Professional Documents
Culture Documents
-[1]1مصايرنا :جمع مصير ،وبعض الناس ينطقونها :مصائرنا .وهو غلط شائع لدى
الكثيرين .فالمادة أصلها يائي ،فر تهمز في الجمع ،كما قال تعالى} :وجعلنا لكم فيها
ها إلى ما يريد فلسفتها النظريون ،ومنفذوها
عا أو كر ً
وتقودنا طو ً
التطبيقيون ،والقادة السياسيون؟
الفصل الول
دين(
مفهوم كلمة )ال ّ
ولكن شيخنا وجد :أن المعاني الكثيرة تعود في نهاية المر إلى ثلثخة
معان تكاد تكون متلزمة ،بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني
ده في الحقيقة إلى أن الكلمة التي ُيراد شرحها ليست كلمة الثلثة مر ّ
واحدة ،بل ثلث كلمات ،أو بعبارة أدق :أنها تتضمن ثلثة أفعال بالتناوب.
دين هنا هو .2وإذا قلنا) :دان له( أردنا أنه أطاعه ،وخضع له .فال ّ
دين لله( يصح أن منها كل الخضوع والطاعة ،والعبادة والورع .وكلمة) :ال ّ
حكم لله ،أو الخضوع لله.المعنيين :ال ُ
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملزم للول ومطاوع له) .دانه فدان له(
أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع.
.3وإذا قلنا) :دان بالشيء( كان معنخاه أنه اتخذه دينا ومذهبخا ،أي
دين على هذا هو المذهب والطريقة اعتخقده أو اعتاده أو تخّلق به .فال ّ
التي يسير عليها المرء نظرًيا أو عملًيا .فالمذهب العملي لكل امرئ هو
دني( .والمذهب النظري عنده عادته وسيرته؛ كما يقال) :هذا ِديني ودَي ْ َ
ْ
وك َلُته
هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه .ومن ذلك قولهم) :دّينت الرجل( أي َ
إلى دينه ،ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده.
ونستطيع أن نقول :إن المادة كلها تدور على معنى لزوم النقياد،
دين هو :إلزام النقياد ،وفي الستعمال الثاني، ففي الستعمال الول ،ال ّ
هو :التزام النقياد ،وفي الستعمال الثالث ،هو المبدأ الذي ُيلتزم
النقياد له.
وهكذا يظهر لنا جلًيا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة
معّربة عن
العربية ،وأن ما ظنه بعض المستشرقين] [2من أنها دخيلةُ ،
العبرية أو الفارسية في كل استعمالتها أو في أكثرها :بعيد كل البعد.
ولعلها نزعة شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة ،حتى فضيلة
البيان التي هي أعز مفاخرهم!
دين اصطلحا:
ال ّ
وقال غيره :وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى
الخير بالذات].[4
دين وضع إلهي سائق لذوي العقول وقال أبو البقاء في )كلياته( :ال ّ
باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات ،قلبيا كان أو قالبيا )أي معنويا أو
ديا( كالعتقاد والعلم والصلة. ما ّ
مّلة،
وز فيه ،فيطلق على الصول خاصة ،فيكون بمعنى ال ِ وقد ُيتج ّ
م{ ]النعام.[161:
هي َ
ة إ ِب َْرا ِ ّ
مل َ ً
قَيما ِ ً
وعليه قوله تعالىِ} :دينا ِ
ضا ،فيطلق على الفروع خاصة ،وعليه قوله تعالى: وز فيه أي ً وقد ُيتج ّ
ة{ ]البينة.[5][5: م
ّ َ ِ ي َ
ق ْ ل ا ن دي
ِ ُ َ
ك وذَل ِ }الّز َ
كاةَ َ
دين وضع إلهي يرشد إلى الحقوقد لخصه شيخنا د .دراز بقوله :ال ّ
في العتقادات ،وإلى الخير في السلوك والمعاملت].[7
دين ،يلتقي
وقد نقل شيخنا دراز عن الغربيين تعريفات عن ال ّ
معظمها في الصل مع المفهوم الصطلحي للدين عند علماء
المسلمين.
دين هو الشعور
دين في حدود العقل() :ال ّويقول في كتابه )ال ّ
بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية(.
دين
ويقول شلير ماخر ،في )مقالت عن الديانة() :قوام حقيقة ال ّ
شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة(.
دين هو مجموعة ويقول الب شاتل ،في كتاب )قانون النسانية() :ال ّ
واجبات المخلوق نحو الخالق :واجبات النسان نحو الله ،وواجباته نحو
الجماعة ،وواجباته نحو نفسه(.
دين( في القرآن:
مفهوم كلمة )ال ّ
عّرفخة أو منكخرة،
م َ
دين( في القرآن الكريمُ ،
ومن تتبع كلمة )ال ّ
مجخردة أو مضافة :يجد لها معاني كثيرة يحددها السياق.
ن{ ]الفاتحة.[4:
دي ِ
وم ِ ال ّ
ك يَ ْ
مال ِ ِ
فأحيانا ُيراد بها الجزاء ،مثلَ } :
م ل ِل ّ ِ
ه{ ه ْ
صوا ِدين َ ُ وأ َ ْ
خل َ ُ وأحيانا ُيراد بها :الطاعة ،كما في قوله تعالىَ } :
]النساء.[164:
ع
شَر َ دين وعقائده ،كما في قوله تعالىَ } : وأحيانا ُيراد به :أصول ال ّ
َ َ ّ ً
م
هي َ ه إ ِب َْرا ِ
صي َْنا ب ِ ِو ّ ما َو َ َ
حي َْنا إ ِلي ْك َ و َ ذي أ ْ وال ِ ه ُنوحا َ صى ب ِ ِ و ّ ما َ ن َ دي ِ ن ال ّم َ م ِ ل َك ُ ْ
َ َ
نكي َ ر ِش ِ م ْ عَلى ال ْ ُ ه ك َب َُر َ في ِ قوا ِ فّر ُ ول ت َت َ َ ن َ دي َ موا ال ّ قي ُ نأ ِ سى أ ْ عي َ و ِسى َ مو َ و َُ
ب{ ن ي ُِني َُ ْم ه
ِ ْ يَ لِ إ دي ِ ه َ
َ ْ ي و ُ ء شا َ َ ي ن
َ ْ م ه
ِ ْ يَ لِ إ بي ِ َ ت ج
ْ َ ي ه
ُ ّ ل ال ه
ِ ْ يَ ل إ
ْ ِ م ه
ُ عوُ ْ دَ ت ما َ
]الشورى.[13:
دين هنا الذي جاءت به الرسل كلهم -كما قال الحافظ بن كثير- وال ّ
ن ْ َ
م ْ
سلَنا ِ ما أْر َ
و َ هو :عبادة الله وحده ل شريك له ،كما قال عز وجلَ } :
ن{ ]النبياء.[25: دو ِ عب ُ ُفا ْ ه إ ِّل أ ََنا َ
ه ل إ ِل َ َ
حي إل َي َ
ه أن ّ ُ
ِ ْ ِ ل إ ِّل ُنو ِ
سو ٍ
ن َر ُم ْك ِ قب ْل ِ َ َ
وفي الحديث" :نحن -معشر النبياء -أولد علت ،ديننا واحد"] .[9أي
القدر المشترك بينهم ،هو :عبادة الله وحده ل شريك له ،وإن اختلفت
ة
ع ًشْر َم ِ من ْك ُ ْعل َْنا ِ ج َل َشرائعهم ومناهجهم ،كقوله جل جلله} :ل ِك ُ ّ
َ َ
ولن َدي َ موا ال ّ قي ُ نأ ِ هاجًا{ ]المائدة .[48:لهذا قال تعالى ههنا} :أ ْ من ْ َ و ِ َ
صى الله تعالى جميع النبياء عليهم ه{ ]الشورى ،[13:أي و ّ في ِ ُ
ت َت َفّرقوا ِ َ
الصلة والسلم بالئتلف والجماعة ،ونهاهم عن الفتراق والختلف][10
اهخ.
دين إذا ذكر في القرآن :السلم خاصة ،كقوله تعالى: وقد ُيراد بال ّ
هو ال ّذي أ َ }أ َ َ
س َ
ل ْ َر ِ َ ُ } وقوله: [،83 عمران: ]آل ن{ َ غوُ ه َ ْ
ب ي ن الل ّ ِغي َْر ِدي ِ ف َ
ق{ ]التوبة ،33 :الفتح ،28:الصف.[9: ن ال ْ َ
ح ّ وِدي ِ دى َ ه َه ِبال ْ ُ
سول َ ُ َر ُ
كما قد ُيراد به العقيدة التي يدين بها قوم من القوام ،وإن كانت
م
ْ ُ كَ ل باطلة ،كما في أمره تعالى لرسوله أن يقول للمشركين الكافرين} :
ن{ ]الكافرون.[6:ي ِدي ِ
ول ِ َ ِدين ُك ُ ْ
م َ
دين الحق:
دين ل تقتصر على ال ّ
كلمة ال ّ
ت ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من ولقد أنكر ُ
المدعويين ،كان الحديث فيه عن حوار الديان ،والتقريب بين أهلها ...
إلخ ،وكان المؤتمر يدور حول هذه المعاني التي تحدث فيها المتحدثون
والمشاركون .ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة :ل يوجد هناك دين إل
عن ْدَ الل ّ ِ
ه ن ِ
دي َن ال ّدين واحد ،وهو السلم ،وهو الذي قال القرآن فيه} :إ ِ ّ
ن َ ل َ
ف ً ا دين م سل ْ
ل ا غ َ
غي َْر اْل ِ ْ
ْ ِ ِ ِ ْ ن ي َب ْت َ ِ
م ْ
و َ
م{ ]آل عمران ،[19:وقال تعالىَ } : سل ُ
عَتد بها، مى )الديان الكتابية( ل ي ُ ْ س ّ
ه{ ]آل عمران ،[85:حتى ما ي ُ َ
من ْ ُل ِ قب َ َيُ ْ
عتبر دينا ،بعد أن حرفها أهلها ،وجاء السلم فنسخها. ول ت ُ ْ
وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلم الذي ينسف كل ما قيل
ت
في المؤتمر ،بل جهود الحوار والتقارب بين الديان والحضارات .وقل ُ
ت:
فيما قل ُ
أن هذا الكلم يخالف صراحة ما جاء به القرآن ،فالقرآن يعتبر أن
هناك أديانا أخرى غير السلم ،وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة ،ولكنها أديان
يدين بها أصحابها.
غ
ن ي َب ْت َ ِ
م ْ
و َ
والية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه ،وهي قولهَ } :
سلم ِ ِدينا ً {...الية ،فقد سماه الله دينا.
غي َْر اْل ِ ْ
َ
في غُلوا ِب ل تَ ْ ل ال ْك َِتا ِ وقال تعالى في شأن أهل الكتابَ} :يا أ َ ْ
ه َ
م ] {...النساء ،[171:بل أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في ِدين ِك ُ ْ
ن{ م ِدين ُك ُ ْ َ
شأن الوثنيين من المشركين أن يقول لهم} :لك ُ ْ
ي ِدي ِ
ول ِ َ
م َ
]الكافرون.[6:
عبا ً
ول َ ِ
هوا ً َ
م لَ ْ
ه ْ خ ُ
ذوا ِدين َ ُ ن ات ّ َ وقال عز وجل في شأن الكافرين} :ال ّ ِ
ذي َ
م ال ْ َ
حَياةُ الدّن َْيا{ ]العراف.[51: ه ُ و َ
غّرت ْ ُ َ
دين يشمل ما هو حق ،مثل ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه فال ّ
وسلم وما هو باطل ،كالديان التي جاء بنسخها والظهور عليها ،كما قال
َ
ن عَلى ال ّ
دي ِ ق ل ِي ُظْ ِ
هَرهُ َ ن ال ْ َ
ح ّ وِدي ِدى َ ه ِبال ْ ُ
ه َ سول َ ُ س َ
ل َر ُ و ال ّ ِ
ذي أْر َ ه َ
تعالىُ } :
ه{ ]التوبة ،33:الفتح ،28:الصف ،[9:فما أرسل الله به محمدا هو )دين ك ُل ّ ِ
دين كله( أي الديان كلها ،فهي الحق( الذي وعد الله أن يظهره على )ال ّ
أديان لم يعد لها أحقية بعد ظهور السلم .أي أنه أبطلها.
دين والسلم:
ال ّ
دين إلى السلم أو إلى نعم يمكن أن يكونا شيئا واحدا ،إذا أضفنا ال ّ
دينالله ،فنقول )دين السلم( أو )دين الله( جاء بكذا أو كذا ،أو هو ال ّ
الذي بعث الله به خاتم رسله :محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل به آخر
كتبه :القرآن الكريم.
فلّيه ،بسمواته س ْ عْلوّيه و ُ بل أعلن القرآن أن الله لم يخلق هذا العالم ُ
ذي ّ
ه ال ِ ّ
خلقه ،فيؤدوا إليه حقه ،كما قال تعالى} :الل ُ وأرضه ،إل ليعرفه َ
ّ ل اْل َمر بين َهن ل ِت َعل َموا أ َ َ َ ْ
ه
َ ل ال ن
ّ ْ ُ ْ ُ َ ْ ُ ّ ُ ز َ نَ ت ي ن ه
ْ ِ ِ ُ ّ َ ّ لْ ث م ض ر ل ا ن
ت َ ِ َ
م و وا ٍما َس َع َ سب ْ َ
ق َ خل َ َ َ
علما{ ]الطلق.[12: ً ْ ء ِي ٍ ل َ َ
حاط ب ِك ُ ّ َ َ ه َ ّ َ ء َ ل َ على ك ُ ّ َ
ش ْ قدْ أ َ ن الل َ وأ ّ ديٌر َ
ق ِ ي ٍش ْ َ
خلقه من المكّلفين، دين إذن هو ما يحدد العلقة بين الله سبحانه و َ فال ّ
من حيث معرفته وتوحيده ،واليمان به إيمانا صحيحا بعيدا عن ضللت
الشرك ،وأباطيل السحرة ،وأوهام العوام .ومن حيث إفراده جل شأنه
بالعبادة والستعانة ،فل ُيتوجه بالعبادة إل إليه ،ول يستعان -خارج
ن{ ]الفاتحة:عي ُ
ست َ ِ وإ ِّيا َ
ك نَ ْ عب ُدُ َ السباب المعتادة -إل به سبحانه} :إ ِّيا َ
ك نَ ْ
.[5
دين( .ولهذا
ومن هنا نرى كلمة )السلم( أوسع دائرة من كلمة )ال ّ
نقول :السلم دين ودنيا ،عقيدة وشريعة ،عبادة ومعاملة ،دعوة ودولة،
خُلق وقوة.
ُ
ورأينا من أدعية نبينا صلى الله عليه وسلم" :اللهم أصلح لي ديني
الذي هو عصمة أمري ،وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ،وأصلح لي
آخرتي التي إليها معادي"].[11
-------------------------------------------------------------------------------
-
] -[3انظر :الدين لشيخنا د .محمد عبد الله دراز صخ .32 -29
الفصل الثاني
فيقال :ساس الدابة أو الفرس :إذا قام على أمرها من الَعَلف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك.
خذ منه سياسة البشر .فكأن النسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، وأحسب أن هذا المعنى هو الصل الذي ُأ ِ
ت الرعيةس ُ
س ْ
ارتقى إلى سياسة الناس ،وقيادتهم في تدبير أمورهم .ولذا قال شارح القاموس :ومن المجازُ :
سياسة :أمرتهم ونهيتهم .وساس المر سياسة :قام به .والسياسة :القيام على الشيء بما يصلحه].[1
وتعّرفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقل عن معجم )روبير( -بأنها) :فن إدارة
المجتمعات النسانية(.
وتبعا لمعجم العلوم الجتماعية :تشير السياسة إلى) :أفعال البشر التي تّتصل بنشوب الصراع أو حسمه حول
الصالح العام ،والذي يتضمن دائما :استخدام القوة ،أو النضال في سبيلها(.
ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها) :أصول أو فن إدارة الشؤون العامة(].[2
إذا عرفنا مفهوم كلمة )السياسة( لغة واصطلحا ،فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا السلمي ،وفي فقهنا وفكرنا
السلمي ،وفي مصادرنا السلمية.
هل نجدها في القرآن الكريم ،وفي السنة النبوية ،وفي فقه المذاهب المتبوعة ،أو غيره من الفقه الحر؟ وهل
نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلسفة؟
وكيف تحدث هؤلء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟
كلمة )السياسة( لم ترد في القرآن الكريم ،ل في مكّيه ،ول في مدنّيه ،ول أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعل.
ومن قرأ )المعجم المفهرس للفاظ القرآن الكريم( يتبين له هذا .ولهذا لم يذكرها الراغب في )مفرداته( .ول
)معجم ألفاظ القرآن( الذي أصدره مجمع اللغة العربية.
وقد يتخذ بعضهم من هذا دليل على أن القرآن -أو السلم -ل يعني بالسياسة ول يلتفت إليها.
ضْرب من المغالطة ،فقد ل يوجد لفظ ما في القرآن الكريم ،ولكن معناه ومضمونه مبثوث
ول ريب أن هذا القول َ
في القرآن.
أضرب مثل لذلك بكلمة )العقيدة( فهي ل توجد في القرآن ،ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله ،من
اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،بل العقيدة هي المحور الول الذي تدور عليه آيات القرآن
الكريم.
ث على
ومثل ذلك كلمة )الفضيلة( فهي ل توجد في القرآن ،ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالح ّ
الفضيلة ،واجتناب الرذيلة.
فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ )السياسة( جاء بما يدل عليها ،وينبئ عنها ،مثل كلمة )الُملك( الذي يعني حكم الناس
وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم.
جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شّتى ،بعضها مدح ،وبعضها ذم .فهناك الُملك العادل ،وهناك الُملك الظالم،
شوِري ،والُملك المستبد.
الُملك ال ُ
ظيمًا{ ]النساء.[54:
عِحْكَمَة َوآَتْيَناُهْم ُمْلكًا َ
ب َواْل ِ
ذكر القرآن في الُملك الممدوحَ} :فَقْد آَتْيَنا آَل ِإْبَراِهيَم اْلِكَتا َ
حْكَمَة
ك َواْل ِ
ل اْلُمْل َ
ت َوآَتاُه ا ُّ
جاُلو َ
وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقولهَ} :وَقَتَل َداُوُد َ
شاُء{ ]البقرة.[251:
عّلَمُه ِمّما َي َ
َو َ
ومّمن ذكره القرآن من الملوك :ذو القرنين الذي مّكنه ال في الرض وآتاه ال من كل شيء سببا ،واتسع ُملكه
من المغرب إلى المشرق ،وذكر ال تعالى قصته في سورة الكهف ،مثنيا عليه.
حّتى
طَعًة َأْمرًا َ
ت َقا ِ
ومّمن ذكره القرآنَ :مِلكة سبأ التي قام ُمْلكها على الشورى ل على الستبداد }َما ُكْن ُ
ن{ ]النمل.[32: شَهُدو ِ
َت ْ
وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم ،مثل َمِلك مصر في عهد يوسف ،وهو الذي وّلى يوسف على
خزائن الرض .وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في ُملكه.
عِمُلوان آَمُنوا ِمْنُكْم َو َ ل اّلِذي َعَد ا ُّ ومثل ذلك :كلمة )الستخلف( ،وما يشتق منها ،مثل قوله تعالىَ} :و َ
ضى َلُهْم وََلُيَبّدَلّنُهْم ن َلُهْم ِديَنُهُم اّلِذي اْرَت َ ن َقْبِلِهْم َوَلُيَمّكَن ّ
ن ِم ْ ف اّلِذي َ
خَل َ
سَت ْ
ض َكَما ا ْ خِلَفّنُهْم ِفي اَْلْر ِ سَت ْ
ت َلَي ْ
حا ِ صاِل َ
ال ّ
ن{ )النور .(55:وقوله سُقو َك ُهُم اْلَفا ِ ك َفُأوَلِئ َن َكَفَر َبْعَد َذِل َشْيئًا َوَم ْ
ن ِبي َ شِرُكو َ خْوِفِهْم َأْمنًا َيْعُبُدوَنِني ل ُي ْ ن َبْعِد َِم ْ
خِلَفُكْم ِفي اَْلْر ِ
ض سَت ْ
عُدّوُكْم َوَي ْ
ك َ ن ُيْهِل َسى َرّبُكْم َأ ْ ع َ جْئَتَنا َقاَل َن َبْعِد َما ِن َتْأِتَيَنا َوِم ْ
ن َقْبِل َأ ْ
تعالىَ} :قاُلوا ُأوِذيَنا ِم ْ
ن{ )لعراف.(129: ف َتْعَمُلو َ ظَر َكْي ََفَيْن ُ
حَكْمُتْمت ِإَلى َأْهِلَها َوِإَذا َ ن ُتَؤّدوا اَْلَماَنا ِ ل َيْأُمُرُكْم َأ ْن ا َّحْكم( ومايشتق منها ،مثل قوله تعالىِ} :إ ّ ومثل كلمة )ال ُ
صيرًا{ )النساء (58:وهي الية التي سِميعًا َب ِ ن َ ل َكا َ
ن ا َّ ظُكْم ِبِه ِإ ّل ِنِعّما َيِع ُ
ن ا َّ حُكُموا ِباْلَعْدِل ِإ ّ ن َت ْس َأ ْن الّنا ِ َبْي َ
ل َول َتّتِبْع حُكْم َبْيَنُهْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
نا ْ أدار عليها ابن تيمية نصف كتابه السياسة الشرعية .وقوله تعالىَ} :وَأ ِ
جاِهِلّيِة َيْبُغو َ
ن حْكَم اْل َل{ )المائدة ،(49:وقوله تعالىَ } :أَف ُ ض َما َأْنَزَل ا ُّ ن َبْع ِ عْ ك َ ن َيْفِتُنو َحَذْرُهْم َأ ْ َأْهَواَءُهْم َوا ْ
ك ُهُم ل َفُأولَِئ َ
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّن َلْم َي ْن{ )المائدة ، (50:وقوله تعالىَ} :وَم ْ حْكمًا ِلَقْوٍم ُيوِقُنو َ ل ُ ن ا ِّ ن ِم َ سُ ح َن َأ ْ
َوَم ْ
ن{ ]المائدة ،[47:وفي آية سُقو َ ك ُهُم اْلَفا ِ ل َفُأوَلِئ َ
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ ن َلْم َي ْ
ن{ ]المائدة ،[45:وفي آيةَ}:وَم ْ ظاِلُمو َال ّ
ن{ ]المائدة.[44: ك ُهُم اْلَكاِفُرو َ ل َفُأوَلِئ َ
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ ن َلْم َي ْ
ثالثةَ}:وَم ْ
ق من السياسة ،وهو الحديث المتفق عليه عن أبي على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضّمن ما اشت ّ
هريرة ،أن النبي صلى ال عليه وسلم قال" :كانت بنو إسرائيل تسوسهم النبياء ،كلما هلك نبي خلفه نبي،
وإنه ل نبي بعدي ،وسيكون خلفاء فيكثرون" .قالوا :فما تأمرنا؟ قالُ" :فوا ببيعة الول فالول ،وأعطوهم
حقهم الذي جعل ال لهم ،فإن ال سائلهم عما استرعاهم"].[3
وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة )سياسة(] [4قولها :لعل أقدم نص وردت فيه كلمة
)السياسة( بالمعنى المتعّلق بالحكم هو :قول عمرو ابن العاص لبي موسى الشعري في وصف معاوية :إني
ن الخليفة المظلوم ،والطالب بدمه ،الحسن السياسة ،الحسن التدبير].[5
وجدته ولي عثما َ
وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة )السياسة( مصدرا .أما المادة نفسها باعتبارها فعل ،فقد وردت كما ذكرناه
في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة ،وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي ال عنه،
بوصفها فعل مضارعا.
روى ابن أبي شيبة في مصنفه ،والحاكم في مستدركه ،عن المستظل ابن حصين ،قال :خطبنا عمر بن الخطاب
ت -ورب الكعبة -متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين ،فقال :متى يهلكون يا أمير
فقال :قد علم ُ
المؤمنين؟ قال :حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية ،ولم يصحب الرسول].[6
وكذلك رويت نفس الصيغة )صيغة الفعل المضارع( عن سيدنا علي رضي ال عنه .روى ابن أبي شيبة في
ن على طاعة ال ،أون في أمر ال ،ولُتقاِتُل ّ
جّد ّ
مصنفه وابن الجعد في مسنده :قال علي :يا أهل الكوفة! وال َلَت ِ
سّنكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم ،فليعذبنكم ثم ليعذبنهم].[7
سو َ
لَي ُ
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1انظر :مادة )سوس( في تاج العروس ) (4/169طبعة دار صادر .بيروت.
] -[2انظر :موسوعة العلوم السياسية .إصدار جامعة الكويت صـ 102فقرة ).(78
] -[3رواه البخاري في أحاديث النبياء ) (3455عن أبي هريرة ،ومسلم في المارة ) ،(1842وأحمد في
المسند ) ،(7960وابن ماجه في الجهاد ).(2871
] -[6رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفضائل ) (6/410عن المستظل بن حصين ،والحاكم في المستدرك
كتاب الفتن والملحم ) ،(4/475وقال :هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي ،والبيهقي في
الشعب ).(6/69
] -[7رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن ) (7/504عن المستظل بن حصين ،ووقع في المصنف
)ليسوا منكم( وهو تصحيف ،وابن الجعد في مسنده ) (1/327بتحقيق عامر أحمد حيدر .وابن الجعد هو علي
ابن الجعد بن عبيد ،أبو الحسن الجوهري البغدادي.
)وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فّرقوا بين المسألتين ل يطلبون شاهدا بالعتبار لذلك
المعنى الذي جمعوا أو فّرقوا ،بل يكتفون بمطلق المناسبة ،وهذا هو المصلحة المرسلة ،فهي حينئذ في جميع
المذاهب(].[1
وهذا هو التحقيق ،فالذي يطالع كتب المذاهب الخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعللونها
بتعليلت مصلحية ،وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك.
ويذكر القرافي :أن إمام الحرمين -عبد الملك بن عبد ال الجويني )ت 478هـ( -قّرر في كتابه المسمى
بـ)الغياثي( أمورا وجّوزها وأفتى بها -والمالكية بعيدون عنها -وجسر عليها ،وقالها للمصلحة المطلقة]،[2
وكذلك الغزالي في )شفاء الغليل( مع أن الثنين شديدا النكار علينا -يعني المالكية -في المصلحة المرسلة].[3
وإمام الحرمين والغزالي شافعيان .ولكن المعروف أن الغزالي في )المستصفى( يعتبر المصلحة من )الصول
الموهومة( ،وأن شيخه إمام الحرمين يضيق في السياسة الشرعية ،ول يجيز أي زيادة على المنصوص عليه
في العقوبات.
وقد نقل الستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -في تحقيقه لكتاب )الغياثي( لمام الحرمين والتقديم له ،وكتابة
دراسة َقّيمة عنه -ما يوضح موقف المام رحمه ال ،من قضية التوسع في التعزيرات ،كما أجازه آخرون باسم
السياسة للردع والزجر .وكان مما نقله عنه قوله) :ومما يتعين العتناء به الن ،وهو مقصود الفصل :أن
سَتّد )من السداد( إل على رأي مالك رضي ال عنه، أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولية ل َت ْ
وكان يرى الزدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات ،ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير.
ونقل النقلة عنه أنه قال :للمام أن يقتل ثلث المة في استصلح ثلثيها]![4
غرة وغباوة :أن ما جرى في صدر السلم من التخفيفات ،كان سببها أنهم كانوا على وذهب بعض الجهلة عن ِ
قرب عهد بصفوة السلم ،وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير ،والمقدار القريب من التعزير ،وأما الن ،فقد
خلق الرغبات والرهبات ،فلو وقع قست القلوب ،وبعدت العهود ،ووهنت العقود ،وصار متشبث عامة ال َ
القتصار على ما كان من العقوبات ،لما استمرت السياسات(].[5
ب إلى
ويرد ذلك الرأي بعنف ،ويدفعه بقوة ،قائل) :وهذا الفن قد يستهين به الغبياء ،وهو على الحقيقة تسب ٌ
مضادة ما ابُتِعث به سيد النبياء(].[6
ويعود لتأكيد نفس المعنى ،فيقول) :وهذه الفنون في رجم الظنون ،ولو تسلطت على قواعد الّدين ،لتخذ كل َمن
عا ومنًعا ،فتنتهض هواجس النفوس حاّلة محل الوحي إلىيرجع إلى ُمسكة من عقل فكره شرعا ،ولنتحاه رد ً
الرسل ،ثم يختلف ذلك باختلف الزمنة والمكنة؛ فل يبقى للشرع مستقر وثبات(].[8
ثم يبين السر في هذا الداء ،فيقول) :هيهات هيهات .ثقل الّتباع على بعض بني الدهر؛ فرام أن يجعل عقله
المعقول عن مدارك الرشاد في دين ال أساسا ،ولستصوابه راسا ،حتى ينفض ِمذَرويه ،ويلتفت في عطفيه
سا .فإذا ل مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير(].[9
اختياًل وشما ً
ثم يصرح بتفشي هذا الداء -مجاوزة الحد في العقوبات -في زمانه ،ويجأر بالشكوى ،وكأنه يعتذر عن إطالته
في هذا الموضوع ،فيقول) :وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي ،وجاوزت حد القتصاد في كلمي ،لني
تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال(].[10
ويرى أن أصحاب السياسات لم يحيطوا َفهما بمحاسن الشريعة ،ولذا يزعمون أن التعزير المحطوط عن الحدود
ل يزع ول يدفع ،وأن هذا منهم جهل وسوء قصد .قال:
)والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد ل يزع ول يدفع ،وغايتهم أن يزيدوا على
مواقف الشريعة ،ويتعّدوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في اليالة ...وإنما ينسل عن ضبط الشرع،
من لم يحط بمحاسنه ،ولم يطلع على خفاياه ومكامنه ،فل يسبق إلى مكرمة سابق إل ولو بحث عن الشريعة،
للفاها أو خيًرا منها في وضع الشرع ...فهذا مسلك السداد ،ومنهج الرشاد والقتصاد ،وما عداه سرف
ومجاوزة حد ،وغلّو وعتّو(].[11
ول يفوته في هذا المقام أن يقف في وجه رجال المن الذين )يرون ردع أصحاب التهم ،قبل إلمامهم بالهنات
والسيئات( ،ويقول) :إن الشرع ل يرخص في ذلك(].[12
هذا هو رأي إمام الحرمين ،في تشديده وتضييقه ،وإن كان يخالف ما ذكره القرافي! وهو هنا يمثل فقه
الشافعية ،وكيف ل ،وهو الذي تشير إليه كتب المذهب بـ)المام( فإذا قالوا :قال المام ،فليس غير إمام
الحرمين.
وأما مذهب مالك ،فقد نقل ابن فرحون في )تبصرة الحكام( عن القرافي قوله :إن التوسعة على الحكام في
الحكام السياسية ليس مخالفا للشرع ،بل تشهد له الدلة ،وتشهد له القواعد .ومن أهمها كثرة الفساد
وانتشاره ،والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء].[13
ولهذا نجد المام القرافي في كتابه )تنقيح الفصول( حين استدل على شرعية المصلحة المرسلة ،اتخذ أمثلته
وشواهده ،من تصرفات الصحابة ،ول سيما الخلفاء الراشدين ،وأنهم عملوا أمورا لمطلق المصلحة ،ل لتقدم
شاهد بالعتبار ،نحو كتابة أبي بكر للمصحف ،ولم يتقدم فيه أمر ول نظير ،وولية العهد من أبي بكر لعمر،
سكة
ولم يتقدم فيها أمر ول نظير ،وكذلك ترك الخلفة شورى )بين ستة( ،وتدوين الداواوين ،وعمل ال ّ
)النقود( ،واتخاذ السجن ،فعل ذلك عمر رضي ال عنه ،وهّد الوقاف التي بإزاء مسجد رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه ،فعله عثمان رضي ال عنه].[14
عرف بها .ومثله جمع عثمان وأيضا ما فعله عمر من اتخاذ تاريخ خاص للمسلمين ،إلى سائر )َأّولياته( التي ُ
الناس على مصحف واحد ،وإحراق ما عداه ،وتضمين علي للصناع المحترفين ،ما بأيديهم من أموال الناس،
حتى يثبتوا أنها هلكت بغير إهمال ول تعّد منهم ...إلخ.
فهذه كلها من أعمال السياسة الشرعية للمام أو الحاكم قام بها لمقتضى المصلحة للجماعة أو للمة.
وربما كان أوسع المذاهب في ذلك مذهب الحنابلة ،كما سنرى فيما ذكره المام ابن عقيل ،وعّلق عليه المام
ابن القيم.
السياسة في الفقه الحنفي:
وقد تكلم علماء المذهب الحنفي عن السياسة -أكثر ما تكلموا -عند حديثهم عن حد الزنى ،وما ورد فيه من
حديث نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة عن بلده الذي حدثت فيه جريمة الزنى ،فقد فسروا هذا التغريب:
بأنه نوع من )السياسة( أو التعزير .فل مانع أن يفعله المام أو القاضي النائب عنه للردع والتأديب إذا رأى في
ش من ورائه فتنة .فهو من )السياسة الشرعية( المبّررة والمبنية على قواعد الشرع. ذلك مصلحة ،ولم يخ َ
لمة المتأخرين ابن عابدين وهنا تعرض علماء المذهب بهذه المناسبة للكلم عن السياسة .وقد استوفى ذلك ع ّ
ي قوله) :السياسة ل تختص في حاشيته الشهيرة) ،رد المحتار على الدر المختار( ونقل فيها عن الُقهستان ّ
بالزنى ،بل تجوز في كل جناية ،والرأي فيها إلى المام -على ما في )الكافي( -كَقْتل مبتدع ُيَتَوَهم منه انتشار
بدعته وإن لم ُيحكم بكفره ،كما في )التمهيد( ،وهي مصدر :ساس الوالي الرعيةَ :أمَرهم ونهاهم ،كما في
جي في الدنيا والخرة ،فهي من خلق بإرشادهم إلى الطريق الُمَن ّ
)القاموس( وغيره ،فالسياسة استصلح ال َ
النبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم ،ومن السلطين والملوك على كل منهم في ظاهره ل غير،
ومن العلماء ورثة النبياء على الخاصة في باطنهم ل غير ،كما في )المفردات(] [15وغيرها( اهـ ،ومثله في
)الدر المنتقى(].[16
ت) :ابن عابدين( وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه ال تعالى لعباده من الحكام قل ُ
الشرعية ،وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل ،كما قالوا في اللوطي والسارق والخّناق:
إذا تكرر منهم ذلك حّل قتلهم سياسة ،وكما مر في المبتدع ،ولذا عّرفها بعضهم :بأنها تغليظ جناية لها حكم
ص عليها
شرعي حسما لمادة الفساد ،وقوله :لها حكم شرعي معناه :أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم ُيَن ّ
بخصوصها ،فإن مدار الشريعة بعد قواعد اليمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم .ولذا قال في )البحر(]
) :[17وظاهر كلمهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها ،وإن لم َيِرد بذلك الفعل دليل جزئي(
اهـ وفي )حاشية مسكين( عن )الحموي() :السياسة شرع ُمَغّلظ ،وهي نوعان :سياسة ظالمة ،فالشريعة
صل إلىتحرمها ،وسياسة عادلة ُتخرج الحق من الظالم ،وتدفع كثيرا من المظالم .وتردع أهل الفساد ،وُتو ِ
المقاصد الشرعية ،فالشريعة توجب المصير إليها والعتماد في إظهار الحق عليها ،وهي باب واسع ،فمن أراد
تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب )ُمعين الحكام( للقاضي )علء الّدين السود الطرابلسي الحنفي(( اهـ.
ت) :ابن عابدين( )والظاهر أن السياسة والّتعزير مترادفان ،ولذا عطفوا أحدهما على الخر لبيان التفسير،قل ُ
كما وقع في )الهداية( و)الزيلعي( وغيرهما ،بل اقتصر في )الجوهرة( على تسميته تعزيرا ،وسيأتي أن التعزير
تأديب دون الحد ،من الَعْزر بمعنى الّرد والردع ،وأنه يكون بالضرب وغيره ،ول يلزم أن يكون بمقابلة معصية،
ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلة ،وكذلك السياسة كما مر في نفي )عمر( لـ )نصر بن حجاج( ،فإنه
ورد أنه قال لـ )عمر( :ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ فقال :ل ذنب لك ،وإنما الذنب لي؛ حيث ل أطهر دار الهجرة
منك] .[18فقد نفاه؛ لفتتان النساء به ،وإن لم يكن بصنعه ،فهو ِفعلٌ لمصلحة ،وهي قطع الفتتان بسببه في
دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع ،ففيه َرد وردع عن منكر واجب الزالة! وقالوا :إن التعزير موكول إلى
رأي المام.
ويبدو من كلم فقهاء الحنفية :أن السياسة تتعّلق بجانب العقوبات والتأديب ل تتعداه .ولذا قالوا :إن السياسة
والتعزير مترادفان.
والذي أرجحه :أن السياسة أعم من التعزير ،فهي تدخل في أكثر من مجال في شؤون العادات والمعاملت :من
الدارة والقتصاد والسلم والحرب والعلقات الجتماعية والدستورية والدولية وغيرها.
وسنرى أن تعريف المام ابن عقيل للسياسة أوسع وأوفى مما ذكره من ذكره من علماء الحنفية وغيرهم .فقد
عرف السياسة بأنها :كل تصرف من ولي المر يكون الناس معه أقرب إلى الصلح ،وأبعد عن الفساد ،وإن لم
يأت به الشرع ،بشرط أل يخالف ما جاء به الشرع .وهو ما سنبحث عنه في ما يلي.
دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية:
شف
والحق أني لم أجد من الفقهاء في تاريخنا ،من تكلم عن السياسة الشرعية وشرحها فأحسن شرحها ،وَك َ
اللثام عن مفهومها ،وبين الفرق بين السياسة العادلة ،والسياسة الظالمة ،وأن الولى إنما هي جزء من
الشريعة ،وليست خارجة عنها ،ول قسيما لها ،مثل المام ابن القيم )ت 751هـ( رحمه ال ،في كتابين من
حكمية( .ويحسن بنا أن ننقل كلمه هنا لما فيه من قوة الحجة ،ونصاعةطرق ال ُ
كتبه) :إعلم الموقعين( و)ال ّ
البيان ،المؤيد بالبرهان.
حكمية( ُمعّلقا على ما قاله المام الحنبلي أبو الوفا ابن عقيل )ت 513هـ( ،الذي
طرق ال ُ
يقول رحمه ال في )ال ّ
قال عنه ابن تيمية :كان من أذكياء العالم .وكل الذين درسوا ابن عقيل يعلمون أنه رجل بالغ الذكاء ،موسوعي
حّر التفكير .قال) :قال ابن عقيل في )الفنون( :جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: المعرفةُ ،
أنه هو الحزم .ول يخلو من القول به إمام.
فقال ابن عقيل :السياسة ما كان فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلح ،وأبعد عن الفساد ،وإن لم يضعه
الرسول ،ول نزل به وحي.
فإن أردت بقولك) :إل ما وافق الشرع( أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح.
وإن أردت :ل سياسة إل ما نطق به الشرع :فغلط ،وتغليط للصحابة .فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل
والتمثيل ما ل يجحده عالم بالسنن .ولو لم يكن إل تحريق عثمان المصاحف] ،[20فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه
على مصلحة المة ،وتحريق علي رضي ال عنه ،الزنادقة في الخاديد ،فقال:
فرط فيه طائفة :فعطلوا الحدود ،وضيعوا الحقوق ،وجّرؤوا أهل الفجور على الفساد ،وجعلوا الشريعة قاصرة
طُرق معرفة الحق والتنفيذ طُرقا صحيحة من ُ ل تقوم بمصالح العباد ،محتاجة إلى غيرها .وسدوا على نفوسهم ُ
له ،وعطلوها ،مع علمهم وعلم غيرهم قطعا :أنها حق مطابق للواقع ،ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع .وَلَعْمُر
ت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم.ال! إنها لم تناف ما جاء به الرسول ،وإن َنَف ْ
فلما رأى ولة المور ذلك ،وأن الناس ل يستقيم لهم أمر ،إل بأمر وراء ما فهمه هؤلء من الشريعة :أحدثوا
من أوضاع سياستهم شّرا طويل ،وفسادا عريضا .فتفاقم المر ،وتعذر استدراكه ،وعّز على العالمين بحقائق
الشرع تخليص النفوس من ذلك ،واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى ،قابلت هذه الطائفة ،فسوغت من ذلك ما ينافي حكم ال وحكم رسوله.
وكل] [22الطائفتين ُأتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث ال به رسوله ،وأنزل به كتابه .فإن ال سبحانه
أرسل رسله ،وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ،وهو العدل الذي قامت به الرض والسماوات .فإن ظهرت
أمارات العدل ،وأسفر وجهه بأي طريق كان :فَثّم شرع ال ودينه .وال سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص
طُرق العدل وأماراته وأعلمه بشيء ،ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دللة ،وأبين أمارة ،فل يجعله منها، ُ
طُرق :أن مقصوده إقامة العدل بين ول يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها .بل قد بّين سبحانه بما شرعه من ال ّ
عباده ،وقيام الناس بالقسط :فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الّدين ،ليست مخالفة له( اهـ.
وصدق ابن القيم حين بّين أن العيب ليس في الشريعة ،وإنما في الذين يسدون كل باب لرعاية المصالح،
والنظر في المقاصد ،والتدبر في المآلت والموازنات والولويات ،ويضيقون على الناس ما وسع ال عليهم،
ويضيعون على المة مصالح كثيرة بسوء َفهمهم وتزمتهم وجمودهم.
وفي مقابلهم :المَفّرطون المتسيبون الذين ل يقفون عند حدود ال ،ول يتقيدون بنصوص القرآن والسنة ،وقد
رأينا في عصرنا منهم الكثير ،فهم يزينون للمراء والحكام ما يريدون ،ويجعلون الشريعة عجينة لينة في
أيديهم ،يشكلونها بأهوائهم وأهواء سادتهم ،كما يحلو لهم.
)فل يقال :إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع ،بل هي موافقة لما جاء به ،بل هي جزء من أجزائه.
ونحن نسميها )سياسة( تبعا لمصطلحكم .وإنما هي عدل ال ورسوله ،ظهر بهذه المارات والعلمات.
فمن أطلق كل متهم وحّلفه وخّلى سبيله -مع علمه باشتهاره بالفساد في الرض ،وكثرة سرقاته ،وقال :ل آخذه
إل بشاهدي عدل -فقوله مخالف للسياسة الشرعية.
وقد منع النبي صلى ال عليه وسلم الغاّل من الغنيمة سهمه ،وحّرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده].[24
ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع].[25
وأمر بكسر دنان الخمر] ،[29وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام .ثم نسخ عنهم الكسر ،وأمرهم
بالغسل].[30
إلى غير ذلك مما ثبت بصحاح الحاديث .من سياسته صلى ال عليه وسلم.
وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه ،فمن ذلك:
وحرق عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،حانوت الخمار بما فيه .وحرق قرية يباع فيها الخمر.
وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ،ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به].[32
وصادر عماله .فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوا بجاه العمل ،واختلط ما يختصون به بذلك .فجعل أموالهم بينهم
وبين المسلمين شطرين.
وألزم الصحابة أن ُيِقّلوا الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم لما اشتغلوا به عن القرآن ،سياسة منه،
إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها المة رضي ال عنه.
ومن ذلك :جمع عثمان رضي ال عنه ،الناس على حرف واحد من الحرف السبعة التي أطلق لهم رسول ال
صلى ال عليه وسلم القراءة بها ،لما كان في ذلك مصلحة ،فلما خاف الصحابة رضي ال عنهم ،على المة أن
يختلفوا في القرآن ،ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم ،وأبعد من وقوع الختلف :فعلوا ذلك ،ومنعوا
الناس من القراءة بغيره.
ومن ذلك :تحريق علي رضي ال عنه ،الزنادقة الرافضة ،وهو يعلم سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم في
قتل الكافر ،ولكن لما رأى أمرا عظيما جعل عقوبته من أعظم العقوبات ،ليزجر الناس عن مثله .ولذلك قال:
)والمقصود :أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة ،تختلف باختلف الزمنة ،فظنها من ظنها شرائع
عامة لزمة للمة إلى يوم القيامة .ولكل عذر وأجر .ومن اجتهد في طاعة ال ورسوله فهو دائر بين الجر
والجرين.
وهذه السياسة التي ساسوا بها المة وأضعاُفها هي من تأويل القرآن والسنة .ولكن هل هي من الشرائع الكلية
التي ل تتغير بتغير الزمنة ،أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح ،فتتقيد بها زمانا ومكانا؟(] [33اهـ.
ول ريب أنها سياسات جزئية اقتضتها المصالح في زمانها ومكانها وحالها ،فإذا تغّير الزمان أو تبّدل المكان أو
تطّور الحال :وجب النظر في الحكام القديمة في ضوء الظروف الجديدة .وهنا يمكن أن تعّدل أو تغير ،وفق
الظروف والمصالح المستحدثة .ول يجوز الجمود على القديم ،وإن كان من وراء ذلك من الضرر على المجتمع
والمة ما فيه ،بدعوى أنه ليس في المكان أبدع مما كان .فالواقع أن في إمكان النسان أن يفعل الكثير ،إذا
توافر له العلم والرادة ،ول سيما في عصرنا الذي منح النسان طاقات وقدرات هائلة ،لم تدر بخلده من قبل.
ومن المعلوم أن ما أقّره ابن القيم في كلمه عن سياسة التعزير بالعقوبات المالية -وهو مذهب الحنابلة -خالفته
مذاهب أخرى ،وإن كان ما ذكره ابن القيم هو الراجح للدلة التي استند إليها.
سَعة ورحمة للمة ،بصفة عامة ،وفي مجال السياسة بصفة خاصة. وفي هذا الختلف بين المذاهب والفقهاء َ
ل لننظر في القوال ونأخذ منها ما نشتهي وما يحلو لنا ،دون ترجيح بأي معيار ،فهذا ليس إل اّتباعا للهوى.
ولكن هذه الثروة الكبيرة تتيح فرصة أوسع للنتقاء ،والترجيح بين الراء ،واختيار ما هو أليق بتحقيق مقاصد
الشرع ،ومصالح الخلق ،التي لجلها نزلت الشريعة.
ما ذكرناه في الصحائف السابقة يتعّلق بموقف الفقهاء من مصطلح )السياسة( وتحديد مفهومها ،ونظرتهم
سع ومضّيق.
إليها بين مو ّ
ولكن إذا نظرنا إلى )السياسة( من حيث )المضمون( وهو :ما يتعّلق بتدبير أمور الرعية ،وأداء الحقوق
والمانات إليهم ،ونحو ذلك ،فقد تحدث الفقهاء عن ذلك حديثا أطول ،بعضه في داخل كتب الفقه في أبواب
معروفة مثل :باب المانة ،والقضاء ،والحدود ،والجهاد ،وغيرها .وبعضه في كتب خاصة عنيت بموضوعات
الحكم والسياسة والدارة والمال وغيرها ،كما رأينا في كتب معروفة ،مثل) :الحكام السلطانية( لبي الحسن
الماوردي الشافعي )ت 450هـ( ،ومثله بنفس العنوان لبي يعلى الفراء الحنبلي )ت 456هـ( ،و)غياث المم في
التياث الظلم( أو )الِغياثي( لمام الحرمين الجويني الشافعي )ت 476هـ( ،و)السياسة الشرعية( لبن تيمية
حكمية( لبن القيم )ت 751هـ( ،وتبصرة الحكام لبن فرحون المالكي )ت طرق ال ُ
الحنبلي )ت 728هـ( ،و)ال ّ
799هـ( ،وتحرير الحكام لبن جماعة )ت 819هـ( ،وُمِعين الحكام للطرابلسي الحنفي )ت 844هـ( وغير ذلك
مما ُأّلف ليكون مرجعا للقضاة والحكام.
وهناك الكتب التي تتعّلق بسياسة المال خاصة ،مثل) :الخراج( لبي يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة )ت
182هـ( صنفه لهارون الرشيد ليسير عليه في سياسته المالية .وكذلك )الخراج( ليحيى بن آدم )ت 203هـ(،
و)الموال( لبي عبيد القاسم بن سلم )ت 224هـ( ،وهو أعظم ما ُأّلف في الفقه المالي في السلم .و)الموال(
لبن زنجويه )ت 248هـ( ،و)الستخراج في أحكام الخراج( لبن رجب الحنبلي )ت 795هـ(.
هذا بالضافة إلى ما كتبه العلماء عن السياسة في كتب العقائد أو كتب )علم الكلم( كما كان يسمى ،فقد اضطر
أهل السنة أن يكتبوا عن المامة وشروطها ووظائفها وغير ذلك في كتب العقيدة ،لن الشيعة يعتبرون
)المامة( في مذهبهم من أصول العقيدة ،فيتحدثون عنها في كتبها .فلهذا خاض علماء أهل السنة في هذا
الموضوع ليثبتوا موقفهم المخالف في هذه القضية ،من حيث إن المام ل يشترط أن يكون من أهل البيت ،وإن
اشترط أكثرهم أن يكون من قريش ،وإن المام يختار من المة ،وأنه ليس بمعصوم من الخطأ ول الخطيئة،
وإنه يؤخذ منه ويرد عليه.
كما أن من علماء أهل السنة من تعرض لمر السياسة في كتب )التصوف( ،كما رأينا المام أبا حامد الغزالي
)ت 505هـ( يتعرض لذلك في موسوعته الشهيرة )إحياء علوم الّدين( ،إضافة إلى تعرضه لها في كتب علم
الكلم مثل )القتصاد في العتقاد(.
من ذلك ما كتبه في )كتاب العلم( من الحياء عن الفقه والسياسة ،أو العلقة بين الفقيه والسياسي ،فهو يجعل
الفقه من علوم الحياة أو علوم الدنيا ،وهنا يذكر أن الناس لو تناولوا أمور الدنيا بالعدل لنقطعت الخصومات،
وتعطل الفقهاء! ولكنهم تناولوها بالشهوات ،فتولدت منها الخصومات ،فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم،
واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به.
خلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات ،فكان الفقيه معلم )فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين ال َ
خلق وضبطهم ،لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا .ولَعْمِري إنه متعّلق طُرق سياسة ال َ
السلطان ومرشده إلى ُ
أيضا بالّدين ،لكن ل بنفسه ،بل بواسطة الدنيا ،فإن الدنيا مزرعة الخرة ،ول يتم الّدين إل بالدنيا .والُملك
والّدين توأمان ،فالّدين أصل والسلطان حارس ،وما ل أصل له فمهدوم ،وما ل حارس له فضائع ،ول يتم الُملك
والضبط إل بالسلطان ،وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه(].[34
--------------------------------------------------------------------------------
] -[2أعتقد أنه يريد ما جوزه من فرض ضرائب على القادرين ،إذا خل بيت المال ،وأصبحت حاجة الجهاد
والدفاع تحتم إيجاد موارد للجند المدافعين ،حتى ل تتعرض بلد المسلمين كلها للخطر .وهو ما ذكره في
)الغياثي( فقرة رقم ) (370وما بعدها.
] -[4لم يذكر لنا إمام الحرمين هنا ول في كتابه الصولي الشهير )البرهان( :أين نقل هذا عن مالك ،فلم يذكره
في )الموطأ( ولم يرد في )المدونة( ،ول في غيرها من كتب مذهبه ،ولم ينقل هذا أحد من العلماء المعروفين،
الذين عنوا بنقل أقوال الئمة وفقهاء السلف ،مثل :عبد الرزاق ،وابن أبي شيبة في مصنفيهما ،والطحاوي
والبيهقي في كتبهما .وقد أنكر هذا القول علماء المالكية بشدة ،كما في منح الجليل شرح مختصر خليل ،حيث
قال:
)في التوضيح )أي من كتب المالكية( :أبو المعالي )وهو إمام الحرمين قال( :المام مالك رضي ال تعالى عنه،
كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح ،وقد نقل عنه قتل ثلث العامة لصلح الثلثين .المازري :ما حكاه أبو
المعالي عن مالك صحيح .زاد الحطاب بعده عن شرح )المحصول( :ما ذكره إمام الحرمين عن مالك لم يوجد
في كتب المالكية.
الُبناني :شيخ شيوخنا المحقق محمد بن عبد القادر :هذا الكلم ل يجوز أن يسطر في الكتب؛ لئل يغتر به بعض
ضعفة الطلباء ،وهذا ل يوافق شيئا من القواعد الشرعية.
