You are on page 1of 342

‫تأليف‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة الولى‬
‫‪1427‬هـ ‪2006 -‬م‬
‫رقم اليداع‪9846/2005 :‬‬
‫الترقيم الدولى‪I.S.B.N :‬‬
‫‪1 - 58 – 6119 – 977‬‬

‫مركز السلم للتجهيز‬


‫الفني‬
‫عبد الحميد عمر‬
‫‪010696‬‬
‫‪2647‬‬

‫مؤسسة اقرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة – بجوار حديقة الفسطاط‬
‫محمول‪5224207/010 :‬‬ ‫القاهرة ت‪5326610 :‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪Email: info@iqraakotob.com‬‬
‫الهــــــــداء‬
‫إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين‪،‬‬
‫وطلب العلم المجتهدين‪ ،‬وأبناء المة الغيورين‬
‫أهدي هذا الكتاب‪ ،‬سائل ً المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬بأسمائه‬
‫صا‬
‫الحسنى وصفاته الُعلى أن يكون خال ً‬
‫لوجهه الكريم‬

‫جو‬ ‫ن ي َْر ُ‬ ‫كا َ‬‫من َ‬ ‫ف َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬


‫مل‬‫ع َ‬ ‫ل َ‬ ‫م ْ‬ ‫ع َ‬‫فل ْي َ ْ‬‫ه َ‬
‫قاءَ َرب ّ ِ‬ ‫لِ َ‬
‫ه‬
‫ة َرب ّ ِ‬‫عَبادَ ِ‬ ‫ك بِ ِ‬‫ر ْ‬ ‫ش ِ‬ ‫ول َ ي ُ ْ‬‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ َ‬
‫دا" ]الكهف‪.[110 :‬‬ ‫ح ً‬‫أ َ‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬

‫المؤلف في سطور‬
‫علي محمد محمد الصلبي‬
‫ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام ‪ 1383‬هـ ‪1963 /‬م‪.‬‬
‫حصل على درجة الجازة العالية »الليسانس« من كلية الدعوة‬
‫وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز‪ ،‬وكان الول‬
‫على دفعته عام ‪1414‬هـ‪1993 /‬م‪.‬‬
‫نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان السلمية‪ ،‬كلية أصول‬
‫الدين‪ ،‬قسم التفسير وعلوم القرآن‪ ،‬عام ‪ 1417‬هـ‪1996 /‬م‪.‬‬
‫نال درجة الدكتوراه في الدراسات السلمية‪.‬‬
‫صدرت له عدة كتب‪:‬‬
‫‪ -1‬من عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين »دار البيارق«‪.‬‬
‫‪ -2‬الوسطية في القرآن الكريم »دار البيارق – دار النفائس«‪.‬‬
‫‪ -‬سلسلة »صفحات من التاريخ السلمي في الشمال‬
‫الفريقي«‪.‬‬
‫‪ -3‬صفحات من تاريخ ليبيا السلمي والشمال الفريقي »دار‬
‫البيارق«‪.‬‬
‫‪ -4‬عصر الدولتين الموية والعباسية وظهور فكر الخوارج »دار‬
‫البيارق«‪.‬‬
‫‪ -5‬الدولة العبيدية )الفاطمية( والرافضية »دار البيارق«‪.‬‬
‫‪ -6‬فقه التمكين عند دولة المرابطين »دار البيارق«‪.‬‬
‫‪ -7‬دولة الموحدين »دار البيارق«‪.‬‬
‫‪ -8‬الدولة العثمانية‪ ..‬عوامل النهوض وأسباب السقوط »دار‬
‫التوزيع والنشر السلمية«‪.‬‬
‫‪ -9‬الحركة السنوسية في ليبيا »دار البيارق«‪.‬‬
‫أ‪ -‬المام محمد بن علي السنوسي ومنهجه في التأسيس‪.‬‬
‫ب‪ -‬محمد المهدي السنوي‪ ،‬وأحمد الشريف‪.‬‬
‫ج‪ -‬إدريس السنوسي‪ ،‬وعمر المختار‪.‬‬
‫‪ -10‬فقه التمكين في القرآن الكريم »دار الوفاء‪ ،‬دار البيارق«‪.‬‬
‫‪ -11‬السيرة النبوية‪ ..‬عرض وقائع وتحليل أحداث »دار التوزيع‬
‫والنشر السلمية«‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫مقدمة‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور‬
‫أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ .‬من يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل‬
‫هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬ ‫محم ً‬
‫ن إ ِل ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫موت ُ ّ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قات ِ ِ‬ ‫ق تُ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫َ ‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[102 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م ْ‬ ‫وأن ُْتم ّ‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫من ن ّف ٍ‬ ‫خلقكم ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫س ات ّقوا َرب ّك ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫خل َ‬
‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ساءً‬ ‫ون ِ َ‬ ‫َ‬ ‫جال ً ك َِثيًرا‬ ‫ر َ‬ ‫ِ‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ه‬
‫من ْ ُ‬ ‫ث ِ‬ ‫وب َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ها‬‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫ها َز‬ ‫من ْ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫حد َ ٍ‬ ‫وا ِ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬
‫َ َ ْ ْ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ْ َ َ ِ ّ‬ ‫م‬ ‫حا‬ ‫ر‬ ‫وال‬ ‫ه‬
‫َ ِ ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫سا‬
‫َ َ َ‬ ‫ت‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫وات ّ‬ ‫َ‬
‫قيًبا" ]النساء‪.[1 :‬‬ ‫َر ِ‬
‫قوُلوا َ‬ ‫َ‬
‫دا ‪‬‬ ‫دي ً‬
‫س ِ‬ ‫ول ً َ‬ ‫ق ْ‬ ‫و ُ‬
‫ه َُ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫نآ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها َ ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ه‬
‫ع الل َ‬ ‫من ي ُطِ ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫م ذُُنوب َك ْ‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫غ ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مال َك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ح لََك ُ ْ‬ ‫صل ِ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫ما" ]الحزاب‪.[71 ،70 :‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ع ِ‬ ‫وًزا َ‬ ‫َ‬
‫ه فقدْ فاَز ف ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سول ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك وعظيم سلطانك‪ ،‬لك‬
‫الحمد حتى ترضى‪ ،‬ولك الحمد إذا رضيت‪ ،‬ولك الحمد بعد الرضا‪.‬‬
‫كان شغفي بسيرة الصديق ‪ ‬منذ الطفولة‪ ،‬وكنت شديد الولع‬
‫بالقراءة والسماع لسيرته العطرة‪ ،‬ومضت اليام ومرت السنون‪،‬‬
‫وأكرمني الله تعالى بالدراسة في الجامعة السلمية بالمدينة‬
‫المنورة‪ ،‬وكان من ضمن المواد المقررة في مادة التاريخ السلمي‬
‫تاريخ الخلفاء الراشدين‪ ،‬وقد طلب الستاذ المحاضر أن ندرس كتاب‬
‫»البداية والنهاية« لبن كثير‪ ،‬و»الكامل« لبن الثير في ترجمة‬
‫ف بكتاب التاريخ السلمي للشيخ محمود شاكر‪،‬‬ ‫الصديق‪ ،‬ولم يكت ِ‬
‫فكانت لتلك الرشادات أثر ‪-‬بعد توفيق الله تعالى‪ -‬للتعرف على‬
‫حقيقة شخصية الصديق وعصره‪ .‬وعندما سجلت بجامعة أم درمان‬
‫السلمية رسالة الدكتوراه وكان عنوانها‪) :‬فقه التمكين في القرآن‬
‫الكريم وأثره في تاريخ المة(‪ ،‬استقر البحث على ثلثة أبواب‪ :‬فقه‬
‫التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬فقه التمكين في السيرة النبوية‪ ،‬فقه‬
‫التمكين عند الخلفاء الراشدين‪ ،‬وكانت أوراق البحث قد جاوزت‬
‫‪ 1200‬صفحة‪ ،‬فرأى الدكتور المشرف أن نكتفي بفقه التمكين في‬
‫دل الخطة على هذا الساس‪ ،‬وقدم مقترحه‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬وع ّ‬
‫لمجلس الكلية فوافق على ذلك‪ ،‬وقال لي بعد المناقشة‪ :‬بإذن الله‬
‫تعالى تستطيع أن تخرج فقه التمكين في السيرة النبوية‪ ،‬وفقه‬
‫التمكين عند الخلفاء الراشدين كتًبا‪ ،‬لعل الله ينفع بها المسلمين‪.‬‬
‫وبتوفيق الله‪ ،‬وبسبب ما ساقه من أسباب‪ ,‬تطور كتاب فقه التمكين‬
‫في السيرة النبوية‪ ،‬وأصبح »السيرة النبوية‪ ..‬عرض وقائع وتحليل‬
‫أحداث«‪.‬‬
‫وهذا الكتاب الذي أقدم له الن »أبو بكر الصديق شخصيته‬
‫وعصره« يرجع الفضل في كتابته للمولى عز وجل‪ ،‬ثم للستاذ‬

‫‪5‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الدكتور المشرف على رسالة الدكتوراه‪ ،‬ومجموعة خيرة من‬


‫الدعاة والشيوخ والعلماء الذين شجعوني على الهتمام بدراسة‬
‫الخلفاء الراشدين‪ ،‬حتى إن أحدهم قال لي‪ :‬أصبحت هناك فجوة‬
‫كبيرة بين أبناء المسلمين وذلك العصر‪ ،‬وحدث خلط في ترتيب‬
‫الولويات؛ حيث صار الشباب يل ّمون بسير الدعاة والعلماء‬
‫والمصلحين أكثر من إلمامهم بسيرة الخلفاء الراشدين‪ ،‬وأن ذلك‬
‫العصر غني بالجوانب السياسية والعلمية والخلقية والقتصادية‬
‫والفكرية والجهادية والفقهية التي نحن في أشد الحاجة إليها‪،‬‬
‫ونحتاج أن نتتبع مؤسسات الدولة السلمية‪ ،‬وكيف تطورت مع‬
‫مسيرة الزمن؛ كالمؤسسة القضائية والمالية ونظام الخلفة‬
‫والمؤسسة العسكرية وتعيين الولة‪ ،‬وما حدث من اجتهادات في‬
‫ذلك العصر عندما احتكت المة السلمية بالحضارة الفارسية‬
‫والرومانية‪ ،‬وطبيعة حركة الفتوحات السلمية‪.‬‬
‫كانت بداية هذا الكتاب فكرة أراد الله لها أن تصبح حقيقة‪ ،‬فأخذ الله‬
‫بيدي وسهل لي المور وذلل الصعاب‪ ،‬وأعانني على الوصول للمراجع‬
‫ما ّسيطر على مشاعري وتفكيري‬
‫ولم ُ‬ ‫والمصادر‪ ،‬وأصبح هذا العمل هَ‬
‫ل‬
‫ِ‬ ‫أبا‬ ‫الليالي‬ ‫له‬ ‫فسهرت‬ ‫الكبرى‪،‬‬ ‫وأحاسيسي‪ ،‬فجعلته من أهدافي‬
‫بالعوائق ول الصعاب‪ ،‬والفضل لله تعالى الذي أعانني على ذلك‪ ،‬قال‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫وأظل أمضي غير مضطرب‬ ‫َ‬ ‫الهول في دربي وفي هدفي‬
‫ب‬
‫أو كنت من ربي على رِي َ ِ‬ ‫خوٍَر‬
‫ما كنت من نفسي على َ‬
‫ب‬
‫الله ملُء القصد والَر ِ‬ ‫ما في المنايا ما أحاذره‬

‫إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر‪ ،‬وهي‬


‫متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع‪ ،‬سواء كانت تاريخية أو‬
‫حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية‪ ،‬فنحن في أشد الحاجة لجمعها‬
‫وترتيبها وتوثيقها وتحليلها؛ فتاريخ الخلفة إذا أحسن عرضه يغذي‬
‫الرواح ويهذب النفوس وينور العقول‪ ،‬ويشحذ الهمم‪ ،‬ويقدم‬
‫الدروس‪ ،‬ويسهل العَِبر وينضج الفكار‪ ،‬فنستفيد من ذلك في إعداد‬
‫الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة‪ ،‬ونتعرف على حياة وعصر‬
‫ن‬‫ري َ‬
‫ج ِ‬‫ها ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫وُلو َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬ ‫وال ّ‬ ‫فيهم‪َ + :‬‬ ‫ّ‬
‫من قال الله‬
‫ضوا‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫م‬
‫ْ ُ ْ َ َ َ ُ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ي‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫سا‬
‫ِ ِ ْ َ ٍ ّ ِ َ‬ ‫ح‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ر َ ِ َ ّ َ ُ ُ‬
‫عو‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫صا ِ‬ ‫َ‬ ‫والن ْ َ‬ ‫َ‬
‫دا‬
‫َ ً‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫في‬ ‫ن‬
‫ِ ِ َ ِ َ‬ ‫دي‬ ‫ل‬‫خا‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫ها‬
‫ْ َ ُ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ها‬ ‫ت‬
‫َ ْ َ َ‬‫ح‬ ‫ت‬ ‫ري‬ ‫وْ ّ ُ ْ ْ َ ّ ٍ َ ْ ِ‬
‫ج‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫نا‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫َ‬
‫م" ]التوبة‪.[100 :‬‬ ‫ظي ُ‬ ‫ع ِ‬‫وُز ال َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ك ال َ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫عَلى‬ ‫داءُ َ‬ ‫ل الله وال ّذين مع َ‬ ‫سو ُ‬
‫ش ّ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ِ َ ِ َ َ َ ُ‬ ‫مدٌ ّر ُ‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬ ‫ْ وقال تعالى‪ُ + :‬‬
‫دا" ]الفتح‪.[29 :‬‬ ‫ج‬
‫ُ ّ ً‬ ‫س‬ ‫عا‬ ‫ّ‬ ‫ك‬
‫ْ ُ ً‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫را‬
‫ماءُ ب َي ْن َ ُ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ح َ‬ ‫ر ُر َ‬ ‫فا ِ‬‫ال ك ُ ّ‬
‫فيهم رسول الله ×‪» :‬خير أمتي القرن الذي بعثت‬ ‫)‪(1‬‬
‫وقال‬
‫فيهم‪. «...‬‬

‫)‪ (2‬شرح السنة للبغوي‪.215 ،1/214 ،‬‬ ‫)( مسلم‪.2534 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪6‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وقال فيهم عبد الله بن مسعود‪» :‬من كان مستًنا فليستن بمن‬
‫قد مات؛ فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة‪ ،‬أولئك أصحاب محمد كانوا‬
‫فا‪ .‬قوم‬ ‫ما وأقلها تكل ً‬
‫والله أفضل هذه المة وأبّرها قلوبا وأعمقها عل ً‬
‫اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه‪ ،‬فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم‬
‫بما‪(1‬استطعتم من أخلقهم ودينهم‪ ،‬فإنهم كانوا‬ ‫)‬
‫في آثارهم‪ ،‬وتمسكوا‬
‫على الهدي المستقيم«‪.‬‬
‫فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام السلم ونشره في مشارق‬
‫الرض ومغاربها‪ ،‬فعصرهم خير العصور‪ ،‬فهم الذين علموا المة‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ورووا لها السنن والثار عن رسول الله ×‪ ،‬فتاريخهم‬
‫هو الكنز الذي حفظ مدخرات المة في الفكر والثقافة والعلم‬
‫والجهاد وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والمم‪ ،‬فتجد‬
‫الجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في‬
‫الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد‪ ،‬وتعرف من خلله حقيقة‬
‫رسالتها ودورها في دنيا الناس‪ .‬وقد عرف العداء من اليهود‬
‫والنصارى والعلمانيين والماركسيين والروافض وغيرهم خطورة‬
‫التاريخ وأثره في صياغة النفوس وتفجير الطاقات‪ ،‬فعملوا على‬
‫تشويهه وتزويره وتحريفه وتشكيك الجيال فيه؛ فقد لعبت فيه‬
‫اليدي الخبيثة في الماضي وحرفته أيدي المستشرقين في الحاضر؛‬
‫ففي الماضي تعرض تاريخنا السلمي للتحريف والتشويه على أيدي‬
‫اليهود والنصارى والمجوس والرافضة الذين أظهروا السلم وأبطنوا‬
‫الكفر‪ ،‬إذ رأوا أن كيد السلم على الحيلة أشد نكاية فيه وفي أهله‪،‬‬
‫فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم السلم وتفتيت دولته‬
‫وتفريق أتباعه‪ ،‬وذلك عن طريق تزييف الخبار وترويج الشائعات‬
‫الكاذبة وتدبير الفتن ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان ‪ ،‬فقام‬
‫عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه بالدور الكبير في إشعال نار الفتنة‬
‫التي أودت بحياة الخليفة الراشد الثالث‪ ،‬وكذلك إشعال المعركة بين‬
‫المسلمين في موقعة الجمل بعد أن كاد يتم الصلح بين الطرفين‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من التحركات والمؤامرات التي قصد بها النيل من‬
‫السلم وأتباعه‪ ،‬هذا بالضافة إلى الروايات الضعيفة والموضوعة‬
‫الواردة في مصادر التاريخ السلمي ‪-‬وهي تشوه سيرة الصحابة‪-‬‬
‫كرواية التحكيم التي تتهم بعضهم بالخداع أو الغباء أو التعلق بالجاه‬
‫والسلطة‪ ،‬والهدف من وضع هذه الروايات الطعن في السلم‬
‫بطريقة غير مباشرة؛ لن السلم لم يؤده لنا إل الصحابة‪ ،‬والتشكيك‬
‫في ثقتهم وعدالتهم هو تشكيك بالتالي في صحة السلم‪.‬‬
‫هذا وقد استغل المستشرقون هذه الروايات الموضوعة ومن‬
‫سار على نهجهم من أذنابهم ممن يتكلمون بلغتنا‪ ،‬فركزوا على‬
‫ما تسابقوا إلى اقتسامه ما‬ ‫التوسع في البحث فيها؛ بل كانت مغن ً‬
‫أغراضهم للطعن في السلم والنيل من أعراض‬ ‫دامت تخدم‬
‫الصحابة الكرام‪ (2).‬لقد قام العداء بصياغة تاريخنا وفق مناهجهم‬
‫المنحرفة‪ ،‬وتأثر بعض المؤرخين المسلمين بتلك المناهج‬
‫المستوردة‪ ،‬فأصبحت كتابتهم في العقود الماضية ترجمة حرفية لما‬
‫كتبه المستشرقون والماركسيون والروافض واليهود وغيرهم من‬
‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقدمة الستاذ سيد قطب لكتاب )خالد بن الوليد( للشيخ صادق‬ ‫‪2‬‬

‫عرجون‪ ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪7‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أعداء المة؛ وذلك لنهم ل يملكون تصورًا حقيقيًا لروح السلم‬
‫وطبيعته؛ حيث إن كتابة التاريخ السلمي تحتاج حتما إلى إدراك‬
‫طبيعة الفكرة السلمية ونظرتها إلى الحياة والحداث والشياء‪،‬‬
‫ووزنها للقيم التي عليها الناس‪ ،‬وتأثيرها في الرواح والفكار‬
‫وصياغتها للنفوس والشخصيات‪ ..‬ودراسة الشخصيات السلمية –‬
‫كا كامل ً لطبيعة استجابة تلك‬ ‫على وجه خاص‪ -‬تقتضي إدرا ً‬
‫الشخصيات السلمية ليحاءات الفكرة السلمية‪ ،‬فإن طريقة‬
‫استجابة تلك الشخصيات لهذه اليحاءات مسألة هامة في صياغة‬
‫شعورها بالقيم وسلوكها في الحياة‪ ،‬وتفاعلها مع الحداث‪ ،‬ولن‬
‫يدرك طبيعة الفكرة السلمية ول طريقة استجابة الشخصيات‬
‫السلمية لها إل كاتب مؤمن بهذه الفكرة مستجيب لها من أعماقه‪،‬‬
‫عن‪(1‬تلبس ضميره بها ل عن رصدها من‬ ‫)‬
‫لكي يكون إدراكه لها ناشئًا‬
‫الخارج بالذهن المتجرد البارد‪.‬‬
‫وبسبب غياب ذلك المنهج وقع بعض المعاصرين من المؤرخين‬
‫والكتاب والدباء في تشويه صورة سلف هذه المة‪ ،‬وأظهروا‬
‫الصحابة بمظهر المتكالب على الدنيا وسفك الدماء للوصول إلى‬
‫الغايات التي ينشدونها من الستيلء على الحكم والتنكيل بخصومهم‪،‬‬
‫فتناولوا ذلك بعيدًا عن فهم حقيقة الجيل الذي تربى في مدرسة‬
‫المصطفى ×‪ ،‬وبعيدا عن تأثرهم بالسلم وعقيدته وأصوله‪ ،‬وبسبب‬
‫تلك الكتابات نشأ جيل ل يعرف عن تاريخه إل الحروب وسفك‬
‫الدماء والخداع والمكر والحيلة‪ ،‬وأصبحت صورة الصحابة ‪-‬رضوان‬
‫الله عليهم جميعًا‪ -‬مشوهة‪ ،‬مما جعل بعض المسلمين يرد تلك‬
‫مجرد أن تلك الباطيل مسطرة‬ ‫الباطيل دون أن يعي الحقيقة؛ بل‬
‫)‪(2‬‬
‫في كتاب زيد أو عمرو من الك ُّتاب‪.‬‬
‫إن إعادة كتابة التاريخ السلمي بمنهج أهل السنة والجماعة‬
‫أصبح ضرورة ملحة لبناء المة‪ ،‬وقد بدأت أقلم الباحثين والك ُّتاب‬
‫تصيغ التاريخ من هذا المنظور‪ ،‬وهم لم يبدأوا من فراغ؛ لن الله‬
‫حمى دينه وحمى أمته‪ ،‬فقيض لتاريخ الصحابة من يحقق وقائعه‬
‫ويصحح أخباره‪ ،‬ويكشف الستار عن الوضاعين والكذابين من ملفقي‬
‫الخبار‪ ،‬ويرجع الفضل في ذلك التصحيح إلى الله ثم أهل السنة‬
‫والجماعة من أئمة الفقهاء والمحدثين الذين حفلت مصادرهم بالكثير‬
‫الشارات والروايات الصحيحة التي تنقض وترد كل ما وضعه‬ ‫)‪(3‬‬
‫من‬
‫الملفقون‪.‬‬
‫ت على أصول منهج أهل السنة‪ ،‬فعكفت على المصادر‬ ‫سْر ُ‬ ‫وقد ِ‬
‫والمراجع القديمة والحديثة‪ ،‬ولم أعتمد في دراسة عصر الخلفاء‬
‫الراشدين على الطبري وابن الثير والذهبي وكتب التاريخ المشهورة‬
‫فقط؛ بل رجعت إلى كتب التفسير والحديث وشروحها وكتب‬
‫التراجم والجرح والتعديل وكتب الفقه‪ ،‬فوجدت فيها مادة تاريخية‬
‫غزيرة يصعب الوقوف على حقيقتها في الكتب التاريخية المعروفة‬
‫والمتداولة‪ ،‬وقد بدأت بالكتابة عن أبي بكر الصديق ‪ ‬متناول‬
‫)( المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬أبو بكر ‪ ،‬محمد مال الله‪ ،‬ص ‪.16 ،15‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬المنهج السلمي لكتابة التاريخ‪ ،‬د‪ .‬محمد المحزون‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪8‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫شخصيته وعصره‪ ،‬فهو سيد الخلفاء الراشدين‪ ،‬وقد حثنا رسول الله‬
‫× وأمرنا باتباع سنتهم والهتداء بهديهم‪ ،‬قال ×‪» :‬عليكم بسنتي‬
‫وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي«‪ (1).‬فأبو بكر ‪ ‬سيد‬
‫الصديقين وخير الصالحين بعد النبياء والمرسلين‪ ،‬فهو أفضل‬
‫أصحاب رسول الله × وأعلمهم وأشرفهم على الطلق‪ ،‬فقد قال‬
‫ذا خليل ً لتخذت أبا بكر‪ ،‬ولكن أخي‬ ‫فيه رسول الله ×‪» :‬لو كنت متخ ً‬
‫الله × وفي عمر أيضا‪» :‬اقتدوا‬ ‫)‪(3‬‬
‫وصاحبي« ‪ (2).‬وقد قال فيه رسول‬
‫بالذين من بعدي‪ :‬أبي بكر وعمر«‪ .‬وشهد له عمر بن الخطاب‬
‫‪-‬رضي الله عنه‪ -‬بقوله‪ :‬أنت سيدنا وخيرنا‪ ،‬وأحبنا إلى رسول الله ×‪.‬‬
‫بن( الحنفية‬
‫)‪5‬‬
‫)‪ (4‬وقال عنه علي بن أبي طالب لما سأله ابنه محمد ا‬
‫بقوله‪ :‬أي الناس خير بعد رسول الله ×؟ قال‪ :‬أبو بكر‪.‬‬
‫إن حياة أبي بكر ‪ ‬صفحة مشرقة من التاريخ السلمي الذي‬
‫حوِ تواريخ المم مجتمعة بعض ما‬ ‫بهر كل تاريخ وََفاَقه‪ ،‬والذي لم ت َ ْ‬
‫حوى من الشرف والمجد والخلص والجهاد والدعوة لجل المبادئ‬
‫السامية‪ ،‬لذلك قمت بتتبع أخباره وحياته وعصره في المراجع‬
‫والمصادر‪ ،‬واستخرجتها من بطون الكتب‪ ،‬وقمت بترتيبها وتنسيقها‬
‫وتوثيقها وتحليلها؛ لكي تصبح في متناول الدعاة والخطباء والعلماء‬
‫والساسة ورجال الفكر وقادة الجيوش وحكام المة وطلب العلم‪،‬‬
‫لعلهم يستفيدون منها في حياتهم‪ ،‬ويقتدون بها في أعمالهم‪،‬‬
‫فيكرمهم الله بالفوز في الدارين‪.‬‬
‫لقد تتبعت صفات الصديق وفضائله ومشاهده في ميادين الجهاد‬
‫مع رسول الله ×‪ ,‬وحياته في المجتمع المدني‪ ،‬ومواقفه العظيمة‬
‫بعد وفاة رسول الله ×‪ ،‬وكيف ثّبت الله به المة‪ ،‬وسلطت الضواء‬
‫على سقيفة بني ساعدة وما تم فيها من حوار ونقاش بين‬
‫المهاجرين والنصار‪ ،‬ونسفت الشبهات والباطيل التي ألصقت بتاريخ‬
‫سقيفة بني ساعدة من قَِبل المستشرقين والروافض ومن سار على‬
‫نهجهم‪ ،‬وبينت موقف الصديق من إرسال جيش أسامة‪ ،‬وما في هذا‬
‫الحدث العظيم من دروس في الشورى والدعوة والحزم والقتداء‬
‫برسول الله ×‪ ،‬ورد الخلف إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وآداب الجهاد‬
‫وصورته المشرقة التي تمثلت في تعاليم الصديق لجيش أسامة‬
‫رضي الله عنهم‪ .‬وقد قمت بتوضيح أحداث الردة فتحدثت عن‬
‫أسبابها وأصنافها وبدايتها في أواخر العصر النبوي‪ ،‬وموقف الصديق‬
‫منها في خلفته وخطته التي وضعها للقضاء عليها‪ ،‬وأساليبه التي‬
‫استخدمها في حروبه ضد المرتدين‪ .‬وقد وقفت مع مؤهلت الصديق‬
‫التي توفرت في شخصيته والتي استطاع بها ‪-‬بعد توفيق الله‪ -‬أن‬
‫يسحق حركة الردة‪.‬‬
‫وقد تحدثت عن عصره وكيف تحققت شروط التمكين وأسبابه‪،‬‬
‫وصفات جيل التمكين في ذلك العهد الذي قاده الصديق‪ ،‬وأشرت‬
‫إلى سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي في دولته‪ ،‬وذكرت‬
‫)( سنن أبي داود‪ .4/201 ،‬والترمذي‪ ،5/44 ،‬حديث حسن صحيح‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬رقم‪.3656 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬صحيح سنن الترمذي لللباني‪.3/200 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (3‬نفس المصدر‬ ‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬رقم‪.3668 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫السابق‪ ،‬رقم‪.3671 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪9‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أهم نتائج أحداث الردة؛ من تمييز السلم عما عداه من تصورات‬
‫وأفكار وسلوك‪ ،‬وضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع‪ ،‬وتجهيز‬
‫الجزيرة قاعدة للفتوح السلمية‪ ،‬والعداد القيادي لحركة الفتوح‪،‬‬
‫والفقه الواقعي للردة‪ ،‬وسنة الله في إحاقة المكر السيئ بأهله‪،‬‬
‫واستقرار النظام الداري في الجزيرة‪.‬‬
‫وتكلمت عن فتوحات الصديق فبينت خطته في فتح العراق‪،‬‬
‫وسرت مع خالد في فتوحاته حتى ضم جنوب العراق وشماله‬
‫بمعاركه العظيمة التي ظهرت فيها بطولت نادرة من المثنى بن‬
‫حارثة والقعقاع بن عمر وخالد بن الوليد وجيوشهم المظفرة‪ ،‬فكانت‬
‫تلك المعارك الخطوة الولى لمعارك الفتوح الكبرى التي جاءت بعد‬
‫عصر الصديق‪ ،‬والتي أنارت تاريخ المة في مشوارها الطويل لنشر‬
‫دين الله والجهاد في سبيله‪ ..‬قال الشاعر‪:‬‬
‫عب ًَرا تضيء بأطيب القوال‬
‫ِ‬ ‫فالقادسية ما يزال حديثها‬
‫فتجيبها حطين بالمنوال‬ ‫تحكي مفاخرَنا وتذكر مجدنا‬
‫دان الرجال لها بغير جدال‬ ‫صفحات مجد في الخلود‬
‫سطورها‬
‫وبكل كف لمع النصال‬ ‫وكأنني بابن الوليد وجنده‬
‫فغدا يظّلل أطهر الطلل‬ ‫نشروا على أرض الخليل‬
‫لواءهم‬
‫وأتى صلح الدين صوب شمال‬ ‫وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى‬
‫لله بعد تسابق لقتال‬ ‫يسعى إليهم‪ ،‬قد شروا‬
‫أرواحهم‬
‫ما بعد قول الله من أقوال‬ ‫فهم العزة في كتاب خالد‬

‫هذا وقد حرصت على بيان وإظهار الرسائل التي كانت بين‬
‫الصديق وخالد بن الوليد وعياض بن غنم ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬المتعلقة‬
‫بفتوح العراق‪ ،‬وقد فصلت الخطوات التي سار عليها أبو بكر في‬
‫فتوحات الشام‪ ،‬فتحدثت عن عزمه في غزو الروم‪ ،‬ومشورته لكبار‬
‫الصحابة في جهادهم‪ ،‬وعن استنفارهم لهل اليمن‪ ،‬وخطته في‬
‫إرسال الجيوش‪ ،‬ووصاياه للقادة الذين بعثهم لفتح الشام ومتابعته‬
‫لهم وإمدادهم بالرجال والعتاد والتموين‪ ،‬ونقله لخالد من ميادين‬
‫العراق إلى قيادة جيوش الشام‪ ،‬وما تم في معركة أجنادين‬
‫واليرموك‪ ،‬واستخرجت من حركة الفتوحات بعض معالم الصديق في‬
‫سياسته الخارجية‪ ،‬من بذر هيبة الدولة في نفوس المم‪ ،‬ومواصلة‬
‫الجهاد الذي أمر به النبي ×‪ ،‬والعدل بين المم المفتوحة والرفق‬
‫بأهلها ورفع الكراه عنهم‪ ،‬وإزالة الحواجز البشرية بينهم وبين‬
‫الدعاة‪.‬‬
‫ووضحت بعض معالم التخطيط الحربي عند الصديق؛ في عدم‬
‫اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين‪ ،‬وعن قدرته في التعبئة‬

‫‪10‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وحشد القوات وتنظيم عملية المداد المستمرة وتحديد هدف‬
‫الحرب‪ ،‬وإعطائه الفضلية لمسارح العمليات‪ ،‬وعزله لميدان‬
‫المعركة‪ ،‬وتطويره لساليب القتال‪ ،‬وحرصه على سلمة خطوط‬
‫التصال بينه وبين قادة الجيوش‪ ،‬وبينت حقوق الله والقادة والجنود‬
‫من خلل وصاياه التي ألزم بها قادة حربه‪.‬‬
‫وتحدثت عن استخلفه لعمر‪ ،‬وعن أيامه الخيرة في هذه الحياة‬
‫الفانية‪ ،‬وعن آخر ما تكلم به َالصديق في هذه الدنيا بقول الله‬
‫ن"‬‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫قِني ِبال ّ‬ ‫وأل ْ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫ما َ‬
‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬ ‫و ّ‬
‫فِني ُ‬ ‫تعالى‪+ :‬ت َ َ‬
‫]يوسف‪.[101 :‬‬
‫لقد حاولت في هذا الكتاب أن أبين كيف فهم الصديق السلم‬
‫وعاش به في دنيا الناس‪ ،‬وكيف أثر في مجريات المور في عصره‪،‬‬
‫وتحدثت عن جوانب شخصيته المتعددة؛ السياسية والعسكرية‬
‫والدارية‪ ،‬وعن حياته في المجتمع السلمي لما كان أحد رعاياه‪،‬‬
‫وبعد أن أصبح خليفة رسول الله‪ ،‬وركزت على دور أبي بكر الصديق‬
‫باعتباره رجل دولة مميز من الطراز النادر‪ ،‬وعن سياسته الداخلية‬
‫والخارجية وأساليبه الدارية‪ ،‬وعن مؤسسة القضاء كيف كانت بدايتها‬
‫في عصره لكي نستطيع متابعة التطورات التي حدثت لها ولغيرها‬
‫من مؤسسات الدولة عبر العصر الراشدي والتاريخ السلمي‪.‬‬
‫إن هذا الكتاب يبرهن على عظمة أبي بكر الصديق ‪ ،‬ويثبت‬
‫ما‬
‫ما بفكره‪ ،‬عظي ً‬ ‫ما بعلمه‪ ,‬عظي ً‬
‫للقارئ بأنه كان عظيما بإيمانه‪ ،‬عظي ً‬
‫ما بآثاره‪ ،‬فقد جمع الصديق العظمة من‬ ‫ما بخلقه‪ ،‬عظي ً‬ ‫ببيانه‪ ،‬عظي ً‬
‫أطرافها‪ ،‬وكانت عظمته مستمدة من فهمه وتطبيقه للسلم‪ ،‬وصلته‬
‫بالله العظيمة‪ ،‬واتباعه الشديد لهدي الرسول ×‪.‬‬
‫من الئمة الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى‬ ‫إن أبا بكر ‪‬‬
‫الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة‪ ،‬فسيرته من أقوى مصادر‬
‫اليمان والعاطفة السلمية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين‪ ،‬فلذلك‬
‫اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي غير مدٍع‬
‫عصمة ول متبرئ من زلة‪ ،‬ووجه الله الكبير ل غيره قصدت وثوابه‬
‫أردت‪ ،‬وهو المسئول في المعونة عليه والنتفاع به‪ ،‬إنه طيب السماء‬
‫سميع الدعاء‪.‬‬
‫هذا وقد قمت بتقسيم هذا الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول‬
‫وخلصة‪ ،‬وهي كالتي‪:‬‬
‫المقدمة‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬أبو بكر الصديق ‪ ‬في مكة‪ ،‬ويشتمل على‬
‫خمسة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته‬
‫وحياته في الجاهلية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬هجرته مع رسول الله إلى المدينة‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الصديق في ميادين الجهاد‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الصديق في المجتمع المدني‪ ،‬وبعض‬

‫‪11‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫صفاته‪ ،‬وشيء من فضائله‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة‪،‬‬
‫ويشتمل على مبحثين‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية‪.‬‬
‫الثالثجيش أسامة وجهاد الصديق لهل الردة‪ ،‬ويشتمل‬ ‫‪:‬‬ ‫الفصل‬
‫على خمسة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬جيش أسامة ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬جهاد الصديق لهل الردة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الهجوم الشامل على المرتدين‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أهم العبر والدروس والفوائد من حروب‬
‫الردة‪.‬‬
‫الرابعفتوحات الصديق واستخلفه لعمر ووفاته‪ ،‬ويشتمل‬ ‫‪:‬‬ ‫الفصل‬
‫على أربعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬فتوحات العراق‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬فتوحات الصديق بالشام‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته‪.‬‬
‫هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الجمعة بعد صلة العشاء‬
‫بتاريخ الخامس من شهر المحرم لعام ‪1422‬هـ‪ ،‬الموافق للثلثين‬
‫من مارس من عام ‪2001‬م‪ ،‬والفضل لله من قبل‬
‫ومن بعد‪.‬‬
‫وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل قبولً حسنًا‪ ،‬وأن‬
‫يكرمنا برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫س ْ‬
‫ك‬ ‫م ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬‫و َ‬‫ها َ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫س َ‬ ‫م ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فل َ ْ ُ‬ ‫ة َ‬ ‫م ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫من ّر ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ه ِللّنا ِ‬ ‫الل ُ‬ ‫ح‬ ‫فت َ ِ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫م" ]فاطر‪.[2 :‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال َ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ول يسعني في نهاية هذه المقدمة إل أن أقف بقلب خاشع منيب‬
‫بين يدي الله عز وجل‪ ،‬معترفًا بفضله وكرمه وجوده؛ فهو المتفضل‬
‫ن به‬ ‫وهو المكرم وهو المعين وهو الموفق‪ ،‬فله الحمد على ما م ّ‬
‫ي أول وآخًرا‪ ،‬وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن‬ ‫عل ّ‬
‫صا ولعباده نافًعا‪ ،‬وأن يثيبني على كل حرف‬ ‫ً‬ ‫خال‬ ‫لوجهه‬ ‫عملي‬ ‫يجعل‬
‫كتبته ويجعله في ميزان حسناتي‪ ،‬وأن يثيب إخواني الذين أعانوني‬
‫بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع‪ ،‬ونرجو من كل‬
‫عفو ربه‬ ‫إلى‬‫الفقير َ‬ ‫العبد‬
‫ينسىرب أ َ‬ ‫مسلم يطلع على هذا الكتاب أن ل‬
‫شك َُر‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ع َِني أ ْ‬ ‫ز ْ‬ ‫َ ِ‬‫و‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫دعائه‪:‬‬ ‫ورحمته ورضوانه من‬ ‫ومغفرتهال ِّتي أ َ‬
‫حا‬‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬‫ع َ‬‫نأ ْ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ي َ‬ ‫وال ِدَ ّ‬ ‫عَلى َ‬ ‫و َ‬ ‫ي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫مت َ َ‬‫ع َ‬ ‫نِ ْ‬
‫ن" ]النمل‪.[19 :‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫عَباِدك ال ّ‬ ‫َ‬ ‫في ِ‬ ‫مت ِك ِ‬‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫خلِني ب َِر ْ‬ ‫وأدْ ِ‬ ‫ضاهُ َ‬ ‫ت َْر َ‬
‫سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪ ،‬أستغفرك‬
‫وأتوب إليك‪ .‬وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‪.‬‬
‫الفقير إلى عفو ربه‬

‫‪12‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ومغفرته ورضوانه‬
‫علي محمد محمد‬
‫لبي‬‫ص ّ‬
‫ال ّ‬
‫‪ 1422 / 1 / 5‬هـ‬

‫‪13‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫الفصل الول‬
‫أبو بكر الصديق ‪ ‬في مكة‬
‫المبحث الول‬
‫اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفاته‬
‫وأسرته وحياته في الجاهلية‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬اسمه ونسبه وكنيته وألقابه‪:‬‬
‫بن سعد بن‬ ‫هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب‬
‫تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي)‪ (,2()1‬ويلتقي‬
‫مع النبي × في النسب في الجد السادس مرة بن كعب ويكنى‬
‫والجمع بكارة وأبكر‪،‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫ي من البل‪،‬‬ ‫فت ِ ّ‬
‫بأبي بكر‪ ،‬وهي من البكر وهو ال َ‬
‫وقد سمت العرب بكًرا‪ ،‬وهو أبو قبيلة عظيمة‪.‬‬
‫ولقب أبو بكر ‪ ‬بألقاب عديدة‪ ،‬كلها تدل على سمو المكانة‪،‬‬
‫وعلو المنزلة وشرف الحسب‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬العتيق‪:‬‬
‫لقبه به النبي ×‪ ،‬فقد قال له ×‪» :‬أنت عتيق الله من النار«‪،‬‬
‫فسمي عتيقا‪ (4).‬وفي رواية عائشة قالت‪ :‬دخل أبو بكر الصديق على‬
‫الله( ×‪» :‬أبشر‪ ،‬فأنت عتيق الله من‬ ‫)‪6‬‬
‫الله ×‪ ،‬فقال له رسول‬ ‫)‪(5‬‬
‫رسول‬
‫أسباب‬ ‫المؤرخون‬ ‫ذكر‬ ‫وقد‬ ‫ا‪.‬‬ ‫عتيق‬
‫ً‬ ‫سمي‬‫ُ‬ ‫يومئذ‬ ‫فمن‬ ‫‪.‬‬‫النار«‬
‫قيل‪ :‬إنما سمي عتيقًا لجمال وجهه‪(9()7).‬وقيل‪:‬‬ ‫فقد‬ ‫اللقب‪،‬‬ ‫لهذا‬ ‫كثيرة‬
‫قديما في الخير‪ (8).‬وقيل‪ :‬سمي عتيقًا لعتاقة وجهه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لنه كان‬
‫م أبي بكر كان ل يعيش لها ولد‪ ،‬فلما ولدته استقبلت به‬ ‫وقيل‪ :‬إن أ ّ‬
‫الكعبة وقالت‪ :‬اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي‪ (10).‬ول مانع‬
‫للجمع بين بعض هذه القوال؛ فأبو بكر جميل الوجه‪ ،‬حسن النسب‪،‬‬
‫سابقة إلى الخير‪ ،‬وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة‬ ‫)‪(11‬‬
‫صاحب يد‬
‫النبي × له‪.‬‬
‫ديق‪:‬‬
‫‪ -2‬الص ّ‬
‫)( الصابة لبن حجر‪ (2) .145 ،4/144 :‬سيرة وحياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي‬ ‫‪1‬‬

‫السيد‪ ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬علي الطنطاوي‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الحسان في تقريب صحيح ابن حبان‪ ،15/280 ،‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( رواه الترمذي في المناقب‪ ،‬رقم‪ ،3679 :‬وصححه اللباني في السلسلة‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪.1574‬‬
‫)( أصحاب الرسول‪ ،‬محمود المصري‪ (7) .1/59 ،‬المعجم الكبير للطبراني‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.1/52‬‬ ‫‪7‬‬

‫)‪ (9‬المعجم الكبير‪ ،1/53 :‬والصابة‪:‬‬ ‫)( الصابة‪.1/146 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪.1/146‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( الكني والسماء للدولبي‪ ،1/6 :‬نقل عن خطب أبي بكر‪ ،‬محمد أحمد عاشور‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫جمال الكومي‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪/‬يسري محمد هاني‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫ص ‪.36‬‬

‫‪14‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫لقبه به النبي ×‪ ،‬ففي حديث أنس ‪ ‬أنه قال‪ :‬إن النبي × صعد‬
‫بهم‪(1‬فقال‪» :‬اثبت أحد‪،‬‬‫)‬
‫أحدا‪ ،‬وأبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬فرجف‬
‫فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان«‪.‬‬
‫وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي ×‪ ،‬وفي هذا تروي أم‬
‫المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬فتقول‪ :‬لما أسري بالنبي × إلى‬
‫المسجد القصى‪ ،‬أصبح يتحدث الناس بذلك‪ ،‬فارتد ناس كانوا آمنوا‬
‫به وصدقوه‪ ،‬وسعى رجال إلى أبي بكر‪ ،‬فقالوا‪ :‬هل لك إلى‬
‫صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال‪ :‬وقد قال‬
‫ذلك؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬لئن قال ذلك فقد صدق‪ .‬قالوا‪ :‬أو تصدقه أنه‬
‫ذهب الليلة إلى بيت المقدس‪ ،‬وجاء قبل أن يصبح؟!! قال‪ :‬نعم‪ ،‬إني‬
‫لصدقه فيما هو أبعد من ذلك‪ ،‬أصدقه)‪(2‬بخبر السماء في غدوة أو‬
‫روحة‪ ،‬فلذلك سمي أبو بكر‪ :‬الصديق‪.‬‬
‫بالصديق‪(3‬لنه بادر إلى تصديق الرسول‬ ‫وقد أجمعت المة على تسميته‬
‫أبدا‪).‬فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه‬ ‫ولزمه الصدق فلم تقع منه هناة ً‬‫‪×،‬‬
‫الشعراء‪ ،‬قال أبو محجن الثقفي‪:‬‬
‫سواك يسمى باسمه غير‬ ‫سميت صديقا وكل مهاجر‬ ‫و ُ‬
‫منكر‬
‫)‪(4‬‬
‫المشهر‬ ‫سبقت إلى السلم والله‬
‫شاهد‬
‫وأنشد الصمعي)‪ (5‬فقال‪:‬‬
‫وأعلم أن ذاك من الصواب‬ ‫ولكني أحب بكل قلبي‬
‫)‪(6‬‬
‫دا حسن الثواب‬
‫به أرجو غ ً‬ ‫رسولَ الله والصديقَ حّبا‬

‫‪ -3‬الصاحب‪:‬‬
‫د‬ ‫ف َ‬
‫ق ْ‬ ‫صُروهُ َ‬ ‫وجل‪ -‬في القرآن الكريم‪+ :‬إ ِل ّ َتن ُ‬ ‫ّ‬
‫لقبه به الله َ‪-‬عز‬
‫في‬ ‫ما ِ‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ن‬‫ْ ِ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ثا‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫خ َ َ ُ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ه إ ِذْ أ ْ‬ ‫صَرهُ الل ُ‬ ‫نَ ْ َ‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ف ِأ َ‬‫َ‬ ‫نا‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫صا‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ال َ ِ ِ‬
‫إ‬ ‫ر‬ ‫غا‬
‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ها‬
‫ْ َ ْ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ٍ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ب‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫د‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫كين َت َ ُ‬‫س ِ‬ ‫َ‬
‫زيٌز‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫لى‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫س‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫روا‬ ‫ف ُ‬ ‫كَ َ‬
‫م"]التوبة‪.[40:‬‬ ‫كي ٌ‬‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫)‪(7‬‬
‫وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبو بكر ‪‬‬
‫فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال‪ :‬قلت للنبي × وهو في الغار‪ :‬لو أن‬
‫أحدهم نظر إلى قدميه لبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي ×‪» :‬يا أبا‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب فضائل أصحاب النبي‪ ،‬باب فضل أبي بكر‪.5/11 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أخرجه الحاكم‪ ،63 ،3/62 ،‬وصححه وأقره الذهبي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (6‬أسد الغابة‪.3/310 ،‬‬ ‫الطبقات الكبرى‪.2/172 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫هو عبد الملك بن قريب الباهلي‪ ،‬رواية العرب ونابغة الدنيا في الحفظ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫أبو بكر الصديق للطنطاوي‪ (2) .49 ،‬تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء‪ ،‬يسري‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬
‫محمد هاني‪.39 ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪15‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫)‪(1‬‬
‫بكر‪ ،‬ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟«‪.‬‬
‫ه‬
‫صَر ُ‬ ‫ف َ‬
‫قد ْ ْ ن َ َ‬ ‫صُروهُ َ‬ ‫ابن حجر ‪-‬رحمه الله‪+ :-‬إ ِل ّ َتن ُ‬ ‫ه ال ّ‬
‫قال َالحافظ‬
‫ر إ ِذْ‬
‫غا ِ‬ ‫في ال َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن إ ِذْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫ثا‬‫َ‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ج ُ‬‫خَر َ‬ ‫ه إ ِذْ أ ْ‬ ‫الل ُ‬
‫عَنا" ]التوبة‪ [40 :‬فإن المراد‬ ‫م‬
‫َ َ َ‬‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬
‫َ ْ َ ْ ِ)‪ّ(2‬‬ ‫ز‬ ‫ح‬‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ل لِ َ ِ ِ ِ‬
‫ب‬‫ح‬ ‫صا‬ ‫قو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫كونه‪ (3‬كان معه في‬ ‫)‬
‫في‬ ‫والحاديث‬ ‫‪،‬‬ ‫منازع‬ ‫بل‬ ‫بكر‬ ‫أبو‬ ‫هنا‬ ‫بصاحبه‬
‫الغار كثيرة شهيرة‪ ،‬ولم يشركه في المنقبة غيره‪.‬‬
‫‪ -4‬التقى‪:‬‬
‫لقبه به الله ‪-‬عز وجل‪ -‬في القرآن الكريم في قوله تعالى‪:‬‬
‫قى" ]الليل‪ ، [17 :‬وسيأتي بيان ذلك في حديثنا‬ ‫ها الت ْ َ‬ ‫جن ّب ُ َ‬
‫سي ُ َ‬‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبو بكر ‪.‬‬
‫‪ -5‬الواه‪:‬‬
‫لقب أبو بكر بالواه‪ ،‬وهو لقب يدل على الخوف والوجل‬
‫والخشية من الله تعالى‪ ،‬فعن إبراهيم النخعي قال‪ :‬كان أبو بكر‬
‫)‪(4‬‬
‫يسمى بالواه لرأفته ورحمته‪.‬‬
‫قّية‪.‬‬ ‫خل ْ ِ‬ ‫ثانًيا‪ :‬مولده وصفته ال ْ َ‬
‫لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل‪ ،‬وإنما اختلفوا في‬
‫المدة التي كانت بعد عام الفيل‪ ،‬فبعضهم قال بثلث سنين‪ ،‬وبعضهم‬
‫ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر‪ ،‬وآخرون قالوا‬
‫)‪(5‬‬
‫بسنتين وأشهر‪ ،‬ولم يحددوا عدد الشهر‪.‬‬
‫وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز‬
‫في قومهما‪ ،‬مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس‪ ،‬عزيز المكانة في‬
‫)‪(6‬‬
‫قومه‪.‬‬
‫خْلقية‪ ،‬فقد كان يوصف بالبياض في اللون‪ ،‬والنحافة‬ ‫وأما صفته ال َ‬
‫في البدن‪ ،‬وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم‪ :‬دخلت على أبي بكر‪،‬‬
‫فا‪ ،‬خفيف اللحم أبيض‪ (7).‬وقد وصفه أصحاب السير‬ ‫وكان رجل نحي ً‬
‫من أفواه الرواة فقالوا‪ :‬إن أبا بكر ‪ ‬اتصف بأنه كان أبيض تخالطه‬
‫فا خفيف العارضين‪ ،‬أجنأ)‪ ،(8‬ل يستمسك‬ ‫صفرة‪ ،‬حسن القامة‪ ،‬نحي ً‬
‫إزاره يسترخي عن حقويه)‪ (9‬رقيقا معروق الوجه)‪ ،(10‬غائر العينين ‪،‬‬
‫)‪(11‬‬

‫أقنى)‪ ،(12‬حمش الساقين)‪ ،(13‬ممحوص الفخذين)‪ ،(14‬كان ناتئ الجبهة‪،‬‬


‫)‪ (4‬الصابة في تمييز الصحابة‪،‬‬ ‫)( البخاري‪ ،‬فضائل الصحابة‪ ،‬رقم‪.3653 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.4/148‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (6‬الطبقات الكبرى‪.3/171 ،‬‬ ‫)( المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( سيرة وحياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي السيد‪ ،‬ص ‪ .29‬تاريخ الخلفاء‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( الطبقات لبن سعد‪ ،3/188 ،‬إسناده صحيح‪ (4) .‬الجنأ‪ :‬ميل في الظهر‪.‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫)‪ (6‬المعروق‪ :‬هو قليل‬ ‫)( حقويه‪ :‬الحقو هو معقد الزار‪ ،‬يعني الخصر‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫اللحم‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫)‪ (7‬غائر العينين‪ :‬دخلت في الرأس‪ (8) .‬أقنى واستقنى‪ :‬حفظ حياءه ولزمه‪.‬‬ ‫‪11‬‬
‫‪12‬‬

‫)( حمش الساقين‪ :‬دقيق الساقين‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫)( الممحوص‪ :‬هو الشديد الخلق في الفخذين‪ ،‬مع قلة اللحم بهما‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪16‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(2‬‬
‫عاري الشاجع)‪ ،(1‬ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬أسرته‪.‬‬
‫أما والده فهو عثمان بن عامر بن عمرو‪ ،‬يكنى بأبي قحافة‪،‬‬
‫أسلم يوم الفتح‪ ،‬وأقبل به الصديق على رسول الله × فقال‪» :‬يا‬
‫هو‪(3‬أولى أن يأتيك‬ ‫أبا بكر‪ ،‬هل تركته حتى نأتيه«‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫وبايع‪(4‬رسول الله × ) ‪ ،‬ويروى أن‬ ‫)‬
‫يا رسول الله‪ .‬فأسلم أبو قحافة‬
‫غيروا‬ ‫)‪(5‬‬
‫»‬ ‫بكر‪:‬‬ ‫لبي‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫أبيه‬ ‫بإسلم‬ ‫رسول الله × هنأ أبا بكر‬
‫هذا من شعره«‪ ،‬فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة‪.‬‬
‫وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنه النبي × في توقير كبار‬
‫ذلك( قوله ×‪» :‬ليس منا من لم يوقر‬ ‫)‪6‬‬
‫السن واحترامهم‪ ،‬ويؤكد‬
‫كبيرنا ويرحم صغيرنا«‪.‬‬
‫وأما والدة الصديق‪ :‬فهي سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب‬
‫بن سعد بن تيم‪ ،‬وكنيتها أم الخير‪ ،‬أسلمت مبكرًا‪ ،‬وسيأتي تفصيل‬
‫)‪(7‬‬
‫ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي × على الظهور بمكة‪.‬‬
‫وأما زوجاته‪ :‬فقد تزوج ‪ ‬من أربع نسوة‪ ،‬أنجبن له ثلثة ذكور‬
‫وثلث إناث‪ ،‬وهن على التوالي‪:‬‬
‫‪ -1‬قتيلة بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن مالك‪:‬‬
‫اختلف في إسلمها )‪ ،(8‬وهي والدة عبد الله وأسماء‪ ،‬وكان أبو‬
‫بكر طلقها في الجاهلية وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن إلى ابنتها‬
‫أسماء بنت أبي بكر بالمدينة‪ ،‬فأبت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها‪،‬‬
‫فأرسلت إلى عائشة تسأل النبي × فقال النبي ×‪» :‬لتدخلها‪،‬‬
‫ن‬‫ع ِ‬‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫هاك ُ ُ‬ ‫ولتقبل هديتها«‪ ،‬وأنزل الله ‪-‬عز وجل‪+ :-‬ل َ ي َن ْ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫ِ َ ِ ْ‬ ‫ر‬‫يا‬ ‫د‬ ‫من‬ ‫ْ ّ‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫جو‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ول َ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬‫في ال ّ‬
‫َ‬
‫م ِ‬
‫ُ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ن لَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ا َل ّ ِ‬
‫ن"‬ ‫طي‬
‫ِ ِ َ‬ ‫س‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫َ ُ ّ‬‫ح‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ ْ ِ ْ ِ ّ‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫طوا‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫و‬‫ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫رو‬‫أن َ ّ‬
‫ب‬‫َ‬ ‫ت‬
‫]الممتحنة‪ ،[8 :‬أي‪ :‬ل يمنعكم الله من البر والحسان وفعل الخير إلى‬
‫الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء الضعيفة‬
‫منهم؛ كصلة الرحم‪ ،‬ونفع الجار‪ ،‬والضيافة‪ ،‬ولم يخرجوكم من‬
‫دياركم‪ ،‬ول يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم؛ بأداء ما‬
‫لهم من الحق؛ كالوفاء لهم بالوعود‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬وإيفاء أثمان‬
‫إن‪(9‬الله يحب العادلين ويرضى‬ ‫)‬
‫المشتريات كاملة غير منقوصة‪.‬‬
‫عنهم‪ ،‬ويمقت الظالمين ويعاقبهم‪.‬‬
‫)( الشاجع‪ :‬هو مفاصل الصابع‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬رقم‪ ،5895 :‬ومسلم‪ .2341 :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬مجدي السيد‪ ،‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.32‬‬
‫)‪(14‬السيرة النبوية في ضوء المصادر‬ ‫)( الصابة‪.4/375 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫الصلية‪ ،‬ص ‪.577‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الصابة‪ ،4/375 :‬الثغامة‪ :‬نبات يشبه به الشيب‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (1‬الترمذي‪ ،‬كتاب البر‪ ،‬باب ‪.15‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪7‬‬

‫)‪ (3‬الطبقات لبن سعد‪.8/249 ،3/169 ،‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( تفسير المنير للزحيلي‪.28/135 ،‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪17‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫‪ -2‬أم رومان بنت عامر بن عويمر‪:‬‬


‫من بني كنانة بن خزيمة‪ ،‬مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة‬
‫بمكة‪ ،‬فتزوجها أبو بكر‪ ،‬وأسلمت قديمًا‪ ،‬وبايعت‪ ،‬وهاجرت إلى‬
‫المدينة‪ ،‬وهي والدة عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهم‪ ،‬وتوفيت‬
‫)‪(1‬‬
‫في عهد النبي × بالمدينة سنة ست من الهجرة‪.‬‬
‫ميـس بن معبد بن الحارث‪:‬‬
‫‪ -3‬أسماء بنت ع ُ َ‬
‫أم عبد الله‪ ،‬من المهاجرات الوائل‪ ،‬أسلمت قديمً ا قبل‬
‫دخول دار الرقم‪ ،‬وبايعت الرسول × ‪ ،‬وهاجر بها زوجها جعفر‬
‫إلى الحبشة‪ ،‬ثم هاجرت معه إلى المدينة‬ ‫بن أبي طالب ‪‬‬
‫فاستشهد يوم مؤتة‪ ،‬وتزوجها الصديق فولدت له محمدا‪ .‬روى‬
‫عنها من الصحابة‪ :‬عمر‪ ،‬وأبو موسى‪ ،‬وعبد الله بن عباس‪،‬‬
‫وهو ابن اختها أم الفضل امرأة العباس‪ .‬وأمها هند بنت عوف‬
‫أصهار ا؛ فمن أصهارها‪ :‬رسول‬
‫ً‬ ‫ابن زهير وكانت أكرم الناس‬
‫)‪(2‬‬
‫الله وحمزة والعباس وغيرهم‬
‫‪ -4‬حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير‪:‬‬
‫النصارية‪ ،‬الخزرجية وهي التي ولدت لبي بكر أم كلثوم بعد‬
‫)‪(3‬‬
‫وفاته‪ ،‬وقد أقام عندها الصديق بالسنح‪.‬‬
‫وأما أولد أبي بكر ‪ ‬فهم‪:‬‬
‫‪ -1‬عبد الرحمن بن أبي بكر‪:‬‬
‫أسن ولد أبي بكر‪ ،‬أسلم يوم الحديبية‪ ،‬وحسن إسلمه‪ ،‬وصحب‬
‫رسول الله × وقد اشتهر بالشجاعة‪ ،‬وله مواقف محمودة ومشهودة‬
‫)‪(4‬‬
‫بعد إسلمه‪.‬‬
‫‪ -2‬عبد الله بن أبي بكر‪:‬‬
‫صاحب الدور العظيم في الهجرة‪ ،‬فقد كان يبقى في النهار بين أهل‬
‫مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل إلى الغار لينقل هذه الخبار‬
‫بسهم‬
‫)‪(5‬‬
‫وأبيه‪ ،‬فإذا جاء الصبح عاد إلى مكة‪ .‬وقد أصيب‬
‫لرسول الله ×‬
‫يوم الطائف‪ ،‬فماطله حتى مات شهيدا بالمدينة في خلفة الصديق‪.‬‬
‫‪ -3‬محمد بن أبي بكر‪:‬‬
‫)‪(6‬‬
‫أمه أسماء بنت عميس‪ ،‬ولد عام حجة الوداع وكان من فتيان‬
‫قريش‪ ،‬عاش في حجر علي بن أبي طالب‪ ،‬ووله مصر وبها قتل‪.‬‬
‫‪ -4‬أسماء بنت أبي بكر‪:‬‬
‫)‪ (2‬سير أعلم النبلء‪.2/282 ،‬‬ ‫)‪ (1‬الصابة‪.8/391 ،‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( منازل بني الحارث بن الخزوج في عوالي المدينة‪ (4) .‬البداية والنهاية‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.6/346‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( نسب قريش‪ ،‬ص ‪.275‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( نسب قريش‪ :‬ص ‪ ،277‬الستيعاب‪ (2) .3/1366 :‬سير أعلم النبلء‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.2/287‬‬

‫‪18‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ذات النطاقين‪ ،‬أسن من عائشة‪ ،‬سماها رسول الله × ذات‬
‫النطاقين لنها صنعت لرسول الله × ولبيها سفرة لما هاجرا فلم‬
‫تجد ما تشدها به‪ ،‬فشقت نطاقها وشدت به السفرة‪ ،‬فسماها النبي‬
‫× بذلك‪ .‬وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت إلى المدينة وهي‬
‫حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة‪ ،‬فكان أول مولود في‬
‫السلم بعد الهجرة‪ ،‬بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء‪ ،‬ولم‬
‫ن‪ُ .‬روي لها عن الرسول × ستة وخمسون حديثا‪ ،‬روى‬ ‫س ّ‬
‫يسقط لها ِ‬
‫بن‪(1‬أبي‬ ‫الله‬ ‫وعبد‬ ‫وعروة‪،‬‬ ‫الله‬ ‫عبد‬ ‫وأبناؤها‬ ‫عباس‪،‬‬ ‫بن‬ ‫الله‬ ‫عنها عبد‬
‫مليكة وغيرهم‪ ،‬وكانت جوادة منفقة‪ ،‬توفيت بمكة سنة ‪ 73‬هـ ) ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫‪ -5‬عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها‪:‬‬
‫الصديقة بنت الصديق‪ ،‬تزوجها رسول الله × وهي بنت ست‬
‫ستين‪ ،‬ودخل بها وهي بنت تسع سنين‪ ،‬وأعرس بها في شوال‪ ،‬وهي‬
‫كناها‪(2‬رسول الله × أم عبد الله‪ ،‬وكان حبه لها مثالً‬ ‫أعلم النساء‪،‬‬
‫للزوجية الصالحة ) ‪.‬‬
‫كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين‬
‫عائشة يقول‪ :‬حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة رسول‬
‫الله ×‪ ،‬ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث )‪ ،(2210‬اتفق‬
‫حديثا‪ ،‬وانفرد البخاري‬ ‫)‪(3‬‬
‫البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين‬
‫وعاشت ثلثًا‬ ‫‪،‬‬ ‫وستين‬ ‫بأربعة وخمسين‪ ،‬وانفرد مسلم بتسعة‬
‫وستين سنة وأشهرًا‪ ،‬وتوفيت سنة ‪ 57‬هـ‪ ،‬ول ذرية لها )‪.(4‬‬
‫‪ -6‬أم كلثوم بنت أبي بكر‪:‬‬
‫أمها حبيبة بنت خارجة‪ ،‬قال أبو بكر لم المؤمنين عائشة حين‬
‫حضرته الوفاة‪ :‬إنما هما أخواك وأختاك‪ ،‬فقالت‪ :‬هذه أسماء قد‬
‫خارجة‪ ،‬قد ألقى في خلدي‬ ‫عرفتها‪ ،‬فمن الخرى؟ قال‪ :‬ذو بطن بنت‬
‫أنها جارية‪ ،‬فكانت كما قال‪ :‬وولدت بعد موته‪ (5).‬تزوجها طلحة بن‬
‫عبيد الله وقتل عنها)‪(6‬يوم الجمل‪ ،‬وحجت بها عائشة في عدتها‬
‫فأخرجتها إلى مكة ‪.‬‬
‫هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالسلم‪ ،‬وقد‬
‫اختص بهذا الفضل أبو بكر ‪ ‬من بين الصحابة‪ ،‬وقد قال العلماء‪ :‬ل‬
‫يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله × إل آل‬
‫أبي بكر الصديق‪ ،‬وهم‪ :‬عبد الله بن الزبير‪ ،‬أمه أسماء بنت أبي بكر‬
‫وأيضا محمد بن عبد‬ ‫بن أبي قحافة‪ ،‬فهؤلء الربعة صحابة متناسلون‪،‬‬
‫الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم )‪.(7‬‬
‫وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولده‪ ،‬وأدركوا النبي ×‬
‫وأدركه أيضا بنو أولده إل أبو بكر من جهة الرجال والنساء ‪-‬وقد‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (4‬سير أعلم النبلء‪:‬‬ ‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.34‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.145 ،2/139‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( طبقات ابن سعد‪ ،58/58 :‬المنذر‪.4/5 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الطبقات‪.2/195 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( نسب قريش‪ :‬ص ‪ ،278‬الصابة‪ ،8/466 :‬تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء‬ ‫‪6‬‬

‫الراشدين‪ ،‬ص ‪.35‬‬


‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد رشيد رضا‪ :‬ص ‪.7‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪19‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بينت ذلك‪ -‬فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه‪ ،‬فهذا بيت الصديق‪ ،‬فأهله‬
‫أهل إيمان‪ ،‬ليس فيهم منافق ول يعرف في الصحابة مثل هذه لغير‬
‫بيت أبي بكر رضي الله عنهم‪.‬‬
‫وكان يقال‪ :‬لليمان بيوت وللنفاق بيوت‪ ،‬فبيت أبي بكر من بيوت‬
‫من المهاجرين‪ ،‬وبيت بني النجار من بيوت اليمان من‬‫)‪(1‬‬
‫اليمان‬
‫النصار‪.‬‬
‫خُلقي للصديق في المجتمع الجاهلي‪:‬‬
‫رابًعا‪ :‬الرصيد ال ْ ُ‬
‫كان أبو بكر الصديق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم‬
‫وأحد رؤسائهم‪ ،‬وذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور‬
‫السلم إلى عشرة رهط من عشرة أبطن؛ فالعباس ابن عبد‬
‫لمطلب من بني هاشم‪ ،‬وكان يسقي الحجيج في الجاهلية‪ ،‬وبقي له‬
‫ذلك في السلم‪ ،‬وأبو سفيان بن حرب من بني أمية‪ ،‬وكان عنده‬
‫العقاب )راية قريش(‪ ،‬فإذا لم تجتمع قريش على واحد رأسوه هو‬
‫وقدموه‪ ،‬والحارث بن عامر من بني نوفل‪ ،‬وكانت إليه الرفادة‪ ،‬وهي‬
‫ما تدخره قريش من أموالها‪ ،‬وترصد به منقطع السبيل‪ ,‬وعثمان بن‬
‫طلحة بن زمعة بن السود من بني أسد‪ ،‬وكانت إليه المشورة‪ ،‬فل‬
‫ُيجمع على أمر حتى يعرضوه عليه‪ ،‬فإن وافق ولهم عليه‪ ،‬وإل تخير‬
‫وكانوا له أعوانا‪ .‬وأبو بكر الصديق من بني تيم وكانت إليه الشناق‪،‬‬
‫وهي الديات والمغارم‪ ،‬فكان إذا حمل شيئا فسأل فيه قريشا‬
‫صدقوه‪ ،‬وأمضوا حمالة من نهض معه‪ ،‬وإن احتملها غيره خذلوه‪,‬‬
‫وخالد بن الوليد من بني مخزوم‪ ،‬وكانت إليه القبة والعنة‪ ،‬وأما‬
‫القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش‪،‬‬
‫وأما العنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب‪ ,‬وعمر بن‬
‫الخطاب من بني عدي‪ ،‬وكانت إليه السفارة في الجاهلية‪ ,‬وصفوان‬
‫والحارث بن قيس من‬ ‫بن أمية من بني جمح‪ ،‬وكانت إليه الزلم‪،‬‬
‫بني سهم‪ ،‬وكانت إليه الحكومة وأموال آلهتهم )‪.(2‬‬
‫لقد كان الصديق في المجتمع الجاهلي شريفًا من أشراف‬
‫خيارهم‪ ،‬ويستعينون به فيما نابهم‪ ،‬وكانت له بمكة‬ ‫قريش‪ ،‬وكان من‬
‫ضيافات ل يفعلها أحد )‪.(3‬‬
‫وقد اشتهر بعدة أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم بالنساب‪ :‬فهو عالم من علماء النساب وأخبار‬
‫العرب‪ ،‬وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين‬
‫العرب‬ ‫كعقيل بن أبي طالب وغيره‪ ،‬وكانت له مزية حببته إلى قلوب‬
‫وهي‪ :‬أنه لم يكن يعيب النساب‪ ،‬ول يذكر المثالب بخلف غيره)‪،(4‬‬
‫كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها‪ ،‬وبما فيها من خير‬ ‫فقد‬
‫وشر‪ (5).‬وفي هذا تروي عائشة –رضي الله عنها‪ -‬أن رسول الله ×‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،1/280 :‬لمحمد مال الله‪ ،‬مستخرج من منهاج السنة لبن‬ ‫‪1‬‬

‫تيمية‪.‬‬
‫)( أشهر مشاهير السلم‪.1/10 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نهاية الرب‪ ،19/10 :‬نقل عن تاريخ الدعوة‪ ،‬يسري محمد‪ :‬ص ‪.42‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4‬الصابة‪.4/146 :‬‬ ‫)( التهذيب‪.2/183 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫‪20‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫قال‪» :‬إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها« )‪.(1‬‬


‫بصرى من أرض الشام‬ ‫را‪ ،‬ودخل ُ‬ ‫‪ -2‬تجارته‪:‬كان في الجاهلية تاج ً‬
‫أربعين( ألف درهم‪ ،‬وكان‬ ‫ماله‬ ‫للتجارة‪ ،‬وارتحل بين البلدان‪ ،‬وكان رأس‬
‫عرف به في الجاهلية )‪. 2‬‬ ‫ينفق من ماله بسخاء وكرم ُ‬
‫‪ -3‬موضع اللفة بين قومه وميل القلوب إليه‪ :‬فقد ذكر‬
‫ابن إسحاق في »السيرة« أنهم كانوا يحبونه ويألفونه‪ ،‬ويعترفون‬
‫له بالفضل العظيم والخلق الكريم‪ ،‬وكانوا يأتونه ويألفونه لغير‬
‫واحد من المر‪ :‬لعلمه وتجارته وحسن مجالسته‪ (3).‬وقد قال له‬
‫العشيرة‪ ،‬وتعين على‬ ‫ابن الدغنة حين لقيه مهاجرا‪ :‬إنك لتزين‬
‫النوائب‪ ،‬وتكسب المعدوم‪ ،‬وتفعل المعروف‪ (4).‬وقد علق ابن‬
‫حجر على قول ابن الدغنة فقال‪ :‬ومن أعظم مناقبه أن ابن‬
‫الدغنة سيد القارة لما ر ّ د عليه جواره بمكة وصفه بنظير ما‬
‫ي × لما بعث‪ ،‬فتوارد فيها نعت واحد من‬ ‫وصفت به خديج ُة النب ّ‬
‫غاية في مدحه؛ لن صفات النبي‬ ‫وهذه‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫غير أن يتواطأ على‬
‫× منذ نشأ كانت أكمل الصفات )‪.(5‬‬
‫‪4-‬لم يشرب الخمر في الجاهلية‪:‬فقد كان أعف الناس في‬
‫)‪(6‬‬
‫حتى إنه حرم على نفسه الخمر قبل السلم‪ ،‬فقد قالت‬ ‫الجاهلية‬
‫‪،‬‬
‫السيدة عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬حرم أبو بكر الخمر على نفسه‪ ،‬فلم‬
‫يشربها في جاهلية ول في إسلم‪ ،‬وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده‬
‫في العذرة‪ ،‬ويدنيها من فيه‪ ،‬فإذا وجد ريحها صرفها عنه‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫إن هذا ل يدري ما يصنع‪ ،‬وهو يجد ريحها فحماها‪(7).‬وفي رواية لعائشة‪:‬‬
‫)‪(8‬‬
‫ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية‪.‬‬
‫وقد أجاب الصديق من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟‬
‫م؟ قال‪ :‬كنت أصون عرضي‪ ،‬وأحفظ‬ ‫بقوله‪ :‬أعوذ بالله‪ ،‬فقيل‪ :‬ول ِ َ‬
‫مروءتي‪ ،‬فإن من شرب الخمر كان مضيًعا لعرضه ومروءته )‪.(9‬‬
‫‪ -5‬ولم يسجد لصنم‪ :‬ولم يسجد الصديق ‪ ‬لصنم قط‪ ،‬قال‬
‫أبو بكر ‪ ‬في مجمع من أصحاب رسول الله ×‪ :‬ما سجدت لصنم‬
‫قط‪ ،‬وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي‬
‫إلى مخدع فيه الصنام‪ ،‬فقال لي‪ :‬هذه آلهتك الشم العوالي‪ ،‬وخلني‬
‫وذهب‪ ،‬فدنوت من الصنم وقلت‪ :‬إني جائع فأطعمني فلم ُيجبني‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬إني عارٍ فاكسني فلم يجبني‪ ،‬فألقيت عليه صخرة فخّر‬
‫لوجهه‪.‬‬

‫)( مسلم رقم‪ ،2490 :‬الطبراني في الكبير رقم‪.3582 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬على الطنطاوي‪ :‬ص ‪ ,66‬التاريخ السلمي‪ ،‬الخلفاء‬ ‫‪2‬‬

‫الراشدين‪ ،‬محمود شاكر‪ :‬ص ‪.30‬‬


‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.1/371 ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (1‬البخاري‪ ،‬كتاب مناقب النصار‪ ،‬رقم‪.3905 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (3‬تاريخ الخلفاء للسيوطي‪.48 :‬‬ ‫)( الصابة‪.4/174 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)( سيرة وحياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي‪ :‬ص ‪ (6) ,(5) .34‬تاريخ الخلفاء‬ ‫‪7‬‬

‫للسيوطي‪ :‬ص ‪.49‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬
‫)( تاريخ الخلفاءـ للسيوطي‪:‬ـ ص ‪.49‬‬

‫‪21‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهكذا حمله خلقه الحميد وعقله النير وفطرته السليمة على‬
‫الترفع عن كل شيء يخدش المروءة وينقص الكرامة من أفعال‬
‫الجاهليين وأخلقهم التي تجانب الفطرة السليمة‪ ،‬وتتنافى مع العقل‬
‫الراجح والرجولة الصادقة‪ (1).‬فل عجب على من كانت هذه أخلقه أن‬
‫ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة‪ ،‬ويكون بعد إسلمه‬
‫أفضل رجل بعد رسول الله ×‪ ،‬فقد قال ×‪» :‬خياركم في‬
‫)‪(2‬‬
‫الجاهلية خياركم في السلم إذا فقهوا«‪.‬‬
‫وقد علق الستاذ رفيق العظم عن حياة الصديق في الجاهلية فقال‪:‬‬
‫اللهم إن امرأ نشأ بين الوثان حيث ل دين زاجر‪ ،‬ول شرع للنفوس قائد‪،‬‬
‫وهذا مكانه من الفضيلة‪ ،‬واستمساكه بعرى العفة والمروءة‪ ...‬لجدير بأن‬
‫يتلقى السلم بملء الفؤاد‪ ،‬ويكون أول مؤمن بهادي العباد‪ ،‬مبادر‬
‫بإسلمه لرغام أنوف أهل الكبير والعناد‪ ،‬ممهد سبيل الهتداء بدين الله‬
‫الرذائل من نفوس المهتدين بهديه‪،‬‬ ‫القويم‪ ،‬الذي يجتث أصول‬
‫المستمسكين بمتين سببه )‪.(3‬‬
‫لله در الصديق ‪ ،‬فقد كان يحمل رصيدًا ضخمًا من القيم‬
‫الرفيعة‪ ،‬والخلق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي‬
‫قبل السلم‪ ،‬وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم‬
‫الخلق والقيم والمثل‪ ،‬ولم ُيعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب‬
‫ول نقصه‬
‫ول استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين‪ ،‬ولم يكن له عندهم‬
‫عيب إل اليمان‬
‫بالله ورسوله )‪.(4‬‬
‫***‬

‫)( أصحاب الرسول‪ ،‬محمود المصري‪1/58 :‬؛ الخلفاء الراشدين‪ ،‬محمود شاكر‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪.31‬‬
‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪ (2) .43‬أشهر مشاهير‬ ‫‪2‬‬

‫السلم‪.1/12 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( منهاج السنة لبن تيمية‪ ،289 ،4/288 :‬ونقل عن كتاب )أبو بكر الصديق‬ ‫‪4‬‬

‫أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة(‪ ،‬لمحمد عبد الرحمن قاسم‪ :‬ص ‪.19 ،18‬‬

‫‪22‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المبحث الثاني‬
‫إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬إسلمه‪:‬‬
‫كان إسلم أبي بكر ‪ ‬وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن‬
‫الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها‪ ،‬ويتفق‬
‫مع العقول الراجحة والبصائر النافذة‪ ،‬فقد كان بحكم عمله التجاري‬
‫كثير السفار‪ ،‬قطع الفيافي والصحاري‪ ،‬والمدن والقرى في الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وتنقل من شمالها إلى جنوبها‪ ،‬ومن شرقها إلى غربها‪،‬‬
‫وثيقا بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية‪،‬‬
‫ً‬ ‫واتصل اتصالً‬
‫لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد‪ ،‬راية‬ ‫النصات‬ ‫وكان كثير‬
‫البحث عن الدين القويم)‪ ،(1‬فقد حدث عن نفسه فقال‪ :‬كنت جالسًا‬
‫بفناء الكعبة‪ ،‬وكان زيد بن عمرو بن ُنفيل قاعدا‪ ،‬فمر ابن أبي‬
‫الصلت‪ ،‬فقال‪ :‬كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال‪ :‬بخير‪ ،‬قال‪ :‬وهل‬
‫وجدت؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ما مضى في الحنيفية بور‬ ‫كل دين يوم القيامة إل‬

‫أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم‪ ،‬قال‪ :‬ولم أكن سمعت‬
‫قبل ذلك بنبي ُينتظر ويبعث‪ ،‬قال‪ :‬فخرجت أريد ورقة بن نوفل‬
‫‪-‬وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر‪ -‬فاستوقفته‪ ،‬ثم‬
‫قصصت عليه الحديث‪ ،‬فقال‪ :‬نعم يا ابن أخي‪ ،‬إنا أهل الكتب‬
‫والعلوم‪ ،‬أل إن هذا النبي الذي ُينتظر من أوسط العرب نسبًا ‪-‬ولي‬
‫علم بالنسب‪ -‬وقومك أوسط العرب نسبًا‪ ،‬قلت‪ :‬يا عم وما يقول‬
‫يظلم‪ ،‬ول ُيظلم ول ُيظالم‪،‬‬ ‫النبي؟ قال‪ :‬يقول ما قيل له؟ إل أنه ل‬
‫فلما ُبعث رسول الله × آمنت به وصدقته )‪ ،(3‬وكان يسمع ما يقوله‬
‫أمية بن أبي الصلت‪ ،‬في مثل قوله‪:‬‬
‫ما بعد غايتنا من رأس‬ ‫أل نبي لنا منا فيخبرنا‬
‫مجرانا‬
‫والرافعون لدين الله أركانا‬ ‫إني أعوذ بمن حج الحجيج له‬

‫لقد عايش أبو بكر هذه الفترة ببصيرة نافذة‪ ،‬وعقل نير‪ ،‬وفكر‬
‫متألق‪ ،‬وذهن وقاد‪ ،‬وذكاء حاد‪ ،‬وتأمل رزين مل عليه أقطار نفسه‪،‬‬
‫ولذلك حفظ الكثير من هذه الشعار‪ ،‬ومن تلك الخبار‪ :‬فعندما سأل‬
‫ما ‪-‬وفيهم أبو بكر الصديق‪ -‬قائل‪» :‬من‬‫الرسول الكريم × أصحابه يو ً‬
‫منكم يحفظ كلم قس بن ساعدة في سوق عكاظ؟«‪،‬‬
‫فسكت الصحابة‪ ،‬ونطق الصديق قائل‪ :‬إني أحفظها يا رسول الله‪,‬‬
‫كنت حاضًرا يومها في سوق عكاظ‪ ،‬ومن فوق جمله الورق وقف‬
‫قس يقول‪ :‬أيها الناس‪ ،‬اسمعوا وعوا‪ ،‬وإذا وعيتم فانتفعوا‪ ،‬إن من‬

‫)( مواقف الصديق مع النبي بمكة‪ ،‬د‪ :‬عاطف لماضة‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫‪23‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عاش مات‪ ،‬ومن مات فات‪ ،‬وكل ما هو آت آت‪ .‬إن في السماء‬
‫لخبًرا‪ ،‬وإن في الرض لعِب ًَرا‪ ،‬مهاد موضوع‪ ،‬وسقف مرفوع‪ ،‬ونجوم‬
‫تمور‪ ،‬وبحار لن تغور‪ ،‬ليل داج‪ ،‬وسمات ذات أبراج!!‬
‫ُيقسم قس‪ :‬إن لله ديًنا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه‪.‬‬
‫ما لي أرى الناس يذهبون ول يرجعون‪ ،‬أرضوا بالمقام فأقاموا‪ ،‬أم‬
‫تركوا فناموا‪ ،‬ثم أنشد قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫من القرون لنا بصائره‬ ‫في الذاهبين الولين‬
‫للموت ليس لها مصادره‬ ‫لما رأيت مواردًا‬
‫يسعى الكابر والصاغره‬ ‫ورأيت قومي نحوها‬
‫)‪(1‬‬
‫لة حيث صار القوم صائره‬ ‫أيقنت أني ل محا‬
‫وبهذا الترتيب الممتاز‪ ،‬وبهذه الذاكرة الحديدية‪ ،‬وهي ذاكرة‬
‫المعاني‪ ،‬يقص الصديق ما قاله قس بن ساعدة على‬ ‫استوعبت هذه‬
‫رسول الله وأصحابه )‪.(2‬‬
‫وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بحيرا الراهب )‪،(3‬‬
‫فقال له‪ :‬من أين أنت؟ قال‪ :‬من مكة‪ ،‬قال‪ :‬من أيها؟ قال‪ :‬من‬
‫قريش‪ ،‬قال‪ :‬فأي شيء أنت؟ قال‪ :‬تاجر‪ ،‬قال‪ :‬إن صدق الله رؤياك‪،‬‬
‫وزيره في حياته‪ ،‬وخليفته بعد‬ ‫فإنه يبعث بنبي من قومك‪ ،‬تكون‬
‫موته‪ ،‬فأسر ذلك أبو بكر في نفسه )‪.(4‬‬
‫لقد كان إسلم الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار‪ ،‬وقد ساعده‬
‫على تلبية دعوة السلم معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي × في‬
‫الجاهلية‪ ،‬فعندما نزل الوحي على النبي ×وأخذ يدعو الفراد إلى الله‪،‬‬
‫‪ ‬فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة‬ ‫وقع أول اختياره على الصديق ؛‬
‫بدماثة خلقه‪ ،‬وكريم سجاياه‪ ،‬كما يعرف أبو بكر النبي × بصدقه‪،‬‬
‫وأخلقه التي تمنعه من الكذب على الناس‪ ،‬فكيف يكذب على‬ ‫)‪(5‬‬
‫وأمانته‬
‫الله؟‪.‬‬
‫فعندما فاتحه رسول الله × بدعوة الله وقال له‪...» :‬إني‬
‫رسول الله ونبيه‪ ،‬بعثني لبلغ رسالته‪ ،‬وأدعوك إلى الله‬
‫وحده‬ ‫بالحق‪ ،‬فوالله إنه للحق‪ ،‬أدعوك يا أبا بكر إلى الله‬
‫ل شريك له‪ ،‬ول تعبد غيره‪ ،‬والموالة على طاعته«)‪.(6‬‬
‫فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر‪ ،‬وعاهد رسول الله‬
‫على نصرته‪ ،‬فقام بما تعهد‪ ،‬ولهذا قال رسول الله × في حقه‪» :‬إن‬
‫الله بعثني إليكم فقلتم‪ :‬كذبت وقال أبو بكر‪ :‬صدق‪،‬‬
‫وواساني بنفسه وماله‪ ،‬فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟«‬
‫)‪ (2‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫)( مواقف الصديق مع النبي بمكة‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)(‪ (4) ,‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬محمود شاكر‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( البداية والنهاية‪ ،3/31 :‬ط‪ :‬دار المعرفة بيروت‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪24‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫مرتين)‪.(1‬‬
‫وبذلك كان الصديق ‪ ‬أول من أسلم من الرجال الحرار‪ ،‬قال‬
‫إبراهيم النخعي‪ ،‬وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر‪:‬‬
‫أول من أسلم أبو بكر‪ ،‬وقال يوسف ابن يعقوب الماجشون‪ :‬أدركت‬
‫أبي ومشيختنا‪ :‬محمد بن المنكدر‪ ،‬وربيعة بن عبد الرحمن‪ ،‬وصالح‬
‫بن كيسان‪ ،‬وسعد بن إبراهيم‪ ،‬وعثمان بن محمد الخنس‪ ،‬وهم ل‬
‫يشكون أن أول القوم إسلما أبو بكر‪ (2).‬وعن ابن عباس ‪-‬رضي الله‬
‫عنهما‪ -‬قال‪ :‬أول من صلى أبو بكر‪ ،‬ثم تمثل بأبيات حسان‪:‬‬
‫فاذكر أخاك أبا بكر بما فعل‬ ‫وا من أخي‬ ‫إذا تذكرت شج ً‬
‫ثقة‬
‫إل النبي وأوفاها بما حمل‬ ‫خير البرية أتقاها وأعدلها‬
‫)‪(3‬‬
‫الرسل‬ ‫الثاني التالي المحمود‬
‫مشهده‬
‫طاف العدو به إذ صعد الجبل‬ ‫وثاني اثنين في الغار المنيف‬
‫وقد‬
‫بهدى صاحبه الماضي وما‬ ‫وعاش حمدًا لمر الله متبًعا‬
‫انتقل‬
‫)‪(4‬‬
‫وكان حب رسول الله قد‬
‫علموا‬
‫هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلم الصديق‪ ،‬وهل كان ‪ ‬أول‬
‫من أسلم؛ فمنهم من جزم بذلك‪ ،‬ومنهم من جزم بأن علًيا أول من‬
‫أسلم‪ ،‬ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم‪ .‬وقد جمع المام‬
‫ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪ -‬بين القوال جمًعا طيًبا فقال‪» :‬والجمع بين‬
‫القوال كلها‪ :‬أن خديجة أول من أسلم من النساء ‪-‬وقيل الرجال‬
‫أيضا‪ -‬وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة‪ ،‬وأول من أسلم من‬
‫الغلمان علي بن أبي طالب‪ ،‬فإنه كان صغيًرا دون البلوغ على‬
‫المشهور وهؤلء كانوا آنذاك أهل بيته ×‪ ،‬وأول من أسلم من الرجال‬
‫الحرار أبو بكر الصديق‪ ،‬وإسلمه كان أنفع من إسلم من تقدم‬
‫ما‪ ،‬وصاحب‬ ‫سا في قريش مكر ً‬ ‫ما‪ ،‬رئي ً‬
‫ذكرهم؛ إذ كان صدًرا معظ ً‬
‫مال وداعية إلى السلم‪ ،‬وكان محببا متآلفا يبذل المال في طاعة‬
‫الله ورسوله« ثم قال‪ :‬وقد أجاب أبو حنيفة ‪ ‬بالجمع بين هذه‬
‫القوال‪ ،‬فإن أول من أسلم من الرجال الحرار أبو بكر‪ ،‬ومن النساء‬
‫حارثة‪ ،‬ومن الغلمان علي بن أبي‬ ‫خديجة‪ ،‬ومن الموالي زيد بن‬
‫طالب‪ ،‬رضي الله عنهم أجمعين )‪.(5‬‬
‫م السرور قلب النبي ×؛ حيث تقول أم‬ ‫وبإسلم أبي بكر ع ّ‬
‫المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬فلما فرغ من كلمه )أي النبي‬
‫×( أسلم أبو بكر‪ ،‬فانطلق رسول الله × من عنده‪ ،‬وما بين‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب فضائل أصحاب النبي رقم‪.3661 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫صفة الصفوة‪1/237 :‬؛ أحمد فضائل الصحابة‪.3/206 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ديوان حسان بن ثابت تحقيق وليد عرفات‪.1/17 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬البداية والنهاية‪.28 ،3/26 :‬‬ ‫ديوان حسان‪.1/17 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪25‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلم أبي بكر )‪ .(1‬لقد كان أبو بكر‬
‫كنًزا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه‪ ،‬وكان من أحب قريش‬
‫لقريش‪ ،‬فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من‬
‫الموطئين أكنافا‪ ،‬من الذين يألفون ويؤلفون‪ ،‬والخلق السمح وحده‬
‫عنصر كاف للفة القوم‪ ،‬وهو الذي)‪(2‬قال فيه عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫»أرحم أمتي بأمتي أبو بكر« ‪.‬‬
‫وعلم النساب عند العرب‪ ،‬وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم‪،‬‬
‫ولدى أبي بكر الصديق ‪ ‬النصيب الوفر منهما‪ ،‬وقريش تعترف‬
‫للصديق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها‪ ،‬وما فيه من خير‬
‫علما ل تجده‬
‫ً‬ ‫وشر‪ ،‬فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه‬
‫عند غيره غزارة ووفرة وسعة‪ ،‬ومن أجل هذا كان الشباب النابهون‬
‫دائما‪ ،‬إنهم الصفوة الفكرية‬
‫ً‬ ‫والفتيان الذكياء يرتادون مجلسه‬
‫المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم‪ ،‬وهذا جانب آخر من‬
‫جوانب عظمته‪.‬‬
‫وطبقة رجال العمال ورجال المال في مكة‪ ،‬هي كذلك من رواد‬
‫مجلس الصديق؛ فهو إن لم يكن التاجر الول في مكة‪ ،‬فهو من أشهر‬
‫صاده‪ ،‬ولطيبته وحسن خلقه تجد‬ ‫تجارها‪ ،‬فأرباب المصالح هم كذلك قُ ّ‬
‫عوام الناس يرتادون بيته‪ ،‬فهو المضياف الدمث الخلق‪ ،‬الذي يفرح‬
‫طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند‬ ‫)‪(3‬‬
‫بضيوفه‪ ،‬ويأنس بهم‪ ،‬فكل‬
‫الصديق رضوان الله عليه‪.‬‬
‫كان رصيده الدبي والعلمي والجتماعي في المجتمع المكي عظيمًا‪،‬‬
‫ولذلك)‪(4‬عندما تحرك في دعوته للسلم استجاب له صفوة من خيرة‬
‫الخلق ‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬دعوته‪.‬‬
‫أسلم الصديق ‪ ‬وحمل الدعوة مع النبي ×‪ ،‬وتعلم من رسول‬
‫اليمان ل يكمل‬ ‫الله × أن السلم دين العمل والدعوة والجهاد‪ ،‬وأن‬
‫حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين )‪ ،(5‬قال تعالى‪:‬‬
‫ب‬‫ه َر ّ‬
‫ْ‬
‫ما َِتي َ لل ِ‬ ‫م َ‬
‫و َ‬ ‫ي َ‬ ‫حَيا ُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫كي َ‬ ‫س ِ‬
‫َ‬
‫ون ُ ُ‬ ‫صل َِتي َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ق ْ‬
‫َ‬
‫‪ُ +‬‬
‫ن"‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ُ ْ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫ْ ُ َ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ب‬ ‫و‬
‫ُ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ري‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫عا‬‫ال ْ َ‬
‫]النعام‪ ،[163 ،162 :‬وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة‪،‬‬
‫وكثير البركة‪ ،‬أينما تحرك أّثر وحقق مكاسب عظيمة للسلم‪ ،‬وقد‬
‫ل‬
‫سِبي ِ‬ ‫ع إ َِلى َ‬ ‫كان نموذجًا حّيا في تطبيقه لقول الله تعالى‪+ :‬ادْ ُ‬
‫ي‬‫َ َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاِدل ْ ُ‬‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫سن َ ِ‬‫ح َ‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫عظَ ِ‬ ‫وَِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ِ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫بي‬ ‫س‬ ‫عن‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ض‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن" ]النحل‪.[125 :‬‬ ‫دي َ‬ ‫هت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫كان تحرك الصديق ‪ ‬في الدعوة إلى الله بوضوح صورة من‬
‫صور اليمان بهذا الدين‪ ،‬والستجابة لله ورسوله‪ ،‬صورة المؤمن‬
‫الذي ل يقر له قرار‪ ،‬ول يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا الناس ما‬
‫)‪ (4‬اللباني في صحيح الجامع الصغير‪) :‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪.3/29 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (2/8‬ج ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬التربية القيادية للغضبان‪ (2) .1/115 ،‬نفس المصدر السابق‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.1/116‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.87‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪26‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫آمن به‪ ،‬دون أن تكون انطلقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما‬
‫للسلم إلى‬ ‫تخمد وتذبل وتزول‪ ،‬وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته‬
‫أن توفاه الله ‪-‬عز وجل‪ -‬لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز )‪.(1‬‬
‫كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق‬
‫في السلم‪ ،‬وهم‪ :‬الزبير بن العوام‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وطلحة بن‬
‫عبيد الله‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وعثمان بن مظعون‪ ،‬وأبو عبيدة بن‬
‫الجراح‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد السد‪ ،‬والرقم‬
‫ابن أبي الرقم رضي الله عنهم‪ .‬وجاء بهؤلء الصحابة الكرام فرادى‬
‫فأسلموا بين يدي رسول الله ×‪ ،‬فكانوا الدعامات الولى التي قام‬
‫دة الولى في تقوية جانب رسول الله‬ ‫عليها صرح الدعوة‪ ،‬وكانوا العُ ّ‬
‫× وبهم أعزه الله وأيده‪ ،‬وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا‪،‬‬
‫رجالً ونساء‪ ،‬وكان كل من هؤلء الطلئع داعية إلى السلم‪ ،‬وأقبل‬
‫معهم‪ ،‬رعيل السابقين‪ ،‬الواحد والثنان‪ ،‬والجماعة القليلة‪ ،‬فكانوا‬
‫وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ول‬ ‫)‪(2‬‬
‫على قلة عددهم كتيبة الدعوة‪،‬‬
‫يلحق بهم لحق في تاريخ السلم‪.‬‬
‫اهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته‬
‫أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة‪ ،‬لقد كانت الصفات الحميدة‬
‫والخلل العظيمة والخلق الكريمة التي تجسدت في شخصية‬
‫عامل مؤثرًا في الناس عند دعوتهم للسلم‪ ،‬فقد كان‬ ‫ً‬ ‫الصديق‬
‫رصيده الخلقي ضخمًا في قومه وكبيرًا في عشيرته‪ ،‬فقد كان رجلً‬
‫مؤلفا لقومه‪ ،‬محببًا لهم سهلً‪ ،‬أنسب قريش لقريش‪ ،‬بل كان فرد‬ ‫ً‬
‫زمانه في هذا الفن‪ ،‬وكان رئيسًا مكرمًا سخيً )ا‪(3‬يبذل المال‪ ،‬وكانت له‬
‫بمكة ضيافات ل يفعلها أحد‪ ،‬وكان رجل بليغًا ‪.‬‬
‫إن هذه الخلق والصفات الحميدة ل بد منها للدعاة إلى الله‪،‬‬
‫وإل أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد ونفخة في رماد‪ ،‬وسيرة‬
‫الصديق وهي تفسر لنا فهمه للسلم وكيف عاش به في حياته حدى‬
‫بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الفراد إلى الله تعالى‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬ابتلؤه‪:‬‬
‫إن سنة البتلء ماضية في الفراد والجماعات والشعوب والمم‬
‫والدول‪ ،‬وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام‪ ،‬وتحملوا‬
‫‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬من البلء ما تنوء به الرواسي الشامخات‪،‬‬
‫وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله‪ ،‬وبلغ بهم الجهد ما شاء الله‬
‫أن يبلغ‪ ،‬ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا البتلء‪ ،‬فلقد أوذي أبو‬
‫ب في المسجد الحرام‬ ‫بكر ‪ ‬وحثي على رأسه التراب‪ ،‬و ُ‬
‫ضرِ َ‬
‫يعرف‪(4‬وجهه من أنفه‪ ،‬وحمل إلى بيته في ثوبه وهو‬ ‫بالنعال‪ ،‬حتى ما‬
‫ما بين الحياة والموت) ‪ ،‬فقد روت عائشة ‪-‬رضي الله تعالى عنها‪-‬‬
‫أنه لما اجتمع أصحاب النبي × وكانوا ثمانية وثلثين رجلً ألح أبو بكر‬
‫‪ ‬على رسول الله × في الظهور‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا بكر إنا قليل‪،‬‬
‫فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله‪ ،‬وتفرق المسلمون في‬
‫)( الوحي وتبليغ الرسالة‪ ،‬د‪/‬يحيى اليحيى‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬محمد رسول الله‪ ،‬صادق عرجون‪.1/533 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( السيرة الحلبية‪.1/442 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( التمكين للمة السلمية‪ :‬ص ‪.243‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪27‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ل رجل في عشيرته‪ ،‬وقام أبو بكر في الناس‬ ‫نواحي المسجد ك ّ‬
‫خطيبا ورسول الله × جالس‪ ،‬فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى‬ ‫ً‬
‫وإلى رسوله ×‪ ،‬وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين‪،‬‬
‫طئ أبو بكر وضرب‬ ‫ضربا شديدًا‪ ،‬ووُ ِ‬ ‫ً‬ ‫فضربوه في نواحي المسجد‬
‫شديدا‪ ،‬ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين‬ ‫ً‬ ‫ضربا‬
‫ً‬
‫مخصوفتين وُيحرفهما لوجهه‪ ،‬ونزا على بطن أبي بكر ‪ ،‬حتى ما‬
‫ت المشركين‬ ‫جل َ ِ‬
‫يعرف وجهه من أنفه‪ ،‬وجاءت بنو تيم يتعادون‪ ،‬فأ ْ‬
‫عن أبي بكر‪ ،‬وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ول‬
‫يشكون في موته‪ ،‬ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا‪ :‬والله‬
‫لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة‪ ،‬فرجعوا إلى أبي بكر فجعل‬
‫أبو قحافة »والده« وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب‪ ،‬فتكلم آخر‬
‫النهار فقال‪ :‬ما فعل رسول الله ×؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه‪،‬‬
‫وقالوا لمه أم الخير‪ :‬انظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه‪ ،‬فلما‬
‫خلت به ألحت عليه‪ ،‬وجعل يقول‪ :‬ما فعل رسول الله ×؟ فقالت‪:‬‬
‫والله ما لي علم بصاحبك‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب‬
‫فاسأليها عنه‪ ،‬فخرجت حتى جاءت أم جميل‪ ،‬فقالت‪ :‬إن أبا بكر‬
‫يسألك عن محمد بن عبد الله‪ ،‬فقالت‪ :‬ما أعرف أبا بكر ول محمد‬
‫بن عبد الله‪ ،‬وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فا‪ ،‬فدنت أم جميل‪،‬‬ ‫صريعا دن ً‬
‫ً‬ ‫فمضت معها حتى وجدت أبا بكر‬
‫وأعلنت بالصياح وقالت‪ :‬والله إن قومًا نالوا منك لهل فسق وكفر‪،‬‬
‫إنني لرجو أن ينتقم الله لك منهم‪ ،‬قال‪ :‬فما فعل رسول الله ×؟‬
‫ساِلم‬
‫قالت‪ :‬هذه أمك تسمع‪ ،‬قال‪ :‬فل شيء عليك منها‪ ،‬قالت‪َ :‬‬
‫ي أن ل‬ ‫صاِلح‪ ،‬قال‪ :‬أين هو؟ قالت‪ :‬في دار الرقم‪ ،‬قال‪ :‬فإن لله عل ّ‬ ‫َ‬
‫أذوق طعاما ول أشرب شرابا أو آتي رسول الله ×‪ ،‬فأمهلتا حتى إذا‬
‫ل وسكن الناس‪ ،‬خرجتا به يتكئ عليهما‪ ،‬حتى أدخلتاه‬ ‫ج ُ‬ ‫هدأت الّر ْ‬
‫على رسول الله ×‪ ،‬فقال‪ :‬فأكب عليه رسول الله × فقّبله‪ ،‬وأكب‬
‫عليه المسلمون‪ ،‬ورقّ له رسول الله × رقة شديدة‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫بأبي وأمي يا رسول الله‪ ،‬ليس بي بأس إل ما نال الفاسق من‬
‫وجهي‪ ،‬وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله‪ ،‬وادع الله‬
‫بك‪(1‬من النار‪ ،‬قال‪ :‬فدعا لها رسول الله‬ ‫لها عسى الله أن يستنقذها‬
‫×‪ ،‬ودعاها إلى الله فأسلمت ) ‪.‬‬
‫إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم‬
‫حريص على القتداء بهؤلء الصحب الكرام‪ ،‬ونحاول أن نستخرج‬
‫بعض هذه الدروس التي منها‪:‬‬
‫‪ -1‬حرص الصديق على إعلن السلم وإظهاره أمام الكفار‪،‬‬
‫وقد تحمل الذى العظيم‪ ،‬حتى‬ ‫وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته‪،‬‬
‫شرب قلبه حب الله‬ ‫إن قومه كانوا ل يشكون في موته‪ .‬لقد أ ُ ْ‬
‫ورسوله أكثر من نفسه‪ ،‬ولم يعد يهمه بعد إسلمه إل أن تعلو راية‬
‫التوحيد‪ ،‬ويرتفع النداء‪ :‬ل إله إل الله محمد رسول الله في أرجاء‬
‫مكة حتى لو كان الثمن حياته‪ ،‬وكاد أبو بكر فعل أن يدفع حياته ثمنًا‬
‫لعقيدته وإسلمه‪.‬‬
‫‪ -2‬إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة السلم وسط الطغيان‬
‫)( السيرة النبوية لبن كثير‪ ،441 -1/439 :‬البداية والنهاية‪.3/30 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪28‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الجاهلي‪ ،‬رغبة في إعلم الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته‬


‫القلوب رغم علمه بالذى الذي قد يتعرض له وصحبه‪ ،‬وما كان ذلك‬
‫إل لنه خرج من حظ نفسه‪.‬‬
‫‪ -3‬حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر وتغلب على حبه‬
‫م به كان أول ما سأل عنه‪ :‬ما فعل‬ ‫لنفسه‪ ،‬بدليل أنه رغم ما أل َ ّ‬
‫رسول الله ×؟ قبل أن يطعم أو يشرب‪ ،‬وأقسم أنه لن يفعل حتى‬
‫عند‬ ‫ل الله ×‪ ،‬وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله ×‬ ‫يأتي رسو َ‬
‫)‪(1‬‬
‫كل مسلم؛ أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذلك نفسه وماله ‪.‬‬
‫إن‪ -‬العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه‬ ‫‪4‬‬
‫اختلف العقيدة‪ ،‬فهذه قبيلة أبي‬ ‫مع‬ ‫حتى‬ ‫الفراد‬ ‫مع‬ ‫والتعامل‬ ‫الحداث‬
‫بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر)‪.(2‬‬
‫‪ -5‬تظهر مواقف رائعة لم جميل بنت الخطاب‪ ،‬توضح لنا كيف‬
‫حب الدعوة والحرص عليها‪ ،‬وعلى الحركة لهذا الدين‪،‬‬ ‫تربت على ُ‬
‫فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت‪ :‬ما أعرف أبا بكر‬
‫ول محمد بن عبد الله‪ ،‬فهذا تصرف حذر سليم؛ لن أم الخير لم تكن‬
‫ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلمها‪ ،‬ول تود أن تعلم به‬
‫ذات‪(3‬الوقت أخفت عنها مكان الرسول × مخافة أن‬ ‫أم الخير‪ ،‬وفي‬
‫تكون عينًا لقريش ) ‪ ،‬وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن‬
‫تطمئن على سلمة الصديق‪ ،‬ولذلك عرضت على أم الخير أن‬
‫تصحبها إلى ابنها‪ ،‬وعندما وصلت إلى الصديق كانت أم جميل في‬
‫غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان‬
‫رسول الله ×‪ ،‬وأبلغت الصديق بأن رسول الله × سالم صالح)‪،(4‬‬
‫الناس عن دينهم في‬ ‫ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن‬
‫خروج الثلثة عندما )هدأت الرجل وسكن الناس( )‪.(5‬‬
‫‪ -6‬يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول‬
‫الله ×‪ :‬هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله‬
‫لها عسى أن يستنقذها بك من النار‪ .‬إنه الخوف من عذاب الله‬
‫والرغبة في رضاه وجنته‪ ،‬ولقد دعا رسول الله × لم أبي بكر‬
‫بالهداية فاستجاب الله له‪ ،‬وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن‬
‫الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى‪ .‬ونلمس‬
‫رحمة الله بعباده ونلحظ من خلل الحدث )قانون المنحة بعد‬
‫المحنة(‪.‬‬
‫إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الذى والفتنة بعد‬ ‫‪-7‬‬
‫نظرلصحبته الخاصة له‪ ،‬والتصاقه به‬ ‫رسول الله ×أبا بكر الصديق ‪ ‬ا ً‬
‫في المواطن التي كان يتعرض فيها للذى من قومه‪ ،‬فينبري الصديق‬
‫مع‬ ‫وفاديًإياه بنفسه‪ ،‬فيصيبه من أذى القوم وسفههم‪ ،‬هذا‬ ‫مدافعا عنه ا‬
‫ً‬
‫أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والحسان)‪.(6‬‬
‫استخلف أبي بكر الصديق‪ ،‬د‪/‬جمال عبد الهادي‪ :‬ص ‪.132 ،131‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫محنة المسلمين في العهد المكي‪ ،‬د‪ :‬سليمان السويكت‪ :‬ص ‪.79‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫السيرة النبوية‪ ..‬قراءة لجوانب الحذر والحماية‪ ،‬ص ‪.50‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.51 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫استخلف أبي بكر الصديق‪ ،‬د‪ :‬جمال عبد الهادي‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫محنة المسلمين في العهد المكي‪ ،‬د‪ :‬سليمان السويكت‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪29‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫رابًعا‪ :‬دفاعه عن النبي ×‪:‬‬
‫من صفات الصديق التي تميز بها الجرأة والشجاعة‪ ،‬فقد كان ل‬
‫يهاب أحدًا في الحق‪ ،‬ول تأخذه لومة لئم في نصرة دين الله والعمل‬
‫له والدفاع عن رسوله ×‪ ،‬فعن عروة بن الزبير قال‪ :‬سألت ابن‬
‫عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ×‬
‫فقال‪ :‬بينما النبي × يصلي في حجر الكعبة‪ ،‬إذ أقبل عقبة بن أبي‬
‫بكر حتى‬ ‫شديدا‪ ،‬فأقبل أبو‬
‫ً‬ ‫معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا‬
‫جل َأن‬ ‫أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي × )‪ (1‬وقال‪+ :‬أ َت َ ْ‬
‫قت ُُلو َ‬
‫ن َر ُ‬
‫ه" ]غافر‪ ،[28 :‬وفي رواية أنس ‪ ‬أنه قال‪ :‬لقد‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫يَ ُ‬
‫قو َ‬
‫ضربوا رسول الله × مرة حتى غشي عليه‪ ،‬فقام)‪(2‬أبو بكر ‪ ‬فجعل‬
‫ينادي‪ :‬ويلكم‪ ،‬أتقتلون رجل أن يقول ربي الله؟! وفي حديث‬
‫أسماء‪ :‬فأتى الصريخ إلى أبي بكر‪ ،‬فقال‪ :‬أدرك صاحبك‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول‪ :‬ويلكم‪ ،‬أتقتلون رجل أن‬
‫بكر‪ ،‬فرجع إلينا أبو بكر‬ ‫)‪(3‬‬
‫يقول ربي الله‪ ،‬فلهوا عنه وأقبلوا على أبي‬
‫فجعل ل يمس شيئا من غدائره إل رجع معه‪.‬‬
‫وأما في حديث علي بن أبي طالب ‪ ‬فقد قام خطيبًا وقال‪ :‬يا أيها‬
‫الناس‪ ،‬من أشجع الناس؟ فقالوا‪ :‬أنت يا أمير المؤمنين‪ ،‬فقال‪ :‬أما إني‬
‫ما بارزني أحد إل انتصفت منه‪ ،‬ولكن هو أبو بكر‪ ،‬وإنا جعلنا لرسول‬
‫عريش فقلنا‪ :‬من يكون مع رسول الله × لئل يهوي عليه أحد‬ ‫اً‬ ‫الله ×‬
‫من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر شاهرًا بالسيف على‬
‫رأس رسول الله ‪×،‬ل يهوي إليه أحد إل أهوى إليه فهذا أشجع الناس‪.‬‬
‫ده‪ ،‬وهذا يتلتله‬‫قال‪ :‬ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش‪ ،‬فهذا يحا ّ‬
‫واحدا‪ ،‬فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر‬ ‫ً‬ ‫ويقولون‪ :‬أنت جعلت اللهة إلهًا‬
‫يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا‪ ،‬وهو يقول‪ :‬ويلكم‪ ،‬أتقتلون رجل أن‬
‫يقول ربي الله‪ ،‬ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت‬
‫لحيته‪ ،‬ثم قال‪ :‬أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت‬
‫الرض( من‬ ‫القوم‪ ،‬فقال علي‪ :‬فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء‬
‫مؤمن آل فرعون‪ ،‬ذاك رجل يكتم إيمانه‪ ،‬وهذا رجل أعلن إيمانه )‪. 4‬‬
‫هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل‪،‬‬
‫مله الصديق من‬ ‫والهدى والضلل‪ ،‬واليمان والكفر‪ ،‬وتوضح ما تح ّ‬
‫اللم والعذاب في سبيل الله تعالى‪،‬كما تعطي ملمح واضحة عن‬
‫شخصيته الفذة‪ ،‬وشجاعته النادرة التي شهد له بها المام علي ‪‬‬
‫في خلفته‪ ،‬أي بعد عقود من الزمن‪ ،‬وقد تأثر علي ‪ ‬حتى بكى‬
‫وأبكى‪.‬‬
‫رسول الله ×‬ ‫إن الصديق ‪ ‬أول من أوذي في سبيل الله بعد‬
‫وأول من دافع عن رسول الله‪ ،‬وأول من دعا إلى الله )‪ ،(5‬وكان‬
‫الذراع اليمنى لرسول الله ×‪ ،‬وتفرغ للدعوة وملزمة رسول الله‬
‫وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم؛‬
‫البخاري‪ ،‬رقم‪.3856 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الصحيح المسند في فضائل الصحابة للعدوي‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫منهاج السنة‪ ،3/4 ،‬فتح الباري‪.7/169 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البداية والنهاية‪.272 ،3/271 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد عبد الرحمن قاسم‪ ،‬ص ‪.32 -30 ،29‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪30‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فهذا أبو ذر ‪ ‬يقص لنا حديثه عن إسلمه‪ ،‬ففيه‪ ...» :‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫يا‪(1‬رسول الله في طعامه الليلة‪ ،‬وأنه أطعمه من زبيب‬ ‫)‬
‫ائذن لي‬
‫الطائف«‪.‬‬
‫وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر‬
‫على نفسه‪ ،‬ول يستهين بخطر يصيب النبي × قل أو كثر حيثما رآه‬
‫واستطاع أن يذود عنه العادين عليه‪ ،‬وإنه ليراهم آخذين بتلبيبه‬
‫فيدخل بينهم وبينه‪ ،‬وهو يصيح بهم‪» :‬ويلكم‪ ،‬أتقتلون رجل أن يقول‬
‫ربي الله؟« فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه‪ ،‬يجذبونه‬
‫من شعره فل)‪(2‬يدعونه إل‬
‫وهو صديع«‪.‬‬
‫سا‪ :‬إنفاقه الموال لتحرير المعذبين في الله‪:‬‬
‫خام ً‬
‫تضاعف أذى المشركين لرسول الله × ولصحابه مع انتشار‬
‫الدعوة في المجتمع المكي الجاهلي‪ ،‬حتى وصل إلى ذروة العنف‬
‫وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين‪ ،‬فنكلت بهم لتفتنهم‬
‫عن عقيدتهم وإسلمهم‪ ،‬ولتجعلهم عبرة لغيرهم‪ ،‬ولتنفس عن حقدها‬
‫وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب‪ .‬وقد تعرض بلل ‪ ‬لعذاب‬
‫عظيم‪ ،‬ولم يكن لبلل ‪ ‬ظهر يسنده‪ ،‬ول عشيرة تحميه‪ ،‬ول سيوف‬
‫تذود عنه‪ ،‬ومثل هذا النسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل‬
‫ما من الرقام‪ ،‬فليس له دور في الحياة إل أن يخدم ويطيع ويباع‬ ‫رق ً‬
‫ويشترى كالسائمة‪ ،‬أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر‪ ،‬أو‬
‫صاحب دعوة أو صاحب قضية‪ ،‬فهذه جريمة شنعاء في المجتمع‬
‫الجاهلي المكي تهز أركانه‪ ،‬وتزلزل أقدامه‪ ،‬ولكن الدعوة الجديدة‬
‫التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار‬
‫لمست‪(3‬قلب هذا العبد المرمي المنسي‪ ،‬فأخرجته إنسانًا جديدًا في‬
‫الحياة ) ‪ ،‬قد تفجرت معاني اليمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا‬
‫الدين وانضم إلى محمد × وإخوانه في موكب اليمان العظيم‪.‬‬
‫وعندما علم سيده أمية بن خلف‪ ،‬راح يهدده تارة ويغريه أطوارا‪،‬‬
‫فما وجد عند بلل غير العزيمة وعدم الستعداد للعودة إلى الوراء‪..‬‬
‫عذابا‬
‫ً‬ ‫إلى الكفر والجاهلية والضلل‪ ،‬فحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه‬
‫شديدا‪ ،‬فأخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه‬ ‫ً‬
‫الطعام والشراب يومًا وليلة‪ ،‬ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال‬
‫المحرقة الملتهبة‪ ،‬ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها‬
‫فوق صدر بلل وهو مقيد اليدين‪ ،‬ثم قال له‪ :‬ل تزال هكذا حتى‬
‫تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللت والعزى‪ ،‬وأجاب بلل بكل صبر‬
‫وثبات‪ :‬أحد أحد‪ ،‬وبقي أمية بن خلف مدة وهو يعذب بللً بتلك‬
‫الطريقة البشعة )‪ ،(4‬فقصد الصديق موقع التعذيب وفاوض أمية بن‬
‫خلف وقال له‪» :‬أل تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! قال‪:‬‬
‫أنت أفسدته فأنقذه مما ترى‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أفعل‪ ،‬عندي غلم أسود‬
‫أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به‪ ،‬قال‪ :‬قد قبلت‪ ،‬فقال‪ :‬هو‬
‫الفتح‪ ،7/213 :‬الخلفة الراشدة‪ ،‬يحيى اليحيى‪ ،‬ص ‪.156‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫عبقرية الصديق للعقاد‪ ،‬ص ‪ .87‬صديع‪ :‬المشقوق الثوب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫التربية القيادية‪.1/136 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫عتيق العتقاء »أبو بكر الصديق«‪ ،‬محمود البغدادي‪ ،‬ص ‪.40 ،39‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪31‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫)‪(1‬‬
‫وفي‬ ‫وأخذه فأعتقه«‪.‬‬ ‫لك‪ ،‬فأعطاه أبو بكر الصديق ‪ ‬غلمه ذلك‬
‫ذهبا )‪.(2‬‬
‫ً‬ ‫رواية‪ :‬اشتراه بسبع أواق أو بأربعين أوقية‬
‫ما أصبر بلل وما أصلبه ‪ !‬فقد كان صادق السلم‪ ،‬طاهر‬
‫صُلب ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف‬ ‫القلب‪ ،‬ولذلك َ‬
‫العذاب‪ ،‬وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم‪ ،‬خاصة أنه كان‬
‫الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على السلم فلم‬
‫التوحيد بتحد ّ صارخ‪ ،‬وهانت‬ ‫يوات الكفار فيما يريدون‪ ،‬مرددا كلمة‬
‫عليه نفسه في الله‪ ،‬وهان على قومه‪ (3).‬وبعد كل محنة منحة؛ فقد‬
‫تخلص بلل من العذاب والنكال‪ ،‬وتخلص من أسر العبودية‪ ،‬وعاش‬
‫مع رسول الله بقية حياته ملزمًا له‪ ،‬ومات راضيًا عنه‪.‬‬
‫واستمر الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين‪،‬‬
‫وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها القيادة السلمية‬
‫عم الدعوة بالمال‬ ‫لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين‪ ،‬فد ّ‬
‫والرجال والفراد‪ ،‬فراح يشتري العبيد والماء والمملوكين من‬
‫المؤمنين والمؤمنات‪ ،‬منهم‪ :‬عامر بن فهيرة‪ ,‬شهد بدرا وأحدا‪ ،‬وقتل‬
‫يوم بئر معونة شهيدا‪ .‬وأم عبيس‪ ،‬وزنيرة‪ ،‬وأصيب بصرها حين‬
‫أعتقها‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬ما أذهب بصرها إل اللت والعزى‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫كذبوا‪ ،‬وبيت الله ما تضر اللت والعزى وما تنفعان‪ ،‬فرد الله بصرها‪.‬‬
‫)‪ (4‬وأعتق النهدية وبنتها‪ ،‬وكانتا لمرأة من بني عبد الدار‪ ،‬مر بهما‬
‫أبدا‪ ،‬فقال‬
‫وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها‪ ،‬وهي تقول‪ :‬ل أعتقكما ً‬
‫أبو بكر ‪ :‬حل )‪ (5‬يا أم فلن‪ .‬فقالت‪ :‬حل أنت‪ ،‬أفسدتهما فأعتقهما‪،‬‬
‫قال‪ :‬فبكم هما؟ قالت‪ :‬بكذا وكذا‪ ،‬وقالت‪ :‬قد أخذتهما وهما حرتان‪،‬‬
‫طحينها‪ ،‬قالتا‪ :‬أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال‪:‬‬ ‫أرجعا إليها‬
‫وذلك إن شئتما )‪.(6‬‬
‫وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى السلم بين الصديق والجاريتين‬
‫حتى خاطبتاه خطاب الند للند‪ ،‬ل خطاب المسود للسيد‪ ،‬وتقبل‬
‫الصديق ‪-‬على شرفه وجللته في الجاهلية والسلم‪ -‬منهما ذلك‪ ،‬مع‬
‫أن له يدا عليهما بالعتق‪ ،‬وكيف صقل السلم الجاريتين حتى تخلقتا‬
‫بهذا الخلق الكريم‪ ،‬وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن‬
‫الحيوان والطير‪،‬‬ ‫تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح‪ ،‬أو يأكله‬
‫ضل‪ -‬إل أن تفرغا منه‪ ،‬وترداه إليها )‪.(7‬‬ ‫ولكنهما أبتا –تف ّ‬
‫مؤمّ )حي من بني عدي بن كعب( وكانت‬ ‫ومر الصديق بجارية بني ل‬
‫مسلمة‪ ،‬وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك السلم‪ ،‬وهو يومئذ مشرك‬
‫أتركك إل عن مللة‪،‬‬ ‫قال‪ :‬إني أعتذر إليك‪ ،‬إني لم‬‫يضربها‪ ،‬حتى إذالم ّ‬
‫فتقول‪ :‬كذلك فعل الله بك‪ ،‬فابتاعها أبو بكر فأعتقها )‪.(8‬‬
‫هكذا كان واهب الحريات‪ ،‬ومحرر العبيد‪ ،‬شيخ السلم الوقور‪،‬‬
‫ف في قومه بأنه يكسب المعدوم‪ ،‬ويصل الرحم‪ ،‬ويحمل‬ ‫الذي عُرِ َ‬
‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ (2) .1/394 ،‬التربية القيادية‪.1/140 ،‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( محنة المسلمين في العهد المكي‪ ،‬ص ‪.92‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ (5) .1/393 :‬حل‪ :‬تحللي من يمينك‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ (7) .1/393 :‬السيرة النبوية لبي شهبة‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.1/346‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.1/393 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪32‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الكل‪ ،‬ويقري الضيف‪ ،‬ويعين على نوائب الحق‪ ،‬ولم ينغمس في إثم‬
‫في جاهليته‪ ،‬أليف مألوف‪ ،‬يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء‬
‫والرقاء‪ ،‬أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد‪ ،‬وعتقهم لله‬
‫التشريعات السلمية المحببة في العتق‬ ‫وفي الله قبل أن تنزل‬
‫والواعدة عليه أجزل الثواب )‪.(1‬‬
‫كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر ‪ ‬الذي يبذل هذا المال كله‬
‫لهؤلء المستضعفين‪ ،‬أما في نظر الصديق فهؤلء إخوانه في الدين‬
‫الجديد‪ ،‬فكل واحد من هؤلء ل يساويه عنده مشركو الرض‬
‫العناصر وغيرها تبني دولة التوحيد‪ ،‬وتصنع حضارة‬ ‫وطغاتها‪ ،‬وبهذه‬
‫السلم الرائعة‪ (2).‬ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة ول‬
‫ها‪ ،‬ول دنيا‪ ،‬وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلل والكرام‪ .‬لقد قال‬ ‫جا ً‬
‫ضعافا‪ ،‬فلو أنك إذا‬ ‫ً‬ ‫له أبوه ذات يوم‪ :‬يا بني‪ ،‬إني أراك تعتق رقابًا‬
‫جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫فعلت أعتقت رجالً‬
‫يا أبت‪ ،‬إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل‪ .‬فل عجب إذا كان الله‬
‫شأن الصديق قرآنا يتلى إلى يوم القيامة‪ ،‬قال‬ ‫من أ َ‬ ‫أنزل في‬ ‫فأ َ‬ ‫سبحانه‬
‫نى ‪‬‬ ‫س َ‬ ‫ِ ُ ْ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫د‬
‫َ َ ّ‬‫ص‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫قى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫َ َ‬ ‫طى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ّ َ ْ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ب‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫نى‬ ‫َ‬ ‫غ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫َ ْ‬ ‫وا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫خ‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫َ ّْ َ‬ ‫ما‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫رى‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫سن ُي َ ّ ُ ُ‬
‫ه‬ ‫ر‬ ‫س‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ه إِ َ‬
‫ذا‬ ‫ُ‬ ‫ل‬
‫ُ َُ َ ُ‬‫ما‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬
‫َ ََ ُ‬‫ما‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫رى‬ ‫ُ ْ َ‬‫س‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫س‬
‫َ َ ََ ّْ ُ ُ‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫نى‬ ‫َ‬ ‫س‬
‫ِ ُ ْ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫والولى ‪‬‬ ‫َ‬ ‫خَرةَ‬ ‫ن ل ََنا ل َل ِ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫دى ‪‬‬ ‫ه َ‬ ‫علي َْنا لل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫دى ‪ ‬إ ِ ّ‬ ‫ت ََر َ ّ‬
‫ب‬‫ذي ك َذّ َ‬ ‫قى ‪ ‬ال ّ ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ها إ ِل ّ ال ْ‬ ‫صل َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ظى‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫را‬ ‫ً‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫فأن ْ ّ ْ‬
‫ذ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫َ َ‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫كى‬ ‫ّ‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ؤ‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫قى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫لى‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫لى ‪‬‬ ‫ع َ‬ ‫ه ال ْ‬ ‫ه َرب ّ ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫و ْ‬ ‫غاءَ َ‬ ‫جَزى ‪ ‬إ ِل ّ اب ْت ِ َ‬ ‫ة تُ ْ‬ ‫م ٍ‬ ‫ع َ‬ ‫من ن ّ ْ‬ ‫عن ْدَهُ ِ‬ ‫د ِ‬ ‫ح ٍ‬ ‫ل َ‬
‫ضى"]الليل‪.[21 – 5 :‬‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ول َ َ ْ‬
‫و‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة السلمية الولى قمة من‬
‫قمم الخير والعطاء‪ ،‬وأصبح هؤلء العبيد بالسلم أصحاب عقيدة‬
‫وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها‪ ،‬ويجاهدون في سبيلها‪ ،‬وكان‬
‫إقدام أبي بكر ‪ ‬على شرائهم ثم عتقهم دليلً على عظمة هذا‬
‫الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق ‪ ،‬وما أحوج المسلمين‬
‫اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرفيع‪ ،‬والمشاعر السامية؛ ليتم‬
‫التلحم والتعايش والتعاضد بين أبناء المة التي يتعرض أبناؤها للبادة‬
‫الشاملة من قَِبل أعداء العقيدة والدين‪.‬‬
‫سا‪ :‬هجرته الولى وموقف ابن الدغنة منها‪:‬‬
‫ساد ً‬
‫قالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬لم أعقل أبوي قط إل وهما‬
‫يدينان الدين‪ ،‬ولم يمر علينا يوم إل يأتينا فيه رسول الله × طرفي‬
‫النهار )بكرة وعشية(‪ ،‬فلما ابتلي المسلمون‪ ،‬خرج أبو بكر مهاجرًا‬
‫نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة‬
‫)‪ (3‬فقال‪ :‬أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر‪ :‬أخرجني قومي فأريد أن‬
‫أسيح في الرض وأعبد ربي‪ ،‬قال ابن الدغنة‪ :‬فإن مثلك يا أبا بكر ل‬
‫)( السيرة النبوية لبي شهبة‪.1/345 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التربية القيادية‪.1/342 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪33‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫يخرج ول ُيخرج؛ إنك تكسب المعدوم‪ ،‬وتصل الرحم‪ ،‬وتحمل الكل‪،‬‬


‫وتقري الضيف‪ ،‬وُتعين على نوائب الحق‪ .‬فأنا لك جار‪ ،‬ارجع واعبد‬
‫ربك ببلدك‪ ،‬فرجع وارتحل معه ابن الدغنة‪ ،‬فطاف ابن الدغنة عشية‬
‫في أشراف قريش‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إن أبا بكر ل يخرج مثله ول ُيخرج‪،‬‬
‫أتخرجون رجل يكسب المعدوم‪ ،‬ويصل الرحم‪ ،‬ويحمل الكل‪ ،‬ويقري‬
‫الضيف‪ ،‬ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن‬
‫ص ّ‬
‫ل‬ ‫الدغنة‪ ،‬وقالوا لبن الدغنة‪ :‬مر أبا بكر فليعبد ربه في داره‪ ،‬فلي ُ‬
‫ست َعِْلن به‪ ،‬فإنا نخشى أن‬ ‫فيها وليقرأ ما شاء‪ ،‬ول يؤذينا بذلك ول ي َ ْ‬
‫يفتن نساءنا وأبناءنا‪ ،‬فقال ذلك ابن الدغنة لبي بكر‪ ،‬فلبث أبو بكر‬
‫بذلك يعبد ربه في داره‪ ،‬ول يستعلن بصلته ول يقرأ في غير داره‪،‬‬
‫ثم بدا لبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره‪ ،‬وكان يصلي فيه ويقرأ‬
‫القرآن‪ ،‬فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم‪ ،‬وهم يعجبون منه‬
‫وينظرون إليه‪.‬‬
‫كاء ل يملك عينه إذا قرأ القرآن‪ ،‬فأفزع ذلك‬ ‫وكان أبو بكر رجل ب ّ‬
‫أشراف قريش من المشركين‪ ،‬فأرسلوا إلى ابن الدغنة‪ ،‬فقدم‬
‫عليهم فقالوا‪ :‬إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في‬
‫داره‪ ،‬فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره‪ ،‬فأعلن بالصلة‬
‫والقراءة فيه‪ ،‬وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه‪ ،‬فإن أحب‬
‫أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل‪ ،‬وإن أبى إل أن يعلن بذلك‬
‫فرك‪ ،‬ولسنا بمقرين‬ ‫خ ِ‬
‫فسله أن يرد إليك ذمته‪ ،‬فإنا قد كرهنا أن ن ُ ْ‬
‫لبي بكر الستعلن‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر‬
‫فقال‪ :‬قد علمت الذي عاقدت لك عليه‪ ،‬فإما أن تقتصر على ذلك‬
‫ي ذمتي‪ ،‬فإني ل أحب أن تسمع العرب أني أخفرت‬ ‫وإما أن ترجع إل ّ‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬فإني أرد إليك جوارك‪ ،‬وأرضى‬ ‫له‪،‬‬ ‫في رجل عقدت‬
‫بجوار الله عز وجل‪ (1).‬وحين خرج من جوار ابن الدغنة )يعني أبو‬
‫بكر( لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على‬
‫ترابا‪ ،‬فمر بأبي بكر الوليد ُ بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال‬ ‫ً‬ ‫رأسه‬
‫له أبو بكر ‪ :‬أل ترى ما يصنع هذا السفيه؟ فقال‪ :‬أنت فعلت ذلك‬
‫بنفسك‪(2)،‬وهو يقول‪ :‬ربي ما أحلمك‪ ،‬أي ربي ما أحلمك‪ ،‬أي ربي ما‬
‫أحلمك‪.‬‬
‫وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬كان أبو بكر في عز من قومه قبل بعثة محمد ×‪ ،‬فها هو ابن‬
‫الدغنة يقول له‪ :‬مثلك يا أبا بكر ل يخرج ول ُيخرج‪ ،‬إنك تكسب‬
‫المعدوم‪ ،‬وتصل الرحم‪ ،‬وتحمل الكل‪ ،‬وتقري الضيف‪ ،‬وتعين على‬
‫طلبا لجاه أو سلطان‪،‬‬‫ً‬ ‫نوائب الحق‪ .‬فأبو بكر لم يدخل في دين الله‬
‫وما دفعه إلى ذلك إل حب الله ورسوله × مهما يترتب على ذلك من‬
‫ابتلءات؛ أي أنه لم يكن له تطلعات سوى مرضاة الله تعالى‪ .‬إنه‬
‫والوطن والعشيرة ليعبد ربه؛ لنه حيل بينه‬ ‫يريد أن يفارق الهل‬
‫وبين ذلك في وطنه )‪.(3‬‬
‫ابن الدغنة‪ :‬قيل اسمه الحارث بن يزيد‪ ،‬وقيل‪ :‬مالك‪ ،‬وقيل‪ :‬ربيعة بن رفيع‪.‬‬
‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫والقارة‪ :‬قبيلة من بني الهون بن خزيمة‪.‬‬


‫)‪ (2‬البداية والنهاية‪.3/95 :‬‬ ‫)( فتح الباري‪.7/274 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( استخلف أبي بكر الصديق‪.134 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪34‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن الكريم‪ ،‬ولذلك اهتم بحفظه‬ ‫‪ -2‬إن زاد الصديق في دعوته القرآ ُ‬
‫وفهمه وفقهه والعمل به‪ ،‬وأكسبه الهتمام بالقرآن الكريم براعة في‬
‫قا في الفكار‪ ،‬وتسلسلً‬ ‫تبليغ الدعوة‪ ،‬وروعة في السلوب‪ ،‬وعم ً‬
‫إليه‪ ،‬ومراعاة لحوال‬ ‫عقليا في عرض الموضوع الذي يدعو‬ ‫ً‬
‫السامعين‪ ،‬وقوة في البرهان والدليل )‪.(1‬‬
‫وكان الصديق يتأثر بالقرآن الكريم ويبكي عند تلوته‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على رسوخ يقينه وقوة حضور قلبه مع الله عز وجل‪ ،‬ومع معاني‬
‫اليات التي يتلوها‪ ،‬والبكاء مبعثه قوة التأثر؛ إما بحزن شديد أو فرح‬
‫غامر‪ ،‬والمؤمن الحق يظل بين الفرح بهداية الله تعالى إلى الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬والشفاق من النحراف قليلً عن هذا الصراط‪ .‬وإذا كان‬
‫صاحب إحساس حي وفكر يقظ كأبي بكر ‪ ‬فإن هذا القرآن يذكر‬
‫بالحياة الخرة وما فيها من حساب وعقاب أو ثواب‪ ،‬فيظهر أثر ذلك‬
‫في خشوع الجسم وانسكاب العَب ََرات‪ ،‬وهذا المظهر يؤثر كثيرًا على‬
‫من شاهده‪ ،‬ولذلك فزع المشركون من مظهر أبي بكر المؤثر‬
‫وخشوا على نسائهم وأبنائهم أن يتأثروا به فيدخلوا في السلم )‪.(2‬‬
‫لقد تربى الصديق على يدي رسول الله ×‪ ،‬وحفظ كتاب الله‬
‫تعالى وعمل به في حياته‪ ،‬وتأمل فيه كثيرًا‪ ،‬وكان ل يتحدث بغير‬
‫أرض تسعني أو‬ ‫)‪(3‬‬
‫علم؛ فعندما سئل عن آية ل يعرفها أجاب بقوله‪ :‬أي‬
‫أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم ُيرد الله‪.‬‬
‫ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم‬
‫قوله‪ :‬إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم‬
‫هؤلء؟!( يعني‪ :‬حسنها‪ ،‬فيقول‬ ‫سيئها‪ ،‬فيقول الرجل‪ :‬أين أنا من‬
‫قائل‪ :‬لست من هؤلء‪ ،‬يعني وهو منهم )‪. 4‬‬

‫ل‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫وتقدير أ َ‬
‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫بأدبأ َ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫استشكل عليه‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫فيمال َيس بأ َ‬ ‫‪+‬‬
‫وكان يسأل رسول الله ×‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫واحترام‪ ،‬فلما نزل قوله‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ول ِّيا‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫جد ْ ل َ ُ‬ ‫ول َ ي َ ِ‬
‫ه َ‬‫جَز ب ِ ِ‬
‫سوءً ي ُ ْ‬
‫ل ُ‬‫م ْ‬
‫ع َ‬
‫من ي َ ْ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ب َ‬
‫صيًرا" ]النساء‪ ،[123 :‬قال أبو بكر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬قد جاءت‬ ‫ول َ ن َ ِ‬ ‫َ‬
‫قاصمة الظهر‪ ،‬وأي َّنا لم‬
‫يعمل سوًءا؟ فقال‪ :‬يا أبا بكر‪ ،‬ألست)‪(5‬تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست‬
‫تصيبك اللواء؟ فذلك مما تجزون به ‪.‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫وقد فسر الصديق بعض اليات‪ ،‬مثل قول الله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫فوا‬‫خا ُ‬ ‫ة أ َل ّ ت َ َ‬
‫مل َئ ِك َ ُ‬‫م ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ل َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫موا ت َت َن َّز ُ‬ ‫قا ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫قاُلوا َرب ّ َ‬
‫نا الل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]فصلت‪ ،[30 :‬قال‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬
‫م ُتو َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫ة‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ج‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫ِ‬ ‫روا‬‫ُ‬ ‫ش‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫أ‬‫و‬‫َ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫َ‬
‫فيها‪ :‬فلم يلتفتوا عنه يمنة ول يسرة‪ ،‬فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه ل‬
‫بالحب ول بالخوف‪ ،‬ول بالرجاء ول بالسؤال ول بالتوكل عليه؛ بل ل‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين‪.88 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.20/209 ،19 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،117 :‬هذه الرواية فيها انقطاع‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الفتاوى لبن تيمية‪.6/212 ،‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( أحمد‪ ،1/11 :‬وقال الشيخ شاكر‪ :‬أسانيدها ضعاف‪ ،‬وهو صحيح بطرقه‬ ‫‪5‬‬

‫وشواهده‪ ،‬انظر‪) :‬مسند المام أحمد(‪ ،‬رقم‪.68 :‬‬

‫‪35‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أنداد ول يحبون إل إياه؛ ل لطلب منفعة‪،‬‬
‫يحبون إل الله ول يحبون معه ا‪ً ،‬‬
‫كائنًمن كان‪ ،‬ول يسألون غيره‪ ،‬ول‬
‫غيره ا‬ ‫ول لدفع مضرة‪ ،‬ول يخافون‬
‫يتشرفون بقلوبهم إلى غيره‪(1).‬وغير ذلك من اليات‪.‬‬
‫إن الدعاة إلى الله عليهم أن يكونوا في صحبة مستمرة للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬يقرأونه ويتدبرونه ويستخرجون كنوزه ومعارفه للناس‪ ،‬وأن‬
‫ظهروا للناس ما في القرآن من إعجاز بياني وعلمي وتشريعي‪ ،‬وما‬ ‫يُ ْ‬
‫فيه من سبل إنقاذ النسانية المعذبة من مآسيها وحروبها‪ ،‬بأسلوب‬
‫يناسب العصر‪ ،‬ويكافئ ما وصل إليه الناس من تقدم في وسائل‬
‫الدعوة والدعاية‪ .‬ولقد أدرك أبو بكر ‪ ‬كيف تكون قراءة القرآن‬
‫المسجد على مل من قريش وسيلة مؤثرة من وسائل‬ ‫الكريم في‬
‫الدعوة إلى الله )‪.(2‬‬
‫سابًعا‪ :‬بين قبائل العرب في السواق‪:‬‬
‫قد علمنا أن الصديق ‪ ‬كان عالمًا بالنساب وله فيها الباع‬
‫الطويل؛ قال السيوطي ‪-‬رحمه الله تعالى‪ :-‬رأيت بخط الحافظ‬
‫الذهبي ‪-‬رحمه الله‪ -‬من كان فرد زمانه في فنه‪ ...‬أبو بكر في‬
‫النسب‪ (3).‬ولذلك استخدم الصديق هذا العلم الفياض وسيلة من‬
‫خَر ذلك في‬ ‫وسائل الدعوة؛ ليعلم كل ذي خبرة كيف يستطيع أن يس ّ‬
‫كان‬
‫)‪(4‬‬
‫سواء‬ ‫سبيل الله على اختلف التخصصات‪ ،‬وألوان المعرفة‪،‬‬
‫علمه نظريًا أو تجريبيًا‪ ،‬أو كان ذا مهنة مهمة في حياة الناس‪.‬‬
‫وسوف نرى الصديق يصحبه رسول الله × عندما عرض نفسه‬
‫على قبائل العرب ودعاهم إلى الله‪ ،‬كيف وظف هذا العلم لدعوة‬
‫ها له القدرة على توصيل المعاني‬ ‫الله؛ فقد كان الصديق خطيبًا مفو ً‬
‫بأحسن اللفاظ‪ ،‬وكان ‪ ‬يخطب عن النبي × في حضوره وغيبته‪،‬‬
‫فكان النبي × إذا خرج في الموسم يدعو )أي أبو بكر( الناس إلى‬
‫تمهيدا‪(5‬وتوطئة لما يبلغ الرسول‪ ،‬معونة له‪ ،‬ل تقدمًا بين‬
‫ً‬ ‫متابعة كلمه‬
‫يدي الله ورسوله‪ ).‬وكان علمه في النسب ومعرفة أصول القبائل‬
‫مساعدا له على التعامل معها‪ ،‬فعن علي بن أبي طالب ‪ ‬قال‪ :‬لما‬ ‫ً‬
‫أمر الله ‪-‬عز وجل‪ -‬نبيه × أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج‬
‫وأنا معه‪ ...‬إلى أن قال‪ :‬ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة‬
‫والوقار‪ ،‬فتقدم أبو بكر فسلم‪ ،‬فقال‪ :‬من القوم؟ قالوا‪ :‬من بني‬
‫شيبان بن ثعلبة‪ ،‬فالتفت أبو بكر إلى رسول الله × وقال‪ :‬بأبي أنت‬
‫وأمي‪ ،‬ليس وراء هؤلء عذر من قومهم وهؤلء غرر الناس وفيهم‬
‫مفروق بن عمرو‪ ،‬وهانئ بن قبيصة‪ ،‬والمثنى بن حارثة والنعمان بن‬
‫شريك‪ ،‬وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم لسانًا وجمالً‪ ،‬وكان له‬
‫غديرتان تسقطان على تريبته‪ ،‬وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي‬
‫بكر‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق‪ :‬إنا ل نزيد على‬
‫اللف ولن تغلب اللف من قلة‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬وكيف المنعة فيكم‪،‬‬
‫غضبا حين نلقى‪ ،‬وأشد ما نكون‬ ‫ً‬ ‫فقال مفروق‪ :‬إنا لشد ما نكون‬
‫)( الفتاوى‪.28/22 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة السلمية في عهد الخلفاء‪ ،‬ص ‪.95‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الخلفاء‪ :‬ص ‪ ،100‬نقل عن تاريخ الدعوة‪ :‬ص ‪.95‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (5‬أبو بكر الصديق‪ ،‬لمحمد عبد الرحمن‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.96‬‬ ‫‪4‬‬

‫قاسم‪ :‬ص ‪.92‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪36‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫لقاء حين نغضب‪ ،‬وإنا لنؤثر الجياد على الولد والسلح على اللقاح‪،‬‬
‫والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى‪ .‬لعلك أخو قريش؟‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬إن كان بلغكم أن رسول الله × فها هو ذا‪ ،‬فقال‬
‫مفروق‪ :‬إلم تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله ×‪» :‬أدعوكم‬
‫إلى شهادة أن ل إله إل الله وحده ل شريك له وأني عبد‬
‫شا‬ ‫الله ورسوله‪ ،‬وإلى أن تؤووني وتنصروني‪ ،‬فإن قري ً‬
‫قد تظاهرت على الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل‬
‫عن الحق‪ ،‬والله هو الغني الحميد«‪.‬‬
‫فقال مفروق‪ :‬وإلم تدعو أيضا يا أخا قريش‪ ،‬فوالله ما سمعت‬
‫وا‬‫عال َ ْ‬ ‫ل تَ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫كلما أحسن من هذا؟ فتل رسول الله × قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ ً‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ل‬
‫َ ُِ ُ َ ِ َ ْ ِ‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ش‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫كوا‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫أت ْ ُ َ َ ّ َ َ ّ ُ ْ َ َ ْ ْ‬
‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ك‬‫ب‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ما‬ ‫ل‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫يا‬
‫ْ َ ُِ ّ ُ ْ‬ ‫إ‬‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ق‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫ن‬
‫ٍ ّ ْ ُ َ ْ ُ‬‫ن‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫إ‬ ‫ن‬
‫َ ّ ْ ِ ْ‬ ‫م‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫ول َدَ‬ ‫قت ُلوا أ ْ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫ساًنا َ‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫قت ُلوا‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫َُ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ب‬ ‫ما‬ ‫و‬
‫َ َ ِ ْ َ َ َ َ‬‫ها‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ظ‬ ‫ما‬ ‫ش‬
‫َ ِ َ َ‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫بوا‬ ‫ر‬ ‫ق‬
‫َ َ ُ‬‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ ِ ِ َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫صا‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫ُ ِ ِ َ ّ ِ ْ َ ّ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ر‬
‫َ ّ َ‬ ‫ح‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫س‬
‫ّ ُ َ‬‫ْ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫ال‬
‫ن" ]النعام‪ ،[151 :‬فقال مفروق‪ :‬دعوت والله إلى مكارم‬ ‫قلو َ‬ ‫ع ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫الخلق ومحاسن العمال‪ ،‬ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك‪ ،‬ثم‬
‫رد المر إلى هانئ بن قبيصة فقال‪ :‬وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا‪،‬‬
‫فقال هانئ‪ :‬قد سمعت مقالتك يا أخا قريش‪ ،‬وإني أرى أن ت َْرك ََنا‬
‫ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ول آخر لذل في‬
‫الرأي وقلة نظر في العاقبة‪ ،‬إن الزلة مع العجلة وإنا نكره أن نعقد‬
‫عقدا‪ ،‬ولكن نرجع وترجع وننظر‪ ..‬ثم كأنه أحب أن‬ ‫ً‬ ‫على من وراءنا‬
‫يشركه المثنى بن حارثة فقال‪ :‬وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا‪،‬‬
‫فقال المثنى )وأسلم بعد ذلك(‪ :‬قد سمعت مقالتك يا أخا قريش‪،‬‬
‫والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك‪،‬‬
‫وإنا إنما نزلنا بين صيرين أحدهما اليمامة والخرى السمامة‪ ،‬فقال‬
‫رسول الله ×‪» :‬وما هذا الصيران؟« فقال له‪ :‬أما أحدهما‬
‫فطفوف البر وأرض العرب‪ ،‬وأما الخر فأرض فارس وأنهار كسرى‪،‬‬
‫وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن ل نحدث حدًثا‪ ،‬ول نؤوي‬
‫محدثا‪ ،‬ولعل هذا المر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك‪ ،‬فأما ما‬
‫كان مما يلي بلد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول‪ ،‬وأما ما‬
‫كان يلي بلد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول‪،‬‬
‫فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا‪ ،‬فقال رسول الله ×‪:‬‬
‫»ما أسأتم في الرد؛ إذ أفصحتم بالصدق‪ ،‬وإن دين الله‬
‫‪-‬عز وجل‪ -‬لن ينصره إل من حاطه من جميع جوانبه‪.‬‬
‫أرأيتم إن لم تلبثوا إل قليل ً حتى يورثكم الله تعالى‬
‫أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم‪ ،‬أتسبحون الله‬
‫ك ذاك )‪.(1‬‬ ‫وتقدسونه؟«‪ .‬فقال له النعمان بن شريك‪ :‬اللهم فَل َ َ‬
‫وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬ملزمة الصديق لرسول الله ×‪ ،‬وهذا جعله يفهم السلم‬
‫بشموله‪ ،‬وهيأه الله تعالى بأنه يصبح أعلم الصحابة بدين الله؛ فقد‬

‫)( البداية والنهاية‪ ،145 -143 ،3/142 :‬وفيها زيادات ليست عند الصالحي في‬ ‫‪1‬‬

‫سبيل الرشاد‪.597 ،2/596 :‬‬

‫‪37‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫تعلم من رسول الله × حقيقة السلم‪ ،‬وتربى على يديه في معرفة‬
‫معانيه‪ ،‬فاستوعب طبيعة الدعوة ومر بمراحلها المتعددة‪ ،‬واستفاد‬
‫من صحبته لرسول الله ×‪ ،‬وتشرب المنهج الرباني‪ ،‬فعرف المولى ‪-‬‬
‫عز وجل‪ -‬من خلله‪ ،‬وطبيعة الحياة‪ ،‬وحقيقة الكون‪ ،‬وسر الوجود‪،‬‬
‫وماذا بعد الموت‪ ،‬ومفهوم القضاء والقدر‪ ،‬وقصة الشيطان مع آدم‬
‫‪ ،‬وحقيقة الصراع بين الحق والباطل‪ ،‬والهدى والضلل‪ ،‬واليمان‬
‫الكفر‪ .‬وحببت إليه العبادات؛ كقيام الليل‪ ،‬وذكر الله‪ ،‬وتلوة القرآن‪،‬‬
‫فسمت أخلقه‪ ،‬وتطهرت نفسه‪ ،‬وزكت روحه‪.‬‬
‫‪ -2‬وفي رفقته لرسول الله × عندما كان × يدعو القبائل‬
‫للسلم استفاد الكثير؛ فقد عرف أن النصرة التي كان يطلبها رسول‬
‫الله × لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير‬
‫مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة ول يستطيعون التحرر‬
‫منها؛ وذلك لن احتضانهم للدعوة والحالة هذه ُيعرضها لخطر القضاء‬
‫عليها من قَِبل‬
‫الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات‪ ،‬والتي تجد في الدعوة‬
‫السلمية خطرًا عليها‬
‫وتهديدا لمصالحها)‪.(1‬‬
‫إن الحماية المشروطة أو الجزئية ل تحقق الهدف المقصود‪ ،‬فلن‬
‫يخوض بنو شيبان حرًبا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله‬
‫× وتسليمه‪ ،‬ولن يخوضوا حربا ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول‬
‫الله × وأتباعه‪ ،‬وبذلك فشلت المباحثات )‪.(2‬‬
‫‪» -2‬إن دين الله لن ينصره إل من حاطه من جميع جوانبه«‪ ،‬كان‬
‫هذا الرد من‬
‫النبي × على المثنى بن حارثة؛ حيث عرض على النبي حمايته على‬
‫مياه العرب دون‬
‫مياه الفرس‪ ،‬فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر‬
‫السلمي النبوي‬
‫)‪(3‬‬
‫الذي ل يسامى‪.‬‬
‫‪ -4‬كان موقف بني شيبان يتسم بالريحية والخلق والرجولة‪،‬‬
‫وينم عن تعظيم هذا‬
‫النبي ×‪ ،‬وعن وضوح في العرض‪ ،‬وتحديد مدى قدرة الحماية التي‬
‫يملكونها‪ ،‬وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك‪ ،‬وقدر الله‬
‫لشيبان بعد عشر سنوات أو تزيد أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة‬
‫الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور السلم‪ ،‬وكان المثنى بن حارثة‬
‫الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة‬
‫الفتوح في خلفة الصديق‪ ،‬فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد‬
‫إسلمهم على قتال الفرس‪ ،‬بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس‬
‫ول يفكرون في قتالهم؛ بل إنهم ردوا دعوة النبي × بعد قناعتهم بها‬

‫)( الجهاد والقتال في السياسة الشرعية‪ ،‬محمد هيكل‪.1/412 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التحالف السياسي في السلم‪ ،‬منير الغضبان‪ :‬ص ‪.53‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.64‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪38‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫لحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس‪ ،‬المر الذي لم يكونوا يفكرون‬
‫به أبدا‪ ،‬وبهذا تعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في‬
‫الرض( مع ما ينتظرون في أخراهم من‬ ‫الدنيا؛ حيث جعلهم سادة‬
‫النعيم الدائم في جنات النعيم )‪. 1‬‬
‫***‬

‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪ .3/69 :‬التربية القيادية‪.3/20 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪39‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المبحث الثالث‬
‫هجرته مع رسول الله × إلى المدينة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫اشتدت قريش في أذى المسلمين والنيل منهم؛ فمنهم من هاجر‬
‫إلى الحبشة مرة أو مرتين فرارًا بدينه‪ ،‬ثم كانت الهجرة إلى المدينة‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي × في الهجرة فقال له‪» :‬ل‬
‫تعجل‪ ،‬لعل الله يجعل لك صاحًبا« )‪ (1‬فكان أبو بكر يطمع أن يكون‬
‫في صحبة‬
‫النبي ×‪ .‬وهذه السيدة عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬تحدثنا عن هجرة‬
‫رسول الله × وأبيها ‪ ‬حيث قالت‪ :‬كان ل يخطئ رسول الله × أن‬
‫يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار‪ ،‬إما بكرة وإما عشية‪ ،‬حتى إذا‬
‫والخروج من‬ ‫كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله × في الهجرة‪،‬‬
‫مكة من بين ظهري قومه‪ ،‬أتانا رسول الله × بالهاجرة )‪ ،(2‬في‬
‫ساعة كان ل يأتي فيها‪ ،‬قالت‪ :‬فلما رآه أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬ما جاء رسول‬
‫الله × هذه الساعة إل لمر حدث‪ ،‬قالت‪ :‬فلما دخل تأخر له أبو بكر‬
‫عن سريره فجلس رسول الله ×‪ ،‬وليس عند أبي بكر إل أنا وأختي‬
‫أسماء بنت أبي بكر‪ ،‬فقال رسول الله ×‪» :‬أخرج عني من عندك«‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنما هما ابنتاي‪ ،‬وما ذاك فداك أبي وأمي!‬
‫فقال‪» :‬أنه قد أذن لي في الخروج والهجرة« ‪ ،‬قلت‪ :‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫الصحبة يا رسول الله؟ قال‪» :‬الصحبة« ‪ ،‬قالت فوالله ما شعرت‬
‫أحدا يبكي من الفرح‪ ،‬حتى رأيت أبا بكر يبكي‬ ‫ً‬ ‫قط قبل ذلك اليوم‬
‫يومئذ‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا نبي الله‪ ،‬إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا‪،‬‬
‫رجل من بني الديل بن بكر‪ ،‬وكانت‬ ‫ً‬ ‫فاستأجرا عبد الله بن أريقط‪,‬‬
‫على‬ ‫يدلهما‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫مشرك‬ ‫وكان‬ ‫عمرو‪،‬‬ ‫أمه امرأة من بني سهم بن‬
‫الطريق‪ ،‬فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما )‪.(3‬‬
‫وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل‬
‫مهمة‪ ،‬وفي ذلك الحديث‪ ...:‬قالت عائشة‪ :‬فبينما نحن يومًا جلوسًا‬
‫في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة‪ ،‬قال قائل لبي بكر‪ :‬هذا رسول‬
‫الله × متقنعًا )‪ ،(4‬في ساعة لم يكن يأتينا فيها‪ ،‬فقال رسول الله ×‬
‫ن عندك« فقال أبو بكر‪ :‬إنما هم أهلك‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫م ْ‬
‫لبي بكر‪» :‬أخرج َ‬
‫»فإني قد أذن لي في الخروج« ‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬الصحبة بأبي أنت يا‬
‫رسول الله! قال رسول الله ×‪» :‬نعم« ‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬فخذ بأبي‬
‫أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين‪ ،‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫»بالثمن« ‪ ،‬قالت عائشة‪ :‬فجهزناهما أحسن الجهاز‪ ،‬ووضعنا لهم‬
‫سفرة في جراب‪ ،‬فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها‬
‫النطاقين‪ ،‬ثم لحق‬ ‫فربطت به على فم الجراب‪ ،‬فبذلك سميت ذات‬
‫رسول الله × وأبو بكر بغار في جبل ثور‪ ،‬فكمنا )‪ (5‬فيه ثلث ليالي‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.107‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الهاجرة‪ :‬نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو العصر‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫متقنعا‪ :‬مغطيًا رأسه‪.‬‬


‫ً‬ ‫السيرة النبوية لبن كثير‪(4) .234 ،2/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫كمنا فيه‪ :‬أي‪ :‬استترا واستخفيا‪ ،‬ومنه‪ :‬الكمين في الحرب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪40‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلم شاب ثقف)‪ ،(1‬لقن )‪،(2‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫يبيت‬
‫عندهما‪(4‬بسحر‪ ،‬فيصبح مع قريش بمكة كبائت‪ ،‬فل‬ ‫من‬ ‫فيدلج‬
‫يسمع أمرا يكتادان ) به إل وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط‬
‫من( العشاء‪ ،‬فيبيتان في‬ ‫الظلم‪ ،‬ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة‬
‫)وهو لبن منحهم ورضيفهما( )‪ (5‬ينعق )‪ 6‬بها عامر بن فهيرة‬ ‫رسل‬
‫بغلس )‪ ،(7‬يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلث‪ ،‬واستأجر‬
‫بني عبد ابن‬ ‫رسول الله × وأبو بكر رجلً من بني الديل وهو من‬
‫عدي هاديا خريتا )والخريت‪ :‬الماهر(‪ ،‬قد غمس حلفًا )‪ (8‬في آل‬
‫العاص بن وائل السهمي‪ ،‬وهو على دين كفار قريش‪ ،‬فأمناه فدفعا‬
‫إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعده غار ثور بعد ثلث‬
‫ليال براحلتيهما صبح ثلث‪ ،‬وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل‪،‬‬
‫فأخذ بهم‬
‫طريق السواحل)‪.(9‬‬
‫أحد حين خرج إل علي بن أبي طالب‪،‬‬ ‫لم يعلم بخروج رسول الله ×‬
‫بكر‪ (،‬وجاء وقت الميعاد بين رسول الله × وأبي‬ ‫وأبو بكر الصديق‪ ،‬وآل أبي‬
‫)‪10‬‬
‫‪ ‬فخرجا من خوخة‬ ‫بكر ‪،‬‬
‫لبي بكر في ظهر بيته؛ وذلك للمعان في الستخفاء حتى ل تتبعهما‬
‫الليل على‬ ‫قريش وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة‪ ،‬وقد اتعدا مع‬
‫ثلث ليال )‪ ،(11‬وقد‬ ‫أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد‬
‫دعا النبي × عند خروجه من مكة إلى المدينة )‪ ،(12‬ووقف عند‬
‫وقال‪» :‬والله إنك لخير أرض الله‬
‫)‪(13‬‬ ‫مكة أني أ ُ‬ ‫خروجه بالحزورة في سوق‬
‫ت منك ما خرجت« ‪.‬‬ ‫ِ ُ‬‫ج‬
‫ْ‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ولول‬ ‫وأحب أرض الله إلى الله‪،‬‬
‫ثم انطلق رسول الله وأبو بكر‪ ،‬والمشركون يحاولون أن يقتفوا‬
‫آثارهم حتى بلغوا الجبل –جبل ثور‪ -‬اختلط عليهم‪ ،‬فصعدوا الجبل‬
‫فمروا بالغار‪ ،‬فرأوا على بابه نسيج العنكبوت‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو دخل ها هنا‬
‫أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه )‪ ،(14‬وهذه من جنود الله ‪-‬عز‬
‫و" ]المدثر‪.[31 :‬‬‫ه َ‬ ‫ك إ ِل ّ ُ‬
‫جُنودَ َرب ّ َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬
‫و َ‬
‫وجل‪َ + :-‬‬
‫وبالرغم من كل السباب التي اتخذها رسول الله × فإنه لم‬
‫يرتكن إليها مطلقًا‪ ،‬وإنما كان كامل الثقة في الله‪ ،‬عظيم الرجاء في‬

‫)( ثقف‪ :‬ذو فطنة وذكاء‪ ،‬والمراد‪ :‬ثابت المعرفة بما يحتاج إليه‪ ،‬النهاية‪.1/216 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( لقن‪ :‬فهم حسن التلقي لما يسمعه‪ ،‬النهاية‪.4/266 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( يدلج‪ :‬أدلج إذا سار أول الليل‪ ،‬واّدلج بالتشديد‪ :‬إذا سار آخره‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( يكتادان‪ :‬أي‪ :‬يطلب لهما فيه المكروه‪ ،‬وهو من الكيد‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الرضيف‪ :‬اللبن المرضوف‪ ،‬وهو الذي طرحت فيه الحجارة المحماة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( ينعق‪ :‬نعق بغنمه أي‪ :‬صاح بها وزجرها‪ ،‬القاموس المحيط‪.3/265 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( الغلس‪ :‬ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح‪ ،‬النهاية‪.3/377 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫حلفا‪ :‬أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به‪.‬‬ ‫ً‬ ‫)( غمس‬ ‫‪8‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب مناقب النصار‪ ،‬باب هجرة النبي‪ ،‬ص ‪.395‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( الهجرة في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪.334‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( خاتم النبيين لبي زهرة‪ ،1/659 :‬السيرة النبوية لبن كثير‪.2/234 :‬‬ ‫‪11‬‬

‫)‪ (3‬الترمذي‪ ،‬كتاب المناقب‪،‬‬ ‫)( السيرة النبوية لبن كثير‪.234 ،2/230 :‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪.‬‬ ‫باب فضل مكة‪5/722:‬‬ ‫‪13‬‬

‫)‪ (5‬الهجرة النبوية‬ ‫)( مسند المام أحمد‪.1/348 :‬‬ ‫‪14‬‬

‫المباركة‪ :‬ص ‪.72‬‬

‫‪41‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الدعاء بالصيغة التي علمه َالله إياها)‪ ،(1‬قال‬ ‫َ‬ ‫نصره وتأييده‪ ،‬دائم‬
‫ج‬
‫ُ َ َ‬‫ر‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫ني‬ ‫ِ ْ ِ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫ُ ْ ْ َ ِ ْ ٍ َ‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ني‬ ‫ْ‬
‫قل ّر ّ ْ ِ ِ‬
‫ل‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫و ُ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫صيًرا" ]السراء‪.[80 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫نا‬
‫ً‬ ‫طا‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫لي‬ ‫ّ‬ ‫عل‬ ‫وا ْ َ‬ ‫ج‬ ‫ق َ‬ ‫صد ْ ٍ‬ ‫ِ‬
‫وفي هذه الية الكريمة دعاء ُيعلمه الله ‪-‬عز وجل‪ -‬لنبيه ×‬
‫ليدعوه به‪ ،‬ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه‪ ،‬دعاء بصدق‬
‫المدخل وصدق المخرج‪ ،‬كناية عن صدق الرحلة كلها‪ ،‬بدئها وختامها‪،‬‬
‫أولها وآخرها‪ ،‬وما بين الول والخر‪ ،‬وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما‬
‫حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله‬
‫غيره‪ ،‬وللصدق كذلك ظلله؛ ظلل الثبات والطمئنان والنظافة‬
‫صيًرا"‪ ،‬قوة وهيبة‬ ‫طاًنا ن ّ ِ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ك ُ‬ ‫من ل ّدُن ْ َ‬ ‫عل ّلي ِ‬ ‫ج َ‬ ‫وا ْ‬ ‫والخلص‪َ + :‬‬
‫من‬ ‫ِ‬ ‫‪+‬‬ ‫وكلمة‬ ‫المشركين‪،‬‬ ‫وقوة‬ ‫الرض‬ ‫سلطان‬ ‫على‬ ‫استعلى بهما‬
‫ك" تصور القرب والتصال بالله والستمداد من عونه مباشرة‬ ‫ل ّدُن ْ َ‬
‫ماه‪.‬‬ ‫ح َ‬ ‫واللجوء إلى ِ‬
‫وصاحب الدعوة ل يمكن أن يستمد السلطان إل من الله‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن يهاب إل بسلطان الله‪ ،‬ل يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي‬
‫جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله‪ ،‬والدعوة‬
‫ما‬
‫قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه‪ ،‬فيصبحون لها جندًا وخد ً‬
‫وخدمه‪،‬‬ ‫فيفلحون‪ ،‬ولكنها هي ل تفلح إن كانت من جند السلطان‬
‫فهي من أمر الله‪ ،‬وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه )‪.(2‬‬
‫وعندما أحاط المشركون بالغار‪ ،‬وأصبح منهم رأي العين طمأن‬
‫الرسول × الصديق بمعية الله لهما‪ ،‬فعن أبي بكر الصديق ‪ ‬قال‪:‬‬
‫قدميه لبصرنا‪،‬‬ ‫قلت للنبي × وأنا في الغار‪ :‬لو أن أحدهم نظر تحت‬
‫فقال‪» :‬ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟«)‪.(3‬‬
‫د‬
‫ق ْ‬‫ف َ‬
‫صُروهُ َ‬ ‫وجل‪ -‬ذلك في قوله تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َتن ُ‬ ‫ّ‬
‫وسجل الحق َ‪-‬عز‬
‫في‬ ‫ما ِ‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ن‬‫ْ ِ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ثا‬ ‫َ‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫خَر َ ُ‬‫ج‬ ‫ه إ ِذْ أ ْ‬ ‫صَره ُ الل ُ‬ ‫نَ ْ َ‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫ف ِأ َ‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫صا‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ال َ ِ ِ‬
‫إ‬ ‫ر‬ ‫غا‬
‫فُروا‬ ‫ن كَ َ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ْ ْْ َ ْ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ٍ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ب‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ه‬
‫كين َت َ َ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫م" ]التوبة‪.[40 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫كي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ز‬ ‫ٌ‬ ‫زي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫َ‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ُ‬ ‫ة‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫لى‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫س‬‫ال ّ‬
‫وبعد ثلث ليال من دخول النبي × في الغار خرج رسول الله‬
‫× وصاحبه من الغار‪ ،‬وقد هدأ الطلب‪ ،‬ويئس المشركون من‬
‫الوصول إلى رسول الله‪ ،‬وقد قلنا‪ :‬إن رسول الله × وأبا بكر قد‬
‫رجل من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫استأجرا‬
‫مشرك ا وقد أمنا ُ ه فدفعا إليه راحلتيهما‪ ،‬وواعداه غار ثور بعد ثلث‬ ‫ً‬
‫فعل في الموعد المحدد‪ ،‬وسلك بهما‬ ‫ً‬ ‫ليال براحلتيهما‪ ،‬وقد جاءهما‬
‫قا غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار‬ ‫طري ً‬
‫)‪(4‬‬
‫قريش‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن‪.4/2247 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب المهاجرين‪ ،‬رقم‪،3653 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومسلم رقم‪.5381 :‬‬


‫)( المستفاد من قصص القرآن‪ ،‬عبد الكريم زيدان‪.2/101 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪42‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وفي أثناء الطريق إلى المدينة مر ّ النبي × بأم معبد )‪ (1‬في قديد )‪،(2‬‬
‫حيث مساكن خزاعة‪ ،‬وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى‬
‫كثير‪:‬‬ ‫قصتها‪ ،‬وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير‪ ،‬وقال عنها ابن‬
‫ضا« )‪.(3‬‬ ‫وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بع ً‬ ‫»‬
‫وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي × حّيا أو‬
‫ميتا فله مائة‬‫ً‬
‫ناقة‪ ،‬وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة‪،‬‬
‫وطمع سراقة بن‬
‫مالك بن جعشم في نيل المكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي‬
‫برسول الله × فأجهد نفسه لينال ذلك‪ ،‬ولكن الله بقدرته التي ل‬
‫يغلبها)‪(4‬غالب جعله يرجع مدافعًا عن رسول الله × بعد أن كان جاهدًا‬
‫عليه ‪.‬‬
‫ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ×من مكة‪ ،‬كانوا‬
‫يفدون كل غداة إلى الحرة‪ ،‬فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة‪ ،‬فانقلبوا‬
‫أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على‬ ‫)‪(5‬‬
‫بعدما‬
‫ً‬ ‫يوم‬ ‫ا‬
‫ينظر إليه‪ ،‬فبصر رسول الله ×وأصحابه مبيضين‬ ‫)‪(7‬‬
‫لمر‬ ‫آطامهم‬ ‫من‬ ‫أطم‬
‫فلم( يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته‪ :‬يا‬ ‫)‪8‬‬
‫السراب‬
‫‪،‬‬ ‫)‪(6،‬يزول بهم‬
‫معشر العرب هذا جدكمالذي تنتظرون‪ ،‬فثار المسلمون إلى السلح‬
‫حتى نزل بهم‬ ‫)‪(10‬‬
‫فعدل بهم ذات اليمين‬
‫)‪(9‬‬
‫بظهر الحرة‪،‬‬ ‫فتلقوا رسول الله ×‬
‫فقام أبو بكر‬ ‫‪،‬‬ ‫الول‬ ‫ربيع‬ ‫شهر‬ ‫من‬ ‫ثنين‬
‫ا‬ ‫ال‬ ‫يوم‬ ‫في بني عوف‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ظلل عليه بردائه‪ ،‬فعرف النا س رسول الله × عند ذلك )‪.(11‬‬
‫كان يوم وصول الرسول × وأبي بكر إلى المدينة يوم فرح‬
‫وابتهاج لم تَر المدينة يومًا مثله‪ ،‬ولبس الناس أحسن ملبسهم كأنهم‬
‫في يوم عيد‪ ،‬ولقد كان حقًا يوم عيد؛ لنه اليوم الذي انتقل فيه‬
‫السلم من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة النطلق والنتشار‬
‫بهذه البقعة المباركة )المدينة(‪ ،‬ومنها إلى سائر بقائع الرض‪ .‬لقد‬
‫أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به‪ ،‬وبالشرف الذي‬
‫اختصهم الله به‪ ،‬فقد صارت بلدتهم موطًنا ليواء رسول الله‬
‫وصحابته المهاجرين‪ ،‬ثم لنصرة السلم‪ ،‬كما أصبحت موطنًا للنظام‬
‫السلمي العام التفصيلي بكل مقوماته‪ ،‬ولذلك خرج أهل المدينة‬
‫‪(12‬في فرح وابتهاج ويقولون‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬يا محمد يا رسول‬ ‫يهللون‬
‫الله‪ ).‬وبعد هذا الستقبال الجماهيري العظيم الذي لم ير مثله في‬
‫تاريخ النسانية سار رسول الله × حتى نزل في دار أبي أيوب‬
‫)( هي عاتكة بنت كعب الخزاعية‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( وادي قديد يبعد عن الطريق المعبد حوالي ثمانية كيلو مترات‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.3/188 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( السيرة النبوية‪ ،‬عرض وقائع وتحليل أحداث‪.1/543 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (3‬مبيضين‪ :‬عليهم ثياب بيض‪.‬‬ ‫)( أطم‪ :‬كالحصن‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)( السراب‪ :‬أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( جدكم‪ :‬حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( قال الحافظ ابن حجر‪ :‬هذا هو المعتمد‪ ،‬وشذ من قال‪ :‬الجمعة‪ ،‬الفتح‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪.4/544‬‬
‫)( الهجرة في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪ (9) ,(8) .351‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص‬ ‫‪10‬‬

