Professional Documents
Culture Documents
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ،والصلة والسلم على رسول الله ،وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
)وبعد(
لقد فوجئنا وفوجئ العالم كله معنا بهجوم بابا الفاتيكان بنديكت السادس
عشر في محاضرته التي ألقاها في جامعة )غوتيسبيرج( في ولية بافاريا بجنوب
ألمانيا ،دون أن يكون هناك أدنى مبرر لهذا الهجوم .فلم يكن هناك أي توثر بين
البابا وأي فئة من المسلمين ،ول وجد باعث يدعو إلى رمي هذه القذائف ،إل أن
يكون البابا قد أراد أن يهدي إلى الرئيس المريكي بوش – ومعه اليمين المسيحي
المتصهين -هدية تشد أزره في محاربة السلم تحت عنوان محاربة الرهاب .فأراد
البابا أن يمنحه غطاء دينيا – وإن كان كاتوليكيا – يسنده ويبرر تصرفاته في العراق
وغيرها ،ما دام يحارب السلم الذي يحمل بذور العنف في تعاليمه ،والذي لم يجئ
نبيه إل بالشياء الشريرة ،واللإنسانية ،ومنها نشر دينه بالسيف.
كما اتهم البابا السلم بأنه بفرضه الجهاد – أو الحرب المقدسة كما سماها–
ينافي العقل ،كما ينافي الطبيعة اللهية.
وزعم البابا أن المشيئة اللهية عند المسلمين ل يحدها شيء ،ول يقيدها
شيء ،ول تأبى نوع من المعقولية.
واتكأ البابا على فقرة نقلها من كتاب للمبراطور البيزنطي :مانويل الثاني
الذي نشره رجل الدين اللماني اللبناني الصل تيودور خوري :حوارات مع مسلم،
وهي فقرة مسفة غاية السفاف ،تتسم بالجهل الفاضح ،والتحامل الواضح على
السلم.
وحين أظهر العالم السلمي غضبه على هذه الكلمات المسيئة ،زعم البابا أنه
ناقل ،وكما يقول علماؤنا :ناقل الكفر ليس بكافر .ولكنه نقل هذا الكلم
مستشهدا به ،ولهذا لم يرد عليه.
من هنا كان علينا أن نرد على الكلمات البذيئة التي أسائت إلى عقيدة السلم،
،وإلى كتاب السلم ،وإلى حضارة وإلى شريعة السلم ،وإلى نبي السلم
السلم ،وإلى أمة السلم.
وسيكون ردنا ردا علميا موضوعيا موثقا بالدلة القاطعة من نصوص السلم
ومن تاريخ أمته ليهلك من هلك عن بينة ،ويحيا من حيي عن بينة.
ل ننكر أن في كلمة البابا في جامعة غوتنبورغ بعض الجوانب اليجابية ل بد أن
ننوه بها ،إحقاقا للحق ،وإنصافا للرجل ،وقد علم السلم المسلم :أنه إذا غضب
لم يخرجه غضبه عن الحق ،وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل ،وقد قال تعالى
داء ِبال ْ ِ َ
ممن ّك ُ ْ
ر َ ول َ ي َ ْ
ج ِ ط َس ِ
ق ْ ه َ ه ُ
ش َ ن ل ِل ّ ِمي َوا ِ
ق ّكوُنوا ْ َمُنوا ْ ُ
نآ َ ذي َ ها ال ّ ِ في كتابهَ :يا أي ّ َ
وى ]المائدة.[8: ق َ ب ِللت ّ ْقَر ُ و أَ ْ دُلوا ْ ُ
ه َ دُلوا ْ ا ْ
ع ِ ع ِ
َ
عَلى أل ّ ت َ ْ وم ٍ َ ن َ
ق ْ َ
شَنآ ُ
فقد أكد البابا على ضرورة تعميق أطر الحوار بين العالمين المسيحي
والسلمي ،معتبرا أن العالم الغربي ،قد فقد العتقاد بالله في خضم النفعية
العملية )وأزيد على هذا :في خضم المادية الحسية ،الباحية البهيمية(
كما دعا البابا :الرئيس اللماني)هورسف كولر( إلى ضرورة أن تعمل الدولة
اللمانية على تحقيق اندماج أفضل للمسلمين المقيمين داخلها ،محذرا من
الفراط في التعقيدات تجاه أبناء القلية المسلمة.
فهذا ل يسعفنا إل أن نقدره للبابا ونشكره عليه .وقد علمنا ديننا :أنه ل يشكر
الله من ل يشكر الناس.
كما نقدر للبابا موقفه المحافظ من التيارات الباحية المنتشرة في الغرب
اليوم ،والتي باركتها – للسف – بعض الكنائس ،مثل الزواج المثلي ،وإباحة
الجهاض بإطلق ،ونزع أيدي الوالدين من تربية أولدهما ،وهو ما وقف فيه الزهر
والجهات السلمية المختلفة مع الفاتيكان في موقف واحد ،ضد هذه التجاهات
المنحرفة ،وذلك في مؤتمر السكان في القاهرة 1994م.
وإلى القارئ الكريم بياننا الناصع حول هذا الموضوع.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
-[1]1ومنهم بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر في محاضرته بجامعة راتيسبون بألمانيا الثلثاء
19شعبان 1427هـ الموافق 12سبتمبر )أيلول( 2006م ،التي نقل فيها عن المبراطور البيزنطي
مانويل الثاني في كتابه) :حوارات مع مسلم – المحاورة السابعة( واتهم فيها السلم بأنه ما جاء
إل بالشياء الشريرة ،وأنه انتشر بالسيف ،وأنه مجاف للعقل ...إلخ ،فما يقول البابا بنديكت فيما
سنعرض من نصوص من التوراه :هل ينكرها؟ كيف وهو يؤمن بقول المسيح :ما جئت لنقض
الناموس )التوراة(؟ وبعدها أين يجد البابا )العنف حقا(؟ أيجده في نصوص التوراة التي جاء بها
موسى في زعمهم ،أم يجده في نصوص القرآن؟
هو )العنف( الذي يظهر أنه يحسبه من طبيعة السلم ،لماذا؟
لمور ثلثة:
الول :أن العقيدة السلمية نفسها ل ترفض العنف ،لن الله يمكن أن يشاء
أي شيء ،ولو كان يجافيه العقل.
الثاني :أن السلم فرض على أتباعه الجهاد ،وهو لون من استخدام العنف في
مواجهة العداء ،وليس كالمسيحية التي تقول :من ضربك على خدك اليمن فأدر
له خدك اليسر!
الثالث :أن السلم ل يرفض أن يدخل فيه كرها ،تحت بارقة السيف ،ولهذا أمر
ن ]البقرة ،[256:فقد كانت دي ِ محمد بنشر دينه بالسيف ،أما آية :ل إ ِك َْراهَ ِ
في ال ّ
حين كان محمد ضعيفا ،وتحت سلطان غيره من المشركين.
وهذه المور وغيرها من الشبهات التي تثار دائما -وخصوصا من الغربيين-
لتشويه صورة السلم ،وإظهاره بأنه دين العنف والحرب ،وأنه عدو السلم ،وأنه
طش للدماء ،وأحب شيء إلى أبنائه قتل البشر وإكراههم على الدخول في يتع ّ
السلم.[2]2
وهذه كلها أباطيل تكذبها الحقائق العلمية التي ل ريب فيها ،وسنرد عليها
جميعا في الصفحات التالية.
وهذه -والله -فرية ما فيها مرية ،وكذب صريح على هذا الدين المظلوم
المفترى عليه.
وهو أيضا يكره الحرب ،وينفر منها ،ويحرص على أن يتفاداها ما استطاع ،وإذا وقعت حاول أن يضّيق دائرتها ،وأن يقّلل
خسائرها ،ويخّفف من آثارها ،ما وجد إلى ذلك سبيل.
ن آَمُنوافالسلم والسلم -أو السلم -من الناحية اللغوية مشتقان من مادة واحدة ،هي) :س ل م( ،وقد قال تعالىَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
سْلِم في الية بـ ن ]البقرة ،[208:وقد فسرت كلمة ال ّ
عُدّو ُمِبي ٌ
ن ِإّنُه َلُكْم َ
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُسْلِم َكاّفًة َول َتّتِبُعوا ُ
خُلوا ِفي ال ّ
اْد ُ
)السلم( المقابل للحرب ،كما يفيده ظاهرها ،وبهذا تكون الية دعوة للمؤمنين أن يدخلوا في السلم جميعا ،ول يعرضوا
ي ادخلوا في شَُعب السلم كافة :عقائده وعباداته وأخلقياته سْلِم بـ)السلم( أ ْ عنه إذا ُدعوا إليه .وفسرت أيضا كلمة ال ّ
وتشريعاته ،فتدخلوا بذلك في السلم الحقيقي ،السلم مع أنفسكم ،ومع ُأسركم ،ومع مجتمعاتكم ،ومع الناس كافة.
-[2]2ومنهم بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر في محاضرته بجامعة راتيسبون بألمانيا الثلثاء
19شعبان 1427هـ الموافق 12سبتمبر )أيلول( 2006م ،التي نقل فيها عن المبراطور البيزنطي
مانويل الثاني في كتابه) :حوارات مع مسلم – المحاورة السابعة( واتهم فيها السلم بأنه ما جاء
إل بالشياء الشريرة ،وأنه انتشر بالسيف ،وأنه مجاف للعقل ...إلخ ،فما يقول البابا بنديكت فيما
سنعرض من نصوص من التوراه :هل ينكرها؟ كيف وهو يؤمن بقول المسيح :ما جئت لنقض
الناموس )التوراة(؟ وبعدها أين يجد البابا )العنف حقا(؟ أيجده في نصوص التوراة التي جاء بها
موسى في زعمهم ،أم يجده في نصوص القرآن؟
إشاعة كلمة السلم في المجتمع وجعله تحية السلم:
ومن روائع التوجيه والتربية هنا :أن السلم ُيحّبب إلى المسلم كلمة السلم ،ومفهوم السلم بأساليب شتى ،ل توجد في دين
آخر ،أو أيديولوجية أخرى.
سَماُء
لْل ا َْ
فالسلم من أسماء ال تعالى الحسنى ،التي يدعو المسلم ربه بها ،ويتقرب إلى ال بذكرها ،كما قال تعالىَ :و ِّ
عوُه ِبَها ]العراف.[180:
سَنى َفاْد ُ
حْاْل ُ
سلمُ ]الحشر.[23:
س ال ّ
ك اْلُقّدو ُ
ل ُهَو اْلَمِل ُ
ل اّلِذي ل ِإَلَه ِإ ّ
والمسلم يقرأ في القرآنُ :هَو ا ُّ
والمسلمون هم المة الوحيدة التي يوجد فيها اسم )عبد السلم( أي عبد ال.
عْنَد
سلِم ِ
والجنة التي يتوق إليها كل مؤمن ،ويعمل حثيثا ليكون من أهلها ،تسمى )دار السلم( ،كما قال تعالىَ :لُهْم َداُر ال ّ
ن ]النعام.[127: َرّبِهْم َوُهَو َوِلّيُهْم ِبَما َكاُنوا َيْعَمُلو َ
وكما أن السلم تحية المؤمنين في الخرة ،فهو تحيتهم في الدنيا :السلم عليكم ورحمة ال وبركاته .و)إفشاء السلم( من
أفضل خصال السلم .وقد جاء في جملة أحاديث" :أفشوا السلم"][1
والمسلم إذا جلس في صلته للتشهد :يلقي السلم على نبيه محمد ،وعلى نفسه وأمته" :السلم عليك أيها النبي ورحمة ال
وبركاته .السلم علينا وعلى عباد ال الصالحين"] .[2ثم يخرج من الصلة :بإلقاء تحية السلم عن يمينه وعن يساره ،إيذانا
بأنه كان في الصلة في حالة سلم ،فإذا انصرف من الصلة استقبل الناس والحياة من حوله بالسلم .فهو سلم في عبادته،
سلم في معاملته.
والمسلم ل يتمنى الحرب ول يحرص عليها لذاتها ،بل يتمنى السلم والعافية ،ولكن إذا فرضت عليه الحرب في سبيل ال
خاضها بقوة وجسارة وصبرُ ،موقنا أن له إحدى الحسنيين :النصر أو الشهادة.
ويقول النبي فيما رواه عنه عبد ال بن أبي أوفى" :ل تتمنوا لقاء العدو ،وسلوا ال العافية ،فإذا لقيتموه فاصبروا ،واعلموا
ل:
ن اْلِقَتا َ
ل اْلُمْؤِمِني َ
أن الجنة تحت ظلل السيوف"]َ .[3وَكَفى ا ُّ
والقرآنُيعّقب على غزوة الحزاب ،التي هاجمت جموع المشركين فيها من قريش وغطفان وأحابيشهما :الرسول
عقر دارهم بالمدينة بأعداد هائلة ،يبتغون إبادتهم وتصفيتهم جسديا وماديا ،حتى ل تبقى لهم باقية .لول والمؤمنين معه في ُ
أن عين ال لم تغفل عن النبي وأصحابه ،ويده سبحانه لم تتركهم وحدهم ،ول سيما أن يهود بني قريظة انضموا إلى
ن آَمُنوا اْذُكُروا ِنْعَمَةالمهاجمين ،ونقضوا عهد الرسول في أحلك الوقات وأحوجها إلى مساعدتهم :قال تعالىَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
ن َفْوِقُكْم َوِم ْ
ن جاُءوُكْم ِم ْصيرًا * ِإْذ َ ن َب ِ ل ِبَما َتْعَمُلو َ
ن ا ُّ
جُنودًا َلْم َتَرْوَها َوَكا َعَلْيِهْم ِريحًا َو ُ
سْلَنا َجُنوٌد َفَأْر َجاَءْتُكْم ُ
عَلْيُكْم ِإْذ َ
ل َ ا ِّ
شِديدًال َ ن َوُزْلِزُلوا ِزْلَزا ً
ي اْلُمْؤِمُنو َ ك اْبُتِل َ
ظُنوَنا * ُهَناِل َ ل ال ّ
ن ِبا ِّ
ظّنو َ
جَر َوَت ُ حَنا ِ
ب اْل َ
ت اْلُقُلو ُ
صاُر َوَبَلَغ ِلْب َ ت ا َْ
غ ِل ِمْنُكْم َوِإْذ َزا َ
سَف ََأ ْ
]الحزاب.[11-9:
وفي غزوة الحديبية التي بايع الصحابة فيها رسول ال ،على الموت ،أي القتال حتى الموت ،وعدم الستسلم بحال ،ثم
شاء ال تعالى أن يتفاوض المسلمون والمشركون ،وأن ينتهوا إلى الصلح المعروف بـ)صلح الحديبية( والذي يتضمن هدنة
مدتها عشر سنواتُ ،تغمد فيها السيوف ،ويكف كل فريق يده عن الخر :ينزل هنا قرآن ُيتلى ،يسمي هذه الهدنة أو هذا
ك َفْتحًا ُمِبينًا ]الفتح ،[1:ويسأل
حَنا َل َ
الصلحَ :فْتحًا ُمِبينًا ،وتنزل في ذلك سورة تسمى سورة )الفتح( تبدأ بقوله تعالىِ :إّنا َفَت ْ
أحد الصحابة رسول ال :أفتح هو يا رسول ال؟ فيقول" :نعم هو فتح"] .[4استبعدوا أن يكون فتح بغير حرب ،ولكن ال
ن به على رسوله ،وأنزل في ذلك سورة سميت )سورة الفتح(. تعالى سّماه فتحا ،بل فتحا مبينا ،وامت ّ
عَلْيِهْم ]الفتح:
ظَفَرُكْم َ
ن َأ ْ
ن َبْعِد َأ ْن َمّكَة ِم ْ
طِعْنُهْم ِبَب ْ
عْنُكْم َوَأْيِدَيُكْم َ
ف َأْيِدَيُهْم َ
وقال تعالى في هذه السورة ُممتّناَ :وُهَو اّلِذي َك ّ
،[24فهو هنا ل يمتن بكف أيدي المشركين عن المؤمنين فقط ،بل يمتن أيضا بكف أيدي المؤمنين عن المشركين أيضا:
ن َمّكَة ،فهذا هو التعبير الحقيقي عن حب السلم الذي يسود الطرفين معا. طِعْنُهْم ِبَب ْ
َوَأْيِدَيُكْم َ
وإذا اضطر المسلمون أن يخوضوا معركة فرضت عليهم ،فإنهم مأمورون أن ُيقّللوا من خسائرها البشرية والمادية ما
أمكنهم ،فل يقتلون إل َمن يقاتل :ل يقتلون امرأة ول طفل ،ول شيخا فانيا ،ول راهبا ول فلحا ول تاجرا ،إنما يقتلون َمن
يقاتل فحسب .كما أنهم ل يقطعون شجرا ،ول يهدمون بناء ،ول يفسدون في الرض ،ول يقومون إل بما تقتضيه ضرورة
الحرب ،وللضرورات أحكامها ،وهي تقدر بقدرها .فقد قّيد القرآن ارتكاب الضرورة بعدم البغي والعدوان ،حين قال بعد
حيٌم
غُفوٌر َر ِ
ل َ
ن ا َّ
عَلْيِه ِإ ّ
عاٍد َفل ِإْثَم َ
غ َول َ
غْيَر َبا ٍ
طّر َ
ضُنا ْ
تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الَ :فَم ِ
]البقرة.[173:
عوا لها ،ولو بعد وقوع الحرب ،واشتعال وقودها ،يقول ومع هذا كله ،يأمر القرآن المسلمين أن يستجيبوا لدعوة السلم إذا ُد ُ
ل ُهَو اّلِذي
ك ا ُّ
سَب َ
حْ
ن َ
ك َفِإ ّ
عو َ
خَد ُ
ن َي ْ
ن ُيِريُدوا َأ ْ
سِميُع اْلَعِليُم * َوِإ ْ
ل ِإّنُه ُهَو ال ّ
عَلى ا ِّ
ل َح َلَها َوَتَوّك ْ
جَن ْ
سْلِم َفا ْ
حوا ِلل ّجَن ُن َ تعالىَ :وِإ ْ
ن ]النفال.[62،61: صِرِه َوِباْلُمْؤِمِني َك ِبَن ْ
َأّيَد َ
حتى مع احتمال إرادة الخداع منهم ،ل ينبغي أن ُترفض دعوة السلم بإطلق ،وإنما يجب أن نجنح لها كما جنحوا .على أن
يتم ذلك بشروطه وضوابطه الشرعية.
فليس من الجنوح للسلم بحال :أن تغتصب أرضي بالسيف ،ثم تفاوضني على أن أترك لك بالصلح ما أخذته مني بالسيف،
وتسّمي ذلك جنوحا للسلم ،فهذا أبعد ما يكون عن الجنوح للسلم ،كما يفعل ذلك الصهاينة اليوم] ![5والشرط أن يتوافر من
العدو الجنوح للسلم ،وأن تظهر دلئل ذلك في مواقفه.
وهذا ما طبقه الرسول بالفعل ،حين جنحت قريش إلى السلم يوم الحديبية ،ولم يكن ذلك عن ضعف منه ،ول تقاعس من
أصحابه ،فقد بايعوه على الموت ،ولكنه جنح للسلم ،حين لمس من خصومه الجنوح إليها ،فكان الصلح الشهير ،والصلح
خير .وقد تحقق من ورائه خير كثير لدعوة السلم ،ودخل الكثيرون من القرشيين في دين ال ،من أمثال خالد بن الوليد
وعمرو بن العاص ،وغيرهما.
ومن دلئل حرص السلم على السلم ،ونفوره من الحرب :هذا الحديث النبوي الذي يقول" :أحب السماء إلى ال :عبد ال
وعبد الرحمن ،وأصدق السماء :حارث وهمام ،وأقبح السماء :حرب ومرة"].[6
حتى لفظة )حرب( من المفردات التي يكره السلم تكرارها على ألسنة الناس ،ولهذا يكرهها محمد ،ويراها أقبح اسم
ُيسّمى به إنسان ،وقد كان العرب في الجاهلية يسمون أبناءهم بـ)حرب( مثل حرب بن أمية ،والد )أبي سفيان بن حرب(
وغيره.
وروى المام أحمد في مسنده ،وروى البخاري في الدب المفرد ،وغيرهما عن على رضي ال عنه قال :لما ولد الحسن
سّميُته حربا ،فجاء رسول ال فقال" :أروني ابني ما سّميتموه؟" .قال :قلت :حربا .قال" :بل هو حسن" .فلما ولد الحسين
سّميُته حربا ،فجاء رسول ال فقال" :أروني ابني ما سميتموه؟" .قال :قلت :حربا .قال" :بل هو حسين" .فلما ولد الثالث
سّميُته حربا ،فجاء النبي فقال" :أروني ابني ما سميتموه؟" .قلت :حربا .قال" :بل هو محسن"].[9
وفي إحدى الروايات :أن عليا قال :كنت أحب أن أكتنى بـ)أبي حرب(].[10
ومن حرص السلم على السلم :أنه فرض على المسلمين هدنة إجبارية يمتنعون فيها عن القتال لمدة أربعة أشهر ،أي ثلث
العام ،وهي الشهر المعروفة بـ)الشهر الحرم( وهي :ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب :ثلثة سرد ،وواحد فرد .أي
ن آَمُنوا ل
ثلثة متتابعة ،وواحد منفرد عنها .قال تعالى في سورة المائدة ،وهي من أواخر ما نزل من القرآنَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
حَراَم ]المائدة.[2:
شْهَر اْل َ
ل َول ال ّ
شَعاِئَر ا ِّ
حّلوا َ
ُت ِ
ولكن إذا قوتل المسلمون في الشهر الحرام قاتلوا فيه ردا للعدوان ،وتأديبا للمعتدين ،حتى ل يجترئوا على المسلمين،
عَتُدوا
عَلْيُكْم َفا ْ
عَتَدى َ
نا ْ
ص َفَم ِ
صا ٌ
ت ِق َ
حُرَما ُ
شْهِر اْلحََراِم َواْل ُ
حَراُم ِبال ّ
شْهُر اْل َ
مستغلين تعظيمهم للشهر الحرام ،يقول تعالى :ال ّ
ل ]البقرة.[194: عَلْيُكْم َواّتُقوا ا َّ
عَتَدى َ
ل َما ا ْ
عََلْيِه ِبِمْث ِ
وقد ذهب الئمة الربعة والجمهور إلى أن تحريم القتال في الشهر الحرم منسوخ .وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير
منسوخ .وكان عطاء يحلف بال :ما يحل القتال في الشهر الحرام ،ول نسخ تحريمه شيء!
وقد رّد العلمة ابن القيم على كل الدلة التي استدل بها َمن قال بالنسخُ ،مبّينا أن كل ما قيل فيه :إن النبي قد قاتل في
الشهر الحرام ،أنه كان قتال دفاع لما بدأه العدو من عدوان على المسلمين .قال ابن القيم :ول خلف في جواز القتال في
الشهر الحرام إذا بدأ العدو ،وإنما الخلف أن يقاتل فيه ابتداء.
شْهَر
ل َول ال ّ
شَعاِئَر ا ِّ
حّلوا َ
ل ِفيِه ،...وآية ]المائدة [2:ل ُت ِ حَراِم ِقَتا ٍ
شْهِر اْل َ
ن ال ّ
عِ
ك َ
سَألوَن َ
وذكر ابن القيم آية ]البقرةَ ،[217:ي ْ
حَراَم ،ثم قال :فهاتان آيتان مدنيتان ،بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام .وليس في كتاب ال ول سنة رسوله ناسخ اْل َ
ن َكاّفًة ]التوبة ،[36:ونحوها شِرِكي َ
لحكمهما ،ول أجمعت المة على نسخه .وَمن استدل على نسخه بقوله تعالىَ :وَقاِتُلوا اْلُم ْ
من العمومات ،فقد استدل على النسخ بما ل يدل عليه .ومن استدل بأن النبي بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي
القعدة ،فقد استدل بغير دليل ،لن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ،ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في
الشهر الحرام] [11اهـ.