الشهاب القرافي :ما نقله إمام الحرمين عن مالك :أنكره المالكية إنكارا شديدا ،ولم يوجد في كتبهم .ابن
الشماع :ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب ،ولم يخبر أنه رواه نقلته ،إنما ألزمه ذلك ،وقد
اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عنه ،كما اتضح ذلك من كتاب )البرهان( .وقول المازري :ما حكاه أبو
المعالي صحيح :راجع لول الكلم .وهو :أنه كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح ،ل إلى قوله :نقل عنه قتل
الثلث إلخ ،أو أنه حمله على تترس الكفار ببعض المسلمين ،وقوله :مالك يبني مذهبه على المصالح كثيرا :فيه
نظر؛ لنكار المالكية ذلك إل على وجه مخصوص حسبما تقرر في الصول ،ول يصح حمله على الطلق
والعموم حتى يجري في الفتن التي تقع بين المسلمين وما يشبهها .وقد أشبع الكلم في هذا شيخ شيوخنا
العلمة المحقق أبو عبد ال سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل ،وقد نقلت منه ما قيدته أعله ،وهو تنبيه
مهم تنبغي المحافظة عليه لئل يغتر بما في التوضيح اهـ .وأما تأويل "ز" بأن المراد قتل ثلث المفسدين إذا
تعين طريقا لصلح بقيتهم فغير صحيح ،ول يحل القول به ،فإن الشارع إنما وضع لصلح المفسدين الحدود
عند ثبوت موجباتها ،ومن لم تصلحه السنة فل أصلحه ال تعالى ،ومثل هذا التأويل الفاسد هو الذي يوقع كثيرا
من الظلمة المفسدين في سفك دماء المسلمين نعوذ بال من شرور الفساد( .انظر :منح الجليل شرح مختصر
خليل باب في بيان أحكام الجارة وكراء الدواب وغيرها صـ .515 ،514وانظر :كلم إمام الحرمين في البرهان
).(785 ،783 ،2/733
] -[12فقرة.334:
] -[13انظر :تبصرة الحكام في أصول القضية ومناهج الحكام ) (152 - 2/150طبعة الحلبي .مصر.
] -[15إن كان يعني )مفردات القرآن( للراغب الصفهاني ،فل توجد فيه مادة )سياسة( ومشتقاتها ،لنها ليست
كلمة قرآنية ،كما ذكرنا .فل أدري ماذا يعني بـ )المفردات(!
] -[18كان في نفسي شيء من فعل سيدنا عمر رضي ال عنه ،الذي اشتهر بإقامة العدل ،وإنصاف المظلوم
من ظالمه ،ولو كان واليا من ولته .فكيف يعاقب رجل ل ذنب له ،إل أن ال خلقه جميل ،يخرجه من داره،
لمجرد أن امرأة ذكرته في شعرها! وإذا كان يخاف منه على نساء المدينة ،أفل يخاف منه على نساء البصرة؟
جح عندي أن أبحث عن سند القصة ،فلعلها -رغم شهرتها -لم تثبت بطريق صحيح على منهج المحدثين. ثم تر ّ
وبعد الرجوع إلى أسانيد القصةُ :وجد أن أصح طرقها لم يروها أحد شاهدها أو عاصرها من الصحابة أو
التابعين ،كما أنها لم ترو بسند صحيح متصل .وقد روى القصة اثنان من التابعين:
الول :الشعبي) ،رواها أبو نعيم في الحلية ،(4/322 :وقد مات عمر وعمره أربع سنوات ،ولذا قال الذهبي
وغيره :لم يسمع من عمر ،على أن السند إلى الشعبي فيه عدد من الضعفاء ،حتى إن منهم من اتهم بالكذب!
والثاني :عبد ال بن بريدة) ،رواها ابن سعد في الطبقات ،(3/285 :وهو لم يشهد القصة أيضا ،فقد مات عمر
وهو في السابعة من عمره ،ولذا قالوا :لم يسمع من عمر .على أن ابن بريدة ذاته كان في نفس المام أحمد
منه شيء ،وبعض من روى عنه فيه كلم كثير.
وهناك طرق أخرى كلها أضعف من هاتين الطريقين ،رواها ابن عساكر ،ولهذا لم نذكرها.
وبهذا لم تثبت هذه القصة بسند تقوم به الحجة ،وتصبح من المسلمات التاريخية ،وتحسب على المام العادل
عمر بن الخطاب رضي ال عنه.
] -[19انظر :حاشية ابن عابدين جـ 12صـ 52 – 49طبعة دار الثقافة والتراث .دمشق سورية .بتحقيق د.
حسام الدين فرفور.
] -[20وذلك لما أدخل بعض الصحابة في مصاحفهم تفسير بعض الكلمات ،ثم أخذ القراء ينقلون هذه
سر ،جمع عثمان المصاحف كلها وأحرقها بموافقة الصحابة، سر من الُمَف ّ
المصاحف ،وبعضهم ل يفرق الُمَف ّ
وكتب المصحف المام .وألزم الناس أل يأخذوا إل عنه.
] -[21هو غلم علي رضي ال عنه ،وانظر :التمهيد لبن عبد البر ،5/318 :وتاريخ دمشق.42/476 :
] -[22المعروف في ذلك أن يقال :كلتا الطائفتين .كما قال ال تعالى } :كلتا الجنتين آتت أكلها{ ]الكهف.[33:
] -[23إشارة إلى حديث" :أن النبي حبس رجل في تهمة" ،وقد رواه أحمد في المسند ) (20019عن معاوية
ابن حيدة ،وقال محققوه :إسناده حسن ،وأبو داود في القضية ) ،(3630والترمذي في الديات ) ،(1417وقال:
حديث حسن ،والنسائي في قطع السارق ) ،(4875والحاكم في المستدرك كتاب الحكام ) ،(4/114وقال:
صحيح السناد ولم يخرجاه ،وعند أحمد والنسائي" :حبس ناسا".
] -[24إشارة إلى حديث" :إذا وجدتم الرجل قد غّل فأحرقوا متاعه واضربوه" ،وقد رواه أبو داود في الجهاد )
(2713عن عمر ،والترمذي في الحدود ) ،(1461وقال :حديث غريب ،والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد )
(2/138وقال :حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،والبيهقي في الكبرى كتاب السير ) (9/102وضعفه ،وأبو
يعلى في المسند ).(1/180
] -[25إشارة إلى حديث :قتل رجل من حمير رجل من العدو فأراد سلبه ،فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا
عليهم ،فأتى رسول ال عوف بن مالك فأخبره ،فقال لخالد" :ما منعك أن تعطيه سلبه؟" قال :استكثرته يا
رسول ال .قال" :ادفعه إليه" .فمر خالد بعوف فجر بردائه ،ثم قال :هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول ال
صلى ال عليه وسلم؟ فسمعه رسول ال فاستغضب ،فقال" :ل تعطه يا خالد ل تعطه يا خالد ،هل أنتم تاركون
لي أمرائي؟ إنما أنا مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبل أو غنما فرعاها ،ثم تحين سقيها فأوردها حوضا
فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره ،فصفوه لكم وكدره عليهم" ،وقد رواه مسلم في الجهاد والسير )
(1753عن عوف بن مالك ،وأحمد في المسند ).(23987
] -[26إشارة إلى حديث" :لقد هممت أن آمر بالصلة فتقام ،ثم أخالف إلى منازل قوم ل يشهدون الصلة،
فأحرق عليهم" ،وقد رواه البخاري في الخصومات ) (2420عن أبي هريرة ،ومسلم في المساجد ومواضع
الصلة ) ،(651وأبو داود في الصلة ) ،(549والترمذي في الصلة ) ،(217والنسائي في المامة ).(848
] -[27إشارة إلى حديث" :ضالة البل المكتومة غرامتها ومثلها معها" ،وقد رواه أبو داود في اللقطة )
(1718عن أبي هريرة ،وعبد الرزاق في المصنف كتاب اللقطة ) ،(10/129والبيهقي في الكبرى كتاب اللقطة
) ،(6/191وصححه اللباني في صحيح أبي داود ).(1511
] -[28رواه أحمد في المسند ) (20053عن معاوية بن حيدة ،وقال محققوه :إسناده حسن ،وأبو داود في
الزكاة ) (1575والنسائي في الزكاة ) (2444والحاكم في المستدرك كتاب الزكاة ) (1/554وقال :حديث صحيح
السناد ولم يخرجاه.
] -[29إشارة إلى حديث" :أهرق الخمر واكسر الدنان" ،وقد رواه الترمذي في البيوع ) (1293عن أبي
طلحة ،والطبراني في الكبير ) ،(5/99والدارقطني في السنن كتاب الشربة وغيرها ) ،(4/265وحسنه اللباني
في صحيح الترمذي ).(1039
] -[30إشارة إلى حديث :أن النبي رأى نيرانا توقد يوم خيبر قال" :على ما توقد هذه النيران؟" قالوا :على
الحمر النسية .قال" :اكسروها وأهرقوها" قالوا :أل نهريقها ونغسلها؟ قال" :اغسلوا" ،وقد رواه البخاري
في المظالم ) (2477عن سلمة بن الكوع ،ومسلم في الجهاد والسير ).(1802
] -[31إشارة إلى حديث :بينما رسول ال في بعض أسفاره ،وامرأة من النصار على ناقة فضجرت فلعنتها،
فسمع ذلك رسول ال فقال" :خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة" ،وقد رواه مسلم في البر والصلة والداب
) (2595عن عمران بن حصين ،وأحمد في المسند ) ،(19870وأبو داود في الجهاد ).(2561
] -[33انظر :الطرق الحكمية صـ 50 – 41طبعة المكتب السلمي ببيروت ،وانظر :إعلم الموقعين )- 4/372
(375طبعة مطبعة السعادة بمصر .بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
وبعده الفيلسوف الكبير أبو علي ابن سينا )ت 428هـ( ،الذي تأثر بالفارابي وفكره ،ولكنه لم يفرد لـ)السياسة(
بحثا كافيا ،شأنه في القضايا الخرى ،لكنه قّدم مجموعة آراء موّزعة في كتابه )الشفاء( تعكس صورا من
العصر الذي عاش فيه.
والسياسة عند ابن سينا تعني :حسن التدبير وإصلح الفساد .ويرى أن الملوك هم أحق الناس بإتقانها ...لكنه
يرى أن السياسة ليست محصورة في الملك وأصحاب السلطان ،فكل إنسان بطبيعته في حاجة إلى السياسة
مهما كان مركزه الجتماعي.
إل ما كان عند الفيلسوف العملق :أبي الوليد ابن رشد الحفيد )ت 595هـ( ،فهو حين تحدث في السياسة اعتمد
على الشريعة منطلقا له ،باعتباره رجل جمع بين الفقه والفلسفة ،أو بين الشريعة والحكمة ،على حد تعبيره]
.[3
وهناك نوع من الحكماء -وإن شئنا قلنا :الفلسفة -يتميزون بالنظر الفلسفي العميق ،الموصول بالشريعة،
وبالكتاب والسنة ،والوامر والنواهي ،وإن لم يخل من تأثر بالمصدر اليوناني.
أولهما :الفيلسوف الخلقي الشهير :مسكويه ،أو ابن مسكويه كما يقال أحيانا ،الذي رأينا في كتابه )تهذيب
الخلق وتطهير العراق( -وهو كتاب في فلسفة الخلق -استمدادا من الّدين ،واتصال به في بعض الحيان،
كقوله عن الُملك:
)والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى ل تزول عن أوضاعها هو المام ،وصناعته هي
صناعة الُملك ،والوائل ل يسمون بالملك إل من حرس الّدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره .وأما من
أعرض عن ذلك فيسمونه متغلًبا ،ول يؤهلونه لسم الملك .وذلك أن الّدين هو وضع إلهي يسوق الناس
باختيارهم إلى السعادة القصوى ،والُملك هو حارس هذا الوضع اللهي حافظ على الناس ما أخذوا به.
وقد قال حكيم الفرس وَمِلكهم أزدشير :إن الّدين والُمْلك أخوان توأمان ،ل يتم أحدهما إل بالخر ،فالّدين أ ّ
س
س له فمهدوم ،وكل ما ل حارس له فضائع(].[4 والُملك حارس ،وكل ما ل أ ّ
وأما الحكيم الخر :فهو أقرب إلى الّدين منه إلى الفلسفة ،وإن كان في نظراته عمق الفيلسوف الصيل ،ولكنه
فيلسوف ديني ،تصدر أفكاره معّبرة عن الثقافة السلمية.
ضل المعروف بـ)الراغب الصفهاني( صاحب كتاب )مفردات القرآن( ذلك هو المام الحسن بن محمد بن المف ّ
-المعترف بفضله وقدره في )علوم القرآن( -وكتاب )تفصيل النشأتين( وغيرهما.
وقد تحّدث عن )السياسة( في كتابه الفريد )الذريعة إلى مكارم الشريعة( ،وهو أيضا كتاب في فلسفة الخلق،
التي سماها )مكارم الشريعة( .قال رحمه ال:
)والسياسة ضربان :أحدهما :سياسة النسان نفسه وبدنه وما يختص به.
والثاني :سياسة غيره من ذويه وأهل بلده ،ول يصلح لسياسة غيره َمن ل يصلح لسياسة نفسه ،ولهذا ذّم ال
شح لسياسة غيره ،فأمر بالمعروف ونهى عن المكر ،وهو غير مهذب في نفسه ،فقالَ} :أَتْأُمُرو َ
ن تعالى من تر ّ
ن{ ]البقرة.[44:
ب َأَفل َتْعِقُلو َ
ن اْلِكَتا َ
سُكْم َوَأْنُتْم َتْتُلو َ
ن َأْنُف َ
سْو َ
س ِباْلِبّر َوَتْن َ
الّنا َ
ن{ ]الصف:
ن َتُقوُلوا َما ل َتْفَعُلو َ
ل َأ ْ
عْنَد ا ِّ
ن * َكُبَر َمْقتًا ِ ن َما ل َتْفَعُلو َ ن آَمُنوا ِلَم َتُقوُلو َ وقال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
ضّل ِإَذا اْهَتَدْيُتْم { ]المائدة ،[105 :أي ن َضّرُكْم َم ْ سُكْم ل َي ُعَلْيُكْم َأْنُف َ
ن آَمُنوا َ ،[3،2وقال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
هّذبوها قبل الّترشح لتهذيب غيركم.
وبهذا النظر قيل :تفقهوا قبل أن تسودوا] ،[5تنبيها أنكم ل تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه والسياسة
العامة ،ولن السائس يجري من المسوس مجرى ذي الظل من الظل ،ومن المحال أن يستوي الظل وذو الظل
ن آَمُنوا ل َتّتِبُعوا
أعوج ،ولستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضال ،قال تعالىَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
شاِء َواْلُمْنَكِر{ ]النور ،[26:فحكم أنه محال أن ح َ
ن َفِإّنُه َيْأُمُر ِباْلَف ْ
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُ
ن َيّتِبْع ُ
ن َوَم ْ
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُُ
يكون مع اتباع الشيطان يأمر إل بالفحشاء والمنكر.[6](...
ول بد لنا هنا أن ُنعّرج على رأي فيلسوف الجتماع ،بل مؤسس علم الجتماع في الحقيقة :عبد الرحمن بن
خلدون )ت 808هـ( ،الذي أثبته في مقدمته ،وهو أثر الّدين عند العرب في إقامة الُملك وتثبيته ،مع سوء رأيه
في العرب ،وأنهم أقرب إلى الّتوحش منهم إلى العمران والحضارة] ،[7ومع هذا قّرر :أن العرب ل يحصل لهم
الملك إل بصفة دينية ،من نبوة أو ولية )ل( أو أثر عظيم من الّدين على الجملة.
ب المم انقياًدا بعضهم لبعض للغلظة واَلَنَفة ،وُبعد خُلق الّتوحش الذي فيهم ،أصع ُ قال) :والسبب في ذلك :أنهم ل ُ
الهّمة والمنافسة في الّرياسة؛ فقّلما تجتمع أهواؤهم .فإذا كان الّدين بالنبوة أو الولية )أي الولية ل بالتقوى(،
خُلق الِكبر والمنافسة منهم ،فسُهل انقيادهم واجتماعهم ،وذلك بما يشملهم كان الوازع لهم من أنفسهم ،وذهب ُ
من الّدين الُمْذِهب للِغلظة واَلَنَفة ،والوازع عن الّتحاسد والّتنافس .فإذا كان فيهم الّنبي أو الَوِلي الذي يبعثهم
على القيام بأمر ال ،وُيذهب عنهم مذمومات الخلق ويأخذهم بمحمودها ،ويؤّلف كلمتهم لظهار الحق ،تّم
عَوج اجتماعهم ،وحصل لهم الّتغلب والُملك .وهم مع ذلك أسرع الناس َقبول للحق والُهدى لسلمة طباعهم من ِ
خُلق الّتوحش القريب المعاناة ،الُمتهّيئ لَقبول الخير،
الَمَلكات ،وبراءتها من ذميم الخلق ،إل ما كان من ُ
ببقائه على الفطرة الولى ،وُبعده عّما ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء الَمَلكات فإن كل مولود يولد
على الفطرة] ،[8كما ورد في الحديث(].[9
كما عقد ابن خلدون فصل أّكد فيه :أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت
لها من عددها .قال) :والسبب في ذلك -كما قدمناه :أن الصبغة الّدينية تذهب بالّتنافس والّتحاسد الذي في أهل
العصبية ،وُتفرد الوجهة إلى الحق .فإذا حصل لهم الستبصار في أمرهم :لم يقف لهم شيء؛ لن الوجهة
واحدة ،والمطلوب متساٍو عندهم ،وهم مستميتون عليه ،وأهل الّدولة التي هم طالبوها -إن كانوا أضعافهم-
فأغراضهم متباينة بالباطل ،وتخاذلهم ِلَتقّية الموت حاصل ،فل ُيقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم ،بل يغلبون
عليهم ،وُيعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والّذل كما قدمناه.
وهذا كما وقع للعرب صدر السلم في الفتوحات .فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعة وثلثين
ألفا في كل معسكر ،وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسية ،وجموع ِهَرقل -على ما قاله الواقدي-
أربعمائة ألف! فلم يقف للعرب أحد من الجانبين ،وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم.
واعتبْر ذلك أيضا في دولة َلْمُتونة ودولة الموحدين .فقد كان بالمغرب من القبائل كثير مّمن يقاومهم في العدد
شف] [10عليهم ،إل أن الجتماع الّديني )عند الموحدين( ضاعف قوة عصبيتهم بالستبصار والعصبية أو َي ِ
والستماتة كما قلناه ،فلم يقف لهم شيء(].[11
شغل ابن خلدون بالسياسة الواقعية ،ولم يحلق وراء الطوبويات كجمهورية أفلطون أو مدينة الفارابي ،وعني
باكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم المم والمجتمعات ،والتي سماها )طبائع العمران( ،فهو أبو علم
)العمران السياسي( أو علم )الجتماع السياسي( ،وهو باعتراف الغربيين أنفسهم أول من كتب في هذا العلم،
حتى ذكر الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه )تخليص البريز إلى تلخيص باريز( أنه سمع العلماء في فرنسا
حين إقامته في النصف الول من القرن التاسع عشر يدعون ابن خلدون )منتسكيو الشرق أو السلم( ويسمون
منتسكيو )ابن خلدون الفرنج( ،ول غرو أن ُأطلق عليه :رائد علم الجتماع السياسي الحديث].[12
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1كان المسلمون قديما يعبرون عن الفلسفة بالحكمة ،وعن الفلسفة بالحكماء ،وقد قالوا :الفلسفة معناها:
حب الحكمة ،ولهذا أّلف الفارابي كتابا يوفق فيه بين آراء الحكيمين :أفلطون وأرسطو.
] -[2انظر :علم السياسة :د .حسن صعب دار العلم للمليين بيروت صـ 84وما بعدها.
] -[3انظر :ما كتبته )موسوعة العلوم السياسية( الكويتية عن هؤلء الثلثة :الفارابي وابن سينا وابن رشد
في الفقرات 122 :صـ ،182 – 180و 123صـ 136 ،184 – 182صـ ،207 – 204وانظر :علم السياسة
لحسن صعب صـ .87 -84
] -[4انظر :تهذيب الخلق صـ 129من منشورات مكتبة الحياة .بيروت .طبعة ثانية ،ويلحظ أن عبارة
أزدشير :قد اقتبسها المام الغزالي وأودعها كتابه إحياء علوم الدين ) (1/17طبعة دار المعرفة .بيروت.
] -[5رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم في العلم باب الغتباط في العلم والحكمة عن عمر موقوفا ،وابن أبي
شيبة في المصنف كتاب الدب ) ،(5/284والدارمي في المقدمة ) ،(250والبيهقي في الشعب ).(2/253
] -[6انظر) :الذريعة إلى مكارم الشريعة( للراغب الصفهاني بتحقيق د .أبو اليزيد العجمي صـ 93 ،92طبعة
دار الوفاء .مصر.
حاثة الكبير د .علي عبد الواحد وافي رحمه ال في تحقيقه للمقدمة ،وتقديمه لها :أن المراد
] -[7يرى الب ّ
بالعرب عند ابن خلدون ،هم :البدو ،ودّلل على ذلك من أقوال ابن خلدون نفسه في المقدمة ،فليراجع .المقدمة
طبعة دار البيان العربي.
جون البهيمة، ] -[8إشارة إلى حديث" :ما من مولود إل يولد على الفطرة ،فأبواه يهودانه وينصرانه ،كما َتْنِت ُ
هل تجدون فيها من جدعاء؟ ،"...وقد رواه البخاري في القدر ) (6599عن أبي هريرة ،ومسلم في القدر )
،(2658وأحمد في المسند ) ،(8179والترمذي في القدر ) ،(2138وأبو داود في السنة ).(4714
] -[9مقدمة ابن خلدون صـ 160طبع مؤسسة الرسالة ناشرون .دمشق – بيروت.
ف.
شَف َ
ف :يزيد )القاموس المحيط :صـ َ :(1066
] -[10يش ّ
ونحن ل نستطيع أن نتجاهل هذا أو ُنغفله ،وإن كنا نرفض سياسة الهيمنة ،وثقافة الهيمنة ،ونؤمن بالتنوع
والتعّددية في كل المور :التعّددية الِعرقية ،والتعّددية اُللغوية ،والتعّددية الّدينية ،والتعّددية السياسية.
وعلى أية حال ،شئنا أم أبينا ،ل زالت جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والفكرية متأثرة بالغرب ،ول زالت مصادر
أساتذتنا ومثقفينا غربية في معظمها.
وفي جميع دراساتنا النسانية والجتماعية -ول سيما السياسية -نأخذ عن الغرب ،وقّل منا َمن يقف موقف
النقد والتحليل ،بحيث يأخذ وَيَدع ،وينتقي ويترك ،تبًعا لمعاييره هو ،ومعايير أمته وحضارته ،ل معايير الغرب
وحضارته.
هنا نجد تعريفات كثيرة لكلمة )السياسة( تختلف باختلف التجاهات وزوايا الرؤى :فالسياسة عند الليبراليين،
خِليين ،والسياسة عند دعاة المذهب الفردي ،غيرها عند دعاة المذهب الجماعي ،والسياسة عند غيرها عند الَتَد ُ
دعاة القتصاد الحر ،أو اقتصاد السوق ،غيرها عند الماركسيين أو دعاة التخطيط المركزي وسيطرة الدولة
على النتاج والتوزيع.
السياسة عند رجال الّدين الجامدين الذين يرون مقاومة المراض والوبئة :مقاومة لرادة ال ،غير السياسة
عند الطباء ورجال الصحة الذين يرون توفير الصحة العامة ،والدوية وما يتصل بها لكل مريض.
السياسة عند دعاة الّدين والِقَيم الخلقية الذين ل يبيحون الجهاض بإطلق ،ول يرون إشاعة الفاحشة في
سحاق ،غير السياسة عند الذين يطلقون العنان للشهوات والغرائز الدنيا ،لتقود
المجتمع من الزنى واللواط وال ّ
النسان ،وَتحُكم الحياة ،حتى إنهم يباركون الزواج المثلي ،ويؤيدون الُعري والشذوذ ،مّما ترفضه كل الديان
الكتابية .ولهذا تفاوتت التعريفات للسياسة عند كل فريق.
قول هارولد لسويل) :السياسة هي :السلطة أو النفوذ ،الذي يحّددَ :من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟(].[2
صحيح أنه يتكلم عن )علم السياسة( ل عن السياسة ،ولكن نفهم من موضوع العلم مفهوم السياسة التي
يعالجها.
ويسأل جان باري دانكان في الفصل الثاني من كتابه )علم السياسة( سؤال أساسيا :ما هي السياسة؟
ويجيب الكاتب عن السؤال بتفصيل وتحليل وتعميق ،استغرق ) (32صفحة ،وكان مما قاله) :إن هناك
استعمالت نوعية لكلمة السياسة ،واستعمالت غير نوعية(.
ويعني بغير النوعية :تلك التي من السهل أن تستبدل فيه كلمة سياسة بمرادفاتها ،ويذكر هنا ثلثة استعمالت:
)الول :أن كلمة )سياسة( تعادل تقريبا كلمة )الدارة( ،وخصوصا المور الجزئية ،مثل سياسة النقل ،وسياسة
الطاقة ،وسياسة صناعة السيارات ،ونحوها.
الستعمال الثاني :كلمة السياسة ُتعادل كلمة )الستراتيجية( مثل :سياسة الحزب ،أو سياسة النقابة ،أو سياسة
الحكومة ...إلخ.
والستعمال الثالث :تتضّمن كلمة السياسة ِقيمة تحقيرية بشكل واضح ،حيث تفكر بفكرة العمل المكيافللي،
المراوغ والضال.
فهنا ينظر إلى )السياسة( باعتبارها عالما مثيرا للشمئزاز .والكلمة تستعمل بشكل شائع من أجل الحط من
قيمة من تطلق عليه .فعبارة) :هذا من فعل السياسة( هي عبارة تحقيرّية ،وليست تعريًفا(].[4
أقول :وهذا المعنى معروف أيضا في العرف الغربي؛ أن ينسب العمل إلى دهاليز السياسة وألعيبها .وهو ما
ُيحكى عند المام محمد عبده أنه قال :أعوذ بال من السياسة ،ومن ساس ويسوس ،وساس ومسوس .ول
أدري مدى صحة هذا عنه.
وفي الستعمال النوعي لكلمة السياسة يذكر دانكان :أنه يجب التفريق جيًدا بين السياسة وبين أمور أخرى
تتداخل معها وتختلط بها ،ولكنها متميزة عنها ،مثل التكنوقراط ،ومثل السياسة والقتصاد ،أو السياسي
والقتصادي ،ومثل السياسة والخلق .وقد تحدث المؤلف بتفصيل مميًزا بين هذه المفاهيم بعضها وبعض،
فليرجع إليه].[5
ول مانع في نظر الشرع السلمي من طلب القوة والحصول عليها ،ولكن لتكون أداة في خدمة الحق ،ل غاية
ُتنشد لذاتها ،والمة المسلمة يجب أن تكون أبًدا مع قوة الحق ل مع حق القوة .والقوة إذا انفصلت عن الحق
عاٌد
أصبحت خطًرا ُيهّدد الضعفاء ،ويبطش بكل َمن ل ظفر له ول ناب ،كما حدثنا القرآن عن عاد قوم هود َفَأّما َ
شّد ِمْنُهْم ُقّوًة َوَكاُنوا
خَلَقُهْم ُهَو َأ َ
ل اّلِذي َ
ن ا َّ
شّد ِمّنا ُقّوًة َأَوَلْم َيَرْوا َأ ّ
ن َأ َ
ق َوَقاُلوا َم ْ
حّ
ض ِبَغْيِر اْل َ
سَتْكَبُروا ِفي اَْلْر َِفا ْ
ن ]فصلت.[15: حُدو َ
جَِبآَياِتَنا َي ْ
وكان الغرور بالقوة هو الذي صّدهم عن اتباع نبيهم الذي بعثه ال إليهم ،لُيخرجهم من الوثنية إلى التوحيد،
ومن طغيان القوة إلى اللتزام بالحق ،ولما لم ُيجد فيهم النصح ،ولم يصغوا إلى إنذار رسولهم :أخذهم ال
بعذابه ،فأرسل عليهم الريح العقيم ،ما تذر من شيء أتت عليه إل جعلته كالرميم.
وأما المصلحة ،فهي ُمعتبرة في الشريعة السلمية ،بل ما شرع ال الحكام إل لمصلحة العباد في المعاش
والمعاد ،وكل مسألة خرجت من المصلحة إلى المفسدة ،فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها
بالتأويل ،كما قال المحققون.
ل من أدلة الشرع ،كماوالمصلحة المرسلة ،أي التي لم َيِرد في الشرع دليل باعتبارها ول بإلغائهاُ :تعّد دلي ً
صرح بذلك المام مالك ،وكما هو الحال في المذاهب الخرى ،كما بّين ذلك المام شهاب الدين القرافي في كتابه
)تنقيح الفصول(.
ولكن المصلحة التي ترتبط بها السياسة في نظر السلم ،والتي يتحدث عنها الغربيون وغيرهم ،ليست هي كل
ما ُيحّقق اللذة للنسان ،أو يجمع بها لنفسه أكبر قدر من حظوظ الدنيا ،ولو كان ذلك على حساب غيره ،أو على
حساب الِقَيم والخلق.
بل إن الشارع بّين المصالح المنشودة ،وربطها بمقاصد تحققها في الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
وسنذكر ذلك في حديثنا عن )النص والمصلحة(.
--------------------------------------------------------------------------------
] -[2انظر :المنهجية والسياسة صـ 44لملحم قربان .بيروت .الطبعة الولى 1986م.
] -[3انظر :مدخل إلى علم السياسة صـ 86لجان مينو ترجمة جورج يونس .منشورات عوبدات .بيروت
1983م.
] -[4انظر :كتاب )علم السياسة( تأليف جان ماري دانكان ،ترجمة د .محمد عرب صاصيل .طبعة المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع .بيروت .صـ .30-23
الباب الثاني
إذا عرفنا مفهوم كل من الّدين والسياسة :أمكننا أن نفهم علقة كل منهما بالخر .هل هي علقة تضاد وتصادم،
بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الخر؟
أو هي علقة تواصل وتلحم ،بحيث ل يستغني أحدهما عن الخر ،ول ينفصل عن الخر.
أو هي علقة تعايش وتفاهم ،كما يتفاهم الشخصان المختلفان-دينا أو مذهبا أو عرقا أو وطنا -على عمل
مشترك بينهما ،أو كما تتفاهم الدول المختلفة أيديولجيا على التعايش السلمي المشترك؟
موقف العلمانيين:
أما الحداثيون والماركسيون والعلمانيون ،فل يرون العلقة بين الّدين والسياسة إل علقة التضاد والتصادم،
وأن الّدين شيء ،والسياسة خصم له ،وأنهما ل يلتقيان .فمصدرهما مختلف ،وطبيعتهما مختلفة ،وغايتهما
مختلفة .فالّدين من ال ،والسياسة من النسان .والّدين نقاء واستقامة وطهر ،والسياسة خبث والتواء وغدر.
والدين غايته الخرة ،والسياسة غايتها الدنيا .فينبغي أن يترك الّدين لهله ،وتترك السياسة لهلها.
وهم ينكرون فكرة الشمول والتكامل في السلم ،الذي تبناه كل الدعاة والُمصلحين السلميين في عصرنا؛ فهم
يريدونه عقيدة بل شريعة ،وعبادة بل معاملة ،ودينا بل دنيا ،ودعوة بل دولة ،وحقا بل قوة.
وقد رتبوا على هذا آثارا فكرية وعملية تبنوها ،وجعلوها مرتكزات لهم ،منها:
التشنيع على دعاة تحكيم الشريعة السلمية بتهمة السلم السياسي. .3
.4ادعاء أن الّدين يقيد السياسة بحرفية النصوص ،ول يعول على المصلحة ،وبذلك يفوت على المة
مصالح كثيرة بسبب هذه النظرة الضيقة.
الفصل الول
أما مسألة )شمول السلم( التي ينكرها ويرفضها الحداثيون والعلمانيون والماركسيون بصفة عامة ،فهي فكرة
متفق عليها بين علماء السلم ومصلحيه كما يحدثنا بذلك واقع عصرنا.
وقد رأينا الُمصلحين السلميين في العصر الحديث ،ابتداء بابن عبد الوهاب ،والمهدي ،وخير الدين التونسي،
والسنوسي ،والمير عبد القادر ،وجمال الّدين الفغاني ،ومرورا بالكواكبي ،ومحمد عبده ،وشكيب أرسلن،
ورشيد رضا ،وحسن البنا في مصر ،وابن باديس وإخوانه في الجزائر ،وعلل الفاسي في المغرب،
والمودودي في باكستان ،وغيرهم ،كلهم يتَبّنْون شمول السلم للعقيدة والشريعة ،والدعوة والدولة ،والّدين
والسياسة .ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظرًيا ،بل خاضوا غمار السياسة عملًيا ،وواجهوا مخاطرها ومتاعبها،
وعانوا محنها وشدائدها .وإنما فعلوا ذلك لسباب ثلثة:
الول :أن السلم الذي شرعه ال لم يدع جانبا من جوانب الحياة إل وتعهده بالتشريع والتوجيه ،فهو
-بطبيعته -شامل لكل نواحي الحياة ،مادية وروحية ،فردية واجتماعية .وقد خاطب ال تعالى رسوله بقوله:
ن ]النحل.[89:
سِلِمي َ
شَرى ِلْلُم ْ
حَمًة َوُب ْ
ى َوَر ْ
يٍء َوُهد ً
ش ْ
ب ِتْبَيانًا ِلُكّل َ
ك اْلِكَتا َ
عَلْي َ
َوَنّزْلَنا َ
صَياُم ] ...البقرة ،[183:هو نفسه الذي يقول في نفس عَلْيُكُم ال ّ ب َن آَمُنوا ُكِت َ والقرآن الذي يقولَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
صاصُ ِفي اْلَقْتَلى ] ...البقرة ،[178:وهو الذي يقول فيهاُ :كِت َ
ب عَلْيُكُم اْلِق َ
ب َن آَمُنوا ُكِت َ السورةَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
ف ] ...البقرة ،[180:ويقول في ن ِباْلَمْعُرو ِن َواَْلْقَرِبي َصّيُة ِلْلَواِلَدْي ِ
خْيرًا اْلَو ِك َ ن َتَر َ
ت ِإ ْ
حَدُكُم اْلَمْو ُضَر َأ َ
ح َ عَلْيُكْم ِإَذا َ
َ
خْيٌر َلُكْم ] ...البقرة ،[216:عّبر
شْيئًا َوُهَو َن َتْكَرُهوا َ سى َأ ْ ع َعَلْيُكُم اْلِقَتاُل َوُهَو ُكْرٌه َلُكْم َو َ
ب َذات السورةُ :كِت َ
عَلْيُكُم.
ب َ القرآن عن فرضية هذه المور كلها بعبارة واحدةُ :كِت َ
فهذه المور كلها مما كتبه ال على المؤمنين أي فرضه عليهم :الصيام من المور التعبدية ،والقصاص في
القوانين الجنائية ،والوصية فيما يسمى )الحوال الشخصية( ،والقتال في العلقات الدولية.
وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون ،ويتقربون بها إلى ال ،فل يتصور من مسلم قبول فرضية
عَلْيُكُم.
ب َ
الصيام ،ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال .وجميعها تقولُ :كِت َ
إن الشريعة السلمية حاكمة على جميع أفعال المكّلفين ،فل يخلو فعل ول واقعة من الوقائع إل ولها فيها حكم
من الحكام الشرعية الخمسة )الوجوب ،أو الستحباب ،أو الحرمة ،أو الكراهية ،أو الجازة( .كما قّرر ذلك
الصوليون والفقهاء من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى الِمّلة.
يءٍ
ش ْ
ب ِتْبَيانًا ِلُكلّ َ
ك اْلِكَتا َ
عَلْي َ
وقد دل على هذا الشمول القرآن والسنة ،فقد قال تعالى مخاطبا رسوله َ :وَنّزْلَنا َ
ق اّلِذي
صِدي َ
ن َت ْ حِديثًا ُيْفَتَرى َوَلِك ْن َ ن ]النحل .[89:ويقول عن القرآنَ} :ما َكا َ سِلِمي َ
شَرى ِلْلُم ْحَمًة َوُب ْ
ى َوَر ْ َوُهد ً
ن{ ]يوسف.[111: حَمًة ِلَقْوٍم ُيْؤِمُنو َ
ى َوَر ْ
يٍء َوُهد ً ش ْ صيَل ُكّل َن َيَدْيِه َوَتْف ِ
َبْي َ
وقد ثبت أن رسول ال ما ترك أمرا يقربنا من ال إل وأمرنا به ،ول ترك أمرا يبعدنا عن ال إل نهانا عنه،
حتى تركنا على المحجة البيضاء" :ليلها كنهارها ل يزيغ عنها إل هالك"].[1
فالسلم هو رسالة الحياة كلها ،ورسالة النسان كله ،كما أنه رسالة العالم كله ،ورسالة الزمان كله].[2
ومن قرأ كتب الشريعة السلمية ،أعني كتب الفقه السلمي ،في مختلف مذاهبه :وجدها تشتمل على شؤون
الحياة كلها ،من فقه الطهارة ،إلى فقه السرة ،إلى فقه المجتمع ،إلى فقه الدولة ،وهذا في غاية الوضوح لكل
طالب مبتدئ ،ناهيك بالعالم المتمّكن.
الثاني :أن السلم نفسه يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه ،وأخذ بعضها دون بعض.
ض اْلِكَتا ِ
ب ن ِبَبْع ِ وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل ،فقال تعالى في خطابهمَ :أَفُتْؤِمُنو َ
ب َوَما
شّد اْلَعَذا ِ
ن ِإَلى َأ َحَياِة الدّْنَيا َوَيْوَم اْلِقَياَمِة ُيَرّدو َ
ي ِفي اْل َ
خْز ٌ
ك ِمْنُكْم ِإّل ِ
ن َيْفَعُل َذِل َ
جَزاُء َم ْ
ن ِبَبْعضٍ َفَما ََوَتْكُفُرو َ
ن ]البقرة.[85: عّما َتْعَمُلو َ
ل ِبَغاِفٍل َ
ا ُّ
ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في السلم بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية ،مثل تحريم يوم
السبتَ ،أَبى الرسول عليهم ذلك إل أن يدخلوا في شرائع السلم كافة].[3
عُدّو
ن ِإّنُه َلُكْم َ
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُسْلِم َكاّفًة َول َتّتِبُعوا ُ
خُلوا ِفي ال ّ
ن آَمُنوا اْد ُ
وفي ذلك نزل قول ال تعالىَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
ن ]البقرة.[4][208:
ُمِبي ٌ
عْ
ن ن َيْفِتُنوكَ َ
حَذْرُهْم َأ ْ
ل َول َتّتِبْع َأْهَواَءُهْم َوا ْ
حُكْم َبْيَنُهْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
نا ْ
وخاطب ال سبحانه رسوله فقالَ :وَأ ِ
ك ]المائدة.[49:
ل ِإَلْي َ
َبْعضِ َما َأْنَزَل ا ُّ
فهنا يحذر ال رسوله من غير المسلمين :أن يصرفوه عن بعض أحكام السلم ،وهو خطاب لكل َمن يقوم بأمر
المة من بعده.
والحقيقة أن تعاليم السلم وأحكامه في العقيدة والشريعة والخلق والعبادات والمعاملت :ل تؤتي أكلها إل إذا
أخذت متكاملة ،فإن بعضها لزم لبعض ،وهي أشبه )بوصفة طبية( كاملة مكّونة من غذاء متكامل ،ودواء
حْمية وامتناع من بعض الشياء ،وممارسة لبعض التمرينات ...فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها ،ل متنوع ،و ِ
ن َتْرك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها.
بد من تنفيذها جميعا .فإ ّ
ول يمكن أن تصلح الحياة إذا تولى السلم جزءا منها كالمساجد والزوايا يحكمها ويوجهها ،وُتركت جوانب
الحياة الخرى لمذاهب وضعية ،وأفكار بشرية ،وفلسفات أرضية ،توجهها وتقودها.
ل يمكن أن يكون للسلم المسجد ،ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والذاعة والتلفاز والصحافة
والمسرح والسينما والسوق والشارع ،وبعبارة أخرى :الحياة كلها!
كما ل يمكن أن يصلح النسان إذا كان توجيه الجانب الروحي له من اختصاص جهة كالّدين ،والجانب المادي
والعقلي والعاطفي من اختصاص جهة أخرى كالدولة اللدينية.
إنه هو النسان بروحه ومادته ،بعقله وعاطفته ،بغريزته وضميره ،فل فصل ول تفريق ،كما يؤيد ذلك العلم
الحديث نفسه .وكذلك الحياة.
وكل الفلسفات والمذاهب الثورية أو )اليديولوجيات( النقلبية في التاريخ وفي عصرنا ذات طابع كلي شمولي،
ولهذا ترفض تجزئة الحياة ،وتأبى أن تسيطر على جزء منها دون جزء ،بل ل بد أن تقودها كلها ،وتوجهها
جميعا وفقا لفلسفتها ،ونظرتها الكلية للوجود وللمعرفة وللقيم ،ول والكون والنسان والتاريخ.
)إن َفهم الشتراكية على أنها نظام اقتصادي فحسب ،هو َفهم خاطئ؛ فالشتراكية تقّدم حلول اقتصادية لمسائل
كثيرة ،ولكن هذه الحلول جميعا ليست إل ناحية واحدة من نواحي الشتراكية ،وَفهمها على أساس هذه الناحية
الواحدة َفهم خاطئ ل ينفذ إلى العماق ،ول يتعرف إلى السس التي تقوم عليها الشتراكية ،ول يتطلع إلى
المال البعيدة التي تذهب إليها الشتراكية.
فالشتراكية مذهب للحياة ،ل مذهب للقتصاد ،مذهب يمتد إلى القتصاد والسياسة والتربية والتعليم والجتماع
والصحة والخلق والدب والعلم والتاريخ ،وإلى كل أوجه الحياة كبيرها وصغيرها.
وأن تكون اشتراكيا يعني أن يكون لك َفهم اشتراكي لكل هذا الذي ذكرت ،وأن يكون لك كفاح اشتراكي يضم كل
هذا الذي ذكرت(.
ثم يؤكد الكاتب أن هذه النظرة الشاملة ليست مقصورة على الشتراكية ،وإنما هي الساس في المذاهب
الجتماعية الخرى.
ولقد بّرر الكاتب شمول المذاهب الجتماعية ،واتساع نطاقها بحيث تتسع إلى كل المجالت ،وأن تضع الحلول
لكل المشكلت بأن:
)سبب هذه النظرة الشاملة؛ أن الحياة نفسها شيء واحد ...تيار واحد ل يعرف هذا التقسيم الذي يخترعه
عقلنا ،لكي يسّهل على نفسه إدراك حقائق الحياة ،ثم ينسى أنه هو نفسه الذي قام بهذا التقسيم ،ويظن أن
سمة هكذا منذ الزل.
الحياة كانت مق ّ
فالحياة ل تعرف شيئا اسمه القتصاد ،منفصل عن شيء اسمه الجتماع ،وشيء آخر اسمه السياسة.
الحياة شيء متكامل متصل ،ولكن عقلنا العاجز المغرم بالتحليل والدرس ،لن يتمكن من القيام بهذا التحليل
والدرس ،إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته ،فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه ،وإلى ألوان ،وإلى أنواع
من العلقات ،فُيسّمي بعضها اقتصادا ،ويسمي بعضها الخر سياسة ،وبعضها اجتماعا ،وأخلقا ،ودينا ،وأدبا،
وعلما ...إلى آخر هذه السلسلة إن كان لها آخر ...
الحياة ...كالنهر ،شيء واحد متصل مستمر ...وكذلك حياة أي مجتمع ،كبير أو صغير ،أمة أو أسرة ،حكومة
أو حزب.
فموقف أي مجتمع إزاء الحريات السياسية يقّرر موقفه من القتصاد ،وموقفه من النظم القتصادية يقّرر موقفه
من الحريات السياسية ،وكذلك من الستعمار ومن الخلق ومن التعليم ومن الدب ومن التاريخ ...إلى آخر
تلك السلسلة التي ل تنتهي(.
)بهذا المعنى ،تصبح كلمة الشتراكية إذن كلمة ل تقتصر على التعبير عن حالة اقتصادية معينة فحسب ،بل هي
تعبير عن نوع من الحياة بأكملها ،بجميع وجوهها( اهـ.
هذه هي طبيعة اليديولوجيات النقلبية كلها ،فلماذا ُيراد للسلم وحده -وهو بطبيعته رسالة شاملة :عقيدة
وشريعة وأخلقا وحضارة -أن يقصر رسالته على المساجد والمحاكم الشرعية؟!
ولعله لو رضي بذلك ،ما تركوه يستقل بهذه المساجد يوجهها كما يريد ،ول تلك المحاكم يقضي فيها بما يشاء]
.[6
إن المسيحية التي يقول إنجيلها) :دع ما لقيصر لقيصر ،وما ل ل(] [7حين وجدت الفرصة والقوة ،لم يسعها
أن تدع شيئا لقيصر ،ولم تستطع إل أن تسود ،وتوجه الحياة كلها الوجهة التي تؤمن بها ،مثل كل
اليديولوجيات الّدينية والعلمانية قديما وحديثا.
فإذا كان هذا شأن المسيحية ،فكيف بالسلم الذي يأبى أن يقسم النسان بين مادة وروح منفصلتين ،أو يقسم
الحياة بين ال وقيصر ،وإنما يجعل قيصر وما لقيصر ل الواحد الحد؟!
ل ]النعام.[114:
صًب ُمَف ّ
حَكمًا َوُهَو اّلِذي َأْنَزَل ِإَلْيُكُم اْلِكَتا َ
ل َأْبَتِغي َ
َأَفَغْيَر ا ِّ
ن ]المائدة.[8][50:
حْكمًا ِلَقْوٍم ُيوِقُنو َ
ل ُ
ن ا ِّ
ن ِم َ
سُح َ
ن َأ ْ
ن َوَم ْ
جاِهِلّيِة َيْبُغو َ
حْكَم اْل َ
َأَف ُ
و يقول أستاذنا الدكتور محمد البهي ُمعقبا على قول علي عبد الرازق في كتابه )السلم وأصول الحكم(:
)ولية الرسول على قومه :ولية روحية ،منشؤها إيمان القلب ،وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع
الجسم.
وولية الحاكم :ولية مادية ،تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال.
تلك ولية هداية إلى ال وإرشاد إليه ،وهذه ولية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الرض ،تلك للدين وهذه للدنيا،
تلك ل وهذه للناس ،تلك زعامة دينية ،وهذه زعامة سياسية ...وما أبعد ما بين السياسة والّدين(]!![9
وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق ،يقوم على أساس من )مثنوية( تفكير القرون الوسطى
فيما يتصل بالنسان ...وهو التفكير الذي ساد الغربيين عند فصلهم بين )الكنيسة( و)الدولة(.
و)مثنوية( النسان معناها :أن هناك )انفصال( بين جسمه وروحه ،وأنه ليس أحدهما تابعا للخر ،فضل عن
أن يكونا )وحدة( واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية :اللهية والنسانية ،يستوي في
التعبير عنه ما يوجد عند فلسفة المسلمين أو فلسفة المسيحيين من الباء والمدرسين ...لن قوامه هنا
وهناك ما خلفه الغريق ،ووّرثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء!
و )مثنوية( النسان يعدها العلم الحديث ،وهو البحث النفسي التجريبي ،تصورا نظريا ل يركن إليه الرأي
السليم في قيادة النسان وتوجيهه .والنسان الن -في نظر البحث العلمي -وحدة واحدة :ل انفصال بين جسمه
ونفسه ،ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين وسلطتين مختلفتين ...والضمن إذن في سلمة
توجيهه أن تكون قيادته واحدة.
وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين )الكنيسة( و)الدولة( -وهو ما يعرف بالفصل بين )الّدين( و)الدولة( -لم
تثمر الحتكاك بين السلطتين فقط ،بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للخرى في النهاية ،وفي واقع
المر كان هو إخضاع )الدولة( للكنيسة! فـ )الدولة( الغربية الحديثة في أوربا وأمريكا تعتمد على النظام
الديمقراطي ،وهو نظام التصويت الشعبي ...وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل
-لتنفيذ اتجاه الكنيسة -من الوعود والعهود أكثرها ،إذا ما وصل إلى كرسي الحكم!!
ومع أن )مثنوية( النسان التي قام عليها الفصل بين الّدين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية،
وغير عملية من الوجهة التطبيقية ،فإن دعاة -أو أدعياء) -التجديد( في الفكر السلمي الحديث :لم يزالوا
يرون )الوحدة( في النسان وفي القيادة تخلفا ،لنها من أصول السلم]!![10
الرابع :وهو سبب عملي ل ينبغي أن ُيناَزع فيه ،وهو :أن الناس من قديم أدركوا أهمية الدولة أو السلطة
السياسية في تحقيق الهداف ،وتنفيذ الحكام ،وتعليم المة ،ووقايتها المنكر والفساد ،ولذا قال الخليفة الثالث
عثمان رضي ال عنه" :إن ال يزع بالسلطان ما ل يزع بالقرآن"].[11
ول سيما أن الدولة في عصرنا أمست تملك َأِزّمة الحياة كلها في أيديها ،من التعليم إلى القضاء ،إلى الثقافة،
إلى العلم ،إلى المساجد ،إلى القتصاد والجتماع ،فل يمكن لُمصلح أن يتجاوزها ،ويدعها للقوى العلمانية،
تفعل ما تشاء ،وهي قادرة على أن تهدم كل ما يبنيه أهل الصلح بسهولة ويسر .ول سيما أن الهدم عادة
أسهل من البناء .فكيف بمن يهدم باللغام الناسفة ،التي تستطيع أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من تراب في
دقائق معدودات؟!
ولم تكن الدولة قديما تملك كل هذا السلطان والتأثير في يدها .بل هو من خصائص عصرنا ،كما قال برتراند
راسل في أحد كتبه.
ولقد ذكرت في كتابي )تاريخنا المفترى عليه( :أن الدولة ومعها الخليفة العظم ،خلل تاريخنا السلمي
الطويل ،ما كانت تملك من شؤون المة والمجتمع الشيء الكثير .بل كانت الدولة محصورة في إطار معين في
العاصمة وربما المدن الكبرى .أما المة بشعوبها وجماهيرها المختلفة ،فكانت في واد غير وادي السلطة،
تمارس حياتها في ظل السلم ،وبقيادة العلماء في غالب الحوال.
كان التعليم بيد العلماء ،يعلمون الناس السلم واللغة والداب والتاريخ والمعارف المختلفة ،كما يشاؤون.
وكان القضاء بيد العلماء ،يقضون بأحكام الشريعة على الخاصة والعامة ،كما يحبون.
وكانت الفتوى كذلك بأيدي العلماء ،يلجأ إليهم الناس مختارين ،ليجيبوهم عما يسألون في أمور الّدين والحياة.
وكانت الوقاف الخيرية بأيدي العلماء ،ينفقون من ريعها على أبواب الخير المتنوعة ،ومنها :المساجد
والمدارس ،أي الدعوة والتعليم كما شرط الواقفون.
فقد ظلت المة مستمسكة بدينها ،حين انحرف المراء والسلطين ،وظلت متماسكة حين انفرط عقد الخلفة
والسلطنة ،وظلت المة قوية حصينة بمؤسساتها المدنية والهلية والجتماعية ،حين ضعفت وتفككت السلطة
التنفيذية ،وظل المجتمع )المدني( -كما يقال اليوم -مشدودا إلى أصله الّديني ،متمسكا بعروته الوثقى ،وإن
وهت حبال الدولة أو السلطة من حوله.
وفي عصرنا انتقلت القوة من المة إلى الدولة ،وأضحت هي المتحكمة في معظم المور ،كما أشرنا إلى ذلك،
من تعليم وإعلم وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية.
فكيف يمكن للمصلح أن يباشر الصلح إذا كانت الدولة مضادة لتجاهه ،فهو يحيي وهي تميت ،وهو يجمع
وهي تفرق ،وهو ُيشّرق وهي ُتغّرب؟
شتان بين مشّرق ومغّرب! سارت ُمغّربة وسرت مشّرقا
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟ متى يبلغ البنيان يوما تمامه
فكيف إذا كان الذي يهدم هو الدولة ذاتها ،بما تملك من إمكانات فائقة ،وآليات كبيرة؟!
وهذا ما جعل المصلحين ومؤسسي الحركات السلمية يدخلون معترك السياسة ،ويلتمسون الصلح عن
صلَة َوآَتُوا
ض َأَقاُموا ال ّ
ن َمّكّناُهْم ِفي اَْلْر ِ
ن ِإ ْ
طريق )إقامة دولة إسلمية( التي تحقق ما قاله ال تعالى :اّلِذي َ
ن اْلُمْنَكِر ]الحج[41:
عِف َوَنَهْوا َ
الّزَكاَة َوَأَمُروا ِباْلَمْعُرو ِ
ليس من الضروري أن يكونوا هم حكام هذه الدولة ،إذا وجدوا من يقيم هذه الدولة المنشودة بأركانها
وشروطها .فلو قام الحكام الحاليون بذلك فما أسعدهم بذلك.
