وإعظام كمحبة‬
‫الوالد‪ ،‬ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد‪ ،‬ومحبـة مشــاكلة وإحســان‬
‫كمحبة سائر الناس‪ ،‬فجمع ‪ ‬أصناف المحبة فى محبته ‪ .‬وقال ابــن‬
‫بطال ‪ :‬ومعنى الحديث ‪ :‬أن من استكمل اليمان علم أن حق النــبى‬
‫‪ ‬آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعيــن لن بــه ‪ ‬اســتنقذنا‬
‫من النار وهدينا من الضلل ‪.‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (11/523‬اليمان والنذور ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫وفضله‪،‬وإماتته وإحياؤه ‪ ،‬وبره ورحمته وإحسانه‬
‫وستره ‪ ،‬وعفوه وحلمــه ‪ ،‬وصــبره علــى عبــده‪،‬‬
‫وإجـابته لـدعائه ‪ ،‬وكشـف كربـه وإغـاثته لهفتـه‬
‫وتفريج كربته‪ ،‬من غير حاجة منه إليه‪ ،‬بــل مــع‬
‫غناه التام عنه من جميع الوجــوه‪ ،‬كــل ذلـك داٍع‬
‫للقلوب إلــى تــأليهه ومحبتــه‪ ،‬فلــو أن مخلوق ـا ً‬
‫فعل بمخلوق أدنى شــىء مــن ذلــك لــم يملــك‬
‫قلبه عن محبته‪ ،‬فكيف ليحب العبد بكل قبلبــه‬
‫وجــوارحه مــن يحســن إليــه علــى الــدوام بعــدد‬
‫النفاس مع إساءته ؟ ‪.‬‬

‫فخيره إليه نــازل ‪ ،‬وشــره إليــه صــاعد‪ ،‬يتحبــب‬


‫إليه بنعمه وهو غنى عنــه‪ ،‬والعبــد يتبغــض إليــه‬
‫بالمعاصى ‪ ،‬وهو فقير إليــه‪ -‬فل إحســانه وبــره‬
‫وإنعامه عليــه يصــده عــن معصــيته‪ ،‬ولمعصــية‬
‫العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه ‪.‬‬
‫وأيضا ً‪ :‬فكل من تحبه من الخلق ويحبــك إنمــا‬
‫يريدك لنفسك‪ ،‬وغرضــه منــك ‪ ،‬واللــه ســبحانه‬
‫وتعالى يريدك لك ‪.‬‬

‫وأيضا ً‪ :‬فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح‬


‫عليك لم يعاملك‪،‬ول بد لــه مــن نــوع مــن أنــواع‬
‫الربح‪ ،‬واللــه تعــالى يعاملــك لتربــح أنــت عليــه‬
‫أعظــم الربـح وأعله ‪ ،‬فالـدرهم بعشـرة أمثــاله‬

‫‪- 134 -‬‬


‫إلــى ســبعمائة ضــعف إلــى أضــعاف كــثيرة‪،‬‬
‫والسيئة بواحدة وهى أسرع شىء محوا ً ‪.‬‬

‫وأيضا ً‪ :‬فهو سبحانه خلقك لنفسه‪ ،‬وخلــق كــل‬


‫شىء لك فى الــدنيا والخــرة‪ ،‬فمــن أولــى منــه‬
‫باستفراغ الوسع فى محبته ‪ ،‬وبذلك الجهــد فــى‬
‫مرضاته ‪.‬‬

‫وأيضا ً‪َ :‬فمطالبك – بــل مطــالب الخلــق كلهــم‬


‫جميعــا ً – لــديه‪ ،‬وهــو أجــود الجــودين‪ ،‬وأكــرم‬
‫الكرمين‪ ،‬أعطى عبده قبل أن يســأله فــوق مــا‬
‫يؤمله‪ ،‬يشكر القليل من العمــل وينميــه‪ ،‬ويغفــر‬
‫ن فــى‬‫مــ ْ‬
‫الكــثير مــن الــذلل ويمحــوه‪ ،‬يســأله َ‬
‫السـموات والرض كـل يـوم هـو فـى شـأن‪ ،‬ل‬
‫يشــغله ســمع عــن ســمع ‪ ،‬ول تغلطــه كــثرة‬
‫المســـائل ‪ ،‬ول يتـــبرم بإلحـــاح الملحيـــن فـــى‬
‫الــدعاء ‪ ،‬ويحــب أن ُيســأل ويغضــب إذا لــم‬
‫ُيســأل ‪ ،‬ويســتحى مــن عبــده حيــث ل يســتحى‬
‫العبــد منــه‪ ،‬ويســتره حيــث ل يســتر نفســه ‪،‬‬
‫ويرحمــه حيــث ل يرحــم نفســه‪ ،‬ودعــاه بنعمــه‬
‫وإحسانه وأياديه إلــى كرامتــه ورضــوانه فــأبى ‪،‬‬
‫فأرســل رســله فــى طلبــه ‪ ،‬وبعــث إليــه معهــم‬
‫عهده‪ ،‬ثم نزل إليه ســبحانه بنفســه‪ ،‬وقــال ‪" :‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫من يسألنى فأعطيه‪ ،‬من يستغفرنى فأغفر له "‬
‫)‪. (1‬‬

‫وكيف لتحب القلوب من يــأتى بالحســنات‬


‫إل هــو ‪ ،‬وليجيــب الــدعوات ويقيــل العــثرات ‪،‬‬
‫ويغفــر الخطيئات‪ ،‬ويســتر العــورات‪ ،‬ويكشــف‬
‫الكربات‪ ،‬ويغيث اللهفات‪ ،‬وينيل الطلبات سواه‬
‫؟‬

‫فهو أحق من ذكر‪ ،‬وأحق من شكر‪ ،‬وأحــق‬


‫عبد‪ ،‬وأحق مــن حمــد‪ ،‬وأنصــر مــن ابتغــى ‪،‬‬ ‫من ُ‬
‫وأرأف من ملك‪ ،‬أجــود مــن ســئل‪ ،‬وأوســع مــن‬
‫أعطى‪ ،‬وأرحم من استرحم ‪ ،‬وأكرم من ُقصــد‪،‬‬
‫وأعز من التجىء إليه‪ ،‬وأكفى مــن توكــل عليــه‪،‬‬
‫وأرحم بعبده من الوالــدة بولــدها‪ ،‬وأشــد فرح ـا ً‬
‫بتوبــة التــائب مــن الفاقــد لراحلتــه الــتى عليهــا‬
‫طعــامه وشــرابه فــى الرض المهلكــة إذا يئس‬
‫من الحياة ثم وجدها ‪ ،‬وهو الملك لشــريك لــه‪،‬‬
‫ك إلــى وجهــه‪ ،‬لــن‬ ‫والفرد لند له‪ ،‬كل شىء هال ٌ‬
‫يطاع إل بــإذنه ‪ ،‬ولــن يعصــى إل بعلمــه‪ُ ،‬يطــاع‬
‫فيشكر‪ ،‬وبتوفيقه ونعمته أطيعَ ‪ ،‬ويعصى فيعفــو‬
‫ويغفر وحقه أضــيع‪ ،‬فهــو أقــرب شــهيد‪ ،‬وأجــل‬
‫حفيظ ‪ ،‬وأوفى بالعهد ‪ ،‬وأعدل قائم بالقسط ‪،‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (13/464‬التوحيد ‪ ،‬ومسلم )‪،6/38‬ــ ‪ (39‬صــلة‬ ‫‪1‬‬

‫المســافرين‪ ،‬والترمــذى ) ‪ (13/30‬الــدعوات ‪ ،‬وأبــو داود ) ‪(1301‬‬


‫الصلة ‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫حــال دون النفــوس‪ ،‬وأخــذ بالنواصــى ‪ ،‬وكتــب‬
‫الثار ‪ ،‬ونســخ الجــال ‪،‬فــالقلوب لــه مفضــية ‪،‬‬
‫والسر عنــده علنيــة‪ ،‬والغيــب لــديه مكشــوف ‪،‬‬
‫وكــل أحــد إليــه ملهــوف ‪ ،‬وعنــت الوجــوه لنــور‬
‫وجهه‪ ،‬وعجزت العقول عن إدراك كنهه‪ ،‬ودلــت‬
‫الفطر والدلة كلهــا علــى امتنــاع مثلــه وشــبهه‪،‬‬
‫وأشرقت لنــور وجهــه الظلمــات واســتنارت لــه‬
‫الرض والســـماوات ‪ ،‬وصـــلحت عليـــه جميـــع‬
‫المخلوقــات‪ ،‬ل ينــام ول ينبغــى لــه أن ينــام‪،‬‬
‫يخفض القسط ويرفعه‪ُ ،‬يرفع إليــه عمــل الليــل‬
‫قبل النهار‪ ،‬وعمــل النهــار قبــل الليــل ‪ ،‬حجــابه‬
‫ت وجهــه مــا‬
‫النــور ولــو كشــفه لحرقــت ســبحا ُ‬
‫إنتهى إليه بصره من خلقه ‪.‬‬

‫ومحبة الله عز وجــل هــى حيــاة القلــوب ‪،‬‬


‫وغــذاء الرواح‪ ،‬وليــس للقلــب لــذة ول نعيــم‬
‫ولفلح ول حياة إل بها ‪،‬وإذا فقدها القلــب كــان‬
‫ألمه أعظم مــن ألــم العيــن إذا فقــدت نورهــا ‪،‬‬
‫والذن إذا فقدت سمعها‪ ،‬بل فســاد القلــب‪ -‬إذا‬
‫خل مــن محبــة فــاطره وبــارئه وإلهــه الحــق –‬
‫أعظــم مــن فســاد البــدن إذا خل مــن الــروح ‪،‬‬
‫وهذا المر ل يصدق بــه إل مــن فيــه حيــاة‪ ،‬ومــا‬
‫لجرح بميت إيلم‪.‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫الثار ‪ :‬قــال فتــح الموصــلى ‪ " :‬المحــب‬
‫ليجد للدنيا لذة ‪ ،‬ول يغفل عن ذكر الله طرفــة‬
‫عين " ‪.‬‬

‫وقال بعضهم ‪ " :‬المحب طائر القلب‪ ،‬كثير‬


‫الذكر‪ ،‬متسبب إلى رضــوانه بكــل ســبيل يقــدر‬
‫عليها من الوسائل والنوافل دأبا ً وشوقا ً " ‪.‬‬

‫وأنشد بعضهم ‪:‬‬

‫إن‬ ‫وكن لربك ذا حب لتخدمه‬


‫م‬
‫دا ُ‬
‫خ ّ‬
‫المحبين للحباب ُ‬
‫وأوصت امرأة من السلف أولدها فقالت لهــم ‪:‬‬
‫" تعودوا حب الله وطاعته ‪ ،‬فإن المتقيـن ألفـوا‬
‫بالطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها‪ ،‬فإن‬
‫عرض لهــم الملعــون بمعصــية مــرت المعصــية‬
‫بهم محتشمة فهم لها منكرون"‪.‬‬

‫وأنشد ابن المبارك ‪:‬‬

‫هذا‬ ‫تعصى الله وا‪،‬ت تزعم حبه‬


‫لعمرى فى القياس شنيع‬
‫إن‬ ‫لو كان حبك صادقا ً لطعته‬
‫المحب لمن يحب مطيققع‬

‫‪- 138 -‬‬


‫‪ - 11‬الرضا بقضاء الله عزّ وجلّ ‪:‬‬

‫للعبد فيما يكره درجتــان ‪ :‬درجــة الرضــى‪،‬‬


‫ودرجــة الصــبر‪ ،‬فالرضــا فضــل منــدوب إليــه‪،‬‬
‫والصبر واجب على المؤمن حتم‪.‬‬