ومن عناية السلم بالسلم :أنه فرض على كل مسلم في العمر مرة عبادة خاصة ،وهي حج البيت الحرام ،وهي عبادة
يتدّرب المسلم فيها على السلم ،فهي تتم عادة في الشهر الحرام في ذي الحجة ،وفي البلد الحرام مكة المكرمة ،وفي حالة
الحرام ،فتحوطه حرمة الزمان ،وحرمة المكان ،وحرمة الحال ،حال الحرام ،الذي يحظر عليه فيه كل قتل حتى قتل
ن الّنَعِم ...
ل ِم َ
ل َما َقَت َ
جَزاٌء ِمْث ُ
ن َقَتَلُه ِمْنُكْم ُمَتَعّمدًا َف َ
حُرٌم َوَم ْ
صْيَد َوَأْنُتْم ُ
ن آَمُنوا ل َتْقُتُلوا ال ّ
الصيد ،كما قال سبحانهَ :يا َأّيَها اّلِذي َ
]المائدة.[95:
فالمسلم في هذه الرحلة :سلم لكل َمن حوله ،وكل ما حوله ،حتى الشجار والحشائش يحرم عليه أن يقطعها.
سر ال له ذلك،
وكل مسلم عليه أن يقوم برحلة السلم هذه مرة في عمره فرضا من ال ،وله أن يحج ويعتمر تطوعا ما ي ّ
ابتغاء مرضاة ال.
ولو كان قتال جميع الكفار -أو غير المسلمين -في العالم فرضا على المسلمين ،حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون ،ما رأينا أحاديث تأمرنا بترك العداء ما تركونا ،والكف عنهم ما كفوا عنا.
ل َوُهَو
عَلْيُكُم اْلِقَتا ُ
ب َ
ل يرغب السلم في الحرب لذات الحرب ،ول يخوضها إل إذا فرضت عليه كرها ،كما قال تعالىُ :كِت َ
ُكْرٌه َلُكْم ]البقرة.[216:
إنما يخوض المسلمون الحرب والقتال إذا أجبرتهم عليها )سنة التدافع( وهي من السنن الكونية والبشرية العامة ،التي أقام
ال عليها هذا العالم .وإلى هذه السنة -أو هذا القانون العام -أشار القرآن الكريم في آيتين من آياته ،ففي سورة البقرة :عّقب
القرآن على قصة طالوت ،ومقاومته لجالوت الجبار ،رغم قلة عدد المؤمنين المقاتلين مع طالوت ،وكثرة عدد الكافرين
المحاربين مع جالوت ،ورغم عدم تكافؤ القوة بين الطرفين ،انتصرت القلة المؤمنة الصابرة على الكثرة الكافرة المتجبرة.
ل اّلِذي َ
ن جُنوِدِه َقا َت َو ُجاُلو َ طاَقَة َلَنا اْلَيْوَم ِب َن آَمُنوا َمَعُه َقاُلوا ل َ جاَوَزُه ُهَو َواّلِذي َ يقول تعالى عن طالوت ومجاوزته للنهرَ :فَلّما َ
جُنوِدِه َقاُلوا َرّبَنات َو ُجاُلو َ ن * َوَلّما َبَرُزوا ِل َ صاِبِري َ ل َمعَ ال ّ ل َوا ُّن ا ِّ ت ِفَئًة َكِثيَرًة ِبِإْذ ِ
غَلَب ْ
ن ِفَئٍة َقِليَلٍة َ
ل َكْم ِم ْ ن َأّنُهْم ُملُقو ا ِّظّنو َ َي ُ
ل اْلُمْل َ
ك ت َوآَتاُه ا ُّ
جاُلو َ ل َداُوُد َ ل َوَقَت َ ن ا ِّن * َفَهَزُموُهْم ِبِإْذ ِ عَلى اْلَقْوِم اْلَكاِفِري َ صْرَنا َ ت َأْقَداَمَنا َواْن ُصْبرًا َوَثّب ْ عَلْيَنا َغ َ َأْفِر ْ
ن ]البقرة: عَلى اْلَعاَلِمي َ ل َ ضٍل ُذو َف ْ ن ا َّ ض َوَلِك ّلْر ُ ت ا َْ
سَد ِ
ض َلَف َضُهْم ِبَبْع ٍ س َبْع َ ل الّنا َ شاُء َوَلْول َدْفُع ا ِّ عّلَمُه ِمّما َي َ
حْكَمَة َو ََواْل ِ
.[251-249
بهذا التدافع -دفع ال الناس بعضهم ببعض -يحفظ ال الرض وَمن عليها وما عليها من الفساد .وإل لطغى الجبارون
والمتكبرون في الرض بغير الحق ،وأصبح العالم غابة يفترس فيها القوي الضعيف.
وفي هذه القصة -قصة طالوت -التي ذكرها القرآن عن بني إسرائيل ،كان طالوت وَمن معه يدافعون عن ديارهم وأبنائهم.
جاُلوتَ
ن ِدَياِرَنا َوَأْبَناِئَنا ]البقرة .[246:فهّيأ ال َداُوُد الشاب المؤمن ليقتل َ
جَنا ِم ْ
خِر ْ
ل َوَقْد ُأ ْ
ل ا ِّ
سِبي ِ
ل ِفي َ
ل ُنَقاِت َ
قالواَ :وَما َلَنا َأ ّ
الطاغية المتجبر ،وبهذا اندفع عن الرض شر مستطير.
والية الثانية التي قّرر القرآن فيها سنة التدافع في سورة الحج ،حين أذن ال للجماعة المؤمنة المضطهدة أن تقاتل دفاعا
ن الَّظِلُموا َوِإ ّ
ن ِبَأّنُهْم ُ
ن ُيَقاَتُلو َ
ن ِلّلِذي َعن نفسها وحرماتها وحريتها في التدين ،بل عن حرمة الديان الخرى ،قال تعالىُ :أِذ َ
ض َلُهّدَم ْ
ت ضُهْم ِبَبْع ٍ
س َبْع َ ل الّنا َ ل َوَلْول َدْفُع ا ِّ ن َيُقوُلوا َرّبَنا ا ُّ
ل َأ ْ
ق ِإ ّ
حّ ن ِدَياِرِهْم ِبَغْيِر َ
جوا ِم ْ خِر ُ ن ُأ ْ
صِرِهْم َلَقِديٌر * اّلِذي َ
عَلى َن ْ َ
عِزيٌز ]الحج.[39،40: ي َ ل َلَقِو ّن ا َّ صُرهُ ِإ ّ
ن َيْن ُل َم ْن ا ُّ
صَر ّل َكِثيرًا َوَلَيْن ُ
سُم ا ِّجُد ُيْذَكُر ِفيَها ا ْ
سا ِت َوَم َ صَلَوا ٌ
صَواِمُع َوِبَيٌع َو َ
َ
وبهذا كان السلم )واقعيا( حين أقّر بشرعية القتال أو شرعية الحرب لضرورة التدافع ،وبعبارة أخرى :دفاعا عن الدين
والحق والحرمات والحريات ،وعلى رأسها :حرية التدين ،في مواجهة الطغاة الذين يصادرون حق الناس في اليمان،
ويفتنون المؤمنين عن دينهم .ولهذا لم يكن دفاع السلم عن المساجد وحدها ،بل عنها وعن الصوامع والِبَيع والصلوات،
أي عن معابد اليهود والنصارى ،حتى ل ُيمنع أحد من إقامة شعائر دينه ،أو ُيكره على تغيير دينه.
وبعض النصارى يتهمون السلم بأنه )دين السيف( وأنه )دين الحرب( وأن رسول السلم حارب وقاتل ،ولم يكن
كالمسيح الذي دعا إلى السلم ،وقال في تعاليمه) :من ضربك على خدك اليمن ،فأدر له خدك اليسر(]![14
ونسي هؤلء أو تناسوا ما سجله التاريخ :أن أتباع الديانة المسيحية -للسف الشديد -هم أكثر أصحاب الديان صراعا
وحروبا فيما بين بعضهم وبعض ،وفيما بينهم وبين غيرهم ،فطالما أوقدوا نار الحرب أحيانا بدوافع دينية كما حدث بين
الكاثوليك والبروتستانت من مذابح تشيب لهولها الولدان] ،[15وأحيانا بدوافع قومية أو وطنية أو مصلحية .والتاريخ حافل
بهذه الحروب ،ول سيما بين البلدان الوربية بعضها وبعض ،وآخرها الحربان العالميتان الشهيرتان التي قتل المسيحيون
بعضهم من بعض :عشرات المليين.
لرسي
حتى قال أحد الكتاب الوربيين :ما صدقت بنبوءة من نبوءات المسيح ،كما صدقت نبوءته حين قال) :ما جئت ُ
سلما على الرض ،ما جئت لرسي سلما ،بل سيفا(].[16
وما ذكره المسيح في إدارة الخد اليسر لَمن ضربك على اليمن :يمثل درجة )الفضل( التي تصلح في بيئة محدودة،
ولجماعة مثالية ،ترنو إلى الُمُثل العليا ،ولكنها ل تصلح أن تكون قاعدة عامة للتعامل مع جميع الناس ،في كل القطار،
وفي كل العصار ،ومع جميع الصناف والطبقات ،وفي كل الظروف والحالت .إنما الذي يصلح لعموم الناس في جميع
المصار والعصار والحوال :هو إيجاب مبدأ )العدل( ،والترغيب في مبدأ )الفضل( ،وهو ما جاء به السلم ،حيث قال
عَلْيِهْم
ك َما َ
ظْلِمِه َفُأوَلِئ َ
صَر َبْعَد ُ
ن اْنَت َ
ل ]الشورىَ ،[40:وَلَم ِ عَلى ا ِّ
جُرُه َح َفَأ ْ
صَل َ
عَفا َوَأ ْ
ن َ سّيَئٌة ِمْثُلَها َفَم ْ
سّيَئٍة َ
جَزاُء َ تعالىَ :و َ
غَفَر
صَبَر َو َ ن َ ب َأِليٌم * َوَلَم ْعَذا ٌك َلُهْم َ
ق ُأوَلِئ َ
حّض ِبَغْيِر اْل َ
لْر ِ
ن ِفي ا َْس َوَيْبُغو َن الّنا َ
ظِلُمو َ ن َي ْ
عَلى اّلِذي َ ل َ سِبي ُل * ِإّنَما ال ّ سِبي ٍ
ن َ مِ ْ
لُموِر ]الشورى.[43-41: عْزِم ا ُْن َ ك َلِم ْ
ن َذِل َِإ ّ
جد فيها الشرير المعتدي ،وبإزائه الخّير الطّيبُ ،وجد إن البشرية منذ فجر التاريخ ،ومنذ كانت أسرة واحدة :آدم وبنوهُ :و ِ
ص علينا القرآن قصة الخوين اللذين قتل أحدهما الخر ظلما فيها قابيل وهابيل ،كما تسميهما )السرائيليات( .وقد ق ّ
جرم اقترفته يداه ،ولم يكن هناك مجتمع أّثر فيه -كما يقال اليوم -بل طاوع نفسه المارة بالسوء التي سولت له وعدوانا ،بل ُ
خِر َقا َ
ل لَنا ْ ل ِم َ حِدِهَما َوَلْم ُيَتَقّب ْن َأ َل ِم ْ
ق ِإْذ َقّرَبا ُقْرَباًنا َفُتُقّب َحّ ي آَدَم ِباْل َعَلْيِهْم َنَبَأ اْبَن ْ
ل َقتل أخيه فقتله .اقرأ هذه الياتَ :واْت ُ
ل َر ّ
ب ف ا َّ خا ُ ك ِإّني َأ َ لْقُتَل َ
ك َِ
ي ِإَلْي َ
ط َيِد َ
سٍ ك ِلَتْقُتَلِني َما أََنا ِبَبا ِ
ي َيَد َ ت ِإَل ّ
ط َ س ْن َب َ ن * َلِئ ْ ن اْلُمّتِقي َ
ل ِم َ
ل ا ُّل ِإّنَما َيَتَقّب ُ
ك َقا َ
لَْقُتَلّن َ
خيِه َفَقَتَلُه
ل َأ ِ
سُه َقْت َت َلُه َنْف ُع ْ طّو َ ن * َف َ ظاِلِمي َجَزاُء ال ّ ك َ ب الّناِر َوَذِل َ حا ِ صَ ن َأ ْ ن ِم ْ ك َفَتُكو َ ن َتُبوَء بِإْثِمي َوِإْثِم َ ن * ِإّني ُأِريُد َأ ْ اْلَعاَلِمي َ
ن ]المائدة.[30-27 : سِري َ خا ِن اْل َح ِم َصَب َ
َفَأ ْ
شرير ،وكان لهم قوة وسلطان؟ هل ُيتركون ليطغوا في البلد ،وُيكثروا فيها الفساد، ماذا يفعل الناس إذا كثر أتباع قابيل ال ّ
دون أن يردعهم رادع ،أو يقول لهم أحد :كّفوا أيديكم ،وقفوا عند حّدكم؟
هل يمكن أن يقف الناس جميعا موقف الخ الطّيب هابيل؟ وَيَدعوا لقابيل الُمجرم فرصته ليمارس هوايته في القتل
والتدمير؟
إن َمن يستقريء واقع الناس ،يتبين له أن كثيرا من الناس -بل ربما أكثرهم -هو من صنف قابيل ،الذي يستخدم قوته في
الشر .حتى قال بعض الفلسفة :النسان ذئب ُمقّنع.
بل وجدنا من الدباء َمن يقول :النسان حيوان محارب! وقال مناحم بيجن في كتابه )الثورة( الذي أّلفه قبل قيام دولة الكيان
الصهيوني :أنا أحارب ،إذن أنا موجود!
جهوا بنفس
فكيف يمكن تجاهل مثل هذه الفلسفات والنظريات التي تؤمن بمنطق القوة ل بقوة المنطق .وهؤلء ل بد أن ُيوا َ
منطقهم .فالشر بالشر يحسم ،والبادئ أظلم .ول در شوقي حين قال في نهج البردة:
ذرعـــا ،وإن تلقه بالشر ينحسم والشر إن تلــقه بالخير ضقت به
وقال آخر:
والواقع أن الحياة ل تستقيم بغير القوة ،تحمي الحق ،وتقاوم الباطل ،وتفرض العدل ،وتحارب الظلم ،وتمنع قابيل من
التعدي على هابيل .وهذه هي الواقعية المثالية التي جاءت بها أخلق السلم] ،[17وتشريعات السلم ،وتوجيهات القرآن:
ن]النحل.[126:
صاِبِري َ
خْيٌر ِلل ّ
صَبْرُتْم َلُهَو َ
ن َ
عوِقْبُتْم ِبِه َوَلِئ ْ
ل َما ُ
عاَقْبُتْم َفَعاِقُبوا ِبِمْث ِ
ن َ
وَِإ ْ
--------------------------------------------------------------------------------
] -[1رواه مسلم في اليمان ) ،(54وأحمد في المسند ) ،(9084والترمذي في الستئذان والداب ) ،(2688وابن ماجه في
المقدمة ).(68
] -[2متفق عليه :رواه البخاري في الذان ) ،(831ومسلم في الصلة ) ،(402وأحمد في المسند ) ،(3622وأبو داود في
الصلة ) ،(968والترمذي في الصلة ) ،(289والنسائي في الفتتاح ) ،(1170وابن ماجه في إقامة الصلة والسنة فيها )
،(899عن ابن مسعود.
] -[4رواه أحمد في المسند ) ،(15470وقال محققوه :إسناده ضعيف ،يعقوب بن مجمع بن جارية والد مجمع -وإن كان
حسن الحديث -انفرد به ،وأبو داود في الجهاد ) ،(2359والطبراني في الوسط ) ،(4/120وفي الكبير ) ،(19/445عن
مجمع بن جارية ،وضعفه اللباني في ضعيف أبي داود ).(587
] -[5راجع فتوانا بتحريم الصلح مع إسرائيل والرد على القائلين بذلك ،في كتابنا :فتاوى معاصرة جـ 3صـ 465وما
بعدها.
] -[6رواه أحمد في المسند ) ،(19032وقال محققوه :إسناده ضعيف لجهالة عقيل بن شبيب ،فقد تفرد بالرواية عنه محمد
بن مهاجر وهو النصاري ،ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان ،وأبو داود في الدب ) ،(4950والبيهقي في الكبرى كتاب
الضحايا ) ،(9/306عن أبي وهب الجشمي ،وصححه اللباني في الصحيحة ).(1040
] -[9رواه أحمد في المسند ) ،(769وقال محققوه :إسناده حسن ،رجاله ثقات رجال الشيخين ،غير هانئ بن هانئ ،فقد
روى له أصحاب السنن ،والبخاري في الدب المفرد ) ،(823والبزار في المسند ) ،(2/314وابن حبان في صحيحه كتاب
إخباره عن مناقب الصحابة ) ،(15/409والطبراني في الكبير ) ،(3/96والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة )
،(3/180وقال :صحيح السناد ولم يخرجاه ،ووافقه الذهبي ،والبيهقي في الكبرى كتاب الوقف ) ،(6/166عن علي ،وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح ،غير هانئ بن هانئ وهو
ثقة ).(8/102
] -[10رواه الطيالسي في المسند ) ،(1/19والبزار في المسند ) ،(2/315والطبراني في الكبير ) ،(3/79عن علي ،وقال
الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه البزار والطبراني بنحوه بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح ) ،(8/102ولم يذكر فيها
الولد الثالث.
] -[12رواه أبو داود في الملحم ) ،(4309والبزار في المسند ) ،(6/346والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملحم )
،(4/500والبيهقي في الكبرى كتاب السير ) ،(9/176عن عبد ال بن عمرو ،وصححه اللباني في الصحيحة )،(722
ورواه أحمد في المسند عن زهير بن محمد ،عن موسى بن جبير ،عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن رجل من أصحاب
رسول ال .
] -[15طالع بعض ذلك فيما نقله الشيخ رحمة ال الهندي في كتابه )إظهارالحق( وسننقله عنه بعضه في فصل )الجهاد بين
شريعة التوراة وشريعة القرآن( في هذا الباب.
] -[16انظر :إنجيل متى ) (37-10/34وتتمة الفقرة) :فإني جئت لجعل النسان على خلف مع ابنه ،والبنت مع أمها،
والكّنة مع حماتها ،وهكذا يصير غداء النسان مع أهل بيته( وانظر :لوقا ) .(53-12/51و) .(14/27،26وفيه يقول:
)جئت للقي على الرض نارا ،فكم أود أن تكون مشتعلة! أتظنون أني جئت للقي السلم على الرض؟ أقول لكم :ل ،بل
الحرى :النقسام( .أقول :ولكن النصاف يقتضي أل نحكم على المسيحية كلها من هذا النص ،بل ل بد من نظرة شاملة
للنصوص ،بحيث يرد متشابهها إلى محكمها .كما نفعل في النصوص الشرعية عندنا.
] -[17لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع راجع ما كتبناه في كتابنا )الخصائص العامة للسلم( فصل )الواقعية( صـ
144طبعة مكتبة وهبة القاهرة ،وكذلك فصل )الواقعية( من كتابنا )مدخل لدراسة الشريعة السلمية( صـ 119طبعة
مكتبة وهبة القاهرة.
] -[1في إنجيل متى :الصحاح )) :(5ل تظنوا أني جئت للغي الشريعة أو النبياء ،ما جئت للغي ،بل لّكمل( الفقرة ) ،(17وانظر :إنجيل مرقص:
،9/50لوقا.14/35،34 :
] -[2انظر :الكتاب المقدس )التوراة ( سفر التثنية :الصحاح العشرين 18-10 :صـ.392،393
] -[3رواه أحمد في المسند ) ،(16788وقال محققوه :إسناده صحيح على شرط الشيخين ،وأبو داود في الصيد ) ،(2845والترمذي في الحكام
والفوائد ) ،(1486وقال :حسن صحيح ،والنسائي في الصيد والذبائح ) ،(4280وابن ماجة في الصيد ) ،(3205عن عبد ال بن ُمَغّفل ،وصححه
اللباني في صحيح الجامع ).(5321
] -[4انظر :كتابنا )رعاية البيئة في شريعة السلم( فصل :المحافظة على الموارد صـ. 95-91
] -[5ناقش العلمة ابن خلدون في مقدمته هذه الرقام ،التي ذكرتها التوراة عن أعداد بني إسرائيل ،وبين بالمنطق التاريخي :أنها غير صحيحة على
الطلق ،وأنها ل تتفق مع المدة الزمنية التي قضاها بنو إسرائيل في مصر ،وما أصابهم فيها من تذبيح وتقتيل .وهو تحقيق في غاية الصواب .وقد
سبقه إلى شيء من ذلك :المام ابن حزم في كتابه )الفصل في الملل والهواء والنحل( ) (263-1/261فصل :تخبط كتب اليهود في عدوهم حين
خروجهم من مصر .طبعة عكاظ للنشر والتوزيع ،ولكن العلمة رحمة ال في )إظهار الحق( يؤاخذهم بما سجلوه في كتبهم المقدسة على أنفسهم.
] -[6انظر :كتاب إظهار الحق ) (504-2/496طبعة إحياء التراث السلمي في قطر.
] -[7وإن كنا نحن المسلمين -بحكم تعظيمنا لرسل ال وأنبيائه -نبرئهم من هذه التهم الشنيعة ،والجرائم الفظيعة ،ونعتقد أن هذه الفظائع المرّوعة
مما أضيف إلى التوراة وملحقاتها ،أو على القل بولغ فيها.
صفحات ..من مذابح النصارى بعضهم لبعض
إن الذين يتهمون السلم بأنه )دين السيف( وأنه قهر الناس بالسيف ،هم أول الناس وأكثر الناس استعمال للسيف ،بموجب
وبغير موجب ،ول سيما فيما بين بعضهم وبعض.
وأكتفي بأن أذكر هنا ما سجله العلمة الشيخ رحمه ال الهندي في كتابه القيم )إظهار الحق( الذي رّد فيه على المبشرين
البروتستانت دعاواهم الكاذبة على السلم ،ومن هذه الدعاوى :أن السلم انتشر بالسيف .وقد بّين الشيخ بالبراهين :أن هذا
الدعاء غير صحيح كما أشار إليه في المر السابع من مقدمة الكتاب ،كما بين أن أفعالهم ُتكّذب أقوالهم ،وأنهم أكثر الناس
استعمال للسيف كما أن أسلفهم من أهل ِملتهم إذا تسلطوا تسلطا تاما ،اجتهدوا في إبادة المخالفين .قال :وأنا أنقل بعض
الحالت من كتبهم ورسائلهم ،فأنقل حالهم بالنسبة إلى )اليهود( من كتاب )كشف الثار في قصص أنبياء بني إسرائيل( الذي
عرفته في بيان المر الثاني ،فأقول:
موقف المسيحيين من اليهود:
قال صاحبه في الصفحة )) :(27القسطنطين العظم -الذي كان قبل الهجرة بثلثمائة سنة تقريبا -أمر بقطع آذان اليهود،
وإجلئهم إلى أقاليم مختلفة ،ثم أمر ملك الملوك الرومي في القرن الخامس من القرون المسيحية ،بإخراجهم من البلدة
السكندرية التي كانت مأمنهم من مدة ،وكانوا يجيئون إليها من كل جانب ،فيستريحون فيها .وأمر بهدم كنائسهم ،ومنع
عبادتهم ،وعدم قبول شهادتهم ،وعدم نفاذ الوصية إن أوصى أحد منهم لحد في ماله ،ولما ظهرت منهم مقاومة ،بسبب هذه
الحكام :نهب جميع أموالهم ،وقتل كثيرا منهم ،وسفك الدماء بظلم ارتعد له جميع يهود هذا القليم(.
طع أعضاء البعض ،وقّتل البعض، سروا بعد ما صاروا مغلوبين ،ق ّ
ثم قال في الصفحة )) :(28إن يهود البلد )انطيوح( لما ُأ ِ
ك الملوك في جميع مملكته هؤلء المشاركين بأنواع الظلم ،ثم أجلهم من مملكته آخرا. ظَلم ،مل ُ
وأجلى الباقين منهم كلهم ،و َ
وهيج ولة الممالك الخرى على أن يعاملوا اليهود هذه المعاملة ،فكان حالهم أنهم تحملوا الظلم من آسيا إلى أقصى حد
أوربا ،ثم بعد مدة قليلة كلفوا في مملكة إسبانيا لقبول شرط من الشروط الثلثة :أن يقبلوا الملة المسيحية ،فإن أبوا عن
جَلوا من أوطانهم.قبولها يكونوا محبوسين ،وإن أبوا عن كليهما ُي ْ
وصار مثل هذه المعاملة معهم في ديار فرنسا .فهؤلء المساكين كانوا ينتقلون من إقليم إلى إقليم ،ول يحصل لهم موضع
ضا ،بل قتلوا في كثير من الوقات ،كما قتلوا في ممالك الفرنج(.
