You are on page 1of 331

‫تقديم‬

‫الشيخ الدكتور محمد حسن هيتو‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله والصلة والسلم على رسول الله‬
‫وبعد‪،‬‬
‫فإن أغرب سؤال وجه إلي في حياتي العلمية هو‪:‬‬
‫هل يعتبر الشاعرة من أهل السنة والجماعة؟‬
‫لقد استوقفتني صيغة هذا السؤال طويل‪ ،‬إذ‬
‫وجدتها فارغة من معنى السؤال العلمي الصحيح‪،‬‬
‫مما يدل على سذاجة السائل وجهله بتاريخ هذه المة‬
‫وعقيدتها‪.‬‬
‫وذلك أن ما يعرفه كل من شم للعلم رائحة‪ ،‬على‬
‫مدى تاريخ أمتنا الطويل هو أن الشاعرة هم أهل‬
‫السنة والجماعة‪.‬‬
‫وأنه إذا أطلقت كلمة أهل السنة في كتب العلم‪-‬‬
‫على اختلف أنواعها‪ -‬فإنهم هم الذين يرادون بها‪.‬‬
‫وهم الذين تردد الخلفات بينهم وبين المعتزلة‪ ،‬أو‬
‫غيرهم من الفرق السلمية في كتب العقيدة‪،‬‬
‫والفقه‪ ،‬والصول‪ ،‬والتفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬بل في كتب‬
‫اللغة‪ ،‬وغير ذلك من كتب العلم التي تعرض للخلف‬
‫في العقيدة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫وذلك أن الشاعرة هم الذين وقفوا في وجه‬
‫المعتزلة‪ ،‬فزيفوا أقوالهم‪ ،‬وأبطلوا شبههم‪ ،‬وأعادوا‬
‫الحق إلى نصابه على طريق سلف هذه المة‬
‫ومنهجهم‪.‬‬
‫وإلمام أبو الحسن الشعري لم يؤسس في‬
‫السلم مذهبا ً جديدا ً في العقيدة‪ ،‬يخالف مذهب‬
‫سلف هذه المة‪ ،‬وإنما هداه الله تعالى للتزام مذهب‬
‫أهل السنة بعد أن أمضى أربعين سنة من حياته على‬
‫مذاهب العتزال‪ ،‬عرف من خللها حقيقة مذهبهم‪،‬‬
‫وتمرس بفنونهم وأساليبهم في الجدال‪ ،‬والنقاش‪،‬‬
‫كنه من الرد عليهم‪ ،‬وإبطال شبههم‪.‬‬ ‫والنظر‪ ،‬مما م ّ‬
‫فوجد فيه أهل السنة ضالتهم التي طالما بحثوا‬
‫عنها فاتبعوه‪ ،‬وساروا على نهجه‪ ،‬لما رأوا فيه من‬
‫القدرة على إفحام خصومهم‪ ،‬والدفاع عنهم‪ ،‬وتثبيت‬
‫مذاهبهم‪.‬‬
‫وعقيدة المام أبي الحسن الشعري التي سار‬
‫عليها هي عقيدة المام أحمد بن حنبل‪ ،‬والشافعي‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬وأبي حنيفة وأصحابه‪ ،‬وهي عقيدة السلف‬
‫الصالح‪ ،‬كما نص على ذلك أئمة أهل العلم ممن سار‬
‫على هذه العقيدة‪ ،‬على كر العصور ومر الدهور‪.‬‬
‫ولذلك كان الصواب في السؤال أن يقول السائل‪:‬‬
‫من يدخل مع الشاعرة في أهل السنة الجماعة؟‬
‫والجواب على هذا‪ :‬أنه يدخل معهم كل من سار‬
‫على نهجهم‪ ،‬وسلك سبيلهم‪ ،‬وإن وقع شيء من‬
‫الخلف في بعض المسائل بينهم‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫فالماتريدية من أهل السنة‪ ،‬والثريون من أهل‬
‫مث َّلهم في‬
‫السنة‪ ،‬إل أن الذي ظهر من أهل ا لسنة و َ‬
‫كتب العلم هم الشاعرة‪ ،‬ولذلك كانت كلمة أهل‬
‫السنة إذا أطلقت انصرفت في الغالب إليهم‪.‬‬
‫على أن جمهرة أهل السنة منهم‪.‬‬
‫فالمالكية كلهم أشاعرة‪...‬‬
‫والشافعية كلهم أشاعرة‪...‬‬
‫والحنفية كلهم أشاعرة أو ماتريدية ول خلف‬
‫بينهم‪...‬‬
‫وجملة كبيرة من أئمة الحنابلة المتقدمين من‬
‫الشاعرة‪.‬‬
‫وهذا على الجملة‪.‬‬
‫وأما على التفصيل فعظماء أمة محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم من الشاعرة‪ ،‬كالباقلني‪ ،‬والقشيري‪،‬‬
‫وأبي إسحاق الشيرازي‪ ،‬وأبي الوفاء بن عقيل‬
‫الحنبلي‪ ،‬وأبي محمد الجويني‪ ،‬وولده أبي المعالي‬
‫إمام الحرمين‪ ،‬وحجة السلم الغزالي‪ ،‬والقاضي أبي‬
‫بكر بن العربي‪ ،‬وفخر الدين الرازي‪ ،‬وابن عساكر‪،‬‬
‫والعز بن عبد السلم‪ ،‬وأبناء الثير‪ ،‬والرافعي‪،‬‬
‫والنووي‪ ،‬والسبكي وأولده‪ ،‬والمزي‪ ،‬والعراقي‪ ،‬وابنا‬
‫حجر‪ -‬العسقلني والهيتمي‪ ،-‬والسيوطي‪ ،‬وما ل‬
‫يحصيه العد مما تنقطع بذكره النفاس‪ ،‬ويضيق بعده‬
‫القرطاس‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فإن كان كل هؤلء ممن ذكرنا‪ ،‬وأضعافا مضاعفة‬
‫ممن لم نذكر ليسوا من أهل السنة‪ ،‬فمن هم أهل‬
‫السنة في التاريخ؟‬
‫لم يبق بعد هذا إل أن يقال‪ :‬إنهم كانوا وهما جسده‬
‫الجهل المعاصر‪ ،‬وهكذا تنقلب الحقائق آخر الزمان‪،‬‬
‫فيقذف العالم بالجهل ويترك‪ ،‬ويوصف الجاهل بالعلم‬
‫فيسأل‪ ،‬ليضل ويضل‪ ،‬وتنقض عرى السلم عروة‬
‫عروة‪.‬‬
‫وقد سخر الله تعالى الخوة الذين ألفوا هذا‬
‫الكتاب لبيان الحق وإظهاره‪ ،‬ودحض الباطل وفضحه‬
‫بما ذكروه من الحقائق العلمية عن الشاعرة في‬
‫نشأتهم وعقيدتهم‪ ،‬مما يحتاج إليه كل من لم يعرف‬
‫شيئا ً عنهم‪ ،‬أو عرف عنهم من الباطيل التي يروجها‬
‫أدعياء العلم والمعرفة‪ ،‬مما يتنافى مع المانة العلمية‬
‫التي أمر الله بها‪.‬‬
‫وهم لم يبتدعوا شيئا ً جديدا في هذا الكتاب لنه‬
‫ليس الول من نوعه في هذا الموضوع وإنما أظهروا‬
‫فيه ما كان خافيا على من لم يعلم‪ ،‬أو يتعامى عنه‬
‫من علم‪ ،‬فجزاهم الله على ما بذلوه فيه خير الجزاء‪،‬‬
‫وأجزل لهم بمنه البذل والعطاء‪.‬‬
‫وكتبه‬
‫الشيخ أ‪.‬د‪ .‬محمد حسن هيتو‬

‫‪4‬‬
‫تقريظ الشيخ الستاذ‬
‫الدكتور محمد فوزي فيض الله‬
‫الحمد لله رب العالمين والصلة والسلم على‬
‫سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫فقد نشرت صحيفة كويتية قبل فترة‪ ،‬مقال ً لستاذ‬
‫جامعي‪ ،‬ذكر فيه أن الشاعرة والماتريدية والمعتزلة‬
‫والقدرية والصوفية والجهمية‪...‬أنها كلها من الفرق‬
‫الضالة‪ ،‬وهذا يعني أن متبعيها من الضالين؛ وهذا كلم‬
‫خطير جدا ً لن معناه أن محصل المسلمين وجماعتهم‬
‫على غير هدى من الله‪ ،‬ولم يحدد لنا أهل الهدى‬
‫والصراط المستقيم؛ وهذا يشكك المسلمين في‬
‫دينهم فل يدرون أنهم من أهل الضلل أو من أهل‬
‫الهدى!!‬
‫فهل يستطيع الكاتب أن يبين لنا من حفظ من‬
‫العلماء هذا الدين وعقيدته ولغته وتاريخه من وقت‬
‫ظهوره إلى يومنا هذا‪ ،‬وهل كانوا من أهل الضلل أم‬
‫كانوا من أهل الهدى والرشاد؟‬
‫إن أهل السنة والجماعة يبلغون تسعة أعشار‬
‫المسلمين وهم السواد العظم‪،‬فإذا حكمنا عليهم‬
‫بالضلل فبماذا نحكم على سائر المسلمين!‬
‫وبماذا يصف الكاتب أمثال المام الجويني‬
‫والسفراييني والرازي والطبري والغزالي وأبي حنيفة‬
‫ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن جرير وابن‬
‫عبد البر والذهبي والبخاري ومسلم والوزاعي‬

‫‪5‬‬
‫والدارقطني والخطيب البغدادي وابن حجر‬
‫والسيوطي والعيني والسخاوي والمناوي وسيبويه‬
‫والخفش والزجاج والمبرد والفارابي والكسائي‬
‫والصمعي وابن هشام والكلباذي وغيرهم من الئمة‬
‫في العقيدة وأصولها وأصول الفقه والتاريخ والدب‪،‬‬
‫ممن عدهم العلماء والمؤرخون في تاريخ السلم‬
‫واللغة العربية ووسموهم لنهم من أهل السنة‬
‫والجماعة؛ فهل يصف الكاتب هؤلء العلم بأنهم من‬
‫أهل الضلل والفرق الضالة؟‬
‫وقد أطبقت المة ممثلة في علمائها في مختلف‬
‫العلوم على أنهم كانوا من أهل السنة والجماعة من‬
‫الشاعرة والماتريدية‪.‬‬
‫وفي العصر الحديث رأينا من العلم في مصر‬
‫والشام من يفخرون بنسبتهم إلى أهل السنة‬
‫والجماعة أمثال شيوخ الزهر‪ :‬الباجوري والشرقاوي‬
‫والمراغي وشلتوت وعلي الخفيف وعمداء الكليات‬
‫كالشافعي الظواهري والسبكي والديناري وبدر‬
‫المتولي والسايس‪ ،‬وكذلك مصطفى الزرقا ومعروف‬
‫الدواليبي ومصطفى السباعي والسلقيني وسراج‬
‫الدين‪.‬‬
‫وقد أدركت خلل النصف من القرن الماضي‬
‫"القرن المتمم للعشرين" أكثر أهل العلم ممن يدعو‬
‫الله تعالى بأن يميته على مذهب أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬فيقول بعد الحمدلة والتصلية على النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ -‬ما نصه بهذا اللفظ‪" :‬اللهم‬
‫بفضلك العميم عمنا‪ ،‬واكفنا اللهم شر ما أهمنا‬

‫‪6‬‬
‫وأغمنا‪ ،‬وعلى اليمان الكامل والسنة والجماعة توفنا‬
‫نلقاك وأنت راض عنا"‬
‫فكانت أمنيتهم فراق الدنيا وهم على مذهب أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬الذين عناهم الرسول‪ -‬صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ -‬بقوله‪" :‬ل تجتمع أمتي على ضللة" في‬
‫ى؛ والمتواتر في المعنى‬
‫الحديث المتواتر معن ّ‬
‫كالمتواتر في اللفظ‪ ،‬في قطعية دللته‪.‬‬
‫فلعله اشتبه على كاتب المقال ما رآه في كتب‬
‫المام الشعري من مطاعن ودسات رخيصة كما نقل‬
‫المؤلفان الشيخان "حمد السنان وفوزي العنجري"‬
‫عن المام الكوثري في ص ‪ 18‬أنه دخل التحريف‬
‫والنقص والزيادة على "البانة" وهي أشهر كتبه‪.‬‬
‫هدانا الله وإياه إلى اتباع الحق وأهله أصحاب‬
‫الفرقة الناجية بنص الحديث السابق‪.‬‬
‫وصلى الله على صفوة خلقه سيدنا ونبينا محمد‬
‫وآله وصحبه وسلم‬
‫الجمعة ‪ 9‬من شوال‬
‫‪1426‬هـ‬

‫‪11/11/2005‬م‬
‫الشيخ أ‪.‬د‪ .‬محمد فوزي فيض الله‬

‫‪7‬‬
‫تقريظ الشيخ الستاذ‬
‫الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬والصلة والسلم على سيدنا محمد الذي أرسل‬
‫رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬وبعد‪:‬‬
‫فإن المام أبا الحسن عليا ً بن إسماعيل الشعري )‬
‫‪330-260‬هـ( واحد من عيون رجال السلف‪ ،‬ومن‬
‫أبرزهم علما ً واستقام ً‬
‫ة على نهج كتاب الله وسنة‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫فمن تجاهل هذه الحقيقة فقد خاصم التاريخ‬
‫ي لكل ذي عينين‪.‬‬ ‫وتعامى عن الواقع المرئ ّ‬
‫وإن المام الشعري لم يبتدع رأيًا‪ ،‬ولم ينشئ‬
‫مذهبًا‪ ،‬وإنما كان مقررا ً لمذهب السلف‪ ،‬مناضل ً عن‬
‫الحق الذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫عليه أصحابه‪ ،‬شهد له بذلك كل أئمة التفسير‬
‫والحديث والفقه الذي كانوا في عصره‪.‬‬
‫فمن ركب رأسه في إنكار هذا الذي شهد له به‬
‫ت على السلف‪ ،‬كاذب في‬ ‫أئمة السلف‪ ،‬فهو مفتئ ٌ‬
‫دعوى اقتدائه بهم ومحبته لهم‪ .‬وإن أتباعه الذين‬
‫جاؤوا من بعده‪ ،‬لم يكونوا في سيرهم على نهجه إل‬
‫كأتباعه الذين اتبعوه وأحدقوا به في عصره‪ ،‬فمن‬
‫سفههم أو انتقصهم أو نسبهم إلى ابتداع‪ ،‬فقد رمى‬
‫بذلك الئمة الذين هم لباب السلف وخيرتهم في‬

‫‪8‬‬
‫عصره‪ ،‬والذين كانوا السواد العظم والمناء على‬
‫كتاب الله وسنة رسوله‪.‬‬
‫وقد سألت واحدا ً من هؤلء الذي يب ّ‬
‫دعون أتباع‬
‫المام الشعري ويسفهونهم‪ ،‬ويلقون الكلم في ذلك‬
‫على عواهنه‪ :‬ما الذي تنقمه منهم؟ وما البدعة التي‬
‫ابتدعوها ففسقتهم؟‬
‫فقال لي‪ :‬تعطيلهم القرآن بالتأويل الذي‬
‫ابتدعوه‪ ...‬قلت له‪ :‬ما من كلمة أوُّلوها إل وفي أئمة‬
‫السلف من أّولها‪ ،‬إذ كان السبيل إلى فهمها اجتهادا ً‬
‫يتسع لكثر من فهم واحد‪.‬‬
‫أل تعلم أن في السلف من أّول كلمة "استوى"‬
‫في مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫)ثم استوى إلى السماء وهى دخان (‬
‫ومن اول كلمة "الوجه" في قوله تعالى‪ ) :‬ويبقى‬
‫وجه ربك ذو الجلل والكرام (‬
‫وأول "الضحك" في قول رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬ضحك ربكما الليلة من فعالكما"‪.(1) .‬‬
‫ول الفراغ فى قوله تعالى ‪ ) :‬سنفرغ لكم أيها‬
‫وأ ّ‬
‫الثقلن (‬
‫هم إلى‬‫حد َ ُ‬
‫وهل في هؤلء الذين يعتزون بنسبتهم وَ ْ‬
‫السلف من لم يؤول كلمة "يحبهم" في قوله تعالى‪) :‬‬
‫فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( ‪ .‬ومن لم‬
‫يؤول "المعية" في قوله تعالى‪ ) :‬وهو معكم أينما‬

‫)( انظر السماء والصفات للبيهقي‪ ،‬وانظر شرح أبي‬ ‫‪1‬‬

‫داود للخطابي عند شرحه لحديث‪" :‬ضحك ربكما الليلة‬


‫من فعالكما"‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫كنتم ( ‪ .‬ومن لم يؤول "القرب" في قوله تعالى‪:‬‬
‫) ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( ‪.‬‬
‫فلماذا تبررون لنفسكم هذا الذي ل تبررونه لمن‬
‫هم ليسوا أقل منكم علمًا‪ ،‬بل إنكم لتعلمون أنهم‬
‫القدوة الصالحة لهذه المة؟!‪..‬‬
‫هن الدليل‬ ‫لماذا يكون تأويل الشاعرة لما ب َْر َ‬
‫الجتهادي على صحة تأويله تعطيل ً وابتداعًا‪ ،‬ويكون‬
‫تأويلكم لما قد ل نؤيدكم فيه سلفية صافية ملتزمة ل‬
‫تعطيل فيها ول تأويل؟!‬
‫كنا نقول بالمس‪ :‬قاتل الله الجهالة‪ ،‬كم تحجب‬
‫العقل عن الحق‪ ،‬ولكنا نقول اليوم‪ :‬قاتل الله‬
‫العصبية العمياء‪ ،‬كم تحجب العين المبصرة عن رؤية‬
‫ة للءة ً في كبد السماء!‪..‬‬
‫الشمس صافي ً‬
‫ل‪ ،‬إني أشكر لهذين الخوين جهودهما في‬ ‫على ك ّ‬
‫إبراز البدهيات والتدليل عليها‪ ،‬وإنها لجهود شاّقة‬
‫تقتضي مع الشكر عليها العجاب بها‪ ،‬ألم يقولوا من‬
‫من أشكل المشكلت إيضاح الواضحات؟! فلقد‬ ‫قبل‪ِ :‬‬
‫استطاعا أن يخترقا هذا الشكال وأن يزيدا هذا‬
‫الحقيقة الواضحة وضوحًا‪ ،‬وأن يضاعفا من بداهتها‬
‫أمام سائر العقول والبصار‪.‬‬
‫وإني لعلى يقين بأن الجهل ل يستطيع أن يقاوم‬
‫هذه البداهة ويتغلب عليها‪ ...‬أما العصبية العمياء فإني‬
‫لعلى يقين بأنها على استعداد لن تكتسح في طريقها‬
‫كل ًَ من الدنيا والخرة‪ ،‬وأن ل تبقي أمامها إل أطيافا ً‬
‫من الوهم‪ ،‬تتعامل معها وتدافع عنها‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إني بمقدار ما أشكر هذين الخوين وأدعو الله‬
‫لهما‪ ،‬أدعو لمن يقبعون في سجن هذه العصبية أن‬
‫يكرمهم الله بانطلقه آمنة وسريعة منه‪ ،‬قبل أن‬
‫م من حولهم الليل‪ ،‬ويختلط ظلم‬ ‫يفوت الوان وَي َد ْل َهِ ّ‬
‫السجن الذي يتطوحون فيه بظلم العاقبة التي ل‬
‫يجدي معها أي شيء‪.‬‬
‫الشيخ أ‪.‬د محمد سعيد رمضان البوطي‬

‫تقريظ الشيخ الستاذ‬


‫الدكتور عجيل جاسم النشمي‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫ما من أمر يجتمع عليه المسلمون أهم من‬
‫العقيدة‪ ،‬وما من أمر أشد فرقة لرابطتهم واتحادهم‬
‫من اختلفهم في أمر العقيدة‪ ،‬هذه حقيقة شرعية‬
‫تاريخية‪.‬‬
‫لقد قرأت هذا الكتاب فألفيته ذا قيمة علمية كبيرة‬
‫من حيث توثيق القوال ونسبتها‪ ،‬وقوة الستدلل‪،‬‬
‫وحسن العرض لقضاياه والمناقشات الرائعة مع أدب‬
‫وسمو عبارة‪ ،‬يزينه جمال ً مقصده في نصرة علماء‬
‫المة‪ ،‬وتوحيد كلمتها في شأن العقيدة الصحيحة‪ ،‬في‬
‫وقت هي أشد ما تكون إلى ذلك‪.‬‬
‫والكتاب وإن كان مؤلفاه الشيخان الفاضلن قد‬
‫ادعيا جهد الجمع والعداد إل أن الناظر في جهدهما‬
‫يجد علما ً وفهما ً وفقها ً بدا جليا ً ليس في الجمع‬

‫‪11‬‬
‫والعداد فحسب‪ ،‬وإنما في فهم وتوجيه العبارات‬
‫الفقهية‪ ،‬وسوق الدلة منها‪ ،‬وترتيب نتائجها العلمية‪،‬‬
‫ثم لم يخل الجهد من التعليق والستنباط والستنتاج‪،‬‬
‫وهذا مما ل يحسنه كل أحد إل علماء فقهاء دربوا‬
‫على الصياغات الفقهية‪ ،‬وفهم مناهج الفقهاء‬
‫ومذاهبهم‪ ،‬فجزاهما الله خيرا على هذا الصنيع‪.‬‬
‫والكتاب في مضمونه تجديد لمعلوم قديم مستقر‬
‫عند أهل العلم ل يكادون يختلفون فيه‪ ،‬وهو عد‬
‫الشاعرة من السلف‪ ،‬أهل السنة والجماعة‪ ،‬كيف ل‬
‫وعلماؤهم فقهاء المة وجمهرتهم‪.‬‬
‫وعقيدتهم‪ -‬بل ريب‪ -‬عقيدة أهل السنة المنضبطة‬
‫على الكتاب والسنة‪ ،‬ول يخرجهم من ذلك دعواهم‬
‫التأويل ليات وأحاديث الصفات المتشابهات ما دام‬
‫التأويل وفق ضوابط محددة‪ ،‬ومقاصد مقررة‪.‬‬
‫والتأويل ترجيح ل ينكر الخلف فيه‪ ،‬ولذا لم يعب‬
‫أحدهم على غيره‪ ،‬ولم يفسقه‪ ،‬أو يبدعه‪ ،‬لن مبنى‬
‫الختلف ههنا ترجيح مسلك على آخر‪ ،‬وكلهما‬
‫صحيح‪ ،‬وكلهما مذهب أهل السنة‪.‬‬
‫والعناية بذلك وأدلته مبسوطة في الكتاب‪ ،‬وهي‬
‫غايته ومبنى الموضوع ومحوره‪.‬‬
‫وأظن أن الكتاب قد حقق مقصوده من الناحية‬
‫العلمية الفقهية العقدية‪ ،‬وتمكن مؤلفاه من إثبات‬
‫مرادهم بنصوص موثقة مستندة إلى أدلة ناصعة‬
‫محررة‪ .‬فجزاهما الله خيرا‪.‬‬
‫كتبه‬
‫الشيخ أ‪.‬د عجيل جاسم النشمي‬

‫‪12‬‬
‫تقريظ الشيخ الستاذ الدكتور على‬
‫جمعة‬
‫مفتي الديار المصرية‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله الذي نور قلوب أحبابه بحسن العتقاد‪،‬‬
‫فبصرهم بحقائق اليمان به فكان عين السعاد‪،‬‬
‫فعبدوه مخلصين له الدين فصاروا خير عباد‪ .‬والصلة‬
‫والسلم على سيدنا محمد الهادي إلى سبيل الرشاد‪،‬‬
‫وعلى آله وصحبه المتزودين بخير زاد‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬
‫فقد أبان الله سبحانه وتعالى لخلقه من مكونات‬
‫خزائن جوده وكرمه ما أبرز لهم به جميل صفاته‬
‫وأسمائه فتعرفوا بها وعاشوا فيها متولهين به حبا ّ‬
‫وشوقًا‪ ،‬فصرف جميل الصفات البارزة تجلياتها في‬
‫الكون أهل الله عن التفكير في ذاته سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وانشغلوا بالتفكر في آلئه‪ ،‬فكانوا على قدم التباع‬
‫للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في‬
‫إرشاده لهم عندما قال‪" :‬تفكروا في آلء الله ول‬
‫تتفكروا في ذاته"‪ .‬رواه البيهقي في )الشعب(‬
‫والطبراني في الوسط‪.‬‬
‫وسارت على هذا المنهج المة المحبة لله سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬سلفا ً وخلفا ً لم يحد عن ذلك إل غافل أو‬
‫هالك‪ ،‬وكان هذا المنهج منهجا ً وسطا ً بين من أساؤوا‬
‫الظن بالله فتفكروا في ذاته‪ ،‬فوقعوا في التجسيم –‬

‫‪13‬‬
‫والعياذ بالله‪ -‬أو كادوا‪ ،‬وبين من أنكروا صفاته العلية‬
‫سبحانه وتعالى‪ .‬وهكذا كان السادة الشاعرة رحمهم‬
‫الله سلفا ً وخلفا ً على المنهج الوسط‪ ،‬والبصيرة التي‬
‫أبصروا بها حقيقة الوقوف بالدب في المعاملة مع‬
‫الله سبحانه‪ .‬وهذا ما جعل العلماء قاطبة يطلقون‬
‫على السادة الشاعرة أنهم أصحاب المذهب الحق‪،‬‬
‫فكانوا أحق بها وأهلها‪ .‬واستقر التدريس في كل‬
‫معاهد العلم العريقة في المة السلمية مثل الزهر‬
‫الشريف‪ ،‬والزيتونة‪ ،‬والقيروان على تدريس مذهب‬
‫السادة الشاعرة اعترافا ً من المحققين من علماء‬
‫المة بأنه المذهب الحق‪ .‬وإيمان العلماء هذا هو الذي‬
‫دفع كثيرا ً منهم إلى الدفاع عن مذهب السادة‬
‫الشاعرة‪ ،‬فأّلف الحافظ ابن عساكر كتابه الماتع‬
‫)تبيين كذب المفتري( في نصرة مذهبهم‪ .‬وصّنف‬
‫العلمة أبو حامد المرزوقي‪ -‬وهو الشيخ العربي‬
‫التباني‪ -‬كتابا ً أسماه )براءة الشعرين(‪ .‬فكانت‬
‫نصرتهم هذه نصرة للحق وأهله‪ ،‬وقد توالت‬
‫المصنفات من العلماء المحققين في بيان مذهب‬
‫أهل الحق )الشاعرة( والدفاع عنهم‪ .‬ومن هذه‬
‫المصنفات هذا المصنف المبارك الذي سار على هذا‬
‫الدرب المبارك من نصرة أهل الحق ومذهبهم‪ .‬فبارك‬
‫الله فيه وفي مصنفيه ونفع بهما في الدارين‪ .‬آمين‪.‬‬
‫كتبه‬
‫الشيخ أ‪.‬د على جمعه محمد )مفتي‬
‫الديار المصرية(‬
‫‪ 27‬رمضان ‪1425‬هـ الموافق‬
‫‪10/11/2004‬م‬

‫‪14‬‬
‫تقريظ الشيخ الستاذ‬
‫الدكتور محمد عبد الغفار الشريف‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين‪ ،‬ول‬
‫عدوان إل على الظالمين‪ ،‬والصلة والسلم على سيد‬
‫الخلق أجمعين‪ ،‬سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين‪،‬‬
‫وصحبه الطيبين‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬
‫فقد عرض على ّ الخ الكريم‪ ،‬فضيلة الشيخ حمد‬
‫ده هو‬‫السنان‪ -‬حفظه الله‪ -‬مسودة الكتاب الذي أع ّ‬
‫وأخوه الشيخ فوزي العنجري‪ -‬حفظه الله‪ -‬بعنوان‬
‫)أهل السنة الشاعرة شهادة علماء المة وأدلتهم(‪.‬‬
‫فرأيت فيه‪:‬‬
‫‪ .1‬غيرة ً على دين الله من أن يتعدى عليه‬
‫الجاهلون والمغرضون‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ .2‬انتصارا ً لعلماء السلم وحماة الدين من‬
‫تهجم بعض من غ ُّرَر بهم من أبناء المسلمين‬
‫عليهم‪.‬‬
‫‪ .3‬عفة لسان ودعوة صادقة إلى توحيد صفوف‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫‪ .4‬بيانا ً لعقيدة أهل السنة والجماعة حسب ما‬
‫تلقاه العلماء الثبات عبر أربعة عشر قرنا ً عن‬
‫السلف الصالح‪.‬‬
‫لذا أنصح كل طالب علم بالطلع عليه‪ ،‬والعمل‬
‫على نشره بين المسلمين للستفادة منه‪.‬‬
‫والله يحفظ السلم والمسلمين من كيد أعدائه‬
‫وجهل أبنائه‪.‬‬
‫وصلى الله وسلم على سيد الوجود سيدنا محمد‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫كتبه‬
‫الشيخ أ‪.‬د محمد عبد‬
‫الغفار الشريف‬

‫تقريظ الشيخ الستاذ‬


‫الدكتور وهبة الزحيلي‬

‫‪16‬‬
‫أخوي الكريمين الستاذ حمد السنان والستاذ‬
‫فوزي العنجري أيدهما الله‪.‬‬
‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والعاقبة للمتقين‪ ،‬ول‬
‫عدوان إل على الظالمين والصلة والسلم على‬
‫سيدنا محمد خاتم النبياء والمرسلين‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه أجمعين وبعد‪:‬‬
‫أشكر لكما رسالتكما الكريمة‪ ،‬وأقدر لكما تقديرا ً‬
‫بالغا ً هذا الجهد الطيب الذي بذل في جمع مقالت‬
‫العلماء والئمة الثقات حول الشاعرة والمامين أبي‬
‫الحسن الشعري وأبي منصور الماتريدي‪.‬‬
‫لقد أنصفتم الحقيقة‪ ،‬وأوضحتم وجه الحق وطريق‬
‫السداد والصواب‪ ،‬وبيان تاريخ نشوء هذين المذهبين‬
‫المتقاربين جدًا‪ ،‬من غير خلف جوهري‪ ،‬وقد شاع بين‬
‫المسلمين قاطبة اتباع هذين المامين‪ ،‬لن القرآن‬
‫مال أوجه‪ ،‬والنصوص الشرعية محتملة‪ ،‬ويستحيل‬ ‫ح ّ‬
‫على أهل المعرفة والعلم إنكار وجود المجاز في‬
‫القرآن والسنة النبوية‪.‬‬
‫ومن أنواع المجاز النصوص المتشابهة‪ ،‬ولكن مع‬
‫التزام النص وتفويض الشأن إلى الله عز وجل‪ ،‬فل‬
‫تعطيل كالجهمية‪ ،‬ول تشبيه كالمجسمة‪ ،‬ول مساس‬
‫بجوهر العتقاد بالذات العلية واليمان بالسماء‬
‫الحسنى والصفات العليا‪ ،‬في ضوء الية الكريمة‪) :‬‬
‫ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ( ‪] .‬الشورى‪:‬‬
‫‪.[11‬‬
‫لكن ابتليت المة السلمية بفئة تسرعت في‬
‫التخطئة‪ ،‬وبادرت إلى القول بالتضليل‪ ،‬دون تثبت ول‬

‫‪17‬‬
‫روّية‪ ،‬مع أن أهل السنة والجماعة كلهم يفوضون إلى‬
‫الله تعالى بيان المراد القطعي‪ ،‬ونحن مع جمهور‬
‫السلف في التفويض‪ ،‬والتأويل اجتهاد‪ ،‬وسندنا فيه ما‬
‫اتجه إليه جماعة من الصحابة‪ ،‬علما ً بأنه لو كان هناك‬
‫خطأ واضح أو مساس بالعتقاد لنكر الصحابة الكرام‬
‫على من جنح إلى التأويل المقبول من غير مساس‬
‫بمدلول النصوص الواردة ول خروج عنها‪ ،‬فما أجدرنا‬
‫وأحرى بفئة تكفير أو تضليل بقية المسلمين أن‬
‫يتريثوا ويتئدوا‪ ،‬حتى ل يقعوا في الكفر‪.‬‬
‫هدانا الله وإياهم سواء السبيل‬

‫الشيخ‬
‫أ‪.‬د وهبة الزحيلي‬

‫‪18‬‬
‫تقريظ الشيخ الدكتور عبد الفتاح البزم‬
‫مفتي دمشق ومدير معهد الفتح‬
‫السلمي‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله القديم الذي ل أول لوجوده‪ ،‬الباقي الذي‬
‫ل نهاية لبقائه‪ ،‬الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم يلد ولم يولد‪،‬‬
‫ولم يكن له كفوا ً أحد‪ ،‬المنفرد باليجاد والعدام‪،‬‬
‫المنّزه عن صفات النقص‪ ،‬المتصف بصفات الكمال‪.‬‬
‫والصلة والسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة‬
‫للعالمين‪ ،‬إمام المرسلين‪ ،‬وسيد ولد آدم أجمعين‪،‬‬
‫وعلى آله الطاهرين‪ ،‬وأصحابه الغّر الميامين‪ ،‬ومن‬
‫تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫وبعد‪،،‬‬
‫ي الستاذان الجليلن حمد السنان‬ ‫فقد أرسل إل ّ‬
‫وفوزي العنجري كتابهما )أهل السنة الشاعرة شهادة‬
‫علماء المة وأدلتهم( وطلبا مني ‪-‬وهما يحسنان‬
‫الظن بي‪ -‬أن أبدي الرأي بعد الطلع على علمهما‬
‫المبرور إن شاء الله تعالى‪ ،‬فنزلت عند رغبتهما‪-‬‬
‫مستعينا بالله‪ -‬فخرجت بنتائج لعل من أهمها أن‬
‫المؤلفْين حرصا على بيان الحقيقة دون تجريح أو‬
‫تعريض بفرقة أو طائفة أو جماعة‪ ،‬غير ذامين ول‬
‫قادحين ول منتقصين بل ملتزمين المنهج العلمي من‬
‫حيث الشكل والمضمون‪ ،‬ينسبون القوال إلى‬
‫أصحابها مع العزو والتوثيق‪ ،‬بلغة سليمة صحيحة‬

‫‪19‬‬
‫بعيدة في تراكيبها عن الحشو والتعقيد‪ ،‬فجاء هذا‬
‫سفرا ً ثمينا ً منضما ً إلى سلسلة‬
‫الصنيع المشكور ِ‬
‫مباركة من أعمال مبرورة نذر أصحابها أنفسهم‬
‫للدفاع عن الحق وأهله أهل السنة والجماعة الفرقة‬
‫الناجية التي سلكت ما كان عليه رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم‪،‬‬
‫والتي استثناها عليه الصلة والسلم من سائر الفرق‬
‫التي افترقت عليها أمته‪ ،‬ولقد أجمع كثير من أهل‬
‫العلم على أنها أهل السنة والجماعة من أشاعرة‬
‫وماتريدية وسلف ومحدثين وفقهاء وأصوليين خل‬
‫مذهبهم من الهواء والبدع‪ ،‬وقد أورد المؤلفان في‬
‫ذلك قول صاحب )لوامع النوار البهية(‪ ،‬فقال‪ :‬هم‬
‫ثلث فرق‪ :‬الثرية وإمامهم أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫والشعرية وإمامهم أبو الحسن الشعري‪ ،‬والماتريدية‬
‫وإمامهم أبو منصور الماتريدي‪ .‬رحمهم الله جميعا ً‬
‫ونفعنا بهم وبجميع العلماء العاملين المخلصين‪ .‬وإني‬
‫لجد شاكر للستاذين الفاضلين ما بذله من جهد‬
‫محمود في بيان عقيدة الشاعرة وفضل إمامهم أبي‬
‫الحسن الشعري رحمه الله تعالى‪ .‬سائل ً الله سبحانه‬
‫أن يتقبل عملهم‪ ،‬وأن ينفع به‪ ،‬وأن يجعل هذه‬
‫السطر التي أجراها على يدي خالصة لوجهه الكريم‪.‬‬
‫إنه سبحانه خير سميع وخير مجيب‪ .‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫الشيخ الدكتور عبد الفتاح‬
‫البزم )مفتي دمشق(‬
‫ومدير معهد الفتح السلمي‬
‫بدمشق‬

‫‪20‬‬
‫تقريظ الشيخ الدكتور حسين عبد الله‬
‫العلي‬

‫الحمد لله والصلة والسلم على سيدنا محمد‬


‫المختار وعلى آله وأصحابه المصطفين الخيار‪.‬‬
‫أما بعد‪،،‬‬
‫فهذا الكتاب النافع المبارك إن شاء الله تعالى‬
‫ن لما كان عليه شيخ السلم وإمام الئمة‬ ‫ف ومبي ّ ٌ‬
‫كاش ٌ‬
‫أبو الحسن الشعري‪ -‬رحمه الله تعالى‪ -‬من العقيدة‬
‫فاها من بين فرث‬ ‫التي سلكها ودافع عنها وص ّ‬
‫التجسيم ودم التعطيل أل وهي عقيدة السلف‬
‫ق مزيدا ً من وضوح‬‫الصالح‪ ،‬وقد أظهر هذا الكتاب بح ٍ‬
‫الرؤية في هذا الجانب؛ لما اشتمل عليه من الحجج‬
‫ي ُيضم‬‫الدامغة‪ ،‬والنقول المعتبرة‪ ،‬فهو إذا ً سهم مرم ّ‬
‫إلى الكتب التي أ ُّلفت في الدفاع عن ساحة المام؛‬
‫إذ من المعلوم أن كبار علماء المة من محدثين‬
‫ومتكلمين دافعوا عنه كابن عساكر في كتابه )تبيين‬
‫كذب المفتري(‪ ،‬والبيهقي في التصريح في كتبه‬
‫)العتقاد( وغيره‪ ،‬مبينا ً فيها أن تأويل بعض الصفات‬
‫جائز ومنقول عن سلف هذه المة‪ ،‬والمغرضون وأهل‬
‫الهواء ي ُْلغون في مقدار هذا المام‪ ،‬وينسبون إليه ما‬
‫قْله!‬
‫لم ي ُ‬
‫والكتاب الذي بين أيدينا شاهد ُ حقّ على درء تلك‬
‫الشبهة المنسوبة إليه‪ ،‬والذي حملهم على ذلك‬
‫التعصب والهوى؛ ولو جئتهم بكل آية!‬

‫‪21‬‬
‫وقد شهد شاهد وهو إمام في مذهبهم وهو ابن‬
‫الجوزي‪ -‬رحمه الله تعالى‪ -‬في كتابه )دفع شبه‬
‫التشبيه(‪ :‬أن المجسمة من الحنابلة كابن حامد‬
‫والفراء وأبي يععلى وابن الزاغوني لطخوا مذهب‬
‫المام أحمد‪ -‬رحمه الله تعالى‪ -‬بما قالوه‪ ،‬وجلبوا له‬
‫عارا ً ل يمحى إلى يوم القيامة‪ .‬أو بمعناه!‬
‫فجزى الله المؤلفْين خيرا ً على غيرتهما على‬
‫عقيدة السواد العظم من أهل السلم بجمعهما هذا‬
‫الكتاب المبارك‪ ،‬ليكون تبصرة ومرشدا ً لمن أراد‬
‫معرفة الحقيقة التي ل يصح غيرها‪.‬‬
‫هدانا الله إلى اتباع الحق واجتناب الباطل‪ .‬وصلى‬
‫الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‪.‬‬

‫الشيخ الدكتور حسين‬


‫عبد الله العلي‬
‫الكويت‪ -‬ضحى‬
‫الربعاء‬
‫‪ 17‬من شعبان‬
‫‪1426‬هـ‬
‫الموافق‬
‫‪21/9/2005‬م‬

‫‪22‬‬
‫تقريظ الشيخ الداعية‬
‫على زين العابدين الجفري‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله‬
‫وصحبه وسلم‪.‬‬
‫وبعد‪،،‬‬
‫فقد أمسكت بهذا الكتاب عندما كنت في الطائرة‬
‫مان إلى أبو ظبي للقاء محاضرة )حي‬ ‫متوجها ً من ع ّ‬
‫مان‬‫في قلوبنا ‪ (‬ثم أعود في اليوم التالي إلى ع ّ‬
‫للمشاركة في مؤتمر دعاة المسلمين الصحفي الثاني‬
‫حول موضوع الرسومات الكرتونية التي تجرأت على‬
‫جناب سيدنا محمد‪ ‬في إحدى الصحف الدنمركية‬
‫وهو وقت ضجت فيه المة ول تزال إلى حين كتابة‬
‫هذه السطر‪.‬‬
‫فترددت في كتابة المقدمة التي طلبها مؤلفا‬
‫الكتاب الشيخان الفاضلن حمد سنان وفوزي‬
‫حسن ظنهم وإل فلست أهل ً‬ ‫العنجري‪ .‬وهو من باب ُ‬
‫لذلك‪ ،‬والسبب في هذا التردد هو أن المة الن تشهد‬
‫اجتماعا ً غير مسبوق منذ قرون‪ ،‬فجميع أتباع‬
‫المذاهب على قلب واحد‪ ،‬واجتمع الحكام والشعوب‬
‫في قضية واحدة‪ ،‬حتى التاجر والمستهلك اصطلحا‬
‫على نصرة رسول الله‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وعنوان الكتاب يتعلق بقضية حدثت منذ قرنين‬
‫فقط وما زالت محل نزاع بين مجاميع من‬
‫المسلمين‪ ،‬وكل منهم يرى أنه هو أهل السنة!‬
‫فهل يا ُترى يكون هذا الوقت مناسبا ً لطرح هذا‬
‫النزاع!‬
‫فلما سرحت نظري في الكتاب ولحظت السلوب‬
‫العلمي الرصين مع الدب الراقي‪ ،‬وجدت أنه من‬
‫المهم نشر مثل هذا البحث الذي يسعى نحو تصحيح‬
‫وتوسيع‪.‬‬
‫أما التصحيح‪ :‬فكل من قرأ هذا الكتاب سيتضح له‬
‫بما ل يدع مجال ً للشك أن الشاعرة هم غالبية علماء‬
‫أهل السنة‪ ،‬وبالتالي هم غالبية المة‪ ،‬وليس كما يتم‬
‫فرق الخرى أو من‬ ‫نشره الن من أن الشاعرة من ال ِ‬
‫فرق الضالة‪.‬‬‫ال ِ‬
‫أما التوسيع‪ :‬فهو نتاج للتصحيح‪ ،‬على أن من يتضح‬
‫له أن مفهوم أهل السنة غير محصور على مدرسة‬
‫معينة لها صلة بأهل السنة‪ ،‬وإنما مفهوم السواد‬
‫العظم من المة سوف يجد اتساعا ً في دائرة أهل‬
‫السنة ليتمكن من خلله أن يستوعب التعامل مع‬
‫الشريحة الكبر من المة‪ ،‬وهي خطوة نحو التقريب‬
‫بل نحو الوحدة السلمية‪.‬‬
‫لهذا سارعت في كتابة هذه السطر على عجل‬
‫وفي سفر رغبة في التأكيد على هذين المفهومين‬
‫وكذلك رغبة مشاركة الخوان في هذا الخير والجر‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وأسال الله أن يعظم النفع بهذا الكتاب‪ ،‬وأن يبارك‬
‫في مؤلفيه‪ ،‬وأن يتقبل منهما‪ ،‬إنه هو ولي ذلك‬
‫والقادر عليه‪.‬‬
‫وكتبه‬
‫القل‬
‫الشيخ الداعية على زين‬
‫العابدين الجعفري‬

‫المقدمة‬
‫دا كثيًرا كــبيًرا يبلــغ رضــاه‪ ،‬والصــلة‬
‫الحمد لله حم ً‬
‫والسلم على خيرته من خلقه ومصطفاه‪ ،‬وعلــى آلــه‬
‫وصحبه ومن واله‪ ،‬وبعد‪.‬‬
‫فأصل هذا البحــث ونــواته ورقــات مختصــرة أجبنــا‬
‫فيها على بعض السئلة التي وردتنــا مــن بعــض طلبــة‬
‫الجامعة عن حقيقــة الشــاعرة‪ ،‬وهــل هــم مـن جملــة‬
‫أهل السنة والجماعة؟‬
‫وكنا نظن أن تلك الورقات ستروي الغلــة وتشــفي‬
‫العلــة‪ ،‬لكننــا تبّينــا خطــأ ذلــك الظــن حيــن تتــابعت‬
‫التساؤلت حول نفس الموضوع‪ ،‬بعد أن أصــبح يلقــى‬
‫م الناس ومثقفيهم‪ ,‬وقد تفاقم المــر‬ ‫على أسماع عوا ّ‬

‫‪25‬‬
‫وتعاظم الخطب حتى بلغ إلى حد ّ هجر المســلم أخــاه‬
‫المسلم‪ ،‬وعدم التسليم عليه والصلة خلفه لكونه من‬
‫الشاعرة‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪.‬‬
‫س ـّبة‬‫فأصبح مذهب أهل الســنة الشــاعرة تهمــة و ُ‬
‫يتبّرؤ منها من نسبت إليه أو نسب إليها!‬
‫هذا المذهب الذي ما فتئ رافعا ً لــواء أهــل الســنة‬
‫حا عن ثوابت المــة وعقائدهــا‪ ،‬واقف ـا ً‬‫والجماعة‪ ،‬مناف ً‬
‫في وجه طوفان البدع والزيغ وأهله‪.‬‬
‫هذا المذهب الذي هو في حقيقة المر امتــداد لمــا‬
‫كان عليه الصحابة والتــابعون ومــن بعــدهم مــن أهــل‬
‫السنة‪.‬‬
‫هــذا المــذهب الــذي يــدين بــه تســعة أعشــار أمــة‬
‫السلم وسوادها العظم وعلماؤها ودهماؤها‪.‬‬
‫مما اقتضى كتابــة هــذا البحــث مســاهمة منــا فــي‬
‫شـــت علــى العقــول‬ ‫إزاحــة ســجف الجهالــة الــتي َ‬
‫غـ ّ‬
‫المسلمة في أمور هي من الهمية بمكان‪ ،‬أمور كانت‬
‫بــالمس معلومــة للكافــة‪ ،‬فبــاتت فــي عصــرنا مــن‬
‫القضايا التي ل يكاد يعرفها أحد‪.‬‬
‫وسـاهم في هذه الجهالة والظلم الذي وقــع علــى‬
‫هذا المذهب قوم أرادوا أن يحسنوا فأساءوا‪ ،‬قوم لــم‬
‫يفهموا حقيقة مذهب الشاعرة في التأويل والتفويض‬
‫فأســاءوا فــي الحكــم عليــه بالضــلل فــي قضــية ل‬

‫‪26‬‬
‫تستلزم كل هذا التهويل والتضليل‪.‬‬
‫فقضـية التأويـل والتفـويض لـم تكـن يومـا ً تشـكل‬
‫خطًرا يهدد المة ويقض مضجعها‪ ،‬ولــم تكــن مشــكلة‬
‫أمــام علمــاء المســلمين تســتوجب التراشــق بــالتهم‬
‫ل من التأويل والتفويض قد نقــل‬ ‫والتنابز باللقاب‪ ،‬وك ّ‬
‫عن علماء السلف الصالح ولم يترتب على ذلك بينهــم‬
‫تضليل ول تبديع‪ ،‬فلماذا نجعله الن سببا لذلك؟! لماذا‬
‫نجعله عقبة أمــام وحــدة أهــل الســنة والجماعــة فــي‬
‫وقت نحن فيه في أمس الحاجة إلى الوحدة؟!‬
‫ولقد كنا قبل نتحاشى الخــوض فــي هــذه القضــايا‬
‫خشية أن ندخل العامة في متاهات ل حاجة بهــم إلــى‬
‫الــدخول فيهــا‪ ،‬ســيما موضــوع صــفات اللــه تعــالى‬
‫والنصوص المتشابهة التي نهــى الســلف الصــالح عــن‬
‫الخوض فيها‪ ،‬وأمروا الناس بإمرارهــا وبإرجاعهــا إلــى‬
‫ما وقد خاض فيها البعض‬ ‫َ‬
‫اليات والنصوص المحكمة‪ ،‬أ َ‬
‫ووصفوا الله تعالى بما ل يليق وبما يستحيل في حقــه‬
‫تعالى‪ ،‬وأدخلوا العامة في ذلك‪ ،‬وضــللوا أعلم الــدين‬
‫‪ -‬ولــو‬ ‫وعلماء المة فل مناص من ولوج هذا البــاب‬
‫كنا كارهين ‪ -‬لبيان الحق في ذلك‪ ،‬والدفاع عن علماء‬
‫المة‪.‬‬
‫إن أسباب الوحدة التي تملكها أمتنا ل تملكها أمــة‬
‫أخرى على الرض‪ ،‬ودواعي الجتماع والوفــاق كــثيرة‬
‫دا‪ ،‬وإنه لمن أشد الظلم والتجني أن نهمل كل هــذه‬ ‫ج ً‬

‫‪27‬‬
‫السباب والموجبات الجامعة الموحدة ونتجاهلهــا‪ ،‬ثــم‬
‫نركز على أمور فرعيــة فــي الفقــه والعقــائد ونجعلهــا‬
‫من الصــول الــتي ينبنــي عليهــا الــدين‪ ،‬وتقــوم عليهــا‬
‫عقائد المسلمين‪.‬‬
‫إننـا اليوم لفي أمس الحاجة إلى الوحدة والتجمــع‬
‫لكي تتخطى أمتنا عصر الظلمات الــذي تتخبــط فيــه‪،‬‬
‫ولن يتم لنا ذلك من خلل مناهج التبــديع والتفســيق ‪-‬‬
‫جزافا ً وبغير حــق ‪ -‬لعلم تاريخنــا الــذين هــم بمنزلــة‬
‫مد والسس لثقافتنا وحضارتنا‪ ،‬كما لن يتم لنا ذلك‬ ‫العُ ُ‬
‫من خلل إشاعة المزيد من أسبـاب الفرقة المفتعلة‪،‬‬
‫ضــلل ومبتــدعين وزنادقــة‬ ‫وتصنيـف المســلمين إلــى ُ‬
‫وقبوريين‪ ..‬و‪ ..‬و‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬لن يتم للمة خلصها إل بالرجوع إلى المنابع‪،‬‬
‫والعودة إلى الصالة والجذور‪ ،‬وإنشاء أجيــال مســلمة‬
‫تعرف للدين وعلماء المة أقدارها‪ ،‬أجيال تدرك قيمــة‬
‫الحوار للوصول إلى الحق‪ ،‬وتتســع صــدورها للختلف‬
‫الذي هو من طبيعة البشر‪.‬‬
‫وهو ما كنا دائما ً نســعى إلــى ترســيخه فــي جميــع‬
‫بحوثنا‪ ،‬وهــو أيضـا ً مــا ن َ ْ‬
‫صـــبوا إليــه فــي هــذا البحــث‪،‬‬
‫معرضين عن كل ما قــد يــثيره البعــض‪ ،‬ضــاربين عنــه‬
‫صفحًا‪ ،‬موقنين بأن الحــوار الهــادئ المعتضــد بالــدليل‬
‫والحجة والبرهان هو أقصر طريق للحقيقة‪.‬‬
‫ولقد اعتمــدنا فــي هــذا البحــث علــى جمــع أقــوال‬

‫‪28‬‬
‫ص إلى قائله حرصـا ً علــى‬
‫الئمة العلم‪ ،‬وعزونا كل ن ّ‬
‫نزاهة المنهج‪ ،‬ولم يكن لنا من جهد ـ في الغالب ـــ إل‬
‫في التبويب والـترتيب وبعـض التعليقـات هنـا وهنـاك‪،‬‬
‫وما سوى ذلك فهو نصوص العلماء وكلمــاتهم موجهــة‬
‫إلى القارئ الكريم مخاطبة لعقله‪.‬‬
‫وعلى الجملة فإن الموضوع أكبر من أن تحيط بــه‬
‫صفحات معدودات‪ ،‬بيد أن هــذا مــا ســمح بــه المقــام‬
‫مراعاة ً )لحساسية( الموضوع وخطورته!!‪.‬‬
‫ل عسى الله تعــالى‬ ‫ق ّ‬ ‫وأخيرًا‪ ..‬فهذا البحث جهد ُ ال ُ‬
‫م ِ‬
‫أن يبارك فيه وينفع قــارئيه‪ ،‬كمــا بــارك فــي الرســائل‬
‫والبحوث التي سبقته‪ ،‬وأن يوفــق تعــالى إلــى بحــوث‬
‫أخــرى تســاعد فــي إنــارة الطريــق إلــى اللــه تعــالى‪،‬‬
‫ة‪.‬‬
‫وتساهم في توعيةٍ شرعيةٍ أصيل ٍ‬
‫وبالله الحول والقوة‪ ،‬وإليه المفــزع فــي درك كــل‬
‫ط َل َِبة‪ ،‬به نعتضد وعليه نعتمد‪ ،‬هو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫*****‬