‫‪.352‬‬ ‫‪11‬‬

‫)‪ (10‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.354‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪43‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫النصاري ‪ ،(1) ‬ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي‬
‫النصاري‪.‬‬
‫وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات‪ ،‬فتغلب عليها‬
‫رسول الله × للوصول للمستقبل الباهر للمة والدولة السلمية‬
‫التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من‬
‫تغلبت على أقوى دولتين‬ ‫اليمان والتقوى والحسان والعدل‪ ،‬بعد أن‬
‫كانتا تحكمان في العالم‪ ،‬وهما الفرس والروم )‪ ،(2‬وكان الصديق ‪‬‬
‫الساعد اليمن لرسول الله × منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته ×‪ .‬وكان‬
‫ة وإيمانًا‪ ،‬يقينًا‬ ‫أبو بكر ‪ ‬ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكم ً‬
‫ديقّية‪،‬‬ ‫ص ّ‬ ‫حا و ِ‬ ‫وإخلصا‪ ،‬فإذا هذه الصحبة تثمر صل ً‬ ‫ً‬ ‫وعزيمة‪ ،‬وتقوى‬
‫وتصميما‪ ،‬إخلصًا وفهمًا‪ ،‬فوقف‬ ‫ً‬ ‫ذكرًا ويقظة‪ ،‬حّبا وصفاء‪ ،‬عزيمة‬
‫مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله × في سقيفة بني ساعدة‬
‫الردة‪ ،‬فأصلح ما‬ ‫)‪(3‬‬
‫وغيرها من المواقف‪ ،‬وبعث جيش أسامة‪ ،‬وحروب‬
‫وم ما انحرف‪.‬‬ ‫هدم‪ ،‬وجمع ما تفرق‪ ،‬وق ّ‬ ‫فسد وبنى ما ُ‬
‫إن حادثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ج ُ‬‫خَر َ‬ ‫ه إ ِذْ أ ْ‬ ‫صَرهُ الل ُ‬ ‫قد ْ ْ ن َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫صُروهُ َ‬ ‫ّ أول‪ :‬قال تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َتن ُ‬
‫ه‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫صا‬
‫َ ِ َ ِ ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ر‬ ‫غا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ن إ ِذْ ُ َ ِ‬
‫ما‬ ‫ه‬ ‫ي اث ْن َي ْ َ ِ‬ ‫فُروا َثان ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جُنوٍد‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ه‬
‫ُ َ ِ َ َ ُ َ ْ ِ َ ّ َ ُ ِ ُ‬‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫كي‬ ‫س‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ز‬
‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫نا‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫لَ َ ْ َ ْ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫ت‬
‫ه‬‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫َ ِ َ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫س‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫ِ َ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ها َ َ َ‬
‫ج‬ ‫و‬ ‫و َ‬‫م ت ََر ْ ْ‬ ‫لّ ْ‬
‫م" ]التوبة‪.[40 :‬‬ ‫كي‬
‫ِ ٌ َ ِ ٌ‬ ‫ح‬ ‫ز‬ ‫زي‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫والل‬ ‫يا‬
‫ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬‫ه َ‬ ‫ِ‬
‫ففي هذه الية الكريمة دللة على أفضلية الصديق من سبعة‬
‫أوجه‪ ،‬ففي الية الكريمة من فضائل أبي بكر ‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الكفار أخرجوه‪:‬‬
‫الكفار أخرجوا الرسول »ثاني اثنين«‪ ،‬فلزم أن يكونوا‬
‫أخرجوهما‪ ،‬وهذا هو الواقع‪.‬‬
‫‪ -2‬أنه صاحبه الوحيد‪:‬‬
‫الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو‬
‫بكر‪ ،‬وكان ثاني اثنين الله ثالثهما‪.‬‬
‫ن"‪ ،‬ففي المواضع التي ل يكون مع النبي ×‬ ‫ي اث ْن َي ْ ِ‬
‫قوله‪َ+ :‬ثان ِ َ‬
‫مع أكابر الصحابة إل واحد يكون هو ذلك الواحد؛ مثل سفره في‬
‫الهجرة‪ ،‬ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إل أبو بكر‪،‬‬
‫ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى السلم كان يكون معه‬
‫من أكابر الصحابة أبو بكر‪ ،‬وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره‬
‫باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي ×‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه صاحبه في الغار‪:‬‬
‫الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن‪ ،‬وقد أخرجا في‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬انظر‪ :‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.355‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في التاريخ السلمي‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ ،‬ص ‪.226‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪44‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر ‪ ،‬قال‪ :‬نظرت إلى أقدام‬
‫المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬لو‬
‫أن أحدهم نظر إلى قدميه لبصرنا‪ .‬فقال ×‪» :‬يا أبا بكر‪ ،‬ما‬
‫ظنك باثنين الله ثالثهما«‪ (1).‬وهذا الحديث مع كونه مما اتفق‬
‫فلم يختلف في ذلك اثنان‬ ‫أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول‪،‬‬
‫منهم‪ ،‬فهو مما دل القرآن على معناه )‪.(2‬‬
‫‪ -4‬أنه صاحبه المطلق‪:‬‬
‫ه" ل يختص بمصاحبته في الغار؛ بل‬ ‫حب ِ ِ‬
‫صا ِ‬
‫ل لِ َ‬ ‫قوله‪+ :‬إ ِذْ ي َ ُ‬
‫قو ُ‬
‫هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة‪ ،‬كما لم يشركه فيه غيره‬
‫فصار مختصا بالكملية من الصحبة‪ ،‬وهذا مما ل نزاع فيه بين أهل‬
‫قال من العلماء‪ :‬إن فضائل‬
‫)‪(3‬‬
‫العلم بأحوال النبي ×‪ ،‬ولهذا قال من‬
‫الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره‪.‬‬
‫‪ -5‬أنه المشفق عليه‪:‬‬
‫ن" يدل على أن صاحبه كان مشفقًا عليه محّبا‬ ‫قوله ‪+‬ل َ ت َ ْ‬
‫حَز ْ‬
‫له‪ ،‬ناصًرا له حيث يحزن‪ ،‬وإنما يحزن النسان حال الخوف على من‬
‫يحبه‪ ،‬وكان حزنه على النبي × لئل يقتل ويذهب السلم‪ ،‬ولهذا لما‬
‫كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة‪ ،‬ووراءه تارة‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أذكر الرصد فأكون أمامك‪ ،‬وأذكر‬ ‫فسأله النبي × عن‬
‫الطلب فأكون وراءك)‪ ،(4‬وفي رواية أحمد في كتاب »فضائل‬
‫الصحابة«‪ ...:‬فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه‪ ،‬فقال له‬
‫النبي ×‪» :‬ما لك؟« قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إذا كنت أمامك خشيت أن‬
‫تؤتى من وراءك‪ ،‬وإذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك‪ َ .‬قال‪:‬‬
‫مه‪..‬‬‫لما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كما أنت حتى أقُ ّ‬
‫مه‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول‬ ‫فلما رأى أبو بكر جحرًا في الغار فألقمها قد َ‬
‫الله‪ ،‬إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي )‪ .(5‬فلم يكن يرضى بمساواة‬
‫النبي؛ بل كان ل يرضى بأن يقتل رسول الله × وهو يعيش‪ ،‬كان‬
‫وماله‪ ،‬وهذا واجب على كل مؤمن‪،‬‬ ‫يختار أن يفديه بنفسه وأهله‬
‫والصديق أقوم المؤمنين بذلك)‪.(6‬‬
‫‪ -6‬المشارك له في معية الختصاص‪:‬‬
‫عَنا" صريح في مشاركة الصديق للنبي × في‬ ‫م َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬
‫قوله‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق‪.‬‬
‫وهي تدل على أنه معهما بالنصر والتأييد‪ ،‬والعانة على عدوهما‪.‬‬
‫فيكون النبي × قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر ويعيننا‬
‫سل ََنا‬‫صُر ُر ُ‬‫ومحبة‪ ،‬كما قال الله تعالى‪+ :‬إ ِّنا ل ََنن ُ‬ ‫عليهم‪ ،‬نصَر إكرام‬
‫د" ]غافر‪:‬‬ ‫ها ُ‬
‫َ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ال‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قو‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫َ ْ َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫مُنوا ِ‬‫نآ َ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫‪ .[51‬وهذا غاية المدح لبي بكر إذا دل على أنه ممن شهد له‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة رقم‪ ،3653 :‬مسلم رقم‪.1854 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (3‬نفس المصدر السابق‪،4/245 :‬‬ ‫)( منهاج السنة‪.241 ،4/240 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.252‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ :‬ص ‪.43‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( منهاج السنة‪.263 ،4/262 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (1‬منهاج السنة‪.4/263 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪45‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الرسول‬
‫باليمان المقتضي نصَر الله له مع رسوله في مثل هذا الحال التي‬
‫عامة‪(1‬الخلق إل‬ ‫يخذل فيها‬
‫من نصره الله ) ‪.‬‬
‫وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعية في هذه الية‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫الكريمة‪ :‬وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ن‬‫عَنا" أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫ن" ]النحل‪[128 :‬؛ لن‬ ‫سُنو َ‬
‫ح ِ‬
‫م ْ‬
‫هم ّ‬
‫ن ُ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وا َ‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ع ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬
‫ه َ‬
‫الل َ‬
‫المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه‪ ،‬غير مقيدة بوصف هو عمل‬
‫برسوله( وصاحبه‪،‬‬ ‫لهما‪ ،‬كوصف التقوى والحسان بل هي خاصة‬
‫كمقولة هذه المعية بالتأييد باليات وخوارق العادات )‪. 2‬‬
‫‪ -7‬أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر‪:‬‬
‫عل َيه َ‬ ‫فأ َن َْز َ‬
‫جُنوٍد ل ّ ْ‬
‫م‬ ‫وأي ّدَهُ ب ِ ُ‬
‫ه َ ْ ِ َ‬‫كين َت َ ُ‬
‫س ِ‬
‫ه َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ها" ]التوبة‪ ،[40 :‬فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد‬ ‫و َ‬‫ت ََر ْ‬
‫فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى‪ ،‬فلم يحتج‬
‫أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدللة الكلم والحال عليها‪ ،‬وإذا‬
‫علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال‬
‫لصاحبه فيها أعظم مما‬ ‫السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس‬
‫لسائر الناس‪ ،‬وهذا من بلغة القرآن وحسن بيانه )‪.(3‬‬
‫ثانًيا‪ :‬فقه النبي × والصديق في التخطيط والخذ بالسباب‪:‬‬
‫إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الخذ‬
‫بالسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها‪ ،‬يدرك أن‬
‫التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله × كان قائمًا‪ ،‬وأن‬
‫التخطيط جزء من السنة النبوية‪ ،‬وهو جزء من التكليف اللهي في‬
‫كل ما طولب به المسلم‪ ،‬وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن‬
‫السنة‪(4،‬أمثال هؤلء مخطئون‬ ‫التخطيط وإحكام المور ليسا من‬
‫ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين ) ‪.‬‬
‫فعندما حان وقت الهجرة للنبي × في التنفيذ نلحظ التي‪:‬‬
‫أ‪ -‬وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها‬
‫من صعاب وعقبات‪ ،‬وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسًا‬
‫دراسة وافية‪ ،‬فمثلً‪:‬‬
‫‪ -1‬جاء × إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر؛ الوقت الذي ل‬
‫يخرج فيه أحد؛ بل من عادته لم يكن يأتي له‪ ،‬لماذا؟ حتى ل يراه‬
‫أحد‪.‬‬
‫‪ -2‬إخفاء شخصيته × أثناء مجيئه للصديق وجاء إلى بيت الصديق‬
‫ما؛ لن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه‬ ‫متلث ً‬
‫)‪ (3‬المستفاد من قصص القرآن‪:‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪.243 ،4/242 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.2/100‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( منهاج السنة‪.4/272 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الساس في السنة‪ ،‬سعيد حوى‪.3578 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪46‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫المتلثم )‪.(1‬‬
‫‪ -3‬أمر × أبا بكر أن يخرج من عنده‪ ،‬ولما تكلم لم ي ُِبن إل المر‬
‫بالهجرة دون‬
‫تحديد التجاه‪.‬‬
‫‪ -4‬وكان الخروج ليل ومن باب خلفي في بيت أبي بكر )‪.(2‬‬
‫‪ -5‬بلغ الحتياط مداه باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم‪ ،‬والستعانة‬
‫بذلك بخبير يعرف مسالك البادية‪ ،‬ومسارب الصحراء‪ ،‬وكان ذلك‬
‫الرسول‬ ‫الخبير مشركًا ما دام على خلق ورزانة‪ ،‬وفيه دليل على أن‬
‫× كان ل يحجم على الستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها‪ (3).‬وقد‬
‫يبين الشيخ عبد الكريم زيدان أن القاعدة والصل عدم الستعانة‬
‫بغير المسلم في المور العامة‪ ،‬ولهذه القاعدة استثناء‪ ،‬وهو جواز‬
‫الستعانة بغير المسلم بشروط معينة‪ ،‬وهي‪ :‬تحقيق المصلحة أو‬
‫رجحانها بهذه الستعانة‪ ،‬وأن ل يكون ذلك على حساب الدعوة‬
‫ومعانيها‪ ،‬وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به‪ ،‬وأن ل تكون‬
‫هذه الستعانة مثار شبهة لفراد المسلمين‪ ،‬وأن تكون هناك حاجة‬
‫حقيقية لهذه الستعانة على وجه الستثناء‪ ،‬وإذا لم تتحقق لم تجز‬
‫الستعانة‪ (4).‬وقد كان الصديق ‪ ‬قد دعا أولده للسلم ونجح بفضل‬
‫الله في هذا الدور الكبير والخطير‪ ،‬وقام بتوظيف أسرته لخدمة‬
‫السلم ونجاح هجرة رسول الله ×‪ ،‬فوزع بين أولده المهام‬
‫الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة‪:‬‬
‫‪ -1‬دور عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما‪:‬‬
‫فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو‪،‬‬
‫لقد ربى عبد الله على حب دينه‪ ،‬والعمل لنصرته ببصيرة نافذة‬
‫وفطنة كاملة وذكاء متوقد‪ ،‬يدل على العناية الفائقة التي اتبعها‬
‫سيدنا أبو بكر في تربيته‪ .‬وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام‬
‫به خير قيام‪ ،‬وكان يتمثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع‬
‫أخبارهم وما يقولونه في نهارهم‪ ،‬ثم يأتي الغار إذا أمسى‪ ،‬فيحكي‬
‫للنبي × ولبيه الصديق ‪ ‬ما يدور بعقول أهل مكة وما يدبرونه‪،‬‬
‫واحدا من‬
‫ً‬ ‫وقد أتقن عبد الله هذا الواجب بطريقة رائعة‪ ،‬فلم تأخذ‬
‫سا‪ ،‬حتى إذا اقترب‬ ‫الغار حار ً‬ ‫أهل مكة ريبة فيه‪ ،‬وكان يبيت عند‬
‫النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد )‪.(5‬‬
‫‪ -2‬دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما‪:‬‬
‫كان لسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة‪،‬‬
‫حيث قامتا عند قدوم النبي × إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز‬
‫طعام النبي × ولبيهما‪ ..‬تقول أم المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الله‬
‫عنها‪ :-‬فجهزناهما )تقصد رسول الله × وأباها( أحسن الجهاز فصنعنا‬
‫لهما سفرة في جراب‪ ،‬فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به‬
‫)( السيرة النبوية‪ ..‬قراءة لجوانب الحذر والحيطة‪ :‬ص ‪.141‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( معين السيرة للشامي‪ :‬ص ‪ (4) .147‬الهجرة في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪.361‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( المستفاد من قصص القرآن‪ (2) .145 ،2/144 :‬السيرة الحلبية‪،2/213 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية‪.3/182 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪47‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫على فم الجراب‪ ،‬فلذلك سميت ذات النطاقين‪.‬‬
‫‪ -3‬دور أسماء في تحمل الذى وإخفاء أسرار المسلمين‪:‬‬
‫أظهرت أسماء ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬دور المسلمة الفاهمة لدينها‪،‬‬
‫المحافظة على أسرار الدعوة‪ ،‬المتحملة لتوابع ذلك من الذى‬
‫والتعنت‪ .‬فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول‪ :‬لما خرج رسول‬
‫الله × وأبو بكر ‪ ‬أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام‪،‬‬
‫فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين أبوك يا بنت‬
‫أبي بكر؟ قلت‪ :‬ل أدري والله أين أبي؟ قالت‪ :‬فرفع أبو جهل يده‬
‫فاحشً(ا خبيثًا‪ ،‬فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي‪ ،‬قالت‪ :‬ثم‬ ‫وكان‬
‫انصرفوا‪. 2)..‬‬
‫فهذا درس من أسماء ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬تعلمه لنساء المسلمين‬
‫جيل بعد جيل‪ ،‬كيف تخفي أسرار المسلمين عن العداء‪ ،‬وكيف تقف‬ ‫ً‬
‫صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم‪.‬‬
‫‪ -4‬دور أسماء ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬في بث المان والطمأنينة‬
‫في البيت‪:‬‬
‫خرج أبو بكر ‪‬مع رسول الله ×ومعه ماله كله‪ ،‬وهو ما تبقى من‬
‫رأسماله‪ ،‬وكان خمسة آلف أو ستة آلف درهم‪ ،‬وجاء أبو قحافة ليتفقد‬
‫بيت ابنه ويطمئن على أولده‪ ،‬وقد ذهب بصره‪ ،‬فقال‪ :‬والله إني لراه‬
‫قد فجعكم بماله مع نفسه‪ ،‬قالت‪ :‬كل يا أبت‪ ،‬ضع يدك على هذا المال‪،‬‬
‫قالت‪ :‬فوضع يده عليه‪ ،‬فقال‪ :‬ل بأس‪ ،‬إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن‪.‬‬
‫وفي هذا بلغ لكم‪.‬ل والله ما ترك لنا شيئًا‪ ،‬ولكني أردت أن أس ّ‬
‫كن‬
‫الشيخ بذلك )‪.(3‬‬
‫وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها‪ ،‬وسكن قلب جدها‬
‫الضرير من غير أن تكذب‪ ،‬فإن أباها قد ترك لهم حقا هذه الحجار التي‬
‫كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ‪ ،‬إل أنه قد ترك لهم معها إيمانا بالله ل‬
‫تزلزله الجبال‪ ،‬ول تحركه العواصف الهوج‪ ،‬ول يتأثر بقلة أو كثرة في‬
‫يقينوثقة به ل حد لهما‪ ،‬وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي‬ ‫رثهم ا ً‬‫المال‪ ،‬و ّ‬
‫مثال عّز أن‬
‫ً‬ ‫المور‪ ،‬ول تلتفت إلى سفاسفها‪ ،‬فضرب بهم للبيت المسلم‬
‫يتكرر‪ ،‬وقل ّ أن يوجد نظيره‪.‬‬
‫لقد ضربت أسماء ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬بهذه المواقف لنساء وبنات‬
‫س الحاجة إلى القتداء به‪ ،‬والنسج على‬ ‫ن في أم ّ‬ ‫المسلمين مثل ه ّ‬
‫منواله‪ ،‬وظلت أسماء مع أخواتها في مكة ل تشكو ضيقا‪ ،‬ول تظهر‬
‫حاجة‪ ،‬حتى بعث النبي × زيد بن حارثة وأبا رافع موله‪ ،‬وأعطاهما‬
‫بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة‪ ،‬فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم‬
‫ابنتيه‪ ،‬وسودة بنت زمعة زوجه‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأمه بركة المكناة‬
‫عبد‪(4‬الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر‪ ،‬حتى‬ ‫بأم أيمن‪ ،‬وخرج معهما‬
‫قدموا المدينة مصطحبين ) ‪.‬‬
‫البداية والنهاية‪.3/184 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الهجرة النبوية المباركة‪ :‬ص ‪.126‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫السيرة النبوية لبن هشام‪ ،2/102 :‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الطبري‪ ،2/10 :‬الهجرة النبوية المباركة‪ :‬ص ‪.128‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪48‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -5‬دور عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ‪:‬‬
‫من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم وقلة الكتراث‬
‫بأمره‪ ،‬لكن الدعاة الربانيين ل يفعلون ذلك‪ ،‬إنهم يبذلون جهدهم‬
‫لهداية من يلقونه‪ ،‬لذا أّدب الصديق ‪ ‬عامر بن فهيرة موله‬
‫وعلمه‪ ،‬فأضحى عامر جاهزًا لفداء السلم وخدمة الدين‪.‬‬
‫هامً في الهجرة‪ ،‬فكان يرعى‬ ‫دورا ا‬
‫ً‬ ‫وقد رسم له سيدنا أبو بكر ‪‬‬
‫الغنم مع رعيان مكة‪ ،‬لكن ل يلفت النظار لشيء‪ ،‬حتى إذا أمسى أراح‬
‫بغنم سيدنا أبي بكر على النبي ×فاحتلبا وذبحا‪ ،‬ثم يكمل عامر دور عبد‬
‫عائدا إلى‬
‫ً‬ ‫الله بن أبي بكر حين يغدو من عنده رسول الله × وصاحبه‬
‫عبد الله ليعفي عليها‪ ،‬مما يعد ذكاء وفطنة في العداد‬ ‫مكة‪ ،‬فيتتبع آثار‬
‫لنجاح الهجرة )‪.(1‬‬
‫وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون‬
‫بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها‪ ،‬ويعاملونهم على‬
‫شًرا أولً‪ ،‬ثم يعلمونهم السلم‪ ،‬فلعل الله يجعل منهم من‬ ‫كونهم ب َ َ‬
‫يحمل هذا الدين كما ينبغي‪.‬‬
‫إن ما قام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة ×‬
‫في هجرته يدل على تدبير للمور على نحو رائع دقيق‪ ،‬واحتياط‬
‫للظروف بأسلوب حكيم‪ ،‬ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة‬
‫في مكانه المناسب‪ ،‬وسد ّ لجميع الثغرات‪ ،‬وتغطية بديعة لكل‬
‫مطالب الرحلة‪ ،‬واقتصار على العدد اللزم من الشخاص من غير‬
‫قويا‬
‫ً‬ ‫أخذًا‬ ‫زيادة ول إسراف‪ .‬لقد أخذ الرسول × بالسباب المعقولة‬
‫حسب استطاعته وقدرته‪ ،‬ومن ثم باتت عناية الله متوقعة )‪.(2‬‬
‫إن اتخاذ السباب أمر ضروري وواجب‪ ،‬ولكن ل يعني ذلك دائما‬
‫حصول النتيجة؛ ذلك لن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته‪ ،‬ومن هنا‬
‫كان التوكل أمرًا ضروريًا وهو من باب استكمال اتخاذ السباب‪.‬‬
‫إن رسول الله × أعد كل السباب واتخذ كل الوسائل‪ ،‬ولكنه في‬
‫ويستنصره‪(3‬أن يكلل سعيه بالنجاح‪ ،‬وهنا‬ ‫الوقت نفسه مع الله يدعوه‬
‫يستجاب الدعاء‪ ،‬ويكلل العمل النجاح ) ‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬جندية الصديق الرفيعة وبكاؤه من الفرح‪:‬‬
‫تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق ‪ ،‬فأبو بكر‬
‫‪ ‬عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله ×‪» :‬ل‬
‫تعجل‪ ،‬لعل الله يجعل لك صاحًبا«‪ ،‬فقد بدأ في العداد‬
‫والتخطيط للهجرة »فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما‬
‫إعداًدا لذلك«‪ .‬وفي رواية البخاري‪ :‬وعلف راحلتين كانتا عنده‪ ،‬ورق‬
‫السمر )وهو الخبط( أربعة أشهر‪ ،‬لقد كان يدرك بثاقب بصره ‪‬‬
‫قائدا( أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة‬ ‫ً‬ ‫)وهو الذي تربى ليكون‬

‫)( تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.115‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أضواء على الهجرة لتوفيق محمد‪ :‬ص ‪.397 -393‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( من معين السيرة‪ :‬ص ‪.148‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪49‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫خر أسرته لخدمة النبي‬ ‫ولذلك هيأ وسيلة الهجرة ورتب تموينها‪ ،‬وس ّ‬
‫×‪ ،‬وعندما جاء رسول الله × وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج‬
‫والهجرة بكى من شدة الفرح‪ ،‬وتقول عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬في‬
‫أحدا يبكي من‬
‫ً‬ ‫هذا الشأن‪ :‬فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن‬
‫شري‪ ،‬أن‬ ‫الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ‪ ،‬إنها قمة الفرح البَ َ‬
‫يتحول الفرح إلى بكاء‪ ،‬ومما قال الشاعر عن هذا‪:‬‬
‫سيزورني فاستعبرت أجفاني‬ ‫وََرد َ الكتاب من الحبيب بأنه‬
‫من فرط ما قد سرني‬ ‫علي حتى إنني‬
‫ّ‬ ‫غلب السرور‬
‫أبكاني‬
‫تبكين من فرح ومن أحزان‬ ‫يا عين صار الدمع عندك‬
‫عادة‬
‫فالصديق ‪ ‬يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة‬
‫رسول رب العالمين بضعة عشر يومًا على القل‪ ،‬وهو الذي سيقدم‬
‫حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى ×‪ ،‬فأي فوز في هذا الوجود‬
‫ومن‬
‫)‪(1‬‬
‫يفوق هذا الفوز‪ ،‬أن ينفرد الصديق وحده من دون أهل الرض‬
‫دون الصحب جميعًا برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة‪.‬‬
‫وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من‬
‫أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلًلما ينبغي أن يكون عليه جندي‬
‫الدعوة الصادق مع قائده المين‪ ،‬حين يحدق به الخطر‪ ,‬من خوف‬
‫وإشفاق على حياته‪ ،‬فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه‬
‫الموت‪ ،‬ولو كان كذلك لما رافق رسول الله ×في هذه الهجرة‬
‫الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع‬
‫الكريم‪ ،×(2‬وعلى‬
‫)‬
‫رسول الله ‪×،‬ولكنه كان يخشى على حياة الرسول‬
‫مستقبل السلم إن وقع الرسول ×في قبضة المشركين‪.‬‬
‫ويظهر الحس المني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي × في‬
‫مواقف كثيرة منها‪ ،‬حين أجاب السائل‪ :‬من هذا الرجل الذي بين‬
‫يديك؟ فقال‪ :‬هذا هاد ٍ يهديني السبيل‪ ،‬فظن السائل بأن الصديق‬
‫على حسن‬ ‫يقصد الطريق‪ ،‬وإنما كان يقصد سبيل الخير‪ ،‬وهذا يدل‬
‫فرارا من الحرج أو الكذب‪ (3).‬وفي‬‫ً‬ ‫استخدام أبي بكر للمعاريض‬
‫إجابته للسائل تورية وتنفيذ‬
‫رسول الله ×؛ لن الهجرة كانت سّرا‪،‬‬ ‫من‬ ‫للتربية المنية التي تلقاها‬
‫وقد أقره الرسول × على ذلك )‪.(4‬‬
‫رابًعا‪ :‬فن قيادة الرواح وفن التعامل مع النفوس‪:‬‬
‫يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله‬
‫× في الهجرة‪ ،‬كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة‬
‫الحبيب المصطفى ×‪ ،‬وهذا الحب الرباني كان نابعا من القلب‬
‫)‪ (1‬التربية القيادية‪.192 ،2/191 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي‪.71 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬الهجرة النبوية المباركة‪ :‬ص ‪.204‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬الهجرة النبوية‪ ،‬لبي‬ ‫)( السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬للسباعي‪ :‬ص ‪.68‬‬ ‫‪4‬‬

‫فارس‪ :‬ص ‪.54‬‬

‫‪50‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وبإخلص‪ ،‬ولم يكن حب نفاق أو نابعًا من مصلحة دنيوية‪ ،‬أو رغبة‬


‫من منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع‪ .‬ومن أسباب هذا الحب لرسول‬
‫الله × صفاته القيادية الرشيدة‪ ،‬فهو يسهر ليناموا‪ ،‬ويتعب‬
‫ليستريحوا‪ ،‬ويجوع ليشبعوا‪ ،‬كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم‪ ،‬فمن‬
‫سلك سنن الرسول × مع صحابته‪ ،‬في حياته الخاصة والعامة‪،‬‬
‫وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم‪ ،‬وكان عمله لوجه الله‪ ،‬أصابه‬
‫الحب( إن كان من الزعماء أو القادة أو المسئولين في أمة‬ ‫هذا‬
‫السلم )‪. 1‬‬
‫وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهداوي عندما قال‪:‬‬
‫ظهرت عليه مواهب الفتاح‬ ‫ن عبده‬
‫فإذا أحب الله باط َ‬
‫)‪(2‬‬
‫مال العباد عليه بالرواح‬ ‫وإذا صفت لله نية مصلح‬
‫إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الرواح قبل كل‬
‫شيء‪ ،‬وتستطع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها‪ ،‬وعلى قدر‬
‫إحسان القيادة يكون إحسان الجنود‪ ،‬وعلى قدر البذل من القيادة‬
‫يكون الحب من الجنود‪ ،‬فقد كان × رحيمًا وشفوقًا بجنوده وأتباعه‪،‬‬
‫فهو لم يهاجر إل بعد أن هاجر معظم أصحابه‪ ،‬ولم يبق إل‬
‫المستضعفون والمفتونون‪ ،‬ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة )‪.(3‬‬
‫والجدير بالذكر أن حب الصديق لرسول الله ×كان لله‪ ،‬ومما يبين‬
‫الحب لله والحب لغير الله أن أبا بكر كان يحب النبي × مخلصًا لله‪،‬‬
‫وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه ل لله‪ ،‬فتقبل الله عمل أبي بكر‬
‫كى ‪‬‬
‫ع َ‬ ‫مال َ ُ‬
‫ه ي َت ََز ّ‬ ‫ؤِتي َ‬‫ذي ي ُ ْ‬ ‫قى ‪ ‬ال ّ ِ‬ ‫ها الت ْ َ‬ ‫جن ّب ُ َ‬
‫سي ُ َ‬ ‫و َ‬
‫وأنزل فيه قوله‪َ + :‬‬
‫لى ‪‬‬ ‫ه َرب ّه ِ ال ْ‬ ‫ج‬
‫َ ْ ِ‬‫و‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫غا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫زى‬ ‫ج‬‫ُ‬ ‫ت‬
‫ْ َ ٍ ْ َ‬‫ة‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫من‬‫عن ْدَهُ ِ‬
‫حدٍ ِ‬‫ما ل َ‬ ‫و ََ‬
‫َ‬
‫‪[21‬وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله‪ ،‬بل‬ ‫ضى" ]الليل‪، -17 :‬‬ ‫ف ي َْر َ‬
‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬
‫س‬ ‫َ‬
‫أدخله النار؛ لنه كان مشركًا عاملًلغير الله‪ ،‬وأبو بكر لم يطلب أجره‬
‫ول من غيره‪ ،‬بل آمن به وأحبه وكله وأعانه‬ ‫من الخلق‪ ،‬ل من النبي ×‬
‫وطالبًالجر من الله‪ ،‬ويبلغ عن الله أمره‬ ‫ا‬ ‫إلى الله‬ ‫متقرب بذلك‬
‫اً‬ ‫في الله‪،‬‬
‫ونهيه ووعده ووعيده )‪.(4‬‬
‫سا‪ :‬مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة‪:‬‬
‫خام ً‬
‫وأصحابه عن البلد المين تضحية عظيمة عبر‬ ‫كانت هجرة النبي ×‬
‫إنك لخير أرض الله وأحب)‪(5‬أرض‬ ‫والله‬ ‫عنها النبي × بقوله‪» :‬‬
‫خرجت منك ما خرجت« ‪.‬‬ ‫الله إلى الله‪ ،‬ولول أني أ ُ ْ‬
‫وعن عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬قالت‪ :‬لما قدم رسول الله ×‬
‫المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى‪ ،‬وكان واديها يجري‬
‫نجل )يعني ماء آجنا( فأصاب أصحابه منها بلء وسقم‪ ،‬وصرف الله‬
‫ذلك عن نبيه‪ ،‬قالت‪ :‬فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلل في بيت‬
‫‪1‬‬

‫الحركة السنوسية‪ ،‬للصلبي‪.2/7 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫السيرة النبوية المباركة‪ :‬ص ‪.205‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الفتاوى لبن تيمية‪.11/286 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الترمذي‪ ،‬كتاب المناقب‪ ،‬باب فضل مكة‪ ،5/722 :‬رقم‪.3925 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪51‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫واحد‪ ،‬فأصابتهم الحمى‪ ،‬فاستأذنت رسول الله × عيادتهم فأذن‪،‬‬
‫فدخلت إليهم أعودهم ‪-‬وذلك قبل)‪(1‬أن يضرب علينا الحجاب‪ -‬وبهم ما‬
‫ل يعلمه إل الله من شدة الوعك ‪ ،‬فدنوت من أبي بكر فقلت‪ :‬يا‬
‫أبت‪ ،‬كيف تجدك؟ فقال‪:‬‬
‫والموت أدنى من شراك‬ ‫كل امرئ مصبح في أهله‬
‫نعله‬
‫قالت‪ :‬فقلت‪ :‬والله ما يدري أبي ما يقول‪ ،‬ثم دنوت من عامر بن‬
‫فهيرة فقلت‪ :‬كيف تجدك يا عامر؟ فقال‪:‬‬
‫إن الجبان حتفه من فوقه‬ ‫لقد وجدت الموت قبل ذوقه‬
‫)‪(3‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫كالثور يحمي جلده بروقه‬ ‫كل امرئ مجاهد بطوقه‬
‫وكان بلل إذا‬ ‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬والله ما يدري عامر ما يقول‪ .‬قالت‪:‬‬
‫أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته )‪ ،(4‬ويقول‪:‬‬
‫بواد وحولي إذخر )‪ (5‬وجليل‬ ‫أل ليت شعري هل أبيتن ليلة‬
‫)‪(6‬‬
‫وطفيل‬ ‫وهل أرَِدن يوما مياه مجنة‬

‫قالت‪ :‬فأخبرت رسول الله × بذلك فقال‪» :‬اللهم حبب إلينا‬


‫المدينة كحبنا مكة أو أشد‪ ،‬اللهم وصححها وبارك لنا‬
‫ماها واجعلها بالجحفة« )‪.(7‬‬ ‫في مدها وصاعها‪،‬وانقل ح ّ‬
‫وقد استجاب الله دعاء نبيه ×‪ ،‬وعوفي المسلمون بعدها من‬
‫الوافدين والمهاجرين‬ ‫هذه الحمى‪ ،‬وغدت المدينة موطًنا ممتاًزا لكل‬
‫إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم )‪.(8‬‬
‫شرع رسول الله × بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم‬
‫الدولة السلمية‪ ،‬فآخى بين المهاجرين والنصار‪ ،‬ثم أقام المسجد‪،‬‬
‫وأبرم المعاهدة مع اليهود‪ ،‬وبدأت حركة السرايا‪ ،‬واهتم بالبناء‬
‫القتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد‪ ،‬وكان أبو بكر‬
‫‪-‬رضي الله عنه‪ -‬وزير صدق لرسول الله × ولزمه في كل أحواله‪،‬‬
‫يغب عن مشهد من المشاهد‪ ،‬ولم يبخل بمشورة أو مال أو‬ ‫)‪(9‬‬
‫ولم‬
‫رأي‪.‬‬
‫***‬

‫)‪ (4‬بطوقه‪ :‬بطاقته‪.‬‬ ‫)( الوعك‪ :‬الحمى‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬

‫)‪ (5‬بروقه‪ :‬بقرنه‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( عقيرته‪ :‬صوته‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( إذخر‪ :‬نبات طيب الرائحة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( شامة وطفيل‪ :‬جبلن مشرفان على مجنة على بريد مكة‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الدعوات‪ ،‬باب الدعاء برفع الوباء والوجع‪ ،‬رقم‪.6372 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( التربية القيادية‪.2/310 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.121‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪52‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المبحث الرابع‬
‫الصديق في ميادين الجهاد‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبا بكر شهد مع النبي × بدًرا‬
‫دا‪ ،‬وثبت مع رسول الله × يوم‬ ‫والمشاهد كلها‪ ،‬ولم يفته منها مشه ً‬
‫أحد حين انهزم)‪(1‬الناس‪ ،‬ودفع إليه النبي × رايته العظمى يوم تبوك‬
‫وكانت سوداء ‪.‬‬
‫الصديق ‪‬‬ ‫وقال ابن كثير‪ :‬ولم يختلف أهل السير في أن أبا بكر‬
‫لم يتخلف عن رسول الله × في مشهد من المشاهد كلها )‪.(2‬‬
‫وقال الزمخشري‪ :‬إنه )يعني أبا بكر ‪ (‬كان مضافًا لرسول الله‬
‫× إلى البد‪ ،‬فإنه صحبه صغيرًا وأنفق ماله كبيرًا‪ ،‬وحمله إلى المدينة‬
‫براحلته وزاده‪ ،‬ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته‪ ،‬وزّوجه ابنته‪ ،‬ولم‬
‫يزل ملزمًا له سفرًا)‪(3‬وحضرًا‪ ،‬فلما توفي دفنه في حجرة عائشة‬
‫أحب النساء إليه × ‪.‬‬
‫وعن سلمة بن الكوع‪ :‬غزوت مع النبي × سبع غزوات‪ ،‬وخرجت‬
‫يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبو بكر ومرة علينا‬ ‫فيما‬
‫أسامة )‪.(4‬‬
‫ومن خلل هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق ‪‬‬
‫الجهادية مع النبي ×‪ ،‬لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه‬
‫في نصرة دين الله تعالى‪.‬‬
‫ل‪ :‬أبو بكر ‪ ‬في بدر الكبرى‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫شارك الصديق في غزوة بدر‪ ،‬وكانت في العام الثاني من‬
‫الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة‪ ،‬من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬مشورة الحرب‪:‬‬
‫لما بلغ النبي من نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال‬
‫في‪ (6‬المر )‪ ،(5‬فقام أبو بكر‬ ‫النبي × استشار رسول الله × أصحابه‬
‫فقال وأحسن‪ ،‬ثم قام عمر فقال وأحسن ) ‪.‬‬
‫‪ -2‬دوره في الستطلع مع النبي ×‪:‬‬
‫قام النبي × ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين‪،‬‬
‫خا من العرب‪ ،‬فسأله‬ ‫وبينما هما يتجولن في تلك المنطقة لقيا شي ً‬
‫رسول الله × عن جيش قريش وعن محمد × وأصحابه وما بلغه‬
‫من أخبارهم‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬ل أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما‪،‬‬
‫فقال له رسول الله ×‪» :‬إذا أخبرتنا أخبرناك« فقال‪ :‬أو ذاك‬
‫الطبقات الكبرى‪ ،1/124 :‬صفة الصفوة‪.1/242 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (3‬خصائص العشرة الكرام البررة‪.41 :‬‬ ‫أسد الغابة‪.3/318 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب بعث النبي أسامة‪ ،‬رقم‪.4270 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬السيرة النبوية لبن هشام‪.2/447 :‬‬ ‫صحيح البخاري‪ ،‬رقم‪.3952 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫‪53‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫دا وأصحابه‬ ‫بذاك؟ قال‪» :‬نعم«‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬فإنه بلغني أن محم ً‬
‫خرجوا يوم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان‬
‫شا‬‫كذا وكذا ‪ -‬للمكان الذي به جيش المسلمين‪ -‬وبلغني أن قري ً‬
‫خرجوا يوم كذا وكذا‪ ،‬فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان‬
‫كذا وكذا ‪-‬للمكان الذي فيه جيش المشركين فعل‪ -‬ثم قال الشيخ‪:‬‬
‫لقد أخبرتكما عما أردتما‪ ،‬فأخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله ×‪:‬‬
‫»نحن من ماء«‪ ،‬ثم انصرف النبي × وأبو بكر)‪(1‬عن الشيخ‪ ،‬وبقي‬
‫هذا الشيخ يقول‪ :‬ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟‬
‫وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي ×‪ ،‬وقد تعلم أبو‬
‫بكر من رسول‬
‫سا كثيرة‪.‬‬
‫الله × درو ً‬
‫‪ -3‬في حراسة النبي × في عريشه‪:‬‬
‫الصفوف للقتال‪ ،‬رجع إلى مقر القيادة‬ ‫عندما رتب ×‬
‫وكان عبارة عن عريش على تل مشرف على ساحة القتال‪،‬‬
‫‪ ،‬وكانت ثلة من شباب النصار‬
‫)‪(2‬‬
‫وكان معه فيه أبو بكر ‪‬‬
‫بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله × ‪,‬‬
‫عن هذا الموقف فقال‪ :‬يا‬ ‫وقد تحدث علي بن أبي طالب ‪‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬من أشجع الناس؟ فقالوا‪ :‬أنت يا أمير‬
‫المؤمنين‪ ،‬فقال‪ :‬أما إني ما بارزني أحد إل انتصفت منه‪،‬‬
‫ولكن هو أبو بكر؛ إنا جعلنا لرسول الله × عري ًشا‪ ،‬فقلنا‪:‬‬
‫لئل يهوي إليه أحد من‬ ‫من يكون مع رسول الله ×‬
‫المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إل أبو بكر شاه ًرا‬
‫إليه أحد من‬ ‫)‪(3‬‬
‫بالسيف على رأس رسول الله × ‪ ،‬ل يهوي‬
‫المشركين إل أهوى إليه‪ ،‬فهذا أشجع الناس‪.‬‬
‫‪ -4‬الصديق يتلقى البشارة بالنصر‪ ،‬ويقاتل بجانب رسول‬
‫الله ×‪:‬‬
‫بعد الشروع في الخذ بالسباب اتجه رسول الله × إلى ربه‬
‫يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه‪» :‬اللهم أنجز‬
‫لي ما وعدتني‪ ،‬اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل‬
‫دا«‪ .‬وما زال × يدعو‬ ‫السلم فل تعبد في الرض أب ً‬
‫ويستغيث حتى سقط رداؤه‪ ،‬فأخذه أبو بكر وَرّده على منكبيه وهو‬
‫يقول‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كفاك مناشدتكم ربك فإنه منجز لك ما وعدك‬
‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫غيُثو َ‬ ‫وأنزل الله ‪-‬عز وجل‪+ :-‬إ ِذْ ت َ ْ‬
‫)‪(4‬‬
‫م"‬ ‫جا َ‬ ‫ست َ َ‬‫فا ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫وفي رواية ابن عباس قال‪ :‬قال النبي × يوم بدر‪» :‬اللهم إني‬
‫أنشدك عهدك ووعدك‪ ،‬اللهم إن شئت لم تعبد« فأخذ أبو‬
‫م‬‫هَز ُ‬‫سي ُ ْ‬‫بكر بيده‪ ،‬فقال‪ :‬حسبك الله‪ ،‬فخرج × وهو يقول‪َ + :‬‬
‫ن الدّب َُر"‪ (5).‬وقد خفق النبي × خفقة وهو في‬ ‫وّلو َ‬
‫وي ُ َ‬
‫ع َ‬
‫م ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ج ْ‬
‫العريش ثم انتبه فقال‪ :‬أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله‪ ،‬هذا جبريل‬
‫)‪ (4‬نفس المصدر السابق‪.2/233 :‬‬ ‫سيرة ابن هشام‪.2/228 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية‪.272 ،3/271 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب المداد بالملئكة ببدر‪ ،‬رقم‪.1763 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب قصة بدر‪ ،‬رقم‪.3953 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪54‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)يعني الغبار(‪ ،‬قال‪ :‬ثم‬ ‫آخذ بعنان فرسه يقوده‪ ،‬على ثناياه النقع‬
‫خرج رسول الله × إلى الناس فحّرضهم )‪.(1‬‬
‫ما في التجرد‬‫سا ربانًيا مه ً‬‫وقد تعلم الصديق من هذا الموقف در ً‬
‫النفسي وحظها‪ ،‬والخلوص واللجوء لله وحده‪ ،‬والسجود والجثي بين‬
‫خا في‬‫يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره‪ ،‬وبقي هذا المشهد راس ً‬
‫ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله × في تنفيذه في‬
‫مثل هذه الساعات وفي مثل هذه المواطن‪ ،‬ويبقى هذا المشهد‬
‫سا لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي ×‬ ‫در ً‬
‫وصحابته الكرام‪.‬‬
‫ولما اشتد أوار المعركة وحمي وطيسها نزل رسول الله ×‬
‫يذكرون( الله تعالى‪ ،‬وقد‬ ‫وحرض على القتال والناس على مصافهم‬
‫دا وكان بجانبه الصديق )‪، 2‬‬ ‫قاتل × بنفسه قتال ً شدي ً‬
‫وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير‪ ،‬وكان على استعداد‬
‫لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان ابنه‪ ،‬وقد شارك ابنه عبد الرحمن في‬
‫هذه المعركة مع المشركين‪ ،‬وكان من أشجع الشجعان بين العرب‪،‬‬
‫ما في قريش‪ ،‬فلما أسلم قال لبيه‪ :‬لقد أهدفت‬ ‫ومن أنفذ الرماة سه ً‬
‫فملت( عنك ولم‬ ‫بدر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يوم‬ ‫«‬‫واضح‬ ‫كهدف‬ ‫أمامي‬ ‫لي »أي ظهرت‬
‫ل عنك )‪. 3‬‬ ‫م ْ‬
‫أقتلك‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬لو أهدفت لي لم أ ِ‬
‫‪ -5‬الصديق والسرى‪:‬‬
‫قال ابن عباس ‪ :‬فلما أسروا السارى قال رسول الله × لبي‬
‫بكر وعمر‪» :‬ما ترون في هؤلء السارى؟« فقال أبو بكر‪ :‬يا‬
‫نبي الله‪ ،‬هم بنو العم والعشيرة‪ ،‬أرى أن نأخذ منهم فدية فتكون لنا‬
‫قوة على الكفار‪ ،‬فعسى الله أن يهديهم إلى السلم‪ ،‬فقال رسول‬
‫الله ×‪» :‬ما ترى يا ابن الخطاب؟« قال‪ :‬ل والله‪ ،‬يا رسول الله‪،‬‬
‫ما أرى الذي يراه أبو بكر‪ ،‬ولكني أرى أن تمكننا منهم فنضرب‬
‫ن علّيا من عقيل فيضرب عنقه‪ ،‬وتمكنني من فلن‬ ‫أعناقهم‪ ،‬فتمك ّ َ‬
‫»نسيًبا لعمر« فأضرب عنقه‪ ،‬فإن هؤلء أئمة الكفر وصناديدها‪،‬‬
‫فهوى رسول الله × إلى ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت‪ ،‬فلما كان‬
‫الغد جئت فإذا برسول الله × وأبو بكر قاعدين يبكيان‪ ،‬فقلت‪ :‬يا‬
‫رسول الله‪ ،‬أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك‪ ،‬فإن وجدت‬
‫بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله ×‪:‬‬
‫ي أصحابك من أخذهم الفداء‪ ،‬ولقد‬ ‫»أبكي للذي عرض عل ّ‬
‫)شجرة قريبة‬ ‫«‬ ‫الشجرة‬ ‫هذه‬ ‫من‬ ‫أدنى‬ ‫ي عذابهم‬ ‫عرض عل ّ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫كو َ‬ ‫ي َأن ي َ ُ‬‫ِ ّ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫وجل‪:-‬‬ ‫‪-‬عز‬ ‫الله‬ ‫وأنزل‬ ‫(‪،‬‬ ‫َمن النبي ×‬
‫لل طَي ًّبا"‬ ‫ح َ‬
‫م َ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫غن ِ ْ‬ ‫ما َ‬‫م ّ‬‫ك ُُلوا ِ‬ ‫سَرى" ]النفال‪ ،[67 :‬إلى قوله‪َ + :‬‬
‫ف‬ ‫أ ْ‬
‫]النفال‪ ،[69 :‬فأحل الله لهم الغنيمة )‪.(4‬‬
‫وفي رواية عن عبد الله بن مسعود ‪ ‬قال‪ :‬لما كان يوم بدر‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬ما تقولون في هؤلء السرى؟« فقال‬
‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ ،2/457 :‬نقل عن تاريخ الدعوة‪ :‬ص ‪.125‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.3/278 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ :‬ص ‪ (2) .94‬مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.1763‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪55‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫قهم واستأن بهم؛ لعل الله‬ ‫أبو بكر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬قومك وأهلك است َب ْ ِ‬
‫أن يتوب عليهم‪ .‬وقال عمر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أخرجوك وكذبوك‪ ،‬قربهم‬
‫فاضرب أعناقهم‪ .‬وقال عبد الله بن رواحة‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬انظر‬
‫وادًيا كثير الحطب‪ ،‬فأدخلهم فيه ثم اضرب عليهم ناًرا‪ ،‬فقال‬
‫العباس‪ :‬قطعت رحمك‪ .‬فدخل رسول الله × ولم يرد عليهم شيئا‪،‬‬
‫فقال ناس‪ :‬يأخذ بقول أبي بكر‪ ،‬وقال ناس‪ :‬يأخذ بقول عمر‪ ،‬وقال‬
‫ناس‪ :‬يأخذ بقول‬
‫عبد الله بن رواحة‪ ،‬فخرج عليهم رسول الله × فقال‪» :‬إن الله‬
‫ليلّين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن‪ ،‬وإن الله ليشد‬
‫قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة‪ ،‬وإن مثلك يا أبا بكر‬
‫فْر‬‫غ ِ‬ ‫وِإن ت َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫عَبادُ َ‬‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫فإ ِن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫عذّب ْ ُ‬ ‫كمثل عيسى َ‪ ‬إذ قال‪ِ+ :‬إن ت ُ َ‬
‫م" ]المائدة‪ ،[118 :‬وإن َمثلك يا عمر‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ع ِ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫ك أن َ‬ ‫فإ ِن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬ ‫ب ل ت َذَْر َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫على الْر ِ‬ ‫ح ّر ّ‬ ‫ل ُنو ٌ‬ ‫كمثل نوح؛ إذ قال‪َ + :‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫إذ‬ ‫موسى‬ ‫كمثل‬ ‫مثلك‬ ‫وإن‬ ‫‪،‬‬ ‫را" ]نوح‪[26 :‬‬ ‫ن دَّيا ً‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬
‫وال‬ ‫م َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫زين َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫ه ِ‬
‫ملئ ِ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫ت ِ‬ ‫سى َرب َّنا إ ِن ّك آت َي ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫عَلى‬ ‫س َ‬ ‫م ْْ‬ ‫ك َرب َّنا اطْ ِ‬ ‫سِبيل ِ َ‬ ‫عن َ‬ ‫ضّلوا َ‬ ‫ة الدّن َْيا َرب َّنا ل ِي ُ ِ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫َِ‬
‫ب‬‫ذا َ‬ ‫ع َ‬ ‫وا ال َ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫ؤ‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أ ََ ِ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬‫ْ‬
‫م" ]يونس‪ .(1)[88 :‬كان النبي × إذا استشار أصحابه أول من‬ ‫الِلي َ‬
‫يتكلم أبو بكر في الشورى‪ ،‬وربما تكلم غيره‪ ،‬وربما لم يتكلم غيره‬
‫فيعمل برأيه وحده‪ ،‬فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫ثانًيا‪ :‬في أحد وحمراء السد‪:‬‬


‫سا صعًبا؛ فقد تفرقوا من حول‬ ‫في يوم أحد تلقى المسلمون در ً‬
‫النبي ×‪ ،‬وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان‪ ،‬وشاع أن الرسول ×‬
‫قتل‪ ،‬وكان رد الفعل على الصحابة متبايًنا‪ ،‬وكان الميدان فسيحًا‪،‬‬
‫وكل مشغول بنفسه‪ ،‬شق الصديق الصفوف‪ ،‬وكان أول من وصل‬
‫إلى رسول الله ×‪ ،‬واجتمع إلى رسول الله أبو بكر وأبو عبيدة بن‬
‫الجراح‪ ،‬وعلي‪ ،‬وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وعمر بن الخطاب‪ ،‬والحارث بن‬
‫الصمة‪ ،‬وأبو دجانة‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وغيرهم‪ ...‬رضي الله‬
‫الشعب من جبل أحد في محاولة‬ ‫عنهم‪ ،‬وقصدوا مع رسول الله ×‬
‫لسترداد قوتهم المادية والمعنوية )‪.(3‬‬
‫وكان الصديق إذا ذكر أحدً ا قال‪ :‬ذلك يوم كله لطلحة‪ ،‬ثم‬
‫أنشأ يحدث قال‪ :‬كنت أول من فاء يوم أحد‪ ،‬فرأيت رجل‬
‫يقاتل في سبيل الله دونه‪ ،‬قلت‪ :‬كن طلحة‪ ،‬حيث فاتني ما‬
‫فاتني‪ ،‬وكان بيني وبين المشركين رجل ل أعرفه‪ ،‬وأنا أقرب‬
‫منه‪ ،‬وهو يختطف المشي خطفً ا ل أخطفه‬ ‫إلى رسول الله ×‬
‫فإذا هو أبو عبيدة‪ ،‬فانتهينا إلى رسول الله × وقد كسرت‬
‫رباعيته وشج وجهه‪ ،‬وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق‬
‫المغفر‪ ،‬قال رسول الله × ‪ » :‬عليكما صاحبكما ‪ -‬يريد‬
‫«‪ ،‬فلم نلتفت إلى قوله‪ ،‬قال‪ :‬ذهبت لنزع‬ ‫طلحة ‪ -‬فقد نزف‬
‫)( مسند أحمد‪ ،1/373 :‬تفسير ابن كثير‪ (2) .2/325 :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد‬ ‫‪1‬‬

‫مال الله‪ :‬ص ‪325‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مواقف الصديق مع النبي في المدينة‪ ،‬د‪/‬عاطف لماضة‪ :‬ص ‪.27‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪56‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫من وجهه‪ ،‬فقال أبو عبيدة‪ :‬أقسم عليك بحقي لما تركتني‪،‬‬
‫فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله × ‪ ،‬فأرزم عليه بفيه‬
‫فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الخرى مع الحلقة‪،‬‬
‫فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هت ً ما‪ .‬فأصلحنا من شأن‬
‫‪ ،‬ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار‪ ،‬فإذا به‬ ‫رسول الله ×‬
‫طعنة ورمية وضربة‪ ،‬وإذا قد قطعت‬ ‫بين‬ ‫من‬ ‫وسبعون‬ ‫بضع‬
‫إصبعه فأصلحنا من شأنه)‪.(1‬‬
‫وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان‬
‫عندما سأل وقال‪ :‬أفي القوم محمد؟ ثلث مرات‪ ،‬فنهاهم النبي‬
‫× أن يجيبوه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلث مرات‪،‬‬
‫فنهاهم النبي × أن يجيبوه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أفي القوم ابن الخطاب؟‬
‫ثلث مرات‪ ،‬ثم رجع إلى أصحابه فقال‪ :‬أما هؤلء فقد قتلوا )‪.(2‬‬
‫فهذا يدل على ظن‬
‫أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة السلم وأساسه؛‬
‫رسول الله ×‬
‫وأبو بكر وعمر )‪.(3‬‬
‫وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين‬
‫ويستأصلوا شأفتهم‪ ،‬كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم‬
‫وأبطل كيدهم‪ ،‬وأمر رسول الله × المسلمين مع ما بهم من‬
‫جراحات وقرح شديد للخروج من إثر المشركين‪ ،‬فاستجابوا لله‬
‫ولرسوله مع ما بهم من البلء وانطلقوا‪ ،‬فعن عائشة ‪-‬رضي الله‬
‫جا ُبوا‬‫ست َ َ‬
‫ن َا ْ‬‫ذي َ‬‫عنها‪ -‬قالت لعروة بن الزبير َفي قوله تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫س ُنوا‬ ‫ْ َ‬ ‫ح‬ ‫أ‬ ‫ح ل ِل ّ ِ َ‬
‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ر ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه ُ‬
‫صاب َ ُ‬
‫ما أ َ‬‫د َ‬‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫ل َ ِ‬‫سو ِ‬ ‫ر ُ‬‫وال ّ‬
‫ه َ‬‫لل ِ‬
‫م" ]آل عمران‪ ، [172 :‬يا ابن أختي كان‬ ‫ِ ٌ‬‫ظي‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ج‬
‫ْ ٌ‬ ‫أ‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫من ْ ُ ْ َ ّ ْ‬
‫ق‬ ‫ت‬‫وا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫أبوك منهم‪ :‬الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله × ما أصاب‬
‫يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال‪» :‬من‬
‫في( إثرهم؟« فانتدب منهم سبعين رجل‪ :‬كان فيهم أبو بكر‬ ‫يذهب‬
‫والزبير )‪. 4‬‬
‫ثالًثا‪ :‬في غزوة بين النضير وبني المصطلق وفي الخندق‬
‫وبني قريظة‪:‬‬
‫أ‪ -‬خرج النبي × إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين الذين‬
‫قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ؛ لن عمرًا لم‬
‫يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي ×‪ ،‬وكان بين بني النضير‬
‫وبني عامر حلف وعهد‪ ،‬فلما آتاهم النبي × قالوا‪ :‬نعم يا أبا القاسم‬
‫نعينك على ما أحببت‪ ،‬ثم خل بعضهم ببعض فقالوا‪ :‬إنكم لن تجدوا‬
‫الرجل على مثل حاله هذه‪ ،‬ورسول الله × إلى جنب جدار من‬
‫بيوتهم قاعد‪ ،‬قالوا‪ :‬فمن يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة‬
‫فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال‪ :‬أنا‬
‫لذلك‪ ،‬فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال‪ ،‬ورسول الله × في نفر‬
‫منحة المعبود‪ ،2/19 :‬نقل عن تاريخ الدعوة السلمية‪ :‬ص ‪.130‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الفتح‪ ،2/188 :‬الفتح‪.7/405 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مواقف الصديق مع النبي في المدينة‪ ،‬د‪ .‬عاطف لماضة‪ :‬ص ‪.28‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ ،‬رقم‪.2418 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪57‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي‪ ،‬فأتى رسول الله × الخبر من‬
‫السماء مما أراد القوم‪ ،‬فقام وخرج إلى المدينة‪ ،‬فلما استلبث النبي‬
‫مقبل من المدينة فسألوه عنه‬‫ً‬ ‫أصحابه قاموا في طلبه‪ ،‬فرأوا رجلً‬
‫فقالوا‪ :‬رأيته داخلً المدينة‪ ،‬فأقبل أصحاب النبي × حتى انتهوا إليه‪،‬‬
‫فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به‪.‬‬
‫فبعث النبي × محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره‬
‫وبلده‪ ،‬فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم‬
‫بالنصر‪ ،‬فقويت نفوسهم‪ ،‬وحمى حيي بن أخطب‪ ،‬وبعثوا إلى رسول‬
‫الله × أنهم ل يخرجون‪ ،‬ونابذوه ينقض العهد‪ ،‬فعند ذلك أمر رسول‬
‫الله × الناس بالخروج إليهم‪ ،‬فحاصروهم خمس عشرة ليلة‬
‫فتحصنوا في الحصون‪ ،‬فأمر رسول الله × بقطع النخيل والتحريق‪،‬‬
‫لهم‪(1‬ما حملت البل من أموالهم إل الحلقة‪،‬‬ ‫ثم أجلهم على أن‬
‫فنزلت سورة الحشر ) ‪.‬‬
‫ب‪ -‬بنو المصطلق‪:‬‬
‫أراد بنو المصطلق أن يغزوا المدينة‪ ،‬فخرج لهم رسول الله في‬
‫أصحابه‪ ،‬فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق‬
‫)ويقال‪ :‬إلى عمار بن ياسر(‪ ،‬وراية النصار إلى سعد ابن عبادة‪ ،‬ثم‬
‫أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا‪ :‬ل إله إل الله‬
‫تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم‪ ،‬فأبوا‪ ،‬فتراموا بالنبل‪ ،‬ثم أمر رسول‬
‫الله × المسلمين فحملوا حملة رجل واحد‪ ،‬فما أفلت منهم رجل‬
‫عشرة وأسر سائرهم‪ ،‬ولم يقتل من المسلمين‬ ‫واحد‪ ،‬وقتل منهم‬
‫سوى رجل واحد )‪.(2‬‬
‫ج‪ -‬في الخندق وبني قريظة‪:‬‬
‫كان الصديق في الغزوتين مرافقا للنبي ×‪ ،‬وكان يوم الخندق‬
‫يحمل التراب في ثيابه‪ ،‬وساهم مع الصحابة للسراع في إنجاز حفر‬
‫قياسي‪ ،‬مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في‬ ‫الخندق في زمن‬
‫مواجهة المشركين )‪.(3‬‬
‫رابًعا‪ :‬في الحديبية‪:‬‬
‫خرج رسول الله × في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد‬
‫زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة‪،‬‬
‫وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه‪ ،‬وليعلم‬
‫الناس أنه إنما خرج زائرًا لتعظيم بيت الله الحرام‪ ،‬فبعث النبي ×‬
‫عينا له من خزاعة‪ ،‬فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده‬ ‫ً‬
‫عن الكعبة‪ ،‬فقال‪» :‬أشيروا‬
‫ي أيها الناس«‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬خرجت عامدًا‬‫عل ّ‬
‫لهذا البيت ل تريد‬
‫حربه أو قتل أحد‪ ،‬فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه‪ ،‬قال‪» :‬امضوا‬
‫على اسم الله«‪ ،‬وقد ثارت قريش وحلفوا أن ل يدخل الرسول ×‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب حديث بني النضير‪ ،5/217 :‬مغازي الواقدي‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ،1/363‬البداية والنهاية‪.4/86 :‬‬


‫)‪ (3‬مواقف الصديق مع النبي في‬ ‫)( البداية والنهاية‪.4/157 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫المدينة‪ :‬ص ‪.23‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪58‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫مكة عنوة‪ ،‬ثم قامت المفاوضات بين أهل‬
‫× على إجابة أهل مكة على‬ ‫مكة ورسول الله ×‪ ،‬وقد عزم النبي‬
‫طلبهم إن أرادوا شيئًا فيه صلة رحم )‪.(1‬‬
‫أ‪ -‬في المفاوضات‪:‬‬
‫جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي ×‪ ،‬وكان أول من أتى بديل‬
‫بن ورقاء من خزاعة‪ ،‬فلما علم بمقصد النبي × والمسلمين رجع‬
‫إلى أهل مكة‪ ،‬ثم جاء مكرز بن حفص ثم الحليس ابن علقمة ثم‬
‫عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬فدار هذا الحوار بين النبي × وعروة بن‬
‫مسعود الثقفي‪ ،‬واشترك في هذا الحوار أبو بكر ‪ ‬وبعض أصحابه‬
‫)‪.(2‬‬
‫قال عروة‪ :‬يا محمد‪ ،‬أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى‬
‫بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل‬
‫)أي‪ :‬خرجت رجال ونساء‪ ،‬صغارا وكبارا( قد لبسوا جلود النمور‬
‫يعاهدون الله أل تدخلها عليهم عنوة‪ ،‬وايم الله لكأني بهؤلء )يقصد‬
‫أصحاب النبي ×( قد انكشفوا عنك!!‪.‬‬
‫فقال أبو)‪(4‬بكر‪ :‬امصص بظر )‪ (3‬اللت ‪-‬وهي صنم ثقيف‪ -‬أنحن ن َفِّر‬
‫عنه وندعه؟ فقال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬أما والذي نفسي‬
‫بيده لول يد كانت لك عندي لم أجزك بها لجبتك‪ ،‬وكان الصديق قد‬
‫أحسن إليه قبل ذلك‪ ،‬فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة‪،‬‬
‫ولهذا قال من قال من العلماء‪ :‬إن هذا يدل على جواز التصريح‬
‫باسم العورة للحاجة والمصلحة‪ ،‬وليس من الفحش المنهي عنه )‪.(5‬‬
‫لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حرًبا نفسية على المسلمين‬
‫حتى يهزمهم معنويًا‪ ،‬ولذلك لوح بقوة المشركين العسكرية‪ ،‬معتمدا‬
‫على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش ل‬
‫محالة‪ ،‬وحاول أن يوقع الفتنة والرباك في صفوف المسلمين؛ وذلك‬
‫حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده‪ ،‬عندما قال للنبي ×‪:‬‬
‫خليقا أن يفروا ويدعوك‪ ،‬وكان رد الصديق‬ ‫ً‬ ‫أجمعت أوباشًا من الناس‬
‫ما ومؤثرا في معنويات عروة ونفسيته‪ ،‬فقد كان موقف الصديق‬ ‫صار ً‬
‫ول َ‬ ‫نوا‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫فيها‪:‬‬ ‫الله‬ ‫قال‬ ‫التي‬ ‫اليمانية‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فيَزُنوا وأ َن ْت ُم ال َ‬
‫العزة‬ ‫غاية‬
‫ن" ]آل عمران‪.[139 :‬‬ ‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ن ك ُن ُْتم ّ‬
‫م ْ‬ ‫ن إِ ْ‬
‫و َ‬
‫ْ‬ ‫ل‬‫ع‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ح‬
‫تَ ْ‬
‫ب‪ -‬موقفه من الصلح‪:‬‬
‫ولما توصل المشركون مع رسول الله × إلى الصلح بقيادة سهل‬
‫بن عمرو‪ ،‬أصغى الصديق إلى ما وافق عليه رسول الله × من طلب‬
‫المشركين‪ ،‬رغم ما قد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز‬
‫ليقينه أن النبي ل‬ ‫أو الجحاف بالمسلمين‪ ،‬وسار على هدي النبي ×‬
‫ينطق عن الهوى‪ ،‬وأنه فعل لشيء أطلعه الله عليه )‪.(6‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪ (4) .136‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.137‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب‬ ‫ضع المرأة عند ختانها‪.‬‬‫)( البظر‪ :‬ما تقطعه الخاتنة من ُب ْ‬ ‫‪3‬‬

‫الشروط في الجهاد‪ ،‬رقم‪.2732 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد مال الله‪ :‬ص ‪.350‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪.138 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪59‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلنًا‬


‫معارضته لهذه التفاقية‪ ،‬وقال لرسول الله ×‪ :‬ألست برسول الله؟‬
‫قال‪» :‬بلى« قال‪ :‬أو لسنا بالمسلمين؟ قال‪» :‬بلى« قال‪ :‬أو ليسوا‬
‫فعلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال‪:‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫بالمشركين؟ قال‪» :‬بلى« قال‪:‬‬
‫وفي رواية‪» :‬أنا عبد الله‬ ‫‪،‬‬ ‫أعصيه«‬ ‫»إني رسول الله ولست‬
‫ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني«)‪ ،(2‬قلت‪ :‬أو ليس كنت تحدثنا‬
‫أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال‪» :‬بلى‪ ,‬فأخبرتك أنا نأتيه هذا‬
‫العام؟«‪ .‬قلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪» :‬فإنك آتيه ومطوف به« قال عمر‪ :‬فأتيت‬
‫أبا بكر فقلت له‪ :‬يا أبا بكر‪ :‬أليس برسول الله؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬أو‬
‫لسنا بالمسلمين؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬أو ليسوا بالمشركين؟ قال‪ :‬بلى‪،‬‬
‫ناصحا الفاروق‬‫ً‬ ‫قال‪ :‬فعلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ‪-‬‬
‫رسول‬
‫)‪(3‬‬
‫أنه‬ ‫أشهد‬ ‫بأن يترك الحتجاج والمعارضة‪ :-‬الزم غرزه‪ ،‬فإني‬
‫الله‪ ،‬وأن الحق ما أمر به‪ ،‬ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله‪.‬‬
‫وكان جواب الصديق مثل جواب رسول الله ×‪ ،‬ولم يكن أبو بكر‬
‫يسمع جواب‬
‫النبي ×‪ ،‬فكان أبو بكر ‪ ‬أكمل موافقة لله وللنبي × من عمر‪ ،‬مع‬
‫المحدث؛ لن‬ ‫أن عمر ‪ ‬محدث‪ ،‬ولكن مرتبة الصديق فوق مرتبة‬
‫الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله )‪.(4‬‬
‫وقد تحدث الصديق فيما بعد عن هذا الفتح العظيم الذي تم في‬
‫الحديبية‪ ،‬فقال‪ :‬ما كان فتح أعظم في السلم من فتح الحديبية‪،‬‬
‫ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه‪ ،‬والعباد‬
‫يعجلون‪ ،‬والله ل يعجل كعجلة العباد حتى يبلغ المور ما أراد‪ .‬لقد‬
‫قائما عند المنحر يقرب‬ ‫ً‬ ‫نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع‬
‫إلى رسول الله × ب َد ََنة‪ ،‬ورسول الله × ينحرها بيده‪ ،‬ودعا الحلق‬
‫فحلق رأسه‪ ،‬وأنظر إلى سهيل يلتقط من شعره‪ ،‬وأراه يضعه على‬
‫عينه‪ ،‬وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب‪ » :‬بسم الله‬
‫ويأبى( أن يكتب محمد رسول الله ×‪ ،‬فحمدت‬ ‫الرحمن الرحيم«‬
‫الله الذي هداه للسلم)‪. 5‬‬
‫رأيا وأكملهم عقلً )‪.(6‬‬‫سد ّ الصحابة ً‬‫لقد كان الصديق ‪ ‬أ َ‬
‫سا‪ :‬في غزوة خيبر‪ ،‬وسرية نجد وبني فزارة‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫أ‪ -‬في خيبر‪:‬‬
‫حصار ا على خيبر واستعد لقتالهم‪ ،‬فكان‬
‫ً‬ ‫ضرب رسول الله ×‬
‫أول قائد يرسله × أبا بكر ‪ ‬إلى بعض حصون خيبر‪ ،‬فقاتل ثم‬
‫رجع‪ ،‬ولم يكن فتح‪ ،‬وقد جهد‪ ،‬ثم بعث عمر فقاتل ثم رجع ولم‬
‫دا رجل ً يحب الله ورسوله«‪،‬‬
‫يكن فتح‪ ،‬ثم قال‪» :‬لعطين الراية غ ً‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.3/136 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪3/346 :‬؛ تاريخ الطبري‪.2/364 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ (2) .3/346 :‬الفتاوى لبن تيمية‪.11/117 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( كنز العمال‪ ،30136 :‬نقل عن خطب أبي بكر الصديق‪ ،‬محمد أحمد عاشور‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪.117‬‬
‫)( تاريخ الخلفاء للسيوطي‪.61 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪60‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فكان علي بن أبي طالب ‪ ، (1) ‬وأشار بعض أصحاب النبي ×‬
‫بقطع النخيل حتى يثخن في اليهود ورضي النبي × بذلك‪ ،‬فأسرع‬
‫المسلمون في قطعه‪ ،‬فذهب الصديق إلى النبي × وأشار عليه‬
‫بعدم قطع النخيل لما في ذلك من الخسارة للمسلمين سواء‬
‫صلح ا‪ ،‬فقبل النبي × مشورة الصديق‪،‬‬‫ً‬ ‫فتحت خيبر عنوة أو‬
‫ونادى بالمسلمين‬
‫بالكف عن قطع النخيل فرفعوا أيديهم )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬في نجد‪:‬‬
‫أخرج ابن سعد عن إياس بن سلمة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬بعث‬
‫من‪(3‬هوازن‬ ‫سا‬
‫رسول الله × أبا بكر إلى نجد وأ ّمره علينا‪ ،‬فبيتنا نا ً‬
‫فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات‪ ،‬وكان شعارنا‪ :‬أمت‪ ..‬أمت ) ‪.‬‬
‫ج‪ -‬في بني فزارة‪:‬‬
‫روى المام أحمد من طريق إياس بن سلمة عن أبيه‪ ،‬حدثني‬
‫أبي‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمره النبي × علينا‪،‬‬
‫فغزونا بني فزارة‪ ،‬فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا‪ ،‬فلما‬
‫ن مر‬‫م ْ‬
‫صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء َ‬
‫قبلنا‪ ،‬قال سلمة‪ :‬ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء‬
‫نحو الجبل‪ ،‬فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل‪ ،‬قال‪ :‬فجئت بهم‬
‫أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء‪ ،‬وفيهم امرأة عليها قشع‬
‫من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب‪ ،‬قال‪ :‬فنفلني أبو بكر‪ ،‬فما‬
‫كشفت لها ثوبا حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوبا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فلقيني رسول الله × في السوق فقال لي‪» :‬يا سلمة هب لي‬
‫المرأة« قال‪ :‬فقلت والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها‬
‫ثوبا‪ ،‬قال‪ :‬فسكت رسول الله‪ ،‬وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني‬
‫رسول الله في السوق فقال لي‪» :‬يا سلمة هب لي المرأة« قال‪:‬‬
‫فقلت‪ :‬والله يا رسول الله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول‬
‫وفي أيديهم أسارى‬ ‫الله‪ ،‬قال‪ :‬فبعث بها رسول الله إلى أهل مكة‬
‫من المسلمين ففداهم رسول الله بتلك المرأة )‪.(4‬‬
‫سا‪ :‬في عمرة القضاء وفي ذات السلسل‪:‬‬ ‫ساد ً‬
‫أ‪ -‬في عمرة القضاء‪:‬‬
‫كان الصديق ‪ ‬ضمن المسلمين الذين ذهبوا مع رسول الله ×‬
‫ليعتمروا عمرة القضاء مكان عمرتهم التي صدهم المشركون عنها‬
‫)‪.(5‬‬
‫ب‪ -‬في سرية ذات السلسل‪:‬‬
‫قال رافع بن عمرو الطائي ‪ :‬بعث رسول الله × عمرو بن‬

‫)( فتوح البلدان‪.1/26 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬المغازي للواقدي‪.2/644 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الطبقات الكبرى‪ ،1/124 :‬وأبو داود‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب في البيات‪.3/43 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أحمد‪4/430 :‬؛ الطبقات‪ (4) .4/164 :‬تاريخ الدعوة السلمية‪.142 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪61‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العاص على جيش ذات السلسل )‪(2)،(1‬وبعث معه في ذلك الجيش أبا‬
‫سَراة أصحابه‪ ،‬فانطلقوا حتى نزلوا‬ ‫بكر وعمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬و َ‬
‫رجل‪(3‬دليل بالطريق‪ ،‬فقالوا‪ :‬ما‬ ‫إلى‬ ‫ي‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬انظروا‬ ‫جبل ط َ ّ‬
‫نعلمه إل رافع بن عمرو‪ ،‬فإنه كان ربيل ) في الجاهلية‪ ،‬قال رافع‪:‬‬
‫المكان الذي كنا خرجنا منه‪ ،‬توسمت‬ ‫فلما قضينا غزاتنا وانتهيت إلى‬
‫خّلها عليه بخلل )‪،(5‬‬ ‫أبا بكر ‪ ،‬وكانت له عباءة فدكية )‪ ،(4‬فإذا ركب َ‬
‫وإذا نزل بسطها‪ ،‬فأتيته فقلت‪ :‬يا صاحب الخلل‪ ،‬إني توسمتك من‬
‫ي‬
‫بين أصحابك‪ ،‬فائتني بشيء إذا حفظته كنت مثلكم ول تطول عل ّ‬
‫فأنسى‪ ،‬فقال‪ :‬تحفظ أصابعك الخمس؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬تشهد أن ل‬
‫إله إل الله وأن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬وتقيم الصلوات الخمس‪،‬‬
‫وتؤتي زكاة مالك إن كان لك مال‪ ،‬وتحج البيت‪ ،‬وتصوم رمضان‪ :‬هل‬
‫ن على اثنين‪ ،‬قلت‪ :‬وهل‬ ‫مر ّ‬ ‫حفظت؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وأخرى‪ ،‬ل يؤ ّ‬
‫تكون المرة إل فيكم أهل المدر؟ )‪ (6‬فقال‪ :‬يوشك أن تفشو حتى‬
‫تبلغك ومن هو دونك‪ ،‬إن الله ‪-‬عز وجل‪ -‬لما بعث نبيه × دخل الناس‬
‫في السلم‪ ،‬فمنهم من دخل لله فهداه الله‪ ،‬ومنهم من أكرهه‬
‫فارةُ )‪ (7‬الله‪ ،‬إن الرجل إذا‬ ‫خ َ‬
‫واذ الله وجيران الله و َ‬ ‫السيف‪ ،‬فكلهم عُ ّ‬
‫من بعض انتقم الله‬ ‫لبعضهم‬ ‫يأخذ‬ ‫فلم‬ ‫بينهم‬ ‫الناس‬ ‫كان أميرًا فتظالم‬
‫شاة جاره فيظل ناتئ )‪ (8‬عضلته غضبًا‬ ‫لتؤخذ‬ ‫منكم‬ ‫منه‪ ،‬إن الرجل‬
‫لجاره‪ ،‬والله من وراء جاره )‪.(9‬‬
‫ففي هذه النصيحة دروس وعبر لبناء المسلمين يقدمها الصحابي‬
‫الجليل أبو بكر الصديق الذي تربى على السلم وعلى يد رسول الله‬
‫×‪ ،‬من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬أهمية العبادات‪ :‬الصلة لنها عماد الدين‪ ،‬والزكاة والصوم‬
‫والحج‪.‬‬
‫‪ -2‬عدم طلب المارة »ول تكونن أميرًا« تمامًا كما أوصى رسول‬
‫»وإنها أمانة‪ ،‬وإنها يوم القيامة خزي وندامة‪،‬‬ ‫الله × أبا ذر الغفاري‪:‬‬
‫إل من أخذها بحقها«‪ (10).‬ولذلك فإن أبا بكر الفاهم الواعي لكلم‬
‫حبيبه محمد × جاء في رواية‪ :‬وأنه من يك أميرًا فإنه أطول الناس‬
‫ومن ل يكن أميرًا فإنه من أيسر الناس‬ ‫حسابا‪ ،‬وأغلظهم عذابًا‪،‬‬ ‫ً‬
‫حساًبا‪ ،‬وأهونهم عذابًا‪ (11).‬فهذا فهم الصديق لمقام المارة‪.‬‬
‫‪-3‬إن الله حرم الظلم على نفسه‪ ،‬ونهى عباده أن يتظالموا ‪-‬أن‬
‫كما‪(12‬نهى عن‬ ‫بعضا‪ -‬لن الظلم ظلمات يوم القيامة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يظلم بعضهم‬
‫ظلم المؤمنين‪» :‬من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب«‪ ).‬وهم‬
‫)( ذات السلسل‪ :‬مكان وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (3‬الربيل‪ :‬اللص يغزو وحده وي ُِغير على‬ ‫)( سراة‪ :‬شرفاء أصحابه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫غيره‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( منسوبة إلى فدك‪ ،‬وهي قرية من خيبر بينها وبين المدينة ست ليال‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( خلها عليه بخلل‪ :‬أي جمع بين طرفيها بخلل من عود أو حديد‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( المدر‪ :‬الطين اللزج المتماسك‪ ،‬والمقصود سكان البيوت المبنية‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (8‬الناتئ‪ :‬المرتفع والمنتفخ‪.‬‬ ‫)( الخفارة‪ :‬الذمة والعهد والمان‪.‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫)( العضلة‪ :‬هي القطعة من اللحم الشديد‪ ،‬انظر‪ :‬مجمع الزوائد‪.5/202 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( مسلم‪ :‬كتاب المارة‪ ،‬رقم‪.1825 :‬‬ ‫‪10‬‬

‫)‪ (3‬مسند أحمد‪:‬‬ ‫)( استخلف أبي بكر الصديق‪ ،‬جمال عبد الهادي‪.139 :‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪.6/256‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪62‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫جيران الله‪ ،‬وهم عواذ الله‪ ،‬والله أحق أن يغضب لجيرانه‪.‬‬
‫‪ -4‬على عهد الصدر الول كان أمراء المة خيارها‪ ،‬وجاء وقت‬
‫شوّ أمرها »المارة« وكثرت حتى نالها من ليس لها بأهل‪ .‬إن هذه‬ ‫فُ ُ‬
‫المارة ليسيرة‪ ،‬وقد أوشكت أن تفشو حتى ينالها من ليس لها‬
‫بأهل)‪.(2‬‬
‫‪-5‬وفي غزوة ذات السلسل ظهر موقف متميز للصديق في‬
‫على‬ ‫احترام المراء‪ ،‬مما يثبت أن أبا بكر كان صاحب نفس تنطوي‬
‫قوة هائلة‪ ،‬وقدرة متميزة في بناء الرجال‪ ،‬وتقديرهم واحترامهم )‪،(3‬‬
‫فعن عبد الله بن بريدة قال‪ :‬بعث رسول الله × عمرو بن العاص‬
‫في غزوة ذات السلسل وفيهم أبو بكر وعمر ‪-‬رضي الله عنهما‪-‬‬
‫فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن ل ينوروا نارا‪ ،‬فغضب‬
‫أن( الرسول × لم يستعمله‬ ‫م أن يأتيه‪ ،‬فنهاه أبو بكر‪ ،‬وأخبره‬
‫عمر وه ّ‬
‫عليك إل لعلمه بالحرب‪ ،‬فهدأ عنه عمر ‪. 4) ‬‬
‫سابًعا‪ :‬في فتح مكة وحنين والطائف‪:‬‬
‫أ‪ -‬في فتح مكة ‪ 8‬هـ‪:‬‬
‫وسبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكر ابن إسحاق قال‪ :‬حدثني‬
‫الزهري‪ ,‬عن عروة بن الزبير‪ ,‬عن المسور بن مخرمة‪ ,‬ومروان بن‬
‫الحكم أنهما حدثاه جميًعا قال‪ :‬في صلح الحديبية أنه من شاء أن‬
‫يدخل في عقد محمد دخل‪ ,‬ومن شاء أن يدخل في عقد قريش‬
‫وعهدهم دخل‪ ,‬فتواثبت خزاعة وقالوا‪ :‬نحن ندخل في عقد محمد‬
‫وعهده‪ ,‬وتواثبت بنو بكر وقالوا‪ :‬نحن ندخل في عقد قريش‬
‫وعهدهم‪ ,‬فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهًرا‪ ,‬ثم إن‬
‫بني بكر وثبوا على خزاعة ليل ً بماء يقال له الوتير –وهو قريب من‬
‫مكة‪ -‬وقالت قريش ما يعلم بنا محمد‪ ,‬وهذا الليل وما يرانا من أحد‬
‫فأعانوهم عليهم بالكراع والسلح وقاتلوهم معهم للضغن على‬
‫رسول الله ×‪ ,‬فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله‬
‫× قائ ً‬
‫ل‪:‬‬
‫حلف أبينا وأبيك التلدا‬ ‫اللهم إني ناشد محمدا‬
‫وادع عباد الله يأتوا مددا‬ ‫فانصر هداك الله نصرا‬
‫أعتدا‬
‫فقال النبي ×‪» :‬نصرت يا عمرو بن سالم« )‪.(5‬‬
‫وتجهز النبي × مع صحابته للخروج إلى مكة‪ ،‬وكتم الخبر‪ ،‬ودعا‬
‫الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة‪،‬‬
‫)( استخلف أبي بكر‪ ،‬جمال عبد الهادي‪.140 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (6) ,(5‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪.382 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الحاكم في المستدرك‪ ،‬وقال‪ :‬حديث صحيح السناد ولم يخرجاه‪ ،‬وقال‬ ‫‪4‬‬

‫الذهبي‪ :‬صحيح كتاب المغازي‪.3/42:‬‬


‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.4/44 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪63‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وخافت قريش أن يعلم النبي × بما حدث‪ ،‬فخرج أبو سفيان من‬
‫مكة إلى رسول الله فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أشدد العقد‪ ،‬وزدنا في المدة‪،‬‬
‫فقال النبي ×‪» :‬ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم؟« فقال‪:‬‬
‫معاذ الله‪ ،‬نحن على عهدنا وصلحنا يوم الدية ل نغير ول نبدل‪ ،‬فخرج‬
‫من عند النبي × يقصد مقابلة الصحابة‬
‫عليهم الرضوان )‪.(1‬‬
‫‪ -1‬أبو بكر وأبو سفيان‪:‬‬
‫طلب أبو سفيان من أبي بكر ‪ ‬أن يجدد العقد ويزيدهم في‬
‫المدة‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬جواري في جوار رسول الله ×‪ ،‬والله لو‬
‫وجدت الذر تقاتلكم لعنتها عليكم‪ .‬وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته‬
‫السياسية ثم يظهر اليمان القوي بالحق الذي هو عليه‪ ،‬ويعلن أمام‬
‫أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل ما يمكن‪ ،‬ولو‬
‫وجد الذر تقاتل قريشًا لعانها عليها )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما‪:‬‬
‫دخل الصديق ‪ ‬على عائشة وهي تغربل حنطة‪ ،‬وقد أمرها‬
‫النبي × بأن تخفي ذلك‪ ..‬فقال لها أبو بكر‪ :‬يا بنية لم تصنعين هذا‬
‫الطعام؟ فسكتت‪ ،‬فقال‪ :‬أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لعله يريد بني الصفر )أي الروم( فصمتت‪ ،‬فقال‪ :‬لعله يريد قريشا‪،‬‬
‫فصمتت‪ ،‬فدخل رسول الله × فقال الصديق له‪ :‬يا رسول الله‪،‬‬
‫أتريد أن تخرج مخرجًا؟ قال‪» :‬نعم« قال‪ :‬لعلك تريد بني الصفر؟‬
‫قال‪» :‬ل« قال‪ :‬أتريد أهل نجد؟ قال‪» :‬ل«‪ ،‬قال‪ :‬فلعلك تريد‬
‫قريشا؟ قال‪» :‬نعم«‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أليس بينك وبينهم‬‫ً‬
‫مدة؟ قال‪» :‬ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟«‪.‬‬
‫وهنا سلم أبو بكر للنبي × وجهز نفسه ليكون مع القائد × في‬
‫وذهب مع رسول الله × المهاجرون والنصار‬ ‫)‪(3‬‬
‫هذه المهمة الكبرى‪،‬‬
‫فلم يتخلف منهم أحد‪.‬‬
‫‪ -3‬الصديق في دخول مكة‪:‬‬
‫لما دخل النبي × مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى‬
‫النساء يلطمن وجوه الخيل‪ ،‬فابتسم إلى أبي بكر ‪ ‬وقال‪» :‬يا أبا‬
‫بكر كيف قال حسان؟« فأنشد أبو بكر‪:‬‬
‫داُء‬ ‫َ‬
‫تثير النقع موعدها ك َ‬ ‫مَنا خيلنا إن لم تروها‬
‫عَدِ ْ‬
‫ل الظماء‬ ‫عن أكتافها الس ُ‬ ‫ن السنة مصغيات‬ ‫يباري َ‬
‫)‪(4‬‬
‫ن بال ْ ُ‬
‫خمرِ النساُء‬ ‫تلطمهُ ّ‬ ‫ت‬ ‫تظل جيادنا متم ّ‬
‫طرا ٍ‬ ‫ّ‬

‫)( التاريخ السياسي والعسكري‪ ،‬د‪ .‬علي معطي‪ :‬ص ‪ ،365‬الطبري‪.3/43 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة السلمية‪.145 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬مغازي الواقدي‪.2/796 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الحاكم في المستدرك‪ :‬صحيح السناد‪ ،‬ووافقه الذهبي‪.3/72 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪64‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فقال النبي ×‪» :‬ادخلوها من حيث قال حسان« )‪ ،(1‬وقد‬
‫النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلم أبيه أبي‬ ‫تمت‬
‫قحافة )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬في حنين‪:‬‬
‫أخذ المسلمون يوم حنين درسًا قاسيًا؛ إذ لحقتهم هزيمة في أول‬
‫المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة‪ ،‬وكانوا كما قال المام‬
‫الطبري‪ :‬فانشمروا ل يلوي أحد على أحد‪ (3).‬وجعل رسول الله ×‬
‫ي‪ ،‬أنا رسول الله‪ ،‬أنا رسول الله‪،‬‬ ‫يقول‪» :‬أين أيها الناس؟ هلموا إل ّ‬
‫أنا محمد بن عبد الله‪ ،‬يا معشر النصار أنا عبد الله ورسوله« ثم‬
‫نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت‪ ،‬فقال له‪» :‬يا عباس ناد‪:‬‬
‫يا معشر النصار‪ ،‬يا أصحاب السمرة«‪ (4) .‬كان هذا هو حال‬
‫المسلمين في أول المعركة‪ ،‬النبي وحده لم يثبت معه أحد إل‬
‫قلة‪ ،‬ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إل فئة من الصحابة‬
‫عزيز ا مؤزرًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يتقدمهم الصديق ‪ ، ‬ثم نصرهم الله بعد ذلك نصرً ا‬
‫)‪(5‬‬

‫وكانت هناك بعض المواقف للصديق منها‪:‬‬


‫‪ - 1‬فتوى الصديق بين رسول الله ×‪:‬‬
‫قال أبو قتادة‪ :‬لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من‬
‫المسلمين يقاتل رجل من المشركين‪ ,‬وآخر من المشركين يختله‬
‫من ورائه ليقتله‪ ،‬فأسرعت إلى الذي يختله‪ ،‬فرفع يده ليضربني‬
‫شديد ا حتى‬
‫ً‬ ‫وأضرب يده فقطعتها‪ ،‬ثم أخذني فضمني ض ّما‬
‫تخوفت‪ ،‬ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته‪ ،‬وانهزم المسلمون‬
‫وانهزمت معهم‪ ،‬فإذا بعمر بن الخطاب في الناس‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما‬
‫شأن الناس؟ قال‪ :‬أمر الله‪ ،‬ثم تراجع الناس إلى رسول الله‪،‬‬
‫فقال رسول الله‪» :‬من أقام بّينة على قتيل قتله فله سلبه« فقمت‬
‫أحد ا يشهد لي‪ ،‬فجلست‪ ،‬ثم بدا‬ ‫ً‬ ‫للتمس بينة على قتيلي فلم أ َر‬
‫لي فذكرت أمره لرسول الله × ‪ ،‬فقال رسول الله × رجل من‬
‫جلسائه‪ :‬سلح هذا القتيل الذي يذكر عندي‪ ،‬فأرضه منه‪ ،‬فقال أبو‬
‫بكر‪ :‬كل‪ ،‬ل يعطه )‪ (6‬أصيبغ من قريش ويدع )‪ (7‬أس ًدا من أسد الله‬
‫ي‪،‬‬
‫ورسوله × ‪ ،‬قال‪ :‬فقام رسول الله × فأداه إل ّ‬ ‫يقاتل عن الله‬
‫ر ًفا )‪ ، (8‬فكان أول مال تأ ّثلته‬
‫خ َ‬
‫فاشتريت منه َ‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ،3/72 :‬الطبري‪ (4) .3/42 :‬تاريخ الدعوة السلمية‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص ‪.147‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.3/74 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مسلم‪ :‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب في غزوة حنين‪ ،‬رقم‪.1775 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( مواقف الصديق مع النبي في المدينة‪.43 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( ل يعطيه‪ :‬أي ل يعطيه رسو ُ‬


‫ل الله‪ ،‬قوله‪ :‬أصيبغ‪ ،‬نوع من الطيور شبه له‬ ‫‪6‬‬

‫لعجزه وضعفه‪.‬‬
‫)( يدع‪ :‬يترك‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫بستانا‪ ،‬أقام الثمر مقام الصل‪.‬‬


‫ً‬ ‫)( خرًفا‪ :‬أي‪:‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪65‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫في السلم)‪.(1‬‬
‫إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في‬
‫حضور رسول الله ×‪ ،‬ثم يصدقه الرسول فيما قال‪ ،‬ويحكم بقوله‬
‫خصوصية شرف‪ ,‬لم تكن لحد غيره‪ (2).‬ونلحظ في الخبر السابق أن‬
‫أبا قتادة النصاري ‪ ‬حرص على سلمة أخيه المسلم وقتل ذلك‬
‫الكافر بعد جهد عظيم‪ ،‬كما أن موقف الصديق ‪ ‬فيه دللة على‬
‫حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه‪ ،‬ودليل على رسوخ إيمانه‬
‫يقينه‪ (،‬وتقديره لرابطة الخوة السلمية‪ ،‬وأنها بمنزلة رفيعة‬ ‫وعمق‬
‫بالنسبة له )‪. 3‬‬
‫‪ -2‬الصديق وشعر عباس بن مرداس‪:‬‬
‫حين استقل العباس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين‪ ،‬قال‬
‫شعرا عاتب فيه رسول الله × حيث قال‪:‬‬
‫ب ِك َّري على المهر في الجرع‬ ‫كانت نهابا تلفيتها‬
‫إذا هجع الناس لم أهجع‬ ‫وإيقاظي القوم أن يرقدوا‬
‫)‪(4‬‬
‫بين عيينة والقرع‬ ‫فأصبح نهبي ونهب العبيد‬
‫فلم ُأعط شيئا ولم أمنع‬ ‫وقد كنت في الحرب ذا ُتدرأ‬
‫)‪(5‬‬
‫عديد قوائمها الربع‬ ‫إل أفائل أعطيتها‬
‫يفوقان شيخي في المجمع‬ ‫وما كان حصن ول حابس‬
‫)‪(6‬‬
‫ومن تضع اليوم ل ي ُْرفَِع‬ ‫وما كنت دون امرئ منهما‬
‫فأعطوه‬ ‫فقال رسول الله ×‪» :‬اذهبوا به‪ ،‬فأقطعوا عني لسانه«‪،‬‬
‫ضي‪ ،‬فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله × )‪.(7‬‬ ‫حتى َر ِ‬
‫وأتى العباس رسول الله ×‪ ،‬فقال له رسول الله ×‪ :‬أنت القائل‪:‬‬
‫»فأصبح نهبي ونهب العبيد بين القرع وعيينة«؟ فقال أبو بكر‪ :‬بين‬
‫عيينة والقرع‪ ،‬فقال رسول الله ×‪» :‬هما واحد«‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫غي‬ ‫ما َينب َ ِ‬‫و َ‬
‫عَر َ‬
‫ش ْ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫مَناهُ ال ّ‬ ‫ما َ‬
‫و َ‬‫َأشهد أنك كما قال الله تعالى‪َ + :‬‬
‫و إ ِل ّ ِذك ٌْر َ‬
‫و ُ‬
‫)‪(8‬‬
‫ن" ]يس‪. [69 :‬‬ ‫مِبي ٌ‬
‫ن ّ‬
‫قْرآ ٌ‬ ‫ه َ‬
‫ن ُ‬ ‫ه إِ ْ‬
‫ل ُ‬
‫ج‪ -‬في الطائف‪:‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪.4322 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الرياض النضرة في مناقب العشرة‪ ،‬لبي جعفر محب الدين‪.185 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.8/26 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( العبيد‪ :‬اسم فرس عباس بن مرداس‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الفائل‪ :‬الصغار من البل‪ ،‬الواحد أفيل‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.4/147 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (6‬السيرة النبوية لبن هشام‪.4/147 :‬‬ ‫‪7‬‬


‫‪8‬‬

‫‪66‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫في حصار الطائف وقعت جراحات في أصحاب النبي × وشهادة‪،‬‬


‫ورفع رسول الله × عن أهل الطائف الحصار ورجع إلى المدينة‪،‬‬
‫وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة‬
‫عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما‪ ،‬رمي بسهم فتوفي منه‬
‫بالمدينة بعد وفاة النبي × )‪.(1‬‬
‫وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلمهم‪ ،‬فما إن ظهر‬
‫الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن‬
‫يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول ×‪ ،‬وفاز الصديق بتلك‬
‫البشارة )‪ ،(2‬وبعد أن أعلنوا إسلمهم وكتب لهم رسول الله × كتابهم‬
‫وأرادأن يؤمر عليهم أشار أبو بكر بعثمان بن أبي العاص وكان‬
‫سنا‪ ،‬فقال الصديق‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إني رأيت هذا الغلم من‬ ‫أحدثهم ً‬
‫)‪(3‬‬
‫أحرصهم على التفقه في السلم وتعلم القرآن‪ .‬فقد كان عثمان‬
‫بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة‪ ،‬عمد إلى رسول الله ×‬
‫فسأله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم‪ ،‬وكان‬
‫نائم عمد إلى أبي بكر‪ ،‬وكان يكتم ذلك عن‬ ‫إذا وجد رسول الله × ا ً‬
‫أصحابه‪ ،‬فأعجب ذلك رسول الله × وعجب منه وأحبه)‪.(4‬‬
‫وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب ابنه كانت له‬
‫مقولة تدل على عظمة إيمانه‪ ،‬فعن القاسم بن محمد قال‪ :‬رمي‬
‫عبد الله بن أبي بكر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬بسهم يوم الطائف‪،‬‬
‫فانتفضت به بعد وفاة رسول الله × بأربعين ليلة‪ ،‬فمات‪ ،‬فقدم عليه‬
‫وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده‪ ،‬فأخرجه إليهم فقال‪ :‬هل‬
‫يعرف هذا السهم منكم أحد؟ فقال سعيد ابن عبيد‪ ،‬أخو بني عجلن‪:‬‬
‫هذا سهم أنا ب ََريُته ورشته )‪ (5‬وعقبته )‪ ،(6‬وأنا رميت به‪ ،‬فقال أبو بكر‬
‫‪ :‬فإن هذا السهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكر‪ ،‬فالحمد لله الذي‬
‫أكرمه بيدك‪ ،‬ولم يهنك بيده فإنه أوسع لكما )‪.(7‬‬
‫ثامًنا‪ :‬في غزوة تبوك‪ ،‬وإمارة الحج‪ ،‬وفي حجة الوداع‪:‬‬
‫أ‪ -‬في تبوك‪ :‬خرج رسول الله × بجيش عظيم في غزوة تبوك‬
‫بلغ عدده ثلثين ألفًا‪ ،‬وكان يريد قتال الروم بالشام‪ ،‬وعندما تجمع‬
‫المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله ×‪ ،‬اختار المراء‬
‫اللوية والرايات لهم‪ ،‬فأعطى لواءه العظم إلى أبي‬ ‫والقادة وعقد‬
‫بكر الصديق ‪ (8) .‬وفي هذه الغزوات ظهرت بعض المواقف‬
‫للصديق منها‪:‬‬
‫‪1-‬موقفه من وفاة الصحابي عبد الله ذي البجادين ‪ :‬قال‬
‫عبد الله بن مسعود ‪:‬قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله × في‬
‫غزوة تبوك‪ ،‬قال‪ :‬فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر‪ ،‬قال فاتبعتها‬
‫)‪ (1‬السيرة النبوية لبن هشام‪ (2) .4/147 :‬تاريخ الدعوة السلمية‪.152 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪ (4) .4/193 :‬تاريخ الدعوة السلمية‪.125 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( تاريخ السلم للذهبي‪ ،‬المغازي‪.670 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (7‬عقبته‪ :‬جذبته من عقبه‪.‬‬ ‫)( رشته‪ :‬صنعت فيه الريش‪.‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( خطب أبي بكر الصديق‪ ،‬محمد أحمد عاشور‪ ،118 :‬والرواية فيها انقطاع‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)‪ (2‬صحيح السيرة النبوية‪.598 :‬‬ ‫)( صفة الصفوة‪.1/243 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪67‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وأبو بكر وعمر‪ ،‬وإذا عبد الله ذو البجادين‬ ‫أنظر إليها‪ ،‬فإذا رسول الله ×‬
‫المزني قد مات‪ ،‬وإذا هم قد حفروا له‪ ،‬ورسول الله في حضرته‪ ،‬وأبو‬
‫بكر وعمر يدليانه إليه‪ ،‬وهو يقول‪» :‬أدليا إلي ّ أخاكما«‪،‬فدلياه إليه‪ ،‬فلما‬
‫عنه«‪(1.‬قال‬ ‫هيأه بشقه قال‪»:‬اللهم إني أمسيت راضيا ً عنه فارض‬
‫الراوي )عبد الله بن مسعود(‪ :‬يا ليتني كنت صاحب الحفرة ) ‪.‬‬
‫بسم الله‪ ،‬وعلى‬ ‫وكان الصديق × إذا دخل الميت اللحد قال‪:‬‬
‫ملة رسول الله ×‪ ،‬وباليقين وبالبعث بعد الموت )‪.(2‬‬
‫‪ 2-‬طلب الصديق من رسول الله ×الدعاء للمسلمين‪ :‬قال‬
‫منزل وأصابنا‬‫ً‬ ‫عمر بن الخطاب‪ :‬خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد‪ ،‬فنزلنا‬
‫فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع‪ ،‬حتى إن الرجل لينحر بعيره‬
‫فيعتصر فرثه فيشربه‪ ،‬ثم يجعل ما بقي على كبده‪ ،‬فقال أبو بكر‬
‫خيرا‪ ،‬فادع الله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الصديق‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إن الله قد عودك في الدعاء‬
‫؟«‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت‬ ‫قال‪» :‬أتحب ذلك‬
‫ثم‬ ‫ا‪-‬‬‫ً‬ ‫خفيف‬ ‫ا‬‫مطر‬
‫ً‬ ‫أنزلت‬ ‫أي‪:‬‬ ‫‪-‬فأطلت‪-‬‬ ‫مائها‬ ‫لنزال‬ ‫السماء أي‪ :‬تهيأت‬
‫سكبت‪ ،‬فملوا ما معهم‪ ،‬ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر)‪.(3‬‬
‫‪ -3‬نفقة الصديق في تبوك‪ :‬حث رسول الله × الصحابة في‬
‫غزوة تبوك على النفاق بسبب بعدها وكثرة المشركين فيها‪ ،‬ووعد‬
‫وكان‬ ‫ل حسب مقدرته‪،‬‬ ‫المنفقين بالجر العظيم من الله‪ ،‬فأنفق ك ّ‬
‫عثمان ‪ ‬صاحب القدح المعلى في النفاق في هذه الغزوة )‪.(4‬‬
‫وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر‬
‫بذلك‪ ،‬ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال‪ :‬أمرنا رسول‬
‫الله × يومًا أن نتصدق‪ ،‬فوافق ذلك مالً عندي‪ ،‬فقلت‪ :‬اليوم أسبق‬
‫أبا بكر إن سبقته يومًا‪ ،‬فجئت بنصف مالي‪ ،‬فقال رسول الله ×‪:‬‬
‫»ما أبقيت لهلك؟« قلت‪ :‬مثله‪ .‬وأتى أبو بكر ‪ ‬بكل ما عنده‪ ،‬فقال‬
‫لهلك؟« قال‪ :‬أبقيت لهم الله ورسوله‪،‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫له رسول الله ×‪» :‬ما أبقيت‬
‫أبدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ل أسابقك إلى شيء ً‬
‫كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحًا‪ ،‬ولكن‬
‫ل من المنافسة مطلقا ول ينظر‬ ‫الصديق ‪ ‬أفضل منه؛ لنه خا ٍ‬ ‫حال‬
‫إلى غيره )‪.(6‬‬
‫ب‪ -‬الصديق أمير الحج ‪ 9‬هـ‪ :‬كانت تربية المجتمع وبناء‬
‫الدولة في عصر النبي × مستمرة على جميع الصعدة والمجالت‬
‫العقائدية والقتصادية والجتماعية‪ ،‬والسياسية والعسكرية‬
‫والتعبدية‪ ،‬وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية‪،‬‬
‫وحجة عام ‪ 8‬هـ بعد الفتح كلف بها عتاب بن أسيد‪ ،‬ولم تكن قد‬
‫تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين )‪ ، (7‬فلما حل موسم‬
‫ج × ولكنه قال‪» :‬إنه يحضر البيت عراة مشركون‬ ‫الحج أراد الح َ‬
‫‪1‬‬

‫مصنف عبد الرزاق‪ ،3/497 :‬نقل عن موسوعة فقه الصديق‪.222 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ابن حبان‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب غزوة تبوك‪.1707 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫السيرة النبوية في ضوء المصادر الصلية‪.615 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سنن أبي داود‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬رقم‪ ،1678 :‬وحسنه اللباني‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الفتاوى لبن تيمية‪.73 ،10/72 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫دراسات في عهد النبوة‪ ،‬عماد الدين خليل‪.222 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪68‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫يطوفون بالبيت‪ ،‬فل أحب أن أحج حتى ل يكون ذلك«‪ ،‬فأرسل النبي‬
‫× الصديق أميرً ا على الحج سنة تسع من الهجرة‪ ،‬فخرج أبو بكر‬
‫عليا‬
‫ً‬ ‫الصديق بركب الحجيج‪ ،‬ونزلت سورة براءة فدعا النبي ×‬
‫‪ ، ‬وأمره أن يلحق بأبي بكر × ‪ ،‬فخرج على ناقة رسول الله ×‬
‫العضباء حتى أدرك الصديق أبا بكر بذي حليفة‪ ،‬فلما رآه الصديق‬
‫قال له‪ :‬أمير أم مأمور؟ فقال‪ :‬بل مأمور‪ ،‬ثم سار‪ ،‬فأقام أبو بكر‬
‫للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية‪ ،‬وكان‬
‫الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات‬
‫الصحيحة‪ ،‬ل في شهر ذي القعدة كما قيل‪ ،‬وقد خطب الصديق‬
‫قبل التروية‪ ،‬ويوم عرفة‪ ،‬ويوم النحر‪ ،‬ويوم النفر الول فكان‬
‫يعرف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم‪ ،‬ونحرهم‪ ،‬ونفرهم‪،‬‬
‫ورميهم للجمرات‪ ...‬إلخ‪ .‬وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل‬
‫موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة‪ ،‬ثم‬
‫ينادي في الناس بهذه المور الربعة‪» :‬ل يدخل الجنة إل مؤمن‪،‬‬
‫ول يطوف بالبيت عريان‪ ،‬ومن كان بينه وبين رسول الله عهد‬
‫فعهده إلى مدته‪ ،‬ول يحج بعد العام مشرك« )‪ .(1‬وقد أمر الصديق‬
‫رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب‬ ‫أبا هريرة في‬
‫في إنجاز مهمته )‪.(2‬‬
‫عليا بإعلن نقض العهود على مسامع‬ ‫ً‬ ‫وفد كلف النبي ×‬
‫المشركين في موسم الحج‪ ،‬مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما‬
‫بينهم من عقد العهود ونقضها أن ل يتولى ذلك إل سيد القبيلة أو‬
‫رجل من رهطه‪ ،‬وهذا العرف ليس فيه منافاة للسلم‪ ،‬فلذلك تدارك‬
‫النبي × المر وأرسل عليّا بذلك‪ ،‬فهذا هو السبب في تكليف علي‬
‫‪ ‬بتبليغ صدر سورة براءة‪ ،‬ل ما زعمته الرافضة من أن ذلك‬
‫للشارة إلى أن علّيا ‪ ‬أحق بالخلفة من أبي بكر‪ ،‬وقد علق على‬
‫ذلك الدكتور محمد أبو شهبة فقال‪ :‬ول أدري كيف غفلوا عن قول‬
‫له‪(4:‬أمير أم مأمور؟ )‪ (3‬وكيف يكون المأمور أحق بالخلفة‬ ‫الصديق‬
‫من المير ) ‪.‬‬
‫وقد)‪(5‬كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة‬
‫الوداع‪ .‬لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الصنام قد انقضى‪،‬‬
‫وأن مرحلة جديدة قد بدأت‪ ،‬وما على الناس إل أن يستجيبوا لشرع‬
‫الله تعالى‪ ،‬فبعد هذا العلن الذي انتشر بين قبائل العرب في‬
‫انقضى‬ ‫الجزيرة‪ ،‬أيقنت تلك القبائل أن المر جد‪ ،‬وأن عهد الوثنية قد‬
‫فعل‪ ،‬فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلمها ودخلوها في التوحيد )‪.(6‬‬ ‫ً‬
‫ج‪ -‬في حجة الوداع‪:‬روى المام أحمد ‪‬بسنده إلى عبد الله بن‬
‫بكر قالت‪ :‬خرجنا مع رسول الله ×‬ ‫الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي‬
‫× فجلست عائشة‬ ‫حجاج حتى إذا أدركنا )العرج( )‪(7‬نزل رسول الله ‪،‬‬
‫ا‪ً ،‬‬
‫وزمالة أبي بكر مع غلم لبي بكر فجل س أبو بكر ينتظر أن‬ ‫النبي ×‬
‫‪،‬‬ ‫جنب‬
‫يطلع عليه‪ ،‬فطلع ولي س معه بعيره!! فقال‪ :‬أين بعيرك؟ فقال‪ :‬أضللته‬
‫)( صحيح السيرة النبوية‪.625 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية لبي شهبة‪ (3) .2/537 :‬صحيح السيرة النبوية‪.524 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)(‪ (5) ,‬السيرة النبوية لبي شهبة‪.2/540 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( قراءة سياسية للسيرة النبوية‪ ،‬قلعجي‪.283 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( العرج‪ :‬واد فحل من أودية الحجاز التهامية‪ ،‬معجم المعالم الجغرافية‪.202 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪69‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫يضربه ورسول الله يبتسم‬ ‫البارحة! فقال أبو بكر‪ :‬بعير واحد تضله! فطفق‬
‫ويقول‪» :‬انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع« )‪.(8‬‬
‫***‬

‫)( مسند أحمد‪.6/344 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪70‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المبحث الخامس‬
‫الصديق في المجتمع المدني‬
‫وبعض صفاته وشيء من فضائله‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس والعبر‪،‬‬
‫وتركت لنا نموذجًا حّيا لفهم السلم وتطبيقه في دنيا الناس‪ ،‬وقد‬
‫تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه رسول الله × في‬
‫أحاديث كثيرة‪ ،‬وبّين فضله وتقدمه على كثير من الصحابة رضي الله‬
‫عنهم أجمعين‪.‬‬
‫أول‪ :‬من مواقفه في المجتمع المدني‪:‬‬
‫‪ -1‬موقفه من )فنحاص( الحبر اليهودي‪:‬‬
‫واحد من ك ُّتاب السير والمفسرين أن أبا بكر ‪ ‬دخل‬ ‫ذكر غير‬
‫بيت المدراس )‪ (1‬على يهود‪ ،‬فوجد منهم ناسا قد اجتمعوا إلى رجل‬
‫وكان من علمائهم وأحبارهم‪ ،‬ومعه حبر من‬ ‫منهم يقال له فنحاص‪،‬‬
‫أحبارهم‪ ،‬يقال له أشيع )‪ ،(2‬فقال أبو بكر لفنحاص‪ :‬ويحك! اتق الله‬
‫وأسلم‪ ،‬فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله‪ ،‬قد جاءكم بالحق‬
‫من عنده‪ ،‬تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والنجيل‪ .‬فقال فنحاص‬
‫لبي بكر‪ :‬والله يا أبا بكر‪ ،‬ما بنا إلى الله من فقر‪ ،‬وإنه إلينا لفقير‪،‬‬
‫وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا‪ ،‬وإنا عنه لغنياء وما هو عنا بغني‪،‬‬
‫ولو كان عنا غنيًا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم‪ ،‬ينهاكم عن‬
‫غنيا ما أعطانا الربا‪ .‬فغضب أبو بكر‪،‬‬ ‫الربا ويعطيناه‪ ،‬ولو كان عنا ً‬
‫ضربا شديدًا‪ ،‬وقال‪ :‬والذي نفسي بيده لول‬ ‫ً‬ ‫فضرب وجه فنحاص‬
‫العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله‪ .‬فذهب فنحاص‬
‫إلى رسول الله ×‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬انظر ما صنع بي صاحبك‪ ،‬فقال‬
‫رسول الله × لبي بكر‪» :‬ما حملك على ما صنعت؟« فقال أبو بكر‪:‬‬
‫عظيما‪ ،‬إنه يزعم أن الله فقير‬ ‫ً‬ ‫قول‬
‫ً‬ ‫يا رسول الله‪ ،‬إن عدو الله قال‬
‫وأنهم أغنياء‪ ،‬فلما قال ذلك غضبت لله مما قال‪ ،‬وضربت وجهه‪،‬‬
‫فجحد ذلك فنحاص وقال‪ :‬ما قلت ذلك‪ ،‬فأنزل الله تعالى فيما قال‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ق ْ‬‫ه َ‬ ‫ع الل ُ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬‫قد ْ َ‬ ‫فنحاص رّدا عليه وتصديقًا لبي بكر‪+ :‬ل َ َ‬
‫م‬‫ُ ُ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ت‬‫ق‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫ما‬ ‫ُْ َ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫غن َِياءُ َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫قيٌر َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫قا َُلوا إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ق" ]آل عمران‪:‬‬ ‫ري‬
‫َ ِ ِ‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ذو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫ِ ْ ِ َ ّ َ‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫غ‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫يا‬‫ِ َ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫‪.[181‬‬
‫)‪(3‬‬
‫بلغه في ذلك من الغضب‬ ‫الصديق ‪ ،‬وما‬ ‫ونزل في أبي بكر‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ع ّ‬ ‫م َُ‬ ‫س َ‬‫ول َت َ ْ‬ ‫سك ُ َْ‬
‫م‬ ‫ف ِ‬ ‫وأ َن ْ ُ‬ ‫م‬ ‫وال ِك ُ‬ ‫م‬ ‫في أ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫و ّ‬ ‫تعالى‪+ :‬ل َ ْت ُب ْل َ ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫قولهن ُ‬
‫ذى‬ ‫كوا أ ً‬ ‫شَر ُ‬
‫عْزم ال ُ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫تا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫توا‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ر" ]آل‬ ‫ُ ِ‬‫مو‬ ‫ِ ْ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬
‫ِ ّ ِ‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ت‬
‫َ َ ّ‬ ‫و‬ ‫روا‬ ‫ب‬
‫َ ْ ِ ُ‬ ‫ص‬ ‫ت‬ ‫إن‬ ‫كَ ِ ً َ ِ‬
‫و‬ ‫را‬ ‫ثي‬

‫)( مكان يتلى فيه التوراة‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية لبن هشام‪.559 ،1/558 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (2‬الفتح‪ ،9/81 :‬الطبقات الكبرى‪:‬‬ ‫)( تفسير القرطبي‪.4/295 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.8/82‬‬

‫‪71‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫عمران‪.[186 :‬‬
‫‪ -2‬حفظ سر النبي ×‪:‬‬
‫قال عمر بن الخطاب‪ :‬تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة‪،‬‬
‫بدر ا‪ ،‬فلقيت عثمان بن عفان فقلت‪ :‬إن شئت‬ ‫ً‬ ‫وكان ممن شهد‬
‫أنكحتك حفصة‪ ،‬فقال‪ :‬أنظر‪ ،‬ثم لقيني فقال‪ :‬قد بدا لي أن ل‬
‫أتزوج يومي هذا‪ ،‬فلقيت أبا بكر فعرضتها عليه فصمت‪ ،‬فكنت‬
‫عليه أوجد مني على عثمان‪ ،‬فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله‬
‫ي حين‬‫× فأنكحتها إياه‪ ،‬ثم لقيني أبو بكر فقال‪ :‬لعلك وجدت عل ّ‬
‫لم أرجع إليك؟ فقلت‪ :‬أجل‪ ،‬فقال‪ :‬إنه لم يمنعني أن أرجع إليك‬
‫إل أني علمت أن رسول الله × )‪(1‬قد ذكرها‪ ،‬فلم أكن لفشي سر‬
‫رسول الله × ولو تركها لنكحتها ‪.‬‬
‫‪ -3‬الصديق وآية صلة الجمعة‪:‬‬
‫قال جابر بن عبد الله‪ :‬بينما النبي ×يخطب يوم الجمعة‪ ،‬وقدمت‬
‫لم يبق معه إل اثنا‬ ‫َ‬ ‫الله ×حتى‬ ‫َ‬ ‫عير المدينة‪ ،‬فابتدرها أصحاب رسول‬
‫ضوا‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫وا‬
‫ْ ْ ً ْ ّ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ة‬‫ر‬‫ذا َ ْ ِ َ َ‬
‫جا‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫وإ ِ َ‬
‫عشر رجل‪ُ ،‬فنزلت هذه الية‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫و‬
‫ْ ِ َ ِ َ‬‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ر‬
‫ِ ْ ٌ ّ َ‬‫ي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ما ِ ْ َ‬
‫د‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ق ْ‬
‫ل َ‬ ‫ما ُ‬‫قائ ِ ً‬‫ك َ‬‫وت ََركو َ‬ ‫ها َ‬‫إ ِل َي ْ َ‬
‫ن"‬ ‫قي‬ ‫ز‬
‫ّ ِ ِ َ‬‫را‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ي‬
‫ُ ْ ُ‬‫خ‬
‫َ‬ ‫ه‬‫والل‬ ‫الت ّ َ َ ِ َ‬
‫ة‬ ‫ر‬ ‫جا‬
‫وقال‪ :‬في الثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله × أبو‬ ‫‪[11‬‬‫]الجمعة‪، :‬‬
‫بكر وعمر )‪.(2‬‬
‫‪ -4‬رسول الله × ينفي الخيلء عن أبي بكر‪:‬‬
‫قال عبد الله بن عمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ :-‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫»من جر ثوبه خيلء لم ينظر الله إليه يوم القيامة«‪ .‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫أتعاهد ذلك منه‪ ،‬فقال رسول الله ×‪:‬‬ ‫إن أحد شقي يسترخي إل أن‬
‫»إنك لست تصنع ذلك خيلء« )‪.(3‬‬
‫‪ -5‬الصديق وتحريه الحلل‪:‬‬
‫عن قيس ابن أبي حازم قال‪ :‬كان لبي بكر غلم‪ ،‬فكان إذا جاء‬
‫بغلته لم يأكل من غلته حتى يسأل‪ ،‬فإن كان شيًئا مما يحب أكل‪،‬‬
‫وإن كان شيًئا يكره لم يأكل‪ ،‬قال‪ :‬فنسي ليلة فأكل ولم يسأله‪ ،‬ثم‬
‫سأله‪(4‬فأخبره أنه من شيء كرهه‪ ،‬فأدخل يده فتقيأ حتى لم يترك‬
‫شيًئا) ‪.‬‬
‫فهذا مثال على ورع أبي بكر ‪‬؛ حيث كان يتحرى الحلل في‬
‫مطعمه ومشربه‪ ،‬ويتجنب الشبهات‪ ،‬وهذه الخصلة تدل على بلوغه‬
‫المطعم والمشرب‬ ‫عليا في التقوى‪ .‬ول يخفى أهمية طيب‬ ‫درجات ُ‬
‫والملبس في الدين‪ ،‬وعلقة ذلك بإجابة الدعاء )‪ ،(5‬كما في حديث‬
‫الشعث الغبر وفيه‪» :‬يمد يديه إلى السماء‪ :‬يا رب يا رب ومطعمه‬
‫غذي بالحرام‪ ،‬فأنى ُيستجاب‬‫حرام‪ ،‬ومشربه حرام‪ ،‬وملبسه حرام‪ ،‬و ُ‬
‫‪1‬‬

‫الحسان في تقريب صحيح ابن حبان‪ .15/300 :‬مسلم‪ ،‬رقم‪.863 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري رقم‪.3665 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نقل عن التاريخ السلمي للحميدي‪.19/13 :‬‬


‫ً‬ ‫الزهد للمام أحمد‪،110 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫التاريخ السلمي للحميدي‪ (3) .19/13 :‬مسلم‪ ،‬رقم‪.1015 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪72‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫لذلك« )‪.(1‬‬
‫‪ -6‬أدخلني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما‪:‬‬
‫دخل أبو بكر الصديق ‪ ‬على النبي × فسمع صوت ابنته عائشة‬
‫عالًيا‪ ،‬فلما اقترب منها تناولها ليلطمها وقال‪ :‬أراك ترفعين صوتك‬
‫على رسول الله‪ ،‬فجعل رسول الله يحجزه‪ ،‬وخرج أبو بكر مغضًبا‪،‬‬
‫فقال النبي × لعائشة حين خرج أبي بكر‪» :‬أرأيت كيف أنقذتك من‬
‫ما ثم استأذن على رسول الله فوجدهما‬ ‫الرجل؟«‪ ،‬فمكث أبو بكر أيا ً‬
‫قد اصطلحا‪ ،‬فقال لهما‪ :‬أدخلني في)‪(2‬سلمكما‪ ،‬كما أدخلتماني في‬
‫حربكما‪ ،‬فقال النبي ×‪» :‬قد فعلنا« ‪.‬‬
‫‪ -7‬أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر‪:‬‬
‫دخل أبو بكر على عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬في أيام العيد‪،‬‬
‫وعندها جاريتان من جواري النصار تغنيان‪ ،‬فقال أبو بكر ‪:‬‬
‫أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ×؟ وكان رسول الله ×‬
‫الكريم إلى الحائط‪ ،‬فقال‪» :‬يا أبا‬ ‫ضا بوجهه عنهما‪ ،‬مقبل ً بوجهه‬
‫معر ً‬
‫دا‪ ،‬وهذا عيدنا« )‪.(3‬‬
‫ً‬ ‫عي‬ ‫قوم‬ ‫لكل‬ ‫إن‬ ‫بكر‪،‬‬
‫ففي الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي × وأصحابه‬
‫الجتماع عليه‪ ،‬ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان‪ ،‬والنبي × أقر‬
‫الجواري عليه معلل ً ذلك بأنه يوم‬
‫كما جاء في‬
‫)‪(4‬‬
‫العياد‪،‬‬ ‫في‬ ‫اللعب‬ ‫عيد‪ ،‬والصغار يرخص لهم في‬
‫الحديث‪» :‬ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة«‪.‬‬
‫وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة‬
‫استمع إلى ذلك‪،‬‬ ‫يلعبن معها‪ ،‬وليس في حديث الجاريتين أن النبي ×‬
‫والمر والنهي إنما يتعلق بالستماع ل بمجرد السماع‪ (5).‬ومن هذا‬
‫كالجاريتين‬ ‫نفهم أنه يرخص لمن صلح له اللعب أن يلعب في العياد‪،‬‬
‫الصغيرتين من النصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة )‪.(6‬‬
‫‪ -8‬إكرامه للضيوف‪:‬‬
‫قال عبد الرحمن بن أبي بكر ‪-‬رضي الله عنهما‪ :-‬أن أصحاب‬
‫سا فقراء‪ ،‬وأن رسول الله × قال مرة‪ :‬من كان‬ ‫الصفة كانوا أنا ً‬
‫عنده طعام اثنين فليذهب بثالث‪ ،‬ومن كان عنده طعام أربعة‬
‫فليذهب بخامس‪ ،‬وإن أبا بكر جاء بثلث‪ ...‬وإن أبا بكر تعشى عند‬
‫رسول الله × فجاء بعد أن مضى من الليل ما شاء الله تعالى‪ ،‬قالت‬
‫له امرأته‪ :‬ما حبسك عن أضيافك؟ أو قالت‪ :‬عن ضيفك‪ ،‬قال‪ :‬وما‬
‫وقد عرضوا عليهم فغلبوهم‪ .‬قال‪:‬‬ ‫عشيتهم؟ قالت‪ :‬أبوا حتى تجيء‪،‬‬
‫فذهبت أنا فاختبأت‪ ،‬فقال‪ :‬يا غنثر )‪ (7‬فجدع وسب‪ ،‬وقال‪ :‬كلوا هنيًئا‬
‫دا‪ ،‬وحلف الضيف أن ل يطعمه حتى يطعم أبو‬ ‫وقال‪ :‬والله ل أطعم أب ً‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬رقم‪ ،4999 :‬ضعفه اللباني في ضعيف سنن أبي داود‪ .‬سيرة‬ ‫‪2‬‬

‫الصديق‪ ،‬مجدي السيد‪.136 :‬‬


‫)( مسلم في صلة العيدين‪ ،‬رقم‪.892 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الفتاوى‪ ،11/308 :‬مسند أحمد‪ 233 ،6/16 :‬عن عائشة‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (3) ,‬نفس المصدر السابق‪.30/118 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)( غنثر‪ :‬الثقيل الوخيم‪ ،‬وقيل الجاهل‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪73‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بكر‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬هذه من الشيطان‪ ،‬قال‪ :‬فدعا بالطعام فأكل‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وايم الله ما كنا نأخذ لقمة إل َرَبا من أسفلها أكثر منها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك‪ ،‬فنظر إليها فإذا هي‬
‫كما هي وأكثر‪ ،‬فقال لمرأته‪ :‬يا أخت بني فراس ما هذا؟ قالت‪ :‬ل‬
‫وقرة عيني هي الن لكثر منها قبل ذلك بثلث مرات‪ ،‬فأكل أبو بكر‬
‫وقال‪ :‬إنما كان ذلك من الشيطان ‪-‬يعني يمينه‪ -‬ثم أكل منها لقمة ثم‬
‫حملها إلى رسول الله × فأصبحت عنده‪ ،‬وكان بيننا وبين القوم عقد‬
‫واحد منهم أناس الله‬ ‫فمضى الجل فتفرقنا اثني عشر رجل‪ ،‬مع كل‬
‫أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا منها أجمعين )‪.(1‬‬
‫وفي هذه القصة دروس وعبر‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬حرص الصديق على تطبيق اليات القرآنية والحاديث النبوية‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫قّرب َ ُ َ‬
‫ف َ‬
‫تحث ْعلى إكرام الضيف‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه إ ِلي ْ ِ‬ ‫ل أ َل َ ت َأك ُ ُ‬
‫َ‬
‫التي‬
‫َ‬
‫وقول الرسول ×‪» :‬من كان يؤمن‬ ‫‪.‬‬ ‫ن" ]الذاريات‪[27 :‬‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫قا‬
‫بالله واليوم الخر‪ ،‬فليكرم ضيفه« )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬وفي هذه القصة كرامة للصديق؛ حيث جعل ل يأكل لقمة إل‬
‫َرَبا من أسفلها أكثر منها فشبعوا‪ ،‬وصارت أكثر مما هي قبل ذلك‪،‬‬
‫فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت‪ ،‬فرفعها إلى‬
‫رسول الله ×‪ ،‬وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا‪ (3).‬وهذه‬
‫الكرامة حصلت ببركة اتباع الصديق لرسول الله × في جميع‬
‫أحواله‪ ،‬وهي تدل على مقام الولية للصديق‪ ،‬فأولياء الله هم‬
‫المقتدون بمحمد ×‪ ،‬فيفعلون ما أمر به وينتهون عما زجر‪ ،‬ويقتدون‬
‫به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه‪ ،‬فيؤيدهم بملئكته وروح منه‪ ،‬ويقذف‬
‫من أنواره‪ ،‬ولهم الكرامات التي يكرم الله بها‬ ‫الله في قلوبهم‬
‫أولياءه المتقين )‪.(4‬‬
‫ج‪ -‬تقول السيدة عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬إن أبا بكر لم يحنث‬
‫في يمين قط حتى أنزل الله كفارة اليمين‪ ،‬فقال‪ :‬ل أحلف على‬
‫فرأيت غيرها خيًرا منها إل أتيت الذي هو خير وكفرت عن‬ ‫)‪(5‬‬
‫يمين‬
‫فكان‪(6‬إذا حلف على شيء ورأى غيره خيًرا منه كفر وأتى‬ ‫يميني‪.‬‬
‫الذي هو خير‪ ).‬وفي هذه القصة ما يدل على ذلك؛ حيث ترك يمينه‬
‫ما‪(7‬لضيوفه‬ ‫الولى إكرا ً‬
‫وأكل معهم ) ‪.‬‬
‫‪ -9‬ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر‪:‬‬
‫قالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬خرجنا مع رسول الله × في‬
‫بعض أسفاره‪ ،‬حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي‪،‬‬
‫فأقام رسول الله × على التماسه‪ ،‬وأقام الناس معه‪ ،‬وليس على‬
‫ماء وليس معهم ماء‪ ،‬فأتى الناس أبا بكر فقالوا‪ :‬أل ترى ما صنعت‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الشربة‪ ،‬رقم‪.2057 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬مسلم‪.3/1353 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬نفس المصدر السابق‪.11/125 :‬‬ ‫)( الفتاوى‪.11/135 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( سنن البيهقي‪ ،10/34 :‬نقل عن موسوعة )فقه أبي بكر(‪.240 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( مصنف ابن أبي شيبة‪ ،1/158 :‬نقل عن موسوعة فقه أبي بكر‪.240 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( موسوعة فقه أبي بكر‪.241 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪74‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عائشة؟ أقامت برسول الله × وبالناس معه وليسوا على ماء وليس‬
‫معهم ماء‪ ،‬فجاء أبو بكر ورسول الله × واضع رأسه على فخذي قد‬
‫نام‪ ،‬فقال‪ :‬حبست رسول الله × والناس‪ ،‬وليسوا على ماء وليس‬
‫معهم ماء‪ ،‬قلت‪ :‬فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول‪ ،‬وجعل يطعنني‬
‫بيده في خاصرتي فل يمنعني من التحرك إل مكان رسول الله ×‬
‫على فخذي‪ ،‬فنام رسول الله × حتى أصبح على غير ماء‪ ،‬فأنزل الله‬
‫دا طَي ًّبا" ]النساء‪ .[43 :‬فقال أسيد بن‬ ‫عي ً‬ ‫ص ِ‬
‫موا َ‬‫م ُ‬ ‫آية التيمم‪َ + :‬‬
‫فت َي َ ّ‬
‫فقالت عائشة‪ :‬فبعثنا‬ ‫بكر‪،‬‬ ‫أبي‬ ‫آل‬ ‫يا‬ ‫بركتكم‬ ‫بأول‬ ‫حضير‪ :‬ما هي‬
‫البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته« )‪.(1‬‬
‫وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله‪،‬‬
‫وحساسيته الشديدة على أن ل يضايقه شيء‪ ،‬ول يقبل ذلك ولو كان‬
‫من أقرب الناس وأحبهم إلى رسول الله ×‪ ،‬كعائشة رضي الله‬
‫قدوة‪ (2‬للدعاة في الدب الجم مع النبي × ومع‬ ‫عنها‪ ،‬فقد كان ‪‬‬
‫نفسه ومع المسلمين ) ‪.‬‬
‫ي × للصديق ‪:‬‬ ‫‪ -10‬انتصار النب ّ‬
‫لقد ثبت من الحاديث الصحيحة ما يدل على أن النبي × كان‬
‫ينتصر لبي بكر وينهى الناس عن معارضته؛ فعن أبي الدرداء ‪‬‬
‫ثوبه‪(3‬حتى‬ ‫ذا بطرف‬ ‫سا مع النبي × إذ أقبل أبو بكر آخ ً‬ ‫قال‪ :‬كنت جال ً‬
‫أبدى عن ركبته‪ ،‬فقال النبي ×‪» :‬أما صاحبكم فقد غامر«) ‪،‬‬
‫فسلم‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء‬
‫ي‪ ،‬فأقبلت‬ ‫فأسرعت إليه ثم ندمت‪ ،‬فسألته أن يغفر لي فأبى عل ّ‬
‫إليك‪ ،‬فقال‪ :‬يغفر الله لك يا أبا بكر ثلثا‪ ،‬ثم إن عمر ندم فأتى منزل‬
‫أبي بكر فسأل‪ :‬أثم أبو بكر؟ قالوا‪ :‬ل‪ .‬فأتى النبي × فسلم عليه‪،‬‬
‫فجعل وجه رسول الله × يتمعر )‪ ،(4‬حتى أشفق أبو بكر ))‪ ((56‬فجثا على‬
‫ركبتيه‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬والله أنا كنت أظلم مرتين ‪ ،‬فقال‬
‫بعثني( إليكم فقلتم‪ :‬كذبت‪ ،‬وقال أبو بكر‪ :‬صدق‪،‬‬ ‫النبي ×‪» :‬إن الله‬
‫بنفسه وماله)‪، 7‬فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟« مرتين‪ .‬فما‬ ‫وواساني‬
‫أوذي بعدها)‪.(8‬‬
‫وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬الطبيعة البشرية‬
‫للصحابة وما يحدث بينهم من خلف‪ ،‬وسرعة رجوع المخطئ وطلب‬
‫المغفرة والصفح من أخيه‪ ،‬وتواد الصحابة فيما بينهم‪ ،‬ومكانة‬
‫الصديق الرفيعة عند رسول الله × ثم أصحابه‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪ -11‬قل‪ :‬غفر الله لك يا أبا بكر‪.‬‬
‫قال ربيعة السلمي ‪ :‬كنت أخدم النبي ×‪ ...‬وذكر حديثًا ثم‬
‫أرضا‪،‬‬
‫ً‬ ‫قال‪ :‬إن رسول الله × أعطاني بعد ذلك أرضًا وأعطى أبا بكر‬
‫البخاري رقم‪.3672 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الدعوة السلمية‪.403 ،402 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫غامر‪ :‬خاصم‪ .‬أي‪ :‬دخل في غمرة الخصومة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫يتمعر‪ :‬تذهب نضارته من الغضب‪ (5) .‬أن يكون لعمر من الرسول ما يكره‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫لنه هو الذي بدأ‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫المراد به أن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫لما أظهره النبي × من تعظيمه‪ ،‬البخاري‪ ،‬رقم‪.3661 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪75‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة‪ ،‬فقلت أنا‪ :‬هي في حدي‪ ،‬وقال‬
‫أبو بكر‪ :‬هي في حدي‪ ،‬فكان بيني وبين أبي بكر كلم‪ ،‬فقال أبو بكر‬
‫كلمة كرهها‪ ،‬وندم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬لتقولن أو لستعدين عليك رسول‬
‫الله ×‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أنا بفاعل‪ ،‬قال‪ :‬ورفض الرض )‪ ،(1‬وانطلق أبو بكر‬
‫‪ ‬إلى النبي ×‪ ،‬وانطلقت أتلوه‪ ،‬فجاء ناس من أسلم فقالوا لي‪:‬‬
‫رحم الله أبا بكر‪ ،‬في أي شيء يستعدي عليك رسول الله × وهو قد‬
‫قال لك ما قال؟ قلت‪ :‬أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق‪ ،‬هذا‬
‫ثاني اثنين‪ ،‬وهذا ذو شيبة المسلمين‪ ،‬إياكم ل يلتفت فيراكم‬
‫تنصروني عليه فيغضب‪ ،‬فيأتي رسول الله × فيغضب لغضبه‪،‬‬
‫فيغضب الله ‪-‬عز وجل‪ -‬لغضبهما فيهلك ربيعة‪ ،‬قال‪ :‬ما تأمرنا؟ قال‪:‬‬
‫ارجعوا‪ ،‬قال‪ :‬فانطلق أبو بكر ‪ ‬إلى رسول الله × فتتبعته وحدي‬
‫ي رأسه فقال‪ :‬يا‬ ‫حتى أتى النبي × فحدثه الحديث كما كان‪ ،‬فرفع إل ّ‬
‫ربيعة‪ ،‬ما لك وللصديق؟ قلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كان كذا‪ ..‬كان كذا‪،‬‬
‫قال لي كلمة كرهها فقال‪ :‬قل لي كما قلت حتى يكون قصاصا‬
‫فأبيت‪ ،‬فقال رسول الله ×‪» :‬أجل فل ترد عليه‪ ،‬ولكن قل‪ :‬غفر الله‬
‫غفر‪(2‬الله لك يا أبا بكر‪ .‬قال الحسن البصري‪:‬‬ ‫لك يا أبا بكر«‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ولى أبو بكر ‪ ‬وهو يبكي ) ‪.‬‬
‫لله أي وجدان هذا الوجدان‪ ،‬وأي نفس تلك النفس!! بادرة بدرت‬
‫تناهيا‬
‫ً‬ ‫ض إل اقتصاصه منها‪ ،‬وصفحه عنها‪،‬‬ ‫منها لمسلم فلم تر َ‬
‫بالفضيلة‪ ،‬واستمساكًا بالدب‪ ،‬وشعورًا تمكن من الجوانح‪ ،‬وأخذ‬
‫ما يتململ‬ ‫بمجامع القلوب‪ ،‬فكانت عنده زلة اللسان ‪-‬ولو صغيرة‪ -‬أل ً‬
‫منه الضمير فل يستريح إل بالقصاص منه‪ ،‬ورضا ذلك المسلم عنه‬
‫)‪.(3‬‬
‫كانت كلمة هينة‪ ،‬ولكنها أصابت من ربيعة موجعًا‪ ..‬فإذا أبو بكر‬
‫يزلزل من أجلها‪ ،‬ويأبى إل القصاص عليها‪ ،‬مع أنه يومئذ كان الرجل‬
‫الثاني في السلم بعد رسول الله ×‪ ،‬وهي كلمة ل يمكن أن تكون‬
‫أخلقه لم تسمح بهذا‪ ،‬ولم يؤثر عنه حتى‬ ‫من ُفحش القول ً‬
‫أبدا؛ لن‬
‫في الجاهلية شيء من هذا )‪.(4‬‬
‫لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة ولهذا اشتكى لرسول الله‪،‬‬
‫وهذا أمر عجيب‪ ،‬فإن أبا بكر قد نسي أرضه ونسي قضية الخلف‪،‬‬
‫وشغل باله أمر تلك الكلمة لن حقوق العباد ل بد فيها من عفو‬
‫صاحب الحق‪ (5) .‬وفي هذا درس للشيوخ والعلماء الحكماء والدعاة‬
‫في كيفية معالجة الخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها‬
‫بالرجل‪.‬‬
‫وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبو بكر يشتكي إلى رسول‬
‫الله × وهو الذي قال ما قال‪ ،‬ولم يعلموا ما عمله أبو بكر من‬
‫لزوم إنهاء قضايا الخصومات‪ ،‬وإزالة ما قد يعلق في القلوب من‬
‫الموجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه‬
‫الحساب يوم القيامة‪.‬‬
‫)( أي‪ :‬فارق أبو بكر الرض‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (3‬أشهر مشاهير السلم‪.1/88 :‬‬ ‫)( مسند أحمد‪.59 ،4/58 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( خلفاء الرسول‪ ،‬خالد محمد خالد‪ (2) .103 :‬التاريخ السلمي‪.19/16 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪76‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وبالرغم مما ظهر من رضا ربيعة وتوجيه النبي × إلى عدم الرد‬
‫على أبي بكر‪ ،‬فإن أبا بكر قد بكى من خشية الله تعالى‪ ،‬وهذا دليل‬
‫على قوة إيمانه‪ ،‬ورسوخ يقينه‪.‬‬
‫وأخيرًا موقف يذكر لربيعة بن كعب السلمي ‪ ،‬حيث قام‬
‫بإجلل أبي بكر ‪ ‬وأبى أن يرد عليه بالمثل‪ ،‬هذا من تقدير أهل‬
‫الفضل)‪(1‬والتقدم والمعرفة بحقهم‪ ،‬وهو دليل على قوة الدين ورجاحة‬
‫العقل ‪.‬‬
‫‪ -12‬مسابقته في الخيرات‪:‬‬
‫اتصف الصديق ‪ ‬بالخلق الحميدة‪ ،‬والصفات الرفيعة‬
‫ومسابقته في الخيرات حتى صار في الخير قدوة‪ ،‬وفي مكارم‬
‫الخلق أسوة‪ ،‬وكان حريصًا أشد الحرص على الخيرات‪ ،‬فقد أيقن‬
‫أن ما يمكن أن يقوم به المرء اليوم قد يكون غير ممكن في الغد‪،‬‬
‫فاليوم عمل ول حساب‪ ،‬وغدًا حساب ول عمل‪ ،‬ولذلك كان من‬
‫المسارعين في الخيرات؛ فعن أبي هريرة ‪ ‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫ما؟« قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ .‬قال‪» :‬فمن تبع‬
‫»من أصبح منكم اليوم صائ ً‬
‫منكم اليوم جنازة؟«‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ .‬قال‪» :‬فمن أطعم منكم‬
‫اليوم مسكيًنا؟«‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ .‬قال‪» :‬فمن عاد منكم اليوم‬
‫بكر‪(2:‬أنا‪ .‬فقال رسول الله ×‪» :‬ما اجتمعن في‬ ‫ضا؟«‪ .‬قال أبو‬
‫مري ً‬
‫امرئ إل دخل الجنة« ) ‪.‬‬
‫‪-13‬كظمه للغيظ‪:‬‬
‫قال أبو هريرة ‪ :‬إن رجلًشتم أبا بكر ورسول الله × جالس‪،‬‬
‫يعجب ويبتسم‪ ،‬فلما أكثر الرجل رد عليه أبو بكر بعض‬ ‫فجعل النبي ×‬
‫وقام‪ ،‬فلحقه أبو بكر وقال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬كان‬‫قوله‪ ،‬فغضب النبي ×‬
‫يشتمني وأنت جالس‪ ،‬فلما أكثر رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت!!‬
‫فقال عليه الصلة والسلم‪»:‬إنه كان معك ملك يرد عنك‪ ،‬فلما رددت‬
‫عليه بعض قوله وقع الشيطان‪ ،‬فلم أكن لقعد مع الشيطان«‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫»يا أبا بكر‪ ،‬ثلث كلهن حق‪ :‬ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله‬
‫‪-‬عز وجل‪ -‬إل أعز الله بها نصره‪ ،‬وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة‬
‫كثرة‪ ،‬وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إل زاده‬ ‫إل زاده الله بها‬
‫اتصف بكظم الغيظ ولكنه رد ما ظن أنه‬ ‫الله بها قلة«‪ (3).‬إن الصديق ‪‬‬
‫غبه النبي ×في الحلم والناة‪ ،‬وأرشده إلى‬‫به يسكت هذا الرجل‪ ،‬فر ّ‬
‫ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ‪ ،‬فإن الحلم وكظم الغيظ مما‬
‫يزيد المرء ويجمله في أعين الناس‪ ،‬ويرفع قدره عند الله تعالى‪.‬‬
‫ويتبين لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق ‪ ‬على عدم‬
‫إغضاب النبي × والمسارعة إلى إرضائه‪ ،‬وفي ذم الغضب للنفس‪،‬‬
‫والنهي عنه والتحذير منه‪ ،‬واعتزال النبياء للمجالس التي يحضرها‬
‫الشيطان‪ ،‬وبيان الفضل للمظلوم الصابر المحتسب للجر والثواب‪،‬‬
‫وفيه حث على العطايا‪ ،‬وصلة الرحام‪ ،‬وذم للمسألة وأهلها‪.‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.19/16 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬صحيح مسلم‪ ،‬رقم‪.1028 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الدر المنثور للسيوطي‪2/74 :‬؛ مجمع الزوائد‪ ،8/190 :‬حديث مرسل‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪77‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫عرف بالحلم‬ ‫وظل الصديق متمسكًا بالحلم وكظم الغيظ حتى ُ‬


‫والناة‪ ،‬ولين الجانب والرفق‪ ،‬وهذا ل يعني أن أبا بكر لم يكن‬
‫لله تعالى‪ ،‬فإذا رأى محارم الله قد انتهكت‬ ‫يغضب‪ ،‬وإنما كان غضبه‬
‫غضبا شديدًا )‪.(1‬‬ ‫ً‬ ‫غضب لذلك‬
‫متأمل ومتفكرًا وعاملً بقوله تعالى‪:‬‬ ‫ً‬ ‫لقد عاش بعد رسول الله ×‬
‫ت‬
‫وا ُ‬‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ها ال ّ‬ ‫ض َ‬ ‫عْر ُ‬ ‫ة َ‬ ‫جن ّ ٍ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ّ ّرب ّك ُ ْ‬ ‫ة ّ‬ ‫فَر ٍ‬ ‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عوا إ َِلى ْ َ‬ ‫ر ُ‬ ‫سا ِ‬ ‫وَ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ء‬
‫سّرا ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫فقو َ‬ ‫ُ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ‪ ‬ال ِ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت ل ِل‬ ‫عد ّ ْ‬ ‫ض أُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫والْر‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫س َ‬ ‫نا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫عا‬ ‫َ‬ ‫وال ْ‬ ‫َ‬ ‫غي ْ َ‬
‫ظ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ظ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫وال ْ‬‫َ‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫را‬ ‫ّ‬ ‫ض‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[134 -133 :‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫‪ -14‬بلى والله‪ ،‬إني أحب أن يغفر الله لي‪.‬‬
‫كان أبو بكر ‪ ‬ي َُعول مسطح بن أثاثة‪ ،‬فلما قال في عائشة‬
‫أقسم بالله أبو بكر‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬رضي الله عنها‪ -‬ما قال )حديث الفك المشهور(‬
‫ل‬‫ْ ِ‬ ‫ض‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫ل‬‫ول َ ْ ي َ َ ِ‬
‫ت‬ ‫أ‬ ‫وجل‪َ + :-‬‬ ‫فلما أنزل الله ُ ‪-‬عز‬ ‫أبدا‪،‬‬
‫أل ينفعه ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫كي‬
‫َ َ َ ِ َ‬ ‫سا‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫ْ‬
‫بى‬ ‫ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ل‬
‫ْ‬
‫ا‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫توا‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ة‬
‫وال ّ َ ِ‬
‫ع‬ ‫س‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫بو‬
‫ُ ِ ّ َ‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫حوا‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫َ َ ْ ُ‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫ع‬
‫ِ َ َ ْ‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫م َ ِ ِ َ ِ‬
‫ن‬ ‫ري‬ ‫ج‬ ‫ها‬ ‫ُ‬ ‫وال‬ ‫َ‬
‫م" ]النور‪ [22 :‬قال أبو بكر‪:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫فَر الل ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫َأن ي ّ ْ‬
‫والله إني أحب أن يغفر الله لي‪ .‬فرجع إلى النفقة التي كان ينفق‬
‫وقال‪ :‬والله ل أنزعها‬ ‫)‪(2‬‬
‫عليه‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫منه ً‬
‫ولقد فهم الصديق من الية بأن على المؤمن التخلق بأخلق الله‪،‬‬
‫فالله يعفو عنه‬ ‫فيعفو عن الهفوات والزلت والمزالق‪ ،‬فإن فعل‬
‫ن َأن‬ ‫حّبو َ‬ ‫ويستر ذنوبه‪ ،‬وكما تدين تدان‪ ،‬والله سبحانه قال‪+ :‬أ َل َ ت ُ ِ‬
‫م"أي‪ :‬كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫فَر الل ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫يّ ْ‬
‫لمن دونكم‪ (3).‬وكما أن في الية من حلف على شيء أل يفعله‪،‬‬
‫فرأى أن فعله أولى من تركه‪ ،‬أتاه وكفر عن يمينه‪ .‬وقال بعض‬
‫كتاب الله تعالى؛ من حيث لطف الله‬ ‫العلماء‪ :‬هذه أرجى آية في‬
‫بالقذفة العصاة بهذا اللفظ )‪.(4‬‬
‫لقد دلت هذه الية على أن أبا بكر أفضل الناس عند النبي ×؛‬
‫لن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الية‪ ،‬دلت على علو شأنه‬
‫الرازي ُفي تفسيره أربع عشرة صفة مستنبطة من‬ ‫أورد ْ‬ ‫في الدين‪.‬‬
‫ة"منها‪ :‬أنه‬ ‫ع ِ‬ ‫س َ‬ ‫وال ّ‬ ‫م َ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ل أوُلو ال ْ َ‬ ‫ول َ ي َأت َ ِ‬ ‫هذه الية‪َ + :‬‬
‫وصفه بأنه صاحب الفضل على الطلق من غير تقييد لذلك بشخص‬
‫دون شخص‪ ،‬والفضل يدخل فيه الفضال‪ ،‬وذلك يدخل على أنه ‪‬‬
‫فاضل على الطلق‪ ،‬وكان مفضل على الطلق‪ ،‬ومنها أنه لما‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫وصفه تعالى بأنه )أولو الفضل والسعة( بالجمع ل بالواحد وبالعموم‬
‫خاليً‪5‬ا( عن‬ ‫ل بالخصوص على سبيل المدح‪ ،‬وجب أن يقال‪ :‬إنه كان‬
‫المعصية؛ لن الممدوح إلى هذا الحد ل يكون من أهل النار ) ‪.‬‬
‫‪ -15‬خروجه للتجارة من المدينة إلى الشام‪:‬‬
‫)( سيرة وحياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي السيد‪.145 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬البخاري‪ ،‬رقم‪.4750 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)(‪ (3) ,‬تفسير المنير‪.18/190 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( تفسير الرازي‪.18/351 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪78‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫خرج أبو بكر الصديق ‪ ‬للتجارة إلى بصرى ببلد الشام في عهد‬
‫النبي ×‪ ،‬ما منعه حبه لملزمة النبي × من)‪(1‬الذهاب للتجارة‪ ،‬ول منع‬
‫النبي × الصديق من ذلك مع شدة حبه له‪ .‬وفي هذا أهمية أن‬
‫يكون للمسلم مصدر رزق يستغني به عن سؤال الناس‪ ،‬بل ويساهم‬
‫بهذا الرزق في إغاثة الملهوف‪ ،‬وفك العاني‪ ،‬ويسارع في أبواب‬
‫النفاق التي‬
‫يحبها الله‪.‬‬
‫‪ -16‬غيرة الصديق ‪ ‬وتزكية النبي × لزوجه‪:‬‬
‫نفرا من بني هاشم دخلوا‬ ‫ً‬ ‫قال عبد الله بن عمرو بن العاص‪ :‬إنّ‬
‫على أسماء بنت عميس‪ ،‬فدخل أبو بكر الصديق وهي تحته يومئذ‬
‫فرآهم‪ ،‬فكره ذلك‪ ،‬فذكر ذلك لرسول الله‪ ،‬فقال‪ :‬إن الله تعالى قد‬
‫برأها من ذلك‪ ،‬ثم قام رسول الله × على المنبر فقال‪» :‬ل يدخل‬
‫)‪(2‬‬
‫رجل بعد يومي هذا على مغيبة إل ومعه رجل أو اثنان«‪.‬‬
‫‪ -17‬خوفه من الله تعالى‪:‬‬
‫عن أنس ‪‬قال‪ :‬خطبنا رسول الله ×خطبة ما سمعت مثلها قط‪،‬‬
‫فقال‪» :‬لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قلي ً‬
‫ل‪(3)،‬ولبكيتم كثيًرا« فغطى‬
‫أصحاب رسول الله ×وجوههم ولهم خنين ‪.‬‬
‫وقد كان الصديق ‪ ‬على جانب من الخوف والرجاء عظيم‪،‬‬
‫جعله قدوة عملية لكل مسلم سواء حاكمًا أو محكومًا‪ ،‬قائدًا أو‬
‫جنديا‪ ،‬يريد النجاح والفلح في الخرة‪ (4).‬فعن محمد بن سيرين قال‪:‬‬ ‫ً‬
‫لم يكن أحد أهيب لما يعلم بعد النبي × من أبي بكر‪ .‬وعن قيس‬
‫قال‪ :‬رأيت أبا بكر آخذ بطرف لسانه ويقول‪ :‬هذا الذي أوردني‬
‫الموارد‪ (5).‬وقد قال أبو بكر ‪ : ‬ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)‪ ,(6‬وعن‬
‫ميمون بن مهران قال‪ :‬أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين فقلبه ثم‬
‫صيد َ من صيد ول عضدت من شجرة إل بما ضيعت من‬ ‫قال‪ :‬ما )‪ِ(7‬‬
‫قال‪ :‬قال أبو بكر‪ :‬والله لوددت أني كنت‬ ‫الحسن‬ ‫وعن‬ ‫التسبيح‪.‬‬
‫وتعضد‪ (8).‬وقال أبو بكر‪ :‬لوددت أن كنت شعرة‬ ‫تؤكل‬ ‫الشجرة‬ ‫هذه‬
‫في جنب عبد مؤمن‪ (9).‬وكان ‪ ‬يتمثل بهذا البيت من الشعر‪:‬‬
‫)‪(10‬‬
‫ل تزال تنعي حبيًبا حتى‬
‫تكونه‬
‫ثانًيا‪ :‬من أهم صفات الصديق وشيء من فضائله‪:‬‬
‫)( الفتح الباري‪ ،4/357 :‬نقل عن )الخلفة الراشدة والدولة الموية( من فتح‬ ‫‪1‬‬

‫الباري‪.163 :‬‬
‫)( الرياض النضرة في مناقب العشرة‪ ،‬لبي جعفر أحمد الطبري‪.237 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب التفسير‪ ،‬باب ل تسألوا عن أشياء‪.6/68 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ ،‬يسري محمد‪ (5) .369 :‬صفة الصفوة‪.2/253 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪6‬‬
‫)()الزهد( للمام أحمد‪ ،‬باب زهد أبي بكر‪.108 :‬‬
‫)‪ (9) ,(8‬نفس المصدر السابق‪.112 :‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪.110 :‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫‪9‬‬
‫)( المصدر السابق‪:‬ـ ‪.112‬‬

‫)‪ (1‬الزهد‪ ،‬للمام أحمد‪ ،‬باب زهد أبي بكر‪ (2) .108 :‬فضائل الصحابة‪ ،‬للمام‬ ‫‪10‬‬

‫أحمد‪.1/173 :‬‬

‫‪79‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫إن شخصية الصديق ‪ ‬تعتبر شخصية قيادية‪ ،‬وقد اتصف ‪‬‬
‫بصفات القائد الرباني‪ ،‬ونجملها في أمور ونركز على بعضها‬
‫بالتفصيل‪ ،‬فمن أهم هذه الصفات‪ :‬سلمة المعتقد‪ ،‬والعلم الشرعي‪،‬‬
‫والثقة بالله‪ ،‬والقدرة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والكفاءة والشجاعة‪ ،‬والمروءة‪،‬‬
‫والزهد‪ ،‬وحب التضحية‪ ،‬وحسن اختياره لمعاونيه‪ ،‬والتواضع‪ ،‬وقبول‬
‫النصيحة‪ ،‬والحلم‪ ،‬والصبر‪ ،‬وعلو الهمة‪ ،‬والحزم‪ ،‬والرادة القوية‪،‬‬
‫والعدل‪ ،‬والقدرة على حل المشكلت‪ ،‬والقدرة على التعليم وإعداد‬
‫القادة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات التي ظهرت للباحث في الفترة‬
‫المكية في صحبته للنبي ×‪ ،‬وفي العهد المدني في غزواته مع‬
‫رسول الله وحياته في المجتمع‪ ،‬وظهر البعض الخر لما تسلم قيادة‬
‫الدولة وأصبح خليفة رسول الله ×؛ فقد استطاع بتوفيق الله تعالى‬
‫وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية أن يحافظ على‬
‫الدولة ويقمع حركة الردة‪ ،‬وينتقل بفضل الله وتوفيقه بالمة نحو‬
‫أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة‪ ،‬ومن أهم تلك الصفات التي‬
‫نحاول تسليط الضواء عليها في هذا المبحث‪ :‬إيمانه بالله العظيم‪،‬‬
‫وعلمه الراسخ‪ ،‬وكثرة دعائه وتضرعه لله تعالى‪.‬‬
‫‪ -1‬عظمة إيمانه بالله تعالى‪:‬‬
‫كان إيمان الصديق بالله عظيمًا‪ ،‬فقد فهم حقيقة اليمان‬
‫وتغلغلت كلمة التوحيد في نفسه وقلبه‪ ،‬وانعكست آثارها على‬
‫جوارحه‪ ،‬وعاش بتلك الثار في حياته‪ ،‬فتحلى بالخلق الرفيعة‪،‬‬
‫وتطهر من الخلق الوضيعة‪ ،‬وحرص على التمسك بشرع الله‬
‫والقتداء بهديه ×‪ ،‬وكان إيمانه بالله تعالى باعثًا له على الحركة‬
‫والهمة والنشاط والسعي‪ ،‬والجهد والمجاهدة‪ ،‬والجهاد والتربية‪،‬‬
‫والستعلء والعزة‪ ،‬وكان في قلبه من اليقين واليمان شيء عظيم ل‬
‫يساويه فيه أحد من الصحابة‪ .‬قال أبو بكر بن عياش‪(1):‬ما سبقهم أبو‬
‫بكر بكثرة صلة ول صيام ولكن بشيء وقر في قلبه‪ .‬ولهذا قيل‪:‬‬
‫لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الرض لرجح‪ ،‬كما في السنن عن‬
‫أبي بكرة عن النبي × قال‪» :‬هل رأى أحد منكم رؤيا؟« فقال رجل‪:‬‬
‫أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت‬
‫أنت بأبي بكر‪ ،‬ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر‪ ،‬ثم وزن عمر‬
‫رسول الله ×‪،‬‬ ‫وعثمان فرجع عمر‪ ،‬ثم رفع الميزان‪ ،‬فاستاء لها‬
‫فقال‪» :‬خلفة نبوة‪ ،‬ثم يؤتى الله الملك من يشاء« )‪.(2‬‬
‫وعن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬صلى رسول الله × صلة الصبح‪ ،‬ثم‬
‫أقبل على الناس فقال‪» :‬بينا رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها‬
‫التفتت إليه البقرة‪ ،‬فقالت‪ :‬إني لم أخلق لهذا‪ ،‬ولكني خلقت للحرث‪،‬‬
‫فقال الناس‪ :‬سبحان الله! )تعجًبا وفزعا( أبقرة تتكلم؟ فقال رسول‬
‫الله ×‪ :‬فإني أؤمن به وأبو بكر وعمر‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬قال رسول‬
‫الله ×‪» :‬وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة‪،‬‬
‫فطلب حتى كأنه استنقذها منه‪ ،‬فقال له الذئب‪ :‬هذا استنقذتها مني‪،‬‬
‫فمن لها يوم السبع‪ ،‬يوم ل راعي لها غيري؟ فقال الناس‪ :‬سبحان‬
‫الله‪ ،‬ذئب يتكلم؟ قال ×‪ :‬فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر وما‬
‫‪1‬‬
‫)(‬

‫)‪ (1‬أبو داود‪ ،‬رقم‪ ،4634 :‬الترمذي رقم‪.2288 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪80‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫هما ثم«‪ (1).‬ومن شدة إيمانه والتزامه بشرع الله تعالى وصدقه‬
‫وإخلصه للسلم أحبه النبي ×‪ ،‬وأصبحت تلك المحبة مقدمة عند‬
‫النبي × على غيره من الصحابة‪.‬‬
‫فعن عمرو بن العاص ‪ :‬أن النبي × بعثه على جيش ذات‬
‫السلسل‪ ،‬قال‪ :‬فأتيته فقلت‪ :‬أي الناس أحب إليك؟ قال‪» :‬عائشة«‪،‬‬
‫قال‪» :‬أبوها«‪ ،‬قلت‪ :‬ثم من؟ قال‪» :‬عمر بن‬ ‫فقلت‪ :‬من الرجال؟‬
‫الخطاب«‪ .‬فعد رجالً )‪.(2‬‬
‫وبسبب هذا اليمان العظيم والتزامه بشرع الله القويم ولجهوده‬
‫التي بذلها لنصرة دين رب العالمين استحق بشارة رسول الله‬
‫بالجنة‪ ،‬وأنه يدعى من جميع أبوابها‪ ،‬فعن أبي موسى الشعري أنه‬
‫توضأ في بيته ثم خرج‪ ،‬فقلت‪ :‬للزمن رسول الله × ولكونن معه‬
‫يومي هذا‪ .‬قال‪ :‬فجاء المسجد فسأل عن النبي × فقالوا‪ :‬خرج‬
‫أريس‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ووجه ها هنا‪ ،‬فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر‬
‫فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله × حاجته‬
‫فها‬‫فتوضأ‪ ،‬فقمت إليه‪ ،‬فإذا هو جالس على بئر أريسٍ وتوسط قُ ّ‬
‫وكشف عن ساقيه ودلهما في البئر‪ ،‬فسلمت عليه ثم انصرفت‬
‫فجلست عند الباب‪ ،‬فقلت‪ :‬لكونن بواب رسول الله × اليوم‪ ،‬فجاء‬
‫أبو بكر فدفع الباب‪ ،‬فقلت‪ :‬من هذا‪ ،‬فقال‪ :‬أبو بكر‪ ،‬فقلت‪ :‬على‬
‫رسلك‪ ،‬ثم ذهبت فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬هذا أبو بكر يستأذن‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫»ائذن له وبشره بالجنة«‪ ،‬فأقبلت حتى قلت لبي بكر‪ :‬ادخل‬
‫ورسول الله يبشرك بالجنة‪ ،‬فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول‬
‫ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي ×‬ ‫)‪(3‬‬
‫الله × معه في القف‬
‫وكشف عن ساقيه‪....‬‬
‫وعن أبي هريرة ‪ ‬أن رسول الله × قال‪» :‬من أنفق زوجين‬
‫من شيء من الشياء في سبيل الله دعي من أبواب )أي الجنة( يا‬
‫عبد الله هذا خير‪ ،‬فمن كان من أهل الصلة دعي من باب الصلة‪،‬‬
‫ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد‪ ،‬ومن كان من أهل‬
‫الصدقة دعي من باب الصدقة‪ ،‬ومن كان من أهل الصيام دعي من‬
‫باب الصيام وباب الريان«‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬ما على هذا الذي ُيدعى‬
‫من تلك البواب‬ ‫من تلك البواب من ضرورة‪ ،‬وقال‪ :‬هل يدعى أحد‬
‫كلها؟ قال‪» :‬نعم‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر« )‪.(4‬‬
‫‪ -2‬علمه ‪:‬‬
‫)‪(5‬‬
‫كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له‪ .‬وقد اتفق‬
‫السنة على أن أبا بكر أعلم المة‪ ،‬وحكى الجماع على ذلك غير‬ ‫أهل‬
‫واحد )‪ ،(6‬وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملزمته‬
‫ونهارا‪ ،‬وسفرًا وحضرًا‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫اجتماعا به ليلً‬
‫ً‬ ‫للنبي ×؛ فقد كان أدوم‬
‫يسمر عند النبي × بعد العشاء‪ ،‬يتحدث معه في أمور المسلمين‬

‫)( مسلم‪ ،‬رقم‪.2388 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( صحيح البخاري‪ ،‬رقم‪.3662 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬البخاري‪ ،‬رقم‪.3674 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ،‬رقم‪.3666 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (4‬الفتاوى‪.13/127 :‬‬ ‫)( تاريخ الخلفاء للسيوطي‪.559 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫‪81‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دون غيره من أصحابه‪ ،‬وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو‬
‫غيره‪(1‬فيعمل برأيه‬ ‫بكر في الشورى‪ ،‬وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم‬
‫وحده‪ ،‬فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه‪ ) .‬وقد‬
‫استعمله النبي × على أول حجة حجت من مدينة النبي ×‪ ،‬وعلم‬
‫المناسك أدق ما في العبادات‪ ،‬ولول سعة علمه لم يستعمله‪ ،‬وكذلك‬
‫الصلة استخلفه عليها ولول علمه لم يستخلفه‪ ،‬ولم يستخلف غيره ل‬
‫في حج ول في صلة‪.‬‬
‫وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر‬
‫وهو أصح ما روي فيها)‪ ،(2‬وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابه ما‬
‫هو متقدم منسوخ‪ ،‬فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة‪ ،‬ولم يحفظ‬
‫له قول يخالف فيه نصًا‪ ،‬وهذا يدل على غاية البراعة والعلم‪ .‬وفي‬
‫لبي‪ (3‬بكر مسألة في الشريعة غلط فيها‪ ،‬وقد عرف‬ ‫الجملة‪ :‬ل يعرف‬
‫لغيره مسائل كثيرة‪ ).‬وكان ‪ ‬يقضي ويفتي بحضرة النبي ×‬
‫ويقره‪ ،‬ولم تكن هذه المرتبة لغيره‪ ،‬وقد بينت ذلك في سلب أبي‬
‫قتادة بحنين‪ (4) .‬وقد ظهر فضل علمه وتقدمه على غيره بعد وفاة‬
‫الرسول ×‪ ،‬فإن المة لم تختلف في وليته في مسألة إل فصلها هو‬
‫بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة‪ ،‬وذلك لكمال‬
‫علم الصديق وعدله‪ ،‬ومعرفته بالدلة التي تزيل النزاع‪ ،‬وكان إذا‬
‫أمرهم أطاعوه‪ ،‬كما بين لهم موت النبي × وتثبيتهم على اليمان‪ ،‬ثم‬
‫بين لهم موضع دفنه‪ ،‬وبين لهم ميراثه‪ ،‬وبين لهم قتال مانعي الزكاة‬
‫لما استراب فيه عمر‪ ،‬وبين لهم أن الخلفة في قريش‪ ،‬وتجهيز‬
‫عبدا خيره الله بين الدنيا والخرة هو‬
‫ً‬ ‫جيش أسامة‪ ،‬وبين لهم أن‬
‫رسول الله × )‪ ،(5‬وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫ولقد رأى رسول الله × له رؤيا تدل على علمه؛ فعن عبد الله‬
‫سا مملوًءا‬ ‫بن عمر قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬رأيت كأني أعطيت عُ ّ‬
‫لبًنا‪ ،‬فشربت منه حتى تملت‪ ،‬فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد‬
‫واللحم‪ ،‬ففضلت منها فضلة‪ ،‬فأعطيتها أبا بكر«‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول‬
‫تملت‪(6‬منه‪ ،‬فضلت فضلة‬
‫)‬
‫الله‪ ،‬هذا علم أعطاكه الله حتى إذا‬
‫فأعطيتها أبا بكر‪ ،‬فقال ×‪» :‬قد أصبتم«‪.‬‬
‫وكان الصديق ‪ ‬يرى أن الرؤيا حق‪ ،‬وكان يجيد تأويلها‪ ،‬وكان‬
‫يقول إذا أصبح‪ :‬من رأى رؤيا صالحة فليحدثنا بها‪ .‬وكان يقول‪ :‬لن‬
‫ي من كذا وكذا‪.‬‬ ‫يرى رجل مسلم مسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إل ّ‬ ‫)‪(7‬‬

‫رجل أتى‬
‫ً‬ ‫ومما عبره × من الرؤى ما يلي‪ :‬عن ابن عباس ‪ ‬أن‬
‫رسول الله فقال‪ :‬إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن‬
‫والعسل‪ ،‬فأرى الناس يتكففون منها‪ ،‬فالمستكثر والمستقل‪ ،‬وإذا‬
‫سبب واصل من الرض إلى السماء‪ ،‬فأراك أخذت به فعلوت‪ ،‬ثم‬

‫أبو بكر الصديق‪ :‬محمد مال الله‪ (6) .335 ،334 :‬البخاري‪ ،‬رقم‪.1448 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪60 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (3‬نفس المصدر السابق‪.59 :‬‬ ‫نفس المصدر السابق‪.57 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫الحسان في تقريب صحيح ابن حبان‪.15/269 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫خطب أبي بكر الصديق‪ ،‬محمد عاشور‪ ،‬جمال الكومي‪.155 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪82‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫صل‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول الله‪،‬‬ ‫أخذ به رجل آخر فانقطع‪ ،‬ثم وُ ِ‬
‫بأبي أنت‪ ،‬والله لتدعني فأعبرهما‪ ،‬فقال النبي ×‪» :‬اعبرها«‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أما الظلة فالسلم‪ ،‬وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن‪،‬‬
‫حلوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل‪ ،‬وأما السبب‬
‫الواصل من السماء إلى الرض فالحق الذي أنت عليه‪ ،‬تأخذ به‬
‫ُفيعليك الله‪ ،‬ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به‪ ،‬ثم يأخذ رجل آخر فيعلو‬
‫به‪ ،‬فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت‪ ،‬أصبت أم أخطأت؟ قال النبي‬
‫ضا«‪ ،‬قال‪ :‬فوالله لتحدثني بالذي‬ ‫ضا وأخطأت بع ً‬ ‫×‪» :‬أصبت بع ً‬
‫أخطأت‪ ،‬قال‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫»ل تقسم«‪.‬‬
‫وعن عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬أنها رأت كأنه وقع في بيتها ثلثة‬
‫أقمار‪ ،‬فقصتها على أبي بكر ‪-‬وكان من أعبر الناس‪ -‬فقال‪ :‬إن‬
‫صدقت رؤياك ليدفنن في بيتك من خير أهل)‪(2‬الرض ثلثة‪ ،‬فلما قبض‬
‫النبي × قال‪» :‬يا عائشة)‪(3‬هذا خير أقمارك«‪ .‬فقد كان الصديق ‪‬‬
‫أعبر هذه المة بعد نبيها ‪.‬‬
‫ومع كونه ‪ ‬من أعلم الصحابة إل أنه من أبعد الناس عن‬
‫و َ ِ َ ً‬
‫ة‬ ‫ه‬ ‫ك‬ ‫فا‬ ‫التكلف‪ ،‬فعن إبراهيم النخعي قال‪ :‬قرأ أبو بكر الصديق ‪َ +‬‬ ‫َ‬
‫ب؟ فقيل‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إن‬ ‫وأّبا" ]عبس‪ ،[31 :‬فقيل‪ :‬ما ال ّ‬ ‫َ‬
‫التكلف‪(4،‬أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب‬ ‫لهو‬ ‫هذا‬
‫الله ما ل أعلم ) ‪.‬‬
‫‪ -3‬دعاؤه وشدة تضرعه‪:‬‬
‫إن الدعاء باب عظيم‪ ،‬فإن فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات‬
‫وانهالت عليه البركات‪ ،‬ولذلك حرص الصديق على حسن الصلة بالله‬
‫وكثرة الدعاء‪ .‬كما أن الدعاء من أعظم وأقوى َعوامل النصر على‬
‫ن‬‫م إِ ّ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫ست َ ِ‬‫عوِني أ ْ‬
‫ُ‬
‫م ادْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫العداء‪ ،‬قال ْتعالى‪َ + :‬‬
‫ن"‬ ‫ري‬ ‫خ‬ ‫دا‬
‫َ َ َ ّ َ َ ِ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ن‬‫ه‬ ‫ج‬ ‫ن‬‫لو‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ع ْ ِ َ َ ِ َ َ َ ْ‬
‫د‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫تي‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ن َ‬ ‫ست َكب ُِرو َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ب‬ ‫ري‬
‫ِ ٌ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ني‬ ‫ِّ‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫دي‬ ‫با‬
‫ِ َ ِ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أ‬‫س‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫[‬‫‪60‬‬ ‫]غافر‪:‬‬
‫ول ْي ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫مُنوا ِبي‬ ‫ؤ ِ‬ ‫جيُبوا ِلي َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫فل ْي َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫عا ِ‬ ‫ذا دَ َ‬‫ع إِ َ‬
‫دا ِ‬‫وةَ ال ّ‬‫ع َ‬‫ب دَ ْ‬ ‫جي ُ‬‫أ َ ِّ‬
‫ن"‬
‫دو َ‬ ‫ش ُ‬‫م ي َْر ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ُ‬‫ل َ‬
‫]البقرة‪.[186 :‬‬
‫ل الله × ورأى كيف كان رسول الله‬ ‫ولقد لزم الصديق رسو َ‬
‫يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه‪ ،‬وقد حرص الصديق‬
‫على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله ×‪ ،‬وأن يكون دعاؤه‬
‫وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله ×‪ ،‬ويرتضيها؛ إذ‬
‫ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح‬
‫والصلة على النبي × صيًغا أخرى‪ ،‬مهما كانت في ظاهرها حسنة‬
‫الخير‪ ،‬والهادي إلى‬ ‫اللفظ جيدة المعنى؛ لن رسول الله × هو معلم‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬وهو أعرف بالفضل والكمل‪ (5).‬وقد جاء في‬
‫)‪ (2‬تاريخ الخلفاء للسيوطي‪.129 :‬‬ ‫البخاري‪ ،‬كتاب التعبير‪.7046 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.130 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫فتح الباري‪ ،13/285 :‬فيه انقطاع بين إبراهيم النخعي وأبي بكر‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬لعلي طنطاوي‪.207 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪83‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الصحيحين أن أبا بكر الصديق ‪ ‬قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬علمني دعاًء‬
‫ما كثيًرا‬ ‫أدعو به في صلتي‪ ،‬قال‪» :‬قل‪ :‬اللهم إني ظلمت نفسي ظل ً‬
‫أنت فاغفر لي مغفرة من عندك‪ ،‬وارحمني إنك‬ ‫ول يغفر الذنوب إل‬
‫أنت الغفور الرحيم« )‪.(1‬‬
‫ففي هذا الدعاء وصف العبد لنفسه المقتضى حاجته إلى‬
‫المغفرة‪ ،‬وفيه وصف ربه الذي يوجب أنه ل يقدر على هذا المطلوب‬
‫غيره‪ ،‬وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه‪ ،‬وفيه بيان المقتضي‬
‫وهو وصف الرب بالمغفرة والرحمة‪ ،‬فهذا ونحوه أكمل أنواع‬ ‫للجابة‪،‬‬
‫الطلب )‪.(2‬‬
‫وجاء في السنن عن أبي بكر ‪ ‬قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬علمني‬
‫دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت‪ ،‬فقال‪» :‬قل‪ :‬اللهم فاطر‬
‫السماوات والرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬رب كل شيء ومليكه‪ ،‬أشهد‬
‫كه‪،‬‬ ‫شَر ِ‬ ‫أن ل إله إل أنت‪ ،‬أعوذ بك من شر نفسي‪ ،‬ومن شر الشيطان و َ‬
‫أجره إلى مسلم‪ ،‬قله إذا أصبحت وإذا‬ ‫)‪(3‬‬
‫وأن أقترف على نفسي سوًءا أو‬
‫أمسيت وإذا أخذت مضجعك«‪.‬‬
‫فقد تعلم الصديق من رسول الله × أنه ليس لحد أن يظن‬
‫استغناءه عن التوبة إلى الله والستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد‬
‫عَلى‬ ‫ةَ َ‬ ‫مان َ َ‬ ‫ضَنا ْال َ‬ ‫عَر ْ‬ ‫محتاج إلى ذلك َدائمًا‪ ،‬قال تعالى‪+َ :‬إ ِّنا َ َ‬
‫ن‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫أ‬‫و‬‫َ َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫أن‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫فأب َي ْ َ‬
‫َ‬
‫ل َ‬ ‫جَبا ِ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ما‬‫ْ ً‬ ‫لو‬ ‫ظ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬
‫ِ َ ْ ِ ُ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫سا‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫من ْ َ َ َ َ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫ن‬‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ْ َ ُ‬ ‫وا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫قي‬‫ِ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬‫وال ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫عَلى ال ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫وي َُتو َ‬ ‫ت َ‬ ‫كا ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ما" ]الحزاب‪ ،[73 ،72 :‬فالنسان ظالم جاهل‪ ،‬وغاية‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا ّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ُ‬
‫المؤمنين‬
‫والمؤمنات التوبة‪.‬‬
‫وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته‬
‫لهم‪ ،‬وثبت في الصحيحين عن النبي × أنه قال‪» :‬لن يدخل الجنة‬
‫أنت يا رسول الله؟ قال‪» :‬ول أنا إل أن‬ ‫أحد بعمله«‪ ،‬قالوا‪ :‬ول‬
‫برحمته«‪ (4) .‬وهذا ل ينافي قوله تعالى‪+ :‬ك ُُلوا‬ ‫اللهِنيًئا بما أ َ‬ ‫يتغمدني‬
‫ة" ]الحاقة‪،[24 :‬‬ ‫خال ِي َ ِ‬ ‫في الّيام ِ ال ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ف‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫س‬‫ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫بوا‬ ‫شَر ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫فإن الرسول نفى باء المقابلة والمعادلة‪ ،‬والقرآن أثبت باء السبب‪.‬‬
‫وقول من قال‪ :‬إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب‪ ،‬معناه‪ :‬أنه إذا‬
‫عبدا ألهمه التوبة والستغفار فلم يصر على الذنوب‪ ،‬ومن ظن‬ ‫ً‬ ‫أحب‬
‫أن الذنوب ل تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة‬
‫والئمة‪ ،‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره‪ ،‬ومن يعمل‬ ‫وإجماع السلف‬
‫مثقال ذرة شرًا يره )‪.(5‬‬
‫كان أبو بكر دائم الذكر لله تعالى‪ ،‬شديد التضرع‪ ،‬كثير التوجه‬
‫لله‪ ،‬ل ينفك عن الدعاء في كل أحيانه‪ .‬وقد نقل إلينا بعض أدعيته‬
‫مسلم‪ ،‬الذكر والدعاء‪ ،‬رقم‪ .2705 :‬البخاري‪ ،‬رقم‪.843 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الفتاوى‪.9/146 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أبو داود في الدب‪ ،‬رقم‪ .5067 :‬الترمذي في الدعوات‪ ،‬رقم‪.3529 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري في الرقاق‪ ،‬رقم‪.6463 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الفتاوى‪.11/142 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪84‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وتضرعاته‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أ‪ -‬أسألك تمام النعمة في الشياء كلها‪ ،‬والشكر لك عليها حتى‬
‫تكون إليه الخيرة‪ ,‬بجميع‬ ‫ترضى‪ ،‬وبعد الرضا‪ ،‬والخيرة في جميع ما‬
‫ميسور المور كلها‪ ،‬ل بمعسورها يا كريم )‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬وكان يقول في دعائه‪ :‬اللهم إني أسألك الذي هو خير لي في‬
‫تعطيني من الخير رضوانك‬ ‫عاقبة الخير‪ .‬اللهم اجعل آخر ما‬
‫والدرجات الُعلى من جنات النعيم )‪.(2‬‬
‫اجعل خير عمري آخره‪ ،‬وخير‬ ‫ج‪ -‬وكان يقول في دعائه‪ :‬اللهم‬
‫عملي خواتمه‪ ،‬وخير أيامي يوم ألقاك )‪.(3‬‬
‫وكان إذا سمع أحدا يمدحه من الناس يقول‪ :‬اللهم أنت أعلم من‬ ‫د‪-‬‬
‫خيرًمما يظنون‪ ،‬واغفر لي‬ ‫اجعلني ا‬ ‫اللهم‬ ‫منهم‪،‬‬ ‫بنفسي‬ ‫أعلم‬ ‫وأنا‬ ‫نفسي‪،‬‬
‫ما ل يعلمون‪ ،‬ول تؤاخذني بما يقولون )‪.(4‬‬
‫وهذه بعض أهم صفاته وشيء من فضائله مررنا عليه باليجاز‪،‬‬
‫وسوف نرى أثر التربية النبوية على الصديق بعد وفاة النبي ×‪،‬‬
‫وكيف قام مقامًا لم يقمه غيره بفضل الله وتوفيقه‪ ،‬ثم تربيته‬
‫العميقة وإيمانه العظيم وعلمه الراسخ وتتلمذه على يدي رسول الله‬
‫×‪ ،‬فقد أحسن الجندية‪ ،‬وقطع مراحلها وأشواطها برفقة قائده‬
‫العظيم عليه أفضل الصلة والسلم‪ ،‬فلما أصبح خليفة للمة استطاع‬
‫أن يقود سفينة السلم إلى شاطئ المان رغم العواصف الشديدة‪،‬‬
‫والمواج المتلطمة‪ ،‬والفتن المظلمة‪.‬‬
‫***‬