‫وأهل الرضا تارة يلحظون حكمــة المبتلــى‬


‫وخيرتــه لعبــده فــى البلء وأنــه غيرمتهــم فــى‬
‫قضائه ‪ ،‬وتارة يلحظون عظمة المبتلى وجللــه‬
‫وكماله فيستغرقون فى مشــاهدة ذلــك حــتى ل‬
‫يشعرون باللم ‪ ،‬وهــذا يصــل إليــه خــواص أهـل‬
‫المعرفــة والمحبــة ‪ ،‬حــتى ربمــا تلــذذوا بمــا‬
‫أصابهم لملحظتهم صدوره من حبيبهم ‪.‬‬
‫والفرق بين الرضــى والصــبر‪ :‬أن الصــبر حبــس‬
‫النفس وكفها عن الســخط –مــع وجــود اللــم –‬
‫وتمنى زوال ذلــك ‪،‬وكــف الجــوارح عــن العمــل‬
‫بمقتضــى الجــزع‪ ،‬والرضــا‪ :‬انشــراح الصــدر‪،‬‬
‫وسعته بالقضاء‪ ،‬وتــرك زوال اللــم – وإن وجــد‬
‫الحســاس بــاللم – لكــن الرضــى يخففــه بمــا‬
‫يباشر القلب من روح اليقيــن وزالمعرفــة ‪ ،‬وإذا‬
‫قوى الرضى فقد يزيل الحساس باللم بالكلية‪.‬‬

‫قال ابن مسعود ‪ " :‬إن اللــه تعــالى بقســطه‬


‫وعلمه جعل الروح والفرح فى اليقيــن والرضــا‪،‬‬
‫م والحزن فى الشك والسخط " ‪.‬‬ ‫وجعل اله ّ‬

‫‪- 139 -‬‬


‫من‬ ‫من ي ُق ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وقال علقمة فى قوله تعالى‪َ  :‬‬
‫و َ‬
‫ه ‪) ‬التغابن ‪ :‬من الية ‪. ( 11‬‬ ‫قل ْب َ ُ‬
‫د َ‬
‫ه ِ‬ ‫ِبالل ّ ِ‬
‫ه يَ ْ‬

‫هى المصيب تصيب الرجل فيعلم أنها مــن عنــد‬


‫الله فيسلم لها ويرضى‪.‬‬

‫وقال النبى ‪ " :‬ذاق حلوة اليمان مــن رضــى‬


‫بالله ربا ً وبالسلم دينا ً ومحمد رسول ً " )‪. (1‬‬
‫وقال النبى ‪ " :‬مــن قــال حيــن يســمع النــداء‬
‫رضيت بالله ربا ً وبالسـلم دينـا ً ومحمـد رسـول ً‬
‫غفرت ذنوبه " )‪. (2‬‬

‫ى بن أبى طالب ‪ ‬إلى عدىّ بن حاتم‬ ‫ونظر عل ّ‬


‫كئيبا ً ‪ ،‬فقال‪ :‬مــالى أراك كئيبـا ً حزينـا ً ؟ فقــال ‪:‬‬
‫وما يمنعنى وقد قتل ابناى وفقئت عينى فقال ‪:‬‬
‫ياعدىّ من رضى بقضاء الله جــرى عليــه وكــان‬
‫)( رواه مسلم ) ‪ (2/2‬اليمان ‪ ،‬والترمــذى )‪ (10/91‬اليمــان ‪ ،‬قــال‬ ‫‪1‬‬

‫صاحب التجويد ‪ :‬معنى رضيت بالشىء‪ :‬قنعت بــه واكتفيــت بــه ولــم‬
‫أطلب معه غيره‪ ،‬فمعنى الحديث ‪ :‬لم يطلــب غيــر اللــه تعــالى ولــم‬
‫يسع فى غير طريق السلم‪ ،‬ولم يسلك إل ما يوافق شــريعة محمــد‬
‫‪ ، ‬ول شك أن من كانت هــذه صــفته فقــد خلصــت حلوة اليمــان‬
‫إلى قلبه وذاق طعمه ‪ .‬وقال القاضى عيـاض ‪ :‬معنـى الحـديث صـح‬
‫إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه لن رضاه بالمــذكورات دليــل‬
‫لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبــه لن مــن رضــى‬
‫أمرا ً ســهل عليــه فكــذا المــؤمن إذا دخــل قلبــه اليمــان ســهل عليــه‬
‫طاعات الله تعالى ولذات له والله أعلم ‪.‬‬
‫)( رواه مســــلم ) ‪ (4/86‬الصــــلة‪ ،‬وأبــــو داود )‪ (521‬الصــــلة ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫والترمذى ) ‪.(12 ،2/11‬‬

‫‪- 140 -‬‬


‫له أجر‪ ،‬ومن لم يرض بقضاء اللــه جــرى عليــه‬
‫وحبط عمله ‪.‬‬

‫دخل أبو الدرداء ‪ ‬على رجل يموت وهو يحمد‬


‫الله فقال أبو الدرداء ‪ :‬أصبت إن الله عز وجــل‬
‫إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به ‪.‬‬

‫وقـــال أبـــو معاويـــة فـــى قـــوله تعـــالى ‪ :‬‬


‫ة ‪) ‬النحل ‪ :‬مــن اليــة‬ ‫حَياةً طَي ّب َ ً‬
‫ه َ‬ ‫فل َن ُ ْ‬
‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫‪ . ( 97‬الرضا والقناعة ‪.‬‬

‫قال الحسن‪ :" :‬من رضى بما قســم لــه وســعه‬


‫وبارك الله فيه‪ ،‬ومن لم يرض لم يســعه ‪ ،‬ولــم‬
‫يبارك له فيه " ‪.‬‬

‫وقال عمر بن عبد العزيز‪ " :‬ما بقى لــى ســرور‬


‫إل فى مواقــع القــدر"‪ ،‬وقيــل لــه مــا تشــتهى ؟‬
‫فقال ‪ " :‬ما يقضى الله عز وجل " ‪.‬‬

‫وقال عبد الواحد بــن زيــد ‪ " :‬الرضــا بــاب اللــه‬


‫العظم ‪،‬وجنة الدنيا ‪ ،‬ومستراح العابدين " ‪.‬‬

‫وقــال بعضــهم ‪ " :‬لــن ي ُــرى فــى الخــرة أرفــع‬


‫درجات من الراضين عن الله تعــالى فــى كــل‬

‫‪- 141 -‬‬


‫حال ‪ ،‬فمــن وهــب لـه الرضــا فقــد تبلـغ أفضــل‬
‫الدرجات"‬

‫وأصبح أعرابى وقد ماتت له أبــاعر ) جمــع‬


‫بعير ( كثيرة فقال ‪:‬‬

‫ل والذى أنا عبدٌ فى عبادته‬


‫لول شماتة أعداء ذوى إحن‬

‫ما سرنى أن إبلى فى مباركها‬


‫وأن شيئا ً قضاه الله لم يكن‬

‫‪ – 12‬الخوف والرجاء ‪:‬‬

‫الخـــوف والرجـــاء جناحـــان بهمـــا يطيـــر‬


‫المقربون إلى كل مقام محدود‪ ،‬ومطيتان بهمــا‬
‫يقطع من طرق الخرة كل عقبة كؤود‪ ،‬فل يقود‬
‫إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كــونه بعيــد‬
‫الرجاء ثقيــل العبــاء محفوف ـا ً بمكــاره القلــوب‬
‫ومشاق الجوارح والعضاء إل أزمــة الرجــاء‪ ،‬ول‬
‫يقصد عن نار الجحيم والعذاب الليــم مــع كــونه‬
‫محفوفا ً بلطائف الشهوات وعجــائب اللــذات إل‬
‫سياط التخويف وســطوات التعنيــف فل بــد إذا ً‬
‫من بيان حقيقتهمــا وفضــيلتهما وســبل التوصــل‬

‫‪- 142 -‬‬


‫إلى الجمع بينهما والله الموفق للخيرات الهادى‬
‫لعلى الدرجات ‪.‬‬

‫أ ‪ -‬الرجـــاء ‪:‬‬

‫هو ارتياح القلب لنتظار مــا هــو محبــوب‬


‫عنده ‪.‬‬

‫وإذا كانت السباب غير موجودة فاســم الغــرور‬


‫والحمق عليه أصدق‪ ،‬وإذا كــان المــر مقطوع ـا ً‬
‫فل يســـمى رجـــاء إذ ل يقـــال‪ :‬أرجـــو طلـــوع‬
‫الشــمس ‪ ،‬ولــن يمكــن أن يقــال ‪ :‬أرجــو نــزول‬
‫المطر ‪.‬‬

‫وقــد علــم علمــاء القلــوب‪ :‬أن الــدنيا مزرعــة‬


‫الخــرة ‪ ،‬والقلــب كــالرض واليمــان كالبــذور‬
‫فيهــا ‪ ،‬والطاعــة جاريــة مجــرى تقليــب الرض‬
‫وتطهيرها‪ ،‬ومجرى حفر النهــار وســياقة المــاء‬
‫إليها‪.‬‬

‫والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالرض‬


‫السبخة التى لينمو فيها البذر‪ ،‬ويوم القيامة هو‬
‫الحصاد‪ ،‬ول يحصد أحد إل ما زرع‪ ،‬ول ينمو بــذر‬
‫إل من بذر اليمان‪ ،‬وقلما ينفع إيمــان مــع خبــث‬
‫القلــب ‪ ،‬وســوء أخلقــه‪ ،‬وكمــا لينمــو بــذر فــى‬

‫‪- 143 -‬‬


‫أرض ســبخة فينبغــى أن يقــاس رجــاء العبــد‬
‫المغفرة برجاء صاحب الزرع ‪ ،‬فكل مــن طلــب‬
‫أرضا ً طيبة ‪ ،‬وألقى فيها بذرا ً طيبا ً غير عفــن ول‬
‫مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه فى أوقاته‪ ،‬ثــم‬
‫نقــى الشــوك والحشــيش وكــل مــا يمنــع نبــات‬
‫البذرة أو يفسده‪ ،‬ثم جلس منتظــرا مــن فضــل‬
‫الله تعــالى دفــع الصــواعق والفــات المفســدة‪،‬‬
‫ســمى انتظــاره‬ ‫إلى أن يتم الزرع ويبلــغ غــايته‪ُ ،‬‬
‫رجاءا ً ‪ ،‬وإن بــث البــذر فــى ارض صــلبة ســبخة‬
‫مرتفعة ل تصل إليها الماء‪ ،‬ولم يشــتغل بتعهــد‬
‫سمى انتظاره‬ ‫البذر أصل ً ثم انتظر الحصاد منه‪ُ ،‬‬
‫حمقا ً وغروا ً ل رجاءا ً ‪.‬‬
‫فــإذن اســم الرجــاء إنمــا يصــدق علــى انتظــار‬
‫محبوب تمهــدت جميــع أســبابه الداخلــة تحــت‬
‫اختيار العبد‪ ،‬ولم يبق إل مــا ليــس يــدخل تحــت‬
‫اختيــار العبــد‪ ،‬وهــو فضــل اللــه تعــالى بصــرف‬
‫القواطع والمفسدات ‪ ،‬فالعبد إذا بــذر اليمــان ‪،‬‬
‫وسقاه بماء الطاعات ‪ ،‬وطّهر قلبــه مــن شــوك‬
‫الخلق الرديئة‪ ،‬وانتظر مــن فضــل اللــه تعــالى‬
‫تثبيته على ذلك إلــى المــوت‪ ،‬وحســن الخاتمــة‬
‫المفضــية إلــى المغفــرة‪ ،‬كــان انتظــاره رجــاءا ً‬
‫حقيقيا ً ‪.‬‬

‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ق ِ‬‫من ُققوا ْ َ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ق ِ‬
‫قــال تعــالى ‪  :‬إ ِ ّ‬
‫وَلققئ ِ َ‬ ‫في سبيل الل ّق ُ‬ ‫دوا ْ ِ‬
‫ك‬ ‫هأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ه ُ‬
‫جا َ‬ ‫جُروا ْ َ‬
‫و َ‬ ‫ها َ‬
‫َ‬

‫‪- 144 -‬‬


‫م‬
‫حيق ٌ‬ ‫غ ُ‬
‫فققوٌر ّر ِ‬ ‫والل ّق ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫ت الل ّق ِ‬
‫مق َ‬
‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫جو َ‬
‫ي َْر ُ‬
‫‪) ‬البقرة ‪ :‬الية ‪. ( 218‬‬

‫يعنى أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله‪ ،‬وما‬


‫أراد به تخصيص وجود الرجاء لن غيرهــم أيض ـا ً‬
‫قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء‪.‬‬

‫ومن كان رجاؤه هاديا ً له إلــى الطاعــة‪ ،‬زاجــرا ً‬


‫له عن المعصية‪ ،‬فهو رجــاء صــحيح‪ ،‬ومــن كــان‬
‫رجــاؤه داعيـا ً لــه إلــى البطالــة والنهمــاك فــى‬
‫المعاصى فهو غرور ‪.‬‬
‫وممــا ينبغــى أن ُيعلــم أن مــن رجــا شــيئا ً‬
‫استلزم رجاؤه ثلثة أمور ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬محبة ما يرجوه ‪.‬‬


‫الثانى ‪ :‬خوفه من فواته ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬سعيه فى تحصيله ‪.‬‬

‫أما رجاء ل يقارنه شىء من ذلك فهو مــن‬


‫باب المانى ‪ ،‬والرجاء شىء والمنى شىء آخر‬
‫‪.‬‬
‫ج خائف ‪ ،‬والسائر على الطريق إذا‬ ‫وكل را ِ‬
‫خاف أسرع السير مخافة الفوات ‪.‬‬
‫عن أبى هريرة ‪ ‬قال ‪ :‬قال رسول الله ‪" : ‬‬
‫ما خــاف أدلــج ومــن أدلــج بلــغ المنــزل ‪ ،‬أل إن‬

‫‪- 145 -‬‬


‫ســلعة اللــه غاليــة‪ ،‬أل إن ســلعة اللــه الجنــة "‬
‫)‪. (1‬‬

‫أخبار الرجاء‬
‫ل ي َققا‬ ‫قق ْ‬ ‫اليــات ‪ :‬قــوله ســبحانه وتعــالى ‪ُ  :‬‬
‫مل‬ ‫ه ْ‬ ‫سقق ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫عَلققى َأن ُ‬ ‫فوا َ‬ ‫سققَر ُ‬ ‫نأ ْ‬
‫َ‬
‫ذي َ‬‫ي ال ّ ِ‬
‫عَباِد َ‬‫ِ‬
‫ف قُر‬ ‫غ ِ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ن الل ّق َ‬ ‫ه إِ ّ‬‫ة الل ّق ِ‬ ‫مق ِ‬‫ح َ‬ ‫مققن ّر ْ‬ ‫قن َطُققوا ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫م‪‬‬ ‫حيق ُ‬ ‫فقوُر الّر ِ‬ ‫غ ُ‬‫و ال ْ َ‬
‫ه َ‬ ‫ه ُ‬ ‫عا إ ِن ّ ُ‬
‫مي ً‬‫ج ِ‬‫ب َ‬ ‫الذُّنو َ‬
‫)الزمر ‪ :‬الية ‪. ( 53‬‬

‫ة‬
‫ف قَر ٍ‬
‫غ ِ‬‫م ْ‬
‫ذو َ‬ ‫ك ل َق ُ‬
‫ن َرب ّ َ‬ ‫وقوله عز وجــل ‪َ  :‬‬
‫وإ ِ ّ‬
‫د‬
‫دي ُ‬‫شق ِ‬ ‫ك لَ َ‬
‫ن َرب ّق َ‬ ‫وإ ِ ّ‬
‫م َ‬‫هق ْ‬ ‫عل َققى ظُل ْ ِ‬
‫م ِ‬ ‫س َ‬
‫للن ّققا ِ‬
‫ّ‬
‫ب ‪) ‬الرعد ‪:‬من الية ‪. ( 6‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ع َ‬
‫الحاديث ‪ :‬ما ورد فى صــحيح مســلم عنــه ‪‬‬
‫أنه قال ‪ " :‬ليموت رجل مســلم إل أدخــل اللــه‬
‫مكانه فى النار يهوديا ً أو نصرانيا ً ")‪. (2‬‬
‫)( رواه الترمــذى ) ‪ (10/227‬صــفة القيامــة‪،‬وقــال ‪ :‬حــديث حســن‬ ‫‪1‬‬

‫غريــب ‪ ،‬والحــاكم ) ‪ (4/308‬الرقــاق‪ ،‬وقــال ‪ :‬صــحيح الســناد ولــم‬


‫يخرجاه‪ ،‬ووافقه الذهبى واللبانى‪ .‬ومعنى أدلــج ‪ :‬أى صــار مــن أول‬
‫الليل‪ ،‬والمعنى ‪ :‬أن من خـاف ألزمـه الخــوف السـلوك إلــى الخـرة‬
‫والمبادرة بالعمال الصالحة خوفا ً من القواطع والعوائق ‪.‬‬
‫)( رواه مسلم ) ‪ (17/85‬التوبة‪ ،‬قال النووى رحمــه اللــه معنــاه مــا‬ ‫‪2‬‬

‫جاءه فى حديث أبى هريرة ‪ :‬لكل أحد منزل فى الجنة ومنزل فى‬

‫‪- 146 -‬‬


‫وعــن عمــر بــن الخطــاب ‪ : ‬قــدم علــى‬
‫رسول الله ‪ ‬سب ٌ‬
‫ى ‪ ،‬فــإذا امــرأة مــن الســبى‬
‫تســعى إذ وجــدت صــبيا ً فــى الســبى أخــذته‬
‫فألزقته ببطنها فأرجعته‪ ،‬فقال رسول اللــه ‪: ‬‬
‫" أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النــار؟ "‬
‫قلنا ‪:‬ل والله‪ ،‬فقال ‪ :‬الله أرحم بعبــده المــؤمن‬
‫من هذه على ولدها ")‪. (1‬‬
‫وعن أبى هريرة ‪ ‬عن رسول اللــه ‪ " : ‬إن‬
‫اللــه كتــب علــى نفســه بنفســه قبــل أن يخلــق‬
‫الخلق ‪ :‬إن رحمتى تغلب غضبى " )‪. (2‬‬

‫وفى رواية ‪ " :‬غلبت غضــبى" ‪ ،‬وفــى روايــة ‪" :‬‬


‫سبقت غضبى "‪.‬‬

‫وعــن أنــس ‪ ‬قــال ‪ :‬ســمعت رســول اللــه ‪‬‬


‫يقول ‪ " : :‬قال الله تعــالى ‪ :‬يــا ابــن آدم ‪ :‬إنــك‬
‫مادعوتنى ورجــوتنى غفــرت لــك علــى مــا كــان‬
‫منك ول أبالى‪ ،‬ياابن آدم لو بلغت ذنوبــك عنــان‬
‫السمـاء ثم استغفرتنى غفرت لك ياابن آدم‪،‬لــو‬

‫النار‪ ،‬فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر فى النار لنه استحق ذلك‬
‫بكفره ومعنى فكاكك أنك كنت معرضا ً لدخول النار وهذا فكاكــك لن‬
‫الله تعالى قدر للنار عددا ً يملؤها فإذا دخلها الكافر بذنوبهم وكفرهــم‬
‫صاروا فى معنى الفكاك للمسلمين ‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (10/426‬الدب ‪ ،‬ومسلم ) ‪ (17/70‬التوبة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( رواه البخـــارى )‪ (13/384‬التوحيـــد‪ ،‬ومســـلم )‪ (17/68‬التوبـــة‬ ‫‪2‬‬

‫‪،‬والترمذى )‪3611‬تحفة( الدعوات ‪.‬‬

‫‪- 147 -‬‬


‫أتيتنى بقـراب الرض خطايا ثم لقيتنى لتشــرك‬
‫بى شيئا ً لتيتك بقرابها مغفرة)‪." (3‬‬

‫قال يحيى بن معاذ‪ " :‬من أعظــم الغــترار عنــد‬


‫التمادى فى الذنوب مــع رجــاء العفــو مــن غيــر‬
‫ندامــة ‪ ،‬وتوقــع القــرب مــن اللــه تعــالى بغيــر‬
‫طاعة‪ ،‬وانتظار زرع الجنــة ببــذر النــار‪ ،‬وطلــب‬
‫دار المطيعين بالمعاصى‪ ،‬وانتظار الجــزاء بغيــر‬
‫عمل‪ ،‬والتمنى على الله عز وجل مع الفراط "‬
‫‪.‬‬
‫ترجو النجاة ولم تسققلك مسققالكها*إن‬
‫السفينة ل تجرى على اليبس‬

‫ب ‪ -‬الخوف ‪:‬‬

‫الخوف‪ :‬سوط الله يسوق به عباده إلى العلم‬


‫والعمل لينالوا بهما القرب من الله تعالى ‪ ،‬وهو‬
‫عبارة عن‪ :‬تألم القلــب واحــتراقه بســبب توقــع‬
‫مكروه فى الستقبال ‪ ،‬والخوف هو الذى يكــف‬
‫الجوارح عن المعاصى ويقيدها بالطاعات ‪.‬‬

‫والخوف القاصر يدعو إلى الغفلة والجرأة علــى‬


‫الذنب والفراط فى الخــوف يــدعو إلــى اليــأس‬
‫والقنوط‪.‬‬

‫)( تقدم تخريجه ص )‪.(44‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪- 148 -‬‬


‫والخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة اللــه‬
‫تعالى ‪ ،‬ومعرفة صفاته‪ ،‬وأنه لو أهلـك العـالمين‬
‫لم يبال ‪ ،‬ولم يمنعه مــانع‪ ،‬وتــارة يكــون لكــثرة‬
‫الجنايــة مــن العبــد بمقارفــة المعاصــى ‪ ،‬وتــارة‬
‫يكون بهما جميعا ً ‪ ،‬أو بحســب معرفتــه بعيــوب‬
‫نفسه ‪ ،‬ومعرفته بجلل الله تعــالى واســتغنائه ‪،‬‬
‫وأنه ل يسأل عما يفعــل وهــم يســألون ‪ ،‬تكــون‬
‫قوة خوفه‪.‬‬

‫فــأخوف النــاس لربــه أعرفهــم بنفســه وبربــه‪،‬‬


‫ولــذلك قــال ‪ " : ‬واللــه إنــى لعلمهــم بــالله‬
‫وأشدهعم له خشية " )‪.(1‬‬

‫وقيل للمام الشعبى‪ :‬يــا عــالم‪ :‬قــال إنمــا‬


‫العالم من يخشى الله وذلك لقول الله عز وجل‬
‫عل َ َ‬
‫مققاء‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫عب َققاِد ِ‬
‫ن ِ‬
‫مق ْ‬ ‫ه ِ‬‫شى الل ّ َ‬
‫خ َ‬ ‫‪  :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫‪) ‬فاطر ‪ :‬من الية ‪. ( 28‬‬
‫وقال ابن مسعود ‪ " :‬كفــى بخشــية اللــه‬
‫ل"‪.‬‬‫علما ً وكفى بالغترار جه ً‬