‫‪29‬‬
‫مصطلح الشاعرة‬
‫لفظ الشاعرة يطلق على من سلك مسلك المام‬
‫أبــي الحســن الشــعري فــي العتقــاد‪ ،‬ل تقليــدا ً بــل‬
‫اهتداًء‪ ،‬فمثل المام أبي الحسن ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫كمن عقد على طريــق الســلف لــواًء ليهتــدي بــه مــن‬
‫يراه‪ ،‬فالنتساب إليه بمنزلة النتساب إلى المام أبــي‬
‫حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ‪ -‬رضوان الله عليهم ‪-‬‬
‫في الفروع الفقهية‪ ،‬إذ مع كونهم مختلفين في طــرق‬
‫الستنباط واستخراج الحكام‪ ،‬إل أنهم متفقــون علــى‬
‫المصادر التي يصدرون عنها والمــوارد الــتي يردونهــا‪،‬‬
‫وكذلك المام أبو الحسن الشعري في أبــواب أصــول‬
‫الــدين‪ ،‬إنمــا هــو آخــذ مــن القــرآن الكريــم والســنة‬
‫الشريفة‪ ،‬وسائر على طريق السلف‪ ،‬والنتساب إليــه‬
‫إنما هو مــن حيــث كــونه أضــاء تلــك الطريــق ونصــب‬
‫عليها نطاقا ً وشهرها في المة بعد أن حــاول طمســها‬
‫أصحاب البدع والهواء‪.‬‬
‫قال المام تسساج السدين السسسبكي رحمــه اللــه‬
‫تعالى )الطبقات ‪:(365 /3‬‬
‫)اعلــم أن أبــا الحســن لــم يبــدع رأي ـا ً ولــم ينشــء‬
‫مذهبًا‪ ،‬وإنما هو مقرر لمذاهب السـلف‪ ،‬مناضـل عمـا‬
‫كانت عليه صحابة رسول الله ‘‪ ،‬فالنتساب إليــه إنمــا‬
‫هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا ً وتمسك‬
‫به وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في‬

‫‪30‬‬
‫ذلك السالك سبيله في الدلئل يسمى أشعريًا( اهـ‪.‬‬
‫ثم قال رحمه الله تعــالى مبين ـا ً أن هــذه الطريقــة‬
‫عليها جل المة‪:‬‬
‫)وقد ذكر شيخ السلم عز الدين بـن عبــد الســلم‬
‫‪ -‬يعنــي الشــعري ‪ -‬اجتمــع عليهــا‬ ‫أن عقيــدته‬
‫الشافعية والمالكية والحنفية وفضلء الحنابلة‪ ،‬ووافقه‬
‫على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه أبو‬
‫عمــرو بــن الحــاجب‪ ،‬وشــيخ الحنفيــة جمــال الــدين‬
‫الحصيري( اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر الــبيهقي رحمــه اللــه تعــالى‬
‫وهو من الطبقة الثالثة من أتباع المام الشعري )تبيين‬
‫كذب المفتري ‪ ،103‬الطبقات الكبرى للتاج السبكي ‪:(3/397‬‬
‫)‪ ..‬إلى أن بلغت النوبــة إلــى شــيخنا أبــي الحســن‬
‫دثًا‪،‬‬
‫حـ َ‬
‫الشعري رحمه الله فلم يحدث فــي ديــن اللــه َ‬
‫ولم يأت فيه ببدعة‪ ،‬بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين‬
‫ومــن بعــدهم مـن الئمـة فـي أصـول الـدين فنصــرها‬
‫بزيادة شرح وتبيين‪ ،‬وأن ما قالوا وجاء به الشرع فــي‬
‫الصــول صــحيح فــي العقــول‪ ،‬بخلف مــا زعــم أهــل‬
‫الهواء من أن بعضه ل يستقيم في الراء‪ ،‬فكــان فــي‬
‫ل عليه من أهل السنة والجماعة‪،‬‬ ‫بيانه تقوية ما لم يد ّ‬
‫ونصــرة أقاويــل مــن مضــى مــن الئمــة كــأبي حنيفــة‬
‫وسفيان الثوري من أهــل الكوفــة‪ ،‬والوزاعــي وغيــره‬
‫من أهل الشام‪ ،‬ومالك والشافعي من أهل الحرميــن‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫ومن نحا نحوهما من الحجاز وغيرها مــن ســائر البلد‪،‬‬
‫وكأحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث‪ ،‬والليث بــن‬
‫ســعد وغيــره وأبــي عبــدالله محمــد بــن إســماعيل‬
‫البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيســابوري‬
‫إمامي أهــل الثــار وحفــاظ الســنن الــتي عليهــا مــدار‬
‫الشرع رضي الله عنهم أجمعين( اهـ‪.‬‬
‫)تــبيين‬ ‫وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعــالى‬
‫ص ‪:(359‬‬ ‫كذب المفتري‬
‫ســّلم أن أبــا الحســن اخــترع مــذهبا ً‬
‫)‪ ..‬ولســنا ن ُ َ‬
‫خامسًا‪ ،‬وإنما أقام من مــذاهب أهــل الســنة مــا صــار‬
‫عند المبتدعة دارسًا‪ ،‬وأوضــح مــن أقــوال مــن تقــدمه‬
‫من الربعة وغيرهم ما غدا ملتبسًا‪ ،‬وجــدد مــن معــالم‬
‫الشريعة ما أصبح بتكذيب من اعتدى منطمسًا‪ ،‬ولسنا‬
‫ننتسب بمذهبنا في التوحيد إليه على معنى أنــا نقلــده‬
‫فيه ونعتمد عليه‪ ،‬ولكنا نوافقه على ما صار إليــه مــن‬
‫التوحيد لقيــام الدلــة علــى صــحته ل لمجــرد التقليــد‪،‬‬
‫وإنما ينتسب منا من انتسب إلــى مــذهبه ليتميــز عــن‬
‫المبتدعة الــذين ل يقولــون بــه مــن أصــناف المعتزلــة‬
‫والجهمية والكراميــة والمشــبهة والســالمية‪ ،‬وغيرهــم‬
‫مــن ســائر طــوائف المبتدعــة وأصــحاب المقــالت‬
‫الفاســدة المخترعــة‪ ،‬لن الشــعري هــو الــذي انتــدب‬
‫للرد عليهم حتى قمعهم وأظهر لمــن ل يعــرف البــدع‬
‫بدعهم‪ ،‬ولسنا نـرى الئمـة الربعـة الــذين عنيتــم فــي‬

‫‪32‬‬
‫أصول الدين مختلفين‪ ،‬بل نراهــم فــي القــول بتوحيــد‬
‫الله وتنزيهه في ذاتــه مــؤتلفين‪ ،‬وعلــى نفــي التشــبيه‬
‫عن القديم ســبحانه وتعــالى مجتمعيــن‪ ،‬والشــعري –‬
‫رحمه الله – في الصول على منهاجهم أجمعين‪ ،‬فمــا‬
‫على من انتسب إليه على هذا الوجه جناح‪ ،‬ول يرجــى‬
‫لمــن تــبرأ مــن عقيــدته الصــحيحة فلح‪ ،‬فــإن عــددتم‬
‫القــول بــالتنزيه وتــرك التشــبيه تمشــعرا ً فالموحــدون‬
‫بأسرهم أشعرية‪ ،‬ول يضر عصــابة انتمــت إلــى موحــد‬
‫مجرد ُ التشنيع عليها بما هي منه ب َرِّية( اهـ‪.‬‬

‫فانظر ‪ -‬رحمك اللــه ‪ -‬كيــف جعــل النتســاب إلــى‬


‫المام الشعري تميزا ً عن أهــل البــدع والهــواء‪ ،‬وأنــه‬
‫ومن انتسب إليه على ما كــان عليــه الســلف الصــالح‬
‫من الربعة وغيرهم‪.‬‬
‫وقال أيضا ً رحمه الله تعالى )المصدر السابق ‪:(397‬‬
‫)وهــم ‪ -‬يعنــي الشــاعرة ‪ -‬المتمســكون بالكتــاب‬
‫والسنة‪ ،‬التاركون للسباب الجالبة للفتنــة‪ ،‬الصــابرون‬
‫علــى دينهــم عنــد البتلء والمحنــة‪ ،‬الظــاهرون علــى‬
‫عــدوهم مــع اطــراح النتصــار والحنــة‪ ،‬ل يــتركون‬
‫التمسك بــالقرآن والحجــج الثريــة‪ ،‬ول يســلكون فــي‬
‫المعقولت مسالك المعطلة القدرية‪ ،‬لكنهم يجمعــون‬
‫في مســائل الصــول بيــن الدلــة الســمعية وبراهيـــن‬
‫العقـول‪ ،‬ويتجنبون إفــراط المعتزلــة ويتنكبــون طــرق‬

‫‪33‬‬
‫رحــون تفريــط المجســمة المشــبهة‪،‬‬ ‫المعطلــة‪ ،‬وي َط ّ ِ‬
‫ويفضحون بالبراهين عقائد الفرق المموهة‪ ،‬وينكــرون‬
‫مذاهب الجهمية وينفــرون عــن الكراميــة والســالمية‪،‬‬
‫ه الجبريــة‪...‬‬ ‫ويبطلون مقـالت القدريــة ويرذلــون ُ‬
‫ش ـب َ َ‬
‫فمـــذهبهم أوســـط المـــذاهب‪ ،‬ومشـــربهم أعـــذب‬
‫المشارب‪ ،‬ومنصبهم أكرم المناصب‪ ،‬ورتبتهــم أعظــم‬
‫المراتب فل يؤثر فيهــم قــدح قـــادح‪ ،‬ول يظهــر فيهــم‬
‫جرح جارح( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام المرتضى الزبيسسدي رحمــه اللــه‬
‫تعالى )إتحاف السادة المتقين ‪:(2/7‬‬
‫ن كل ّ مــن المــامين أبــي الحســن وأبــي‬
‫)وليعلــم أ ّ‬
‫منصور ‪ -‬رضــي اللــه عنهمــا ‪ -‬وجزاهمــا عــن الســلم‬
‫خيرا ً لم يبدعا من عندهما رأيا ً ولم يشتقا مــذهبا ً إنمــا‬
‫هما مقــرران لمــذاهب الســلف مناضــلن عمــا كــانت‬
‫ل منهمــا ذوي‬ ‫عليه أصحاب رسول الله ‘ ‪ ...‬وناظ ََر ك ـ ّ‬
‫البدع والضللت حتى انقطعوا وولوا منهزمين( اهـ‪.‬‬
‫هـــؤلء هــم الشــاعرة أتبــاع المــام أبــي الحســن‬
‫الشعري‪ ،‬فمن هو هذا المام الفذ الذي انتسبوا إليه؟‬

‫*****‬

‫‪34‬‬
‫ترجمة المام أبى الحسن الشعرى‬

‫هــو المــام الحــبر‪ ،‬التقــي الــبر‪ ،‬ناصــر الســنة‪ ،‬وعلــم‬


‫الدين‪ ،‬وشعار المسلمين‪ ،‬علي بن إسماعيل بــن أبــي‬
‫بشر إسحق بن سالم بن إسماعيل بــن عبــد اللــه بــن‬
‫موسى بن بلل بن أبي بردة بن صاحب رسول اللــه ‘‬
‫ـ أبي موسى عبد الله بن قيس الشعري ـ رضي اللـه‬
‫عنه‪.‬‬
‫شـــيخ طريقـــة أهـــل الســـنة والجماعـــة وإمـــام‬
‫المتكلمين‪ ،‬ولد رحمه الله ســنة ســتين ومئتيــن‪ ،‬وتبــع‬
‫أول أمره مــذهب الجب ّــائي المعــتزلي‪ ،‬واســتمر علــى‬
‫العتزال أربعين ســنة أو قريبــا مــن ذلــك‪ ،‬وبــرع فيــه‬
‫حتى صار للمعتزلة إمـامًا‪ ،‬وعلى خصــومهم حســـامًا‪،‬‬
‫فلما أراد اللــه نصــر دينــه‪ ،‬وتأييـــد ســنة نــبيه ‘ بصــره‬
‫ببطلن مذهب العتزال فكــانت تعــرض لــه إشــكالت‬
‫على عقائد المعتزلــة‪ ،‬فيســأل عنهــا أســتاِذيه فل يجــد‬
‫عندهم أجوبة شافية‪ ،‬وهكذا إلــى أن أراه اللــه تعــالى‬
‫وجه الحق‪،‬فخــرج إلـى الجـامع وصـعد المنـبر وصـاح‬
‫بأعلى صوته‪ :‬أيهــا النــاس مـن عرفنــي فقــد عرفنــي‪،‬‬
‫ومــن لــم يعرفنـي فأنـا أعرفــه بنفســي‪ ،‬أنـا فلن بـن‬
‫فلن‪ ،‬كنت أقول بخلق القرآن‪ ،‬وأن الله تعالى ل يرى‬
‫فــي الخــرة بالبصــار‪ ،‬وأن العبــاد يخلقــون أفعــالهم‪،‬‬

‫‪35‬‬
‫وهاأنا تائب من العتزال معتقــد الــرد علــى المعتزلــة‬
‫مخرج لفضائحهم‪ ،‬معاشــر النــاس إنمــا تغيبــت عنكــم‬
‫هذه المدة لني نظــرت فتكافـأت عنـدي الدلــة‪ ،‬ولــم‬
‫يترجح عندي شيء على شيء‪ ،‬فاستهديت الله تعالى‬
‫فهــداني إلــى اعتقــاد مــا أودعتــه كتــبي هــذه‪ ،‬ولقــد‬
‫انخلعت من جميع ما كنت أعتقــده كمــا انخلعــت مــن‬
‫ثوبي هذا‪ ،‬وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به‪ ،‬ودفـع‬
‫للناس الكتب الــتي ألفهــا علــى مــذاهب أهــل الحــق‪،‬‬
‫وطريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين‪.‬‬
‫قال العلمسساء‪ :‬إن أهــل البــدع قبــل المــام أبــي‬
‫الحسن قد رفعوا رؤوسهم فلمــا ظهــر عليهــم رحمــه‬
‫الله حجزهم في أقماع السمسم‪.‬‬
‫وقد أخذ عنه رحمه الله خلق كثير من أعلم المــة‬
‫مثل المام أبي الحسن البــاهلي البصــري رحمــه اللــه‬
‫تعالى‪ ،‬والمام أبي عبد الله بن مجاهد البصري رحمه‬
‫اللــه تعــالى‪ ،‬والمــام أبــي محمــد الطــبري المعــروف‬
‫بالعراقي رحمه الله تعالى‪ ،‬والمام أبــي بكــر القفــال‬
‫الشاشــي رحمــه اللــه تعــالى‪ ،‬والمــام أبــي ســهل‬
‫الصعلوكي النيسابوري رحمه الله تعالى وغيرهم‪.‬‬
‫وأخذ عن أصحابه أعلم وأئمـة فـي السـلم‪ ،‬مثـل‬
‫المام القاضي أبي بكر البــاقلني رحمــه اللــه تعــالى‪،‬‬
‫والمام أبي الطيب بن أبــي ســهل الصــعلوكي رحمــه‬
‫اللــه تعــالى‪ ،‬والمــام أبــي علــي الــدقاق رحمــه اللــه‬

‫‪36‬‬
‫تعالى‪ ،‬والمام الحاكم النيسابوري رحمه اللــه تعــالى‪،‬‬
‫والمام أبي بكر بن فورك رحمه الله تعالى والحــافظ‬
‫أبي نعيم الصبهاني رحمه الله تعــالى‪ ،‬وغيرهــم ممــن‬
‫تــتزين بــذكرهم المنــابر‪ ،‬وتتعطــر بســيرهم الــدفاتر‬
‫وكلهم خّلف تلمذة هم إلى اليوم أعلم الــدنيا ونجــوم‬
‫الهدى‪.‬‬
‫وعلــى الجملــة فقــد انتهــض لنصــرة مــذهبه أهــل‬
‫السنة والجماعة في جميع الرض‪ ،‬وبلغ مذهبه ما بلــغ‬
‫ما كان عليه مــن اقتفــاٍء لثــار الســلف‬
‫الليل والنهار‪ ،‬ل ِ َ‬
‫رضوان الله عليهم‪ ،‬ورفٍع للواء السنة‪.‬‬
‫ترك مــن المؤلفــات شــيئا كــثيرا‪ ،‬قيــل إنــه بلغــت‬
‫)‪(1‬‬
‫مؤلفاته أكثر من مئتين كتاب‬
‫تــوفي رحمــه اللــه تعــالى ســنة أربــع وعشــرين‬
‫وثلثمائة‪ ،‬وكــل أهــل الســنة بــاكون عليــه‪ ،‬متوجعــون‬
‫لفقده‪ ،‬وكل أهل البدعــة مرتــاحون منــه‪ .‬رحمــه اللــه‬
‫ورضي عنه )‪.(2‬‬

‫*****‬

‫‪ (1) 1‬انظر طبقات الشافعية لتاج الدين السبكي ‪. 3/360‬‬


‫)‪ (2‬اقتبسنا ترجمته رحمه الله تعالى من تبيين كذب‬ ‫‪2‬‬

‫المفتري‪ ،‬وطبقات الشافعية للسبكي ‪ ،‬ومفتاح السعادة ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫هل مات المام على عقيدة غير العقيدة‬
‫التي كان عليها بعد توبته من‬
‫العتزال ؟‬
‫يرى البعض أن المام أبا الحسن الشعري رحمه‬
‫الله تعالى قد مّر في حياته بثلث مراحل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬مرحلة العتزال التي دامت إلى ما‬
‫يقرب من سن الربعين‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬مرحلة اتباعه لعبدالله بن سعيد بن‬
‫لب‪.‬‬‫ك ّ‬
‫والثالثة‪ :‬مرحلة رجوعه إلى عقيدة السلف وأهل‬
‫السنة‪.‬‬
‫ويبنون على هذه الدعوى أن الشاعرة اتبعوا‬
‫المام الشعري في مرحلته الثانية فقط وهي التي‬
‫كان فيها متبعا ً لعبدالله بن سعيد! إذ عندهم أن‬
‫لب ليس من أهل السنة‪ ،‬وأن‬ ‫عبدالله بن سعيد بن ك ّ‬
‫الشاعرة متبعون له ل للمام أبي الحسن لن المام‬
‫لب في مرحلته الثالثة‪ ،‬وأّلف‬
‫رجع عن عقيدة ابن ك ّ‬
‫على عقيدة السلف كتابه البانة وبعض كتبه الخرى‪.‬‬
‫هذا تقرير هذه الدعوى‪ ،‬وقبل الشروع في إثبات‬
‫بطلنها تاريخيا ً وعلميا ً نف ّ‬
‫صل ما ورد فيها من قضايا‪،‬‬
‫ثم نشرع في تفنيدها‪ ،‬لقد تضمنت هذه الدعوى ثلث‬

‫‪38‬‬
‫قضايا‪:‬‬
‫• الولى‪ :‬المام الشعري مر بثلث مراحل في‬
‫لب ثم أخيرا ً رجوعه‬ ‫حياته‪ ،‬العتزال ثم اتباعه لبن ك ّ‬
‫إلى منهج السنة والجماعة‪ ،‬وهذه هي القضية‬
‫الرئيسية‪ ،‬وهي تتضمن القضيتين التاليتين‪.‬‬
‫لب ليس على‬ ‫• الثانية‪ :‬عبد الله بن سعيد بن ك ّ‬
‫منهج أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫• الثالثة‪ :‬كتاب البانة يمثل المرحلة الخيرة من‬
‫حياة المام الشعري)‪ ,(1‬وهي مرحلة العودة إلى‬
‫طريق السلف الصالح‪.‬‬
‫وللرد على القضية الولى‪ :‬وهي مرور المام‬
‫بثلث مراحل أو ثلث حالت في حياته نقول‪:‬‬
‫م من‬‫إن المام الشعري رحمه الله تعالى ع َل َ ٌ‬
‫أعلم المسلمين يشار إليه بالبنان‪ ،‬وتعقد على كلماته‬
‫الخناصر‪ ،‬فهو ليس بنكرة من الناس‪ ،‬ول برجل‬
‫مجهول يخفى على الناس أمره ل سيما في قضية‬
‫‪ ()1‬نحن نقول هذا من باب التسـليم الجـدلي‪ ،‬وإل فـإن الـذي‬
‫رجحــه المحققــون مــن البــاحثين أن كتــاب اللمــع أّلفــه المــام‬
‫الشــعري بعــد البانــة‪ .‬انظرمقدمــة كتــاب اللمــع للســتاذ حمــودة‬
‫غرابة‪.‬‬
‫وانظر قول العلمة الكوثري في تعليقه على السيف الصــقيل‬
‫)ص ‪ ،( 123‬وفي تعليقه علــى تــبيين كــذب المفــتري )ص ‪،(392‬‬
‫والمقدمة التي وضعنها الدكتورة فوقية حسين علــى كتــاب البانــة‬
‫ص ‪ 80-79‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مثل هذه التي نحن بصددها‪ ،‬فلو كان المر كما جاء‬
‫في الدعوى‪ ،‬وأنه مر بثلث مراحل في حياته فل بد‬
‫أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه‪ ،‬ولكان ـ‬
‫حتما ً ـ قد اشتهر عنه وانتشر كما ذاع وانتشر أمر‬
‫رجوعه عن العتزال إذ لم ي َب ْقَ أحد ممن ترجم له إل‬
‫وذكر قصة صعوده المنبر وتبّريه من العتزال‪ ،‬فهل‬
‫ذكر أحد من المؤرخين شيئا ً عن رجوع المام عن‬
‫لب؟‪.‬‬‫منهج عبدالله بن سعيد بن ك ّ‬
‫عند الرجوع إلى كتب التاريخ ل نجد أي إشارة إلى‬
‫هذا ل من قريب ول من بعيد‪ ،‬بل نجد المؤرخين كلهم‬
‫مطبقين على أن المام أبا الحسن بعد هجره‬
‫للعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح‪،‬‬
‫وصنف على طريقتهم كتبه اللحقة البانة وغيرها من‬
‫الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق‪.‬‬

‫قال المام أبو بكر بن فورك رحمه الله‬


‫تعالى )تبيين كذب المفتري ص ‪:(127‬‬
‫)انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل‬
‫الشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى‬
‫نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية‪،‬‬
‫وصّنف في ذلك الكتب‪ (..‬اهـ‪.‬‬

‫وقال عنه ابن خلكان )وفيات العيان ‪:(3/284‬‬

‫‪40‬‬
‫)هو صاحب الصول والقائم بنصرة مذهب‬
‫السنة‪ ...‬وكان أبو الحسن أول ً معتزليا ً ثم تاب من‬
‫القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع‬
‫بالبصرة يوم الجمعة( اهـ‪.‬‬

‫وفي سير أعلم النبلء )‪ (15/89‬قال عنه‬


‫الذهبي‪:‬‬

‫)وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة‪،‬‬


‫وقال‪ :‬إني كنت أقول بخلق القرآن‪ ...‬وإني تائب‬
‫معتقد الرد ّ على المعتزلة( اهـ‪.‬‬

‫)المقدمة‬ ‫وعند العلمة ابن خلدون رحمه الله‬


‫ص ‪:(853‬‬
‫)إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الشعري وناظر‬
‫بعض مشيختهم ـ أي المعتزلة ـ في مسائل الصلح‬
‫والصلح‪ ،‬فرفض طريقتهم وكان على رأي عبدالله بن‬
‫لب وأبي العباس القلنسي والحارث‬‫سعيد بن ك ّ‬
‫المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة( اهـ‪.‬‬
‫فأثبت أن المام بعد رجوعه عن العتزال كان‬
‫لب والقلنسي والمحاسبي‬‫على رأي عبدالله بن ك ّ‬
‫وهؤلء كلهم على طريقة السلف والسنة‪.‬‬
‫وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للمام أبي‬
‫الحسن‪ ،‬مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي‪ ،‬وطبقات‬

‫‪41‬‬
‫الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لبن العماد‬
‫والكامل لبن الثير وتبيين كذب المفتري لبن‬
‫عساكروترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات‬
‫الشافعية لبن قاضي شهبة وطبقات الشافعية‬
‫للسنوي والديباج المذهب لبن فرحون ومرآة الجنان‬
‫لليافعي وغيرها‪ ،‬كلها مطبقة على أن المام أبا‬
‫الحسن بعد توبته من العتزال رجع إلى مذهب‬
‫السلف والسنة‪.‬‬
‫م هذا لو‬
‫أضف إلى ذلك‪ ،‬أن رجوع المام المزعو َ‬
‫ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه‬
‫وتلمذته‪ ،‬لن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته‬
‫وأصحابه وأتباعه الملزمون له‪ ،‬فهؤلء هم أقرب‬
‫الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه‪ ،‬ل سيما‬
‫في قضية مهمة مثل هذه القضية التي تتوفر الدواعي‬
‫على نقلها‪ ،‬وتتحفز السماع على تلقفها‪ ،‬خاصة من‬
‫إمام كبير مثل المام أبي الحسن‪ ،‬وعند الرجوع إلى‬
‫أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضا ً ل نجد أي‬
‫إشارة تفيد ذلك‪ ،‬بل نجدهم متفقين على أن المام‬
‫كان بعد هجره للعتزال على منهج السلف والسنة‬
‫الذي كان عليه المحاسبي وابن كلب والقلنسي‬
‫والكرابيسي وغيرهم‪ ،‬فهذه مؤلفات ناصر مذهب‬
‫الشعري القاضي أبي بكر الباقلني رحمه الله تعالى‬
‫كالنصاف والتمهيد وغيرها‪ ،‬ومؤلفات ابن فورك‬

‫‪42‬‬
‫ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحق‬
‫الشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب‬
‫المام وأصحاب أصحابه وتلميذهم ليس فيها أي ذكر‬
‫أو إشارة لهذا المر الذي هو من الهمية بمكان‪ ،‬فهل‬
‫يعقل أن يرجع المام عن مذهبه ويهجره ثم ل يكون‬
‫لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه‬
‫وتلميذه وهو من هو جللة وقدرًا؟! أم ُتراه قد رجع‬
‫عن ذلك سّرا ً وهو الذي حين قرر هجر مذهب‬
‫سه ليعلن ذلك على‬ ‫المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نف َ‬
‫المل؟!‬
‫كل‪ ،‬ليس المر كما جاء في هذه الدعوى‪ ،‬بل الحق‬
‫الذي ل مرية فيه هو أن المام لم يمّر في حياته إل‬
‫بمرحلتين‪ ،‬العتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف‪،‬‬
‫وليس لمن يقول بخلف هذا المر من دليل ول شبهة‬
‫دليل‪.‬‬
‫ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على‬
‫أسلوب المام في تأليف كتاب البانة وبعض الرسائل‬
‫الخرى‪ ،‬فقد اتبع المام فيها طريق التفويض الذي هو‬
‫طريق جمهور السلف‪ ،‬فبنوا على هذا السلوب‬
‫مخالفة المام الشعري لراء ابن ك ُ ّ‬
‫لب الذي يتهمونه‬
‫بأنه لم يكن على طريق السلف‪.‬‬
‫ُترى هل ما في البانة التي هي على طريق‬
‫جمهور السلف‪ ،‬وهي من أواخـر كتب المام أو هـي‬

‫‪43‬‬
‫آخرها)‪ ,(1‬ما يناقض ما كان عليه عبدالله بن سعيد بن‬
‫لب على خلف‬ ‫لب؟ أو بتعبير آخر‪ ،‬هل كان ابن ك ّ‬
‫ك ّ‬
‫طريق السلف الذي أّلف المام الشعري البانة‬
‫عليه؟‬
‫وهذا يجّرنا إلى القضية الثانية‪.‬‬
‫الرد على القضية الثانية‪:‬‬
‫لب منحرفا ً عن‬
‫هل كان عبدالله بن سعيد بن ك ّ‬
‫طريق السنة والسلف؟‬
‫نسلم أول ً أن المام الشعري بعد تركه للعتزال‬
‫كان على طريق عبدالله بن سعيد بن كلب‪ ،‬وهذا أمر‬
‫يوافقنا عليه أصحاب الدعوى‪ ،‬ولكنهم يخالفوننا في‬
‫أن طريق ابن كلب وطريق السلف هما في حقيقة‬
‫المر طريق واحد‪ ،‬لن ابن كلب كان من أئمة أهل‬
‫السنة والجماعة السائرين على طريق السلف‬
‫الصالح‪.‬‬
‫قال التاج السبكي في الطبقات )الطبقات ‪:(300/ 2‬‬
‫لب على كل حال من أهل‬ ‫)وابن ك ّ‬
‫السنة‪ ....‬ورأيت المام ضياء الدين الخطيب‬
‫والد المام فخر الدين الرازي قد ذكر‬
‫عبدالله بن سعيد في آخر كتابه "غاية المرام‬
‫في علم الكلم " فقال‪ :‬ومن متكلمي أهل‬

‫‪ ()1‬انظر الهامش ص ‪.18‬‬

‫‪44‬‬
‫السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد‬
‫مر المعتزلة في مجلس‬ ‫التميمي الذي د ّ‬
‫المأمون وفضحهم ببيانه( اهس‪.‬‬
‫)تبيين‬ ‫وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى‬
‫كذب المفتري ص ‪:(405‬‬
‫ط علي بن بقاء الوّراق المحدث‬‫)قرأت بخ ّ‬
‫المصري رسالة كتب بها أبو محمد عبدالله بن أبي‬
‫دم أصحاب‬ ‫زيد القيرواني الفقيه المالكي‪ -‬وكان مق ّ‬
‫مالك رحمه الله بالمغرب في زمانه‪ -‬إلى علي بن‬
‫أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزلي جوابا ً عن‬
‫رسالة كتب بها إلى المالكيين من أهل القيروان‬
‫يظهر نصيحتهم بما يدخلهم به في أقاويل أهل‬
‫العتزال‪ ،‬فذكر الرسالة بطولها في جزٍء وهي‬
‫معروفة‪ ،‬فمن جملة جواب ابن أبي زيد له أن قال‪:‬‬
‫ك‬
‫لب إلى البدعة‪ ،‬ثم لم تح ِ‬ ‫ت ابن ك ّ‬ ‫ونسب َ‬
‫عنه قول ً يعرف أنه بدعة فيوسم بهذا السم‪،‬‬
‫لب البدعة‪،‬‬ ‫وما علمنا من نسب إلى ابن ك ّ‬
‫والذي بلغنا أنه يتقّلد السنة ويتوّلى الر ّ‬
‫د‬
‫على الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعني‬
‫عبدالله بن سعيد بن ك ّ‬
‫لب( اهس‪.‬‬
‫وهذه شهادة عظيمة من المام ابن أبي زيد رحمه‬
‫الله لبن كلب أنه يتقّلد السنة ويرد ّ على المبتدعة‪،‬‬
‫وأنه لم يعلم من نسب إليه البدعة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫وعّلق العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في‬
‫رفا ً بابن كلب قال )المصدر السابق(‪:‬‬
‫هامش الصفحة مع ّ‬
‫)‪ ..‬كان إمام متكلمة السنة في عهد أحمد‪ ،‬وممن‬
‫يرافق الحارث بن أسد‪ ،‬ويشنع عليه بعض الضعفاء‬
‫في أصول الدين‪ (..‬ثم بّين المسائل التي يشنع عليه‬
‫بسببها وأن كلمه فيها ليس ببعيد عن الشرع والعقل‪.‬‬
‫)طبقات الشافعية لبن‬ ‫وقال ابن قاضي شهبة‬
‫قاضي شهبة ‪:(78 / 1‬‬
‫)كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة‪،‬‬
‫وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى‬
‫أبو الحسن الشعري( اهس‪.‬‬
‫)طبقات الشافعية‬ ‫وقال عنه جمال الدين السنوي‬
‫للسنوي ‪:(178/ 2‬‬
‫)كان من كبار المتكلمين ومن أهل‬
‫السنة‪ ...‬ذكره العبادي في طبقة أبي بكر‬
‫الصيرفي‪ ،‬قال‪ :‬إنه من أصحابنا المتكلمين(‬
‫اهس‪.‬‬
‫)سير أعلم النبلء ‪/ 11‬‬ ‫وقال المام الحافظ الذهبي‬
‫‪:(175‬‬
‫)والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة‪ ،‬بل هو في‬
‫مناظريهم( اهـ‪.‬‬
‫عّلق الشيخ شعيب الرنؤوط على هذا الكلم‬

‫‪46‬‬
‫ل‪) :‬كان إمام أهل السنة في عصره‪ ،‬وإليه‬ ‫قائ ً‬
‫مرجعها‪ ،‬وقد وصفه إمام الحرمين في كتابه‬
‫" الرشاد " بأنه من أصحابنا( اهس‪.‬‬
‫)المقدمة ص‬ ‫ولقد مر معنا قول العلمة ابن خلدون‬
‫‪:(853‬‬
‫)إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن‬
‫الشعري‪ ....‬وكان على رأي عبدالله بن‬
‫لب وأبي العباس القلنسي‬ ‫سعيد بن ك ّ‬
‫والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى‬
‫طريقة السنة( اهس‪.‬‬
‫فوصفه بأنه من أتباع السلف‪ ،‬وأن المام‬
‫الشعري كان على رأيه ورأي القلنسي والمحاسبي‬
‫وهؤلء من أتباع السلف وعلى طريق السنة‪.‬‬
‫وقال العلمة كمال الدين البياضي رحمه الله‬
‫تعالى )إشارات المرام من عبارات المام ص ‪:(23‬‬

‫صل لمذهب المام ـ يعني أبا‬


‫)لن الماتريدي مف ّ‬
‫حنيفة ـ وأصحاِبه المظهرين قبل الشعري لمذهب‬
‫ل زمان من القائمين بنصرة الدين‬‫أهل السنة‪ ،‬فلم يخ ُ‬
‫وإظهاره‪ ..‬وقد سبقه ـ يعني الشعري ـ أيضا ً في ذلك‬
‫ـ يعني في نصرة مذهب أهل السنة ـ المام أبو‬
‫محمد عبدالله بن سعيد القطان‪ (..‬اهس‪.‬‬
‫أي أن المام ابن كلب كان قبل المام أبي‬

‫‪47‬‬
‫الحسن في نصرة الدين وإظهار السنة‪.‬‬
‫)لسان الميزان ‪/ 3‬‬‫وقال الحافظ ابن حجر في‬
‫ـ‬ ‫‪ (291‬في ترجمته‪ ،‬بعد أن نقل قول ابن النديم‪ :‬إنـه‬
‫يعني ابن كلب ـ من الحشوية‪.‬‬
‫قال الحافظ‪):‬يريد من يكون على طريق السلف‬
‫في ترك التأويل لليات والحاديث المتعلقة بالصفات‪،‬‬
‫ويقال لهم المفوضة( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام الشهرستاني رحمه الله تعالى‬
‫)الملل والنحل ص ‪:(81‬‬
‫)حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلبي‬
‫وأبي العباس القلنسي والحارث بن أسد المحاسبي‬
‫وهؤلء كانوا من جملة السلف‪ ،‬إل أنهم باشروا علم‬
‫الكلم وأيدوا عقائد السلف بحجج كلمية وبراهين‬
‫ض‪ ،‬حتى جرى بين‬ ‫أصولية‪ ،‬وصّنف بعضهم ودّرس بع ٌ‬
‫أبي الحسن الشعري وبين أستاذه مناظرة في‬
‫مسألة من مسائل الصلح والصلح‪ ،‬فتخاصما وانحاز‬
‫الشعري إلى هذه الطائفة‪ ،‬فأّيد مقالتهم بمناهج‬
‫كلمية‪ ،‬وصار ذلك مذهبا ً لهل السنة والجماعة‪،‬‬
‫وانتقلت سمة الصفاتية إلى الشعرية( اهـ‪.‬‬
‫بل نزيد على ما مّر ونقول‪ :‬ليس المام الشعري‬
‫وحده الذي كان على طريق المام ابن كلب‪ ،‬كل‪ ،‬بل‬
‫كان على نفس المعتقد أئمة كبار مثل المام البخاري‬
‫رحمه الله تعالى‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫)الفتح‬ ‫قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى‬
‫‪:(1/293‬‬
‫)البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب‬
‫إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن‬
‫شميل والفراء وغيرهم‪ ،‬وأما المباحث الفقهية فغالبها‬
‫مستمدة له من الشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما‪،‬‬
‫وأما المسائسل الكلمية فأكثرها من‬
‫لب ونحسوهما( اهـ‪.‬‬ ‫الكرابيسسي وابن ُ‬
‫كس ّ‬
‫هذه نصوص واضحة بينة في أن المام عبدالله بن‬
‫سعيد بن كلب كان على طريق السلف والسنة‪.‬‬

‫القرآن كلم الله غير مخلوق‪ ،‬واللفظ‬


‫به مخلوق‪:‬‬
‫فإذا كان المر كذلك كما بّين هؤلء الئمة‪ ،‬فما‬
‫السبب في اتهام عبدالله بن سعيد بن كلب بمخالفة‬
‫طريق السلف؟‬
‫يقول ابن عبدالبر في بيان شيء من ذلك أثناء‬
‫ترجمة المام الكرابيسي )النتقاء ص ‪:(165‬‬
‫)وكانت بينه ـ يعني الكرابيسي ـ وبين أحمد بن حنبل‬
‫ما خالفه في القرآن عادت تلك‬ ‫صداقة وكيدة‪ ،‬فل ّ‬
‫ل واحد منهما يطعن على‬ ‫الصداقة عداوة‪ ،‬فكان ك ّ‬
‫صاحبه‪ ،‬وذلك أن أحمد كان يقول‪ :‬من قال القرآن‬
‫مخلوق فهو جهمي‪ ،‬ومن قال القرآن كلم الله ول‬

‫‪49‬‬
‫يقول غير مخلوق ول مخلوق فهو واقفي‪ ،‬ومن قال‬
‫لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع‪ .‬وكان الكرابيسي‬
‫لب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهم‬‫وعبدالله بن ك ّ‬
‫يقولون‪ :‬إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من‬
‫صفاته ل يجوز عليه الخلق‪ ،‬وإن تلوة التالي وكلمه‬
‫بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق وإنه حكاية‬
‫عن كلم الله‪ ...‬وهجرت الحنبلية أصحاب أحمد بن‬
‫دعوه وطعنوا عليه وعلى‬ ‫حنبل حسينا ً الكرابيسي وب ّ‬
‫كل من قال بقوله في ذلك( اهـ‪.‬‬
‫هذا هو سبب الطعن والتشنيع على عبدالله بن‬
‫فه بأنه لم يكن على طريق السنة‬ ‫صـ ِ‬
‫لب وو ْ‬ ‫ك ّ‬
‫دع بسببه ل‬ ‫والسلف‪ ،‬إل أن هذا القول الذي ُبـ ّ‬
‫يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف‪،‬‬
‫ل سيما أن مسألة اللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة‬
‫من أكابر أمة السلم مثل الذين ذكرهم ابن عبدالبر‪،‬‬
‫وممن كان يقول بذلك أيضا ً المام البخاري والمام‬
‫مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المـروزي‬
‫وغيرهم‪ ،‬وما الفتنة التي حدثت بين البخاري وشيخه‬
‫الذهلي إل بسبب هذه المسألة‪ ،‬نعني مسألة اللفظ‪،‬‬
‫ولقد صّنف المام البخاري في هذه المسألـة كتابـه "‬
‫خلق أفعال العباد " لثبات رأيه فيها والرد ّ على‬
‫مخالفيه‪.‬‬
‫أما المام مسلم فقد كان يظهر القول باللفظ‬

‫‪50‬‬
‫)انظر سير أعلم النبلء ‪ 453/ 12‬وما بعدها‪،‬‬ ‫ول يكتمه‪.‬‬
‫‪.(12/572‬‬
‫قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في‬
‫ترجمة الكرابيسي )طبقات الفقهاء الشافعيين ‪:(1/133‬‬
‫)وأن أحمد بن حنبل كان تكلم فيه بسبب مسألة‬
‫اللفظ‪ ،‬وكان هو أيضا ً يتكلم في أحمد‪ ،‬فتجّنب‬
‫الناس الخذ عنه لهذا السبب‪ .‬قلت‪ :‬الذي رأيت عنه‬
‫أنه قال كلم الله غير مخلوق من كل الجهات إل أن‬
‫ل ] أي يعتقد [‪:‬‬‫لفظي بالقرآن مخلوق‪ ،‬ومن لم يق ْ‬
‫إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر‪ .‬وهذا هو‬
‫المنقول عن البخاري وداود بن على الظاهري‪،‬‬
‫ب لجل حسم‬ ‫وكان المام أحمد يسد ّ في هذا البا َ‬
‫مادة القول بخلق القرآن( اهـ‪.‬‬
‫وممن كان يقول باللفظ أيضا ً المام محمد بن‬
‫جرير الطبري رحمه الله تعالى‪ ،‬وهي من المسائل‬
‫التي نقم عليه بسببها بعض متعصبة الحنابلة‪ ،‬قال‬
‫الحافظ ابن كثير رحمـه الله تعالى )المصدر السابق‬
‫‪:(1/226‬‬
‫)كان قد وقع بينه ‪ -‬الطبري ‪ -‬وبين الحنابلة أظنه‬
‫بسبب مسألة اللفظ‪ ،‬واتهم بالتشيع‪ ،‬وطلبوا عقد‬
‫مناظرة بينهم وبينه‪ ،‬فجاء ابن جرير لذلك ولم يجئ‬
‫منهم أحد‪ ،‬وقد بالغ الحنابلة في هذه المسألة‬
‫وتعصبوا لها كثيرًا‪ ،‬واعتقدوا أن القول بها يفضي إلى‬

‫‪51‬‬
‫القول بخلق القرآن‪ ،‬وليس كما زعموا‪ ،‬فإن الحق ل‬
‫يحتاط له بالباطل‪ ،‬والله أعلم( اهـ‪) .‬وانظر في محنة ابن‬
‫جرير مع الحنابلة البداية والنهاية ‪ ،11/145‬الكامل لبن الثير‬
‫‪ ،7/8‬السير ‪ 14/272‬ـ ‪ ،277‬الوافي بالوفيات ‪.(2/284‬‬
‫نعم‪ ،‬فإن القرآن كلم الله تعالى غير مخلوق وهو‬
‫ح أن يحتاط‬
‫صفة من صفات ذاته العلية‪ ،‬إل أنه ل يص ّ‬
‫لهذا الحق بالباطل الذي هو إنكار حدوث وخلق ما‬
‫قام بالمخلوق‪ ،‬ثم التشنيع على من يقول بذلك!‬
‫على أية حال الحق في هذه القضية مع‬
‫لب والبخاري ومسلم وأبي ثور‬‫الكرابيسي وابن ك ّ‬
‫وداود والمحاسبي والطبري وغيرهم ممن كان على‬
‫طريقهم‪ ،‬أما المام أحمد رضي الله عنه ‪ -‬ومن قال‬
‫بقوله ‪ -‬فكلمه محمول على سد ّ باب الذريعة لكي ل‬
‫يتوسل بالقول باللفظ إلى القول بخلق القـرآن‪.‬‬
‫)السير ‪ ،12/82‬وانظر أيضا ً‬ ‫قال المام الذهبي‬
‫السير ‪:(11/510‬‬
‫)ول ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في‬
‫مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق‪ ،‬لكن أباه المام‬
‫أحمد لئل ُيتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسد ّ‬
‫الباب( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )ميزان العتدال ‪) :(1/544‬وكان يقول ـ‬
‫القرآن كلم الله غير مخلوق‪ ،‬ولفظي‬ ‫يعني الكرابيسي ـ‬

‫‪52‬‬
‫به مخلوق‪ ،‬فإن عنى التلفظ فهذا جيد‪ ،‬فإن أفعالنا‬
‫مخلوقة‪ ،‬وإن قصد الملفوظ بأنه مخلوق فهذا الذي‬
‫دوه تجهمًا( اهـ‪.‬‬
‫أنكره أحمد والسلف وع ّ‬
‫لب والبخاري‬‫ول ريب أن مراد الكرابيسي وابن ك ّ‬
‫ومسلم وأبي ثور وداود ومن كان على قولهم لريب‬
‫أن مرادهم هو الول‪ ،‬وعلى الجملة فإن القضية‬
‫دع من أجلها‪.‬‬
‫أهون من أن ُيبـ ّ‬

‫وقال أيضا )السير ‪ (11/510‬بعد أن نقل قول‬


‫الحافظ أبي بكر العين‪ :‬مشايخ خراسان ثلثة‪:‬‬
‫قتيبة‪ ،‬وعلي بن حجر‪ ،‬ومحمد بن مهران الرازي‪،‬‬
‫ورجالها أربعة‪ :‬عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي‬
‫ومحمد بن إسماعيل البخاري قبل أن يظهر‬
‫منه ما ظهر‪ ...‬الخ‬
‫لقا ً عليه‪) :‬والذي ظهر من محمد ‪-‬‬
‫قال الذهبي مع ّ‬
‫يعني البخاري ‪ -‬أمٌر خفيف من المسائل التي اختلف‬
‫مى مسألة‬ ‫فيها الئمة في القول في القرآن وتس ّ‬
‫أفعال التالين‪ ،‬فجمهور الئمة والسلف والخلف على‬
‫أن القرآن كلم الله المنزل غير مخلوق وبهذا ندين‬
‫الله( اهـ‪.‬‬
‫ول يلزم من هجر المام أحمد لهؤلء الئمة أن‬
‫يكونوا على غير طريق السلف‪ ،‬ل سيما أن الحق‬
‫معهم فيما ذهبوا إليه كما قّرَره المام الذهبي‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وقال أيضا ) سير أعلم النبلء ‪:( 11/290‬‬
‫) فقد كان هذا المام ] يعني أحمد [ ل يرى‬
‫الخوض في هذا البحث خوفا من أن ُيتذّرع به إلى‬
‫القول بخلق القرآن‪ ،‬والكف عن هذا أولى‪ .‬آمنا بالله‬
‫تعالى وبملئكته وبكتبه ورسله وأقداره والبعث‬
‫والعرض على الله يوم الدين‪ .‬ولو بسط هذا السطر‬
‫حّرَر وقُّرَر بأدلته لجاء في خمس مجلدات‪ ،‬بل ذلك‬ ‫و ُ‬
‫موجود مشروح لمن رامه‪ .‬والقرآن فيه شفاء ورحمة‬
‫للمؤمنين‪ .‬ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب‬
‫القارئ غير الملفوظ‪ ،‬والقراءة غير الشيء المقروء‪،‬‬
‫والتلوة وحسنها وتجويدها غير المتلو‪ ،‬وصوت القارئ‬
‫من كسبه فهو ُيحدث ] يعني يفعل‪ ،‬وليس الحداث المرادف‬
‫للخلق كما تقول المعتزلة [ التلفظ والصوت والحركة‬
‫والنطق‪ ،‬وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة‪ ،‬ولم‬
‫يحدث كلمات القرآن ول ترتيبه ول تأليفه ول‬
‫معانيه (‪.‬‬
‫ثم روى عن الحاكم بسنده إلى فوران صاحب‬
‫أحمد أنه قال ‪:‬‬
‫سألني الثرم وأبو عبدالله المعيطي أن أطلب من‬
‫] يعني أحمد [ خلوة‪ ،‬فأسأله فيها‬ ‫أبي عبدالله‬
‫عن أصحابنا الذين يفرقون بين اللفظ والمحكي‪.‬‬
‫ف في أقواله‬
‫صّر َ‬
‫فسألته ‪ ،‬فقال ‪ :‬القرآن كيف ت ُ ُ‬
‫وأفعاله فغير مخلوق‪ ،‬فأما أفعالنا فمخلوقة‪ .‬قلت‬

‫‪54‬‬
‫دهم يا أبا عبدالله في‬
‫] القائل فوران [‪ :‬فاللفظية تع ّ‬
‫جملة الجهمية ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ .‬الجهمية الذين قالوا‪:‬‬
‫القرآن مخلوق اهـ‪.‬‬
‫وفي السماء والصفات للبيهقي ص ‪ 266‬عن‬
‫عبدالله بن أحمد بن حنبل قال ‪ :‬سمعت أبي يقول‪) :‬‬
‫من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو‬
‫كافر ( علق الحافظ البيهقي قائل ‪ ) :‬قلت ‪ :‬هذا تقييد‬
‫حفظه عنه ابنه عبدالله وهو قوله‪ :‬يريد به القرآن‪.‬‬
‫فقد غفل عنه غيره ممن حكى عنه في اللفظ خلف‬
‫ما حكينا حتى نسب إليه ما تبرأ منه فيما ذكرنا ( اهـ‪.‬‬
‫) خلق أفعال‬ ‫وقال المام البخاري رحمه الله تعالى‬
‫العباد ص ‪: ( 43‬‬
‫) فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه‬
‫كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم‪ ،‬وربما لم‬
‫يفهموا دقة مذهبه‪ ،‬بل المعروف عن أحمد وأهل‬
‫العلم أن كلم الله غير مخلوق وما سواه مخلوق‪،‬‬
‫وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الشياء الغامضة‪،‬‬
‫وتجنبوا أهل الكلم والخوض والتنازع إل فيما جاء به‬
‫العلم وبّينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ا‪.‬هـ‬
‫وإننا متيقنون بأنهم رحمهم الله تعالى لم يقولوا‬
‫هذا القول دون أن تدعو لذلك حاجة‪ ،‬كل‪ ،‬وحاشاهم‬
‫أن يتكلموا بشيء سكت عنه الصحابة والتابعون‪،‬‬
‫ما رأوا الناس تقحموا هذا الباب‪ ،‬وخاضوا في‬‫لكنهم ل ّ‬

‫‪55‬‬
‫هذا المر‪ ،‬وحملوه على غير وجهه‪ ،‬اضطروا إلى‬
‫فا ً للناس عن ذلك‪.‬‬
‫الكلم فيه تبيانا ً للحق‪ ،‬وك ّ‬
‫)في تعليقه‬ ‫قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى‬
‫على تبيين كذب المفتري هامش)‪ (2‬من الصفحة ‪:(406 /‬‬
‫)أما كلم أحمد في ابن كلب وصاحبه ] يعني‬
‫الحارث المحاسبي [ فلكراهته الخوض في الكلم‬
‫عه منه‪ ،‬ولكن الحق أن الخوض فيه عند الحاجة‬ ‫وتوّر ِ‬
‫ن على خلف ما يرتئيه أحمد( اهـ‪.‬‬‫متعي ّ ٌ‬
‫الخلصة أن المر خفيف كما وصفه الحافظ‬
‫الذهبي‪ ،‬وأن هذه المسألة مما اختلفت فيها أقوال‬
‫الئمة‪ ،‬وهم متفقون جميعا ً على أن القرآن الذي هو‬
‫صفة الرحمن وكلمه تعالى غيرمخلوق‪.‬‬
‫لب لم يكن وحده في‬ ‫بهذا يتبين أن المام ابن ك ّ‬
‫هذا المر الذي ذهب إليه‪ ،‬بل كان على رأيه كبار أئمة‬
‫الدين‪ ،‬وبهذا ُيعلم أيضا ً أنه لم يبتدع أو يخالف منهج‬
‫السلف والسنة‪ ،‬بل هو من أكابر أهل السنة‬
‫والجماعة السائرين على خطى السلف الصالح كما‬
‫مّر من أقوال العلماء فيه‪.‬‬
‫فإذا كان المر كذلك‪ ،‬فمن أين جاء القول بأن‬
‫المام الشعري قد ترك طريقته وآراءه؟!‬
‫وهذا السؤال يجرنا إلى الحديث عن القضية‬
‫الثالثة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الرد ّ على القضية الثالثة‪:‬‬
‫كتاب البانة هو دليل ومعتمد من يقول بمرور‬
‫المام الشعري بثلث مراحل في حياته‪ ،‬والذي ل‬
‫ريب فيه أن المام قد سلك في هذا الكتاب وفي‬
‫غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوبا ً مختلفا ً في‬
‫التأليف‪ ،‬فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور‬
‫السلف في المتشابهات‪ ،‬نعني بذلك أنه قد أخذ‬
‫بطريق التفويض‪ ،‬ففهم البعض من ذلك أن المام قد‬
‫رجع عن طريق ابن كلب الذي كان عليه إلى طريق‬
‫السلف!‬
‫ونحن قد أثبتنا في الحديث حول القضية الثانية أن‬
‫ابن كلب لم يكن مخالفا ً للسلف بل هو منهم وعلى‬
‫ك لمسلك التفويض كما مر من قول‬ ‫طريقهم وسال ٌ‬
‫الحافظ ابن حجر في الرد على ابن النديم حين‬
‫وصف ابن كلب بأنه من الحشوية‪ ،‬قال‪ ) :‬يريد من‬
‫يكون على طريق السلف في ترك التأويل ‪ ...‬ويقال‬
‫ف‬
‫لهم المفوضة ( ا‪.‬هـ ) لسان الميزان ‪ ،(3/291‬وهذا كا ٍ‬
‫في الرد ّ لمن تأمل وأنصف‪.‬‬
‫لكننا نزيد على ذلك ونقول‪:‬‬
‫إن كتاب البانة الذي هو معتمد أصحاب هذه‬
‫الدعوى‪ ،‬وهو الدليل عندهم على رجوع المام عن‬
‫طريق ابن كلب‪ ،‬نقول‪ :‬إن هذا الكتاب بذاته ينقض‬
‫دعوى رجوع المام عن هذا الطريق‪ ،‬لنه مؤّلف على‬

‫‪57‬‬
‫لب وعلى منهجه‪ ،‬فكيف يرجع عن‬ ‫طريقة ابن ك ّ‬
‫طريق ابن كلب ثم يؤلف آخر كتبه على طريقته؟!‬
‫قال الحافظ ابن حجر في )لسان الميزان ‪) (3/291‬‬
‫لب س مشى‬ ‫وعلى طريقته س يعني ابن ك ّ‬
‫الشعري في كتاب البانة( اهـ‪.‬‬
‫وهذا يزيدنا يقينا ً على يقين بأن المام ابن كلب‬
‫كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم‪ ،‬لن‬
‫البانة التي أّلفها المام الشعري في آخر حياته على‬
‫منهج السلف هي مؤّلفة على طريقة المام ابن‬
‫كلب‪ ،‬وهذا يقتضي قطعا ً أن طريق السلف وطريق‬
‫ابن كلب هما في حقيقة المر طريق واحد وهو ما‬
‫كان عليه المام الشعري بعد رجوعه عن العتزال‪.‬‬
‫أي أن المام لم يمّر بثلث مراحل في حياته‪ ،‬بل‬
‫هما مرحلتان فقط‪ ،‬مرحلة العتزال ثم أعقبتها‬
‫مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن‬
‫كلب والمحاسبي والقلنسي والكرابيسي والبخاري‬
‫ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم‪ ،‬وهي المرحلة‬
‫التي أّلف المام فيها كتاب البانة‪.‬‬
‫وُيروى أن المام الشعري عندما أّلف البانة‬
‫صبـا ً ولـم يقبلـوها منـه‬ ‫)‪(1‬‬
‫رفضها بعض حنابلة بغداد تع ّ‬

