Professional Documents
Culture Documents
1
وذلك أن الشاعرة هم الذين وقفوا في وجه
المعتزلة ،فزيفوا أقوالهم ،وأبطلوا شبههم ،وأعادوا
الحق إلى نصابه على طريق سلف هذه المة
ومنهجهم.
وإلمام أبو الحسن الشعري لم يؤسس في
السلم مذهبا ً جديدا ً في العقيدة ،يخالف مذهب
سلف هذه المة ،وإنما هداه الله تعالى للتزام مذهب
أهل السنة بعد أن أمضى أربعين سنة من حياته على
مذاهب العتزال ،عرف من خللها حقيقة مذهبهم،
وتمرس بفنونهم وأساليبهم في الجدال ،والنقاش،
كنه من الرد عليهم ،وإبطال شبههم. والنظر ،مما م ّ
فوجد فيه أهل السنة ضالتهم التي طالما بحثوا
عنها فاتبعوه ،وساروا على نهجه ،لما رأوا فيه من
القدرة على إفحام خصومهم ،والدفاع عنهم ،وتثبيت
مذاهبهم.
وعقيدة المام أبي الحسن الشعري التي سار
عليها هي عقيدة المام أحمد بن حنبل ،والشافعي،
ومالك ،وأبي حنيفة وأصحابه ،وهي عقيدة السلف
الصالح ،كما نص على ذلك أئمة أهل العلم ممن سار
على هذه العقيدة ،على كر العصور ومر الدهور.
ولذلك كان الصواب في السؤال أن يقول السائل:
من يدخل مع الشاعرة في أهل السنة الجماعة؟
والجواب على هذا :أنه يدخل معهم كل من سار
على نهجهم ،وسلك سبيلهم ،وإن وقع شيء من
الخلف في بعض المسائل بينهم.
2
فالماتريدية من أهل السنة ،والثريون من أهل
مث َّلهم في
السنة ،إل أن الذي ظهر من أهل ا لسنة و َ
كتب العلم هم الشاعرة ،ولذلك كانت كلمة أهل
السنة إذا أطلقت انصرفت في الغالب إليهم.
على أن جمهرة أهل السنة منهم.
فالمالكية كلهم أشاعرة...
والشافعية كلهم أشاعرة...
والحنفية كلهم أشاعرة أو ماتريدية ول خلف
بينهم...
وجملة كبيرة من أئمة الحنابلة المتقدمين من
الشاعرة.
وهذا على الجملة.
وأما على التفصيل فعظماء أمة محمد صلى الله
عليه وسلم من الشاعرة ،كالباقلني ،والقشيري،
وأبي إسحاق الشيرازي ،وأبي الوفاء بن عقيل
الحنبلي ،وأبي محمد الجويني ،وولده أبي المعالي
إمام الحرمين ،وحجة السلم الغزالي ،والقاضي أبي
بكر بن العربي ،وفخر الدين الرازي ،وابن عساكر،
والعز بن عبد السلم ،وأبناء الثير ،والرافعي،
والنووي ،والسبكي وأولده ،والمزي ،والعراقي ،وابنا
حجر -العسقلني والهيتمي ،-والسيوطي ،وما ل
يحصيه العد مما تنقطع بذكره النفاس ،ويضيق بعده
القرطاس.
3
فإن كان كل هؤلء ممن ذكرنا ،وأضعافا مضاعفة
ممن لم نذكر ليسوا من أهل السنة ،فمن هم أهل
السنة في التاريخ؟
لم يبق بعد هذا إل أن يقال :إنهم كانوا وهما جسده
الجهل المعاصر ،وهكذا تنقلب الحقائق آخر الزمان،
فيقذف العالم بالجهل ويترك ،ويوصف الجاهل بالعلم
فيسأل ،ليضل ويضل ،وتنقض عرى السلم عروة
عروة.
وقد سخر الله تعالى الخوة الذين ألفوا هذا
الكتاب لبيان الحق وإظهاره ،ودحض الباطل وفضحه
بما ذكروه من الحقائق العلمية عن الشاعرة في
نشأتهم وعقيدتهم ،مما يحتاج إليه كل من لم يعرف
شيئا ً عنهم ،أو عرف عنهم من الباطيل التي يروجها
أدعياء العلم والمعرفة ،مما يتنافى مع المانة العلمية
التي أمر الله بها.
وهم لم يبتدعوا شيئا ً جديدا في هذا الكتاب لنه
ليس الول من نوعه في هذا الموضوع وإنما أظهروا
فيه ما كان خافيا على من لم يعلم ،أو يتعامى عنه
من علم ،فجزاهم الله على ما بذلوه فيه خير الجزاء،
وأجزل لهم بمنه البذل والعطاء.
وكتبه
الشيخ أ.د .محمد حسن هيتو
4
تقريظ الشيخ الستاذ
الدكتور محمد فوزي فيض الله
الحمد لله رب العالمين والصلة والسلم على
سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد نشرت صحيفة كويتية قبل فترة ،مقال ً لستاذ
جامعي ،ذكر فيه أن الشاعرة والماتريدية والمعتزلة
والقدرية والصوفية والجهمية...أنها كلها من الفرق
الضالة ،وهذا يعني أن متبعيها من الضالين؛ وهذا كلم
خطير جدا ً لن معناه أن محصل المسلمين وجماعتهم
على غير هدى من الله ،ولم يحدد لنا أهل الهدى
والصراط المستقيم؛ وهذا يشكك المسلمين في
دينهم فل يدرون أنهم من أهل الضلل أو من أهل
الهدى!!
فهل يستطيع الكاتب أن يبين لنا من حفظ من
العلماء هذا الدين وعقيدته ولغته وتاريخه من وقت
ظهوره إلى يومنا هذا ،وهل كانوا من أهل الضلل أم
كانوا من أهل الهدى والرشاد؟
إن أهل السنة والجماعة يبلغون تسعة أعشار
المسلمين وهم السواد العظم،فإذا حكمنا عليهم
بالضلل فبماذا نحكم على سائر المسلمين!
وبماذا يصف الكاتب أمثال المام الجويني
والسفراييني والرازي والطبري والغزالي وأبي حنيفة
ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن جرير وابن
عبد البر والذهبي والبخاري ومسلم والوزاعي
5
والدارقطني والخطيب البغدادي وابن حجر
والسيوطي والعيني والسخاوي والمناوي وسيبويه
والخفش والزجاج والمبرد والفارابي والكسائي
والصمعي وابن هشام والكلباذي وغيرهم من الئمة
في العقيدة وأصولها وأصول الفقه والتاريخ والدب،
ممن عدهم العلماء والمؤرخون في تاريخ السلم
واللغة العربية ووسموهم لنهم من أهل السنة
والجماعة؛ فهل يصف الكاتب هؤلء العلم بأنهم من
أهل الضلل والفرق الضالة؟
وقد أطبقت المة ممثلة في علمائها في مختلف
العلوم على أنهم كانوا من أهل السنة والجماعة من
الشاعرة والماتريدية.
وفي العصر الحديث رأينا من العلم في مصر
والشام من يفخرون بنسبتهم إلى أهل السنة
والجماعة أمثال شيوخ الزهر :الباجوري والشرقاوي
والمراغي وشلتوت وعلي الخفيف وعمداء الكليات
كالشافعي الظواهري والسبكي والديناري وبدر
المتولي والسايس ،وكذلك مصطفى الزرقا ومعروف
الدواليبي ومصطفى السباعي والسلقيني وسراج
الدين.
وقد أدركت خلل النصف من القرن الماضي
"القرن المتمم للعشرين" أكثر أهل العلم ممن يدعو
الله تعالى بأن يميته على مذهب أهل السنة
والجماعة ،فيقول بعد الحمدلة والتصلية على النبي
صلى الله عليه وسلم -ما نصه بهذا اللفظ" :اللهم
بفضلك العميم عمنا ،واكفنا اللهم شر ما أهمنا
6
وأغمنا ،وعلى اليمان الكامل والسنة والجماعة توفنا
نلقاك وأنت راض عنا"
فكانت أمنيتهم فراق الدنيا وهم على مذهب أهل
السنة والجماعة ،الذين عناهم الرسول -صلى الله
عليه وسلم -بقوله" :ل تجتمع أمتي على ضللة" في
ى؛ والمتواتر في المعنى
الحديث المتواتر معن ّ
كالمتواتر في اللفظ ،في قطعية دللته.
فلعله اشتبه على كاتب المقال ما رآه في كتب
المام الشعري من مطاعن ودسات رخيصة كما نقل
المؤلفان الشيخان "حمد السنان وفوزي العنجري"
عن المام الكوثري في ص 18أنه دخل التحريف
والنقص والزيادة على "البانة" وهي أشهر كتبه.
هدانا الله وإياه إلى اتباع الحق وأهله أصحاب
الفرقة الناجية بنص الحديث السابق.
وصلى الله على صفوة خلقه سيدنا ونبينا محمد
وآله وصحبه وسلم
الجمعة 9من شوال
1426هـ
11/11/2005م
الشيخ أ.د .محمد فوزي فيض الله
7
تقريظ الشيخ الستاذ
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
8
عصره ،والذين كانوا السواد العظم والمناء على
كتاب الله وسنة رسوله.
وقد سألت واحدا ً من هؤلء الذي يب ّ
دعون أتباع
المام الشعري ويسفهونهم ،ويلقون الكلم في ذلك
على عواهنه :ما الذي تنقمه منهم؟ وما البدعة التي
ابتدعوها ففسقتهم؟
فقال لي :تعطيلهم القرآن بالتأويل الذي
ابتدعوه ...قلت له :ما من كلمة أوُّلوها إل وفي أئمة
السلف من أّولها ،إذ كان السبيل إلى فهمها اجتهادا ً
يتسع لكثر من فهم واحد.
أل تعلم أن في السلف من أّول كلمة "استوى"
في مثل قوله تعالى:
)ثم استوى إلى السماء وهى دخان (
ومن اول كلمة "الوجه" في قوله تعالى ) :ويبقى
وجه ربك ذو الجلل والكرام (
وأول "الضحك" في قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم" :ضحك ربكما الليلة من فعالكما".(1) .
ول الفراغ فى قوله تعالى ) :سنفرغ لكم أيها
وأ ّ
الثقلن (
هم إلىحد َ ُ
وهل في هؤلء الذين يعتزون بنسبتهم وَ ْ
السلف من لم يؤول كلمة "يحبهم" في قوله تعالى) :
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( .ومن لم
يؤول "المعية" في قوله تعالى ) :وهو معكم أينما
9
كنتم ( .ومن لم يؤول "القرب" في قوله تعالى:
) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( .
فلماذا تبررون لنفسكم هذا الذي ل تبررونه لمن
هم ليسوا أقل منكم علمًا ،بل إنكم لتعلمون أنهم
القدوة الصالحة لهذه المة؟!..
هن الدليل لماذا يكون تأويل الشاعرة لما ب َْر َ
الجتهادي على صحة تأويله تعطيل ً وابتداعًا ،ويكون
تأويلكم لما قد ل نؤيدكم فيه سلفية صافية ملتزمة ل
تعطيل فيها ول تأويل؟!
كنا نقول بالمس :قاتل الله الجهالة ،كم تحجب
العقل عن الحق ،ولكنا نقول اليوم :قاتل الله
العصبية العمياء ،كم تحجب العين المبصرة عن رؤية
ة للءة ً في كبد السماء!..
الشمس صافي ً
ل ،إني أشكر لهذين الخوين جهودهما في على ك ّ
إبراز البدهيات والتدليل عليها ،وإنها لجهود شاّقة
تقتضي مع الشكر عليها العجاب بها ،ألم يقولوا من
من أشكل المشكلت إيضاح الواضحات؟! فلقد قبلِ :
استطاعا أن يخترقا هذا الشكال وأن يزيدا هذا
الحقيقة الواضحة وضوحًا ،وأن يضاعفا من بداهتها
أمام سائر العقول والبصار.
وإني لعلى يقين بأن الجهل ل يستطيع أن يقاوم
هذه البداهة ويتغلب عليها ...أما العصبية العمياء فإني
لعلى يقين بأنها على استعداد لن تكتسح في طريقها
كل ًَ من الدنيا والخرة ،وأن ل تبقي أمامها إل أطيافا ً
من الوهم ،تتعامل معها وتدافع عنها.
10
إني بمقدار ما أشكر هذين الخوين وأدعو الله
لهما ،أدعو لمن يقبعون في سجن هذه العصبية أن
يكرمهم الله بانطلقه آمنة وسريعة منه ،قبل أن
م من حولهم الليل ،ويختلط ظلم يفوت الوان وَي َد ْل َهِ ّ
السجن الذي يتطوحون فيه بظلم العاقبة التي ل
يجدي معها أي شيء.
الشيخ أ.د محمد سعيد رمضان البوطي
11
والعداد فحسب ،وإنما في فهم وتوجيه العبارات
الفقهية ،وسوق الدلة منها ،وترتيب نتائجها العلمية،
ثم لم يخل الجهد من التعليق والستنباط والستنتاج،
وهذا مما ل يحسنه كل أحد إل علماء فقهاء دربوا
على الصياغات الفقهية ،وفهم مناهج الفقهاء
ومذاهبهم ،فجزاهما الله خيرا على هذا الصنيع.
والكتاب في مضمونه تجديد لمعلوم قديم مستقر
عند أهل العلم ل يكادون يختلفون فيه ،وهو عد
الشاعرة من السلف ،أهل السنة والجماعة ،كيف ل
وعلماؤهم فقهاء المة وجمهرتهم.
وعقيدتهم -بل ريب -عقيدة أهل السنة المنضبطة
على الكتاب والسنة ،ول يخرجهم من ذلك دعواهم
التأويل ليات وأحاديث الصفات المتشابهات ما دام
التأويل وفق ضوابط محددة ،ومقاصد مقررة.
والتأويل ترجيح ل ينكر الخلف فيه ،ولذا لم يعب
أحدهم على غيره ،ولم يفسقه ،أو يبدعه ،لن مبنى
الختلف ههنا ترجيح مسلك على آخر ،وكلهما
صحيح ،وكلهما مذهب أهل السنة.
والعناية بذلك وأدلته مبسوطة في الكتاب ،وهي
غايته ومبنى الموضوع ومحوره.
وأظن أن الكتاب قد حقق مقصوده من الناحية
العلمية الفقهية العقدية ،وتمكن مؤلفاه من إثبات
مرادهم بنصوص موثقة مستندة إلى أدلة ناصعة
محررة .فجزاهما الله خيرا.
كتبه
الشيخ أ.د عجيل جاسم النشمي
12
تقريظ الشيخ الستاذ الدكتور على
جمعة
مفتي الديار المصرية
13
والعياذ بالله -أو كادوا ،وبين من أنكروا صفاته العلية
سبحانه وتعالى .وهكذا كان السادة الشاعرة رحمهم
الله سلفا ً وخلفا ً على المنهج الوسط ،والبصيرة التي
أبصروا بها حقيقة الوقوف بالدب في المعاملة مع
الله سبحانه .وهذا ما جعل العلماء قاطبة يطلقون
على السادة الشاعرة أنهم أصحاب المذهب الحق،
فكانوا أحق بها وأهلها .واستقر التدريس في كل
معاهد العلم العريقة في المة السلمية مثل الزهر
الشريف ،والزيتونة ،والقيروان على تدريس مذهب
السادة الشاعرة اعترافا ً من المحققين من علماء
المة بأنه المذهب الحق .وإيمان العلماء هذا هو الذي
دفع كثيرا ً منهم إلى الدفاع عن مذهب السادة
الشاعرة ،فأّلف الحافظ ابن عساكر كتابه الماتع
)تبيين كذب المفتري( في نصرة مذهبهم .وصّنف
العلمة أبو حامد المرزوقي -وهو الشيخ العربي
التباني -كتابا ً أسماه )براءة الشعرين( .فكانت
نصرتهم هذه نصرة للحق وأهله ،وقد توالت
المصنفات من العلماء المحققين في بيان مذهب
أهل الحق )الشاعرة( والدفاع عنهم .ومن هذه
المصنفات هذا المصنف المبارك الذي سار على هذا
الدرب المبارك من نصرة أهل الحق ومذهبهم .فبارك
الله فيه وفي مصنفيه ونفع بهما في الدارين .آمين.
كتبه
الشيخ أ.د على جمعه محمد )مفتي
الديار المصرية(
27رمضان 1425هـ الموافق
10/11/2004م
14
تقريظ الشيخ الستاذ
الدكتور محمد عبد الغفار الشريف
15
.2انتصارا ً لعلماء السلم وحماة الدين من
تهجم بعض من غ ُّرَر بهم من أبناء المسلمين
عليهم.
.3عفة لسان ودعوة صادقة إلى توحيد صفوف
المسلمين.
.4بيانا ً لعقيدة أهل السنة والجماعة حسب ما
تلقاه العلماء الثبات عبر أربعة عشر قرنا ً عن
السلف الصالح.
لذا أنصح كل طالب علم بالطلع عليه ،والعمل
على نشره بين المسلمين للستفادة منه.
والله يحفظ السلم والمسلمين من كيد أعدائه
وجهل أبنائه.
وصلى الله وسلم على سيد الوجود سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
الشيخ أ.د محمد عبد
الغفار الشريف
16
أخوي الكريمين الستاذ حمد السنان والستاذ
فوزي العنجري أيدهما الله.
الحمد لله رب العالمين ،والعاقبة للمتقين ،ول
عدوان إل على الظالمين والصلة والسلم على
سيدنا محمد خاتم النبياء والمرسلين ،وعلى آله
وصحبه أجمعين وبعد:
أشكر لكما رسالتكما الكريمة ،وأقدر لكما تقديرا ً
بالغا ً هذا الجهد الطيب الذي بذل في جمع مقالت
العلماء والئمة الثقات حول الشاعرة والمامين أبي
الحسن الشعري وأبي منصور الماتريدي.
لقد أنصفتم الحقيقة ،وأوضحتم وجه الحق وطريق
السداد والصواب ،وبيان تاريخ نشوء هذين المذهبين
المتقاربين جدًا ،من غير خلف جوهري ،وقد شاع بين
المسلمين قاطبة اتباع هذين المامين ،لن القرآن
مال أوجه ،والنصوص الشرعية محتملة ،ويستحيل ح ّ
على أهل المعرفة والعلم إنكار وجود المجاز في
القرآن والسنة النبوية.
ومن أنواع المجاز النصوص المتشابهة ،ولكن مع
التزام النص وتفويض الشأن إلى الله عز وجل ،فل
تعطيل كالجهمية ،ول تشبيه كالمجسمة ،ول مساس
بجوهر العتقاد بالذات العلية واليمان بالسماء
الحسنى والصفات العليا ،في ضوء الية الكريمة) :
ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ( ] .الشورى:
.[11
لكن ابتليت المة السلمية بفئة تسرعت في
التخطئة ،وبادرت إلى القول بالتضليل ،دون تثبت ول
17
روّية ،مع أن أهل السنة والجماعة كلهم يفوضون إلى
الله تعالى بيان المراد القطعي ،ونحن مع جمهور
السلف في التفويض ،والتأويل اجتهاد ،وسندنا فيه ما
اتجه إليه جماعة من الصحابة ،علما ً بأنه لو كان هناك
خطأ واضح أو مساس بالعتقاد لنكر الصحابة الكرام
على من جنح إلى التأويل المقبول من غير مساس
بمدلول النصوص الواردة ول خروج عنها ،فما أجدرنا
وأحرى بفئة تكفير أو تضليل بقية المسلمين أن
يتريثوا ويتئدوا ،حتى ل يقعوا في الكفر.
هدانا الله وإياهم سواء السبيل
الشيخ
أ.د وهبة الزحيلي
18
تقريظ الشيخ الدكتور عبد الفتاح البزم
مفتي دمشق ومدير معهد الفتح
السلمي
19
بعيدة في تراكيبها عن الحشو والتعقيد ،فجاء هذا
سفرا ً ثمينا ً منضما ً إلى سلسلة
الصنيع المشكور ِ
مباركة من أعمال مبرورة نذر أصحابها أنفسهم
للدفاع عن الحق وأهله أهل السنة والجماعة الفرقة
الناجية التي سلكت ما كان عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم،
والتي استثناها عليه الصلة والسلم من سائر الفرق
التي افترقت عليها أمته ،ولقد أجمع كثير من أهل
العلم على أنها أهل السنة والجماعة من أشاعرة
وماتريدية وسلف ومحدثين وفقهاء وأصوليين خل
مذهبهم من الهواء والبدع ،وقد أورد المؤلفان في
ذلك قول صاحب )لوامع النوار البهية( ،فقال :هم
ثلث فرق :الثرية وإمامهم أحمد بن حنبل،
والشعرية وإمامهم أبو الحسن الشعري ،والماتريدية
وإمامهم أبو منصور الماتريدي .رحمهم الله جميعا ً
ونفعنا بهم وبجميع العلماء العاملين المخلصين .وإني
لجد شاكر للستاذين الفاضلين ما بذله من جهد
محمود في بيان عقيدة الشاعرة وفضل إمامهم أبي
الحسن الشعري رحمه الله تعالى .سائل ً الله سبحانه
أن يتقبل عملهم ،وأن ينفع به ،وأن يجعل هذه
السطر التي أجراها على يدي خالصة لوجهه الكريم.
إنه سبحانه خير سميع وخير مجيب .والحمد لله رب
العالمين.
الشيخ الدكتور عبد الفتاح
البزم )مفتي دمشق(
ومدير معهد الفتح السلمي
بدمشق
20
تقريظ الشيخ الدكتور حسين عبد الله
العلي
21
وقد شهد شاهد وهو إمام في مذهبهم وهو ابن
الجوزي -رحمه الله تعالى -في كتابه )دفع شبه
التشبيه( :أن المجسمة من الحنابلة كابن حامد
والفراء وأبي يععلى وابن الزاغوني لطخوا مذهب
المام أحمد -رحمه الله تعالى -بما قالوه ،وجلبوا له
عارا ً ل يمحى إلى يوم القيامة .أو بمعناه!
فجزى الله المؤلفْين خيرا ً على غيرتهما على
عقيدة السواد العظم من أهل السلم بجمعهما هذا
الكتاب المبارك ،ليكون تبصرة ومرشدا ً لمن أراد
معرفة الحقيقة التي ل يصح غيرها.
هدانا الله إلى اتباع الحق واجتناب الباطل .وصلى
الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
22
تقريظ الشيخ الداعية
على زين العابدين الجفري
23
وعنوان الكتاب يتعلق بقضية حدثت منذ قرنين
فقط وما زالت محل نزاع بين مجاميع من
المسلمين ،وكل منهم يرى أنه هو أهل السنة!
فهل يا ُترى يكون هذا الوقت مناسبا ً لطرح هذا
النزاع!
فلما سرحت نظري في الكتاب ولحظت السلوب
العلمي الرصين مع الدب الراقي ،وجدت أنه من
المهم نشر مثل هذا البحث الذي يسعى نحو تصحيح
وتوسيع.
أما التصحيح :فكل من قرأ هذا الكتاب سيتضح له
بما ل يدع مجال ً للشك أن الشاعرة هم غالبية علماء
أهل السنة ،وبالتالي هم غالبية المة ،وليس كما يتم
فرق الخرى أو من نشره الن من أن الشاعرة من ال ِ
فرق الضالة.ال ِ
أما التوسيع :فهو نتاج للتصحيح ،على أن من يتضح
له أن مفهوم أهل السنة غير محصور على مدرسة
معينة لها صلة بأهل السنة ،وإنما مفهوم السواد
العظم من المة سوف يجد اتساعا ً في دائرة أهل
السنة ليتمكن من خلله أن يستوعب التعامل مع
الشريحة الكبر من المة ،وهي خطوة نحو التقريب
بل نحو الوحدة السلمية.
لهذا سارعت في كتابة هذه السطر على عجل
وفي سفر رغبة في التأكيد على هذين المفهومين
وكذلك رغبة مشاركة الخوان في هذا الخير والجر.
24
وأسال الله أن يعظم النفع بهذا الكتاب ،وأن يبارك
في مؤلفيه ،وأن يتقبل منهما ،إنه هو ولي ذلك
والقادر عليه.
وكتبه
القل
الشيخ الداعية على زين
العابدين الجعفري
المقدمة
دا كثيًرا كــبيًرا يبلــغ رضــاه ،والصــلة
الحمد لله حم ً
والسلم على خيرته من خلقه ومصطفاه ،وعلــى آلــه
وصحبه ومن واله ،وبعد.
فأصل هذا البحــث ونــواته ورقــات مختصــرة أجبنــا
فيها على بعض السئلة التي وردتنــا مــن بعــض طلبــة
الجامعة عن حقيقــة الشــاعرة ،وهــل هــم مـن جملــة
أهل السنة والجماعة؟
وكنا نظن أن تلك الورقات ستروي الغلــة وتشــفي
العلــة ،لكننــا تبّينــا خطــأ ذلــك الظــن حيــن تتــابعت
التساؤلت حول نفس الموضوع ،بعد أن أصــبح يلقــى
م الناس ومثقفيهم ,وقد تفاقم المــر على أسماع عوا ّ
25
وتعاظم الخطب حتى بلغ إلى حد ّ هجر المســلم أخــاه
المسلم ،وعدم التسليم عليه والصلة خلفه لكونه من
الشاعرة ،ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم.
س ـّبةفأصبح مذهب أهل الســنة الشــاعرة تهمــة و ُ
يتبّرؤ منها من نسبت إليه أو نسب إليها!
هذا المذهب الذي ما فتئ رافعا ً لــواء أهــل الســنة
حا عن ثوابت المــة وعقائدهــا ،واقف ـا ًوالجماعة ،مناف ً
في وجه طوفان البدع والزيغ وأهله.
هذا المذهب الذي هو في حقيقة المر امتــداد لمــا
كان عليه الصحابة والتــابعون ومــن بعــدهم مــن أهــل
السنة.
هــذا المــذهب الــذي يــدين بــه تســعة أعشــار أمــة
السلم وسوادها العظم وعلماؤها ودهماؤها.
مما اقتضى كتابــة هــذا البحــث مســاهمة منــا فــي
شـــت علــى العقــول إزاحــة ســجف الجهالــة الــتي َ
غـ ّ
المسلمة في أمور هي من الهمية بمكان ،أمور كانت
بــالمس معلومــة للكافــة ،فبــاتت فــي عصــرنا مــن
القضايا التي ل يكاد يعرفها أحد.
وسـاهم في هذه الجهالة والظلم الذي وقــع علــى
هذا المذهب قوم أرادوا أن يحسنوا فأساءوا ،قوم لــم
يفهموا حقيقة مذهب الشاعرة في التأويل والتفويض
فأســاءوا فــي الحكــم عليــه بالضــلل فــي قضــية ل
26
تستلزم كل هذا التهويل والتضليل.
فقضـية التأويـل والتفـويض لـم تكـن يومـا ً تشـكل
خطًرا يهدد المة ويقض مضجعها ،ولــم تكــن مشــكلة
أمــام علمــاء المســلمين تســتوجب التراشــق بــالتهم
ل من التأويل والتفويض قد نقــل والتنابز باللقاب ،وك ّ
عن علماء السلف الصالح ولم يترتب على ذلك بينهــم
تضليل ول تبديع ،فلماذا نجعله الن سببا لذلك؟! لماذا
نجعله عقبة أمــام وحــدة أهــل الســنة والجماعــة فــي
وقت نحن فيه في أمس الحاجة إلى الوحدة؟!
ولقد كنا قبل نتحاشى الخــوض فــي هــذه القضــايا
خشية أن ندخل العامة في متاهات ل حاجة بهــم إلــى
الــدخول فيهــا ،ســيما موضــوع صــفات اللــه تعــالى
والنصوص المتشابهة التي نهــى الســلف الصــالح عــن
الخوض فيها ،وأمروا الناس بإمرارهــا وبإرجاعهــا إلــى
ما وقد خاض فيها البعض َ
اليات والنصوص المحكمة ،أ َ
ووصفوا الله تعالى بما ل يليق وبما يستحيل في حقــه
تعالى ،وأدخلوا العامة في ذلك ،وضــللوا أعلم الــدين
-ولــو وعلماء المة فل مناص من ولوج هذا البــاب
كنا كارهين -لبيان الحق في ذلك ،والدفاع عن علماء
المة.
إن أسباب الوحدة التي تملكها أمتنا ل تملكها أمــة
أخرى على الرض ،ودواعي الجتماع والوفــاق كــثيرة
دا ،وإنه لمن أشد الظلم والتجني أن نهمل كل هــذه ج ً
27
السباب والموجبات الجامعة الموحدة ونتجاهلهــا ،ثــم
نركز على أمور فرعيــة فــي الفقــه والعقــائد ونجعلهــا
من الصــول الــتي ينبنــي عليهــا الــدين ،وتقــوم عليهــا
عقائد المسلمين.
إننـا اليوم لفي أمس الحاجة إلى الوحدة والتجمــع
لكي تتخطى أمتنا عصر الظلمات الــذي تتخبــط فيــه،
ولن يتم لنا ذلك من خلل مناهج التبــديع والتفســيق -
جزافا ً وبغير حــق -لعلم تاريخنــا الــذين هــم بمنزلــة
مد والسس لثقافتنا وحضارتنا ،كما لن يتم لنا ذلك العُ ُ
من خلل إشاعة المزيد من أسبـاب الفرقة المفتعلة،
ضــلل ومبتــدعين وزنادقــة وتصنيـف المســلمين إلــى ُ
وقبوريين ..و ..و ..إلخ.
نعم ،لن يتم للمة خلصها إل بالرجوع إلى المنابع،
والعودة إلى الصالة والجذور ،وإنشاء أجيــال مســلمة
تعرف للدين وعلماء المة أقدارها ،أجيال تدرك قيمــة
الحوار للوصول إلى الحق ،وتتســع صــدورها للختلف
الذي هو من طبيعة البشر.
وهو ما كنا دائما ً نســعى إلــى ترســيخه فــي جميــع
بحوثنا ،وهــو أيضـا ً مــا ن َ ْ
صـــبوا إليــه فــي هــذا البحــث،
معرضين عن كل ما قــد يــثيره البعــض ،ضــاربين عنــه
صفحًا ،موقنين بأن الحــوار الهــادئ المعتضــد بالــدليل
والحجة والبرهان هو أقصر طريق للحقيقة.
ولقد اعتمــدنا فــي هــذا البحــث علــى جمــع أقــوال
28
ص إلى قائله حرصـا ً علــى
الئمة العلم ،وعزونا كل ن ّ
نزاهة المنهج ،ولم يكن لنا من جهد ـ في الغالب ـــ إل
في التبويب والـترتيب وبعـض التعليقـات هنـا وهنـاك،
وما سوى ذلك فهو نصوص العلماء وكلمــاتهم موجهــة
إلى القارئ الكريم مخاطبة لعقله.
وعلى الجملة فإن الموضوع أكبر من أن تحيط بــه
صفحات معدودات ،بيد أن هــذا مــا ســمح بــه المقــام
مراعاة ً )لحساسية( الموضوع وخطورته!!.
ل عسى الله تعــالى ق ّ وأخيرًا ..فهذا البحث جهد ُ ال ُ
م ِ
أن يبارك فيه وينفع قــارئيه ،كمــا بــارك فــي الرســائل
والبحوث التي سبقته ،وأن يوفــق تعــالى إلــى بحــوث
أخــرى تســاعد فــي إنــارة الطريــق إلــى اللــه تعــالى،
ة.
وتساهم في توعيةٍ شرعيةٍ أصيل ٍ
وبالله الحول والقوة ،وإليه المفــزع فــي درك كــل
ط َل َِبة ،به نعتضد وعليه نعتمد ،هو حسبنا ونعم الوكيل.
*****
29
مصطلح الشاعرة
لفظ الشاعرة يطلق على من سلك مسلك المام
أبــي الحســن الشــعري فــي العتقــاد ،ل تقليــدا ً بــل
اهتداًء ،فمثل المام أبي الحسن -رحمه الله تعــالى -
كمن عقد على طريــق الســلف لــواًء ليهتــدي بــه مــن
يراه ،فالنتساب إليه بمنزلة النتساب إلى المام أبــي
حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رضوان الله عليهم -
في الفروع الفقهية ،إذ مع كونهم مختلفين في طــرق
الستنباط واستخراج الحكام ،إل أنهم متفقــون علــى
المصادر التي يصدرون عنها والمــوارد الــتي يردونهــا،
وكذلك المام أبو الحسن الشعري في أبــواب أصــول
الــدين ،إنمــا هــو آخــذ مــن القــرآن الكريــم والســنة
الشريفة ،وسائر على طريق السلف ،والنتساب إليــه
إنما هو مــن حيــث كــونه أضــاء تلــك الطريــق ونصــب
عليها نطاقا ً وشهرها في المة بعد أن حــاول طمســها
أصحاب البدع والهواء.
قال المام تسساج السدين السسسبكي رحمــه اللــه
تعالى )الطبقات :(365 /3
)اعلــم أن أبــا الحســن لــم يبــدع رأي ـا ً ولــم ينشــء
مذهبًا ،وإنما هو مقرر لمذاهب السـلف ،مناضـل عمـا
كانت عليه صحابة رسول الله ‘ ،فالنتساب إليــه إنمــا
هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا ً وتمسك
به وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في
30
ذلك السالك سبيله في الدلئل يسمى أشعريًا( اهـ.
ثم قال رحمه الله تعــالى مبين ـا ً أن هــذه الطريقــة
عليها جل المة:
)وقد ذكر شيخ السلم عز الدين بـن عبــد الســلم
-يعنــي الشــعري -اجتمــع عليهــا أن عقيــدته
الشافعية والمالكية والحنفية وفضلء الحنابلة ،ووافقه
على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه أبو
عمــرو بــن الحــاجب ،وشــيخ الحنفيــة جمــال الــدين
الحصيري( اهـ.
وقال الحافظ أبو بكر الــبيهقي رحمــه اللــه تعــالى
وهو من الطبقة الثالثة من أتباع المام الشعري )تبيين
كذب المفتري ،103الطبقات الكبرى للتاج السبكي :(3/397
) ..إلى أن بلغت النوبــة إلــى شــيخنا أبــي الحســن
دثًا،
حـ َ
الشعري رحمه الله فلم يحدث فــي ديــن اللــه َ
ولم يأت فيه ببدعة ،بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين
ومــن بعــدهم مـن الئمـة فـي أصـول الـدين فنصــرها
بزيادة شرح وتبيين ،وأن ما قالوا وجاء به الشرع فــي
الصــول صــحيح فــي العقــول ،بخلف مــا زعــم أهــل
الهواء من أن بعضه ل يستقيم في الراء ،فكــان فــي
ل عليه من أهل السنة والجماعة، بيانه تقوية ما لم يد ّ
ونصــرة أقاويــل مــن مضــى مــن الئمــة كــأبي حنيفــة
وسفيان الثوري من أهــل الكوفــة ،والوزاعــي وغيــره
من أهل الشام ،ومالك والشافعي من أهل الحرميــن،
31
ومن نحا نحوهما من الحجاز وغيرها مــن ســائر البلد،
وكأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث ،والليث بــن
ســعد وغيــره وأبــي عبــدالله محمــد بــن إســماعيل
البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيســابوري
إمامي أهــل الثــار وحفــاظ الســنن الــتي عليهــا مــدار
الشرع رضي الله عنهم أجمعين( اهـ.
)تــبيين وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعــالى
ص :(359 كذب المفتري
ســّلم أن أبــا الحســن اخــترع مــذهبا ً
) ..ولســنا ن ُ َ
خامسًا ،وإنما أقام من مــذاهب أهــل الســنة مــا صــار
عند المبتدعة دارسًا ،وأوضــح مــن أقــوال مــن تقــدمه
من الربعة وغيرهم ما غدا ملتبسًا ،وجــدد مــن معــالم
الشريعة ما أصبح بتكذيب من اعتدى منطمسًا ،ولسنا
ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنــا نقلــده
فيه ونعتمد عليه ،ولكنا نوافقه على ما صار إليــه مــن
التوحيد لقيــام الدلــة علــى صــحته ل لمجــرد التقليــد،
وإنما ينتسب منا من انتسب إلــى مــذهبه ليتميــز عــن
المبتدعة الــذين ل يقولــون بــه مــن أصــناف المعتزلــة
والجهمية والكراميــة والمشــبهة والســالمية ،وغيرهــم
مــن ســائر طــوائف المبتدعــة وأصــحاب المقــالت
الفاســدة المخترعــة ،لن الشــعري هــو الــذي انتــدب
للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمــن ل يعــرف البــدع
بدعهم ،ولسنا نـرى الئمـة الربعـة الــذين عنيتــم فــي
32
أصول الدين مختلفين ،بل نراهــم فــي القــول بتوحيــد
الله وتنزيهه في ذاتــه مــؤتلفين ،وعلــى نفــي التشــبيه
عن القديم ســبحانه وتعــالى مجتمعيــن ،والشــعري –
رحمه الله – في الصول على منهاجهم أجمعين ،فمــا
على من انتسب إليه على هذا الوجه جناح ،ول يرجــى
لمــن تــبرأ مــن عقيــدته الصــحيحة فلح ،فــإن عــددتم
القــول بــالتنزيه وتــرك التشــبيه تمشــعرا ً فالموحــدون
بأسرهم أشعرية ،ول يضر عصــابة انتمــت إلــى موحــد
مجرد ُ التشنيع عليها بما هي منه ب َرِّية( اهـ.
33
رحــون تفريــط المجســمة المشــبهة، المعطلــة ،وي َط ّ ِ
ويفضحون بالبراهين عقائد الفرق المموهة ،وينكــرون
مذاهب الجهمية وينفــرون عــن الكراميــة والســالمية،
ه الجبريــة... ويبطلون مقـالت القدريــة ويرذلــون ُ
ش ـب َ َ
فمـــذهبهم أوســـط المـــذاهب ،ومشـــربهم أعـــذب
المشارب ،ومنصبهم أكرم المناصب ،ورتبتهــم أعظــم
المراتب فل يؤثر فيهــم قــدح قـــادح ،ول يظهــر فيهــم
جرح جارح( اهـ.
وقال المام المرتضى الزبيسسدي رحمــه اللــه
تعالى )إتحاف السادة المتقين :(2/7
ن كل ّ مــن المــامين أبــي الحســن وأبــي
)وليعلــم أ ّ
منصور -رضــي اللــه عنهمــا -وجزاهمــا عــن الســلم
خيرا ً لم يبدعا من عندهما رأيا ً ولم يشتقا مــذهبا ً إنمــا
هما مقــرران لمــذاهب الســلف مناضــلن عمــا كــانت
ل منهمــا ذوي عليه أصحاب رسول الله ‘ ...وناظ ََر ك ـ ّ
البدع والضللت حتى انقطعوا وولوا منهزمين( اهـ.
هـــؤلء هــم الشــاعرة أتبــاع المــام أبــي الحســن
الشعري ،فمن هو هذا المام الفذ الذي انتسبوا إليه؟
*****
34
ترجمة المام أبى الحسن الشعرى
35
وهاأنا تائب من العتزال معتقــد الــرد علــى المعتزلــة
مخرج لفضائحهم ،معاشــر النــاس إنمــا تغيبــت عنكــم
هذه المدة لني نظــرت فتكافـأت عنـدي الدلــة ،ولــم
يترجح عندي شيء على شيء ،فاستهديت الله تعالى
فهــداني إلــى اعتقــاد مــا أودعتــه كتــبي هــذه ،ولقــد
انخلعت من جميع ما كنت أعتقــده كمــا انخلعــت مــن
ثوبي هذا ،وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ،ودفـع
للناس الكتب الــتي ألفهــا علــى مــذاهب أهــل الحــق،
وطريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين.
قال العلمسساء :إن أهــل البــدع قبــل المــام أبــي
الحسن قد رفعوا رؤوسهم فلمــا ظهــر عليهــم رحمــه
الله حجزهم في أقماع السمسم.
وقد أخذ عنه رحمه الله خلق كثير من أعلم المــة
مثل المام أبي الحسن البــاهلي البصــري رحمــه اللــه
تعالى ،والمام أبي عبد الله بن مجاهد البصري رحمه
اللــه تعــالى ،والمــام أبــي محمــد الطــبري المعــروف
بالعراقي رحمه الله تعالى ،والمام أبــي بكــر القفــال
الشاشــي رحمــه اللــه تعــالى ،والمــام أبــي ســهل
الصعلوكي النيسابوري رحمه الله تعالى وغيرهم.
وأخذ عن أصحابه أعلم وأئمـة فـي السـلم ،مثـل
المام القاضي أبي بكر البــاقلني رحمــه اللــه تعــالى،
والمام أبي الطيب بن أبــي ســهل الصــعلوكي رحمــه
اللــه تعــالى ،والمــام أبــي علــي الــدقاق رحمــه اللــه
36
تعالى ،والمام الحاكم النيسابوري رحمه اللــه تعــالى،
والمام أبي بكر بن فورك رحمه الله تعالى والحــافظ
أبي نعيم الصبهاني رحمه الله تعــالى ،وغيرهــم ممــن
تــتزين بــذكرهم المنــابر ،وتتعطــر بســيرهم الــدفاتر
وكلهم خّلف تلمذة هم إلى اليوم أعلم الــدنيا ونجــوم
الهدى.
وعلــى الجملــة فقــد انتهــض لنصــرة مــذهبه أهــل
السنة والجماعة في جميع الرض ،وبلغ مذهبه ما بلــغ
ما كان عليه مــن اقتفــاٍء لثــار الســلف
الليل والنهار ،ل ِ َ
رضوان الله عليهم ،ورفٍع للواء السنة.
ترك مــن المؤلفــات شــيئا كــثيرا ،قيــل إنــه بلغــت
)(1
مؤلفاته أكثر من مئتين كتاب
تــوفي رحمــه اللــه تعــالى ســنة أربــع وعشــرين
وثلثمائة ،وكــل أهــل الســنة بــاكون عليــه ،متوجعــون
لفقده ،وكل أهل البدعــة مرتــاحون منــه .رحمــه اللــه
ورضي عنه ).(2
*****
37
هل مات المام على عقيدة غير العقيدة
التي كان عليها بعد توبته من
العتزال ؟
يرى البعض أن المام أبا الحسن الشعري رحمه
الله تعالى قد مّر في حياته بثلث مراحل:
الولى :مرحلة العتزال التي دامت إلى ما
يقرب من سن الربعين.
والثانية :مرحلة اتباعه لعبدالله بن سعيد بن
لب.ك ّ
والثالثة :مرحلة رجوعه إلى عقيدة السلف وأهل
السنة.
ويبنون على هذه الدعوى أن الشاعرة اتبعوا
المام الشعري في مرحلته الثانية فقط وهي التي
كان فيها متبعا ً لعبدالله بن سعيد! إذ عندهم أن
لب ليس من أهل السنة ،وأن عبدالله بن سعيد بن ك ّ
الشاعرة متبعون له ل للمام أبي الحسن لن المام
لب في مرحلته الثالثة ،وأّلف
رجع عن عقيدة ابن ك ّ
على عقيدة السلف كتابه البانة وبعض كتبه الخرى.
هذا تقرير هذه الدعوى ،وقبل الشروع في إثبات
بطلنها تاريخيا ً وعلميا ً نف ّ
صل ما ورد فيها من قضايا،
ثم نشرع في تفنيدها ،لقد تضمنت هذه الدعوى ثلث
38
قضايا:
• الولى :المام الشعري مر بثلث مراحل في
لب ثم أخيرا ً رجوعه حياته ،العتزال ثم اتباعه لبن ك ّ
إلى منهج السنة والجماعة ،وهذه هي القضية
الرئيسية ،وهي تتضمن القضيتين التاليتين.
لب ليس على • الثانية :عبد الله بن سعيد بن ك ّ
منهج أهل السنة والجماعة.
• الثالثة :كتاب البانة يمثل المرحلة الخيرة من
حياة المام الشعري) ,(1وهي مرحلة العودة إلى
طريق السلف الصالح.
وللرد على القضية الولى :وهي مرور المام
بثلث مراحل أو ثلث حالت في حياته نقول:
م منإن المام الشعري رحمه الله تعالى ع َل َ ٌ
أعلم المسلمين يشار إليه بالبنان ،وتعقد على كلماته
الخناصر ،فهو ليس بنكرة من الناس ،ول برجل
مجهول يخفى على الناس أمره ل سيما في قضية
()1نحن نقول هذا من باب التسـليم الجـدلي ،وإل فـإن الـذي
رجحــه المحققــون مــن البــاحثين أن كتــاب اللمــع أّلفــه المــام
الشــعري بعــد البانــة .انظرمقدمــة كتــاب اللمــع للســتاذ حمــودة
غرابة.
وانظر قول العلمة الكوثري في تعليقه على السيف الصــقيل
)ص ،( 123وفي تعليقه علــى تــبيين كــذب المفــتري )ص ،(392
والمقدمة التي وضعنها الدكتورة فوقية حسين علــى كتــاب البانــة
ص 80-79وما بعدها.
39
مثل هذه التي نحن بصددها ،فلو كان المر كما جاء
في الدعوى ،وأنه مر بثلث مراحل في حياته فل بد
أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه ،ولكان ـ
حتما ً ـ قد اشتهر عنه وانتشر كما ذاع وانتشر أمر
رجوعه عن العتزال إذ لم ي َب ْقَ أحد ممن ترجم له إل
وذكر قصة صعوده المنبر وتبّريه من العتزال ،فهل
ذكر أحد من المؤرخين شيئا ً عن رجوع المام عن
لب؟.منهج عبدالله بن سعيد بن ك ّ
عند الرجوع إلى كتب التاريخ ل نجد أي إشارة إلى
هذا ل من قريب ول من بعيد ،بل نجد المؤرخين كلهم
مطبقين على أن المام أبا الحسن بعد هجره
للعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح،
وصنف على طريقتهم كتبه اللحقة البانة وغيرها من
الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق.
40
)هو صاحب الصول والقائم بنصرة مذهب
السنة ...وكان أبو الحسن أول ً معتزليا ً ثم تاب من
القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع
بالبصرة يوم الجمعة( اهـ.
41
الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لبن العماد
والكامل لبن الثير وتبيين كذب المفتري لبن
عساكروترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات
الشافعية لبن قاضي شهبة وطبقات الشافعية
للسنوي والديباج المذهب لبن فرحون ومرآة الجنان
لليافعي وغيرها ،كلها مطبقة على أن المام أبا
الحسن بعد توبته من العتزال رجع إلى مذهب
السلف والسنة.
م هذا لو
أضف إلى ذلك ،أن رجوع المام المزعو َ
ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه
وتلمذته ،لن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته
وأصحابه وأتباعه الملزمون له ،فهؤلء هم أقرب
الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه ،ل سيما
في قضية مهمة مثل هذه القضية التي تتوفر الدواعي
على نقلها ،وتتحفز السماع على تلقفها ،خاصة من
إمام كبير مثل المام أبي الحسن ،وعند الرجوع إلى
أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضا ً ل نجد أي
إشارة تفيد ذلك ،بل نجدهم متفقين على أن المام
كان بعد هجره للعتزال على منهج السلف والسنة
الذي كان عليه المحاسبي وابن كلب والقلنسي
والكرابيسي وغيرهم ،فهذه مؤلفات ناصر مذهب
الشعري القاضي أبي بكر الباقلني رحمه الله تعالى
كالنصاف والتمهيد وغيرها ،ومؤلفات ابن فورك
42
ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحق
الشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب
المام وأصحاب أصحابه وتلميذهم ليس فيها أي ذكر
أو إشارة لهذا المر الذي هو من الهمية بمكان ،فهل
يعقل أن يرجع المام عن مذهبه ويهجره ثم ل يكون
لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه
وتلميذه وهو من هو جللة وقدرًا؟! أم ُتراه قد رجع
عن ذلك سّرا ً وهو الذي حين قرر هجر مذهب
سه ليعلن ذلك على المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نف َ
المل؟!
كل ،ليس المر كما جاء في هذه الدعوى ،بل الحق
الذي ل مرية فيه هو أن المام لم يمّر في حياته إل
بمرحلتين ،العتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف،
وليس لمن يقول بخلف هذا المر من دليل ول شبهة
دليل.
ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على
أسلوب المام في تأليف كتاب البانة وبعض الرسائل
الخرى ،فقد اتبع المام فيها طريق التفويض الذي هو
طريق جمهور السلف ،فبنوا على هذا السلوب
مخالفة المام الشعري لراء ابن ك ُ ّ
لب الذي يتهمونه
بأنه لم يكن على طريق السلف.
ُترى هل ما في البانة التي هي على طريق
جمهور السلف ،وهي من أواخـر كتب المام أو هـي
43
آخرها) ,(1ما يناقض ما كان عليه عبدالله بن سعيد بن
لب على خلف لب؟ أو بتعبير آخر ،هل كان ابن ك ّ
ك ّ
طريق السلف الذي أّلف المام الشعري البانة
عليه؟
وهذا يجّرنا إلى القضية الثانية.
الرد على القضية الثانية:
لب منحرفا ً عن
هل كان عبدالله بن سعيد بن ك ّ
طريق السنة والسلف؟
نسلم أول ً أن المام الشعري بعد تركه للعتزال
كان على طريق عبدالله بن سعيد بن كلب ،وهذا أمر
يوافقنا عليه أصحاب الدعوى ،ولكنهم يخالفوننا في
أن طريق ابن كلب وطريق السلف هما في حقيقة
المر طريق واحد ،لن ابن كلب كان من أئمة أهل
السنة والجماعة السائرين على طريق السلف
الصالح.
قال التاج السبكي في الطبقات )الطبقات :(300/ 2
لب على كل حال من أهل )وابن ك ّ
السنة ....ورأيت المام ضياء الدين الخطيب
والد المام فخر الدين الرازي قد ذكر
عبدالله بن سعيد في آخر كتابه "غاية المرام
في علم الكلم " فقال :ومن متكلمي أهل
44
السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد
مر المعتزلة في مجلس التميمي الذي د ّ
المأمون وفضحهم ببيانه( اهس.
)تبيين وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى
كذب المفتري ص :(405
ط علي بن بقاء الوّراق المحدث)قرأت بخ ّ
المصري رسالة كتب بها أبو محمد عبدالله بن أبي
دم أصحاب زيد القيرواني الفقيه المالكي -وكان مق ّ
مالك رحمه الله بالمغرب في زمانه -إلى علي بن
أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزلي جوابا ً عن
رسالة كتب بها إلى المالكيين من أهل القيروان
يظهر نصيحتهم بما يدخلهم به في أقاويل أهل
العتزال ،فذكر الرسالة بطولها في جزٍء وهي
معروفة ،فمن جملة جواب ابن أبي زيد له أن قال:
ك
لب إلى البدعة ،ثم لم تح ِ ت ابن ك ّ ونسب َ
عنه قول ً يعرف أنه بدعة فيوسم بهذا السم،
لب البدعة، وما علمنا من نسب إلى ابن ك ّ
والذي بلغنا أنه يتقّلد السنة ويتوّلى الر ّ
د
على الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعني
عبدالله بن سعيد بن ك ّ
لب( اهس.
وهذه شهادة عظيمة من المام ابن أبي زيد رحمه
الله لبن كلب أنه يتقّلد السنة ويرد ّ على المبتدعة،
وأنه لم يعلم من نسب إليه البدعة.