‫ولذلك قيل‪ :‬ليـس الخـائف مـن يبكـى ويمسـح‬


‫عينيــه ‪ ،‬بــل مــن يــترك مــا يخــاف أن يعــاقب‬
‫عليه ‪،‬وقيل لــذى النــون المصــرى‪ :‬مــتى يكــون‬
‫)( رواه البخارى ) ‪ (10/513‬الدب ‪ ،‬ومسلم )‪ (15/106‬الفضــائل ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وأحمد ) ‪.(181، 6/45‬‬

‫‪- 149 -‬‬


‫العبــد خائف ـا ً ؟ قــال ‪ " :‬إذا نــزل نفســه منزلــة‬
‫السقيم الذى يحتمى مخافة طول السقام "‪.‬‬

‫وقال أيــو القاســم الحكيــم‪ " :‬مــن خــاف شــيئا ً‬


‫هرب منه ‪ ،‬ومن خاف الله هرب إليه "‪.‬‬

‫وقال الفضيل بـن عيـاض‪ " :‬إذا قيـل لـك ‪ :‬هـل‬


‫تخــاف اللــه فاســكت فإنــك إن قلــت ‪ :‬نعــم ‪،‬‬
‫كذبت ‪ ،‬وإن قلت ‪ :‬ل ‪ ،‬كفرت " ‪.‬‬

‫والخــوف يحــرق الشــهوات المحرمــة فتصــير‬


‫المعاصى المحبوبة عنده مكروهة ‪ ،‬كمــا يصــير‬
‫العسل مكروها ً ‪ ،‬عند من يشــتهيه إذا عــرف أن‬
‫فيه سما ً ‪ ،‬فتحرق الشهوات بــالخوف ‪ ،‬وتتــأدب‬
‫الجوارح ‪ ،‬ويحصل فى القلــب الخضــوع والذلــة‬
‫والستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد ‪ ،‬بــل‬
‫بصير مستوعب الهم بخوفه‪ ،‬والنظر فى خطــر‬
‫عاقبته ‪ ،‬فل يتفرغ لغيره‪ ،‬ول يكون له شغل إل‬
‫المراقبـــة والمحاســـبة والمجاهـــدة ‪ ،‬والضـــنة‬
‫بالنفــــاس واللحظــــات ‪ ،‬ومؤاخــــذة النفــــس‬
‫بــالخطرات ‪ ،‬والخطــوات والكلمــات ‪ ،‬ويكــون‬
‫حاله حال من وقع فى مخلب سبع ضار ‪،‬ليدرى‬
‫أنه يغفل عنــه فيفلــت‪ ،‬أو يهجــم عليــه فيهلــك ‪،‬‬
‫فيكون بظاهره وباطنه مشــغول ً بمــا هــو خــائف‬

‫‪- 150 -‬‬


‫منه ل متسع فيه لغيره ‪ ،‬فهــذا حــال مــن غلبــه‬
‫الخوف ‪.‬‬

‫فضيلة الخوف‬
‫ل لهــل الخــوف والهــدى‬ ‫جمــع اللــه عــز وجــ ّ‬
‫والرحمة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والرضوان‪ ،‬فقال تعــالى ‪ :‬‬
‫ن‬
‫هب ُققو َ‬
‫م ي َْر َ‬
‫هق ْ‬
‫م ل َِرب ّ ِ‬
‫هق ْ‬
‫ن ُ‬ ‫ة ل ّل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ٌ‬
‫ح َ‬
‫وَر ْ‬
‫دى َ‬
‫ه ً‬
‫ُ‬
‫‪) ‬العراف‪ :‬من الية ‪. ( 154‬‬

‫ه‬
‫عَباِد ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫شى الل ّ َ‬
‫خ َ‬ ‫وقال تعالى‪  :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ْ‬
‫ماء ‪) ‬فاطر‪ :‬من الية ‪. (28‬‬ ‫عل َ َ‬
‫ال ْ ُ‬

‫م‬
‫هقق ْ‬‫عن ْ ُ‬
‫ه َ‬‫ي الّلقق ُ‬ ‫وقــال عــز وجــل‪ّ  :‬ر ِ‬
‫ضقق َ‬
‫ه‪‬‬ ‫ي َرّبقق ُ‬ ‫شقق َ‬‫خ ِ‬‫ن َ‬
‫مقق ْ‬ ‫ه ذَِلقق َ‬
‫ك لِ َ‬ ‫عْنقق ُ‬
‫ضققوا َ‬
‫وَر ُ‬
‫َ‬
‫)البينة‪ :‬من الية ‪. (8‬‬

‫وقد أمر الله عز وجل بــالخوف‪ ،‬وجعلــه شــرطا ً‬


‫ن ِإن‬
‫فو ِ‬‫خا ُ‬ ‫فى اليمان‪ ،‬فقال عز وجل ‪َ ْ :‬‬
‫و َ‬
‫ن ‪) ‬آل عمــران‪ :‬مــن اليــة‬ ‫مِني َ‬ ‫مقق ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ُ‬
‫كنُتققم ّ‬
‫‪. (175‬‬

‫‪- 151 -‬‬


‫فلذلك ل يتصور أن ينفك مؤمن عن خــوف وإن‬
‫ضــعف‪ ،‬ويكــون ضــعف خــوفه بحســب ضــعف‬
‫معرفته وإيمانه ‪.‬‬

‫وقال رسول الله ‪ " :‬إن رجل حضــره المــوت‬


‫فلما يئس من الحيــاة أوصــى أهلــه إذا أنــا مــت‬
‫فاجمعوا لى حطبا ً كثيرا ً وأوقدوا فيه نارا ً ‪ ،‬حتى‬
‫إذ أكلــــت لحمــــى‪ ،‬خلصــــت إلــــى عظمــــى‬
‫فامتحشت ‪ ،‬فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومـا ً‬
‫راحا ً فأذروه فى اليم ففعلوا فجمعه اللــه فقــال‬
‫له ‪ :‬لم فعلت ذلك؟ قال ‪ :‬من خشــيتك ‪ :‬فغفــر‬
‫الله له " )‪.(1‬‬

‫قال ‪ ":‬ليلج النار أحد يبكى من خشية اللــه‬


‫تعالى حتى يعود اللبن فى الضرع " )‪.(2‬‬

‫قال الفضيل بن عياض‪ " :‬مــن خــاف اللــه‬


‫دله الخوف على كل خير"‪.‬‬

‫وقال يحيى بن معاذ‪ ":‬ما من مــؤمن يعمــل‬


‫سيثئة إل ويلحقها جنتان‪ :‬خوف العقاب ‪ ،‬ورجاء‬
‫العفو " ‪.‬‬
‫)( رواه البخــارى ) ‪ (6/494‬أحــاديث النبيــاء ‪ ،‬وســملم ) ‪،(17/70‬‬ ‫‪1‬‬

‫والنســائى)‪ (4/113‬الجنــائر‪ ،‬وابــن مــاجه ) ‪ (3432‬الزهــد‪ ،‬وأحمــد )‬


‫‪.(2/269‬‬
‫)( رواه الترمذى )‪ (7/130‬فضائل الجهاد‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا حديث حســن‬ ‫‪2‬‬

‫صحيح‪ ،‬وصححه اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 152 -‬‬


‫وقال الحسن البصرى‪ " :‬إن المؤمنين قــوم‬
‫ذلـــت منهـــم – واللـــه‪ -‬الســـماع والبصـــار‬
‫وزالجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى وإنهــم‬
‫والله الصحاء‪ ،‬ولكن دخلهم مــن الخــوف مــالم‬
‫يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بــالخرة‬
‫فقالوا‪ :‬الحمد الله الذى أذهب عنا الخــوف‪ ،‬أمــا‬
‫– والله – ما أحزنهم ما أحزن الناس ول تعــاظم‬
‫فى قلوبهم شىء طلبوا بــه الجنــة إنــه مــن لــم‬
‫يتعــز بعــزاء اللــه تقطعــت نفســه علــى الــدنيا‬
‫حسرات ومن لم يــر للــه عليــه نعمــة فــى غيــر‬
‫مطعم أو شرب فقد قل علمه وحضر عذابه " ‪.‬‬

‫‪- 153 -‬‬


‫الخبار فى الخوف‬
‫ة‬
‫شي َ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫قال الله تعالى‪ ْ :‬إ ِ ّ‬
‫م‬ ‫هقق ْ‬ ‫ت َرب ّ ِ‬ ‫هم ِبآَيا ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫َرب ّ ِ‬
‫ن‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫شقق ِ‬ ‫م ل يُ ْ‬ ‫هقق ْ‬ ‫هققم ب َِرب ّ ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫ة‬‫جل َق ٌ‬ ‫و ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫قل ُققوب ُ ُ‬ ‫و ُ‬‫ن م قا َ آت َققوا ّ‬ ‫ؤت ُققو َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ول َئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫هقققق ْ َ‬ ‫َ‬
‫نأ ْ‬ ‫عققققو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م َرا ِ‬ ‫هقققق ْ‬ ‫م إ ِلققققى َرب ّ ِ‬ ‫أن ّ ُ‬
‫هقققا‬ ‫م لَ َ‬ ‫هققق ْ‬ ‫و ُ‬‫ت َ‬ ‫خْيقققَرا ِ‬ ‫فقققي ال ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫سقققا ِ‬ ‫يُ َ‬
‫ن ‪) ‬آل عمران‪ :‬الية ‪. (61 - 57‬‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬ ‫َ‬

‫وقد روى الترمذى فى جامعه عن عائشة رضى‬


‫الله عنها قالت‪ :‬سألت رسول الله ‪ ‬عن هــذه‬
‫الية فقلت ‪ :‬أهم الذين يشربون الخمر ويزنــون‬
‫ويسرقون؟ فقال ‪ " :‬ل يا ابنة الصديق‪ ،‬ولكنهــم‬
‫الذين يصومون ‪ ،‬ويصلون ويتصدقون ويخــافون‬
‫أل يتقبل منهم ‪ ،‬أولئك يسارعون فــى الخيــرات‬
‫")‪. (1‬‬

‫)( رواه الترمذى )‪ (12/4‬التفسير وابن مــاجه ) ‪ ،(4198‬والحــاكم )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (2/394‬التفســير‪ ،‬وقــال‪ :‬صــحيح الســناد ولــم يخرجــاه‪ ،‬ووافقــه‬


‫الذهبى‪ ،‬وفى سنده انقطاع وله شاهد عند ابــن جريــر‪ ،‬وانظــر جــامع‬
‫الصول )‪ (2/254‬وصححه اللبانى ‪.‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫عن أنس ‪ ‬قال‪ :‬خطب رســول اللــه ‪‬خطبــة‬
‫ما سمعت مثلها فقط‪ ،‬فقال ‪ " :‬لو تعلمــون مــا‬
‫أعلــم لضــحكتم قليل ولبكيتــم كــثيرا ً " فغــط‬
‫أصحاب رسول اللــه ‪ ‬وجــوههم ولهــم خنيــن‪،‬‬
‫وفى رواية ‪ :‬بلــغ رســول اللــه ‪ ‬عــن أصــحابه‬
‫شىء فخطب ‪ ،‬فقــال ‪ " :‬عرضــت علــى الجنــة‬
‫والنــار فلــم أر كــاليوم مــن الخيــر والشــر ولــو‬
‫تعلمون ما أعلم لضحكتم قليل ولبكيتــم كــثيرا ً "‬
‫فما أتى على أصحاب رسول الله ‪ ‬يــوم أشــد‬
‫منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين ")‪. (1‬‬