القرار ،ولم يحصل لهم المن في آسيا أي ً
ثم قال في الصفحة )) :(29إن أهل ِملة الكاثوليك كانوا يظلمونهم باعتقاد أنهم كفار ،وعظماء هذه الملة عقدوا مجلسا
للمشورة ،وأجروا عليهم عدة أحكام:
)الول( :من حمى يهوديا ضد مسيحي يكون ذا خطأ ،ويخرج عن الملة.
طى يهودي منصبا في دولة من الدول.
)والثاني( :أنه ل ُيع َ
)والثالث( :لو كان مسيحي عبده فهو حر.
)والرابع( :ل يأكل أحد مع اليهودي ،ول يعامله.
)والخامس( :أن ُينـزع الولد منهم وُيرّبْون في الملة المسيحية ...وهكذا كان أحكام أخر(.
أقول :ل شك أن الحكم الخامس أشد أنواع الكراه.
ثم قال) :كانت عادة أهل البلدة ثولوس من إقليم فرنسا :أنهم كانوا يلطمون وجوه اليهود في عيد الفصح! وكان رسم البلدة
بزيرس :أن أهلها من أول يوم الحد من أيام العيد إلى يوم العيد ،كانوا يرمون اليهود بالحجارة ،وكان يكثر القتل أيضا في
هذا الرمي ،وكان حاكم البلدة المسيحي المذهب يحرض أهلها على هذا الفعل(.
ثم قال في الصفحة )) :(31 ،30دبر سلطين فرنسا في حق اليهود أمرا ،وهو أنهم كانوا يتركون اليهود إلى أن يصيروا
متمولين بالكسب والتجارة ،ثم يسلبون أموالهم ،وبلغ هذا الظلم لجل الطمع غايته.
ثم لما صار )فيليب أوغسطس( سلطانا في فرنسا ،أخذ أوًل الخمس من ديون اليهود التي كانت على المسيحيين ،وأبرأ من
الباقي ذمة المسيحيين ،وما أعطى اليهود حبة ،ثم أجلى اليهود كلهم من مملكته ،ثم جلس على سرير السلطنة )سانت لويس(
وهو يطلب اليهود مرتين في مملكته .وأجلهم مرتين ،ثم أجلى )جرلس السادس( اليهود من مملكة فرنسا.
وقد ثبت من التواريخ :أن اليهود أجلوا من مملكة فرنسا سبع مرات ،وعدد اليهود الذين أخرجوا من مملكة أسبانيا -لو فرض
في جانب القلة -ل يكون أقل من ألف وسبعين ألف بيت!
سّدوا أول
وفي مملكة )النمسا( قتل كثير منهم ،ونهب كثير منهم ،ونجا منهم قليل ،وهم الذين تنصروا ،ومات كثير منهم بأن َ
أبوابهم ،ثم أهلكوا أنفسهم وأولدهم وأزواجهم وأموالهم ،إما بالغراق في البحر ،أو بالحراق بالنار ،وقتل غير المحصورين
منهم في الجهاد المقدس.
وكان النكليز اتفقوا على أن يظلموا اليهود ،فلما حصل اليأس العظيم ليهود البلدة )يرك( بسبب الظلم ،قتل بعضهم بعضا،
فقتل ألف وخمسمائة من الرجال والنساء والطفال ،وصاروا أذلء في هذه المملكة بحيث إذا بغى المراء على السلطان ،قتلوا
سبعمائة يهودي ،ونهبوا أموالهم ،لجل أن يظهروا شوكتهم على الناس ،وسلب )رجاردوجان( و)هنري الثالث( من سلطين
انكلتره مرارا :أموال اليهود ظلما سيما )هنري الثالث( ،فإنه كانت عادته أنه كان ينهب اليهود بكل طريق على وجه الظلم،
وعدم الرحمة .وقد جعل أغنياءهم الكبار فقراء وظلمهم ،بحيث رضوا بالجلء ،واستجازوا أن يخرجوا من مملكته ،لكنه ما
ضا .ولما جلس )ادورد الول( على سرير السلطنة ،ختم المر بأن نهب أموالهم كلها ،ثم أجلهم من
قبل هذا المر منهم أي ً
مملكته ،فأجلى أكثر من خمسة عشر ألف يهودي في غاية العسر(.
ثم قال في الصفحة )) :(32نقل مسافر اسمه )سوتي( :أنه كان حال قوم برتكال )البرتغال( قبل خمسين عاما :أنهم كانوا
يأخذون اليهودي ويحرقونه بالنار ،ويجتمع رجالهم ونساؤهم يوم إحراقه ،كاجتماع يوم العيد ،وكانوا يفرحون بذلك .وكانت
النساء يصحن )أي يزغردن( وقت إحراقه فرحا(!
ثم قال في الصفحة )) :(33إن البابا الذي هو عظيم فرقة الكاثوليك قرر عدة قوانين شديدة في حق اليهود( .انتهى كلم كشف
الثار في قصص أنبياء بني إسرائيل.
وقال صاحب سير المتقدمين) :إن السلطان السادس )قسطنطين الول( ،أمر بمشورة أمرائه في سنة )379م( أن يتنصر كل
من هو في السلطنة الرومية ويقتل َمن لم يتنصر( انتهى .قال :وأي إكراه أكثر من هذا؟!
مذبحة الصليبيين في القدس:
و)لطامس نيوتن( )تفسير( للخبار عن الحوادث المستقلة المندرجة في الكتب المقدسة .وطبع هذا التفسير سنة 1803م في
لندن .ففي الصفحة ) (65من المجلد الثاني في بيان تسلط أهل التثليث على أورشليم هكذا) :فتحوا أورشليم )القدس( في
الخامس عشر من شهر تموز الرومي سنة 1099م بعدما حاصروا خمسة أسابيع ،وقتلوا غير المسيحيين ،فقتلوا أكثر من
سبعين ألفا من المسلمين ،وجمعوا اليهود وأحرقوهم ،ووجدوا في المساجد غنائم عظيمة( انتهى.
بعض ما فعل الكاثوليك بالبروتستانت:
قال :وإذا عرفت حال ظلمهم في حق اليهود خصوصا ،وفي حق رعية السلطنة عموما ،وما فعلوا عند تسلطهم على أورشليم،
فالن أذكر نبذا مما فعل الكاثوليك بالنسبة إلى غيرهم من المسيحيين ،وأنقل هذه الحالت عن كتاب )الثلث عشرة رسالة(
الذي طبع في بيروت سنة 1849م من الميلد باللسان العربي ،فأقول:
)قال في الصفحة )) :(16 ،15أما الكنيسة الرومانية ،فقد استعملت مرات كثيرة الضطهادات والطرد المزعج ضد
البروتستانت ،أي الشهود أو بالحري الشهداء ،وذلك في ممالك أوربا .ويظن أنها أحرقت في النار أقل ما يكون :مائتين
وثلثين ألفا من الذين آمنوا بيسوع دون البابا ،واتخذوا الكتب المقدسة وحدها هدى وإرشادا ليمانهم وأعمالهم ،وقد قتلت
ضا منهم ألوفا وربوات بحد السيف والحبوس والكلبتين ،وهي آلة لتخليع المفاصل بالجذب ،وأفظع العذابات المتنوعة .ففي أي ً
فرنسا قتل في يوم واحد ثلثون ألف رجل ،وذلك في اليوم الملقب بيوم ماريرثو لماوس ،وعلى هذا السلوب أذيالها مختضبة
بدماء القديسين( انتهى كلمه بلفظه.
وفي الصفحة ) (338في الرسالة الثانية عشرة من الكتاب المذكور) :يوجد قانون وضع في المجمع الملتئم في توليدو في
أسبانيا يقول :إننا نضع قانونا :أن كل َمن يأتي إلى هذه المملكة فيما بعد ،ل نأذن له أن يصعد إلى الكرسي إن لم يحلف أول:
أنه ل يترك أحدا غير كاثوليكي يعيش في مملكته ،وإن كان بعد ما أخذ الحكم يخالف هذا العهد فليكن محروما ،قدام الله
السرمدي ،وليصر كالحطب للنار البدية( .مجموع المجامع من كارتر أوجه .404
)والمجمع اللتراني يقول :إن جميع الملوك والولة وأرباب السلطنة فليحلفوا :أنهم بكل جهدهم وقلوبهم يستأصلون جميع
رعاياهم المحكوم عليهم من رؤساء الكنيسة بأنهم هراطقة ،ول يتركون أحدا منهم في نواحيهم ،ومن كانوا ل يحفظون هذه
ضا في مجمع قسطنطينية( جلسة .45 حّل من الطاعة لهم( رأس ) 3وهذا القانون قد ثبت أي ً
اليمين ،فشعبهم في ِ
)ومن رسم البابا مرتينوس الخامس( عن ضلل فيكل) .وفي اليمين التي حلفت بها الساقفة تحت رياسة البابا بولينوس
الثالث سنة1551م يوجد هذا الكلم :أن الهراطقة وأهل النشقاق والعصاة على سيدنا البابا وخلفائه ،هؤلء بكل قوتي
أطردهم ،أبيدهم(.
والمجمع اللتراني ومجمع قسطنطينية يقولون ) :إن الذي يمسك الهراطقة له إذن وسلطة أن يأخذ منهم كل مالهم ويستعمله
لنفسه من غير مانع( مجمع لتراني 4مجلد 2فصل 1وجه 152ومجمع قسطنطينية جلسة 45مجلد ) 7والبابا
اينوشنيسوس الثالث يقول :إن هذا القصاص على الهرطقة نحن نأمر به كل الملوك والحكام ،ونلزمهم إياه تحت القصاصات
الكنائسية( رسم 7كتاب .5
وفي سنة 1724م وضع الملك لويس الحادي عشر ثمانية عشر قانوًنا.
أولها :أننا نأمر أن الديانة الكاثوليكية وحدها ،تكون مأذونة في مملكتنا ،وأما الذين يتمسكون بديانة أخرى فليذهبوا إلى
العتقال طول حياتهم ،والنساء فلتقطع شعورهن ويحبسن إلى الموت!
وثانيها :أننا نأمر أن جميع الواعظين الذين جمعوا جماعات على غير العقائد الكاثوليكية ،والذين علموا أو مارسوا عبادة
مخالفة لها يعاقبون بالموت .وفي مخاطبة الساقفة في أسبانيا للملك سنة 1765م يقولون له :أعط الرسوم كل قوتها،
والديانة كل مجدها ،لكن تسبب هذه المقالة منا تجديد قوانين سنة 1724م المذكورة )وكان من جملة رسوم إنكلترا تحت
رياسة البابا :أن كل َمن يقول إنه ل يجوز أن يسجد لليقونات :يحبس في السجن الشديد ،حتى يحلف أنه يسجد لها،
والسقف أو القاضي الكنائسي له سلطان أن يحضر إليه ،أو يحبس كل من يقع عليه الشبهة :أنه هرطيقي ،والهرطيقي العنيد
فليحرق بالنار قدام الشعب ،وجميع الحكام فليحلفوا أنهم يعينون هذا القاضي على استئصال الهراطقة الذين عندما تظهر
ضا عدد 4وجه هرطقتهم تسلب أموالهم ويسلمون إليه ،وتمحى خطاياهم بلهيب النار( .كوك فرائض عدد 3وجه 41 ،40وأي ً
) 15وبارونيوس يقول :عن الملك كارلوس الخامس ،كان يظن برأيه الباطل :أنه يستأصل الهراتقة ليس بالسيف ،بل بالكلم،
وفي فهرس الكتاب المقدس المطبوع في رومية باللتيني والعربي تحت حرف الهاء يوجد هذا التعليم :أن الهراطقة ينبغي لنا
أن نهلكهم ،ويورد الثبات على ذلك :أن الملك ياهو قتل الكهنة الكذبة ،وإيليا ذبح كهنة باعل ،وغير ذلك .فإذن هكذا ينبغي
لولد الكنيسة أن يهلكوا الهراتقة(.
ثم في الصفحة )) :(348 ،347والمؤرخ منتوان المتقدم في رياسة الكرمليين مع غيره من المؤرخين ،يخبرنا عن كاروز
بالنجيل معتبر ،يقال له )ثوما( من رودن ،أحرقه البابا بالنار ،لنه كّرز ضد فسادات الكنسية الرومانية ،والمؤرخون يدعونه
سا وشهيًدا حقيقًيا للمسيح(.
قدي ً
وفي الصفحة ) 350إلى ) :(355في سنة 1194م أمر الديفونسو ملك اراغون في أسبانيا بنفي الواضيين من بلده ،لنهم
هراطقة ...وفي سنة 1206م رغما عن المير رايمون والي مدينة ثولوس ،أرسل البابا قضاة بيت التفتيش إلى تلك المدينة،
لن المير المذكور كان قد أبى أن ينفي هؤلء الواضيين ،ثم بعد قليل أرسل ملك فرنسا بطلب البابا إلى تلك المدينة ونواحيها
عسكًرا ،عدده ثلثمائة ألف ،فحاصر المير رايمون في مدينته لجل المحاماة عن نفسه ،ولكي يدفع القوة بالقوة ،فُذبح في
ذلك القتال ألف ألف )مليون( ،وانكسر أهل رايمون ،وأحاط بهم كل صنف من الهانات والعذابات ،وكان البابا في حركة هذه
الحروب يقول لقومه :إننا نعظكم ونحتم عليكم أن تجتهدوا في ملشاة هذه الهرطقة الخبيثة :هرطقة اللبجيين أي الواضيين،
وتطردوهم بيد قوية أشد مما يكون ضد الساراجين أي المسلمين ...
وفي سنة 1400م في آخر شهر كانون الول ،قام أهل البابا بغتة على الواضيين في اوديابيت مونت بلد ملك سردينيا،
فهربوا من وجوههم بل قتال ،ولكن قتل كثيرون بالسيف ،وكثيرون ماتوا بالثلج.
ثم إن البابا بعد ذلك بسبع وثمانين سنة ،كلف البرتوس ارشيديا كونوس في مدينة كريمونا :أن يحارب الواضيين في النواحي
القبلية من فرنسا ،وفي أوديابيت مونتن حيث بقي البعض منهم من الذين رجعوا بعد الحرب في سنة1400م ،وهذا الرجل
المذكور تقدم حاًل ومعه ثمانية عشر ألف محارب ،وأقام تلك الحرب التي استمرت نحو ثلثين سنة على المسيحيين الذين
قالوا :نحن في كل وقت نكرم الملك ونؤدي الجزية ،ولكن أرضنا وديانتنا التي ورثناها من ال ومن آبائنا ل نريد أن نتركها،
وفي كالبريا من بلد إيطاليا سنة 1560م قتل ألوف ألوف ،من البروتستنتيين ،بعضهم قتلهم العسكر ،وبعضهم محكمة
التفتيش.
قال أحد المعلمين الرومانيين :إنني أرتعد كلما أفتكر بذلك الجلد ،والخنجر الدموي بين أسنانه ،والمنديل يقطر دًما بيده ،وهو
متلطخ بيديه إلى الكارع ،يسحب واحًدا بعد واحد من السجن ،كما يفتك الجزار بالغنم!!
وفي سنة 1601م نفى دوك السافوي خمسمائة عائلة من الواضيين ...
ضا سنة 1655م وسنة 1676م تجددت الضطهادات عليهم في أوديابيد مونت ،لن الملك لويس الرابع عشر بإشارة من وأي ً
البابا تقدم إليهم بجيشه ،وهم في بيوتهم بغاية الطمأنينة ،فذبح العسكر خلًقا كثيًرا منهم ،ووضعوا في الحبس أكثر من عشرة
الف ،فمات كثير منهم من الزحام والجوع ،والذين سلموا أخرجوهم لكي ينـزحوا من تلك البلد ،وكان ذلك اليوم شديد البرد
والرض مغطاة بالثلج .والجليد ،فكان كثير من المهات وأولدهن في أحضانهن موتى على جانب الطريق من البرد..
وكارلوس الخامس سنة 1521م ،أخرج أمًرا في طرد البروتستنتيين في بلد فلمنك عن رأي البابا ،وبسبب ذلك قتل
خمسمائة ألف نفر!!
وبعد كارلوس تولى ابنه فيلبس ،ولما ذهب إلى أسبانيا سنة 1559م ،استخلف المير ألفا على طرد البروتستنتيين ،والمذكور
في أشهر قليلة قتل على يد الجلد الملوكي الشرعي ثمانية عشر ألًفا ،وبعد ذلك كان يفتخر بأنه قتل في كل المملكة ستة
وثلثين ألفا! والقتيل الذي يذكره المعلم كين في عيد مار برثولماوس ،كان في آب سنة 1572م في وقت السلمة الكاملة،
وكان الملك ملك فرنسا قد وعد بأخته لمير نافار ،وهو من علماء البروتستنتيين وأشرافهم ،ثم اجتمع هو وأصدقاء أعيان
كنيستهم في باريس لجل إستتمام الوعد بالزواج ،ولما ضربت النواقيس لجل الصلة الصباحية ،قاموا بغتة حسب اتفاقهم
السابق على المير وأصحابه ،وعلى جميع البروتستنتيين في باريس ،فذبحوا منهم عشرة آلف شخص!
وهكذا جرى أيضًا في روين وليون وأكثر المدن في تلك البلد ،حتى قال البعض من المؤرخين :إنه قتل نحو ستين ألفا.
واستمر هذا الضطهاد مدة ثلثين سنة ،لن البروتستنتيين أمسكوا سلحهم لكي يدفعوا القوة بالقوة ،ومات في هذا الحرب
منهم تسعمائة ألف.
ولما سمع في رومية فعل ملك فرنسا في عيد مار برثولماوس ،أطلقوا المدافع من البراج ،وذهب البابا مع الكرديناليين ليرتل
مزمور الشكر في كنيسة الرومانية بهذا العمل ،فلما جلس الملك هنري الرابع على كرسي فرنسا قطع هذا الضطهاد سنة
1593م .لكن يظن أنه قتل لجل عدم تسليمه بالغتصاب في أمر الدين.
)ثم أنه في سنة 1675م تجدد الضطهاد وبعدما قتل خلق كثير يقول المؤرخون :إن خمسين ألفا اضطروا أن يتركوا بلدهم
لكي ينجوا من الموت( انتهى كلمه ،ونقلت عبارة هذا الكتاب بألفاظها من الرسالة الثانية عشرة.
بعض ما فعل البروتستانت انتقاما من الكاثوليك:
وإذا عرفت حال ظلم فرقة الكاثوليك ،فاعلم أن حال ظلم فرقة بروتستنت قريب منه ،وأنقل هذا الحال عن كتاب )مـرآة
الصدق( الذي ترجمه القسيس طامس انكلس من علماء الكاثوليك ،من اللسان النكليزي إلى اردو ،وطبع سنة 1851م من
الميلد .ويوجد هذا الكتاب عند أهل هذه الفرقة في الهند كثيًرا.
وفي الصفحة )) :(42 ،41سلب بروتستنت في ابتداء أمـرهم ستمائة وخمسة وأربعين رباطا ،وتسعين مدرسة ،وألفين
وثلثمائة وستة وسبعين كنيسة ،ومائة وعشر مارستانات من أملكها ،فباعوها بثمن بخس وتقاسمها المراء فيما بينهم،
وأخرجوا ألوفا من المساكين المفلوكين عرايا من هذه المكنة(.
ضا ،بل آذوا أجسادهم في نوم العدم وسلبوا أكفانهم(.
ثم قال في الصفحة )) :(45امتد طمعهم أنهم ما تركوا الموات أي ً
ثم قال في الصفحة )) :(48،49وضاعت في هذه الغنائم كتبخانات ذكرها جيء بيل متحسرا بهذه اللفاظ :إنهم سلبوا كتبا
واستعملوا أوراقها في الشواء ،وفي تطهير الشمعدانات والنعال ،وباعوا بعض الكتب على العطارين وباعة الصابون ،وباعوا
كثيرا منها ما وراء البحر على أيدي المجلدين ،وما كانت هذه الكتب مائة أو خمسين ،بل المراكب كانت مملؤة منها،
وأضاعوها بحيث تعجب القوام الجنبية ،وإني أعلم تاجًرا اشترى كتبخانتين كل منهما بعشرين ُربّية .وبعد هذه المظالم ما
تركوا من خزائن الكنائس إل جدراًنا عريانة ،ثم ظنوا أنفسهم من أهل الوقار ،وملوا الكنائس من أناس من أهل ملتهم(.
ثم قال في الصفحة الثانية والخمسين إلى الصفحة السادسة والخمسين) :فلنلحظ الن أفعال الجور التي فعلها بروتستنت في
حق فرقة الكاثوليك إلى هذا الحين ،أنهم قرروا أكثر من مائة قانون كلها خـلف العدل والرحمة ،لجل الظلم ،ونحن نذكر عدة
من هذه القوانين الجورية.
.1ل يرث كاثوليكي تركة أبويه.
.2ل يشتري واحد منهم أرضا بعد ما يجاوز عمره ثماني عشرة سنة إل أن يصير بروتستنت.
.3ل يكون لهم مكتب.
.4ل يشتغل أحد منهم بالتعليم ،وَمن خالف هذا الحكم يحبس دائما.
َ .5من كان من هذه الملة يؤدي ضعف الخراج.
.6إن صلى أحد من قسوسهم فعليه أداء ثلثمائة وثلثين ربية من ماله ،وإن صلى أحد منهم ول يكون قسيسا فعليه أداء
سبعمائة ربية ويسجن سنة.
.7إن أرسل أحد منهم ولده خارج إنكلترا للتعليم ،يقتل هو وولده ويسلب أمواله ومواشيه كلها.
.8ل يعطي لهم منصب في الدولة.
َ .9من لم يحضر منهم يوم الحد أو العيد في كنيسة بروتستنت ،تؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
َ .10من ذهب منهم بعيدا من لندن مسافة خمسة أميال ،يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
.11ل يسمع استغاثة أحد منهم عند الحكام بحسب القانون.
.12ما كان أحد منهم يسافر أكثر من خمسة أميال ،مخافة أن ينهب ماله ومتاعه ،وكذا ما كان أحد منهم يقدر على الستغاثة
في أمر عند الحكام ،مخافة أن يؤخذ منه ألف ربية مصادرة.
.13ل تنفذ أنكحتهم ول تجهيز موتاهم ول تكفين الموتى ول تعميد أولدهم إل إذا كانت هذه المور على طريقة كنيسة
إنكلترا.
.14إن تزوجت إحدى نساء هذه الملة ،تأخذ الدولة من جهازها ثلثين ،ول ترث من تركة زوجها ،ول يوصي زوجها لها من
تركته بشيء ،ونساؤهم كن يحبسن إلى أن يعطي أزواجهن عشر ربيات في كل شهر أو يعطوا ثلث أراضيهم إلى الدولة.
.15ثم صدر الحكم في نهاية المر إن لم يصر كلهم بروتستنت يسجنون ثم يجلون من أوطـانهم مدة حياتهم ،وإن رفضوا
الحكم أو رجعوا من الجلء بدون المر كانوا ملزمين بإلزام عظيم.
.16ل يحضر القسيس عند قتلهم ول عند تجهيزهم وتكفينهم.
.17ل يكون السلح في بيت أحد منهم.
.18ل يركب أحد منهم على حصان يكون ثمنه أكثر من خمسين ربية.
.19إن أدى قسيس منهم خدمة من الخدمات المتعلقة به يسجن دائًما.
.20القسيس الذي يكون مولده إنكلترا ،ول يكون من ملة بروتستنت ،إن أقام أكثر من ثلثة أيام في إنكلترا يعتبر أنه غدار
ويقتل.
.21من أنزل القسيس المذكور من مكانه يقتل.
.22ل تقبل شهادة كاثوليكي في العدالة.