‫‪ ()1‬قيدنا هذا الرفض بـأنه مــن بعـض الحنابلــة‪ ،‬لنـه لـم تـزل‬
‫طائفــة كــبيرة مــن الحنابلــة يوالــون المــام الشــعري ويحبــونه‬
‫وينتسبون إليه‪ ،‬قــال الحــافظ ابــن عساكـــر فــي " التــبيين " ص‬

‫‪58‬‬
‫)انظرسيرأعلم النبلء ‪ ،15/90‬طبقات الحنابلة ‪ ،2/18‬الوافـي‬
‫بالوفيات ‪ (12/146‬وهـذا يؤيد ما مّر من أن البانة‬
‫مؤّلفة على طريقة ابن كلب الذي هجره بعض‬
‫الحنابلة فيمن هجروه من الئمة لجل مسألة اللفظ‬
‫وأخذهم بعلم الكلم للرد على المخالفين من‬
‫المعتزلة وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكرناه عن كتاب البانة‪ ،‬إنما أردنا به‬
‫البانة التي صّنفها المام‪ ،‬وليست البانة المتداولة‬
‫والمطبوعة اليوم‪ ،‬وذلك لما حدث على هذا الكتاب‬
‫من التحريف والنقص والزيادة‪.‬‬
‫قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في‬
‫مقدمة كتاب " تبيين كذب المفتري "‪:‬‬
‫)والنسخة المطبوعة في الهند من البانة نسخة‬

‫‪ 389‬أثناء رّده علــى الهــوازي الــذي استشــهد بالقصــة مــن أجــل‬


‫صه‪) :‬فلو‬ ‫إثبات رفض الحنابلة للمام الشعري ولكتابه البانة‪ ،‬ما ن ّ‬
‫كان المر كما قال لنقلوه عن أشياخهم وأظهروه‪ ،‬ولم أزل أسـمع‬
‫ممن يوثق به أنه ـ المام ـ كان صديقا ً للتميميين سلف أبي محمد‬
‫رزق الله بن عبـدالوهاب ابــن عبــدالعزيز بـن الحـارث‪ ،‬وكـانوا لـه‬
‫مكرمين‪ ،‬وقد ظهر أثــر بركــة تلــك الصــحبة علــى أعقــابهم‪ ،‬حــتى‬
‫نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني من أصحابهم‪ ،‬وهذا تلميذ‬
‫أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة مــا ذكرتــه وينــبي‪ ،‬وكــذلك‬
‫كان بينهم وبين صاحبه أبي عبــدالله بــن مجاهــد وصــاحب صــاحبه‬
‫أبي بكر بن الطيب ـ الباقلني ـ من المواصلة والمؤاكلــة مــا يــد ّ‬
‫ل‬
‫على الختلق من الهوازي‪ (..‬اهـ‪ .‬وانظر أيضا ً ص ‪ 163‬من نفــس‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫مصحفة محرفة تلعبت بها اليدي الثيمة‪ ،‬فيجب‬
‫إعادة طبعها من أصل موثوق(’اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )مقدمته على كتاب إشارات المرام من عبارات‬
‫المام للعلمة البياضي(‪:‬‬
‫ل صحيح من مؤلفاته‬ ‫)ومن العزيز جد ّا ً الظفر بأص ٍ‬
‫على كثرتها البالغة‪ ،‬وطب ْعُ كتاب البانة لم يكن من‬
‫أصل وثيق‪ ،‬وفي المقالت المنشورة باسمه وقفة(‬
‫اهـ‪ ).‬وانظر أيضا ً تعليقه على السيف الصقيل ص ‪.( 196-155‬‬

‫وهذا أيضا ً ما ذهب إليه الدكتورعبد الرحمن بدوي‬


‫مؤيدا ً للعلمة الكوثري )مذاهب السلميين ‪ (1/516‬قال‪:‬‬
‫)وقد لحظ الشيخ الكوثري بحق أن النسخة‬
‫المطبوعة في الهند‪ ..‬تلعبت بها اليدي الثيمة‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫)انظر مذاهب‬ ‫كما لحظ ذلك غيرهم من الدارسين‬
‫السلميين ‪ 1/517‬وما بعدها(‪.‬‬
‫وللشيخ وهبي غاوجي حفظه الله رسالة في‬
‫هذا الموضوع بعنوان " نظرة علمية في نسبة كتاب‬
‫البانة جميعه إلى المام أبي الحسن " أتى فيها بأدلة‬
‫موضوعية تدل على أن قسما ً كبيرا ً مما في البانة‬
‫المتداولة اليوم بين الناس ل يصح نسبته للمام‬
‫الشعري‪.‬‬
‫وقد طبع كتاب البانة طبعة قوبلت على أربع نسخ‬
‫خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين‪ ،‬وهي طبعة‬

‫‪60‬‬
‫وإن كانت أحسن حال ً من المطبوعة قب ُ‬
‫ل إل أنها لم‬
‫ل من التحريف والنقص والزيادة أيضًا‪ ،‬وهذا لعله‬ ‫تخ ُ‬
‫يصحح ما ذهب إليه العلمة الكوثري رحمه الله تعالى‬
‫ل صحيح من‬ ‫حين قال )ومن العزيز جد ّا ً الظفر بأص ٍ‬
‫مؤلفاته على كثرتها البالغة(‪.‬‬
‫وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في‬
‫كتاب تبيين كذب المفتري فصلين من البانة‪ ،‬وعند‬
‫مقارنة البانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة‬
‫فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين‬
‫بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وهذه بعض المثلة على ذلك‪:‬‬
‫صه‬
‫* جاء في البانة المطبوعة ص ‪ 16‬ما ن ّ‬
‫)وأنكروا أن يكون له عينسان مـع قولـه تجري‬
‫بأعيننا‪ (..‬ا‪.‬هـ‪ .‬هكذا بالتثنية!‬
‫* وعند ابن عساكر ص ‪) 157‬وأنكروا أن يكون له‬
‫عين‪ (...‬بإفراد لفظ العين‪.‬‬
‫* وجاء في المطبوعة ص ‪) 18‬وأن له عينين بل‬
‫كيف‪(..‬‬
‫* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ‪) 22‬وأن له‬
‫سبحانه عينين بل كيف( هكذا‪ ،‬كلهما بالتثنية!‬
‫* وعند ابن عساكر ص ‪) 158‬وأن له عينا ً بل‬

‫‪61‬‬
‫كيف‪ (..‬بإفراد لفظ العين‪.‬‬
‫والفراد هو الموافق للكتاب والسنة وأقوال‬
‫ص واضح في التلعب بنسخ الكتاب‪،‬‬ ‫السلف‪ ،‬وهذا ن ّ‬
‫ولفظ العينين لم يرد ْ في القرآن ول في السنة‪ ،‬ومن‬
‫ثّنى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد‬
‫من الخلق‪ ،‬تعالى الله وتقدس عن ذلك‪.‬‬
‫قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في‬
‫تعليقه على كتاب السماء والصفات للبيهقي في‬
‫هامش ص ‪) : 313‬لم ترد صيغة التثنية في الكتاب‬
‫ول في السنة‪ ،‬وما يروى عن أبي الحسن الشعري‬
‫من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقل الكافة‬
‫عنه( ثم قال‪) :‬قال ابن حزم‪ :‬ل يجوز لحد أن يصف‬
‫الله عز وجل بأن له عينين لن النص لم يـأت بـذلك(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن عقيل معلقا ً على حديث الدجال )دفع‬
‫شبه التشبيه ص ‪:(263‬‬
‫)يحسب بعض الجهلة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ‬
‫لما نفى العور عن الله عز وجل أثبت من دليل‬
‫الخطاب أنه ذو عينين‪ ،‬وهذا بعيد من الفهم‪ ،‬إنما نفى‬
‫العور من حيث نفي النقائص‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبت لله‬
‫تعالى عينين )دفع شبه التشبيه ص ‪:(114‬‬

‫‪62‬‬
‫)قلت‪ :‬وهذا ابتداع ل دليل لهم عليه‪ ،‬وإنما أثبتوا‬
‫عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلة‬
‫والسلم‪ " :‬وإن الله ليس بأعور " وإنما أراد نفي‬
‫النقص عنه تعالى( اهـ‪.‬‬
‫ومن أمثلة التحريف فيه أيضا ً القدح بالمام‬
‫العظم أبي حنيفة رضي الله عنه‪:‬‬
‫فقد جاء في البانة المطبوعة ص ‪) 57‬وذكر‬
‫هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن‬
‫سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال لي حماد بن أبي سليمان‪ :‬بّلغ أبا حنيفة المشرك‬
‫أّني منه بريء‪ .‬قال سليمان‪ :‬ثم قال سفيان‪ :‬لنه‬
‫كان يقول القرآن مخلوق‪.‬‬
‫وذكر سفيان بن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي‬
‫حنيفة قال أخبرني أبي قال‪ :‬الكلم الذي استتاب فيه‬
‫ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله‪ :‬القرآن مخلوق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتاب منه وطاف به في الخلق‪ .‬قال أبي‪ :‬فقلت‬
‫ي‪،‬‬
‫له كيف صرت إلى هذا؟ قال‪ :‬خفت أن يقوم عل ّ‬
‫فأعطيته التقّيـة‪.‬‬
‫وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن‬
‫أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أن‬
‫مادا ً ـ يعني ابن أبي سليمان ـ بعث إلى أبي حنيفة‪:‬‬
‫ح ّ‬
‫إني بريء مما تقول‪ ،‬إل أن تتوب‪ .‬وكان عنده ابن‬
‫أبي عقبة‪ ،‬قال‪ ،‬فقال‪ :‬أخبرني جارك أن أبا حنيفة‬

‫‪63‬‬
‫دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب‪.‬‬
‫وذكر عن أبي يوسف قال‪ :‬ناظرت أبا حنيفة‬
‫شهرين حتى رجع عن خلق القرآن( اهـ‪.‬‬
‫ترى هل نحن بحاجة إلى إثبات كذب مثل هذه‬
‫الخبار وأنها مدسوسة في كتاب المام الشعري‪ ،‬أم‬
‫أنه يكفي عزوها إلى البانة المطبوعة لكي ُيعلم‬
‫تحريفها وتلعـب اليـدي فيها؟!‬
‫وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ‪ 91-90‬جاء بعد‬
‫الخبر الول بعد قول سفيان‪ :‬لنه يقول القرآن‬
‫صه‪) :‬وحاشى المام العظم أبو‬ ‫مخلوق‪ .‬ما ن ّ‬
‫حنيفة رضي الله عنه من هذا القول بل هو‬
‫زور وباطل فإن أبا حنيفة من أفضل أهل‬
‫السنة( اهس‪.‬‬
‫وجاء فيها بعد قول ابن أبي عقبة‪ :‬أخبرني جارك‬
‫أن أبا حنيفة دعاه لما استتيب منه بعد ما استتيب‪ .‬ما‬
‫صه‪) :‬وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي‬ ‫ن ّ‬
‫الله عنه( اهس‪.‬‬
‫قال العلمة الكوثري رحمه الله تعالى في‬
‫تعليقه على كتاب الختلف في اللفظ لبن قتيبة‪ ،‬في‬
‫صه )ومن غريب التحريف ما‬ ‫هامش ص ‪ ،49‬ما ن ّ‬
‫س‬
‫س في بعض نسخ البانة للشعري كما دُ ّ‬ ‫دُ ّ‬
‫ماد بن أبي سليمان‬ ‫فيها أشياء أخر من أن ح ّ‬
‫قال " بّلغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من‬

‫‪64‬‬
‫دينه " وكان يقول بخلق القرآن‪ .‬فإن لفظ‬
‫ماد " بّلغ أبا فلن " ل أبا حنيفة! كما في‬
‫ح ّ‬
‫أول خلق الفعال للبخاري‪ ،‬وجعل من ل‬
‫يخاف الله لفظ " أبا حنيسفة " فسي موضسع "‬
‫أبا فلن " والله أعلم من هو أبو فلن هذا‪،‬‬
‫وما هي المسألة‪ (..‬اهس‪.‬‬
‫وفي كتاب العتقاد للبيهقي ) ص‬
‫‪: ( 112‬‬
‫) رّوينا عن محمد بن سعيد بن سابق أنه قال ‪:‬‬
‫سألت أبا يوسف فقلت ‪ :‬أكان أبو حنيفة يقول‬
‫القرآن مخلوق؟ فقال ‪ :‬معاذ الله‪ ،‬ول أنا أقوله‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬أكان يرى رأي جهم؟ فقال ‪ :‬معاذ الله‪ ،‬ول أنا‬
‫أقوله‪ .‬رواته ثقات ( اهـ‪.‬‬
‫)نظرة‬ ‫وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله‬
‫علمية في نسبة كتاب البانة جميعه‪ ...‬ص ‪:(20‬‬
‫)ول بأس أن نقول‪ :‬لو كان المام الشعري رحمه‬
‫الله تعالى نسب حقا ً إلى المام ـ يعني أبا حنيفة ـ‬
‫القول بخلق القرآن لما كان للمام الشعري تلك‬
‫المكانة العالية عند الحنفية أتباع المام أبي حنيفة‬
‫رحمه الله تعالى‪ .‬فل تلتفت أيها القارئ إلى تلك‬
‫النقول المبتورة مبتدأ ً والباطلة سندًا‪ ،‬وأحسن الظن‬
‫بالمام الشعري كما تحسن الظن بإمام الئمة‬
‫الفقهاء وسائر الئمة رضوان الله تعالى عليهم‪ .‬وتذكر‬

‫‪65‬‬
‫خل الكثيُر من الباطيل على حديث رسول الله‬ ‫أنه ُأد ِ‬
‫كبت لها أسانيد باطلة‪،‬‬‫صلى الله عليه وسلم‪ُ ،‬ر ّ‬
‫شر في كتب‬ ‫ح ِ‬‫لكلمات باطلة‪ .‬كذلك ول تنس أنه ُ‬
‫ت وعبارات وحذف منها كلمـات‬ ‫كثير من العلماء كلما ٌ‬
‫وعبارات حتى في حيـاة أصحابها( اهـ‪.‬‬
‫ومن هذه المثلة أيضا ً ما جاء في الطبعة‬
‫المتداولة عند ذكر الستواء ص ‪) 69‬إن قال قائل‪ :‬ما‬
‫تقولون في الستواء؟ قيل له نقول‪ :‬إن الله عز وجل‬
‫مستوٍ على عرشه كما قال ) الرحمن على‬
‫العرش استوى (‬
‫وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ‪ ..) 105‬نقول إن‬
‫الله عز وجل استوى على عرشه استواءً يليق به‬
‫من غير حلول ول استقرار‪(..‬‬
‫فالعبارة الخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة!!‬
‫وفي ص ‪ 73‬من البانة المتداولة )فكل ذلك يدل‬
‫على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشـه‪،‬‬
‫والسماء بإجماع الناس ليست الرض‪ ،‬فدل على أن‬
‫الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه( اهـ‪.‬‬
‫وفي طبعة الدكتورة فوقية ص ‪) 113‬فدل على‬
‫أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه استواءً‬
‫منزها ً عن الحلول والتحاد( اهـ‪.‬‬
‫إلى غير ذلك من عشرات المثلة الداّلة دللة‬

‫‪66‬‬
‫قاطعة على تحريف الكتاب‪ ،‬والقاضية بعدم جواز‬
‫اعتبار معظمه ممثل ً لعقيدة المام الشعري إل في ما‬
‫وافق قول الكافة من أهل العلم والنقل عنه‪.‬‬
‫فإذا ثبت ـ كما مّر معنا ـ تاريخي ّا ً أن المام بعد‬
‫رجوعه عن العتزال كان على منهج السلف وأهل‬
‫السنة‪ ،‬وإذا ثبت أيضا ً أن المام ابن كلب كان من‬
‫أئمة السلف وعلى نهـج السنة‪ ،‬وإذا ثبت أيضا ً أن‬
‫كتاب البانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها‬
‫هو في حقيقة المر مؤلف على طريقة ابن كلب‬
‫التي هي ذاتها طريقة السلف‪ ،‬إذا ثبت ذلك ثبت بناًء‬
‫عليه أن المام لم يمّر بثلث مراحل في حياته‪ ،‬وإنما‬
‫هما مرحلتان مرحلة العتزال في بداية حياته ثم‬
‫مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف‪.‬‬
‫ول نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليل ً على ما‬
‫ذهب إليه إل العتماد على أسلوب البانة وبعض‬
‫الرسائل الخرى والطريقة التي كتبت عليها‪ ،‬لن‬
‫المام قد سلك في البانة طريق التفويض‪ ،‬وهي‬
‫طريقة جمهور السلف‪ ،‬وهي في حقيقتها ل تنافي‬
‫بينها وبين طريق التأويل بشرطه‪ ،‬والشاعرة‬
‫يعتقدون كل ما في البانة ـ نعني البانة الصحيحة‬
‫التي كتبها المام وليست البانة المحرفة ـ ويعقدون‬
‫ل من التفويض والتأويل حق ل‬ ‫عليه خناصرهم‪ ،‬إذ ك ّ‬
‫اعتراض عليه‪ ،‬وكل الطريقين مأثور عن الصحابة‬

‫‪67‬‬
‫والسلف كما سيأتي بيانه‪ ،‬وكل الطريقين متفقان‬
‫على التنزيه بعد إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه‪،‬‬
‫وكلهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهده‬
‫الخلق من عالمهم‪.‬‬
‫)التبيين‬ ‫قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى‬
‫ص ‪:(388‬‬
‫)بل هم ـ يعني الشاعرة ـ يعتقدون ما فيها ـ أي‬
‫البانة ـ أسد ّ اعتقاد‪ ،‬ويعتمدون عليها أشد ّ اعتماد‪،‬‬
‫فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ول نفاة لصفات الله‬
‫معطلة‪ ،‬لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من‬
‫الصفات‪ ،‬ويصفونه بما اتصف به في محكم اليات‪،‬‬
‫وبما وصفه به نبّيه صلى الله عليه وسلم في صحيح‬
‫الروايات‪ ،‬وينزهونه عن سمات النقص والفات( اهـ‪.‬‬
‫وهذا الذي قاله الحافظ ابن عساكر منطبق على‬
‫كتاب البانة الذي ألفه المام‪ ،‬أما ما يوجد اليوم في‬
‫أيدي الناس منها فل ثقة به ول يصح أن يمثل ـ في‬
‫الغالب ـ اعتقاد المام أو الشاعرة كما أثبتنا ذلك‪ ،‬إل‬
‫فيما وافق قول الكافة‪.‬‬
‫وقال أيضا ً رحمه الله تعالى )تبيين كذب‬
‫المفتري ص ‪:(389‬‬
‫مستصوبا ً عند أهل الديانة‪،‬‬
‫)ولم يزل كتاب البانة ُ‬
‫وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل‬
‫بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف‬

‫‪68‬‬
‫بالخسروجـردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض‬
‫شيوخه أن المام أبا عثمان إسماعيل بن عبد‬
‫الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج‬
‫إلى مجلس درسه إل وبيده كتاب البانة لبي الحسن‬
‫الشعري‪ ،‬ويظهر العجاب به‪ ،‬ويقول‪ :‬ماذا الذي ُينكر‬
‫على من هذا الكتاب شرح مذهبه)‪ .(1‬فهذا قول المام‬
‫أبي عثمان وهو من أعيان أهل الثر بخراسان‪ (.‬اهـ‪.‬‬
‫فانظر إلى قدر كتاب البانة وصاحبه عند أعلم‬
‫المة‪ ،‬فهذا شيخ السلم أبو عثمان الصابوني رحمه‬
‫الله تعالى وهو من هو جللة وعلما ً وزهدا ً)‪ (2‬يثني هذا‬
‫الثناء العاطر على المام أبي الحسن وكتابه البانة‪،‬‬
‫ومنه تعلم أن شيخ السلم أبا عثمان الصابوني أيضا ً‬
‫كان على طريق المام الشعري‪ ،‬كيف ل وقد توّلى‬
‫تربيته وتهذيبه المام أبو الطيب سهل بن أبي سهل‬
‫الصعلوكي‪ ،‬وهو ـ أبو الطيب ـ من طبقة أصحاب‬
‫أصحاب المام الشعري‪ ،‬أي من الطبقة الثانية‪ ،‬وكان‬
‫ة الوقت كالستاذ أبي‬ ‫يحضر مجالس أبي عثمان أئم ُ‬
‫إسحاق السفراييني والستاذ المام أبي بكر بن‬
‫)‪ (1‬وهذا المذهب هو ما كان عليه ابن كلب لن البانة‬ ‫‪1‬‬

‫مؤلفة على طريقته‪ ،‬وعليه‪ .‬يمكن أن نعتبر ثناء شيخ السلم‬


‫الصابوني هذا على البانة وأبي الحسن ثناًء على ابن كلب ‪ -‬ضمنا ً‬
‫– لينضم إلى أقوال الئمة السابقة في الثناء عليه وتزكيته‪.‬‬
‫‪ ()2‬قال عنه التاج السبكي‪ :‬الملقب بشيخ الســلم‪ ،‬لقبــه أهــل‬
‫السنة في بلد خراســان‪ ،‬فل يعنــون عنــد إطلقهــم هــذه اللفظــة‬
‫غيَره‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫فورك وسائر الئمة‪ ،‬وهؤلء من أعلم أمة السلم‬
‫من السادة الشاعرة‪ ،‬وثناؤهم عليه وثناؤه عليهم‬
‫ل على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى‬ ‫يد ّ‬
‫ورضي عنهم‪) .‬انظر ترجمة شيخ السلم الصابوني في تاريخ‬
‫مدينة دمشق ‪ ،9/3‬سير أعلم النبلء ‪ ،18/40‬الطبقات الكبرى‬
‫للتاج السبكي ‪.(4/271‬‬
‫بعد كل ما مّر‪ ،‬وبعد كل هذه الدلة‪ ،‬هل يصح وفقا ً‬
‫للمنهج العلمي للبحث أن تهمل جميع هذه البراهين‬
‫التاريخية والعقلية والعلمية‪ ،‬ثم يؤخذ بكلم استنباطي‬
‫ل يرقى إلى مستوى الظن‪ ،‬وليس له ما يؤيده من‬
‫النقل والعقل؟!‬
‫ولو بالغنا واعتبرنا ما اعتمدت عليه هذه الدعوى‬
‫دليل ً لما أمكن الخذ به علميا ً لن الدليــل متى ما‬
‫تطرق إليه الحتمال كساه ثوب الجمال وسقط به‬
‫الستدلل‪ ،‬كما هو مقرر في علم الصول‪ ،‬هذا إذا‬
‫تطرق إلى الدليل الحتمال مجرد تطرق‪ ،‬فكيف‬
‫يكون الحال إذا قارب هذا الحتمال حد ّ اليقين كما مّر‬
‫من أدلـة تحريف البانة؟!‬
‫ب ‪ -‬جدل ً ‪-‬‬ ‫بيد أننا سنبالغ في الفتراض ونقول‪ :‬هَ ْ‬
‫ف‪ ،‬وأنه ثابت‬‫أن كتاب البانة المتداول غير محّر ٍ‬
‫النسبة إلى المام الشعري‪ ،‬وأنه قد رجع فعل ً عن ما‬
‫كان يعتقده من التـنـزيـه‬
‫فهل يلزم المة أن تتابعه في هذا المر؟!‬

‫‪70‬‬
‫إن من يعتقد ذلك يسيء الظن بعقول أكثر من‬
‫عشرة قرون من العلماء والئمة‪ ،‬وينسبهم إلى‬
‫التقليد العمى في العقائد‪ ،‬ويغيب عنه أن المة‬
‫سبت إلى المام الشعري من حيث كونه وقف‬ ‫نُ ِ‬
‫حامل ً لواء السنة على طريق السلف في وجه‬
‫أصحاب البدع والهواء‪ ،‬ل لنهم قّلدوه في ما ذهب‬
‫إليه‪ ،‬فمتى ما رجع عن اعتقاده رجعوا ! كل‪.‬‬
‫فهم في الحقيقة منتسبون إلى رسول الله ‘‬
‫والسلف الصالح‪ ،‬وما المام الشعري رحمه الله‬
‫لء على الطريق ‪،‬‬ ‫وغيره من أئمة أهل السنة إل أد ّ‬
‫ومن يروج لمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان‬
‫حال هذه الدعوى وأمثالها أن هذا الذي رجع عنه‬
‫هؤلء الكابر لو كان حقا ّ ما رجعوا عنه! فالحق عنده‬
‫يعرف بمن قال به وتبناه وليس بما اعتضد به من‬
‫ي إل من قبل هذا المر‬ ‫ُ‬
‫ي من أت ِ َ‬
‫أدلة وبراهين! وهل أت ِ َ‬
‫الذي هو تعظيم الكبراء إلى الحد ّ الذي أعمى أعينهم‬
‫عن الخطاء‪ ،‬فاتبعوهم مقلدين لهم في أخطائهم‬
‫معتقدين أنها هي الحق الذي ل يأتيه الباطل ول‬
‫يتطرق إليه‪.‬‬

‫ولله دّر المام ابن الجوزي ما أصدق عبارته فقد‬


‫بق المفصل حيث قال )صيد الخاطر‬
‫أصاب المحّز وط ّ‬
‫ص ‪:(187‬‬

‫‪71‬‬
‫)قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه‪ :‬من ضيق‬
‫علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال‪ .‬فل ينبغي أن‬
‫معَظ ّم ٍ في النفوس شيئا ً في الصول‬ ‫تسمع من ُ‬
‫فتقلده فيه‪ ،‬ولو سمعت عن أحدهم ما ل يوافق‬
‫الصول الصحيحة‪ ،‬فقل‪ :‬هذا من الراوي‪ ،‬لنه قد ثبت‬
‫درنا‬
‫عن ذلك المام أنه ل يقول بشيء من رأيه‪ .‬فلو ق ّ‬
‫قّلد في الصول‪ ،‬ول أبو بكر ول‬ ‫صحته عنه فإنه ل ي ُ َ‬
‫ل يجب البناء عليه‪،‬‬‫عمر رضي الله عنهما‪ .‬فهذا أص ٌ‬
‫فل يهولّنك ذكُر معظ ّم ٍ في النفوس( اهـ‪.‬‬
‫لقد أطنبنا في مناقشة هذه القضية‪ ،‬وما كنا‬
‫لنفعل ذلك لول أن تمسك بها البعض واعتبرها أمرا ً‬
‫مسّلما ً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس‪ ،‬فاقتضى المر‬
‫التفصيل‪ ،‬وإل فإن القضية أهون من ذلك بكثير‪ ،‬إذ‬
‫كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور )البينة على‬
‫م ول قرينة‪.‬‬
‫من ادعى( ول بينة ث ّ‬
‫م قدُر القائل بهذه الدعوى فإنه لن‬‫ومهما عظ ُ َ‬
‫يغير من شأن الحقيقة شيئًا‪ ،‬لن أي دعوى إنما هي‬
‫تبعٌ للبراهين والدلة التي تثبتها فتكون حقيقة أو‬
‫تنفيها فتكون خطأ ً ووهما ً يجب الرجوع عنه‪ ،‬وك ّ‬
‫ل‬
‫يؤخذ منه ويرد ّ عليه إل المعصوم صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وإذ علمت هذا ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ َفدعْ‬
‫عنك من قال إذ الحق ل يعرف بالرجال‪ ،‬ولكن اعرف‬
‫الحق تعرف أهله‪ ،‬وعليك بما قيل إن كان حقًا‪ ،‬وإل ّ‬
‫فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل‪.‬‬
‫*****‬

‫‪73‬‬
‫دعوى رجوع بعض الئمة عن عقيدة‬
‫الشاعرة‪:‬‬
‫قريب من هذا الذي نسب إلى إمام أهل السنة‬
‫أبي الحسن الشعري رحمه الله تعالى‪ ،‬ما ينسب إلى‬
‫بعض الئمة كالمام الجويني والغزالي والرازي‬
‫رحمهم الله تعالى أنهم رجعوا عن معتقد الشاعرة‬
‫وتبرءوا منه!‬
‫ومن يروج لهذه الدعوى يريد أن يقول‪ :‬إن هذا‬
‫المعتقد الذي رجع عنه هؤلء العلماء لو كان حقا ّ ما‬
‫تركوه ول هجروه!!‬
‫فنقول‪:‬‬
‫إما أن يكون اعتقاد الشاعرة هذا الذي ينسب‬
‫قا في ذاتـه أو باط ً‬
‫ل‪.‬‬ ‫إلى هؤلء الئمة الرجوع عنه ح ّ‬
‫قا ً فماذا يضيره أو يضير من تمسك به‬‫فإن كان ح ّ‬
‫حتى لو تبرأ منه هؤلء الئمة على فرض صحة ذلك‬
‫عنهم؟! أم أنه صار حقّا ً حين قالوا به‪ ،‬فلما تركوه‬
‫انقلب الحق إلى باطل؟!‬
‫وإن كان ما رجعوا عنه باطل ً فواها ً ثم واها ً على‬
‫أمة السلم وقد تبّنت طيلة هذه القرون الماضية‬
‫باط ً‬
‫ل‪ ،‬ثم لم يكتشف بطلنه إل ثلثة أو أربعة منهم!!‬
‫كل ليس المر هكذا‪ ،‬فعلماء السلم ليسوا حفنة‬

‫‪74‬‬
‫من مقلدة العوام تغدو بهم كلمة وتروح بهم أخرى‬
‫دون تبصر ول برهان‪ ،‬لكنهم لما رأوا هذين المامين‬
‫الجليلين أبي الحسن الشعري وأبي منصور‬
‫الماتريدي رحمهما الله قد انتصبا دليلين على طريق‬
‫السلف الصالح ينافحان عن معتقداتهم ويذبان عن‬
‫الكتاب والسنة هرعوا لنصرتهم وانتهضوا لتأييدهم‬
‫ونشر طريقتهم في إثبات عقيدة السلف الصالح‪،‬‬
‫لهذا‪ ،‬ولهذا فقط ُنسبوا إلى هذين المامين‪ ،‬وليس ـ‬
‫كما يظـن البعض ـ لنهم يقلدونهما فيما ذهبا إليه‪،‬‬
‫فلو افترضنا صحة رجوع هؤلء الئمة عن معتقد‬
‫الشاعرة‪ ،‬بل لو افترضنا رجوع عشرات غيرهم عن‬
‫الشعرية ما كان هذا سيغير من الحقيقة التي أطبقت‬
‫عليها المة شيئًا‪ ،‬غاية ما يقال حينها أن هؤلء الئمة‬
‫قد أخطأوا في ذلك‪.‬‬
‫على أن هؤلء الئمة رحمهم الله تعالى لم يرجعوا‬
‫عن اعتقاد الشاعرة ول تبرءوا منه‪ ،‬كيف وهو‬
‫المتداد الطبيعي لما كان عليه السلف‪ ،‬وإنما رجعوا‬
‫عن طريق التأويل في ظواهر المتشابه الذي كانوا‬
‫ل إلى طريق التفويض الذي هو طريق‬ ‫يقولون به قب ُ‬
‫جمهور السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى عما‬
‫توهمه هذه الظواهر من سمات المخلوق‪ ،‬وكل‬
‫الطريقين التفويض والتأويل بشرطه ثابت عن سلف‬
‫المة ـ كما سيأتي بيانه وإثباته من قبل العلماء ـ وكل‬

‫‪75‬‬
‫المسلكين صحيح ل غبار عليه عند أهل الحق‪ ،‬أما‬
‫الذي يأباه العقل والنقل فهو نسبة حقائق هذه‬
‫الظواهر اللغوية لله تعالى‪ ،‬وحمل هذه الظواهر على‬
‫ما يعهده الخلق مـن عوالمهم‪ ،‬وهذا قطعا ً لم يقل به‬
‫أحد من هؤلء الئمة الذين ينسب إليهم الرجوع عن‬
‫معتقد الشاعرة‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪،‬‬
‫فنصوصهم وأقوالهم واضحة وصريحة في الرد ّ على‬
‫من يقول ذلك‪ ،‬بل ومن هذه الكتب التي ينسب إليهم‬
‫الرجوع فيها!‬
‫فهذا المام الجويني الذي ينسبون له الرجوع عن‬
‫معتقد الشاعرة في رسالته النظامية‪ ،‬يصرح في‬
‫نفس هذه الرسالة بإطباق أهل الحق على تنزيه الله‬
‫تعالى عن ظواهر نصوص المتشابه بقوله )النظامية ص‬
‫‪ ..) :(32‬وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها‬
‫وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان‬
‫منها‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك أن الرسالة النظامية صّنفها المام‬
‫ماها‬ ‫الجويني رحمه الله للوزير نظام الملك‪ ،‬ولهذا س ّ‬
‫بالنظامية نسبة إليه‪ ،‬ول يخفى أن الوزير نظام الملك‬
‫أشعري المعتقد‪ ،‬قال عنه الحافظ الذهبي بعد أن‬
‫أثنى عليه ثناًء عاطرا ً )السير ‪) :(19/96‬وكان شافعي ّا ً‬
‫أشعري ًّا( اهـ‪.‬‬
‫ُترى هل سيهدي المام للوزير نظام الملك كتابا ً‬

‫‪76‬‬
‫في نقض اعتقاده؟!‬
‫ثم نقول‪ :‬ليس في الرسالة النظامية ما يناقض‬
‫اعتقاد الشاعرة في شيء‪ ،‬والذي ذكره المام‬
‫الجويني من ترجيح التفويض على التأويل هو أحد‬
‫مسلكي الشاعرة مع نصوص المتشابه‪ ،‬وهو ثابت‬
‫أيضا ً عن أئمة من السلف الصالح كما نقله العلماء‬
‫عنهم كما سيأتي‪ ،‬قال المام ابن السبكي رحمه الله‬
‫تعالى )الطبقات ‪) :(5/191‬ثم أقول‪ :‬للشاعرة قولن‬
‫مشهوران في إثبات الصفـات‪ ،‬هل تمّر على ظاهرها‬
‫مع اعتقاد التنزيه‪ ،‬أو تؤّول؟ والقول بالمرار مع‬
‫اعتقاد التنزيه هو المعزوّ إلى السلف‪ ،‬وهو اختيار‬
‫المام ـ يعني الجويني ـ في الرسالة النظامية وفي‬
‫مواضع من كلمه‪ ،‬فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل‬
‫إلى التفويض‪ ،‬ول إنكار في ذلك ول في مقابله ـ يعني‬
‫التأويل ـ فإنها مسألة اجتهادية‪ ،‬أعني مسألة التأويل‬
‫والتفويض مع اعتقاد التنزيه‪ ،‬إنما المصيبة الكبرى‬
‫والداهية الدهياء المرار على الظاهر والعتقاد أنه‬
‫المراد وأنه ل يستحيل على الباري‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫ومن يطالع النظامية يعلم موافقتها لعتقاد أهل‬
‫السنة الشاعرة‪ ،‬فمن أمثلة ذلك تنزيه المام‬
‫الجويني لله تعالى عن الجهة والمكان والحيز‬
‫والحرف والصوت وظواهر المتشابه‪ ،‬وتشديده على‬
‫القائلين بحوادث ل أول لها في الماضي‪ ،‬إلى غير‬

‫‪77‬‬
‫ذلك من المسائل التي تدل دللة قاطعة على تمسك‬
‫المام باعتقاد السادة الشاعرة‪.‬‬
‫وكذلك المام الغزالي رحمه الله تعالى‪ ،‬فكتابه‬
‫)إلجام العوام( الذي ينسب إليه الرجوع فيه هو في‬
‫حقيقة المر تأصيل لمسلك السادة الشاعرة من‬
‫حيث تنزيه الله تعالى عن سمات الحوادث مثل‬
‫الجهة والمكان والحروف والصوات وظواهر‬
‫المتشابه‪ ،‬بل هو قائل بالتأويل في مواضع من الكتاب‬
‫وذلك في شرح الوظيفة الخامسة من الوظائف‬
‫السبع التي يجب على العوام مراعاتها عند سماع‬
‫شيء من نصوص المتشابه‪ ،‬وذلك من الصفحة )‪( 71‬‬
‫إلى الصفحة )‪ ،( 81‬وهو بحق كلم نفيس‪ ،‬وإّنا‬
‫لنحض القارئ على مطالعة كتاب )إلجام العوام(‬
‫ل نظيره في بابه‪ ،‬قد ذكر‬ ‫والرجوع إليه‪ ،‬فهو كتاب ق ّ‬
‫فيه حجة السلم رحمه الله تعالى من الفوائد ما ل‬
‫مزيد عليه‪.‬‬
‫ومن يطالع الكتاب يعلم أن المام الغزالي رحمه‬
‫الله تعالى لم يترك مذهب الشاعرة ول رجع عنه‪،‬‬
‫جح مسلك التفويض على مسلك التأويل‪ ،‬وهو‬ ‫وإنما ر ّ‬
‫ترجيح منه ليس على إطلقه‪ ،‬كما أنه ل يفهم منه‬
‫تضليل للقائلين بالتأويل‪ ،‬حاشاه‪ ،‬وهو الذي يعلم أن‬
‫كل المسلكين صحيح‪ ،‬وإن كان الرجح عنده والفضل‬
‫ـ عند عدم الحاجة ـ هو مسلك التفويض الذي هو‬

‫‪78‬‬
‫مسلك جمهور السلف‪ ،‬بل هو الرجح والفضل عند‬
‫جميع الشاعرة‪ ،‬وهو ما نراه ونقول به‪ ،‬فالوقوف‬
‫ما‬
‫حيث وقف السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى ع ّ‬
‫توهمه هذه الظواهر هو الولى بالتباع‪ ،‬وهذا كما‬
‫ذكرنا عند عدم الحاجة‪ ،‬أما إذا خاض الناس في‬
‫المتشابهات فل بد حينئذ من البيان‪ ،‬ومن أساليب‬
‫البيان التأويل‪ ،‬والمام الغزالي رحمه الله لم يأت في‬
‫كتاب اللجام بشيء مخالف لما في كتبه الخرى‪.‬‬
‫على أنه يلزم من ينسب إلى هؤلء الئمة ترك ما‬
‫كانوا عليه والرجوع إلى منهج السلف أن يقّر بأن‬
‫مذهب السلف هو تنزيه الله تعالى عن ظواهر هذه‬
‫صوا على ذلك في هذه الكتب التي‬ ‫النصوص لنهم ن ّ‬
‫ينسب إليهم الرجوع إلى منهج السلف فيها‪ ،‬ونحن ل‬
‫ننكر رجوع هؤلء الئمة إلى مذهب جمهور السلف‬
‫الذي هو التفويض مع التنزيه عن ظواهر هذه‬
‫النصوص إذا صح النقل عنهم‪ ،‬كل‪ ،‬وإنما الذي ننكره‬
‫وترفضه نصوص هؤلء الئمة وغيرهم هو الزعم بأن‬
‫هذا المسلك ينافي ما عليه معتقد الشاعرة‪ ،‬وهذا‬
‫أمر تبطله كتب هؤلء الئمة وجميع السادة الشاعرة‬
‫والمنقول عنهم وهم أعلم هذه المة في كل فن من‬
‫فنون الشريعة‪.‬‬
‫ما‬
‫وكذلك ما ينقل عن المام الرازي ل يخرج ع ّ‬
‫ذكرنا سابقًا‪ ،‬بل إن المام لخر لحظة في حياته‬

‫‪79‬‬
‫ل‪ ،‬فجاء في وصيته التي‬ ‫يوصي بكتبه التي صنفها قب ُ‬
‫أملها على أحد تلميذه وهو على فراش الموت كما‬
‫في )طبقات الطباء ص ‪ ..) :(469‬وأما الكتب العلمية‬
‫التي صّنفتها أواستكثرت من إيراد السؤالت على‬
‫المتقدمين فيها‪ ،‬فمن نظر في شيء منها فإن طابت‬
‫له تلك السؤالت فليذكرني في صالح دعائه على‬
‫سبيل التفضل والنعام‪ ،‬وإل فليحذف القول السيئ‬
‫فإني ما أردت إل تكثير البحث وتشحيذ الخاطر‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫)مجموع فتاوى ابن تيمية‬ ‫وما ينقل عنه مثل قوله‬
‫‪) :(4/72‬لقد تأملت الطرق الكلمية والمناهج‬
‫الفلسفية فما رأيتها تشفي عليل ً ول تروي غلي ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن‪ ،‬اقرأ في الثبات‬
‫) الرحمن على العرش استوى ( ) إليه يصعد‬
‫الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( ‪ .‬واقرأ‬
‫في النفي ) ليس كمثله شئ ( ‪ ) ،‬ول يحيطون‬
‫به علما ( ‪ ) ،‬هل تعلم له سميا (‪ ..‬ومن جرب‬
‫ح‬‫مثل تجربتي عرف مثل معرفتي‪ (..‬اهـ فهذا إذا ص ّ‬
‫عنه فل يفيد تركه لمعتقد الشاعرة ل تصريحا ً ول‬
‫تلميحًا‪ ،‬غاية ما هنالك أنه رحمه الله تعالى يرى أن‬
‫ل وعّز طريق‬ ‫أقرب الطرق في إثبات صفة الرب ج ّ‬
‫القرآن‪ ،‬وهذا حق ل ريب فيه ل يخالفه إل زائغ‪.‬‬
‫والدعاء بأنه رجع عن معتقد الشاعرة تقويل للمام‬
‫ما لم يقله وتحميل للكلم ما ل يحتمل هذا إذا سلمنا‬

‫‪80‬‬
‫صحة هذه القوال عن المام‪.‬‬
‫ل من‬ ‫بهذا يتضح أن أقدار أئمة السلم أكبُر وأج ّ‬
‫أن تنقاد في مسائل أصول الدين إلى أحد ـ غير‬
‫رسول الله عليه الصلة والسلم ـ تقليدا ً بل تبصر‬
‫أواهتداء‪ ،‬حتى وإن كان إمام أهل السنة والجماعة أبا‬
‫الحسن الشعري‪ ،‬فإن اتباع المة له رحمه الله‬
‫اهتداًء ل تقليدًا‪ ،‬لذا فإن أي محاولة للتشكيك في‬
‫معتقد الشاعرة بادعاء رجوع المام أبي الحسن أو‬
‫رجوع أحد من الئمة لن تجدي نفعا ً ولن تغير من‬
‫الحق الذي أطبقت عليه المة بعلمائها ودهمائها شيئًا‪،‬‬
‫فإن غاية ما يقال في أي دعوى من هذا القبيل إذا‬
‫صحت عن أحد من العلماء هو أنه أخطأ فيما ذهب‬
‫إليه‪ ،‬ول يقلد في ذلك‪ ،‬وك ّ‬
‫ل يؤخذ منه وُيرد ّ عليه إل‬
‫المعصوم صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫*****‬

‫‪81‬‬
‫أهل السنة والجماعة‬

‫أهل السنة والجماعة مصطلح ظهــر للدللــة علــى‬


‫مــن كــان علــى منهــج الســلف الصــالح مــن التمســك‬
‫بالقرآن والســنن والثــار المرويــة عــن رســول اللــه ‘‬
‫وعن أصحابه رضوان الله تعــالى عليهــم‪ ،‬ليتميــز عــن‬
‫مذاهب المبتدعة وأهل الهواء‪.‬‬
‫وإذا أطلــق هــذا المصــطلح فــي كتــب العلمــاء‬
‫فالمقصـــود بـــه الشـــاعرة والماتريديـــة وأصـــحاب‬
‫الحديث؛ لنهم هم الذين علــى مــا كــان عليــه رســول‬
‫الله ‘‪ ،‬لم يبدلوا ولم يغيروا كما فعل غيرهم من أهــل‬
‫الزيغ والبتداع‪.‬‬
‫ولقد وصف رســول اللــه ‘ الفرقــة النـــاجية بــأنهم‬
‫السواد العظم من المة‪ ،‬وهذا الوصف منطبق علــى‬
‫الشاعرة والماتريدية وأصحاب الحديث‪ ،‬إذ هم غــالب‬
‫أمة السلم‪ ،‬والمنفــي عنهــم الجتمــاع علــى الضــللة‬
‫بنص الحــديث المشــهور )ل تجتمع أمتسسسي علسسسى‬
‫الضللة( )‪.(1‬‬

‫دد طــرق الحــديث‬ ‫‪ ()1‬قــال الحــافظ الســخاوي بعــد أن عــ ّ‬


‫وأسانيده‪) :‬وبالجملة فهو حــديث مشــهور المتــن‪ ،‬ذو أســانيد كــثير‬

‫‪82‬‬
‫قال المام تاج الــدين الســبكي رحمـه اللــه تعـالى‬
‫)إتحاف السادة المتقين ‪:(2/6‬‬
‫)اعلم أن أهل الســنة والجماعــة كلهــم قــد اتفقــوا‬
‫على معتقد واحــد فيمــا يجــب ويجــوز ويســتحيل‪ ،‬وإن‬
‫اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصــلة لــذلك‪ ،‬أو فــي‬
‫ِلمّيــة)‪ (1‬مــا هنالــك‪ ،‬وبالجملــة فهــم بالســتقراء ثلث‬
‫طوائف‪:‬‬
‫الولسسى‪ :‬أهــل الحــديث ومعتمــد مبــاديهم الدلــة‬
‫السمعية‪ ،‬أعني الكتاب والسنة والجماع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أهـل النظـر العقلــي والصــناعة الفكريـة‪،‬‬
‫وهم الشعرية والحنفية‪ ،‬وشيخ الشعرية أبــو الحســن‬
‫الشعري‪ ،‬وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي‪...‬‬
‫الثالثة‪ :‬أهل الوجدان والكشــف‪ ،‬وهــم الصــوفية‪،‬‬
‫ومبـاديهم مبـادئ أهـل النظـر والحـديث فـي البدايـة‪،‬‬
‫والكشف واللهام في النهاية( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام عضد الدين اليجي ‪ -‬رحمه الله تعالى‬
‫‪ -‬في بيان الفرقة الناجية‪ ،‬بعد أن عدد فرق الهــالكين‬
‫)المواقف ص ‪:(430‬‬
‫)وأما الفرقة الناجية المستثناة الذين قال النبي ـ ‘‬

‫وشواهد متعددة فــي المرفــوع وغيــره( المقاصــد الحســنة حــديث‬


‫رقم ‪.1288‬‬
‫م(‪ ،‬والمعنــى‪ :‬أي وإن‬
‫‪ ()1‬أصــل هــذه الكلمــة مــن قــولهم )ل ِـ َ‬
‫اختلفوا في سبب ذلك وعلته‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ـ فيهم "هم الذين على ما أنــا عليــه وأصــحابي" فهــم‬
‫الشــاعرة والســلف مــن المحــدثين وأهــل الســنة‬
‫ل من بدع هؤلء( اهـ‪.‬‬ ‫والجماعة‪ ،‬ومذهبهم خا ٍ‬
‫)شرح‬ ‫وقال المام الجلل الدواني رحمه الله تعالى‬
‫العقائد العضدية ‪:(34 /1‬‬
‫)الفرقة الناجية‪ ،‬وهم الشــاعرة أي التــابعون فــي‬
‫الصـول للشيخ أبي الحسـن‪ ...‬فـإن قلت‪ :‬كيف حكم‬
‫بأن الفرقة الناجية هم الشـاعرة؟ وكـل فرقـة تزعـم‬
‫أنها ناجية؟ قلت سياق الحـديث مشعر بــأنهم – يعنــي‬
‫الفرقــة الناجيــة – المعتقــدون بمــا روي عــن النبـــي ‘‬
‫وأصحابه‪ ،‬وذلك إنمــا ينطبــق علــى الشــاعرة‪ ،‬فــإنهم‬
‫متمسكون في عقائدهم بالحاديث الصحيحة المنقولة‬
‫عنه ‘ وعن أصــحابه‪ ،‬ول يتجــاوزون عــن ظواهرهــا إل‬
‫لضرورة‪ ،‬ول يسترسلون مع عقولهم كالمعتزلة( اهـ‪.‬‬
‫والقتصار على الشاعرة في نصــوص الئمــة إنمــا‬
‫ذلك لكونهم أغلب أهل الســنة‪ ،‬فل يفهــم منــه إخــراج‬
‫غيرهم من طوائف أهـل السـنة مـن الفرقـة الناجيـة‪،‬‬
‫فمن لم يكن منهم متبعا ً للمام الشعري فهو موافــق‬
‫له‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫وقال العسسارف بسسالله المسسام ابسسن عجيبسسة‬
‫)‪ (1‬أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الفاسي‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫العلمة المحقق الفهامة البارع المدقق الصوفي الجامع بين‬


‫الشريعة والحقيقة‪ ،‬وفاته رحمه الله تعالى سنة ‪1224‬هـ‪) .‬شجرة‬
‫النور الزكية ص ‪ ،400‬وانظر ترجمته في فهرس الفهارس‬

‫‪84‬‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫)تفسير الفاتحة الكبير‪ ،‬المسـمى بــ " البحـر‬
‫المديد " ص ‪) :(607‬أما أهل السنة فهم الشــاعرة ومــن‬
‫تبعهم في اعتقادهم الصحيح‪ ،‬كما هو مقرر فــي كتــب‬
‫أهل السنة(’اهـ‪.‬‬
‫قال المام تاج الــدين الســبكي رحمـه اللــه تعـالى‬
‫)طبقات الشافعية ‪:(365 / 3‬‬
‫)قال الشيخ المام ‪ -‬يعني والده التقــي الســبكي ‪-‬‬
‫فيما يحكيــه لنــا‪ :‬ولقــد وقفــت لبعــض المعتزلــة علــى‬
‫كتاب سماه طبقات المعتزلة‪ ،‬وافتتح بــذكر عبــد اللــه‬
‫بن مسعود رضي الله عنه‪ ،‬ظنـا ً منــه أنــه ‪ -‬بـرأه اللــه‬
‫منهم ‪ -‬على عقيدتهم‪ .‬قال‪ :‬وهذا نهاية فــي التعصــب‪،‬‬
‫فإنما ينسب إلى المرء من مشى على منــواله‪ .‬قلــت‬
‫أنا للشيخ المام‪ :‬ولو تم هذا لهم لكــان للشــاعرة أن‬
‫يعدوا أبا بكر وعمـر رضـي اللـه عنهمـا فـي جملتهـم‪،‬‬
‫لنهم عن عقيدتهما وعقيدة غيرهما من الصحابة فيما‬
‫يــدعون يناضــلون‪ ،‬وإياهــا ينصــرون‪ ،‬وعلــى حماهــا‬
‫يحومون‪ .‬فتبسم‪ ،‬وقال‪ :‬أتباع المرء مــن دان بمــذهبه‬
‫وقال بقوله على ســبيل المتابعــة والقتفــاء الــذي هــو‬
‫أخص من الموافقــة‪ ،‬فــبين المتابعــة والموافقــة بــون‬
‫عظيم( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام عبدالقاهر البغدادي رحمه اللــه‬
‫)الفرق بين الفرق ص ‪:(19‬‬

‫‪.(2/854‬‬

‫‪85‬‬
‫)‪ ..‬فأما الفرقة الثالثة والسبعون فهي أهل السنة‬
‫والجماعــة مــن فريقــي الــرأي والحــديث دون مــن‬
‫يشتري لهو الحديث‪ ،‬وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم‬
‫ومحــدثوهم ومتكلمــو أهــل الحــديث منهــم‪ ،‬كلهــم‬
‫متفقــون علــى مقالــة واحــدة‪ ...‬وليــس بينهــم فيمــا‬
‫اختلفــوا فيــه منهــا تضــليل ول تفســيق وهــم الفرقــة‬
‫الناجية‪ ...‬فمن قــال بهــذه الجهــة الــتي ذكرناهــا ولــم‬
‫يخلط إيمانه بشيء من بدع‪ ....‬سائر أهل الهواء فهو‬
‫من جملة الفرقة الناجية ‪ -‬إن ختم الله له بها ‪ -‬ودخل‬
‫في هذه الجملة جمهور المــة وســوادها العظــم مــن‬
‫أصــحاب مالــك والشــافعي وأبــي حنيفــة والوزاعــي‬
‫والثوري وأهل الظاهر‪ (....‬اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )أصــول الــدين ص ‪ (309‬بعد أن عـد ّد َ أئمــة‬
‫أهل السنة والجماعــة فــي علــم الكلم مــن الصــحابة‬
‫والتابعين وتابعيهم إلى أن قال‪:‬‬
‫)‪ ..‬ثم بعدهم شيخ النظر وإمام الفاق في الجــدل‬
‫والتحقيق أبـو الحسـن علـي بـن إسـماعيل الشـعري‬
‫الــذي صـار شــجا ً فــي حلـوق القدريــة‪ .....‬وقــد ملت‬
‫الدنيا كتبه‪ ،‬وما رزق أحد من المتكلمين من التبــع مــا‬
‫قد رزق‪ ،‬لن جميع أهل الحديث وكسسل مسسن لسسم‬
‫يتمعزل من أهل الرأي على مذهبه( اهس‪.‬‬
‫وقسسال المسسام الزاهسسد القسسدوة أبسسو عمسسرو‬