‫)( )الشكر( لبن أبي الدنيا‪ ،‬رقم‪ ،109 :‬نقل عن خطب أبي بكر‪.39 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( خطب أبي بكر الصديق‪.139 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (5‬أسد الغابة‪:‬‬ ‫)( كنز العمال رقم‪ ،5030 :‬نقل عن خطب أبي بكر‪.39 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.3/324‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪85‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫وفاة الرسول ×‪ ،‬وسقيفة بني ساعدة‪ ،‬وجيش‬
‫أسامة‬
‫المبحث الول‬
‫وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة‬
‫ل‪ :‬وفاة الرسول ×‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫إن الرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض ما يكون مخبوءًا وراء‬
‫حجب الغيب بقدرة الله تعالى‪ ،‬والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدث‬
‫صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان‪ ،‬والعقول‬
‫الذكية المستنيرة بنور اليمان لتدرك ما وراء اللفاظ والحداث من‬
‫الصفات الحظ الوفر‪،‬‬
‫)‪(1‬‬
‫إشارات وتلميحات‪ ،‬ولنبينا محمد × من هذه‬
‫وهو منها بالمحل الرفع الذي ل يسامى ول يطاول‪.‬‬
‫ولقد جاءت بعض اليات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي‬
‫×‪ ،‬وأنه كغيره من البشر‪ ،‬وسوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما‬
‫ذاقه من قبل إخوانه من النبياء‪ ،‬ولقد فهم × من بعض اليات‬
‫اقتراب أجله‪ ،‬وقد أشار × في طائفة من الحاديث الصحيحة إلى‬
‫اقتراب وفاته‪ ،‬منها ما هو صريح الدللة على الوفاة ومنها ما ليس‬
‫كذلك؛ حيث لم‬
‫يشعر ذلك منها إل الحاد من كبار الصحابة الجلء كأبي بكر والعباس‬
‫ومعاذ‬
‫رضي الله عنهم )‪.(2‬‬
‫مرض رسول الله × وبدء الشكوى‪:‬‬
‫رجع رسول الله × من حجة الوداع في ذي الحجة‪ ،‬فأقام‬
‫بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا من العام العاشر‪ ،‬فبدأ بتجهيز جيش‬
‫مر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة‪ ،‬وأمره أن يتوجه نحو‬ ‫أسامة وأ ّ‬
‫البلقاء وفلسطين‪ ،‬فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والنصار‪ ،‬وكان‬
‫أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة‪ ،‬وتكلم البعض في تأميره وهو‬
‫مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والنصار‪ ،‬فلم يقبل‬
‫الرسول × طعنهم في إمارة أسامة )‪ ،(3‬فقال ×‪» :‬إن يطعنوا في‬
‫قا للمارة‪،‬‬ ‫إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه‪ ،‬وايم الله إن كان لخلي ً‬
‫ي‬
‫ّ‬ ‫إل‬ ‫الناس‬ ‫ي‪ ،‬وإن ابنه هذا لمن أحب‬ ‫كان‪(4‬من أحب الناس إل ّ‬
‫)‬
‫وإن‬
‫بعده«‪.‬‬
‫وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدى رسول‬
‫انظر‪ :‬السيرة النبوية لبي شهبة‪.2/587 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مرض النبي ووفاته‪ ،‬خالد أبو صالح‪.33 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة‪.2/552 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب فضائل أصحاب النبي‪ ،‬رقم‪.4469 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪86‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الله × شكواه الذي ُقبض فيه‪ ،‬وقد حدثت حوادث ما بين مرضه‬
‫ووفاته‪ ،‬منها‪ :‬زيارته قتلى أحد وصلته عليهم))‪ ،((21‬واستئذانه أن يمرض‬
‫في بيت عائشة‪ ،‬وشدة المرض الذي نزل به ‪ ،‬وأوصى × بإخراج‬
‫الوفد)‪ (3‬ونهى عن اتخاذ قبره‬ ‫)‪(5‬‬
‫المشركين من جزيرة العرب وإجازة‬
‫وما ملكت‬ ‫)‪(7‬‬
‫بالصلة‬ ‫وأوصي‬ ‫بالله‬ ‫مسجدًا))‪ ،((64‬وأوصي بإحسان الظن‬
‫ين بأنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إل الرؤيا ‪ ،‬وأوصي‬ ‫أيمانكم ‪ ،‬وب ّ‬
‫دا‬‫بالنصار خيرًا)‪ (8‬وخطب × في أيام مرضه فقال‪» :‬إن الله خّير عب ً‬
‫بين الدنيا وبين ما عند الله‪ ،‬فاختار ذلك العبد ما عند الله«‪ ،‬فبكى أبو‬
‫بكر‪ ،‬فقال أبو سعيد الخدري ‪-‬رضي الله عنه‪ :-‬فعجبنا لبكائه أن يخبر‬
‫الرسول × عن خير‪ ،‬فكان رسول الله × هو المخير‪ ،‬وكان أبو بكر‬
‫ي صحبته وماله أبو‬ ‫ن الناس عل ّ‬ ‫م ّ‬
‫أعلمنا‪ ،‬فقال رسول الله ×‪» :‬إن أ َ‬
‫أخوة‬
‫)‪(9‬‬
‫ولكن‬ ‫بكر‪،‬‬ ‫أبا‬ ‫لتخذت‬ ‫ذا خليل ً غير ربي‬
‫بكر‪ ،‬ولو كنت متخ ً‬
‫السلم ومودته‪ .‬ل يبقين في المسجد باب إل باب أبي بكر« ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر‪ :‬وكأن أبو بكر ‪-‬رضي الله عنه‪ -‬فَِهم الرمز‬
‫الذي أشار به النبي × من قرينة ذكره ذلك في مرض موته‪،‬‬
‫فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى)‪ ،(10‬ولما اشتد المرض‬
‫بالنبي × وحضرته الصلة فأذّن بلل قال النبي ×‪» :‬مروا أبا بكر‬
‫فليصل«‪ ،‬فقيل‪ :‬إن أبا بكر رجل أسيف)‪ ،(11‬إذا قام مقامك لم يص ّ‬
‫ل‬
‫بالناس‪ ،‬وأعاد فأعادوا له الثالثة‪ ،‬فقال‪» :‬إنكن صواحب يوسف)‪، (12‬‬
‫مروا أبا بكر فليصل«‪ .‬فخرج أبو بكر فوجد النبي × في نفسه خفة‪،‬‬
‫فخرج يهادي بين رجلين‪ ،‬كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع‪،‬‬
‫فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي × أن مكانك‪ ،‬ثم أتي به حتى‬
‫جلس إلى جنبه‪ .‬قيل للعمش‪ :‬فكان النبي × يصلي بصلته والناس‬
‫يصلون بصلة أبي بكر‪ ،‬فقال برأسه‪ :‬نعم‪ (13).‬واستمر أبو بكر يصلي‬
‫بالمسلمين‪ ،‬حتى إذا كان يوم الثنين‪ ،‬وهم صفوف في صلة الفجر‪،‬‬
‫كشف النبي × ستر الحجرة ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام‬
‫ربهم‪ ،‬ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده‪ ،‬وكيف نشأت أمة‬
‫تحافظ على الصلة‪ ،‬وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته‪ ،‬وقد قرت‬
‫عينه بهذا المنظر البهيج‪ ،‬وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داع‬
‫قبله‪ ،‬واطمأن أن صلة هذه المة بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة‬
‫دائمة ل تقطعها وفاة نبيها‪ ،‬فمليء من السرور ما الله به عليم‪،‬‬
‫)‪(14‬‬
‫واستنار وجهه وهو منير‪.‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب الصلة على الشهيد‪ ،‬رقم‪.1344 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (5‬البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫)( صحيح السيرة النبوية‪.695 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.3053‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( صحيح السيرة النبوية ص ‪ .712‬البخاري‪ ،‬كتاب الصلة‪ ،‬رقم‪.435 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الجنة‪ ،‬رقم‪.288 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( سنن ابن ماجة‪ ،‬كتاب الوصايا‪ ،901 – 2/900 :‬رقم‪.2697 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (10‬البخاري‪ :‬كتاب مناقب النصار‪،‬‬ ‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الصلة‪.1/348 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫رقم‪.3799 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬رقم‪ (12) .3654 :‬فتح الباري‪.7/16 :‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪10‬‬

‫)( أسيف‪ :‬من السف‪ ،‬وهو شدة الحزن‪ ،‬والمراد أنه رقيق القلب‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫)( والمراد‪ :‬أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلف ما في الباطن‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الذان‪ ،‬رقم‪ (3) .712 :‬السيرة النبوية للندوي‪ :‬ص ‪.401‬‬ ‫‪13‬‬
‫‪14‬‬

‫‪87‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫يقول الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ :-‬كشف النبي × ستر حجرة‬


‫عائشة ينظر إلينا وهو قائم‪ ،‬وكأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم‬
‫يضحك‪ ،‬فهممنا أن نفتتن من الفرح‪ ،‬وظننا أن النبي × خارج إلى‬
‫الصلة فأشار إلينا أن أتموا صلتكم‪ ،‬ودخل الحجرة وأرخى الستر)‪،(1‬‬
‫وانصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم‪ ،‬ودخل أبو بكر على ابنته‬
‫عائشة وقال‪ :‬ما أرى رسول الله إل قد أقلع عنه الوجع‪ ,‬وهذا يوم‬
‫سنح)‪ ،(2‬فركب على‬ ‫زوجتيه‪ -‬وكانت تسكن بال ّ‬ ‫بنت خارجة ‪-‬إحدى‬
‫)‪(3‬‬
‫فرسه وذهب إلى منزله ‪.‬‬
‫واشتدت سكرات الموت بالنبي ×‪ ،‬ودخل عليه أسامة بن زيد‬
‫وقد صمت فل يقدر على الكلم‪ ،‬فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم‬
‫يضعها على أسامة‪ ،‬فعرف أنه يدعو له‪ ،‬وأخذت السيدة عائشة‬
‫ل الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها)‪ ،(4‬ونحرها‪ ،‬فدخل‬ ‫رسو َ‬
‫عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك‪ ،‬فجعل رسول الله ينظر إليه‪،‬‬
‫فقالت عائشة‪ :‬آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم‪ ،‬فأخذته من أخيها ثم‬
‫مضغته ولينته وناولته إياه‪ ،‬فاستاك به كأحسن ما يكون الستياك‪،‬‬
‫وكل ذلك وهو ل ينفك عن قوله‪» :‬في الرفيق العلى«‪ (5).‬وكان ×‬
‫بجانبه ركوة ماء أو علبة فيها ماء‪ ،‬فيمسح بها وجهه ويقول‪» :‬ل إله‬
‫إل الله‪ ...‬إن للموت سكرات« ثم نصب يده فجعل يقول‪» :‬في‬
‫الرفيق العلى«‪ ،‬حتى قبض ومالت يده‪ (6).‬وفي لفظ أن النبي ×‬
‫كان يقول‪» :‬اللهم أعني على سكرات الموت« )‪.(7‬‬
‫وفي رواية‪ :‬أن عائشة سمعت النبي × وأصغت إليه قبل أن‬
‫الظهر يقول‪» :‬اللهم اغفر لي وارحمني‪ ،‬وألحقني‬ ‫يموت وهو مسند‬
‫بالرفيق العلى« )‪.(8‬‬
‫وقد ورد أن فاطمة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬قالت‪ :‬واكرب أباه‪ ،‬فقال‬
‫لها‪» :‬ليس على أبيك كرب بعد اليوم«‪ ،‬فلما مات قالت‪ :‬يا أبتاه‪..‬‬
‫أجاب رّبا دعاه‪ ،‬يا أبتاه‪ ..‬جنة الفردوس مأواه‪ ،‬يا أبتاه‪ ..‬إلى جبريل‬
‫قالت لنس‪ :‬كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على‬ ‫ننعاه‪ .‬فلما دفن ×‬
‫رسول الله × التراب )‪.(9‬‬
‫فارق رسول الله × الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب‪ ،‬ويرهبه‬
‫ملوك الدنيا‪ ،‬ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولدهم وأموالهم‪ ،‬وما ترك‬
‫شيئا‪ ،‬إل بغلته‬
‫ً‬ ‫عند موته دينارًا ول درهمًا‪ ،‬ول عبدًا‪ ،‬ول أمة‪ ،‬ول‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪ (5) .4448 :‬السنح‪ :‬خارج المدينة‪ ،‬كان‬ ‫‪1‬‬

‫للصديق مال فيه وبيت‪.‬‬


‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية لبي شهبة‪.2/593 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( السحر‪ :‬الرئة‪ .‬النحر‪ :‬الثغرة في أسفل العنق‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪ (2) .4437 :‬نفس المصدر السابق‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪.4449‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( الترمذي‪ ،‬كتاب الجنائر‪ ،‬رقم‪ (4) .978 :‬البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪.4440‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪ (6) .4462 :‬نفس المصدر السابق‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪.4461‬‬

‫‪88‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫وأرضا جعلها صدقة‪.‬‬
‫ً‬ ‫البيضاء‪ ،‬وسلحه‬
‫صاعا من شعير)‪،(2‬‬ ‫ً‬ ‫وتوفي × ودرعه مرهونة عند يهودي بثلثين‬
‫سنة إحدى‬ ‫الول‬ ‫وكان ذلك يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع‬
‫عشرة من الهجرة بعد الزوال)‪ ،(3‬وله ثلثة وستون سنة‪ (4).‬وكان أشد‬
‫اليام سوادًا ووحشة ومصابًا على المسلمين‪ ،‬ومحنة كبرى للبشرية‪،‬‬
‫كما كان يوم ولدته أسعد يوم طلعت فيه الشمس‪ (5).‬يقول أنس ‪:‬‬
‫المدينة‪(6‬أضاء منها كل شيء‪،‬‬ ‫كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله ×‬
‫فلما كان الذي مات فيه أظلم منها كل شيء‪ ).‬وبكت أم أيمن‬
‫أن‪(7‬رسول الله‬ ‫فقيل لها‪ :‬ما يبكيك على النبي؟ قالت‪ :‬إني قد علمت‬
‫× سيموت‪ ،‬ولكن إنما أبكي على الوحي الذي ُرِفع عنا ) ‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها‪:‬‬
‫قال ابن رجب‪ :‬ولما توفي رسول الله × اضطرب المسلمون؛‬
‫ومنهم‬ ‫فمنهم من دهش فخولط‪ ،‬ومنهم من أقعد فلم ُيطق القيام‪،‬‬
‫من اعتقل لسانه فلم يطق الكلم‪ ،‬ومنهم من أنكر موته بالكلية )‪.(8‬‬
‫قال القرطبي مبينًا عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور‪:‬‬
‫من أعظم المصائب المصيبة في الدين‪ ..‬قال رسول الله ×‪» :‬إذا‬
‫)‪(9‬‬
‫أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي؛ فإنها أعظم المصائب«‪.‬‬
‫وصدق رسول الله ×؛ لن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب‬
‫بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انقطع الوحي‪ ،‬وماتت النبوة‪،‬‬
‫وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك‪ ،‬وكان أول انقطاع‬
‫الخير وأول نقصانه )‪.(10‬‬
‫وقال ابن إسحاق‪ :‬ولما توفي رسول الله × عظمت به مصيبة‬
‫المسلمين‪ ،‬فكانت عائشة فيما بلغني تقول‪ :‬لما توفي النبي ×‬
‫ارتدت العرب‪ ،‬واشرأبت اليهودية والنصرانية‪ ،‬ونجم النفاق‪ ،‬وصار‬
‫المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم )‪.(11‬‬
‫وقال القاضي أبو بكر بن العربي‪ ... :‬واضطربت الحال‪ ،‬فكان‬
‫ي فاستخفى‬ ‫موت النبي × قاصمة الظهر ومصيبة العمر‪ ،‬فأما عل ّ‬
‫في بيت فاطمة‪ ،‬وأما عثمان فسكت‪ ،‬وأما عمر فأهجر وقال‪ :‬ما‬
‫مات رسول الله‪ ،‬وإنما واعده ربه كما واعد موسى‪ ،‬وليرجعن رسول‬
‫الله‪ ،‬فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم)‪ ،(12‬ولما سمع أبو بكر الخبر‬
‫أقبل على فرس من مسكنه بالسنح‪ ،‬حتى نزل‪ ،‬فدخل المسجد‪ ،‬فلم‬
‫يكلم الناس‪ ،‬حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله × وهو‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (8‬البداية والنهاية‪.4/223 :‬‬ ‫)( السيرة النبوية للندوي‪.403 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (10‬انظر‪ :‬السيرة النبوية للندوي‪.404 :‬‬ ‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪.4/825 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)‪ (12‬مسلم‪.4/1907 :‬‬ ‫)( الترمذي‪ ،5/549 :‬رقم‪.3618 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫)‪ (2‬السلسلة الصحيحة لللباني‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫)( لطائف المعارف‪.114 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪.1106‬‬ ‫‪9‬‬

‫)‪ (4‬ابن هشام‪.4/323 :‬‬ ‫)( تفسير القرطبي‪.2/176 :‬‬ ‫‪10‬‬


‫‪11‬‬

‫)‪ (6‬البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫)( العواصم من القواصم‪.38 :‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪.4452‬‬

‫‪89‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫شى بثوب حبرة‪ ،‬فكشف عن وجهه‪ ،‬ثم أكب عليه فقبله وبكى‪،‬‬ ‫مغ ّ‬
‫ثم قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬والله ل يجمع الله عليك موتتين؛ أما الموتة‬
‫التي كتبت عليك فقد متها)‪ ،(1‬وخرج أبو بكر وعمر يتكلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اجلس يا عمر‪ ،‬وهو ماض في كلمه وفي ثورة غضبه‪ ،‬فقام أبو بكر‬
‫في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه‪:‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات‪ ،‬ومن كان‬
‫مدٌ إ ِل ّ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫ما ُ‬ ‫و َ‬ ‫يعبد الله فإن الله حي ل يموت‪ ،‬ثم تل َهذه الية‪َ َ + :‬‬
‫قت ِ َ‬
‫ل‬ ‫و ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ما َ‬
‫فِإن ّ‬ ‫لأ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ه الّر ُ‬ ‫من َ‬
‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ َ ْ‬ ‫ل َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫َر ُ‬
‫ضّر‬ ‫َ‬
‫ه فلن ي ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫قب َي ْ ِ‬
‫ع ِ‬
‫على َ‬‫َ‬ ‫ب َ‬ ‫َ‬
‫من ي َن ْقل ِ ْ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫عقاب ِك ْ‬‫َ‬ ‫على أ ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫قلب ْت ُ ْ‬ ‫ان ْ َ‬
‫ن" ]آل عمران‪ [144 :‬فنشج‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬‫ه ال ّ‬ ‫زي الل ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫س(ي َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ً‬
‫شي ْئا َ‬ ‫ه َ‬ ‫الل َ‬
‫الناس يبكون )‪. 2‬‬
‫قال عمر‪ :‬فوالله ما سمعت أبا بكر تلها‪ ،‬فهويت إلى الرض ما‬
‫تحملني قدماي‪ ،‬وعلمت أن رسول الله قد مات‪ (3).‬قال القرطبي‪:‬‬
‫هذه الية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته؛ فإن الشجاعة‬
‫والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب‪ ،‬ول مصيبة أعظم‬
‫من موت النبي ×‪ ،‬فظهرت شجاعته وعلمه‪ ،‬قال الناس‪ :‬لم يمت‬
‫رسول الله ×‪ ،‬منهم عمر‪ ،‬وخرس عثمان‪ ،‬واستخفى علي‪،‬‬
‫واضطرب المر‪ ،‬فكشفه الصديق بهذه الية حين قدومه من مسكنه‬
‫بالسنح )‪.(4‬‬
‫وبهذه الكلمات القلئل‪ ،‬واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج‬
‫الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعًا‬
‫جميل‪ ،‬فالله هو الحي وحده الذي ل يموت‪ ،‬وأنه وحده الذي يستحق‬ ‫ً‬
‫)‪(5‬‬
‫العبادة‪ ،‬وأن السلم باق بعد موت محمد × ‪ ،‬كما جاء في رواية‬
‫من قول الصديق‪ :‬إن دين الله قائم‪ ،‬وإن كلمة الله تامة‪ ،‬وإن الله‬
‫ناصر من نصره‪ ،‬ومعز دينه‪ ،‬وإن كتاب الله بين أظهرنا‪ ،‬وهو النور‬
‫والشفاء‪ ،‬وبه هدى الله محمدًا × وفيه حلل الله وحرامه‪ ،‬والله ل‬
‫نبالي من أجلب علينا من خلق الله‪ .‬إن سيوف الله لمسلولة ما‬
‫وضعناها بعد‪ ،‬ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله‪ ،‬فل‬
‫يبغين أحد إل‬
‫على نفسه)‪.(6‬‬
‫شديد ا‪ ،‬ومن خللها‬
‫ً‬ ‫كان موت محمد × مصيبة عظيمة‪ ،‬وابتلءً‬
‫وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للمة‪ ،‬فذ ل نظير له ول‬
‫مثيل )‪ ، (7‬فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ‬
‫الحقائق فيه‪ ،‬فعرف حقيقة العبودية والنبوة والموت‪ ،‬وفي ذلك‬
‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬رقم‪ (2) .3668 :‬البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم‪.4454 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4‬استخلف أبي بكر الصديق‪ ،‬جمال عبد‬ ‫)( تفسير القرطبي‪.4/22 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫الهادي‪.160 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (6‬أبو بكر رجل الدولة‪ ،‬مجدي حمدي‪:‬‬ ‫)( دلئل النبوة للبيهقي‪.7/218 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.26 ،25‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪90‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الموقف العصيب ظهرت حكمته ‪ ، ‬فانحاز بالناس إلى التوحيد‬
‫»من كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت«‪ ،‬وما زال التوحيد في‬
‫طري ا‪ ،‬فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا‬ ‫ً‬ ‫ضا‬‫قلوبهم غ ّ‬
‫)‪(1‬‬
‫إلى الحق‪.‬‬
‫تقول عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬فوالله لكأن الناس لم يكونوا‬
‫يعلمون أن الله أنزل هذه الية حتى تلها أبو بكر ‪ ،‬فتلقاها منه‬
‫الناس‪ ،‬فما يسمع بشر إل يتلوها )‪.(2‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سقيقة بني ساعدة‪:‬‬
‫لما علم الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬بوفاة رسول الله × اجتمع‬
‫النصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه‪ ،‬وهو يوم الاثنين‬
‫الثاني عشر من شهر ربيع الول من السنة الحادية عشرة للهجرة‪،‬‬
‫وتداولوا المر بينهم في اختيار من يلي الخلفة من بعده )‪.(3‬‬
‫والتف النصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة ‪ ، ‬ولما بلغ‬
‫خبر اجتماع النصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين‪ ،‬وهم‬
‫مجتمعون مع أبي بكر الصديق ‪ ‬لترشيح من يتولى الخلفة )‪،(4‬‬
‫قال المهاجرون لبعضهم‪ :‬انطلقوا بنا إلى إخواننا من النصار‪ ،‬فإن‬
‫نصيبا‪ (5).‬قال عمر ‪ : ‬فانطلقنا نريدهم‪ ،‬فلما‬ ‫ً‬ ‫لهم في هذا الحق‬
‫دنونا منهم لقينا منهم رجلين صالحين‪ ،‬فذكر ما تمال عليه القوم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا‪ :‬نريد إخواننا هؤلء‬
‫من النصار‪ ،‬فقال‪ :‬ل عليكم أن ل تقربوهم‪ ،‬اقضوا أمركم‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫والله لنأتينهم)‪ ، (6‬فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة‪،‬‬
‫فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم‪ ،‬فقلت‪ :‬من هذا؟ فقالوا‪ :‬هذا‬
‫قليل‬
‫ً‬ ‫سعد بن عبادة‪ ،‬فقلت‪ :‬ما له؟ قالوا‪ :‬يوعك‪ .‬فلما جلسنا‬
‫تش ّ هد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله‪ ،‬ثم قال‪ :‬أما بعد‪،‬‬
‫فنحن أنصار الله وكتيبة السلم‪ ،‬وأنتم ‪-‬معشر المهاجرين‪ -‬رهط‪،‬‬
‫وقد دفت دافة من قومكم)‪ ، (7‬فإذا هم يريدون أن يختزلونا من‬
‫أصلنا وأن يحضن ونا من المر )‪ (8‬فلما سكت أردت أن أتكلم‬
‫‪-‬وكنت قد ز ّورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي‬
‫بكر‪ -‬وكنت أدا ري منه بعض الحد‪ ،‬فلما أردت أن أتكلم قال أبو‬
‫س ِ لك‪ ،‬فكرهت أن أغضبه‪ ،‬فتكلم أبو بكر‪ ،‬فكان هو‬ ‫بكر‪ :‬على َر ْ‬
‫أحلم مني وأوقر‪ ،‬والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إل‬
‫قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت‪ ،‬فقال‪ :‬ما ذكرتم‬
‫فيكم من خير فأنتم له أهل‪ ،‬ولن يعرف هذا المر إل لهذا الحي‬
‫من قريش‪ ،‬هم أوسط العرب نسبا ودا ً را‪ ،‬وقد رضيت لكم هذين‬
‫الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ‪-‬فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح‬
‫)( استخلف أبي بكر الصديق‪ (2) .160 :‬البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬رقم‪،1241 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1242‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬عصر الخلفة الراشدة للعمري‪.40 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/21 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( عصر الخلفة الراشدة للعمري‪.40 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( الرجلن هما‪ :‬عويم بن ساعدة‪ ،‬ومعن بن عدي رضي الله عنهما‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (8‬أي‪ :‬يخرجونا من أمر الخلفة‪.‬‬ ‫)( أي‪ :‬عدد قليل‪.‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫‪91‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫وهو جالس بيننا‪ -‬فلم أكره مما قال غيرها‪ ،‬والله أن أقدم‬
‫فتضرب عنقي ل يقربني ذلك من إثم أحب إل ّي من أن أتأمر على‬
‫قوم فيهم أبو بكر‪ ،‬اللهم إل أن تسول إل ّي نفسي عند الموت‬
‫شيئ ا ل أجده الن‪.‬‬
‫ً‬
‫)‪(1‬‬
‫جب ‪،‬‬ ‫جذيلها المحكك‪ ،‬وعذيقها المر ّ‬ ‫فقال قائل من النصار‪ :‬أنا ُ‬
‫منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش‪ ،‬فكثر اللغط‪ ،‬وارتفعت‬
‫فقلت‪ :‬ابسط يدك‪ ،‬فبايعته‬ ‫الصوات‪ ،‬حتى فرقت من الختلف‬
‫وبايعه المهاجرين‪ ،‬ثم بايعته النصار )‪.(2‬‬
‫وفي رواية أحمد‪ ..»:‬فتكلم أبو بكر ‪ ‬فلم يترك شيئًا أنزل في‬
‫النصار ول ذكره رسول الله × من شأنهم إل وذكره‪ ،‬وقال‪ :‬ولقد‬
‫وادًيا وسلكت النصار‬ ‫علمتم أن رسول الله × قال‪» :‬لو سلك الناس‬
‫وادًيا سلكت وادي النصار«‪ ،‬ولقد علمت يا سعد)‪ (3‬أن رسول الله ×‬
‫قال وأنت قاعد‪» :‬قريش ولة هذا المر‪ ،‬فَب َّر الناس تبع لبرهم‪،‬‬
‫تبع لفاجرهم«‪ ،‬فقال له سعد‪ :‬صدقت‪ ،‬نحن الوزراء‬ ‫وفاجر الناس‬
‫وأنتم المراء )‪.(4‬‬
‫رابعا‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد في هذه الحادثة‪:‬‬
‫‪ -1‬الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على القناع‪:‬‬
‫من رواية المام أحمد يتضح لنا كيف استطاع الصديق أبو بكر ‪‬‬
‫أن يدخل إلى نفوس النصار فيقنعهم بما رآه هو الحق‪ ،‬من غير أن‬
‫يعرض المسلمين للفتنة‪ ،‬فأثنى على النصار ببيان ما جاء في‬
‫فضلهم من الكتاب والسنة‪ .‬والثناء على المخالف منهج إسلمي‬
‫يقصد منه إنصاف المخالف وامتصاص غضبه‪ ،‬وانتزاع بواعث الثرة‬
‫والنانية في نفسه؛ ليكون مهيأ لقبول الحق إذا تبين له‪ .‬وقد كان في‬
‫هدي النبي × الكثير من المثلة التي تدل على ذلك‪ ،‬ثم توصل أبو‬
‫بكر من ذلك إلى أن فضلهم وإن كان كبيرًا ل يعني أحقيتهم في‬
‫نص على أن المهاجرين من قريش هم‬ ‫الخلفة؛ لن النبي × قد‬
‫المقدمون في هذا المر‪ (5).‬وقد ذكر ابن العربي المالكي أن أبا بكر‬
‫استدل على أمر الخلفة في قريش بوصية رسول الله ×‪» :‬بالنصار‬
‫خيًرا‪ ،‬وأن يقبلوا من محسنهم ويتجاوزوا عن مسيئهم«‪ ،‬احتج به أبو‬
‫بكر على النصار قوله‪ :‬إن الله سمانا »الصادقين« وسماكم‬
‫ن‬ ‫ري َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ها ِ‬ ‫م َ‬ ‫ء ال ْ ُ‬ ‫قَرا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫»المفلحين« إشارة إلى قوله تعالى‪+ :‬ل ِل ْ ُ‬
‫خرجوا من ديارهم َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ضل ّ‬ ‫نف ْ‬ ‫َ‬ ‫غو َ‬ ‫م ي َب ْت َ ُ‬ ‫ه َْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫وال ِ‬ ‫م ََ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ِ َ ِ ِ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫نأ ْ ِ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن‪‬‬ ‫صاِدقو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ه أولئ ِك ُ‬ ‫سول ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫صُرو َ‬ ‫وَين ُ‬ ‫واًنا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ر ْ‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬
‫جَر‬‫ها َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫حُّبو َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫ق‬‫َ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫لي‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫دا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ءوا‬ ‫ُ‬ ‫و‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫ن‬
‫ؤث ُِرو َ‬ ‫وي ُ ْ‬‫ما أوُتوا َ‬ ‫م ّ‬ ‫ة ّ‬
‫ِ‬
‫ج ً‬ ‫حا َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫دو ِ‬
‫ِ‬
‫ص ُ‬ ‫في ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ِ‬ ‫ول َ ي َ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫إ ِ َل َ‬
‫لى أ َن ْ ُ‬ ‫َ ِ‬
‫ه‬
‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ح نَ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫من ُيوقَ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫ص ٌ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫كا َ‬‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْْ‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫ف ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫ن" ]الحشر‪ ،[9 ،8 :‬وقد أمركم أن تكونوا معنا‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬

‫)( الجذيل‪ :‬عود ينصب للبل الجربى لتحتك به‪ ،‬والمحكك‪ :‬الذي يحتك به كثيرًا‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫أراد‪ :‬أنه يستشفي برأيه‪ ،‬والعذيق‪ :‬أي النخلة أي‪ :‬الذي يعتمد عليه‪.‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬رقم‪ (3) .6830:‬يعني سعد بن عبادة الخزرجى ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( مسند أحمد‪1/5 :‬؛ والخلفة والخلفاء البهنساوي‪.50 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬العواصم من القواصم‪.10 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/24 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪92‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫َ‬
‫ع‬
‫م َ‬ ‫و ُ‬
‫كوُنوا َ‬ ‫ه َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫حيثما كنا فقال‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫من‪(1‬القوال المصيبة والدلة‬ ‫)‬
‫ن" ]التوبة‪ ،[119 :‬إلى غير ذلك‬ ‫قي َ‬
‫صاِد ِ‬
‫ال ّ‬
‫القوية‪ ،‬فتذكرت النصار ذلك وانقادت إليه‪.‬‬
‫وبّين الصديق في خطابه أن من مؤهلت القوم الذين يرشحون‬
‫للخلفة أن يكونوا ممن يدين لهم العرب بالسيادة وتستقر بهم‬
‫المور؛ حتى ل تحدث الفتن فيما إذا تولى غيرهم‪ ،‬وأبان أن العرب ل‬
‫يعترفون بالسيادة إل للمسلمين من قريش‪ ،‬لكون النبي × منهم‪،‬‬
‫ولما استقر في أذهان العرب من تعظيمهم واحترامهم‪ .‬وبهذه‬
‫الكلمات النيرة التي قالها الصديق اقتنع النصار بأن يكونوا وزراء‬
‫مخلصين‪ ،‬كما كانوا في عهد النبي ×‪ ،‬وبذلك توحد‬ ‫معينين وجنوًدا‬ ‫ُ‬
‫صف المسلمين )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬زهد عمر وأبي بكر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬في الخلفة‬
‫وحرص الجميع على وحدة المة‪:‬‬
‫بعد أن أتم أبو بكر حديثه في السقيفة قدم عمر وأبا عبيدة‬
‫للخلفة‪ ،‬ولكن عمر كره ذلك وقال فيما بعد‪ :‬فلم أكره مما قال‬
‫يقربني ذلك من إثم‬ ‫غيرها‪ ،‬كان والله أن أقدم فتضرب عنقي ل ُ‬
‫ي من أن أتامر على قوم فيهم أبو بكر )‪.(3‬‬‫أحب إل ّ‬
‫وبهذه القناعة من عمر بأحقية أبي بكر بالخلفة قال له‪ :‬ابسط‬
‫يدك يا أبا بكر‪ ،‬فبسط يده‪ ،‬قال‪ :‬فبايعته وبايعه المهاجرون والنصار‪،‬‬
‫وجاء في رواية قال عمر‪ ...»:‬يا معشر النصار‪ :‬ألستم تعلمون أن‬
‫رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس‪ ،‬فأيكم تطيب نفسه أن‬
‫يتقدم أبا بكر ‪‬؟ فقالت النصار‪ :‬نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر )‪.(4‬‬
‫وهذا ملحظ مهم وُّفق إليه عمر ‪ ،‬وقد اهتم بذلك النبي × في‬
‫مرض موته فأصر على إمامة أبي بكر‪ ،‬وهو من باب الشارة بأنه‬
‫أحق من غيره بالخلفة‪ .‬وكلم عمر في غاية الدب والتواضع والتجرد‬
‫من حظ النفس‪ ،‬ولقد ظهر زهد أبي بكر في المارة في خطبته التي‬
‫اعتذر فيها من قبول الخلفة حيث قال‪ :‬والله ما كنت حريصًا على‬
‫يوما ول ليلة قط‪ ،‬ول كنت فيها راغبًا‪ ،‬ول سألتها الله ‪-‬عز‬
‫ً‬ ‫المارة‬
‫وجل‪ -‬في سر وعلنية‪ ،‬ولكني أشفقت من الفتنة‪ ،‬وما لي في‬
‫ول يد‬ ‫عظيما ما لي به من طاقة‬
‫ً‬ ‫المارة من راحة‪ ،‬ولكن قلدت أمرًا‬
‫إل بتقوية الله عز وجل‪ ،‬ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني )‪.(5‬‬
‫وقد ثبت أنه قال‪ :‬وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت‬
‫عنق( أحد الرجلين؛ أبي عبيدة أو عمر‪ ،‬فكان أمير المؤمنين‬ ‫المر في‬
‫وكنت وزيرًا )‪ , 6‬وقد تكررت خطب أبي بكر في العتذار عن تولي‬
‫الخلفة وطلبه التنحي عنها‪ ،‬فقد قال‪ ...»:‬أيها الناس‪ :‬هذا أمركم‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (4‬البخاري‪ ،‬كتاب المحاربين‪ ،‬رقم‪:‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/24 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.6830‬‬ ‫‪3‬‬
‫)( ا‬

‫)( مسند أحمد‪ ،1/21 :‬وصحح إسناده أحمد شاكر‪ ،1/213 :‬رقم‪.133 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( المستدرك‪ ،3/66 :‬قال الحاكم‪ :‬حديث صحيح وأقره الذهبي‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( النصار في العهد الراشد‪ ،‬حامد محمد الخليفة‪ ،‬ص ‪ .108‬تاريخ الخلفاء‬ ‫‪6‬‬

‫للسيوطي‪ :‬ص ‪.91‬‬

‫‪93‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫إليكم تولوا من أحببتم على ذلك‪ ،‬وأكون كأحدكم‪ .‬فأجابه الناس‪:‬‬


‫قسما وحظًا‪ ،‬وأنت ثاني اثنين مع رسول الله ×‪ (1).‬وقد‬‫ً‬ ‫رضينا بك‬
‫قام باستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلفته‪ ،‬واستحلفهم‬
‫على ذلك فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬أذكركم الله أيما رجل ندم على بيعتي‬
‫لما قام على رجليه‪ ،‬فقال على بن أبي طالب‪ ،‬ومعه السيف‪ ،‬فدنا‬
‫منه حتى وضع رجلً على عتبة المنبر والخرى على الحصى وقال‪:‬‬
‫والله ل نقيلك ول نستقيلك‪ ،‬قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك )‪(2‬؟‬
‫ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلفة والمسئولية بل‬
‫إنها روح العصر‪ .‬ومن هذه النصوص التي تم ذكرها يمكن القول‪ :‬إن‬
‫الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة ل يخرج عن هذا التجاه‪ ،‬بل‬
‫يؤكد حرص النصار على مستقبل الدعوة السلمية‪ ،‬واستعدادهم‬
‫المستمر للتضحية في سبيلها‪ ،‬فما اطمأنوا على ذلك حتى استجابوا‬
‫سريعا لبيعة أبي بكر الذي قبل البيعة لهذه السباب‪ ،‬وإل فإن نظرة‬
‫الصحابة مخالفة لرؤية الكثير ممن جاء بعدهم ممن خالفوا المنهج‬
‫العلمي‪ ،‬والدراسة الموضوعية‪ ،‬بل كانت دراستهم متناقضة مع روح‬
‫ذلك العصر‪ ،‬وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله من النصار‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫وإذا كان اجتماع السقيفة أدى إلى انشقاق بين المهاجرين‬
‫والنصار كما زعمه بعضهم)‪ ،(3‬فكيف قبل النصار بتلك النتيجة وهم‬
‫أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا لخلفة أبي بكر ونفروا‬
‫شرقًا وغربًا مجاهدين لتثبيت أركانها لو لم يكونوا‬ ‫في جيوش الخلفة‬
‫متحمسين لنصرتها؟ )‪.(4‬‬
‫فالصواب اتضح من حرص النصار على تنفيذ سياسة الخلفة‬
‫والندفاع لمواجهة المرتدين‪ ،‬وأنه لم يتخلف أحد من النصار عن‬
‫بيعة أبي بكر فضلً عن غيرهم من‬
‫والنصار أكبر من تخيلت الذين‬ ‫المسلمين‪ ،‬وأن أخوة المهاجرين‬
‫سطروا الخلف بينهم في رواياتهم)‪ (5‬المغرضة‪.‬‬
‫‪ -3‬سعد بن عبادة ‪ ‬وموقفه من خلفة الصديق‪:‬‬
‫إن سعد بن عبادة ‪ ‬قد بايع أبا بكر ‪ ‬بالخلفة في أعقاب‬
‫النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ أنه نزل عن مقامة‬
‫الول في دعوى المارة وأذعن للصديق بالخلفة‪ ،‬وكان ابن عمه‬
‫بشير بن سعد النصاري أول من بايع الصديق ‪ ‬في اجتماع‬
‫السقيفة‪ ،‬ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات‪ ،‬ل بسيطة ول خطيرة‪،‬‬
‫ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلفة كما‬
‫زعم بعض كتاب التاريخ‪ ،‬ولكن الخوة السلمية ظلت كما هي‪ ،‬بل‬
‫توثقا كما يثبت ذلك النقل الصحيح‪ .‬ولم يثبت النقل الصحيح‬
‫ً‬ ‫ازدادت‬
‫تآمرا حدث بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لحتكار الحكم بعد وفاة‬
‫ً‬

‫)( الخلفة الراشدة للعمري‪ :‬ص ‪.13‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ‪.108‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلم وأصول الحكم‪ ،‬محمد عمارة‪ :‬ص ‪.74 -71‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (3،‬النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ‪.109‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫‪94‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫رسول الله × )‪ ،(1‬فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك‪.‬‬
‫وقد حاول بعض الكتاب من المؤرخين أصحاب الهواء أن يجعلوا‬
‫من سعد بن عبادة ‪ ‬منافسًا للمهاجرين يسعى للخلفة بشّره‪،‬‬
‫ل أساليب‬‫ويدبر لها المؤامرات‪ ،‬ويستعمل في الوصول إليها ك ّ‬
‫التفرقة بين المسلمين‪ .‬هذا الرجل‪ ،‬إذا راجعنا تاريخه وتتبعنا مسلكه‪،‬‬
‫وجدنا مواقفه مع الرسول × تجعله من الصفوة الخيار‪ ،‬الذين لم‬
‫تكن الدنيا أكبر همهم ول مبلغ علمهم؛ فهو النقيب في بيعة العقبة‬
‫الثانية‪ ،‬حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى‬
‫بن عدي‪،‬‬ ‫عنقه وأدخلوه مكة أسيرًا حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم‬
‫حيث كان يجيرهم في المدينة‪ .‬وهو من الذين شهدوا بدرا )‪ (2‬وحظى‬
‫بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله‪ ،‬وكان من بيت جود وكرم وشهد‬
‫له ذلك رسول الله ×‪ ،‬وكان رسول الله × يعتمد عليه –بعد الله‪-‬‬
‫وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق‪ ،‬عندما استشارهم في‬
‫إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن)‪(3‬الفزاري‪ ،‬فكان رد السعدين‬
‫يدل على عمق اليمان وكمال التضحية‪.‬‬
‫فمواقف سعد مشهورة ومعلومة‪ ،‬فهذا الصحابي الجليل صاحب‬
‫الماضي المجيد في خدمة السلم والصحبة الصادقة لرسول الله‪ ،‬ل‬
‫يعقل ولم يثبت أنه كان يريد أن ُيحيي العصبية الجاهلية في مؤتمر‬
‫السقيفة لكي يحصل في غمارها هذه الفرقة على منصب الخلفة‪،‬‬
‫كما أنه لم يثبت ولم يصح ما ورد في بعض المراجع من أنه –بعد‬
‫الحج‪(5‬بإفاضتهم)‪(4‬؛‬ ‫بيعة أبي بكر‪ -‬كان ل يصلي بصلتهم ول يفيض في‬
‫كأنما انفصل سعد بن عبادة ‪ ‬عن جماعة المسلمين ) ‪ ،‬فهذا باطل‬
‫سعدا بايع‬
‫ً‬ ‫ومحض افتراء‪ ،‬فقد ثبت من خلل الروايات الصحيحة أن‬
‫أبا بكر‪ ،‬فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة‪ ،‬فذكر فضل النصار وقال‪:‬‬
‫ولقد علمتم أن رسول الله قال‪» :‬لو سلك الناس وادًيا‪ ،‬وسلكت‬
‫النصار وادًيا أو شعًبا لسلكت وادي النصار أو شعب النصار« )‪ ،(6‬ثم‬
‫ذكر سعد بن عبادة بقول فصل وحجة ل ترد‪ ،‬فقال‪ :‬ولقد علمت يا‬
‫سعد أن رسول الله × قال وأنت قاعد‪» :‬قريش ولة هذا المر‪ ،‬فبر‬
‫الناس تبع لبرهم‪ ،‬وفاجرهم تبع لفاجرهم«‪ .‬قال سعد‪ :‬صدقت‪ ،‬نحن‬
‫الوزراء وأنتم المراء )‪ ،(7‬فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد‪ (8).‬وبهذا‬
‫ثبت بيعة سعد بن عبادة‪ ،‬وبها يتحقق إجماع النصار على بيعة‬
‫الخليفة أبي بكر‪ ،‬ول يعود أي معنى للترويج لرواية باطلة‪ ،‬بل‬
‫سيكون ذلك متناقضًا للواقع واتهامًا خطيرًا‪ ،‬أن ينسب لسيد النصار‬
‫العمل على شق عصا المسلمين‪ ،‬والتنكر لكل ما قدمه من نصرة‬
‫وجهاد وإيثار للمهاجرين‪ ،‬والطعن بإسلمه من خلل ما ينسب إليه‬
‫من قول‪ :‬ل أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي‪ ،‬وأخضب سنان‬
‫رمحي‪ ،‬وأضرب بسيفي‪،‬‬
‫)( استخلف أبي بكر‪ ،‬جمال عبد الهادي‪.53 -51 ،50 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الستيعاب في معرفة الصحاب‪.2/594 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الخلفة والخلفاء الراشدون‪ ،‬سالم البهنساوي‪.48 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4،‬المصدر السابق‪.49 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب التمني‪ ،‬رقم‪ (6) .7244 :‬مسند المام أحمد رقم‪،18 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫صحيح لغيره‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ‪.102‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪95‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بصلتهم ول يجمع بجامعتهم‪ ،‬ول يقضي بقضائهم‪ ،‬ول‬ ‫فكان ل يصلي‬
‫يفيض بإفاضتهم )‪ (1‬أي‪ :‬في الحج‪.‬‬
‫إن هذه الرواية التي استغلت للطعن بوحدة المهاجرين والنصار‬
‫وصدق أخوتهم‪ ،‬ما هي إل رواية باطلة للسباب التالية‪:‬‬
‫أن الراوي صاحب هوى وهو »إخباري تالف ل يوثق به« )‪ ,(2‬ول‬
‫سيما في المسائل الخلفية‪.‬‬
‫قال الذهبي عن هذه الرواية‪ :‬وإسنادها كما ترى )‪(3‬؛ أي‪ :‬في غاية‬
‫الضعف أما متنها‬
‫وما‪(4‬في عنقه من بيعة على السمع‬ ‫عبادة‪،‬‬ ‫بن‬ ‫سعد‬ ‫سيرة‬ ‫فهو يناقض‬
‫والطاعة‪ ،‬ولما روي عنه من فضائل ) ‪.‬‬
‫‪ -4‬ما يروى من خلف بين عمر والحباب بن المنذر‪:‬‬
‫أما ما يروي عن تنازع في السقيفة بين عمر والحباب بن المنذر‬
‫يغضب الحباب‬ ‫السلمي النصاري‪ ،‬فالراجح أنه غير صحيح‪ ،‬وأن عمر لم ُ‬
‫بن المنذر منذ عهد رسول الله ‪×،‬فقد روى عن عمر قال‪ :‬فلما كان‬
‫الحباب بن المنذر هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلم؛ لنه كان بيني‬
‫حياة رسول الله ×فنهاني عنه‪ ،‬فحلفت أن ل أكلمه‬ ‫وبينه منازعة في‬
‫أبدا )‪.(5‬‬
‫كلمة تسوؤه ً‬
‫عهد‬‫كما أن ما يروى عن الحباب في هذه المنازعة مخالف لما ُ‬
‫عنه من حكمة‪ ،‬ومن حسن تأنيه للمور؛ إذ كان يلقب‪» :‬بذي الرأي«‬
‫)‪(7‬‬
‫)‪ (6‬في عهد رسول الله ×؛ وذلك لقبول مشورته في بدر وخيبر‪.‬‬
‫وأما قول الحباب بن المنذر‪ :‬منا أمير ومنكم أمير‪ ،‬فقد سوغ ذلك‬
‫وأوضح أنه ل يقصد بذلك الوصول إلى المارة‪ ،‬فقال‪ :‬فإنا والله ما‬
‫ننفس عليكم هذا المر‪ ،‬ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم‬
‫وإخوانهم )‪ ،(8‬فقبل المهاجرون قوله وأقروا عذره ول سيما أنهم‬
‫شركاء في دماء من قتل من المشركين )‪.(9‬‬
‫‪ -5‬حديث الئمة من قريش وموقف النصار منه‪:‬‬
‫ورد حديث »الئمة من قريش« في الصحيحين وكتب‬
‫الحديث الخرى بألفاظ متعددة؛ ففي صحيح البخاري عن معاوية‬
‫قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬إن هذا المر في قريش ل يعاديهم أحد إل‬
‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪.4/42 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( ميزان العتدال في نقد الرجال للذهبي‪ ،2/2992 :‬والراوي هو لوط بن يحيى‬ ‫‪2‬‬

‫أبو مخنف متروك‪ ،‬ولم يعتد بأي مخنف ويعتبر بروايته ويعتمد عليها سوى‬
‫الشيعة‪ ،‬فقد كان من أعظم مؤرخي الشيعة على قول ابن القمي‪ .‬انظر‪:‬‬
‫مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى اليحيى‪ :‬ص ‪.46 ،45‬‬
‫)‪ (4‬النصار في العصر الراشدي‪ ،‬ص‬ ‫)( سير أعلم النبلء‪.1/277 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.103 ،102‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (6‬الستيعاب‪.1/316 :‬‬ ‫)( النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ‪.100‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص ‪.100‬‬ ‫‪7‬‬

‫)‪ (1‬النصار في العصر الراشدي‪.100 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)‪ (3‬البخاري‪ ،‬كتاب الحكام رقم‪.7139 :‬‬ ‫)( المرجع السابق نفسه‪.100 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪96‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين«‪ (1) .‬وفي صحيح‬
‫مسلم‪» :‬ل يزال السلم عزيًزا بخلفاء كلهم من قريش«‪ (2).‬وعن‬
‫عبد الله بن عمر قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬ل يزال هذا المر في‬
‫قريش ما بقي منهم اثنان«‪ (3).‬وقال رسول الله ×‪» :‬الناس تبع‬
‫)‪(4‬‬
‫لقريش في هذا الشأن‪ ،‬مسلمهم لمسلهم وكافرهم لكافرهم«‪.‬‬
‫وعن بكير بن وهب الجزري قال‪ :‬قال لي أنس بن مالك النصاري‪:‬‬
‫حديثا ما أحدثه كل أحد‪ ،‬كنا في بيت من النصار فجاء النبي‬ ‫ً‬ ‫أحدثك‬
‫)‪(5‬‬
‫× حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب ‪ ،‬فقال‪» :‬الئمة من قريش‪ ،‬إن‬
‫قا مثل ذلك‪ ،‬ما إن استرحموا‬ ‫قا‪ ،‬ولكم عليهم ح ً‬
‫لهم عليكم ح ً‬
‫فرحموا‪ ،‬وإن عاهدوا أوفوا‪ ،‬وإن حكموا عدلوا«‪ (6) .‬وفي »فتح‬
‫الباري« أورد ابن حجر أحاديث كثيرة تحت باب‪ :‬المراء من قريش‪،‬‬
‫أسندها إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات‪ (7).‬فالحاديث في هذا‬
‫الباب كثيرة ل يكاد يخلو منها كتاب من كتب الحديث‪ ،‬وقد رويت‬
‫بألفاظ متعددة إل أنها متقاربة‪ ،‬تؤكد جميعها أن المرة المشروعة‬
‫في قريش‪ ،‬ويقصد بالمرة الخلفة فقط‪ ،‬أما ما سوى ذلك فتساوى‬
‫)‪(8‬‬
‫فيه جميع المسلمين‪.‬‬
‫وبمثل ما أوضحت الحاديث النبوية الشريفة أن أمر الخلفة في‬
‫قريش‪ ،‬فإنها حذرت من النقياد العمى لهم‪ ،‬وأن هذا المر فيهم ما‬
‫أقاموا الدين كما سلف في حديث معاوية‪ ،‬وكما جاء في حديث‬
‫أنس‪ :‬إن استرحموا فرحموا‪ ،‬وإن عاهدوا أوفوا‪ ،‬وإن حكموا عدلوا‪،‬‬
‫فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملئكة والناس أجمعين‪.‬‬
‫)‪ ،(9‬وبهذا حذرت الحاديث من اتباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما‬
‫أنزل الله‪ ،‬فإن لم يمتثلوا ويطبقوا مثل هذه الشروط‪ ،‬فإنهم‬
‫سيصبحون خطرًا على المة‪ ،‬وحذرت الحاديث الشريفة من اتباعهم‬
‫على غير ما أنزل الله‪ ،‬ودعت إلى اجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم؛‬
‫لما سيترتب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير المة‪ ،‬قال‬
‫×‪»:‬إن هلك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أغيلمة سفهاء من قريش«‬
‫)‪ ،(10‬وعندما سئل ×‪ :‬فما تأمرنا؟ قال ×‪»:‬لو أن الناس اعتزلوهم«‬
‫)‪.(11‬‬
‫ومن هذه النصوص تتضح الصورة لمسألة الئمة من قريش‪ ،‬وأن‬
‫النصار انقادوا لقريش ضمن هذه الضوابط وعلى هذه السس‪ ،‬وهذا‬
‫ما أكدوه في بيعاتهم لرسول الله‪ » :‬على السمع والطاعة‪ ،‬والصبر‬
‫حا‬
‫على الثرة‪ ،‬وأن ل ينازعوا المر أهله‪ ،‬إل أن يروا كفرا بوا ً‬
‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة رقم‪ (5) .1821 :‬البخاري‪ ،‬كتاب الحكام رقم‪.7140 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة رقم‪.1818 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الفتح الرباني للساعاتي‪ ،‬باب الخلفة‪:‬ج ‪5/23/65‬؛ ابن أبي شيبة‪.5/544 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (10) ,(9‬النصار في العصر الراشدي‪:‬‬ ‫)( المصنف لبي شيبة‪.5/544 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.111‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬
‫)( النصار في العصر الراشدي‪:‬ـ ‪.111‬‬

‫)‪ (1‬مصنف ابن أبي شيبة‪.5/544 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الفتن رقم‪.7058 :‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( دلئل النبوة للبيهقي‪ ،6/464 :‬الحسان في تقريب صحيح ابن حبان رقم‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪.6713‬‬

‫‪97‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫عندهم من الله فيه برهان«‪ (1).‬فقد كان للنصار تصور تام عن‬
‫مسألة الخلفة‪ ،‬وأنها لم تكن مجهولة عندهم‪ ،‬وأن حديث »الئمة من‬
‫قريش« كان يرويه كثير منهم‪ ،‬وأن الذين ل يعلمونه سكتوا عندما‬
‫رواه لهم أبو بكر الصديق‪ ،‬ولهذا لم يراجعه أحد من النصار عندما‬
‫استشهد به‪ ،‬فأمر الخلفة تم بالتشاور والحتكام إلى النصوص‬
‫الشرعية والعقلية التي أثبتت أحقية قريش بها‪ ،‬ولم يسمع عن أحد‬
‫مما يؤكد‬‫)‪(2‬‬
‫من النصار بعد بيعة السقيفة أنه دعا لنفسه بالخلفة‪،‬‬
‫اقتناع النصار وتصديقهم لما تم التوصل إليه من نتائج‪.‬‬
‫وبهذا يتهافت ويسقط قول من قال‪ :‬إن حديث الئمة من قريش‬
‫شعار رفعته قريش لستلب الخلفة من النصار‪ ،‬أو أنه رأي لبي‬
‫حديثا رواه عن الرسول‪ ،‬وإنما كان فكرًا سياسيًا قرشيًا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بكر وليس‬
‫كان شائعا في ذلك العصر‪ ،‬يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي‬
‫في ذلك الحين‪ .‬وعلى هذا فإن نسبة هذه الحاديث إلى أبي بكر‬
‫وأنها شعار لقريش‪ ،‬ما هي إل صورة من صور التشويه التي يتعرض‬
‫أساسا على‬
‫ً‬ ‫لها تاريخ العصر الراشدي وصدر السلم‪ ،‬الذي قام‬
‫جهود المهاجرين والنصار ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬وعلى روابط الخوة‬
‫المتينة بين المهاجرين والنصار‪ ،‬حتى قال فيهم أبو بكر‪ :‬نحن‬
‫والنصار كما قال القائل‪:‬‬
‫)‪(3‬‬
‫تلقي الذين يلقون منا لملت‬ ‫أبوْا أن يملونا ولو أن أمنا‬
‫َ‬

‫‪ -6‬الحاديث التي أشارة إلى خلفة أبي بكر ‪:‬‬


‫الحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلفة أبي بكر ‪‬‬
‫كثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدللة‪ ،‬إما على وجه التصريح أو‬
‫صارت معلومة من الدين بالضرورة‬ ‫)‪(4‬‬
‫الشارة‪ ،‬ولشتهارها وتواترها‬
‫بحيث ل يسع أهل البدع إنكارها‪.‬‬
‫ومن تلك الحاديث‪:‬‬
‫ي × فأمرها أن ترجع‬‫أ‪ -‬عن جبير بن مطعم قال‪ :‬أتت امرأة النب ّ‬
‫ولم‪(5‬أجدك –كأنها تقول الموت‪ -‬قال ×‪:‬‬ ‫إليه‪ ،‬قالت‪ :‬أرأيت إن جئت‬
‫»إن لم تجديني فأتى أبا بكر« ) ‪.‬‬
‫قال ابن حجر‪ :‬وفي الحديث أن مواعيد النبي × كانت على من‬
‫رد( على الشيعة في زعمهم أنه‬ ‫يتولى الخلفة بعده تنجيزها‪ ،‬وفيه‬
‫نص على استخلف علي والعباس )‪. 6‬‬
‫جلوسا فقال‪» :‬إني ل أدري‬
‫ً‬ ‫ب‪ -‬عن حذيفة قال‪ :‬كنا عند النبي ×‬
‫ما قدر بقائي فيكم‪ ،‬فاقتدوا بالذين من بعدي )وأشار إلى أبي بكر‬

‫‪ () 1‬البخاري‪ ،‬كتاب الفتن‪ ،‬رقم‪.7056 :‬‬


‫)‪ (5‬النصار في العصر الراشدي‪.116 :‬‬‫‪2‬‬

‫‪ () 3‬النصار في العصر الراشدي‪ (2) .116 :‬عقيدة أهل السنة والجماعة في‬
‫الصحابة‪.2/539 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ () 5‬مسلم‪ ،1857 ،4/1856 :‬البخاري رقم‪ (4) .3659 :‬فتح الباري‪.7/24 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪98‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وعمر(‪ ،‬وتمسكوا بعهد عمار‪ ،‬وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه« )‪.(1‬‬
‫فقوله ×‪» :‬اقتدوا بالذين من بعدي« أي‪ :‬بالخليفتين الذين‬
‫يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر‪ .‬وحث على القتداء بهما‬
‫لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما‪ ،‬وفي الحديث إشارة لمر الخلفة‬
‫)‪.(2‬‬
‫ج‪ -‬عن أبي هريرة ‪ ‬عن رسول الله × قال‪» :‬بينما أنا نائم‬
‫أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس‪ ،‬فجاءني أبو بكر فأخذ‬
‫الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر‬
‫له‪ ،‬فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم)‪(3‬أر نزع رجل قط أقوى منه حتى‬
‫تولى الناس والحوض ملن يتفجر« ‪.‬‬
‫قال الشافعي ‪-‬رحمه الله‪ :-‬رؤيا النبياء وحي‪ ،‬وقوله‪) :‬وفي نزعة‬
‫ضعف( قصر‬
‫مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لهل الردة عن الفتتاح والتزيد‬
‫عمر في‬ ‫الذي بلغه‬
‫طول مدته)‪.(4‬‬
‫د‪ -‬قالت عائشة‪ :‬قال لي رسول الله × في مرضه‪» :‬ادعي لي‬
‫يتمنى متمن ويقول قائل‪:‬‬ ‫با‪،‬فإني أخاف أن‬‫أبا بكر‪ ,‬أخاك حتى أكتب كتا ً‬
‫أنا أولى‪ ،‬ويأبى الله والمؤمنون إل أبا بكر« )‪.(5‬‬
‫دل هذا الحديث دللة واضحة على فضل الصديق ‪ ،‬حيث أخبر‬
‫النبي × بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق العلى‪ ،‬وأن‬
‫المسلمين يأبون عقد الخلفة لغيره ‪ ،‬وفي الحديث إشارة أنه‬
‫ذلك كما أخبر عليه الصلة والسلم‪ ،‬ثم‬ ‫سيحصل نزاع‪ ،‬ووقع كل‬
‫اجتمعوا على أبي بكر ‪.(6) ‬‬
‫هـ‪ -‬عن عبيد الله بن عبد الله قال‪ :‬دخلت على عائشة فقلت لها‪:‬‬
‫قل النبي ×‬ ‫أل تحدثيني عن مرض رسول الله ×؟ قالت‪ :‬بلى‪ ،‬ث ُ‬
‫قال‪:‬‬
‫)‪(8‬‬
‫الله‪.‬‬ ‫رسول‬ ‫فقال‪» :‬أصلى الناس؟« قلنا‪ :‬ل وهم ينتظرونك يا‬
‫»ضعوا لي ماء في المخضب« )‪ ،(7‬ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء‬
‫فأغمى عليه‪ ،‬ثم أفاق فقال‪» :‬أصلى الناس؟«‪ .‬قلنا‪ :‬ل وهم‬
‫ينتظرونك يا رسول الله‪ .‬فقال‪» :‬ضعوا لي ماء في المخضب«‪،‬‬
‫ففعلنا فاغتسل‪ ،‬ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال‪» :‬أصلى‬
‫الناس؟«‪ ،‬قلنا‪ :‬ل وهم ينتظرونك يا رسول الله! قالت‪ :‬والناس‬
‫عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله × لصلة العشاء الخرة‪،‬‬
‫قالت‪ :‬فأرسل رسول الله × إلى أبي بكر أن يصلي بالناس‪ ،‬فأتاه‬
‫الرسول فقال‪ :‬إن رسول الله × يأمرك أن تصلي بالناس‪ ،‬فقال أبو‬
‫رجل رقيقًا‪ :‬يا عمر صل بالناس‪ .‬قال‪ :‬فقال عمر‪ :‬أنت‬ ‫ً‬ ‫بكر وكان‬
‫أحق بذلك‪ ،‬قالت‪ :‬فصلى بهم أبو بكر تلك اليام‪ ،‬ثم إن رسول الله‬
‫سلسلة الحاديث الصحيحة لللباني‪.236 – 3/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تحفة الحوذي بشرح الترمذي‪ (7) .10/147 :‬مسلم‪.1852 ،4/1861 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬مسلم‪.4/1857 :‬‬ ‫العتقاد للبيهقي‪.171 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‪.2/542 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫المخضب‪ :‬هي إجانة تغسل فيها الثياب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫ينوء‪ :‬أي‪ :‬يقوم وينهض‪ ،‬شرح النووي‪.4/136 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪99‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫× وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلة‬
‫الظهر وأبو بكر يصلي بالناس‪ ،‬فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ‬
‫إليه النبي × أن ل يتأخر‪ ،‬وقال لهما‪» :‬أجلساني إلى جنبه« فأجلساه‬
‫إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلة النبي ×‬
‫والناس يصلون بصلة أبي بكر والنبي × قاعد‪ .‬قال عبيد الله‪:‬‬
‫فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له‪ :‬أل أعرض عليك ما‬
‫حدثتني عائشة عن مرض رسول الله × فقال‪ :‬هات‪ ،‬فعرضت‬
‫مت لك الرجل الذي‬ ‫س ّ‬
‫قال‪ :‬أ َ‬ ‫حديثها عليه فما أنكر منه شيئًا‪ ،‬غير أنه‬
‫كان مع العباس؟ قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ ،‬هو علي )‪.(1‬‬
‫هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة‪ ،‬منها‪ :‬فضيلة أبي بكر‬
‫الصديق ‪ ‬وترجيحه على جميع الصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‬
‫أجمعين‪ -‬وتفضيله‪ ،‬وتنبيه على أنه أحق بخلفة رسول الله × من‬
‫غيره‪ ،‬ومنها أن المام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة‬
‫استخلف من يصلي بهم‪ ،‬وأنه ل يستخلف إل أفضلهم‪ ،‬ومنها فضيلة‬
‫عمر بعد أبي بكر ‪‬؛ لن أبا بكر ‪ ‬لم يعدل إلى غيره )‪.(2‬‬
‫و‪ -‬قال عبد الله بن مسعود ‪ :‬لما قبض رسول الله × قالت‬
‫النصار‪ :‬منا أمير ومنكم أمير‪ ،‬قال‪ :‬فأتاهم عمر ‪ ‬فقال‪ :‬يا معشر‬
‫النصار‪ ،‬ألستم تعلمون أن رسول الله × قد أمر أبا بكر أن يؤم‬
‫الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ‪‬؟ فقالت النصار‪:‬‬
‫نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر )‪.(3‬‬
‫ز‪ -‬روى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال‪ :‬قال علي‪ :‬لما قبض‬
‫النبي × نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي × قد قدم أبا بكر في الصلة‬
‫فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله × لديننا‪ ،‬فقدمنا أبا بكر )‪.(4‬‬
‫وقد علق أبو الحسن الشعري على تقديم رسول الله × لبي‬
‫بكر في الصلة فقال‪ :‬وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة في دين‬
‫السلم‪ .‬قال‪ :‬وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم‪ ،‬لما‬
‫ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله ×‬
‫قال‪» :‬يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله‪ ،‬فإن كانوا في القراءة سواء‬
‫فأعلمهم بالسنة‪ ،‬فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سّنا‪ ،‬فإن كانوا‬
‫ما«‪ .‬قال ابن كثير ‪-‬وهذا من كلم‬ ‫في السن سواء فأقدمهم إسل ً‬
‫الشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب‪ :-‬ثم قد‬
‫اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق ‪ ‬وأرضاه )‪.(5‬‬
‫هذا ولهل السنة قولن في إمامة أبي بكر ‪ ‬من حيث الشارة‬
‫إليها بالنص الخفي أو الجلي‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬إن إمامة أبي بكر ‪‬‬
‫ثابتة بالنص الخفي والشارة‪ ،‬وهذا القول ينسب إلى الحسن‬

‫)( عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‪ .2/542 :‬مسلم رقم‪،418 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري رقم‪.687 :‬‬


‫)‪ (3‬المستدرك‪.3/67 :‬‬ ‫)( شرح النووي‪.4/137 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (5‬البداية والنهاية‪.5/265 :‬‬ ‫)( الطبقات لبن سعد‪.3/183 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪100‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫تعالى‪(2-‬وجماعة من أهل الحديث )‪ ،(1‬وهو رواية‬ ‫البصري ‪-‬رحمه الله‬
‫عن المام أحمد بن حنبل ) رحمة الله عليه‪ ،‬واستدل أصحاب هذا‬
‫القول بتقديم النبي × له في الصلة وبأمره × بسد البواب إل باب‬
‫أبي بكر‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬إن خلفة)‪(3‬أبي بكر ‪ ‬ثابتة بالنص الجلي‬
‫طائفة من أهل الحديث ‪ ،‬وبه قال أبو محمد بن حزم‬ ‫)‪(4‬‬
‫وهذا قول‬
‫الفريق بحديث المرأة التي قال لها‪» :‬إن‬ ‫هذا‬ ‫واستدل‬ ‫‪،‬‬ ‫الظاهري‬
‫لم تجديني فأتي أبا بكر« )‪ ،(5‬وبقوله لعائشة ‪-‬رضي الله عنها‪:-‬‬
‫»ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاًبا‪ ،‬فإني أخاف أن يتمنى‬
‫متمن ويقول قائل‪ :‬أنا أولى‪ ،‬ويأبى الله والمؤمنون إل أبا بكر« )‪،(6‬‬
‫على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع‬ ‫وحديث رؤياه × أنه‬
‫الدلو من يده ليروحه )‪.(7‬‬
‫والذي أميل إليه ويظهر لي من خلل البحث‪ :‬أن المصطفى ×‬
‫يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر ‪ ،‬وإنما‬
‫دلهم عليه لعلم الله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬له بأن المسلمين سيختارونه‬
‫القرآن والسنة وفاق بها‬ ‫لما له من الفضائل العالية التي ورد بها‬
‫غيره من جميع المة المحمدية ‪ ‬وأرضاه )‪.(8‬‬
‫قال ابن تيمية ‪-‬رحمه الله‪ :-‬والتحقيق أن النبي × دل المسلمين‬
‫على استخلف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله‬
‫وأفعاله‪ ،‬وأخبر بخلفته إخبار رضى بذلك حامد له وعزم على أن‬
‫عهدا‪ ،‬ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب‬ ‫ً‬ ‫يكتب بذلك‬
‫اكتفاء بذلك‪ ...‬فلو كان التعيين مما يشتبه على المة لبينه رسول‬
‫بيانا قاطعًا للعذر‪ ،‬ولكن لما دلهم دللت متعددة على أن أبا‬‫الله × ً‬
‫بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود‪ ،‬ولهذا قال عمر بن‬
‫الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والنصار‪:‬‬
‫وليس فيكم من تقطع إليه العناق مثل أبي بكر‪ ...‬إلى أن قال‪:‬‬
‫فخلفة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها‬
‫ورضا الله ورسوله × له بها‪ ،‬وانعقدت بمبايعة المسلمين له‬
‫واختيارهم إياه اختيارًا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله‬
‫ورسوله‪ ،‬فصارت ثابتة بالنص والجماع جميعًا‪ ،‬لكن النص دل على‬
‫رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها‪ ،‬وأم‬
‫المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لنه حينئذ كان‬
‫يكون طريق ثبوتها مجرد العهد‪ ،‬وأما إذا كان المسلمين قد اختاروه‬
‫من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضي الله‬
‫دليل على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي‬ ‫ً‬ ‫ورسوله بذلك‪ ،‬كان‬
‫المسلمين به أنه أحقهم بالخلفة‪ ،‬فإن ذلك‬ ‫علم‬ ‫ما‬ ‫بان بها عن غيره‬
‫ل يحتاج فيه إلى عهد خاص )‪.(9‬‬
‫)‪ (2‬نفس المصدر السابق‪:‬‬ ‫)( منهاج السنة لبن تيمية‪.135 ،1/134 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1/134‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‪.2/547 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (5‬مسلم‪.1857 ،4/1856 :‬‬ ‫)( الفصل في الملل والهواء والنحل‪.4/107 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( مسلم‪ 4/1857 :‬حديث رقم‪ (7) .2387 :‬مسلم‪.1862 ،4/1861 :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫)( عقيدة أهل السنة والجماعة‪.2/548 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( منهاج السنة‪141 – 1/139 :‬؛ مجمع الفتاوى‪.49 – 35/47 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪101‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫‪ -7‬انعقاد الجماع على خلفة الصديق ‪:‬‬


‫أجمع أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا على أن أحق الناس‬
‫بالخلفة بعد النبي × أبو بكر الصديق ‪ ،‬لفضله وسابقته‪ ،‬ولتقديم‬
‫النبي × إياه في الصلوات على جميع الصحابة‪ .‬وقد فهم أصحاب‬
‫النبي × مراد المصطفى ‪-‬عليه الصلة والسلم‪ -‬من تقديمه في‬
‫الصلة‪ ،‬فأجمعوا على تقديمه في الخلفة ومتابعته ولم يتخلف منهم‬
‫أحد‪ ،‬ولم يكن الرب ‪-‬جل وعل‪ -‬ليجمعهم على ضللة‪ ،‬فبايعوه‬
‫)‪(1‬‬
‫طائعين وكانوا لوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه‪.‬‬
‫يوم مات رسول‬ ‫فعندما سئل سعيد بن زيد‪ :‬متى بويع أبو بكر؟ قال‪:‬‬
‫الله × كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة )‪ ،(2‬وقد نقل‬
‫جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من‬
‫أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر ‪ ‬أولى بالخلفة من كل أحد‬
‫)‪ ،(3‬وهذه بعض أقوال أهل العلم‪:‬‬
‫أ‪ -‬قال الخطيب البغدادي ‪-‬رحمه الله‪ :-‬أجمع المهاجرون والنصار‬
‫على خلفة أبي بكر‪ ،‬قالوا له‪ :‬يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد‬
‫ل قال‬ ‫بعده خليفة‪ .‬وقيل‪ :‬إنه قبض النبي × عن ثلثين ألف مسلم ك ّ‬
‫لبي بكر‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬ورضوا به من بعده رضي الله عنهم‬
‫)‪.(4‬‬
‫ب‪ -‬وقال أبو الحسن الشعري‪ :‬أثنى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬على‬
‫المهاجرين والنصار والسابقين إلى السلم‪ ،‬ونطق القرآن بمدح‬
‫المهاجرين والنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة‬
‫ن إِ ْ‬
‫ذ‬ ‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ع ِ‬
‫ه َ‬
‫ي الل ُ‬
‫ض َ‬ ‫الرضوان‪ ،‬فقال عز وجل‪+ :‬ل َ َ‬
‫قدْ َر ِ‬
‫ة" ]الفتح‪ [18 :‬قد أجمع هؤلء الذين أثنى‬ ‫جَر ِ‬ ‫ت ال ّ‬
‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫عون َ َ‬
‫ك تَ ْ‬ ‫ي َُباي ِ ُ‬
‫عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق ‪ ،‬وسموه خليفة‬
‫رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل‪ ،‬وكان أفضل‬
‫الجماعة‬
‫في جميع الخصال التي يستحق بها المامة في العلم والزهد‪ ،‬وقوة‬
‫وسياسة المة‪،‬‬ ‫الرأي‬
‫وغير ذلك)‪.(5‬‬
‫ج‪ -‬وقال عبد الملك الجويني‪ :‬أما إمامة أبي بكر ‪ ‬فقد ثبتت‬
‫لحكمه‪.‬‬ ‫بإجماع الصحابة‪ ،‬فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والنقياد‬
‫ي شراسًا )‪ ،(6‬وشماسًا )‪ (7‬في‬ ‫وما تخرص به الروافض من إبداء عل ّ‬
‫عقد البيعة له كذب صريح‪ ،‬نعم لم يكن ‪ ‬في السقيفة‪ ،‬وكان‬
‫الله( ×‪ ،‬ثم دخل فيما‬ ‫مستخليا بنفسه قد استفزه الحزن على رسول‬ ‫ً‬
‫دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على مل من الشهاد)‪. 8‬‬

‫عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‪.2/550 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ‪ ،‬إبراهيم شعوط‪.101 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‪.2/550 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ بغداد‪.131 ،10/130 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البانة عن أصول الديانة‪.66 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الشراس‪ :‬شدة المعاملة‪ ،‬مختار الصحاح‪.346 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫وشماسا‪ :‬أي صعب الخلق‪ ،‬لسان العرب‪ (4) .6/111 :‬كتاب الرشاد‪.361 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫‪102‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫د‪ -‬وقال أبو بكر الباقلني في معرض ذكره للجماع على خلفة‬
‫الصديق ‪ :‬وكان ‪ ‬مفروض الطاعة لجماع المسلمين على‬
‫طاعته وإمامته وانقيادهم له‪ ،‬حتى قال أمير المؤمنين علي ‪ ‬مجيبًا‬
‫لقوله ‪ ‬لما قال‪ :‬أقيلوني فلست بخيركم‪ ،‬فقال‪ :‬ل نقيلك ول‬
‫نستقيلك‪ ،‬قدمك رسول الله × لديننا أل نرضاك لدنيانا‪ ،‬يعني بذلك‬
‫حين قدمه للمامة في الصلة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج‪،‬‬
‫إيمانا وأكملهم فهمًا‬
‫ً‬ ‫وكان ‪ ‬أفضل المة وأرجحهم‬ ‫فأمرك علينا‪.‬‬
‫وأوفرهم علمًا )‪.(1‬‬
‫‪ -8‬منصب الخلفة والخليفة‪:‬‬
‫الخلفة السلمية هي المنهج الذي اختارته المة السلمية‬
‫وأجمعت عليه طريقة وأسلوبًا للحكم تنظم من خلله أمورها وترعى‬
‫مصالحها‪ ،‬وقد ارتبطت نشأة الخلفة بحاجة المة لها واقتناعها بها‪،‬‬
‫ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله ×‪.‬‬
‫يقول المام أبو الحسن الماوردي‪ :‬إن الله جلت قدرته ندب للمة‬
‫زعيما خلف به النبوة وحاط به الملة‪ ،‬وفوض إليه السياسة ليصدر‬ ‫ً‬
‫التدبير عن دين مشروع‪ ،‬وتجتمع الكلمة على رأي متبوع‪ ،‬فكانت‬
‫العامة‬ ‫أصل عليه استقرت قواعد الملة‪ ،‬وانتظمت به مصالح‬ ‫ً‬ ‫المامة‬
‫حتى استثبتت به المور العامة‪ ،‬وصدرت عنه الوليات الخاصة )‪.(2‬‬
‫لقد كان على المة السلمية أن تواجه الموقف الصعب الذي‬
‫نشأ عن انتقال‬
‫الرسول × إلى الرفيق العلى‪ ،‬وأن تحسم أمورها بسرعة وحكمة‬
‫أفرادها‪ ،‬أو‬ ‫وأل تدع مجالً لنقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس‬
‫للضعف أن يتسلل إلى أركان البناء الذي شيده رسول الله × )‪.(3‬‬
‫ولما كانت الخلفة هي نظام حكم المسلمين‪ ،‬فقد استمدت‬
‫أصولها من دستور المسلمين؛ من القرآن الكريم ومن سنة النبي‬
‫)‪(5‬‬
‫×‪ (4).‬وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلفة السلمية فقالوا‬
‫بالشورى والبيعة وهما –أصلً‪ -‬قد أشير إليهما في القرآن الكريم ‪،‬‬
‫أحيانا يطلق عليه لفظ المامة أو المارة‪ .‬وقد أجمع‬ ‫ً‬ ‫ومنصب الخلفة‬
‫المسلمون على وجوب الخلفة‪ ،‬وأن تعيين الخليفة فرض على‬
‫المسلمين يرعى شئون المة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة‬
‫السلمية وعلى حماية الدين والمة بالجهاد‪ ،‬وعلى تطبيق الشريعة‬
‫وتوفير‪(6‬الحاجات الضرورية لكل‬ ‫وحماية حقوق الناس ورفع المظالم‬
‫فرد‪ ،‬وهذا ثابت بالقرآن والسنة والجماع ) ‪.‬‬
‫عوا‬ ‫وقد قال تعالى‪+ :‬يا أ َيها ال ّذين آمُنوا أ َطيعوا الله َ‬
‫طي ُ‬‫وأ ِ‬‫َ َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫ل ُ‬
‫م"‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ر ِ‬
‫م ِ‬
‫وأوِلي ال ْ‬ ‫سو َ َ‬
‫الّر ُ‬
‫]النساء‪.[59 :‬‬
‫)( »النصاف فيما يجب اعتقاده ول يجوز الجهل به«‪.65 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫وتجدر الشارة إلي أن الذي ذكرت فيه النصوص التي فيها الشارة إلى خلفة‬
‫الصديق‪ ،‬اختصرتها من الكتاب القيم »عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة‬
‫الكرام« للدكتور ناصر بن عائض حسن الشيخ‪.‬‬
‫)( الحكام السلطانية‪:‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( عصر الخلفة والخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪ :‬فتحية النبراوي‪:‬ص ‪.22‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( عصر الخلفاء الراشدين‪:‬ص ‪ (4) .23‬عصر الخلفاء الراشدين‪:‬ص ‪.23‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( الخلفة والخلفاء الراشدون‪:‬ص ‪ (6) .58‬ل حجة له في فعله ول تنفعه‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪103‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ض‬ ‫في ا َ‬ ‫خِلي َ‬ ‫عل َْنا َ‬
‫لْر ِ‬ ‫ضل ّ َ‬
‫ة ِ‬ ‫ف ً‬ ‫ك َ‬
‫ْ‬
‫ج َ‬ ‫ودُ إ ِّنا َ‬ ‫دا ْ ُ‬
‫وقال تعالى‪َ+ :‬يا َ‬
‫عن‬ ‫ك َ‬ ‫ُ ِ‬
‫َ‬
‫ي‬‫ف‬‫َ‬ ‫وى‬ ‫ه‬
‫َ َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫َ ّ ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫س ِ َ ّّ َ‬
‫ق‬ ‫ح‬ ‫ل‬‫با‬ ‫ن الّنا ّ ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ ُ ْ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬ ‫س‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ض‬ ‫ي‬
‫ِ َ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ِ ِ ّ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬ ‫س‬
‫ب"‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫و َ‬‫سوا ي َ ْ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫ديدُ ب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ش ِ‬
‫]ص‪.[26 :‬‬
‫دا من طاعة لقي الله يوم القيامة ل حجة له‬ ‫وقال ×‪» :‬من خلع ي ً‬
‫)‪ ،(1‬ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية« )‪.(2‬‬
‫وأما الجماع فالصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬لم ينتظروا حتى يتم‬
‫دفن الرسول ×‪ ،‬وتوافدوا للتفاق على إمام أو خليفة‪ ،‬وعلل أبو بكر‬
‫المانة وهو خوفه أن تكون فتنة )أي من عدم تعيين خليفة‬ ‫قبول هذه‬
‫للمسلمين(‪ (3).‬قال الشهرستاني في ذلك‪ :‬ما دار في قلبه ول في‬
‫قلب أحد أنه يجوز خلو الرض من إمام‪ ،‬فدل ذلك كله على أن‬
‫الصحابة وهم الصدر الول كانوا عن بكرة أبيهم متفقين على أنه ل‬
‫إمام‪ ،‬فذلك الجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب‬ ‫بد من‬
‫المام )‪.(4‬‬
‫أن الطمع في الرياسة‬ ‫هذا وليس صحيحًا ما يروجه الحاقدون‬
‫سبب النشغال بالخلفة عن دفن النبي × )‪.(5‬‬
‫هذا وقد عرف ابن خلدون الخلفة‪ :‬هي حمل الكافة على‬
‫مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية والدنيوية الراجعة‬
‫إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارهم بمصالح‬
‫الحقيقة‪(6‬خلفة عن صاحب الشرع في حراسة هذا‬ ‫الخرة‪ ،‬فهي في‬
‫الدين وسياسة الدنيا به ) ‪.‬‬
‫وقد تحدث العلمة أبو الحسن الندوي عن شروط خلفة النبي ×‬
‫ومتطلباتها‪ ،‬وقد أثبت بالدلة والحجج من خلل سيرة الصديق بأن أبا‬
‫بكر كانت شروط خلفة النبي × متحققة فيه‪ ،‬ونذكر هذه الشروط‬
‫بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها الندوي وقد بينتها في هذا‬
‫الكتاب متناثرة‪ ،‬فأهم هذه الشروط‪:‬‬
‫يمتاز بأنه ظل طوال حياته بعد السلم متمتعا بثقة رسول الله × به‬ ‫أ‪-‬‬
‫وشهادته له‪ ،‬واستخلفه إياه في القيام ببعض أركان الدين الساسية‪ ،‬وفي‬
‫مهمات المور‪ ،‬والصحبة في مناسبات خطرة دقيقة ل يستصحب فيها‬
‫النسان إل من يثق به كل الثقة‪ ،‬ويعتمد عليه كل العتماد‪.‬‬
‫ب‪ -‬يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه العاصير‬
‫والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدين ولبه‪ ،‬وتحبط مساعي‬
‫صاحب رسالته‪ ،‬وتنخلع لها قلوب كثير ممن قوي إيمانهم وطالت‬
‫صحبتهم‪ ،‬ولكن يثبت هذا الفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات‪،‬‬
‫ويمثل دور خلفاء النبياء الصادقين الراسخين‪ ،‬ويكشف الغطاء عن‬
‫العيون‪ ،‬وينفض الغبار عن جوهر الدين وعقيدته الصحيحة‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،3/1478 :‬رقم‪.1851 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الخلفة والخلفاء الراشدون‪.59 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الملل والنحل للشهرستاني‪ .7/83 :‬نظام الحكم‪ ،‬محمود الخالدي‪– 327 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪.248‬‬
‫)( الخلفة والخلفاء الراشدون‪ (5) .49 :‬المقدمة‪.191 :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫‪104‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ج‪ -‬يمتاز هذا الفرد في فهمه الدقيق للسلم‪ ،‬ومعايشته له في‬


‫حياة النبي × على اختلف أطواره وألوانه من سلم وحرب‪ ،‬وخوف‬
‫وأمن‪ ،‬ووحدة واجتماع‪ ،‬وشدة ورخاء‪.‬‬
‫د‪ -‬يمتاز بشدة غيرته على أصالة هذا الدين وبقائه على ما كان‬
‫عليه في عهد نبيه‪ ،‬غيرة أشد من غيرة الرجال على العراض‬
‫والكرامات‪ ،‬والزواج والمهات‪ ،‬والبنين والبنات‪ ،‬ل يحوله عن ذلك‬
‫خوف أو طمع أو تأويل أو عدم موافقة من أقرب الناس وأحبهم‬
‫إليه‪.‬‬
‫دقيقا كل الدقة وحريصًا أشد الحرص على تنفيذ رغبات‬ ‫ً‬ ‫هـ‪ -‬يكون‬
‫الرسول الذي يخلفه في أمته بعد وفاته‪ ،‬ل يحيد عن ذلك قيد شعرة‪،‬‬
‫أحدا‪ ،‬ول يخاف‬
‫ً‬ ‫ول يساوم فيه‬
‫لومة لئم‪.‬‬
‫و‪ -‬يمتاز بالزهد فمتاع الدنيا والتمتع به‪ ،‬زهدًا ل يتصور فوقه إل‬
‫عند إمامه وهاديه سيد النبياء عليه الصلة والسلم‪ ،‬وأن ل يخطر‬
‫بباله تأسيس الملك والدولة وتوسيعهما لصالح عشيرته وورثته‪ ،‬كما‬
‫اعتادت ذلك السر الملوكية الحاكمة)‪(1‬في أقرب الدول والحكومات‬
‫من جزيرة العرب؛ كالروم والفرس ‪.‬‬
‫وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلها في سيدنا أبي بكر ‪،‬‬
‫كما تمثلت في حياته وسيرته في حياة الرسول × قبل الخلفة وبعد‬
‫ينكره‪ (2‬أو‬ ‫الخلفة إلى أن توفاه الله تعالى‪ ،‬بحيث ل يسع منكرا أن‬
‫مشككا يشكك في صحته‪ ،‬فقد تحقق بطريق البداهة والتواتر) ‪.‬‬
‫هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة‬
‫رشحوه للناس في اليوم الثاني‪ ،‬وبايعته المة‬ ‫الصديق بيعة خاصة ثم‬
‫في المسجد البيعة العامة)‪.(3‬‬
‫وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أن قيادة المة ل تقام إل بالختيار‪ ،‬وأن البيعة هي أصل من أصول‬
‫الختيار وشرعية القيادة‪ ،‬وأن الخلفة ل يتولها إل الصلب دينا والكفأ‬
‫إدارة‪ ،‬فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلمية وشخصية وأخلقية‪،‬‬
‫سبية أو القبلية‪ ،‬وإن إثارة‬
‫الن َ‬
‫وأن الخلفة ل تدخل ضمن مبدأ الوراثة ّ‬
‫واقعً يجب أخذه في‬
‫ا‬ ‫»قريش« في سقيفة بني ساعدة باعتباره‬
‫متعارضا مع أصول‬
‫ً‬ ‫الحسبان‪ ،‬ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن‬
‫السلم‪ ،‬وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة‬
‫المن النفسي السائد بين المسلمين؛ حيث ل هرج ول مرج‪ ،‬ول تكذيب‬
‫للنصوص التي تحكمهم‬ ‫ول مؤامرات ول نقض للتفاق‪ ،‬ولكن تسليم‬
‫حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية )‪.(4‬‬
‫وقد استدل الدكتور توفيق الشاوي على بعض المثلة التي‬
‫صدرت بالشورى الجماعية في عهد الراشدين من حادثة السقيفة‪،‬‬
‫حيث قال‪:‬‬
‫المرتضى‪ ،‬سيرة أبي الحسن علي بن أبي طالب‪.66 ،65 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سيرة أبي الحسن علي بن أبي طالب‪.67 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الخلفة والخلفاء الراشدون‪.67 ،66 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة للشجاع‪.256 ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪105‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫* أول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن »نظام الحكم‬
‫تطبيقا لمبدأ الشورى الذي‬
‫ً‬ ‫ودستور الدولة« يقرر بالشورى الحرة‪،‬‬
‫نص عليه القرآن‪ ،‬ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع‪ ،‬وسند هذا‬
‫الجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى؛ أي أن هذا الجماع‬
‫كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلم وهو‬
‫الشورى الملزمة‪ ،‬وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالجماع بعد وفاة‬
‫تأييدا وتطبيقًا لنصوص‬
‫ً‬ ‫رسولنا ×‪ ،‬ثم إن هذا الجماع لم يكن إل‬
‫الكتاب والسنة التي أوجبت الشورى‪.‬‬
‫* تقرر يوم السقيفة أيضا أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة‬
‫السلمية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى؛ أي‪ :‬بالبيعة الحرة‬
‫التي تمنحه تفويضًا ليتولى الولية بالشروط والقيود التي يتضمنها‬
‫عقد البيعة الختيارية الحرة –الدستور في النظم المعاصرة‪ -‬وكان‬
‫هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الجماع‪ ،‬وكان قرارًا إجماعيًا‬
‫كالقرار السابق‪.‬‬
‫اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر‬ ‫* تطبيقا للمبدأين السابقين‪ ،‬قرر‬
‫ليكون الخليفة الول للدولة السلمية )‪.(1‬‬
‫ثم إن هذا الترشيح لم يصبح نهائيًا إل بعد أن تمت له البيعة‬
‫العامة‪ ،‬أي‪ :‬موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد‬
‫الرسول ×‪ ،‬ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي‬
‫ألقاه )‪ ،(2‬وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى‪.‬‬

‫)( فقه الشورى والستشارة‪ ،‬د‪ :‬توفيق الشاوي‪.140 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪.142 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪106‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية‬
‫أول‪ :‬البيعة العامة‪:‬‬
‫بعد أن تمت بيعة أبي بكر ‪ ‬البيعة الخاصة في سقيفة بني‬
‫تأييد( أبي بكر‪،‬‬ ‫ساعدة‪ ،‬كان لعمر ‪ ‬في اليوم التالي موقف في‬
‫وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة)‪ 1‬العامة‪ ،‬قال‬
‫أنس بن مالك‪ :‬لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو‬
‫بكر على المنبر‪ ،‬فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى‬
‫عليه بما هو أهله‪ ،‬ثم قال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إني كنت قلت لكم بالمس‬
‫ي‬
‫مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله‪ ،‬ول كانت عهدًا عهده إل ّ‬
‫رسول الله ×‪ ،‬ولكني قد كنت أرى أن رسول الله × سيدبر أمرنا –‬
‫يقول‪ :‬يكون آخرنا‪ -‬وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله‬
‫رسوله ×‪ ،‬فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له‪ ،‬وإن الله‬
‫قد جمع أمركم على خيركم؛ صاحب رسول الله ×‪ ،‬وثاني اثنين إذ‬
‫هما في الغار‪ ،‬فقوموا فبايعوه‪ ،‬فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة‬
‫السقيفة‪..‬‬
‫ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله‪ ،‬ثم‬
‫قال‪ :‬أما بعد‪ :‬أيها الناس‪ ،‬فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم‪،‬‬
‫فإن أحسنت فأعين وني‪ ،‬وإن أسأت فقوموني‪ ،‬الصدق أمانة‬
‫والكذب خيانة‪ ،‬والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه‬
‫إن شاء الله‪ ،‬والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن‬
‫شاء الله‪ .‬ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله إل خذلهم الله بالذل‪،‬‬
‫ول تشيع الفاحشة في قوم إل عمهم الله بالبلء‪ ،‬أطيعوني ما‬
‫ورسوله فل طاعة لي‬ ‫)‪(2‬‬
‫أطعت الله ورسوله‪ ،‬فإذا عصيت الله‬
‫عليكم‪ ،‬قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله‪.‬‬
‫وقال عمر لبي بكر يومئذ‪ :‬اصعد المنبر‪ ،‬فلم يزل به حتى صعد‬
‫المنبر‪(3‬فبايعه الناس‬
‫عامة) ‪.‬‬
‫وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب السلمية على‬
‫إيجازها‪ ،‬وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل‬
‫بين الحاكم والمحكوم‪ ،‬وركز على أن طاعة ولي المر مترتبة على‬
‫طاعة الله ورسوله‪ ،‬ونص على الجهاد في سبيل الله لهميته في‬
‫اجتناب الفاحشة لهمية ذلك في حماية المجتمع‬ ‫إعزاز المة‪ ،‬وعلى‬
‫من النهيار والفساد‪ (4).‬من خلل الخطبة والحداث التي تمت بعد‬
‫وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملمح نظام الحكم‬
‫في بداية عهد الخلفة الراشدة‪ ،‬والتي من أهمها‪:‬‬

‫عصر الخلفة والخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪ :‬فتحية النبراوي‪.30 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البداية والنهاية‪ ،306 ،6/305 :‬إسناد صحيح‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬الحكام‪ ،‬رقم‪.7219 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬المقدمة‪.209 :‬‬ ‫التاريخ السلمي‪.9/28 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪107‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -1‬مفهوم البيعة‪:‬‬
‫عرف العلماء البيعة بتعاريف عدة‪ ،‬منها تعريف ابن خلدون‪ :‬العهد‬
‫لولي المر‪ (1).‬وعرفها بعضهم بقوله‪ :‬البيعة على التعاقد‬ ‫)‪(2‬‬
‫على الطاعة‬
‫والميثاق والمعاقدة‬ ‫العهد‬ ‫أخذ‬ ‫‪:‬‬‫بأنها‬ ‫كذلك‬ ‫وعرفت‬ ‫‪،‬‬ ‫السلم‬ ‫على‬
‫على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة‪ ،‬وإقامة ما أقامه‪ (3).‬وكان‬
‫المسلمون إذا بايعوا المير جعلوا أيديهم في يده؛ تأكيدًا للعهد‬
‫والولء‪ ،‬فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري‪ ،‬فسمي هذا الفعل بيعة‬
‫)‪.(4‬‬
‫ونتعلم من مبايعة المة للصديق بأن الحاكم في الدولة السلمية‬
‫إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد‪ ،‬وبايعته المة بعد‬
‫أن توفرت فيه الشروط المعتبرة‪ ،‬فيجب على المسلمين جميعًا‬
‫مبايعته والجتماع عليه‪ ،‬ونصرته على من يخرج عليه؛ حفاظًا على‬
‫المة( وتماسك بنيانها أمام العداء في داخل الدولة السلمية‬ ‫وحدة‬
‫وخارجها )‪. 5‬‬
‫قال ×‪» :‬من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية« )‪،(6‬‬
‫على تركها‪،‬‬ ‫فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد‬
‫فمن مات ولم يبايع عاش على الضلل ومات على الضلل )‪.(7‬‬
‫ما فأعطاه صفقة يده وثمرة‬ ‫وقال رسول الله ×‪» :‬ومن بايع إما ً‬
‫قلبه فليطعه ما استطاع‪ ،‬فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الخر«‬
‫)‪.(8‬‬
‫فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به نتيجة الخروج على‬
‫لنه يطلب بيعة أخرى بالبيعة‬ ‫المام‪ ،‬مما يدل على حرمة هذا الفعل؛‬
‫الولى التي هي فرض على المسلمين )‪.(9‬‬
‫والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة‪ ،‬وأما في‬
‫القاليم فقد يأخذها المام وقد يأخذها نواب المام‪ ،‬كما حدث في‬
‫بيعة الصديق ‪ ،‬فبيعة أهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة‪.‬‬
‫والذي تجب بيعتهم للمام هم أهل الحل والعقد‪ ،‬وأهل الختيار‬
‫من علماء المة وقادتها‪ ،‬وأهل الشورى وأمراء المصار‪ ،‬وأما سائر‬
‫الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلء‪ ،‬ول يمنع العامة‬
‫من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد‪ (10).‬وهناك من العلماء من قال‪:‬‬
‫مهامه كخليفة‬ ‫ل بد من البيعة العامة؛ لن الصديق لم يباشر‬
‫للمسلمين إل بعد البيعة العامة من المسلمين )‪.(11‬‬
‫والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تم للصديق ل تعطى إل للمام‬
‫العظم في الدولة السلمية ول تعطى لغيره من الشخاص‪ ،‬سواء‬
‫‪1‬‬

‫)( جامع الصول في أحاديث الرسول‪.1/252 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نظام الحكم في السلم‪ ،‬عارف أبو عيد‪.248 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (6) ,‬نفس المصدر السابق‪.250 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)‪ (8‬نظام الحكم في السلم‪.250 :‬‬ ‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬رقم‪.1851 :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة رقم‪.1852 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)‪ (1‬نظام الحكم في السلم‪ (2) .253 :‬المصدر السابق‪.253 :‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪10‬‬

‫)( فقه الشورى‪ :‬د‪ .‬الشاوي‪439 :‬؛ عصر الخلفة والخلفاء الراشدين‪.30 :‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪108‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الدولة السلمية أو عند فقدها؛ لما يترتب على هذه البيعة‬ ‫)‪(1‬‬
‫في ظل‬
‫من أحكام‪.‬‬
‫وخلصة القول‪ :‬إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولء‬
‫والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى‪ ،‬وأنها‬
‫في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين‪ :‬المام من جهة وهو‬
‫الطرف الول‪ ،‬والمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني‪ ،‬فالمام‬
‫يبايع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة السلمية‬
‫عقيدة وشريعة ونظام حياة‪ ،‬والمة تبايع على الخضوع والسمع‬
‫والطاعة للمام في حدود الشريعة‪.‬‬
‫فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في السلم تفرد به‬
‫عن غيره من النظم الخرى في القديم والحديث‪ ،‬ومفهومه أن‬
‫الحاكم والمة كليهما مقيد بما جاء به السلم من الحكام الشرعية‪،‬‬
‫ول يحق لحدهما سواء كان الحاكم أو المة ممثلة بأهل الحل والعقد‬
‫الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الحكام التي تصادم الكتاب‬
‫والسنة‪ ,‬أو القواعد العامة في الشريعة‪ ،‬ويعد مثل ذلك خروج على‬
‫السلم؛ بل إعلن الحرب على النظام العام للدولة السلمية‪ ،‬بل‬
‫أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة اليمان )‪ ،(2‬قال‬
‫ّ‬
‫جَر‬‫ش َ‬ ‫ما َ‬ ‫في َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫َ‬
‫ك ل َ يُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وَرب ّ َ‬ ‫فل َ َ‬‫تعالى‪َ + :‬‬
‫موا‬‫سل ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫ت َ‬ ‫ضي ْ َ‬ ‫ما ق َ‬ ‫َ‬ ‫م ّ‬‫جا ّ‬ ‫حَر ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ُ‬
‫في أن ْف ِ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫َ‬
‫م ل يَ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬‫ه ْ‬
‫ب َي ْن َ ُ‬
‫ما" ]النساء‪.[65 :‬‬ ‫سِلي ً‬‫تَ ْ‬
‫فهذا مفهوم البيعة من خلل عصر أبي بكر الصديق ‪.‬‬
‫‪ -2‬مصدر التشريع في دولة الصديق‪:‬‬
‫قال أبو بكر ‪ :‬أطيعوني ما أطعت الله ورسوله‪ ،‬فإن عصيت‬
‫الله ورسوله فل طاعة لي عليكم )‪ ،(3‬فمصدر التشريع عند الصديق‪:‬‬
‫أ‪ -‬القرآن الكريم‪:‬‬
‫ن‬
‫م ب َي ْ َ‬‫حك ُ َ‬ ‫ق ل ِت َ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ما" ]النساء‪.[105 :‬‬ ‫صي ً‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬ ‫كن ل ّل ْ َ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ك الل ُ‬ ‫ما أ ََرا َ‬‫س بِ َ‬‫الّنا ِ‬
‫فهو المصدر الول الذي يشتمل على جميع الحكام الشرعية‬
‫التي تتعلق بشئون الحياة‪ ،‬كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكامًا‬
‫قاطعة لصلح كل شعبة من شعب الحياة‪ ،‬كما بين القرآن الكريم‬
‫للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم‪.‬‬
‫ب‪ -‬السنة المطهرة‪:‬‬
‫هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور السلمي أصوله‪،‬‬
‫ومن خللها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لحكام القرآن‬
‫)‪.(4‬‬
‫إن دولة الصديق خضعت للشريعة‪ ،‬وأصبحت سيادة الشريعة‬
‫)( نظام الحكم في السلم‪.254 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نظام الحكم في السلم‪ (2) .153 ،152 :‬البداية والنهاية‪.6/306 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( فقه التمكين في القرآن الكريم للصلبي‪ :‬ص ‪.432‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪109‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫السلمية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون‪ ،‬وأعطيت لنا صورة‬
‫مضيئة مشرقة على أن الدولة السلمية دولة شريعة‪ ،‬خاضعة بكل‬
‫أجهزتها لحكام)‪(1‬هذه الشريعة‪ ،‬والحاكم فيها مقيد بأحكامها ل يتقدم‬
‫ول يتأخر عنها ‪.‬‬
‫ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة‪ ،‬الشريعة فوق الجميع‬
‫يخضع لها‬
‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من المة‬
‫بطاعة الله ورسوله؛‬
‫الله × قال‪» :‬ل طاعة في المعصية‪ ،‬إنما الطاعة في‬ ‫لن رسول‬
‫المعروف« )‪.(2‬‬
‫‪ -3‬حق المة في مراقبة الحاكم ومحاسبته‪:‬‬
‫‪.‬‬ ‫قال أبو بكر ‪ :‬فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني‬
‫)‪(3‬‬

‫فهذا الصديق يقر بحق المة وأفرادها في الرقابة على أعماله‬


‫ومحاسبته عليها؛ بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه‪ ،‬وإلزامه‬
‫بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي‪ (4),‬وقد أقر الصديق‬
‫في بداية خطابه للمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة‪ ،‬وأنه‬
‫ل يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛‬
‫لن عهد الرسالت والرسل المعصومين قد انتهى‪ ،‬وأن آخر رسول‬
‫كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه‪ ،‬وقد كانت له سلطة دينية‬
‫مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من‬
‫× أصبح‬ ‫السماء‪ ،‬ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته ×‪ ،‬وبعد وفاته‬
‫الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض المة له )‪.(5‬‬
‫إن المة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على‬
‫المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم‪ ،‬فالواجب على الرعية‬
‫ُنصرة المام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور‬
‫الدين والجهاد‪ ،‬ومن نصرة المام أل يهان‪ ،‬ومن معاضدته أن ُيحترم‬
‫وأن ُيكرم‪ ،‬فقوامته على المة وقيادته لها لعلء كلمة الله تستوجب‬
‫ما لشرع الله الذي ينافح عند‬ ‫إجلله وإكرامه وتبجيله‪ ،‬إجللً وإكرا ً‬
‫ويدافع عنه‪ ،‬قال رسول الله ×‪» :‬إن من إجلل الله تعالى‪ :‬إكرام‬
‫القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه‪،‬‬ ‫ذي الشيبة المسلم‪ ،‬وحامل‬
‫وإكرام ذي السلطان المقسط«‪ (6).‬والمة واجب عليها أن تناصح‬
‫ولة أمورها‪ ،‬قال ×‪» :‬الدين النصيحة« ‪-‬ثلثا‪ -‬قال الصحابة‪ :‬لمن يا‬
‫رسول الله؟ قال‪» :‬لله ‪-‬عز وجل‪ -‬ولكتابه ولرسوله ولئمة‬
‫المسلمين وعامتهم«‪ (7).‬ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء‬
‫المة على الستقامة رهن باستقامة ولتها‪ ،‬ولذلك كان من واجبات‬
‫الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم‪.‬‬

‫)( نظام الحكم في السلم‪ :‬ص ‪.227‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬البخاري رقم‪.7145 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (4) ,(3‬فقه الشورى والستشارة‪:‬‬ ‫)( البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.441‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (5‬صحيح سنن أبي داود رقم‪.3504 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب )اليمان(‪ ،‬باب )أن الدين نصيحة(‪ ،‬رقم‪.55 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪110‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق ‪،‬‬
‫وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية‪ ،‬تمد الحاكم‬
‫بالخطط‪ ،‬وتزوده بالمعلومات‪ ،‬وتشير عليه بما يحسن أن يقرره‪.‬‬
‫والشيء المحزن أن كثيرًا من الدول السلمية تعرض عن هذا‬
‫النظام الحكيم‪ ،‬فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم‪،‬‬
‫والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إل نتيجة لتسلط‬
‫بغيض‪» ،‬ودكتاتورية« لعينة أماتت في المة روح التناصح والشجاعة‪،‬‬
‫وبذرت فيها وزرعت بها الجبن والفزع إل من رحم ربي‪ ،‬وأما المة‬
‫بأسباب‪(1‬القوة‬ ‫التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته وتأخذ‬
‫والتمكين في الرض‪ ،‬فتنطلق إلى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله ) ‪.‬‬
‫‪ -4‬إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس‪:‬‬
‫قال أبو بكر ‪ :‬الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه‬
‫إن شاء الله‪ ،‬والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله‬
‫)‪.(2‬‬
‫إن من أهداف الحكم السلمي الحرص على إقامة قواعد النظام‬
‫السلمي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم‪ ،‬ومن أهم هذه‬
‫القواعد‪ :‬الشورى والعدل‪ ،‬والمساواة والحريات‪ .‬ففي خطاب‬
‫الصديق للمة أقر هذه المبادئ‪ ،‬فالشورى تظهر في طريقة اختياره‬
‫وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع‪ ,‬بمحضر من جمهور‬
‫المسلمين‪ ،‬وأما عدالته فتظهر في نص خطابه‪ ،‬ول شك أن العدل‬
‫في فكر أبي بكر هو عدل السلم‪ ،‬الذي هو الدعامة الرئيسية في‬
‫إقامة المجتمع السلمي والحكم السلمي‪ ،‬فل وجود للسلم في‬
‫مجتمع يسوده الظلم ول يعرف العدل‪.‬‬
‫إن إقامة العدل بين الناس أفرادًا وجماعات ودولً‪ ،‬ليست من‬
‫المور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو المير وهواه؛ بل إن‬
‫تعد من أقدس الواجبات‬ ‫إقامة العدل بين الناس في الدين السلمي‬
‫وأهمها‪ ،‬وقد أجمعت المة على وجوب العدل)‪ ،(3‬قال الفخر الرازي‬
‫الله‪ :-‬أجمعوا على أن من كان حاكمًا وجب عليه أن يحكم‬ ‫‪-‬رحمه‬
‫بالعدل )‪.(4‬‬
‫وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية‪ .‬إن من‬
‫أهداف دولة السلم إقامة المجتمع السلمي الذي تسود فيه قيم‬
‫العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بجميع أشكاله وأنواعه‪،‬‬
‫وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه‬
‫أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها‪ ،‬دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو‬
‫مال‪ ،‬وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق‬‫ً‬
‫صاحب الحق من الوصول إلى حقه‪.‬‬
‫لقد أوجب السلم على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون‬
‫النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الجتماعية‪ ،‬فهو يعدل بين‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪(2) .249‬البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫)(‬

‫)( فقه التمكين في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪ (4) .455‬تفسير الرازي‪.10/141 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫‪111‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المتخاصمين ويحكم بالحق‪ ،‬ول يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء‬


‫عمال أو أصحاب عمل )‪ ،(1‬قال تعالى‪َ+ :‬يا‬ ‫ً‬ ‫َأو أعداء‪ ،‬أغنياء أو فقراء‪،‬‬
‫ول َ‬ ‫ط‬
‫َْ ِ َ‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫دا‬
‫َ َ ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫ش‬‫ُ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫لل‬ ‫ن‬ ‫ّ َِ َ‬‫مي‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫نوا‬ ‫مُنوا ُ‬
‫كو ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ب‬ ‫ر‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫لوا‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫نآ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ج ِ َ‬
‫ر‬ ‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ْ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن" ]المائدة‪.[8 :‬‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫م‬
‫ْ َ‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ب‬
‫ِ ٌ ِ َ‬‫ر‬ ‫بي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫َ ِ ّ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫وى‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫ِلل‬
‫لقد كان الصديق ‪ ‬قدوة في عدله‪ ،‬يأسر القلوب ويبهر اللباب‪،‬‬
‫فالعدل في نظره دعوة عملية للسلم فيه تفتح قلوب الناس‬
‫لليمان‪ .‬لقد عدل بين الناس في العطاء‪ ،‬وطلب منهم أن يكونوا‬
‫القصاص من نفسه في واقعة تدل على‬ ‫عونا له في العدل‪ ،‬وعرض‬ ‫ً‬
‫العدل والخوف من الله سبحانه )‪ ،(2‬فعن عبد الله بن عمرو بن‬
‫العاص ‪ :‬أن أبي بكر الصديق ‪ ‬قام يوم جمعة فقال‪ :‬إذا كنا‬
‫بالغداة فأحضروا صدقات البل نقسمها‪ ،‬ول يدخل علينا أحد إل بإذن‪،‬‬
‫فقالت امرأة لزوجها‪ :‬خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملً‪ ،‬فأتى‬
‫الرجل فوجد أبا بكر وعمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬قد دخل إلى البل‬
‫فدخل معهما‪ ،‬فالتفت أبو بكر فقال‪ :‬ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه‬
‫الخطام فضربه‪ ،‬فلما فرغ أبو بكر من قسم البل دعا الرجل‬
‫فأعطاه الخطام وقال‪ :‬استقد‪ ،‬فقال عمر‪ :‬والله ل يستقد ول تجعلها‬
‫سنة‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر‪ :‬أرضه‪،‬‬
‫بكر‪(3‬غلمه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير‬ ‫فأمر أبو‬
‫فأرضاه بها ) ‪.‬‬
‫وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على‬
‫المة فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها السلم‪ ،‬وهي من المبادئ‬
‫التي تساهم في بناء المجتمع المسلم‪ ،‬وسبق به تشريعات وقوانين‬
‫تأكيدا لمبدأ المساواة‬ ‫ً‬ ‫العصر الحاضر‪ ،‬ومما َورد في القرآن الكريم‬
‫وُأنَثى‬ ‫ٍ َ‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫كم‬‫ُ‬ ‫نا‬
‫َ‬
‫خل َ ْ‬
‫ق َ‬ ‫س إ ِّنا َ‬
‫ها الّنا ُ‬ ‫قول الله تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫د‬ ‫عن‬
‫َ َ ْ ِ َ‬‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫عا‬ ‫ت‬
‫ِ َ َ َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ق َ ِ‬
‫ئ‬ ‫با‬ ‫و َ‬‫عوًبا َ‬ ‫ش ُ‬‫م ُ‬‫عل َْناك ُ ْ‬
‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫خِبيٌر" ]الحجرات‪.[13 :‬‬ ‫م َ‬ ‫ٌ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ْ ِ ّ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫أ َت ْ‬
‫إن الناس جميعًا في نظر السلم سواسية؛ الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬العرب والعجم‪ ،‬البيض والسود‪ .‬لقد ألغى السلم‬
‫النسب أو الطبقة‪،‬‬ ‫الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو‬
‫والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء‪ (4).‬وجاءت‬
‫ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك؛ حيث يقول‪:‬‬
‫»وليت عليكم ولست بخيركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت‬
‫حتى آخذ الحق منه‪ ،‬والضعيف‬ ‫)‪(5‬‬
‫فقوموني‪ .‬القوي فيكم ضعيف عندي‬
‫فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه«‪.‬‬
‫وكان ‪‬ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية‬
‫بين الناس؛ فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر ‪ ،‬كان له بيت مال‬
‫نح ْمعروف‪ ،‬ليس يحرسه أحد‪ ،‬فقيل له‪ :‬أل تجعل على بيت المال‬ ‫س‬
‫بال ّ‬
‫فقه التمكين في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪.459‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء‪ :‬ص ‪.410‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر السابق‪ :‬ص ‪.411‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫فقه التمكين في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪.461 ،460‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪112‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫م؟ قال‪ :‬عليه قفل! وكان‬ ‫من يحرسه؟ فقال‪ :‬ل يخاف عليه‪ ،‬قيل له‪ :‬ول ِ َ‬
‫شيئا‪ ،‬فلما تحول إلى المدينة حوله معه‬ ‫ً‬ ‫يبقى فيه‬ ‫يعطي ما فيه حتى ل ُ‬
‫فجعله في الدار التي كان فيها‪ ،‬وقدم عليه مال من معدن من معادن‬
‫سليم في خلفته‪ ،‬فقدم عليه منه‬ ‫جهينة‪ ،‬فكان كثيرًا‪ ،‬وانفتح معدن بني ُ‬ ‫ُ‬
‫بصدقة‪ ،‬فكان يضع ذلك في بيت المال‪ ،‬فيقسمه بين الناس سويًا‪ ،‬بين‬
‫الحر والعبد‪ ،‬والذكر والنثى‪ ،‬والصغير والكبير على السواء‪ ،‬قالت‬
‫عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬فأعطى َأول عام الحر ّ عشرة والمملوك‬
‫تها عشرة‪ ،‬ثم قسم في العام‬ ‫مَ‬‫عشرة‪ ،‬وأعطى المرأة عشرة‪ ،‬وأ َ‬
‫الثاني‪ ،‬فأعطاهم عشرين عشرين‪ ،‬فجاء ناس من المسلمين فقالوا‪ :‬يا‬
‫خليفة رسول الله‪ :‬إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس‪ ،‬ومن‬
‫الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم‪ ،‬فلو فضلت أهل السوابق‬
‫والقدم والفضل‪ .‬فقال‪ :‬أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما‬
‫أعرفني بذلك‪ ،‬وإنا ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه‪ ،‬وهذا معاش‪،‬‬
‫فالسوة فيه خير من الثرة‪(1).‬فقد كان توزيع العطاء في خلفته على‬
‫التسوية بين الناس‪ ،‬وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك فقال‪:‬‬
‫أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين‪ ،‬وبين من أسلم‬
‫عام الفتح؟ فقال أبو بكر‪ :‬إنما عملوا لله‪ ،‬وإنما أجورهم على الله‪،‬‬
‫وإنما الدنيا بلغ للراكب‪.‬‬
‫ورغم أن عمر ‪ ‬غير في طريقة التوزيع فجعل التفضيل‬
‫بالسابقة إلى السلم‬
‫والجهاد إل أنه في نهاية خلفته قال‪ :‬لو استقبلت من أمري ما‬
‫استدبرت لرجعت إلى‬
‫طريقة أبي بكر فسويت بين الناس )‪.(2‬‬
‫وكان يشتري البل والخيل والسلح فيحمل في سبيل الله‪،‬‬
‫عاما قطائف )القطيفة‪ :‬كساء مخمل( أتى بهما من البادية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واشترى‬
‫ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء‪ ،‬وقد بلغ المال الذي ورد‬
‫على أبي بكر في خلفته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير )‪.(3‬‬
‫لقد اتبع أبو بكر ‪ ‬المنهج الرباني في إقرار العدل‪ ،‬وتحقيق‬
‫المساواة بين الناس‪ ،‬وراعى حقوق الضعفاء‪ ،‬فرأى أن يضع نفسه‬
‫في كفة هؤلء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد‬
‫وإرادة واعية ل تستذلها عوامل القوة الرضية تحت أقدام قومه‪،‬‬
‫ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته‪ ،‬ويحفظ لها دورها في‬
‫حراسة الملة والمة)‪.(4‬‬
‫لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية؛‬
‫فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم‪ ،‬ولهذا وضع الصديق‬
‫مُر‬ ‫ْ‬
‫ه ي َأ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ء‬
‫شا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ء ِذي ال ْ ُ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ْ‬ ‫ع ِ‬‫هى َ‬ ‫وي َن ْ َ‬‫قْرَبى َ‬ ‫وِإيَتا ِ‬‫ن َ‬ ‫سا ِ‬
‫ح َ‬
‫وال ْ‬
‫ل َ‬
‫عد ْ ِ‬
‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬لطنطاوي‪ ،‬ص ‪ .188 ،187‬ابن سعد‪.3/193 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص ‪ (2) .201‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.258‬‬ ‫‪3‬‬

‫ديق‪ ،‬لهيكل باشا‪ :‬ص ‪.224‬‬‫)‪ (4‬الص ّ‬ ‫)( أبو بكر رجل الدولة‪46 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪113‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن" ]النحل‪.[90 :‬‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م ت َذَك ُّرو َ‬ ‫م لَ َ‬
‫عظُك ُ ْ‬
‫ي يَ ِ‬ ‫غ ِ‬‫وال ْب َ ْ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫من ْك َ ِ‬
‫ر َ‬ ‫َ‬
‫ن المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة‬ ‫كان أبو بكر يريد أن يطمئ َ‬
‫إليه وإنما تتم الطمأنية للمسلمين ما قام الحاكم فيهم على أساس‬
‫من العدل المجرد عن الهوى‪.‬‬
‫والحكم على هذا الساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل‬
‫اعتبار شخصي‪ ،‬وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين‪ ،‬وقد كانت‬
‫نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات‪،‬‬
‫والتجرد لله تجردًا مطلقًا جعله يشعر بضعف الضعيف‪ ،‬وحاجة‬
‫المجتمع‪ ،‬ويسمو بعدله على كل هوى‪ ،‬وينسى في سبيل ذلك نفسه‬
‫وأبناءه وأهله‪ ،‬ثم يتبع أمور الدولة جليلها ورقيقها‪ ،‬بكل ما أتاه الله‬
‫من يقظة وحذر )‪.(1‬‬
‫وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس؛ فالضعيف آمن‬
‫على حقه‪ ،‬وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل‪ ،‬فهو به‬
‫قوي ل يمنع حقه ول يضيع‪ ،‬والقوي حين يظلم يردعه الحق‪ ،‬وينتصف‬
‫منه للمظلوم‪ ،‬فل يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو‬
‫مكانة‪ ،‬وذلك هو العز الشامخ‪ ،‬والتمكين الكامل في الرض )‪.(2‬‬
‫وما أجمل ما قاله ابن تيمية ‪-‬رحمه الله‪ :-‬إن الله ينصر الدولة‬
‫العادلة وإن كانت‬
‫كافرة‪ ،‬ول ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة‪ ...‬بالعدل تستصلح‬
‫الرجال‪،‬‬
‫وتستغزر الموال)‪.(3‬‬
‫‪ -5‬الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم‪:‬‬
‫قال أبو بكر ‪»:‬الصدق أمانة والكذب خيانة«‪ (4).‬أعلن الصديق‬
‫‪ ‬مبدأ أساسيًا تقوم عليه خطته في قيادة المة‪ ،‬وهو‪ :‬أن الصدق‬
‫بين الحاكم والمة وهو أساس التعامل‪ ،‬وهذا المبدأ السياسي‬
‫الحكيم له الثر الهام في قوة المة؛ حيث ترسيخ جسور الثقة بينها‬
‫سياسي منطلق من دعوة السلم إلى‬ ‫َ‬ ‫وبين حاكمها‪ ،‬إنه خلق‬
‫و ُ‬
‫كوُنوا‬ ‫ه َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الصدق‪ ،‬قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]التوبة‪ ،[119 :‬ومن التحذير منه كقول رسول الله‬ ‫قي َ‬‫صاِد ِ‬
‫ع ال ّ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫×‪» :‬ثلثة ل يكلمهم الله يوم القيامة ول يزكيهم ول ينظر‬
‫إليهم ولهم عذاب أليم‪ :‬شيخ زان‪ ،‬وملك كذاب‪ ،‬وعائل‬
‫مستكبر« )‪.(5‬‬
‫فهذه الكلمات‪» :‬الصدق أمانة« اكتست بالمعاني‪ ،‬فكأن لها روحًا‬
‫تروح بها وتغدو بين الناس؛ تلهب الحماس‪ ،‬وتصنع المل‪» .‬والكذب‬
‫‪1‬‬
‫)(‬

‫)‪ (2‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.246‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫)( السياسة الشرعية‪ :‬ص ‪.10‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬رقم‪.172 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪114‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫خيانة«‪ ،‬وهكذا يأبى أبو بكر إل أن يمس المعاني‪ ،‬فيسمي الشياء‬
‫بأسمائها‪ ،‬فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز‬
‫المة ثم يخدعها‪ ،‬فما أتعس حاكمًا يتعاطى الكذب فيسميه بغير‬
‫اسمه‪ ،‬لقد نعته الصديق بالخيانة‪ ،‬وأنه عدو أمته الول‪ ..‬وهل بعد‬
‫الخيانة من عداوة؟ حقًا ما زال الصديق يطل على الدنيا من موقفه‬
‫هذا فيرفع أقوامًا ويسقط آخرين!!‪.‬‬
‫وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم؛ إذ هم عدة المة‬
‫ورصيدها الذي تدفع به عن نفسها ملمات اليام‪ ،‬ول شك أن من‬
‫رائدا في هذا‬
‫ً‬ ‫تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقه الخبر بأن الرجل كان‬
‫الفن الرفيع؛ فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم‪ (1).‬إن شعوب‬
‫العالم اليوم تحتاج إلى هذا المنهج الرباني في التعامل بين الحاكم‬
‫والمحكوم‪ ،‬لكي تقاوم أساليب تزوير النتخابات وتلفيق التهم‪،‬‬
‫واستخدام العلم وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون‬
‫الحكام أو ينتقدونهم‪ ،‬ول بد من إشراف المة على التزام الحكام‬
‫مؤسساتها التي تساعدها على تقويم‬ ‫بالصدق والمانة من خلل‬
‫ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا )‪ ،(2‬فتمنعهم من سرقة إرادتهم‬
‫وشرفهم وحريتهم وأموالهم‪.‬‬
‫‪ -6‬إعلن التمسك بالجهاد وإعداد المة لذلك‪:‬‬
‫أبو‪(3‬بكر ‪ :‬وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إل خذلهم‬ ‫قال‬
‫الله بالذل) ‪ ،‬لقد تلقى أبو بكر تربيته الجهادية مباشرة من نبيه‬
‫وقائده العظيم ×‪ ،‬تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك‬
‫واليمان‪ ،‬والضلل والهدى‪ ،‬والشر والخير‪ ،‬ولقد ذكرت مواقف‬
‫الصديق في غزوات الرسول ×‪ ،‬ولقد فهم الصديق ‪ ‬من حديث‬
‫رسول الله ×‪» :‬إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر‪ ،‬ورضيتم‬
‫وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذل ً ل ينزعه حتى ترجعوا إلى‬ ‫)‪(4‬‬
‫بالزرع‪،‬‬
‫الجهاد‪ ،‬فلذلك جعل‬ ‫تركت‬ ‫إذا‬ ‫بالذل‬ ‫تصاب‬ ‫المة‬ ‫إن‬ ‫دينكم«‪.‬‬
‫الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته )‪ ،(5‬ولذلك حشد‬
‫طاقات المة من أجل الجهاد؛ لكي يرفع الظلم عن المظلومين‪،‬‬
‫ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين‪ ،‬ويعيد الحرية للمحرومين‪،‬‬
‫وينطلق بدعوة الله في آفاق الرض يزيل كل عائق ضدها‪.‬‬
‫‪ -7‬إعلن الحرب على الفواحش‪:‬‬
‫)‪ (6‬قال أبو بكر ‪ :‬ول تشيع الفاحشة في قوم إل عمهم الله بالبلء‬
‫‪ ،‬والصديق هنا يذكر المة بقول النبي ×‪» :‬لم تظهر الفاحشة في‬
‫الطاعون والوجاع التي لم‬ ‫قوم قط حتى ُيعلنوا بها‪ ،‬إل فشا فيهم‬
‫تكن مضت في أسلفهم الذين مضوا‪ (7) .«...‬إن الفاحشة هي داء‬
‫المجتمع العضال الذي ل دواء له‪ ،‬وهي سبيل تحلله وضعفه حيث ل‬
‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ ،‬مجدي حمدي‪ :‬ص ‪.37 ،36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬فقه الشورى والستشارة‪ :‬ص ‪ (2) .442‬البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬سنن أبي داود رقم‪ ،3462 :‬صححه اللباني‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.73‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/305 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( صحيح اللباني‪ ،2/370 :‬رقم الحديث في ابن ماجه‪.4019 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪115‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫قداسة لشيء؛ فالمجتمع الفاحش ل يغار ويقر الدنية ويرضاها‪ ،‬إنه‬
‫وحال الناس أدل شاهد‪.‬‬ ‫مجتمع الضعف والعار والوجاع والسقام‬
‫لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم المة وأخلقها )‪ ،(1‬فقد حرص في‬
‫سياسته على طهر المة ونقائها‪ ،‬وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها‬
‫وما بطن‪ ،‬وهو ‪ ‬يريد بذلك أمة قوية ل تشغلها شهواتها‪ ،‬ول يضلها‬
‫شيطانها‪ ،‬لتعيش أمة منتجة تعطي الخير‪ ،‬وتقدم الفضل لكل الناس‪.‬‬
‫إن علقة الخلق بقيام الدولة وظهور الحضارة علقة ظاهرة‪،‬‬
‫فإن فسدت الخلق وخربت الذمم ضاعت المم‪ ،‬وعمها الفساد‬
‫والدمار‪ .‬والدارس لحياة المم السابقة والحضارات السالفة بعين‬
‫البصيرة يدرك كيف قامت حضارات على الخلق الكريمة والدين‬
‫الصحيح؛ كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليهما‬
‫السلم‪ ،‬والتي قامت في زمن ذي القرنين‪ ،‬وكثير من المم التي‬
‫التزمت بالقيم والخلق فظلت قوية طالما حافظت عليها‪ ،‬فلما دب‬
‫سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين‪ ،‬وبدلت نعمة)‪(2‬الله كفرًا‪،‬‬
‫وأحلت قومها دار البوار‪ ،‬فنزلت قوتها‪ ،‬وتلشت حضارتها‪.‬‬
‫إن الصديق ‪ ‬استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول‬
‫والفساد‪ ،‬والنغماس في‬ ‫بالترفدَنا َ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫وزوالها‪ ،‬وفهم أن زوال الدول يكون‬
‫ة‬
‫قْري َ ً‬ ‫ك َ‬ ‫هل ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫ْ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َالفواحش والموبقات قال تعالى‪ِ َ + :‬‬
‫إ‬ ‫و‬
‫ها‬ ‫مْرَنا َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ف َ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬ ‫قوا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫ها َ‬ ‫في َ‬ ‫مت َْر ِ‬ ‫مْرَنا ُ‬ ‫أ َ‬
‫ميًرا" ]السراء‪ ،[16 :‬أي‪ :‬أمرناهم بالمر الشرعي من فعل‬ ‫ت َدْ ِ‬
‫العذاب‬ ‫)‪(3‬‬
‫عليهم‬ ‫فحق ‪+‬أ َ‬ ‫الطاعات وترك المعاصي فعصوا وفسقوا‬
‫مْرَنا"‬ ‫ّ‬ ‫قراءة‪:‬‬ ‫والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم‪ .‬وفي‬
‫بالتشديد أي‪ :‬جعلناهم أمراء‪ .‬والترف وإن كان كثرة المال‬
‫حالة نفسية ترفض الستقامة على‬ ‫والسلطان من أسبابه‪ ،‬إل أنه‬
‫منهج الله وليس كل ثراء ترًفا )‪.(4‬‬
‫إن سياسية الصديق في حربه للفواحش حري بحكام المسلمين‬
‫أن يقتدوا به‪ ،‬فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على‬
‫الخلق القويمة؛ لنه حينئذ سيقود شعبًا أحس طعم الدمية‪ ،‬وجرى‬
‫في عروقه دم النسانية‪ ،‬وأما إن سُلب الحاكم الذكاء وصار من‬
‫الغبياء‪ ..‬أشاع الفاحشة في قومه‪ ،‬وعمل على حمايتها بالقوة‬
‫والقانون‪ ،‬وحارب القيم والخلق الحميدة‪ ،‬ودفع بقومه إلى‬
‫مستنقعات الرذيلة ليصبحوا كالحيوانات الضالة والقطعان الهائمة‪ ،‬ل‬
‫الخادعة‪ ،‬فيصبحوا بعد ذلك أقزامًا‪ ،‬قد‬ ‫)‪(5‬‬
‫هم لها إل المتاع والزينة‬
‫تعالى‪:‬‬ ‫ة يأ ْ‬ ‫الله‬ ‫قول‬ ‫فيهم‬ ‫ويصدق‬ ‫والشهامة‪.‬‬ ‫ودعوا الرجولة‬
‫ها‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ز‬ ‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ها‬ ‫تي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫م‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫آ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫ً‬ ‫ي‬
‫ْ َ‬‫ر‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬
‫ب الل ُ َ‬
‫ه‬ ‫ضَر َ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫س‬
‫َ‬
‫با‬ ‫ِ‬ ‫ل‬
‫َ ِ‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫ها‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫فَأ َ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ّ‬
‫الل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫فرت ب ْأ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫دا‬ ‫َر َ‬
‫غ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ن" ]النحل‪.[112 :‬‬ ‫عو َ‬ ‫صن َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ما‬ ‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬‫ِ َ‬ ‫ع‬ ‫جو‬ ‫ُ‬ ‫ال ْ‬
‫هذه بعض التعليقات التي فتح الله بها بما ترى على البيان الذي‬
‫)‪ (2‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص‬ ‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.252‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير ابن كثير‪.5/85 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( منهج كتابة التاريخ السلمي‪ ،‬محمد هامل‪ :‬ص ‪.65‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.253‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪116‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ألقاه الصديق للمة‪ ،‬والذي رسم فيه سياسة الدولة‪ ،‬فحدد مسئولية‬
‫الحاكم ومدى العلقة بينه وبين المحكومين‪ ،‬وغير ذلك من القواعد‬
‫المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب‪ ،‬وهكذا قامت الخلفة‬
‫تحديدا عمليًا‪ ،‬وكان حرص المة‬‫ً‬ ‫السلمية‪ ،‬وتحدد مفهوم الحكم‬
‫على منصب الخلفة واختيار الخليفة على هذه الصورة‪ ،‬ومسارعة‬
‫الناس إلى الرضا بذلك‪ ,‬دليلً على أنهم كانوا يسلمون بأن النظام‬
‫الذي أنشأه النبي ‪-‬عليه الصلة والسلم‪ -‬واجب البقاء‪ ،‬وأن النبي ×‬
‫دينا وكتابًا يسيرون على هديه؛ فرضاء‬ ‫وإن مات فإنه خلف فيهم ً‬
‫يومئذ يعبر عن إرادة الستمرار في ظل النظام الذي أنشأه‬ ‫الناس‬
‫النبي × )‪.(1‬‬
‫زمنً ليس بكثير‪ ،‬وعين أبو‬‫إن حكومة الصديق ‪‬تمتع بها المسلمين ا‬
‫بكر حد السلطة العليا فيها بتلك الخطبة الراقية على مستوى أنظمة‬
‫ل ّ‪(2‬أن يجد‬‫الحكم في ذلك العصر وفي هذا الزمن؛ فهي حكومة شورية ق‬
‫طلب الحرية والعدل في كل عصر أحسن لسياسة المم منها ) ‪ ،‬قادها‬
‫التلميذ النجب والذكى والعلم والعظم إيمانا للحبيب المصطفى ×‪،‬‬
‫أبو بكر ‪.‬‬
‫وقد بّين المام مالك بأنه ل يكون أحد إمامًا أبدًا إل على هذا‬
‫الشرط )‪(3‬؛ يقصد بالمضامين العظيمة التي ألقاها الصديق في بيانه‬
‫السياسي الول‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬إدارة الشئون الداخلية‪:‬‬
‫أراد الصديق ‪ ‬أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته‪ ،‬واتخذ من‬
‫أعوانا يساعدونه على ذلك‪ ،‬فجعل أبا عبيدة بن‬‫ً‬ ‫الصحابة الكرام‬
‫الجراح أمين هذه المة )وزير المالية(‪ ،‬فأسند إليه شئون بيت المال‪،‬‬
‫وتولى عمر بن الخطاب القضاء )وزارة العدل(‪ ،‬وباشر الصديق‬
‫أيضا‪ ،‬وتولى زيد بن ثابت الكتابة )وزير البريد‬
‫ً‬ ‫القضاء بنفسه‬
‫والمواصلت()‪ (4‬وأحيانًا يكتب له من يكون حاضرا من الصحابة؛‬
‫كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن عفان رضي الله عنهم‪ .‬وأطلق‬
‫المسلمون على الصديق لقب خليفة رسول الله‪ ،‬ورأى الصحابة‬
‫تاجرا يغدو‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫رجل‬ ‫ضرورة تفريغ الصديق للخلفة‪ ،‬فقد كان أبو بكر ‪‬‬
‫كل يوم إلى السوق‪ ،‬فيبيع ويبتاع‪ ،‬فلما استخلف أصبح غاديًا إلى‬
‫السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها‪ ،‬فلقيه عمر وأبو عبيدة فقال‪ :‬أين‬
‫تريد يا خليفة رسول الله؟ قال‪ :‬السوق‪ .‬قال‪ :‬تصنع ماذا وقد وليت‬
‫أمور المسلمين؟ قال‪ :‬فمن أين أطعم عيالي؟ فقال‪ :‬انطلق معنا‬
‫شيئا‪ ،‬فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حتى نفرض لك‬
‫)‪ (5‬وجاء في »الرياض النضرة« أن رزقه الذي فرضوه له خمسون‬
‫ومائتا دينار في السنة‪ ،‬وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها‪ ،‬فلم‬
‫يكن يكفيه ذلك ول عياله‪ ،‬قالوا‪ :‬وقد كان قد ألقي كل دينار ودرهم‬
‫عنده في بيت مال المسلمين‪ ،‬فخرج إلى البقيع فتصافق »بايع«‪،‬‬
‫دراسات في الحضارة السلمية‪ ،‬أحمد إبراهيم الشريف‪ :‬ص ‪.210 ،209‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أشهر مشاهير السلم في الحرب والسياسة‪ :‬ص ‪.120‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ :‬ص ‪.92‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫في التاريخ السلمي‪ ،‬د‪ :‬شوقي أبو خليل‪ ،‬ص ‪.218‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الرياض النضرة في مناقب العشرة‪ :‬ص ‪.291‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪117‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فجاء عمر ‪ ‬فإذا هو بنسوة جلوس‪ ،‬فقال‪ :‬ما شأنكن؟ قلن‪ :‬نريد‬
‫السوق فأخذه‬ ‫خليفة رسول الله × يقضي بيننا‪ ،‬فانطلق فوجده في‬
‫ل ها هنا‪ .‬فقال‪ :‬ل حاجة لي في إمارتكم)‪ ،(1‬رزقتموني‬ ‫بيده فقال‪ :‬تعا َ‬
‫ما ل يكفيني ول عيالي‪ .‬قال‪ :‬فإنا نزيدك‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬ثلثمائة دينار‬
‫حالهما‬
‫)‪(2‬‬
‫والشاة كلها‪ .‬قال عمر‪ :‬أما هذا فل‪ ،‬فجاء علي ‪ ‬وهما على‬
‫تلك‪ ،‬قال‪ :‬أكملها له‪ ،‬قال‪ :‬ترى ذلك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬قد فعلنا‪.‬‬
‫وانطلق أبو بكر ‪ ‬فصعد المنبر‪ ،‬واجتمع إليه الناس فقال‪ :‬أيها‬
‫الناس‪ ،‬إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها‬
‫دينار والشاة‪،‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫ورأسها وأكارعها‪ ،‬وإن عمر وعليا كمل لي ثلثمائة‬
‫أفرضيتم؟ قال المهاجرون‪ :‬اللهم نعم‪ ،‬قد رضينا‪.‬‬
‫وهكذا وقف الصحابة في فهمهم الراقي لولية الدين وأمانة‬
‫الحكم يفرضون لمامهم رزقًا يغتني به عن التجارة‪ ،‬بعد إذ صار‬
‫عامل للمة تملك منه الوقت والجهد والفكر‪ ،‬ومن ثم يقررون معنى‬ ‫ً‬
‫في السلم بديعًا يفصل الذمة المالية للمة عن ذمة الحاكم‪.‬‬
‫هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إل في عهوده القريبة‪ ،‬إذا‬
‫ظلت راية )ما لقيصر لقيصر( مشرعة خفاقة يقاتل الناس دونها‬
‫أزمانا طويلة‪ .‬إن أصدق تعبير تقف به على دخول الذمة المالية‬ ‫ً‬
‫للدولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر‪ :‬أنا‬
‫الدولة والدولة أنا‪ .‬لقد كان لويس تاجر غلل معروفًا يتجر في قوت‬
‫أحد في ذلك شيئًا من العار‪،‬‬ ‫)‪(4‬‬
‫جوعا‪ ،‬ثم ل يرى‬
‫ً‬ ‫أمته‪ ،‬وهي تتضور‬
‫أليس هو الصل والمة فرع عنه؟‪.‬‬
‫أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن‬
‫الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون‪ ،‬ويتصرفون‬
‫كما يريدون‪ ،‬كما أصبحت لهم نفقات مستورة ل حصر لها‪ ،‬وفوق هذا‬
‫فقد تكدست لهم الموال لكثرتها وأكثرها يعود إلى الحكام وأمراء‬
‫الشعوب المستضعفة‪ ،‬مع أنه قد ظهر أن هذه الموال مهما بلغت‪،‬‬
‫شيئا‪ ،‬ول تغني صاحبها شيئًا‪ ،‬فإن‬ ‫ً‬ ‫والعقارات مهما كثرت‪ ،‬فإنها ل تكفي‬
‫ليأوي إليها‪ ،‬هذا في‬ ‫تقبله‬ ‫أرضا‬ ‫شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد‬
‫الدنيا‪ ،‬وأما في الخرة فالمر أشد والحساب عظيم )‪.(5‬‬
‫فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصحابي الجليل الذي أدار‬
‫دولة السلم بعد وفاة الرسول ×‪ ،‬فما أجمل قوله ‪ :‬لقد علم‬
‫قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشغلت بأمر‬
‫المسلمين‪ ،‬فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين‬
‫فيه)‪.(6‬‬
‫إن الصديق يؤكد معاني بديعة‪ ،‬فولية الدين ليست في حد ذاتها‬
‫لها من رزق فلما تقضي إليه من اشتغال عامل‬ ‫ما‪ ،‬أما ما يفرض‬ ‫مغن ً‬
‫المة عن أمر نفسه )‪.(7‬‬
‫)‪ (5،4،‬المصدر السابق نفسه‪ :‬ص ‪.291‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫)‪ (2‬التاريخ السلمي‪ ،‬محمود شاكر‪ :‬ص‬ ‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.35‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪.11‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬باب كسب الرجل وعلمه‪ ،‬رقم‪.2070 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (5‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.35‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪118‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫لقد سطر الصديق والصحابة الكرام صفحات رائعة في جبين‬
‫البشرية تسعى في سلم التطور وتسعى‪ ،‬ثم إذا هي‬ ‫الزمن‪ ،‬حتى إن‬
‫قابعة عند أقدامهم )‪.(1‬‬
‫سار الصديق في بناء دولة السلم بجد ونشاط واهتم بالبناء‬
‫الداخلي‪ ،‬ولم يترك أي ثغرة يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الذي تركه‬
‫رسول الله ×‪ ،‬فاهتم بالرعية وله مواقف مشرفة في هذا الباب‪،‬‬
‫وأعطى للقضاء اهتمامًا خاصًا‪ ،‬وتابع أمر الولة‪ ،‬وسار على المنهج‬
‫النبوي الكريم في كل خطواته‪ ،‬وإليك شيء من التفصيل عن تلك‬
‫السياسة الرشيدة‪:‬‬
‫‪ -1‬الصديق في المجتمع‪:‬‬
‫عاش الصديق ‪ ‬بين المسلمين كخليفة لرسول الله ×‪ ،‬فكان ل‬
‫يترك فرصة تمر إل عّلم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر‪،‬‬
‫فكانت مواقفه تشع على من حوله من الرعية بالهدى واليمان‬
‫والخلق‪ ،‬فمن هذه المواقف‪:‬‬
‫أ‪ -‬حلبه للغنام‪ ,‬والعجوز العمياء‪ ،‬وزيارة أم أيمن‪:‬‬
‫كان قبل الخلفة يحلب للحي فلما بويع له بالخلفة قالت جارية من‬
‫الحي‪ :‬الن ل يحلب لنا »أغنام« دارنا‪ ،‬فسمعها أبو بكر فقال‪ :‬لعمري‬
‫لق كنت عليه‪،‬‬ ‫خُ‬
‫لحلبنها لكم‪ ،‬وإني لرجو أل يغيرني ما دخلت فيه عن ُ‬
‫فكان يحلب لهن‪ ،‬وكن إذا أتينه بأغنامهن يقول‪ :‬أنضح أم ألبد؟ فإن‬
‫قالت‪ :‬انضح‪ ،‬باعد الناء من الضرع حتى تشتد الرغوة‪ ،‬وإن قالت‪ :‬ألبد‪،‬‬
‫سنح ستة أشهر ثم نزل‬ ‫أدناه منه حتى)‪(2‬ل تكون له رغوة‪ ،‬فمكث كذلك بال ّ‬
‫إلى المدينة ‪.‬‬
‫ففي هذا الخبر بيان شيء من أخلق أبي بكر الصديق ‪ ،‬فهذا‬
‫تواضع كبير من رجل كبير؛ كبير في سنه‪ ،‬وكبير في منزلته وجاهه‪،‬‬
‫حيث كان خليفة المسلمين‪ ،‬وكان حريصًا على أن ل تغير الخلفة‬
‫شيئا من معاملته للناس‪ ،‬وإن كان ذلك سيأخذ منه وقتًا هو بحاجة‬ ‫ً‬
‫‪-‬رضي الله‬ ‫الصحابة‬ ‫تقدير‬ ‫مقدار‬ ‫على‬ ‫يدلنا‬ ‫العمل‬ ‫هذا‬ ‫أن‬ ‫كما‬ ‫إليه‪.‬‬
‫عنهم‪ -‬لعمال البر والحسان‪ ،‬وإن كلفتهم الجهد والوقت )‪.(3‬‬
‫هذا أبو بكر ‪ ‬غلب بعزيمته الصادقة وثباته العجيب الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وأخضعها لدين الله‪ ،‬ثم بعث بها فقاتلت تحت ألويته‬
‫الدولتين الكبريين على وجه الرض وغلبت عليها‪ .‬أبو بكر‪ ..‬يحلب‬
‫لجواري الحي أغنامهن‪ ،‬ويقول‪ :‬أرجو أن ل يغيرني ما دخلت فيه‪،‬‬
‫وليس الذي دخل فيه بالمر الهين‪ ،‬بل هو خلفة رسول الله‪ ،‬وسيادة‬
‫العرب‪ ،‬وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الرض الجبروت‬
‫الفارسي‪ ،‬والعظمة الرومانية‪ ،‬وتنشئ مكانهما صرح العدل‪ ،‬والعلم‬
‫والحضارة‪ ،‬ثم يرجو أل يغيره هذا كله‪ ،‬ول يمنعه من حلب أغنام‬
‫الحي )‪.(4‬‬
‫إن من ثمار اليمان بالله تعالى أخلقًا حميدة‪ ،‬منها خلق التواضع‬
‫‪1‬‬

‫)( ابن سعد في الطبقات‪ ،3/186 :‬وله شواهد‪ ،‬فإسناده حسن لغيره‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.19/8 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أبو بكر الصديق ‪ ،‬طنطاوي‪.186 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪119‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الذي تجسد في شخصية الصديق في هذا الموقف وفي غيره من‬


‫المواقف‪ ،‬وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه‪ ،‬فيقال له‪ :‬لو‬
‫شيئا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمرتنا أن نناولكه‪ ،‬فيقول‪ :‬أمرنا رسول الله × أل نسأل الناس‬
‫)‪ (1‬لقد ترك لنا الصديق مثالً ح َّيا في فهم وتطبيق خلق التواضع‬
‫في‬ ‫م ِ‬ ‫فن َب َذَْنا ُ‬
‫ه ْ‬ ‫جُنودَهُ َ‬
‫و ُ‬ ‫خذَْناهُ ّ َ‬ ‫فأ َ‬ ‫المستمد من قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]القصص‪ ،[40 :‬ومن‬ ‫َ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫ال‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫عا َ‬
‫ب‬‫ق‬‫ِ‬ ‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫فان ْظُْر ك َي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫ال ْي َ ّ‬
‫م َ‬
‫مال‪ ،‬وما زاد الله عبدا بعفوّ إل عّزا‪،‬‬ ‫قوله ×‪» :‬ما نقصت صدقة من‬
‫وما تواضع أحد لله إل رفعه الله«‪ (2).‬ولقد دفعه هذا الخلق إلى‬
‫خدمة المسلمين وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء؛ فعن أبي‬
‫عجوزا كبيرة عمياء‬‫ً‬ ‫صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد‬
‫في بعض حواشي المدينة من الليل‪ ،‬فيسقي لها‪ ،‬ويقوم بأمرها‪،‬‬
‫فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت‪ ،‬فجاءها‬
‫يسبق‪(3‬إليها فرصده عمر‪ ،‬فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها‪،‬‬ ‫)‬
‫غير مرة كيل‬
‫وهو يومئذ خليفة‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪ :‬قال أبو بكر ‪ ‬بعد وفاة رسول الله‬
‫× لعمر‪ :‬انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله ×‬
‫يزورها‪ ،‬فلما انتهيا إليها بكت‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما يبكيك؟ ما عند الله خير‬
‫لرسوله ×‪ ،‬فقالت‪ :‬ما أبكي أن ل أكون أعلم أن ما عند الله خير‬
‫لرسوله × ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء‪ ،‬فهيجتهما‬
‫على البكاء‪ ،‬فجعل يبكيان معها )‪.(4‬‬
‫دا‪:‬‬ ‫ب‪ -‬نصحه لمرأة نذرت أن ل تحدث أح ً‬
‫كان أبو بكر ‪ ‬ينهى عن أعمال الجاهلية‪ ،‬والبتداع في الدين‪،‬‬
‫ويدعو إلى أعمال السلم‪ ،‬والتمسك بالسنة )‪ ،(5‬فعن قيس بن أبي‬
‫حازم‪ :‬دخل أبو بكر على امرأة من أحمس)‪ ,(6‬يقال لها زينب‪ ،‬فرآها‬
‫)‪(7‬‬
‫ل تتكلم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬ما لها ل تتكلم؟ قالوا‪ :‬نوت حجة مصمتة‬
‫فقال لها‪ :‬تكلمي‪ ،‬فإن هذا ل يحل )‪ ،(8‬هذا من عمل الجاهلية‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فتكلمت‪ ،‬فقالت‪ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أنا امرؤ من المهاجرين‪ .‬قالت‪ :‬أي‬
‫المهاجرين؟ قال‪ :‬من قريش‪ .‬قالت‪ :‬من أي قريش أنت؟ قال‪ :‬إنك‬
‫لسئول‪ ،‬أنا أبو بكر‪ .‬قالت‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬ما بقاؤنا على هذا‬
‫المر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ فقال‪ :‬بقاؤكم عليه ما‬
‫استقامت به أئمتكم‪ .‬قالت‪ :‬وما الئمة؟ قال‪ :‬أما كان لقومك رؤوس‬
‫وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فهم أولئك على‬
‫الناس )‪.(9‬‬
‫قال الخطابي ‪-‬رحمه الله‪ :-‬كان من سنة الجاهلية الصمت‪ ،‬فكان‬
‫)( التاريخ السلمي‪ ،‬محمود شاكر‪.8 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب البر والصلة والداب رقم‪.2588 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬مسلم‪ ،‬فضائل الصحبة‪ ،‬رقم‪.2454 :‬‬ ‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬طنطاوي‪.29 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( صحيح التوثيق في سيرة حياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي السيد‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ،‬وقيل الحمس‪ :‬المتشدد على نفسه في الدين‬ ‫‪6‬‬

‫والورع‪.‬‬
‫)‪ (7‬أي‪ :‬ترك الكلم‪.‬‬ ‫)( أي‪ :‬ساكتة‪.‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫)( البخاري رقم‪.3834 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪120‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت‪ ،‬فنهوا عن ذلك وأمروا بالنطق‬
‫بالخير‪ ،‬وقد استدل بقول أبي بكر هذا من قال بأن من حلف أن ل‬
‫يتكلم استحب له أن يتكلم ول كفارة عليه‪ ،‬لن أبا بكر لم يأمرها‬
‫بالكفارة‪ ،‬وقياسه أن من نذر أن ل يتكلم لم ينعقد نذره؛ لن أبا بكر‬
‫أطلق أن ذلك ل يحل‪ ،‬وأنه من فعل الجاهلية‪ ،‬وأن السلم هدم‬
‫من‬ ‫ذلك‪ ،‬ول يقول مثل هذا إل عن علم‬
‫النبي ×‪ ،‬فيكون من حكم المرفوع )‪.(1‬‬
‫وقال ابن حجر‪ :‬وأما الحاديث الواردة في الصمت وفضله فل‬
‫يعارض لختلف المقاصد في ذلك؛ فالصمت المرغب فيه‪ :‬ترك‬
‫الكلم بالباطل‪ ،‬وكذا المباح إن جر إلى شيء من ذلك‪ ،‬والصمت‬
‫الحق( لمن يستطيعه‪ ،‬وكذا المباح‬ ‫المنهي عنه ترك الكلم في‬
‫المستوي الطرفين‪ ،‬والله أعلم )‪. 2‬‬
‫ج‪ -‬اهتمامه بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪:‬‬
‫كان الصديق ‪ ‬يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬ويبين للناس‬
‫ما التبس عليهم من الفهم‪ ،‬فعن قيس بن أبي حازم قال‪ :‬سمعت أبا‬
‫بكر الصديق يقول‪» :‬يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم من‬
‫ضل إذا اهتديتم‪ ،‬إني سمعت رسول الله × يقول‪» :‬إن القوم إذا‬
‫رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقاب«‪ .‬وفي رواية‪ :‬يا أيها‬
‫الناس‪ ،‬إنكم تقرءون هذه الية‪ ،‬وتضعونها على غير مواضعها‪ ،‬وإنا‬
‫سمعنا النبي × يقول‪» :‬إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على‬
‫بعقاب«‪ (3).‬قال النووي‪ :‬وأما قوله تعالى‪:‬‬ ‫اللهل َيك ُم أ َ‬ ‫يديه‪َ ،‬أوشك أن يعمهم‬
‫م"‪ .‬فليس مخالفًا لوجوب‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫نوا‬‫م ُ‬
‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لن المذهب الصحيح عند‬
‫المحققين في معنى الية‪ :‬أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فل ُيضركم‬
‫خَرى"‬ ‫وْزَر أ ْ‬
‫زَرةٌ ِ‬
‫وا ِ‬
‫زُر َ‬ ‫ول َ ت َ ِ‬
‫تقصير غيركم‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫فإذا كان كذلك فمما كلف به المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫ولم( يمتثل المخاطب فل عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه‬ ‫)‪4‬‬
‫فإذا فعله‪،‬‬
‫أدى ما عليه‪.‬‬
‫وكان ‪ ‬يحث الناس على الصواب‪ ،‬فعن ميمون بن مهران أن‬
‫فقال‪(5:‬السلم عليك يا خليفة رسول الله‪،‬‬ ‫رجل سلم على أبي بكر‬ ‫ً‬
‫قال‪ :‬من بين هؤلء أجمعين؟ ) وكان ‪ ‬يترك السنة مخافة أن‬
‫يظن من ل علم له أنها فريضة أو واجبة‪ ،‬فعن حذيفة بن أسيد ‪ ‬أنه‬
‫قال‪ :‬رأيت أبا بكر وعمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬وما)‪(6‬يضحيان مخافة أن‬
‫يستن بهما‪ .‬وفي رواية‪ :‬كراهية أن يقتدى بهما‪ .‬وكان يوصي ابنه‬
‫عبد الرحمن بحسن المعاملة لجيرانه‪ ،‬فقد قال له ذات يوم وهو‬
‫يخاصم جار له‪ :‬ل تماظ جارك؛ فإن هذا يبقى ويذهب الناس‪ (7).‬وكان‬
‫فتح الباري‪.7/150 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.7/151 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حديث صحيح‪ ،‬سنن أبي داود‪ ،‬رقم‪.4338 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫عون المعبود شرح سنن أبي داود‪.11/329 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الجامع لخلق الراوي وآداب السامع للخطيب‪ 1/172 :‬رقم‪.255 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫إسناده صحيح‪ ،‬أخرجه الطبراني في الكبير‪ ،‬رقم‪.3057 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (5‬صفة الصفوة‪.1/258 :‬‬ ‫الزهد لبن المبارك‪.1/551 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪121‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بارا بوالده‪ ،‬فلما اعتمر في رجب سنة اثنتي عشرة من الهجرة‪،‬‬ ‫ً‬
‫دخل مكة ضحوة فأتى منزله‪ ،‬وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره‬
‫معه فتيان يحوشهم‪ ،‬فقيل له‪ :‬هذا ابنك فنهض قائمًا‪ ،‬وعجل أبو بكر‬
‫أن ينيخ ناقته فنزل عنها وهي قائمة –ليقابل أباه في بر وطاعة‪،‬‬
‫وجاء الناس يسلمون عليه‪ ،‬فقال أبو قحافة‪ :‬يا عتيق‪ ،‬هؤلء المل‬
‫قوة‪(1‬إل بالله‪،‬‬
‫)‬
‫ن صحبتهم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يا أبة ل حول ول‬ ‫فأحس ْ‬
‫طوقت أمرًا عظيمًا ل قدرة لي به‪ ،‬ول يدان إل بالله‪.‬‬
‫وكان يهتم بالصلة والخشوع فيها ويحرص على حسن العبادة‪،‬‬
‫وكان ل يلتفت في صلته )‪ ،(2‬وكان أهل مكة يقولون‪ :‬أخذ ابن جريج‬
‫الصلة من عطاء‪ ،‬وأخذها عطاء من ابن الزبير‪ ،‬وأخذها ابن الزبير‬
‫من أبي بكر‪ ،‬وأخذها أبو بكر من النبي × )‪(3.‬وكان عبد الرزاق يقول‪:‬‬
‫ما رأيت أحدًا أحسن صلة من ابن جريج‪ ، .‬وعن أنس ‪ ‬قال‪:‬‬
‫صلى أبو بكر بالناس الفجر فاقترأ البقرة في ركعتيه‪ ،‬فلما انصرف‬
‫رأينا أن‬
‫)‪(4‬‬
‫قال له عمر‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬ما انصرفت حتى‬
‫الشمس قد طلعت‪ ،‬قال‪ :‬لو طلعت لم تجدنا غافلين‪.‬‬
‫وكان يحث الناس على الصبر في المصائب‪ ،‬ويقول لمن مات له‬
‫أحد‪ :‬ليس مع العزاء مصيبة ول مع الجزع فائدة‪ ،‬الموت أهون مما‬
‫قد َ رسول الله تصغر مصيبتكم‪ ،‬وعظم‬ ‫مما بعده‪ ،‬اذكروا فَ ْ‬ ‫قبله وأشد‬
‫وعزى‪(6‬عمر ‪ ‬عن طفل أصيب به فقال‪ :‬عوضك الله‬ ‫)‪(5‬‬
‫أجركم‪.‬‬ ‫الله‬
‫والمكر‬‫)‪(7‬‬
‫والنكث‪،‬‬ ‫البغي‪،‬‬ ‫الناس‬ ‫يحذر‬ ‫‪‬‬ ‫وكان‬ ‫)‬
‫منك‪.‬‬ ‫عوضه‬ ‫ما‬ ‫منه‬
‫ويقول‪ :‬ثلث من كن فيه كن عليه‪ :‬البغي‪ ،‬والنكث‪ ،‬والمكر‪.‬‬
‫وكان يعظ الناس ويذكرهم بالله‪ ،‬ومن مواعظه ‪ :‬الظلمات‬
‫سُرج خمس‪ :‬حب الدنيا ظلمة والسراج له التقوى‪ ،‬والذنب‬ ‫خمس وال ّ‬
‫ظلمة والسراج له التوبة‪ ،‬والقبر ظلمة والسراج له ل إله إل الله‬
‫محمد رسول الله‪ ،‬والخرة ظلمة والسراج لها العمل الصالح‪،‬‬
‫والصراط ظلمة والسراج لها اليقين‪ (8).‬وكان ‪ ‬من خلل منبر‬
‫الجمعة يحث على الصدق والحياء‪ ،‬ويحث على العتبار والستعداد‬
‫للقدوم على الله ويحذر من الغرور‪.‬‬
‫فعن أوسط بن إسماعيل ‪-‬رحمه الله‪ -‬قال‪ :‬سمعت أبا بكر‬
‫الصديق ‪ ‬يخطب بعد وفاة رسول الله × بسنة‪ ،‬فقال‪ :‬قام فينا‬
‫رسول الله × مقامي هذا عام أول‪ ،‬ثم بكى أبو بكر ثم قال‪) :‬وفي‬
‫رواية‪ :‬ثم ذرفت عيناه فلم يستطع من العَب َْرة أن يتكلم(‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫»أيها الناس‪ :‬اسألوا لله العافية‪ ،‬فإنه لم يعط أحد خيرًا من العافية‬
‫بعد اليقين‪ ،‬وعليكم بالصدق فإنه مع البر‪ ،‬وهما في الجنة‪ .‬وإياكم‬
‫والكذب‪ ،‬فإنه مع الفجور‪ ،‬وهما في النار‪ .‬ول تقاطعوا ول تدابروا‪ ،‬ول‬

‫‪1‬‬

‫)( فضائل الصحابة للمام أحمد‪ (7) .1/254 :‬نفس المصدر السابق‪.1/255 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( الرياض النضرة في مناقب العشرة‪ :‬ص ‪.224‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (1‬عيون الخبار‪.70 ،3/69 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( المصدر السابق‪.3/66 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( مجمع المثال للميداني‪.2/450 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( فرائد الكلم للخلفاء الكرام‪ ،‬قاسم عاشور‪ :‬ص ‪.29‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪122‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫تباغضوا‪ ،‬ول تحاسدوا‪ ،‬وكونوا عباد الله إخوانا‪.‬‬
‫وقال الزبير بن العوام ‪ :‬إن أبا بكر قال وهو يخطب الناس‪ :‬يا‬
‫معشر المسلمين‪ :‬استحيوا من الله عز وجل‪ ،‬فو الذي نفسي بيده‬
‫حين‪(2‬أذهب الغائط في الفضاء متقنعا بثوبي استحياء من‬ ‫إني لظل‬
‫ربي عز وجل ) ‪.‬‬
‫وعن عبد الله بن حكيم قال‪ :‬خطبنا أبو بكر ‪ ‬فقال‪ :‬أما بعد‪:‬‬
‫فإني أوصيكم بتقوى الله‪ ،‬وأن تثنوا عليه بما هو له أهل‪ ،‬وأن تخلطوا‬
‫الرغبة بالرهبة‪ ،‬وتجمعوا اللحاح بالمسألة‪ ،‬فإن الله أثنى على زكريا‬
‫ت‬ ‫في ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫ن ِ‬‫عو َ‬‫ر ُ‬‫سا ِ‬‫كاُنوا ي ُ َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وأهل بيته فقال‪+ :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن" ]النبياء‪ ،[90 :‬ثم‬ ‫عي َ‬
‫ش ِ‬‫خا ِ‬ ‫َ‬
‫وكاُنوا لَنا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫با‬
‫ً‬ ‫ه‬‫وَر َ‬ ‫عون ََنا َر َ‬
‫غًبا َ‬ ‫وي َدْ ُ‬
‫َ‬
‫اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم‪ ،‬وأخذ على ذلك‬
‫مواثيقكم‪ ،‬فاشترى القليل الفاني بالكثير الباقي‪ ،‬وهذا كتاب الله‬
‫فيكم ل تفنى عجائبه‪ ،‬ول يطفأ نوره‪ ،‬فصدقوا قوله‪ ،‬وانتصحوا كتابه‪،‬‬
‫واستوضئوا منه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم للعبادة‪ ،‬ووكل بكم‬
‫الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون‪ ،‬ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون‬
‫غيب عنكم علمه‪ ،‬فإن استطعتم أن تنقضي‬ ‫وتروحون في أجل قد ُ‬
‫الجال وأنتم في عمل لله فافعلوا‪ ،‬ولن تستطيعوا ذلك إل بالله‪،‬‬
‫فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم‪ ،‬فيردكم إلى أسوأ‬
‫أعمالكم‪ ،‬فإن أقوامًا جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا‬
‫مثلهم‪ ،‬فالوحا الوحا )‪ ،(3‬ثم النجا النجا‪،‬‬ ‫أنفسهم‪ ،‬فأنهاكم أن تكونوا‬
‫مّره )‪ (4‬سريع‪.‬‬ ‫حثيثا َ‬ ‫ً‬ ‫فإن وراءكم طلبا‬
‫وفي رواية أخرى‪ :‬أين من تعرفون من إخوانكم ومن أصحابكم؟!‬
‫قد وردوا على ما قدموا‪ ،‬قدموا ما قدموا في أيام سلفهم‪ ،‬وحلوا فيه‬
‫بالشقوة أو السعادة‪ .‬أين الجبارون الذين بنوا المدائن‪ ،‬وحففوها‬
‫بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والبار‪ ،‬أين الوضاءة الحسنة‬
‫وجوههم‪ ،‬المعجبون بشبابهم؟ أين الملوك؟ وأين الذين كانوا يعطون‬
‫الغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر‪ ،‬فأصبحوا في‬
‫ظلمات القبور‪ ،‬ل خير في قول ل يراد به وجه الله‪ ،‬ول خير في مال‬
‫ل ينفق في سبيل الله‪ ،‬ول خير فيمن يغلب جهله حلمه‪ ،‬ول خير‬
‫فيمن يخاف في الله لومة لئم‪.‬‬
‫إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا‪،‬‬
‫ول يصرفه عن سوء إل بطاعته واتباع أمره‪ ،‬وإنه ل خير بخير بعده‬
‫النار‪ ،‬ول شر بشر بعده الجنة‪ ،‬واعلموا أنكم ما أخلفتم لله ‪-‬عز‬
‫وجل‪ -‬فربكم أطعتم‪ ،‬وحقكم حفظتم‪ ،‬وأوصيكم بالله لفقركم‬
‫تستغفروه إنه‬ ‫وفاقتكم أن تتقوه‪ ،‬وأن تثنوا عليه بما هو أهله‪ ،‬وأن‬
‫كان غفارًا‪ .‬أقول قولي هذا‪ ،‬وأستغفر الله لي ولكم )‪.(5‬‬

‫)( صحيح التوثيق في سيرة وحياة الصديق‪ :‬ص ‪.179‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.182‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الوحا الوحا‪ :‬السرعة السرعة‪ ،‬يقال‪ :‬توحيت أي‪ :‬أسرعت‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مره‪ :‬مروره‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( إسناده حسن لغيره‪ ،‬مصنف ابن أبي شيبة‪7/144 :‬؛ صحيح التوثيق وحياة‬ ‫‪5‬‬

‫الصديق‪ :‬ص ‪.181‬‬

‫‪123‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهكذا كان الصديق يهتم بالمجتمع فيعظ المسلمين‪ ،‬ويحثهم‬
‫على الخير‪ ،‬ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬فهذا غيض من‬
‫فيض‪ ،‬وقليل من كثير‪.‬‬
‫‪ -2‬القضاء في عهد الصديق‪:‬‬
‫يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى أهميته‬
‫بصلته بالعهد النبوي وقربه منه‪ ،‬فكان العهد الراشدي عامة‪ ،‬والجانب‬
‫القضائي خاصة‪ ،‬امتدادًا للقضاء في العهد النبوي‪ ،‬مع المحافظة‬
‫الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد النبوي‪ ،‬وتطبيقه‬
‫بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه‪.‬‬
‫وتظهر أهمية العهد الراشدي في القضاء بأمرين أساسيين‪:‬‬
‫‪ -1‬المحافظة على نصوص العهد النبوي في القضاء‪ ،‬والتقيد بما‬
‫جاء فيه‪ ،‬والسير في ركابه‪ ،‬والستمرار في اللتزام به‪.‬‬
‫دعائم الدولة‬ ‫‪ -2‬وضع التنظيمات القضائية الجديدة لترسيخ‬
‫السلمية الواسعة‪ ،‬ومواجهة المستجدات المتنوعة )‪.(1‬‬
‫كان أبو بكر ‪ ‬يقضي بنفسه إذا عرض له قضاء‪ ،‬ولم تفصل‬
‫ولية القضاء عن الولية العامة في عهده‪ ،‬ولم يكن للقضاء ولية‬
‫خاصة مستقلة‪ ،‬كما كان المر في عهد رسول الله ×؛ إذ كان الناس‬
‫على مقربة من النبوة‪ ،‬يأخذون أنفسهم بهدى السلم‪ ،‬وتقوم حياتهم‬
‫على شريعته‪ ،‬وقلما توجد بينهم خصومة تذكر؛ ففي المدينة عهد أبو‬
‫بكر إلى عمر بالقضاء‪ ،‬ليستعين به في بعض القضية ولكن هذا لم‬
‫يعط لعمر صفة الستقلل بالقضاء‪ (2).‬وأقر أبو بكر ‪ ‬معظم القضاة‬
‫الله × واستمروا على ممارسة القضاء‬ ‫والولة الذين عينهم رسول‬
‫والولية أو أحدهما في عهده )‪ ،(3‬وسوف نأتي على ذكر الولة‬
‫وأعمالهم بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫وأما مصادر القضاء في عهد الصديق ‪ ‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ -2‬السنة النبوية‪ ،‬ويندرج فيها قضاء رسول الله ×‪.‬‬
‫‪ -3‬الجماع‪ ،‬باستشارة أهل العلم والفتوى‪.‬‬
‫والرأي‪ ،‬وذلك عند عدم وجود ما يحكم به من كتاب أو سنة‬ ‫الجتهاد‬
‫‪-4‬‬
‫أو إجماع)‪.(4‬‬
‫فكان أبو بكر ‪ ‬إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى‪،‬‬
‫فإن وجد فيه ما يقضي به قضى‪ ،‬فإن لم يجد في كتاب الله نظر في‬
‫سنة رسول الله ×‪ ،‬فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به‪ ،‬فإن أعياه‬
‫ذلك سأل الناس‪ ،‬هل علمتم أن رسول الله قضى فيه بقضاء‪ ،‬فربما‬
‫قام إليه القوم فيقولون‪ :‬قضى فيه بكذا أو بكذا‪ ،‬فيأخذ بقضاء‬
‫رسول الله ×‪ ،‬يقول عندئذ‪ :‬الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن‬
‫تاريخ القضاء في السلم للزحيلي‪ :‬ص ‪.84 ،83‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫وقائع ندوة النظم السلمية‪ ،‬أبو ظبي‪.1/366 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ القضاء في السلم‪ :‬ص ‪.134‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫وقائع ندوة النظم السلمية‪.1/390 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪124‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المسلمين وعلماءهم فاستشارهم‪،‬‬ ‫)‪(1‬‬


‫نبينا‪ .‬وإن أعياه ذلك دعا رؤوس‬
‫فإذا اجتمع رأيهم على المر قضى به‪.‬‬
‫ويظهر أن الصديق يرى الشورى ملزمة إذا اجتمع رأي أهل‬
‫الشورى على أمر؛ إذ ل يجوز للمام مخالفتهم‪ .‬وهذا ما حكى عنه‬
‫في القضاء‪ ،‬فإنه كان إذا اجتمع رأى المستشارين على المر‬
‫أرسل إليه خالد‬ ‫قضى به وهذا ما أمر به عمرو بن العاص عندما‬
‫ا بن الوليد مددً ا حيث قال له‪ :‬شاورهم ول تخالفهم‪ (2).‬وكان ‪‬‬
‫يتثبت في قبول الخبار‪ ،‬فعن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت‬
‫إلى أبي بكر تلتمس أن تورث فقال‪ :‬ما أجد لك في كتاب الله‬
‫شيئ ا‪ ،‬ثم سأل‬‫ً‬ ‫شيئ ا‪ ،‬وما علمت أن رسول الله × ذكر لك‬ ‫ً‬ ‫تعالى‬
‫الناس فقام المغيرة فقال‪ :‬حضرت رسول الله × يعطيها‬
‫هل( معك أحد؟ فشهد ابن مسلمة بمثل‬ ‫السدس‪ ،‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫ذلك‪ ،‬فأنفذه لها أبو بكر ‪ 3).‬كان يرى أن القاضي ل يحكم‬
‫بعلمه الشخصي‪ ،‬إل إذا كان معه شاهد آخر يعزز هذا العلم‪ ،‬فقد‬
‫على‪(4‬حد‪ ،‬لم أعاقبه‬ ‫)‬
‫روى عن أبي بكر ‪ ‬أنه قال‪ :‬لو رأيت رجلً‬
‫حتى تقوم البينة عليه‪ ،‬أو يكون معي شاهد آخر‪.‬‬
‫وهذه بعض القضية التي صدرت في عهد أبي بكر ‪:‬‬
‫أ‪ -‬قضية قصاص‪:‬‬
‫قال علي بن ماجدة السهمي‪ :‬قاتلت رجلً‪ ،‬فقطعت بعض أذنه‪،‬‬
‫جا‪ ،‬فرفع شأننا إليه‪ ،‬فقال لعمر‪ :‬انظر هل بلغ أن‬ ‫فقدم أبو بكر حا ّ‬
‫جام‪ ،‬فلما ذكر الحجام‪ ،‬قال أبو بكر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫بالح‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫عل‬ ‫نعم‪،‬‬ ‫يتقص منه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أن‬ ‫أرجو‬ ‫ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫غل‬ ‫لخالتي‬ ‫وهبت‬ ‫»إني‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫×‬ ‫الله‬ ‫سمعت رسول‬
‫ما‪ ،‬أو قصاًبا‪ ،‬أو صانًعا« )‪.(5‬‬ ‫ً‬ ‫حجا‬ ‫تجعله‬ ‫أن‬ ‫نهيتها‬ ‫وإني‬ ‫يبارك لها فيه‪،‬‬
‫‪ -2‬نفقة الوالد على الولد‪:‬‬
‫‪ ‬فقال له رجل‪:‬‬ ‫عن قيس بن حازم قال‪ :‬حضرت أبا بكر الصديق ‪،‬‬
‫يا خليفة رسول الله‪ ،‬هذا يريد أن يأخذ مالي كله ويجتاحه‪ ،‬فقال أبو بكر‬
‫‪:‬إنما لك من ماله ما يكفيك‪ ،‬فقال‪ :‬يا خليفة رسول الله ×‪ ،‬أليس‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬أنت ومالك لبيك؟« فقال أبو بكر ‪ :‬ارض بما‬
‫به‪ .‬ورواه غيره عن المنذر بن زياد‪ ،‬وقال فيه‪ :‬إنما يعني بذلك‬ ‫رضي الله‬
‫النفقة )‪.(6‬‬
‫‪ -3‬الدفاع المشروع‪:‬‬
‫عن أبي مليكة عن جده أن رجلً عض يد رجل فأندر ثنيته )قلع‬
‫سنه(‪ ،‬فأهدرها‬

‫)( موسوعة فقه أبي بكر الصديق‪ ،‬قلعجي‪ :‬ص ‪.155‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.156‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تذكرة الحفاظ للذهبي‪.1/2 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تراث الخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪ :‬صبحي محمصاني‪ :‬ص ‪.186‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( أخبار القضاة لوكيع‪ ،2/102 :‬نقل عن تاريخ القضاء للزحيلي‪ :‬ص ‪.136‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( السنن الكبرى‪ ،7/481 :‬نقل عن تاريخ القضاء للزحيلي‪ ،136 :‬ضعيف جدا بل‬ ‫‪6‬‬