‫ومعنى الحديث‪ :‬لو أنكم علمتم مــا أعلمــه مــن‬


‫عظمة اللـه عـز وجــل‪ ،‬وانتقـامه ممـن يعصـيه‪،‬‬
‫لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركــم ‪،‬‬
‫ولمـــا ضـــحكتم أصـــل ً ‪ ،‬فالقليـــل هنـــا بمعنـــى‬
‫المعدوم‪ ،‬وهو مفهوم من السياق ‪.‬‬

‫وروت الســيدة عائشــة رضــى اللــه عنهــا‪ :‬أن‬


‫رسول الله ‪ ‬كان إذا تغي ّــر الهــواء وهبــت ريــح‬
‫عاصــفة يتغيــر ويــتردد فــى الحجــرة ويــدخل‬
‫ويخرج‪ ،‬كل ذلك خوفا ً من عذاب الله )‪.(2‬‬

‫)( رواه البخارى )‪ (11/319‬الرقــاق‪ ،‬والترمــذى ) ‪ (9/124‬الزهــد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والخنين ‪ :‬هوالبكاء مع غنة بانتشار الصوت من النف ‪.‬‬


‫)( رواه البخــارى )‪(6/347‬بــدء الخلــق بمعنــاه ومســلم ) ‪(6/196‬‬ ‫‪2‬‬

‫الستسقاء ‪.‬‬

‫‪- 155 -‬‬


‫وروى عبد الله بن الشخير‪ :‬أن رســول اللــه ‪‬‬
‫كان إذا دخــل فــى الصــلة يســمع لصــدره أزيــز‬
‫كأزيز المرجل )‪. (3‬‬

‫ومن تأمل أحــوال الصــحابة رضــى اللــه عنهــم‬


‫ومــن بعــدهم مــن الصــالحين مــن ســلف هــذه‬
‫المة ‪،‬وجدهم فى غاية العمل مع غاية الخــوف‪،‬‬
‫ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والمن‪.‬‬

‫فهذا الصديق ‪ ‬يقول‪ :‬وددت أنــى شــعرة فــى‬


‫جنب عبد مؤمن ‪ ،‬وكان إذا قام إلى الصلة كأنه‬
‫عود من خشية الله عز وجل ‪.‬‬

‫وهذا عمر بن الخطــاب ‪ ‬قــرأ ســورة الطــور‬


‫ع‪‬‬ ‫ك َلوا ِ‬
‫ققق ٌ‬ ‫ب رِبقق َ‬
‫عققذا َ‬ ‫حــتى بلــغ‪  :‬إ ّ‬
‫ن َ‬
‫)الطــور‪ :‬اليــة ‪ . (7‬بكــى واشــتد بكــاؤه حــتى‬
‫مرض وعادوه ‪ ،‬وقال لبنه وهو يموت ‪ :‬ويحك‬
‫ضع خدى على الض عساه يرحمنــى ثــم قــال ‪:‬‬
‫)( رواه أبــو داود )‪ (890‬الصــلة بلفــظ الرحــى‪ ،‬والنســائى )‪(3/13‬‬ ‫‪3‬‬

‫والسهو‪ ،‬وأحمــد) ‪ (4/25،26‬وصــححه اللبــانى ‪ ،‬وقــال الســيوطى‪" :‬‬


‫أزيز" ‪ :‬أى خنين من الجوف وهو صوت البكاء وهو أن يجيش جــوفه‬
‫ويغلى بالبكاء‪ :‬كأزيز المرجل " وهو بالكسر‪ :‬النــاء الــذى يغلــى فيــه‬
‫الماء سواء كان من حديد أو صفيح ‪،‬أو حجارة أو خزف – هــامش )‬
‫‪ (3/13‬النسائى ‪.‬‬
‫وقــال فــى المرقــاة ‪ :‬وفــى الحــديث دليــل علــى أن البكــاء ل يبطــل‬
‫الصلة سواء ظهر منه حرفان أم ل واستدل علــى جــواز البكــاء فــى‬
‫الصلة بقوله تعالى ‪  :‬إذا تتلى عليهم آيققات الرحمققن خققروا‬
‫جدا وُبكيا ً ‪) ‬مريم ‪ . (58‬عون المعبود )‪.( 3/173‬‬ ‫س ّ‬‫ُ‬

‫‪- 156 -‬‬


‫ويل أمى لم يغفر لى –ثلثا ً –ثــم قضــى ‪ ،‬وكــان‬
‫يمر باليــة فــى ورده بــالله تخيفــه فيبقــى فــى‬
‫البيت أياما ً يعاد يحســبونه مريض ـا ً ‪ ،‬وكــان فــى‬
‫وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء‪.‬‬

‫صـــر للـــه بـــك‬


‫وقـــال لـــه ابـــن عبـــاس ‪ " :‬م ّ‬
‫المصــار‪،‬وفتــح بــك الفتــوح وفعــل " فقــال ‪" :‬‬
‫وددت أن أنجو ل أجر ول وزر " ‪.‬‬

‫وهذا عثمان بن عفــان ‪ ‬كــان إذا وقــف علــى‬


‫القبر يبكى حتى يبــل لحيتـه‪ ،‬قـال ‪ " :‬لــو أننـى‬
‫بيــن االجنــة والنــار ول أدرى إلــى أيتهمــا أصــير‬
‫لخترت أن أكون رمادا ً قبل أن أعلم إلى أيتهما‬
‫أصير " ‪.‬‬

‫وهذا أبو الدرداء ‪ ‬كان يقــول ‪ " :‬لــو تعلمــون‬


‫ما أنتم لقون بعد الموت‪ ،‬ماأكلتم طعام ـا ً علــى‬
‫شهوة ‪،‬ول شربتم شرابا ً علــى شــهوة أبــدا ً ‪ ،‬ول‬
‫دخلتم بيتا ً تستظلون به ‪ ،‬ولخرجتم إلى الصــعيد‬
‫تضــربون صــدوركم وتبكــون علــى أنفســكم ‪،‬‬
‫ولوددت أنى شجرة تعضد ثم تؤكل " ‪.‬‬

‫وكان ابن عباس ‪ ‬أسفل عينيه مثــل الشــراك‬


‫البالى من كثرة الدموع‪.‬‬

‫‪- 157 -‬‬


‫ى –كرم الله وجهه‪ -‬قد سّلم من صــلة‬ ‫وقال عل ّ‬
‫الفجر‪ ،‬وقد عله كآبــة وهــو يقلــب يــده ‪ " :‬لقــد‬
‫رأيــت أصــحاب رســول اللــه ‪ ‬فلــم أر اليــوم‬
‫شيئا ً يشبههم ‪ ،‬لقد كانوا يصبحون شــعثا ً صــفرا ً‬
‫غبرا ً بين أعينهم أمثال ركب المعزى ‪ ،‬قــد بــاتوا‬
‫سجدا ً وقياما يتلون كتاب اللــه ‪ ،‬يراوحــون بيــن‬
‫جبــاههم وأقــدامهم ‪ ،‬فــإذا أصــبحوا ذكــروا اللــه‬
‫تمادوا كما يميد الشجر فى يوم الربح‪ ،‬وهملــت‬
‫أعينهم بالدموع حتى يتبل ثيابهم ‪ ،‬واللــه فكــأتى‬
‫بالقوم باتوا غافلين"‪ .‬ثم قام فما رؤى بعد ذلــك‬
‫ضاحكا ً حتى ضربه ابن ملجم ‪.‬‬

‫وقال موسى بن مسعود ‪ " :‬كنا إذا جلســنا إلــى‬


‫سفيان كأن النار قد أحاطت بنــا لمــا نــرى مــن‬
‫خوفه وجزعه "‪.‬‬

‫ووصف أحدهم الحسـن فقـال‪ " :‬كـان إذا أقبـل‬


‫فكأنما أقبل من دفن حميمه‪ ،‬وإذا جلس فكأنه‬
‫أسير أمر بقطع رقبته‪ ،‬وإذا ذكرت النــار فكأنهــا‬
‫لم تخلق إل له " ‪.‬‬

‫وُروى أن زرارة بــن أبــى أوفــى ص ـّلى بالنــاس‬


‫الفجــر بســورة المــدثر‪ ،‬فلمــا قــرأ قــوله تبــارك‬
‫ف قذَل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ر َ‬ ‫في الّنا ُ‬
‫قو ِ‬ ‫قَر ِ‬ ‫وتعالى ‪َ  :‬‬
‫فإ ِ َ‬
‫ذا ن ُ ِ‬

‫‪- 158 -‬‬


‫سيٌر ‪) ‬المدثر‪ :‬اليــة ‪. (9-8‬‬
‫ع ِ‬
‫م َ‬
‫و ٌ‬
‫ذ يَ ْ‬
‫مئ ِ ٍ‬
‫و َ‬
‫يَ ْ‬
‫أخذته شهقة فمات ‪.‬‬

‫عن عبد الله بن عمــرو بــن العــاص أن قــال ‪" :‬‬


‫ابكــوا فــإن لــم تبكــو فتبــاكوا‪ ،‬فوالــذى نفســى‬
‫بيده ‪ :‬لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطــع‬
‫صوته ‪ ،‬وصلى حتى ينكسر صلبه " ‪.‬‬

‫التوبة‬
‫التوبة من الذنوب بالرجوع إلى س ـّتار العيــوب ‪،‬‬
‫لم الغيوب ‪ ،‬مبدأ طريــق الســالكين ‪ ،‬ورأس‬ ‫وع ّ‬
‫مال الفائزين ‪ ،‬وأول إقدام المريــدين ‪ ،‬ومفتــاح‬
‫استقامة المائلين‪ ،‬ومطلع الصطفاء ‪ ،‬والجتبــاء‬
‫للمقربين ‪.‬‬

‫ومنزل التوبة أول المنازل ‪ ،‬وأوسطها ‪،‬وآخرهــا‪،‬‬


‫فل يفارقهــا العبــد الســالك ول يــزال فيــه إلــى‬
‫الممات وإن ارتحل إلــى منــزل آخــر ارتحــل بــه‬
‫واستصحبه معه ‪ ،‬ونزل به ‪ ،‬فالتوبــة هــى بدايــة‬
‫العبد ونهايته‪ ،‬وقد قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬‫ؤ ِ‬ ‫ها ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫عا أي ّ َ‬
‫مي ً‬
‫ج ِ‬ ‫وُتوُبوا إ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫‪َ ‬‬
‫ن ‪) ‬النور‪ :‬من الية ‪(31‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫لَ َ‬

‫‪- 159 -‬‬


‫وهذه الية فى ســورة مدنيــة خــاطب اللــه‬
‫بها أهل اليمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليــه بعــد‬
‫إيمانهم وصــبرهم ‪ ،‬وهجرتهــم ‪ ،‬وجهــادهم ‪ ،‬ثــم‬
‫علق الفلح بالتوبــة وأتــى بكلمـة " لعــل" إيــذانا‬
‫بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلح ‪ ،‬فل يرجــو‬
‫الفلح إل التائبون جعلنا الله منهم ‪ ،‬وقال تعالى‬
‫ن‬ ‫م ال ّ‬ ‫ول َئ ِ َ‬ ‫‪  :‬ومن ل ّم يت ُب َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ظققال ِ ُ‬ ‫ه ُ‬
‫ك ُ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫‪) ‬الحجرات‪ :‬من الية ‪(11‬‬

‫فقسم العباد إلــى ‪ " :‬تــائب " و " ظــالم "‬


‫وليس ثم قسم ثالث ‪ ،‬وأوقع اسم الظالم على‬
‫من لم يتب ول أظلــم منــه لجهلــه بربــه وبحقــه‬
‫وبعيب نفسه وآفات أعماله ‪ ،‬وفى الصحيح عنه‬
‫‪ ‬أنه قــال ‪" :‬يــا أيهــا النــاس توبــوا إلــى اللــه‬
‫فوالله إنى أتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين‬
‫مرة " )‪. (1‬‬