‫‪86‬‬
‫)الرسالة الوافية في معتقد أهل‬ ‫الداني)‪ (1‬رحمه الله تعالى‬
‫الســنة والجماعــة ص ‪) :(117‬اعلموا أيــدكم اللــه بتــوفيقه‬
‫وأمــدكم بعــونه وتســديده‪ ،‬أن قــول أهـــل السنـــة‬
‫والجماعة من المسلمين المتقدمين والمتــأخرين مــن‬
‫أصحاب الحديث والفقهاء والمتكلمين‪(..‬‬
‫ثم شرع ببيان اعتقاد أهل السنة‪ ،‬وقوله )الفقهـــاء‬
‫والمتكلميـــن( يعنـــي بهـــم الشـــاعرة والماتريديـــة‪،‬‬
‫ورسالته زاخــرة بأدلــة التقــديس رحمــه اللــه‪ ،‬وتــأثره‬
‫بشيخه وأستاذه شيخ أهــل الســنة القاضــي أبــي بكــر‬
‫الباقلني رحمه الله تعالى وبطريقة المــام الشــعري‬
‫واضح ل يخفــى علــى مــن طــالع كتبــه‪ ،‬بــل إن بعــض‬
‫اللفاظ والعبــارات هــي هــي الــتي اســتخدمها المــام‬
‫الشعري في بعض كتبه‪.‬‬
‫وقال حجة المتكلمين المام أبسسو المظفسسر‬

‫‪ ()1‬المام أبو عمرو الداني أعــرف مــن أن يعـّرف‪ ،‬هــو الــذي‬


‫ود‬
‫يقـول فيــه المـــام الــذهبي رحمــه اللــه‪ :‬المــام الحــافظ المجـ ّ‬
‫المقــرئ الحــاذق عــالم النــدلس‪ .‬وقــال أيض ـًا‪ :‬إلــى أبــي عمــرو‬
‫المنتهى في تحرير علم القراءات وعلــم المصــاحف‪ ،‬مــع البراعــة‬
‫في علم الحديث والتفسير والنحو وغير ذلك‪ .‬ويعرف قــديما ً بــابن‬
‫الصيرفي‪ ،‬قال عنه ابن بشكوال‪ :‬كان أحد الئمة في علم القــرآن‬
‫رواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه‪ ..‬ولــه معرفــة بالحــديث‬
‫وطرقــه وأســماء رجــاله ونقلتــه‪ ..‬جي ّــد الضــبط مــن أهــل الــذكاء‬
‫والحفظ والتفنن في العلم دّينا ً فاضل ً ورعا ً سن ّي ّا ً اهـ‪ ،‬تـوفي رحمـه‬
‫الله تعالى سنة أربع وأربعين وأربع مئة ودفن بمقبرة دانيــة‪ .‬ســير‬
‫أعلم النبلء ‪ ،18/77‬الصلة ‪ ،2/405‬الديباج المذهب ‪.2/84‬‬

‫‪87‬‬
‫تعالى‪) -‬التبصـــير فــي الــدين‬
‫السفراييني ‪ -‬رحمه الله‬
‫ص ‪ (111‬بعد أن شرح عقيدة أهــل الســنة‪) :‬وأن تعلــم‬
‫ن كل من تدين بهذا الدين الذي وصفناه مــن اعتقــاد‬ ‫أ ّ‬
‫الفرقــة الناجيــة فهــو علــى الحــق وعلــى الصــراط‬
‫دعه فهو مبتدع ومن ضلله فهو ضال‬ ‫المستقيم فمن ب ّ‬
‫ومن كفره فهو كافر( اهـ‪.‬‬
‫فسانظر يسسا رعساك اللسه كيسسف هسسي خطسسورة‬
‫المسسر‪ ،‬لتعلسسم اسسستهتار السسذين يقعسسون فسسي‬
‫أعسسسراض الشسسساعرة ويثلبسسسونهم ويضسسسللون‬
‫عقائدهم‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله‪.‬‬
‫وقال المام أبسسو إسسسحاق الشسسيرازي رحمــه‬
‫الله تعالى )طبقات الشــافعية ‪) :(376 /3‬وأبو الحسن‬
‫الشعري إمسسام أهسسل السسسنة‪ ،‬وعامسسة أصسسحاب‬
‫الشافعي على مسذهبه‪ ،‬ومسذهبه مسذهب أهسل‬
‫الحق( اهس‪.‬‬
‫وناهيك بأبي إسحاق الشيرازي علما ً وفقها ً وديانــة‬
‫وورعا ً وتقدما ً في الدين‪.‬‬
‫وسئل المام ابن حجر الهيتمي – رحمه الله تعالى‬
‫– عن المام أبي الحســن الشــعري والبــاقلني وابــن‬
‫فورك وإمــام الحرميــن والبــاجي وغيرهــم ممــن أخــذ‬
‫بمذهب الشعري‪ ،‬فأجاب‪:‬‬
‫)هم أئمة الدين وفحول علماء المســلمين‪ ،‬فيجــب‬
‫القتـــداء بهـــم لقيـــامهم بنصـــرة الشـــريعة وإيضـــاح‬

‫‪88‬‬
‫المشكلت ورد ّ شبه أهــل الزيــغ وبيــان مــا يجــب مــن‬
‫العتقادات والديانات‪ ،‬لعلمهم بالله وما يجب لــه ومــا‬
‫يســتحيل عليــه ومــا يجــوز فــي حقــه‪ ........‬والــواجب‬
‫العتراف بفضل أولئك الئمة المذكورين في الســؤال‬
‫وسابقتهم وأنهم من جملة المرادين بقــوله ‘ " يحمــل‬
‫هذا العلم من كـل خلـف عـدوله ينفـون عنـه تحريـف‬
‫الغــالين وانتحــال المبطليــن وتأويــل الجــاهلين " فل‬
‫يعتقد ضللتهم إل أحمق جاهل أو مبتدع زائغ‬
‫عسسن الحسسق‪ ،‬ول يسسسبهم إل فاسسسق‪ ،‬فينبغسسي‬
‫تبصسسير الجاهسسل وتسسأديب الفاسسسق واسسستتابة‬
‫المبتدع( اهـ‪) .‬الفتاوى الحديثية ص ‪.(205‬‬
‫وقال العلمسسة السسسفاريني الحنبلسسي رحمــه‬
‫اللــه تعــالى )لوامــع النــوار البهيــة ‪ :(73 / 1‬أهــل الســنة‬
‫والجماعة ثلث فرق‪:‬‬
‫الثرية‪ ،‬وإمامهم أحمد بــن حنبــل رضــي اللــه‬ ‫•‬
‫عنه‪.‬‬
‫والشــعرية‪ ،‬وإمــامهم أبــو الحســن الشــعري‬ ‫•‬
‫رحمه الله‪.‬‬
‫والماتريدية‪ ،‬وإمامهم أبــو منصــور الماتريــدي‬ ‫•‬
‫رحمه الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام المرتضى الزبيدي ‪ -‬رحمه الله تعــالى‬
‫‪) -‬إتحاف السادة المتقيــن ‪) :(6 / 2‬إذا أطلق أهل الســنة‬
‫والجماعة فالمراد بهم الشاعرة والماتريدية( اهـ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫وقال أيضا ً في موضع آخر )‪:(86 / 2‬‬
‫)والمراد بأهل السنة هم الفرق الربعة‪ ،‬المحدثون‬
‫والصوفية)‪ (1‬والشاعرة والماتريدية( اهـ‪.‬‬
‫ومما يستشهد به في هذا الباب رسالة أبي جعفــر‬
‫‪’-‬رحمه الله ‪ -‬في العقيدة‪ ،‬المســماة‬ ‫الطحاوي‬
‫بالعقيدة الطحاوية‪ ،‬التي أجمــل فيهــا اعتقــاد الســلف‬
‫رضوان اللــه عليهــم‪ ،‬وهــي ممــا أطبقــت المــة عليــه‬
‫وتلقتــه بــالقبول‪ ،‬ومــا تضــمنته هــذه العقيــدة هــو مــا‬
‫يعتقده الشــاعرة‪ ،‬ســوى مســائل يســيرة ل تســتلزم‬
‫تضليل ً ول تفسيقًا‪.‬‬
‫وقال المــام العلمـة أحمــد الـدردير ‪ -‬رحمـه اللـه‬
‫تعــالى ‪ -‬فــي شــرحه علــى منظــومته فــي العقــائد‬
‫المسماة بـ " خريدة التوحيد " )ص ‪:(194‬‬

‫)واتبع سبيل الناسكين العلمــاء( ثــم شــرح عبــارته‬


‫فقال )جمع عالم وهو العارف بالحكام الشرعية التي‬
‫عليهــا مــدار صــحة الــدين اعتقاديــة كــانت أو عمليــة‬
‫والمــراد بهــم الســلف الصــالح ومــن تبعهــم بإحســان‬
‫وســبيلهم منحصــر فــي اعتقــاد وعلــم وعمــل علــى‬

‫‪ ()1‬المراد بالصوفية من كـان علــى نهــج الحــق أمثــال الجنيــد‬


‫ومعروف الكرخي وبشر الحافي وإبراهيم ابن أدهــم وغيرهــم مــن‬
‫داّلين على الله ومن جاء بعدهم وسلك مســلكهم باتبــاع الكتــاب‬ ‫ال ّ‬
‫والسنة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫طبق)‪ (2‬العلم‪ ،‬وافترق من جاء بعدهم من أئمــة المــة‬
‫الذين يجــب اتبــاعهم علــى ثلث فــرق‪ ،‬فرقــة نصــبت‬
‫نفسـها لبيـان الحكام الشــرعية العمليــة وهــم الئمــة‬
‫الربعة وغيرهم من المجتهدين‪ ،‬ولكن لم يســتقر مــن‬
‫المــذاهب المرضــية ســوى مــذاهب الئمــة الربعــة‪،‬‬
‫وفرقة نصبت نفسها للشتغال ببيان العقائد التي كان‬
‫عليها السلف وهم الشعري والماتريدي ومن تبعهمــا‪،‬‬
‫وفرقة نصبت نفسها للشتغال بالعمــل والمجـــاهدات‬
‫على طبق ما ذهــب إليــه الفرقتــان المتقــدمتان وهــم‬
‫المام أبو القاسـم الجنيــد ومـن تبعـه‪ ،‬فهــؤلء الفــرق‬
‫الثلثة هم خواص المــة المحمديــة ومــن عــداهم مــن‬
‫جميع الفرق على ضلل وإن كان البعض منهــم يحكــم‬
‫له بالسلم فالناجي من كان في عقيــدته علــى طبــق‬
‫ما بينه أهل السنة( اهـ‪.‬‬
‫وقال المـام العلمـة عبـد اللـه بـن علـوي الحـداد‬
‫رحمه الله تعالى )نيــل المــرام شــرح عقيــدة الســلم للمــام‬
‫الحداد الصفحة ‪:(8‬‬
‫)اعلم أن مذهب الشاعرة في العتقاد هو ما كان‬
‫عليــه جمــاهير أمــة الســلم علماؤهــا ودهماؤهــا‪ ،‬إذ‬
‫المنتسبون إليهم والسالكون طريقهم كانوا أئمة أهــل‬
‫العلوم قاطبة على مّر اليام والسنين‪ ،‬وهم أئمة علم‬
‫التوحيد والكلم والتفســير والقــراءة والفقــه وأصــوله‬

‫‪ ()2‬أي‪ :‬وعمل مطابق للعلم‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫والحديث وفنونه والتصوف واللغة والتاريخ( اهـ‪.‬‬

‫)رسالة المعاونــة والمظــاهرة‬ ‫وقال أيضا ً رضي الله عنه‬


‫والمؤازرة ص‪ 67/‬ـ ‪:(68‬‬
‫)وعليك بتحسين معتقدك وإصلحه وتقــويمه علــى‬
‫منهاج الفرقة الناجية‪ ،‬وهي المعروفة مــن بيــن ســائر‬
‫الفـــرق الســـلمية بأهـــل الســـنة والجماعـــة‪ ،‬وهـــم‬
‫المتمسكون بما كان عليه رسول الله صلى الله عليـه‬
‫وسلم وأصحابه‪ ،‬وأنت إذا نظرت بفهــم مســتقيم عــن‬
‫قلب سليـم فـي نصــوص الكتــاب والســنة المتضــمنة‬
‫لعلــوم اليمــان‪ ،‬وطــالعت ســير الســلف الصــالح مــن‬
‫ت أن الحــق مــع‬ ‫ت وتحققــ َ‬
‫الصــحابة والتــابعين علمــ َ‬
‫الفرقة الموسومة بالشعرية‪ ،‬نســبة إلــى الشــيخ أبـي‬
‫الحسن الشعري رحمه الله‪ ،‬فقد رتب قواعد عقيــدة‬
‫أهل الحق وحّرَر أدلتها‪ ،‬وهي العقيدة التي أجمع عليها‬
‫الصحابة ومن بعدهم من خيار التــابعين‪ ،‬وهــي عقيــدة‬
‫أهل الحق من أهل كــل زمــان ومكــان‪ ،‬وهــي عقيــدة‬
‫جملــة أهــل التصــوف كمــا حكــى ذلــك أبــو القاســم‬
‫القشيري في أول رسالته‪ ،‬وهي بحمد اللــه عقيــدتنا‪..‬‬
‫وعقيدة أسلفنا من لدن رسول الله صلى اللــه عليــه‬
‫وسلم إلــى يومنــا هــذا‪ ..‬والماتريديــة كالشــعرية فــي‬
‫جميع ما تقدم( اهـ‪.‬‬
‫وقال العـلمة ابن الشــطي الحنبلــي ‪ -‬رحمــه اللــه‬

‫‪92‬‬
‫)تبصــير‬ ‫تعالى ‪ -‬في شرحـه على العقيـــدة الســفارينية‬
‫القانع في الجمع بين شرحي ابن شطي وابن مــانع علــى العقيــدة‬
‫السفارينية‪ ،‬الصفحة ‪:(73 /‬‬
‫)قال بعض العلمــاء هــم ‪ -‬يعنــي الفرقــة الناجيــة ‪-‬‬
‫أهل الحديث يعني الثرية والشعرية والماتريديــة( ثــم‬
‫قال بعد ذلك بأسطر‪:‬‬
‫)فائدة‪ :‬أهل السنة والجماعــة ثلث فــرق‪ ،‬الثريــة‬
‫وإمامهم المام أحمد رضي الله عنه‪.‬‬
‫والشعرية وإمامهم أبــو الحســن الشــعري رحمــه‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريــدي رحمــه‬
‫الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫وقال علمــة الكــويت الشــيخ عبــد اللــه بــن خلــف‬
‫الــدحيان ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬تعليقــا علــى تقســيم‬
‫السفاريني لهل السنة إلى ثلث فرق‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫)فإذا قلت‪ :‬لفظ الحديـث يقتضـي عـدم التعْد َِيـة‬
‫حيــث قـــال فيــه ‘ " ستفترق أمسستي علسسى بضسسع‬
‫وسسسبعين فرقسسة كلهسسم فسسي النسسار إل فرقسسة‬
‫واحسسدة وهسسي مسسا كسسان علسسى مسسا أنسسا عليسسه‬
‫وأصحابي " فــالجواب‪ :‬أن الثلث فــرق هــي فرقــة‬

‫‪ ()1‬أي أن لفظ الحديث يقتضي قصر النجاة على فرقة واحدة‬


‫وعدم تعديته إلى ثلث فرق‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫واحدة لنهــم كلهــم أهــل الحــديث‪ ،‬فإن الشسساعرة‬
‫والماتريدية لم يردوا الحسساديث ول أهملوهسسا‪،‬‬
‫ولوها‪ ،‬وكل منهسم أهسسسل‬ ‫ما أ ّ‬
‫ما فوضوها وإ ّ‬
‫فإ ّ‬
‫حسسسسديث‪ ،‬وحينئذ فسسسسالثلث فرقسسسسة واحسسسسدة‪،‬‬
‫لقتفسسائهم الخبسسار وانتحسسالهم الثسسار‪ ،‬بخلف‬
‫كمسسوا العقسسول وخسسالفوا‬ ‫باقي الفرق فإنهم ح ّ‬
‫المنقول فهسسم أهسسل بدعسسة وضسسللة ومخالفسسة‬
‫وجهالة والله تعالى أعلم( اهس‪) .‬تبصــير القــائع ص ‪/‬‬
‫‪.(73‬‬
‫وقال الشيخ العلمة الحنبلي محمــد بــن علــي بــن‬
‫سلوم رحمــه اللــه تعــالى فــي شــرحه علــى العقيــدة‬
‫السفارينية مثل ذلك‪) .‬شرح الدرة المضية‪ ،‬الصفحة ‪.(58 /‬‬

‫وقال العلمة المواهبي الحنبلي رحمه اللــه تعــالى‬


‫)العين والثر ص‪:(53/‬‬
‫)طــوائف أهــل الســنة ثلثــة‪ :‬أشــاعرة‪ ،‬وحنابلــة‪،‬‬
‫وماتريديــة‪ ،‬بــدليل عطــف العلمــاء الحنابلــة علــى‬
‫الشاعرة في كثير من الكتــب الكلميــة وجميــع كتــب‬
‫الحنابلة( اهـ‪.‬‬
‫وقال المحدث محمد بن درويش الحوت الــبيروتي‬
‫‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) -‬رســائل فــي بيــان عقــائد أهــل الســنة‬
‫والجماعة‪ ،‬الصفحة ‪:(77 /‬‬
‫)فائدة‪ :‬المالكية والشافعية أشــعرية وإمــامهم أبــو‬
‫الحســن الشــعري مــن ذريــة أبــي موســى الشــعري‬

‫‪94‬‬
‫رضــي اللــه عنــه‪ ،‬والحنفيــة ماتريديــة وإمــامهم أبــو‬
‫منصور الماتريدي‪ ،‬وهما إماما أهل الســنة والجماعــة‪،‬‬
‫والحنابلة أثرية( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام العلمة كمال الدين البياضــي ‪ -‬رحمــه‬
‫الله تعالى ‪) -‬إشــارات المــرام مــن عبــارات المــام‪ ،‬الصــفحة‬
‫‪:(52‬‬
‫)إن الفرقـــة الناجيـــة هـــم الجماعـــة الكـــثيرة‬
‫المتمسكون بمحكمات الكتــاب والســنة فــي العقــائد‪،‬‬
‫فإنه المنطبق لما عليه الرسول ‘ ولما عليه الصــحابة‬
‫ل يتجاوزون عن ظاهرها إل لضرورة مخالفــة قطعــي‬
‫من الدليل النقلي والعقلي‪ ،‬فإن حجج الله تتعاضد ول‬
‫تتضاد( اهـ‪.‬‬
‫ومــن نظــر بعيــن المعقــول وتجــرد للوصــول إلــى‬
‫الحق علم يقينا ً أنه ليــس أحــد مــن الطــوائف ينطبــق‬
‫عليــه هــذا الوصــف إل الشــاعرة والماتريديــة وأهــل‬
‫الحديث‪ ،‬فهم الــذي ملئوا الزمــان والمكــان‪ ،‬وطبقــوا‬
‫الرض شهرة وانتشارًا‪.‬‬
‫قال المام عبد القاهر البغدادي ‪ -‬رحمه الله تعالى‬
‫‪) -‬الفرق بين الفرق‪:(247 ،‬‬
‫مــا ذكــر افــتراق أمتــه بعــده ثلثــا ً‬
‫)إن النــبي ‘ ل ّ‬
‫وســبعين فرقــة وأخــبر أن فرقــة واحــدة منهــا ناجيــة‪،‬‬
‫سئل عـن الفرقـة الناجيـة وعـن صـفتها‪ ،‬فأشـار إلـى‬
‫الذين هم على ما عليه هو وأصحابه‪ ،‬ولسنا نجد اليوم‬

‫‪95‬‬
‫من فرق المة من هم علــى موافقــة الصــحابة رضــي‬
‫الله عنهم غيَر أهل السنة والجماعة من فقهــاء المــة‬
‫ومتكلمي الصفاتية(ثــم أخــذ رحمــه اللــه يــبين وجـــوه‬
‫فـَرق وضـروب انحرافـاتهم عـن‬ ‫عـدم نجــاة بــاقي ال ِ‬
‫منهج الرسول ‘ وأصحابه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫)وبان من هذا أن المقتــدين بالصــحابة مــن يعمــل‬
‫ح بالرواية الصحيحة في أحكامهم وســيرهم‪،‬‬ ‫بما قد ص ّ‬
‫وذلك سّنة أهل السنة دون ذوي البدعة‪ ،‬وصح بصــحة‬
‫ما ذكرناه تحقيق نجاتهم لحكم النبي ‘ بنجاة المقتدين‬
‫بأصحابه‪ ،‬والحمد لله على ذلك( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام ابن حجر الهيتمي ‪ -‬رحمه اللــه تعــالى‬
‫‪) -‬الزواجر عن اقتراف الكبائر ‪:(82‬‬
‫)المـــراد بالســنة مــا عليــه إمامــا أهــل الســنة‬
‫والجمـاعة الشيخ أبو الحسـن الشــعري وأبـو منصـور‬
‫الماتريدي‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة طاش كبري زاده ‪ -‬رحمه الله تعالى‬
‫‪) -‬مفتاح السعادة ‪:(33 / 2‬‬
‫)ثم اعلم أن رئيس أهل السنة والجماعة في علــم‬
‫الكلم ‪ -‬يعني العقائد ‪ -‬رجلن‪ ،‬أحدهما حنفــي والخــر‬
‫شــافعي)‪ ،(1‬أمــا الحنفــي فهــو أبــو منصــور محمــد بــن‬

‫‪ ()1‬ينازع المالكية فــي المــام أبــي الحســن ويــذكرونه ضــمن‬


‫طبقاتهم‪ ،‬والراجح أنه شافعي‪ ،‬أما المالكي فهو المام أبو بكر بــن‬
‫الباقلني شيخ الشاعرة‪ .‬انظر طبقات الشافعية الكبرى ‪.3/352‬‬

‫‪96‬‬
‫محمود الماتريدي‪ ،‬إمام الهدى‪...‬‬
‫وأمــا الخــر الشــافعي فهــو شــيخ الســنة ورئيــس‬
‫الجماعة إمام المتكلمين وناصر سنة ســيد المرســلين‬
‫والــذاب عــن الــدين والســاعي فــي حفــظ عقــائد‬
‫المســلمين‪ ،‬أبــو الحســن الشــعري البصــري‪ ..‬حــامي‬
‫جناب الشرع الشريـف من الحديـث المفــترى‪ ،‬الــذي‬
‫قـام في نصرة ملـة الســـلم فنصــرها نصــرا ً مــؤزرًا(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وعلى الجملة‪ ،‬فإن أقــوال علمــاء الســلم متفقــة‬
‫علــى أن الشــاعرة ومــن وافقهــم فــي العتقــاد مــن‬
‫طوائف أهل الحق هم الفرقة الناجية‪ ،‬وهم المعنيــون‬
‫بقوله ‘ " ما أنا عليــه وأصــحابي " وهــم الوســط بيــن‬
‫الفرق المبتدعة‪ ،‬فقد جانبوا أهل الزيغ وابتعدوا عنهــم‬
‫غاية البعد بحيث من رام بعدا ً عــن الضــللة أكــثر مــن‬
‫بعدهم وقع فيها أو مال إليها‪.‬‬

‫*****‬

‫‪97‬‬
‫أقوال العلم المعاصرين فى الشاعرة‬
‫لقـــد أطنبنـــا بـــذكر أقـــوال العلمـــاء المتقـــدمين‬
‫والمتــأخرين الــتي تفيــد قصــر مصــطلح أهــل الســنة‬
‫والجماعة على الشاعرة والماتريدية وأهــل الحــديث‪،‬‬
‫وإليك الن طائفــة مــن نصــوص العـــلم المعاصــرين‬
‫ممن سلك مسلك أهل السنة وأشاد بفضلهم‪:‬‬
‫قــال الشــيخ الداعيــة حســن أيــوب ‪ -‬حفظــه اللــه‬
‫تعالى ‪) -‬تبسيط العقائد السلمية ‪:(299‬‬
‫)أهل السنة هم أبو الحسن الشعري وأبو منصــور‬
‫الماتريدي ومن سلك طريقهما‪ ،‬وكانوا يسيرون علــى‬
‫طريق السلف الصالح في فهــم العقــائد‪ ،‬وقــد جعلــوا‬
‫القرآن الكريم المنهل العذب الذي يلجــأون إليــه فــي‬
‫تعرف عقائدهم فكانوا يفهمــون مــن اليــات القرآنيــة‬
‫مسائل العقائد‪ ،‬وما أشبه عليهم منه حاولوا فهمه بما‬
‫تــوحيه أســاليب اللغــة ول تنكــره العقــول‪ ،‬فــإن تعــذر‬
‫عليهم توقفوا وفوضوا‪ ،‬وقد سمي أتبـاع أبــي الحســن‬
‫الشـــعري بالشـــاعرة‪ ،‬وأبـــي منصـــور الماتريـــدي‬
‫بالماتريدية( اهـ‪.‬‬
‫وقـال السـتاذ الداعيـة سـعيد حـوى ‪ -‬رحمـه اللـه‬
‫تعالى ‪) -‬جولت في الفقهين الكبير والكبر ص ‪:(22 /‬‬

‫)إن للمسلمين خلل العصور أئمتهم فــي العتقــاد‬


‫وأئمتهم في الفقــه وأئمتهــم فــي التصــوف والســلوك‬

‫‪98‬‬
‫إلى الله عز وجل‪ ،‬فأئمتهم في العتقاد كأبي الحســن‬
‫الشعري وأبي منصور الماتريدي‪ ...‬وهــؤلء وأمثــالهم‬
‫م أصــفى‬ ‫ل في اختصاصه حيث ثبت النقل عنهم ق ـد ّ َ‬ ‫ك ّ‬
‫فهم ٍ للكتــاب والســنة‪ ،‬ومــن ثــم أجمعــت المــة علــى‬
‫اعتماد أقوالهم وقبولها في خضم اتجاهــات ل تعــد ول‬
‫تحصى من التجاهات الباطلة الزائفة‪ ،‬منها الذي مات‬
‫ومنها الذي لزال حيًا( اهـ‪.‬‬
‫والشيخ سعيد حوى ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬هنا وفــي‬
‫معظم ما كتب إنما ينقل خلصــة رأي المــام الشــهيد‬
‫حسن البنا رحمه الله تعــالى‪ ،‬وهــو موافــق لمــا عليــه‬
‫السلف والخلف من تنزيه اللــه تعــالى عــن كــل مــا ل‬
‫يليق به سبحانه‪.‬‬
‫وقــال الشــيخ ســعيد ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬أيض ـا ً‬
‫)المصدر السابق ص‪:(8/‬‬
‫)وكما وجد في الفقه مؤلفــون وكتــب‪ ،‬وكمــا وجــد‬
‫في الفقه أئمة أجمعــت المــة علــى قبــولهم‪ ،‬فكــذلك‬
‫في باب العقائد وجد أئمة أجمعت المة على إمامتهم‬
‫في هذا الشأن كأبي الحسن الشــعري وأبــي منصــور‬
‫الماتريدي( اهـ‪.‬‬
‫وممــن أشــاد بفضــل الشــاعرة مــن المعاصــرين‬
‫الشيخ الداعية الستاذ أبو الحسن الندوي )رجــال الفكــر‬
‫‪ -‬رحمــه اللــه‬ ‫والــدعوة فــي الســلم‪ ،‬ص ‪ (137 /‬فقال‬
‫تعالى ‪ -‬منوها ً بذكرهم‪:‬‬

‫‪99‬‬
‫)خضع لعلمهم ونفوذهم العالم السلمي‬
‫من أقصاه إلى أقصاه‪ ...‬وبفضلهم انتقلت‬
‫قيادة العالم السلمي الفكرية وتوجيهه من‬
‫المعتزلة إلى أهل السنة( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا )ص ‪:(133 /‬‬
‫)وقد سار الشعري فــي طريقــه مجاهــدا ً مناض ـل ً‬
‫منتجًا‪ ....‬ل يعبأ بما يقال فيه مؤمنا ً بــأنه هــو الطريــق‬
‫الذي ينفع الدين في عصره ويرد إلى الشريعة مهابتها‬
‫وكرامتهــا ويحــرس للناشــئة دينهــا وعقيــدتها‪ ،‬حــتى‬
‫استطاع بعملــه المتواصــل وشخصــيته القويــة وعقلــه‬
‫الكـــبير وإخلصـــه النـــادر أن يـــرد ســـيل العـــتزال‬
‫والتفلسف الجــارف الــذي كــان يتهــدد الــدين‪ ،‬ويثب ّــت‬
‫كثيرا ً من الذين تزلزلت أقدامهم واضطربت عقــولهم‬
‫وعقــائدهم‪ ،‬وأن يوجسسد فسسي أهسسل السسسنة ثقسسة‬
‫جديدة بعقيدتهم( اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ وهبي سليمان غــاوجي ‪ -‬حفظــه اللــه‬
‫تعالى ‪) -‬أركان اليمان ص ‪:(7 /‬‬
‫)وقــد كــان أول مــن كتــب فــي أصــول الــدين ورد‬
‫شبهات أهل الزيــغ فــي العتقــاد المــام العظــم أبــو‬
‫حنيفة ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بطريقي النقــل أو العقــل‪،‬‬
‫وتتابع الكــاتبون فــي أصــول الــدين إلــى أن اســتقرت‬
‫قواعدها على يــدي المــامين العظيميــن أبــي منصــور‬
‫الماتريدي وأبي الحسن الشعري رحمهما الله تعالى(‬

‫‪100‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫هذا هو شأن الشــاعرة وقــدرهم عنــد المتقــدمين‬
‫والمتأخرين‪ ،‬وهذه هي مكانتهم في التاريــخ‪ ،‬فل ينكــر‬
‫فضــلهم وجهــادهم إل مكــابر‪ ،‬ومهمــا بــالغ البعــض‬
‫حد َ فضلهم بلسانه‪ ،‬فإنه ل محالــة‬‫ج َ‬
‫بالنتقاص منهم‪ ،‬و َ‬
‫مضطّر إلى علومهم‪ ،‬إذ ما من متعلم أو معلم إل وهو‬
‫عالــة علــى مــا أثمرتــه وأنتجتــه قرائحهــم‪ ،‬وســطرته‬
‫أيديهم‪ ،‬وهل يستغني عالم أو طالب علــم عــن كتــاب‬
‫فتح الباري ‪ -‬مثل ً ‪ -‬للمام الحافظ ابن حجر‪ ،‬أو شــرح‬
‫صحيح مسلم للمام النووي رحمه الله تعالى؟!‬
‫بهذه النصوص الــتي نقلناهــا عــن العلمــاء والئمــة‬
‫المتقدمين والمتأخرين والمعاصــرين أصــبح جلي ـا ّ مــن‬
‫المقصود بأهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬ومــن هــي الفرقــة‬
‫الناجيــة المعنيــة بالنصــوص الشــرعية والمخصوصــة‬
‫بالهداية والنجاة‪ ،‬فكيف يسوغ لمنصف بعــد كــل ذلــك‬
‫إخـــراج الشـــاعرة والماتريديـــة مـــن أهـــل الســـنة‬
‫والجماعة؟!‬

‫*****‬

‫المتشابه عند السلف والخلف‬

‫‪101‬‬
‫يصّر البعض على تضليل الشاعرة والماتريدية لن‬
‫جمهـــورهم أجـــاز التأويـــل بشـــروطه فـــي نصـــوص‬
‫المتشــابه الــتي تتعلــق بصــفات اللــه تعــالى‪ ،‬وينســى‬
‫ل المة على مذهب التأويل وأن جماعــات‬ ‫ج ّ‬
‫هؤلء أن ُ‬
‫من السلف قالوا به‪.‬‬
‫قال المام الزركشي ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬مبين ـا ً‬
‫)البرهــان فــي علــوم القــرآن ‪/ 2‬‬ ‫المذاهب فــي المتشــابه‬
‫‪:(207‬‬
‫)‪ ...‬والثالث أنها مؤولة‪ ،‬وأولـوها على مــا يليــق بــه‪،‬‬
‫والول – يعنـــي مـــذهب الخـــذ بالظـــاهر – باطـــل‪،‬‬
‫والخيران منقولن عن الصحابة‪ ...‬وممن نقسسل عنسسه‬
‫التأويسسل علسسي وابسسن مسسسعود وابسسن عبسساس‬
‫وغيرهم( اهس‪.‬‬
‫وقــال المــام النــووي – رحمــه اللــه تعــالى – عــن‬
‫مذهب التأويل‪:‬‬
‫)مذهسسسب أكسسثر المتكلميسسن وجماعسسات مسسن‬
‫السلف‪ ،‬وهو محكسسي عسسن مالسسك والوزاعسسي(‬
‫اهـ‪) .‬شرح صحيح مسلم ‪.(36 / 6‬‬

‫*****‬

‫مفهوم المتشابه‬

‫‪102‬‬
‫قال تعالى‪) :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه‬
‫آيسسسات محكمسسسات هسسسسن أم الكتسسساب وأخسسسر‬
‫متشابهات(‬
‫المتشابه في الصل كل ما ل يهتدي إليه النســان‪،‬‬
‫والمراد به هنا ما جاء فــي القــرآن والســنة الصــحيحة‬
‫المشهورة من النصوص التي يوهم ظاهرهــا مشــابهة‬
‫الله تعالى لخلقه‪.‬‬
‫قــال الراغــب الصــفهاني ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫" شبه "(‪:‬‬ ‫)مفردات القرآن مادة‬
‫)والمتشابه من جهة المعنــى أوصــاف اللــه تعــالى‬
‫وأوصاف يوم القيامة‪ ،‬فإن تلك‬
‫الصــفات ل تتصــور لنـــا‪ ،‬إذ كـــان ل يحصــل فــي‬
‫نفوسـنا صورة مـا ل نحسه‪ ،‬أو لم يكن من جنــس مــا‬
‫نحسه( اهـ‪.‬‬
‫ومثسال المتشابه من القرآن قوله تعسسالى‪:‬‬
‫) الرحمن علسسى العسسرش اسسستوى( وقسسوله عسسز‬
‫وجل‪ ) :‬يد الله فوق أيديهم ( وقوله سبحانه‪:‬‬
‫) فإنسك بأعيننسا ( ‪ ) ،‬ولتصسنع علسى عينسى ( ‪،‬‬
‫ى ( ومثـــاله مــن الســنة قــوله ‘‪:‬‬‫) لما خلقت بيسسد ّ‬
‫)ينزل ربنا في الثلــث الخيــر مــن الليــل‪ (...‬وقــوله ‘‪:‬‬
‫)ضحك اللــه الليلـة مـن فعالكمـا( )إن اللـه خلـق آدم‬
‫على صورته( ونحو ذلــك ممــا يــوهم ظــاهره مشــابهة‬
‫الله تعالى لخلقه‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫وحكم المتشابه من هذه النصوص هــو اليمــان بــه‬
‫على الــوجه الــذي أراد اللــه تعــالى‪ ،‬والقطــع بــأن لــه‬
‫ى عظيما ً شريفا ً عند الله تعالى‪ ،‬بعد أن ننزه اللــه‬ ‫معن ً‬
‫تعالى عن الظاهر المستحيل في حقه سبحانه‪.‬‬
‫هذا هو القدر المشترك بيــن العلمــاء فــي حكمهــم‬
‫على المتشابه‪ ،‬ثم اختلفوا في مــا وراء ذلــك‪ ،‬ومنشــأ‬
‫الختلف جاء من فهمهم لية المتشــابهات واختلفهــم‬
‫فــي محــل الوقــوف فــي قــوله تعــالى‪ ) :‬وما يعلم‬
‫تسسسأويله إل اللسسسه ‪ ،‬والراسسسسخون فسسسى العلسسسم‬
‫ل من عند ربنا(‪.‬‬ ‫يقولون ك ّ‬
‫قال جمهـور السلف إن الوقـوف فــي اليـــة علــى‬
‫لفـــــظ الجللـــــة لزم‪ ،‬وعليــــه‪ ،‬قــــوله تعـــــالى‬
‫) والراسخون ( الواو فيه استئنافية والجملــة بعــده‬
‫مستأنفة‪ ،‬وبناء على ذلــك يكــون المعنــى أنــه ل يعلــم‬
‫وض العلــم بتــأويله‬‫تأويل المتشابه إل الله تعالى‪ ،‬ويف ـ ّ‬
‫إليه ســبحانه إذ هــو تعــالى أعلــم بمــراده‪ ،‬ول نشــتغل‬
‫بتأويل شيء من ذلك‪ ،‬هذا بعــد قطعهــم بــأن الظــاهر‬
‫المستحيل في حق الله تعالى غيــر مــراد لــه ســبحانه‬
‫ول لرسوله ‘‪.‬‬
‫أمــا الخلــف فقــالوا إن الــواو فــي قــوله تعــالى‬
‫) والراسخون ( عاطفة ومــا بعــدها معطــوف علــى‬
‫لفظ الجللة‪ ،‬وعليه يكون معنى اليــة‪ ،‬أن الراســخين‬
‫في العلم يعلمون تأويل المتشابه‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫وعلــى أيــة حــال فــإن كل ّ مــن الفريقيــن ل يضــلل‬
‫ل مــن المــذهبين عــن ســلف‬ ‫ل كـ ّ‬‫الخر‪ ،‬كيف وقد ن ُقِـ َ‬
‫المة من الصحابة والتابعين وتابعيهم‪.‬‬
‫ولقد أجمــل حجــة الســلم الغزالــي ‪ -‬رحمــه اللــه‬
‫تعــالى ‪ -‬مــا يجــب علــى المســلم عنــد ســماعه لهــذه‬
‫النصــوص بقــوله )إلجــام العــوام عــن علــم الكلم ص‪ 4/‬مــن‬
‫الطبعة الزهرية للتراث سنة ‪1418‬هـ(‪:‬‬
‫)اعلم أن الحق الصريح الذي ل مراء فيه عند أهل‬
‫البصائر هــو مــذهب الســلف‪ ،‬أعنــي مــذهب الصــحابة‬
‫والتابعين‪ .‬وها أنا أورد بيانه وبيان برهانه‪ ،‬فأقول‪:‬‬
‫حقيقة مذهب السلف وهو الحق عندنا أن كل مــن‬
‫بلغه حديث من هذه الحاديث من عوام الخلــق يجــب‬
‫عليــه فيــه ســبعة أمــور‪ ،‬التقــديس ثــم التصــديق ثــم‬
‫العتراف بالعجز ثم السكوت ثم المســاك ثــم الكــف‬
‫ثم التسليم لهل المعرفة‪.‬‬
‫أما التقديس‪ :‬فــأعني بــه تنزيــه الــرب تعــالى عــن‬
‫الجسمية وتوابعها‪.‬‬
‫وأمــا التصــديق‪ :‬فهــو اليمــان بمــا قــاله ‘‪ ،‬وأن مــا‬
‫ذكره حق وهو فيما قاله صادق‪ ،‬وأنه حق على الــوجه‬
‫الذي قاله وأراده‪.‬‬
‫وأما العــتراف بــالعجز‪ :‬فهــو أن يقــر بــأن معرفــة‬
‫مراده ليست على قــدر طــاقته‪ ،‬وأن ذلــك ليــس مــن‬

‫‪105‬‬
‫شأنه وحرفته‪.‬‬
‫وأما السكوت‪ :‬فأن ل يسأل عن معناه ول يخــوض‬
‫فيه‪ ،‬ويعلم أن سؤاله عنه بدعة‪ ،‬وأنه في خوضــه فيــه‬
‫مخاطر بدينه‪ ،‬وأنه يوشك أن يكفر لو خاض فيــه مــن‬
‫حيث ل يشعر‪.‬‬
‫وأما المساك‪ :‬فــأن ل يتصــرف فــي تلــك اللفــاظ‬
‫بالتصـــريف والتبـــديل بلغـــة أخـــرى‪ ،‬والزيـــادة فيـــه‬
‫والنقصان منه والجمع والتفريق‪ ،‬بل ل ينطق إل بذلك‬
‫اللفــظ وعلــى ذلــك الــوجه مــن اليــراد والعــراب‬
‫والتصريف والصيغة‪.‬‬
‫وأمــا الكــف‪ :‬فــأن يكــف بــاطنه عــن البحــث عنــه‬
‫والتفكر فيه‪.‬‬
‫وأمــا التســليم لهلـــه‪ :‬فــأن ل يعتقــد أن ذلـــك إن‬
‫خفي عليـه لعجـزه فقد خفــي علــى رســول اللــه ‘ أو‬
‫على النبياء أو على الصديقين والولياء‪.‬‬
‫فهذه ســبع وظــائف اعتقــد كافــة الســلف وجوبهــا‬
‫على كل العــوام‪ ،‬ل ينبغــي أن يظــن بالســلف الخلف‬
‫في شي منها( اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ العلمة محمود خطاب السبكي ‪-‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪) -‬إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف‬
‫والخلف في المتشابهات ص‪:(167 /‬‬
‫)المراد به ‪ -‬يعني المتشابه ‪ -‬هنا كــل مــا ورد فــي‬

‫‪106‬‬
‫الكتــاب أو الســنة الصــحيحة موهمــا ً ممــاثلته تعــالى‬
‫للحوادث في شيء ما‪،‬وقامت الدلئل القاطعــة علــى‬
‫امتناع ظاهره في حق الله تعالى‪ ،‬ولذا أجمع الســلف‬
‫والخلف على تأويله تأويل ً إجماليا ً بصـرف اللفـظ عــن‬
‫ظاهره المحال على الله تعالى‪ ،‬لقيام الدلة القاطعــة‬
‫على أنه تعالى ليس كمثلــه شــيء‪ ،‬ثــم إن الســلف ل‬
‫يعينون المعنى المـراد مـن ذلـك النـص بـل يفوضـون‬
‫علمه إلى الله تعـالى بناء على أن الوقف علــى قــوله‬
‫تعالى ‪ ) :‬ومسسا يعلسم تسسأويله إل اللسسه ( والخلسسف‬
‫يؤولونه تأويل ً تفصيليا ً بتعيين المعنى المسسراد‬
‫منسسسه لضسسسطرارهم إلسسسى ذلسسسك ردّا ً علسسسى‬
‫المبتدعين الذين كثروا في زمانهم‪ ،‬بناء على‬
‫أن الوقف على قوله تعالى ‪:‬‬
‫) والراسخون فى العلم ( اهس‪.‬‬
‫‪-‬‬ ‫وقال الشيخ علي الطنطاوي ‪ -‬رحمه اللــه تعـالى‬
‫)تعريف عام بدين السلم ص‪:(84/‬‬
‫)بّيــن اللــه فــي القــرآن أن فيــه آيــات محكمــات‬
‫واضـــحة المعنـــى‪ ،‬صـــريحة اللفـــظ‪ ،‬وآيـــات وردت‬
‫ح ـ الفعل المضارع من )وضح( ـ المعنى‬
‫ض ُ‬
‫متشابهات‪ ،‬ول ي َ ِ‬
‫المراد منها تمامًا‪ ،‬وإن على المؤمن أل يطيل الغــوص‬
‫في معناها‪ ،‬ول يتتبعها فيجمعها ليفتن النــاس بــالبحث‬
‫فيها‪ ،‬ومن المتشابه آيات الصفات(‬
‫وعّلق ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬على هذا فـي الهـامش قـائ ً‬
‫ل‪:‬‬

‫‪107‬‬
‫)ومن جمعهــا كلهــا وألقاهــا إلــى التلميــذ فقــد جــانب‬
‫م إليهــا أحــاديث الحــاد‬ ‫طريقة السلف‪ ،‬ل سيما إذا ض ّ‬
‫المرويــة فــي مثلهــا‪ ،‬والــتي ل تعتــبر دليل ً قطعيـا ً فــي‬
‫أمور العقائد( اهـ‪.‬‬
‫ثم بيــن ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬موقــف المســلمين‬
‫منها فقال‪:‬‬
‫)المسلمون الولون وهم سلف هذه المة وخيرهــا‬
‫وأفضلها لم يتكلموا فيها‪ ،‬ولــم يخوضــوا فــي شــرحها‪،‬‬
‫بل آمنوا بها كما جاءت من عند الله علـى مـراد اللـه‪،‬‬
‫فلما انتشر علــم الكلم‪ ،‬وأوردت الشــبه علــى عقــائد‬
‫السلم‪ ،‬وظهرت طبقة جديدة من العلماء انبرت ل َِرد ّ‬
‫هذه الشبه‪ ،‬تكلم هــؤلء العلمــاء فــي آيــات الصــفات‪،‬‬
‫وفهموها علــى طريقــة العــرب فــي مجــاوزة المعنــى‬
‫الصلي للكلمة إذا لم يمكن فهمها به إلى معنى آخــر‪،‬‬
‫وهذا مـا يسـمى المجــاز أو التأويــل‪ ،‬وقيــل فـي هـذا‪:‬‬
‫طريقة السلف أسلم‪ ،‬وطريقة الخلف أحكم‪ ،‬وكلهم‬
‫متفقون على أن هذه اليات نزلسست مسسن عنسسد‬
‫اللسسه‪ ،‬مسسن أنكسسر شسسيئا ً منهسسا كفسسر‪ ،‬وأن مسسن‬
‫عطلها تمامسا ً فجعلهسسا لفظسا ً بل معنسسى كفسسر‪،‬‬
‫ومن فهمها بسسالمعنى البشسسري وطبقسسه علسسى‬
‫الله فجعل الخالق كالمخلوق كفر‪ ،‬والمسسسلك‬
‫خطر‪ ،‬والمفازة مهلكة‪ ،‬والنجاة منها باجتناب‬
‫الخوض فيها( اهـ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ولقد أجاد رحمــه اللــه تعــالى وأحســن‪ ،‬فالمســلك‬
‫خطر جد ًّا‪ ،‬والنجاة باجتناب الخوض جملة‪ ،‬وليس مــن‬
‫الحكمــة فــي شــيء إلقــاء مثــل هــذه النصــوص علــى‬
‫العامة وتعريضهم بهـذا الصــنيع للفتنــة‪ ،‬وقــد تــواردت‬
‫الخبار في النهي عن ذلك‪ ،‬منها ما خّرجه مسلم فــي‬
‫مقدمة الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه‬
‫قــال‪) :‬مسسا أنسست بمحسسدث قومسا ً حسسديثا ً ل تبلغسسه‬
‫عقولهم إل كان لبعضهم فتنة(‪ ،‬وعنــد البخــاري‬
‫ص بالعلم قومــا ً دون‬ ‫في " كتاب العلـم " باب )من خ ّ‬
‫ي موقوفــــا ً‬‫قــوم كراهيــة أن ل يفهمــوا( عـــن علــ ّ‬
‫ذب‬ ‫)حدثوا الناس بما يعرفون‪ ،‬أتحبون أن ُيكسس ّ‬
‫الله ورسوله؟(‪.‬‬
‫)الفتــح‬ ‫قال الحافظ ابن حجر ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫‪ (1/272‬في شرحه للحديث‪:‬‬
‫)فيه دليل على أن المتشابه ل ينبغي أن يذكر عند‬
‫العامة‪ ...‬وضابط ذلك أن يكون الحديث يقوي البدعة‪،‬‬
‫وظاهره في الصل غير مراد‪ ،‬فالمساك عنه عند من‬
‫ُيخشى عليه الخذ بظاهره مطلوب( اهـ‪.‬‬
‫دث بمــا قــد يلتبــس‬‫حـ ّ‬
‫ولقد نهى المام مالــك أن ي ُ َ‬
‫على الناس كما نقل عنه المام ابــن أبــي زيــد رحمــه‬
‫الله تعالى )النوادر والزيــادات ‪) (553 /14‬ول ينبغي لحــد‬
‫أن يصــف اللــه تعــالى إل بمــا وصــف بــه نفســه‪ ،‬ول‬
‫يشبهه كذلك بشيء‪ ،‬وليقل‪ :‬لــه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬يــدان كمــا‬

‫‪109‬‬
‫وصف به نفسه‪ ،‬وله وجه كما وصف به نفســه‪ .‬تقــف‬
‫عند ما فــي الكتــاب‪ ،‬لن اللـه ســبحانه ل مثــل لـه ول‬
‫ل هسسذه‬‫شبيه له ول نظيــر لــه‪ ،‬ول يروي أح سدٌ مث س َ‬
‫ل " إن اللسسه خلسسق آدم علسسى‬ ‫الحسساديث‪ ،‬مثسس ُ‬
‫م‬
‫و ذلسسك مسسسن الحسساديث‪ .‬وأعظ س َ‬ ‫صورته " ونح ُ‬
‫ك أن يتحدث أحدٌ بمثسسل هسسذه الحسساديث أو‬ ‫مال ٌ‬
‫دها(‪.‬‬ ‫ُيردّ َ‬
‫)وانظر أيض ـا ً فــي هــذا البيــان والتحصــيل ‪ ،18/504‬والسيـــر‬
‫‪ ،8/104‬الموافـقات ‪ ،4/549‬فتح الباري ‪.(1/272‬‬
‫هــذه نصــوص واضــحة فــي النهــي عــن التحــديث‬
‫بالمتشابهات‪ ،‬منها تعلم مجازفة من يخوض في هــذه‬
‫النصوص‪ ،‬ويلقيها على الناس على أنهــا ممــا ل يجــوز‬
‫الجهل به‪ ،‬بل ويزيد على هذا بحملها علــى مــا يعهــده‬
‫الناس من هــذه الظــواهر‪ ،‬ويضــلل مــن يصــرفها عــن‬
‫ظاهرها المحال‪ ،‬الذي هــو قطعـا ً ليــس مــراد رســول‬
‫اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم ول مــا فهمــه أصــحابه‬
‫رضوان الله تعالى عليهم من خطابه الشريف!!‬

‫*****‬

‫قال الستاذ الدكتور الشيخ محمــد ســعيد رمضــان‬


‫البوطي حفظه اللــه تعــالى )كــبرى اليقينيــات الكونيــة ص‪/‬‬

‫‪110‬‬
‫المتشابهات‪:‬‬ ‫‪ (137‬موضحا ً شأن هذه‬
‫كل ـ بحسب الظاهر ـ آيات فــي كتــاب اللــه‪،‬‬ ‫)ي ُ ْ‬
‫شـ ِ‬
‫وأحاديث ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وســلم‪،‬‬
‫تفيد بظاهر ألفاظها وتعابيرها ثبوت بعض النقــائص أو‬
‫ل جلله‪ ،‬كالجهــة‬ ‫النقائض التي نفيناها عن ذات الله ج ّ‬
‫والجسمية والجوارح والعضــاء والتحيــز فــي المكــان‪.‬‬
‫كقوله سبحانه وتعالى ) وجاء ربك والملسسك صسس ّ‬
‫فا‬
‫فا ( ‪ ،‬وقسسوله ) يسسد اللسسه فسسوق أيسسديهم ( ‪،‬‬ ‫صسس ّ‬
‫وقولسه ) ‪ ..‬بل يداه مبسوطتان كيسسف يشسساء (‬
‫وقسسوله ) الرحمسسن علسسى العسسرش اسسستوى (‬
‫وكقوله عليه الصلة والسلم " إن قلوب بني آدم بين‬
‫أصبعين من أصابع الرحمن "‪ ،‬وقــوله " إن اللــه خلــق‬
‫آدم على صورته "‪.‬‬
‫إن هذه النصوص القرآنية من نوع المتشابه الــذي‬
‫ل أن في كتابه آيات منــه‪ ،‬والمقصــود‬ ‫ذكر الله عّز وج ّ‬
‫ص تجــاذبته الحتمــالت حــول المعنــى‬
‫بالمتشابه كل ن ّ‬
‫المراد منه‪ ،‬وأوهم بظاهره ما قامت الدلة على نفيه‪.‬‬
‫غير أن هنالك آيات تتعلق بصفات الله تعالى أيضًا‪،‬‬
‫ولكنها محكمات أي قاطعــة فــي دللتهــا ل تحتمــل إل‬
‫ل جللــه ) ليس‬ ‫معناها الواضــح الصــريح‪ ،‬كقــوله جــ ّ‬
‫كمثله شئ ( ‪ ،‬وقوله ) قل هو الله أحد ‪ ،‬الله‬
‫الصمد ‪ ،‬لم يلد ولم يولد ‪ ،‬ولم يكن لسسه كفسسوا‬
‫أحسسد ( وقــد أوضــح اللــه فــي كتــابه بصــريح العبــارة‬