‫قد تكون موضوعة‪ ،‬اللباني إرواء‪.3/329 :‬‬

‫‪125‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أبو بكر )‪.(1‬‬
‫‪ -4‬الحكم بالجلد‪:‬‬
‫روى المام مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته‪ :‬أن أبا‬
‫بكر الصديق أتى برجل قد وقع على جارية بكر فأحبلها‪ ،‬ثم اعترف‬
‫بالزنا‪ ،‬ولم يكن أحصن‪ ،‬فأمر به أبو بكر فجلد الحد‪ ،‬ثم‬
‫)‪(2‬‬
‫على نفسه‬
‫نفى إلى فدك‪.‬‬
‫الجارية ولم ينفها لنها استكرهت‪ ،‬ثم‬ ‫وفي رواية‪ :‬بأنه لم يجلد‬
‫زوجها إياه أبو بكر وأدخله عليها )‪.(3‬‬
‫‪ -5‬الحضانة للم ما لم تتزوج‪:‬‬
‫بن الخطاب امرأته النصارية ‪-‬أم ابنه عاصم‪ -‬فلقيها‬ ‫طلق عمر‬
‫سر)‪ ،(4‬ولقيه قد ُفطم ومشي‪ ،‬فأخذ بيديه لينتزعه منها‪،‬‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫تحمله ب ِ ُ‬
‫ونازعها إياه حتى أوجع الغلم وبكى‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أحق بابني منك‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ريحها وحجرها وفرشها‬ ‫)‪(5‬‬
‫فاختصما إلى أبي بكر‪ ،‬فقضى لها به‪،‬‬
‫أعطف‬ ‫هي‬ ‫رواية‪:‬‬ ‫وفي‬ ‫‪،‬‬ ‫لنفسه‬ ‫خير له منك حتى يشب ويختار‬
‫وألطف وأرحم وأحن وأرأف‪ ،‬وهي أحق بولدها ما لم تتزوج)‪.(6‬‬
‫هذه بعض القضية والحكام التي حدثت في عهد الصديق ‪،‬‬
‫هذا وقد تميز القضاء في عهد الصديق بعدة أمور منها‪:‬‬
‫امتدادا لصورة القضاء في‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬كان القضاء في عهد الصديق‬
‫العهد النبوي؛ باللتزام به‪ ،‬والتأسي بمنهجه‪ ،‬وانتشار التربية الدينية‪،‬‬
‫والرتباط باليمان والعقيدة والعتماد على الوازع الديني‪ ،‬والبساطة‬
‫في سير الدعوى واختصار الجراءات القضائية‪ ،‬وقلة الدعاوى‬
‫والخصومات‪.‬‬
‫‪ -2‬أصبحت الحكام القضائية في عصر الصديق موئل‬
‫الباحثين‪ ،‬ومحط النظار للفقهاء‪ ،‬وصارت الحكام القضائية مصدرًا‬
‫للحكام الشرعية‪ ،‬والجتهادات القضائية‪ ،‬والراء الفقهية في مختلف‬
‫العصور‪.‬‬
‫‪ -3‬مارس الصديق وبعض ولته النظر في المنازعات‪ ،‬وتولى‬
‫القضاء بجانب الولية‪.‬‬
‫‪ -4‬ساهمت فترة الصديق في ظهور مصادر جديدة للقضاء‬
‫في العهد الراشدي‪ ،‬وصارت مصادر الحكام القضائية هي‪ :‬القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬والسنة الشريفة‪ ،‬والجماع‪ ،‬والقياس‪ ،‬والسوابق القضائية‪،‬‬

‫تاريخ القضاء للزحيلي‪.137 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الموطأ‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬رقم‪.848 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مصنف عبد الرزاق‪ ،‬رقم‪.12796 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫محسر‪ :‬موضع بين مكة وعرفة‪ ،‬معجم البلدان‪.5/62 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مصنف عبد الرزاق‪ ،7/54 :‬رقم‪.12601 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫نفس المصدر السابق‪ ،7/54 :‬رقم‪.12600 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪126‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫والرأي الجتهادي مع المشورة )‪.(1‬‬
‫هـ‪ -‬كانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف‪،‬ونصرة‬
‫المظلوم‪ ،‬والمساواة بين الخصوم‪ ,‬وإقامة الحق والشرع على جميع‬
‫الناس‪ ،‬ولو كان الحكم على الخليفة أو المير أو الوالي‪ ،‬وكان‬
‫القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الحكام‪ ،‬إن لم ينفذها)‪(2‬الطراف‬
‫عا واختياًرا‪ ،‬وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوًرا ‪.‬‬
‫طو ً‬
‫‪ -3‬الولية على البلدان‪:‬‬
‫كان أبو بكر يستعمل الولة في البلدان المختلفة ويعهد إليهم‬
‫بالولية العامة في الدارة والحكم والمامة‪ ،‬وجباية الصدقات‪ ،‬وسائر‬
‫أنواع الوليات‪ ،‬وكان ينظر إلى حسن اختيار الرسول للمراء والولة‬
‫على البلدان‪ ،‬فيقتدي به في هذا العمل‪ ،‬ولهذا نجده قد‬
‫أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول وهم على وليتهم‪،‬‬
‫ولم يعزل أحدًا‬
‫منهم إل ليعينه في مكان آخر أكثر أهمية من موقعه الول‪ ,‬ويرضاه‪،‬‬
‫)‪(3‬‬
‫كما حدث‬
‫لعمرو بن العاص‪.‬‬
‫وكانت مسئوليات الولة في عهد أبي بكر الصديق ‪ ‬بالدرجة‬
‫الولى امتدادًا لصلحياتهم في عصر الرسول ×‪ ،‬خصوصًا الولة‬
‫الذين سبق تعيينهم أيام الرسول ×‪ ،‬ويمكن تلخيص أهم مسئوليات‬
‫الولة في عصر أبي بكر وهي‪:‬‬
‫أ‪ -‬إقامة الصلة وإمامة الناس‪ ،‬وهي المهمة الرئيسية لدى الولة‬
‫نظرا لما تحمله من معان دينية ودنيوية‪ ,‬سياسية واجتماعية‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬
‫الولة يأمون الناس وعلى وجه الخصوص في صلة الجمعة‪ ،‬والمراء‬
‫دائما كانت توكل إليهم الصلة سواء كانوا أمراء على البلدان أم‬ ‫ً‬
‫أمراء على الجناد‪.‬‬
‫ب‪ -‬الجهاد كان يقوم به أمراء الجناد في بلد الفتوح‪ ،‬فكانوا‬
‫يتولون أموره وما فيه من مهام مختلفة بأنفسهم‪ ،‬أو ينيبون غيرهم‬
‫في بعض المهام‪ ،‬كتقسيم الغنائم أو المحافظة على السرى‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك‪ ،‬وكذلك ما يتبع هذا الجهاد من مهام أخرى كمفاوضة العداء‬
‫وعقود المصالحة معهم وغيرها‪ ،‬ويتساوى في المهمات الجهادية‬
‫أمراء الجناد في الشام والعراق‪ ،‬وكذلك المراء في البلد التي‬
‫حدثت فيها الردة كاليمن والبحرين ونجد‪ ،‬نظًرا لوجود تشابه في‬
‫العمليات الجهادية مع اختلف السباب الموجهة لهذه العمليات‪.‬‬
‫جـ‪ -‬إدارة شئون البلد المفتوحة‪ ،‬وتعيين القضاة والعمال عليها‬
‫من قبل المراء أنفسهم‪ ،‬وبإقرار من الخليفة أبي بكر‪ ،‬أو تعيين من‬
‫أبي بكر ‪ ‬عن طريق هؤلء العمال)‪.(4‬‬

‫تاريخ القضاء في السلم‪ :‬ص ‪.158 ،157‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.160‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الولية على البلدان‪ ،‬عبد العزيز إبراهيم العمري‪.1/55 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.1/59 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪127‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫د‪ -‬أخذ البيعة للخليفة‪ ،‬فقد قام الولة في اليمن وفي مكة‬
‫والطائف وغيرها بأخذ البيعة لبي بكر ‪ ‬من أهل البلد التي كانوا‬
‫يتولون عليها‪.‬‬
‫هـ‪ -‬كانت هناك أمور مالية توكل إلى الولة أو إلى من يساعدهم‬
‫ممن يعينهم الخليفة أو الوالي لخذ الزكاة من الغنياء وتوزيعها على‬
‫الفقراء‪ ،‬أو أخذ الجزية من غير المسلمين وصرفها في محلها‬
‫الشرعي‪ ،‬وهي امتداد لما قام به ولة الرسول × في هذا الخصوص‪.‬‬
‫و‪ -‬تجديد العهود القائمة من أيام الرسول ×؛ حيث قام والي‬
‫الذي كان بين أهلها وبين الرسول × بناء على‬ ‫نجران بتجديد العهد‬
‫طلب نصارى نجران )‪.(1‬‬
‫ز‪ -‬كانت من أهم مسئوليات الولة إقامة الحدود‪ ،‬وتأمين البلد‪،‬‬
‫هم يجتهدون رأيهم فيما لم يكن فيه نص شرعي‪ ،‬كما فعل المهاجر‬
‫بن أبي أمية بالمرأتين اللتين تغنتا بذم‬
‫الرسول ×‪ ،‬وفرحتا بوفاته‪ ،‬وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى في‬
‫جهاد الصديق‬
‫لهل الردة‪.‬‬
‫ح‪ -‬كان للولة دور رئيسي في تعليم الناس أمور دينهم وفي نشر‬
‫السلم في البلد التي يتولون عليها‪ ،‬وكان الكثير من هؤلء الولة‬
‫يجلسون في المساجد يعلمون الناس القرآن والحكام‪ ،‬وذلك عمل ً‬
‫بسنة الرسول ×‪ ،‬وتعتبر هذه المهمة من أعظم المهام وأجلها في‬
‫نظر الرسول × وخليفته أبي بكر‪ ،‬وقد اشتهر عن ولة أبي بكر ذلك‪،‬‬
‫حيث يتحدث أحد المؤرخين عن عمل زياد والي أبي بكر على‬
‫حضرموت‪(2‬فيقول‪ :‬فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل‬
‫قبل ذلك ) ‪.‬‬
‫وبهذا التعليم كان للولة دور كبير في نشر السلم في ربوع‬
‫البلد التي يتولونها‪ ،‬وبهذا التعليم تثبت أقدام السلم سواء في البلد‬
‫المفتوحة الحديثة العهد بالسلم أو في البلد التي كانت مسلمة‬
‫وارتدت‪ ،‬وهي حديثة عهد بالردة‪ ،‬جاهلة بأحكام دينها‪ ،‬إضافة إلى‬
‫البلد المستقرة كمكة والطائف والمدينة‪ ،‬كان بها من يقرئ الناس‬
‫أو‪(3‬الخليفة نفسه‪ ،‬أو من يعينه الخليفة على التعليم‬ ‫بأمر من الولة‬
‫في هذه البلدان ) ‪.‬‬
‫وقد كان الوالي هو المسئول مسئولية مباشرة عن إدارة القليم‬
‫الذي يتوله‪ ،‬وفي حالة سفر هذا الوالي فإنه يتعين عليه أن يستخلف‬
‫أو ينيب عنه من يقوم بعمله حتى يعود هذا الوالي إلى عمله‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أن المهاجر بن أبي أمية عينه الرسول × على كندة‪ ،‬ثم أقره‬
‫أبو بكر بعد وفاة الرسول ×‪ ،‬ولم يصل المهاجر إلى اليمن مباشرة‬
‫نظرا لمرضه‪ ,‬فأرسل إلى »زياد بن لبيد« ليقوم عنه بعمله‬ ‫ً‬ ‫وتأخر‬

‫)‪ (1‬تاريخ الطبري‪.3/165 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الولية على البلدان‪.1/60 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نفس المصدر‪.1/61 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪128‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫حتى شفائه وقدومه‪ ،‬وقد أقر أبو بكر ذلك )‪ ،(1‬كذلك كان خالد أثناء‬
‫وليته للعراق ينيب عنه في الحيرة من يقوم بعمله حتى عودته‪.‬‬
‫وكان أبو بكر ‪ ‬يشاور الكثير من الصحابة قبل اختيار أحد من‬
‫المراء سواء على الجند أو على البلدان‪ ،‬ونجد في مقدمة‬
‫بكر في هذا المر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي‬ ‫مستشاري أبي‬
‫طالب وغيرهما )‪ ،(2‬كما كان أبو بكر ‪ ‬يشاور الشخص الذي يريد‬
‫توليته قبل أن يعينه‪ ،‬وعلى وجه الخصوص إذا أراد أن ينقل الشخص‬
‫من ولية إلى أخرى‪ ،‬كما حدث حينما أراد أن ينقل عمرو بن العاص‬
‫من وليته التي وله عليها الرسول × إلى ولية جند فلسطين‪ ،‬فلم‬
‫يصدر أبو بكر قراره إل بعد أن استشاره وأخذ منه موافقة على ذلك‬
‫بكر( بين‬
‫)‪4‬‬
‫)‪ ،(3‬كذلك الحال بالنسبة للمهاجر بن أبي أمية الذي خيرة أبو‬
‫اليمن أو حضرموت‪ ،‬فاختار المهاجر اليمن فعينه أبو بكر عليها ‪.‬‬
‫ومن المور التي سار عليها أبو بكر ‪ ‬أنه كان يعمل بسنة النبي‬
‫× في تولية بعض الناس على قومهم إذا وجد فيهم صلحاء‪،‬‬
‫كالطائف وبعض القبائل‪ ،‬وكان أبو بكر ‪ ‬عندما يريد أن يعين‬
‫شخصا على ولية يكتب للشخص المعين عهدًا له على المنطقة التي‬ ‫ً‬
‫وله عليها‪ ،‬كما أنه في كثير من الحيان قد يحدد له طريقه إلى‬
‫خصوصا إذا كان التعيين مختصًا‬
‫ً‬ ‫وليته وما يمر عليه من أماكن‪،‬‬
‫بمنطقة لم تفتح بعد‪ ،‬ولم تدخل ضمن سلطات الدولة‪ ،‬ويتضح ذلك‬
‫في حروب الردة‪ ،‬وفتوح الشام والعراق‪ ،‬وقام الصديق أحيانًا بضم‬
‫بعض الوليات إلى بعض‪ ،‬خصوصًا بعد النتهاء من قتال المرتدين؛‬
‫وكان واليًا على‬ ‫فقد ضم أبو بكر كندة إلى زياد ابن لبيد البياضي‪،‬‬
‫حضرموت واستمر بعد ذلك واليًا لحضرموت وكندة )‪.(5‬‬
‫وكانت معاملة أبي بكر للولة تتسم بالحترام المتبادل الذي لم‬
‫تشبه شائبة‪ ،‬وأما عن التصالت بين الولية وبين الخليفة أبي بكر‬
‫‪ ،‬فقد كانت تجري بصفة دائمة‪ ،‬وكانت هذه التصالت تختص‬
‫بمصالح الولية ومهام العمل‪ ،‬فقد كان الولة كثيرًا ما يكتبون لبي‬
‫بكر في مختلف شئونهم يستشيرونه‪ ،‬وكان أبو بكر يكتب لهم الجابة‬
‫عن استفساراتهم‪ ،‬أو يوجه لهم أوامره‪ ،‬وكانت الرسل تأتي بالخبار‬
‫من الولة‪ ,‬سواء أخبار الجهاد أو قبل ذلك على جهات حروب‬
‫المرتدين‪ .‬كذلك كان الولة يبعثون بأخبار ولياتهم من تلقاء أنفسهم‬
‫)‪ ،(6‬وكان الولة يتصل بعضهم ببعض عن طريق الرسل أو عن طريق‬
‫التصال المباشر واللقاءات‪ ،‬وتتمثل هذه اللقاءات والتصالت‬
‫بالدرجة الولى بين ولة اليمن وحضرموت بعضهم مع بعض‪ ،‬وكذلك‬
‫الحال بالنسبة لولة الشام‪ ،‬الذين كانوا كثيرًا ما يجتمعون لتدارس‬
‫أمورهم العسكرية بالدرجة الولى‪ ،‬وكانت كثير من مراسلت أبي‬
‫بكر ‪ ‬تختص بحث الولة على الزهد في الدنيا وطلب الخرة‪،‬‬
‫عامة رسمية من‬ ‫)‪(7‬‬
‫وكانت بعض هذه النصائح تصدر على شكل كتب‬
‫الخليفة نفسه إلى مختلف الولة وأمراء الجناد‪.‬‬
‫)‪ (2،3،4،‬الولية على البلدان‪.1/55 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( المصدر السابق‪.1/56 :‬‬


‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫)‪ (2 ،‬الولية على البلدان‪.1/57 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫‪129‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫هذا وقد قسمت الدولة السلمية في عهد أبي بكر إلى عدة‬
‫وليات‪ ،‬وهذه أسماء الوليات والولة‪:‬‬
‫أ‪ -‬المدينة‪ :‬عاصمة الدولة وبها الخليفة أبو بكر ‪.‬‬
‫مكة‪ :‬وأميرها عتاب بن أسيد وهو الذي وله الرسول × واستمر‬ ‫ب‪-‬‬
‫مدة حكم أبي بكر‪.‬‬
‫جـ‪ -‬الطائف‪ :‬وأميرها عثمان بن أبي العاص الثقفي‪ ،‬وله رسول‬
‫الله ×‪ ،‬وأقره أبو بكر عليها‪.‬‬
‫صنعاء‪ :‬وأميرها المهاجر بن أبي أمية‪ ،‬وهو الذي فتحها ووليها بعد‬ ‫د‪-‬‬
‫انتهاء أمر الردة‪.‬‬
‫هـ‪ -‬حضرموت‪ :‬وليها زياد بن لبيد‪.‬‬
‫و‪ -‬زبيد ورقع‪ :‬ووليها أبو موسى الشعري‪.‬‬
‫ز‪ -‬خولن‪ :‬ووليها يعلى بن أبي أمية‪.‬‬
‫ح‪ -‬الجند‪ :‬وأميرها معاذ بن جبل‪.‬‬
‫ط‪ -‬نجران‪ :‬ووليها جرير بن عبد الله البجلي‪.‬‬
‫ي‪ -‬جرش‪ :‬ووليها عبد الله بن ثور‪.‬‬
‫ك‪ -‬البحرين‪ :‬ووليها العلء بن الحضرمي‪.‬‬
‫ل‪ -‬العراق والشام‪ :‬كان أمراء الجند هم ولة المر فيها‪.‬‬
‫م‪ -‬عمان‪ :‬ووليها حذيفة بن محصن‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫ن‪ -‬اليمامة‪ :‬ووليها سليط بن قيس ‪.‬‬
‫‪ -4‬موقف علي والزبير رضي الله عنهما من خلفة‬
‫الصديق‪:‬‬
‫وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬وكذا تأخر الزبير بن العوام‪ ،‬وجل هذه الخبار ليس‬
‫بصحيح إل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما‪ ،‬قال‪ :‬إن عليًا والزبير‬
‫ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله ×)‪ ،(2‬فقد‬
‫كان انشغال جماعة من المهاجرين وعلى رأسهم علي بن أبي طالب‬
‫واضحا فيما‬
‫ً‬ ‫بأمر جهاز رسول الله × من تغسيل وتكفين‪ ،‬ويبدو ذلك‬
‫رواه الصحابي سالم بن عبيد ‪ ‬من أن أبا بكر قال لهل بيت النبي‪،‬‬
‫وعلى رأسهم علي‪ :‬عندكم صاحبكم‪ ،‬فأمرهم يغسلونه )‪.(3‬‬
‫وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب ‪-‬رضي الله عنهما‪-‬‬
‫أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول × وهو يوم الثلثاء‪ .‬قال أبو‬
‫سعيد الخدري‪ :‬لما صعد أبو بكر المنبر‪ ،‬نظر في وجوه القوم‪ ،‬فلم‬
‫ير الزبير بن العوام فدعا بالزبير فجاء‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬يا ابن عمة‬

‫)( الدول العربية السلمية‪ ،‬منصور الحرابي‪ :‬ص ‪.97 ،96‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( صحيح التوثيق في سيرة الصديق‪ :‬ص ‪.98‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( صحيح التوثيق في سيرة الصديق‪ :‬ص ‪.98‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪130‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫رسول الله ×‪ ،‬وحواريه‪ ،‬أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال‬


‫الزبير‪ :‬ل تثريب عليك يا خليفة رسول الله ×‪ ،‬فقام الزبير‪ ،‬فبايع أبا‬
‫بكر‪ ،‬ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم‪ ،‬فلم ير علي بن أبي طالب‬
‫فدعا بعلي‪ ،‬فجاء‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬يا ابن عم رسول الله ×‪ ،‬وختنه‬
‫على ابنته‪ ،‬أتريد أن تشق عصا المسلمين؟ فقال علي‪ :‬ل تثريب‬
‫عليك يا خليفة رسول الله ×‪ ،‬فقام علي‪ ،‬فبايع أبا بكر )‪.(1‬‬
‫ومما يدل على أهمية حديث أبي سعيد الخدري الصحيح أن‬
‫المام »مسلم بن الحجاج« صاحب »الجامع الصحيح« الذي هو أصح‬
‫الكتب الحديثية بعد » صحيح البخاري « ذهب إلى شيخه المام‬
‫الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة‬
‫فسأله عن هذا الحديث‪ ،‬فكتب له ابن خزيمة الحديث‪ ،‬وقرأه عليه‪،‬‬
‫فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة‪:‬‬
‫هذا الحديث يساوي بدنة‪ ،‬فقال ابن خزيمة‪ :‬هذا الحديث ل يساوي‬
‫بدنة )‪ (2‬فقط‪،‬‬
‫)‪(3‬‬
‫إنه يساوي بدرة مال‪.‬‬
‫وعلق على هذا الحديث ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪ -‬فقال‪ :‬هذا إسناد‬
‫صحيح محفوظ‪ ،‬وفيه فائدة جلية‪ ،‬وهي مبايعة علي بن أبي طالب‬
‫إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة‪ ،‬وهذا حق‪ ،‬فإن علي‬
‫الصديق في وقت من الوقات‪ ،‬ولم ينقطع‬ ‫بن أبي طالب لم يفارق‬
‫في صلة من الصلوات خلفه )‪ ،(4‬وفي رواية حبيب بن أبي ثابت‪،‬‬
‫حيث قال‪ :‬كان علي بن أبي طالب في بيته‪ ،‬فأتاه رجل‪ ،‬فقال له‪ :‬قد‬
‫جلس أبو بكر للبيعة‪ ،‬فخرج علي إلى المسجد في قميص له‪ ،‬ما‬
‫فبايع‪(5‬أبا‬ ‫عليه إزار ول رداء وهو متعجل‪ ،‬كراهة أن يبطئ عن البيعة‪،‬‬
‫بكر ثم جلس‪ ،‬وبعث في ردائه‪ ،‬فجاءوه به فلبسه فوق قميصه ) ‪،‬‬
‫ت وفاة‬ ‫وقد سأل عمرو بن حريث سعيد ابن زيد ‪ ،‬فقال له‪ :‬أَ َ‬
‫شهِد ْ َ‬
‫رسول الله ×؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال له‪ :‬متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد‪:‬‬
‫يوم مات رسول الله ×‪ ،‬كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم‪ ،‬وليسوا‬
‫في جماعة‪ .‬قال‪ :‬هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد‪ :‬ل‪ ،‬لم يخالفه إل‬
‫مرتد أو كاد أن يرتد‪ ،‬وقد أنقذ الله النصار‪ ،‬فجمعهم عليه وبايعوه‪.‬‬
‫المهاجرين عن بيعته؟ قال سعيد‪ :‬ل‪ .‬لقد تتابع‬ ‫قال‪ :‬هل قعد أحد من‬
‫المهاجرون على بيعته!! )‪.(6‬‬
‫وأما علي ‪ ‬فلم يفارق الصديق في وقت من الوقات‪ ،‬ولم‬
‫الجماعات‪ ،‬وكان يشاركه في المشورة‪،‬‬ ‫ينقطع عنه في جماعة من‬
‫وفي تدبير أمور المسلمين )‪.(7‬‬
‫ويرى ابن كثير وكثير من أهل العلم أن عليًا جدد بيعته بعد ستة‬
‫أشهر من البيعة الولى؛ أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها‪ ،‬وجاءت‬
‫)( صححه ابن كثير في البداية والنهاية‪.5/249 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البدنة‪ :‬ناقة أو بقرة تنحر بمكة‪ ،‬ولعظمها وضخامتها سميت بدنة‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البدرة‪ :‬كيس فيه ألف أو عشرة آلف دينار‪ ،‬والمعنى‪ :‬أنه كنز ثمين‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.5/249 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (4،5،‬الخلفاء الراشدون للخالدي‪ :‬ص ‪.56‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫‪131‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫في هذه البيعة روايات صحيحة )‪.(1‬‬
‫وكان علي في خلفة أبي بكر عيبة نصح له‪ ،‬مرجحًا لما فيه‬
‫مصلحة للسلم والمسلمين على أي شيء آخر‪ ،‬ومن الدلئل‬
‫الساطعة على إخلصه لبي بكر ونصحه للسلم والمسلمين‪،‬‬
‫المسلمين ما‬ ‫وحرصه على الحتفاظ ببقاء الخلفة واجتماع شمل‬
‫جاء من موقفه من توجه أبي بكر ‪ ‬بنفسه إلى ذي القصة )‪،(2‬‬
‫وعزمه على محاربة المرتدين‪ ،‬وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم‬
‫بنفسه‪ ،‬وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود السلمي‬
‫)‪ ،(3‬فعن ابن عمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬قال‪ :‬لما برز أبو بكر إلى ذي‬
‫القصة‪ ،‬واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب بزمامها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫إلى أين يا خليفة رسول الله ×؟ أقول لك ما قال رسول الله × يوم‬
‫إلى( المدينة‪ ،‬فوالله لئن‬ ‫م سيفك ول تفجعنا بنفسك‪ ،‬وارجع‬ ‫أحد‪ :‬ل ّ‬
‫أبدا‪ ،‬فرجع )‪. 4‬‬
‫فجعنا بك ل يكون للسلم نظام ً‬
‫فلو كان علي ‪- ‬أعاذه الله من ذلك– لم ينشرح صدره لبي‬
‫بكر وقد بايعه على رغم من نفسه‪ ،‬فقد كانت هذه فرصة ذهبية‬
‫ينتهزها علي‪ ،‬فيترك أبا بكر وشأنه‪ ،‬لعله يحدث به حدث فيستريح‬
‫منه ويصفو الجو له‪ ،‬وإذا كان فوق ذلك –حاشاه عنه‪ -‬من كراهته له‬
‫به أحدًا يغتاله‪ ،‬كما يفعل الرجال‬ ‫وحرصه على التخلص منه‪ ،‬أغرى‬
‫السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم )‪.(5‬‬
‫)‪(6‬‬
‫‪) -5‬إنا معشر النبياء ل ُنورث‪ ،‬ما تركنا صدقة(‪:‬‬
‫قالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬إن فاطمة والعباس ‪-‬رضي الله‬
‫عنهما‪ :-‬أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله × وهما حينئذ‬
‫يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر‪ ،‬فقال لهما أبو بكر‪:‬‬
‫نورث‪ ،‬ما تركنا صدقة‪ ،‬إنما‬ ‫سمعت رسول الله × يقول‪» :‬ل‬
‫يأكل آل محمد من هذا المال«‪ (7).‬وفي رواية‪ :‬قال أبو بكر‬
‫×‪(8‬يعمل به إل عملت به‪ ،‬فإني‬ ‫‪»:‬لست تاركًا شيئًا كان رسول الله‬
‫أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ) ‪.‬‬
‫وعن عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬قالت‪ :‬أن أزواج النبي ×‪ ،‬حين‬
‫توفي رسول الله ×‪ ،‬أردن أن يبعثن عثمان بن عفان ‪ ‬إلى أبي‬
‫فقالت عائشة‪ :‬أليس قد قال رسول الله ×‪» :‬ل‬ ‫بكر يسأله ميراثهن‪،‬‬
‫نورث‪ ،‬ما تركنا صدقة« )‪ ،(9‬وعن أبي هريرة ‪ ‬قال رسول الله ×‪:‬‬
‫ورثتي ديناًرا‪ ،‬ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي‬ ‫»ل يقتسم‬
‫فهو صدقة« )‪.(10‬‬

‫البداية والنهاية‪.5/249 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ذي القصة‪ :‬من المدينة على مراحل‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المرتضى‪ ..‬سيرة علي بن أبي طالب‪ :‬ص ‪ ،97‬للندوي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البداية والنهاية‪.315 ،6/314 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المرتضى سيرة علي بن أبي طالب‪ :‬ص ‪.97‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (5‬البخاري رقم‪.6726 :‬‬ ‫البخاري رقم‪.6725 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫مسلم رقم‪ 1759 :‬بصيغة أخرى وبنفس المعنى‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫البخاري‪ ،‬رقم‪ ،6730 :‬مسلم رقم‪.1758 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫البخاري رقم‪.6729 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪10‬‬

‫‪132‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهذا ما فعله أبو بكر الصديق ‪ ‬مع فاطمة رضي الله عنها‪،‬‬
‫الصديق‪ :‬لست تاركًا شيئًا كان رسول‬ ‫امتثال لقوله ×‪ :‬لذلك قال‬
‫ً‬
‫الله يعمل به إل عملت به )‪(2،) (1‬وقال‪ :‬والله ل أدع أمرًا رأيت رسول‬
‫الله × يصنعه فيه إل صنعته ‪.‬‬
‫وقد تركت فاطمة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬منازعته بعد احتجاجه‬
‫بالحديث وبيانه)‪(3‬لها‪ ،‬وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله ×‪.‬‬
‫قال ابن قتيبة ‪ :‬وأما منازعة فاطمة أبا بكر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬في‬
‫ميراث النبي × فليس بمنكر؛ لنها لم تعلم ما قاله رسول الله ×‪،‬‬
‫)‪(4‬‬
‫وظنت أنها ترثه كما يرث الولد آباءهم‪ ،‬فلما أخبرها بقوله كفت‪.‬‬
‫وقال القاضي عياض‪ :‬وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد‬
‫احتجاجه عليها بالحديث التسليم للجماع على قضية‪ ،‬وأنها لما بلغها‬
‫الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها‪ ،‬ثم لم يكن منها ول من ذريتها‬
‫ي الخلفة فلم يعدل بها عما فعله‬ ‫عل ّ‬ ‫بعد ذلك طلب ميراث‪ ،‬ثم ولي‬
‫أبو بكر وعمر رضي الله عنهم )‪.(5‬‬
‫وقال حماد بن إسحاق‪ :‬والذي جاءت به الروايات الصحيحة فيما‬
‫طلبه العباس وفاطمة وعلي لها وأزواج النبي × من أبي بكر ‪-‬رضي‬
‫الله عنهم جميعًا‪ -‬إنما هو الميراث‪ ،‬حتى أخبرهم أبو بكر والكابر من‬
‫أصحاب رسول الله × أنه قال‪» :‬ل نورث ما تركنا صدقة«‪.‬‬
‫فقبلوا بذلك وعلموا أنه الحق‪ ،‬ولو لم يقل رسول الله × ذلك كان‬
‫لبي بكر وعمر فيه الحظ الوافر بميراث عائشة وحفصة رضي الله‬
‫عنهما‪ ،‬فآثروا أمر الله وأمر رسوله‪ ،‬ومنعوا عائشة وحفصة‪ ،‬ومن‬
‫لبي بكر وعمر أعظم‬ ‫سواهما ذلك‪ ،‬ولو كان رسول يورث‪ ،‬لكان‬
‫الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمد × )‪.(6‬‬
‫وأما ما ذكره عدد من الرواة في كون فاطمة ‪-‬رضي الله عنها‪-‬‬
‫جدا لعدة أدلة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫غضبت وهجرت الصديق حتى ماتت‪ ،‬فبعيد ً‬
‫‪ -1‬ما رواه البيهقي من طريق الشعبي‪ :‬أن أبا بكر عاد‬
‫أتحب( أن‬ ‫فاطمة‪ ،‬فقال لها علي‪ :‬هذا أبي بكر يستأذن عليك‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫آذن له؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فأذنت له فدخل عليها فترضاها حتى رضيت )‪، 7‬‬
‫وبهذا يزول الشكال الوارد في تمادي فاطمة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬لهجر‬
‫أبي بكر الصديق ‪ ،‬كيف وهو)‪(8‬القائل‪ :‬والله لقرابة رسول الله ×‪،‬‬
‫واتباعا لمر‬
‫ً‬ ‫أصل من قرابتي ‪ ،‬وما فعل إل امتثالً‬ ‫ي أن‬
‫أحب إل ّ‬
‫رسول الله × )‪.(9‬‬
‫لقد انشغلت عن كل شيء يحزنها لفقدها أكرم الخلق‪،‬‬ ‫‪-2‬‬
‫)‪ (1‬مسلم رقم‪.1758 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري رقم‪.6726 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت ‪ 276‬هـ )شذرات الذهب‪.(2/169 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تأويل مختلف الحديث‪ :‬ص ‪ (5) .189‬شرح صحيح مسلم للنووي‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪.12/318‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( البداية والنهاية‪ ،253 ،5/252 :‬وقال‪ :‬إسناده جيد قوي‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ‪ :‬ص ‪.109‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( البخاري رقم‪.4036 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( العقيدة في أهل البيت بين الفراط والتفريط‪ ،‬د‪ :‬سالم السحيمي‪ :‬ص ‪.291‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪133‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهي مصيبة تزري بكل المصائب‪ ،‬كما أنها انشغلت بمرضها الذي‬
‫فضل عن‬
‫ً‬ ‫ألزمها الفراش عن أي مشاركة في أي شأن من الشئون‪،‬‬
‫لقاء خليفة المسلمين المشغول –في كل لحظة من لحظاته‪ -‬بشئون‬
‫المة‪ ،‬وحروب الردة وغيرها‪ ،‬كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها‬
‫بأبيها؛ فقد أخبرها رسول الله × بأنها أول من يلحق به من أهله‪،‬‬
‫ومن كان في مثل علمها ل يخطر بباله أمور الدنيا‪ ،‬وما أحسن قول‬
‫المهلب الذي نقله العيني‪ :‬ولم يروِ أحد أنهما التقيا وامتنعا عن‬
‫التسليم‪ ،‬وإنما لزمت بيتها‪ ،‬فعبر الراوي عن ذلك بالهجران )‪.(1‬‬
‫هذا ومن الثابت تاريخيًا أن أبا بكر دام أيام خلفته يعطي أهل‬
‫البيت حقهم في فئ رسول الله × في المدينة‪ ،‬ومن أموال فدك‬
‫وخمس خيبر‪ ،‬إل أنه لم ينفذ فيها أحكام الميراث‪ ،‬عملً بما سمعه‬
‫من رسول الله ×‪ ،‬وقد روي عن محمد بن علي بن الحسين‬
‫المشهور بمحمد الباقر‪ ،‬وعن زيد بن علي أنهما قال‪ :‬إنه لم يكن من‬
‫شيء من الجور أو الشطط‪ ،‬أو ما‬ ‫أبي بكر فيما يختص بآبائهم‬
‫يشكونه من الحيف أو الظلم )‪.(2‬‬
‫ولما توفيت فاطمة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬بعد رسول الله بستة أشهر‬
‫على الشهر‪ ،‬وقد كان صلوات الله وسلمه عليه عهد إليها أنها أول‬
‫لها مع ذلك‪» :‬أما ترضين أن تكوني سيدة‬ ‫)‪(3‬‬
‫أهله لحوًقا به‪ ،‬وقال‬
‫نساء أهل الجنة« ‪ ،‬وذلك ليلة الثلثاء لثلث خلون من رمضان‬
‫سنة‬
‫إحدى عشرة‪.‬‬
‫عن مالك‪ ،‬عن جعفر بن محمد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬علي بن‬
‫الحسين‪ ،‬قال‪ :‬ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء‪ ،‬فحضرها أبو بكر‬
‫وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬فلما ُوضعت لُيصلى‬
‫عليها‪ ،‬قال علي‪ :‬تقدم يا أبا بكر‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬وأنت شاهد يا أبا‬
‫الحسن؟ قال‪ :‬نعم تقدم‪ ،‬فو الله ل يصلي عليها غيرك‪ ،‬فصلى عليها‬
‫ليل‪ .‬وجاء في رواية‪ :‬صلى أبو بكر الصديق على‬ ‫ً‬ ‫أبو بكر‪ ،‬ودفنت‬
‫فاطمة بنت رسول الله × فكبر)‪(5‬عليها أربعًا )‪ ،(4‬وفي رواية مسلم‪،‬‬
‫صلى عليها علي بن أبي طالب ‪.‬‬
‫هذا وقد كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله ×‬
‫بأعضاء أهل البيت صلة ودية تقديريه تليق به وبهم‪ ،‬وقد كانت هذه‬
‫المودة والثقة متبادلتين بين أبي بكر وعلي‪ ،‬فقد سمى علي أحد‬
‫أولده بأبي بكر )‪ ،(6‬وقد احتضن علي ابن أبي بكر محمدًا بعد وفاة‬
‫للولية في خلفته حتى حسب عليه‪،‬‬ ‫الصديق وكفله بالرعاية ورشحه‬
‫وانطلقت اللسنة بانتقاده من أجله )‪.(7‬‬

‫)( أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ‪ :‬ص ‪.108‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المرتضى‪ ،‬لبي الحسن الندوي‪ :‬ص ‪ ،91 ،90‬نقل عن نهج البلغة شرح أبي‬ ‫‪2‬‬

‫الحديد‪.‬‬
‫)( المرتضى‪ ،‬للندوي‪ :‬ص ‪.94‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( المرتضى‪ ،‬للندوي‪ :‬ص ‪ ،94‬نقل عن الطبقات الكبرى‪.7/29 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( مسلم رقم‪.1759 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)(‪ (4) ,‬المرتضى للندوي‪ :‬ص ‪.98‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬
‫)( المرتضى للندوي‪:‬ـ ص ‪.98‬‬

‫‪134‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫هذه بعض القضايا الداخلية التي عالجها الصديق ‪ ،‬والتزم فيها‬
‫بمتابعة الرسول × بكل دقة وحرص‪ ،‬فرضي الله عنه وعن جميع‬
‫الصحابة الكرام الطيبين البرار‪.‬‬
‫***‬

‫‪135‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الفصل الثالث‬
‫جيش أسامة وجهاد الصديق لهل الردة‬
‫المبحث الول‬
‫جيــــــش أسامـــــة‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما‪:‬‬
‫كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة‬
‫العربية في عهد النبي ×‪ ،‬وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال‬
‫الجزيرة‪ ،‬وكان أمراء تلك المناطق ُيعينون من قبل الدولة الرومانية‬
‫وينصاعون لوامرها‪.‬‬
‫بعث النبي الكريم × الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق‪ ،‬وأرسل‬
‫دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى السلم )‪،(1‬‬
‫ولكنه عاند وأخذته العزة بالثم‪ ،‬وكانت خطة الرسول × واضحة‬
‫المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب‪ ،‬ومن ثم تنطلق جيوش‬
‫المسلمين لفتح تلك الراضي‪ ،‬فأرسل × في العام الثامن للهجرة‬
‫جيشا واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة‪ ،‬واستشهد‬ ‫ً‬
‫قادة الجيش على التوالي زيد بن حارثة‪ ،‬ثم جعفر بن أبي طالب‪ ،‬ثم‬
‫قيادة الجيش بعدهم خالد بن الوليد ‪‬‬ ‫عبد الله بن رواحة ‪ ،‬وتولى‬
‫فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية )‪.(2‬‬
‫للهجرة خرج رسول الله × بجيش عظيم إلى‬ ‫وفي العام التاسع‬
‫الشام ووصل إلى تبوك)‪ ،(3‬ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ول‬
‫القبائل العربية وآثر حكام المدن الصلح على)‪(4‬الجزية وعاد الجيش‬
‫إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك‪ .‬وفي العام الحادي‬
‫وفيهم كبار‬ ‫عشر ندب النبي × الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين‬
‫المهاجرين والنصار‪ ،‬وأمرّ عليهم أسامة رضي الله عنهم )‪ ،(5‬قال‬
‫الحافظ ابن حجر‪ :‬جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة ‪ ‬يوم السبت‬
‫قبل موت النبي × بيومين‪ ،‬وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي ×‪،‬‬
‫فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ودعا أسامة ‪ ‬فقال‪» :‬سر‬
‫موضع( مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا‬ ‫إلى‬
‫الجيش« )‪ 6‬وطعن بعض الناس في إمارة أسامة ‪ ‬فرد عليهم‬
‫رسول الله × فقال‪» :‬إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم‬
‫قا‬‫تطعنون في إمارة أبيه من قبل‪ ،‬وايم الله إن كان لخلي ً‬
‫ي‪ ،‬وإن هذا لمن أحب‬ ‫لمن أحب الناس إل ّ‬ ‫)‪(7‬‬
‫للمارة وإن كان‬
‫ي بعده«‪.‬‬‫الناس إل ّ‬
‫ومرض النبي × بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين واشتد‬
‫)‪ (2‬السيرة النبوية الصحيحة للعمري‪:‬‬ ‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الوحي رقم‪.7 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.470 -2/467‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ (4) .4/4784 :‬السيرة النبوية الصحيحة‪.2/535 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( قصة بعث جيش أسامة‪ ،‬د‪ :‬فضل إلهي‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (2‬البخاري كتاب المغازي رقم‪.4469 :‬‬ ‫)( فتح الباري‪.8/152 :‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫‪136‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وجعه عليه الصلة والسلم فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكرًا‬
‫بالجرف )‪ (1‬ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم × )‪ ،(2‬وتغيرت‬
‫الحوال مع انتقال الرسول الكريم × إلى رحمة ربه‪ ،‬وصارت كما‬
‫تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة ‪-‬رضي الله عنها‪ -‬بقولها‪ :‬لما‬
‫رسول‪(4‬الله × ارتدت العرب قاطبة واشرأب) )‪ (3(5‬النفاق‪ .‬والله‬ ‫)‬
‫قبض‬
‫لهاضها ‪ ،‬وصار أصحاب‬ ‫الراسيات‬ ‫بالجبال‬ ‫نزل‬ ‫لو‬ ‫ما‬ ‫بي‬ ‫نزل‬ ‫قد‬
‫كأنهم معزي )‪ (6‬مطيرة في حش )‪ (7‬في ليلة مطيرة بأرض‬ ‫×‬
‫)‪(9) (8‬‬
‫محمد‬
‫مسبعة‪.‬‬
‫رجل في اليوم الثالث من‬‫ً‬ ‫مر ‪‬‬ ‫ولما تولى الخلفة الصديق أ ّ‬
‫وفّى رسول الله × أن ينادي في الناس‪ :‬ليتم بعث أسامة ‪ ،‬أل‬ ‫مت َ َ‬
‫ُ‬
‫بالمدينة أحد من جند أسامة ‪ ‬إل خرج إلى عسكره‬ ‫يبقين‬ ‫ل‬
‫بالجرف )‪ ،(10‬ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال‪ :‬يا أيها‬
‫الناس‪ :‬إنما أنا مثلكم وإني ل أدري لعلكم تكلفونني ما كان رسول‬
‫الله × يطيق‪ ،‬إن الله اصطفى محمدًا على العالمين‪ ،‬وعصمه من‬
‫الفات‪ ،‬وإنما أنا متبع ولست بمبتدع‪ ،‬فإن استقمت فتابعوني وإن‬
‫زغت فقوموني‪ ،‬وإن رسول الله × قبض وليس أحد من هذه المة‬
‫يطلبه بمظلمة ‪-‬ضربة سوط فما دونها – وإن لي شيطانًا يعتريني‪،‬‬
‫فإذا أتاني فاجتنبوني‪ ،‬ل أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وأنتم تغدون‬
‫وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه‪ ،‬فإن استطعتم أل يمضي‬
‫هذا الجل إل وأنتم في عمل صالح فافعلوا‪ ،‬ولن تستطيعوا ذلك إل‬
‫بالله‪ ،‬فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى‬
‫انقطاع العمال‪ ،‬فإن قومًا نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم‪،‬‬
‫فإياكم أن تكونوا أمثالهم‪ ،‬الجد الجد‪ ،‬والوحا الوحا‪ ،‬والنجاء النجاء‪،‬‬
‫مّره سريع‪ ,‬احذر الموت واعتبر بالباء‬ ‫فإن وراءكم طالبًا حثيثًا‪َ ,‬‬
‫والبناء والخوان ول تغبطوا الحياء إل بما تغبطون به الموات )‪.(11‬‬
‫وقام أيضًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‪ :‬إن الله ل يقبل من‬
‫العمال إل ما أريد به وجهه‪ ،‬فأريدوا الله بأعمالكم‪ ،‬فإنما أخلصتم‬
‫لحين فقركم وحاجتكم‪ ,‬اعتبروا عباد الله بمن مات منكم‪ ،‬وتفكروا‬
‫فيمن كان قبلكم‪ ،‬أين كانوا أمس وأين هم اليوم‪ ،‬أين الجبارون‬
‫الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع‬
‫بهم الدهر وصاروا رميمًا‪ ،‬قد توالت عليهم العالت‪ ,‬الخبيثات‬
‫للخبيثين‪ ،‬والخبيثون للخبيثات‪ ,‬وأين الملوك الذين أثاروا الرض‬
‫وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كَل ً شيء إل أن الله ‪-‬عز‬
‫وجل‪ -‬قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات‪ ،‬ومضوا‬
‫والعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم‪ ،‬وبعثنا خلقا بعدهم‪ ،‬فإن نحن‬
‫جْرف‪ :‬بالضم ثم السكون‪ ،‬موضع على ثلثة أميال من المدينة نحو الشام‪.‬‬ ‫)( ا ل ْ ُ‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية الصحيحة‪ ،2/552 :‬السيرة النبوية في ضوء المصادر الصلية‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.685‬‬
‫)( اشرأب‪ :‬ارتفع وعل‪ .‬انظر‪ :‬النهاية في غريب الحديث‪.2/455 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( نزل »بي«‪ :‬وفي تاريخ خليفة بن خياط‪ :‬نزل بأبي‪.102 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( لهاضها‪ :‬كسرها‪ .‬النهاية في غريب الحديث والثر‪.5/288 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( معزي‪ :‬المعز من الغنم خلف الضأن‪ ،‬وهو اسم جنس‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (10‬مسبعة‪ :‬أرض ذات سباع‪.‬‬ ‫)( حش‪ :‬بستان‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫‪8‬‬

‫)‪ (12‬نفس المصدر السابق‪.6/307 :‬‬ ‫)( البداية والنهاية‪.6/309 :‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪10‬‬

‫)( البداية والنهاية‪ ،6/307 :‬تاريخ الطبري‪ ،245 ،2/241 :‬ط‪ .‬الكتب العلمية‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪137‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫اعتبرنا بهم نجونا‪ ،‬وإن انحدرنا كنا مثلهم‪ .‬أين الوضاءة الحسنة‬
‫وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا‪ ،‬وصار ما فرطوا فيه‬
‫حسرة عليهم‪ .‬أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط‪ ،‬وجعلوا‬
‫مساكنهم خاوية وهم‬ ‫فيها العاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم‪ ،‬فتلك‬
‫ن أ َحد أ َ‬
‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ َ ُ ُ ْ‬‫م‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫م ْ َ‬ ‫هم ّ‬‫من ْ ُ‬
‫س ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ه ْ‬
‫ل تُ ِ‬ ‫في ظلمات القبور‪َ + :‬‬
‫رك ًْزا" ]مريم‪ .[98 :‬أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟ قد انتهت‬ ‫ِ‬
‫بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه‪ ،‬وأقاموا للشقاوة أو‬
‫السعادة بعد الموت‪ ،‬أل إن الله ل شريك له ليس بينه وبين أحد من‬
‫خلقه سبب يعطيه به خيًرا ول يصرف به عنه سوًءا إل بطاعته واتباع‬
‫يدرك‪(1‬إل بطاعته‪،‬‬ ‫أمره‪ ،‬واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده ل‬
‫أما آن لحدكم أن تحسر عنه النار ول تبعد عنه الجنة ) ‪.‬‬
‫وفي هذه الخطبة دروس وعبر‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬بيان طبيعة خليفة رسول الله × وأنه ليس خليفة عن الله بل‬
‫عن رسوله ×‪ ،‬وأنه بشر غير معصوم ل يطيق مقام رسول الله ×‬
‫وليس بمبتدع؛ أي أنه‬ ‫بنبوته ورسالته‪ ،‬ولذلك فهو في سياسته متبع‬
‫على نهج النبي × في الحكم بالعدل والحسان )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬بيان واجب المة في مراقبة الحاكم لتعينه في إحسانه‬
‫وصلحه‪ ,‬وتقومه وتنصحه في غير ذلك؛ ليظل على الطريق متبعًا‬
‫غير مبتدع‪.‬‬
‫ج‪ -‬بيان أن النبي × عدل بين المة فلم يظلم أحدًا‪ ،‬ولذلك ليس‬
‫لحد عند النبي × مظلمة صغيرة أو كبيرة‪ ،‬ومعنى هذا أنه سوف‬
‫يسير على نفس النهج؛ ينشر العدل ويبتعد عن الظلم‪ ،‬ومن ثم على‬
‫المة أن تعينه على ذلك‪ ،‬وإذا رآه أحد غاضبًا فعليه أن يجتنبه حتى ل‬
‫يؤذي أحدًا فيخالف ما رآه في سياسة التباع )‪ (3‬للنبي ×‪ .‬والشيطان‬
‫الذي يعتري الصديق يعتري جميع بني آدم‪ ،‬فإنه ما من أحد إل وقد‬
‫وكل الله به قرينه من الملئكة وقرينه من الجن)‪ ،(4‬والشيطان يجري‬
‫من ابن آدم مجرى الدم‪ ،‬فقد قال رسول الله ×‪» :‬ما منكم من‬
‫أحد إل وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملئكة«‬
‫قالوا‪ :‬وإياك يا رسول الله؟ قال‪» :‬وإياي إل أن الله أعانني‬
‫عليه فأسلم فل يأمرني إل بخير«‪ (5).‬وقد جاء في الحديث‬
‫أيضا‪ :‬لما مر به بعض النصار وهو يتحدث مع صفية ليلً فقال‪:× :‬‬ ‫ً‬
‫»على رسلكما‪ ،‬إنها صفية بنت حيي« فقال‪ :‬سبحان الله يا‬
‫رسول الله‪ ،‬قال‪» :‬إن الشيطان يجري من النسان مجرى‬
‫ءا«‬
‫الدم وإني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما سو ً‬
‫ومقصود الصديق بذلك‪ :‬إني لست معصومًا كالرسول ×‪ ،‬وهذا‬ ‫)‪(7‬‬
‫)‪،(6‬‬
‫حق ‪.‬‬
‫د‪ -‬حرص الصديق على وعظ المسلمين وتذكيرهم بالموت وحال‬

‫)( نفس المصدرين السابقين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (2) ,‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.432‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد مال الله‪ :‬ص ‪ (4) .196‬مسلم رقم‪.2814 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( البخاري كتاب الخلق‪ ،‬رقم‪ (6) .3281 :‬أبو بكر الصديق محمد مال الله‪ :‬ص‬ ‫‪6‬‬

‫‪.197‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪138‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الملوك الذين مضوا‪ ،‬وحثهم على العمل الصالح ليستعدوا للقاء الله‬
‫عز وجل‪ ،‬ويستقيموا في حياتهم على منهج الله تعالى )‪ ،(1‬وهنا نلحظ‬
‫توظيف الصديق لقوة البيان في خطبه وفي حديثه للمة‪ ،‬وقد كان‬
‫‪ ‬أفصح خطباء النبي ×‪ ،‬يقول عنه الستاذ العقاد‪ :‬أما كلمه فهو‬
‫من أرجح ما قيل في موازين الخلق والحكمة‪ ،‬وله من مواقع الكلم‬
‫أمثلة نادرة تدل الواحدة منها على ملكة صاحبها‪ ،‬فيغني القليل منها‬
‫عن الكثير‪ ،‬كما تغني السنبلة الواحدة عن الجرين الحافل‪ ،‬فحسبك‬
‫أن تعلم معدن القول من نفسه وفكره حين تسمع كلمة كقوله‪:‬‬
‫»احرص على الموت ُتوهب لك الحياة« أو قوله‪» :‬أصدق الصدق‬
‫المانة‪ ،‬وأكذب الكذب الخيانة«‪» .‬الصبر نصف اليمان‪ ،‬واليقين‬
‫اليمان كله«‪ .‬فهي كلمات تتسم بالقصد والسداد كما تتسم بالبلغة‬
‫وحسن التعبير‪ ،‬وتنبي عن المعدن الذي نجمت منه فتغني عن‬
‫علمات التثقيف التي يستكثر منها المستكثرون؛ لن هذا الفهم‬
‫التثقيف‪ ،‬وكانت له × لباقة في‬ ‫الصيل هو اللباب المقصود من‬
‫الخطاب إلى جانب البلغة في الكلم )‪.(2‬‬
‫ثانًيا‪ :‬ما تم بين الصديق والصحابة في أمر إنفاذ الجيش‪:‬‬
‫اقترح بعض الصحابة على الصديق ‪ ‬بأن يُبقي الجيش فقالوا‪:‬‬
‫إن هؤلء جل المسلمين‪ ،‬والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس‬
‫ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين‪ (3) .‬وأرسل أسامة من‬
‫معسكره من الجرف عمر بن الخطاب ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬إلى أبي‬
‫بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال‪ :‬إن معي وجوه المسلمين‬
‫وجلتهم ول آمن على خليفة رسول الله × وحرم رسول الله ×‬
‫والمسلمين أن يتخطفهم المشركون)‪.(4‬‬
‫ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية‬
‫في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والحوال والنتائج‪ ،‬ولم‬
‫يسترح أسامة وهيئة أركان حربه لصرار الخليفة على رأيه‪ ،‬وقد‬
‫بذلوا لدى الخليفة عدة محاولت كي يقنعوه بصواب فكرتهم‪ ،‬وعندما‬
‫كثر اللحاح على أبي بكر دعا عامة المهاجرين والنصار إلى اجتماع‬
‫في المجلس لمناقشة هذا المر معهم‪ ،‬وفي هذا الجتماع دار نقاش‬
‫طويل متشعب‪ ،‬وكان أشد المعارضين لستمرار حملة الشام عمر‬
‫بن الخطاب‪ ،‬مبديًا تخوفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله‬
‫وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة العراب المرتدين‬
‫المشركين‪ ،‬وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة‬
‫وخوفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصر على‬
‫تحريك جيش أسامة لغزو الروم‪ ،‬أمر بفض الجتماع الول )‪ (5‬بعد أن‬
‫سمع الصديق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لحدهم ما يقول‪،‬‬
‫وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم )‪،(6‬‬
‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.423‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬البداية والنهاية‪.6/308 :‬‬ ‫عبقرية الصديق‪ :‬ص ‪.139‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫الكامل‪ ،‬لبن الثير‪.2/226 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬عز الدين التميمي‪ :‬ص ‪.83 ،82‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫ملمح الشورى في الدعوة السلمية‪ ،‬عدنان النحوي‪ :‬ص ‪.257‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪139‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد‪ ،‬وفي هذا الجتماع‬
‫طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله‬
‫× بنفسه‪ ،‬وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه‬
‫في احتلل المدينة من قبل العراب المرتدين‪ ،‬فقد وقف خطيبًا‬
‫)‪(1‬‬
‫قائل‪ :‬والذي نفس أبي بكر بيده‪ ،‬لو ظننت أن‬ ‫ً‬ ‫وخاطب الصحابة‬
‫السباع تخطفني لنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ×‪ ،‬ولو‬
‫لم يبق في القرى غيري لنفذته )‪.(2‬‬
‫نعم لقد كان أبو بكر مصيبًا فيما عزم عليه من بعث أسامة‬
‫مخالفًا بذلك رأي جميع المسلمين؛ لن في ذلك أمرًا من رسول الله‬
‫أثبتت اليام والحداث سلمة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم‬ ‫× وقد‬
‫تنفيذه )‪.(3‬‬
‫رجل أقدم سنّ ا من أسامة يتولى أمر الجيش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وطلبت النصار‬
‫وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصديق في ذلك‪ ،‬فقال عمر‬
‫سن ا من أسامة‪ ،  ،‬فوثب أبو‬ ‫‪ : ‬فإن النصار تطلب رجلً أقدم ً‬
‫جالس ا فأخذ بلحية عمر ‪ ، ‬وقال له ثكلتك أمك‬ ‫ً‬ ‫بكر ‪ ‬وكان‬
‫وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله × وتأمرني أن‬
‫أنزعه )‪ ، (4‬فخرج عمر ‪ ‬إلى الناس فقالوا‪ :‬ما صنعت؟ فقال‪:‬‬
‫ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول‬ ‫امضوا‬
‫الله × )‪.(5‬‬
‫ثم خرج أبو بكر الصديق ‪ ‬حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو‬
‫ماش وأسامة راكب‪ .‬وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر‬
‫‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬فقال له أسامة ‪ :‬يا خليفة رسول الله ×‪ :‬والله‬
‫ي أن‬ ‫تنزل ووالله ل أركب‪ ،‬وما عل ّ‬ ‫لتركبن أو لنزلن‪ ،‬فقال‪ :‬والله ل‬
‫أغبر قدمي في سبيل الله ساعة )‪.(6‬‬
‫قال الصديق ‪ ‬لسامة ‪ :‬إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل‪.‬‬ ‫ثم‬
‫فأذن له)‪ ،(7‬ثم توجه الصديق ‪ ‬إلى الجيش فقال‪ :‬يا أيها الناس‪،‬‬
‫قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني‪:‬‬
‫ل تخونوا ول ت ُِغلوا ول تغدروا ول تمّثلوا )‪ ،(8‬ول تقتلوا طفلً‬
‫صغيرا‪ ،‬ول شيخًا كبيرًا ول امرأة‪ ،‬ول تعقروا نخلً ول تحرقوه‪ ،‬ول‬ ‫ً‬
‫تقطعوا شجرة مثمرة‪ ،‬ول تذبحوا شاة ول بقرة ول بعيرًا إل لمأكلة‪،‬‬
‫وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما‬
‫فرغوا أنفسهم له‪ ،‬وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها‬
‫شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ألوان الطعام فإذا أكلتم منه‬
‫وتلقون أقوامًا قد فحصوا )‪ (9‬أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل‬
‫)( الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪ (2) .83‬تاريخ الطبري‪.4/45 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪ (4) .83‬تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)‪ (6‬تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( ول تمثلوا‪ :‬يقال‪ :‬مثلت بالحيوان وأمثل به تمثيل‪ ،‬إذا قطعت أطرافه وشوهت‬ ‫‪8‬‬

‫به‪.‬‬
‫)‪ (2‬فأخفقوهم‪ :‬من أخفق فلنًا أي‪:‬‬ ‫)( فحصوا‪ :‬حلقوا‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫صرعه‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بالسيف خفقًا‪ .‬اندفعوا باسم الله )‪.(2‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫العصائب فأخفقوهم‬
‫وأوصى الصديق أسامة ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬أن يفعل ما أمر به‬
‫قائل‪ :‬اصنع ما أمرك به نبي الله ×؛ ابدأ ببلد قضاعة‬
‫ً‬ ‫النبي الكريم ×‬
‫ثم إيت آبل )‪ (3‬ول تقصرن في شيء من أمر رسول الله ×‪ ،‬ول‬
‫تعجلن لما خلفت عن عهده‪ (4).‬ومضى أسامة ‪ ‬بجيشه‪ ،‬وانتهى إلى‬
‫ما أمر به النبي × من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على‬
‫)‪(6‬‬
‫يوما‪.‬‬
‫ً‬ ‫آبل فسلم وغنم )‪ ،(5‬وكان مسيرة ذاهبًا وقافلً أربعين‬
‫وقدم بنعي رسول الله على هرقل وإغارة أسامة في ناحية‬
‫أرضه خبر واحد‪ ،‬فقالت الروم‪ :‬ما بال هؤلء يموت صاحبهم ثم‬
‫أغاروا على أرضنا )‪(7‬؟ وقال العرب‪ :‬لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا‬
‫هذا الجيش )‪ ،(8‬فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه )‪.(9‬‬
‫ثالًثا‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد من إنفاذ الصديق جيش‬
‫أسامة‪:‬‬
‫‪ -1‬الحوال تتغير وتتبدل والشدائد ل تشغل أهل اليمان‬
‫عن أمر الدين‪:‬‬
‫ما أشد التحول وأخطره‪ ،‬وما أسرعه كذلك! سبحان الله الذي‬
‫د" ]البروج‪+ ،[16 :‬ل َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ل لّ َ‬
‫ما ي ُ ِ‬ ‫عا ٌ‬ ‫فَّ‬‫يقلب الحول كيفما يشاء‪َ + :‬‬
‫ن" ]النبياء‪ ،[23 :‬تأتي وفود العرب‬ ‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫أ‬ ‫س‬
‫م يُ ْ‬
‫ه ْ‬
‫و ُ‬ ‫ع ُ‬
‫ل َ‬ ‫ف َ‬‫ما ي َ ْ‬
‫ع ّ‬
‫ل َ‬‫سأ َ ُ‬
‫يُ ْ‬
‫مذعنة منقادة مطيعة وبهذه الكثرة‪ ،‬حتى سمي العام التاسع )عام‬
‫الوفود(‪ ،‬ثم‬
‫تنقلب الحوال فيخشى من أن تأتي القبائل العربية للغارة على‬
‫المدينة المنورة عاصمة السلم )‪ ،(10‬بل قد جاءت للغارة للقضاء‬
‫على ‪-‬حسب زعمها الباطل‪ -‬على السلم والمسلمين)‪ ،(11‬ول غرابة‬
‫في هذا فإن من سنن الله الثابتة في المم أن أيامها ل تبقى ثابتة‬
‫على حالة بل تتغير وتتبدل‪ ،‬وقد أخبر بذلك الذي يقلب اليام‬
‫س"‬‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ن ال‬ ‫ول ُ َ‬
‫ها ب َي ْ َ‬ ‫دا ِ‬
‫م نُ َ‬‫ك الّيا ُ‬ ‫وت ِل ْ َ‬ ‫ويصرفها ‪-‬عز وجل‪ -‬بقوله‪َ + :‬‬
‫]آل عمران‪.[140 :‬‬
‫قال الرازي في تفسيره‪ :‬والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين‬
‫الناس ل يدوم مسارها ول مضارها‪ ،‬فيوم يحصل فيه سرور له والغم‬
‫لعدوه‪ ،‬ويوم آخر بالعكس من ذلك ول يبقى شيء من أحوالها ول‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (4‬آبل‪ :‬منطقة في جنوب بلد الردن‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫اليوم‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (6) ,‬تاريخ الطبري‪.4/47 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( المصدر السابق‪4/47 :‬؛ تاريخ خليفة بن خياط‪.101 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( عهد الخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪.20‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ ،‬د‪ :‬فضل إلهي‪ :‬ص ‪.14‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( الكامل لبن الثير‪.2/227 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫)‪ (2،‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.18‬‬ ‫‪10‬‬
‫‪11‬‬

‫‪141‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫يستقر أثر من آثارها )‪.(1‬‬
‫وجاءت صيغة المضارعة ُنداوُلها للدللة على تجدد سنة مداولة‬
‫اليام من المم واستمرارها‪ ،‬وفي هذا قال القاضي أبو السعود‪:‬‬
‫وصيغة المضارع الدالة على التجدد والستمرار لليذان بأن تلك‬
‫المداولة سنة مسلوكة بين المم)‪(3‬قاطبة سابقتها ولحقتها )‪ (2‬وقد‬
‫قيل‪ :‬اليام دول والحرب سجال ‪.‬‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫)‪(4‬‬
‫سرّ‬
‫ويوم ُنساء ويوم ن ُ َ‬ ‫فيوم علينا ويوم لنا‬
‫فالصديق يعلّم المة إذا نزلت بها الشدة وألمت بها المصيبة أن‬
‫ن‬
‫تصبر‪ ،‬فالنصر مع الصبر‪ ،‬وأن ل تيأس ول تقنط من رحمة الله‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ن" ]العراف‪ ،[56 :‬وليتذكر‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ب ّ‬
‫ري ٌ‬
‫ق ِ‬‫ه َ‬‫ت الل ِ‬‫م َ‬ ‫ح َ‬‫َر ْ‬
‫المسلم دائمًا أن الشدة مهما عظمت والمصيبة مهما اشتدت‬
‫ن‬
‫سًرا ‪ ‬إ ِ ّ‬
‫ر يُ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫ع ْ‬ ‫م َ‬
‫ن َ‬
‫فإ ِ ّ‬‫وكبرت فإن من سنن الله الثابتة‪َ + :‬‬
‫سًرا" ]النشراح‪ ،[6 ،5 :‬وإن المسلم لمره عجيب في‬ ‫ر يُ ْ‬‫س ِ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫ع ْ‬ ‫م َ‬‫َ‬
‫هذه الدنيا‪ ،‬فقد بين رسول الله × ذلك في قوله‪» :‬عجًبا لمر‬
‫المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لحد إل للمؤمن‪ ،‬إن أصابته‬
‫سراء شكر فكان خيًرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان خيًرا له« )‪.(5‬‬
‫ومن الدروس المستفادة من بعث جيش أسامة‪ :‬أن الشدائد‬
‫والمصائب مهما عظمت وكبرت ل تشغل أهل اليمان عن أمر‬
‫الدين‪ .‬إن وفاة الرسول الكريم × لم تشغل الصديق عن أمر الدين‪،‬‬
‫وأمر ببعث أسامة في ظروف حالكة مظلمة بالنسبة للمسلمين‪،‬‬
‫ولكن ما تعلمه الصديق من رسول الله من الهتمام بأمر الدين‬
‫مقدم على كل شيء‪ ،‬وبقي هذا المر حتى ارتحل من هذه الدنيا )‪.(6‬‬
‫‪ -2‬المسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد ووجوب اتباع النبي ×‪:‬‬
‫وفي قضية إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة ‪-‬رضي الله‬
‫عنهما‪ -‬نجد أن الصديق ‪ ‬بين بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم‬
‫ولن تتوقف حتى بموت سيد الخلق وإمام النبياء وقائد المرسلين‬
‫×‪ ،‬وأثبت مواصلة العمل الدعوي بالمبادرة إلى إنفاذ هذا الجيش‬
‫حيث نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله × بخروج‬
‫جند أسامة ‪ ‬إلى عسكره بالجرف‪ ،‬وقد كان الصديق ‪ ‬قبل ذلك‬
‫ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل‬ ‫)‪(7‬‬
‫قد بين في خطبته التي‬
‫الجهود لخدمة هذا الدين‪.‬‬
‫وقد جاء في رواية قوله‪ :‬فاتقوا الله أيها الناس‪ ،‬واعتصموا‬
‫بدينكم وتوكلوا على ربكم؛ فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة‪،‬‬
‫)( تفسير الرازي‪ ،9/15 :‬تفسير القرطبي‪.4/218 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير أبي السعود‪2/89 :‬؛ روح المعاني لللوسي‪.4/68 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (6‬تفسير القرطبي‪.4/218 :‬‬ ‫)( روح المعاني لللوسي‪.4/68 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( مسلم‪.4/2295 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (2‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.24‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (3‬البداية والنهاية‪.214 ،5/213 :‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.27‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪142‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه‪ .‬والله‪ ,‬ل نبالي من أجلب علينا‬
‫من خلق الله‪ ،‬إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد‪ ،‬ولنجاهدن‬
‫من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله × فل يبغين أحد إل على نفسه‬
‫)‪.(1‬‬
‫ومن الدروس المستفادة من قصة إنفاذ الصديق جيش أسامة‬
‫‪-‬رضي الله عنهما‪ :-‬أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي × في‬
‫السراء والضراء‪ ،‬فقد بين الصديق من فعله أنه عاضّ على أوامر‬
‫النبي × بالنواجذ ومنفذها مهما كثرت المخاوف واشتدت المخاطر‪،‬‬
‫وقد تجلى هذا أثناء هذه القصة عدة مرات‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬لما طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة ‪ ‬نظرًا لتغير‬
‫الحوال وتدهورها أجاب ‪ ‬بمقولته الخالدة‪ :‬والذي نفس أبي بكر‬
‫أسامة كما أمر به‬ ‫بيده لو ظننت أن السباع تخطفتني لنفذت بعث‬
‫رسول الله ×‪ ،‬ولو لم يبق في القرى غيري لنفذته )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬ولما استأذنه أسامة ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬في الرجوع بجيشه‬
‫من الجرف إلى المدينة خوفًا على الصديق وأهل المدينة لم يأذن‬
‫بقوله‪:‬‬ ‫له‪ ،‬بل أبدى عزمه وتصميمه على تنفيذ قضاء النبي الكريم ×‬
‫لو خطفتني الكلب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله )‪،(3‬‬
‫ما‬‫و َ‬‫‪َ +‬‬ ‫وجل‪:-‬‬
‫‪-‬عزل ُه أ َ‬ ‫وقدم ‪ ‬بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله‬ ‫ّ‬
‫مًرا َأن‬ ‫ُ ْ‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫و‬
‫ُ َ َ ُ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ضى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ٍ ْ َ‬‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ؤ‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كا‬‫َ‬
‫د‬
‫ق ْ‬‫ف َ‬‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫و‬
‫َ َ َ ُ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫ْ ْ ِ ْ َ َ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫يَ‬
‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫نا"]الحزاب‪.[36 :‬‬ ‫مِبي ً‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ض‬
‫َ‬
‫ج‪ -‬وعندما طلب منه تعيين رجل أقدم سنّا من أسامة ‪ ‬أبدى‬ ‫ُ‬
‫الشديد على الفاروق ‪ ‬بسبب جرأته على نقل مثل هذا‬ ‫)‪(4‬‬
‫غضبه‬
‫وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله‬ ‫أمك‬ ‫ثكلتك‬ ‫له‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫القتراح‬
‫رسول الله × وتأمرني أن أنزعه )‪.(5‬‬
‫د‪ -‬وتجلى اهتمام أبي بكر الصديق ‪ ‬باتباع النبي الكريم ×‬
‫وكذلك( في خروجه لتشييع الجيش ومشيه مع أسامة ‪ ‬الذي كان‬
‫راكبا)‪ ، 6‬ولقد كان الصديق ‪ ‬في عمله هذا مقتديًا بما فعله سيد‬ ‫ً‬
‫وسلمه عليه مع معاذ‬ ‫ربي‬ ‫صلوات‬ ‫الكريم‬ ‫رسولنا‬ ‫والخرين‬ ‫الولين‬
‫ابن جبل ‪ ‬لما بعثه رسول الله × إلى اليمن )‪ ،(7‬فقد روى المام‬
‫أحمد عن معاذ بن جبل ‪ ‬قال‪ :‬لما بعثه رسول الله × إلى اليمن‬
‫الله‪ ×(8‬يوصيه ومعاذ ‪ ‬راكب‪ ،‬ورسول الله ×‬ ‫خرج معه رسول‬
‫يمشي تحت راحلته ) ‪.‬‬
‫قال الشيخ أحمد البنا تعليقا على هذا الحديث‪ :‬وقد فعل ذلك أبو‬
‫بكر ‪ ‬بأسامة بن زيد ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬مع صغر سنه‪ ،‬فقد عقد له‬
‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/45 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪ (3) .36‬تاريخ الطبري‪.4/46 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)‪ (5‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص‬ ‫)( المرجع السابق‪.4/46 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.36‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( الفتح الرباني لترتيب مسند المام أحمد بن حنبل الشيباني‪.21/215 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪143‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫النبي × قبل وفاته لواء على جيش ولم يسافر إل بعد وفاة النبي ×‪،‬‬
‫ماشيًا وأسامة ‪ ‬راكبًا‪ ،‬اقتداء بما فعله‬ ‫فشيعه أبو بكر ‪‬‬
‫النبي × بمعاذ ‪.(1) ‬‬
‫هـ‪ -‬وظهرت عناية أبي بكر الصديق ‪ ‬بالقتداء بالرسول الكريم‬
‫× أيضا في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم؛ حيث كان رسول‬
‫الله × يوصي الجيوش عند توديعهم‪ ،‬ولم يقتصر الصديق على هذا؛‬
‫جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبسًا من وصايا‬ ‫بل إن معظم ما‬
‫النبي × للجيوش )‪.(2‬‬
‫ولم يقف أبو بكر الصديق ‪ ‬في القتداء بالرسول الكريم ×‬
‫فيما قاله وفعله فحسب‪ ،‬بل أمر أمير الجيوش أسامة ‪ ‬بتنفيذ‬
‫أمره ×‪ ،‬ونهاه عن التقصير فيه )‪ ،(3‬فقد قال له ‪-‬رضي الله عنهما‪:-‬‬
‫اصنع ما أمرك به نبي الله ×‪ ،‬ابدأ ببلد قضاعة ثم إيت آبل‪ ،‬ول‬
‫تقصرن شيئًا من أمر رسول ُ الله × )‪ ،(4‬وفي رواية أخرى أنه قال‪:‬‬
‫امض يا أسامة للوجه الذي أمرت به‪ ،‬ثم اغز حيث أمرك رسول الله‬
‫× من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة‪ ،‬فإن الله سيكفي ما تركت‪.‬‬
‫عند ابن الثير‪ :‬وأوصى أسامة ‪ ‬أن يفعل ما أمر به‬ ‫)‪(6‬‬
‫)‪ (5‬وفي رواية‬
‫رسول الله × ‪.‬‬
‫لقد انقاد الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬لرأي الصديق وشرح الله‬
‫صدورهم لذلك‪ ،‬وتمسكوا بأمر الرسول الكريم ×‪ ،‬وبذلوا المستطاع‬
‫وألقى في قلوب‬ ‫لتحقيقه‪ ،‬فنصرهم الله تعالى ورزقهم الغنائم‬
‫الناس هيبتهم‪ ،‬وكف عنهم كيد العداء وشرهم )‪.(7‬‬
‫وقد تحدث )توماس آرنولد( عن بعث جيش أسامة فقال‪ :‬بعد‬
‫وفاة محمد × أرسل أبو بكر ‪ ‬الجيش الذي كان النبي × قد عزم‬
‫على إرساله إلى مشارف الشام‪ ،‬على الرغم من معارضة بعض‬
‫المسلمين‪ ،‬بسبب الحالة المضطربة في بلد العرب إذ ذاك‪ ،‬فأسكت‬
‫ظننت أن السباع‬ ‫احتجاجهم بقوله‪ :‬قضاء قضى به رسول الله‪ ،‬ولو‬
‫تخطفني لنفذت جيش أسامة ‪ ‬كما أمر النبي × )‪ ...(8‬ثم قال‪:‬‬
‫وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملت التي اجتاح‬
‫دولة‪(9‬فارس‬ ‫العرب فيها سوريا وفارس وإفريقيا الشمالية‪ ،‬فقوضوا‬
‫القديمة‪ ،‬وجردوا المبراطورية الرومانية من أجمل ولياتها ) ‪.‬‬
‫وهكذا نرى الله تعالى قد ربط نصر المة وعزها باتباع النبي‬
‫الكريم ×‪ ،‬فمن أطاعه‬
‫فله النصر والتمكين ومن عصاه فله الذل والهوان‪ ،‬فسر حياة المة‬
‫في طاعتها لربها‬
‫واقتدائها بسنة نبيها × )‪.(10‬‬

‫)( بلوغ الماني‪.21/215 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2 ،1‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (3‬تاريخ الطبري‪.4/47 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (5‬الكامل‪.2/237 :‬‬ ‫)( عهد الخلفة والخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪.20‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫‪7‬‬

‫)(‪ (8) ,‬الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.63‬‬ ‫‪8‬‬


‫‪9‬‬

‫‪144‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -3‬حدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة‪:‬‬
‫ومما نستفيد من هذه القصة أنه قد يحدث الخلف بين المؤمنين‬
‫الصادقين حول بعض المور؛ فقد اختلفت الراء حول إنفاذ جيش‬
‫أسامة ‪ ‬في تلك الظروف الصعبة‪ ،‬وقد تعددت القوال حول‬
‫إمارته‪ ،‬ولم يجرهم الخلف في الرأي إلى التباغض والتشاجر‬
‫والتقاطع‪ (1‬والتقاتل‪ ،‬ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح‬ ‫والتدابر‬
‫فساده وبطلنه ) ‪ ،‬وعندما رد الصديق الخلف إلى ما ثبت من أمر‬
‫النبي × ببعث أسامة وبّين ‪ ‬أنه ما كان ليفرط فيما أمر به رسول‬
‫الله × مهما تغيرت الحوال وتبدلت‪ ،‬استجاب بقية الصحابة لحكم‬
‫النبي × بعدما وضحه لهم الصديق‪ ،‬كما أنه ل عبرة لرأي الغلبية إذا‬
‫كان مخالفًا للنص؛ فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة وقالوا‬
‫للصديق‪ :‬إن العرب قد انتقضت عليك وإنك ل تصنع بتفريق الناس‬
‫شيئا )‪ ،(2‬فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس بل كانوا من الصحابة‬ ‫ً‬
‫الذين هم خير البشر وجدوا على الرض بعد النبياء والرسل عليهم‬
‫السلم‪ ،‬لكن‬
‫مبينً‪(3‬ا أن أمر رسول الله × أجل وأكرم‬ ‫لهم‬ ‫يستجب‬ ‫لم‬ ‫الصديق ‪‬‬
‫وأوجب وألزم من رأيهم كلهم‪ ).‬وقد تجلت هذه الحقيقة في حادثة‬
‫وفاة النبي ×؛ حيث رأى عامة الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬وفيهم‬
‫عمر ‪ ‬أن النبي × لم يمت‪ ،‬ورأى عدد قليل من الصحابة ‪-‬رضي‬
‫بكر‬ ‫الله عنهم‪ -‬أنه × قد مات؛ منهم أبو بكر ‪ ،‬وقد رأينا أن أبا‬
‫تمسك بالنص وبّين خطأ من قال‪ :‬إن رسول الله × لم يمت )‪.(4‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر تعليقًا على رأي الكثرين حول وفاته ×‪:‬‬
‫فيؤخذ منه على أن القل عددا في)‪(5‬الجتهاد قد يصيب ويخطئ‬
‫الكثرية‪ ،‬فل يتعين الترجيح بالكثر ‪.‬‬
‫فخلصة الكلم أن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش‬
‫دليل على‬
‫ً‬ ‫أسامة ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬أن تأييد الكثرة لرأي ليس‬
‫إصابته )‪ ،(6‬ومما يستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم‬
‫للحق إذا اتضح لهم‪ ،‬فعندما ذكرهم الصديق أن النبي × قد أمر‬
‫بتنفيذ جيش أسامة وهو الذي عين أسامة أميرًا على الجيش‪ ،‬انقاد‬
‫للمر‬ ‫أولئك البرار‬
‫النبوي الكريم )‪.(7‬‬
‫‪ -4‬جعل الدعوة مقرونة بالعمل‪ ،‬ومكانة الشباب في‬
‫خدمة السلم‪:‬‬
‫لما أصر أبو بكر ‪ ‬على إبقاء أسامة بن زيد ‪ ‬أميرا للجيش‬
‫حرصا على التمسك بما قرره رسول الله ×‪ ،‬لم يقتصر على‬ ‫ً‬
‫الصرار على إمارته فحسب‪ ،‬بل قدم اعترافًا عمليًا بإمارته وقد‬
‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪ (2) .39‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص‬ ‫‪10‬‬

‫‪.48 ،47‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ خليفة بن خياط‪ :‬ص ‪ (4) .100‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.45 ،44‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪ (6) .45 ،44‬فتح الباري‪.8/146 :‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.46‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (1‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.52‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪145‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫تجلى ذلك في أمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬مشى أبو بكر ‪ ‬مع أسامة ‪ ‬وهو راكب‪ ،‬وقد كان ابن‬
‫عشرين سنة أو ثماني عشرة سنة‪ ،‬وكان الصديق ‪ ‬قد تجاوز‬
‫ستين سنة من عمره‪ ،‬وأصر على المشي مع أسامة ‪ ،‬كما أصر‬
‫على بقاء أسامة ‪ ‬راكبًا لما طلب منه أسامة ‪ ‬إما أن يركب هو‬
‫أو يأذن له بالنزول‪ ،‬فلم يوافق ‪ ‬ل على هذا ول على ذاك‪ ،‬وبهذا‬
‫قدم ‪ ‬باستمراره في مشيه ذلك دعوة لجيش أسامة ‪ ‬إلى‬
‫العتراف بإمرة أسامة ‪ ‬ورفع الحرج عنها من صدورهم‪ ،‬وكأن‬
‫الصديق ‪ ‬بمشيه ذلك يخاطب الجيش فيقول‪ :‬انظروا أيها‬
‫المسلمون أنا أبو بكر رغم كوني خليفة رسول الله × أمشي مع‬
‫إقرارا وتقديرًا لمارته؛ حيث أمره رسولنا الكريم‬
‫ً‬ ‫أسامة وهو راكب‪،‬‬
‫صلوات‪(1‬ربي وسلمه عليه‪ -‬فكيف‬ ‫العلى‬ ‫وقائدنا‬ ‫‪-‬إمامنا العظم‬
‫تجرأتم أنتم على النتقاد على إمارته ) ‪.‬‬
‫‪ -2‬كان أبو بكر الصديق يرغب في بقاء عمر بن الخطاب‬
‫‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬بالمدينة نظرا لحاجته إليه‪ ،‬لكنه لم يأمر بذلك بل‬
‫مناسبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫استأذن من أسامه ‪ ‬في تركه إياه بالمدينة إن رأى هو ذلك‬
‫وبهذا قدم الصديق ‪ ‬صورة تطبيقية أخرى لعترافه واحترامه‬
‫لمارة أسامة ‪ ،‬وفيها بل شك دعوة قوية للجيش إلى القرار‬
‫والنقياد لمارته‪.‬‬
‫وهذا الذي اهتم به الصديق ‪ ‬من جعل دعوته مقرونة بالعمل‬
‫أولئك الذين يأمرون‬ ‫أمر به السلم‪ ،‬ووبخ)‪(2‬الرب ‪-‬عز وجل‪ْ َ -‬‬ ‫هو الذي‬
‫س‬
‫ن الّنا ُ َ‬ ‫م َُرو َ‬
‫وينسون أنفسهم َ ‪ ،‬قال ُتعالى‪+ ْ :‬أت َأ ُ‬ ‫بالبر‬ ‫الناس‬
‫ن"‬
‫قلو َ‬ ‫فل َ ت َ ْ‬
‫ع ِ‬ ‫بأ َ‬ ‫ن الك َِتا َ‬
‫م ت َت ْلو َ‬
‫وأن ْت ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫و َ‬
‫س ْ‬ ‫ِبال ْب ِّر َ‬
‫وت َن ْ َ‬
‫]البقرة‪.[44 :‬‬
‫ومما يتجلى في هذه القصة كذلك منزلة الشباب العظيمة في‬
‫خدمة السلم؛ فقد عين رسول الله × الشاب أسامة بن زيد ‪-‬رضي‬
‫الله عنهما‪ -‬أميرا على الجيش المعد لقتال الروم ‪-‬القوة العظيمة‬
‫في زعم الناس في ذلك الوقت‪ -‬وكان عمره آنذاك عشرين سنة أو‬
‫ثماني عشرة سنة‪ ،‬وأقره أبو بكر الصديق ‪ ‬على منصبه رغم انتقاد‬
‫الناس‪ ،‬وعاد المير الشاب بفضل الله تعالى من مهمته التي أسندت‬
‫إليه غانمًا ظافرًا‪ ،‬وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في‬
‫خدمة السلم‪ .‬ولو نعيد النظر في تاريخ الدعوة السلمية في‬
‫المرحلتين المكية والمدنية لوجدنا شواهد كثيرة تدل على ما قام به‬
‫شباب السلم في خدمة القرآن والسنة‪ ،‬وإدارة أمور الدولة‪،‬‬
‫والمشاركة في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى )‪.(3‬‬
‫‪ -5‬صورة مشرقة من آداب الجهاد في السلم‪:‬‬
‫ومن فوائد قصة بعث أبي بكر ‪ ‬لجيش أسامة أنها تقدم لنا‬
‫صورة مشرقة للجهاد السلمي‪ ،‬وقد تجلت تلك الصورة في وصية‬
‫أبي بكر الصديق لجيش أسامة عند توديعه إياهم‪ ،‬ولم يكن أبو بكر‬
‫)‪ (3 ،‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (1‬قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪146‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫حيث‬ ‫الصديق ‪ ‬في وصاياه للجيوش إل مستنا بسنة المصطفى ×؛‬
‫كان عليه الصلة والسلم يوصي المراء والجيوش عند توديعهم )‪،(1‬‬
‫ومن خلل فقرات الوصية التي جاءت في البحث تظهر الغاية من‬
‫حروب المسلمين فهي دعوة إلى السلم‪،‬‬
‫فإذا ما رأت الشعوب جيشًا يلتزم بهذه الوصايا ل تملك إل الدخول‬
‫في دين الله‬
‫طواعية واختيارًا‪:‬‬
‫أ‪ -‬إنها ترى جيشًا ل يخون‪ ،‬بل يصون المانة ويفي بالعهد ول‬
‫يسرق مال الناس أو يستولي عليه دون حق‪.‬‬
‫ب‪ -‬ترى جيشًا ل يمثل بالدميين؛ بل هو يحسن القتل كما يحسن‬
‫العفو‪ ،‬يحترم الطفل ويرحمه‪ ،‬ويبّر الشيخ الكبير ويكرمه‪ ،‬ويصون‬
‫المرأة ويحفظها‪.‬‬
‫ج‪ -‬ترى جيشًا ل يبدد ثروة البلد المفتوحة‪ ،‬بل تراه يحفظ النخيل‬
‫ول يحرقه‪ ،‬ول يقطع شجرة مثمرة‪ ،‬ول يدمر المزروعات أو يخرب‬
‫الحقول‪.‬‬
‫د‪ -‬وإذا ما حافظ على الثروة الدمية فلم يغدر ولم يخن ولم يغل‬
‫ولم يمثل بقتيل ولم يقتل طفلً ول شيخًا كبيرًا ول امرأة‪ ،‬وحافظ‬
‫نخل أو يقطع شجرة مثمرة‪ ،‬فهو‬ ‫ً‬ ‫على الثروة الزراعية فلم يعقر‬
‫يحافظ في نفس الوقت على الثروة الحيوانية فل يذبح شاة أو بقرة‬
‫أو بعيرًا إل للكل فقط‪ ،‬فهل تحافظ الجيوش المشركة على واحد‬
‫ودمار؟‬ ‫من هذه الشياء‪ ،‬أم أنها تحول البلد التي تحاربها إلى خراب‬
‫والمثال قائم في العدوان الشيوعي الملحد على أفغانستان )‪ ،(2‬وفي‬
‫البوسنة من قبل الصرب وكذلك كوسوفا‪ ،‬وفي كشمير من قبل‬
‫الهند على المسلمين‪ ،‬وفي الشيشان‪ ،‬وفي فلسطين من قبل‬
‫اليهود‪ ،‬أل ما أعظم الفرق بين هداية الله وضلل الملحدين‪.‬‬
‫هـ‪ -‬وهو جيش يحترم العقائد والديان السابقة عليه‪ ،‬فيحافظ‬
‫على العباد في صوامعهم ول يتعرض لهم بأذى‪ ...‬وتلك دعوة عملية‬
‫الرض فساًدا‬ ‫تدل على سماحة السلم وعدالته‪ ،‬أما من يعيثون في‬
‫ويحاربون الحق فجزاؤهم القتل ليكونوا عبرة لغيرهم )‪.(3‬‬
‫وما جاء في وصية الصديق ‪ ‬لم يكن كلمات قيلت بل طبقها‬
‫المسلمون في عصره وبعده )‪ (4‬وسنرى ذلك بإذن الله في فتوحاته‬
‫‪.‬‬
‫‪ -6‬أثر جيش أسامة على هيبة الدولة السلمية‪:‬‬
‫عاد جيش أسامة ظافرًا غانمًا بعدما أرهب الروم حتى قال لهم‬
‫هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته‪ :‬هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن‬
‫تقبلوا مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم‪ ،‬ثم‬
‫م‪ .‬قال أخوه »يناف«‪ :‬فابعث رباطًا )جندا‬‫تخرج من ساعتها ولم تك ْل َ ْ‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.80‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (2) ,‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.269‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( قصة بعث أبي بكر جيش أسامة‪ :‬ص ‪.81‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪147‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫مرابطين( تكون بالبلقاء‪ ،‬فبعث رباطًا واستعمل عليهم رجلً من‬


‫تقدمت البعوث إلى الشام في خلفة‬ ‫)‪(1‬‬
‫أصحابه‪ ،‬فلم يزل مقيمًا حتى‬
‫بأجمعهم وقالوا‪:‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫الروم‬ ‫تعجب‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫عنهما‬ ‫أبي بكر وعمر رضي الله‬
‫ما بال هؤلء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا؟‪.‬‬
‫وأصاب القبائل العربية في الشمال الرعب والفزع من سطوة‬
‫الدولة )‪ ،(3‬وعندما بلغ جيش أسامة الظافر إلى المدينة تلقاه أبو بكر‬
‫وكان قد خرج في جماعة من كبار المهاجرين والنصار للقائه‪ ،‬وكلهم‬
‫خرج وتهلل‪ ،‬وتلقاه أهل المدينة بالعجاب والسرور والتقدير‪ ،‬ودخل‬
‫أسامة المدينة وقصد مسجد رسول الله × وصلى لله شكرًا على ما‬
‫أنعم به عليه وعلى المسلمين‪ ،‬وكان لهذه الغزوة أثر في حياة‬
‫في‪(4‬الثورة عليهم‪ ،‬وفي‬ ‫المسلمين وفي حياة العرب الذين فكروا‬
‫حياة الروم الذين تمتد بلدهم على حدودهم ) ‪ ،‬فقد فعل هذا‬
‫الجيش بسمعته ما لم يفعله بقوته وعدده‪ ،‬فأحجم من المرتدين من‬
‫أقدم‪ ،‬وتفرق من اجتمع‪ ،‬وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب‬
‫وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال‪ ،‬وقبل أن يصنع‬ ‫عليهم‪،‬‬
‫السلح )‪.(5‬‬
‫حقًا‪ ،‬لقد كان إرسال هذا الجيش نعمة على المسلمين‪ ،‬إذ‬
‫أمست جبهة الردة في الشمال أضعف الجبهات‪ ،‬ولعل من آثار هذا‬
‫أن هذه الجبهة في وقت الفتوحات كان كسرها أهون على‬
‫المسلمين من كسر جبهة العدو في العراق‪ ،‬كل ذلك يؤكد أن أبا بكر‬
‫الزمات من بين جميع الباحثين عن الحل أثقبهم نظرًا‬ ‫‪ ‬كان في‬
‫فهما )‪.(6‬‬
‫ً‬ ‫وأعمقهم‬
‫***‬

‫المغازي‪3/1124 :‬؛ طبقات ابن سعد‪.2/192 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تهذيب ابن عساكر‪1/125 :‬؛ تاريخ ابن عساكر‪.1/439 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.270‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الصديق‪ ،‬لهيكل باشا‪ :‬ص ‪.107‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫عبقرية الصديق للعقاد‪ :‬ص ‪.109‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫حركة الردة‪ ،‬د‪ :‬علي العتوم‪ :‬ص ‪.167‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪148‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫جهاد الصديق لهل الردة‬
‫حا‪ ،‬وبعض اليات التي حذرت من الردة‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫ل‪ :‬الردة اصطل ً‬
‫حا‪:‬‬
‫‪ -1‬الردة اصطل ً‬
‫عرف النووي الردة بأنها‪ :‬قطع السلم بنية أو قول كفر أو فعل‪،‬‬
‫سواء قاله استهزاء أو عناًدا أو اعتقادًا‪ ،‬فمن نفى الصانع أو الرسل‬
‫كذب رسولً أو حلل محرمًا بالجماع كالزنا وعكسه‪ ،‬أو نفى‬ ‫أو ّ‬
‫وجوب مجمع عليه أو عكسه‪ ،‬أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر)‪.(1‬‬
‫وعرفها عليش المالكي)‪(2‬بأنها‪ :‬كفر المسلم بقول صريح أو لفظ‬
‫يقتضيه أو بفعل يتضمنه ‪.‬‬
‫د( بأنه‪ :‬كل من صح عنه أنه‬ ‫ن حزم الظاهري )المرت َ‬ ‫وعرف اب ُ‬
‫كان مسلمًا متبرئًا من كل دين حاشا دين السلم‪ ،‬ثم ثبت عنه أنه‬
‫ارتد عن السلم وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين‬
‫)‪.(3‬‬
‫ول َ‬
‫الحنبلي‪ :‬بأنه لغة‪ :‬الراجع‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫عثمان‬ ‫وعرفه‬
‫َ‬
‫م" ]المائدة‪ ،[21 :‬وشرعًا‪ :‬من أتى بما يوجب‬ ‫عَلى أدَْبا)‪ِ 4‬‬
‫ر(ك ُ ْ‬ ‫دوا َ‬‫ت َْرت َ ّ‬
‫الكفر بعد إسلمه ‪.‬‬
‫ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلومًا من الدين‬
‫والنبوة وموالة المؤمنين‪ ،‬أو أتى بقول أو‬
‫)‪(5‬‬
‫بالضرورة كالصلة والزكاة‬
‫تأويل غير الكفر‪.‬‬‫ً‬ ‫فعل ل يحتمل‬
‫‪ -2‬بعض اليات التي أشارت إلى المرتدين‪:‬‬
‫أطلق الله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬على المرتدين عن دينه عبارات‬
‫تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه‪ ،‬منها الردة على‬
‫العقاب أو على الدبار والنقلب بالخسران وطمس الوجوه‪ ،‬ورد‬
‫اليدي في الفواه والرتياب والتردد واسوداد الوجوه )‪ ،(6‬قال تعالى‪:‬‬ ‫َ‬
‫عَلى‬ ‫م َ‬ ‫دوك ُ ْ‬ ‫فُروا ي َُر ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫عوا ال ّ ِ‬ ‫طي ُ‬ ‫مُنوا ِإن ت ُ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫َ‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]آل عمران‪ ،[149 :‬وقال تعالى‪َ+ :‬يا‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫قل ُِبوا َ‬
‫ْ‬
‫فت َن ْ َ‬
‫ُ‬
‫م َ‬ ‫قاب ِ ّك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫أَ ْ‬
‫عكم‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫قا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫آ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫تا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫توا‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬‫َ‬ ‫أي ّ‬
‫عَلى أ َدبار َ َ‬ ‫قبل َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬‫عن َ ُ‬ ‫و ن َل ْ َ‬‫ها أ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ها‬ ‫ً‬ ‫جو‬ ‫ُ‬ ‫و‬
‫ُ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫ّ‬
‫عول" ]النساء‪،[47 :‬‬ ‫ف ُ‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬‫مُر الل ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬ ‫سب ْ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫عّنا أ ْ‬ ‫ما ل َ َ‬ ‫كَ َ‬
‫وجاء في تفسير ابن كثير‪ :‬وطمسها أن تعمى وقوله‪ :‬فنردها على‬
‫)( محمد الزهري الغمراوي‪ ،‬شرح على متن المنهاج‪ ،‬لشرف الدين النووي‪ :‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.519‬‬
‫)( أحكام المرتد للسامرائي‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المحلى‪ ،11/188 :‬المطبعة المنيرية ‪ 1352‬هـ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أحكام المرتد للسامرائي‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( حركة الردة‪ ،‬د‪ .‬علي العتوم‪ :‬ص ‪ .18‬وهو من أهم المراجع في بحث الردة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( حركة الردة‪ :‬ص ‪.18‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪149‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أدبارها أي‪ :‬تجعل لحدهم عينين من قفاه‪ ،‬وهذا أبلغ في العقوبة‬
‫والنكال‪ ،‬وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى‬
‫البيضاء إلى سبيل الضللة يهرعون‬ ‫الباطل ورجوعهم عن المحجة‬
‫ويمشون القهقري على أدبارهم )‪.(1‬‬
‫وقال تعالى‪+ :‬يوم ت َبيض وجوه وت َسود وجوه َ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬‫فأ ّ‬ ‫َ ََْ ْ َ ّ ُ ُ ٌ َ ْ َ ّ ُ ُ ٌ‬
‫ما‬
‫ب بِ َ‬ ‫ع َ‬
‫ذا َ‬ ‫قوا ال ْ َ‬ ‫ذو ُ‬ ‫م َ‬
‫ف ُ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬
‫عدَ ِإي َ‬‫م بَ ْ‬ ‫م أك ْ َ‬
‫فْرت ُ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫ه ُ‬
‫جو ُ‬‫و ُ‬‫تْ ُ‬ ‫ودّ ْ‬‫س َ‬ ‫ا ْ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[106 :‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َك ُ‬
‫نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين‪ ،‬كما‬
‫لبي هريرة وقال عنه‪ :‬يستشهد به بأن الية في الردة وهو‪:‬‬ ‫حديث‬
‫نقل ا ً‬
‫»يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض‬
‫فأقول‪ :‬يا رب أصحابي! فيقول‪:‬إنك ل علم لك ما أحدثوا بعدك‪ ،‬إنهم‬
‫ارتدوا على أدبارهم القهقري«‪(2).‬وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن‬
‫×‪» :‬يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات‬ ‫عباس قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫اليمين فأقول‪ :‬أصحابي‪ ،‬فيقال‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك‪ ،‬فأقول كما‬
‫دا ًما دمت فيهم‪ ،‬فلما توفيتني كنت‬ ‫قال العبد الصالح‪ :‬وكنت عليهم شهي‬
‫عليهم‪ ،‬فيقال‪ :‬إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ‬ ‫)‪(3‬‬
‫أنت الرقيب‬
‫فارقتهم«‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬أسباب الردة وأصنافها‪:‬‬
‫إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله × لها‬
‫أسباب‪ ،‬منها‪ :‬الصدمة بموت رسول الله ×‪ ،‬ورقة الدين والسقم في‬
‫فهم نصوصه‪ ،‬والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها‪ ،‬والتفلت من‬
‫النظام والخروج على السلطة الشرعية‪ ،‬والعصبية القبلية والطمع‬
‫الملك‪ ،‬والتكسب بالدين والشح بالمال‪ ،‬والتحاسد‪ ،‬والمؤثرات‬ ‫في‬
‫الجنبية )‪ (4‬كدور اليهود والنصارى والمجوس‪ ،‬وسنتحدث عن كل‬
‫سبب بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫وأما أصنافها‪ :‬فمنهم من ترك السلم جملة وتفصيلً وعاد إلى‬
‫الوثنية وعبادة الصنام‪ ،‬ومنهم من ادعى النبوة‪ ،‬ومنهم من دعا إلى‬
‫ترك الصلة‪ ،‬ومنهم من بقي يعترف بالسلم ويقيم الصلة ولكنه‬
‫امتنع عن أداء زكاته‪ ،‬ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه‬
‫وانتظر على من‬ ‫يمارس عاداته الجاهلية‪ ،‬ومنهم من تحير وتردد‬
‫تكون الدبرة‪ ،‬وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير )‪.(5‬‬
‫قال الخطابي‪ :‬إن أهل الردة كانوا صنفين‪ :‬صنفًا ارتدوا عن‬
‫الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر‪ ،‬وهذه الفرقة طائفتان‪:‬‬
‫إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على‬
‫دعواه في النبوة‪ ،‬وأصحاب السود العنسي ومن كان من مستجيبيه‬
‫من أهل اليمن وغيرهم‪ ،‬وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا‬

‫)( تفسير ابن كثير‪ ،508 ،1/507 :‬طبعة الحلبي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرطبي‪.4/166 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الخصائص الكبرى للسيوطي‪.2/456 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( حركة الردة‪ ،‬على العتوم‪ 110 :‬إلى ‪.137‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(حركة الردة‪ ،‬على العتوم‪ :‬ص ‪ (2) .20‬شرح صحيح مسلم للنووي‪.1/202 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪150‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫محمد × مدعية النبوة لغيره‪ ،‬والطائفة الخرى ارتدوا عن الدين‬
‫وأنكروا الشرائع وتركوا الصلة والزكاة وغيرها من أمور الدين‬
‫وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية‪ ،‬والصنف الخر هم الذين‬
‫فرقوا بين الصلة والزكاة فأقروا بالصلة وأنكروا فرض الزكاة‬
‫ووجوب أدائها إلى المام )‪ ...(1‬وقد كان ضمن هؤلء المانعين للزكاة‬
‫من كان يسمح )بها( ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك‪،‬‬
‫وقبضوا أيديهم على ذلك )‪.(2‬‬
‫وقريب من هذا التقسيم لصناف المرتدين تقسيم القاضي‬
‫عياض غير أنهم عنده ثلثة‪ :‬صنف عادوا إلى عبادة الوثان‪ ،‬وصنف‬
‫تبعوا مسيلمة والسود العنسي‪ ،‬وكل منهما ادعى النبوة‪ ،‬وصنف‬
‫ثالث استمروا على السلم ولكنهم جحدوا الزكاة‪ ،‬وتأولوا بأنها‬
‫خاصة بزمن النبي × )‪.(3‬‬
‫وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى‬
‫أربعة أصناف‪ :‬صنف عادوا إلى عبادة الوثان والصنام‪ ،‬وصنف اتبعوا‬
‫المتنبئين الكذبة السود العنسي ومسيلمة وسجاح‪ ،‬وصنف أنكروا‬
‫وجوب الزكاة وجحدوها‪ ،‬وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن‬
‫يدفعوها إلى أبي بكر )‪.(4‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الردة أواخر عصر النبوة‪:‬‬
‫بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود‪،‬‬
‫وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول ×‬
‫ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة‪ ،‬وكانت‬
‫حركة الردة في هذه الثناء لما تستعلن بشكل واسع‪ ،‬حتى إذا كان‬
‫أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول‬
‫الله ×‪ ،‬ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس‪ ،‬بدأ‬
‫الجمر يتململ من تحت الرماد‪ ،‬وأخذت الفاعي تطل برؤوسها من‬
‫جحورها‪ ،‬وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج‪ ،‬فوثب السود‬
‫العنسي( باليمن‪ ،‬ومسيلمة الكذاب باليمامة‪ ،‬وطليحة السدي في بلد‬
‫قومه )‪ ، 5‬ولما كان أخطر متمردين على السلم وهما السود‬
‫العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق‬
‫ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع‪ ،‬وأنهما مشايعان بقوى‬
‫غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه × من أمرهما ما تقر به‬
‫عينه‪ ،‬ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده‪ ،‬فقد قال يومًا وهو‬
‫يخطب الناس على منبره‪» :‬أيها الناس‪ ،‬إني قد أريت ليلة القدر ثم‬
‫أنسيتها‪ ،‬ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما‬
‫فطارا‪ ،‬فأولتهما هذين الكذابين‪ :‬صاحب اليمن وصاحب اليمامة« )‪.(6‬‬
‫وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة‬
‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.1/203 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫فتح الباري‪.12/276 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الحكم بغير ما أنزل الله‪ ،‬د‪ :‬عبد الرحمن المحمود‪ :‬ص ‪.239‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫حركة الردة‪ :‬ص ‪.65‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫مسند أحمد رقم‪ ،11407 :‬باقي مسند المكثرين‪ ،‬وأصله في الصحيحين‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪151‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فقالوا‪ :‬إن نفخه × لهما يدل على أنهما يقتلن بريحه لنه ل يغزوهما‬
‫بنفسه‪ ،‬وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دللة على كذبهما لن‬
‫شأنهما زخرف وتمويه‪ ،‬كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛‬
‫أمرهما‬‫)‪(1‬‬
‫لن الساورة هم الملوك‪ ،‬ودل بكونهما يحيطان باليدين أن‬
‫يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقًا على الذراع‪.‬‬
‫وعبر الدكتور علي العتوم بقوله‪ ...»:‬بأن طيرانهما بالنفخ دللة‬
‫على ضعف كيدهما مهما تضاخم‪ ،‬فشأنهما زبد ل بد أن يؤول إلى‬
‫جفاء ما دام هذا الكيد مستمدًا من الشيطان فهو واهن ل محالة‪ ،‬إذ‬
‫أثرا بعد عين‪ ،‬وكونهما من‬ ‫أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما ً‬
‫ذهب دللة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لن الذهب رمز‬
‫لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه‪ ،‬وأنها سوارن إشارة إلى‬
‫طريق الحاطة بهم من كل‬ ‫محاولتهما الحاطة بكيان المسلمين عن‬
‫جانب‪ ،‬تمامًا كما يحيط السوار بالمعصم« )‪.(2‬‬
‫رابًعا‪ :‬موقف الصديق من المرتدين‪:‬‬
‫لما كانت الردة قام أبو بكر ‪ ‬في الناس خطيبًا فحمد الله‬
‫وأثنى عليه ثم قال‪ :‬الحمد لله الذي هدى فكفى‪ ،‬وأعطى فأعفى‪ .‬إن‬
‫الله بعث محمدًا × والعلم شريد‪ ،‬والسلم غريب طريد‪ ،‬قد رث‬
‫خَلق ثوبه وضل أهله منه‪ ،‬ومقت الله أهل الكتاب فل يعطيهم‬ ‫حبله و َ‬
‫خيرا لخير عندهم‪ ،‬ول يصرف عنهم شّرا لشر عندهم‪ ،‬وقد غيروا‬ ‫ً‬
‫كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه‪ ،‬والعرب المنون يحسبون أنهم في‬
‫دينا‪,‬‬
‫منعة من الله ل يعبدونه ول يدعونه‪ ،‬فأجهدهم عيشًا وأظلهم ً‬
‫في ظلف من الرض مع ما فيه من السحاب‪ ،‬فختمهم الله بمحمد‬
‫وجعلهم المة الوسطى‪ ،‬ونصرهم بمن اتبعهم‪ ،‬ونصرهم على غيرهم‪،‬‬
‫حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه‪،‬‬
‫ت‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق َدْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫مدٌ إ ِل ّ َر ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ما ُ‬ ‫وَ َ‬
‫وأخذ بأيديهم‪ ،‬وبغى َهلكتهم‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫قاب ِك ْ‬ ‫ع َ‬‫على أ ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫قل َب ْت ُ ْ‬ ‫ل ان ْ َ‬ ‫قت ِ َ‬ ‫و ُ‬ ‫تَ ْ‬ ‫أ‬ ‫ما َ‬ ‫فِإن ّ‬ ‫لأ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ه الّر ُ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫من َ‬ ‫ِ‬
‫ه‬
‫زي الل ُ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫س‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ئا‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ش‬‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ر‬‫ّ‬ ‫ض‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫لن‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ق‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ق‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[144 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم‪ ،‬ولم يكونوا‬
‫في دينهم –وإن رجعوا إليه‪ -‬أزهد منهم يومهم هذا‪ ،‬ولم تكونوا في‬
‫دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم‪ ،‬وقد‬
‫وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالً َ فهداه وعائلً فأغناه‪:‬‬
‫ها" ]آل‬ ‫من ْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫قذَك ُ ْ‬ ‫فأن َ‬ ‫ر َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫ة ّ‬ ‫فَر ٍ‬ ‫ح ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫ش َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫م َ‬ ‫وك ُن ْت ُ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫عمران‪.[103 :‬‬
‫والله ل أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي‬
‫شهيدا من أهل الجنة‪ ،‬ويبقى من بقي‬ ‫ً‬ ‫لنا عهده‪ ،‬ويقتل من قتل منا‬
‫منها خليفته وذريته في أرضه‪ ،‬قضاء الله الحق‪ ،‬وقوله الذي ل خلف‬
‫ت‬
‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫ن َآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫َله‪َ + :‬‬
‫ض" )‪] (3‬النور‪.[55 :‬‬ ‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ست َ ْ ِ ّ ُ ْ ِ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫لي َ ْ‬
‫)( حركة الردة‪ ،‬للعتوم‪ :‬ص ‪.66‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حركة الردة‪ :‬ص ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/316 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪152‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وقد أشار بعض الصحابة ‪-‬ومنهم عمر‪ -‬على الصديق بأن يترك‬
‫من قلوبهم‪ ،‬ثم هم بعد‬ ‫مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن اليمان‬
‫ذلك يزكون‪ ،‬فامتنع الصديق عن ذلك وأباه )‪.(1‬‬
‫فعن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬لما توفي رسول الله × وكان أبو بكر‬
‫‪ ،‬وكفر من كفر من العرب‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬كيف نقاتل الناس وقد‬
‫يقولوا‪ :‬ل إله إل‬ ‫قال رسول الله ×‪» :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى‬
‫الله‪ ،‬فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إل بحقه )‪ ،(2‬وحسابه‬
‫على الله«؟ فقال‪ :‬والله لقاتلن من فّرق)‪(3‬بين الصلة والزكاة‪ ،‬فإن‬
‫رسول‬ ‫عناقا كانوا يؤدونها إلى‬ ‫ً‬ ‫الزكاة حق المال‪ ،‬والله لو منعوني‬
‫الله × لقاتلتهم على منعها‪ .‬وفي رواية‪ :‬والله لو منعوني عقال ً )‪،(4‬‬
‫عمر‪ :‬فوالله ما‬ ‫كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه‪ .‬قال‬
‫هو إل أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق )‪ ،(5‬ثم قال‬
‫لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه المة جميعًا‬ ‫)‪(6‬‬
‫عمر بعد ذلك‪ :‬والله‬
‫في قتال أهل الردة‪.‬‬
‫وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر ‪-‬وهو يناقشه‪ -‬عن ناحية‬
‫فقهية مهمة أجلها له وكانت قد غابت عنه‪ ،‬وهي أن جملة جاءت‬
‫في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على‬
‫قول‬ ‫وجوب محاربة من منع الزكاة حتى إن نطق بالشهادتين‪ ،‬هي‬
‫النبي ×‪» :‬فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إل بحقها«‪،(7).‬‬
‫ما وهو الرأي‬ ‫وفعل كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيًا مله ً‬ ‫ً‬
‫الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة السلم والمسلمين‪ ،‬وأي موقف‬
‫غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية‪،‬‬
‫ولول الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ‬
‫وتحولت مسيرته ورجعت عقارب)‪(8‬الساعة إلى الوراء‪ ،‬ولعادت‬
‫الجاهلية تعيث في الرض فسادًا ‪.‬‬
‫لقد تجلى فهمه الدقيق للسلم وشدة غيرته على هذا الدين‬
‫وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها‬
‫جَنانه‪ ،‬وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة‬ ‫لسانه ونطق بها َ‬
‫وكتابا حافلً‪ ،‬وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا‬ ‫ً‬
‫الزكاة إلى بيت المال أو منعوها مطلقًا وأنكروا فرضيتها‪ :‬قد انقطع‬
‫الوحي وتم الدين‪ ،‬أينقص وأنا‬
‫حي؟ )‪ (9‬وفي رواية‪ :‬قال عمر‪ :‬فقلت‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬تألف‬
‫خوار في السلم‪،‬‬ ‫الناس وارفق بهم‪ .‬فقال لي‪ :‬أجبار في الجاهلية‬
‫)‪(10‬‬
‫قد انقطع الوحي وتم الدين‪ ،‬أينقص وأنا حي؟‪.‬‬
‫لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين‪ ،‬وما‬
‫نفس المصدر السابق‪.6/315 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬عناًقا‪ :‬النثى من ولد المعز‪.‬‬ ‫بحقه‪ :‬حق السلم‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫عقال‪ :‬هو الحبل الذي يعقل به البعير‪.‬‬


‫ً‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البخاري‪ ،‬رقم‪ ,1400 :‬مسلم‪ ،‬رقم‪.20 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (6‬مسلم‪ ،‬رقم‪.21 :‬‬ ‫حروب الردة‪ ،‬محمد أحمد باشميل‪ :‬ص ‪.24‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪.86‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫المرتضى لبي الحسن الندوي‪ :‬ص ‪.70‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫مشكاة المصابيح‪ ،‬كتاب المناقب‪ ،‬رقم‪.6034 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪10‬‬

‫‪153‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عزم على خوض الحرب إل بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح‪ ،‬إل‬
‫أنه كان سريع القرار حاسم الرأي‪ ،‬فلم يتردد لحظة واحدة بعد‬
‫سمة بارزة من سمات أبي بكر‬ ‫ظهور الصواب له‪ ،‬وعدم التردد كان‬
‫–هذا الخليفة العظيم‪ -‬في حياته كلها )‪ ،(1‬ولقد اقتنع المسلمون‬
‫بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه‪.‬‬
‫لقد كان أبو بكر ‪ ‬أبعد الصحابة نظرًا وأحقهم فهمًا وأربطهم‬
‫جنانا وفي هذه الطامة العظيمة )‪ ،(2‬والمفاجأة المذهلة‪ ،‬ومن هنا أتى‬ ‫ً‬
‫بن‪(3‬المسيب ‪-‬رحمه الله‪ :-‬وكان أفقههم ‪-‬يعني الصحابة‪-‬‬ ‫سعيد‬ ‫قول‬
‫رأيا ) ‪.‬‬ ‫وأمثلهم ً‬
‫إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لنه فهم بإيمانه‬
‫الذي فاق إيمانهم جميعًا أن الزكاة ل تنفصل عن الشهادتين‪ ،‬فمن‬
‫أقر لله بالوحدانية ل بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله‪ ،‬الذي‬
‫هو مال الله أصلً وأن ل إله إل الله بغير زكاة ل وزن لها في حياة‬
‫الشعوب‪ ،‬وأن السيف يشرع دفاعًا عن أدائها تمامًا كما يشرع دفاعًا‬
‫عن ل إله إل)‪(4‬الله‪ ،‬تمامًا هذه كتلك‪ .‬هذا هو السلم وغير هذا ليس‬
‫أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب‬ ‫الله ‪+‬أ َ‬ ‫من السلم‪ .‬فقد توعد‬
‫ب‬‫ض ال ْك َِتا ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫ويكفرون ببعض‪ ،‬قال‬
‫ي‬
‫خْز ٌ‬‫م إ ِل ّ ِ‬ ‫ْ‬ ‫من ْك ُ‬
‫ك َِ‬ ‫ل ذَل ِ‬ ‫ع ُ‬‫ف َ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫جَزاءُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬ ‫ض َ‬
‫ف‬ ‫ع ٍ‬ ‫ن ب ِب َ ْ‬ ‫فُرو َ‬ ‫وت َك ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫عذا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلى أشدّ ال َ‬ ‫َ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َُر ّ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫و َ‬‫ْ‬ ‫وي َ‬
‫َ‬ ‫ة الدّن َْيا‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫في ال َ‬ ‫ِ‬
‫ن" ]البقرة‪.[85 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫ع ّ‬‫ل َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫غا ِ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ما الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫كان موقف أبي بكر ‪ ‬الذي ل هوادة فيه ول مساومة فيه ول‬
‫موقفا ملهمًا من الله‪ ،‬يرجع الفضل الكبر ‪-‬بعد الله تعالى‪ -‬في‬ ‫ً‬ ‫تنازل‬
‫سلمة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته‪ ،‬وقد أقر الجميع‬
‫وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية‬
‫ف النبياء والرسل في‬ ‫ومحاولة نقض عرى السلم عروة عروة‪ ،‬موق َ‬
‫عصورهم‪ ،‬وهذه خلفة النبوة التي أدى أبو بكر حقها‪ ،‬واستحق بها‬
‫ثناء المسلمين)‪(5‬ودعاءهم إلى أن يرث الله‬
‫الرض وأهلها ‪.‬‬
‫سا‪ :‬خطة الصديق لحماية المدينة‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت‬
‫عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬أن قضية منع الزكاة ل تقبل المفاوضة‪ ،‬وأن حكم السلم‬
‫فيها واضح‪ ،‬ولذلك ل أمل في تنازل خليفة المسلمين عن‬
‫عزمه ورأيه‪ ،‬وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه‬
‫بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل‪.‬‬

‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ :‬ص ‪.87‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.165‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البدء والتاريخ للمقدسي‪.5/153 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حياة أبي بكر‪ ،‬محمود شلبي‪ :‬ص ‪.123‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.280‬‬ ‫المرتضى للنداوي‪ :‬ص ‪.72‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪154‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫‪ -2‬أنه ل بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين ‪-‬كما يظنون‪-‬‬


‫المدينة‪(1‬يسقط الحكم‬ ‫وقلة عددهم لهجوم كاسح على‬
‫السلمي فيها ويقضى على هذا الدين ) ‪.‬‬
‫قرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر‪ ،‬ورأى فيها‬
‫الخسة وتفرس فيها اللؤم‪ ،‬فقال لصحابه‪ :‬إن الرض كافرة وقد رأى‬
‫أليل تؤتون أم نهارًا! وأدناهم منكم‬
‫ً‬ ‫وفدهم منكم قلة‪ ،‬وإنكم ل تدرون‬
‫منهم ونوادعهم‪ ،‬وقد أبينا‬ ‫نقبل‬ ‫أن‬ ‫على بريد‪ ،‬وقد كان القوم يأملون‬
‫عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدوا وأعدوا)‪ .(2‬ووضع الصديق خطته‬
‫على‬
‫الوجه التالي‪:‬‬
‫أ‪ -‬ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتى يكونوا على‬
‫أكمل استعداد للدفاع‪.‬‬
‫ب‪ -‬نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون‬
‫حولها‪ ،‬حتى يدفعوا أي غارة قادمة‪.‬‬
‫ج‪ -‬عين على الحرس أمراءهم‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬والزبير بن‬
‫العوام‪،‬‬
‫وقاص‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪،‬‬ ‫أبي‬ ‫بن‬ ‫وسعد‬ ‫الله‪،‬‬ ‫عبيد‬ ‫بن‬ ‫وطلحة‬
‫وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم )‪.(3‬‬
‫د‪ -‬وبعث أبو بكر ‪ ‬إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت‬
‫على السلم من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم‬
‫بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلت المدينة بهم‪ ،‬وكانت‬
‫معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق)‪ ،(4‬ومما‬
‫يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن‬
‫جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم‬
‫الجهني مائة بعير لعانة‬ ‫الظهر والخيل‪ ،‬وساق عمرو بن مرة‬
‫المسلمين‪ ،‬فوزعها أبو بكر في الناس )‪.(5‬‬
‫هـ‪ -‬ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب يبعث بها‬
‫إلى الولة المسلمين في أقاليمهم‪ ،‬كما كان رسول الله يفعل‪،‬‬
‫يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في‬
‫هذا المر‪ ،‬ومن أمثلة ذلك رسالته لهل اليمن حيث المرتدة من‬
‫جنود السود العنسي التي قال فيها‪» :‬أما بعد‪ ،‬فأعينوا البناء على‬
‫من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز‪ ،‬وجدوا معه؛ فإني قد‬
‫وليته«‪ (6).‬وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس‬
‫بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على‬
‫رد‪(7‬الله كيدهم إلى نحورهم‪ ،‬وعادت اليمن‬ ‫العصاة المارقين حتى‬
‫بالتدرج إلى جادة الحق ) ‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪.4/64 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/64 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)(‪ (2) ,‬الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ ،‬د‪ :‬مهدي رزق الله‪ :‬ص ‪.21‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬
‫)( الثابتونـ على السلمـ أيامـ فتنةـ الردة‪،‬ـ د‪:‬ـ مهدي رزق الله‪:‬ـ ص ‪.21‬‬

‫)( البدء والتاريخ للمقدسي‪ (4) .5/157 :‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.174‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫‪155‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫و‪ -‬وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس‬
‫وذبيان فإنه لم ير بدّا من محاربتهم على الرغم من الظروف‬
‫القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله ×‪ ،‬فكان أن آوي‬
‫والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر‬ ‫الذراري‬
‫المرتدين)‪ ،(1‬واستعد للنزال بنفسه ورجاله‪.‬‬
‫سا‪ :‬فشل أهل الردة في غزو المدينة‪:‬‬ ‫ساد ً‬
‫بعد ثلثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد‬
‫سي‬‫ح َ‬‫ة ليلً وخلفوا بعضهم بذي ُ‬ ‫وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدين َ‬
‫ليكونوا لهم ردءًا‪ ،‬وانتبه حرس النقاب لذلك‪ ،‬وأرسلوا للصديق‬
‫ن الزموا أماكنكم ففعلوا‪ ،‬وخرج في أهل‬ ‫بالخبر‪ ،‬فأرسل إليهم أ ِ‬
‫المسلمون على‬ ‫فأتبعهم‬ ‫العدو‬ ‫فانفش‬ ‫إليهم‪،‬‬ ‫المسجد على النواضح‬
‫فخرج‪(3‬عليهم الردء بأنحاء )‪ (2‬قد نفخوها‬ ‫سى‬ ‫َ‬ ‫ح‬
‫إبلهم‪ ،‬حتى بلغوا ذا ُ‬
‫ثم دهدهوها ) بأرجلهم في وجوه البل فتدهده‬ ‫وجعلوا فيها الحبال‬
‫كل نحي فى طوله )‪ ،(4‬فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ول تنفر‬
‫البل من شيء نفارها من النحاء‪ -‬فعاجت بهم ما يملكونها حتى‬
‫دخلت بهم المدينة فلم ُيصرع مسلم ولم ُيصب‪ (5).‬وقال عبد الله‬
‫الليثي‪ :‬وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان‪ -‬في ذلك‬
‫المر بذي القصة وبذي حسى‪:‬‬
‫فيا لعباد الله ما لبي بكر‬ ‫أطعنا رسول الله ما كان‬
‫بيننا‬
‫وتلك لعمر الله قاصمة الظهر‬ ‫أيورثها بكرا إذا مات‬
‫بعده‬
‫وهل خشيتم حس راغية البكر‬ ‫فهل رددتم وفدنا بزمانه‬
‫وإن التي سالُوك ُ ُ‬
‫)‪(6‬‬
‫م‬
‫م‬
‫فمنعت ُ ُ‬
‫فظن القوم بالمسلمين الوهن‪ ،‬وبعثوا إلى أهل ذي القصة‬
‫بالخبر‪ ،‬فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم ل يشعرون‬
‫لمر الله ‪-‬عز وجل‪ -‬الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم‪ ،‬فبات أبو بكر‬
‫ليلته يتهيأ فعّبى الناس‪ ،‬ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي‪،‬‬
‫وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن‪،‬‬
‫وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب‪ ،‬فما طلع الفجر إل وهم‬
‫والعدو في صعيد واحد‪ ،‬فما سمعوا للمسلمين همسًا ول حسًا حتى‬
‫وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم‪ ،‬فما ذر قرن الشمس‬
‫حتى ولوهم الدبار‪ ،‬وغلبوهم على عامة ظهرهم‪ ،‬وقتل حبال –أخو‬
‫طليحة السدي‪ -‬وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة ‪-‬وكان أول‬
‫قرن في عدد‪ ،‬ورجع إلى المدينة‬‫م َ‬
‫الفتح – ووضع بها النعمان بن ُ‬
‫فذل بها المشركون‪ ،‬فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من‬
‫المسلمين فقتلوهم كل قتلة‪ ،‬وفعل من وراءهم فعلهم‪ ،‬وعز‬
‫رب‪.‬‬
‫)‪ (6‬النحاء‪ :‬هي القِ َ‬ ‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.174‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫أي‪ :‬دفعوها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬تاريخ الطبري‪.4/65 :‬‬ ‫أي‪ :‬في حبله‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)‪ (5) ,(4‬نفس المصدر السابق‪.4/66 :‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/65 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪156‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫المشركين كل‬ ‫المسلمون بوقعة أبي بكر‪ ،‬وحلف أبو بكر ليقتلن في‬
‫قتلة‪ ،‬وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة )‪.(1‬‬
‫وفي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي‪:‬‬
‫كما يسعى لموتته جلل‬ ‫غداة سعي أبو بكر إليهم‬
‫)‪(2‬‬
‫ومج لهن مهجته حبال‬ ‫أراح على نواهقها عليا‬
‫وصمم الصديق ‪ ‬على أن ينتقم للمسلمين الشهداء‪ ،‬وأن‬
‫يؤدب هؤلء الحاقدين‪ ،‬ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية‬
‫وضعفا وهوانًا‪ ،‬وبدأت‬‫ً‬ ‫القبائل ثباتًا على دينهم‪ ،‬وازداد المشركون ذلً‬
‫صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر‪:‬‬
‫صفوان ثم الزبرقان‪ ،‬ثم عدي‪ ،‬صفوان في أول الليل والثاني في‬
‫وسطه‪ ،‬والثالث )‪ (3‬في آخره‪ ،‬وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال‬
‫زكاة ستة أحياء من العرب‪ ،‬وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة‬
‫الزكاة قال الناس‪» :‬نذير« فيقول أبو بكر‪» :‬بل بشير«‪ ،‬وإذا بالقادم‬
‫يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لبي بكر‪ :‬طالما بشرتنا‬
‫بالخير )‪ ،(4‬وخلل هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئًا‬
‫كل ما كان‬ ‫)‪(5‬‬
‫من الثراء‪ ،‬عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا‪ ،‬وصنع‬
‫فاستخلفه أبو‬ ‫‪،‬‬ ‫الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق‬
‫بكر على المدينة وقال له ولجنده‪ :‬أريحوا وأريحوا ظهركم )‪ ،(6‬ثم‬
‫خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على النقاب‬
‫على ذلك الظهر‪ ،‬فقال له المسلمون‪ :‬ننشدك الله يا خليفة رسول‬
‫الله أن ُتعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام‪ ،‬ومقامك‬
‫رجل( فإن أصيب أمرت آخر فقال‪ :‬ل والله ل‬ ‫ً‬ ‫أشد على العدو‪ ،‬فابعث‬
‫أفعل‪ ،‬ولواسينكم بنفسي )‪. 7‬‬
‫لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى‬
‫صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه‪ ،‬فالقائد في فهم‬
‫المسلمين قدوة في أعماله‪ ،‬فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية‬
‫أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق‬
‫الوامر الصادرة إليهم من القيادة )‪ ،(8‬لقد خرج الصديق في تعبيته‬
‫إلى ذي حس وذي القصة‪ ,‬والنعمان‬
‫وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه‪ ،‬حتى نزل على أهل الّربذة‬
‫بالبرق فهزم الله الحارث‬
‫وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرًا‪ ،‬فطارت عبس وبنو بكر‪ ،‬وأقام أبو بكر‬ ‫ً‬
‫على البرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلد‪ .‬وقال‪ :‬حرام على‬
‫غلب أهل‬ ‫ذبيان أن يتملكوا هذه البلد إذ غنمناها الله وأجلها‪ ،‬فما ُ‬
‫الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه‪ ،‬وسامح الناس‬
‫جاءت بنو ثعلبة‪ ،‬وهي كانت منازلهم لينـزلوها فمنعوا منها فأتوه في‬
‫المدينة فقالوا‪:‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( نفس المصدرـ السابق‪:‬ـ ‪.4/66‬‬

‫)‪ (2‬نفس المصدر السابق‪.4/67 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/66 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( الصديق أول الخلفاء للشرقاوي‪ :‬ص ‪ (4) .75‬تاريخ الطبري‪.4/37 :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)‪ (6‬حركة الردة‪ ،‬العتوم‪ :‬ص ‪.319‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪.4/67 :‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫‪157‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫نزول بلدنا؟! فقال‪ :‬كذبتم‪ ،‬ليست لكم ببلد ولكنها‬ ‫علم نمنع من‬
‫ى )‪،(1‬‬ ‫قذ‬
‫موهبى ون َ َ‬
‫َ‬
‫ولم ُيعتبهم )‪ ،(2‬وحمى البرق لخيول المسلمين‪ ،‬وأرعى سائر بلد‬
‫الربذة الناس على بني ثعلبة‪ ،‬ثم حماها كلها لصدقات المسلمين‬
‫لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات‪ ،‬وقال في يوم البرق‬
‫زياد بن حنظلة‪:‬‬
‫على ذبيان يلتهب التهابا‬ ‫ويوم بالبارق قد شهدنا‬
‫)‪(4‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫مع الصديق إذ ترك العتابا‬ ‫ف‬
‫سو ٍ‬
‫أتيناهم بداهية َن ُ‬
‫وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب‬
‫بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا‪ ،‬وما اضطربت أمور‬
‫المسلمين منذ زمن إل لنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وبابًا‬
‫لجلب المغانم ودرء المغارم‪ ،‬وإيثار للعافية والكتفاء بالكلمات تزجي‬
‫بعيدا عن المشاركة‬
‫ً‬ ‫العمليات‪،‬‬ ‫من وراء أجهزة العلم أو من غرف‬
‫مشاركة حقيقة في قضايا المة المختلفة )‪.(5‬‬
‫إن خروج الصديق ‪ ‬للجهاد ثلث مرات متتالية يعتبر تضحية‬
‫كبيرة وفدائية عالية‪ ،‬فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة‬
‫قائدا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال‪ :‬ل والله ل أفعل‬ ‫ً‬ ‫ويبعث‬
‫ولواسينكم بنفسي‪ .‬وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير‬
‫بمصلحة المة‪ ،‬وتجرده من حظ النفس‪ ،‬وقد أصبح بذلك قدوة‬
‫صالحة لغيره‪ ،‬فل شك أن خروجه للجهاد ثلث مرات متتاليات وهو‬
‫الشيخ الذي بلغ الستين من)‪(6‬عمره‪ ،‬قد أعطى بقية الصحابة دفعات‬
‫قوية من النشاط والحيوية ‪.‬‬
‫وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الزور حينما أخبر‬
‫أحدا‬
‫ً‬ ‫أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة السدي قال‪ :‬فما رأيت‬
‫بحرب شعواء من أبي بكر‪ ،‬فجعلنا نخبره‬ ‫‪-‬ليس رسول الله – أمل‬
‫ولكأنما نخبر بما له ول عليه )‪.(7‬‬
‫وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ‬
‫والثقة التامة بوعد الله تعالى لوليائه بالنصر على العداء والتمكين‬
‫فق الصحابة بكبير عمل‪ ،‬وإنما فاقهم‬ ‫في الرض‪ ،‬فأبو بكر لم ي َ ُ‬
‫بحيازة الدرجات العلى من اليقين‪ ،‬رضي الله عنهم أجمعين )‪.(8‬‬
‫وقد روى أنه لما قيل له‪ :‬لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها‬
‫وبالبحار لغاضها‪ ،‬وما نراك ضعفت‪ .‬فقال‪ :‬ما دخل قلبي رعب بعد‬
‫ليلة الغار‪ ،‬فإن النبي × لما رأى حزني قال‪ :‬ل عليك يا أبا بكر‪ ،‬فإن‬

‫)( النقذ‪ :‬ما استنقذ من العداء‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬أي‪ :‬شاقة‪.‬‬ ‫قل عثرتهم‪.‬‬‫)( أي‪ :‬لم ي ُ ِ‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( أي‪ :‬ترك إقالة العثرات؛ تاريخ الطبري‪.4/67 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.321‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (6 ،‬التاريخ السلمي للحميدي‪.9/48 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.9/48 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪158‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الله قد تكفل لهذا المر بالتمام)‪ ،(1‬فكان له ‪ ‬مع الشجاعة الطبيعية‬
‫شجاعة دينية وقوة يقينية في الله عز وجل وثقة بأن الله ينصره‬
‫والمؤمنين‪ ،‬وهذه الشجاعة ل تحصل إل لمن كان قوى القلب‪ ،‬وتزيد‬
‫بزيادة اليمان وتنقص بنقص ذلك‪ ،‬فقد كان)‪(2‬الصديق أقوى قلًبا من‬
‫جميع الصحابة ل يقاربه في ذلك أحد منهم ‪.‬‬
‫***‬

‫)( أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ :‬ص ‪ ،69‬وليس هذا بلفظ‬ ‫‪1‬‬

‫نبوي‪.‬‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.70‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪159‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫الهجوم الشامل على المرتدين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين‪ ،‬فكان‬
‫للثابتين دور في مواجهة أقوامهم‪ ،‬فوقف بعض الثابتين في وجه‬
‫أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من‬
‫نقض ما يؤمنون به‪ ،‬وكانت الخطوة الولى بالكلمة‪ ،‬ولم تكن الكلمة‬
‫في يوم من اليام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لنها تستتبع‬
‫مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة‪ ،‬وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى‬
‫الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت‬
‫فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق‬
‫وتغذت به وعاشت عليه‪ ،‬هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم‪،‬‬
‫ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي‬
‫ينتظرهم‪ ،‬فما كان من قومهم إل أن وقفوا في وجوههم ساخرين‬
‫مستهزئين‪ ،‬ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في‬
‫بعضهم‪(1‬بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه‪،‬‬ ‫بعض الحيان‪ ،‬ونجح‬
‫والجارود مع أهل البحرين ) ‪ ،‬وستري تفاصيل ذلك بإذن الله‪.‬‬
‫وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى‬
‫تجمعات مسلمة ثابتة على إسلمها‪ ،‬واتخذت لها المواقف المناسبة‬
‫ضد أقوامهم المرتدين‪ ،‬وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت‬
‫إلى العمل‪ ،‬كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم‬
‫فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد‪ ،‬فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون‬
‫قومهم المرتدين‪ ،‬وقام البناء في اليمن سًرا بتدبير قتل السود‬
‫العنسي –كما سيأتي تفصيله‪ -‬بعد أن كان موقفهم سلبّيا في بطش‬
‫السود العنسي‪ ،‬ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس‬
‫الكندي ينصح الشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة‪ ،‬ودخل بينهما‬
‫حوار طويل وتحد متبادل‪ ،‬وهكذا صارت بعض المواقف سبًبا في‬
‫تسهيل( مهمة جيوش الدولة‬ ‫إرجاع قومهم عن الردة‪ ،‬أو في‬
‫السلمية القادمة للقضاء على الردة )‪. 2‬‬
‫لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله‬
‫تعالى‪ ،‬ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والفراد الذين انبثوا‬
‫في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلمهم‪ ،‬وقاموا بأدوار هامة‬
‫ورئيسية في القضاء على فتنة الردة‪ .‬ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما‬
‫الدقة أو عدم‬ ‫تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم‬
‫الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية )‪.(3‬‬
‫إن من الحقائق الساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة‬
‫لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفراًدا‬
‫)( دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة للشجاع‪ :‬ص ‪.314 ،313‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪ ,314‬ولقد اعتمد الشجاع على كتاب الكلعي‬ ‫‪2‬‬

‫الندلسي في الردة‪.‬‬
‫)( الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪160‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي‬ ‫وجماعات‪ ،‬وأفرا ً‬
‫ظهرت فيها الردة)‪ ،(1‬ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة‬
‫عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو‪ :‬هل كانت الردة في عهد‬
‫الخليفة أبي بكر ‪ ‬شاملة لكل القبائل العربية والفراد والزعماء‬
‫الذين كانوا مسلمين‪ ،‬أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل‬
‫وبعض الزعماء وبعض الفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟ وبعد‬
‫ت إليها‬
‫البحث قال‪ :‬إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشر ُ‬
‫قا‪ :‬هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والفراد‬ ‫ساب ً‬
‫ارتدوا جميًعا عن السلم كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم‬ ‫قد‬
‫مثال)‪ ،(2‬بل وجدت أن الدولة السلمية اعتمدت على قاعدة صلبة‬
‫من الجماعات والقبائل والفراد الذين ثبتوا على السلم‪ ،‬وانبثوا في‬
‫دا قوًيا للسلم ودولته في قمع حركة‬ ‫الجزيرة‪ ،‬وكانوا سن ً‬ ‫جميع أنحاء‬
‫المرتدين منهم )‪.(3‬‬
‫ل‪ :‬المواجهة الرسمية من الدولة‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬وسيلة الحباط من الداخل‪:‬‬
‫كان رسول الله × قد استعمل هذه الوسيلة‪ ،‬فقام بمراسلة‬
‫وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على السلم‪،‬‬
‫وليشكل بهم جماعة تحارب الردة‪ ،‬وسار الصديق ‪ ‬على نفس‬
‫المنهج‪ ،‬وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر‬
‫المرتدين‪ ،‬وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها‪،‬‬
‫دا‬
‫واستطاع أن يتصل بالثابتين على السلم وجعل منهم رصي ً‬
‫للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد المة لمواجهة منظمة مع المرتدين‬
‫بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين‬
‫جيش‬ ‫على السلم ليحقق بعض الهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع‬
‫أسامة‪ ،‬فكتب إلى من كتب إليهم رسو ُ‬
‫ل الله × باليمن وغيرها )‪(4‬؛‬
‫ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى السلم‪ ،‬وطلب من الثابتين‬
‫التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره‪ ،‬وكان هذا الترتيب‬
‫بداية للخطة العسكرية القادمة )‪ ,(5‬وقد حالف التوفيق بعض الثابتين‬
‫ومعهم‪ (6‬صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي‪،‬‬
‫)‬
‫بالوصول إلى المدينة‬
‫والزبرقان بن بدر التميمي‪.‬‬
‫وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي‬
‫وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلد السراة ونجران‪ ،‬وقد حققت‬
‫هذه الوسيلة بعض النتائج‪ ،‬منها‪:‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التاريخ السياسي للدولة العربية للدكتور عبد المنعم ماجد‪ :‬ص ‪ .146‬التاريخ‬ ‫‪2‬‬

‫السلمي العام –الجاهلية‪ :‬الدولة العربية‪ ،‬الدولة العباسية علي إبراهيم حسن‪:‬‬
‫‪129‬؛ تاريخ الدولة العربية‪ ،‬السيد عبد العزيز سالم‪:‬‬
‫ص ‪ .432‬جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬محمد السيد الوكيل‪ :‬ص‬
‫‪ .21‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬محمد الخضري بك‪ :‬ص ‪ .21‬عصر الصديق‪ ،‬شبير أحمد‬
‫محمد علي الباكستاني‪ :‬ص ‪ .159‬ظاهرة الردة في المجتمع السلمي الول‪،‬‬
‫محمد بريغش‪ :‬ص ‪ .101 ،100‬الصديق أبو بكر‪ ،‬لمحمد حسين هيكل‪ :‬ص ‪.173‬‬
‫)( الثابتون على السلم أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪.19‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2 ،‬دراسات في عهد النبوة للشجاع‪ :‬ص ‪.319‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪ ،319‬نقل عن الكلعي‪ ،‬تاريخ الردة‪ :‬ص ‪.12 -10‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪161‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أ‪ -‬نجحت خطة الصديق في تحقيق حملت التوعية والدعاية‬
‫دا لتخاذ الوسيلة‬‫والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهي ً‬
‫الخرى حينما تتوافر لها المكانات‪ ،‬وهي أداة الجيوش المنظمة‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على‬
‫السلم ليكونوا قواًدا في حركة الفتوح السلمية فيما بعد؛ كعدي بن‬
‫حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق‪.‬‬
‫ج‪ -‬تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها‬
‫لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة‪.‬‬
‫د‪ -‬القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة‪ ،‬مثلما‬
‫حصل في جنوب الجزيرة العربية‪.‬‬
‫‪ -2‬إرسال الجيوش المنظمة‪:‬‬
‫ما‪ -‬من‬‫لما وصل جيش أسامة بعد شهرين ‪-‬وقيل أربعين يو ً‬
‫مسيرهم واستراحوا‪ ،‬خرج أبو بكر الصديق بالصحابة ‪-‬رضي الله‬
‫عنهم‪ -‬إلى ذي القصة‪ ،‬وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال‬
‫المرتدين والمتمردين‪ ،‬فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على‬
‫القيادة‪ ،‬وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور المة‪ ،‬وألحوا عليه‬
‫بذلك‪ .‬ومما ُروي في هذا الموضوع ما قالته عائشة‪ :‬خرج أبي شاهًرا‬
‫سيفه راكًبا راحلته إلى وادي ذي القصة‪ ،‬فجاء علي بن أبي طالب‬
‫أين يا خليفة رسول الله؟ أقول‬ ‫)‪(1‬‬
‫‪ ‬فأخذ بزمام راحلته‪ ،‬فقال‪ :‬إلى‬
‫بنفسك‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫تفجعنا‬ ‫ول‬ ‫سيفك‬ ‫م‬ ‫ش‬
‫ِ ْ‬ ‫أحد‪:‬‬ ‫لك ما قال رسول الله × يوم‬
‫دا‪ ،‬فرجع‪.‬‬‫ً‬ ‫أب‬ ‫نظام‬ ‫بعدك‬ ‫للسلم‬ ‫فو الله لئن أصبنا بك ل يكون‬
‫بكر الجيش السلمي إلى أحد عشر لواء وجعل على‬ ‫وقد قسم أبو‬
‫كل لواء أميًرا )‪ ,(3‬وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من‬
‫المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم‪:‬‬
‫‪ -1‬جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد‪ ،‬ثم إلى تميم‪ ،‬ثم إلى‬
‫اليمامة‪.‬‬
‫‪ -2‬جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة‪ ،‬ثم‬
‫إلى عمان والمهرة‪ ،‬فحضرموت فاليمن‪.‬‬
‫حبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة‪ ،‬ثم‬ ‫‪ -3‬جيش ُ‬
‫شَر ْ‬
‫حضرموت‪.‬‬
‫‪ -4‬جيش ط َُرْيفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن‪.‬‬
‫‪ -5‬جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة‪.‬‬
‫‪ -6‬جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام‪.‬‬
‫‪ -7‬جيش العلء بن الحضرمي إلى البحرين‪.‬‬
‫‪ -8‬جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان‪.‬‬
‫)( يقصد قوله لبي بكر لما أراد أن يبارز ابنه عبد الرحمن‪» :‬شم سيفك وارجع‬ ‫‪1‬‬

‫إلى مكانك«‪.‬‬
‫)( البداية والنهاية‪.6/319 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.9/49 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪162‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -9‬جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة‪.‬‬
‫‪ -10‬جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن »صنعاء ثم‬
‫حضرموت«‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫‪ -11‬جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن ‪.‬‬
‫صة( مركز انطلق أو قاعدة تحرك‬ ‫ق ّ‬‫وهكذا اتخذت قرية )ذي ال َ‬
‫للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة‬
‫عليها‪ .‬وتنبئ خطة الصديق ‪-‬رضي الله عنه‪ -‬عن عبقرية فذة وخبرة‬
‫جغرافية دقيقة‪ (2) .‬ومن خلل تقسيم اللوية وتحديد المواقع يتضح‬
‫قا خبيًرا بالتضاريس والتجمعات‬ ‫أن الصديق ‪ ‬كان جغرافًيا دقي ً‬
‫البشرية وخطوط مواصلت جزيرة العرب‪ ،‬فكأن الجزيرة العربية‬
‫حا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث‬ ‫ما واض ً‬‫صورت مجس ً‬
‫وسائل التقنية‪ ،‬فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها‬
‫واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية‪ ،‬يرى تغطية سليمة رائعة‬
‫صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في التصال مع هذه‬
‫الجيوش‪ ،‬فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم‬
‫دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت‪ ،‬وما عليها في غد من واجبات‪.‬‬
‫والمراسلت دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في‬
‫المدينة حيث الصديق‪ ،‬وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها‪،‬‬
‫وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة‪:‬‬
‫أبو خيثمة النجاري النصاري‪ ،‬وسلمة بن سلمة‪ ،‬وأبو برزة السلمي‪،‬‬
‫وسلمة بن وقش)‪.(3‬‬
‫وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة‪ ،‬وهي أحد إنجازات‬
‫الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة‬
‫التنظيم فضل ً عن الخبرة في القتال؛ صهرتها العمال العسكرية في‬
‫حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن‬
‫النبي ×‪ ،‬فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوًقا على كل‬
‫القوى العسكرية في الجزيرة)‪ ،(4‬وكان القائد العام لهذه الجيوش‬
‫سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في‬
‫حروب الردة والفتوحات السلمية‪ .‬كان هذا التوزيع للجيوش وفق‬
‫خطة استراتيجية هامة‪ ،‬مفادها أن المرتدين ل زالوا متفرقين‪ ،‬كل‬
‫في بلده‪ ،‬ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل‬
‫الكبيرة المتباعدة في الماكن أو ً‬
‫ل؛ لن الوقت لم يكن كافًيا للقيام‬
‫ض على ارتدادهم إل ما يقرب من ثلثة‬ ‫بعمل كهذا؛ حيث لم يم ِ‬
‫شهور‪ ،‬وثانًيا لنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم‬
‫باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة‪ ،‬ولذلك أراد‬
‫الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم‬

‫)( تاريخ الطبري‪ .4/86 :‬دراسات في عصر النبوة‪ :‬ص ‪.321‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( دراسات في عهد النبوة والخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.321‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في التاريخ السلمي‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪.227 ،226‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( من دولة عمر إلى دولة عبد الملك‪ ،‬إبراهيم بيضون‪ :‬ص ‪.28‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪163‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم)‪ ،(1‬فعاجلهم قبل استفحال‬


‫فتنتهم‪ ،‬ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم ويمدون ألسنتهم‬
‫يلذعون بها الجسم السلمي‪ ،‬وبذلك طبق الحكمة القائلة‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الذنب‬ ‫ن ذ َن َ َ‬
‫ب الفعى‬ ‫ل تقطع ْ‬
‫وترسلها‬
‫فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده ومدى خطورته‪ ،‬وعلم أنه إن لم‬
‫يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق‬
‫الخضر واليابس‪ ،‬كما قال الول‪:‬‬
‫)‪(3‬‬
‫أرى تحت الرماد وميض نار‬
‫السياسي الماهر والعسكري المحنك الذي يقدر المور‪،‬‬ ‫فقد كان ‪‬‬
‫ويضع لها الخطط المباشرة‪.‬‬
‫انطلقت اللوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلم التوحيد‪،‬‬
‫مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت‬
‫معاني اليمان‪ ،‬ومن حناجر لم تلهج إل بذكر الله تعالى‪ ،‬فاستجاب‬
‫الله ‪-‬جل وعل‪ -‬هذه الدعوات النقية‪ ،‬فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم‬
‫وحمى بهم دينه‪ ،‬حتى دانت جزيرة العرب للسلم في شهور‬ ‫كلمته‪،‬‬
‫معدودة)‪.(4‬‬
‫دا إلى قبائل العرب من‬ ‫هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتاًبا واح ً‬
‫المرتدين والمتمردين فدعاهم للعودة إلى السلم وتطبيقه كامل ً كما‬
‫جاء من عند الله تعالى‪ ،‬ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا‬
‫على ما هم عليه في الدنيا والخرة‪ ،‬وكان قوًيا في إنذارهم‪ ،‬وهذا هو‬
‫المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم‪ ،‬فكان‬
‫ل بد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لزالة الطغيان الذي‬
‫عشش في أفكار زعماء تلك القبائل‪ ،‬والعصبية العمياء التي‬
‫سيطرت على أفكار أتباعهم )‪.(5‬‬
‫‪ -3‬نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه‬
‫للقادة‪:‬‬
‫بعد التنظيم الدقيق‪ ،‬وحسن العداد للجيوش السلمية التي عقد‬
‫لها الصديق اللوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها‬
‫ما ذا مضمون محدد سعى‬ ‫وتدلي بدلوها؛ فقد حرر الصديق كتاًبا عا ً‬
‫إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على‬
‫السلم ومن ارتدوا عنه جميًعا قبل تسيير قواته لمحاربة الردة‪،‬‬
‫وبعث رجال ً إلى محل القبائل‪ ،‬وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع‪،‬‬
‫وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه‪ ،‬وحدد‬
‫الجمهور المخاطب به بأنه‪ :‬العامة والخاصة‪ ،‬من أقام على إسلمه‬
‫)‪ (2‬حركة الردة‪ ،‬للعتوم‪ :‬ص ‪.312‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/51 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬التاريخ السلمي‪.9/51 :‬‬ ‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.313‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪.9/55 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪164‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أو رجع عنه‪ (1) .‬وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق‪:‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‪ :‬من أبي بكر خليفة رسول الله × إلى‬
‫من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة‪ ،‬أقام على إسلمه أو رجع عنه‪:‬‬
‫سلم على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضللة والعمى‪،‬‬
‫فإني أحمد إليكم الله الذي ل إله إل هو‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله‬
‫دا عبده ورسوله‪ ،‬نقر بما جاء به ونكفر‬ ‫وحده ل شريك له وأن محم ً‬
‫دا بالحق من‬ ‫من أبى ونجاهده‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإن الله تعالى أرسل محم ً‬
‫جا منيًرا؛‬ ‫عنده إلى خلقه بشيًرا ونذيًرا وداعًيا إلى الله بإذنه وسرا ً‬
‫الكافرين‪ ،‬فهدى الله بالحق من‬ ‫لينذر من كان حًيا ويحق القول على‬
‫أجاب إليه وضرب رسول الله × بإذنه)‪ (2‬من أدبر عنه‪ ،‬حتى صار إلى‬
‫ه رسوَله × وقد نفذ لمر الله‬ ‫ها‪ ،‬ثم توفى الل ُ‬ ‫عا وكر ً‬ ‫السلم طو ً‬
‫ونصح لمته وقضى الذي عليه‪ ،‬وكان الله قد بين له ذلك ولهل‬
‫ن"‬ ‫مي ُّتو َ‬ ‫هم ّ‬ ‫وإ ِن ّ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫مي ّ ٌ‬ ‫ك َ‬ ‫السلم في الكتاب الذي أنزل‪ ،‬قال‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫مد ٌ ِ َ ُ‬
‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ما ُ‬ ‫و ََ‬ ‫للمؤمنين‪َ + :‬‬ ‫]الزمر‪ ،[30 :‬وقال‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫ْ‬
‫ب‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫عَلى أ َْ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫إن‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫س‬ ‫من َ‬
‫ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ََ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ه الّر ُ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫زي‬ ‫ج‬
‫َ َ َ ْ ِ‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫ئا‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ش‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ر‬ ‫ّ ُ ّ‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫لن‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ب‬
‫ِ َ ْ ِ‬ ‫ق‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ب‬‫من َ ْ ِ ْ‬
‫ل‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫دا‬
‫دا فإن محم ً‬ ‫ن" ]آل عمران‪ ،[144 :‬فمن كان إنما يعبد محم ً‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد الله وحده ل شريك له فإن الله له‬
‫بالمرصاد‪ ،‬ول تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬حافظ لمره منتقم من عدوه‬
‫بحزبه‪.‬‬
‫وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله‪ ،‬وما جاءكم به‬
‫نبيكم ‪×،‬وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله‪ ،‬فإن كل من لم‬
‫مبتلى‪ ،‬وكل من لم يعنه الله‬ ‫يهده الله ضال‪ ،‬وكل من لم يعافه م ُ‬
‫ل‪ ،‬قال الله‬ ‫يا‪ ،‬ومن أضله كان ضا ً‬ ‫مخذول‪ ،‬فمن هداه الله كان مهتد ً‬
‫ول ِّيا‬ ‫ه َ‬ ‫جدَ ل َ ُ‬ ‫فَلن ت َ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ضل ِ ْ‬ ‫من ي ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫هت َدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫و ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ف ُ‬‫ه َ‬ ‫هد ِ الل ُ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫‪[17‬ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به‪ ،‬ولم‬ ‫دا" ]الكهف‪، :‬‬ ‫ش ً‬ ‫مْر ِ‬ ‫ّ‬
‫يقبل منه في الخرة صرف ول عدل‪ .‬وقد بلغني رجوع من رجع منكم‬
‫را بالله وجهالة بأمره‬ ‫اغترا ً‬ ‫عن دينه بعد أن أقر بالسلم وعمل به‬
‫دوا‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ك‬
‫َ ِ َ ِ ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫و ِ‬
‫إ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫وإجابة للشيطان‪ ،‬قال الله‬
‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫ْ ْ ِ َ ّ ِ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫ِ ّ َ َ َ‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫َ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫دوا إ ِل ّ إ ِب ْ َِلي َ‬
‫س‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫ف َ‬ ‫م َ‬ ‫َل َدَ َ‬
‫و َب ِئ ْ َ َ‬
‫س‬ ‫عدُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫م لك ُ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫دوِني َ‬ ‫من ُ‬ ‫ول َِياءَ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫وذُّري ّت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫فت َت ّ ِ‬
‫ّ‬
‫أ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫طا‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫"‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫ِلل‬
‫ْ‬
‫ب‬ ‫حا‬ ‫ص‬ ‫نوا من ْأ َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫عو‬ ‫د‬
‫[‬
‫ي‬
‫‪50‬‬
‫ما‬
‫]الكهف‪:‬‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ه‬
‫َ َ َ‬
‫ذو‬ ‫ُ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ْ َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ ِ َ َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ع ُ ّ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ر" ]فاطر‪.[6 :‬‬ ‫ِ‬ ‫عي‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫وإني بعثت إليكم فلًنا في جيش من المهاجرين والنصار‬
‫دا ول يقتله حتى يدعوه إلى‬ ‫والتابعين بإحسان‪ ،‬وأمرته أل يقاتل أح ً‬
‫حا قبل منه‬ ‫داعية الله‪ ،‬فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صال ً‬
‫وأعانه عليه‪ ،‬ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم ل يبقى على‬
‫أحد منهم قدر عليه‪ ،‬وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة‪ ،‬وأن يسبي‬
‫النساء والذراري ول يقبل من أحد إل السلم‪ ،‬فمن تبعه فهو خير له‬
‫ومن تركه فلن يعجز الله‪ .‬وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل‬
‫)( الدور السياسي للصفوة في صدر السلم‪ ،‬السيد عمر‪ :‬ص ‪.262‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( بإذن الله تعالى‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪165‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫مجمع لكم والداعية الذان‪ :‬فإذا أذن المسلمين فأّذنوا كفوا عنهم‪،‬‬
‫أبوا‬ ‫وإن لم يؤذنوا عاجلوهم‪ ،‬وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم‪ ،‬فإن‬
‫عاجلوهم‪ ،‬وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم )‪.(1‬‬
‫ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول‬
‫محورين‪:‬‬
‫أ‪ -‬بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى السلم‪.‬‬
‫ب‪ -‬بيان عاقبة الصرار على الردة )‪.(2‬‬
‫وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي‪:‬‬
‫• أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع‬
‫دعوة الله‪.‬‬
‫نا‪ ،‬ومن‬ ‫• بيان أن الله بعث محم‬
‫دا ًبالحق‪ ،‬فمن أقر كان مؤم ً‬
‫را يجاهد ويقاتل‪.‬‬
‫أنكر كان كاف ً‬
‫ت"‬
‫مي ّ ٌ‬ ‫دا بشر قد حق عليه قول الله‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ك َ‬ ‫• بيان أن محم ً‬
‫الله الحي الباقي‬ ‫يعبد‬ ‫وإنما‬ ‫×‬ ‫دا‬
‫ً‬ ‫محم‬ ‫يعبد‬ ‫وأن المؤمن ل‬
‫دا‪ ،‬ولذلك ل عذر لمرتد )‪.(3‬‬ ‫الذي ل يموت أب ً‬
‫• إن الرجوع عن السلم جهل بالحقيقة واستجابة لمر‬
‫قا‪ ،‬وهو ظلم عظيم‬
‫الشيطان‪ ،‬وهذا يعني أن يتخذ العدو صدي ً‬
‫للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن‬
‫طواعية‪.‬‬
‫• إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون‬
‫والنصار وتابعوهم‪ ،‬هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة‬
‫منهم على دينهم وحفا ً‬
‫ظا عليه من أن يهان‪.‬‬
‫• إن من رجع إلى السلم‪ ،‬وأقّر بضلله‪ ،‬وكف عن قتال‬
‫المسلمين‪ ،‬وعمل من العمال ما يتطلبه دين الله‪ ،‬فهو من‬
‫مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم‪.‬‬
‫• إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على‬
‫ردته‪ ،‬إنما هو محارب ل بد من شن الغارة عليه‪ ،‬تقتله أو‬
‫تحرقه‪ ،‬وتسبي نساءه وذراريه‪ ،‬ولن يعجز الله بأية حال؛ لنه‬
‫أنى ذهب في ملكه‪.‬‬
‫المسلمين‬
‫)‪(4‬‬
‫• إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة‬
‫أن يعلن فيهم الذان وإل فالمعالجة بالقتال هي البديل‪.‬‬
‫تاريخ الطبري‪.71 ،4/70 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الدور السياسي للصفوة في صدر السلم‪ :‬ص ‪.262‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.290‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.177 ،176‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪166‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وحتى ل يترك الخليفة المر للقادة والجند بغير انضباط كتب‬
‫دا يدعوهم فيه إلى اللتزام بمضمون‬ ‫للقواد جميًعا كتاًبا واح ً‬
‫كتابه السابق‪ ،‬هذا نصه‪:‬‬
‫هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله × لفلن حين بعثه فيمن‬
‫بعثه لقتال من رجع عن السلم‪ ،‬وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع‬
‫في أمره كله‪ ،‬سره وعلنيته‪ ،‬وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من‬
‫تولى عنه ورجع عن السلم إلى أماني الشيطان‪ ،‬بعد أن يعذر إليهم‬
‫فيدعوهم بداعية السلم‪ ،‬فإن أجابوه أمسك عنهم‪ ،‬وإن لم يجيبوه‬
‫ن غارته عليهم حتى يقروا له‪ ،‬ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم‪،‬‬ ‫ش ّ‬
‫فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم‪ ،‬ل وينظرهم ول يرد المسلمين‬
‫عن قتال عدوهم‪ ،‬فمن أجاب إلى أمر الله ‪-‬عز وجل‪ -‬وأقر له قبل‬
‫ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف‪ ،‬وإنما يتقبل من كفر بالله على‬
‫القرار بما جاء من عند الله‪ ،‬فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل‪،‬‬
‫جب داعية الله قتل‬ ‫وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به‪ ،‬ومن لم ي ُ ِ‬
‫غمه‪ ،‬ل يقبل من أحد شيًئا أعطاه إل‬ ‫وقوتل حيث كان وحيث بلغ مرا َ‬
‫السلم‪ ،‬فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله‪ ،‬فإن‬
‫أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلح والنيران‪ ،‬ثم قسم ما‬
‫أفاء الله عليهم إل الخمس فإنه يبلغناه‪ ،‬وأن يمنع أصحابه العجلة‬
‫وا حتى يعرفهم ويعلم ما هم ل يكونوا‬ ‫والفساد وأل يدخل فيهم حش ً‬
‫عيوًنا‪ ,‬لئل يؤتى المسلمين من قبلهم‪ ،‬وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق‬
‫عن بعض‪،‬‬ ‫بهم في السير والمنزل ويتفقدهم‪ ،‬ول يعجل بعضهم‬
‫ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول )‪.(1‬‬
‫وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام‬
‫أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت‬
‫بوضوح ل يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى السلم‪،‬‬
‫والمساك عن قتال من يجيب‪ ،‬والحرص على إصلحهم‪ ،‬وحظر‬
‫مواصلة القتال بعد أن يقروا بالسلم والتحول عند هذه النقطة من‬
‫القتال إلى تعليمهم أصول السلم وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما‬
‫عليهم من واجبات‪ ،‬وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة‬
‫المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر الله‪.‬‬
‫والتزم الجيش السلمي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال‬
‫والمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة‬
‫سا لتحقيق أقصى‬ ‫هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلم ً‬
‫درجة من التوافق في صفوف القوات السلمية التي نيط بها القضاء‬
‫على ظاهرة الردة‪.‬‬
‫أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش السلمية‪ ،‬يطلب‬
‫المستندة إليه‪،‬‬ ‫من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة‬
‫ما مع هدف واحد هو الدفاع عن السلم )‪.(2‬‬ ‫وأن يتطابق تما ً‬
‫إن اقتداء أبي بكر ‪ ‬برسول الله × علمه فن القيادة‪ ،‬ونجاح‬
‫القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته‪ .‬ولقد كان أبو‬
‫صا في ولئه لرسول الله‬ ‫بكر نعم الجندي في جيش المسلمين‪ ،‬مخل ً‬
‫)‪ (2‬الدور السياسي للصفوة‪ :‬ص ‪.263‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.72 ،71 /4 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫‪167‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫×‪ ،‬يطبق ما يقوله بحذافيره‪ ،‬مضحًيا في سبيله‪ ،‬لم يفر عنه في‬
‫معركة قط‪ .‬ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من‬
‫لقواده( وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب‬
‫)‪1‬‬
‫وصاياه‬
‫قوات العدو‪.‬‬
‫لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية‪:‬‬
‫• أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر‬
‫والعلن‪ ،‬وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لن‬
‫ن‬
‫القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬كان معه‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫نون" ]النحل‪:‬‬
‫س ُ‬
‫ح ِ‬
‫م ْ‬
‫هم ّ‬
‫ن ُ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وا َ‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ع ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬
‫ه َ‬‫الل َ‬
‫‪.[128‬‬
‫وإخلص النية لله سبحانه وتلك أخلق‬ ‫• الجد والجتهاد‬
‫فيَنا ل َن َ ْ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫)‪(2‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫دي َن ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫دوا ِ‬
‫ه ُ‬
‫جا َ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬ ‫‪َ +‬‬ ‫المنصورين الفائزين‬
‫ن" ]العنكبوت‪.[69 :‬‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ع ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ه لَ َ‬
‫ن الل َ‬ ‫سب ُل ََنا َ‬
‫وإ ِ ّ‬ ‫ُ‬
‫• أن ل يقبل من المرتدين إل السلم أو القتل؛ إذ ل مهادنة‬
‫في أمر العقيدة‪.‬‬
‫• تقسيم الغنائم بين الجند مع الحتفاظ بحق بيت المال‬
‫منها‪ ،‬وهو خمسها‪.‬‬
‫• أن ل يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم‬
‫حتى ل تأتي حلولهم فجة‪.‬‬
‫• أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم‪ ،‬كيل‬
‫سا عليهم‪.‬‬
‫يكون جاسو ً‬
‫• أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول‪ ،‬وأن‬
‫ل ينفرط بعضهم عن بعض‪.‬‬
‫• وأن يستوصوا بهؤلء الجند خيًرا في الصحبة )‪.(3‬‬
‫ويمكنا من خلل الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد‬
‫الصديق اللوية لقادة الجيوش‪ ،‬والتي تتخلص في النقاط التية‪:‬‬
‫أ‪ -‬ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها‪ ،‬بحيث‬
‫ل تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة‪ ،‬وإنما هي رغم تباعد‬
‫المكان جهاز واحد‪ ،‬وقد تتلقى ‪-‬أو يلتقي بعضها ببعض‪ -‬لتفترق‪ ،‬ثم‬
‫تفترق لتلتقي‪ ،‬كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال‬
‫ومعاركه‪.‬‬
‫ب‪ -‬احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلفة‪-‬‬
‫واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه‬
‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.179‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪.292 ،291 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.179‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪168‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سياسة الدولة‪.‬‬
‫شا من المسلمين داخل المناطق‬ ‫ج‪ -‬أدرك الصديق أن هناك جيو ً‬
‫التي شملتها حركة العصيان والردة‪ ،‬وقد حرص على هؤلء‬
‫المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين‪ ،‬ولذلك فإنه أمر قادته‬
‫باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة‪،‬‬
‫وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلدهم وحمايتها من جهة أخرى‪.‬‬
‫د‪ -‬طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين‪ ،‬حتى أظهر أن‬
‫كانت تستهدف شيًئا آخر؛‬ ‫الجيوش تنوي شيًئا‪ ،‬وهي في حقيقة المر‬
‫زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته)‪ ،(1‬وهكذا تظهر الحنكة‬
‫السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة‬
‫الصديق‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬القضاء على فتنة السود العنسي وطليحة السدي ومقتل‬
‫مالك بن نويرة‪:‬‬
‫‪-1‬القضاء على السود العنسي‪ ،‬وردة اليمن الثانية‪:‬‬
‫ما‬
‫عبهلة( بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لنه كان دائما معت ً‬ ‫اسمه‪:‬‬
‫متخمًرا بخمار )‪ , 2‬ويعرف بالسود العنسي لسوداد في وجهه‪،‬‬
‫وتكمن قوة السود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته‪ ،‬واستخدم‬
‫ري قومه‬ ‫الكهانة والسحر والخطابة البليغة‪ ،‬فقد كان كاهًنا مشعوًذا ي ُ ِ‬
‫ويسبي قلوب من سمع منطقه‪ ،‬واستخدم الموال للتأثير‬ ‫العاجيب‪،‬‬
‫على الناس )‪.(3‬‬
‫أ‪ -‬السود العنسي في عهد الرسول ×‪:‬‬
‫وما أن انتشر خبر مرض رسول الله × بعد مقدمه من حجة‬
‫الوداع حتى ادعى السود العنسي النبوة‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه أطلق على‬
‫نفسه )رحمان اليمن( كما تسمى مسيلمة )رحمان اليمامة()‪ ،(4‬وأنه‬
‫كان يدعي النبوة ول ينكر نبوة محمد عليه الصلة والسلم‪ ،‬وكان‬
‫يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما‪ :‬سحيق وشقيق ‪-‬أو شريق)‪– (5‬‬
‫وكان قبل أن يظهر مخفًيا أمره يجمع حوله من يراه مناسًبا حتى‬
‫فاجأ الناس بظهوره )‪ (6‬وكان أول من تبعه‪ :‬أبناء قبيلته)‪(8‬وهم »عنس«‬
‫)‪ ،(7‬ثم كاتب زعماء قبيلة »مذحج« فتبعه العوام منهم ‪ ،‬وبعض‬
‫زعمائهم من طالبي الزعامة‪ ،‬وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛‬
‫لنه من »عنس« وهي بطن من بطون قبيلة »مذحج«‪ ،‬وقد راسله‬
‫بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون‪ ،‬فطلبوا‬
‫منه أن يأتيهم في بلدهم‪ ،‬فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة‪،‬‬
‫)( البعاد السياسية لمفهوم المن في السلم‪ ،‬مصطفى محمود منجود‪ :‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪.169‬‬
‫)( الكامل في التاريخ‪.2/17 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( عصر الخلفة الراشدة للعمري‪ :‬ص ‪.364‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم للشجاع‪ :‬ص ‪.256‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البدء والتاريخ‪.5/154 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.257‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( فتوح البلدان للبلذري‪.1/125 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪.152 ،151‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪169‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سلَية« و»حكم بني سعد‬ ‫م ْ‬
‫وتبعه أناس من »زبيد« و»أود« » َ‬
‫العشيرة«‪ ،‬ثم أقام بنجران بعض الوقت‪ ،‬وقوي أمره بعد أن انضم‬
‫إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي‪،‬‬
‫وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من‬
‫مئة‬ ‫نجران‪ ،‬واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست‬
‫أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و»عنس«)‪.(1‬‬
‫فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم »شهر بن باذان الفارسي«‪ ،‬وكان‬
‫قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة »شعوب«‪،‬‬
‫دا فقتل »شهر بن باذان« وانهزم أهل صنعاء أمام‬ ‫فتقاتلوا قتال ً شدي ً‬
‫عليها( ونزل قصر »غمدان« بعد خمسة‬ ‫فغلب‬ ‫السود العنسي‪،‬‬
‫ما من ظهوره )‪. 2‬‬ ‫وعشرين يو ً‬
‫بالسلم‪ ،‬فقد أخذ‬ ‫)‪(3‬‬
‫وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين‬
‫ولهذا( تعامل‬ ‫‪،‬‬ ‫وا‬
‫ً‬ ‫عض‬ ‫وا‬
‫أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عض ً‬
‫معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية )‪. 4‬‬
‫أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع‬
‫فكان‪(5‬فروة بن مسيك المرادي قد‬ ‫وإعادة النتظام إلى صفوفهم‪،‬‬
‫انحاز إلى مكان يسمى »الحسية« ) ‪ ،‬وانضم إليه من انضم من‬
‫المسلمين‪ ،‬وكتب إلى رسول الله × بخبر السود العنسي‪ ،‬فكان‬
‫الشعري‪،‬‬ ‫أول من أبلغ الرسول × بذلك‪ ،‬وانحاز كل من أبي موسى‬
‫ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء »السكاسك والسكون« )‪.(6‬‬
‫ل الله × الثابتين على السلم لمواجهة ردة‬ ‫وقد راسل رسو ُ‬
‫السود‪ ،‬وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة‪ ،‬ووجه‬
‫كتبه ورسله إلى بعض زعماء »حمير« و»همدان« بأن يتكاتفوا‬
‫ويتوحدوا ويساعدوا »البناء« )‪ (7‬ضد »السود العنسي«‪ ،‬فأرسل‬
‫شيش الديلمي وداذويه‬ ‫ج َ‬
‫»وبر بن يخنس« إلى »فيروز الديلمي و ُ‬
‫الصطخري«‪ ،‬وبعث »جرير البجلي« إلى »ذي الكلع وذي ظليم«‬
‫الحميريين‪ ،‬وبعث »القرع بن عبد الله الحميري« إلى »ذي زود وذي‬
‫مران« الهمدانيين‪ ،‬وكذلك كتب إلى أهل نجران من العراب‬
‫الجهني«‬
‫)‪(9‬‬
‫وساكني الرض من غيرهم)‪ ،(8‬وبعث »الحارث بن عبد الله‬
‫إلى اليمن قبيل وفاته‪ ،‬فبلغته وفاة الرسول × وهو في اليمن ‪،‬‬
‫ولم تبين المصادر إلى أين بعث‪ ،‬إل أنه من الممكن أنه بعث إلى‬
‫بأن‬ ‫»معاذ بن جبل«؛ لنه تلقى كتاًبا من رسول الله × يأمره فيه‬
‫يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة »السود العنسي« للقضاء عليه )‪،(10‬‬
‫كما تلقى »أبو موسى الشعري« و»الطاهر بن أبي هالة« كتاًبا من‬
‫‪ () 1‬تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪.152 ،151‬‬
‫‪ () 2‬البدء والتاريخ‪.229 /5 :‬‬
‫‪ () 3‬ابن سعد في الطبقات‪.5/535 :‬‬
‫‪ () 4‬اليمن في صدر السلم‪ ،‬للشجاع‪ :‬ص ‪.258‬‬
‫‪ () 5‬الحسية‪ :‬موضع باليمن‪ ،‬انظر‪ :‬ياقوت‪ :‬المعجم‪.1/112 :‬‬
‫‪ () 6‬تاريخ الطبري‪.50 ،49/ 4 :‬‬
‫‪ () 7‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.271‬‬
‫‪8‬‬
‫)( تاريخ الطبري‪.4/52 :‬‬
‫‪ () 9‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ () .271‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.272‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪170‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫رسول الله ليواجهوا »السود« بالغيلة أو المصادمة )‪ ،(1‬وكان لهذا‬