وقتل على هذه القوانين الجورية في عهد الملكة اليصابت مائتان وأربعة أشخاص .كان منهم قسيسون ،والباقون من أهل
الغنى ،وما كان ذنبهم غير أنهم أقروا أنهم من ملة الكاثوليك ،ومات تسعون قسيسا وكبار آخرون في السجن ،وأجلي مائة
وخمسة أشخاص مدة حياتهم ،وضرب كثير منهم بالسياط ،وصودروا وحرموا من أموالهم ،حتى هلكت عشيرتهم ،وقتلت
ميري المشهورة ملكة أسكات ،وكانت بنت الخالة للملكة اليصابت ،بسبب كونها من ِملة الكاثوليك.
ثم قال في الصفحة الحادية والستين إلى السادسة والستين) :حمل كثير من رهبانهم وعلمائهم بأمر الملكة اليصابت في
المراكب ،ثم أغرقوا في البحر .جاء عساكرها إلى إيرلندا ليدخلوا أهل ملة كاثوليك في ملة بروتستنت ،فأحرقوا كنائس
ضاالكاثوليك وقتلوا علماءهم ،وكانوا يصطادونهم كاصطياد الوحوش البرية ،وكانوا ل يؤّمنون أحًدا وان أّمنوا أحًدا قتلوه أي ً
جَلْوا أهلها
بعد المان ،وذبحوا العسكر الذي كان في حصن سمروك ،وأحرقوا القرى والبلد ،وأفسدوا الحبوب والمواشي ،وَأ ْ
بل امتياز )أي اعتبار( المنزلة والعمر .ثم أرسل بارلمنت سنة 1643م وسنة 1644م اللوردات ليسلبوا جميع أموال الكاثوليك
وأراضيهم بل امتياز بينهم ،وبقي أنواع الظلم إلى زمن الملك جيمس الول ،وحصل التخفيف في الظلم في عهده ،ثم رحمهم
ضا إلى السلطان من جانب أربعة وأربعين ألفا من فرقة الملك سنة 1778م ،ولكن البروتستنتيين سخطوا عليه ،وقدموا معرو ً
بروتستنت في ثاني حزيران سنة 1780م ،واستدعوا أن يبقي بارلمنت القوانين الجورية في حق ِملة الكاثوليك كما كانت.
لكن البرلمان ما التفتوا إليه ،فاجتمع مائة ألف من بروتستنت في لـندن وأحرقوا الكنائس ،وهدموا أمكنة الكاثوليك .وكان
الحريق يرى من مـوضع واحد في ستة وثلثين مكانا ،وكانت هذه الفتنة قائمة إلى ستة أيام ،ثم أوجد الملك قانونا آخر سنة
1791م وأعطى ِملة الكاثوليك حقوقا هي حاصلة لهم إلى هذا الحين(.
ثم قال في الصفحة )) :(74 ،73ما سمعتم حال جار تراسكول الذي هو في أيرلندا هذا المر محقق :أن بروتستنت يجمعون
في كل سنة مقدار مائتي ألف وخمسين ألف ربية ،وكراء أكثر المكانات الكبيرة ،ويشترون بها أولد فرقة الكاثوليك الذين هم
من المساكين المفلوكين .
ويرسلون بهم في العربات إلى إقليم آخر بالخفية ،لئل يرى آباؤهم وأمهاتهم ،ويقع كثيرا أن هؤلء الشقياء إذا رجعوا إلى
أوطانهم ،تزوجوا بأخواتهم أو أخوتهم أو آبائهم أو أمهاتهم للجهل وعدم التمييز( انتهي كلمه.
والظلم الذي صدر عن بعض فرق بروتستنت بالنسبة إلى بعض آخر ،ل أنقله حذًرا من التطويل ،وأكتفي بهذا القدر ،وأقول:
انظروا إلى هؤلء الطاعنين على الِملة المحمدية كيف ملوا ملتهم بالجور والظلم][1؟! انتهى.
ف شعره ،ويقشعر جلده ،حينما يقرأ هذه الصفحات السود ،التي تصور جانبا من المجازر البشرية، وإن المرء المسلم ليق ّ
والمظالم الدينية ،التي ارتكبها النصارى في حق اليهود ،والتي ارتكبها المسيحيون الكاثوليك في حق فئة البروتستانت عند
ظهورها ،وبعد ظهورها بمئات السنين ،والتي رّد عليهم البروتستانت بمثلها ،أو أشد منها حين ظهروا عليهم ،وآلت لهم
السلطة.
إن هذه الصفحات المظلمة من السراف البالغ في سفك الدماء :لم تكتبها أقلم مسلمة ،بل سطرتها أقلم مسيحية ،تتكلم بلغة
الرقام .ومع هذا نجد من المسيحيين المبشرين والمستشرقين – ومنهم البابا بنديكت السادس عشرَ -من يتهم المسلمين
بأنهم متعصبون ،واتهم دينهم إنما قام على السيف!
حتى قال بعض أحرار الوربيين :لم يصدق المسيح في نبوءة من نبوءاته ،مثل ما صدق في قوله :ما جئت للقي على الرض
سلما ،بل سيفا! إذ لم يعرف التاريخ عن ِملة قتل أهلها بعضهم بعضا مثل ما حدث في الملة المسيحية ،أو عشر معشاره!
وَمن نظر في تاريخ المسيحيين في مختلف الطوار ،وفي شتى القطار :تبّين لهم :أن فكرة )إبادة المخالفين واستئصالهم(:
فكرة أصيلة في ذهنيتهم وتربيتهم الدينية ،ومواريثهم الثقافية .واستباحُة الدماء باللوف والمليين :أمر هين عليهم ،ل يقلق
ضمائرهم ،ول يؤرق جفونهم .فل عجب أن رأينا الوربيين من المسيحيين الذين ذهبوا إلى أمريكا ،اجتهدوا أن يستأصلوا
أهلها الصليين من الهنود الحمر ،واستحلوا كل حرام من أنواع القتل والبادة في ذلك ،حتى أبادوا المليين منهم بأساليب
وحشية ل يقرها دين ول خلق.
كما أن المسيحيين الذين ذهبوا إلى أستراليا فعلوا مثل ذلك بسكانها الصليين ،الذين أبادوهم ،والمسلمون الذين بقوا في
أسبانيا )الندلس( ثمانية قرون أقاموا فيها حضارة شامخة متميزة ،استنارتها واستفادت منها أوربا كلها ،أبيدوا كلهم ،إما
بالكراه على التنصر ،أو الجبار على الرحيل ،أو مواجهة القتل ،ول عجب أن لم يبق منهم في أسبانيا ديار ول نافخ نار!!
] -[1انظر :إظهار الحق ) (528 - 509 /2طبعة إحياء التراث السلمي في قطر.
أكذوبة انتشار السلم بالسيف
أشاع البابا بنديكت السادس عشر :أن السلم لم ينتشر في العالم إل بحد السيف ،وإخضاع الناس لعقيدته بالقوة العسكرية،
ولول هذا ما انفتحت له القلوب ،ول اقتنعت به العقول ،ولكنها أكرهت عليه إكراها تحت بريق السيوف ،فخّيرهم بين السلم
والقتل ،فإما أن يسلم وإما أن يطير عنقه!
وهذه فرية تكذبها تعاليم السلم القطعية ،وتكذبها وقائعه التاريخيه ،ويكذبها المنصفون من المؤرخين المستشرقين أنفسهم.
ن َقْد َتَبّي َ
ن فأما تعاليم السلم فهي تنفي الكراه في الدين نفيا مطلقا عاما ،بقوله تعالى في القرآن المدني :ل ِإْكَراَه ِفي الّدي ِ
ي ]البقرة.[256:ن اْلَغ ّ
شُد ِم َ
الّر ْ
حّتى َيُكوُنوا ُمْؤِمِني َ
ن س َ
ت ُتْكِرُه الّنا َ
وهو يؤكد ما جاء في القرآن المكي من قوله تعالى بصيغة الستفهام النكاريَ :أَفَأْن َ
ن ]هود.[28: ]يونس ،[99:وقوله تعالى على لسان نوحَ :أُنْلِزُمُكُموَها َوَأْنُتْم َلَها َكاِرُهو َ
وأما دعوى تخيير الناس بين السلم والسيف ،فهي كذبة أخرى :فالثابت بالنصوص الشرعية ،والوقائع التاريخية :أن
المسلمين كانوا يخيرون َمن يقاتلونهم -إذا كتب عليهم القتال -بين أمور ثلثة :السلم أو دفع الجزية أو القتال .والجزية مبلغ
زهيد يطلب من الرجال القادرين على القتال ،ول يؤخذ من امرأة ،ول صبي ،ول َزِمن ،ول أعمى ،ول فقير ،ول راهب في
صومعته ،وتتفاوت بتفاوت قدرات الناس ،فكل على قدر طاقته ،وطلب مثل هذا المبلغ -في مقابلة حمايته وكفالته والدفاع
عنه -ليس شيئا باهظا يكره صاحبه على ترك دينه والدخول في السلم.
كما تقول وقائع التاريخ أيضا :إن المسلمين حينما فتحوا البلد ،لم يتدخلوا قط في شؤون دينها ،ولم ُيرغموا أحدا قط على
تغيير عقيدته ،ولم يثبت التاريخ واقعة واحدة أكره فيها فرد غير مسلم ،أو أسرة غير مسلمة ،أو بلدة غير مسلمة ،أو شعب
غير مسلم ،على الدخول في السلم.
كما أثبت التاريخ أن كثيرا من البلد السلمية التي نعرفها اليوم :لم يدخلها جيش مسلم ،ولكنها دخلت في السلم بتأثير
التجار وغيرهم من الناس الذين لم يكونوا علماء ول دعاة محترفين ،وإنما أحبهم الناس لما رأوا فيهم من صدق اليمان،
وحسن الخلق ،وحب الخير للناس ،فكانوا أسوة حسنة ،فأحب الناس دينهم بحبهم ،ودخلوا فيه أفرادا وجماعات .هكذا دخل
السلم في ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وغيرها :بوساطة تجار حضرموت وأمثالهم مّمن جاءوا من جنوب اليمن ،ضاربين
في الرض ،مبتغين من فضل ال.
وهناك بلد كثيرة في إفريقيا انتشر فيها السلم عن طريق الطرق الصوفية ،وعن طريق الحتكاك بالمسلمين ،والتأثر
بسلوكياتهم وآدابهم وأفكارهم.
وحتى البلد التي دخلتها الجيوش :كان وجودها محصورا في العواصم والثغور ،ل في كل المدن والقرى.
لم تدخل الجيوش السلمية التي فتحت الهند الكبرى ،إل في دائرة محدودة ،ولكن انتشار السلم في القارة الهندية ،كان أبعد
وأوسع بكثير مما دخلته الجيوش ،وامتدت دعوته شمال وجنوبا ،وشرقا وغربا ،حتى كان من تأثيرها :وجود دولتين
إسلميتين كبيرتين هما :باكستان وبنجلديش ،ووجود أكبر تجمع إسلمي للمسلمين في الهند بعد إندونيسيا ،برغم شكوى
كثير من العلماء والناقدين من تقصير المسلمين خلل حكمهم الطويل للهند ،من توصيل الدعوة للهندوس ،ول سيما دعوة
طائفة )المنبوذين( للسلم دين الخوة والعدالة والمساواة.
السيف ل يفتح قلبا:
ولقد اتخذ المبشرون والمستشرقون من الفتوح السلمية :دليل على أن السلم إنما انتشر بهذه القوة والسرعة ،نتيجة لنه
قهر الناس بالسيف ،فدخل الناس تحت بريقه مذعنين طائعين.
ونقول لصحاب دعوى انتشار السلم بالسيف :إن السيف يمكنه أن يفتح أرضا ،ويحتل بلدا ،ولكن ل يمكنه أن يفتح قلبا.
ففتح القلوب وإزالة أقفالها :تحتاج إلى عمل آخر ،من إقناع العقل ،واستمالة العواطف ،والتأثير النفسي في النسان.
بل أستطيع أن أقول :إن السيف المسلط على رقبة النسان ،كثيرا ما يكون عقبة تحول بينه وبين قبول دعوة صاحب السيف.
فالنسان مجبول على النفور مّمن يقهره وُيذّله.
وَمن ينظر بعمق في تاريخ السلم ودعوته وانتشاره :يجد أن البلد التي فتحها المسلمون ،لم ينتشر فيها السلم إل بعد مدة
من الزمن ،حين زالت الحواجز بين الناس والدعوة ،واستمعوا إلى المسلمين في جو هادئ مسالم ،بعيدا عن صليل السيوف،
وقعقعة الرماح ،ورأوا من أخلق المسلمين في تعاملهم مع ربهم ،وتعاملهم مع أنفسهم ،وتعاملهم مع غيرهم :ما يحببهم إلى
الناس ،ويقربهم من دينهم ،الذي رباهم على هذه المكارم والفضائل.
وانظر إلى بلد كمصر ،وقد ُفتحت في عهد أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب ،ولكن ظّل الناس على دينهم النصراني
عشرات السنين ،ل يدخل فيه إل الواحد بعد الواحد .حتى إن الرجل القبطي الذي أنصفه عمر ،واقتص لبنه من ابن والي
مصر :عمرو بن العاص ،لم يدخل في السلم ،رغم أنه شاهد من عدالته ما ُيبهر البصار.
وقد فّند الكاتب الكبير الستاذ عباس العقاد هذه التهمة الباطلة في أكثر من كتاب له ،ومما قاله:
)شاع عن السلم أنه دين السيف ،وهو قول يصح في هذا الدين إذا أراد قائله :أنه دين يفرض الجهاد ومنه الجهاد بالسلح،
ولكنه غلط بّين إذا أريد به أن السلم قد انتشر بحد السيف ،أو أنه يضع القتال في موضع القناع.
طن لسخف هذا الدعاء كاتب غربي كبير ،هو )توماس كاْرَليل( صاحب كتاب )البطال وعبادة البطولة( فإنه اتخد محمدا
وقد ف ِ
مثل لبطولة النبوة ،وقال ما معناه:
)إن اتهامه بالتعويل على السيف في حمل الناس على الستجابة لدعوته سخف غير مفهوم .إذ ليس مما يجوز في الفهم أن
يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ،أو يستجيبوا لدعوته! فإذا آمن به َمن يقدرون على حرب خصومه ،فقد آمنوا به
طائعين مصّدقين ،وتعرضوا للحرب من أعدائهم قبل أن يقدروا عليها(.
قال العقاد:
)والواقع الثابت في أخبار الدعوة السلمية :أن المسلمين كانوا هم ضحايا القسر والتعذيب ،قبل أن يقدروا على دفع الذى
من مشركي قريش في مكة المكرمة ،فهجروا ديارهم ،وتغربوا مع أهليهم ،حتى بلغوا إلى الحبشة في هجرتهم ،فهل يأمنون
على أنفسهم في مدينة عربية قبل التجائهم إلى )يثرب( وإقامتهم في جوار أخوال النبي ،مع ما بين المدينتين )يعني :مكة
ويثرب( من التنافس الذي فتح للمسلمين بينهما ثغرة للمان؟ ولم يكن أهل يثرب ليرحبوا بمقدمهم لول ما بين القبيلتين
الكبيرتين فيها )قبيلتي الوس والخزرج( من نزاع على المارة فتح بينهما كذلك ثغرة أخرى يأوي إليها المسلمون بعد أن
ضاق بهم جوار الكعبة ،وهو الجوار الذي لم يضق من قبل بكل لئذيه في عهد الجاهلية.
ولم يعمد المسلمون قط إلى القوة إل لمحاربة القوة التي تصّدهم عن القتناع ،فإذا رصدت لهم الدولة القوية جنودها
حاربوها؛ لن القوة ل تحارب بالحجة والبينة ،وإذا كفوا عنهم لم يتعرضوا لها بسوء.
وقد بّين الستاذ العقاد أن المسلمين سالموا الحبشة ولم يحاربوها ،وإنما حاربوا الفرس ،وحاربوا الروم؛ لنهم هم الذين
بدأوا بالعدوان على المسلمين.
قال :ولم يفاتح النبي أحدا بالعداء في بلد الدولتين .وإنما كتب إلى الملوك والمراء يبلغهم دعوته بالحسنى ،ولم تقع الحرب
بعد هذا البلغ بين المسلمين وجنود الفرس والروم ،إل بعد تحريضهم القبائل العربية في العراق والشام على غزو الحجاز،
وإعدادهم العدة لقتال المسلمين .وقد علم المسلمون بإصرارهم على اغتنام الفرصة العاجلة لمباغتتهم بالحرب من أطراف
الجزيرة ،ولول اشتغال كسرى وهرقل بالفتن الداخلية في بلدهما لبوغت المسلمون بتلك الحرب قبل أن يتأهبوا لمدافعتها
والتحصن دونها(] [1اهـ.
لقد كان من الخير أن تعترف المثالية السلمية والشريعة السلمية بإمكان وقوع الحرب والقتال بين البشر ،وإذا كان وقوع
حمانا ،ول بد أن نحوط هذه الحرب بسياج من التشريعات القانونية الحرب غير مستبَعد ،فل بد أن نستعد لها حتى ل يستباح ِ
والتوجيهات الخلقية ،حتى ل تخرج عن قوانين العدل والرحمة ،ول تحكمها غرائز الغضب وحدها ،أو )القوة السُبعية( في
النسان ،ول بد أن نحدد أهدافها بوضوح ،حتى نقف عندها ،ول نسمح لطماعنا أو مخاوفنا أو انفعالتنا أن تتعدى حدودها.
سِمْعَنا
ول نستطيع أن ُنحّدد هذه الهداف حقا ،إل من خلل ُمحكمات النصوص ،التي ل يملك المؤمن إزاءها إل أن يقولَ :
طْعَنا ]البقرة .[285:فلنتحّدث عن هذه الهداف.
َوَأ َ
1ـ رد العتداء:
أول أهداف القتال والحرب في السلم :دفع العتداء ورّده بالقوة ،سواء كان هذا العتداء واقعا على الدين أم على الوطن
والرض.
فأما العتداء على الدين ،فيتمثل في فتنة المسلمين عن دينهم ،واضطهادهم من أجل عقيدتهم ،أو الوقوف في وجه الدعوة
ومنعها ،والصد عنها ،والتعرض لدعاتها بالذى إلى حد القتل.
ومثل ذلك :العتداء على أرض السلم ،ووطن المسلمين ،وما يتضمن ذلك من عدوان على دماء الناس وأموالهم
وممتلكاتهم وحرماتهم ومقدساتهم .والسلم يعتبر بلد المسلمين كلها وطنا واحدا ،أو دارا واحدة ،هي )دار السلم(،
فالعتداء على جزء منها اعتداء على جميعها ،ومسؤولية الدفاع عنها تقع على المة كلها :المقصودين بالصالة ،والخرين
بالمساندة والمشاركة عند اللزوم.
وكذلك العتداء على حرمات الفراد :في أنفسهم ،أو في أموالهم وممتلكاتهم ،أو في أهليهم وذراريهم.
كما يعتبر السلم العتداء على )أهل الذمة( من غير المسلمين اعتداء على المسلمين أنفسهم ،فهم من أهل دار السلم،
وحرمتهم من حرمة المسلمين .وعقد الذمة يوجب على المسلمين الدفاع عنهم ،وبذل النفس والموال لحمايتهم ،كما
يدافعون عن المسلمين ،سواء بسواء].[1
ونحو ذلك العدوان على حلفاء المسلمين ،لن الحلف يقضي بالتعاون في السراء والضراء ،والتضامن في السلم والحرب.
ولهذا حينما غدرت قريش بقبيلة خزاغة حلفاء رسول ال :اعتبر الرسول ذلك نقضا لعهده ،واعتداء عليه وعلى أصحابه،
ولجله جيش الجيوش لفتح مكة.
وهنا يوجب السلم على المسلمين :أن يقفوا في وجه العتداء ،أيا ما كان المعتدون أو المعتدى عليهم ،ويتصدوا له ليدفعوه
عنهم ،ويردوه عن حرماتهم بسيف القوة ،وقوة السيف.
جوُهْمخِر ُث َثِقْفُتُموُهْم َوَأ ْحْي ُن * َواْقُتُلوُهْم َ حبّ اْلُمْعَتِدي َ ل ل ُي ِ ن ا َّ
ن ُيَقاِتُلوَنُكْم َول َتْعَتُدوا ِإ ّ ل اّلِذي َ
سِبيِل ا ِّيقول تعالىَ :وَقاِتُلوا ِفي َ
جَزاُء
ك َ ن َقاَتُلوُكْم َفاْقُتُلوُهْم َكَذِل َ
حّتى ُيَقاِتُلوُكْم ِفيِه َفِإ ْحَراِم َ جِد اْل َ
سِعْنَد اْلَم ْن اْلَقْتِل َول ُتَقاِتُلوُهْم ِ شّد ِم َ
جوُكْم َواْلِفْتَنُة َأ َ خَر ُ
ث َأ ْ
حْي ُ
ن َ ِم ْ
عَلى
ن ِإّل َ ن اْنَتَهْوا َفل عُْدَوا َ ل َفِإ ِ
ن ِّ ن الّدي ُن ِفْتنٌَة َوَيُكو َحّتى ل َتُكو َ حيٌم * َوَقاِتُلوُهْم َ غُفوٌر َر ِ ل َ ن ا َّ
ن اْنَتَهْوا َفِإ ّ ن * َفِإ ِاْلَكاِفِري َ
عَلْيُكْم َواّتُقوا الَّ عَتَدى َ عَلْيِه ِبِمْثِل َما ا ْ
عَتُدوا َ عَلْيُكْم َفا ْ
عَتَدى َ نا ْ ص َفَم ِصا ٌ ت ِق َ
حُرَما ُ حَراِم َواْل ُشْهِر اْل َحَراُم ِبال ّ شْهُر اْل َ ن * ال ّ ظاِلِمي َ
ال ّ
ن ]البقرة.[194-190: ل َمَع اْلُمّتِقي َ
ن ا َّ
عَلُموا َأ ّ َوا ْ
قّررت هذه اليات جملة أحكام:
.1المر بقتال الذين يقاتلون المسلمين ،أي يبدأونهم بالقتال ،على أن يكون قتالهم في سبيل ال ،أي لتكون كلمة ال هي
العليا.
حكم غير قابل
.2النهي عن العتداء بصفة مطلقة ،وتعليل ذلك بأن ال ل يحب المعتدين ،وهذا دليل على أنه حكم ُمستقر ُم ْ
للنسخ .كما أن فيه تنفيرا للمسلم منه ،فإن كل مسلم حريص على أن يكون مّمن يحبهم ال ،ل مّمن ل يحبهم ال.
.3تشريع معاملة هؤلء المعتدين على المسلمين بمثل أعمالهم من القتل والخراج.
.4تقرير أن الفتنة في الدين أشد من القتل ،لن القتل اعتداء على الكيان المادي للنسان :الجسد ،والفتنة اعتداء على الكيان
المعنوي :الروح والعقل والرادة.
.5تقرير حرمة المسجد الحرام الذي َمن دخله كان آمنا ،والنهي عن قتالهم فيه ،ما لم يبدأوا هم بالقتال ،فإن فعلوا ،فحرمة
المؤمنين أهم من حرمة المسجد الحرام ،وجاز قتالهم وقتلهم فيه ،حتى ينتهوا.
.6تقرير غاية القتال ،وهو :اتقاء الفتنة ،وتوطيد حرية اليمان للناس ،بكسر شوكة المتجبرين في الرض الذين يفتنون
صّد عنه من أحد.
الناس عن دينهم .وبهذا يكون الدين ل ،يدخله َمن شاء بإرادته ،ل ُيكره عليه ،ول ُي َ
.7شرعية مقابلة العدوان بمثله ،وقد سّماه القرآن اعتداء ،من باب المشاكلة اللفظية ،وإل فالرد على العتداء في الحقيقة
ليس اعتداء.