وإن رفضوا ذلك أو عجزوا عنه -كما هو الواقع الماثل -فقد وجب على أهل الدعوة والصلح والتغيير :أن
يقوموا هم بالمهمة المطلوبة .وعليهم أن يعدوا مقدما :الطارات البشرية ،والليات المادية ،والمعينات
الجتماعية؛ التي تساعد في تحقيق الهدف ،فليس يتم مثل هذا النجاز بالماني ،ول بالكلم.
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1رواه أحمد في المسند ) (17142عن العرباض بن سارية ،وقال محققوه :حديث صحيح بطرقه وشواهده
وهذا إسناد حسن ،وابن ماجه في اليمان ) ،(43والحاكم في المستدرك كتاب العلم ) ،(1/175والطبراني في
الكبير ) ،(18/247وصححه اللباني في صحيح الجامع ).(4369
] -[2انظر في ذلك :خصيصة )الشمول( من كتابنا )الخصائص العامة للسلم( صـ ،95وكذلك) :الَفهم
الشمولي للسلم والتحذير من تجزئة السلم( من كتابنا )الصحوة السلمية وهموم الوطن العربي
والسلمي( صـ .98 - 68
] -[4يقول ابن كثير في تفسير الية) :يقول ال تعالى آمرا عباده المؤمنين به ،المصدقين برسوله ،أن يأخذوا
عرا السلم وشرائعه ،والعمل بجميع أوامره ،وترك جميع زواجره ،ما استطاعوا من ذلك( .تفسير ابن بجميع ُ
كثير جـ 1صـ 247طبعة دار إحياء التراث العربي .بيروت.
] -[5هو د .منيف الرزار ،الذي انتخب زمنا ما أمينا عاما لحزب البعث الشتراكي العربي في كتاب )دراسات
في الشتراكية( الذي صدر عام 1960م ،ويحمل مقالت لعدد من قادة )البعث(.
] -[6في عدد من بلد المسلمين اعتدت الحكومات العلمانية على الجزء الباقي لهم من التشريع ،وهو المتعلق
بالسرة أو ما سمي )الحوال الشخصية( ،كما أن المسجد لم يعد حرا في أن يقول كلمة السلم كما يشاء ،بل
كما تشاء السلطة.
] -[9السلم وأصول الحكم صـ 141بتعليق د .ممدوح حقي عليه ،طبعة دار مكتبة الحياة .بيروت.
] -[10انظر :الفكر السلمي الحديث وصلته بالستعمار الغربي للدكتور محمد البهي صـ .268 - 266
] -[11البداية والنهاية لبن كثير ) ،(2/10وروى الخطيب في تاريخه ،عن عمر بن الخطاب قوله :لما يزع ال
بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن ).(4/107
الفصل الثاني
أول ما رتبه العلمانيون على نظريتهم في العلقة بين السياسة والّدين :أنهم فصلوا السياسة عن الّدين ،والّدين
عن السياسة فصل تاما ،وأشاعوا المقولة الشهيرة :ل دين في السياسة ول سياسة في الّدين! وهي مقولة ل
ك النقد والمناقشة.
تثبت على مح ّ
بل هناك من ينادي بفصل الدين عن الحياة كلها ،ول ينبغي له أن يكون له دور إل في ضمير الفرد ،فإن سمح
له بشيء أكثر ففي داخل المعبد )الكنيسة أو المسجد( وهو ما سماه د .عبد الوهاب المسيري ):العلمانية
الشاملة(.
فما معنى :ل دين في السياسة :أتعني :أن السياسة ل دين لها ،فل تلتزم بالِقَيم والقواعد الّدينية ،وإنما هي
)براجماتية( تتبع المنفعة حيث كانت ،والمنفعة المادية ،والمنفعة الحزبية أو القومية ،والمنفعة النية ،وترى
أن المصلحة المادية العاجلة فوق الّدين ومبادئه ،وأن )ال( وأمره ونهيه وحسابه ،ل مكان له في دنيا
السياسة.
وهي في الحقيقة تتبع نظرية مكيا فللي] ،[1التي تفصل السياسة عن الخلق ،وترى أن )الغاية تبّرر
الوسيلة( ،وهي النظرية التي يبّرر بها الطغاة والمستبدون مطالبهم وجرائمهم ضد شعوبهم ،وخصوصا
المعارضين لهم ،فل يبالون بضرب العناق ،وقطع الرزاق ،وتضييق الخناق ،بدعوى الحفاظ على أمن الدولة،
واستقرار الوضاع ...إلى آخر المبّررات المعروفة.
ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها البشر؟
إن البشر ل يصلح لهم إل سياسة تضبطها ِقَيم الّدين وقواعد الخلق ،وتلتزم بمعايير الخير والشر ،وموازين
الحق والباطل.
إن السياسة حين ترتبط بالّدين ،تعني :العدل في الرعية ،والقسمة بالسوية ،والنتصار للمظلوم على الظالم،
وأخذ الضعيف حقه من القوي ،وإتاحة فرص متكافئة للناس ،ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع :كاليتامى
والمساكين وأبناء السبيل ،ورعاية الحقوق الساسية للنسان بصفة عامة.
إن دخول الّدين في السياسة ليس -كما يصوره الماديون والعلمانيون -شرا على السياسة ،وشرا على الّدين
نفسه.
فهو ل يرضى عن ظلم ،وهو ل يتغاضى عن زيف ،ول يسكت عن غي ،ول يقر تسلط القوياء على الضعفاء،
ول يقبل أن يعاقب السارق الصغير ،ويكرم السارق الكبير!!
والّدين إذا دخل في السياسة :هداها إلى الغايات العليا للحياة وللنسان :توحيد ال ،وتزكية النفس ،وسمو
خلق .وتحقيق مقاصد ال من خلق النسان :عبادة ال ،وخلفته في الرض ،وعمارتها الروح ،واستقامة ال ُ
بالحق والعدل ،بالضافة إلى ترابط السرة ،وتكافل المجتمع ،وتماسك المة ،وعدالة الدولة ،وتعارف البشرية.
ومع الهداية إلى أشرف الغايات ،وأسمى الهداف :يهديها كذلك إلى أقوم المناهج ،لتحقيق هذه الغايات ،وجعلها
واقعا في الرض يعيشه الناس ،وليست مجرد أفكار نظرية ،أو مثاليات تجريدية.
والّدين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة :الحوافز التي تدفعهم إلى الخير ،وتقفهم عند الحق ،وتشجعهم
على نصرة الفضيلة ،وإغاثة الملهوف ،وتقوية الضعيف ،والخذ بيد المظلوم ،والوقوف في وجه الظالم حتى
يرتدع عن ظلمه ،كما جاء في الحديث الصحيح" :انصر أخاك ظالما أو مظلوما" .قالوا :يارسول ال ،ننصره
مظلوما ،فكيف ننصره ظالما؟ قال" :تمنعه من الظلم ،فذلك نصر له"].[2
والّدين يمنح السياسي الضمير الحي أو )النفس اللوامة( التي تزجره أن يأكل الحرام من المال ،أو يستحل
الحرام من المجد ،أو يأكل المال العام بالباطل ،أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو العمولة .وهو الذي يجعل الحاكم
ي اعوجاجا فليقومني(].[4حّرض الناس على نصحه وتقويمه) ،إن أسأت فقوموني(]) ،[3من رأى منكم ف ّ ُي َ
والّدين يجّرئ الجماهير المؤمنة أن تقول كلمة الحق ،وتنصح للحاكم وتحاسبه ،وتقومه إذا اعوج .ل تخاف
صة
ظلُموا مْنُكم خا ّ
ن َ
ن الذي َ
في ال لومة لئم ،حتى ل يدخلوا فيما حذر منه القرآن} :واّتقوا فْتنًة ل ُتصيَب ّ
ب{ ]النفال ،[25 :وفيما حذر منه الرسول الكريم أمته" :إذا رأيت أمتي تهاب أن شديُد العقا ِ
ل َنا َعلُموا أ ّ
وا ْ
ع منهم"] ،[5أي ل خير فيهم حينئذ ويستوي وجودهم وعدمهم. تقول للظالم :يا ظالم ،فقد ُتُوّد َ
والسياسي حين يعتصم بالّدين ،فإنما يعتصم بالعروة الوثقى ،ويحميه الّدين من مساوئ الخلق ،ورذائل
النفاق ،فإذا حدث لم يكذب ،وإذا وعد لم يخلف ،وإذا اؤتمن لم يخن ،وإذا عاهد لم يغدر ،وإذا خاصم لم يفجر،
إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم الخلق.
كما جاء عن محمد صلى ال عليه وسلم الذي رفض معاونة من عرض عليه العون على المشركين ،وله معهم
عهد ،فقال" :نفي لهم ونستعين ال عليهم"] ،[6وأنكر قتل امرأة في إحدى الغزوات ،قائل" :ما كانت هذه
لتقاتل"] .[7ونهى عن قتل النساء والصبيان].[8
أما تسمية الخداع والكذب والغدر والنفاق )سياسة( ،فهذا مصطلح ل نوافق عليه ،فهذه هي سياسة الشرار
والفجار ،التي يجب على كل أهل الخير أن يطاردوها ويرفضوها.
إن تجريد السياسة من الّدين يعني تجريدها من بواعث الخير ،وروادع الشر .تجريدها من عوامل البر
والتقوى ،وتركها لدواعي الثم والعدوان.
وربط السياسة بالّدين يعطي الدولة قدرة على تجنيد )الطاقة اليمانية( أو )الطاقة الروحية( في خدمة المجتمع،
وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد ل الغي ،وإلى الستقامة ل النحراف ،وإلى الطهارة ل التلوث بالحرام.
وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن ،ومواجهة أعدائه والمتربصين به،
والستماتة في سبيل تحريره إذا احتلت أرضه ،أو اغتصبت حقوقه ،أو ديست كرامته.
ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالّدين ،فتحوا الفتوح ،وانتصروا على
المبراطوريات الكبرى ،وأقاموا دولة العدل والحسان ،ثم شادوا حضارة العلم واليمان ،مستظلين براية
القرآن.
وها نحن نرى اليوم :الدولة الصهيونية المغتصبة )إسرائيل( كيف وظفت الّدين اليهودي في إقامة دولتها،
وتجميع اليهود في العالم على نصرتها ،حتى العلمانيون من ساسة الصهيونية ،كانوا يؤمنون بضرورة
الستفادة من الّدين ،وهم ل يؤمنون به مرجعا موجها للحياة.
ونرى كذلك الرئيس المريكي الحالي )بوش( البن وجماعته من أتباع اليمين المسيحي المتطرف ،كيف
يستخدمون الّدين في تأييد سياستهم الطغيانية المستكبرة في الرض بغير الحق ،حتى رأينا )بوش( يتحدث
وكأنه نبي يوحى إليه :أمرني ربي أن أحارب في العراق ،أمرني ربي أن أحارب في أفغانستان ...إلى آخر ما
أعلنه من صدور أوامر إلهية إليه!!
ورأينا أحزابا علمانية الفكر في أوربا تحاول أن تتقّوى بالدين ،فتنسب نفسها إليه ،أي إلى المسيحية ،فرأينا
أحزابا مسيحية :ديمقراطية واشتراكية تقوم في عدد من دول أوربا ،وتحصل على أكثرية أصوات الناخبين،
وتتولى الحكم عدة مرات.
فلماذا ُيراد للمسلمين وحدهم أن َيْفصلوا السياسة عن الّدين ،أو يزيحوا الدين عن السياسة؟ لتمضي المة
وحدها معزولة عن سر قوتها ،مهيضة الجناح ،منزوعة السلح ،ل حول لها ول طول؟!
لمة البيروني في كتابة الشهير )تحقيق ما للهند من مقولة() :إن الُملك إذا استند إلى جانب من جوانب
يقول الع ّ
ِمّلة )أي دين( فقد توافى فيه التوأمان ،وكمل فيه المر باجتماع الملك والدين(.
وابن خلدون في )مقدمته( الشهيرة يفرق بين نوعين من المجتمعات :مجتمع دنيوي محض ،ومجتمع دنيوي
ديني ،وهو أزكى وأفضل من المجتمع الول ،فهو يقر بأثر الدين في الحياة الجتماعية ،الذي ل يقل أهمية عن
أثر العصبية ،ومن َثّم كانت الصورة المثلى للدولة عنده ،هي التي يتآخى فيها الدين والدولة].[9
وما معنى )ل سياسة في الّدين( :إن كان معناها :أن الّدين ل يعنى بسياسة الناس ألبّتة ،ول يشغل نفسه
بمشكلت حياتهم العامة ،وتدبير أمورهم المعيشية ،وعلقة بعضهم ببعض ،فهذا ليس بصحيح .فكل الديان لها
طول في آخر .والسلم هو أطول الديان باعا في هذا المجال ،وله توجيهات في هذا الجانبَ ،تْقصر في دين ،وَت ُ
في ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة ،وله تراث حافل من فقه الشريعة ،وشروح مذاهبها ،واختلف
مشاربها.
ولقد ذكر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه )السلم وأصول الحكم( :أن الدنيا أهون عند ال من أن ينزل في
تدبير شؤونها نصوصا من وحيه]!![10
ونسي الشيخ أو تناسى أن ال أنزل أطول آية في كتابه )القرآن( في شأن من شؤون الدنيا ،وهو كتابة الّدين
وتوثيقه .وذلك في الية ) (282من سورة البقرة ،المعروفة بآية المداينة .وأن )آيات الحكام( التي عني بها
المفسرون والفقهاء تعد بالمئات.
وكل أصحاب الديان كان لهم مشاركات في توجيه الحياة السياسية ،حتى الكنيسة المسيحية التي قرأت قول
النجيل) :دع ما لقيصر لقيصر وما ل ل( ،لم تأخذه بحرفيته ،وحاولت أن تتدخل في شأن قيصر وأن توجهه،
وربما نزعت السلطة منه.
وقد اختار شيخنا العلمة محمد الخضر حسين -شيخ الزهر في زمانه -أن يعبر عن فصل الّدين عن السياسة
حدث ومبتدع في المة ،وكل-الذي دعا إليه أحد الُكّتاب -بعبارة )ضللة( وهو تعبير شرعي صحيح ،لنه أمر ُم ْ
بدعة ضللة ،كما في الحديث الصحيح.
وقد كتب في ذلك مقالة طويلة نشرها في مجلة )نور السلم(] ،[11ثم وضعها في كتابه )رسائل الصلح(.
.1فريق يعترفون بأن للدين أحكاما وأصول تتصل بالقضاء والسياسة ،ولكنهم ُيْنكرون أن تكون هذه الحكام
والصول كافلة بالمصالح ،آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب .ولم يبال هؤلء أن يجهروا بالطعن في أحكام
الّدين وأصوله ،وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملحدة؛ لنهم ُمِقّرون بأنهم ل يؤمنون بالقرآن ول بمن نزل عليه
القرآن.
.2ورأى فريق أن العتراف بأن في الّدين أصول قضائية وأخرى سياسية ،ثم الطعن في صلحها ،إيذان
بالنفصال عن الّدين ،وإذا دعا المنفصل عن الّدين إلى فصل الّدين عن السياسة ،كان قصده مفضوحا ،وسعيه
خائبا ،فاخترع هؤلء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم ،وهو أن َيّدعوا أن السلم توحيد وعبادات ،ويجحدوا
شبه ،لعلهم
أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة ،وجمعوا على هذا ما استطاعوا من ال ّ
يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الّدين عن السياسة ،وكلهما يبغي من أصحاب السلطان :أن يضعوا للمة
السلمية قوانين تناقض شريعتها ،ويسلكوا بها مذاهب ل توافق ما ارتضاه ال في إصلحها .وكل المسلكين
حَكم بالغات.
وليد الفتتان بسياسة الشهوات ،وقصور النظر عما لشريعة السلم من ِ
ن السلم قد جاء بأحكام وأصول قضائية ،ووضع في فم السياسة لجاما من الحكمة ،فإنما ينكره من تجاهلأما أ ّ
القرآن والسنة ،ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين ،إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة ،ويرجعون عند
الختلف إلى كتاب ال أو سنة رسوله.
وبين الشيخ أن في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملت المدنية ،وتتولى إرشاد السلطة
ن{ ]المائدة ،[50:وكل حكم حْكمًا ِلَقْوٍم ُيوِقُنو َ ل ُ ن ا ِّ ن ِم َسُ ح َ
ن َأ ْن َوَم ْ جاِهِلّيِة َيْبُغو َحْكَم اْل َالسياسية ،قال تعالىَ} :أَف ُ
ن{ ،إيماء إلى أن غير يخالف شرع ال ،فهو من فصيلة أحكام الجاهلية ،وفي قوله تعالىِ } :لَقْوٍم ُيوِقُنو َ
سن أحكام رب البرية ،وتهوى أنفسهم تبّدلها بمثل أحكام الجاهلية ،ذلك لنهم في ح ْ الموقنين قد ينازعون في ُ
حُكْم نا ْ
غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم ،ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم ،وقال تعالىَ} :وَأ ِ
ك{ ]المائدة ،[49:فرض في ل ِإَلْي َض َما َأْنَزَل ا ُّ
ن َبْع ِ عْ ك َن َيْفِتُنو َ
حَذْرُهْم َأ ْ
ل َول َتّتِبْع َأْهَواَءُهْم َوا ْ َبْيَنُهْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
هذه الية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب ال ،ونبه على أن َمن لم يدخل اليمان في قلوبهم يبتغون
من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم ،وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى
الشهوات عن بعض ما أنزل ال ،وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم ،ويضع مكان حكم ال حكما يلئم بغيتهم ،قال
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
ل ن َلْم َي ْ
ن{ ]المائدة ،[45:وفي آيةَ} :وَم ْ ظاِلُمو َك ُهُم ال ّ ل َفُأوَلِئ َحُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
ن َلْم َي ْ
تعالىَ} :وَم ْ
ن{ ]المائدة: ك ُهُم اْلَكاِفُرو َ ل َفُأوَلِئ َ حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّن َلْم َي ْ
ن{ ]المائدة ،[47:وفي آية ثالثةَ} :وَم ْ سُقو َ ك ُهُم اْلَفا ِ َفُأوَلِئ َ
.[44
وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ول من العبادات ،كأحكام البيع والربا والرهن والشهاد ،وأحكام
النكاح والطلق واللعان والولء والظهار والحجر على اليتام والوصايا والمواريث ،وأحكام القصاص والدية
وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات ،وجزاء الساعي في الرض فسادا(.
ثم قال) :وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملت والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن
َمن يدعو إلى فصل الّدين عن السياسة إنما تصور دينا آخر غير السلم.
وفي سيرة أصحاب رسول ال -وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة -ما يدل دللة قاطعة على أن للدين سلطانا في
السياسة ،فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب ال وسنة رسول ال.
ولول علمهم بأن السياسة ل تنفصل عن الّدين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه
مصلحة ،وفي صحيح البخاري" :كانت الئمة بعد النبي صلى ال عليه وسلم يستشيرون المناء من أهل العلم
في المور المباحة ليأخذوا بأسهلها ،فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى ال
عليه وسلم"].[12
ومن شواهد هذا :محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة ،فإنها كانت تدور على
التفقه في حديث" :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل ال"] .[13فعمر بن الخطاب يستدل على عدم
قتالهم بقوله في الحديث" :فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" .وأبو بكر يحتج بقوله في الحديث:
"إل بحقها" ويقول :الزكاة من حق الموال ،ولو لم يكونوا على يقين أن السياسة ل يسوغ لها أن تخطو
خطوة إل أن يأذن لها الّدين بأن تخطوها ،ما أورد عمر ابن الخطاب هذا الحديث ،أو لوجد أبو بكر عندما احتج
عمر بالحديث فسحة في أن يقول له :ذلك حديث رسول ال ،وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة!
ومن شواهد أن ربط السياسة بالّدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم :قصة عمر بن الخطاب ،إذ بدا له أن
شْيئًا{ ]النساء:
خُذوا ِمْنُه َ
طارًا َفل َتْأ ُ
ن ِقْن َ
حَداُه ّ
يضع لمهور النساء حدا ،فَتَلت عليه امرأة قوله تعالىَ} :وآَتْيُتْم ِإ ْ
،[20فما زاد على أن قال :رجل أخطأ ،وامرأة أصابت] .[14ونبذ رأيه وراء ظهره ،ولم يقل لها :ذلك دين
وهذه سياسة!
وكتب السنة والثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد ،ولم يوجد -حتى في المراء المعروفين بالفجور -من حاول
أن يمس اتصال السياسة بالّدين من الِوجهة العملية ،وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما أذن ال به،
جهالة منهم أو طغيانا.
خَرى{أراد الحجاج أن يأخذ رجل بجريمة بعض أقاربه ،فذّكره الرجل بقوله تعالىَ} :ول َتِزُر َواِزَرٌة ِوْزَر ُأ ْ
]النعام ،[164:فتركه] ،[15ولم يخطر على باله -وهو ذلك الطاغية -أن يقول له :ما تلوته دين ،وما سأفعله
سياسة!(.
)فصل الّدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الّدين ،ول يقدم عليه المسلمون إل بعد أن يكونوا غير مسلمين،
وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الجنبي على الّدين إذا جاس خلل الديار ،وقد رأينا الذين فصلوا الّدين
عن السياسة علنا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن ،ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالستعمار
الجنبي أقرب إلى الحرية في الّدين مّمن أصيبوا بسلطانهم ،ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال
الكاتب لو ملكت قوة للغت محاكم يقضى فيها بأصول السلم ،وقلبت معاهد تدرس فيها علوم شريعته الغراء
إلى معاهد لهو ومجون ،بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم ال
تصرف من ل يرجو ل وقارا(].[16
وإذا نظرنا نظرة أخرى في مقولة) :ل سياسة في الّدين ول دين في السياسة( نرى أنها ل تصدق على كل دين.
ومن التبسيط المخل -وربما من الكذب المكشوف -اعتبار الديان كلها بعيدة عن السياسة ،والسياسات كلها
بعيدة عن الّدين.
فليست الديان كلها مقصورة على الجانب الروحاني أو اللهوتي ،ول صلة لها بشؤون الحياة ،فهذا يصدق في
بعض الديان ول يصدق في البعض الخر.
فمن الديان ما يتصل بالحياة ويشّرع لها ،كما في ديانة موسى عليه السلم )اليهودية( ،كما يبدو ذلك من
الحكام التي جاءت في التوراة ،التي تسمى )الناموس( .وهو ما أعلن المسيح عليه السلم أنه ما جاء لينقض
الناموس ،فقال) :ما جئت لنقض الناموس ،بل لتمم(].[17
ففي التوراة تشريعات مختلفة ،بعضها يتعّلق بالسرة ،وبعضها يتعّلق بالمجتمع ،وبعضها يتعّلق بالعقوبات:
)السن بالسن ،والعين بالعين ،[18](... ،وبعضها يتعّلق بالعلقات الدولية.
ودين السلم جاء بوصايا أخلقية ،وتشريعات قانونية تتعّلق بأمر الدنيا والحياة ،مبثوثة في آيات القرآن،
عني بتفسيرها وشرحها علماء المة فيما عرف بـ)آيات الحكام( و)أحاديث الحكام(. وأحاديث الرسول ،و ُ
صلها فقهاء المذاهب في كتبهم ،التي شملت أمور النسان فردا وأسرة ومجتمعا ودولة ،من أدب الستنجاء، وف ّ
وأدب المائدة ،إلى بناء الدولة ،وعلقاتها مع المم والدول الخرى.
إن أحد أركان السلم هو الزكاة ،وهو ركن مالي اجتماعي سياسي ،لن الصل فيها أنها تنظيم تشرف عليه
الدولة ،تأخذها من الغنياء وتردها على الفقراء ،فالدولة أو السلطة هي التي تجمعها ،وهي التي تصرفها في
مصارفها الشرعية بواسطة جهاز إداري ومالي ،سماه القرآن )العاملين عليها(.
ومن مصارف الزكاة )المؤلفة قلوبهم( وهو مصرف سياسي في أصله ،يتصرف فيه المام )أي الدولة(
ليشتري ولء بعض القبائل والقوى الجتماعية أو السياسية ،أو يحبب إليهم السلم ،أو يكف شرهم عن
المسلمين ،أو ليقطع الطريق على أعداء السلم أن يستميلوهم إليهم .كل ذلك عن طريق ما يعطى لهم لستمالة
قلوبهم .وهذا في معظمه غرض سياسي محض.
ثم إن المسلم يستطيع أن يدخل في السياسة ،وهو في قلب صلته التي يتعبد لربه بها ،بأن يقرأ آيات في صميم
السياسة من القرآن ،أو يدعو على المستعمرين والحكام الطغاة بدعاء القنوت ،وهو ما يعرف عند الفقهاء
بـ)قنوت النوازل( .ويعنون بالنوازل :المحن والشدائد التي تنزل بالمة ،مثل :احتلل الغزاة لرضها ،ووقوع
الكوارث والزلزل ونحوها.
وأذكر أن المام الشهيد حسن البنا في سنة 1946أو 1947م ،كتب في حديثه السبوعي في صحيفة جماعته
اليومية )الخوان المسلمون( :حديث الجمعة عن )قنوت النوازل( ،وطلب من الئمة والخطباء ،أن يقنتوا بهذا
القنوت ،ويدعوا على النجليز المستعمرين ،ووضع لهم صيغة لم يلزمهم بالدعاء بها ،ولكن قال :بمثل هذه
الصيغة فادعوا على أعدائكم.
اللهم رب العالمين ،وأمان الخائفين ،ومذل المتكبرين ،وقاصم الجبارين ،تقّبل دعاءنا ،وأجب نداءنا ...
اللهم إنك تعلم أن هؤلء الغاصبين من البريطانيين ،قد احتلوا أرضنا ،وغصبوا حقنا ،وطغوا في البلد ،فأكثروا
فيها الفساد .اللهم فرّد عنا كيدهم ،وفّل حّدهم ...وأدل دولتهم ،واذهب عن أرضك سلطانهم ،ول تدع لهم سبيل
على أحد من عباد المؤمنين .آمين].[19
وقد التزم الكثيرون من المتدينين بأن يدعوا على النجليز المحتلين المستكبرين في صلواتهم ،وخصوصا
الجهرية منها ،بهذا الدعاء وأمثاله .وكان ذلك لونا من التعبئة الفكرية والشعورية والعملية ضد الحتلل المدل
بقوته العسكرية ،وقوته القتصادية.
وإذا ثبت لنا أن الّدين ليس دائما روحانيا خالصا ،نستطيع هنا أن نقول بكل وضوح :إن السياسة ليست دائما
علمانية ،أو ل دينية.
فكم رأينا من سياسات تتبنى الّدين وتدافع عنه ،وتتحمل أعباء الدعوة إليه ،وتذود عن حماه .ثبت ذلك في
التاريخ القديم ،وثبت ذلك في العصر الحديث.
عرف التاريخ القديم الَمِلك قسطنطين إمبراطور روما المعروف الذي كان وثنيا ،ثم اعتنق النصرانية ،وانتصر
لمذهب المؤلهين للمسيح ضد آريوس ومن وافقه في التمسك بعقيدة التوحيد.
المهم أنه تبنى العقيدة المسيحية على مذهبه ،وطارد أعداءها وأعداءه عقودا من السنين .وظلت الكنيسة في
الغرب توجه الّدين لعدة قرون ،حتى قامت الثورة الفرنسية ثائرة على الكنيسة ورجالها الذين وقفوا مع الجمود
ضد التحّرر ،ومع الخرافات ضد العلم ،ومع الملوك ضد الشعوب ،ومع القطاعيين ضد الفلحين .لهذا ثارت
عليهم الجماهير الغاضبة ،منادية :اشنقوا آخر َمِلك بأمعاء آخر قسيس!
وفي التاريخ السلمي -وخصوصا عهد الراشدين -كانت السياسة في خدمة الّدين ،وكان الّدين هو الموجه
الول للفكر ،والمحرك الول للمشاعر ،والمؤثر الول في السلوك.
بل كان هذا هو التجاه العام في التاريخ السلمي كله ،على تفاوت في الدرجة ،ولكن لم يغب الّدين -أو السلم-
عن الساحة ،ولم يدع السياسة وشأنها تفعل ما تشاء ،وتحكم ما تريد .بل كان السلم هو أساس القضاء في
المحاكم ،وأساس الفتوى لجماهير الشعب ،وأساس التعليم في المدارس والكتاتيب والجامعات .كما دّللنا على
ذلك في كتابنا )تاريخنا المفترى عليه(].[20
وفي عصرنا ل زالت هناك سياسات تتبنى الّدين ،وتجمع الجماهير عليه ،وتعلن انتصارها له ،وحماسها في
تبليغ رسالته.
وقد ذكرنا من قريب :كيف قامت سياسة دولة بني صهيون على توظيف الّدين في إقامة الدولة ،ثم في حراستها
وتثبيتها ،واستغلل الجانب الّديني عند المسيحين لتأييدها ونصرتها.
كما ذكرنا الرئيس المريكي بوش البن ،وتبنيه لليمين المسيحي المتطرف المتصهين في توجيه سياسة أمريكا
اليوم.
خصمه
وقد كان هذا اللتزام! الديني الواضح من بوش من السباب الرئيسة لفوزه في انتخابات الرئاسة على َ
طا مخالفا لتعاليم الدين المسيحي.
)كيري( الذي كان يتبنى خ ً
وهذا ينقض المقولت التي تزعم أن كل السياسات علمانية ،ول مدخل للدين في أي منها.
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1نقولو مكيا فللي :كاتب سياسي إيطالي )ت 1642م( ،اشتهر بكتابه )المير( الذي ذاع صيته في عالم
السياسة ،لما انفرد به من أفكار ل تبالي بالِقيم والخلق في بناء الدول وسياستها ،فل مانع عنده من استعمال
النذالة والخيانة والغدر والتضليل والخداع والغش في سبيل الوصول إلى الهدف ،وهو المحافظة على الدولة
وقوتها ،وشن الحرب دائما لحمايتها ،ومهاجمة خصومها.
نقله إلى العربية خيري حماد ،وقد نشرته دار الوقاف الجديدة في بيروت )الطبعة الرابعة والعشرون 2002م(
مع تعليق مطول للمحامي د .فاروق سعد ،حول تراث الفكر السياسي قبل )المير( وبعده.
] -[3جزء من خطبة أبي بكر بعد توليه الخلفة ،رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب الجامع )،(11/336
وابن سعد في الطبقات ) ،(3/183والطبري في التاريخ ) ،(2/238وابن عساكر في تاريخ دمشق )،(30/301
وقال ابن كثير في البداية والنهاية :هذا إسناد صحيح ).(5/248
] -[4روى ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد عن حذيفة قال :دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في
داره وهو يحدث نفسه ،فدنوت منه فقلت :ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال هكذا بيده وأشار بها ،قال:
قلت :الذي يهمك وال لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك قال :آل الذي ل إله إل هو لو رأيتم مني أمرا تنكرونه
لقومتموه؟ فقلت :ال الذي ل إله إل هو لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك .قال :ففرح بذلك فرحا شديدا وقال:
الحمد ل الذي جعل فيكم -أصحاب محمد -من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني.
] -[5رواه أحمد في المسند ) (6786عن عبد ال بن عمرو ،وقال محققوه إسناده ضعيف لنقطاعه ،والبزار
في المسند ) ،(6/362والحاكم في فضائل القرآن ) ،(4/108وقال :حديث صحيح السناد ولم يخرجاه،
والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب ) ،(6/95وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه أحمد والبزار بإسنادين
ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح وكذلك رجال أحمد ) ،(7/518وضعفه اللباني في ضعيف الجامع )
.(501
] -[6رواه مسلم في الجهاد والسير ) (1787عن حذيفة بن اليمان ،وأول الحديث:حدثنا حذيفة بن اليمان ما
سيٌل( قال :فأخذنا كفار قريش ،قالوا :إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا:
ح َ
معنى أن أشهد بدرا إل أني خرجت أنا وأبي ) ُ
ما نريده ،ما نريد إل المدينة ،فأخذوا منا عهد ال وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ول نقاتل معه ،فأتينا رسول
ال صلى ال عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال" :انصرفا نفي بعهدهم ونستعين ال عليهم".
] -[7رواه أحمد في المسند ) (15992عن رباح بن الربيع ،وقال محققوه :صحيح لغيره ،وهذا إسناد حسن،
وأبو داود في الجهاد ) ،(2669وابن ماجه في الجهاد ) ،(2842وعبد الرزاق في المصنف كتاب أهل الكتاب )
،(6/132وأبو يعلى في المسند ) ،(3/115والطبراني في الكبير ) ،(5/72والبيهقي في الكبرى كتاب السير )
.(9/82
] -[8رواه البخاري في الجهاد والسير ) (3015 -3014عن عبد ال بن عمر ،ومسلم في الجهاد والسير )
،(1744وأبو داود في الجهاد ) ،(2668والترمذي في السير ) ،(1569وابن ماجه في الجهاد ).(2841
] -[9انظر) :موسوعة العلوم السياسية( الصادرة عن جامعة الكويت :فقرة ) (103صـ .145 ،144
] -[11التي كان يرأس تحريرها ،وكانت هي مجلة علماء الزهر ،وقد بدل اسمها بعد ذلك ،وسميت )مجلة
الزهر(.
] -[12هو من كلم البخاري في كتاب العتصام بالكتاب والسنة باب قول ال تعالى} :وأمرهم شورى بينهم{
]الشورى.[38:
] -[13رواه البخاري في الزكاة ) (1400عن أبي هريرة ،ومسلم في اليمان ) ،(21وأبو داود في الزكاة )
،(1556والترمذي في اليمان ) ،(2606والنسائي في الزكاة ) ،(2443وابن ماجه في الفتن ).(3927
] -[14رويت القصة مع اختلف في تعليق عمر على قول المرأة ،رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب النكاح )
(6/180وفيها :فقال عمر :إن امرأة خاصمت عمر فخصمته ،وسعيد بن منصور في السنن )،(1/166
والبيهقي في الكبرى كتاب الصداق ) (7/233وفيهما :فقال عمر :كل أحد أفقه من عمر .مرتين أو ثلثا.
] -[16انظر :مقالة )ضللة فصل الّدين عن السياسة( من )رسائل الصلح( صـ 173 – 159طبعة المطبعة
التعاونية بدمشق.
] -[19انظر :جريدة )الخوان المسلمين( اليومية العدد 135الصفحة الولى .نقل عن )أحاديث الجمعة( صـ
85 – 83لعصام تليمة.
الفصل الثالث
ومن التعبيرات التي ُيشّنع بها العلمانيون والحداثيون :تعبير )السلم السياسي( ،وهي عبارة دخيلة على
مجتمعنا السلمي بل ريب ،ويعنون به السلم الذي ُيعنى بشئون المة السلمية وعلقاتها في الداخل
جه أمورها المادية والدبية كما
والخارج ،والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحّكم في رقابها ،وُيو ّ
يريد ،ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الستعمار الغربي الثقافية والجتماعية والتشريعية ،لتعود من
جديد إلى تحكيم شرع ال تعالى في مختلف جوانب حياتها ...
وهم يطلقون هذه الكلمة )السلم السياسي( للتنفير من مضمونها ،ومن الدعاة الصادقين ،الذين يدعون إلى
السلم الشامل ،باعتباره عقيدة وشريعة ،وعبادة ومعاملة ،ودعوة ودولة.
وقد كنت رددت على هذه الدعوة ،وفّندت هذه التسمية ،في فتوى مطّولة ،ظهرت في الجزء الثاني من كتابي:
)فتاوى معاصرة( ،يحسن بي أن أقتبس فقرات منها فيما يلي:
خطة وضعها خصوم السلم ،تقوم على تجزئة السلم وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، وذلك لنها تطبيق ل ُ
فليس هو إسلًما واحًدا كما أنزله ال ،وكما ندين به نحن المسلمين.
فهو ينقسم أحياًنا بحسب القاليم :فهناك السلم السيوي ،والسلم الفريقي.
وأحياًنا بحسب العصور :فهناك السلم النبوي ،والسلم الراشدي ،والسلم اُلموي ،والسلم العباسي،
والسلم العثماني ،والسلم الحديث.
وأحياًنا بحسب الجناس :فهناك السلم العربي ،والسلم الهندي ،والسلم التركي ،والسلم الماليزي ...إلخ.
وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة :فهناك السلم الثوري ،والسلم الرجعي أو الراديكالي ،والكلسيكي،
والسلم اليميني ،والسلم اليساري ،والسلم الُمتزّمت ،والسلم الُمنفتح.
والحق أن هذه التقسيمات كّلها مرفوضة في نظر المسلم ،فليس هناك إل إسلم واحد ل شريك له ،ول اعتراف
بغيره ،هو )السلم الول( إسلم القرآن والسنة.
السلم كما فهمه أفضل أجيال المة ،وخير قرونها ،من الصحابة ومن تبعهم بإحسان ،مّمن أثنى ال عليهم
ورسوله.
حل ،وشطحاتشوبه الشوائب ،وتلّوث صفاءه ُتّرَهات الِمَلل وتطرفات الِن َفهذا هو السلم الصحيح ،قبل أن ت ُ
سفات
طعين ،وتع ّ الفلسفات ،وابتداعات الِفَرق ،وأهواء الُمجادلين ،وانتحالت الُمبطلين ،وتعقيدات الُمتن ّ
الُمتأّولين الجاهلين.
وهنا يجب أن ُأعلنها صريحة :إن السلم الحق -كما شرعه ال -ل يمكن أن يكون إل سياسًيا ،وإذا جّردت
السلم من السياسة ،فقد جعلته ديًنا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية ،أو غير ذلك ،أما أن يكون هو
السلم فل.
صلب السياسة.
حا في كثير من المور التي ُتعتبر من ُ
حا ،وحكًما صري ً
إن للسلم موقًفا واض ً
فالسلم ليس عقيدة لهوتية ،أو شعائر تعّبدية فحسب ،أعني أنه ليس مجرد علقة بين النسان وربه ،ول
صلة له بتنظيم الحياة ،وتوجيه المجتمع والدولة.
كل ...إنه عقيدة ،وعبادة ،وخلق ،وشريعة متكاملة ،وبعبارة أخرى :هو منهاج كامل للحياة ،بما وضع من
ن من تشريعات ،وما بّين من توجيهات ،تّتصل بحياة الفرد ،وشؤون
صل من قواعد ،وما س ّ
مبادئ ،وما أ ّ
السرة ،وأوضاع المجتمع ،وُأسس الدولة ،وعلقات العالم.
حا كل الوضوح.
ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة ،وكتب الفقه السلمي بمختلف مذاهبه ،وجد هذا واض ً
جِمُعون على أن ترك الصلة ،ومنع حتى إن قسم العبادات من الفقه ليس بعيًدا عن السياسة ،فالمسلمون ُم ْ
الزكاة ،والمجاهرة بالفطر في رمضان ،وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة ،والتعزير ،وقد يقتضي القتال
إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة ،كما فعل أبو بكر رضي ال عنه مع مانعي الزكاة.
إن فكرة التوحيد في السلم تقوم على أن المسلم ل يبغي غير ال رًبا ،ول يّتخذ غير ال ولًيا ،ول يبتغي غير
حَكًما ،كما بّينت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم )سورة النعام(.
ال َ
وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إل ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والخّوة للبشر ،حتى ل يتخّذ بعض
ضا أرباًبا من دون ال ،وُتبطل عبودية النسان للنسان ،ولذا كان الرسول الكريم صلوات ال عليه الناس بع ً
ب َتَعاَلْوا ِإَلى َكِلَمٍةيختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الية الكريمة من سورة آل عمرانَ} :يا َأْهَل اْلِكَتا ِ
ن َتَوّلْوا َفُقوُلوا
ل َفِإ ْن ا ِّ
ن ُدو ِ ضَنا َبْعضًا َأْرَبابًا ِم ْ
خَذ َبْع ُ
شْيئًا َول َيّت ِ
ك ِبِه َ
شِر َ
ل َول ُن ْ
سَواٍء َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم َأّل َنْعُبَد ِإّل ا ََّ
ن{ ]آل عمران.[64: سِلُمو َ شَهُدوا ِبَأّنا ُم ْ ا ْ
وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة السلمية ،من أول يوم ،بمجرد رفع راية )ل إله إل
ال( فقد كانوا ُيدركون ماذا وراءها ،وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الجتماعية والسياسية ،بجانب
التغيير الديني المعلوم بل ريب.
إن شخصية المسلم -كما كّونها السلم وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته -ل يمكن إل أن تكون
سياسية ،إل إذا ساء َفهمها للسلم ،أو ساء تطبيقها له.
فالسلم يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها :المر بالمعروف ،والنهي عن المنكر وقد ُيعّبر عنها بعنوان:
ح في الحديث اعتبارها الّدين كله] ،[1وقد ُيعبر عنها
النصيحة لئمة المسلمين وعامتهم ،وهي التي ص ّ
ضحت
خسر الدنيا والخرة ،كما و ّ
بالتواصي بالحق ،والتواصي بالصبر ،وهما من الشروط الساسية للنجاة من ُ
ذلك )سورة العصر(.
وُيحّرض الرسول صلى ال عليه وسلم المسلم على مقاومة الفساد في الداخل ،ويعتبره أفضل من مقاومة
الغزو من الخارج ،فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد " :أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"] ،[2وذلك
لن فساد الداخل هو الذي يمّهد السبيل لعدوان الخارج.
ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل ال" :سيد الشهداء حمزة ،ثم رجل قام إلى إمام جائر
فأمره ونهاه فقتله"].[3
ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم ،والتمّرد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن
مسعود ،وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره" :نشكرك ال ول نكفرك ،ونخلع ونترك من َيفجُرك"].[4
ث والتحريض ،فيقول: غب في القتال لنقاذ الُمضطهدين ،والُمستضعفين في الرض ،بأبلغ عبارات الح ّ وُير ّ
جَنا ِم ْ
ن خِر ْ
ن َرّبَنا َأ ْ
ن َيُقوُلو َ
ن اّلِذي َ
ساءِ َواْلِوْلَدا ِ
جاِل َوالّن َ ن الّر َ ن ِم َ
ضَعِفي َسَت ْ ل َواْلُم ْسِبيِل ا ِّن ِفي َ }َوَما َلُكْم ل ُتَقاِتُلو َ
صيرًا{ ]النساء.[75: ك َن ِن َلُدْن َ
جَعْل َلَنا ِم ْ
ك َوِلّيا َوا ْن َلُدْن َ
جَعْل َلَنا ِم ْ
ظاِلِم َأْهُلَها َوا ْ
َهِذِه اْلَقْرَيِة ال ّ
ضيم ،ويرضون بالقامة في أرض يهانون فيها ب جام غضبه ،وشديد إنكاره على الذين يقبلون ال ّ ويص ّ
ن َتَوّفاُهُم اْلَملِئَكةُ
ن اّلِذي َ
ويظلمون ،ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها ،فيقولِ} :إ ّ
جُروا ِفيَهاسَعًة َفُتَها ِ
ل َوا ِ ض ا ِّن َأْر ُ ض َقاُلوا َأَلْم َتُك ْ
ن ِفي اَْلْر ِ ضَعِفي َ
سَت ْسِهْم َقاُلوا ِفيَم ُكْنُتْم َقاُلوا ُكّنا ُم ْ
ظاِلِمي َأْنُف ِ َ
حيَلًة َولن ِطيُعو َ سَت ِ
ن ل َي ْ ساِء َواْلِوْلَدا ِجالِ َوالّن َ ن الّر َن ِم َ
ضَعِفي َ
سَت ْصيرًا * ِإّل اْلُم ْ ت َم ِساَء ْ جَهّنُم َو َ ك َمْأَواُهْم َ َفُأوَلِئ َ
غُفورًا{ ]النساء.[99-97: عُفّوا َل َن ا ُّ
عْنُهْم َوَكا َن َيْعُفَو َ
ل َأ ْ
سى ا ُّ عَ ك َ ل * َفُأوَلِئ َسِبي ً
ن َ َيْهَتُدو َ
ظَنة الرجاء
عْنُهْم{ ،فجعل ذلك في َم ِ
ن َيْعُفَو َ
ل َأ ْ
سى ا ُّ
ع َ
حتى هؤلء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهمَ } :
ل.من ال تعالى ،زجًرا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبي ً
وحديث القرآن الُمتكّرر عن الُمتجبرين في الرض من أمثال فرعون ،وهامان ،وقارون وأعوانهم وجنودهم،
حديث يمل قلب المسلم بالنقمة عليهم ،والنكار لسيرتهم ،والبغض لطغيانهم ،والنتصار -فكرًيا وشعورًيا-
لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.
وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر ،والوقوف موقف السلب من مقترفيه -حكاًما أو محكومين-
حديث ُيزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
صْوا وََكاُنوا
ع َ
ك ِبَما َ
ن َمْرَيَم َذِل َ
سى اْب ِ
عي َ
ن َداُوَد وَ ِ
سا ِ
عَلى ِل َ
سرائيَل َ
ن َبِني ِإ ْ
ن َكَفُروا ِم ْ
ن اّلِذي َ
يقول القرآن ُ} :لِع َ
ن * كانوا ل يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون{ ]المائدة .[78،79: َيْعَتُدو َ
ويقول الرسول صلى ال عليه وسلم" :من رأى منكم منكًرا فلُيغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم
يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اليمان"].[5
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى ،وشرب الخمر ،وما في معناهما.
إن الستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر ،وتزوير النتخابات منكر أي منكر ،والقعود عن الدلء بالشهادة
في النتخابات منكر أي منكر ،لنه كتمان للشهادة ،وتوسيد المر إلى غير أهله منكر أي منكر ،وسرقة المال
العام منكر أي منكر ،واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر ،واعتقال الناس
بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر ،وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلت منكر أي منكر،
ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر ،وتمّلق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي
منكر ،وموالة أعداء ال وأعداء المة من دون المؤمنين منكر أي منكر.
صلب السياسة.
وهكذا نجد دائرة المنكرات تّتسع وتّتسع لتشمل كثيًرا مما يعّده الناس في ُ
سع المسلم الشحيح بدينه ،الحريص على مرضاة ربه ،أن يقف صامًتا؟ أو ينسحب من الميدان هارًبا، فهل َي َ
أمام هذه المنكرات وغيرها ...خوًفا أو طمًعا ،أو إيثاًرا للسلمة؟
غَدت أمة أخرى ،غير حِكم عليها بالفناء ،لنها َ إن مثل هذه الروح إن شاعت في المة فقد انتهت رسالتها ،و ُ
ن اْلُمْنَكِر َوُتْؤِمُنونَ
عِن َف َوَتْنَهْو َ
ن ِباْلَمْعُرو ِ
س َتْأُمُرو َ
ت ِللّنا ِ
ج ْ
خِر َ
خْيَر ُأّمٍة ُأ ْ
المة التي وصفها ال بقولهُ} :كْنُتْم َ
ل{ ]آل عمران.[110:ِبا ِّ
ول عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للمة في هذا الموقف إذ يقول" :إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم :يا
ظالم فقد ُتوّدع منهم"] .[6أي فقدوا أهلية الحياة.
إن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه -أل يقف موقف المتفرج من المنكر ،أًيا كان نوعه :سياسًيا كان أو
اقتصادًيا أو اجتماعًيا أو ثقافًيا ،بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد ،إن استطاع ،وإل فباللسان
والبيان ،فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها ،وهي التغيير بالقلب ،وهي التي جعلها
الحديث " :أضعف اليمان".
وإنما سماه الرسول صلى ال عليه وسلم تغييًرا بالقلب ،لنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته،
ضا ،كما يتوهم ،ولو كانت كذلك ما سماها الحديث )تغييًرا(.
وهذه التعبئة ليست أمًرا سلبًيا مح ً
وهذا التعبئة المستمرة للنفس ،والمشاعر ،والضمائر ل بد لها أن تتنّفس يوًما ما ،في عمل إيجابي ،قد يكون
ثورة عارمة أو انفجاًرا ل ُيبقى ول ُيذر ،فإن توالى الضغط ل بد أن ُيوّلد النفجار ،سنة ال في خلقه.
وإذا كان هذا الحديث سمي هذا الموقف )تغييًرا بالقلب( ،فإن حديًثا نبوًيا آخر سماه )جهاد القلب( ،وهي آخر
عا" :ما من نبي
درجات الجهاد ،كما أنها آخر درجات اليمان وأضعفها ،فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفو ً
بعثه ال في أمة قبلي إل كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ،ويقتدون بأمره ،ثم إنها تخلف من
خُلوف يقولون ما ل يفعلون ،ويفعلون ما ل يؤمرون ،فَمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ،وَمن جاهدهم بعدهم ُ
بلسانه فهو مؤمن ،وَمن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ،ليس ذلك من اليمان حبة خردل"].[7
صا إذا انتشر شراره واشتد أواره ،وَقِوي فاعلوه ،أو كان
وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر ،وخصو ً
المنكر من ِقَبل المراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له ،ل أصحابه وحّراسه ،وهنا يكون
المر كما قال المثل :حاميها حراميها ،أو كما قال الشاعر :
فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟! وراعي الشاة يحمي الذئب عنها
وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجًبا ل ريب فيه ،لنه تعاون على البر والتقوى ،ويكون العمل الجماعي
عن طريق الجمعيات أو الحزاب ،وغيرها من القنوات المتاحة ،فريضة يوجبها الّدين ،كما أنه ضرورة ُيحّتمها
الواقع.
إن ما ُيعتبر في الفلسفات والنظمة المعاصرة )حًقا( للنسان في التعبير والنقد والمعارضةَ ،يرقى به السلم
ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالثم ،ويستحق عقاب ال إذا فّرط فيها.
ومّما يجعل المسلم سياسًيا دائًما :أنه مطالب بمقتضى إيمانه أل يعيش لنفسه وحدها ،دون اهتمام بمشكلت
خَوٌة{ ]الحجرات.[10:
ن ِإ ْ
صا المؤمنين منهم ،بحكم ُأخوة اليمانِ} :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
الخرين وهمومهم ،وخصو ً
حا ل ولرسوله ولئمة المسلمين
وفي الحديث َ" :من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ،وَمن لم يصبح ناص ً
صة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة ال وذمة رسوله"]
عْر َ
وعامتهم فليس منهم"]" ،[8وأيما أهل َ
.[9
ض الخرين على إطعامه ...ول يكون والقرآن كما يفرض على المسلم أن ُيطعم المسكين ،يفرض على أن يح ّ
ن{
سِكي ِطَعاِم اْلِم ْ
عَلى َ ن َ ضو َ
حا ّن اْلَيِتيَم * َول َت َ
ل َبْل ل ُتْكِرُمو َ
كأهل الجاهلية الذين ذّمهم القرآن بقولهَ} :ك ّ
ن*ب ِبالّدي ِ
ت اّلِذي ُيَكّذ ُ
]الفجر ،[17،18:ويجعل القرآن التفريط في هذا المر من دلئل التكذيب بالّدينَ} :أَرَأْي َ
ن{ ]الماعون.[3-1: سِكي ِ
طَعاِم اْلِم ْ
عَلى َ
حضّ َ
ع اْلَيِتيَم * َول َي ُ
ك اّلِذي َيُد ّ
َفَذِل َ
وهذا في المجتمعات الرأسمالية والقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة ،وح ّ
ض
على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الغنياء.
ن َلْم
وقد ذّم القرآن القوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوحَ} :واّتَبُعوا َم ْ
سارًا{ ]نوح.[21:
خ َ
َيِزْدُه َماُلُه َوَوَلُدُه ِإّل َ
ظَلُموا
ن َ
بل جعل القرآن ُمجّرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجًبا لعذاب الَ} :ول َتْرَكُنوا ِإَلى اّلِذي َ
ن{ ]هود.[113: صُرو َ
ن َأْوِلَياَء ُثّم ل ُتْن َ
ل ِم ْ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
سُكُم الّناُر َوَما َلُكْم ِم ْ
َفَتَم ّ
وُيحّمل السلم كل مسلم مسئولية سياسية :أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب ال ،ويبايعه
الناس على ذلك ،وإل التحق بأهل الجاهلية ،ففي الحديث الصحيح " :من مات وليس في عنقه بيعة لمام مات
ميتة جاهلية"].[10
الصلة والسياسة:
وكما ذكرنا من قب أن المسلم قد يكون في قلب الصلة ،ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب
صلب ما يسميه الناس )سياسة(.