‫العمل من جانب الرسول × أثر كبير‪ ،‬فقد تماسك من بعث إليهم‬
‫في حياته وبعد موته‪ ،‬فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا‪ ،‬فقد‬
‫كتب زعماء »حمير« وزعماء »همدان« إلى البناء باذلين لهم العون‬
‫والمساعدة‪ ،‬وفي الوقت نفسه تجمع أهل »نجران« في مكان واحد‬
‫حركة من جانب »السود العنسي«‪ ،‬وحينئذ أيقن هذا‬ ‫للتصدي لي‬
‫أنه إلى هلك )‪.(2‬‬
‫وظلت المكاتبات تتوالى بين »الهمدانيين« و »الحميريين« وبين‬
‫»معاذ بن جبل« وبعض الزعماء اليمنيين‪ ،‬ومن المحتمل أن بعض‬
‫وبين »فروة ابن مسيك«؛ لنه كان له‬ ‫المكاتبات تمت بين »البناء«‬
‫دور في قتل السود العنسي )‪ ،(3‬ولكن كان أول من اعترض على‬
‫»العنسي« هو »عامر بن شهر الهمداني«‪.‬‬
‫وهكذا تجمعت كل قوى السلم في اليمن للقضاء على »السود‬
‫العنسي«‪ ،‬ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله‪،‬‬
‫لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لتباعه أي كيان فيسهل التخلص‬
‫منهم حينئذ‪ ،‬ولهذا وافقوا على خطة »البناء« بأن ل يقوموا بأي‬
‫شيء حتى يبرموا المر من داخلهم‪.‬‬
‫واستطاع »البناء« فيروز وداذويه أن يتفقا مع »قيس بن‬
‫مكشوح المرادي« ‪-‬وكان قائد جند العنسي‪ -‬للتخلص من‬
‫»السود العنسي«؛ لنه كان على خلف معه‪ ،‬ويخشى أن يتغير‬
‫عليه )‪ ، (4‬وقد ضموا إلى صفهم زوجة »السود العنسي« »آزاد‬
‫الفارسية« والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز‬
‫الفارسي‪ ،‬فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها‪ ،‬فهبت‬
‫لنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم‪ ،‬فدبرت‬
‫هذا‪(6‬الطاغية المتأّله‬ ‫مع المسلمين المناوئين للسود خطة اغتيال‬
‫)‪ ، (5‬ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه ) ‪ ،‬وحينما قتل‬
‫برأسه‪ (7‬بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم‬ ‫»السود« ألقى‬
‫الخوف‪ ،‬ففروا هاربين ) ‪.‬‬
‫ي × من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي‬ ‫وأتى الخبر النب ّ‬
‫قتله( رجل مبارك من أهل بيت‬ ‫البارحة‪،‬‬ ‫العنسي‬ ‫»قتل‬ ‫ليبشرنا فقال‪:‬‬
‫مباركين« قيل‪ :‬ومن هو؟ قال‪» :‬فيروز« )‪. 8‬‬
‫وقد فصل خطة اغتيال السود العنسي الدكتور صلح الخالدي‬
‫الصحابة… عمليات جهادية خاصة تنفذها‬ ‫في كتابه‪» :‬صور من جهاد‬
‫مجموعة خاصة من الصحابة« )‪ .(9‬وظل أمر »صنعاء« مشتركا بين‬
‫»فيروز وداذويه وقيس بن مكشوح« إلى أن جاء معاذ بن جبل إلى‬
‫)( تاريخ الطبري‪.4/51 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (6،‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ (7) .272‬نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪-272‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.273‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.309‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.273‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.273‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/55 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( صور من جهاد الصحابة للخالدي‪ :‬ص ‪.228 ،211‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪171‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫ولكنه لم يمكث إل ثلثة‬
‫)‪(1‬‬
‫صنعاء‪ ،‬فارتضوا أن يكون هو المير عليهم‪،‬‬
‫أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول الله ×‪.‬‬
‫وكانت تفاصيل مقتل »العنسي« قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى‬
‫خرج جيش أسامة‪ ،‬وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر‬ ‫الصديق بعد أن‬
‫وهو في المدينة )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬وعّين أبو بكر »فيروز الديلمي« والًيا على صنعاء‬
‫سا؛ لنه كان ممن مال السود‬ ‫وكتب إليه بذلك‪ ،‬ولم يو ّ‬
‫ل أبو بكر قي ً‬
‫أو رغبة في الزعامة‪ -‬وكان‬ ‫صا ‪-‬عصبية لمذجح‬ ‫العنسي وتابعه مخل ً‬
‫مبدأ أبي بكر عدم الستعانة بمن ارتد )‪ ،(3‬وجعل كل من داذويه‬
‫وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز‪ ،‬فتغيرت نفس قيس‬
‫بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء البناء الثلثة‪ ،‬وقد تمكن‬
‫أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك »فيروز«‬ ‫من قتل »داذويه« ‪-‬سواء بنفسه‬
‫فهرب إلى أخواله في »خولن« )‪ ،(4‬فما كان من قيس إل أن أثارها‬
‫عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد »البناء« مدعًيا‬
‫أنهم متحكمون فيهم‪ ،‬وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلء بقيتهم‪ ،‬ولكن‬
‫أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ول إلى البناء‪،‬‬
‫وقالوا له‪ :‬أنت صاحبهم وهم أصحابك‪ ،‬فلما يئس منهم عاد فكاتب‬
‫فلول »السود العنسي« سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء‬
‫ونجران أو ممن انحاز إلى لحج‪ ،‬فطلب منهم اللتقاء بهم ليكونوا‬
‫جميًعا على أمر واحد وهو نفي »البناء«‪ ،‬فلم يشعر أهل صنعاء إل‬
‫بتلك الفلول‪ ،‬ثم حرص »قيس« على تجميع »البناء«‬ ‫وهم محاطون‬
‫دا لنفيهم )‪.(5‬‬
‫تمهي ً‬
‫وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولن كتب من هناك إلى أبي‬
‫بكر يخبره بما حصل من قيس‪ ،‬فما كان منه إل أن كتب إلى الزعماء‬
‫الذين كتب إليهم رسول الله ×‪ ،‬وكانت صيغة الكتاب واضحة‬
‫ناوأهم وحوطوهم‪ ،‬واسمعوا‬ ‫صريحة وهي‪» :‬أعينوا البناء على من‬
‫دوا معه فإني قد وليته« )‪.(6‬‬‫ج ّ‬
‫من فيروز‪ ،‬و ِ‬
‫كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلزمين‪:‬‬
‫• أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج‬
‫إلى الشام‪ ،‬وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف‬
‫موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم‪ ،‬وهي أشد وأعنف‬
‫من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل‬
‫والرسل‪.‬‬
‫• وأما الهدف الخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على السلم‬
‫لكي يبرهن على صدق إسلمه‪ ،‬ولكي يزداد ثباًتا واستمسا ً‬
‫كا بدينه ما‬
‫تاريخ الطبري‪.4/56 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البلذري‪ ،‬فتوح البلدان‪.1/127 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.275‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/140 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تاريخ الطبري‪4/140 :‬؛ اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.264‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/140 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪172‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لمانة إقرار السلم فيمن‬
‫الذين راسلهم رسول‬ ‫حوله‪ ،‬خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم‬
‫طلب منهم )‪ .(1‬وقام فيروز‬ ‫الله × من قبل‪ ،‬وقد ثبتوا وقاموا بما ُ‬
‫بالتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم‪ ،‬وعلى رأس هؤلء‬
‫»بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة«‪ ،‬ثم أرسل إلى قبيلة‬
‫»عك«( للغرض نفسه‪ .‬وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي‬
‫هالة )‪ ، 2‬وإلى مسروق العكي ‪-‬وكانا بين عك والشعريين‪ -‬أن يمدا‬
‫البناء بالمعونة‪ ،‬فخرج كل من جهته وعملوا جميًعا للحيلولة دون‬
‫تنفيذ مخطط قيس وهو طرد البناء وإخراجهم من اليمن‪ ،‬فأنقذوهم‬
‫ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميًعا فاصطدموا به حتى اضطر إلى‬
‫ترك صنعاء‪ ،‬وعاد إلى ما كان عليه أصحاب السود العنسي وهو‬
‫التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج‪ ،‬إل أنه انضم إلى عمرو بن‬
‫للمرة الثانية إلى الهدوء‬ ‫معديكرب الزبيدي‪ .‬وبهذا عادت صنعاء‬
‫والستقرار عن طريق الرسل والكتب )‪.(3‬‬
‫ج‪ -‬واستمر الصديق يتابع سياسة الحباط من الداخل‪ ،‬وهي ما‬
‫المؤرخون بقولهم‪» :‬ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت‬ ‫يعبر عنها‬
‫على السلم« )‪.(4‬‬
‫ففي ردة »تهامة اليمن« تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من‬
‫قبل الخليفة‪ ،‬فقد تولها المسلمون من أبناء تهامة مثل »مسروق«‬
‫العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك‪ ،‬وكان على رأس من‬
‫)‪(5‬‬
‫قضى على ردة تهامة »الطاهر بن أبي هالة« الذي كان والًيا‬
‫للرسول × على جزء من تهامة‪ ،‬وهي موطن »عك والشعريين«‬
‫»عكاشة بن ثور« أن يقيم في »تهامة« ليجمع حوله‬ ‫ثم أمر أبو بكر‬
‫حتى‪(7‬يأتيه أمره )‪ ،(6‬وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن‬ ‫أهلها‬
‫ن ثبت على السلم‬ ‫م ْ‬
‫ن قومه َ‬ ‫م ْ‬‫عبد الله ) ‪ ،‬وأمره أن يستنفر ِ‬
‫ويقاتل بهم من ارتد عن السلم‪ ،‬وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد‬
‫منهم‪ ،‬فخرج جرير وفعل )ما‪ (8‬أمره به الصديق ‪ ،‬فلم يقم له أحد إل‬
‫نفر يسير فقتلهم وتتبعهم ‪.‬‬
‫وكان بعض »بني الحارث بن كعب« بنجران قد تابعوا السود‬
‫العنسي‪ ،‬وبعد وفاة رسول الله × بقوا مترددين فخرج إليهم‬
‫»مسروق العكي« وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى السلم فأسلموا‬
‫استتباب( المور فلم يأته‬ ‫من غير قتال‪ ،‬فأقام فيهم ليعمل على‬
‫»المهاجر بن أبي أمية« إل وقد ضبط نجران )‪. 9‬‬
‫وقد نجحت سياسة الحباط من الداخل‪ ،‬وتوجه الصديق بإرسال‬
‫الجيوش بعد عودة جيش أسامة‪.‬‬
‫د‪ -‬جيش عكرمة‪:‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم‪:‬ص ‪.275‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬نفس المصدر السابق‪.4/142 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/144 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ ( 5،4،‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.277‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( البجلي‪ :‬يكنى أبو عمر‪ ،‬أسلم في السنة العاشرة من الهجرة‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( الثابتون على السلم في أيام فتنة الردة‪ :‬ص ‪.42‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪.156‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪173‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عمان‪ ،‬توجه نحو مهرة‬ ‫بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل‬
‫حسب أمر أبي بكر‪ ،‬وكان معه سبع مئة فارس )‪ ،(1‬فوق ما جمع‬
‫حوله من قبائل عمان‪ ،‬وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين‬
‫زعيمين متناحرين‪ :‬أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في السهل‬
‫الساحلي‪ ،‬وهو أقل الجمعين عدًدا وعدة‪ ،‬والخر يسمى المصبح‬
‫ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين‪ ،‬فدعاهما عكرمة‬
‫إلى السلم فاستجاب صاحب السهل الساحلي وأما الخر فقد اغتر‬
‫بجموعه فأبى‪ ،‬فصادمه عكرمة ومعه »شخريت« فلحقته الهزيمة‪،‬‬
‫وقتل ومعه الكثير من أصحابه‪ ،‬ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم‬
‫شئونهم حتى جمعهم على الذي يجب‪ ،‬حيث بايعوا على السلم‬
‫وآمنوا واستقروا )‪ ،(2‬وكان قد تلقى كتاًبا من أبي بكر يأمره بالجتماع‬
‫مع المهاجر بن أبي أمية القادم من »صنعاء« ليتوجها معا إلى كندة‪،‬‬
‫فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر‪ ،‬وعمل‬
‫وهو هناك على جمع »النخع« وحمير وتثبيتهم على السلم )‪ ،(3‬وكان‬
‫لوصول عكرمة إلى أبين أثر على بقية فلول السود العنسي وعلى‬
‫رأسهم قيس بن المكشوح وعمر بن معد يكرب‪ ،‬فبعد هروب قيس‬
‫من صنعاء بقي متردًدا بينها وبين نجران‪ ،‬وكان »عمر بن معد‬
‫يكرب« قد انضوى إلى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول‬
‫اللحجية؛ لن وجهتهم كانت إلى لحج‪ ،‬فلما جاء عكرمة انضم قيس‬
‫إلى عمرو وقد اجتمعا للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلف بينهما‬
‫فتعايرا ففارق كل واحد الخر‪ ،‬فلما جاء المهاجر بن أبي أمية أسرع‬
‫عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهم إلى‬
‫اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما‬ ‫أبي بكر‪ ،‬وبعد أن عاتبهما‬
‫ورجعا بعد أن تابا وأصلحا )‪.(4‬‬
‫وهكذا كان لقدوم عكرمة من المشرق دور في القضاء على‬
‫فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة من هذا الجيش‬
‫هم‪(5‬يواجهون جيشا آخر في الشمال‬ ‫القادم‪ ،‬بينما‬
‫بقيادة المهاجر ) ‪.‬‬
‫هـ‪ -‬جيش المهاجر بن أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت‬
‫وكندة‪:‬‬
‫كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الحد عشر جيش‬
‫المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والنصار‪ ،‬فمر‬
‫على مكة فانضم إليه »خالد بن أسيد« –أخو »عتاب ابن أسيد«‪-‬‬
‫أمير مكة‪ ،‬ومر على الطائف فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص ومن‬
‫معه‪ ،‬ولما التقى »بجرير بن عبد الله البجلي« بنجران ضمه إليه‪،‬‬
‫وضم عكاشة بن ثور الذي جمع بعض أهل تهامة‪ ،‬ثم دخل في‬
‫جموعه »فروة بن مسيك المرادي« الذي كان في أطراف بلد‬
‫مذحج‪ ،‬ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق‬

‫تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪.177‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.155‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.281‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الطبقات لبن سعد‪.535 ،5/534 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.282‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪174‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العكي فضمه إليه )‪.(1‬‬
‫وفي نجران قسم جيشه إلى فرقتين‪ :‬فرقة تولت القضاء على‬
‫فلول »السود العنسي« المتناثرة بين نجران وصنعاء‪ ،‬وكان المهاجر‬
‫نفسه على هذه الفرقة‪ ،‬أما الفرقة الخرى فكان عليها أخوه »عبد‬
‫الله«‪ ،‬وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين‬
‫)‪.(2‬‬
‫وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب إلى أبي بكر بما قام به‬
‫وبما استقر عليه وبقي ينتظر الرد منه‪ ،‬وفي الوقت نفسه كتب معاذ‬
‫بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله ×‪- ،‬ما‬
‫عدا زياد بن لبيد‪ -‬إلى أبي بكر يستأذنونه بالعودة إلى المدينة‪،‬‬
‫فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الختيار لمعاذ ومن معه من‬
‫العمال بالبقاء أو العودة‪ ،‬والستخلف على عمل كل من رجع‬
‫فرجعوا جميًعا )‪ ،(3‬وأما المهاجر فقد تلقى المر بالتوجه لملقاة‬
‫عكرمة وأن يسيرا مًعا إلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد وإقراره‬
‫من الذين قاتلوا بين مكة‬ ‫على ما هو عليه‪ ،‬وأمره أن يأذن لمن معه‬
‫واليمن في العودة إل أن يؤثر قوم الجهاد )‪.(4‬‬
‫كان زياد بن لبيد النصاري والًيا لرسول الله على كندة‬
‫دا وكان‬ ‫بحضرموت‪ ،‬وأقره الصديق ‪ ‬على ذلك‪ ،‬وكان حاز ً‬
‫ما شدي ً‬
‫لحزمه وشدته سبب كبير في أن يتمرد عليه حارثة بن سراقة‪،‬‬
‫وخلصة ذلك ‪-‬كما يذكر الكلعي‪ -‬أن زياًدا أعطى من ضمن الصدقة‬
‫ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ‪ ،‬فلما أراد صاحبها‬
‫استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد‪ ،‬فاستنجد الفتى بزعيم لهم‬
‫هو حارثة بن سراقة‪ ،‬وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال‬
‫الناقة أصر زياد على موقفه‪ ،‬فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة‪،‬‬
‫فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة‪ ،‬ودارت الحرب‬
‫وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الربعة وأسر زياد عدًدا من‬
‫جماعة ابن سراقة‪ ،‬واستنجد السرى وهم في طريقهم إلى المدينة‬
‫بالشعث بن قيس فنجدهم حمية وعبية‪ ،‬واتسعت رقعتها وتكاثر جمع‬
‫الشعث وحصروا المسلمين )‪ ،(5‬فأرسل زياد إلى المهاجر وعكرمة‬
‫يستعجلهما النجدة وكانا قد التقيا بمأرب‪ ،‬فما كان من المهاجر إل أن‬
‫ترك »عكرمة« إلى الجيش وأخذ أسرع الناس ‪-‬وغالبا من الفرسان–‬
‫ليكونا بجانب زياد‪ ،‬وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة‬
‫إلى حصن من حصونها يسمى النجير‪ ،‬وكان لهذا الحصن ثلث طرق‬
‫ل رابع لها‪ ،‬فنزل زياد على إحداها والمهاجر على الثانية وبقيت‬
‫الثالثة تحت تصرف كندة‪ ،‬حتى قدم عكرمة فنزل عليها فحاصروهم‬
‫من جميع الجهات‪ ،‬ثم بعث »المهاجر« الطلئع إلى قبائل كندة‬
‫والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم إلى السلم ومن أبي قاتلوه‪،‬‬
‫تاريخ الردة للكلعي‪ :‬ص ‪.58 -54‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫طبقات فقهاء اليمن‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫طبقات فقهاء اليمن‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.283‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الكامل في التاريخ‪ ،2/49 :‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.66‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪175‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ولم يبق إل في الحصن المحاصر )‪.(1‬‬
‫وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلف رجل من‬
‫المهاجرين والنصار وغيرهم من القبائل‪ ،‬وقد عمل على التضييق‬
‫على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى إلى زعمائهم متبرمين‬
‫من الجوع‪ ،‬وفضلوا الموت بالسيف بدل ً من ذلك‪ ،‬فاتفق زعماؤهم‬
‫على أن يقوم الشعث بن قيس بطلب المان والنزول على حكم‬
‫المسلمين )‪ ،(2‬وبعد أن فوض الشعث من قومه لمفاوضة المسلمين‬
‫لم يوفق؛ لن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب المان لجميع‬
‫من في الحصن‪ ،‬أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إل لعدد تراوح‬
‫حسب الروايات بين السبعة والعشرة وكان الشرط هو فتح أبواب‬
‫حصن »النجير«‪ ،‬وكان من جراء ذلك أن قتل من »كندة« في‬
‫الحصن سبعمائة قتيل‪ ،‬فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة )‪.(3‬‬
‫وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه‬
‫ضا‬
‫السبايا والخماس‪ ،‬وبرفقتهم الشعث بن قيس الذي صار مبغ ً‬
‫إلى قومه ول سيما نساؤهم لنهم عدوه سبب ذلتهم؛ ولنه عندما‬
‫صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه‪ ،‬فكانت نساء قومه‬
‫عرف النار‪ ،‬ومعناه بلغتهم‪ :‬الغادر )‪ ،(4‬ولما قدم الشعث‬ ‫يسمينه ُ‬
‫على أبي بكر قال‪ :‬ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت؟!‬
‫ي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت‬ ‫ن عل ّ‬‫قال‪ :‬تم ّ‬
‫وأسلمت‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة‪،‬‬
‫)‪(5‬‬
‫فكان بالمدينة حتى فتح العراق‪.‬‬
‫ي‬
‫وفي رواية جاء فيها‪ :‬فلما خشي أن يقع به قال‪ :‬أوتحتسب ف ّ‬
‫خير فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسلمي‪ ،‬وتفعل بي مثل‬
‫ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي ‪-‬وقد كان خطب أم فروة بنت‬
‫خرها إلى أن يقدم‬ ‫أبي قحافة مقدمه على رسول الله × فزوجه‪ ،‬وأ ّ‬
‫الثانية فمات رسول الله ×‪ ،‬وفعل الشعث ما فعل فخشي أل ترد‬
‫عليه‪ -‬تجدني خير أهل بلدي لدين الله! فتجافى له عن دمه وقبل‬
‫خير‪ ،‬وخلي عن‬ ‫منه ورد عليه أهله وقال‪ :‬انطلق فليبلغني عنك‬
‫القوم‪ ،‬فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس )‪.(6‬‬
‫و‪ -‬دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫المرأة بين الهدم والبناء‪:‬‬
‫في حروب الردة باليمن تظهر صورتان مختلفتان للنساء‪ :‬صورة‬
‫المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع السلم وتحارب الرذيلة‪،‬‬
‫وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين النس والجن‪ ،‬فهذه‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ ،284‬تاريخ الطبري‪.4/152 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الطبري‪.3/152 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪ 286‬تاريخ الردة‪ :‬ص ‪.167‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.107‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/155 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/155 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪176‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫»آزاد« الفارسية زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي؛ تقف‬
‫مع الصف السلمي بكل عزم وتصميم‪ ،‬وتدبر مع المسلمين خطة‬
‫محكمة لغتيال السود العنسي كذاب اليمن‪ ،‬فالمسلم في كل عصر‬
‫يكبر في )آزاد( المسلمة غيرتها على دينها‪ ،‬وينظر باستهجان إلى ما‬
‫جه قلم الدكتور محمد حسين هيكل عندما تحدث عن موقف آزاد‬ ‫م ّ‬
‫َ‬
‫من كذاب اليمن‪ ،‬وحاول أن يرجع ما قامت به المرأة المسلمة آزاد‬
‫الفارسية إلى عصبية شهوانية‪ ،‬وذلك في قوله عن السود‪» :‬ولما‬
‫استغلظ أمره وأثخن في الرض استخف بقيس وبفيروز وجعل يرى‬
‫في الخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضلعهم على المكر به‪،‬‬
‫وعرفت زوجته الفارسية ذلك منه‪ ،‬فثار في عروقها دم قومها‪،‬‬
‫وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح قاتل زوجها‬
‫الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها‪ ،‬ولقد استطاعت‬
‫بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه وأن تسخو في)‪(1‬البذل له من‬
‫أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها«‪.‬‬
‫مز بالفارسية المؤمنة آزاد‪ ،‬وكأنه يتهمها بالغدر‬‫إنه أسلوب فيه ل َ ْ‬
‫لفارسيتها بالسود العربي‪ ،‬ويأخذ عليها هذا الصنيع الذي كانت تظهر‬
‫له فيه ما ل تخفي‪ ،‬إنه توجيه لحدث في غير محله‪ ،‬وهذه المرأة‬
‫جها المسلم وتزوجها غصًبا‪ ،‬وهي‬ ‫الصالحة المسلمة قتل السود زو َ‬
‫شخصا‬ ‫الله‬ ‫خلق‬ ‫ما‬ ‫»والله‬ ‫بقولها‪:‬‬ ‫التي وصفت السود الكذاب‬
‫ي منه‪ ،‬ما يقوم لله على حق ول ينتهي عن محرم«‪ (2).‬وهي‬ ‫أبغض إل ّ‬
‫فلول الله‬ ‫العنسي‪،‬‬ ‫السود‬ ‫الطاغية‬ ‫لهلك‬ ‫سببا‬ ‫تعالى‬ ‫الله‬ ‫جعلها‬ ‫التي‬
‫ثم جهودها الميمونة ما استطاع فيروز وأصحابه قتل السود )‪،(3‬‬
‫فالذي حركها لذلك العمل العظيم الذي فيه حتفها وموتها هو حبها‬
‫لدينها وعقيدتها وإسلمها‪ ،‬وبغضها للسود العنسي الكذاب الذي أراد‬
‫أن يقضي على السلم في اليمن‪ ،‬فهذه صورة مشرقة مضيئة لما‬
‫قامت به المرأة المسلمة في اليمن من الجهاد من أجل دينها‪.‬‬
‫أما الصورة الكالحة المظلمة التي قامت به بعض بنات اليمن من‬
‫يهود أو من لف لفهن في حضرموت‪ ،‬فقد طرن فرحا بموت رسول‬
‫الله × فأقمن الليالي الحمراء مع المجان والفساق يشجعن على‬
‫الرذيلة ويزرين بالفضيلة‪ ،‬فقد رقص الشيطان فيها معهن وأتباعه‬
‫لنكوص الناس على السلم والدعوة إلى التمرد عليه وحرب‬ ‫طرًبا‬
‫أهله )‪ ،(4‬لقد حّنت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات‪،‬‬
‫وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من القذار‪ ،‬فقد تعودن على‬
‫الفاحشة في حياتهن الجاهلية‪ ،‬فلما جاء السلم حجزتهن نظافته‬
‫عنها‪ ،‬فشعرن وكأنهن بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه‪ ،‬ولذا ما إن‬
‫سمعن بموته × حتى أظهرن الشماتة فخضبن أيديهن بالحناء‪ ،‬وقمن‬
‫يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهن؛ فقد تحقق لهن ما كن يتمنينه على‬
‫السلطة الجديدة‪ ،‬وكان معظمهن من علية القوم هناك وبعضهن‬
‫يهوديات‪ ،‬وقد كان لكل الطرفين ‪-‬أشراف القوم من العرب واليهود‪-‬‬
‫مصلحة في النتقاض على مبادئ السلم والنقضاض على كيانه‪.‬‬
‫الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪.79‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الكامل في التاريخ‪.2/310 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.308‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.119‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪177‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫لقد عرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا وكن نيفا وعشرين‬
‫بغّيا متفرقات في قرى حضرموت‪ ،‬وأشهرهن هر بنت يامن اليهودية‬
‫التي ضرب المثل بها في الزنا‪ ،‬فقيل‪» :‬أزنى من هر«‪ .‬ويذكر التاريخ‬
‫أن الفساق كانوا يتناوبونها لهذا الغرض في الجاهلية‪ ،‬ولكن هؤلء‬
‫السواقط لم يتركن وشأنهن يفسدن في المجتمع كما يحلو لهن )‪،(1‬‬
‫فقد وصل الخبر إلى الصديق‪ ،‬وأرسل رجل من أهل اليمن إليه‬
‫هذه البيات‪:‬‬
‫ن أيّ مرام‬
‫م َ‬
‫أن البغايا ُر ْ‬ ‫أبلغ أبا بكر إذا ما جئته‬
‫)‪(2‬‬ ‫وخضبن أيديهن بالعُ ّ‬
‫لم‬ ‫أظهرن من موت النبي‬
‫شماتة‬
‫)‪(3‬‬
‫غمام‬ ‫فهن بصارم‬‫فاقطع هديت أك ّ‬
‫فكتب أبو بكر ‪ ‬إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتاًبا في‬
‫سْر إليهن‬‫منتهى الحزم والصرامة جاء فيه‪» :‬فإذا جاءك كتابي هذا فَ ِ‬
‫بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهن‪ ،‬فإن دفعك عنهن دافع‪ ،‬فأعذر إليه‬
‫باتخاذ الحجة عليه‪ ،‬وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الثم والعدوان‪،‬‬
‫فإن رجع فاقبل منه وإن أبى فنابذه على سواء‪ ،‬إن الله ل يهدي كيد‬
‫الخائنين…«‪ .‬فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهن‪،‬‬
‫فحال بينه وبينهن رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم‪ ،‬فأبوا إل‬
‫النسوة فقطع‬ ‫قتاله‪ ،‬ثم رجع عنه عامتهم‪ ،‬فقاتلهم فهزمهم وأخذ‬
‫أيديهن فمات عامتهن وهاجر بعضهن إلى الكوفة‪ (4) .‬لقد نلن‬
‫جزاءهن في محكمة السلم العادلة؛ إذ أخذهن عامل أبي بكر على‬
‫وطبق عليهن‬ ‫تلك البلد‬
‫حد الحرابة)‪.(5‬‬
‫ونقلت الخبار للخليفة في امرأتين من بلد حضرموت تغنتا بهجاء‬
‫رسول الله × والمسلمين‪ ،‬وكان قد عاقبهما المهاجر بن أبي أمية‬
‫ض أبو بكر‪ ،‬وعدها‬ ‫والي تلك البلد بقطع يديهما ونزع ثنيتيهما‪ ،‬فلم ير َ‬
‫عقوبة خفيفة في حق هاتين المجرمتين‪ ،‬وقد وجه إليه كتاًبا بهذا‬
‫الخصوص قال فيه بحق الناعقة بشتم صاحب الرسالة‪ :‬بلغني الذي‬
‫سرت به في المرأة التي تغنت وزمرت بشتيمة رسول الله ×‪ ،‬فلول‬
‫ما قد سبقتني فيها لمرتك بقتلها؛ لن حد النبياء ليس يشبه الحدود‪،‬‬
‫فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر‪.‬‬
‫)‪ (6‬وقال في الخرى‪ :‬بلغني أنك قطعت يد امرأة في أن تغنت بهجاء‬
‫المسلمين ونزعت ثنيتها‪ ،‬فإن كانت ممن تدعي السلم فأدب‬
‫وتقدمة دون المثلة‪ ،‬وإن كانت ذمية لعمري لما صفحت عنه من‬
‫الشرك أعظم‪ ،‬ولو كنت تقدمت إليك في مثل هذا لبلغت مكروها‬
‫الدعة وإياك والمثلة في الناس؛ فإنها مأثم ومنفرة إل في‬ ‫فاقبل‬
‫قصاص )‪.(7‬‬
‫)‪ (2‬العلم‪ :‬الحناء‪.‬‬ ‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.119‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.184‬‬ ‫)( عيون الخبار‪.3/133 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.119‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (2 ،‬تاريخ الطبري‪.4/157 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫‪178‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫من خطباء اليمان‪:‬‬


‫كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات على الحق‬
‫والدعوة إلى السلم وتحذير قومهم من خطورة الردة‪ ،‬ومن هؤلء كان‬
‫»مران بن ذي عمير الهمداني« أحد ملوك اليمن الذي كان قد أسلم‬
‫ممن أسلم من أهل اليمن‪ ،‬فلما ارتد الناس هناك وتكلم سفهاؤهم بما ل‬
‫خطي ًوقال لهم‪ :‬يا معشر همدان إنكم لم تقاتلوا‬
‫يليق وقف فيهم با‬
‫ولم يقاتلكم فأصبتم بذلك الحظ ولبستم به العافية‪ ،‬ولم‬ ‫رسول الله ×‬
‫يعمكم بلعنة تفضح أوائلكم وتقطع دابرهم‪ ،‬وقد سبقكم قوم إلى‬
‫ما‪ً ،‬فإن تمسكتم لحقتم من سبقكم وإن أضعتموه‬ ‫السلم وسبقتم قو‬
‫لحقكم من سبقتموه‪ ،‬فأجابوا إلى ما أحب‪ ،‬وأنشد أبياتا رثى فيها النبي‬
‫× يقول فيها‪:‬‬
‫ذاك مني على الرسول قليل‬ ‫إن حزني على الرسول‬
‫طويل‬
‫)‪(1‬‬
‫وبكاء خديمه جبريل‬ ‫بكت الرض والسماء عليه‬
‫وقام عبد الله بن مالك الرحبي وكان من أصحاب النبي ×‪ ،‬له‬
‫هجرة وفضل في دينه فاجتمع إليه همدان فقال‪ :‬يا معشر همدان‬
‫دا إنما عبدتم رب محمد وهو الحي الذي ل‬ ‫إنكم لم تعبدوا محم ً‬
‫يموت‪ ،‬غير أنكم أطعتم رسوله بطاعة الله‪ ،‬واعلموا أنه استنقذكم‬
‫من النار‪ ،‬ولم يكن الله ليجمع أصحابه على ضللة‪ ،‬وذكر له خطبة‬
‫طويلة يقول فيها‪:‬‬
‫ل رب‬
‫قي ِ‬
‫لما مات يا ابن ال َ‬ ‫لعمري لئن مات النبي محمد‬
‫محمد‬
‫)‪(3‬‬
‫منجد‬ ‫دعاه إليه رّبه فأجابه‬

‫ووقف شرحبيل بن السمط وابنه في بني معاوية من كندة‬


‫عندما أطبقوا كلهم على منع الصدقة وقال لبني معاوية‪ :‬إنه لقبيح‬
‫بالحرار التنقل‪ ،‬إن الكرام ليلزمون الشبهة فيتكرمون أن يتنقلوا إلى‬
‫أوضح منها مخافة العار‪ ،‬فكيف النتقال من المر الحسن الجميل‬
‫والحق إلى الباطل القبيح؟ اللهم إنا ل نمالئ قومنا على ذلك‪ .‬وانتقل‬
‫ت القوم‬ ‫ونزل معه زيد ومعهما امرؤ القيس بن عابس وقال له‪ :‬ب َي ّ ِ‬
‫ما من السكاسك والسكون قد انضموا إليهم وكذلك شذاذ‬ ‫فإن أقوا ً‬
‫من حضرموت‪ ،‬فإن لم تفعل خشينا أن تتفرق الناس عنا إليهم‪،‬‬
‫فأجابهم إلى تبييت القوم فاجتمعوا وطوقوهم في محاجرهم‬
‫سا حول نيرانهم فأكبوا على بني عمرو وبني معاوية‬ ‫فوجدوهم جلو ً‬
‫وفيهم العدد والشوكة من خمسة أوجه فأصابوا الملوك الربعة من‬
‫كندة وأختهم العمّردة وقتلوا فأكثروا‪ ،‬وهرب من أطاق الهرب وعاد‬
‫زياد بن لبيد بالموال والسبي)‪ ،(4‬فهذه بعض النماذج من أهل اليمان‬
‫الصابة في تمييز الصحابة‪ ،6/223 :‬رقم‪.8400 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫غوري‪ :‬نسبة إلى الغور‪ ،‬وهي أرض تهامة ما بين البحر والحجاز‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪81‬؛ منجد‪ :‬نسبة إلى نجد هي الرض المرتفعة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الكامل في التاريخ‪.2/84 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪179‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الذين كانت لهم مواقف تدل على عمق إيمانهم وشدة انتمائهم إلى‬
‫السلم فكانوا من خطباء اليمان‪.‬‬
‫كرامات الولياء‪:‬‬
‫عندما تمكن السود العنسي باليمن وتنبأ بالنبوة بعث إلى أبي‬
‫مسلم الخولني فلما جاء قال له‪ :‬أتشهد أني رسول الله؟ قال‪ :‬ما‬
‫دا رسول الله؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فردد ذلك‬ ‫أسمع‪ .‬قال‪ :‬أتشهد أن محم ً‬
‫عليه‪ ،‬وفي كله يقول مثل قوله الول قال‪ :‬فأمر به فألقي في نار‬
‫عظيمة فلم تضره‪ ،‬فقيل له‪ :‬انفه عنك وإل أفسد عليك من اتبعك‪،‬‬
‫قال‪ :‬فأمر بالرحيل فأتى المدينة وقد قبض رسول الله ×‪ ،‬واستخلف‬
‫أبو بكر فأناخ أبو مسلم راحلته بباب المسجد‪ ،‬ودخل المسجد فقام‬
‫يصلي إلى سارية‪ ،‬وبصر به عمر بن الخطاب فقام إليه فقال‪ :‬ممن‬
‫الرجل؟ قال‪ :‬من أهل اليمن‪ ،‬قال‪ :‬ما فعل الرجل الذي أحرقه‬
‫الكذاب بالنار؟ قال‪ :‬ذاك عبد الله بن ثوب‪ ،‬قال‪ :‬أنشدك الله أنت‬
‫هو؟ قال‪ :‬اللهم نعم‪ .‬فأعتنقه عمر وبكى‪ ،‬ثم ذهب به فأجلسه فيما‬
‫بينه وبين أبي بكر وقال‪ :‬الحمد لله الذي لم يمتني)‪(1‬حتى أراني في‬
‫أمة محمد من فعل به ما فعل بإبراهيم خليل الله‪.‬‬
‫فهذه كرامة لهذا العبد الصالح الذي التزم بحدود الله وأحب في‬
‫الله وأبغض في الله وتوكل على الله في كل شيء‪ ،‬وبذلك وفقه‬
‫والطمأنينة وأجرى الله على‬ ‫المن َ إن أ َ‬ ‫تعالى‪+ :‬أ َ‬ ‫الله في القول والعمل ورزقه‬
‫ف‬
‫و ٌ‬ ‫ْ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫و‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫يديه هذه الكرامة‪ ،‬قال‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫و‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫نو‬‫حَز ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬‫ول َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ع ْلي ْ ِ‬
‫ت‬‫ما ِ‬ ‫ل ل ِكل ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ة ل ت َب ْ ِ‬ ‫خَر ِ‬ ‫في ال ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ة ْالدّن َْيا َ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫في ال َ‬ ‫شَرى ِ‬ ‫الب ُ ْ‬
‫م" ]يونس‪.[64 -62 :‬‬ ‫ظي ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وُز ال َ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ه‬
‫الل ِ‬
‫العفو عند الصديق‪:‬‬
‫كان لبي بكر ب ُْعد نظر وبصيرة نافذة ونظر بعواقب المور‪،‬‬
‫ولذلك كان يستعمل الحزم في محله والعفو عندما تقتضي إليه‬
‫صا على جمع شتات القبائل تحت راية السلم‪،‬‬ ‫الحاجة‪ ،‬فقد كان حري ً‬
‫فكان من سياسته الحكيمة عفوه عن زعماء القبائل المعاندة بعد‬
‫رجوعهم إلى الحق‪ ،‬فإنه لما استخضع قبائل اليمن المرتدة وأراهم‬
‫سطوة دولة المسلمين وقوة شكيمتهم ومضاء عزيمتهم‪ ،‬واعترفت‬
‫القبائل بما أنكرت واستكانت لحكم السلم‪ ،‬وأطاعوا خليفة رسول‬
‫الله رأى أبو بكر أنه من تأليف القلوب ترك استعمال القوة مع‬
‫زعماء هذه القبائل‪ ،‬بل اللين هنا والرفق أوفق‪ ،‬فرفع العقوبة عنهم‬
‫وألن القول لهم ووظف نفوذهم في قبائلهم لصالح السلم‬
‫والمسلمين )‪ ،(2‬فعفا عن زلتهم وأحسن إليهم‪ ،‬فقد فعل ذلك مع‬
‫قيس بن يغوث المرادي وعمرو بن معد يكرب‪ ،‬فقد كانا من صناديد‬
‫العرب وفرسانهم وأكثرهم شجاعة‪ ،‬فعز على أبي بكر أن يخسرهما‬
‫وحرص على أن يستخلصهما للسلم ويستنقذهما من التردد بين‬
‫السلم والردة‪ ،‬فقد قال أبو بكر لعمرو‪ :‬أما تخزى أنك كل يوم‬
‫مهزوم أو مأسور؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬ل‬
‫)( أسد الغابة‪6247 ،6/304 :‬؛ الستيعاب‪.4/1758 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.256‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪180‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫جرم لفعلن ولن أعود‪ .‬فأطلقه الصديق ولم يرتد عمرو بعدها قط‬
‫بل أسلم وحسن إسلمه ونصره الله‪ ،‬وأصبح له بلء عظيم في‬
‫الفتوحات‪ .‬وندم قيس على ما فعل‪ ،‬فعفا عنه الصديق‪ ،‬وكان للعفو‬
‫عن هذين البطلين من أبطال عرب اليمن آثاره العميقة والعريضة‪،‬‬
‫فقد تألف به الصديق قلوب أقوام قد عادوا إلى السلم بعد الردة‬
‫خوًفا أو طمًعا‪ .‬وعفا عن الشعث بن قيس‪ ،‬وبذلك أسر الصديق‬
‫للسلم‬ ‫قلوبهم وامتلك أفئدتهم‪ ،‬فكانوا في مستقبل اليام نصًرا‬
‫وقوة للمسلمين وأصبحت لهم يد عظيمة في هذا المجال )‪.(1‬‬
‫وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ‪:‬‬
‫كان أبو بكر ‪ ‬حين بعث عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة‬
‫جل عكرمة فوافته بنو حنيفة فنكبوه‪،‬‬ ‫وأتبعه شرحبيل بن حسنة ع ّ‬
‫فكتب عكرمة إلى أبي بكر بالذي كان من أمره‪ ،‬فكتب إليه أبو بكر‪:‬‬
‫يا ابن أم عكرمة ل أريّنك ول تراني على حالها‪ ،‬ل ترجع فتوهن‬
‫الناس‪ ،‬امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة فقاتل معهما‬
‫ض أنت ثم تسير وتسّير جندك‬ ‫أهل عمان ومهرة‪ ،‬وإن شغل فام ِ‬
‫مررتم به‪ ،‬حتى تلتقوا أنتم والمهاجر ابن أبي أمية‬ ‫تستبرئون ممن‬
‫باليمن وحضرموت )‪.(2‬‬
‫ونلحظ أن الصديق حينما وجه الجيوش لقتال المرتدين وجه إلى‬
‫مسيلمة الكذاب جيشين أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل والثاني‬
‫بقيادة شرحبيل بن حسنة‪ ،‬وهذا دليل على خبرة أبي بكر الدقيقة‬
‫بدرجات القوة عند العداء ومقدار مقدرتهم على الصمود‪ ،‬وحينما‬
‫تعجل عكرمة لحرب مسيلمة فنكب هو وجيشه أرسل إليه أبو بكر‬
‫يقول له‪» :‬ل أرينك ول تراني على حالها ل ترجع فتوهن الناس«‬
‫وهذا أيضا من خبرة أبي بكر الحربية فإن الروح المعنوية لها أثر كبير‬
‫في نتائج المعارك‪ ،‬فإذا قدم هؤلء المنهزمون فقابلوا الجيش‬
‫المتوجه لقتال العداء‪ ,‬فإن نفوس أفراد الجيش سيكون فيها شيء‬
‫صا فيما إذا روى لهم المنهزمون شيًئا عن‬ ‫التخوف والضعف‪ ،‬خصو ً‬
‫ضخامة جيش العداء وقوته )‪ ،(3‬وقد كان البعد الحربي عند الصديق‬
‫حا باهًرا‪،‬‬‫واضحا فأرسل عكرمة وجيشه إلى مناطق أخرى وحقق نجا ً‬
‫فارتفعت معنويته وجيشه‪.‬‬
‫وعندما رجع معاذ من اليمن إلى المدينة واستقبله الصديق وكان‬
‫من عاداته مراقبة عماله ومحاسبتهم بعد فراغهم‪ ،‬قال الصديق‬
‫فقال‪(4:‬أحسابان‪ :‬حساب الله وحساب منكم؟‬ ‫لمعاذ‪ :‬ارفع حسابك‪،‬‬
‫والله ل ألي لكم عمل ً أب ً‬
‫دا ) ‪.‬‬
‫توحيد اليمن ووضوح السلم عند أهله وطاعتهم‬
‫للخليفة‪:‬‬
‫وبعد انتهاء حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية‬
‫عاصمتها المدينة المنورة‪ ،‬وقسم اليمن إلى أقسام إدارية ل وحدات‬
‫قبلية‪ ،‬فقد قسم إلى ثلثة أقسام إدارية‪ :‬صنعاء والجند وحضرموت‪،‬‬
‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.256‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الكامل في التاريخ‪ ،2/34 :‬البداية والنهاية‪.6/334 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫التاريخ السلمي للحميدي‪.9/83 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫عيون الخبار‪.1/125 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪181‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سا في الزعامة أو في التولية‪ ،‬ولم تعد‬ ‫ولم تعد العصبية القبلية أسا ً‬
‫القبيلة سوى وحدة عسكرية ل سياسية‪ ،‬وأصبحت المقاييس‬
‫المعتبرة هي المقاييس اليمانية؛ التقوى والخلص والعمل الصالح‬
‫)‪.(1‬‬
‫وتخلصت اليمن من بقايا الشرك ومن جميع مظاهره ‪-‬شرك في‬
‫كا أو إتياًنا‪،‬‬ ‫العتقاد أو شرك في القول أو شرك في الفعل‪ -‬تر ً‬
‫النبوة أرفع من أن يدعيها مدع عابث ويتخذها وسيلة إلى‬ ‫وأدركوا أن‬
‫غرضه ورغبته‪ (2).‬وأيقنوا أن اليمان ل يلتقي مع المطامع‪ ،‬وأن‬
‫واللم والحسرات‪،‬‬ ‫السلم ل يتفق مع الجاهلية‪ ،‬عرفوا ذلك بالدماء‬
‫الكثير )‪ ،(3‬ورجع من كان‬ ‫فقتل من كل الطرفين الكثير وتعلم منهم‬
‫قد ارتد إلى السلم يرجو التكفير عما بدر )‪ ،(4‬وأذن لهم بالجهاد في‬
‫عصر الخليفة عمر بن الخطاب ‪ ،‬وقد برزت قيادات يمنية إسلمية‬
‫في الفتوحات قد تربت وانصهرت في أحداث الردة‪ ،‬وكانوا من‬
‫الثابتين على السلم؛ كجرير ابن عبد الله البجلي‪ ،‬وذي الكلع‬
‫الحميري‪ ،‬ومسعود بن العكي‪ ،‬وجرير بن عبد الله الحميري وغيرهم‪،‬‬
‫وكان لهذه القيادات أدوار بارزة في الفتوحات السلمية وفي‬
‫عمران مدن جديدة في الكوفة وفي البصرة والعراق والفسطاط‬
‫ضا شخصيات يمنية عينت في اليمن وغير اليمن‬ ‫بمصر‪ ،‬وبرزت أي ً‬
‫وسعيد بن عبد الله العرج‪،‬‬ ‫الحميد‪،‬‬ ‫عبد‬ ‫حشك‬ ‫قضاة وولة مثل‪:‬‬
‫وشرحبيل بن السمط الكندي‪ ،‬وغيرهم )‪.(5‬‬
‫والتحم أهل اليمن بالدولة السلمية وبقيادتها سواء التي عليهم‬
‫مباشرة أو القيادة العامة »الخليفة« في المدينة‪ ،‬ولهذه حينما دعاهم‬
‫الخليفة للجهاد سارعوا طواعية ورغبة في الجهاد كما سيأتي تفصيله‬
‫بإذن الله تعالى‪ .‬لقد تربوا في أحداث الردة تربية كافية‬
‫ولذا ساد الهدوء والستقرار‬ ‫جعلتهم موصولين بالقيادة واثقين بها‪،‬‬
‫وأصبحوا خير مدد للسلم والمسلمين )‪.(6‬‬
‫‪ -2‬القضاء على فتنة طليحة السدي‪:‬‬
‫طليحة السدي هو المتنبئ الثالث من المتنبئة الذين ظهروا في‬
‫السلم أواخر عهد رسول الله × بالحياة‪ ،‬وطليحة هذا هو طليحة بن‬
‫خويلد بن نوفل بن نضلة السدي‪ ،‬ولقد قدم مع وفد قومه أسد على‬
‫رسول الله × في عام الوفود سنة تسع للهجرة فسلموا عليه‪،‬‬
‫وقالوا له ممتنين‪ :‬جئناك نشهد أن ل إله إل الله وأنك عبده ورسوله‬
‫ونحن َلمن وراءنا‪ ،‬فأنزل الله ‪-‬عز وجل‪ -‬قوله‪:‬‬ ‫ك أَ‬ ‫ولم تبعث إلينا‬
‫ل‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫م‬
‫ّ ِ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫نوا‬
‫ّ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫قل‬ ‫ُ‬ ‫موا‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫س‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عل َي‬ ‫ن َ‬‫مّنو َ‬ ‫‪+‬ي َ ُ‬
‫ن"‬ ‫قي‬ ‫د‬ ‫صا‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫لي‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫دا‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه ُ ّ‬
‫م‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫الل ُ‬
‫]الحجرات‪ ،[17 :‬ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ)‪ ،(7‬وعسكر في سميراء‬
‫)( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.290‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الخلفة الراشدة والخلفاء الراشدون‪ ،‬يوسف علي‪ :‬ص ‪.39‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( ظاهرة الردة‪ ،‬محمد بريغش‪ :‬ص ‪.159‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.289‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (5،‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.291‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫)‪ (2‬حروب الردة‪ ،‬لمحمد أحمد باشميل‪:‬‬ ‫)( أسد الغابة‪.3/95 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫ص ‪.79‬‬

‫‪182‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫»منطقة في بلدهم«‪ ،‬واتبعه العوام واستكشف أمره »وأول ما‬
‫صدر عنه وكان سبًبا لضلل الناس أنه كان مع بعض قومه في سفر‬
‫فأعوزهم الماء وغلب العطش على الناس فقال‪ :‬اركبوا أعلل »اسم‬
‫ل‪(1.‬ففعلوا فوجدوا الماء‪ ،‬فكان ذلك‬ ‫فرسه« واضربوا أميال ً تجدوا بل ً‬
‫سبب وقوع العراب في الفتنة« ) ‪.‬‬
‫ومن خزعبلته أنه رفع السجود من الصلة‪ ،‬وكان يزعم أن‬
‫الوحي يأتيه من السماء‪ ،‬ومن أسجاعه التي ادعى أنه يوحى له بها‬
‫قوله‪» :‬والحمام واليمام والصرد الصوام قد صمن قلبكم بأعوام‬
‫ليبلغن ملكنا العراق والشام« )‪ (2‬وغرته نفسه واشتد أمره وقوت‬
‫شوكته‪ ،‬فبعث رسول الله × ضرار بن الزور السدي لمقاتلته لما‬
‫سمع من أمره‪ ،‬ولكن ضرار لم يكن له به قَِبل؛ وذلك لتعاظم قوته‬
‫سيما بعد أن آمن به الحليفان‪:‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫مع الزمن‪ ،‬ول‬
‫أسد وغطفان‪.‬‬
‫وتقول عنه دائرة المعارف السلمية‪ :‬ويروي عنه أنه كان يرتجل‬
‫الشعر ويخطب عفو الساعة في ميدان القتال‪ ...‬ويبدو أنه كان مثال ً‬
‫حقا للزعيم القبلي الجاهلي‪ .‬وقد اجتمعت فيه صفات العراف‬
‫والشاعر والخطيب والمقاتل‪ (4).‬ويشم من هذا النص رائحة المدح‬
‫المبطن لطليحة من قبل هذه الموسوعة الشهيرة‪ ،‬فهو في نظرها‬
‫الزعيم القبلي المثال‪ ،‬يرتجل الشعر والخطابة‪ ،‬وهما أهم ما كان‬
‫يحرص عليه العربي آنذاك‪ ،‬ول يستغرب هذا التجاه من هذه‬
‫الموسوعة التي جعلت من اللمز في السلم ديدنها‪ ،‬سواء أعرفت‬
‫أن طليحة عاد فأسلم وحسن إسلمه أم لم تعرف‪.‬‬
‫وتوفي رسول الله ولم يحسم أمر طليحة )‪ (5‬وتولى الخلفة‬
‫الصديق ‪ ،‬وعقد اللوية للجيوش والمراء للقضاء على المرتدين‪،‬‬
‫شا بقيادة خالد بن‬ ‫وكان من ضمنهم طليحة‪ ،‬ووجه إليه الصديق جي ً‬
‫الوليد‪.‬‬
‫روى المام أحمد‪ … :‬أن أبا بكر الصديق لما عقد لخالد بن الوليد‬
‫على قتال أهل الردة قال‪ :‬سمعت رسول الله يقول‪ :‬ن ِْعم عبد الله‬
‫وأخو العشيرة خالد بن الوليد‪ ،‬سيف من سيوف الله‪ ،‬سله الله على‬
‫الكفار والمنافقين«)‪ ،(6‬ولما توجه خالد من ذي القصة وفارقه‬
‫الصديق‪ ،‬واعده أن سيلقاه من ناحية خيبر بمن معه من المراء‪،‬‬
‫وأظهروا ذلك ليرعبوا العراب‪ ،‬وأمره أن يذهب أول ً إلى طليحة‬
‫السدي‪ ،‬ثم يذهب بعده إلى بني تميم‪ ،‬وكان طليحة بن خويلد في‬
‫قومه بني أسد وفي غطفان‪ ،‬وانضم إليهم بنو عبس وذبيان‪ ،‬وبعث‬
‫ما منهم‬ ‫جديلة والغوث من طيء يستدعيهم إليه‪ ،‬فبعثوا أقوا ً‬ ‫إلى بني َ‬
‫بين أيديهم ليلحقوهم على أثرهم سريًعا‪ .‬وكان الصديق قد بعث‬
‫عدي بن حاتم قبل خالد بن الوليد وقال له‪ :‬أدرك قومك ل يلحقوا‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (4‬أسد الغابة‪.3/95 :‬‬ ‫البداية والنهاية‪.6/323 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫دائرة المعارف السلمية مادة »طليحة(‪ ،‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪.78‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.78‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫مسند أحمد‪ ،1/173 :‬وقال الشيخ أحمد شاكر‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪183‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بطليحة فيكون دمارهم‪ ،‬فذهب عدي إلى قومه بني طيء فأمرهم‬
‫أن يبايعوا الصديق )‪ ،(1‬وأن يراجعوا أمر الله فقالوا‪ :‬ل نبايع أبا‬
‫صيل )‪ (2‬أبدا ‪-‬يعنون أبا بكر ‪ -‬فقال‪ :‬والله ليأتينكم جيشه فل‬ ‫ف ِ‬
‫ال َ‬
‫يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنه أبو الفحل الكبر‪ ،‬ولم يزل عدي‬
‫يفتل لهم في الذروة والغارب حتى لنوا‪ ،‬وجاء خالد في الجنود‬
‫وعلى مقدمة النصار الذين معه‪ :‬ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬وبعث‬
‫بين يديه ثابت بن أقرم وعكاشة بن محصن طليعة‪ ،‬فتلقاهما حيال‬
‫‪-‬ابن أخي طليحة‪ -‬فقتله‪ ،‬فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخوه سلمة‪،‬‬
‫فلما وجدوا ثابًتا وعكاشة تبارزوا وحمل طليحة على عكاشة فقتله‬
‫وقتل سلمة ثابت بن أقرم‪ ،‬وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين‪،‬‬
‫فشق ذلك على المسلمين‪ ،‬ومال خالد إلى بني طيء فخرج إليه‬
‫عدي بن حاتم فقال‪ :‬أنظرني ثلثة‪ ،‬فإنهم يخشون إن تابعوك أن‬
‫يقتل طليحة من سار إليه منهم‪ ،‬وهذا أحب إليك من أن يعجلهم إلى‬
‫النار‪ ،‬فلما كان بعد ثلث جاءه عدي في خمسمائة مقاتل ممن راجع‬
‫الحق‪ ،‬فانضافوا إلى جيش خالد‪ ،‬وقصد خالد بني جديلة فقال له‪ :‬يا‬
‫)‪(3‬‬
‫ما حتى آتيهم فلعل الله أن ينقذهم كما أنقذ الغوث‬ ‫خالد أجلني أيا ً‬
‫فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى تابعوه فجاء بإسلمهم ولحق‬
‫بالمسلمين منهم ألف راكب‪ ،‬فكان عدي خير مولود وأعظمه بركة‬
‫على قومه ‪.(4) ‬‬
‫خة والقضاء على بني أسد‪:‬‬ ‫أ‪ -‬معركة ب َُزا َ‬
‫ثم سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى وعَّبي جيشه هنالك‪ ،‬والتقى‬
‫مع طليحة السدي بمكان يقال له‪» :‬بزاخة« ووفقت أحياء كثيرة من‬
‫العراب ينظرون على من تكون الدائرة‪ ،‬وجاء طليحة فيمن معه من‬
‫قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم‪ ،‬وقد حضر معه عيينة بن‬
‫حصن في سبعمائة من قومه بنى فزارة واصطف الناس وجلس‬
‫فا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم‪،‬‬ ‫طليحة ملت ً‬
‫وجعل عيينة يقاتل حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو‬
‫ملتف في كسائه وقال له‪ :‬أجاءك جبريل؟ فيقول‪ :‬ل‪ ،‬فيرجع فيقاتل‪.‬‬
‫ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه مثل ذلك‪ ،‬فلما كان في‬
‫الثالثة قال له‪ :‬هل جاءك جبريل؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فما قال لك؟ قال‪:‬‬
‫قال لي‪ :‬إن لك رحا كرحاه وحديًثا ل تنساه‪ ،‬قال‪ :‬يقول عيينة‪ :‬أظن‬
‫أنه قد علم الله سيكون لك حديث ل تنساه‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا بني فزارة‬
‫م وانهزم الناس عن طليحة‪ ،‬فلما جاءه المسلمون‬ ‫انصرفوا وانهز َ‬
‫ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوار على بعير له‪،‬‬
‫انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه‪ ،‬وقد قتل الله طائفة ممن كان‬ ‫ثم‬
‫معه )‪.(5‬‬
‫وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر‬
‫)( ترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ ،‬د‪ :‬محمد بن صامل‬ ‫‪1‬‬

‫السلمي‪:‬ص ‪.101‬‬
‫)( الفصيل‪ :‬ولد الناقة‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪ :‬تهذيب محمد السلمي‪ :‬ص ‪.102‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/322 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.2/322 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪184‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره فكتب إليه‪ :‬ليزدك ما أنعم الله‬
‫خي ًواتق الله في أمرك‪ ،‬فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم‬ ‫به را‬
‫في أمرك ول تلن ول تظفر بأحد من المشركين قتل من‬ ‫ج‬
‫ِ ّ‬ ‫د‬
‫محسنون‪.‬‬
‫صعد عنها ويصوب‬ ‫المسلمين إل نكلت به‪ ،‬فأقام خالد ببزاخة شهر ي ُ َ‬
‫ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق‪ ،‬فجعل يتردد في طلب هؤلء‬
‫يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين‬ ‫شه ً‬ ‫را‬
‫ارتدوا‪ ،‬فمنهم من حرقه بالنار ومنهم من رضخه بالحجارة‪ ،‬ومنهم من‬
‫شواهق الجبال‪ ،‬كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من‬ ‫رمى به من‬
‫مرتدة العرب )‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم‪:‬‬
‫لما قدم وفد بزاخة –أسد وغطفان‪ -‬على أبي بكر يسألونه الصلح‬
‫خيرهم أبو بكر بين حرب مجلية أو خطة مخزية‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا خليفة‬
‫رسول الله‪ ،‬أما الحرب المجلية فقد عرفناها فما الخطة المخزية؟‬
‫ما تتبعون أذناب البل‬ ‫قال‪ :‬تؤخذ منكم الحلقة والك َُراع وتتركون أقوا ً‬
‫ري الله خليفة نبيه والمؤمنين أمًرا يعذرونكم به‪ ،‬وتودون ما‬ ‫حتى ي ُ ِ‬
‫أصبتم منا ول نودي ما أصبنا منكم‪ ،‬وتشهدون أن قتلنا في الجنة‬
‫وأن قتلكم في النار‪ ،،‬وتدون قتلنا ول ندى قتلكم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬أما‬
‫أمر( الله ل ديات لهم‪ ،‬فامتنع‬ ‫قولك تدون قتلنا فإن قتلنا قتلوا على‬
‫عمر‪ ،‬وقال عمر في الثاني‪ :‬نعم ما رأيت)‪. 2‬‬
‫زمل‪:‬‬ ‫ج‪ -‬قصة أم ِ‬
‫كان قد اجتمع طائفة كثيرة من الضلل من أصحاب طليحة من‬
‫يقال لها‪ :‬أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة‬ ‫بني غطفان إلى امرأة‬
‫فر )‪ (3‬وكانت من سيدات العرب كأمها أم قرفة‬ ‫في مكان يسمى ظ َ َ‬
‫)‪ ،(4‬وكان يضرب بأمها المثل في الشرف لكثرة أولدها وعزة قبيلتها‬
‫وبيتها‪ ،‬فلما اجتمعوا إليها ذمرتهم لقتال خالد فهاجوا لذلك‪ ،‬وناشب‬
‫إليهم آخرون من بني سليم وطيء وهوازن وأسد فصاروا جي ً‬
‫شا‬
‫فا‪ ،‬وتفحل أمر هذه المرأة فلما سمع بهم خالد ابن الوليد سار‬ ‫كثي ً‬
‫دا وهي راكبة على جمل أمها الذي كان يقال‬ ‫إليهم واقتتلوا قتال ً شدي ً‬
‫لعزها‪ ،‬فهزمهم خالد‬ ‫له‪» :‬من نخسه فله مائة من البل« وذلك‬
‫وعقر جملها وقتلها‪ ،‬وبعث بالفتح إلى الصديق )‪.(5‬‬
‫د‪ -‬دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫ثقة الصديق بالله‪ ،‬وخبرته الحربية‪:‬‬
‫قول الصديق لعدي بن حاتم‪ :‬أدرك قومك ل يلحقوا بطليحة‬
‫فيكون دمارهم‪ .‬فيه مثال على قوة يقين أبي بكر ‪ ‬وثقته بنصر‬
‫الله‪ ،‬فقد حكم على نتيجة المعركة مع طيء قبل الدخول فيها‪ ،‬وفي‬
‫دا ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬بأن يبدأ بحرب قبيلة طيء مع‬
‫أمر أبي بكر خال ً‬

‫نفس المصدر السابق‪.2/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البداية والنهاية‪.2/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ظفر‪ :‬اسم موضع قرب الحوأب في طريق البصرة إلى المدينة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/323 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.6/323 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪185‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أنها أبعد من تجمع طليحة خطة حربية ناجحة‪ ،‬وذلك ليحول دون‬
‫انضمام طيء إلى طليحة‪ ،‬وليضطر من انضم إليها منهم إلى التخلي‬
‫عنه للدفاع عن قبيلتهم‪ ،‬ثم في إظهار أبي بكر أنه خارج جهة خيبر‬
‫دا ببلد طيء تخطيط حربي بارع وذلك لرهاب تلك القبيلة‬ ‫ليلقي خال ً‬
‫والقبائل المجاورة‪ ،‬وتظهر براعة الصديق في اختيار الرجال أن‬
‫التي لها ما بعدها أبا سليمان خالد بن الوليد الذي‬‫)‪(1‬‬
‫اختار لهذه المهمة‬
‫لم تنتكس له راية‪.‬‬
‫وفي خطاب الصديق لخالد بعد انتهاء معركة بزاخة فوائد منها‪:‬‬
‫الدعاء لخالد الذي يفهم منه الثناء عليه بإحسان‪ ،‬كما يتضمن أمره‬
‫بتقوى الله وذلك فيه العصمة من الوقوع في الزلل واتباع الهوى‪،‬‬
‫كما أمره بالجد والحزم مع العداء؛ لنهم ما زالوا في فورة‬
‫طغيانهم‪ ،‬وهذا موقف قوى يدل على حزم الصديق ‪ ‬وبصيرته‬
‫النافذة‪ ،‬فهناك قبائل ل تزال متحيرة ومترددة بين الحق والباطل‪،‬‬
‫والهدى والضلل‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬واليمان والكفر‪ ،‬بحاجة إلى تأديب‬
‫وردع حتى يزول طغيانهم‪ ،‬فالموقف من أبي بكر يقتضي أعلى‬
‫درجات القوة والحزم والسرعة‪ ،‬فكانت منه القوة في محل القوة‪،‬‬
‫كما كان منه اللين في محل اللين‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫موضع الندى‬ ‫ووضع الندى في موضع‬
‫السيف للندى‬
‫وفي موقف الصديق في عدم قبول استسلم هؤلء المحاربين‬
‫وعدم قبول الصلح إل بحرب مجلية أو خطة مخزية إظهار عزة‬
‫السلم وهيبة دولته‪ ،‬فكانت شروطه في الصلح قوية وكان من‬
‫أشدها عليهم مصادرة أسلحتهم وخيولهم‪ ،‬وكان هذا الشرط مؤقًتا‬
‫بظهور صدق توبتهم وخضوعهم لدولة السلم‪ ،‬وقد كان ل بد منه‬
‫عدم‪(3‬عودتهم إلى التمرد‬ ‫لضمان‬
‫مرة أخرى ) ‪.‬‬
‫نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها‬
‫عليهم‪:‬‬
‫قومه طئ فدعاهم للرجوع للسلم فقالوا‪ :‬ل‬ ‫قدم عدي على‬
‫دا )‪ ،(4‬فقال‪ :‬لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم‬ ‫نبايع أبا الفصيل أب ً‬
‫ولتكننه بالفحل الكبر فشأنكم به‪ ،‬فقالوا له‪ :‬فاستقبل الجيش‬
‫فنهنهه )‪ (5‬عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا‪ ،‬فإنا إن خالفنا‬
‫دا وهو‬‫طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم‪ ،‬فاستقبل عدي خال ً‬
‫بالسنح فقال‪ :‬يا خالد أمسك عني ثلًثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل‬
‫تضرب بهم عدوك‪ ،‬وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار وتتشاغل‬

‫التاريخ السلمي للحميدي‪.63 – 9/60 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.65 ،9/64 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.9/66 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫يريدون بذلك أبا بكر ‪ ،‬والبكر والفصيل‪ :‬اسمان لولد الناقة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أي‪ :‬ادفعه وكفه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪186‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بهم‪ ،‬ففعل‪ ،‬فعاد عدي بإسلمهم إلى خالد‪ (1).‬فهذا موقف استطاع‬
‫فيه عدي أن يقنع قبيلته بفرعيها بني الغوث وبني جديلة بالتخلي عن‬
‫معسكر طليحة والنضمام إلى جيش خالد بن الوليد‪ ،‬وهذا تحول‬
‫مهم في تقرير نتائج معركة بزاخة الحاسمة‪ ،‬فهذا موقف عظيم‬
‫يسجل لعدي ‪ ‬إلى جانب موقفه الول حينما قدم على الصديق‬
‫بصدقات قومه‪ ،‬وكان المسلمون بأمس الحاجة إلى المال آنذاك‪،‬‬
‫ولقد كان إسلمه من أول يوم إسلم رجل العلم والفهم‪ ،‬فكان عن‬
‫قا من انتصار السلم والمسلمين في‬ ‫قناعة واختيار‪ ،‬وكان واث ً‬
‫النهاية‪ ،‬كما بشره بذلك النبي × يوم إسلمه‪ ،‬فكان ليمانه القوي‬
‫أثر في إقناع قومه في العدول عما توجهوا إليه من مناصرة أعداء‬
‫السلم‪ ،‬ولم تكن قناعتهم إلى حد الحياد والنتظار حتى يروا لمن‬
‫ألف وخمسمائة إلى جيش المسلمين‪،‬‬ ‫تكون الدائرة‪ ،‬بل انضم منهم‬
‫مما يدل على مبلغ أثره فيهم‪ (2).‬وجاء في رواية‪ :‬أن قومه طلبوا من‬
‫سا لن بني أسد حلفاؤهم‪ ،‬فقال لهم خالد‪ :‬والله‬ ‫خالد بأن يقاتلوا قي ً‬
‫ما قيس بأوهن الشوكتين‪ ،‬اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم‪ ،‬فقال‬
‫عدي‪ :‬لو ترك هذا الدين أسرتي الدنى فالدنى من قومي لجاهدتهم‬
‫عليه‪ ،‬فأنا أمتنع من جهاد بني أسد لحلفهم! ل لعمر الله ل أفعل‪.‬‬
‫فقال له خالد‪ :‬إن جهاد الفريقين جميًعا جهاد‪ ،‬ل نخالف رأي‬
‫ض)‪(3‬إلى أحد الفريقين وامض بهم إلى القوم الذين هم‬ ‫أصحابك‪ ،‬ام ِ‬
‫لقتالهم أنشط‪.‬‬
‫وفي إنكار عدي على قومه دليل على قوة إيمانه وغزارة علمه؛‬
‫بعيدين عنه في النسب‪ ،‬وتبرأ من‬ ‫حيث والى أولياء الله وإن كانوا‬
‫أعداء الله وإن كانوا من أقاربه‪ (4).‬كما تظهر خبرة خالد بن الوليد‬
‫الحربية حينما أمر عدًيا بأن ل يخالف قومه في تمنعهن في مواجهة‬
‫وأن يوجههم إلى الوجه الجهادي الذي يكونون فيه‬ ‫حلفائهم بني أسد‪،‬‬
‫أنشط على القتال )‪.(5‬‬
‫لقد كان الدور الذي قام به عدي في دعوة قبيلته إلى النضمام‬
‫ما‪ ،‬فكان دخول طئ في جيش خالد أول‬ ‫إلى جيش المسلمين عظي ً‬
‫وهن أصيب به العداء؛ لن قبيلة طئ من أقوى قبائل جزيرة العرب‪،‬‬
‫وممن كانت القبائل تحسب لها حساًبا وتنظر إليها باعتبارها على‬
‫درجة من القوة بحيث كانت مرهوبة الجانب عزيزة في بلدها‪،‬‬
‫تتقرب إليها جاراتها بالتحالف معها‪ .‬لقد التقى الجمعان بعد أن دب‬
‫الوهن في نفوس العداء‪ ،‬فكتب الله النصر لجيش المسلمين‪،‬‬
‫فسرعان ما طفقوا يقتلون ويأسرون حتى أبادوا جميع أعدائهم‬
‫وهرب قائدهم طليحة على فرسه‪ ،‬ولم يسلم منهم إل من استسلم‬
‫أو هرب‪ ،‬وبعد هذه الوقعة انتشر الضعف في نفوس المرتدين من‬
‫قبائل الجزيرة فأصبح الجيش السلمي ل يجد عناء في هزيمة من‬
‫تجمع منهم في أماكن أخرى )‪.(6‬‬

‫)‪ (2‬المصدر السابق‪.9/61 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/57 :‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬

‫)‪ (5) ,(4‬التاريخ السلمي‪.9/61 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/75 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫‪5‬‬
‫)( التاريخ السلمي‪:‬ـ ‪.9/61‬‬

‫)( الحرب النفسية من منظور إسلمي‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪.144 ،2/143 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪187‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أسباب هزيمة طليحة بن خويلد السدي‪:‬‬
‫كانت هناك مجموعة من السباب ساهمت في هزيمة طليحة‬
‫السدي‪ ،‬منها‪:‬‬
‫إن المسلمين كانوا يقاتلون مدفوعين بعقيدة راسخة ويقين‬
‫بنصر الله وحب في الشهادة‪ ،‬فكان حب الموت في سبيل الله‬
‫حا معنو ًيا فتا ًكا‪ ،‬فكان خالد يرسل للمرتدين هذه الكلمات‬
‫تعالى سل ً‬
‫)‪(1‬‬
‫القلئل‪ :‬لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‪ .‬ولقد‬
‫عرف العدو نفسه من خلل تعامله مع قوات المسلمين في‬
‫المعارك التي خاضوها معه صدقهم في تنفيذ هذا المبدأ‪ ،‬فقد سأل‬
‫طليحة السدي قومه لما انهزموا في موقعة بزاخة مع جيش خالد‬
‫بشيء كبير من الحنق والتعجب‪» :‬ويلكم ما يهزمكم؟« فقال رجل‬
‫منهم‪ :‬أنا أخبركم‪ ،‬إنه ليس رجل »منا« إل وهو يحب أن يموت قبله‬
‫صاحبه‪ ،‬وإنا نلقي أقوا ًما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه )‪.(2‬‬
‫كان لنضمام طئ أثره في تقوية المسلمين وإضعاف أعدائهم‪،‬‬
‫كما كان مقتل الصحابيين عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم قد زاد‬
‫من غيظ المسلمين ودفعهم إلى قتال أعدائهم‪ ،‬كما كان لتورية أبي‬
‫بكر الصديق تأثير على طئ في عدم التعاون مع حلفائها وبقائها في‬
‫مواضعها الصلية‪ ،‬وأما التورية المشار إليها فإن الصديق أوهم الناس‬
‫أنه متوجه إلى خيبر بدل ً من الجهة الصلية التي حددت للجيش‪ ،‬كما‬
‫سا كما أرادت شجعها على‬ ‫كان لفساح المجال لطئ كي تقاتل قي ً‬
‫الستقلل في الحرب؛ إذ لو أصر خالد على أن يقاتلوا حلفاءهم من‬
‫بني أسد كما أراد عدي بن حاتم لقصرت طئ في حربها أيما تقصير‬
‫)‪ ،(3‬وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫من نتائج معركة بزاخة‪:‬‬
‫القضاء على قوة أحد الدعياء القوياء وعودة فريق كبير من‬
‫العرب إلى حظيرة السلم‪ ،‬فقد أقبلت بنو عامر بعد هزيمة بزاخة‬
‫يقولون‪ :‬ندخل فيما خرجنا منه‪ ،‬فبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل‬
‫بزاخة من أسد وغطفان وطئ قبلهم‪ ،‬وأعطوه بأيديهم على السلم‪،‬‬
‫ولم يقبل أحد من أسد ول غطفان ول هوازن ول سليم ول طيء إل‬
‫أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعدوا على أهل السلم في حال‬
‫ردتهم‪ ،،‬فأتوه بهم… فمثل خالد ابن الوليد بالذين عدوا على السلم‬
‫فأحرقهم بالنيران‪ ،‬ورضخهم بالحجارة ورمى بهم في الجبال‬
‫ونكسهم في البار‪ ،‬وخرقهم بالنبال‪ ،‬وبعث بقرة بن هيبرة والسارى‪،‬‬
‫وكتب إلى أبي بكر‪ :‬إن بني عامرة أقبلت بعد إعراض ودخلت في‬
‫السلم بعد تربص‪ ،‬وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيًئا‬
‫حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين فقتلتهم كل قتلة وبعثت إليك‬
‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.289‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الخمسين للديار بكري‪ ،2/207 :‬نقل عن حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.289‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( خالد بن الوليد‪ ،‬شيت خطاب‪ :‬ص ‪ ،97 ،96‬نقل عن حروب الردة‪ :‬أحمد‬ ‫‪3‬‬

‫سعيد‪ :‬ص ‪.124‬‬

‫‪188‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫بقرة وأصحابه‪.‬‬
‫وكان عيينة بن حصن من بين السرى فأمر خالد بشد وثاقه‬
‫تنكيل به‪ ،‬وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه إزراء عليه وإرهاًبا‬
‫لسواه‪ ،‬فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة‬
‫مستهزئين‪ ،‬وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين‪» :‬أي عدو الله‪،‬‬
‫ارتددت عن السلم!!« فيقول‪ :‬والله ما كنت آمنت قط‪ .‬وجيء به‬
‫إلى خليفة رسول الله ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها‪ ،‬وأمر‬
‫حا واعتذر عما كان منه‬ ‫فأعلن عيينة توبة نصو ً‬ ‫بفك يديه ثم استتابه‪،‬‬
‫وأسلم وحسن إسلمه )‪.(2‬‬
‫ومضى طليحة حتى نزل كلب)‪ (3‬على النقع فأسلم‪ ،‬ولم يزل‬
‫ما في كلب حتى مات أبو بكر‪ .‬وكان إسلمه هنالك حين بلغه أن‬ ‫مقي ً‬
‫دا وغطفان وعامًرا قد أسلموا‪ ،‬ثم خرج نحو مكة معتمرا في‬ ‫أس ً‬
‫هذا طليحة‪،‬‬ ‫بكر‪:‬‬ ‫لبي‬ ‫فقيل‬ ‫المدينة‬ ‫بجنبات‬ ‫ومر‬ ‫بكر‬ ‫أبي‬ ‫إمارة‬
‫فقال‪ :‬ما أصنع به‪ ،‬خلوا عنه فقد هداه الله للسلم‪ (4) .‬وقد جاء عند‬
‫ضا وذهب إلى‬ ‫ابن كثير‪ :‬وأما طليحة فإنه راجع السلم بعد ذلك أي ً‬
‫مكة معتمًرا أيام الصديق‪ ،‬واستحيا أن يواجهه مدة حياته‪ ،‬وقد منع‬
‫الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحتياط لمر المة؛ لن من كان له‬
‫سوابق في الضلل والكيد للمسلمين ل يؤمن أن يكون رجوعه من‬
‫باب الستسلم لقوة المسلمين‪ ،‬فأبو بكر ‪ ‬من الئمة الذين‬
‫يرسمون للناس خط سيرهم‪ ،‬ويتأسى بهم الناس بأقوالهم وأفعالهم‪،‬‬
‫الحتياط‪(5‬لما فيه صالح المة وإن كان في ذلك‬ ‫فهو لذلك يأخذ بمبدأ‬
‫وضع من شأن بعض الفراد‪ ).‬وهذا درس عظيم تتعلمه المة في‬
‫عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في اللحاد ثم ظهر منهم‬
‫العود إلى اللتزام بالدين‪.‬‬
‫إن وضع الثقة الكاملة بهؤلء وإسناد العمال القيادية لهم قد جر‬
‫على المة أحياًنا ويلت كثيرة‪ ،‬وأوصلها إلى مآزق خطيرة‪ ،‬على أن‬
‫أخذ الحذر من مثل هؤلء ل يعني اتهامهم في دينهم ول نزع الثقة‬
‫بالكلية‪ ،‬وهذا معلم من سياسة الصديق في التعامل مع أمثال‬ ‫منهم‬
‫هؤلء )‪.(6‬‬
‫إلى عمر للبيعة حين استخلف‬ ‫هذا وقد حسن إسلم طليحة وأتى‬
‫وقال له عمر‪ :‬أنت قاتل عكاشة وثابت )‪ ،(7‬والله ل أحبك أبدا‪ ،‬فقال‬
‫يا أمير المؤمنين‪ ،‬ما تهتم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهّني‬
‫بأيديهما! فبايعه عمر ثم قال له‪ :‬يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال‪:‬‬
‫نفختان بالكير‪ ،‬ثم رجع إلى دار قومه فأقام بها حتى خرج‬ ‫نفخة أو‬
‫حا ولم يغمض )‪ (9‬عليه فيه وقال‬ ‫إلى العراق)‪ ،(8‬وقد كان إسلمه صحي ً‬
‫)‪ (2‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.87‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/82 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬التاريخ السلمي‪.9/95 :‬‬ ‫أي‪ :‬نزل في قبيلة كلب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫التاريخ السلمي‪.9/76 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.9/76 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم رضي الله عنهما‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫التاريخ السلمي‪ ،9/59 :‬تاريخ الطبري‪.4/81 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫يطعن فيه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫‪189‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫يعتذر ويذكر ما كان منه‪:‬‬


‫وعكاشة الغنمي ثم ابن معبد‬ ‫ندمت على ما كان من قتل‬
‫ثابت‬
‫رجوعي عن السلم فعل‬ ‫وأعظم من هاتين عندي‬
‫التعمد‬ ‫مصيبة‬
‫ما كنت غير مطّرد‬
‫دا وقِد ْ ً‬
‫طري ً‬ ‫مة‬
‫ج ّ‬
‫وتركي بلدي والحوادث َ‬
‫ث‬
‫ط بما أحدثت من حد ٍ‬
‫ومع ٍ‬ ‫فهل يقبل الصديق أنى‬
‫يدي‬ ‫مراجع‬
‫شهادة حق لست فيها بملحد‬ ‫وأني من بعد الضللة شاهد‬
‫)‪(1‬‬
‫ذليل وأن الدين دين محمد‬ ‫بأن إله الناس ربي وأنني‬
‫هـ‪ -‬قصة الفجاءة‪:‬‬
‫واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير بن خفاف من‬
‫بني سليم‪ ،‬قاله ابن إسحاق‪ .‬وقد كان الصديق حرق الفجاءة بالبقيع‬
‫في المدينة‪ ،‬وكان سببه أنه قدم عليه فزعم أنه أسلم‪ ،‬وسأل منه أن‬
‫شا‪ ،‬فلما سار‬‫شا يقاتل به أهل الردة فجهز معه جي ً‬ ‫يجهز معه جي ً‬
‫جعل ل يمر بمسلم ول مرتد إل قتله وأخذ ماله‪ ،‬فلما سمع الصديق‬
‫شا فرده‪،‬‬ ‫بعث وراءه جي ً‬
‫البقيع‪(3)،‬فجمعت يداه إلى قفاه‬ ‫إلى‬ ‫به‬ ‫بعث‬ ‫منه‬ ‫فلما أمكنه الله‬
‫وألقي في النار فحرقه وهو مقموط)‪ ، (2‬وكان الذي ألقى القبض‬
‫عليه طريفة بن حاجز‪ ،‬وهذا يظهر)‪(4‬لنا دور مسلمي سليم في محاربة‬
‫المفسدين في الرض والمرتدين ‪.‬‬
‫يكون‪(5‬ارتكب في‬ ‫وهذه العقوبة بسبب غدر الفجاءة‪ ،‬أو لنه قد‬
‫ضحاياه من المسلمين جريمة الحراق مرة أو مرات ) ‪.‬‬
‫و‪ -‬ما قاله حسان فيمن قال ل نطيع أبا الفصيل‬
‫)يعنون أبا بكر(‪:‬‬
‫أن الفصيل عليه ليس بعار‬ ‫ما البكر إل كالفصيل وقد‬
‫ترى‬
‫ركبان مكة معشر النصار‬ ‫ج الحجيج لبيته‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫وما‬ ‫إنا‬
‫)‪(7‬‬
‫اليسار‬ ‫فري جماجمكم بكل مهّند‬
‫نَ ْ‬
‫)‪(9‬‬
‫دار‬
‫يحمي الطروقة بازل ه ّ‬ ‫)‪(8‬‬
‫حتى ت ُك َّنوه بفحل هنيدة‬

‫)( ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.86‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬ترتيب وتهذيب البداية‬ ‫)( أي‪ :‬شدت يداه ورجله كهيئة المهاد للطفل‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والنهاية‪ :‬ص ‪.106‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.185‬‬ ‫)( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.27‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( القدار‪ :‬الجزار‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( المبادئ‪ :‬الظواهر‪ ،‬وهي مفاصل الجزور وما عليها من اللحم‪ ،‬جمع بدء‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫اليسار‪ :‬جمع يسر وهو الجزور‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -3‬سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي‪:‬‬
‫كانت بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة؛ منهم من ارتد ومنع‬
‫الزكاة‪ ،‬ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق‪ ،‬ومنهم من‬
‫توقف لينظر في أمره‪ ،‬فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنت الحارث‬
‫بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة وهي من نصارى العرب‪،‬‬
‫وقد ادعت النبوة ومعها جنود من قومها ومن التف بهم‪ ،‬وقد عزموا‬
‫على غزو أبي بكر الصديق‪ ،‬فلما مرت ببلد بني تميم دعتهم إلى‬
‫أمرها فاستجاب لها عامتهم‪ ،‬وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة‬
‫التميمي وعطارد بن حاجب وجماعة من سادات أمراء بني تميم‪،‬‬
‫وتخلف آخرون منهم عنها‪ ،‬ثم اصطلحوا على أن ل حرب بينهم‪ ،‬إل‬
‫أن مالك بن نويرة لما وادعها ثناها عن عزمها وحرضها على بني‬
‫يربوع‪ ،‬ثم اتفق الجميع على قتال الناس وقالوا‪ :‬بمن نبدأ؟ فقالت‬
‫فيما‪(1‬تسجعه‪ :‬أعدوا الركاب‪ ،‬واستعدوا للنهاب‪ ،‬ثم أغيروا على‬ ‫لهم‬
‫الرباب ) فليس دونها حجاب‪ .‬ثم استطاع بنو تميم إقناعهم بقصد‬
‫اليمامة لتأخذها من مسيلمة بن حبيب الكذاب فهابه قومها‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫إنه قد استفحل أمره وعظم‪ ،‬فقالت لهم فيما تقوله‪ :‬عليكم باليمامة‬
‫دفوا دفيف الحمامة‪ ،‬فإنها غزوة صرامة ل تلحقكم بعدها ملمة‪،‬‬
‫فعملوا لحرب مسيلمة فلما سمع بمسيرها إليه خافها على بلده‪،‬‬
‫وذلك أنه مشغول بمقاتلة ثمامة بن أثال‪ ،‬وقد ساعده عكرمة بن أبي‬
‫جهل بجنود المسلمين وهم نازلون ببعض بلده ينتظرون قدوم خالد‪،‬‬
‫فبعث إليها يستأمنها ويضمن لها أن يعطيها نصف الرض الذي كان‬
‫لقريش لو عدلت‪ ،‬فقد رده الله عليك فحباك به‪ ،‬وراسلها ليجتمع بها‬
‫في طائفة من قومه‪ ،‬فركب إليها في أربعين من قومه‪ ،‬وجاء إليها‬
‫فاجتمعا في خيمة‪ ،‬فلما خل بها وعرض عليها ما عرض من نصف‬
‫الرض وقبلت ذلك‪ ،‬قال مسيلمة‪ :‬سمع الله لمن سمع‪ ،‬وأطعمه‬
‫بالخير إذا طمع‪ ،‬ول يزال أمره في كل ما يسر مجتمع‪ ،‬ثم قال لها‪:‬‬
‫قالت‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟‬
‫فقالوا‪ :‬أ َ‬
‫صد ََقك؟‬
‫ْ‬ ‫وأقامت عنده ثلثة أيام ثم رجعت إلى قومها‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬لم يصدقني شيًئا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه قبيح على مثلك أن تتزوج بغير‬
‫ي مؤذنك فبعثته‬ ‫داًقا‪ ،‬فقال‪ :‬أرسلي إل ّ‬
‫ص َ‬
‫داق‪ ،‬فبعثت إليه تسأله َ‬‫ص َ‬
‫َ‬
‫إليه وهو شيث بن ربعي الرياحي‪ ،‬فقال‪ :‬ناد في قومك أن مسيلمة‬
‫ل الله قد وضع عنكم صلتين مما أتاكم به محمد‬ ‫بن حبيب رسو َ‬
‫)يعني صلة الفجر وصلة العشاء الخرة( فكان هذا صداقها عليه‪ ،‬ثم‬
‫انثنت سجاح راجعة إلى بلدها‪ ،‬وذلك حين بلغها دنو خالد من أرض‬
‫اليمامة فكرت راجعة إلى الجزيرة بعدما قبضت من مسيلمة نصف‬
‫فأقامت في قومها بني تغلب إلى زمان معاوية فأجلهم‬ ‫)‪(2‬‬
‫خراج أرضه‪،‬‬
‫منها عام الجماعة‪.‬‬
‫كان مالك قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة‪ ،‬فلما‬
‫ما‬ ‫اتصلت بمسيلمة ثم ترحلت إلى بلدها ندم مالك بن نويرة على‬
‫كان من أمره وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له‪ :‬البطاح )‪،(3‬‬

‫)‪ (8‬ديوان الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.137‬‬ ‫)( هنيدة‪ :‬اسم لمئة ناقة من البل‪.‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪9‬‬

‫)‪ (2‬البداية والنهاية‪.6/326 :‬‬ ‫)( الرباب‪ :‬فرع من بني تميم‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( البطاح‪ :‬ماء من ديار بني أسد بأرض نجد‪ (2) .‬البداية والنهاية‪.6/327 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪191‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فقصده خالد بجنوده وتأخرت عنه النصار وقالوا‪ :‬إنا قد قضينا ما‬
‫أمرنا به الصديق‪ ،‬فقال لهم خالد‪ :‬إن هذا أمر ل بد من فعله وفرصة‬
‫ي ترد‬
‫ل بد من انتهازها‪ ،‬وإنه لم يأتني فيها كتاب وأنا المير وإل ّ‬
‫الخبار‪ ،‬ولست بالذي أجبركم على المسير وأنا قاصد البطاح‪ ،‬فسار‬
‫يومين ثم لحقه رسول النصار يطلبون منه النتظار فلحقوا به‪ ،‬فلما‬
‫وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة بث خالد السرايا في البطاح‬
‫يدعون الناس‪ ،‬فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة‪ ،‬وبذلوا‬
‫الزكوات إل ما كان من مالك بن نويرة‪ ،‬فإنه متحير في أمره متنح‬
‫عن الناس‪ ،‬فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه‪ ،‬واختلفت‬
‫السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي النصاري أنهم أقاموا‬
‫الصلة‪ ،‬وقالوا آخرون‪ :‬إنهم لم يؤذنوا ول صلوا‪ ،‬فيقال‪ :‬إن السارى‬
‫باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد‪ ،‬فنادى منادي خالد‪ :‬أن أدفئوا‬
‫أسراكم‪ ،‬فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الزور‬
‫مالك بن نويرة‪ ،‬فلما سمع خالد الواعية خرج وقد فرغوا منهم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إذا أراد الله أمًرا أصابه‪ ،‬ويقال‪ :‬بل استدعى خالد مالك بن‬
‫نويرة فأّنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة‬
‫وقال‪ :‬ألم تعلم أنها قرينة الصلة؟ فقال مالك‪ :‬إن صاحبكم كان‬
‫يزعم ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه‪،‬‬
‫فضربت عنقه‪ .‬وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاول في‬
‫ذلك‪ ،‬حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق وتكلم عمر مع أبي‬
‫قا‪ ،‬فقال أبو‬ ‫قتادة في خالد وقال للصديق‪ :‬اعزله فإن في سيفه ره ً‬
‫فا سله الله على الكفار‪ .‬وجاء متمم بن نويرة‬ ‫بكر‪ :‬ل أشيم سي ً‬
‫وينشد‪(1‬الصديق ما‬ ‫يساعده‬ ‫وعمر‬ ‫دا‬
‫ً‬ ‫خال‬ ‫الصديق‬ ‫فجعل يشكو إلى‬
‫قال في أخيه من المراثي‪ ،‬فوداه الصديق من عنده ) ‪.‬‬
‫دروس وعبر وفوائد‪:‬‬
‫أ‪ -‬من ثبت على السلم من بني تميم‪:‬‬
‫لم يرتد عن السلم كل قبائل أو كل أفراد أو كل رؤساء بني‬
‫تميم‪ ،‬كما حاول أن يصور ذلك بعض من المؤرخين المحدثين‪،‬‬
‫والحقيقة أنه لقوة إسلم وثبات بعض بطون وأفراد ورؤساء بني‬
‫تميم‪ ،‬فقد استطاع مالك بن نويرة إقناع سجاح التميمية بقتالهم قبل‬
‫قتالها أبا بكر الصديق‪ ،‬وعندما واجهت مسلمي تميم تلقت على‬
‫أيديهم هزيمة نكراء فعدلت بعدها عن الذهاب إلى المدينة‪ ،‬وتوجهت‬
‫إلى اليمامة‪ ،‬وقد تضافرت الروايات التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة‬
‫التي ذكرناها )‪ ،(2‬بل إن التدقيق في الروايات يبين أن من ثبت على‬
‫السلم من بني تميم كان أكثر من المترددين والمرتدين‪ ،‬وتعكس‬
‫بعض الروايات دور قبيلة الرباب بصفة خاصة في الوقوف في وجه‬
‫المرتدين‪ ،‬ولذلك استحقت من سجاح وجماعتها الحرب‪.‬‬
‫وتشير بعض الروايات إلى المواجهة العظيمة التي وقعت بين‬
‫الرباب وسجاح وانتهت أخيًرا بالصلح عندما فشلت سجاح في‬
‫إخضاع مسلمي تميم‪ ،‬وإلى ندم قيس بن عاصم على متابعة‬
‫المرتدين‪ ،‬وسوقه صدقات قومه إلى المدينة وكانت الدائرة على‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (1‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.44‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪192‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سجاح وجماعتها )‪.(1‬‬
‫ب‪-‬خالد ومقتل مالك بن نويرة‪:‬‬
‫اختلفت الراء في مقتل مالك بن نويرة اختلًفا كثيًرا‪ :‬أقتل‬
‫ما؟ وقام الدكتور على‬ ‫قا؛ أي أكافًرا قتل أم مسل ً‬ ‫ما أم مستح ً‬ ‫مظلو ً‬
‫العتوم بتحقيق هذه المسألة في كتابه »حركة الردة« وتعرض الشيخ‬
‫كتابه »نقد علمي لكتاب السلم‬ ‫)‪(2‬‬
‫محمد الطاهر بن عاشور في‬
‫محمد زاهد الكوثري‬ ‫الشيخ‬ ‫وقام‬ ‫‪،‬‬ ‫القضية‬ ‫وأصول الحكم« لهذه‬
‫بالدفاع عن خالد في كتابه )مقالت الكوثري( )‪ ،(3‬وغير ذلك من‬
‫الباحثين‪ ،‬واخترت من بين من بحث هذا الموضوع ما ذهب إليه‬
‫قا علمًيا متميًزا‪ ،‬واهتم‬
‫الدكتور على العتوم؛ لنه حقق المسألة تحقي ً‬
‫ما لم أجده ‪-‬على حسب اطلعي‪ -‬عند أحد من‬ ‫بأحداث الردة اهتما ً‬
‫الباحثين المعاصرين‪ ،‬وخرج بنتيجة أوافقه عليها‪ :‬أن الذي أردى مالكا‬
‫كبره وتردده؛ فقد بقي للجاهلية في نفسه نصيب وإل لما ماطل هذه‬
‫المماطلة في التبعية للقائم بأمر السلم بعد رسول الله ×‪ ،‬وفي‬
‫تأدية حق بيت مال المسلمين المتمثل بالزكاة‪ .‬وفي تصوري أن‬
‫الرجل كان يحرص على زعامته ويناكف ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬بعض‬
‫أقربائه من زعماء بني تميم الذين وضعوا عصا الطاعة للدولة‬
‫السلمية‪ ،‬وأدوا ما عليهم لها من واجبات‪ ،‬وقد كانت أفعاله وأقواله‬
‫على السواء تؤيد هذا التصور‪ ،‬فارتداده ووقوفه بجانب سجاح‬
‫وتفريقه إبل الصدقة على قومه‪ ،‬بل ومنعهم من أدائها لبي بكر‬
‫وعدم إصاخته لنصائح أقربائه المسلمين في تمرده‪ ،‬كل ذلك يدينه‬
‫ويجعل منه رجل أقرب إلى الكفر منه إلى السلم‪.‬‬
‫ولو لم يكن مما يحتج به على مالك إل منعه للزكاة لكفى ذلك‬
‫غا لدانته‪ ،‬وهذا المنع مؤكد عند القدمين؛ فقد جاء في‬ ‫مسو ً‬
‫دا‬
‫ً‬ ‫خال‬ ‫أن‬ ‫عليه‪:‬‬ ‫والمجمع‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫سلم‬ ‫لبن‬ ‫الشعراء«‬ ‫فحول‬ ‫»طبقات‬
‫ده‪ ،‬وإن مالكا سمح بالصلة والتوى بالزكاة‪ (4) .‬جاء في‬ ‫حاوره ورا ّ‬
‫»شرح النووي لصحيح مسلم« قوله عن المرتدين‪ :‬كان في ضمن‬
‫هؤلء من يسمح بالزكاة ول يمنعها إل أن رؤساءهم صدوهم عن‬
‫ذلك‪ ،‬وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع‪ ،‬فإنهم قد جمعوا‬
‫صدقاتهم وأرادوا)‪(5‬أن يبعثوها إلى أبي بكر ‪ ‬فمنعهم مالك بن نويرة‬
‫من ذلك وفّرقها ‪.‬‬
‫ج‪ -‬زواج خالد بأم تميم‪:‬‬
‫أم تميم هي ليلى بنت سنان المنهال زوج مالك بن نويرة‪ ،‬وهذا‬
‫الزواج حدث حوله جدل كثير‪ ،‬واتهم من لهم أغراض خالدا ً بعدة تهم ل‬
‫تصح ول تثبت أمام البحث العلمي النزيه‪.‬‬
‫دا بأنه تزوج أم تميم فور‬ ‫وخلصة القصة‪ :‬فهناك من اتهم خال ً‬
‫)‪ (2‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.48‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نقد علمي لكتاب السلم وأصول الحكم‪ :‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مقالت الكوثري‪ :‬ص ‪ ،312‬نقل عن )الخلفاء الراشدون( للذهبي‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق محمود شاكر‪ :‬ص ‪.172‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( شرح النووي على صحيح مسلم‪.1/203 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪193‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وقوعها في يده لعدم صبره على جمالها ولهواه السابق فيها‪ ،‬وبذلك‬
‫حا‪ ،‬فهذا القول مستحدث ل يعتد‬ ‫يكون زواجه منها –حاشا لله – سفا ً‬
‫به )‪(1‬؛ إذ خلت المصادر القديمة من الشارة إليه‪ ،‬بل هي على خلفه‬
‫في نصوصها الصريحة‪ ،‬يذكر الماوردي أن الذي جعل خالد يقوم على‬
‫قتل مالك هو منعه للصدقة التي استحل بها دمه‪ ،‬وبذلك فسد عقد‬
‫المناكحة بينه وبين أم تميم )‪ ،(2‬وحكم نساء المرتدين إذا لحقن بدار‬
‫)‪(3‬‬
‫الحرب أن يسبين ول يقتلن‪ ،‬كما يشير إلى ذلك المام السرخسي‪.‬‬
‫فلما صارت أم تميم في السبي اصطفاها خالد لنفسه‪ ،‬فلما حلت‬
‫)‪(4‬‬
‫بنى بها‪.‬‬
‫دا‬
‫ويعلق الشيخ أحمد شاكر على هذه المسألة بقوله‪ :‬إن خال ً‬
‫أخذها هي وابنها ملك يمين بوصفها سبية؛ إذ أن السبية ل عدة عليها‪،‬‬
‫وإنما يحرم حرمة قطعية أن يقربها مالكها إن كانت حامل ً قبل أن‬
‫تضع حملها‪ ،‬وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة ثم دخل‬
‫بها‪ ،‬وهو عمل مشروع جائز ل مغمز فيه ول مطعن إل أن أعداءه‬
‫والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم فانتهزوها‪ ،‬وذهبوا‬
‫دا قتله من أجل امرأته‪.‬‬ ‫يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم وأن خال ً‬
‫)‪ (5‬وقد اتهم خالد بأنه في زواجه هذا خالف تقاليد العرب‪ ،‬فقد قال‬
‫ك بن نويرة وبنى بامرأته في ميدان القتال على‬ ‫العقاد‪ :‬قتل خالد مال َ‬
‫غير ما تألفه العرب في جاهلية وإسلم‪ ،‬وعلى غير ما يألفه‬
‫المسلمون وتأمر به الشريعة‪ (6).‬فهذا القول بعيد عن الصحة؛ فقد‬
‫كان يحصل كثيًرا في حياة العرب قبل السلم إثر حروبهم‬
‫وانتصاراتهم على أعدائهم أن يتزوجوا من السبايا‪ ،‬وكانوا يفخرون‬
‫بذلك‪ ،‬ولذلك كثر فيهم أولد السبايا‪ ،‬وهذا حاتم الطائي يقول‪:‬‬
‫ولكن خطبناها بأسيافنا قسرا‬ ‫وماأنكحونا طائعين بناتهم‬
‫إذا لقي البطال يطعنهم‬ ‫وكائن ترى فينا من ابن سبية‬
‫شزرا‬
‫)‪(7‬‬
‫حمرا‬ ‫ويأخذ رايات الطعان بكفه‬
‫حا وسلك إليه‬‫وأما من الناحية الشرعية فقد أتى خالد أمرًا مبا ً‬
‫سبيل مشروعة أتاه من هو أفضل منه‪ ،‬فإذا كان قد أخذ عليه زواجه‬
‫إبان الحرب أو في أعقابها‪ ،‬فإن رسول الله × تزوج بجويرية بنت‬
‫الحارث المصطلقية إثر غزوة المريسيع‪ ،‬وقد كانت في سبايا بني‬
‫المصطلق فقضى عنها كتابتها وتزوجها‪ ،‬وكان بها طابع يمن وبركة‬
‫على قومها؛ إذ أعتق لهذا الزواج مائة رجل من أسراهم لنهم‬
‫)( ما قاله الجنرال الباكستاني أكرم‪ :‬ففي نفس الليلة تزوجها خالد‪ :‬ص ‪198‬‬ ‫‪1‬‬

‫كتابه )سيف الله خالد(‪.‬‬


‫)( الحكام السلطانية‪ :‬ص ‪ ،47‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪.229‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المبسوط‪ ،10/111 :‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪.229‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/326 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬عبقرية الصديق‪ :‬ص ‪.70‬‬ ‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.230‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( العقد الفريد لبن عبد ربه‪ (4) .7/123 :‬سيرة ابن هشام‪.295 -2/290 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪194‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أصبحوا أصهاًرا لرسول)‪(1‬الله ×‪ ،‬وكان من آثاره المباركة كذلك إسلم‬
‫أبيها الحارث بن ضرار‪ .‬كما أنه عليه الصلة والسلم تزوج بصفية‬
‫حيي‪(2‬بن أخطب إثر غزوة خيبر وبنى بها في خيبر أو ببعض‬ ‫)‬
‫بنت‬
‫رسول الله × السوة الحسنة فقد توارى‬ ‫)‪(3‬‬
‫كان‬ ‫وإذا‬ ‫‪،‬‬ ‫الطريق‬
‫العتاب وانقطع الملم‪.‬‬
‫ودفاع الدكتور محمد حسين هيكل عن خالد اتبع فيه منهجية غير‬
‫مقبولة؛ لنه ينبغي لنا أن ل نغض الطرف عن مخالفات خالد على‬
‫حساب السلم‪ ،‬فخالد وغيره محكوم بالشرع الذي يعلو ول يعلى‬
‫عليه‪ ،‬وإن تنزيه الشخاص ل يساوي تشويه المنهج بأية حال‪ ،‬فقد‬
‫قال الدكتور هيكل‪ :‬وما التزوج من امرأة على خلف تقاليد العرب‬
‫بل ما الدخول بها قبل أن يتم تطهيرها إذا وقع ذلك من فاتح غزا‬
‫فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن‬
‫من‬
‫)‪(4‬‬
‫التزمت في تطبيق التشريع ل ينبغي أن يتناول النوابغ العظماء‬
‫أمثال خالد‪ ،‬وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر‪.‬‬
‫ورد الشيخ أحمد شاكر بهذا الخصوص فقال‪ :‬لشد ما أخشى أن‬
‫يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون وغيره من ملوك أوربا في‬
‫مباذلهم وإسفافهم‪ ،‬وبما كتب الكاتبون من الفرنج في العتذار عنهم‬
‫لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمة وبما أسدوا إلى أممهم من فتوح‬
‫وأياد‪ ،‬حتى يظن بالمسلمين الولين أنهم أمثال هؤلء فيقول‪ :‬إن التزمت‬
‫يتناول النوابغ العظماء من أمثال خالد‪،‬‬ ‫في تطبيق التشريع ل يجب أن‬
‫وهذا قول يهدم كل دين وخلق )‪.(5‬‬
‫د‪ -‬دعم الصديق للقيادة الميدانية‪:‬‬
‫كان بعض رجال من جيش خالد قد شهدوا أن القوم أذنوا حين‬
‫سمعوا أذان المسلمين‪ ،‬وأنهم بذلك قد حقنوا دماءهم‪ ،‬وأن قتلهم ل‬
‫يحل‪ ،‬ومن أولئك القوم أبو قتادة ‪ ،‬فأكبر القوم وزاد ذلك عنده أنه‬
‫رأى خالد بن الوليد قد تزوج امرأة مالك بن نويرة ففارق أبو قتادة‬
‫دا فيما خالف فيه‪ ،‬فرأى‬ ‫دا‪ ،‬وقدم على أبي بكر ليشكو إليه خال ً‬ ‫خال ً‬
‫أبو بكر أن فراق أبي قتادة لخالد خطأ ل ينبغي أن يرخص فيه له ول‬
‫لغيره؛ لنه يكون سبًبا للفشل والجيش في أرض العدو‪ ،‬فاشتد على‬
‫قتادة ورده إلى خالد‪ ،‬ولم يرض منه إل أن يعود فينخرط تحت‬ ‫أبي‬
‫لوائه )‪ ،(6‬وعمل أبي بكر من أحكم السياسات الحربية‪.‬‬
‫وقد قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى براءة‬
‫ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة )‪ ،(7‬وأبو بكر في هذا الشأن‬
‫أكثر اطلعا على حقائق المور‪ ،‬وأبعد نظًرا في تصريفها من بقية‬
‫الصحابة؛ لنه الخليفة وإليه تصل الخبار‪ ،‬كما أنه أرجح إيماًنا منهم‪،‬‬
‫وهو في معاملته لخالد يحتذي على سنن رسول الله؛ إذ أنه عليه‬
‫دا عما وله في الوقت الذي كان يقع‬ ‫الصلة والسلم لم يعزل خال ً‬
‫‪1‬‬

‫)‪ (6‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.237‬‬ ‫)( سيرة ابن هشام‪.2/239 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.232‬‬ ‫)( الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪.140‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.231‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( الخلفة والخلفاء الراشدون للبهنساوي‪ :‬ص ‪ .112‬الخلفاء الراشدون للنجار‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫ص ‪.85‬‬

‫‪195‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ويقول‪»(1:‬ل تؤذوا خالدا؛‬ ‫منه ما قد ل يرتاح له‪ ،‬وكان يعذره إذ يعتذر‪،‬‬
‫فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار« ) ‪.‬‬
‫دا‬
‫إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به؛ لنه كان شدي ً‬
‫ليعتدل به أمره ويخلط الشدة باللين‪ ،‬فإن مجرد اللين يفسده‬
‫ومجرد الشدة تفسده‪ ،‬فكان يقوم باستشارة عمر وباستنابة خالد‪،‬‬
‫وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله ×‪ ،‬ولهذا اشتد في‬
‫قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره‪ ،‬فجعل الله فيه من‬
‫الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك‪ ،‬وأما عمر فكان شديدا في نفسه‬
‫فكان من كماله –في خلفته‪ -‬استعانته باللين ليعتدل أمره؛ فكان‬
‫يستعين بأبي عبيدة بن الجراح‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وأبي عبيد‬
‫الثقفي‪ ،‬والنعمان بن مقرن‪ ،‬وسعيد بن عامر‪ ،‬وأمثال هؤلء من أهل‬
‫دا وعبادة من خالد بن الوليد‬ ‫الصلح والزهد الذين هم أعظم زه ً‬
‫الخلفة‪ -‬ما لم يكن‬ ‫–بعد‬ ‫الرأفة‬ ‫وأمثاله‪ ،‬وقد جعل الله في عمر من‬
‫فيه قبل ذلك تكميل ً له حتى صار أمير المؤمنين )‪.(2‬‬
‫سا عن ذلك فقال‪ …» :‬كان أبو بكر‬ ‫ما نفي ً‬
‫وقد ذكر ابن تيمية كل ً‬
‫دا في حرب أهل الردة‬ ‫خليفة رسول الله × ما زال يستعمل خال ً‬
‫وفي فتوح العراق والشام‪ ،‬وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل‪ ،‬وقد‬
‫ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عاتبه‬
‫عليها؛ لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه‪ ،‬وأن غيره لم يكن‬
‫يقوم مقامه؛ لن المتولي الكبير إذا كان خلقه يميل إلى اللين‬
‫فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة‪ ،‬وإذا كان خلقه يميل‬
‫إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل المر‪،‬‬
‫ولهذا كان أبو بكر الصديق ‪ ‬يؤثر استنابة خالد‪ ،‬وكان عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ‬يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح ‪‬؛ لن‬
‫دا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان ليًنا كأبي بكر‪،‬‬ ‫خال ً‬
‫وكان الصلح لكل منهما أن يولي من وله ليكون أمره معتد ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ويكون بذلك من خلفاء رسول الله الذي هو معتدل ))‪ ،((34‬وحتى قال‬
‫النبي ×‪» :‬أنا نبي الرحمة‪ ،‬أنا نبي الملحمة« ‪.‬‬
‫‪ -4‬ردة أهل عمان والبحرين‪:‬‬
‫أ‪ -‬ردة أهل عمان‪:‬‬
‫كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة السلم‪ ،‬وبعث إليهم رسول‬
‫الله × عمرو بن العاص‪ ،‬ثم بعد وفاته × نبغ فيهم رجل يقال له‪:‬‬
‫»ذو التاج« لقيط بن)‪(5‬مالك الزدي‪ ،‬وكان يسامي في الجاهلية‬
‫الجهلة من أهل عمان‪،‬‬ ‫الجلندي ملك عمان ‪ ،‬فادعى النبوة وتابعه‬
‫جل َْندي )‪ (6‬وألجأهما إلى‬
‫فتغلب عليها‪ ،‬وعليها جيفر وعباد ابنا ال ُ‬
‫أطرافها من نواحي الجبال والبحر فبعث جيفر إلى الصديق فأخبره‬
‫الخبر واستجاشه‪ ،‬وبعث إليه الصديق بأميرين وهما‪ :‬حذيفة بن‬
‫محصن الغلفاني من حمير وعرفجة إلى مهرة‪ ،‬وأمرهما أن يجتمعا‬
‫ويتفقا ويبدآ بعمان وحذيفة هو المير‪ ،‬فإذا ساروا إلى بلد مهرة‬
‫فتح الباري‪.7/101 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ :‬ص ‪.194 ،193‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬مسند أحمد‪.407 – 404 -4/395 :‬‬ ‫الفتاوى‪.144 /28 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/334 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/334 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪196‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فعرفجة المير‪ ،‬وأرسل عكرمة بن أبي جهل مدًدا لهم وكتب‬
‫الصديق إلى عرفجة وحذيفة أن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغ‬
‫من السير إلى عمان أو المقام بها‪ ،‬فساروا فلما اقتربا من عمان‬
‫راسلوا جيفًرا وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش‪ ،‬فخرج في جموعه‬
‫فعسكر بمكان يقال له‪ :‬دبار وهي مصر تلك البلد وسوقها العظمى‪،‬‬
‫وجعل الذراري والموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم‪ ،‬واجتمع‬
‫جيفر وعباد بمكان يقال له صحار‪ ،‬فعسكروا فيه وبعثا إلى أمراء‬
‫الصديق فقدموا على المسلمين‪ ،‬فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتال ً‬
‫ن الله بكرمه ولطفه‬ ‫دا وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا‪ ،‬فم ّ‬
‫شدي ً‬
‫أن بعث إليهم مدًدا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس‬
‫في جماعة من المراء‪ ،‬فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر‪ ،‬فوّلى‬
‫المشركون مدبرين وركب المسلمون ظهورهم‪ ،‬فقتلوا منهم عشرة‬
‫آلف مقاتل وسبوا الذراري وأخذوا الموال والسوق بحذافيرها‪،‬‬
‫وبعثوا بالخمس إلى الصديق مع أحد المراء وهو عرفجة )‪ ،(1‬وكان‬
‫السبب في هذا النصر العظيم وقوف الجماعة السلمية في عمان‬
‫مع أميرها جيفر وأخيه عباد ضد ذي التاج لقيط بن مالك الزدي‪،‬‬
‫واعتصامها بالماكن الحصينة‪ ،‬حتى أدركتها جيوش المسلمين‪ ،‬كما‬
‫كان لمواقف بني جذيد وبني ناجية وبني عبد القيس في ثبوتهم على‬
‫ودخولهم في المعركة في الوقت المناسب أثر في نصر‬ ‫السلم‬
‫المسلمين )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬ردة أهل اليمن‪:‬‬
‫أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي × العلء بن الحضرمي‬
‫إلى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوي العبدي‪ ،‬وقد أسلم هو وقومه‬
‫وأقام فيهم السلم والعدل‪ ،‬وقد كان رد المنذر بن ساوي‪ :‬قد‬
‫نظرت في هذا المر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الخرة‪،‬‬
‫ونظرت في دينكم فوجدته للخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين‬
‫فيه أمنية الحياة وراحة الموت‪ ،‬ولقد عجبت أمس ممن يقبله‪،‬‬
‫وعجبت اليوم ممن يرده‪ ،‬وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم)‪.(3‬‬
‫فلما توفي رسول الله × وتوفي المنذر بعده بمدة)‪(4‬قصيرة ارتد‬
‫أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان الغرور ‪.‬‬
‫أين هي أرض البحرين؟‬
‫أرض البحرين هي شقة ضيقة من الرض تتشاطئ مع هجر خليج‬
‫العرب‪ ،‬وتمتد من القطيف إلى عمان والصحراء في بعض أنحائها‪،‬‬
‫تكاد تتصل بماء الخليج وهي تتصل باليمامة في جزئها العلى ل‬
‫يفصل بينهما إل سلسلة من التلل يهون لنخفاضها اجتيازها )‪ .(5‬فهي‬
‫إذا تشمل إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/335 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.60 ،59‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التراتيب الدارية‪.1/19 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( حروب الردة‪ ،‬أحمد سعيد‪ :‬ص ‪.146‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (4) ,‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.147‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪197‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العربية السعودية عدا الكويت)‪.(1‬‬
‫هذا وقد كان لمن ثبت على السلم في البحرين دور كبير في‬
‫إخماد هذه الفتنة‪ ،‬وكان للجارود بن المعلى دور متميز‪ ،‬فقد صحب‬
‫رسول الله × وتفقه في الدين‪ ،‬ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى‬
‫السلم فأجابوه كلهم‪ ،‬فلم يلبث إل يسيًرا حتى مات النبي ×‪،‬‬
‫دا نبيا لما مات‪ ،‬وارتدوا‪ ،‬وبلغه ذلك‬
‫فقالت عبد القيس‪ :‬لو كان محم ً‬
‫فبعث فيهم فجمعهم‪ ،‬ثم قام فخطبهم‪ .‬فقال‪ :‬يا معشر عبد القيس‬
‫إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه ول تجيبوني إن لم‬
‫تعلموا‪ .‬قالوا‪ :‬سل عما بدا لك‪ .‬قال‪ :‬تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما‬
‫مضى؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬تعلمونه أو ترون؟ قالوا‪ :‬ل بل نعلمه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫دا × مات كما ماتوا‪ .‬وأنا‬ ‫فما فعلوا؟ قالوا‪ :‬ماتوا‪ ،‬قال‪ :‬فإن محم ً‬
‫دا عبده ورسوله‪ ،‬قالوا‪ :‬ونحن نشهد‬ ‫أشهد أن ل إله إل الله وأن محم ً‬
‫دا عبده ورسوله‪ ،‬وأنك سيدنا وأفضلنا‪،‬‬ ‫أن ل إله إل الله وأن محم ً‬
‫وثبتوا على إسلمهم‪ .‬فهذا موقف يذكر للجارود بن المعلى ‪ ،‬فقد‬
‫ثبت الله به قومه عبد القيس فثبتوا على إسلمهم‪ ،‬وقد ألهمه الله‬
‫تعالى بضرب المثل بالنبياء السابقين عليهم السلم‪ ،‬حيث كان‬
‫نهايتهم الموت‪ ،‬فكذلك رسول الله ×‪ ،‬فاقتنع قومه وزال عنهم‬
‫وأثر ذلك في توجيه‬ ‫الشك‪ ،‬وهذا مما يبين مزية التفقه في الدين‬
‫العتقاد والسلوك‪ ،‬وخاصة عند حدوث الفتن )‪.(2‬‬
‫جواثا( على السلم‪ ،‬وكانت أول قرية أقامت‬ ‫وقد بقيت بلدة ) ُ‬
‫الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس‪،‬‬
‫وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم القوات وجاعوا‬
‫دا حتى فرج الله عنهم‪ ،‬وقد قال رجل منهم يقال له‬ ‫عا شدي ً‬
‫جو ً‬
‫عبد الله بن حذف‪ ،‬أحد بني بكر بن كلب وقد اشتد الجوع‪:‬‬
‫وفتيان المدينة أجمعينا‬ ‫أل أبلغ أبا بكر رسول ً‬
‫قعود في جواثا محصرينا‬ ‫لكم إلى قوم كرام‬
‫ُ‬ ‫فهل‬
‫شعاع الشمس ي ُْعشي‬ ‫كأن دماءهم في كل فج‬
‫الناظرينا‬
‫)‪(3‬‬
‫وجدنا النصر للمتوكلينا‬ ‫توكلنا على الرحمن إنا‬
‫فهذا موقف يذكر في الثبات على الحق لهؤلء المسلمين الذين‬
‫حصرهم العداء في )جواثا( حتى كادوا يهلكون من الجوع‪ ،‬وفي البيات‬
‫المذكورة في الرواية التي قالها عبد الله بن حذف دليل على عمق‬
‫إيمان هؤلء المحصورين وقوة توكلهم على الله تعالى وثقتهم بنصره )‪.(4‬‬
‫بعث الصديق بجيش إلى البحرين بقيادة العلء بن الحضرمي‪،‬‬
‫فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من‬
‫‪1‬‬
‫)( نفس المصدر السابق‪:‬ـ ص ‪.147‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.9/97 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/332 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.9/98 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪198‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫قومه بني سحيم‪ ،‬واستنهض المسلمين في تلك النحاء‪ ،‬وأمد‬
‫الجارود بن المعلى العلَء برجال من قومه فاجتمع إليه جيش كبير‬
‫قاتل به المرتدين ونصر الله به المؤمنين‪ ،‬وكان ممن آزر العلء لقمع‬
‫قيس بن عاصم المنقري وعقيق بن المنذر والمثنى بن‬ ‫فتنة البحرين‬
‫حارثة الشيباني )‪.(1‬‬
‫كرامة للعلء بن الحضرمي‪:‬‬
‫كان العلء من سادات الصحابة العلماء العُّباد مجابي الدعوة‪،‬‬
‫اتفق له في هذه الغزوة أنه نزل منزل ً )‪ ،(2‬فلم يستقر الناس على‬
‫الرض حتى نفرت البل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم‬
‫وشرابهم‪ ،‬وبقوا على الرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم وذلك ليل ً‬
‫ولم يقدروا منها على بعير واحد‪ ،‬فركب الناس من الهم والغم ما ل‬
‫يحد ول يوصف‪ ،‬وجعل بعضهم يوصي إلى بعض‪ ،‬فنادى العلء فاجتمع‬
‫الناس إليه‪ ،‬فقال‪ :‬أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل‬
‫الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فأبشروا فو الله ل يخذل‬
‫الله من كان في مثل حالكم‪ ،‬ونودي لصلة الصبح حين طلع الفجر‬
‫فصلي الناس‪ ،‬فلما قضي الصلة جثا على ركبتيه وجثا الناس ونصب‬
‫في الدعاء ورفع يديه‪ ،‬وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وجعل‬
‫الناس ينظرون إلى سراب الشمس يلمع مرة بعد أخرى‪ ،‬وهو يجتهد‬
‫في الدعاء ويكرره‪ ،‬فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم‬
‫ما من الماء القراح‪ ،‬فمشى ومشى الناس إليه فشربوا‬ ‫غديًرا عظي ً‬
‫عليها‪،‬‬ ‫بما‬ ‫فج‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫البل‬ ‫أقبلت‬ ‫حتى‬ ‫النهار‬ ‫تعالى‬ ‫فما‬ ‫واغتسلوا‪،‬‬
‫بعد‪ (4‬ن ََهل )‪،(3‬‬ ‫علل‬ ‫البل‬ ‫فسقوا‬ ‫س ْ‬
‫لكا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أمتعتهم‬ ‫من‬ ‫الناس‬ ‫لم يفقد‬
‫فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية ) ‪.‬‬
‫هزيمة المرتدين‪:‬‬
‫قا‬
‫ثم لما اقترب من جيوش المرتدة –وقد حشدوا وجمعوا خل ً‬
‫ما‪ -‬نزل ونزلوا وباتوا مجاورين في المنازل‪ ،‬فبينما المسلمون‬ ‫عظي ً‬
‫في الليل إذ سمع العلء أصواتا عالية في جيش المرتدين‪ ،‬فقال‪ :‬من‬
‫رجل يكشف لنا خبر هؤلء؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم‬
‫سكارى ل يعقلون من الشراب فرجع إليه فأخبره‪ ،‬فركب‬ ‫فوجدهم ُ‬
‫ما‬
‫ً‬ ‫عظي‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫قت‬ ‫فقتلوهم‬ ‫أولئك‬ ‫فكبسوا‬ ‫معه‬ ‫والجيش‬ ‫فورهم‬ ‫العلء من‬
‫وقل من هرب منهم‪ ،‬واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم‬
‫وأثقالهم‪ ،‬فكانت غنيمة عظيمة جسيمة‪ ،‬وكان الحطم بن ضبيعة أخو‬
‫شا حين اقتحم‬ ‫ما فقام ده ً‬
‫بني قيس ابن ثعلبة من سادات القوم نائ ً‬
‫المسلمون عليهم‪ ،‬فركب جواده فانقطع ركابه فجعل يقول‪ :‬من‬
‫يصلح لي ركابي؟ فجاء رجل من المسلمين في الليل فقال‪ :‬أنا‬
‫أصلحها لك ارفع رجلك فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه‪،‬‬
‫ي فقال‪ :‬ل أفعل‪ ،‬فوقع صريًعا‪ ،‬وكلما مر به أحد‬ ‫فقال‪ :‬أجهز عل ّ‬
‫يسأله أن يقتله فيأبى‪ ،‬حتى مر به قيس بن عاصم فقال له‪ :‬أنا‬
‫)( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.63‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في طبقات ابن سعد‪ ،4/363 :‬حدد منزله بالدهناء وهي صحراء رملية بين‬ ‫‪2‬‬

‫نجد والحساء‪.‬‬
‫)( العلل‪ :‬الشربة الثانية‪ ،‬والنهل‪ :‬شرب البل أول ما ترد الماء‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/333 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪199‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الحطم فاقتلني فقتله‪ ،‬فلما وجد رجله مقطوعة ندم على قتله‪،‬‬
‫وقال‪ :‬واسوأتاه لو أعلم ما به لم أحركه‪ ،‬ثم ركب المسلمون في‬
‫آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق‪ ،‬وذهب من فر منه أو‬
‫أكثر إلى دارين )‪ ،(1‬ركبوا إليها السفن‪ ،‬ثم شرع العلء بن الحضرمي‬
‫في قسمة الغنيمة ونفل النفال‪ ،‬ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين‪:‬‬
‫اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من العداء‪ ،‬فأجابوا إلى ذلك‬
‫سريًعا‪ ،‬فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن‪ ،‬فرأى‬
‫أن الشقة بعيدة ل يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله‪،‬‬
‫فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول‪ :‬يا أرحم الراحمين‪ ،‬يا حكيم يا كريم‪،‬‬
‫أحد( يا صمد‪ ،‬يا حي يا قيوم‪ ،‬يا ذا الجلل والكرام‪ ،‬ل إله إل أنت يا‬ ‫يا‬
‫ربنا‪ 2).‬وأمر الجيوش أن يقولوا ذلك ويقتحموا‪ ،‬ففعلوا ذلك فأجاز‬
‫بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء ل يغمر أخفاف‬
‫البل‪ ،‬ول يصل إلى ركب الخيل‪ ،‬ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه‬
‫إلى الجانب الخر فعاد إلى موضعه الول وذلك كله في يوم‪ ،‬ولم‬
‫يترك من العدو مخبًرا‪ ،‬وساق الذراري والنعام والموال‪ ،‬ولم يفقد‬
‫المسلمون في البحر شيًئا إل عليقة فرس لرجل من المسلمين‪،‬‬
‫ومع هذا رجع العلء بها ثم قسم غنائم المسلمين فيهم فأصاب‬
‫الفارس ستة آلف والراجل ألفين مع كثرة الجيشين‪ ،‬وكتب إلى‬
‫الصديق فأعلمه بذلك‪ ،‬فبعث الصديق يشكره على ما صنع‪ ،‬وقد قال‬
‫رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر‪:‬‬
‫)‪(3‬‬
‫ألم تر أن الله ذلل بحره‬
‫)‪(4‬‬
‫الوائل‬ ‫دعونا إلى شق البحار فجاءنا‬

‫وكان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رأوها من‬


‫أمر العلء وما أجرى الله على يديه من الكرامات‪ ،‬رجل من أهل‬
‫هجر راهب فأسلم حينئذ‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما دعاك إلى السلم؟ فقال‪:‬‬
‫خشيت إن لم أفعل أن يمسخني الله لما شاهدت من اليات‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وقد سمعت في الهواء وقت السحر دعاء‪ .‬قالوا‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬اللهم‬
‫أنت الرحمن الرحيم‪ ،‬ل إله غيرك‪ ،‬والبديع ليس قبلك شيء‪ ،‬والدائم‬
‫غير الغافل‪ ،‬والذي ل يموت‪ ،‬وخالق ما يرى وما ل يرى‪ ،‬وكل يوم‬
‫ما‪ .‬قال‪ :‬فعلمت أن القوم‬ ‫أنت في شأن‪ ،‬وعلمت اللهم كل شيء عل ً‬
‫وهم على أمر الله‪ ،‬فحسن إسلمه وكان‬ ‫لم يعانوا بالملئكة إل‬
‫الصحابة يسمعون منه )‪.(5‬‬
‫وبعد هزيمة المرتدين رجع العلء بن الحضرمي إلى البحرين‬
‫وضرب السلم بجرانه‪ ،‬وعز السلم وأهله وذل الشرك وأهله )‪،(6‬‬
‫ولول تدخل بعض العناصر الجنبية لصالح المرتدين ما تجرأ المرتدون‬
‫)( دارين‪ :‬بكسر الراء هي فرضة بالبحرين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(البداية والنهاية‪.6/121 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الجلئل‪ :‬العظائم‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (4) ,‬البداية والنهاية‪.6/334 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬
‫)( البداية والنهاية‪:‬ـ ‪.6/334‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.9/05 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪200‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫على الموقف في وجه المسلمين مدة طويلة؛ إذ أن الفرس قد‬
‫وكان عدد المرتدين من‬ ‫أمدوا المرتدين بتسعة آلف من المقاتلين‪،‬‬
‫العرب ثلثة آلف وعدد المسلمين أربعة آلف )‪ (1‬وكان للمثنى بن‬
‫حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين والوقوف بقواته بجانب‬
‫العلء بن الحضرمي‪ ،‬وقد سار بجنوده من البحرين شمال ً ووضع يده‬
‫على القطيف وهجر حتى بلغ مصب دجلة‪ ،‬وقضى في سيره هذا‬
‫على قوات الفرس وعمالهم ممن أعانوا المرتدين بالبحرين‪ ،‬وأنه‬
‫انضم إلى العلء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من‬
‫بقي على السلم من أهل هذه النواحي‪ ،‬ومنه تابع مسيره مع‬
‫الساحل شمال ً حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا‬
‫النهرين‪ ،‬فتحدث إليهم وتعاهد معهم‪ ،‬وعندما سأل الخليفة الصديق‬
‫عن المثنى قال له قيس بن عاصم المنقري‪ :‬هذا رجل غير خامل‬
‫مجهول النسب‪ ،‬ول ذليل العماد‪ ،‬هذا المثنى بن حارثة‬‫)‪(2‬‬
‫الذكر ول‬
‫الشيباني‪.‬‬
‫وقد أصدر الصديق ‪ ‬أمره إلى المثنى بن حارثة أن يتابع دعوته‬
‫للعرب في العراق إلى الحق‪ ،‬وقد اعتبر أن ما قام به المثنى من‬
‫قبل ما هو إل الخطوة الولى في تحرير العراق‪ ،‬وأما الخطوة‬
‫الحاسمة فهي توجيه خالد بن الوليد ليتولى قيادة الجيوش السلمية‬
‫هناك )‪.(3‬‬
‫لقد كان أبو بكر الصديق ‪ ‬يغتنم الفرص ويستنفد الطاقات‪،‬‬
‫ويستحث الهمم ليصل من العمال المقدمة إلى أعلى النتائج‪ ،‬وكان‬
‫ويوجهها‪(4‬لسحق الطغيان الذي‬ ‫خر الطاقات الكامنة في الرجال‬ ‫يس ّ‬
‫عشش في رؤوس زعماء الكفر والطغيان ) ‪.‬‬
‫***‬

‫)( فتوح ابن أعثم‪ :‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( فتوح البلدان للبلذري‪ :‬ص ‪ ،242‬نقل عن )أبو بكر الصديق( لخالد جاسم‪ :‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.44‬‬
‫)( أبو بكر الصديق‪ :‬ص ‪ ،44‬خالد الجنابي‪ ،‬نزار الحديثي‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.9/98 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪201‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة‬
‫ل‪ :‬التعريف به ومقدمة عنه‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي أبو شامة‪ ،‬متنبئ‬
‫من المعمرين وفي المثال‪» :‬أكذب من مسيلمة«‪ .‬ولد ونشأ‬
‫باليمامة في القرية المسماة اليوم بالجبلية بقرب العيينة بوادي‬
‫حنيفة في نجد‪ ،‬وتلقب في الجاهلية بالرحمن وعرف برحمان‬
‫اليمامة‪ (1) .‬وأخذ يطوف في ديار العرب والعجم يتعلم الساليب‬
‫التي يستطيع بها استغفال الناس واستجرارهم لجانبه‪ ،‬كجبل السدنة‬
‫واء وأصحاب الرجز والخط ومذاهب الكهان والعياف والسحرة‬ ‫والح ّ‬
‫وأصحاب الجن الذين يزعمون أن له تابعات إلى غيرها من‬
‫الخزعبلت‪ ،‬ومن هذه الشعوذات أنه كان يصل جناح الطائر‬
‫في‪(2‬الظاهر ويدخل البيضة‬‫)‬
‫المقصوص‬
‫في القارورة‪.‬‬
‫وكان مسيلمة يدعي النبوة ورسول الله بمكة‪ ،‬وكان يبعث بأناس‬
‫مسامعه‪ ،‬فينسج على منواله أو‬ ‫إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على‬
‫ما أنه كلمه )‪ ،(3‬وفي العام التاسع‬
‫يسمعه هو نفسه للناس زاع ً‬
‫للهجرة الذي عم فيه السلم ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني‬
‫حنيفة على مدينة الرسول × يعلنون إسلمهم‪ ،‬وكان مسيلمة معهم‪.‬‬
‫فقد ذكر ابن إسحاق‪ :‬إن مسيلمة كان ضمن المجموعة التي قابلت‬
‫الرسول ×‪ ،‬ومن وفد بنى حنيفة جاءوا به يسترونه بالثياب‪ ،‬فلما‬
‫قابله كلمه‪ ،‬وكان مع رسول الله × عسيب من سعف النخل فقال‬
‫)‪(4‬‬
‫له‪،‬‬
‫رسول الله ×‪» :‬لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه«‪.‬‬
‫ويبدو أنه سأله الشركة في النبوة أو الخلفة من بعده‪.‬‬
‫وفي رواية‪ :‬إن مسيلمة لم يكن في الوفد الذي قابل رسول الله‬
‫×؛ لنه تخلف يحرس رحال القوم‪ ،‬فلما قسم × العطيات أخرج له‬
‫لهم‪» :‬إنه ليس بشركم مكاًنا«‪ ،‬وذلك‬ ‫)‪(5‬‬
‫نصيًبا مثل أنصبائهم‪ ،‬وقال‬
‫لقيامه على حراسة متاعهم‪.‬‬
‫صا مريًبا مما‬
‫وفي الرواية الولى يبدو مسيلمة الكذاب شخ ً‬
‫استدعى ستره بهذه الثياب‪ ،‬وكأنه يخفي في نفسه وتقاطيع وجهه‬
‫ل‪ ،‬وقد كان الرجل كذلك في حياته وفي قوله ×‪» :‬ليس‬ ‫شيًئا مدخو ً‬
‫بشركم« ل تعني أنه خيرهم بل قد تعني أنهم أشرار وليس هو بأكثر‬
‫شّرا منهم بل هو شرير مثلهم‪ ،‬والحقيقة التي كشفتها اليام أن بني‬
‫حنيفة كان جلهم أشرار‪ ،‬وكان هو الذي يتولى كبر هذا الشر فيهم‪.‬‬
‫حروب الردة وبناء الدولة‪ ،‬أحمد سعيد‪ :‬ص ‪ .123‬الزركلي‪.2/125 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.71‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البدء والتاريخ‪ 5/160 :‬للمقدسي‪ ،‬نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪.71‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫السيرة النبوية‪.577 ،2/576 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫السيرة النبوية‪.2/577 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪202‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -1‬رجوع وفد بني حنيفة‪:‬‬
‫ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم ادعى‬
‫مسيلمة النبوة‪ ،‬وأعلن شركته لرسول الله × فيها اعتماًدا على قوله‬
‫×‪» :‬إنه ليس بشركم«‪ ،‬وطفق يتنبأ لقومه ويسجع ويحلل ويحرم‬
‫كما يشتهي‪ ،‬فكان مما زعم أنه قرآن يأتيه‪ :‬لقد أنعم الله على‬
‫الحبلى‪ ،‬أخرج منها نسمة تسعى‪ ،‬من بين صفاق وحشى)‪ ,(1‬فمنهم‬
‫الثرى‪ ،‬ومنهم من يبقى إلى أجل مسمى‪،‬‬ ‫من يموت ويدس إلى‬
‫والله يعلم السر وأخفى )‪.(2‬‬
‫ومما قاله مسيلمة‪ :‬يا ضفدع بنت ضفدعين‪ ،‬نقي ما تنقين‪،‬‬
‫في‪(3‬الماء وأسفلك في الطين‪ ،‬ل الشارب تمنعين‪ ،‬ول الماء‬ ‫أعلك‬
‫تكدرين‪ ) .‬وقد حاول مسيلمة الكذاب أن يسرق أساليب القرآن مع‬
‫إحالة معانيه بحيث تخرج شوهاء ممسوخة‪ ،‬مثل قوله‪ :‬فسبحان الله‬
‫إذا جاء الحياة كيف تحيون؟ وإلى ملك السماء ترقون‪ ،‬فلو أنها حبة‬
‫خردلة لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور‪ ،‬ولكثر الناس فيها ثبور‪.‬‬
‫)‪ (4‬لقد كان هذا الهراء غير خاف على أحد بمن فيهم هم أنفسهم‬
‫قبل غيرهم‪ .‬وقد ذكر ابن كثير أن عمرو بن العاص –قبل إسلمه‪-‬‬
‫قابل مسيلمة الكذاب فسأله هذا ماذا أنزل على محمد من القرآن؟‬
‫فقال له عمرو‪ :‬إن الله أنزل عليه سورة العصر‪ ،‬فقال مسيلمة‪ :‬وقد‬
‫مثلها‪ ،‬وهو قوله‪ :‬يا وبر يا وبر‪ ،‬إنما أنت أذنان وصدر‪،‬‬ ‫ي‬
‫أنزل الله عل ّ‬
‫وسائر حفر نقر‪ ((65)) .‬فقال له عمرو بن العاص‪ :‬والله إنك تعلم أني‬
‫أعلم أنك تكذب‪ .‬وعلق ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪ -‬على قول عمرو هذا‬
‫من قرآن مسيلمة المزعوم‪ :‬فأراد مسيلمة أن يركب من هذا‬
‫يعارض به القرآن فلم يرج ذلك على عابد الوثان في‬ ‫الهذيان ما‬
‫ذلك الزمان )‪.(7‬‬
‫وقال أبو بكر الباقلني ‪-‬رحمه الله‪ :-‬فأما كلم مسيلمة الكذاب‬
‫وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن ننشغل به وأسخف من أن نفكر‬
‫فإنه‪(8‬على‬
‫)‬
‫فيه‪ ،‬وإنما نقلنا منه طرًفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر‪،‬‬
‫سخافته قد أضل‪ ،‬وعلى ركاكته قد أزل وميدان الجهل واسع‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب مسيلمة إلى رسول الله × والجواب عنه‪:‬‬
‫وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب رسول الله × بمرض‬
‫موته‪ ،‬تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى رسول الله × يزعم لنفسه‬
‫فيها الشركة معه في النبوة كتبها له عمرو بن الجارود الحنفي‪،‬‬
‫وبعثها إليه مع عبادة بن الحارث الحنفي المعروف بابن النواحة هذا‬
‫نصها‪ :‬من مسيلمة رسول الله )كذب( إلى محمد رسول الله‪ :‬أما‬
‫شا ل ينصفون‪.‬‬ ‫بعد‪ ،‬فإن لنا نصف الرض ولقريش نصفها ولكن قري ً‬
‫)‪ (9‬فرد عليه رسول الله × برسالة كتبها له أبي بن كعب ‪ ‬نصها‪:‬‬
‫حركة الردة للعتوم‪.73 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البدء والتاريخ للمقدسي‪.5/162 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/102 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪.271 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تفسير ابن كثير‪ ،4/547 :‬ط الحلبي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تفسير ابن كثير‪ ،4/547 :‬ط الحلبي‪ (2) .‬المصدر السابق‪.4/547 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق سيد صقر‪ :‬ص ‪ (4) .156‬تاريخ الطبري‪.386 /3 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬
‫‪9‬‬

‫‪203‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫»بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬من محمد النبي إلى مسيلمة الكذاب‪.‬‬
‫من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‪،‬‬ ‫أما بعد‪ ،‬فإن الرض لله يورثها‬
‫والسلم على من اتبع الهدى«‪ (1).‬وكان مسيلمة قد بعث برسالة إلى‬
‫الرسول × مع رجلين أحدهما ابن النواحة المذكور‪ ،‬فلما اطلع عليها‬
‫كما‪(2‬قال‪،‬‬
‫)‬
‫رسول الله × قال لهما‪ :‬وماذا تقولن أنتما؟ فقال‪ :‬نقول‬
‫فقال ×‪ :‬أما والله لول أن الرسل ل تقتل لضربت أعناقكم‪.‬‬
‫‪ -3‬موقف حبيب بن زيد النصاري حامل رسالة رسول الله‬
‫إلى مسيلمة‪:‬‬
‫حمل حبيب بن زيد النصاري ابن أم عمارة نسيبة بنت كعب‬
‫المازنية ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬رسالة رسول الله × إلى مسيلمة‬
‫الكذاب‪ ،‬فعندما سلمه الرسالة قال له مسيلمة الكذاب‪ :‬أتشهد أن‬
‫دا رسول الله‪ ،‬فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول له‪ :‬أو تشهد أني رسول‬ ‫محم ً‬
‫الله؟ فيقول‪ :‬أنا أصم ل أسمع‪ ،‬ففعل ذلك مراًرا وكان في كل مرة‬
‫وا ويبقي عضو‬ ‫ل يجيبه فيها حبيب إلى طلبه يقتطع من جسمه عض ً‬
‫)‪(3‬‬
‫حبيب محتسًبا صابًرا إلى أن قطعه إرًبا إربا فاستشهد ‪ ‬بين يديه‪.‬‬
‫ولننظر إلى رسول الله × كيف كانت سيرته‪ ،‬فل يقتل الرسل ولو‬
‫كانوا من قبل أعدائه اللداء الكفار‪ ،‬وحتى ولو كفروا أمامه وما دام‬
‫لهم هذه الحصانة‪ .‬أما مسيلمة فيتعامى عن العهود والمواثيق فيقتل‬
‫ف‪ .‬إنه الفارق بين‬ ‫السفراء ل قتل ً عادّيا بل قتل تشويه وتمثيل وتش ٍ‬
‫السلم الذي يحترم الكلمة ويحترم النسان ويخاصم بشرف‬
‫ورجولة‪ (،‬وبين الجاهلية التي ل تعرف إل الفساد في الرض وتحكيم‬‫)‪4‬‬
‫الهوى‪.‬‬
‫‪ -4‬الّرجال بن عنفوة الحنفي‪:‬‬
‫استفحل أمر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة‪ ،‬ويبدو أنهم كانوا‬
‫على استعداد للتجاوب مع زيفه وخداعه‪ ،‬وافتتن به الرجال بن‬
‫عنفوة الذي هاجر إلى النبي × وأسلم وقرأ القرآن وحفظ بعض‬
‫سوره‪ ،‬كان قد بعثه رسول الله × إلى مسيلمة ليخذل عنه التباع‪،‬‬
‫وليوضح جلية المر للناس في هذه الفتنة الغاشية‪ ،‬فما كان منه‬
‫عندما وصل إليه إل أن انقلب على وجهه وأخذ يشهد لمسيلمة أمام‬
‫في‪(5‬النبوة‪ ،‬فكان هذا الشقي أشد‬ ‫الناس أن رسول الله أشركه معه‬
‫فتنة على الناس من مسيلمة نفسه ) ‪.‬‬
‫وقد ألمح رسول الله × في حياته إلى سوء منقلب الرجال‪ ،‬فقد‬
‫روى أبو هريرة ‪ ‬قال‪ :‬جلست مع النبي × في رهط معنا الرجال‬
‫بن عنفوة فقال‪» :‬إن فيكم لرجل ً ضرسه في النار أعظم‬
‫من أحد«‪ .‬فهلك القوم وبقيت أنا والرجال فكنت متخوًفا لها‪ ،‬حتى‬
‫مسيلمة‪(6،‬فشهد له بالنبوة‪ ،‬فكانت فتنة الرجال‬ ‫خرج الرجال مع‬
‫أعظم من فتنة مسيلمة ) ‪.‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.3/387 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.3/386 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (2‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.74‬‬ ‫أسد الغابة‪ ،‬رقم الترجمة‪.1049 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪.6/106 :‬‬ ‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.75‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫‪204‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ثانًيا‪ :‬الثابتون على السلم من بني حنيفة‪:‬‬


‫طغت أخبار ردة مسيلمة الكذاب باليمامة على غيرها من أخبار‬
‫ثبات جماعات من المسلمين الصادقين باليمامة بصفة عامة‪ ،‬وفي‬
‫بني حنيفة قوم مسيلمة بصفة خاصة ولم يتعرض كثير من الكتاب‬
‫المحدثين لذكر المسلمين الذين تمسكوا بإسلمهم في فتنة مسيلمة‬
‫في وجهه‪ ،‬وساندوا جيوش الخلفة للقضاء على فتنته‪ .‬وقد‬ ‫)‪(1‬‬
‫ووقفوا‬
‫روايات معتبرة تلقي الضوء على هذه الحقيقة التي غابت‬ ‫وجدت‬
‫عن الكثيرين )‪.(2‬‬
‫يذكر ابن أعثم أن ممن ثبت على السلم في اليمامة ثمامة بن‬
‫أثال)‪ (3‬الذي كان من مشاهير بني حنيفة‪ ،‬ولذا اجتمعت إليه عندما‬
‫دا من أكابرهم‪ ،‬وكان ذا عقل‬ ‫علموا بمسير خالد إليهم؛ لنه كان واح ً‬
‫فا لمسيلمة على ما هو عليه من الردة‪ ،‬وكان‬ ‫وفهم ورأي‪ ،‬وكان مخال ً‬
‫مما قاله لمن تابع مسيلمة‪ …» :‬ويحكم يا بني حنيفة‪ ،‬اسمعوا قولي‬
‫دا × كان نبًيا مرسل ً‬ ‫تهتدوا وأطيعوا أمري ترشدوا‪ ،‬واعلموا أن محم ً‬
‫ل شك في نبوته‪ ،‬ومسيلمة رجل كذاب ل تغتروا بكلمه وكذبه‪،‬‬
‫فإنكم قد سمعتم القرآن الذي أتى به محمد × وآلى عن ربه إذ‬
‫عِليم ِ َ‪ِ ِ َ ‬‬
‫ر‬ ‫ف‬ ‫غا‬ ‫ز ال ْ َ‬‫زي ّ ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬‫ب ِ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫زي ُ‬‫يقول‪+ :‬حم ‪َ ‬تن ِ‬
‫و‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِل ُ‬ ‫َ‬
‫ل ل إ ِل َ‬ ‫و ِ‬ ‫ب ِذي الط ْ‬ ‫َ‬
‫عقا ِ‬ ‫ْ‬
‫د ال ِ‬
‫دي ِ‬
‫بش ِ‬‫َ‬ ‫و ِ‬‫ل الت ّ ْ‬‫قاب ِ ِ‬‫و َ‬
‫ب َ‬ ‫ذن ِ‬‫ال ّ‬
‫صيُر" ]غافر‪ [3 -1 :‬فأين هذا الكلم من كلم مسيلمة‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫إ ِل َي ْ ِ‬
‫الكذاب؟ فانظروا في أموركم ول يذهبن هذا عنكم‪ ،‬أل وإني خارج‬
‫إلى خالد بن الوليد في ليلتي هذه طالًبا منه المان على نفسي‬
‫ومالي وأهلي وولدي‪ ،‬وكان جواب من هدي إليه من قومه‪» :‬نحن‬
‫معك يا أبا عامر‪ ،‬فكن من ذلك على علم«‪ .‬ثم خرج ثمامة بن أثال‬
‫في جوف الليل في نفر من بني حنيفة حتى لحق بخالد بن الوليد‪،‬‬
‫واستأذن إليه فأمنه وأمن أصحابه‪ (4) .‬وجاء في رواية الكلعي قوله‬
‫لهم‪ :‬بأن ل نبي مع محمد × ول بعده‪ ،‬وتذكر طرًفا من قرآن‬
‫مسيلمة للتدليل على سخفه‪ (5).‬وتروى شعرا ينسب إلى ثمامة منه‬
‫قوله‪:‬‬
‫فإنك في المر لم تشرك‬ ‫مسيلمة ارجع ول تمحك‬
‫)‪(6‬‬
‫فكان هواك هوى النوك‬ ‫كذبت على الله في وحيه‬
‫وإن يأتهم خالد ُتترك‬ ‫ومناك قومك أن يمنعوك‬

‫)( وجدتها في كتاب »الثابتون على السلم« للدكتور مهدي رزق الله‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪51‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( وقع في السر في زمن النبي لما كان مشر ً‬


‫كا‪ ،‬فعفا عنه رسول الله وحسن‬ ‫‪3‬‬

‫إسلمه‪.‬‬
‫)( الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.52‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (5 ،‬الكلعي‪ ،‬حروب الردة‪ :‬ص ‪.117‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫‪205‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫ول لك في الرض مسلك‬ ‫فما لك من مصعد في‬
‫السماء‬
‫وقد جاء في رواية‪ :‬دور ثمامة في حرب مسيلمة‪ ،‬ومساعدة‬
‫جهل له‬ ‫عكرمة بن أبي‬
‫في هذه المهمة )‪.(2‬‬
‫وقد ساهم ثمامة بن أثال في مساعدة العلء بن الخضرمي في‬
‫حربه للمرتدين بالبحرين‪ ،‬وكان معه مسلمو بني حنيفة من بني‬
‫وكان( ثمامة من أهل‬ ‫سحيم ومن أهل القرى من سائر بني حنيفة‪،‬‬
‫البلء في قتال المرتدين مع العلء بن الحضرمي )‪. 3‬‬
‫وممن ثبت على السلم في اليمامة معمر بن كلب الرماني؛ فقد‬
‫وعظ مسيلمة وبنى حنيفة الذين تابعوه ونهاهم عن الردة‪ ،‬وكان جاًرا‬
‫لثمامة بن أثال وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد‪ ،‬ومن سادات‬
‫اليمامة الذين كانوا يكتمون إسلمهم‪ :‬ابن عمرو اليشكري الذي كان من‬
‫را ًفشا في اليمامة وأنشده الناس‪،‬‬
‫أصدقاء الرجال بن عنفوة‪ ،‬وقال شع‬
‫ومن هذا الشعر قوله‪:‬‬
‫جال على الهدى أمثالي‬ ‫م رِ َ‬ ‫إن ديني دين النبي وفي القو‬
‫ورجال ليسوا لنا برجال‬ ‫أهلك القوم محكم بن طفيل‬
‫الله حنيفا فإنني ل أبالي‬ ‫إن تكن ميت َِتي على فطرة‬
‫فبلغ ذلك مسيلمة ومحكمًا وأشراف أهل اليمامة فطلبوه‪ ،‬ولكنه‬
‫ولحق بخالد بن الوليد‪ ،‬وأخبره بحال أهل اليمامة ودله على‬
‫)‪(4‬‬
‫فاتهم‬
‫وممن ثبت على السلم في اليمامة أيضا‪ :‬عامر بن‬ ‫‪.‬‬ ‫عوراتهم‬
‫مسلمة ورهطه )‪.(5‬‬
‫ولقد أكرم أبو بكر الثابتين على السلم من بني حنيفة‪،‬‬
‫وذلك في أشخاص ذوي قرابتهم‪ ،‬ومن ذلك تبعيته لمطرف بن‬
‫النعمان بن مسلمة ابن أخي كل‬
‫من ثمامة بن أثال وعامر بن مسلمة الذين كان لهما ثبات في‬
‫فتنة الردة‪ ،‬عينه‬
‫وال ً يا على اليمامة )‪.(6‬‬
‫ثالًثا‪ :‬تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب‬
‫باليمامة‪:‬‬
‫دا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك‬ ‫كان أبو بكر ‪ ‬قد أمر خال ً‬
‫بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك‪ ،‬قال شريك الفزاري‬
‫)‪ :(7‬كنت ممن حضر بزاخة فجئت أبا بكر فأمرني بالمسير إلى خالد‬
‫الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.53‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.54‬‬ ‫البداية والنهاية‪.6/361 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫حروب الردة‪ ،‬ص ‪ 106 -104‬للكلعي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (5‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.58‬‬ ‫الثابتون على السلم‪ :‬ص ‪.57‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫شريك بن عبدة‪ :‬صحابي قام بالمراسلة الحربية بين الصديق وخالد‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪206‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وكتب معي إليه‪ :‬أما بعد‪ ،‬فقد جاءني في كتابك مع رسولك تذكر ما‬
‫أظفرك الله بأهل بزاخة وما فعلت بأسد وغطفان وأنك سائر إلى‬
‫اليمامة‪ ،‬وذلك عهدي إليك‪ ،‬فاتق الله وحده ل شريك له‪ ،‬وعليك‬
‫بالرفق بمن معك من المسلمين‪ ،‬كن لهم كالوالد‪ ،‬وإياك يا خالد بن‬
‫الوليد ونخوة بني المغيرة؛ فإني قد عصيت فيك من لم أعصه في‬
‫شيء قط‪ ،‬فانظر إلى بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله فإنك لم‬
‫ما يشبهون بني حنيفة كلهم عليك ولهم بلد واسعة‪ ،‬فإذا‬ ‫تلق قو ً‬
‫قدمت‪(1‬فباشر المر بنفسك واجعل على ميمنتك رجل ً وعلى ميسرتك‬
‫ل‪ ،‬واستشر من معك من الكابر من‬ ‫رجل ً ) ‪ ،‬واجعل على خيلك رج ً‬
‫أصحاب رسول الله × من المهاجرين والنصار‪ ،‬واعرف لهم فضلهم‪،‬‬
‫فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم فالقهم ‪-‬إن شاء الله‪ -‬وقد‬
‫أعددت للمور أقرانها‪ ،‬فالسهم للسهم والرمح للرمح والسيف‬
‫للسيف وأحمل أسيرهم على السيف )‪ ،(2‬وهول فيهم القتل واحرقهم‬
‫بالنار‪،‬‬
‫وإياك أن تخالف أمري والسلم عليك‪ (3) .‬فلما انتهى الكتاب إلى‬
‫قال‪:‬‬ ‫خالد وقرأه‬
‫سمًعا وطاعة)‪.(4‬‬
‫سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبى معه المسلمين‪،‬‬
‫وكان على النصار ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬فسار ل يمر بأحد من‬
‫فا مجهًزا بأحدث سلح‬ ‫المرتدين إل نكل به‪ ،‬وسير الصديق جيشا كثي ً‬
‫ليحمي ظهر خالد حتى ل يوقع به أحد من خلفه‪ ،‬وكان خالد في‬
‫طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من العراب قد ارتدت‪ ،‬فغزاها‬
‫وردها إلى السلم‪ ،‬ولقي مؤخرة جيش سجاح ففتك به ونكبه‪ ،‬ثم‬
‫زحف إلى اليمامة )‪.(5‬‬
‫)‪(6‬‬
‫ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له‪ :‬عقرباء‬
‫في طرف اليمامة‪ ،‬وندب الناس وحثهم على لقاء خالد‪ ،‬فأتاه أهل‬
‫اليمامة وجعل على مجنبتي جيشه‪ :‬المحكم بن الطفيل‪ ،‬والرجال بن‬
‫عنفوة »شاهد زور«‪.‬‬
‫والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدم وقد جعل على مقدمة‬
‫الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا‬
‫حذيفة بن عتبة بن ربيعة )‪.(7‬‬
‫أ‪ -‬مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين‪:‬‬
‫سا‬‫مرت مقدمة جيش خالد بنحو من أربعين وقيل ستين فار ً‬
‫عليهم مجاعة بين مرارة الحنفي‪ ،‬وكان قد ذهب لخذ ثأر له في بني‬
‫تميم وبني عامر‪ ،‬وفي طريق عودته إلى قومه أسرهم المسلمون‪،‬‬
‫)‪ (2،‬حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪.78‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( مجموعة الوثائق السياسية‪ :‬ص ‪ .349 ،348‬حروب الردة‪ ،‬أبو خليل‪ :‬ص ‪.79‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( حروب الردة‪ ،‬د‪ .‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪.79‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.105‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( حروب الردة‪ ،‬د‪ .‬شوفي أبو خليل‪ :‬ص ‪.80‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( حروب الردة‪ ،‬د‪ /‬شوفي أبو خليل‪ :‬ص ‪.80‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪207‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فلما جيء بهم إلى خالد قال لهم‪(1):‬ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا‪:‬‬
‫نقول منا نبي ومنكم نبي فقتلهم ‪ ،‬وفي رواية‪ :‬سألهم خالد‪ :‬متى‬
‫شعرتم بنا؟ قالوا‪ :‬ما شعرنا بك‪ ،‬إنما خرجنا لنثأر فيمن حولنا من‬
‫بني عامر وتميم‪ .‬فلم يصدقهم خالد بل حسبهم جواسيس عليه‬
‫لمسيلمة الكذاب‪ ،‬فأمر بقتلهم جميًعا فقالوا له‪ :‬إن ترد بأهل اليمامة‬
‫فاستبق هذا وأشار إلى رئيسهم مجاعة‪ ،‬فاستبقى‬ ‫دا شًرا أو خيًرا‬‫غ ً‬
‫مجاعة وقتل الخرين )‪.(2‬‬
‫عا‪ ،‬فكان‬ ‫فا مطا ً‬ ‫دا في بني حنيفة شري ً‬ ‫وكان مجاعة بن مرارة سي ً‬
‫خالد كلما نزل منزل ً واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه‪ ،‬فقال‬
‫له ذات يوم‪ :‬أخبرني عن صاحبك –يعني مسيلمة‪ -‬ما الذي يقرأكم؟‬
‫هل تحفظ منه شيئا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فذكر له شيًئا من رجزه‪ ،‬فقال خالد‬
‫وضرب بإحدى يديه على الخرى وقال‪ :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬اسمعوا‬
‫إلى عدو الله كيف يعارض القرآن‪ ،‬ثم قال‪ :‬ويحك يا مجاعة‪ ،‬أراك‬
‫دا عاقل ً اسمع إلى كتاب الله عز وجل‪ ،‬ثم انظر كيف‬ ‫رجل ً سي ً‬
‫عَلى"‪،‬‬ ‫ك ال ْ‬‫م َرب ّ َ‬ ‫س‬
‫ْ َ‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ب‬‫س‬
‫َ ّ ِ‬ ‫‪+‬‬ ‫خالد‪:‬‬ ‫عليه‬ ‫فقرأ‬ ‫الله‪،‬‬ ‫عدو‬ ‫عارضه‬
‫فقال مجاعة‪ :‬أما إن رجل ً من أهل البحرين كان يكتب‪ ،‬أدناه مسيلمة‬
‫وقربه حتى لم يكن يعد له في القرب عنده أحد‪ ،‬فكان يخرج إلينا‬
‫فيقول‪ :‬ويحكم يا أهل اليمامة‪ ،‬صاحبكم والله كذاب وما أظنكم‬
‫تتهموني عليه‪ ،‬إنكم لترون منزلتي عنده وحالي‪ ،‬ووالله يكذبكم‬
‫وبايعكم على الباطل‪ ،‬قال خالد‪ :‬فما فعل ذلك البحراني؟ قال‪ :‬هرب‬
‫منه‪ ،‬كان ل يزال يقول هذا القول حتى بلغه‪ ،‬فخافه على نفسه‬
‫فهرب فلحق بالبحرين‪ ،‬قال خالد‪ :‬هات‪ ،‬زدنا من كذب الخبيث‪ ،‬فقال‬
‫قا وكنتم‬ ‫مجاعة بعض رجز مسيلمة‪ ،‬فقال خالد‪ :‬وهذا كان عندكم ح ً‬
‫دا أكثر من‬ ‫تصدقونه؟ قال مجاعة‪ :‬لو لم يكن عندنا حق لما لقيتك غ ً‬
‫خالد‪ :‬إًذا‬ ‫قال‬ ‫عشرة آلف سيف يضاربونك فيه حتى يموت العجل‪،‬‬
‫يكفيناكم الله ويعز دينه‪ ،‬ففي سبيله يقاتلون ودينه يريدون‪ (3) .‬فهذا‬
‫رد يدل على عظمة إيمان خالد وثقته بالله‪ ،‬فقد كان إيمانه بالله‬
‫وثقته المطلقة في نصر الله لدينه هما اللذين فجرا في شخصيته‬
‫كنوز المواهب الحربية وفنون المهارات القيادية‪ ،‬لقد قاتل يوم بزاخة‬
‫بسيفين حتى قطعهما‪ ،‬فقد كان يمل اليمان قلبه ويعتز بالله وحده‪،‬‬
‫وكان ذلك كفيل ً بإسقاط هيبة عدوه من نفسه وغرس هيبته في قلب‬
‫الطريق لحراز النصر الحاسم عليه وإلحاق‬ ‫عدوه‪ ،‬وذلك أول‬
‫الهزيمة الساحقة به )‪.(4‬‬
‫ب‪ -‬شن الحرب النفسية قبل المعركة‪:‬‬
‫وضع خالد بن الوليد خطته على أساس استخدام الحرب النفسية‬
‫قا لمحكم بن طفيل‬ ‫ثم تحكيم السيف‪ ،‬فبعث زياد بن لبيد وكان صدي ً‬
‫سيد أهل اليمامة بقصد أن يكسبه إلى‬
‫جانبه‪ ،‬فقال خالد لزياد‪ :‬لو لقيت إلى محكم شيئا تكسره به‪ ،‬فكتب‬
‫زياد إليه أبياتا من‬
‫البداية والنهاية‪.6/328 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الطبري‪ ،4/106 :‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.105‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حروب الردة‪ :‬ص ‪.82‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.219 ،218‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪208‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الشعر جاء فيها‪:‬‬
‫إن جالت الخيل فيها بالقنا‬ ‫ويل اليمامة ويل ً ل فراق له‬
‫الصادي‬
‫حتى تكونوا كأهل الحجر أو‬ ‫والله ل تنثني عنكم أعنتها‬
‫عاد‬
‫واتجه خالد كذلك إلى عمير بن صالح اليشكري وكان قد أسلم‬
‫وكتم إسلمه على قومه‪ ،‬وكان قوي العقيدة راسخ اليمان‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫تقدم إلى قومك‪ ،‬فأتاهم وقال‪ :‬أظلكم خالد في المهاجرين والنصار‪،‬‬
‫إني رأيت قومًا إن غالبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر‪ ،‬وإن غلبتموهم‬
‫بالعدد غلبوكم بالمدد‪ ،‬ولستم والقوم سواء‪ .‬السلم مقبل والشرك‬
‫مدبر‪ ،‬وصاحبهم نبي وصاحبكم كذاب‪ ،‬ومعهم السرور ومعكم‬
‫في غمده والنبل في جفيره‪ ،‬قبل أن يسل‬ ‫)‪(1‬‬
‫الغرور‪ ،‬فالن والسيف‬
‫السيف ويرمى بالسهم‪.‬‬
‫ثم باشر خالد المهمة مع ثمامة بن أثال الحنفي‪ ،‬فمشى إلى‬
‫قومه يدعوهم إلى الستسلم‪ ،‬ويحطم عندهم روح القتال‪» :‬إنه ل‬
‫دا × ل نبي بعده ول نبي مرسل‬ ‫يجتمع نبيان بأمر واحد‪ ،‬إن محم ً‬
‫لقد‪(2‬بعث إليكم )يقصد أبا بكر( معه سيوف كثيرة‪ ،‬فانظروا في‬ ‫معه‪،‬‬
‫أمركم‪ ) .‬واهتم خالد بتدبير الخطط المحكمة‪ ،‬وكان ‪ ‬ل يستخف‬
‫بعدوه‪ ،‬وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن‬
‫يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر‪ ،‬وقد وصف ‪ ‬بأنه‪ :‬كان ل‬
‫)‪(3‬‬
‫ينام ول يبيت إل على تعبية‪ ،‬ول يخفى عليه من أمر عدوه شيء‪.‬‬
‫وفي محاربته لمسيلمة ‪-‬قبل معركة عقرباء‪ -‬جعل طليعته مكنف بن‬
‫زيد الخيل وأخاه حريًثا لجمع المعلومات اللزمة للمعركة‪ ،‬وقد حان‬
‫ترتيب أمور جيشه فالموقف شديد الخطورة‪ ،‬ول بد من أخذ‬
‫هذه المعركة عبد الله‬ ‫الترتيبات اللزمة؛ فقد كان حامل الراية في‬
‫بن حفص بن غانم‪ ،‬ومن ثم تحولت إلى سالم )‪ (4‬مولى أبي حذيفة‪.‬‬
‫ومعلوم أن الناس براياتهم كما قالت العرب فإذا زالت زالوا‪ ،‬وقد‬
‫قدم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة‪ ،‬وقسم الجيش‬
‫سا؛ على المقدمة خالد المخزومي‪ ،‬وعلى الميمنة أبو حذيفة‪،‬‬ ‫أخما ً‬
‫وعلى الميسرة شجاع‪ ،‬وفي القلب زيد ابن الخطاب‪ ،‬وجعل أسامة‬
‫على الخيالة ووضع الظعن في المؤخرة وفيها الخيام‬ ‫بن زيد‬
‫والنساء)‪ ،(5‬وهذا الترتيب الخير قبل المعركة‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬المعركة الفاصلة‪:‬‬
‫ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لتباعه وقومه قبيل المعركة‬
‫سبيات‬ ‫الفاصلة‪ :‬اليوم يوم الغيرة‪ ،‬اليوم إن هزمتم تستنكح النساء‬
‫وينكحن غير حطيات‪ ،‬فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم )‪.(6‬‬
‫)( الحرب النفسية‪ ،‬أحمد نوفل‪ :‬ص ‪.145 ،144‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحرب النفسية‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪ .2/145 :‬فن إدارة المعركة‪ ،‬محمد فرج‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.140 -138‬‬
‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.199‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (3 ،‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.200‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/328 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪209‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على‬ ‫وتقدم خالد ‪‬‬
‫اليمامة فضرب به عسكره‪ ،‬واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة‬
‫وانهزمت العراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد‪ ،‬وهموا‬
‫بقتل أم تميم حتى أجارها مجاعة‪ ،‬وقال‪ :‬نعمت الحرة هذه‪ ،‬وقد قتل‬
‫جال ّ بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة قتله زيد بن الخطاب‪ ،‬ثم‬ ‫الّر‬
‫تذامر الصحابة بينهم وقال ثابت بن قيس بن شماس‪ :‬لبئس ما عودتم‬
‫أقرانكم ونادوا من كل جانب‪ :‬أخلصنا يا خالد‪ ،‬فخلصت ثلة من‬
‫المهاجرين والنصار وحمى وقاتلت بنو حنيفة قتال ًلم يعهد مثله‪ ،‬وجعلت‬
‫الصحابة يتواصون بينهم ويقولون‪ :‬يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر‬
‫اليوم‪ ،‬وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الرض إلى أنصاف ساقيه وهو‬
‫حامل لواء النصار بعدما تحنط وتكفن‪ ،‬فلم يزل ثابتا ً حتى قتل هناك‪.‬‬
‫وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة‪ :‬أتخشى أن تؤتى من قبلك؟‬
‫ذا‪ ً .‬وقال زيد بن الخطاب‪ :‬أيها الناس‬‫فقال‪ :‬بئس حامل القرآن أنا إ‬
‫ما‪ .‬وقال‪ :‬والله ل‬‫عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قد ً‬
‫دا ‪.‬‬‫أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي‪ ،‬فقتل شهي ً‬
‫وقال أبو حذيفة‪ :‬يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال‪ ،‬وحمل فيهم حتى‬
‫أبعدهم‪ ،‬وأصيب ‪،‬وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لقتال‬
‫مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله‪ ،‬ثم رجع ثم وقف بين‬
‫الصفين ودعا البراز‪ ،‬وقال‪ :‬أنا ابن الوليد العود‪ ،‬أنا ابن عامر وزيد‪ ،‬ثم‬
‫نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ‪ :‬يا محمداه‪ ،‬وجعل ل يبرز‬
‫له أحد إل قتله ول يدنو منه شيء إل أكله‪ ،‬وقد ميز خالد المهاجرين من‬
‫النصار من العراب‪ ،‬وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف‬
‫را لم يعهد‬‫الناس من أين يؤتون‪ ،‬وصبر الصحابة في هذه المواطن صب ً‬
‫مثله‪ ،‬ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى‬
‫الكفار الدبار واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في‬
‫رقابهم حيث شاءوا‪ ،‬حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت‪ ،‬وقد أشار عليهم‬
‫محكم اليمامة ‪-‬وهو محكم بن الطفيل لعنه الله‪ -‬بدخولها فدخلوها وفيها‬
‫عدو الله مسيلمة لعنه الله‪ ،‬وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن‬
‫يخطب فقتله‪ ،‬وأغلقت بنو حنيفة‬ ‫)‪(1‬‬
‫الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو‬
‫الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة‪.‬‬
‫سا‪ :‬بطولت نادرة‪.‬‬ ‫خام ً‬
‫‪ -1‬قال البراء بن مالك‪:‬‬
‫معشر المسلمين‪ ،‬ألقوني عليهم في الحديقة‪ ،‬فاحتملوه فوق‬ ‫يا‬
‫الجحف )‪ ،(2‬ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم‪ ،‬فلم يزل يقاتلهم‬
‫دون بابها حتى فتحه‪ ،‬ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي‬
‫وحوصر المرتدون‬
‫)‪(3‬‬
‫فتحه البراء‪ ،‬وفتح الذين دخلوا البواب الخرى‬
‫وأدركوا أنها القاضية‪ ،‬وأن الحق جاء وزهق باطلهم‪.‬‬
‫‪ -2‬مصرع مسيلمة الكذاب‪:‬‬
‫وخلص المسلمون إلى مسيلمة لعنه الله‪ ،‬وإذا هو واقف في ثلمة‬
‫)‪ (2‬الجحف‪ :‬المراد بها التروس‪.‬‬ ‫)( البداية والنهاية‪.6/329 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( حروب الردة‪ ،‬لشوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪.92‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪210‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫جدار كأنه جمل أورق‪ ،‬وهو يريد يتساند ل يعقل من الغيظ‪ ،‬وكان إذا‬
‫اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه‪ ،‬فتقدم إليه وحشي‬
‫بن حرب مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه‪،‬‬
‫وخرجت من الجانب الخر وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة‬
‫فضربه بالسيف فسقط‪ ،‬فنادت امرأة من القصر‪ :‬وا أمير الوضاءة‬
‫قتله العبد السود‪ ،‬فكان جملة من قتلوا في الحديقة وفي المعركة‬
‫قري ًمن عشرة آلف مقاتل‪ ،‬وقيل‪ :‬إحدى وعشرون ألًفا‪ ،‬وقتل من‬ ‫با‬
‫المسلمين ستمائة وقيل‪ :‬خمسمائة فالله أعلم‪ ،‬وفيهم من سادات‬
‫الصحابة وأعيان الناس من يذكر بعد‪ ،‬وخرج خالد وتبعه مجاعة بن‬
‫مرارة يرسف في قيوده‪ ،‬فجعل يريه القتلى ليعرفه بمسيلمة‪ ،‬فلما‬
‫مروا بالرجال بن عنفوة قال له خالد‪ :‬أهذا هو؟ قال‪ :‬ل والله هذا خير‬
‫منه‪ ،‬هذا الرجال بن عنفوة‪ ،‬ثم مروا برجل أصفر أخنس فقال‪ :‬هذا‬
‫صاحبكم‪ ،‬فقال خالد‪ :‬قبحكم الله على اتباعكم هذا‪ ،‬ثم بعث خالد‬
‫)‪(1‬‬
‫الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي‪.‬‬
‫‪ -3‬أبو عقيل‪ :‬عبد الرحمن بن عبد الله البلوي النصاري‬
‫الوسي‪:‬‬
‫كان أبو عقيل من أول من جرح يوم اليمامة‪ُ ،‬رمي بسهم‬
‫فوقع بين منكبيه وفؤاده فجرح في غير مقتل‪ ،‬فأخرج السهم‬
‫ووهن شقه اليسر‪ ،‬فأخذ إلى معسكر المسلمين‪ ،‬فلما حمي‬
‫القتال وتراجع المسلمون إلى رحالهم ومعسكرهم‪ ،‬وأبو عقيل‬
‫واهن من جرحه‪ ،‬سمع معن بن عدي يصيح‪ :‬يا للنصار‪ ،‬الله الله‬
‫والكرة على عدوكم‪ .‬وتقدم معن القوم ونهض أبو عقيل يريد‬
‫قومه‪ ،‬فقال له بعض المسلمين‪ :‬يا أبا عقيل ما فيك قتال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قد نوه المنادي باسمي‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنما يقول يا للنصار ل يعني‬
‫وا‪،‬‬
‫الجرحى‪ ،‬فقال أبو عقيل‪ :‬فأنا من النصار وأنا أجيب ولو حب ً‬
‫فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجردا‪ ،‬ثم جعل ينادي‪:‬‬
‫يا للنصار كثرة كيوم حنين‪ ,‬فاجتمعوا جمي ًعا وتقدموا بروح معنوية‬
‫عالية يطلبون الشهادة أو النصر حتى أقحموا عدوهم الحديقة‪،‬‬
‫وفي هذا الهجوم قطعت يد أبي عقيل من المنكب‪ ،‬ووجدت به‬
‫أربعة عشر جر ً حا كلها قد خلصت إلى مقتل‪ ،‬ومر ابن عمر بأبي‬
‫عقيل وهو صريع بآخر رمق فقال‪ :‬يا أبا عقيل‪ ،‬فقال‪ :‬لبيك بلسان‬
‫ثقيل‪ ،‬ثم قال‪ :‬لمن الدبرة فقال ابن عمر‪ :‬أبشر‪ ،‬قد قتل عدو‬
‫الله‪ ،‬فرفع أبو عقيل إصبعه إلى السماء بحمد الله‪ ،‬قال عنه عمر‬
‫الله‪ ،‬ما زال ينال الشهادة ويطلبها‪ ،‬وإنه لمن خير‬
‫)‪(2‬‬
‫‪ : ‬رحمه‬
‫أصحاب نبينا‪.‬‬
‫‪ -4‬نسيبة بنت كعب المازنية النصارية‪:‬‬
‫خرجت في جيوش خالد الذاهبة لليمامة وباشرت القتال بنفسها‪،‬‬
‫قتل دجال بني حنيفة‪ ،‬وبرت‬ ‫وأقسمت أن ل تضع السلح حتى ي ُ ْ‬
‫بفضل الله بقسمها وقتل مسيلمة ورجعت إلى المدينة وبها اثنا عشر‬
‫حا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف‪ ،‬وكلها أوسمة شرف لهذه‬ ‫جر ً‬
‫)( البداية والنهاية‪.6/330 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حروب الردة‪ :‬ص ‪ ،94 ،93‬شوقي أبو خليل‪ ،‬نقل عن الكتفاء‪.2/13 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪211‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الصحابية المجاهدة التي ضربت لبنات جنسها مثل ً رائًعا في الدفاع‬


‫أدى ذلك لن تتحمل ما ل يتحمله في العادة‬ ‫عن الدين والعقيدة‪ ،‬ولو‬
‫مثيلتها من ربات الخدور‪ (1).‬وقد قام خالد بن الوليد بعد هذه‬
‫المعركة برعايتها‪ ،‬فقد قالت نسيبة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬فلما انقطعت‬
‫الحرب ورجعت إلى منزلي جاءني خالد بن الوليد بطبيب فداواني‬
‫بالزيت المغلي‪ ،‬وكان والله أشد علي من القطع‪ ،‬وكان خالد كثير‬
‫التعهد لي‪ ،‬حسن الصحبة لنا‪ ،‬يعرف لنا حقنا ويحفظ فينا وصية نبينا‬
‫× )‪.(2‬‬
‫سا‪ :‬من شهداء معركة اليمامة‪.‬‬ ‫ساد ً‬
‫‪ -1‬ثابت بن قيس بن شماس الذي أجاز الصديق وصيته بعد‬
‫موته‪:‬‬
‫هو أبو محمد‪ ،‬خطيب النصار‪ ،‬وقد ثبت أن رسول الله × بشره‬
‫دا‪ ،‬وكانت راية النصار يومئذ بيده‪،‬‬ ‫بالشهادة‪ ،‬وقتل يوم اليمامة شهي ً‬
‫وقد رأى رجل من المسلمين ثابت بن قيس في منامه فقال‪ :‬إني‬
‫عا‬
‫لما قتلت بالمس مر بي رجل من المسلمين فانتزع مني در ً‬
‫نفيسة‪ ،‬ومنزله في أقصى العسكر وعند خبائه فرس يستن في‬
‫دا‬
‫ت خال ً‬
‫مة وفوق البرمة رحل‪ ،‬فأ ِ‬ ‫طوله‪ ،‬وقد كفأ على الدرع ب ُْر َ‬
‫فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها‪ ،‬وإذا قدمت المدينة على خليفة‬
‫رسول الله )يعني أبا بكر( فقل له‪ :‬إن على من الدين كذا وكذا‬
‫وفلن من رقيقي عتيق‪ ،‬وإياك أن تقول‪ :‬هذا حلم فتضيعه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫دا فوجهه إلى الدرع فوجدها كما ذكره‪ ،‬وقدم على أبي بكر‬ ‫فأتى خال ً‬
‫فأخبره‪ ،‬فأنفذ أبو بكر وصيته بعد موته‪(3)،‬فل يعلم أحد جازت وصيته‬
‫بعد موته إل ثابت بن قيس بن شماس ‪.‬‬
‫‪ -2‬زيد بن الخطاب ‪:‬‬
‫ما‬‫هو أخو عمر بن الخطاب لبيه وكان أكبر من عمر‪ ،‬أسلم قدي ً‬
‫وشهد بدًرا وما بعدها‪ ,‬قد آخى رسول الله × بينه وبين معن بن‬
‫عدي النصاري وقد قتل جميًعا باليمامة‪ ،‬وقد كانت راية المهاجرين‬
‫يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت‪ ،‬فأخذها سالم‬
‫مولى أبي حذيفة وقد قتل زيد يومئذ الرجال بن عنفوة الذي كانت‬
‫فتنته على بني حنيفة أشد من فتنة مسيلمة فكان مصرعه على يد‬
‫زيد ‪ ،‬والذي قتل زيد رجل يقال له أبو مريم الحنفي‪ ،‬وقد أسلم‬
‫دا بيدي ولم‬ ‫بعد ذلك‪ ،‬وقال لعمر‪ :‬يا أمير المؤمنين إن الله أكرم زي ً‬
‫يهني على يده‪ ،‬وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب‪ :‬رحم‬
‫الله أخي زيد سبقني إلى الحسنيين؛ أسلم قبلي واستشهد قبلي‪.‬‬
‫كا بالشعار‪ :‬لو كنت‬ ‫وقال لمتمم بن نويرة حين جعل يرثي أخاه مال ً‬
‫أحسن الشعر لقلت كما قلت‪ ،‬فقال له متمم‪ :‬لو أن أخي ذهب على‬
‫ما ذهب عليه أخوك ما حزنت عليه‪ ،‬فقال له‪ :‬ما عزاني أحد مثل ما‬
‫دا‬
‫صَبا إل ذكرتني زي ً‬
‫عزيتني به‪ ،‬ومع هذا كان عمر يقول‪ :‬ما هبت ال ّ‬
‫)‪ (2‬النصار في العصر الراشدي‪ :‬ص‬ ‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.309‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.190‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/339 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪212‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫‪.(1) ‬‬
‫‪ -3‬معن بن عدي البلوي‪:‬‬
‫دا والخندق وسائر المشاهد‪ ،‬وكان قد آخى‬ ‫شهد العقبة وبدًرا وأح ً‬
‫رسول الله × بينه وبين زيد بن الخطاب فقتل جميًعا يوم اليمامة‬
‫رضي الله عنهما‪ .‬وكان لمعن بن عدي موقف متميز عند وفاة‬
‫رسول الله ×‪ ،‬فعندما بكى الناس على رسول الله × حين مات‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬والله وددنا أّنا متنا قبله ونخشى أن نفتتن بعده‪ ،‬فقال معن‬
‫لكني والله ما أحب أن أموت قبله‪ ،‬لصدقه ميًتا كما‬
‫)‪(2‬‬
‫بن عدي‪:‬‬
‫صدقته حًيا‪.‬‬
‫‪ -4‬عبد الله بن سهيل بن عمرو‪:‬‬
‫أسلم قدي ً ما وهاجر ثم استضعف بمكة‪ ،‬فلما كان يوم بدر‬
‫خرج معهم‪ ،‬فلما تواجهوا فر إلى المسلمين فشهدها معهم‪ ،‬وقتل‬
‫يوم اليمامة‪ ،‬فلما حج أبو بكر عزى أباه فيه‪ ،‬فقال سهيل‪ :‬بلغني‬
‫قال‪ » (:‬يشفع الشهيد لسبعين من أهله«‪.‬‬ ‫أن رسول الله ×‬
‫)‪ (3‬فأرجو أن يبدأ بي )‪ ، 4‬وقد كان لسهيل بن عمرو ‪ ‬موقف‬
‫عظيم بمكة حين توفي رسول الله × ‪ ،‬فقد ه ّم أكثر أهل مكة‬
‫بالرجوع عن السلم‪ ،‬وأرادوا ذلك حتى خافهم والي مكة عتاب‬
‫بن أسيد‪ ،‬فتوارى‪ ،‬فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه‪،‬‬
‫ثم ذكر وفاة رسول الله × وقال‪ :‬إن ذلك لم يزد السلم إل قوة‪،‬‬
‫فمن رابنا ضربنا عنقه‪ ،‬فتراجع الناس وكفوا عما هموا به‪ ،‬فظهر‬
‫عتاب بن أسيد‪ .‬فهذا المقام الذي أراد رسول الله × في قوله‬
‫لعمر بن الخطاب ‪-‬يعني حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في‬
‫)‪(5‬الساري يوم بدر‪ » :-‬إنه عسى أن يقوم مقا ًما ل تذم ّنه«‬
‫‪.‬‬
‫‪ -5‬أبو دجانة سماك بن خرشة‪:‬‬
‫كانت عليه يوم بدر عصابة حمراء‪ ،‬قيل‪ :‬آخى النبي × بينه وبين‬
‫عتبة بن غزوان‪ .‬وثبت أبو دجانة يوم أحد مع النبي × وبايعه على‬
‫الموت‪ ،‬وهو ممن اشترك في قتل مسيلمة وقُِتل يومئذ‪ .‬وقال زيد‬
‫بن أسلم‪ُ :‬دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل‪ ،‬فقيل‬
‫له‪ :‬ما لوجهك يتهلل؟ فقال‪ :‬ما لي من عملي شيء أوثق عندي من‬
‫كنت ل أتكلم فيما ل يعنيني‪ ،‬والخرى فكان قلبي للمسلمين‬ ‫)‪(6‬‬
‫اثنتين‪:‬‬
‫ما‪.‬‬
‫سلي ً‬
‫وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين‪ ،‬فقد رمى‬
‫بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل‬