2ـ منع الفتنة أو تأمين حرية الدعوة:
ومن أهداف القتال التي نصّ عليها القرآن :منع الفتنة في الدين ،وهذا ما صّرح به القرآن الكريم في آيتين من كتاب ال،
ظاِلِمي َ
ن عَلى ال ّ
ن ِإّل َ
عْدَوا َ
ن اْنَتَهْوا َفل ُ
ل َفِإ ِ
ن ِّ
ن الّدي ُ
ن ِفْتَنٌة َوَيُكو َ
حّتى ل َتُكو َ
إحداهما في سورة البقرة في قوله تعالىَ :وَقاِتُلوُهْم َ
]البقرة.[193:
ن الَّ ِبَما َيْعَمُلو َ
ن ن اْنَتَهْوا َفِإ ّ
ل َفِإ ِ
ن ُكّلُه ِّ
ن الّدي ُ
ن ِفْتَنٌة َويَُكو َ
حّتى ل َتُكو َ
والثانية في سورة النفال في قوله تعالىَ :وَقاِتُلوُهْم َ
صيٌر ]النفال.[39: َب ِ
ن ِفْتَنٌة ،وهذه نكرة في سياق النفي تعّم كل فتنة يمكن أن
حّتى ل َتُكو َ
فقد حّددت اليتان كلتاهما غاية القتال بأنها :منع الفتنةَ :
تتصّور هنا :فتنة النسان في نفسه ،أو في أهله ،أو فيَمن يحب من الناس.
والفتنة في اللغة :الختبار والمتحان] ،[2مثل قولهم :فتن الذهب :أي وضعه على النار ليعرف خالصه من زيفه .فالفتنة تعني:
جُروا ِم ْ
ن ن َها َ
ك ِلّلِذي َ
ن َرّب َ
الضطهاد واليذاء والتعذيب لَمن دخل في السلم حتى يرجع عن دينه .وفي هذا يقول القرآنُ :ثّم ِإ ّ
صَبُروا ]النحل.[110:
جاَهُدوا َو َ
َبْعِد َما ُفِتُنوا ُثّم َ
وحينما اشتد الذى والتنكيل بالمؤمنين في مكة ،نزل القرآن ليواسيهم ويثبتهم ،كما تجّلى ذلك في أوائل سورة العنكبوت :ألم
صَدُقوا َوَلَيْعَلَم ّ
ن ن َ
ل اّلِذي َ
ن ا ُّ
ن َقْبِلِهْم َفَلَيْعَلَم ّ
ن ِم ْ
ن * َوَلَقْد َفَتّنا اّلِذي َ
ن َيُقوُلوا آَمّنا َوُهْم ل ُيْفَتُنو َ
ن ُيْتَرُكوا َأ ْ
س َأ ْ
ب الّنا ُ
س َ
ح ِ
* َأ َ
ن ]العنكبوت .[3-1:فبّين القرآن أن فتنة المؤمنينحُكُمو َ
ساَء َما َي ْ
سِبُقوَنا َ
ن َي ْ
ت َأ ْ
سّيَئا ِ
ن ال ّ
ن َيْعَمُلو َ
ب اّلِذي َ
س َ
ح ِ
ن * َأْم َ
اْلَكاِذِبي َ
باليذاء والتنكيل :سنة ماضية في المم من قبلنا.
ب الِّ ]العنكبوت:
س َكَعَذا ِ
جَعَل ِفْتَنَة الّنا ِ
ل َ
ل َفِإَذا ُأوذِيَ ِفي ا ِّ
ن َيُقوُل آَمّنا ِبا ِّ
س َم ْ
ن الّنا ِ
وفي السورة نفسها يقول تعالىَ :وِم َ
.[10
وهذا السلوب -فتنة المؤمنين عن دينهم بالذى والعذاب حتى يرتدوا عنه -أسلوب قديم اّتبعه الكفرة والطغاة مع أهل اليمان،
كما حكى القرآن ذلك في سورة البروج ،التي حدثتنا عن الجبابرة الذين خّدوا الخاديد ،وملوها نارا ،وألقوا فيها كل مؤمن
عَلى َما َيْفَعُلو َ
ن عَلْيَها ُقُعوٌد * َوُهْم َ
ت اْلَوُقوِد * ِإْذ ُهْم َ
خُدوِد * الّناِر َذا ِ ب اُْل ْ
حا ُ صَأصّر على عقيدته .يقول تعالىُ :قِتَل َأ ْ
يٍء
ش ْ
عَلى ُكّل َ ل َ ض َوا ُّ
ت َواَْلْر ِ
سَماَوا ِ ك ال ّحِميِد * اّلِذي َلُه ُمْل ُ
ل اْلَعِزيِز اْل َ
ن ُيْؤِمُنوا ِبا ِّ
شُهوٌد * َوَما َنَقُموا ِمْنُهْم ِإّل َأ ْ ن ُ ِباْلُمْؤِمِني َ
ق ]البروج ،[10-4:فواضح كل حِري ِب اْل َعَذا ُ
جَهّنَم َوَلُهْم َ
ب َعَذا ُ
ت ُثّم َلْم َيُتوُبوا َفَلُهْم َ
ن َواْلُمْؤِمَنا ِ ن َفَتُنوا اْلُمْؤِمِني َ
ن اّلِذي َ
شِهيٌد * ِإ ّ َ
الوضوح من اليات الكريمة :أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات هم الذين عّذبوهم بالنار.
ومن هنا كانت هذه )الفتنة في الدين( أشد شيء خطرا على النسان ،وعلى حرية اختيار النسان ،فأن أهل القوة والجبروت
يريدون أن يتحكموا في ضمائر الناس ،فليس لهم حق اليمان بما اقتنعت به عقولهم ،أو اطمأنت إليه قلوبهم ،إل بإذن
الجبابرة وموافقتهم ،كما قال فرعون من قديم ُمنكرا على السحرة من أبناء مصر :إيمانهم برب موسى وهارون :آَمْنُتْم َلُه َقْبَل
ن َلُكْم ]طـه ،71:الشعراء ،49:العراف ،[123:معنى ذلك :أنه ل يجوز لعقل أن يقتنع بفكرة ،ول لقلب أن يؤمن بعقيدة ن آَذ َ
َأ ْ
إل بإذن فرعون!!
فإذا خالف وآمن ،تعّرض لبطش فرعون ،وتهديده بالتنكيل والتصليب في جذوع النخل ،وغيره من ألوان العذاب.
شّد{ أومن
ول غرو أن اعتبر القرآن الـِفْتَنٌة :أشد من القتل ،وأكبر من القتل ،فإذا نظرنا إليها من ناحية )الكيف( فهيَ} :أ َ
ناحية )الكم( فهيَ} :أْكَبُر{.
ج َأْهِلِه
خَرا ُ
حَراِم َوِإ ْ
جِد اْل َ
سِل َوُكْفٌر ِبِه َواْلَم ْ
سِبيِل ا ِّ
ن َ
عْصّد َ
حَراِم ِقَتاٍل ِفيِه ُقْل ِقَتاٌل ِفيِه َكِبيٌر َو َ شْهِر اْل َ
ن ال ّ
عِ
ك َ
سَألوَن َ
يقول تعالىَ :ي ْ
ن اْلَقْتِل ]البقرة.[217: ل َواْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِم َ
عْنَد ا ِّ
ِمْنُه َأْكَبُر ِ
خم المشركون واقعة َقَتَل فيها بعضُ المسلمين واحدا من المشركين خطأ في الشهر الحرام ،وأْبدأوا وأعادوا وزادوا في ضّ
القول ،والقرآن أقّر بأن القتال في الشهر الحرام ذنب كبير ،ولكن ما فعلوه من الصد عن سبيل ال والكفر به ،وبحرمة
ي والفتنة التي
ن اْلَقْتِل :أ ْ
المسجد الحرام ،وإخراج أهله منه :أكبر عند ال مما وقع من المسلمين .ثم قالَ :واْلِفْتَنُة َأْكَبُر ِم َ
جدد بالسلم :أكبر وأعظم إثما من القتل الذي وقع من المسلمين خطأ في الشهر الحرام. يوقعها المشركون عمدا بالمؤمنين ال ُ
ضحناه في اليات السابقة ،وكما ومن البّين الواضح :أن الفتنة في اليتين هي الضطهاد في الدين ،وتعذيب المؤمنين ،كما و ّ
يدل عليه السياق بجلء .فهم الذين آذوا المؤمنين طوال ثلثة عشر عاما في مكة ،وأنزلوا بهم صنوف العذاب ،وحاصروهم
اقتصاديا واجتماعيا ،حتى أكلوا أوراق الشجر ،وعّذبوا المستضعفين منهم ،حتى مات بعضهم تحت التعذيب ،واستمر هذا
التنكيل حتى اضطروهم للخروج من ديارهم بغير حق إل أن يقولوا :ربنا ال .فهاجر بعضهم مرتين ،ثم هاجروا جميعا -إل َمن
عجز -إلى يثرب .ومن المتفق عليه :أن أفضل ما يفسر القرآن بالقرآن .وهذا معنى الفتنة في القرآن.
ن اْلَقْتِل ،لن القتل جناية على )جسم( النسان وحياته المادية ،أما الفتنة ،فهي
ن اْلَقْتِل و َأْكَبُر ِم َ
شّد ِم َ
وإنما كانت الفتنةَ :أ َ
جناية على )ضمير( النسان ،وحياته الروحية والفكرية .والجناية الثانية أعظم بل ريب من الجناية الولى.
والخلصة هنا :أن القتال مشروع لغاية ،وهي منع الفتنة والضطهاد في الدين ،ورفع أساليب الضغط والكراه المادي
ن َقْد
والدبي عن الناس ،وتأمين الحرية للدعوة والدعاة ،ليؤمن َمن آمن بحريته ،ويكفر َمن كفر باختياره ،إذ ل ِإْكَراَه ِفي الّدي ِ
عَلْيَها ]يونس.[108: ضّل َ
ضّل َفِإّنَما َي ِ
ن َ
سِه َوَم ْ
ن اْهَتَدى َفِإّنَما َيْهَتِدي ِلَنْف ِ
ي ]البقرةَ ،[256:فَم ِ
ن اْلَغ ّ
شُد ِم َ
ن الّر ْ
َتَبّي َ
وأما ما ورد عن بعض مفسري السلف ،الذين فسروا الفتنة بأنها) :الشرك( أو )الكفر( ،فهو خروج عن ظاهر المعنى الذي
يؤّديه اللفظ ،وهو تفسيُر غيِر معصوم ،ول حجة في قول أحد إل قول رسول ال .ول يوجد عنه نص في ذلك .ولعل مرادهم:
أن الشرك في ذلك الوقت وفي أرض العرب خاصة ،كان مرتعا للشر ،ومباءة للثم والعدوان ،وأن بقاء الشرك بقوتهُ :مهّدد
ي شرك متجّبر في الرض ،أي حتى تقّلم جدد بطبيعته العدوانية .فمعنى )حتى ل يكون شرك( :أ ْ
للسلم الناشئ ،وللمسلمين ال ُ
أظفار العدوان ،وتخلع أنيابه المفترسة ،ول يبقى َمن يفتن الناس .وذكر في )تفسير المنار( ما قاله بعض المفسرين القدامى:
أن الفتنة هي الشرك .قال :ورّده الستاذ المام )محمد عبده( بأنه ُيخرج اليات عن سياقها .وذكره البيضاوي هنا بصيغة
التضعيف )قيل(].[3
ن ِفْتَنٌة :أي حتى ل تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم لجل الدين ،ويمنعونكم من
حّتى ل َتُكو َ
وقال في معنى قوله تعالىَ :
إظهاره أو الدعوة إليه.
ل :أي يكون دين كل شخص خالصا ل ،ل أثر لخشية ن ُكّلُه ِّ
ن الّدي ُ
ل ،وفي سورة النفالَ :وَيُكو َ
ن ِّ
ن الّدي ُ
ومعنى قوله َوَيُكو َ
غيره فيه ،فل ُيفتن لصّده عنه ،ول يؤَذى فيه ،ول يحتاج فيه إلى المداهنة والمداراة ،أو الستخفاء أو المحاباة ،وقد كانت
مكة إلى هذا العهد قرار الشرك ،والكعبة مستودع الصنام ،فالمشرك فيها حر في ضللته ،والمؤمن مغلوب على هدايته].[4
على أن هناك من المفسرين َمن أبقى لفظ الـِفْتَنٌة على معناه الصلي المتبادر منه ،ولم َيِمل به عن أصله.
ن اْلَقْتِل :وجوها ،فكان الوجه الثاني منها:
شّد ِم َ
ذكر المام فخر الدين الرازي في تفسير معنى الـِفْتَنٌة في قوله تعالىَ :واْلِفتَْنُة َأ َ
أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لستخلصه من الغش .ثم صار اسما لكل ما كان سببا للمتحان تشبيها بهذا الصل.
جئين إلى ترك الهل والمعنى :أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين ،وعلى تشديد المر عليهم ،بحيث صاروا ُمل َ
والوطن ،هربا من إضللهم في الدين ،وتخليصا للنفس مما يخافون ويحذرون :فتنة شديدة ،بل هي أشد من القتل الذي
يقتضي التخلص من عموم تلك الفتنة].[5
سر
ن ِفْتَنٌة ،قال :في المراد بالفتنة هنا وجوه :أحدها :أنها الشرك والكفر ،ثم ف ّ
حّتى ل َتُكو َ
وفي تفسير قوله تعالىَ :وَقاِتُلوُهْم َ
ذلك فقال :قالوا :كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى ال عليه وسلم بمكة ،حتى ذهبوا إلى الحبشة،
ثم واظبوا على ذلك اليذاء حتى ذهبوا إلى المدينة ،وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة :أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا.
فأنزل ال هذه الية .والمعنى :قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ،فل يفتنوكم عن دينكم ،فل تقعوا في الشرك][6
3ـ إنقاذ المستضعفين:
ومن أهداف القتال في السلم :إنقاذ المستضعفين من خلق ال ،من ظلم الجّبارين ،وتسّلط المستكبرين في الرض بغير
الحق ،الذين يستخّفون بحرمات الضعفاء ،ويسومونهم سوء العذاب ،وُيْهدرون إنسانيتهم ،لن في أيديهم القوة المادية التي
تمنع اليدي أن ُتدافع ،وُتخرس اللسنة أن تتكلم ،وُتكره الناس على أن يسكتوا عن الحق أو ينطقوا بالباطل.
فعلى المسلمين واجب الّنجدة لتحرير هؤلء المستعبدين ،وإغاثة هؤلء الملهوفين ،وإنقاذ هؤلء المستضعفين من الرجال
جيهم من عدوهم،والنساء والولدان ،الذين ل يستطيعون حيلة ول يهتدون سبيل ،ول يملكون إل الدعاء إلى ال تعالى أن ُين ّ
وُيهّيئ لهم َمن ينصرهم ويأخذ بأيديهم.
ف ُنْؤِتيهِ
سْو َ ب َف َ ل َفُيْقَتْل َأْو َيْغِل ْ
سِبيِل ا ِّ ن ُيَقاِتْل ِفي َ خَرِة َوَم ْلِحَياَة الّدْنَيا ِبا ْن اْل َ
شُرو َ ن َي ْل اّلِذي َ
سِبيِل ا ِّ يقول تعالىَ :فْلُيَقاِتْل ِفي َ
جَنا ِم ْ
ن خِر ْ
ن َرّبَنا َأ ْ
ن َيُقوُلو َ ن اّلِذي َ ساِء َواْلِوْلَدا ِجالِ َوالّن َ ن الّر َن ِم َضَعِفي َ سَت ْ ل َواْلُم ْسِبيِل ا ِّن ِفي َ ظيمًا * َوَما َلُكْم ل ُتَقاِتُلو َ
عِجرًا َ
َأ ْ
صيرًا ]النساء.[74،75: ك َن ِ ن َلُدْن َ
جَعْل َلَنا ِم ْ
ك َوِلّيا َوا ْن َلُدْن َ
جَعْل َلَنا ِم ْ
ظاِلِم َأْهُلَها َوا َْهِذِه اْلَقْرَيِة ال ّ
سِبيِل الِّن ِفي َ فانظر إلى هذا السلوب التحريضي البليغ الذي يستثير الهمم ،ويحّرك العزائمَ ،وَما َلُكْم ل ُتَقاِتُلو َ
ن؟ فجعل القتال في سبيل المستضعفين قرين القتال في سبيل ال ،إذ عطفه عليه بالواو بل فاصل .بل هو عند ضَعِفي َسَت ْ
َواْلمُ ْ
التأمل جزء من القتال في سبيل ال ،لن القتال إنما يكون في سبيل ال إذا كانت الغاية :أن تكون كلمة ال هي العليا ،وكلمة
ال هي كلمة الحق الذي يواجه الباطل ،والعدل الذي يواجه الظلم .وإنقاذ المستضعفين إنما هو لقامة عدل ال في الرض.
ت َفَقاِتُلوا َأْوِلَياَء
غو ِ طا ُ
سِبيِل ال ّ ن ِفي َ ن َكَفُروا ُيَقاِتُلو َ
ل َواّلِذي َسِبيِل ا ِّ
ن ِفي َ ن آَمُنوا ُيَقاِتُلو َ
ولهذا قالت الية التالية لهذه الية :اّلِذي َ
ضِعيفًا ]النساء ،[76:فقّررت الية أن شأن الذين آمنوا :أن يكون قتالهم في سبيل ال ،هكذا ن َ
ن َكا َ
طا ِ
شْي َ
ن َكْيَد ال ّ
ن ِإ ّ
طا ِشْي َ
ال ّ
بإطلق وتعميم ،وإن كان من أجل المستضعفين ،فهو أيضا في سبيل ال .بخلف الذين كفروا ،فإن لهم غاية غير غاية
ظم ويعبد ويطاع طاعة مطلقة من دون ال ،وهو مصدر كل المؤمنين ،وهي أنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت .وهو :كل ما ُيع ّ
سوًل َأ ِ
ن شر وطغيان .ولهذا بعث ال رسله لتحرير المم من عبادة الطاغوت أيا كان اسمه ونوعهَ :وَلَقْد َبَعْثَنا ِفي ُكلّ ُأّمٍة َر ُ
ت ]النحل.[36: غو َ طا ُ
جَتِنُبوا ال ّ
ل َوا ْعُبُدوا ا َّ اْ
والظاهر :أن المسلمين مدعوون لغاثة الملهوفين ،وإنقاذ المستضعفين في الرض من خلق ال ،وإن لم يكونوا مسلمين،
لن رفع الظلم والذى عن جميع الناس مطلوب من المسلم إذا كان قادرا عليه ،ما لم يكونوا محاربين للمسلمين.
بل المسلم مطلوب منه أن يرفع الذى عن الحيوان العجم إذا قدر عليه ،سواء كان هذا الذى ناشئا عن ظلم إنسان له ،أو
أسباب طبيعية أخرى ،كأن يصيبه العطش أو غيره من ألوان الذى.
] -[1انظر :كتابنا )غير المسلمين في المجتمع السلمي( تحت عنوان )الحماية من العتداء الخارجي( صـ .10،9نشر مكتبة وهبة .القاهرة.
] -[2النهاية في غريب الحديث والثر ).(3/411
ن اْلَقْتِل :أي المحنة التي يفتن بها النسان كالخراج من الوطن :أشد من القتل ،لدوام تعبها ،وتألم ] -[3قال البيضاوي في تفسيرَ :واْلِفْتَنُة َأ َ
شّد ِم َ
النفس بها ،وقيل :معناه :شركهم في الحرم ،وصدهم إياكم عنه ،أشد من قتلكم إياهم فيه .انظر :تفسير البيضاوي ) ،(2/285وقال الشهاب في حاشيته
ن أمانيا!(
ب المنايا أن يك ّ
على تفسير البيضاوي :قيل لبعض الحكماء :ما أشد من الموت؟ قال :الذي يتمنى فيه الموت! ومنه أخذ المتنبي قوله) :وحس ُ
وجعل الخراج من الوطن :من الفتن التي ُيتمنى عندها الموت ،كما قال الشاعر:
لقتل بحد السيف أهون موقعا على النفس من قتل بحد فراق!
ن ِدَياِرُكْم َما َفَعُلوُه ِإّل َقِليٌل
جوا ِم ْ
خُر ُ
سُكْم َأِو ا ْ
ن اْقُتُلوا َأْنُف َ
عَليِْهْم َأ ِ
انظر :حاشية الشهاب على البيضاوي ) ،(2/285يؤكد هذا قوله تعالىَ :وَلْو َأّنا َكَتْبَنا َ
ِمْنُهْم ]النساء ،[66:فقرن قتل النفس بالخروج من الديار ،دللة على أنهما متكافئان أو متقاربان.
] -[4تفسير المنار ) (2/210،211طبعة المنار الثالثة.
] -[5التفسير الكبير للفخر الرازي ).(5/143
] -[6المصدر السابق ).(5/145
جل لديننا قدرته على النتشار السريع ،ودخول المم فيه أفواجا ،بأدنى دعوة إليه ،وإن لم َيُقم بهذه
ومن مآثر تاريخنا :أنه س ّ
الدعوة أناس محترفون متخصصون في التبشير به ،متفرغون له.
وسر ذلك :أن هذا الدين -بعقائده وعباداته وأخلقياته وتشريعاته -تتوافر فيه :موافقة الفطرة ،وملءمة العقل ،وتزكية
النفس ،وسمو الروح ،وصحة الجسم ،وتماسك السرة ،وترابط المجتمع ،وتحقيق العدل ،وجلب المصالح ،ودرء المفاسد،
وإشاعة الخيرات ،ومكافحة الشرور بقدر المكان.
وأبرز ما في هذا الدين سهولة عقائده التي ليس فيها غموض ول التواء ول تناقض ،تقبلها الفطرة السليمة ،ويسلم لها العقل
المستقيم.
فل غرو أن انتشر دين السلم انتشار أضواء الصباح ،فمل الفاق ،ومحا الظلم ،واستنارت به البصار والبصائر ،ورحب
الناس به في عامة القطار.
لم يكن )السيف( هو الذي أدخل الناس في السلم ،كما زعم بعض خصوم السلم ،فإن السيف قد يفتح أرضا للحتلل ،ولكنه
ل يفتح قلبا للهداية.
بل إن النسان -بطبعه -يأبى أن يدخل في دين َمن يقهره عليه بالسيف.
حّتى
س َ
ت ُتْكِرُه الّنا َ
على أن السلم ذاته ينكر إكراه الناس على اليمان ،ففي القرآن المكي يخاطب ال رسوله فيقولَ :أَفَأْن َ
ن ]يونس.[99:َيُكوُنوا ُمْؤِمِني َ
ي ]البقرة.[256:
ن اْلَغ ّ
شُد ِم َ
ن الّر ْ
ن َقْد َتَبّي َ
وفي القرآن المدني يقول :ل ِإْكَراَه ِفي الّدي ِ
بل إن القرآن ل يعتّد بإيمان َمن لم يؤمن عن طواعية واختيار حر ،ل تشوبه أي شائبة من ضغط أو إكراه ،ولهذا لم يقبل
سِلِمي َ
ن ن اْلُم ْ
سرائيَل َوَأَنا ِم َ
ت ِبِه َبُنو ِإ ْ
ت َأّنُه ل ِإَلَه إِّل اّلِذي آَمَن ْ
ق َقاَل آَمْن ُ
حّتى ِإَذا َأْدَرَكُه اْلَغَر ُ
إيمان فرعون ساعة الغرقَ ،
ن ]يونس.[91: سِدي َ
ن اْلُمْف ِت ِم َ
ت َقْبُل َوُكْن َ
صْي َع َ
ن َوَقْد َ لَ]يونس ،[90:فكان الجواب اللهي عليه :آ ْ
ك َيْنَفُعُهْم
ن * َفَلْم َي ُ
شِرِكي َ
حَدُه َوَكَفْرَنا ِبَما ُكّنا ِبِه ُم ْ ل َو ْسَنا َقاُلوا آَمّنا ِبا ِّ
وقال عن قوم مكذبين نزل عليهم عذاب الَ :فَلّما َرَأْوا َبْأ َ
ن ]غافر.[84،85: ك اْلَكاِفُرو َ سَر ُهَناِل َخ ِ عَباِدِه َو َ
ت ِفي ِ خَل ْ
ل اّلِتي َقْد َ ت ا ِّ
سّن َ
سَنا ُ
ِإيَماُنُهْم َلّما َرَأْوا َبْأ َ
الحق أن سهولة تعاليم السلم ،وسمو أخلق المسلمين :هما اللذان مهدا السبيل لدخول المم في السلم ،وليس السيف ،كما
تقّول المتقولون.