‫‪111‬‬
‫ضرورة اتباع المؤمن للنصـوص المحكمــة فــي كتـابه‪،‬‬
‫وبنــاء عقيــدته فــي اللــه بموجبهــا‪ ،‬ووضــع النصــوص‬
‫المتشابهة من ورائها من حيث فهمها والوقــوف علــى‬
‫المعنى المراد منها‪ (...‬ثم قال‪:‬‬
‫)وبناء على ذلك فقد اتفق المسلمون كلهــم علــى‬
‫مـا يقتضـيه ظـاهر تلـك النصـوص‬ ‫تنزيه اللـه تعـالى ع ّ‬
‫القرآنيــة والحــاديث النبويــة مــن الصــفات المنافيــة‬
‫لكمال الله وألــوهيته‪ ...‬وبعــد أن اتفقـوا علــى ذلــك ــ‬
‫وهذا القدر الذي يجب أن يعتقــده المســلم ــ اختلفــوا‬
‫في موقفهم من النصــوص المتشــابهة إلــى مــذهبين‪:‬‬
‫أولهما تمسك بــه الســلف المتقــدمون‪ ،‬وثانيهمــا جنــح‬
‫ن المتأخرين( اهـ‪.‬‬ ‫م َ‬
‫من بعدهم ِ‬ ‫إليه َ‬
‫وعلى الجملة‪ ،‬فإنه لم يؤثر عن علمــاء المــة فــي‬
‫المتشابه إل هذان المذهبان المعتبران فقــط‪ ،‬مــذهب‬
‫التفويض‪ ،‬وهو مذهب أكثر السلف‪ ،‬ومــذهب التأويــل‪،‬‬
‫وهو مذهب الخلف وجماعات مــن الســلف‪ ،‬ول عــبرة‬
‫بمن قال بالخذ بظاهر نصــوص المتشــابه‪ ،‬لمناقضــته‬
‫للمنقول وبداهة العقول‪.‬‬
‫قـال المــام النــووي ‪ -‬رحمـه اللــه تعـالى ‪ -‬أثنــاء‬
‫شرحـه لحديـث مـن أحاديـث الصفـات )شرح مسلم ‪/ 6‬‬
‫‪:(36‬‬
‫)هذا الحديث من أحاديث الصــفات وفيــه مــذهبان‬
‫مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب اليمــان‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫ومختصرهما أن أحدهما‪ :‬وهو مذهب جمهــور الســلف‬
‫وبعض المتكلمين‪ ،‬أنه يؤمن بأنها حــق علــى مــا يليــق‬
‫بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد‬
‫ول يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تنزيه اللــه تعــالى عــن‬
‫صــفات المخلــوق وعــن النتقــال والحركــات وســائر‬
‫سمات الخلق‪ ،‬والثــاني‪ :‬مسسذهب أكسسثر المتكلميسسن‬
‫وجماعات من السلف وهو محكسسي عسسن مالسسك‬
‫والوزاعسسي أنهسسا تتسسأول علسسى مسسا يليسسق بهسسا‬
‫بحسب مواطنها( اهـ‪.‬‬
‫فاقتصــر رحمــه اللــه تعــالى علــى ذكــر هــذين‬
‫المذهبين‪ ،‬ونص على أن مذهب التأويل منقــول أيض ـا ً‬
‫عن السلف رضوان الله تعالى عليهم‪ ،‬وهذا ليعلم من‬
‫ينحى علــى الشــاعرة والماتريديــة بــاللوائم ويصــفهم‬
‫وغوا مسلك التأويل بشــروطه أنــه‬ ‫بالبتداع لكونهم س ّ‬
‫على السلف يعيب وإياهم ينتقص‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مثــل‬
‫هـذه النصـوص )فتح الباري ‪) :(466 / 13‬إما تفويض وإما‬
‫تأويل( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً أثناء رده علــى أبــي إســماعيل الهــروي‬
‫حين اعترض على مــن أّول أحــاديث النــزول‪ ،‬وذكــر ‪-‬‬
‫أي الهروي ‪ -‬عدة أحاديث فــي الصــعود زاعمـا ً أنهــا ل‬
‫تقبــل التأويــل‪ ،‬فــرد ّ عليــه الحــافظ بعــد أن وصــفه‬
‫بالمبالغة في الثبات ونقـل طعـن البعض عليه بسبب‬

‫‪113‬‬
‫ذلك‪ ،‬قال الحافظ )الفتح ‪) :(476 / 13‬فهذه الطرق كلها‬
‫ضعيفة‪ ،‬وعلى تقدير ثبوتها ل يقبل قوله " إنها ل تقبل‬
‫صلها ذكُر الصعود بعد النزول‪ ،‬فكمــا‬ ‫مح ّ‬ ‫التأويل " فإن ُ‬
‫ل‪،‬‬‫ل الصــعود ِ التأوي ـ َ‬
‫ل ل ُيمنــع قبــو ُ‬
‫ل التأوي ـ َ‬ ‫قَب ِ َ‬
‫ل النــزو ُ‬
‫والتسليم أسلم( اهـ‪.‬‬
‫فــانظر إلــى قــوله رحمــه اللــه )والتســليم أســلم(‬
‫‪ -‬رحمهم الله تعالى ‪ -‬ما طرقوا‬ ‫يتبين لك كونهم‬
‫سبيل التأويل إل مضطرين ملجئين‪ ،‬ولول ذلك لوقفوا‬
‫حيث وقف السلف رضوان الله على الجميع‪.‬‬

‫وقال المام الكرمــاني ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬فــي‬


‫حديث من أحاديث الصفات )الفتح ‪:(13 / 13‬‬

‫)حكم هذا حكم سائر المتشــابهات‪ ،‬إمــا التفــويض‬


‫وإما التأويل(’اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً عن حديث آخر )‪:(441 / 13‬‬
‫)هذا الحديث من المتشــابهات فإمــا مفــوض وإمــا‬
‫مؤول( اهـ‪.‬‬
‫وقـال المـام بدر الديـن بـن جمـــاعة عنـــد قولـــه‬
‫تعـالى )ثم استوى على العسسسسرش( )إيضــاح الــدليل‬
‫في قطع حجج أهل التعطيل لبن جماعة‪ ،‬طبع دار السلم القاهرة‬
‫ص‪:(103/‬‬
‫)‪ ...‬واتفــق الســلف وأهــل التأويــل علــى أن مــا ل‬

‫‪114‬‬
‫يليق من ذلك بجلل الرب تعالى غيــر مــراد‪ ،‬كــالقعود‬
‫والعتدال‪ ...‬فسكت السلف عنه ‪ -‬يعني تعيين المــراد‬
‫‪ -‬وأوله المتأولون( اهـ‪.‬‬
‫وقـال المـام أبو عبد الله البي فــي شــرحه علــى‬
‫صــحيح مســلم عنــد كلمــه علــى حــديث النــزول )‪/ 2‬‬
‫‪:(385‬‬
‫)‪ ...‬ومذهب أهل الحق في جميع ذلــك أن يصــرف‬
‫اللفظ عن ظاهره المحال‪ ،‬ثم بعد الصرف هل الولى‬
‫التأويل أو عدمه‪ ،‬بــأن يــؤمن بــاللفظ علــى مــا يليــق‪،‬‬
‫ويكل علم حقيقة ذلك إلى الله سبحانه وتعــالى‪ ...‬ثــم‬
‫الظهر من قول أهل الحق التأويل( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام العلمة مل علي القاري ‪ -‬رحمــه اللــه‬
‫تعالى ‪ -‬بعد أن نقل قــول المــام النــووي المــاّر معنــا‬
‫قريبا ً )مرقاة المفاتيح ‪:(136 / 2‬‬
‫)وبكلمــه وبكلم الشــيخ الربــاني أبــي إســـحاق‬
‫الشــيرازي وإمــام الحرميــن والغزالــي وغيرهــم مــن‬
‫أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صــرف‬
‫تلك الظواهر كالمجيء والصــورة والشــخص والرجــل‬
‫والقــدم واليــد والــوجه والغضــب والرحمــة والســتواء‬
‫علــى العــرش والكــون فــي الســماء وغيــر ذلــك عمــا‬
‫يفهمه ظاهرها‪ ،‬لما يلــزم عليــه مــن محــالت قطعيــة‬
‫البطلن تســـتلزم أشـــياء يحكـــم بكفرهـــا بالجمـــاع‪،‬‬
‫فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ‬

‫‪115‬‬
‫عن ظاهره‪.‬‬
‫وإنما اختلفــوا هــل نصــرفه عــن ظــاهره معتقــدين‬
‫اتصافه سبحانه بما يليق بجلله وعظمته مــن غيــر أن‬
‫نؤوله بشيء آخر‪ ،‬وهو مذهب أكثر أهل السلف وفيــه‬
‫تأويل إجمالي‪ ،‬أو مع تأويله بشــيء آخــر وهــو مــذهب‬
‫أكثر أهل الخلــف‪ ،‬وهــو تأويــل تفصــيلي‪ ،‬ولــم يريــدوا‬
‫بذلك مخـالفة الســلف الصــالح ‪ -‬معــاذ اللــه أن يظــن‬
‫بهم ذلك ‪ -‬وإنما دعت الضــرورة فــي أزمنتهــم لــذلك‪،‬‬
‫لكثرة المجسمة والجهمية وغيرها من فــرق الضــلل‪،‬‬
‫واستيلئهم على عقول العامة‪ ،‬فقصدوا بذلك ردعهــم‬
‫وبطلن قولهم‪ ،‬ومن ثم اعتذر كثير منهــم وقــالوا‪ :‬لــو‬
‫كنــا علــى مــا كــان عليــه الســلف الصــالح مــن صــفاء‬
‫العقائد وعــدم المبطليــن فــي زمنهــم لــم نخــض فــي‬
‫تأويل شيء من ذلك( اهـ‪.‬‬
‫وقــال المــام الزركشــي – رحمــه اللــه تعــالى –‬
‫)البرهان في علوم القرآن ‪:(207 /2‬‬
‫)اختلف الناس في الوارد منها ‪ -‬يريد المتشــابهات‬
‫‪ -‬في اليات والحاديث على ثلث فرق‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ل مدخل للتأويـــل فيهــا‪ ،‬بــل تجــرى علــى‬
‫ظاهرها‪ ،‬ول نؤول شيئا ً منها‪ ،‬وهم المشبهة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن لها تأويل ً ولكنا نمسك عنه مع تنزيــه‬
‫اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول ل يعلمه إل اللــه‪،‬‬
‫وهو قول السلف‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫والثالث‪ :‬أنها مؤولة‪ ،‬وأولوها علــى مــا يليــق بــه‪.‬‬
‫والول باطسسسل‪ ،‬والخيسسسران منقسسسولن عسسسن‬
‫الصحابة‪ ...‬وممن نقل عنه التأويل علي وابن‬
‫مسعود وابن عباس وغيرهم( اهس‪.‬‬
‫وقال العلمة محمد زكريا الكاندهلوي رحمــه اللــه‬
‫تعالى عند شرحه لحــديث النــزول مــن الموطــأ )أوجــز‬
‫المســالك ‪) :(4/334‬فالعلمــاء فــي ذلــك علــى قســمين‪:‬‬
‫وضة‪ ...‬والقسم الثاني‪ :‬المؤّولة( اهـ‪.‬‬
‫الول المف ّ‬
‫بهذا يكون الصبح قد استبان لذي عينين‪ ،‬وثبــت أن‬
‫التفــويض والتأويــل همــا المــذهبان الصــحيحان فــي‬
‫المتشابه من نصـوص الصـفات‪ .‬بقـي أن نـبين سـبب‬
‫ورود مثل هذه اللفاظ في الكتاب والسنة مــع كونهــا‬
‫مثــاراختلف ومزلــة قــدم‪ ،‬فنقــول‪ :‬ل يبعــد أن يكــون‬
‫ورود مثل هذه اللفاظ اختبــارا ً وابتلًء للنــاس‪ ،‬ليتــبين‬
‫مر‪ ،‬ومــن يتبــع المتشــابه‬ ‫ُ‬
‫من يلتزم الحد ويقف حيث أ ِ‬
‫ابتغاء الفتنة وتضليل الخلق‪ ،‬قال تعالى ) هسسو السسذي‬
‫ن أم‬ ‫أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمسسات هس ّ‬
‫الكتسساب وأخسسر متشسسابهات ‪ ،‬فأمسسا السسذين فسسي‬
‫قلوبهم زيسسغ فيّتبعسسون مسسا تشسسابه منسسه ابتغسساء‬
‫الفتنة وابتغسساء تسسأويله ‪ ،‬ومسسا يعلسسم تسسأويله إل‬
‫ل مسسن‬ ‫الله ‪ ،‬والراسخون في العلم يقولون ك ّ‬
‫عند ربنا ‪ ،‬وما يتذكر إل أولوا اللباب (‬
‫)إلجــام العــوام ص‪/‬‬ ‫قال المام الغزالي رحمه الله تعالى‬

‫‪117‬‬
‫‪:(49‬‬
‫)إن قسال قسائل مــا الــذي دعــا رســول اللــه ‘ إلــى‬
‫إطلق هذه اللفاظ الموهمة مع الستغناء عنها‪ ،‬أكــان‬
‫ل يدري أنه يــوهم التشــبيه ويغل ّــط الخلــق ويســوقهم‬
‫إلــى اعتقــاد الباطــل فــي ذات اللــه تعــالى وصــفاته‪،‬‬
‫وحاشا منصب النبوة أن يخفــى عليــه ذلــك‪ ،‬أو عــرف‬
‫لل‪ ،‬وهــذا‬ ‫ل بجهــل الجهــال وضــللة الضـ ّ‬ ‫ولكن لم يبــا ِ‬
‫أبعــد وأشــنع لنــه ُبـِعـــث شـــارحا ً ل مـــبهما ً ملـ ـّبسا ً‬
‫ملغزًا‪ ،‬وهذا إشــكال لــه وقــع فــي القلــوب حــتى ج ـّر‬
‫بعض الخلق إلى سوء العتقاد فيــه‪ ،‬فقــالوا‪ :‬لــو كــان‬
‫نب ِي ّا ً لعرف الله ولو عرفه لما وصفه بما يستحيل عليه‬
‫في ذاته وصـفاته‪ ،‬ومـالت طائفـة أخــرى إلــى اعتقــاد‬
‫الظواهر‪ ،‬وقالوا لو لم يكــن حق ـا ً ‪ -‬أي هــذه الظــواهر‬
‫محالة ‪ -‬لما ذكره كــذلك مطلق ـًا‪ ،‬ولعــدل عنهــا إلــى‬ ‫ال ُ‬
‫ل‬‫غيرها أو قرنها بما يزيل اليهام عنهــا فــي ســبيل حـ ّ‬
‫هذا الشكال العظيم‪.‬‬
‫ل عنــد أهــل‬‫حــ ّ‬
‫من ْ َ‬
‫فسسالجواب‪ :‬أن هــذا الشــكال ُ‬
‫البصيرة‪ ،‬وبيانه أن هــذه الكلمــات مــا جمعهــا رســول‬
‫ة واحدة وما ذكرهــا‪ ،‬وإنمــا جمعهــا المشــبهة‪،‬‬ ‫الله دفع ً‬
‫وقد بّينا أن لجمعها من التــأثير فــي اليهــام والتلــبيس‬
‫على الفهــام مــا ليــس لحادهــا المفّرقــة‪ ،‬وإنمــا هــي‬
‫كلمات لهج بها في جميع عمره ‘ في أوقات متباعدة‪،‬‬
‫وإذا اقتصــر منهــا علــى مــا فــي القــرآن والخبــار‬

‫‪118‬‬
‫المتـواترة رجعـت إلـى كلمـات يسـيرة معـدودة‪ ،‬وإن‬
‫أضيفت إليها الخبار الصحيحة فهي أيضا ً قليلــة‪ ،‬وإنمــا‬
‫كثرت الروايات الشاذة الضعيفة التي ليجوز التعويــل‬
‫عليها‪ ،‬ثم ما تواتر منها إن صح نقلها عن العدول فهي‬
‫آحــاد كلمــات ومــا ذكــر‘ كلمــة منهــا إل مــع قــرائن‬
‫وإشــارات يــزول معهــا إيهــام التشــيبه‪ ،‬وقــد أدركهــا‬
‫الحاضرون المشاهدون‪ ،‬فــإذا ُنقلــت اللفــاظ مجــردة‬
‫عن تلك القرائن ظهــر اليهـام‪ ،‬وأعظــم القــرائن فــي‬
‫زوال اليهام المعرفة السابقة بتقديس الله تعالى عن‬
‫قبول هذه الظواهر‪ ،‬ومن سبقت معرفته بذلك كــانت‬
‫تلك المعرفة ذخيرة له راسخة في نفسه مقارنة لكل‬
‫ما يسمع‪ ،‬فينمحق معه اليهام انمحاق ـا ً ل يشــك فيــه‪،‬‬
‫ويعرف هذا بأمثلة‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنه ‘ سمى الكعبة بيت الله تعــالى‪ ،‬وإطلق‬
‫هذا يوهم عند الصبيان وعند من تقرب درجتهم منهــم‬
‫أن الكعبة وطنه ومثواه لكن العوام الذين اعتقدوا أنه‬
‫في السماء وأن استقراره على العــرش ينمحــق فــي‬
‫حقهم هذا اليهام على وجه ليشـكون فيـه‪ ،‬فلـو قيـل‬
‫لهم‪ :‬ما الذي دعا رسول الله ‘ إلى إطلق هذا اللفــظ‬
‫المــوهم المخيــل إلــى الســامع أن الكعبــة مســكنه؟‬
‫لبــادروا بــأجمعهم وقــالوا‪ :‬هــذا إنمــا يــوهم فــي حــق‬
‫الصبيان والحمقى أما من تكرر علــى ســمعه أن اللــه‬
‫مستقر على عرشه فل يشك عند ســماع هــذا اللفــظ‬

‫‪119‬‬
‫أنه ليس المراد به أن البيت مسكنه ومأواه‪ ،‬بل يعلــم‬
‫على البديهة أن المراد بهذه الضافة تشريف البيت أو‬
‫ى سواه غير ما ُوضع له لفظ البيت المضاف إلــى‬ ‫معن ً‬
‫ربه وســاكنه‪ .‬أليــس كــان اعتقــاده أنــه علــى العــرش‬
‫قرينة أفادته علما ً قطعيا ً بــأنه مــا أريــد بكــون الكعبــة‬
‫بيته أنه مــأواه‪ ،‬وأن هــذا إنمــا يــوهم فــي حــق مــن ل‬
‫يسبق إلى هذه العقيدة‪ ،‬فكذلك رسول الله ‘ خــاطب‬
‫بهذه اللفاظ جماعة سبقوا إلى علم التقــديس ونفــي‬
‫التشبيه وأنـه منـّزه عـن الجسـمية وعوارضـها‪ ،‬وكـان‬
‫ذلك قرينة قطعية مزيلــة لليهــام ل يبقــى معــه شــك‪،‬‬
‫وإن جاز أن يبقــى لبعضــهم تــردد فــي تــأويله وتعييــن‬
‫المراد به من جملــة مــا يحتملــه اللفــظ ويليــق بجلل‬
‫الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫ثم أخذ المام الغزالي رحمه الله يزيــل كــل تــوهم‬
‫في هــذه القضــية ببيــانه المحكــم وعبــارته الفصــيحة‪،‬‬
‫فليراجع فهو غاية في الهمية‪.‬‬
‫وبهذا يعلم أن من قال بظواهر هذه النصــوص قــد‬
‫خالف السلف والخلف‪ ،‬وأتــى بقــول مبتــدع ليــس لــه‬
‫نصــيب مــن الحــق‪ ،‬إذ ليــس فــي هــذه المســألة إل‬
‫التفويض أو التأويل‪ ،‬كما يعلم أيضـا ً بأن التأويل ليــس‬
‫بدعــة فــي الــدين كمــا يروجــه البعــض ‪ -‬جهل ً ‪ -‬علــى‬
‫العامة‪ ،‬بل هــو مــذهب حــق ثــابت عــن ســلف المــة‪،‬‬
‫وجارٍ على سنن لغة العرب‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫فلماذا كل هذا التهويل في أمر ل يستلزم ذلــك‪ ،‬ل‬
‫سيما والحق فيه مـع الشاعـرة والماتريدية؟!‬
‫ت‬‫ولماذا كل هذا الصرار على تفريــق المــة والف ـ ّ‬
‫ضد ِ شوكِتها؟! وكأن المة ل يكفيها مــا‬
‫خ ْ‬
‫في عضدها و َ‬
‫ن تحت وطأته من مصائب وإحن؟!!‬ ‫تئ ّ‬

‫*****‬

‫الخلف في العقيدة‬

‫هل كل خلف في العقيدة سواء كان في الصــول‬


‫أو في الفروع يترتب عليه الكفر أو الضللة‪ ،‬والبدعــة‬
‫والفسق؟‬
‫وهل وقــع بيــن الصــحابة وعلمــاء الســلف الطيــب‬
‫خلف في العقائد؟‬
‫وهل وقع بينهم رضــي اللــه عنهــم علــى إثــر ذلــك‬
‫الخلف تضليل لبعضهم أو تفسيق؟‬
‫عند الجابة على هــذه الســئلة يتضــح خطــأ الــذين‬
‫يجازفون بتضليل الشاعرة والماتريدية وعلمــاء المــة‬
‫وأعلمها وكل من خالفهم بغير علم ول روية‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫وكــان الجــدر بهــم ‪ -‬وحــال المــة مــن التفكــك‬
‫والتشرذم يدمى له قلب كل غيور ‪ -‬أن ُيحمل الخلف‬
‫إذا وجــد علــى محامــل حســنة تتفــق مــع صــدر ديننــا‬
‫الرحب‪ ،‬وُيلتمس العذر قدر المستطاع كــي ل يزيــدوا‬
‫في فرقة المة وتشتتها‪ ،‬ويعينوا عليها أعداءها‪ ،‬كالتي‬
‫نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا‪.‬‬
‫ولبيان قضية الخلف في العقيدة نقول‪:‬‬
‫إن العقيدة تنقسم إلى أصول وفروع‪ ،‬والصول‬
‫تنقسم كذلك إلى أصول الدين وأصول مذهب أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬أما أصول الدين‪ ،‬مثل‪ :‬وجود الله‬
‫تعالى ووحدانيته وبقاؤه وقدمه‪ ،‬وحدوث العالم‪ ،‬وهو‬
‫كل ما سوى الله تعالى من الموجودات‪ ،‬وصدق‬
‫الرسل والنبياء‪ ،‬ونحو ذلك من القضايا‪ ،‬فحكم‬
‫المخالف فيها الخروج من الملة بل خلف لكونها‬
‫أعمدة الدين وأسسه التي ينبني عليها‪ ،‬ومثال‬
‫المخالفين فيها أصحاب الديانات والنحل الخرى‬
‫كاليهودية والنصرانية والمجوسية والبوذية‪..‬إلخ‬
‫نقل المام النووي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عن المــام‬
‫المتولي قوله )روضة الطالبين ‪:(64 / 10‬‬
‫)من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع أو نفى ما‬
‫هو ثابت للقديم بالجماع‪ ،‬ككونه عالما ً قادرًا‪ ،‬أو أثبت‬
‫مــا هــو منفــي عنــه بالجمــاع‪ ،‬كــاللوان‪ ،‬أو أثبــت لــه‬
‫التصال والنفصال‪ ،‬كان كافرًا‪ ،‬وكذا مــن جحــد جــواز‬

‫‪122‬‬
‫بعثة الرسل‪ ،‬أو أنكر نبوة نبي من النبياء صلوات الله‬
‫وســلمه عليهــم‪ ،‬أو كــذبه‪ ،‬أو جحــد آيــة مــن القــرآن‬
‫مجمعا ً عليهــا‪ ،‬أو زاد فــي القــرآن كلمــة واعتقــد أنهــا‬
‫ب نبي ـا ً أو اســتخف بــه‪ ،‬أو اســتحل محرم ـا ً‬
‫منه‪ ،‬أو س ّ‬
‫بالجمــاع‪ ،‬كــالخمر والزنــى واللــواط‪ ،‬أو حــرم حلل ً‬
‫بالجماع‪ ،‬أو نفى وجوب مجمـع علــى وجــوبه‪ ،‬كركعـة‬
‫مــن الصــلوات الخمــس‪ ،‬أو اعتقــد وجــوب مــا ليــس‬
‫بـواجب بالجمـاع‪ ،‬كصـلة سادسـة وصـوم شـوال‪ ،‬أو‬
‫نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة‪ ،‬أو ادعــى‬
‫دعيا ً لهـا‪ ،‬أو عظــم صــنما ً‬
‫النبوة بعد نبينا ‘‪ ،‬أو صدق م ّ‬
‫بالسجود له‪ ،‬أو تقرب إليــه بالذبــح باســمه فكــل هــذا‬
‫كفر( اهـ‪.‬‬
‫وهنا قضية هامة وخطـرة لبــد مـن التعريـج عليهــا‬
‫قبــل النتقــال إلــى الخلف فــي أصــول أهــل الســنة‬
‫والجماعــة بشــيء مــن البســط حســب مــا يقتضــيه‬
‫المقــام‪ ،‬وهــي قــول المــام المتــولي )أو أثبــت لــه‬
‫التصال أو النفصال( فجعل إثبات التصال والنفصال‬
‫للــه تعــالى مــن المــور المكفــرة ووافقــه علــى ذلــك‬
‫المام النووي‪ ،‬وسيأتي معنا أقوال العلماء الــتي تنــزه‬
‫الله تعالى عــن التصــال والنفصــال والمكــان والحيــز‬
‫والجهة وكل ما ل يليق به من صفات المخلوقين‪.‬‬
‫والتصال والنفصــال هــو الــدخول والخــروج الــذي‬
‫ينزه أهل السنة الله تعالى عن التصاف بأحدهما‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫هذه القضية من الهمية والخطورة بمكــان‪ ،‬ولــول‬
‫عدم الفهم لهـا فهمـا ً صـحيحا ً مـن قبـل هـؤلء الـذين‬
‫ينكرون على الشاعرة لجلها ما أدرجناها هنا لــدقتها‪،‬‬
‫بيد أننا سنحاول أن ل ندخل فــي تفاصــيلها وســنكتفي‬
‫بالبيان الجمالي وبنقل أقــوال العلمــاء المحــذرة مــن‬
‫وصــف اللــه تعــالى بــأي شــيء مــن ذلــك‪ ،‬ومــن أراد‬
‫الستزادة والتفصيل فليراجع المسألة في مظانها من‬
‫كتب العقائد‪.‬‬
‫كثيرا ما نقرأ أو نسمع من البعض التصريح بوصف‬
‫الله تعالى بأنه )بائن من خلقه بذاته!!( وهــذا القــول‬
‫هــو مــا حــذر العلمــاء منــه‪ ،‬لن البينونــة بالــذات هــي‬
‫النفصال الذي حكم العلماء بحرمة وصف الله تعــالى‬
‫به كما مر من قول المتولي وإقــرار النــووي رحمهمــا‬
‫الله‪ ،‬وكما سيأتي مــن نصــوص غيرهمــا مــن العلمــاء‪،‬‬
‫فهذا القول ‪ -‬وهو قولهم بائن بذاته – فضل عن كــونه‬
‫قول ً ممتنعا ً عقل ً فهو أيضـا ً قــو ٌ‬
‫ل مبتــدع لــم يــرد فــي‬
‫كتاب ول ســنة ول علــى لســان أحــد مــن الصــحابة أو‬
‫التابعين‪.‬‬
‫وإليك أقوال العلماء في إنكار لفظة )بذاته(‪:‬‬
‫قسسال الحسسافظ السسذهبي أثنسساء ترجمسسة ابسسن‬
‫الزاغوني )سير أعلم النبلء ‪:(19/607‬‬
‫)قــد ذكرنــا أن لفظــة بــذاته ل حاجــة إليهــا‪ ،‬وهــي‬
‫تشغب النفوس‪ ،‬وتركها أولى‪ ،‬والله أعـلــم( اهـ‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫وقال الحسسافظ ابسسن حجسسر العسسسقلني عنــد‬
‫شرحه لحــديث "إن أحــدكم إذا قــام فــي صــلته فــإنه‬
‫يناجي ربـه أو إن ربـه بينـه وبيـن القبلـة‪ "...‬الحـديث‪،‬‬
‫قال‪):‬وفيه ‪ -‬أي الحديث ‪ -‬الرد على من زعم أنه على‬
‫العرش بذاته( اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ الذهبي فسسي كتسساب‬
‫)العلــو ‪ /‬ص‬
‫‪ (263‬بعد أن نقل قول يحيى بن عمار‪) :‬بل نقول هــو‬
‫بذاته على العــرش وعلمــه محيــط بكــل شــيء( قــال‬
‫الذهبي )قولك "بذاته"من كيسك( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضسا ً فــي ترجمــة الحــافظ أبــي القاســم‬
‫إسماعيل بن محمد التيمي )سير أعلم النبلء ‪:(20/86‬‬
‫)قلت‪ :‬الصواب الكف عن إطلق ذلــك‪،‬إذ لـم يـأت‬
‫فيه نص‪ ،‬ولو فرضنا أن المعنى صــحيح فليــس لنــا أن‬
‫نتفوه بشـيء لــم يـأذن بـه اللـه خوفـا ً مـن أن يـدخل‬
‫القلب شيء من البدعة‪ .‬اللهــم احفــظ علينــا إيماننــا(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وافتراض الذهبي لصحة المعنى محمــول علــى مــا‬
‫ذكره صاحب الترجمة من المعــاني الصــحيحة للفظــة‬
‫)بــذاته( ل علــى المعنــى الظــاهر المتبــادرإلى الــذهن‬
‫منها‪.‬‬
‫وقال المام بدر الدين بن جماعة رحمه الله‬
‫تعالى في كتابه )إيضاح الدليل ص‪:(107/‬‬

‫‪125‬‬
‫)فمن جعل الستواء في حقه تعالى ما يفهــم مــن‬
‫صــفات المحــدثين وقــال‪ :‬استـــوى بــذاته‪ ،‬أو قــال‪:‬‬
‫استوى حقيقة فقد ابتدع بهذه الزيادة الــتي لــم تثبــت‬
‫في السنة ول عن أحد من الئمة المقتدى بهم( اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ الذهبي في )العلو‪ /‬ص ‪:(256‬‬
‫)وقد نقموا عليه ـ يعني ابن أبي زيــد القيروانــي ـ ـ‬
‫في قوله بذاته‪ .‬فليته تركها( اهـ‪.‬‬
‫هذا مع اليقين بأن المام ابن أبــي زيــد القيروانــي‬
‫حت عنه)‪ - (1‬المعنى الذي‬ ‫لم ي ُرِد ْ بهذه اللفظة ‪ -‬إذا ص ّ‬
‫ي من أقوال‬ ‫يريده البعض من ذكرها‪ ،‬كما هو بّين وجل ّ‬
‫شراح رسالته‪ ،‬وهو أشعري محب للمام أبي الحســن‬
‫حّبه‪ ،‬قال‪) :‬مــا‬ ‫كما هو واضح من جوابه لمن لمه في ُ‬
‫الشعري إل رجل مشهور بالرد ّ على أهل البدع وعلى‬
‫القدرية والجهمية متمســك بالســنن( اهـــ‪ ،‬وقــد ذكــره‬
‫التــاج الســبكي ضــمن الطبقــة الثانيــة مــن الشــاعرة‬
‫"‬ ‫الذين فات الحافظ ابن عساكر ذكرهم في كتابه‬
‫التــبيين " )تــبيين كــذب المفــتري ص‪ ،123/‬طبقــات الشــافعية‬
‫الكبرى ‪.(372 ،368 /3‬‬
‫)الســـتذكار‬ ‫وقال المام ابن عبدالبر رحمه الله‬

‫‪ ()1‬قال العلمة الكوثري رحمه اللــه فــي تعليقــه علــى تــبيين‬


‫كذب المفتري في هامش ص‪) 123/‬يطبق شراح رسالته على أن‬
‫هــذه اللفظــة إمــا مدسوســة أو مــن قبيــل الحــتراس بــالرفع أي‪:‬‬
‫المجيد بذاته ل بالخدم والخول(‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫‪:(153/ 8‬‬
‫)وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة‪ :‬إنه ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫ينزل بذاته! وهذا قول مهجور‪ ،‬لنه تعالى ذ ِك ْـُره ليــس‬
‫بمحـــل للحركـــات ول فيـــه شـــيء مـــن علمـــات‬
‫المخلوقات‪ (.‬اهـ‪.‬‬
‫)الســير‬ ‫وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى‬
‫‪ ،20/331‬في ترجمة كوتاه(‪:‬‬
‫)وكذا قوله) وجاء ربك ( ونحــوه‪ ،‬فنقــول‪ :‬جــاء‪،‬‬
‫وينزل‪ ،‬وننهى عن القول‪ :‬ينــزل بــذاته‪ ،‬كمــا ل نقــول‪:‬‬
‫ينزل بعلمــه‪ ،‬بــل نســكت ول نتفاصــح علــى الرســول‬
‫صلى الله عليه وسلم بعبارات مبتدعــة‪ ،‬واللــه أعلــم(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وبهذا يتضح أن لفظة بــذاته غيــر ثابتــة عــن ســلف‬
‫المة الطيب ويأباها العقل والنقــل‪ .‬فــأي حجــة أقــوى‬
‫من هــذه الحجــة ونصــوص الئمــة ل تحتمــل معهــا أي‬
‫معنى آخر‪ ،‬ونحن إذ نثبت هذا ل نحتــم علــى مخالفينــا‬
‫فــوا عــن‬ ‫اتبــاع مــا نقــول‪ ،‬ك ّ‬
‫ل‪ ،‬وإنمــا حســبنا أن يك ّ‬
‫إساءتهم لعلماء المــة وأئمــة الهــدى الــذين ل يفتــأون‬
‫ُيجّرحـــونهم ويقعـــون فـــي أعراضـــهم!! قــــال أبــــو‬
‫الحسيـن ابن المنـادي ‪ -‬رحمـه الله ‪ -‬كمــا نقلــه ابــن‬
‫الجـوزي مـن خ ّ‬
‫طه )دفع شبه التشبيه ‪:(192‬‬
‫)ولسنا نختلف أن الجبار ل يعلوه شيء مــن خلقــه‬
‫بحال‪ ،‬وأنه ل يح ـ ّ‬
‫ل بالشــياء بنفســه‪ ،‬ول يــزول عنهــا‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫لنه لو حل بها لكان منها‪ ،‬ولو زال عنها لنــأى عنهــا‪(..‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫ل بالشسسياء‬ ‫وقــول ابــن المنــادي )وأنسسه ل يح س ّ‬
‫بنفسه ول يزول عنها( هو عين ما يعنيــه العلمــاء‬
‫بقولهم‪ :‬إن الله تعالى ل يوصف بالتصــال والنفصــال‬
‫والدخول والخروج‪.‬‬
‫وابن المنـادي هو المام أحمد بــن جعفــر المقــرئ‬
‫الحافظ كما وصفه الذهبي)السير ‪(361 / 15‬قال‪) :‬قال‬
‫ي‪ :‬مقــرئ جليــل غايــة فــي التقــان‪ ،‬فصــيح‬
‫عنه الــدان ّ‬
‫اللسان‪ ،‬عالم بالثار‪ ،‬نهاية في علم العربيــة‪ ،‬صــاحب‬
‫سنة ثقة مأمون‪ (.‬اهـ‪.‬‬
‫)المقدمــة‬ ‫قال العلمة ابن خلدون رحمه الله تعــالى‬
‫ص‪:(868/‬‬
‫)يقــع كــثيرا ً فــي كلم أهــل العقــائد مــن علمــاء‬
‫الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته‪ ،‬ويقــع‬
‫للمتكلمين أنه ل مباين ول متصل‪ ،‬ويقع للفلسفة أنــه‬
‫ن تفصــيل هــذه‬ ‫ل داخــل العــالم ول خــارجه‪ ...‬فلنــبي ْ‬
‫ل واحــد منهــا حــتى تتضــح‬ ‫ح حقيقة ك ـ ّ‬‫المذاهب ونشر ْ‬
‫معانيها‪ ،‬فنقول‪ :‬إن المباينة تقــال لمعنييــن أحسدهما‪:‬‬
‫المباينة في الحيز والجهة‪ ،‬ويقابلهــا ]أي المباينــة بهــذا‬
‫المعنــى[ التصــال‪ ،‬وُتشـِعر هــذه المقابلــة علــى هــذه‬
‫ما صريحا ً وهو تجسيم‪ ،‬أو لزومـا ً وهــو‬ ‫التقيد َ بالمكان إ ّ‬
‫تشبيه من قبيل القــول بالجهــة‪ ،‬وقــد نقــل مثلــه عــن‬

‫‪128‬‬
‫بعــض علمــاء الســلف مــن التصــريح بهــذه المباينــة‪،‬‬
‫فيحتمــل غيــر هــذا المعنــى‪ ،‬ومــن أجــل ذلــك أنكــر‬
‫المتكلمون هذه المباينة‪ ،‬وقــالوا‪ :‬ل يقــال فــي البــارئ‬
‫ن مخلوقاَته ول متصل بها‪ ،‬لن ذلك إنما يكون‬ ‫أنه مباي ٌ‬
‫ل ل يخلــو عــن‬ ‫للمتحيــزات‪ ،‬ومــا يقــال مــن أن المح ـ ّ‬
‫ده ]أي نقيضــه[ فهــو مشــروط‬ ‫التصاف بالمعنى وض ـ ّ‬
‫مــا مــع امتنــاعه فل‪ ،‬بــل يجــوز‬ ‫بصحة التصاف أو ً‬
‫ل‪ ،‬وأ ّ‬
‫ده كما يقال في الجماد ل عــالم‬ ‫الخلوّ عن المعنى وض ّ‬
‫مي‪ ،‬وصــحة‬ ‫ول جاهل ول قادر ول عاجز ول كاتب ول أ ّ‬
‫التصــاف بهـــذه المباينـــة ]أي المباينــة فــي الحيــز‬
‫والجهة[ مشروط بالحصول في الجهة‪ ،‬على مــا تقــرر‬
‫مــن مــدلولها‪ ،‬والبــارئ منــزه عــن ذلــك‪ ،‬ذكــره ابــن‬
‫التلمساني في شرح اللمع لمــام الحرميــن‪ ،‬وقــال‪" :‬‬
‫ول يقال في البـارئ مبــاين للعـالم ول متصــل بـه‪ ،‬ول‬
‫داخل فيه ول خارج عنه‪....." .‬‬
‫وأمــا المعنسسى الخسسر للمباينــة فهــو المغــايرة‬
‫والمخالفة‪ ،‬فيقال‪ :‬البارئ مباين لمخلوقــاته فــي ذاتــه‬
‫وهــويته ووجــوده وصـفاته‪ ،‬ويقـابله التحـاد والمـتزاج‬
‫والختلط‪ ،‬وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق‬
‫كلهم مسسن جمهسسور السسسلف وعلمسساء الشسسرائع‬
‫والمتكلميسسن والمتصسسوفة القسسدمين كأهسسسل‬
‫الرسالسة ]أي من جاء ذكرهم في رسالة القشــيري[‬
‫ومن نحا منحاهم( اهـ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫)دفــع شــبه‬ ‫وقال ابن الجوزي‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫التشبيه ص ‪:(130‬‬
‫)فــإن التجــاور والتبــاين مــن لــوازم المتحيــز فــي‬
‫المتحيزات‪ ،‬وقد ثبت أن الجتماع والفتراق من لوازم‬
‫المتحيز‪ ،‬والحق سبحانه وتعــالى ل يوصــف بــالتحيز‪...‬‬
‫وكذا ينبغي أن يقال‪ :‬ليس بداخل العالم وليس بخارج‬
‫منه‪ ،‬لن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما‬
‫كالحركــة والســكون وســائر العــراض الــتي تختــص‬
‫بالجرام‪ ....‬وكلم هؤلء كله مبني علـى الحــس‪ ،‬وقـد‬
‫حملهم الحس على التشبيه والتخليط( اهـ‪.‬‬

‫ولقد فرعوا على القول بأن الله تعالى بائن بــذاته‬


‫من خلقه ـــ وهــي بينونــة حســية ـــ وعلــى إثبــات الحــد لــه‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬فرعوا على ذلــك القــول بالجهــة للــه‬
‫تعالى أي أنــه تعــالى بجهــة الفــوق حسـا ً ويشــار إليــه‬
‫بالشارة الحسية‪ ،‬ونسبوا لله تعالى المكان‪.‬‬

‫وهذه أقوال الئمة الثقات بنفي الجهة‬


‫عن الله تعالى وتنزيهه عن المكان‪:‬‬
‫* تنزيه المام مالك لله تعسسالى عسسن الجهسسة‬
‫والمكان والعلو والنزول الحسي‪:‬‬
‫ذكر المام قاضي القضاة ناصـر الــدين بـن المنيـر‬

‫‪130‬‬
‫السكندري المالكي في كتــابه" المنتقــى فــي شــرف‬
‫المصطفى "لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال‪:‬‬
‫)ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى فــي قــوله " ل‬
‫تفضلوني على يــونس بــن مــتى " فقــال مالــك‪ :‬إنمــا‬
‫خص يونس للتنبيه على التنزيه لنه‪ ،‬رفع إلى العــرش‬
‫ويــونس عليــه الســلم هبــط إلــى قــاموس البحــر‬
‫ونسبتهما مع ذلــك مــن حيــث الجهــة إلــى الحــق جــل‬
‫جلله نسـبة واحـدة ولـو كـان الفضـل بالمكـان لكـان‬
‫ما‬‫عليه السلم أقرب من يونس بن متى وأفـضـل‪ ،‬ول َ َ‬
‫نهى عن ذلك( اهـ‪.‬‬
‫ثم أخذ المام ناصر الدين يبين أن الفضل بالمكانة‬
‫ل بالمكان لن العرش في الرفيق العلى فهو أفضــل‬
‫من السفلى‪) .‬إتحاف السادة المتقين ‪.(105 /2‬‬

‫وقــال المــام مالــك رضــي اللــه عنــه فــي تــأويله‬


‫للنزول في الحديث )ينزل أمره كــل ســحر‪ ،‬فأمــا هــو‬
‫عز وجل فإنه دائم ل يزول ول ينتقــل‪ ،‬ســبحانه ل إلــه‬
‫إل هو( اهـ‪) .‬التمهيد ‪ ،143 / 7‬شرح صحيح مسلم للنووي ‪/6‬‬
‫‪ ،37‬سير أعلم النبلء ‪ ،105 / 8‬النصاف لبن السيد البطليوسي‬
‫ص ‪ (81 /‬قــال المــام ابــن عبــد الــبر بعــد نقلــه لقــول‬
‫مالك‪) :‬وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله‬
‫علـــى معنـــى أنــه تتنــزل رحمتــه وقضـــاؤه بــالعفو‬
‫والستجابة( ثم قال بعد أن ذكر قول الــذين يقولــون‪:‬‬
‫ينزل بذاته‪ .‬قال رحمه الله تعالى‪) :‬ليس هــذا بشــيء‬

‫‪131‬‬
‫عند أهل الفهم من أهل السنة‪ ،‬لن هــذا كيفيــة‪ ،‬وهــم‬
‫يفزعون منها لنها ل تصلح إل فيما يحاط به عيانا ً وقد‬
‫جل الله وتعالى عن ذلك(‪.‬‬

‫* قسسول المسسام الطسسبري فسسي نفسسي العلسسو‬


‫الحسي‪:‬‬
‫قال المام ابن جرير الطبري ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫عند تفسير قوله عز وجل‬
‫) وه القسساهر فسسوق عبسساده ( )‪ (103 / 7‬قــال‬
‫)فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه( فجعل ‪-‬‬
‫رحمه اللــه ‪ -‬فوقيــة اللــه علــى عبــاده فوقيــة القهــر‪،‬‬
‫وعباده دونه أي تحته من هذه الحيثية‪.‬‬
‫وقال أيضا ً مؤول ً علو الله تعالى على عرشه ونافيا ً‬
‫للســتقرار والتحيــز )‪) :(192 / 1‬عل عليــه علــو ملــك‬
‫وسلطان ل علو انتقال وزوال( اهـ‪.‬‬

‫* قول القاضي عياض فسسي صسسرف ألفسساظ‬


‫المتشسسابه عسسن ظاهرهسسا ونقلسسه اتفسساق المسسة‬
‫على ذلك‪:‬‬
‫)إكمال المعلــم ‪ ،2/465‬شــرح‬ ‫قال ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫صحيح مسلم للنووي ‪:(24 / 5‬‬
‫)ل خلف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحــدثهم‬

‫‪132‬‬
‫ومتكلمهــم ونظــارهم ومقلــدهم أن الظــواهر الــواردة‬
‫بذكر الله تعالى في السمـاء كقــوله تعــالى) ءََأمنتم‬
‫مسسن فسسي السسسماء أن يخسسسف بكسسم الرض (‬
‫ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولــة عنــد جميعهــم(‬
‫اهـ‪.‬‬

‫* قول المام النووي‪:‬‬


‫قال ـ رحمه الله تعالى ـ )روضة الطالبين ‪:(85 / 10‬‬
‫)ولو قال – يعني الكافر – ل إله إل ساكن السماء‪،‬‬
‫لم يكــن مؤمنـًا‪ ،‬وكــذا لــو قــال ل إلــه إل اللــه ســاكن‬
‫السماء‪ ،‬لن السكون محال على الله( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً ـ رحمه الله تعالى ـ فــي شــرح حــديث‬
‫)شرح مسلم ‪:(24 / 5‬‬ ‫الجارية‬
‫)هذا حديث من أحــاديث الصــفات وفيهــا مــذهبان‪،‬‬
‫أحدهما اليمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد‬
‫أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهــه عـن سـمات‬
‫المخلوقات‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬تأويله بما يليق‪ .‬فمن قال بهذا قــال‪ :‬كـأن‬
‫المــراد امتحــان الجاريــة هــل هــي موحــدة ُتق ـّر بــأن‬
‫الخالق المدبر الفعــال هــو اللــه وحــده وهــو الــذي إذا‬
‫دعاه الداعي استقبل السماء‪ ،‬كما إذا ص ـّلى المص ـّلي‬
‫استقبل الكعبة‪ ،‬وليس ذلك لنه منحصــر فـي السـماء‬

‫‪133‬‬
‫كما أنه ليس منحصرا ً في جهــة الكعبــة‪ ،‬بــل ذلــك لن‬
‫السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصّلين‪ ،‬أو‬
‫هي من عبدة الوثـان التي بين أيــديهم‪ ،‬فلمــا قـــالت‪:‬‬
‫علم أنها موحـدة وليست عابـدة للوثان(‬ ‫في السمـاء ُ‬
‫اهـ‪.‬‬

‫* قول الحافظ ابن حجر العسقلني‪:‬‬


‫قال ‪ -‬رحمه اللــه تعــالى ‪) -‬الفتــح ‪) :(158 / 6‬ول‬
‫يلزم من كسسون جهسستي العلسسو والسسسفل محسسال‬
‫علسسى اللسسه أن ل يوصسسف بسسالعلو‪ ،‬لن وصسسفه‬
‫بالعلو‪ ،‬من جهسسة المعنسسى‪ ،‬والمسسستحيل كسسون‬
‫ذلك من جهة الحس( اهـ‪.‬‬
‫وقال ‪ -‬أيضا ً ‪ -‬معلقا ً على حديث "إن أحدكم إذا‬
‫قام في صلته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه‬
‫وبين القبلة فل يبزقن أحدكم قبل قبلته "‪:‬‬
‫)وفيه رد على من زعم أنه ‪ -‬تعالى ‪ -‬على العرش‬
‫بذاته( اهـ )الفتح ‪.(508/ 1‬‬
‫وقال أيضا ً منزها ً للــه تعــالى عــن الجهــة والمكــان‬
‫عند كلمه على حــديث " ل شــخص أغيــر مــن اللــه "‬
‫)الفتح ‪:(413 / 13‬‬
‫)وكــأن لفــظ الشــخص أطلــق مبالغــة فــي إثبــات‬
‫إيمان من يتعذر على فهمه موجود ل يشبه شــيئا ً مــن‬

‫‪134‬‬
‫الموجــودات‪ ،‬لئل يفضـي بـه إلـى النفـي والتعطيــل‪،‬‬
‫وهو نحو قولـه ‘ للجاريــة " أيــن اللــه " قــالت‪ " :‬فــي‬
‫السماء "‪ ،‬فحكم بإيمانها مخافة أن تقع فـي التعطيـل‬
‫ما ينبغي له من تنزيهـه ممــا يقتضـــي‬ ‫لقصور فهمها ع ّ‬
‫وا كبيرًا( اهـ‪.‬‬ ‫التشبيـه تعـالى الله عن ذلك عل ّ‬
‫وقال أيضا ً ناقل ً قــول ابــن بطــال مؤيــدا ً لــه )الفتــح‬
‫‪:(13/397‬‬
‫)والله منزه عن الحلول في المواضع‪ ،‬لن الحلول‬
‫عرض يفنى‪ ،‬وهو حادث‪ ،‬والحادث ل يليق بالله‪ (.‬اهـ‪.‬‬
‫وقال في شرحه لحديث النزول )الفتح ‪:(37 / 3‬‬
‫و‪،‬‬
‫)استدل به من أثبت الجهة وقال‪ :‬هي جهــة العلـ ّ‬
‫وأنكــر ذلــك الجمهــور‪ ،‬لن القــول بــذلك يفضــي إلــى‬
‫التحيز تعالى الله عــن ذلــك‪ .‬وقــد اختلــف فــي معنــى‬
‫النزول على أقوال‪:‬‬
‫فمنهم من حملسسه علسسى ظسساهره وحقيقتسسه‬
‫وهم المشبهة‪ ،‬تعالى الله عن قولهم‪.‬‬
‫ومنهم من أنكر صحة الحاديث الــواردة فــي ذلــك‬
‫جملة‪ ،‬وهم الخوارج والمعتزلة‪ ،‬وهو مكابرة‪...‬‬
‫ومنهــم مــن أجــراه علــى مــا ورد مؤمن ـا ً بــه علــى‬
‫طريق الجمال منزها ً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه‬
‫وهم جمهور السلف‪ ،‬ونقله البيهقي وغيره عن الئمــة‬
‫مــادين والوزاعــي والليــث‬
‫الربعــة والســفيانين والح ّ‬

‫‪135‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫ومنهم من أّوله على وجه يليق مستعمل فــي كلم‬
‫العرب‪ ...‬ومنهم من فصل بين ما يكون تــأويله قريبــا ً‬
‫مســتعمل ً فــي كلم العــرب وبيــن مــا يكــون بعيــدا ً‬
‫وض فــي بعــض‪ ،‬وهــو‬ ‫مهجــورًا‪ ،‬فــأّول فــي بعــض وف ـ ّ‬
‫منقول عن مالك وجزم به من المتــأخرين ابــن دقيــق‬
‫العيد(’اهـ‪.‬‬

‫* قول المام ابن الجوزي‪:‬‬


‫)دفــع شــبه التشــبيه‪ .‬ص ‪/‬‬ ‫قــال ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫‪:(136‬‬
‫)اعلــم أن كــل مــن َيتصــور وجــود الحــق ســبحانه‬
‫وجودا ً مكانيـا ً ط َل َـ َ‬
‫ب لــه جهــة‪ ،‬كمــا أن مــن تخيــل أن‬
‫وجوده وجود زماني طلب لــه مــدة فــي تقــدمه علــى‬
‫العالم بأزمنة‪ ،‬وكل التخيلين باطل‪.‬‬
‫وقد ثبت أن جميع الجهات تتســاوى بالضــافة إلــى‬
‫القائل بالجهة‪ ،‬فاختصاصه ببعضها ليس بواجب لــذاته‪،‬‬
‫بل هـو جـائز فيحتـاج إلـى مخصــص يخصصـه ويكــون‬
‫الختصاص بذلك المعنى زائدا ً علــى ذاتــه ومــا تطــرق‬
‫الجواز إليه اســتحال قــدمه‪ ،‬لن القــديم هــو الــواجب‬
‫الوجود من جميع الجهات‪ ،‬ثم إن كل من هو في جهــة‬
‫درا ً محــدودا ً وهــو يتعــالى عــن ذلــك‪ ،‬وإنمــا‬
‫يكــون مقـ ّ‬

‫‪136‬‬
‫الجهات للجــواهر والجســام لنهــا أجــرام تحتــاج إلــى‬
‫جهة‪ ،‬والجهة ليست في جهة‪ ،‬وإذا ثبــت بطلن الجهــة‬
‫ثبت بطلن المكان‪ ،‬ويوضحه أن المكــان يحيــط بمــن‬
‫فيه والخالق ل يحويه شيء ول تحدث له صفة( اهـ‪.‬‬
‫وقوله رحمه الله تعالى )والجهة ليست فــي جهــة(‬
‫قــل موجــود ليــس‬ ‫أراد أن يرد ّ فيه زعم الزاعم‪ :‬ل ي َُتع ّ‬
‫صل ً بهذا إلى إثبــات الجهــة للــه تعــالى‪ ،‬إذ‬ ‫في جهة‪ .‬تو ّ‬
‫الجهة موجودة عند هذا الزاعم وهي ليست فــي جهــة‬
‫من نفسها‪ ،‬إذ لو كانت كذلك لتسلسل المر إلى غيــر‬
‫نهاية‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فثبت أن الجهــة موجــودة بل جهــة‪،‬‬
‫قل موجــود ليــس فــي جهــة‬ ‫وبه ينتقض زعمهم‪ :‬ل ي َُتع ّ‬
‫من الجهات‪.‬‬
‫وقال القاضي أبو يعلى )دفع شبه التشبيه ‪:(137‬‬
‫)إن الله عّز وج ّ‬
‫ل ل يوصف بالمكان( اهـ‪.‬‬
‫قال المام ابن الجوزي بعد نقله لقــول أبــي يعلــى‬
‫الفراء )دفع شبه التشبيه ‪:(138‬‬
‫)فإن قيل‪ :‬نفي الجهات يحيل وجوده‪ .‬قلنسسا‪ :‬إن‬
‫كان الموجود يقبل التصال والنفصــال فقــد صــدقت‪،‬‬
‫وه مــن طــرف النقيــض‬
‫ما إذا لم يقبلهما فليس خل ـ ّ‬
‫فأ ّ‬
‫بمحال‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬أنتم تلزموننا أن نقّر بما ل يدخل تحت‬
‫الفهم‪ .‬قلنا‪ :‬إن أردت بــالفهم التخيــل والتصــور فــإن‬