‫البداية والنهاية‪.6/240 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.344 ،343 /6 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫سنن أبي داود‪ ،‬في الجهاد‪ ،‬باب الشهيد يشفع‪ ،‬رقم‪.2522 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الذهبي‪ ،‬الخلفاء الراشدون‪ :‬ص ‪.61‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ :‬ص ‪.82‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫عهد الخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪.70‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪213‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫حتى قتل )‪.(1‬‬
‫‪ -6‬عّباد بن بشر‪:‬‬
‫من فضلء الصحابة‪ ،‬عاش خم ًسا وأربعين سنة‪ ،‬وهو الذي‬
‫عصاه ليلة حين انقلب إلى منزله‪ ،‬وكان قد سمر عند‬ ‫)‪(2‬‬
‫أضاءت‬
‫أسلم( عباد على يد مصعب بن عمير وكان فيمن قتل‬ ‫النبي ×‪.‬‬
‫كعب بن الشرف )‪ ، 3‬واستعمله النبي × على صدقات مزينة‬
‫وبني سليم وعلى حرسه بتبوك‪ .‬وأبلى يوم اليمامة بلء حسًنا‬
‫وكان من الشجعان‪ ،‬وعن عائشة قالت‪ :‬ثلثة من النصار لم يكن‬
‫أحد يعتد عليهم فض ًل كلهم من بني عبد الشهل‪ :‬سعد بن معاذ‪،‬‬
‫وأسيد بن حضير‪ ،‬وعباد بن بشر‪ .‬وعن عائشة قالت‪ :‬ته ّجد رسول‬
‫»يا‬
‫)‪(4‬‬
‫الله × في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال‪:‬‬
‫عائشة‪ ،‬هذا صوت عباد؟« قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪» :‬اللهم ارحم عباًدا«‪.‬‬
‫وقد استشهد باليمامة‪.‬‬
‫ويحدثنا أبو سعيد الخدري عنه حيث قال‪ :‬سمعته يقول حين‬
‫لي‪(5‬ثم‬‫)‬
‫فرغنا من بزاخة‪ :‬يا أبا سعيد‪ ،‬رأيت الليلة كأن السماء فرجت‬
‫أطبقت علي فهي إن شاء الله الشهادة‪ ،‬قلت‪ :‬خيًرا والله رأيت‪.‬‬
‫وقد كان له يوم اليمامة مواقف مشهودة‪ ،‬فقد وقف على نشز‬
‫مرتفع من الرض‪ ،‬ثم صاح بأعلى صوته‪ :‬أنا عباد بن بشر‪ ،‬يا للنصار‬
‫ي‪ ،‬فأقبلوا إليه جميًعا وأجابوه‪ :‬لبيك لبيك‪ ،‬ثم‬ ‫ي أل إل ّ‬‫يا للنصار‪ ،‬أل إل ّ‬
‫حطم جفن سيفه فألقاه وحطمت النصار جفون سيوفهم‪ ،‬ثم قال‬
‫ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى‬ ‫جملة صادقة‪ :‬اتبعوني‪ ،‬فخرج حتى‬
‫انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم‪ (6).‬ولما تمكن المسلمون من‬
‫اقتحام باب الحديقة‪ ،‬ألقى درعه على بابها‪ ،‬ثم دخل بالسيف صلتا‬
‫وأربعين( سنة‪ ،‬ولم‬ ‫دا باليمامة وهو ابن خمس‬ ‫يجالدهم حتى قتل شهي ً‬
‫يعرف إل بعلمة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح ‪ 7).‬وقد‬
‫اشتهرت مواقف عباد بن بشر في اليمامة حتى أصبحت مضرب‬
‫الجراح‬
‫)‪(9‬‬
‫المثل‪ (8).‬وبقيت بنو حنيفة تذكر عباد بن بشر‪ ،‬فإذا رأت‬
‫بالرجل منهم تقول‪ :‬هذا ضرب مجرب القوم عباد بن بشر‪.‬‬
‫لقد كان للنصار مواقف عظيمة وإقدام منقطع النظير في‬
‫صا باليمامة‪ ،‬وقد شهد للنصار بالقدام والصبر‬ ‫حروب الردة وخصو ً‬
‫في ذلك اليوم مجاعة بن مرارة الحنفي عند الخليفة أبو بكر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا خليفة رسول الله‪ :‬لم أَر قط أصبر لوقع السيوف ول أصدق كرة‬
‫من النصار؛ فلقد رأيتني وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى‬
‫بني حنيفة‪ ،‬وإني لنظر إلى النصار وهم صرعى‪ ،‬فبكى أبو بكر حتى‬
‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.71‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري‪ ،‬مناقب النصار‪ ،‬رقم‪.3805 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري في المغازي‪ ،‬رقم‪.4037 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري معلقا رقم‪.2655 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الطبقات لبن سعد‪.2/234 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫غزوات ابن حبيش‪.1/121 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الكتفاء للكلعي‪.3/53 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫النصار في العهد الراشدي‪ :‬ص ‪.186‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫الكتفاء للكلعي‪.3/53 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫‪214‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(1‬‬
‫ب ّ‬
‫ل حليته‪.‬‬
‫‪ -7‬الطفيل بن عمرو الدوسي الزدي‪:‬‬
‫فا شاعًرا لبيًبا‪ ،‬وقد رأى الرؤيا قبل‬
‫استشهد باليمامة‪ ،‬وكان شري ً‬
‫استشهاده حيث قال‪ :‬خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي‬
‫حلق وخرج من فمي طائر‪ ،‬وكأن امرأة أدخلتني فرجها فأولتها‪ :‬حلق‬
‫رأسي قطعه‪ ،‬وأما الطائر فروحي‪ ،‬وأما المرأة فالرض أدفن فيها‪،‬‬
‫فاستشهد يوم اليمامة‪ (2).‬وقد استشهد كثير من المهاجرين والنصار‬
‫في هذه المعركة الفاصلة‪.‬‬
‫وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على‬
‫المرتدين ما زالت تبكي شهداءها؛ ففي حرب اليمامة وحدها قتل‬
‫من المسلمين مائتان وألف‪ ،‬منهم عدد من كبار الصحابة وفيهم أكثر‬
‫حفاظ القرآن؛ نحو أربعين من القراء‪ ،‬وعصرت الحزان قلب‬
‫المدينة‪ ،‬وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر‪ ،‬وضاقت الصدور‪،‬‬
‫وثقلت المحنة على‬
‫القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس‪ ،‬وقوى من‬
‫وغرس الثقة‬ ‫إيمانهم‪،‬‬
‫في أعماقهم)‪.(3‬‬
‫سابًعا‪ :‬خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين‬
‫الصديق‪:‬‬
‫أ‪ -‬خدعة مجاعة‪:‬‬
‫بعد انتصار جيش المسلمين في حديقة الموت‪ ،‬بعث خالد ‪‬‬
‫الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي‪ ،‬ثم‬
‫عزم على غزو الحصون‪ ،‬ولم يكن بقي فيها إل النساء والصبيان‬
‫والشيوخ الكبار‪ ،‬فخدعه مجاعة فقال‪ :‬إنها ملى رجال ً مقاتلة فهلم‬
‫فصالحني عنها‪ ،‬فصالحه خالد لما رأى بالمسلمين من الجهد وقد‬
‫كلوا من كثرة الحروب والقتال‪ ،‬فقال‪ :‬دعني حتى أذهب إليهم‬
‫ليوافقوني على الصلح‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب‪ ،‬فسار إليهم مجاعة فأمر‬
‫النساء أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون‪ ،‬فنظر خالد‬
‫فإذا الشرفات ممتلئة من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة‪،‬‬
‫فانتظر الصلح ودعاهم خالد إلى السلم فأسلموا عن آخرهم ورجعوا‬
‫إلى الحق‪ ،‬ورد ّ عليهم خالد بعض ما كان من السبي وساق الباقين‬
‫إلى الصديق‪ ،‬وقد تسرى علي بن أبي طالب)‪(4‬بجارية منهم وهي أم‬
‫ابنه محمد الذي يقال له‪ :‬محمد ابن الحنفية ‪.‬‬
‫وكانت وقعة اليمامة في سنة إحدى وعشرة‪ ،‬وقال الواقدي‬
‫وآخرون‪ :‬كانت في سنة‬
‫ثنتي عشرة‪ ،‬والجمع بينهما أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة‬

‫)( نفس المصدر السابق‪.3/65 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص‬ ‫)( عهد الخلفاء الراشدين للذهبي‪ :‬ص ‪.63 ،62‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.117‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4،‬ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ ،‬خلفة أبي بكر‪ :‬ص ‪.115‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪215‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫والفراغ منها)‪(1‬في سنة‬
‫ثنتي عشرة ‪.‬‬
‫ب‪ -‬زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق‪:‬‬
‫طلب خالد بن الوليد من مجاعة بعدما تم الصلح أن يزوجه‬
‫ل‪ ،‬إنك قاطع ظهرك وظهري معك عند‬ ‫بابنته‪ ،‬فقال له مجاعة‪ :‬مه ً‬
‫صاحبك‪ .‬فقال خالد‪ :‬أيها الرجل زوجني ابنتك‪ ،‬فزوجه مجاعة ابنته‬
‫)‪.(2‬‬
‫وكان الصديق قد أرسل سلمة)‪(3‬بن وقش إلى خالد إن أظفره الله‬
‫بني‪ (4‬حنيفة‪ ،‬فوجده قد‬ ‫أن يقتل من جرت عليه الموسى من‬
‫صالحهم وأتم خالد عقده معهم ووفى لهم ) ‪.‬‬
‫وكان الصديق يستروح الخبر من اليمامة‪ ،‬وينتظر رسول خالد‪،‬‬
‫ما بالعشي ومعه نفر من المهاجرين والنصار إلى ظهر‬ ‫فخرج يو ً‬
‫الحرة فلقي أبا خيثمة النجاري قد أرسله خالد‪ ،‬فلما رآه أبو بكر قال‬
‫له‪ :‬ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال‪ :‬خير يا خليفة رسول الله‪ ،‬قد فتح‬
‫الله علينا اليمامة وهذا كتاب خالد‪ ،‬فسجد الصديق شكًرا لله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أخبرني عن الوقعة كيف كانت؟ فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع‬
‫خالد وكيف صف أصحابه ومن استشهد من الصحابة‪ ،‬وقال أبو‬
‫الله‪(5:‬أتينا من قبل العراب‪ ،‬انهزموا بنا‬ ‫خيثمة‪ :‬يا خليفة رسول‬
‫وعودونا ما لم نكن نحسن ) ‪.‬‬
‫ولما علم الصديق بزواج خالد كتب إليه‪ :‬يا ابن أم خالد إنك لفارغ‬
‫تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم‬
‫ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك عن قومه وقد أمكن‬ ‫يجف بعد‪،‬‬
‫الله منهم‪ (6).‬وإزاء هذا التعنيف الذي وصل إلى خالد من الخليفة‬
‫بسبب مصالحته لمجاعة وزواجه بابنته بعث خالد إليه كتاًبا جوابًيا مع‬
‫عا يتسم بوضوح الحجة‬ ‫أبي برزة السلمي يدافع فيه عن موقفه دفا ً‬
‫وقوة المنطق )‪ ،(7‬يقول فيه‪ :‬أما بعد‪ ،‬فلعمري ما تزوجت النساء‬
‫حتى تم لي السرور وقرت بي الدار‪ ,‬وما تزوجت إل إلى أمري لو‬
‫عملت إليه من المدينة خاطًبا لم أبل‪ ،‬دع أني استثرت خطبتي إليه‬
‫من تحت قدمي‪ ،‬فإن كنت قد كرهت لي ذلك لدين أو لدنيا أعتبتك‪،‬‬
‫وأما حسن عزائي عن قتلى المسلمين فو الله لو كان الحزن يبقى‬
‫حّيا أو يرد ميًتا لبقي حزني الحي ورد الميت‪ ،‬ولقد اقتحمت حتى‬
‫أيست من الحياة وأيقنت بالموت‪ ،‬وأما خديعة مجاعة إياي عن رأيي‬
‫بالغيب‪ ،‬وقد صنع الله‬
‫)‪(8‬‬
‫فإني لم أخطئ رأيي يومي ولم يكن لي علم‬
‫للمسلمين خيًرا‪ :‬أورثهم الرض والعاقبة للمتقين‪.‬‬
‫فلما قدم الكتاب على أبي بكر ‪ ‬رق بعض الرقة وقام رهط‬
‫‪1‬‬

‫الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.110‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أي‪ :‬بلغ الحلم‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الكامل‪.2/38 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪.97‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫حروب الردة‪ :‬ص ‪ ،97‬نقل عن الكتفاء‪.2/14 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫حرب الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.233‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫حروب الردة‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ :‬ص ‪ ،98‬نقل عن الكتفاء‪.2/15 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪216‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دا وقال أبو برزة‪ :‬يا‬ ‫من قريش فيهم أبو برزة السلمي فعذروا خال ً‬
‫خليفة رسول الله ما يوصف خالد بجبن ول خيانة‪ ،‬ولقد أقحم في‬
‫طلب الشهادة حتى أعذر وصبر حتى ظفر‪ ،‬وما صالح القوم إل على‬
‫رضاه‪ ،‬وما أخطأ رأيه بصلح القوم إذ هو ل يرى النساء في الحصون‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬صدقت لكلمك‪ ،‬هذا أولي بعذر خالد من‬ ‫إل رجا ً‬
‫ل‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫كتابه إلي‪.‬‬
‫ونلحظ في رسالة خالد إلى أبي بكر بعض النقاط التي دافع بها‬
‫عن نفسه والتي تمثلت بما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬إنه لم يتزوج إل بعد أن كسب النصر واطمأن به المقام‪.‬‬
‫‪ -2‬إنه أصهر إلى رجل من زعماء قومه وأشرافهم‪.‬‬
‫‪ -3‬إنه لم يتكلف أدنى مشقة في هذا الصهار‪.‬‬
‫‪ -4‬إن هذا الزواج ليس فيه مخالفة دينية أو دنيوية‪.‬‬
‫‪ -5‬إن المتناع بسبب الحزن على قتلى المسلمين تصرف غير‬
‫مجد؛ لن الحزن ل ي ُْبقي حًيا ول يرد ميًتا‪.‬‬
‫‪ -6‬إنه لم يكن يقدم على الجهاد أي أمر آخر‪ ،‬ولقد أبلى فيه بلء‬
‫لم يعد ‪-‬بسببه‪ -‬بينه وبين الموت أي حاجز‪.‬‬
‫دا في تحقيق الخير‬ ‫‪ -7‬إنه في مصالحته لمجاعة لم يأل جه ً‬
‫للمسلمين‪ ،‬وإذا كان مجاعة لم ينقل له الصورة عن قومه‬
‫على حقيقتها‪ ،‬فعذره أنه إنسان ل يدري من أمر الغيب شيًئا‪،‬‬
‫وعلى ذلك فالعاقبة كانت في صالح المسلمين؛ إذ استولوا‬
‫على أرض بني حنيفة ومن ثم فاءت بقيتهم إلى السلم دون‬
‫قتال‪ .‬وعلى هذا فإن الزواج ببنت مجاعة كان أمًرا طبيعًيا ل‬
‫حا أنه كان ناشئا عن إعجابه‬ ‫على خالد فيه بأس‪ ،‬وليس صحي ً‬
‫بمجاعة لغيرته على قومه‪ ،‬ولذا‪ :‬أحب أن يصهر إليه ويوثق‬
‫بينه( وبينه‪ ,‬وطاب له أن يعزز صلة الدين بصلة البيت‬ ‫الصلة‬
‫دا لم يكن ليقدم‬ ‫والنسب)‪ 2‬كما يقول العقاد ذلك؛ لن خال ً‬
‫الدين أو يجمع إليها في التعامل مع الناس‬ ‫على رابطة‬
‫رابطة أخرى )‪.(3‬‬
‫أما أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل في العتذار لخالد فإنه‬
‫مرفوض؛ لنه يتنافى مع أحكام السلم‪ ،‬فقد قال هيكل‪ :‬ومن تكون‬
‫بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنها لن تزيد‬
‫العبقري الفاتح الذي روى أرض‬ ‫على قربان يطرح على قدمي هذا‬
‫اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها )‪.(4‬‬
‫دا الصحابي الكريم وكأنه أخيل أو هكتور‬ ‫فهذه الكلمات تصور خال ً‬
‫أو أغاممنون من قادة حرب طروادة الوثنيين‪ ،‬الذين ل يحارب الواحد‬
‫منهم إل إذا أشير إليه بالبنان أو أمطر بالقبلت والتوسلت؛ لنه ل‬
‫يحارب إل للزعامة والوجاهة‪ ،‬أو كأنه أحد أصنام العرب الذين تسفح‬
‫)( حروب الردة‪ :‬ص ‪.98‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( عبقرية خالد »العبقريات السلمية«‪ :‬ص ‪.92‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬الصديق أبو بكر‪ :‬ص ‪.157‬‬ ‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.235‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫‪217‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ل‪ ،‬أو كأنه إله النيل الذي كان‬ ‫على جنباتهم دماء القرابين تقرًبا وتذل ً‬
‫يعتقد المصريون أنه لن يفيض عليهم بالخير إل إذا قذفوا في بحره‬
‫أجمل بنات مصر‪ ،‬فحاشا أبا سليمان ثم حاشاه من قبل ومن بعد‬
‫من مثل هذه الروح وتلك النفسية‪ ،‬فخالد مؤمن موحد ل يحارب إل‬
‫لعلء كلمة الله ل يبغي عليها جزاء ول شكوًرا من أحد من خلق‬
‫الله‪ ،‬ومرفوض أيضا ما ذهب إليه الجنرال أكرم في تعليله لما وقع‬
‫فيه خالد من ملمات من جراء قصص زواجه في حروب الردة‪ ،‬إذ‬
‫يعيدها إلى لياقته البدنية‪ :‬التي سببت له كثيًرا من المشاكل بين‬
‫حسناوات شبه الجزيرة العربية )‪ (1‬على حد زعمه‪ ،‬وكأن خالد تحول‬
‫إلى زير نساء أو )دون جوان(‪ ،‬وهو الذي لم يكن يهوي شيًئا هواه‬
‫المور‬
‫)‪(2‬‬
‫الجهاد في سبيل الله‪ ،‬ولكنها التوجيهات الباطلة التي تفسر‬
‫دا عن طبيعة الظروف ومعطيات المبادئ وشواهد الخبار‪.‬‬ ‫بعي ً‬
‫دا ‪ ‬كان يقاتل عن دين‪ ،‬ويحتسب الجر عند الله تعالى‪،‬‬ ‫إن خال ً‬
‫يقتحم المعامع بنفسه‪ ،‬وقد وصف بأنه له أناة القطة ووثوب‬ ‫)‪(3‬‬
‫وكان‬
‫ما بالذي يؤثر نفسه عن جنده؛ بل كانوا يجدونه‬ ‫ً‬ ‫يو‬ ‫كان‬ ‫وما‬ ‫‪،‬‬ ‫السد‬
‫أمامهم في كل معترك؛ ففي معركة بزاخة‪ :‬ضّرس في القتال فجعل‬
‫يقحم فرسه ويقولون له‪ :‬الله الله! فإنك أمير القوم ول ينبغي لك‬
‫إني‪ (4‬لعرف ما تقولون‪ ،‬ولكن ما رأيتني أصبر‬ ‫أن تقدم‪ ،‬فيقول‪ :‬والله‬
‫وأخاف هزيمة المسلمين ) ‪.‬‬
‫وفي معركة اليمامة لما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل‬
‫فا وضراوة‪ ،‬برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى‬ ‫منهم إل عن ً‬
‫المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ)‪(5‬وكان‪ :‬يا محمداه‪ ،‬فجعل ل‬
‫يبرز له أحد إل قتله ول شيء إل أكله ‪ ،‬فقد كان يرغب في النصر‬
‫ويتحرى الشهادة‪ ،‬ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه‬
‫وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال‪ :‬ولقد رأيتني في‬
‫الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس‪ ،‬فوقعنا عن‬
‫فرسينا‪ ،‬ثم تعانقنا بالرض‪ ،‬فأجؤه بخنجر في سيفي وجعل يجؤني‬
‫حا أثبته به‬ ‫بمعول في سيفه‪ ،‬فجرحني سبع جراحات‪ ،‬وقد جرحته جر ً‬
‫الجراح‪ ،‬وقد نزفت من الدم إل‬ ‫فاسترخى في يدي وما بي حركة من‬
‫أنه سبقني بالجل فالحمد لله على ذلك‪ (6) .‬وقد شهد خالد لبني‬
‫فا فلم أر‬ ‫حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال‪ :‬شهدت عشرين زح ً‬
‫ما من بني‬ ‫ما أصبر لوقع السيوف ول أضرب بها ول أثبت أقدا ً‬ ‫قو ً‬
‫حركة‪ (7‬من الجراح‪ ،‬ولقد أقحمت حتى‬ ‫بي‬ ‫وما‬ ‫اليمامة…‬ ‫يوم‬ ‫جنيفة‬
‫أيست من الحياة وتيقنت الموت ) ‪.‬‬
‫ثامًنا‪ :‬محاولة قتل خالد بن الوليد وقدوم وفد بني حنيفة‬
‫للصديق ‪:‬‬

‫)( سيف الله خالد بن الوليد‪ ،‬ترجمة العميد الركن صبحي الجابي‪ :‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.236‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ اليعقوبي‪.2/108 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪.744‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/329 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (4،‬خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪.180‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫‪218‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫‪ -1‬محاولة قتل خالد بن الوليد‪:‬‬


‫على الرغم من وضوح باطل الجاهلية وزيفه فإنها ل تتخلى عنه‬
‫بسهولة لنه به ديمومة حياتها‪ ،‬ولذا ما إن تواجه بالحقيقة حتى تأخذ‬
‫في الدفاع عن نفسها بشراسة ول تلقي سيف القتال من يدها إل‬
‫بعد أن يسقط بالقوة )‪ ،(1‬وبعد ذلك تحاول الغدر ما استطاعت إلى‬
‫ذلك سبيل؛ فهذا سلمة بن عمير الحنفي يدلل بفعله على صحة ما‬
‫ذهبت إليه‪ ،‬فقد حاول اغتيال خالد بن الوليد بعد الصلح الذي أجراه‬
‫خالد مع بني حنيفة بشكل عام‪ ،‬إل أنه من حقده الناقع للمسلمين‬
‫فقد دبر خطة اغتيال خالد بن الوليد كجزء من سياسته في رفض‬
‫التصالح معهم‪ ،‬ولما قبض عليه أول مرة وعاهد بني حنيفة أل يعود‬
‫مثلها نكث بعده‪ ،‬إذ أفلت ليل ً من وثاقه الذي أوثقوه به مخافة غدره‪،‬‬
‫فعمد إلى عسكر خالد فصاح به الحرس وفزعت بنو حنيفة فاتبعوه‬
‫فأدركوه في بعض الحوائط »الحدائق«‪ ،‬فشد عليهم بالسيف‬
‫السيف على حلقة فقطع أوداجه »عروق‬ ‫فاكتنفوه بالحجارة‪ ،‬وأجال‬
‫في‪ (3‬بئر فمات)‪ ،(2‬فهذا مثال على عناد الجاهلية في‬ ‫رقبته«‪ ،‬فسقط‬
‫الدفاع عن باطلها ) ‪.‬‬
‫‪ -2‬قدوم وفد بني حنيفة على الصديق‪:‬‬
‫ولما قدمت وفود بني حنيفة على الصديق قال لهم‪ :‬أسمعونا شيًئا‬
‫من قرآن مسيلمة فقالوا‪ :‬أو تعفينا يا خليفة رسول الله؟ فقال‪ :‬ل بد‬
‫من ذلك‪ ،‬فقالوا‪ :‬كان يقول‪ :‬يا ضفدع بنت الضفدعين‪ ،‬نقي لكم‬
‫تنقين‪ ،‬ل الماء تكدرين ول الشارب تمنعين‪ ،‬رأسك في الماء وذ ََنبك‬
‫دا‪،‬‬
‫عا‪ ،‬والحاصدات حص ً‬‫في الطين‪ .‬وكان يقول‪ :‬والمبذرات زر ً‬
‫دا‪،‬‬
‫زا‪ ،‬والثاردات ثر ً‬‫نا‪ ،‬والخابزات خب ً‬
‫حا‪ ،‬والطاحنات طح ً‬ ‫والذاريات قم ً‬
‫نا‪ .‬ويقول‪ :‬لقد فضلتم على أهل الوبر وما‬ ‫ما‪ ،‬إهالة وسم ً‬
‫واللقمات لق ً‬
‫سبقكم أهل المدر‪ ،‬ريفكم فامنعوه والمعتر فآووه‪ ،‬والناعي فواسوه‪.‬‬
‫)‪(4‬وذكروا أشياء من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم‬
‫لهم‪ :‬ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟‬ ‫يلعبون‪ ،‬فيقال‪ :‬إن الصديق قال‬
‫إن هذا الكلم لم يخرج من إل )‪ (5‬ول بر‪.‬‬
‫× وبلغه أن رسول الله ×‬ ‫وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبه بالنبي ‪،‬‬
‫بصق في بئر فغزر ماؤه‪ ،‬فبصق في بئر فغاض ماؤه بالكلية‪ ،‬وفي أخرى‬
‫جا ً وتوضأ فسقي بوضوئه نخل ًفيبست وهلكت‪ ،‬وأتى‬ ‫فصار ماؤه أجا‬
‫بولدان يبرك عليهم‪ ،‬فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه ومنهم‬
‫لسانه‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما‬ ‫)‪(6‬‬
‫من لثغ‬
‫فعمي‪.‬‬
‫تاسًعا‪ :‬جمع القرآن الكريم‪.‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.292‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الطبري‪.118 ،4/117 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.295 -292‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫عند الطبري‪ :‬والباغي فناوئوه‪ ،‬تاريخ الطبري‪.104 -4/102 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تاريخ الطبري‪) ،4/118 :‬إل( من إله )البداية والنهاية‪.(6/331 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/331 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪219‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من‬
‫حفاظ القرآن‪ ،‬وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر ‪ ‬بمشورة عمر بن‬
‫القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف‬ ‫الخطاب ‪ ‬بجمع‬
‫ومن صدور الرجال‪ (1).‬وأسند الصديق هذا العمل العظيم إلى‬
‫يروي‪(2‬زيد بن ثابت ‪‬‬ ‫الصحابي الجليل زيد بن ثابت النصاري ‪،‬‬
‫ي أبو بكر ‪ ‬لمقتل أهل اليمامة ) ‪ ،‬فإذا عمر بن‬ ‫فيقول‪ :‬بعث إل ّ‬
‫الخطاب‪(3‬عنده‪ ،‬قال أبو بكر ‪ :‬إن عمر أتاني فقال‪ :‬إن القتل قد‬
‫اليمامة‪(4‬بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل‬ ‫)‬
‫استحر ) يوم‬
‫بالقراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن‪ ،‬وإني أرى أن‬
‫تأمر‪(5‬بجمع القرآن‪ ،‬قلت لعمر‪ :‬كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله‬
‫× ) ؟! فقال عمر‪ :‬هذا والله خير‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعني حتى‬
‫شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر‪ ،‬ورأيت في ذلك الذي‬
‫نتهمك )‪،(6‬‬ ‫رأى عمر‪ ،‬قال زيد‪ :‬قال أبو بكر‪ :‬وإنك رجل شاب عاقل ل‬
‫وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ×‪ ،‬فتتبع القرآن فاجمعه‪ (7).‬قال‬
‫بأثقل علي مما‬ ‫زيد‪ :‬فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان‬
‫القرآن‪(11‬من العسب )‪ ،(8‬واللخاف‬ ‫كلفني به من جمع القرآن‪ ،‬فتتبعت‬
‫)‪ ،(9‬وصدور الرجال والرقاع )‪ (10‬والكتاف ) قال‪ :‬حتى وجدت آخر‬
‫د‬
‫ق ْ‬ ‫سورة التوبة مع أبي خزيمة النصاري لم أجدها مع أحد غيره‪+ :‬ل َ َ‬
‫ص‬
‫ري ٌ‬‫ح ِ‬
‫م َ‬
‫عن ِت ّ ْ‬
‫ما َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه َ‬ ‫زيٌز َ‬
‫ع ِ‬‫م َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ن أ َن َ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ّ‬‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬‫جا َءَك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫م" ]التوبة‪ ،[128 :‬حتى خاتمة براءة‪،‬‬ ‫حي ٌ‬‫ف ّر ِ‬ ‫ءو ٌ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫ْ‬
‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ُ‬‫علي ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫وكانت الصحف عند‬
‫عمر حياته حتى توفاه الله‪ ،‬ثم‬ ‫عند‬ ‫ثم‬ ‫الله‪،‬‬ ‫توفاه‬ ‫أبي بكر حياته حتى‬
‫عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم )‪.(12‬‬
‫وعلق البغوي على هذا الحديث فقال‪ :‬فيه البيان الواضح؛‬
‫فالصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله‬
‫الله سبحانه وتعالى على رسوله × من غير أن يزيدوا فيه أو ينقصوا‬
‫منه شيًئا‪ ،‬والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث‪ ،‬وهو أنه كان‬
‫مفرًقا في العسب واللخاف وصدور الرجال‪ ،‬فخافوا ذهاب بعضه‬
‫بذهاب حفظته‪ ،‬ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله ودعوه إلى‬
‫جمعه‪ ،‬فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من‬
‫جميعهم‪ ،‬فكتبوه كما سمعوه من رسول الله من غير أن قدموا شيًئا‬
‫أو أخروا‪ ،‬أو وضعوا له ترتيًبا لم يأخذوه من رسول الله ×‪ ،‬وكان‬
‫)( حروب الردة وبناء الدولة السلمية‪ ،‬أحمد سعيد‪ :‬ص ‪.145‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( يعني‪ :‬واقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأعوانه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( استحر‪ :‬كثر واشتد‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أي‪ :‬في الماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( يحتمل أن يكون × إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من‬ ‫‪5‬‬

‫ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلوته‪ ،‬فلما انقضى نزوله بوفاته × ألهم الله‬
‫الخلفاء الراشدين بذلك‪» .‬سيرة وحياة الصديق‪ :‬ص ‪.«120‬‬
‫دا يتقدم على غيره في هذا العمل‪.‬‬ ‫)( هذه الصفات جعلت زي ً‬ ‫‪6‬‬

‫)( أي‪ :‬من الشياء التي عندي وعند غيرك‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( العسب‪ :‬هو جريد النخل‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( اللخاف‪ :‬جمع لخفة‪ :‬وهي صفائح الحجارة‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( الرقاع‪ :‬جمع رقعة وهي قطع الجلود‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( الكتاف‪ :‬جمع كتف‪ ،‬وهو العظم الذي للبعير أو الشاة‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫)( البخاري رقم‪.4986 :‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪220‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫رسول الله × يلقي أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على‬
‫الترتيب الذي هو الن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه‬
‫آية أن هذه الية تكتب عقيب‬ ‫)‪(1‬‬
‫إياه على ذلك‪ ،‬وإعلمه عند نزول كل‬
‫آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا‪.‬‬
‫وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق ‪:‬‬
‫صوحان‪- (3‬رحمه‬ ‫أنه أول من جمع القرآن الكريم‪ .‬يقول صعصعة بن‬
‫الله‪ :-‬أول من جمع بين اللوحين وورث الكللة )‪ (2‬أبو بكر ) ‪.‬‬
‫بن‪(4‬أبي طالب ‪ :‬يرحم الله أبا بكر‪ ،‬هو أول من جمع‬ ‫وقال علي‬
‫بين اللوحين ) ‪.‬‬
‫وقد اختار أبو بكر ‪ ‬زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة‪ ،‬وذلك‬
‫لنه رأى فيه المقومات الساسية للقيام بها‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬كونه شاًبا؛ حيث كان عمره ‪ 21‬سنة فيكون أنشط لما يطلب‬
‫منه‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فيكون أوعى له؛ إذ من وهبه الله عقل ً‬ ‫‪ -2‬كونه أكثر تأهي ً‬
‫حا فقد يسر له سبيل الخير‪.‬‬ ‫راج ً‬
‫‪ -3‬كونه ثقة فليس هو موضًعا للتهمة‪ ،‬فيكون عمله مقبول ً‬
‫وتركن إليه النفس ويطمئن إليه القلب‪.‬‬
‫‪ -4‬كونه كاتبا للوحي‪ ،‬فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا المر‬
‫وممارسة عملية له‪ ،‬فليس غريبا عن هذا العمل ول دخيل ً عليه‬
‫)‪.(5‬‬
‫دا لجمع القرآن‪،‬‬ ‫هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يرشح زي ً‬
‫فكان به جديًرا وبالقيام به خبيًرا‪.‬‬
‫‪ -5‬ويضاف لذلك أنه أحد الربعة الذين جمعوا القرآن على عهد‬
‫النبي ×‪ ،‬فعن قتادة قال‪ :‬سألت أنس بن مالك ‪ :‬من جمع‬
‫النصار‪ :‬أبي‬ ‫)‪(6‬‬
‫القرآن على عهد النبي ×؟ قال‪ :‬أربعة كلهم من‬
‫بن كعب‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وأبو زيد‪.‬‬
‫وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان ل يثبت شيًئا‬
‫ظا من‬ ‫من القرآن إل إذا كان مكتوبا بين يدي النبي × ومحفو ً‬
‫الصحابة‪ ،‬فكان ل يكتفي بالحفظ دون الكتابة خشية أن يكون في‬
‫الحفظ خطأ أو وهم‪ ،‬وأيضا لم يقبل من أحد شيًئا جاء به إل إذا أتى‬
‫معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله‬

‫)( شرح السنة‪ ،4/522 :‬للبغوي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الكللة في رأي أبي بكر الصديق‪ :‬من ل ولد له ول والد‪ ،‬فقال ‪ :‬رأيت في‬ ‫‪2‬‬

‫الكللة رأًيا‪ ،‬فإن يك صواًبا فمن الله‪ ،‬وإن يكن خطأ فمن قَِبلي والشيطان‪،‬‬
‫الكللة ما عدا الولد والوالد‪ ،‬أي‪ :‬هم الخوة‪ .‬انظر‪ :‬موسوعة فقه أبي بكر‬
‫الصديق‪ :‬ص ‪.36‬‬
‫)(‪ (4) ,‬إسناده صحيح‪ :‬أخرجه ابن أبي شيبة‪.7/196 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬
‫)( إسنادهـ صحيحـ‪:‬ـ أخرجه ابن أبي شيبة‪:‬ـ ‪.7/196‬‬

‫)( التفوق والنجابة على نهج الصحابة‪ :‬حمد العجمي‪ :‬ص ‪.73‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( سير أعلم النبلء‪.431 /2 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪221‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫×‪ ،‬وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن‪ (1).‬وعلى هذا المنهج استمر‬
‫زيد ‪ ‬في جمع القرآن حذًرا متثبًتا مبالًغا في الدقة والتحري‪.‬‬
‫كان زيد في طليعة من وحد المصاحف في زمن عثمان بن‬ ‫كما‬
‫عفان ‪ ،(2) ‬وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه‪.‬‬
‫***‬

‫)(‪ (4) ,‬التفوق والنجابة على نهج الصحابة‪ :‬ص ‪.74‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫)( التفوق والنجابةـ على نهج الصحابة‪:‬ـ ص ‪.74‬‬

‫‪222‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المبحث الخامس‬
‫أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة‬
‫ل‪ :‬تحقيق شروط التمكين وأسبابه وآثار شرع الله وصفات‬ ‫أو ً‬
‫المجاهدين‪:‬‬
‫‪-1‬تحقيق شروط التمكين‪:‬‬
‫إن الستخلف في الرض والتمكين لدين الله وإبدال الخوف‬
‫أمًنا‪ ،‬وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪ ،‬ولقد أشار‬
‫القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين ولوازم الستمرار‬
‫مُلوا‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نَ آ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫فيه‪ ،‬قال‬
‫ن‬
‫ِ َ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫ْ َ ْ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ضى‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫من َ ْ ِ ِ ْ َ ُ َ َ ّ ُ ْ ِ َ َ ُ ُ‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ِ‬
‫ن ِبي‬ ‫ََ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫م ً َ ْ ُ ُ َ ِ‬
‫ن‬ ‫دو‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫م ُأ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫و ِ‬ ‫ْ‬ ‫خ‬
‫د َ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ول َي ُب َدّلن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫موا‬ ‫قي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأول َئ ِ َ‬ ‫ك َ‬ ‫عدَ ذَل ِ َ‬ ‫فَر ب َ ْ‬ ‫من ك َ َ‬ ‫و َ‬ ‫شي ًْئا َ‬ ‫َ‬
‫ن"‬ ‫مو‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫عوا‬ ‫طي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫توا‬ ‫وآ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫ْ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ّ‬
‫]النور‪ ،[56 ،55 :‬ولقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين‬
‫وهي‪ :‬اليمان بكل معانيه وبجميع أركانه‪ ،‬وممارسة العمل الصالح‬
‫بكل أنواعه‪ ،‬والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر‪ ،‬وتحقيق‬
‫العبودية الشاملة‪ ،‬ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه‪.‬‬
‫وأما لوازم التمكين فهي‪ :‬إقامة الصلة وإيتاء الزكاة وطاعة‬
‫الرسول × )‪ ،(1‬وقد تحققت هذه الشروط واللوازم كلها في عهد‬
‫الصديق والخلفاء الراشدين من بعده‪ ،‬وكان للصديق الفضل بعد الله‬
‫في تذكير المة بهذه الشروط‪ ،‬ولذلك رفض طلب العراب في وضع‬
‫الزكاة عنهم‪ ،‬وأصر على بعث جيش أسامة‪ ،‬والتزم بالشرع كام ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة‪ ،‬قال عبد الله بن مسعود‪ :‬لقد قمنا‬
‫ن علينا بأبي بكر؛‬ ‫م ّ‬ ‫ما كدنا نهلك فيه لول أن َ‬ ‫بعد رسول الله × مقا ً‬
‫أجمعنا على أن ل نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون وأن نأكل قرى‬
‫قتالهم‪،‬‬ ‫عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين‪ ،‬فعزم الله بأبي بكر على‬
‫فوالله ما رضي منهم إل بالخطة المخزية أو الحرب المجلية )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬الخذ بأسباب التمكين‪:‬‬
‫ط‬
‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫من ُ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ َ ِ‬ ‫ْ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م لَ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫وآ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫و‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ن بِ‬‫هُبو َ‬ ‫ل ت ُْر ِ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ال َ‬
‫ه‬
‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫و َ‬ ‫م ْ ََ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫م الل َ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫مون َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫عل َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ن" ]النفال‪ [،6 :‬وقد لحظت أن الصديق‬ ‫مو َ‬ ‫م ل َ ت ُظل ُ‬ ‫وأن ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ف إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫و ّ‬ ‫يُ َ‬
‫يش الجيوش وعقد اللوية‬ ‫ل؛ معنوًيا ومادًيا‪ ،‬فج ّ‬ ‫‪ ‬كان إعداده شام ً‬
‫واختار القادة لحروب الردة‪ ،‬وراسل المرتدين‪ ،‬وحرض الصحابة على‬
‫قتالهم وجمع السلح والخيل والبل وجهز الغزاة‪ ،‬وحارب البدع والجهل‬
‫كم ّ الشريعة وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪ ،‬وأخذ‬ ‫والهوى‪ ،‬وح‬
‫بمبدأ التفرغ‪ ،‬وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش‪،‬‬
‫)( فقه التمكين في القرآن الكريم للصلبي‪ :‬ص ‪.157‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الكامل في التاريخ‪.2/21 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪223‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫وزيد بن ثابت لجمع القرآن‪ ،‬وأبو برزة السلمي للمراسلت الحربية‬
‫وهكذا‪ ،‬واهتم بالجانب المني والعلمي وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫‪ -3‬آثار تحكيم الشرع‪:‬‬
‫تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين الله‬
‫للصحابة‪ ،‬فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم وأهليهم‪،‬‬
‫وأخلصوا لله في تحاكمهم إلى شرعه‪ ،‬فالله ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬قواهم‬
‫والستقرار‪ ،‬قال‬ ‫المنل ْم ُ‬ ‫وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين‪ ،‬ورزقهم‬
‫م‬‫ُ ُ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ه ْ ِ‬
‫ب‬ ‫م‬ ‫مان َ ُ‬ ‫سوا ِإي َ‬ ‫م ي َل ْب ِ ُ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫ٍ‬
‫ن" ]النعام‪،[82 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ُ‬ ‫ال ْ‬
‫وتحققت فيهم سنة الله في نصرته لمن ينصره؛ لن الله ضمن لمن‬
‫استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ن ِإن‬ ‫ذي َ‬ ‫زيٌز ‪َ ‬ال ّ ِ‬ ‫ع َِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫صُرهُ إ ِ ّ‬ ‫من ََين ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ ُ‬ ‫صَر ّ‬ ‫ول ََين ُ‬ ‫‪َّ +‬‬
‫مُروا‬ ‫َ َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫كا‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫وا‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫وآ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫ُْ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ض‬
‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫مك‬ ‫ّ‬
‫ر" ]الحج‪،40 :‬‬ ‫مو‬ ‫ة ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫عا‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ولل‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫رو‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫بال ْ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫‪.[41‬‬
‫وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت مجموعة على‬
‫هدى الله إل منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف …«‬
‫)‪ .(1‬وقد انتشرت الفضائل وانحسرت الرذائل في‬
‫عهد الصديق ‪.‬‬
‫‪ -4‬صفات جيل التمكين‪:‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫عن ِدين ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ َ ْ‬ ‫من ي ّْر َت َدّ ِ‬ ‫َ‬ ‫مُنوا‬ ‫َ‬ ‫نآ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬ ‫قال‬
‫على‬ ‫ة َ‬ ‫ه أِذل ّ ٍ‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫وي ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حب ّ ُ‬ ‫وم ٍ ي ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬‫ه بِ َ‬ ‫ُ‬ ‫تي الل‬ ‫ف ي َأ ْ َِ‬ ‫و َ‬ ‫س ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬‫جا ِ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ري َ‬ ‫فَ ِ‬ ‫َ‬
‫على الكا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ة َ‬ ‫عّز ٍ‬ ‫نأ ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ال ُ‬‫ْ‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫شاءُ َ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ؤِتي ِ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ة لئ ِم ٍ ذَل ِ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫فو َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ول َ ي َ َ‬ ‫َ‬
‫م" ]المائدة‪ ،[54 :‬هذه الصفات المذكورة في هذه الية‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫س ٌ‬ ‫وا ِ‬ ‫َ‬
‫الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق ‪ ‬وجيوشه من‬
‫قاتلوا المرتدين‪ ،‬فقد مدحهم الله بأكمل الصفات‬ ‫الصحابة الذين‬
‫وأعلى الميزات )‪ ،(2‬فهذه الصفات‪:‬‬
‫ه"‪:‬‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫وي ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حب ّ ُ‬ ‫أ‪+ -‬ي ُ ِ‬
‫مذهب السلف في المحبة المسندة له سبحانه وتعالى أنها ثابتة‬
‫له تعالى بل كيف ول تأويل‪ ،‬ول مشاركة للمخلوق في شيء من‬
‫خصائصها‪ (3).‬لقد أحب المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬ذلك الجيل لما بذلوه من‬
‫ضا تقرًبا إلى‬ ‫أجل دينهم‪ ،‬وبما تطوعوا به بما لم يفرض عليهم فر ً‬
‫لرسوله واتخاذهم المندوبات والمستحبات كأنها فروض‬ ‫الله وحًبا‬
‫واجبة التنفيذ )‪ ،(4‬ولقد اتصف هذا الجيل بصفات الحسان والتقوى‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫والصبر التي ذكر المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬بأنه يحبها‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬

‫في ظلل القرآن‪.4/270 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام‪.2/534 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير القاسمي‪.6/253 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫كيف نكتب التاريخ السلمي‪ ،‬لمحمد قطب‪ :‬ص ‪.90‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪224‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن‬‫في َ‬ ‫عا ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ظ َ‬ ‫غي ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مي َ‬‫كاظِ ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ء َ‬ ‫ضّرا ِ‬ ‫وال ّ‬ ‫ء َ‬ ‫سّرا ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ي ُن ْ ِ‬
‫ن" ]آل عمران‪ ،[76 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ني‬‫س‬ ‫ح‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫والل‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ْ‬
‫ُ ْ ِ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ ُ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ِ َ َ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ع ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل‬ ‫َ‬ ‫قي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫َ ُ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫قى‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫ِ َ ْ ِ ِ َ‬‫ه‬ ‫ع‬‫ب‬ ‫فى‬ ‫و‬ ‫أ‬
‫َ ْ ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫‪+‬‬
‫ما‬
‫عمران‪ ،[76 :‬ولقد أحب الصحابة المولى ‪-‬عز وجل‪ -‬حّبا عظي ً‬
‫فقدموا محابه على كل شيء‪ ،‬وبغضوا ما أبغضه‪ ،‬ووالوا ما واله‬
‫وعادوا من عاداه‪ ،‬واتبعوا رسوله واقتفوا أثره‪ .‬لقد أحب الصحابة‬
‫ربهم وخالقهم ورازقهم؛ لن النفوس مجبولة على حب من أحسن‬
‫إليها‪ ،‬وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر‪ ،‬وشرع فيسر‪ ،‬وجعل‬
‫النسان في أحسن تقويم‪ ،‬ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما‬
‫ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ ،‬لهذا كله‬
‫ولكثر منه أحب ذلك الجيل ربهم حّبا ل مثيل له‪ ،‬فقدموا أنفسهم‬
‫وأهليهم وأموالهم في سبيل الله بل تردد أو مّنة‪ ،‬بل اعتبروا ذلك‬
‫والستشهاد في سبيله‬ ‫)‪(1‬‬
‫تفضل ً من الله عليهم‪ ،‬أن فتح لهم باب الجهاد‬
‫ويسر لهم أسبابه‪ ،‬فقاموا بذلك الواجب خير قيام ‪.‬‬
‫عَلى‬ ‫ة َ‬ ‫عّز ٍ‬‫ن أَ ِ‬‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫ة َ‬ ‫َ‬
‫ب‪ -‬قوله تعالى‪+ :‬أِذل ّ ٍ‬
‫ن"‪:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬
‫كا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فهذه صفات المؤمنين الكمل؛)‪(2‬أن يكون أحدهم متواضًعا لخيه‬
‫ووليه متعزًزا على خصمه وعدوه‪ .‬ولذلك قام الصديق وجنوده‬
‫الكرام بمناصرة المسلمين وخرج بنفسه يقاتل المرتدين‪ ،‬وسير أحد‬
‫عشر لواء لرفع الظلم عن المؤمنين وكسر شوكة المرتدين‪ ،‬ولم‬
‫يقبل من المرتدين الذين عذبوا المستضعفين من مواطنيهم‬
‫المسلمين إل أن يأخذ بحقهم منهم فيفعل بهم كما فعلوا بهم‪،‬‬
‫وكذلك فعل قادة جيوشه‪ ،‬وكان ‪ ‬حريصا على مراعاة أحوال‬
‫الرعية في المجتمع‪ ،‬فقد مر بنا كيف كان يعامل الجواري والعجائز‬
‫وكبار السن ‪ ،‬لقد سادت هذه الصفات في عصر الصديق‬
‫وتجسدت في حياة الناس‪.‬‬
‫ة لئ ِم ٍ"‪:‬‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫فو َ‬ ‫ول َ ي َ َ‬
‫خا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫ج‪+ -‬ي ُ َ‬
‫وقد ظهرت صفة المجاهدة لعداء الله في عصر الصديق في‬
‫حربهم للمرتدين وكسرهم لشوكتهم‪ ،‬ومن بعد في الفتوحات‬
‫السلمية التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى‪ ،‬ولقد جاهد الصحابة‬
‫أعداءهم من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا‪ ,‬وتحقيق عبادة الله‬
‫وحده‪ ،‬وإقامة حكم الله ونظام السلم في الرض‪ ،‬ودفع عدوان‬
‫المرتدين‪ ،‬ومنع الظلم بين الناس‪ ،‬وبالجهاد في سبيل الله تحقق‬
‫إعزاز المسلمين وإذلل المرتدين‪ ،‬ورجع الناس إلى دين الله‪،‬‬
‫واستطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق ‪ ‬أن تجعل من‬
‫الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع‪ ،‬وأصبحت‬
‫الجزيرة هي النبع الصافي الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع‬
‫الرض‪ ،‬بواسطة رجال عركتهم الحياة وأصبحوا من أهل الخبرات‬
‫والجهاد وإقامة شرع الله‬ ‫المتعددة في مجالت التربية والتعليم‬
‫الشامل لسعاد بني النسان حيثما كان)‪.(3‬‬
‫)( اليمان وأثره في الحياة للقرضاوي‪ :‬ص ‪.12 – 5‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القاسمي‪.6/255 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( فقه التمكين في القرآن الكريم‪ :‬ص ‪.491‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪225‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫لقد كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعداد‬
‫ربانًيا للفتوحات السلمية‪ ،‬حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات‪،‬‬
‫وتفجرت الطاقات‪ ،‬واكتشفت قيادات ميدانية‪ ،‬وتفنن القادة في‬
‫الساليب والخطط الحربية‪ ،‬وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة‬
‫المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل‪،‬‬
‫من أجل ماذا تضحي وتبذل‪ ،‬ولذا كان‬ ‫وتقدم كل شيء وهي تعلم‬
‫ما )‪.(1‬‬‫الداء فائقا والتفاني عظي ً‬
‫لقد توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد الصحابة‬
‫مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها بزوال الرؤوس‬
‫أو انتظامها ضمن المد السلمي‪ ،‬وبسطت عاصمة السلم )المدينة(‬
‫هيمنتها على ربوع الجزيرة‪ ،‬وأصبحت المة تسير بمبدأ واحد وبفكرة‬
‫واحدة‪ ،‬فكان النتصار انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة‬
‫بتضامنها وتغلبها على عوامل التفكك والعصبية‪ ،‬كما كنت برهانا على‬
‫الدولة‪(2‬السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف‬ ‫أن‬
‫الزمات ) ‪.‬‬
‫وهكذا كان الصحابة يجاهدون في سبيل الله ول يخافون لومة‬
‫لصلبتهم في دينهم ولنهم يعملون لحقاق‬ ‫أحد واعتراضه ونقده؛‬
‫الحق وإبطال الباطل )‪.(3‬‬
‫من ي َ َ‬
‫شاءُ"‪:‬‬ ‫ه َ‬ ‫ه يُ ْ‬
‫ؤِتي ِ‬ ‫ل الل ِ‬‫ض ُ‬
‫ف ْ‬ ‫د‪+ -‬ذَل ِ َ‬
‫ك َ‬
‫الشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم وحبهم لله وذلتهم‬
‫للمؤمنين وعزتهم على الكافرين‪ ،‬وجهادهم في سبيل الله وعدم‬
‫مبالتهم للوم اللوام‪ ،‬فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه‪،‬‬
‫به مزيد إكرام من سعة جوده‪ ،‬والله‬ ‫يؤتيه من يشاء؛ أي‪ :‬ممن يريد‬
‫واسع كثير الفواضل جل جلله )‪ ،(4‬عليم بمن هو أهلها‪(5)،‬فهو تعالى‬
‫واسع الفضل‪ ،‬عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرم منه ‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬وصف المجتمع في عصر الصديق‪:‬‬
‫حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلفة الراشدة تتضح لنا‬
‫مجموعة من السمات منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه ‪-‬في عمومه‪ -‬مجتمع مسلم بكامل معنى السلم‪ ،‬عميق‬
‫اليمان بالله واليوم الخر‪ ،‬مطبق لتعاليم السلم بجدية واضحة‬
‫والتزام ظاهر‪ ،‬وبأقل قدر من المعاصي وقع في أي مجتمع في‬
‫التاريخ‪ ،‬فالدين بالنسبة له هو الحياة وليس شيًئا هامشًيا يفئ إليه‬
‫بين الحين والحين‪ ،‬إنما هو حياة الناس وروحهم ليس فقط فيما‬
‫يؤدونه من شعائر تعبدية يحرصون على أدائها على وجهها الصحيح‪،‬‬
‫وإنما من أخلقياتهم وتصوراتهم واهتماماتهم وقيمهم وروابطهم‬
‫الجتماعية‪ ،‬وعلقات السرة وعلقات الجوار والبيع والشراء‬
‫والضرب في مناكب الرض والسعي وراء الرزاق‪ ،‬وأمانة التعامل‬
‫تاريخ صدر السلم للشجاع‪ :‬ص ‪.143 ،142‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الدعوة السلمية‪ ،‬د‪ :‬جميل المصري‪ :‬ص ‪.256‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير المنير‪.6/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تفسير القاسمي‪.6/258 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تفسير المنير‪.6/233 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪226‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وكفالة القادرين لغير القادرين‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫والرقابة على أعمال الحكام والولة‪ ،‬ول يعني هذا بطبيعة الحال أن‬
‫كل أفراد المجتمع هم على هذا الوصف‪ ،‬فهذا ل يتحقق في الحياة‬
‫الدنيا ول في أي مجتمع من البشر‪ .‬وقد كان في مجتمع الرسول ×‬
‫‪-‬كما ورد في كتاب الله‪ -‬منافقون يتظاهرون بالسلم‪ ،‬وهم في‬
‫دخيلة أنفسهم من العداء‪ ،‬وكان فيه ضعاف اليمان والمعوقون‬
‫والمتثاقلون والمبطئون والخائنون‪ ،‬ولكن هؤلء جميًعا لم يكن لهم‬
‫وزن في ذلك المجتمع ول قدرة على تحويل مجراه؛ لن التيار‬
‫المجاهدين( في‬ ‫الدافق هو تيار أولئك المؤمنين الصادقي اليمان‪،‬‬
‫سبيل الله بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬الملتزمين بتعالم هذا الدين )‪. 1‬‬
‫‪ -2‬أنه المجتمع الذي تحقق فيه أعلى مستويات المعنى الحقيقي‬
‫)للمة(‪ ،‬فليست المة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللغة‬
‫ووحدة الرض ووحدة المصالح‪ ،‬فتلك هي الروابط التي تربط البشر‬
‫في الجاهلية‪ ،‬فإن تكونت منهم أمة فهي أمة جاهلية‪ ،‬أما المة‬
‫بمعناها الرباني‪ ،‬فهي المة التي تربط بينها رابطة العقيدة بصرف‬
‫النظر عن اللغة والجنس واللون ومصالح الرض القريبة‪ ،‬وهذه لم‬
‫تتحقق في التاريخ وحده كما تحققت في المة السلمية‪ ،‬فالمة‬
‫السلمية هي التي حققت معنى المة أطول فترة من الزمن عرفتها‬
‫الرض‪ ،‬أمة ل تقوم على عصبية الرض ول الجنس ول اللون ول‬
‫المصالح الرضية‪ ،‬إنما هو رباط العقيدة يربط بين العربي والحبشي‬
‫والرومي والفارسي‪ ،‬يربط بين البلد المفتوحة والمة الفاتحة على‬
‫أساس الخوة الكاملة في الدين‪ ،‬ولئن كان معنى المة قد حققته‬
‫هذه المة أطول فترة عرفتها الرض فقد كانت فترة صدر السلم‬
‫أزهى فترة تحققت فيها)‪(2‬معاني السلم كلها بما فيها معنى المة‬
‫على نحو غير مسبوق‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه مجتمع أخلقي يقوم على قاعدة أخلقية واضحة مستمدة‬
‫من أوامر الدين وتوجيهاته‪ ،‬وهي قاعدة ل تشمل علقات الجنسين‬
‫وحدها‪ ،‬وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع فهو خال من‬
‫التبرج ومن فوضى الختلط‪ ،‬وخال من كل ما يخدش الحياء من‬
‫فعل أو قول أو إشارة‪ ،‬وخال من الفاحشة إل القليل الذي ل يخلو‬
‫منه مجتمع على الطلق‪ ،‬ولكن القاعدة الخلقية أوسع بكثير من‬
‫علقات الجنسين؛ فهي تشمل السياسة والقتصاد والجتماع والفكر‬
‫والتعبير‪ ،‬فالحكم قائم على أخلقيات السلم‪ ,‬والعلقات القتصادية‬
‫من بيع وشراء وتبادل واستغلل للمال قائمة على أخلقيات السلم‪،‬‬
‫والخلص‬
‫)‪(3‬‬
‫وعلقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والمانة‬
‫والتعاون والحب‪ ،‬ل غمز ول لمز ول نميمة ول قذف للعراض‪.‬‬
‫‪ -4‬أنه مجتمع جاد مشغول بمعالي المور ل بسفاسفها‪ ،‬وليس‬
‫سا وصرامة‪ ،‬ولكنه روح تبعث الهمة في الناس‬ ‫الجد بالضرورة عبو ً‬
‫وتحث على النشاط والعمل والحركة‪ ،‬كما أن اهتمامات الناس هي‬
‫اهتمامات أعلى وأبعد من واقع الحس القريب‪ ،‬وليست فيه سمات‬
‫)( كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪.100‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.101‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (4 ،3 ،2،‬كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪.102‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪227‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫البيوت وفي الطرقات‬ ‫المجتمع الفارغة المترهلة التي تتسكع في‬


‫تبحث عن وسيلة لقتل الوقت من شدة الفراغ )‪.(1‬‬
‫‪ -5‬أنه مجتمع مجند للعمل في كل اتجاه‪ ،‬فيه روح الجندية‬
‫واضحة ل في القتال في‬
‫سبيل الله فحسب‪ ،‬وإن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيًزا‬
‫كبيًرا من حياة هذا المجتمع‪ ،‬ولكن في جميع التجاهات؛ فالكل‬
‫متأهب للعمل في اللحظة التي يطلب منه فيها العمل‪ ،‬ومن ثم لم‬
‫يكن في حاجة لي تعبئة عسكرية ول مدنية‪ ،‬فهو معبأ من تلقاء‬
‫بدافع العقيدة وبتأثير شحنتها الدافعة لبذل النشاط في كل‬ ‫نفسه‬
‫اتجاه )‪.(2‬‬
‫‪ -6‬أنه مجتمع متعبد‪ ،‬تلمس روح العبادة واضحة في تصرفاته‪،‬‬
‫ليس فقط في أداء الفرائض والتطوع بالنوافل ابتغاء مرضاة الله‪،‬‬
‫ولكن في أداء العمال جميًعا؛ فالعمل في حسه عبادة يؤديه بروح‬
‫العبادة‪ ،‬الحاكم يسوس رعيته بروح العبادة‪ ،‬والمعلم الذي يعلم‬
‫القرآن ويفقه الناس في الدين يعلم بروح العبادة‪ ،‬والتاجر الذي‬
‫يراعي الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة‪ ،‬والزوج يرعى‬
‫قا لتوجيه‬ ‫تحقي ً‬ ‫بيته بروح العبادة‪ ،‬والزوجة ترعى بيتها بروح العبادة‪،‬‬
‫رسول الله ×‪» :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته« )‪.(3‬‬
‫هذه من أهم سمات عصر الصديق الذي هو بداية الخلفة‬
‫ما في أعلى آفاقه‪ ،‬وهي‬ ‫الراشدة‪ ،‬وهذه السمات جعلته مجتمًعا مسل ً‬
‫التي جعلت هذه الفترة هي الفترة الثالثة في تاريخ السلم‪ ،‬كما أنها‬
‫هي التي ساعدت في نشر هذا الدين بالسرعة العجيبة التي انتشر‬
‫بها‪ ،‬فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كله‪،‬‬
‫ضا تمتد من المحيط غربا‬ ‫ما أر ً‬
‫بحيث شملت في أقل من خمسين عا ً‬
‫إلى الهند شرقا‪ ،‬وهي ظاهرة في ذاتها تستحق التسجيل والبراز‪،‬‬
‫وكذلك دخول الناس في السلم في البلد المفتوحة بل قهر ول‬
‫ضغط‪ ،‬وقد كانت تلك السمات التي اشتمل عليها المجتمع المسلم‬
‫هي الرصيد الحقيقي لهذه الظاهرة‪ ،‬فقد أحب الناس السلم لما‬
‫على‪ (4‬هذه الصورة العجيبة الوضاءة‪ ،‬فأحبوا أن يكونوا‬ ‫قا‬
‫رأووه مطب ً‬
‫من بين معتنقيه ) ‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي‪:‬‬
‫أدت حركة الدولة السلمية الضاربة في الجزيرة العربية إلى‬
‫لجوء كثير من القبائل المجاورة لكل من الروم والفرس وأبوا‬
‫التسليم للدولة السلمية‪ ،‬وما إن سمعوا بوفاة رسول الله × حتى‬
‫هذه القبائل‬ ‫سعوا للتقرب من الدولتين‪ ،‬واستغل الفرس والروم‬
‫بالحض والتشجيع والدعم لتقف ضد الدولة السلمية )‪ ،(5‬فكانت‬
‫سياسة الصديق للتصدي لهذا الدعم الخارجي بأن أرسل حملة‬
‫أسامة بن زيد إلى الشام بعد وفاة رسول الله ×‪ ،‬فكانت تلك‬
‫الحملة بمثابة الضمان لعدم استرسال تلك القبائل على مهاجمة‬
‫ضا خالد بن سعيد بن العاص على‬ ‫الدولة السلمية‪ ،‬وأرسل أبو بكر أي ً‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( كيف نكتب التاريخ السلمي‪ :‬ص ‪.103‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.311‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪228‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫رأس جيش إلى الحمقتين من مشارف الشام‪ ،‬وعمرو بن العاص‬
‫إلى تبوك ودومة الجندل‪ ،‬وأرسل العلء بن الحضرمي إلى البحرين‬
‫»أي‪ :‬ساحل الخليج العربي كله«‪ ،‬ثم تابع المثنى بن حارثة الشيباني‬
‫إلى جنوب العراق بعد القضاء على ردة البحرين‪ ،‬واضطرت سجاح‬
‫التميمية ‪-‬وقد كانت من نصارى العرب في العراق التي كانت تحت‬
‫سيطرة الفرس‪ -‬أن ترتد عائدة إلى العراق لما رأت قوة المسلمين‪.‬‬
‫لقد كان المسلمون بقيادة أبي بكر على مستوى اليقظة‬
‫والمسئولية‪ ،‬فحفظوا الحدود الشمالية بدقة‪ ،‬فمن الشرق إلى‬
‫الغرب على طول الحدود الشمالية المتاخمة للفرس والروم نجد‬
‫العلء بن الحضرمي‪ ،‬وخالد بن الوليد شمال نجد‪ ،‬ثم عمرو بن‬
‫الجندل‪(1،‬وخالد بن سعيد على مشارف الشام‪،‬‬ ‫العاص في دومة‬
‫ناهيك عن جيش أسامة ) ‪.‬‬
‫كان الفرس يتربصون بالسلم الدوائر‪ ،‬ولكنهم كمنوا كمون‬
‫الفعى‪ ،‬وخاصة أنهم كانوا يرون المد السلمي يكتسح من أمامه كل‬
‫أقزام التاريخ‪ ،‬ويزيح من وجهه جميع قوى الشر والطغيان‪ ،‬وعندما‬
‫حانت الفرصة بارتداد بعض القبائل عن السلم‪ ،‬وتوجهت قبيلة بكر‬
‫بن وائل إلى كسرى بعد وفاة الرسول × تعرض عليه إمارة البحرين‬
‫فلقى العرض قبول ً لديه‪ ،‬وأرسل معهم المنذر بن النعمان على‬
‫رأس قوة مؤلفة من سبعة آلف فارس وراجل وعدد من الخيل‬
‫مواجهة المسلمين‪ ،‬وهم‬ ‫تقارب في أعدادها المائة لمساعدتهم في‬
‫الكلعي )‪ ،(2‬وكان مسيلمة‬ ‫شرذمة ل يخشى خطرهم كما يقول‬
‫الكذاب تتطلع إليه العين من بلط فارس )‪ ،(3‬وقد ذكر الدكتور‬
‫محمد حسين هيكل‪ :‬من أن سجاح لم تنحدر من شمالي العراق إلى‬
‫الفرس وعمالهم في‬ ‫شبه الجزيرة يتبعها رهطها إل مدفوعة بتحريض‬
‫العراق‪ ،‬كي يزيدوا الثورة في بلد العرب اشتعال ً )‪.(4‬‬
‫هذا عن دور الفرس‪ ،‬أما دور الروم فقد كان أظهر وأخطر؛‬
‫ذلك لن موقف الروم من السلم ودولته كان أصلب وأعتى‪ ،‬فهم‬
‫أمة ذات فكر وعقيدة وذات نظم وقوانين متقدمة‪ ،‬ولهم من‬
‫العدد وال ُ عدد مدد ل يكاد ينقطع‪ ،‬ومن الحلفاء والتباع دول ودول‪،‬‬
‫ولذا كانت العلقات بينهما في أعلى درجات سخونتها وتوترها منذ‬
‫فترات مبكرة )‪ ، (5‬وقد لجأ الروم ومنذ وقت مبكر بعد وصول كتب‬
‫رسول الله × إلى محاولة الصدام مع المسلمين‪ ،‬فكان من جراء‬
‫ذلك غزوتا‪ :‬مؤتة وتبوك اللتان أثبتتا لهم ماد ًيا أن الدولة السلمية‬
‫ليس من السهل ابتلعها أو شراء أصحابها‪ ،‬كما أثبتتا للمسلمين‬
‫من جهة أخرى إخلص متنصرة العرب من قبائل الشام لبناء‬
‫دينهم من الروم‪ ،‬وعلى الرغم من التفاقيات التي عقدها رسول‬
‫الله × بنفسه إثر غزوة تبوك مع أمراء الشام من أتباع الروم‪،‬‬
‫فإن الروم كانوا ل يكفون عن مناوشة الدولة السلمية ومحاولة‬
‫قص أجنحتها‪ ،‬وبالتالي القضاء عليها‪ ،‬وكان الصديق ‪ ‬متنبها لهذا‬
‫حروب الردة‪ :‬ص ‪.175 ،174‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الكتفاء في تاريخ المصطفى والثلثة الخلفاء‪.(319 ،318 /3) :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫السلم والحركات المضادة‪ :‬ص ‪ ،146‬للدكتور الخربوطلي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الردة‪ ،‬غيداء خزنة كاتبي‪ :‬ص ‪ ،49‬مخطوطة نقل عن حركة الردة‪ :‬ص ‪.146‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.146‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪229‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫المر جي ً دا‪ ،‬وقد تمثل ذلك في إصراره الشديد على إنفاذ جيش‬
‫أسامة لوجهته‪ ،‬وقد رأى قبائل العرب في شمالي الجزيرة من‬
‫لخم وغسان وجذام وبلى وقضاعة وعذرة وكلب تعود للنقضاض‬
‫ن غير الدولة‬ ‫م ْ‬
‫على عهود رسول الله × التي أبرمها معها‪ ،‬و َ‬
‫الرومية يمدهم بوقود المعركة من سلح ورجال ومال‬
‫ومخططات؟ وكأنه كان يريد أن يقول للروم بلسان الحال‪ :‬إنه‬
‫على الرغم من انتقاض العرب داخل بلدي فإن ذلك لن يفت في‬
‫قادرون أن نصد عن دولتنا أكبر‬ ‫عضدنا نحن المسلمين‪ ،‬ونحن‬
‫هجمة عالمية ولو كانت من جانبكم )‪.(1‬‬
‫إن انتقاض الجزيرة العربية جدد المل عند الفرس والروم‬
‫بأن العرب سيقضون على السلم‪ ،‬وقدمت الفرس والروم‬
‫للعرب الثائرين على الحكم السلمي كثي ًرا من المساعدات‪,‬‬
‫وآوت الفارين منهم‪ ،‬ولذلك لم يكد المسلمون يعيدون الجزيرة‬
‫نحو الشمال‬ ‫العربية إلى وحدتها حتى كان الوان قد آن للزحف‬
‫لمواجهة العدوين الكبيرين اللذين يتربصان بالسلم)‪.(2‬‬
‫لقد تحرك الصديق من قاعدته المينة )المدينة المنورة(‪ ،‬وبعث‬
‫منها الجيوش وزودها بكل ما من شأنه أن يجعلها ذات هيبة في‬
‫عيون أعدائها وفي قلوبهم‪ ،‬وقد استطاع الصديق أن يفيض من‬
‫قاعدته الخير على بقية أرجاء الجزيرة العربية‪ ،‬وما كان له أن ينطلق‬
‫من قاعدته الكبرى الجزيرة‬ ‫لفتح بلد الشام والعراق لول أنه أ ّ‬
‫العربية؛ موالية للسلم‪ ،‬موحدة على أساسه‪ ،‬وقد تمثل أمن هذه‬
‫القاعدة في ثلثة مستويات هي‪:‬‬
‫ل‪ :‬عزم الخليفة على مواصلة الجهاد وإيمانه الوطيد بصلحية‬ ‫أو ً‬
‫يا‪ :‬نظافة مجتمعه الصغر ‪-‬مجتمع‬ ‫فكره وتميزه واستعلئه به‪ .‬وثان ً‬
‫ثا‪ :‬تطهير مجتمعه الكبر ‪-‬وهو‬ ‫المدينة‪ -‬من مهاجرين وأنصار‪ .‬وثال ً‬
‫المجتمع العربي‪ -‬من أدران الشرك وعقابيل الردة‪ ،‬وقد أنبتت هذه‬
‫خا قوًيا واستطاع‬ ‫المستويات بعضها على بعض حتى سما البناء شام ً‬
‫أن يرمي به ثغور العراق والشام رمًيا زعزع كيانات الروم والفرس‬
‫زعزعة شديدة في أمد قصير‪ ،‬وما ذلك إل لن الجيوش المنطلقة‬
‫من الجزيرة كانت موحدة الصفوف موحدة الفكر موحدة الراية‪،‬‬
‫مؤمنة‬ ‫محمية الظهر‪،‬‬
‫مراكز التموين )‪.(3‬‬
‫رابًعا‪ :‬من نتائج أحداث الردة‪:‬‬
‫خلفت حروب الردة آثاًرا ونتائج لم تكن محدودة الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وإنما شملت أجيال ً وآماًدا وتصورات وأفكاًرا وسلوكيات‬
‫ما ما زالت تغذي الجيال من بعدها وتمدها بالكثير‪ ،‬ومن أهم‬ ‫وأحكا ً‬
‫تلك النتائج‪:‬‬
‫‪ -1‬تميز السلم عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك‪:‬‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.150‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( موسوعة التاريخ السلمي‪ ،‬د‪ :‬أحمد شلبي‪.1/388 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.323‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪230‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بعد وفاة رسول الله × اختلطت المور ببعضها‪ ،‬وسارعت‬
‫العراب إلى الردة‪ ،‬فكان منهم المؤلفة قلوبهم أو من المنافقين‬
‫أو الذين أسلموا رغم أنوفهم‪ ،‬وفي وقت متأخر‪ ،‬أو من الذين لم‬
‫يسلموا أص ً ل‪ ،‬ومن أمثلة الصنفين الولين إسلم عيينة بن حصن‬
‫الفزاري الذي أسلم إسل ً ما فيه دخن كبير‪ ،‬ولذا ما إن هبت نار‬
‫الفتنة حتى استجاب لها وباع دينه بدنيا طليحة السدي‪ ،‬ولما أسر‬
‫وبعث إلى أبي بكر مقي ً دا بالغلل كان فتيان المدينة يمرون عليه‬
‫الله! أكفرت بعد إيمانك؟!‬ ‫فينخسونه بالجريد ويقولون‪ :‬أي عدو‬
‫فيقول‪ :‬والله ما كنت آمنت بالله قط‪ (1).‬ومن هؤلء الذين يقال‬
‫إنهم لم يسلموا أص ًل قبيلة عنس اليمنية‪ ،‬وهي قبيلة الطاغية‬
‫السود الذي ادعى النبوة وفعل في بلد اليمن الفاعيل ونكل‬
‫بالمسلمين‪.‬‬
‫ومن أمثلة سوء الفهم لنصوص السلم التي أدت بهؤلء إلى‬
‫خ ْ‬
‫ذ‬ ‫جا بمدلول قوله تعالى‪ُ + :‬‬ ‫ضا منهم أنكر الزكاة محت ً‬ ‫الكفر َ أن بع ً‬
‫ن‬
‫م إِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫ي‬‫عل َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ص‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫كي‬‫ّ‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ت‬ ‫ة‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫وال ِ ِ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫نأ ْ‬
‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫م" ]التوبة‪.[103 :‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫مي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ن‬
‫ٌ‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫َ‬
‫فقد جاء في التعليق على هذه الية في تفسير ابن كثير ‪-‬رحمه‬
‫الله‪ -‬قوله‪» :‬اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفعها‬
‫صا برسول الله ×‪ ،‬وقد احتجوا‬ ‫إلى المام ل يكون وإنما َكان هذا خا ّ‬
‫ة" وقد رد عليهم هذا التأول‬ ‫ق ً‬‫صد َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وال ِ ِ‬‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫خذ ْ ِ‬ ‫بقوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫»السقيم« والفهم الفاسد أبو بكر وسائر الصحابة رضوان الله‬
‫وقاتلوهم( حتى أدوها إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى‬ ‫عليهم‪،‬‬
‫رسول الله × )‪. 2‬‬
‫وظهرت العصبية القبلية بقوة‪ ،‬فهذا مسيلمة الكذاب يقول لبني‬
‫ضا إياهم على اتباعه وإنكار حق قريش بالنبوة‪ :‬أريد أن‬ ‫حنيفة محر ً‬
‫تخبروني بماذا صارت قريش أحق بالنبوة والمامة منكم؟ والله ما‬
‫منكم ول أنجد‪ ،‬وإن بلدكم لوسع من بلدهم وأموالكم أكثر‬ ‫هم بأكثر‬
‫من أموالهم )‪.(3‬‬
‫جال بن عنفوة الحنفي الذي أضله الله على علم بعد أن‬ ‫وهذا الّر ّ‬
‫النبوة بين رسول الله‬ ‫حقيقة‬ ‫في‬ ‫يقول‬ ‫الدين‬ ‫في‬ ‫وفقه‬ ‫قرأ القرآن‬
‫ومسيلمة‪ :‬كبشان انتطحا فأحبهما إلينا كبشنا‪ (4) .‬وهذا طلحة النمري‬
‫م به كذبه‪ :‬أشهد أنك‬ ‫قال لمسيلمة عندما رآه وسمع منه ما عَل ِ َ‬
‫دا صادق‪ ،‬ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق‬ ‫وأن محم ً‬ ‫)‪(5‬‬
‫كذاب‪،‬‬
‫مضر‪.‬‬
‫بل إن مسيلمة يعرف كذب نفسه‪ ،‬فلما كانت معركة اليمامة‬
‫وبدت الغلبة للمسلمين قال له أصحابه محنقين عليه‪ :‬أين ما كنت‬
‫تعدنا به من النصر واليات؟ فقال‪ :‬قاتلوا على أحسابكم‪ ،‬فأما‬
‫)( تاريخ الطبري‪ ،260/ 3 :‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.114‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير ابن كثير‪ ،2/386 :‬طبعة الحلبي‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.124‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الصابة لبن حجر رقم‪.2761 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/104 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪231‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الدين فل دين‪ (1).‬واختلطت عليهم التصورات والفكار‬
‫والسلوكيات والمال‪ ،‬وعمل المرتدون على إنهاء السلم ومحوه‬
‫من الوجود‪ ،‬وتكالبت قوى الشر على ذلك‪ ،‬ولكن محاولتهم باءت‬
‫بالفشل‪ ،‬وأحبطت جميعها بتوحد المسلمين وتجمعهم وتكتلهم‬
‫حول القاعدة الصلبة للمجتمع السلمي التي تربت على يد‬
‫رسول الله × ‪ ،‬وأصبحت تشبه القطب المغناطيسي الضخم الذي‬
‫قام ‪-‬بحكم طبيعته وخصائصه‪ -‬بجذب كل من كان مؤه لً للسلم‬
‫ويحمل خاصية النجذاب إلى هذا القطب المغناطيسي الضخم‬
‫الفعال‪ ،‬فقد أدى هذا التجمع إلى إظهار قوة السلم ليس بكثرة‬
‫كا في‬‫العدد والعدة‪ ،‬وإنما في قوة تفرده تصو ًرا وفك ًرا وسلو ً‬
‫لبانته الصلبة وتربيتها الفذة التي تربت عليها تلك اللبنات مجتمعة‪،‬‬
‫والقوة في وضوح التعامل مع الحدث دون مواربة أو تربيت أو‬
‫إغماض عين وفتح الخرى‪ ،‬وإنما كانوا واضحين وضوح عبارة أبي‬
‫دا‬
‫دا‪(2‬فإن محم ً‬ ‫بكر الصديق للمسلمين جمي ًعا‪ :‬من كان يعبد محم ً‬
‫)‬
‫قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت ‪.‬‬
‫إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور السلمي من التحريف‬
‫ن تجردت الراية السلمية من العصبية الجاهلية والولء‬ ‫والتشويه‪ ،‬وأ ْ‬
‫المختلط‪ ،‬وصارت خالصة من أية شائبة‪ ،‬وأن التصور السلمي ل‬
‫يقبل المداهنة مهما كانت الظروف المحيطة‪ ،‬وأن القوة السلمية ل‬
‫ترتبط بالعدد ول العدة ولكن بقوة اليمان والروح المعنوية‪ ،‬وأن‬
‫ل‪ ،‬وأن‬ ‫الصل دعوة الناس إلى السلم وليس مقاتلتهم‪ ،‬فالدعوة أو ً‬
‫الحرص على الناس هو المقدم على كل شيء )‪.(3‬‬
‫‪ -2‬ضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع‪:‬‬
‫أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة‪،‬‬
‫وكشفت عن عناصر صلبة‪ ،‬فلم يكونوا أفرادا متناثرين ولكنهم كانوا‬
‫يشكلون القاعدة لهذا المجتمع ولهذه الدولة‪ ،‬ولم تكن قاعدة رخوة‬
‫أو هشة أو ساذجة‪ ،‬وإنما كانت قاعدة صلبة واعية‪ ،‬تدرك حقيقة‬
‫نفسها وحقيقة عدوها وتعي أبعاد المخاطر من حولها‪ ،‬وتخطط‬
‫بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب‪ ،‬وهي مع هذا وذاك‬
‫موصولة بالقوي العزيز‪ ،‬ولهذا انتصرت على كل خصومها وأزالت كل‬
‫العوائق من طريقها؛ فقد حافظت هذه القاعدة على السلم ودولته‪،‬‬
‫وساهمت في جمع الحشود لكسر شوكة أهل الردة‪ ،‬وعملت على‬
‫الله( ثم جهود هذه القاعدة‬
‫)‪4‬‬
‫م شمل الناس من حولها‪ ،‬وتم بفضل‬ ‫لَ ّ‬
‫الصلبة حفظ كيان المة وبقائها وتنميتها‪.‬‬
‫‪ -3‬تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح السلمية‪:‬‬
‫بمجرد وفاة رسول الله × تناثرت التجمعات‪ ،‬وتمردت كثير من‬
‫نفس المصدر السابق‪.4/112 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.323‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.324‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.325‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪232‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫القبائل على الخليفة‪ ،‬وقام الصديق ‪ ‬مع الصحابة بعمل شاق‬
‫عظيم استطاعوا أن ُيخضعوا القبائل للدولة‪ ،‬وأشرف الصديق على‬
‫حا‬
‫تنفيذ الخطط التربوية والتعليمية والحربية والدارية‪ ،‬ونجح نجا ً‬
‫باهًرا‪ ،‬والتحمت القبائل العربية مع الدولة السلمية وأصبحت جزيرة‬
‫العرب بسكانها قاعدة الفتوح السلمية بعد ذاك‪ ،‬وصارت هي النبع‬
‫ما‬
‫حا ومعل ً‬‫يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع الرض فات ً‬ ‫الذي‬
‫ومربًيا )‪.(1‬‬
‫إن جزيرة العرب هي قاعدة الفتوح‪ ،‬فكيف يتسنى الفتح إذا لم‬
‫تكن له قاعدة أو كانت هذه القاعدة مضطربة غير مستقرة‪ ،‬أما الن‬
‫تعبئة كل طاقات شبه الجزيرة وشحذها للعمال‬ ‫فقد أصبح ممكًنا‪,‬‬
‫الحربية التي تلت)‪.(2‬‬
‫‪ -4‬العداد القيادي لحركة الفتوح السلمية‪:‬‬
‫ومن خلل أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتحنت الطاقات‬
‫والقدرات‪ ،‬وكشفت عن الطبقة التي كانت تغطي معادن المة‪،‬‬
‫ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها وأعطيت القيادة للمعادن‬
‫النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام المور في حركة الفتوح‪،‬‬
‫فالمصادر التاريخية تمدنا بمعلومات جمة عن قيادات لم تكن من‬
‫المهاجرين‪ ،‬ول من النصار ول من الصحابة‪ ،‬ولكنهم تربوا من خلل‬
‫كتاب الله مباشرة‪ ،‬ثم صقلتهم أحداث الردة وميزتهم عن غيرهم‪،‬‬
‫ليصلوا إلى صدارة الجيوش الفاتحة وشهد لهم الجميع بالحنكة‬
‫والداء المتفاني واليمان الصادق‪.‬‬
‫هذا وقد كانت القيادة المركزية في المدينة وميادين القتال‬
‫تديرها قيادات غاية في التفاهم والتعاون والتحاب على الرغم من‬
‫من‪(3‬القيادة‬ ‫بعد المسافات‪ ،‬إل أن التوازن الرائع بين دور كل‬
‫حا وبارًزا ) ‪.‬‬
‫المركزية وقيادات ميادين القتال كان واض ً‬
‫‪ -5‬الفقه الواقعي للردة‪:‬‬
‫وردت العديد من النصوص القرآنية والحاديث النبوية التي‬
‫تحدثت على الردة كحالة تعتري بعض البشر‪ ،‬وكل ما ورد من‬
‫النصوص ظلت في إطارها العام النظري الثابت‪ ،‬ولم تكن قد‬
‫مورست بشكل عام في الواقع‪ ،‬ولما وقعت الردة وعاشها‬
‫ما على ضوء تلك النصوص‪،‬‬ ‫المسلمون عملًيا واستنبطوا لها أحكا ً‬
‫كانت تلك الستنباطات معالم هادية لفقه تلك النصوص‪ ،‬ويتضح هذا‬
‫من نقاش بين الصحابة حول موقفهم من هؤلء القوم‪ ،‬فكانوا‬
‫يعودون إلى النصوص يدرسون ويتحاورون حولها‪ ،‬وسرعان ما‬
‫يتفقون على صورة واحدة سواء في تقييمهم وتوصيفهم الوصف‬
‫المنطبق عليهم‪ ،‬أم في طريقة معاملتهم‪ .‬فهذه الوقفات العملية‬
‫أمام الحدث والنص أنتجت أبواًبا في كتب التشريع السلمي ضمت‬
‫تفصيلت تشريعية دقيقة عن أحكام الردة‪ ،‬ثم صار عمل الصحابة‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.366‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الطريق إلى المدائن‪ ،‬أحمد عادل كمال‪ :‬ص ‪.182‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.328‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪233‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فقهية تؤخذ في العتبار عند استنباط اجتهاد أو تطبيق حكم‬ ‫سابقة‬
‫فيما بعد)‪.(1‬‬
‫ه"‪:‬‬ ‫ئ إ ِل ّ ب ِأ َ ْ‬
‫هل ِ ِ‬ ‫سي ّ ُ‬ ‫ق ال ْ َ‬
‫مك ُْر ال ّ‬ ‫ول َ ي َ ِ‬
‫حي ُ‬ ‫‪َ + -6‬‬
‫إن أية محاولة للتمرد على دين السلم سواء أقام بها فرد‬
‫أم جماعة أم دولة‪ ،‬إنما هي محاولة يائسة مآلها الخفاق‬
‫الذريع والخيبة الشنيعة؛ لن التمرد إنما هو تمرد على أمر الله‬
‫المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه وحفظ جماعة تلتف حوله‪،‬‬
‫وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر‪ ،‬وبحكمه القاضي‬
‫بالعاقبة للمتقين وبالمن على المستضعفين أن يديل لهم من‬
‫الظالمين‪.‬‬
‫إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫وما أجمل ما قال الشاعر‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫الوعل‬ ‫ما ليوهنها‬ ‫كناطح صخرة يو ً‬
‫‪ -7‬استقرار التنظيم الداري في الجزيرة‪:‬‬
‫استقر التقسيم الداري بعد انتصار الصديق في حروب الردة‬
‫على نظام الوليات وهي‪ :‬مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد‪،‬‬
‫والطائف وأميرها عثمان بن أبي العاص‪ ،‬وصنعاء وأميرها المهاجر‬
‫بن أبي أمية‪ ،‬وحضرموت وواليها زياد بن لبيد‪ ،‬وخولن وواليها‬
‫جَند‬
‫يعلى بن أمية‪ ،‬وزبيد ورقع وواليهما أبو موسى الشعري‪ ،‬أما َ‬
‫اليمن فأميرها معاذ بن جبل‪ ،‬ونجران وواليها جرير بن عبد الله‪،‬‬
‫وجرش وواليها عبد الله بن ثور‪ ،‬والبحرين وواليها العلء بن‬
‫وعمان وواليها حذيفة الغلفاني‪ ،‬واليمامة وواليها‬ ‫الحضرمي‪،‬‬
‫سليط بن قيس )‪.(3‬‬
‫***‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.329‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( حركة الردة للعتوم‪ :‬ص ‪.334‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الدولة العربية السلمية لمنصور أحمد الحرابي‪ :‬ص ‪.97‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪234‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الفصل الرابع‬
‫فتوحات الصديق واستخلفه‬
‫لعمر رضي الله عنهما ووفاته‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن غاية وجود المة المسلمة في هذه الدنيا هي توحيد الله‬
‫ما‬‫و َ‬
‫عبوديته الشاملة في هذه الحياة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫وتحقيق‬
‫ن" ]الذاريات‪ ،[56 :‬فإذا كان خلق‬ ‫دو‬ ‫ب‬‫ع‬
‫َ ْ ُ ُ ِ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬‫س‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫ِ ّ َ ِ‬‫ن‬‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫َ‬
‫الجن والنس الغاية منه عبادة الله وحده سبحانه وتعالى‪ ،‬فكان‬
‫ما على المة المسلمة أن تسعى لتحقيق هذه الغاية وتحمل هذه‬ ‫لزا ً‬
‫المانة وأعباء تبليغها للناس أجمعين‪ ،‬بالدعوة إلى الله وتعليم الناس‬
‫وتربيتهم على منهج الله‪ ،‬والعمل على إزالة كل العقبات التي تقف‬
‫في وجه أداء هذه المانة إلى الناس أجمعين‪ ،‬وبذلك يتحقق بسط‬
‫سيادة الشرع الحكيم على كل بني البشر‪ ،‬ويصبح الجميع يدينون‬
‫بحاكمية‪ (1‬الله سبحانه المطلقة المتمثلة في خضوع الجميع لشرع الله‬
‫تعالى ) ‪ ،‬ولذلك شرع الله تعالى الجهاد لزالة الحواجز والعقبات‬
‫المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الناس عليها‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد بقصد‬
‫أن يكون الدين كله لله‪ ،‬وأن تكون كلمة الله هي العليا‪ ،‬فمن منع‬
‫قوتل باتفاق المسلمين )‪ ،(2‬وقد قام × بتبليغ واجب الدعوة إلى الله‪،‬‬
‫فأرسل الكتب والرسل إلى القادة والملوك والزعماء‪ ،‬وبعث السرايا‬
‫والجيوش لزالة الحواجز البشرية والعراف الجاهلية والموانع‬
‫النفسية والعوائق المادية المانعة من سماع السلم وتفهمه‪ ،‬بل قاد‬
‫× بذاته بعض البعوث والغزوات‪ ،‬والتي كان آخرها غزوة تبوك سنة‬
‫‪ 9‬هـ‪ ،‬والناس في كل هذه المعارك والغزوات مخيرون بين ثلثة‪ :‬إما‬
‫أن يدخلوا في السلم ويكونوا للمسلمين إخواًنا‪ ،‬وإما أن يختاروا‬
‫الجزية‪ (،‬وإما أن يرفضوا هذا وذاك‬ ‫البقاء على كفرهم ويدفعوا‬
‫)‪3‬‬
‫فيكون السيف فاصل ً بيننا وبينهم‪.‬‬
‫وسار الصديق ‪ ‬على هذا المنهج وشرع إرسال الجيوش‬
‫لتحقيق بشائر الرسول بفتح كثير من الممالك والبلد كفتح العراق‬
‫وغيرها من البلد‪ ،‬فقد قال × لعدي بن حاتم‪» :‬فوالذي نفسي بيده‬
‫ليتمن الله هذا المر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف‬
‫بالبيت في غير جوار أحد‪ ،‬ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز« ‪ (4).‬وقد‬
‫وضع رسول الله × الخطوط العريضة لتلك الفتوحات‪ ،‬وأضافت تلك‬
‫دا مادًيا ومعنوًيا وحسّيا للمة‪ ،‬وقد حاول‬ ‫المبشرات رصي ً‬
‫المستشرقون وأذنابهم وأعداء السلم أن يجردوا الفتوحات‬
‫السلمية من دوافعها الدعوية وأهدافها الربانية ومقاصدها السامية‪,‬‬

‫صفحات من تاريخ ليبيا السلمي للصلبي‪ :‬ص ‪.167‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫السياسة الشرعية لبن تيمية‪ :‬ص ‪.18‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫صفحات من تاريخ ليبيا السلمي للصلبي‪ :‬ص ‪.168‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫صحيح السيرة النبوية‪ :‬ص ‪.580‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪235‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ما باطلة ل تقوم أمام الدليل والبرهان‬ ‫وألصقوا بحركات الفتوحات ته ً‬
‫والحجة‪.‬‬
‫إن الهدف الرفيع والمقصد السامي لحركة الفتوحات التي قادها‬
‫الصديق ‪ ‬كان غرضها نشر دين الله تعالى بين الناس‪ ،‬وإزاحة‬
‫الطواغيت من على رقاب الناس‪ ،‬وكان الصديق والمسلمون معه‬
‫على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين‪ ،‬وهذا اليقين‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫أخلق جيل النصر‪ ،‬فقد كانوا على يقين بقوله تعالى‪ُ + :‬‬ ‫ذي أ َ‬ ‫من‬
‫ن‬ ‫دي‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫لى‬‫ع َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ق ل ِي ُظْ‬‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫وِدين ال ْ‬ ‫َ‬ ‫دى‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ه ِبال ْ‬‫ُ‬ ‫سول َ‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صُر‬‫ن" ْ]الصف‪ ،[9 :‬وبقوله تعالى‪+ :‬إ ِّنا لَنن ُ‬ ‫ركو َ‬ ‫ُ‬ ‫مش ِ‬ ‫ْ‬ ‫ره َ ال ُ‬ ‫َ‬
‫ك ِ‬ ‫و‬
‫ول ْ‬ ‫ك ُل ّ ِ‬
‫ه َ َ‬
‫د"‬‫َ ُ‬ ‫ها‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ّ ْ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫يا‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫يا‬‫ح‬
‫َ َ ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫نوا‬ ‫س َ َ ِ َ َ ُ‬
‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫نا‬ ‫ل‬ ‫ُر ُ‬
‫]غافر‪ .[51 :‬ولنترك الحداث في حركة الفتوحات تخبرنا عن الحقائق‬
‫وتوضح الطريق لبناء المة الصالحين‪.‬‬
‫***‬

‫‪236‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الول‬
‫فتوحات العـــــــراق‬
‫ل‪ :‬خطة الصديق لفتح العراق‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫ما إن انتهت حرب الردة واستقرت المور في الجزيرة العربية‬
‫التي كانت ميداًنا لها‪ ،‬حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة الفتوحات‬
‫التي وضع معالمها رسول الله ×‪ ،‬فجّيش الصديق لفتح العراق‬
‫جيشين‪:‬‬
‫‪ -1‬الول بقيادة خالد بن الوليد وكان يومئذ باليمامة‪ ،‬فكتب إليه‬
‫سر‪ (1‬إلى العراق‬ ‫يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربي‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫حتى تدخلها وابدأ »بفرج الهند« أي ثغرها وهي البلة‪ ) .‬وأمره بأن‬
‫يأتي العراق من أعاليها‪ ،‬وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله عز‬
‫وجل‪ ،‬فإن أجابوا وإل أخذ منهم الجزية‪ ،‬فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم‪,‬‬
‫يستعين بمن ارتد على‬ ‫دا على المسير معه‪ ،‬ول‬ ‫وأمره أن ل يكره أح ً‬
‫السلم وإن كان عاد إليه‪ ،‬وأمره أن يستصحب )‪ (2‬كل امرئ مر به‬
‫وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش‬ ‫من المسلمين‪،‬‬
‫إمداًدا لخالد ‪.(3) ‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪ -2‬الجيش الثاني بقيادة عياض بن غنم وكان بين النباج‬
‫والحجاز‪(5)،‬فتكب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي بادئا‬
‫بالمصيخ وقال له‪ :‬سر حتى المصيخ وابدأ بها‪ ،‬ثم ادخل العراق من‬
‫دا‪ ،‬ثم أردف أمره هذا بقوله‪ :‬وأذن لمن شاء‬ ‫أعلها حتى تلقى خال ً‬
‫على السير معكما‬ ‫دا‬
‫ً‬ ‫أح‬ ‫تجبرا‬ ‫ل‬ ‫أي‪:‬‬ ‫بمتكاره‪،‬‬ ‫بالرجوع‪ ،‬ول تستفتحا‬
‫ها فمن شاء فليقدم ومن شاء فليحجم )‪.(6‬‬ ‫للقتال إكرا ً‬
‫وكتب الصديق ‪ ‬إلى خالد وعياض‪ … :‬ثم يستبقان إلى الحيرة‪،‬‬
‫فأيهما سبق إلى الحيرة أمير على صاحبه‪ .‬وقال‪ :‬إذا اجتمعتما إلى‬
‫الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من‬
‫خلفهم‪ ،‬فليكن أحدكما ردًءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة‪ ،‬وليقتحم‬
‫على( عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم‪،‬‬ ‫الخر‬
‫المدائن )‪. 7‬‬
‫‪ -3‬وكان المثنى بن حارثة قد قدم على أبي بكر وحث الصديق‬
‫على محاربة الفرس وقال له‪ :‬ابعثني على قومي ففعل ذلك أبو بكر‪،‬‬
‫فرجع المثنى وشرع في الجهاد بالعراق ثم إنه بعث أخاه مسعود بن‬
‫حارثة إلى أبي بكر يستمده‪ ،‬فكتب معه أبو بكر إلى المثنى‪ :‬أما بعد‪،‬‬
‫فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن‬
‫)( البلة‪ :‬على شط العرب في زاوية الخليج الذي يدخل في مدينة البصرة‪ ،‬وهي‬ ‫‪1‬‬

‫أقدم من البصرة وكانت بها مسالح كسرى‪.‬‬


‫)( يستصحب‪ :‬يطلب صحبته دون إلزام‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/347 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( قرية في بادية البصرة‪ ،‬في منتصف الطريق بين مكة والبصرة‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( موضع على حدود الشام مما يلي العراق‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( الفن العسكري السلمي‪ ،‬د‪ .‬ياسين سويد‪ :‬ص ‪ ،83‬تاريخ الطبري‪.4/162 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/163 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪237‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫معك من قومك‪ ،‬ثم ساعده ووازره وكانفه ول تعصين له أمًرا ول‬
‫الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬في كتابه‪:‬‬ ‫وصفه أ َ‬ ‫تخالفن له رأًيا فإنه من الذين‬
‫ماءُ‬ ‫ح‬ ‫ر‬
‫ِ ُ َ َ‬‫ر‬ ‫ّ‬
‫فا‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬‫دا‬ ‫ش‬
‫ِ ّ‬ ‫وال ّ ِ‬
‫ذي َ َ َ ُ‬
‫ع‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ه َ‬
‫ل الل ِ‬ ‫سو ُ‬
‫مدٌ ّر ُ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬
‫‪ُ +‬‬
‫فما أقام معك فهو المير‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫دا" ]الفتح‪[29 :‬‬ ‫ج‬
‫ُ ّ ً‬‫س‬ ‫عا‬‫ّ‬ ‫ك‬
‫ْ ُ ً‬‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫را‬
‫ب َي ْن َ ُ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫فإن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه)‪ ،(1‬وكان من قوم المثنى‬
‫رجل يدعى مذعور بن عدي‪ ،‬خرج عن المثنى بن حارثة وراسل‬
‫الصديق وقال له‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإني امرؤ من بني عجل أحلس الخيل –‬
‫حا‪ -‬ومعي‬ ‫أي يلزمون ظهورها‪ -‬وفرسان الصباح –أي يغيرون صبا ً‬
‫رجال من عشيرتي الرجل خير من مئة رجل‪ ،‬ولي علم بالبلد وجراء‬
‫على الحرب وبصر بالرض‪ ،‬فولني أمر السواد أكفكه إن شاء الله‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫وكتب المثنى بن حارثة ‪ ‬بشأن مذعور بن عدي إلى الصديق‬


‫فقال له‪ … :‬فإني أخبر خليفة رسول الله × أن امرءا من قومي‬
‫)‪(3‬‬
‫يقال له مذعور بن عدي أحد بني عجل في عدد يسير‪ ،‬وإنه أقبل‬
‫ينازعني ويخالفني‪ ،‬فأحببت إعلمك ذلك لترى رأيك فيما هنالك‪.‬‬
‫ورد الصديق على مذعور بن عدي فقال له‪ :‬أما بعد‪ :‬فقد أتاني كتابك‬
‫وفهمت ما ذكرت وأنت كما وصفت نفسك وعشيرتك‪ ،‬وقد رأيت لك‬
‫الوليد( فتكون معه وتقيم معه ما أقام بالعراق‪،‬‬ ‫أن تنضم إلى خالد بن‬
‫وتشخص معه إذا شخص‪ 4) .‬وكتب إلى المثنى بن حارثة‪ … :‬فإن‬
‫ي يسألني أموًرا فكتبت إليه آمره بلزوم خالد‬ ‫صاحبك العجلي كتب إل ّ‬
‫حتى أرى رأيي‪ ،‬وهذا كتابي إليك آمرك أن ل تبرح العراق حتى يخرج‬
‫منه خالد بن الوليد‪ ،‬فإذا خرج منه خالد بن الوليد)‪(5‬فالزم مكانك الذي‬
‫كنت به‪ ،‬وأنت أهل لكل زيادة وجدير بكل فضل‪ .‬وممن سبق‬
‫يمكننا أن نستخلص بعض الدروس والعبر والفوائد‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫خالد إلى العراقفي شهر رجب وقيل في‬ ‫‪ -1‬كان تاريخ بعث‬
‫المحرم سنة اثنتي عشرة )‪.(6‬‬
‫‪ -2‬الحس الستراتيجي عند الصديق‪:‬‬
‫إن الوامر التي وجهها الصديق إلى قائديه خالد وعياض تشير‬
‫إلى الحس الستراتيجي المتقدم الذي كان يملكه الصديق ‪ ،‬فقد‬
‫أعطى جملة تعليمات عسكرية استراتيجية وتكتيكية‪ ،‬فحدد لكل من‬
‫القائدين المسلمين جغرافّيا منطقة للدخول على العراق‪ ،‬كأنما هو‬
‫يمارس القيادة من غرفة العمليات بالحجاز‪ ،‬وقد بسطت أمامه‬
‫دا«‬
‫خارطة العراق بكل تضاريسها ومسالكها فيأمر أحدهما »خال ً‬
‫بدخول العراق من أسفلها جنوًبا بغرب »أي البلة« ويأمر الثاني‬
‫ضا« بدخول العراق من أعلها شمال ً بشرق »أي المصيخ«‬ ‫»عيا ً‬
‫ويأمر الثنين مًعا أن يلتقيا في وسط العراق‪ ،‬ول ينسى الخليفة مع‬
‫ذلك أن يأمرهما بأن ل يكرها الناس على النخراط في جيشهما وأن‬
‫دا على البقاء معهما للقتال‪ ،‬فلم يكن التجنيد في نظره‬ ‫ل يجبرا أح ً‬

‫)( الوثائق السياسية‪ ،‬حميد الله‪ :‬ص ‪.371‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (5 ،4 ،‬مجموعة الوثائق السياسية‪ :‬ص ‪.372‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( مجموعة الوثائق السياسية‪ :‬ص ‪ (2) .373‬البداية والنهاية‪.6/347 :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫‪238‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫إلزامًيا وإنما كان طوعًيا واختيارًيا )‪.(1‬‬
‫‪ -3‬تحديد الحيرة كموقع استراتيجي‪:‬‬
‫كان هدف الخليفة الصديق السيطرة على الحيرة وذلك لهميتها‬
‫العسكرية‪ ،‬فالحيرة تقع على بعد ثلثة أميال جنوب »الكوفة« وتبعد‬
‫عن »النجف« مسيرة ساعة للفارس إلى الجنوب الشرقي للنجف‪،‬‬
‫والناظر على الخارطة يرى لول وهلة أهمية هذا الموقع‬
‫الستراتيجي؛ فالحيرة كانت »عقد مواصلت« في نقطة تتصل بها‬
‫الطرق من جميع التجاهات؛ فهي تتصل بالمدائن من الشرق عبر‬
‫نهر الفرات وتتصل شمال ً بـ»هيت« وتتصل بـ »النبار« على جسر‬
‫النبار‪ ،‬وتتصل بالشام من الغرب‪ ،‬كما تتصل بـ»البلة« في منطقة‬
‫»البصرة« بالعراق‪ ،‬وفي »كسكر« في »السواد« وفي »النعمانية«‬
‫على نهر دجلة‪.‬‬
‫ومن هذا يتضح جلّيا أهمية السيطرة على هذا الموقع المهم‪،‬‬
‫وكان الصديق مصيًبا عندما جعلها هدًفا لجيشين هما جيش خالد‬
‫وجيش عياض‪ ،‬فالحيرة كانت قلب العراق وأقرب منطقة مهمة إلى‬
‫المدائن عاصمة المبراطورية الفارسية‪ ،‬التي كانت تدرك هذه‬
‫ما‬‫القيمة الستراتيجية للحيرة‪ ،‬ولذا كانت ترسل القوات باتجاهها دائ ً‬
‫لستعادتها؛ لن المسيطر على الحيرة يؤمن سيطرته على المنطقة‬
‫هذا كانت مهمة للقوات‬ ‫الكائنة غربي الفرات بأجمعها‪ ،‬وهي عدا‬
‫السلمية في قتالها الروم في بلد الشام )‪.(2‬‬
‫إن تخطيط الصديق للوصول إلى الحيرة في الفتوحات يعرف‬
‫في الخطط العسكرية للجيوش الحديثة بحركة فكي الكماشة أو‬
‫عملية اللتفاف الدائري بأكثر من جيش‪ ،‬وهذا يؤكد أن عملية فتح‬
‫عن( طريق الجهاد لم تكن‬ ‫العراق وضم أطراف شبه الجزيرة العربية‬
‫محض مصادفة أو نتيجة لمجريات الحوادث‪ 3) .‬ويظهر للباحث فقه‬
‫أبي بكر ‪ ‬في التخطيط الجهادي بأنه كان يرتكز على اتخاذ‬
‫القرارات بتنظيم الجيوش وتوجيهها‪ ،‬وتحديد واجباتها وأهدافها‪،‬‬
‫وتنسيق التعاون فيما بينها‪ ،‬وتحقيق التوازن على مسارح العمليات‪،‬‬
‫غير أنه يترك لقادته حرية العمل العسكري لدارة العمليات القتالية‬
‫بالساليب التي يرونها)‪(4‬مناسبة‪ ،‬وبالطرائق التي تستجيب لما‬
‫يجابهونه من مواقف ‪.‬‬
‫‪ -4‬نكران الذات عند المثنى بن حارثة‪:‬‬
‫ومن المواقف التي تذكر في الجهاد في العراق ما كان للمثنى‬
‫بن حارثة الشيباني وكان يقاتل العداء في العراق بقومه‪ ،‬ولما علم‬
‫ن بناحيته وذلك قبل‬ ‫م ْ‬‫مره على َ‬ ‫بذلك أبو بكر سره ما كان منه فأ ّ‬
‫دا‬
‫مجيء خالد‪ ،‬فلما توجهت همة الصديق لغزو فارس رأى أن خال ً‬
‫أجدر القواد بهذه المهمة فوجهه لها‪ ،‬وكتب كتاًبا إلى المثنى يأمره‬

‫الفن العسكري السلمي‪ :‬ص ‪.84 ،83‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫معارك خالد بن الوليد ضد الفرس‪ ،‬عبد الجبار السامرائي‪ :‬ص ‪.35‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬نزار الحديثي‪ ،‬وخالد الجنابي‪ :‬ص ‪.45‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مشاهير الخلفاء والمراء‪ ،‬الصديق‪ ،‬بسام العسلي‪ :‬ص ‪.127‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪239‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بالنضمام إلى خالد وطاعته‪ ،‬فما كان منه إل أن سارع في الستجابة‬
‫ولحق بخالد هو وجيشه‪ ،‬وإن هذا موقف يذكر للمثنى؛ حيث لم ي َغُّره‬
‫جيوش‪(1‬العراق‪ ،‬فلم‬ ‫كثرة جيشه ول كونه أقدم من خالد في إمرة‬
‫يحمله ذلك على أن يرى أنه أحق بالقيادة من خالد ) ‪.‬‬
‫‪ -5‬احتياط الصديق لمر الجهاد في سبيل الله‪:‬‬
‫وقد جاء في كتاب أبي بكر لخالد وعياض بن غنم‪ :‬أن استنفروا‬
‫من قاتل أهل الردة ومن ثبت على السلم بعد رسول الله ×)‪(2،‬ول‬
‫يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي‪ ،‬فلم يشهد اليام مرتد‪.‬‬
‫يعني في أول المر‪ ،‬وقد شهدوا اليام بعد ذلك حينما ثبتت‬
‫استقامتهم كما سيأتي بإذن الله تعالى‪ .‬وهذا الموقف لبي بكر مبني‬
‫على الحتياط لمر الجهاد في سبيل الله تعالى‪ ،‬حتى ل يشترك فيه‬
‫طلب الدنيا فيكونوا سبًبا في فشل المجاهدين واختلل صفوفهم‪،‬‬
‫وهذا درس تربوي من أبي بكر استفاد من الدروس النبوية الغالية‬
‫وذلك في تنقية الصف السلمي من الشوائب وتوحيد هدفه‪ ،‬حتى‬
‫صا لوجه الله تعالى‪ ،‬في أمن بذلك من النتكاسات‬ ‫يكون خال ً‬
‫الخطيرة التي تحدث بسبب تعدد الهداف‪ .‬ولقد حرص أبو بكر على‬
‫هذا المبدأ السامي مع شدة احتياج الجيش السلمي آنذاك إلى‬
‫قناعته التامة بأن العبرة بسمو الهدف‬ ‫الرجال‪ ،‬مما يدل على‬
‫والخلص ل بكثرة العدد )‪.(3‬‬
‫‪ -6‬الرفق بالناس والتوصية بفلحي العراق‪:‬‬
‫قول الصديق لخالد‪ :‬وتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم‬ ‫وفي‬
‫من المم‪ (4).‬وهذا القول بين لنا الهدف من الجهاد السلمي خارج‬
‫بلد السلم فهو جهاد دعوي يقصد به دعوة الناس إلى الدخول في‬
‫السلم‪ ،‬ولما كانت الدعوة غير ممكنة مع بقاء الحكومات‪ ،‬فإنه ل بد‬
‫من إزالتها لتمكين شعوبها من الدخول في السلم‪ ،‬وهذا الهدف‬
‫ظاهر في جميع المعارك التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث‬
‫كانوا يدعون أعداءهم إلى السلم فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم‬
‫ما عليهم‪ ،‬فإن أبوا فليستسلموا لحكم السلم ويدفعوا الجزية مقابل‬
‫حماية المسلمين لهم‪ ،‬فإن أبوا فل بد من القتال حتى تكون كلمة‬
‫الله هي العليا )‪ ،(5‬وقد وصى الصديق ‪ ‬قادة جيوشه بفلحي العراق‬
‫ما‬
‫صا منه على هداية الناس وعلى منابع الثروة وعل ً‬ ‫وأهل السواد‪ ،‬حر ً‬
‫مصدر من‬ ‫الفلحة‬ ‫أن‬ ‫كما‬ ‫دولة‪،‬‬ ‫بدونه‬ ‫تقوم‬ ‫منه أن العمران ل‬
‫مصادر الثروة وهي المتصلة بحياة الناس ومعايشهم )‪.(6‬‬
‫‪ -7‬ل يهزم جيش فيهم مثل هذا‪:‬‬
‫عندما استمد خالد أبا بكر أثناء سيره للعراق أمده الصديق‬
‫ض عنه جنوده‬ ‫بالقعقاع بن عمرو التميمي فقيل له‪ :‬أتمد رجل ً قد ارف ّ‬
‫برجل؟ فقال‪ :‬ل يهزم جيش فيهم مثل هذا‪ (7).‬وهذه فراسة من أبي‬
‫بكر بينتها أحداث العراق بعد ذلك‪ ،‬وقد كان أبو بكر أعلم الناس‬
‫التاريخ السلمي‪.9/130 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2‬التاريخ السلمي‪.9/131 :‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/163 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)‪ (4‬التاريخ السلمي‪.9/130 :‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/159 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪ (6).342‬تاريخ الطبري‪.4/163 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬
‫‪7‬‬

‫‪240‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بالرجال وما يتصفون به من طاقات وكفاءات مختلفة )‪.(1‬‬
‫ثانًيا‪ :‬معارك خالد بن الوليد بالعراق‪:‬‬
‫لم يلبث خالد أن قدم العراق ومعه ألفا رجل ممن قاتل‬
‫المرتدين وحشد ثمانية آلف رجل من قبائل ربيعة‪ ،‬وكتب إلى ثلثة‬
‫من المراء في العراق قد اجتمعت لهم جيوش لغرض الجهاد وهم‪:‬‬
‫سلمى بن القين التميمي‪ ،‬وحرملة بن‬ ‫مذعور بن عدي العجلي‪ ،‬و ُ‬
‫طة التميمي‪ ،‬فاستجابوا وضموا جيوشهم التي بلغ تعدادها مع‬ ‫مري َ‬‫ُ‬
‫فا‪.‬‬
‫ثمانية( عشر أل ً‬ ‫المسلمين‬ ‫جيش‬ ‫فأصبح‬ ‫آلف‪،‬‬ ‫ثمانية‬ ‫المثنى‬ ‫جيش‬
‫)‪ (2‬وقد اتفقوا على أن يكون مكان تجمع الجيوش البلة)‪ ، 3‬وقبل أن‬
‫يسير خالد إلى العراق كتب إلى هرمز صاحب ثغر البلة كتاب إنذار‬
‫يقول فيه‪ :‬أما بعد‪ :‬فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة‬
‫تلومن إل نفسك‪ ،‬فقد جئتكم بقوم يحبون‬ ‫وأقرْر بالجزية‪ ،‬وإل فل‬
‫الموت كما تحبون الحياة‪ (4).‬وقد لجأ إلى هذا السلوب وهو نوع من‬
‫الحرب النفسية ليدخل الخوف والرعب في قلب هرمز وجنوده‪،‬‬
‫وليوهن من قوتهم ويضعف من عزيمتهم‪ ،‬وحين قارب خالد العدو‬
‫قا‪ ،‬ولم‬ ‫جعل الجيش ثلث فرق وأمر أن تسلك كل فرقة طري ً‬
‫قا لمبدأ مهم من مبادئ الحرب وهو‬ ‫يحملهم على طريق واحد؛ تحقي ً‬
‫أمن القطعات‪ ،‬فجعل المثنى على فرقة المقدمة ثم تلتها فرقة‬
‫وخرج‪(6‬خالد بعدهما وواعدهما الحضير‬ ‫عليها عدي بن حاتم الطائي‪،‬‬
‫)‪ ،(5‬ليجتمعوا به ويصمدوا لعدوهم ) ‪.‬‬
‫‪ -1‬معركة ذات السلسل‪:‬‬
‫سمع هرمز بمسير خالد وعلم أن المسلمين تواعدوا الحضير‪،‬‬
‫فسبقهم إليه وجعل على مقدمته القائدين قباذ وأنو شجان‪ ،‬ولما بلغ‬
‫خالد أنهم يمموا الحضير عدل عنها إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها‪،‬‬
‫ونزل على الماء واختار المكان الملئم لجيشه‪ ،‬وجاء خالد فنزل على‬
‫على( الماء‪،‬‬ ‫غير ماء‪ ،‬فقال لصحابه‪ :‬حطوا أثقالكم ثم جالدوهم‬
‫فلعمري ليصيرن الماء لصبر الفريقين وأكرم الجندين )‪. 7‬‬
‫وحط المسلمون أثقالهم والخيل وقوف‪ ،‬وتقدم الراجلون وزحفوا‬
‫ن الله تعالى بكرمه وفضله على المسلمين بسحابة‬ ‫إلى الكفار‪ ،‬وم ّ‬
‫فأمطرت وراء صفوف المسلمين‪ ،‬ونهلوا من غدرانها فتقوى بذلك‬
‫المسلمون‪ ،‬وهذا مثل من المثلة الكثيرة الشاهدة على معية الله‬
‫‪-‬جل جلله‪ -‬لوليائه المؤمنين بنصره وإمداده‪.‬‬
‫وواجه المسلمون هرمز وكان مشهوًرا بالخبث والسوء حتى‬
‫ضرب المثل بخبثه‪ ،‬فعمل مكيدة لخالد وذلك أنه اتفق مع حاميته‬ ‫ُ‬
‫دا ثم يغدروا به ويهجموا عليه‪ ،‬فبرز بين الصفين‬ ‫على أن يبارز خال ً‬
‫دا إلى البراز فبرز إليه‪ ،‬والتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه‬ ‫ودعا خال ً‬
‫)‪ (2‬تاريخ الطبري‪.4/163 :‬‬ ‫التاريخ السلمي‪.9/129 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ ،‬نزار الحديثي‪ :‬ص ‪.46‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/164 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الحضير‪ :‬ماء لباهلة على أربعة أمثال من البصرة‪ ،‬المعجم‪ ،‬ياقوت‪.2/277 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.46‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الكامل لبن الثير‪ ،2/51 :‬تاريخ الطبري‪.4/165 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪241‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫خالد فحملت حامية هرمز على خالد وأحدقوا به‪ ،‬فما شغله ذلك عن‬
‫قتل هرمز‪ ،‬وما أن لمح ذلك البطل المغور القعقاع بن عمرو حتى‬
‫بجماعة من الفرسان على حامية هرمز وكان خالد يجالدهم‬ ‫حمل‬
‫فأناموهم )‪ ،(1‬وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا‬
‫فراسة أبي بكر‬ ‫الفرس‪ ،‬وهذا هو أول المشاهد التي ظهر فيها صدق‬
‫حينما قال عن القعقاع‪» :‬ل يهزم جيش فيه مثل هذا«‪ (2).‬وأما خالد‬
‫فقد ضرب أروع المثال في البطولة ورباطة الجأش‪ ،‬فقد أجهز على‬
‫قائد الفرس وحاميته من حوله‪ ،‬فلم يستطيعوا تخليصه منه‪ ،‬ثم ظل‬
‫يجالدهم حتى وصل إليه القعقاع ومن معه فقضى عليهم‪ ،‬وقد كان‬
‫عنهم‪(3‬شيًئا‬ ‫الفرس ربطوا أنفسهم بالسلسل حتى ل يفروا فلم تغن‬
‫أمام الليوث البواسل‪ ،‬وسميت هذه المعركة بذات السلسل ) ‪.‬‬
‫وغنم المسلمون من الفرس حمل ألف بعير‪ ،‬وبعث خالد سرايا‬
‫تفتح ما حول الحيرة من حصون فغنموا أموال ً كثيرة‪ ،‬ولم يعرض‬
‫خالد لمن لم يقاتلوه من الفلحين بل أحسن معاملتهم كما أوصاه‬
‫الصديق‪ ،‬وأبقاهم في الرض التي يفلحونها ومكنهم من إنتاجها‬
‫ومتعهم بثمرات عملهم‪ ،‬فمن دخل في السلم حدد له نصيب الزكاة‬
‫ومن بقي على دينه فرض عليه الجزية‪ ،‬وهو أقل بكثير مما كان ينهبه‬
‫المالكون الفرس‪ .‬ولم ينتزع الرض من أيدي أصحابها الفرس‪ ،‬ولكنه‬
‫دا من العدل والخاء‬ ‫أنصف العاملين فيها فأحسوا بأن عنصًرا جدي ً‬
‫النساني يشرف عليهم من خلل هذا الفتح المجيد‪ ،‬وأرسل خالد‬
‫خمس الغنائم والموال إلى الصديق ووزع الباقي على المجاهدين‪،‬‬
‫قلنسوة‪(4‬هرمز ولكن الصديق أهداها‬ ‫وكان مما أرسله إلى الصديق‬
‫إلى خالد مكافأة له على حسن بلئه ) ‪ ،‬وكانت قيمتها مائة ألف‬
‫وكانت مفصصة بالجوهر‪ ،‬فقد كان أهل فارس يعملون قلنسهم على‬
‫فمن‪(5‬تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة‬ ‫قدر أحسابهم في عشائرهم‪،‬‬
‫ألف‪ ،‬فكان هرمز ممن تم شرفه ) في الفرس‪.‬‬
‫‪ -2‬معركة المذار »الثنى«‪:‬‬
‫كان هرمز قد كتب إلى كسرى بكتاب خالد فأمده كسرى بجيش‬
‫بقيادة )قارن(‪ ،‬ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم‬
‫قبل وصول قارن فنكب ونكب جيشه‪ ،‬وهرب فلول المنهزمين‬
‫فالتقوا بجيش )قارن( وتذامروا فيما بينهم وتشجعوا على قتال‬
‫المسلمين‪ ،‬وعسكروا بمكان يسمى المذار‪ ،‬وكان خالد قد بعث‬
‫المثنى بن حارثة وأخاه المعني في آثار القوم ففتحا بعض الحصون‪،‬‬
‫دا الخبر‪ ،‬وكتب خالد إلى أبي‬ ‫وعلما بمجئ جيش الفرس فأبلغا خال ً‬
‫بكر بمسيره إليه‪ ،‬وسار وهو مستعد للقتال حتى ل يفاجأ بهم‪،‬‬
‫والتقى المسلمون معهم في )المذار( فاقتتلوا‪ ،‬والفرس قد أغضبهم‬
‫وأثار حفيظتهم ما وقع لهم قبل ذلك‪ ،‬وخرج قائدهم )قارن( ودعا‬
‫إلى البراز‪ ،‬فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن العمش بن‬
‫النباش فقتله‪ .‬وكان قارن وضع على ميمنته »قباذ« وعلى ميسرته‬
‫)أنوشجان( وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الول وفروا من‬
‫)‪ (3‬نفس المصدر السابق‪.4/163 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/165 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪9/133 :‬؛ تاريخ الطبري‪.4/165 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2‬تاريخ الطبري‪.4/166 :‬‬ ‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.131‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫‪242‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫المعركة‪ ،‬فتصدى لهما بطلن من أبطال المسلمين‪ ،‬فأما قباذ فقتله‬
‫عدي بن حاتم الطائي‪ ،‬وأما أنوشجان فقتله عاصم بن عمرو‬
‫التميمي‪ ،‬واشتد القتال بين الفريقين‪ ،‬ولكن الفرس انهزموا بعد‬
‫مقتل قادتهم وقتل منهم ثلثون ألفا ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا‬
‫عليها‪ ،‬ومنع الماء المسلمين من ملحقتهم‪ ،‬وأقام خالد بالمذار وسلم‬
‫بلغت‪ ،‬وقسم الفئ ونفل من الخماس‬ ‫السلب لمن سلبها بالغة ما‬
‫أهل البلء‪ ،‬وبعث ببقية الخماس)‪ (1‬إلى المدينة‪.‬‬
‫‪ -3‬معركة الولجة‪:‬‬
‫وصل نبأ نكبة الفرس في المذار إلى كسرى فبعث الندرزغر‬
‫على رأس جيش عظيم‪ ،‬وأردفه بجيش آخر عليه بهمن جاذويه‪،‬‬
‫وتحرك الندرزغر من المدائن حتى انتهى إلى )كسكر( ومنها إلى‬
‫كا وسط السواد يريد أن يحشر‬ ‫الولجة‪ ،‬وخرج بهمن جاذويه سال ً‬
‫جيش المسلمين بينه وبين الندرزغر‪ ،‬واستطاع أن يحشر في‬
‫طريقه عدًدا من العوان والدهاقين‪ ،‬وتجمعت القوة الفارسية في‬
‫الولجة‪ ،‬وعندما شعر الندرزغر أن حشوده أصبحت كبيرة قرر‬
‫الزحف على خالد‪ ،‬ولما بلغ خالد وهي بالثنى »مكان قرب البصرة‬
‫ومعناه منعطف النهر والجبل« تجمع الفرس ونزولهم الولجة رأى أن‬
‫من الفضل للمسلمين أن يهاجموا هذه الحشود الكبيرة من ثلث‬
‫جهات حتى يفرقوا جموعهم‪ ،‬وتكون المفاجأة للفرس مربكة‪ ،‬وأخذ‬
‫يعد العدة لتنفيذ خطة الهجوم‪ ،‬ولكي يؤمن خطوطه الخلفية أمر‬
‫سويد بن مقرن بلزوم الحفير‪ ،‬وتحرك بجيشه حتى وصل الولجة‬
‫وبعد أن قام باستطلع واف للمنطقة وجد أن ميدان المعركة أرض‬
‫مستوية وواسطة تصلح للقتال وتسمح بحرية الحركة‪ ،‬ولما كان خالد‬
‫قد قرر أن يهاجم قوات الفرس من ثلث جبهات فقد نفذ خطته‬
‫وبعث بفرقتين لمهاجمة حشود الفرس من الخلف والجانبين‪ ،‬وبدأت‬
‫المعركة واشتد القتال بين الفريقين وشدد خالد بهجومه من‬
‫المقدمة‪ ،‬وفي الوقت المناسب انقض الكمينان على مؤخرة جيش‬
‫العدو فحلت به الهزيمة المنكرة‪ ،‬وفر الندرزغر مع عدد من رجاله‬
‫شا )‪ ،(2‬وقام خالد في الناس خطيًبا فرغبهم في بلد‬ ‫ولكنهم ماتوا عط ً‬
‫العاجم وزهدهم في بلد العرب وقال‪ :‬أل ترون ما ها هنا من‬
‫الطعمات؟ وبالله لو لم يلزمنها الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى‬
‫السلم ولم يكن إل المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف‬
‫حتى نكون أولى به‪ ،‬ونولي الجوع والقلل من توله ممن اثاقل عما‬
‫أنتم عليه‪ ،‬ثم خمس الغنيمة وقسم أربعة أخماسها وبعث الخمس‬
‫إلى الصديق وأسر من أسر من ذراري المقاتلة وأقر الفلحون‬
‫بالجزية‪ (3) .‬وفي خطبة خالد بن الوليد للناس إشارة إلى أن العرب‬
‫وهم في جاهليتهم إضافة إلى أنهم ليسوا من طلب الخرة فإنهم لم‬
‫يظفروا بالدنيا لتفرقهم وتناحرهم فيما بينهم‪ ،‬فخالد يقول‪ :‬نحن‬
‫طلب الخرة ولنا هدف سام نسعى إليه من أجله ندعو ومن أجله‬
‫)( تاريخ الطبري‪ ،4/168 :‬التاريخ السلمي‪.9/134 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الكامل لبن الثير‪ ،2/52 :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.48‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/350 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪243‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫نجاهد‪ ،‬ولو فرض أننا ل نحمل هذا الهدف‪ ،‬ول نجاهد من أجله فإن‬
‫العقل يقتضي أن نقاتل من أجل أن نصلح أحوالنا المعيشية‪ ،‬وخالد‬
‫حينما يذكر ذلك ل يجعل هذا الموقف ثنائيا مع الهدف السامي الذي‬
‫ذكره‪ ،‬وإنما يذكر ذلك على أنه مجرد افتراض يفرض نفسه لو لم‬
‫يوجد الهدف السامي المذكور‪ ،‬وكأنه يقول‪ :‬إذا كنا سنقارع هؤلء من‬
‫أجل الهدف الدنيوي أفل نقارعهم من أجل الهدف الخروي وابتغاء‬
‫مرضاة الله جل وعل؟‬
‫وهذا الكلم يشحذ الهمم ويقوي العزم ويحيي القلب ويفجر‬
‫المؤمنة مجاهدة في سبيل الله‬ ‫الطاقات‪ ،‬فتنطلق بعد ذلك النفوس‬
‫تعالى بكل طاقاتها وإمكاناتها وقدراتها )‪.(1‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وجاء في رواية‪ :‬أن في يوم الولجة بارز خالد رجل ً من أهل‬
‫فارس يعدل بألف رجل فقتله‪ ،‬فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغدائه ‪،‬‬
‫فيه( إذلل للفرس وتحطيم‬ ‫وهذا التصرف الجليل من سيف الله ‪‬‬
‫لجبروتهم وتغطرسهم وإضعاف لعزائمهم )‪. 3‬‬
‫‪ -4‬معركة أ ُل ّْيس وفتح أمغيشيا‪:‬‬
‫في هذه الموقعة انضم بعض نصارى العرب إلى العاجم‪،‬‬
‫وصاروا عوًنا للفرس على المسلمين‪ ،‬وكان عليهم عبد السود‬
‫العجلي وعلى الفرس جابان‪ ،‬وكان قد أمره )بهمن جاذويه( أل ينازل‬
‫المسلمين إل أن يعجلوه‪ ،‬وبعد أن بلغ خالد تجمع نصارى العرب‬
‫وعرب الضاحية من أهل الحيرة سار إليهم‪ ،‬وكان همه متجًها‬
‫لمواقعتهم ول علم له بانضمام الفرس لجموع العرب‪ ،‬فلما أقبلت‬
‫جنود المسلمين طلب جابان من جنده مهاجمتهم‪ ،‬فأظهروا عدم‬
‫دا لم‬‫الكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام إل أن خال ً‬
‫يدعهم يهنأون بطعامهم‪ ،‬واقتتلوا أشد القتال‪ ،‬وقد زاد في كلب‬
‫العداء وشدتهم ما يتوقعون من لحاق بهمن جاذويه بهم في مدد‬
‫كبير‪ ،‬وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف‪ ،‬وقال خالد‪ :‬اللهم إن‬
‫دا قدرنا عليه حتى‬ ‫ي إن منحتنا أكتافهم أل أستبقي منهم أح ً‬ ‫لك عل ّ‬
‫أجري نهرهم بدمائهم‪ .‬ثم إن الله كشفهم للمسلمين ومنحهم‬
‫أكتافهم‪ ،‬فأمر خالد مناديه فنادى في الناس‪ :‬السر السر ل تقتلوا إل‬
‫جا مستأسرين يساقون سوقا‪،‬‬ ‫من امتنع‪ ،‬فأقبلت الخيول بهم أفوا ً‬
‫وقد وكل بهم رجال ً يضربون أعناقهم في النهر‪ ،‬ففعل ذلك بهم‪ ،‬يوما‬
‫وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين‪ ،‬ومقدار ذلك‬
‫من كل جانب ُأليس فضرب أعناقهم‪ ،‬وقال له القعقاع وأشباه له‪ :‬لو‬
‫أنك قتلت أهل الرض لم تجر دماؤهم‪ ،‬إن الدماء ل تزيد على أن‬
‫ترقرق منذ نهيت عن السيلن ونهيت الرض عن نشف الدماء‪،‬‬
‫الماء‪(4‬عن النهر‪ ،‬فأعاده‬ ‫فأرسل عليها الماء تبر يمينك‪ ،‬وقد كان صد‬
‫)‬
‫طا فسمي نهر الدم لذلك الشأن‪.‬‬ ‫ما عبي ً‬ ‫فجرى د ً‬
‫هزموا وأجلوا عن عسكرهم ورجع المسلمون من طلبهم‬ ‫ولما ُ‬
‫ودخلوه وقف خالد على الطعام فقال‪ :‬فقد نفلتكموه فهو لكم‪،‬‬
‫)‪ (2‬البداية والنهاية‪.6/350 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/139 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪.4/173 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/138 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫‪244‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وقال‪ :‬كان رسول الله × إذا أتى على طعام مصنوع نفله‪ ،‬فقعد‬
‫عليه المسلمون لعشائهم بالليل وجعل من لم ير الرياف ول يعرف‬
‫الرقاق يقول‪ :‬ما هذه الرقاق البيض؟! وجعل من قد عرفها يجيبهم‬
‫)‪(1‬‬
‫حا‪ :‬هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون‪ :‬نعم‪،‬‬ ‫ويقول لهم ماز ً‬
‫فيقول‪ :‬هو هذا‪ ،‬فسمي الرقاق‪ ،‬وكانت العرب تسميه القَرى‪.‬‬
‫وبعد أن فرغ خالد من )أليس( نهض حتى أتى )أمغيشيا(‪ ،‬وقد‬
‫جل عنها أهلها وأعجلوا عما فيها وتفرقوا في السواد‪ ،‬فأمر بهدمها‬
‫وهدم كل شيء كان في حيزها‪ ،‬وأصابوا بها ما لم يصيبوا مثله‪ ،‬فقد‬
‫فا وخمسمائة درهم سوى أنفال أهل البلء‪ ،‬ولما‬ ‫بلغ سهم الفارس أل ً‬
‫وصلت الخماس وأخبار النصر إلى الصديق ‪ ‬وما صنعه خالد‬
‫دا أسدكم‬ ‫والمسلمون قال‪ :‬يا معشر قريش –يخبرهم بالذي أتاه‪ -‬عَ َ‬
‫السد فغلبه على خراذيله )‪ ،(2‬أعجزت النساء أن ينسلن مثل‬ ‫على‬
‫خالد‪ (3).‬وكان خالد قد بعث بالخبر مع رجل يدعى جندل ً من بني‬
‫ما‪ ،‬فقدم على أبي بكر بالخبر وبفتح )أليس(‬ ‫عجل وكان دليل ً صار ً‬
‫وقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الخماس وبأهل البلء من‬
‫الناس‪ ،‬فلما قدم على أبي بكر فرأى صرامته وثبات خبره‪ ،‬قال‪ :‬ما‬
‫اسمك؟ قال‪ :‬جندل‪ ،‬قال‪ :‬ويًها جندل‪:‬‬
‫وعودته الكر والقداما‬ ‫نفس عصام سودت عصاما‬

‫وأمر له بجارية من ذلك السبي فولدت له )‪.(4‬‬


‫وفي قول الصديق عن خالد‪ :‬عدا أسدكم على السد فغلبه على‬
‫خراذيله‪ ،‬أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد )‪ ،(5‬وسام شرف لخالد‬
‫واعتراف بالجميل ورفع لهل البلء والفضل والهمم العالية‪ ،‬ودفع‬
‫لصحاب الهمم الضعيفة ليضاعفوا من جهودهم وينافسوا على‬
‫معالي المور ومكارمها‪ (6) .‬هذا القول من أبي بكر ‪-‬وكان أعلم‬
‫بالرجال‪ -‬أعظم شهادة وأجل تقدير يناله رجل في تاريخ السلم‪،‬‬
‫فالصديق هو خليفة المسلمين العظم ل يرى لخالد ‪ ‬في الناس‬
‫وشجاعته‪ ،‬ول نظير في بطولته ومهارته‪ ،‬وحسبك‬ ‫)‪(7‬‬
‫عدل ً في عبقريته‬
‫بها لخالد من الصديق‪.‬‬
‫‪ -5‬فتح الحيرة‪:‬‬
‫علم مرزبان الحيرة بما صنع خالد بـ)أمغيشيا( فأيقن أنه آتيه‪،‬‬
‫شا بقيادة ابنه ثم خرج في إثره‪ ،‬وأمر ابنه‬ ‫فاستعد لذلك وأرسل جي ً‬
‫بسد الفرات ليعطل سفن المسلمين‪ ،‬وفوجئ المسلمون بذلك‬
‫واغتموا له‪ ،‬فأرسلوا الفلحين فأخبروهم بضرورة سد النهار حتى‬
‫يسيل الماء‪ ،‬فماذا فعل خالد؟‬
‫نهض خالد في خيل يقصد ابن المرزبان فلقي خيل ً من خيله‬
‫ففاجأهم فأنامهم بالمقر‪ ،‬ثم نهض قبل أن تصل أخباره إلى المرزبان‬
‫)‪ (2‬الخراذيل‪ :‬قطع اللحم‪.‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/173 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪4/174 :‬‬ ‫تاريخ الطبري‪.4/175 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)‪ (6‬التاريخ السلمي‪.9/144 :‬‬ ‫نفس المصدر السابق‪.4/175 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪.216‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪245‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دا لبنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم‪ ،‬وسد النهار‬ ‫حتى لقي جن ً‬
‫وسلك الماء سبيله‪ ،‬ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة‪ .‬وعلم‬
‫المرزبان بموت ابنه وخبر موت أزدشير‪ ،‬فهاله المر فعبر الفرات‬
‫هارًبا من غير قتال‪ ،‬فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصنون‬
‫وأدخل خالد الخيل من عسكره‪ ،‬وتمت خطته حول قصور الحيرة‬
‫بمحاصرتها على هذا النحو‪:‬‬
‫أ‪ -‬ضرار بن الزور لمحاصرة القصر البيض وفيه إياس بن قبيصة‬
‫الطائي‪.‬‬
‫ب‪ -‬ضرار بن الخطاب لمحاصرة قصر العدسيين‪ ،‬وفيه عدي بن‬
‫عدي العبادي‪.‬‬
‫ج‪ -‬المثنى بن حارثة لمحاصرة قصر ابن بقيلة وفيه عمرو بن عبد‬
‫المسيح‪.‬‬
‫وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى السلم‪ ،‬فإن أجابوا‬
‫ما وأمرهم أن ل يمكنوا عدًوا منهم بل‬ ‫جلوهم يو ً‬‫قبلوا منهم وإن أبوا أ ّ‬
‫عدوهم ففعلوا‪،‬‬ ‫قتال‬ ‫من‬ ‫المسلمين‬ ‫يمنعوا‬ ‫ول‬ ‫عليهم أن يناجزوهم‪،‬‬
‫واختار القوم المنابذة وعمدوا لرمى المسلمين بالحذف )‪ ،(1‬فرشقهم‬
‫المسلمون بالنبل وشنوا غاراتهم وفتحوا الدور والديارات‪ ،‬فنادى‬
‫القسيسون‪ :‬يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم‪ ،‬فنادى أهل القصور‪ :‬يا‬
‫معشر العرب قبلنا واحدة من ثلث فكفوا عنا‪ ،‬وخرج رؤساء القصور‬
‫فقابلهم خالد‪ ،‬كل أهل قصر على حدة ولمهم على فعلهم‪ ،‬وتصالحوا‬
‫مع خالد على الجزية‪ ،‬وصالحوه على مائة وتسعين ألفا‪ ،‬وبعث خالد‬
‫بالفتح والهدايا إلى أبي بكر فقبل الهدايا وعدها لهل الحيرة من‬
‫لدابر العادات العجمية‬ ‫فا عما لم يأذن به الشرع‪ ،‬وقطًعا‬ ‫الجزية تعف ً‬
‫التي كان يحتال بها على سلب أموال الناس )‪.(2‬‬
‫وكتب خالد في عهده لهل الحيرة‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪،‬‬
‫هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدّيا وعمًرا ابني عدي‪ ،‬وعمر بن‬
‫عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال –وهم نقباء أهل‬
‫الحيرة‪ -‬ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به وعاهدهم على مائة‬
‫جَزاًء عن أيديهم في الدنيا‪،‬‬ ‫وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة‪ِ ،‬‬
‫سا عن‬ ‫رهبانهم وقسيسيهم‪ ،‬إل من كان منهم على غير ذي يد‪ ،‬حبي ً‬
‫الدنيا تاركا لها وسائحا تاركا الدنيا‪ ،‬وعلى المنعة فإن لم يمنعهم‬
‫شيء فل شيء عليهم حتى يمنعهم‪ ،‬وإن غدروا بفعل أو بقول‬
‫منهم بريئة‪ .‬وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الول سنة‬ ‫فالذمة‬
‫‪ 12‬هـ )‪ ،(3‬وقد جاء في رواية‪ :‬أن خالدا عرض على أهل الحيرة‬
‫واحدة من ثلث‪ :‬أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن‬
‫نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم‪ ،‬أو الجزية أو المنابذة‬
‫والمناجزة‪ ،‬فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على‬
‫خالد‪(4:‬تّبا لكم ويحكم‪ ،‬إن‬ ‫الحياة‪ .‬فقال‪ :‬بل نعطيكم الجزية‪ ،‬فقال‬
‫الكفر فلة مضّلة‪ ،‬فأحمق العرب من سلكها ) ‪.‬‬
‫)( الحذف‪ :‬الرمي بالحصى عن جانب والضرب عن جانب‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.348‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (2‬تاريخ الطبري‪.4/178 :‬‬ ‫)( تاريخ الطبري‪.4/181 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫‪246‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ففي حديث خالد ‪ ‬تنضح بعض الصفات اليمانية التي تجسدت‬
‫في جيش فتح العراق‪ ،‬فهذا الجيش يتحرك من أجل هدف سام أل‬
‫وهو دعوة الناس إلى السلم وتبليغ الهداية للبشرية‪ ،‬وليس التوسع‬
‫في الممالك وفرض السلطان والتمتع بالحياة الدنيا‪ .‬كما ب َّين خالد‬
‫أهم مقومات نجاح المسلمين في حروبهم؛ أل وهو الحرص الكيد‬
‫على طلب الشهادة وابتغاء ما عند الله تعالى في الخرة‪ ،‬كما بين‬
‫النص السابق حرص الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬على تطبيق سنة‬
‫دا‬
‫النبي × وذلك بالرغبة القلبية في هداية البشرية؛ حيث إن خال ً‬
‫وّبخهم على اختيار البقاء على الكفر مع أن بقاءهم على الكفر ودفع‬
‫دا من قوم هانت‬ ‫الجزية فيه مصلحة مالية للمسلمين‪ ،‬ولكن خال ً‬
‫عليهم الحياة الدنيا وفضلوا ما عند الله ‪-‬جل)‪(1‬وعل‪ -‬في الخرة‪ ،‬وقد‬
‫قوله ×‪» :‬لن‬ ‫سن رسول الله × لهم هذا المبدأ السامي ‪ ،‬في‬
‫دا خير لك من حمر النعم« )‪.(2‬‬ ‫يهدي الله بك رجل ً واح ً‬
‫وفي قبول الصديق لهدية أهل الحيرة وقد أهدوها طائعين‬
‫فا وخشية أن يظلم أهل ذمته‬ ‫مختارين‪ ،‬فعدها من الجزية عدل ً وتعف ً‬
‫طا‪ ،‬درس عظيم في إقامة العدل بين الناس‪ ،‬وقد‬ ‫أو يكلفهم شط ً‬
‫قارن الشيخ على طنطاوي بين فتوح الستعمار التي أثارتها أوربا‬
‫وبين فتح المسلمين مقارنة متميزة‪ ،‬ثم استدل بقول الشاعر‪:‬‬
‫ح‬
‫فلما ملكتم سال بالدم أبط ُ‬ ‫ملكنا فكان العدل منا سجية‬
‫ن‬
‫م ّ‬
‫غدونا على السرى ن َ ُ‬ ‫وحللتم فكان العدل منا‬
‫ونصفح‬ ‫سجية‬
‫)‪(3‬‬
‫فكل إباء بالذي فيه ينضح‬ ‫فحسبكم هذا التفاوت بيننا‬
‫الحيرة قاعدة الجيوش السلمية‪:‬‬
‫كان فتح الحيرة عمل ً حربًيا عظيم القيمة‪ ,‬وسع أمل المسلمين‬
‫في فتح بلد فارس؛ لمكان هذا البلد الجغرافي والدبي من العراق‬
‫والمملكة الفارسية‪ ،‬فقد اتخذها القائد العام للجيوش السلمية مقًرا‬
‫لقيادته ومركًزا رئيسًيا تتلقى منه جيوش السلم أوامر الهجوم‬
‫والدفاع والمداد والنظم‪ ،‬وكذلك جعلها قاعدة عامة للتدبير‬
‫والسياسة التي يقوم عليها تنظيم من وقع في يد المسلمين‪ ،‬وبث‬
‫خالد عماله على الوليات لجباية الخراج والجزاء‪ ،‬ووجه أمراءه إلى‬
‫الثغور لحمايتها‪ ،‬وأقام هو ريثما يتم ما أراده من الستقرار والنظام‪،‬‬
‫وترامت أخباره إلى الدهاقين والرؤساء فأقبلوا إليه يصالحونه حتى‬
‫لم يبقَ ما بين قرى سواد العرق إلى أطرافه من ليس مولى‬
‫للمسلمين أو على عهد منهم )‪ ،(4‬وقد كان من عماله على القاليم‪:‬‬
‫‪ -1‬عبد الله بن وثيمة النضري الفلليج‪.‬‬
‫‪ -2‬جرير بن عبد الله البجلي على بانقيا‪.‬‬
‫‪ -3‬بشير بن الخصاصية على النهرين‪.‬‬
‫)‪ (4‬البخاري‪ ،‬كتاب المغازي رقم‪.4210 :‬‬ ‫)( التاريخ السلمي‪.9/148 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬طنطاوي‪ :‬ص ‪.33‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪.222‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪247‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -4‬سويد بن مقرن المزني على ُتسُتر‪.‬‬
‫ط على روذستان‪.‬‬ ‫ط بن أبي أ ُ ّ‬ ‫‪ -5‬أ ُ ّ‬
‫وكان من قادة الثغور‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرار بن الزور السدي‪.‬‬
‫‪ -2‬المثنى بن حارثة الشيباني‪.‬‬
‫‪ -3‬ضرار بن الخطاب الفهري‪.‬‬
‫‪ -4‬ضرار بن مقرن المزني‪.‬‬
‫‪ -5‬القعقاع بن عمرو التميمي‪.‬‬
‫‪ُ -6‬بسر بن أبي رهم الجهني‪.‬‬
‫عتيبة بن النهاس )‪.(1‬‬ ‫‪ُ -7‬‬
‫الرسائل التي أرسلها خالد إلى خاصة الفرس‬
‫وعامتهم‪:‬‬
‫أجمع خالد أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم بعد أن‬
‫صفا له الجو في العراق وأمن ظهره بانحسار أمر فارس عن‬
‫العرب‪ ,‬فيما بين الحيرة ودجلة‪ ،‬وكان أهل فارس في هذه الفترة‬
‫على خلف شديد فيمن يولونه عليهم بعد موت كسراهم أزدشير‪،‬‬
‫فانتهز خالد هذه الفرصة وكتب إلى خاصتهم يقول‪ :‬من خالد بن‬
‫الوليد إلى ملوك فارس‪ :‬أما بعد‪ ،‬فالحمد لله الذي حل نظامكم‬
‫ووهن كيدكم وفرق كلمتكم وأوهن بأسكم وسلب أموالكم وأزا ّ‬
‫ل‬
‫عزكم‪ ،‬فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا أو اعتقدوا منا الذمة‪،‬‬
‫وأجيبوا إلى الجزية‪ ،‬وإل والله الذي ل إله إل هو لسيرن إليكم بقوم‬
‫يحبون الموت كما تحبون الحياة‪ ،‬ويرغبون في الخرة كما ترغبون‬
‫)‪(2‬‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫وكتب إلى عامتهم فقال‪ :‬من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل‬
‫فارس‪ :‬الحمد لله الذي فض خدمتكم وفرق جمعكم وأوهن بأسكم‬
‫وسلب أموالكم وأزال عزكم‪ ،‬فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا أو‬
‫اعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية‪ ،‬وإل والله الذي ل إله إل هو‬
‫لسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة‪ ،‬ويرغبون في‬
‫الخرة كما ترغبون‬
‫)‪(3‬‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫وبفتح الحيرة تحقق شطر من أمل أبي بكر ‪ ‬في فتح العراق‬
‫دا لغزو فارس في عقر دارهم‪ ،‬وقد قام خالد بن‬ ‫وإخضاعه تمهي ً‬
‫الوليد ‪ ‬بمهمته في ذلك خير قيام‪ ،‬ووصل إلى الحيرة في وقت‬
‫قياسي؛ حيث بدأ صراعه مع العداء في شهر محرم من العام الثاني‬
‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ ،‬نزار الحديثي‪ :‬ص ‪.52 ،51‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬خالدـ الجناني‪،‬ـ نزار الحديثي‪:‬ـ ص ‪.52 ،51‬‬

‫)‪ (3) ,(2‬تاريخ الطبري‪.4/186 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪248‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫عشر في معركة الكاظمة وانتهى من فتح الحيرة في شهر ربيع‬
‫الول من العام نفسه )‪.(1‬‬
‫كرامة خالد بن الوليد في فتح الحيرة‪:‬‬
‫)‪(2‬‬
‫قيلة ‪،‬‬ ‫وقد أخرج المام الطبري بإسناده… وكان مع ابن ب ُ َ‬
‫منصف له )‪ (3‬فعلق كيسا في حقوة‪ ،‬فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه‬
‫م ساعة‪،‬‬ ‫س ّ‬
‫في راحته فقال‪ :‬ما هذا يا عمرو؟ قال‪ :‬هذا وأمانة الله ُ‬
‫حتقب السم؟ قال‪ :‬خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت‪،‬‬ ‫م تَ ْ‬
‫قال‪ :‬ل ِ َ‬
‫ي من مكروه أدخله على‬ ‫ّ‬ ‫إل‬ ‫أحب‬ ‫والموت‬ ‫أجلي‬ ‫على‬ ‫أتيت‬ ‫وقد‬
‫قومي وأهل قريتي‪ ،‬فقال خالد‪ :‬إنها لن تموت نفس حتى تأتي على‬
‫أجلها‪ ،‬وقال‪ :‬بسم الله خير السماء رب الرض ورب السماء ‪-‬الذي‬
‫ليس يضر مع اسمه داء‪ -‬الرحمن الرحيم‪ ،‬فأهووا إليه يمنعونه منه‬
‫وبادرهم فابتلعه‪ ،‬فقال عمرو‪ :‬والله يا معشر العرب لتملكن ما‬
‫أيها( القرن‪ (4).‬وأقبل على أهل الحيرة فقال‪:‬‬ ‫أردتم ما دام منكم أحد‬
‫أوضح إقبال ً )‪ ، 5‬وقد ذكر هذه الرواية الحافظ ابن كثير‬ ‫)‪(6‬‬
‫لم أر كاليوم‬
‫وقال‪ :‬رواه أبو يعلى ورواه‬ ‫حجر‬ ‫ابن‬ ‫الحافظ‬ ‫وذكرها‬ ‫‪،‬‬ ‫ولم يضعفها‬
‫ابن سعد من طريقين آخرين ولم يضعفها )‪ ،(7‬وذكرها ابن تيمية مثال ً‬
‫)‪(8‬‬
‫من أمثلة الكرامات‪.‬‬
‫وقد أنكر بعض الكتاب المعاصرين هذا الخبر واعتبروه من نسج‬
‫خيال بعض الرواة حول شخصية خالد‪ ،‬وقد ثبتت هذه الرواية من‬
‫ناحية السناد؛ فقد ارتضاها الطبري وابن سعد وابن كثير وابن حجر‬
‫وابن تيمية ولم يضعفوا إسنادها‪ ،‬وهم أعلم وأنصف في علم التاريخ‬
‫السلمي من الكتاب المعاصرين‪.‬‬
‫دا ‪ ‬عندما أقدم على شرب السم‪ ،‬كان في قمة اليقين‬ ‫إن خال ً‬
‫واليمان بأن الله ‪-‬جل جلله‪ -‬هو الذي خلق كل شيء وأودع في كل‬
‫شيء خصائصه‪ ،‬وأنه القادر على أن يلغي مفعول هذه الخصائص إذا‬
‫أراد لحكمة عالية وهدف عظيم‪ ،‬كما أذهب فعالية النار حينما ألقي‬
‫ما‪ ،‬وقد حصل ذلك لغير النبياء‬ ‫فيها إبراهيم ‪ ‬وجعلها عليه برًدا وسل ً‬
‫عليهم السلم؛ كما حصل لبي مسلم الخولني لما رفض أن يقر‬
‫ما‬
‫العنسي الكذاب؛ فألقاه في النار فوجوده فيها قائ ً‬ ‫بنبوة السود‬
‫دا حينما قدم على ذلك لم يخالج‬ ‫يصلي ولم تضره‪ (9) .‬كما أن خال ً‬
‫قلبه ذرة من إرادة حظ النفس وكسب السمعة والجاه؛ لنه لو نوى‬
‫شيًئا من ذلك لعلم أن الله تعالى سيتخلى عنه‪ ،‬وهو ل حول له ول‬
‫قوة على انتزاع أثر السم الضار‪ ،‬وهذه تجربة فذة ل يطلب من أي‬
‫مسلم أن يخوضها‪ ،‬ولو كان هدفه نفس الهدف الذي رمى إليه‬
‫خالد؛ لنه يندر أن يوجد من يبلغ إيمانه وثقته بالله تعالى إلى‬
‫المستوى الذي بلغ إليه‬
‫التاريخ السلمي‪.9/150 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫يعني‪ :‬عمرو بن عبد المسيح‪ ،‬وهو سيد قومه‪ (2) .‬أي‪ :‬خادم‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)‪ (4‬تاريخ الطبري‪.4/180 :‬‬ ‫يعني‪ :‬أهل الجيل المعاصر‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬
‫‪5‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/251 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الصابة لبن حجر‪ 2/218 :‬رقم‪.2206 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫الفتاوى‪.154 /11 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫التاريخ السلمي‪.9/153 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫‪249‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫خالد ‪ ‬وأرضاه )‪.(1‬‬
‫‪ -6‬فتح النبار »ذات العيون«‬
‫استقام المر لخالد في تلك الجهات فاستخلف على الحيرة‬
‫القعقاع بن عمرو التميمي‪ ،‬واتجه بتعبئة لغاثة عياض بن غنم الذي‬
‫أرسله الصديق لفتح العراق من الشمال ويلتقي بخالد‪ ،‬وصل خالد‬
‫القوم قد تحصنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا‬ ‫إلى النبار فوجد‬
‫على أعلى الحصون)‪ ،(2‬فضرب المسلمون عليهم الحصار وأمر خالد‬
‫جنوده أن يصوبوا إلى عيون أهل النبار‪ ،‬فلما نشب القتال أصابوا‬
‫رمية ألف عين من عيونهم‪ ،‬ولذلك سميت هذه الوقعة )ذات‬ ‫)‪(3‬‬
‫في أول‬
‫العيون(‪.‬‬
‫واخترق خالد الخندق الذي حول النبار بفطنة وذكاء؛ حيث عمد‬
‫إلى الضعاف من البل بجيشه فنحرها ومل الخندق في أضيق نقطة‬
‫جثث‪(4‬البل‪،‬‬ ‫فيها بجثث البل‪ ،‬واقتحم المسلمون الخندق وجسرهم‬
‫وصاروا مع عدوهم داخل الخندق‪ ،‬فالتجأ العدو إلى الحصن) ‪،‬‬
‫واضطر شيراز قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد على‬
‫فقبل خالد منه‬ ‫أن يخرج من النبار في عدد من الفرسان يحرسونه‪،‬‬
‫ذلك بشرط أل يأخذ معه من المتاع أو من الموال شيًئا )‪.(5‬‬
‫وتعلم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية‪ ،‬وكان أولئك‬
‫العرب قد تعلموها من عرب قبلهم وهم بنو إياد‪ ،‬كانوا في زمان‬
‫دا قول بعض إياد‬ ‫بختنصر حين أباح العراق للعرب‪ ،‬وأنشدوا خال ً‬
‫يمتدح قومه‪:‬‬
‫أولو أقاموا فتهزل النعم‬ ‫قومي إياد إنهم أمم‬
‫)‪(6‬‬
‫قوم لهم باحة العراق إذا‬
‫‪ -7‬عين التمر‪:‬‬
‫استخلف خالد الزبرقان بن بدر على النبار وسار إلى عين التمر‪،‬‬
‫فوجد عقة بن أبي عقة في جمع عظيم من النمر وتغلب وإياد ومن‬
‫حالفهم‪ ،‬ومعهم من الفرس مهران بقواته)‪ ،(7‬وطلب عقة من مهران‬
‫أن يتركه لقتال خالد وقال له‪ :‬إن العرب أعلم بقتال العرب‪ ،‬فدعنا‬
‫دا‪ ،‬فقال له‪ :‬دونكم وإياهم‪ ،‬وإن احتجتم إلينا أعّناكم فلمت‬ ‫وخال ً‬
‫دا فهو لكم وإن‬
‫العجم أميرهم على هذا‪ ،‬فقال‪ :‬دعوهم فإن غلبوا خال ً‬
‫دا وقد ضعفوا ونحن أقوياء‪ ،‬فاعترفوا له بفضل الرأي‬ ‫غلبوا قاتلنا خال ً‬
‫عليهم‪ ،‬وسار خالد وتلقاه عقة‪ ،‬فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته‪:‬‬
‫التاريخ السلمي‪.154 /9 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.350‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/353 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.350‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/191 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫البداية والنهاية‪.6/353 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.6/354 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪250‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫احفظوا مكانكم فإني حامل‪ ،‬وأمر حماته أن يكونوا من ورائه‪ ،‬وحمل‬
‫على عقة وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره‪ ،‬وانهزم جيش عقة‬
‫من غير قتال فأكثروا فيهم السر‪ .‬وقصد خالد حصن عين التمر‪،‬‬
‫فلما بلغ مهران هزيمة عقة وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه‪،‬‬
‫حا فدخلوه‬ ‫ورجعت فلول نصارى العراب إلى الحصن فوجدوه مفتو ً‬
‫واحتموا به‪ ،‬فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار‪ ،‬واضطر‬
‫أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد‪ ،‬فأمر بضرب عنق عقة ومن‬
‫كان أسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين‪ ،‬وغنم جميع ما في‬
‫ما يتعلمون‬
‫ذلك الحصين ووجد في الكنيسة التي به أربعين غل ً‬
‫النجيل وعليهم باب مغلق فكسره خالد وفرقهم في المراء وأهل‬
‫الغناء‪ .‬وكان )حمران( مولى عثمان بن عفان من ذلك الخمس‪،‬‬
‫ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين‪ ،‬أخذه مالك بن أنس‪ ،‬وأرسل‬
‫خالد الخمس إلى الصديق‪ ،‬ثم أرسل أبو بكر الوليد بن عقبة إلى‬
‫عياض مدًدا له وهو محاصر دومة الجندل‪ ،‬فلما قدم عليه وجده في‬
‫ما‪ ،‬وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو‬ ‫ناحية من العراق يحاصر قو ً‬
‫ضا‪ ،‬فقال عياض للوليد‪ :‬إن بعض الرأي خير من جيش‬ ‫محصور أي ً‬
‫كثيف‪ ،‬ماذا ترى فيما نحن فيه؟ فقال له الوليد‪ :‬اكتب إلى خالد‬
‫يمدك بجيش من عنده‪ ،‬فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد‬
‫عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬من خالد إلى‬
‫عياض‪ :‬إياك أريد‪ ،‬لّبث قليل ً تأتك الحلئب )‪ (1‬يحملن آسادا عليها‬
‫القشائب )‪ ،(2‬كتائب تتبعها كتائب)‪.(3‬‬
‫‪ -8‬دومة الجندل‪:‬‬
‫رحل خالد بجنده من عين التمر بعد أن خلف عليها عويم بن‬
‫الكاهل السلمي‪ ،‬ووصلت أنباؤه إلى أهل دومة)‪(4‬الجندل فاستنجدوا‬
‫بحلفائهم من قبائل بهراء وكلب وغسان وتنوخ ‪ ،‬وكان أمر أهل‬
‫دومة الجندل إلى زعيمين هما‪ :‬أكيدر بن عبد الملك والجودي بن‬
‫ربيعة فاختلفا‪ ،‬فقال أكيدر‪ :‬أنا أعلم الناس بخالد‪ ،‬ل أحد أيمن طائًرا‬
‫دا قّلوا أو كثروا إل‬
‫منه‪ ،‬ول أحد ّ في حرب‪ ،‬ول يرى وجه خالد قوم أب ً‬
‫القوم‪ ،‬فأبوا عليه فقال‪ :‬لئن‬ ‫انهزموا عنه‪ ،‬فأطيعوني وصالحوا‬
‫أمالئكم على حرب خالد فشأنكم )‪.(5‬‬
‫وهذه شهادة خصم في خالد والحق ما شهدت به العداء‪ ،‬وقد‬
‫كان خالد أسره قبل ذلك حينما أرسله إليه رسول الله × في غزوة‬
‫ن عليه وكتب له كتاب عهد‪،‬‬ ‫تبوك‪ ،‬فأخذه وأتى به إلى النبي × فم ّ‬
‫ولكنه خان العهد بعد ذلك‪ .‬ولقد بقي الرعب في نفسه منذ يوم‬
‫أسره خالد إلى جانب سمعته الشهيرة في حروبه مع العرب‬
‫دا خبره وهو في طريقه‬ ‫والعجم‪ ،‬وخرج أكيدر مفارًقا قومه‪ ،‬وبلغ خال ً‬
‫ضا له فأخذه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫إلى »دومة« فأرسل إليه عاصم بن عمرو معار ً‬
‫دا‪ ،‬ولكن خيانته السابقة جعلت خالد ينفذ فيه‬ ‫إنما تلقيت المير خال ً‬
‫)( الحلئب‪ :‬ما يحمل عليه من دواب‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( القشائب‪ :‬السموم‪ ،‬جمع قشب‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (4،‬البداية والنهاية‪.6/354 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫)( البداية والنهاية‪ ،6/355 :‬تاريخ الطبري‪.4/195 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪251‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العدام‪ ،‬وهكذا قتله الله بخيانته ونقضه العهد ولم يغن الحذر‬ ‫حكم‬
‫من القدر )‪.(1‬‬
‫ونزل خالد على دومة الجندل وجعل أهلها ومشايعيهم من بهراء‬
‫وكلب وتنوخ بين فكي )كماشة( ذراعها الولى عسكره والثانية‬
‫عسكر عياض بن غنم )‪ ،(2‬وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد‪،‬‬
‫وتقدم ابن الحدرجان وابن اليهم بجنودهما ناحية عياض‪ ،‬ودارت‬
‫المعركة وأنزل خالد الهزيمة بالجودي وأتباعه‪ ،‬وانتزع عياض النصر‬
‫من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة‪ ،‬وحاولت فلول المنهزمين‬
‫الحتماء بالحصن ولكنه كان قد عج بمن فيه فأغلقوه عليهم وتركوا‬
‫أصحابهم حوله في العراء‪ ،‬ولم يلبث خالد أن هاجم)‪(3‬من بداخل‬
‫عا كثيرة‪.‬‬‫الحصن بعد أن اقتلع بابه فقتل منهم جمو ً‬
‫وبفتح دومة الجندل أصبح للمسلمين موقع استراتيجي ذو أهمية‬
‫فريدة؛ لن دومة الجندل تقع على ملتقى الطرق إلى ثلث جهات؛‬
‫فشبه الجزيرة العربية من الجنوب‪ ،‬والعراق من الشمال الشرقي‪،‬‬
‫والشام من الشمال الغربي‪ .‬ومن الطبيعي أن تنال هذه المدينة مثل‬
‫هذه العناية من الخليفة أبي بكر الصديق وجنوده التي تقاتل بالعراق‬
‫ضا لم يبرحها بل‬ ‫وتقف على تخوم الشام‪ ،‬وتلك هي العلة في أن عيا ً‬
‫الجندل لم‬ ‫دومة‬ ‫طا أمامها إلى أن خف إليه خالد‪ ،‬ولو أن‬ ‫ظل مراب ً‬
‫)‪(4‬‬
‫تذعن للمسلمين لبقي أمرهم في العراق تحفه المخاطر ‪.‬‬
‫ضا على فتح دومة الجندل‪،‬‬ ‫وبذلك استطاع خالد أن يعين عيا ً‬
‫ولئن كانت حروب خالد ‪ ‬في جنوب العراق مثال ً للبراعة في‬
‫الهجوم السريع واغتنام الفرص وإثارة الرعب لدى العداء‪ ،‬فإن ثبات‬
‫عياض ‪ ‬هذه المدة الطويلة في وجه أعداء قد تكالبوا عليه من كل‬
‫ضا بالصبر والمصابرة‬ ‫مكان دليل على تمتع الجيش السلمي أي ً‬
‫وطول المل‪ ،‬والثقة بنصر الله تعالى في النهاية‪.‬‬
‫وكان عياض ‪ ‬من أفاضل المهاجرين ومن سادة قريش‪ ،‬وكان‬
‫حا جواًدا‪ ،‬وقد وثق به الخلفاء وولتهم بعد ذلك‪ ،‬فكان أحد قادة‬ ‫سم ً‬
‫اليرموك وكان على مقدمة جيش أبي عبيدة‪ ،‬ثم فتح بعد ذلك‬
‫الجزيرة بأكملها وهي المناطق التي بين الشام والعراق‪ ،‬واستخلفه‬
‫فأقره عمر ‪ ‬على الشام‬ ‫أبو عبيدة ‪ ‬على الشام لما حانت وفاته‪،‬‬
‫إلى أن احتاج إليه في الفتوح فوجهه إليها )‪.(5‬‬
‫حصيد)‪:(6‬‬
‫‪ -9‬وقعة ال ُ‬
‫أمر خالد القرع بن حابس بالرجوع إلى النبار‪ ،‬وأقام بدومة‬
‫الجندل فكانت إقامته مدعاة لطمع العاجم وظنهم به الظنون‪،‬‬
‫وكذلك ظنها عرب المنطقة فرصة‪ ،‬فكاتبوا العاجم ليكونوا معهم‬
‫على خالد غضًبا لـ»عقة« الذي لم ينسوا مصرعه بعد‪ ،‬فخرج زرمهر‬
‫التاريخ السلمي‪.9/163 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫خالد بن الوليد‪ ،‬صادق عرجون‪ :‬ص ‪.231‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الطبري‪ .4/196 :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬نزار الحديثي‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫التاريخ السلمي‪.9/164 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الحصيد‪ :‬موقع في أطراف العراق من جهة الجزيرة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪252‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫من بغداد ومعه روزبة يريدان النبار‪ ،‬وتواعدا في الحصيد والخنافس‪،‬‬
‫فوصل خبرهم الزبرقان بن بدر وهو على النبار‪ ،‬فاستمد القعقاع بن‬
‫عمرو خليفة خالد على الحيرة‪ ،‬فأمده بـأعبد بن فدكي السعدي »أبو‬
‫ليلى« وأمره بالحصيد‪ ،‬وبعروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس‪.‬‬
‫وعندما علم خالد بتحرك بعض القبائل ورغبتهم بالنضمام إلى روزبة‬
‫في الحصيد جعل القعقاع أميًرا على الناس في الحصيد بعد أن ترك‬
‫مكانه عياض بن غنم على الحيرة‪ ،‬فلما علم روزبة بتوجه القعقاع‬
‫إليه استمد زرمهر فانضم إليه‪ ،‬والتقى المسلمون بجموع الفرس‬
‫منهم مقتلة عظيمة من بينهم زرمهر وروزبة وغنموا غنائم‬ ‫وقتلوا‬
‫كثيرة )‪ ،(1‬وقد قال القعقاع بن عمرو في هذه المعركة‪:‬‬
‫قضى وطًرا من روزمهر‬ ‫أل أبلغا أسماء أن حليلها‬
‫العاجم‬
‫)‪(2‬‬
‫غدا صبحنا في حصيد‬
‫جموعهم‬
‫‪ -10‬وقعة المصّيخ‪:‬‬
‫صيد إلى خالد واعد قادة‬‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫بعد أن وصلت أخبار المسلمين في ال ُ‬
‫جيوشه في ليلة وساعة يجتمعون فيها عند المصيخ قرب حوران‪،‬‬
‫بعض القبائل ومن آوى إليهم من ثلثة‬ ‫فلما توافوا في موعدهم بيتوا‬
‫أوجه فأوقع بهم خسائر كبيرة )‪ ،(3‬ثم علم خالد بتحشد بعض القبائل‬
‫ميل« في ديار بكر‬ ‫في »الث ِّني« وهو موضع قرب الرقة »والّز َ‬
‫دا لقتال المسلمين‪ ،‬فباغتهم في »الثني« من عدة اتجاهات‬ ‫استعدا ً‬
‫جموعهم‪ ،‬وكذلك هاجم المتحشدين في »الزميل« فأوقع بهم‬ ‫فشتت‬
‫خسائر هائلة )‪.(4‬‬
‫يقول عدي بن حاتم‪ :‬انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال له‬
‫حرقوص بن النعمان النمري‪ ،‬وحوله بنوه وبناته وامرأته‪ ،‬وقد وضع‬
‫لهم جفنة من الخمر‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬أحد يشرب هذه الساعة وهذه‬
‫جيوش خالد قد أقبلت؟ فقال لهم‪ :‬اشربوا شرب وداع‪ ،‬فما أرى أن‬
‫تشربوا خمًرا بعدها‪ ،‬فشربوا وجعل يقول‪:‬‬
‫بعيد انتفاخ القوم بالعكر‬ ‫أل فاشربوا من قبل قاصمة‬
‫الدثر‬ ‫الظهر‬
‫)‪(5‬‬
‫يجري‬ ‫وقبل منايانا المصيبة بالقدر‬

‫بعض الخيل فضرب رأسه‪ ،‬فإذا هو‬ ‫فسبق إليه وهو في ذلك في‬
‫في جفنته وأخذنا بناته وقتلنا بنيه )‪.(6‬‬
‫وقد قتل في هذه المعركة رجلن كانا قد أسلما ومعهما كتاب‬
‫)( البداية والنهاية‪.6/355 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الكامل في التاريخ‪.2/59 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ ،‬نزار الحديثي‪ :‬ص ‪.55‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.200 ،4/199 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (2) ,‬تاريخ الطبري‪.4/199 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬
‫)( تاريخ الطبري‪.4/199 :‬‬

‫‪253‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫من الصديق بالمان‪ ،‬ولم يعلم بذلك المسلمون فلما بلغ خبرهما‬
‫الصديق وداهما وبعث بالوصاة بأولدهما‪ ،‬وقال فيهما الصديق‪ :‬كذلك‬
‫الحرب في ديارهم؛ أي الذنب لهما في‬ ‫يلقى من يساكن أهل‬
‫مجاورتهما المشركين )‪.(1‬‬
‫فراض‪:‬‬ ‫‪ -11‬وقعة ال ِ‬
‫بعد أن بسط خالد راية السلم على العراق‪ ،‬واستسلمت له‬
‫فَراض‪ ،‬وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة؛‬ ‫قبائل العرب قصد ال ِ‬
‫حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه أرض‬
‫السواد إلى فارس‪ ،‬فلما اجتمع المسلمون بالفراض غضب الروم‬
‫عا‬
‫وهاجوا واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس‪ ،‬فلبسوا سرا ً‬
‫لنهم كانوا حانقين على المسلمين الذين أذلوهم وكسروا شوكتهم‪،‬‬
‫كما استمدوا العرب من تغلب وإياد والنمر فأمدوهم؛ لنهم لم ينسوا‬
‫بعد مصرع رؤسائهم وأشرافهم‪ .‬فاجتمعت جيوش الفرس والروم‬
‫والعرب على المسلمين في تلك الموقعة‪ ،‬فلما بلغوا الفرات قالوا‬
‫للمسلمين‪ :‬إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم‪ ،‬فقال خالد‪ :‬بل‬
‫اعبروا إلينا‪ ،‬قالوا‪ :‬فتنحوا حتى نعبر‪ ،‬فقال خالد‪ :‬ل نفعل ولكن‬
‫اعبروا أسفل منا‪ ،‬وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة‪.‬‬
‫فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض‪ :‬احتسبوا ملككم‪ ،‬هذا رجل‬
‫خذ ََلن‪ ،‬ثم لم‬
‫يقاتل على دين وله عقل وعلم‪ ،‬والله لي ُْنصرن ولن ُ ْ‬
‫ينتفعوا بذلك‪ ،‬فعبروا أسفل من خالد‪ ،‬فلما تتاموا قالت الروم‪:‬‬
‫امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حسن أو قبيح من أينا يجيء!‬
‫ل‪ ،‬ثم إن الله ‪-‬عز وجل‪ -‬هزمهم‪،‬‬ ‫دا طوي ً‬
‫ففعلوا فاقتتلوا قتال شدي ً‬
‫وقال خالد للمسلمين‪ :‬ألحوا عليهم ول ترفهوا عنهم‪ ،‬فجعل صاحب‬
‫الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم‬
‫قتلوه‪ ،‬وقتل من العداء عشرات اللوف‪ ،‬وأقام خالد في الفراض‬
‫عشرة أيام‪،‬‬
‫ثم أمر بالرجوع للحيرة )‪.(2‬‬
‫شا مكونا من الفرس الذين‬ ‫وهكذا واجه المسلمون لول مرة جي ً‬
‫يمثلون دولة المشرق العظمى‪ ،‬والروم الذين يمثلون دولة المغرب‬
‫العظمى‪ ،‬والعرب الموالين لهؤلء وهؤلء‪ ،‬ومع ذلك انتصر‬
‫قا‪ ،‬ول شك أن هذه المعركة تعتبر من‬ ‫المسلمون عليهم انتصاًرا ساح ً‬
‫المعارك التاريخية الفاصلة‪ ،‬وإن لم تنل من الشهرة ما نالته المعارك‬
‫الكبرى؛ لنها حطمت معنويات الكفار على مختلف انتماءاتهم حيث‬
‫المعارك التي خاضها سيف‬ ‫هزموا جميًعا‪ ،‬وهذه المعركة تعتبر خاتمة‬
‫الله المسلول خالد بن الوليد ‪ ‬في العراق )‪ ،(3‬وانكسرت شوكة‬
‫المعركة‪ ،‬ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها السلم‬ ‫الفرس بعد هذه‬
‫بعد هذه الموقعة )‪.(4‬‬
‫ومما قاله القعقاع بعد عمرو في هذه المعركة‪:‬‬
‫البداية والنهاية‪.6/356 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/201 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫التاريخ السلمي‪.9/173 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫خالد بن الوليد‪ :‬ص ‪.36‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪254‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫وفرس غَ ّ‬
‫مها طول السلم‬ ‫لقينا بالفراض جموع روم‬