‫والتوبـــة هـــى‪ :‬رجـــوعُ العبـــد إلـــى اللـــه‬


‫ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين ‪.‬‬
‫وشرائط التوبة ثلثة ‪ :‬إذا كان الذنب فــى‬
‫حق الله عز وجل ‪.‬‬
‫وهــــى ‪ " :‬النققققدم " و " القلع" ‪ ،‬و "‬
‫العزم على عدم العودة " ‪.‬‬

‫)( تقدم تخريجه ص )‪.(44‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫فأما الندم فإنه ل تتحقق التوبــة إل بــه إذ‬
‫من لم يندم على القبيح فذلك دليل على رضائه‬
‫به وإصراره عليه ‪ ،‬وفى المسـند ‪" :‬النــدم توبـة‬
‫"‪.‬‬

‫واما " القلع" فتســتحيل التوبــة مــع مباشــرة‬


‫الذنب ‪.‬‬

‫والشرط الثالث ‪ :‬هو ‪ " :‬العققزم علققى عققدم‬


‫العققودة " ويعتمــد أساســا ً علــى اخلص هــذا‬
‫العزم والصدق فيه‪،‬وشرط بعض العلمــاء عــدم‬
‫معاودة الذنب وقال ‪ :‬متى عــاد إليــه تبين ّــا أن‬
‫التوبة كانت باطلة غير صحيحة والكثرون علــى‬
‫أن ذلــك ليــس شــرطا ً ‪ ،‬أمــا إذا كــان الشــرط‬
‫متضمنا ً لحق آدمى فعلى التائب أن يصــلح مــا‬
‫أفسد ‪ ،‬أو يسترضى من أخطــأ فــى حقــه‪ ،‬لمــا‬
‫ثبت )‪(1‬عن النبى ‪ ‬أنه قال ‪ :‬من كان لخيــه‬
‫عنده مظلمة من مال ‪،‬وعــرض فليتحللــه اليــوم‬
‫قبــل أل يكــون دينــار ول درهــم إل الحســنات‬
‫)‪(2‬‬
‫والسيئات"‪.‬‬

‫)( رواه أحمـــد )‪ ،(1/376‬والحـــاكم )‪ (4/243‬وصـــححه ‪ ،‬ووافقـــه‬ ‫‪1‬‬

‫الذهبى ‪.‬‬
‫)( رواه البخــارى ) ‪ (5/101‬المظــالم ‪ ،‬والترمــذى )‪ (9/254‬صــفة‬ ‫‪2‬‬

‫القيامة ‪.‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫فهذا الذنب يتضمن حقين ‪ :‬حق الله وحــق‬
‫الدمى‪ ،‬فالتوبة منه بتحلل الدمى لجل حقــه ‪،‬‬
‫والندم فيما بينه وبين الله لجل حقه ‪.‬‬
‫وهناك بعــض التوبــات الخاصــة نــذكر منهــا‬
‫بعون اللــه تعــالى مــا يلــى‪ :‬إذا كــانت المظلمــة‬
‫بقــدح فــى الدمــى بغيبــة ‪ ،‬أو بقــذف‪ ،‬فهــل‬
‫ُيشترط إعلمه؟‬

‫مذهب أبى حنيفــة ‪ ،‬ومالــك اشــترطوا العلم ‪،‬‬


‫واحتجوا بالحديث الســابق‪ ،‬والقــول الخــر‪ :‬أنــه‬
‫ليشترط العلم‪ ،‬بل يكفى توبته بينه وبين الله‪،‬‬
‫وأن يــذكر المغتــاب أو المقــذوف فــى مواضــع‬
‫غيبته‪ ،‬أو قذفه بضد ما ذكره بــه‪ ،‬ويســتغفر لــه‪،‬‬
‫وهذا اختيارشيخ السلم ابن تيمية ‪ ،‬احتج لــذلك‬
‫بأن إعلمه مفسدة محضــة ل تتضــمن مصــلحة‪،‬‬
‫وما كان هكذا فإن الشارع ل يــبيحه فضــل عــن‬
‫أن يوحبه أو يأمر به ‪.‬‬

‫أما توبة من اغتصب مــال فعليــه رد هــذا المــال‬


‫لصـــحابه ‪ ،‬فـــإن تعـــذر عليـــه رده لجهلـــه‬
‫بأصحابه ‪ ،‬أو لنقراضهم ‪ ،‬أو لغيــر ذلــك فعليــه‬
‫أن يتصدق بتلك الموال عن أربابهــا‪،‬فــإذا كــان‬
‫يوم اســتيفاء الحقــوق كــان لــه الخيــار بيــن أن‬
‫يجيزوا مافعل ‪ ،‬وتكــون أجورهــا لهــم ‪ ،‬وبيــن أل‬
‫يجيــزوا ويأخــذوا مــن حســاناته بقــدر أحــوالهم‬

‫‪- 162 -‬‬


‫ويكون ثواب تلك الصدقة لــه إذا ل يبطــل اللــه‬
‫سبحانه ثوابها‪.‬‬

‫فقد روى عن ابن مسعود ‪ ‬اشترى من رجــل‬


‫جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجاريــة‬
‫‪ ،‬فإن رضى فالجر له وإن أبى فالجرلى ولــه‬
‫من حسناتى بقدره ‪.‬‬

‫وأما توبــة مــن عــاوض غيــره معاوضــة محرمــة‬


‫وقبض الِعوض كبــائع الخمــر والمغنــى وشــاهد‬
‫الزور ثــم تــاب والعــوض بيــده‪ :‬فقــالت طائفــة‬
‫ن ماله ‪ ،‬ولم يقبضــه‬ ‫يرده إلى مالكه إذ هو عي ُ‬
‫ع‬
‫بإذن الشارع ول حصل لربــه فــى مقــابلته نف ـ ٌ‬
‫مباح‪ ،‬وقالت طائفة – بل وهــو أصــوب القــولين‬
‫‪:-‬بل توبته بالتصدق به وكيــف يــرد إلــى دافعــه‬
‫مال ً استعان به على معاصى الله ؟ وهكذا توبــة‬
‫من اختلط مــاله الحلل بــالحرام وتعــذر عليــه‬
‫تمييزه أن يتصــدق بقــدرالحرام ويطيــب بــاقى‬
‫ماله والله أعلم ‪.‬‬

‫مسألة‪ :‬إذا تاب العبد من الذنب هل يرجع إلى‬


‫ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التى حطه‬
‫عنها الذنب أو ل يرجع إليها؟‬

‫‪- 163 -‬‬


‫قالت طائفة‪ :‬يرجع إلى درجته لن التوبة تجــب‬
‫الذنب بالكلية وتصيره كأن لم يكن ‪.‬‬

‫وقالت أخرى‪ :‬ليعود إلى درجته وحاله لنه لــم‬


‫يكــن فــى وقــوف ‪ ،‬وإنمــا كــان فــى صــعود‪،‬‬
‫فبالذنب صار فى هبوط ‪ ،‬فإذا تاب نقص عليــه‬
‫ذلك القدر الذى كان مستعدا ً به للترقى ‪.‬‬

‫قال شيخ السلم ابن تيميققة‪ :‬والصــحيح ‪:‬‬


‫أن من التائبين من ليعود إلــى درجتــه ‪ ،‬ومنهــم‬
‫من يعود إلى أعلى منها فيصير خيــرا ً ممــا كــان‬
‫قبل الــذنب ‪ ،‬وكــان داود بعــد التوبــة خيــرا ً منــه‬
‫ل مضــروب ‪ :‬رجــل‬ ‫قبــل الخطيئة ‪ ،‬وهنــا مثــ ٌ‬
‫من فهــو‬ ‫مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأ ْ‬
‫يعدو مرة ويمشى أخرى ‪ ،‬ويستريح تــارة وينــام‬
‫أخرى فبينما هو كذلك إذ عرض لــه فــى ســيره‬
‫ظـــل ظليـــل ‪ ،‬ومـــاء بـــارد ومقيـــل ‪ ،‬وروضــة‬
‫مزهرة ‪ ،‬فدعته نفســه إلــى النــزول علــى تلــك‬
‫المــاكن فنــزل عليهــا ‪ ،‬فــوثب عليــه منهــا عــدو‬
‫فأخذه وقيده ومنعه عن الســير ‪ ،‬فعــاين الهلك‬
‫وظــن أنــه منقطــع بــه‪ ،‬وأنــه رزق الوحــوش‬
‫والسباع ‪ ،‬وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذى‬
‫يؤمه‪ ،‬فبينما هو على ذلك تتقــاذفه الظنــون ‪ ،‬إذ‬
‫وقف على رأسه والــده الشــفيق القــادر فحــل‬
‫كتافه وقيوده ‪ ،‬وقال له ‪ :‬اركب الطريق واحــذر‬

‫‪- 164 -‬‬


‫هــذا العــدو فــإنه علــى منــازل الطريــق لــك‬
‫بالمرصــاد‪ ،‬واعلــم أنــك مــا دمــت حــاذرا ً منــه‬
‫متيقظا ً له ليقدرعليك فإذا غفلت وثبت عليك ‪،‬‬
‫وأنا متقدمك إلى المنــزل وفــرط لــك فــاتبعنى‬
‫على الثر ‪ ،‬فإذا كان هــذا الســائر كيس ـا ً فطن ـا ً‬
‫لبيبــا ً حاضــر الــذهن والعقــل اســتقبل ســيره‬
‫اســتقبال آخــر أقــوى مــن الول ‪ ،‬وأتــم وأشــتد‬
‫حذره وتأهب لهذا العدو ‪،‬وأعد له عدته ‪ ،‬فكــان‬
‫ســيره الثــانى أقــوى مــن الول وخيــرا ً منــه‬
‫ووصوله إلى المنزل أسرع وأن غفل عن عــدوه‬
‫‪ ،‬وعاد إلى مثل حاله الول مــن غيــر زيــادة ول‬
‫نقصــان ول قــوة حــذر ول اســتعداد‪ ،‬عــاد كمــا‬
‫كــان ‪ ،‬وهــو معــرض لمــا عــرض لــه أول ً ‪ ،‬وإن‬
‫أورثه ذلــك تواني ـا ً فــى ســيره وفتــورا ً ‪ ،‬وتــذكرا ً‬
‫لطيب مقيلــه وحســن ذلــك الــروض أو عذوبتــة‬
‫مائه لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان ‪.‬‬

‫التوبة النصوح‬
‫َ‬
‫من ُققوا ُتوُبقوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫هقا اّلق ِ‬ ‫قال تعالى‪َ  :‬يقا أي ّ َ‬
‫م َأن‬ ‫سققى َرب ّك ُق ْ‬ ‫ع َ‬ ‫حا َ‬ ‫صققو ً‬ ‫ة نّ ُ‬ ‫وب َ ق ً‬ ‫إ َِلى الل ّق ِ‬
‫ه تَ ْ‬
‫ت‬‫جّنققا ٍ‬
‫م َ‬ ‫خل َك ُ ْ‬‫وُيققدْ ِ‬‫م َ‬ ‫سققي َّئات ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫كقق ْ‬‫عن ُ‬‫فققَر َ‬ ‫ي ُك َ ّ‬
‫ها النهار ‪) ‬التحريم ‪ :‬مــن‬ ‫حت ِ َ‬
‫من ت َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫الية ‪(8‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫ح في التوبة‪ :‬هــو تخليصــها مــن كــل غــش‬‫وانص ُ‬
‫ونقص وفساد ‪،‬قال الحسن البصرى ‪ " :‬هى أن‬
‫يكون العبد نادما ً على مامضى مجمع ـا ً علــى أن‬
‫ليعود فيه "‬