‫‪137‬‬
‫الخالق ل يدخل تحت ذلك‪ ،‬إذ ليــس يحــس ول يــدخل‬
‫تحت ذلك إل جســم لــه لــون وقــدر‪ ،‬فــإن الخيــال قــد‬
‫أنس بالمبصرات فهو ل يتوهم شيئا ً إل على وفــق مــا‬
‫رآه لن الوهم من نتائج الحس‪ ،‬وإن أردت أنه ل يعلم‬
‫بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل‪ ،‬لن العقـل مضـطر‬
‫إلى التصديق بموجب الدليل‪.‬‬
‫س ـا ً أو عرض ـا ً وعلمــت‬
‫ما لم تجد إل ح ّ‬ ‫واعلم أنك ل ّ‬
‫تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صــرفك عــن‬
‫ذلك‪ ،‬فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيــزا ً أو متحركـا ً‬
‫أو منتق ً‬
‫ل‪.‬‬
‫مي قلنــا‪ :‬ل‬
‫ما كان مثل هذا الكلم ل يفهمه العــا ّ‬
‫ول ّ‬
‫تسمعوه ما ل يفهمه ودعوا اعتقاده ل تحركوه‪ ،‬ويقال‬
‫إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به( اهـ‪.‬‬
‫وهذا واضح في أن الصل في النصوص المتشابهة‬
‫التفويض ما لم تد ْع ُ حاجة إلى التأويــل‪ ،‬وهــو مــا كــان‬
‫عليه جمهور السلف الصــالح كمــا ســيأتي مــن أقــوال‬
‫العلماء التي تفيد ذلك‪ ،‬وأنهم ـ نعني السلف ـ لو ُوجد‬
‫في أزمانهم ما حدث بعد ذلك لجهروا بالتأويــل‪ ،‬كيــف‬
‫وقد ثبت التأويل عن جماعات منهم؟!‬

‫* قول المام القشيري‪:‬‬


‫)إتحــاف‬ ‫قال المام القشيري ‪ -‬رحمه اللــه تعــالى ‪-‬‬

‫‪138‬‬
‫الســادة المتقيــن ‪) :(108 / 2‬فــالرب موصـــوف بــالعلو‬
‫وفوقيـة الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكـان‬
‫وعن المحاذاة( اهـ‪.‬‬

‫* قول قاضي القضاة ابن المنير‪:‬‬


‫نقل الحـافظ ابن حجر عن ابــن المنيـــر مؤي ّــدا ً لــه‬
‫في تنزيـه الله تعــالى عن المكان والجهة )فتــح البــاري‬
‫‪:(429 / 13‬‬
‫)قــال ابــن المنيــر‪ ...‬قــوله " رب العــرش "‪ ...‬نب ّــه‬
‫]يعني البخــاري[ علــى بطلن قــول مــن أثبــت الجهــة‬
‫م ‪ -‬أي مثبــت‬ ‫أخــذا ً مــن قــوله " ذي المعــارج " ف َ‬
‫فـ ـهِ َ‬
‫الجهــة ‪ -‬أن العلـوّ الفــوقي مضــاف إلــى اللــه تعــالى‪،‬‬
‫فبين المصنف ]يعني البخاري[ أن الجهة الــتي يصــدق‬
‫عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنهــا عــرش‬
‫كل منهما مخلوق مربوب محدث‪ ،‬وقد كان اللــه قبــل‬
‫ذلك وغيره‪ ،‬فحدثت هــذه المكنــة‪ ،‬وقــدمه ‪ -‬تعــالى ‪-‬‬
‫يحيل وصفه بالتحيز فيها والله أعلم( اهـ‪.‬‬
‫وبهذا تتفق كلمــة البخــاري وابــن المنيــر والحــافظ‬
‫ابن حجر رحمهم الله تعالى في هذا النص على تنزيــه‬
‫اللــه تعــالى عــن المكــان والجهــة‪ ،‬وهــذا قــول جميــع‬
‫المنزهين‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫* قول المام البيضاوي‪:‬‬
‫)فتــح‬ ‫وقال المام البيضاوي ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫الباري ‪:(37 / 3‬‬
‫)ولمــا ثبــت بــالقواطع أنــه ســبحانه منــزه عــن‬
‫الجســمية والتحيــز امتنــع عليــه النــزول علــى معنــى‬
‫النتقال من موضع إلى موضــع أخفــض منــه‪ ،‬فــالمراد‬
‫نور رحمته‪ ،‬أي ينتقل من مقتضى صفة الجـــلل الــتي‬
‫تقتضي الغضب والنتقـام إلى مقتضـى صـفة الكــرام‬
‫التي تقتضي الرأفة والرحمة( اهـ‪.‬‬

‫* قول المام القرطبي‪:‬‬


‫وقــال المــام القرطــبي فــي تفســير قــوله تعــالى‬
‫) وهو القاهر فوق عباده (‬
‫)‪) :(399 / 6‬ومعنى فوق عباده‪ ،‬فوقيــة الســتعلء‬
‫بالقهر والغلبة عليهم‪ ،‬أي أنهم تحت تسخيره ل فوقية‬
‫مكان( اهـ‪.‬‬

‫نخلــص مــن هــذا إلــى أن القــول بــأن اللــه تعــالى‬


‫ساكن في السماء‪ ،‬أو أنه على العرش بـذاته أو ينـزل‬
‫بذاته أو استوى على العرش بــذاته أو علــى الحقيقــة‪،‬‬
‫أو أنه تعالى بائن من خلقه بذاته‪ ،‬كل ذلك وصف للــه‬
‫ل‪ ،‬فهذه نصــوص‬ ‫بما يستحيل في حقه تعالى عقل ً ونق ً‬

‫‪140‬‬
‫واضحة قاطعة بتنزيه الله تعالى عــن المكــان والجهــة‬
‫والحيــز والتصــال والنفصــال والــدخول والخــروج‪،‬‬
‫وقاضــية علــى مــن أثبــت شــيئا ً مــن ذلــك للــه تعــالى‬
‫بالتشبيه‪.‬‬
‫ول يفهم مــن قــول أهــل الحــق‪ :‬إن اللــه تعــالى ل‬
‫يوصف بأنه داخل العالم ول بأنه خــارج العــالم‪ .‬بــأنهم‬
‫يصفونه تعالى بالعدم‪ ،‬معاذ اللــه‪ ،‬كل‪ ،‬وإنمــا مرادهــم‬
‫أن إطلق هذا اللفــظ علــى اللــه تعــالى ل يجــوز وهــو‬
‫منزه عنه‪ ،‬هذا مع إثباتهم أن الله تعالى ليس حال ّ في‬
‫العالم وليس شيء مـن العـالم حـال ّ فيـه تعــالى‪ ،‬أمـا‬
‫الدخول والخــروج والتصــال والنفصــال فل يجــوز أن‬
‫يضاف شيء منها إلــى اللــه تعــالى لنهــا مــن صــفات‬
‫الجسام‪.‬‬
‫أما ما جاء في الكتاب والســنة مــن اللفــاظ الــتي‬
‫ظاهرها إثبات الجهة والمكان لله تعالى فهي ـ قطعــا ً‬
‫وباتفــاق علمــاء الســلف والخلــف ـــ مصــروفة عــن‬
‫ظاهرهــا وحقائقهــا كمــا م ـّر مــن أقــوال العلمــاء‪ ،‬ول‬
‫خلف بين المسلمين في ذلك كما نقل المام النــووي‬
‫عن القاضي عياض قوله المار قريبًا‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكرناه في هذه القضية الهامة إنما كان‬
‫موضعه ‪ -‬في الصل ‪ -‬كتب أهل الختصاص ومجالس‬
‫العلم الــتي ُيفهــم فيهــا مــدلولت اللفــاظ‪ ،‬ولكــن مــا‬
‫الحيلة وقد أصــبح مثــل هـذا الكلم الخطـر والمسـلك‬

‫‪141‬‬
‫الوعر ندرة المجالس وحديث العامة فــي كــل مكــان‪،‬‬
‫فتجد مــن ل يعــرف نــواقض الوضــوء وأركــان الصــلة‬
‫وأحكــام العبــادات يرفــع عقيرتــه بــالكلم عــن أعظــم‬
‫قضــية فــي الســلم بل خــوف أو وجــل نعنــي بــذلك‬
‫صفات الله تعالى‪ ،‬وما هذا إل بسبب ترديد مثــل هــذه‬
‫النصوص المتشابهة التي نهى العلماء عن التحدث بها‬
‫كما مّر من قول المام مالــك وكمــا قــال المــام ابــن‬
‫ك ومبين ـا ً لســبب نهي ِـهِ عــن‬‫قبا ً على قول مال ـ ٍ‬
‫رشد مع ّ‬
‫ذلك‪ ،‬قال‪) :‬وإنما نهى مالك‪ ...‬مخافة أن ُيتحدث بهــا‪،‬‬
‫فيكثر التحدث بها‪ ،‬وتشيع في الناس فيسمعها الجهال‬
‫الذين ل يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنــونهم التشــبيه‬
‫بها( اهـ‪.‬‬
‫فاضطررنا إلى ذكره هنا تبيانا ً للحق‪ ،‬وتنبيه ـا ً علــى‬
‫ما وقع بين الناس من فهم غير صحيح لهذه القضية‪.‬‬
‫عود على بدء‪ ،‬قد بينا الخلف في أصول الــديانات‬
‫وحكم المخالف في شيء منها‪ ،‬بقي أن نذكر الخلف‬
‫في أصــول أهــل الســنة والجماعــة‪ ،‬وهــذه الصــول ل‬
‫يحكم على المخالف فيها بالتكفير بيد أن الخلف فيها‬
‫غير يسير بل جد خطير‪.‬‬
‫ومثــال هــذه الصــول ثبــوت عــذاب القــبرونعيمه‬
‫والصراط والميزان‪ ،‬والكف عن صحابة رسول اللــه ‘‬
‫والترضي عليهم‪ ،‬والقدر‪ ،‬وعدم تكفير أهل المعاصــي‬
‫من الموحدين‪ ،‬وغير ذلك من المسائل والقضايا الــتي‬

‫‪142‬‬
‫اتفقت عليها كلمة أهل السنة والجماعة من الصــحابة‬
‫والتابعين وتـابعيهم‪ .‬وحكـم المخـالف فـي شـيء مـن‬
‫ذلك الفسق والضلل والخروج عن دائرة أهــل الســنة‬
‫والجماعــة‪ ،‬ومــا كــان عليــه رســول اللــه ‘ وأصــحابه‪.‬‬
‫أعاذنا الله من الفتن‪.‬‬
‫أما الفروع العقدية وهي ما سوى هذين القســمين‬
‫مثل جزئيات العقيدة ونمثــل لهــا هنــا بمــا حــدث بيــن‬
‫الصحابة رضوان اللــه تعــالى عليهــم مـن اختلف فــي‬
‫رؤية النبي ‘ ربه ليلــة عــرج بــه إلــى الســماء‪ ،‬فأثبتهــا‬
‫بعضـهم كـابن عبـاس‪ ،‬ونفاهـا البعـض كـأم المـؤمنين‬
‫السيدة عائشة رضي اللــه عنهــم أجمعيــن‪ ،‬وكتعــذيب‬
‫الميت ببكاء أهله عليه‪ ،‬فأثبته بعضـهم ونفـاه آخـرون‪.‬‬
‫وغير ذلك من المسائل الجزئية الغيبيــة‪ ،‬ويلحــق بهــذا‬
‫النوع من الختلف المشروع الذي حــدث بيــن ســلف‬
‫المــة الطيــب الختلف فــي تفــويض المتشــابهات‬
‫وتأويلها‪ ،‬فقد نقل العلماء عــن الســلف أن جمهــورهم‬
‫كان على مذهب التفويض وعن جماعــات منهــم أنهــم‬
‫أخذوا بالتأويل من هؤلء ـ نعني الذين قالوا بالتأويل ــ‬
‫ســيدنا ابــن عبــاس رضــي اللــه عنهمــا وغيــره مــن‬
‫الصحابة وأكابر التابعين وتابعيهم‪.‬‬
‫وعلــى الجملــة فــإن الخلف فــي هــذا النــوع مــن‬
‫القضايا ل يترتب عليه شيء قطع ـًا‪ ،‬إذ لــم ينقــل عــن‬
‫الصحابة أو السلف عموما ً أنهم ضــللوا بعضــهم بعضـا ً‬

‫‪143‬‬
‫بسبب شيء من ذلك خصوصا ً وأن اختلفهم في مثل‬
‫هذه القضايا مستفيض مشهور‪.‬‬
‫وما حدث بين طوائف أهل السنة من اختلف فــي‬
‫بعض المسائل ملحق بهذا النوع من الختلف‪ ،‬نحو ما‬
‫حــدث بيــن الشــاعرة والماتريديــة‪ ،‬فكلــه ل يســتلزم‬
‫تضليل ً ول تبديعًا‪.‬‬

‫)تـــبين‬ ‫قال الحافظ بن عساكر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬


‫كذب المفترى ص ‪:(409 /‬‬
‫)الصحاب مع اختلفهم في بعــض المســائل كلهــم‬
‫أجمعون‪ ،‬على تــرك تكفيــر بعضــهم بعض ـا ً مجمعــون‪،‬‬
‫بخلف من عداهم من سائر الطوائف وجميع الفــرق‪،‬‬
‫فإنهم حين اختلفت بهم مستشنعات الهواء والطــرق‬
‫كفر بعضهم بعضًا‪ ،‬ورأى تبّريه ممن خالفه فرضًا( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام تاج الدين السبكي ‪ -‬رحمه الله تعــالى‬
‫)طبقات الشافعية ‪:(378 / 3‬‬ ‫‪-‬‬
‫)تفحصت كتب الحنفية فوجدت جميع المسائل‬
‫التي بيننا وبين الحنفية خلف فيها ثلث عشر مسألة‪،‬‬
‫منها معنوي ست مسائل‪ ،‬والباقي لفظي‪ ،‬وتلك‬
‫الست المعنوية ل تقتضي مخالفتهم لنا ول مخالفتنا‬
‫لهم فيها تكفيرا ً ول تبديعا ً صرح بذلك الستاذ أبو‬
‫منصور البغدادي وغيره من أئمتنا وأئمتهم وهو غني‬

‫‪144‬‬
‫عن التصريح لظهوره(’اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة مل علي القاري ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫)مرقاة المفاتيح ‪:(206 /1‬‬
‫)وما وقع من الخلف بيــن والماتريديــة والشــعرية‬
‫في مسائل فهي ترجع إلى الفروع في الحقيقة‪ ،‬فإنها‬
‫ظنيــات فلــم تكــن مــن العتقــادات المبنيــة علــى‬
‫خل ْـ َ‬
‫ف بينهمــا‬ ‫اليقينيات‪ ،‬بل قال بعض المحققيــن إن ال ُ‬
‫في الكل لفظي( اهـ‪.‬‬
‫بهــذا يتــبين خطــأ الــذين يســارعون فــي تضــليل‬
‫مخالفيهم وتبديعهم معممين لحكامهم وغيــر مراعيــن‬
‫لنوع القضايا التي يقع فيها الخلف‪ ،‬ل سيما المســائل‬
‫التي نقل عن الســلف الطيــب خلف فيهــا دون إنكــار‬
‫من بعضهم على بعض‪.‬‬
‫ويتـــبين أيضـــا ً مجازفـــة أولئك الـــذين يضـــللون‬
‫الشاعرة والماتريدية جهل ً ودون روية‪ ،‬متجاهلين كــل‬
‫النصوص المنقولة عن علماء المة بــالتنويه بفضــلهم‪،‬‬
‫ومتجاهلين أيضا كون قضــية التفــويض والتأويــل الــتي‬
‫يضــللونهم بســببها منقولــة عــن الصــحابة والســلف‬
‫الطيب‪ ،‬وأنها من نوع المسائل الــتي ل يــترتب عليهــا‬
‫ضلل أو بدعة‪.‬‬

‫‪145‬‬
*****

146
‫التفويض والتأويل‬

‫التفويض‪ :‬مأخوذ من قــولهم فــوض إليــه المــر‪.‬‬


‫ده إليه‪.‬‬
‫أي ر ّ‬
‫والمعنى الشرعي ل يخــرج عــن المعنــى اللغــوي‪،‬‬
‫فهو شرعًا‪ :‬رد ّ العلم بهذه المتشابهات إلى الله تعالى‬
‫وعدم الخوض في معناها وذلك بعد تنزيه اللــه تعــالى‬
‫عن ظواهرها غير المرادة للشارع‪.‬‬
‫ل وهو الرجوع‪.‬‬ ‫َ‬
‫والتأويل‪ :‬أصله من الوْ ِ‬
‫وهــو شــرعًا‪ :‬صــرف اللفــظ عــن الظــاهر بقرينــة‬
‫تقتضي ذلك‪.‬‬
‫وهــذان المــذهبان كمــا أســلفنا همــا المــذهبان‬
‫المعتبران المأثوران عــن أهــل الســنة والجماعــة فــي‬
‫أبواب المتشابه‪ ،‬ول اعتبار لمن جنح إلــى التعطيــل أو‬
‫التشــبيه مــن المــذاهب الخــرى الــتي رفضــتها المــة‬
‫ولفظتها‪.‬‬

‫انحصار الحق في التفويض والتأويل‪:‬‬ ‫•‬

‫هذه النصوص المتشابهة في الصفات إما أن ُتثبت‬


‫ي لما أثبت اللــه‬
‫أو ُتنفى‪ ،‬ونفيها تعطيل ظاهر‪ ،‬لنه نف ٌ‬
‫تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬والثبات إما أن‬

‫‪147‬‬
‫يكون معه حمــل الكلم علــى ظــاهره وحقيقتــه الــتي‬
‫يعهدها البشر‪ ،‬أو يصرف الكلم معه عن هــذا الظــاهر‬
‫ل الكلم على الظاهر‬ ‫وهذه الحقيقة‪ ،‬والول نعني حم َ‬
‫والحقيقــة يفضــي قطعــا ً إلــى التشــبيه‪ ،‬لن حقــائق‬
‫وظواهرهذه اللفاظ أجسام وكيفيات مخلوقــة‪ ،‬واللــه‬
‫تعالى منزه عنها‪.‬‬
‫ول يقــال‪ :‬نحملهــا علــى الظــاهر ونفــوض العلــم‬
‫بالكيفية إلى الله تعالى‪.‬‬
‫لن هذا القول تناقض صريح أوقعت فيه الغفلة‪ ،‬إذ‬
‫ليس من ظاهر ول حقيـــقة هنـــا إل الجســم‪ ،‬وهــذا ل‬
‫يصح قطعا ً وصف الله تعالى به‪.‬‬
‫بقي القســم الخيــر الــذي هــو صــرف الكلم عــن‬
‫الحقيقة والظاهر‪ ،‬ثم بعد صرفه عــن الظــاهر إمــا أن‬
‫م به إلى الله‬ ‫ف عن التماس معنى له ويوك َ‬
‫ل العل ُ‬ ‫ُيتوق َ‬
‫تعالى‪ ،‬وهذا هو التفويض الذي عليه جمــاهير الســلف‬
‫س له معنى لئقٌ بــالله تعــالى حســب‬‫الصالح‪ ،‬أو يلتم َ‬
‫مناحي الكلم عند العرب وما تسيغه لغتهم‪ ،‬وهذا هــو‬
‫التأويل الذي عليه خلف المــة وجماعــات مــن ســلفها‬
‫الصالح‪.‬‬
‫بهــذين المــذهبين تنحصــر القســمة الصــحيحة فــي‬
‫هذه القضية‪.‬‬
‫صون عندما يعرض لهــم شــيء‬ ‫لهذا نرى العلماء ين ّ‬
‫من هذه المتشابهات على أنــه )إمسسا تفسسويض وإمسسا‬

‫‪148‬‬
‫تأويل( إذ ليس بعدهما إل التشبيه أو التعطيل‪.‬‬
‫قال المــام الب ّــي رحمــه اللــه تعــالى‬
‫)شــرح صــحيح‬
‫مسلم للبي ‪ (190 / 7‬أثناء شرحه لحــديث " إن الله‬
‫يمسك السموات على أصبع "‪:‬‬
‫)والحديث مــن أحــاديث الصــفات فيصــرف الكلم‬
‫عــن ظــاهره المحــال المــوهم للجارحــة‪ ،‬ويكــون فيــه‬
‫المــذهبان المتقــدمان‪ ،‬إمــا المســاك عــن التأويــل‬
‫واليمان به على مــا يليــق‪ ،‬ويصــرف علمــه إلــى اللــه‬
‫تعالى‪ ،‬أو يتأول( اهـ‪.‬‬
‫)إيضــاح‬ ‫وقال المام العلمة بدر الــدين بــن جماعــة‬
‫الدليل ص‪:(103/‬‬
‫)واتفق السلف وأهل التأويل علــى أن مــا ل يليــق‬
‫من ذلك بجلل الرب تعالى غير مراد‪ ...‬واختلفوا فــي‬
‫تعيين ما يليق بجلله من المعاني المحتملة‪ ...‬فسكت‬
‫السلف عنه‪ ،‬وأوله المتأولون( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام ابن الجوزي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬فــي‬
‫حديث النزول )دفع شبه التشبيه ‪:(194‬‬

‫)روى حديث النزول عشرون صــحابيًا‪ ،‬وقــد تقــدم‬


‫أنــه يســتحيل علــى اللــه عــز وجــل الحركــة والنقلــة‬
‫والتغير‪ ،‬فيبقى الناس رجلين‪ :‬أحدهما‪ ،‬المتأول بمعنى‬
‫أنه يقرب برحمته‪ ...‬والثاني‪ ،‬الساكت عن الكلم فــي‬
‫ذلك مع اعتقاد التنزيه( اهـ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫وقــال المــام النــووي ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪ -‬فــي‬
‫شرحه على صحيح مسلم )‪ (24 / 5‬أثناء الكلم علــى‬
‫حديث الجارية‪ ،‬ما نصه‪:‬‬
‫)هذا الحديث من أحاديث الصفات‪ ،‬وفيها مذهبان‪،‬‬
‫أحدهما‪ ،‬اليمــان بــه مــن غيــر خــوض فــي معنــاه مــع‬
‫اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء‪ ،‬وتنزيهــه عــن‬
‫سمات المخلوقات‪ ،‬والثاني‪ ،‬تأويله بما يليق(’اهـ‪.‬‬
‫وقـــال أيضـــا ً أثنـــاء الكلم علــى حــديث إمســاك‬
‫)‪(129 / 17‬‬ ‫السماوات على أصبع والرضين على أصبع‬
‫ما نصه‪) :‬هذا من أحاديث الصــفات‪ ،‬وقــد ســبق فيهــا‬
‫المذهبان‪ ،‬التأويل والمساك عنه مع اليمان بهــا ومــع‬
‫اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد( اهـ‪.‬‬
‫ونقل الحافظ ابن حجر قول ابن دقيق العيد مؤيدا ً‬
‫له وموافقا ً عليه في حديث " ل شخص أغيسسر مسسن‬
‫اللسسه " )الفتــح ‪) :(411 / 13‬قــال ابــن دقيــق العيــد‪:‬‬
‫المنزهون لله إما ســاكت عــن التأويــل‪ ،‬وإمــا مــؤول(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وعلى الجملة فإن أقوال العلماء في حصــر الحــق‬
‫في هذين المذهبين ل تحصى كـثرة‪ ،‬وبمـا نقلنـاه مـن‬
‫نصوصهم مقنع‪.‬‬

‫‪150‬‬
*****

151
‫مذهب جمهور السلف التفويض‬

‫قال المام التـرمذي ‪ -‬رحمه اللــه ‪-‬‬


‫)ســنن الترمــذي‬
‫‪ (492 / 4‬مثبتا ً للسلف الصالح مذهب التفويض‪:‬‬
‫)والمذهب في هذا عند أهل العلم من الئمة مثــل‬
‫سفيان الثوري ومالك بــن أنــس وابــن المبــارك وابــن‬
‫عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الشياء ثــم قــالوا‬
‫تروى هذه الحاديث ونؤمن بها ول يقــال كيــف‪ ،‬وهــذا‬
‫الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هــذه الشــياء كمــا‬
‫جاءت ويؤمن بها ول تفسر ول تتوهم ول يقــال كيــف‪،‬‬
‫وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه( اهـ‪.‬‬
‫وقوله )يؤمن بها( إثبات لها‪ ،‬وبه يفارقون أصــحاب‬
‫التعطيل‪ ،‬وقوله )ول تفسر ول تتوهم ول يقــال كيــف(‬
‫تفويض لله تعالى في معانيها‪ ،‬وقوله )ول يقال كيــف(‬
‫أي بل استفسار عن معانيها‪ ،‬أو تعيين المراد بها‪ ،‬وبــه‬
‫يفارقون أصحاب التشبيه‪.‬‬
‫وروى الخلل بسند صحيح عن المام أحمــد رضــي‬
‫الله عنه أنه قال في مثل هذه النصــوص‪) :‬نــؤمن بهــا‬
‫ونصدق ول كيف ول معنى( اهـ‪.‬‬
‫وروى المـام الحـافظ البيهقي رحمــه اللــه تعــالى‬
‫بسنده عن المام والوزاعي ـ رحمه الله )العتقــاد ص ‪/‬‬

‫‪152‬‬
‫‪ (93‬قال‪:‬‬
‫)كـل مـا وصـف اللـه تعـالى بـه نفسـه فـي كتـابه‬
‫فتفسيره تلوته والسكوت عليه( اهـ‪.‬‬
‫والنصوص في هذا المعنى عن السلف كثيرة جــد ّا ً‬
‫كلها يفيد إيمــانهم بهــا وإمرارهــا وعــدم الخــوض فــي‬
‫تفسير معناها‪.‬‬
‫ولقد نقـل الحـافظ ابن حجــر )الفتــح ‪ (48 / 6‬عــن‬
‫الحــافظ ابــن الجــوزي معنــى قــولهم‪ :‬أمـروهـــا كمـــا‬
‫جاءت‪ .‬قال‪:‬‬
‫)قال ابن الجوزي‪ :‬أكثر السلف يمتنعون من تأويل‬
‫مثل هذا ـ يشير إلى حديث يضحك الله إلى رجليــن ـ ـ‬
‫ويمرونه كما جــاء‪ ،‬وينبغــي أن يراعــى فــي مثــل هــذا‬
‫المرار اعتقاد أنه ل تشبه صفات الله صفات الخلــق‪،‬‬
‫ومعنى المرار عدم العلـم بـالمراد)‪ (1‬منـه مـع اعتقـاد‬
‫التنزيه(’اهـ‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫رحمـه اللـه تعـالى‬ ‫قال المام عدي بـن مسـافر‬
‫‪ ()1‬ســنبين بعــد قليــل معنــى عــدم العلــم بــالمراد‪ ،‬إذ ليــس‬
‫المقصود أنهم ل يفهمون للكلم أي معنــى‪ ،‬كل‪ ،‬وإل لصــبح الكلم‬
‫مثل الحروف المقطعة في أوائل السور‪ ،‬وهذا يجعل كلمه تعــالى‬
‫وكلم رسوله عليه الصلة والسلم بل فائدة‪ ،‬وهو محال مــن اللــه‬
‫تعالى وأنبيائه عليهم الصلة والسلم‪.‬‬
‫‪ ()2‬هو أبو محمــد عــدي بــن مسافرالشــامي الهك ّــاري الشــيخ‬
‫المام الصــالح القــدوة زاهــد وقتــه‪ ،‬ســاح ســنين كــثيرة‪ ،‬وصــحب‬
‫المشايخ وجاهــد أنواع ـا ً مــن المجاهــدات‪ ،‬ثــم ســكن بعــض جبــال‬

‫‪153‬‬
‫)اعتقاد أهل السنة والجماعة ص ‪:(26 /‬‬
‫)وتقرير مذهب السلف كما جاء من غير تمثيل ول‬
‫تكييف ول تشبيه ول حمل على الظاهر( اهـ‪.‬‬
‫ونقل الحــافظ ابــن حجــر عــن المــام ابــن المنيــر‬
‫)الفتح ‪ (190 / 13‬قوله‪:‬‬
‫)لهــل الكلم فــي هــذه الصــفات كــالعين والــوجه‬
‫واليد ثلثة أقوال‪ ...‬والثالث إمرارهــا علــى مــا جــاءت‬
‫مفوضـــا ً معناهـــا إلـــى اللـــه تعـــالى‪ ،‬وقـــال الشـــيخ‬
‫السهروردي في كتاب العقيدة له‪ :‬أخبر الله في كتابه‬
‫وثبت عــن رســوله الســتواء والنــزول والنفــس واليــد‬
‫والعين فل يتصــرف فيهــا بتشــبيه ول تعطيــل‪ ،‬إذ لــول‬
‫إخبار الله ورســوله مــا تجاســر عقــل أن يحــوم حــول‬
‫ذلك الحمى‪ .‬قال الطيبي‪ :‬هـذا هـو المـذهب المعتمـد‬
‫وبه يقول السلف الصالح( اهـ‪.‬‬
‫)المجمــوع‬ ‫وقال المام النووي ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫‪:(25 / 1‬‬
‫)اختلفوا في آيات الصــفات وأخبارهــا هــل يخــاض‬
‫فيها بالتأويل أم ل؟ فقال قائلون تتأول على مــا يليــق‬
‫بها‪ ،‬وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬ل‬
‫تتأول بل يمسك عن الكلم في معناها ويوكــل علمهــا‬

‫ه تلــك المواضــع‬
‫الموصل في موضع ليس فيه أنيس‪ ،‬ثم آنــس الل ـ ُ‬
‫به‪ ،‬وعمرها ببركاته‪ .‬توفي رحمه الله تعالى ســنة ســبع وخمســين‬
‫وخمسمائة‪).‬السير ‪ ،20/342‬وفيات العيان ‪.(3/254‬‬

‫‪154‬‬
‫إلــى اللــه تعــالى ويعتقــد مــع ذلــك تنزيــه اللــه تعــالى‬
‫ل‪ :‬نــؤمن بــأن‬‫وانتفاء صفات الحوادث عنه‪ ،‬فيقــال مث ً‬
‫الرحمن على العرش استوى‪ ،‬ول نعلم حقيقــة معنــى‬
‫ذلك والمراد بــه‪ ،‬مــع أنــا نعتقــد أن اللــه تعــالى ليــس‬
‫كمثله شيء‪ ،‬وأنه منزه عن الحلول وسمات الحدوث‪،‬‬
‫وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم وهي أسلم( اهـ‪.‬‬
‫قال المام الجلل السيوطي ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫)التقان في علوم القرآن ‪:(10 / 2‬‬
‫)مــن المتشــابه آيــات الصــفات‪ ...‬وجمهــور أهــل‬
‫الســنة منهــم الســلف وأهــل الحــديث علــى اليمــان‬
‫وتفــويض معناهــا المــراد منهــا إلــى اللــه تعــالى‪ ،‬ول‬
‫نفسرها مع تنزيهنا له ‪ -‬تعالى ‪ -‬عن حقيقتهسسا(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫هذه نصوص صريحة في إثبــات التفــويض للســلف‬
‫الصالح ل ســبيل إلــى إنكارهــا أو حملهــا علــى معــاني‬
‫أخــرى ل تتفــق وجللــة أقــدارهم وتنزيههــم للبــاري‬
‫سبحانه‪ ،‬كمــن ينســب لهــم إثبــات الحقــائق الظــاهرة‬
‫المتعــارف عليهــا بيــن البشــر وتفــويض كيفياتهــا للــه‬
‫تعـــالى‪ ،‬فيقـــول إنهـــم يثبتـــون المعنـــى الحقيقـــي‬
‫ويفوضـون الكيف‪ ،‬وقائل هذا ل يدري ما يقــول‪ ،‬وقــد‬
‫جره إلى هذا الفهم عبـارة )بل كيــف( الــتي كــثيرا ً مــا‬
‫ترد علــى ألســنة الســلف عنــد الكلم علــى النصــوص‬
‫المتشابهة‪ ،‬ففهم منها أنهم يثبتــون المعنــى الحقيقــي‬

‫‪155‬‬
‫ويفوضون الكيف‪ ،‬وهــذا فهــم باطــل‪ ،‬بــل هــي عبــارةٌ‬
‫صــي‪ ،‬ل‬ ‫المقصود ُ منها زجُر السائل عــن البحــث والتق ّ‬
‫إثبات المعنى الحقيقي وتفويض الكيف!!‬
‫ل فــي حقيقتــه علــى شــيء مــن‬ ‫فإن أي لفــظ يــد ّ‬
‫جهِــل معنــاه كــان‬
‫الجســمانيات والكيفيــات مــتى مــا ُ‬
‫السؤال عن المراد منـه بكلمـة )كيـف(‪ ،‬وفـي حـديث‬
‫فضل عيادة المريض الذي أخرجه مسلم ما يدل على‬
‫هذا‪ ،‬وذلك حين يقول الله تعالى لعبده )مرضــت فلــم‬
‫تعدني‪ ..‬استطعمتك فلم تطعمنــي‪ ..‬استســقيتك فلــم‬
‫تسقني‪ (..‬كل ذلك والعبــد يقــول‪) :‬رب كيــف أعــودك‬
‫وأنت رب العالمين؟!‪ ..‬رب كيــف أطعمــك وأنــت رب‬
‫العالمين؟!‪ ..‬رب كيف أسقيك وأنت رب العــالمين؟!(‬
‫فهــو لــم يفهــم المعنــى المــراد مــن اللفــظ بعــد أن‬
‫استحالت حقيقته في عقلــه‪ ،‬فســأل بــ )كيــف؟( عــن‬
‫المعنـــى المـــراد‪ ،‬ل أنـــه أثبـــت حقيقـــة المـــرض‬
‫والســتطعام والستســقاء للــه تعــالى لكنــه لــم يعلــم‬
‫كيفياتها!!‬
‫فعندما يقال في جــواب الســائل )بل كيــف( يفهــم‬
‫منه أنه )بل معنى( لن لفظ الـ )كيــف( هنــا مســتفهم‬
‫به عن المعنى‪ ،‬وبنفيه ينتـفي المعنى المســتفهم عنــه‬
‫بــه‪ ،‬فهــو مــن قبيــل نفــي الملــزوم عــن طريــق نفــي‬
‫ي‬
‫اللزم‪ ،‬فــالكيف لزم للمعنــى الظــاهر‪ ،‬وبنفيــه نفــ ٌ‬
‫للمعنى الظاهر‪ ،‬وذلك كمن يقول لــك‪ :‬إن هــذا العــدد‬

‫‪156‬‬
‫ليس بزوج‪ .‬فتفهم منه أنــه ليــس اثنيــن ول أربعــة ول‬
‫ستة‪ ...‬الخ لن الزوجية لزم غير قابــل للنفكــاك عـن‬
‫الثنين والربعة والستة‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫مــن هنــا يتــبين مــراد الســلف بقــولهم )بل كيــف(‪،‬‬
‫ومنــه تعلــم أن مــن ينســب للســلف إثبــات المعــاني‬
‫الحقيقية لهذه اللفاظ والتفويض في كيفياتهــا ينســب‬
‫لهم التشبيه من حيث ل يدري‪.‬‬

‫هل كان السلف يدركون أي معنى لهذه النصــوص‬


‫المتشابهة؟ أم أنها بالنسبة لهم كــالحروف الــتي فــي‬
‫أوائل السور؟‬
‫وإذا كــانوا يــدركون لهــا معنــى‪ ،‬كيــف ُيوفّــق بيــن‬
‫إدراكهم هذا وبين ما مّر من تفسير المرار بأنه عــدم‬
‫العلم بالمراد؟‬
‫يبــدو للوهلــة الولــى أن ثمــة تعــارض بيــن إدراك‬
‫معاني هــذا النصــوص وبيــن إمرارهــا الــذي هــو عــدم‬
‫العلم بالمراد منها‪ ،‬وفي الحقيقة ليس ثمة أي تعارض‬
‫بيــن المريــن‪ ،‬فالمقصــود بعــدم العلــم بــالمراد الــذي‬
‫سر به المرار هو عدم العلم بـالمراد تفصــيل ً وعلــى‬ ‫فُ ّ‬
‫سبيل القطع والتحديد‪ ،‬وهــذا ل يقتضــي عـدم علمهــم‬
‫بالمراد إجما ً‬
‫ل‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫مثـــال علـــى هـــذا قـــوله تعـــالى) بسسسل يسسسداه‬
‫مبسوطتان ( يفهم منه على سبيل الجمــال معنــى‬
‫الكرم والجود المطلق والعطاء الذي ل ينقطــع اللئق‬
‫بصـفة الـرب تعـالى‪ ،‬أمــا لفــظ اليـدين المضـاف للـه‬
‫تعالى في الية فبعد استبعاد المعنى الظاهر المتبــادر‬
‫من إطلقه وهـو الحقيقـة اللغويـة الـتي وضـع اللفـظ‬
‫ل عليها بين المخلوقين وهي الجارحــة‪ ،‬نقــول بعــد‬ ‫ليد ّ‬
‫ن‬
‫اســتبعاد هــذه الحقيقــة احتمــل اللفــظ عــدة معــا ٍ‬
‫مجازية‪ ،‬ولهذا الحتمــال توقــف جمهــور الســلف عــن‬
‫التعيين والقطع بأحدها‪ ،‬وهذ هــو معنــى عــدم علمهــم‬
‫بالمراد ل أنهم ل يفهمــون لهــذه النصــوص أي معنــى‪،‬‬
‫تعالى الله أن يخاطب الناس بما ل ُيفهم‪.‬‬
‫هذا هو اللئق بمقامــات الســلف فــي العلــم‪ ،‬إذ ل‬
‫يعقل أنهم كانوا يسمعون مثل ً قول الله تعالـــى ) يسسد‬
‫الله فوق أيديهم ( أو ) بل يسسداه مبسسسوطتان‬
‫ينفق كيف يشاء ( أو ) الرحمن على العسسرش‬
‫اسسستوى ( أو ) ثسسم اسستوى إلسى السسسماء ( أو‬
‫) يوم يكشف عن ساق (‪ ،‬أو قــول رســول اللــه ‘‬
‫)يضحك ربنا( أو )ينسسزل ربنسسا( أو )يعجسسب ربنسسا(‬
‫الخ‪ ،‬ثم ل يفهمون مــن كــل ذلــك أي معنــى‪ ،‬كمــا هــو‬
‫الحال مع الحروف التي في فواتــح الســور‪ ،‬كل‪ ،‬فــإن‬
‫ة‬
‫ة معروف ٌ‬ ‫ن مجازي ٌ‬‫هذه اللفاظ لها في لغة العرب معا ٍ‬
‫ل‪ ،‬ولكنهــم‬‫ومشهورة ٌ ل شك أن السلف فهموها إجمــا ً‬

‫‪158‬‬
‫لفــرط تقــواهم وخشــيتهم للــه تعــالى وتهيبهــم لــذلك‬
‫المقام القدس ثم لعدم الضطرار إلى التعييــن لحــد‬
‫المعاني لخلو عصرهم من المبطليــن الــذين يحملــون‬
‫كلم الله تعالى وكلم رسوله ‘ على وجــوه فاســدة ل‬
‫تحتملها لغة العــرب وتتنــافى مــع التقــديس والتنزيــه‪،‬‬
‫لهذا ولذاك أحجمـوا عـن التعييــن والتصـريح‪ ،‬واكتفــوا‬
‫بهذا الفهم الجمالي لهــا‪ ،‬وصــرح بهــا الخلــف بعــدهم‬
‫لطروّ ما اقتضى ذلك وحّتمه عليهم‪.‬‬
‫)فرقــان‬ ‫قـال الشيـخ العلمـة العزامـي القضـــاعي‬
‫القرآن مطبوع في ذيل السماء والصفات للبيهقي ص ‪:(104 /‬‬
‫)وقال تعالى‪ ) :‬الله نور السسسموات والرض (‬
‫هل فهم أحد من السلف أنه هــو ذلــك النــور الفــائض‬
‫على الحيطان والجدران المنتشر في الجو؟ جل مقام‬
‫العلماء بالله وكتابه أن يفهمــوا هــذا المعنــى الظـــاهر‬
‫العامي‪ .‬قــال حــبر المــة ابــن عبــاس فيمــا رواه عنــه‬
‫الطــبري بالســند الصــحيح‪ :‬اللــه ســبحانه هــادي أهــل‬
‫السموات والرض‪ .‬وروى نحوه عـن أنـس بـن مالـك‪.‬‬
‫م‬
‫وروى عــن مجاهــد أن معنــاه المــدبر‪ .‬ورجــح المــا ُ‬
‫ل وزيــف مــا عــداه … تعــالى اللــه عــن صــفات‬ ‫الوّ َ‬
‫الجسام وسمات الحــدوث‪ .‬وهكذا لسسو اسسستقريت‬
‫أقسسوال السسسلف مسسن مظانهسسا لرأيسست الكسسثير‬
‫الطيب من بيان المعاني اللئقة بسسالله تعسسالى‬
‫على سبيل التعيين‪ ،‬فمن نقل عسسدم التعييسسن‬

‫‪159‬‬
‫مطلقا ً عن السلف فما دقق البحث ول اتسسع‬
‫اطلعه( اهـ‪.‬‬

‫ضحا ً هذا المعنى‪:‬‬ ‫وقال أيضا ً ُ‬


‫مو ّ‬
‫)تنبيه مهم‪ :‬إذا سمعت في عبارات بعــض الســلف‬
‫" إننا نؤمن بأن له ‪ -‬تعالى ‪ -‬وجها ل كــالوجوه ويــدا ً ل‬
‫كاليدي " فل تظن أنهم أرادوا أن ذاته العلية منقسمة‬
‫ه غير‬ ‫إلى أجزاء وأبعاض‪ ،‬فجزٌء منها يد ٌ وجزٌء منها وج ٌ‬
‫أنه ل يشابه اليدي والوجـوه الـتي للخلـق!! حاشـاهم‬
‫من ذلك‪ ،‬وما هذا إل التشبيه بعينه‪ ،‬وإنما أرادوا بــذلك‬
‫أن لفــظ الــوجه واليــد قــد اســتعمل فــي معنــى مــن‬
‫المعاني‪ ،‬وصفة من الصفات التي تليق بالذات العليــة‬
‫كالعظمة والقدرة‪ ،‬غير أنهم يتورعون عن تعييــن تلــك‬
‫الصفة تهيبا ً من التهجــم علــى ذلــك المقــام القــدس(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وجاء في كتاب تاريــخ المــذاهب الســلمية للشــيخ‬
‫محمد أبو زهرة ‪ -‬رحمه الله ‪ (237 / 1) -‬ما نصه‪:‬‬
‫)فهــل يتصــور أن الــذين يبــايعون النــبي ‘ تحــت‬
‫ن السسذين‬
‫الشــجرة عنــدما يتلــون قــوله تعــالى ) إ ّ‬
‫يبايعونسسك إنمسسا يبسسايعون اللسسه يسسد اللسسه فسسوق‬
‫أيديهم ‪ ،‬فمن نكث فإنما ينكسث علسى نفسسه‬

‫‪160‬‬
‫ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا ً‬
‫عظيمسسا ( يفهمــون أن اليــد هنـــا يــد ليســت كيــد‬
‫المخلوقات – يعنــي يــدا حقيقيــة كمــا يقــول أصــحاب‬
‫الظاهر ولكنها ليست كيــد المخلوقــات – ول يفهمــون‬
‫أن المراد سلطان الله تعالى وقدرته‪ ،‬بــدليل مــا فيهــا‬
‫من تهديد لمــن ينكــث بــأن مغبــة النكــث تعــود عليــه‪.‬‬
‫ولــذلك نحــن نرجــح منهــاج الماتريــدي ومنهــاج ابــن‬
‫الجوزي ومنهاج الغزالي‪ ،‬ونرى أن الصحابة كسسانوا‬
‫يفسرون بالمجسساز إن تعسسذر إطلق الحقيقسسة‪،‬‬
‫كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها( اهـ‪.‬‬
‫يؤيد هذا ما نقل عن جماعات منهـم مـن التصـريح‬
‫بذكر هذه المعاني المجازيــة مثــل ســيدنا ابــن عبــاس‬
‫وابن مسعود وعلي رضي الله عنهم والحسن البصري‬
‫ومالك والوزاعي وقتــادة والثــوري ومجاهــد وعكرمــة‬
‫رحمهــم اللــه وغيرهــم ممــن تزخــر بنصوصــهم كتــب‬
‫التفسير والحديث وغيرها‪.‬‬
‫وســيأتي معنــا بــاب خــاص فــي تــأويلت الســلف‬
‫الصالح رضوان الله تعالى عليهم‪.‬‬

‫*****‬

‫‪161‬‬
‫التأويل مذهب سلفى وعربى أصيل‬

‫قد يظن البعض وذلك بسبب الرهج الذي يثار أمام‬


‫البصائر والعقول في هذه القضـية أن التأويـل مـذهب‬
‫مبتــدع ومنهــج ضــلل‪ ،‬ل ســيما إذا مثــل لــه بتــأويلت‬
‫المبتدعــة مــن الفــرق الباطنيــة وتعطيلت الجهميــة‬
‫وغيرهــا مــن الفــرق الــتي اتخــذت التأويــل المتكل ّــف‬
‫مركبا ً وجسرا ً تعبر منه لهدم الدين ونقــض الشــريعة‪،‬‬
‫والحق الذي ل يماري فيــه منصــف عاقــل أن التأويــل‬
‫منهج سديد لبد منه لفهــم الكتــاب والســنة‪ ،‬ومــذهب‬
‫ثابت عن جماعات من السلف كمــا نقــل ذلــك علمــاء‬
‫المة وأئمتها‪.‬‬
‫)البرهــان‬ ‫قال المام الزركشي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫في علوم القرآن ‪:(207 / 2‬‬
‫)وقــد اختلــف النــاس فــي الــوارد منهــا ‪ -‬يعنــي‬
‫المتشابهات ‪ -‬في اليات والحاديث على ثلث فرق‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل مدخل للتأويل فيها‪ ،‬بل تجرى علــى‬
‫ظاهرها‪ ،‬ول نؤول شيئا ً منها‪ ،‬وهم المشبهة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن لها تأويل ً ولكنا نمسك عنــه مــع تنزيــه‬
‫اعتقادنا عن الشبه‪ ،‬والتعطيل‪ ،‬ونقول ل يعلمه إل الله‬
‫وهو قول السلف‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫والثالثة‪ :‬أنها مؤولة وأولوها على ما يليق به‪.‬‬
‫والول باطسسل ‪ -‬يعنسسي مسسذهب المشسسبهة ‪-‬‬
‫والخيران منقولن عن الصحابة( اهس‪.‬‬
‫فأثبت رحمه الله تعالى مذهب التأويل للصحابة‪.‬‬
‫وقــال المــام النــووي ‪ -‬رحمــه اللــه ‪ -‬فــي ســياق‬
‫شرحه لحديث من أحـاديث الصـفات )شــرح مســلم ‪/ 6‬‬
‫‪:(36‬‬
‫)هذا حـديث مـن أحـاديث الصـفات وفيـه مـذهبان‬
‫مشهوران للعلماء‪ ...‬أحــدهما وهــو مــذهب الســلف‪...‬‬
‫والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات مسسن‬
‫السلف وهو محكي عن مالك والوزاعي أنهسسا‬
‫تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها( اهـ‪.‬‬
‫ومالك والوزاعي من كبار علماء الســلف الصــالح‬
‫رضوان الله تعالى عليهم‪ .‬وقد مــر معنــا تأويــل مالــك‬
‫لنزول الرب وتعليق ابن عبد البر على ذلك‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫والــد إمــام‬ ‫وقــال المــام أبــو محمــد الجــويني‬
‫‪ ()1‬هو عبدالله بن يوسف والــد إمــام الحرميــن‪ ،‬أوحــد زمــانه‬
‫علما ً ودينا ً وزهدا ً قال فيه شيخ السلم أبو عثمان الصابوني رحمه‬
‫الله تعالى‪ :‬لو كان الشيخ أبو محمد في بنــي إسـرائيل لُنقـل إلينـا‬
‫شمائله ولفتخروا به‪ .‬اهـ توفي رحمه الله تعالى سنة ‪438‬هـ‪ .‬لــه‬
‫مـــن المصـــنفات " الفـــروق " و" السلســـلة " و" التـــذكرة " و"‬
‫التبصرة" وغيرها‪ ،‬أما رسالة الستواء التي يحاول البعض ترويجهــا‬
‫وإلصاقها به فمنسوبة له زورًا‪ ،‬إذ إن آخر كتاب صّنفه هو الرســالة‬
‫التي سماها " عقيدة أصحاب المام المطلبي الشافعي رحمه الله‬

‫‪163‬‬
‫)إتحــاف الســادة المتقيــن ‪/ 2‬‬ ‫الحرمين رحمهما الله تعالى‬
‫‪:(110‬‬
‫)أما ما ورد من ظاهر الكتــاب والســنة ممــا يــوهم‬
‫بظاهره تشبيها ً فللسلف فيه طريقان‪ ،‬العـــراض‬
‫عن الخـوض فيها وتفويض علمهــا إلــى اللــه تعــالى‪...‬‬

‫وكافة أهل السنة والجماعة " وأثنى فيها على المام أبـي الحسـن‬
‫الشعري ثناء طيبًا‪ ،‬كما في تبيين كذب المفــتري ص‪ ،115/‬وقبلــه‬
‫طه راضيا ً مؤيدا ً ضمن خطوط جمع من أكابر‬ ‫ص‪ 113 /‬إعطاؤه خ ّ‬
‫الئمة مثل المام شيخ السلم أبــي عثمــان الصــابوني وابنــه أبــي‬
‫نصر وغيرهم على مكتوب بخط المام أبي القاسم القشيري وفيه‬
‫)اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الشعري‬
‫رضي اللــه عنــه كــان إمامـا ً مــن أئمــة أصــحاب الحــديث ومــذهبه‬
‫مذهب أصحاب الحديث‪ ،‬تكّلم فــي أصــول الــديانات علــى طريقــة‬
‫أهل السنة‪ ...‬ومن طعن فيه أو قــدح أو لعنــه أو سـّبه فقــد بســط‬
‫لسان السوء في جميع أهل السنة( وذلــك ســنة ‪436‬هـــ‪ ،‬وتع ـّرف‬
‫علــى الخــط المــذكور الحــافظ ابــن عســاكر‪ .‬وانظــره أيض ـا ً فــي‬
‫الطبقات الكبرى للتاج السبكي ‪.3/374‬‬
‫ده الحــافظ ابــن عســاكر ضــمن الطبقــة الثالثــة مــن أتبــاع‬‫وع ّ‬
‫المــام الشــعري )انظــر التــبيين ص‪ (257/‬وكــذلك فعــل التــاج‬
‫الســبكي فــي الطبقــات الكــبرى ‪ ،3/370‬كمــا أن هــذه الرســالة‬
‫المزعومة لم يذكرها أحد ممن ترجم له على كثرتهم‪ .‬ولو افترضنا‬
‫ثبوت نسبتها له رحمه الله لرد ّ عليـه العلمـاء مـن معاصـريه ومـن‬
‫ل من ذلك‪ ،‬كما فعــل الحــافظ الــبيهقي‬ ‫بعدهم‪ ،‬فقد رّدوا عليه بأق ّ‬
‫في الرسالة التي أرسلها إليه إثر شروعه في الكتاب الذي ســماه‬
‫ص الرسالة موجود في طبقات التاج السبكي ‪.5/77‬‬ ‫المحيط‪ ،‬ون ّ‬
‫وهذا النص الــذي نقلــه عنــه الزبيــدي هــو مــن رســالة )كفايــة‬
‫المعتقد( لبي محمد رحمه الله تعالى‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫وإليهــا ذهــب كــثير مــن الســلف‪ ...‬والطريقــة الثانيــة‪:‬‬
‫الكلم فيهــا وفــي تفســيرها بــأن يردهــا عــن صــفات‬
‫الذات إلى صفات الفعل‪ ،‬فيحمل النــزول علــى قــرب‬
‫الرحمــة واليــد علــى النعمــة والســتواء علــى القهــر‬
‫والقدرة‪ ،‬وقد قال ‘ " كلتا يديه يمين " ومن تأمل هذا‬
‫اللفظ انتفى عن قلبه ريبة التشبيه‪ ،‬وقد قال تعــالى )‬
‫الرحمسسن علسسى العسسرش اسسستوى (وقسسال ) مسسا‬
‫يكسسون مسسن نجسسوى ثلثسسة إل هسسو رابعهسسم ول‬
‫خمسسسة إل هسسو سادسسسهم ( فكيــف يكــون علــى‬
‫العــرش ســاعة كــونه سادســهم إل أن ي ُــرد ّ ذلــك إلــى‬
‫معنـــى الدراك والحاطـــة ل إلـــى معنـــى المكـــان‬
‫والستقرار والجهة والتحديد( اهـ‪.‬‬
‫وقــال العلمــة الشــوكاني ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫)إرشاد الفحول ‪:(176‬‬
‫)الفصل الثاني‪ :‬فيما يدخله التأويل‪ ،‬وهو قســمان‪،‬‬
‫أحدهما‪ ،‬أغلب الفروع‪ ،‬ول خلف فــي ذلــك‪ .‬والثــاني‪،‬‬
‫الصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عــز‬
‫وجل‪ ،‬وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلثة مذاهب‪:‬‬
‫الول‪ :‬أنه ل مدخل للتأويل فيها‪ ،‬بل تجــرى علــى‬
‫ظاهرها ول يؤّول شيء منها‪ ،‬وهذا قول المشبهة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن لها تأويل ً ولكنا نمسك عنه‪ ،‬مع تنزيه‬
‫اعتقادنا عن التشــبيه والتعطيــل لقــوله تعــالى ) وما‬
‫يعلم تأويله إل الله (‪ ،‬قال ابن برهــان وهــذا قــول‬