ال الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في ُ
حكم بما أنزل ال ،وتدمغ من لم يحكم بما أنزل ال سبحانه فمن يقرأ في سورة المائدة :اليات التي تأمر بال ُ
حُكْم ِبَما
ن َلْم َي ْ
ن{ ]المائدةَ} ،[44:وَم ْ ك ُهُم اْلَكاِفُرو َ ل َفُأوَلِئ َ
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
ن َلْم َي ْ
بالكفر والظلم والفسوق َ} :وَم ْ
ن{ ]المائدة،[47: سُقو َ
ك ُهُم اْلَفا ِ
ل َفُأوَلِئ َ
حُكْم ِبَما َأْنَزَل ا ُّ
ن َلْم َي ْ
ن{ ]المائدةَ} ،[45:وَم ْ ظاِلُمو َ
ك ُهُم ال ّ
ل َفُأوَلِئ َ
َأْنَزَل ا ُّ
يكون قد دخل في السياسة ،وربما اعُتبر من المعارضة الُمتطرفة ،لنه بتلوة هذه اليات ُيوجه الّتهام إلى
النظام الحاكم ،وُيحرض عليه ،لنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.
ن َأْوِلَياَء
خُذوا اْلَكاِفِري َ
ن آَمُنوا ل َتّت ِ
ومثل ذلك من يقرأ اليات التي ُتحذر من موالة غير المؤمنينَ} :يا َأّيَها اّلِذي َ
طانًا ُمِبينًا{ ]النساء.[144: سْل َ
عَلْيُكْم ُ
ل َ
جَعُلوا ِّ
ن َت ْ
ن َأ ْ
ن َأُتِريُدو َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
ن ُدو ِ
ِم ْ
ت )قنوت النوازل( الُمقّرر في الفقه ،وهو الدعاء الذي ُيدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة
ومن َقَن َ
صا في الصلة الجهرية ،وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة ،كغزو عدو ،أو وقوع الخيرة ،وخصو ً
زلزال ،أو فيضان أو مجاعة عامة ،أو نحو ذلك ...كما نفعل كثيرا عندما يقع عدوان صهيوني كبير على
فلسطين ،أو على لبنان ،وكما حدث كثيرا في حرب السوفيت لفغانستان ،وحرب الصرب للبوسنة والهرسك
وغيرها.
غماره ،ونحن في محراب الصلة متبتلون خاشعون ...فهذه هيوهكذا كنا ندخل في ُمعترك السياسة ،ونخوض ِ
طبيعة السلم ،ل ينعزل فيه دين عن دنيا ،ول تنفصل فيه دنيا عن دين ،ول يعرف قرآنه ول سنته ول تاريخه
ديًنا بل دولة ،ول دولة بل دين ...
الساسة يدخلون الّدين في السياسة متى أرادوا!
الذين زعموا أن الّدين ل علقة له بالسياسة من قبل ،والذين اخترعوا أكذوبة )ل دين في السياسة ،ول سياسة
في الّدين( من بعد ،أول من كّذبوها بأقوالهم وأفعالهم.
فطالما لجأ هؤلء إلى الّدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم ،والتنكيل بخصومهم ،وطالما استخدموا بعض
الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الّدين ،ليستصدروا منهم فتاوى ضّد من ُيعارض سياستهم الباطلة
دينا ،والعاطلة دنيا.
ل زلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948م 1949 ،م بأننا -نحن الدعاة إلى تحكيم
طع أيدينا
القرآن وتطبيق السلم -نحارب ال ورسوله ونسعى في الرض فساًدا فحقنا أن ُنقتل أو ُنصلب ،أو ُتق ّ
خلف ،أو ننفى من الرض!
وأرجلنا من ِ
ولزلت أذكر -ويذكر الناس -كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل،
تأييًدا لسياستهم النهزامية ،بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معها ،واعتبار ذلك خيانة ل
ولرسوله وللمؤمنين!
ول زال الحكام يلجأون إلى علماء الّدين ،ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية ،وآخرها محاولت
تحليل فوائد البنوك وشهادات الستثمار ،فيستجيب لهم كل رخو العود -ممن قّل فقههم أو قّل دينهم -ويأبى
سيبًا{
حِ
ل َل َوَكَفى ِبا ِّ
حدًا ِإّل ا َّ
ن َأ َ
شْو َ
خ َ
شْوَنُه َول َي ْ
خ َ
ل َوَي ْ
ت ا ِّ
سال ِ
ن ِر َ
ن ُيَبّلُغو َ
عليهم العلماء الراسخون } :اّلِذي َ
]الحزاب.[39:
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1إشارة إلى حديث" :الدين النصيحة" ،وقد رواه مسلم في اليمان ) ،(55وأحمد في المسند )،(19640
وأبو داود في الدب ) ،(4944والبيعة ) ،(4197عن تميم الداري.
] -[2رواه أحمد في المسند ) ،(11035وذكر محققوه لقوله" :أل ان أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان
جائر" شاهدين وقالوا :بهذين الشاهدين حسن لغيره ،وأبو داود في الملحم ) ،(4344والترمذي في الفتن )
،(2174وقال :حديث حسن غريب من هذا الوجه ،وابن ماجه في الفتن ) ،(4011عن أبي سعيد الخدري.
] -[3رواه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة ) ،(3/215وقال :صحيح السناد ولم يخرجاه ،عن جابر،
وحسنه اللباني في صحيح الجامع ).(3675
] -[4رواه عبد الرزاق في المصنف كتاب الصلة ) ،(3/110وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الصلة )
،(2/106والبيهقي في الكبرى جماع أبواب صفة الصلة ) ،(2/210عن عمر موقوفا.
] -[5رواه مسلم في اليمان ) ،(49وأحمد في المسند ) ،(11150وأبو داود في الصلة ) ،(1140والترمذي
في الفتن ) ،(2172والنسائي في اليمان وشرائعه ) ،(5008وابن ماجه الفتن ) ،(4012عن أبي سعيد.
] -[6رواه أحمد في المسند ) ،(6521وقال محققوه :إسناده ضعيف ،رجاله ثقات رجال الصحيح ،إل أن أبا
الزبير لم يسمع من عبد ال بن عمرو فيما قال أبو حاتم في المراسيل ،ونقله أيضا عن ابن معين ،ونقل ابن
عدي في الكامل قوله :لم يسمع أبو الزبير من عبد ال بن عمرو ولم يره ،والبزار في المسند )،(6/362
والحاكم في المستدرك كتاب الحكام ) ،(4/108وقال :صحيح السناد ولم يخرجاه ،والبيهقي في الكبرى كتاب
الغصب ) ،(6/95عن عبد ال بن عمرو ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه أحمد والبزار والطبراني وأحد
إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح وكذلك إسناد أحمد إل أنه وقع فيه في الصل غلط ).(7/531
] -[7رواه مسلم في اليمان ) ،(50وأحمد في المسند ) ،(4379عن ابن مسعود.
] -[8رواه الطبراني في الصغير ) ،(2/131والوسط ) ،(7/270عن حذيفة بن اليمان ،وقال الهيثمي في مجمع
الزوائد :رواه الطبراني في الوسط والصغير وفيه عبد ال بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه
أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان ).(1/264
] -[9رواه أحمد في المسند ) ،(4880وقال محققوه :إسناده ضعيف لجهالة أبي بشر ،وأبو يعلى في المسند )
،(10/115والطبراني في الوسط ) ،(8/210والحاكم في المستدرك كتاب البيوع ) ،(2/14وقال الذهبي:
عمرو بن الحصين العقيلي تركوه ،وأصبغ بن زيد الجهني فيه لين ،عن ابن عمر ،وقال الهيثمي في مجمع
الزوائد :رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الوسط وفيه أبو بشر الملوكي ضعفه ابن معين )
.(4/180
]-[10
الفصل الرابع
ومن النقاط المهمة التي يتحدث عنها كثيرون من الحداثيين والعلمانيين :أن السياسة إذا ارتبطت بالّدين ،فإن
الّدين يقيدها ،ويعوقها عن النطلق ،وخصوصا إذا ُفهم الّدين على أنه التزام بالنصوص الجزئية والتفصيلية
من الكتاب والسنة.
فالسياسة تحتاج إلى أن تتحرك في فضاء واسع من النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما إذا
تعارضتا .وكثيرا ما تحتاج السياسة إلى الكر والفر ،وإلى نوع من الدهاء والمكر مع العداء .وقد ل يبيح الّدين
حل من لصحابه كل هذا القدر من التوسع والترخص .وبذلك تكون الغلبة لعداء الّدين ،حيث يكونون هم في ِ
اللتزام بأية قيود ،ونكون -نحن المسلمين -المكبلين بالوامر والنواهي.
وهذا ما لم نتخذ طريقا آخر في َفهم الّدين ،وهو النظر إلى المقاصد الكلية للدين ،ل إلى النصوص الجزئية له.
على وفق ما فعل عمر الخليفة الثاني ،الذي عطل بعض النصوص لتحقيق مصالح المسلمين ،فيما زعموا.
وبدون هذا يظل الّدين -في إطاره القديم وَفهمه التقليدي -عقبة أو حجر عثرة في طريق السياسة ،أو طريق
الدولة الحديثة ،في عالمنا المتشابك.
وهذا الكلم فيه خلط ولبس كثير ،إن أحسنا الظن بقائله ،وفيه تلبيس شديد ،إن لم نحسن الظن.
لقد بينا -بمنطق الشرع والعقل -أن الّدين منارة تهدي ،وليس قيدا يعوق .وأن الشريعة -كما قال ابن القيم -عدل
جور ،وعن الرحمة إلى كلها ،ورحمة كلها ،ومصالح كلها ،وحكمة كلها ،فكل مسألة خرجت عن العدل إلى ال َ
ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة ،وعن الحكمة إلى العبث ،فليست من الشريعة ،وإن أدخلت فيها بالتأويل]
![1
ومن َثّم تكون الفة في أفهام المسلمين للسلم وشريعته ،وليست في السلم نفسه.
ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن َفهم السلم وأحكامه ،ل إلى تنحيته من الطريق ،لتمضي السياسة
حرة ،ل تتقيد إل بالمصلحة ،كما يراها من يراها من الناس.
إن بعض الناس ينظر إلى السلم نظرة مثالية ل تمت إلى الحقيقة بصلة ،فهو يتخيل إسلما يحلق بأصحابه في
أجواء مجنحة ،ول ينزل إلى أرض الواقع.
وهذا غير صحيح ،فالسلم -مع مثاليته الرفيعة -يعالج الواقع كما هو ،بخيره وشره ،وحلوه ومره ،ويجيز
استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء ،ويقول " :الحرب خدعة"] ،[2ويرى أن الضرورات تبيح
سَعة والختيار .ومن قواعده:
المحظورات ،وأنه يجوز في وقت الضيق والضطرار ،ما ل يجوز في وقت ال ّ
ارتكاب أخف الضررين ،وأهون الشرين ،واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام ،وقبول الضرر الدنى لدفع
الضرر العلى ،وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلهما .وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص
السلم وشريعته].[3
أما )النظرة المقاصدية( للدين وللشريعة ،فنحن في مقدمة الداعين إليها ،والحفياء بها ،ولكن الذي نحذر منه
أبدا :أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة ،وخصوصا إذا
كانت النصوص ُمحكمة قاطعة؛ فهذه ل يملك المؤمن أمامها إل أن يقول) :سمعنا وأطعنا( .والقرآن صريح كل
ضىن َول ُمْؤِمَنٍة ِإَذا َق َ ن ِلُمْؤِم ٍالصراحة في ذلك ،وأن هذا الذعان هو مقتضى اليمان ،كما قال تعالىَ} :وَما َكا َ
عوا ِإَلى ا ِّ
ل ن ِإَذا ُد ُ
ن َقْوَل اْلُمْؤِمِني َ
ن َأْمِرِهْم{ ]الحزابِ} ،[36 :إّنَما َكا َ خَيَرُة ِم ْ ن َلُهُم اْل ِ
ن َيُكو َ
سوُلُه َأْمرًا َأ ْ ل َوَر ُا ُّ
ن{ ]النور.[51: حو َ
ك ُهُم اْلُمْفِل ُ
طْعَنا َوُأوَلِئ َ
سِمْعَنا َوَأ َن َيُقوُلوا َ حُكَم َبْيَنُهْم َأ ْ
سوِلِه ِلَي َْوَر ُ
والذي ندعو إليه دائما هو :الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية ،أو بعبارة أخرى :النظر إلى
النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية] ،[4ول يجوز أن نضرب إحداهما بالخرى ،فهي تتكامل ول
تتناقض.
وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة :أن هناك مدارس ثلثا في هذه القضية:
الولى :المدرسة الحرفية :أو من سميتهم )الظاهرية الجدد( الذين يركزون على النص الجزئي ،ويفهمونه َفهما
حرفيا ،ول يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي .وبهذا يصطدمون بالواقع ،ويضيقون على الناس فيما وسع
ال فيه ،ويعسرون ما يسر ال.
والثانية :المدرسة المقابلة لتلك ،وهي التي ُتغفل النصوص تماما ،ول تعيرها أي التفات ،بدعوى أنها تنظر إلى
المقاصد ،وتهتم بالفحوى .وهم الذين سميتهم )المدرسة المعطلة( .فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا
)المعطلة( ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة ،وهؤلء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة.
وهؤلء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال القتصاد ،ويلغوا الحدود في مجال العقوبات ،ويلغوا
الطلق وتعدد الزوجات في مجال السرة ،ويلغوا الحتشام )الحجاب( في مجال المرأة ،ويلغوا الجهاد في مجال
الدفاع عن الدعوة والمة ...إلخ.
والثالثة :هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة ،وهي المدرسة الوسطية ،التي ينبغي
أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع .وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين ،والمدرستان
الخريان ل تحظيان عمليا بالَقبول .ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض -غير ُمسّلمتين.
الدعاء على عمر رضي ال عنه أنه عطل النصوص باسم المصالح:
والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص -ويتكئون على مقولت تزعم أن عمر بن
الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح .وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك .وقد كان وقافا عبد كتاب ال .وقد
ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء ،فانصاع لقولها ،وقال :أصابت امرأة وأخطأ عمر!
وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام ،من المهاجرين والنصار ،الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل
طل كتاب ال ،وأن يبّدل شرع ال ،وهم ساكنون .لو افترضنا أن عمر فعلال ،والذين ل يقبلون بحال :أن ُيع ّ
ذلك -وما هو بفاعل -ما َقِبل هؤلء أبًدا ،وفيهم عرق ينِبض.
ومما نأسف له :أن مفكرا معتدل مثل د .عابد الجابري ،سار في هذا الدرب ،وقال ما قاله دعاة )العلمانية( التي
ينكرها ول يقرها .فقد ذكر في كتابه )الّدين والدولة وتطبيق الشريعة( :أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون
بحسب ما تمليه المصلحة ،صارفين النظر عن النص ،ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة
تقتضي مثل هذا التأجيل للنص].[5
ولقد ذكر د .الجابري بعد ذلك :أن الممارسة الجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا ،فإذا
تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالت ،وجدناهم يعتبرون المصلحة ،ويحكمون بما تقتضيه،
ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها].[6
وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا ،كما قال تعالىَ} :فإِ ْ
ن
سوِل{ ]النساء ،[59:وإذا ووجه أحدهم بالنص ،لم يسعه إل أن ينقاد له ل َوالّر ُ
يٍء َفُرّدوُه ِإَلى ا ِّ
ش ْ
عُتْم ِفي َ
َتَناَز ْ
بل تلّكؤ ول تردد.
ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك :ما جرى من أبي بكر وعمر ،حول أداء الزكاة بعد رسول ال صلى ال
عليه وسلم .هل تؤدى للدولة أو تترك للفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟
كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه ،وإلى ولته وعماله ،كما كان الحال في عهد النبي صلى ال عليه
وسلم فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم ،الذي هو الركن الثالث من أركان السلم.
وهنا توقف عمر في قتالهم ،وقال لبي بكر :كيف نقاتل الناس ،وقد قالوا :ل إله إل ال؟ وقد قال النبي صلى ال
عليه وسلم" :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا) :ل إله إل ال( فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم
إل بحقها ،وحسابهم على ال" .فقال أبو بكر :إن الزكاة حق المال .وال لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة،
وال لو منعوني عقال كانوا يؤدونه إلى رسول ال لقاتلتهم على منعه]![7
وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الحتجاج بالنصوص ،ل الستدلل بالمصالح كما
يقول الدكتور .رأينا عمر يعتمد على نص الحديث ،وينسى القيد الذي فيه )إل بحقها( ،فذّكره أبو بكر :أن الزكاة
صلَة َوآَتُوا الّزَكاَة
ن َتاُبوا َوَأَقاُموا ال ّ
حق المال ،ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلة يقاتل عليها ،كما قال تعالىَ} :فِإ ْ
سِبيَلُهْم{ ]لتوبة.[5:
خّلوا َ
َف َ
وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع ،فما كان في عهد رسول ال ،يجب أن يستمر.
وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الّدين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة
الدولة] :[8قول ل دليل عليه من حياة الرجلين .والزعم بأن الزكاة رمز للولء السياسي ليس هو الدافع لبي
بكر إلى قتال مانعي الزكاة ،كما قاتل المرتدين.
بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلل نصوص القرآن ،وسنة الرسول القولية والعملية ،فوجد أنها من مسؤولية
صدَقًة ُتطّهرُهم وُتَزّكيِهم بَها{ ]التوبة ،[103:وفي الحديث
خْذ ِمن أمَواِلِهم َ
الدولة أو الخلفة .لهذا قال القرآنُ } :
المتفق عليـه" :تؤخذ من أغنيائهم ،لترد على فقرائهم"] ،[9وجعل القرآن من مصارف الزكاة :مصرف
)العاملين عليها( .فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة ،وتأخذها من أصحابها طوعا ،وإل أخذتها
كرها ،فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة ،قاتلهم المام حتى يؤدوها .وبهذا كانت الدولة السلمية أول دولة في
التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين .وكل ما كان يؤدى في عهد رسول ال يجب أن يظل يؤدى،
ولو كان عقال بعير.
وكل ما ذكره د .الجابري عن عمر ،وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لجل المصلحة ،من مثل :إلغاء سهم
)المؤلفة قلوبهم( ،وإيقاف تنفيذ )حد السرقة( في عام المجاعة ،ومنع -أو كراهية -الزواج من الكتابيات ...إلى
ك النقد العلمي ،وهي مبنية على سوء الَفهمآخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ...كلها ل تثبت على مح ّ
لموقف عمر رضي ال عنه .وقد رددنا عليها بالتفصيل ،وبالدلة المحكمة الناصعة في كتابنا )السياسة
الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها(].[10
طل النص من أجل المصلحة. أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من المثلة التي ذكروها عن عمر ،واّدعو فيها أنه ع ّ
ولعل أشهر المثلة التي يرّددونها باستمرار ،هو ما عّبروا عنه بقولهم) :إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم( وهو
منصوص عليه في القرآن.
ونود أن نذكر هنا :أن المصلحة الحقيقية ل يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدللة .وهذا أمر
مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع العصار.
والذين اّدعوا أن نجم الّدين الطوفي قّدم المصلحة على النص القطعي :قّولوا الرجل ما لم يقل ،بل قال عكسه
تماما ،فكل كلمه على النصوص الظنية ثبوتا أو دللة ،وإنما قال من قال ذلك ،لنهم لم يستوعبوا كلمه كله،
وإنما اختطفوا جزءا منه ولم يستكملوه ،وقد وضحنا ذلك ونقلنا من نصوصه ما يدفع هذا الوهم بيقين ،في
كتابنا )السياسة الشرعية(].[11
)وأما النص ،فهو إما متواتر أو آحاد ،وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم ،أو محتمل ،فهي أربعة أقسام،
فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودللته ،لكن قد يكون محتمل من جهة عموم أو إطلق ،وذلك
يقدح في كونه قاطعا مطلقا .فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والطلق ونحوه ،وحصلت فيه القطعية
من كل جهة بحيث ل يتطرق إليه احتمال بوجه .منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة ،فيعود إلى الوفاق .وإن كان
آحادا محتمل فل قطع ،وكذا إن كان متواترا محتمل ،أو آحادا صريحا ل احتمال في دللته بوجه ،لفوات قطعيته
من أحد طرفيه إما متنه أو سنده(] [12اهـ.
فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دللته :المصلحة.
ومما ل نزاع فيه بين أهل العلم عامة :أن المصلحة اليقينية )القطعية( ل يمكن أن تناقض النص القطعي أو
يناقضها بحال من الحوال .وهو ما أكده علماء المة قديما وحديثا.
إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة ،مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الجانب ،أو الخمر لجتذاب
السياحة ،أو الزنى للترفيه عن العزاب ،أو إيقاف الحدود ،مراعاة لفكار العصر ،أو غير ذلك مما يمّوه به
مموهون من عبيد الفكر الغربي.
وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي ،وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين ،ول سيما من غير
المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها ،من أساتذة الحقوق والقتصاد والداب ،فحسبوا بعض
النصوص قطعية ،وليست كذلك].[13
ومن الضروري هنا :أن نبّين أن المصلحة التي يتحدث عنها علماء الشريعة السلمية ،ليست هي المصلحة
التي يتحدث عنها الغربيون ...إن المصلحة عند الغربيين تدور حول )اللذة( كما يذهب كثير من الفلسفة ،أو
حول )القوة( كما يذهب إلى ذلك منظرو السياسة .وليس هناك ضوابط لتحصيل القوة عند هؤلء أو اللذة عند
أولئك.
والفراد يتنافسون في ذلك ،وكذلك القوام والمم تتنافس في ذلك ،بدون ضابط من وازع ديني أو أخلقي.
المصلحة هنا مصلحة مادية ل روحية ،دنيوية ل أخروية ،فردية ل اجتماعية ،آنية ل مستقبلية ،قومية ل
إنسانية.
أّما المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها ،فهي أشمل من ذلك وأوسع .فهي ليست المصلحة
الدنيوية فحسب ،كما يدعو خصوم الّدين ،ول المصلحة المادية فقط ،كما يريد أعداء الروحية ،ول المصلحة
شاق الوجودية وأنصار الرأسمالية ،ول مصلحة الجماعة أو البرولتاريا ،كما يدعوالفردية وحدها ،كما ينادي ع ّ
إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية ،ول الملصلحة القليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية،
ول المصلحة النية للجيل الحاضر وحده ،كما تتصور بعض النظرات السطحية .إنما المصلحة التي قامت عليها
الشريعة في كلياتها وجزئياتها ،وراعتها في عامة أحكامها ،هي المصلحة التي تسع الدنيا والخرة ،وتشمل
المادة والروح ،وتوازن بين الفرد والمجتمع ،وبين الطبقة والمة ،وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة
النسانية العامة ،وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الجيال المستقبلة ،والموازنة بالقسط بين هذه
المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الحيان ل ينهض بها علم بشر ،وحكمة بشر ،وقدرة بشر.
فالبشر أعجز من أن يحيط بُكْنه هذه المصالح ويوّفق بينها ،ويعطي كل ذي حق منها حقه بالقسطاس المستقيم.
وعجزه يأتي من ناحيتين:
.1ناحية محدودية عقله وعلمه ،وذلك تابع لطبيعته البشرية المخلوقة الفانية المتأثرة -حتما -بالزمان والمكان
والمحيط والوراثة.
)أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد :ل يعرفها حق معرفتها إل خالقها وواضعها ،وليس للعبد بها علم إل
من بعض الوجوه ،والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له ،فقد يكون ساعًيا فى مصلحة نفسه من وجه
صله إليها ناقصة ل كاملة ،أو يكون فيها مفسدة ُتربي -فى
صله إليها عاجل ل آجل ،أو يو ّ
صله إليها ،أو يو ّ
ل يو ّ
الموازنة -على المصلحة ،فل يقوم خيرها بشرها.
وكم من مدبر أمًرا ل يتّم له على كماله أصل ،ول يجنى منه ثمرة أصل ،وهو معلوم مشاهد بين العقلء ،فلهذا
بعث ال النبيين مبشرين ومنذرين ،فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع ،رجوع إلى وجه
حصول المصلحة ...بخلف الرجوع إلى ما خالفه .[14](...
ولهذا كانت رعاية المصالح كلها )فردية واجتماعية( للنسان كله )جسمه وروحه وعقله( ،وللطبقات كلها
)أغنياء وفقراء ،وحكاما ومحكومين ،وعمال وأرباب عمل( ،وللنسانية كلها )بيضا وسودا ،ووطنين
وأجانب( ،وللجيال كلها )حاضرة ومستقبلة( ،ل يقدر عليها إل رب الناس ،ملك الناس ،إله الناس.
وهذا المعنى هو ما جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتوقف في توزيع الرض المفتوحة على الفاتحين،
لنه رأى إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه -جيل الفتح -على حساب الجيال اللحقة من أبناء المة ،ولهذا
كان يقول :إنني إن قسمتها بينكم جاء آخر الناس وليس لهم شيء.
وقد وجد عمر بعد طول تأّمل في كتاب ال ما يؤيد وجهة نظره في سورة الحشر ،حيث أشارت اليات في
مصرف الفيء -بعد المهاجرين والنصار -وهم الجيل الحاضر آنذاك ،إلى الذين يجيئون بعدهم من الجيال ،ذلك
ن{ ]الحشر:
سَبُقوَنا ِباِْليَما ِ
ن َ
خَواِنَنا اّلِذي َ
غِفْر َلَنا َولِ ْ
ن َرّبَنا ا ْ
ن َبْعِدِهْم َيُقوُلو َ
جاُءوا ِم ْ
ن َ
في قوله تعالىَ} :واّلِذي َ
.[10
وبهذه اليات وجد عمر الحجة على مخالفيه من الصحابة رضي ال عنهم جميعا .قال عمر :ما أرى هذه الية
إل عمت الخلق كلهم] .[15وقال للذين عارضوه :تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم]
[16؟ ويقول :لول آخر الناس ما فتحت قرية] ... [17إلخ ،فقد فهم عمر من كتاب ربه وسنة نبيه صلى ال
عليه وسلم ومقاصد شريعته :أن مصالح الجيال كلها يجب أن تراعى ول يستأثر جيل واحد أو جيلن بالخير
والرفاهية على حساب من بعدهم ،ولهذا كان ينظر إلى آخر الناس )الجيال اللحقة التي يخبئها الغيب( ويعمل
لصالحها كالجيال الحاضرة.
ولقد كان معاذ -الفقيه النصاري الجليل وأعلم الصحابة بالحلل والحرام كما في الحديث] -[18من أنصار عمر
في رأيه ،وقد قال محذرا من الستجابة إلى رغبة المطالبين بالقسمة :إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في
أيدي هؤلء القوم ،ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة )أي أنه ينّبه في هذا الوقت المبكر إلى
خطر الملكية العقارية الواسعة( ثم يأتي من بعدهم قوم يسّدون من السلم مسًدا )أي يبلون في الدفاع عنه بلء
حسنا( وهم ل يجدون شيئا ،فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم].[19
والمقصود هنا :أن الشريعة ترعى مصالح المكلفين بهذا الشمول المتوازن ،أو بهذا التوازن الشامل ،فمن أراد
أن يفهم المصلحة في الشريعة فليفهمها في ضوء هذا التصور].[20
--------------------------------------------------------------------------------
] -[3انظر :خصيصة )الواقعية( من كتابنا )الخصائص العامة للسلم( صـ ،144والواقعية من كتابنا )مدخل
لدراسة الشريعة( صـ .119
] -[5انظر :الدين والدولة صـ 12طبعة مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت .طبعة أولى.
] -[9رواه البخاري في الزكاة ) (1395عن ابن عباس ،ومسلم في اليمان ) ،(19وأحمد في المسند )،(2071
وأبو داود ) ،(1584والترمذي ) ،(625والنسائي ) ،(2435وابن ماجه ) (1783أربعتهم في الزكاة.
] -[12انظر :كتاب المعين في شرح الربعين للطوفي .في شرح حديث" :ل ضرر ول ضرار".
] -[13انظر :كتابنا )السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها( صـ .268 ،267
] -[18رواه أحمد في المسند ) (13990عن أنس ،وقال محققوه :إسناده صحيح على شرط الشيخين،
والترمذي في المناقب ) ،(3791وقال :حديث حسن صحيح ،وابن ماجه في المقدمة ).(154
] -[19انظر :الخراج لبي يوسف صـ ،27 ،24والخراج ليحيى بن آدم صـ ،43 ،18والموال لبي عبيد صـ
56وما بعدها.
] -[20انظر :كتابنا )مدخل إلى دراسة الشريعة( صـ 65 – 61طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت ،ومكتبة وهبة
بالقاهرة.
ومما أثاروه من الشبهات التي رّتبوها على صلة الّدين بالسياسة :أن اللجوء إلى الّدين في شؤون السياسة
والحكم وإدارة الدولة ،يصيب الحياة بالجمود والعفن ،ويجعلها كماء الِبَرك السن ،ل تتطور ول تتحسن ول
تتجدد ،لن طبيعة الّدين )الثبات( وطبيعة الحياة )التغير( .بل نـرى نصوص الّديـن تعتبـر كـل تغيير أو إحداث أو
تجديد :بدعة في الّدين ،وكل بدعة ضللة ،وكل ضللة في النار .ولهذا يجب على أهل الّدين أن يقاوموها ،ول
يسكتوا عليها.
وهذا الكلم يشتمل على كثير من الخلط والتلبيس .ول يتفق مع حقائق السلم الناصعة ،وأحكامه القاطعة،
وتعاليمه المحكمة .كما ل يتفق مع حقائق الحياة أيضا.
فالسلم يدعو إلى الجتهاد والتجديد في الّدين ،والعلماء يعتبرون الجتهاد في الّدين من )فرائض الكفاية( التي
تجب على المة متضامنة ،بحيث إذا توافر لها عدد من المجتهدين يلبون الحاجة ،ويسدون الثغرة ،ويؤدون
الواجب ،فيما يعتري المة من مشكلت مستجدة ،تتطلب الحل ،وواقعات لم يسبق لعلمائنا الماضين أن
عرفوها ،فهنا تكون المة قد أدت ما عليها وبرئت من الثم .وإل أثمت المة عامة ،وأولو المر والشأن فيها
خاصة.
ويجب على المة أن تتخذ من الوسائل والسباب والليات العلمية والتربوية والعملية والدارية :ما يكفل ظهور
هؤلء المجتهدين الذين يعرفون شريعتهم ،ويعرفون عصرهم ،فما ل يتم الواجب إل به فهو واجب.
وقد قرأنا الحديث النبوي الذي يقول" :إن ال يبعث على رأس كل مائة عام لهذه المة :من يجدد لها دينها"]
.[1
وإذا كان التجديد في أمر الّدين مطلوبا ومحمودا ،فكيف ُيرفض التجديد في أمر الدنيا وشؤون الحياة؟
أما ما جاء من ذم )الحداث( فمقصود به الحداث في الّدين ،وما يتعّلق بالعبادات المحضة ،وهي التي جاءت
ن ِبِه ا ُّ
ل ن َما َلْم َيْأَذ ْ
ن الّدي ِ
عوا َلُهْم ِم َ
شَر ُ
شَرَكاُء َ
فيها النصوص المانعة والذاّمة ،مثل قوله تعالىَ :أْم َلُهْم ُ
]الشورى ،[21:وقوله " :من أحدث في أمرنا -أي ديننا -ما ليس فيه فهو رد"] ،[2و"من عمل عمل ليس
عليه أمرنا"] ،[3أي مردود عليه ،ل يقبل منه.
وقوله " :إن أصدق الحديث كتاب ال ،وخير الهدي هدي محمد صلى ال عليه وسلم وشر المور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة ،وكل ضللة في النار"].[4
حدثة هنا :ما أحدث في أمر الّدين والعبادات المحضة من الزيادة على الّدين والتغيير
حدث أو الُم ْ
والمراد بالُم ْ
فيه ،بما لم يجئ به نص من كتاب ول سنة ،ولم يسنه الراشدون المهديون رضي ال عنهم .وهذا أمر مهم ،بل
ضروري لحفظ الّدين .بخلف أمر الدنيا.
ومن هنا جعلنا من ركائز )الفقه الحضاري( -في كتابنا )السنة مصدرا للمعرفة والحضارة( -هذا المبدأ أو هذه
ت فيالقاعدة الهامة ،التي يجب أن يعيها أبناء أمتنا ،وهي :الّتباع في الّدين ،والبتداع في الدنيا! وقد قل ُ
شرحها وإيضاحها:
)من مفاهيم هذا الفقه الحضاري :أن الصل في أمور الّدين هو الّتباع ،وفي شؤون الدنيا هو البتداع .فالّدين
ت َلُكْم ِديَنُكْم َوَأْتَمْم ُ
ت قد أكمله ال تعالى ،وأتمم به النعمة ،فل يقبل الزيادة ،كما ل يقبل النقصان :اْلَيْوَم َأْكَمْل ُ
سلَم ِدينًا ]المائدة.[3:
ت َلُكُم اِْل ْ
ضي ُ
عَلْيُكْم ِنْعَمِتي َوَر ِ
َ
الول :أل يعبد إل ال تعالى ،وكل ما عبده الناس من نجم في السماء أو صنم في الرض ،أو نبات أو حيوان أو
حي ِإَلْيِه َأّنُه ل ِإَلَه ِإّل َأَنا
سوٍل ِإّل ُنو ِ
ن َر ُ
ك ِم ْ
ن َقْبِل َ
سْلَنا ِم ْ
إنسان فهو باطل ،وهذا ما جاء به كل رسل الَ :وَما َأْر َ
ن ]النبياء.[25:
عُبُدو ِ
َفا ْ
والثاني :أل يعبد ال تعالى إل بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله ،وكل َمن أحدث في دين ال أمًرا لم يجئ
به قرآن ول سنة ،فهو مردود على صاحبه ،كما في الحديث الصحيح" :من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو
رد"]" ،[5من عمل عمل ليس عليه أمرنا"].[6
وفي الحديث الخر" :إياكم ومحدثات المور ،فإن كل محدثة بدعة ،وكل بدعة ضللة"].[7
وبهذا حمى النبي صلى ال عليه وسلم الّدين من المحدثات والمبتدعات التي دخلت على الديان السابقة
سره ال ،وحّرمت ما أحّله ،وأحّلت ما حّرمه.
سرت منها ما ي ّ
فحّرفتها ،وأضافت إليها ما ليس منها ،وع ّ
وحسبنا مثل على ذلك :ما ابتدعه النصارى من الرهبانية العاتية ،التي صادروا بها فطرة ال التي فطر الناس
عليها ،فحّرموا الزواج ،وزينة ال التي أخرج لعباده ،والطيبات من الرزق .وغل بعضهم حتى حرم على نفسه
من الماء والنظافة ،واعتبروا البقاء على القذارة أقرب إلى ال ،والنظافة أدنى إلى الشيطان .حتى قال أحد
رهبان العصور الوسطى في أوربا متحسًرا :لقد كان من قبلنا يعيش أحدهم طول عمره ل يبل أطرافه بالماء،
ولكننا -واأسفاه -أصبحنا في زمن يدخل فيه الناس الحمامات]![8
ويبدو أن دخول الحمامات تلك عدوى انتقلت إليهم من المسلمين في الندلس! فقد ذكروا أنه كان يوجد في
قرطبة ستمائة حمام]![9
وهذا التشديد على النفس ،هو ما حّذرت منه السنة .فعن أنس بن مالك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان
يقول" :ل تشددوا على أنفسكم ،فيشدد ال عليكم ،فإن قوما شددوا على أنفسهم ،فشدد ال عليهم ،فتلك بقاياهم
عَلْيِهْم ]الحديد.[10]"[27:
عوَها َما َكَتْبَناَها َ
في الصوامع والديار َوَرْهَباِنّيًة اْبَتَد ُ
وفي مقابل هذا التشديد في أمر الّدين ،وإيجاب الّتباع فيه ،كان التسهيل في أمر الدنيا ،وفتح باب البداع
والبتكار في كل ما يتعّلق بها.
ث الرسول الكريم على ابتكار مناهج الخير ،واختراع ما تجود به القرائح المبدعة من صور
ول غرو أن ح ّ
ن في السلم
العمران ،والصلح والتجديد ،في العلم والعمل والفن .وفي هذا جاء الحديث الصحيح" :من س ّ
سنة حسنة فله أجرها ،وأجر من عمل بها من بعده ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء"].[11 ُ
وهذا ما مضى عليه الصحابة والمسلمون في القرون الولى :نجد الصحابة فعلوا أشياء لم يفعلها الرسول صلى
ال عليه وسلم اقتضاها تطور الحياة في زمنهم ،ووجدوا فيها الخير والمصلحة للمة ،ولم يتقدم بها أمر ول
نظير ،مثل كتابة المصاحف ،وجعل الخلفة شورى] ،[12وضرب النقود ،واتخاذ السجن ،وغير ذلك ،مما
استدل به الصوليون على حجية المصلحة المرسلة].[13
حَدثات في العقيدة ،والمبتدعات في العبادة ،وحافظوا على جوهر الّدين من الشوائب والطفيليات
قاوموا الُم ْ
الغريبة .وفي الوقت نفسه ابتكروا علوما جديدة لخدمة الّدين ،مثل :علوم النحو والصرف والبلغة ،ووضعوا
معاجم اللغة ،وطوروا علوم الفقه والتفسير والحديث ودّونوها ،وابتكروا علوما خادمة لها ،لضبط قواعدها،
ورّد فروعها إلى أصولها .فكان علم أصول الفقه ،وأصول الحديث ،وأصول التفسير ،وعلوم القرآن.
وترجموا علوم المم الخرى ،فاقتبسوا منها ،وعّدلوا فيها ،وأضافوا إليها ،ونبغ منهم أعداد ل ُتحصى في
علوم الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والبصريات والرياضيات وتقويم البلدان ،وغيرها من أنواع المعارف
والعلوم .وابتكروا علوما أخرى لم تعرفها المم السابقة كاليونان وغيرهم ،مثل )علم الجبر( الذي اخترعه
خوارِزمي ،وهو يؤلف رسالة في علم المواريث والوصايا. العلمة ال ُ
ولما تخلف المسلمون :انعكست الية عندهم ،فابتدعوا في أمور الّدين ،وجمدوا في أمور الدنيا!!(].[14
إننا ندعو المسلمين ،ونلح في الدعوة عليهم ،أن يحددوا الهداف بوضوح ،ويضعوا المناهج بدقة ،للتجديد في
أمر الدين ،والتطوير في أمر الدنيا ،بحيث يكون يومهم أفضل من أمسهم ،وغدهم أحسن من يومهم ،فالمسلم
عَباِد اّلِذي َ
ن شْر ِ
الحق هو الذي ينشد)الحسن( دائمًا ،وليس مجرد الحسن ،كما قال تعالى في القرآن الكريمَ:فَب ّ
ب )الزمر.(17،18 : ك ُهْم ُأوُلو اَْلْلَبا ِ
ل َوُأوَلِئ َ
ن َهَداُهُم ا ُّ
ك اّلِذي َ
سَنُه ُأوَلِئ َ
ح َ
ن َأ ْ
ن اْلَقْوَل َفَيّتِبُعو َ
سَتِمُعو َ
َي ْ
ومن المهم جدا في هذا المقام :أن يميز بين ما يجدد وما ل يجدد من الدين] ،[15وما معنى التجديد وجوانبه،
ومن هو المجدد الحق ،وكذلك بين ما يطور وما ل يطور من المجتمع والحياة ،بحيث تحترم الثوابت ،ويبقى
المجال مفتوحا وواسعا في المتغيرات ،وما أكثرها].[16
وقد ناقشنا في كتابنا )السلم والعلمانية( دعوى ثبات الّدين وتغير الحياة ،بأنها دعوى غير مسلمة ،فليس كل
الّدين ثابتا ،ول كل الحياة متغيرة.
بل الثابت في الّدين :العقائد والشعائر العبادية والقيم والفضائل والحكام القطعية ،التي عليها تجتمع المة،
وتتجسد فيها وحدتها الَعَقِدّية والفكرية والشعورية والعملية .وهي تمثل )ثوابت المة( التي ل يجوز اختراقها
ول تجاوزها .وربما كانت هي قليلة جدا ،ولكنها مهمة جدا.
أما معظم أحكام الشريعة فهي ظنية ،وهي قابلة للجتهاد والتجديد واختلف الراء ،وفيها يتغير الجتهاد،
وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال .ففي هذا المجال الرحب يعمل العقل السلمي ،ويصول
ويجول مهتديا بما أنزل ال من الكتاب والميزان.
ول غرو أن اختلفت المذاهب والمشارب ،واختلف أهل المذهب الواحد فيما بينهم في مسائل شّتى ،واختلف قول
المام الواحد في المسألة الواحدة ما بين فترة وأخرى ،وكان ذلك موضع قبول وترحيب من علماء المة الذين
أعلنوا بكل وضوح :أن اختلف العلماء رحمة واسعة ،كما أن اتفاقهم حجة قاطعة].[17
ولهذا دخلت الشريعة بلد الحضارات المختلفة في فارس والعراق والشام ومصر والهند وغيرها ،فما عجزت
سَعة نصوصها ،وشمول قواعدها،عن علج مشكلة ،ول ضاق صدرها بجديد يعرض عليها ،بل وجدت في َ
وعموم مقاصدها :ما يفي بكل مطلب ،وما يجيب على كل تساؤل.
لقد علمنا السلم -بُمحكمات نصوصه ،وكليات قواعده -أن نفرق بين المقاصد والوسائل ،وبين الصول
والفروع ،وبين الكليات والجزئيات ،فنحرص على الثبات في المقاصد والغايات ،وعلى المرونة في الوسائل
والليات ،على الثبات في الصول والكليات ،وعلى المرونة في الفروع والجزئيات .وبهذا ل نقف في وجه
التطور والبداع ،إل إذا كان مسخا لهوية المة وذاتيتها باسم التطور.
هذه نظرتنا إلى الّدين ،فيه ثبات وفيه تغير ،فإذا نظرنا إلى الحياة لم نجد الحياة كلها متغيرة كما زعم الزاعمون.
بل جوهر الحياة ثابت ،وجوهر النسان ثابت ،وجوهر الكون ثابت .والعراض هي التي تتغير.
إن السماء هي السماء ،والرض هي الرض ،والبحار هي البحار ،والشمس والقمر والنجوم ل تزال تسير في
سّن ِ
ت جَد ِل ُ
ن َت ِ
ل َوَل ْ
ل َتْبِدي ً
ت ا ِّ
سّن ِ
جَد ِل ُ
ن َت ِ
أفلكها مسخرة بأمر ربها ،تحكمها سسن ثابتة ل تتغير ول تتحولَ :فَل ْ
ل ]فاطر.[43:
حِوي ً
ل َت ْ
ا ِّ
ضيا ،كأن ينجح النسان في تخضير الصحراء ،وقد يغلب التصحر عَر ِ
قد تتغير بعض الشياء تغيرا جزئيا و َ
النسان فيأكل الرض الخضراء ،وقد يطغى البحر على اليابسة فيأخذ منها ،وقد يردم النسان جزءا من البحر،
فيضمه إلى اليابسة ،وقد يحول النسان ماء البحر الملح الجاج إلى عذب فرات سائغ شرابه … إلى غير ذلك
من التغيرات المحدودة ،التي ل تنال من ثبات جوهر الكون والحياة.
والنسان قد تغيرت قدراته وإمكاناته ،وتغيرت معارفه ومعلوماته ،فأمسى يحلق في الهواء كالطير ،ويغوص
في البحار كالحوت ،ويختصر المسافات ،ويضاعف القدرات ،ويهتدي إلى الثورات العلمية الهائلة :اللكترونية
والتكنولوجية والبيولوجية والنووية والفضائية ،وثورة التصالت ،وثورة المعلومات.
ومع هذا كله ،ظل النسان هو النسان في جوهره وحقيقته ،بعقله وعاطفته وضميره ،وجسمه وروحه،
باستعداده للخير والشر ،وللفجور والتقوى.
نعم ،تطورت أدوات القتل وأساليبه عما كانت من قبل ،وأصبح في استطاعة النسان أن يخفي جثة القتيل
ل كما هما في إنسان عصرنا كما كانا في
بإذابتها بواسطة محاليل كيميائية معينة ،ولكن جوهر الخير والشر ظ ّ
العصر الول.
ومن هنا سقطت دعوى أن الّدين كله ثابت ،وأن الحياة كلها متغيرة.
وأود أن أنبه هنا إلى :أن السلم ل يمنع تطور الحياة ،وانتقالها من السيئ إلى الحسن ،ومن الحسن إلى
الحسن .بل نرى السلم أبدا يشوق المسلم إلى )التي هي أحسن( في كثير من المور ،فهو يحاور بالتي هي
أحسن ،ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن ،ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن.
ولقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر )الحصاء( قبل أن يهتم به البشر ،فطلب من أصحابه أن يحصوا له عدد
ن يلفظ بالسلم فأحصوا له ،فكانوا ألفا وخمسمائة رجل].[18 َم ْ
وفي بعض الروايات" :اكتبوا لي … "] ،[19فهو إحصاء ُيراد تدوينه وكتابته.
وهو عليه الصلة والسلم ،يقدر التجربة في شؤون الدنيا ،ويبني عليها نتائجها ،فحين رأى في بعض أمور
الزراعة أمرا ،وأظهرت النتائج خلفه ،قال لهم بكل وضوح" :أنتم أعلم بأمر دنياكم"] .[20فأنتم المرجع
المعتبر في المور الفنية والدنيوية التي تحسنونها ،دون حاجة إلى الرجوع إلى الوحي].[21
شوا
ل ]الجمعةَ ،[10:فاْم ُ
ضِل ا ِّ
ن َف ْ
ض َوابَْتُغوا ِم ْ
شُروا ِفي اَْلْر ِ
ف بدعوتهم إلى العمل لدنياهمَ :فاْنَت ِ وهو لم يكت ِ
ن ِرْزِقِه ]الُملك.[15:
ِفي َمَناِكِبَها َوُكُلوا ِم ْ
بل حّثهم على أن يحسنوا العمل ،وَيْبُلُغوا به درجة التقان والحكام ،وجعل ذلك فريضة دينية مكتوبة عليهم،
فقال " :إن ال كتب الحسان على كل شيء ،فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ،وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"].[22
والحسان هو :التقان الذي يحبه ال ،فهو تعالى يحب المحسنين ،ويحب من أحدنا إذا عمل عمل أن يتقنه.
ن ]النعام ،152:السراء:
سُح َ
ي َأ ْ
ومن توجيهات القرآن القتصادية الرائعةَ :ول َتْقَرُبوا َماَل اْلَيِتيِم ِإّل ِباّلِتي ِه َ
.[34
طُرق للمحافظة على مال اليتيم من جهة ،وعلى تثميره وتنميته من ي اليتيم عن أمثل ال ّ
على معنى أن يبحث ول ّ
جهة أخرى ،بحيث يبقى أصله سليما ،وتتابع ثمراته باستمرار .وفي هذا يتنافس أهل المعرفة بالمال ،والخبرة
طُرق التشغيل والستثمار .فلو وجدت طريقة أو أكثر لتنمية مال اليتيم ،طريقة حسنة، بالقتصاد ،والعارفون ب ُ
وطريقة أحسن منها ،فالقرآن ينهى أن ُيْقَتَرب من هذا المال إل بالطريقة الحسن والفضل.
صى بمال اليتيم خاصة ،لن الناس -بطبيعتهم وفطرتهم -مهتّمون بتثمير أموالهم الخاصة ،وقد يهملون وإنما و ّ
أمر مال اليتيم ،فُنّبهوا عليه ،حتى ل يغفلوا عنه.
وتوجيه القرآن العناية إلى حسن استثمار أموال اليتامى ،فيه إشارة واضحة إلى العناية بحسن استثمار أموال
المة كلها ،وأن يكون بالطريقة التي هي أحسن وأفضل ،في حفظ الصول ،وتنمية الفروع ،فالمال هو قوام
المعيشة ،وعصب الحياة ،ونعم المال الصالح للفرد الصالح ،وللجماعة الصالحة أيضا.
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1رواه أبو داود في الملحم ) (4291عن أبي هريرة ،والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملحم )
،(4/567والطبراني في الوسط ) ،(6/324وصححه اللباني في صحيح الجامع ).(1874
] -[2رواه البخاري في الصلح ) (2697عن عائشة ،ومسلم في القضية ) ،(1718وأحمد في المسند )
،(26033وأبو داود في السنة ) ،(4606وابن ماجه في المقدمة.
] -[3رواه مسلم في القضية ) (1718عن عائشة ،وأحمد في المسند ) ،(25171والدارقطني في السنن كتاب
عمر ).(4/227
] -[4رواه مسلم في الجمعة ) (867عن جابر ،وأحمد في المسند ) ،(14334والنسائي في صلة العيدين )
،(1578وابن ماجه في المقدمة ).(45
] -[7رواه أحمد في المسند ) (17144عن العرباض بن سارية ،وقال محققوه :حديث صحيح ورجاله ثقات،
وأبو داود في السنة ) ،(4607والترمذي في العلم ) (2676وقال حديث صحيح ،وابن ماجه في المقدمة ).(43
] -[8انظر :ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للعلمة أبي الحسن الندوي صـ 185دار القلم .الكويت.
] -[9بل عدها بعضهم تسعمائة حمام ،ذكر ذلك المقري التلمساني في نفح الطيب من غصن الندلس الرطيب )
،(1/540وأكثر من هذا ما ذكره الخطيب في تاريخه :أن حمامات بغداد بلغت ستين ألف حمام ).(1/117
] -[10رواه أبو داود في الدب ) (4904عن أنس ،وأبو يعلى في المسند ) ،(6/365وقال الهيثمي في مجمع
الزوائد :رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة )،(6/390
وضعفه اللباني في الجامع الصغير ).(14381
] -[11رواه مسلم في الزكاة ) (1017عن جرير بن عبد ال ،وأحمد في المسند ) ،(19200والنسائي في
الزكاة ) ،(2554وابن ماجه في المقدمة ).(203
] -[12أي بين ستة كما فعل سيدنا عمر رضي ال عنه.
] -[14انظر :كتابنا )السنة مصدًرا للمعرفة والحضارة( صـ 247 – 245طبعة دار الشروق الثانية.
] - [15انظر :كتابنا"من أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا" فصل) تجديد الدين في ضوء السنة(
نشر مكتبة وهبة بالقاهرة ،ومؤسسة الرسالة ببيروت.
] -[17كما قال ذلك ابن قدامة في مقدمة كتابة المغني ) (1/4طبعة هجر .القاهرة.
] -[18رواه مسلم في اليمان ) (149عن حذيفة ،وأحمد في المسند ) ،(23259والنسائي في الكبرى كتاب
السير ).(5/276
] -[19رواه البخاري في الجهاد والسير ) (3060عن حذيفة ،والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة )
.(6/363
] -[20رواه مسلم في الفضائل ) (2363عن أنس ،وأحمد في المسند ) ،(12544وابن ماجه في الرهون )
.(2471
] - [21انظر :كتابنا ) السنة مصدرا للمعرفة والحضارة( فصل ":السنة التشريعية".
] -[22رواه مسلم في الصيد والذبائح ) (1955عن شداد بن أوس ،وأحمد في المسند ) ،(17113وأبو داود
في الضحايا ) ،(2815والترمذي في الديات ) ،(1409والنسائي في الضحايا ) ،(4405وابن ماجه في الذبائح )
.(3170
الّدين والدولة في السلم
الباب الثالث
تناولنا في فصول الباب السابق :علقة الدين بالسياسة بين السلميين والعلمانيين ومن دار في فلكهم .ونكمل
الحديث في هذا الباب عن العلقة بين الدين والدولة ،ول ريب أن الدولة من تجليات السياسة ،ومن أبرز
مظاهرها:
.1أنكر العلمانيون على السلم أن يكون له دولة ،تطبق شريعته ،وترفع رايته ،وتبلغ دعوته ،وتحمي أمته،
وتذود عن داره وأرضه .ولذا جعلنا الفصل الول من هذا الباب بعنوان :من حق السلم أن تكون له دولة.
.2كما أنكر هؤلء على السلميين أن يكون لهم حزب سياسي يعبر عن رؤيتهم ،وعن مواقفهم وبرامجمهم
في الصلح والتغيير ،ول يسوغ أن يعطى الشيوعيون والليبراليون والعلمانيون من شتى التجاهات اليمينية
واليسارية :حق تكوين الحزاب ،والنخراط فيها ،ويحرم السلميون وحدهم هذا الحق .ولهذا جعلنا الفصل
الثاني من هذا الباب بعنوان :من حق السلميين أن يعبر عنهم حزب سياسي.
.3كما أن هؤلء يدعون على دولة السلم :أنها دولة دينية ،بالمعنى الغربي لها ،أي ثيوقراطية كهنوتية
يتحكم فيها رجال الدين ،ويتسلطون على أهل الرض باسم السماء ،وقد بينا في هذا الفصل )الثالث( أن الدولة
في السلم دولة )مدنية( مرجعيتها السلم.
.4وكذلك أوضحنا أن الدولة السلمية كما أنها دولة مدنية ،هي كذلك هي دولة شورية ،تقوم على الشورى
والبيعة والرضا العام ،كما تقوم على النصيحة في الدين والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فهي دولة
مدنية ،ودولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية .وهذا هو مضمون الفصل الرابع.