‫وبّيتنا بجمع بني رزام‬ ‫أ َب َد َْنا جمعهم لما التقينا‬


‫)‪(1‬‬
‫رأينا القوم كالغنم السوام‬ ‫فما فتئت جنود السلم حتى‬

‫ثالثا‪ :‬حجة خالد وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام‪ ،‬وتسلم‬


‫المثنى لقيادة جيوش العراق‪:‬‬
‫‪ -1‬حجة خالد »‪ 12‬هـ« وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام‪:‬‬
‫أقام خالد بالفراض عشرة أيام‪ ،‬ثم أذن بالقفول إلى الحيرة‬
‫لخمس بقين من ذي القعدة‪ ،‬وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في‬
‫المقدمة‪ ،‬وأمر شجرة بن العز أن يسير في الساقة‪ ،‬وأظهر خالد‬
‫أنه يسير في الساقة‪ ،‬ثم انطلق في كوكبة من أصحابه وقصد شطر‬
‫المسجد الحرام وسار إلى مكة في طريق لم ُيسلك قبله قط وتأتى‬
‫فا على غير جادة‬ ‫له في ذلك أمر لم يقع لغيره‪ ،‬فجعل يسير معتس ً‬
‫حتى انتهى إلى مكة‪ ،‬فأدرك الحج هذه السنة »‪ 12‬هـ«‪ ،‬ثم عاد‬
‫فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة‪ ،‬ولم يعلم أبو بكر الصديق‬
‫ضا إل بعدما رجع أهل الحج من الموسم‪ ،‬فبعث يعتب عليه‬ ‫بذلك أي ً‬
‫في مفارقته الجيش )‪ ،(2‬وأمره بالذهاب إلى الشام‪ ،‬وجاء في خطاب‬
‫سْر حتى تأتي جمع المسلمين باليرموك؛ فإنهم‬ ‫ن ِ‬
‫الصديق لخالد‪ :‬أ ْ‬
‫قد شجوا وأشجوا‪ ،‬وإياك أن تعود لمثل ما فعلت‪ ،‬فإنه لم يشج‬
‫الجموع من الناس بعون الله شجاك‪ ،‬ولم ينزع الشجى من الناس‬
‫نزعك‪ ،‬فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة فأتمم يتم الله لك‪ ،‬ول‬
‫وتخذل‪ ،‬وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله له‬ ‫جب فتخسر‬ ‫يدخلنك عُ ْ‬
‫المن وهو ولي الجزاء )‪.(3‬‬
‫هذا الخطاب الجليل من الخليفة الحكيم ‪ ‬يصور مدى حرص‬
‫الصديق ‪ ‬على القواد الناجحين‪ ،‬فيمدهم بالمشورة والنصائح التي‬
‫تأخذ بيدهم إلى الفوز والتمكين بفضل الله‪..‬‬
‫دا أن يترك العراق ويتوجه إلى‬ ‫أ‪ -‬يأمر الصديق ‪ ‬سيف الله خال ً‬
‫الشام لعل الله يفتح على يديه هذا الموقع‪.‬‬
‫ب‪ -‬ينصحه أل يعود في مثل ما حدث‪ ،‬في حجه بدون إذن من‬
‫الخليفة‪.‬‬
‫صا النية لله وحده‪.‬‬
‫ج‪ -‬يأمره أن يسدد ويقارب ويجتهد مخل ً‬
‫د‪ -‬يحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر‪ ،‬فذلك حظ النفس‬
‫الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه‪ ،‬كما يحذره أن يدل‬
‫)( معارك خالد بن الوليد ضد الفرس‪ ،‬عبد الجبار السامرائي‪ :‬ص ‪.123‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.6/357 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/202 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪255‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن به؛ إذ‬‫بالعمل‪(1‬الذي يعمله؛ فإن الله هو الما ّ‬
‫)‬
‫ويمن على الله‬
‫التوفيق بيده سبحانه‪.‬‬
‫هذا وقد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش السلمية‬
‫على تطبيق مبادئ الحرب‪ ،‬من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت العداء‪،‬‬
‫وحشد القوات‪ ،‬وإدامة المعنويات وجمع المعلومات‪ ،‬ورسم الخطط‬
‫وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير‪ ،‬فهو لم يذهب إلى‬
‫الشام لمجاهدة الروم إل بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق‪،‬‬
‫وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن‬
‫حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق‪ ،‬ومهارته الفائقة في‬
‫حرب الفرس‪ ،‬ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في‬
‫حروب العراق كانت تعتمد على الله ثم على جمع المعلومات‬
‫الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في ا لميدان‪،‬‬
‫والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ »المثنى‬
‫ابن حارثة الشيباني«‪ ،‬ليس فقط للمعيته وقدرته الفائقة على‬
‫التنظيم‪ ،‬وإنما لمعايشته للمنطقة‪ ،‬فهو ينتمي إلى »بني شيبان« من‬
‫»بكر بن وائل« الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات‬
‫التي تمتد شمال ً إلى »هيت«‪ ،‬فكانوا بحكم مساكنهم واتصالتهم‬
‫كا لجيش من‬ ‫مؤهلين لن يكونوا عيوًنا »مخابرات«‪ ،‬فما وجدنا تحر ً‬
‫جيوش الفرس إل وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان‬
‫واردة‪(2‬تحدث في‬ ‫»المثنى« في الوقت المناسب‪ ،‬وما من شاردة ول‬
‫بلط الفرس إل وكان »المثنى« على علم بها في حينها ) ‪.‬‬
‫وكان في خطاب الصديق إلى خالد‪ :‬دع العراق واخلف فيه أهله‬
‫فا في أهل قوة من أصحابنا الذين‬ ‫الذي قدمت عليهم‪ ،‬ثم امض مخف ً‬
‫قدموا معك العراق من اليمامة‪ ،‬وصحبوك في الطريق وقدموا عليك‬
‫من الحجاز‪ ،‬ثم تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من‬
‫المسلمين‪ ،‬وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة‪ ،‬والسلم عليك ورحمة‬ ‫)‪(3‬‬
‫الله‪.‬‬
‫فا‬
‫وتهيأ خالد للسير إلى الشام‪ ،‬وقسم خالد الجند نصفين‪ :‬نص ً‬
‫فا للمثنى‪ ،‬ولكنه جعل الصحابة جميًعا من‬ ‫يسير به إلى الشام ونص ً‬
‫نصيبه‪ ،‬فقال له المثنى‪ :‬والله ل أقيم إل على إنفاذ أمر أبي بكر كله‬
‫في استصحاب نصف الصحابة وإبقاء النصف‪ ،‬فوالله ما أرجو النصر‬
‫إل بهم‪ ،‬فأنت تعريني منهم‪ .‬وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد‬
‫قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند ومن يدعهم للمثنى‪ ،‬قال‪:‬‬
‫دا‪ ،‬فإذا فتح الله)‪(4‬عليك‬
‫دا إل خلفت لهم مج ً‬‫يا خالد ل تأخذ مج ً‬
‫فارددهم إلى العراق وأنت معهم‪ ،‬ثم أنت على عملك ‪.‬‬
‫فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين‬
‫عرفوا بالشجاعة والصبر‬ ‫من سادة أقوامهم من أهل البأس وممن‬
‫وشدة المراس‪ ،‬فرضي المثنى آخر المر‪ (5) .‬وحشد خالد جنوده‬
‫وانطلق ليعبر إلى الشام صحاري رهيبة غائبة النواحي مترامية‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.295‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( معارك خالد بن الوليد ضد الفرس‪ :‬ص ‪.134‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.169‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (4 ،‬الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.170‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫‪256‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫الفاق كأنما هي التيه‪ ،‬وسأل الدلء‪ :‬كيف لي بطريق أخرج فيه من‬
‫وراء جموع الروم؟ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين!‬
‫قا ل يحمل الجيوش‪ ،‬فوالله إن الراكب‬ ‫قالوا له‪ :‬ل نعرف إل طري ً‬
‫المفرد ليخافه على نفسه! إنك لن تطيق ذلك الطريق بالخيل‬
‫والثقال‪ ،‬إنها لخمس ليال ل يصاب فيها ماء‪.‬‬
‫قال خالد‪ :‬إنه ل بد من ذلك لخرج من وراء جموع الروم‪ ،‬وعزم‬
‫خالد على سلوك هذا الطريق مهما تكن مخاطره‪ ،‬فكم فاز باللذة‬
‫الجسور‪ ،‬فنصحه رافع بن عمير أن يستكثر من الماء حتى يجتاز ذلك‬
‫الطريق‪ ،‬فأمر خالد جنوده أن يخزنوا الماء في بطون البل‬
‫العطاش‪ ،‬ثم يشدوا مشافرها لكيل تجتر فتستنزف الماء )‪ ،(1‬وقال‬
‫لرجاله‪ :‬إن المسلم ل ينبغي أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله‬
‫له )‪.(2‬‬
‫وسار به الدليل رافع بن عمير في طريق تمتاز بوعورتها وقلة‬
‫مائها وضياع معالمها وقلة سكانها ول سيما الجزء الممتد بين‬
‫قراقر وسوى )‪ ، (3‬إل أنها أقصر الطرق‪ ،‬فأوضح خالد لجنده‬
‫العتبارات التي تجعله يفضل سلوك هذا الطريق على غيره‪،‬‬
‫وهي السرعة والسرية والمباغتة‪ .‬وكان رافع قد طلب من خالد‬
‫أن يهيئ عشرين ناقة كبيرة‪ ،‬فأعطاه ما أراد‪ ،‬فمنع عنها الماء‬
‫أيا ً ما حتى عطشت‪ ،‬ثم أوردها إياه فملت جوفها فقطع مشافرها‬
‫وكممها فل تجتر‪ ،‬ثم قال لخالد‪ :‬سر الن بالخيول والثقال‪ ،‬وكلما‬
‫نزلت منزل نحرت من تلك البل وشرب الناس مما تزودوا‪ .‬فسار‬
‫الجيش من قراقر ‪-‬وهي آخر قرى العراق على حدود الصحراء‪-‬‬
‫إلى سوى وهي أوائل قرى الشام‪ ،‬والمسافة بينهما خمس ليال‬
‫يستريحون بالنهار ويسيرون بالليل‪ ،‬واعتمد خالد على رافع بن‬
‫عمير دلي ً ل بعد أن وثق به ومن صحة دللته‪ ,‬واختار محرز‬
‫المحاربي لحذقه في الدللة على النجوم‪ ،‬لذلك كان مسيرهم ليل ً‬
‫وصبا ً حا مع تحاشي السير عند ارتفاع النهار والظهيرة لقطع‬
‫مرحلتين في اليوم الواحد‪ ،‬ولم يترك خالد أح ًدا من جنده يسير‬
‫راج ً ل وإنما أركب الجند البل للمحافظة على قابليتهم البدنية‪.‬‬
‫وسار خالد في الطريق وكلما نزل منز ل ً نحر عد ًدا من النوق‬
‫فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل‪ ،‬ثم شرب الناس مما حملوا‬
‫من الماء‪ ،‬فلما كان اليوم الخامس نفد الماء‪ ،‬فخاف خالد على‬
‫أصحابه من العطش‪ ،‬وقال لرافع وهو أرمد‪ :‬ما عندك؟ فطلب‬
‫رافع من الناس أن يبحثوا عن شجرة عوسج صغيرة في تلك‬
‫المنطقة فلم يجدوا إل جزًءا صغيرة من ساقها‪ ،‬فأمر رافع أن‬
‫يحفروا هناك‪ ،‬فحفروا فظهرت عين للماء فشربوا حتى روى‬
‫)‪(4‬‬
‫الناس‪ ،‬فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل‪.‬‬
‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.171‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحرب النفسية‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪.2/155 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( القراقر‪ :‬ماء لكلب في بادية السماوة‪ .‬وسوى‪ :‬ماء لبهراء في بادية السماوة‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫)ياقوت‪ ،‬المعجم‪.(4/317 ،3/271 ،‬‬


‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬د‪ :‬نزار الحديثي‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.68‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪257‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وقد قال بعض العرب لخالد في هذا المسير‪ :‬إن أنت أصبحت‬
‫عند الشجرة الفلنية نجوت أنت ومن معك‪ ،‬وإن لم تدركها هلكت‬
‫أنت ومن معك‪ ،‬فسار خالد بمن معه وسروا سروة عظيمة فأصبحوا‬
‫سرى فأرسلها مثل ً وهو‬‫خالد‪(1:‬عند الصباح يحمد القوم ال ّ‬ ‫عندها‪ ،‬فقال‬
‫أول من قالها ‪: ) ‬‬
‫وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد‪:‬‬
‫فوَّز من قراقر إلى سوى‬ ‫لله در رافع أّني اهتدى‬
‫)‪(2‬‬
‫ما سارها قبلك إنسي ي َُرى‬ ‫خمسًا إذا ما سارها الجيش‬
‫بكى‬
‫وهذه القصة تدل على أن القائد المحنك ل يبالي بالخطار‪ ،‬وأنه‬
‫أعمل الحيلة في سبيل الحصول على الماء لقطع الصحراء حتى‬
‫وصل إلى غرضه‪ ،‬وفي اليوم الخامس وصل جيش خالد إلى سوى‬
‫كا وراءه حاميات الروم على الطرق‬ ‫‪-‬وهو أول تخوم الشام‪ -‬تار ً‬
‫الرئيسة العامة تواجه العراق‪ ،‬وكانت حركته في قطع الصحراء‬
‫من‪(3‬أعاجيب المخاطر المحسوبة‪ ،‬ذللتها إرادة‬ ‫بخمسة أيام أعجوبة‬
‫القائد وإيمانه وإقدامه ) ‪.‬‬
‫وصل خالد إلى »أدك« وهي أول حدود الشام‪ ،‬فأغار على أهلها‬
‫حا‪ ،‬ثم نزل »تدمر« فامتنع أهلها وتحصنوا‪ ،‬ثم‬ ‫وحاصرهم فحررها صل ً‬
‫طلبوا المان فصالحهم وواصل سيره فأتى »القريتين«‪ ،‬فقاتله أهلها‬
‫فظفر بهم‪ ،‬ثم قصد »حوارين«‪ ،‬وصار إلى موضع يعرف بالثنية‪،‬‬
‫قاب‪ ،‬فسمي ذلك‬ ‫فنشر رايته وهي كانت لرسول الله × تسمى العُ َ‬
‫الموضع بثنية العقاب )‪ ،(4‬ولما مر بعذراء أباحها وغنم لغسان أموال ً‬
‫عظيمة وخرج من شرقي دمشق‪ ،‬ثم سار حتى وصل إلى قناة‬
‫بصرى‪ ،‬فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه‪ ،‬فكانت‬
‫أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد‪ .‬وبعث خالد بأخماس ما غنم‬
‫من غسان مع بلل بن الحرث المزني إلى الصديق‪ ،‬ثم سار خالد‬
‫العاص‪ ،‬وقد قصده الروم‬ ‫وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن‬
‫بأرض العربا من المعور‪ ،‬فكانت واقعة أجنادين )‪.(5‬‬
‫وهكذا نجح خالد بن الوليد في الوصول إلى الشام لمساندة‬
‫الجيوش السلمية بعد مغامرة ومباغتة فذة في التاريخ العسكري‬
‫النساني‪ ،‬يقول اللواء محمود شيت خطاب عن ذلك‪ …» :‬وعبور‬
‫خالد للصحراء من الطريق الخطر مباغتة فذة في التاريخ العسكري‬
‫ل‪ ،‬ولست أعتقد أن عبور هانيبال لللب‪ ،‬وعبور‬ ‫ل أعرف لها مثي ً‬
‫ضا‪ ،‬ول تفويز نابليون من صحراء سيناء‪ ،‬أو قطع‬ ‫نابليون لللب أي ً‬
‫الجيش البريطاني لهذه الصحراء في الحرب العالمية الولى‪ ،‬يمكن‬
‫أن تعتبر شيًئا إلى جانب مغامرة خالد؛ لن عبور الجبال أسهل بكثير‬
‫)( البداية والنهاية‪.7/7 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( معركة اليرموك‪ ،‬اللواء خليل سعيد‪ ،‬بحث مقدم إلى ندوة الفكر العسكري‬ ‫‪3‬‬

‫العربي‪ ،‬نقل عن أبي بكر الصديق‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.68‬‬


‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬د‪ :‬نزار الحديثي‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.68‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.7 ،6 /7 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪258‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫من عبور الصحراء؛ لتيسر الماء في الجبال وعدم تيسره في‬
‫الصحراء؛ ولن صحراء سيناء فيها كثير من البار والماكن المأهولة‬
‫وعدم تيسر ذلك في الصحراء التي قطعها خالد‪ ،‬فكان نجاح خالد‬
‫في عبور الصحراء مباغتة كاملة للروم لم يكونوا يتوقعونها بتاًتا )‪،(1‬‬
‫مما جعل حاميات المدن والمواقع التي صادفته في طريقه بين‬
‫العراق وأرض الشام تستسلم لقوته بعد قتال طفيف أو بدون قتال؛‬
‫من المسلمين تظهر‬ ‫دا أن تلقي قوة جسيمة‬ ‫لنها لم تكن تتوقع أب ً‬
‫عليهم من هذا التجاه في هذا الوقت بالذات )‪.(2‬‬
‫لقد تأثر القادة العسكريون على مر التاريخ وتوالي الزمان‬
‫بالعبقرية العسكرية الخالدية حتى قال عنه الجنرال اللماني »فون‬
‫درغولتيس« مؤلف كتاب »المة المسلحة«‪ ،‬قائد إحدى الجبهات‬
‫اللمانية خلل الحرب العالمية الولى‪» :‬إنه أستاذي في فن‬ ‫التركية‬
‫الحرب« )‪.(3‬‬
‫‪ -2‬خبر المثنى بن حارثة بالعراق بعد ذهاب خالد‪:‬‬
‫ما غيوًرا‪ ،‬وكان ميمون النقيبة‬ ‫ما شه ً‬
‫عا مقدا ً‬‫كان المثنى شجا ً‬
‫حسن الرأي‪ ،‬وكان راسخ العقيدة قوي اليمان شديد الثقة بالله‪،‬‬
‫بعيد النظر‪ ،‬يؤثر المصلحة العامة على مصلحته الخاصة‪ ،‬وكن‬
‫يشارك أصحابه في السراء والضراء وكان يمتلك موهبة إعطاء‬
‫القرارات الصحيحة السريعة‪ ،‬وكان ذا إرادة قوية ثابتة يتحمل‬
‫المسئولية الكاملة في أخطر الظروف والحوال‪ ،‬يثق بقواته وتثق به‬
‫قواته ثقة ل حدود لها‪ ،‬ويحبهم ويحبونه حّبا ل مزيد عليه‪ ،‬ذا شخصية‬
‫قوية نافذة‪ ،‬فهو بحق كما يقول عنه عمر بن الخطاب‪ :‬مؤمر نفسه‪.‬‬ ‫)‪(4‬‬

‫كانت له قابلية فائقة تعينه على أعباء القتال‪ ،‬وله ماض ناصع‬
‫ما أول من يهاجم وآخر من ينسحب‪ ،‬وكان خبيًرا‬ ‫مجيد‪ ،‬وكان دائ ً‬
‫بمناطق العراق‪ ،‬جريًئا على الفرس سريع الحركة واسع الحيلة‪،‬‬
‫وكان أول من اجترأ على الفرس بعد السلم وجرأ المسلمين‬
‫عليهم‪ ،‬وأبلى في حروب العراق بلء لم يبله أحد‪ ،‬وهو الذي رفع‬
‫معنويات المسلمين وحطم معنويات الفرس‪ (5) .‬وقد وصف المثنى‬
‫جنود الفرس فقال‪ :‬قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والسلم‬
‫ي من ألف من‬ ‫والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد عل ّ‬
‫ي من ألف من العجم‪ ،‬إن‬ ‫العرب‪ ،‬ولمائة من العرب اليوم أشد عل ّ‬
‫الله أذهب بأسهم وأوهن كيدهم فل يروعَّنكم زهاء ترونه ول سواد‬
‫ول قسي فج ول نبال طوال‪ ،‬فإنهم إذا أعجلوا عنها أو فقدوها كانوا‬
‫جهتموها اتجهت )‪.(6‬‬‫كالبهائم أينما و ّ‬
‫كان تعيين الصديق للمثنى على العراق في محله ويدل على‬
‫)( قادة فتح العراق والجزيرة‪ :‬ص ‪ ،193‬نقل عن الحرب النفسية‪.163 /2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحرب النفسية‪ ،‬د‪ :‬أحمد نوفل‪.2/162 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( معارك خالد بن الوليد ضد الفرس‪ :‬ص ‪.167‬‬ ‫‪3‬‬

‫)‪ (2 ،‬الحرب النفسية‪.2/164 :‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬

‫)( من ذي قار إلى القادسية‪ ،‬صالح عماش‪ :‬ص ‪ ،124‬نقل عن الحرب النفسية‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.2/168‬‬

‫‪259‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫معرفته بأقدار الرجال ومعادنهم‪ ،‬وعندما حان وقت رحيل خالد‬
‫بجيشه إلى الشام خرج معه المثنى لوداعه‪ ،‬ولما حانت لحظة‬
‫الفراق قال له خالد‪ :‬ارجع –رحمك الله‪ -‬إلى سلطانك غير مقصر ول‬
‫وان‪ (1) .‬وتسلم المثنى قيادة العراق بعد خالد‪ ،‬وما إن علم كسرى‬
‫بذهاب خالد حتى حشد آلف الجنود بقيادة »هرمز جاذويه« وكتب‬
‫دا من وحش أهل‬ ‫للمثنى يهدد ويتوعد‪ ،‬فقال‪ :‬إني قد بعثت إليكم جن ً‬
‫)‪(2‬‬
‫فارس‪ ،‬وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إل بهم‪.‬‬
‫وأجابه المثنى بعقل وفطنة‪ ،‬ولم ينس شجاعته في الرد على هذا‬
‫المجوسي‪ ،‬فكتب يقول في رسالة لكسرى‪ :‬إنما أنت أحد رجلين‪:‬‬
‫إما باغ فذلك شر لك وخير لنا‪ ،‬وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة‬
‫وفضيحة عند الله وعند الناس الملوك‪ ،‬وأما الذي يدلنا عليه الرأي‬
‫فإنكم إنما اضطررتم إليهم‪ ،‬فالحمد لله الذي رد ّ كيدكم إلى رعاة‬
‫الدجاج والخنازير‪ (3) .‬فجزع أهل فارس من هذا الكتاب ولموا ملكهم‬
‫على كتابه‪ ،‬واستهجنوا رأيه‪ .‬وسار المثنى من الحيرة إلى بابل ولما‬
‫صراة الولى )‪ (4‬اقتتلوا‬ ‫التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة ال ّ‬
‫دا‪ ،‬وأرسل الفرس فيل بين صفوف الخيل ليفرق خيول‬ ‫قتال ً شدي ً‬
‫دا ج ً‬
‫المسلمين‪ ،‬فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله‪،‬‬
‫وأمر المسلمين فحملوا‪ ،‬فلم تكن إل هزيمة الفرس فقتلوهم قتل ً‬
‫ما‪ ،‬وفرت الفرس حتى انتهوا إلى‬
‫)‪(5‬‬
‫ذريًعا‪ ،‬وغنموا منهم مال ً عظي ً‬
‫المدائن في شر حالة ووجدوا الملك قد مات‪.‬‬
‫وعاد الضطراب إلى بلد فارس‪ ،‬وطارد المثنى أعداء الله حتى‬
‫بلغ أبواب المدائن‪ ،‬ثم كتب إلى أبي بكر بانتصاره على الفرس‪،‬‬
‫واستأذنه في الستعانة بمن تابوا من أهل الردة لكن انتظاره طال‬
‫وأبطأ عليه أبو بكر في الرد لتشاغله بأهل الشام وما فيه من‬
‫العراق‬ ‫حروب‪ ،‬فسار المثنى بنفسه إلى الصديق واستناب على‬
‫بشير بن الخصاصية وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي )‪ ،(6‬فلما‬
‫وصل المدينة وجدوا أبا بكر ‪ ‬على فراش المرض وقد شارف على‬
‫الموت‪ ،‬واستقبله أبو بكر واستمع إليه واقتنع برأيه‪ ،‬ثم طلب عمر‬
‫بن الخطاب فجاءه‪ ،‬فقال له‪ :‬اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به‪،‬‬
‫إني لرجو أن أموت من يومي هذا‪ ،‬فإن أنا مت فل تمسين حتى‬
‫تندب الناس مع المثنى‪ ،‬ول تشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر‬
‫دينكم ووصية ربكم‪ ،‬وقد رأيتني متوّفى رسول الله وما صنعت ولم‬
‫يصب الخلق بمثله‪ ،‬وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب‬
‫فإنهم أهله وولة أمره وحده‪ ،‬وهم أهل الضراوة‬ ‫خالد إلى العراق‪،‬‬
‫بهم والجراءة عليهم )‪.(7‬‬
‫***‬

‫)( عصر الصحابة‪ ،‬عبد المنعم الهاشمي‪ :‬ص ‪.189‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (6 ،‬الكامل لبن الثير‪.2/73 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( الصراة‪ :‬بالفتح‪ ،‬وهو نهر يستمد من الفرات‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (3) ,‬البداية والنهاية‪.18/ 7 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬
‫)( البداية والنهاية‪:‬ـ ‪.18 / 7‬‬

‫)( الكامل لبن الثير‪.2/74 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪260‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫فتوحات الصديق بالشـــــــام‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫كان اهتمام المسلمين بالشام منذ زمن النبي ×؛ حيث كتب إلى‬
‫هرقل عظيم الروم كتاًبا يدعوه إلى السلم‪ ،‬وكتب × إلى الحارث‬
‫بن أبي شمر الغساني ملك غسان بالبلقاء )‪ (1‬من أرض الشام‪،‬‬
‫وعامل قيصر على العرب يدعوه إلى السلم‪ ،‬فأدركته العزة بالثم‬
‫فأراد أن يغزو رسول الله ×‪ ،‬فأتاه أمر من قيصر ينهاه عن ذلك‪،‬‬
‫شا بقيادة زيد بن حارثة فاستشهد في مؤتة هو وجعفر‬ ‫وأرسل × جي ً‬
‫بن أبي طالب‪ ،‬وعبد الله بن رواحة‪ ،‬وتولى بعدهم خالد ابن الوليد‬
‫دا في نفوس أهالي‬ ‫الذي قام بمناورة عسكرية ناجحة تركت أثًرا بعي ً‬
‫تلك المناطق‪ .‬ونستطيع أن نقول إن النبي × بتلك الغزوة وضع‬
‫سا وقطع خطوة نحو القضاء على دولة الروم المتجبرة في بلد‬ ‫أس ً‬
‫الشام‪ ،‬وهز هيبتها من قلوب العرب‪ ،‬وحمس المسلمين للستعداد‬
‫المعنوي والمادي لتمام بقية الخطوات المباركة‪ ،‬بل قاد غزوة تبوك‬
‫بنفسه ×‪.‬‬
‫ومن خلل الحتكاك الميداني استطاع المسلمون أن يتعرفوا‬
‫على حقيقة قوات الروم ومعرفة أساليبهم في القتال‪ ،‬وأعطت تلك‬
‫الغزوات الفرصة لهالي بلد الشام على أن يتعرفوا على أصول هذا‬
‫الدين ومبادئه وأهدافه‪ ،‬فآمن كثير من أهالي تلك البلد واستمر‬
‫الصديق على المنهج الذي وضعه رسول الله ×‪ ،‬ولذلك أصر بعد‬
‫وفاة النبي × على إنفاذ جيش أسامة‪ .‬ولما عقد الصديق اللوية من‬
‫ذي القصة عقد منها لواًء لخالد بن سعيد بن العاص ووجهه إلى‬
‫مشارف الشام‪ ،‬ثم أمره أن يكون ردًءا للمسلمين بتيماء )‪ ،(2‬ل‬
‫يفارقها إل بأمره ول يقاتل إل من قاتله‪ ،‬فبلغ خبره هرقل ملك الروم‬
‫شا من العرب التابعين للروم من بهراء وسليح وكلب ولخم‬ ‫فجهز جي ً‬
‫وجذام وغسان‪ ،‬فسار إليهم خالد بن سعيد فلقيهم على منازلهم‬
‫فافترقوا‪ ،‬وأرسل هو لبي بكر بالخبر فكتب إليه يأمره بالقدام‪ ،‬وأن‬
‫يزحف على الروم قبل تنظيم صفوفهم‪ ،‬ونصحه أن يحافظ على خط‬
‫رجعته وأن ل يتوغل كثيًرا في بلد العدو‪ ،‬وجاء في جواب الخليفة له‪:‬‬
‫أن »أقدم ول تحجم‪ ،‬واستنصر بالله«‪ .‬فتقدم خالد حتى بلغ القسطل‬
‫شا من الروم على الشاطئ‬ ‫في طريق البحر الميت فهزم جي ً‬
‫الشرقي للبحر‪ ،‬ثم تابع مسيرته‪ ،‬عند ذلك هاج الروم فجمعوا قوات‬
‫تزيد على ما جمعوا في تيماء‪ ،‬ورأى خالد تجمعهم فكتب إلى الخليفة‬
‫يستمده ليتابع تقدمه‪ ،‬فبعث إليه عكرمة بن أبي جهل بجيش البدال‪،‬‬
‫)‪ (3‬كما بعث إليه الوليد بن عقبة بجموع أخرى‪ ،‬فلما وصلت هذه‬
‫)( البلقاء‪ :‬من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى‪ ،‬عاصمتها عمان‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تيماء‪ :‬بلدة في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( كان عكرمة قد رجع من كندة وحضرموت عن طريق اليمن ومكة‪ ،‬فلما بلغ‬ ‫‪3‬‬

‫المدينة أمره الخليفة أن يسير مدًدا لخالد بن سعيد‪ ،‬وكان عكرمة قد سرح الجند‬

‫‪261‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫القوات إلى خالد بن سعيد أمر بالهجوم على الروم وأخذ طريقه إلى‬
‫مرج الصفر‪ ،‬وانحدر القائد الرومي ماهان بجيشه يستدرج جيوش‬
‫المسلمين التي اتجهت إلى جنوب البحر الميت‪ ،‬ووصلت إلى مرج‬
‫الصفر شرقي بحيرة طبرية‪ ،‬واغتنم الروم على المسلمين الفرصة‬
‫وأوقعوا بهم الهزيمة‪ ،‬وصادف ماهان سعيد بن خالد بن سعيد في‬
‫دا في مقدمتهم‪ ،‬وبلغ خالد مقتل‬
‫كتيبة من العسكر فقتلهم وقتل سعي ً‬
‫ابنه‪ ،‬ورأى نفسه قد أحيط به فخرج هارًبا في كتيبة من أصحابه على‬
‫ظهور الخيل‪ ،‬وقد نجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى حدود‬
‫الشام )‪.(1‬‬
‫ل‪ :‬عزم أبي بكر على غزو الروم ومبشرات في الطريق‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫كان أبو بكر يفكر في فتح الشام‪ ،‬ويجيل النظر ويقلب الرأي في‬
‫ذلك‪ ،‬وبينما كان الصديق مشغول ً بذلك المر جاء شرحبيل بن حسنة‬
‫‪-‬أحد قواد المسلمين في حروب الردة‪ -‬فقال‪ :‬يا خليفة رسول الله‪،‬‬
‫دا؟ فقال‪ :‬نعم‪ ،‬قد حدثت‬ ‫أتحدث نفسك أنك تبعث إلى الشام جن ً‬
‫دا وما سألتني عنه إل لشيء‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫نفسي بذلك وما أطلعت عليه أح ً‬
‫أجل إني رأيت يا خليفة رسول الله فيما يرى النائم كأنك تمشي في‬
‫كا وعًرا‪ -‬حتى صعدت قُّنة‬ ‫خْرشفة من الجبل ‪-‬يعني مسل ً‬ ‫الناس فوق َ‬
‫من القنات العالية فأشرفت على الناس ومعك أصحابك‪ ،‬ثم إنك‬
‫هبطت من تلك القنات إلى أرض سهلة دمثة ‪-‬يعني لينة‪ -‬فيها الزرع‬
‫والقرى والحصون‪ ،‬فقلت للمسلمين‪ :‬شنوا الغارة على أعداء الله‬
‫وأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة‪ ،‬وأنا فيهم معي راية‪ ،‬فتوجهت بها‬
‫إلى أهل قرية فسألوني المان فأمنتهم‪ ،‬ثم جئت فأجدك قد انتهيت‬
‫إلى حصن عظيم ففتح الله لك وألقوا إليك السلم‪ ،‬ووضع الله لك‬
‫سا فجلست عليه‪ ،‬ثم قيل لك‪ :‬يفتح الله عليك وُتنصر فاشكر‬ ‫مجل ً‬
‫ح ‪‬‬ ‫وال ْ َ‬
‫فت ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ر‬
‫َْ ُ‬‫ص‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬
‫َ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬‫‪+‬‬ ‫قرأ‪:‬‬ ‫ثم‬ ‫بطاعته‪،‬‬ ‫واعمل‬ ‫ربك‬
‫د‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫جا‬ ‫وا‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫خ‬‫ُ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫نا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫ورأ َ‬
‫َ ّ ْ ِ َ ْ ِ‬ ‫‪‬‬ ‫َ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫واًبا" ]النصر‪ ،[3 – 1 :‬ثم انتبهت‪ .‬فقال‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬‫فْرهُ إ ِن ّ ُ‬‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬‫وا ْ‬‫ك َ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫له أبو بكر‪ :‬نامت عينك‪ ،‬خيًرا رأيت‪ ،‬وخيرا يكون إن شاء الله‪ ،‬ثم‬
‫ي نفسي‪ ،‬ثم دمعت عينا أبي بكر وقال‪:‬‬ ‫قال‪ :‬بشرت بالفتح ونعيت إل ّ‬
‫أما الخرشفة التي رأيتنا فيها حتى صعدنا إلى القنة العالية فأشرفنا‬
‫على الناس‪ ،‬فإنا نكابد من أمر هذا الجند والعدو مشقة ويكابدونه‪،‬‬
‫ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا‪ ،‬وأما نزولنا من القنة العالية إلى الرض‬
‫السهلة الدمثة والزرع والعيون والقرى والحصون‪ ،‬فإنا ننزل إلى أمر‬
‫أسهل مما كنا فيه من الخصب والمعاش‪ ،‬وأما قولي للمسلمين‪:‬‬
‫شنوا على أعداء الله الغارة فإني ضامن لكم الفتح والغنيمة‪ ،‬فإن‬
‫ذلك دنو المسلمين إلى بلد المشركين وترغيبي إياهم على الجهاد‬
‫والجر والغنيمة التي تقسم لهم وقبولهم‪ ،‬وأما الراية التي كانت‬
‫معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم ودخلتها فاستأمنوا فأمنتهم‪،‬‬
‫الذين قاتلوا معه في جنوب شبه الجزيرة‪ ،‬فاستبدل الخليفة بهم غيرهم وأمرهم‬
‫أن يسيروا تحت لواء عكرمة إلى الشام‪.‬‬
‫)( أبو بكر الصديق‪ ،‬د‪ :‬نزار الحديثي‪ ،‬خالد الجنابي‪ :‬ص ‪.58‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪262‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك‪ ،‬وأما الحصن‬
‫الذي فتح الله لي فهو ذلك الوجه الذي يفتح الله لي‪ ،‬وأما العرش‬
‫سا فإن الله يرفعني ويضع المشركين‪ ،‬وقال‬ ‫الذي رأيتني عليه جال َ ً‬
‫ش"]يوسف‪ ،[100 :‬وأما الذي‬ ‫ر‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ع أب َ َ‬ ‫وَر َ‬
‫ف َ‬ ‫الله تعالى ‪َ +‬‬
‫ْ ِ‬
‫ي نفسي‪ ،‬وذلك أن‬ ‫ّ‬ ‫إل‬ ‫نعى‬ ‫فإنه‬ ‫السورة‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫عل‬ ‫وقرأ‬ ‫الله‬ ‫أمرني بطاعة‬
‫النبي × نعى الله إليه نفسه حين نزلت هذه السورة‪ ،‬وعلم أن‬
‫نفسه قد نعيت إليه‪ ،‬ثم سالت عيناه وقال‪ :‬لمرن بالمعروف ولنهين‬
‫عن المنكر ولجهدن فيمن ترك أمر الله ولجهزن الجنود إلى‬
‫العادلين بالله –يعني المشركين به‪ -‬في مشارق الرض ومغاربها‬
‫حتى يقولوا‪ :‬الله أحد أحد ل شريك له‪ ،‬أو يؤدوا الجزية عن يد وهو‬
‫صاغرون‪ ،‬هذا أمر الله وسنة‬
‫رسول الله ×‪ ،‬فإذا توفاني الله ‪-‬عز وجل‪ -‬ل يجدني الله عاجًزا ول‬
‫)‪(1‬‬
‫دا‪.‬‬
‫وانًيا ول في ثواب المجاهدين زاه ً‬
‫فهذه الرؤيا الصالحة من المبشرات التي حدث بها رسول الله ×؛‬
‫المبشرات« قالوا‪ :‬وما المبشرات؟‬
‫‪.‬‬ ‫حيث قال‪» :‬لم يبق من النبوة إل‬
‫قال‪» :‬الرؤيا الصالحة« ‪(2)،‬فهذه الرؤيا جاءت على قدر لتدفع الصديق‬
‫به وإعلن ما أضمره‪ ،‬فدعا إلى عقد مجلس‬ ‫إلى العزم على مامه ّ‬
‫شورى بخصوص غزو الشام‪ ،‬فقد أخذ الصديق بالعزيمة والعمل والتوكل‬
‫على الله واستأنس بالرؤيا‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬مشورة أبي بكر في جهاد الروم واستنفار أهل اليمن‪:‬‬
‫‪ -1‬مشورة أبي بكر في جهاد الروم‪:‬‬
‫لما أراد أبو بكر ‪ ‬أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان‬
‫وعلًيا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص‬
‫وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والنصار من أهل بدر‬
‫وغيرهم‪ ،‬فدخلوا عليه فقال‪ :‬إن الله ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬ل تحصى نعمه‪،‬‬
‫ول تبلغ العمال جزاءها‪ ،‬فله الحمد كثيًرا على ما اصطنع عندكم من‬
‫جمع كلمتكم‪ ،‬وأصلح ذات بينكم‪ ،‬وهداكم إلى السلم‪ ،‬ونفى عنكم‬
‫الشيطان‪ ،‬فليس يطمع أن تشركوا بالله ول أن تتخذوا إلًها غيره‪،‬‬
‫فالعرب أمة واحدة‪ ،‬بنو أب وأم‪ ،‬وقد أردت أن أستنفركم إلى الروم‬
‫دا وما عند الله خير للبرار‪ ،‬ومن عاش‬ ‫بالشام‪ ،‬فمن هلك هلك شهي ً‬
‫عاش مدافعا عن الدين‪ ،‬مستوجًبا على الله ‪-‬عز وجل‪ -‬ثواب‬
‫ي كل امرئ بمبلغ رأيه‪،‬‬ ‫المجاهدين‪ .‬هذا رأيي الذي رأيت‪ ،‬فليشر عل ّ‬
‫فقام عمر بن الخطاب ‪ ‬فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي‬
‫× ثم قال‪ :‬الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه‪ ،‬والله‬
‫ما استبقنا إلى شيء من الخير إل سبقتنا إليه؛ وذلك فضل الله يؤتيه‬
‫من يشاء‪ ،‬قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت‪ ،‬فما قضى‬
‫الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الن‪ ،‬فقد أصبت‪ ،‬أصاب الله بك سبل‬
‫الرشاد‪ .‬سّرب إليهم الخيل في إثر الخيل‪ ،‬وابعث الرجال تتبعها‬
‫)( تاريخ دمشق لبن عساكر‪ ،62 ،2/61 :‬فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪ ،14‬نقل عن‬ ‫‪1‬‬

‫التاريخ السلمي للحميدي‪.178 ،9/177 :‬‬


‫)( البخاري‪ ،‬كتاب التعبير‪ ،‬رقم‪.6990 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪263‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الرجال‪ ،‬والجنود تتلوها الجنود‪ ،‬فإن الله ‪-‬عز وجل‪ -‬ناصر دينه ومعز‬
‫السلم وأهله‪ ،‬ومنجز ما وعد رسوله‪ .‬ثم إن عبد الرحمن بن عوف‬
‫قام فقال‪ :‬يا خليفة رسول الله‪ ،‬إنها الروم وبنو الصفر‪ ،‬حد حديد‬
‫ما‪ ،‬ولكن تبعث‬ ‫وركن شديد‪ ،‬والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحا ً‬
‫الخيل فتغير في أدنى أرضهم‪ ،‬ثم تبعثها فتغير‪ ،‬ثم ترجع إليك‪ ،‬فإذا‬
‫فعلوا ذلك مرارا أضروا بعدوهم وغنموا من أرضهم‪ ،‬فقووا بذلك‬
‫على قتالهم‪ ،‬ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن وإلى ربيعة ومضر‬
‫فتجمعهم إليك‪ ،‬فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك‪ ،‬وإن شئت بعثت‬
‫على غزوهم غيرك‪ ،‬ثم جلس وسكت الناس‪ .‬فقال لهم أبو بكر‪ :‬ماذا‬
‫ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان ‪-‬رضوان الله عليه‪ -‬فحمد‬
‫الله وأثنى عليه بما هو أهله‪ ،‬وصلى على النبي ×‪ ،‬ثم قال‪ :‬رأيي أنك‬
‫دا‬
‫ناصح لهل هذا الدين‪ ،‬عليهم شفيق‪ ،‬فإذا رأيت رأًيا علمته رش ً‬
‫حا وخيًرا‪ ،‬فاعزم على إمضائه غير ظنين ول متهم‪ (1) .‬فقال‬ ‫وصل ً‬
‫طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد وجميع من‬
‫حضر ذلك المجلس من المهاجرين والنصار‪ :‬صدق عثمان فيما قال‪،‬‬
‫ما رأيت من رأي فامضه فإنا سامعون لك مطيعون ل نخالف أمرك‪،‬‬
‫ول نتهم رأيك ول نتخلف عن دعوتك‪ ،‬فذكروا هذا وشبهه‪ ،‬وعلي بن‬
‫أبي طالب ‪ ‬في القوم ل يتكلم‪ ،‬فقال له أبو بكر‪ :‬ما ترى يا أبا‬
‫الحسن؟‬
‫)‪(2‬‬
‫فقال‪ :‬أرى أنك مبارك المر‪ ،‬ميمون النقيبة ‪ ،‬وإنك إن سرت‬
‫إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله‪ .‬فقال أبو بكر‪:‬‬
‫بشرك الله بخير‪ ،‬فمن أين علمت هذا؟ قال‪ :‬سمعت رسول الله ×‬
‫هذا الدين ظاهًرا على كل من ناوأه حتى يقوم الدين‬ ‫يقول‪» :‬ل يزال‬
‫وأهله ظاهرون« )‪ (3‬فقال أبو بكر‪ :‬سبحان الله ما أحسن هذا‬
‫الحديث! لقد سررتني سرك الله في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ثم إن أبا بكر ‪ ‬قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما‬
‫هو أهله‪ ،‬وصلى على النبي × ثم قال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إن الله قد أنعم‬
‫عليكم بالسلم وأعزكم بالجهاد‪ ،‬وفضلكم بهذا الدين على أهل كل‬
‫دين‪ ،‬فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام‪ ،‬فإنني مؤمر عليكم‬
‫أمراء وعاقد لهم عليكم‪ ،‬فأطيعوا ربكم ول تخالفوا أمراءكم‪،‬‬
‫ولتحسن نيتكم)‪(4‬وسيرتكم وطعمتكم؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين‬
‫بكر بلل ً فنادى في الناس‪ :‬أن انفروا إلى‬ ‫هم محسنون‪ .‬وأمر أبو‬
‫جهاد عدوكم الروم بالشام )‪.(5‬‬
‫من هذه المشورة تبين لنا منهج أبي بكر ‪ ‬في مواجهة المور‬
‫ت فيها برأي حتى يجمع أهل الحل والعقد‬ ‫الكبيرة‪ ،‬حيث لم يكن يب ّ‬
‫فيستشيرهم‪ ،‬ثم يصدر بعد ذلك عن رأي ممحص مدروس‪ ،‬وهذه هي‬
‫سنة رسول الله × كما مر معنا في السيرة النبوية‪ ،‬وحينما نتأمل‬
‫في تفاصيل هذه المحاورة نجد أن الصحابة ‪-‬رضي الله عنهم‪ -‬قد‬
‫يعني‪ :‬ل نظن بك التقصير‪ ،‬ول نتهمك في إخلصك‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫النقيبة‪ :‬الرأي والمشورة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب العتصام‪ ،‬رقم‪ .7311 :‬مسلم‪ ،‬كتاب المارة رقم‪.1533 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ دمشق لبن عساكر‪ ،65 -2/63 :‬نقل عن الحميدي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المرجع السابق نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪264‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أجمعوا على موافقة أبي بكر في غزو الروم‪ ،‬وإنما تنوعت وجهات‬
‫نظر بعضهم في كيفية هذا الغزو؛ فكان رأي عمر إرسال الجيوش‬
‫تلو الجيوش حتى تتجمع في الشام فتكون قوة كبيرة تستطيع أن‬
‫تصدر للعداء‪ ،‬وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقوات‬
‫صغيرة تغير على أطراف الشام ثم تعود إلى المدينة‪ ،‬حتى إذا تم‬
‫إرهاب العدو وإضعافه تبعث الجيوش الكبيرة‪ ،‬وقد أخذ أبو بكر برأي‬
‫عمر في هذا المر‪ ،‬واستفاد من رأي عبد الرحمن بن عوف فيما‬
‫يتعلق بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب‪ ،‬وخاصة أهل اليمن‬
‫)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬استنفار أهل اليمن‪:‬‬
‫كتب الصديق إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله‪،‬‬
‫وهذا هو نص الكتاب‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬من خليفة رسول‬
‫الله إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل‬
‫اليمن‪ :‬سلم عليكم‪ .‬فإني أحمد إليكم الله الذي ل إله إل هو‪ .‬أما‬
‫بعد‪ ،‬فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا‬
‫ل‪ ،‬وقال‪ :‬جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله‪،‬‬ ‫خفاًفا وثقا ً‬
‫من‬‫والجهاد فريضة مفروضة‪ ،‬وثوابه عند الله عظيم‪ ،‬وقد استنفرنا َ‬
‫قِب ََلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام‪ ،‬وقد سارعوا إلى ذلك‪،‬‬
‫وعسكروا وخرجوا وحسنت بذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم‪،‬‬
‫فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه ولتحسن نيتكم فيه؛ فإنكم‬
‫إلى إحدى الحسنيين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة‪ ،‬فإن الله‬
‫ض من عباده بالقول دون العمل‪ ،‬ول يزال‬ ‫‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬لم ير َ‬
‫الجهاد لهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق ويقروا لحكم الكتاب‪.‬‬
‫كى أعمالكم‪ ،‬ورزقكم أجر‬ ‫حفظ الله دينكم وهدى قلوبكم وز ّ‬
‫المجاهدين الصابرين‪ (2) .‬وبعث الصديق هذا الكتاب مع أنس بن‬
‫مالك ‪ ،‬وفي هذا الكتاب يظهر دور أبي بكر ‪ ‬في حث المسلمين‬
‫وجمعهم)‪(3‬للجهاد في سبيل الله وهو ما يمكن أن يسمى بـ)التعبئة‬
‫العامة( ‪.‬‬
‫ومن خطاب الصديق لهل اليمن يتضح أن الجهاد من أجل‬
‫تحقيق غرضين‪ :‬تحقيق إسلم المسلمين؛ لن الله ل يرضى لعباده‬
‫بالقول دون العمل‪ ،‬ومقاتلة غير المسلمين حتى يدينوا بدين الحق‬
‫ويقروا لحكم كتاب الله‪ ،‬وهذا هو السبب الذي جعل أهل اليمن‬
‫ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعداد هائلة‪ ،‬ولم يصل إلى علمنا‬
‫ها بل خرجوا طواعية‪ ،‬وأقبلت جموعهم‬ ‫دا منهم خرج مستكر ً‬ ‫أن أح ً‬
‫بنسائهم وأولدهم وكانوا من أسرع المستجيبين للنداء حّبا ورغبة في‬
‫الجهاد‪ .‬ويعبر عن هذا أنس بن مالك حامل رسالة الصديق إلى أهل‬
‫حا يقرأ عليهم‬ ‫حا جنا ً‬
‫اليمن‪ ،‬والذي تنقل بين أحيائهم قبيلة قبيلة وجنا ً‬
‫كتاب أبي بكر ويحثهم على السراع‪ ،‬فقال‪ :‬فكان كل من أقرأ عليه‬
‫ي ويقول‪ :‬نحن‬ ‫ذلك الكتاب ويسمع هذا القول يحسن الرد عل ّ‬
‫سائرون وكأنا قد فعلنا‪ ،‬حتى انتهيت إلى ذي الكلع‪ ،‬فلما قرأت عليه‬
‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.9/188 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪ ،48‬تهذيب تاريخ دمشق‪.1/129 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.294‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪265‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الكتاب وقلت هذا المقال دعا بفرسه وسلحه ونهض في قومه من‬
‫ساعته ولم يؤخر ذلك‪ ،‬وأمر بالعسكر‪ ،‬فما برحنا حتى عسكر‬
‫وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن‪ ،‬وقد قام فيهم خطيًبا فقال‬
‫فيما قاله‪ :‬ثم قد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين‬
‫واكتساب الجر العظيم‪ ،‬فلينفر من أراد النفير معي الساعة‪ (1) .‬فعاد‬
‫أنس بن مالك في حوالي ‪ 11‬رجب ‪12‬هـ وبشر أبا بكر بقدوم‬
‫اليمن وشجعانها وفرسانها‪،‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫القوم‪ ،‬فقال‪ :‬قد أتوك شعًثا غبًرا أبطال‬
‫ما حتى‬ ‫ً‬ ‫أيا‬ ‫إل‬ ‫لبث‬ ‫وما‬ ‫‪،‬‬ ‫والموال‬ ‫وقد ساروا إليك بالذراري والحرم‬
‫قدم ذو الكلع الحميري وقومه في حوالي ‪ 16‬رجب ‪ 12‬هـ )‪ ،(3‬ولم‬
‫تكن هذه الستجابة الفورية الراغبة خاصة بأهل »حمير«؛ بل كل من‬
‫جاء من اليمن كان على نفس المستوى؛ وعلى سبيل المثال فقد‬
‫قدم من »همدان« أكثر من ألفي رجل وعليهم حمزة بن مالك‬
‫الهمداني )‪ ،(4‬وعندما قدم أهل اليمن على المدينة ودخلوا المسجد‬
‫على أبي بكر فلما سمعوا القرآن اقشعرت جلودهم من خشية الله‬
‫وجعلوا( يبكون خاشعين‪ ،‬فبكى أبو بكر وقال‪ :‬هكذا‬ ‫وجاشت أنفسهم‪،‬‬
‫كنا‪ ،‬ثم قست القلوب‪ 5) .‬وعندما رأى ذو الكلع الحميري الصديق‬
‫خا نحيل ً معروق الوجه وعليه ثوب خشن ول شيء يسطع‬ ‫وجده شي ً‬
‫من ثيابه! ل شيء على الطلق غير الورع يضيء وجهه البيض‪،‬‬
‫وكان ذو الكلع قدم على الصديق من اليمن ومن خلفه ومن حوله‬
‫ألف عبد من الفرسان‪ ،‬وعلى رأسه التاج وعلى حلته الجواهر‬
‫المتللئة وبردته تسطع بخيوط الذهب المرصع بالللي والياقوت‬
‫والمرجان‪ ،‬فلما شاهد ما عليه الصديق من اللباس والزهد والتواضع‬
‫والنسك‪ ،‬وما هو عليه من الوقار والهيبة‪ ،‬تأثر ذو الكلع ومن معه‬
‫من السادة فذهبوا مذهب الصديق ونزعوا ما كان عليهم‪ (6) .‬وقد تأثر‬
‫ما في سوق من‬ ‫ذو الكلع بالصديق وَتزّيا بزيه حتى إنه رئي يو ً‬
‫أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة ففزعت عشيرته‪،‬‬
‫وقالوا له‪ :‬فضحتنا بين المهاجرين والنصار! قال‪ :‬فأردتم أن أكون‬
‫جباًرا في الجاهلية‬
‫)أي( ل والله( ل تكون طاعة الرب إل‬ ‫الله‬ ‫ها‬ ‫ل‬ ‫السلم؟‬ ‫جباًرا في‬
‫بالتواضع والزهد في هذه الدنيا)‪. 7‬‬
‫وصنعت ملوك اليمن كما صنع ذو الكلع الحميري‪ ،‬فتخلوا عن‬
‫التيجان المثقلة بالجواهر‪ ،‬وتركوا حلل المخمل الموشى بخيوط‬
‫الذهب والياقوت والدر والمرجان‪ ،‬واشتروا من سوق المدينة ثياًبا‬
‫خشنة‪ ،‬ووضع الصديق في بيت المال ما تخلوا عنه جميًعا من نفائس‬
‫)‪.(8‬‬
‫كان أبو بكر ‪ ‬خير من تمثل بالسلم في حياته بعد رسول الله‪،‬‬
‫وكان لسان حاله دعوة إلى الله تعالى‪ ،‬وأبلغ نصيحة تلك التي‬
‫يشاهدها الناس من طريق العين ل من طريق الذن‪ ،‬وخير الناصحين‬
‫)( الكامل لبن الثير‪2/64 :‬؛ اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.302 ،301‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (4 ،3 ،‬اليمن في صدر السلم‪ :‬ص ‪.302‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪ ،114‬أبو بكر للطنطاوي‪ :‬ص ‪.218‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( مروج الذهبي للمسعودي‪.2/305 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( مروج الذهبي للمسعودي‪.2/305 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( الصديق أول الخلفاء‪ :‬ص ‪.138 ،137‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪266‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫من ينصح بأفعاله ل بأقواله‪ ،‬فلما رأى ملوك اليمن أن أبا بكر خليفة‬
‫رسول الله وصاحب المر والنهي في الجزيرة العربية يمشي في‬
‫السواق ويلبس العباءة والشملة‪ ،‬علموا أن هناك شيًئا أعظم من‬
‫الثياب المزركشة والذهب والللئ؛ هو النفس العظيمة فسعوا‬
‫ليتشبهوا بأبي بكر‪ ،‬واستحيوا من الله والناس أن يقابلوا خليفة‬
‫رسول الله بالتاج والبرود والحلي وهو بعباءة‪ ،‬فقد صغرت عليهم‬
‫نفوسهم وهانت وهدأت ثورتها وانطفأت سورتها كما ينطفي النجم‬
‫ما في‬ ‫رحم‪(1‬الله أبا بكر؛ فقد كان عظي ً‬ ‫الصغير إذا واجه الشمس!‬
‫تواضعه‪ ،‬متواضعا في عظمته ) ‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬عقد الصديق اللوية للقادة وتوجيه الجيوش‪:‬‬
‫عزم الصديق على تسيير الجيوش لبلد الشام فدعا الناس إلى‬
‫الجهاد‪ ،‬وعقد اللوية لربعة جيوش أرسلها لفتح الشام‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬جيش يزيد بن أبي سفيان‪:‬‬
‫وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى بلد الشام‪ ،‬وكانت مهمته‬
‫الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الربعة عند‬
‫الضرورة‪ ،‬وكان جيش يزيد أول المر ثلثة آلف‪ ،‬ثم عززه الخليفة‬
‫بالمدادات حتى صار معه بحدود السبعة آلف رجل‪ ،‬وقبل رحيل‬
‫جيش يزيد أوصاه الخليفة أبو بكر وصية بليغة عالية المستوى‬
‫كم باهرة في مجالي الحرب والسلم‪ ،‬وشّيعه ماشًيا‬ ‫ح َ‬
‫تشتمل على ِ‬
‫وأوصاه بما يأتي‪ :‬إني قد وليتك لبلونك وأجربك وأخّرجك‪ ،‬فإن‬
‫أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك‪ ،‬وإن أسأت عزلتك‪ .‬فعليك بتقوى‬
‫الله‪ ،‬فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك‪ ،‬وإن أولى الناس‬
‫الناس من الله أشدهم تقربا إليه‬ ‫بالله أشدهم تولًيا له‪ ،‬وأقرب‬
‫عب ّّية الجاهلية )‪ (3‬فإن الله‬
‫بعمله‪ ،‬وقد وليتك عمل خالد )‪ ،(2‬فإياك و ِ‬
‫يبغضها ويبغض أهلها‪ .‬إذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم‪،‬‬
‫وابدأهم بالخير وعدهم إياه‪ ،‬وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلم‬
‫ل الصلوات‬ ‫ضا‪ ،‬وأصلح نفسك يصلح لك الناس‪ ،‬وص ّ‬ ‫ينسي بعضه بع ً‬
‫لوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها‪ ،‬وإذا قدم عليكم‬
‫بثهم‪(4‬حتى يخرجوا من عسكرك وهم‬ ‫رسل عدوك فأكرمهم‪ ،‬وأقلل ل ُ ْ‬
‫ترينهم فيروا خللك ) ‪ ،‬ويعلموا علمك‪ ،‬وأنزلهم في‬ ‫جاهلون به ول‬
‫ثروة عسكرك )‪ ،(5‬وامنع من قبلك من محادثتهم‪ ،‬وكن أنت المتولي‬
‫لكلمهم‪ ،‬ول تجعل سرك لعلنيتك فيخلط أمرك‪ ،‬وإذا استشرت‬
‫خُزن عن المشير خبرك‬ ‫فاصدق الحديث تصدق المشورة‪ ،‬ول ت َ ْ‬
‫فتؤتى من قبل نفسك‪ ،‬واسمر بالليل في أصحابك تأتك الخبار‪،‬‬
‫وتنكشف عندك الستار‪ ،‬وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك‪ ،‬وأكثر‬
‫مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك‪ ،‬فمن وجدته غفل عن‬
‫محرسه فأحسن أدبه‪ ،‬وعاقبه في غير إفراط‪ ،‬وأعقب بينهم بالليل‬
‫واجعل النوبة الولى أطول من الخيرة‪ ،‬فإنها أيسرهما لقربها من‬
‫أبو بكر الصديق‪ ،‬على طنطاوي‪ :‬ص ‪.219‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫يعني‪ :‬عمل خالد بن سعيد بن العاص‪ ،‬وكان قد استعفى أبا بكر فأعفاه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫يعني التعصب لما كان عليه أهل الجاهلية‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫يعني‪ :‬ل تطلعهم على دخيلة أمرك فيطلعوا على عيوبك‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫يعني‪ :‬ليروا قوة المسلمين‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪267‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن فيها‪ ،‬ول تسرع إليها‬‫ج ّ‬
‫النهار‪ ،‬ول تخف من عقوبة المستحق ول تل ّ‬
‫ول تتخذ لها مدفًعا‪ ،‬ول تغفل عن أهل عسكرك فتفسده‪ ،‬ول تجسس‬
‫ف بعلنيتهم‪،‬‬‫عليهم فتفضحهم‪ ،‬ول تكشف الناس عن أسرارهم واكت ِ‬
‫ول تجالس العّباثين وجالس أهل الصدق والوفاء‪ ،‬واصدق اللقاء‪ ،‬ول‬
‫تجبن فيجبن الناس‪ ،‬واجتنب الغلول؛ فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر‪،‬‬
‫ما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا‬ ‫وستجدون أقوا ً‬
‫أنفسهم له‪(1).‬قال ابن الثير‪ :‬وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعا‬
‫لولة المر ‪.‬‬
‫من فوائد هذه الوصية‪:‬‬
‫قا ثابًتا لصحابها‪ ،‬وإنما بقاؤهم‬
‫* أن الوليات والمناصب ليست ح ّ‬
‫فيها مرهون بالحسان والنجاح في العمل‪ ،‬ومن واجب المسئول‬
‫العلى أن يعزلهم إذا أساءوا‪ ،‬وإن هذا الشعور يدفع صاحب العمل‬
‫إلى مضاعفة الجهد في بذل الطاعة ليصل إلى مستوى أعلى من‬
‫النجاح في العمل‪ ،‬أما إذا ضمن البقاء فإنه قد يميل إلى الكسل‬
‫والشتغال بمتاع الدنيا فيخل بمسئوليته ويعرض من تحت وليته إلى‬
‫أنواع من الفساد والفوضى والنزاع‪.‬‬
‫* إن تقوى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬هي أهم عوامل النجاح في العمل؛‬
‫لن الله تعالى مطلع على ظاهر أعمال الناس وباطنهم‪ ،‬فإذا اتقوه‬
‫في باطنهم فحري بهم أن يتقوه في ظاهرهم‪ ،‬وبذلك يتجنب الوالي‬
‫كل مظاهر الفساد والفساد‪ ،‬التي تكون عادة من الستجابة‬
‫للعواطف الجامحة التي ل تلتزم بتقوى الله تعالى‪.‬‬
‫* التحذير من التعصب للباء والجداد والقوام‪ ،‬فإن التعصب‬
‫لذلك قد يحمل النسان على النحراف عن الطريق المستقيم‪ ،‬إذا‬
‫فا للستقامة‪ ،‬إضافة إلى أنه يضعف‬
‫كان ما عليه الباء والجداد مخال ً‬
‫من النتماء للرابطة السلمية الوحيدة وهي الخوة في الله تعالى‪.‬‬
‫ضا‬
‫* اليجاز في الموعظة؛ فإن كثير الكلم ينسي بعضه بع ً‬
‫فيضيع المقصود‪ ،‬ويغلب على السامع العجاب ببلغة المتكلم إن‬
‫كان بليًغا عن استيعاب ما يقول‪ ،‬والستفادة من مواعظه‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن بليغا فإن الملل يأخذ بالسامع فل يعي ما يقول المتكلم‪.‬‬
‫* إذا أصلح المسئول نفسه وتفقد عيوبه وجعل من نفسه‬
‫ن‬
‫حا للقدوة الحسنة‪ ،‬فإن ذلك يكون سببا في صلح َ ْ‬
‫م‬ ‫جا صال ً‬
‫نموذ ً‬
‫هم تحت رعايته‪.‬‬
‫* الهتمام بإقامة الصلة كاملة مظهًرا ومخبًرا‪ ،‬مظهًرا من ناحية‬
‫إكمال أقوالها وأفعالها‪ ،‬ومخبًرا من ناحية الخشوع فيها وحضور‬
‫القلب مع الله تعالى‪ ،‬فإن هذه الصلة الكاملة يقام بها ذكر الله في‬
‫الرض‪ ،‬وتهذب السلوك وتقوي القلوب‪ ،‬وتبعث على ارتياح النفوس‪،‬‬
‫وتعتبر ملًذا للمسلم عند الشدائد‪.‬‬

‫)( الكامل لبن الثير‪.65 ،64 /2 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪268‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫* إكرام رسل العدو إذا قدموا‪ ،‬مع الحتراس منهم وتمكينهم من‬
‫معرفة واقع الجيش السلمي‪ ،‬فإكرامهم نوع من الدعوة إلى‬
‫السلم فيما إذا عرف العالم ما يتحلى به المسلمون من مكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ولكن ل يصل هذا الكرام إلى حد إطلعهم على بطانة أمور‬
‫المسلمين؛ بل ينبغي إطلعهم على قوة جيش المسلمين ليرهبوا‬
‫بذلك أقوامهم‪.‬‬
‫* الحتفاظ بالسرار وعدم التهاون بإفشائها‪ ،‬خاصة فيها يتعلق‬
‫بأمور المسلمين العامة‪ ،‬فإن الحكيم يستطيع التصرف في المور‬
‫سا في ضميره‪ ،‬فإذا أفشاه‬ ‫وإن تغيرت وجوهها ما دام سره حبي ً‬
‫اختلطت عليه المور ولم يستطع التحكم فيها‪.‬‬
‫* إتقان المشورة أهم من النظر في نتائجها‪ ،‬فإن المستشار‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫وإن كان حصيف الرأي ثاقب الفكر فإنه ل يستطيع أن يفيد َ‬
‫استشاره حتى ينكشف له أمره بغاية الوضوح‪،‬‬
‫فإذا أخفى المستشير بعض تفاصيل القضية‪ ،‬فإنه يكون قد جنى‬
‫على نفسه؛ حيث قد يتضرر بهذه المشورة‪.‬‬
‫ً‬
‫* أن على القائد وكل مسئول أن يكون مخالطا لمن ولي أمرهم‬
‫على مختلف طبقاتهم؛ ليكون دقيق الخبرة بأمورهم‪ ،‬وفي هذا أكبر‬
‫العون له على تصور مشكلتهم والمبادرة بإيجاد الحلول لها‪ ،‬أما‬
‫المسئول الذي يعيش في عزلة ول يختلط إل بأفراد من كبار رعيته‪،‬‬
‫فإنه ل يصل إليه من المعلومات إل ما كان من طريق هؤلء‪ ،‬وقد ل‬
‫يكشفون له المور على غير وجهها الصحيح‪.‬‬
‫* الهتمام بأمر حراسة المسلمين خاصة في مكامن الخطر‪،‬‬
‫واختبار الحراس المناء من ذوي النباهة‪ ،‬وعدم وضع الثقة الكاملة‬
‫بهم؛ بل ل بد من الرقابة عليهم حتى ل يؤتى المسلمون من قبلهم‪.‬‬
‫طا فل‬‫كا وس ً‬ ‫* أن يسلك المسئول في عقاب المخالف مسل ً‬
‫يتهاون فيترك عقوبة المستحق‪ ،‬فإن ذلك يجرئه على مزيد من‬
‫المخالفة ويجرئ غيره على ارتكاب المخالفات‪ ،‬فتسود الفوضى‬
‫وينفلت المر‪ ،‬ول يشتد في العقوبة فينفر الرعية‪ ،‬ويدفعهم إلى‬
‫التسخط والتحزب؛ بل تكون عقوبته بحكمة واتزان وبعد النظر‬
‫والتروي؛ بحيث تؤدي غرضها التربوي بدون إثارة ضجة ول دفع إلى‬
‫النقد والتسخط‪.‬‬
‫* أن يكون لدى المسئول يقظة وانتباه لكل ما يجري في حدود‬
‫ما‬
‫المسئولية المناطة به؛ حتى يشعر أفراد الرعية بأن هناك اهتما ً‬
‫بأمورهم فيزيد المحسن إحساًنا ويقتصر المسيء عن الساءة‪ ،‬ولكن‬
‫بدون تجسس عليهم؛ فإن ذلك يعتبر فضيحة لهم‪ ،‬وقد ينقطع بذلك‬
‫خيط العلقة الذي يربط المسئول بأفراد رعيته‪ ،‬من المودة‬
‫ما فإنه يمنع‬ ‫والعجاب والشكر على الجميل‪ ،‬وهذا الخيط ما دام قائ ً‬
‫أصحاب الجنوح من ارتكاب المخالفات التي تفسد المجتمع وتحدث‬
‫الفوضى‪ ،‬فإذا انقطع ولم يكن هناك عاصم من تقوى الله تعالى‪،‬‬
‫فإن أهم الحواجز التي تحول دون النطلق وراء الشهوات تكون قد‬
‫تحطمت‪ ،‬ويصعب بعد ذلك علج المور؛ لنها تحتاج إلى قوة رادعة‪،‬‬

‫‪269‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهذه لها سلبياتها المعروفة‪.‬‬
‫* أن يحرص المسئول على مجالسة أهل الصدق والوفاء‬
‫والعقول الراجحة‪ ،‬وإن سمع منهم ما يكره أحياًنا من النقد والتوجيه؛‬
‫فإن ذلك يعود عليه وعلى من استرعاه الله أمرهم بالنفع‪ .‬وأن ل‬
‫يجالس أصحاب اللهو والهداف الدنيوية‪ ،‬فإن هؤلء وإن أنس‬
‫بكلمهم وثنائهم‪ ،‬فإنهم يحولون بينه وبين التفكير في المور الجادة‪،‬‬
‫فل يستفيق بعد ذلك إل والنكبات قد حلت به وبمن ولي أمورهم‪.‬‬
‫* أن يصدق القائد في لقاء العداء وأن ل يجبن؛ فإن جبنه‬
‫يسري على جنده‪ ،‬فيقع بذلك الفشل والهزيمة‪ ،‬وفي غير الحرب أن‬
‫عا في مواجهة المواقف‪ ،‬وأن ل يضعف فيسري‬ ‫يكون المسئول شجا ً‬
‫ضعفه على من هم تحت إدارته من العاملين‪ ،‬فيقل بذلك مستوى‬
‫الداء ويضعف النتاج‪.‬‬
‫* أن يتجنب القائد الغلول )وهو الخذ من الغنيمة قبل قسمتها(‪،‬‬
‫هذا في مجال الحرب‪ ،‬وفي مجالت السلم أن يتجنب المسئول أية‬
‫عا؛ مثل‪ :‬أخذ الهدايا التي‬ ‫استفادة دنيوية من عمله ل تحل له شر ً‬
‫يقصد بها من دفعها الستفادة من المسئول في مجانبة الحق‪ ،‬فإن‬
‫ذلك من الغلول‪ ،‬والغلول كما جاء في هذه الوصية يقرب إلى الفقر‬
‫ويدفع النصر‪.‬‬
‫* ومن هذه الفوائد تبين لنا عظمة هذه الوصية التي أوصى بها‬
‫أبو بكر أحد قواده‪ ،‬وهي تبين لنا أنه كان يعيش بفكره مع قضايا‬
‫المسلمين‪ ،‬وأنه كان يتصور ما قد يواجهه قواده‪ ،‬فيحاول تزويدهم‬
‫بما ينفعهم في تلفي الوقوع في المشكلت وحلها إذا وقعت‪ ،‬وهذه‬
‫الوصية وأمثالها تسجل إضافة جديدة لمواقف أبي بكر المتعددة‬
‫عا في أمور‬ ‫النواع‪ ،‬فإذا تأملت إدارته للحكم وجدت رجل ً بار ً‬
‫عا في‬ ‫السياسة‪ ،‬وإذا رأيت توجيهه للقادة العسكريين تجده رجل ً بار ً‬
‫شئون الحرب وكأنه مع القادة في الميادين‪ ،‬وإذا رأيت رحمته‬
‫عا في الدعوة إلى الله تعالى‪ ،‬فهو‬ ‫وتأليفه للقلوب رأيت رجل ً بار ً‬
‫الرجل الرحيم بالمؤمنين‪ ،‬الرافع لشأن أهل البلء والصدق منهم‪،‬‬
‫والقدرة‪ ،‬القوي الحازم على أعداء الله من‬ ‫الخبير بأهل الكفاءة‬
‫المنافقين والكافرين )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬جيش شرحبيل بن حسنة‪:‬‬
‫حدد أبو بكر الصديق لمسير شرحبيل ثلثة أيام بعد مسير يزيد‬
‫بن أبي سفيان‪ ،‬فلما مضى اليوم الثالث ودع أبو بكر شرحبيل وقال‬
‫له‪ :‬يا شرحبيل ألم تسمع وصيتي ليزيد بن أبي سفيان؟ قال‪ :‬بلى‪،‬‬
‫قال‪ :‬فإني أوصيك بمثلها وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن ليزيد‪:‬‬
‫أوصيك بالصلة في وقتها‪ ،‬وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل‪،‬‬
‫وبعيادة المرضى وبحضور الجنائز وذكر الله كثيًرا على كل حال‪.‬‬
‫فقال شرحبيل‪ :‬الله المستعان‪ ،‬وما شاء الله أن يكون كان‪ (2) .‬وكان‬
‫جيش شرحبيل ما بين ثلثة آلف إلى أربعة آلف‪ ،‬وأمره أن يسير‬
‫)( التاريخ السلمي‪.197 -9/192 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪270‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫إلى تبوك والبلقاء ثم بصرى‪ ،‬وهي آخر مرحلة‪ .‬وتقدم شرحبيل نحو‬
‫البلقاء حيث لم يلق مقاومة تذكر وكان يسير على الجناح اليسر‬
‫لجيش أبي عبيدة والجناح اليمن لجيش عمرو بن العاص في‬
‫فأخذ‪(1‬يحاصرها‪ ،‬فلم‬ ‫فلسطين‪ ،‬فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى‬
‫يوفق في فتحها لنها كانت من المراكز الحصينة ) ‪.‬‬
‫‪ -3‬جيش أبي عبيدة بن الجراح‪:‬‬
‫لما عزم الصديق على بعث أبي عبيدة بن الجراح بجيشه دعاه‬
‫فودعه‪ ،‬ثم قال له‪ :‬اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم‬
‫يعمل بما أمر به‪ ،‬إنك تخرج في أشراف الناس وبيوتات العرب‬
‫وصلحاء المسلمين وفرسان الجاهلية‪ ،‬كانوا يقاتلون إذ ذاك على‬
‫الحمية‪ ،‬وهم اليوم يقاتلون على الحسبة والنية الحسنة‪ .‬أحسن‬
‫صحبة من صحبك‪ ،‬وليكن الناس عندك في الحق سواء‪ ،‬واستعن‬
‫ل‪ ،‬اخرج من‬ ‫بالله وكفى بالله معيًنا‪ ،‬وتوكل على الله وكفى بالله وكي ً‬
‫غد إن شاء الله‪ (2) .‬وكان جيشه يتراوح ما بين ثلثة إلى أربعة آلف‬
‫مجاهد‪ ،‬وهدف ذلك الجيش حمص‪ ،‬سار أبو عبيدة من المدينة ماّرا‬
‫بوادي القرى‪ ،‬ثم اطلع إلى الحجر »مدن صالح«‪ ،‬ثم إلى ذات منار‪،‬‬
‫ثم إلى زيزا‪ ،‬ومنها إلى مأمؤاب‪ ،‬فالتقى بقوة للعدو فقاتلهم‪ ،‬ثم‬
‫صالحوه)‪(3‬فكان أول صلح عقد في الشام‪ ،‬ثم واصل تقدمه نحو‬
‫الجيش الجناح اليسر للجيش الول والجناح‬ ‫الجابية ‪ ،‬وكان هذا‬
‫اليمن للجيش الثاني)‪ ،(4‬وكان في صحبة أبي عبيدة بن الجراح‬
‫فارس من فرسان العرب المشهورين‪ ،‬قيس بن هبيرة بن مسعود‬
‫المرادي فأوصى به الصديق أبا عبيدة قبل سفره وقال له‪ :‬إنه قد‬
‫صحبك رجل عظيم الشرف‪ ،‬فارس من فرسان العرب ليس‬
‫بالمسلمين غناء عن رأيه ومشورته وبأسه في الحرب‪ ،‬فأدنه وألطفه‬
‫وأره أنك غير مستغن عنه ول مستهين بأمره‪ ،‬فإنك تستخرج بذلك‬
‫ده على عدوك‪ .‬ودعا أبو بكر قيس بن هبيرة‬ ‫نصيحته لك وجهده وج ّ‬
‫ظلم لم يظلم‪ ،‬وإذا‬ ‫فقال‪ :‬إني بعثتك مع أبي عبيدة المين الذي إذا ُ‬
‫ُأسيء إليه غفر‪ ،‬وإذا قطع وصل‪ ،‬رحيم بالمؤمنين شديد على‬
‫الكافرين‪ ،‬فل تعصين له أمًرا‪ ،‬ول تخالفن له رأيا‪ ،‬فإنه لن يأمرك إل‬
‫بخير‪ ،‬وقد أمرته أن يسمع منك فل تأمره إل بتقوى الله‪ ،‬قد كنا‬
‫نسمع أنك شريف ذو بأس سيد مجرب في زمان الجاهلية الجهلء؛‬
‫إذ ليس فيهم إل الثم‪ ،‬فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك في السلم‬
‫على المشركين وعلى من كفر بالله وعبد معه غيره‪ ،‬فقد جعل الله‬
‫في ذلك الجر العظيم والثواب الجزيل والعز للمسلمين‪ .‬فقال قيس‬
‫بن هبيرة‪ :‬إن بقيت وأبقاك الله فسيبلغك عني من حيطتي عن‬
‫المسلم وجهدي على الكافر ما تحب ويسرك ويرضيك‪ ،‬فقال له أبو‬
‫بكر ‪ :‬افعل ذلك رحمك الله‪ .‬قال‪ :‬فلما بلغ أبا بكر مبارزة قيس‬
‫بن هبيرة البطرقين بالجابية وقتله إياهما قال‪ :‬صدق قيس وبر ووفى‬
‫)‪.(5‬‬
‫أبو بكر الصديق‪ ،‬نزار الحديثي‪ :‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.17‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الكامل لبن الثير‪.2/66 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ ،‬نهاد عباس‪ :‬ص ‪.141‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.27 ،26‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪271‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ونلحظ أن أبا بكر ‪ ‬شحذ همة قيس بن هبيرة وفجر طاقاته‬
‫الكامنة في نفسه‪ ،‬واستخرج منه أعلى ما أمكن من طاقة وصرفها‬
‫في حماية السلم والجهاد في سبيله‪ ،‬ول شك أن الثناء على‬
‫يرفع‪(1‬من معنوياتهم ويمنحهم قوة‬ ‫العظماء والنبلء بذكر فضائلهم‬
‫عالية تدفعهم إلى التضحية والفداء ) ‪.‬‬
‫‪ -4‬جيش عمرو بن العاص‪:‬‬
‫وجه الصديق عمرو بن العاص بجيش إلى فلسطين‪ ،‬وكان‬
‫الصديق قد خيره بين البقاء في عمله الذي أسنده إليه رسول الله‬
‫×‪ ،‬وبين أن يختار له ما هو خير له في الدنيا والخرة إل أن يكون‬
‫الذي هو فيه أحب إليه‪ ،‬فكتب إليه عمرو بن العاص‪ :‬إني سهم من‬
‫سهام السلم وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها‪ ،‬فانظر أشدها‬
‫وأخشاها وأفضلها فارم به‪ (2) .‬فلما قدم المدينة أمره أبو بكر ‪ ‬أن‬
‫يخرج من المدينة وأن يعسكر حتى يندب معه الناس‪ ،‬وقد خرج معه‬
‫عدد من أشراف قريش‪ ،‬منهم‪ :‬الحارث بن هشام‪ ،‬وسهيل بن‬
‫عمرو‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ .‬فلما أراد المسير خرج معه أبو بكر‬
‫يشيعه وقال‪ :‬يا عمرو إنك ذو رأي وتجربة بالمور وبصر بالحرب‪،‬‬
‫وقد خرجت مع أشراف قومك ورجال من صلحاء المسلمين‪ ،‬وأنت‬
‫قادم على إخوانك فل تألهم نصيحة‪ ،‬ول تدخر عنهم صالح مشورة‪،‬‬
‫فرب رأي لك محمود في الحرب مبارك في عواقب المور‪ .‬فقال‬
‫)‪(3‬‬
‫دق ظنك‪ ،‬وأن ل أفَّيل رأيك‪.‬‬ ‫عمرو بن العاص‪ :‬ما أخلقني أن أص ّ‬
‫وخرج عمرو بقواته وكان تعداده يتراوح من ستة إلى سبعة آلف‬
‫قا لساحل البحر الحمر حتى‬ ‫مجاهد وهدفها فلسطين‪ ،‬وسلكت طري ً‬
‫وادي عربة في البحر الميت‪ ،‬ونظم عمرو ابن العاص قوة استطلع‬
‫مؤلفة من ألف مجاهد ودفعها باتجاه محور تقدم الروم‪ ،‬ووضع على‬
‫قيادتها عبد الله بن عمر بن الخطاب ‪ ،‬واصطدمت هذه القوة‬
‫بقوات الروم‪ ،‬واستطاعت انتزاع النصر وتمزيق قوة العدو‪ ،‬وعادت‬
‫ببعض السرى فاستنطقهم عمرو بن العاص‪ ،‬وعلم منهم أن جيش‬
‫العدو بقيادة »رويس« يحاول مباغتة المسلمين بالقيام بالهجوم‪،‬‬
‫وعلى ضوء المعلومات الجديدة نظم عمرو قواته‪ .‬وشن الروم‬
‫هجومهم‪ ،‬واستطاع المسلمون صده ونجحوا في رد قوات الروم‪،‬‬
‫وبعد ذلك شنوا هجومهم المضاد ودمروا قوة العدو‬
‫الفرسان‬ ‫وتابع‬ ‫وأرغموهم على الفرار وترك ميدان المعركة‪،‬‬
‫المطاردة وانتهت بسقوط اللوف القتلى من الروم )‪.(4‬‬
‫وأمر الصديق ‪ ‬كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الخر‪ ،‬لما‬
‫في‪(5‬ذلك من المصالح‪ ،‬وكأن الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله‬ ‫لحظ‬
‫ب‬ ‫ٍ‬ ‫با‬
‫َ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫لبنيه‪:‬‬ ‫قال‬ ‫حين‬ ‫)‬
‫يعقوب‬
‫ه‬
‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫عن ُ‬ ‫غِني َ‬ ‫ما أ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ق ٍ‬ ‫فّر َ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫وا ٍ‬
‫َ‬
‫ن ْ أب ْ َ‬‫م ْ‬‫خُلوا ِ‬ ‫وادْ ُ‬
‫د َ‬ ‫ح ٍ‬
‫وا ِ‬
‫َ‬
‫ل‬‫َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫لل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ْ ِ ِ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫التاريخ السلمي‪.9/206 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫إتمام الوفاء بسيرة الخلفاء‪ :‬ص ‪.55‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أي‪ :‬أن ل يخطئ رأيك في‪ ،‬فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.51 -48‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫العمليات التعرضية الدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.143‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية‪.7/4 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪272‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫ن" ]يوسف‪.[67 :‬‬‫وك ُّلو َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مت َ َ‬
‫رابًعا‪ :‬تأزم الموقف في بلد الشام‪:‬‬
‫كانت الجيوش المكلفة بفتح بلد الشام تلقي صعوبة في تنفيذ‬
‫المهمات الموكلة إليها؛ فقد كانت تواجه جيوش المبراطورية‬
‫الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها‪ ،‬وقد بنت الحصون والقلع‬
‫للدفاع عن مراكز المدن‪ ،‬واستخدمت أسلوب الكراديس في تنظيم‬
‫جيوشها‪ .‬لقد كان للروم في الشام جيشان كبيران أحدهما في‬
‫فلسطين والخر في أنطاكية‪ ،‬وتمركز هذان الجيشان في ستة‬
‫مواضع على الشكل التي‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنطاكية‪ :‬وهي عاصمة الشام في العهد الرومي‪.‬‬
‫ب‪ -‬قنسرين‪ :‬وتقع بين حماة وحلب على مسافة خمسة‬
‫وعشرين كيلو مترا جنوبي غربي حلب‪ ،‬وهي حدود بلد الشام‬
‫التي تحاذي فارس في الشمال الغربي‪.‬‬
‫ج‪ -‬حمص‪ :‬ويمتد نفوذها العسكري حتى تدمر وصحراء الشام‪،‬‬
‫وهي حدود بلد الشام التي تحاذي فارس من الشمال‬
‫الشرقي‪.‬‬
‫د‪ -‬عمان‪ :‬قاعدة البلقاء‪ ،‬وفيها قلعة محصنة‪.‬‬
‫هـ‪ -‬أجنادين‪ :‬قاعدة الروم العسكرية في جنوب فلسطين وعلى‬
‫حدود بلد العرب الشرقية والغربية‪ ،‬وعلى حدود مصر‪.‬‬
‫و‪ -‬قيسارية‪ :‬في شمال فلسطين‪ ،‬وتبعد عن حيفا ثلثة عشر كيلو‬
‫متًرا ول تزال أنقاضها قائمة‪.‬‬
‫أما مقر القيادة العامة فهو أنطاكية أو حمص‪ ،‬وعندما شهد قائد‬
‫الروم هرقل الذي كان يشرف على الموقف بنفسه في »إيليا«‬
‫ل الجيوش السلمية‪ ،‬أصدر أوامره إلى قواته بالتوجه لتدمير‬ ‫توغ َ‬
‫هذه الجيوش‪ ،‬وكانت خطة مواجهة الجيوش السلمية كالتي‪:‬‬
‫‪ -‬يتراجع الروم أمام المسلمين ويتخلون لهم عن الحدود‬
‫الشامية الحجازية‪.‬‬
‫‪ -‬تتجمع وحدات الجيش الول في فلسطين بعد تقريرها‬
‫بقيادة سرجون‪.‬‬
‫‪ -‬تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة تيدور‪.‬‬
‫‪ -‬تتحرك هذه الجيوش وتهاجم أمراء السلم الربعة الواحد‬
‫بعد الخر؛ وذلك لتسهيل تصفية جيوش السلم على انفراد‪.‬‬
‫التي( وضعها هرقل تحركت جيوش‬ ‫وعلى أساس هذه الخطة‬
‫الروم وحسب الترتيب التي )‪: 1‬‬
‫‪ -‬توجيه أخيه تذارق في تسعين ألفا للقضاء على جيش‬
‫عمرو بن العاص‪.‬‬
‫)( معارك خالد بن الوليد‪ ،‬العميد ياسين سويد‪ :‬ص ‪.78 ،77‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪273‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -‬توجيه بن توذر إلى يزيد بن أبي سفيان‪.‬‬
‫‪ -‬توجيه القبقار بن ننطوس في ستين ألفا إلى جيش أبي‬
‫عبيدة‪.‬‬
‫‪ -‬توجيه الدارقص نحو شرحبيل بن حسنة )‪.(1‬‬
‫استطاع المسلمون الحصول على المعلومات الدقيقة عن هذه‬
‫الجيوش ونواياهم بكل تفاصيلها‪ ،‬وعن تفاصيل الخطة الرومية التي‬
‫كان قد وضعها هرقل لتدمير الجيوش السلمية كل على انفراد‪،‬‬
‫وراسل قادة المسلمين الخليفة بالمدينة‪ ،‬فكتب أبو عبيدة إلى أبي‬
‫بكر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬يخبره بما بلغه مما جمع هرقل ملك الروم‬
‫من الجموع‪ ،‬وهذا نص كتاب أمين المة إلى الصديق‪ :‬بسم الله‬
‫الرحمن الرحيم‪ ،‬لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله × من أبي‬
‫عبيدة ابن الجراح‪ ،‬سلم عليك‪ ،‬فإني أحمد إليك الله الذي ل إله إل‬
‫هو أما بعد‪ :‬فإنا نسأل الله أن يعز السلم وأهله عزا متينا‪ ،‬وأن يفتح‬
‫لهم فتحا يسيرا‪ ،‬فإنه بلغني أن هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى‬
‫الشام تدعى أنطاكية‪ ،‬وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشرهم إليه‪،‬‬
‫وأنهم نفروا إليه على الصعب والذلول )‪ ،(2‬وقد رأيت أن أعلمك ذلك‬
‫فترى فيه رأيك‪ ،‬والسلم عليك ورحمة الله وبركاته‪.‬‬
‫فكتب إليه أبو بكر ‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬أما بعد‪ :‬فقد‬
‫بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم‪ ،‬فأما‬
‫منزله بأنطاكية فهزيمة له ولصحابه وفتح من الله عليك وعلى‬
‫المسلمين‪ ،‬وأما ما ذكرت من حشره لكم أهل مملكته وجمعه لكم‬
‫الجموع‪ ،‬فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم‪ ،‬وما‬
‫كان قوم ليدعوا سلطانهم ويخرجوا من ملكهم بغير قتال‪ ،‬وقد‬
‫علمت والحمد لله‪ ،‬قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون‬
‫الموت حب عدوهم للحياة‪ ،‬ويرجون من الله في قتالهم الجر‬
‫العظيم‪ ،‬ويحبون الجهاد في سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم‬
‫وعقائل أموالهم‪ ،‬الرجل منهم عند الفتح خير من ألف رجل من‬
‫المشركين‪ ،‬فالقهم بجندك ول تستوحش لمن غاب عنك من‬
‫المسلمين‪ ،‬فإن الله معك‪ ،‬وأنا مع ذلك ممدك بالرجال‪ ،‬حتى تكتفي‬
‫ول تريد أن تزداد إن شاء الله‪ ،‬والسلم عليكم ورحمة الله وبركاته‬
‫)‪.(3‬‬
‫وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي بكر ‪ ‬بنفس مضمون كتاب‬
‫أبي عبيدة بن الجراح ورد الصديق على يزيد رضي الله عنهم جميعا‪،‬‬
‫وهذا نص الجواب‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬أما بعد‪ :‬فقد بلغني كتابك‬
‫تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية‪ ،‬وأن الله ألقى الرعب في‬
‫قلبه من جموع المسلمين‪ ،‬فإن الله ‪-‬وله الحمد‪ -‬قد نصرنا ونحن مع‬
‫رسول الله ×بالرعب وأمدنا بملئكته الكرام‪ ،‬وإن ذلك الدين الذي‬
‫نصرنا الله به بالرعب هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم‪،‬‬
‫)( العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.147‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( يعني‪ :‬الخيل بأنواعها‪ ،‬ما يصعب قياده منها وما يسهل‪ ،‬والمراد وصفهم‬ ‫‪2‬‬

‫بالكثرة‪.‬‬
‫)( التاريخ السلمي‪ ،9/213 :‬نقل عن فتوح الشام للزدي‪.31 ،30 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪274‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فوربك ل يجعل الله المسلمين كالمجرمين‪ ،‬ول من يشهد أن ل إله إل‬
‫الله كمن يعبد معه آلهة آخرين ويدين بعبادة آلهة شتى‪ ،‬فإذا لقيتموهم‬
‫فانهد إليهم بمن معك وقاتلهم فإن الله لن يخذلك‪ ،‬وقد نبأنا الله‬
‫‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله‪ ،‬وأنا‬
‫مع ذلك ممدك بالرجال في إثر الرجال حتى تكتفوا ول تحتاجوا إلى‬
‫زيادة إنسان إن شاء الله‪ ،‬والسلم عليك ورحمة الله‪ .‬وبعث الصديق‬
‫الثمالي‪ ،‬حتى قدم على يزيد فقرأه‬ ‫بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط‬
‫سّروا )‪.(1‬‬
‫على المسلمين ففرحوا به و ُ‬
‫وجاء كتاب من عمرو بن العاص بخصوص جموع الروم‪ ،‬ورد‬
‫عليه الصديق فقال‪ :‬سلم عليك‪ ،‬أما بعد‪ :‬فقد جاءني كتابك تذكر ما‬
‫جمعت الروم من الجموع‪ ،‬وإن الله لم ينصرنا مع نبيه × بكثرة‬
‫جنود‪ ،‬وقد كنا نغزو مع رسول الله × وما معنا إل فََرسان‪ ،‬وإن نحن‬
‫إل نتعاقب البل‪ ،‬وكنا يوم أحد مع رسول الله × وما معنا إل فرس‬
‫واحد كان رسول الله يركبه‪ ،‬ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من‬
‫ضا للمعاصي‪،‬‬ ‫الناس لله أشدهم بغ ً‬ ‫خالفنا‪ .‬واعلم يا عمرو أن أطوع‬
‫فأطع الله ومر أصحابك بطاعته )‪.(2‬‬
‫خروج هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى الشام‪:‬‬
‫وشرع الصديق في إمداد الجيوش السلمية ببلد الشام بالرجال‬
‫والسلح والخيول وما يحتاجونه‪ ،‬ودعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص‪،‬‬
‫دك ووفاء حظك أنك أصبحت‬ ‫ج ّ‬‫وقال له‪ :‬يا هاشم‪ ،‬إن من سعادة َ‬
‫ممن تستعين به المة على جهاد عدوها من المشركين‪ ،‬وممن يثق‬
‫ي المسلمون‬ ‫الوالي بنصيحته ووفائه وعفافه وبأسه‪ ،‬وقد بعث إل ّ‬
‫يستنصرون على عدوهم من الكفار‪ ،‬فسر إليهم فيمن تبعك‪ ،‬فإنني‬
‫نادب الناس معك‪ ،‬فاخرج حتى تقدم على أبي عبيدة أو يزيد قال‪ :‬ل‪،‬‬
‫بل على أبي عبيدة! قال‪ :‬فاقدم على أبي عبيدة‪ .‬وقام أبو بكر ‪‬‬
‫في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أما بعد‪ :‬فإن إخوانكم من‬
‫المسلمين معافون مدفوع عنهم مصنوع لهم‪ ،‬وقد ألقى الله الرعب‬
‫في قلوب عدوهم منهم‪ ،‬وقد اعتصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها‬
‫دونهم عليهم‪ ،‬وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الروم‬
‫من بين أيديهم حتى نزل قرية من قرى الشام في أقصى الشام وقد‬
‫دا من مكانه ذلك‪،‬‬ ‫بعثوا إلي يخبرونني أنه قد وجه إليهم هرقل جن ً‬
‫فرأيت أن أمد إخوانكم المسلمين بجند منكم يشدد الله بهم‬
‫ظهورهم‪ ،‬ويكبت بهم عدوهم‪ ،‬ويلقي بهم الرعب في قلوبهم‪،‬‬
‫فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص واحتسبوا في‬
‫ذلك الجر والخير؛ فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة‪ ،‬وإن تهلكوا‬
‫فهي الشهادة والكرامة‪ ،‬ثم انصرف أبو بكر ‪ ‬إلى منزله ومال‬
‫فا أمره أبو بكر أن‬ ‫الناس على هاشم حتى كثروا عليه‪ ،‬فلما أتموا أل ً‬
‫يسير فجاء فسلم عليه‪ ،‬وودعه‪ ،‬فقال له أبو بكر ‪ :‬يا هاشم‪ ،‬إنما‬
‫كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره‪ ،‬وكنا ننتفع‬
‫من الشباب بصبره وبأسه ونجدته‪ ،‬وإن الله ‪-‬عز وجل‪ -‬قد جمع لك‬
‫الخصال كلها وأنت حديث السن مستقبل الخير‪ ،‬فإذا لقيت عدوك‬
‫)( فتوح الشام للزدي‪ ،33 -30 :‬نقل عن الحميدي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( خطب أبي بكر الصديق‪ :‬محمد أحمد عاشور‪ :‬ص ‪.92‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪275‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫فاصبر وصابر‪ ،‬واعلم أنك ل تخطو خطوة ول تنفق نفقة ول يصيبك‬


‫ظمأ ول نصب ول مخمصة في سبيل الله إل كتب الله به عمل ً‬
‫حا‪ ،‬إن الله ل يضيع أجر المحسنين‪.‬‬ ‫صال ً‬
‫يجعلني كذلك وأنا أفعل ول قوة إل‬ ‫ُ‬ ‫را ً‬‫فقال هاشم‪ :‬إن يرد الله بي خي‬
‫تل إن شاء الله‪ ،‬فقال له‬ ‫بالله‪ ،‬وأنا أرجو إن أنا لم أقتل أن أ َ ْ‬
‫قتل ثم أقْ َ‬
‫عمه سعد بن أبي وقاص ‪:‬يا ابن أخي‪ ،‬ل تطعنن طعنة‪ ،‬ول تضربن‬
‫دا‬
‫ضربة إل وأنت تريد بها وجه الله‪ ،‬واعلم أنك خارج من الدنيا رشي ً‬
‫قري ًولن يصحبك من الدنيا إلى الخرة إل قدم صدق‬ ‫وراجع إلى الله با‪،‬‬
‫قدمته أو عمل صالح أسلفته‪ ،‬فقال‪ :‬أي عم‪ ،‬ل تخافن مني غير هذا‪ ،‬إني‬
‫إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلي وارتحالي وغدوي ورواحي وسيفي‬
‫وطعني برمحي وضربي بسيفي رياء للناس‪ .‬ثم خرج من عند أبي بكر‬
‫طريق أبي عبيدة‪ ،‬حتى قدم عليه فتباشر بمقدمه المسلمون‬ ‫‪‬‬
‫فلزم‬
‫روا به )‪.(1‬‬‫ّ‬ ‫وس‬
‫خروج سعيد بن عامر إلى الشام‪:‬‬
‫وبعد ذهاب هاشم بن عتبة بمدة أمر أبو بكر بلل ً فنادى في‬
‫الناس أل انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر بن حذيم إلى‬
‫الشام فانتدب معه سبعمائة رجل في أيام يسيرة‪ ،‬فلما أراد سعيد‬
‫بن عامر الشخوص بالناس أتى بلل أبا بكر‪ ،‬فقال‪ :‬يا خليفة رسول‬
‫الله‪ ،‬إن كنت إنما أعتقتني لقيم معك وتمنعني مما أرجو لنفسي فيه‬
‫الخير أقمت معك‪ ,‬وإن كنت إنما أعتقتني لله لملك نفسي وأضرب‬
‫ل سبيلي حتى أجاهد في سبيل ربي؛ فإن الجهاد‬ ‫فيما ينفعني فخ ّ‬
‫ي من المقام‪ .‬فقال له أبو بكر‪ :‬أما إذا كان هواك في الجهاد‬ ‫أحب إل ّ‬
‫فلم أكن لمرك بالمقام‪ ،‬إنما كنت أريدك للذان وإني لجد لفراقك‬
‫دا حتى يوم‬ ‫وحشة يا بلل‪ ،‬فما بد من التفرق‪ ,‬فرقة ل لقاء بعدها أب ً‬
‫حا يا بلل يكن زادك من الدنيا ويذكرك الله‬ ‫البعث‪ ،‬فاعمل عمل ً صال ً‬
‫به ما حييت‪ ،‬ويحسن لك به الثواب إذا توفيت‪ .‬فقال بلل‪ :‬جزاك الله‬
‫من ولي نعمة وأخ في السلم خيًرا‪ ،‬فوالله ما أمرك لنا بالصبر على‬
‫طاعة الله والمداومة على الحق والعمل الصالح ببدع‪ ،‬وما أريد أؤذن‬
‫لحد بعد رسول الله ×‪ .‬ثم خرج بلل مع سعيد بن عامر بن حذيم‪،‬‬
‫وكان أبو بكر قد أمر سعيد بن عامر أن يسير حتى يلحق بيزيد)‪(2‬بن‬
‫أبي سفيان فسار حتى لحقه فشهد معه وقعة العََربة والداثنة ‪.‬‬
‫وكانت وفود الجهاد تتوافد على المدينة‪ ،‬ويقوم الصديق بتوجيهها‬
‫إلى الجهات‪ ،‬وكانت بعض الوفود من أهل القرى فيهم جهل وجفاء‪،‬‬
‫فكان أهل المدينة من صحابة وتابعين يحتملون أذى بعض الوفود‬
‫الذين لم يتلقوا تربية إسلمية كافية‪ ،‬ويرفعون أمر ما يلقونه منهم‬
‫إلى خليفة رسول الله‪ ،‬ولم يذكر أنه حصل نزاع بينهم مع كثرة‬
‫وفدت‪(3‬على المدينة‪ .‬وكان أبو بكر الصديق قد ناشد‬ ‫)‬
‫الوفود التي‬
‫نشدي‬
‫)‪(4‬‬
‫سمع‬ ‫ما‬
‫ً‬ ‫مسل‬ ‫را‬
‫ً‬ ‫أم‬ ‫الله‬ ‫نشدتك‬ ‫لهم‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫المدني‪،‬‬ ‫المجتمع‬
‫لما كف عن هؤلء القوم‪ ،‬ومن رأي لي عليه حقا فليحتمل ذرب‬
‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.35 -33‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪ 38 -35‬بتصرف‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫التاريخ السلمي‪.9/224 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫يعني‪ :‬حدتها وشدتها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪276‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق‪‬‬
‫ألسنتهم‪ ،‬وعجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد‪ ،‬فإن الله مهلك‬
‫بهؤلء أعداءنا جموع هرقل والروم‪ ،‬وإنما هم إخوانكم‪ ،‬فإن كانت‬
‫منهم عجلة على أحد منكم فليحتمل ذلك‪ ،‬ألم يكن ذلك أصوب في‬
‫الرأي وخيًرا في المعاد من أن ي ُْنتصر منهم؟‬
‫قال المسلمون‪ :‬بلى‪.‬‬
‫العداء‪ ،‬ولهم‬ ‫قال‪ :‬فإنهم إخوانكم في الدين وأنصاركم على‬
‫عليكم حق فاحتملوا ذلك لهم‪ ،‬ثم نزل من على المنبر )‪.(1‬‬
‫سا‪ :‬توجيه خالد إلى الشام ومعركة أجنادين واليرموك‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫كانت قيادة الجيوش السلمية بالشام تتابع تطور حركة الجيوش‬
‫الرومانية‪ ،‬وشعر القادة بخطورة الموقف فعقدوا مؤتمًرا بالجولن‪،‬‬
‫وكتب أبو عبيدة إلى الخليفة يشرح له الموقف‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫قرروا النسحاب من جميع الراضي التي تم فتحها وتجمعوا في‬
‫مكان واحد ليتمكنوا من إحباط خطة الرومان وإجبارهم على خوض‬
‫معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش السلمية‪ .‬وكان عمرو بن‬
‫التجمع( باليرموك‪ ،‬وجاء رأي‬ ‫العاص أشار على القادة أن يكون‬
‫قا لرأي عمرو بن العاص )‪ 2‬في اختيار مكان التجمع‪،‬‬ ‫الصديق مطاب ً‬
‫واتفقوا أن يتم النسحاب مع تجنب الشتباك مع العدو‪ ،‬فانسحب أبو‬
‫عبيدة من حمص‪ ،‬وانسحب شرحبيل بن حسنة من الردن‪ ،‬وانسحب‬
‫يزيد بن أبي سفيان من دمشق‪ ،‬وأخذ عمرو بن العاص في‬
‫النسحاب تدريجًيا من فلسطين )‪ ،(3‬ولكنه لم يستطع النسحاب منها‬
‫حتى نجده خالد بن الوليد قبل اليرموك‪ ،‬فظل يناور في بئر السبع‬
‫ما مضاًدا فكانت‬ ‫له‪ (،‬وبذلك شن المسلمون هجو ً‬ ‫لمتابعة الروم‬
‫معركة أجنادين )‪. 4‬‬
‫عندما تسلم الصديق رسالة أبي عبيدة وشرح له فيها الموقف‬
‫أمره بالنسحاب إلى اليرموك والتجمع هناك‪ ،‬وقال له‪ :‬بث خيلك في‬
‫القرى والسواد وضيق عليهم بقطع الميرة والمادة‪ ،‬ول تحاصروا‬
‫المدائن حتى يأتيك أمري فإن ناهضوك فانهد لهم واستعن بالله‬
‫عليهم‪ ،‬فإنه ليس يأتيهم مدد إل أمددناك بمثلهم )‪ ،(5‬وجاء في رواية‪:‬‬
‫إن مثلكم ل يؤتى من قلة إنما يؤتى العشرة اللف إذا أوتوا من‬
‫الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين‪،‬‬ ‫تلقاء الذنوب‪ ،‬فاحترسوا من‬
‫وليصل كل رجل منكم بأصحابه‪ (6) .‬وكان توجيه الصديق للجيوش‬
‫بأنه يجتمعوا ويكونوا عسكرا واحدا‪ ،‬وأن يلقوا زحوف المشركين‬
‫بزحف المسلمين‪ ،‬وقال)‪(7‬لهم‪ :‬بأنكم أعوان الله‪ ،‬والله ناصر من‬
‫نصره وخاذل من خذله ‪.‬‬
‫ونرى من خلل رسائل الصديق بأنه وضع أساس النصر للجيوش‬
‫ل‪ ،‬فالخذلن يأتي بالمعاصي والذنوب‪ .‬وعمل الصديق‬ ‫بطاعتها لله أو ً‬
‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.9/223 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ ( 2،‬العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.148‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( حروب السلم في الشام‪ ،‬أحمد محمد‪ :‬ص ‪.45‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( العمليات التعويضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.148‬‬ ‫‪5‬‬

‫)‪ (6 ،‬تاريخ الطبري‪.4/211 :‬‬ ‫‪6‬‬


‫‪7‬‬

‫‪277‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫على تجميع الجيوش في مكان واحد حتى ل يستغل العدو فترة‬
‫انتشارهم في البلد لينهك قواهم الواحد بعد الخر‪ ،‬كما أن تعيينه‬
‫لليرموك دال على دراسة الصديق لجغرافية الرض في عصره‬
‫وإدراكه لمواقعها‪ ،‬وهذا فقه حربي عظيم وفقه الله ‪-‬عز وجل‪ -‬له‪.‬‬
‫وقرر الصديق أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه إلى الشام وأن يتولى‬
‫قيادة الجيوش بها‪ ،‬فالمر بالشام يحتاج إلى قائد يجمع بين قدرة أبي‬
‫عبيدة ودهاء عمرو وحنكة عكرمة وإقدام يزيد‪ ،‬وأن يكون صاحب‬
‫قدرة عسكرية فائقة مع قدرة على حسم المور وصاحب دهاء‬
‫وحيلة وإقدام‪ ،‬وصاحب حنكة ودراية)‪(1‬مع دقة في تقدير المواقف‪،‬‬
‫وصاحب تجربة طويلة في المعارك ‪ ،‬فوقع اختيار الصديق على‬
‫خالد بن الوليد فكتب إليه بالعراق ونفذ ابن الوليد تعاليم الخليفة‪،‬‬
‫ووصل بجيشه إلى الشام بعد رحلة عبر الصحراء لم يذكر التاريخ‬
‫شبيًها لها‪ ،‬وقد بينت ذلك‪ ,‬فكانت إمدادات الصديق تتواصل على‬
‫الشام‪ ،‬ويضع الخطط المتطورة ويرد على أساليب العداء التكتيكية‬
‫والمعنوية والمادية التي كان هدفها إشغال الصديق عن هدفه حتى‬
‫قادة الروم‪ :‬والله لنشغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى‬ ‫)‪(2‬‬
‫قال‬
‫الصديق‪(3:‬والله لشغلن النصارى عن وساوس‬ ‫رد‬ ‫وكان‬ ‫‪،‬‬ ‫أرضنا‬
‫الشيطان بخالد بن الوليد‪ ) .‬وقد حققت توجيهات الصديق عدة‬
‫أمور‪ ،‬منها‪ :‬توحيد جيش المسلمين في الشام‪ ،‬وتوحيد قيادة هذا‬
‫الجيش بإمرة خالد‪ ،‬وتحديد موقع اللقاء‪ ،‬وهذا يؤكد وضوح الرؤية‬
‫عند الخليفة أبي بكر في تحريك الجيوش‪ ،‬فكان عندما أرسلها من‬
‫المدينة خرجت في طرق متباعدة نسبًيا فكانت على شكل رؤوس‬
‫حراب أو على شكل مروحة‪ ،‬وهو عادة ما يعرف بحركة النتشار في‬
‫الجيوش الحديثة‪ ،‬وعندما حان وقت الشتباك واللقاء الفاصل جمعها‬
‫مع بعضها في موقع اختاره لها‪ ،‬فقد ظهرت قدرته البارعة في‬
‫ما‪(4‬اتفق على تسميته »بالستراتيجية« في‬ ‫استعمال الجيوش وهو‬
‫العلم العسكري الحديث ) ‪ ،‬وكان الصديق كقائد عام للجيوش‬
‫السلمية يحرص على حضوره المعنوي في ميدان القتال بالوامر‪،‬‬
‫مع ما كانت تتميز به تلك الوامر من تبصر وبعد نظر‪ ،‬ونفاذ في‬
‫البصيرة وبداهة في فهم الوضع العسكري على أرض المعركة‪،‬‬
‫وبالتالي سرعته في تحريك القوى وفقا لهذا الوضع وبما يلئمه تمام‬
‫الملءمة‪ ،‬وحسن اختياره للقادة الذين كانوا بفعل الثقة المتبادلة بينه‬
‫وبينهم يقرءون أفكاره ويحسون برغباته ونواياه‪ ،‬فتتجسد في‬
‫مخيلتهم فكرة المناورة التي يعتزم تنفيذها ويقومون بتنفيذها كما لو‬
‫كان الخليفة ينفذها‪ ،‬وبواسطة هذه الوسائل كان الخليفة يدير‬
‫المعارك على الجبهات المختلفة كأنما هو حاضر في كل منها‪ ،‬بحيث‬
‫يحس الجيش قادة وجنوًدا كأن الخليفة نفسه معهم يقودهم‬
‫قا تمام المطابقة لما يريد ويرغب‪،‬‬ ‫مطاب ً‬ ‫ويوجههم‪ ،‬فيأتي عملهم‬
‫ووفقا لوامره وتوجيهاته )‪.(5‬‬
‫وعندما أرسل الصديق إلى خالد يأمره بالتوجه إلى الشام وتولي‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.360 ،359‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (3،‬البداية والنهاية‪.5 /7 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( الفن العسكري السلمي‪ :‬ص ‪ .89‬أبو بكر الصديق‪ ،‬الحديثي‪ :‬ص ‪.60‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الفن العسكري السلمي‪ :‬ص ‪.98‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪278‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الجيوش هناك‪ ،‬قام الصديق بإرسال رسالة إلى أبي عبيدة يخبره‬
‫فيها بتولية خالد عليه ويأمره فيها بالسمع والطاعة‪ ،‬وبّين فيها سبب‬
‫دا قتال الروم بالشام‪ ،‬فل‬‫تولية خالد‪ :‬أما بعد‪ ،‬فإني قد وليت خال ً‬
‫تخالفه واسمع له وأطع أمره‪ ،‬فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير‬
‫أراد( الله بنا‬ ‫منه‪ ،‬ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك‪،‬‬
‫وبك سبيل الرشاد‪ ،‬والسلم عليك ورحمة الله وبركاته‪ 1) .‬وكانت‬
‫رسالة خالد إلى أخيه أبي عبيدة قد قطعت المسافات من العراق‬
‫إلى الشام واستقرت في قلبه الغني باليمان والزهد في هذه الدنيا‬
‫الفانية‪ ،‬وهذا نصها‪:‬‬
‫لبي عبيدة بن الجراح من خالد بن الوليد‪ ،‬سلم عليك‪ ،‬فإني‬
‫أحمد الله إليك الذي ل إله إل هو‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أسأل الله لنا ولك‬
‫المن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا‪ ،‬فقد أتاني كتاب خليفة‬
‫رسول الله يأمر فيه بالمسير إلى الشام وبالمقام على جندها‬
‫والتولي على أمرها‪ ،‬والله ما طلبت ذلك ول أردته ول كتبت إليه فيه‪،‬‬
‫وأنت رحمك الله على حالك الذي كنت به‪ :‬ل ت ُْعصى في أمرك ول‬
‫يخالف رأيك ول يقطع أمر دونك‪ ،‬فأنت سيد من سادات المسلمين ل‬
‫ينكر فضلك ول يستغنى عن رأيك‪ ،‬تمم الله ما بنا وبك من نعمة‬
‫الحسان‪ ،‬ورحمنا وإياك من عذاب النار‪ ،‬والسلم عليك ورحمة الله‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫وكان مع حامل الرسالة خطاب من خالد موجها إلى المسلمين‬


‫بالشام‪ ،‬جاء فيه‪ … :‬أما بعد‪ :‬فإني أسأل الله الذي أعزنا بالسلم‬
‫وشرفنا بدينه وأكرمنا بنبيه محمد × وفضلنا باليمان رحمة من ربنا‬
‫لنا واسعة‪ ،‬ونعمة منه علينا سابغة أن يتمم ما بنا وبكم من نعمته‪،‬‬
‫واحمدوا الله عباد الله يزدكم‪ ،‬وارغبوا إليه في تمام العافية يدمها‬
‫لكم‪ ،‬وكونوا له على نعمة من الشاكرين‪ .‬وإن كتاب خليفة رسول‬
‫الله أتاني يأمرني بالمسير إليكم‪ ،‬وقد شمرت وانكمشت وكأن خيلي‬
‫قد أطلت عليكم في رجال‪ ،‬فأبشروا بإنجاز موعود الله وحسن‬
‫على السلم‪ ،‬ورزقنا‬ ‫ثوابه‪ .‬عصمنا الله وإياكم باليمان‪ ،‬وثبتنا وإياكم‬
‫وإياكم حسن ثواب المجاهدين‪ ،‬والسلم عليكم )‪.(3‬‬
‫فلما قدم حامل الرسالتين عمرو بن الطفيل بن عمرو الزدي‬
‫على المسلمين وقرأ عليهم خطاب خالد بن الوليد وهم بالجابية دفع‬
‫قال‪ (:‬بارك الله لخليفة رسول الله‬ ‫إلى أبي عبيدة كتابه‪ ،‬فلما قرأه‬
‫دا بالسلم‪ 4) .‬إن هذا التعامل الرفيع بين‬ ‫فيما رأى‪ ،‬وحيا الله خال ً‬
‫هذين العظيمين يكشف لنا عن معاني الخوة المنبثقة عن التوحيد‬
‫الصحيح‪ ،‬والمحفوفة بسياج الخلق الحميدة التي كان يتصف بها‬
‫صحابة رسول الله‪ ،‬فإن خالد لم تتغير نفسه أو يشعر بعلو على‬
‫إخوانه بسبب فتوحاته في العراق وثقة الخليفة به‪ ،‬بل يعترف‬
‫بالفضل لهله ويعلن طاعته لبي عبيدة بن الجراح الذي ولي المر‬
‫من بعده‪ ،‬وفي مقابل ذلك نجد أبا عبيدة بن الجراح الذي يبارك هذا‬
‫دا‪ ،‬وهذا يدل على تجرد خالد وأبي عبيدة من‬ ‫المر ويحيي خال ً‬
‫)( مجموع الوثائق السياسية‪ :‬ص ‪.393 ،392‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.392‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (2،‬فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪ ،72 -68‬نقل عن الحميدي‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫‪279‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫النفس وإيثارهم لمصلحة المة‪ ،‬وإرادتهم وجه الله في‬ ‫حظوظ‬
‫أعمالهم‪ (1).‬وفي هذا درس عظيم لبناء المة على مستوى‬
‫الحكومات والحركات والشيوخ والدعاة والقادة والزعماء في‬
‫التعامل فيما بينهم عند التعيين أو العزل أو الفصل‪.‬‬
‫‪ -1‬معركة أجنادين‪:‬‬
‫وصل خالد إلى الشام وفتح بصرى واجتمع بقيادة المسلمين أبي‬
‫عبيدة وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان‪ ،‬ودرس الموقف‬
‫العسكري واطلع على أدق تفاصيله‪ ،‬كما اطلع على موقف عمرو بن‬
‫العاص الذي كان ينسحب محاذاة ضفة نهر الردن لكي يلتقي‬
‫بجيوش المسلمين الخرى‪ ،‬ومحاذًرا للشتباك معه في معركة‬
‫مًرا كان في تمام اليقظة والحذر وعلى علم تام بأنه‬ ‫فاصلة‪ ،‬إل أن عَ ْ‬
‫ليس من مصلحته الشتباك في مثل هذه المعركة؛ لن جيشه لم‬
‫يكن يتجاوز السبعة آلف بينما كان جيش الروم يقارب السبعين‬
‫ألف‪ ،‬وبعد أن درس خالد الموقف العسكري رأى أن أمامه خيارين‪،‬‬
‫فإما أن يسرع وينضم إلى جيش عمرو ويخوض وإياه معركة فاصلة‬
‫فيقضي على قوة الروم الكبيرة فيتعزز الموقف العسكري للجيش‬
‫السلمي ويصون خط رجعته ويحمي جناحه اليسر ويثبت أقدام‬
‫المسلمين في فلسطين‪ ،‬وإما أن يقف مكانه ويوعز إلى عمرو‬
‫بالنضمام إليه‪ ،‬ثم ينتظر قوات الروم التي كانت تزحف نحوه من‬
‫دمشق ليخوض معها معركة فاصلة‪ ،‬وقد فضل خالد أن يأخذ الخيار‬
‫الول؛ لن التغلب على جيش الروم في فلسطين وتشتيته يحفظ‬
‫للمسلمين خط رجعتهم ويعزز مركزهم‪ ،‬ويجعلهم في موقف‬
‫يستطيعون معه تهديد الجيش الرومي‪ ،‬ويجعلونه يتوقع حصول حركة‬
‫التفاف من خلفه‪ ،‬فيضطر للخذ بتدابير خاصة للحماية تشغل جانًبا‬
‫ما‪.‬‬
‫من قواته‪ ،‬فيصبح بذلك مدافًعا بعد أن كان مهاج ً‬
‫فانحدر من اليرموك إلى سهل فلسطين بعدما أصدر أمره إلى‬
‫جا جيش الروم حتى يصل جيش خالد‬ ‫عمرو بأن ينسحب متدر ً‬
‫فيطبقان عليه فارتد عمرو إلى أجنادين )‪ ،(2‬وعندما وصلت قوات‬
‫خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلثين ألف مقاتل‪ ،‬وكان وصول‬
‫خالد في الوقت المناسب‪ ،‬فما أن اصطدمت قوات عمرو بالروم‬
‫حتى انقض خالد بقواته الرئيسة‪ ،‬وجرت معركة عنيفة‪ ،‬وكان لمهارة‬
‫القائدين خالد وعمرو العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم؛‬
‫حيث تم توجيه قوة اقتحامية اخترقت صفوف العدو حتى وصلت إلى‬
‫فقتلوه‪ (،‬وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في‬ ‫قائد الروم‬
‫اتجاهات مختلفة )‪. 3‬‬
‫وقد كانت أجنادين أولى المعارك الكبيرة في بلد الشام بين‬
‫الهزيمة إلى قيصر الروم هرقل‬ ‫المسلمين والروم‪ ،‬فلما انتهى خبر‬
‫وهو في حمص شعر بمدى الكارثة )‪.(4‬‬
‫وكتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر ‪ ‬بفتح الله ‪-‬عز وجل‪ -‬عليه‬
‫)( التاريخ السلمي للحميدي‪.9/231 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أجنادين‪ :‬موضع معروف من نواحي فلسطين‪ ،‬ياقوت‪.1/203 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( أبو بكر ‪ ،‬نزار الحديثي‪ :‬ص ‪ (3) .70‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.71‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫‪280‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وعلى المسلمين‪ :‬لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله من خالد بن‬
‫وب على المشركين‪ ،‬أما بعد‪ :‬سلم عليكم‪،‬‬ ‫الوليد سيف الله المص ّ‬
‫فإني أحمد إليك الله الذي ل إله إل هو‪ ،‬أما بعد‪ :‬فإني أخبرك أيها‬
‫عا جمة‬ ‫الصديق أنا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جمو ً‬
‫صُلبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله ل‬ ‫كثيرة بأجنادين‪ ،‬وقد رفعوا ُ‬
‫يفرون حتى يصيبونا أو يخرجونا من بلدهم‪ ،‬فخرجنا إليهم واثقين‬
‫بالله متوكلين على الله فطاعناهم بالرماح ثم صرنا إلى السيوف‬
‫فقارعناهم في كل فج وشعب وغائط‪ ،‬فأحمد الله على إعزاز دينه‬
‫وإذلل عدوه‪ ،‬وحسن الصنع لوليائه‪ ،‬والسلم عليكم ورحمة الله‬
‫به‬ ‫وبركاته‪ .‬فلما وصل الكتاب إلى أبي بكر ‪-‬رحمة الله عليه‪ -‬فرح‬
‫وأعجبه‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد لله الذي نصر المسلمين وأقر عيني بذلك )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬اليرموك‪:‬‬
‫عادت بواكير النصر من وقعة أجنادين بعد النتصار الكبير الذي‬
‫حققه المسلمون في هذه الموقعة وهزيمة الروم‪ ،‬واطمأن‬
‫المسلمون إلى ما حققوه من نصر في أجنادين‪ ،‬واجتمعت جيوش‬
‫ذا لمر الخليفة الصديق‪ ،‬وتحركت‬ ‫المسلمين في اليرموك تنفي ً‬
‫جيوش الروم بقيادة تيدور ونزلت في منزل واسع الطعن واسع‬
‫المطرد ضيق المهرب‪ ،‬فسارت حشود الروم حتى نزلوا الواقوصة‬
‫قريًبا من اليرموك‪.‬‬
‫قوات الطرفين‪:‬‬
‫فا بقيادة‬ ‫المسلمون أربعون ألف مقاتل وقيل‪ :‬خمسة وأربعون أل ً‬
‫خالد بن الوليد‪.‬‬
‫الروم‪ :‬يقدر عدد الروم بمائتين وأربعين ألفا بقيادة تيدور‪.‬‬
‫قبل المعركة‪:‬‬
‫المسلمون‪ :‬وصل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد اليرموك‬
‫فعسكروا بها حتى اجتمعت الروم مع أمرائها على الضفة الجنوبية‬
‫»أبشروا‪(2‬أيها الناس‪ ،‬فقد حصرت‬ ‫للنهر‪ ،‬وقال عمرو بن العاص‪:‬‬
‫والله الروم وقلما جاء محصور بخير« ) ‪.‬‬
‫وخرج خالد بن الوليد بأسلوب جديد لم يستخدمه العرب من قبل‬
‫ذلك )‪ ،(3‬فاستخدم أسلوبا جديدا وهو الكراديس‪ ،‬فخرج في ستة‬
‫وثلثين كردوسا إلى أربعين ورتب جيشه الترتيب التي‪:‬‬
‫‪ -‬فرًقا‪ ،‬وفيها من عشرة إلى عشرين كردو ً‬
‫سا ولها قائد‬
‫وأمير‪.‬‬
‫كراديس‪ :‬ألف مقاتل‪ ،‬وله قائد وأمير )‪.(4‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.93 -84‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية‪ :‬ص ‪.163‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية‪.7/8 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية‪ :‬ص ‪.163‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪281‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -‬وقسم جيشه إلى أربعين كردوسا كما يلي‪:‬‬
‫سا بقيادة أبي‬
‫فرقة القلب‪ :‬مؤلفة من ثمانية عشر كردو ً‬
‫عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو‪.‬‬
‫فرقة الميمنة‪ :‬مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة عمرو بن‬
‫العاص ومعه شرحبيل بن حسنة‪.‬‬
‫فرقة الميسرة‪ :‬مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن‬
‫أبي سفيان‪.‬‬
‫فرقة الطليعة »المقدمة« من الخيالة والمخافر المامية‬
‫ومهمتها المراقبة والستطلع والحتفاظ على التماس مع العدو‪،‬‬
‫ولذلك تكون فرقة صغيرة وخفيفة‪.‬‬
‫فرقة المؤخرة‪ :‬مؤلفة من خمسة آلف مقاتل )خمسة‬
‫كراديس( بقيادة سعيد بن يزيد‪ ،‬ومهمتها قيادة الظعن »المور‬
‫الدارية«‪ ،‬وكان القاضي »أبو الدرداء«‪ ،‬وعلى القباض‬
‫عبد الله بن مسعود ومهمته تأمين المور الدارية والعاشة وجمع‬
‫الغنائم‪ ،‬والقارئ المقداد بن السود وكان يدور على الناس ويقرأ‬
‫المعنويات‪(1،‬وخطيب الجيش أبو‬ ‫سورة النفال وآيات الجهاد لرفع‬
‫سفيان بن حرب وهو يطوف على الصفوف) يحث الجند على‬
‫القتال‪ ،‬والقائد العام خالد بن الوليد في الوسط وحوله كبار‬
‫الصحابة‪ ،‬وأعد الجيش السلمي بقيادة خالد بن الوليد في الوسط‬
‫لكل شيء عدته‪ ،‬وأخذ كل قائد من القواد يمر على جنده ويحثهم‬
‫على الجهاد والصبر والمصابرة‪ ،‬ورأى قادة المسلمين أن هذه‬
‫المعركة هي معركة يتوقف عليها نتائج كبرى وأنها الحاسمة‪ ،‬وكان‬
‫خالد يعلم أنه إن رد الروم إلى خندقهم فسيظل يردهم وإن هزموه‬
‫فلن يفلح بعدها؛ أي أن هزيمة الروم في هذه المعركة تعني‬
‫هزيمتهم في أرض الشام كلها وتفتح أبواب الشام على مصراعيها‬
‫للمسلمين دون حواجز ول عراقيل‪ ،‬والنطلق منها إلى مصر‪ ,‬فآسيا‬
‫وأوربا )‪.(2‬‬
‫التعبئة اليمانية‪:‬‬
‫ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان وعظ أبو عبيدة المسلمين‪،‬‬
‫فقال‪ :‬عباد الله‪،‬‬
‫انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم‪ ،‬فإن وعد الله حق‪ .‬يا معشر‬
‫المسلمين‪ :‬اصبروا‪ ،‬فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب‬
‫ومدحضة للعار‪ ،‬ول تبرحوا مصافكم ول تخطوا إليهم خطوة ول‬
‫تبدءوهم بالقتال وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إل‬
‫من ذكر الله في أنفسكم‪ ،‬حتى آمركم إن شاء الله تعالى‪ .‬وخرج معاذ‬
‫بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول‪ :‬يا أهل القرآن ومستحفظي‬
‫الكتاب‪ ،‬وأنصار الهدى‪ ،‬وأولياء الحق‪ :‬إن رحمة الله ل تنال وجنته ل‬
‫تدخل بالماني‪ ,‬ول يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إل الصادق‬ ‫ُ‬
‫)( البداية والنهاية‪.7/8 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.164‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪282‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫م‬‫من ْك ُ ْ‬‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬


‫الل ُ‬
‫َ‬ ‫عد َ‬
‫و َ‬
‫المصدق‪ ،‬ألم تسمعوا َلقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫خ‬‫ْ‬ ‫ت‬‫س‬
‫ْ َ‬ ‫ا‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫في‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬ ‫خل ِ َ‬
‫فن ّ ُ‬ ‫ست َ ْ‬
‫ت لي َ ْ‬‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫لوا ال ّ‬ ‫م ُ‬
‫ع ِ‬
‫و َ‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫م" ]النور‪ [،55 :‬فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن‬ ‫ه‬
‫ْ ِ ْ‬‫ِ‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬‫ال ّ ِ َ ِ‬
‫ن‬ ‫ذي‬
‫فرا ًمن عدوكم وأنتم في قبضته‪ ،‬وليس لكم ملتحد من دونه‬ ‫يراكم را‬
‫ول عز بغيره‪.‬‬
‫وقال عمرو بن العاص‪ :‬يا أيها المسلمون‪ :‬غضوا البصار واجثوا‬
‫على الركب وأشرعوا الرماح‪ ،‬فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا‬
‫ركبوا أطراف السنة فثبوا إليهم وثبة السد‪ ،‬فوالذي يرضى الصدق‬
‫ويثيب عليه ويمقت الكذب ويعاقب عليه ويجزي بالحسان إحساًنا‪،‬‬
‫لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفًرا كفًرا وقصًرا قصًرا‪ ،‬فل‬
‫شدة تطايروا‬ ‫يهولنكم جموعهم ول عددهم‪ ،‬فإنكم لو صدقتموهم ال ّ‬
‫تطاير أولد الحجل‪ .‬وقال أبو سفيان‪ :‬يا معشر المسلمين‪ ،‬إنكم قد‬
‫أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الهل‪ ،‬نائين عن أمير المؤمنين‬
‫وأمداد المسلمين‪ ،‬وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده شديد‬
‫عليكم حنقه‪ ،‬وقد وترتموهم في أنفسهم وأولدهم ونسائهم‬
‫وأموالهم وديارهم‪ .‬والله ل ينجيكم من هؤلء القوم ول يبلغ بكم‬
‫رضوان الله غدا إل بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة‪،‬‬
‫فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا‪ ،‬ولتكن هي الحصون‪ .‬ثم ذهب إلى‬
‫النساء فوصاهن‪ (1)،‬ثم عاد فنادى‪ :‬يا معشر أهل السلم‪ :‬حضر ما‬
‫رسول( الله والجنة أمامكم‪ ،‬والشيطان والنار خلفكم‪ ،‬ثم‬ ‫ترون‪ ،‬فهذا‬
‫سار إلى موقفه )‪ 2‬رحمه الله‪.‬‬
‫س أبو هريرة فجعل يقول‪ :‬سارعوا إلى الحور‬ ‫وقد وعظ النا َ‬
‫العين وجوار ربكم ‪-‬عز وجل‪ -‬في جنات النعيم‪ ،‬ما أنتم إلى ربكم من‬
‫موطن بأحب إليه منكم في مثل هذا الموطن‪ ،‬ل وإن للصابرين‬
‫فضلهم‪ .‬وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول‪ :‬الله الله‪،‬‬
‫الشرك‪.‬‬ ‫إنكم ذادة العرب وأنصار السلم‪ ،‬وإنهم ذادة الروم وأنصار‬
‫اللهم إن هذا يوم من أيامك‪ ،‬اللهم أنزل نصرك على عبادك‪ (3) .‬قال‬
‫رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد‪ :‬ما أكثر الروم وأقل‬
‫المسلمين!! فقال خالد‪ :‬ويلك‪ ،‬أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود‬
‫بالنصر وتقل بالخذلن ل بعدد الرجال‪ ،‬والله لوددت أن الشقر برأ‬
‫ي واشتكى‬ ‫أضعفوا( في العدد‪ ،‬وكان فرسه قد حف َ‬ ‫جيه وأنهم‬ ‫من تو ّ‬
‫في مجيئه من العراق )‪. 4‬‬
‫وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان‬
‫السكينة‪،‬‬ ‫يقول‪ :‬اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا‬
‫وألزمنا كلمة التقوى‪ ،‬وحبب إلينا اللقاء وأرضنا بالقضاء )‪.(5‬‬
‫‪ -5‬الروم‪:‬‬
‫أقبلت الروم في خيلئها وفخرها وقد سدت أقطار تلك البقعة‬
‫البداية والنهاية‪.7/9 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪.162‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية‪.10 /7 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البداية والنهاية‪.7/10 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.88‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪283‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سهلها ووعرها‪ ،‬كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة‬
‫ورهبانهم يتلون النجيل ويحثونهم على القتال‪ (1) .‬ونزلت الروم‬
‫الواقوصة قريًبا من اليرموك‪ ،‬وصار الوادي خندقا عليهم‪ ،‬وتعبأ الروم‬
‫باستخدام أسلوب الكراديس في خطين‪ ،‬كل خمسة في دائرة‬
‫يفصل بينهما وبين الخمسة الخرى فاصل‪ ،‬ثم يأتي الخط الثاني وراء‬
‫فرجات الخط الول‪ ،‬واتبع الروم في قتالهم الترتيب التالي‪:‬‬
‫‪ -‬الرماة في المقدمة‪ ،‬واجبهم أن ينشبوا القتال ثم‬
‫النسحاب إلى الوراء والجنحة‪.‬‬
‫‪ -‬الخيالة بالجناحين‪ ،‬واجبهم حماية الرماة حتى انسحابهم‬
‫من الخلف‪.‬‬
‫الكراديس »المشاة«‪ ،‬واجبهم القتحام‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قائد المقدمة جرجه‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬قائد الجناحين‪ :‬ماهان والدارقص )‪.(2‬‬
‫المفاوضات قبل القتال‪:‬‬
‫ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان نحو‬
‫جيش الروم‪ ،‬ومعهما ضرار ابن الزور‪ ،‬والحارث بن هشام‪ ،‬ونادوا‪:‬‬
‫إنما نريد أميركم لنجتمع به‪ ،‬فأذن لهم في الدخول على تذارق‪ ،‬وإذا‬
‫هو جالس في خيمة من حرير‪ ،‬فقال الصحابة‪ :‬ل نستحل دخولها‪،‬‬
‫فأمر لهم بفراش بسط من حرير‪ ،‬فقالوا‪ :‬ول نجلس على هذه‪،‬‬
‫الصلح‪(3‬ورجع عنهم الصحابة‬ ‫فجلس معهم حيث أحبوا‪ ،‬وتفاوضوا على‬
‫بعدما دعوهم إلى الله ‪-‬عز وجل‪ -‬فلم يتم ذلك ) ‪.‬‬
‫وذكر الوليد بن مسلم‪ :‬أن ماهان طلب خالد ليبرز إليه فيما بين‬
‫الصفوف فيجتمعا في مصلحة لهم‪ ،‬فقال ماهان‪ :‬إنا قد علمنا أن ما‬
‫ي أن أعطي كل‬ ‫أخرجكم من بلدكم إل ال ْ َ‬
‫جْهد والجوع‪ ،‬فهلموا إل ّ‬
‫ما وترجعون إلى بلدكم‪ ،‬فإذا‬ ‫رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعا ً‬
‫كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها‪ ،‬فقال خالد‪ :‬إنه لم يخرجنا من‬
‫بلدنا ما ذكرت‪ ،‬غير أنا قوم نشرب الدماء‪ ،‬وأنه بلغنا أنه ل دم أطيب‬
‫لذلك‪ .‬فقال أصحاب ماهان‪ :‬هذا والله ما كنا‬ ‫من دم الروم‪ ،‬فجئنا‬
‫نحدث به عن العرب )‪.(4‬‬
‫إنشاب القتال‪:‬‬
‫لما تكامل الستعداد ولم تنجح المفاوضات تقدم خالد إلى‬
‫عكرمة بن أبي جهل والقعقاع ابن عمر‪ ،‬وهما على مجنبتي القلب‬
‫أن ينشبا القتال‪ ،‬فبدرا يرتجزان ودعوا إلى البراز‪ ،‬وتنازل البطال‬
‫وتجاولوا وحميت الحرب وقامت على ساق‪.‬‬
‫هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان البطال بين يدي‬
‫الصفوف‪ ،‬والبطال يتصاولون بين يديه وهو ينظر ويبعث إلى كل‬
‫)( ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪.163‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3 ،2،‬البداية والنهاية‪.7/10 :‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬

‫‪284‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫من‪(1‬أصحابه بما يعتمدونه من الفاعيل‪ ،‬ويدبر أمر الحرب أتم‬ ‫قوم‬
‫التدبير ) ‪.‬‬
‫إسلم أحد قادة الروم في ميدان المعركة‪:‬‬
‫وخرج جرجة ‪-‬أحد المراء الكبار‪ -‬من الصف واستدعى خالد بن‬
‫الوليد‪ ،‬فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما فقال جرجة‪ :‬يا خالد‪،‬‬
‫أخبرني فاصدقني ول تكذبني فإن الحر ل يكذب‪ ،‬ول تخادعني فإن‬
‫فا من‬ ‫الكريم ل يخادع المسترسل بالله‪ ،‬هل أنزل الله على نبيكم سي ً‬
‫السماء فأعطاكه فل تسله على أحد إل هزمتهم؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬فبم‬
‫سميت سيف الله؟ قال‪ :‬إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه‬
‫ونأينا عنه جميًعا‪ ،‬ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا كذبه وباعده‪،‬‬
‫فكنت فيمن كذبه وباعده‪ ،‬ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به‬
‫وبايعناه‪ ،‬فقال لي‪» :‬أنت سيف من سيوف الله سله على‬
‫المشركين« )‪ .(2‬ودعا لي بالنصر‪ ،‬فسميت سيف الله بذلك‪ ،‬فأنا‬
‫أشد المسلمين على المشركين‪ ،‬فقال جرجة‪ :‬يا خالد‪ ،‬إلى ما‬
‫دا عبده‬‫تدعون؟ قال‪ :‬إلى شهادة أن ل إله إل الله وأن محم ً‬
‫ورسوله‪ ،‬والقرار بما جاء به من عند الله عز وجل‪ ،‬قال‪ :‬فمن لم‬
‫يجبكم؟ قال‪ :‬فالجزية ونمنعهم‪ .‬قال‪ :‬فإن لم يعطها؟ قال‪ :‬نؤذنه‬
‫بالحرب ثم نقاتله‪ ،‬قال‪ :‬فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا المر‬
‫اليوم؟ قال‪ :‬منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا‬
‫وأولنا وآخرنا‪ .‬قال جرجة‪ :‬فلمن دخل فيكم اليوم من الجر مثل ما‬
‫لكم من الجر والذخر؟ قال‪ :‬نعم وأفضل‪ .‬قال‪ :‬وكيف يساويكم وقد‬
‫سبقتموه؟ فقال خالد‪ :‬إن قبلنا هذا المر عنوة وبايعنا نبينا وهو حي‬
‫بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويرينا اليات‪ ،‬وحق‬
‫لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع‪ ،‬وإنكم أنتم لم‬
‫تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج‪ ،‬فمن دخل‬
‫في هذا المر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا‪ .‬فقال جرجة‪ :‬بالله‬
‫ي ما‬‫لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال‪ :‬تالله لقد صدقتك‪ ،‬وأن الله ول ّ‬
‫سألت عنه‪ ،‬فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ن عليه قربة من ماء‬ ‫س ّ‬‫علمني السلم فمال به خالد إلى فسطاطه فَ َ‬
‫ثم صلى به ركعتين‪ ،‬وحملت الروم مع انقلبه إلى خالد وهم يرون‬
‫مواقفهم إل المحامية عليهم‬ ‫أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن‬
‫عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام )‪.(3‬‬
‫ميسرة الروم تحمل على ميمنة المسلمين‪:‬‬
‫تقدمت صفوف الروم وأقبلت كقطع الليل للقيام بهجوم عام‬
‫على الجيش السلمي‪ ،‬وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين‬
‫فانكشف قلب الجيش السلمي من ناحية الميمنة‪ ،‬واستطاع الروم‬
‫إحداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم‪ ،‬فصاح‬
‫معاذ بن جبل‪ :‬يا عباد الله المسلمين إن هؤلء شدوا للشد عليكم‪،‬‬
‫ول والله ل يردهم إل صدق اللقاء والصبر في البلء‪ ،‬ثم نزل عن‬
‫فرسه وقال‪ :‬من أراد أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه‪ ،‬وآثر‬
‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق ‪.7/13‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.7/13 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪285‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫بذلك أن يقاتل راجل ً مع المشاة‪ (1) .‬وثبتت قبائل الزد ومذحج‬
‫وحضرموت وخولن حتى صدوا أعداء الله‪ ،‬ثم ركبهم من الروم‬
‫أمثال الجبال فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب‪ ،‬وانكشف‬
‫طائفة من الناس إلى العسكر‪ ،‬وثبت سور من المسلمين عظيم‬
‫يقاتلون تحت راياتهم‪ ،‬ثم تنادوا فتراجعوا حتى نهنهوا من أمامهم من‬
‫الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس‪ ،‬واستقبل النساء‬
‫سرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة‪ ،‬فتراجعوا‬ ‫من انهزم من َ‬
‫إلى مواقفهم )‪.(2‬‬
‫فقال عكرمة بن أبي جهل‪ :‬قاتلت رسول الله في مواطن وأفر‬
‫مه الحارث بن‬ ‫منكم اليوم؟ ثم نادى‪ :‬من يبايع على الموت؟ فبايعه ع ّ‬
‫وجوه المسلمين‬ ‫هشام وضرار بن الزور في أربعمائة من‬
‫حتى‪(3‬أ ُث ِْبتوا جميعا جراحا‪،‬‬ ‫وفرسانهم‪ ،‬فقاتلوا قدام فسطاط خالد‬
‫وقتل منهم خلق‪ ،‬منهم ضرار بن الزور ‪. ) ‬‬
‫وقد ذكر الواقدي وغيره أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا‬
‫ماء فجئ إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الخر‬
‫فقال‪ :‬ادفعها إليه‪ ،‬فلما دفعت إليه نظر إليه الخر فقال‪ :‬ادفعها إليه‪،‬‬
‫فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميًعا‪ ،‬ولم يشربها‬
‫أحد منهم رضي الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا رجل جاء‬
‫إلى أبي عبيدة فقال‪ :‬إني قد تهيأت لمر فهل لك حاجة إلى رسول‬
‫الله ×؟ قال‪ :‬نعم تقرئه عني السلم‪ ،‬وتقول‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬إنا قد‬
‫قا‪ .‬قال‪ :‬فتقدم هذا الرجل حتى قتل رحمه‬ ‫وجدنا ما وعدنا ربنا ح ّ‬
‫الله‪ .‬وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا‪،‬‬
‫خا ساقطا ومعصما نادرا‪ ،‬وكفا طائرة من‬ ‫م ّ‬
‫اليرموك إل ُ‬ ‫فلم تر يوم‬
‫ذلك الموطن )‪.(4‬‬
‫ميمنة الروم تحمل على ميسرة المسلمين‪:‬‬
‫حملت ميمنة الروم بقيادة قناطر على ميسرة المسلمين حملة‬
‫شديدة‪ ،‬وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة وقيس وخثعم‬
‫وجذام وقضاعة وعاملة وغسان‪ ،‬فأزيلت عن مواضعها‪ ،‬فانكشف‬
‫قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الروم أكتاف من انهرم‬
‫من المسلمين‪ ،‬وتبعوهم حتى دخلوا معسكر المسلمين‪ ،‬فاستقبلتهم‬
‫نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم‬
‫ويقلن لهم‪ :‬أين عز السلم والمهات والزواج‪ ،‬أين تفرون وتدعوننا‬
‫للعلوج؟ فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال‪،‬‬
‫قا كثيًرا‪ ،‬واستشهد في هذه المرحلة سعيد بن‬ ‫وقتلوا من الروم خل ً‬
‫زيد‪ .‬وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى بشن الهجوم على ميمنة‬
‫المسلمين‪ ،‬فشدوا على عمرو بن العاص وجنده في محاولة اختراق‬
‫الصفوف لكي يقوموا بعملية التطويق‪ ،‬وقاتل عمرو وجنده عن‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية‪ ،‬ص ‪.169‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫فتوح الشام للزدي‪ ،‬ص ‪.222‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪.170‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البداية والنهاية‪.7/12 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪286‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫مواضعهم إل أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم‪ ،‬ونزلت‬
‫المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه الرجال المراجعين‪ ،‬وقالت‬
‫ابنة عمرو‪ :‬قبح الله رجل ً يفر عن حليلته‪ ،‬وقبح الله رجل ً يفر عن‬
‫كريمته‪ .‬وقالت أخريات‪ :‬لستم بعولتنا إن لم تمنعونا‪ ،‬وبذلك ارتدت‬
‫إلى المسلمين عزائمهم‪،‬‬
‫المسلمون على الروم من جديد‬ ‫وحمل‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ودخلوا للقتال مرة‬
‫حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها )‪.(1‬‬
‫الحركة الفراجية والقضاء على مشاة الروم‪:‬‬
‫حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حملت على‬
‫ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب‪ ،‬فقتل من الروم في حملته‬
‫هذه ستة آلف‪ ،‬ثم قال‪ :‬والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر‬
‫والجلد غير ما رأيتم‪ ،‬وإني لرجو أن يمنحكم الله أكتافهم‪ .‬ثم‬
‫اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف‪ ،‬فما وصل‬
‫عليهم حملة رجل واحد‬ ‫إليهم حتى انقض جميعهم‪ ،‬وحمل المسلمون‬
‫فانكشفوا‪ ،‬وتبعهم المسلمون ل يمتنعون منهم‪ (2) .‬وقامت ميمنة‬
‫المسلمين بإغلق المنافذ والثغرات في وجوه الروم وحصروا بين‬
‫وادي اليرموك ونهر الزرقاء‪ ،‬ودارت رحى المعركة وأبلى المسلمون‬
‫بها بلء حسنا‪ ،‬واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن‬
‫مشاتهم‪ ،‬فحملوا على الروم وركبوا أكتافهم حتى أرهقوهم‪ ،‬وبذلك‬
‫جا لهم للفرار منه‪ ،‬وبذلك أمر خالد عمرو بن‬ ‫أراد فرسان الروم مخر ً‬
‫العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب‪ ،‬وفعل ذلك وهرب‬
‫فرسان الروم‪ ،‬وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء من خيالتهم‪،‬‬
‫فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدون بالسلسل حتى صاروا كأنهم‬
‫حائط وقد هدم‪ ،‬وجاءهم المسلمون إلى خندقهم في ظلل الليل‬
‫وأخذ معظمهم ينهار بالوادي‪ ،‬فإذا منهم شخص قتل سقط معه‬
‫الجميع الذين كانوا مقيدين معه‪ ،‬وقتل منهم المسلمون في هذه‬
‫قا كثيًرا قدر عددهم بمائة ألف وعشرين ألفا‪ ،‬والناجون‬ ‫المرحلة خل ً‬
‫قسم منهم إلى فحل‪ ،‬والقسم الخر إلى دمشق‬ ‫انسحب‬ ‫منهم قد‬
‫داخل بلد الشام )‪.(3‬‬
‫دا‪ ،‬وذلك أن أباه‬‫وثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان وقاتل قتال ً شدي ً‬
‫مر به فقال له‪ :‬يا بني‪ ،‬عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا‬
‫الوادي من المسلمين إل محفوفا بالقتال‪ ،‬فكيف بك وبأشباهك الذين‬
‫ولوا المسلمون؟ أولئك أحق الناس بالصبر والنصيحة‪،‬‬
‫فاتق الله يا بني ول يكونن أحد من أصحابك بأرغب في الجر والصبر‬
‫في الحرب‪ ،‬ول أجرأ على عدو السلم منك‪ .‬فقال‪ :‬أفعل)‪(4‬إن شاء‬
‫دا وكان من ناحية القلب ‪.‬‬ ‫الله‪ .‬فقاتل يومئذ قتال ً شدي ً‬
‫وقال سعيد بن المسيب عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬هدأت الصوات يوم‬
‫اليرموك فسمعنا صوًتا يكاد يمل المعسكر يقول‪ :‬يا نصر الله اقترب‪،‬‬
‫الثبات الثبات يا معشر المسلمين‪ .‬قال‪ :‬فنظرنا فإذا هو أبو سفيان‬
‫العمليات التعرضية والدفاعية‪ :‬ص ‪.176‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪ .171‬فتوح البلدان للزدي‪ :‬ص ‪.171‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية‪ :‬ص ‪.175‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫فتوح البلدان لزدي‪ :‬ص ‪.228‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪287‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫تحت راية ابنه يزيد‪ (1) .‬وأخر الناس صلتي العشاء حتى استقر الفتح‬
‫خالد ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل وهو أمير الروم‬ ‫)‪(3‬‬
‫)‪ ،(2‬وأكمل‬
‫كلهم يومئذ ‪ ،‬وهرب فيمن هرب‪ ،‬وباتت الخيول تجول حول خيمة‬
‫خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا‪ ،‬وقتل تذارق وكان‬
‫له ثلثون سرادقا وثلثون رواقا من ديباج بما فيها من الفرش‬
‫والحرير‪ ،‬فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم )‪ ،(4‬وكان‬
‫عدد شهداء المسلمين ثلثة آلف بينهم من صحابة النبي × وشيوخ‬
‫المسلمين وأقطابهم‪ ،‬وممن استشهد من هؤلء‪ :‬عكرمة بن أبي‬
‫جهل وابنه عمرو‪ ،‬وسلمة بن هشام‪ ،‬وعمرو بن سعيد‪ ،‬وأبان بن‬
‫سعيد‪ ،‬وغيرهم‪ (5) .‬وكان عدد قتلى الروم مائة وعشرين ألفا‪ ،‬منهم‬
‫بالسلسل وأربعون ألفا مطلقون سقطوا‬ ‫)‪(6‬‬
‫ثمانون ألفا مقيدون‬
‫جميعهم في الوادي‪.‬‬
‫لقد فرح المسلمون بهذا النصر العظيم‪ ،‬وعكر ذلك الفرح وصول‬
‫دا‪ ،‬وعوضهم الله‬ ‫خبر وفاة الصديق؛ حيث حزنوا عليه حزًنا شدي ً‬
‫تعالى بالفاروق رضي الله عنهم أجمعين‪ (7) .‬وقد كان البريد قد قدم‬
‫بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم‪ ،‬فكتم خالد ذلك عن‬
‫المسلمين لئل يقع في صفوفهم وهن أو ضعف‪ ،‬فلما تم النصر‬
‫وأصبحوا أجلى لهم المر‪ ،‬وكان الفاروق قد عين أبا عبيدة بن الجراح‬
‫بدل ً من خالد بن الوليد جيوش الشام‪ ،‬وتقبل خالد أمر الفاروق‬
‫برحابة صدر )‪ ،(8‬وعزى المسلمين في خليفة رسول الله‪ ،‬وقال لهم‪:‬‬
‫ي من‬ ‫الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت وكان أحب إل ّ‬
‫ي من أبي بكر‬ ‫عمر‪ ،‬والحمد لله الذي ولى عمر كان أبغض إل ّ‬
‫وألزمني حبه‪ (9).‬وتولى أبو عبيدة القيادة العامة لجيوش الشام‪.‬‬
‫ومما قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو‪:‬‬
‫كما فزنا بأيام العراق‬ ‫ألم ترنا على اليرموك فزنا‬
‫)‪(10‬‬
‫وعذراء المدائن قد فتحنا‬
‫)‪(11‬‬
‫فتحنا قبلها بصرى وكانت‬
‫م بأسياف رقاق‬
‫نهاب ُهُ ُ‬ ‫قتلنا من أقام لنا وفينا‬
‫على اليرموك معروق الوراق‬ ‫قتلنا الروم حتى ما تساوى‬

‫)‪ (5 ،4 ،3 ،‬ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪.173‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)‪ (7 ،‬العمليات التعرضية والدفاعية‪ :‬ص ‪.179‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫) ‪ (9 ،‬البداية والنهاية‪.7/14 :‬‬ ‫‪7‬‬


‫‪8‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.7/14 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( العتاق‪ :‬الخيول‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( النعاق‪ :‬صوت الغراب‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪288‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(12‬‬
‫فضضنا جمعهم لما استجالوا‬
‫)‪(1‬‬
‫ضل بالذواق‬
‫إلى أمر يع ّ‬ ‫غداة تهافتوا فيها فصاروا‬
‫وقد أصاب هرقل هم وحزم لما أصاب جيشه في اليرموك‪ ،‬ولما‬
‫قدمت على أنطاكية فلول جيشه قال هرقل‪ :‬ويلكم‪ ،‬أخبروني عن‬
‫هؤلء القوم الذين يقاتلونكم‪ ،‬أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا‪ :‬بل نحن أكثر منهم أضعاًفا في كل موطن‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم‪ :‬من أجل أنهم‬
‫يقومون الليل‪ ،‬ويصومون النهار‪ ،‬ويوفون بالعهد‪ ،‬ويأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر ويتناصفون بينهم‪ ،‬ومن أجل أنا نشرب الخمر‬
‫ونزني‪ ،‬ونركب الحرام‪ ،‬وننقض العهد‪ ،‬ونغصب ونظلم‪ ،‬ونأمر‬
‫وننهى عما يرضى الله‪ ،‬ونفسد في الرض‪ ،‬فقال‪ :‬أنت‬ ‫بالسخط‬
‫صدقتني )‪.(2‬‬
‫***‬

‫)( الواقوص‪ :‬اسم موضع‪ .‬البتر الرقاق‪ :‬السيوف القاطعة‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫)( البداية والنهاية‪.7/15 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪.61 – 7/51 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪289‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫أهم الدروس والعبر والفوائد‬
‫ل‪ :‬من معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫رسمت خلفة الصديق ‪ ‬أهداًفا في السياسة الخارجية للدولة‬
‫السلمية‪ ،‬والتي كان من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬بذر هيبة الدولة في نفوس المم الخرى‪:‬‬
‫فقد حقت سياسة الصديق هذا الهدف بطرق عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬وصول أخبار النتصارات التي أيد الله بها المة المسلمة في‬
‫حروب الردة‪ ،‬مما ساعد على وأد هذه الفتنة وتثبيت أركان الدولة‪،‬‬
‫ومثل هذه الخبار تصل إلى الدول المجاورة‪ ،‬وبخاصة إذا كانت تتابع‬
‫دا‪،‬‬
‫أنباء الدول السلمية وترقب حركتها وترى فيها خطًرا جدي ً‬
‫وللفرس والروم في ذلك الوقت قدرة على معرفة الحوادث‬
‫والمور‪ ،‬فلما وصلت أنباء المرتدين وثبات الناس على الدين أدركت‬
‫الدولتان أن بنيان هذه المة الجديدة يستعصي على المؤامرات‬
‫ويتجاوز المحن والبتلءات‪ ،‬وهذا له وقعه في نشر هيبة دولة‬
‫السلم‪.‬‬
‫ب‪ -‬جيش أسامة‪ :‬ظهر لجيش أسامة الذي أنفذه الصديق أثر‬
‫بالغ في نشر هيبة الدولة السلمية‪ ،‬وقد جعل الروم يتساءلون عن‬
‫الجيش الذي حاربهم وعاد منتصرا إلى عاصمة دولته‪ ،‬فامتلت‬
‫عا حتى حشد هرقل عشرات اللوف من جيشه على‬ ‫قلوبهم فز ً‬
‫الناس‪ ،‬مما‬ ‫وتناقلها‬ ‫كسرى‬ ‫بلد‬ ‫إلى‬ ‫الخبار‬ ‫تلك‬ ‫نقلت‬ ‫فقد‬ ‫الحدود‪،‬‬
‫كان له الثر في نشر هيبة المسلمين في قلوب هذه الدول )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬مواصلة الجهاد الذي أمر به النبي ×‪:‬‬
‫قام الصديق بمواصلة الجهاد لتأمين الدعوة ووصولها للناس‪،‬‬
‫فجهز الجيوش وندب الناس للخروج إلى الجهاد في سبيل الله لنشر‬
‫دعوة الحق وإزاحة الطواغيت الذين رفضوا دعوة النبي × لهم‬
‫بالسلم‪ ،‬وصمموا على حجب نور الحق عن شعوبهم‪ ،‬وقد خرج‬
‫الناس يلبون هذه الدعوة الحبيبة إلى النفوس تحت لواء قادة‬
‫أصحاب بلء وجهاد في‬
‫سبيل الله‪ ،‬أمثال‪ :‬خالد وأبي عبيدة وشرحبيل ويزيد ‪ ،‬اختارهم‬
‫خليفة محنك مجرب ذو ملكة عسكرية صقلتها الظروف التي‬
‫أحاطت به والزمات الخطيرة التي أحدقت بأمته‪ ،‬مما دفعه إلى‬
‫العناية بهذه الناحية‪ ،‬فاختار القواد أحسن اختيار وأمدهم بتوجيهاته‬
‫ففتحوا الشام والعراق في أقصر وقت ممكن وبأقل‬ ‫وإرشاداته‪،‬‬
‫كلفة متاحة )‪.(2‬‬
‫‪ -3‬العدل بين المم المفتوحة والرفق بأهلها‪:‬‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.260‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.260 ،259‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪290‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫كانت السياسة الخارجية للصديق قائمة على بسط لواء العدل‬
‫على الديار المفتوحة ونشر المن بين أهلها؛ حتى يحس الناس‬
‫بالفرق بين دولة الحق ودولة الباطل‪ ،‬وحتى ل يظن الناس أنه قد‬
‫ذهب جبار ظالم ليحل مكانه من هو أشد منه أو مثله في ظلمه‬
‫وجبروته‪ .‬ووصى أبو بكر قواده بالرحمة والعدل والحسان إلى‬
‫الناس‪ ،‬فإن المغلوب يحتاج إلى الرأفة وتجنب ما يثير فيه حمية‬
‫القتال‪ .‬وحافظ المسلمون الفاتحون على النسان والعمران‪،‬‬
‫دا في ذوق رفيع وإنسانية‬ ‫خُلقا جدي ً‬‫فشاهدت الشعوب المفتوحة ُ‬
‫صادقة‪ ،‬فقام ميزان الشريعة بين المم المغلوبة بالقسط‪ ،‬وانتشر‬
‫نور السلم فأخذ يعد له مجامع القلوب فسارعت الشعوب إلى‬
‫اعتناق هذا الدين والنضواء تحت لوائه‪ .‬وكان جند العاجم من‬
‫الفرس أو الروم إذا وطئوا أرضا دنسوها ونشروا فيها الرعب والفزع‬
‫وانتهكوا الحرمات‪ ،‬مما قاسى منه الناس الويل والثبور‪ ،‬وتناقلت‬
‫الجيال قصصه المرعبة والمفزعة جيل ً بعد جيل وقبيل ً إثر قبيل‪،‬‬
‫فلما جاء السلم ودخل جنده هذه الديار فإذا بالناس يجدون العدل‬
‫يبسط رداءه فوق رؤوسهم‪ ،‬ويعيد إليهم آدميتهم التي انتزعها الظلم‬
‫ما‪،‬‬‫صا عظي ً‬ ‫والطغيان‪ .‬وقد حرص الصديق على هذه السياسة حر ً‬
‫وم أي عوج يظهر أو خطأ يقع‪.‬‬ ‫وكان يق ّ‬
‫روى البيهقي‪ :‬أن العاجم كانوا إذا انتصروا على عدو استباحوا‬
‫كل شيء من ملك أو أمير‪ ،‬وكانوا يحملون رؤوس البشر إلى‬
‫ملوكهم كبشائر للنصر وإعلن للفخر‪ ،‬فرأى أمراء المسلمين في‬
‫حروب الروم أن يعاملوهم بنفس معاملتهم فبعث عمرو بن العاص‬
‫وشرحبيل بن حسنة برأس »بنان« أحد بطارقة الشام إلى أبي بكر‬
‫مع عقبة بن عامر‪ ،‬فلما قدم عليه أنكر ذلك‪ ،‬فقال له عقبة‪ :‬يا خليفة‬
‫ن بفارس والروم؟ ل‬ ‫رسول الله‪ ،‬إنهم يصنعون ذلك بنا‪ ،‬فقال‪ :‬أ )فَن‪ْ (َ 1‬‬
‫ست َ ّ‬
‫ي رأس‪ ،‬إنما يكفي الكتاب والخبر ‪.‬‬ ‫يحمل إل ّ‬
‫‪ -4‬رفع الكراه عن المم المفتوحة‪:‬‬
‫من معالم السياسة الخارجية عند الصديق ‪ ‬رفع الكراه عن‬
‫الشعوب َعلى دينه‬ ‫كره أحد من المم أو‬ ‫المم المفتوحة‪ ،‬فلم ي ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫رهُ‬ ‫ت ت ُك ِ‬
‫بالقوة‪ ،‬وهو في هذا ينطلق من قول الله تعالى‪+ :‬أفأن ْ َ‬
‫ن" ]يونس‪ .[99 :‬والمسلمون أرادوا من‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬‫س َ‬ ‫الّنا َ‬
‫الفتوحات إزالة الطغاة وفتح البواب أمام الشعوب لترى نور‬
‫السلم‪ ،‬أما وقد أزيل كابوس الظلم عن الناس فليتركوا أحراًرا ول‬
‫يكرهوا على شيء طالما حافظوا على عهدهم مع المسلمين‪ ،‬والذي‬
‫كان يشمل في بنوده‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن ل يكون لهم مكان في بعض الوظائف كالجيش‪.‬‬
‫ج‪ -‬أن ل يكونوا جهة معادية للسلم في شعائره أو عبادته أو‬
‫شريعته‪.‬‬
‫د‪ -‬إذا غير أحدهم دينه السابق فل يقبل منه إل السلم‪.‬‬
‫)( تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ :‬ص ‪.123‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪291‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وتقوم دولة السلم بتفسير السلم لهم عملّيا ونظرّيا‪ ،‬بحيث‬
‫بهذا الدين؛ ليدخلوا فيه عن رغبة‪ ،‬فإن‬ ‫يؤدي ذلك إلى اقتناعهم‬
‫العقائد ل تستقر بالكراه )‪.(1‬‬
‫ثانًيا‪ :‬من معالم التخطيط الحربي عند الصديق‪:‬‬
‫إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق ‪ ‬يمكن له أن يستنتج‬
‫طا رئيسة للخطة الحربية التي سار عليها‪ ،‬وكيف تعامل هذا‬ ‫خطو ً‬
‫الخليفة العظيم مع سنة الخذ بالسباب؟ وكيف كانت هذه الخطة‬
‫المحكمة عامل ً من عوامل نزول النصر والتمكين من الله ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫للمسلمين‪ ،‬ومن هذه الخطوط ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين‪:‬‬
‫صا أشد الحرص على عدم اليغال في بلد‬ ‫كان الصديق ‪ ‬حري ً‬
‫حا تمام الوضوح في‬ ‫ً‬ ‫واض‬ ‫ذلك‬ ‫كان‬ ‫وقد‬ ‫للمسلمين‪،‬‬ ‫العدو حتى تدين‬
‫جبهات العراق والشام؛ ففي فتوح العراق أرسل الصديق ‪ ‬إلى‬
‫خالد وعياض بتكليفهما بغزو العراق من جنوبه وشماله‪ ،‬وجاء في‬
‫الكتاب‪ :‬وأيكما سبق إلى الحيرة فهو أمير على الحيرة‪ ،‬فإذا‬
‫اجتمعتما)‪(2‬بالحيرة ‪-‬إن شاء الله‪ -‬وقد فضضتما مسالح ما بين العرب‬
‫من ُْتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليقم بالحيرة‬ ‫وفارس ‪ ،‬وأ ِ‬
‫أحدكما وليقتحم الخر على القوم‪ ،‬وجالدوهم عما في أيديهم‬
‫واستعينوا بالله واتقوه‪ ،‬وآثروا أمر الخرة على الدنيا يجتمعا لكم‪ ،‬ول‬
‫الله‪(3‬بترك المعاصي‬ ‫تؤثروا الدنيا فتسلبوهما‪ ،‬واحذروا ما حذركم‬
‫ومعاجلة التوبة‪ ،‬وإياكم والصرار وتأخير التوبة‪ ) .‬وهذا الكتاب‬
‫الجليل يدل على فكر أبي بكر العالي وتخطيطه الدقيق‪ ،‬وقبل ذلك‬
‫ما لما اقتضته‬ ‫قا تما ً‬ ‫توفيق الله له‪ ،‬فقد جاء تخطيطه الحربي مواف ً‬
‫مصلحة الجيوش السلمية أثناء تطبيق هذه الخطة الحكيمة‪ ،‬وقد‬
‫خَبر الناس بالحروب‬ ‫شهد ببراعة أبي بكر في التخطيط الحربي أ ْ‬
‫آنذاك وهو خالد بن الوليد‪ ،‬فإنه لما نهض للقيام بمهمة عياض في‬
‫فتح شمال العراق ونزل بكربلء‪ ،‬واشتكى إليه المسلمون ما وقعوا‬
‫فيه من التأذي بذبابها الكثيف‪ ،‬قال لعبد الله بن وثيمة‪ :‬اصبر‪ ،‬فإني‬
‫إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فُنسكنها العرب‬
‫العرب آمنة غير‬‫)‪(4‬‬
‫فنأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم‪ ،‬وتجيئنا‬
‫متعتعة‪ ،‬وبذلك أمرنا الخليفة ورأيه يعدل نجدة المة‪.‬‬
‫وقد سار على هذه الخطة بالعراق المثنى بن حارثة؛ حيث يقول‬
‫ذلك القائد الفذ‪ :‬قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر‬
‫من أرض العرب‪ ،‬ول تقاتلوهم بعقر دارهم‪ ،‬فإن يظهر الله‬
‫المسلمين فلهم ما وراءهم‪ ،‬وإن كانت الخرى رجعوا إلى فئة‪ ،‬ثم‬
‫يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم‪ ،‬إلى أن يرد الله الكرة‬
‫عليهم‪ (5) .‬وأما في فتوحات الشام فقد كانت الصحراء من خلف‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.263‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫يعني تفريق التجمعات الحربية التي دون بلد فارس‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الطبري‪.189 ،4/188 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.189 /4 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الصابة‪ ،5/568 :‬رقم‪ .7736 :‬تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.331‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪292‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫المسلمين حماية لهم‪ ،‬ومع هذا كان المسلمون يتأكدون أول ً من أن‬
‫عدوهم قد انقطع أمله في مفاجأتهم من خلف ظهورهم‪ ،‬وأن‬
‫يستولوا على ما يقع بيمينهم وشمالهم من المدن والبلد‪ ،‬وسد كل‬
‫ثغر بالمقاتلة‪(1)،‬وقد كانت تلك القاعدة مرعية عندهم يحرصون عليها‬
‫أشد الحرص ‪.‬‬
‫‪ -2‬التعبئة وحشد القوات‪:‬‬
‫عندما تولى الصديق الخلفة وضع من خطوط العداد الحربي‪:‬‬
‫التعبئة وحشد القوات‪ ،‬وقد نادى المسلمين لحروب الردة‪ ،‬ثم‬
‫استنفرهم‪(2‬بعدها للفتوحات‪ ،‬وأرسل إلى أهل اليمن كتابه المعروف‬
‫في ذلك ) ‪.‬‬
‫‪ -3‬تنظيم عملية المداد للجيوش‪:‬‬
‫حينما تطورت معارك الجبهة الشمالية ووجد قائدا الجبهة –خالد‬
‫والمثنى‪ -‬أنهما في حاجة إلى مدد بشري؛ لن الطاقة التي معهما ل‬
‫تستطيع تلبية المعركة في متطلباتها وواجباتها‪ ،‬فكتبا إلى الصديق ‪‬‬
‫يلتمسان المدد فقال لهما‪ :‬استنفرا من قاتل أهل الردة‪ ،‬ومن بقي‬
‫على السلم بعد رسول الله ×‪ ،‬ول يغزون أحد ارتد حتى أرى رأيي‪.‬‬
‫)‪ (3‬وشرع في إمداد جبهات العراق والشام حتى اللحظات الخيرة‬
‫من حياته‪.‬‬
‫‪ -4‬تحديد الهدف من الحرب‪:‬‬
‫وضعت هذه النقطة في خطة الحرب السلمية في الفتوحات‪،‬‬
‫لتكون هدف العمليات الذي يسعى إليه الجميع‪ ،‬وقد وضع الصديق‬
‫خطته في هذه القضية على أساس أن يعلم كل فرد مقاتل أن هدف‬
‫المسلمين من هذه الفتوحات‪ :‬نشر السلم وتبليغه إلى الشعوب؛‬
‫بإزالة الطواغيت الذين يحرمون شعوبهم من هذا الخير العميم‪ ،‬فقد‬
‫عدوهم قبل المعركة واحدة من ثلثة‪:‬‬
‫)‪(4‬‬
‫كان القادة يعرضون على‬
‫السلم أو الجزية أو الحرب‪.‬‬
‫‪ -5‬إعطاء الفضلية لمسارح العمليات‪:‬‬
‫قاد الصديق ‪ ‬بنفسه أولى العمليات الحربية ضد المرتدين‪،‬‬
‫جه أسامه إلى‬ ‫ونظم الجيوش لحربهم‪ ،‬ولم يهمل بقية المسارح‪ ،‬فو ّ‬
‫الشام‪ ،‬والمثنى إلى العراق‪ ،‬وكرس جهود المسلمين في السنة‬
‫الولى للقضاء على الردة‪ ،‬وعندما تمت عملية إعادة توحيد الجزيرة‬
‫وأصبح بالمكان النطلق من قاعدة قوية ومأمونة‪ ،‬وجه ثقل‬
‫العمليات إلى الجبهتين العراقية والشامية‪ ،‬وعندما احتاجت الجبهة‬
‫الشامية إلى المدد نقل الصديق محور ثقل الهجوم إلى الشام‪،‬‬
‫دا إليه‪ ،‬وترك المثنى في الجبهة العراقية‪.‬‬
‫ووجه خال ً‬
‫‪ -6‬عزل ميدان المعركة‪:‬‬
‫عندما بدأ الصديق ‪ ‬باستنفار القوات لحرب الروم والفرس‬
‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.331‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪ (2).332‬تاريخ الطبري‪.4/163 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.332‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪293‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أرسل خالد بن سعيد إلى تبوك بمهمة إلى مناطق الحشد ومحاور‬
‫وعندما فشل في هذا‬ ‫التقدم‪ ،‬وأمره أن يكون ردًءا للمسلمين‪،‬‬
‫الواجب وتجاوزه قام عكرمة بن أبي جهل به )‪.(1‬‬
‫‪ -7‬التطور في أساليب القتال‪:‬‬
‫كتب الصديق إلى أبي عبيدة عندما بلغه تقدم جيوش الروم‬
‫وانضمام أهل دمشق إليهم ما يلي‪ :‬بث خيولك في القرى والسواد‪،‬‬
‫وضيق عليهم الميرة والمادة‪ ،‬ول تحاصرن المدائن حتى يأتيك أمري‪.‬‬
‫)‪ (2‬وعندما دعمه بقوات كافية كتب له‪ :‬فإن ناهضوك فانهد لهم‬
‫)‪(3‬‬
‫واستعن بالله عليهم‪ ،‬فإنه ليس يأتيهم مدد إل أمددناك بمثلهم ‪.‬‬
‫‪ -8‬سلمة خطوط التصال مع القادة‪:‬‬
‫كانت خطوط التصال بين الصديق وقادة المعارك منظمة‬
‫ومنتظمة بحيث تصل المكاتبات من القادة في أمان‪ ،‬وتصل ردود‬
‫الخليفة في سرية وسرعة متقدمة ل تسمح للعدو أن يفاجأ‬
‫المسلمين بشيء ل يتوقعونه‪ .‬وهكذا كانت الخطط الحربية عند‬
‫المسلمين‬
‫محكمة دقيقة‪ ،‬بما كان عامل ً من عوامل دحر العداء والتغلب عليهم‬
‫بفضل الله في‬
‫حركة الفتوح)‪.(4‬‬
‫‪ -9‬ذكاء الخليفة وفطنته‪:‬‬
‫امتازت الخطط الحربية السلمية في بداية الفتوحات بوجود‬
‫العقل المدبر ذي الفطنة والذكاء والكياسة والفراسة‪ ،‬وهو الصديق‪،‬‬
‫وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط العسكري طول‬
‫ما‬
‫ً‬ ‫علو‬ ‫ملزمته للنبي ×‪ ،‬وفقد تربى على تعليمه وتوجيهاته فكسب‬
‫شتى وخبرات متنوعة‪ ،‬فقام بعد رحيل رسول الله × في مقام‬
‫الخلفة خير قيام‪ ،‬فحمل البصيرة الواعية وزود الجيش بالنصائح‬
‫الغالية‪ ،‬وأرسل المدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين وتمدهم‬
‫بالهمة والعزيمة الماضية )‪.(5‬‬
‫ثالًثا‪ :‬حقوق الله والقادة والجنود من خلل وصايا الصديق‪:‬‬
‫‪ -1‬حقوق الله‪:‬‬
‫بّين الخليفة في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى؛‬
‫كمصابرة العدو‪ ،‬وإخلص قتالهم لله‪ ،‬وأداء المانة وعدم الممالة‬
‫والمحاباة في نصرة دين الله‪.‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.334‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.148‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.334‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر السابق‪ :‬ص ‪.336‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪294‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫أ‪ -‬مصابرة العدو‪:‬‬
‫حين وجه أبو بكر ‪ ‬عكرمة بن أبي جهل ‪ ‬إلى عمان كان مما‬
‫أوصاه به قوله‪:‬‬
‫واتق الله‪ ،‬فإذا لقيت العدو فاصبر‪ (1).‬كما قال الصديق ‪ ‬لهاشم بن‬
‫عتبة بن أبي وقاص عندما وجهه مدًدا لجند الشام‪ :‬إذا لقيت عدوك‬
‫فاصبر وصابر‪ ،‬واعلم أنك ل تخطو خطوة ول تنفق نفقة ول يصيبك‬
‫حا‪ ،‬إن‬ ‫الله إل كتب الله لك به عمل ً صال ً‬ ‫ظمأ ول مخمصة في سبيل‬
‫الله ل يضيع أجر المحسنين )‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله‪:‬‬
‫فقد جاء في خطاب الصديق لخالد حين أمره بالذهاب للشام ما‬
‫يفيد هذا المعنى؛ حيث ذكره بأن يجتهد ويخلص النية لله وحده‪،‬‬
‫وحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر؛ فذلك حظ النفس الذي‬
‫ن‬
‫يفسد العمل على العامل‪ ،‬ويرده في وجهه‪ .‬كما حذره أن يدل ويم ّ‬
‫ن به؛ إذ التوفيق بيده‬ ‫على الله بالعمل الذي يعمله‪ ،‬فإن الله هو الما ّ‬
‫سبحانه‪ (3) .‬وهذا بعض ما جاء في تلك الرسالة‪ …» :‬فليهنئك أبا‬
‫سليمان النية والحظوة‪ ،‬فاتمم يتم الله لك‪ ،‬ول يدخلنك عجب‬
‫وتخذل‪ ،‬وإياك أن تدل بعمل فإن الله له المن وهو ولي‬ ‫)‪(4‬‬
‫فتخسر‬
‫الجزاء«‪.‬‬
‫ج‪ -‬أداء المانة‪:‬‬
‫وقد كانت توجيهات الصديق لمرائه وجنوده واضحة في وجوب‬
‫أن يؤدوا المانة فيما حازوه من الغنائم‪ ،‬ول يغل أحد منهم شيًئا‪ ،‬بل‬
‫جميع الغانمين ممن شهدوا‬ ‫)‪(5‬‬
‫يحمل جميعه إلى المغنم ليقسم بين‬
‫ما‪(6‬جاء‬ ‫المثال‬ ‫سبيل‬ ‫وعلى‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫دا‬
‫الواقعة‪ ،‬وكانوا على العدو ي ً‬
‫في وصية الصديق ليزيد بن أبي سفيان في النهي عن الغلول ) ‪،‬‬
‫هذه بعض توجيهات الصديق مما يتعلق ببعض حقوق الله على القادة‬
‫والجنود‪.‬‬
‫‪ -2‬حقوق القائد‪:‬‬
‫وقد بين الخليفة الصديق حقوق القادة على الجنود والرعية؛‬
‫كالتزام طاعته‪ ،‬والمسارعة إلى امتثال أمره‪ ،‬وعدم منازعته في‬
‫شيء من قسمة الغنائم‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫أ‪ -‬التزام طاعته‪:‬‬
‫فعندما تولى أبو بكر ‪ ‬الخلفة كان أول شيء نبه المسلمين‬
‫إليه في خطاب التولية أنه سائر على نهج رسول الله ×‪ ،‬كما ذ ّ‬
‫كر‬
‫عيون الخبار‪.1/188 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.34‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.295‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/202 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/46 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ :‬ص ‪.121‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪295‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫حيث قال‪ :‬واعلموا أن ما أخلفتم لله من أعمالكم فطاعة‬ ‫بالطاعة؛‬
‫أتيتموها‪ (1) .‬وألزم قادته بالطاعة لبعضهم‪ ،‬فمن ذلك ما كتبه إلى‬
‫المثنى بن حارثة الشيباني بقوله‪ :‬إني قد بعثت إليك خالد بن الوليد‬
‫إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك‪ ،‬ثم ساعده ووازره‬
‫وكاتفه‪ ،‬ل تعصين له أمًرا ول تخالفوا له رأيا‪ ،‬فإنه من الذين وصف‬
‫ن‬‫ذي)‪َ (2‬‬‫وال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫مدٌ ّر ُ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫وتعالى‪ْ -‬في كتابه فقال‪ُ + :‬‬ ‫‪-‬تبارك‬ ‫اللهه أ َ‬
‫دا"‬ ‫ج ً‬ ‫س ّ‬‫ُ‬ ‫عا‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫ر‬
‫ْ ُ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫را‬ ‫َ‬
‫ُ ْ َ‬‫ت‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫ما‬ ‫ح‬
‫ِ ُ َ‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫فا‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫دا‬
‫ّ‬ ‫ش‬‫ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫]الفتح‪ .[29 :‬كذلك أخذ أبو بكر ‪ ‬يوصي في خلفته جيوش‬
‫المسلمين المتجهة لفتح بلد الشام بالطاعة‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أيها الناس‬
‫إن الله قد أنعم عليكم بالسلم وأكرمكم بالجهاد وفضلكم بهذا‬
‫الدين عن كل دين‪ ،‬فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام‪ ،‬فإني‬
‫مؤمر عليكم أمراء وعاقد لكم ألوية‪ ،‬فأطيعوا ربكم ول تخالفوا‬
‫وأشربتكم وأطعمتكم‪ ،‬فإن الله مع الذين‬ ‫أمراءكم‪ ،‬لتحسن نيتكم‬
‫اتقوا والذين هم محسنون)‪ ،(3‬فكان جوابهم له بقولهم‪ :‬أنت أميرنا‬
‫ونحن رعيتك‪ ،‬فمنك المر ومنا الطاعة‪ ،‬فنحن مطيعون لمرك‬
‫جهنا نتوجه‪ (4).‬وعندما عين الصديق خالد بن الوليد لفطنته‬ ‫وحيثما ُتو ّ‬
‫وعلمه بالحرب‪ ،‬ولما وصل خالد بن الوليد للشام طلب من أبي‬
‫عبيدة بن الجراح بأن يبعث إلى أهل كل راية ويأمرهم أن يطيعوه‪،‬‬
‫فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس‪ ،‬فأمره بذلك فخرج الضحاك يسير‬
‫الشام خالد بن‬ ‫في الناس طالًبا منهم طاعة القائد الجديد لجيوش‬
‫الوليد فيما يأمرهم به‪ ،‬فأجاب الناس بالسمع والطاعة )‪.(5‬‬
‫ب‪ -‬أن يفوضوا أمرهم إلى رأيه‪:‬‬
‫عوا‬ ‫ذا ُ‬ ‫َ‬
‫فأ َ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫هم أ َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫و ِ‬ ‫ْ‬ ‫خ‬ ‫ِ‬ ‫نأ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ن ال‬ ‫مُ َ‬ ‫ّ‬ ‫مٌر‬ ‫ْ‬ ‫جاءَ ُ ْ‬‫ذا َ‬ ‫‪َ +‬‬ ‫قول تعالى‬
‫ه‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ َِ ِ ْ ُ ْ َ ِ َ ُ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫ّ ُ ِ َ َ ِ‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫دوهُ ِ‬
‫إ‬ ‫و َر ّ‬ ‫ول َ ْ‬‫ه َ‬ ‫بِ ِ‬
‫ه‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ح‬
‫ْ ْ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ض‬‫ْ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬‫ال ّ ِ َ َ ْ َ ْ ِ َ َ ُ ِ ْ ُ ْ َ ْ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫طو‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫قِليل ً" ]النساء‪ ،[83 :‬جعل الله تفويض‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫شي ْطا َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫عت ُ ُ‬ ‫ل َت ّب َ ْ‬
‫الرعية المر إلى ولي المر سبًبا لحصول العلم وسداد الرأي‪ ،‬فإن‬
‫ظهر لهم صواب خفي عليه بّينوه له وأشاروا به عليه‪ ،‬ولذلك ندب‬
‫إلى المشاورة ليرجع بها إلى الصواب‪ (6) .‬وفي خلفة الصديق نرى‬
‫أبا بكر ‪ ‬كلف أمراء وقادة جيوشه بالتوجه إلى الشام‪ ،‬وفوض لهم‬
‫أمر الجيوش حيث قال لهم‪ :‬يا أبا عبيدة ويا معاذ ويا شرحبيل ويا‬
‫الجيوش‬
‫)‪(7‬‬
‫يزيد‪ :‬أنتم من حماة هذا الدين وقد فوضت إليكم أمر هذه‬
‫دا واحدة في مواجهة عدوكم‪.‬‬ ‫فاجتهدوا في المر واثبتوا‪ ،‬وكونوا ي ً‬
‫بمراعاة أحوال الجنود وتقديم الخلص والتحاد حتى ل‬ ‫ثم أمر القادة‬
‫تختلف آراؤهم‪ (8).‬وأضاف الصديق قائل‪ :‬فإذا قدمتم البلد ولقيتم‬
‫العدو واجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة بن الجراح‪ ،‬وإن لم‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/44 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.61 ،60‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الفتوح لبن أعتم‪.1/83 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬الحكام السلطانية للماوردي‪ :‬ص‬ ‫)( فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.189‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪.48‬‬ ‫‪6‬‬