‫‪165‬‬
‫السلف‪...‬‬
‫والمذهب الثالث‪ :‬أنها مؤولة‪ .‬قال ابــن برهــان‪،‬‬
‫والول مـــن هـــذه المـــذاهب باطـــل‪ ،‬والخسسسران‬
‫منقسولن عن الصسسحابة‪ ،‬ونقسسل هسسذا المسسذهب‬
‫الثالث عن علسسي وابسسن مسسسعود وابسسن عبسساس‬
‫وأم سلمة( اهـ‪.‬‬

‫وهذه أقوال صريحة للعلماء‪ .‬بإثبات مذهب التأويل‬


‫للسلف الصالح‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬لنفترض أنه لــم ينقــل عــن أحــد مــن‬
‫السلف الصالح التصريح بتأويــل شــيء مــن ذلــك‪ ،‬أي‬
‫حرج علــى مــن ســلك ســنن العــرب فــي فهــم الكلم‬
‫العربي‪ ،‬وحمل هذه النصوص على مــا تجيــزه لغتهــم‪،‬‬
‫والعرب شائع في لسانهم تسمية الشيء باسم غيــره‬
‫إذا كان مجاورا ً له أو كان منه بسبب‪ ،‬كتسمية المطر‬
‫بالنوء‪ ،‬والقوة باليد‪ ،‬وشائع أيضا ً عندهم نســبة الفعــل‬
‫إلى غير فاعله‪ ،‬إذا كان برضــاه أو بــأمره ونحــو ذلــك‪،‬‬
‫كــأن يقــال‪ :‬فعــل الميــر كــذا‪ ،‬وضــرب الميــر فلن ـًا‪،‬‬
‫والفاعل والضارب حقيقة عامله‪ ،‬وإنمــا نســب الفعــل‬
‫إليه لنه أمر به أو رضي به‪ ،‬وعلــى الجملــة فــإن هــذا‬
‫ونظــائره كــثير دارج علــى ألســنتهم‪ ،‬ول ســبيل إلــى‬
‫إنكــاره وجحــده‪ ،‬والقــرآن وأحــاديث الرســول ‘ جــاءا‬
‫بلسان العرب ولغتهم‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫على أن الكلم إذا خل من المجازات والســتعارات‬
‫سمج وأصبح فجا ً ثقيل ً ل تقبله السماع ول تهضمه‪.‬‬
‫)الفتــح‬‫ونقل الحافظ بن حجر عن المــام المــازري‬
‫‪ (144 / 13‬أثناء شرحه لحديث " إنكم سترون ربكم "‬
‫وفيه قــوله ‘" ومــا بيــن القــوم وبيــن أن ينظــروا إلــى‬
‫ربهم إل رداء الكبرياء على وجهه "‪.‬‬
‫قال الحافظ‪) :‬قـال المازري كان النــبي ‘ يخــاطب‬
‫العرب بما تفهم‪ ،‬ويخــرج لهــم الشــياء المعنويــة إلــى‬
‫الحس ليقــرب تنــاولهم لهــا‪ ،‬فعــبر عــن زوال المـــانع‬
‫ورفعه عن البصـار بذلك( اهـ‪.‬‬
‫ثم قال الحافظ ابن حجر )المصدر السابق(‪:‬‬
‫)قــال عيــاض‪ :‬كــانت العــرب تســتعمل الســتعارة‬
‫كثيرًا‪ ،‬وهو أرفع أدوات بديع فصاحتها وإيجازهــا‪ ،‬ومنــه‬
‫قوله تعالى‪ ) :‬جناح الذل ( فمخاطبة النبي ‘ لهم بـــ‬
‫" رداء الكبريــاء علــى وجهــه " ونحــو ذلــك مــن هــذا‬
‫المعنى‪ ،‬ومن لم يتضح لـه‪ ،‬وعلـم أن اللـه منـزه عـن‬
‫الذي يقتضيه ظاهرهـا إمـا أن يكـذب نقلتهـا‪ ،‬وإمـا أن‬
‫يؤولهــا‪ ،‬كــأن يقــول‪ :‬اســتعار لعظيــم ســلطان اللــه‬
‫وكبريائه وعظمته وهيبته وجللــه المــانِع إدرا َ‬
‫ك أبصــاِر‬
‫البش ـرِ مــع ضــعفها لــذلك رداَء الكبريـــاء‪ ،‬فــإذا شـــاء‬
‫تقويـة أبصـارهم وقلوبهم كشف عنهم حجـــاب هيبتــه‬
‫وموانع عظمته( اهـ‪.‬‬
‫جح المـام العزبن عبــد الســلم ‪ -‬رحمــه اللــه ‪-‬‬
‫ور ّ‬

‫‪167‬‬
‫)إتحاف السادة المتقين ‪:(109 / 2‬‬ ‫طريـقة التأويـل فقــال‬
‫)طريقة التأويل بشرطها أقربها إلى الحق( وعلــق‬
‫المام الزبيدي رحمه الله تعالى على قول العز بقوله‬
‫)ويعنــي بشــرطها أن يكــون علــى مقتضــى لســان‬
‫العرب( اهـ‪.‬‬
‫وقال المــام العلمـة اللوســي رحمـه اللـه تعـالى‬
‫)روح المعاني ‪ (89 / 3‬حاثا ً على حمــل المتشــابه علــى‬
‫المجاز‪) :‬الحمل على المجاز الشائع فــي كلم العــرب‬
‫والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقــة أظهــر مــن‬
‫الحمل على معنى مجهول( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )‪) :(116 / 3‬والتأويل القريب إلى الذهن‬
‫الشائع نظيره في كلم العرب مما ل بأس بــه عنــدي‪،‬‬
‫على أن بعض اليات مما أجمع علسسى تأويلهسسا‬
‫السلف والخلف( اهـ‪.‬‬
‫فأثبت رحمه الله للسلف تأويل بعض اليات وأنهــا‬
‫مع على تأويلها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫مما أج ِ‬
‫وقال الدكتورالشيخ محمد سعيد رمضــان البــوطي‬
‫حفظه الله تعالـى )كبرى اليقينيات ص‪ 138 /‬وما بعدها(‪:‬‬
‫)مذهب السلف هو عدم الخوض فــي أي تأويــل أو‬
‫تفسير تفصيلي لهذه النصــوص‪ ،‬والكتفــاء بإثبــات مــا‬
‫ل عــن كــل‬ ‫أثبته الله تعالى لذاته‪ ،‬مع تنزيهــه ع ـّز وج ـ ّ‬
‫نقــص ومشــابهة للحــوادث‪ ،‬وســبيل ذلــك التأويــل‬

‫‪168‬‬
‫الجمــالي لهــذه النصــوص وتحويــل العلــم التفصــيلي‬
‫ل‪ ،‬أما تــرك هــذه‬ ‫بالمقصود منها إلى علم الله عّز وج ّ‬
‫النصوص على ظاهرها دون أي تأويل لهــا ســواء كــان‬
‫إجماليا ً أم تفصيليا ً فهو غير جائز‪ ،‬وهو شيء لم يجنــح‬
‫إليه سلف ول خلف‪ ....‬ولكنك عندما تنــزه اللــه حيــال‬
‫جميع هذه اليات عن مشابهة مخلــوقه فــي أن يتحيــز‬
‫في مكان وتكون له أبعاد وأعضاء وصورة وشكل‪ ،‬ثــم‬
‫ت لله مـا أثبتــه هـو لــذاته علــى نحـوٍ يليـق بكمـاله‬ ‫أثب ّ‬
‫ل مــن هــذه‬ ‫ل تفصــيل المقصــود بكــ ّ‬ ‫كــ َ‬
‫وذلــك بــأن ت ِ‬
‫ت بــذلك مــن‬ ‫م َ‬
‫ســل ِ ْ‬
‫ل جللــه َ‬ ‫النصــوص إلــى اللــه جــ ّ‬
‫ت القــرآن مـن تــوهم أي‬ ‫س ـل ّ ْ‬
‫م َ‬ ‫التنــاقض فــي الفهــم و َ‬
‫تناقض فيه‪ ،‬وهذه هي طريقة السلف رحمهم اللــه أل‬
‫تراهم يقولون عنها " أمروهـا بل كيـف " إذ لـول أنهـم‬
‫يؤولونها تأويل ً إجماليا ً بالمعنى الذي أوضحنا لمــا ص ـ ّ‬
‫ح‬
‫منهم أن يقولوا ذلك‪...‬‬
‫ومذهب الخلف الذين جاءوا من بعدهم هــو تأويــل‬
‫هــذه النصــوص بمــا يضــعها علــى صــراط واحــد مــن‬
‫الوفاق مــع النصــوص المحكمــة الخــرى الــتي تقطــع‬
‫بتنّزه الله عن الجهة والمكان والجارحة‪...‬‬
‫واعلم أن مــذهب الســلف فــي عصــرهم كــان هــو‬
‫الفضــل والســلم والوفــق مــع اليمــان الفطــري‬
‫المرتكز في ك ّ‬
‫ل من العقل والقلب‪.‬‬
‫ومذهب الخلف فــي عصــرهم أصــبح هــو المصــير‬

‫‪169‬‬
‫الذي ل يمكن التحول عنه‪ ،‬بسبب ما قــامت فيــه مــن‬
‫المذاهب الفكرية والمناقشات العلمية‪ ....‬والمهــم أن‬
‫تعلم بأن كل ّ من المذهبين منهجان إلــى غايــة واحــدة‪،‬‬
‫ل ل يشــبهه شــيء‬ ‫لن المآل فيهما إلى أن الله عّزوج ّ‬
‫من مخلوقاته‪ ،‬وأنه منّزه عــن جميــع صــفات النقــص‪،‬‬
‫فــالخلف الــذي تــراه بينهمــا خلف لفظــي وشــكلي‬
‫فقط( اهـ‪.‬‬
‫وقال الشــيخ علــي الطنطــاوي رحمــه اللــه تعــالى‬
‫)تعريف عام بدين السلم ص‪:(81/‬‬
‫)القرآن أنزل بلسان العرب‪ ،‬وخوطب بــه العــرب‪،‬‬
‫وكــل مــا يفهمــه منــه العربــي الصــميم وفــق قواعــد‬
‫العربية ومصطلح أهلهــا ‪ -‬حقيقــة حيــث ينصــرف إلــى‬
‫الحقيقة أو مجازا ً حيث يفهم منه المجاز ‪ -‬يكون فهما ً‬
‫صحيحًا‪ ،‬ولكن اللغات كلهـا إنمـا وضـعت للتعـبير عـن‬
‫المعــاني الرضــية الماديــة‪ ،‬فل تســتطيع أن تحيــط‬
‫بالمشاعر النسانية فضل ً عن الصفات اللهية( اهـ‪.‬‬
‫وهــذه حقيقــة ل ريــب فيهــا بيــن العقلء‪ ،‬إذ الكلم‬
‫يتعيــن فــي الحقيقــة والظــاهر مــتى أمكــن ذلــك‪ ،‬وإل‬
‫ســعة‪ ،‬وبمــا أن هــذه اللفــاظ‬‫فبالمجــاز مندوحــة و َ‬
‫حقائقهــا ماديــة حســية إذن مـن الخطــأ بمكــان حمــل‬
‫اللفظ عليها‪ ،‬بل يتعين النصراف إلى المجاز‪.‬‬
‫فـإذا كـان المـر كـذلك‪ ،‬فل ملمـة ول حـرج حينئذ‬
‫على علمــاء المــة إذا فســروا كلم اللــه تعــالى وكلم‬

‫‪170‬‬
‫رســوله ‘ العربييــن علــى طريقــة العــرب وحســب‬
‫أســلوب تخــاطبهم وتحــاورهم وبمــا يليــق بجلل اللــه‬
‫تعالى‪ ،‬وبما يدفع شبه المشبهين‪ ،‬وهل هم في هذا إل‬
‫مـهتدون بهدي جمهور السلف الذين فهمـوا عـن اللـه‬
‫تعالى وعن رسوله ‘‪ ،‬لكنهم ‪ -‬كما ذكرنا ‪ -‬لـم يتطرقـوا‬
‫‪ -‬في الغالب ‪ -‬لعلنه والتصريح به لعــدم الحاجــة إلــى‬
‫ذلك في عصورهم‪ ،‬ومضى قرنهم على هذا‪.‬‬
‫وهكذا كان الحـال مع الذين جاءوا من بعدهم‪ ،‬إلى‬
‫أن جاء زمن نبتت فيه رؤوس البدعة‪ ،‬ورفع فيــه أهــل‬
‫الزيغ عقيرتهم‪ ،‬وجابهوا النـاس بمـا لـم يكـن لهـم بـه‬
‫عهد‪ ،‬واستولوا بمقالتهم الفاسدة على عقول العامة‪،‬‬
‫وحملــوا كلم اللــه تعــالى وكلم رســوله ‘ علــى مــا ل‬
‫يجوز حملهمــا عليــه مــن المعــاني‪ ،‬حينهــا تعيــن علــى‬
‫علماء أهل السنة الذود عن عقائد المســلمين‪ ،‬وغايــة‬
‫ما فعلوه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ـ هــو أنهــم جهــروا‬
‫بما كان يجتنب جمهور السلف الصــالح مــن الصــحابة‬
‫والتابعين الجهر به‪ ،‬لعدم الحاجة إليه في أزمنتهم‪.‬‬
‫)فتــاوى العــز بــن عبــد‬ ‫قال المام العز بن عبد السلم‬
‫السلم ص ‪ (22 /‬رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫)وليــس الكلم فــي هــذا ‪ -‬يعنــي التأويــل ‪ -‬بدعــة‬
‫ما ظهرت‬ ‫قبيحة‪ ،‬وإنما الكلم فيه بدعة حسنة واجبة ل َ ّ‬
‫الشبهة‪ ،‬وإنمـا سـكت السـلف عـن الكلم فيـه إذ لـم‬
‫يكن في عصرهم من يحمــل كلم اللــه وكلم رســوله‬

‫‪171‬‬
‫على ما ل يجوز حمله عليه‪ ،‬ولو ظهرت في عصــرهم‬
‫شبهة لكذبوهم وأنكروا عليهــم غايــة النكــار‪ ،‬فقــد رد‬
‫الصحابة والسلف على القدرية لمــا أظهــروا بــدعتهم‪،‬‬
‫ولم يكونوا قبل ظهورهم يتكلمون في ذلك( اهـ‪.‬‬
‫وقــال الشــيخ المــام القــدوة الربــاني عــدي بــن‬
‫مسافر الشامي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) -‬اعتقاد أهــل الســنة‬
‫والجماعة ص ‪:(26 /‬‬
‫)ونــؤمن بمــا ورد بــه الكتــاب والســنة ول نتعــرض‬
‫للتأويل بعد أن نعلم أن الله عز وجــل ل يشــبه شـــيئا ً‬
‫من المخلوقات ول يشــبهه شــيء منهــا‪ ،‬فــإن كــل مــا‬
‫ه‪ ،‬وهذا‬ ‫مق ـد ُّره قطع ـا ً وخــال ُ‬
‫ق ُ‬ ‫تمثل فــي الــوهم فهــو ُ‬
‫الذي درج عليه السسسلف قبسسل ظهسسور الهسسواء‬
‫وتشسسعب الراء‪ ،‬فلمسسا ظهسسرت البسسدع وانتشسسر‬
‫في الناس التشبيه والتعطيل فزع أهل الحق‬
‫إلى التأويل(’اهس‪.‬‬
‫وهذا الذي قاله رضي الله عنــه هــو عيــن مــا يــراه‬
‫الشاعرة ويعتقــدونه‪ ،‬إذ لــول ظهــور الفتــن ومقــالت‬
‫أهل الزيغ وتشويشهم على عقائد العامــة مــا صــرحوا‬
‫وبينوا ما كان السلف يعتقدونه إجمــال ً ويمــرون عليــه‬
‫مرورًا‪.‬‬
‫وقال العلمة مل على القاري ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫معتــذرا ً عــن علمـــاء المــة لخــذهم بالتأويــل )مرقــاة‬
‫المفاتيح ‪) :(136 / 2‬ولم يريدوا بذلك مخالفــة الســلف‬

‫‪172‬‬
‫الصالح ‪ -‬معاذ الله أن يظــن بهــم ذلــك ‪ -‬وإنمــا دعــت‬
‫الضــرورة فــي أزمنتهــم لــذلك‪ ،‬لكــثرة المجســمة‬
‫والجهمية وغيرها من فرق الضــلل‪ ،‬واســتيلئهم علــى‬
‫عقول العامة‪ ،‬فقصدوا بذلك ردعهــم وبطلن قــولهم‪،‬‬
‫ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا‪ :‬لو كنا على مــا كــان‬
‫عليــه الســلف الصــالح مــن صــفاء العقــائد وعــدم‬
‫المبطلين في زمنهم لم نخض فــي تأويــل شــيء مــن‬
‫ذلك( اهـ‪.‬‬
‫وقــال المــام الزركشــي ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫)البرهان في علوم القرآن ‪:(209 /2‬‬
‫)قلــت وإنمــا حملهــم علــى التأويــل وجــوب حمــل‬
‫الكلم على خلف المفهوم من حقيقته‪ ،‬لقيــام الدلــة‬
‫على استحالة المشــابهة والجســمية فــي حــق البــارئ‬
‫تعالى( اهـ‪.‬‬
‫)مرقــاة‬ ‫وقال الحافظ بن حجر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫المفاتيح ‪:(1/134‬‬
‫)أكثر السلف لعدم ظهور أهل البدع فــي أزمنتهــم‬
‫يفوضون علمها – آيات الصفات – إلى الله تعالى مــع‬
‫تنزيهه سبحانه عن ظاهرها الذي ل يليــق بجلل ذاتــه‪،‬‬
‫وأكثر الخلف يؤولونها بحملها على محامل تليق بــذلك‬
‫الجلل القدس والكمــال النفــس‪ ،‬لضــطرارهم إلــى‬
‫ذلك لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم( اهـ‪.‬‬
‫وقال إمــام الحرميــن الجــويني رحمــه اللــه تعــالى‬

‫‪173‬‬
‫)المصدر السابق(‪:‬‬
‫)لــو بقــي النــاس علــى مــا كــانوا عليــه لــم نــؤمر‬
‫بالشتغال بعلم الكلم‪ ،‬أما الن فقــد كــثرت البــدع فل‬
‫سبيل إلى ترك أمواج الفتن تلتطم( اهـ‪.‬‬
‫)المجمــوع‬ ‫وقال المام النووي ‪ -‬رحمه الله تعــالى ‪-‬‬
‫‪:(25 / 1‬‬
‫)فإن دعت الحاجة إلى التأويل لــرد مبتــدع ونحــوه‬
‫تأّولوا حينئذ‪ ،‬وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء فــي‬
‫هذا( اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة مل علي القاري ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫)مرقاة المفاتيح ‪:(189 /1‬‬
‫)اتـفـق السلف والخلــف علــى تنـــزيه اللــه تعــالى‬
‫عن ظواهر المتشابهات المستحيلة على الله تعالى‪...‬‬
‫وخاض أكثر الخلف في التأويل لكن غير جازمين بــأن‬
‫هذا هــو مــراد اللــه تعـالى مــن تلــك النصــوص‪ ،‬وإنمــا‬
‫قصــدوا بــذلك صــرف العامــة عــن اعتقــاد ظــواهر‬
‫المتشابه‪ ،‬والرد على المبتدعة المتمسكين بأكثر تلــك‬
‫الظواهر( اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة محمود بن خطاب الســبكي ‪ -‬رحمــه‬
‫الله تعالى ‪ -‬في كتاب )الدين الخالص ‪ (27 / 1‬ما نصه‪:‬‬
‫)أما ما ورد من اليات والحاديث المتشــابهة فقــد‬
‫أجمــع السـلف والخلـف رضــي اللـه عنهــم علـى أنهــا‬

‫‪174‬‬
‫مصروفة عن ظاهرها لقوله تعــالى ) قل هسسو اللسسه‬
‫أحد ‪ ،‬الله الصمد ‪ ،‬لم يلد ولم يولد ‪ ،‬ولم يكن‬
‫له كفوا ً أحد ( وقسسوله سسسبحانه ) ليسسس كمثلسسه‬
‫شئ وهوالسسسميع البصسسير ( ثسسم اختلفسسوا فسسي‬
‫بيان معاني تلك اليات والحسساديث‪ ،‬فالسسسلف‬
‫يفوضون علم معانيها إليه تعسسالى‪ ،‬فيقولسسون‬
‫إن الستواء في آية ) الرحمسسن علسسى العسسرش‬
‫اسسستوى ( ل يعلمــه إل اللــه ســبحانه وتعــالى‪ ،‬مــع‬
‫جزمهم بأنه جل جلله يستحيل عليه الســتقرار علــى‬
‫العرش أو اتصاله به أو جلوسه عليه‪ ،‬لنــه تعــالى إلــه‬
‫قــديم موصــوف باســتوائه علــى العــرش قبــل خلــق‬
‫العرش‪ ،‬لن القرآن الذي منه هذه اليــة موجــود قبــل‬
‫إيجاد العرش‪ ،‬فكيــف يعقــل أنــه تعــالى اســتقر علــى‬
‫عرش غير موجود؟‬
‫ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان يحل فيه‪ ،‬بــل‬
‫هو غني عنه‪ .‬فهو تعالى لــم يــزل بالصــفة الــتي كــان‬
‫عليها‪.‬‬
‫والخلــف يقولــون فيهــا‪ :‬الســتواء معنــاه القتــدار‬
‫والتصرف أو نحو ذلك‪ .‬ومذهب السلف أسلم‪...‬‬
‫ووجه صحة مذهب الخلف أنهــم فســروا اليــة بمـا‬
‫يدل عليـه اللفـظ العربــي‪ ،‬والقــرآن عربــي‪ ،‬وحملهــم‬
‫على التفسير المذكور ولم يفوضوا كما فوض السلف‬
‫وجود المشبهة في زمانهم زاعمين ‪ -‬أي المشبهة‪ -‬أن‬

‫‪175‬‬
‫ظاهر اليات يدل على أنه تعالى جســم‪ ،‬ولــم يفقهــوا‬
‫أنه مستحيل عليه عــز وجــل الجســمية والحلــول فــي‬
‫المكنة‪...‬‬
‫فوجب عليهــم ‪ -‬يعنــي الخلــف ‪ -‬أن يــبينوا للعامــة‬
‫معنــى تلــك اليــات والحــاديث المتشــابهة حســب‬
‫مدلولت القرآن والحاديث النبوية بمــا يصــح اتصــاف‬
‫الله تعالى به‪ ،‬ليعرفــوا الحــق فيعملــوا عليــه ويــتركوا‬
‫الباطل وأهله فجزاهم الله تعالى خير الجزاء‪.‬‬
‫وقد نقل العلمة زروق عن أبي حامد أنه قال‪) :‬ل‬
‫خلف في وجوب التأويل عند تعيسسن شسسبهة ل‬
‫ترتفع إل به(‪.‬‬
‫والحاصــل‪ :‬أن الخلــف لــم يخــالفوا الســلف فــي‬
‫العتقـــاد وإنمـــا خـــالفوهم فـــي تفســـير المتشـــابه‬
‫للمقتضي الذي حدث في زمانهم دون زمــان الســلف‬
‫كمــا علمــت‪ ،‬بــل اعتقــادهم واحــد‪ ،‬وهــو أن اليــات‬
‫والحاديث المتشابهات مصروفة عن ظاهرها المــوهم‬
‫تشــبيهه تعــالى بشــيء مــن صــفات الحــوادث وأنــه‬
‫سبحانه وتعالى مخــالف للحــوادث‪ ،‬فليــس بجســم ول‬
‫جوهر ول عرض ول مستقر على عرش ول في سماء‬
‫ول يمر عليه زمان وليس له جهة إلى غيــر ذلــك ممــا‬
‫هو من نعوت المخلوقين‪ (.‬اهـ‪.‬‬

‫وعلى الجملة‪ ،‬فإن التأويل حق ســواء ثبــت النقــل‬

‫‪176‬‬
‫فيه عن الســلف ‪ -‬وهــو الحــق كمــا ســيأتي ‪ -‬أم لــم‬
‫يثبت‪ ،‬لنه أسلوب عربي أصيل لفهــم الكلم العربــي‪،‬‬
‫ويدخل فــي ضــمنه كلم اللــه تعــالى وكلم رســوله ‘‪،‬‬
‫والقائل به لم يأت بدعا ً من المر‪ ،‬ولكنـه اتبــع طريــق‬
‫العرب في فهم الكلم‪.‬‬
‫*****‬

‫‪177‬‬
‫نماذج من تأويل علماء المة وأئمتها‬
‫لنصوص الصفات‬

‫قـال المـام الخطــابي ‪ -‬رحمـه اللـه تعـالى ‪ -‬عنـد‬


‫شــرحه قــول النــبي ‘ "وإنــه ليئط بــه أطيــط الرحــل‬
‫بالراكب " )معالم السنن ‪:(328 / 4‬‬
‫)هذا الكلم إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من‬
‫الكيفية‪ ،‬والكيفية عن الله وصــفاته منفيــة‪ ،‬فعقــل أن‬
‫ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة‪ ،‬ول تحديده علــى‬
‫هذه الهيئة‪ ،‬وإنما هو كلم تقريب أريد به عظمــة اللــه‬
‫وجلله سبحانه‪ ،‬وإنما قصد به إفهام السائل من حيث‬
‫يدركه فهمه إذ كان أعرابيا ً جلفا ً ل علم له بمعاني مــا‬
‫دق من الكلم وبما لطف منه عن درك الفهام‪ ،‬وفــي‬
‫الكلم حذف وإضمار‪ ،‬فمعنى قوله " أتدري ما اللــه "‬
‫معناه أتدري ما عظمة الله وجلله‪ ،‬وقوله " إنــه ليئط‬
‫به " معناه إنه ليعجز عن جلله وعظمته حتى يئط به‪،‬‬
‫إذ كان معلوما ً أن أطيط الرحــل بــالراكب إنمــا يكــون‬
‫لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله‪ ،‬فقرر بهــذا النــوع‬
‫من التمثيل عنده معنى عظمــة اللــه وجللــه وارتفــاع‬
‫عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجللة القــدر‬
‫وفخامة الذكر ل يجعل شفيعا ً إلى مــن هــو دونــه فــي‬
‫القدر وأسفل منه في الدرجة‪ ،‬وتعالى اللــه أن يكــون‬

‫‪178‬‬
‫مشبها ً بشيء أو مكيفــا بصـورة خلـق أو مـدركا ً بحــد‪.‬‬
‫ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( اهـ‪.‬‬

‫ب الله تعالى‬
‫وأّول محيي السنة المام البغوي ح ّ‬
‫للمؤمنين بثنائه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم )تفسير‬
‫البغوي ‪.(293 / 1‬‬
‫وتفسيره زاخر بما تقّر به أعين المنّزهين لله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وقال المام أبـو نصرالقشـيري رحمـه اللـه تعـالى‬
‫)إتحاف السادة المتقين ‪:(110 /2‬‬
‫)كيف يسوغ لقائل أن يقول‪ :‬في كتاب الله تعــالى‬
‫ما ليس لمخلوق سبيل إلى معرفته ول يعلم تأويله إل‬
‫الله‪ ،‬أليس هذا من أعظم القدح فــي النبــوات؟! وأن‬
‫النبي ‘ ما عرف تأويل ما ورد في صفـات الله تعالى‪،‬‬
‫ودعا الخلق إلى علــم مــا ل يعلــم‪ ،‬أليــس اللــه يقــول‬
‫) بلسسسان عربسسي مسسبين ( فــإذا ً – علــى زعمهــم –‬
‫يجب أن يقولــوا كــذب حيــث قــال ) بلسان عربسسي‬
‫مبين ( إذ لــم يكــن معلوم ـا ً عنــدهم‪ ،‬وإل فــأين هــذا‬
‫البيان‪ ،‬وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعى بــأنه ممــا ل‬
‫تعلمه العرب؟ ولو كان كذلك لمــا كــان ذلــك الشــيء‬
‫عربيًا‪ ...‬ونسبة النبي ‘ إلى أنه دعا إلى رب موصــوف‬
‫بصفات ل تعقــل‪ ،‬أمــر عظيــم ل يتخيلــه مســلم‪ ،‬فــإن‬
‫الجهــل بالصــفات يــؤدي إلــى الجهــل بالموصــوف‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫والغرض‪ :‬أن يستبين من معــه مســكة مــن العقــل أن‬
‫قول من يقول‪ :‬استواؤه صــفة ذاتيــة ل يعقــل معنــاه‪،‬‬
‫واليد صفة ذاتية ل يعقل معناها‪ ،‬والقدم صفة ذاتيـة ل‬
‫يعقل معناه‪ ،‬تمويه ضمنه تكييف وتشــبيه ودعــاء إلــى‬
‫الجهل‪ ،‬وقد وضح الحـق لـذي عينيــن‪ .‬وليـت شــعري‪،‬‬
‫هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا النكار في كل شيء‬
‫وفي كل آية‪ ،‬أم يقنع بترك التأويــل فــي صــفات اللــه‬
‫تعــالى؟ فــإن امتنــع مــن التأويــل أصــل ً فقــد أبطــل‬
‫الشريعة والعلوم‪ ،‬إذ ما من آية وخــبر إل ويحتــاج إلــى‬
‫م أشــياء لبــد مــن‬‫ف فــي الكلم‪ ،‬لن ث َـ ّ‬
‫تأويــل وتصــر ٍ‬
‫تأويلهــا ل خلف بيــن العقلء فيــه إل الملحــدة الــذين‬
‫قصدهم التعطيل للشرائع‪ ،‬والعتقاد لهــذا يــؤدي إلــى‬
‫إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬يجوز التأويل على الجملة إل فيما يتعلق‬
‫بالله وصفاته فل تأويل فيه‪ .‬فهذا يصير منه إلى أن ما‬
‫يتعلــق بغيــر اللــه تعــالى يجــب أن يعلــم‪ ،‬ومــا يتعلــق‬
‫بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه‪ ،‬وهذا ل يرضى به‬
‫مســلم‪ .‬وســر المــر أن هــؤلء الــذين يمتنعــون عــن‬
‫التأويل معتقدون حقيقة التشــبيه غيــر أنهــم يدلســون‬
‫ويقولون‪ :‬له يد ل كاليدي وقدم ل كالقدام‪ ،‬واســتواء‬
‫بالذات ل كما نعقل فيمـا بيننـا‪ ،‬فليقـل المحقـق‪ :‬هـذا‬
‫كلم لبد فيه من استبيان‪ ،‬قولكم‪ُ :‬نجري المــر علــى‬
‫الظــاهر ول يعقــل معنــاه تنــاقض‪ ،‬إن أجريــت علــى‬

‫‪180‬‬
‫الظــاهر فظــاهر الســياق فــي قــوله تعــالى ) يسسوم‬
‫يكشف عن ساق ( هو العضو المشتمل على الجلد‬
‫واللحــم والعظــم والعصــب والمــخ‪ ،‬فــإن أخــذت بهــذا‬
‫الظاهر والتزمت بالقرار بهــذه العضــاء فهــو الكفــر‪،‬‬
‫وإن لم يمكنك الخذ بها فأين الخذ بالظــاهر؟ ألســت‬
‫قد تركت الظاهر وعلمــت تقــدس الــرب تعــالى عمــا‬
‫يوهم الظاهر فكيف يكون أخــذا ً بالظــاهر؟! وإن قــال‬
‫ل‪ .‬فهــو حكــم‬‫الخصم‪ :‬هذه الظواهر ل معنــى لهــا أص ـ ً‬
‫بأنها ملغاة وما كان في إبلغها إلينا فائدة وهــي هــدر‪،‬‬
‫وهذا محال‪ .‬وفي لغــة العــرب مــا شــئت مــن التجــوز‬
‫والتوسع فــي الخطــاب وكــانوا يعرفــون مــوارد الكلم‬
‫ويفهمون المقاصد‪ ،‬فمــن تجــافى عــن التأويــل فــذلك‬
‫لقلة فهمه بالعربية‪ ،‬ومن أحــاط بطــرف مــن العربيــة‬
‫هان عليــه مــدرك الحقــائق‪ ،‬وقــد قيــل ) وما يعلسسم‬
‫تأويله إل الله ‪ ،‬والراسخون في العلم ( فكــأنه‬
‫قال والراسخون في العلم أيضا ً يعلمونه ويقولون آمنا‬
‫به فإن اليمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم‪ ،‬أمــا مــا‬
‫ل يعلم فاليمان به غير متأت‪ ،‬ولهذا قال ابن عبــاس‪:‬‬
‫أنـا مـن الراســخين فـي العلـم( انـتـــهى قـول المـام‬
‫القشيري رحمه الله‪.‬‬
‫ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيــدا ً‬
‫له في شرحـه لحــديث " ل شــخص أغيــر مــن اللــه "‬
‫)الفتح ‪ (411 / 13‬قال‪:‬‬

‫‪181‬‬
‫)قال ابن دقيق العيــد‪ :‬المنزهــون للــه إمــا ســاكت‬
‫عن التأويــل‪ ،‬وإمــا مــؤول‪ ،‬والثــاني ‪ -‬يعنــي المــؤول ‪-‬‬
‫يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية‪ ،‬وهما‬
‫مــن لــوازم الغيــرة‪ ،‬فــأطلقت علــى ســبيل المجــاز‪،‬‬
‫كالملزمــة وغيرهــا مــن الوجــه الشــائعة فــي لســان‬
‫العرب( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام النووي ‪ -‬رحمه الله ‪-‬‬
‫)شــرح مســلم ‪/ 5‬‬
‫‪ (24‬في شرح حــديث إمســاك الســموات علــى أصــبع‬
‫والرضين على أصبع " ما نصه‪:‬‬
‫)هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان‬
‫التأويــل والمســاك‪ (...‬ثــم قــال بعــد صــفحات )وأمــا‬
‫إطلق اليدين لله تعالى فمتأول علــى القــدرة‪ ،‬وكنــى‬
‫عن ذلك باليدين لن أفعالنا تقع باليدين‪ ،‬فخوطبنا بمــا‬
‫نفهمه ليكون أوضــح وأوكــد فــي النفــوس‪ ،‬ول تمثيــل‬
‫لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليســت‬
‫بجارحة‪ ،‬والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعــالى‬
‫عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الحاديث من‬
‫مشـكل ونحـن نـؤمن بـالله تعـالى وصـفاته ول نشـبه‬
‫شيئا ً به ول نشبهه بشيء( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي‬
‫‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬بعد أن ذكــر حــديث النــزول فــي‬
‫سياق إثباته للمجاز )النصاف ص‪:(82 /‬‬
‫)جعلته المجسمة نزول على الحقيقة‪ ،‬تعــالى اللــه‬

‫‪182‬‬
‫عما يقول الظالمون علوا ً كبيرًا‪ ،‬وقد أجمــع العــارفون‬
‫بــالله عــز وجــل علــى أنــه ل ينتقــل لن النتقــال مــن‬
‫صفات المحدثات‪ ،‬ولهذا الحديث تــأويلن صــحيحان ل‬
‫يقتضيان شيئا ً من التشبيه‪:‬‬
‫أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد ســئل عــن‬
‫هذا الحديث فقال‪ :‬ينزل أمره كل سحر‪ ،‬فأما هو عــز‬
‫وجل فإنه دائم ل يزول ول ينتقل سبحانه ل إله إل هو‪.‬‬
‫وسئل الوزاعي فقال‪ :‬يفعل الله ما يشاء)‪.(1‬‬
‫وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح‪ ،‬وخفي إشارة يحتاج‬
‫إلى تبيين عبارة(‬
‫ثم أخــذ رحمــه اللــه ببيــان حقيقــة مــا قــاله علــى‬
‫أساليب العرب واستعاراتها‪ ،‬وذكــر أن العــرب تنســب‬
‫الفعــل إلــى مـن أمـر بـه كمـا تنســبه إلـى مـن فعلــه‬
‫وباشره ومعنـى النـزول فــي الحــديث أن اللـه تعــالى‬
‫يأمر ملكا ً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره‪ ،‬ثم‬
‫قال رحمه الله‪) :‬فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على‬
‫فصــيح كلم العــرب فــي محاوراتهــا والمتعــارف مــن‬
‫أســاليبها ومخاطباتهــا‪ ،‬وهــو شــرح مــا أراده مالــك‬
‫والوزاعي رحمهما الله( اهـ‪.‬‬
‫قــال المــام أبــو بكــر بــن العربــي ‪ -‬رحمــه اللــه ‪-‬‬

‫‪ ()1‬ذكر قول الوزاعي هذا المام أبو عمرو الداني رحمه الله‬
‫تعالى ثم قال‪ :‬أي يظهر اللـه مـن أفعـاله مـا يشـاء‪ .‬اهــ الرسـالة‬
‫الوافية ص‪.137/‬‬

‫‪183‬‬
‫)القبس شرح الموطأ ‪:(289 – 288 / 1‬‬
‫)وأما الوزاعي ‪ -‬وهو إمام عظيم ‪ -‬فنزع بالتأويــل‬
‫حين قال وقد سئل عن قول النــبي ‘ "ينسسزل ربنسسا "‬
‫فقال‪ :‬يفعل اللــه مــا يشــاء‪ .‬ففتــح بابـا ً مــن المعرفــة‬
‫عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما(‪.‬‬
‫ثم قال رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫)إن الله سبحانه منزه عن الحركة والنتقال لنه ل‬
‫يحويه مكــان كمــا ل يشــتمل عليــه زمــان‪ ،‬ول يشــغل‬
‫حيزا ً كما ل يدنو إلى شــيء بمسـافة ول يغيــب بعلمـه‬
‫عن شيء‪ ،‬متقدس الذات عن الفات منزه عن التغير‬
‫والســتحالت‪ ،‬إلــه فــي الرض إلــه فــي الســماوات‪.‬‬
‫وهــذه عقيــدة مســتقرة فــي القلــوب ثابتــة بواضــح‬
‫الدليل( اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً فــي شــرحه علــى ســنن الترمــذي )‪/ 2‬‬
‫‪:(234‬‬
‫)اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلثــة‬
‫ده لنه خبر واحد ورد بمــا ل يجــوز‬ ‫أقوال فمنهم من ر ّ‬
‫ظاهره علــى اللــه وهــم المبتدعــة‪ ،‬ومنهــم مــن قبلــه‬
‫وأمّره كما جاء ولم يتأوله ول تكلم فيه مع اعتقاده أن‬
‫الله ليس كمثله شيء‪ ،‬ومنهم من تأوله وفسره‪ .‬وبــه‬
‫أقول‪ ،‬لنه معنى قريب عربي فصيح‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫أما إنه قد تعدى إليه قــوم ليســوا مــن أهــل العلــم‬
‫بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير‪ ،‬قالوا‪ :‬في هــذا‬
‫الحديث دليل على أن الله في الســماء علــى العــرش‬
‫من فوق سبع سموات‪.‬‬
‫قلنــا‪:‬هــذا جهــل عظيــم وإنمــا قــال " ينزل إلى‬
‫السماء " ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ول‬
‫كيف ينزل‪.‬‬
‫قــالوا ‪ -‬وحجتهــم ظــاهره ‪ : -‬قــال اللــه تعــالى‬
‫) الرحمن على العرش استوى (‬
‫قلنا‪ :‬وما العرش في العربيــة؟ ومــا الســتواء؟‪(...‬‬
‫إلى أن قال رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫)والذي يجب أن يعتقد فــي ذلــك أن اللــه كــان ول‬
‫شــيء معــه ثــم خلــق المخلوقــات مــن العــرش إلــى‬
‫الفرش فلم يتغير بها ول حدث له جهــة منهــا ول كــان‬
‫له مكان فيها فإنه ل يحول ول يــزول قــدوس ل يتغيــر‬
‫ول يستحيل‪ ،‬وللستواء في كلم العرب خمسة عشــر‬
‫معنى ما بين حقيقة ومجاز‪ ،‬منها مــا يجــوز علــى اللــه‬
‫فيكون معنى الية‪ ،‬ومنها ما ل يجوز على اللــه بحــال‪،‬‬
‫وهو إذا كان الستواء بمعنى التمكــن أو الســتقرار أو‬
‫التصال أو المحاذاة‪ ،‬فإن شيئا ً من ذلك ل يجوز علــى‬
‫الباري تعالى‪ ،‬ول يضرب له المثال فــي المخلوقــات‪،‬‬
‫وإما أن ل يفسر كما قال مالــك وغيــره‪ :‬إن الســتواء‬
‫معلوم‪ .‬يعني مورده في اللغة‪ .‬والكيفية التي أراد الله‬

‫‪185‬‬
‫مما يجوز عليــه مـن معــاني الســتواء مجهولـة‪ ،‬فمــن‬
‫يقدر أن يعّينها‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬لن الشــتغال بــه‬
‫وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة‪ .‬فتحصل لك مــن‬
‫كلم إمام المسلمين مالك أن الستواء معلوم وأن ما‬
‫يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه‬
‫عنه‪ ،‬وتعّين المراد بما ل يجوز عليه ل فــائدة لــك فيــه‬
‫إذ قــد حصــل لــك التوحيــد واليمــان بنفــي التشــبيه‬
‫والمحال على الله سبحانه وتعالى فل يلزمــك ســواه‪،‬‬
‫وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق‪ ،‬وأما قوله‪:‬‬
‫ينزل ويجيء ويأتي‪ ،‬وما أشبه ذلك من اللفــاظ الــتي‬
‫ل تجوز على الله فــي ذاتــه معانيهــا فإنهــا ترجــع إلــى‬
‫أفعاله‪ ،‬وهنا نكتة وهي‪ :‬أن أفعالك أيها العبد إنما هــي‬
‫في ذاتك‪ ،‬وأفعال الله ســبحانه ل تكــون فــي ذاتــه ول‬
‫ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته‪ ،‬فإذا سمعت الله‬
‫يقول كذا فمعناه في المخلوقات ل فــي الــذات‪ ،‬وقــد‬
‫بين ذلك الوزاعي حين سئل عــن هــذا الحــديث ـ ـ أي‬
‫حديث النزول ـ فقال‪ :‬يفعــل اللــه مــا يشــاء‪ .‬وإمــا أن‬
‫تعلــم وتعتقــد أن اللــه ل يتــوهم علــى صــفة مــن‬
‫المحدثات ول يشبهه شيء من المخلوقــات ول يــدخل‬
‫بابا ً من التأويلت‪.‬‬
‫قــالوا‪ -‬أي أصــحاب الظــواهر ‪ : -‬نقــول ينــزل ول‬
‫نكيف‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬معاذ الله أن نقول ذلك‪ ،‬إنما نقول كما علمنا‬

‫‪186‬‬
‫رسول الله ‘ وكما علمنــا مــن العربيــة الــتي نــزل بهــا‬
‫القرآن‪ ،‬قال النبي ‘‪ " :‬يقول الله عبسسدي مرضسست‬
‫فلم تعدني‪ ..‬وجعت فلم تطعمني‪ ..‬وعطشت‬
‫فلم تسقني " وهو ل يجــوز عليــه شــيء مــن ذلــك‬
‫ولكن شّرف هؤلء بــأن عب ّــر بــه عنهــم‪ ،‬كــذلك قــوله‪:‬‬
‫ينزل ربنا‪ ،‬عّبر به عن عبده ومَلكه الــذي ينــزل بــأمره‬
‫باسمه فيما يعطي من رحمتــه‪ ...‬والنــزول قــد يكــون‬
‫في المعاني وقد يكون في الجســام‪ ،‬والنــزول الــذي‬
‫أخبر الله عنه إن حملته على أنــه جســم فــذلك مل َك ُــه‬
‫ورسوله وعبده‪ ،‬وإن حملته على أنه كان ليفعل شيئا ً‬
‫من ذلك ثــم فعلــه عنــد ثلــث الليــل فاســتجاب وغفــر‬
‫مى ذلك نزول ً عن مرتبة إلى مرتبة ومــن‬ ‫وأعطى وس ّ‬
‫صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم‬
‫أعرف منكــم ‪ -‬أهـل الظــاهر ‪ -‬وأعقـل وأكــثر توحيــدا ً‬
‫ل بل أعدم تخليطًا‪ .‬قــالوا بجهلهــم‪ :‬لــو أراد نــزول‬ ‫وأق ّ‬
‫رحمته لما خــص بــذلك الثلــث مــن الليــل لن رحمتــه‬
‫تنزل بالليــل والنهــار‪ .‬قلنــا‪ :‬ولكنهــا بالليــل وفــي يــوم‬
‫عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤهــا‬
‫أوســــع وقــــد نّبــــه اللــــه علــــى ذلــــك بقــــوله‬
‫تعالى) والمستغفرين بالسحار ( اهـ‪.‬‬
‫ولقــد أطلنــا بنقــل كلمــه رحمــه اللــه لنفاســته‬
‫‪ -‬والله ‪ -‬كيف يكــون مثــل هــذا‬ ‫وإحكامه‪ .‬ول ندري‬
‫الكلم الرفيع الرائع الرائق ضل ً‬
‫ل؟!‬

‫‪187‬‬
‫وجاء في كتاب البيان والتحصيل لبن رشد )الجــد(‬
‫رحمه الله تعالى )‪ ،504 / 18‬وانظر السير ‪ ،8/104‬والنوادر‬
‫والزيادات لبن أبي زيد ‪ (14/553‬ما نصه‪:‬‬
‫)قال ‪ -‬يعني ابن القاسم صــاحب مالــك ‪ -‬وســألت‬
‫مالك ـا ً عــن الحــديث فــي أخبــار ســعد بــن معــاذ فــي‬
‫العرش‪ ،‬فقال‪ :‬ل تتحدث به‪ ...‬وعن الحديث " إن الله‬
‫خلق آدم على صــورته " وعــن الحــديث فــي الســاق‪،‬‬
‫وذلك كله‪ ،‬قال ابن القاسم‪ :‬ل ينبغي لمن يتقــي اللــه‬
‫ويخافه أن يحدث بمثل هــذا‪ .‬قــال ابــن رشــد بعــد أن‬
‫ذكر الحاديث التي أشار إليها ابن القاسم‪ :‬وإنما نهــى‬
‫مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جــاء‬
‫بــأن اللــه خلــق آدم علــى صــورته‪ ،‬ونحــو ذلــك مــن‬
‫الحاديث الــتي يقتضــي ظاهرهــا التشــبيه‪ ،‬مخافــة أن‬
‫يتحدث بها‪ ،‬فيكــثر التحــدث بهــا‪ ،‬وتشــيع فــي النــاس‪،‬‬
‫فيسمعها الجهال الذين ل يعرفون تأويلها‪ ،‬فيسبق إلى‬
‫ظنونهم التشبيه بهــا‪ ،‬وســبيلها – إذا صــحت الروايــات‬
‫بها – أن تتأول على ما يصح‪ ،‬ممــا ينتفــي بــه التشــبيه‬
‫عن الله عز وجل بشيء من خلقه‪ ،‬كما يصنع بما جاء‬
‫في القرآن ممـا يقتضـي ظـاهره التشـبيه وهـو كـثير‪،‬‬
‫كالتيان في قوله عــز وجــل) هل ينظسسرون إل أن‬
‫يأتيهم الله في ظلل ( والسسستواء فسسي قسسوله‬
‫) الرحمن على العرش اسسستوى ( ‪ ،‬وكمــا يفعــل‬
‫أيضا ً بما جاء من ذلك في السنن المتــواترة كالضــحك‬

‫‪188‬‬
‫والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتــواتر الثــار‬
‫بهــا‪ ،‬لن ســبيلها كلهــا فــي اقتضــاء ظاهرهــا التشــبيه‬
‫وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عــز وجــل‬
‫بشيء من خلقه سواء( اهـ‪.‬‬
‫ولقد نقل الحافظ أبو الحسن علــى بــن القطــان ‪-‬‬
‫رحمه اللــه تعــالى ‪ -‬الجمــاع علــى التأويــل الجمــالي‬
‫والتأويل التفصيلي‪ ،‬قال )القناع في مسائل الجماع ‪32 / 1‬‬
‫‪:(43 -‬‬
‫)وأجمعـوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفا ً‬
‫صفا ً لعرض المم وحسابها وعقابها وثوابها‪ ،‬فيغفر لمن‬
‫يشاء من المؤمنين‪ ،‬ويعذب منهم مــن يشــاء كمــا قــال‬
‫تعالى‪ ،‬وليس مجيئه بحركة ول انتقال‪.‬‬
‫وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطــائعين لــه‪ ،‬وأن‬
‫رضاه عنهم إرادته نعيمهم‪.‬‬
‫وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين‬
‫ويغضــب عليهــم‪ ،‬وأن غضــبه إرادتــه لعــذابهم وأنــه ل‬
‫يقوم لغضبه شيء( اهـ‪.‬‬

‫وفي صرف المجيء عن ظاهره الذي هو الحركــة‬


‫تأويل إجمالي‪ ،‬وفى حمــل الرضــا علــى إرادة النعيــم‪،‬‬
‫وحمل الغضب على إرادة العذاب تأويل تفصيلي‪.‬‬
‫)العتصــام‪،‬‬ ‫وقال المام الشاطبي رحمه الله تعــالى‬

‫‪189‬‬
‫بتحقيق محمد رشيد رضا‪:(1/297 ،‬‬
‫)إن للراسخين طريقا ًً يسلكونها فــي اتبــاع الحــق‪،‬‬
‫وإن الزائغين على طريق غير طريقهم‪ ،‬فاحتجنــا إلــى‬
‫بيان الطريق الــتي ســلكها هــؤلء لنتجنبهــا‪ ،‬كمــا نـبين‬
‫الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها(‪.‬‬
‫ثم أخذ ببيان طرق الزائغين فقال‪:‬‬
‫)فمنها اعتمادهم على الحاديث الواهية الضــعيفة‪...‬‬
‫دهـم للحـاديث الـتي جـرت غيـر‬ ‫ومنها ضد هذا‪ ،‬وهـو ر ّ‬
‫موافقة لغراضهم ومــذاهبهم‪ ...‬ومنهــا تخّرصــهم علــى‬
‫الكلم في القرآن والسنة العربيين مع الُعروّ عــن علــم‬
‫العربيــة الــذي يفهــم بــه عــن اللــه ورســوله‪ ...‬ومنهــا‬
‫انحرافهم عن الصول الواضحة إلى اتبــاع المتشــابهات‬
‫التي للعقول فيها مواقف(‪.‬‬
‫وضــرب مثل ً لهــذا الصــنف مــن غيــر أمــة الســلم‬
‫بالنصارى‪ ،‬ثــم قــال رحمــه اللــه‪) :‬ومثاله فسسي ملسسة‬
‫السلم مذهب الظاهرية فسسي إثبسسات الجسسوارح‬
‫للرب س المنزه عن النقائص س من العيسسن واليسسد‬
‫والرجل والسسوجه المحسوسسسات والجهسسة وغيسسر‬
‫ذلك من الثابت للمحدثات( اهـ‪.‬‬
‫ومعنى كلمه ظــاهر‪ ،‬أي أن المحظــور هــو حملهــا‬
‫علــى المحسوســات‪ ،‬وهــو اللزم مــن حملهــا علــى‬
‫الظاهر والحقيقة‪ ،‬أما إثباتها مع تنزيه الله تعــالى عــن‬
‫ظواهرها وحقائقها اللغوية المعروفــة فهــو حــق‪ ،‬وهــو‬