45
وعّلق العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في
رفا ً بابن كلب قال )المصدر السابق(:
هامش الصفحة مع ّ
) ..كان إمام متكلمة السنة في عهد أحمد ،وممن
يرافق الحارث بن أسد ،ويشنع عليه بعض الضعفاء
في أصول الدين (..ثم بّين المسائل التي يشنع عليه
بسببها وأن كلمه فيها ليس ببعيد عن الشرع والعقل.
)طبقات الشافعية لبن وقال ابن قاضي شهبة
قاضي شهبة :(78 / 1
)كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة،
وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى
أبو الحسن الشعري( اهس.
)طبقات الشافعية وقال عنه جمال الدين السنوي
للسنوي :(178/ 2
)كان من كبار المتكلمين ومن أهل
السنة ...ذكره العبادي في طبقة أبي بكر
الصيرفي ،قال :إنه من أصحابنا المتكلمين(
اهس.
)سير أعلم النبلء / 11 وقال المام الحافظ الذهبي
:(175
)والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة ،بل هو في
مناظريهم( اهـ.
عّلق الشيخ شعيب الرنؤوط على هذا الكلم
46
ل) :كان إمام أهل السنة في عصره ،وإليه قائ ً
مرجعها ،وقد وصفه إمام الحرمين في كتابه
" الرشاد " بأنه من أصحابنا( اهس.
)المقدمة ص ولقد مر معنا قول العلمة ابن خلدون
:(853
)إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن
الشعري ....وكان على رأي عبدالله بن
لب وأبي العباس القلنسي سعيد بن ك ّ
والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى
طريقة السنة( اهس.
فوصفه بأنه من أتباع السلف ،وأن المام
الشعري كان على رأيه ورأي القلنسي والمحاسبي
وهؤلء من أتباع السلف وعلى طريق السنة.
وقال العلمة كمال الدين البياضي رحمه الله
تعالى )إشارات المرام من عبارات المام ص :(23
47
الحسن في نصرة الدين وإظهار السنة.
)لسان الميزان / 3وقال الحافظ ابن حجر في
ـ (291في ترجمته ،بعد أن نقل قول ابن النديم :إنـه
يعني ابن كلب ـ من الحشوية.
قال الحافظ):يريد من يكون على طريق السلف
في ترك التأويل لليات والحاديث المتعلقة بالصفات،
ويقال لهم المفوضة( اهـ.
وقال المام الشهرستاني رحمه الله تعالى
)الملل والنحل ص :(81
)حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلبي
وأبي العباس القلنسي والحارث بن أسد المحاسبي
وهؤلء كانوا من جملة السلف ،إل أنهم باشروا علم
الكلم وأيدوا عقائد السلف بحجج كلمية وبراهين
ض ،حتى جرى بين أصولية ،وصّنف بعضهم ودّرس بع ٌ
أبي الحسن الشعري وبين أستاذه مناظرة في
مسألة من مسائل الصلح والصلح ،فتخاصما وانحاز
الشعري إلى هذه الطائفة ،فأّيد مقالتهم بمناهج
كلمية ،وصار ذلك مذهبا ً لهل السنة والجماعة،
وانتقلت سمة الصفاتية إلى الشعرية( اهـ.
بل نزيد على ما مّر ونقول :ليس المام الشعري
وحده الذي كان على طريق المام ابن كلب ،كل ،بل
كان على نفس المعتقد أئمة كبار مثل المام البخاري
رحمه الله تعالى.
48
)الفتح قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى
:(1/293
)البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب
إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن
شميل والفراء وغيرهم ،وأما المباحث الفقهية فغالبها
مستمدة له من الشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما،
وأما المسائسل الكلمية فأكثرها من
لب ونحسوهما( اهـ. الكرابيسسي وابن ُ
كس ّ
هذه نصوص واضحة بينة في أن المام عبدالله بن
سعيد بن كلب كان على طريق السلف والسنة.
49
يقول غير مخلوق ول مخلوق فهو واقفي ،ومن قال
لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع .وكان الكرابيسي
لب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهموعبدالله بن ك ّ
يقولون :إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من
صفاته ل يجوز عليه الخلق ،وإن تلوة التالي وكلمه
بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق وإنه حكاية
عن كلم الله ...وهجرت الحنبلية أصحاب أحمد بن
دعوه وطعنوا عليه وعلى حنبل حسينا ً الكرابيسي وب ّ
كل من قال بقوله في ذلك( اهـ.
هذا هو سبب الطعن والتشنيع على عبدالله بن
فه بأنه لم يكن على طريق السنة صـ ِ
لب وو ْ ك ّ
دع بسببه ل والسلف ،إل أن هذا القول الذي ُبـ ّ
يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف،
ل سيما أن مسألة اللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة
من أكابر أمة السلم مثل الذين ذكرهم ابن عبدالبر،
وممن كان يقول بذلك أيضا ً المام البخاري والمام
مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المـروزي
وغيرهم ،وما الفتنة التي حدثت بين البخاري وشيخه
الذهلي إل بسبب هذه المسألة ،نعني مسألة اللفظ،
ولقد صّنف المام البخاري في هذه المسألـة كتابـه "
خلق أفعال العباد " لثبات رأيه فيها والرد ّ على
مخالفيه.
أما المام مسلم فقد كان يظهر القول باللفظ
50
)انظر سير أعلم النبلء 453/ 12وما بعدها، ول يكتمه.
.(12/572
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في
ترجمة الكرابيسي )طبقات الفقهاء الشافعيين :(1/133
)وأن أحمد بن حنبل كان تكلم فيه بسبب مسألة
اللفظ ،وكان هو أيضا ً يتكلم في أحمد ،فتجّنب
الناس الخذ عنه لهذا السبب .قلت :الذي رأيت عنه
أنه قال كلم الله غير مخلوق من كل الجهات إل أن
ل ] أي يعتقد [:لفظي بالقرآن مخلوق ،ومن لم يق ْ
إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر .وهذا هو
المنقول عن البخاري وداود بن على الظاهري،
ب لجل حسم وكان المام أحمد يسد ّ في هذا البا َ
مادة القول بخلق القرآن( اهـ.
وممن كان يقول باللفظ أيضا ً المام محمد بن
جرير الطبري رحمه الله تعالى ،وهي من المسائل
التي نقم عليه بسببها بعض متعصبة الحنابلة ،قال
الحافظ ابن كثير رحمـه الله تعالى )المصدر السابق
:(1/226
)كان قد وقع بينه -الطبري -وبين الحنابلة أظنه
بسبب مسألة اللفظ ،واتهم بالتشيع ،وطلبوا عقد
مناظرة بينهم وبينه ،فجاء ابن جرير لذلك ولم يجئ
منهم أحد ،وقد بالغ الحنابلة في هذه المسألة
وتعصبوا لها كثيرًا ،واعتقدوا أن القول بها يفضي إلى
51
القول بخلق القرآن ،وليس كما زعموا ،فإن الحق ل
يحتاط له بالباطل ،والله أعلم( اهـ) .وانظر في محنة ابن
جرير مع الحنابلة البداية والنهاية ،11/145الكامل لبن الثير
،7/8السير 14/272ـ ،277الوافي بالوفيات .(2/284
نعم ،فإن القرآن كلم الله تعالى غير مخلوق وهو
ح أن يحتاط
صفة من صفات ذاته العلية ،إل أنه ل يص ّ
لهذا الحق بالباطل الذي هو إنكار حدوث وخلق ما
قام بالمخلوق ،ثم التشنيع على من يقول بذلك!
على أية حال الحق في هذه القضية مع
لب والبخاري ومسلم وأبي ثورالكرابيسي وابن ك ّ
وداود والمحاسبي والطبري وغيرهم ممن كان على
طريقهم ،أما المام أحمد رضي الله عنه -ومن قال
بقوله -فكلمه محمول على سد ّ باب الذريعة لكي ل
يتوسل بالقول باللفظ إلى القول بخلق القـرآن.
)السير ،12/82وانظر أيضا ً قال المام الذهبي
السير :(11/510
)ول ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في
مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ،لكن أباه المام
أحمد لئل ُيتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسد ّ
الباب( اهـ.
وقال أيضا ً )ميزان العتدال ) :(1/544وكان يقول ـ
القرآن كلم الله غير مخلوق ،ولفظي يعني الكرابيسي ـ
52
به مخلوق ،فإن عنى التلفظ فهذا جيد ،فإن أفعالنا
مخلوقة ،وإن قصد الملفوظ بأنه مخلوق فهذا الذي
دوه تجهمًا( اهـ.
أنكره أحمد والسلف وع ّ
لب والبخاريول ريب أن مراد الكرابيسي وابن ك ّ
ومسلم وأبي ثور وداود ومن كان على قولهم لريب
أن مرادهم هو الول ،وعلى الجملة فإن القضية
دع من أجلها.
أهون من أن ُيبـ ّ
53
وقال أيضا ) سير أعلم النبلء :( 11/290
) فقد كان هذا المام ] يعني أحمد [ ل يرى
الخوض في هذا البحث خوفا من أن ُيتذّرع به إلى
القول بخلق القرآن ،والكف عن هذا أولى .آمنا بالله
تعالى وبملئكته وبكتبه ورسله وأقداره والبعث
والعرض على الله يوم الدين .ولو بسط هذا السطر
حّرَر وقُّرَر بأدلته لجاء في خمس مجلدات ،بل ذلك و ُ
موجود مشروح لمن رامه .والقرآن فيه شفاء ورحمة
للمؤمنين .ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب
القارئ غير الملفوظ ،والقراءة غير الشيء المقروء،
والتلوة وحسنها وتجويدها غير المتلو ،وصوت القارئ
من كسبه فهو ُيحدث ] يعني يفعل ،وليس الحداث المرادف
للخلق كما تقول المعتزلة [ التلفظ والصوت والحركة
والنطق ،وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة ،ولم
يحدث كلمات القرآن ول ترتيبه ول تأليفه ول
معانيه (.
ثم روى عن الحاكم بسنده إلى فوران صاحب
أحمد أنه قال :
سألني الثرم وأبو عبدالله المعيطي أن أطلب من
] يعني أحمد [ خلوة ،فأسأله فيها أبي عبدالله
عن أصحابنا الذين يفرقون بين اللفظ والمحكي.
ف في أقواله
صّر َ
فسألته ،فقال :القرآن كيف ت ُ ُ
وأفعاله فغير مخلوق ،فأما أفعالنا فمخلوقة .قلت
54
دهم يا أبا عبدالله في
] القائل فوران [ :فاللفظية تع ّ
جملة الجهمية ؟ فقال :ل .الجهمية الذين قالوا:
القرآن مخلوق اهـ.
وفي السماء والصفات للبيهقي ص 266عن
عبدالله بن أحمد بن حنبل قال :سمعت أبي يقول) :
من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو
كافر ( علق الحافظ البيهقي قائل ) :قلت :هذا تقييد
حفظه عنه ابنه عبدالله وهو قوله :يريد به القرآن.
فقد غفل عنه غيره ممن حكى عنه في اللفظ خلف
ما حكينا حتى نسب إليه ما تبرأ منه فيما ذكرنا ( اهـ.
) خلق أفعال وقال المام البخاري رحمه الله تعالى
العباد ص : ( 43
) فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه
كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم ،وربما لم
يفهموا دقة مذهبه ،بل المعروف عن أحمد وأهل
العلم أن كلم الله غير مخلوق وما سواه مخلوق،
وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الشياء الغامضة،
وتجنبوا أهل الكلم والخوض والتنازع إل فيما جاء به
العلم وبّينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ا.هـ
وإننا متيقنون بأنهم رحمهم الله تعالى لم يقولوا
هذا القول دون أن تدعو لذلك حاجة ،كل ،وحاشاهم
أن يتكلموا بشيء سكت عنه الصحابة والتابعون،
ما رأوا الناس تقحموا هذا الباب ،وخاضوا فيلكنهم ل ّ
55
هذا المر ،وحملوه على غير وجهه ،اضطروا إلى
فا ً للناس عن ذلك.
الكلم فيه تبيانا ً للحق ،وك ّ
)في تعليقه قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى
على تبيين كذب المفتري هامش) (2من الصفحة :(406 /
)أما كلم أحمد في ابن كلب وصاحبه ] يعني
الحارث المحاسبي [ فلكراهته الخوض في الكلم
عه منه ،ولكن الحق أن الخوض فيه عند الحاجة وتوّر ِ
ن على خلف ما يرتئيه أحمد( اهـ.متعي ّ ٌ
الخلصة أن المر خفيف كما وصفه الحافظ
الذهبي ،وأن هذه المسألة مما اختلفت فيها أقوال
الئمة ،وهم متفقون جميعا ً على أن القرآن الذي هو
صفة الرحمن وكلمه تعالى غيرمخلوق.
لب لم يكن وحده في بهذا يتبين أن المام ابن ك ّ
هذا المر الذي ذهب إليه ،بل كان على رأيه كبار أئمة
الدين ،وبهذا ُيعلم أيضا ً أنه لم يبتدع أو يخالف منهج
السلف والسنة ،بل هو من أكابر أهل السنة
والجماعة السائرين على خطى السلف الصالح كما
مّر من أقوال العلماء فيه.
فإذا كان المر كذلك ،فمن أين جاء القول بأن
المام الشعري قد ترك طريقته وآراءه؟!
وهذا السؤال يجرنا إلى الحديث عن القضية
الثالثة.
56
الرد ّ على القضية الثالثة:
كتاب البانة هو دليل ومعتمد من يقول بمرور
المام الشعري بثلث مراحل في حياته ،والذي ل
ريب فيه أن المام قد سلك في هذا الكتاب وفي
غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوبا ً مختلفا ً في
التأليف ،فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور
السلف في المتشابهات ،نعني بذلك أنه قد أخذ
بطريق التفويض ،ففهم البعض من ذلك أن المام قد
رجع عن طريق ابن كلب الذي كان عليه إلى طريق
السلف!
ونحن قد أثبتنا في الحديث حول القضية الثانية أن
ابن كلب لم يكن مخالفا ً للسلف بل هو منهم وعلى
ك لمسلك التفويض كما مر من قول طريقهم وسال ٌ
الحافظ ابن حجر في الرد على ابن النديم حين
وصف ابن كلب بأنه من الحشوية ،قال ) :يريد من
يكون على طريق السلف في ترك التأويل ...ويقال
ف
لهم المفوضة ( ا.هـ ) لسان الميزان ،(3/291وهذا كا ٍ
في الرد ّ لمن تأمل وأنصف.
لكننا نزيد على ذلك ونقول:
إن كتاب البانة الذي هو معتمد أصحاب هذه
الدعوى ،وهو الدليل عندهم على رجوع المام عن
طريق ابن كلب ،نقول :إن هذا الكتاب بذاته ينقض
دعوى رجوع المام عن هذا الطريق ،لنه مؤّلف على
57
لب وعلى منهجه ،فكيف يرجع عن طريقة ابن ك ّ
طريق ابن كلب ثم يؤلف آخر كتبه على طريقته؟!
قال الحافظ ابن حجر في )لسان الميزان ) (3/291
لب س مشى وعلى طريقته س يعني ابن ك ّ
الشعري في كتاب البانة( اهـ.
وهذا يزيدنا يقينا ً على يقين بأن المام ابن كلب
كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم ،لن
البانة التي أّلفها المام الشعري في آخر حياته على
منهج السلف هي مؤّلفة على طريقة المام ابن
كلب ،وهذا يقتضي قطعا ً أن طريق السلف وطريق
ابن كلب هما في حقيقة المر طريق واحد وهو ما
كان عليه المام الشعري بعد رجوعه عن العتزال.
أي أن المام لم يمّر بثلث مراحل في حياته ،بل
هما مرحلتان فقط ،مرحلة العتزال ثم أعقبتها
مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن
كلب والمحاسبي والقلنسي والكرابيسي والبخاري
ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم ،وهي المرحلة
التي أّلف المام فيها كتاب البانة.
وُيروى أن المام الشعري عندما أّلف البانة
صبـا ً ولـم يقبلـوها منـه )(1
رفضها بعض حنابلة بغداد تع ّ
()1قيدنا هذا الرفض بـأنه مــن بعـض الحنابلــة ،لنـه لـم تـزل
طائفــة كــبيرة مــن الحنابلــة يوالــون المــام الشــعري ويحبــونه
وينتسبون إليه ،قــال الحــافظ ابــن عساكـــر فــي " التــبيين " ص
58
)انظرسيرأعلم النبلء ،15/90طبقات الحنابلة ،2/18الوافـي
بالوفيات (12/146وهـذا يؤيد ما مّر من أن البانة
مؤّلفة على طريقة ابن كلب الذي هجره بعض
الحنابلة فيمن هجروه من الئمة لجل مسألة اللفظ
وأخذهم بعلم الكلم للرد على المخالفين من
المعتزلة وغيرهم.
وهذا الذي ذكرناه عن كتاب البانة ،إنما أردنا به
البانة التي صّنفها المام ،وليست البانة المتداولة
والمطبوعة اليوم ،وذلك لما حدث على هذا الكتاب
من التحريف والنقص والزيادة.
قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في
مقدمة كتاب " تبيين كذب المفتري ":
)والنسخة المطبوعة في الهند من البانة نسخة
59
مصحفة محرفة تلعبت بها اليدي الثيمة ،فيجب
إعادة طبعها من أصل موثوق(’اهـ.
وقال أيضا ً )مقدمته على كتاب إشارات المرام من عبارات
المام للعلمة البياضي(:
ل صحيح من مؤلفاته )ومن العزيز جد ّا ً الظفر بأص ٍ
على كثرتها البالغة ،وطب ْعُ كتاب البانة لم يكن من
أصل وثيق ،وفي المقالت المنشورة باسمه وقفة(
اهـ ).وانظر أيضا ً تعليقه على السيف الصقيل ص .( 196-155
60
وإن كانت أحسن حال ً من المطبوعة قب ُ
ل إل أنها لم
ل من التحريف والنقص والزيادة أيضًا ،وهذا لعله تخ ُ
يصحح ما ذهب إليه العلمة الكوثري رحمه الله تعالى
ل صحيح من حين قال )ومن العزيز جد ّا ً الظفر بأص ٍ
مؤلفاته على كثرتها البالغة(.
وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في
كتاب تبيين كذب المفتري فصلين من البانة ،وعند
مقارنة البانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة
فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين
بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا
الكتاب.
وهذه بعض المثلة على ذلك:
صه
* جاء في البانة المطبوعة ص 16ما ن ّ
)وأنكروا أن يكون له عينسان مـع قولـه تجري
بأعيننا (..ا.هـ .هكذا بالتثنية!
* وعند ابن عساكر ص ) 157وأنكروا أن يكون له
عين (...بإفراد لفظ العين.
* وجاء في المطبوعة ص ) 18وأن له عينين بل
كيف(..
* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ) 22وأن له
سبحانه عينين بل كيف( هكذا ،كلهما بالتثنية!
* وعند ابن عساكر ص ) 158وأن له عينا ً بل
61
كيف (..بإفراد لفظ العين.
والفراد هو الموافق للكتاب والسنة وأقوال
ص واضح في التلعب بنسخ الكتاب، السلف ،وهذا ن ّ
ولفظ العينين لم يرد ْ في القرآن ول في السنة ،ومن
ثّنى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد
من الخلق ،تعالى الله وتقدس عن ذلك.
قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في
تعليقه على كتاب السماء والصفات للبيهقي في
هامش ص ) : 313لم ترد صيغة التثنية في الكتاب
ول في السنة ،وما يروى عن أبي الحسن الشعري
من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقل الكافة
عنه( ثم قال) :قال ابن حزم :ل يجوز لحد أن يصف
الله عز وجل بأن له عينين لن النص لم يـأت بـذلك(
اهـ.
وقال ابن عقيل معلقا ً على حديث الدجال )دفع
شبه التشبيه ص :(263
)يحسب بعض الجهلة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
لما نفى العور عن الله عز وجل أثبت من دليل
الخطاب أنه ذو عينين ،وهذا بعيد من الفهم ،إنما نفى
العور من حيث نفي النقائص (..اهـ.
وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبت لله
تعالى عينين )دفع شبه التشبيه ص :(114
62
)قلت :وهذا ابتداع ل دليل لهم عليه ،وإنما أثبتوا
عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلة
والسلم " :وإن الله ليس بأعور " وإنما أراد نفي
النقص عنه تعالى( اهـ.
ومن أمثلة التحريف فيه أيضا ً القدح بالمام
العظم أبي حنيفة رضي الله عنه:
فقد جاء في البانة المطبوعة ص ) 57وذكر
هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن
سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري ،قال:
قال لي حماد بن أبي سليمان :بّلغ أبا حنيفة المشرك
أّني منه بريء .قال سليمان :ثم قال سفيان :لنه
كان يقول القرآن مخلوق.
وذكر سفيان بن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي
حنيفة قال أخبرني أبي قال :الكلم الذي استتاب فيه
ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله :القرآن مخلوق.
قال :فتاب منه وطاف به في الخلق .قال أبي :فقلت
ي،
له كيف صرت إلى هذا؟ قال :خفت أن يقوم عل ّ
فأعطيته التقّيـة.
وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن
أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أن
مادا ً ـ يعني ابن أبي سليمان ـ بعث إلى أبي حنيفة:
ح ّ
إني بريء مما تقول ،إل أن تتوب .وكان عنده ابن
أبي عقبة ،قال ،فقال :أخبرني جارك أن أبا حنيفة
63
دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب.
وذكر عن أبي يوسف قال :ناظرت أبا حنيفة
شهرين حتى رجع عن خلق القرآن( اهـ.
ترى هل نحن بحاجة إلى إثبات كذب مثل هذه
الخبار وأنها مدسوسة في كتاب المام الشعري ،أم
أنه يكفي عزوها إلى البانة المطبوعة لكي ُيعلم
تحريفها وتلعـب اليـدي فيها؟!
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص 91-90جاء بعد
الخبر الول بعد قول سفيان :لنه يقول القرآن
صه) :وحاشى المام العظم أبو مخلوق .ما ن ّ
حنيفة رضي الله عنه من هذا القول بل هو
زور وباطل فإن أبا حنيفة من أفضل أهل
السنة( اهس.
وجاء فيها بعد قول ابن أبي عقبة :أخبرني جارك
أن أبا حنيفة دعاه لما استتيب منه بعد ما استتيب .ما
صه) :وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي ن ّ
الله عنه( اهس.
قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في
تعليقه على كتاب الختلف في اللفظ لبن قتيبة ،في
صه )ومن غريب التحريف ما هامش ص ،49ما ن ّ
س
س في بعض نسخ البانة للشعري كما دُ ّ دُ ّ
ماد بن أبي سليمان فيها أشياء أخر من أن ح ّ
قال " بّلغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من
64
دينه " وكان يقول بخلق القرآن .فإن لفظ
ماد " بّلغ أبا فلن " ل أبا حنيفة! كما في
ح ّ
أول خلق الفعال للبخاري ،وجعل من ل
يخاف الله لفظ " أبا حنيسفة " فسي موضسع "
أبا فلن " والله أعلم من هو أبو فلن هذا،
وما هي المسألة (..اهس.
وفي كتاب العتقاد للبيهقي ) ص
: ( 112
) رّوينا عن محمد بن سعيد بن سابق أنه قال :
سألت أبا يوسف فقلت :أكان أبو حنيفة يقول
القرآن مخلوق؟ فقال :معاذ الله ،ول أنا أقوله.
فقلت :أكان يرى رأي جهم؟ فقال :معاذ الله ،ول أنا
أقوله .رواته ثقات ( اهـ.
)نظرة وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله
علمية في نسبة كتاب البانة جميعه ...ص :(20
)ول بأس أن نقول :لو كان المام الشعري رحمه
الله تعالى نسب حقا ً إلى المام ـ يعني أبا حنيفة ـ
القول بخلق القرآن لما كان للمام الشعري تلك
المكانة العالية عند الحنفية أتباع المام أبي حنيفة
رحمه الله تعالى .فل تلتفت أيها القارئ إلى تلك
النقول المبتورة مبتدأ ً والباطلة سندًا ،وأحسن الظن
بالمام الشعري كما تحسن الظن بإمام الئمة
الفقهاء وسائر الئمة رضوان الله تعالى عليهم .وتذكر
65
خل الكثيُر من الباطيل على حديث رسول الله أنه ُأد ِ
كبت لها أسانيد باطلة،صلى الله عليه وسلمُ ،ر ّ
شر في كتب ح ِلكلمات باطلة .كذلك ول تنس أنه ُ
ت وعبارات وحذف منها كلمـات كثير من العلماء كلما ٌ
وعبارات حتى في حيـاة أصحابها( اهـ.
ومن هذه المثلة أيضا ً ما جاء في الطبعة
المتداولة عند ذكر الستواء ص ) 69إن قال قائل :ما
تقولون في الستواء؟ قيل له نقول :إن الله عز وجل
مستوٍ على عرشه كما قال ) الرحمن على
العرش استوى (
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ..) 105نقول إن
الله عز وجل استوى على عرشه استواءً يليق به
من غير حلول ول استقرار(..
فالعبارة الخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة!!
وفي ص 73من البانة المتداولة )فكل ذلك يدل
على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشـه،
والسماء بإجماع الناس ليست الرض ،فدل على أن
الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه( اهـ.
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ) 113فدل على
أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه استواءً
منزها ً عن الحلول والتحاد( اهـ.
إلى غير ذلك من عشرات المثلة الداّلة دللة
66
قاطعة على تحريف الكتاب ،والقاضية بعدم جواز
اعتبار معظمه ممثل ً لعقيدة المام الشعري إل في ما
وافق قول الكافة من أهل العلم والنقل عنه.
فإذا ثبت ـ كما مّر معنا ـ تاريخي ّا ً أن المام بعد
رجوعه عن العتزال كان على منهج السلف وأهل
السنة ،وإذا ثبت أيضا ً أن المام ابن كلب كان من
أئمة السلف وعلى نهـج السنة ،وإذا ثبت أيضا ً أن
كتاب البانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها
هو في حقيقة المر مؤلف على طريقة ابن كلب
التي هي ذاتها طريقة السلف ،إذا ثبت ذلك ثبت بناًء
عليه أن المام لم يمّر بثلث مراحل في حياته ،وإنما
هما مرحلتان مرحلة العتزال في بداية حياته ثم
مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف.
ول نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليل ً على ما
ذهب إليه إل العتماد على أسلوب البانة وبعض
الرسائل الخرى والطريقة التي كتبت عليها ،لن
المام قد سلك في البانة طريق التفويض ،وهي
طريقة جمهور السلف ،وهي في حقيقتها ل تنافي
بينها وبين طريق التأويل بشرطه ،والشاعرة
يعتقدون كل ما في البانة ـ نعني البانة الصحيحة
التي كتبها المام وليست البانة المحرفة ـ ويعقدون
ل من التفويض والتأويل حق ل عليه خناصرهم ،إذ ك ّ
اعتراض عليه ،وكل الطريقين مأثور عن الصحابة
67
والسلف كما سيأتي بيانه ،وكل الطريقين متفقان
على التنزيه بعد إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه،
وكلهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهده
الخلق من عالمهم.
)التبيين قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى
ص :(388
)بل هم ـ يعني الشاعرة ـ يعتقدون ما فيها ـ أي
البانة ـ أسد ّ اعتقاد ،ويعتمدون عليها أشد ّ اعتماد،
فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ول نفاة لصفات الله
معطلة ،لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من
الصفات ،ويصفونه بما اتصف به في محكم اليات،
وبما وصفه به نبّيه صلى الله عليه وسلم في صحيح
الروايات ،وينزهونه عن سمات النقص والفات( اهـ.
وهذا الذي قاله الحافظ ابن عساكر منطبق على
كتاب البانة الذي ألفه المام ،أما ما يوجد اليوم في
أيدي الناس منها فل ثقة به ول يصح أن يمثل ـ في
الغالب ـ اعتقاد المام أو الشاعرة كما أثبتنا ذلك ،إل
فيما وافق قول الكافة.
وقال أيضا ً رحمه الله تعالى )تبيين كذب
المفتري ص :(389
مستصوبا ً عند أهل الديانة،
)ولم يزل كتاب البانة ُ
وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل
بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف
68
بالخسروجـردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض
شيوخه أن المام أبا عثمان إسماعيل بن عبد
الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج
إلى مجلس درسه إل وبيده كتاب البانة لبي الحسن
الشعري ،ويظهر العجاب به ،ويقول :ماذا الذي ُينكر
على من هذا الكتاب شرح مذهبه) .(1فهذا قول المام
أبي عثمان وهو من أعيان أهل الثر بخراسان (.اهـ.
فانظر إلى قدر كتاب البانة وصاحبه عند أعلم
المة ،فهذا شيخ السلم أبو عثمان الصابوني رحمه
الله تعالى وهو من هو جللة وعلما ً وزهدا ً) (2يثني هذا
الثناء العاطر على المام أبي الحسن وكتابه البانة،
ومنه تعلم أن شيخ السلم أبا عثمان الصابوني أيضا ً
كان على طريق المام الشعري ،كيف ل وقد توّلى
تربيته وتهذيبه المام أبو الطيب سهل بن أبي سهل
الصعلوكي ،وهو ـ أبو الطيب ـ من طبقة أصحاب
أصحاب المام الشعري ،أي من الطبقة الثانية ،وكان
ة الوقت كالستاذ أبي يحضر مجالس أبي عثمان أئم ُ
إسحاق السفراييني والستاذ المام أبي بكر بن
) (1وهذا المذهب هو ما كان عليه ابن كلب لن البانة 1
69
فورك وسائر الئمة ،وهؤلء من أعلم أمة السلم
من السادة الشاعرة ،وثناؤهم عليه وثناؤه عليهم
ل على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى يد ّ
ورضي عنهم) .انظر ترجمة شيخ السلم الصابوني في تاريخ
مدينة دمشق ،9/3سير أعلم النبلء ،18/40الطبقات الكبرى
للتاج السبكي .(4/271
بعد كل ما مّر ،وبعد كل هذه الدلة ،هل يصح وفقا ً
للمنهج العلمي للبحث أن تهمل جميع هذه البراهين
التاريخية والعقلية والعلمية ،ثم يؤخذ بكلم استنباطي
ل يرقى إلى مستوى الظن ،وليس له ما يؤيده من
النقل والعقل؟!
ولو بالغنا واعتبرنا ما اعتمدت عليه هذه الدعوى
دليل ً لما أمكن الخذ به علميا ً لن الدليــل متى ما
تطرق إليه الحتمال كساه ثوب الجمال وسقط به
الستدلل ،كما هو مقرر في علم الصول ،هذا إذا
تطرق إلى الدليل الحتمال مجرد تطرق ،فكيف
يكون الحال إذا قارب هذا الحتمال حد ّ اليقين كما مّر
من أدلـة تحريف البانة؟!
ب -جدل ً - بيد أننا سنبالغ في الفتراض ونقول :هَ ْ
ف ،وأنه ثابتأن كتاب البانة المتداول غير محّر ٍ
النسبة إلى المام الشعري ،وأنه قد رجع فعل ً عن ما
كان يعتقده من التـنـزيـه
فهل يلزم المة أن تتابعه في هذا المر؟!
70
إن من يعتقد ذلك يسيء الظن بعقول أكثر من
عشرة قرون من العلماء والئمة ،وينسبهم إلى
التقليد العمى في العقائد ،ويغيب عنه أن المة
سبت إلى المام الشعري من حيث كونه وقف نُ ِ
حامل ً لواء السنة على طريق السلف في وجه
أصحاب البدع والهواء ،ل لنهم قّلدوه في ما ذهب
إليه ،فمتى ما رجع عن اعتقاده رجعوا ! كل.
فهم في الحقيقة منتسبون إلى رسول الله ‘
والسلف الصالح ،وما المام الشعري رحمه الله
لء على الطريق ، وغيره من أئمة أهل السنة إل أد ّ
ومن يروج لمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان
حال هذه الدعوى وأمثالها أن هذا الذي رجع عنه
هؤلء الكابر لو كان حقا ّ ما رجعوا عنه! فالحق عنده
يعرف بمن قال به وتبناه وليس بما اعتضد به من
ي إل من قبل هذا المر ُ
ي من أت ِ َ
أدلة وبراهين! وهل أت ِ َ
الذي هو تعظيم الكبراء إلى الحد ّ الذي أعمى أعينهم
عن الخطاء ،فاتبعوهم مقلدين لهم في أخطائهم
معتقدين أنها هي الحق الذي ل يأتيه الباطل ول
يتطرق إليه.
71
)قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه :من ضيق
علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال .فل ينبغي أن
معَظ ّم ٍ في النفوس شيئا ً في الصول تسمع من ُ
فتقلده فيه ،ولو سمعت عن أحدهم ما ل يوافق
الصول الصحيحة ،فقل :هذا من الراوي ،لنه قد ثبت
درنا
عن ذلك المام أنه ل يقول بشيء من رأيه .فلو ق ّ
قّلد في الصول ،ول أبو بكر ول صحته عنه فإنه ل ي ُ َ
ل يجب البناء عليه،عمر رضي الله عنهما .فهذا أص ٌ
فل يهولّنك ذكُر معظ ّم ٍ في النفوس( اهـ.
لقد أطنبنا في مناقشة هذه القضية ،وما كنا
لنفعل ذلك لول أن تمسك بها البعض واعتبرها أمرا ً
مسّلما ً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس ،فاقتضى المر
التفصيل ،وإل فإن القضية أهون من ذلك بكثير ،إذ
كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور )البينة على
م ول قرينة.
من ادعى( ول بينة ث ّ
م قدُر القائل بهذه الدعوى فإنه لنومهما عظ ُ َ
يغير من شأن الحقيقة شيئًا ،لن أي دعوى إنما هي
تبعٌ للبراهين والدلة التي تثبتها فتكون حقيقة أو
تنفيها فتكون خطأ ً ووهما ً يجب الرجوع عنه ،وك ّ
ل
يؤخذ منه ويرد ّ عليه إل المعصوم صلى الله عليه
وسلم ،والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم.
72
وإذ علمت هذا ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ َفدعْ
عنك من قال إذ الحق ل يعرف بالرجال ،ولكن اعرف
الحق تعرف أهله ،وعليك بما قيل إن كان حقًا ،وإل ّ
فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
*****
73
دعوى رجوع بعض الئمة عن عقيدة
الشاعرة:
قريب من هذا الذي نسب إلى إمام أهل السنة
أبي الحسن الشعري رحمه الله تعالى ،ما ينسب إلى
بعض الئمة كالمام الجويني والغزالي والرازي
رحمهم الله تعالى أنهم رجعوا عن معتقد الشاعرة
وتبرءوا منه!
ومن يروج لهذه الدعوى يريد أن يقول :إن هذا
المعتقد الذي رجع عنه هؤلء العلماء لو كان حقا ّ ما
تركوه ول هجروه!!
فنقول:
إما أن يكون اعتقاد الشاعرة هذا الذي ينسب
قا في ذاتـه أو باط ً
ل. إلى هؤلء الئمة الرجوع عنه ح ّ
قا ً فماذا يضيره أو يضير من تمسك بهفإن كان ح ّ
حتى لو تبرأ منه هؤلء الئمة على فرض صحة ذلك
عنهم؟! أم أنه صار حقّا ً حين قالوا به ،فلما تركوه
انقلب الحق إلى باطل؟!
وإن كان ما رجعوا عنه باطل ً فواها ً ثم واها ً على
أمة السلم وقد تبّنت طيلة هذه القرون الماضية
باط ً
ل ،ثم لم يكتشف بطلنه إل ثلثة أو أربعة منهم!!
كل ليس المر هكذا ،فعلماء السلم ليسوا حفنة
74
من مقلدة العوام تغدو بهم كلمة وتروح بهم أخرى
دون تبصر ول برهان ،لكنهم لما رأوا هذين المامين
الجليلين أبي الحسن الشعري وأبي منصور
الماتريدي رحمهما الله قد انتصبا دليلين على طريق
السلف الصالح ينافحان عن معتقداتهم ويذبان عن
الكتاب والسنة هرعوا لنصرتهم وانتهضوا لتأييدهم
ونشر طريقتهم في إثبات عقيدة السلف الصالح،
لهذا ،ولهذا فقط ُنسبوا إلى هذين المامين ،وليس ـ
كما يظـن البعض ـ لنهم يقلدونهما فيما ذهبا إليه،
فلو افترضنا صحة رجوع هؤلء الئمة عن معتقد
الشاعرة ،بل لو افترضنا رجوع عشرات غيرهم عن
الشعرية ما كان هذا سيغير من الحقيقة التي أطبقت
عليها المة شيئًا ،غاية ما يقال حينها أن هؤلء الئمة
قد أخطأوا في ذلك.
على أن هؤلء الئمة رحمهم الله تعالى لم يرجعوا
عن اعتقاد الشاعرة ول تبرءوا منه ،كيف وهو
المتداد الطبيعي لما كان عليه السلف ،وإنما رجعوا
عن طريق التأويل في ظواهر المتشابه الذي كانوا
ل إلى طريق التفويض الذي هو طريق يقولون به قب ُ
جمهور السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى عما
توهمه هذه الظواهر من سمات المخلوق ،وكل
الطريقين التفويض والتأويل بشرطه ثابت عن سلف
المة ـ كما سيأتي بيانه وإثباته من قبل العلماء ـ وكل
75
المسلكين صحيح ل غبار عليه عند أهل الحق ،أما
الذي يأباه العقل والنقل فهو نسبة حقائق هذه
الظواهر اللغوية لله تعالى ،وحمل هذه الظواهر على
ما يعهده الخلق مـن عوالمهم ،وهذا قطعا ً لم يقل به
أحد من هؤلء الئمة الذين ينسب إليهم الرجوع عن
معتقد الشاعرة ،بل على العكس من ذلك،
فنصوصهم وأقوالهم واضحة وصريحة في الرد ّ على
من يقول ذلك ،بل ومن هذه الكتب التي ينسب إليهم
الرجوع فيها!
فهذا المام الجويني الذي ينسبون له الرجوع عن
معتقد الشاعرة في رسالته النظامية ،يصرح في
نفس هذه الرسالة بإطباق أهل الحق على تنزيه الله
تعالى عن ظواهر نصوص المتشابه بقوله )النظامية ص
..) :(32وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها
وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان
منها (..اهـ.
أضف إلى ذلك أن الرسالة النظامية صّنفها المام
ماها الجويني رحمه الله للوزير نظام الملك ،ولهذا س ّ
بالنظامية نسبة إليه ،ول يخفى أن الوزير نظام الملك
أشعري المعتقد ،قال عنه الحافظ الذهبي بعد أن
أثنى عليه ثناًء عاطرا ً )السير ) :(19/96وكان شافعي ّا ً
أشعري ًّا( اهـ.
ُترى هل سيهدي المام للوزير نظام الملك كتابا ً
76
في نقض اعتقاده؟!
ثم نقول :ليس في الرسالة النظامية ما يناقض
اعتقاد الشاعرة في شيء ،والذي ذكره المام
الجويني من ترجيح التفويض على التأويل هو أحد
مسلكي الشاعرة مع نصوص المتشابه ،وهو ثابت
أيضا ً عن أئمة من السلف الصالح كما نقله العلماء
عنهم كما سيأتي ،قال المام ابن السبكي رحمه الله
تعالى )الطبقات ) :(5/191ثم أقول :للشاعرة قولن
مشهوران في إثبات الصفـات ،هل تمّر على ظاهرها
مع اعتقاد التنزيه ،أو تؤّول؟ والقول بالمرار مع
اعتقاد التنزيه هو المعزوّ إلى السلف ،وهو اختيار
المام ـ يعني الجويني ـ في الرسالة النظامية وفي
مواضع من كلمه ،فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل
إلى التفويض ،ول إنكار في ذلك ول في مقابله ـ يعني
التأويل ـ فإنها مسألة اجتهادية ،أعني مسألة التأويل
والتفويض مع اعتقاد التنزيه ،إنما المصيبة الكبرى
والداهية الدهياء المرار على الظاهر والعتقاد أنه
المراد وأنه ل يستحيل على الباري (..اهـ.
ومن يطالع النظامية يعلم موافقتها لعتقاد أهل
السنة الشاعرة ،فمن أمثلة ذلك تنزيه المام
الجويني لله تعالى عن الجهة والمكان والحيز
والحرف والصوت وظواهر المتشابه ،وتشديده على
القائلين بحوادث ل أول لها في الماضي ،إلى غير
77
ذلك من المسائل التي تدل دللة قاطعة على تمسك
المام باعتقاد السادة الشاعرة.
وكذلك المام الغزالي رحمه الله تعالى ،فكتابه
)إلجام العوام( الذي ينسب إليه الرجوع فيه هو في
حقيقة المر تأصيل لمسلك السادة الشاعرة من
حيث تنزيه الله تعالى عن سمات الحوادث مثل
الجهة والمكان والحروف والصوات وظواهر
المتشابه ،بل هو قائل بالتأويل في مواضع من الكتاب
وذلك في شرح الوظيفة الخامسة من الوظائف
السبع التي يجب على العوام مراعاتها عند سماع
شيء من نصوص المتشابه ،وذلك من الصفحة )( 71
إلى الصفحة ) ،( 81وهو بحق كلم نفيس ،وإّنا
لنحض القارئ على مطالعة كتاب )إلجام العوام(
ل نظيره في بابه ،قد ذكر والرجوع إليه ،فهو كتاب ق ّ
فيه حجة السلم رحمه الله تعالى من الفوائد ما ل
مزيد عليه.
ومن يطالع الكتاب يعلم أن المام الغزالي رحمه
الله تعالى لم يترك مذهب الشاعرة ول رجع عنه،
جح مسلك التفويض على مسلك التأويل ،وهو وإنما ر ّ
ترجيح منه ليس على إطلقه ،كما أنه ل يفهم منه
تضليل للقائلين بالتأويل ،حاشاه ،وهو الذي يعلم أن
كل المسلكين صحيح ،وإن كان الرجح عنده والفضل
ـ عند عدم الحاجة ـ هو مسلك التفويض الذي هو
78
مسلك جمهور السلف ،بل هو الرجح والفضل عند
جميع الشاعرة ،وهو ما نراه ونقول به ،فالوقوف
ما
حيث وقف السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى ع ّ
توهمه هذه الظواهر هو الولى بالتباع ،وهذا كما
ذكرنا عند عدم الحاجة ،أما إذا خاض الناس في
المتشابهات فل بد حينئذ من البيان ،ومن أساليب
البيان التأويل ،والمام الغزالي رحمه الله لم يأت في
كتاب اللجام بشيء مخالف لما في كتبه الخرى.
على أنه يلزم من ينسب إلى هؤلء الئمة ترك ما
كانوا عليه والرجوع إلى منهج السلف أن يقّر بأن
مذهب السلف هو تنزيه الله تعالى عن ظواهر هذه
صوا على ذلك في هذه الكتب التي النصوص لنهم ن ّ
ينسب إليهم الرجوع إلى منهج السلف فيها ،ونحن ل
ننكر رجوع هؤلء الئمة إلى مذهب جمهور السلف
الذي هو التفويض مع التنزيه عن ظواهر هذه
النصوص إذا صح النقل عنهم ،كل ،وإنما الذي ننكره
وترفضه نصوص هؤلء الئمة وغيرهم هو الزعم بأن
هذا المسلك ينافي ما عليه معتقد الشاعرة ،وهذا
أمر تبطله كتب هؤلء الئمة وجميع السادة الشاعرة
والمنقول عنهم وهم أعلم هذه المة في كل فن من
فنون الشريعة.
ما
وكذلك ما ينقل عن المام الرازي ل يخرج ع ّ
ذكرنا سابقًا ،بل إن المام لخر لحظة في حياته
79
ل ،فجاء في وصيته التي يوصي بكتبه التي صنفها قب ُ
أملها على أحد تلميذه وهو على فراش الموت كما
في )طبقات الطباء ص ..) :(469وأما الكتب العلمية
التي صّنفتها أواستكثرت من إيراد السؤالت على
المتقدمين فيها ،فمن نظر في شيء منها فإن طابت
له تلك السؤالت فليذكرني في صالح دعائه على
سبيل التفضل والنعام ،وإل فليحذف القول السيئ
فإني ما أردت إل تكثير البحث وتشحيذ الخاطر (..اهـ.
)مجموع فتاوى ابن تيمية وما ينقل عنه مثل قوله
) :(4/72لقد تأملت الطرق الكلمية والمناهج
الفلسفية فما رأيتها تشفي عليل ً ول تروي غلي ً
ل،
ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ،اقرأ في الثبات
) الرحمن على العرش استوى ( ) إليه يصعد
الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( .واقرأ
في النفي ) ليس كمثله شئ ( ) ،ول يحيطون
به علما ( ) ،هل تعلم له سميا ( ..ومن جرب
حمثل تجربتي عرف مثل معرفتي (..اهـ فهذا إذا ص ّ
عنه فل يفيد تركه لمعتقد الشاعرة ل تصريحا ً ول
تلميحًا ،غاية ما هنالك أنه رحمه الله تعالى يرى أن
ل وعّز طريق أقرب الطرق في إثبات صفة الرب ج ّ
القرآن ،وهذا حق ل ريب فيه ل يخالفه إل زائغ.
والدعاء بأنه رجع عن معتقد الشاعرة تقويل للمام
ما لم يقله وتحميل للكلم ما ل يحتمل هذا إذا سلمنا
80
صحة هذه القوال عن المام.
ل من بهذا يتضح أن أقدار أئمة السلم أكبُر وأج ّ
أن تنقاد في مسائل أصول الدين إلى أحد ـ غير
رسول الله عليه الصلة والسلم ـ تقليدا ً بل تبصر
أواهتداء ،حتى وإن كان إمام أهل السنة والجماعة أبا
الحسن الشعري ،فإن اتباع المة له رحمه الله
اهتداًء ل تقليدًا ،لذا فإن أي محاولة للتشكيك في
معتقد الشاعرة بادعاء رجوع المام أبي الحسن أو
رجوع أحد من الئمة لن تجدي نفعا ً ولن تغير من
الحق الذي أطبقت عليه المة بعلمائها ودهمائها شيئًا،
فإن غاية ما يقال في أي دعوى من هذا القبيل إذا
صحت عن أحد من العلماء هو أنه أخطأ فيما ذهب
إليه ،ول يقلد في ذلك ،وك ّ
ل يؤخذ منه وُيرد ّ عليه إل
المعصوم صلى الله عليه وسلم.
*****
81
أهل السنة والجماعة
82
قال المام تاج الــدين الســبكي رحمـه اللــه تعـالى
)إتحاف السادة المتقين :(2/6
)اعلم أن أهل الســنة والجماعــة كلهــم قــد اتفقــوا
على معتقد واحــد فيمــا يجــب ويجــوز ويســتحيل ،وإن
اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصــلة لــذلك ،أو فــي
ِلمّيــة) (1مــا هنالــك ،وبالجملــة فهــم بالســتقراء ثلث
طوائف:
الولسسى :أهــل الحــديث ومعتمــد مبــاديهم الدلــة
السمعية ،أعني الكتاب والسنة والجماع.
الثانية :أهـل النظـر العقلــي والصــناعة الفكريـة،
وهم الشعرية والحنفية ،وشيخ الشعرية أبــو الحســن
الشعري ،وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي...
الثالثة :أهل الوجدان والكشــف ،وهــم الصــوفية،
ومبـاديهم مبـادئ أهـل النظـر والحـديث فـي البدايـة،
والكشف واللهام في النهاية( اهـ.
وقال المام عضد الدين اليجي -رحمه الله تعالى
-في بيان الفرقة الناجية ،بعد أن عدد فرق الهــالكين
)المواقف ص :(430
)وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قال النبي ـ ‘
83
ـ فيهم "هم الذين على ما أنــا عليــه وأصــحابي" فهــم
الشــاعرة والســلف مــن المحــدثين وأهــل الســنة
ل من بدع هؤلء( اهـ. والجماعة ،ومذهبهم خا ٍ
)شرح وقال المام الجلل الدواني رحمه الله تعالى
العقائد العضدية :(34 /1
)الفرقة الناجية ،وهم الشــاعرة أي التــابعون فــي
الصـول للشيخ أبي الحسـن ...فـإن قلت :كيف حكم
بأن الفرقة الناجية هم الشـاعرة؟ وكـل فرقـة تزعـم
أنها ناجية؟ قلت سياق الحـديث مشعر بــأنهم – يعنــي
الفرقــة الناجيــة – المعتقــدون بمــا روي عــن النبـــي ‘
وأصحابه ،وذلك إنمــا ينطبــق علــى الشــاعرة ،فــإنهم
متمسكون في عقائدهم بالحاديث الصحيحة المنقولة
عنه ‘ وعن أصــحابه ،ول يتجــاوزون عــن ظواهرهــا إل
لضرورة ،ول يسترسلون مع عقولهم كالمعتزلة( اهـ.
والقتصار على الشاعرة في نصــوص الئمــة إنمــا
ذلك لكونهم أغلب أهل الســنة ،فل يفهــم منــه إخــراج
غيرهم من طوائف أهـل السـنة مـن الفرقـة الناجيـة،
فمن لم يكن منهم متبعا ً للمام الشعري فهو موافــق
له.
)(1
وقال العسسارف بسسالله المسسام ابسسن عجيبسسة
) (1أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الفاسي، 1
84
رحمه الله تعالى
)تفسير الفاتحة الكبير ،المسـمى بــ " البحـر
المديد " ص ) :(607أما أهل السنة فهم الشــاعرة ومــن
تبعهم في اعتقادهم الصحيح ،كما هو مقرر فــي كتــب
أهل السنة(’اهـ.
قال المام تاج الــدين الســبكي رحمـه اللــه تعـالى
)طبقات الشافعية :(365 / 3
)قال الشيخ المام -يعني والده التقــي الســبكي -
فيما يحكيــه لنــا :ولقــد وقفــت لبعــض المعتزلــة علــى
كتاب سماه طبقات المعتزلة ،وافتتح بــذكر عبــد اللــه
بن مسعود رضي الله عنه ،ظنـا ً منــه أنــه -بـرأه اللــه
منهم -على عقيدتهم .قال :وهذا نهاية فــي التعصــب،
فإنما ينسب إلى المرء من مشى على منــواله .قلــت
أنا للشيخ المام :ولو تم هذا لهم لكــان للشــاعرة أن
يعدوا أبا بكر وعمـر رضـي اللـه عنهمـا فـي جملتهـم،
لنهم عن عقيدتهما وعقيدة غيرهما من الصحابة فيما
يــدعون يناضــلون ،وإياهــا ينصــرون ،وعلــى حماهــا
يحومون .فتبسم ،وقال :أتباع المرء مــن دان بمــذهبه
وقال بقوله على ســبيل المتابعــة والقتفــاء الــذي هــو
أخص من الموافقــة ،فــبين المتابعــة والموافقــة بــون
عظيم( اهـ.
وقال المام عبدالقاهر البغدادي رحمه اللــه
)الفرق بين الفرق ص :(19
.(2/854
85
) ..فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة
والجماعــة مــن فريقــي الــرأي والحــديث دون مــن
يشتري لهو الحديث ،وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم
ومحــدثوهم ومتكلمــو أهــل الحــديث منهــم ،كلهــم
متفقــون علــى مقالــة واحــدة ...وليــس بينهــم فيمــا
اختلفــوا فيــه منهــا تضــليل ول تفســيق وهــم الفرقــة
الناجية ...فمن قــال بهــذه الجهــة الــتي ذكرناهــا ولــم
يخلط إيمانه بشيء من بدع ....سائر أهل الهواء فهو
من جملة الفرقة الناجية -إن ختم الله له بها -ودخل
في هذه الجملة جمهور المــة وســوادها العظــم مــن
أصــحاب مالــك والشــافعي وأبــي حنيفــة والوزاعــي
والثوري وأهل الظاهر (....اهـ.