.5وقد اتهم العلمانيون :الدولة السلمية بأنها دولة متعصبة ،تجور على حقوق القليات ،ول مكان فيها
للتعدد والتنوع في الديان والثقافات ،وقد فّندنا هذه الشبهة بالدلة الدامغة ،وهذا هو الفصل الخامس.
أما الفصل السادس فيرد على الزعم القائل بأن الدولة السلمية ل تراعي حقوق النسان ،وهو زعم .6
ترفضه الدلة ،ويرفضه التاريخ.
الفصل الول
صّر العلمانيون عليه -على اختلف ألوانهم وانتماءاتهم -أن ل تكون للسلم دولة ،تتحدث باسمه ،وترفعمما ُي ِ
رايته في الرض ،وتطبق أحكام شريعته على المؤمنين به ،وتبلغ رسالته إلى العالمين ،وتدافع عن أرضه
وأمته في مواجهة الغزاة والمعتدين.
فالسلم – في نظرهم – مجرد رسالة روحية؛ ل تتعدى العلقة بين المرء وربه ،ساحتها :ضمير الفرد ،أو
نفسه التي بين جنبيه ،ول صلة لها بإصلح المجتمع ،أو بتوجيه الدولة ،أو بمعاقبة الجريمة ،أو بتنظيم المال،
أو بغير ذلك من شؤون الحياة.
على حين يعتبر السلميون – على اختلف مذاهبهم ومدارسهم – أن السلم :عقيدة وشريعة ،عبادة ومعاملة،
دين وسياسة ،دعوة ودولة.
والسلميون يرون :أن الدولة في السلم :فريضة وضرورة .فريضة دينية ،وضرورة حيوية.
وإذا كنا قد بّينا في الباب السابق :أن الدين ل ينفصل عن السياسة ،وأن السياسة ل تنفصل عن الدين ،وفندنا
مقولة ) ل سياسة في الدين ول دين في السياسة( فإن أبرز وأهم تجليات السياسة :هو قيام الدولة التي تمكن
للدين ،وتحققتعاليمه في الرض.
ولم يعرف المسلمون طوال تاريخهم الطويل هذا النفصال -أو الفصام -بين الّدين والدنيا ،أو بين الّدين
والسياسة ،أو بين الّدين والدولة.
لقد كان النبي صلى ال عليه وسلم جامعا للسلطتين :الّدينيـة والدنيويـة ،ولهذا قسم الفقهاء تصرفاته بوصفه
نبيا مبلغا عن ال ،وبوصفه قاضيا يفصل بين الناس ،وبوصفه إماما يتصرف في قضايا المة].[1
وكذلك كان الخلفاء الراشدون واُلمويون والعباسيون والعثمانيون وغيرهم ،إلى أن ألغيت الخلفة في سنة
1924م.
ورأينا العلماء يعرفون الخلفة بأنها :النيابة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم في حراسة الّدين وسياسة
الدنيا به.
ورأينا كل خليفة أو أمير أو سلطان طوال التاريخ السلمي :يرى نفسه مسؤول عن التمكين للدين في الرض،
صلَة َوآَتُوا الّزَكاَة
ض َأَقاُموا ال ّ
ن َمّكّناُهْم ِفي اَْلْر ِ
ن ِإ ْ
والدفاع عنه .وهذا ما قّرره القرآن بجلء ،حين قال :اّلِذي َ
ن اْلُمْنَكر ]الحج ،[41:ولهذا كان هؤلء الخلفاء والسلطين ُيباَيعون من المة على عِف َوَنَهْوا َ
َوَأَمُروا ِباْلَمْعُرو ِ
كتاب ال ،وعلى سنة رسول ال.
وكان هؤلء الخلفاء والمراء ل يفرقون بين الّدين والدنيا ،أو بين الّدين والسياسة ،كما يقولون اليوم.
مدح الشاعر عبد ال بن أبي السمط :الخليفة المأمون بقصيدة كان فيها بيت يقول:
عمارةفأعرض عنه المأمون ،ونظر إليه نظرا شزرا ،وكان الشاعر معتزا ببيته هذا ،فشكا إلى شاعر آخر ) ُ
عمارة :وال ،لقد حلم عليك إذ لم
جرير( :أن أمير المؤمنين ل يعرف الشعر! وأنشد له البيت ،فقال له ُ حفيد َ
ت كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان: يؤدبك عليه ،ويلك! وإذا لم يشتغل بالدنيا ،فمن يدبر أمرها؟ أل قل َ
ومن بدهيات التاريخ السلمي :أنه لم يعرف يوما دولة بل دين ،ول دينا بل دولة .ولم يدر هذا الخاطر في فكر
أحد من أبنائه ،حتى ظهر علي عبد الرازق بكتابه أو ُكتّيبه العجيب في آخر الربع الول للقرن العشرين
الميلدي )1925م( الذي اّدعى فيه دعاوى شاذة عن مسار المة وعن عقيدتها وشريعتها ووجهتها العامة،
وزعم أن الرسول لم يؤسس دولة ،وأن السلم ل شأن له بالدولة والحكم والسياسة ،وأنه مجرد رسالة
روحية ،وهو ما رد عليه الراسخون من علماء المة بالدلة الشرعية القاطعة ،وسقط الكتاب من الناحية
العلمية .وإن كان الخصوم الّدينيون والفكريون والسياسيون قد رحبوا بالكتاب أبلغ ترحيب ،وفتحوا له
صدورهم وأذرعتهم .وجعلوه سلحا في أيديهم في معركتهم ضد السلم وأمته.
وكانت هذه أول مرة تحاول العلمانية فيها :أن تقتحم على الزهر داره ،وتغزو فكر أحد علمائه ،ولكن الزهر
رفض ذلك بقوة ،وفند دعوى الرجل علميا ،وجرده من نسبه الزهري ،وأخرجه من زمرة العلماء.
وإن كان الشيخ علي بعد ذلك لم يحاول نشر الكتاب ،أو ترويجه أو الحديث عنه طوال حياته ،بل حتى ورثته من
بعده.
حدث،
ونحن هنا سنبين الدلة على أن )إقامة الدولة( من صميم السلم ،وأن القول بخلف ذلك ،إنما هو قول ُم ْ
لم يعرفه المسلمون خلل تاريخهم الطويل.
وسنختار أدلة ثلثة أساسية :من نصوص السلم ،ومن تاريخه ،ومن طبيعته.
فالخطاب في الية الولى للولة والحكام :أن يراعوا المانات ويحكموا بالعدل ،فإن إضاعة المانة والعدل نذير
ت المانة فانتظر الساعة"].[3
ضّيَع ِ
بهلك المة وخراب الديار .ففي الصحيح" :إذا ُ
والخطاب في الية الثانية للرعية المؤمنين :أن يطيعوا َوُأوِلي اَْلْمِر بشرط أن يكونوا )منهم( وجعل هذه الطاعة
بعد طاعة ال وطاعة الرسول ،وأمر عند التنازع برد الخلف إلى ال ورسوله ،أي الكتاب والسنة .وهذا
يفترض أن يكون للمسلمين دولة ُتَهْيِمن وُتطاع ،وإل لكان هذا المر عبثا.
وفي ضوء هاتين اليتين المذكورتين أّلف شيخ السلم ابن تيمية كتابه المعروف )السياسة الشرعية في
إصلح الراعي والرعية( والكتاب مبني على اليتين الكريمتين.
وفي القرآن آيات كثيرة تتعّلق بشؤون الجتماع والقتصاد والجهاد والسياسة ،معروفة مدروسة فيما عرف
باسم )آيات الحكام( وعنى بها العلماء الذين ألفوا في )أحكام القرآن( مثل الرازي الجصاص الحنفي )ت
370هـ( وابن العربي المالكي )ت 453هـ(.
وإذا ذهبنا إلى السنة ،رأينا الرسول يقول" :من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"] .[4ول ريب أن
من المحّرم على المسلم أن يبايع أي حاكم ل يلتزم بالسلم .فالبيعة التي تنجيه من الثم أن يبايع َمن يحكم بما
أنزل ال ...فإذا لم يوجد فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم السلمي ،وتتحقق البيعة المطلوبة .ول ينجي
المسلم من هذا الثم إل أمران:
النكار -ولو بالقلب -على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة السلم.
والسعي الدائب لستئناف حياة إسلمية قويمة ،يوجهها حكم إسلمي رشيد.
وجاءت عشرات الحاديث الصحيحة -إن لم تكن مئاتها -في دواوين السنة المختلفة ،عن الخلفة والمارة
والقضاء والئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالة والمعاونة على البر ،والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط
والمكره ،والصبر عليهم ،وحدود هذه الطاعة وهذا الصبر ،وتحديد واجباتهم من إقامة حدود ال ورعاية
حقوق الناس ،ومشاورة أهل الرأي ،وتولية القوياء المناء ،واتخاذ البطانة الصالحة ،وإقامة الصلة وإيتاء
الزكاة ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...إلى غير ذلك من أمور الدولة وشؤون الحكم والدارة
والسياسة.
ولهذا رأينا شؤون المامة والخلفة ُتذكر في كتب تفسير القرآن الكريم ،وفي شروح الحديث الشريف ،وكذلك
تذكر في كتب العقائد وأصول الّدين ،كما رأيناها ُتذكر في كتب الفقه ،كما رأينا ُكُتبا خاصة بشؤون الدولة
الدستورية والدارية والمالية والسياسية ،كالحكام السلطانية للماوردي ،ومثله لبي يعلى ،والغياثي لمام
الحرمين ،والسياسة الشرعية لبن تيمية ،وغيرها ،مما سبق الشارة إليها].[5
أما تاريخ السلم ،فينبئنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر -مؤيدا بهداية
الوحي -إلى إقامة دولة السلم ،ووطن لدعوته ،خالص لهله ،ليس لحد عليهم فيه سلطان ،إل سلطان
الشريعة .ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته ،حتى وفق ال قبيلتي الوس
والخزرج إلى اليمان برسالته ،فبعث إليهم مصعب بن عمير يتلو عليهم القرآن ويعلمهم السلم ،فلما انتشر
فيهم السلم جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من ) (73ثلثة وسبعين رجل وامرأتين ،فبايعوه صلى ال
عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم ،وعلى السمع والطاعة ،والمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ...إلخ ،فبايعوه على ذلك ...وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إل سعيا لقامة المجتمع
المسلم المتمّيز ،تشرف عليه دولة متميزة.
كانت )المدينة( هي )دار السلم( وقاعدة الدولة السلمية الجديدة ،التي كان يرأسها رسول ال صلى ال عليه
وسلم فهو قائد المسلمين وإمامهم ،كما أنه نبيهم ورسول ال إليهم .ولهذا جعل الفقهاء من أنواع تصرفات
الرسول :تصرفه بمقتضى المامة أو الرئاسة للدولة ،وذكروا ما يترتب على ذلك من أحكام].[6
وكان النضمام إلى هذه الدولة ،لشد أزرها ،والعيش في ظللها ،والجهاد تحت لوائها :فريضة على كل داخل
في دين ال حينذاك .فل يتم إيمانه إل بالهجرة إلى دار السلم ،والخروج من دار الكفر والعداوة للسلم،
والنتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العاَلم عن قوس واحدة.
كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ التنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب ،دون أن يتمكنوا
سِهْم َقاُلوا ِفيَم ُكْنُتْم َقاُلوا ُكّنا
ظاِلِمي َأْنُف ِ ن َتَوّفاُهُم اْلَملِئَكُة َ
ن اّلِذي َ
من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهمِ :إ ّ
صيرًا * ت َم ِ ساَء ْ جَهّنُم َو َ ك َمْأَواُهْم َجُروا ِفيَها َفُأوَلِئ َ
سَعًة َفُتَها ِل َوا ِ
ن َأْرضُ ا ِّ ض َقاُلوا َأَلْم َتُك ْ
ن ِفي اَْلْر ِ ضَعِفي َسَت ْ
ُم ْ
ل َأ ْ
ن سى ا ُّ ع َ ك َ ل * َفُأوَلِئ َسِبي ً
ن َ حيَلًة َول َيْهَتُدو َن ِ طيُعو َ سَت ِ
ن ل َي ْ ساِء َواْلِوْلَدا ِجاِل َوالّن َ ن الّر َ ن ِم َضَعِفي َ
سَت ِْإّل اْلُم ْ
غُفورًا ]النساء.[99-97: عُفّوا َل َن ا ُّ عْنُهْم َوَكا ََيْعُفَو َ
وعند وفاة النبي كان أول ما شغل أصحابه رضي ال عنهم :أن يختاروا )إماما( لهم ،حتى إنهم قّدموا ذلك على
دفنه صلى ال عليه وسلم فبادروا إلى بيعة أبي بكر ،وتسليم النظر إليه في أمورهم ،وكذا في كل عصر من بعد
ذلك .وبهذا الجماع التاريخي ابتداًء من الصحابة والتابعين -مع ما ذكرنا من نصوص -استدل علماء السلم
على وجوب نصب المام الذي هو رمز الدولة وعنوانها.
ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصال بين الّدين والدولة ،إل عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر ،وهو
ما حّذر حديث الرسول منه ،وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ" :أل إن رحى السلم دائرة ،فدوروا مع
السلم حيث دار ،أل إن القرآن والسلطان )أي الّدين والدولة( سيفترقان فل تفارقوا الكتاب ،أل إنه سيكون
عليكم أمراء يقضون لنفسهم ما ل يقضون لكم ،فإن عصيتموهم قتلوكم ،وإن أطعتموهم أضلوكم" .قالوا:
خشب.حِملوا على ال ُ
وماذا نصنع يا رسول ال؟ قال" :كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم :نشروا بالمناشير ،و ُ
موت في طاعة ال خير من حياة في معصية ال"].[8
هنا أنقل كلمة المفكر المغربي المتزن )محمد عابد الجابري( عن علقة الّدين بالدولة من خلل مرجعيتنا
التراثية ،فيقول عن ثنائية الّدين والدولة) :إنها إذا طرحت بمضمونها الصلي ،الوربي الذي يفيد المطالبة
بفصل الّدين عن الدولة ،إنها إذا طرحت بهذا المضمون في مرجعيتنا التراثية تلك ،فإن هذا الطرح سيفهم حتًما
على أنه )اعتداء على السلم( ومحاولة مكشوفة لـ)القضاء( عليه.
لماذ؟
للجواب عن هذا السؤال ،جوابا مثمرا ،يجب تجنب التهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق
الفق ...إلخ ،فضررها أكثر من نفعها ،فضل عن كونها تنّم عن عدم َفهم ،أو على القل عن عدم تفّهم لمحددات
تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية.
لننظر إذن إلى الكيفية التي تفهم بها عبارة )فصل الّدين عن الدولة( داخل مرجعيتنا التراثية ،المرجعية التي ل
تحتمل هذه الثنائية )ثنائية دين /دولة( لنه لم يكن هناك في التاريخ السلمي بمجمله )دين( متميز -أو يقبل
التمييز والفصل -عن الدولة ،كما لم يكن هناك قط )دولة( تقبل أن يفصل الّدين عنها.
فعل كان هناك حكام اتهموا بالتساهل في أمر من أمور الّدين كالجهاد أو مقاومة البدع ...إلخ ،ولكن ل أحد من
الحكام في التاريخ السلمي استغنى -أو كان في إمكانه أن يستغني -عن إعلن التمسك بالّدين ،لنه ل أحد
منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية العلن عن خدمة الّدين ،والرفع من شأنه.
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى لم يكن هناك في التاريخ السلمي ،في أي فترة من فتراته ،مؤسسة خاصة
بالّدين متميزة من الدولة ،فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة ،بل كانوا أفرادا يجتهدون في الّدين ويفتون فيما
يعرض عليهم من النوازل ،أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.
وإذن فعبارة )فصل الّدين عن الدولة( أو )فصل الدولة عن الّدين( ستعني بالضرورة -داخل المرجعية التراثية-
أحد أمرين أو كليهما معا :إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلمية ،وإما حرمان السلم من )السلطة( التي يجب أن
تتولى تنفيذ الحكام.
نعم يمكن أن تنجح في إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن المر ل يتعّلق قط بإنشاء دولة
ملحدة ،ول بنزع الصبغة السلمية عن المجتمع ،يمكن أن تحلف له بأغلظ اليمان بأن المقصود ليس هو هذا
ول ذاك ،وسيكتفي بالقول) :ال أعلم( ويسكت .ولكنك ل تستطيع أبدا أن تقنعه بأن )فصل الّدين عن الدولة(
ليس معناه حرمان السلم من )السلطة( التي يجب أن تتولى تنفيذ الحكام .وإذن فيجب البدء بالتمييز بين
السلطة المنفذة للحكام الشرعية وبين الهيئة الجتماعية المسماة :الدولة.
لماذا؟
لن الّدين في نظره يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ ،وأن الدولة هي )السلطة( التي يجب أن تتولى التنفيذ(].[9
أما طبيعة السلم ورسالته ،فذلك أنه دين عام ،ومنهج حياة ،وشريعة شاملة ،فتستوعب شؤون الدنيا
والخرة ،والفرد والمجتمع ،وشريعة هذه طبيعتها ل بد أن تتغلغل في كل نواحي الحياة ،لتصلحها وترقى بها،
بالتوجيه والتشريع لها ،والدولة إحدى الوسائل الهامة في ذلك ،ول يتصور أن تهمل شأن المجتمع والدولة،
وتدع أمرها لمن ل يؤمن برسالة الدين في البناء والصلح .وربما كان من الذين يسعون إلى تنحية الدين من
التشريع والتوجيه أصل.
كما أن هذا الّدين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية ،ويكره الضطراب والفوضى في كل شيء ،حتى رأينا
الرسول صلى ال عليه وسلم يأمرنا في الصلة أن نسّوي الصفوف] ،[10وأن يؤمنا أعلمنا] ،[11وفي السفر
يقولَ" :أّمُروا أحدكم"].[12
يقول المام ابن تيمية في )السياسة الشرعية() :يجب أن ُيعرف أن ولية أمر الناس أمر من أعظم واجبات
ن بني آدم ل تتم مصلحتهم إل بالجتماع ،لحاجة بعضهم إلى بعض، الّدين ،بل ل قيام للدين ول للدنيا إل بها فإ ّ
ول بد عند الجتماع من رأس .حتى قال النبي " :إذا خرج ثلثة في سفر ،فليؤّمروا أحدهم"] .[13وروى
المام أحمد عن عبد ال بن عمرو ،أن النبي قال" :ل يحل لثلثة أن يكونوا بفلة من الرض إل أّمروا عليهم
أحدهم"] ،[14فأوجب تأمير الواحد في الجتماع القليل العارض في السفر ،تنبيها على سائر أنواع الجتماع.
ولن ال تعالى أوجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ول يتم ذلك إل بقوة وإمارة ،وكذلك سائر ما أوجبه
جَمع والعياد ،ونصرة المظلوم ،وإقامة الحدود ،ل تتم إل بالقوة
ال من الجهاد والعدل ،وإقامة الحج وال ُ
والمارة .ولهذا ُروي" :إن السلطان ظل ال في الرض"] .[15ولهذا كان السلف :كالفضيل بن عياض وأحمد
ابن حنبل وغيرهما يقولون :لو كانت لنا دعوة مجابة ،لدعونا بها للسلطان(] [16اهـ .وذلك أن ال ُيصلح
خلقا كثيرا.
بصلحه َ
ثم إن طبيعة السلم باعتباره منهجا يريد أن ُيوجه الحياة ،ويحكم المجتمع ،ويضبط سير البشر وفق أوامر
ال :ل ُيظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة ،ول أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في
شّتى المجالت إلى ضمائر الفراد وحدها ،فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت ،سقمت معها وماتت تلك الحكام
والتعاليم .وقد نقلنا عن الخليفة الثالث قوله" :إن ال لَيزع بالسلطان ما ل َيزع بالقرآن"].[17
سْلَنا
فمن الناس َمن يهديه الكتاب والميزان ،ومنهم َمن ل يردعه إل الحديد والسنان .ولذا قال تعالىَ :لَقْد َأْر َ
شِديٌد َوَمَناِفُع ِللّنا ِ
س س َ
حِديَد ِفيِه َبْأ ٌ
ط وََأْنَزْلَنا اْل َ
سِس ِباْلِق ْ
ن ِلَيُقوَم الّنا ُ
ب َواْلِميَزا َ
ت َوَأْنَزْلَنا َمَعُهُم اْلِكَتا َ
سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ
ُر ُ
]الحديد.[25:
وقال المام الغزالي في )إحيائه( :الدنيا مزرعة الخرة ،ول يتم الّدين إل بالدنيا ،والُملك والّدين توأمان ،فالّدين
أصل ،والسلطان حارس ،وما ل أصل له فمهدوم ،وما ل حارس له فضائع ،ول يتم الُملك والضبط إل
بالسلطان].[19
إن نصوص السلم لو لم تجئ صريحة بوجوب إقامة دولة للسلم ،ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقا
عمليا لما دعت إليه هذه النصوص ،لكانت طبيعة الرسالة السلمية نفسها تحتم أن تقوم للسلم دولة أو دار،
يتمّيز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه ومفاهيمه ،وأخلقه وفضائله ،وتقاليده وتشريعاته.
فل غنى للسلم عن هذه الدولة المسئولة في أي عصر ،ولكنه أحوج ما يكون إليها في هذا العصر خاصة .هذا
العصر الذي برزت في )الدولة اليديولوجية( وهي الدولة التي تتبنى فكرة ،يقوم بناؤها كله على أساسها ،من
تعليم وثقافة وتشريع وقضاء واقتصاد ،إلى غير ذلك من الشؤون الداخلية والسياسية الخارجية .كما نرى ذلك
واضحا في الدولة الشيوعية والشتراكية .وأصبح العلم الحديث بما وفره للدولة من تقدم تكنولوجي في خدمة
الدولة ،وأصبحت الدولة بذلك قادرة على التأثير في عقائد المجتمع وأفكاره وعواطفه وأذواقه وسلوكه بصورة
فّعالة ،لم ُيعرف لها مثيل من قبل .بل تستطيع الدولة بأجهزتها الحديثة الموجهة أن تغّير ِقَيم المجتمع وُمُثله
وأخلقه رأسا على عقب ،إذا لم تقم في سبيلها مقاومة أشد.
إن دولة السلم دولة تقوم على عقيدة وفكرة ورسالة ومنهج ،فليست مجرد )جهاز أمن( أو )دفاع( يحفظ
المة من العتداء الداخلي أو الغزو الخارجي ،بل إن وظيفتها لعمق من ذلك وأكبر .وظيفتها تعليم المة
وتربيتها على تعاليم ومبادئ السلم ،وتهيئة الجو اليجابي ،والمناخ الملئم ،لتحويل عقائد السلم وأفكاره
وتعاليمه إلى واقع ملموس ،يكون قدوة لكل َمن يلتمس الُهدى ،وحجة على كل سالك سبيل الّرَدى.
ولهذا ُيعّرف ابن خلدون )الخلفة( بأنها :حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الخروية
والدنيوية الراجعة إليها ،إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الخرة .فهي في الحقيقة
خلفة عن صاحب الشرع في حراسة الّدين وسياسة الدنيا به].[20
ن َمّكّناُهْم
ن ِإ ْ
ولهذا وصف ال المؤمنين حين يمّكن لهم في الرض ،وبتعبير آخر حين تقوم لهم دولة ،فقال :اّلِذي َ
ن اْلُمْنَكِر ]الحج.[41:
عِف َوَنَهْوا َ
صلَة َوآَتُوا الّزَكاَة َوَأَمُروا ِباْلَمْعُرو ِ
ض َأَقاُموا ال ّ
ِفي اَْلْر ِ
ثم إن هذه الدولة العقائدية ليست ذات صفة محلية ،ولكنها دولة ذات رسالة عالمية ،لن ال حّمل أمة السلم
دعوة البشرية إلى ما لديها من ُهدى ونور ،وكّلفها الشهادة على الناس ،والهداية للمم ،فهي أمة لم تنشأ
بنفسها ول لنفسها فحسب ،بل أخرجت للناس ،أخرجها ال الذي جعلها خير أمة وخاطبها بقولهَ :وَكَذِل َ
ك
س ]البقرة.[143:
عَلى الّنا ِ
شَهَداَء َ
سطًا ِلَتُكوُنوا ُ
جَعْلَناُكْم ُأّمًة َو َ
َ
ومن هنا وجدنا النبي صلى ال عليه وسلم حين أتيحت له أول فرصة -بعد صلح الحديبية -كتب إلى ملوك
وأمراء القطار في أركان الرض يدعوهم إلى ال ،والنضواء تحت راية التوحيد ،وحّملهم إثم أنفسهم وإثم
سَواٍء
ب َتَعاَلْوا ِإَلى َكِلَمٍة َرعيتهم إذا تخلفوا عن ركب اليمان ،وكان يختم رسائله بهذه اليةُ :قْل َيا َأْهَل اْلِكَتا ِ
ن َتَوّلْوا َفُقوُلوا
ل َفِإ ْ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ ضَنا َبْعضًا َأْرَبابًا ِم ْ
خَذ َبْع ُ
شْيئًا َول َيّت ِ
ك ِبِه َ
شِر َ
ل َول ُن ْ
َبْيَنَنا َوَبْيَنُكْم َأّل َنْعُبَد ِإّل ا َّ
ن ]آل عمران.[64: سِلُمو َ شَهُدوا ِبَأّنا ُم ْ ا ْ
وإذا كانت هذه الهمية كلها للدولة وقدراتها المعاصرة ،فكيف يدعها السلم في يد العلمانين والشيوعيين
وغيرهم ،يوجهونها إلى ما يضاد عقيدة المة وشريعتها وِقَيمها ،ويفرغها -بطول الزمن -من رسالتها التي
هي أساس وجودها؟
ومن الوقائع الهامة التي ينبغي أن تسجل هنا :أن الزهر -قلعة العلم والسلم الكبرى -قد غزي في عقر داره
مرتين ،ل غزوا ماديا ،كما فعل الفرنسيون حين ضربوه بالمدافع والقذائف ،حتى تصدعت جدرانه ،ثم دخلوا
بخيلهم الزهر ،ودّنسوا أرضه الطاهرة ،وانتهكوا حرمة السلم وأهله.
بل هو غزو معنوي أشد خطرا من اقتحام الخيل صحن الزهر .وهو دخول الدعوى العلمانية المستوردة ،التي
خلصتها فصل الّدين عن الدولة ،بل عن الحياة والمجتمع بصفة عامة .وبعبارة أخرى :عزل ال تعالى عن
حَكًما وُهو
ل َأبَتِغي َ
خلقه ،والخضوع لحكام وضعية من صنع البشر .وهو سبحانه القائلَ :أَفغيَر ا ِ التشريع ل َ
ل ]النعام[114:
صًب ُمف ّ
اّلذي َأْنزَل ِإَليُكم الِكتا َ
المرة الولى :كانت على يد الشيخ علي عبد الرزاق وقد تحدثنا عن كتابه الصغير الحجم ،الكبير الخطر سنة
1925م والذي هاجمه عليه علماء الزهر ،وسحبوا منه شهادة )العالمية( وأخرجوه من زمرة العلماء .ورد
عليه كبارهم بردود علمية حاسمة .مثل رد علمة الفقه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر في ذلك
الزمان] ،[23ورد العلمة الكبير الشيخ محمد خضر حسين] ،[24الذي أصبح بعد ذلك شيخا للزهر.
كما رد عليه كثيرون بعد ذلك منهم ،الدكتور محمد ضياء الّدين الريس] ،[25والدكتور محمد البهي]،[26
والدكتور محمد عمارة].[27
والمرة الخرى :كانت على يد الشيخ خالد محمد خالد ،الذي ألف كتابه )من هنا نبدأ( في سنة 1950م ،والذي
رحبت به وروجت له دوائر شتى :صليبية وشيوعية وليبرالية وعلمانية ،وقاومته كل التجاهات السلمية.
وقد تصدى له كثيرون بالرد ،أشهرهم شيخنا الشيخ محمد الغزالي -الذي كان صديقا للشيخ خالد -في كتابه
)من هنا نعلم( الذي فند فيه مقولت الشيخ خالد بأسلوب علمي هادئ ،لم يبق لباطله شبهة إل دفعها بالحق،
ق ]النبياء[18:
طِل َفَيْدَمُغُه َفِإَذا ُهَو َزاِه ٌ
عَلى اْلَبا ِ
ق َ
حّ
ف ِباْل َ
كما قال تعالىَ :بْل َنْقِذ ُ
ومما يذكر هنا للشيخ خالد رحمه ال :أنه بعد مدة من الزمن تبين له خطأ ما ذهب إليه من قبل ،وأنه تجاوز فيه
الحقيقة ،فما كان منه إل أن أعلن في شجاعة رائعة ونادرة :رجوعه عن رأيه القديم ،وتبّنيه للرأي المخالف،
وأصدر في ذلك كتابا سماه )الدولة في السلم( قال في مقدمته:
)في عام 1950م ظهر أول كتاب لي ،وكان عنوانه) :من هنا نبدأ( .وكان ينتظم أربعة فصول ،كان ثالثها
بعنوان) :قومية الحكم(.
وفي هذا الفصل ذهبت أقّرر أن السلم دين ل دولة ،وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة ...وأن الّدين
علمات تضيئ لنا الطريق إلى ال وليس قوة سياسية تتحكم في الناس ،وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل .ما
على الّدين إل البلغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الُهدى وحسن ثواب.
ت :إن الّدين حين يتحول إلى )حكومة( ،فإن هذه الحكومة الّدينية تتحول إلى عبء ل يطاق .وذهبت أعدد وقل ُ
يومئذ ما أسميته) :غرائز الحكومة الّدينية( وزعمت لنفسي القدرة على إقامة البراهين على أنها -أعني-
الحكومة الّدينية في تسع وتسعين في المائة من حالتها جحيم وفوضى ،وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي
استنفذت أغراضها ولم يعد لها في التاريخ الحديث دور تؤديه.
وهكذا ذهبت أنعت وأهدم ما أسميته يومها بالحكومة الّدينية! ولم أكن يومئذ أخدع نفسي ول أزيف اقتناعي،
فليس ذلك والحمد ل من طبيعتي .إنما كنت مقتنعا بما أكتب مؤمنا بصوابه.
وحين أرجع بذاكرتي إلى اليام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات ل أخطئ التعرف إلى العوامل التي
تغشتني بهذا التفكير ...والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيدا عن ظلم التعصب وغواشي العناد ،فإنه يستطيع
دائما أو غالبا أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد ،وحبور أكيد ،ونحن
مطالبون بأن نفكر دائما ،ونراجع أفكارنا ،وننكر ذواتنا ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة ...
فالحكومة الّدينية مؤسسة تاريخية نهضت على سلطان ديني بينما كانت أغراضها سياسية ،وَأصَلت الناس
سعيرا بسوء تصرفاتها وتحكمها ...وهي في المسيحية واضحة كل الوضوح ،بينما السلم لم يشهد في فترات
استغلله ما شهدته وما تكبدته المسيحية ،ول سيما في العصور الوسطى ،عصور الظلم!!
شى منهجي الذي عالجت به قديما قضية الحكومة الّدينية ،كان تأثري الشديد بما قرأته عن
ولعل أول خطأ تغ ّ
الحكومات الّدينية التي قامت في أوربا ،والتي اتخذت من الّدين المسيحي دثارا تغطي به عريها وعارها ...
إلى هذا السبب الجوهري أرد خطئي فيما أصدرته -قديما -من حكم ضد الحكومة في السلم ،هذه التي أسميتها
بالحكومة الّدينية(].[28
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1يقول المام القرافي في الفرق السادس والثلثين بين قاعدة تصرفه صلى ال عليه وسلم بالقضاء وبين
قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالمامة) :اعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو
المام العظم والمفتي العلم ،فهو صلى ال عليه وسلم إمام الئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء ،فجميع
المناصب الدينية فوضها ال تعالى إليه في رسالته (...إلخ .الفروق 206 ،1/205 :طبعة دار المعرفة بيروت.
] -[2انظر :العقد الفريد ) ،(5/368والخبر في الطبري ) ،(5/203وتاريخ بغداد ) ،(10/189وتاريخ دمشق )
،(36/374والبداية والنهاية ) ،(10/276وغيرها.
] -[3رواه البخاري في العلم ) (59عن أبي هريرة ،وأحمد في المسند ).(8729
] -[4رواه مسلم في المارة ) (1851عن ابن عمر ،والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي ).(8/156
] -[5انظر :عنوان )تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء( من هذا الكتاب.
] -[6انظر) :الحكام( للقرافي صـ ،106 - 86و)الفروق( له أيضا جـ 1صـ ،209 - 205وانظر :كتابنا
)شريعة السلم صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان( صـ 116وما بعدها طبعة مكتبة وهبة .القاهرة.
] -[7إن بديل الهجرة إلى الدولة المسلمة اليوم هو :النضمام إلى الجماعة المسلمة التي تعمل لقامة دولة
السلم ،فهو فريضة على كل مسلم بحسب وسعه ،إذ العمل الفردي ل ُيمّكنه من تحقيق هذا الهدف الكبير.
] -[8رواه الطبراني في الكبير ) (20/90عن معاذ ،وفي الصغير ) ،(2/42وفي مسند الشاميين )،(1/379
وأبو نعيم في الحلية ) ،(5/165وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني ،ويزيد بن مرثد لم يسمع
معاذ ،والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان ،وغيره ،وبقية رجاله ثقات ).(5/428
] -[10إشارة إلى حديث" :سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلة" ،وقد رواه البخاري في
الذان ) (723عن أنس ،ومسلم في الصلة ) ،(433وأحمد في المسند ) ،(12813وأبو داود في الصلة )
،(668وابن ماجه في إقامة الصلة ).(993
] -[11إشارة إلى حديث" :يؤم القوم أقرؤهم لكتاب ال ،فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ،فإن
كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ،فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ،"...وقد رواه أحمد في
المسند ) (17138عن أبي مسعود النصاري ،وقال مخرجوه :إسناده صحيح على شرط مسلم ،والترمذي في
أبواب الصلة ) ،(235والنسائي في المامة ) ،(780والطبراني في الكبير ) ،(17/218وصححه اللباني في
صحيح الجامع ).(8011
] -[12رواه الطبراني في الكبير ) (9/185عن ابن مسعود موقوفا ،وابن الجعد في المسند ) ،(1/78وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ) ،(5/449وحسن العراقي إسناده في تخريج
أحاديث الحياء ).(2/217
] -[13رواه أبو داود في الجهاد ) (2608عن أبي سعيد الخدري ،والطبراني في الوسط ) ،(8/99والبيهقي في
الكبرى كتاب الحج ) ،(5/257وصححه اللباني في صحيح أبي داود ).(2272
] -[14رواه أحمد في المسند ) (6647عن عبد ال بن عمرو ،وقال مخرجوه :صحيح لغيره إل حديث المارة
فحسن ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد
رجال الصحيح ).(4/145
] -[15رواه البيهقي في الشعب ) (6/18عن أنس ،وفي الكبرى كتاب قتال أهل البغي ) ،(8/162وضعفه
اللباني في ضعيف الجامع ).(3349
] -[16السياسة الشرعية ،ضمن مجموع فتاوى شيخ السلم ابن تيمية جـ 28صـ .391 ،390
] -[19إحياء علوم الدين ) (1/71كتاب العلم ،وقد روى مسكويه في كتابه )تهذيب الخلق( هذه العبارة عن
أزدشير ملك الفرس .ويبدو أن الغزالي اقتبسها وضمنها كلمه ،ولم ينسبها.
] -[20مقدمة ابن خلدون جـ 2صـ 518طبعة لجنة البيان العربي بتحقيق د .علي عبد الواحد وافي.
] -[25في كتابه )السلم والخلفة في العصر الحديث( طبعة الدر السعودية للنشر .جدة.
] -[27في كتابه )معركة السلم وأصول الحكم( طبعة دار الشروق .القاهرة.
] -[28انظر :كتاب الدولة في السلم صـ .16 - 9دار ثابت للنشر والتوزيع .القاهرة
الفصل الثاني
ومما يتصل بقضية الّدين والسياسة :ما انتهجته بعض النظمة الحاكمة وحرض عليه العلمانيون ،أو رحبوا
به ،من حرمان التجاهات السلمية من تأسيس حزب سياسي ،وتحريم ذلك عليهم تحريما مطلقا ،متذرعين
بحجج ليست في الواقع إل شبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت.
قالوا -أول -إن الّدين أطهر وأنقى وأعلى من أن يتدنس بالسياسة ،لهذا ل يجوز إنشاء حزب سياسي .1
على أساس الّدين.
وقالوا -ثانيا -إن هذا الحزب لو سمح له أن ينشأ ،سيزعم أنه يحكم بالحق اللهي ،وباسم السماء ،فل .2
يجوز لحد أن ينقده أو يعارضه ،وإل كان كافرا أو فاسقا.
.3وقالوا -ثالثا -إننا لو سمحنا للسلميين بتكوين حزب إسلمي ،ل بد في بلد كمصر :أن تسمح للقباط
بتكوين حزب مسيحي .وهذا سيكون مدعاة لثارة الفتن الطائفية ،التي ل تؤمن عواقبها.
وقالو -رابعا -إن الحزب السلمي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية ،في حين ل يستخدمها غيره. .4
ك النقد.
وهذه كلها مردود عليها ،ول تثبت على مح ّ
فاعتقاد أن السياسة دنس ورجس من عمل الشيطان :اعتقاد ل أساس له من الّدين ول من العلم. .1
خلق بما يصلحهم ويرقى بهم في ضوء الشريعة ،أو كماوإذا كانت السياسة عمل العقل في تدبير شؤون ال َ
عرفها بعضهم :كل عمل يكون الناس معه أقرب إلى الصلح وأبعد عن الفساد ،فليست في ذاتها دنسا ول رذيلة
ول حراما ول رجسا ،إنما الدنس في نفوس الذين يستغلون السياسة للثراء الحرام ،والفساد في الرض،
والطغيان على عباد ال.
وكم رأينا من الساسة والقادة من أقام العدل ،وأيد الحق ،ودعا إلى الخير ،وأحيا ال به البلد ،وأصلح به العباد.
.2ودعوى أن الحزب السلمي سيزعم أنه يحكم بالحق اللهي ،ويتكلم باسم السماء :دعوى غير صحيحة
ول صادقة .والحزب السلمي ل يرخص له بتكوين حزبه إل بعد أن يقدم برنامجه ،ويحدد فيه رؤيته ورسالته،
ويبين أهدافه ووسائله ،ومناهجه في إصلح المجتمع من نواحيه المختلفة )اقتصادية واجتماعية وثقافية
وتربوية وسياسية وأخلقية ...إلخ( فإذا كان في هذا البرنامج دعوى الحكم بالحق اللهي :رفض طلبه .وإن
كان شأنه شأن غيره من الحزاب يعمل في ظل الدستور ،ويستمد مرجعيته من الشريعة السلمية السمحة،
مقرونة بالجتهاد والتجديد ،المرتبط بفقه المقاصد والموازنات والولويات ،فليس من حقنا أن ُنقّوله ما لم يقل،
ونرميه بتهمة ليس عليها دليل ول برهان.
إن علي بن أبي طالب سمح لجماعة الخوارج المعارضين لحكمه :أن يكون لهم وجودهم الحزبي والسياسي،
مع أفكارهم المعارضة ،بشرط أن ل يبدأوا المسلمين بقتال.
.3ودعوى أن إعطاء السلميين حق تكوين حزب :يفتح الباب لمطالبة القباط بحزب لهم :دعوى مرفوضة
أيضا ،فما المانع أن يكون للقباط حزب سياسي يعمل في وضح النهار ،بدل أن يتهمهم من يتهمهم بأنهم
يعملون بالسياسة من خلل الكنيسة ،بدون حزب مرخص.
.4وادعاء أن الحزب السلمي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية :ليس ُمسلما ،فالمسجد ليس
للسلميين وحدهم ،إنما هو مسجد المسلمين جميعا .ويجب أن يتجنب المسجد الدعاية للشخاص ،والمهاترات
الحزبية والشخصية.
لكن ل نستطيع أن نمنع المساجد وخطباءه أن يؤيد من يتبنى الشريعة السلمية ،وأن يرفضوا من رفضها،
دون تحديد ول تعيين .فهذا من باب النصيحة في الدين ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،الذي تميزت به
هذه المة.
وأخشى أن يزيد العلمانيون في دعاواهم لحرمان السلميين من حزب سياسي :أنهم يستدلون بآيات القرآن
وأحاديث الرسول ،التي تؤثر في جماهير الشعب ،على حين ل يستطيع خصومهم أن يفعلوا ذلك.
هذا ،مع أن القرآن قرآن الجميع ،والرسول رسول الجميع ،ول يقدر أحد أن يمنع أي مسلم من استعمال اليات
القرآنية والحاديث النبوية في تأييد وجهته ،ما دام يضعها في موضعها الصحيح.
على أن هذه الدعاوى قد سقطت من الناحية العملية ،فهناك عدد من البلد فيها أحزاب إسلمية :في الردن،
وفي المغرب ،وفي اليمن ،وفي فلسطين ،وفي تركيا ،وفي ماليزيا ،وفي إندونسيا ،وفي غيرها ،وقد خاضت
معارك النتخابات ،وحصلت على نسبة كبيرة من المقاعد ،ولم يشتك الشاكون من وقوع هذه التهامات التي
ألصقوها جزافا بالحزب السياسي السلمي.
إضاءات ضرورية:
الولى :أنه ل يجوز أن يحرم بعض المواطنين من حقهم في المشاركة السياسية في بناء وطنهم وإصلحه
وتطويره ،لمجرد أنهم متدينون ،أو لن لهم رؤية في الصلح والتغيير منبثقة عن دينهم وتراثهم.
وقد أعطينا الحق للتيارات المختلفة لنشاء أحزاب سياسية :العلمانيين والليبراليين والقوميين والشيوعيين
وغيرهم ،فلماذا يحرم السلميون من هذا الحق دون غيرهم؟
إن هذا يخالف الدستور الذي قّرر المساواة بين جميع المواطنين ،وهذه تفرقة ل مبّرر لها.
الثانية :أنهم يقولون :ل يجوز تكوين أحزاب دينية ،والسلميون ل يريدون إنشاء حزب ديني ،بل حزب
إسلمي .وفرق بين الّديني والسلمي .فالّدين في عرف الناس يعني الجانب العقدي والتعبدي والروحي ،أما
السلمي فهو أشمل وأجمع ،وهو يضم القتصاد والسياسة والثقافة والتربية والدارة ...إلخ.
ول مانع لدى السلميين أن يدخل في هذا الحزب أشخاص من غير المسلمين ،لن برنامجهم للجميع ل
للمسلمين وحدهم.
الثالثة :أن الحزاب السياسية تمثل قوى شعبية سياسية موجودة على أرض الواقع ،من حقها أن يكون لها
رأي في سياسة بلدها.
والسلميون قوة سياسية موجودة وبارزة ،وظاهرة التأثير ،ومسموعة الكلمة.
وقد أثبتت النتخابات في أكثر من بلد :أنها القوة الولى المؤّيدة من جماهير الشعوب في منطقتنا.
ت ]التكوير ،[8،9:في
ب ُقِتَل ْ
ي َذْن ٍ
ت * ِبَأ ّ
سِئَل ْ
فكيف يمكن تجاهلها ،وإهالة التراب عليها حيةَ ،وِإَذا اْلَمْوُؤوَدُة ُ
حين يعطى حق الشرعية لحزاب ل يكاد يسمع لها صوت ،أو يحس لها بأثر؟!
الفصل الثالث
ومما يلزم مما اتفق عليه العلمانيون من حرمان السلم من حق إقامة دولة :ما نّفقوه من مزاعم حول طبيعة
هذه الدولة المرجوة ،فقد تقولوا عليها القاويل ،وصوروها تصويرا مليئا بالخيلة والتهاويل.
قالوا إنها دولة )دينية( ويعنون بالّدينية :أنها دولة كهنوتية ،تتحكم في أهل الرض باسم السماء ،وتتحكم في
دنيا الناس باسم ال ،ويدعون أن )حاكمية ال( التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر :أبو العلى
المودودي في باكستان ،وسيد قطب في مصر :توجب أن تكون هذه الدولة دينية .كدولة الكنيسة الوربية فيما
سمي) :العصور الوسطى(.
وهذه الدولة في رأيهم ،إنما يملك زمامها )رجال الّدين( الذين ليس لحد غيرهم أن يفسر الّدين أو يصدر
الحكام ،وهم يفسرون الّدين من منطلق الجمود والفق الضيق ،ويرجعون إلى الوراق القديمة ،ول ينظرون
إلى الفاق الجديدة.
وهذه كلها دعاوى ما أنزل ال بها من سلطان ،ول قام عليها برهان.
فالحق أن الدولة السلمية :دولة مدنية ،ككل الدول المدنية ،ل يميزها عن غيرها إل أن مرجعيتها الشريعة
السلمية.
ومعنى )مدنية الدولة( :أنها تقوم على أساس اختيار القوي المين ،المؤهل للقيادة ،الجامع لشروطها ،يختاره
بكل حرية :أهل الحل والعقد ،كما تقوم على البيعة العامة من المة ،وعلى وجوب الشورى بعد ذلك ،ونزول
المير أو المام على رأي المة ،أو مجلس شوراها ،كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام المة ،وحق كل
فرد في الرعية أن ينصح له ،ويشير عليه ،ويأمره بالمعروف ،وينهاه عن المنكر .بل يعتبر السلم ذلك فرض
كفاية على المة ،وقد يصبح فرض عين على المسلم ،إذا قدر عليه ،وعجز غيره عنه ،أو تقاعس عن أدائه.
إن المام أو الحاكم في السلم مجرد فرد عادي من الناس ،ليس له عصمة ول قداسة .وكما قال الخليفة الول:
إني وليت عليكم ولست بخيركم] .[1وكما قال عمر بن عبد العزيز :إنما أنا واحد منكم ،غير أن ال تعالى جعلني
أثقلكم حمل].[2
هذا الحاكم في السلم مقيد غير مطلق ،هناك شريعة تحكمه ،وقيم توجهه ،وأحكام تقيده ،وهي أحكام لم
يضعها هو ول حزبه أو حاشيته ،بل وضعها له ولغيره من المكّلفين :رب الناسَ ،مِلك الناس ،إله الناس .ول
يستطيع هو ول غيره من الناس أن يلغوا هذه الحكام ،ول أن ُيجّمدوها .ول أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم.
سوَلُه
ل َوَر ُ
ص ا َّ
ن َيْع ِ
ن َأْمِرِهْم َوَم ْ
خَيَرُة ِم ْ
ن َلُهُم اْل ِ
ن َيُكو َ
سوُلُه َأْمرًا َأ ْ
ل َوَر ُ
ضى ا ُّ
ن َول ُمْؤِمَنٍة ِإَذا َق َ
ن ِلُمْؤِم ٍ
َوَما َكا َ
ضلًل ُمِبينًا ]الحزاب.[36: ضّل َ َفَقْد َ
وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم ،وهي التي تحاسبه ،وتقومه إذا اعوج ،وتعزله إذا أصر على عوجه،
ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بّينة ل تعالى .بل من واجبه أن يفعل ذلك ،إذ
ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق .وفي الحديث الصحيح المتفق عليه" :السمع والطاعة حق على المرء
المسلم فيما أحب وكره ،ما لم يؤمر بمعصية ،فإذا أمر بمعصية فل سمع ول طاعة"] ،[3والقرآن الكريم حين
ف ]الممتحنة:
ك ِفي َمْعُرو ٍ
صيَن َ
ذكر بيعة النساء للنبي ،وفيها طاعة النبي وعدم معصيته :قيد ذلك بقولهَ :ول َيْع ِ
.[12هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي ،فغيره أولى أن تكون طاعته مقيدة.
ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ السلم ،أضفى على نفسه ،أو أضفى عليه المسلمون :نوعا من القداسة،
بحيث ل ينقد ول ُيَقّوم ،ول يؤمر ول ينهى.
بل تراهم جّرأوا الناس على أن ينصحوهم ويقّوموهم ،كما قال أبو بكر في أول خطبة له :إن أحسنت فأعينوني،
وإن أسأت فقّوموني .أطيعوني ما أطعت ال فيكم ،فإن عصيته فل طاعة لي عليكم].[4
وكان عمر يقول :مرحبا بالناصح أبد الدهر .مرحبا بالناصح غدوا وعشيا] .[5وقال قولته المعروفة :من رأى
منكم في اعوجاجا فليقومني].[6
أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها ،وهؤلء أفرادها -دولة دينية تحكم بالحق اللهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر
غير معصومين ،تقيدهم شريعة ال ،وتراقبهم المة ،وتحاسبهم ،وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم
الخولني لمعاوية] .[7وقد نظم ذلك أبو العلء بقوله:
حها أمراؤها
ت بغير صل ِ
أمَر ْ ُمّل المقاُم فكم أعاشُر أمـــًة
جراؤها
وعَدْوا مصالحها وهُم ُأ َ ظلموا الرعية واستجازوا كيَدها
وقولنا :إن الدولة السلمية دولة مدنية ،قاله من قبلنا المام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في
كتابه الصيل المعروف) :السلم والنصرانية مع العلم والمدنية( .قال الستاذ المام:
)إن السلم لم يعرف تلك السلطة الّدينية ...التي عرفتها أوربا ...فليس في السلم سلطة دينية سوى سلطة
الموعظة الحسنة ،والدعوة إلى الخير ،والتنفير عن الشر ...وهي سلطة خّولها ال لكل المسلمين ،أدناهم
وأعلهم ...والمة هي التي تولي الحاكم ...وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه ،وهي تخلعه متى رأت ذلك
من مصلحتها ،فهو حاكم مدني من جميع الوجوه .ول يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة ،عند المسلمين،
بما يسميه الفرنج )ثيوكرتيك( ،أي سلطان إلهي ...فليس للخليفة -بل ول للقاضي ،أو المفتي ،أو شيخ
السلم -أدنى سلطة على العقائد وتحرير الحكام ،وكل سلطة تناولها واحد من هؤلء فهي سلطة مدنية ،قدرها
الشرع السلمي ...فليس في السلم سلطة دينية بوجه من الوجوه ...بل إن قلب السلطة الّدينية ،والتيان
جّل أصول السلم؟!(].[8عليها من الساس ،هو أصل من أ َ
لكن نفي )الوصف الّديني( -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق اللهي بواسطة طبقة بعينها -ل يعني
نفي )الوصف السلمي( عنها .فهي دولة )مدنية( مرجعيتها الشريعة السلمية.
وذلك )لن السلم -كما يقول الستاذ المام :دين وشرع ،فهو قد وضع حدودا ،ورسم حقوقا ...ول تكتمل
الحكمة من تشريع الحكام إل إذا وجدت قوة لقامة الحدود ،وتنفيذ حكم القاضي بالحق ،وصون نظام
الجماعة ...والسلم لم يدع ما لقيصر لقيصر ،بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له ،ويأخذ على يده في
عمله ...فكان السلم :كمال للشخص ...وألفة في البيت ...ونظاما للُملك(].[9
ومن الوهام المعششة في كثير من الذهان والتي يروجها دعاة العلمانية :أن الدولة السلمية هي دولة
المشايخ ورجال الّدين .وربما اقتبسوا هذه الصورة من حكم الكنيسة الغربية قديما ،وهو الحكم الثيوقراطي
المعروف .وربما ذكر بعضهم دولة المللي وآيات ال وحجج السلم ،في الجمهورية السلمية في إيران.
وقياس السلم على المسيحية قياس باطل من أساسه ،فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به ،له
سلطانه ونفوذه وأملكه ،ورجاله ،على اختلف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية .ول يوجد هذا في
السلم.
فالمسلم يستطيع أن يؤدي عبادته من صلة وصيام وزكاة وحج ،بدون وساطة كاهن ،وليس بينه وبين ال
عّني َفِإّني
عَباِدي َ
ك ِ
سَأَل َ
وساطة ،وباب ال مفتوح له في كل حين ،وكل حال ،ليس عليه حاجب ول بوابَ .وِإَذا َ
ب ]البقرة.[186:
َقِري ٌ
وحكم المللي واليات في إيران ليس لزما ،وإن رشحتهم للقيادة أكثر من غيرهم :نظرية )ولية الفقيه( .ولكن
رأينا أول رئيس للجمهورية بعد انتصار الثورة ،وبإقرار المام الخميني نفسه :كان مدنيا ،هو الحسن بني
صدر .وإن حدث خلف معه بعد ذلك.
ورأينا رئيس الجمهورية الحالي محمود أحمدي نجاد ينتصر في النتخابات على أحد مشايخ الّدين ،ورموز
النظام ،وهو حجة السلم رفسنجاني.