‫وقـــال الكلـــبى ‪ " :‬أن يســـتغفر باللســـان‬


‫ويندم بالقلب ويمسك بالبدن " وقال سعيد بن‬
‫المسيب ‪ " :‬توبة نصوحا ً تنصحون بها أنفسكم "‬
‫ن القي ّــم ‪ " :‬النصــح فــى التوبــة يتضــمن‬
‫قال اب ـ ُ‬
‫ثلثة أشياء " ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬تعميــم الــذنوب واســتغراقها بهــا‬


‫بحيث ل تدع ذنبا إل تناولته‪.‬‬
‫الثققانى ‪ :‬اجمــاع العــزم والصــدق بكلــتيه‬
‫عليها بحيث ليبقى عنده تردد ل تّلوم ول انتظار‬
‫بل يجمع عليها كل إرادته عزيمته مبادرا ً بها ‪.‬‬

‫الثالث ‪ :‬تخليصــها مــن الشــوائب والعلــل‬


‫القادحة فى أخلصها ووقوعها لمحــض الخــوف‬
‫من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما‬
‫عنــده ل كمــن يتــوب لحفــظ حــاجته وحرمتــه‬
‫ومنصــبه ورياســته أو لحفــظ وقتــه ومــاله أو‬
‫استدعاء حمد الناس أوالهرب مــن ذمهــم أولئل‬
‫يتســلط عليــه الســفهاء أو لقضــاء نهمتــه مــن‬

‫‪- 166 -‬‬


‫الدنيا أو لفلسه وعجزه ونحو ذلــك مــن العلــل‬
‫التى تقدح فى صحتها وخلوصها لله عز وجل ‪.‬‬

‫فالول ‪ :‬يتعلق بما يتــوب منــه ‪ ،‬والوســط‬


‫‪:‬يتعلــق بــذات التــائب ‪ ،‬والثــالث ‪ :‬يتعلــق بمــن‬
‫يتـــوب إليـــه‪ ،‬فنصـــح التوبـــة ‪ :‬الصـــدقُ فيهـــا‬
‫والخلص وتعميم الذنوب بها ‪ ،‬ول ريب أن هذه‬
‫التوبة تستلزم الستغفار وتتضمنه وتمحو جميع‬
‫الذنوب وهى أكمل ما يكون من التوبة ‪.‬‬

‫وتوبة العبد إلــى اللــه محفوفــة بتوبــة مــن‬


‫الله عليه قبلهــا وتوبــة منــه بعــدها فتــوبته بيــن‬
‫توبتين من ربه سابقة ولحقة فإنه تاب عليهه‪:‬‬
‫أول ً ‪ :‬إذنا ً وتوفيقا ً وإلهامـا ً ‪ ،‬فتــاب العبــد ‪،‬‬
‫بتاب الله عليه ‪.‬‬
‫ل‪:‬‬ ‫ثانيا ً ‪ :‬قبول ً وإثابــة لقــوله عــز وج ـ ّ‬
‫ذا‬ ‫حّتققى إ ِ َ‬ ‫فققوا ْ َ‬ ‫خل ّ ُ‬‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة اّلقق ِ‬‫عَلققى الث ّل ََثقق ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضاق ْ‬ ‫و َ‬‫ت َ‬ ‫حب َ ْ‬‫ما َر ُ‬ ‫ض بِ َ‬ ‫م الْر ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ضاق ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مق َ‬ ‫ج قأ ِ‬ ‫مل ْ َ‬
‫وظَن ّققوا ْ أن ل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫سق ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫م أن ُ‬ ‫ه ْ‬‫علي ْ ِ‬
‫َ َ‬
‫م ل ِي َُتوب ُققوا ْ إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫هق ْ‬ ‫ب َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫م ت َققا َ‬ ‫ه ث ُق ّ‬ ‫ه إ ِل ّ إ ِل َي ْ ِ‬ ‫الل ّ ِ‬
‫م ‪) ‬التوبــة‪ :‬اليــة‬ ‫حي ق ُ‬‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫و الت ّق ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫‪(118‬‬

‫فــأخبر ســبحانه‪ :‬أو تــوبته عليهــم ســبقت‬


‫توبتهم ‪,‬انهـا هـى الـتى جعلتهـم تـائبين فكـانت‬

‫‪- 167 -‬‬


‫ســببا مقتضــيا لتــوبتهم وهــذا القــدر مــن ســر‬
‫أسميه " الول والخُر" فهو المعد والممد ومنــه‬
‫السبب والمسبب‪ ،‬والعبد تــواب واللــه تــواب ‪،‬‬
‫فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الباق ‪ ،‬وتوبة‬
‫الله نوعان ‪ :‬إذن وتوفيق‪ ،‬وقبول وإمداد ‪.‬‬
‫والتوبــة لهــا مبــدأ ومنتهــى ‪ ،‬فمبــدؤها ‪:‬‬
‫الرجوع إلى اللــه بســلوك صــراطه المســتقيمم‬
‫ن‬ ‫الــذى أمرهــم بســلوكه بقــوله تعــالى ‪َ  :‬‬
‫وأ ّ‬‫َ‬
‫ول َ‬ ‫عوهُ َ‬ ‫ما َ‬
‫فققات ّب ِ ُ‬ ‫قي ً‬ ‫سققت َ ِ‬ ‫م ْ‬‫طي ُ‬ ‫صققَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫هققق َ‬ ‫َ‬
‫ه‪‬‬ ‫سققِبيل ِ ِ‬ ‫عن َ‬ ‫م َ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬ ‫فت َ َ‬
‫ل َ‬ ‫سب ُ َ‬‫عوا ْ ال ّ‬‫ت َت ّب ِ ُ‬
‫)النعام‪ :‬من الية ‪(153‬‬
‫ونهايتها ‪ :‬الرجوع إليه فى المعــاد وســلوك‬
‫صراطه الذى نصــبه موص ـل ً إلــى جنتــه ‪ ،‬فمــن‬
‫رجع إلى الله فى هــذه الــدار بالتوبــة رجــع إليــه‬
‫فى المعاد بالثواب ‪ ،‬قــال اللــه عــز وجــل ‪ :‬‬
‫ب إ ِل َققى‬ ‫ه ي َت ُققو ُ‬ ‫فقإ ِن ّ ُ‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬ ‫م َ‬‫ع ِ‬‫و َ‬‫ب َ‬ ‫من َتا َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫مَتاًبا ‪) ‬الفرقان‪ :‬الية ‪(71‬‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫الل ِ‬

‫‪- 168 -‬‬


‫أسرار التوبة ولطائفها‬
‫اعلم أن العبد العقــال إذا صــدرت منــه الخطيئة‬
‫فله نظر إلى أمور ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحــدث لــه‬
‫ذلــك العــتراف بكونهــا خطيئة والقــرار علــى‬
‫نفسه بالذنب ‪.‬‬
‫الثانى ‪ :‬أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث لــه‬
‫ذلك خوفا ً وخشية تحمله على التوبة ‪.‬‬
‫الثــالث ‪ :‬أن ينظــر إلــى تمكيــن اللــه لــه منهــا‬
‫وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لــو شــاء‬
‫لعصــمه منهــا فيحــدث لــك ذلــك أنواعــا ً مــن‬
‫المعرفة بالله واسمائه وصفاته وحكتــه ورحمتــه‬
‫وحلمــه وكرمــه‪ ،‬وتــوجب لــه عيوديــة بهــذه‬
‫السماء ل تحصــل بــدون لوازمهــا البتــة ‪،‬ويعلــم‬
‫ارتباط الخلق والمــر الوعيــد بأســمائه وصــفاته‬
‫وأن ذلك موجب السماء والصفات وأثرهــا فــى‬
‫الوجود‪ ،‬وهذا المشهد يطلعه على رياض موفقة‬
‫من المعارف واليمان وأســرار القــدر والحكمــة‬
‫يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم ‪.‬‬

‫‪- 169 -‬‬


‫منها‪ :‬أن يعرف العبد عزته فى قضائه ‪ ،‬وهو أنه‬
‫ســبحانه العزيــز الــذى يقضــى بمــا يشــاء وأنــه‬
‫لكمال عزته حكم على العبد وقضــى عليــه بــأن‬
‫قلب قلبه وصرف إرادته عل مايشاء وحال بيــن‬
‫العبد وقلبه ‪.‬‬

‫ومن معرفــة عزتــه فــى قضــائه أن يعــرف أنـه‬


‫مدبر مقهور ناصيته بيد غيره ‪ ،‬ل عصـمة لـه إل‬
‫بعصــمته ول توفيــق لــه إل بمعــونته فهــو ذليــل‬
‫حقير فى قبضة عزيز حميد ‪،‬ومن شــهود عزتــه‬
‫فى قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والعــزة‬
‫كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والــذم‬
‫والعيب والظلم والحاجة ‪،‬ـ وكلمــا ازداد شــهوده‬
‫لذله ونقصــه وعيبــه وفقــره ازداد شــهودا ً لعــزة‬
‫الله وكماله –وحده –غناه ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن يعلم بره – سبحانه –فى ســتره عليــه‬


‫حال ارتكاب المعصية مع كمــال رؤيتــه لــه ولــو‬
‫شاء لفضحه بيــن خلقــه ‪ ،‬ومنهــا مشــاهد حلــم‬
‫الله عــز وجــل فــى إمهــال راكــب الخطيئة ولــو‬
‫شاء لعاجله بالعقوبة فيحدث له معرفة ربــه –‬
‫سبحانه –باسمه " الحليم " ‪.‬‬

‫‪- 170 -‬‬


‫ومنهــا‪ :‬معرفــة فضــل اللــه فــى مغفرتــه فــإن‬
‫المغفرة فضل من الله وإل فلــو أخــذك بمحــض‬
‫حقه كــان عــادل محمــودا ً وإنمــاعفوه بفضــله ل‬
‫باســتحقاقك فيــوجب لــه ذلــك شــكرا ً ومحبــة‬
‫وإنابة ومعرفة باسمه " الغفار " ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن يكمل لعبده مراتب الــذل والخضــوع‬


‫والنكسار والفتقار وهى أربعة مراتب ‪:‬‬

‫المرتبة الولققى ‪ :‬ذل الحاجــة والفقــر ‪،‬‬


‫وهذه عامة فى جميعالخلق ‪.‬‬
‫المرتبة الثانية ‪ :‬ذل الطاعة والعبوديــة ‪،‬وهــو‬
‫خاص لهل طاعته‪.‬‬
‫المرتبة الثالثققة ‪ :‬ذل المحبــة فــالمحب‬
‫ذليل بالذات وعلى قدرمحبته يكون ذله‪.‬‬
‫المرتبة الرابعة ‪ :‬ذل المعصية والجناية‬
‫وحقيقة ذلك هو الفقر ‪.‬‬

‫فإذا اجتمعت هذه المراتب الربع كان الذل للــه‬


‫والخضوع له أكمل وأتم ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬أن اسم " الرّزاق " يقتضى مرزوقا ً ‪ ،‬و "‬
‫الســميع البصــير" يقتضــى مســموعا ً ومبصــرا‪،‬‬
‫كذلك أسماء " الغفور ‪ ،‬العفو ‪،‬التواب" يقتضى‬

‫‪- 171 -‬‬


‫من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ‪ ،‬ويستحيل‬
‫تعطيل هذه السماء والصفات ‪.‬‬

‫وقد أشار إلى هذا أعلم الخلــق بــالله ‪ ‬حيــث‬


‫يقول ‪ " :‬لو لم تذنبوا لــذهب اللــه بكــم ولجــاء‬
‫)‪(1‬‬
‫بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم "‬