وقال أيضا ً )أصــول الــدين ص (309بعد أن عـد ّد َ أئمــة
أهل السنة والجماعــة فــي علــم الكلم مــن الصــحابة
والتابعين وتابعيهم إلى أن قال:
) ..ثم بعدهم شيخ النظر وإمام الفاق في الجــدل
والتحقيق أبـو الحسـن علـي بـن إسـماعيل الشـعري
الــذي صـار شــجا ً فــي حلـوق القدريــة .....وقــد ملت
الدنيا كتبه ،وما رزق أحد من المتكلمين من التبــع مــا
قد رزق ،لن جميع أهل الحديث وكسسل مسسن لسسم
يتمعزل من أهل الرأي على مذهبه( اهس.
وقسسال المسسام الزاهسسد القسسدوة أبسسو عمسسرو
86
)الرسالة الوافية في معتقد أهل الداني) (1رحمه الله تعالى
الســنة والجماعــة ص ) :(117اعلموا أيــدكم اللــه بتــوفيقه
وأمــدكم بعــونه وتســديده ،أن قــول أهـــل السنـــة
والجماعة من المسلمين المتقدمين والمتــأخرين مــن
أصحاب الحديث والفقهاء والمتكلمين(..
ثم شرع ببيان اعتقاد أهل السنة ،وقوله )الفقهـــاء
والمتكلميـــن( يعنـــي بهـــم الشـــاعرة والماتريديـــة،
ورسالته زاخــرة بأدلــة التقــديس رحمــه اللــه ،وتــأثره
بشيخه وأستاذه شيخ أهــل الســنة القاضــي أبــي بكــر
الباقلني رحمه الله تعالى وبطريقة المــام الشــعري
واضح ل يخفــى علــى مــن طــالع كتبــه ،بــل إن بعــض
اللفاظ والعبــارات هــي هــي الــتي اســتخدمها المــام
الشعري في بعض كتبه.
وقال حجة المتكلمين المام أبسسو المظفسسر
87
تعالى) -التبصـــير فــي الــدين
السفراييني -رحمه الله
ص (111بعد أن شرح عقيدة أهــل الســنة) :وأن تعلــم
ن كل من تدين بهذا الدين الذي وصفناه مــن اعتقــاد أ ّ
الفرقــة الناجيــة فهــو علــى الحــق وعلــى الصــراط
دعه فهو مبتدع ومن ضلله فهو ضال المستقيم فمن ب ّ
ومن كفره فهو كافر( اهـ.
فسانظر يسسا رعساك اللسه كيسسف هسسي خطسسورة
المسسر ،لتعلسسم اسسستهتار السسذين يقعسسون فسسي
أعسسسراض الشسسساعرة ويثلبسسسونهم ويضسسسللون
عقائدهم ،ول حول ول قوة إل بالله.
وقال المام أبسسو إسسسحاق الشسسيرازي رحمــه
الله تعالى )طبقات الشــافعية ) :(376 /3وأبو الحسن
الشعري إمسسام أهسسل السسسنة ،وعامسسة أصسسحاب
الشافعي على مسذهبه ،ومسذهبه مسذهب أهسل
الحق( اهس.
وناهيك بأبي إسحاق الشيرازي علما ً وفقها ً وديانــة
وورعا ً وتقدما ً في الدين.
وسئل المام ابن حجر الهيتمي – رحمه الله تعالى
– عن المام أبي الحســن الشــعري والبــاقلني وابــن
فورك وإمــام الحرميــن والبــاجي وغيرهــم ممــن أخــذ
بمذهب الشعري ،فأجاب:
)هم أئمة الدين وفحول علماء المســلمين ،فيجــب
القتـــداء بهـــم لقيـــامهم بنصـــرة الشـــريعة وإيضـــاح
88
المشكلت ورد ّ شبه أهــل الزيــغ وبيــان مــا يجــب مــن
العتقادات والديانات ،لعلمهم بالله وما يجب لــه ومــا
يســتحيل عليــه ومــا يجــوز فــي حقــه ........والــواجب
العتراف بفضل أولئك الئمة المذكورين في الســؤال
وسابقتهم وأنهم من جملة المرادين بقــوله ‘ " يحمــل
هذا العلم من كـل خلـف عـدوله ينفـون عنـه تحريـف
الغــالين وانتحــال المبطليــن وتأويــل الجــاهلين " فل
يعتقد ضللتهم إل أحمق جاهل أو مبتدع زائغ
عسسن الحسسق ،ول يسسسبهم إل فاسسسق ،فينبغسسي
تبصسسير الجاهسسل وتسسأديب الفاسسسق واسسستتابة
المبتدع( اهـ) .الفتاوى الحديثية ص .(205
وقال العلمسسة السسسفاريني الحنبلسسي رحمــه
اللــه تعــالى )لوامــع النــوار البهيــة :(73 / 1أهــل الســنة
والجماعة ثلث فرق:
الثرية ،وإمامهم أحمد بــن حنبــل رضــي اللــه •
عنه.
والشــعرية ،وإمــامهم أبــو الحســن الشــعري •
رحمه الله.
والماتريدية ،وإمامهم أبــو منصــور الماتريــدي •
رحمه الله تعالى( اهـ.
وقال المام المرتضى الزبيدي -رحمه الله تعــالى
) -إتحاف السادة المتقيــن ) :(6 / 2إذا أطلق أهل الســنة
والجماعة فالمراد بهم الشاعرة والماتريدية( اهـ.
89
وقال أيضا ً في موضع آخر ):(86 / 2
)والمراد بأهل السنة هم الفرق الربعة ،المحدثون
والصوفية) (1والشاعرة والماتريدية( اهـ.
ومما يستشهد به في هذا الباب رسالة أبي جعفــر
’-رحمه الله -في العقيدة ،المســماة الطحاوي
بالعقيدة الطحاوية ،التي أجمــل فيهــا اعتقــاد الســلف
رضوان اللــه عليهــم ،وهــي ممــا أطبقــت المــة عليــه
وتلقتــه بــالقبول ،ومــا تضــمنته هــذه العقيــدة هــو مــا
يعتقده الشــاعرة ،ســوى مســائل يســيرة ل تســتلزم
تضليل ً ول تفسيقًا.
وقال المــام العلمـة أحمــد الـدردير -رحمـه اللـه
تعــالى -فــي شــرحه علــى منظــومته فــي العقــائد
المسماة بـ " خريدة التوحيد " )ص :(194
90
طبق) (2العلم ،وافترق من جاء بعدهم من أئمــة المــة
الذين يجــب اتبــاعهم علــى ثلث فــرق ،فرقــة نصــبت
نفسـها لبيـان الحكام الشــرعية العمليــة وهــم الئمــة
الربعة وغيرهم من المجتهدين ،ولكن لم يســتقر مــن
المــذاهب المرضــية ســوى مــذاهب الئمــة الربعــة،
وفرقة نصبت نفسها للشتغال ببيان العقائد التي كان
عليها السلف وهم الشعري والماتريدي ومن تبعهمــا،
وفرقة نصبت نفسها للشتغال بالعمــل والمجـــاهدات
على طبق ما ذهــب إليــه الفرقتــان المتقــدمتان وهــم
المام أبو القاسـم الجنيــد ومـن تبعـه ،فهــؤلء الفــرق
الثلثة هم خواص المــة المحمديــة ومــن عــداهم مــن
جميع الفرق على ضلل وإن كان البعض منهــم يحكــم
له بالسلم فالناجي من كان في عقيــدته علــى طبــق
ما بينه أهل السنة( اهـ.
وقال المـام العلمـة عبـد اللـه بـن علـوي الحـداد
رحمه الله تعالى )نيــل المــرام شــرح عقيــدة الســلم للمــام
الحداد الصفحة :(8
)اعلم أن مذهب الشاعرة في العتقاد هو ما كان
عليــه جمــاهير أمــة الســلم علماؤهــا ودهماؤهــا ،إذ
المنتسبون إليهم والسالكون طريقهم كانوا أئمة أهــل
العلوم قاطبة على مّر اليام والسنين ،وهم أئمة علم
التوحيد والكلم والتفســير والقــراءة والفقــه وأصــوله
91
والحديث وفنونه والتصوف واللغة والتاريخ( اهـ.
92
)تبصــير تعالى -في شرحـه على العقيـــدة الســفارينية
القانع في الجمع بين شرحي ابن شطي وابن مــانع علــى العقيــدة
السفارينية ،الصفحة :(73 /
)قال بعض العلمــاء هــم -يعنــي الفرقــة الناجيــة -
أهل الحديث يعني الثرية والشعرية والماتريديــة( ثــم
قال بعد ذلك بأسطر:
)فائدة :أهل السنة والجماعــة ثلث فــرق ،الثريــة
وإمامهم المام أحمد رضي الله عنه.
والشعرية وإمامهم أبــو الحســن الشــعري رحمــه
الله تعالى.
والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريــدي رحمــه
الله تعالى( اهـ.
وقال علمــة الكــويت الشــيخ عبــد اللــه بــن خلــف
الــدحيان -رحمــه اللــه تعــالى -تعليقــا علــى تقســيم
السفاريني لهل السنة إلى ثلث فرق:
)(1
)فإذا قلت :لفظ الحديـث يقتضـي عـدم التعْد َِيـة
حيــث قـــال فيــه ‘ " ستفترق أمسستي علسسى بضسسع
وسسسبعين فرقسسة كلهسسم فسسي النسسار إل فرقسسة
واحسسدة وهسسي مسسا كسسان علسسى مسسا أنسسا عليسسه
وأصحابي " فــالجواب :أن الثلث فــرق هــي فرقــة
93
واحدة لنهــم كلهــم أهــل الحــديث ،فإن الشسساعرة
والماتريدية لم يردوا الحسساديث ول أهملوهسسا،
ولوها ،وكل منهسم أهسسسل ما أ ّ
ما فوضوها وإ ّ
فإ ّ
حسسسسديث ،وحينئذ فسسسسالثلث فرقسسسسة واحسسسسدة،
لقتفسسائهم الخبسسار وانتحسسالهم الثسسار ،بخلف
كمسسوا العقسسول وخسسالفوا باقي الفرق فإنهم ح ّ
المنقول فهسسم أهسسل بدعسسة وضسسللة ومخالفسسة
وجهالة والله تعالى أعلم( اهس) .تبصــير القــائع ص /
.(73
وقال الشيخ العلمة الحنبلي محمــد بــن علــي بــن
سلوم رحمــه اللــه تعــالى فــي شــرحه علــى العقيــدة
السفارينية مثل ذلك) .شرح الدرة المضية ،الصفحة .(58 /
94
رضــي اللــه عنــه ،والحنفيــة ماتريديــة وإمــامهم أبــو
منصور الماتريدي ،وهما إماما أهل الســنة والجماعــة،
والحنابلة أثرية( اهـ.
وقال المام العلمة كمال الدين البياضــي -رحمــه
الله تعالى ) -إشــارات المــرام مــن عبــارات المــام ،الصــفحة
:(52
)إن الفرقـــة الناجيـــة هـــم الجماعـــة الكـــثيرة
المتمسكون بمحكمات الكتــاب والســنة فــي العقــائد،
فإنه المنطبق لما عليه الرسول ‘ ولما عليه الصــحابة
ل يتجاوزون عن ظاهرها إل لضرورة مخالفــة قطعــي
من الدليل النقلي والعقلي ،فإن حجج الله تتعاضد ول
تتضاد( اهـ.
ومــن نظــر بعيــن المعقــول وتجــرد للوصــول إلــى
الحق علم يقينا ً أنه ليــس أحــد مــن الطــوائف ينطبــق
عليــه هــذا الوصــف إل الشــاعرة والماتريديــة وأهــل
الحديث ،فهم الــذي ملئوا الزمــان والمكــان ،وطبقــوا
الرض شهرة وانتشارًا.
قال المام عبد القاهر البغدادي -رحمه الله تعالى
) -الفرق بين الفرق:(247 ،
مــا ذكــر افــتراق أمتــه بعــده ثلثــا ً
)إن النــبي ‘ ل ّ
وســبعين فرقــة وأخــبر أن فرقــة واحــدة منهــا ناجيــة،
سئل عـن الفرقـة الناجيـة وعـن صـفتها ،فأشـار إلـى
الذين هم على ما عليه هو وأصحابه ،ولسنا نجد اليوم
95
من فرق المة من هم علــى موافقــة الصــحابة رضــي
الله عنهم غيَر أهل السنة والجماعة من فقهــاء المــة
ومتكلمي الصفاتية(ثــم أخــذ رحمــه اللــه يــبين وجـــوه
فـَرق وضـروب انحرافـاتهم عـن عـدم نجــاة بــاقي ال ِ
منهج الرسول ‘ وأصحابه ،ثم قال:
)وبان من هذا أن المقتــدين بالصــحابة مــن يعمــل
ح بالرواية الصحيحة في أحكامهم وســيرهم، بما قد ص ّ
وذلك سّنة أهل السنة دون ذوي البدعة ،وصح بصــحة
ما ذكرناه تحقيق نجاتهم لحكم النبي ‘ بنجاة المقتدين
بأصحابه ،والحمد لله على ذلك( اهـ.
وقال المام ابن حجر الهيتمي -رحمه اللــه تعــالى
) -الزواجر عن اقتراف الكبائر :(82
)المـــراد بالســنة مــا عليــه إمامــا أهــل الســنة
والجمـاعة الشيخ أبو الحسـن الشــعري وأبـو منصـور
الماتريدي (..اهـ.
وقال العلمة طاش كبري زاده -رحمه الله تعالى
) -مفتاح السعادة :(33 / 2
)ثم اعلم أن رئيس أهل السنة والجماعة في علــم
الكلم -يعني العقائد -رجلن ،أحدهما حنفــي والخــر
شــافعي) ،(1أمــا الحنفــي فهــو أبــو منصــور محمــد بــن
96
محمود الماتريدي ،إمام الهدى...
وأمــا الخــر الشــافعي فهــو شــيخ الســنة ورئيــس
الجماعة إمام المتكلمين وناصر سنة ســيد المرســلين
والــذاب عــن الــدين والســاعي فــي حفــظ عقــائد
المســلمين ،أبــو الحســن الشــعري البصــري ..حــامي
جناب الشرع الشريـف من الحديـث المفــترى ،الــذي
قـام في نصرة ملـة الســـلم فنصــرها نصــرا ً مــؤزرًا(
اهـ.
وعلى الجملة ،فإن أقــوال علمــاء الســلم متفقــة
علــى أن الشــاعرة ومــن وافقهــم فــي العتقــاد مــن
طوائف أهل الحق هم الفرقة الناجية ،وهم المعنيــون
بقوله ‘ " ما أنا عليــه وأصــحابي " وهــم الوســط بيــن
الفرق المبتدعة ،فقد جانبوا أهل الزيغ وابتعدوا عنهــم
غاية البعد بحيث من رام بعدا ً عــن الضــللة أكــثر مــن
بعدهم وقع فيها أو مال إليها.
*****
97
أقوال العلم المعاصرين فى الشاعرة
لقـــد أطنبنـــا بـــذكر أقـــوال العلمـــاء المتقـــدمين
والمتــأخرين الــتي تفيــد قصــر مصــطلح أهــل الســنة
والجماعة على الشاعرة والماتريدية وأهــل الحــديث،
وإليك الن طائفــة مــن نصــوص العـــلم المعاصــرين
ممن سلك مسلك أهل السنة وأشاد بفضلهم:
قــال الشــيخ الداعيــة حســن أيــوب -حفظــه اللــه
تعالى ) -تبسيط العقائد السلمية :(299
)أهل السنة هم أبو الحسن الشعري وأبو منصــور
الماتريدي ومن سلك طريقهما ،وكانوا يسيرون علــى
طريق السلف الصالح في فهــم العقــائد ،وقــد جعلــوا
القرآن الكريم المنهل العذب الذي يلجــأون إليــه فــي
تعرف عقائدهم فكانوا يفهمــون مــن اليــات القرآنيــة
مسائل العقائد ،وما أشبه عليهم منه حاولوا فهمه بما
تــوحيه أســاليب اللغــة ول تنكــره العقــول ،فــإن تعــذر
عليهم توقفوا وفوضوا ،وقد سمي أتبـاع أبــي الحســن
الشـــعري بالشـــاعرة ،وأبـــي منصـــور الماتريـــدي
بالماتريدية( اهـ.
وقـال السـتاذ الداعيـة سـعيد حـوى -رحمـه اللـه
تعالى ) -جولت في الفقهين الكبير والكبر ص :(22 /
98
إلى الله عز وجل ،فأئمتهم في العتقاد كأبي الحســن
الشعري وأبي منصور الماتريدي ...وهــؤلء وأمثــالهم
م أصــفى ل في اختصاصه حيث ثبت النقل عنهم ق ـد ّ َ ك ّ
فهم ٍ للكتــاب والســنة ،ومــن ثــم أجمعــت المــة علــى
اعتماد أقوالهم وقبولها في خضم اتجاهــات ل تعــد ول
تحصى من التجاهات الباطلة الزائفة ،منها الذي مات
ومنها الذي لزال حيًا( اهـ.
والشيخ سعيد حوى -رحمه الله تعالى -هنا وفــي
معظم ما كتب إنما ينقل خلصــة رأي المــام الشــهيد
حسن البنا رحمه الله تعــالى ،وهــو موافــق لمــا عليــه
السلف والخلف من تنزيه اللــه تعــالى عــن كــل مــا ل
يليق به سبحانه.
وقــال الشــيخ ســعيد -رحمــه اللــه تعــالى -أيض ـا ً
)المصدر السابق ص:(8/
)وكما وجد في الفقه مؤلفــون وكتــب ،وكمــا وجــد
في الفقه أئمة أجمعــت المــة علــى قبــولهم ،فكــذلك
في باب العقائد وجد أئمة أجمعت المة على إمامتهم
في هذا الشأن كأبي الحسن الشــعري وأبــي منصــور
الماتريدي( اهـ.
وممــن أشــاد بفضــل الشــاعرة مــن المعاصــرين
الشيخ الداعية الستاذ أبو الحسن الندوي )رجــال الفكــر
-رحمــه اللــه والــدعوة فــي الســلم ،ص (137 /فقال
تعالى -منوها ً بذكرهم:
99
)خضع لعلمهم ونفوذهم العالم السلمي
من أقصاه إلى أقصاه ...وبفضلهم انتقلت
قيادة العالم السلمي الفكرية وتوجيهه من
المعتزلة إلى أهل السنة( اهـ.
وقال أيضا )ص :(133 /
)وقد سار الشعري فــي طريقــه مجاهــدا ً مناض ـل ً
منتجًا ....ل يعبأ بما يقال فيه مؤمنا ً بــأنه هــو الطريــق
الذي ينفع الدين في عصره ويرد إلى الشريعة مهابتها
وكرامتهــا ويحــرس للناشــئة دينهــا وعقيــدتها ،حــتى
استطاع بعملــه المتواصــل وشخصــيته القويــة وعقلــه
الكـــبير وإخلصـــه النـــادر أن يـــرد ســـيل العـــتزال
والتفلسف الجــارف الــذي كــان يتهــدد الــدين ،ويثب ّــت
كثيرا ً من الذين تزلزلت أقدامهم واضطربت عقــولهم
وعقــائدهم ،وأن يوجسسد فسسي أهسسل السسسنة ثقسسة
جديدة بعقيدتهم( اهـ.
وقال الشيخ وهبي سليمان غــاوجي -حفظــه اللــه
تعالى ) -أركان اليمان ص :(7 /
)وقــد كــان أول مــن كتــب فــي أصــول الــدين ورد
شبهات أهل الزيــغ فــي العتقــاد المــام العظــم أبــو
حنيفة -رحمه الله تعالى -بطريقي النقــل أو العقــل،
وتتابع الكــاتبون فــي أصــول الــدين إلــى أن اســتقرت
قواعدها على يــدي المــامين العظيميــن أبــي منصــور
الماتريدي وأبي الحسن الشعري رحمهما الله تعالى(
100
اهـ.
هذا هو شأن الشــاعرة وقــدرهم عنــد المتقــدمين
والمتأخرين ،وهذه هي مكانتهم في التاريــخ ،فل ينكــر
فضــلهم وجهــادهم إل مكــابر ،ومهمــا بــالغ البعــض
حد َ فضلهم بلسانه ،فإنه ل محالــةج َ
بالنتقاص منهم ،و َ
مضطّر إلى علومهم ،إذ ما من متعلم أو معلم إل وهو
عالــة علــى مــا أثمرتــه وأنتجتــه قرائحهــم ،وســطرته
أيديهم ،وهل يستغني عالم أو طالب علــم عــن كتــاب
فتح الباري -مثل ً -للمام الحافظ ابن حجر ،أو شــرح
صحيح مسلم للمام النووي رحمه الله تعالى؟!
بهذه النصوص الــتي نقلناهــا عــن العلمــاء والئمــة
المتقدمين والمتأخرين والمعاصــرين أصــبح جلي ـا ّ مــن
المقصود بأهــل الســنة والجماعــة ،ومــن هــي الفرقــة
الناجيــة المعنيــة بالنصــوص الشــرعية والمخصوصــة
بالهداية والنجاة ،فكيف يسوغ لمنصف بعــد كــل ذلــك
إخـــراج الشـــاعرة والماتريديـــة مـــن أهـــل الســـنة
والجماعة؟!
*****
101
يصّر البعض على تضليل الشاعرة والماتريدية لن
جمهـــورهم أجـــاز التأويـــل بشـــروطه فـــي نصـــوص
المتشــابه الــتي تتعلــق بصــفات اللــه تعــالى ،وينســى
ل المة على مذهب التأويل وأن جماعــات ج ّ
هؤلء أن ُ
من السلف قالوا به.
قال المام الزركشي -رحمــه اللــه تعــالى -مبين ـا ً
)البرهــان فــي علــوم القــرآن / 2 المذاهب فــي المتشــابه
:(207
) ...والثالث أنها مؤولة ،وأولـوها على مــا يليــق بــه،
والول – يعنـــي مـــذهب الخـــذ بالظـــاهر – باطـــل،
والخيران منقولن عن الصحابة ...وممن نقسسل عنسسه
التأويسسل علسسي وابسسن مسسسعود وابسسن عبسساس
وغيرهم( اهس.
وقــال المــام النــووي – رحمــه اللــه تعــالى – عــن
مذهب التأويل:
)مذهسسسب أكسسثر المتكلميسسن وجماعسسات مسسن
السلف ،وهو محكسسي عسسن مالسسك والوزاعسسي(
اهـ) .شرح صحيح مسلم .(36 / 6
*****
مفهوم المتشابه
102
قال تعالى) :هو الذي أنزل عليك الكتاب منه
آيسسسات محكمسسسات هسسسسن أم الكتسسساب وأخسسسر
متشابهات(
المتشابه في الصل كل ما ل يهتدي إليه النســان،
والمراد به هنا ما جاء فــي القــرآن والســنة الصــحيحة
المشهورة من النصوص التي يوهم ظاهرهــا مشــابهة
الله تعالى لخلقه.
قــال الراغــب الصــفهاني -رحمــه اللــه تعــالى -
" شبه "(: )مفردات القرآن مادة
)والمتشابه من جهة المعنــى أوصــاف اللــه تعــالى
وأوصاف يوم القيامة ،فإن تلك
الصــفات ل تتصــور لنـــا ،إذ كـــان ل يحصــل فــي
نفوسـنا صورة مـا ل نحسه ،أو لم يكن من جنــس مــا
نحسه( اهـ.
ومثسال المتشابه من القرآن قوله تعسسالى:
) الرحمن علسسى العسسرش اسسستوى( وقسسوله عسسز
وجل ) :يد الله فوق أيديهم ( وقوله سبحانه:
) فإنسك بأعيننسا ( ) ،ولتصسنع علسى عينسى ( ،
ى ( ومثـــاله مــن الســنة قــوله ‘:) لما خلقت بيسسد ّ
)ينزل ربنا في الثلــث الخيــر مــن الليــل (...وقــوله ‘:
)ضحك اللــه الليلـة مـن فعالكمـا( )إن اللـه خلـق آدم
على صورته( ونحو ذلــك ممــا يــوهم ظــاهره مشــابهة
الله تعالى لخلقه.
103
وحكم المتشابه من هذه النصوص هــو اليمــان بــه
على الــوجه الــذي أراد اللــه تعــالى ،والقطــع بــأن لــه
ى عظيما ً شريفا ً عند الله تعالى ،بعد أن ننزه اللــه معن ً
تعالى عن الظاهر المستحيل في حقه سبحانه.
هذا هو القدر المشترك بيــن العلمــاء فــي حكمهــم
على المتشابه ،ثم اختلفوا في مــا وراء ذلــك ،ومنشــأ
الختلف جاء من فهمهم لية المتشــابهات واختلفهــم
فــي محــل الوقــوف فــي قــوله تعــالى ) :وما يعلم
تسسسأويله إل اللسسسه ،والراسسسسخون فسسسى العلسسسم
ل من عند ربنا(. يقولون ك ّ
قال جمهـور السلف إن الوقـوف فــي اليـــة علــى
لفـــــظ الجللـــــة لزم ،وعليــــه ،قــــوله تعـــــالى
) والراسخون ( الواو فيه استئنافية والجملــة بعــده
مستأنفة ،وبناء على ذلــك يكــون المعنــى أنــه ل يعلــم
وض العلــم بتــأويلهتأويل المتشابه إل الله تعالى ،ويف ـ ّ
إليه ســبحانه إذ هــو تعــالى أعلــم بمــراده ،ول نشــتغل
بتأويل شيء من ذلك ،هذا بعــد قطعهــم بــأن الظــاهر
المستحيل في حق الله تعالى غيــر مــراد لــه ســبحانه
ول لرسوله ‘.
أمــا الخلــف فقــالوا إن الــواو فــي قــوله تعــالى
) والراسخون ( عاطفة ومــا بعــدها معطــوف علــى
لفظ الجللة ،وعليه يكون معنى اليــة ،أن الراســخين
في العلم يعلمون تأويل المتشابه.
104
وعلــى أيــة حــال فــإن كل ّ مــن الفريقيــن ل يضــلل
ل مــن المــذهبين عــن ســلف ل كـ ّالخر ،كيف وقد ن ُقِـ َ
المة من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ولقد أجمــل حجــة الســلم الغزالــي -رحمــه اللــه
تعــالى -مــا يجــب علــى المســلم عنــد ســماعه لهــذه
النصــوص بقــوله )إلجــام العــوام عــن علــم الكلم ص 4/مــن
الطبعة الزهرية للتراث سنة 1418هـ(:
)اعلم أن الحق الصريح الذي ل مراء فيه عند أهل
البصائر هــو مــذهب الســلف ،أعنــي مــذهب الصــحابة
والتابعين .وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه ،فأقول:
حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل مــن
بلغه حديث من هذه الحاديث من عوام الخلــق يجــب
عليــه فيــه ســبعة أمــور ،التقــديس ثــم التصــديق ثــم
العتراف بالعجز ثم السكوت ثم المســاك ثــم الكــف
ثم التسليم لهل المعرفة.
أما التقديس :فــأعني بــه تنزيــه الــرب تعــالى عــن
الجسمية وتوابعها.
وأمــا التصــديق :فهــو اليمــان بمــا قــاله ‘ ،وأن مــا
ذكره حق وهو فيما قاله صادق ،وأنه حق على الــوجه
الذي قاله وأراده.
وأما العــتراف بــالعجز :فهــو أن يقــر بــأن معرفــة
مراده ليست على قــدر طــاقته ،وأن ذلــك ليــس مــن
105
شأنه وحرفته.
وأما السكوت :فأن ل يسأل عن معناه ول يخــوض
فيه ،ويعلم أن سؤاله عنه بدعة ،وأنه في خوضــه فيــه
مخاطر بدينه ،وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيــه مــن
حيث ل يشعر.
وأما المساك :فــأن ل يتصــرف فــي تلــك اللفــاظ
بالتصـــريف والتبـــديل بلغـــة أخـــرى ،والزيـــادة فيـــه
والنقصان منه والجمع والتفريق ،بل ل ينطق إل بذلك
اللفــظ وعلــى ذلــك الــوجه مــن اليــراد والعــراب
والتصريف والصيغة.
وأمــا الكــف :فــأن يكــف بــاطنه عــن البحــث عنــه
والتفكر فيه.
وأمــا التســليم لهلـــه :فــأن ل يعتقــد أن ذلـــك إن
خفي عليـه لعجـزه فقد خفــي علــى رســول اللــه ‘ أو
على النبياء أو على الصديقين والولياء.
فهذه ســبع وظــائف اعتقــد كافــة الســلف وجوبهــا
على كل العــوام ،ل ينبغــي أن يظــن بالســلف الخلف
في شي منها( اهـ.
وقال الشيخ العلمة محمود خطاب السبكي -
رحمه الله تعالى ) -إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف
والخلف في المتشابهات ص:(167 /
)المراد به -يعني المتشابه -هنا كــل مــا ورد فــي
106
الكتــاب أو الســنة الصــحيحة موهمــا ً ممــاثلته تعــالى
للحوادث في شيء ما،وقامت الدلئل القاطعــة علــى
امتناع ظاهره في حق الله تعالى ،ولذا أجمع الســلف
والخلف على تأويله تأويل ً إجماليا ً بصـرف اللفـظ عــن
ظاهره المحال على الله تعالى ،لقيام الدلة القاطعــة
على أنه تعالى ليس كمثلــه شــيء ،ثــم إن الســلف ل
يعينون المعنى المـراد مـن ذلـك النـص بـل يفوضـون
علمه إلى الله تعـالى بناء على أن الوقف علــى قــوله
تعالى ) :ومسسا يعلسم تسسأويله إل اللسسه ( والخلسسف
يؤولونه تأويل ً تفصيليا ً بتعيين المعنى المسسراد
منسسسه لضسسسطرارهم إلسسسى ذلسسسك ردّا ً علسسسى
المبتدعين الذين كثروا في زمانهم ،بناء على
أن الوقف على قوله تعالى :
) والراسخون فى العلم ( اهس.
- وقال الشيخ علي الطنطاوي -رحمه اللــه تعـالى
)تعريف عام بدين السلم ص:(84/
)بّيــن اللــه فــي القــرآن أن فيــه آيــات محكمــات
واضـــحة المعنـــى ،صـــريحة اللفـــظ ،وآيـــات وردت
ح ـ الفعل المضارع من )وضح( ـ المعنى
ض ُ
متشابهات ،ول ي َ ِ
المراد منها تمامًا ،وإن على المؤمن أل يطيل الغــوص
في معناها ،ول يتتبعها فيجمعها ليفتن النــاس بــالبحث
فيها ،ومن المتشابه آيات الصفات(
وعّلق -رحمه الله -على هذا فـي الهـامش قـائ ً
ل:
107
)ومن جمعهــا كلهــا وألقاهــا إلــى التلميــذ فقــد جــانب
م إليهــا أحــاديث الحــاد طريقة السلف ،ل سيما إذا ض ّ
المرويــة فــي مثلهــا ،والــتي ل تعتــبر دليل ً قطعيـا ً فــي
أمور العقائد( اهـ.
ثم بيــن -رحمــه اللــه تعــالى -موقــف المســلمين
منها فقال:
)المسلمون الولون وهم سلف هذه المة وخيرهــا
وأفضلها لم يتكلموا فيها ،ولــم يخوضــوا فــي شــرحها،
بل آمنوا بها كما جاءت من عند الله علـى مـراد اللـه،
فلما انتشر علــم الكلم ،وأوردت الشــبه علــى عقــائد
السلم ،وظهرت طبقة جديدة من العلماء انبرت ل َِرد ّ
هذه الشبه ،تكلم هــؤلء العلمــاء فــي آيــات الصــفات،
وفهموها علــى طريقــة العــرب فــي مجــاوزة المعنــى
الصلي للكلمة إذا لم يمكن فهمها به إلى معنى آخــر،
وهذا مـا يسـمى المجــاز أو التأويــل ،وقيــل فـي هـذا:
طريقة السلف أسلم ،وطريقة الخلف أحكم ،وكلهم
متفقون على أن هذه اليات نزلسست مسسن عنسسد
اللسسه ،مسسن أنكسسر شسسيئا ً منهسسا كفسسر ،وأن مسسن
عطلها تمامسا ً فجعلهسسا لفظسا ً بل معنسسى كفسسر،
ومن فهمها بسسالمعنى البشسسري وطبقسسه علسسى
الله فجعل الخالق كالمخلوق كفر ،والمسسسلك
خطر ،والمفازة مهلكة ،والنجاة منها باجتناب
الخوض فيها( اهـ.
108
ولقد أجاد رحمــه اللــه تعــالى وأحســن ،فالمســلك
خطر جد ًّا ،والنجاة باجتناب الخوض جملة ،وليس مــن
الحكمــة فــي شــيء إلقــاء مثــل هــذه النصــوص علــى
العامة وتعريضهم بهـذا الصــنيع للفتنــة ،وقــد تــواردت
الخبار في النهي عن ذلك ،منها ما خّرجه مسلم فــي
مقدمة الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
قــال) :مسسا أنسست بمحسسدث قومسا ً حسسديثا ً ل تبلغسسه
عقولهم إل كان لبعضهم فتنة( ،وعنــد البخــاري
ص بالعلم قومــا ً دون في " كتاب العلـم " باب )من خ ّ
ي موقوفــــا ًقــوم كراهيــة أن ل يفهمــوا( عـــن علــ ّ
ذب )حدثوا الناس بما يعرفون ،أتحبون أن ُيكسس ّ
الله ورسوله؟(.
)الفتــح قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعــالى -
(1/272في شرحه للحديث:
)فيه دليل على أن المتشابه ل ينبغي أن يذكر عند
العامة ...وضابط ذلك أن يكون الحديث يقوي البدعة،
وظاهره في الصل غير مراد ،فالمساك عنه عند من
ُيخشى عليه الخذ بظاهره مطلوب( اهـ.
دث بمــا قــد يلتبــسحـ ّ
ولقد نهى المام مالــك أن ي ُ َ
على الناس كما نقل عنه المام ابــن أبــي زيــد رحمــه
الله تعالى )النوادر والزيــادات ) (553 /14ول ينبغي لحــد
أن يصــف اللــه تعــالى إل بمــا وصــف بــه نفســه ،ول
يشبهه كذلك بشيء ،وليقل :لــه -تعــالى -يــدان كمــا
109
وصف به نفسه ،وله وجه كما وصف به نفســه .تقــف
عند ما فــي الكتــاب ،لن اللـه ســبحانه ل مثــل لـه ول
ل هسسذهشبيه له ول نظيــر لــه ،ول يروي أح سدٌ مث س َ
ل " إن اللسسه خلسسق آدم علسسى الحسساديث ،مثسس ُ
م
و ذلسسك مسسسن الحسساديث .وأعظ س َ صورته " ونح ُ
ك أن يتحدث أحدٌ بمثسسل هسسذه الحسساديث أو مال ٌ
دها(. ُيردّ َ
)وانظر أيض ـا ً فــي هــذا البيــان والتحصــيل ،18/504والسيـــر
،8/104الموافـقات ،4/549فتح الباري .(1/272
هــذه نصــوص واضــحة فــي النهــي عــن التحــديث
بالمتشابهات ،منها تعلم مجازفة من يخوض في هــذه
النصوص ،ويلقيها على الناس على أنهــا ممــا ل يجــوز
الجهل به ،بل ويزيد على هذا بحملها علــى مــا يعهــده
الناس من هــذه الظــواهر ،ويضــلل مــن يصــرفها عــن
ظاهرها المحال ،الذي هــو قطعـا ً ليــس مــراد رســول
اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم ول مــا فهمــه أصــحابه
رضوان الله تعالى عليهم من خطابه الشريف!!
*****
110
المتشابهات: (137موضحا ً شأن هذه
كل ـ بحسب الظاهر ـ آيات فــي كتــاب اللــه، )ي ُ ْ
شـ ِ
وأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وســلم،
تفيد بظاهر ألفاظها وتعابيرها ثبوت بعض النقــائص أو
ل جلله ،كالجهــة النقائض التي نفيناها عن ذات الله ج ّ
والجسمية والجوارح والعضــاء والتحيــز فــي المكــان.
كقوله سبحانه وتعالى ) وجاء ربك والملسسك صسس ّ
فا
فا ( ،وقسسوله ) يسسد اللسسه فسسوق أيسسديهم ( ، صسس ّ
وقولسه ) ..بل يداه مبسوطتان كيسسف يشسساء (
وقسسوله ) الرحمسسن علسسى العسسرش اسسستوى (
وكقوله عليه الصلة والسلم " إن قلوب بني آدم بين
أصبعين من أصابع الرحمن " ،وقــوله " إن اللــه خلــق
آدم على صورته ".
إن هذه النصوص القرآنية من نوع المتشابه الــذي
ل أن في كتابه آيات منــه ،والمقصــود ذكر الله عّز وج ّ
ص تجــاذبته الحتمــالت حــول المعنــى
بالمتشابه كل ن ّ
المراد منه ،وأوهم بظاهره ما قامت الدلة على نفيه.
غير أن هنالك آيات تتعلق بصفات الله تعالى أيضًا،
ولكنها محكمات أي قاطعــة فــي دللتهــا ل تحتمــل إل
ل جللــه ) ليس معناها الواضــح الصــريح ،كقــوله جــ ّ
كمثله شئ ( ،وقوله ) قل هو الله أحد ،الله
الصمد ،لم يلد ولم يولد ،ولم يكن لسسه كفسسوا
أحسسد ( وقــد أوضــح اللــه فــي كتــابه بصــريح العبــارة
111
ضرورة اتباع المؤمن للنصـوص المحكمــة فــي كتـابه،
وبنــاء عقيــدته فــي اللــه بموجبهــا ،ووضــع النصــوص
المتشابهة من ورائها من حيث فهمها والوقــوف علــى
المعنى المراد منها (...ثم قال:
)وبناء على ذلك فقد اتفق المسلمون كلهــم علــى
مـا يقتضـيه ظـاهر تلـك النصـوص تنزيه اللـه تعـالى ع ّ
القرآنيــة والحــاديث النبويــة مــن الصــفات المنافيــة
لكمال الله وألــوهيته ...وبعــد أن اتفقـوا علــى ذلــك ــ
وهذا القدر الذي يجب أن يعتقــده المســلم ــ اختلفــوا
في موقفهم من النصــوص المتشــابهة إلــى مــذهبين:
أولهما تمسك بــه الســلف المتقــدمون ،وثانيهمــا جنــح
ن المتأخرين( اهـ. م َ
من بعدهم ِ إليه َ
وعلى الجملة ،فإنه لم يؤثر عن علمــاء المــة فــي
المتشابه إل هذان المذهبان المعتبران فقــط ،مــذهب
التفويض ،وهو مذهب أكثر السلف ،ومــذهب التأويــل،
وهو مذهب الخلف وجماعات مــن الســلف ،ول عــبرة
بمن قال بالخذ بظاهر نصــوص المتشــابه ،لمناقضــته
للمنقول وبداهة العقول.
قـال المــام النــووي -رحمـه اللــه تعـالى -أثنــاء
شرحـه لحديـث مـن أحاديـث الصفـات )شرح مسلم / 6
:(36
)هذا الحديث من أحاديث الصــفات وفيــه مــذهبان
مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب اليمــان،
112
ومختصرهما أن أحدهما :وهو مذهب جمهــور الســلف
وبعض المتكلمين ،أنه يؤمن بأنها حــق علــى مــا يليــق
بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد
ول يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه اللــه تعــالى عــن
صــفات المخلــوق وعــن النتقــال والحركــات وســائر
سمات الخلق ،والثــاني :مسسذهب أكسسثر المتكلميسسن
وجماعات من السلف وهو محكسسي عسسن مالسسك
والوزاعسسي أنهسسا تتسسأول علسسى مسسا يليسسق بهسسا
بحسب مواطنها( اهـ.
فاقتصــر رحمــه اللــه تعــالى علــى ذكــر هــذين
المذهبين ،ونص على أن مذهب التأويل منقــول أيض ـا ً
عن السلف رضوان الله تعالى عليهم ،وهذا ليعلم من
ينحى علــى الشــاعرة والماتريديــة بــاللوائم ويصــفهم
وغوا مسلك التأويل بشــروطه أنــه بالبتداع لكونهم س ّ
على السلف يعيب وإياهم ينتقص.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مثــل
هـذه النصـوص )فتح الباري ) :(466 / 13إما تفويض وإما
تأويل( اهـ.
وقال أيضا ً أثناء رده علــى أبــي إســماعيل الهــروي
حين اعترض على مــن أّول أحــاديث النــزول ،وذكــر -
أي الهروي -عدة أحاديث فــي الصــعود زاعمـا ً أنهــا ل
تقبــل التأويــل ،فــرد ّ عليــه الحــافظ بعــد أن وصــفه
بالمبالغة في الثبات ونقـل طعـن البعض عليه بسبب
113
ذلك ،قال الحافظ )الفتح ) :(476 / 13فهذه الطرق كلها
ضعيفة ،وعلى تقدير ثبوتها ل يقبل قوله " إنها ل تقبل
صلها ذكُر الصعود بعد النزول ،فكمــا مح ّ التأويل " فإن ُ
ل،ل الصــعود ِ التأوي ـ َ
ل ل ُيمنــع قبــو ُ
ل التأوي ـ َ قَب ِ َ
ل النــزو ُ
والتسليم أسلم( اهـ.
فــانظر إلــى قــوله رحمــه اللــه )والتســليم أســلم(
-رحمهم الله تعالى -ما طرقوا يتبين لك كونهم
سبيل التأويل إل مضطرين ملجئين ،ولول ذلك لوقفوا
حيث وقف السلف رضوان الله على الجميع.
114
يليق من ذلك بجلل الرب تعالى غيــر مــراد ،كــالقعود
والعتدال ...فسكت السلف عنه -يعني تعيين المــراد
-وأوله المتأولون( اهـ.
وقـال المـام أبو عبد الله البي فــي شــرحه علــى
صــحيح مســلم عنــد كلمــه علــى حــديث النــزول )/ 2
:(385
) ...ومذهب أهل الحق في جميع ذلــك أن يصــرف
اللفظ عن ظاهره المحال ،ثم بعد الصرف هل الولى
التأويل أو عدمه ،بــأن يــؤمن بــاللفظ علــى مــا يليــق،
ويكل علم حقيقة ذلك إلى الله سبحانه وتعــالى ...ثــم
الظهر من قول أهل الحق التأويل( اهـ.
وقال المام العلمة مل علي القاري -رحمــه اللــه
تعالى -بعد أن نقل قــول المــام النــووي المــاّر معنــا
قريبا ً )مرقاة المفاتيح :(136 / 2
)وبكلمــه وبكلم الشــيخ الربــاني أبــي إســـحاق
الشــيرازي وإمــام الحرميــن والغزالــي وغيرهــم مــن
أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صــرف
تلك الظواهر كالمجيء والصــورة والشــخص والرجــل
والقــدم واليــد والــوجه والغضــب والرحمــة والســتواء
علــى العــرش والكــون فــي الســماء وغيــر ذلــك عمــا
يفهمه ظاهرها ،لما يلــزم عليــه مــن محــالت قطعيــة
البطلن تســـتلزم أشـــياء يحكـــم بكفرهـــا بالجمـــاع،
فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ
115
عن ظاهره.
وإنما اختلفــوا هــل نصــرفه عــن ظــاهره معتقــدين
اتصافه سبحانه بما يليق بجلله وعظمته مــن غيــر أن
نؤوله بشيء آخر ،وهو مذهب أكثر أهل السلف وفيــه
تأويل إجمالي ،أو مع تأويله بشــيء آخــر وهــو مــذهب
أكثر أهل الخلــف ،وهــو تأويــل تفصــيلي ،ولــم يريــدوا
بذلك مخـالفة الســلف الصــالح -معــاذ اللــه أن يظــن
بهم ذلك -وإنما دعت الضــرورة فــي أزمنتهــم لــذلك،
لكثرة المجسمة والجهمية وغيرها من فــرق الضــلل،
واستيلئهم على عقول العامة ،فقصدوا بذلك ردعهــم
وبطلن قولهم ،ومن ثم اعتذر كثير منهــم وقــالوا :لــو
كنــا علــى مــا كــان عليــه الســلف الصــالح مــن صــفاء
العقائد وعــدم المبطليــن فــي زمنهــم لــم نخــض فــي
تأويل شيء من ذلك( اهـ.
وقــال المــام الزركشــي – رحمــه اللــه تعــالى –
)البرهان في علوم القرآن :(207 /2
)اختلف الناس في الوارد منها -يريد المتشــابهات
-في اليات والحاديث على ثلث فرق:
أحدها :ل مدخل للتأويـــل فيهــا ،بــل تجــرى علــى
ظاهرها ،ول نؤول شيئا ً منها ،وهم المشبهة.
والثاني :أن لها تأويل ً ولكنا نمسك عنه مع تنزيــه
اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول ل يعلمه إل اللــه،
وهو قول السلف.
116
والثالث :أنها مؤولة ،وأولوها علــى مــا يليــق بــه.
والول باطسسسل ،والخيسسسران منقسسسولن عسسسن
الصحابة ...وممن نقل عنه التأويل علي وابن
مسعود وابن عباس وغيرهم( اهس.
وقال العلمة محمد زكريا الكاندهلوي رحمــه اللــه
تعالى عند شرحه لحــديث النــزول مــن الموطــأ )أوجــز
المســالك ) :(4/334فالعلمــاء فــي ذلــك علــى قســمين:
وضة ...والقسم الثاني :المؤّولة( اهـ.
الول المف ّ
بهذا يكون الصبح قد استبان لذي عينين ،وثبــت أن
التفــويض والتأويــل همــا المــذهبان الصــحيحان فــي
المتشابه من نصـوص الصـفات .بقـي أن نـبين سـبب
ورود مثل هذه اللفاظ في الكتاب والسنة مــع كونهــا
مثــاراختلف ومزلــة قــدم ،فنقــول :ل يبعــد أن يكــون
ورود مثل هذه اللفاظ اختبــارا ً وابتلًء للنــاس ،ليتــبين
مر ،ومــن يتبــع المتشــابه ُ
من يلتزم الحد ويقف حيث أ ِ
ابتغاء الفتنة وتضليل الخلق ،قال تعالى ) هسسو السسذي
ن أم أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمسسات هس ّ
الكتسساب وأخسسر متشسسابهات ،فأمسسا السسذين فسسي
قلوبهم زيسسغ فيّتبعسسون مسسا تشسسابه منسسه ابتغسساء
الفتنة وابتغسساء تسسأويله ،ومسسا يعلسسم تسسأويله إل
ل مسسن الله ،والراسخون في العلم يقولون ك ّ
عند ربنا ،وما يتذكر إل أولوا اللباب (
)إلجــام العــوام ص/ قال المام الغزالي رحمه الله تعالى
117
:(49
)إن قسال قسائل مــا الــذي دعــا رســول اللــه ‘ إلــى
إطلق هذه اللفاظ الموهمة مع الستغناء عنها ،أكــان
ل يدري أنه يــوهم التشــبيه ويغل ّــط الخلــق ويســوقهم
إلــى اعتقــاد الباطــل فــي ذات اللــه تعــالى وصــفاته،
وحاشا منصب النبوة أن يخفــى عليــه ذلــك ،أو عــرف
لل ،وهــذا ل بجهــل الجهــال وضــللة الضـ ّ ولكن لم يبــا ِ
أبعــد وأشــنع لنــه ُبـِعـــث شـــارحا ً ل مـــبهما ً ملـ ـّبسا ً
ملغزًا ،وهذا إشــكال لــه وقــع فــي القلــوب حــتى ج ـّر
بعض الخلق إلى سوء العتقاد فيــه ،فقــالوا :لــو كــان
نب ِي ّا ً لعرف الله ولو عرفه لما وصفه بما يستحيل عليه
في ذاته وصـفاته ،ومـالت طائفـة أخــرى إلــى اعتقــاد
الظواهر ،وقالوا لو لم يكــن حق ـا ً -أي هــذه الظــواهر
محالة -لما ذكره كــذلك مطلق ـًا ،ولعــدل عنهــا إلــى ال ُ
لغيرها أو قرنها بما يزيل اليهام عنهــا فــي ســبيل حـ ّ
هذا الشكال العظيم.
ل عنــد أهــلحــ ّ
من ْ َ
فسسالجواب :أن هــذا الشــكال ُ
البصيرة ،وبيانه أن هــذه الكلمــات مــا جمعهــا رســول
ة واحدة وما ذكرهــا ،وإنمــا جمعهــا المشــبهة، الله دفع ً
وقد بّينا أن لجمعها من التــأثير فــي اليهــام والتلــبيس
على الفهــام مــا ليــس لحادهــا المفّرقــة ،وإنمــا هــي
كلمات لهج بها في جميع عمره ‘ في أوقات متباعدة،
وإذا اقتصــر منهــا علــى مــا فــي القــرآن والخبــار
118
المتـواترة رجعـت إلـى كلمـات يسـيرة معـدودة ،وإن
أضيفت إليها الخبار الصحيحة فهي أيضا ً قليلــة ،وإنمــا
كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي ليجوز التعويــل
عليها ،ثم ما تواتر منها إن صح نقلها عن العدول فهي
آحــاد كلمــات ومــا ذكــر‘ كلمــة منهــا إل مــع قــرائن
وإشــارات يــزول معهــا إيهــام التشــيبه ،وقــد أدركهــا
الحاضرون المشاهدون ،فــإذا ُنقلــت اللفــاظ مجــردة
عن تلك القرائن ظهــر اليهـام ،وأعظــم القــرائن فــي
زوال اليهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن
قبول هذه الظواهر ،ومن سبقت معرفته بذلك كــانت
تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل
ما يسمع ،فينمحق معه اليهام انمحاق ـا ً ل يشــك فيــه،
ويعرف هذا بأمثلة:
الول :أنه ‘ سمى الكعبة بيت الله تعــالى ،وإطلق
هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهــم
أن الكعبة وطنه ومثواه لكن العوام الذين اعتقدوا أنه
في السماء وأن استقراره على العــرش ينمحــق فــي
حقهم هذا اليهام على وجه ليشـكون فيـه ،فلـو قيـل
لهم :ما الذي دعا رسول الله ‘ إلى إطلق هذا اللفــظ
المــوهم المخيــل إلــى الســامع أن الكعبــة مســكنه؟
لبــادروا بــأجمعهم وقــالوا :هــذا إنمــا يــوهم فــي حــق
الصبيان والحمقى أما من تكرر علــى ســمعه أن اللــه
مستقر على عرشه فل يشك عند ســماع هــذا اللفــظ
119
أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه ،بل يعلــم
على البديهة أن المراد بهذه الضافة تشريف البيت أو
ى سواه غير ما ُوضع له لفظ البيت المضاف إلــى معن ً
ربه وســاكنه .أليــس كــان اعتقــاده أنــه علــى العــرش
قرينة أفادته علما ً قطعيا ً بــأنه مــا أريــد بكــون الكعبــة
بيته أنه مــأواه ،وأن هــذا إنمــا يــوهم فــي حــق مــن ل
يسبق إلى هذه العقيدة ،فكذلك رسول الله ‘ خــاطب
بهذه اللفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقــديس ونفــي
التشبيه وأنـه منـّزه عـن الجسـمية وعوارضـها ،وكـان
ذلك قرينة قطعية مزيلــة لليهــام ل يبقــى معــه شــك،
وإن جاز أن يبقــى لبعضــهم تــردد فــي تــأويله وتعييــن
المراد به من جملــة مــا يحتملــه اللفــظ ويليــق بجلل
الله تعالى( اهـ.