انتشار السلم بفضائله وقوته الذاتية:
ولقد أّلف المؤرخ المعروف الدكتور حسين مؤنس كتابا أسماه )السلم الفاتح( ،وقال عنه :أنه دراسة في تاريخ البلد التي
فتحها السلم بفضائله وقوته الذاتية ،دون أن يوجف عليها بخيل ول ركاب .وقد تتّبع انتشار السلم في هذه البلد ،وبّين
كيف دخل السلم إليه ،بما يقطع كل شك ،ويرّد على كل تخّرص بأن المسلمين استخدموا القوة في نشر دينهم .يقول د.
مؤنس رحمه ال:
)لم يسبق فيما مضى أن كانت للمسلمين سياسة موضوعة لنشر السلم ،يقوم عليها رجال متخصصون يجرون في أعمالهم
على مناهج مقررة ،كما هي الحال في النصرانية مثل ،حيث نجد البابوية الكاثوليكية ،وما تبعها من منظمات كهنوتية
كالفرنشسكية والدومينيكية والجزويت ،وكذلك يما تنظمه الهيئات البروتستانتية من حملت تبشير ،تعد رجالها في معاهد
متخصصة ،وتنفق عليها المال الوفير ،ثم ترسلهم إلى البلد البعيدة لدعوة الناس إلى أديانها بأساليب علمية مدروسة ،لقناع
من يصادفونه من الناس بصدق ما يدعون إليه ،وإدخالهم في العقيدة ،ويبلغ المر أن يطّلق أولئك الدعاة الدنيا ،ليخلصوا
للدعوة خلوصا تاما ،كما نعرفه في جماعات الرهبان المسيحية والبوذية أحيانا.
في السلم ل نجد شيئا من هذا إل في عصرنا اليوم ،عندما تزايدت تيارات التبشير غير السلمية ،ولم يعد هناك مناص من
أن ُيعَنى المسلمون بالدعوة وتنظيمها ،وإعداد الرجال القادرين عليها ،فيما عدا ذلك كان السلم هو الذي نشر نفسه بنفسه:
هو الذي دعا لنفسه واجتذب قلوب الناس؛ فاسلموا حبا في السلم وإعجابا به والتماسا لرحمة ال وهداه.
وإنه لمما يستوقف النظر أن قوة السلم الذاتية قد غلبت تنظيمات الدعاة ،وأثبتت أنها أفعل وأبعد أثرا من المال الذي أنفقه
الخرون على دعاواهم ،فانتشر واتسع مداه ،ودخلت فيه المم بعد المم ،من تلقاء نفسها بمجرد وصول الدعوة إليها .ولقد
كان العرب يفتحون البلد من البلد ،ويعرضون السلم على أهله ،ثم يدعونهم وشانهم ؛ حتى يقتنعوا بفضائله النسانية في
تمهل ،حتى لقد ذهب بعض الشانئين للعرب إلى أنهم لم يكونوا يهتمون بنشر دينهم ،وأن الجزية كانت أحب إليهم من
السلم ،وما إلى ذلك مما نجده مسطورا في كتب أعداء الملة.
وما كان ذلك عن عدم حرص من العرب على نشر السلم ،وإنما كان سيرا على أسلوب الدعوة في عهدها الول :أسلوب
عرض الدين على الناس ،وتركهم بعد ذلك أحرارا إلى أن يهدي ال منهم من يشاء.
ومن غريب ما حدث في بلد مصر والندلس :أن كان مسلك العرب هذا أدعى إلى دخول الناس في السلم ،لنهم تعودوا ممن
يتغلب على بلدهم :أن يكون شديد الحرص على إدخالهم في دينه ،فما بال أولئك العرب ل يلحون على الناس في الدخول في
السلم ،ول يستخدمون القوة في ذلك ،كما كان رجال دولتي الرومان والروم يفعلون؟.
قال يولوج الراهب القرطبي المبغض للسلم " :فكان من مكر العرب أن تظاهروا بأنهم ل يهتمون بدخول الناس في
السلم ،فتطلعت نفوس الناس إلى ذلك السلم يتعرفون عليه ،لعلهم يعرفون السبب في اختصاص العرب أنفسهم به،
وضنهم به على غيرهم ،فما زالوا يفعلون ذلك ،ويسألون عن السلم ويستفسرون ،حتى وجدوا أنفسهم مسلمين دون أن
يدروا".
ولقد قال الراهب القبطي يوحنا النقبوس شيئا من ذلك ،وكان متأسفا :لن العرب لم يلجئوا إلى القوة في فرض السلم ،إذ لو
أنهم فعلوا ذلك لزاد تمسك القباط بعقيدتهم على مذهب العناد وإباء كل ما يفرض بالقوة ،ولما وجد السلم هذا الطريق
السهل الميسر إلى القلوب في مصر والندلس.
وإنك لتحاول أن تدرس كيف أسلم أقباط مصر ،وكانوا من أشد الناس استمساكا بعقيدتهم ،حتى لقد استشهدت في سبيلها
منهم جماعات بعد جماعات ،على أيدي عتاة الرومان من أمثال دقلديانوس ،وطغاة الروم من أمثال قيرس ،فل تجد لتساؤلك
جوابا؛ لن التحول إلى السلم في هذين البلدين –مصر والندلس -تم في هدوء وسكون :انسابت العقيدة في قلوب الناس ،
كما ينساب الماء في أرض الزرع ،فتخضر وتزهر وتثمر بإذن ربها.
وفي بلد المغرب أسلمت قبائل البربر مبهورة بما رأت من روعة إيمان عقبة بن نافع وأصحابه ،فهذا الرجل الفريد في بابه ،
الذي وهب نفسه للسلم ،كان يلقى رئيس القبيلة ،ويحدثه ،ثم يدعوه إلى السلم؛ فيسارع إلى اليمان ليكون من قوم
عقبة ،ثم يتبعه بعد ذلك قومه.
إن مداخل السلم إلى القلوب ،هي سماحته وبساطته وإنسانيته .إنه يقدم للمؤمن به الطمئنان وهدوء البال ،ويفتح له إلى
ال سبحانه بابا واسعا للمغفرة والمل وثواب الخرة ،وكل ذلك دون مقابل .في أديان أخرى تفرض عليه أموال وهدايا
وقرابين ،ويلزم بطاعة رهبان وقساوسة ،ويراقب ويعاقب ويحرم من نعمة ال بقرار ..ل شيء من هذا في السلم ،من هنا
كان مدخله إلى النفوس سهل ذلول.
أما مسالك السلم ،فهي ضروب الرض جميعا :لقد انتشر السلم بالبر والبحر ،بالحرب والسلم ،لقد اخترق الجبال
والشعاب ،وأوجد لنفسه طرقا ومسالك ل تخطر على بال أحد .لقد اشترك في نقل السلم حتى الكفار ،ومن بين المستشرقين
رجل -سنتحدث عنه – نصح حكومته بترك السلم ينتشر ،حتى يشتغل به الناس ،ويتركوا التجارة والموال للهولنديين،
وأخذت الدولة بكلمه.
وانساح السلم في إندونيسيا حتى عمها كلها .وحدث أن دخلت السلم قبيلة من قبائل الونقارة في غرب أفريقية على سبيل
العناد مع جارتها ،فلما دخلت فيه سعدت وارتقت وسادت وتبعتها خصمتها الولى… بفضل هذه العداوة –التي أصبحت
صداقة -اخترق السلم مائتي كيلومتر من الغابات الستوائية التي ل يخترقها أحد إل بمشقة ،وهذه القبيلة –وتسمى الونقارا
آيا -تعتبر في مقدمة قبائل داهومي ،منها اليوم أطباء ومهندسون ومدرسون وقضاة .لقد دخلت السلم دون أن تدري أي حظ
كتبه ال لها عن طريق هذا الدين.
السلم دين طيار:
والخلصة أن داعية السلم الكبر هو السلم نفسه ،فقد تضمنت عقيدته وشريعته من الفضائل ما يجعل الناس يحرصون
أشد الحرص على أن يدخلوا فيها ،ثم إن السلم يعطي الداخل فيه كل شيء ول ينتقصه شيئا ،فإن النسان يكسب الصلة
المباشرة بال سبحانه ونتعالى ،ويجد الطريق إليه فيقف بين يديه خمس مرات في اليوم ،ويدعوه دون حجاب ،ويكسب المل
في حياة أسعد وأرغد في هذه الحياة الدنيا ،ثم حياة الخلود في دار البقاء ،ول يكلفه ذلك إل النطق بالشهادتين ،واتباع شريعة
السلم ،وكلها خير ومساواة وعدل ،في حين يتقاضاه رجال الدين في الديان الخرى-كما قلنا -التاوات في كل مناسبة ،فهو
يؤدي مال إذا تزوج ،ويؤدي مال كلما أنجب ولدا ،ويؤدي مال ليعّمد الطفل الوليد ،ثم مال آخر ليثبته في الجماعة المسيحية
إذا ضرب في مداخل الشباب ،بل يؤدي مال إذا مات له ميت لكي تصلى عليه صلة الجنازة ،وبالضافة إلى ذلك يظل عمره
كله تابعا لرجل الدين في كل ما يتصل بال سبحانه ،فإذا أراد الصلة صلى عنه القس ،ووقف هو يسمع ول يملك إل أن يقول:
آمين ،ولكن المسلمين وحدهم من دون أهل الديان هم الذين يقوم كل واحد منهم بصلته بنفسه ،حتى لو كانت صلة
الجماعة ،وفي غير السلم يصلى القس مع مساعديه نيابة عن الناس.
والحق أن أصدق وصف يطلق على السلم في هذا المقام ،أنه) دين طيار( ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة لمة في
سهولة ويسر ،كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح! وإنك لتنظر إلى خريطة الرض ،وتتأمل مدى انتشار
السلم ،فتتعجب من سعته ،ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه المساحة فحسب هي المساحة التي فتحتها الدول وأدخلت
الجيوش فيها السلم .أما الباقية فقد دخلها السلم ،ومل قلوب أهلها دون جيش منظم ،أو سياسة مرسومة لذلك!! ،إنما
هو السلم نفسه ،جعله ال خفيفا على القلوب ،قريبا إلى النفوس ،ما تكاد كلمة الحق تصافح أذن الرجل حتى يصل اليمان
إلى قلبه ،فإذا استقر في قلبه لم يكن هناك قط سبيل إلى إخراجه منه ،فهو الريء الذي تظمأ إليه النفوس وتستقي منه ،وهو
المل الذي يخفف على النسان وطأة المسير في هذه الدنيا ،ويهون عليه الموت ،فالموت ليس آخر رحلة النسان مع الحياة
بل هو المدخل إلى الحياة فحسب ،وبعد هذه الحياة حياة هي أسعد وأبقى لمن صدق إيمانه واتقى.
ولعل أكبر أسباب خفة السلم على القلوب هو :وضوحه وصدقه ،فإنك إذ تؤمن بالسلم ل تؤمن بأسرار أو أمور ل يقبلها
عقلك ،كما ترى في الديان الخرى ،حتى الغيب الذي تؤمن به في السلم حقيقة ،فإن النسان ل يرى ال بالعين المبصرة،
وإنما يحس به في نفسه ،وفي كل ما حوله بالبصيرة المنيرة ،والحقيقة الكبرى في هذا الكون هي خالقه ،فهو الحق ول حق
غيره ،وأنت ل تؤمن بال ؛ لن داعيك إليه يأتي بمعجزات أو خوارق ،وإنما هو يلفت نظرك إلى عجائب الخلق ،وكّل ما فيه
معجز وخارق ،وأنت تراه رأي العين في شخصك الذي يعيش ويتحرك ويفهم ،ل تدري كيف ،فإذا لم تؤمن بال فكيف فكيف
تعلل حياتك ،وحركة حسدك ،ونبض قلبك ؟ فإذا آمنت بال لم يكن لك مفر من أن تؤمن بنبيه الذي حمل إليك رسالته ،فال
سبحانه حق ،ونبيه صدق ،وكل ما يعدك به القرآن حق وصدق ،ولست تحتاج إلى من يشرح لك حقيقة السلم حتى في
نفسك ،وغاية ما تحتاج إليه من يذكرك بها ،وهذا معنى من معاني تسمية ال سبحانه للقرآن بالذكر والذكر الحكيم]. [1
أ.هـ .
شهادة غوستان لوبون:
هذه شهادة مؤرخ كبير مثل الدكتور حسين مؤنس ،ولكن قد يقال :إنها شهادة مسلم لدينه .فهذه شهادة من مؤرخ غير مسلم
،وهو المؤرخ الفيلسوف الجتماعي الفرنسي الشهير )غوستان لوبون( في كتابه )حضارة العرب( الذي نقله إلى العربية
الستاذ عادل زعيتر.
فلسفة القرآن وانتشاره في العالم:
يقول لوبون تحت عنوان )فلسفة القرآن وانتشاره في العالم(:
إذا أرجعنا القرآن إلى عقائده الرئيسة :أمكننا عّد السلم صورة مبسطة عن النصرانية ،ومع ذلك فإن السلم يختلف عن
النصرانية في كثير من الصول ،ول سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي ،وذلك أن الله الواحد ،الذي دعا إليه
ف به الملئكة والقديسون وغيرهم ممن يفرض تقديسهم ) .أي كما في النصرانية( السلم ،مهيمن على كل شيء ،ول تح ّ
وللسلم وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم.
ويشير لوبون إلى يسر السلم ،وسهولته البالغة والتي تتمثل في عقيدة التوحيد الخالص ،وفي هذه السهولة سر قوة السلم
،وهي التي تجعل إدراك السلم سهل على كل إنسان ،فليس في السلم غموض ول تعقيد ،مما نراه في الديان الخرى
وتأباه الفطرة السليمة ،من المتناقضات والغوامض.
قال :ول شيء أكثر وضوحا ،وأقل غموضا ،من أصول السلم القائلة بوجود إله واحد ،وبمساواة جميع الناس أمام ال .
وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها ،ويدخل النار من يعرض عنها .وإنك ،إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة ،
رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقده ،ويسرد لك أصول السلم في بضع كلمات بسهولة .وهو بذلك على عكس النصراني
الذي ل يستطيع حديثا عن التثليث ،والستحالة ،وما ماثلهما من الغوامض ،من غير أن يكون من علماء اللهوت الواقفين
على دقائق الجدل!
وساعد وضوح السلم البالغ :ما أمر به من العدل والحسان كل المساعدة ،على انتشاره في العالم ،ونفسر بهذه المزايا
سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للسلم ،كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية ،فأصبحوا
مسلمين حين عرفوا أصول السلم ،كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة ،بعد أن رضيت بالسلم دينا ،سواء أكانت هذه
المة غالبة أم مغلوبة.
ويجب على من يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني :أل ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم ،بل إلى مدى تأثير
عقائده .والسلم إذا ما نظر إليه من هذه الناحية :وجد أنه من أشد الديان تأثيرا في الناس ،وهو -مع مماثلته لكثر الديان
في المر بالعدل والحسان والصلة ،إلخ -يعّلم هذه المور بسهولة يستمرئها الجميع ،وهو يعرف ،فضل عن ذلك ،أن يص ّ
ب
في النفوس إيمانا ثابتا ل تزعزعه الشبهات.
ول ريب في أن نفوذ السلم السياسي والمدني كان عظيما إلى الغاية ،فقد كانت بلد العرب قبل محمد مؤلفة من إمارات
مستقلة وقبائل متقاتلة دائما ،فلما ظهر محمد ،ومضى على ظهوره قرن واحد ،كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى
إسبانية ،وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المدن التي خفقت راية النبي فوقها.
والسلم من أكثر الديانات ملءمة لكتشافات العلم ،ومن أعظمها تهذيبا للنفوس ،وحمل على العدل والحسان والتسامح ،
والُبّدهيُة ،وإن فاقت جميع الديان السامية فلسفة ،تراها مضطرة أن تتحول تحول تاما لتستمرئها الجموع ،وهي ،ل شك ،
دون السلم في شكلها المعّدل هذا.
وجرت حضارة العرب ،التي أوجدها أتباع محمد ،على سنة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا :نشوء فاعتلء فهبوط
فموت ،ومع ما أصاب حضارة العرب من الّدثور ،كالحضارات التي ظهرت قبلها ،لم يمس الزمن دين النبي الذي له من
النفوذ ماله في الماضي ،والذي ل يزال ذا سلطان كبير على النفوس ،مع أن الديان الخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم
شيئا من قوتها.
ويدين بالسلم في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص] ، [2واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسية
الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين ،ثم جميع إفريقية إلى ما تحت خط الستواء تقريبا.
وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورا لها وحدة اللغة والصلت التي يسر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من
جميع بلد العالم السلمي.
وتجب على جميع أتباع محمد تلوة القرآن باللغة العربية بقدر المكان ،واللغة العربية هي لذلك أكثر لغات العالم انتشارا
على ما يحتمل ،وعلى ما بين الشعوب السلمية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما ُيمِكن جمعها به
تحت علم واحد في أحد اليام.
وقضى أعداء السلم من المؤرخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة ،فعزوها إلى ما زعموه من تحلل محمد
وبطشه ،ويسهل علينا أن ُنثبت أن هذه المزاعم ل تقوم على أساس ،فنقول :إن من يقرأ القرآن يجد فيه ما في الديان
الخرى من الصرامة ،وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريبا على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور
محمد ،وإن هذه الشعوب لم تجد نفعا جديدا في القرآن لهذا السبب.
وما قيل من دليل حول تحلل محمد نقضه العلمة الفيلسوف )بيل( منذ زمن طويل .وقال بيل ،بعد أن أثبت أن ما أمر النبي
بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الخلق هو أشد مما أمر به النصارى:
" إن من الضلل ،إذن ،أن ُيعزى انتشار السلم السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل النسان ما شق من
التكاليف والعمال الصالحة ،وأنه يبيح له البقاء على سيئ الخلق ،وقد دّون )هوتنجر( قائمة طويلة بالخلق الكريمة
والداب الحميدة عند المسلمين ،فأرى –مع القصد في مدح السلم -أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان
من التحلي بمكارم الخلق ،والبتعاد عن العيوب والثام"].[3
ومما نبه إليه العلمة )بيل ( :أن ملذ الجنة التي وعد بها المسلمون ل تزيد على ما وعد به النصارى في النجيل .جاء في
النجيل" :لم تر عين ،ولم تسمع أذن ،ولم يخطر على قلب إنسان :ما أعده ال للذين يحبونه".
وسيرى القارئ ،حين نبحث في فتح العرب وأسباب انتصاراتهم :أن القوة لم تكن عامل في انتشار القرآن ،فقد ترك العرب
المغلوبين أحرارا في أديانهم ،فإذا حدث أن اعتنق بعض القوام النصرانية السلم ،واتخذوا العربية لغة لهم ،فذلك لما رأوا
من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين ،ولما كان عليه السلم من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
وقد أثبت التاريخ أن الديان ل تفرض بالقوة ،فلما قهر النصارى عرب الندلس فضل هؤلء القتل والطرد عن آخرهم على
ترك السلم.
ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن ،بل انتشر بالدعوة وحدها ،وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا
كالترك والمغول ،وبلغ القرآن من النتشار في الهند ،التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد معه عدد المسلمين
على خمسين مليون نفس فيها] ،[4ويزيد عدد مسلمي الهند اليوم يوما فيوما ،مع أن النجليز ،الذين هم سادة الهند في الوقت
الحاضر ،يجّهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط ،وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة السلمية
فيها ،ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا] [5في الوقت الحاضر.
جْبرية ما يزيد خطرا على ما رددنا عليه ،وليس في آي القرآن التي ذكرناها آنفا من
وليس فيما يوصم به السلم من ال َ
جْبرية ما ليس في كتب الديان الخرى كالتوراة مثل] .[6وهناك فلسفة وعلماء لهوت يعترفون بأن مجرى الحوادث تابع ال َ
لسنة ل تتبدل ،قال المصلح الديني القدير لوثر" :يحتج على اختيار النسان وإرادته بنصوص الكتاب المقدس التي ل تحصى ،
وإن شئت فقل بكل ما ورد في الكتاب المقدس".
جْبرية التي يسميها القدماء بالقدر ،ووضع القدماء القدر ،الذي ل راد لحكمه ،على رأس
وكتب جميع المم الدينية ُمَفّعَمة بال َ
كل أمر ،عاّدين إياه سلطة مطلقة ل مناص للناس واللهة من إطاعتها ،وحاول )إديب( على غير جدوى ،أن يضرع إلى
هاتف الغيب الذي أخبره بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه ،فلم يستطع ردا لحكم القدر الجبار.
جْبريا أكثر من مؤسسي الديان الذين ظهروا قبله ،ولم يسبق محمد في جبريته علماء الوقت الحاضرولم يكن محمد ،إذن َ
الذين أيدوا مع العلمة لبلس رأي الفيلسوف ليبنتز في القول " :إنه إذا وجد ذكاء يعرف ،لوقت ،جميع قوى العالم،
ومواضع ما فيه من الموجودات ،ويستطيع أن يحللها ،ويحيط بمحركات أعظم أجرام العالم وأصغر ذراته ،فإنه ل يبقى
عنده شيء غير معين ،ويصبح الماضي والمستقبل حال في نظره ".
جْبرية الشرقية التي قامت عليها فلسفة العرب ،ويستند إليها كثير من مفكري العصر الحاضر هي نوع من التسليم الهادئ وال َ
الذي يعلم به النسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبّرم وملومة ،وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر من أن يكون وليد
عقيدة ،وقد كان العرب جبريين في مزاجهم قبل ظهور محمد ،فلم يكن لجربيتهم تأثير في ارتقائهم ،كما أنها لم تؤد إلى
انحطاطهم [7].أ .هـ.
توماس أرنولد ينصف السلم:
وإذا كان غوستاف لوبون الفرنسي قد أنصف السلم وتاريخ المسلمين في كتابه ،فقد جاء بعده المستشرق البريطاني
البحاثة الشهير)توماس أرنولد( الذي كان يعرف العربية والفارسية وعددا من اللغات الوربية ،والذي أصدر كتابه القيم
)الدعوة إلى السلم :بحث في تاريخ نشر العقيدة السلمية( وكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر الميلدي1896) ،م(.
وقد طبع الكتاب بالنجليزية عدة طبعات ،ونقله إلى العربية د .حسن إبراهيم حسن وزميله ،ونشر عدة مرات ابتداء من
سنة 1947م .
والكتاب جدير بأن يقرأ ،لما فيه من وقائع وأحداث مأخوذة من مصادر عدة وموثقة ،ومكتوبة بلغات شتى ،عكف الرجل
عليها ،حتى استخرجها من مظانها وحشدها في كتابه العلمي الموثق.
] [1السلم الفاتح لحسين مؤنس .24-20 :نشر الزهراء للعلم العربي.
] [2قيل هذا في القرن التاسع عشر ،ومع هذا كان المسلمون أكثر ذلك بكثير .وسيأتي من كلم )لوبون( نفسه ما يدل على أن المسلمين أكثر من ذلك.
] [3وقال الفيلسوف الشهير )كارلبل( في كتابه البطال في فصله الذي كتبه عن البطل في صورة نبي ،واتخذ النبي محمدا نموذجا ممثل للبطولة:
)إن دينه ليس بالدين السهل ،فإنه –بما فيه من صوم قاس ،وطهارة ،وصيغ معقدة صارمة ،وصلوات خمس كل يوم ،وإمساك عن شرب الخمر -لم
يفلح في أن يكون دينا سهل( انظر :الدعوة إلى السلم ص 460لتوماس أرنولد.
] [4هذه إحصائيات قديمة من القرن التاسع عشر ،ومع هذا ليست دقيقة.
] [5إذا كان المسلمون في الهند يزيدون على 50مليونا ،وفي الصين على 20مليونا ،فكيف يكون عدد جميع المسلمين مائة مليون ،كما قال الباحث
من قبل؟!!
] [6بل هناك مئات اليات من القرآن في سوره المكية والمدنية تثبت بكل وضوح :أن النسان مكلف مختار ،وأنه هو الذي يقرر مصير نفسه ،وإن
ال تعالى منحه من القوى والمواهب والملكات :ما يمكنه من صنع مصيره بيده ،كما قال تعالى :من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل
عليها كل نفس بما كسبت رهينة ل يكلف ال نفسا إل وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم
… إلى آخره .