‫)‪ (4‬الفتوح ابن أعثم‪.1/84 :‬‬ ‫)( فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.7‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪8‬‬

‫‪296‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫يلقكم أبو عبيدة‪ ،‬وجمعتكم حرب فأميركم يزيد بن أبي سفيان )‪،(1‬‬
‫وهكذا فوض خليفة رسول الله × إدارة العسكر إلى رأي أحد قادته‬
‫ووكله إلى تدبيره‪ ،‬حتى ل تختلف آراؤهم‪ ،‬وأكد على ذلك عندما قال‬
‫لعمرو بن العاص‪ :‬أنت أحد أمرائنا هناك‪ ،‬فإن جمعتكم حرب‬
‫فأميركم أبو عبيدة بن الجراح‪ (2).‬وكان ذلك رأيه أيضا مع قادة‬
‫العراق؛ حيث قال للمثنى بن حارثة‪ :‬إني بعثت إليك خالد بن الوليد‬
‫المير‪ ،‬فإن شخص عنك‬ ‫)‪(3‬‬
‫إلى أرض العراق… فما أقام معك فهو‬
‫فأنت على ما كنت عليه‪ ،‬والسلم عليك‪.‬‬
‫ج‪ -‬المسارعة إلى امتثال أمره‪:‬‬
‫ففي حروب الردة كتب أبو بكر الصديق ‪ ‬إلى خالد بن الوليد‬
‫في أمر مسيلمة الكذاب‪ ،‬فقد أمره بالمسير إليه‪ ،‬فجمع خالد بن‬
‫الوليد أصحابه وقرأ عليهم الكتاب وسألهم الرأي فأجابوه بقولهم‪:‬‬
‫الرأي رأيك‪ ،‬وليس فينا أحد يخالف أوامرك‪ (4) .‬كما كتب الصديق ‪‬‬
‫لخالد بن الوليد أثناء مقامه بالعراق بالخروج في شطر الناس إلى‬
‫الشام‪ ،‬وأن يخلف على الشطر الباقي المثنى بن حارثة‪ ،‬وقال له‪ :‬ل‬
‫دا‪ ،‬فامتثل خالد للمر وقسم الجند نصفين‪.‬‬ ‫دا إل خلفت له نج ً‬
‫تأخذ نج ً‬
‫)‪ (5‬وكتب إلى عمرو بن العاص بالسير من بلد قضاعة إلى اليرموك‬
‫ففعل‪ ،‬وبعث بأبي عبيدة ويزيد وأمرهما بالغارة وأل يوغلوا في بلد‬
‫الشام حتى ل يكون وراءهم أحد من العدو‪ ،‬وقد استجاب القادة‬
‫)‪(6‬‬
‫والجنود لتوجيهات وأوامر الصديق ‪.‬‬
‫د‪ -‬عدم منازعته في شيء من قسمة الغنائم‪:‬‬
‫سار أبو بكر ‪ ‬في خلفته على نهج الرسول × في تقسيم‬
‫الغنائم؛ فبعد انتهاء خالد ابن الوليد ‪ ‬من معركة اليمامة كتب إلى‬
‫الصديق ‪ ‬يخبره بما فتح الله عليه وما أغنمه منهم‪ ،‬فكتب إليه أبو‬
‫ل‪ :‬اجمع الغنائم والسبي وما أفاء الله عليك من مال بني‬ ‫بكر قائ ً‬
‫حنيفة‪ ،‬فأخرج من ذلك الخمس ووجه به إلينا ليقسم فيمن يحضرنا‬
‫من المسلمين‪ ،‬وادفع إلى كل ذي حق حقه‪ ،‬والسلم‪ .‬وهذا ما كان‬
‫يفعله جميع قادة أبي بكر ‪ ‬في إدارتهم العسكرية في قسمة‬
‫الغنائم ولم ينازعهم الجند في شيء من قسمتها والتسوية بينهم‬
‫فيها )‪.(7‬‬
‫‪ -3‬حقوق الجند‪:‬‬
‫من خلل وصاياه ورسائله حقوق الجند؛‬ ‫ب ّين الصديق ‪‬‬
‫كاستعراضهم‪ ،‬وتفقد أحوالهم‪ ،‬والرفق بهم في السير‪ ،‬وأن‬
‫يقيم عليهم العرفاء والنقباء‪ ،‬واختيار مواضع نزولهم لمحاربة‬
‫)‪ (6‬نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.48‬‬ ‫فتوح الشام‪ :‬ص ‪.7‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬

‫الوثائق السياسية‪ ،‬حميد الله‪ :‬ص ‪.371‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الفتوح‪ ،‬لبن أعثم‪.1/29 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الدارة العسكرية الدولة السلمية‪ ،‬سليمان آل كمال‪.1/112 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.113 /1 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/120 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪297‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العدو‪ ،‬وإعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة‪ ،‬والتعرف‬
‫على أخبار العدو بالجواسيس الثقات لسلمة الجند‪،‬‬
‫وتحريضهم على الجهاد‪ ،‬وتذكيرهم بثواب الله وفضل الشهادة‪،‬‬
‫ومشاورة ذوي الرأي منهم‪ ،‬وأن يلزمهم بما أوجبه الله من‬
‫حقوق‪ ،‬وأن ينهاهم عن الشتغال عن الجهاد بتجارة وزراعة‬
‫)‪(1‬‬
‫وإليك تفصيل بعض هذه النقاط‪:‬‬ ‫ونحوهما‪.‬‬
‫أ‪ -‬استعراضهم وتفقد أحوالهم‪:‬‬
‫فقد رأينا أبا بكر الصديق ‪ ‬عندما طرق المرتدين المدينة‬
‫المنورة أخذ أهلها بحضور المسجد وقال لهم‪ :‬إن الرض كافرة‪ ،‬وقد‬
‫رأى وفدهم منكم)‪(2‬قلة‪ ،‬وإنكم ل تدرون أليل ً تؤتون أم نهاًرا‪ ،‬وأدناهم‬
‫منكم على بريد‪ .‬وأخذ ‪ ‬يعرض أصحابه‪ ،‬ثم يعين منهم على‬
‫أنقاب المدينة نفًرا للحراسة‪ (3).‬وعندما اجتمع جيش فتوح الشام‬
‫صعد أبو بكر ‪ ‬على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم‬
‫ويوصيهم‬
‫)‪(4‬‬
‫وقد ملوا الرض‪ ،‬فتهلل وجهه وأخذ يعرضهم قبل سيرهم‬
‫وا من ميلين‪.‬‬‫ويدعو لهم‪ ،‬وعقد لهم اللوية‪ ،‬ومشى معهم نح ً‬
‫ب‪ -‬الرفق بالجند في السير‪:‬‬
‫فقد أوصى أبو بكر خالد بن الوليد في حروب الردة بالرفق بمن‬
‫معه وأن يتخذ الدلء في مسيره )‪ ،(5‬وأوصى سائر أمراء الردة بذلك‪.‬‬ ‫)‪(6‬‬
‫)‪(8‬‬
‫فتوح العراق عندما عقد خالد بن الوليد معاهدة الصلح مع‬ ‫)‪(7‬‬
‫وفي‬
‫ُ‬
‫أهل أليس وغيرهم‪ ،‬كان من ضمن شروط المعاهدة أن يبذرقوا‬
‫المسلمين‪ ،‬ويكونوا أدلء وأعوانا لهم على الفرس؛ لنهم أعرف‬
‫وأعلم بطرق بلدهم من غيرهم‪ (9) .‬وحين كلف أبو بكر ‪ ‬خالد بن‬
‫الوليد بالتوجه من العراق إلى الشام مدًدا وعوًنا لهم دعا خالد الدلء‬
‫وتشاور معهم حول سيرهم في طريق المفازة إلى الشام؛ لنه‬
‫أسرع الطرق وأسرعها لنجدة إخوانه‪ ،‬ثم رافقه منهم رافع بن‬
‫عميرة الطائي دليل ً)‪ ،(10‬وأوصى الصديق ‪ ‬يزيد بن أبي سفيان‬
‫بقوله‪ :‬إذا سرت فل تضيق على نفسك ول‬ ‫عندما وجهه إلى الشام‬
‫على أصحابك في مسيرك )‪ ،(11‬وعندما جد الجند في السير ذكر‬
‫أحدهم يزيد بوصية أبي بكر له بالرفق بهم في السير وأن يلتزم بها‪.‬‬
‫)‪ (12‬كما أوصى الصديق عمرو بن العاص عندما وجهه إلى فلسطين‬
‫دا لمن معك وارفق بهم في السير‪ ،‬فإن فيهم أهل‬ ‫بقوله له‪ :‬وكن وال ً‬

‫)( نفس المصدر السابق‪.255 -1/131 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)‪ (2،‬تاريخ الطبري‪.4/64 :‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬

‫)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/136 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( المصدر السابق ‪.1/147 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( مآثر النافة للقلقشندي‪.3/140 :‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( أليس‪ :‬قرية من قرى النبار‪ :‬ياقوت‪ ،‬معجم البلدان‪.1/248 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( البذرقة‪ :‬الخفارة والحراسة‪ ،‬وهي الجماعة تتقدم القافلة لتحرسها‪ ،‬وأصل‬ ‫‪8‬‬

‫الكلمة فارسية‪.‬‬
‫)( الخراج لبي يوسف‪ :‬ص ‪.294‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/148 :‬‬ ‫‪10‬‬

‫)( فتوح الشام للواقدي‪.1/23 :‬‬ ‫‪11‬‬

‫)( المصدر السابق‪.1/23 :‬‬ ‫‪12‬‬

‫‪298‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫ضعف‪ (1) .‬وقد امتثل قادة الصديق × لمره بالرفق بالجند في‬
‫مسيرهم‪ ،‬وأصبحوا ل يسيرون إلى قتال العداء إل ومعهم أدلء‬
‫يدلونهم على أسهل الطرق وأوفرها ماء وعشًبا‪ ،‬حتى يتمكنوا من‬
‫سيرهم نحو العدو ومن غير إهدار لقوتهم أو تحطيم‬ ‫مواصلة‬
‫لمعنوياتهم )‪.(2‬‬
‫ج‪ -‬أن يجعل لكل طائفة شعاًرا يتداعون به‪:‬‬
‫ففي بعثه جيش أسامة لقتال الروم كان شعارهم‪ :‬يا منصور‬
‫مسيلمة‬
‫)‪(4‬‬
‫أمت )‪ ،(3‬وفي حرب الردة عند مسير خالد بن الوليد نحو‬
‫الكذاب باليمامة‪ ،‬كان شعارهم يومئذ‪ :‬يا محمداه‪ ..‬يا محمداه ‪،‬‬
‫وشعار تنوخ في فتوح العراق‪ :‬يا آل عباد الله )‪ ،(5‬وفي فتوح الشام‬
‫باليرموك نجد أن لكل قائد وقبيلة شعاًرا مميًزا يميزها عن غيرها‬
‫اتخذته ليستدل به عليها‪ ،‬وكانوا يجهزون به عند القتال ويتعارفون به‪،‬‬
‫فكان شعار أبي عبيدة‪ :‬أمت‪ ..‬أمت‪ ،‬وشعار خالد بن الوليد ومن‬
‫معه‪ :‬يا حزب الله‪ ،‬وشعار قبيلة عبس‪ :‬يا لعبس‪ ،‬وشعار اليمن من‬
‫أخلط الناس‪ :‬يا‬
‫أنصار الله‪ ،‬وشعار حمير‪ :‬الفتح‪ ،‬وشعار دارم والسكاسك‪ :‬الصبر‪..‬‬
‫الله انزل‪ ،‬فهذه كانت أبرز‬ ‫)‪(6‬‬
‫الصبر‪ ،‬وشعار بني مراد‪ :‬يا نصر‬
‫الشعارات في معركة اليرموك‪.‬‬
‫د‪ -‬أن يتصفحهم عند مسيرهم‪:‬‬
‫ومن وصايا أبي بكر الصديق ‪ ‬لقواده حين بعث بهم في‬
‫حروب الردة‪ :‬وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد‪ ،‬وأل يدخل فيهم‬
‫حش ً وا حتى يعرفهم ويعلم ما هم؛ لئل يكونوا عيو ًنا‪ ،‬ولئل يؤتى‬
‫المسلمون من قبلهم‪ (7).‬كما أمر قادته بعدم الستعانة بالمرتدين‬
‫صا على سلمة جند‬ ‫سا وحر ً‬ ‫في جهاد العدو؛ وذلك احترا ً‬
‫المسلمين )‪ ، (8‬كذلك أوصى الصديق ‪ ‬قادة فتوح الشام بالحذر‬
‫والحيطة والتيقظ من رسل العدو حتى ل يتعرفوا على ما‬
‫بجيشهم من ثغرات ومكامن ضعف‪ ،‬وأمرهم بأن ل يخالطوا‬
‫العسكر ول يحدثوهم‪ ،‬فمن ذلك قوله ليزيد بن أبي سفيان‪ :‬وإذا‬
‫قدمت عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم‪ ،‬فإنه أول خبرك إليهم‪،‬‬
‫وأقلل لبثهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك‪ ،‬وامنع من قبلك‬
‫الذي تلي كلمهم‪ ،‬ول تجعل سرك مع‬ ‫) ‪(10‬‬
‫محادثتهم‪(9،‬وكن أنت‬ ‫من‬
‫علنيتك فيمرج ) عملك‪.‬‬

‫)( فتوح الشام للواقدي‪.1/130 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/149 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الطبقات لبن سعد‪.2/191 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/111 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (6) ,‬الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/174 :‬‬ ‫‪5‬‬


‫‪6‬‬
‫)( الدارة العسكريةـ في الدولةـ السلمية‪:‬ـ ‪.1/174‬‬

‫تاريخ الطبري‪.72 ،4/71 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.4/163 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫المرج‪ :‬الفساد‪ ،‬والقلق‪ ،‬والختلط‪ ،‬والضطراب‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫مروج الذهب للمسعودي‪.3/309 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪10‬‬

‫‪299‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫هـ‪ -‬حراستهم من غرة يظفر بها العدو في مقامهم‬
‫ومسيرهم‪:‬‬
‫وظهر ذلك عندما وضع الصديق الحرس على أنقاب المدينة‬
‫خشية أن تطرقها بعض القبائل المرتدة‪ .‬وحين وجه ‪ ‬خالد بن‬
‫الوليد إلى حرب أهل الردة حذره من البيات والغرة‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫واحترس من البيات‪ ،‬فإنه من العرب غرة‪ (1) .‬كما أوصى أمراء‬
‫وقادة فتوح الشام بالحتراس ونشر الحرس على العسكر لحفظهم‬
‫من العداء‪ ،‬وأن يقوموا بالتفتيش المفاجئ على الحرس حتى‬
‫يتأكدوا من قيامهم بمهامهم المعدين لها‪ ،‬فمن ذلك ما قاله ليزيد بن‬
‫أبي سفيان‪ :‬وأكثر حرسك وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك)‪ ،(2‬وقال‬
‫لعمرو ابن العاص‪ :‬وأمر أصحابك بالحرس‪ ،‬ولتكن أنت بعد ذلك‬
‫مطلًعا عليهم‪ ،‬وأطل الجلوس بالليل على أصحابك وأقم بينهم‬
‫واجلس معهم‪ (3) .‬وحذا قادة الصديق ‪ ‬حذوه في اتخاذ الحرس‬
‫على العسكر في مقامهم وسيرهم )‪.(4‬‬
‫و‪ -‬إعداد ما يحتاج إليه العسكر من زاد وعلوفة‪:‬‬
‫فقد كان الصديق ‪ ‬يشتري البل والخيل والسلح فيجعلها في‬
‫)‪(6‬‬
‫سبيل الله )‪ (5‬إلى جانب ما يكسبه ويغنمه العسكر من العدو‪.‬‬
‫وحينما كلف الصديق خالد بن الوليد بمحاربة المرتدين‪ ،‬كان مما‬
‫أوصاه به إذا دخل على أرض العدو أن ل يسير إليهم إل وهو‬
‫مستظهر بالزاد‪ (7) .‬وكان قادة الصديق أثناء مصالحتهم للعدو‬
‫يشترطون عليهم أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين‪ ،‬بما يحل من‬
‫طعامهم وشرابهم‪ (8) .‬وقد سمح أبو بكر لجند الشام أثناء ما أوصاهم‬
‫بأنهم إذا عقروا شاة أو بعيًرا للعدو ل يعقرونها إل للكل )‪.(9‬‬
‫ز‪ -‬ترتيب الجند في مصاف الحرب‪:‬‬
‫استعمل قادة الصديق في معاركهم الحربية نظام الصف‪،‬‬
‫والصفوف تزيد وتنقص بحسب ما يقتضيه الموقف‪ ،‬ويراه القائد في‬
‫ميدان القتال )‪ ،(10‬إل أن خالد بن الوليد في معركة اليرموك أدخل‬
‫نظام الكراديس في أعينهم؛ وذلك لن نظام الكراديس عبارة عن‬
‫مجموعة من الجند تقف في صفوف ل تكون منفصلة عن الخرى‪،‬‬
‫بينها مسافات متباعدة مما يسهل ذلك عليها عملية الحركة وزيادة‬

‫نهاية الرب للنويري‪.6/168 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مروج الذهب‪.2/309 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫فتوح الشام للواقدي‪.1/23 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/196 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.1/215 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الخراج لبي يوسف‪.287 ،286 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫نهاية الرب للنويري‪.6/168 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫الخراج لبي يوسف‪ :‬ص ‪.289‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫نهاية الرب للنويري‪.6/168 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.231 /1 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪10‬‬

‫‪300‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫النتشار‪ ،‬فمن قول خالد للجند لستخدامه لنظام الكراديس‪ :‬إن‬
‫عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة تعبئة أكثر من رأى العين‬
‫من الكراديس )‪ ،(1‬فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة‪ ،‬وجعل‬
‫الميمنة كراديس وعليها عمرو بن العاص وفيها شرحبيل بن حسنة‪،‬‬
‫وجعل الميسرة وعليها يزيد بن أبي سفيان‪ ،‬وهكذا خرج في ستة‬
‫سا إلى الربعين‪ ،‬وخرج في تعبئة لم تعبئها العرب قبل‬‫وثلثين كردو ً‬
‫ذلك‪ ،‬ووزع المهام الدارية بين القيادة )‪ ،(2‬إل أن نظام الصف ظل‬
‫ما ومعمول ً به في النظام الحربي السلمي بعد اليرموك )‪.(3‬‬‫قائ ً‬
‫ح‪ -‬تحريضهم على القتال‪:‬‬
‫كان الصديق ‪ ‬يحرض المجاهدين على القتال‪ ،‬ويقوي نفوسهم‬
‫بما يشعرهم من الظفر‪ ،‬ويذكر لهم أسباب النصر ليقل العدو في‬
‫أعينهم فيكونوا عليه أجرأ وبالجرأة يسهل الظفر )‪(4‬؛ فقد حرص‬
‫وحض أبو بكر خالد بن الوليد على القتال بقوله‪ :‬احرص على الموت‬
‫توهب لك الحياة‪ (5).‬وعندما عقد اللوية لجيوش الشام أخذ يحرضهم‬
‫ويحضهم على الجهاد في سبيل الله ويوصيهم‪ ،‬ويدعو لهم بالنصر‬
‫على العداء )‪.(6‬‬
‫ط‪ -‬أن يذكرهم بثواب الله وفضل الشهادة‪:‬‬
‫فمما قاله أبو بكر الصديق ‪ ‬في تلك الجيوش المتوجهة إلى‬
‫الشام قال‪ :‬أل وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل‬
‫الله‪ ،‬لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به‪ ,‬هي التجارة التي دل‬
‫عليها‪ ،‬ونجى بها من الخزي‪ ،‬وألحق بها الكرامة في الدنيا والخرة‬
‫)‪.(7‬‬
‫ي‪ -‬أن يشاور ذوي الرأي منهم‪:‬‬
‫وهذا ما فعله الصديق في حروب الردة وفتوحات الشام وكثير‬
‫في المجتمع المسلم‪،‬‬ ‫من القضايا الفقهية والمستجدات التي تحدث‬
‫وقد طلب من القادة أن يتناصحوا ويتشاوروا‪ (8) .‬وقد كان الصديق‬
‫قدوة في ذلك؛ ففي حروب الردة دعا عمرو بن العاص وقال له‪ :‬يا‬
‫عمرو‪ ،‬إنك ذو رأي في قريش وقد تنبأ طليحة‪ ،‬فما ترى؟ واستشاره‬
‫يسوس‬ ‫)‪(9‬‬
‫ثم سأله عن خالد بن الوليد عند اختياره لقيادة الجند فأجابه‪:‬‬
‫للحرب‪ ،‬يصبر للموت‪ ،‬له أناة القطاة ووثوب السد‪ ،‬فعقد له‪.‬‬
‫وسار خالد بن الوليد لما كلف به‪ ،‬وأخذ يستشير من معه لعداد‬
‫الخطة لمحاربة المرتدين ويخبر القيادة العليا بما استقر عليه رأي‬
‫)(‪ (6) ,‬تاريخ الطبري‪.4/215 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تاريخ الطبري‪.4/215 :‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/232 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نفس المصدر السابق‪.1/234 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/238 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.15 -11‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫تاريخ الطبري‪.4/208 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ :‬ص ‪.143‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫تاريخ اليعقوبي‪.2/129 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪9‬‬

‫‪301‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الجند )‪ ،(1‬وحين أراد أبو بكر ‪ ‬أن يغزو الروم ويعد الجيوش لفتح‬
‫بلد الشام‪ ،‬شاور في ذلك جماعة من أصحاب رسول الله‪ ،‬وبعد أن‬
‫أخذ رأيهم وما أجمعوا عليه أمر الجند بالتجهيز للتوجه لما أمروا به‬
‫)‪ ،(2‬وكان مما أوصي به الصديق ‪ ‬أمراء وقادة جند الشام بأن‬
‫بالمشورة‪ ،‬فمن ذلك ما قاله ليزيد ابن أبي سفيان‪ :‬هذا ربيعة‬ ‫يعملوا‬
‫بن عامر )‪ (3‬من ذوي العلء والمفاخر‪ ،‬قد علمت صولته وقد ضممته‬
‫إليك وأمرتك عليه‪ ،‬فاجعله في مقدمتك‪ ،‬وشاوره في أمرك ول‬
‫تخالفه‪ (4) .‬قال يزيد‪ :‬حًبا وكرامة‪ .‬وأضاف أبو بكر ‪ ‬قائل‪ :‬إذا سرت‬
‫فل تضيق على نفسك ول على أصحابك في مسيرك‪ ،‬ول تغضب‬
‫على قومك ول على أصحابك‪ ،‬وشاورهم في المر‪ ،‬واستعمل العدل‪.‬‬
‫الخبر تصدق لك المشورة‪،‬‬ ‫)‪(6‬‬
‫)‪ (5‬كما قال ليزيد‪ :‬وإذا استشرت فاصدق‬
‫ول تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك‪ .‬إلى غير ذلك مما قاله‬
‫ليزيد بن أبي سفيان حول مبدأ الشورى واللتزام بها‪ .‬وقد أوصى‬
‫أمراء جند الشام بما ل يخرج عن ذلك )‪ ،(7‬وامتثل قادة الصديق بما‬
‫أمروا به من إجراء المشورة فيما بينهم‪ ،‬فقد قال أبو عبيدة بن‬
‫الجراح لعمرو بن العاص‪ :‬يا عمرو‪ ،‬لرب يوم لك قد شهدته فبورك‬
‫فيه للمسلمين برأيك ومحضرك‪ ،‬وإنما أنا رجل منكم ولست ‪-‬وإن‬
‫دونكم‪ ،‬فأحضرني رأيك في كل يوم‬ ‫كنت الوالي عليكم‪ -‬بقاطع أمر‬
‫بما ترى‪ ،‬فإنه ليس بي عنك غنى‪ (8) .‬هذا بالضافة إلى طلب القادة‬
‫في أرض المعركة من القيادة العليا المركزية المشورة فيما أشكل‬
‫العسكرية لمرحلة وضع الخطط الحربية‬ ‫عليهم من أمور الدارة‬
‫والتنفيذ ومعاملة السرى )‪.(9‬‬
‫ك‪ -‬أن يلزمهم بما أوجبه الله من حقوق‪:‬‬
‫فقد كان أبو بكر ‪ ‬يوصي قادته بذلك؛ فحين بعث عمرو بن‬
‫العاص إلى أرض فلسطين قال له‪ :‬اتق الله في سرك وعلنيتك‪،‬‬
‫واستحيه في خلوتك؛ فإنه يراك في عملك‪ .‬قد رأيت تقدمي لك على‬
‫من هو أقدم منك سابقة وأقدم حرمة‪ ،‬فكن من عمال الخرة‪ ،‬وأرد‬
‫دا لمن معك‪ .‬والصلة ثم الصلة‪ ،‬أذن بها‬ ‫بعملك وجه الله‪ ،‬وكن وال ً‬
‫ل صلة إل بأذان يسمعه أهل العسكر‪ .‬واتق‬ ‫إذا دخل وقتها‪ ،‬ول تص ّ‬
‫الله إذا لقيت العدو‪ ،‬وألزم أصحابك قراءة القرآن‪ ،‬وانههم عن ذكر‬
‫الجاهلية وما كان منها‪ ،‬فإن ذلك يورث العداوة بينهم‪ ،‬وأعرض عن‬
‫الئمة‬
‫هم أ َ‬ ‫زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك‪ ،‬وكن من‬
‫ة‬
‫م ً‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫عل َْنا ْ‬
‫ُ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬‫ْ‬
‫القرآن‪ ،‬إذ يقول الله‬
‫َ‬
‫الممدوحين في‬
‫نا وأ َ‬ ‫َ‬
‫صل َ ِ‬
‫ة‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫َ ) َ‬
‫‪ِ (10‬‬ ‫ِ‬ ‫را‬‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِ ِ ْ‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ح‬‫َ‬ ‫و‬
‫ر َ َ َ ْ‬ ‫مَ ِ‬
‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬‫يَ ْ‬
‫ن" ]النبياء‪. [73 :‬‬ ‫َ‬ ‫دي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫عا‬
‫َ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫كا‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫كا‬ ‫ز‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫تا‬
‫َ‬ ‫إي‬
‫و ِ‬‫َ‬

‫)( الفتوح‪ ،‬ابن أعتم‪.1/29 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تاريخ فتوح الشام‪ :‬ص ‪ .2‬الفتوح‪ ،‬ابن أعتم‪.1/81 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( ربيعة بن عامر القرشي العامري‪ ،‬له ذكر في الفتوح‪ ،‬صحابي‪ ،‬يعد من أهل‬ ‫‪3‬‬

‫فلسطين‪.‬‬
‫)( فتوح الشام للواقدي‪.1/22 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (2‬مروح الذهب‪.2/309 :‬‬ ‫)( فتوح الشام للواقدي‪.1/22 :‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( تاريخ فتوح الشام للزدي‪ :‬ص ‪.21 ،20 -15 -13‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ :‬ص ‪.84 -51‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪.1/272 :‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪302‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫هذه أهم حقوق الله والقادة والجند التي تحدث عنها الصديق في‬
‫وصاياه ورسائله لقادته‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬السر في اكتساح المسلمين لقوات الفرس والروم‪:‬‬
‫إن المتأمل في حركة الفتح السلمي يرى توفيق الله تعالى‬
‫لجيوش الخليفة أبي بكر ‪ ،‬فقد اندفعت تلك الجيوش المظفرة‬
‫نحو العراق والشام‪ ،‬واستطاعت أن تكسر شوكة الرومان والفرس‪،‬‬
‫وتفتح تلك الديار في وقت قياسي في تاريخ الحروب‪ ،‬والسبب في‬
‫سرعة هذا الفتح عوامل تتعلق بالمسلمين الفاتحين‪ ،‬وأخرى ترجع‬
‫إلى المم التي فتح المسلمون ديارهم‪ ،‬فمن العوامل التي تتعلق‬
‫بالمسلمين‪:‬‬
‫‪ -1‬إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله‪.‬‬
‫‪ -2‬يقين المسلمين بربهم في قضيتي الرزق والجل‪ ،‬والقضاء‬
‫والقدر‪.‬‬
‫‪ -3‬تأصل الصفات الحربية في المسلمين‪.‬‬
‫‪ -4‬سماحة المسلمين وعدالتهم مع الشعوب‪.‬‬
‫‪ -5‬رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج‪ ،‬ووفائهم‬
‫بعهودهم‪.‬‬
‫‪ -6‬ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقواد العظام‪.‬‬
‫‪ -7‬إحكام الخطة الحربية السلمية )‪.(1‬‬
‫وأما السباب التي تتعلق بالبلد المفتوحة فأهمها‪ :‬ضعف الروم‬
‫والفرس‪ ،‬فقد ضعفوا وانتشر بينهم الظلم وعم الفساد‪ ،‬ودب فيهم‬
‫سوء الخلق‪ ،‬وأصابت حضارتهم الشيخوخة‪ ،‬وقضى عليها إسراف‬
‫ملوكها‪ ،‬وانحرافهم عن منهج الله‪ ،‬ومضت فيهم سنته التي ل ترحم‬
‫ول تجامل ول تتبدل‪ .‬وأما المسلمون فقد أكرمهم الله بمنهجه‬
‫فساروا عليه‪ ،‬وأخذوا بأسباب التمكين وحققوا شروطه‪ ،‬وتعاملوا مع‬
‫سنن الله في الشعوب وبناء الدول وإصلح المجتمعات‪ .‬ول يفهم من‬
‫كلمي أن ضعف الروم والفرس سهل السبيل أمام المسلمين‬
‫بشكل كبير‪ ،‬فرغم ضعف الدولتين بسبب العوامل السابقة‪ ،‬إل أنه‬
‫لم يمنعهما من العداد الهائل لملقاة المسلمين‪ ،‬فجهزتا مئات‬
‫اللف من الجند المدربين الذين يفوقون جند المسلمين عدًدا وعدة‪،‬‬
‫كما أنهما أبرزتا أسلحة غير معهودة عند المسلمين كالفيلة والكلليب‬
‫المحماة‪ ،‬التي كانوا يرسلونها من خلف الحصون يصطادون بها من‬
‫تقع عليه من المسلمين‪ ،‬كما أن الظن بأن الروم استهانوا‬
‫بالمسلمين ولم يستعدوا لهم يدفعه الكلم السابق وترده رواية ابن‬
‫عساكر‪ :‬أن هرقل جمع بطارقته وهو بحمص وقال لهم‪ :‬هذا الذي‬
‫حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر‬
‫)( الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪ ،251 /1 :‬هذا الكتاب لخصت‬ ‫‪10‬‬

‫واختصرت منه حقوق الله‪ ،‬والقادة والجنود‪.‬‬


‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.227 -222‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪303‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫فتغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم‪ .‬قال أخوه‪ :‬ابعث ربا ً‬
‫طا‬
‫إلى البلقاء‪ ،‬فبعث ربا ً‬
‫طا واستعمل عليه رجل ً من أصحابه‪ ،‬فلم يزل‬
‫تقدمت الجيوش إلى الشام في خلفة أبي بكر وعمر رضي الله‬ ‫حتى‬
‫عنهما )‪.(1‬‬
‫***‬

‫)( تاريخ الدعوة إلى السلم‪ :‬ص ‪.338‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪304‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته‬
‫أول‪ :‬استخلفه لعمر‪.‬‬
‫في شهر جمادى الخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية‪،‬‬
‫مرض الخليفة أبو بكر ‪ ‬واشتد به المرض )‪ ،(1‬فلما ثقل واستبان له‬
‫من نفسه‪ ،‬جمع الناس إليه فقال‪ :‬إنه قد نزل بي ما قد ترون ول‬
‫أظنني إل ميًتا لما بي‪ ،‬وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم‬
‫عقدتي‪ ،‬ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم‪ ،‬فإنكم إن‬
‫حياة‪(2‬مني كان أجدر أن ل‬ ‫أمرتم في‬
‫تختلفوا بعدي ) ‪.‬‬
‫وقد قام أبو بكر ‪ ‬بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة‬
‫القادم‪:‬‬
‫‪ -1‬استشارة أبي بكر الصحابة من المهاجرين والنصار‪:‬‬
‫وتشاور الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وكل يحاول أن يدفع المر عن‬
‫نفسه ويطلبه لخيه؛ إذ يرى فيه الصلح والهلية‪ ،‬لذا رجعوا إليه‬
‫فقالوا‪ :‬رأينا يا خليفة رسول الله رأيك‪ ،‬قال‪ :‬فأمهلوني حتى أنظر‬
‫لله ولدينه ولعباده‪ ،‬فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له‪:‬‬
‫أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له‪ :‬ما تسألني عن أمر إل وأنت‬
‫أعلم به مني‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬وإن‪ ،‬فقال عبد الرحمن‪ :‬هو والله‬
‫أفضل من رأيك فيه‪ ،‬ثم دعا عثمان بن عفان‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرني عن‬
‫عمر بن الخطاب‪ ،‬فقال‪ :‬أنت أخبرنا به‪ ،‬فقال‪ :‬على ذلك يا أبا عبد‬
‫الله‪ ،‬فقال عثمان‪ :‬اللهم علمي به أن سريرته خير من علنيته‪ ،‬وأنه‬
‫ليس فينا مثله‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬يرحمك الله‪ ،‬والله لو تركته ما عدتك‪.‬‬
‫ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك‪ ،‬فقال أسيد‪ :‬اللهم أعلمه‬
‫سّر خير من‬ ‫الخيرة بعدك؛ يرضى للرضا ويسخط للسخط‪ ،‬والذي ي ُ ِ‬
‫الذي يعلن‪ ،‬ولن يلي هذا المر أحد أقوى عليه منه‪ .‬وكذلك استشار‬
‫سعيد بن زيد وعدًدا من النصار والمهاجرين‪ ،‬وكلهم تقريًبا كانوا‬
‫برأي واحد في عمر إل طلحة بن عبيد الله خاف من شدته فقد قال‬
‫لبي بكر‪ :‬ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلفك عمر علينا وقد‬
‫من‬ ‫ترى غلظته؟ فقال أبو بكر‪ :‬أجلسوني‪ ،‬أبا الله تخوفونني؟ خاب‬
‫تزود من أمركم بظلم‪ ،‬أقول‪ :‬اللهم استخلفت عليهم خيَر أهلك )‪.(3‬‬
‫قا‪،‬‬‫ذلك لنه يراني رقي ً‬ ‫وبّين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال‪:‬‬
‫ولو أفضى المر إليه لترك كثيًرا مما هو عليه )‪.(4‬‬
‫دا مكتوًبا يقرأ على الناس في المدينة وفي‬ ‫‪ -2‬ثم كتب عه ً‬
‫النصار عن طريق أمراء الجناد‪ ،‬فكان نص العهد‪:‬‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في‬
‫)( البداية والنهاية‪7/18 :‬؛ تاريخ الطبري‪.4/238 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪.9/258 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الكامل لبن الثير‪ .2/79 :‬التاريخ السلمي‪ ،‬محمود شاكر‪ :‬ص ‪ ،101‬الخلفاء‬ ‫‪3‬‬

‫الراشدون‪.‬‬
‫)( الكامل لبن الثير‪.2/79 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪305‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫جا منها وعند أول عهده بالخرة داخل ً فيها‪،‬‬ ‫آخر عهده بالدنيا خار ً‬
‫حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب‪ ،‬إني استخلفت‬
‫ل الله‬ ‫عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا‪ ،‬وإني لم آ ُ‬
‫ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيًرا‪ ،‬فإن عدل فذلك ظني به وعلمي‬
‫فيه‪ ،‬وإن بدل فلكل امرئ ما َ اكتسب‪ ،‬والخير أردت ول أعلم الغيب‪:‬‬
‫ن" ]الشعراء‪[227 :‬‬ ‫قل ُِبو َ‬ ‫قل َ ٍ‬
‫ب َين َ‬ ‫من َ‬
‫ي ُ‬
‫موا أ ّ‬‫ن ظَل َ ُ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫عل َ ْ‬
‫سي َ ْ‬
‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫)‪.(1‬‬
‫إن عمر هو نصح أبي بكر الخير للمة‪ ،‬فقد أبصر الدنيا مقبلة‬
‫تتهادى‪ ،‬وفي قومه فاقة قديمة يعرفها‪ ،‬فإذا ما أطلوا لها‬
‫استشرفتهم)‪(2‬شهواتها فنكلت بهم واستبدت‪ ،‬وذاك ما حذرهم رسول‬
‫الله × إياه ‪ ،‬وقال رسول الله ×‪» :‬فوالله ل الفقر أخشى عليكم‪،‬‬
‫ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من‬
‫كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها‪ ،‬وتهلككم كما أهلكتهم«‪ (3) .‬لقد‬
‫أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم ‪ ‬بدواء ناجع‪ ..‬جبل شاهق إذا ما رأته‬
‫الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة‪ ،‬إنه الرجل الذي قال فيه النبي ×‪:‬‬
‫جا‬‫جا قط إل سلك ف ً‬ ‫كا ف ً‬ ‫»والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سال ً‬
‫غير فجك« )‪.(4‬‬
‫إن الحداث الجسام التي مرت بالمة قد بدأت بقتل عمر‪ ،‬هذه‬
‫القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد‬
‫لعمر‪ ،‬فعن عبد الله بن مسعود ‪ ‬قال‪ :‬أفرس الناس ثلثة‪ :‬صاحبة‬
‫موسى التي قالت‪ :‬يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي‬
‫المين‪ ،‬وصاحب يوسف حيث قال‪ :‬أكرمي)‪(5‬مثواه عسى أن ينفعنا أو‬
‫دا‪ ،‬وأبو بكر حين استخلف عمر‪ .‬فقال‪ :‬كان عمر هو سد‬ ‫نتخذه ول ً‬
‫الذي حال بينها وبين‬ ‫المنيع‬ ‫المة‬
‫أمواج الفتن )‪.(6‬‬
‫‪ -3‬أنه أخبر عمر بن الخطاب بخطواته القادمة‪ :‬فقد‬
‫فأبى‪ (7‬أن يقبل‪ ،‬فتهدده أبو‬ ‫دخل عليه عمر فعرفه أبو بكر بما عزم‬
‫بكر بالسيف فما كان أمام عمر إل أن قبل ) ‪.‬‬
‫كا حتى ل يحصل‬ ‫‪ -4‬أنه أراد إبلغ الناس بلسانه‪ ،‬واعًيا مدر ً‬
‫أي لبس‪ ،‬فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم‪ :‬أترضون بما‬
‫أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ول وليت ذات‬
‫عليكم‪(8‬عمر بن الخطاب فاسمعوا له‬ ‫قرابة‪ ،‬وإني قد استخلفت‬
‫وأطيعوا‪ ،‬فقالوا‪ :‬سمعنا وأطعنا ) ‪.‬‬
‫‪ -5‬أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن‬
‫)( تاريخ السلم للذهبي‪ :‬عهد الخلفاء‪ :‬ص ‪.117 -116‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.99‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الجزية والموادعة‪ ،‬رقم‪.3158 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فضائل أصحاب النبي‪ ،‬رقم‪.3683 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( مجمع الزوائد‪ ،10/268 :‬قال الهيثمي‪ :‬رواه الطبرني بإسنادين‪ ،‬ورجال‬ ‫‪5‬‬

‫أحدهما رجال الصحيح‪ .‬وأخرجه الحاكم‪ ،3/90 :‬وصححه ووافقه الذهبي‪.‬‬


‫)( أبو بكر رجل الدولة‪ :‬ص ‪.100‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( مآثر النافة للقلقشندي‪.1/49 :‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( تاريخ الطبري‪.4/248 :‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪306‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫اللهم وليته بغير أمر نبيك ولم أرد بذلك إل‬ ‫نفسه وهو يقول‪:‬‬
‫صلحهم‪ ،‬وخفت عليهم الفتنة واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم‬
‫أرشدهم‪ ،‬وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني‬ ‫وأحرصهم على ما‬
‫فيهم‪ ،‬فهم عبادك )‪.(1‬‬
‫‪ -6‬أنه كلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد‬
‫على الناس‪ ،‬وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر‪ ،‬بعد أن ختمه‬
‫بخاتمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء المر دون أي آثار‬
‫أتبايعون‪(2‬لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا‪:‬‬
‫)‬
‫سلبية‪ ،‬وقال عثمان للناس‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فأقروا بذلك جميًعا ورضوا به‪.‬‬
‫‪ -7‬البيعة لعمر بن الخطاب قبل أن يتوفى أبو بكر‬
‫الصديق‪ :‬بعد أن قرئ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه‬
‫الخطاب‬ ‫وبايعوه )‪ ،(3‬ولم تتم بيعة بعد الوفاة بل باشر عمر بن‬
‫أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر ‪ .‬ويلحظ‬
‫)‪(4‬‬

‫الباحث أن عمر ولي الخلفة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم‪،‬‬


‫فهم الذين فوضوا لبي بكر انتخاب الخليفة‪ ،‬وجعلوه نائًبا عنهم في‬
‫ذلك‪ ،‬فشاور ثم عين الخليفة‪ ،‬ثم عرض هذا التعيين على الناس‬
‫فأقروه وأمضوه ووافقوا عليه‪ ،‬وأصحاب الحل والعقد في المة هم‬
‫فلم يكن استخلف عمر‬ ‫النواب »الطبيعيون« عن هذه المة‪ ،‬وإذن‬
‫‪ ‬إل على أصح الساليب الشورية وأعدلها )‪.(5‬‬
‫إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته‬
‫من بعده ل تتجاوز الشورى بأي حال من الحوال‪ ،‬وإن كانت‬
‫الجراءات المتبعة فيها غير الجراءات المتبعة في تولية أبي بكر‬
‫نفسه )‪ ،(6‬وهكذا تم عقد الخلفة لعمر ‪ ‬بالشورى‪ ،‬ولم يورد التاريخ‬
‫أي خلف وقع حول خلفته بعد ذلك‪ ،‬ول أن أحد نهض طوال عهده‬
‫لينازعه المر‪ ،‬بل كان هناك إجماع على)‪(7‬خلفته وعلى طاعته في‬
‫أثناء حكمه‪ ،‬فكان الجميع وحدة واحدة ‪.‬‬
‫‪ -8‬وصية الصديق لعمر بن الخطاب‪:‬‬
‫فقد اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات‬
‫يمضي إلى ربه خالًيا من أي تبعة‪،‬‬ ‫لخلء ذمته من أي شيء‪ ،‬حتى‬
‫بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده )‪ ،(8‬وقد جاء في الوصية‪ :‬اتق‬
‫الله يا عمر‪ ،‬واعلم أن لله عمل بالنهار ل يقبله بالليل‪ ،‬وعمل ً بالليل ل‬
‫يقبله بالنهار‪ ،‬وأنه ل يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة‪ ،‬وإنما ثقلت‬
‫موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا‬
‫دا أن يكون ثقي ً‬
‫ل‪ .‬وإنما‬ ‫حقّ لميزان يوضع فيه الحق غ ً‬ ‫وثقله عليهم‪ ،‬و ُ‬
‫خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار‬
‫طبقات ابن سعد‪ .3/199 :‬تاريخ المدينة لبن شبة‪.669 -2/665 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫طبقات ابن سعد‪.3/200 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.272‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق‪ :‬ص ‪.272‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أبو بكر الصديق‪ ،‬على الطنطاوي‪ :‬ص ‪.237‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.273‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫النظرية السياسية السلمية‪ ،‬ضياء الريس‪ :‬ص ‪.181‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ :‬ص ‪.272‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪307‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دا أن يكون‬ ‫حقّ لميزان يوضع فيه الباطل غ ً‬ ‫الدنيا وخفته عليهم‪ ،‬و ُ‬
‫فا‪ .‬وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم‬ ‫خفي ً‬
‫وتجاوز عن سيئه‪ ،‬فإذا ذكرتهم قلت‪ :‬إني أخاف أن ل ألحق بهم‪ .‬وإن‬
‫الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه‪،‬‬
‫فإذا ذكرتهم قلت‪ :‬إني لرجو أن ل أكون من هؤلء‪ ،‬ليكون العبد‬
‫راغًبا راهًبا ل يتمنى على الله ول يقنط من رحمة الله‪ ،‬فإن أنت‬
‫وصيتي‪(1‬فل يك غائب أبغض إليك من الموت‬ ‫حفظت‬
‫ولست تعجزه ) ‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬وحان وقت الرحيل‪.‬‬
‫قالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬أول ما بدئ مرض أبي بكر أنه‬
‫ما ل يخرج إلى صلة‪،‬‬ ‫ما بارًدا فحم خمسة عشر يو ً‬ ‫اغتسل وكان يو ً‬
‫وكان يأمر عمر بالصلة وكانوا يعودونه‪ ،‬وكان عثمان ألزمهم له في‬
‫مرضه)‪ ،(2‬ولما اشتد به المرض قيل له‪ :‬أل تدعو لك الطبيب؟ فقال‪:‬‬
‫قد رآني فقال‪ :‬إني فعال لما أريد‪ (3).‬وقالت عائشة ‪-‬رضي الله‬
‫عنها‪ :-‬قال أبو بكر‪ :‬انظروا ماذا زاد في مالي منذ دخلت في المارة‬
‫فابعثوا به إلى الخليفة بعدي‪ ،‬فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل‬
‫صبيانه‪ ،‬وإذا ناضح)‪ (4‬كان يسقي بستاًنا له‪ ،‬فبعثنا بهما إلى عمر‪،‬‬
‫فبكى عمر‪ ،‬وقال‪ :‬رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعًبا‬
‫دا )‪.(5‬‬
‫شدي ً‬
‫وقالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬لما مرض أبو بكر مرضه الذي‬
‫مات فيه‪ ،‬دخلت عليه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره‪،‬‬
‫فتمثلت هذا البيت‪:‬‬
‫ما وضاق بها‬ ‫إذا حشرجت يو ً‬ ‫لعمرك ما يغني الثراء عن‬
‫الصدر‬ ‫الفتى‬
‫ي كالغضبان ثم قال‪ :‬ليس كذلك يا أم المؤمنين‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫إل‬ ‫فنظر‬
‫ت‬ ‫كن َ‬ ‫ما ُ‬‫ك َ‬‫ق ذَل ِ َ‬ ‫ت ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫و ِ‬ ‫سك َْرةُ ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ت َ‬‫جاءَ ْ‬‫و َ‬
‫قول الله أصدق‪َ + :‬‬
‫د"]ق‪ ،[19 :‬ثم قال‪ :‬يا عائشة‪ ،‬إنه ليس أحد من أهلي أحب‬ ‫حي ُ‬‫ه تَ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ِ‬
‫طا )‪ ،(6‬وإن في نفسي منه شيًئا فرديه‬ ‫ي منك‪ ،‬وقد كنت نحلتك حائ ً‬ ‫ّ‬ ‫إل‬
‫إلى الميراث‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فرددته‪ .‬وقال ‪ :‬أما إنا منذ ولينا أمر‬
‫ما‪ ،‬ولكنا قد أكلنا من جريش‬ ‫المسلمين لم نأكل لهم ديناًرا ول دره ً‬
‫طعامهم في بطوننا‪ ،‬ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا‪ ،‬وليس‬
‫عندنا من فيء المسلمين قليل ول كثير إل هذا العبد الحبشي وهذا‬
‫البعير الناضح‪ ،‬وجرد هذه القطيفة‪ ،‬فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر‬
‫وابرئي منهن ففعلت‪ ،‬فلما جاء الرسول إلى عمر بكى حتى جعلت‬

‫)( صفة الصفوة‪.265 ،1/264 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أصحاب الرسول‪ ،‬محمود المصري‪.1/104 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬ص ‪.33‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الناضح‪ :‬هو البعير الذي يستقى عليه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( صفة الصفوة‪.1/265 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( حائطا‪ :‬وفي رواية‪ :‬جداد‪ ،‬وهي بمعنى‪ :‬قطع ثمرة النخل‪ ،‬صفوة الصفوة‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪.1/266‬‬

‫‪308‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دموعه تسيل في الرض‪ ،‬ويقول‪ :‬رحم الله أبا بكر‪ ،‬لقد أتعب من‬
‫بعده‪ ،‬رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده‪ ،‬رحم الله أبا بكر لقد‬
‫)‪(1‬‬
‫أتعب من بعده‪.‬‬
‫وقد جاء في رواية‪ :‬أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال‪ :‬إن عمر‬
‫لم يدعني حتى أصبت من بيت المال ستة آلف درهم‪ ،‬وإن حائطي‬
‫ذلك‪(2‬لعمر فقال‪ :‬يرحم الله أبا‬ ‫الذي بمكان كذا فيها‪ ،‬فلما توفي ذكر‬
‫بكر‪ ،‬لقد أحب أن ل يدع لحد بعده مقال ً) ‪.‬‬
‫ويظهر من هذه المواقف ورع الصديق في المال العام؛ فقد ترك‬
‫هذا الخليفة العظيم تجارته‪ ،‬وتخلى عن ذرائع كسبه اشتغال ً عنها‬
‫ما بوظائف الخلفة‪ ،‬فيضطر إلى أخذ نفقته‬ ‫بأمور المسلمين‪ ،‬وقيا ً‬
‫من بيت المال بما ل يزيد عن الحاجة إلى سد الجوع وستر العورة‪،‬‬
‫ثم هو يؤدي للمسلمين خدمة هيهات أن تؤدي حقها الخزائن‪ ،‬ولما‬
‫أشرف على وفاته وعنده فضلة من مال المسلمين‪ ،‬وهي ذلك‬
‫المتاع الحقير يأمر بردها إلى المسلمين ليلقي ربه آمنا مطمئنا‪ ،‬نزيه‬
‫اليدين إل‬ ‫القلب طاهر النفس‪ ،‬خفيف الحمل إل من التقوى‪ ،‬فارغ‬
‫من اليمان‪ ،‬إن في هذا لبلغا‪ ،‬وإنها لموعظة لقوم يعقلون‪ (3).‬كما‬
‫أن ما قام به من الوصية بتعويض بيت مال المسلمين بأرضه‬
‫عا منه‬ ‫المذكورة مقابل ما أنفق على نفسه وعياله منه‪ ،‬وكان ور ً‬
‫دا‬
‫صا لله تعالى‪ ،‬بعي ً‬ ‫عا وخال ً‬ ‫ورغبة في أن يكون عمله في الولية تطو ً‬
‫عن أي حظ من حظوظ الدنيا‪.‬‬
‫وقد استمر مرض أبي بكر مدة خمسة عشر يوما‪ ،‬حتى كان يوم‬
‫الثنين )ليلة الثلثاء( في الثاني والعشرين من جمادى الخرة سنة‬
‫ثلث عشرة للهجرة‪ ،‬قالت عائشة ‪-‬رضي الله عنها‪ :-‬إن أبا بكر قال‬
‫لها‪ :‬في أي يوم مات رسول الله ×؟ قالت‪ :‬في يوم الثنين قال‪:‬‬
‫إني لرجو فيما بيني وبين الليل‪ ،‬ففيم كفنتموه؟ قالت‪ :‬في ثلثة‬
‫أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ول عمامة‪ ،‬فقال أبو‬
‫هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي‬ ‫بكر‪ :‬انظري ثوبي‬
‫معه ثوبين آخرين‪ (4) .‬فقيل له‪ :‬قد رزق الله وأحسن‪ ،‬نكفنك في‬
‫جديد‪ .‬قال‪:‬‬
‫ليصون به نفسه عن الميت‪ ،‬إنما يصير‬ ‫الجديد‬ ‫إلى‬ ‫أحوج‬ ‫هو‬ ‫إن الحي‬
‫الميت إلى الصديد وإلى البلى‪ (5) .‬وقد أوصى أن تغسله زوجه أسماء‬
‫بنت عميس‪ ،‬وأن يدفن بجانب رسول الله ×‪ ،‬وكان آخر ما تكلم به‬
‫ما‬
‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬
‫فِني ُ‬ ‫و ّ‬
‫قول الله تعالى‪+ :‬ت َ َ‬ ‫الصديق في هذه الدنيا‬
‫ن" )‪] (6‬يوسف‪.[101 :‬‬
‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫قِني ِبال ّ‬ ‫وأ َل ْ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق‪ ،‬ولم تر المدينة منذ‬
‫وفاة الرسول يو ًما أكثر باك ً يا وباكية من ذلك المساء الحزين‪،‬‬
‫عا باك ًيا مسترج ًعا ووقف على‬ ‫وأقبل علي بن أبي طالب مسر ً‬
‫)( الطبقات لبن سعد‪ ،147 ،3/146 :‬رجاله ثقات‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المنتظم لبن الجوزي‪ .4/127 :‬وأصحاب الرسول‪.1/105 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)‪ (3‬أصحاب الرسول‪.1/106 :‬‬ ‫)( أشهر مشاهير السلم‪.1/94 :‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( التاريخ السلمي‪ ،‬محمود شاكر‪ ،‬الخلفاء الراشدون‪ :‬ص ‪.104‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( الشيخان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب برواية البلذري في أنساب‬ ‫‪6‬‬

‫الشراف‪ ،‬تحقيق د‪ /‬إحسان صدقي العمد‪ :‬ص ‪.69‬‬

‫‪309‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫البيت الذي فيه أبو بكر‪ ،‬فقال‪ :‬رحمك الله يا أبا بكر‪ ،‬كنت إلف‬
‫رسول الله × وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته‪،‬‬
‫وكنت أول القوم إسل ًما وأخلصهم يقي ًنا‪ ،‬وأشدهم لله يقي ًنا‪،‬‬
‫وأخوفهم له‪ ،‬وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل‪ ،‬وأحوطهم‬
‫على رسول الله × ‪ ،‬وأحدبهم على السلم‪ ،‬وأحسنهم صحبة‪،‬‬
‫وأكثرهم مناقب‪ ،‬وأفضلهم سوابق‪ ،‬وأرفعهم عنده‪ ،‬وأكرمهم‬
‫عليه‪ ،‬فجزاك الله عن رسول الله وعن السلم أفضل الجزاء‪.‬‬
‫ص ّدقت رسول الله × حين كذبه الناس‪ ،‬وكنت عنده بمنزلة‬
‫ذي‬ ‫وال ّ ِ‬‫قا فقال‪َ + :‬‬ ‫الله في تنزيله صدي ً‬ ‫سماكبه ُ‬ ‫السمع والبصر‪،‬‬
‫ن" ]الزمر‪.[33 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬‫أو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫ص‬
‫و َ‬ ‫ق َ‬‫صد ْ ِ‬ ‫جاءَ ِبال ّ‬
‫َ‬
‫واسيته حين بخلوا‪ ،‬وقمت معه على المكاره حين قعدوا‪ ،‬وصحبته‬
‫في الشدة أكرم الصحبة‪ ،‬ثاني اثنين صاحبه في الغار‪ ،‬والمنزل‬
‫عليه السكينة‪ ،‬ورفيقه في الهجرة‪ ،‬وخليفته في دين الله وأمته‪،‬‬
‫أحسن الخلفة حين ارتدوا‪ ،‬فقمت بالمر ما لم يقم به خليفة‬
‫نبي‪ ،‬ونهضت حين وهن أصحابه‪ ،‬وبرزت حين استكانوا‪ ،‬وقويت‬
‫حين ضعفوا‪ ،‬ولزمت منهاج رسول الله إذ وهنوا‪ ،‬وكنت كما قال‬
‫فا في بدنك قو ّ يا في أمر الله تعالى‪ ،‬متواضًعا‬ ‫رسول الله‪ :‬ضعي ً‬
‫في نفسك‪ ،‬عظي ًما عند الله تعالى‪ ،‬جلي ًل في أعين الناس‪ ،‬كبيًرا‬
‫في أنفسهم‪ ،‬لم يكن لحدهم فيك مغمز ول لقائل فيك مهمز‪ ،‬ول‬
‫لمخلوق عندك هوادة‪ .‬الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى‬
‫تأخذ بحقه‪ ،‬القريب والبعيد عنك في ذاك سواء‪ ،‬وأقرب الناس‬
‫عندك أطوعهم لله ‪-‬عز وجل‪ -‬وأتقاهم‪ … ،‬شأنك الحق والصدق‬
‫والرفق‪ ،‬قولك حكم وحتم‪ ،‬وأمرك حلم وحزم‪ ،‬ورأيك علم وعزم‪.‬‬
‫اعتدل بك الدين‪ ،‬وقوي بك اليمان‪ ،‬وظهر أمر الله‪ ،‬فسبقت –‬
‫قا بعي ًدا وأتعبت من بعدك إتعا ًبا شدي ًدا‪ ،‬وفزت بالخير‬ ‫والله‪ -‬سب ً‬
‫فو ًزا مبي ً نا‪ ،‬فإنا لله وإنا إليه راجعون‪ ،‬رضينا عن الله ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫قضاءه‪ ،‬وسلمنا له أمره‪ .‬والله لن يصاب المسلمين بعد رسول‬
‫فا‪ ،‬فألحقك الله ‪-‬عز‬ ‫الله بمثلك أب ًدا‪ ،‬كنت للدين ع ًزا وحر ً زا وكه ً‬
‫وجل‪ -‬بنبيك محمد × ‪ ،‬ول حرمنا أجرك ول أضلنا بعدك‪ .‬فسكت‬
‫الناس حتى قضى كلمه‪ ،‬ثم بكوا حتى علت أصواتهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫صدقت‪ (1) .‬وجاء في رواية‪ :‬إن عل ّ يا قال عندما دخل على أبي بكر‬
‫ي من‬ ‫أنه قال‪ :‬ما أحد ألقى الله بصحيفته أحب إل ّ‬ ‫)‪(2‬‬
‫بعدما سجي‬
‫جى‪.‬‬ ‫س ّ‬‫هذا الم َ‬
‫هذا وقد توفي الصديق ‪-‬رحمه الله‪ -‬وهو ابن ثلث وستين سنة‪،‬‬
‫مجمع على ذلك في الروايات كلها‪ ،‬استوفى سن رسول الله ×‪،‬‬
‫وغسلته زوجه أسماء بنت عميس‪ ،‬وكان قد أوصى بذلك ))‪ ،((43‬ودفن‬
‫جانب رسول الله‪ ،‬وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله ‪ ،‬وصلى‬
‫وعثمان وطلحة وابنه‬ ‫عليه خليفته عمر بن الخطاب‪ ،‬ونزل قبره عمر‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬وألصق اللحد بقبر رسول الله × )‪.(5‬‬

‫التبصرة لبن الجوزي‪ ،479 -1/477 :‬نقل عن أصحاب الرسول‪.1/108 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تاريخ السلم للذهبي‪ ،‬عهد الخلفاء الراشدين‪ :‬ص ‪.120‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الطبقات لبن سعد‪ ،204 ،3/203 :‬وإسناده صحيح‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ السلم للذهبي‪ ،‬عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.120‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫أصحاب رسول الله‪.1/106 :‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪310‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وهكذا خرج أبو بكر الصديق من الدنيا بعد جهاد عظيم‪ ،‬في‬
‫سبيل نشر دين الله في الفاق‪ ،‬وستظل الحضارة النسانية مدينة‬
‫لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول بعد وفاته‪ ،‬وحمى‬
‫غرسه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وقام برعاية بذور العدل والحرية‪،‬‬
‫وسقاها أزكى دماء الشهداء‪ ،‬فأتت من كل الثمرات عطاء جزي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ما في العلوم والثقافة والفكر‪ ،‬وستظل‬‫حقق عبر التاريخ تقدما عظي ً‬
‫الحضارة مدينة للصديق؛ لنه بجهاده الرائع وبصبره العظيم حمى‬
‫الله به دين السلم في ثباته في الردة‪ ،‬ونشر الله به السلم في‬
‫المم والدول والشعوب بحركة الفتوحات العظيمة‪ ،‬التي لم يشهد‬
‫لها التاريخ مثي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫وأختم هذا الكتاب بقول أبي محمد عبد الله القحطاني الندلسي‪:‬‬
‫ل من يمشي على‬ ‫ج ّ‬
‫وأ َ‬ ‫قل إن خير النبياء محمد‬
‫كثبان‬‫ال ُ‬
‫)‪(1‬‬
‫ب الرسل صحب‬ ‫ح ِ‬
‫ص ْ‬
‫ل َ‬‫ج ّ‬
‫وأ َ‬
‫محمدٍ‬
‫بدمي ونفسي ذانك الرجلن‬ ‫رجلن قد خلقا لنصر محمد‬
‫في نصره وهما له صهران‬ ‫فهما اللذان تظاهرا لنبينا‬
‫وهما له بالوحي صاحبتان‬ ‫بنتاهما أسنى نساء نبينا‬
‫يا حبذا البوان والبنتان‬ ‫أبو اهما أسنى صحابة أحمد‬

‫لفضائل العمال مستبقان‬ ‫وهما وزيراه اللذان هما هما‬

‫وبقربه في القبر مضطجعان‬ ‫وهما لحمد ناظراه وسمعه‬

‫وهما لدين محمد جبلن‬ ‫كانا على السلم أشفق أهله‬

‫أتقاهما في السر والعلن‬ ‫أصفاهما أقواهما أخشاهما‬

‫أوفاهما في الوزن والرجحان‬ ‫أسناهما أزكاها أعلهما‬

‫هو في المغارة والنبي اثنان‬ ‫ديق أحمد صاحب الغار‬ ‫ص ّ‬


‫ِ‬
‫الذي‬
‫من شرعنا في فضله رجلن‬ ‫أعني أبا بكر الذي لم يختلف‬

‫وإمامهم حقا بل بطلن‬ ‫هو شيخ أصحاب النبي‬


‫وخيرهم‬
‫)( أي‪ :‬أبو بكر وعمر رضي الله عنهما‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪311‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وأبو المطهرة التي تنزيهها‬

‫»وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين«‬


‫»سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪،‬‬
‫أستغفرك وأتوب إليك«‬
‫***‬

‫)( نونية القحطاني‪ :‬ص ‪.22 ،21‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪312‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫الخلصـــــــة‬
‫إن سيرة الخلفاء الراشدين وتاريخهم المجيد من أقوى‬ ‫‪-1‬‬
‫مصادر اليمان والعاطفة السلمية الصحيحة‪ ،‬التي ل تزال هذه‬
‫المة تقتبس منها شعلة اليمان وتحمل زاد الدعوة‪ ،‬فتشعل أنوار‬
‫الحق في قلوب الناس حتى ل تنطفئ بريح الهدم التي يوجهها‬
‫أعداء المة ضد دعوتها وتاريخها‪.‬‬
‫إن المسلمين –بل النسانية كلها‪ -‬أشد ما كانوا اليوم في‬ ‫‪-2‬‬
‫حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله × وكرم معدنهم‪،‬‬
‫وأثر تربية رسول الله فيهم‪ ،‬وما كانوا عليه من علو المنزلة التي‬
‫صاروا بها الجيل المثالي الفذ في تاريخ البشر‪.‬‬
‫لقد تعرض التاريخ السلمي في عمومه وتاريخ صدر‬ ‫‪-3‬‬
‫السلم على الخصوص للتزوير والتشكيك والتحريف والبتر‬
‫والزيادة وسوء التأويل‪ ،‬من الروافض والمستشرقين والنصارى‬
‫واليهود والعلمانيين‪ ،‬ولذلك أصبح من الفروض الكفائية على‬
‫المة تصحيح الحقائق‪ ،‬فعلى كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر‬
‫السلم أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات‪ ،‬وأن يبادر له ويجتهد‬
‫حا من‬‫فيه ما استطاع؛ حتى يكون أمام أبناء المة مثال ً صال ً‬
‫سلفهم‪ ،‬يقتدون به ويجددون عهده ويصلحون من سيرتهم‬
‫بالسير على منهجهم‪.‬‬
‫إن سيرة الصديق مليئة بالدروس والعبر؛ فهو أعظم‬ ‫‪-4‬‬
‫شخصية في السلم بعد النبي ×‪ ،‬فقد كان هذا الصحابي الجليل‬
‫قد اتصف بمكارم الخلق والصفات الحميدة منذ الجاهلية‪ ،‬فلم‬
‫يعرف عنه أنه سجد لصنم أو شرب الخمر‪.‬‬
‫كان الصديق ‪ ‬عال ً‬
‫ما بالنساب‪ ،‬وكانت له مزية حببته‬ ‫‪-5‬‬
‫إلى قلوب العرب وهي أنه لم يكن يعيب النساب ول يذكر‬
‫المثالب‪ ،‬بخلف غيره‪ ،‬فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم‬
‫قريش بها وبما فيها من خير وشر‪ ،‬وقد اشتهر بالتجارة‪ ،‬وكان‬
‫ينفق من ماله بسخاء وكرم عرف به في الجاهلية‪.‬‬
‫كان أبو بكر كنًزا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه‪ ،‬وكان‬ ‫‪-6‬‬
‫من أحب قريش لقريش‪ ،‬فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله‬
‫إياه‪ ،‬جعله من الموطئين أكناًفا‪ ،‬من الذين يألفون ويؤلفون‪.‬‬
‫كان تحرك الصديق ‪ ‬في الدعوة إلى الله يوضح صورة‬ ‫‪-7‬‬
‫من صور اليمان بهذا الدين‪ ،‬والستجابة لله ورسوله‪ ،‬صورة‬
‫المؤمن الذي ل يقر له قرار ول يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا‬
‫الناس ما آمن به‪.‬‬
‫تعرض الصديق للبتلء؛ فقد أوذي أبو بكر الصديق وحثي‬ ‫‪-8‬‬
‫على رأسه التراب‪ ،‬وضرب في المسجد الحرام بالنعال حتى ما‬

‫‪313‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫يعرف وجهه من أنفه وحمل إلى بيته‪.‬‬
‫من صفات الصديق التي تميز بها‪ :‬الجرأة والشجاعة‪،‬‬ ‫‪-9‬‬
‫دا في الحق‪ ،‬ول تأخذه لومة لئم في نصرة‬ ‫فقد كان ل يهاب أح ً‬
‫دين الله والعمل له والدفاع عن رسول الله ×‪.‬‬
‫ساهم الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين‬ ‫‪-10‬‬
‫المعذبين‪ ،‬وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها‬
‫القيادة السلمية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين‪،‬‬
‫فدعم الدعوة بالمال والرجال والفراد‪ ،‬فراح يشتري العبيد‬
‫والماء المملوكين من المؤمنين والمؤمنات وأعتقهم لوجه الله‪.‬‬
‫استخدم الصديق ‪ ‬علم النساب كوسيلة من وسائل‬ ‫‪-11‬‬
‫قا لرسول الله × أثناء دعوته للقبائل‬
‫الدعوة‪ ،‬ولذلك كان مراف ً‬
‫في أسواق العرب في المواسم‪.‬‬
‫رافق الصديق ‪ ‬رسول الله في هجرته إلى المدينة‪،‬‬ ‫‪-12‬‬
‫فكان الساعد اليمن لرسول الله منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته‬
‫×‪ ،‬فكان ‪ ‬ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكمة وإيماًنا‬
‫حا‬
‫صا‪ ،‬فأثمرت هذه الصحبة صل ً‬‫ويقيًنا وعزيمة وتقوى وإخل ً‬
‫صا‬‫ً‬ ‫وإخل‬ ‫ما‪،‬‬
‫ً‬ ‫وتصمي‬ ‫عزيمة‬ ‫وصفاء‪،‬‬ ‫وصديقية‪ ،‬ذكًرا ويقظة‪ ،‬حًبا‬
‫ما‪ ،‬فوقف مواقفه المشهورة بعد وفاة رسول الله × في‬ ‫وفه ً‬
‫سقيفة بني ساعدة‪ ،‬وغيرها من المواقف؛ كبعث جيش أسامة‬
‫وحروب الردة‪ ،‬فأصلح ما فسد وبنى ما هدم‪ ،‬وجمع ما تفرق‪،‬‬
‫وم ما انحرف‪.‬‬ ‫وق ّ‬
‫شهد أبو بكر مع النبي × المشاهد كلها ولم يفته منها‬ ‫‪-13‬‬
‫مشهد‪ ،‬وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس‪ ،‬ودفع‬
‫إليه النبي × رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء‪.‬‬
‫كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس‬ ‫‪-14‬‬
‫جا حّيا لفهم السلم وتطبيقه في دنيا‬
‫والعبر‪ ،‬وتركت لنا نموذ ً‬
‫الناس‪ .‬وقد تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه‬
‫رسول الله × في أحاديث كثيرة وبّين فضله وتقدمه على كثير‬
‫من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ما‪ ،‬فقد فهم حقيقة اليمان‬ ‫كان إيمان الصديق بالله عظي ً‬ ‫‪-15‬‬
‫وتغلغلت كلمة التوحيد في نفسه وقلبه‪ ،‬وانعكست آثارها على‬
‫جوارحه‪ ،‬وعاش بتلك الثار في حياته فتحلى بالخلق الرفيعة‪،‬‬
‫وتطهر من الخلق الوضيعة‪ ،‬وحرص على التمسك بشرع الله‬
‫والقتداء بهديه ×‪ ،‬وكان إيمانه بالله باعًثا له على الحركة‬
‫والهمة والنشاط والسعي والجهد والمجاهدة والجهاد والتربية‬
‫والستعلء والعزة‪ ،‬وكان في قلبه من اليقين واليمان شيء‬
‫عظيم ل يساويه فيه أحد من الصحابة‪.‬‬
‫كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له‪ ،‬وقد‬ ‫‪-16‬‬
‫‪314‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم المة‪ ،‬وحكى الجماع‬
‫على ذلك غير واحد‪ ،‬وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم‬
‫عا به ليل ً ونهاًرا‬
‫والفضل ملزمته للنبي ×؛ فقد كان أدوم اجتما ً‬
‫وسفًرا وحضًرا‪ ،‬وكان يسمر عند النبي × بعد العشاء يتحدث‬
‫معه في أمور المسلمين‪ ،‬وقد استعمله النبي × على أول حجة‬
‫حجت من مدينة النبي ×‪ ،‬وعلم المناسك أدق ما في العبادات‪،‬‬
‫ولول علمه لم يستخلفه‪ ،‬ولم يستخلف غيره ل في حج ول في‬
‫صلة‪ ،‬وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من‬
‫أبي بكر‪ ،‬وهو أصح ما روي فيها‪ ،‬وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم‬
‫في كتابة ما هو متقدم منسوخ‪ ،‬فدل على أنه أعلم بالسنة‬
‫صا‪ ،‬وهذا‬ ‫الناسخة والمنسوخة‪ ،‬ولم يحفظ له قول يخالف فيه ن ً‬
‫يدل على غاية البراعة والعلم‪.‬‬
‫لما مات رسول الله × اضطرب الناس‪ ،‬فثبت الله المة‬ ‫‪-17‬‬
‫دا فإن‬
‫ً‬ ‫محم‬ ‫يعبد‬ ‫كان‬ ‫من‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫العظيم‬ ‫موقفه‬ ‫فوقف‬ ‫بالصديق‪،‬‬
‫دا قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد الله فإن الله حي ل يموت‪.‬‬
‫محم ً‬
‫وظهر موقفه العظيم في سقيفة بني ساعدة حيث استطاع أن‬
‫يقنع النصار بما رآه وهو الحق‪ ،‬من غير أن يعرض المسلمين‬
‫للفتنة‪ ،‬فأثنى على النصار ببيان فضلهم من الكتاب والسنة‬
‫والثناء‪.‬‬
‫بايع سعد بن عبادة الصديقَ بالخلفة في أعقاب النقاش‬ ‫‪-18‬‬
‫الذي دار في سقيفة بني ساعدة؛ إذ أنه نزل عن مقامه الول‬
‫في دعوى المارة وأذعن للصديق بالخلفة‪ ،‬وكان ابن عمه بشير‬
‫بن سعد النصاري أول من بايع الصديق بالخلفة في اجتماع‬
‫السقيفة‪ ،‬ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات ل بسيطة ول‬
‫خطيرة ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في‬
‫الخلفة‪ ،‬كما زعم بعض كتاب التاريخ‪ ،‬ولكن الخوة السلمية‬
‫قا‪ ،‬كما يثبت النقل الصحيح‪.‬‬
‫ظلت كما هي بل ازدادت توث ً‬
‫وردت أحاديث نبوية شريفة أشارت إلى خلفة الصديق‪،‬‬ ‫‪-19‬‬
‫وأجمع أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا على أن أحق الناس‬
‫بالخلفة بعد النبي × أبو بكر الصديق‪ ،‬لفضله وسابقته ولتقديم‬
‫النبي × إياه في الصلوات على جميع الصحابة‪ ،‬وقد فهم‬
‫أصحاب النبي × مراد المصطفى ‪-‬عليه الصلة والسلم‪ -‬من‬
‫تقديمه في الصلة‪ ،‬فأجمعوا على تقديمه في الخلفة‪.‬‬
‫الخلفة السلمية هي المنهج الذي اختارته المة‬ ‫‪-20‬‬
‫السلمية وأجمعت عليه طريقة وأسلوًبا للحكم‪ ،‬تنظم من خلله‬
‫أمورها وترعى مصالحها‪ ،‬وقد ارتبطت نشأة الخلفة بحاجة المة‬
‫لها واقتناعها بها‪ ،‬ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار‬
‫خليفة‬
‫لرسول الله ×‪ ،‬فالخلفة هي نظام حكم المسلمين‪ ،‬وقد‬
‫استمدت أصولها من دستور المسلمين في القرآن الكريم ومن‬
‫سنة النبي ×‪ ،‬وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلفة السلمية‬
‫فقالوا بالشورى والبيعة‪ ،‬وهما أصلن قد أشير إليهما في القرآن‬

‫‪315‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الكريم‪.‬‬
‫تحدث العلمة أبو الحسن الندوي عن شروط خلفة‬ ‫‪-21‬‬
‫النبي × ومتطلباتها‪ ،‬وقد أثبت بالدلة والحجج من خلل سيرة‬
‫الصديق بأن أبا بكر كان شروط خلفة النبي × متحققة فيه‪.‬‬
‫بعد البيعة العامة للصديق ألقى خطبة على المة تعتبر‬ ‫‪-22‬‬
‫من عيون الخطب السلمية على إيجازها‪ ،‬فقد بّين فيها منهجه‬
‫لقيادة الدولة وقرر فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين‬
‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬وركز على أن طاعة ولي المر مترتبة على‬
‫طاعة الله ورسوله‪ ،‬ونص على الجهاد في سبيل الله لهميته‬
‫في إعزاز المة‪ ،‬وعلى اجتناب الفاحشة لهمية ذلك في حماية‬
‫المجتمع من النهيار والفساد‪.‬‬
‫أراد الصديق ‪ ‬أن ينفذ السياسة التي رسمها لدولته‬ ‫‪-23‬‬
‫واتخذ من الصحابة الكرام أعواًنا يساعدونه على ذلك‪ ،‬فجعل أبا‬
‫عبيدة بن الجراح أمين هذه المة »وزير المالية«‪ ،‬فأسند إليه‬
‫شئون بيت المال‪ ،‬وتولى عمر بن الخطاب القضاء »وزير‬
‫ضا‪ ،‬وتولى زيد بن‬
‫العدل«‪ ،‬وباشر الصديق القضاء بنفسه أي ً‬
‫ثابت الكتابة »وزير البريد والمواصلت«‪ ،‬وأحياًنا يكتب له من‬
‫يكون حاضًرا من الصحابة كعلي بن أبي طالب أو عثمان بن‬
‫عفان رضي الله عنهم‪ .‬وأطلق المسلمون على الصديق لقب‬
‫خليفة رسول الله‪ ،‬ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصديق‬
‫لمنصب الخلفة وتكفلت المة بنفقاته الخاصة‪.‬‬
‫عاش الصديق بين المسلمين كخليفة لرسول الله‪ ،‬فكان‬ ‫‪-24‬‬
‫ل يترك فرصة تمر إل عّلم الناس وأمر بالمعروف ونهى عن‬
‫ن الرعية بالهدى‬
‫م َ‬
‫ن حوله ِ‬
‫م ْ‬
‫المنكر‪ ،‬فكانت مواقفه تشع على َ‬
‫واليمان والخلق‪.‬‬
‫يعتبر عهد الصديق بداية العهد الراشدي الذي تتجلى‬ ‫‪-25‬‬
‫أهميته بصلته بالعهد النبوي وقربه منه‪ ،‬فكان العهد الراشدي‬
‫عامة والجانب القضائي خاصة امتداًدا للقضاء في العهد النبوي‪،‬‬
‫مع المحافظة الكاملة والتامة على جميع ما ثبت في العهد‬
‫النبوي بحذافيره وتنفيذه بنصه ومعناه‪.‬‬
‫كان أبو بكر يستعمل الولة في البلدان المختلفة ويعهد‬ ‫‪-26‬‬
‫إليهم بالولية العامة في الدارة والحكم والمامة وجباية‬
‫الصدقات وسائر أنواع الوليات‪ ،‬وكان ينظر إلى حسن اختيار‬
‫الرسول للمراء والولة على البلدان فيقتدي به في هذا العمل‪،‬‬
‫ولهذا نجده قد أقر جميع عمال الرسول الذين توفي الرسول ×‬
‫وهم على وليته‪ ،‬ولم يعزل أحدا منهم إل ليعينه في مكان آخر‬
‫أكثر أهمية من موقعه الول ويرضاه‪ ،‬كما حدث لعمرو بن‬
‫العاص‪ ،‬وكانت مسئوليات الولة في عهد أبي بكر الصديق‬
‫بالدرجة الولى‬
‫امتدادا لصلحيتهم في عصر الرسول ×‪ ،‬خصوصا الولة الذين‬

‫‪316‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سبق تعيينهم أيام الرسول ×‪.‬‬
‫وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة‬ ‫‪-27‬‬
‫الصديق رضي الله عنهما‪ ،‬وكذلك تأخير الزبير بن العوام‪ ،‬وجل‬
‫هذه الخبار ليس بصحيح إل ما رواه ابن عباس ‪-‬رضي الله‬
‫عنهما‪ -‬قال‪ :‬إن علّيا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت‬
‫فاطمة بنت رسول الله‪ ،‬فقد كان انشغال جماعة من المهاجرين‬
‫وعلى رأسهم علي بن أبي طالب بأمر جهاز رسول الله‪ ،‬من‬
‫تغسيل وتكفين‪ ،‬وقد بايع الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب‬
‫‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬أبا بكر في اليوم التالي لوفاة الرسول‪ ،‬وهو‬
‫يوم الثلثاء‪.‬‬
‫عندما سئل الصديق عن ميراث رسول الله‪ ،‬قال للسيدة‬ ‫‪-28‬‬
‫فاطمة والعباس عم النبي ×‪ :‬سمعت رسول الله يقول‪» :‬ل‬
‫نورث‪ ،‬ما تركناه صدقة‪ ،‬إنما يأكل آل محمد من هذا‬
‫المال«‪ .‬وفي رواية قال أبو بكر ‪ …» :‬لست تار ً‬
‫كا شيًئا كان‬
‫رسول الله × يعمل به إل عملت به‪ ،‬فإني أخشى إن تركت‬
‫شيًئا من أمره أن أزيغ«‪ .‬ومن الثابت تاريخيا أن أبا بكر دام أيام‬
‫خلفته يعطي أهل البيت حقهم في فيء رسول الله × في‬
‫المدينة‪ ،‬ومن أموال فدك وخمس خيبر‪ ،‬إل أنه لم ينفذ فيهما‬
‫أحكام الميراث عمل بما سمعه من‬
‫رسول الله‪.‬‬
‫بّين الصديق ‪ ‬في خطبته طبيعة خليفة رسول الله ×‪،‬‬ ‫‪-29‬‬
‫وأنه ليس خليفة عن الله بل عن رسول الله ×‪ ،‬وأنه بشر غير‬
‫معصوم ل يطيق ما كان رسول الله × يطيقه بنبوته ورسالته‪،‬‬
‫فهو في سياسته متبع وليس بمبتدع‪.‬‬
‫من الدروس والعَِبر في بعث جيش أسامة ‪ :‬أن‬ ‫‪-30‬‬
‫الحوال تتغير وتتبدل‪ ،‬والشدائد ل تشغل أهل اليمان عن أمر‬
‫الدين‪ ،‬والمسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد‪ ،‬ووجوب اتباع النبي ×‬
‫وحدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وجعل‬
‫الدعوة مقرونة بالعمل‪ ،‬ومكانة الشباب في خدمة السلم‪،‬‬
‫وروعة الداب السلمية في الجهاد وتحقيق جيش أسامة‬
‫لهدافه‪ ،‬فقد ضعفت جبهة الردة في الشمال وأصبحت من‬
‫أضعف الجبهات‪.‬‬
‫إن الردة التي قامت بها القبائل العربية بعد وفاة رسول‬ ‫‪-31‬‬
‫الله × لها أسباب‪ ،‬منها‪ :‬هول الصدمة بموت رسول الله‪ ،‬ورقة‬
‫الدين والسقم في فهم نصوصه‪ ،‬والحنين إلى الجاهلية ومقارفة‬
‫موبقاتها‪ ،‬والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية‪،‬‬
‫والعصبية القبلية‪ ،‬والطمع في الملك‪ ،‬والتكسب بالدين‪ ،‬والشح‬
‫بالمال‪ ،‬والتحاسد‪ ،‬والمؤثرات الجنبية؛ كدور اليهود والنصارى‬
‫والمجوس‪.‬‬
‫وأما أصناف الردة‪ :‬فمنهم من ترك السلم جملة‬ ‫‪-32‬‬
‫‪317‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫وتفصيل ً وعاد إلى الوثنية وعبادة الصنام‪ ،‬ومنهم من ادعى‬
‫النبوة‪ ،‬ومنهم من عاد إلى ترك الصلة‪ ،‬ومنهم من بقي يعترف‬
‫بالسلم ويقيم الصلة ولكنه امتنع عن أداء الزكاة‪ ،‬ومنهم من‬
‫شمت بموت الرسول × وعاد أدراجه يمارس عادات الجاهلية‪،‬‬
‫ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة‪ ،‬وكل ذلك‬
‫وضحه علماء الفقه والسير‪.‬‬
‫كان موقف الصديق ‪ ‬من المرتدين ل هوادة فيه ول‬ ‫‪-33‬‬
‫مساومة فيه ول تنازل‪ ،‬يرجع إليه الفضل الكبر –بعد الله تعالى‪-‬‬
‫في سلمة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته‪ ،‬وقد‬
‫أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة‬
‫الطاغية ومحاولة نقض عرى السلم عروة عروة موقف النبياء‬
‫والرسل في عصورهم‪ ،‬وهذه خلفة النبوة التي أدى أبو بكر‬
‫حقها‪ ،‬واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن‬
‫يرث الله الرض وأهلها‪.‬‬
‫إن من الحقائق الساسية حول هذه الفتنة‪ ،‬أنها لم تكن‬ ‫‪-34‬‬
‫شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي‪ ،‬بل إن هناك قادة وقبائل‬
‫وجماعات وأفراًدا تمسكوا بدينهم في كل منطقة‪.‬‬
‫في حروب الردة باليمن ظهرت صورتان مختلفتان‬ ‫‪-35‬‬
‫للنساء؛ صورة المرأة الطاهرة العفيفة التي تقف مع السلم‬
‫وتحارب الرذيلة‪ ،‬وتقف مع المسلمين لكبح جماح شياطين‬
‫النس والجن مثل »آزاد« الفارسية زوج شهر بن باذان وابنة‬
‫عم فيروز الفارسي‪ .‬وصورة أخرى كالحة مظلمة‪ ،‬وهي ما‬
‫قامت به بعض بنات اليمن من يهود ومن لف لفهن في‬
‫حا بموت رسول الله فأقمن الليالي‬ ‫حضرموت‪ ،‬فقد طرن فر ً‬
‫الحمراء مع المجان والفساق يشجعن على الرذيلة ويزرين‬
‫بالفضيلة‪ ،‬فقد رقص الشيطان فيها معهن وأتباعه طرًبا لنكوص‬
‫الناس عن السلم‪ ،‬والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله‪.‬‬
‫كان بعض أهل اليمن لهم مواقف عظيمة في الثبات‬ ‫‪-36‬‬
‫على الحق والدعوة إلى السلم‪ ،‬وتحذير قومهم من خطورة‬
‫الردة‪ ،‬ومن هؤلء كان مران بن ذي عمير الهمداني أحد ملوك‬
‫اليمن وعبد الله بن مالك الرحبي‪ ،‬وكان من أصحاب النبي ×‬
‫وشرحبيل بن السمط‪ ،‬وابنه في بني معاوية من كندة‪.‬‬
‫بعد حروب الردة تجمعت اليمن تحت قيادة مركزية‬ ‫‪-37‬‬
‫عاصمتها المدينة المنورة‪ ،‬وقسم اليمن إلى أقسام إدارية ل‬
‫وحدات قبلية‪ ،‬فقد قسم إلى ثلثة أقسام إدارية‪ :‬صنعاء والجند‬
‫سا في الزعامة أو في‬‫وحضرموت‪ ،‬ولم تعد العصبية القبلية أسا ً‬
‫التولية‪ ،‬ولم تعد القبلية سوى وحدة عسكرية ل سياسية‪،‬‬
‫وأصبحت المقاييس المعتبرة هي المقاييس اليمانية؛ التقوى‬
‫والخلص والعمل الصالح‪.‬‬
‫كان لهزيمة طليحة السدي في معركة بزاخة أثر كبير‬ ‫‪-38‬‬
‫‪318‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫في رجوع كثير من القبائل إلى حظيرة السلم‪ ،‬فقد أقبلت بنو‬
‫عامر بعد هزيمة بزاخة يقولون‪ :‬ندخل فيما خرجنا منه‪ ،‬فبايعهم‬
‫خالد على ما بايع عليه أهل بزاخة من أسد وغطفان وطيء‪.‬‬
‫إن مقتل مالك بن نويرة بسبب كبره وتردده فقد بقي‬ ‫‪-39‬‬
‫للجاهلية في نفسه نصيب‪ ،‬ولذلك ماطل في التبعية للقائم بأمر‬
‫السلم بعد رسول الله × وفي تأديه حق بيت مال المسلمين‬
‫عليه المتمثل بالزكاة‪.‬‬
‫قام الصديق بالتحقيق في مقتل ابن نويرة وانتهى إلى‬ ‫‪-40‬‬
‫براءة ساحة خالد من تهمة قتل مالك بن نويرة‪ ،‬فقد كان‬
‫عا على حقائق المور‪ ،‬وأبعد‬‫الصديق في هذا الشأن أكثر اطل ً‬
‫نظًرا في تصريفها من بقية الصحابة؛ لنه الخليفة وإليه تصل‬
‫الخبار‪.‬‬
‫إن من كمال الصديق توليته لخالد واستعانته به؛ لنه كان‬ ‫‪-41‬‬
‫دا ليعتدل به أمره ويخلط الشدة باللين‪ ،‬فإن مجرد اللين‬
‫ً‬ ‫شدي‬
‫يفسد ومجرد الشدة يفسد‪ ،‬فكان يقوم باستشارة عمر‬
‫وباستنابة خالد‪ ،‬وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله‪.‬‬
‫كان للمثنى بن حارثة دور كبير في إخماد فتنة البحرين‪،‬‬ ‫‪-42‬‬
‫والوقوف بقواته بجانب العلء ابن الحضرمي‪ ،‬وقد سار بجنوده‬
‫من البحرين شمال ً ووضع يده على القطيف وهجر حتى بلغ‬
‫مصب دجلة‪ ،‬وقضى في سيره على قوات الفرس وعمالهم‪،‬‬
‫وقد كانت أخباره تصل إلى الصديق‪ ،‬وسأل عنه أصحابه فقال له‬
‫قيس بن عاصم المنقري‪ :‬هذا رجل غير خامل الذكر ول مجهول‬
‫النسب ول ذليل العماد‪ ،‬هذا المثنى بن حارثة الشيباني‪.‬‬
‫تعتبر هزيمة بني حنيفة في اليمامة أمام جيوش خالد‬ ‫‪-43‬‬
‫قاصمة الظهر لحركة الردة‪ ،‬وكان من ضمن شهداء المسلمين‬
‫في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن‪ .‬وقد نتج عن ذلك أن‬
‫قام أبو بكر ‪ ‬بمشورة عمر بن الخطاب ‪ ‬بجمع القرآن من‬
‫الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال‪ ،‬وأسند الصديق‬
‫هذا العمل العظيم والمشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي‬
‫الجليل زيد بن ثابت النصاري ‪.‬‬
‫تحققت شروط التمكين ولوازمه كلها في عهد الصديق‬ ‫‪-44‬‬
‫والخلفاء الراشدين من بعده‪ ،‬وكان للصديق الفضل بعد الله في‬
‫تذكير المة بهذه الشروط‪ ،‬ولذلك رفض طلب العراب في‬
‫وضع الزكاة عنهم وأصر على بعث جيش أسامة‪ ،‬والتزم بالشرع‬
‫كامل ً ولم يتنازل عن صغيرة ول كبيرة‪.‬‬
‫كان إعداد الصديق في حروب الردة شامل ً معنوًيا ومادّيا؛‬ ‫‪-45‬‬
‫يش الجيوش وعقد اللوية واختار القادة لحروب الردة‪ ،‬وراسل‬ ‫فج ّ‬
‫المرتدين وحرض الصحابة على قتالهم‪ ،‬وجمع السلح والخيل‬

‫‪319‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫والبل وجهز الغزاة‪ ،‬وحارب البدع والجهل والهوى‪ ،‬وح ّ‬
‫كم‬
‫الشريعة‪ ،‬وأخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪ ،‬وأخذ بمبدأ‬
‫التفرغ‪ ،‬وساهم في إحياء مبدأ التخصص؛ فخالد لقيادة الجيوش‪،‬‬
‫وزيد بن ثابت لجمع القرآن‪ ،‬وأبو برزة السلمي للمراسلت‬
‫الحربية‪ .‬واهتم بالجانب المني والعلمي‪ ،‬وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصديق في تمكين‬ ‫‪-46‬‬
‫الله للصحابة؛ فقد حرصوا على إقامة شعائر الله على أنفسهم‬
‫وأهليهم‪ ،‬وأخلصوا الله في تحاكمهم إلى شرعه‪ ،‬فالله ‪-‬سبحانه‬
‫واهم وشد أزرهم ونصرهم على المرتدين‪ ،‬ورزقهم‬ ‫وتعالى‪ -‬ق ّ‬
‫المن والستقرار‪.‬‬
‫كان الجهاد الذي خاضه الصحابة في حروب الردة إعدادا‬ ‫‪-47‬‬
‫ربانيا للفتوحات السلمية؛ حيث تميزت الرايات وظهرت‬
‫القدرات وتفجرت الطاقات واكتشفت قيادات ميدانية‪ ،‬وتفنن‬
‫القادة في الساليب والخطط الحربية‪ ،‬وبرزت مؤهلت الجندية‬
‫الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على‬
‫ماذا تقاتل‪ ،‬وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي‬
‫وتبذل‪ ،‬ولذا كان الداء فائقا والتفاني عظيما‪.‬‬
‫توحدت شبه الجزيرة العربية بفضل الله ثم جهاد‬ ‫‪-48‬‬
‫الصحابة مع الصديق تحت راية السلم لول مرة في تاريخها‬
‫بزوال الرؤوس أو انتظامها ضمن المد السلمي‪ ،‬وبسطت‬
‫عاصمة السلم )المدينة( هيمنتها على ربوع الجزيرة‪ ،‬وأصبحت‬
‫المة تسير وراء زعيم واحد بفكرة واحدة‪ ،‬فكان النتصار‬
‫انتصاًرا للدعوة السلمية ولوحدة المة بتضامنها وتغلبها على‬
‫عوامل التفكك والعصبية‪ ،‬كما كانت برهاًنا على أن الدولة‬
‫السلمية بقيادة الصديق قادرة على التغلب على أعنف‬
‫الزمات‪.‬‬
‫أثبتت أحداث التاريخ أن أية محاولة للتمرد على دين‬ ‫‪-49‬‬
‫السلم سواء أقام بها فرد أم جماعة أم دولة إنما هي محاولة‬
‫يائسة‪ ،‬مآلها الخفاق الذريع والخيبة الشنيعة؛ لن التمرد إنما هو‬
‫تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفل بحفظه وحفظ‬
‫جماعة تلتف حوله وتقيمه في نفوسها وواقعها مدى الدهر‪،‬‬
‫وبحكمه القاضي بالعاقبة للمتقين وبالمن على المستضعفين أن‬
‫يديل لهم من الظالمين‪.‬‬
‫ما إن انتهت حروب الردة واستقرت المور في الجزيرة‬ ‫‪-50‬‬
‫العربية التي كانت ميداًنا لها‪ ،‬حتى شرع الصديق في تنفيذ خطة‬
‫الفتوحات التي وضع معالمها رسول الله ×‪ ،‬فجيش الجيوش‬
‫لفتح العراق والشام‪.‬‬
‫إن الوامر التي وجهها الصديق إلى قادة فتوح العراق‬ ‫‪-51‬‬
‫»خالد وعياض« تشير إلى الحس الستراتيجي المتقدم الذي‬
‫كان يملكه الصديق ‪ ،‬فقد أعطى جملة تعليمات عسكرية‬

‫‪320‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫استراتيجية منها وتكتيكية؛ فحدد لكل من القائدين المسلمين‬
‫جغرافيا منطقة للدخول إلى العراق‪ ،‬كأنما هو يمارس القيادة‬
‫من غرفة العمليات بالحجاز‪ ،‬وقد بسطت أمامه خارطة العراق‬
‫بكل تضاريسها ومسالكها‪.‬‬
‫خاض خالد في العراق عدة معارك كانت السبب في‬ ‫‪-52‬‬
‫فتح العراق؛ كمعركة ذات السلسل‪ ،‬ومعركة المذار والولجة‬
‫وأليس وفتح الحيرة والنبار وعين التمر ودومة الجندل ووقعة‬
‫الحصيد ووقعة المصيخ ووقعة الفراض‪.‬‬
‫عزم الصديق على فتح الشام فاستشار كبار الصحابة ثم‬ ‫‪-53‬‬
‫استنفر أهل اليمن للجهاد‪ ،‬وعقد اللوية للقادة وأرسل أربعة‬
‫جيوش لبلد الشام‪ ،‬وكان قادة الجيوش كل من‪ :‬يزيد بن أبي‬
‫سفيان‪ ،‬وأبي عبيدة بن الجراح‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬وشرحبيل‬
‫بن حسنة‪.‬‬
‫كانت الجيوش المكلفة بفتح الشام تلقي صعوبة في‬ ‫‪-54‬‬
‫تنفيذ المهمات الموكلة إليها‪ ،‬فقد كانت تواجه جيوش‬
‫المبراطورية الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها‪ ،‬فراسلوا‬
‫الصديق وأعلموه بوضعهم الحرج‪ ،‬فأمر الصديق الجيوش‬
‫دا بالسير‬
‫بالنسحاب إلى اليرموك والتجمع هناك‪ ،‬وأمر خال ً‬
‫بنصف جيش العراق نحو جبهات الشام وأمره بقيادة الجيوش‬
‫هناك‪.‬‬
‫استطاع خالد بن الوليد أن يحقق انتصارات عظيمة على‬ ‫‪-55‬‬
‫جيوش الشام من أهمها‪ :‬معركة أجنادين واليرموك‪.‬‬
‫يمكن للباحث أن يستنبط أهم معالم السياسة الخارجية‬ ‫‪-56‬‬
‫في دولة الصديق‪ ،‬وهي‪ :‬بذر هيبة الدولة في نفوس المم‬
‫الخرى‪ ،‬مواصلة الجهاد الذي أمر به الرسول ×‪ ،‬والعدل بين‬
‫المم المفتوحة والرفق بأهلها‪ ،‬ورفع الكراه عن المم المفتوحة‬
‫وإزالة الحاجز البشري بينهم وبين السلم‪.‬‬
‫إن المطالع للفتوحات في عهد الصديق ‪ ‬يمكن له أن‬ ‫‪-57‬‬
‫طا رئيسة للخطة الحربية التي سار عليها‪ ،‬وكيف‬‫يستنتج خطو ً‬
‫تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنة الخذ بالسباب؟ وكيف كانت‬
‫هذه الخطة المحكمة عامل من عوامل نزول النصر والتمكين‬
‫من الله ‪-‬عز وجل‪ -‬للمسلمين‪ ،‬ومن هذه الخطوط ما يلي‪ :‬عدم‬
‫اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين‪ ،‬التعبئة وحشد‬
‫القوات‪ ،‬تنظيم عملية العداد للجيوش‪ ،‬تحديد الهدف من‬
‫الحرب‪ ،‬وإعطاء الفضلية لمسارح العمليات‪ ،‬عزل ميدان‬
‫المعركة‪ ،‬التطور في أساليب القتال‪ ،‬سلمة خطوط التصال مع‬
‫القادة‪ ،‬ذكاء الخليفة وفطنته‪.‬‬
‫بّين الصديق في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله‬ ‫‪-58‬‬
‫تعالى؛ كمصابرة العدو‪ ،‬وإخلص قتالهم لله‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬وعدم‬

‫‪321‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫الممالة والمحاباة في نصر دين الله‪ .‬ووضع حقوق القادة على‬
‫الجنود والرعية؛ كالتزام طاعته‪ ،‬والمسارعة إلى امتثال أمره‪،‬‬
‫وعدم مسارعته في شيء من قسمة الغنائم‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫صل الصديق ‪ ‬من خلل وصاياه ورسائله في‬ ‫الحقوق‪ .‬وف ّ‬
‫حقوق الجند؛ كاستعراضهم‪ ،‬وتفقد أحوالهم‪ ،‬والرفق بهم في‬
‫السير‪ ،‬وأن يقيم عليهم العرفاء والنقباء‪ ،‬واختيار مواضع نزولهم‬
‫لمحاربة العدو‪ ،‬وإعداد ما يحتاج إليه الجند من زاد وعلوفة‪،‬‬
‫والتعرف على أخبار العدو بالجواسيس الثقاة لسلمة الجند‪،‬‬
‫وتحريضهم على الجهاد‪ ،‬وتذكيرهم بثواب الله وفضل الشهادة‪،‬‬
‫ومشاورة ذوي الرأي منهم‪ ،‬وأن يلزمهم بما أوجبه الله من‬
‫حقوق‪ ،‬وأن ينهاهم عن الشتغال عن الجهاد بزراعة أو تجارة‪،‬‬
‫وكل هذه الحقوق قد استخرجت من رسائله ووصاياه للقادة‪.‬‬
‫إن المتأمل في حركة الفتح السلمي يرى توفيق الله‬ ‫‪-59‬‬
‫تعالى لجيوش الخليفة أبي بكر ‪‬؛ فقد استطاعت تلك الجيوش‬
‫المظفرة أن تكسر شوكة الرومان والفرس وفتح تلك الديار في‬
‫وقت قياسي في تاريخ الحروب‪ ،‬ومن أهم أسباب تلك الفتوح‪:‬‬
‫إيمان المسلمين بالحق الذي يقاتلون من أجله‪ ،‬تأصل الصفات‬
‫الحربية في المسلمين‪ ،‬سماحة المسلمين وعدالتهم مع تلك‬
‫الشعوب‪ ،‬رحمة المسلمين في تقدير الجزية والخراج ووفاؤهم‬
‫بعهودهم‪ ،‬ثروة المسلمين الواسعة من الرجال والقادة العظام‪،‬‬
‫إحكام الخطة السلمية الحربية‪ ،‬وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫عندما نزل المرض بالصديق وأشرف على الموت قام‬ ‫‪-60‬‬
‫بعدة إجراءات عملية لتتم عملية اختيار الخليفة القادم‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫استشار كبار الصحابة من المهاجرين والنصار‪ ،‬وبعد أن تم‬
‫ترشيح الصديق لعمر ووافق معظم الصحابة على ذلك‪ ،‬كتب‬
‫دا مكتوًبا يقرأ على الناس في المدينة وفي المصار‪ ،‬وأخبر‬ ‫عه ً‬
‫عمر بن الخطاب بخطواته القادمة وعرفه ما عزم عليه وألزمه‬
‫كا حتى ل يحصل أي لبس‪،‬‬ ‫بذلك‪ ،‬وأبلغ الناس بلسانه واعًيا مدر ً‬
‫وتوجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه‪ ،‬وكلف عثمان‬
‫بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر‬
‫قبل موته‪ ،‬وقام بتوجيه الفاروق عندما اختلى به‪.‬‬
‫إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار‬ ‫‪-61‬‬
‫خليفته من بعده ل تتجاوز الشورى بأي حال من الحوال‪ ،‬وإن‬
‫كانت الجراءات المتبعة فيها غير الجراءات المتبعة في تولية‬
‫أبي بكر نفسه‪ ،‬وهكذا تم عقد الخلفة لعمر بالشورى والتفاق‪،‬‬
‫ولم يرد في التاريخ أي خلف وقع حول خلفته بعد ذلك‪ ،‬ول أن‬
‫دا نهض طوال عهده لينازعه المر‪ ،‬بل كان هناك إجماع على‬ ‫أح ً‬
‫خلفته وعلى طاعته في أثناء حكمه‪ ،‬فكان الجميع وحدة واحدة‪.‬‬
‫خرج أبو بكر الصديق من هذه الدنيا بعد جهاد عظيم في‬ ‫‪-62‬‬
‫سبيل نشر دين الله في الفاق‪ ،‬وستظل الحضارة النسانية‬
‫مدينة لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول × بعد‬
‫وفاته‪ ،‬وحمى غرسه عليه الصلة والسلم‪ ،‬وقام برعاية بذور‬

‫‪322‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العدل والحرية وسقاها أزكى دماء الشهداء‪ ،‬فآتت من كل‬
‫ما في العلوم‬
‫ما عظي ً‬ ‫الثمرات عطاء جزي ً‬
‫ل‪ ،‬حقق عبر التاريخ تقد ً‬
‫والثقافة والفكر‪ ،‬وستظل الحضارة مدينة للصديق؛ لنه بجهاده‬
‫الرائع وبصبره العظيم حمى الله به دين السلم في ثباته في‬
‫الردة‪ ،‬ونشر الله به السلم في المم والدول والشعوب بحركة‬
‫الفتوحات العظيمة‪.‬‬
‫إن هذا المجهود المتواضع قابل للنقد والتوجيه‪ ،‬وما هي‬ ‫‪-63‬‬
‫إل محاولة متواضعة هدفها معرفة حقيقة عصر الخلفة‬
‫الراشدة‪ ،‬لكي نستفيد منها في حركتنا المستمرة لتحكيم شرع‬
‫الله ونشر دعوته في دنيا الناس‪ ،‬وبيني وبين الناقد قول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫ن ل عيب فيه وعل‬ ‫م ْ‬ ‫ج ّ‬
‫ل َ‬ ‫َ‬ ‫إن تجد عيًبا فسد الخلل‬
‫وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا‬
‫الجهد قبول ً حسًنا‪ ،‬وأن يبارك فيه‪ ،‬وأن يجعله من أعمالي الصالحة‬
‫التي أتقرب بها إليه‪ ،‬وأن ل يحرمني ول إخواني الذين أعانوني على‬
‫إكماله من الجر والمثوبة ورفقة النبيين والصديقين والشهداء‬
‫فْر ل ََنا‬ ‫والصالحين‪ .‬وأختم هذا الكتاب بقول الله تعالى‪َ+ :‬رب َّنا ا ْ‬
‫غ ِ‬
‫غل ّ‬‫قُلوب َِنا ِ‬‫في ُ‬ ‫ل ِ‬‫ع ْ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬
‫ج َ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ِ‬‫لي َ‬
‫قوَنا ِبا ِ‬‫سب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وان َِنا ال ّ ِ‬
‫خ َ‬
‫ول ِ ْ‬ ‫َ‬
‫م" ]الحشر‪ ،[10 :‬وبقول الشاعر‬ ‫ٌ‬ ‫حي‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ف‬
‫ٌ‬ ‫ؤو‬‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ر‬‫َ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ذي َ َ‬
‫آ‬ ‫ن‬ ‫ل ّل ّ ِ‬
‫ابن الوردي لبنه‪:‬‬
‫ل‬‫أبعد الخير على أهل الكس ْ‬ ‫اطلب العلم ول تكسل فما‬

‫خو َ ْ‬
‫ل‬ ‫تُ ْ‬
‫شغل عنه بمال وَ َ‬ ‫احتفل للفقه في الدين ول‬

‫قر ما‬
‫ح ّ‬
‫يعرف المطلوب ي ُ َ‬ ‫صْله فمن‬
‫واهجر النوم وح ّ‬
‫بذ ْ‬
‫ل‬
‫كل من سار على الدرب‬ ‫ل تقل قد ذهبت أربابه‬
‫وص ْ‬
‫ل‬
‫»سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ل إله إل أنت‪،‬‬
‫أستغفرك وأتوب إليك«‪.‬‬
‫»وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين«‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫‪‬‬ ‫أبو بكر الصديق‬

‫المصادر والمراجع‬
‫أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ‪ ،‬د‪ :‬إبراهيم علي شعوط‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫المكتب السلمي‪.‬‬
‫أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين‪ :‬محمد رشيد رضا‪ ،‬دار‬ ‫‪-2‬‬
‫الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‪ 1403 :‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫أبو بكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلفة‪ ،‬محمد بن عبد‬ ‫‪-3‬‬
‫الرحمن بن محمد بن قاسم‪ ،‬دار القاسم‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1417 :‬هـ ‪-‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫أبو بكر الصديق‪ ،‬د‪ :‬نزار الحديثي‪ ،‬د‪ .‬خالد جاسم الجنابي‪ ،‬دار‬ ‫‪-4‬‬
‫الشئون الثقافية العامة ‪ -‬العراق‪ ،‬الطبعة الولى ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫أبو بكر الصديق‪ ،‬علي طنطاوي‪ ،‬دار المنارة‪ ،‬جدة ‪ -‬السعودية‪:‬‬ ‫‪-5‬‬
‫‪ 1406‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫أبو بكر الصديق‪ ،‬محمد مال الله‪ ،‬مكتبة ابن تيمية‪ 1410 :‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-6‬‬
‫‪1989‬م‪.‬‬
‫أبو بكر رجل الدولة‪ ،‬مجدي حمدي‪ ،‬دار طيبة ‪ -‬الرياض‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪-7‬‬
‫الولى‪ 1415 :‬هـ‪.‬‬
‫الحكام السلطانية لبي الحسن الماوردي‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪-‬‬ ‫‪-8‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ‪ ،‬استخلف أبي بكر‬ ‫‪-9‬‬
‫الصديق‪،‬د‪ .‬جمال عبد الهادي محمد مسعود‪ ،‬دكتورة وفاء محمد رفعت‬
‫جمعة‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬المنصورة ‪ -‬مصر‪.‬‬
‫الساس في السنة‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬دار السلم بمصر‪ 1409 ،‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-10‬‬
‫‪1989‬م‪.‬‬
‫أسد الغابة في معرفة الصحابة‪ ،‬لبي الحسن علي بن محمد‬ ‫‪-11‬‬
‫الجزري‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1417 :‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫أشهر مشاهير السلم في الحرب والسياسة‪ ،‬رفيق العظم‪ ،‬دار‬ ‫‪-12‬‬
‫الرائد العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫أصحاب الرسول‪ ،‬محمود المصري‪ ،‬مكتبة أبي حذيفة السلفي‬ ‫‪-13‬‬
‫‪ 1420‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬محمد المين بن محمد‬ ‫‪-14‬‬
‫المختار الجنكي الشنقيطي‪ ،‬مطبعة المدني‪ 1386 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -15‬أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع‪ ،‬مطبعة الهيئة العامة لشئون‬
‫المطابع الميرية‪ 1393 ،‬هـ ‪1973 -‬م‪.‬‬
‫النصار في العصر الراشدي »سياسيا وعسكريا وفكريا«‬ ‫‪-16‬‬
‫للدكتور حامد محمد خليفة‪ ،‬رسالة دكتوراه من كلية الداب في جامعة‬
‫بغداد‪ ،‬لم تطبع‪ ،‬من صورة مصورة‪.‬‬
‫البانة عن أصول الديانة‪ ،‬لبي الحسن الشعري‪ ،‬ط‪.‬الجامعة‬ ‫‪-17‬‬
‫السلمية ‪1975‬م‪.‬‬
‫الحسان في صحيح ابن حبان‪ ،‬علء الدين علي بن بلبان‬ ‫‪-18‬‬
‫الفارسي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى ‪ 1412‬هـ ‪-‬‬
‫‪1991‬م‪.‬‬
‫الدارة العسكرية في الدولة السلمية‪ ..‬نشأتها وتطورها‪،‬‬ ‫‪-19‬‬
‫الدكتور سليمان بن صالح بن سليمان آل كمال‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،‬معهد‬

‫‪324‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫البحوث وإحياء التراث‪.‬‬
‫الصابة في تمييز الصحابة‪ ،‬أحمد بن علي بن حجر‪ ،‬دار الكتب‬ ‫‪-20‬‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫المامة العظمى عند أهل السنة والجماعة‪ ،‬عبد الله بن عمر بن‬ ‫‪-21‬‬
‫سلمان الدميجي‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1409 :‬هـ‪.‬‬
‫اليمان وأثره في الحياة‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬ ‫‪-22‬‬
‫بيروت ‪ 1405‬هـ‪.‬‬
‫البعاد السياسية لمفهوم المن في السلم‪ ،‬مصطفى محمود‬ ‫‪-23‬‬
‫منجود المعهد العالمي للفكر السلمي‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1417 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء‪ ،‬محمد الخضري‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬ ‫‪-24‬‬
‫بيروت‪ 1417 ،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫أحكام المرتد في الشريعة السلمية‪ ،‬نعمان عبد الرزاق‬ ‫‪-25‬‬
‫السامرائي‪ ،‬دار العربية‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫الستيعاب في معرفة الصحاب‪ ،‬لبي عمر ابن عبد البر‪ ،‬دار‬ ‫‪-26‬‬
‫الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫العتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة‪ ،‬لبي بكر‬ ‫‪-27‬‬
‫أحمد بن الحسيني البيهقي‪ ،‬الناشر حديث أكاديمي نشاط آباد‪ ،‬فيصل‬
‫آباد‪ ،‬باكستان‪.‬‬
‫الكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلثة الخلفاء‪ ،‬لبي‬ ‫‪-28‬‬
‫الربيع سليمان الكلعي الندلسي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪ 1417‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫البداية والنهاية‪ ،‬أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي‪ ،‬دار‬ ‫‪-29‬‬
‫الريان‪ ،‬القاهرة‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫تاريخ المم والملوك‪ ،‬لبي جعفر الطبري‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-30‬‬
‫‪ 1407‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫تاريخ النصار السياسي‪ ،‬د‪ .‬عبد المنعم الدسوقي‪ ،‬دار الخلفاء‪،‬‬ ‫‪-31‬‬
‫مصر‪.‬‬
‫تاريخ السلم للذهبي‪ ،‬عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫‪-32‬‬
‫العربي‪ 1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫التاريخ السلمي‪ ،‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬محمود شاكر‪ ،‬المكتب‬ ‫‪-33‬‬
‫السلمي‪ 1411 ،‬هـ‪.‬‬
‫التاريخ السلمي مواقف وعبر‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز عبد الله الحميدي‪،‬‬ ‫‪-34‬‬
‫دار الدعوة‪ ،‬السكندرية‪ ،‬دار الندلس الخضراء‪ ،‬جدة‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪ 1418‬هـ ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫تاريخ الخلفة الراشدة‪ ،‬محمد بن أحمد كنعان‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-35‬‬
‫المعارف‪ ،‬بيروت – لبنان‪.‬‬
‫عني بتحقيقه‬ ‫تاريخ الخلفاء‪ ،‬للمام جلل الدين السيوطي‪ُ ،‬‬ ‫‪-36‬‬
‫إبراهيم صالح‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى ‪ 1417‬هـ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫تاريخ الدعوة إلى السلم في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪ .‬يسري‬ ‫‪-37‬‬
‫محمد هاني‪ ،‬الطبعة الولى‪1418 :‬هـ‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،‬معهد البحوث‬
‫العلمية وإحياء التراث‪.‬‬
‫تاريخ الدعوة السلمية في زمن الرسول × والخلفاء الراشدين‪،‬‬ ‫‪-38‬‬
‫‪325‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫د‪ .‬جميل عبد الله المصري‪ ،‬مكتبة الدار بالمدينة المنورة‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪ 1407 ،‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫التاريخ السياسي والعسكري‪ ،‬د‪ .‬علي معطي‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-39‬‬
‫المعارف‪ ،‬بيروت‪1998 ،‬م‪.‬‬
‫تاريخ القضاء في السلم‪ ،‬د‪ .‬محمد الزحيلي‪ ،‬دار الفكر‬ ‫‪-40‬‬
‫المعاصر‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1415 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1995‬م‪.‬‬
‫تاريخ اليعقوبي‪ ،‬دار بيروت للطباعة والنشر‪ ،‬طبعة ‪ 1400‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-41‬‬
‫‪1980‬م‪.‬‬
‫تاريخ بغداد أو مدينة السلم‪ ،‬لبي بكر أحمد بن علي الخطيب‬ ‫‪-42‬‬
‫البغدادي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫تاريخ صدر السلم وفجره‪ ،‬د‪ .‬شحادة علي الناطور‪1995 ،‬م‪.‬‬ ‫‪-43‬‬
‫تاريخ فتوح الشام‪ ،‬لبي زكريا يزيد بن محمد الزدي‪ ،‬تحقيق عبد‬ ‫‪-44‬‬
‫المنعم عبد الله عامر‪ ،‬مؤسسة القاهرة‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫التبيين في أنساب القرشيين‪ ،‬لبي محمد عبد الله بن أحمد بن‬ ‫‪-45‬‬
‫محمد بن قدامة المقدسي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫التحالف السياسي في السلم‪ ،‬منير الغضبان‪ ،‬دار السلم‪،‬‬ ‫‪-46‬‬
‫‪1408‬هـ ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫تحفة الحوذي بشرح الترمذي‪ ،‬عبد الرحمن بن عبد الرحيم‬ ‫‪-47‬‬
‫المباركفوري‪ ،‬دار التحاد العربي للطباعة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1385 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1965‬م‪.‬‬
‫تراث الخلفاء الراشدين في الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬صبحي‬ ‫‪-48‬‬
‫محمصاني‪ ،‬دار العلم للمليين‪ ،‬الطبعة الولى‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫التربية القيادية‪ ،‬للغضبان‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬المنصورة‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬ ‫‪-49‬‬
‫‪ 1418‬هـ ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫ترتيب وتهذيب البداية والنهاية‪ :‬خلفة أبي بكر الصديق‪ ،‬د‪ .‬محمد‬ ‫‪-50‬‬
‫بن صامل السلمي‪ ،‬دار الوطن‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1418 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫تفسير ابن كثير‪ ،‬دار الفكر للطباعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬ ‫‪-51‬‬
‫‪1389‬هـ ‪1970 -‬م‪.‬‬
‫تفسير اللوسي المسمى روح المعاني في تفسير القرآن‬ ‫‪-52‬‬
‫العظيم والسبع المثاني لللوسي »محمود اللوسي البغدادي«‪ ،‬إدارة‬
‫الطبعة المصطفائية‪ ،‬بالهند‪.‬‬
‫تفسير الرازي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.‬‬ ‫‪-53‬‬
‫تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل‪ ،‬محمد جمال الدين‬ ‫‪-54‬‬
‫القاسمي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1398 ،‬هـ ‪1978 -‬م‪.‬‬
‫تفسير القرطبي‪ ،‬لبي عبد الله محمد بن أحمد النصاري‬ ‫‪-55‬‬
‫القرطبي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪1965 ،‬م‪.‬‬
‫التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج‪ ،‬د‪ .‬وهبة‬ ‫‪-56‬‬
‫الزحيلي‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1411‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫التفوق والنجابة على نهج الصحابة‪ ،‬حمد بن بليه بن مرهان‬ ‫‪-57‬‬
‫العجمي‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬محمد السيد‬ ‫‪-58‬‬


‫محمد يوسف‪ ،‬دار السلم‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1418 ،‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫تهذيب تاريخ دمشق الكبير لبن عساكر‪ ،‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-59‬‬
‫العربي‪ ،‬بيروت‪ 1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫الثابتون على السلم أيام فتنة الردة في عهد الخليفة أبي بكر‬ ‫‪-60‬‬
‫الصديق‪ ،‬د‪ .‬مهدي رزق الله أحمد‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1417 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫جامع الصول في أحاديث الرسول‪ ،‬أبو السعادات المبارك بن‬ ‫‪-61‬‬
‫محمد الجزري‪ ،‬تحقيق عبد القادر الرناؤط‪ ،‬طبع مكتبة الحلواني‪ ،‬سوريا‬
‫عام ‪ 1392‬هـ‪.‬‬
‫‪ -62‬الجامع لخلق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارف بالريا ض‪ 1403 ،‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫الجهاد والقتال في السياسة الشرعية‪ ،‬محمد خير هيكل‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪-63‬‬
‫الولى‪ 1414 ،‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫الحجاز والدولة السلمية‪ ،‬د‪ .‬إبراهيم بيضون‪ ،‬دار النهضة‬ ‫‪-64‬‬
‫العربية‪ ،‬طبعة ‪1995‬م‪.‬‬
‫الحرب النفسية من منظور إسلمي‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬دار‬ ‫‪-65‬‬
‫الفرقان‪ ،‬عمان‪ ،‬طبعة ‪ 1407‬هـ‪.‬‬
‫حركة الردة‪ ،‬د‪ .‬علي العتوم‪ ،‬مكتبة الرسالة الحديثة‪ ،‬عمان‬ ‫‪-66‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫الحركة السنوسية في ليبيا‪ ،‬على محمد الصلبي‪ ،‬دار البيارق‪،‬‬ ‫‪-67‬‬
‫عمان ‪1999‬م‪.‬‬
‫حركة الفتح السلمي‪ ،‬شكري فيصل‪ ،‬دار العلم للمليين‪،‬‬ ‫‪-68‬‬
‫‪1982‬م‪.‬‬
‫حروب السلم في الشام‪ ،‬محمد أحمد باشميل‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪-69‬‬
‫‪1400‬هـ ‪1980 -‬م‪.‬‬
‫حروب الردة من قيادة النبي إلى إمرة أبي بكر‪ ،‬شوقي أبو‬ ‫‪-70‬‬
‫خليل‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫حروب الردة وبناء الدولة السلمية‪ ،‬أحمد سعيد بن سالم‪ ،‬دار‬ ‫‪-71‬‬
‫المنار‪ 1415 ،‬هـ‪.‬‬
‫حروب الردة‪ ،‬محمد أحمد باشميل‪ ،‬دار الفكر‪1399 ،‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-72‬‬
‫‪1979‬م‪.‬‬
‫الحكم بغير ما أنزل الله‪ ..‬أحواله وأحكامه‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن بن‬ ‫‪-73‬‬
‫صالح المحمود‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪1420 ،‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫‪ -74‬حلية الولياء وطبقات الصفياء‪ ،‬لبي نعيم أحمد بن عبد الله‬
‫الصفهاني‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫حياة أبي بكر‪ ،‬محمود شلبي‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬ ‫‪-75‬‬
‫عام ‪1979‬م‪.‬‬
‫خاتم النبيين‪ ،‬لبي زهرة‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-76‬‬
‫‪1972‬م‪.‬‬
‫خالد بن الوليد‪ ،‬صادق إبراهيم عرجون‪ ،‬الدار السعودية‪،‬‬ ‫‪-77‬‬
‫‪1407‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫الخراج‪ ،‬لبي يوسف‪ ،‬منشورات مكتبة الرياض الحديثة‪ ،‬بدون‬ ‫‪-78‬‬


‫تاريخ طبع‪.‬‬
‫خطب أبي بكر الصديق‪ ،‬د‪ .‬محمد أحمد عاشور‪ ،‬جمال عبد‬ ‫‪-79‬‬
‫المنعم الكومي‪ ،‬دار العتصام‪.‬‬
‫الخلفة الراشدة والدولة الموية من فتح الباري‪ ،‬د‪ .‬يحيى‬ ‫‪-80‬‬
‫إبراهيم اليحيى‪ ،‬دار الهجرة السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‪1417 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬
‫الخلفة والخلفاء الراشدون بين الشورى والديمقراطية‪ ،‬سالم‬ ‫‪-81‬‬
‫بهنساوي‪ ،‬مكتبة المنار السلمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1418 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬
‫الخلفاء الراشدون بين الستخلف والستشهاد‪ ،‬صلح عبد الفتاح‬ ‫‪-82‬‬
‫الخالدي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الدار الشامية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1416‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫الخلفاء الراشدون‪ ،‬عبد الوهاب النجار‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‬ ‫‪-83‬‬
‫‪1406‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫خلفاء الرسول‪ ،‬خالد محمد خالد‪ ،‬دار ثابت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪-84‬‬
‫دمشق‪.‬‬
‫الدر المنثور في التفسير بالمأثور‪ ،‬المام السيوطي‪ ،‬الناشر‬ ‫‪-85‬‬
‫محمد أمين دمج‪ ،‬بيروت – لبنان‪.‬‬
‫دراسات في الحضارة السلمية‪ ،‬أحمد إبراهيم الشريف‪ ،‬دار‬ ‫‪-86‬‬
‫الفكر العربي‪.‬‬
‫دراسات في السيرة النبوية‪ ،‬عماد الدين خليل‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-87‬‬
‫‪1409‬هـ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫دراسات في عهد النبوة والخلفة الراشدة‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن‬ ‫‪-88‬‬
‫الشجاع‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬الطبعة الولى‪1419 ،‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫دلئل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة‪ ،‬لبي بكر محمد‬ ‫‪-89‬‬
‫البيهقي‪ ،‬تحقيق عبد المعطي قلعجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪ 1405‬هـ‪.‬‬
‫دواعي الفتوحات السلمية ودواعي المستشرقين‪ ،‬د‪ .‬جميل عبد‬ ‫‪-90‬‬
‫الله المصري‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الدار الشامية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1411‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫دور الحجاز في الحياة السياسية العامة في القرنين الول‬ ‫‪-91‬‬
‫والثاني للهجرة‪ ،‬د‪ .‬أحمد إبراهيم الشريف‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1977 ،‬م‪.‬‬
‫الدور السياسي للصفوة في صدر السلم‪ ،‬السيد عمر‪ ،‬المعهد‬ ‫‪-92‬‬
‫العالمي للفكر السلمي‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1417 ،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫الدولة العربية السلمية الولى‪ ،‬عصام محمد سابور‪ ،‬دار النهضة‬ ‫‪-93‬‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫الدولة العربية السلمية‪ ،‬منصور الحرابي‪ ،‬منشورات جمعية‬ ‫‪-94‬‬
‫الدعوة السلمية الليبية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1396 ،‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫ديوان الردة‪ ،‬د‪ .‬علي العتوم‪ ،‬مكتبة الرسالة الحديثة‪ ،‬عمان‪،‬‬ ‫‪-95‬‬
‫‪1408‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫ديوان حسان بن ثابت‪ ،‬تحقيق وليد عرفات‪.‬‬ ‫‪-96‬‬

‫‪328‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫الرياض النضرة في مناقب العشرة‪ ،‬لبي جعفر أحمد الشهير‬ ‫‪-97‬‬


‫بالمحب الطبري‪ ،‬المتوفي ‪ 694‬هـ‪ ،‬المكتبة القيمة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫سلسلة الحاديث الصحيحة‪ ،‬لمحمد ناصر الدين اللباني‪،‬‬ ‫‪-98‬‬
‫منشورات المكتب السلمي‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ ،‬سليمان السجستاني‪ ،‬تحقيق وتعليق عزت‬ ‫‪-99‬‬
‫الدعاس ‪ 1391‬هـ‪ ،‬سوريا‪.‬‬
‫سنن الترمذي‪ ،‬أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪-100‬‬
‫‪ 1398‬هـ‪.‬‬
‫السياسة الشرعية بين الراعي والرعية‪ ،‬لشيخ السلم ابن‬ ‫‪-101‬‬
‫تيمية‪.‬‬
‫سير أعلم النبلء‪ ،‬محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-102‬‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫السيرة الحلبية في سير المين المأمون‪ ،‬علي بن برهان الدين‬ ‫‪-103‬‬
‫الحلبي‪ ،‬دار المعرفة‪.‬‬
‫السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث‪ ،‬د‪ .‬علي محمد‬ ‫‪-104‬‬
‫الصلبي‪ ،‬دار التوزيع والنشر السلمية‪ ،‬الطبعة الولى‪1422 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪2001‬م‪.‬‬
‫السيرة النبوية في ضوء المصادر الصلية‪ ،‬د‪ .‬مهدي رزق الله‬ ‫‪-105‬‬
‫أحمد‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪ ،‬مركز الملك فيصل للبحوث السلمية‪،‬‬
‫الرياض‪.‬‬
‫السيرة النبوية لبي شهبة‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬ ‫‪-106‬‬
‫‪1417‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫السيرة النبوية لبن هشام‪ ،‬دار إحياء التراث‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬ ‫‪-107‬‬
‫‪1417‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪ ،‬المكتب‬ ‫‪-108‬‬
‫السلمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة التاسعة‪1406 ،‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫السيرة النبوية لبن كثير‪ ،‬للمام أبي الفداء إسماعيل‪ ،‬تحقيق‬ ‫‪-109‬‬
‫مصطفى عبد الواحد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪1398 ،‬هـ‪.‬‬
‫سيرة وحياة الصديق‪ ،‬مجدي فتحي السيد‪ ،‬دار الصحابة للتراث‪،‬‬ ‫‪-110‬‬
‫بطنطا‪.‬‬
‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬عز الدين التميمي‪ ،‬دار‬ ‫‪-111‬‬
‫البشير‪.‬‬
‫الشيخان‪ ..‬أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب برواية البلذري‬ ‫‪-112‬‬
‫في أنساب الشراف‪ ،‬تحقيق د‪ .‬إحسان صدقي العمد‪ ،‬المؤتمن للنشر‪،‬‬
‫السعودية‪.‬‬
‫صحيح البخاري لبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬دار‬ ‫‪-113‬‬
‫الفكر‪.‬‬
‫صحيح الجامع الصغير وزيادته‪ ،‬محمد ناصر الدين اللباني‪،‬‬ ‫‪-114‬‬
‫المكتب السلمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1408 ،‬هـ ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫صحيح السيرة النبوية‪ ،‬إبراهيم صالح العلي‪ ،‬دار النفائس‪1408 ،‬‬ ‫‪-115‬‬
‫هـ ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫الصحيح المسند من فضائل الصحابة‪ ،‬لبي عبد الله مصطفى‬ ‫‪-116‬‬
‫‪329‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫العدوي‪ ،‬دار ابن عفان‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‪1416 ،‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫صحيح سنن ابن ماجة‪ ،‬لمحمد ناصر الدين اللباني‪ ،‬منشورات‬ ‫‪-117‬‬
‫المكتب السلمي‪.‬‬
‫صحيح سنن أبي داود‪ ،‬لمحمد ناصر الدين اللباني‪ ،‬منشورات‬ ‫‪-118‬‬
‫المكتب السلمي‪.‬‬
‫صحيح مسلم بشرح النووي‪ ،‬المطبعة المصرية بالزهر ‪1347‬هـ‬ ‫‪-119‬‬
‫‪1929 -‬م‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-120‬‬
‫العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية‪1972 ،‬م‪.‬‬
‫الصديق أول الخلفاء‪ ،‬عبد الرحمن الشرقاوي‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫‪-121‬‬
‫العربي‪1410 ،‬هـ ‪1990 -‬م‪.‬‬
‫الصديق أبو بكر‪ ،‬محمد حسين هيكل‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫‪-122‬‬
‫صفة الصفوة‪ ،‬للمام أبي الفرج ابن الجوزي‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬ ‫‪-123‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫صفحات من تاريخ ليبيا السلمي‪ ،‬علي محمد الصلبي‪ ،‬دار‬ ‫‪-124‬‬
‫البيارق‪ ،‬عمان‪ 1418 ،‬هـ ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫صور من جهاد الصحابة‪ ..‬عمليات جهادية خاصة تنفذها‬ ‫‪-125‬‬
‫مجموعات خاصة من الصحابة‪ ،‬د‪ .‬صلح عبد الفتاح الخالدي‪ ،‬دار القلم‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‪1421 ،‬هـ ‪2000 -‬م‪.‬‬
‫الطبقات الكبرى‪ ،‬لبن سعد‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-126‬‬
‫عبقرية الصديق‪ ،‬عباس محمود العقاد‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-127‬‬
‫عتيق العتقاء المام أبو بكر الصديق‪ ،‬محمود علي البغدادي‪ ،‬دار‬ ‫‪-128‬‬
‫الندوة الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪1414 ،‬هـ ‪1994 -‬م‪.‬‬
‫العشرة المبشرون بالجنة‪ ،‬د‪ .‬سيد الجميلي‪ ،‬دار الريان للتراث‪،‬‬ ‫‪-129‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫عصر الخلفة الراشدة‪ ،‬د‪ .‬أكرم ضياء العمري‪ ،‬مكتبة العلوم‬ ‫‪-130‬‬
‫والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪.‬‬
‫عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬دكتورة فتحية عبد الفتاح النبراوي‪،‬‬ ‫‪-131‬‬
‫الدار السعودية‪.‬‬
‫عصر الصحابة‪ ،‬عبد المنعم الهاشمي‪ ،‬دار ابن كثير‪1421 ،‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-132‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام‪ ،‬د‪ .‬ناصر بن‬ ‫‪-133‬‬
‫علي عائض حسن الشيخ‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪ 1413‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫العقيدة في أهل البيت بين الفراط والتفريط‪ ،‬د‪ .‬سليمان بن‬ ‫‪-134‬‬
‫سالم بن رجاء السحيمي‪ ،‬مكتبة المام البخاري‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1420‬هـ ‪2000 -‬م‪.‬‬
‫‪ -135‬العمليات التعرضية والدفاعية عند المسلمين‪ ،‬الرائد نهاد عباس‬
‫شهاب الجبوري‪ ،‬دار الحرية‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫العواصم من القواصم‪ ،‬تحقيق محب الدين الخطيب‪ ،‬إعداد‬ ‫‪-136‬‬
‫محمد سعيد مبيض‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدوحة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫عيون الخبار‪ ،‬لبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة‪ ،‬دار‬ ‫‪-137‬‬
‫الكتب العلمية‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫فتح الباري‪ ،‬المطبعة السلفية‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1401 ،‬هـ‪.‬‬ ‫‪-138‬‬


‫فتوح البلدان‪ ،‬لبي العباس أحمد بن يحيى البلذري‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-139‬‬
‫المعارف‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪ 1407‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫فتوح الشام‪ ،‬محمد بن عمر الواقدي‪ ،‬دار ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪-140‬‬
‫فرائد الكلم للخلفاء الكرام‪ ،‬قاسم عاشور‪ ،‬دار طويق‪،‬‬ ‫‪-141‬‬
‫السعودية‪.‬‬
‫الفصل في الملل والهواء والنحل‪ ،‬لبي محمد بن حزم‬ ‫‪-142‬‬
‫الظاهري‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫فضائل الصحابة لبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل‪ ،‬دار ابن‬ ‫‪-143‬‬
‫الجوزي‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الثانية‪1420 ،‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫فقه التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬د‪ .‬علي محمد الصلبي‪ ،‬دار‬ ‫‪-144‬‬
‫الوفاء‪ ،‬المنصورة‪ ،‬الطبعة الولى‪1421 ،‬هـ ‪2001 -‬م‪.‬‬
‫فقه الشورى والستشارة‪ ،‬د‪ .‬توفيق الشاوي‪ ،‬دار الوفاء‬ ‫‪-145‬‬
‫بالمنصورة‪1412 ،‬هـ ‪1992 -‬م‪.‬‬
‫الفن العسكري السلمي‪ ،‬د‪ .‬ياسين سويد‪ ،‬شركة المطبوعات‬ ‫‪-146‬‬
‫للتوزيع والنشر‪ ,‬لبنان‪.‬‬
‫في التاريخ السلمي‪ ،‬د‪ .‬شوقي أبو خليل‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪،‬‬ ‫‪-147‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫في ظلل القرآن‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة التاسعة‪،‬‬ ‫‪-148‬‬
‫‪1400‬هـ ‪1980 -‬م‪.‬‬
‫قراءة سياسية للسيرة النبوية‪ ،‬محمد قلعجي‪ ،‬دار النفائس‪،‬‬ ‫‪-149‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى‪1416 ،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫قصة بعث جيش أسامة‪ ،‬د‪ .‬فضل إلهي‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-150‬‬
‫‪ 1420‬هـ ‪2000 -‬م‪.‬‬
‫القيادة العسكرية في عهد الرسول‪ ،‬د‪ .‬عبد الله محمد الرشيد‪،‬‬ ‫‪-151‬‬
‫دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1410 ،‬هـ ‪1990 -‬م‪.‬‬
‫الكامل في التاريخ‪ ،‬أبو الحسن علي بن أبي المكارم الشيباني‬ ‫‪-152‬‬
‫المعروف بابن الثير‪ ،‬تحقيق علي شيري‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬
‫بيروت‪1408 ،‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫كيف نكتب التاريخ السلمي؟‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬دار الوطن‪،‬‬ ‫‪-153‬‬
‫السعودية‪.‬‬
‫لطائف المعارف‪ ،‬لبن رجب الحنبلي‪.‬‬ ‫‪-154‬‬
‫مآثر النافة في معالم الخلفة‪ ،‬للقلقشندي‪ ،‬تحقيق عبد الستار‬ ‫‪-155‬‬
‫أحمد الفرج‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬نور الدين علي بن أبي بكر‬ ‫‪-156‬‬
‫الهيثمي‪ ،‬دار الريان‪ ،‬القاهرة ‪ -‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫مجموعة الفتاوى‪ ،‬تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني‪ ،‬دار‬ ‫‪-157‬‬
‫الوفاء‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬الطبعة الولى‪ 1418 ،‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلفة الراشدة‪،‬‬ ‫‪-158‬‬
‫محمد حميد الله‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬الطبعة الخامسة‪ 1405 ،‬هـ ‪1985 -‬م‪.‬‬
‫محمد رسول الله‪ ،‬محمد صادق عرجون‪ ،‬دار القلم‪1415 ،‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-159‬‬
‫‪1995‬م‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫محنة المسلمين في العهد المكي‪ ،‬د‪ .‬سليمان السويكت‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪-160‬‬


‫التوبة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫المرتضى‪ ..‬سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي‬ ‫‪-161‬‬
‫طالب‪ ،‬لبي الحسن الندوي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1419‬هـ ‪1998 -‬م‪.‬‬
‫مرض النبي ووفاته وأثره على المة‪ ،‬خالد أبو صالح‪ ،‬دار‬ ‫‪-162‬‬
‫الوطن‪ 1414 ،‬هـ‪.‬‬
‫مروج الذهب ومعادن الجواهر‪ ،‬لبي الحسن علي بن الحسين‬ ‫‪-163‬‬
‫بن علي المسعودي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ 1403 ،‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري‪ ،‬عصر الخلفة الراشدة‪،‬‬ ‫‪-164‬‬
‫د‪ .‬يحيى إبراهيم اليحيى‪ ،‬دار العاصمة بالرياض‪ ،‬الطبعة الولى‪1410 ،‬‬
‫هـ‪.‬‬
‫المستدرك على الصحيحين‪ ،‬لبي عبد الله محمد بن عبد الله‬ ‫‪-165‬‬
‫النيسابوري‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى‪1411 ،‬هـ‬
‫‪1990 -‬م‪.‬‬
‫المستفاد من قصص القرآن‪ ،‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-166‬‬
‫الرسالة‪ 1418 ،‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫المسلمون والروم في عصر النبوة‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن أحمد سالم‪،‬‬ ‫‪-167‬‬
‫دار الفكر العربي‪.‬‬
‫معارك خالد بن الوليد ضد الفرس‪ ،‬عبد الجبار محمود‬ ‫‪-168‬‬
‫السامرائي‪ ،‬الدار العربية للموسوعات‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫معارك خالد بن الوليد‪ ،‬د‪ .‬ياسين سويد‪ ،‬المؤسسة العربية‬ ‫‪-169‬‬
‫للدراسة والنشر‪.‬‬
‫معجم البلدان‪ ،‬ياقوت الحموي‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت ‪1397‬هـ ‪-‬‬ ‫‪-170‬‬
‫‪1977‬م‪.‬‬
‫المعجم الكبير‪ ،‬لبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني‪260 ،‬‬ ‫‪-171‬‬
‫هـ ‪ 360 -‬هـ‪ ،‬دار مكتبة العلوم والحكم‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1406‬هـ ‪-‬‬
‫‪1985‬م‪.‬‬
‫المغازي للواقدي‪ ،‬محمد بن عمر بن واقد‪ ،‬تحقيق مارسدن‬ ‫‪-172‬‬
‫جوسن‪ ،‬عالم الكتب‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1404 ،‬هـ ‪1984 -‬م‪.‬‬
‫مقدمة ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪-173‬‬
‫مقومات النصر في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬د‪ .‬أحمد أبو الشباب‪،‬‬ ‫‪-174‬‬
‫المكتبة العصرية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪1420 ،‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬
‫ملمح الشورى في الدعوة السلمية‪ ،‬عدنان علي رضا النحوي‪،‬‬ ‫‪-175‬‬
‫‪1404‬هـ ‪1984 -‬م‪.‬‬
‫‪-176‬من دولة عمر إلى دولة عبد الملك‪ ،‬إبراهيم بيضون‪ ،‬دار النهضة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪1411 ،‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫من معين السيرة‪ ،‬صالح أحمد الشامي‪ ،‬المكتب السلمي‪،‬‬ ‫‪-177‬‬
‫‪1413‬هـ ‪1992 -‬م‪.‬‬
‫منهاج السنة لبن تيمية‪ ،‬تحقيق محمد رشاد سالم‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-178‬‬
‫قرطبة‪.‬‬
‫منهج كتابة التاريخ السلمي‪ ،‬محمد صامل العلياني‪ ،‬دار طيبة‪،‬‬ ‫‪-179‬‬
‫‪ 1406‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫مواقف الصديق مع النبي في مكة‪ ،‬د‪ .‬عاطف لماضة‪ ،‬دار‬ ‫‪-180‬‬


‫الصحابة للتراث بطنطا‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الولى‪1413 ،‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫مواقف الصديق مع النبي في المدينة‪ ،‬د‪ .‬عاطف لماضة‪ ،‬دار‬ ‫‪-181‬‬
‫الصحابة للتراث‪.‬‬
‫موسوعة التاريخ السلمي‪ ،‬د‪ .‬أحمد شلبي‪ ،‬مكتبة النهضة‬ ‫‪-182‬‬
‫المصرية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫موسوعة فقه أبي بكر الصديق‪ ،‬د‪ .‬محمد رواس قلعجي‪ ،‬دار‬ ‫‪-183‬‬
‫النفائس‪ ،‬الطبعة الثانية‪1415 ،‬هـ ‪1994 -‬م‪.‬‬
‫موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلق الرسول الكريم‪،‬‬ ‫‪-184‬‬
‫مجموعة من العلماء‪ ،‬بإشراف صالح عبد الله بن حميد‪ ،‬إمام وخطيب‬
‫الحرم المكي‪ ،‬دار الوسيلة‪ ،‬جدة‪.‬‬
‫نسب قريش‪ ،‬أبو عبد الله مصعب بن عبد الله بن المصعب‬ ‫‪-185‬‬
‫الزبيري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫نظام الحكم في السلم‪ ،‬عارف أبو عيد‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬الردن‪،‬‬ ‫‪-186‬‬
‫‪ 1416‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫نظام الحكم في الشريعة والتاريخ السلمي‪ ،‬ظافر القاسمي‪،‬‬ ‫‪-187‬‬
‫دار النفائس‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ 1407 ،‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬حمد محمد العمد‪،‬‬ ‫‪-188‬‬
‫المؤسسة الجماعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪1414 ،‬هـ ‪1994 -‬م‪.‬‬
‫نظام الحكومة النبوية المسمى )التراتيب الدارية(‪ ،‬محمد عبد‬ ‫‪-189‬‬
‫الحي الكتاني الدريسي الحسني الفاسي‪ ،‬شركة الرقم بن أبي‬
‫الرقم‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫نقد علمي لكتاب السلم وأصول الحكم‪ ،‬محمد الطاهر بن‬ ‫‪-190‬‬
‫عاشور‪.‬‬
‫النهاية في غريب الحديث‪ ،‬لبن الثير‪ ،‬تحقيق طاهر أحمد‬ ‫‪-191‬‬
‫الزاوي‪ ،‬ومحمود محمد الطناحي‪.‬‬
‫نونية القحطاني لبي محمد عبد الله بن محمد الندلسي‬ ‫‪-192‬‬
‫القحطاني‪ ،‬دار السوادي السعودية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1410 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1989‬م‪.‬‬
‫الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬د‪ :‬عبد الرحمن البر‪ ،‬دار الكلمة‪،‬‬ ‫‪-193‬‬
‫المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬أحزمي سامعون جزولي‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪-194‬‬
‫الرشد‪ ،‬الرياض‪1417 ،‬هـ‪.‬‬
‫الوحي وتبليغ الرسالة‪ ،‬د‪ .‬يحيى اليحيى‪ ،‬أخذت من المؤلف‬ ‫‪-195‬‬
‫صورة قبل الطبع‪.‬‬
‫وقائع ندوة النظم السلمية‪ ،‬أبو ظبي‪ 1405 ،‬هـ ‪1984 -‬م‪.‬‬ ‫‪-196‬‬
‫ولية الشرطة في السلم‪ ،‬العميد الدكتور نمر بن محمد‬ ‫‪-197‬‬
‫الحميداني‪ ،‬دار عالم الكتب‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الثانية‪1414 ،‬هـ ‪-‬‬
‫‪1994‬م‪.‬‬
‫الولية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز‬ ‫‪-198‬‬
‫إبراهيم العمري‪.‬‬
‫اليمن في صدر السلم‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن الشجاع‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪-199‬‬
‫‪333‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫دمشق‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬

‫فهرس المحتويات‬
‫الص‬ ‫الموضوع‬
‫فحة‬
‫الهداء ‪3...................................................................‬‬
‫مقدمة‪5....................................................................‬‬
‫الفصل الول‬
‫أبو بكر الصديق ‪ ‬في مكة‬
‫المبحث الول‪ :‬اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته وحياته في‬
‫الجاهلية‪15..................................................................‬‬
‫ل‪ :‬اسمه ونسبه وكنيته وألقابه‪15....................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ْ‬
‫خلقّية‪17..........................................‬‬ ‫ْ‬
‫ثانًيا‪ :‬مولده وصفته ال ِ‬
‫ثالًثا‪ :‬أسرته ‪18............................................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬الرصيد الخلقي للصديق في المجتمع الجاهلي‪22...........‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬إسلمه ودعوته وابتلؤه وهجرته الولى ‪26....‬‬
‫ل‪ :‬إسلمه‪26.............................................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬دعوته‪30..............................................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬ابتلؤه‪31.............................................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬دفاعه عن النبي ×‪34.............................................‬‬
‫سا‪ :‬إنفاقه الموال لتحرير المعذبين في الله ‪36...............‬‬ ‫خام ً‬
‫سا‪ :‬هجرته الولى وموقف ابن الدغنة منها‪39..................‬‬ ‫ساد ً‬
‫سابًعا‪ :‬بين قبائل العرب في السواق‪42..............................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬هجرته مع رسول الله × إلى المدينة‪46.......‬‬
‫تمهيد ‪46....................................................................‬‬
‫ه …"‪51........‬‬ ‫صَرهُ الل ُ‬ ‫ف َ‬
‫قد ْ ن َ َ‬ ‫ل‪ :‬قال تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َتن ُ‬
‫صُروهُ َ‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬فقه النبي × والصديق في التخطيط والخذ بالسباب‪53...‬‬
‫ثالًثا‪ :‬جندية الصديق الرفيعة وبكاؤه من الفرح‪57...................‬‬
‫رابًعا‪ :‬فن قيادة الرواح وفن التعامل مع النفوس ‪59..............‬‬
‫سا‪ :‬مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة‪60... .‬‬ ‫خام ً‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الصديق في ميادين الجهاد‪62......................‬‬
‫تمهيد ‪62....................................................................‬‬
‫ل‪ :‬أبو بكر ‪ ‬في بدر الكبرى‪62.....................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬في أحد وحمراء السد‪66.........................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬في غزوة بني النضير وبني المصطلق وفي الخندق وبني‬
‫قريظة‪67....................................................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬في الحديبية ‪69....................................................‬‬
‫سا‪ :‬في غزوة خيبر‪ ،‬وسرية نجد وبني فزارة‪71................‬‬ ‫خام ً‬

‫‪335‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫سا‪ :‬في عمرة القضاة وفي ذات السلسل‪72..................‬‬ ‫ساد ً‬
‫سابًعا‪ :‬في فتح مكة وحنين والطائف‪74...............................‬‬
‫ثامًنا‪ :‬في غزوة تبوك وإمارة الحج وفي حجة الوداع‪80............‬‬
‫المبحث الخام س‪ :‬الصديق في المجتمع المدني وبعض صفاته وشيء‬
‫من فضائله‪83...............................................................‬‬
‫تمهيد ‪83....................................................................‬‬
‫ل‪ :‬من مواقفه في المجتمع المدني‪83..............................‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬موقفه من فنحاص الحبر اليهودي‪83..............................‬‬
‫‪ -2‬حفظ سر النبي × ‪84................................................‬‬
‫‪ -3‬الصديق وآية صلة الجمعة‪84..................................... .‬‬
‫‪ -4‬رسول الله × ينفي الخيلء عن أبي بكر‪84.................... .‬‬
‫‪ -5‬الصديق وتحريه للحلل‪85......................................... .‬‬
‫‪ -6‬أدخلني في سلمكما‪ ،‬كما أدخلتماني في حربكما ‪85..........‬‬
‫‪ -7‬أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ‪85.............................‬‬
‫‪ -8‬إكرامه للضيوف ‪86...................................................‬‬
‫‪ -9‬ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ‪87.............................‬‬
‫‪ -10‬انتصار النبي × للصديق ‪88................................... ‬‬
‫‪ -11‬قل‪ :‬غفر الله لك يا أبا بكر‪89.....................................‬‬
‫‪ -12‬مسابقة في الخيرات ‪90...........................................‬‬
‫‪ -13‬كظمه للغيظ‪91......................................................‬‬
‫‪ -14‬بلى والله‪ ،‬إني أحب أن يغفر لي ‪92............................‬‬
‫‪ -15‬خروجه للتجارة من المدينة إلى الشام ‪92.....................‬‬
‫‪ -16‬غيرة الصديق ‪ ‬وتزكية النبي × لزوجه ‪93...................‬‬
‫‪ -17‬خوفه من الله تعالى ‪93............................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬من أهم صفات الصديق ‪ ‬وشيء من فضائله ‪94...........‬‬
‫‪ -1‬عظمة إيمانه بالله تعالى ‪94........................................‬‬
‫‪ -2‬علمه ‪96............................................................ ‬‬
‫‪ -3‬دعاؤه وشدة تضرعه ‪98.............................................‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة وجيش أسامة‬
‫المبحث الول‪ :‬وفاة الرسول × وسقيفة بني ساعدة‪101........‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬وفاة الرسول ×‪101.................................................‬‬
‫مرض رسول الله وبدء الشكوى‪101....................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها‪105..........................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سقيفة بني ساعدة ‪107.............................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد في هذه الحادثة‪108............‬‬
‫‪ -1‬الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على القناع ‪108..........‬‬
‫‪336‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -2‬زهد عمر وأبي بكر في الخلفة وحرص الجميع على وحدة المة‬
‫‪109............................................................................‬‬
‫‪ -3‬سعد بن عبادة ‪ ‬وموقفه من خلفة الصديق ‪111..............‬‬
‫‪ -4‬ما يروى من خلف بين عمر والحباب بن المنذر ‪113............‬‬
‫‪ -5‬حديث الئمة من قريش وموقف النصار منه ‪114...............‬‬
‫‪ -6‬الحاديث التي أشارت إلى خلفة أبي بكر ‪116............... ‬‬
‫‪ -7‬انعقاد الجماع على خلفة الصديق ‪120........................ ‬‬
‫‪ -8‬منصب الخلفة والخليفة ‪121.........................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬البيعة العامة وإدارة الشئون الداخلية‪126........‬‬
‫ل‪ :‬البيعة العامة‪126......................................................‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬مفهوم البيعة ‪127.......................................................‬‬
‫‪ -2‬مصدر التشريع في دولة الصديق ‪129..............................‬‬
‫‪ -3‬حق المة في مراقبة الحاكم ومحاسبته ‪130......................‬‬
‫‪ -4‬إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس ‪131......................‬‬
‫‪ -5‬الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم ‪135..............‬‬
‫‪ -6‬إعلن التمسك بالجهاد وإعداد المة لذلك ‪136....................‬‬
‫‪ -7‬إعلن الحرب على الفواحش ‪136...................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬إدارة الشئون الداخلية‪138..........................................‬‬
‫‪ -1‬الصديق في المجتمع‪140..............................................‬‬
‫‪ -2‬القضاة في عهد الصديق‪147.........................................‬‬
‫‪ -3‬الولية على البلدان‪150................................................‬‬
‫‪ -4‬موقف علي والزبير ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬من خلفة الصديق ‪155‬‬
‫‪» -5‬إنا معشر النبياء ل نورث‪ ،‬ما تركنا صدقة«‪157.................‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫جيش أسامة وجهاد الصديق لهل الرد‬
‫المبحث الول‪ :‬جيش أسامة‪161........................................‬‬
‫ل‪ :‬إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما‪161.....‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬ما تم بين الصديق والصحابة في أمر إنفاد الجيش‪165.......‬‬
‫ثالًثا‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد من إنفاذ الصديق جيش أسامة‬
‫‪167‬‬
‫‪ -1‬الحوال تتغير وتتبدل والشدائد ل تشغل أهل اليمان عن أمر‬
‫الدين‪167.....................................................................‬‬
‫‪ -2‬المسيرة الدعوية ل ترتبط بأحد ووجوب اتباع النبي × ‪169....‬‬
‫‪ -3‬حدوث الخلف بين المؤمنين ورده إلى الكتاب والسنة ‪172....‬‬
‫‪ -4‬جعل الدعوة مقرونة بالعمل ومكانة الشباب في خدمة السلم‬
‫‪173............................................................................‬‬
‫‪ -5‬صورة مشرقة من آداب الجهاد في السلم‪174..................‬‬

‫‪337‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -6‬أثر جيش أسامة على هيبة الدولة السلمية ‪175.................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬جهاد الصديق لهل الردة‪177.......................‬‬
‫ل‪ :‬الردة اصطلحا وبعض اليات التي حذرت من الردة‪177......‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬أسباب الردة وأصنافها‪178.........................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الردة أواخر عصر النبوة‪180.......................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬موقف الصديق من المرتدين‪181................................‬‬
‫سا‪ :‬خطة الصديق لحماية المدينة‪184..............................‬‬ ‫خام ً‬
‫سا‪ :‬فشل أهل الردة في غزوة المدينة‪185.......................‬‬ ‫ساد ً‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الهجوم الشامل على المرتدين‪190...............‬‬
‫تمهيد‪190.....................................................................‬‬
‫ل‪ :‬المواجهة الرسمية من الدولة‪191.................................‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬وسيلة الحباط من الداخل ‪191......................................‬‬
‫‪ -2‬إرسال الجيوش المنظمة ‪192........................................‬‬
‫‪ -3‬نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة‬
‫‪195‬‬
‫ثانًيا‪ :‬القضاء على فتنة السود العنسي وطليحة السدي ومقتل مالك‬
‫بن نويرة‪201.................................................................‬‬
‫‪ -1‬القضاء على السود العنسي وردة اليمن الثانية‪201.............‬‬
‫أ‪ -‬السود العنسي في عهد الرسول ×‪201............................‬‬
‫ب‪ -‬أبو بكر يعين فيروز الديلمي والًيا على صنعاء‪204...............‬‬
‫ج‪ -‬الصديق يتابع سياسة الحباط من الداخل ‪206....................‬‬
‫د‪ -‬جيش عكرمة ‪207.......................................................‬‬
‫هـ‪ -‬جيش المهاجر بن أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت وكندة‬
‫‪208‬‬
‫و‪ -‬دروس وعبر وفوائد ‪210...............................................‬‬
‫* المرأة بين الهدم والبناء ‪210...........................................‬‬
‫* من خطباء اليمان‪213...................................................‬‬
‫* كرامات الولياء‪214......................................................‬‬
‫* العفو عند الصديق ‪215..................................................‬‬
‫* وصية الصديق لعكرمة ومحاسبته لمعاذ ‪216........................‬‬
‫* توحيد اليمن ووضوح السلم عند أهله وطاعتهم للخليفة ‪216...‬‬
‫‪ -2‬القضاء على فتنة طليحة السدي ‪217..............................‬‬
‫أ‪ -‬معركة بزاخة والقضاء على بني أسد ‪220...........................‬‬
‫ب‪ -‬وفد بني أسد وغطفان إلى الصديق وحكمه عليهم ‪220........‬‬
‫ج‪ -‬قصة أم زمل ‪221......................................................‬‬
‫د‪ -‬دروس وعبر وفوائد ‪221...............................................‬‬
‫* ثقة الصديق بالله وخبرته الحربية‪221................................‬‬
‫* نصح عدي بن حاتم لقومه والحرب النفسية التي شنها عليهم‬

‫‪338‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪222‬‬
‫أسباب هزيمة طليحة بن خويلد السدي‪224...........................‬‬
‫* من نتائج معركة بزاخة‪225.............................................‬‬
‫هـ‪ -‬قصة الفجاءة ‪227......................................................‬‬
‫و‪ -‬ما قاله حسان فيمن قال‪ :‬ل نطيع أبا الفصيل )يعنون أبا بكر(‬
‫‪227‬‬
‫‪ -3‬سجاح وبنو تميم ومقتل مالك بن نويرة اليربوعي‪227...........‬‬
‫دروس وعبر وفوائد‪229....................................................‬‬
‫أ‪ -‬من ثبت على السلم من بني تميم‪229.............................‬‬
‫ب‪ -‬خالد ومقتل مالك بن نويرة‪230.....................................‬‬
‫ج‪ -‬زواج خالد بأم تميم‪231................................................‬‬
‫د‪ -‬دعم الصديق للقيادة الميدانية ‪233..................................‬‬
‫‪ -4‬ردة أهل عمان والبحرين‪234.........................................‬‬
‫أ‪ -‬ردة أهل عمان ‪234......................................................‬‬
‫ب‪ -‬ردة أهل البحرين‪235..................................................‬‬
‫* كرامة للعلء بن الحضرمي ‪237.......................................‬‬
‫* هزيمة المرتدين‪238.....................................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مسيلمة الكذاب وبنو حنيفة ‪241...................‬‬
‫ل‪ :‬التعريف به ومقدمة عنه ‪241.......................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬الثابتون على السلم من بني حنيفة ‪244........................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬تحرك خالد بن الوليد بجيشه إلى مسيلمة الكذاب باليمامة‬
‫‪246‬‬
‫أ‪ -‬مجاعة بن مرارة الحنفي يقع في أسر المسلمين ‪248...........‬‬
‫ب‪ -‬شن الحرب النفسية قبل المعركة‪249.............................‬‬
‫رابًعا‪ :‬المعركة الفاصلة ‪250..............................................‬‬
‫سا‪ :‬بطولت نادرة ‪251...............................................‬‬ ‫خام ً‬
‫‪ -1‬قال البراء بن مالك ‪251...............................................‬‬
‫‪ -2‬مصرع مسيلمة الكذاب ‪251..........................................‬‬
‫‪ -3‬أبو عقيل‪ :‬عبد الرحمن بن عبد الله البلوي النصاري الوسي‬
‫‪252‬‬
‫‪ -4‬نسيبة بنت كعب المازنية النصارية ‪253............................‬‬
‫سا‪ :‬من شهداء معركة اليمامة ‪253................................‬‬ ‫ساد ً‬
‫‪ -1‬ثابت بن قيس بن شماس الذي أجاز الصديق وصيته بعد موته‬
‫‪253‬‬
‫‪ -2‬زيد بن الخطاب ‪253............................................... ‬‬
‫‪ -3‬معن بن عدي البلوي ‪254.............................................‬‬
‫‪ -4‬عبد الله بن سهل بن عمرو ‪254.....................................‬‬

‫‪339‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -5‬أبو دجانة سماك بن خرشة ‪255.....................................‬‬
‫‪ -6‬عباد بن بشر ‪255.......................................................‬‬
‫‪ -7‬الطفيل بن عمرو الدوسي الزدي ‪256.............................‬‬
‫سابًعا‪ :‬خدعة مجاعة وزواج خالد من ابنته ورسائل بينه وبين الصديق‬
‫‪257............................................................................‬‬
‫أ – خدعة مجاعة ‪257......................................................‬‬
‫ب‪ -‬زواجه بابنة مجاعة والرسائل بينه وبين الصديق ‪258...........‬‬
‫ثامًنا‪ :‬محاولة قتل خالد بن الوليد وقدوم وفد بني حنيفة للصديق‬
‫‪261‬‬
‫‪ -1‬محاولة قتل خالد بن الوليد ‪261.....................................‬‬
‫‪ -2‬قدوم وفد بني حنيفة على الصديق ‪262............................‬‬
‫تاسًعا‪ :‬جمع القرآن الكريم ‪262..........................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد من حروب الردة‬
‫‪266............................................................................‬‬
‫ل‪ :‬تحقيق شروط التمكين وأسبابه‪ ،‬وآثار شرع الله وصفات‬ ‫أو ً‬
‫المجاهدين‪266............................................................‬‬
‫‪ -1‬تحقيق شروط التمكين‪266...........................................‬‬
‫‪ -2‬الخذ بأسباب التمكين‪266.............................................‬‬
‫‪ -3‬آثار تحكيم الشرع ‪267.................................................‬‬
‫‪ -4‬صفات جيل التمكين‪267...............................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬وصف المجتمع في عصر الصديق ‪270...........................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬سياسة الصديق في محاربة التدخل الجنبي ‪273..............‬‬
‫رابًعا‪ :‬من نتائج أحداث الردة‪275.........................................‬‬
‫‪ -1‬تمييز السلم عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك ‪275......‬‬
‫‪ -2‬ضرورة وجود قاعدة صلبة للمجتمع ‪278...........................‬‬
‫‪ -3‬تجهيز الجزيرة كقاعدة للفتوح السلمية ‪278.....................‬‬
‫‪ -4‬العداد القيادي لحركة الفتوح السلمية ‪278......................‬‬
‫‪ -5‬الفقه الواقعي للردة ‪279.............................................‬‬
‫‪ -6‬ول يحيق المكر السيئ إل بأهله ‪279................................‬‬
‫‪ -7‬استقرار التنظيم الداري في الجزيرة ‪280........................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫فتوحات الصديق واستخلفه لعمر ‪-‬رضي الله عنهما‪ -‬ووفاته‬
‫تمهيد‪281.....................................................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬فتوحات العراق‪283....................................‬‬
‫ل‪ :‬خطة الصديق لفتح العراق ‪283....................................‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬تاريخ بعث خالد بن الوليد إلى العراق ‪285........................‬‬
‫‪ -2‬الحس الستراتيجي عند الصديق ‪285..............................‬‬

‫‪340‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫‪ -3‬تحديد الحيرة كموقع استراتيجي ‪285...............................‬‬
‫‪ -4‬نكران الذات عند المثنى بن حارثة ‪286............................‬‬
‫‪ -5‬احتياط الصديق لمر الجهاد في سبيل الله ‪286..................‬‬
‫‪ -6‬الرفق بالناس والتوصية بفلحي العراق ‪287......................‬‬
‫‪ -7‬ل يهزم جيش فيهم مثل هذا ‪287....................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬معارك خالد بن الوليد بالعراق ‪288...............................‬‬
‫‪ -1‬معركة ذات السلسل ‪288............................................‬‬
‫‪ -2‬معركة المذار »الثنى« ‪290...........................................‬‬
‫‪ -3‬معركة الولجة ‪290......................................................‬‬
‫‪ -4‬معركة ُأليس وفتح أمغيشيا ‪292.....................................‬‬
‫‪ -5‬فتح الحيرة ‪294.........................................................‬‬
‫* الحيرة قاعدة الجيوش السلمية‪296.................................‬‬
‫* الرسائل التي أرسلها خالد إلى خاصة الفرس وعامتهم ‪297... .‬‬
‫* كرامة لخالد بن الوليد في فتح الحيرة ‪298.........................‬‬
‫‪ -6‬فتح النبار »ذات العيون« ‪299.......................................‬‬
‫‪ -7‬عين التمر ‪300..........................................................‬‬
‫‪ -8‬دومة الجندل ‪301.......................................................‬‬
‫‪ -9‬وقعة الحصيد ‪302......................................................‬‬
‫‪ -10‬وقعة المصيخ ‪303....................................................‬‬
‫‪ -11‬وقعة الفراض ‪304....................................................‬‬
‫حجة خالد وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام وتسلم‬ ‫ثالًثا‪:‬‬
‫المثنى لقيادة جيوش العراق‬
‫‪...................................................................................‬‬
‫‪305‬‬
‫‪ -1‬حجة خالد سنة »‪ 12‬هـ« وأمر الصديق له بالخروج إلى الشام‬
‫‪305‬‬
‫‪ -2‬خبر المثنى بن حارثة بالعراق بعد ذهاب خالد ‪310...............‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬فتوحات الصديق بالشام ‪313.......................‬‬
‫تمهيد‪313.....................................................................‬‬
‫ل‪ :‬عزم أبي بكر على غزو الروم ومبشرات في الطريق ‪314...‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬مشورة أبي بكر في جهاد الروم واستنفار أهل اليمن ‪316...‬‬
‫‪ -1‬مشورة أبي بكر في جهاد الروم‪316................................‬‬
‫‪ -2‬استنفار أهل اليمن‪318................................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬عقد الصديق اللوية للقادة وتوجيه الجيوش ‪320..............‬‬
‫‪ -1‬جيش يزيد بن أبي سفيان ‪320.......................................‬‬
‫‪ -2‬جيش شرحبيل بن حسنة ‪325........................................‬‬
‫‪ -3‬جيش أبي عبيدة بن الجراح ‪325.....................................‬‬
‫‪ -4‬جيش عمرو بن العاص ‪326...........................................‬‬

‫‪341‬‬
‫شخصيته وعصره‬ ‫أبو بكر الصديق ‪‬‬
‫رابًعا‪ :‬تأزم الموقف في بلد الشام ‪327................................‬‬
‫خروج هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى الشام ‪330................‬‬
‫خروج سعيد بن عامر إلى الشام ‪331...................................‬‬
‫سا‪ :‬توجيه خالد إلى الشام ومعركة أجنادين واليرموك ‪333...‬‬ ‫خام ً‬
‫‪ -1‬معركة أجنادين ‪336....................................................‬‬
‫‪ -2‬اليرموك ‪338............................................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أهم الدروس والعبر والفوائد‪348..................‬‬
‫ل‪ :‬من معالم السياسة الخارجية في دولة الصديق ‪348..........‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬بذر هيبة الدولة في نفوس المم الخرى ‪348.....................‬‬
‫‪ -2‬مواصلة الجهاد الذي أمر به النبي × ‪348..........................‬‬
‫‪ -3‬العدل بين المم المفتوحة والرفق بأهلها ‪349....................‬‬
‫‪ -4‬رفع الكراه عن المم المفتوحة ‪350................................‬‬
‫ثانًيا‪ :‬من معالم التخطيط الحربي عند الصديق ‪350.................‬‬
‫‪ -1‬عدم اليغال في بلد العدو حتى تدين للمسلمين ‪350...........‬‬
‫‪ -2‬التعبئة وحشد القوات ‪351............................................‬‬
‫‪ -3‬تنظيم عملية المداد للجيوش ‪352..................................‬‬
‫‪ -4‬تحديد الهدف من الحرب‪352.........................................‬‬
‫‪ -5‬إعطاء الفضلية لمسارح العمليات ‪352............................‬‬
‫‪ -6‬عزل ميدان المعركة ‪352.............................................‬‬
‫‪ -7‬التطور في أساليب القتال ‪353......................................‬‬
‫‪ -8‬سلمة خطوط التصال مع القادة ‪353..............................‬‬
‫‪ -9‬ذكاء الخليفة وفطنته ‪353.............................................‬‬
‫ثالًثا‪ :‬حقوق الله والقادة والجنود من خلل وصايا الصديق ‪354....‬‬
‫‪ -1‬حقوق الله ‪354..........................................................‬‬
‫‪ -2‬حقوق القائد ‪355.......................................................‬‬
‫‪ -3‬حقوق الجند ‪357........................................................‬‬
‫رابًعا‪ :‬السر في اكتساح المسلمين لقوات الفرس والروم‪364... .‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬استخلف الصديق لعمر بن الخطاب ووفاته ‪466‬‬
‫ل‪ :‬استخلفه لعمر ‪466..................................................‬‬ ‫أو ً‬
‫ثانًيا‪ :‬وحان وقت الرحيل ‪370.............................................‬‬
‫الخلصة‪375..................................................................‬‬
‫المصادر والمراجع‪388.....................................................‬‬
‫فهرس المحتويات‪397.....................................................‬‬
‫***‬

‫‪342‬‬

You might also like