ثم أخذ المام الغزالي رحمه الله يزيــل كــل تــوهم
في هــذه القضــية ببيــانه المحكــم وعبــارته الفصــيحة،
فليراجع فهو غاية في الهمية.
وبهذا يعلم أن من قال بظواهر هذه النصــوص قــد
خالف السلف والخلف ،وأتــى بقــول مبتــدع ليــس لــه
نصــيب مــن الحــق ،إذ ليــس فــي هــذه المســألة إل
التفويض أو التأويل ،كما يعلم أيضـا ً بأن التأويل ليــس
بدعــة فــي الــدين كمــا يروجــه البعــض -جهل ً -علــى
العامة ،بل هــو مــذهب حــق ثــابت عــن ســلف المــة،
وجارٍ على سنن لغة العرب.
120
فلماذا كل هذا التهويل في أمر ل يستلزم ذلــك ،ل
سيما والحق فيه مـع الشاعـرة والماتريدية؟!
تولماذا كل هذا الصرار على تفريــق المــة والف ـ ّ
ضد ِ شوكِتها؟! وكأن المة ل يكفيها مــا
خ ْ
في عضدها و َ
ن تحت وطأته من مصائب وإحن؟!! تئ ّ
*****
الخلف في العقيدة
121
وكــان الجــدر بهــم -وحــال المــة مــن التفكــك
والتشرذم يدمى له قلب كل غيور -أن ُيحمل الخلف
إذا وجــد علــى محامــل حســنة تتفــق مــع صــدر ديننــا
الرحب ،وُيلتمس العذر قدر المستطاع كــي ل يزيــدوا
في فرقة المة وتشتتها ،ويعينوا عليها أعداءها ،كالتي
نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
ولبيان قضية الخلف في العقيدة نقول:
إن العقيدة تنقسم إلى أصول وفروع ،والصول
تنقسم كذلك إلى أصول الدين وأصول مذهب أهل
السنة والجماعة ،أما أصول الدين ،مثل :وجود الله
تعالى ووحدانيته وبقاؤه وقدمه ،وحدوث العالم ،وهو
كل ما سوى الله تعالى من الموجودات ،وصدق
الرسل والنبياء ،ونحو ذلك من القضايا ،فحكم
المخالف فيها الخروج من الملة بل خلف لكونها
أعمدة الدين وأسسه التي ينبني عليها ،ومثال
المخالفين فيها أصحاب الديانات والنحل الخرى
كاليهودية والنصرانية والمجوسية والبوذية..إلخ
نقل المام النووي -رحمه الله تعالى -عن المــام
المتولي قوله )روضة الطالبين :(64 / 10
)من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع أو نفى ما
هو ثابت للقديم بالجماع ،ككونه عالما ً قادرًا ،أو أثبت
مــا هــو منفــي عنــه بالجمــاع ،كــاللوان ،أو أثبــت لــه
التصال والنفصال ،كان كافرًا ،وكذا مــن جحــد جــواز
122
بعثة الرسل ،أو أنكر نبوة نبي من النبياء صلوات الله
وســلمه عليهــم ،أو كــذبه ،أو جحــد آيــة مــن القــرآن
مجمعا ً عليهــا ،أو زاد فــي القــرآن كلمــة واعتقــد أنهــا
ب نبي ـا ً أو اســتخف بــه ،أو اســتحل محرم ـا ً
منه ،أو س ّ
بالجمــاع ،كــالخمر والزنــى واللــواط ،أو حــرم حلل ً
بالجماع ،أو نفى وجوب مجمـع علــى وجــوبه ،كركعـة
مــن الصــلوات الخمــس ،أو اعتقــد وجــوب مــا ليــس
بـواجب بالجمـاع ،كصـلة سادسـة وصـوم شـوال ،أو
نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة ،أو ادعــى
دعيا ً لهـا ،أو عظــم صــنما ً
النبوة بعد نبينا ‘ ،أو صدق م ّ
بالسجود له ،أو تقرب إليــه بالذبــح باســمه فكــل هــذا
كفر( اهـ.
وهنا قضية هامة وخطـرة لبــد مـن التعريـج عليهــا
قبــل النتقــال إلــى الخلف فــي أصــول أهــل الســنة
والجماعــة بشــيء مــن البســط حســب مــا يقتضــيه
المقــام ،وهــي قــول المــام المتــولي )أو أثبــت لــه
التصال أو النفصال( فجعل إثبات التصال والنفصال
للــه تعــالى مــن المــور المكفــرة ووافقــه علــى ذلــك
المام النووي ،وسيأتي معنا أقوال العلماء الــتي تنــزه
الله تعالى عــن التصــال والنفصــال والمكــان والحيــز
والجهة وكل ما ل يليق به من صفات المخلوقين.
والتصال والنفصــال هــو الــدخول والخــروج الــذي
ينزه أهل السنة الله تعالى عن التصاف بأحدهما.
123
هذه القضية من الهمية والخطورة بمكــان ،ولــول
عدم الفهم لهـا فهمـا ً صـحيحا ً مـن قبـل هـؤلء الـذين
ينكرون على الشاعرة لجلها ما أدرجناها هنا لــدقتها،
بيد أننا سنحاول أن ل ندخل فــي تفاصــيلها وســنكتفي
بالبيان الجمالي وبنقل أقــوال العلمــاء المحــذرة مــن
وصــف اللــه تعــالى بــأي شــيء مــن ذلــك ،ومــن أراد
الستزادة والتفصيل فليراجع المسألة في مظانها من
كتب العقائد.
كثيرا ما نقرأ أو نسمع من البعض التصريح بوصف
الله تعالى بأنه )بائن من خلقه بذاته!!( وهــذا القــول
هــو مــا حــذر العلمــاء منــه ،لن البينونــة بالــذات هــي
النفصال الذي حكم العلماء بحرمة وصف الله تعــالى
به كما مر من قول المتولي وإقــرار النــووي رحمهمــا
الله ،وكما سيأتي مــن نصــوص غيرهمــا مــن العلمــاء،
فهذا القول -وهو قولهم بائن بذاته – فضل عن كــونه
قول ً ممتنعا ً عقل ً فهو أيضـا ً قــو ٌ
ل مبتــدع لــم يــرد فــي
كتاب ول ســنة ول علــى لســان أحــد مــن الصــحابة أو
التابعين.
وإليك أقوال العلماء في إنكار لفظة )بذاته(:
قسسال الحسسافظ السسذهبي أثنسساء ترجمسسة ابسسن
الزاغوني )سير أعلم النبلء :(19/607
)قــد ذكرنــا أن لفظــة بــذاته ل حاجــة إليهــا ،وهــي
تشغب النفوس ،وتركها أولى ،والله أعـلــم( اهـ.
124
وقال الحسسافظ ابسسن حجسسر العسسسقلني عنــد
شرحه لحــديث "إن أحــدكم إذا قــام فــي صــلته فــإنه
يناجي ربـه أو إن ربـه بينـه وبيـن القبلـة "...الحـديث،
قال):وفيه -أي الحديث -الرد على من زعم أنه على
العرش بذاته( اهـ.
وقال الحافظ الذهبي فسسي كتسساب
)العلــو /ص
(263بعد أن نقل قول يحيى بن عمار) :بل نقول هــو
بذاته على العــرش وعلمــه محيــط بكــل شــيء( قــال
الذهبي )قولك "بذاته"من كيسك( اهـ.
وقال أيضسا ً فــي ترجمــة الحــافظ أبــي القاســم
إسماعيل بن محمد التيمي )سير أعلم النبلء :(20/86
)قلت :الصواب الكف عن إطلق ذلــك،إذ لـم يـأت
فيه نص ،ولو فرضنا أن المعنى صــحيح فليــس لنــا أن
نتفوه بشـيء لــم يـأذن بـه اللـه خوفـا ً مـن أن يـدخل
القلب شيء من البدعة .اللهــم احفــظ علينــا إيماننــا(
اهـ.
وافتراض الذهبي لصحة المعنى محمــول علــى مــا
ذكره صاحب الترجمة من المعــاني الصــحيحة للفظــة
)بــذاته( ل علــى المعنــى الظــاهر المتبــادرإلى الــذهن
منها.
وقال المام بدر الدين بن جماعة رحمه الله
تعالى في كتابه )إيضاح الدليل ص:(107/
125
)فمن جعل الستواء في حقه تعالى ما يفهــم مــن
صــفات المحــدثين وقــال :استـــوى بــذاته ،أو قــال:
استوى حقيقة فقد ابتدع بهذه الزيادة الــتي لــم تثبــت
في السنة ول عن أحد من الئمة المقتدى بهم( اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في )العلو /ص :(256
)وقد نقموا عليه ـ يعني ابن أبي زيــد القيروانــي ـ ـ
في قوله بذاته .فليته تركها( اهـ.
هذا مع اليقين بأن المام ابن أبــي زيــد القيروانــي
حت عنه) - (1المعنى الذي لم ي ُرِد ْ بهذه اللفظة -إذا ص ّ
ي من أقوال يريده البعض من ذكرها ،كما هو بّين وجل ّ
شراح رسالته ،وهو أشعري محب للمام أبي الحســن
حّبه ،قال) :مــا كما هو واضح من جوابه لمن لمه في ُ
الشعري إل رجل مشهور بالرد ّ على أهل البدع وعلى
القدرية والجهمية متمســك بالســنن( اهـــ ،وقــد ذكــره
التــاج الســبكي ضــمن الطبقــة الثانيــة مــن الشــاعرة
" الذين فات الحافظ ابن عساكر ذكرهم في كتابه
التــبيين " )تــبيين كــذب المفــتري ص ،123/طبقــات الشــافعية
الكبرى .(372 ،368 /3
)الســـتذكار وقال المام ابن عبدالبر رحمه الله
126
:(153/ 8
)وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة :إنه -تعالى -
ينزل بذاته! وهذا قول مهجور ،لنه تعالى ذ ِك ْـُره ليــس
بمحـــل للحركـــات ول فيـــه شـــيء مـــن علمـــات
المخلوقات (.اهـ.
)الســير وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى
،20/331في ترجمة كوتاه(:
)وكذا قوله) وجاء ربك ( ونحــوه ،فنقــول :جــاء،
وينزل ،وننهى عن القول :ينــزل بــذاته ،كمــا ل نقــول:
ينزل بعلمــه ،بــل نســكت ول نتفاصــح علــى الرســول
صلى الله عليه وسلم بعبارات مبتدعــة ،واللــه أعلــم(
اهـ.
وبهذا يتضح أن لفظة بــذاته غيــر ثابتــة عــن ســلف
المة الطيب ويأباها العقل والنقــل .فــأي حجــة أقــوى
من هــذه الحجــة ونصــوص الئمــة ل تحتمــل معهــا أي
معنى آخر ،ونحن إذ نثبت هذا ل نحتــم علــى مخالفينــا
فــوا عــن اتبــاع مــا نقــول ،ك ّ
ل ،وإنمــا حســبنا أن يك ّ
إساءتهم لعلماء المــة وأئمــة الهــدى الــذين ل يفتــأون
ُيجّرحـــونهم ويقعـــون فـــي أعراضـــهم!! قــــال أبــــو
الحسيـن ابن المنـادي -رحمـه الله -كمــا نقلــه ابــن
الجـوزي مـن خ ّ
طه )دفع شبه التشبيه :(192
)ولسنا نختلف أن الجبار ل يعلوه شيء مــن خلقــه
بحال ،وأنه ل يح ـ ّ
ل بالشــياء بنفســه ،ول يــزول عنهــا،
127
لنه لو حل بها لكان منها ،ولو زال عنها لنــأى عنهــا(..
اهـ.
ل بالشسسياء وقــول ابــن المنــادي )وأنسسه ل يح س ّ
بنفسه ول يزول عنها( هو عين ما يعنيــه العلمــاء
بقولهم :إن الله تعالى ل يوصف بالتصــال والنفصــال
والدخول والخروج.
وابن المنـادي هو المام أحمد بــن جعفــر المقــرئ
الحافظ كما وصفه الذهبي)السير (361 / 15قال) :قال
ي :مقــرئ جليــل غايــة فــي التقــان ،فصــيح
عنه الــدان ّ
اللسان ،عالم بالثار ،نهاية في علم العربيــة ،صــاحب
سنة ثقة مأمون (.اهـ.
)المقدمــة قال العلمة ابن خلدون رحمه الله تعــالى
ص:(868/
)يقــع كــثيرا ً فــي كلم أهــل العقــائد مــن علمــاء
الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته ،ويقــع
للمتكلمين أنه ل مباين ول متصل ،ويقع للفلسفة أنــه
ن تفصــيل هــذه ل داخــل العــالم ول خــارجه ...فلنــبي ْ
ل واحــد منهــا حــتى تتضــح ح حقيقة ك ـ ّالمذاهب ونشر ْ
معانيها ،فنقول :إن المباينة تقــال لمعنييــن أحسدهما:
المباينة في الحيز والجهة ،ويقابلهــا ]أي المباينــة بهــذا
المعنــى[ التصــال ،وُتشـِعر هــذه المقابلــة علــى هــذه
ما صريحا ً وهو تجسيم ،أو لزومـا ً وهــو التقيد َ بالمكان إ ّ
تشبيه من قبيل القــول بالجهــة ،وقــد نقــل مثلــه عــن
128
بعــض علمــاء الســلف مــن التصــريح بهــذه المباينــة،
فيحتمــل غيــر هــذا المعنــى ،ومــن أجــل ذلــك أنكــر
المتكلمون هذه المباينة ،وقــالوا :ل يقــال فــي البــارئ
ن مخلوقاَته ول متصل بها ،لن ذلك إنما يكون أنه مباي ٌ
ل ل يخلــو عــن للمتحيــزات ،ومــا يقــال مــن أن المح ـ ّ
ده ]أي نقيضــه[ فهــو مشــروط التصاف بالمعنى وض ـ ّ
مــا مــع امتنــاعه فل ،بــل يجــوز بصحة التصاف أو ً
ل ،وأ ّ
ده كما يقال في الجماد ل عــالم الخلوّ عن المعنى وض ّ
مي ،وصــحة ول جاهل ول قادر ول عاجز ول كاتب ول أ ّ
التصــاف بهـــذه المباينـــة ]أي المباينــة فــي الحيــز
والجهة[ مشروط بالحصول في الجهة ،على مــا تقــرر
مــن مــدلولها ،والبــارئ منــزه عــن ذلــك ،ذكــره ابــن
التلمساني في شرح اللمع لمــام الحرميــن ،وقــال" :
ول يقال في البـارئ مبــاين للعـالم ول متصــل بـه ،ول
داخل فيه ول خارج عنه....." .
وأمــا المعنسسى الخسسر للمباينــة فهــو المغــايرة
والمخالفة ،فيقال :البارئ مباين لمخلوقــاته فــي ذاتــه
وهــويته ووجــوده وصـفاته ،ويقـابله التحـاد والمـتزاج
والختلط ،وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق
كلهم مسسن جمهسسور السسسلف وعلمسساء الشسسرائع
والمتكلميسسن والمتصسسوفة القسسدمين كأهسسسل
الرسالسة ]أي من جاء ذكرهم في رسالة القشــيري[
ومن نحا منحاهم( اهـ.
129
)دفــع شــبه وقال ابن الجوزي -رحمــه اللــه تعــالى -
التشبيه ص :(130
)فــإن التجــاور والتبــاين مــن لــوازم المتحيــز فــي
المتحيزات ،وقد ثبت أن الجتماع والفتراق من لوازم
المتحيز ،والحق سبحانه وتعــالى ل يوصــف بــالتحيز...
وكذا ينبغي أن يقال :ليس بداخل العالم وليس بخارج
منه ،لن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما
كالحركــة والســكون وســائر العــراض الــتي تختــص
بالجرام ....وكلم هؤلء كله مبني علـى الحــس ،وقـد
حملهم الحس على التشبيه والتخليط( اهـ.
130
السكندري المالكي في كتــابه" المنتقــى فــي شــرف
المصطفى "لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال:
)ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى فــي قــوله " ل
تفضلوني على يــونس بــن مــتى " فقــال مالــك :إنمــا
خص يونس للتنبيه على التنزيه لنه ،رفع إلى العــرش
ويــونس عليــه الســلم هبــط إلــى قــاموس البحــر
ونسبتهما مع ذلــك مــن حيــث الجهــة إلــى الحــق جــل
جلله نسـبة واحـدة ولـو كـان الفضـل بالمكـان لكـان
ماعليه السلم أقرب من يونس بن متى وأفـضـل ،ول َ َ
نهى عن ذلك( اهـ.
ثم أخذ المام ناصر الدين يبين أن الفضل بالمكانة
ل بالمكان لن العرش في الرفيق العلى فهو أفضــل
من السفلى) .إتحاف السادة المتقين .(105 /2
131
عند أهل الفهم من أهل السنة ،لن هــذا كيفيــة ،وهــم
يفزعون منها لنها ل تصلح إل فيما يحاط به عيانا ً وقد
جل الله وتعالى عن ذلك(.
132
ومتكلمهــم ونظــارهم ومقلــدهم أن الظــواهر الــواردة
بذكر الله تعالى في السمـاء كقــوله تعــالى) ءََأمنتم
مسسن فسسي السسسماء أن يخسسسف بكسسم الرض (
ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولــة عنــد جميعهــم(
اهـ.
133
كما أنه ليس منحصرا ً في جهــة الكعبــة ،بــل ذلــك لن
السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصّلين ،أو
هي من عبدة الوثـان التي بين أيــديهم ،فلمــا قـــالت:
علم أنها موحـدة وليست عابـدة للوثان( في السمـاء ُ
اهـ.
134
الموجــودات ،لئل يفضـي بـه إلـى النفـي والتعطيــل،
وهو نحو قولـه ‘ للجاريــة " أيــن اللــه " قــالت " :فــي
السماء " ،فحكم بإيمانها مخافة أن تقع فـي التعطيـل
ما ينبغي له من تنزيهـه ممــا يقتضـــي لقصور فهمها ع ّ
وا كبيرًا( اهـ. التشبيـه تعـالى الله عن ذلك عل ّ
وقال أيضا ً ناقل ً قــول ابــن بطــال مؤيــدا ً لــه )الفتــح
:(13/397
)والله منزه عن الحلول في المواضع ،لن الحلول
عرض يفنى ،وهو حادث ،والحادث ل يليق بالله (.اهـ.
وقال في شرحه لحديث النزول )الفتح :(37 / 3
و،
)استدل به من أثبت الجهة وقال :هي جهــة العلـ ّ
وأنكــر ذلــك الجمهــور ،لن القــول بــذلك يفضــي إلــى
التحيز تعالى الله عــن ذلــك .وقــد اختلــف فــي معنــى
النزول على أقوال:
فمنهم من حملسسه علسسى ظسساهره وحقيقتسسه
وهم المشبهة ،تعالى الله عن قولهم.
ومنهم من أنكر صحة الحاديث الــواردة فــي ذلــك
جملة ،وهم الخوارج والمعتزلة ،وهو مكابرة...
ومنهــم مــن أجــراه علــى مــا ورد مؤمن ـا ً بــه علــى
طريق الجمال منزها ً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه
وهم جمهور السلف ،ونقله البيهقي وغيره عن الئمــة
مــادين والوزاعــي والليــث
الربعــة والســفيانين والح ّ
135
وغيرهم.
ومنهم من أّوله على وجه يليق مستعمل فــي كلم
العرب ...ومنهم من فصل بين ما يكون تــأويله قريبــا ً
مســتعمل ً فــي كلم العــرب وبيــن مــا يكــون بعيــدا ً
وض فــي بعــض ،وهــو مهجــورًا ،فــأّول فــي بعــض وف ـ ّ
منقول عن مالك وجزم به من المتــأخرين ابــن دقيــق
العيد(’اهـ.
136
الجهات للجــواهر والجســام لنهــا أجــرام تحتــاج إلــى
جهة ،والجهة ليست في جهة ،وإذا ثبــت بطلن الجهــة
ثبت بطلن المكان ،ويوضحه أن المكــان يحيــط بمــن
فيه والخالق ل يحويه شيء ول تحدث له صفة( اهـ.
وقوله رحمه الله تعالى )والجهة ليست فــي جهــة(
قــل موجــود ليــس أراد أن يرد ّ فيه زعم الزاعم :ل ي َُتع ّ
صل ً بهذا إلى إثبــات الجهــة للــه تعــالى ،إذ في جهة .تو ّ
الجهة موجودة عند هذا الزاعم وهي ليست فــي جهــة
من نفسها ،إذ لو كانت كذلك لتسلسل المر إلى غيــر
نهاية ،وهذا باطل ،فثبت أن الجهــة موجــودة بل جهــة،
قل موجــود ليــس فــي جهــة وبه ينتقض زعمهم :ل ي َُتع ّ
من الجهات.
وقال القاضي أبو يعلى )دفع شبه التشبيه :(137
)إن الله عّز وج ّ
ل ل يوصف بالمكان( اهـ.
قال المام ابن الجوزي بعد نقله لقــول أبــي يعلــى
الفراء )دفع شبه التشبيه :(138
)فإن قيل :نفي الجهات يحيل وجوده .قلنسسا :إن
كان الموجود يقبل التصال والنفصــال فقــد صــدقت،
وه مــن طــرف النقيــض
ما إذا لم يقبلهما فليس خل ـ ّ
فأ ّ
بمحال.
فإن قيل :أنتم تلزموننا أن نقّر بما ل يدخل تحت
الفهم .قلنا :إن أردت بــالفهم التخيــل والتصــور فــإن
137
الخالق ل يدخل تحت ذلك ،إذ ليــس يحــس ول يــدخل
تحت ذلك إل جســم لــه لــون وقــدر ،فــإن الخيــال قــد
أنس بالمبصرات فهو ل يتوهم شيئا ً إل على وفــق مــا
رآه لن الوهم من نتائج الحس ،وإن أردت أنه ل يعلم
بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل ،لن العقـل مضـطر
إلى التصديق بموجب الدليل.
س ـا ً أو عرض ـا ً وعلمــت
ما لم تجد إل ح ّ واعلم أنك ل ّ
تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صــرفك عــن
ذلك ،فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيــزا ً أو متحركـا ً
أو منتق ً
ل.
مي قلنــا :ل
ما كان مثل هذا الكلم ل يفهمه العــا ّ
ول ّ
تسمعوه ما ل يفهمه ودعوا اعتقاده ل تحركوه ،ويقال
إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به( اهـ.
وهذا واضح في أن الصل في النصوص المتشابهة
التفويض ما لم تد ْع ُ حاجة إلى التأويــل ،وهــو مــا كــان
عليه جمهور السلف الصــالح كمــا ســيأتي مــن أقــوال
العلماء التي تفيد ذلك ،وأنهم ـ نعني السلف ـ لو ُوجد
في أزمانهم ما حدث بعد ذلك لجهروا بالتأويــل ،كيــف
وقد ثبت التأويل عن جماعات منهم؟!
138
الســادة المتقيــن ) :(108 / 2فــالرب موصـــوف بــالعلو
وفوقيـة الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكـان
وعن المحاذاة( اهـ.
139
* قول المام البيضاوي:
)فتــح وقال المام البيضاوي -رحمــه اللــه تعــالى -
الباري :(37 / 3
)ولمــا ثبــت بــالقواطع أنــه ســبحانه منــزه عــن
الجســمية والتحيــز امتنــع عليــه النــزول علــى معنــى
النتقال من موضع إلى موضــع أخفــض منــه ،فــالمراد
نور رحمته ،أي ينتقل من مقتضى صفة الجـــلل الــتي
تقتضي الغضب والنتقـام إلى مقتضـى صـفة الكــرام
التي تقتضي الرأفة والرحمة( اهـ.
140
واضحة قاطعة بتنزيه الله تعالى عــن المكــان والجهــة
والحيــز والتصــال والنفصــال والــدخول والخــروج،
وقاضــية علــى مــن أثبــت شــيئا ً مــن ذلــك للــه تعــالى
بالتشبيه.
ول يفهم مــن قــول أهــل الحــق :إن اللــه تعــالى ل
يوصف بأنه داخل العالم ول بأنه خــارج العــالم .بــأنهم
يصفونه تعالى بالعدم ،معاذ اللــه ،كل ،وإنمــا مرادهــم
أن إطلق هذا اللفــظ علــى اللــه تعــالى ل يجــوز وهــو
منزه عنه ،هذا مع إثباتهم أن الله تعالى ليس حال ّ في
العالم وليس شيء مـن العـالم حـال ّ فيـه تعــالى ،أمـا
الدخول والخــروج والتصــال والنفصــال فل يجــوز أن
يضاف شيء منها إلــى اللــه تعــالى لنهــا مــن صــفات
الجسام.
أما ما جاء في الكتاب والســنة مــن اللفــاظ الــتي
ظاهرها إثبات الجهة والمكان لله تعالى فهي ـ قطعــا ً
وباتفــاق علمــاء الســلف والخلــف ـــ مصــروفة عــن
ظاهرهــا وحقائقهــا كمــا م ـّر مــن أقــوال العلمــاء ،ول
خلف بين المسلمين في ذلك كما نقل المام النــووي
عن القاضي عياض قوله المار قريبًا.
وهذا الذي ذكرناه في هذه القضية الهامة إنما كان
موضعه -في الصل -كتب أهل الختصاص ومجالس
العلم الــتي ُيفهــم فيهــا مــدلولت اللفــاظ ،ولكــن مــا
الحيلة وقد أصــبح مثــل هـذا الكلم الخطـر والمسـلك
141
الوعر ندرة المجالس وحديث العامة فــي كــل مكــان،
فتجد مــن ل يعــرف نــواقض الوضــوء وأركــان الصــلة
وأحكــام العبــادات يرفــع عقيرتــه بــالكلم عــن أعظــم
قضــية فــي الســلم بل خــوف أو وجــل نعنــي بــذلك
صفات الله تعالى ،وما هذا إل بسبب ترديد مثــل هــذه
النصوص المتشابهة التي نهى العلماء عن التحدث بها
كما مّر من قول المام مالــك وكمــا قــال المــام ابــن
ك ومبين ـا ً لســبب نهي ِـهِ عــنقبا ً على قول مال ـ ٍ
رشد مع ّ
ذلك ،قال) :وإنما نهى مالك ...مخافة أن ُيتحدث بهــا،
فيكثر التحدث بها ،وتشيع في الناس فيسمعها الجهال
الذين ل يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنــونهم التشــبيه
بها( اهـ.
فاضطررنا إلى ذكره هنا تبيانا ً للحق ،وتنبيه ـا ً علــى
ما وقع بين الناس من فهم غير صحيح لهذه القضية.
عود على بدء ،قد بينا الخلف في أصول الــديانات
وحكم المخالف في شيء منها ،بقي أن نذكر الخلف
في أصــول أهــل الســنة والجماعــة ،وهــذه الصــول ل
يحكم على المخالف فيها بالتكفير بيد أن الخلف فيها
غير يسير بل جد خطير.
ومثــال هــذه الصــول ثبــوت عــذاب القــبرونعيمه
والصراط والميزان ،والكف عن صحابة رسول اللــه ‘
والترضي عليهم ،والقدر ،وعدم تكفير أهل المعاصــي
من الموحدين ،وغير ذلك من المسائل والقضايا الــتي
142
اتفقت عليها كلمة أهل السنة والجماعة من الصــحابة
والتابعين وتـابعيهم .وحكـم المخـالف فـي شـيء مـن
ذلك الفسق والضلل والخروج عن دائرة أهــل الســنة
والجماعــة ،ومــا كــان عليــه رســول اللــه ‘ وأصــحابه.
أعاذنا الله من الفتن.
أما الفروع العقدية وهي ما سوى هذين القســمين
مثل جزئيات العقيدة ونمثــل لهــا هنــا بمــا حــدث بيــن
الصحابة رضوان اللــه تعــالى عليهــم مـن اختلف فــي
رؤية النبي ‘ ربه ليلــة عــرج بــه إلــى الســماء ،فأثبتهــا
بعضـهم كـابن عبـاس ،ونفاهـا البعـض كـأم المـؤمنين
السيدة عائشة رضي اللــه عنهــم أجمعيــن ،وكتعــذيب
الميت ببكاء أهله عليه ،فأثبته بعضـهم ونفـاه آخـرون.
وغير ذلك من المسائل الجزئية الغيبيــة ،ويلحــق بهــذا
النوع من الختلف المشروع الذي حــدث بيــن ســلف
المــة الطيــب الختلف فــي تفــويض المتشــابهات
وتأويلها ،فقد نقل العلماء عــن الســلف أن جمهــورهم
كان على مذهب التفويض وعن جماعــات منهــم أنهــم
أخذوا بالتأويل من هؤلء ـ نعني الذين قالوا بالتأويل ــ
ســيدنا ابــن عبــاس رضــي اللــه عنهمــا وغيــره مــن
الصحابة وأكابر التابعين وتابعيهم.
وعلــى الجملــة فــإن الخلف فــي هــذا النــوع مــن
القضايا ل يترتب عليه شيء قطع ـًا ،إذ لــم ينقــل عــن
الصحابة أو السلف عموما ً أنهم ضــللوا بعضــهم بعضـا ً
143
بسبب شيء من ذلك خصوصا ً وأن اختلفهم في مثل
هذه القضايا مستفيض مشهور.
وما حدث بين طوائف أهل السنة من اختلف فــي
بعض المسائل ملحق بهذا النوع من الختلف ،نحو ما
حــدث بيــن الشــاعرة والماتريديــة ،فكلــه ل يســتلزم
تضليل ً ول تبديعًا.
144
عن التصريح لظهوره(’اهـ.
وقال العلمة مل علي القاري -رحمه الله تعالى -
)مرقاة المفاتيح :(206 /1
)وما وقع من الخلف بيــن والماتريديــة والشــعرية
في مسائل فهي ترجع إلى الفروع في الحقيقة ،فإنها
ظنيــات فلــم تكــن مــن العتقــادات المبنيــة علــى
خل ْـ َ
ف بينهمــا اليقينيات ،بل قال بعض المحققيــن إن ال ُ
في الكل لفظي( اهـ.
بهــذا يتــبين خطــأ الــذين يســارعون فــي تضــليل
مخالفيهم وتبديعهم معممين لحكامهم وغيــر مراعيــن
لنوع القضايا التي يقع فيها الخلف ،ل سيما المســائل
التي نقل عن الســلف الطيــب خلف فيهــا دون إنكــار
من بعضهم على بعض.
ويتـــبين أيضـــا ً مجازفـــة أولئك الـــذين يضـــللون
الشاعرة والماتريدية جهل ً ودون روية ،متجاهلين كــل
النصوص المنقولة عن علماء المة بــالتنويه بفضــلهم،
ومتجاهلين أيضا كون قضــية التفــويض والتأويــل الــتي
يضــللونهم بســببها منقولــة عــن الصــحابة والســلف
الطيب ،وأنها من نوع المسائل الــتي ل يــترتب عليهــا
ضلل أو بدعة.
145
*****
146
التفويض والتأويل
147
يكون معه حمــل الكلم علــى ظــاهره وحقيقتــه الــتي
يعهدها البشر ،أو يصرف الكلم معه عن هــذا الظــاهر
ل الكلم على الظاهر وهذه الحقيقة ،والول نعني حم َ
والحقيقــة يفضــي قطعــا ً إلــى التشــبيه ،لن حقــائق
وظواهرهذه اللفاظ أجسام وكيفيات مخلوقــة ،واللــه
تعالى منزه عنها.
ول يقــال :نحملهــا علــى الظــاهر ونفــوض العلــم
بالكيفية إلى الله تعالى.
لن هذا القول تناقض صريح أوقعت فيه الغفلة ،إذ
ليس من ظاهر ول حقيـــقة هنـــا إل الجســم ،وهــذا ل
يصح قطعا ً وصف الله تعالى به.
بقي القســم الخيــر الــذي هــو صــرف الكلم عــن
الحقيقة والظاهر ،ثم بعد صرفه عــن الظــاهر إمــا أن
م به إلى الله ف عن التماس معنى له ويوك َ
ل العل ُ ُيتوق َ
تعالى ،وهذا هو التفويض الذي عليه جمــاهير الســلف
س له معنى لئقٌ بــالله تعــالى حســبالصالح ،أو يلتم َ
مناحي الكلم عند العرب وما تسيغه لغتهم ،وهذا هــو
التأويل الذي عليه خلف المــة وجماعــات مــن ســلفها
الصالح.
بهــذين المــذهبين تنحصــر القســمة الصــحيحة فــي
هذه القضية.
صون عندما يعرض لهــم شــيء لهذا نرى العلماء ين ّ
من هذه المتشابهات على أنــه )إمسسا تفسسويض وإمسسا
148
تأويل( إذ ليس بعدهما إل التشبيه أو التعطيل.
قال المــام الب ّــي رحمــه اللــه تعــالى
)شــرح صــحيح
مسلم للبي (190 / 7أثناء شرحه لحــديث " إن الله
يمسك السموات على أصبع ":
)والحديث مــن أحــاديث الصــفات فيصــرف الكلم
عــن ظــاهره المحــال المــوهم للجارحــة ،ويكــون فيــه
المــذهبان المتقــدمان ،إمــا المســاك عــن التأويــل
واليمان به على مــا يليــق ،ويصــرف علمــه إلــى اللــه
تعالى ،أو يتأول( اهـ.
)إيضــاح وقال المام العلمة بدر الــدين بــن جماعــة
الدليل ص:(103/
)واتفق السلف وأهل التأويل علــى أن مــا ل يليــق
من ذلك بجلل الرب تعالى غير مراد ...واختلفوا فــي
تعيين ما يليق بجلله من المعاني المحتملة ...فسكت
السلف عنه ،وأوله المتأولون( اهـ.
وقال المام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى -فــي
حديث النزول )دفع شبه التشبيه :(194
149
وقــال المــام النــووي -رحمــه اللــه تعــالى -فــي
شرحه على صحيح مسلم ) (24 / 5أثناء الكلم علــى
حديث الجارية ،ما نصه:
)هذا الحديث من أحاديث الصفات ،وفيها مذهبان،
أحدهما ،اليمــان بــه مــن غيــر خــوض فــي معنــاه مــع
اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء ،وتنزيهــه عــن
سمات المخلوقات ،والثاني ،تأويله بما يليق(’اهـ.
وقـــال أيضـــا ً أثنـــاء الكلم علــى حــديث إمســاك
)(129 / 17 السماوات على أصبع والرضين على أصبع
ما نصه) :هذا من أحاديث الصــفات ،وقــد ســبق فيهــا
المذهبان ،التأويل والمساك عنه مع اليمان بهــا ومــع
اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد( اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر قول ابن دقيق العيد مؤيدا ً
له وموافقا ً عليه في حديث " ل شخص أغيسسر مسسن
اللسسه " )الفتــح ) :(411 / 13قــال ابــن دقيــق العيــد:
المنزهون لله إما ســاكت عــن التأويــل ،وإمــا مــؤول(
اهـ.
وعلى الجملة فإن أقوال العلماء في حصــر الحــق
في هذين المذهبين ل تحصى كـثرة ،وبمـا نقلنـاه مـن
نصوصهم مقنع.
150
*****
151
مذهب جمهور السلف التفويض
152
(93قال:
)كـل مـا وصـف اللـه تعـالى بـه نفسـه فـي كتـابه
فتفسيره تلوته والسكوت عليه( اهـ.
والنصوص في هذا المعنى عن السلف كثيرة جــد ّا ً
كلها يفيد إيمــانهم بهــا وإمرارهــا وعــدم الخــوض فــي
تفسير معناها.
ولقد نقـل الحـافظ ابن حجــر )الفتــح (48 / 6عــن
الحــافظ ابــن الجــوزي معنــى قــولهم :أمـروهـــا كمـــا
جاءت .قال:
)قال ابن الجوزي :أكثر السلف يمتنعون من تأويل
مثل هذا ـ يشير إلى حديث يضحك الله إلى رجليــن ـ ـ
ويمرونه كما جــاء ،وينبغــي أن يراعــى فــي مثــل هــذا
المرار اعتقاد أنه ل تشبه صفات الله صفات الخلــق،
ومعنى المرار عدم العلـم بـالمراد) (1منـه مـع اعتقـاد
التنزيه(’اهـ.
)(2
رحمـه اللـه تعـالى قال المام عدي بـن مسـافر
()1ســنبين بعــد قليــل معنــى عــدم العلــم بــالمراد ،إذ ليــس
المقصود أنهم ل يفهمون للكلم أي معنــى ،كل ،وإل لصــبح الكلم
مثل الحروف المقطعة في أوائل السور ،وهذا يجعل كلمه تعــالى
وكلم رسوله عليه الصلة والسلم بل فائدة ،وهو محال مــن اللــه
تعالى وأنبيائه عليهم الصلة والسلم.
()2هو أبو محمــد عــدي بــن مسافرالشــامي الهك ّــاري الشــيخ
المام الصــالح القــدوة زاهــد وقتــه ،ســاح ســنين كــثيرة ،وصــحب
المشايخ وجاهــد أنواع ـا ً مــن المجاهــدات ،ثــم ســكن بعــض جبــال
153
)اعتقاد أهل السنة والجماعة ص :(26 /
)وتقرير مذهب السلف كما جاء من غير تمثيل ول
تكييف ول تشبيه ول حمل على الظاهر( اهـ.
ونقل الحــافظ ابــن حجــر عــن المــام ابــن المنيــر
)الفتح (190 / 13قوله:
)لهــل الكلم فــي هــذه الصــفات كــالعين والــوجه
واليد ثلثة أقوال ...والثالث إمرارهــا علــى مــا جــاءت
مفوضـــا ً معناهـــا إلـــى اللـــه تعـــالى ،وقـــال الشـــيخ
السهروردي في كتاب العقيدة له :أخبر الله في كتابه
وثبت عــن رســوله الســتواء والنــزول والنفــس واليــد
والعين فل يتصــرف فيهــا بتشــبيه ول تعطيــل ،إذ لــول
إخبار الله ورســوله مــا تجاســر عقــل أن يحــوم حــول
ذلك الحمى .قال الطيبي :هـذا هـو المـذهب المعتمـد
وبه يقول السلف الصالح( اهـ.
)المجمــوع وقال المام النووي -رحمه الله تعــالى -
:(25 / 1
)اختلفوا في آيات الصــفات وأخبارهــا هــل يخــاض
فيها بالتأويل أم ل؟ فقال قائلون تتأول على مــا يليــق
بها ،وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين ،وقال آخرون :ل
تتأول بل يمسك عن الكلم في معناها ويوكــل علمهــا
ه تلــك المواضــع
الموصل في موضع ليس فيه أنيس ،ثم آنــس الل ـ ُ
به ،وعمرها ببركاته .توفي رحمه الله تعالى ســنة ســبع وخمســين
وخمسمائة).السير ،20/342وفيات العيان .(3/254
154
إلــى اللــه تعــالى ويعتقــد مــع ذلــك تنزيــه اللــه تعــالى
ل :نــؤمن بــأنوانتفاء صفات الحوادث عنه ،فيقــال مث ً
الرحمن على العرش استوى ،ول نعلم حقيقــة معنــى
ذلك والمراد بــه ،مــع أنــا نعتقــد أن اللــه تعــالى ليــس
كمثله شيء ،وأنه منزه عن الحلول وسمات الحدوث،
وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم وهي أسلم( اهـ.
قال المام الجلل السيوطي -رحمه الله تعــالى -
)التقان في علوم القرآن :(10 / 2
)مــن المتشــابه آيــات الصــفات ...وجمهــور أهــل
الســنة منهــم الســلف وأهــل الحــديث علــى اليمــان
وتفــويض معناهــا المــراد منهــا إلــى اللــه تعــالى ،ول
نفسرها مع تنزيهنا له -تعالى -عن حقيقتهسسا(
اهـ.
هذه نصوص صريحة في إثبــات التفــويض للســلف
الصالح ل ســبيل إلــى إنكارهــا أو حملهــا علــى معــاني
أخــرى ل تتفــق وجللــة أقــدارهم وتنزيههــم للبــاري
سبحانه ،كمــن ينســب لهــم إثبــات الحقــائق الظــاهرة
المتعــارف عليهــا بيــن البشــر وتفــويض كيفياتهــا للــه
تعـــالى ،فيقـــول إنهـــم يثبتـــون المعنـــى الحقيقـــي
ويفوضـون الكيف ،وقائل هذا ل يدري ما يقــول ،وقــد
جره إلى هذا الفهم عبـارة )بل كيــف( الــتي كــثيرا ً مــا
ترد علــى ألســنة الســلف عنــد الكلم علــى النصــوص
المتشابهة ،ففهم منها أنهم يثبتــون المعنــى الحقيقــي
155
ويفوضون الكيف ،وهــذا فهــم باطــل ،بــل هــي عبــارةٌ
صــي ،ل المقصود ُ منها زجُر السائل عــن البحــث والتق ّ
إثبات المعنى الحقيقي وتفويض الكيف!!
ل فــي حقيقتــه علــى شــيء مــن فإن أي لفــظ يــد ّ
جهِــل معنــاه كــان
الجســمانيات والكيفيــات مــتى مــا ُ
السؤال عن المراد منـه بكلمـة )كيـف( ،وفـي حـديث
فضل عيادة المريض الذي أخرجه مسلم ما يدل على
هذا ،وذلك حين يقول الله تعالى لعبده )مرضــت فلــم
تعدني ..استطعمتك فلم تطعمنــي ..استســقيتك فلــم
تسقني (..كل ذلك والعبــد يقــول) :رب كيــف أعــودك
وأنت رب العالمين؟! ..رب كيــف أطعمــك وأنــت رب
العالمين؟! ..رب كيف أسقيك وأنت رب العــالمين؟!(
فهــو لــم يفهــم المعنــى المــراد مــن اللفــظ بعــد أن
استحالت حقيقته في عقلــه ،فســأل بــ )كيــف؟( عــن
المعنـــى المـــراد ،ل أنـــه أثبـــت حقيقـــة المـــرض
والســتطعام والستســقاء للــه تعــالى لكنــه لــم يعلــم
كيفياتها!!
فعندما يقال في جــواب الســائل )بل كيــف( يفهــم
منه أنه )بل معنى( لن لفظ الـ )كيــف( هنــا مســتفهم
به عن المعنى ،وبنفيه ينتـفي المعنى المســتفهم عنــه
بــه ،فهــو مــن قبيــل نفــي الملــزوم عــن طريــق نفــي
ي
اللزم ،فــالكيف لزم للمعنــى الظــاهر ،وبنفيــه نفــ ٌ
للمعنى الظاهر ،وذلك كمن يقول لــك :إن هــذا العــدد
156
ليس بزوج .فتفهم منه أنــه ليــس اثنيــن ول أربعــة ول
ستة ...الخ لن الزوجية لزم غير قابــل للنفكــاك عـن
الثنين والربعة والستة ..الخ.
مــن هنــا يتــبين مــراد الســلف بقــولهم )بل كيــف(،
ومنــه تعلــم أن مــن ينســب للســلف إثبــات المعــاني
الحقيقية لهذه اللفاظ والتفويض في كيفياتهــا ينســب
لهم التشبيه من حيث ل يدري.
157
مثـــال علـــى هـــذا قـــوله تعـــالى) بسسسل يسسسداه
مبسوطتان ( يفهم منه على سبيل الجمــال معنــى
الكرم والجود المطلق والعطاء الذي ل ينقطــع اللئق
بصـفة الـرب تعـالى ،أمــا لفــظ اليـدين المضـاف للـه
تعالى في الية فبعد استبعاد المعنى الظاهر المتبــادر
من إطلقه وهـو الحقيقـة اللغويـة الـتي وضـع اللفـظ
ل عليها بين المخلوقين وهي الجارحــة ،نقــول بعــد ليد ّ
ن
اســتبعاد هــذه الحقيقــة احتمــل اللفــظ عــدة معــا ٍ
مجازية ،ولهذا الحتمــال توقــف جمهــور الســلف عــن
التعيين والقطع بأحدها ،وهذ هــو معنــى عــدم علمهــم
بالمراد ل أنهم ل يفهمــون لهــذه النصــوص أي معنــى،
تعالى الله أن يخاطب الناس بما ل ُيفهم.
هذا هو اللئق بمقامــات الســلف فــي العلــم ،إذ ل
يعقل أنهم كانوا يسمعون مثل ً قول الله تعالـــى ) يسسد
الله فوق أيديهم ( أو ) بل يسسداه مبسسسوطتان
ينفق كيف يشاء ( أو ) الرحمن على العسسرش
اسسستوى ( أو ) ثسسم اسستوى إلسى السسسماء ( أو
) يوم يكشف عن ساق ( ،أو قــول رســول اللــه ‘
)يضحك ربنا( أو )ينسسزل ربنسسا( أو )يعجسسب ربنسسا(
الخ ،ثم ل يفهمون مــن كــل ذلــك أي معنــى ،كمــا هــو
الحال مع الحروف التي في فواتــح الســور ،كل ،فــإن
ة
ة معروف ٌ ن مجازي ٌهذه اللفاظ لها في لغة العرب معا ٍ
ل ،ولكنهــمومشهورة ٌ ل شك أن السلف فهموها إجمــا ً
158
لفــرط تقــواهم وخشــيتهم للــه تعــالى وتهيبهــم لــذلك
المقام القدس ثم لعدم الضطرار إلى التعييــن لحــد
المعاني لخلو عصرهم من المبطليــن الــذين يحملــون
كلم الله تعالى وكلم رسوله ‘ على وجــوه فاســدة ل
تحتملها لغة العــرب وتتنــافى مــع التقــديس والتنزيــه،
لهذا ولذاك أحجمـوا عـن التعييــن والتصـريح ،واكتفــوا
بهذا الفهم الجمالي لهــا ،وصــرح بهــا الخلــف بعــدهم
لطروّ ما اقتضى ذلك وحّتمه عليهم.
)فرقــان قـال الشيـخ العلمـة العزامـي القضـــاعي
القرآن مطبوع في ذيل السماء والصفات للبيهقي ص :(104 /
)وقال تعالى ) :الله نور السسسموات والرض (
هل فهم أحد من السلف أنه هــو ذلــك النــور الفــائض
على الحيطان والجدران المنتشر في الجو؟ جل مقام
العلماء بالله وكتابه أن يفهمــوا هــذا المعنــى الظـــاهر
العامي .قــال حــبر المــة ابــن عبــاس فيمــا رواه عنــه
الطــبري بالســند الصــحيح :اللــه ســبحانه هــادي أهــل
السموات والرض .وروى نحوه عـن أنـس بـن مالـك.
م
وروى عــن مجاهــد أن معنــاه المــدبر .ورجــح المــا ُ
ل وزيــف مــا عــداه … تعــالى اللــه عــن صــفات الوّ َ
الجسام وسمات الحــدوث .وهكذا لسسو اسسستقريت
أقسسوال السسسلف مسسن مظانهسسا لرأيسست الكسسثير
الطيب من بيان المعاني اللئقة بسسالله تعسسالى
على سبيل التعيين ،فمن نقل عسسدم التعييسسن
159
مطلقا ً عن السلف فما دقق البحث ول اتسسع
اطلعه( اهـ.
160
ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا ً
عظيمسسا ( يفهمــون أن اليــد هنـــا يــد ليســت كيــد
المخلوقات – يعنــي يــدا حقيقيــة كمــا يقــول أصــحاب
الظاهر ولكنها ليست كيــد المخلوقــات – ول يفهمــون
أن المراد سلطان الله تعالى وقدرته ،بــدليل مــا فيهــا
من تهديد لمــن ينكــث بــأن مغبــة النكــث تعــود عليــه.
ولــذلك نحــن نرجــح منهــاج الماتريــدي ومنهــاج ابــن
الجوزي ومنهاج الغزالي ،ونرى أن الصحابة كسسانوا
يفسرون بالمجسساز إن تعسسذر إطلق الحقيقسسة،
كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها( اهـ.
يؤيد هذا ما نقل عن جماعات منهـم مـن التصـريح
بذكر هذه المعاني المجازيــة مثــل ســيدنا ابــن عبــاس
وابن مسعود وعلي رضي الله عنهم والحسن البصري
ومالك والوزاعي وقتــادة والثــوري ومجاهــد وعكرمــة
رحمهــم اللــه وغيرهــم ممــن تزخــر بنصوصــهم كتــب
التفسير والحديث وغيرها.
وســيأتي معنــا بــاب خــاص فــي تــأويلت الســلف
الصالح رضوان الله تعالى عليهم.
*****
161
التأويل مذهب سلفى وعربى أصيل
162
والثالثة :أنها مؤولة وأولوها على ما يليق به.
والول باطسسل -يعنسسي مسسذهب المشسسبهة -
والخيران منقولن عن الصحابة( اهس.
فأثبت رحمه الله تعالى مذهب التأويل للصحابة.
وقــال المــام النــووي -رحمــه اللــه -فــي ســياق
شرحه لحديث من أحـاديث الصـفات )شــرح مســلم / 6
:(36
)هذا حـديث مـن أحـاديث الصـفات وفيـه مـذهبان
مشهوران للعلماء ...أحــدهما وهــو مــذهب الســلف...
والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات مسسن
السلف وهو محكي عن مالك والوزاعي أنهسسا
تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها( اهـ.
ومالك والوزاعي من كبار علماء الســلف الصــالح
رضوان الله تعالى عليهم .وقد مــر معنــا تأويــل مالــك
لنزول الرب وتعليق ابن عبد البر على ذلك.
)(1
والــد إمــام وقــال المــام أبــو محمــد الجــويني
()1هو عبدالله بن يوسف والــد إمــام الحرميــن ،أوحــد زمــانه
علما ً ودينا ً وزهدا ً قال فيه شيخ السلم أبو عثمان الصابوني رحمه
الله تعالى :لو كان الشيخ أبو محمد في بنــي إسـرائيل لُنقـل إلينـا
شمائله ولفتخروا به .اهـ توفي رحمه الله تعالى سنة 438هـ .لــه
مـــن المصـــنفات " الفـــروق " و" السلســـلة " و" التـــذكرة " و"
التبصرة" وغيرها ،أما رسالة الستواء التي يحاول البعض ترويجهــا
وإلصاقها به فمنسوبة له زورًا ،إذ إن آخر كتاب صّنفه هو الرســالة
التي سماها " عقيدة أصحاب المام المطلبي الشافعي رحمه الله
163
)إتحــاف الســادة المتقيــن / 2 الحرمين رحمهما الله تعالى
:(110
)أما ما ورد من ظاهر الكتــاب والســنة ممــا يــوهم
بظاهره تشبيها ً فللسلف فيه طريقان ،العـــراض
عن الخـوض فيها وتفويض علمهــا إلــى اللــه تعــالى...