وفي كل المذاهب السلمية -ومذهب أهل السنة خاصة -يرشح الشخص للمنصب :صفتان أساسيتان :القوة
ي اَْلِمين ]القصص[26:
ت اْلَقِو ّ
جْر َ
سَتْأ َ
نا ْ
خْيَر َم ِ
ن َ
والمانة ،كما أشار إلى ذلك القرآنِ :إ ّ
والقوة تعني :الكفاية والقدرة على أداء العمل بجدارة ،بما لدى الشخص من مواهب وثقافة وخبرة وقدرة .فهذا
يعني :الجانب العلمي والفني.
خُلقي ،بحيث يخشى ال في عمله ،ل يغش ول يخون ،ول يهمل ،ول يتعدى حدا من
والمانة :تعني الجانب ال ُ
حدود ال ،ول يجور على حق من حقوق الناس.
فهذا هو المطلوب في رجل الدولة المسلمة ،قبل أي شيء آخر .وتعجبني كلمات قالها شيخنا الشيخ محمد
الغزالي رحمه ال حين كان يرد على الشيخ خالد محمد خالد ،تحت عنوان )شبهات حول الحكم الّديني( .أحببت
أن أسجلها هنا لما فيها من روعة البيان وقوة الحجة .قال رحمه ال:
)يقع في الوهم أن الحكم الّديني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الن )رجال الّدين( وقد
تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملبساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى
الوراء ،وينشغلون بأمور ل تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.
ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والستعداد للحياة الخرة.
فنحن ل نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الصطلح المريب )رجال الّدين(.
وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعّلقة بالكتاب والسنة ،ولكن هذا النوع من
الدراسات ل يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة السلمية الواسعة ،تلك الثقافة التي تشمل فنونا ل
آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعرفة المادية وغير المادية.
والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه ،ولم يكن التقدم
شحا للحكم في أزهى عصور السلم. الفقهي ُمر ِ
وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة ،ومن أكثرهم تحديثا عن النبي
صلى ال عليه وسلم فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة السلمية منزلة الخلفاء الربعة أو منزلة سعد بن أبي
وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بن الجراح؟
الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم -أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدم دينه في ميدان القتال أو السياسة
أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو ل ريب رجل لدينه ل غبار عليه.
وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف ،ول كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما.
والصورة الصادقة للحكومة -كما يقيمها السلم -صورة رجال أحرار الضمائر والعقول ،يفنون أشخاصهم
ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم.
صورة كفايات خارقة ،وثروات عريضة ،من بعد النظر ،ودقة الَفهم ،وعظم المانة ،تسعد بها المبادئ
والشعوب.
صورة أفراد لهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة ،وابن الوليد في القيادة ،وابن الخطاب في الحكم؛ قد
يولدون في أوساط مجهولة فل تبرزهم إل مواهبهم وَمَلكاتهم في مناحي الدنيا وميادين العمل.
إن الحكم الّديني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ...ويوم يكون
كذلك فالسلم منه بريء(].[10
قيام الدولة السلمية على عقيدة الحاكمية ل يعني :أنها دولة دينية:
وأما من استدل من الكتاب المعاصرين على أن الدولة السلمية دولة دينية -على معنى أنها تحكم بالحق
اللهي -بأنها تقوم على عقيدة الحاكمية اللهية ،التي دعا إليها بقوة :أبو العلى المودودي في باكستان ،وسيد
قطب في مصر .وهي نفس الفكرة التي دعا إليها الخوارج قديما.
فالحق أن فكرة الحاكمية أساء َفهمها الكثيرون ،وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها.
-1الملحظة الولى :أن أكثر من كتبوا عن )الحاكمية( التي نادى بها المودودي وأخذها عنه سيد قطب ،ردوا
أصل هذه الفكرة إلى )الخوارج( الذين اعترضوا على علي بن أبي طالب رضي ال عنه في قبوله فكرة التحكيم
من أساسها ،وقالوا كلمتهم الشهيرة) :ل حكم إل ل( ،ورد عليهم المام بكلمته التاريخية البليغة الحكيمة حين
قال :كلمة حق ُيراد بها باطل! نعم ،ل حكم إل ل ،ولكن هؤلء يقولون :ل إمرة إلى ل! ول بد للناس من أمير
بر أو فاجر]![11
وهذا المعنى الساذج للحكم أو الحاكمية أصبح في ذمة التاريخ ،ولم يعد أحد يقول به ،حتى الخوارج أنفسهم
وما تفرع عنهم من الفرق ،فهم طلبوا المارة وقاتلوا في سبيلها ،وأقاموها بالفعل ،في بعض المناطق ،فترات
من الزمان.
وقد بحث في هذه القضية علماء )أصول الفقه( في مقدماتهم الصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي،
والحاكم ،والمحكوم به ،والمحكوم عليه.
فها نحن نجد إماما أصوليا مثل حجة السلم أبي حامد الغزالي ،يقول في مقدمات كتابه الشهير )المستصفى
من علم الصول( عن )الحكم( الذي هو أول مباحث العلم ،وهو عبارة عن خطاب الشرع ،ول حكم قبل ورود
الشرع ،وله تعّلق بالحاكم ،وهو الشارع ،وبالمحكوم عليه ،وهو المكلف ،وبالمحكوم فيه ،وهو فعل المكلف...
ثم يقول) :وفي البحث عن الحاكم يتبين أن )ل حكم إل ل( وأن ل حكم للرسول ،ول للسيد على العبد ،ول
لمخلوق على مخلوق ،بل كل ذلك حكم ال تعالى ووضعه ل حكم لغيره(].[12
ثم يعود إلى الحديث عن )الحاكم( وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكّلفين ،فيقول) :أما استحقاق نفوذ الحكم
خلق والمر ،فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ،ول مالك إل الخالق ،فل حكم ول أمر إل
فليس إل لمن له ال َ
له ،أما النبي صلى ال عليه وسلم والسلطان والسيد والب والزوج ،فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء
بإيجابهم ،بل بإيجاب من ال تعالى طاعتهم ،ولول ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا ،كان للموجب
عليه أن يقلب عليه اليجاب ،إذ ليس أحدهما أولى من الخر ،فإذن الواجب طاعة ال تعالى ،وطاعة من أوجب
ال تعالى طاعته(].[13
الملحظة الثانية :أن )الحاكمية( التي قال بها المودودي وقطب ،وجعلها ل وحده ،ل تعني أن ال تعالى هو
الذي يولي العلماء والمراء ،يحكمون باسمه ،بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب ،أما سند السلطة
السياسية فمرجعه إلى المة ،هي التي تختار حكامها ،وهي التي تحاسبهم ،وتراقبهم ،بل تعزلهم .والتفريق بين
المرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل ،كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد ،بحق].[14
فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية ،بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما ال.
)ومملكة ال في الرض ل تقوم بأن يتولى الحاكمية في الرض رجال بأعيانهم -هم رجال الّدين -كما كان المر
في سلطان الكنيسة ،ول رجال ينطقون باسم اللهة ،كما كان الحال فيما يعرف باسم )الثيوقراطية( أو الحكم
اللهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة ال هي الحاكمة ،وأن يكون مرّد المر إلى ال وفق ما قّرره
من شريعة مبينة(].[15
وأما المودودي ،فقد أخذ بعض الناس جزءا من كلمه وفهموه على غير ما يريد ،ورتبوا عليه أحكاما ونتائج
صلها في عشرات الكتب والرسائل والمقالت لم يقل بها ،ول تتفق مع سائر أفكاره ومفاهيم دعوته ،التي ف ّ
والمحاضرات .وهذا ما يحدث مع كلم ال تعالى وكلم رسوله ،إذا أخذ جزء منه معزول عن سياقه وسباقه،
وعن غيره مما يكمله أو يبينه أو يقيده ،فكيف بكلم غيرهما من البشر؟
فقد ذكر المودودي خصائص الديمقراطية الغربية ثم قال) :وأنت ترى أنها ليست من السلم في شيء .فل
يصح إطلق كلمة )الديمقراطية( على نظام الدولة السلمية ،بل أصدق منها تعبيرا كلمة )الحكومة اللهية أو
الثيوقراطية((.
ثم استدرك فقال) :ولكن الثيوقراطية الوروبية تختلف عنها الحكومة اللهية )الثيوقراطية السلمية( اختلفا
كليا ،فإن أوروبا لم تعرف منها إل التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند
أنفسهم] ،[16حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم ،ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلد متسترين وراء
القانون اللهي ،فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة اللهية!
وأما الثيوقراطية التي جاء بها السلم فل تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ ،بل هي التي تكون في
أيدي المسلمين عامة ،وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب ال وسنة رسوله .ولئن
سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لثرت كلمة )الثيوقراطية الديمقراطية( أو )الحكومة اللهية الديمقراطية( لهذا
الطراز من نظم الحكم ،لنه قد خّول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة .وذلك تحت سلطة ال القاهرة وحكمه
الذي ل يغلب ،ول تتألف السلطة التنفيذية إل بآراء المسلمين ،وبيدهم يكون عزلها من نصبها ،وكذلك جميع
الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح ،ل يقطع فيها بشيء إل بإجماع المسلمين.
وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع ،ل يقوم ببيانه طبقة أو أسرة
مخصوصة فحسب ،بل يتولى شرحه وبيانه كل َمن بلغ درجة الجتهاد من عامة المسلمين.
وهذه الحاكمية -بهذا المعنى -ل تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به ال لهم .إنما هي تمنع أن يكون
لهم استقلل بالتشريع غير مأذون به من ال ،وذلك مثل التشريع الّديني المحض ،كالتشريع في أمر العبادات
بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم ،أو بالزيادة فيما شرع لهم باّتباع الهوى .أو بالنقص منه كما أو كيفا،
أو بالتحويل والتبديل فيه زمانا أو مكانا أو صورة .ومثل ذلك التشريع في أمر الحلل والحرام ،كأن يحلوا ما
حرم ال ويحرموا ما أحل ل ،وهو ما اعتبره النبي صلى ال عليه وسلم نوعا من )الربوبية( وفسر به قوله
ل ]التوبة.[31:
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
حَباَرُهْم َوُرْهَباَنُهْم َأْرَبابًا ِم ْ
خُذوا َأ ْ
تعالى في شأن أهل الكتاب :اّت َ
وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات ،أو تشيع الفواحش ما
ظهر منها وما بطن ،أو تعطل الفرائض المحّتمة ،أو تلغي العقوبات اللزمة ،أو تتعدى حدود ال المعلومة.
أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لنفسهم .وذلك في دائرة ما ل نص فيه أصل وهو كثير ،وهو
المسكوت عنه الذي جاء فيه حديث" :وما سكت عنه فهو عفو"] ،[18وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة
الناس.
ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الحكام الجزئية والتفصيلية.
ومن َثّم يستطيع المسلمون أن يشرعوا لنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الجتماعية
والقتصادية والسياسية ،غير مقيدين إل بمقاصد الشريعة الكلية ،وقواعدها العامة .وكلها تراعي جلب
المصالح ،ودرء المفاسد ،ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات.
وكثير من القوانين التفصيلية المعاصرة ل تتنافى مع الشريعة في مقاصدها الكلية ،ول أحكامها الجزئية ،لنها
قامت على جلب المنفعة ،ودفع المضرة ،ورعاية العراف السائدة.
وذلك مثل قوانين المرور أو الملحة أو الطيران ،أو العمل والعمال ،أو الصحة أو الزراعة ،أو غير ذلك مما
يدخل في باب السياسة الشرعية ،وهو باب واسع].[19
ومن ذلك تقييد المباحات تقييدا جزئيا ومؤقتا ،كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض اليام ،وكما كره لبعض
الصحابة الزواج من غير المسلمات ،حتى ل يقتدى بهم الناس ،ويكون في ذلك فتنة على المسلمات.
والستاذ المودودي -وهو أشهر من نادى بالحاكمية ،وتشدد فيها -قد بّين في كلمه أن للناس متسعا في
التشريع فيما وراء القطعيات والحكام الثابتة والحدود المقّررة .وذلك عن طريق تأويل النصوص وتفسيرها،
وعن طريق القياس ،وطريق الستحسان ،وطريق الجتهاد].[20
--------------------------------------------------------------------------------
] -[2رواه ابن سعد في الطبقات ) ،(5/340والدارمي في المقدمة ) ،(433وأبو نعيم في الحلية )،(5/296
وابن عساكرفي تاريخ دمشق ).(23/264
] -[3رواه البخاري في الجهاد والسير ) (2955عن ابن عمر ،ومسلم في المارة ) ،(1839وأحمد في المسند
) ،(6278وأبو داود في الجهاد ) ،(2626والترمذي في الجهاد ) ،(1707والنسائي في البيعة ).(4206
] -[4جزء من خطبة أبي بكر وقد سبق تخريجها.
] -[7دخل أبو مسلم على معاوية ،فقال :السلم عليك أيها الجير .فقيل له :مه .فقال معاوية :دعوا أبا مسلم
فإنه أعرف بما يريد .فتقدم أبو مسلم فقال :السلم عليك أيها الجير فقال :معاوية وعليك السلم يا أبا مسلم.
فقال أبو مسلم :يا معاوية اعلم أنه ليس من راع استرعى رعية إل ورب أجره سائله عنها ،فإن كان داوى
مرضاها ،وهنأ جرباها ،وجبر كسراها ،ورد أولها على أخراها ،ووضعها في أنف من الكل وصفو من الماء،
وفاه ال تعالى أجره ،وإن كان لم يفعل حرمه ،فانظر يا معاوية اين أنت من ذلك؟ فقال له معاوية :يرحمك ال يا
أبا مسلم المر على ذلك .انظر :تاريخ دمشق ).(27/223
] -[13المستصفى ) ،(1/83وفي فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى :مسألة :ل حكم
إل من ال تعالى ،بإجماع المة ،ل كما في كتب المشايخ :أن هذا عندنا ،وعند بعض المعتزلة :الحاكم العقل،
فإن هذا مما ل يجترئ عليه أحد ممن يدعي السلم ،بل إنما يقولون :إن العقل معرف لبعض الحكام اللهية،
سواء ورد به الشرع أم ل ،وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا )يعني الماتريدية( فواتح الرحموت مع
المستصفى صـ .25
] -[14انظر :عنوان )أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى العلمانية( من هذا الكتاب.
] -[15معالم في الطريق للشهيد سيد قطب صـ 60طبعة دار الشروق .القاهرة.
] -[16لم يكن عند البابوات القساوسة المسيحيين شيء من الشريعة إل مواعظ خلقية مأثورة عن المسيح
عليه السلم ،ولجل ذلك كانوا يشرعون القوانين حسب ما تقتضيه شهوات أنفسهم ،ثم ينفذونها في البلد
قائلين إنها من عند ال ،كما ورد في التنزيل :فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند ال
]البقرة .[79:المودودي.
] -[17نظرية السلم وهديه في السياسة والقانون والدستور لبي العلى المودودي صـ 36 – 34طبعة دار
الفكر.
] -[18رواه الدارقطني في السنن كتاب الزكاة ) (2/137عن أبي الدرداء ،والحاكم في المستدرك كتاب التفسير
) ،(2/406وقال :حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،والبيهقي في الكبرى كتاب الضحايا ) ،(10/12وصححه
اللباني في السلسلة الصحيحة ).(2256
] -[19انظر :كتابنا )الحل السلمي فريضة وضرورة( صـ 86وما بعدها صبعة مكتبة وهبة .القاهرة.
] -[20انظر :مجموعة )نظرية السلم وهديه في السياسة والقانون والدستور( صـ 171وما بعدها.
الدولة السلمية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية
الفصل الرابع
بّينا في الفصل السابق :أن الدولة في السلم دولة مدنية كغيرها من دول العالم المتحضر ،وإنما تتميز بأن
مرجعيتها الشريعة السلمية.
وفي هذا الفصل نبين أن هذه الدولة المدنية تقوم على الشورى والبيعة واختيار المة لحاكمها بإرادتها الحرة،
ونصحه ومحاسبته ،وإعانته على الطاعة ،ورفض طاعته إذا أمر بمعصية .وحقها في عزله إذا أصر على
عوجه وانحرافه.
وهذا التوجه يجعل الدولة السلمية أقرب ما تكون إلى إلى جوهر الديمقراطية.
الديمقراطية المنشودة:
ونعني بالديقراطية في هذا المقام :الديمقراطية السياسية .أما الديمقراطية القتصادية ،فتعني )الرأسمالية( بما
لها من أنياب ومخالب ،فإننا نتحفظ عليها .وكذلك الديمقراطية الجتماعية التي تعني )الليبرالية( بما ُيحّملونها
من حرية مطلقة ،فإننا كذلك نتحفظ عليها.
إن الرأسمالية )القارونية( مرفوضة عندنا ،لنها تقوم على فكرة الرأسمالي الذي يقول عن مالهِ :إّنَما ُأوِتيُتهُ
ن َنْفَعَلك َما َيْعُبُد آَباُؤَنا َأْو َأ ْ
ن َنْتُر َ
ك َأ ْ
ك َتْأُمُر َ
صلُت َ
عْنِدي ]القصص ،[78:أو كما قال قوم شعيب لهَ :أ َ عْلٍم ِ عَلى ِ َ
جَعَلُكْم
شاُء ]هود ،[87:والفكرة السلمية أن النسان مستخلف في مال الَ ،وَأْنِفُقوا ِمّما َ ِفي َأْمَواِلَنا َما َن َ
ن ِفيِه ]الحديد ،[7:وأن المالك الحقيقي للمال هو ال ،والغني أمين على هذا المال ،وكيل عن مالكه خَلِفي َسَت ْ
ُم ْ
الحقيقي ،فملكيته مقيدة ،عليها تكاليف وواجبات ،وتقيدها قيود في الستهلك والتنمية والتوزيع والتبادل.
وتفرض عليها الزكاة التي عدت من أركان السلم ،كما ُيمنع المالك من الربا والحتكار والغش والغبن
والسرف والترف والكنز وغيرها].[1
وبهذه الوصايا والقوانين وأمثالها ،نقّلم أظفار أخطار الرأسمالية ،حتى نحقق العدالة الجتماعية ،ونرعى
ي ل َيُكو َ
ن الفئات الضعيفة في المجتمع من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ،ونعمل على حسن توزيع المال َك ْ
غِنَياِء ِمْنُكْم ]الحشر.[7:
ن اَْل ْ
ُدوَلًة َبْي َ
والليبرالية التي تعني )الحرية المطلقة( مرفوضة أيضا عندنا ،فليس في الوجود كله حرية مطلقة ،كل حرية في
الدنيا لها قيود تحدها ،من هذه القيود :حقوق الخرين ،ومنها :حق الفرد نفسه ،ومنها :قيود دينية تتعّلق بحق
ال سبحانه ،ومنها :قيود أخلقية.
إن البواخر في المحيطات الواسعة مقيدة في سيرها بخطوط معروفة ،تحددها الخارطة و)البوصلة( .ومثل ذلك
الطائرات في جو السماء ،ل تذهب يمنة ويسرة ،كما يشاء قائدها ،بل له خط سير يجب أن يتبعه ول يحيد عنه.
الذي يعنينا من الديمقراطية هو الجانب السياسي منها ،وجوهره أن تختار الشعوب من يحكمها ويقود
مسيرتها ،ول يفرض عليها حاكم يقودها رغم أنفها .وهو ما قّرره السلم عن طريق المر بالشورى والبيعة،
وذم الفراعنة والجبابرة ،واختيار القوي المين ،الحفيظ العليم ،والمر باّتباع السواد العظم ،وأن يد ال مع
الجماعة ،وقول الرسول لبي بكر وعمر" :لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما"] ،[2إذ سيكون صوتان أمام
واحد.
ومن حق كل امرئ في الشعب أن ينصح للحاكم ،ويأمره بالمعروف ،وينهاه عن المنكر ،مراعيا الدب الواجب
في ذلك .وأن يطيعه في المعروف ،ويرفض الطاعة في المعصية المجمع عليها ،أي المعصية الصريحة البينة،
إذ ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والذي يهمنا اقتباسه من الديمقراطية هو ضماناتها وآلياتها التي تمنع أن تزيف وتروج على الناس بالباطل.
فكم من بلد تحسب على الديمقراطية ،والستبداد يغمرها من قرنها إلى قدمها ،وكم من رئيس يحصل على )
(%99تسعة وتسعين في المائة ،وهو مكروه كل الكراهية من شعبه.
إن أسلوب النتخابات والترجيح بأغلبية الصوات ،الذي انتهت إليه الديمقراطية هو آلية صحيحة في الجملة،
خل من عيوب ،لكنها أسلم وأمثل من غيرها] .[3ويجب الحرص عليها وحراستها من الكذابين وإن لم َت ْ
والمنافقين والُمدّلسين.
أما دعوى بعض المتدينين :أن الديمقراطية تعارض حكم ال ،لنها حكم الشعب ،فنقول لهم :إن المراد بحكم
الشعب هنا :أنه ضد حكم الفرد المطلق ،أي حكم الديكتاتور ،وليس معناها أنها ضد حكم ال ،لن حديثنا عن
الديمقراطية في المجتمع المسلم ،وهو الذي يحتكم إلى شريعة ال].[4
ويحسن بنا بمناسبة حديثنا عن الديمقراطية :أن نذكر هنا موقف السلم من الديمقراطية ،فقد رأينا الذين
يتحدثون عن الديمقراطية وصلتها بالسلم عدة أصناف متباينة:
ب -وأن الديمقراطية تعني حكم الشعب للشعب ،والسلم يعني حكم ال.
ت -وأن الديمقراطية تقوم على تحكيم الكثرية في العدد ،وليست الكثرية دائما على
صواب.
ث -وأن الديمقراطية أمر ُمحَدث وابتداع في الّدين ،ليس له سلف من المة ،وفي الحديثَ" :من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"] ،[5و"َمن عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"].[6
ج -وأن الديمقراطية مبدأ مستورد من الغرب النصراني أو العلماني الذي ل يؤمن بسلطان الّدين
على الحياة ،أو الملحد الذي ل يؤمن بنبوة ول ألوهية ول جزاء ،فكيف نتخذه لنا إماما؟
على هذا يرفض هؤلء الديمقراطية رفضا باًتا ،وينكرون على َمن ينادي بها أو يدعو إليها في ديارنا ،بل قد
يتهمونه بالكفر والمروق من السلم .فقد صّرح بعضهم بأن الديمقراطية كفر!
على عكس هؤلء ،آخرون يرون أن الديمقراطية الغربية هي العلج الشافي لوطاننا ودولنا وشعوبنا ،بكل ما
تحمله من معاني الليبرالية الجتماعية ،والرأسمالية القتصادية ،والحرية السياسية.
ول يقيد هؤلء هذه الديمقراطية بشيء ،وهم يريدونها في بلدنا ،كما هي في بلد الغربيين ،ل تستند إلى
ث على عبادة ،ول تستمد من شريعة ،ول تؤمن بِقَيم ثابتة ،بل هي تفصل بين العلم والخلق،
عقيدة ،ول تح ّ
وبين القتصاد والخلق ،وبين السياسة والخلق ،وبين الحرب والخلق.
وهذا هو منطق )التغربيين( الذين نادوا من قديم ،بأن نسير مسيرة الغربيين ،ونأخذ حضارتهم بخيرها وشّرها،
وحلوها ومرها]![7
.3الوسطيون المتوازنون:
وبين هؤلء وأولئك :تقف فئة الوسط التي ترى أن خير ما في الديمقراطية -أو قل :جوهر الديمقراطية -متفق
مع جوهر تعاليم السلم.
جوهر الديمقراطية :أن يختار الناس َمن يحكمهم ،ول ُيفرض عليهم حاكم يكرهونه ويرفضونه يقودهم بعصاه
أو سيفه .وأن يكون لديهم من الوسائل :ما يقّومون به عوجه ،ويردونه إلى الصواب إذا أخطأ الطريق ،وأن
تكون لديهم القدرة على إنذاره إذا لم يرتدع ،ثم عزله بعد ذلك.
وإذا اختلف معه أهل الحل والعقد -أو مجلس المة أو الشعب أو مجلس النواب ،سّمه ما شئت -فإن كان في أمر
سوَل َوُأوِلي
طيُعوا الّر ُ
ل َوَأ ِطيُعوا ا َّ ن آَمُنوا َأ ِ
شرعيُ :رّد التنازع إلى ال ورسوله كما أمر القرآنَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
خِر ]النساء،[59: لِل َواْلَيْوِم ا ْ
ن ِبا ِّ
ن ُكْنُتْم تُْؤِمُنو َ
سوِل ِإ ْل َوالّر ُ
يٍء َفُرّدوُه ِإَلى ا ِّ
ش ْ
عُتْم ِفي َ
ن َتَناَز ْ
اَْلْمِر ِمْنُكْم َفِإ ْ
وقد أجمع العلماء على أن المراد بالرد إلى ال :الرد إلى كتابه .وبالرد إلى رسول ال :الرد إلى سنته.
والذين يرجع إليهم في هذا هم الراسخون في العلم ،الخبراء وأهل الذكر في العلم الشرعي :علم الكتاب والسنة
والفقه وأصوله ،الذين يجمعون بين فقه النصوص الجزئية وفقه المقاصد الكلية ،والذين يجمعون بين فقه
الشرع وفقه الواقع ،أعني فقه العصر الذي يعيشون فيه وما فيه من تيارات ومشكلت وعلقات ،كما قال
طوَنُه ِمْنُهْم ]النساء.[83:
سَتْنِب ُ
ن َي ْ
سوِل َوِإَلى ُأوِلي اَْلْمِر ِمْنُهْم َلَعِلَمُه اّلِذي َ
تعالىَ :وَلْو َرّدوُه ِإَلى الّر ُ
وأما في أمور الحياة المختلفة :التي تدخل في دائرة المباحات ،فعند الختلف في شأنها -كما هو شأن البشر في
جح هو الغلبية ،فإن رأي الثنين أقرب إلى الصواب من رأي الفرد. جح ،والمر ّ
المور الجتهادية -ل بد من مر ّ
وهناك أدلة شرعية على ذلك ،ل يتسع المقام لسردها .فلتراجع في كتابنا )من فقه الدولة في السلم(.
ول يعيب الديمقراطية أنها من اجتهادات البشر ،فليس كل ما جاء عن البشر مذموما ،كيف وقد أمرنا ال أن
ظر في هذا الجتهاد :أهو مناقض لما ُنعِمل عقولنا ،فنفّكر وننظر ،ونتدّبر ونعتبر ،ونجتهد ونستنبط؟ ولكن ُين َ
سد مبادئ الشورى، جاء من عند ال أم ل يتعارض معه ،بل يمشي في ضوئه؟ وقد رأينا الديمقراطية تج ّ
والنصيحة في الّدين ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والتواصي بالحق والصبر ،وإقامة العدل ،ورفع
الظلم ،وتحقيق المصالح ودفع المفاسد ...وغيرها.
وما قيل من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب ،فليس يعني :أنه في مقابلة حكم ال ،بل حكم الشعب في مقابلة
حكم الفرد المطلق.
وما قيل :إنه مبدأ مستورد ،فالستيراد في ذاته ليس محظورا ،إنما المحظور أن تستورد ما يضرك ول ينفعك،
وأن تستورد بضاعة عندك مثلها أو خير منها ،ونحن نستورد من الديمقراطية :آلياتها وضماناتها ،ول نأخذ كل
فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة ،وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب الِقَيم
والخلق ،وتعطي الكثرية الحق في تغيير كل شيء ،حتى الديمقراطية ذاتها!!
نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم ،والمة المسلمة ،بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع
وِقيمه وأسسه الّدينية والثقافية والخلقية ،فهي من الثوابت التي ل تقبل التطور ول التغيير بالتصويت عليها.
الشورى والديمقراطية:
وكثير من الذين يتحدثون عن الديمقراطية ،وأن لها في أحكام السلم أصول وجذورا :يرّكزون على قاعدة
)الشورى( في السلم ،ويعتبرون الشورى هي البديل السلمي للديمقراطية ،وهي أيضا الدليل الشرعي
للديمقراطية.
وكان بعض إخواننا في الجزائر يقولون ) :شورقراطية( ،أي شورى متضمنة للديمقراطية.
وفي رأيي أننا نستطيع أن ندعم القضية بأكثر من ذلك ،وأن الشورى وحدها قد ل تكفي هنا لسببين:
أولهما :أن هناك من الفقهاء من زعم أن الشورى ليست واجبة ،وإنما هي من قبيل المندوبات والمستحبات،
لمة ابن عطية ،وأقّره المام سسات .خلفا لما قاله المحققون من أمثال الع ّ
فهي من المكملت وليست من المؤ ّ
القرطبي في تفسيره) :الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكام ،وَمن ل يستشير أهل العلم والّدين ،فعزله
واجب ،وهذا ما ل خلف فيه(].[8
وثانيهما :أن هناك من الفقهاء أيضا من قالوا :إن الشورى معلمة وليست ملزمة .وحتى من سّلم أن الشورى
واجبة وفريضة دينية ،يقول :أن الواجب على الحاكم أو المام أن يستشير أهل الرأي والبصيرة والخبرة ،حتى
إذا استنار له الطريق ،مضى في سبيله بما يراه وتحّمل المسؤولية وحده ،وليس من الضروري أن ننزل على
ل{ ]آل عمران.[159:عَلى ا ِّ
ت َفَتَوّكْل َ
عَزْم َ
شاِوْرُهْم ِفي اَْلْمِر َفِإَذا َ
رأيهم ،مستدلين بقوله تعالىَ} :و َ
ونحن ل نقر هذين المرين ،ولنا رد على كل منهما مذكور في مواضعه من كتبنا ،ولكن مجرد إثارتهما قد
يضعف لدى بعض الناس من العتماد على الشورى وحدها.
ورأيي أن الواجب علينا هنا :أن نضيف مبادئ أو مؤيدات أخرى تؤكذ شرعية الديمقراطية الحقيقية وقربها من
جوهر السلم.
أول هذه المبادئ المؤيدة لشرعية الديمقراطية ،وحكم الشعوب لنفسها ،واختيارها َمن يحكمها ويقودها :أن
القرآن الكريم ينكر أبلغ النكار ،بل يذم أبلغ الذم :الجبابرة الذين يتسلطون على الشعوب ،ويحكمونها رغم
أنوفها ،ويقودونها طوعا أو كرها -بل غالبا ما يقودونها كرها -إلى ما يريدون.
ن آَتاُه
ج ِإْبَراِهيَم ِفي َرّبهِ َأ ْ
حا ّ
وفي هذا ذم القرآن ُملك صاحب إبراهيم -الذي يسمونه )نمروذ(َ :أَلْم َتَر ِإَلى اّلِذي َ
حِيي َوُأِميتُ ] ...البقرة.[258: ت َقاَل َأَنا ُأ ْ
حِيي َوُيِمي ُ
ي اّلِذي ُي ْ
ك ِإْذ َقاَل ِإْبَراِهيُم َرّب َ
ل اْلُمْل َ
ا ُّ
وقد ذكر المفسرون :أنه جاء برجلين من عرض الطريق ،فحكم عليهما بالعدام ،ثم نفذ الحكم في أحدهما
وضربه بالسيف ،وقال :ها أنا قد أمّته! وعفا عن الخر ،وقال :ها أنا ذا قد أحييته!
ضِع ُ
ف سَت ْ
شَيعًا َي ْ
جَعَل َأْهَلَها ِض َو َ
عل ِفي اَْلْر ِ ن َعْو َ ن ِفْر َ
ومثل ذلك حكم فرعون الذي قال القرآن في شأنهِ :إ ّ
ن ]القصص.[4: سِدي َ
ن اْلُمْف ِ
ن ِم َساَءُهْم ِإّنُه َكا َ
حِيي ِن َ
سَت ْ
ح َأْبَناَءُهْم َوَي ْ
طاِئَفًة ِمْنُهْم ُيَذّب ُ
َ
عِنيٍد ]ابراهيم،[15:
جّباٍر َ
ب ُكّل َ
خا َ
حوا َو َ
سَتْفتَ ُ
كما ذم القرآن تسلط الجبابرة في الرض بصفة عامة ،فقالَ :وا ْ
جّباٍر ]غافر.[35:
ب ُمَتَكّبٍر َ
عَلى ُكّل َقْل ِ
ل َ
طَبُع ا ُّ
ك َي ْ
وقالَ :كَذِل َ
وذم كذلك الشعوب التي تسير في ركاب الجبابرة المستكبرين في الرض وتنقاد لهم طائعة ،كما قال عن
ن ]الزخرف ،[54:وقال عن مل فرعون أيضاَ :فاّتَبُعوا سِقي َ عوُه ِإّنُهْم َكاُنوا َقْومًا َفا ِطا ُ
ف َقْوَمُه َفَأ َخ ّ سَت َ
فرعونَ :فا ْ
س اْلِوْرُد اْلَمْوُروُد ]هود:
شيٍد * َيْقُدُم َقْوَمُه َيْوَم اْلِقَياَمِة َفَأْوَرَدُهُم الّناَر َوِبْئ َ
ن ِبَر ِ
عْو َ ن َوَما َأْمُر ِفْر َعْو َ
َأْمَر ِفْر َ
.[98،97
عاٌد
ك َ
وذم القرآن عادا قوم هود لتفريطهم في حريتهم وكرامتهم واتباعهم الجبابرة المتسلطين ،فقالَ :وِتْل َ
عِنيٍد ]هود.[59:
جّباٍر َ
سَلُه َواّتَبُعوا َأْمَر ُكّل َ
صْوا ُر ُ
ع َ
ت َرّبِهْم َو َ
حُدوا ِبآيا ِ
جََ
سِرِفي َ
ن طيُعوا َأْمَر اْلُم ْ
ن * َول ُت ِ
طيُعو ِ
ل َوَأ ِوحكى القرآن نصيحة نبي ال صالح لقومه ثمود إذ قال لهمَ :فاّتُقوا ا َّ
ن ]الشعراء.[152،151،150: حو َ
صِل ُ
ض َول ُي ْ
ن ِفي اَْلْر ِ
سُدو َ
ن ُيْف ِ
* اّلِذي َ
وبهذا نرى أن من مبادئ القرآن وأهدافه :أن يحرر القوام والشعوب من تسلط الفراعنة والجبابرة المتألهين
في الرض ،وأن يرفع جباههم فل تسجد إل ل الذي خلقهم ،ويعلي رؤوسهم فل تنحني إل له سبحانه .فل يحكم
الناس ول يقودهم نمروذ ول فرعون ،وإنما يقودهم رجل منهم ،هم الذين يختارونه ،وهم الذين يراقبونه
ويحاسبونه ،وهم الذين يعزلونه -عند انحرافه -ويسقطونه .كما قال أبو بكر الخليفة الول في أول خطبة له بعد
تولية الخلفة :إن رأيتموني على حق فأعينوني ،وإن رأيتموني على باطل فسّددوني ،أطيعوني ما أطعت ال
فيكم ،فإن عصيته فل طاعة لي عليكم] [9اهـ.
وهناك نصوص شرعية ،وأحاديث نبوية ،تأمر المسلمين أن يكونوا مع الجماعة ،فيد ال مع الجماعة ،وأن
يتبعوا السواد العظم] ،[10أي جمهور الناس ،وأن يهتموا برؤية المؤمنين للشياء والوقائع والشخاص ،فإن
سوُلُه َواْلُمؤِْمُنو َ
ن عَمَلُكْم َوَر ُ
ل َ
سَيَرى ا ُّ
عَمُلوا َف َ
رؤيتهم معتبرة عند ال وعند الناس ،كما قال ال تعالىَ :وُقِل ا ْ
]التوبة ،[105:فجعل رؤيتهم للعمل مقارنة لرؤية ال ورسوله.
ولذا قال ابن مسعود رضي ال عنه :ما رآه المسلمون حسنا ،فهو عند ال حسن ،وما رآه المسلمون قبيحا،
فهو عند ال قبيح].[11
ثبت عن رسول ال أنه قال" :ثلثة ل ترتفع صلتهم فوق رؤوسهم شبرا )وهذا كناية عن عدم قبولها عند
ال( :رجل أّم قوما وهم له كارهون ،وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ،وأخوان متصارمان"].[12
فإذا كان هذا في المامة الصغرى ،فكيف بالمامة الكبرى! إمامة المة في شؤونها كلها ،التي تشمل دينها
ودنياها؟
وفي الحديث الصحيح" :خيار أئمتكم :الذين تحبونهم ويحبونكم ،ويصلون عليكم وتصلون عليهم )أي يدعون
لكم وتدعون لهم( ،وشرار أئمتكم :الذين تبغضونهم ويبغضونكم ،وتلعنوهم ويلعنونكم"] ،[13فأساس الصلة
بين الحاكم والمحكومين :هو الثقة والمحبة المتبادلة بينهم .ل التباغض ول التلعن ،الملزم للحكم المستبد
الذي يقوم على القهر والجبروت.
وأحيل القارئ الكريم إلى أن يقرأ ما كتبته عن الديمقراطية وصلتها بالسلم في كتابي )من فقه الدولة في
السلم(].[14
--------------------------------------------------------------------------------
] - [1انظر :كتابنا )دور القيم والخلق في القتصاد السلمي( نشر مكتبة وهبة بالقاهرة ،ومؤسسة الرسالة
في بيروت.
غنم ،وقال محققوه :إسناده ضعيف لضعف شهر ] -[2رواه أحمد في المسند ) (17994عن عبد الرحمن بن َ
غنم عن النبي مرسل ،والطبراني في الوسط ) (7/212عن البراء ابنابن حوشب ،وحديث عبد الرحمن بن َ
عازب ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني في الوسط وفيه حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك وهو
متروك ).(9/38
] -[3من عيوب الكثرية البرلمانية :أنها قد ل تكون معّبرة عن أغلبية حقيقية ،فقد ُتعرض قضية ُيطلب
التصويت عليها في المجلس ،فإذا كان معها %51من الحاضرين ،فقد رجحت وأقرت .فإذا نظرنا إلى الواقع:
وجدنا الحزب صاحب الغلبية في البرلمان ،قد صوت على مشروع القرار في الحزب ،وقد اختلف العضاء
فيه ،ولكن نجح القرار في الحزب بأغلبية ،%51ونظام الحزب يلزم أعضاءه جميعا -الموافقين والمخالفين-
بالتصويت في المجلس مع أغلبية الحزب .ومعنى هذا في النهاية :أن المصوتين الحقيقيين ل يزيدون عن الربع
كثيرا ،فإذا أدخلنا اعتبار الغائبين ،كانت النسبة أقل وأقل ،فإذا تصورنا أن النواب أنفسهم فازوا بنسبة %51
من مجموع الناخبين ،وربما كانوا %30أو أقل :عرفنا قيمة التمثيل الحقيقي للشعب .ومع هذا ل يوجد بديل
أدنى إلى القبول من هذا!
] -[4انظر :فصل )السلم والديمقراطية( من كتابنا )من فقه الدولة في السلم( صـ 146 -130طبعة دار
الشروق .القاهرة.
] -[7انظر :مستقبل الثقافة في مصرلطه حسين صـ 54طبعة دار الكتاب اللبناني .بيروت.
] -[8تفسير القرطبي ) (4/249طبعة دار الكتب المصرية ،وانظر :المحرر الوجيز لبن عطية الندلسي )
.(1/534
] -[11رواه أحمد في المسند ) (3600عن ابن مسعود موقوفا ،وقال محققوه :إسناده حسن ،والطيالسي في
المسند ) ،(1/33والبزار في المسند ) ،(5/212والطبراني في الكبير ) ،(9/112والحاكم في المستدرك كتاب
معرفة الصحابة ) ،(3/83وقال :هذا حديث صحيح السناد ولم يخرجاه ،وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه
أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون ).(1/428
] -[12رواه ابن ماجه في إقامة الصلة والسنة فيها ) (971عن ابن عباس ،وابن حبان في صحيحه كتاب
الصلة ) (5/53وقال الرناؤوط :إسناده حسن ،والطبراني في الكبير ).(11/449
] -[13رواه مسلم في المارة ) (1855عن عوف بن مالك ،وأحمد في المسند ).(23981
الفصل الخامس
اعتبار هؤلء القليات من )أهل الذمة( وهذا يعني تهميشهم في المجتمع ،والنظر إليهم نظرة دونية. .1
ن ]التوبة.[29:
غُرو َ
صا ِ
ن َيٍد َوُهْم َ
عْجْزَيَة َ
طوا اْل ِ
حّتى ُيْع ُ
فرض الجزية عليهم كما أمر القرآنَ : .2
فرض أحكام وقوانين دينية عليهم ،مما توجبه الشريعة السلمية التي ل يؤمنون بها. .3
حرمانهم من وظائف معينة ،مباحة للمسلمين ،محرمة عليهم. .4
ومن الضروري هنا :أن نناقش هذه الدعاوى ،ونرد عليها واحدة واحدة ،بالدلة الشرعية المستقاة من المنابع
الصافية ،المؤيدة بالمنطق العلمي السليم.
أما مسألة )أهل الذمة( فالذمة معناها :الضمان والعهد ،أي أنهم في ضمان ال ورسوله وجماعة المسلمين
وعهدهم ،ل يجوز دينا إخفار ذمتهم ،أو نقض عهدهم المؤبد ،الذي يصون حرماتهم ،ويحفظ دينهم وأنفسهم
وأعراضهم وأموالهم .والصل في ذلك هو القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم :لهم ما لنا
وعليهم ما علينا.
ومع هذا ،إن كان هذا المصطلح )أهل الذمة( يعطي انطباعا غير حسن عند إخواننا المسيحيين ويستاؤون منه،
فإن ال لم يتعبدنا به ،ويمكننا أن نستبدل به مصطلح )المواطنة( و)المواطنين( .ومما يؤيد ذلك :أن فقهاء
الشريعة في جميع المذاهب ،اعتبروا أهل الذمة من )أهل دار السلم( ومعنى )أهل الدار( :أي أهل الوطن،
بمعنى أنهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة.
.2مسألة الجزية:
ن ]التوبة ،[29:ومعنى
غُرو َ
صا ِ
ن َيٍد َوُهْم َ
عْجْزَيَة َ
طوا اْل ِ
حّتى ُيْع ُ
وأما مسألة )الجزية( فقد كانت غاية للقتالَ :
الصغار هنا :خضوعهم لدولة السلم ،ودللة ذلك :دفع هذا المبلغ الزهيد الذي يعبر عن إذعانهم لسلطان
الدولة .وفي مقابله تقوم الدولة بحمايتهم والدفاع عنهم ،والكفالة المعيشية للعاجزين منهم ،كما فعل سيدنا
عمر حين فرض ليهودي محتاج ،ما يكفيه وعياله من بيت مال المسلمين].[1
وقد كانت هذه الجزية بدل من فريضة الجهاد ،وهي فريضة دينية تعبدية ،فلم ُيِرد السلم -لفرط حساسيته -أن
يفرض على غير المسلمين ما يعتبره المسلمون عبادة وقربة دينية ،بل أعظم القربات عند ال.
ولقد طلبت قبيلة )تغلب( العربية الكبيرة من أمير المؤمنين عمر :أن يسقط عنهم )الجزية( لنهم قوم عرب
يأنفون من قبول كلمة )جزية( وليأخذ منهم ما يشاء باسم الزكاة أو الصدقة ،وقد تردد في أول المر ،ثم َقِبل
ذلك؛ لن المقصود أن يدفعوا للدولة ما يثبت ولءهم ومشاركتهم لها في العباء .ومن هنا رأى أن العبرة
بالمسميات والمضامين ،ل بالسماء والعناوين.
عَمري يجب اعتماده في هذه القضية وفي أمثالها .وهو ما جعله رضي ال عنه ،يغض الطرف عنوهو اجتهاد ُ
هذا المصطلح الذي جاء في القرآن ،ما دام قد حقق المقصود منه ،فكيف بمصطلحات لم تجئ في قرآن ول
سنة؟!
وقد قّرر الفقهاء أن الذمي إذا شارك في الدفاع ومحاربة العداء سقطت عنه الجزية.
واليوم بعد أن أصبح التجنيد الجباري مفروضا على كل المواطنين -مسلمين وغير مسلمين -لم يعد هناك مجال
لدفع أي مال ،ل باسم جزية ،ول غيرها.
وأما ما يقال عن فرض الحكام والقوانين الّدينية على غير المسلمين في المجتمعات السلمية ،فهذا يحتاج إلى
بيان.
أول :أن الحكام والقوانين الّدينية ل تفرض أبدا على غير المسلمين ،فل تفرض عليهم الحكام المتعّلقة
بالعبادات والفرائض الّدينية من الصلة والصيام والزكاة والحج وغيرها.
حتى الزكاة لم يفرضها عليهم ،لن فيها معنى العبادة ،ومعنى الحق المالي ،فراعى جانب العبادة فيها ،ولم
يفرضها عليهم ،احتياطا في رعاية شعورهم.
وإن كان لي رأي في الموضوع :أنه ل مانع من أن تفرض عليهم ضريبة مساوية للزكاة ،تسمى )ضريبة
التكافل( توحيدا للمعاملة المالية بين أبناء الوطن الواحد .وقد وضحت ذلك بأدلته في كتابي فقه الزكاة].[2
ومما يلحق بالقوانين الّدينية :القوانين الخاصة بالحوال الشخصية من الزواج والطلق والمواريث وغيرها،
فهذه تعامل معاملة المور الّدينية الخالصة ،ونترك لهم حرية تنظيمها وتقنينها بما يتناسب وعقائدهم .وقد
أمرنا أن نتركهم وما يدينون.
ومما سجله التاريخ السلمي :أن المسيحين كانت لهم محاكمهم الخاصة ،وفيها قضاة منهم ،تفصل بينهم وفقا
لحكام ملتهم.
أما القوانين المدنية والجنائية وغيرها ،فيجري عليهم فيها ما يجري على المسلمين ،تسوية بين أهل البلد
الواحد .والحكم هنا يدور مع الكثرية ،كما تقضي بذلك مبادئ الديمقراطية ،بشرط أن ل تجور الكثرية على
حقوق القلية.
وأعتقد أن رجوع المسيحيين إلى قوانين الكثرية المسلمة :ل يتعارض مع أي معتقد عندهم ،وخصوصا أن
المسيحية ل تحتوي على تشريعات ملزمة لهم ،ويستوي عندهم أن يكون القانون الذي يحكمهم :قانون نابليون
أو قانون محمد.
بل أرى أن قانون محمد في الواقع :أقرب إليهم من قانون نابليون لمرين:
الول :أن قانون محمد قانون يراعي القيم الخلقية ،والمثل العليا ،التي جاء بها رسل ال جميعا ،وحرصت
عليها كل رسالت السماء ،ومنها رسالة المسيح .بخلف قانون نابليون الذي تغلب عليه النزعة النفعية
والمادية والدنيوية.
والثاني :أن قانون محمد أو قانون المسلمين قانون نابع من المنطقة نفسها ،معبر عنها وعن حاجاتها
ومطالبها ،معالج لمشكلتها ،فهو منها وإليها .بخلف قانون نابليون المستورد من خارج المنطقة ،ول صلة له
بثقافتها ول بحضارتها ،ول بمفاهيمها ول بتقاليدها.
وأخيرا أقول :إن مصلحة غير المسلمين :أن يحتكم المسلمون إلى شريعتهم التي تتجلى فيها طاعتهم لربهم،
وإذعانهم لحكمه .فهذا أدعى أن يرعوا فيها حقوق الناس وحدود ال تعالى.
وبهذا يأخذ غير المسلمين أحكام الشريعة على أنها قانون عادي ،ويأخذها المسلمون على أنها تنفيذ لشرع ال،
وامتثال لمر ال ،وفي هذا من الخير ما فيه.
هذا مع ملحظة :أن بعض القوانين الجنائية المفروضة على المسلمين ،ل تفرض على غيرهم ،مثل عقوبة
شرب الخمر ،لنها غير محرمة في دينهم .وهناك خلف في تطبيق بعض الحدود على غير المسلمين .وأنا أرى
هنا :الخذ باليسر والوسع في هذا المجال.
.4الحرمان من الوظائف:
وأما حرمان القلية الّدينية من وظائف الدولة ،فنود أن نبين هنا :أن وظائف الدولة أنواع ومستويات.
فمنها :وظائف لها طابع ديني ل يفكر المسيحي ول اليهودي أن يكون له حظ فيها ،مثل وظائف المامة
والخطابة والذان وخدمة المسجد ،ونحو ذلك.
ومثل ذلك :الوظائف المتعّلقة بأركان السلم الخرى ،مثل :الزكاة والحج وغيرها .وإن كان هناك من الفقهاء
من أجاز للذمي أن يكون من )العاملين( على الزكاة ،ويأخذ أجرته منها ،وهذا قمة في التسامح.
وهناك وظائف تحتاج إلى تخصص في الشريعة وفقهها ،مثل )القضاء( فلهذا اشترط الفقهاء فيما مضى :أن
يكون القاضي مسلما ،إْذ ل بد له أن يكون عالما بالقرآن والسنة ،عالما بالفقه وأصوله .وهذا مما يتعسر -إن لم
يتعذر -على غير المسلم.
وقد يتغير الجتهاد في عصرنا الذي أصبح فيه القضاء جماعيا ،وغدت فيه المحكمة تتكون من عدة قضاة،
وهنا يمكن أن يقال :ل مانع من أن يكون بعض القضاة من غير المسلمين ،إذا َمَلك من المؤهلت ما يمّكنه من
هذا.
على أن يترك القضاء في الحوال الشخصية للقضاة المسلمين ،لما ذكرنا :أن هذه الحوال لصيقة بالجانب
الّديني ،ولهذا قلنا :يجب أن تكون لغير المسلمين فيها محاكمهم الخاصة.
وقد تثار هنا قضية رئاسة الدولة ،وهل تحرم منها القلية؟
والواقع أن الدولة في السلم :دولة عقائدية ،دولة فكرة ورسالة ،وهي موصولة بالّدين ،غير منفصلة عنه.
ومن أول مسؤولياتها :التمكين لدين ال ،والذود عنه ،ورئاسة الدولة في السلم لها اختصاصات ذات علقة
بالشأن الّديني ،وبعضها ل يجوز أن يقوم به إل مسلم ،مثل إمامة الناس في الصلة ،فالمام أو الحاكم المسلم
هو إمام الناس في الصلة ،وقائدهم في المواجهة ،وقاضيهم في الخصومات ،والنائب عن رسول ال في
حراسة الّدين وسياسة الدنيا به ،كما قال العلماء .فهو المسؤول الول عن حمل السلم :عقيدة وشريعة ،عبادة
ض َأَقاُموا
ن َمّكّناُهْم ِفي اَْلْر ِ
ن ِإ ْ
ومعاملة ،دعوة ودولة ،قرآنا وسلطانا ،دينا ودنيا .كما قال ال تعالى :اّلِذي َ
ن اْلُمْنَكِر ]الحج ،[41:فجعل أول أعمال الممكنين في الرض: عِف َوَنَهْوا َ
صلَة َوآَتُوا الّزَكاَة َوَأَمُروا ِباْلَمْعُرو ِ
ال ّ
إقامة الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وهذا شأن المسلمين.
ول مانع من أن يكون أحد نائبي الرئيس أو نوابه من غير المسلمين ،وخصوصا إذا كانت القلية غير المسلمة
كبيرة ،كما هو حاصل في السودان اليوم.
وما عدا هذا المنصب الحساس ،فالمجال مفتوح لغير المسلمين في كل ما يحصلون شروطه ،ويمتلكون
مؤهلته .ومن ذلك منصب )الوزارة( كما ذكر المامان :أبو الحسن الماوردي ،وأبو يعلى الفّراء في )الحكام
السلطانية( من تولي أهل الذمة )وزارة التنفيذ( .وهناك بعض الوزارات لها حساسيات واعتبارات معّينة ،مثل:
وزارة الدفاع ،ووزارة الداخلية.
المهم هنا هو توافر الثقة بين الجميع ،فإذا توافرت ،وشاع جو الخوة والتسامح بين أبناء الشعب الواحد:
انحلت كل المشكلت.
وقد رأيت الستاذ فارس الخوري المسيحي السوري ،يرأس مجلس وزراء سوريا فترة من الزمن ،وكان من
ض عنه.
أفضل رؤساء الوزارات ،وكان الوزراء المسلمون على تعاون كامل معه ،وكان جمهور المسلمين را ٍ
وكان من أكثر الناس إيمانا بوجوب تطبيق الشريعة السلمية ،وأنها وحدها القادرة على حّل مشكلت العصر،
وقطع دابر الجرائم ،وقد نقلت بعض أقواله في كتابي )بينات الحل السلمي وشبهات العلمانيين والمتغربين(]
.[3
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1انظر :كتابنا )غير المسلمين في المجتمع السلمي( صـ 51طبعة مكتبة وهبة .القاهرة ،والثرذكره أبو
يوسف في الخراج صـ .26
] -[2انظر :كتابنا )فقه الزكاة( جـ 1صـ 116طبعة مكتبة وهبة .القاهرة.