] [7أنظر :حضارة العرب.
موقفنا من اليهود
ج :أما عن موقفي من اليهود ،فهو معلوم لكل من طالع كتبي ،أو استمع إلى محاضراتي وخطبي ،وهو موقف السلم
الذي أدين ال تعالى به ،وأعني به السلم الوسط ،الذي يمثل المنهج الوسط للمة الوسط ،الذي يقف وسطًا بين
المتحللين والمتزمتين ،و بين التفريط والفراط .وهو منهجي الذي آمنت به ،ونذرت نفسي للدعوة إليه ،وهو الحسان
إلى الجميع ،والدعوة إلى التعارف والتعايش السلمي بين الناس كافة ،دون عدوان على حق احد ،أو انتهاك لحرمته؛ مع
اليمان بحق كل إنسان في المحافظة على دينه وعقيدته ،قال تعالى :ل إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي البقرة.255 :
ول شك أن اليهود هم أتباع موسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ،وقد تحدث القرآن عن موسى عليه السلم
وعن قومه في سور كثيرة ،حتى قال بعض علمائنا :كاد القرآن يكون لموسى وقومه! وحسبنا أن موسى ذكر في القرآن )
(136مائة وستا وثلثين مرة ،وموسى يعتبر من أولي العزم من الرسل ،وهم خمسة :نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد عليهم الصلة والسلم ،وهم المذكورون في قوله تعالى :وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ،ومنك ومن نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا الحزاب . 7 :وفي قوله تعالى :شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى :أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه الشورى .13 :
وموسى هو الذي خصه ال تعالى بكلمه المباشر دون رسل ال جميعا .يقول تعالى :قال :يا موسى إني اصطفيتك على
الناس برسالتي وكلمي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين العراف . 144 :وقال تعالى :وكلم ال موسى تكليما النساء :
. 164
ويتحدث القرآن عن كتاب اليهود – وهو التوراة -حديثا ينم عن الحترام والتبجيل ،فيقول :إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والحبار بما استحفظوا من كتاب ال وكانوا عليه شهداء المائدة 44 :
.
واعتبر السلم اليهودية ديانة سماوية ،وسمى أهلها )أهل الكتاب( وهو اسم يشملهم ويشمل النصارى معهم .ويناديهم بهذا
اللقب المعبر ) :يا أهل الكتاب(.
وجعل لهم من الحكام ما يميزهم عن غيرهم ،مثل أكل ذبائحهم ،وتزوج نسائهم ،كما قال تعالى في سورة المائدة :وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم ،وطعامكم حل لهم ،والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا
آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ول متخذي أخدان المائدة. 5:
وهذه قمة في التسامح :أن يجيز السلم للمسلم أن يتزوج يهودية ،فتصبح ربة بيته ،وشريكة حياته ،وموضع سره ،وأم
أولده ،مع ما في الزواج من المودة والرحمة كما قال ال تعالى :وجعل بينكم مودة ورحمة الروم. 21 :
وهذا الزواج ينشئ رابطة المصاهرة التي هي قرينة رابطة النسب ،كما قال تعالى :وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله
نسبا وصهرا الفرقان . 54 :وبذلك يصبح أهل الزوجة أجداد الولد وجداتهم ،وأخوالهم وخالتهم ،ويقر لهم حقوق ذوي
القربى ،وأولي الرحام ،وقد قال تعالى :وأولوا الرحام بعضهم أولى ببعض النفال . 75 :
ومعنى هذا كله :أن أهل الكتاب أقرب إلينا من غيرهم من سائر الملل ،ولهذا نهانا القرآن أن نجادلهم إل بالتي هي أحسن،
وذلك في قوله سبحانه :ول تجادلوا أهل الكتاب إل بالتي هي أحسن إل الذين ظلموا منهم ،وقولوا :آمنا بالذي أنزل إلينا
وأنزل إليكم ،وإلهنا إلهكم واحد ،ونحن له مسلمون العنكبوت.46:
فهذا هو موقفي وموقف كل المسلمين عموما من اليهود بوصفهم يهودا .وهذا ما لم يقاتلونا في الدين ،أو يخرجونا من
ديارنا ،أو يظاهروا على إخراجنا ؛ فإن فعلوا ذلك ؛ فل ولء ول مسالمة بيننا وبينهم حتى يعودوا عن عدوانهم ويجنحوا
إلى السلم ،وهو الذي نؤمن به ونسعى إليه .وهذا ما وضحته آيتان محكمتان في كتاب ال :ل ينهاكم ال عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن ال يحب المقسطين .إنما ينهاكم ال عن الذين
قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون الممتحنة.8 :
فقسم ال تعالى غير المسلمين ـ ومنهم اليهود ـ إلى مسالمين للمسلمين ،وغير مسالمين لهم ،وجعل للولين البر والقسط ،
وحرم الولء للخرين .
ج :الحق الذي يجب أن يعلمه الناس ،كل الناس :أنني -وغيري من المسلمين -ل نكره اليهود لكونهم يهودا ،ولهذا قلت
مرارا :إن )اليهودية( باعتبارها ديانة ليست هي السبب في المعركة بيننا وبين دولة إسرائيل .
والقرآن اختار لليهود -و كذلك النصارى ) -لقًبا( يوحي بالقرب واليناس منهم ،وهو )أهل الكتاب( ويناديهم بذلك )يا أهل
الكتاب( ويعنى به :التوراة والنجيل ،إشعاًرا بأنهم -في الصل -أهل دين سماوي ،وإن حرفوا فيه وبدلـوا .
بل أزيد على ذلك فأقول :إن اليهود -من الناحية الدينية -أقرب إلى المسلمين في كثير من المور ،من النصارى
المسيحيين،لنهم أقرب منهم إلى ملة إبراهيم عليه السلم ،سواء في العقيدة أم في الشريعة.
على أن كل ما يؤمن به اليهود فيما يتعلق باللوهية والنبوة ،يؤمن به المسيحيون ،لن التوراة وملحقاتها من )الكتاب
المقدس( عندهم .ويزيدون على اليهود ما انفردوا به من تأليه المسيح أو القول بالتثليث.
ضا.
فلو كنا نحارب اليهود من أجل العقيدة ،لحاربنا النصارى المسيحيين أي ً
ومن أجل هذا يتبين لنا خطأ بعض عوام المتدينين الذين يتوهمون أن الحرب القائمة بيننا وبين اليهود حرب من أجل
العقيدة.
وهذه النظرة التي قد تخطر في بال بعض الناس :خاطئة تماًما ،فاليهود ـ كما رأينا ـ يعتبرهم السلم أهل كتاب ،يبيح
مؤاكلتهم ،ويبيح مصاهرتهم،وقد كانوا على معتقداتهم هذه ،وقد عاشوا قروًنا بين ظهراني المسلمين ،لهم ذمة ال تعالى،
وذمة رسوله ،وذمة جماعة المسلمين ،وقد طردهم العالم ،ولفظهم لفظ النواة ،من أسبانيا وغيرها ،ولم يجدوا صدًرا حنوًنا،
إل في دار السلم ،وأوطان المسلمين ،ولم يفكر المسلمون يوًما أن يحاربوا اليهود ،أو يمسوهم بأذى .مع أنهم كانوا في
تلك الزمنة كلها متمسكين بعقيدتهم اليهودية ،لن دين المسلمين يحرم عليهم ذلك .
وأحب أن أنبه هنا إلى نقطة تتعلق بالنقطة السابقة ،وهي :هل سبب العداوة والحرب المستعرة بيننا ـ نحن العرب
والمسلمين ـ وبين إسرائيل :أنها دولة سامية؟
والجواب :أن هذا أبعد ما يكون عن تفكير المسلمين ،ول يتصور أن يرد هذا بخواطرهم؛ لسببين أساسيين:
الول :أننا ـ نحن العرب ـ ساميون ،ونحن مع بني إسرائيل في هذه القضية أبناء عمومة ،فإذا كانوا هم أبناء إسرائيل ـ وهو
يعقوب ـ بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلم ،فنحن أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلم.
ول تستطيع إسرائيل أن تزايد علينا في ذلك ،ول أن تتهمنا بأننا أعداء )السامية( التي تتاجر بها في الغرب ،وتشهرها سيًفا
في وجه كل من يعارض سياستها ،أو ينـتقد سلوكياتها العدوانية واللأخلقية ،بل اعتبر القرآن المسلمين كافة أبناء إبراهيم
هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم الحج. 78:
والثاني :أن المسلمين عالميون إنسانيون بحكم تكوينهم العقدي والفكري ،وليسوا ضد أي عرق من العروق أو نسب من
النساب ،وقد علمهم دينهم أن البشرية كلها أسرة واحدة ،تجمعهم العبودية ل ،والبنوة لدم ،كما قال تعالى :ياأيها الناس إنا
خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوًبا وقبائل لتعارفوا ،إن أكرمكم عند ال أتقاكم ،إن ال عليم خبير الحجرات . 13:وقال
رسولهم الكريم " :أيها الناس ،إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد ،كلكم لدم ،وآدم من تراب " [1] .
على أن اليهود اليوم لم يعودوا كلهم ساميين ،كما يزعمون ،فقد دخل فيهم عناصر شتى من سائر أمم الرض ،كما هو
معروف عن يهود )مملكة الخزر( ويهود الفلشا ،وغيرهم .وهذا طبيعي ،فاليهودية ديانة ،وليست جنسية .
أول :إن اليهود ـ باعتبارهم يهودا ـ هم عندنا أهل كتاب ،كما بينت ذلك بالدلة ،ونعتبر ديانتهم ديانة سماوية ،وتوراتهم كتابا
سماويا ،وإن كنا نعتقد أنهم حرفوا فيه وبدلوا .ولكنه يبقى في أصله سماويا ،كما نعتقد أن نبيهم موسى من أنبياء ال ورسله،
وقد كلمه ال تكليما .وله منزلة عظيمة في السلم ،ولقصته مع فرعون ،ومع قومه :مساحة واسعة في القرآن.
وقد أجاز السلم أن نأكل من ذبائح اليهود ،وأن نصاهرهم ،ونتزوج من نسائهم ،مع ما يفرضه السلم في العلقات
الزوجية من سكون ومودة ورحمة ،وما توجبه روابط المصاهرة من ترابط وتقارب ،وحقوق للمومة والخؤلة وغيرها.
ثانيا :إن السلم يكره الظلم ،والظالمين ،ويوجب العدل لكل الناس ،من أي دين كانوا ،ومن أي عرق كانوا ،ومن أي إقليم
كانوا ،ول يتحيز لحد ضد أحد ،ول لطائفة ضد طائفة ،وإنما يتحيز للحق وحده .فعدل ال لخلق ال جميعا.
وقد نزلت تسع آيات من القرآن الكريم في سورة النساء ،تدافع عن يهودي اتهم ظلما بالسرقة ،وكان السارق مسلما من
المنافقين أو ضعاف اليمان ،أراد قومه أن يبرئوه ويلصقوا التهمة باليهودي البريء ،وكاد الرسول يصدقهم ،ويدافع عنهم،
لول أن نزل الوحي القرآني يحامي عن اليهودي المتهم ظلما ،ويلحق التهمة بأهلها ،ويعاتب الرسول صلى ال عليه وسلم
على تصديقه لهؤلء.
يقول تعالى في سورة :إّنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ال ول تكن للخائنين خصيما .واستغفر ال إن
ال كان غفورا رحيما .ول تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن ال ل يحب من كان خوانا أثيما ]النساء.[113-104 :
ل في وجوههم السيوف،
ثالثا :يجب أن نبين هنا :أننا في واقع المر لم نقاتل اليهود ،أعني :لم نبدأهم بحرب أو قتال ،أو ُنس ّ
ونرفع عليهم البنادق والرشاشات ،حتى يقال لنا :لماذا تقاتلون اليهود؟ أو تحثون على قتلهم؟
والواقع أن اليهود هم الذين بدأونا بالقتال ،بعد أن كانوا يعيشون بين ظهرانيا آمنين مطمئنين ،متمتعين برغد العيش ،وسعة
الرزق ،ورفاهية الحياة ،ولهم جاههم ومنزلتهم في المجتمع ،نتيجة حصولهم على الثروات ،وتمكنهم من التجارات،
وإتقانهم لكثير من الصناعات ،فلم يبخل المجتمع السلمي عليهم بالثروة المالية ،والمنزلة الجتماعية ،بل المكانة
السياسية .حتى حسدهم كثير من المسلمين على ما وصلوا إليه من غنى وجاه ومنصب ،وحتى قال الشاعر المصري
الساخر الحسن بن خاقان ،يصف يهود زمانه:
تهّودوا ،قد تهوّد الفـلك! يا أهل مصر ،إني نصحت لكم
أنا في الحقيقة ل أحث على قتل اليهود ،ولكني أتمنى أن يكف اليهود ـ أعني الصهاينة ـ عن قتلنا وتدمير ديارنا صباح
مساء !
-4هل ترون سماحتكم قتل يهودي بريء :حراما وجرما؟ ولماذا؟
حرم
ج -نعم أرى قتل أي إنسان بريء حراما وجرما وظلما .سواء كان يهوديا أم غير يهودي ،فالصل في السلم :أنه ي ّ
الدماء ،ويحمي حق الحياة لكل إنسان ولو كان جنينا في بطن أمه ،ول يجيز لمه التي حملته أن تجهضه .ويجرم السلم
قتل النفس البشرية ،حتى إن القرآن ليقرر مع الكتب السماوية :أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الرض فكأنما قتل
الناس جميعا المائدة. 32 :
فمن لم يقتل نفسا متعمدا ،أو يفسد في الرض كقطاع الطريق وأمثالهم ،فل يحل قتله ،ومن اعتدى عليه فقتله بغير حق ،
فكأنما قتل الناس جميعا ،لن العتداء على نفس معصومة بمثابة العتداء على جنس البشر جميعا.
بل السلم ُيحِّرم قتل الحيوانات والطيور عبثا ،أي لغير منفعة ينشدها النسان من وراء القتل .ولذا جاء في الحديث " :من
قتل عصفورا عبثا جاء إلى ال يوم القيامة ،يقول :يا رب :إن فلنا قتلني عبثا ،ولم يقتلني لمنفعة" [2] .
5ـ هل سبق أن دعوتم إلى قتل اليهود أينما كانوا وحيثما كانوا ؟
وأؤكد هنا :أنه ل يتصور من مثلي أن يدعو إلى قتل اليهود – باعتبارهم يهودا -حيثما كانوا.
وذلك لمرين:
الول :أن من اليهود من يعارض قيام إسرائيل ،ويتعاطف مع العرب ،وينكر قيام الحركة الصهيونية وأهدافها .وقد رأيت
عددا من هؤلء في لندن ،في الصيف الماضي ) 2004م ( ومنهم :من حضر معنا جلسة افتتاح المجلس الوروبي للفتاء
في قاعة بلدية لندن ،وعلق على كلمي مؤيدا ومرحبا.
وقد ودعني منهم ثمانية من الحاخامات والحبار إلى مطار لندن ،وظلوا واقفين معي ،وأبوا أن ينصرفوا حتى دخلت إلى
الطائرة .فكيف أفتي بقتل هؤلء الصدقاء ؟
الثاني :أنني ل أفتي ال بقتال من يقاتلنا ،فأما من ل يقاتلنا ،ول يعين على قتالنا ،فليس لنا عليه سبيل :كما قال تعالىَ :فِإنِ
ل ]النساء :من الية .[90مع التركيز في كل الحوال سِبي ً
عَلْيِهْم َ
ل َلُكْم َ
ل ا ُّ
جَع َ
سَلَم َفَما َ
عَتَزُلوُكْم َفَلْم ُيَقاِتُلوُكْم َوَأْلَقْوا ِإَلْيُكُم ال ّ
اْ
على تجنب البرياء والمسالمين من المدنيين وغيرهم.
6ـ هل تدينون قتل المدنيين البرياء من اليهود ؟ وهل تعتبرون ذلك من الثم والعدوان ؟
ج :هذا السؤال مكرر ،والجابة عنه ستكون مكررة أيضا ،نعم أنا أدين وبل تردد قتل البرياء من اليهود ،أو غيرهم من
البرياء والمسالمين ،فقتل البريء محرم تحريما شديدا في السلم ،سواء كان مسلما أم غير مسلم ،والقرآن يقرر مع
الكتب السماوية قبله :أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الرض فكأنما قتل الناس جميعا المائدة. 32 :
واليهود شأنهم شأن غيرهم من البرياء المسالمين ،ل يحل سفك دمائهم بغير حق ،بل إن اليهود بوصفهم ) أهل كتاب(
في نظر المسلمين ،لهم حرمة أعظم من حرمة غيرهم ممن ل كتاب لهم وليعني هذا بحال التهوين من جريمة قتل
غيرهم ،فكل عدوان على نفس آدمية يعد من المحرمات؛ بل ُيحرم السلم العدوان على الحيوانات نفسها ،ويجعله سببا
لدخول النار.
7ـ هل تدعون سماحتكم وتفتون بقتل المدنيين البرياء وحتى لو كانوا من السرائيليين المسالمين ؟
ج ـ أؤكد ما قلته من قبل :أن من ثبتت مسالمته من السرائيليين ،فل يجيز شرعنا لنا ـ نحن المسلمين ـ أن نقتله ،لّنا ل نقتل
إل من يقاتلنا ،أو يشارك في العدوان علينا ،أما المسالم حقا ،فل أفتي بقتله ،بل أحرم قتله ،وأجّرم فعله ،وأؤثم من فعل ذلك.
المهم أن يثبت لنا مسالمته؛ وإذا ثبت لنا ذلك ،فل يجوز أن نقصده بقتل ول قتال ،ما دام يمكن فصله عن غيره ،كما قال
تعالى في شأن قوم من المشركين:فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم .فما جعل ال لكم عليهم سبيل النساء.90 :
وقد ذكرنا قبل ذلك قوله تعالى :ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا
إليهم إن ال يحب المقسطين الممتحنة.8 :
8ـ عندما تفتون سماحتكم بجواز العمليات النتحارية للفلسطينيين ضد الحتلل السرائيلي ؟ على ماذا تستندون ؟ وكيف
تبررون ذلك ؟ وهل ذلك دعوة لقتل البرياء المسالمين ؟
ج :ل بد أن أوضح بداية أن هذه العمليات ليست عمليات ) انتحارية ( كما يحلو للبعض أن يسميها ،ولكنها عمليات للدفاع
عن النفس والوطن ضد الحتلل السرائيلي المتجبر الظالم.
وتسمية هذه العمليات )انتحارية( تسمية خاطئة ومضللة ،فهي عمليات فدائية .وهي أبعد ما تكون عن النتحار ،ومن يقوم
بها أبعد ما يكون عن نفسية المنتحر.
إن المنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه ،وهذا يقدم نفسه ضحية من أجل دينه ووطنه وأمته .والمنتحر إنسان بائس من نفسه
ومن َرْوح ال .وهذا المجاهد إنسان كله أمل في َرْوح ال تعالى ورحمته .المنتحر يتخلص من نفسه ومن همومه بقتل نفسه،
والمجاهد يقاتل عدو ال وعدوه بهذا السلح الجديد ،الذي وضعه القدر في يد المستضعفين ليقاوموا به جبروت القوياء
المستكبرين.
فهؤلء الشباب الذين يدافعون عن أرضهم هم ليسوا بمنتحرين ،وليسوا بإرهابيين ،فهم يقاومون ـ مقاومة شرعية ـ من احتل
أرضهم ،وشردهم وشرد أهلهم ،واغتصب حقهم ،وصادر مستقبلهم ،ول زال يمارس عدوانه عليهم كل يوم :يدمر
منازلهم ،ويحرق مزارعهم ،ويقلع أشجارهم ،ويجرف أرضهم ،ويهدم مساجدهم ،ويمزق شملهم بجداره العازل ،ودينهم
يفرض عليهم الدفاع عن أنفسهم ،ول يجيز لهم التنازل باختيارهم عن ديارهم ،التي هي جزء من دار السلم وهو عمل من
أعمال المخاطرة المشروعة والمحمودة في الجهاد ،يقصد به النكاية في العدو المقاتل ،وقتل بعض أفراده ،وقذف الرعب
في قلوب الخرين طالما أن هذا العمل ليقصد به بحال البرياء والمسالمين سواء كانوا مدنيين أو غير ذلك.
و ليس في هذا أي دعوة لقتل المسالمين البرياء ،وإذا قتل طفل أو شيخ في هذه العمليات ،فهو لم يقصد بالقتل ،بل عن
طريق الخطأ ،وبحكم الضرورات الحربية ،التي قد يصاب فيها البناء بسبب الباء ،ومن القواعد الفقهية :الضرورات
تبيح المحظورات .ولكن هذه القاعدة تكملها وتضبطها قاعدة أخرى ،هي :أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها .وذلك حتى ل
يتوسع الناس في الضرورة ،وتظل استثناء.
وإذا وجدوا الخير في الكف والحجام :أحجموا ،لنه ل مصلحة خاصة للفدائيين إل رضوان ال تعالى وابتغاء مثوبته،
ونصرة قضيتهم العادلة ،فإذا لم تخدم القضية بهذا السلوب ،وكان ضرره أكبر من نفعه ترك ،وبحث عن أسلوب آخر ،
وآلية أخرى) .وإنما لكل امرئ ما نوى( .
وقد وجد الخوة في حماس والجهاد السلمي ومن وافقهم من فصائل المقاومة :أن يوقفوا العمليات الستشهادية في الوقت
الحاضر ،وأن يستبدلوا بها ضرب المستوطنات ونحوها من الهداف العسكرية ،ما داموا قادرين على ذلك ،ولذلك مرت
شهور ،ولم نقرأ ولم نسمع عن عملية من هذه العمليات .فهم ل يلجأون إليها إل للضرورة كما قلت ،فإذا زالت
الضرورة ،توقفت هذه العمليات .
وهناك سعي من رئيس السلطة الفلسطينية الجديد محمود عباس )أبي مازن( للسير فيما سموه ) الحل السلمي( والتفاق
على وقف إطلق النار من الجانبين ،بحثا عن الوصول إلى حلول عملية لنهاء الصراع بطريق المفاوضات ،وقد وافقت
فصائل المقاومة الفلسطينية ـ إسلمية ووطنية ـ أبا مازن على )هدنة مشروطة( على أن ُتوَقف العتداءات من قبل
السرائيليين ،مساهمة في إنجاح المسعى الذي اختارته السلطة .والتزمت الفصائل السلمية بهذه الهدنة ،وبخاصة حركة
المقاومة السلمية حماس ( .ونأمل أل تستفزهم إسرائيل ومستوطنوها بالغدر والعدوان .
9ـ هل تدعون سماحتكم وتحثون على القيام بعمليات انتحارية ضد السرائيليين ؟ أم أنكم تقولون بأن ذلك من الناحية
الشرعية والدينية مبرر ضد الظلم والحتلل إذا لم يتوفر وسيلة أخرى لمقاومة الحتلل ؟
ج :أود أن أؤكد هنا :أن هذه العمليات الفدائية ليست هي الصل في مقاومة الحتلل ،وإنما لجأ إليها شباب النتفاضة
والمقاومة لنهم مضطرون إليها ،وما داموا مضطرين لهذا الطريق للدفاع عن أنفسهم ،وتحرير وطنهم ،وإرعاب أعدائهم،
المصرين على عدوانهم ،المغرورين بقوتهم ،وبمساندة القوى الكبرى لهم ،فليس لهم خيار ،والمر كما قال الشاعر العربي
قديما:
والمسلم يجوز له في حالة الضطرار ما ل يجوز له في حالة الختيار ،ولهذا حرم ال تعالى في كتابه في أربع آيات :
الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير ال ،ثم قال :فمن اضطر غير باغ ول عاد فل إثم عليه إن ال غفور رحيم
البقرة.173 :
ومن هنا أخذ الفقهاء قاعدة :الضرورات تبيح المحظورات ،وإخوتنا في فلسطين في حالة ضرورة ل شك فيها ،بل هي
ضرورة ماسة وقاهرة ،للقيام بهذه العمليات الستشهادية ،لقلق أعدائهم ومحتّلي أرضهم ،وبث الرعب في قلوبهم ،
حتى ل يهنأ لهم عيش ،ول يقر لهم قرار ،فيعزموا على الرحيل ،ويعودوا من حيث جاءوا .ولول ذلك لكان عليهم أن
يستسلموا لما تفرضه عليهم الدولة الصهيونية من مذلة وهوان ،يفقدهم كل شيء ،ول تكاد تعطيهم شيئا!