وكافة أهل السنة والجماعة " وأثنى فيها على المام أبـي الحسـن
الشعري ثناء طيبًا ،كما في تبيين كذب المفــتري ص ،115/وقبلــه
طه راضيا ً مؤيدا ً ضمن خطوط جمع من أكابر ص 113 /إعطاؤه خ ّ
الئمة مثل المام شيخ السلم أبــي عثمــان الصــابوني وابنــه أبــي
نصر وغيرهم على مكتوب بخط المام أبي القاسم القشيري وفيه
)اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الشعري
رضي اللــه عنــه كــان إمامـا ً مــن أئمــة أصــحاب الحــديث ومــذهبه
مذهب أصحاب الحديث ،تكّلم فــي أصــول الــديانات علــى طريقــة
أهل السنة ...ومن طعن فيه أو قــدح أو لعنــه أو سـّبه فقــد بســط
لسان السوء في جميع أهل السنة( وذلــك ســنة 436هـــ ،وتع ـّرف
علــى الخــط المــذكور الحــافظ ابــن عســاكر .وانظــره أيض ـا ً فــي
الطبقات الكبرى للتاج السبكي .3/374
ده الحــافظ ابــن عســاكر ضــمن الطبقــة الثالثــة مــن أتبــاعوع ّ
المــام الشــعري )انظــر التــبيين ص (257/وكــذلك فعــل التــاج
الســبكي فــي الطبقــات الكــبرى ،3/370كمــا أن هــذه الرســالة
المزعومة لم يذكرها أحد ممن ترجم له على كثرتهم .ولو افترضنا
ثبوت نسبتها له رحمه الله لرد ّ عليـه العلمـاء مـن معاصـريه ومـن
ل من ذلك ،كما فعــل الحــافظ الــبيهقي بعدهم ،فقد رّدوا عليه بأق ّ
في الرسالة التي أرسلها إليه إثر شروعه في الكتاب الذي ســماه
ص الرسالة موجود في طبقات التاج السبكي .5/77 المحيط ،ون ّ
وهذا النص الــذي نقلــه عنــه الزبيــدي هــو مــن رســالة )كفايــة
المعتقد( لبي محمد رحمه الله تعالى.
164
وإليهــا ذهــب كــثير مــن الســلف ...والطريقــة الثانيــة:
الكلم فيهــا وفــي تفســيرها بــأن يردهــا عــن صــفات
الذات إلى صفات الفعل ،فيحمل النــزول علــى قــرب
الرحمــة واليــد علــى النعمــة والســتواء علــى القهــر
والقدرة ،وقد قال ‘ " كلتا يديه يمين " ومن تأمل هذا
اللفظ انتفى عن قلبه ريبة التشبيه ،وقد قال تعــالى )
الرحمسسن علسسى العسسرش اسسستوى (وقسسال ) مسسا
يكسسون مسسن نجسسوى ثلثسسة إل هسسو رابعهسسم ول
خمسسسة إل هسسو سادسسسهم ( فكيــف يكــون علــى
العــرش ســاعة كــونه سادســهم إل أن ي ُــرد ّ ذلــك إلــى
معنـــى الدراك والحاطـــة ل إلـــى معنـــى المكـــان
والستقرار والجهة والتحديد( اهـ.
وقــال العلمــة الشــوكاني -رحمــه اللــه تعــالى -
)إرشاد الفحول :(176
)الفصل الثاني :فيما يدخله التأويل ،وهو قســمان،
أحدهما ،أغلب الفروع ،ول خلف فــي ذلــك .والثــاني،
الصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عــز
وجل ،وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلثة مذاهب:
الول :أنه ل مدخل للتأويل فيها ،بل تجــرى علــى
ظاهرها ول يؤّول شيء منها ،وهذا قول المشبهة.
والثاني :أن لها تأويل ً ولكنا نمسك عنه ،مع تنزيه
اعتقادنا عن التشــبيه والتعطيــل لقــوله تعــالى ) وما
يعلم تأويله إل الله ( ،قال ابن برهــان وهــذا قــول
165
السلف...
والمذهب الثالث :أنها مؤولة .قال ابــن برهــان،
والول مـــن هـــذه المـــذاهب باطـــل ،والخسسسران
منقسولن عن الصسسحابة ،ونقسسل هسسذا المسسذهب
الثالث عن علسسي وابسسن مسسسعود وابسسن عبسساس
وأم سلمة( اهـ.
166
على أن الكلم إذا خل من المجازات والســتعارات
سمج وأصبح فجا ً ثقيل ً ل تقبله السماع ول تهضمه.
)الفتــحونقل الحافظ بن حجر عن المــام المــازري
(144 / 13أثناء شرحه لحديث " إنكم سترون ربكم "
وفيه قــوله ‘" ومــا بيــن القــوم وبيــن أن ينظــروا إلــى
ربهم إل رداء الكبرياء على وجهه ".
قال الحافظ) :قـال المازري كان النــبي ‘ يخــاطب
العرب بما تفهم ،ويخــرج لهــم الشــياء المعنويــة إلــى
الحس ليقــرب تنــاولهم لهــا ،فعــبر عــن زوال المـــانع
ورفعه عن البصـار بذلك( اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر )المصدر السابق(:
)قــال عيــاض :كــانت العــرب تســتعمل الســتعارة
كثيرًا ،وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازهــا ،ومنــه
قوله تعالى ) :جناح الذل ( فمخاطبة النبي ‘ لهم بـــ
" رداء الكبريــاء علــى وجهــه " ونحــو ذلــك مــن هــذا
المعنى ،ومن لم يتضح لـه ،وعلـم أن اللـه منـزه عـن
الذي يقتضيه ظاهرهـا إمـا أن يكـذب نقلتهـا ،وإمـا أن
يؤولهــا ،كــأن يقــول :اســتعار لعظيــم ســلطان اللــه
وكبريائه وعظمته وهيبته وجللــه المــانِع إدرا َ
ك أبصــاِر
البش ـرِ مــع ضــعفها لــذلك رداَء الكبريـــاء ،فــإذا شـــاء
تقويـة أبصـارهم وقلوبهم كشف عنهم حجـــاب هيبتــه
وموانع عظمته( اهـ.
جح المـام العزبن عبــد الســلم -رحمــه اللــه -
ور ّ
167
)إتحاف السادة المتقين :(109 / 2 طريـقة التأويـل فقــال
)طريقة التأويل بشرطها أقربها إلى الحق( وعلــق
المام الزبيدي رحمه الله تعالى على قول العز بقوله
)ويعنــي بشــرطها أن يكــون علــى مقتضــى لســان
العرب( اهـ.
وقال المــام العلمـة اللوســي رحمـه اللـه تعـالى
)روح المعاني (89 / 3حاثا ً على حمــل المتشــابه علــى
المجاز) :الحمل على المجاز الشائع فــي كلم العــرب
والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقــة أظهــر مــن
الحمل على معنى مجهول( اهـ.
وقال أيضا ً )) :(116 / 3والتأويل القريب إلى الذهن
الشائع نظيره في كلم العرب مما ل بأس بــه عنــدي،
على أن بعض اليات مما أجمع علسسى تأويلهسسا
السلف والخلف( اهـ.
فأثبت رحمه الله للسلف تأويل بعض اليات وأنهــا
مع على تأويلها. ُ
مما أج ِ
وقال الدكتورالشيخ محمد سعيد رمضــان البــوطي
حفظه الله تعالـى )كبرى اليقينيات ص 138 /وما بعدها(:
)مذهب السلف هو عدم الخوض فــي أي تأويــل أو
تفسير تفصيلي لهذه النصــوص ،والكتفــاء بإثبــات مــا
ل عــن كــل أثبته الله تعالى لذاته ،مع تنزيهــه ع ـّز وج ـ ّ
نقــص ومشــابهة للحــوادث ،وســبيل ذلــك التأويــل
168
الجمــالي لهــذه النصــوص وتحويــل العلــم التفصــيلي
ل ،أما تــرك هــذه بالمقصود منها إلى علم الله عّز وج ّ
النصوص على ظاهرها دون أي تأويل لهــا ســواء كــان
إجماليا ً أم تفصيليا ً فهو غير جائز ،وهو شيء لم يجنــح
إليه سلف ول خلف ....ولكنك عندما تنــزه اللــه حيــال
جميع هذه اليات عن مشابهة مخلــوقه فــي أن يتحيــز
في مكان وتكون له أبعاد وأعضاء وصورة وشكل ،ثــم
ت لله مـا أثبتــه هـو لــذاته علــى نحـوٍ يليـق بكمـاله أثب ّ
ل مــن هــذه ل تفصــيل المقصــود بكــ ّ كــ َ
وذلــك بــأن ت ِ
ت بــذلك مــن م َ
ســل ِ ْ
ل جللــه َ النصــوص إلــى اللــه جــ ّ
ت القــرآن مـن تــوهم أي س ـل ّ ْ
م َ التنــاقض فــي الفهــم و َ
تناقض فيه ،وهذه هي طريقة السلف رحمهم اللــه أل
تراهم يقولون عنها " أمروهـا بل كيـف " إذ لـول أنهـم
يؤولونها تأويل ً إجماليا ً بالمعنى الذي أوضحنا لمــا ص ـ ّ
ح
منهم أن يقولوا ذلك...
ومذهب الخلف الذين جاءوا من بعدهم هــو تأويــل
هــذه النصــوص بمــا يضــعها علــى صــراط واحــد مــن
الوفاق مــع النصــوص المحكمــة الخــرى الــتي تقطــع
بتنّزه الله عن الجهة والمكان والجارحة...
واعلم أن مــذهب الســلف فــي عصــرهم كــان هــو
الفضــل والســلم والوفــق مــع اليمــان الفطــري
المرتكز في ك ّ
ل من العقل والقلب.
ومذهب الخلف فــي عصــرهم أصــبح هــو المصــير
169
الذي ل يمكن التحول عنه ،بسبب ما قــامت فيــه مــن
المذاهب الفكرية والمناقشات العلمية ....والمهــم أن
تعلم بأن كل ّ من المذهبين منهجان إلــى غايــة واحــدة،
ل ل يشــبهه شــيء لن المآل فيهما إلى أن الله عّزوج ّ
من مخلوقاته ،وأنه منّزه عــن جميــع صــفات النقــص،
فــالخلف الــذي تــراه بينهمــا خلف لفظــي وشــكلي
فقط( اهـ.
وقال الشــيخ علــي الطنطــاوي رحمــه اللــه تعــالى
)تعريف عام بدين السلم ص:(81/
)القرآن أنزل بلسان العرب ،وخوطب بــه العــرب،
وكــل مــا يفهمــه منــه العربــي الصــميم وفــق قواعــد
العربية ومصطلح أهلهــا -حقيقــة حيــث ينصــرف إلــى
الحقيقة أو مجازا ً حيث يفهم منه المجاز -يكون فهما ً
صحيحًا ،ولكن اللغات كلهـا إنمـا وضـعت للتعـبير عـن
المعــاني الرضــية الماديــة ،فل تســتطيع أن تحيــط
بالمشاعر النسانية فضل ً عن الصفات اللهية( اهـ.
وهــذه حقيقــة ل ريــب فيهــا بيــن العقلء ،إذ الكلم
يتعيــن فــي الحقيقــة والظــاهر مــتى أمكــن ذلــك ،وإل
ســعة ،وبمــا أن هــذه اللفــاظفبالمجــاز مندوحــة و َ
حقائقهــا ماديــة حســية إذن مـن الخطــأ بمكــان حمــل
اللفظ عليها ،بل يتعين النصراف إلى المجاز.
فـإذا كـان المـر كـذلك ،فل ملمـة ول حـرج حينئذ
على علمــاء المــة إذا فســروا كلم اللــه تعــالى وكلم
170
رســوله ‘ العربييــن علــى طريقــة العــرب وحســب
أســلوب تخــاطبهم وتحــاورهم وبمــا يليــق بجلل اللــه
تعالى ،وبما يدفع شبه المشبهين ،وهل هم في هذا إل
مـهتدون بهدي جمهور السلف الذين فهمـوا عـن اللـه
تعالى وعن رسوله ‘ ،لكنهم -كما ذكرنا -لـم يتطرقـوا
-في الغالب -لعلنه والتصريح به لعــدم الحاجــة إلــى
ذلك في عصورهم ،ومضى قرنهم على هذا.
وهكذا كان الحـال مع الذين جاءوا من بعدهم ،إلى
أن جاء زمن نبتت فيه رؤوس البدعة ،ورفع فيــه أهــل
الزيغ عقيرتهم ،وجابهوا النـاس بمـا لـم يكـن لهـم بـه
عهد ،واستولوا بمقالتهم الفاسدة على عقول العامة،
وحملــوا كلم اللــه تعــالى وكلم رســوله ‘ علــى مــا ل
يجوز حملهمــا عليــه مــن المعــاني ،حينهــا تعيــن علــى
علماء أهل السنة الذود عن عقائد المســلمين ،وغايــة
ما فعلوه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ـ هــو أنهــم جهــروا
بما كان يجتنب جمهور السلف الصــالح مــن الصــحابة
والتابعين الجهر به ،لعدم الحاجة إليه في أزمنتهم.
)فتــاوى العــز بــن عبــد قال المام العز بن عبد السلم
السلم ص (22 /رحمه الله تعالى:
)وليــس الكلم فــي هــذا -يعنــي التأويــل -بدعــة
ما ظهرت قبيحة ،وإنما الكلم فيه بدعة حسنة واجبة ل َ ّ
الشبهة ،وإنمـا سـكت السـلف عـن الكلم فيـه إذ لـم
يكن في عصرهم من يحمــل كلم اللــه وكلم رســوله
171
على ما ل يجوز حمله عليه ،ولو ظهرت في عصــرهم
شبهة لكذبوهم وأنكروا عليهــم غايــة النكــار ،فقــد رد
الصحابة والسلف على القدرية لمــا أظهــروا بــدعتهم،
ولم يكونوا قبل ظهورهم يتكلمون في ذلك( اهـ.
وقــال الشــيخ المــام القــدوة الربــاني عــدي بــن
مسافر الشامي -رحمه الله تعالى ) -اعتقاد أهــل الســنة
والجماعة ص :(26 /
)ونــؤمن بمــا ورد بــه الكتــاب والســنة ول نتعــرض
للتأويل بعد أن نعلم أن الله عز وجــل ل يشــبه شـــيئا ً
من المخلوقات ول يشــبهه شــيء منهــا ،فــإن كــل مــا
ه ،وهذا مق ـد ُّره قطع ـا ً وخــال ُ
ق ُ تمثل فــي الــوهم فهــو ُ
الذي درج عليه السسسلف قبسسل ظهسسور الهسسواء
وتشسسعب الراء ،فلمسسا ظهسسرت البسسدع وانتشسسر
في الناس التشبيه والتعطيل فزع أهل الحق
إلى التأويل(’اهس.
وهذا الذي قاله رضي الله عنــه هــو عيــن مــا يــراه
الشاعرة ويعتقــدونه ،إذ لــول ظهــور الفتــن ومقــالت
أهل الزيغ وتشويشهم على عقائد العامــة مــا صــرحوا
وبينوا ما كان السلف يعتقدونه إجمــال ً ويمــرون عليــه
مرورًا.
وقال العلمة مل على القاري -رحمه الله تعالى -
معتــذرا ً عــن علمـــاء المــة لخــذهم بالتأويــل )مرقــاة
المفاتيح ) :(136 / 2ولم يريدوا بذلك مخالفــة الســلف
172
الصالح -معاذ الله أن يظــن بهــم ذلــك -وإنمــا دعــت
الضــرورة فــي أزمنتهــم لــذلك ،لكــثرة المجســمة
والجهمية وغيرها من فرق الضــلل ،واســتيلئهم علــى
عقول العامة ،فقصدوا بذلك ردعهــم وبطلن قــولهم،
ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا :لو كنا على مــا كــان
عليــه الســلف الصــالح مــن صــفاء العقــائد وعــدم
المبطلين في زمنهم لم نخض فــي تأويــل شــيء مــن
ذلك( اهـ.
وقــال المــام الزركشــي -رحمــه اللــه تعــالى -
)البرهان في علوم القرآن :(209 /2
)قلــت وإنمــا حملهــم علــى التأويــل وجــوب حمــل
الكلم على خلف المفهوم من حقيقته ،لقيــام الدلــة
على استحالة المشــابهة والجســمية فــي حــق البــارئ
تعالى( اهـ.
)مرقــاة وقال الحافظ بن حجر -رحمه الله تعالى -
المفاتيح :(1/134
)أكثر السلف لعدم ظهور أهل البدع فــي أزمنتهــم
يفوضون علمها – آيات الصفات – إلى الله تعالى مــع
تنزيهه سبحانه عن ظاهرها الذي ل يليــق بجلل ذاتــه،
وأكثر الخلف يؤولونها بحملها على محامل تليق بــذلك
الجلل القدس والكمــال النفــس ،لضــطرارهم إلــى
ذلك لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم( اهـ.
وقال إمــام الحرميــن الجــويني رحمــه اللــه تعــالى
173
)المصدر السابق(:
)لــو بقــي النــاس علــى مــا كــانوا عليــه لــم نــؤمر
بالشتغال بعلم الكلم ،أما الن فقــد كــثرت البــدع فل
سبيل إلى ترك أمواج الفتن تلتطم( اهـ.
)المجمــوع وقال المام النووي -رحمه الله تعــالى -
:(25 / 1
)فإن دعت الحاجة إلى التأويل لــرد مبتــدع ونحــوه
تأّولوا حينئذ ،وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء فــي
هذا( اهـ.
وقال العلمة مل علي القاري -رحمه الله تعالى -
)مرقاة المفاتيح :(189 /1
)اتـفـق السلف والخلــف علــى تنـــزيه اللــه تعــالى
عن ظواهر المتشابهات المستحيلة على الله تعالى...
وخاض أكثر الخلف في التأويل لكن غير جازمين بــأن
هذا هــو مــراد اللــه تعـالى مــن تلــك النصــوص ،وإنمــا
قصــدوا بــذلك صــرف العامــة عــن اعتقــاد ظــواهر
المتشابه ،والرد على المبتدعة المتمسكين بأكثر تلــك
الظواهر( اهـ.
وقال العلمة محمود بن خطاب الســبكي -رحمــه
الله تعالى -في كتاب )الدين الخالص (27 / 1ما نصه:
)أما ما ورد من اليات والحاديث المتشــابهة فقــد
أجمــع السـلف والخلـف رضــي اللـه عنهــم علـى أنهــا
174
مصروفة عن ظاهرها لقوله تعــالى ) قل هسسو اللسسه
أحد ،الله الصمد ،لم يلد ولم يولد ،ولم يكن
له كفوا ً أحد ( وقسسوله سسسبحانه ) ليسسس كمثلسسه
شئ وهوالسسسميع البصسسير ( ثسسم اختلفسسوا فسسي
بيان معاني تلك اليات والحسساديث ،فالسسسلف
يفوضون علم معانيها إليه تعسسالى ،فيقولسسون
إن الستواء في آية ) الرحمسسن علسسى العسسرش
اسسستوى ( ل يعلمــه إل اللــه ســبحانه وتعــالى ،مــع
جزمهم بأنه جل جلله يستحيل عليه الســتقرار علــى
العرش أو اتصاله به أو جلوسه عليه ،لنــه تعــالى إلــه
قــديم موصــوف باســتوائه علــى العــرش قبــل خلــق
العرش ،لن القرآن الذي منه هذه اليــة موجــود قبــل
إيجاد العرش ،فكيــف يعقــل أنــه تعــالى اســتقر علــى
عرش غير موجود؟
ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان يحل فيه ،بــل
هو غني عنه .فهو تعالى لــم يــزل بالصــفة الــتي كــان
عليها.
والخلــف يقولــون فيهــا :الســتواء معنــاه القتــدار
والتصرف أو نحو ذلك .ومذهب السلف أسلم...
ووجه صحة مذهب الخلف أنهــم فســروا اليــة بمـا
يدل عليـه اللفـظ العربــي ،والقــرآن عربــي ،وحملهــم
على التفسير المذكور ولم يفوضوا كما فوض السلف
وجود المشبهة في زمانهم زاعمين -أي المشبهة -أن
175
ظاهر اليات يدل على أنه تعالى جســم ،ولــم يفقهــوا
أنه مستحيل عليه عــز وجــل الجســمية والحلــول فــي
المكنة...
فوجب عليهــم -يعنــي الخلــف -أن يــبينوا للعامــة
معنــى تلــك اليــات والحــاديث المتشــابهة حســب
مدلولت القرآن والحاديث النبوية بمــا يصــح اتصــاف
الله تعالى به ،ليعرفــوا الحــق فيعملــوا عليــه ويــتركوا
الباطل وأهله فجزاهم الله تعالى خير الجزاء.
وقد نقل العلمة زروق عن أبي حامد أنه قال) :ل
خلف في وجوب التأويل عند تعيسسن شسسبهة ل
ترتفع إل به(.
والحاصــل :أن الخلــف لــم يخــالفوا الســلف فــي
العتقـــاد وإنمـــا خـــالفوهم فـــي تفســـير المتشـــابه
للمقتضي الذي حدث في زمانهم دون زمــان الســلف
كمــا علمــت ،بــل اعتقــادهم واحــد ،وهــو أن اليــات
والحاديث المتشابهات مصروفة عن ظاهرها المــوهم
تشــبيهه تعــالى بشــيء مــن صــفات الحــوادث وأنــه
سبحانه وتعالى مخــالف للحــوادث ،فليــس بجســم ول
جوهر ول عرض ول مستقر على عرش ول في سماء
ول يمر عليه زمان وليس له جهة إلى غيــر ذلــك ممــا
هو من نعوت المخلوقين (.اهـ.
176
فيه عن الســلف -وهــو الحــق كمــا ســيأتي -أم لــم
يثبت ،لنه أسلوب عربي أصيل لفهــم الكلم العربــي،
ويدخل فــي ضــمنه كلم اللــه تعــالى وكلم رســوله ‘،
والقائل به لم يأت بدعا ً من المر ،ولكنـه اتبــع طريــق
العرب في فهم الكلم.
*****
177
نماذج من تأويل علماء المة وأئمتها
لنصوص الصفات
178
مشبها ً بشيء أو مكيفــا بصـورة خلـق أو مـدركا ً بحــد.
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( اهـ.
ب الله تعالى
وأّول محيي السنة المام البغوي ح ّ
للمؤمنين بثنائه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم )تفسير
البغوي .(293 / 1
وتفسيره زاخر بما تقّر به أعين المنّزهين لله
تعالى.
وقال المام أبـو نصرالقشـيري رحمـه اللـه تعـالى
)إتحاف السادة المتقين :(110 /2
)كيف يسوغ لقائل أن يقول :في كتاب الله تعــالى
ما ليس لمخلوق سبيل إلى معرفته ول يعلم تأويله إل
الله ،أليس هذا من أعظم القدح فــي النبــوات؟! وأن
النبي ‘ ما عرف تأويل ما ورد في صفـات الله تعالى،
ودعا الخلق إلى علــم مــا ل يعلــم ،أليــس اللــه يقــول
) بلسسسان عربسسي مسسبين ( فــإذا ً – علــى زعمهــم –
يجب أن يقولــوا كــذب حيــث قــال ) بلسان عربسسي
مبين ( إذ لــم يكــن معلوم ـا ً عنــدهم ،وإل فــأين هــذا
البيان ،وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعى بــأنه ممــا ل
تعلمه العرب؟ ولو كان كذلك لمــا كــان ذلــك الشــيء
عربيًا ...ونسبة النبي ‘ إلى أنه دعا إلى رب موصــوف
بصفات ل تعقــل ،أمــر عظيــم ل يتخيلــه مســلم ،فــإن
الجهــل بالصــفات يــؤدي إلــى الجهــل بالموصــوف.
179
والغرض :أن يستبين من معــه مســكة مــن العقــل أن
قول من يقول :استواؤه صــفة ذاتيــة ل يعقــل معنــاه،
واليد صفة ذاتية ل يعقل معناها ،والقدم صفة ذاتيـة ل
يعقل معناه ،تمويه ضمنه تكييف وتشــبيه ودعــاء إلــى
الجهل ،وقد وضح الحـق لـذي عينيــن .وليـت شــعري،
هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا النكار في كل شيء
وفي كل آية ،أم يقنع بترك التأويــل فــي صــفات اللــه
تعــالى؟ فــإن امتنــع مــن التأويــل أصــل ً فقــد أبطــل
الشريعة والعلوم ،إذ ما من آية وخــبر إل ويحتــاج إلــى
م أشــياء لبــد مــنف فــي الكلم ،لن ث َـ ّ
تأويــل وتصــر ٍ
تأويلهــا ل خلف بيــن العقلء فيــه إل الملحــدة الــذين
قصدهم التعطيل للشرائع ،والعتقاد لهــذا يــؤدي إلــى
إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع.
وإن قال :يجوز التأويل على الجملة إل فيما يتعلق
بالله وصفاته فل تأويل فيه .فهذا يصير منه إلى أن ما
يتعلــق بغيــر اللــه تعــالى يجــب أن يعلــم ،ومــا يتعلــق
بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه ،وهذا ل يرضى به
مســلم .وســر المــر أن هــؤلء الــذين يمتنعــون عــن
التأويل معتقدون حقيقة التشــبيه غيــر أنهــم يدلســون
ويقولون :له يد ل كاليدي وقدم ل كالقدام ،واســتواء
بالذات ل كما نعقل فيمـا بيننـا ،فليقـل المحقـق :هـذا
كلم لبد فيه من استبيان ،قولكمُ :نجري المــر علــى
الظــاهر ول يعقــل معنــاه تنــاقض ،إن أجريــت علــى
180
الظــاهر فظــاهر الســياق فــي قــوله تعــالى ) يسسوم
يكشف عن ساق ( هو العضو المشتمل على الجلد
واللحــم والعظــم والعصــب والمــخ ،فــإن أخــذت بهــذا
الظاهر والتزمت بالقرار بهــذه العضــاء فهــو الكفــر،
وإن لم يمكنك الخذ بها فأين الخذ بالظــاهر؟ ألســت
قد تركت الظاهر وعلمــت تقــدس الــرب تعــالى عمــا
يوهم الظاهر فكيف يكون أخــذا ً بالظــاهر؟! وإن قــال
ل .فهــو حكــمالخصم :هذه الظواهر ل معنــى لهــا أص ـ ً
بأنها ملغاة وما كان في إبلغها إلينا فائدة وهــي هــدر،
وهذا محال .وفي لغــة العــرب مــا شــئت مــن التجــوز
والتوسع فــي الخطــاب وكــانوا يعرفــون مــوارد الكلم
ويفهمون المقاصد ،فمــن تجــافى عــن التأويــل فــذلك
لقلة فهمه بالعربية ،ومن أحــاط بطــرف مــن العربيــة
هان عليــه مــدرك الحقــائق ،وقــد قيــل ) وما يعلسسم
تأويله إل الله ،والراسخون في العلم ( فكــأنه
قال والراسخون في العلم أيضا ً يعلمونه ويقولون آمنا
به فإن اليمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم ،أمــا مــا
ل يعلم فاليمان به غير متأت ،ولهذا قال ابن عبــاس:
أنـا مـن الراســخين فـي العلـم( انـتـــهى قـول المـام
القشيري رحمه الله.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيــدا ً
له في شرحـه لحــديث " ل شــخص أغيــر مــن اللــه "
)الفتح (411 / 13قال:
181
)قال ابن دقيق العيــد :المنزهــون للــه إمــا ســاكت
عن التأويــل ،وإمــا مــؤول ،والثــاني -يعنــي المــؤول -
يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية ،وهما
مــن لــوازم الغيــرة ،فــأطلقت علــى ســبيل المجــاز،
كالملزمــة وغيرهــا مــن الوجــه الشــائعة فــي لســان
العرب( اهـ.
وقال المام النووي -رحمه الله -
)شــرح مســلم / 5
(24في شرح حــديث إمســاك الســموات علــى أصــبع
والرضين على أصبع " ما نصه:
)هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان
التأويــل والمســاك (...ثــم قــال بعــد صــفحات )وأمــا
إطلق اليدين لله تعالى فمتأول علــى القــدرة ،وكنــى
عن ذلك باليدين لن أفعالنا تقع باليدين ،فخوطبنا بمــا
نفهمه ليكون أوضــح وأوكــد فــي النفــوس ،ول تمثيــل
لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليســت
بجارحة ،والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعــالى
عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الحاديث من
مشـكل ونحـن نـؤمن بـالله تعـالى وصـفاته ول نشـبه
شيئا ً به ول نشبهه بشيء( اهـ.
وقال المام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي
-رحمه الله تعالى -بعد أن ذكــر حــديث النــزول فــي
سياق إثباته للمجاز )النصاف ص:(82 /
)جعلته المجسمة نزول على الحقيقة ،تعــالى اللــه
182
عما يقول الظالمون علوا ً كبيرًا ،وقد أجمــع العــارفون
بــالله عــز وجــل علــى أنــه ل ينتقــل لن النتقــال مــن
صفات المحدثات ،ولهذا الحديث تــأويلن صــحيحان ل
يقتضيان شيئا ً من التشبيه:
أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد ســئل عــن
هذا الحديث فقال :ينزل أمره كل سحر ،فأما هو عــز
وجل فإنه دائم ل يزول ول ينتقل سبحانه ل إله إل هو.
وسئل الوزاعي فقال :يفعل الله ما يشاء).(1
وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح ،وخفي إشارة يحتاج
إلى تبيين عبارة(
ثم أخــذ رحمــه اللــه ببيــان حقيقــة مــا قــاله علــى
أساليب العرب واستعاراتها ،وذكــر أن العــرب تنســب
الفعــل إلــى مـن أمـر بـه كمـا تنســبه إلـى مـن فعلــه
وباشره ومعنـى النـزول فــي الحــديث أن اللـه تعــالى
يأمر ملكا ً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره ،ثم
قال رحمه الله) :فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على
فصــيح كلم العــرب فــي محاوراتهــا والمتعــارف مــن
أســاليبها ومخاطباتهــا ،وهــو شــرح مــا أراده مالــك
والوزاعي رحمهما الله( اهـ.
قــال المــام أبــو بكــر بــن العربــي -رحمــه اللــه -
()1ذكر قول الوزاعي هذا المام أبو عمرو الداني رحمه الله
تعالى ثم قال :أي يظهر اللـه مـن أفعـاله مـا يشـاء .اهــ الرسـالة
الوافية ص.137/
183
)القبس شرح الموطأ :(289 – 288 / 1
)وأما الوزاعي -وهو إمام عظيم -فنزع بالتأويــل
حين قال وقد سئل عن قول النــبي ‘ "ينسسزل ربنسسا "
فقال :يفعل اللــه مــا يشــاء .ففتــح بابـا ً مــن المعرفــة
عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما(.
ثم قال رحمه الله تعالى:
)إن الله سبحانه منزه عن الحركة والنتقال لنه ل
يحويه مكــان كمــا ل يشــتمل عليــه زمــان ،ول يشــغل
حيزا ً كما ل يدنو إلى شــيء بمسـافة ول يغيــب بعلمـه
عن شيء ،متقدس الذات عن الفات منزه عن التغير
والســتحالت ،إلــه فــي الرض إلــه فــي الســماوات.
وهــذه عقيــدة مســتقرة فــي القلــوب ثابتــة بواضــح
الدليل( اهـ.
وقال أيضا ً فــي شــرحه علــى ســنن الترمــذي )/ 2
:(234
)اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلثــة
ده لنه خبر واحد ورد بمــا ل يجــوز أقوال فمنهم من ر ّ
ظاهره علــى اللــه وهــم المبتدعــة ،ومنهــم مــن قبلــه
وأمّره كما جاء ولم يتأوله ول تكلم فيه مع اعتقاده أن
الله ليس كمثله شيء ،ومنهم من تأوله وفسره .وبــه
أقول ،لنه معنى قريب عربي فصيح.
184
أما إنه قد تعدى إليه قــوم ليســوا مــن أهــل العلــم
بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير ،قالوا :في هــذا
الحديث دليل على أن الله في الســماء علــى العــرش
من فوق سبع سموات.
قلنــا:هــذا جهــل عظيــم وإنمــا قــال " ينزل إلى
السماء " ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ول
كيف ينزل.
قــالوا -وحجتهــم ظــاهره : -قــال اللــه تعــالى
) الرحمن على العرش استوى (
قلنا :وما العرش في العربيــة؟ ومــا الســتواء؟(...
إلى أن قال رحمه الله تعالى:
)والذي يجب أن يعتقد فــي ذلــك أن اللــه كــان ول
شــيء معــه ثــم خلــق المخلوقــات مــن العــرش إلــى
الفرش فلم يتغير بها ول حدث له جهــة منهــا ول كــان
له مكان فيها فإنه ل يحول ول يــزول قــدوس ل يتغيــر
ول يستحيل ،وللستواء في كلم العرب خمسة عشــر
معنى ما بين حقيقة ومجاز ،منها مــا يجــوز علــى اللــه
فيكون معنى الية ،ومنها ما ل يجوز على اللــه بحــال،
وهو إذا كان الستواء بمعنى التمكــن أو الســتقرار أو
التصال أو المحاذاة ،فإن شيئا ً من ذلك ل يجوز علــى
الباري تعالى ،ول يضرب له المثال فــي المخلوقــات،
وإما أن ل يفسر كما قال مالــك وغيــره :إن الســتواء
معلوم .يعني مورده في اللغة .والكيفية التي أراد الله
185
مما يجوز عليــه مـن معــاني الســتواء مجهولـة ،فمــن
يقدر أن يعّينها ،والسؤال عنه بدعة ،لن الشــتغال بــه
وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة .فتحصل لك مــن
كلم إمام المسلمين مالك أن الستواء معلوم وأن ما
يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه
عنه ،وتعّين المراد بما ل يجوز عليه ل فــائدة لــك فيــه
إذ قــد حصــل لــك التوحيــد واليمــان بنفــي التشــبيه
والمحال على الله سبحانه وتعالى فل يلزمــك ســواه،
وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق ،وأما قوله:
ينزل ويجيء ويأتي ،وما أشبه ذلك من اللفــاظ الــتي
ل تجوز على الله فــي ذاتــه معانيهــا فإنهــا ترجــع إلــى
أفعاله ،وهنا نكتة وهي :أن أفعالك أيها العبد إنما هــي
في ذاتك ،وأفعال الله ســبحانه ل تكــون فــي ذاتــه ول
ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته ،فإذا سمعت الله
يقول كذا فمعناه في المخلوقات ل فــي الــذات ،وقــد
بين ذلك الوزاعي حين سئل عــن هــذا الحــديث ـ ـ أي
حديث النزول ـ فقال :يفعــل اللــه مــا يشــاء .وإمــا أن
تعلــم وتعتقــد أن اللــه ل يتــوهم علــى صــفة مــن
المحدثات ول يشبهه شيء من المخلوقــات ول يــدخل
بابا ً من التأويلت.
قــالوا -أي أصــحاب الظــواهر : -نقــول ينــزل ول
نكيف.
قلنا :معاذ الله أن نقول ذلك ،إنما نقول كما علمنا
186
رسول الله ‘ وكما علمنــا مــن العربيــة الــتي نــزل بهــا
القرآن ،قال النبي ‘ " :يقول الله عبسسدي مرضسست
فلم تعدني ..وجعت فلم تطعمني ..وعطشت
فلم تسقني " وهو ل يجــوز عليــه شــيء مــن ذلــك
ولكن شّرف هؤلء بــأن عب ّــر بــه عنهــم ،كــذلك قــوله:
ينزل ربنا ،عّبر به عن عبده ومَلكه الــذي ينــزل بــأمره
باسمه فيما يعطي من رحمتــه ...والنــزول قــد يكــون
في المعاني وقد يكون في الجســام ،والنــزول الــذي
أخبر الله عنه إن حملته على أنــه جســم فــذلك مل َك ُــه
ورسوله وعبده ،وإن حملته على أنه كان ليفعل شيئا ً
من ذلك ثــم فعلــه عنــد ثلــث الليــل فاســتجاب وغفــر
مى ذلك نزول ً عن مرتبة إلى مرتبة ومــن وأعطى وس ّ
صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم
أعرف منكــم -أهـل الظــاهر -وأعقـل وأكــثر توحيــدا ً
ل بل أعدم تخليطًا .قــالوا بجهلهــم :لــو أراد نــزول وأق ّ
رحمته لما خــص بــذلك الثلــث مــن الليــل لن رحمتــه
تنزل بالليــل والنهــار .قلنــا :ولكنهــا بالليــل وفــي يــوم
عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤهــا
أوســــع وقــــد نّبــــه اللــــه علــــى ذلــــك بقــــوله
تعالى) والمستغفرين بالسحار ( اهـ.
ولقــد أطلنــا بنقــل كلمــه رحمــه اللــه لنفاســته
-والله -كيف يكــون مثــل هــذا وإحكامه .ول ندري
الكلم الرفيع الرائع الرائق ضل ً
ل؟!
187
وجاء في كتاب البيان والتحصيل لبن رشد )الجــد(
رحمه الله تعالى ) ،504 / 18وانظر السير ،8/104والنوادر
والزيادات لبن أبي زيد (14/553ما نصه:
)قال -يعني ابن القاسم صــاحب مالــك -وســألت
مالك ـا ً عــن الحــديث فــي أخبــار ســعد بــن معــاذ فــي
العرش ،فقال :ل تتحدث به ...وعن الحديث " إن الله
خلق آدم على صــورته " وعــن الحــديث فــي الســاق،
وذلك كله ،قال ابن القاسم :ل ينبغي لمن يتقــي اللــه
ويخافه أن يحدث بمثل هــذا .قــال ابــن رشــد بعــد أن
ذكر الحاديث التي أشار إليها ابن القاسم :وإنما نهــى
مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جــاء
بــأن اللــه خلــق آدم علــى صــورته ،ونحــو ذلــك مــن
الحاديث الــتي يقتضــي ظاهرهــا التشــبيه ،مخافــة أن
يتحدث بها ،فيكــثر التحــدث بهــا ،وتشــيع فــي النــاس،
فيسمعها الجهال الذين ل يعرفون تأويلها ،فيسبق إلى
ظنونهم التشبيه بهــا ،وســبيلها – إذا صــحت الروايــات
بها – أن تتأول على ما يصح ،ممــا ينتفــي بــه التشــبيه
عن الله عز وجل بشيء من خلقه ،كما يصنع بما جاء
في القرآن ممـا يقتضـي ظـاهره التشـبيه وهـو كـثير،
كالتيان في قوله عــز وجــل) هل ينظسسرون إل أن
يأتيهم الله في ظلل ( والسسستواء فسسي قسسوله
) الرحمن على العرش اسسستوى ( ،وكمــا يفعــل
أيضا ً بما جاء من ذلك في السنن المتــواترة كالضــحك
188
والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتــواتر الثــار
بهــا ،لن ســبيلها كلهــا فــي اقتضــاء ظاهرهــا التشــبيه
وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عــز وجــل
بشيء من خلقه سواء( اهـ.
ولقد نقل الحافظ أبو الحسن علــى بــن القطــان -
رحمه اللــه تعــالى -الجمــاع علــى التأويــل الجمــالي
والتأويل التفصيلي ،قال )القناع في مسائل الجماع 32 / 1
:(43 -
)وأجمعـوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفا ً
صفا ً لعرض المم وحسابها وعقابها وثوابها ،فيغفر لمن
يشاء من المؤمنين ،ويعذب منهم مــن يشــاء كمــا قــال
تعالى ،وليس مجيئه بحركة ول انتقال.
وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطــائعين لــه ،وأن
رضاه عنهم إرادته نعيمهم.
وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين
ويغضــب عليهــم ،وأن غضــبه إرادتــه لعــذابهم وأنــه ل
يقوم لغضبه شيء( اهـ.
189
بتحقيق محمد رشيد رضا:(1/297 ،
)إن للراسخين طريقا ًً يسلكونها فــي اتبــاع الحــق،
وإن الزائغين على طريق غير طريقهم ،فاحتجنــا إلــى
بيان الطريق الــتي ســلكها هــؤلء لنتجنبهــا ،كمــا نـبين
الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها(.
ثم أخذ ببيان طرق الزائغين فقال:
)فمنها اعتمادهم على الحاديث الواهية الضــعيفة...
دهـم للحـاديث الـتي جـرت غيـر ومنها ضد هذا ،وهـو ر ّ
موافقة لغراضهم ومــذاهبهم ...ومنهــا تخّرصــهم علــى
الكلم في القرآن والسنة العربيين مع الُعروّ عــن علــم
العربيــة الــذي يفهــم بــه عــن اللــه ورســوله ...ومنهــا
انحرافهم عن الصول الواضحة إلى اتبــاع المتشــابهات
التي للعقول فيها مواقف(.
وضــرب مثل ً لهــذا الصــنف مــن غيــر أمــة الســلم
بالنصارى ،ثــم قــال رحمــه اللــه) :ومثاله فسسي ملسسة
السلم مذهب الظاهرية فسسي إثبسسات الجسسوارح
للرب س المنزه عن النقائص س من العيسسن واليسسد
والرجل والسسوجه المحسوسسسات والجهسسة وغيسسر
ذلك من الثابت للمحدثات( اهـ.
ومعنى كلمه ظــاهر ،أي أن المحظــور هــو حملهــا
علــى المحسوســات ،وهــو اللزم مــن حملهــا علــى
الظاهر والحقيقة ،أما إثباتها مع تنزيه الله تعــالى عــن
ظواهرها وحقائقها اللغوية المعروفــة فهــو حــق ،وهــو
190
مــذهب جمــاهير ســلف المــة الصــالح رضــوان اللــه
عليهم.
وقال أيضا ً رحمه الله تعالى في تأويل ُ
حب ّــه تعــالى
وبغضه )الموافقات :(2/116
)والحب والبغض من الله تعالى إمــا أن يــراد بهمــا
نفس النعام والنتقام ،فيرجعان إلى صــفات الفعــال
علــى رأي مــن قــال بــذلك ،وإمــا أن يــراد بهمــا إرادة
النعام والنتقام ،فيرجعــان إلــى صــفات الــذات ،لن
نفسسس الحسسب والبغسسض المفهسسومين فسسي كلم
العرب حقيقة محالن على الله تعالى( اهـ.
)النهايــة فــي وقال المام ابن الثير رحمه الله تعالى
غريب الحديث :(5/300
) " الحجر يمين الله في الرض " هذا الكلم
تمثيل وتخييل ،وأصله أن الملــك إذا صــافح رجل ً قب ّــل
الرجل يده ،فكأن الحجــر السـود للــه بمنزلـة اليميـن
للملك ،حيث يستلم ويلثم.
ومنه الحديث الخر " وكلتا يديه يمين " أي أن
يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال ،لنقــص فــي واحــدة
منهما ،لن الشمال تنقص عن اليميــن ،وكــل مــا جــاء
في القرآن والحديث من إضافة اليد واليدي واليميــن
وغير ذلك من أسماء الجوارح إلــى اللــه تعــالى فإنمــا
هو على سبيل المجــاز والســتعارة ،واللــه منــزه عــن
التشبيه والتجسيم ( اهـ.
191
وقال أيض ـا ً عــن حــديث النــزول ) ) :(5/42النــزول
والصعود والحركــة والســكون مــن صــفات الجســام،
والله يتعــالى عــن ذلــك ويتقــدس ،والمــراد بــه نــزول
الرحمـــة واللطـــاف اللهيـــة ،وقربهـــا مـــن العبـــاد،
وتخصيصها بالليل والثلث الخير منه لنه وقت التهجــد
من يتعرض لنفحات رحمة اللـه ،وعنـد وغفلة الناس ع ّ
ذلك تكــون النيــة خالصــة ،والرغبــة إلــى اللــه وافــرة،
وذلك مظنة القبول والجابة ( اهـ.
مفهــم
)ال ُوقال المام القرطبي -رحمه الله تعالى -
(672 / 6في شرح حديث "قلوب بنسسى آدم بيسسن
أصبعين من أصابع الرحمن ":
)ظاهر الصبع محال على الله تعالى قطعًا ...وقــد
تأول بعض أئمتنــا هــذا الحــديث فقــال :هــذا اســتعارة
جارية مجرى قــولهم :فلن فــي كفــي وفــي قبضــتي.
يراد به أنه متمكن مــن التصــرف فيــه والتصــريف لــه
كيف يشاء (...اهـ.
وقال الحافظ ابـن حجـر رحمــه اللــه تعــالى
)الفتــح
(1/189مؤول ً للفظ الحياء المضــاف إلــى اللــه تعــالى
في الحديث) :قوله " فاســتحيا اللــه منــه " أي رحمــه
ولم يعاقبه ،وقــوله " فـأعرض اللــه عنـه " أي ســخط
عليه’(..اهـ.
وقال أيضا ً )الفتح (1/419مؤوّل ً للفظ اليد )والمــراد
باليد هنا القدرة( اهـ.
192
وقال قبل ذلك )هــدي الســاري ص) :(219/ووقع ذكــر
اليد فــي القــرآن والحــديث مضــافا ً إلــى اللــه تعــالى،
واتفق أهل الســنة والجماعــة علــى أنــه ليــس المــراد
باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات ،وأثبتــوا
ما جاء مــن ذلــك وآمنــوا بــه ،فمنهــم مــن وقــف ولــم
ل لفــظ منهــا علــى المعنــى يتأّول ،ومنهم من حمل ك ّ
الذي ظهر له ،وهكذا عملــوا فــي جميــع مــا جــاء مــن
أمثال ذلك( اهـ
ل ما أثير فأنت ترى أن المر يسير ،ول يستدعي ك ّ
حوله من تهويل ،فليس في حمل الكلم على المعنى
المجازي كبير خطر ،ما دام ذلك ضمن مــا يفهــم مــن
اللسان العربي عــن قــرب ،وهــذا الحــافظ ابــن حجــر
يقول :إن أهل السنة ـ بعد التنزيه عــن الظــاهر ـ ـ مــا
بين مفوض ومؤول ،ول نكير من أحدهم على الخر.
وللمـام ال ُب ّــي -رحمـه اللــه تعـالى -كــلم يعتـبر
)شــرح قـاعدة ذهبية في هذا البــاب ،قــال رحمــه اللــه
مسلم :(54 / 7
)القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته
للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواترا ً في نــص ل
يحتمل التأويل ،وغاية المتواتر أن يرد فيما دللته على
المحال دللة ظــاهرة ،والظــاهر يقبــل التأويــل ،فإن
ورد فيجسسسب صسسسرف اللفسسسظ عسسسن ظسسساهره
المستحيل ،ثــم اختلــف ،فوقــف أكــثر الســلف عــن
193
التأويل ،وقالوا نؤمن به على ما هو عند اللــه ســبحانه
في نفس المر ،ون َك ِ ُ
ل علــم ذلــك إلــى اللــه ســبحانه،
وقال قوم بل الولى التأويل ...وإن ورد خبر واحد
نصا ً في محال قطسسع بكسسذب راويسسه ،وإن كسسان
محتمل ً للتأويل يتصرف فيه كما سبق( اهـ.
وهذا كلم محكم نفيس في عبارة موجزة شاملة.
وقوله رحمه الله )وإن ورد ...قطــع بكــذب راويــه(
لنه ظني عارض القطعــي ،وقــد ثبــت بــالقطعي مــن
دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء ،فكـل
خبر يــأتي علــى خلف ذلــك يقطــع بكــذب راويــه ،لن
أدلة الشرع تتعاضد ول تتضاد.
ومــن اطلــع علــى كتــب الــتراث الســلمي لئمــة
الســلم وجــد مــا ل يــدخل تحــت الحصــر مــن هــذه
النصوص التي اكتفينا هنا بذكر شذرة منها ،مما يــدفع
العاقل الريب إلى اليقــان بصــحة هــذا المنهــج الــذي
اجتمعت عليه المة.
)/ 2 قال الشيخ الزرقاني في " مناهل العرفــان "
(286ما نصه:
)علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقــوا علــى ثلثــة
أمــور تتعلــق بهــذه المتشــابهات ،ثــم اختلفــوا فيمــا
وراءها:
فــأول :مــا اتفقــوا عليــه صــرفها عــن ظواهرهــا
194
المستحيلة ،واعتقاد أن هــذه الظــواهر باطلــة بالدلــة
القاطعة وبمــا هــو معــروف عــن الشــارع نفســه فــي
محكماته.
ثــانيه :أنــه إذا توقــف الــدفاع عــن الســلم علــى
التأويــل لهــذه المتشــابهات وجــب تأويلهــا بمــا يــدفع
شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين.
ثالثه :إن المتشابه إن كــان لــه تأويــل واحــد يفهــم
منه قريبا ً وجب القول به إجماعًا ،وذلك كقوله تعالى)
وهو معكم أينما كنتم ( فإن الكينونــة بالــذات مــع
الخلق مستحيلة قطعًا ،وليس لها بعــد ذلــك إل تأويــل
واحد ،هو الكينونة معهم بالحاطة علما ً وبصرا ً وقــدرة
وإرادة.
وأما اختلف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع علــى
ثلثة مذاهب(’اهـ.
فعد مذهب التفــويض ومــذهب التأويــل ،ثــم جعــل
للمــام ابــن دقيــق العيــد مــذهبا ً ثالث ـا ً متوســطا ً بيــن
المذهبين لقوله )الفتح ) (395 / 13نقول في الصــفات
المشكلة إنها حــق وصــدق علــى المعنــى الــذي أراده
الله ،ومن تأولها نظرنا ،فــإن كــان تــأويله قريبـا ً علــى
مقتضى لسان العرب لم ننكر عليــه ،وإن كــان بعيــدا ً
توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه( ،وهو في
حقيقة المر داخل ضـمن مـذهب التأويـل ،لنـه ليـس
من أهل السنة أحد إل وهو متفق معه على مــا ذهــب
195
إليه من رفــض التــأويلت البعيــدة الــتي ليســت علــى
مقتضى لسان العرب.
وقال الشيخ العلمــة محمــد الحامــد -رحمــه اللــه
تعالى ) -ردود على أباطيل :(10 /2
)النصوص السمعية المحكمة أي الواضحة المعنــى
هي الصل الذي يجــب أن يحمــل عليــه المتشــابه ،أي
الذي يســبق إلــى الــوهم معنــى التشــبيه منــه ) هو
الذي أنزل عليك الكتسساب منسسه آيسسات محكمسسات
مسسا السسذين م الكتاب وأخر متشابهات ،فأ ّ نأ ّه ّ
في قلوبهم زيغ فيّتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنسسة وابتغسساء تسسأويله ومسسا يعلسسم تسسأويله إل
الله ،والراسخون في العلم يقولون آمن ّسسا بسسه
كر أل أولسسوا ل مسسن عنسسد ربنسسا ،ومسسا يتسسذ ّ كسس ّ
اللباب ( أي آمنا به جميعا ً محكمه ومتشــابهه ،لكــن
إيمانهم بالمتشابه ل ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هــو
الصل ،فهم ل يشبهون الله بخلقه ،بــل يكلــون العلــم
بمعنى المتشابه إلى اللــه عــز وجــل معتقــدين أن لــه
معنــى شــريفا ً يليــق بــه ســبحانه ،فل هــم بــالمعطلين
للنصــوص ول هــم بالمشــبهين ،ومــذهبهم وســط بيــن
الطــائفتين الشــاذتين عــن ســبيل أهــل الحــق وهمــا
المعطلة والمشبهة .وعلى هذا درج ســلف المــة مــن
الصــحابة والتــابعين وتــابعيهم ولــو ذهبــت أســرد لــك
كلماتهم في هذا لطال بي القــول وامتــد الكلم ،لكــن
196
لما ظهرت البدعة وتطلعت رؤوس أهل الزيغ وصاروا
يشوشون علــى المســلمين عقــائدهم ،خشــي علمــاء
المســلمين علــى العقــائد أن يلحقهــا لــوث وفســاد
فاعتمدوا تأويل النصوص المتشـابهة فــي إطــار اللغــة
العربية وضمن سور الشريعة( اهـ.