] -[3صـ 145 – 241طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة ،ومؤسسة الرسالة ببيروت
الدولة السلمية وحقوق النسان
الفصل السادس
ومما أثاره الحداثيون والعلمانيون من يمينيين ويساريين :اّدعاؤهم أن قيام الدولة السلمية التي تحكم
بالشريعة السلمية يتعارض مع ميثاق حقوق النسان ،الذي صدر عن المم المتحدة ،وتلّقاه العالم بالَقبول.
فهم يرون حكم الشريعة السلمية يتعارض مع حقوق النسان في عدة مجالت:
.1منها :مجال الحرية الّدينية ،التي تفرض على من دخل في السلم :أل يخرج منه ،وإل كانت عقوبته القتل
على جريمة الّرّدة عن السلم.
.2ومنها :مجال حقوق المرأة ،التي يجعلها السلم -فيما زعموا -في مرتبة دون مرتبة الرجال ،ومن ذلك:
أنها ل تتزوج إل بإذن وليها ،وأنها إذا تزوجت كان الرجل قواما عليها ،وكان الطلق بيده ،وإذا ورثت كان
ن ]النساء ،[11:ولهذا توقف عدد من الدول السلمية في قبول ظ اُْلْنَثَيْي ِ
حّنصيبها كما قال القرآنِ :للّذَكِر ِمْثُل َ
اتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة.
.3ومنها :مجال حقوق الشواذ والعراة والباحيين ،التي تتعارض مع أحكام الشريعة في تحريم الزواج
المثلي ،وتحريم اللواط والسحاق ،وتحريم الزنى ،والتبرج والخلعة.
عني بالنسان ،وقّرر أن ال كرمهَ :وَلَقْد َكّرْمَنا َبِني آَدَمويهمنا أن نبين في هذا المقام أنه ل يوجد دين كالسلم ُ
]السراء ،[70:وأنه جعله في الرض خليفة ،وأنه سخر له ما في السماوات وما في الرض جميعا منه،
وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة ،وأنه خلقه في أحسن تقويم ،وعلمه البيان ،ومنحه العقل والرادة ،وأنزل له
الكتب ،وبعث له الرسل .كل هذا من كرامته على ال سبحانه.
عني السلم بحقوق النسان التي جعلها في معظم الحيان فرائض وواجبات ،إذ الحق يجوز للنسان أن كما ُ
يتنازل عنه ،أما الفرض والواجب اللزم ،فل يجوز فيه ذلك.
حّكام ...حقوق
وبخاصة حقوق الضعفاء لدى القوياء :حقوق الفرد لدى المجتمع ...حقوق الشعوب لدى ال ُ
لك ...حقوق العمال لدى أرباب العمل ...حقوق النساء لدى
جَراء لدى الُم ّ
الفقراء لدى الغنياء ...حقوق اُل َ
الرجال ...حقوق الطفال لدى الباء والمهات ...حتى حقوق الحيوان لدى النسان!
ونّوع هذه الحقوق بين مادي وعقلي ،وفردي وجماعي ،وآني ومستقبلي ،وجعل من ضمير كل إنسان حارسا
على حقوقه ،يطالب بها ،ويدافع عنها ،ويتعاون مع غيره في الذود عنها .ويهاجر من الرض التي تضيع فيها،
ول يجد له وليا ول نصيرا.
ولقد كتب الكثيرون في موضوع حقوق النسان ،وُأّلفت فيه كتب] ،[1وُقدمت فيه أو في بعضه رسائل جامعية
للماجستير والدكتوراه ،وُأشبع بحثا ودراسة.
ولكني أكتفي هنا بخلصة ذكرتها في كتابي )الثقافة العربية والسلمية بين الصالة والمعاصرة(].[2
وهذه الخلصة مقتبسة من كتاب الستاذ الدكتور محمد فتحي عثمان بعنوان )حقوق النسان بين الشريعة
السلمية والفكر القانوني الغربي( .وهي خلصة علمية موّثقة بالدلة الشرعية والتاريخية المستقاة من
مصادرها الصيلة.
)وفيها بّين أن تقرير حقوق النسان في السلم ،استوعب التجاهات الوضعية كلها قديما وحديثا وتفّوق
عليها ،مؤكدا ما يلي:
أن تقرير حقوق النسان في السلم قد شمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية .1
والجتماعية والقتصادية ،وأّكد الحريات العامة المتنوعة والمساواة.
.2وقد شمل تقرير حقوق النسان في السلم :الرجال والنساء اللئي هن "شقائق الرجال"] ،[3كما ورد
في الحديث ،والطفال وهم )الذرية الضعاف( الذين تمتعوا بالرعاية الشرعية من جانب كل المؤسسات القائمة
في المجتمع السلمي :السرة والجماعة والدولة.
.3كما شمل تقرير حقوق النسان في السلم :المسلمين وغير المسلمين في داخل دولة السلم وخارجها،
جوُكْم ِمنْ ِدَياِرُكْم
خِر ُ
ن َوَلْم ُي ْ
ن َلْم يَُقاِتُلوُكْم ِفي الّدي ِ
ن اّلِذي َ
عِل َ
لن )البر( في السلم إنساني وعالمي :ل َيْنَهاُكُم ا ُّ
ن ]الممتحنة.[8: طي َسِ ب اْلُمْق ِ
ح ّ
ل ُي ِ
ن ا َّ
طوا ِإَلْيِهْم ِإ ّ
سُ
ن َتَبّروُهْم َوُتْق ِ
َأ ْ
.4وحقوق النسان الشاملة في السلم هي في ضمان الفرد والجماعة والدولة على السواء ،لن )المر
ض َيْأُمُرو َ
ن ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ
ت َبْع ُ
ن َواْلُمْؤِمَنا ُ
بالمعروف والنهي عن المنكر( هو واجب هؤلء جميعاَ :واْلُمْؤِمُنو َ
سوَلُه ]التوبة.[71: ل َوَر ُن ا َّطيُعو َ ن الّزَكاَة َوُي ِ
صلَة َوُيْؤُتو َ
ن ال ّ
ن اْلُمْنَكِر َوُيِقيُمو َ
عِن َ
ف َوَيْنَهْو َ
ِباْلَمْعُرو ِ
.5ومما يتجلى فيه تفّوق حكم ال على وضع البشر بالنسبة لتقرير حقوق النسان وحرياته العامة :أن
تقرير الحقوق في السلم يستند إلى )عقيدة اليمان( ،وهي في عمقها وشمولها ودوامها ل تقارن بفكرة
)القانون الطبيعي( أو )العدالة( أو )العقد الجتماعي( أو )المذهب الفردي( ...إلخ .فـ)ال( مصدر تقرير الحقوق
في دين السلم ،حقيقة ثابتة ،ل مجرد افتراض غامض ،والعقيدة في ال ترتكز إلى أصولها في الفكر والنفس،
ولها آثارها الواسعة الشاملة المستمرة في سلوك الفرد والجماعة والدولة.
.6إن استناد تقرير الحق إلى ال عز وجل وشريعته يؤدي إلى اقتران الحق بالواجب ،واقتران حق الفرد
بحق الجماعة ،واقتران الحقوق الفكرية والسياسية بالحقوق الجتماعية والقتصادية .فكل ما هو حق للفرد هو
واجب على غيره :سواء أكان الغير فردا آخر أم الجماعة أم الدولة ،وهكذا ل مجال في المجتمع السلمي
للنانية والفردية ،ففي الحديث" :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه"]" ،[4ل ترجعوا بعدي كفارا
خَوٌة
ن ِإ ْ
يضرب بعضكم رقاب بعض"] ،[5والقرآن يعّبر في جلء أن الخوة ثمرة اليمان الصحيحِ :إّنَما اْلُمْؤِمُنو َ
خَوْيُكْم ]الحجرات.[10:
ن َأ َ
حوا َبْي َ
صِل ُ
َفَأ ْ
.7بل إن تقرير حقوق النسان من ِقَبل خالق النسان عز وجل قد جعل إحقاق الحق واجًبا على صاحب
الحق نفسه ،كما هو واجب على الذي عليه الحق ،فعلى صاحب الحق أن يطالب به ويحرص عليه ،ويناضل
ل أو باغًيا أو غاصًبا .ففي الحديثَ" :من ُقتل دون دمه فهو شهيد ،وَمن ُقتل دون لجله إن كان المانع مماط ً
عرضه فهو شهيد ،وَمن ُقتل دون ماله فهو شهيد"] ،[6والمؤمنون أفرادا وجماعة ودولة في أي مكان
خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي
عَلى اُْل ْ
حَداُهَما َ
ت ِإ ْ
ن َبَغ ْ
مأمورون بمظاهرة صاحب الحق في طلبه والنضال لجلهَ :فِإ ْ
س إنسانيته وفكره ل ]الحجرات .[9:والمؤمن مأمور أّل يفرط في حقوقه ،وبخاصة ما يم ّ حّتى َتِفيَء ِإَلى َأْمِر ا ِّ
َ
واعتقاده ،حتى ولو اضطر إلى ترك الرض التي عاش فيها وارتبط بها وَأِلفها.
وهكذا تكون الهجرة أو )اللتجاء( بالصطلح القانوني المعاصر واجبا على المضطهد وليست حًقا فحسب .كما
أن من واجبه النضال والجهاد حيثما كان.
.8والمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة السلم يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي ،وهو التزام
فّذ يفرضه السلم على الفرد والجماعة والدولة ،وهو واجب ديني شرعي يرتكز إلى العقيدة ،ويتغلغل إلى
أعماق ضمير المؤمن ،وهو مقرون باليمان نفسه في عدد من آيات القرآن.
صل إليه التفكير والتجربة من
.9وإن السلم ليرتضي في مجال الجتهاد والسياسة الشرعية كل ما يتو ّ
إجراءات محكمة مخلصة ناجعة ،لضمان حقوق النسان ومنع المساس بها والعتداء عليها .وفي حدود ما ورد
من نصوص القرآن والسنة وما وقع في تاريخ السلم ،يمكن القول بوجود الضمانات التالية:
واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر الُملَقى على عاتق الفرد والجماعة والدولة في السلم، أ.
والذي يعني حراسة هؤلء جميعا للحق في مختلف صوره ومدافعتهم للبغي في مختلف صوره .ومن الوسائل
التي عرفها تاريخ السلم في هذا الصدد وظيفة الُمحَتسب بالنسبة للحكومة ،ودعوى الحسبة بالنسبة للفراد،
ويمكن إدخال مراقبة رعاية حقوق النسان في نطاق كليهما.
ب .كذلك من اختصاص والي المظالم -وهو اختصاص القاضي قبل ذلك وعندما ل يوجد مثل هذا المنصب-
النظر في تعدي الولة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة .فهذا من لوازم النظر في المظالم التي ل تقف
حا ،وعن أحوالهم مستكشًفا ،ليقويهم إن أنصفوا ،ويكّفهم إن
على ظلمة متظلم ،فيكون لسيرة الولة متصف ً
عسفوا ،ويستبدل بهم إن لم ينصفوا.
عُتْم
ن َتَناَز ْ
ول مانع أن يقوم قضاء داخل الدولة السلمية على أعلى مستوى لحماية حقوق النسانَ :فِإ ْ ج.
سوِل ]النساء.[59:
ل َوالّر ُ
يٍء َفُرّدوُه ِإَلى ا ِّ
ش ْ
ِفي َ
ومن الجراءات المعروفة في شريعة السلم وتاريخه )التحكيم( لمحاولة الصلح بين طرفي النزاع، د.
سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي أو العالمي .والنص صريح في مجال السرة ،ول مانع من تعديته إلى
ن َأْهِلِه
حَكمًا ِم ْ
ق َبْيِنِهَما َفاْبَعُثوا َ
شَقا َ
خْفُتْم ِ
ن ِ
الجماعة داخل الدولة والجماعة النسانية الدولية ،يقول تعالىَ :وِإ ْ
ل َبْيَنُهَما ]النساء.[35:
ق ا ُّ
صلحًا ُيَوّف ِ
ن ُيِريَدا ِإ ْ
ن َأْهِلَها ِإ ْ
حَكمًا ِم ْ
َو َ
والسلم يشرع الجهاد لحماية حقوق النسان ،ومنع استضعافه ،والبغي على ذاته وحقوقه :وََما َلُكْم ل ه.
ن َهِذِه اْلَقْرَيِة
جَنا ِم ْ
خِر ْ
ن َرّبَنا َأ ْ
ن َيُقوُلو َ
ن اّلِذي َ
ساِء َواْلِوْلَدا ِ
جاِل َوالّن َ
ن الّر َ
ن ِم َ
ضَعِفي َ
سَت ْ
ل َواْلُم ْ
سِبيِل ا ِّ
ن ِفي َ
ُتَقاِتُلو َ
ظاِلِم َأْهُلَها ]النساء.[75: ال ّ
وحق الهجرة اللتجاء مكفول للفرد ،للفرار بنفسه وعقيدته وفكره من الضطهاد ،وكل ما يمكن أن و.
يستحدث من وسائل لحماية الحق وكفالة العدل ومقاومة البغي ،فإن السلم يرتضيها ويحتويها].[7
ولكن الذي نؤكده هنا :أن السلم يمتاز عن الفكر الغربي بما قّرره من التوازن بين الحقوق والواجبات.
فالنسان في حضارة الغرب يركض أبدا وراء ما هو له ،ول يهتم كثيًرا بما هو عليه .والنسان في السلم
مشدود إلى ما يجب عليه أوًل ،النسان في نظر الغرب ُمطاِلب سائل ،وفي نظر السلم ُمطاَلب مسؤول .وفرق
ي؟ فالول يدور حول حاجته ،والخر يدور كبير بين الموقفين ،فرق بين َمن يقول :ماذا لي؟ وَمن يقول :ماذا عل ّ
حول قيمة أخلقية .ومن خلل أداء الواجبات ُترعى الحقوق؛ إذ ما من حق لفرد أو جماعة إل كان واجبا على
حّكام ،وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، غيره .فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على ال ُ
وحقوق الولد إنما هي واجبات على الوالدين وهكذا اهـ.
وأما ما قيل من أن هناك بعض القضايا والحكام السلمية تتعارض مع حقوق النسان ،فسنرد عليها واحدة
واحدة:
أما مجال الحرية الّدينية ،فالواقع أن من المبادئ الساسية في السلم ،التي ل يختلف عليها اثنان :أنه }ل
ن ]البقرة.[256: ِإْكَراَه ِفي الّدي ِ
بل ل ُيتصور أن يقبل السلم إيمان امرئ مكره ،لن شرط اليمان أن يكون عن اختيار حر ،واقتناع ذاتي،
ولهذا رفض القرآن إيمان فرعون عند الغرق ،ورفض إيمان المم حين ينزل بها بأس ال وعقوبتهَ :فَلْم َي ُ
ك
سَنا ]غافر.[85 :
َيْنَفُعُهْم ِإيَماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ
حّ
قجاَءُكُم اْل َ
س َقْد َ
شاَء َفْلَيْكُفْر ]الكهفَ ،[29:يا َأّيَها الّنا ُ ن َ ن َوَم ْ شاَء َفْلُيْؤِم ْ
ن َ فحرية العتقاد مكفولة للجميعَ :فَم ْ
عَلْيُكْم ِبَوِكيٍل ]يونس.[108: عَلْيَها َوَما َأَنا َ
ضّل َ
ضّل َفِإّنَما َي ِ
ن َ سِه َوَم ْ ن اْهَتَدى َفِإّنَما َيْهَتِدي ِلَنْف ِ
ن َرّبُكْم َفَم ِ
ِم ْ
أما الكلم عن حرية الرتداد عن الّدين ،فهذا الذي يحتاج إلى بيان .فالسلم ل يريد أن يتخذ الناس الّدين ملعبة،
ن آَمُنوا
عَلى اّلِذي َ
يدخله اليوم ويخرج منه غدا .أو كما قالت طائفة من اليهود في عهد النبوة :آِمُنوا ِباّلِذي ُأْنِزَل َ
ن ]آل عمران.[72:جُعو َ
خَرُه َلَعّلُهْم َيْر ِ
جَه الّنَهاِر َواْكُفُروا آ ِ
َو ْ
وهو هنا ل يحجر على تفكير النسان ،إذا اختار غير السلم ،ولكنه يحجر عليه الدعوة لتكفير غيره ،وإشاعة
الفتنة في صفوف المة .ومن حق كل نظام :أن يضع من التشريعات ما يحميه ،ويوفر له الحياة والبقاء
والنتشار.
والّرّدة إذا انتشرت وأمست جماعية :فإنها تهدد المجتمع كله بالخطر ،ول بد أن تقاوم ،كما قاومها سيدنا أبو
جاح والسودسَبكر والصحابة معه .ولو تركوا هذه الّرّدة وقادتها من المتنبئين الكذابين أمثالُ :مسيِلمة و َ
ث السلم من أصله. وغيرهم ،لجُت ّ
وقد رأينا في عصرنا ماذا فعلت الّرّدة بجماعة من العسكريين الفغان ،أرسلوا في بعثة إلى روسيا ،فاعتنقوا
الشيوعية التي هي ضد السلم ،وضد الديان بصفة عامة ،ثم جاءوا ،فقاموا بانقلب ،واستولوا على الحكم،
وأرادوا فرض النظام الشيوعي على المجتمع الفغاني المسلم ،فرفضهم المجتمع ،وقاومهم بما في يديه من
أسلحة قديمة ضعيفة ،فاستعانت الطائفة المرتدة على قومهم بالسوفييت ،يضربونهم بالطائرات من فوق،
وبالدبابات من تحت ،وقتلوا منهم نحو مليونين ،ول تزال المأساة الفغانية قائمة إلى اليوم ،من جراء تلك الّرّدة
وأهلها!!
والّرّدة ليست مجرد موقف عقلي ،إنها تعني :نقل الولء والنتماء من أمة إلى أمة أخرى مخالفة ،فهي -بمعيار
الّدين -لون من الخيانة ونقض العهد ،كما أن نقل الولء من وطن إلى وطن -بمعيار الوطنية -يعتبر من الخيانة
طى الفرد حق تغيير ولئه لوطنه ،فيصبح موالًيا للدولة المستعمرة ،كأن يصبح العظمى ،ول يقبل أحد أن ُيع َ
الجزائري موالًيا لفرنسا المستعمرة ،أو الفلسطيني موالًيا لسرائيل.
خِعي من
على أن عقوبة المرتد بالقتل ليست أمًرا متفًقا عليه ،فقد جاء عن عمر من الصحابة ،وعن الّن َ
سجن ونحوه .والحوار وطلب التوبة منه دائما].[8
التابعين ،وعن الثوري من الئمة :العقوبة بال ّ
عَرف السلم من مصادره الصيلة :أن السلم أول من حّرر المرأةوأما مجال حقوق المرأة ،فل ينكر أحد َ
وأنصفها وكرمها :إنسانا وأنثى وبنتا وزوجة وأما وعضوا في المجتمع.
وهذا ما قّررته آيات القرآن الكريم ،وأحاديث الرسول القولية ،وسنته العملية ،وما طبقه الصحابة والخلفاء
الراشدون.
ض َيْأُمُرو َ
ن ضُهْم َأْوِلَياُء َبْع ٍ
ت َبْع ُ
ن َواْلُمْؤِمَنا ُ
ويسوي بينهما في الوظائف الجتماعية والسياسيةَ :واْلُمْؤِمُنو َ
ن اْلُمْنَكِر ] ...التوبة ،[71:فالمر بالمعروف والنهي عن المنكر :وظيفة اجتماعية عِن َف َوَيْنَهْو َ
ِباْلَمْعُرو ِ
وسياسية معا.
ن َذَكٍر َأْو ُأْنَثى
عاِمٍل ِمْنُكْم ِم ْ
عَمَل َ
ضيُع َ
ب َلُهْم َرّبُهْم َأّني ل ُأ ِ
جا َ
سَت َ
خلق والتكليفَ :فا ْويسوي بينهما في أصل ال َ
ن الرجل من المرأة ،والمرأة من الرجل ،ل ن َبْعضٍ ]آل عمران ،[195:ومعنى بعضكم من بعض :أ ّ ضُكْم ِم ْ
َبْع ُ
يستغني عنها ،ول تستغني عنه.
وقد كانت المرأة تشارك الرجل في عبادة الصلة في المسجد ،ولها صفوفها خلف الرجال ،وفي جلسات العلم
مشاركة مع الرجال ،ومنفردة بالرسول ،وفي الحج والعمرة ،وفي الغزوات في خدمة الجيش وإسعاف الجرحى،
وفي حمل السيف أحيانا إذا اقتضى الحال.
وكانت تشير على ولي المر بما يأخذ به ول يهمله ،كما فعلت أم سلمة في الحديبية ،وترد على ولي المر
أحيانا ما تراه خطأ ،ولو كان فوق المنبر ،كما حدث في عهد عمر.
وكانت المرأة تعمل محتسبة على السوق- ،كالشفاء بنت عبد ال العدوية في عهد عمر -ليقاف الناس رجال
ونساء عند حدود الشرع في البيع والشراء والتعامل .ووظيفة المحتسب تجمع بين التنبيه والرقابة والتأديب،
ولها سلطة التنفيذ.
وقد أجاز أبو حنيفة أن تعمل المرأة قاضية في غير الجنايات ،وأجاز الطبري والظاهرية :أن تكون قاضية في
كل شيء ،وأن تتولى الوظائف ما عدا المامة العظمى ،أي رئاسة الدولة .بل ربما قيل :إن المامة العظمى
ليست مجرد رئاسة دولة إقليمية ،فهذه أشبه بوالي الولية .أما المامة العظمى -أو الخلفة -فهي رئاسة عامة
على المة السلمية كلها!
وقد أصدرت فتوى منذ سنين وضحت فيها مشروعية قيام المرأة بالدلء بصوتها في النتخاب ،لنه ل يعدو أن
ل ]الطلق ،[2:وإذا كان مطلوبا منها الشهادة في الحقوق شَهاَدَة ِّيكون شهادة ،وال تعالى يقولَ :وَأِقيُموا ال ّ
عوا ]البقرة ،[282:فكيف ل تشهد فيما يتصل شَهَداُء ِإَذا َما ُد ُ
ب ال ّ
الشخصية حتى ل تضيع كما قال القرآنَ :ول َيْأ َ
بحقوق المجتمع أو المة كلها؟
وكذلك أجزت لها أن ترشح نفسها لمجلس الشورى أو النواب إذا كانت أهل لذلك ،ورددت على دعاوى الغلة
والمتشددين في هذا المر].[10
وأما القول بأنه ل يجوز أن تزوج نفسها إل بإذن وليها ،فهذا أمر ليس متفقا عليه ،فمذهب أبي حنيفة
وأصحابه يجيز لها أن تزوج نفسها بمن هو كفء لها .وظاهر القرآن يؤيد ذلك ،حيث نسب النكاح إليها.
ي ليست في الصحيحين ،وهي ليست محل اتفاق بين العلماء. والحاديث الواردة في اشتراط الول ّ
وأما جعل الطلق بيد الرجل ،فلحكمة ل تخفى على المنصف ،وهو أن الرجل أبصر بالعواقب ،وأكثر تحكما من
المرأة في عواطفه ،ومع هذا وضع الشرع قيودا كثيرة على الطلق ،حتى ل يقع إل في أضيق نطاق.
وبعض الفقهاء أعطى المرأة حق طلب أن تكون العصمة بيدها ،إذا أصرت على ذلك ،وَقِبل الرجل ،فتكون هي
صاحبة الحل والعقد في ذلك.
ن َأْهِلَها
حَكمًا مِ ْ
ن َأْهِلِه َو َ
حَكمًا ِم ْ
وإذا لم يكن فقد أعطاها الشرع مقابل الطلق :حق التحكيم عند الخلف َفاْبَعُثوا َ
]النساء ،[35:وحق الخلع ،ومن الفقهاء من يرى إجبار الرجل على قبوله إذا تمسكت به المرأة ،وأنا أرجح
ذلك .وهناك حق القاضي في التطليق للضرر إذا وقع بالمرأة .ومن الفقهاء من أجاز للمرأة أن تشترط في العقد
ما تشاء من الشروط لحفظ حقوقها ،وضمان مستقبلها.
على أن ميثاق حقوق النسان ينبغي أن يقبل في الجملة ،أما في الجزئيات والتفاصيل ،فمن الواجب أن نراعي
خصوصيات المم والقوام ،إذ ل يجوز أن نجبر أمة كبرى )مليار وثلث المليار( على أن تتخلى عن أحكام دينها
وشريعتها من أجل المم المتحدة!!
ولهذا كان للجهات السلمية موقف من اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة ،فقد قبلت أكثَر بنودها،
ورفضت أقّلها ،لنها ل تتفق مع قواطع الحكام ،وثوابت الشريعة.
بقي ما يقال عن موقف السلم المتصلب مما يسمى )حقوق العراة والشواذ( الذي وصفه بعضهم بأنه موقف
عدواني من هذه الفئات ،حيث حرم عليها أن تشبع شهواتها ،كما تريد ،ما دام ذلك بالتراضي .ولماذا يمنع
السلم أن يستمتع الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل كما يشتهيان؟ ولماذا ل يتمتع الرجل بالرجل ،والمرأة
بالمرأة؟ لماذا ل يتزوج كل منهما الخر؟ ويكّونان أسرة مثلية؟!!
وأعتقد أن موقف السلم هنا ليس موقفا منفردا ،فكل الديان السماوية -على القل -تقف موقف السلم ،تحرم
الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،كلها تحرم الزنى أي التقاء الرجل بالمرأة لمجرد الشهوة ،على غير عقد
معلوم مشهود.
ومن قرأ أسفار العهد القديم )التوراة( وجد فيها الوصايا العشر المشهورة) :ل تقتل ،ل تسرق ،ل تزن ](...
،[11فحرم العتداء على النفس بالقتل ،وعلى الموال بالسرقة ،وعلى العراض بالزنى .وكلها تريد أن ترتفع
بالنسان حتى ل يكون عبدا لشهواته ،إنما عليه أن يزكي نفسه ،حتى ترتقي بالفضائل.
وقد جاء في النجيل عن المسيح أنه قال لتلميذه :لقد كان من قبلكم يقولون :ل تزن ،وأنا أقول لكم :من نظر
إلى امرأة يشتهيها بقلبه فقد زنى]![12
حتى النظرة يعتبرها نوعا من الزنى ،وهو يلتقي مع ما جاء به محمد نبي السلم" :العينان تزنيان ،وزناهما
النظر ،واليدان تزنيان ،وزناهما البطش ،والرجلن يزنيان ،وزناهما المشي ،والفم يزني ،وزناه الُقَبل ،والقلب
يهوي ويتمنى ،والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"].[13
كما حرم )الكتاب المقدس( عند المسيحين عمل قوم لوط ،وهو الفاحشة التي ابتكرها هؤلء ،وعبر عنها القرآن
ن ]الشعراء:عاُدو َ
جُكْم َبْل َأْنُتْم َقْوٌم َ
ن َأْزَوا ِ
ق َلُكْم َرّبُكْم ِم ْ
خَل َ
ن َما َ
ن * َوَتَذُرو َ
ن اْلَعاَلِمي َ
ن ِم َ
ن الّذْكَرا َ
بقولهَ :أَتْأُتو َ
.[166،165
وجاء في القرآن كما جاء في التوراة :أن ال عاقبهم عقوبة شديدة ،وأهلكهم ودمر قريتهم عليهم ،تطهيرا
للرض من رجسهم.
فموقف السلم هنا هو موقف اليهودية والمسيحية ،وموقف القرآن هو موقف التوراة والنجيل.
ومن هنا ل يجيز السلم ما يسّمونه الزواج المثلي :الرجل بالرجل ،والمرأة بالمرأة ،فهذا في الحقيقة ليس
جا ،لن الزواج أو الزوجية ل تكون إل بين الشيء ومقابله :الذكر والنثى ،الموجب والسالب ،ل بين زوا ً
ن ]الذريات،[49:
ن َلَعّلُكْم َتَذّكُرو َ
جْي ِ
خَلْقَنا َزْو َ
يٍء َ
ش ْ
ن ُكّل َ
الشيء ومثله ،وهو الذي جاء منه قول ال تعالىَ :وِم ْ
ولهذا كان هذا التصرف ضد الفطرة التي فطر ال الناس عليها ،ولو استسلمت البشرية لهذه النزعة ،لهلك
العالم النساني بعد جيل أو جيلين ،إذ النسل ل يتم إل بالتقاء ذكر وأنثى ،كما تقضي بذلك الفطرة البشرية،
وسنة ال الكونية ،وقوانينه الشرعية.
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1منها كتب د .علي عبد الواحد وافي )حقوق النسان في السلم( ،والشيخ الغزالي )حقوق النسان بين
السلم وميثاق المم المتحدة( ،ود .محمد فتحي عثمان )حقوق النسان بين الشريعة السلمية والفكر
القانوني الغربي( ،ود .القطب محمد طبلّية )السلم وحقوق النسان( ،ود .محمد عمارة بهذا العنوان ،ود.
جمال عطية.
] -[3رواه أحمد في المسند ) (26195عن عائشة ،وقال محققوه :حديث حسن لغيره ،وهذا إسناد ضعيف
لضعف عبد ال وهو ابن عمر العمري ،وأبو داود في الطهارة ) ،(236والترمذي في الطهارة ) ،(113وأبو
يعلى في المسند ) ،(8/149والبيهقي في الكبرى كتاب الطهارة ) ،(1/168وصححه اللباني في صحيح الجامع
).(1983
] -[4رواه البخاري في اليمان ) (13عن أنس ،ومسلم في اليمان ) ،(45وأحمد في المسند )،(12801
والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع ) ،(2515والنسائي في اليمان وشرائعه ) ،(5016وابن ماجه
في المقدمة ).(66
] -[5رواه البخاري في العلم ) (121عن جرير بن عبد ال البجلي ،ومسلم في اليمان ) ،(65وأحمد في المسند
) ،(19167والنسائي في تحريم الدم ) ،(4131وابن ماجه في الفتن ).(3942
] -[6رواه أحمد في المسند ) (1652عن سعيد بن زيد ،وقال محققوه ، :والترمذي في السنة )،(4772
والترمذي في الديات ) ،(1421وقال حديث حسن صحيح ،والنسائي في تحريم الدم ) ،(4094وابن ماجه في
الحدود ) (2580مختصرا ،ورواه البخاري في المظالم ) (2480عن عبد ال بن عمرو ،ومسلم في اليمان )
،(141وأحمد في المسند ) (6522واقتصرا على ذكر المال.
] -[7انظر :حقوق النسان بين الشريعة السلمية والفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان صـ
،192 – 174طبع دار الشروق .القاهرة.
] -[8انظر :كتابنا )جريمة الردة وعقوبة المرتد( من سلسلة )رسائل ترشيد الصحوة( صـ 44وما بعدها.
] -[9انظر :كتابنا )مركز المرأة في الحياة السلمية( من رسائل ترشيد الصحوة ،والحديث سبق تخريجه.
] -[13رواه أحمد في المسند ) (8356عن أبي هريرة ،وقال محققوه :إسناده صحيح على شرط مسلم ،وأبو
داود في النكاح ) ،(2153وأبو يعلى في المسند ) ،(11/309وابن حبان في صحيحه كتاب الحدود )(10/267
والبيهقي في الكبرى كتاب النكاح ).(7/89
الباب الرابع
الفصل الول
نخصص هذا الفصل لمناقشة بعض اللبراليين الجدد :الذين يّدعون أن العلمانية هي الحل!
والعلمانية :فكرة جديدة – أو ُقل :دخيلة -على المجتمعات السلمية! لم يعرفها المسلمون طوال تاريخهم
المديد ...ومعنى العلمانية :فصل الدين عن المجتمع والدولة .فهي فكرة غريبة لحما ودما.
وقد تحدثنا عن العلمانية في عدد من كتبنا ،منها ما سجلته في سلسلة):حتمية الحل السلمي( ول سيما في
الجزء الول منها ):الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا( ،ومنها الجزء الثالث ):بّينات الحل السلمي
وشبهات العلمانيين والمتغربين( ،ومنها الجزء الرابع):أعداء الحل السلمي( ومنهم :عبيد الفكر الغربي،
والعلمانيون في طليعتهم.
كما ألفت في مناظرة العلمانيين كتابي):السلم والعلمانية وجها لوجه( ،وكتابي الخر):التطرف العلماني
ومواجهة السلم :نموذج تركيا وتونس(.
وفي هذه الكتب كلها؛ بينت نشأة هذه العلمانية في أوربا ،وأنها كانت ضرورة ل بد منها لنجاح مسيرة التحرر
والتقدم للنهضة الوربية.
دعوى بعض الحداثيين والليبراليين الجدد :أن العلمانية هي الحل أو هي العلج الكافي ،والدواء الشافي،
لمعضلت مجتمعاتنا العربية والسلمية ،وليس )السلم هو الحل( كما تنادي بذلك تيارات ضخمة في أوطاننا،
فهذه دعوى متهافتة ،ويكفي أنها مرفوضة من أغلبية المة ،التي ترى فيها عدوانا على شريعتها ،ومناقضة
لمسلماتها.
كما ترى أنها دعوى دخيلة عليها ،ليس بها حاجة إليها ،إنما قامت العلمانية في الغرب لسباب تاريخية
معروفة ،تتمثل في تحّكم الكنيسة الغربية ورجالها في الدولة ،وفي حياة الناس ،وتسلطها عليهم في الرض
باسم السماء ،وليس من حق أحد أن يحاسبهم أو ينتقدهم ،فلهم من )القداسة( ما يحول دون ذلك.
عا بذلك ،وبدأ عصر التنوير ،ثار الناس على جمود الكنيسة وطغيانها ،ومحاكم تفتيشها
وعندما ضاق الناس ذر ً
وما اقترفت من مظالم وجرائم في حق العلم والعلماء .ووقوفها مع الملوك ضد الشعوب ،ومع القطاعيين ضد
الفلحين ،ومع الخرافات ضد العلم ،ومع الظلم ضد النور ،وأسقطوا حكم الكنيسة الذي كان يحكم تحت غطاء
الّدين ،وكان هذا أمرا ل بد أن يحدث ،لنه يتماشى مع سنن ال في الكون والمجتمع.
نحن في السلم ليس لدينا كنيسة ،ول سلطة دينية كهنوتية ،ول كاهن يتحكم في ضمائر الناس ،ويحتكر
الوساطة بيننا وبين ربنا ،بل ليس عندنا طبقة كهنوتية تسمى )رجال الّدين( يجب أن نذهب إليهم إذا أذنبنا،
ونعترف لهم بما اقترفنا ،ونلتمس منهم الغفران لخطايانا ،وإل هلكنا! بل المقّرر عندنا أن كل الناس رجال
ن ُكّل ِفْرَقٍة ِمْنُهْم
لدينهم .عندنا فقط علماء يخدمون الّدين بما تعلموه وفقهوه .كما قال ال تعالىَ :فَلْول َنَفَر ِم ْ
ن ]التوبة.[122: حذَُرو َ
جُعوا ِإَلْيِهْم َلَعّلُهْم َي ْ
ن َوِلُيْنِذُروا َقْوَمُهْم ِإَذا َر َ
طاِئَفٌة ِلَيَتَفّقُهوا ِفي الّدي ِ
َ
ل حاجة لنا إذن إلى العلمانية التي تعني تاريخيا :التحّرر من سلطان الكنيسة ،التي ل وجود لها عندنا.
ل( لمشكلة المجتمع الوربي ،وكانت ضرورة ليصل إلى التحّرر المنشود .ولكنها عندنا ليست
العلمانية كانت )ح ّ
ضرورة ،بل ضررا ،وليست حل بل مشكلة.
وقد ناقشت قضية )العلمانية( وصلتها بالسلم في أكثر من كتاب لي ،منها) :السلم والعلمانية وجها لوجه(
و)التطرف العلماني في مواجهة السلم( و)بينات الحل السلمي وشبهات العلمانيين والمتغربين( .ول أريد أن
أعيد بحثها هنا اليوم .فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب.
ولكني أكتفي هنا ببعض النقول من مفكَرين مدنّيين ليسا محسوبين على علماء الّدين ،حتى يتهموا بالتعصب
والنغلق ،ومعاداة الغرب ...إلخ.
يسرني أول أن أنقل هنا :ما كتبه المفكر المغربي د .محمد عابد الجابري عن )العلمانية( أو )اللئكية( التي
يطرحها بعضهم كمرتكز للتغيير والصلح في وطننا العربي ،ويرى الجابري :أن العلمانية طرحت في بعض
المراحل لسباب لم تعد قائمة اليوم .فقد طالب بها نصارى الشام حين أرادوا الستقلل عن الدولة العثمانية.
فعبروا بذلك عن إرادتهم الستقلل عن الترك.
وحين تبنى الفكر القومي العربي شعار العلمانية :كانت دللته ملتبسة بمضمون شعار الستقلل والوحدة .ذلك
باختصار هو الطار الصلي الذي طرح فيه شعار العلمانية في بلد الشام )سورية الكبرى(.
ول بد من ملحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي ،ول في بلدان الجزيرة ،ولربما لم يرفع
بمثل هذه الحدة في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة ...وعندما استقلت القطار العربية ،وبدأ التنظير
صا في القطار العربية التي توجدلفكرة العروبة و)القومية العربية( ،طرح شعار )العلمانية( من جديد ،وخصو ً
فيها أقليات دينية )مسيحية بصفة خاصة(.
وهذا الطرح كان يبّرره شعور هذه القليات بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون
الغلبية الساحقة فيها من المسلمين ،الشيء الذي قد يفرز من جديد وضعا شبيًها بالوضع الذي كان قائما خلل
الحكم العثماني .وإذن فالدللة الحقيقية لشعار )العلمانية( ،في هذا الطار الجديد ،إطار التنظير لدولة الوحدة
كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق القليات الّدينية ،وبكيفية خاصة حقها في أن ل تكون محكومة
بدين الغلبية ،وبالتالي فـ)العلمانية( على هذا العتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلني
وليس على أساس الهيمنة الّدينية .وفي خضم الجدل السياسي اليديولوجي بين الحزاب والتيارات الفكرية،
عّبر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة )فصل الّدين عن الدولة( ،وهي عبارة غير مستساغة إطلقا في مجتمع
إسلمي ،لنه ل معنى في السلم لقامة التعارض بين الّدين والدولة .إن هذا التعارض ل يكون له معنى إل
حيث يتولى أمور الّدين هيئة منظمة تّدعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس ،في مقابل
سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية :الدولة.
ثم يقول الجابري :مسألة )العلمانية( في العالم العربي مسألة مزيفة ،بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين
غير متطابقة مع تلك الحاجات :إن الحاجة إلى الستقلل في إطار هوية قومية واحدة ،والحاجة إلى
الديمقراطية التي تحترم حقوق القليات ،والحاجة إلى الممارسة العقلنية للسياسة ،هي حاجات موضوعية
فعل ،إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي ،ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها ،بل مشروعيتها
عندما يعّبر عنها بشعار ملتبس كشعار )العلمانية(.
وما نريد أن نخلص إليه هو :أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه ،بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة
للحاجات الموضوعية المطروحة .وفي رأيي :أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي
وتعويضه بشعاري )الديمقراطية( و)العقلنية( ،فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي:
الديمقراطية تعني حفظ الحقوق :حقوق الفراد وحقوق الجماعات ،والعقلنية تعني :الصدور في الممارسة
السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والخلقية ،وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج.
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،فإنه ل الديمقراطية ،ول العقلنية ،تعنيان بصورة من الصور :استبعاد
السلم ،كل .إن الخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول :إنه إذا كان العرب هم )مادة السلم(
حًقا ،فإن السلم هو روح العرب .ومن هنا ضرورة اعتبار السلم مقّوًما أساسّيا للوجود العربي :السلم
الروحي بالنسبة للعرب المسلمين ،والسلم الحضاري بالنسبة للعرب جميًعا مسلمين وغير مسلمين.
إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلنية ،بدل مبدأ العلمانية ،وإحلل السلم المكانة
التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة ،تلك من جملة السس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء
الفكر القومي العربي ،الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج][1
اهـ.
أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى )العلمانية(:
وما نادي به المفكر المغربي الدكتور الجابري من وجوب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي
المعاصر ،نادى به كذلك من ِقَبل مفكر مصري ،هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد ،وذلك في ورقته التي قدمها
في ندوة )السلم والقومية العربية( ،التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة ،والتي شارك فيها
عدد ل بأس به من الباحثين والمفكرين العرب من القوميين والسلميين.
)والقوميون العرب مطالبون فوق ذلك بإسقاط الدعوة إلى )علمنة القومية( وموضوع )العلمانية( موضوع
دقيق ويحتاج إلى دراسة مستقلة .والعلمانية مصطلح نلح بشدة على تغييره والعدول عنه ،لشدة غموضه أوًل،
ولشتماله على إيحاءات غير صحيحة تتعّلق بالتقابل والتناقض بين الّدين والعلم.
ويجمع البعض هذين العنصرين في عبارة واحدة هي) :حياد الدولة تجاه الّدين ،كل دين ،بحيث ل تلزم الدولة
نفسها بأي معتقد ديني أو دين ،ول تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص به(].[2
.4تطوير الوضاع والنظمة الجتماعية على أساس عقلني مستمد من التجربة والنظر العقلي ،بعيدا عن
النصوص والمبادئ الّدينية.
إن فيما يسمى العلمانية عناصر ل نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع السلم ،كاعتبار السلطة السياسية ذات
أساس مدني مستمد من رضا المحكومين ،ونفي الصفة الثيوقراطية عنها .وكالتسليم بحق أتباع الديانات
المختلفة في ممارسة شعائرهم الّدينية بحرية ،إل إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والداب العامة .وهي فكرة
ترتبط )بالدولة( ول ترتبط )بالسلم( ...
أما قضية فصل الّدين عن الدولة ،بمعنى إقصاء الّدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع ،فإنها
المكّون الرئيسي من مكونات )العلمانية( الذي ل يسع مسلما قبوله.
ودون توسع في عرض هذه المشكلة :نلحظ مع كثير من الباحثين :أن الدعوة إلى )العلمانية( في إطار التوجه
القومي ،تخلق من المشاكل والصعاب أكثر كثيرا مما تحل وتحسم .إنها في الحقيقة تلبي حاجة واحدة ،هي
حاجة القليات المسيحية في الوطن العربي للشعور بالطمئنان ،وبالمساواة داخل المجتمع العربي المسلم،
ولكنها:
أوًل :ل تنشئ موقفا حيادًيا بين الديان .إذ هي من وجهة نظر المسيحية تتفق تماما مع قاعدة )أعطوا ما ل ل
وما لقيصر لقيصر( ...ولكنها تضع العربي المسلم في تناقض مع شمول السلم وتنظيمه الواضح -إجماًل
وتفصيل -لمور المجتمع .وبذلك تكون الدعوة إلى العلمانية -في الواقع -منحازة لرؤية القلية الّدينية على
حساب رؤية الغلبية.
ثانًيا :إنها تستعير صيغة مستمدة من تاريخ الصراع بين الكنيسة والدولة في أوربا وتحاول فرضها على
مجتمع ل يعرف تاريخه صراعا مشابها.
إن الدعوة إلى )علمنة( القومية ...وعلمنة )الدولة( في هذا الوقت بالذات ،مسلك بعيد تماًما عن الحكمة ،ما
دام مصطلح )العلمنة ،والعلمانية( يحمل في ثناياه هذه المكونات التي يتعارض بعضها مع أساسيات التصور
السلمي العام.
إن إيجاد المخرج النفسي والجتماعي للقليات المسيحية في المجتمعات العربية ل يجوز أبًدا أن يتم من خلل
صيغة تحمل كل هذه المحاذير ،وتهدد بوضع التوجه القومي كله في صراع مع التوجه السلمي ،الذي تتعاظم
موجته ،ويزداد أنصاره عدًدا وقوة.
إن ملف )العلمانية( ينبغي أن يفتح ،ومكوناتها تحتاج إلى تحديد وإعادة نظر ،واستعمالها كمصطلح ،والدعوة
إليها :يحسن -فيما نرى -أن تتوقف(].[3
وبهذا اتفقت دعوة أبو المجد في المشرق ،ودعوة الجابري في المغرب ،على استبعاد شعار العلمانية من
قاموس دعاة العروبة ،لنه يهدم أكثر مما يبني ،ويثير من الشكالت أكثر مما يقدم من حلول .ثم هو مرفوض
أصل من أغلبية المة ،التي تراه متعارضا مع دينها وتراثها.
رأينا اتفاق الدكتور أحمد كمال أبو المجد من المشرق العربي ،والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب
العربي ،على ضرورة تخلي دعاة القومية عن شعار العلمانية ،الذي لم يعد له مبّرر في حياتنا الحاضرة ،ودعا
كل منهما إلى ضرورة التنادي بأمرين أساسيين ،ل تستطيع المة أن تنهض وتتقدم بغيرهما ،وهما :العقلنية
والديمقراطية.
وأنا أؤيدهما في هذه الدعوة المخلصة ،بشرط أن نفسر بجلء المقصود من كل منهما.
العقلنية المنشودة:
أما )العقلنية( فنحن نرحب بها ،لكن هذه المصطلحات باتت لها )مفهومات( عند الغربيين ،تختلف كثيًرا أو
ل عما ندركه نحن منها.
قلي ً
فالعقلنية عند الغربيين :اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في َفهم الكون والنسان والحياة في مقابل
س( أو )الّتجِربة( ،فالعقليون لهم وجهتهم وطريقهم ،والتجريبيون لهم وجهتهم وطريقهم.
)الح ّ
وقد يكون هذا التجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى ،مثل الوحي عند الكتابيين
)اليهود والنصارى والمسلمين( ،ومثل الذين يعتمدون على اللهام والذوق من الصوفية ،والباطنية وغيرهم.
فالعقلنية هنا تعني :المادية والحسية.
وقد تستعمل العقلنية في المذهب الذي يرى أنه ل يجوز الوثوق إل بالعقل ،ول يجوز التسليم إل بما يعترف به
العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي )الفطري( .وهذا ما يقول به الّدينيون ،فل يرون تعارضا بين العقل
والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية .وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور ،أي للصوفية]
.[4
وقد تستخدم )العقلنية( في مقابلة التجاه إلى تصديق الخرافات والوهام والشعوذة ،وهذا ما يرحب به كل
مؤمن وكل عاقل.
وإذا نظرنا إلى العقلنية عندنا -نحن العرب والمسلمين -نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى )مصدًرا
صناعًيا( منسوبا إلى العقل ،زيدت فيه اللف والنون ،كما زيدت في نحو الربانية ،نسبة إلى الرب ،والروحانية
نسبة إلى الروح.
ولم يستخدم هذا التعبير ) العقلنية( -فيما أعلم -في تراثنا ،ولكن التجاه العقلي -بصفة عامة -معروف في
عرف به علماء الكلم عامة ،والمعتزلة منهم خاصة. عرف به الفلسفة ،و ُ تراث المةُ ،
وهناك فرق كبير بين الفلسفة والمتكلمين -ومنهم المعتزلة -فالفلسفة ينطلقون من مجرد العقل ،والمتكلمون
ينطلقون من العقل المؤمن بالّدين.
على أن قولنا :أن الفلسفة ينطلقون من مجرد العقل ،قد ُيعترض عليه معترضون كثيرون ،فإنهم ينطلقون من
العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية ،ول سيما فلسفة أرسطو طاليس ،الذي سّموه المعلم الول ،وأضفوا على
مقولته هالة من التقديس ،حتى إذا تعارض مع قواطع القرآن؛ أولوا القرآن ليتفق مع ما قرره أرسطو ،فكان
أرسطو هو الصل ،والقرآن تابع!!
على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع ،فالمتكلمون -حتى الشاعرة والماتريدية منهم -يعتبرون العقل
سس الدين .فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الّدين: أساس النقل ،فلول العقل ما قام النقل ول ثبت الوحي ،ول تأ ّ
قضية وجود ال تعالى ،وقضية إثبات النبوة ،فإثبات النبوة ل يتّم إل بالعقل عن طريق اليات البينات ،التي يؤيد
ال بها رسله ،ومنها :المعجزة .فالعقل هو الداة الوحيدة لثبات الوحي ،أو نبوة النبي ،فإذا أثبت العقل النبوة
بطريق قطعي :عزل العقل نفسه – كما يقول المام الغزالي – ليتلقى بعد ذلك عن الوحي ،ويقول :سمعنا
وأطعنا.
ث من آيات دالة في النفس والفاق ،ول زال ُيري خلقه من هذه اليات ما وال سبحانه قد دّلنا على نفسه بما ب ّ
ق ]فصلت.[53: حّ
ن َلُهْم َأّنُه اْل َ
سِهْم حَّتى َيَتَبّي َ
ق َوِفي َأْنُف ِ
لَفا ِ
سُنِريِهْم آَياِتَنا ِفي ا ْ
يبهر العقول ،ويبّين الحقَ :
ض على الرجوع إليه ،وذّم الذين يعطلونه بالجمود ول تجد كتابا دينيا -غير القرآن -كّرم العقل ،وأشاد به ،وح ّ
أو التقليد ،أو اتباع الظنون والهواء .كما حفل بكل المفردات من )عائلة العقل( مثل :التفّكر والنظر والتدّبر
جة والحكمة والتعّلم والتفّقه والتذّكر.
والعتبار ،والبرهان والح ّ
وإن كان مما يؤسف له :أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غّيبوا عقولهم ،واستسلموا للوهام أو
الجهالت ،أو ألَقوا عقولهم وغَدوا يفكرون بعقول الموتى.
والعقلنية التي ننشدها ل تحتاج إلى تفلسف ول معاناة في تعريفها .إنها ببساطة تعني :أن نعتمد على عقولنا
في تسخير قوى الكون لصالحنا ،والنتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا ،والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة
التقدم ،واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة ،وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة ،والنسانية عامة .وأن
تكون هذه منهجية المة في تعليمها وثقافتها وإعلمها.
وليس هذا جديدا على أمتنا ،فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم واليمان ،وبين البداع المادي والسمو
الروحي والخلقي ،ولم يعرف في تاريخها صراع بين الّدين العلم ،بل كان الّدين عندها علما ،والعلم عندها
دينا.
وقد شارك رجال كبار من علماء الّدين في علوم الكون والطبيعة مثل :ابن رشد الحفيد ،والفخر الرازي ،وابن
النفيس ،وغيرهم.
وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة ،والنظر في آيات ال في الفاق والنفس عبادة ،ويعمل
قرآنه على إنشاء العقلية العلمية ،ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق ،وينادي بإقامة البرهان
في كل دعوى] .[5ويرى علماء الشريعة فيه :أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على المة في مجموعها ،مثل
خلق ،فقد رفع
علوم الّدين .فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي ،يلبي الحاجة ،ويغطي مطالب ال َ
عنها الثم والحرج ،وإل باءت المة كلها بالثم.
تأكيد ما ذكرته من قديم في كتابي) :الحل السلمي فريضة وضرورة( وبعد ذلك في كتابي) :أولويات الحركة
السلمية( في فصل )فكر علمي( وهو :أن يسود )التفكير العلمي( و)الروح العلمية( مسيرتنا كلها.
نريد أن يسود) :التفكير العلمي( ،وتسود )الروح العلمية( :كل علقاتنا ومواقفنا وشؤون حياتنا ،بحيث ننظر
إلى الشياء والشخاص والعمال ،والقضايا والمواقف) :نظرة علمية( ،ونصدر قراراتنا الستراتيجية
والتكتكية ،في القتصاد والسياسة والتعليم وغيرها :بعقلية علمية ،وبروح علمية ،بعيًدا عن الرتجالية،
والذاتية ،والنفعالية ،والعاطفية ،والغوغائية ،والتحكمية ،والتبريرية :التي تسود مناخنا اليوم ،وتصبغ
تصرفاتنا إلى حد بعيد .فمن سلم من أصحاب القرار من اّتباع هواه الشخصي ،أو هوى فئته وحزبه :كان أكبر
همه اّتباع ما يرضي أهواء الجماهير ،ل ما يحّقق مصالحها ،ويؤّمن مستقبلها ،في وطنها الصغير ،ووطنها
الكبير ،والكبر.
و)للروح العلمية( دلئل ومظاهر أو سمات ،كنت أشرت إليها ،أو إلى أهمها في كتابي) :الحل السلمي فريضة
وضرورة( ،في مجال )النقد الذاتي( للحركة السلمية ،يحسن بي أن ُأذّكر بها هنا ،في مجال تأكيد حاجة المة
إليها ،وفي بعض العادة إفادة.
.1النظرة الموضوعية :إلى المواقف والشياء ،والقوال ،بغضّ النظر عن الشخاص ،كما قال علي بن أبي
طالب :ل تعرف الحق بالرجال ،أعرف الحق تعرف أهله].[6
.3القدرة على نقد الذات ،والعتراف بالخطأ ،والستفادة منه ،وتقويم تجارب الماضي تقويما عادًل ،بعيًدا عن
النظرة )الَمْنَقِبّية( :التي تنظر إلى الماضي عبى أنه كله مناقب وأمجاد! أو النظرة )التبريرية( :التي تحاول أن
تبرر كل خطأ أو انحراف ،ولو بطريقة غير مقبولة ،ل شرعا ول وضعا.