أعطوهم عشر معشار ما لدى إسرائيل من دبابات ومجنزرات ،وصواريخ وطائرات ،وسفن وآليات ،ليقاتلوا بها .
وسيدعون حينئذ هذه العمليات الستشهادية .وإل فليس لهم من سلح يؤذي خصمهم ،ويقض مضجعهم ،ويحرمهم لذة
المن وشعور الستقرار ،إل هذه )القنابل البشرية( :أن )يَقْنبل ( الفتى أو الفتاة نفسه ،ويفجرها في الغازي المحتل
لرضه مضحيا بروحه في سبيل ال ،مؤثرا حياة وطنه على حياته الشخصية .فهذا هو السلح الذي ل يستطيع عدوه -وان
أمدته أمريكا بالمليارات وبأقوى السلحة -أن يملكه ،فهو سلح متفرد ،ملكه ال تعالى لهل اليمان وحدهم ،وهو لون
من العدل اللهي في الرض ل يدركه إل أولو البصار .فهو سلح الضعيف المغلوب في مواجهة القوي المتجبر ،وما
يعلم جنود ربك إل هو المدثر.31 :
10ـ هل ترون سماحتكم أنه إذا ما وقع يهود تحت الحتلل :هل يكون من حقهم القيام بعمليات انتحارية للدفاع عن أنفسهم
ضد المحتل ،كما ترون أنه من حق الفلسطنيين ؟
ج :كل من كان له وطن شرعي غير مغتصب ول منتزع من أرض الخرين بالحديد والنار :جاز دفاعه عنه من غير
شك ،فإن هذا حق كفلته كل الشرائع السماوية وأقرته القيم الخلقية ،كما كفلته كذلك كل القوانيين والمواثيق الدولية ،
وأعني به حق الدفاع عن النفس والوطن .إذا غزاه غاز أجنبي .
بل هذا ما تقضي به قوانين الفطرة ،فإننا نجد في داخل الجسم البشري :جندا مجندا يقاوم كل جسم غريب ،حفاظا على
الحياة من تلك الجراثيم والجسام الغازية من خارج الجسم.
وإذا كنا أجزنا للفلسطينيين أن يدافعوا عن وطنهم – الذي احتل -بهذه العمليات الفدائية ،فيلزمنا أن نجيز لليهود وغيرهم أن
يقوموا بمثلها إذا غزي وطنهم الشرعي واحتلت أرضهم .ولسنا من أصحاب ازدواج المعايير ،ول ممن يكيل بكيلين :كيل
للصدقاء ،وكيل للخصوم .بل نحن مأمورون بالعدل مع من نحب ومن نكره .قال تعالى :ول يجرمنكم شنآن قوم – أي
شدة بغضهم لكم أو بغضكم لهم -على أل تعدلوا ،اعدلوا هو أقرب للتقوى المائدة. 8 :
وجوابنا هنا مؤسس على افتراض أن لليهود وطنا خاصا لهم الحق في استيطانه وامتلكه ،ل وطن انتزعوه من أرض
غيرهم بالعنف والرهاب .
11ـ هل تفتون سماحتكم أنه من حق جميع من وقع تحت الحتلل استخدام العمليات النتحارية ضد المحتل ،سواء كان
ذلك مسلمًا أو غير مسلم ,طالما هذه العمليات ل تقع بحق أبرياء مسالمين ؟
ج :نعم .كل من يحتل الرض ظالما بغير حق ،سواء كان عربيا أو عجميا ،مسلما أو غير مسلم :تجب مقاومته وتحرير
الرض من شره بشتى الطرق المتاحة .
ولهذا وقفت ضد غزو )صدام( للكويت بقوة ،وكانت خطبتي بعد الغزو من جامع عمر بن الخطاب في قطر ضد هذا الغزو
الظالم هي :المادة الولى لذاعة الكويت الحرة ،التي ظلت عدة أيام تكررها كل يوم عدة مرات .وإذا ضاقت لمن يقاومون
الحتلل السبل ،ولم يجدوا غير العمليات الفدائية سبيل للتخلص من الحتلل الغاشم وجبروته ،فمن حقهم أن يستخدموها
دفاعا عن وطنهم ،ووصول إلى حقهم ،ما دامت هذه العمليات ل تقع في حق أبرياء مسالمين ،كما في السؤال.
12ـ هل تفتون بجواز القيام بعمليات انتحارية ضد البرياء والمسالمين والذين ل علقة لهم بالجيش سواء كانوا يهودًا أو
إسرائيليين أو غير ذلك ؟ ولماذا ؟
ج :أنا أفتي بمشروعية العمليات الفدائية ضد الغزاة المحتلين ومن يعاونهم ،ومن حق المغزوين أن يقاوموا غزاتهم
ويطاردوهم بكل ما يستطيعون من قوة ،سواء كان هؤلء المغزوون فلسطينيين أم لبنانين أم مصرين أم عراقيين أم هنودا،
أم يهودا ،أم أي شعب كان.
وهذا في نظر السلم ليس أمرا مشروعا فقط ،بل هو واجب وفريضة ،وتركه يوقع في الثم والمخالفة الشرعية .لنه
تفريط في أرض السلم ،التي يجب على المسلمين أن يدافعوا عنها بالنفس والموال .وهو كذلك تجريء للطغاة
والمتجبرين على افتراس الضعفاء إذا لم يجدوا من يقاومهم ويصد عدوانهم .
أما البرياء والمسالمون حقا ،الذين اثبتوا لنا مسالمتهم بالبينة ،وأنهم ينكرون على قومهم ما يقترفون كل صباح ومساء من
س ،فهؤلء ل نقاتلهم ول نقتلهم ،ول نأخذهم بذنب حكومتهم ،وهم يبرأون من فعلها ،إذ ل تـزر ) وازرة مظالم ومذابح ومآ ٍ
وزر أخرى ( ،و ) كل امرئ بما كسب رهين ( .
على أن هناك من الفقهاء من يقول :إن على هؤلء أن يتحملوا نتيجة وجودهم في وطن مغتصب من أهله ،وإل كان عليهم
أن يخرجوا من هذا الوطن ،ويعودوا من حيث جاءوا أو جاء آباؤهم .
ج :كثيرا ما يقع عند البعض خلط في بعض المبادئ والمفاهيم ،ومن هذا تصور البعض أنني حين أؤيد العمليات
الستشهادية ضد المحتل ،فمعنى ذلك عندهم أنني ضد السلم .وهذا هو الخطأ والخلط بعينه .
والحق أنني أرى أن السلم ـ الذي أدين ال به ،والذي أدعو إليه ـ ل يتشوف إلى القتال ،ول يتطلع إلى سفك الدماء ،بل إذا
انتهت الزمة بين المسلمين وخصومهم بغير دماء ول قتال ،عقب القرآن بمثل هذه الكلمة المعبرة :ورد ال الذين كفروا
بغيظهم لم ينالوا خيرا ،وكفى ال المؤمنين القتال ،وكان ال قويا عزيزا الحزاب . 35 :فما أبلغ هذه الكلمة وما أصدقها
تعبيرا عن روح السلم السلمية وكفى ال المؤمنين القتال.
وحين انتهت غزوة الحديبية بالصلح مع قريش ،وإقامة الهدنة بين الفريقين ،نزلت في ذلك سورة الفتح :إنا فتحنا لك فتحا
مبينا الفتح ،1 :وقال بعض الصحابة :أفتح هو يا رسول ال؟ قال " :نعم هو فتح " فلم يتصوروا فتحا بغير حرب.
وفي هذه السورة امتن ال على المؤمنين فقال :وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم
عليهم الفتح . 24 :فانظر :كيف امتن بكف أيدي المؤمنين عن أعدائهم!
وكان الرسول الكريم ـ وهو أشجع الناس ـ ل يحب الحرب ،ويقول لصحابه" :ل تتمنوا لقاء العدو ،وسلوا ال العافية ،فإذا
لقيتموه فاصبروا ،واعلموا أن الجنة تحت ظلل السيوف"[3] .
وكان يقول" :أحب السماء إلى ال :عبد ال وعبد الرحمن… وأقبح السماء :حرب ومرة"[4] .
حتى لفظة )حرب( يكرهها ،ول يحب التسمية بها ،كما كان يفعل العرب في الجاهلية ،مثل حرب بن أمية.
إل أن السلم يحرض على القتال ،وبذل النفس والنفيس ،إذا فرض القتال على المسلمين على كره منهم ،إذا انتهكت
حرمات السلم ،أو غزيت أرضه ،أو دنس عرضه ،بمثل هذه اليات :أل تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج
الرسول ،وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فال أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين .قاتلوهم يعذبهم ال بأيديكم ويخزهم
وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ]التوبة ، [13 :وقوله :كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا
شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وال يعلم وأنتم ل تعلمون ]البقرة.[216 :
ومع هذا ل يغلق البواب في وجه المسالمة والمصالحة ،إذا تهيأت أسبابها ،فقال تعالى :وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل
على ال ]النفال. [61 :
والجهاد في السلم تحكمه )أخلقيات( صارمة ملزمة ،فل يجيز إل قتل من يقاتل ،ول ُتقَتل النساء ول الولدان ول الشيوخ
الكبار ،ول الرهبان ول الفلحون أو التجار ،ول يجيز الغدر ول التمثيل بالجثث ،ول قطع الشجار ،ول هدم البنية ،ول
تسميم البار ،ول يتبع ما يسمونه :سياسة الرض المحروقة ،أي التي تدع كل ما وراءها خرابا يبابا.
وهذا ما شهد به المؤرخون للمسلمين في فتوحهم ـ التي كانت في حقيقتها تحريرا للشعوب من طغيان المبراطوريات
القديمة )الفرس والروم( ـ وقالوا :ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ول أرحم من العرب ،أي المسلمين .
-14هل تدعون سماحتكم إلى كراهية اليهود ،وبث مشاعر البغض ضدهم وضد كل من ليس بمسلم من أصحاب الديانات
الخرى كالمسيحية؟
ج – يشهد ال جل جلله ،كما يشهد كل من سمع خطبي ،وقرأ كتبي :أني من دعاة الخوة النسانية ،وأؤمن أن البشر
جميعا عائلة واحدة ،تنتمي من ناحية الخلق إلى رب واحد هو خالق الجميع ،ومن ناحية النسب إلى أب واحد ،هو أو أبو
الجميع آدم .وأدعو الناس جميعا إلى الحب ل البغض ،والتسامح ل التعصب ،والرفق ل العنف ،والرحمة ل القسوة،
والسلم ل الحرب.
الدعية الستفزازية
ومن أكبر الدلئل على أن منهجي الذي أدعو إليه منهج يدعو إلى إشاعة السلم والحب ،ويدعو إلى التسامح مع المخالفين:
أنني ناديت بالبتعاد عن ما أسميته :الدعية الستفزازية ،وقلت :ليس من الموعظة الحسنة :اتخاذ الدعية الستفزازية
في صلوات الجمع ،وفي قنوت النوازل وغيرها.
ومما أنكرته في هذا المجال :أن بعض الوعاظ والخطباء يدعون ال تعالى :أن يهلك اليهود والنصارى جميعا ،وأن ييتم
أطفالهم ،ويرمل نساءهم ،ويجعلهم وأموالهم وأولدهم غنيمة للمسلمين.
ومن المعلوم :أن في كثير من بلد المسلمين توجد أقليات من النصارى ـ وربما من اليهود ـ وهم مواطنون يشاركون
المسلمين في المواطنة ،وليس من اللئق أن ندعو بدعوة تشمل هؤلء بالهلك والدمار .إنما اللئق والمناسب :أن ندعو
على اليهود الغاصبين المعتدين ،وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين ،ل على كل اليهود والنصارى .كما ندعو
على الظالمين والطغاة من المسلمين أنفسهم .نسأل ال تعالى أن يريح البشرية من الظالمين من كل الديانات .
على أني لم أجد في أدعية القرآن ،ول في أدعية الرسول ،ول في أدعية الصحابة :مثل هذه الدعوات المثيرة :يتم أطفالهم،
ورمل نساءهم ،وأمثالها .بل أدعية القرآن في المعركة مثل :ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم
الكافرين البقرة. 250 :
ربنا ل تجعلنا فتنة للقوم الظالمين .ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ]يونس.[ 86 ، 85 :
ومن أدعية الرسول في وقت الحرب والقتال " :اللهم منزل الكتاب ،ومجري السحاب ،وهازم الحزاب :اهزمهم وانصرنا
عليهم" [5].
وقد قال تعالى :ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه ل يحب المعتدين العراف .55 :أي ل يحب الذين يعتدون ويتجاوزون في
دعائهم.
وذلك لمرين:
أولهما :إن كلمة )كفار( لها عدة معان ،بعضها غير مراد لنا يقينا من هذه المعاني :الجحود بال تعالى وبرسله وبالدار
الخرة ،كما هو شأن الماديين الذين ل يؤمنون بأي شيء وراء الحس ،فل يؤمنون بإله ،ول بنبوة ،ول بآخرة.
ونحن إذا تحدثنا عن أهل الكتاب ل نريد وصفهم بالكفر بهذا المعنى ،إنما نقصد أنهم كفار برسالة محمد وبدينه .وهذا حق،
كما أنهم يعتقدون أننا كفار بدينهم الذي هم عليه الن وهذا حق أيضا.
والثاني :أن القرآن علمنا أل نخاطب الناس ـ وإن كانوا كفارا ـ باسم الكفر ،فخطاب الناس ـ غير المؤمنين ـ في القرآن ،إما
أن يكون بهذا النداء يا أيها الناس أو يا بني آدم أو يا عبادي أو يا أهل الكتاب.
ولم يجئ في القرآن خطاب بعنوان الكفر إل في آيتين :إحداهما خطاب لهم يوم القيامة :يا أيها الذين كفروا ل تعتذروا اليوم
إنما تجزون ما كنتم تعملون ]لتحريم.[7 :
والخرى قوله تعالى :قل يا أيها الكافرون .ل أعبد ما تعبدون .ول أنتم عابدون ما أعبد .ول أنا عابد ما عبدتم .ول أنتم
عابدون ما أعبد .لكم دينكم ولي دين الكافرون . 6 – 1 :فكان هذا خطابا للمشركين الوثنيين الذين كانوا يساومون الرسول
الكريم على أن يعبد آلهتهم سنة ،ويعبدوا إلهه سنة ،فأرادت قطع هذه المحاولت بأسلوب صارم ،وبخطاب حاسم ،ل يبقي
مجال لهذه المماحكات.
ولهذا آثرت من قديم أن أعبر عن مخالفينا من أهل الديان الخرى بعبارة )غير المسلمين( .وأصدرت من قديم كتابي )غير
المسلمين في المجتمع السلمي( .وقد طبع مرات ومرات ،وترجم إلى عدة لغات.
ومن أكبر الدلئل كذلك على أن منهجي الذي أدعو إليه ـ منهج السلم الوسط ـ منهج يدعو إلى إشاعة السلم والحب :
أنني أتوقف إزاء بعض الكلمات التي لم تعد مقبولة لدى إخواننا من القليات غير المسلمة داخل المجتمع المسلم ،مثل
القباط في مصر ،وأمثالهم في البلد العربية والسلمية الخرى ،وهي مصطلح )أهل الذمة( مع أن مدلول هذا المصطلح
مدلول إيجابي ،لنه يعني :أن لهم ذمة ال ورسوله وجماعة المسلمين .وهذا مدلول له وقعه وتأثيره في نفس المسلم ،فإنه ل
يقبل أن تخفر ذمة ال ورسوله بحال ،ومن فعل ذلك فعليه لعنة ال والملئكة والناس أجمعين.
ولكن إذا كان مواطنونا من غير المسلمين يتأذون من هذا الصطلح ،فل أجد مانعا من استخدام كلمة )المواطنة(
و)المواطن( فإن الفقهاء متفقون على أن أهل الذمة من )أهل دار السلم( فهم من أهل الدار ،وإن لم يكونوا من أهل الملة.
و)أهل الدار( تعني بالتعبير العصري :مواطنين.
وأسوتنا هنا ما صنعه الفاروق عمر ـ ووافقه الصحابة رضي ال عنهم ـ مع عرب بني تغلب ،وكانوا نصارى منذ عهد
الجاهلية .وقد طلبوا إلى عمر أن يأخذ ما يأخذه منهم باسم الزكاة أو الصدقة ،ولو كان مضاعفا ،ول يأخذه باسم الجزية،
وقالوا :إننا قوم عرب ،ونأنف من كلمة جزية.
تردد عمر في أول المر أن يجيبهم إلى طلبهم ،ثم نصحه بعض مشيريه أن يستجيب لهم ،قائل :إنهم قوم لهم بأس وقوة،
ونخشى أن يلحقوا بالروم ،ففكر عمر في المر ،ورأى أن ينفذ لهم ما أرادوا ،وقال :سّموها ما شئتم ،وقال لمن حوله:
هؤلء القوم حمقى ،رضوا المعنى وأَبْوا السم!
ومن أكبر الدلئل أيضا على أن منهجي الذي أدعو إليه ـ منهج السلم الوسط ـ منهج يدعو إلى إشاعة السلم والحب :أنني
دعوت إلى التعبير بالخوة عن العلقة بين البشر كافة ،والمراد بها )الخوة النسانية( العامة ،على اعتبار أن البشرية كلها
أسرة واحدة ،تشترك في العبودية ل ،والبنوة لدم ،وهذا ما قرره حديث نبوي شريف ،خاطب به رسول السلم الجموع
الحاشدة في حجة الوداع ،فكان مما قاله في هذا المقام:
"أيها الناس ،إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد ،كلكم لدم ،وآدم من تراب ،ل فضل لعربي على عجمي ،ول لبيض على
أسود إلى بالتقوى" [7] .
وهذا الحديث يؤكد قول ال تعالى في مطلع سورة النساء :يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها
زوجها وبث منهما رجال كثيرا ونساء واتقوا ال الذي تساءلون به والرحام إن ال كان بكم رحيما .والرحام هنا :تشمل
الرحام الخاصة ،والرحام العامة ،كما يدل سياق الخطاب القرآني وفي ذلك يقول شاعر مسلم:
وفي حديث رواه أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم مرفوعا" :اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه :أنا شهيد أن العباد كلهم
إخوة".
ومن هنا لم أر حرجا في التعبير عن العلقة بين المسلمين ومواطنيهم من غير المسلمين بـ )الخّوة(.
والمراد بها :الخوة الوطنية أو القومية .فليست )الخوة الدينية( هي الخوة الوحيدة التي تصل بين البشر .إنها ل شك أعمق
ألوان الخوة وأوثقها رباطا ،ولكنها ل تنفي أن هناك أنواعا أخرى من الخوات .
ودليلنا على ذلك :ما جاء في القرآن الكريم من حديث عن النبياء وصلتهم بأقوامهم المكذبين لهم ،واعتبار القرآن كل نبي
هؤلء )أخا( لقومه ،وإن عصوه وكذبوه وكفروا برسالته.
اقرأ معي قول ال تعالى في سورة الشعراء :كذبت قوم نوح المرسلين .إذ قال لهم أخوهم نوح أل تتقون .إني لكم رسول
أمين… الشعراء . 107 – 104 :
فانظر كيف أثبت أخوة نوح لهم ،مع أنهم كذبوه ،لنهم قومه ،وهو منهم ،فهي أخوة قومية ل شك فيها.
ومثل ذلك قوله تعالى :كذبت عاد المرسلين .إذ قال لهم أخوهم هود أل تتقون ]الشعراء . [124 ، 123 :وقال مثل ذلك عن
:صالح ولوط ،ولكنه حين تحدث عن شعيب قال :كذب أصحاب اليكة المرسلين .إذ قال لهم شعيب :أل تتقون ]الشعراء
. [177 ، 176ولم يقل :أخوهم شعيب ،لنه لم يكن منهم ،وإنما كان من مدين ،ولذا قال في سورة أخرى :وإلى مدين
أخاهم شعيب ] ..هود . [84 :
ومثل هذه التعبيرات تقرب الخرين منا ،وتزيل الفجوة بيننا وبينهم ،وهذا ما يبطل كيد العداء المتربصين بنا ،والذين
يريدون أن يشعلوا فتيل الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ،ليصطادوا في الماء العكر ،ويتخذوا من ذلك ذريعة للتدخل في
شؤوننا ،والتسلط علينا ،والتحكم في رقابنا ،وأولى بنا أن نرد كيدهم في نحورهم ،بمثل هذه المواقف التي تجعل قوى المة
كلها جبهة متراصة في مواجهة مكرهم وعدوانهم.
ج :إذا كان السلم عادل وشامل ،فأنا أول من يرحب به ،فديننا دين السلم ،وربنا من أسمائه )السلم( ومن أسمائنا
المشهورة )عبد السلم( وتحيتنا في الدنيا والخرة :السلم.
ولكن المشكلة هنا :أن إسرائيل تريد أن تفسر السلم على هواها ،وتريد أن تملي شروطها ،وتفرض على الفلسطينيين
والعرب ما تريد.
إن السلم العادل ـ في حده الدنى الن ـ هو الذي يقيم للفلسطينيين دولة مستقلة استقلل حقيقيا ل صوريا ،يملكون أرضها
وسماءها ومياهها ،ويعرفون حدودها ،وعاصمتها القدس.
ويضمن تعويضا عادل للفلسطينيين عما لحق بهم من أضرار ،ممن هدمت بيوتهم ،وأحرقت مزارعهم ،وأتلفت أشجارهم.
إذا طرح هذا السلم بحق ،ولم يكن مجرد مناورة وكسب للوقت ،على حين تعمل اللة العسكرية عملها في قتل الفلسطينيين
وتدمير بنيتهم التحتية ،فأهل وسهل به ،وقد قال تعالى في شأن المحاربين للمسلمين :وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل
على ال إنه هو السميع العليم .وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك ال النفال. 61،62 :
فهنا يغلب حسن النية على سوء الظن ،ترغيبا في السلم ،وحرصا عليه ،واستمساكا به.
--------------------------------------------------------------------------------
] [1رواه أحمد . .وقال محققو المسند :إسناده صحيح ،.ورواه الطبراني في الوسط والبزار .وقال الحافظ الهيثمي :
رواه الطبراني في الوسط والبزار بنحوه إل أنه قال":إن أباكم واحد وإن دينكم واحد ،أبوكم آدم ،وآدم خلق من تراب".
ورجال البزار رجال الصحيح ،وذكره اللباني في صحيح الترغيب والترهيب ).(2964
] [2رواه النسائي ) ( 237 /7ط المطبعة المصرية بالزهر ،وفي موارد الظمآن ) ( 1017باب النهي عن الذبح لغير
منفعة .انظر تخريج الشيخ شعيب ،ابن حبان ) ( 5894ورواه أيضا أحمد ) . ( 389 4وقد صححه ابن حبان ،وأقره
المنذري .انظر :كتابنا المنتقى من الترغيب والترهيب ) . ( 363 /1
] [3متفق عليه من حديث عبد ال بن أبي أوفى .رواه البخاري ) (2687ومسلم ) . ( 1742
] [4رواه أحمد في المسند ) ( 19114وقال محققو المسند :حديث صحيح ،وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه )، (5/195
وسعيد بن منصور في سننه ). (2518
] [5رواه مسلم باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو رقم ). ( 1742
] [6رواه أحمد في مسنده عن أبي موسى ) (19720وقال محققو المسند :حديث حسن ،وأخرجه أبو داود )( 1537
والنسائي في الكبرى ) (8631وابن حبان في صحيحه) . ( 4765
] [7رواه أحمد في المسند ) (43289عن رجل من أصحاب النبي ،وقال محققو المسند :إسناده صحيح ،وذكره اللباني
في صحيح الترغيب والترهيب ) . (2964