وقوله رحمه الله )لكن إيمانهم بالمتشابه ل ينقض
إيمانهم بالمحكم الــذي هــو الصــل( واضــح فــي الــرد
على من حمل المتشابه على مقتضى الحس ،فهــؤلء
بدل ً من أن يحملوا المتشابه علــى المحكــم ويرجعــوه
إليــه ،فعلــوا العكــس ،فنقضــوا بفعلهــم هــذا إيمــانهم
بالمحكم من مثل قوله تعــالى) ليسسس كمثلسسه شسسئ
وهو السميع البصير (
)فــي وقال الداعية الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى
ظلل القرآن ،سورة الحديد(:
)وكذلك العرش فنحن نؤمن به كما ذكره ،ل نعلــم
حقيقته ،أما الستواء علــى العــرش فنملــك أن نقــول
إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق ،استنادا ً إلى مــا
نعلمه من القــرآن عــن يقيــن مـن أن اللــه ســبحانه ل
تتغير عليه الحوال ،فل يكون في حالــة عــدم اســتواء
على العــرش ثــم تتبعهــا حالــة اســتواء ،والقــول بأننــا
نؤمن بالستواء ول ندرك كيفيته ل يفسرقوله تعالى )
ثم اسسستوى ( ،والولــى أن نقــول :إنــه كنايــة عــن
الهيمنة كما ذكرنا ،والتأويل هنا ل يخرج علــى المنهــج
197
الــذي أشــرنا إليــه آنفــًا ،لنــه ل ينبــع مــن مقــررات
وتصورات من عند أنفسنا( اهـ.
وبالجملة ،فإن منهج سيد قطب رحمه اللــه تعــالى
في الظلل دائر بيـن التأويـل الـذي أخـذ بـه أول ً قبـل
العودة على الظلل بالتنقيح ،وبين التفــويض الــذي آل
إليه رأيه أخيــرًا ،وكل الطريقيــن حــق ،بــل إن طريــق
التفويض الذي كان عليه جمهور السلف الصالح أولــى
بالتباع ما لم تدع ُ حاجة إلى التأويل.
وهذا الذي آل إليه رأي سيد قطب رحمــه اللــه تعــالى
هو من قبيل ما ينسب إلى بعــض الئمــة مثــل المــام
الجويني والرازي والغزالي وغيرهم ،ففهم البعض منه
دنــا هــذا
أنهم هجروا منهــج المــام الشــعري ،وقــد رد َ ْ
الفهم وبي ّّنا بطلنه ،كما بّينــا أيضـا ً أن منهــج الشــعري
تفــويض وتأويــل ،وأنهــم تركــوا التأويــل ورجعــوا إلــى
التفويض الذي كان عليه جمهور الســلف ،وذكرنــا أنــه
ليس بين المســلكين تنــاقض ،إذ كلهمــا قــائل بتنزيــه
اللــه تعـالى عــن سـمات النقــص والحــدوث ،وكلهمــا
ل ،والخلف أّولوا تفصي ً
ل. مؤّول ،فالسلف أّولوا إجما ً
وقال الشــيخ عمــر التلمســاني رحمــه اللــه تعــالى
)بعـــض مـــا علمنـــي الخـــوان ص (17/فــي قــوله تعالـــى
) والسموات مطويات بيمينه ( )إن هذه اليميــن
التي تشير إليها الية الكريمــة هــي التمكــن مــن طــي
السموات والرض ،أي القــدرة الــتي تفعــل مــا تشــاء
198
كيفما تشاء عندما تشاء( اهـ.
)الظلل وكــذا قــال ســيد قطــب عنــد هــذه اليــة
:(5/3062
)وكل ما ورد في القرآن والحديث من هذه الصور
والمشــاهد إنمــا هــو تقريــب للحقــائق الــتي ل يملــك
البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعــبير يــدركونه،
وفي صورة يتصورونها ،ومنه هذا التصوير لجانب مــن
حقيقة القدرة المطلقة التي ل تتقيد بشكل ول تتحيــز
في حيز ول تتحدد بحدود( اهـ.
)مجموعة وقال المام الداعية حسن البنا رحمه الله
ص :(411 رسائل المام
199
باطلن ل حظ لهما من النظر.
وبقي أمامنا رأيان همــا محــل أنظــار العلمــاء فــي
العقائد وهما رأي السلف والخلف.
مذهب السلف :نــؤمن بهــذه اليــات والحــاديث
كمــا وردت ونــترك بيــان المقصــود منهــا للــه تبــارك
وتعالى ،فهم يثبتــون اليــد والعيــن والعيــن والســتواء
والضــحك والتعجــب ...الــخ ،وكسسل ذلسسك بمعسسان ل
ندركها ،ونترك لله تبارك وتعالى الحاطة بعلمها...
أما الخلسسف :فقــد قــالوا إننــا نقطــع بــأن معــاني
ألفاظ هــذه اليــات والحــاديث ل يــراد بهـا ظواهرهــا،
وعلى ذلك فهي مجازات ل مانع من تأويلها (...اهـ.
ثـــم قـــال رحمـــه اللـــه تعـــالى )بيسسن السسسلف
والخلف :قد علمت أن مــذهب الســلف فــي اليــات
والحاديث التي تتعلق بصفات اللـه تبـارك وتعـالى أن
مّروها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفســيرها أو يُ ِ
تأويلها ،وأن مذهب الخلف أن يؤولوهــا بمــا يتفــق مــع
تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه( اهـ.
ثم بين رحمه الله تعالى أن كل المــذهبين حــق ول
يستلزم اختلفهم تكفيرا ً ول تفسيقًا.
وهو كما قال رحمــه اللــه إذ ل خلف بيــن الســلف
والخلف في هذا الباب ،وإنما هـو اختلف جـائز مبـاح،
فََر َ
ضه اختلف الظــروف الــتي كــان يعيشــها كــل مــن
200
السلف والخلف ،فزمن السلف كان خاليـا ً مــن بدعــة
القول بالظاهر والتجســيم فاقتضــى ذلــك أن يتوقفــوا
ول يقدموا على تفسير هــذه النصــوص ،بخلف أزمنــة
الخلــف الــتي شــاعت فيهــا مقــالت المبطليــن ممــا
دعاهم إلى التصريح بالتأويل.
ولكــن الخلف الحقيقــي هــو الواقــع بيــن الســلف
والخلف من جانب ومن يحملون هذه النصــوص علــى
ظواهرها وعلى مقتضى الحس من جانب آخر.
إن السلف الصالح والخلــف متفقــون جميعـا ً علــى
صرف هذه النصوص عــن ظاهرهــا المحــال فــي حــق
الله تعالى ،بل المة مجمعة على ذلك ،كيف ل وهــذه
الظواهر منفية عن اللــه تعــالى بــالقطعي مــن الدلــة
النقلية والعقلية ،وهــؤلء الــذين يصــرون علــى إثبــات
هــذه الظــواهر المســتلزمة لمعــان باطلــة ولــوازم
مســتحيلة ،ل يختلفــون معنــا فــي كــون هــذه اللــوازم
الباطلة من الجسمية والحد ونحوهــا منفيــة عــن اللــه
تعــالى ،إل أنهــم يجهلــون أن إثبــات الحقــائق اللغويــة
المعهودة والظواهر المتبادرة مــن المتشــابه يســتلزم
إثبات ما قد نفــوه وأجمعــت المــة علــى نفيــه وعلــى
تنزيه الله تعــالى عنــه وهــو الحــد والتحيــز والجســمية
ونحوها ،وكونهم ل يقرون بهذه اللوازم أمـٌر ل ُيقضــى
منه العجب ،لن إثبات الملزوم وهــو المعنــى الظــاهر
هنا ثم نفي اللزم وهو الجسمية ونحوها ل يعقــل لنــه
201
لزم ل ينف ّ
ك.
وإذا قيل لهم :إن هذه اللفاظ إنما وضعت للدللــة
علــى المخلــوق ،وأنــه ل يفهــم منهــا إذا حملــت علــى
الظاهر إل ذلك .قــالوا :إن الكلم فــي الصــفات فــرع
عــن الكلم فــي الــذات ،فكمــا أثبتــم ذاتـا ً ل كالــذوات
متصفة بالحياة والعلم والسمع والبصــر ،وغيرهــا ممــا
أطلقتم عليه صفات المعـاني ،ولم تؤولوا شــيئا ً منهــا،
أثبتــوا لــه تعـــالى اســتواء ووجهـا ً ويــدا ً وضــحكا ً وملل ً
وأصبعًا ..الخ على الحقيقة وبل تأويل!!
وهذه مغالطة وكلم يوهم ظــاهره أنــه حــق ،وقــد
يلتبس عند الخاطر الول على من لــم يــدقق ويمعــن
النظر ،ولكن مع قليل من التروي ينجلي للعقل فساد
باطنه.
وقضية هذا الكلم التسوية بين ما يعــرف بصــفات
المعاني وهذه اللفاظ والضافات الواردة في نصوص
المتشابه ،وهي قضية خاسرة كما سنبين.
إن الفــرق الــذي بيــن اللفــاظ الــتي تــدل علــى
الجســام ومــا إليهــا وبيــن اللفــاظ الــتي تــدل علــى
المعاني كبير وشاسع ،فالولى منها أول ما يتبادر إلى
الذهن عنــد ســماعها العضــو والجســم الــذي وضــعت
للدللة عليه ،فإذا أضيف ذلك اللفظ إلــى اللــه تعــالى
قطع العارف بالله أن ذلك المعنــى المتبــادر والظــاهر
من اللفظ محــال هنــا ومنفــي عــن اللــه تعــالى وإنمـا
202
سيق الكلم على سبيل
الستعارة والمجاز ،وذلــك كلفــظ )اليــد ،والصــبع،
والقــدم ،والســاق ،والــوجه ،والضــحك ،والســتواء،
والنــزول( ونحوهــا مــن اللفــاظ الــتي ترجــع حقائقهــا
المتبادرة منها إلى الحس.
أما الثانية منها وهي التي ترجع إلــى المعنــى مثــل
القدرة والرادة والسمع والبصر ونحوها فل يلـزم مـن
ن
حملهــا علــى ظاهرهــا وحقيقتهــا مشــابهة لنهــا معــا ٍ
مجردة وحقائقها واسعة ،فإذا أضيفت للخالق كان لها
حقيقة لئقة به تعالى ،وإذا أضيفت للمخلوق كانت لها
حقيقة لئقة به ولهذا السبب لم يضــطر علمــاء المــة
إلى صرفها عن ظاهرها.
ومما يعضد هذا القول أنه لم ينقــل عــن أحــد مــن
السلف الصالح رضوان الله عليهم أنه قال في شــيء
من صفات المعاني أمّروهــا بل كيــف ،أو ل تفســر ول
تكيف..الــخ .ومــا هــذا إل لفطنتهــم لهــذا الفــارق بيــن
النوعين من اللفاظ ،والمر واضح وبّين لمن كــان لــه
شيء من الطلع على علوم اللغة.
وانظر إلى قول المام أحمد رضي اللــه عنــه كمــا
جاء في عقيدته المروية عنــه فــي طبقــات الحنابلــة )
:(2/291
)إن لله تعالى يدين ،وهما صفة له في ذاته ،ليستا
بجارحتين وليستا بمركبتين ول جســم ،ول مــن جنــس
203
الجســام ،ول مــن جنــس المحــدود والــتركيب ،ول
البعاض والجوارح ،ول يقاس على ذلك ،ول له مرفــق
ول عضد ،ول فيما يقتضي ذلك من إطلق قولهم :يــد،
حت عــن رســول إل ما نطق به القــرآن الكريــم أو صـ ّ
الله صلى الله عليه وسلم السنة فيه( اهـ.
ل مـا يعلـقفقد نفى المام أحمد رضي الله عنه ك ّ
باللفظ من الظواهر الباطلــة مــن الجــوارح والبعــاض
حه بقــوله) :ول فيمــا يقتضــيض َ
والتركيب ونحوها ،وأو َ
ل ما يقتضــيه إطلق ذلك من إطلق قولهم :يـد( أي ك ّ
لفظ اليد من هذه المعاني الــتي م ـّرت مــن الجارحــة
ي عن رّبنا عّز وج ّ
ل. والجسم ونحوه ،كّله منف ّ
وقال أيضا ً رضي الله عنه في صــفة الســتواء )ول
سة ول بملقاة ،تعالى الله
يجوز أن يقال :استوى بمما ّ
عن ذلك علوّا ً كبيرًا( اهـ.
ص فــي نفــي الظــاهر المتبــادر مــن إطلق وهذا نـ ّ
اللفظ ،وهو ما يقول به الشاعرة ،فيثبتون لله تعــالى
يدين ووجها ً وعينا ً وأنه تعالى استوى على عرشه كمــا
قال سبحانه مخبرا ً عــن نفســه ،يثبتــون كــل مــا أثبتــه
تعالى لنفسه وأثبته رسوله صلى الله عليه وســلم لــه
وينزهونه عن ظواهر هذه اللفاظ ممــا يعهــده الخلــق
من أنفسهم وما يفهمــونه مــن لغــاتهم الــتي وضــعوها
لجل التعبير بها عما يحتاجون إليه من شؤونهم ،والله
ل عن كل ذلك. متعا ٍ
204
ولعل قائل ً أن يقول:
إنكم حيــن نفيتــم الظــواهر ع ّ
طلتــم مــا أثبتــه اللــه
تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليـه وسلم.
فنقول :نحن إنما نفينا الظواهر ونزهنا اللــه تعــالى
عنها ،وليس الظــاهر -قطعـا ً -هــو مــراد اللــه تعــالى
ومــراد رســوله عليــه الصــلة والســلم ،بــل إن هــذه
الظواهر باتفاق السلف والخلف منفية عن الله تعالى
عقل ً ونق ً
ل.
ف الصــفة الــتيونحن نفينا هذه الظــواهر ولــم نن ـ ِ
ل أحد من أهل الســنة ق ْ
أثبتها الله تعالى لنفسه ،فلم ي َ ُ
أن الله تعالى ليس له يدان أو ليــس لــه عيــن أو غيــر
مسـتوٍ علـى عرشـه ،كل ،بـل قـالوا للـه تعـالى يـدان
ولكن يده تعالى ليست بجارحــة ،وهــذا قــول الســلف
كما مّر عن المام أحمد ،ولله تعالى وجــه وهــو ليــس
بجارحة أو صورة أو جسم ،وهو قول السلف كما فــي
عقيدة المام أحمد ،ولله تعالى عين ليســت بجارحــة،
والله تعالى استوى على عرشه استواًء لئقا ً به تعالى
ليــس بمماســة ول بملقــاة ،وهــذا الــذي قــاله المــام
أحمد كما مّر ،وهكذا ،فتراهم يثبتون ما ثبــت بالكتــاب
والسنة الصــحيحة وينزهـون اللــه تعـالى عــن الظـاهر
الذي ُيفهَــم مــن اللفــظ بيـــن الخلــق ،وحيــن ُيســتبعد
الظاهر والحقيقة اللغوية المتبادرة من اللفظ ل يبقى
205
إل المجاز ،فترى جمهور السلف لحتمال اللفظ أكــثر
من معنى لديهم يتوقفون عــن تعييــن أحــدها مكتفيــن
بــالفهم الجمــالي للفــظ حســب مــوطنه مــن الكلم،
فيفهمون من قوله تعالى) بل يداه مبسسسوطتان (
أن الله تعالى جوادٌ كريم ل تفنى خزائنسسه ول
ينقطع عطساؤه ،ويفهمسون مسن قسوله تعسالى
) يد الله فوق أيديهم ( النصرة والثــواب ،وهكــذا،
لكن جمهــورهم لــم ينطــق بهــذه المعــاني ،لوضــوحها
عندهم وعدم الحاجة إلى التصريح بها لخلــوّ عصــرهم
مما يقتضي ذلك ،بيد أن هــذا لــم يمنــع البعــض منهــم
رضي الله عنهم من التصريح ببعض هذه المعاني كما
سيأتي معنا في مبحث تأويلت السلف.
على أننا نقول :إن الله تعالى هو من علمنــا كيــف
ل ما ل يليق بذاته العلية مــن هــذهننزهه وننفي عنه ك ّ
الظواهر ،كما جاء فــي الحــديث القدســي الــذي رواه
المام مسلم في فضل عيادة المريــض والــذي يقــول
فيه الرب تعــالى لعبــده يــوم القيامــة) :يا ابسسن آدم
مرضت فلم تعدني ...يا ابسسن آدم اسسستطعمتك
فلم تطعمني ...يا ابسسن آدم استسسسقيتك فلسسم
تسقني( كل ذلــك والعبــد يقــول )رب كيــف أعــودك
وأنــت رب العــالمين ...رب كيــف أطعمــك وأنــت رب
العالمين ..رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين( فــإنه
عندما استحال في عقل العبد الــذي ينــزه مــوله عــن
206
صفات المخلوقين وسمات الجسام وعوارض النقص
والفــات أن يمــرض ربــه ويعــوده علــى الحقيقــة وأن
يستطعم ويستسقي على الحقيقة ســأل )رب كيــف..
وأنــت رب العــالمين( أي أن حقــائق هــذه اللفــاظ ل
تليق به تعالى وهي محالة قطعا ً في حقه ،وما دامــت
منفية الظاهر والحقيقة فهي عنده بل معنــى مفهــوم.
ولهذا سأل )رب كيف( ،وهذا شأن كل لفظ من هــذه
اللفاظ التي مـن هـذا القبيـل عنـدما يسـتحيل معنـاه
الظــاهر والحقيقــي يستفســر عــن المـــراد منـــه بـــ
)كيف( ،وهذا الذي حدث من بعض العوام في الصــدر
الول حين أخذوا يسألون عن مثل هذه اللفاظ :كيف
استوى؟ كيــف ينــزل؟ كيــف يضــحك؟ فنهــاهم علمــاء
السلف عن الستفسار عن معانيها بقولهم )بل كيــف(
وألزموهم تنزيه الله تعالى عن ظواهرها ثم السكوت
بعد اليمان بأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
قال المام العز بن عبد السلم رحمــه اللــه تعــالى
)الشارة إلى اليجاز ص:(7/
)وأما قوله عليه السلم حكاية عن رب ّــه " مرضــت
فلم تعدني واســتطعمتك فلــم تطعمنــي واستســقيتك
فلم تسقني " فيحمــل علــى حــذف المضــاف تقــديره
ده ،واســتطعمك عبــدي فلــم مــرض عبــدي فلــم تعــ ْ
ل علــىقه ...ويــد ّ
سـ ـ ِ
تطعمه ،واستسقاك عبدي فلم ت ْ
ما قيل له استطعمتك فلــم تطعمنــي. هذا أن الملوم ل ّ
207
قال استبعادا ً لــذلك وتعجب ـا ً منــه -ل ّ
مــا لــم يتفطــن
لحذف المضاف وإرادة الــرب -كيــف أطعمــك وأنــت
رب العالمين؟ حمل ً للكلم على ظاهره ،فأظهر الرب
ده من تأويل كلمه فقال " :مرض سبحانه وتعالى مرا َ
مــه
ده واســتطعمك عبــدي فلــم تطع ْ عبــدي فلــم تعــ ْ
سقه( اهـ. واستسقاك عبدي فلم ت ْ
وقوله )حمل ً للكلم على ظاهره( أي أن العبد قال
ما لــم يتفطــن لغيــره مــن المعــاني ذلك مستبعدا ً له ل ّ
اللئقة بالله تعالى.
وقـال العلمـة ابـن خلـدون -رحمـه اللـه تعـالى -
)المقدمة ،1088/ 3بتحقيق علي عبدالواحد وافي(:
)إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الشــعري ونــاظر
مشـــيختهم – أي المعتزلـــة – فـــي مســـائل الصـــلح
والصلح ،فرفض طريقتهم وكان علــى رأي عبــد اللــه
بن سعيد بن كلب وأبي العبــاس القلنســي والحــارث
المحاسبي مــن أتبـــاع الســلف وعلــى طريقــة الســنة
فأيــد مقــالتهم – يعنــي الســلف – بالحجــج الكلميــة
وأثبت الصفات القائمة بــذات اللــه تعــالى مــن العلــم
والقـدرة والرادة ...وكـان مـن مـذهبهم إثبـات الكلم
والسمع والبصر ،لنها[ يعني هذه الصفات ]وإن أوهــم
ظاهرها النقص بالصوت والحــرف الجســمانيين ،فقــد
وجــد للكلم عنــد العــرب مــدلول آخــر غيــر الحــروف
والصوت وهو ما يدور فـي الخلـد والكلم حقيقـة فيـه
208
دون الول ....وأمــا الســمع والبصــر وإن كــان يــوهم
ة علــى إدراك المســموع إدراك الجارحة فهو يــد ّ
ل لغ ـ ً
والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لنه حقيقة لغويــة
فيهما( اهـ.
هــذا فيمــا يتعلــق بصــفات المعــاني ،أمــا الصــفات
الخرى التي يريد هــؤلء التســوية بينهــا وبيــن صــفات
المعاني وذلك بقولهم يجــب إثبــات حقائقهــا ومعانيهــا
الظاهرة كما هو الحــال فــي صــفات المعــاني فيقــول
العلمة ابن خلدون عنها:
)وأمــا لفــظ الســتواء والمجيــء والنــزول والــوجه
واليدين والعينين) (1وأمثال ذلك ،فعــدلوا عــن حقائقهــا
اللغويــة لمــا فيهــا مــن إيهــام النقــص بالتشــبيه إلــى
مجازاتهــا علــى طريقــة العــرب حيــن تتعــذر حقــائق
اللفاظ ،فيرجعون إلى المجاز ،كما في قــوله تعــالى:
ض ( وأمثــاله ،طريقسسة معروفسسة ) يريد أن ينق س ّ
لهم غير منكرة ول مبتدعة( اهـ.
ثــم قــال موضــحا ً ســبب أخــذ الخلــف بالتأويــل:
)وحملهم على هذا التأويـل وإن كـان مخالفـا ً لمـذهب
السلف في التفويض أن جماعــة ارتكبــوا فــي محمــل
هذه الصفات فحملوها على صــفات ثابتــة للــه تعــالى
مجهولــة الكيفيــة فيقولــون فــي) اسسستوى علسسى
209
العرش ( نثبت له استواء بحيــث مــدلول اللفــظ[ أي
على الحقيقة ]فــرارا ً مــن تعطيلــه ،ول نقــول بكيفيتــه
فرارا ً من القول بالتشبيه الــذي تنفيــه آيــات الســلوب
من قوله تعالى ) ليسسس كمثلسه شسسئ ( ) سسبحان
ما يشركون ما يصفون ( ) تعالى الله ع ّ الله ع ّ
( ) لم يلد ولم يولد ( ول يعلمــون مــع ذلــك أنهــم
ولجوا من بــاب التشــبيه فــي قــولهم بإثبــات اســتواٍء[
يعني ظاهره اللغوي وحقيقتــه المعهــودة عنــد الخلــق
]والستواء عند أهــل اللغــة إنمــا موضـوعه الســتقرار
والتمكــن وهــو جســماني .وأمسسا التعطيسسل السسذي
يشسسنعون بسسإلزامه وهسسو تعطيسسل اللفسسظ س س أي
ظاهره س فل محذور فيه وإنمسسا المحسسذور فسسي
تعطيل اللسسه) ...(1ثسسم يسسدعون أن هسسذا مسسذهب
السف ،وحاشسسا للسسه مسسن ذلسسك ،وإنمسسا مسسذهب
السلف ما قررناه أول ً من تفويض المراد بها
إلى الله والسكوت عن فهمهسسا ...ثسسم طسسردوا
ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه
والعينين واليسسدين والنسسزول والكلم بسسالحرف
()1أي نفي صفاته تعالى كأن يقال :لم يستو أو غير مستو ،أو
ليـس للـه يـدان أو وجـه أو ل يغضـب أو ل يحـب ونحـو ذلـك ممـا
وقعت بــه بعــض الفــرق المعطلــة فهــذا هــو المحظــور ،أمــا نفــي
الظاهرالمحال وإثبات الصفة التي أثبتها الله تعالى لنفسه أو أثبتها
له رسوله عليه الصلة والسـلم فليـس بمحظـور ،وهـذا مـا فعلـه
أهل السنة الشاعرة.
210
والصسسوت يجعلسسون لهسسا مسسدلولت أعسسم) (2مسسن
الجسمانية وينزهونه عسسن مسسدلول الجسسسماني
منها ،وهذا شسسيء ل يعسسرف فسسي اللغسسة ،وقسسد
درج على ذلك الول والخر منهسسم ،ونسسافرهم
أهل السنة من المتكلمين الشعرية والحنفية
ورفضوا عقائدهم في ذلك( اهـ.
وهذا الذي قرره وحرره العلمة ابن خلدون هو مــا
أطبقت عليه المة.
فإن قيل :قول الســلف )بل كيــف( و)أمروهــا كمــا
جاءت( ونحو ذلك مما نقل عنهم ،تفويض في الكيــف
إلى الله بعد إثبات المعنى الظاهر.
قلنا :إن نفي هذه المعــاني الظــاهرة متفــق عليــه
عند جميع العارفين بـالله تعـالى ،وقـد ذكرنـا قبــل أن
هذه الكيفيات المحسوسة مما يتنزه الله تعــالى عنهــا
211
ول يجوز وصفه بها لنها لــوازم ل تنفــك عــن المعــاني
الظاهرة من هذه اللفاظ ،وحاشا السلف الصــالح أن
يثبتوا لله تعــالى مــا يســتحيل فــي حقــه وهــم أعــرف
الخلق كافة بالله بعد رسول الله ‘.
وهذه نصوص العلماء فــي تنزيــه اللــه تعــالى عــن
الكيفيات المحسوسة:
من ذلك ما جــاء فــي كتــاب " العتقــاد " للحــافظ
البيهقي )ص :(93 /
قــال الحــافظ الــبيهقي :قــال الوزاعــي) :كــل مــا
وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفســيره تلوتــه
والسكوت عليه(.
قال البيهقي )وإنما أراد -والله أعلم -فيمسسا
تفسيره يؤدي إلى تكييسسف ،وتكييفسسه يقتضسسي
تشبيهه له بخلقه في أوصاف الحدوث( اهـ.
نقول :إن كل ما جــاء مــن نصــوص المتشــابه فــي
الصفات من هذا القبيل ،لن ظاهره ومعناه الحقيقــي
يؤدي إلــى التكييــف المقتضــي للتشــبيه ل محالــة ،فل
فرق بين إثبات المعنى الحقيقي لهــذه اللفــاظ وبيــن
التكييف المستحيل في حق الله تعالى ،وهذا بعينه ما
أشار إليــه المــام مالــك رضــي اللــه عنــه فــي القــول
المشهور عنه فــي الســتواء )الســتواء غيــر مجهــول،
والكيف غير معقول (..أي ل يعقل ،ول يجوز على الله
تعــالى ،لن التكييــف تحديــد ،واللــه تعــالى منــزه عــن
212
الحدود.
213
وقول المام أحمد الماّر قريبا ً )نؤمن بهــا ونصــدق
ول كيف ول معنى( صريح في كونهم رضي الله عنهم
يفوضون المعنى ،ول يحتمل التفسير بغير ذلك.
وقال المام الخطــابي معلقـا ً علــى حــديث أطيــط
العرش ما نصه )معالم السنن :(328 / 4
)هذا الكسلم إذا جرى على ظاهره كان فيه
نوع من الكيفية ،والكيفية عسسن اللسسه وصسسفاته
منفية (..ثم أخذ بتأويل الحديث على ما يليــق ،وقــد
مر معنا قريبًا.
وقال الحافظ ابن عبد الــبر -رحمــه اللــه تعــالى -
)التمهيد (144 / 7أثناء كلمه على حديث النزول بعد أن
نقل قول القائلين :ينزل تعالى بذاته .قال) :ليس هــذا
بشيء عنــد أهــل الفهــم مــن أهــل الســنة ،لن هذا
كيفية وهم يفزعسسون منهسسا لنهسسا ل تصسسلح إل
فيما يحاط به عيانًا ،وقد جل الله وتعالى عن
ذلك( اهس.
مــا ً الــذين
وقــال الحــافظ ابــن كــثير مفوضــا ً وذا ّ
يحملون المتشــابه علــى ظــاهره وذلــك فــي تفســيره
لقوله تعالى في سورة العراف )ثم استوى علسسى
العرش( ) (220 / 2ما نصه:
)فللناس في هذا المقام مقالت كثيرة جــدا ً ليــس
هــذا موضــع بســطها ،وإنمــا نســلك فــي هــذا المقــام
مــذهب الســلف الصــالح مالــك والوزاعــي والثــوري
214
والليــث بــن ســعد والشــافعي وأحمــد وإســحاق بــن
راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما ً وحديثا ً وهو
إمرارهــا كمــا جــاءت مــن غيــر تكييــف ول تشــبيه ول
تعطيــــل ،والظسسساهر المتبسسسادر إلسسسى أذهسسسان
المشبهين منفي عن الله فإن الله ل يشسسبهه
شيء من خلقه( اهس.
وقال الشــيخ ســلمة العزامــي القضــاعي -رحمــه
الله تعالى ) -الفرقان في ذيل السماء والصفات للبيهقي ص /
:(78
)ومجمـــل القـــول فـــي هـــذا البـــاب أن صـــفات
المحدثات على قسمين:
215
فسق الجوارح بكثير ،وقــد يعــذر العــامي فــي الجهــل
ببعض ذلك ،وأما من ارتفعت درجتــه عــن العاميــة فل
يعذر وإنما يعزر ،فإن كان داعية إلى رأيه كان الــذنب
أعظم والمر أخطر – عياذا ً بالله من ذلك.
القسم الثانى :
ما ل يدل على مـا ســبق مــن حيــث ذاتــه بــل مــن
حيث نقصه عــن الدرجــة العليــا فــي كمــاله ،كــالوجود
والحيـاة والعلـم والرادة والقـدرة وأشـباهها مـن كـل
صفة هي من حيث ذاتها كمال ،فهذا القسم هو للحق
تعالى بالصالة على أكمل درجاته وأبعدها عــن شــوب
النقص ،وأرفعها عن المكان ولوازمه ،واجب بوجــوب
موصوفه تبارك وتعالى ،قديم بقدمه بــاق ببقــائه ،أمــا
ث فيـه بإحـداث ما للخلق منـه فهـو لـه بـالعرض حـاد ٌ
ن غيُر واجب ،على درجة نازلة لئقة بحــال الحق ممك ٌ
الممكن ،بحيث ل نسبة بين ما اتصــف بــه الحــق جــل
وعــز ومــا اتصــف بـه الممكــن -أي المخلــوق -وأيــن
كل للــزوال غيــُر مملـــو ٍ ث قابــ ٌن حــاد ٌ
وجــود ٌ ممكــ ٌ
ب ف بــه حيــن اتصــافه بــه ،مــن الوجــود ِ الــواج ِ
للمتص ِ
ي البدي الذي يجل عن البتداء والنتهاء ،ويرتفــع الزل ّ
عن قبول الفناء؟!
...وبهذا يبين لك معنــى قــوله تعــالى فــي صــفة
ذاته العلية وكمالته المقدسة ) ليس كمثله شسسئ
( ) هسسو الحسسي ( ) وهسسو اللطيسسف الخسسبير (
216
) وهسسو العليسسم القسسدير ( ) ل يعلسسم مسسن فسسي
السموات والرض الغيب إل الله ( إلى أمثــال
هذه اليات الشريفة مــن كــل مــا دل علــى انحصــار
هذه الصفات فيه عز وجل ،وقصــرها عليــه .ولُبـ ـعْ دِ
ما بين حقــائق هــذه الصــفات فــي الممكــن -يعنــي
المخلوق -وحقيقِتها في الواجب -يعني الله تعالى -
قــال بعــض الفضـــلء :إن إطلق الوجــود والحيــاة
والعلم ونحوها على الممكن ما هو إل بالمجاز.
...وأرجــو بعــد هــذا البيــان لهــذين القســمين أن
تكون قد تكشفت لك تلك المغالطة الــتي قــد يفــوه
بها بعضهم في مناظرة أهل الســنة ...وهــو قــولهم:
إن الوجه والعين واليدين والقدمين والساق صــفات
كما أن الحياة والعلم والرادة والقدرة صفات ،وقــد
قلتــم بهــا فــي ذات اللــه ،فلمــاذا ل تقولــون بتلــك
الصفات الوجه وما ذكر معه؟ فكما قلتم له علــم ل
در ،فقولــوا لــه وجــه علــى
قـ َ
كالعلوم ،وقدرة ل كالـ ُ
الحقيقة ل كــالوجوه ويــد علــى الحقيقــة ل كاليــدي
ورجل على الحقيقة ل كالرجل وساق على الحقيقة
ل كالسوق ،ويتوسعون في ذلــك حــتى انخــدع بهــذا
الكلم من أهل الفضل من تروج عليه الحيل ،ويغره
الزخرف من القول ،ويزيد فــي رواج هــذا الزخــرف
أن هذه العبارة " :له وجــه ل كــالوجوه " توجــد مــن
بعض الكابرالمنزهين للحق عن الجزاء والجســمية
217
كمــا هــو الحــق ،وهــي مــن هــؤلء ـــ أي مثبــتي
الظواهرالحسية ـ مغالطة ..فإن السسوجه والعيسسن
واليسسسد والرجسسسل والسسسساق أجسسسزاء وأبعسسساض
وأعضاء لما هسسي فيسسه مسسن السسذوات،ل معسسان
وأوصاف تقوم بموصوفاتها ،فأين هي ممسسا
ألحقوهسسا بسسه مسسن الحيسساة والعلسسم والرادة
والقدرة؟!.
وهسسسل هسسسذا إل كتشسسسبيه العسسسالم بسسسالعلم
والبيض بالبياض؟!
...فإن قالوا :إنا ل نريد بالوجه وأخــواته مــا هــو
أجــزاء وأبعــاض ،بــل نريــد مــا هــو صــفات حقيقــة
كالعظمة والملــك والبصــر والقــدرة ،ولكنــا ل نعيــن
المراد.
قلنا لهم :مرحبا بالراجعين إلى الحق ...ول نــزاع
بيننا وبينكم( انتهى كلمه رحمه الله بتصرف يسير.
وجاء في كتاب مناهل العرفان للشيخ الزرقــاني
-رحمه الله تعالى (291 / 2) -ما نصه:
)لقــد أســرف بعــض النــاس فــي هــذا العصــر،
فخاضوا في متشابه الصفات بغيــر حــق ،وأتــوا فــي
حديثهم عنها وتعليقهم عليهــا بمــا ل يــأذن بــه اللــه،
ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيــه..
حتى بــاتت هــذه الكلمــات نفســها مــن المتشــابهات
ومــن المؤســف أنهــم يواجهــون العامــة وأشــباههم
218
بهذا ،ومن المحزن أنهــم ينســبون مــا يقولــون إلــى
سلفنا الصــالح ...مــن ذلــك قــولهم :إن اللــه تعــالى
يشــار إليــه بالشــارة الحســية!! ولــه مــن الجهــات
الست جهة الفوق ،ويقولون إنــه -تعــالى -اســتوى
على العرش بذاته استواًء حقيقيًا ،بمعنى أنه استقر
عليه استقرارا ً حقيقيًا ،غير أنهم يعــودون فيقولــون:
ليــس كاســتقرارنا وليــس علــى مــا نعــرف ،وهكــذا
يتناولون أمثال هذه الية ،وليس لهم فيمــا نعلــم إل
التشبث بالظواهر ،ولقد تجلــى لــك مــذهب الســلف
والخلــف فل نطيــل بإعــادته ...لــو أنصــف هــؤلء
لســكتوا عــن اليــات والخبــار المتشــابهة ،واكتفــوا
بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحـدوث
ولوازمـه ،ثم فوضـوا المـر إلى الله وحـده( اهـ.
وقال العلمة محمود بن خطاب السبكي -رحمه
الله تعالى ) -الدين الخالص :(28 / 1
)وأمــا الســلف والخلــف فــإنهم مجمعــون علــى
ثبوت صفات الله تعالى الواردة في الكتــاب العزيــز
والسنة المحمدية ،وإنما خلفهم في تفــويض معنــى
المتشابه وهو مذهب السلف ،وفي بيان معناه وهــو
مذهب الخلف( اهـ.
قال المــام ابــن الجــوزي -رحمــه اللــه تعــالى -
)دفع شبه التشبيه ص 97 /وما بعدها(:
)ورأيت من أصحابنا من تكلم في الصول بمــا ل
219
يصلح ،فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ،ورأيتهــم قــد
نزلــوا إلــى مرتبــة العــوام فحملــوا الصــفات علــى
مقتضى الحس ،فســمعوا أن اللــه تعــالى خلــق آدم
علــى صــورته فــأثبتوا لــه صــورة ووجه ـا ً زائدا ً علــى
الــذات ،وعينيــن وفمــا ولهــوات ،وأضراســا وأضــواء
ف ـا ً وخنصــرا ً
لوجهه هي السبحات ،ويدين وأصابع وك ّ
وإبهاما َ وصدرا ً وفخذا ً وساقين ورجلين.
وقالوا :ما سمعنا بذكر الرأس.
دني العبد مــن
س ،وي ُ ْ
م ّ
س وي ُ َ
م ّ
وقالوا :يجوز أن ي َ َ
ذاته.
وقال بعضهم :ويتنفس.
ثم يرضون العوام بقولهم :ل كما يعقل!!
وقــد أخــذوا بالظــاهر فــي الســماء والصــفات،
فسموها بالصفات تسمية مبتدعة ل دليــل لهــم فــي
ذلــك مــن النقــل ول مــن العقــل ،ولــم يلتفتــوا إلــى
النصــوص الصــارفة عــن الظــواهر إلــى المعــاني
الواجبة لله تعالى ،ول إلى إلغاء مــا يــوجبه الظــاهر
من سمات الحدوث ،ولم يقنعوا بــأن يقولــوا :صــفة
فعــل .حــتى قــالوا :صــفة ذات ،ثــم لمــا أثبتــوا أنهــا
صفات ذات ،قالوا :ل نحملها على توجيه اللغة مثــل
يد على نعمة وقدرة ،ومجيء وإتيان على معنى بـــر
ولطف ،وساق على شدة ،بــل قــالوا :نحملهــا علــى
ظواهرها المتعارفة ،والظاهر هو المعهود من نعوت
220
الدمييــن ،والشــيء إنمــا يحمــل علــى حقيقتــه إذا
أمكــن ،ثــم يتحرجــون مــن التشــبيه ،ويأنفـــون مــن
إضافته إليهم ،ويقولون :نحن أهل الســنة .وكلمهــم
صـــريح فـــي التشبيــــه ،وقـــد تبعهـــم خلـــق مـــن
العـوام.(...
إلــى أن قــال) :فلــو أنكــم قلتــم نقــرأ الحــاديث
مــُلكم إياهــا
حـ ْ
ونسكت ،ما أنكر عليكــم أحــد ،إنمــا َ
على الظاهر قبيح( اهـ.
وقال المام ابن القشيري -رحمه اللــه تعــالى -
)إتحاف السادة المتقين :(109 / 2
)يقولــون -يعنــي أهــل الظــاهر -نحــن نأخــذ
بالظاهر ونجــري اليــات الموهمــة تشــبيها ً والخبــار
المقتضية حــدا ً وعضــوا ً علــى الظــاهر ،ول يجــوز أن
نطــرق التأويــل إلــى شــيء مــن ذلــك ،ويتمســكون
بقــوله تعــالى) ومسسا يعلسسم تسسأويله إل اللسسه ( ...
وأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا فــي قلــوبهم
وصف المعبود سبحانه بالعضاء والجوارح والركوب
والنــزول والتكــاء والســتلقاء والســتواء بالــذات
والــتردد فــي الجهــات ،فمــن أصــغى إلــى ظــاهرهم
يبـــادر بـــوهمه إلـــى تخيـــل المحسوســـات فيعتقـــد
الفضائح ،فيسيل به السيل وهو ل يدري( اهـ.
)مناهــل قال الشيخ الزرقاني -رحمه الله تعالى -
العرفان :(292 / 2
221
)فالعمــدة عنــدنا فــي أمــور العقــائد هــي الدلــة
القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليــس جســما ً
جــا لحــدول متحيًزا ول متجــزًئا ول مركب ًــا ،ول محتا ً
ول إلى مكان ول إلى زمان ،ول نحو ذلك ،ولقد جاء
القرآن بهذا في محكماته ،إذ يقول ) :ليس كمثله
شسسئ ( ويقسسول ) قسسل هسسو اللسسه أحسسد ،اللسسه
الصمد ،لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفوا ً
ىن اللسسه غنس ّ
أحد ( ويقول ) :إن تكفسسروا فسسأ ّ
عنكم ول يرضى لعباده الكفر ،وإن تشكروا
يرضه لكم ( ويقسسول ) :ياأيهسسا النسساس أنتسسم
ى الحميد ( الفقراء إلى الله ،والله هو الغن ّ
وغير ذلك كثير في الكتــاب والســنة ،فكــل مــا جــاء
مخالفا ً بظاهره لتلــك القطعيــات والمحكمــات فهــو
من المتشابهات التي ل يجوز اتباعها ،كما تــبين لــك
فيما سلف.
ثـــم إن هـــؤلء -يعنـــي القـــائلين بـــالظواهر -
متناقضــون ،لنهــم يثبتــون تلــك المتشــابهات علــى
حقائقهــا ،ول ريــب أن حقائقهــا تســتلزم الحــدوث
وأعــراض الحــدوث ،كالجســمية والتجــزؤ والحركــة
والنتقــال ،لكنهــم بعــد أن يثبتــوا تلــك المتشــابهات
علــى حقائقهــا ينفــون هــذه اللــوازم ،مــع أن القــول
بثبوت الملزومات ونفــي لوازمهــا تنــاقض ل يرضــاه
لنفسه عاقل ،فضل ً عن طالب أو عالم ،فقولهم في
222
مســألة الســتواء النفــة :إن الســتواء بــاق علــى
حقيقتــه يفيــد أنــه الجلــوس المعــروف المســتلزم
للجســمية والتحيــز ،وقــولهم بعــد ذلــك ليــس هــذا
الستواء على مــا نعــرف ،يفيــد أنــه ليــس الجلــوس
المعــروف المســتلزم للجســمية والتحيــز ،فكــأنهم
يقولون :إنه مستو غير مستو ومستقر على العرش
غيــر مســتقر ،أو متحيــز غيــر متحيــز ،وجســم غيــر
جســم ،أو أن الســتواء علــى العــرش ليــس هــو
الستواء على العرش ،والســتقرار فــوقه ليــس هــو
الستقرار فوقه ...فإن أرادوا بقولهم الستواء على
حقيقتــه ،أنــه علــى حقيقتــه الــتي يعلمهــا اللــه ول
نعلمها نحن ،فقد اتفقنا ،لكن تعبيرهم هذا موهم ،ل
يجــوز أن يصــدر مــن مــؤمن ،خصوصــا ً فــي مقــام
التعليم والرشاد وفي موقف النقاش والحجاج ،لن
القول حقيقة أو مجاز ل ينظر فيه إلى علم الله وما
هو عنده ،ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له
اللفظ في عرف اللغة ،والستواء في اللغة العربيــة
يدل على مــا هــو مســتحيل علــى اللــه فــي ظــاهره
فلبد إذن من صرفه عــن هــذا الظــاهر ،واللفــظ إذا
صرف عما وضع له واستعمل في غير مــا وضــع لــه
خرج عن الحقيقة إلى المجــاز ل محالــة ،مــا دامــت
هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الصلي ،ثــم إن
كلمهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامــة وفتنــة
لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه؟!
223
وفي ذلك مــا فيــه مــن الضــلل وتمزيــق وحــدة
المة ،المر الــذي نهانــا القــرآن عنــه ،والــذي جعــل
عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يفعل ما فعل بصــبيغ،
وجعل مالكا ـ ـ رحمــه اللــه تعــالى ـ ـ يقــول مــا قــال
ويفعل ما فعل بالذي سأله عن الستواء.
ولو أنصــف هــؤلء لســكتوا عــن اليــات والخبــار
المتشابهة ،واكتفوا بتنزيــه اللــه تعــالى عمــا تــوهمه
ظواهرها من الحــدوث ولــوازمه ،ثــم فوضــوا المــر
في تعيين معانيها إلى الله وحده( اهـ.
وبأقوال أئمة الســلم وأعلم المــة ينجلــي فــي
هذه القضــية وجــه الحــق ،وتتضــح المحجــة ،ويتــبين
على وجــه اليقيــن أنــه ليــس لهــل الحــق فــي هــذه
المســألة إل قــولن ،التفــويض الــذي عليــه أكــثر
السلف ،والتأويل الذي عليه أكثر الخلف وجماعــات
من السلف ،وليس بعد هذين المذهبين إل التعطيــل
أو التشبيه.
*****
التأويل والتعطيل
224
التأويل والتعطيل كلهما أسند إلى الشاعرة على
سبيل القدح والتشنيع ..أما التأويل فقد تبين لك كونه
شعارا ً لهل الحق أمام أهل البدعة من المشبهة
والمجسمة ،فاستحقوا به المدح ل القدح ،والمنقبة ل
المذمة.
وأما التعطيل فهم منه براء ..وكيف ينسب إلى
الشاعرة التعطيل وهم المثبتة للصفات المنزهون
لله تعالى عن جميع الفات وسمات النقص
والمخلوقات ،وهم المنتسبون إلى إمام أهل السنة،
وشوكة أصحاب الحق في حلوق المبتدعة.
وإنما الذي أوقع من يتهم الشاعرة في ذلك أنهم
لم يدركوا حقيقة الفرق بين التأويل والتعطيل ،أو
أنهم لم يدركوا الفرق بين نفي أصل الصفة ونفي
المعنى الحسي الظاهر والحقيقة اللغوية التي ل تليق
بالله تعالى.
وعلى أية حال سنحاول في ما يأتي بيان هذا
الفرق ،ولكن قبل ذلك ل بد من بيان معنى التعطيل.
*****
225
حقيقة التعطيل
*****
226
هل عطل الشاعرة صفات الله تعالى
227
للسلف الصالح )شرح مسلم (36 / 6ما نصه:
)هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان
مشهوران للعلماء ....ومختصرهما أن أحدهما وهو
مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين ...والثاني
مذهب المتكلمين وجماعات من السلف وهو
ل علىمحكي عن مالك والوزاعي أنها تتأو ّ
ما يليق بها بحسب مواطنها( اهـ.
وقال المام الزركشي -رحمه الله تعالى -في
النصـوص المتشـابهة )البرهان في علوم القرآن :(207/ 2
)اختلف الناس في الوارد منها في اليات
والحاديث على ثلث فرق:
أحدها :أنه ل مدخل للتأويل فيها ،بل تجري
على ظاهرها ول تؤول ...وهم المشبهة.
والثاني :أن لها تأويل ً ولكّنا نمسك عنه مع تنزيه
اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل ،ونقول ل يعلمه إل
الله .وهو قول السلف.
ولة ،وأولوها على ما يليق
والثالث :أنها مؤ ّ
به.
والول باطل ،والخيران منقولن عن
ي وابن
قل عنه التأويل عل ّ
الصحابة ...وممن ن ُ ٍ
مسعود وابن عباس وغيرهم( اهـ.
وقال العلمة الشوكاني -رحمه الله تعالى -
228
)إرشاد الفحول ص :(176 /
)الفصل الثاني :فيما يدخله التأويل ،وهو قسمان،
أحدهما أغلب الفروع ،ول خلف في ذلك ،والثاني:
الصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عّز
ل.وج ّ
وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلثة مذاهب (.
ونقل المذاهب الثلثة التي ذكرها الزركشي ثم
قال:
)قال ابن برهان :الول من هذه المذاهب
باطل ،والخران منقولن عن الصحابة،
ي وابنل هذا المذهب الثالث عن عل ّ ق َ
ون ُ ِ
مسعود وابن عباس وأم سلمة( اهـ.
ويؤيد هذا أيضا ً ما نقله العلماء عن بعض أئمة
السلف من التأويلت لبعض نصـوص المتشابه ،نذكر
منها على سبيل الجمال:
تأويل ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الساق
بشدة المر ،وكذلك مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة
وسعيد بن جبير وغيرهم) .الطبري ،38 / 29القرطبي / 18
(249
وتأويلهم للفظ الوجه في قوله تعالى ) فأينما
توّلوا فث ّ
م وجه الله ( .
قال مجاهد :قبلة الله) .الطبري .(402 / 1
229
ك إل وجهه ( ئ هال ٌ
لش ٍ وقوله تعالى ) ك ّ
قال مجاهد وأبو عبيدة والضحاك :إل هو) .القرطبي
،322 / 13الطبري ،82 / 20دفع شبه التشبيه ص .(113 /
وقال أبو العالية وسفيان :إل ما أريد به وجهه.
وقال الصادق :دينه .وقال أبو عبيدة أيضًا :إل جاهه.
)القرطبي .(322 / 13
وتأويل ابن جرير الطبري للستواء بالعلو
والسلطان )في تفسيره (1/192ويروى شيء قريب من
هذا عن الحسن والثوري) .مرقاة المفاتيح ،137 /2
وتفسير العز بن عبد السلم ) .(486 - 485 / 1وجاء
ربك (
)ذكره ابن وتأويل أحمد لقوله تعالى قال :جاء ثوابه.
كثير من رواية البيهقي ثم نقل قول البيهقي :وهذا إسناد ل غبار
عليه .البداية والنهاية ،(327 / 10وهو مروي عن سيدنا
ابن عباس رضي الله عنهما) .تفسير النسفي ،378 / 4
في هامش تفسير الخازن(.
)السماء والصفات وتأويـل البخاري للضحك بالرحمة.
ئ
ل شس ٍ للبيهقي ص (470 /وتأويـله لقوله تعالى ق) ك ّ
هال ٌ
ك إل وجهه ( قال :إل ملكه) .الفتح .(364 / 8
وغير ذلك مما سيأتي بيانه وتفصيله في مبحث
تأويلت السلف الصالح ،وهي كثيرة جدا ً تزخر بها
كتب التفسير والحديث وغيرها .وهو أمر ثابت ل
230
سبيل إلى جحده ،ولن يتأتى لمكابر إنكاره.
إن التعطيل كما هو واضح من تعريفه نفي صفات
الباري سبحانه ،والشاعرة لم ينفوا صفة لله تعالى
ثبتت بطريق صحيح ،ومؤلفاتهم تشهد بهذا ،غاية ما
فعلوه أنهم حملوا هذه النصوص التي تقتضي
ظواهرها وحقائقها تشبيه الله تعالى بخلقه على وجه
تعرفه العرب ل ينافي تنزيه الله تعالى ،وفرق كبير
بين نفي ما أثبته الله تعالى كما فعل الجهمية ،وبين
إثباته ثم حمله على معنى لئق بالله تعالى مشهور
في اللسان العربي بعد أن استحال الظاهر.