.4استخدام أحدث الساليب وأقدرها على تحقيق الغاية ،والستفادة من تجارب الغير حتى الخصوم ،فالحكمة
ضالة المؤمن ،أنى وجدها :فهو أحق الناس بها] .[7وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والليات ،كالتقنيات ونحوها،
سَعة من استخدامها :ما دامت تخدم مقاصدنا وغايتنا الشرعية.
فنحن في َ
.5إخضاع كل شيء -فيما عدا الُمسّلمات الّدينية والعقلية :للفحص والختبار ،والرضا بالنتائج :كانت للنسان
أو عليه.
.6عدم التعجل في إصدار الحكام والقرارات ،وتبّني المواقف :إل بعد دراسة متأّنية مبنية على الستقراء
والحصاء ،وبعد حوار بّناء ،تظهر معه المزايا ،وتنكشف المآخذ والعيوب.
.7تقدير وجهات النظر الخرى ،واحترام آراء المخالفين في القضايا ذات الوجوه المتعددة ،في الفقه وغيره،
ما دام لكل دليله ووجهته ،وما دامت المسألة لم يثبت فيها نص حاسم يقطع النزاع ،ومن المقّرر عند علمائنا:
أن ل إنكار في المسائل الجتهادية ،إذ ل فضل لمجتهد على آخر ،ول يمنع هذا من الحوار البّناء ،والتحقيق
العلمي النزيه :في ظل التسامح والحب.
.8أن تتكون لدى أجيالنا خاصة) :العقلية العلمية( ،التي حرصت تعاليم القرآن على إنشائها وتكوينها لدى
المسلم .ل )العقلية العامية( الخرافية ،التي تقبل كل ما ُيلقى إليها ،ولو كان من الباطيل والوهام].[8
.9وإذا كانت العقلنية مطلوبة في َفهم الحياة وسننها ،فهي مطلوبة كذلك في َفهم الّدين وأحكامه ،فليس هناك
دين منطقي يقوم على مخاطبة العقل ،ويعلل أحكامه وتشريعاته ،وأوامره ونواهيه ،كدين السلم .وهو ل
يتعارض فيه نقل صحيح مع عقل صريح .وما ظنه بعض الناس كذلك فهو مرفوض ،ول بد أن يكون ما حسب
من العقل ليس بعقل في الواقع ،أو ما حسب من الّدين ليس بدين في الحقيقة.
ت ِلَقْوٍم
ليا ِ
صْلَنا ا ْ
ث عليه القرآن من قديم حين قالَ :قْد َف ّ وطالما نادينا علماء المة أن يركنوا إلى )فقه جديد( ح ّ
ن ]النعام ،[65:ووصف القرآن الذين كفروا ت َلَعّلُهْم َيْفَقُهو َ
ليا ِ
فا ْ
صّر ُ
ف ُن َ
ظْر َكْي َ
ن ]النعام ،[98:اْن ُ َيْفَقُهو َ
ن ]الحشر .[13:والمراد ك ِبَأّنُهْم َقْوٌم ل َيْفَقُهو َ
ن ]النفال ،[65:كما وصف المنافقين بقولهَ :ذِل َ بأنهم :ل َيْفَقُهو َ
بهذا الفقه :فقه سنن ال في الكون والمجتمع ،وآياته في النفس والفاق.
ونحن ندعو في فقه الّدين فقها نّيرا صحيحا ،إلى أنواع من الفقه ل بد منها ،لتهتدي المة صراطا مستقيما.
منها :فقه مقاصد الشريعة ،وعدم الوقوف عند ظاهر النص وحرفيته ،ووجوب الغوص على الحكم والسرار
التي هدف النص إلى تحقيقها بما فيها مصالح العباد في الدنيا والخرة].[9
ومنها :فقه المآلت ،أي النتائج والثار التي تترتب على الحكم أو التكليف ،فقد ينتهي ذلك إلى المنع من أمر
عْدوًا
ل َ
سّبوا ا َّ
ل َفَي ُ
ن ا ِّ
ن ُدو ِ
ن ِم ْ
عو َ
ن َيْد ُ
سّبوا اّلِذي َ
مباح ،لما قد يؤدي إليه من مفسدة ،كما يشير إليه قولهَ :ول َت ُ
عْلٍم ]النعام.[108:
ِبَغْيِر ِ
ي الغارة ،حينماومما نأسف له :أن هذا الفقه غاب عن بعض إخواننا من أهل العلم الشرعي ،الذين شنوا عل ّ
ذهبت مع وفد من العلماء والدعاة إلى دولة أفغانستان لمقابلة علماء )طالبان( لنقنعهم بترك تماثيل بوذا ،التي
صمموا على هدمها وإزالتها .وكان هدفنا :الدفاع عنهم قبل كل شيء ،ل الدفاع عن التماثيل والصنام ،كما
اتهمنا من اتهمنا بأننا جئنا لنحمي الصنام ،ولندافع عنها.
ونحن لم يكن همنا إل الدفاع عن إخواننا ،الذين عاداهم أهل الغرب ،فأردنا إل يستعدوا عليهم أهل الشرق ،من
أتباع بوذا ،وهم بمئات المليين .ول سيما أن هذه الصنام كانت موجودة عند الفتح السلمي وبعده بقرون،
فلم يفكر أحد في إزالتها ،أو تشويهها ،ويسعنا ما وسعهم.
وقد اقترح بعض الصحابة على النبي :أن يقتل رأس النفاق في المدينة :عبد ال بن ُأَبي ومن معه ،ويستريح
من شرهم وكيدهم ،فكان جوابه :أخشى أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه!!
أي أنه خشي من حملة إعلمية يقودها خصومه ،تشوه ما فعله الرسول ،وتصوره بصورة سيئة تخّوف الناس
من محمد الذي ل يأمن أحد على نفسه عنده حتى أصحابه.
وهناك :فقه الموازانات ،وفقه الولويات ،وفقه الختلف .وكلها ألوان ضرورية من الفقه المطلوب .وكلها
توحي بتحّرر الفكر السلمي والفقه السلمي من الجمود والتقليد ،والتمسك بفتاوى وأحكام صنعها )العقل
المسلم( لزمنه وبيئته وحل مشكلته ،فلم تعد تلزمنا اليوم ،لتغير الزمان والمكان والنسان.
إن على الفقيه المسلم اليوم :أن ينظرفي الفقه الموروث] [10نظرة عميقة جديدة ،ليتخير منه ما يلئم عصرنا
ومحيطنا ،ويعزل ما كان ابن مكانه وزمانه ،وأن يقف مع الراء المختلفة والمذاهب المتنوعة :وقفة الموازنة
والمقارنة بين الدلة :ليختار منها ما كان أقوم قيل ،وأهدى سبيل ،وأرجح دليل ،مراعيا مقاصد الشرع،
خلق ،ول يتعبد ببعض السماء والمصطلحات التي لم يعد لها قبول في عصرنا ،مثل مصطلح )أهل ومصالح ال َ
الذمة( أو )الجزية( فالمدار على المسميات ل على السماء .وقد قال علماؤنا :العبرة في العقود للمقاصد
والمعاني ل لللفاظ والمباني.
ولننظر فيما سماه القدمون )جهاد الطلب( وهو يقوم على التوسع والتوغل في أرض العداء ،من باب ما
يسمونه الن :حرب الوقاية ،فلم نعد في حاجة إليه اليوم ،بعد ميثاق المم المتحدة ،واتفاق العالم على احترام
حدود الدول القليمية ،والعمل على حّل مشاكل النزاع فيما بينها بالوسائل السلمية.
وإن قال بعضهم :إن المقصود بهذا الجهاد نشر السلم ،فإنا نستطيع نشر السلم بوسائل غير عسكرية ،مثل
الذاعات الموجهة ،والقنوات الفضائية ،والنترنت وغيرها .فنحن في حاجة إلى جيوش جرارة من المعلمين
والدعاة والعلميين المدربين على مخاطبة المم بألسنتها المختلفة ليبينوا لهم ،وليس عندنا واحد من اللف
من المطلوب منا!!
وعليه أن ينظر في المور المستجدة -وما أكثرها -في ضوء فقه الواقع ،موازنا بين النصوص الجزئية
والمقاصد الكلية للشريعة ،فل يهمل النصوص الجزئية ،كما يدعو إلى ذلك العلمانيون والحداثيون ،ول يغفل
ن بفقه الصحابة رضي ال عنهم ،الذين كانوا المقاصد الكلية ،كما يدعو إلى ذلك الحرفيون والجامدون .وليست ّ
أفقه الناس للسلم ،وأفهمهم لروحه ،وأعرفهم بمقاصده ،وأبصرهم بحاجات الناس ،ومصالح العباد ،وأكثرهم
ل ِبُكُم
ج ]الحج ،[78:وُيِريُد ا ُّ
حَر ٍ
ن َ
ن ِم ْ
عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ
جَعَل َ
خلق ،مهتدين بالمنهج القرآنيَ :وَما َ تيسيرا على ال َ
سَر ]البقرة ،[185:وبالمنهج النبوي" :يسروا ول تعسروا ،وبشروا ول تنفروا"].[11 سَر َول ُيِريُد ِبُكُم اْلُع ْ
اْلُي ْ
ومن أغرب ما قرأت من دعاوي العلمانيين والحداثيين :ادعاؤهم أن العلمة الكبير أبا الوليد بن رشد الحفيد )ت
595هـ( كان علمانيا!! لنه كان يؤمن بأن هناك حقيقتين في الوجود :حقيقة عقلية تتضمنها الفلسفة ،وحقيقة
دينية جاء بها الوحي ،وأن لكل منهما مجاله وأهله .ولهذا حاربه الفقهاء ،ووجد من السلطين ورجال الُملك
من أمر بإحراق كتبه.
وهذه إحدى دعاوى القوم الذين لم يحسنوا قراءة ابن رشد ،ولم يستوعبوا تراثه ،ولم يعرفوا ماذا كان عمله
في المجتمع.
لقد جهل هؤلء أن ابن رشد يعرف بـ)القاضي ابن رشد( ،أي أن الدولة وظفته قاضيا يحتكم إليه الناس ،فيحكم
بينهم بأحكام الشريعة .وأن هذا الرجل كان من الموسوعيين القلئل الذين عرفهم تاريخنا ،فقد اجتمعت له:
) -1الثقافة الشرعية( التي مثلها كتابه الفريد )بداية المجتهد ونهاية المقتصد( وهو يعد من أعظم ما كتب في
الفقه المقارن بين المذاهب المتبوعة .وقد درس الفقه عن أبيه وجده سميه )ابن رشد الجد( صاحب المقدمات
والبيان والتحصيل ،وأحد العقول الكبيرة في الفقه المالكي.
) -2الثقافة الفلسفية( ،فهو يعد أعظم شراح أرسطو ،ومن خلل شروحه عرفت أوربا أرسطو ،واستفادت بذلك
في نهضتها .وله كتابان من أعظم ما كتب فيما يسمى )الفلسفة السلمية( وهما :فصل المقال ،وكشف الدلة
عن مناهج أهل الِمّلة.
) -3الثقافة العلمية( الطبية ،فقد كان الطب أحد شعب الفلسفة ،وكان ابن رشد أبرز المشاركين فيه ،إذ كان له
كتاب )الكليات( في الطب ،الذي ترجم إلى اللتينية ،وانتفعت به أوربا قرونا ،وله رسائل أخرى في المجال
العلمي].[12
ولم يكن يجد ابن رشد في هذه الثقافات تعارضا ول تناقضا ،بل رآها يغذي بعضها بعضا ،ويكمل بعضها بعضا،
ولم يثر ابن رشد الفيلسوف على ابن رشد الفقيه ،ول العكس .ولم يقل يوما :إن هناك حقيقتين مختلفتين أو
متعارضتين :إحداهما فلسفية ،والخرى شرعية ،بل كان يراهما حقيقة واحدة ،لن الحق ل يعارض الحق،
والحقائق القطعية ل تتناقض ،ولذا عني أن يدلل على ذلك ،بكتابه )فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من
اتصال(.
فهناك اتصال – ل تعارض ول تناقض – بين الشريعة والحكمة ،أو بين العقيدة والفكر ،أو بين الدين والفلسفة،
وله كلمات نّيرة في هذا الكتاب الموجز.
وحينما كفر المام أبو حامد الغزالي الفلسفة في ثلث قضايا ،وخطأهم في سبع عشرة :في كتاب )تهافت
الفلسفة( حاول ابن رشد أن يدافع عن الفلسفة ،ويرد على الغزالي في كتابه )تهافت التهافت( ،الذي يثبت فيه
شائين( منهم ،مثل الكندي والفارابي وابن سينا ،ليسوا كفارا ،وإنما هم
أن الفلسفة المسلمين ،ول سيما )الم ّ
مسلمون .واجتهد أن يتأول مقولتهم على وجه ل يخرجهم من السلم.
ساد ابن رشد كادوا له عند المير الذي كان يجله ويقدمه ،وزّوروا عليه
حّكل ما في المر :أن جماعة من ُ
أشياء لم يقلها ،فصّدقهم المير ،وغضب على ابن رشد ،وأمر بإحراق كتبه ،كما أحرقت كتب الغزالي في وقت
من الوقات.
ولكن الرجل مشهود له من أهل عصره وأهل بلده ،بالعلم والفضل وحسن السيرة والمانة والنبوغ في العقليات
والشرعيات .ونقل الذهبي عن ابن الّبار في )تكملته( أنه قال :لم ينشأ في الندلس مثله كمال وعلما وفضل،
وكان متواضعا منخفض الجناح.
وقالوا :كان يفزع إلى فتواه في الطب ،كما يفزع إلى فتواه في الفقه .ولي قضاء قرطبة فحمدت سيرته].[13
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1الدين والدولة للجابري فصل )بدل من العلمانية :الديمقراطية والعقلنية( صـ .114 - 108طبعة مركز
دراسات الوحدة العربية .بيروت .لبنان.
] -[2العروبة والعلمانية لجوزيف مغيزل .دار النهار للنشر .بيروت1980 .م.
] -[3انظر :القومية العربية والسلم :بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة
العربية .بحث د .كمال أبو المجد )نحو صيغة جديدة للعلقة بين العروبة والسلم( صـ .531 – 529
] -[4انظر :موسوعة للند :المجلد الثالث صـ 1173 ،1172منشورات عويدات للطباعة والنشر .بيروت –
باريس.
] -[5انظر :كتابنا )العقل والعلم في القرآن الكريم( فصل )تكوين العقلية العلمية في القرآن( صـ .282 -249
] -[7إشارة إلى حديث" :الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" ،وقد رواه الترمذي في
العلم ) (2687عن أبي هريرة ،وقال :هذا حديث غريب ل نعرفه إل من هذا الوجه ،وابن ماجه في الزهد )
،(4169وضعفه اللباني في ضعيف الترمذي ).(506
] -[8انظر :كتابنا )الصحوة السلمية من المراهقة إلى الرشد( فصل )من العاطفية والغوغائية إلى العقلنية
والعلمية( صـ 115 – 84طبعة دار الشروق بالقاهرة.
] -[9راجع ما كتبناه في فصل )السياسة بين النص والمصلحة( صـ 64وما بعدها.
] -[10انظر :كتابنا )شريعة السلم صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان( فصل) :كيف نختار من تراثنا
الفقهي؟( صـ .104 -79طبعة وهبة الخامسة 1997م.
] -[11رواه البخاري في العلم ) (69عن أنس ،ومسلم في الجهاد والسير ) ،(1734وأحمد في المسند )
،(13175وأبو داود في الدب ).(4794
] -[12منها :شرح الرجوزة لبن سينا في الطب ،وشرح كتاب السماء والعالم لرسطو ،وشرح كتاب النفس،
والحيوان ،والكليات في الطب ،وغيرها.
الفصل الثاني
ومن غرائب ما ذكره بعض الليبراليين الجدد ،مّمن يعيشون في أمريكا ،ويدورون في فلكها الفكري والسياسي:
ما يسمونه )العلمانية السلمية(!!
ول أدري كيف تكون العلمانية إسلمية؟! هل يقبل أن نقول :الشيوعية السلمية؟!! أو )اللدينية السلمية(؟!!
إن العلمانية معناها :فصل الّدين عن الدولة ،بل فصل الّدين عن حياة المجتمع ،بحيث يبقى المجتمع معزول عن
الّدين وتوجيهاته وتشريعاته ،فهذا هو مفهوم العلمانية المعروف عند الناس في الشرق والغرب .فكيف يكون
هذا المفهوم إسلميا؟
هل يقر السلم على نفسه أن ُيعزل عن توجيه الدولة والتشريع لها ،بل عن حياة الناس والمجتمع كله ،وتبقى
الحياة الجتماعية والقتصادية والسياسية بغير دين؟
والعلمانية على المستوى العام هي :المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات والمضامين الدينية عن
ممارسة أي تأثير في أي من مجالت الحياة! بما في ذلك التعليم والتشريع والدارة].[1
وهكذا ترى جميع الباحثين من كل التجاهات يرون التناقض بين العلمانية والّدين ،لن العلمانية هي )اللدين(
فكيف تلتقي مع الّدين؟!
)العلمانية السلمية مصطلح جديد نطرحه اليوم] .[2وهو مصطلح ُمفزع ومقلق لكثير من رجال الّدين وبعض
الليبراليين الرومانسيين .وهو مصطلح جديد في التسمية ولكنه قديم في التطبيق .نري أن العمل به الن هو
الدواء الناجع والواقعي والعملي للرد علي بعض رجال الّدين من اتهام العلمانية والعلمانيين العرب باللحاد.
ومن ذلك قول راشد الغنوشي من أن الطرح العلماني لعلقة الّدين بالدولة متأثر بالنمط الغربي ول سيما في
صورته الفرنسية والشيوعية المتطرفة )مبادئ الحكم والسلطة في السلم( وقول الشيخ يوسف القرضاوي من
أن العلمانية إلحاد كما في كتابه )السلم والعلمانية وجًها لوجه1987 ،م(.
فإذا أردنا الصلح العلماني السياسي علي وجه الخصوص ،فليكن من داخل السلم وليس من خارجه.
والعلمانية هي طريق الصلح .ول طريق لعلمانية تطبيقية غير طريق العلمانية السلمية التي نجح في
تطبيقها أول الحكام العلمانيين العرب المسلمين ،وهو الخليفة معاوية بن أبي سفيان(].[3
وهذا القول الذي قاله الكاتب الذي يلقي الكلم على عواهنه دون تمحيص ول تدقيق :مليء بالخطاء ،بل
الكاذيب.
ي أني أقول :إن العلمانية إلحاد ،ونسب ذلك إلى كتابي )السلم والعلمانية وجها لوجه( ومن
.1فقد ادعى عل ّ
قرأ ما كتبته في فقرة )العلمانية واللحاد( وجد قولي صريحا :أن العلمانية ل تعني بالضرورة اللحاد ،فهو ليس
من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانية كما نشأت في الغرب .فإن الذين نادوا بها لم يكونوا ملحدة ينكرون وجود
ال ،بل هم ينكرون تسلط الكنيسة على شؤون العلم والحياة فحسب ...الخ
كل ما قلُته :أن المسلم العربي الذي يقبل العلمانية يكون في جبهة المعارضة للسلم ،وخصوصا فيما يتعّلق
بتحكيم الشريعة ...وقد تنتهي به علمانيته إلى الكفر إذا أنكر ما هو معلوم من الّدين بالضرورة] .[4وهذا غير
ي الكاتب المريكاني!!
ما يدعيه عل ّ
وزعم الرجل أن أول من نجح في تطبيقه العلمانية السلمية ،هو معاوية ابن أبي سفيان ،أول الحكام .2
العلمانيين المسلمين في رأيه.
وهذا افتراء على معاوية ،كما بينا ذلك في كتابنا )تاريخنا المفترى عليه( فكيف يقبل المجتمع المسلم في عصر
الصحابة والتابعين :العلمانية ،وهو في )خير القرون( التي أثنى عليها النبي صلى ال عليه وسلم؟ ولو رضي
بذلك معاوية ما رضي بذلك المجتمع المسلم في ذلك العهد.
وإذا كان معاوية علمانيا ،مخالفا لنهج الرسول وخيرة أصحابه ،كما يزعم الكاتب ،فكيف نتخذه أسوة لنا ،وقد
حرف الّدين واتبع غير سبيل الراشدين؟! وكيف يكون الفلح في هذا المنهج المنحرف؟؟
.3ولم يكتف هذا الرجل بالكذب على معاوية ،فقد كذب على عثمان ،الخليفة الثالث ،صهر رسول ال،
والمبشر بالجنة ،وأحد السابقين الولين من المهاجرين ،الذين أثنى عليهم القرآن في سورة التوبة] ،[5وأحد
الباذلين في سبيل نصرة السلم .واتهمه الكاتب بالعلمانية ،وأنه كان يعذب المعارضين لسياسته مثل أبي ذر
الذي نفاه إلى الربذة ،وكتب التاريخ تقول :إن أبا ذر هو الذي طلب منه ذلك .واتهمه أيضا بأنه هو الذي صنع
تاج بني أمية ،ووضعه على رأس معاوية ،الذي أكمل علمانية عثمان وزاد عليها.
.4وأكثر من ذلك :أن هذا الكاتب تطاول على الرسول الكريم نفسه ،وزعم أنه وزع غنائم حنين على أهله
وعشيرته وحرم النصار ،أي اتهمه بالمحاباة والظلم ،وجعل من قبيلته قريش صاحبة الحق الوحيدة في
الخلفة عندما قال" :الئمة منا أهل البيت" ،وكذلك" :الئمة من قريش" .انتهى.
وهذا كلم غير دقيق عن رسول ال ،فهو لم يعط أحدا من أهله وعشيرته من بني هاشم ،أو بني عبد مناف ،بل
طَفان وَفَزاَرة وغيرهم ،من باب تأليف
أعطى بعض الناس من قريش كما أعطى غيرهم من قبائل العرب كَغ َ
القلوب ،وهو ما جعله القرآن مصرًفا من مصارف الزكاة .فهو في هذا التأليف لقلوب بعض الزعماء ،وبعض
القبائل ،يسير في ضوء القرآن ،ويطبق حكم القرآن.
أما حديث "الئمة منا أهل البيت" فلم يصح عن رسول ال ،ولذا لم يعتمده أهل السنة وهم جمهور المة.
أما حديث" :الئمة من قريش" فقد اشتهر بين العلماء ،ولكن الشهرة ل تعني دائما :الصحة .ومما يشّكك في
ثبوته :أنه لو كان معروفا لدى النصار ،ما قال قائلهم يوم السقيفة :منا أمير ومنكم أمير .وهم ليسوا من
ح .ولكنه لجأ إلى ترجيح
جة لو ص ّ
قريش ،ولو كان معروًفا لدى المهاجرين ،لرّد به عليهم أبو بكر ،وكفى به ح ّ
المهاجرين باعتبارات اجتماعية ،كقوله :إن العرب ل تدين إل لهذا الحي من قريش!
وعلى كل حال لم يرد الحديث في الصحيحين ول أحدهما ،وإنما ورد بأسانيد لم يسلم سند فيها من مقال ،وإنما
ححه بكثرة طرقه وشواهده .كما قال محققو المسند في تخريج الحديث ) (12307عن أنس :إن ححه من ص ّصّ
ححوه بكثرة طرقه الضعيفة! إسناده ضعيف لجهالة راويه :بكير بن وهب الجزري ...ولكن ص ّ
ورأيي :أن الحاديث الخطيرة التي تقّرر مبادئ وأصوًل هامة للحياة السلمية ،ل يجوز أن يقبل فيها ما كان
حح بكثرة طرقه ،ول سيما أن الئمة المتقدمين مثل :ابن مهدي وابن المديني وابن صّضعيفا بأصله ،وإنما ُ
معين والبخاري وغيرهم ،ما كانوا يعتمدون على كثرة الطرق هذه ،إنما اشتهرت بين المتأخرين.
وهذا الحديث بألفاظه المختلفة هو عمدة القائلين باشتراط القرشية في نسب المام أو الخليفة ،وخالف في ذلك
الخوارج وبعض المعتزلة وغيرهم .وزعم بعضهم أنهم خالفوا الجماع في ذلك.
ي،
عِمل بهذا القول :من قام بالخلفة من الخوارج على بني أمية كَقطر ّ ورّد عليهم العلمة الحافظ ابن حجر بأنه َ
ودامت فتنتهم أكثر من عشرين سنة ،حتى أبيدوا ،وكذا من تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج كابن
الشعث ،ثم من قام في قطر من القطار في وقت ما فتسمى بالخلفة ،وليس من قريش ،كبني عّباد وغيرهم
بالندلس ،وكعبد المؤمن وذريته ،ببلد المغرب كلها ،وهؤلء ضاَهوا الخوارج في هذا ،ولم يقولوا بأقوالهم،
ول تمذهبوا بمذهبهم ،بل كانوا من أهل السنة الداعين إليها.
عياض :اشتراط كون المام قرشيا مذهب كافة العلماء ،وقد عّدوها في مسائل الجماع ،ول اعتداد بقولقال ِ
الخوارج وبعض المعتزلة.
قال ابن حجر معلقا :ويحتاج من نقل الجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر ،فقد أخرج أحمد عنه بسند رجاله
ثقات ،أنه قال" :إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته ،فإن أدركني أجلي بعده استخلفت معاذ بن جبل"]
.[6
ومعاذ أنصاري ل قرشي ،فيحتمل أن يقال :لعل الجماع انعقد بعد عمر أو رجع عمر].[7
على أن هذا الجماع لو صح قد يكون سنده ارتباط المصلحة في ذلك الزمن بكون الخليفة من قريشِ ،لَما كان
لهم من المكانة والغلبة على غيرهم من العرب ،أي أنهم أهل الحماية والعصبية ،كما شرح ذلك ابن خلدون في
جة ُملِزمة على وجه الدوام .فإذا تغيرت المصلحةمقدمته ،والجماع إذا كان سنده مصلحة زمنية ل يكون ح ّ
التي كانت سند الجماع ،فلم يعد للجماع المتقدم حجية.
ولهذا نرى أن دعوى الكاتب فيما سّماه )العلمانية السلمية( ل أساس لها من العلم أو الدين أو التاريخ.
ولو دعا هذا الكاتب إلى )العلمية( لنتخذها منهاجا للمة بدل الغوغائية والرتجالية ،والعشوائية ،لكنا أول
المرحبين بذلك .وقد دعونا إلى ذلك في كثير من كتبنا] .[8أما الدعوة إلى العلمانية ،ووصفها بـ)السلمية( فهو
عْلم
ل بَغيِر ِ
ن ُيجاِدُل في ا ِ
ن الّناس َم ْ
قول ينقض آخره أوله ،ول يقوم على أساس ،وهو كما يقول ال تعالى :وِم َ
سِبيل ال ]الحـج.[8،9:
ضّل عن َ
طِفِه ِلُي ِ
عْي ِ
ول ُهًدى ول ِكَتاب ُمِنير * َثاِن َ
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1انظر :موسوعة العلوم السياسية :مادة )العلمانية( فقرة ) (204صـ .299 ،298
] -[2قائل هذا هو شاكر النابلسي الردني الذي يعيش في أمريكا ،والذي نصب نفسه محاميا عن سياسة أمريكا
المتحيزة للصهيونية ،وخصوصا سياسة اليمين المتطرف المتصهين ،وعلى رأسه بوش ،الذي يتصرف وكأنه
يوحى إليه من السماء .ومقال الكاتب ملئ بالجهالت والفتراءات والمغالطات ،ولنه يعلم أن مقاله ل يكاد يقرأه
أحد ،يقول ما يشاء ،فلن يعنى أحد بالرد عليه.
] -[3عن صحيفة )الراية( القطرية .الثلثاء 14/3/2006م .ومما نأسف له أن تفتح الصحيفة أبوابها لمثل هذا
الهراء.
] -[5في قوله تعالى :والسابقون الولون من المهاجرين والنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي ال عنهم
ورضوا عنه ]التوبة ،[100:ول خلف أن عثمان من هؤلء السابقين الذين لم يكتف القرآن بالثناء عليهم ،بل
أثنى على من اتبعهم بإحسان ،وأعلن رضا ال عنهم ،ورضاهم عن ال ...إلى آخر الية.
] - [6رواه أحمد في المسند) (108وقال محققوه :حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات.
] -[8انظر على سبيل المثال :كتابنا )الصحوة السلمية من المراهقة إلى الرشد( فصل :من العاطفة
والغوغائية إلى العقلنية والعلمية صـ 115 - 84وانظر :كتابنا )العقل والعلم في القرآن الكريم( وكتابنا
)الرسول والعلم(.
الباب الخامس
هذا الباب الخير في هذا الكتاب ،ويتكون من فصل واحد ،يعد غاية في الهمية؛ فإن ما قلناه في البواب
السابقة يتعّلق بـ)الّدين والسياسة( بصفة عامة ،أي في البلد التي يسميها الفقهاء )دار السلم( ويكون
المسلمون فيها هم أصحاب السلطان ،ولهم الحق في أن يعيشوا في ظل السلم ،توجههم عقيدته ،وتحكمهم
شريعته ،وتسودهم مفاهيمه وقيمه وأخلقه وتقاليده.
هذا الباب يدور حول ما ينبغي للقليات المسلمة في المجتمعات غير السلمية أن تفعله ،وهذه القليات المسلمة
هي التي ُتمثل الوجود السلمي في البلد غير السلمية ،ول سيما في بلد الغرب.
وأبادر فأقول :أن من الخير للمسلمين ،ومن الخير للغربيين :أن يكون هناك وجود إسلمي في الغرب ،يتعامل
الغربيون معه مباشرة دون وسيط ،على خلف ما يراه بعض المتشددين من المسلمين :أنه ل يجوز القامة في
هذه البلد )بلد الكفر كما يسميها( ،كما ل يجوز الحصول على جنسيتها ،التي يعتبرها من كبائر الثم.
ولقد عقدت في فرنسا منذ بضعة عشر عاما :ندوة فقهية علمية حضرها عدد من كبار العلماء] ،[1وكان لي
شرف المشاركة فيها ،ناقشنا فيها هذه القضايا :مثل القامة في ديار الغرب ،والحصول على جنسيتها ،وكان
رأي الغلبية إجازة ذلك بشروطه] ،[2وأن هذا يتفق مع عالمية الرسالة السلمية ،ويتفق مع تقارب العالم
الذي أمسى قرية واحدة ،ويتفق مع مسعى العقلء من الغربيين :المسلمين والغربيين إلى التفاهم والتقارب
وإزالة الجفوة ،والتحّرر من رواسب التاريخ ،والعمل على إقامة تعايش مشترك ،يقوم على التسامح ل
التعصب ،والتعارف ل التناكر ،والحوار ل الصدام ،والتعاون ل التشاحن.
سرت وجوده ،دون تخطيط ول والحمد ل أن قام الوجود السلمي في الغرب بأقدار إلهّية ،وأسباب طبيعية ،ي ّ
ترتيب منا نحن المسلمين ،فينبغي لنا أن نعمل على أن يكون هذا الوجود السلمي همزة الوصل بيننا وبين
الغربيين ،تعين على تواصل المسلمين بغيرهم ،وتمحو الفكار الخاطئة الراسبة في أذهان البعض منهم ،وترّد
على الشبهات التي قد َتعرض لهم.
وهذا ما يقوم به المجلس الوربي للفتاء والبحوث منذ تأسيسه إلى اليوم ،في فتاواه التي يصدرها ،وتوصياته
التي يوجهها ،وبياناته التي يعلنها في كل دورة من دوراته ،ينصح فيها المسلمين في الغرب :أن يكونوا أقلّية
فاعلة ناشطة مؤّدية لواجباتها ،خادمة لمجتمعاتها ،غير ُمنعزلة عنها ،ول ُمنسحبة منها ،ومن قرأ فتاوى
المجلس وقراراته وتوصياته وبياناته خلل الدورات التي عقدها :تبّين له بجلء صحة ما نقول.
ولقد رددت على بعض المتشددين من العلماء والدعاة الذين يرفضون الوجود السلمي في الغرب ،وفي غيره
من البلد المختلفة التي يعيش فيها غير المسلمين ،في الشرق والغرب ،سواء كانوا من أهل الكتاب
كالمسيحين ،أم من الوثنيينُ ،منّبها هنا إلى أمر مهم ،وهو :أن الوجود السلمي لكثير من القليات ،هو وجود
أصلي ،أعني :أنهم من أهل البلد الصليين ،وليسوا طارئين ،مثل القليات السلمية في الهند والصين
وتايلند وبورما وغيرها من بلد آسيا ،ومثل كثير من القليات السلمية في عدد من أقطار إفريقيا.
)أعتقد أن من الضروري للسلم في هذا العصر أن يكون له وجود في تلك المجتمعات المؤثرة على سياسة
العالم.
ضرورة تبيلغ السلم ،وإسماع صوته ،ودعوة غير المسلمين إليه .بالكلمة والحوار والسوة.
وهو ضرورة لحضانة َمن يدخل في السلم ومتابعته وتنمية إيمانه ،وتهيئة مناخ إسلمي يساعد على الحياة
السلمية الصحية.
وهو ضرورة لستقبال الوافدين و)المهاجرين( حتى يجدوا لهم )أنصارا( يحبون َمن هاجر إليهم ،ويهيئون لهم
جّوا يتنفسون فيه السلم.
وهو ضرورة للدفاع عن قضايا المة السلمية ،والرض السلمية ،في مواجهة القوى والتيارات المعادية
والمضللة.
ول بد أن يكون للمسلمين تجمعاتهم الخاصة في وليات ومدن معروفة ،وأن تكون لهم مؤسساتهم الدينية،
والتعليمية ،بل والترويحية.
وأن يكون لهم علماؤهم وشيوخهم ،الذين يجيبونهم إذا سألوا ،ويرشدونهم إذا جهلوا ،ويوفقون بينهم إذا
اختلفوا.
ت للخوة في ديار الغربة :حاولوا أن يكون لكم مجتمعكم الصغير داخل المجتمع الكبير ،وإل ُذبتم فيه كماوقد قل ُ
يذوب الملح في الماء.
اجتهدوا أن يكون لكم مؤسساتكم الّدينية ،والتربوية ،والثقافية ،والجتماعية ،والتروحّية ،وهذا ل يتّم إل
ب والتعاون ،فالمرء قليل بنفسه ،كثير بإخوانه ،ويد ال مع الجماعة.بالتحا ّ
إن الذي حافظ على شخصية اليهود طوال التاريخ الماضي هو مجتمعهم الصغير المتميز بأفكاره وشعائره ،وهو
)حارة اليهود( ،فاعملوا على إيجاد )حارة المسلمين(.
ل أدعو إلى انغلق على الذات ،وعزلة عن المجتمع ،فهذا والموت سواء ،ولكن المطلوب هو انفتاح دون
ذوبان ،هو انفتاح صاحب الدعوة الذي يريد أن يفعل ويؤثر ،ل الُمقلد المستسلم الذي غدا كل همه أن يساير
سنن القوم شبرا بشبر ،وذراعا بذراع!
ويتأثر ،ويتبع َ
إننا نشكو من مدة من نزيف العقول العربية والسلمية ،من العقول المهاجرة من النوابغ والعبقريات في
مختلف التخصصات الحيوية والهامة ،التي وجدت لها مكانا في ديار الغتراب ،ولم تجد لها مكانا في أوطانها.
فإذا كانت هذه حقيقة واقعة ،فل يجوز لنا بحال أن ندع هذه العقول الكبيرة تنسى عقيدتها ،وأمتها وتراثها،
ودارها ،ول مفر لنا من بذل الجهد معها حتى تكون عقولها وقلوبها مع أوطانها وشعوبها ،مع أهليهم وإخوتهم
وأخواتهم ،دون أن تفرط في حق الوطن الذي تعيش فيه وتنتسب إليه.
وإنما يتحقق ذلك إذا ظّل ولؤهم ل ولرسوله وللمؤمنين ،وظلت هموم أمتهم تؤرقهم ،ولم تشغلهم مصالحهم
الخاصة عن قضايا أمتهم العامة ،كما يفعل ذلك يهود العالم أينما كانوا من أجل إسرائيل.
وهذا هو واجب الحركة السلمية :أل تدع هؤلء لدوامة التيار المادي والنفعي السائد في الغرب ،تبتلعهم ،وأن
ُيذّكروا دائما بأصلهم الذي يحنون دائما إليه(].[3
وإذا كان الوجود السلمي قائما في بلد الغرب ،وله حضوره الّديني والثقافي والجتماعي ،وأحيانا
القتصادي ،فمن الطبيعي والمنطقي أن يحاول استكمال حضوره السياسي .إذ أصبحت السياسة تتدخل في كل
شيء ،وإذا تركنا السياسة ،فإن السياسة ل تتركنا.
لهذا كان ل بد من الجابة على تساؤلت عدة هنا تطرحها القليات السلمية التي تعيش في الغرب ،وبعضها
من أهل البلد ،وبعضها مهاجرون استوطنوا وحصلوا على جنسية البلد ،وباتوا جزءا من أهلها.
هل تكتفي بالّدين وتنعزل عن السياسة؟ أو تتمسك بالّدين وتدخل في السياسة؟ وإذا دخلت في السياسة فهل
تدخل فيها مشاركة لغيرها من الحزاب ،أو مستقلة بذاتها؟ فهل يجوز المشاركة في الحزاب العلمانية؟ وهل
يجوز إنشاء حزب يفرض عليه أن يلتزم بدستور البلد؟ وهل يجوز للمسلم الترشح للمجالس النيابية على
أساس هذه الوضاع؟ ثم إن دخول المسلم في السياسة ،يلزم منه القرار بالدساتير الوضعية القائمة في الدول
الغربية وغيرها؟
وإذا نجح المسلم في النتخابات ،ودخل المجلس النيابي :يلزم منه أن يقسم على احترام النظام العام والعمل
بالدستور ،فهل يتفق هذا مع عقيدة السلم؟ ومع أحكام الشريعة؟
بل أقول :إن هذه التساؤلت نفسها تطرحها بعض الفصائل السلمية في كثير من أقطار السلم ذاتها.
ومن هذه الفئات :من يرى تحريم تكوين الحزاب السياسية ،ويعدها بدعة محدثة ،وضللة في الّدين.
ومنهم من يرى تحريم الدخول في النتخابات ،والسعي إلى عضوية المجالس النيابية ،بل بعضهم يراها ضد
العقيدة ،ويسميها )المجالس الشركية( وبعضهم ألف رسالة سماها )القول السديد في أن دخول المجلس
)النيابي( ينافي التوحيد(!
وبعضهم يعترض على صيغة القسم التي يقسمها العضاء على احترام الدستور ،وإطاعته إلخ .وبعض
السلميين حّل هذا الشكال ،بقوله بعد كلمة الطاعة في القسم) :في غير معصية( ،يقولها بصوت مسموع.
فإذا كان هذا يقال في داخل بلدنا السلمية ،فماذا عسى أن يقال في خارج البلد السلمية؟
ومن هنا ل ينبغي أن تستمد القلية المسلمة فقهها السياسي من هذه الفئات التي َبُعَد بها )الغلو( عن سواء
الصراط ،فهذه الفئات ترى الوجود السلمي في هذه البلد محظورا ل يجاز إل من باب الضرورات ،وهي ترى
العيش في هذه البلد من باب الضطرار ،كما يضطر المرء إلى استخدام المراحيض ،برغم ما بها من نجاسة!
كما قال بعضهم!
ومن هؤلء من ُيحّرم على المسلم الحصول على جنسية هذه الدول ،وقد يكّفر من حصل عليها ،لنه يعتبرها
ن َيتَوّلُهم ِمنُكم فإّنُه ِمنُهم ]المائدة.[51:
من الولء للكفار] ،[4وقد قال تعالى :وَم ْ
ومنهم من يحرم مجرد القامة في هذه البلد إل لضرورة ،والضرورة تقدر يقدرها .ولهم في ذلك شبهات رد
عليها المحققون من العلماء.
إن مزية الشريعة السلمية :أنها شريعة واقعية ،تراعي حاجات النسان ومطالبه ،روحية كانت أو مادية،
دينية كانت أو سياسية ،ثقافية كانت أو اقتصادية ،سواء كان يعيش في المجتمع المسلم أم خارج المجتمع
المسلم ،وأنها في كل ما شرعته من أحكام :تيسر ول تعسر ،وترفع الحرج ،وتمنع الضرر والضرار ،ول سيما
من يعيش خارج المجتمع المسلم ،فهو أولى بالتخفيف ورعاية الحاجات.
ومن حاجة القلية المسلمة :أن تعيش متمسكة بدينها وعقيدتها وشعائرها وقيمها وآدابها ،ما دامت ل تؤذي
غيرها ،وأن تندمج في المجتمع الذي تحيا فيهُ ،تنتج وُتبدع ،وتبني وترقى ،وُتشارك في كل أنشطته ،تفعل
الخير ،وُتشيع الهداية ،وتدعو إلى الفضيلة ،وتقاوم الرذيلة ،وتؤثر في المجتمع بالسوة والدعوة ما
استطاعت ،ول تذوب فيه ،بحيث تفرط في مقوماتها وخصائصها العقائدية والّدينية.
وليست كل القليات السلمية مهاجرة ،فبعضها من أهل البلد الصليين ،كلهم أو بعضهم .حتى يقول بعض
الناس :يجب أن يعودوا إلى ديارهم.
ولهذا تحتاج القلية في أي بلد إلى أصوات تعبر عنها في المجالس التشريعية ،وتدافع عن حقوقها حتى ل
تصدر تشريعات تجور عليها ،وتحرم عليها ما أحل ال ،أو تعوقها عن أداء ما فرض ال ،أو تلزمها بأمور
ينكرها الشرع.
ومن الخير وجود مسلمين منتخبين في هذه المجالس –مستقلين أو منضمين إلى حزب معين– يعملون للذود
عن حرماتهم ،والمحاماة عن حقوقهم ،باعتبارهم أقلية ،لهم الحق في ممارسة حياتهم الّدينية ،وشعائرهم
التعبدية ،بما ل يضر الخرين ،وهم سيستميلون معهم وإلى صفهم الحرار والمنصفين ،الذين يناصرون العدل
والحرية في كل زمان ومكان.
.1قاعدة )ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب( فإذا كان حصول المسلمين على حقوقهم الّدينية والثقافية
وغيرها ،ل يتم إل بالمشاركة في السياسة ،ودخول النتخابات ،فإن هذا يصبح واجبا عليهم.
.2قاعدة )المور بمقاصدها( وهي قاعدة متفق عليها ،مأخوذة من الحديث المشهور" :إنما العمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى"] .[5فمن قصد بالمشاركة السياسية :الدفاع عن حقوق المسلمين ،وحريتهم الّدينية،
وهويتهم الثقافية ،فهو مأجور على ذلك عند ال ،ومحمود عند المسلمين.
.3قاعدة )سد الذرائع( فإذا كان اعتزال القلية للسياسة ،وعدم مشاركتها فيها ،يشكل خطرا على وجودهم
الّديني والجماعي ،ويجعلهم مهّمشين ،ويحرمهم من مزايا كثيررة ،ويوقعهم في مآزق ومفاسد قد يعرف أولها
ول يعرف آخرها ،فإن من المطلوب منهم :أن يسدوا الذرائع إلى هذه الخطار ،ويتوقوا هذه المفاسد والفات،
وفي الحديث" :من يتوق الشر يوقه"].[6
.4قاعدة )الضرورات تبيح المحظورات ،والحاجة تنزل منزلة الضرورة ،خاصة كانت أو عامة( فإذا كان
بالجماعة المسلمة في غير المجتمعات السلمية ضرورة أو حاجة إلى من يدافع عن حقوقها في بلد
الديمقراطيات ،وكان من وراء ذلك بعض ما يخشى من المحظورات مثل القسم على احترام الدستور -الذي قد
يتضمن ما يخالف الشرع -ونحو ذلك ،مما يتحرج منه بعض المتدينين ،فإن هذا الحظر يرفع بحكم الضرورة أو
حيم ]البقرة.[173:
ل غُفوٌر ر ِ
نا َ
ل إثَم عَليه إ ّ
غ ول عاٍد ف َ
طّر غيَر با ٍ
ضُنا ْ
الحاجة َفَم ِ
.5قاعدة )المصالح المرسلة( وهي المصالح التي لم ينص الشرع على اعتبارها ول إلغائها ،ولكنها إذا
عرضت على العقول تلقتها بالَقبول ،وتحقق فائدة ،مادية أو معنوية ،للجماعة المسلمة .وقد اعتبرها الصحابة
في كثير من المور ،المهم أل تصادم نصا قطعيا ،ول قاعدة شرعية قطعية .وأن يكون فيها للجماعة المسلمة
نفع حقيقي ل متوهم.
وفي ضوء هذه القواعد :نرى أن الولى بالمسلمين أن يشاركوا في السياسة ،تحقيقا لمصلحتهم الّدينية
والجماعية ،ودرءا للخطار والمفاسد عنهم ،ول سيما أنهم إذا تركوا السياسة فإن السياسة ل تتركهم.
يستطيع المسلمون أن ينشئوا حزبا يطالب بحقوقهم وحقوق غيرهم إذا كان لهم عدد وقوة وقدرات تكفي لقيام
حزب مستقل ،وكان الدستور والقانون يسمحان لهم بذلك.
ويمكن للمسلمين أن يقدموا برنامجا للصلح والترشيد ،مقتبسا من أصول فكرتهم السلمية ،ومطعما بالنظرة
والتجربة الغربية وما فيها من آفاق جديدة ،تتفق مع مقاصد الشريعة وروح السلم.
ول مانع أن ينضم إلى هذا الحزب أعضاء من غير المسلمين ،فهو مقدم للمسلمين خاصة ،وللمواطنين عامة.
والمفترض في النظام السلمي :أنه يقدم الخير والمصلحة الحقيقية للناس كافة ،مسلمين وغير مسلمين.
ويستطيع المسلمون أن ينضموا إلى أي حزب من الحزاب السياسية التي تعمل على الساحة ،ويختاروا منها ما
كان أقرب إلى المبادئ السلمية من ناحية ،وما كان أكثر تعاطفا مع المسلمين ومصالحهم من ناحية أخرى.
وما كان فيه من أشياء تخالف السلم ،يتحفظون عليها.
ول بد أن يكون ذلك بعد دراسة علمية عملية موضوعية ،يقوم بها خبراء ومتخصصون ،وأن تناقش هذه
الدراسة بين أهل الحل والعقد من القلية المسلمة في البلد .وبعد الدراسة والمناقشة والمقارنة ،يقّرر
المسلمون :أيهما أفضل لهم دينا ودنيا :أهو تكوين حزب لهم أم الدخول في حزب قائم؟ وأي الحزاب أقرب
إليهم وأولى بهم؟
وقد يجدون الولى من ذلك كله :أل يكونوا حزبا ،ول يدخلوا في حزب ،ولكن يبقون كتلة حرة مؤثرة في
النتخابات :تؤيد هذا أو ذاك ،وتعطي أصواتها لهذا المرشح أو ذاك.
وعند ذاك يخطب المرشحون ودها ،ويتقربون إليها ،لن هذه القلية ،كثيرا ما يكون لها تأثير كبير في ترجيح
بعض المرشحين على بعض ،ول سيما من يكون الفرق بينهما غير كبير ،فتأتي أصوات القلية مع أحدهما،
فترجح كفة ميزانه ،ويفوز على خصمه.
--------------------------------------------------------------------------------
لمة الشيخ مصطفى الزرقا ،والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ،والشيخ عبد ال بن بّية،
] -[1كان في هذه الندوة :الع ّ
والشيخ مّناع القطان ،والشيخ فيصل مولوي ،والشيخ محمد العجلن ،والشيخ سيد الدرش ،وغيرهم.
] -[2ومن شروط ذلك :أن يأمن المسلم على نفسه وذريته في دينه وُهويته ،بحيث لو شعر بخطر على ذلك،
ظا على دينه ودين أولده ،الذي هو أغلى من كل ما يحرص الناس عليه.
وجب عليه أن يعود من حيث أتى ،حفا ً
] -[3انظر :أولويات الحركة السلمية صـ 148 – 146نشر مكتبة وهبة .القاهرة.
] -[4في بعض الوقات أصدر علماء تونس :فتوى تحكم بالردة على من يحصل على الجنسية الفرنسية من
التونسيين ،لن تونس كانت ترزح تحت نير الستعمار الفرنسي الظالم المتجبر ،وكان الحصول على الجنسية
حينئذ بمثابة إعلن الولء والتأييد للمستعمر الكافر ،فهو ردة دينية ،وخيانة وطنية ،بخلف حصول المسلم
على الجنسية اليوم ،فهي تقوي المسلم ،وتشد أزره ،وتمنحه قوة –مع إخوانه– في المحافظة على هويته،
وتمكنه من تبليغ دعوته ،وتعطيه امتيازات كثيرة ،منها :حق النتخاب والترشيح ،دون أن يفرط في شيء من
دينه.
] -[5روا البخاري في بدء الوحي ) (1عن عمر بن الخطاب ،ومسلم في المارة ) ،(1907وأبو داود في الطلق
) ،(2201والترمذي في فضائل الجهاد ) ،(1647والنسائي في الطهارة ،وابن ماجه في الزهد ).(4227
] -[6رواه الطبراني في الوسط ) (3/118عن أبي الدرداء ،والدارقطني في العلل ) ،(6/219وأبو نعيم في
الحلية ) ،(5/174والبيهقي في الشعب ) ،(7/398وقال العراقي في تخريج أحاديث الحياء :أخرجه الطبراني
والدارقطني في العلل من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف ) ،(3/141وحسنه اللباني في الصحيحة ).(342
خاتمة
خاتمة
الن حصحص الحق ،وأسفر الصبح لذي عينين ،وتبين لكل منصف لم يعم عينه الهوى ،ولم يصم سمعه
التعصب :أنه ل انفصال للسياسة عن الّدين ،ول للدين عن السياسة .وأن من الخير أن يدخل الّدين في السياسة
فيوجهها إلى الحق ،ويرشدها إلى الخير ،ويهديها سواء السبيل ،ويعصمها من الغرور بالقوة ،والنحراف إلى
الشهوات ،ويمد أصحابها بالخسية من ال ،ول سيما أن السلطة تغري بالفساد ،والقوة تغري بالفجور
سَتْغَنى ]العلق.[6،7:
ن َرآُه ا ْ
طَغى * َأ ْ
ن َلَي ْ
سا َ
ن اِْلْن َ
ل ِإ ّ
والطغيانَ :ك ّ
ومن الخير كذلك :أن تدخل السياسة في الّدين ،ل لتتخذه مطية تركبها ،أو أداة تستغلها ،ولكن لتجعله قوة هادية
تضيء لها طريق العدل والشورى والتكافل ،وقوة حافزة :تبعثها لنصرة الحق ،وفعل الخير ،والدعوة إليه،
وقوة ضابطة :تمنعها من اقتراف الشرور ،والعانة على الفجور.
وإذا كان هذا يقال في الديان بصفة عامة ،فإن السلم -بصفة خاصة -ل يقبل هذا الفصام ،بين الّدين
والسياسة ،أو بين العقيدة والشريعة ،أو بين العبادات والمعاملت ،أو بين المسجد والسوق ،أو بين اليمان
والحياة.
وهذا ما مضى عليه تاريخنا ثلثة عشر قرنا أو تزيد ،حتى دخل الستعمار الغربي بلد المسلمين ،وتحّكم في
مصايرها ،وملك أِزّمة التشريع والتثقيف والتعليم والعلم ،التي توجه حياتها ،وتلونها كما تشاء.
ولكن الصحوة السلمية المعاصرة ،قذفت بحقها على باطل الستعمار ،فدمغته ،فإذا هو زاهق ،وأبرزت قوة
السلم الذاتية في أمته من جديد ،وتقررت سنة ال في أن العاقبة للحق ،والبقاء للزكى والصلحَ ،فَأّما الّزَبدُ
ث ِفي اَْلْرضِ ]الرعد.[17:
س َفَيْمُك ُ
جَفاًء َوَأّما َما َيْنَفُع الّنا َ
ب ُ
َفَيْذَه ُ
ول عجب أن رأينا من المفكرين المدنيين -من غير المشايخ وعلماء الّدينَ -من ينادي جهرا بإسقاط شعار
العلمانية المستوردة ،التي تقوم دعوتها في الساس على فصل الّدين عن السياسة ،أو الّدين عن الدولة .فلم
يعد بعد لدعوة العلمانية من مكان ول حاجة في ديارنا ،وقد كانت الحاجة إليها في الغرب لسباب تاريخية
معروفة ،وليس لهذه السباب وجود عندنا.
كما بينا في هذه الصحائف كيف تدخل القلية المسلمة – في أوربا وغيرهـا -في السياسة ،وكيف تنتفع بها
لخدمة وجودها الّديني وهويتها الثقافية .وكيف تتجنب مزالقها.
والحمد ل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لول أن هدانا ال.