‫ومــن أســرارها‪ :‬مــا ورد فــى الصــحيحين مــن‬


‫حديث أنــس بــن مالــك ‪ ‬قــال ‪ :‬قــال رســول‬
‫الله ‪ " : ‬لله أشد فرحا ً بتوبة عبده حين يتوب‬
‫إليــه مــن أحــدكم كــان علــى راحلتــه أرض فلة‬
‫فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها‬
‫فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها قد أيــس مــن‬
‫راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمــة عنــده‬
‫فأخذ يخطامها ثم قال من شدة الفرح ‪ :‬اللهــم‬
‫أنت عبدى ‪ ،‬وأنا ربك أخطأ من شــدة الفــرح "‬
‫)‪.(2‬‬

‫فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا ً شديدا ً وأســره‬


‫عدوك وحــال بينــك وبينــه وأن تتعلــم أن العــدو‬
‫سيسومه سوء العــذاب ويعرضــه لنــواع الهلك‬
‫وأنت أولى به منه وهو غرسك وتربيتـك ثــم إنـه‬
‫)( رواه مســـلم )‪(17/46‬التوبـــة‪ ،‬والترمـــذى )‪(9/523‬الـــدعوات‬ ‫‪1‬‬

‫وهذالفظ مسلم وانظر طرق الحديث فى الصحيحة رقم ‪.970‬‬


‫)( رواه مسلم )‪ (17/63‬التوبة واللفــظ لــه ‪ ،‬والبخــارى مختصــرا )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ (11/102‬الدعوات‪ .‬ورواه مطول ً من حديث عبد الله بن مســعود‬


‫)‪ (11/102‬الدعوات ‪.‬‬

‫‪- 172 -‬‬


‫انفلت من عدوه ووافاك علــى غيــر ميعــاد فلــم‬
‫يفــاجئك إل وهــوعلى بابــك يتملقــك ويترضــاك‬
‫ويمرغ خديه علــى تــراب أعتابــك فكيــف يكــون‬
‫فرحــك بــه وقــد اختصصــته لنفســك ورضــيته‬
‫لقربك وآثرته على ما سواه ‪ ،‬هذا ولست الذى‬
‫أوجدته وخلقته وأسبغت عليه نعمــك واللــه عــز‬
‫وجل هوالذى أوجــد عبــده وخلقــه وأســبغ عليــه‬
‫نعمته وهو يحب أن يتمهاعليه‪.‬‬

‫وإلى هننا انتهى ما تيســر لنـا جمعــه وترتيبـه ‪،‬‬


‫والله نسأل أن يكون القبول نصيبه وأن يرزقنــا‬
‫يوم القيامة بره وذخره إنه على ما يشــاء قــدير‬
‫وبالبجابة جدير وآخر دعوانا أن الحمد \لله رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫‪- 173 -‬‬


‫فهرس المراجع‬

‫‪ -1‬إحياء علوم الدين ‪ ،‬للغزالى بتحقيق العراقى‬


‫ط‪ .‬الشعب‪.‬‬
‫‪ -2‬إغاثة اللهفـان مـن مصـايد اتلشـيطان‪ ،‬لبـن‬
‫القيم ط‪ .‬الحلبى‪.‬‬
‫‪ -3‬تحفة الشراف‪ ،‬للمزى‪ .‬عبـد الصـمد شـرف‬
‫الدين ط‪ .‬الدار القيمة بالهند‪.‬‬
‫‪ -4‬تفســير القــرآن العظيــم‪ ،‬لبــن كــثير ط‪ .‬دار‬
‫المعرفة ببيروت‪.‬‬
‫‪ -5‬تفسير المعوذتين‪ ،‬لبــن القيــم ط‪ .‬المطبعــة‬
‫السلفية‪.‬‬
‫‪ -6‬الترغيب والترهيب‪ ،‬للمنذرى‪.‬‬
‫‪ -7‬جامع الصول‪ ،‬لبن الثير بتحقيق عبد القادر‬
‫الرناؤوط‪ ،‬ط‪ .‬دار الفكر‪.‬‬
‫‪ -8‬جـــامع العلـــوم الحكـــم‪ ،‬لبـــن رجـــب ‪ ،‬ط‪.‬‬
‫الحلبى‪.‬‬
‫‪ -9‬جلء الفهــام‪ ،‬لبــن القيــم ط‪ .‬دار عمــر بــن‬
‫الخطاب‪.‬‬
‫‪ -10‬الجواب الكافى‪ ،‬لبن القيم‪.‬‬
‫‪ -11‬رياض الصالحين ‪ ،‬للنووى بتحقيــق البلنــى‬
‫ط‪ .‬المكتب السلمى‪.‬‬
‫‪ -12‬الروح‪ ،‬لبن القيم ‪ ،‬ط‪ .‬محمد على صبيح‪.‬‬
‫‪ -13‬سنن ابن ماجه‪ ،‬ط‪ .‬المكتبة العلمية‪.‬‬
‫‪ -14‬سنن الدارمى‪ ،‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪.‬‬

‫‪- 174 -‬‬


‫‪ -15‬سلسلة الحاديث الصحيحة‪ ،‬لللبانى‪.‬‬
‫‪ -16‬سنن النســائى بشــرح الســيوطى وحاشــية‬
‫السندى‪ ،‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ -17‬شــرح الســنة‪ ،‬للبغــوى بتحقيــق شــعيب‬
‫الرناؤوط‪.‬‬
‫‪ -18‬صـــحيح ابـــن داود‪ ،‬لللبـــانى‪ ،‬ط‪ .‬مكتـــب‬
‫التربية العربى‪.‬‬
‫‪ -19‬صـــحيح الترمـــذى‪ ،‬للبـــانى ‪ ،‬ط‪ .‬مكتـــب‬
‫التربية العربى‪.‬‬
‫‪ -20‬صــحيح ابــن مــاجه‪ ،‬لللبــانى‪ ،‬ط‪ .‬مكتــب‬
‫التربية العربى‪.‬‬
‫‪ -21‬صــحيح مســلم‪ ،‬بشــرح النــووى ‪ ،‬المكتبــة‬
‫المصرية‪.‬‬
‫‪ -22‬صــحيح النســائى ‪ ،‬لللبــانى ‪ ،‬ط‪ .‬مكتــب‬
‫التربية العربى‪\.‬‬
‫‪ -23‬عارضــة الحــوذى بشــرح جــامع الترمــذى‪،‬‬
‫لبن العربى ‪ ،‬ط‪ .‬دار الوعى‪.‬‬
‫‪ -24‬عــدة الصــابرين وذخيــرة الشــاكرين‪ ،‬لبــن‬
‫القيم ‪ ،‬زكريا على يوسف‪.‬‬
‫‪ -25‬عـــون المعبـــود بشـــرح ســـنن أبـــى داود‪،‬‬
‫لشــمس الحــق أبــادى‪ ،‬ط‪ .‬المكتبــة الســلفية‬
‫بالمدينة المنورة‪.‬‬
‫‪ -26‬فتح البــارى بشــرح صــحيح البخــارى‪ ،‬لبــن‬
‫حجر‪ ،‬ط‪ .‬السلفية‪.‬‬

‫‪- 175 -‬‬


‫‪ -27‬مجمع الزوائد زمنبــع الفــوائد‪ ،‬لنــور الــدين‬
‫الهاشمى‪ ،‬ط‪ .‬دار الكتاب العربى‪.‬‬
‫‪ -28‬مــدارج الســالكين‪ ،‬لبــن القيــم ‪ ،‬ط‪ .‬دار‬
‫الفكر العربى‪.‬‬
‫‪ -29‬مســتدرك الحــاكم ومعــه تلخيــص الــذهبى‪،‬‬
‫ط‪ .‬دار المعرفة‪.‬‬
‫‪ -30‬مسند أحمد بفهرس اللبــانى‪ ،‬ط‪ .‬المكتــب‬
‫السلمى‪.‬‬
‫‪ -31‬مشـــكاة المصـــابيح‪ ،‬للتـــبريزى بتحقيـــق‬
‫اللبانى‪ ،‬ط‪ .‬المكتب السلمى‪.‬‬
‫‪ -32‬مفتاح دار السعادة‪ ،‬لبن القيم ‪ ،‬ط‪ .‬مكتبة‬
‫السعادة‪.‬‬
‫‪ -33‬موطــأ مالــك ‪ ،‬بــترقيم محمــد فــؤاد عبــد‬
‫الباقى‪ ،‬ط‪ .‬الحلبى‪.‬‬
‫‪ -34‬موارد الظمآن فى زوائد ابن حيان‪ ،‬ط‪ .‬دار‬
‫الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ -35‬موعظة المؤمنين‪ ،‬للقاســمى‪ ،‬ط‪ .‬المكتبــة‬
‫التجارية‪.‬‬
‫‪ -36‬المعجـــم المفهـــرس لللفـــاظ الحـــديث‪،‬‬
‫لجماعة من المستشرقين ‪ ،‬ط‪ .‬دار الدعوة‪.‬‬
‫‪ -37‬الوابل الصيب ‪ ،‬لبن القيــم ‪ ،‬ط‪ .‬المطبعــة‬
‫السلفية‪.‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫‪ -15‬فهرس الموضوعات‬
‫مقدمة المؤلف‬
‫‪ -1‬الخلص والمتابعة‬
‫أ‪ -‬الخلص‬
‫‪ -‬بعض الثار عن الخلص‬
‫‪ -‬فضل النية‬
‫ب‪ -‬متابعة السنة‬
‫‪ -2‬فضل العلم والعلماء‬
‫‪ -3‬أنواع القلوب وأقسامها‬
‫‪ -‬علمات مرض القلب وصحته‬
‫‪ -‬أسباب مرض القلب‬
‫‪ -4‬سموم القلب الربعة‪:‬‬
‫‪ -1‬فضول الكلم‪.‬‬
‫‪ -2‬فضول النظر‪.‬‬
‫‪ -3‬فضول الطعام‪.‬‬
‫‪ -4‬فضول المخالطة‪.‬‬
‫‪ -5‬أسباب حياة القلب وأغذيته النافعة‪.‬‬
‫‪ -1‬ذكر الله وتلوة القرآن‬
‫‪ -2‬الستغفار‬
‫‪ -3‬الدعاء‬
‫‪ -4‬الصلة على النبى‬
‫‪ -5‬قيام الليل‬
‫‪ -6‬الزهد فى الدنيا ‪ ،‬وبيان حقارتها‪.‬‬
‫‪ -‬ذم الدنيا‬
‫‪ -‬أضرار حب الدنيا‬

‫‪- 177 -‬‬


‫‪ -7‬أحوال النفس ومحاسبتها‬
‫‪ -‬فوائد محاسبة النفس‬
‫‪ -8‬الصبر والشكر‬
‫أ‪ -‬الصبر‬
‫‪ -‬معنى الصبر وحقيقته‬
‫‪ -‬الخبار الواردة فى فضيلة الصبر‬
‫ب‪ -‬الشكر‬
‫‪ -9‬التوكل‬
‫‪ -10‬محبة الله عز وجل‬
‫‪ -11‬الرضا بقضاء الله عز وجل‬
‫‪ -12‬الخوف والرجاء‬
‫أ‪ -‬الرجاء‬
‫‪ -‬أخبار الرجاء‬
‫ب‪ -‬الخوف‬
‫‪ -‬فضيلة الخوف‬
‫‪ -‬الخبار فى الخوف‪.‬‬
‫‪ -13‬التوبة‬
‫‪ -‬التوبة النصوح‬
‫‪ -‬أسرار التوبة ولطائفها‪.‬‬
‫‪ -14‬فهرس المراجع‬
‫‪ -15‬فهرس الموضوعات‬

‫‪- 178 -‬‬

You might also like