ولنأخذ على ذلك مثال ً ليزداد المر وضوحًا ،قال
الله تعالى ) الرحمن على العرش استوي (
ن كثيرة ٌ ما بين حقيقة ومجاز، فللستواء في اللغة معا ٍ
وكل ما كان حقيقة من معاني الستواء ل يليق بالله
سي جسماني وكل ما تعالى ،لن الستواء فعل ح ّ
كان من هذا القبيل ظاهره وحقيقته اللغوية قطعا ً ل
تليق بالله تعالى ،ولهذا فإنه ل محيص من المصير
إلى المعاني المجازية ،وهذا ما فعله العلماء ،فهم
رحمهم الله عندما رأوا استحالة المعاني الحقيقية
للستواء في حق الله تعالى أثبتوا ما أثبته الله تعالى
لنفسه أو أثبته له رسوله عليه الصلة والسلم ،ثم
نّزهوا الله عن ظاهر اللفظ فنفوا الحقيقة اللغوية
المعهودة بين الخلق ،وقالوا استوى رّبنا تعالى كما
231
أخبر استواًء ليس كاستواء البشر ـ كما يتبادر من
سة والحلولظاهر اللفظ ـ استواًء منزها ً عن المما ّ
والستقرار وغير ذلك من المعاني الباطلة.
وهذه نصوصهم في ذلك:
)إحياء علوم قال المام الغزالي -رحمه الله تعالى -
الدين :(90 / 1
)وأنه تعالى مستوٍ على العرش على الوجه الذي
قاله وبالمعنى الذي أراده ،استواًء منّزها ً عن
سة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال ،ل المما ّ
يحمله العرش ،بل العرش وحملته محمولون بلطف
قدرته ومقهورون في قبضته(.
وقال أيضا ً )الحياء ) (108 / 1الصل الثامن :العلم
بأنه تعالى مستوٍ على عرشه بالمعنى الذي أراده الله
تعـالى بالستـواء وهو ل ينافي الكبريـاء ول يتطرق
إليه سمـات الحدوث والفناء( 1هـ.
فبالله خّبرونا أي تعطيل في هذا ؟!
في هنا إل ما يجب نفيه عن الله تعالىوهل ن ُ ِ
ويحرم إثباته؟!
فالشاعرة لم يعطلوا صفة الستواء ،كل ،لكنهم
نزهوا الله تعالى عن المعنى الحسي المحال
للستواء الذي هو الجلوس والستقرار وهو المعنى
الظاهر من اللفظ ،ومثبته ل محالة واقع في التشبيه
232
ص العلماء على أن الحمل على
ومائل إليه ،ولقد ن ّ
الظاهر تشبيه.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى -أثناء
شرحه لحديث النزول )الفتح :(36 / 3
233
)(103 / 7وقال المام الطبري رحمه الله تعالى
في تفسير قوله تعالى ) وهو القاهر فوق
صه )فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه(
عباده ( ما ن ّ
أي هم دونه من هذه الحيثية ،ل من حيث الحس
والمكان.
وقـال في تفسيـره للستـواء )) (192 / 1عل عليهم
علوّ ملك وسلطان ل علوّ انتقال وزوال( اهـ.
وقال المام القرطبي ) (399 / 6في تفسير قوله
تعالى
) وهو القاهر فوق عباده ( )ومعنى فوق عباده
فوقية الستعلء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت
تسخيره ل فوقية مكــان( اهـ.
)الفتح :(158 / 6 وقال الحافظ ابن حجر
)ول يلزم من كون جهتي العلوّ والسفل محال
و
و ،لن وصفه بالعل ّ على الله أن ل يوصف بالعل ّ
من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من
س( اهـ. جهة الح ّ
وقال أيضا ً )الفتح (508 / 1عند شرحه لحديث )إن
أحدكم إذا قام في صلته فإنه يناجي ربه ..فإن الله
في قبلته(.
قال الحافظ )فيه ردّ على من زعم أنه –
تعالى – على العرش بذاته( اهس.
234
وقال المام بدر الدين بن جماعةرحمه الله:
) ثم استوي على العرش ( ورد في خمس
آيات وفي سادسة في طه ) الرحمن على
العرش استوي ( والقرآن نزل بلغة العرب ومعاني
كلمهم وما كانوا يتعقلون من خطابهم( ثم أخذ رحمه
الله ببيان معاني الستواء في اللغة ،ثم قال:
)واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما ل يليق
من ذلك بجلل الرب تعالى غير مراد كالقعود
والعتدال ،واختلفوا في تعيين ما يليق بجلله من
المعاني المحتملة كالقصد والستيلء ،فسكت السلف
عنه وأّوله المتأولون على الستيلء والقهر لتعالي
ل عن سمات الجسام من الحاجة إلى الرب عّز وج ّ
الحّيز والمكان ،وكذلك ل يوصف بحركة أو سكون أو
اجتماع وافتراق ،لن ذلك كله من سمات المحدثات
وعروض العراض ،والرب تعالى مقدس عنه ،فقوله
تعالى) استوي ( يتعين فيه معنى الستيلء والقهر
ل القعود والستقرار ،إذ لو كان وجوده مكانيا ً أو
دمهـما عليه زمانيا ً للزم قدم الزمان والمكان أو تق ّ
تعالـى وكلهما
سا ً -عنباطل ...فإن قيل :نفي الجهة -أي ح ّ
الموجود يوجب نفيه -أي الموجود – لستحالة موجود
من غير جهة .قلنا :الموجود قسمان :موجود ل
يتصرف فيه الوهم والحس والخيال ،ول يقبل التصال
235
والنفصال .وموجود يتصرف ذلك فيه ويقبله.
فالول ممنوع الستحالة -أي ل يستحيل وجوده
بغير جهة -والرب تعالى ل يتصرف فيه ذلك ،إذ ليس
ح وجوده عقل ً من بجسم ول عرض ول جوهر ،فص ّ
ل الدليل العقلي على وجوده غير جهة ول حيز ،كما د ّ
مع نفي الجسمية والعرضية مع ُبعد الفهم الحسي له،
ل على نفي الجهة والحيز مع ُبعد الفهم فكذلك د ّ
والحس له ......فإن قيل :قال الله تعالى ) إليه
يصعد الكلم الطيب ( وهذا ظاهر في الجهة،
وكذلك قوله تعالى) تعرج الملئكة والروح إليه (
م َيعرج إليه ( الية .قلنا :ليس وقوله ) ث ّ
المراد بالغاية هنا غاية المكان ،بل غاية
انتهاء المور إليه ،كقوله تعالى ) أل إلى الله
تصير المور ( و ) إليه يرجع المر كّله (
وكقول الخليل ) إني ذاهب إلى ربى
سيهدين ( ...وهو كثير ،فالمراد النتهاء إلى ما
ده لعباده والملئكة من الثـواب والكرامة والمنزلة. أع ّ
فإن قيل :إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا ً
قبل ،أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه ،أو
عاجزا ً ثم قدر .قلنا :المراد بهذا الستيـلء القـدرة
التـامة الخـالية عن معـارض ...فان قيسل:
فالستيـلء -أي بهـذا المعنى -حاصل بالنسبة إلى
جميع مخلوقاته ،فما فائدة تخصيصه بالعرش .قلنا:
236
ص بالذكر لنه أعظم المخلوقات إجماعًا ،كما خ ّ
ص خ ّ
ُ
ب العرش ( وهو رب كل شيء ،وإذا بقوله ) ر ّ
استولى على العرش المحيط بكل شيء استولى
على الكل قطعًا .إذا ثبت ذلك فمن جعل
الستواء في حقه تعالى ما يفهم من صفات
المحدثين ،وقال :استوى بذاته ،أو قال:
استوى حقيقة ،فقد ابتدع بهذه الزيادة التي
لم تثبت في السنة ول عن أحد من الئمة
المقتدى بهم( اهـ) .إيضاح الدليل ص 101/ـ ،107إتحاف
الكائنات ،للشيخ محمود بن خطاب السبكي ص ،67 - 66 /ويبدو
أن النسخة التي اعتمد عليها الشيخ أوثق من نسخة ناشر الصل،
لذا اعتمدنا لفظ التحاف(.
وقس على الستواء جميع ما هو ثابت من نصوص
الصفات ،يثبتون كل ذلك بل تشبيه ول تمثيل،
ويؤولون -إذا استحال الظاهر -بل تعطيل ،يثبتون ما
أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان نبّيه ‘
بعد أن ينزهوه تعالى عن كل ما ل يليق به سبحانه
من ظاهر اللفظ ،وهذا القدر من معنى اللفظ هو
المنفي عندهم لستحالة أن يتصف الله تعالى به،
وهو القدر الذي يجب نفيه ،ومثبته ل محالة واقع في
التشبيه أو التجسيم أو مائل إليه.
على أن التأويل ليس عنه محيص ،وكل الذين
يفرون منه مضطرون إليه ل محالة ،وإل فماذا
237
عساهم أن يقولوا في مثل قوله تعالى ) نسوا الله
فنسيهم ( وقوله سبحانه ) اليوم ننساكم
كما نسيتم لقاء يومكم هذا (
وقوله عّز وج ّ
ل ) وهو معكم أينما كنتم (
وقوله سبحانه ) ما يكون من نجوى ثلثة
إل هو رابعهم ول خمسة إل هو سادسهم ول
أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم أينما
كانوا (
وقوله تعالى ) الله يستهزئ بهم (
وقوله تعالى ) والله خير الماكرين (
وقوله تعالى ) يخادعون الله وهو خادعهم
(
ل الله حتى تمّلوا(.
وقوله ‘ )ل يم ّ
وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكيا ً عن رّبه عّز
وج ّ
ل ) ..ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(.
وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكيا ً عن ربه تعالى
دني(.
)عبدي مرضت فلم تع ْ
وقوله ‘ )فإن موسى الله أحد ّ من موساك،
وساعد َ الله أشد ّ من ساعدك(.
ي كريم يستحيي من حي ّ
وقوله ‘ )إن الله تعالى َ
دهما صفرا ً ليس فيهما شيء(.عبده أن يرفع يديه فير ّ
وقوله ‘ )إن الله يضحك.(...
238
وقوله ‘ )إن الله يغار.(...
وقوله ‘ )إن الله يعجب.(...
وغير ذلك من النصوص ،أتراهم يثبتون ظواهرها
وحقائقها المعهودة المعروفة بين البشر أيضًا،
فيقولون:
نثبت لله نسيانا ً حقيقيا ً ومكرا ً حقيقيا ً وخداعا ً
حقيقيا ً واستهزاًء حقيقيا ً ومرضا ً حقيقيا ً وهرولة
حقيقية وسـاعدا ً شديدا ً حقيقيًا ،وموسى حاد ّةً
حقيقية ،وملل ً حقيقيًا ،وعجبا ً وغيرة ً وحيـاًء وترددا ً
ل ذلك ة وقربا ً بالذات والمسافات ،ك ّ وضحكا ً ومعي ّ ً
على الحقيقة؟!!
ول نظن أن أحدا ً يماري ويكابر في استحالة هذه
الظواهر وفي نفيها عن الله تعالى ،فكذا ظاهر
الستواء والنزول والمجيء ونحوها يجب نفيه ومنعه
لتحاد العّلة في الجميع وهي استحالة الظاهر
والحقيقة.
قال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى -
)تبيين كذب المفتري ص:(388 /
)فإنهم – يعني الشاعرة – بحمد الله ليسوا
معتزلة ،ول نفاة لصفات الله معطلة ،لكنهم يثبتون له
سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات ،ويصفونه بما
اتصف به في محكم اليات ،وبما وصفه به نبّيه ‘ في
239
صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والفات،
فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من
المجسمة والمشبهة ،ولقوا من يصفه بصفات
المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ
يسلكون طريق التأويل ،ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح
الدليل ،ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفا ً
ظلم التشبيه ،فإذا أمنوا منمن وقوع من ل يعلم في ُ
ذلك رأوا أن السكوت أسلم ،وترك الخوض في
التأويل إل عند الحاجة أحزم ،وما مثالهم في ذلك إل
ل داء من الدواءمثل الطبيب الحاذق الذي يداوي ك ّ
بالدواء الموافق ،فإذا تحقق غلبة البرودة على
المريض داواه بالدوية الحاّرة ،ويعالجه بالدوية
الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة ،وما هذا في
ضرب المثال إل كما ُرويَ عن سفيان :إذا كنت
ي رضي الله عنه ،وإذا كنت دث بفضائل عل ّ بالشام فح ّ
دث بفضائل عثمان رضي الله عنه. بالكوفة فح ّ
وما مثال المتأّول بالدليل الواضح إل مثال الرجل
السابح ،فإنه ل يحتاج إلى السباحة ما دام في البر ،فإن
اتفق له في بعض الحايين ركوب البحر ،وعاين هوله
عند ارتجاجه وشاهد منه تلطم أمواجه ،وعصفت به
فلك ،وأحاط به إن لم يستعمل الريح حتى انكسر ال ُ
السباحة الُهلك ،فحينئذ يسبح بجهده طلبا ً للنجاة ،ول
يلحقه فيها تقصير حب ّا ً للحياة ،فكذلك المو ّ
حد ما دام
240
جة التنزيه ،آمنا ً في عقده من ركوب ل ّ
جة سالكا ً مح ّ
التشبيه ،فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل
در
لسلمة عقيدته من التشبيه والباطيل ،فأما إذا تك ّ
صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل ،فل بد ّ من تصفية
قلبه من الكدر بمصفاة التأويل ،وترويق ذهنه براووق
الدليل ،لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل( اهـ.
وقال المام أبو نصر القشيري رحمه الله تعالى
)إتحاف السادة المتقين :(108 / 2
)فإن قيل :أليس الله يقول ) الرحمن على
العرش استوي ( ؟ فيجب الخذ بظاهره.
قلنا :الله يقول أيضا ً ) وهو معكم أينما
ل شئ كنتم ( ويقول تعالى ) أل إّنه بك ّ
محيط ( فينبغي أيضا ً أن تأخذ بظاهر هذه
اليات حتى يكون – تعالى – على العرش
وعندنا ومعنا ومحيسطا ً بالعالم محدقا ً به
بالذات في حالة واحدة ،والواحد يستحيل أن
ل مكان .قالوا :قوله تعالى يكون بذاته في ك ّ
) وهو معكم ( يعني بالعلم ،و ) بكل شسئ
محيط ( إحاطة العلم.
قلنا :وقوله تعالى ) على العرش
استوي ( قهر وحفظ( اهس.
جة السلم الغزالي رحمه الله تعالى
وقال المام وح ّ
)الحياء :(108 / 1
241
)الصل الثامن :العلم بأنه تعالى مستوٍ على عرشــه
بالمعنى الذي أراده الله تعالى بالستواء ،وهــو الــذي ل
ينافي وصف الكبرياء ،ول يتطرق إليه سـمات الحــدوث
والفناء ،وهو الذي أريد بالستواء إلى السماء حيث قال
في القرآن إ) ثم استوي إلى السماء وهى دخان
( وليسسس ذلسسك إل بطريسسق القهسسر والسسستيلء..
واضطّر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطّر
أهل الباطسسل إلسسى تأويسسل قسسوله تعسسالى ) وهسسو
معكسسم أينمسسا كنتسسم ( إذ حمــل ذلــك بالتفــاق علــى
الحاطــة والعلــم وحمــل قولـــه ‘ )قلــب المــؤمن بيــن
إصــبعين مــن أصــابع الرحمــن( علــى القــدرة والقهــر،
وحمل قوله ‘ )الحجــر الســود يميــن اللــه فــي أرضــه(
على التشريف والكرام ،لنه لو ترك على ظاهره للزم
منه المحال ،فكــذا الســتواء لــو تــرك علــى الســتقرار
سا ً للعــرش والتمكن لزم منه كون المتمكن جسما ً مما ّ
دي إلــىإما أكبر منــه أو أصــغر ،وذلــك محــال ،ومــا يــؤ ّ
المحـال فهو محال(’اهـ.
ولقد نقل العلماء الجماع على أن هذه الظواهر
غير مرادة للشارع ،من ذلك ما ذكره المام الحافظ
-رحمه الله أبو الحسن علي بن القطان الفاسي
تعالى -حيث قال) :القناع في مسائل الجماع :(34 - 32 / 1
242
فيغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب منهم من يشاء
كما قال تعالى ،وليس مجيئه بحركة ول انتقال.
وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له ،وأن
رضاه عنهم إرادته نعيمهم.
وابين ويسخط علىوأجمعوا أنه يحب الت ّ
الكـافرين ويغضب عليهم ،وأن غضبه إرادته
لعذابهم ،وأنه ل يقوم لغضبه شيء( اهـ.
أتراهم أجمعوا على باطل حين أجمعوا على نفي
الظاهر المحال في لفظ المجيء والرضا والغضب؟!
وهل تجتمع أمة محمد ‘ على ضللة وبدعة؟! أم
تراهم عطلوا صفات الباري عز وجل؟!
243
ص :(124 /
)إن الله تعالى لم يزل مريدًا ،وشائيًا ،ومحب ًّا،
ومبغضًا ،وراضيًا ،وساخطًا ،ومواليا ً ومعاديًا ،ورحيمًا،
ورحمانًا ،وأن جميع هذه الصفات راجعة إلى
إرادته في عباده ،ومشيئته في خلقه ل إلى
غضب يغّيره ،ورضا ً يسكن طبعا ً له ،وحنق
ض
وغيظ يلحقه ،وحقد يجده ،وأنه تعالى را ٍ
من علم أنه باليمان يختم عمله في أزله ع ّ
ويوافي به ،وغضبان على من يعلم أنه
بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره( اهـ.
ل وعّز )ص :(135 / بج ّ وقال أيضا ً في نزول الر ّ
)ونزوله تبسارك وتعسالى كيف شساء ،بل
د ،ول تكييسف ،ول وصف بانتقال ول زوال( ح ّ
اهس.
)ص / وقال ـ رحمه الله تعالى ـ في استوائه تعالى
:(130
وه بغير كيفية ول )واستواؤه ج ّ
ل جلله عل ّ
تحديد ول مجاورة ول مماسة( اهـ.
فهل كان هؤلء الئمة معطلين حين صرفوا هذه
اللفاظ عن ظاهرها ،وحملوها على المجازات
والستعارات؟!
بهذا تعلم -توّلى الله هدانا وهداك -أن التعطيل
244
الذي ُيرمى به الشاعرة والماتريدية وهم جماهير
أعلم المة إنما هو عين التقديس والتنزيه ،والذي
يرفض ما ذهبوا إليه ،ويصّر على إثبات ما نفوه يقع
حتما ً بالتجسيم والتشبيه ،إذ إن هذا القدر من معنى
اللفظ الذي نفاه الشاعرة ونزهوا الله تعالى عنه
ف الله تعالى به لما يلزم منه من
يحرم إثباته ووص ُ
اللوازم الباطلة المحالة.
وعلى الجملة فأقوال سلف المة وخلفها مطبقة
على تنزيـه الله تعالى عن هذه الظواهر المحالة،
وفي ما نقلناه مقنع لمن أنصف.
نخلص من هذا إلى أن التأويل بشرطه وضوابطه
ي ومنهج شرعي أصيل ل مناص من الخذ سن ّ ّ
شعاٌر ُ
به لفهم كتاب الله تعالى وسنة نبّيه صلى الله على
وسلم ،وليس شعارا ً للبدعة والضللة أو التعطيل،
وأن من يحمل المتشابه من نصوص الصفات على
الظواهر المعهودة لدى الخلق هو الواقع في
التعطيل ،لنه عطل المعنى المفهوم من النص
وصدف به عن القصد.
*****
245
تأويلت السلف الصالح لنصوص الصفات
إن الخلف من علماء المة حين سلكوا مذهب
التأويل لم يبتدعوا قول ً ومنهجا ً من عند أنفسهم ،لكنهم
سلكوا بهذا مسلك جماعات كثيرة من السلف الصالح
لقالوا بالتأويل وأخذوا به -كما مّر معنا -وهذا يد ّ
قطعا ً على سّنية هذا المنهج وأصالته وشرعيته ،ولقد
نقل العلماء تأويلت ثلة من أكابر السلف الصالح ،من
ذلك على سبيل المثال:
246
)/ 4 جاء في تفسير النسفي رحمه الله تعالى
فا ً
مَلك ص ّ (378عند قوله تعالى ) وجاء ربك وال َ
صه )هذا تمثيل لظهور آيات اقتداره ص ّ
فا ( ما ن ّ
وتبيين آثار قهره وسلطانه ،فإن واحدا ً من الملوك إذا
حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما ل يظهر
صه ،وعن ابن عباس :أمره بحضور عساكره وخوا ّ
وقضاؤه( اهـ.
ونقل المام القرطبي نحو هذا عن الحسن
البصري ،وقال هناك نقل ً عن بعض الئمة ما ن ّ
صه
)تفسير القرطبي :(55 / 20
)جعل مجيء اليات مجيئا ً له تفخيما ً لشأن تلك
اليات ،ومنه قوله تعالى في الحديث " يا ابن آدم
مرضت فلم تعدني ..واستسقيتك فلم
تسقني ..واستطعمتك فلم تطعمني " ..والله
ل ثناؤه ل يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، ج ّ
وأّنى له التحول والنتقال ول مكان له ول أوان ،ول
يجري عليه وقت ول زمان ،لن في جريان الوقت
ت الوقات ،ومن فاته شيء فهو على الشيء فوْ َ
عاجز( اهـ.
247
.(322وقال تعالى ) واصبر لحكم ربك فإّنك
بأعيننا ( قال رضي الله عنه :نرى ما يعمل
بك )تفسير الخازن .(190 / 4
248
)القرطبي .(165 / 17 معظم أئمتنا وجود الباري تعالى
249
هذه النصوص هو عين ما نقل عن ابن عباس رضي
الله عنهما ،فإن جاز اتهام الشاعرة والماتريدية
بالتعطيل والبتداع ،جاز ذلك على سيدنا ابن عباس
-معاذ الله -وحاشاه أن يقول في الله تعالى ما ليس
له به علم.
أل فليتق الله! امرؤ جاءته موعظة من ربه،
ه! عن التطاول على أئمة الدين وعلماء الشرع ولي َن ْت َ ِ
الذي هو في حقيقة المر تطاول على صحابة رسول
الله ‘ والتابعين لهم بإحسان !.
250
وقال سعيد :شدة المر.
وقال المام الطبري قبل هذا بأسطر) :قال
جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل :يبدو
عن أمر شديد( اهـ.
251
وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله تعالى ) ك ّ
ل
شسئ هالك إل وحهه ( :أي إل هو )دفع شبه التشبيه
ص .(113 /
252
مسلم ،37 / 6النصاف لبن السيد البطليوسي ص .(82 /
253
وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى ) أن تقول
نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب
الله ( قال :في طاعة الله) .انظر روح المعاني تفسير
الية 56من سورة الزمر(.
254
ل على أن المراد بالضحك القبال )قلت ويد ّ
بالرضا تعديته بـ " إلى " ،تقول :ضحك فلن إلى
جه إليه طْلق الوجه مظهرا ً للرضا به( اهـ.فلن .إذا تو ّ
255
وإجمــاع المــة علــى صــرف لفــظ المجيــء عــن
ظــاهره المحــال فــي حــق اللــه تعــالى وهــو الحركــة
والنتقال إجماع على التفويض ،وإجماعهم على حمــل
لفــظ الرضــا علــى إرادة الحســـان والنعيــم ،ولفــظ
الغضــب علــى إرادة العقــاب والنتقــام إجمــاع علــى
التأويــل ،وبهــذا يتأكــد مــا ذكرنــاه ســابقا ً أن هــذين
المذهبين التفويض والتأويل هما المــذهبان المعتــبران
ولت عليهما ،وما نقلناه مــن اللذان ارتضتهما المة وع ّ
تأويلت سلفنا الصــالح غيــض مــن فيــض وزهــرة مــن
روض ،ومن أراد الستزادة فليرجع إلى كتــب الــتراث
من تفسير وحديث وأصــول وغيرهــا ،ليقــف علــى مــا
يثلج صدر كل موحد منزه.
تنبيه
شبهة تتردد على ألسنة المثبتين لظواهر نصوص
المتشابه ،وهي:
إثبات المعاني الجمالية لهذه النصوص ل ينفي
إثبات الصفة الواردة في النص ،مثال ذلك قول الله
تعالى) بل يداه مبسوطتان ( يقولون :نحن ل
ننكر أن النص يفيد إثبات الجود والكرم له تعالى
ونفي البخل عنه ،فإن معنى بسط اليد مشهور عند
العرب ،بيد أن هذا ل ينفي إثبات صفة اليد لله تعالى.
وقس على هذا جميع النصوص الواردة في الصفات.
هذا تقرير هذه الشبهة.
256
وفي جوابها نقول:
إن أريد بإثبات الصفات إثباتها على ما جاءت دون
تفسير ول تعيين معنى وإنما يكتفي بتلوتها والسكوت
عليهـا ،وذلك -قطعا ً -بعد صرفها عن ظاهرها
المحال في حق الله تعالى ول يقال بالذات أو حقيقة،
فذلك حق ل ريب فيه ،وهو ذاته مذهب السلف
الصالح ،وهو ل ينافي -كما مر معنا -مذهب الخلف،
وشرح هذا على المثـال الذي ضربناه أن يقال :جاء
في النص أن لله تعالى يدين ،إذا ً نثبت لله تعالى يدين
ليستا بجارحتين ،ثم نسكت ،ونفوض العلم بالمراد
إلى الله تعالى ،فهذا مسلك ل اختلف في صحته،
وهو بعينه مسلك السلف الصالح ،أما إن أريد بالثبات
حمُلها على ظاهر اللفظ المحال وعلى الحقيقة
اللغوية المعهودة فهو باطل قطعًا ،ولقد نقلنا عن
علماء المة ما يدحضه وينفيه فل نعيده.
على أننا نقول :ليس كل ما يضاف إلى الله تعالى
يراد به إثبات صفة لله تعالى ،إذ قد تكون الضافة
من باب المشاكلة والمقابلة كالستهزاء والمكر
والخداع وما جرى هذا المجرى ،فل يثبت بما كان من
هذا القبيل من اللفاظ صفة لله تعالى ،كأن يقال لله
مكر يليق به أو استهزاء يليق به ،تعالى الله عن ذلك
علوّا ً كبيرًا ،ومن ذلك أيضا ً ما كان صفة نقص كالملل
دد ونحو ذلك ،فكل والنسيان والمرض والتعجب والتر ّ
257
هذا وأمثاله الله تعالى منزه عنه بالجماع ،فل يوصف
الله تعالى بشيء من ذلك ،ومنه أيضا ً ما كان
مشهورا ً في معنى مجازي كلفظ الجنب والصبع
ونحوه ،فهذا وبابه ل خلف في حمله على ما اشتهر
فيه.
)فتح نقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد
صه:
الباري (395 / 13ما ن ّ
)نقول في الصفات المشكلة أنه حق وصدق على
المعنى الذي أراده الله ،ومن تأّولها نظرنا فإن كان
تأويله قريبا ً على مقتضى لسان العرب لم ننكره
عليه ،وإن كان بعيدا ً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديـق
مع التنزيه ،وما كان منها معناه ظاهرا ً مفهوما ً من
تخاطب العرب حملناه عليه ،مثل قوله تعالى ) على
ما فّرطت في جنب الله ( فإن المراد به في
استعمالهم الشائع حق الله فل يتوقف في حمله
عليه ،وكذا قوله ‘ "إن قلب ابن آدم بين
أصبعين من أصابع الرحمن " فإن المراد به
إرادة قلب ابن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه
فيه ،وكذا قوله تعالى ) فأتى الله بنيانهم من
القواعد ( معنساه خرب الله بنيانهسم ،وقوله )
إنما نطعمكم لوجه الله ( معنـاه لجـل الله،
ل من تيقظ له( وقس على ذلـك ،وهو تفصيـل بالغ ق ّ
اهـ.
258
وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى
)تعريف عام بدين السلم ص:(82/
)إذا كانت اللغات تعجز عن الحاطة بالمشاعر
النسانية وتضيق عنها ،فهي عن أن تحيط بصفات
الله أعجز وأضيق ،فل يجوز إذن أن تفهم الكلمات
الواردة في آيات الصفات بالمعنى " القاموسي" ،ول
يجوز أن نقول :إن لله يدا ً كأيدينا لقوله تعالى ) :يد
الله فوق أيديهم (ولن معنى اليد في " القاموس
" يدل على ذلك .هذا هو الساس في فهم آيات
الصفات ،لقوله تعالى) ليس كمثله شسئ ( ولن
الخالق ل يشبه المخلوق.
ول يجوز كذلك أن ننفي عنها كل معنى ،وأن
نعطلها من الدللة .فالله لم ينزل القرآن ليعطل عن
معانيه ،ولم يجعله ألفاظا ً جوفاء ل تدل على شيء.
فكيف إذن نفهم آيات الصفات؟
لقد وجدت أن هذه اليات على ثلثة أشكال:
-1آيات وردت على سبيل الخبار من الله كقوله
) الرحمن على العرش استوي ( فنحن ل
نقول :إنه ما استوى،فنكون قد نفينا ما أثبته الله،
ول نقول :إنه استوى على العرش كما يستوي
القاعد على الكرسي ،فنكون قد شبهنا الخالق
بالمخلوق ،ولكن نؤمن بأن هذا هو كلم الله ،وأن
لله مرادا ً منه لم نفهم حقيقته وتفصيله ،لنه لم يبين
259
ل ،ولن العقل البشري يعجز عن الوصول لنا مفص ً
إلى ذلك بنفسه ،ول نخوض فيه بل نتبع فيه طريق
السلف ،والسلف لم يبحثوا فيه أص ً
ل ،ولم يقولوا "
حقيقة " ولم يقولوا "مجازا ً ".
-2آيات وردت على السلوب المعروف عند علماء
البلغة بالمشاكلة ....واليات الواردة على هذا
السلوب كثيرة ،كقوله تعالى ) :نسوا الله
فنسيهم ( ...ومن أمثالها آية ) :ومكروا
ومكر الله ( وآية ) :يخادعون الله وهو
خادعهم (
-3آيات دّلت على المراد منها آيات أخــرى ،كقــوله
تعالى ) :وقالت اليهود يد اللسسه مغلولسسة غل ّسست
أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسسسوطتان
ينفق كيف يشاء ( تدل على المراد منها آية:
) ول تجعسسل يسسدك مغلولسسة إلسسى عنقسسك ول
تبسطها كل البسط ( ويفهم منها أن بسسسط
اليد يراد به الكرم والجود ول يستلزم ذلسسك "
بسسل يسسستحيل " أن يكسسون للسسه تعسسالى يسسدان
حقيقيتان كأيدي الناس وقد جاء في القرآن
قوله ) :بين يدي رحمته ( و) بين يدى عذاب
شديد ( والقرآن ) ل يأتيه الباطل بين يديه (
وليـــس للرحمـــة ول للعـــذاب ول للقـــرآن يـــدان
حقيقيتان( اهـ.
260
ومما هو جدير بالتنبيه عليه والتحذير منه ذلك
المنهج الغريب والمسلك الشاذ عن أصول المنهج
العلمي ل سيما في مجـال العقيدة وأبواب الصفات
التي نيطت بالقطعي واليقيني من الدلة ،ذلك المنهج
الذي طفق أصحابه يثبتون صفات لله تعالى بأحاديث
وآثار ل تصلح أن تكون دليل ً في جزئيات فروع الفقه
فضل ً عن أصول الديانات وما يتعلق منها بذات الله
تعالى وصفاته ،وهؤلء متناقضون في أحكامهم أشد
التناقض وأصرحه ،فبينما هم يتساهلون هنا في جانب
الثبات ،ويثبتون لله تعالى الصفات بأحاديث واهية
وأخبار ضعيفة ،تراهم يتشددون في جانب الفروع
الفقهية ،بل أبواب الترغيب والترهيب وأبواب فضائل
العمال -هذه البواب التي تساهل العلماء في قبول
الحاديث فيها بالشروط المعروفة -وينكرون على
الناس العمل بالحاديث الضعيفة في هذه البواب ،ثم
يثبتون لله تعالى صفات بمثل هذه الحاديث التي
ددون في أنكروها ،بل أضعف منها وأوهى ،فيتش ّ
مواطن التسهيل ويتساهلون في المواطن التي يجب
التشدد والتيقن فيها مثل العقائد ،هذا مع افتراضنا أن
مضمون هذه الحاديث والثار التي يثبتون بها لله
تعالى الصفات مما ل يحيله العقل والنقل ،فكيف
والمر على النقيض من ذلك ومضمونها وظواهرها
مما قطعت العقول الصريحة والنقول الصحيحة
باستحالته وتنزه الله تعالى عنه ،ل شك أن البلية في
261
هذه الحال تكون أعظم والخطر أجسم.
ولقد نقلنا قبل عن المام البي في شرحه على
صحيح مسلم ) (54 / 7قاعدة ذهبية في أبواب
الصفات ،ل بأس بإعادتها لتستقر في الذهان
والعقول ،قال رحمه الله تعالى:
)القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما
يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن
يرد متواترا ً في نص ل يحتمل التأويل ،وغاية
المتواتر أن يرد فيما دللته على المحال
دللة ظاهرة ،والظاهر يقبل التأويل ،فإن
ورد يجب صرف اللفظ عن ظاهره
المستحيل ،ثم اختلف فوقف أكثر السلف
عن التأويل ،وقالوا نؤمن به على ما هو عند
ل علم ذلك الله سبحانه في نفس المر ،ونك ِ ُ
إلى الله سبحانه ،وقال قوم بل الولى
صا ً في محال التأويل ..وإن ورد خبر واحد ن ّ
قطع بكذب راويه ،وإن كان محتمل ً للتأويل
يتصرف فيه كما سبق( اهس.
ومضمون هذه القاعـدة مما اجتمعت عليه عقول
أعلم المة وأئمـة المسلميـن والعارفين بالله ،وهذا
مما يدل يقينا ً على خطأ هؤلء المجازفين.
)دفع قال الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله تعالى -
شبه التشبيه :(155
262
)ل تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحي ً
ل ،وصار
دلين :بأن جمل
هذا كما لو أخبرنا جماعة من المع ّ
البزاز دخل في خرم إبرة الخياط ،فإنه ل حكم لصدق
الرواة مع استحالة خبرهم( اهـ.
وبهذا نختم هذا الباب ،ونمسك القلم عن
السهاب ،لننتقل إلى باب آخر من الحديث نثبت فيه
كون الشاعرة والماتريدية غالب المة المحمدية،
وعلى الله التكلن.
*****
263
الشاعرة والماتريدية هم غالب المة
*****
264
أكابر مفسرى المة من الشاعرة
والماتريدية
265
عليه ما في تفسيره من التنزيه والتقديس والتشديد
على من يقول بظواهر المتشابه كما مـّر من قوله
م
عند تفسيره لقوله تعالى من سـورة العراف ) ث ّ
استوي على العرش ( )تفسيره (2/220إلى غير
ذلك من المثلة الظاهرة الجلية في كونه من أهل
السنة الشاعـرة.
• المام المفسر الكبير قدوة المفسرين ابن
عطية الندلسي رحمه الله تعالى صاحب تفسير
المحرر الوجيز ،أّلف كتابه في التفسير فأحسن فيه
وأبدع ،كان رحمه الله من أفاضل أهل السنة
والجماعة ومن أكابر أهل الفضل ،قال أبو حيان
ل منالندلسي فيه )في مقدمة البحر المحيط( " :هو أج ّ
صنف في علم التفسير وأفضل من تعرض للتنقيح
فيه والتحرير "
• المام أبو حيان الندلسي رحمه الله تعالى
صاحب البحر المحيط والنهر الماد من البحر ،الحجة
الثبت اللغوي ،وهو غني عن التعريف به والتنويه
بذكره.
• المام المقدم فخر الدين الرازي رحمه الله
تعالى صاحب تفسير مفاتيح الغيب ،المفسر،
المتكلم ،إمام وقته ،وفريد عصره ،كان شجا ً في
حلوق المبتدعة ،وسيفا ً مصلتا ً على أهل الزيغ
واللحاد.
266
• المام المفسر الحافظ البغوي محي السنة
رحمه الله تعالى صاحب كتاب شرح السنة،
وتفسيـره مملوء بما يدل على اعتقاد أهل السنة،
وزاخر بالتأويل السني لنصوص المتشابه.
• المام المفسر أبو الليث السمرقندي رحمه الله
تعالى ،صاحب تفسير بحر العلوم ،وكتاب تنبيه
الغافلين وبستان العارفين ،وقد اشتهر بلقب إمام
الهدى.
• المام المفسر الواحدي أبو الحسن على
النيسابوري أستاذ عصره في النحو والتفسير ،كان
سنيا ً أشعريا ً من أهل السنة والجماعة ،صاحب
المؤلفات النافعة والشارات الرائعة ،وله كتاب
أسباب النزول ،وهو من أشهر الكتب في بابه.
• المام المفسر أبو الثناء شهاب الدين اللوسي
الحسيني الحسني رحمه الله تعالى ،خاتمة
المفسريـن ونخبة المحدثيـن كما وصفه الشيـخ بهجة
البيطار وقال عنه أيضا ً )حلية البشر " :(1450 / 3كـان
رضي الله عنه أحد أفراد الدنيا يقول الحق ول يحيد
عن الصدق ،متمسكا ً بالسنن ،متجنبا ً للفتن.
• المام المفسر السمين الحلبي رحمه الله تعالى
صاحب تفسير الدر المصون.
• المام الحافظ المفسر جلل الدين السيوطي
رحمه الله تعالى صاحب الدر المنثور في التفسير
267
بالمأثور.
• المام الخطيب الشربينى رحمه الله تعالى
صاحب تفسير السراج المنير.
وغير هؤلء ممن لو أطلنا النفس بذكرهم لخرجنا
عن المقصود ،كلهم كانوا من أهل السنة الشاعرة
والماتريدية.
تنبيه
اقتصــرنا علــى ذكــر مــن جــاء بعــد زمــن المــام
الشعري وســار علــى هــديه ،ولــم نــذكر فــي مقدمــة
المفســرين شــيخهم وإمــامهم فــي هــذا العلــم ،نعنــي
الحافظ المفسر محمد بن جرير الطــبري رحمــه اللــه
تعالى ،وكان معاصرا ً للمام الشعري وتوفي قبله ،فل
يبعد أن يكون وقف على شــيء مــن تصــانيف المــام
أبي الحسن على كثرتها واستفاد منها ،ل ســيما وهمــا
في بلد واحــد ،ومــن أنعــم النظــر فــي تفســير المــام
ح عنــه رحمــه اللــهالطبري ل يســتبعد ذلــك ،فقــد ص ـ ّ
تعالى بعض التأويل لبعض آيات المتشابه ،ونقل بعض
تأويلت السلف من الصحابة والتابعين مؤيدا ً لهــا كمــا
مّر في مبحث تأويلت السلف ،بل نزيد ونقــول إنــه ل
يبعد أن يكون انتسب إليه فيمــا لــم يصــلنا مــن كتبــه،
فقد ذكرت كتب التاريخ أنه قد انتهض لنصرة طريقــة
المام أبي الحســن والمــام أبــي منصــور جميــع أهــل
268
السنة في العالم السلمي.
ولو افترضــنا أن المــام الطــبري لــم ينتســب إلــى
المام أبي الحسن ،فإنه يكفينــا أن يكــون موافق ـا ً لــه
في العتقـاد بتنزيــه البــاري ســبحانه وتقديســه ،وهــذا
ف في عد ّ المـام الطـبري ضـمن مـن ذكرنـا القدر كا ٍ
مــن المفســرين ،بــل هــو علــى رأســهم ،إذ المقصــود
اعتقاد معتقد أهل السنة والجماعة سواء انتسب إلــى
الشعري أم لم ينتسب.
269
وغيرها من الكتب النافعة.
*****
270
أكابر محدثي المة وحفاظها من
الشاعرة والماتريدية
271
)الطبقات (3/372 ذكره التاج السبكي في الخامسة.
• الحافظ الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى
صاحب المستدرك على الصحيحين ،وإمام أهل
الحديث في عصره ،وشهرته تغني عن التعريف به،
اتفق العلماء على أنه من أعلم الئمة الذين حفظ
الله بهم هذا الدين .ذكره الحافظ ابن عساكر في
الطبقة الثانية ،أي من أصحاب أصحاب المام) .تبيين
كذب المفتري ص.(227/
• الحافظ ابن حبان البستي رحمه الله تعالى
صاحب الصحيح وكتاب الثقات وغيرها ،المام الثبت
القدوة إمام عصره ومقدم أوانه.
• الحافظ أبو سعد ابن السمعاني رحمه الله
تعالى ،صاحب كتاب النساب) .الطبقات (3/372
272
• المام الحافظ محي الدين يحيى بن شرف
النووي محي الدين رحمه الله تعالى ،صاحب
المؤلفات النافعة التي كتب الله لها القبول في
الرض وبين الناس ،مثل كتاب رياض الصالحين
والذكار وشرح صحيح مسلم وغيرها.
• المام المحقق بقية الحفاظ صلح الدين خليل
بن كيكلدى العلئي الذي لم يخلف بعده في الحديث
مثله ،ولم يكن في عصره من يدانيه في علم
الحديث.
• شيخ السلم المام الحافظ أبو عمرو بن
الصلح رحمه الله تعالى وهو أول من ولي مشيخة
دار الحديث الشرفية التي كان ل يليها إل أشعري.
• المام الحافظ ابن أبي جمرة الندلسي مسند
أهل المغرب رحمه الله تعالى ورضي عنه ،صاحب
كتاب بهجة النفوس في شرح مئة حديث من صحيح
البخاري.
• المام الحافظ الكرماني شمس الدين محمد
بن يوسف رحمه الله ورضي عنه ،صاحب الشرح
المشهور على صحيح البخاري.
• المام الحافظ المنذري رحمه الله تعالى
صاحب الترغيب والترهيب.
• المام الحافظ البي رحمه الله تعالى شارح
273
صحيح مسلم.
• المام الحافظ ابن حجر العسقلني رحمه الله
تعالى صاحب أعظم شرح على صحيح البخاري
مى بـ " فتح الباري " والذي قيل فيه :ل هجرة
المس ّ
بعد الفتح.
• المام الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى.
• المام الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى.
• المام القسطلني رحمه الله تعالى شارح
الصحيح.
• المام الحافظ المناوي رحمه الله تعالى.
وغيرهم وغيرهم من أئمة الحديث وحفاظ المة،
كانوا من أهل السنة الشاعرة والماتريدية.
*****
274
أكابر فقهاء المة من الشاعرة
والماتريدية
275
وأصحاب الرأي (.......اهـ.
وقول هؤلء العلم يغنينا عن الفاضة بذكر أسماء
وا عليها
م ْ
س َ
دا و َ
العلماء الذين فاقوا نجوم السماء ع ّ
دا.
ج ّ
276
ب لهل السنة والجماعة وَرد ّ على أهل ص ٌ
تصانيفه تع ّ
اللحاد والبدعة ،ولم يقّر واحد في شيء من العصار
من أسلف أهل الدب بشيء من بدع أهل الهواء....
ومن كان متدنسا ً بشيء من ذلك لم ي َ ُ
جْز العتماد
عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل معـاني النحو،
ول في تأويـل شيء من الخبـار ،ول في تفسيـر آية
من كتاب الله تعالى( اهـ.
هؤلء هم المتقدمون من أئمة اللغة والدب
والنحو ،ثم جاء من بعدهم وساروا على نفس
الطريق السويّ في العتقاد لم يبدلوا ولم يغيروا
مثل المام ابن النباري وابن سيده صاحب كتاب
المخصص في اللغة وابن منظور صاحب كتاب لسان
العرب والجوهري صاحب الصحاح والمجد
الفيروزآباذي صاحب كتاب القاموس المحيط
والمرتضى الزبيدي صاحب كتاب تاج العروس ،ومن
النحويين محمد بن مالك صاحب اللفية المشهورة
في النحو وشارحها ابن عقيل وابن هشام المصري
غناء لمتعلم أو متأدب عن كتبهموغيرهم ممن ل َ
ومصنفاتهم ،وكلهم كانوا على عقيدة أهل السنة
والجماعة من الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم.
*****
277
كّتاب سيرة المصطفى صلى الله عليه
وسلم من الشاعرة والماتريدية
278
• المام السهيلي رحمه الله تعالى صاحب
الروض النف.
• المام القسطلني رحمه الله تعالى صاحب
المواهب اللدنية.
• المام الصالحي الدمشقي رحمه الله تعالى
صاحب سبل الهدى والرشاد.
• المام المؤرخ المقريزي رحمه الله تعالى
صاحب كتاب إمتاع السماع.
ومصنفات هؤلء الئمة هي أهم المراجع التي
عليها المعتمد في سيرة المصطفى ‘ ،وكلهم على
عقيدة الشاعرة والماتريدية وعلى ما كان عليه
المتقدمون من كتاب السيرة الوائل مثل ابن إسحاق
والواقدي وابن سعد وابن هشام وغيرهم من أكابر
العلماء في السيرة والمغازي.
وكذلك من صنف في التواريخ من الئمة غالبهم
من الشاعرة والماتريدية مثل المام الحافظ ابن
عساكر في كتابه الفذ تاريخ مدينة دمشق والمام ابن
الجوزي في كتابه المنتظم والمام الخطيب البغدادي
في كتابه تاريخ بغداد وابن خلدون وابن الثير ،وكذلك
من صّنف في تراجم العلم مثل المام الصفدي في
كتابه الوافي في الوفيات الذي اختصره في كتابه
أعيان العصر ،وقبله المام الباخرزي صاحب كتاب
دمية القصر ،وابن شاكر الكتبي صاحب كتاب فوات
279
الوفيات وقاضي القضاة ابن خلكان الشافعي صاحب
كتاب وفيات العيان ،وك ُّتاب تراجم طبقات علماء
المذاهب الفقهية وأصحاب كتب التراجم التي وضعت
حسب القرون مثل الدرر الكامنة وإنباء الغمر كلهما
للحافظ ابن حجر والضوء اللمع للحافظ السخاوي،
ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ،ومرآة الجنان
لليافعي وخلصة الثر للمحّبي وسلك الدرر للمرادي
والكواكب السائرة للغزي ،وغيرهم الكثير.
صّنف فيومما يلحق بما مّر وهو قريب منه ،ما ُ
النساب والماكن والبلدان مثل كتاب النساب للمام
السمعاني ومعجم البلدان لياقوت الحموي ومعجم ما
استعجم للبكري وغير ذلك كثير جدًا ،كل أولئك كانوا
إما أشاعرة أو ماتريدية.
ونحن في كل هذا إنما نقتصر على من كان
معروفا ً بين الناس وإل فالمر ل يدخل تحت الجهد
ددنا مصنفاتهموالطاقة ،وهؤلء الذين ذكرناهم وع ّ
سواء في القرآن وعلومه أو الحديث أو الفقه
والصول أو علوم العربية أو التواريخ والمغازي
والسير وغير ذلك ،هم عبارة عن مراجع المكتبة
السلمية التي ل غناء لكاتب أو باحث في أي فن
عنها.
وعلى الجملة فإن التاريخ على مدى أدواره كلها
منذ منتصف القرن الرابع هو خير شاهد على أن
280
مذهب الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من أهل
السنـة بجمـيع طوائفهم هو المذهب الغالب السائد،
فأينما ارتحلت في مشارق العالم السلمي ومغاربه،
شماله وجنوبه فرايات أهل السنة أعلى ما تراه،
ومهما بالغت بالرجوع في أحقاب الزمن لن تجد
مذهبهم إل غالبا ً على كل ما سواه ،وذلك لحديث
المصطفى ‘ "ل تجتمع أمتي على ضللة ".
أضف إلى ذلك ،تلك الصروح الشامخة
والمراكزالعلمية التي كانت تنشر النور في جميع
أصقاع العالم النساني ،مثل الجامع الزهر في مصر،
وجامع القرويين في المغرب ،وجامع الزيتونة في
تونس ،والجامع الموي في دمشق ،وندوة العلماء
في الهند ،وغيرها من منارات العلوم المبثوثة في
مختلف أنحاء العالم السلمي ،كلها كانت تتبنى إما
مذهب الشاعرة أو الماتريدية ،ومن قبلها المدارس
السلمية التي قامت في حواضر السلم قديمًا ،مثل
المدارس النظامية نسبة للوزير نظام الملك ،وهي
كثيرة ،حتى قيل بأنه ل تخلو مدينة من مدن العراق
وخراسان من أحدها ،وهي من أهم السباب في
انتشار المذهب السني ،ومن أشهرها نظامية بغداد
التي كانت أكبر جامعة في الدنـيا يومئـذ) (1ولي
281
مشيختها المام
أبوإسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى ،وممن
وليها أيضا ً المام الغزالي رحمه الله تعالى ،ونظامية
نيسابور التي ولي مشيختها المام الجويني رحمه الله
تعالى وبعده المام الغزالي أيضًا ،ومن تلك الصروح
العلمية التي كان لها أكبر الثر في التاريخ السلمي
والحركة العلمية في العالم السلمي أجمع مدرسة
دار الحديث الشرفية التي كان شرط واقفها أن ل
يلي مشيختها إل أشعري )انظر طبقات ابن السبكي
،(398 ،10/200وكان أول من استلم مشيختها الحافظ
أبو عمرو بن الصلح رحمه الله تعالى ،ثم تعاقب
الئمة بعده ،فمنهم المام الرباني الحافظ يحيى بن
شرف النووي رحمه الله تعالى والحافظ جمال الدين
المزي والحافظ التقي السبكي والحافظ ابن كثير
ون صـ ْ
وغيرهم ،والذين تخرجوا فيها من العلماء ل ُيح َ
كثرة ،وهكذا استمّرت هذه المدرسة بإخراج العلماء
والئمة والحفاظ والفقهاء والمقرئين قرونـا ً طويـلة"،
وبقيت كذلك حتى القرن الحادي عشر الهجري ،ثم
بدأ يدب إليها الضعف وذلك تبعا ً لما كان يمّر به
العالم السلمي من تفكك وخور ،ثم هيأ الله لها
عالمين جليلين استطاعا بجهودهما أن يعودا
بالمدرسة إلى سابق عهدها ،فاستؤنفت فيها حلقات
العلم وقراءة الحديث وروايته منذ عام 1272هـ ،كان
282
ذلك بجهود الشيخ يوسف المغربي ودعم المير عبد
القادر الجزائري الذي افتتح المدرسة بقراءة صحيح
البخـاري ،وكأن عملـهما ذاك كان تمهيدا ً لبروز مجدد
القرن الرابع عشر الهجري المحدث الكبر محمد بدر
الدين الحسني الذي تسلم مشيختها وأعاد لها عزها
ومجدها وفخرها ،فمن دار الحديث وعلى يدي شيخها
المحدث الكبر تخرج علماء الشام والبلدات الشامية،
وما من عالم بدمشق في عصرنا الحاضر أو طالب
علم إل وهو تلميذ له أو تلميذ لتلميذه " )من كتاب دار
الحديث الشرفية بدمشق للدكتور محمد مطيع حافظ ،بتصرف
يسير(.
ومما يستشهد به لثبات فضل السادة الشاعرة
والماتريدية ما جاء في الحديث من الدعاء والثناء
على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وأمير ذلك
الجيش وهو من الشارات الباهرة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ،فقد روى البخاري في التاريخ الكبير
والصغير وأحمد في مسنده والبزار وابن خزيمة
والطبراني والحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي عن
النبي ‘ قال " لتفتحن القسطنطينية فلنعم المير
أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ".
وهذا الحديث حدا بكثير من المسلمين منذ زمن
الصحابة إلى الذين بعدهم والذين بعدهم أن يحاولوا
الكرة بعد الكرة فتح القسطنطينية ،وما ذلك إل
283
ليحظوا بهذا الشرف السامي والثناء العظيم العاطر
من المصطفى ‘ ،فذخر الله هذا الشرف وهذه
المنقبة للسلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله
تعالى ولجيشه المقدام الجسور.
وفتحت القسطنطينية وفاز الفاتح وجيشه بثناء
رسول الله ‘.
ومما ل يخفى على شاد ٍ في التاريخ أن محمدا ً
الفاتح والعثمانيين جميعا ً كانوا أحنافا ً في الفروع،
ماتريدية في العتقاد.
والسؤال الذي يرد هنا :أيكون ثناء رسول الله ‘
على مبتدع وضال؟!
أيصح أن يكون هذا الثناء العاطر على فاتح
القسطنطينية من نصيب منحرف في العتقاد؟!.
ومن قبل الفاتح من سلطين المة وفاتحيها يأتي
السلطان المجاهد الشهيد نور الدين محمود رحمه
الله تعالى ورضي عنه.
والسلطان المجاهد صلح الدين اليوبي رحمه الله
وهو الذي حظي بشرف تطهير المسجد القصى من
الصليبيين.
والملك المظفر التقي قطز رحمه الله تعالى،
الذي حظي بشرف دحر التتار عن بلد السلم.
ومن متأخري البطال والمجاهدين الذين يفخر
284
أهل السنة والجماعة بهم السد الهصور عمر المختار
رحمه الله تعالى وهو أحد أعلم وأتباع الحركة
السنوسية المباركة ،والعلمة المجاهد الصوفي
الناسك بديع الزمان الّنوْرسي رحمه الله تعالى محيي
السلم في تركيا بعد أن كادت تودي به رياح
اللدينية ،والبطل المجاهد عز الدين القسام رحمه
الله تعالى وهو من أعلم العلماء النساك المتصوفة
والمجاهدين ،والبطل المجاهد عبد القادر الجزائري
رحمه الله تعالى.
وغير هؤلء الكثير ممن ل يحصيهم إل خالقهم
ولقد اكتفينا بمن اشتهر بين الخواص والعوام على
السواء فمفاخر أهل السنة ل تدخل تحت الحصر
وأّنى لنا بكيل ماء البحر أو عد ّ نجوم السماء ،وإنما
ذكرنا هذا استئناسا ً ل استشهادًا ،إذ بما ذكرناه سابقا ً
من الحجج والبراهين كفاية وبلغ.
ورحم الله المام عبد القاهر البغدادي إذ يقول
)الفرق بين الفرق ص:(283 /
)ل خصلة من الخصال التي تعد ّ في المفاخر لهل
السلم من المعارف والعلوم وأنـواع الجتهـادات إل
ولهل السنة والجمـاعة في ميدانهـا القدح المعلى
والسهـم الوفر( اهـ.
285
)نيل المرام شرح عقيدة السلم ص :(8 / الحـداد حيث قال
)اعلم أن مذهب الشاعرة في العتقاد هو ما كان
عليه جماهير أمة السلم علماؤها ودهماؤها ،إذ
المنتسبون إليهم والسالكون طريقهم كانوا أئمة أهل
العلوم قاطبة على مّر اليام والسنين ،وهم أئمة علم
التوحيد والكلم والتفسير والقراءة والفقه وأصوله
والحديث وفنونه والتصوف واللغة والتاريخ( اهـ.
ولنا الحق أن نتساءل بعد كل ما مر وما قيل :ما
الهدف من القدح بأعلم المسلمين وإسقاط الهيبة
والتوقير من قلوب الجيال المسلمة لهم؟!!
لماذا يصر البعض على تحطيم صروح الدين من
خلل تحطيم أعلمه ورموزه؟!
ترى أل يمكن أن يقام مجد للمتأخرين إل على
أنقاض شرف الولين؟!
أم أنه حق فينا قول رسول الله صّلى الله عليه
وسلم )ل تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه المة
أولها(؟!!
*****
286
جهود أهل السنة في الذود عن الدين والرد
على المبتدعين
287
)اعلم أنه ل خصلة من الخصال التي ُتعد ّ في
المفاخر لهل السلم من المعارف والعلوم وأنواع
الجتهادات إل ولهل السنة والجماعة في ميدانها
القدح المعّلى والسهم الوفر.
فدونك أئمة أصول الدين وعلماء الكلم من أهل
ي بن أبي
السنة ،فأّول متكلميهم من الصحابة عل ّ
طالب كّرم الله وجهه .....ثم عبد الله بن عمر.....
وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن
عبد’العزيز وله رسالة بليغة في الرد ّ على القدرية.
ي زين العابدين ....ثم الحسنثم زيد بن عل ّ
البصري ....ثم الشعبي ....ثم الزهري ....ومن بعد
هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق ....وأّول
متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب أبو حنيفة
والشافعي ....وكان أبو العباس بن سريج أبرع
الجماعة في هذه العلوم ....ثم من بعدهم المام أبو
الحسن الشعري الذي صار شجا ً في حلوق القدرية،
ومن تلمذته المشهورين أبو الحسن الباهلي وأبو عبد
الله بن مجاهد وهما اللذان أثمرا تلمذة هم إلى
اليوم شموس الزمان وأئمة العصر كأبي بكر محمد
بن الطيب ـ الباقـلنـي ـ وأبي إسحاق إبراهيم بن
محمد السفراييني ،وابن فورك .....وكذلك أئمة
وف كانوا على توالي القرون على هذا الرشاد والتص ّ
المنهج السديد في المعتقد ،وكذلك جمهرة أهل النحو
288
واللغة والدب كانوا على معتقد أهل السنة.....
وكذلك أئمة القراءة وحملة التفسير بالرواية من عهد
الصحابة إلى عهد محمد بن جرير الطبري وأقرانه
ومن بعدهم كانوا كلهم أهل السنة ،وكذلك
المفسرون بالدراية إل بعض أفراد من أهل البدعة،
وكذلك مشاهير علماء المغازي والسير والتواريخ
ونقد الخبار وحملة الرواية من أهل السنة والجماعة،
فيظهر بذلك أن جماع الفضل في العلوم في أهل
السنة والجماعة .حشرنا الله سبحانه في زمرتهم(
اهـ.
وقال أيضا ً -رحمه الله تعالى ) -ص :(240 /
289
والتعديل ،ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع
أهل الهواء الضالة.
الصنف الرابع منهم :قوم أحاطوا علما ً بأكثر
جَرْوا على سمت أبواب الدب والنحو والتصريف ،و َ
أئمة اللغة كالخليل وأبي عمرو بن العلء وسيبويه
والفّراء والخفش والصمعي والمازني وأبي عبيد
وسائر أئمة النحو من الكوفيين والبصريين ....ومن
مال منهم إلى شيء من الهواء الضالة لم يكن من
جة في اللغة والنحو.
أهل السنة ول كان قوله ح ّ
الصنف الخامس منهم :هم الذين أحاطوا علما ً
بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن
وتأويلها على وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلت
أهل الهواء الضالة.
الصنف السادس منهم :الزهاد الصوفية الذين
أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا ....وجرى كلمهم
في طريق العبارة والشارة على سمت الحديث دون
من يشتري لهو الحديث.
الصنف السابع منهم :قوم مرابطون في ثغور
المسلمين في وجوه الكفرة يجاهدون أعداء
المسلمين ويحمون حمى المسلمين ....ويظهرون
في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة.
مة البلدان التي غلب
والصنف الثامن منهم :عا ّ
مة البقاع التي ظهرفيها شعائر أهل السنة ،دون عا ّ
290
فيها شعار أهل الهواء الضالة ،وإنما أردنا بهذا
مة اعتقدوا تصويب علماء مة ،عا ّ
الصنف من العا ّ
السنة والجماعة ،ولم يعتقدوا شيئا ً من بدع أهل
الهواء الضالة ...فهؤلء أصناف أهل السنة
والجماعة ،ومجموعهم أصحاب الدين القويم
والصراط المستقيم( اهـ.
وقال المام الكبير أبو المظفر السفراييني -
رحمه الله تعالى ) -التبصير في الدين ص ) :(187 /أما
العلوم:
ي في مدارج الفضل والدب الذي هو فأّولها :الرق ّ
ترجمان جميع العلوم ،ومعرض جميع الفوائد الفاخرة
في الدنيا والخرة ،إذ ل سبيل إلى تفسير القرآن
وأخبار الرسول ‘ إل بمعرفة الدب.
وجميع الئمة في النحو واللغة من أهل البصرة
والكوفة في دولة السلم كانوا من أهل السنة
والجماعة وأصحاب الحديث والرأي ....وكذلك لم
يكن في أئمة الدب أحد إل وله إنكاٌر على أهل
البدعة شديد ،وبعد ٌ من بدعهم بعيد....
وثانيها :علم تفسير القرآن....
وثالثها :العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى ‘....
حر فيه أصحاب
ص بالتب ّ
ورابعها :علوم الفقه ويخت ّ
الحديث وأصحاب الرأي....
291
خامسها :علوم المغازي والسير والتواريخ...
وليس لهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه
صة بأهل السنة...
العلوم فهي مخت ّ
سادسها :علم التصوف والشارات ...ولم يكن
ط لحد من أهل البدعة فيه ح ّ
ظ... ق ّ
وسابعها :علم أصول الدين وإن لهل السنة
والجماعة التفّرد بأكثر من ألف تصنيف في أصول
الدين...
وأما أنواع الجتهادات الفعلية التي مدارها على
أهل السنة والجماعة في بلد السلم فمشهورة
دهم ثغور
مذكورة ....ومن آثارهم الجتهادية س ّ
السلم والمرابطة بها في أطراف الرض ،مثل ثغور
الروم وأرمينية ،وانسداد جميعها ببركات أصحاب
الحديث ،وأما ثغور بلد الترك فمشتركة بين أهل
الحديث والرأي....
فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة
والجماعة في العلوم والجتهادات أنهم أهل الجتهاد
والجهاد (...اهـ.
درهم ،فما
هذا هو شأن أهل السنة ،وهذا هو ق ْ
الذي ينقمه منهم خصومهم؟!
ولله دّر الحـافظ ابن عساكر -رحمه الله تعالى -
حيث يقول )تبيين كذب المفتري ص ) :(367 /فيا ليت
292
شعري ماذا الذي تنفر منه القلوب عنهم -يعني
الشاعرة -أم ماذا ينقم أرباب البدع منهم؟!
أغزارة العلم ،أم رجاحة الفهم ،أم اعتقاد التوحيد
والتنزيه ،أم اجتناب القول بالتجسيم والتشبيه ،أم
القـول بإثبـات الصفـات ،أم تقديس الـرب عن
العضـاء والدوات؟!( اهـ.
وحيث يقول أيضا ً )ص :(410 /
)وأكثر العلماء في جميع القطار عليه -يعني
مذهب الشاعرة -وأئمة المصار في سائر العصار
يدعون إليه ،ومنتحلوه هم الذين عليهم مدار الحكام،
وإليهم يرجع في معرفة الحلل والحرام ،وهم الذين
ُيفتون الناس في صعاب المسائل ،ويعتمد عليهم
الخلق في إيضاح المشكلت والنوازل ،وهل من
الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إل موافق
ض بحميد سعيه في دين الله له أو منتسب إليه أو را ٍ
ن بكثرة العلم عليه( اهـ.
مث ٍ
أو ُ
وقال المام العلمة المرتضى الزبيدي -رحمه
الله تعالى ) -إتحاف السادة المتقين :(102 / 2
)اعلم أن أهل ملة السلم قد أطلقوا جميعا ً
القول بأن صانع العالم ل يشبه شيئا ً من العالم ،وأنه
د ،وأنه سبحانه موجود بل ليس له شبه ول مثل ول ض ّ
تشبيه ول تعطيل ،ثم اختلفوا بعد ذلك فيما بينهم،
فمنهم من اعتقد في التفصيل ما يوافق اعتقاده في
293
الجملة ،ولم ينقض أصول التوحيد على نفسه بشيء
من فروعه ،وهم المحققون من أهل السنة والجماعة
سكوا بأصول أصحاب الحديث وأهل الرأي الذين تم ّ
وات ولم يخلطوا مذاهبهم الدين في التوحيد والنب ّ
بشيء من البدع والضللت ...وعلى ذلك أئمة الدين
جميعهم في الفقه والحديث والجتهاد في الفتيا
والحكام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة
والوزاعي والثوري وفقهاء المدينة وجميع أئمة
الحرمين وأهل الظاهر وكل من يعتبر خلفه في
الفقه.
وبه قال أئمة الصفاتية المثبتة من المتكلمين كعبد
الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد المحاسبي
وعبد العزيز المكي والحسين بن الفضل البجلي وأبي
العباس والقلنسي وأبي الحسن الشعري ومن تبعهم
من الموحدين الخارجين عن التشبيه والتعطيل ،وإليه
ذهب أيضا ً أئمة التصوف ،كأبي سليمان الداراني
وأحمد بن أبي الحواري وسري السقطي وإبراهيم بن
أدهم والفضيل بن عياض والجنيد وُرويم والنوري
والخراز والخواص ومن جرى مجراهم ،دون من
انتسب إليهم وهم منه بريئون من الحلولية وغيرهم،
وعلى ذلك درج من سلف من أئمة المسلمين في
الحديث كالزهري وشعبة وقتادة وابن عيينة وعبد
الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد ويحيي بن معين
294
وعلي بن المدائني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه ويحيى بن يحيى التميمي وجميع الحفاظ
لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين ُنقل
قولهم في الجرح والتعديل ،والتمييز بين الصحيح
والسقيم من الخبار والثار ،وكذلك الئمة الذين
أخذت عنهم اللغة والنحو والقراءات وإعراب القرآن،
كلهم كانوا على طريقة التوحيد من غير تشبيه ول
تعطيل.(...
وذكر طائفة من أئمة اللغـة والدب ثـم قال:
ح اليوم الحتجاج بقوله في اللغة والنحو
)وكل من يص ّ
والقراءات من أئمة الدين فإنهم كلهم منتسبون إلى
ما انتسب إليه أهل السنة والجماعة في التوحيد
وإثبات صفـات المـدح لمعبودهم -سبحانه -ونفي
التشبيه عنه( اهـ.
وقد ذكرنا قوله قب ُ
ل )التحاف :(106 / 2
)إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم
الشاعرة والماتريدية(.
فد ّ
ل قوله النف )فإنهم كلهم منتسبون (...على
أنه يعني الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من
طوائف أهل السنة والجماعة.
در أهل السنة والجماعة الشاعرة يتضح بهذا ق ْ
والماتريدية وأصحاب الحديث ومزّيتهم على من
سواهم من أهل الهواء والزيغ والبدع ،ويظهر ما
295
صهم الله تعالى به من الفضل ،واجتباهم له من
اخت ّ
حمل لواء الحق والهدى والرشاد لعامة الورى.
*****
296
فتاوى وأقوال العلماء في فضل
الشاعرة
مهم وانتقصهم
وتغليظهم القول لمن ذ ّ
297
وأي جريمة وعظيمة أشد نكرا ً وأكبر وزرا ً من
تحقيرهم وازدرائهم والحط من أقدراهم؟!
والتطاول على العلماء ل سيما المتقدمون منهم
من الذنوب التي تكون في آخر الزمان فقد جاء في
ن آخر هذه المة
الحديث أن من أشراط الساعة لعْ َ
أّولها ،إشارة منه ‘ إلى فظاعة هذا الصنيع وشناعته
خر إلى آخر الزمان!.
حتى إنه أ ّ
ولقد تضافرت أقوال أئمة السلم وتواترت
فتاواهم في التشنيع على من تطاول على مقام
أعلم الشريعة وعلماء المة ،وأوجبوا على ولة أمور
المسلمين الضرب على يده وتعزيره ومعاقبته.
من ذلك ما أفتى به قدوة المالكية في عصره
المام ابن رشد )الجد( رحمه الله تعالى ،وهذا نص
السؤال:
)ما يقول الفقيه القاضي الجل ،أبو الوليد -وصــل
الله توفيقه وتسديده ونهج إلى كــل صــالحة طريقــه -
فــي الشــيخ أبــي الحســن الشــعري وأبــي إســحق
السفراييني وأبي بكر الباقلني وأبي بكــر بــن فــورك
وأبي المعــالي ...ونظرائهــم ممــن ينتحــل علــم الكلم
ويتكلم في أصول الــديانات ويصــنف للــرد علــى أهــل
الهواء؟ وما يقــول فــي قــوم يســبونهم وينتقصــونهم،
ويســـبون كـــل مـــن ينتمـــي إلـــى علـــم الشـــعرية،
ويكفرونهم ويتبرؤون منهم وينحرفون بالوليــة عنهــم،
298
ويعتقدون أنهــم علــى ضــللة ،وخائضــون فــي جهالــة،
فماذا يقال لهم ويصــنع بهــم ويعتقــد فيهــم؟ أيــتركون
على أهوائهم؟ أم يكف عن غلوائهم؟(.
فأجاب رحمه الله تعالى بما نصه:
)تصفحت -عصمنا الله وإيـاك -سؤالك هذا
ووقفت عليه ،وهؤلء الذين سميت من العلماء أئمة
خير وهدى ،وممن يجب بهم القتداء ،لنهم قاموا
بنصر الشريعة ،وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضللة،
ن به منوأوضحوا المشكلت وبينوا ما يجب أن ُيدا َ
المعتقدات ،فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء
ل ،وما يجب له على الحقيقة ،لعلمهم بالله عّز وج ّ
وما يجوز عليه وما ينتفي عنه ،إذ ل تعلم الفروع إل
بعد معرفة الصول ،فمن الواجب أن يعترف
بفضائلهم ويقر لهم بسوابقهم ،فهم الذين عنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله )يحمل هذا
العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف
الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين(
فل يعتقد أنهم على ضللة وجهالة إل غبي جاهل أو
مبتدع زائغ عن الحق مائل ،ول يسبهم وينسب إليهم
ل:خلف ما هم عليه إل فاسق ،وقد قال الله عّز وج ّ
) واّلذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما
اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (
فيجب أن يبصر الجاهل منهم ،ويؤدب الفاسق،
299
ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهل ً
ببدعة ،فإن تاب وإل ضرب أبدا ً حتى يتوب ،كما فعل
عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ المتهم في
اعتقاده ،من ضربه إياه حتى قال :يا أمير المؤمنين
إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء ،وإن
كنت تريد قتلي فأجهز علي .فخلى سبيله .والله
أسأل العصمة والتوفيق برحمته .قاله محمد بن
رشد( )فتاوى ابن رشد .(802 / 2
وقال المام الكبير أبو المظفر السفراييني -
ص َ
ل اعتقاد الفرقة رحمه الله تعالى -بعد أن ف ّ
الناجية:
)وأن تعلم أن كل من تدّين بهذا الدين الذي
وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق
ه فهو مبتدعع ُوعلى الصراط المستقيم ،فمن بدّ َ
فره فهو ل ومسن ك ّومسن ضلله فهو ضا ّ
كسافر( اهـ )التبصير في الدين ص .(111 /
300
وقسسال تعسسالى ) واّلسسذين يسسؤذون المسسؤمنين
والمؤمنسسات بغيسسر مسسا اكتسسسبوا فقسسد احتملسسوا
بهتانا وإثما مبينا ( وثبت في صحيح البخاري عــن
أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صــلي اللــه
ل قــال )من آذى لسسي عليه وســلم أن اللــه ع ـّز وج ـ ّ
ولي ّا ً فقد آذنته بالحرب(.
وروى الخطيــب البغــدادي عــن الشــافعي وأبــي
حنيفــة رضــي اللــه عنهمــا قــال )إن لــم تكــن الفقهــاء
أولياء الله فليس لله ولي(.
وفي كلم الشافعي :الفقهاء العاملون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما :مــن آذى فقيهـا ً
فقد آذى رسول الله صلى الله على وسلم ،ومن آذى
رسول الله ‘ فقد آذى الله عــز وجــل .وفــي الصــحيح
مة اللسسه فل عنه ‘ " من صلى الصبح فهو في ذ ّ
مته"(ا هـ) .المجموع / 1يطلبّنكم الله بشيء من ذ ّ
.(24
وإن لم يكن أعلم المة وأماثلها من أئمة الدين
الشاعرة والماتريدية أولياء الله فمن تراهم
يكونون؟!
وقال الحافظ ابن عساكر -رحمه الله -تعالى:
)اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته ،وجعلنا
ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته ،أن لحوم العلماء
301
مسمومة ،وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم
معلومة ،وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بله
الله قبل موته بموت القلب )فليحذر اّلذين
يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو
يصيبهم عذاب أليم ( اهـ) .تبيين كذب المفتري ص /
،425المجموع .(1/24
وقد سئل المام العلمة ابن حجر الهيتمي رحمه
الله تعالى :عن المام أبي الحسن الشعري
والباقلني وابن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين
وأبي الوليد الباجي وغيرهم ممن تكلم في الصول
وسلك مذهب الشعري في العتقاد ،وعن حكم من
انتقصهم وضللهم؟.
فأجاب رحمه الله بعد أن شّنع على من عرض
لهم بشتم أو تضليل أو قدح:
)بل هم أئمة الدين وفحول علماء المسلمين
فيجب القتداء بهم لقيامهم بنصرة الشريعة وإيضاح
المشكلت ورد ّ شبه أهل الزيغ ،وما يجب من
العتقادات والديانات لعلمهم بالله وما يجب له وما
يستحيل عليه وما يجوز في حقه ....والواجب
العتراف بفضل أولئك الئمة المذكورين في
السؤال وسابقتهم ،وأنهم من جملة المرادين بقوله
‘ " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله
ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال
302
المبطلين وتأويل الجاهلين " فل يعتقد
ضللتهم إل أحمق جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق،
ول يسبهم إل فاسق ،فينبغي تبصيـر الجاهل وتأديب
الفاسق واستتابة المبتدع( اهـ ) .الفتاوى الحديثية ص /
.(205
ونقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله فتوى للمام
محمد بن علي الدامغاني وافقه عليها المام أبو
إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي الفيروزباذي
والمام أبو بكر الشاشي في فضل الشاعرة،
معّرض بهم. ووجوب معاقبة منتقصهم وال ُ
وهذا نص الستفتاء والفتوى على ما جاء في
كتاب " تبيين كذب المفتري " )ص ) :(332 /بسم الله
الرحمن الرحيم .ما قول السادة الجلة الئمة الفقهاء
أحسن الله توفيقهم ورضي عنهم في قوم اجتمعوا
على لعن فرقة الشعـري وتكفيرهم ،ما الذي يجب
عليهم في هذا القول؟ أفتونا في ذلك منّعمين مثابين
إن شاء الله.
الجواب وبالله التوفيق :أن كل من أقدم على لعن
فرقة من المسلمين وتكفيرهم فقد ابتدع وارتكب ما
ل يجوز القدام عليه ،وعلى الناظر في المور أعّز
الله أنصاره النكار عليه وتأديبه بما يرتدع هو وأمثاله
عن ارتكاب مثله .كتب محمد بن على
الدامغاني.
303
وبعده:
الجواب وبالله التوفيق :إن الشعرية أعيان السنة
صار الشريعة ،انتصبوا للّرد على المبتدعة ....فمن
ون ّ
طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة ،وإذا رفع أمر
من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب
عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد .كتبه إبراهيم بن
على الفيروز باذي -أبو إسحاق الشيرازي .-
وبعده:
جوابي مثله .كتبه محمد بن أحمد الشاشي(.
قال الحافظ ابن عساكر) :فهذه أجوبة هؤلء
الئمة الذين كانوا في عصرهم علماء المة ،فأما
قاضي القضاة أبو عبد الله الحنيفي الدامغاني فكان
يقال له في عصره أبو حنيفة الثاني ،وأما الشيخ
المام أبو إسحاق فقد طّبق ذكر فضله الفاق ،وأما
الشيخ المام أبو بكر الشاشي فل يخفى محله على
مْنتهٍ في العلم ول ناشي ،فمن وفقه الله للسداد ُ
وعصمه من الشقاق والعناد انتهى إلى ما ذكروا
واكتفى بما عنه أخـبروا ،والله يعصمنـا من قـول
الـزور والبهتان( اهـ.
وقـال العلمة السيد محمد بن علوي المـالكي
الحسيـني رحمه الله في الشاعرة والماتريدية
)مفاهيم يجب أن تصحح ص :(111 /
304
)هم أئمة وأعلم الهدى من علماء المسلمين
الذين مل علمهم مشارق الرض ومغاربها ،وأطبق
الناس على فضلهم وعلمهم ودينهم ،هم جهابذة
علماء أهل السنة وأعلم علمائها الفاضل الذين
وقفوا في وجه طغيان المعتزلة ...إنهم طوائف
المحدثين والفقهاء والمفسرين من الئمة العلم
كشيخ السلم أحمد بن حجر العسقلني شيخ
المحدثين بل مراء ..أشعري العقيدة ،وشيخ علماء
أهل السنة المام النووي ...أشعري العقيدة ،وشيخ
المفسرين المام القرطبي ...أشعري العقيدة ،وشيخ
السلم ابن حجر الهيتمي ...أشعري العقيدة ،وشيخ
الفقه والحديث المام الحجة الثبت زكريا النصاري
أشعري العقيدة ،والمام أبو بكر الباقلني والمام
النسفي والمام الشربيني وأبو حيان النحوي...
والمام ابن جزي ...الخ كل هؤلء من أئمة
الشاعرة ..وأي خير يرجى فينا إن رمينا علماءنا
العلم وسلفنا الصالحين بالزيغ والضلل؟ وكيف يفتح
الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيهم
النحراف والزيغ عن طريق السلم؟( اهـ).(1
305
الشيخ محمــد أحمــد بـن حسـن الخزرجــي المــؤرخ الفقيــه ووزيــر
الشـؤون السـلمية والوقـاف فـي دولـة المـارات ورئيـس لجنـة
التراث .ـالشيخ محمد الطيب النجار رئيس مركز السنة والســيرة
الــدولي ورئيــس جامعــة الزهــر ســابقًا .ـ ـ الشــيخ عبــدالله كنــون
الحســني رئيســرابطة علمــاء المغــرب وعضــو رابطــة العــالم
السلمي بمكة المكرمة .ـ الدكتور الحسيني هاشم وكيــل الزهــر
الشريف وأمين عام مجمــع البحــوث السـلمية .ــ الـدكتور رؤوف
شلبي وكيل الزهر الشــريف .ـ ـ الــدكتور عبــدالفتاح بركــة الميــن
العام لمجمع البحوث السلمية في القاهرة .ـ الشــيخ ســيد أحمــد
العوض مفتي السودان ورئيـس مجلــس الفتــاء .ــ شـيخ الحــديث
ورئيس الجامعة الشرفية وأمير جمعية الســلم فــي باكســتان .ـ ـ
مدير التعليــم بجامعــة العلــوم الســلمية فــي كراتشــي .ــ رئيــس
مجلس علماء الباكستان .ـ الدكتور حسن الفاتح قريب اللــه مــدير
الجامعــة الســلمية فــي الســودان .ـ ـ الشــيخ يوســف بــن أحمــد
الصــديقي وكيــل محكمــة الســتئناف العليــا فــي البحريــن وعضــو
الرابطة السلمية بمكة المكرمة.
وغير هؤلء من غالب أقطـار العـالم السـلمي ،ممـا يؤيـد مـا
ذكرناه في البحث من أن غالب أمة السلم في القــديم والحاضــر
وغالب أصقاع العالم السلمي على هذا المنهــج الســديد القــويم،
ولله الحمد أول ً وآخرًا.
306
فتوى الهيئة الشرعية للفتاء في دبي
307
الشاعرة هم من أهل السنة والجماعة من أتباع أبى
الحسن الشعرى ،الذي سار على منهج الصحابة
والتابعين وتابعيهم ،أقوالهم المنسوبة إلى السلف
والقوال المنسوبة إلى الخلف ،وكل ما ذكر مستند
إلى الدلة والنصوص ،سواء إمرار الصفات على
ظاهرها أو تأويلها بما يتفق مع الثار واللغة .
ى التوفيق
والله ول ّ
308
فتوى أ.د .أحمد الحجى الكردي
309
فتوى مفتى الجمهورية اللبنانية
) ثم جعلناك على شريعة من المر فاّتبعها
ذين ل يعلمون ( ول تّتبع أهواء ال ّ
الحمد لله رب العالمين ،والصلة والسلم على
سيدنا ونبينا محمد خاتم النبياء والمرسلين ،وعلى
آله وأصحابه أجمعين ،ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين .
وبعد ...
فإن الشاعرة هم أهل السنة والجماعة ينتسبون إلى
المام أبى الحسن على بن إسماعيل الشعرى رحمه
الله ُ ،ولد سنة ستين ومئتين للهجرة على الشهر
فى مدينة البصرة ،وُتوفى فى عام أربعة وعشرين
وثلثمئة للهجرة .
والمام أبو الحسن الشعرى – رحمه الله تعالى – هو
إمام كبير من أئمة أهل السنة والجماعة ،وعقيدة
الشاعرة هى عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات
وجود الله تعالى وتوحيده ،وأنه تعالى ليس كمثله
شـئ ،ل يشبه شيئا ً ول يشبهه شـئ ،وأنه تعالى
يّتصف بكل صفات الكمال ،وي ُّنزه عن كل صفات
النقص .
والشاعرة يدحضون آراء المبتدعة كالمعتزلة الذين
ينكرون رؤية الله تعالى فى الخرة ،وقد أثبتها الله
تعالى فى القرآن الكريم بقوله تعالى ) وجوه يومئذٍ
ناضرة ،إلى ربها ناظرة ( سورة القيامة الية . 22
310
وكثير من المحدثين والفقهاء رضي الله عنهم
أجمعين .
311
*****
312
عقيدة أهل السنة والجماعة
313
وجل متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن جميع
صفات النقصان إذ إن ألوهيته تستلزم اتصافه
بالكمال المطلق لزوما ً بينا ً بالمعنى الخص.
ثم إن علينا بعد ذلك أن نقف على تفصيل أهم
هذه الصفات ،ونبين معناها وما تستلزمه من أمور
ومعتقدات .وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه
الكريم بصفات كثيرة مختلفة إل أن جزئيات هذه
الصفات كلها تلتقي ضمن عشرين صفة رئيسية ثبتت
بدللة الكتاب وبالبراهين القاطعة( اهـ.
)للشيخين الفاضلين وجاء في شرح جوهرة التوحيد
عبدالكريم تتان ومحمد أديب الكيلني :(1/274
)وقبل الكلم على " وجوب الوجود " نبين أنه
-على الجمال -كل كمال ،وينزه يجب لله تعالى
عن كل نقصان ،ويجوز في حقه فعل كل ممكن
وتركه ،وعلى التفصيل يجب لله تعالى عشرون صفة
قسمها العلماء -ابتغاء التعرف إليها على أنها أمهات
ما يجب لله تعالى -إلى أربعة أقسام (.....اهـ.
وقال المام العلمة الهدهدي
)شرح السنوسية
ما يجب
الصغرى ص (46 ،45عند قول المصنف )فم ّ
لمولنا جل وعز عشرون صفة(.
قال في شرح ذلك) :من بمعنى بعض فهي
للتبعيض أي من بعض ما يجب ،لن صفات مولنا جل
وعز الواجبة له ل تنحصر في هذه العشرين ،إذ
314
كمالته ل نهاية لها ،ولم يكلفنا الله إل بمعرفة ما
نصب لنا عليه دليل ً وهي هذه العشرون ،وتفضل علينا
بإسقاط التكليف بما لم ينصب لنا عليه دلي ً
ل( اهـ.
وبالجملة ،فأقوال ونصوص العلماء في ذلك
كثيرة ،وبما نقلناه كفاية لبيان المقصود ،فإن أهل
السنة الشاعرة والماتريدية لم يكونوا معطلين
للصفات ول مشبهين لله تعالى بالمخلوقات ،وإنما
هم مثبتون لله تعالى كل ما ثبت نقل ً وعقل ً من
الكمالت ومنزهون له سبحانه عن سمات النقص
والفات.
وإليك -وفقنا الله وإياك لهداه -مجمل عقيدة
أهل السنة الشاعرة لكي تعلم صفاء هذا العقـيدة
وتمسكها بالمأثور عن رسول الله ‘ وعن صحابته
رضوان الله عليهم:
) الحمد لله المبدئ المعيد ،الفعال لما يريد ،ذي
العرش المجيد والبطش الشديد ،الهادي صفوة العبيد
إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد ،المنعم عليهم
بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات
التشكيك والترديد ،السالك بهم إلى اتباع رسوله
المصطفى واقتفاء صحبه الكرمين المكرمين بالتأييد
والتسديد ،المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن
أوصافه التي ل يدركها إل من ألقي السمع وهو شهيد،
ف إياهم أنه في ذاته واحد ل شريك له فرد ٌ لالمعّر ِ
315
مثيل له صمد ل ضد له منفرد ل ن ِد ّ له وأنه واحد
قديم ل أول له ،أزلي ل بداية له ،مستمر الوجود ل
آخر له ،أبدي ل نهاية له قيوم ل انقطاع له ،دائم ل
انصرام له ،لم يزل ول يزال موصوفا ً بنعوت الجلل،
ل يقضى عليه بالنقضاء والنفصال بتصرم الباد
وانقراض الجال ،بل هو الول والخر والظاهر
والباطن وهو بكل شيء عليم.
وأنه تعالى ليس بجسم مصور ،ول جوهر محدود
مقدر ،وأنه تعالى ل يماثل الجسام ول يقبل
النقسام ،وأنه تعالى ليس بجوهر ول تحله الجواهر،
ول بعرض ول تحله العراض ،بل ل يماثل موجودا ً ول
يماثله موجود ) ،ليس كمثله شئ ( ول هو مثل
شيء ،وأنه ل يحده المقدار ول تحويه القطار ،ول
تحيط به الجهات ول تكتنفه الرضون والسموات.
وأنه تعالى مستو على عرشه على الوجه الذي
قاله وبالمعنى الذي أراده ،استواءً منزها ً عن
المماسة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال ،ل
يحمله العرش ،بل العرش وحملته محمولون بلطف
قدرته ومقهورون في قبضته ،وهو فوق العرش
والسماء ،وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى ،فوقية ل
تزيده قربا ً إلى العرش والسماء ،كما ل تزيده بعدا ً
عن الرض والثرى ،بل هو سبحانه رفيع الدرجات عن
العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الرض
316
والثرى ،وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو
أقرب إلى العبد من حبل الوريد ،وهو على كل شيء
شهيد ،إذ ل يماثل قربه قرب الجسام كما ل تماثل
ذاته ذات الجسام،وأنه تعالى ل يحل في شي ول
يحل فيه شيء ،تعالى عن أن يحويه مكان وتقدس
عن أن يحده زمان ،بل كان قبل أن خلق الزمان
والمكان ،وهو الن على ما عليه كان.
وأنه تعالى بائن عن خلقه بصفاته ،ليس في ذاته
سواه ،ول في سواه ذاته ،وأنه مقدس عن التغير
والنتقال ،لتحله الحوادث ول تعتريه العوارض ،بل ل
يزال في نعوت جلله منزها ً عن الزوال ،وفي صفات
كماله مستغنيا ً عن زيادة الستكمال.
وأنه تعالى في ذاته معلوم الوجود بالعقول ،مرئي
الذات بالبصار نعمة منه ولطفا ً بالبرار في دار
القرار ،وإتماما ً منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر ،ل يعتريه قصور
ول عجز ول تأخذه سنة ول نوم وأنه ذو الملك
والملكوت والعزة والجبروت له السلطان والقهر
والخلق والمر ،وأنه المنفرد بالخلق والختراع
المتوحد باليجاد والبداع ،خلق الخلق وأعمالهم،
وقدر أرزاقهم وآجالهم ،ل يشذ عن قبضته مقدور ،ول
يعزب عن قدرته تصاريف المور ،ل تحصى مقدوراته
ول تتناهى معلوماته.
317
وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات ،محيط بما
يجري من تخوم الرضين إلى أعلى السمـاوات ،فل
يعزب عن علمه مثقال ذرة في الرض ول في
السماء ،مطلع على هواجس الضمائر وحركات
الخواطر وخفيات السرائر بعلم أزلي قديم لم يزل
موصوفا ً به في أزل الزال ،ل بعلم متجدد حاصل في
ذاته بالحلول والنتقال.
وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات ،ل يجري
في الملك قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر نفع
أو ضر إيمان أو كفر عرفان أو نكر فوز أو خسران
زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إل بقضائه وقدره
وحكمته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته ،لم يزل
موصوفا ً بها ،مريدا ً في أزله لوجود الشياء في أوقاتها
التي قدرها ،فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله
من غير تقدم ول تأخر ،بل وقعت على وفق علمه
وإرادته من غير تبدل ول تغير ،دّبر المور ل بترتيب
أفكار ول تربص زمان ،فلذلك لم يشغله شأن عن
شأن.
وأنه تعالى سميع بصير ،يسمع ويرى ول يعزب
عن سمعه مسموع وإن خفي ول يغيب عن رؤيته
مرئي وإن دق ،ول يحجب سمعه ُبعد ،ول يدفع رؤيته
ظلم ،يرى من غير حدقة وأجفان ،ويسمع من غير
318
مخةٍ وآذان ،كما يعلم من غير قلب ،ويبطش بغيرأص ِ
جارحة ،ويخلق بغير آلة ،إذ ل تشبه صفاته صفات
الخلق كما ل تشبه ذاته ذوات الخلق.
وأنه تعالى متكلم آمٌر ناهٍ واعد ٌ متوعد ٌ بكلم أزلي
قديم قائم بذاته ل يشبه كلم الخلق ،فليس بصوت
يحدث من انسلل هواء أو اصطكاك أجرام ،ول
بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان.
وأن القرآن والتوراة والنجيل والزبور كتبه المنزلة
على رسله عليهم السلم ،وأن القرآن مقروء
باللسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب،
وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى ل يقبل
النفصال والفتراق بالنتقال إلى القلوب والوراق.
وأن موسى ‘ سمع كلم الله تعالى بغير صوت ول
حرف ،كما يرى البرار ذات الله تعالى في الخرة
من غير جوهر ول عرض.
وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا ً عالما ً قادرا ً
مريدا ً سميعا ً بصيرا ً متكلما ً بالحياة والقدرة والعلم
والرادة والسمع والبصر والكلم ل بمجرد الذات.
وأنه تعالى ل موجود سواه إل وهو حادث بفعله
وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها
وأعدلها ،وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته ل
يقاس عدله بعدل العباد ،إذ العبد يتصور منه الظلم
بتصرفه في ملك غيره ،ول يتصور الظلم من الله
319
تعالى فإنه ل يصادف لغيره ملكا ً حتى يكون تصرفه
فيه ظلمًا.
فكل ما سواه من إنس وجن وملك وشيطان
وسماء وأرض وحيوان ونبات وجماد وجوهر وعرض
ومدرك ومحسوس ،حادث اخترعه بقدرته بعد العدم
اختراعا ً وأنشأه إنشاًء بعد أن لم يكن شيئًا .إذ كان
موجودا ً وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد
ذلك إظهارا ً لقدرته وتحقيقا ً لما سبق من إرادته ،ولما
حقّ في الزل من كلمته ل لفتقاره إليه وحاجته.
وأنه متفضل بالخلق والختراع والتكليف ل عن
وجوب ،ومتطول بالنعام والصلح ل عن لزوم ،فله
الفضل والحسان والنعمة والمتنان ،إذ كان قادرا ً
ب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم ص ّ
على أن ي َ ُ
بضروب اللم والوصاب ،ولو فعل ذلك لكان منه
عدل ً ولم يكن منه قبيحا ً ول ظلمًا.
وأنه تعالى يثيب عباده المؤمنين على الطاعات
بحكم الكرم والوعد ل بحكم الستحقاق واللزوم له،
إذ ل يجب عليه لحد فعل ول يتصور منه ظلم ول
يجب لحد عليه حق.
وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه
على ألسنة أنبيائه عليهم السلم ل بمجرد العقل،
ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات
الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب
320
على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.
ي محمدا ً صلى
وأنه تعالى بعث النبي المي القرش ّ
الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم
والجن والنس فنسخ بشريعته الشرائع إل ما قرره
ضله على سائر النبياء وجعله سيد البشر،
منها ،وف ّ
وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر من أمور
الدنيا والخرة.
وأنه ل يقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر به بعد
الموت.
وأوله :سؤال منكر ونكير ،وهما شخصان مهيبان
هائلن يقعدان العبد في قبره سويا ً ذا روح وجسد
فيسألنه عن التوحيد والرسالة ويقولن له :من ربك
وما دينك ومن نبيك ،وهما فّتانا القبر.
وأن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه وأنه حق وعدل
على الجسم والروح على ما يشاء.
وأن يؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان ،توزن به
العمال بقدرة الله تعالى ،وأن يؤمن بأن الصراط
حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من
السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين
بحكم الله تعالى ،وتثبت عليه أقدام المؤمنين بفضل
الله.
وأن يؤمن بالحوض المورود حوض نبينا محمد
321
صلي الله عليه وسلم يشرب منه المؤمنون قبل
دخول الجنة وبعد جواز الصراط ،من شرب منه
شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
وأن يؤمن بالحساب وتفاوت الناس فيه إلى
مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه وإلى من
يدخل الجنة بغير حساب وهم المقربون ،فيسأل الله
تعالى من شاء من النبياء عن تبليغ الرسالة ،ومن
شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين .ويسأل
المبتدعة عن السنة ويسأل المسلمين عن العمال.
وأن يؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد النتقام
حتى ل يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى ،فل
يخلد في النار موحد.
وأن يؤمن بشفاعة النبياء ثم العلماء ثم الشهداء
ثم سائر المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته عند
الله تعالى.
وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله عنهم
وترتيبهم وأن أفضل الناس بعد النبي ‘ :أبو بكر ثم
عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم.
وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما
أثنى الله عز وجل ورسوله ‘ عليهم أجمعين.
فكل ذلك مما وردت به الخبار وشهدت به
الثار فمن اعتقد جميع ذلك موقنا ً به كان
322
من أهل الحق وعصابة السنة وفارق رهط
الضلل وحزب البدعة.
فنسأل الله كمال اليقين وحسن الثبات
في الدين لنا ولكافة المسلمين برحمته إنه
أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى كل عبد مصطفى().(1
323
)فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها ولم
يخلط إيمانه بشيء من بدع سائر أهل
الهواء فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم
له بها( اهـ.
وقال المام أبو المظفر السفراييني -رحمه الله
تعالى ) -التبصير في الدين ص :(180 /
الخاتمة
324
لقد كنا نظن أن لن يتجاوز هذا البحث ورقات
قليلة ،ففوجئنا به وقد أوفى على المئة صفحة ،إذ
كلما أنجزنا الحديث عن مسألة جّرنا الحديث إلى
مسألة أخرى ل تق ّ
ل أهمية عن أختها التي سبقتها.
على أننا نرجوا أن نكون غطينا جوانب الموضوع
بسطا ً ومناقشة ،وأعطيناه ما يستحق من اليضاح
والبيان ،إذ هو بشتى قضاياه ومسائله بالغ الهمية
والخطورة والدقة ،ولول أن خاض به البعض فأساءوا
ـ هداهم الله ـ وبلبلوا أفكار الجيال المسلمة الناشئة،
ل علماء السلم من وألقوا إلى أذهانهم تضلي َ
الشاعرة والماتريدية وانحراَفهم عن طريق السلف،
نقول لول هذا ما ولجنا هذا الباب ،ولتركناه موصدًا،
ولكن ما حيلتنا وقد فتح البعض هذا الباب على
مصراعيه ،وانطلقوا ـ دون تثبت ول بينة ول علم ـ
يضللون ويبدعون ،ول حول ول قوة إل بالله.
325
الحقيقة والواقع إل نزر يسير ل يذكر من أقوال الئمة
والعلماء ،ولقد اكتفينا بمن هو معروف بين العامة،
ولو أردنا الستقصاء ـ وأّنى لنا به ـ لضاق الزمان
والمكان ،ووالله ما نقول ذلك تخّرصا ً ومينًا ،كل ،بل
قّر بها الدنيا.
هي حقيقة يشهد بها التاريخ وت ُ ِ
على أية حال صار هذا البحث الن في عهدة
ي باكتشاف الجهد المبذول فيه،القارئ ،وهو المعن ّ
ي أيضا بوزن الحقيقة التي اعتضدت وهو المعن ّ
بالبراهين والحجج العقلية والنقلية ،ونخلص الن إلى
أهم النتائج التي خرجنا بها في هذا البحث ،وهي:
• الشاعرة والماتريدية هم أتباع المامين
العظيمين أبي الحسن الشعري وأبي
منصورالماتريدي ،إمامي أهل السنة والجماعة رضي
الله عنهما ،وهما لم يبتدعا طريقا ً غير طريق السلف
الصالح ،ولم ينشئا مذهبا ً جديدًا ،بل هما مقرران
لمذاهب السلف مدافعان عنها ،مؤيدان لها بالدلة
العقلية ،فالنتساب لهما إنما هو من حيث كونهما
شهََرا طريقة السلف ،فهما بمنزلة الئمة الربعة في َ
الفروع الفقهية ،إذ كما أن المنتسب إلى أحد الربعة
هو في حقيقة المر متبع للسلف غير مخالف لهم،
فالمتبع لحد هذين المامين ـ أيضا ً ـ متبع للسلف غير
مفارق لهم في المنهج.
• أهل السنة والجماعة مصطلح يراد به عند
326
العلماء الشاعرة والماتريدية وأصحاب الحديث ،فإن
متهؤلء هم السواد العظم والكثرة الغالبة التي ع ّ
جميع الدوار التاريخية ومعظم مساحة الدولة
السلمية منذ أوائل القرن الرابع إلى يوم الناس هذا،
مون بالمثبتة ،لكونهم أثبتوا
سـ ّ
وكانوا قبل ذلك ي ُ َ
موا أهل السنة س ّ
الصفات التي نفاها المعتزلة ،ثم ُ
بعد ظهور إمامي أهل السنة الشعري والماتريدي
لكونهما نصروا السنة وقمعوا البدعة.
• ليس في المتشابه من نصوص الصفات إل
مذهبان صحيحان للعلماء ،هما مذهب التفويض الذي
ذهب إليه جمهور السلف ،ومذهب التأويل الذي قال
به جماعات من السلف وجمهور الخلف ،وليس بعد
هذين المذهبين إل الجنوح نحو التعطيل أو التشبيه.
• ل خلف بين مذهب التفويض والتأويل ،إذ
كلهما مبني على تنزيه الله تعالى عن ظواهر
المتشابهات وحقائقها اللغوية المستحيلة في حقه
تعالى ،والختلف بين المسلكين داخل في دائرة
الختلف الجائز الذي ل يستلزم تضليل ً ول تبديعًا،
فكل المسلكين منقول عن سلف المة.
سّني
• التأويل بشروطه التي بينها العلماء شعار ُ
لسبيل إلى فهم كتاب الله تعالى وسنة نبّيه صلى
الله عليه وسلم فهما ً صحيحا ً إل بالخذ به ،فهو أمر ل
محيد عنه ،وكل من ينكره مضطر إليه في بعض
327
النصوص.
سّني ليس تعطيل ً أو طريقا ً إلى
• التأويل ال ُ
التعطيل ،والذي يتهم الخلف من المة بالتعطيل من
أجل أخذهم بالتأويل هو في حقيقة المر متهم لسلف
المة الصالح بهذه التهمة ،لن جماعات من السلف
قالوا بالتأويل ،وقد نقلنا طرفا ً من أقوالهم وتأويلتهم
ونصوص العلماء في ذلك في ثنايا البحث.
• بحسب الشاعرة والماتريدية من شهود الثبات
التي تشهد بفضلهم وفضائلهم ومناقبهم وسابقتهم
الحسنة في الدين ما تزخر به المكتبة السلمية من
المعارف والعلوم والمفاخر التي هي بمنزلة الدّرة
اليتيمة في تاج المعارف النسانية ،ومن أنصف ونظر
نظرة سريعة خاطفة إلى المكتبة السلمية بشتى
أقسامها من القرآن وعلومه والحديث وفنونه والفقه
وفروعه وأصوله والسير والمغازي والتواريخ واللغة
والدب وغير ذلك من المعارف التي يضيق عن
تفصيلها المقام ،نقول من أنصف ونظر هذه النظرة
السريعة إلى ما ذكرنا خرج بيقين ل يشوبه ريب
بفضل علماء المة من الشاعرة والماتريدية ،وتبين
له بجلء ذلك الجهد الهائل الجبار الذي بذله هؤلء
العلم في الذود عن الدين والدفاع عن السلم
والمسلمين.
• لقد تواترت فتاوى علماء المة في جميع
328
العصور بالثناء على الشاعرة والماتريدية ،والتنويه
بفضلهم وشرفهم ،كما تضافرت أقوالهم بالنكير على
من عرض لهم بالنتقاص والثلب ،وشّنعوا عليه غاية
التشنيع ،وطالبوا بتعزيره وتأديبه.
*****
هذا إجمال لنتائج البحث مما قد فصلناه هناك
مؤيدا ً بالحجة والبرهان ،ومدعما ً بالعقل والنقل،
طحبا ً بأقوال أكابر المة وفضلئها.
ومص َ
على أننا -وإن أتينا بما أتينا به من حجج وبراهين -
ل نكاد نخلص من متعنت مكابر ،ومستسر بالنكار
ومجاهر ،ممن كّبلوا عقولهم بالتقليد ،وأغمضوا
أعينهم عن الحقيقة ،فهؤلء ومن جرى مجراهم -وإن
كان يعّز علينا عنتهم وإعراضهم -ل نملك لهم إل
الدعاء بالهداية ،ثم الصفح الجميل.
ولكننا نيمم شطر تلك العقول المسلمة الواعية،
المتعطشة للحق ،المتجردة من أجل الوصول إليه،
المقدرة لسلفها الصالح وأعلم المة ،المدركة
لخطورة المرحلة التاريخية التي يمّر بها العالم
السلمي ،والمدركة أيضا ً لهمية الوحدة السلمية ل
سيما في هذا الوقت الذي تكالبت على المة فيه
العداوات وتداعت من كل أصقاع الرض ،فهذه
العقول سيجد هذا البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ
طريقه إليها ،وسيؤتي ثماره الطيبة فيها.
329
ثم نقول لمن ل يتفق معنا تعالوا إلى كلمة سواء
بيننا وبينكم:
• أل ّ نقول في الله تعالى وصفاته وأفعاله إل ما
ثبت بطريق القطع واليقين ،ول نزيد على ما ثبت ،فل
نقول بذاته أو على الحقيقة أو على الظاهر أو ما
ص صحيح أو نفاه عقلشابه ذلك مما لم ي َرِد ْ به ن ّ
صريح.
***
330
ضاربين صفحا ً عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو
ذلك ،واضعين نصب أعيننا قول الحق تبارك وتعالى )
ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ( .
331