‫‪190‬‬
‫مــذهب جمــاهير ســلف المــة الصــالح رضــوان اللــه‬
‫عليهم‪.‬‬
‫وقال أيضا ً رحمه الله تعالى في تأويل ُ‬
‫حب ّــه تعــالى‬
‫وبغضه )الموافقات ‪:(2/116‬‬
‫)والحب والبغض من الله تعالى إمــا أن يــراد بهمــا‬
‫نفس النعام والنتقام‪ ،‬فيرجعان إلى صــفات الفعــال‬
‫علــى رأي مــن قــال بــذلك‪ ،‬وإمــا أن يــراد بهمــا إرادة‬
‫النعام والنتقام‪ ،‬فيرجعــان إلــى صــفات الــذات‪ ،‬لن‬
‫نفسسس الحسسب والبغسسض المفهسسومين فسسي كلم‬
‫العرب حقيقة محالن على الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫)النهايــة فــي‬ ‫وقال المام ابن الثير رحمه الله تعالى‬
‫غريب الحديث ‪:(5/300‬‬
‫) " الحجر يمين الله في الرض " هذا الكلم‬
‫تمثيل وتخييل‪ ،‬وأصله أن الملــك إذا صــافح رجل ً قب ّــل‬
‫الرجل يده‪ ،‬فكأن الحجــر السـود للــه بمنزلـة اليميـن‬
‫للملك‪ ،‬حيث يستلم ويلثم‪.‬‬
‫ومنه الحديث الخر " وكلتا يديه يمين " أي أن‬
‫يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال‪ ،‬لنقــص فــي واحــدة‬
‫منهما‪ ،‬لن الشمال تنقص عن اليميــن‪ ،‬وكــل مــا جــاء‬
‫في القرآن والحديث من إضافة اليد واليدي واليميــن‬
‫وغير ذلك من أسماء الجوارح إلــى اللــه تعــالى فإنمــا‬
‫هو على سبيل المجــاز والســتعارة‪ ،‬واللــه منــزه عــن‬
‫التشبيه والتجسيم ( اهـ‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫وقال أيض ـا ً عــن حــديث النــزول )‪ ) :(5/42‬النــزول‬
‫والصعود والحركــة والســكون مــن صــفات الجســام‪،‬‬
‫والله يتعــالى عــن ذلــك ويتقــدس‪ ،‬والمــراد بــه نــزول‬
‫الرحمـــة واللطـــاف اللهيـــة‪ ،‬وقربهـــا مـــن العبـــاد‪،‬‬
‫وتخصيصها بالليل والثلث الخير منه لنه وقت التهجــد‬
‫من يتعرض لنفحات رحمة اللـه‪ ،‬وعنـد‬ ‫وغفلة الناس ع ّ‬
‫ذلك تكــون النيــة خالصــة‪ ،‬والرغبــة إلــى اللــه وافــرة‪،‬‬
‫وذلك مظنة القبول والجابة ( اهـ‪.‬‬
‫مفهــم‬
‫)ال ُ‬‫وقال المام القرطبي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫‪ (672 / 6‬في شرح حديث "قلوب بنسسى آدم بيسسن‬
‫أصبعين من أصابع الرحمن "‪:‬‬
‫)ظاهر الصبع محال على الله تعالى قطعًا‪ ...‬وقــد‬
‫تأول بعض أئمتنــا هــذا الحــديث فقــال‪ :‬هــذا اســتعارة‬
‫جارية مجرى قــولهم‪ :‬فلن فــي كفــي وفــي قبضــتي‪.‬‬
‫يراد به أنه متمكن مــن التصــرف فيــه والتصــريف لــه‬
‫كيف يشاء‪ (...‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابـن حجـر رحمــه اللــه تعــالى‬
‫)الفتــح‬
‫‪ (1/189‬مؤول ً للفظ الحياء المضــاف إلــى اللــه تعــالى‬
‫في الحديث‪) :‬قوله " فاســتحيا اللــه منــه " أي رحمــه‬
‫ولم يعاقبه‪ ،‬وقــوله " فـأعرض اللــه عنـه " أي ســخط‬
‫عليه‪’(..‬اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )الفتح ‪ (1/419‬مؤوّل ً للفظ اليد )والمــراد‬
‫باليد هنا القدرة( اهـ‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫وقال قبل ذلك )هــدي الســاري ص‪) :(219/‬ووقع ذكــر‬
‫اليد فــي القــرآن والحــديث مضــافا ً إلــى اللــه تعــالى‪،‬‬
‫واتفق أهل الســنة والجماعــة علــى أنــه ليــس المــراد‬
‫باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات‪ ،‬وأثبتــوا‬
‫ما جاء مــن ذلــك وآمنــوا بــه‪ ،‬فمنهــم مــن وقــف ولــم‬
‫ل لفــظ منهــا علــى المعنــى‬ ‫يتأّول‪ ،‬ومنهم من حمل ك ّ‬
‫الذي ظهر له‪ ،‬وهكذا عملــوا فــي جميــع مــا جــاء مــن‬
‫أمثال ذلك( اهـ‬
‫ل ما أثير‬ ‫فأنت ترى أن المر يسير‪ ،‬ول يستدعي ك ّ‬
‫حوله من تهويل‪ ،‬فليس في حمل الكلم على المعنى‬
‫المجازي كبير خطر‪ ،‬ما دام ذلك ضمن مــا يفهــم مــن‬
‫اللسان العربي عــن قــرب‪ ،‬وهــذا الحــافظ ابــن حجــر‬
‫يقول‪ :‬إن أهل السنة ـ بعد التنزيه عــن الظــاهر ـ ـ مــا‬
‫بين مفوض ومؤول‪ ،‬ول نكير من أحدهم على الخر‪.‬‬
‫وللمـام ال ُب ّــي ‪ -‬رحمـه اللــه تعـالى ‪ -‬كــلم يعتـبر‬
‫)شــرح‬ ‫قـاعدة ذهبية في هذا البــاب‪ ،‬قــال رحمــه اللــه‬
‫مسلم ‪:(54 / 7‬‬
‫)القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته‬
‫للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواترا ً في نــص ل‬
‫يحتمل التأويل‪ ،‬وغاية المتواتر أن يرد فيما دللته على‬
‫المحال دللة ظــاهرة‪ ،‬والظــاهر يقبــل التأويــل‪ ،‬فإن‬
‫ورد فيجسسسب صسسسرف اللفسسسظ عسسسن ظسسساهره‬
‫المستحيل‪ ،‬ثــم اختلــف‪ ،‬فوقــف أكــثر الســلف عــن‬

‫‪193‬‬
‫التأويل‪ ،‬وقالوا نؤمن به على ما هو عند اللــه ســبحانه‬
‫في نفس المر‪ ،‬ون َك ِ ُ‬
‫ل علــم ذلــك إلــى اللــه ســبحانه‪،‬‬
‫وقال قوم بل الولى التأويل‪ ...‬وإن ورد خبر واحد‬
‫نصا ً في محال قطسسع بكسسذب راويسسه‪ ،‬وإن كسسان‬
‫محتمل ً للتأويل يتصرف فيه كما سبق( اهـ‪.‬‬
‫وهذا كلم محكم نفيس في عبارة موجزة شاملة‪.‬‬
‫وقوله رحمه الله )وإن ورد‪ ...‬قطــع بكــذب راويــه(‬
‫لنه ظني عارض القطعــي‪ ،‬وقــد ثبــت بــالقطعي مــن‬
‫دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء‪ ،‬فكـل‬
‫خبر يــأتي علــى خلف ذلــك يقطــع بكــذب راويــه‪ ،‬لن‬
‫أدلة الشرع تتعاضد ول تتضاد‪.‬‬
‫ومــن اطلــع علــى كتــب الــتراث الســلمي لئمــة‬
‫الســلم وجــد مــا ل يــدخل تحــت الحصــر مــن هــذه‬
‫النصوص التي اكتفينا هنا بذكر شذرة منها‪ ،‬مما يــدفع‬
‫العاقل الريب إلى اليقــان بصــحة هــذا المنهــج الــذي‬
‫اجتمعت عليه المة‪.‬‬
‫)‪/ 2‬‬ ‫قال الشيخ الزرقاني في " مناهل العرفــان "‬
‫‪ (286‬ما نصه‪:‬‬
‫)علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقــوا علــى ثلثــة‬
‫أمــور تتعلــق بهــذه المتشــابهات‪ ،‬ثــم اختلفــوا فيمــا‬
‫وراءها‪:‬‬
‫فــأول‪ :‬مــا اتفقــوا عليــه صــرفها عــن ظواهرهــا‬

‫‪194‬‬
‫المستحيلة‪ ،‬واعتقاد أن هــذه الظــواهر باطلــة بالدلــة‬
‫القاطعة وبمــا هــو معــروف عــن الشــارع نفســه فــي‬
‫محكماته‪.‬‬
‫ثــانيه‪ :‬أنــه إذا توقــف الــدفاع عــن الســلم علــى‬
‫التأويــل لهــذه المتشــابهات وجــب تأويلهــا بمــا يــدفع‬
‫شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين‪.‬‬
‫ثالثه‪ :‬إن المتشابه إن كــان لــه تأويــل واحــد يفهــم‬
‫منه قريبا ً وجب القول به إجماعًا‪ ،‬وذلك كقوله تعالى)‬
‫وهو معكم أينما كنتم ( فإن الكينونــة بالــذات مــع‬
‫الخلق مستحيلة قطعًا‪ ،‬وليس لها بعــد ذلــك إل تأويــل‬
‫واحد‪ ،‬هو الكينونة معهم بالحاطة علما ً وبصرا ً وقــدرة‬
‫وإرادة‪.‬‬
‫وأما اختلف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع علــى‬
‫ثلثة مذاهب(’اهـ‪.‬‬
‫فعد مذهب التفــويض ومــذهب التأويــل‪ ،‬ثــم جعــل‬
‫للمــام ابــن دقيــق العيــد مــذهبا ً ثالث ـا ً متوســطا ً بيــن‬
‫المذهبين لقوله )الفتح ‪) (395 / 13‬نقول في الصــفات‬
‫المشكلة إنها حــق وصــدق علــى المعنــى الــذي أراده‬
‫الله‪ ،‬ومن تأولها نظرنا‪ ،‬فــإن كــان تــأويله قريبـا ً علــى‬
‫مقتضى لسان العرب لم ننكر عليــه‪ ،‬وإن كــان بعيــدا ً‬
‫توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه(‪ ،‬وهو في‬
‫حقيقة المر داخل ضـمن مـذهب التأويـل‪ ،‬لنـه ليـس‬
‫من أهل السنة أحد إل وهو متفق معه على مــا ذهــب‬

‫‪195‬‬
‫إليه من رفــض التــأويلت البعيــدة الــتي ليســت علــى‬
‫مقتضى لسان العرب‪.‬‬
‫وقال الشيخ العلمــة محمــد الحامــد ‪ -‬رحمــه اللــه‬
‫تعالى ‪) -‬ردود على أباطيل ‪:(10 /2‬‬
‫)النصوص السمعية المحكمة أي الواضحة المعنــى‬
‫هي الصل الذي يجــب أن يحمــل عليــه المتشــابه‪ ،‬أي‬
‫الذي يســبق إلــى الــوهم معنــى التشــبيه منــه ) هو‬
‫الذي أنزل عليك الكتسساب منسسه آيسسات محكمسسات‬
‫مسسا السسذين‬ ‫م الكتاب وأخر متشابهات ‪ ،‬فأ ّ‬ ‫نأ ّ‬‫ه ّ‬
‫في قلوبهم زيغ فيّتبعون ما تشابه منه ابتغاء‬
‫الفتنسسة وابتغسساء تسسأويله ومسسا يعلسسم تسسأويله إل‬
‫الله ‪ ،‬والراسخون في العلم يقولون آمن ّسسا بسسه‬
‫كر أل أولسسوا‬ ‫ل مسسن عنسسد ربنسسا ‪ ،‬ومسسا يتسسذ ّ‬ ‫كسس ّ‬
‫اللباب ( أي آمنا به جميعا ً محكمه ومتشــابهه‪ ،‬لكــن‬
‫إيمانهم بالمتشابه ل ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هــو‬
‫الصل‪ ،‬فهم ل يشبهون الله بخلقه‪ ،‬بــل يكلــون العلــم‬
‫بمعنى المتشابه إلى اللــه عــز وجــل معتقــدين أن لــه‬
‫معنــى شــريفا ً يليــق بــه ســبحانه‪ ،‬فل هــم بــالمعطلين‬
‫للنصــوص ول هــم بالمشــبهين‪ ،‬ومــذهبهم وســط بيــن‬
‫الطــائفتين الشــاذتين عــن ســبيل أهــل الحــق وهمــا‬
‫المعطلة والمشبهة‪ .‬وعلى هذا درج ســلف المــة مــن‬
‫الصــحابة والتــابعين وتــابعيهم ولــو ذهبــت أســرد لــك‬
‫كلماتهم في هذا لطال بي القــول وامتــد الكلم‪ ،‬لكــن‬

‫‪196‬‬
‫لما ظهرت البدعة وتطلعت رؤوس أهل الزيغ وصاروا‬
‫يشوشون علــى المســلمين عقــائدهم‪ ،‬خشــي علمــاء‬
‫المســلمين علــى العقــائد أن يلحقهــا لــوث وفســاد‬
‫فاعتمدوا تأويل النصوص المتشـابهة فــي إطــار اللغــة‬
‫العربية وضمن سور الشريعة( اهـ‪.‬‬
‫وقوله رحمه الله )لكن إيمانهم بالمتشابه ل ينقض‬
‫إيمانهم بالمحكم الــذي هــو الصــل( واضــح فــي الــرد‬
‫على من حمل المتشابه على مقتضى الحس‪ ،‬فهــؤلء‬
‫بدل ً من أن يحملوا المتشابه علــى المحكــم ويرجعــوه‬
‫إليــه‪ ،‬فعلــوا العكــس‪ ،‬فنقضــوا بفعلهــم هــذا إيمــانهم‬
‫بالمحكم من مثل قوله تعــالى) ليسسس كمثلسسه شسسئ‬
‫وهو السميع البصير (‬
‫)فــي‬ ‫وقال الداعية الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى‬
‫ظلل القرآن‪ ،‬سورة الحديد(‪:‬‬
‫)وكذلك العرش فنحن نؤمن به كما ذكره‪ ،‬ل نعلــم‬
‫حقيقته‪ ،‬أما الستواء علــى العــرش فنملــك أن نقــول‬
‫إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق‪ ،‬استنادا ً إلى مــا‬
‫نعلمه من القــرآن عــن يقيــن مـن أن اللــه ســبحانه ل‬
‫تتغير عليه الحوال‪ ،‬فل يكون في حالــة عــدم اســتواء‬
‫على العــرش ثــم تتبعهــا حالــة اســتواء‪ ،‬والقــول بأننــا‬
‫نؤمن بالستواء ول ندرك كيفيته ل يفسرقوله تعالى )‬
‫ثم اسسستوى ( ‪ ،‬والولــى أن نقــول‪ :‬إنــه كنايــة عــن‬
‫الهيمنة كما ذكرنا‪ ،‬والتأويل هنا ل يخرج علــى المنهــج‬

‫‪197‬‬
‫الــذي أشــرنا إليــه آنفــًا‪ ،‬لنــه ل ينبــع مــن مقــررات‬
‫وتصورات من عند أنفسنا( اهـ‪.‬‬
‫وبالجملة‪ ،‬فإن منهج سيد قطب رحمه اللــه تعــالى‬
‫في الظلل دائر بيـن التأويـل الـذي أخـذ بـه أول ً قبـل‬
‫العودة على الظلل بالتنقيح‪ ،‬وبين التفــويض الــذي آل‬
‫إليه رأيه أخيــرًا‪ ،‬وكل الطريقيــن حــق‪ ،‬بــل إن طريــق‬
‫التفويض الذي كان عليه جمهور السلف الصالح أولــى‬
‫بالتباع ما لم تدع ُ حاجة إلى التأويل‪.‬‬
‫وهذا الذي آل إليه رأي سيد قطب رحمــه اللــه تعــالى‬
‫هو من قبيل ما ينسب إلى بعــض الئمــة مثــل المــام‬
‫الجويني والرازي والغزالي وغيرهم‪ ،‬ففهم البعض منه‬
‫دنــا هــذا‬
‫أنهم هجروا منهــج المــام الشــعري‪ ،‬وقــد رد َ ْ‬
‫الفهم وبي ّّنا بطلنه‪ ،‬كما بّينــا أيضـا ً أن منهــج الشــعري‬
‫تفــويض وتأويــل‪ ،‬وأنهــم تركــوا التأويــل ورجعــوا إلــى‬
‫التفويض الذي كان عليه جمهور الســلف‪ ،‬وذكرنــا أنــه‬
‫ليس بين المســلكين تنــاقض‪ ،‬إذ كلهمــا قــائل بتنزيــه‬
‫اللــه تعـالى عــن سـمات النقــص والحــدوث‪ ،‬وكلهمــا‬
‫ل‪ ،‬والخلف أّولوا تفصي ً‬
‫ل‪.‬‬ ‫مؤّول‪ ،‬فالسلف أّولوا إجما ً‬
‫وقال الشــيخ عمــر التلمســاني رحمــه اللــه تعــالى‬
‫)بعـــض مـــا علمنـــي الخـــوان ص‪ (17/‬فــي قــوله تعالـــى‬
‫) والسموات مطويات بيمينه ( )إن هذه اليميــن‬
‫التي تشير إليها الية الكريمــة هــي التمكــن مــن طــي‬
‫السموات والرض‪ ،‬أي القــدرة الــتي تفعــل مــا تشــاء‬

‫‪198‬‬
‫كيفما تشاء عندما تشاء( اهـ‪.‬‬
‫)الظلل‬ ‫وكــذا قــال ســيد قطــب عنــد هــذه اليــة‬
‫‪:(5/3062‬‬
‫)وكل ما ورد في القرآن والحديث من هذه الصور‬
‫والمشــاهد إنمــا هــو تقريــب للحقــائق الــتي ل يملــك‬
‫البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعــبير يــدركونه‪،‬‬
‫وفي صورة يتصورونها‪ ،‬ومنه هذا التصوير لجانب مــن‬
‫حقيقة القدرة المطلقة التي ل تتقيد بشكل ول تتحيــز‬
‫في حيز ول تتحدد بحدود( اهـ‪.‬‬
‫)مجموعة‬ ‫وقال المام الداعية حسن البنا رحمه الله‬
‫ص ‪:(411‬‬ ‫رسائل المام‬

‫)انقسم الناس في هذه المسألة على أربع فرق‪:‬‬


‫الولى‪ :‬أخذت بظواهرها كمــا هــي فنســبت إلــى‬
‫الله وجها ً كوجوه الخلق ويدا ً أو أي ـد ٍ كأيــديهم وضــحكا ً‬
‫كضحكهم‪ ...‬وهؤلء هم المجسمة والمشبهة‪ ،‬وليســوا‬
‫من الســلم فــي شــيء‪ ،‬وليــس لقــولهم نصــيب مــن‬
‫الصحة‪.‬‬
‫والثانيسسة‪ :‬عطلــت معــاني هــذه علــى أي وجــه‪،‬‬
‫يقصدون بذلك نفي مدلولتها عن اللـه تبـارك وتعـالى‬
‫فــالله تبــارك وتعــالى عنــدهم ل يتكلــم ول يســمع ول‬
‫يبصــر‪ ...‬وهــؤلء هــم المعطلــة ويطلــق عليهــم بعــض‬
‫علماء تاريخ العقائد السلمية الجهمية‪ ...‬هذان رأيــان‬

‫‪199‬‬
‫باطلن ل حظ لهما من النظر‪.‬‬
‫وبقي أمامنا رأيان همــا محــل أنظــار العلمــاء فــي‬
‫العقائد وهما رأي السلف والخلف‪.‬‬
‫مذهب السلف‪ :‬نــؤمن بهــذه اليــات والحــاديث‬
‫كمــا وردت ونــترك بيــان المقصــود منهــا للــه تبــارك‬
‫وتعالى‪ ،‬فهم يثبتــون اليــد والعيــن والعيــن والســتواء‬
‫والضــحك والتعجــب‪ ...‬الــخ‪ ،‬وكسسل ذلسسك بمعسسان ل‬
‫ندركها‪ ،‬ونترك لله تبارك وتعالى الحاطة بعلمها‪...‬‬
‫أما الخلسسف‪ :‬فقــد قــالوا إننــا نقطــع بــأن معــاني‬
‫ألفاظ هــذه اليــات والحــاديث ل يــراد بهـا ظواهرهــا‪،‬‬
‫وعلى ذلك فهي مجازات ل مانع من تأويلها‪ (...‬اهـ‪.‬‬
‫ثـــم قـــال رحمـــه اللـــه تعـــالى )بيسسن السسسلف‬
‫والخلف‪ :‬قد علمت أن مــذهب الســلف فــي اليــات‬
‫والحاديث التي تتعلق بصفات اللـه تبـارك وتعـالى أن‬
‫مّروها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفســيرها أو‬ ‫يُ ِ‬
‫تأويلها‪ ،‬وأن مذهب الخلف أن يؤولوهــا بمــا يتفــق مــع‬
‫تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه( اهـ‪.‬‬
‫ثم بين رحمه الله تعالى أن كل المــذهبين حــق ول‬
‫يستلزم اختلفهم تكفيرا ً ول تفسيقًا‪.‬‬
‫وهو كما قال رحمــه اللــه إذ ل خلف بيــن الســلف‬
‫والخلف في هذا الباب‪ ،‬وإنما هـو اختلف جـائز مبـاح‪،‬‬
‫فََر َ‬
‫ضه اختلف الظــروف الــتي كــان يعيشــها كــل مــن‬

‫‪200‬‬
‫السلف والخلف‪ ،‬فزمن السلف كان خاليـا ً مــن بدعــة‬
‫القول بالظاهر والتجســيم فاقتضــى ذلــك أن يتوقفــوا‬
‫ول يقدموا على تفسير هــذه النصــوص‪ ،‬بخلف أزمنــة‬
‫الخلــف الــتي شــاعت فيهــا مقــالت المبطليــن ممــا‬
‫دعاهم إلى التصريح بالتأويل‪.‬‬
‫ولكــن الخلف الحقيقــي هــو الواقــع بيــن الســلف‬
‫والخلف من جانب ومن يحملون هذه النصــوص علــى‬
‫ظواهرها وعلى مقتضى الحس من جانب آخر‪.‬‬
‫إن السلف الصالح والخلــف متفقــون جميعـا ً علــى‬
‫صرف هذه النصوص عــن ظاهرهــا المحــال فــي حــق‬
‫الله تعالى‪ ،‬بل المة مجمعة على ذلك‪ ،‬كيف ل وهــذه‬
‫الظواهر منفية عن اللــه تعــالى بــالقطعي مــن الدلــة‬
‫النقلية والعقلية‪ ،‬وهــؤلء الــذين يصــرون علــى إثبــات‬
‫هــذه الظــواهر المســتلزمة لمعــان باطلــة ولــوازم‬
‫مســتحيلة‪ ،‬ل يختلفــون معنــا فــي كــون هــذه اللــوازم‬
‫الباطلة من الجسمية والحد ونحوهــا منفيــة عــن اللــه‬
‫تعــالى‪ ،‬إل أنهــم يجهلــون أن إثبــات الحقــائق اللغويــة‬
‫المعهودة والظواهر المتبادرة مــن المتشــابه يســتلزم‬
‫إثبات ما قد نفــوه وأجمعــت المــة علــى نفيــه وعلــى‬
‫تنزيه الله تعــالى عنــه وهــو الحــد والتحيــز والجســمية‬
‫ونحوها‪ ،‬وكونهم ل يقرون بهذه اللوازم أمـٌر ل ُيقضــى‬
‫منه العجب‪ ،‬لن إثبات الملزوم وهــو المعنــى الظــاهر‬
‫هنا ثم نفي اللزم وهو الجسمية ونحوها ل يعقــل لنــه‬

‫‪201‬‬
‫لزم ل ينف ّ‬
‫ك‪.‬‬
‫وإذا قيل لهم‪ :‬إن هذه اللفاظ إنما وضعت للدللــة‬
‫علــى المخلــوق‪ ،‬وأنــه ل يفهــم منهــا إذا حملــت علــى‬
‫الظاهر إل ذلك‪ .‬قــالوا‪ :‬إن الكلم فــي الصــفات فــرع‬
‫عــن الكلم فــي الــذات‪ ،‬فكمــا أثبتــم ذاتـا ً ل كالــذوات‬
‫متصفة بالحياة والعلم والسمع والبصــر‪ ،‬وغيرهــا ممــا‬
‫أطلقتم عليه صفات المعـاني‪ ،‬ولم تؤولوا شــيئا ً منهــا‪،‬‬
‫أثبتــوا لــه تعـــالى اســتواء ووجهـا ً ويــدا ً وضــحكا ً وملل ً‬
‫وأصبعًا‪ ..‬الخ على الحقيقة وبل تأويل!!‬
‫وهذه مغالطة وكلم يوهم ظــاهره أنــه حــق‪ ،‬وقــد‬
‫يلتبس عند الخاطر الول على من لــم يــدقق ويمعــن‬
‫النظر‪ ،‬ولكن مع قليل من التروي ينجلي للعقل فساد‬
‫باطنه‪.‬‬
‫وقضية هذا الكلم التسوية بين ما يعــرف بصــفات‬
‫المعاني وهذه اللفاظ والضافات الواردة في نصوص‬
‫المتشابه‪ ،‬وهي قضية خاسرة كما سنبين‪.‬‬
‫إن الفــرق الــذي بيــن اللفــاظ الــتي تــدل علــى‬
‫الجســام ومــا إليهــا وبيــن اللفــاظ الــتي تــدل علــى‬
‫المعاني كبير وشاسع‪ ،‬فالولى منها أول ما يتبادر إلى‬
‫الذهن عنــد ســماعها العضــو والجســم الــذي وضــعت‬
‫للدللة عليه‪ ،‬فإذا أضيف ذلك اللفظ إلــى اللــه تعــالى‬
‫قطع العارف بالله أن ذلك المعنــى المتبــادر والظــاهر‬
‫من اللفظ محــال هنــا ومنفــي عــن اللــه تعــالى وإنمـا‬

‫‪202‬‬
‫سيق الكلم على سبيل‬
‫الستعارة والمجاز‪ ،‬وذلــك كلفــظ )اليــد‪ ،‬والصــبع‪،‬‬
‫والقــدم‪ ،‬والســاق‪ ،‬والــوجه‪ ،‬والضــحك‪ ،‬والســتواء‪،‬‬
‫والنــزول( ونحوهــا مــن اللفــاظ الــتي ترجــع حقائقهــا‬
‫المتبادرة منها إلى الحس‪.‬‬
‫أما الثانية منها وهي التي ترجع إلــى المعنــى مثــل‬
‫القدرة والرادة والسمع والبصر ونحوها فل يلـزم مـن‬
‫ن‬
‫حملهــا علــى ظاهرهــا وحقيقتهــا مشــابهة لنهــا معــا ٍ‬
‫مجردة وحقائقها واسعة‪ ،‬فإذا أضيفت للخالق كان لها‬
‫حقيقة لئقة به تعالى‪ ،‬وإذا أضيفت للمخلوق كانت لها‬
‫حقيقة لئقة به ولهذا السبب لم يضــطر علمــاء المــة‬
‫إلى صرفها عن ظاهرها‪.‬‬
‫ومما يعضد هذا القول أنه لم ينقــل عــن أحــد مــن‬
‫السلف الصالح رضوان الله عليهم أنه قال في شــيء‬
‫من صفات المعاني أمّروهــا بل كيــف‪ ،‬أو ل تفســر ول‬
‫تكيف‪..‬الــخ‪ .‬ومــا هــذا إل لفطنتهــم لهــذا الفــارق بيــن‬
‫النوعين من اللفاظ‪ ،‬والمر واضح وبّين لمن كــان لــه‬
‫شيء من الطلع على علوم اللغة‪.‬‬
‫وانظر إلى قول المام أحمد رضي اللــه عنــه كمــا‬
‫جاء في عقيدته المروية عنــه فــي طبقــات الحنابلــة )‬
‫‪:(2/291‬‬
‫)إن لله تعالى يدين‪ ،‬وهما صفة له في ذاته‪ ،‬ليستا‬
‫بجارحتين وليستا بمركبتين ول جســم‪ ،‬ول مــن جنــس‬

‫‪203‬‬
‫الجســام‪ ،‬ول مــن جنــس المحــدود والــتركيب‪ ،‬ول‬
‫البعاض والجوارح‪ ،‬ول يقاس على ذلك‪ ،‬ول له مرفــق‬
‫ول عضد‪ ،‬ول فيما يقتضي ذلك من إطلق قولهم‪ :‬يــد‪،‬‬
‫حت عــن رســول‬ ‫إل ما نطق به القــرآن الكريــم أو صـ ّ‬
‫الله صلى الله عليه وسلم السنة فيه( اهـ‪.‬‬
‫ل مـا يعلـق‬‫فقد نفى المام أحمد رضي الله عنه ك ّ‬
‫باللفظ من الظواهر الباطلــة مــن الجــوارح والبعــاض‬
‫حه بقــوله‪) :‬ول فيمــا يقتضــي‬‫ض َ‬
‫والتركيب ونحوها‪ ،‬وأو َ‬
‫ل ما يقتضــيه إطلق‬ ‫ذلك من إطلق قولهم‪ :‬يـد( أي ك ّ‬
‫لفظ اليد من هذه المعاني الــتي م ـّرت مــن الجارحــة‬
‫ي عن رّبنا عّز وج ّ‬
‫ل‪.‬‬ ‫والجسم ونحوه‪ ،‬كّله منف ّ‬
‫وقال أيضا ً رضي الله عنه في صــفة الســتواء )ول‬
‫سة ول بملقاة‪ ،‬تعالى الله‬
‫يجوز أن يقال‪ :‬استوى بمما ّ‬
‫عن ذلك علوّا ً كبيرًا( اهـ‪.‬‬
‫ص فــي نفــي الظــاهر المتبــادر مــن إطلق‬ ‫وهذا نـ ّ‬
‫اللفظ‪ ،‬وهو ما يقول به الشاعرة‪ ،‬فيثبتون لله تعــالى‬
‫يدين ووجها ً وعينا ً وأنه تعالى استوى على عرشه كمــا‬
‫قال سبحانه مخبرا ً عــن نفســه‪ ،‬يثبتــون كــل مــا أثبتــه‬
‫تعالى لنفسه وأثبته رسوله صلى الله عليه وســلم لــه‬
‫وينزهونه عن ظواهر هذه اللفاظ ممــا يعهــده الخلــق‬
‫من أنفسهم وما يفهمــونه مــن لغــاتهم الــتي وضــعوها‬
‫لجل التعبير بها عما يحتاجون إليه من شؤونهم‪ ،‬والله‬
‫ل عن كل ذلك‪.‬‬ ‫متعا ٍ‬

‫‪204‬‬
‫ولعل قائل ً أن يقول‪:‬‬
‫إنكم حيــن نفيتــم الظــواهر ع ّ‬
‫طلتــم مــا أثبتــه اللــه‬
‫تعالى لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليـه وسلم‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬نحن إنما نفينا الظواهر ونزهنا اللــه تعــالى‬
‫عنها‪ ،‬وليس الظــاهر ‪ -‬قطعـا ً ‪ -‬هــو مــراد اللــه تعــالى‬
‫ومــراد رســوله عليــه الصــلة والســلم‪ ،‬بــل إن هــذه‬
‫الظواهر باتفاق السلف والخلف منفية عن الله تعالى‬
‫عقل ً ونق ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ف الصــفة الــتي‬‫ونحن نفينا هذه الظــواهر ولــم نن ـ ِ‬
‫ل أحد من أهل الســنة‬ ‫ق ْ‬
‫أثبتها الله تعالى لنفسه‪ ،‬فلم ي َ ُ‬
‫أن الله تعالى ليس له يدان أو ليــس لــه عيــن أو غيــر‬
‫مسـتوٍ علـى عرشـه‪ ،‬كل‪ ،‬بـل قـالوا للـه تعـالى يـدان‬
‫ولكن يده تعالى ليست بجارحــة‪ ،‬وهــذا قــول الســلف‬
‫كما مّر عن المام أحمد‪ ،‬ولله تعالى وجــه وهــو ليــس‬
‫بجارحة أو صورة أو جسم‪ ،‬وهو قول السلف كما فــي‬
‫عقيدة المام أحمد‪ ،‬ولله تعالى عين ليســت بجارحــة‪،‬‬
‫والله تعالى استوى على عرشه استواًء لئقا ً به تعالى‬
‫ليــس بمماســة ول بملقــاة‪ ،‬وهــذا الــذي قــاله المــام‬
‫أحمد كما مّر‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فتراهم يثبتون ما ثبــت بالكتــاب‬
‫والسنة الصــحيحة وينزهـون اللــه تعـالى عــن الظـاهر‬
‫الذي ُيفهَــم مــن اللفــظ بيـــن الخلــق‪ ،‬وحيــن ُيســتبعد‬
‫الظاهر والحقيقة اللغوية المتبادرة من اللفظ ل يبقى‬

‫‪205‬‬
‫إل المجاز‪ ،‬فترى جمهور السلف لحتمال اللفظ أكــثر‬
‫من معنى لديهم يتوقفون عــن تعييــن أحــدها مكتفيــن‬
‫بــالفهم الجمــالي للفــظ حســب مــوطنه مــن الكلم‪،‬‬
‫فيفهمون من قوله تعالى) بل يداه مبسسسوطتان (‬
‫أن الله تعالى جوادٌ كريم ل تفنى خزائنسسه ول‬
‫ينقطع عطساؤه‪ ،‬ويفهمسون مسن قسوله تعسالى‬
‫) يد الله فوق أيديهم ( النصرة والثــواب‪ ،‬وهكــذا‪،‬‬
‫لكن جمهــورهم لــم ينطــق بهــذه المعــاني‪ ،‬لوضــوحها‬
‫عندهم وعدم الحاجة إلى التصريح بها لخلــوّ عصــرهم‬
‫مما يقتضي ذلك‪ ،‬بيد أن هــذا لــم يمنــع البعــض منهــم‬
‫رضي الله عنهم من التصريح ببعض هذه المعاني كما‬
‫سيأتي معنا في مبحث تأويلت السلف‪.‬‬
‫على أننا نقول‪ :‬إن الله تعالى هو من علمنــا كيــف‬
‫ل ما ل يليق بذاته العلية مــن هــذه‬‫ننزهه وننفي عنه ك ّ‬
‫الظواهر‪ ،‬كما جاء فــي الحــديث القدســي الــذي رواه‬
‫المام مسلم في فضل عيادة المريــض والــذي يقــول‬
‫فيه الرب تعــالى لعبــده يــوم القيامــة‪) :‬يا ابسسن آدم‬
‫مرضت فلم تعدني‪ ...‬يا ابسسن آدم اسسستطعمتك‬
‫فلم تطعمني‪ ...‬يا ابسسن آدم استسسسقيتك فلسسم‬
‫تسقني( كل ذلــك والعبــد يقــول )رب كيــف أعــودك‬
‫وأنــت رب العــالمين‪ ...‬رب كيــف أطعمــك وأنــت رب‬
‫العالمين‪ ..‬رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين( فــإنه‬
‫عندما استحال في عقل العبد الــذي ينــزه مــوله عــن‬

‫‪206‬‬
‫صفات المخلوقين وسمات الجسام وعوارض النقص‬
‫والفــات أن يمــرض ربــه ويعــوده علــى الحقيقــة وأن‬
‫يستطعم ويستسقي على الحقيقة ســأل )رب كيــف‪..‬‬
‫وأنــت رب العــالمين( أي أن حقــائق هــذه اللفــاظ ل‬
‫تليق به تعالى وهي محالة قطعا ً في حقه‪ ،‬وما دامــت‬
‫منفية الظاهر والحقيقة فهي عنده بل معنــى مفهــوم‪.‬‬
‫ولهذا سأل )رب كيف(‪ ،‬وهذا شأن كل لفظ من هــذه‬
‫اللفاظ التي مـن هـذا القبيـل عنـدما يسـتحيل معنـاه‬
‫الظــاهر والحقيقــي يستفســر عــن المـــراد منـــه بـــ‬
‫)كيف(‪ ،‬وهذا الذي حدث من بعض العوام في الصــدر‬
‫الول حين أخذوا يسألون عن مثل هذه اللفاظ‪ :‬كيف‬
‫استوى؟ كيــف ينــزل؟ كيــف يضــحك؟ فنهــاهم علمــاء‬
‫السلف عن الستفسار عن معانيها بقولهم )بل كيــف(‬
‫وألزموهم تنزيه الله تعالى عن ظواهرها ثم السكوت‬
‫بعد اليمان بأن الله تعالى ليس كمثله شيء‪.‬‬
‫قال المام العز بن عبد السلم رحمــه اللــه تعــالى‬
‫)الشارة إلى اليجاز ص‪:(7/‬‬
‫)وأما قوله عليه السلم حكاية عن رب ّــه " مرضــت‬
‫فلم تعدني واســتطعمتك فلــم تطعمنــي واستســقيتك‬
‫فلم تسقني " فيحمــل علــى حــذف المضــاف تقــديره‬
‫ده‪ ،‬واســتطعمك عبــدي فلــم‬ ‫مــرض عبــدي فلــم تعــ ْ‬
‫ل علــى‬‫قه‪ ...‬ويــد ّ‬
‫سـ ـ ِ‬
‫تطعمه‪ ،‬واستسقاك عبدي فلم ت ْ‬
‫ما قيل له استطعمتك فلــم تطعمنــي‪.‬‬ ‫هذا أن الملوم ل ّ‬

‫‪207‬‬
‫قال استبعادا ً لــذلك وتعجب ـا ً منــه ‪ -‬ل ّ‬
‫مــا لــم يتفطــن‬
‫لحذف المضاف وإرادة الــرب ‪ -‬كيــف أطعمــك وأنــت‬
‫رب العالمين؟ حمل ً للكلم على ظاهره‪ ،‬فأظهر الرب‬
‫ده من تأويل كلمه فقال‪ " :‬مرض‬ ‫سبحانه وتعالى مرا َ‬
‫مــه‬
‫ده واســتطعمك عبــدي فلــم تطع ْ‬ ‫عبــدي فلــم تعــ ْ‬
‫سقه( اهـ‪.‬‬ ‫واستسقاك عبدي فلم ت ْ‬
‫وقوله )حمل ً للكلم على ظاهره( أي أن العبد قال‬
‫ما لــم يتفطــن لغيــره مــن المعــاني‬ ‫ذلك مستبعدا ً له ل ّ‬
‫اللئقة بالله تعالى‪.‬‬
‫وقـال العلمـة ابـن خلـدون ‪ -‬رحمـه اللـه تعـالى ‪-‬‬
‫)المقدمة ‪ ،1088/ 3‬بتحقيق علي عبدالواحد وافي(‪:‬‬
‫)إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الشــعري ونــاظر‬
‫مشـــيختهم – أي المعتزلـــة – فـــي مســـائل الصـــلح‬
‫والصلح‪ ،‬فرفض طريقتهم وكان علــى رأي عبــد اللــه‬
‫بن سعيد بن كلب وأبي العبــاس القلنســي والحــارث‬
‫المحاسبي مــن أتبـــاع الســلف وعلــى طريقــة الســنة‬
‫فأيــد مقــالتهم – يعنــي الســلف – بالحجــج الكلميــة‬
‫وأثبت الصفات القائمة بــذات اللــه تعــالى مــن العلــم‬
‫والقـدرة والرادة‪ ...‬وكـان مـن مـذهبهم إثبـات الكلم‬
‫والسمع والبصر‪ ،‬لنها[ يعني هذه الصفات ]وإن أوهــم‬
‫ظاهرها النقص بالصوت والحــرف الجســمانيين‪ ،‬فقــد‬
‫وجــد للكلم عنــد العــرب مــدلول آخــر غيــر الحــروف‬
‫والصوت وهو ما يدور فـي الخلـد والكلم حقيقـة فيـه‬

‫‪208‬‬
‫دون الول‪ ....‬وأمــا الســمع والبصــر وإن كــان يــوهم‬
‫ة علــى إدراك المســموع‬ ‫إدراك الجارحة فهو يــد ّ‬
‫ل لغ ـ ً‬
‫والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لنه حقيقة لغويــة‬
‫فيهما( اهـ‪.‬‬
‫هــذا فيمــا يتعلــق بصــفات المعــاني‪ ،‬أمــا الصــفات‬
‫الخرى التي يريد هــؤلء التســوية بينهــا وبيــن صــفات‬
‫المعاني وذلك بقولهم يجــب إثبــات حقائقهــا ومعانيهــا‬
‫الظاهرة كما هو الحــال فــي صــفات المعــاني فيقــول‬
‫العلمة ابن خلدون عنها‪:‬‬
‫)وأمــا لفــظ الســتواء والمجيــء والنــزول والــوجه‬
‫واليدين والعينين)‪ (1‬وأمثال ذلك‪ ،‬فعــدلوا عــن حقائقهــا‬
‫اللغويــة لمــا فيهــا مــن إيهــام النقــص بالتشــبيه إلــى‬
‫مجازاتهــا علــى طريقــة العــرب حيــن تتعــذر حقــائق‬
‫اللفاظ‪ ،‬فيرجعون إلى المجاز‪ ،‬كما في قــوله تعــالى‪:‬‬
‫ض ( وأمثــاله‪ ،‬طريقسسة معروفسسة‬ ‫) يريد أن ينق س ّ‬
‫لهم غير منكرة ول مبتدعة( اهـ‪.‬‬
‫ثــم قــال موضــحا ً ســبب أخــذ الخلــف بالتأويــل‪:‬‬
‫)وحملهم على هذا التأويـل وإن كـان مخالفـا ً لمـذهب‬
‫السلف في التفويض أن جماعــة ارتكبــوا فــي محمــل‬
‫هذه الصفات فحملوها على صــفات ثابتــة للــه تعــالى‬
‫مجهولــة الكيفيــة فيقولــون فــي) اسسستوى علسسى‬

‫‪ ()1‬لم يرد لفظ العينين في القــرآن والســنة‪ ،‬فلعـ ّ‬


‫ل هــذا مــن‬
‫تصحيفات النساخ‪ .‬انظر ما مّر ص ‪ 18‬ـ ‪.19‬‬

‫‪209‬‬
‫العرش ( نثبت له استواء بحيــث مــدلول اللفــظ[ أي‬
‫على الحقيقة ]فــرارا ً مــن تعطيلــه‪ ،‬ول نقــول بكيفيتــه‬
‫فرارا ً من القول بالتشبيه الــذي تنفيــه آيــات الســلوب‬
‫من قوله تعالى ) ليسسس كمثلسه شسسئ ( ) سسبحان‬
‫ما يشركون‬ ‫ما يصفون ( ) تعالى الله ع ّ‬ ‫الله ع ّ‬
‫( ) لم يلد ولم يولد ( ول يعلمــون مــع ذلــك أنهــم‬
‫ولجوا من بــاب التشــبيه فــي قــولهم بإثبــات اســتواٍء[‬
‫يعني ظاهره اللغوي وحقيقتــه المعهــودة عنــد الخلــق‬
‫]والستواء عند أهــل اللغــة إنمــا موضـوعه الســتقرار‬
‫والتمكــن وهــو جســماني‪ .‬وأمسسا التعطيسسل السسذي‬
‫يشسسنعون بسسإلزامه وهسسو تعطيسسل اللفسسظ س س أي‬
‫ظاهره س فل محذور فيه وإنمسسا المحسسذور فسسي‬
‫تعطيل اللسسه)‪ ...(1‬ثسسم يسسدعون أن هسسذا مسسذهب‬
‫السف‪ ،‬وحاشسسا للسسه مسسن ذلسسك‪ ،‬وإنمسسا مسسذهب‬
‫السلف ما قررناه أول ً من تفويض المراد بها‬
‫إلى الله والسكوت عن فهمهسسا‪ ...‬ثسسم طسسردوا‬
‫ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه‬
‫والعينين واليسسدين والنسسزول والكلم بسسالحرف‬

‫‪ ()1‬أي نفي صفاته تعالى كأن يقال‪ :‬لم يستو أو غير مستو‪ ،‬أو‬
‫ليـس للـه يـدان أو وجـه أو ل يغضـب أو ل يحـب ونحـو ذلـك ممـا‬
‫وقعت بــه بعــض الفــرق المعطلــة فهــذا هــو المحظــور‪ ،‬أمــا نفــي‬
‫الظاهرالمحال وإثبات الصفة التي أثبتها الله تعالى لنفسه أو أثبتها‬
‫له رسوله عليه الصلة والسـلم فليـس بمحظـور‪ ،‬وهـذا مـا فعلـه‬
‫أهل السنة الشاعرة‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫والصسسوت يجعلسسون لهسسا مسسدلولت أعسسم)‪ (2‬مسسن‬
‫الجسمانية وينزهونه عسسن مسسدلول الجسسسماني‬
‫منها‪ ،‬وهذا شسسيء ل يعسسرف فسسي اللغسسة‪ ،‬وقسسد‬
‫درج على ذلك الول والخر منهسسم‪ ،‬ونسسافرهم‬
‫أهل السنة من المتكلمين الشعرية والحنفية‬
‫ورفضوا عقائدهم في ذلك( اهـ‪.‬‬
‫وهذا الذي قرره وحرره العلمة ابن خلدون هو مــا‬
‫أطبقت عليه المة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قول الســلف )بل كيــف( و)أمروهــا كمــا‬
‫جاءت( ونحو ذلك مما نقل عنهم‪ ،‬تفويض في الكيــف‬
‫إلى الله بعد إثبات المعنى الظاهر‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬إن نفي هذه المعــاني الظــاهرة متفــق عليــه‬
‫عند جميع العارفين بـالله تعـالى‪ ،‬وقـد ذكرنـا قبــل أن‬
‫هذه الكيفيات المحسوسة مما يتنزه الله تعــالى عنهــا‬

‫‪ ()2‬وهذا الذي ذكره العلمة ابن خلدون هو ما عنيناه بقولنا إن‬


‫صفات المعاني لها مدلولت واسعة أعم من الجسمانيات لــذا لــم‬
‫يضطر العلماء معها إلى صــرفها عــن مــدلولها الظــاهر‪ ،‬فهــي لهــا‬
‫مدلول خاص إذا أضيفت إلى الله تعالى ومدلول آخــر إذا أضــيفت‬
‫إلى المخلوق‪ ،‬أما ألفاظ المتشابه فمدلولها الظاهر ضيق ل يفهــم‬
‫منه إل الجسمانيات‪ ،‬ولهذا اضطر العلماء معها إلى الصــرف عـــن‬
‫هـــذا الظــاهر فإمــا التفــويض وإمــا التأويــل وهــذا بعينــه مــا أراده‬
‫العلمة ابن خلدون في هذه العبارة فإنه ل يعقل ـ مثل ً ـ أن يقولوا‬
‫ل نثبت لله تعالى جارحة ثم يحملــون هــذه اللفــاظ علــى الظــاهر‬
‫فإنه ل ظاهر هنا إل الجارحة والجسمانيات‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ول يجوز وصفه بها لنها لــوازم ل تنفــك عــن المعــاني‬
‫الظاهرة من هذه اللفاظ‪ ،‬وحاشا السلف الصــالح أن‬
‫يثبتوا لله تعــالى مــا يســتحيل فــي حقــه وهــم أعــرف‬
‫الخلق كافة بالله بعد رسول الله ‘‪.‬‬
‫وهذه نصوص العلماء فــي تنزيــه اللــه تعــالى عــن‬
‫الكيفيات المحسوسة‪:‬‬
‫من ذلك ما جــاء فــي كتــاب " العتقــاد " للحــافظ‬
‫البيهقي )ص ‪:(93 /‬‬
‫قــال الحــافظ الــبيهقي‪ :‬قــال الوزاعــي‪) :‬كــل مــا‬
‫وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفســيره تلوتــه‬
‫والسكوت عليه(‪.‬‬
‫قال البيهقي )وإنما أراد ‪ -‬والله أعلم ‪ -‬فيمسسا‬
‫تفسيره يؤدي إلى تكييسسف‪ ،‬وتكييفسسه يقتضسسي‬
‫تشبيهه له بخلقه في أوصاف الحدوث( اهـ‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إن كل ما جــاء مــن نصــوص المتشــابه فــي‬
‫الصفات من هذا القبيل‪ ،‬لن ظاهره ومعناه الحقيقــي‬
‫يؤدي إلــى التكييــف المقتضــي للتشــبيه ل محالــة‪ ،‬فل‬
‫فرق بين إثبات المعنى الحقيقي لهــذه اللفــاظ وبيــن‬
‫التكييف المستحيل في حق الله تعالى‪ ،‬وهذا بعينه ما‬
‫أشار إليــه المــام مالــك رضــي اللــه عنــه فــي القــول‬
‫المشهور عنه فــي الســتواء )الســتواء غيــر مجهــول‪،‬‬
‫والكيف غير معقول‪ (..‬أي ل يعقل‪ ،‬ول يجوز على الله‬
‫تعــالى‪ ،‬لن التكييــف تحديــد‪ ،‬واللــه تعــالى منــزه عــن‬

‫‪212‬‬
‫الحدود‪.‬‬

‫ونقل المام النووي عن القاضي عيـاض مؤيـدا ً لـه‬


‫ما نصه )شرح مسلم ‪:(24 / 5‬‬

‫)ل خلف بين المسلمين قاطبسسة فقيههسسم‬


‫ومحدثهم ومتكلمهم ونظسسارهم ومقلسسدهم أن‬
‫الظسسواهر السسواردة بسسذكر اللسسه تعسسالى فسسي‬
‫السماء‪ ...‬ليست على ظاهرها بل متأولة عند‬
‫جميعهم‪ ...‬وهل بين التكييف وإثبات الجهسسات‬
‫فرق؟!! لكن إطلق ما أطلقه الشرع من أنسسه‬
‫القاهر فوق عباده وأنه استوى على العسسرش‬
‫مسسع التمسسسك باليسسة الجامعسسة للتنزيسسه الكلسسي‬
‫الذي ل يصح في المعقسسول غيسسره وهسسو قسسوله‬
‫تعسسالى " ليسسس كمثلسسه شسسيء " عصسسمة لمسسن‬
‫وفقه الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫ونحن نتساءل بعجب مع القاضــي عيــاض والمــام‬
‫النووي وباقي أئمة الــدين وأعلم المســلمين ونقــول‪:‬‬
‫وهسسل بيسسن التكييسسف والقسسول بظسسواهر هسسذه‬
‫النصوص فرق؟!!‬
‫وما هذا إل للزوم التكييف لهذه الظواهر لزوما ً غيــر‬
‫قابل للنفكاك‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫وقول المام أحمد الماّر قريبا ً )نؤمن بهــا ونصــدق‬
‫ول كيف ول معنى( صريح في كونهم رضي الله عنهم‬
‫يفوضون المعنى‪ ،‬ول يحتمل التفسير بغير ذلك‪.‬‬
‫وقال المام الخطــابي معلقـا ً علــى حــديث أطيــط‬
‫العرش ما نصه )معالم السنن ‪:(328 / 4‬‬
‫)هذا الكسلم إذا جرى على ظاهره كان فيه‬
‫نوع من الكيفية‪ ،‬والكيفية عسسن اللسسه وصسسفاته‬
‫منفية‪ (..‬ثم أخذ بتأويل الحديث على ما يليــق‪ ،‬وقــد‬
‫مر معنا قريبًا‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن عبد الــبر ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫)التمهيد ‪ (144 / 7‬أثناء كلمه على حديث النزول بعد أن‬
‫نقل قول القائلين‪ :‬ينزل تعالى بذاته‪ .‬قال‪) :‬ليس هــذا‬
‫بشيء عنــد أهــل الفهــم مــن أهــل الســنة‪ ،‬لن هذا‬
‫كيفية وهم يفزعسسون منهسسا لنهسسا ل تصسسلح إل‬
‫فيما يحاط به عيانًا‪ ،‬وقد جل الله وتعالى عن‬
‫ذلك( اهس‪.‬‬
‫مــا ً الــذين‬
‫وقــال الحــافظ ابــن كــثير مفوضــا ً وذا ّ‬
‫يحملون المتشــابه علــى ظــاهره وذلــك فــي تفســيره‬
‫لقوله تعالى في سورة العراف )ثم استوى علسسى‬
‫العرش( )‪ (220 / 2‬ما نصه‪:‬‬
‫)فللناس في هذا المقام مقالت كثيرة جــدا ً ليــس‬
‫هــذا موضــع بســطها‪ ،‬وإنمــا نســلك فــي هــذا المقــام‬
‫مــذهب الســلف الصــالح مالــك والوزاعــي والثــوري‬

‫‪214‬‬
‫والليــث بــن ســعد والشــافعي وأحمــد وإســحاق بــن‬
‫راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما ً وحديثا ً وهو‬
‫إمرارهــا كمــا جــاءت مــن غيــر تكييــف ول تشــبيه ول‬
‫تعطيــــل‪ ،‬والظسسساهر المتبسسسادر إلسسسى أذهسسسان‬
‫المشبهين منفي عن الله فإن الله ل يشسسبهه‬
‫شيء من خلقه( اهس‪.‬‬
‫وقال الشــيخ ســلمة العزامــي القضــاعي ‪ -‬رحمــه‬
‫الله تعالى ‪) -‬الفرقان في ذيل السماء والصفات للبيهقي ص ‪/‬‬
‫‪:(78‬‬
‫)ومجمـــل القـــول فـــي هـــذا البـــاب أن صـــفات‬
‫المحدثات على قسمين‪:‬‬

‫القسم الول ‪:‬‬


‫ما يدل على الحدوث والمكان والفتقار والحتيــاج‬
‫مـــن حيـــث ذاتـــه ومـــاهيته أو ملزومـــاته أو لـــوازمه‬
‫المســاوية‪ ،‬كــالكون فــي الجهــة والمكــان‪ ،‬وكالصــغر‬
‫والكــبر والجســمية وقبــول النقســام‪ ،‬فهــذا مختــص‬
‫بالكائنات ل يجوز أن يتصف الخالق منه بشيء ثم منه‬
‫ما يكون القول به فــي اللــه كفــرا ً إجماعــا ‪ ،‬ككــونه ‪-‬‬
‫تعـالى ‪ -‬والـدا ً أو مولـودا ً أو ذا صـاحبة أو لـه شـريك‪،‬‬
‫ونحو ذلــك مــن كــل مــا النقــص فيــه جلــي‪ ،‬ومنــه مــا‬
‫اختلــف فيــه علــى أقــوال ليــس هــذا محــل بســطها‪،‬‬
‫أرجحها أن ذلك ضلل وبدعة وفسق شنيع‪ ،‬أشــد مــن‬

‫‪215‬‬
‫فسق الجوارح بكثير‪ ،‬وقــد يعــذر العــامي فــي الجهــل‬
‫ببعض ذلك‪ ،‬وأما من ارتفعت درجتــه عــن العاميــة فل‬
‫يعذر وإنما يعزر‪ ،‬فإن كان داعية إلى رأيه كان الــذنب‬
‫أعظم والمر أخطر – عياذا ً بالله من ذلك‪.‬‬
‫القسم الثانى ‪:‬‬
‫ما ل يدل على مـا ســبق مــن حيــث ذاتــه بــل مــن‬
‫حيث نقصه عــن الدرجــة العليــا فــي كمــاله‪ ،‬كــالوجود‬
‫والحيـاة والعلـم والرادة والقـدرة وأشـباهها مـن كـل‬
‫صفة هي من حيث ذاتها كمال‪ ،‬فهذا القسم هو للحق‬
‫تعالى بالصالة على أكمل درجاته وأبعدها عــن شــوب‬
‫النقص‪ ،‬وأرفعها عن المكان ولوازمه‪ ،‬واجب بوجــوب‬
‫موصوفه تبارك وتعالى‪ ،‬قديم بقدمه بــاق ببقــائه‪ ،‬أمــا‬
‫ث فيـه بإحـداث‬ ‫ما للخلق منـه فهـو لـه بـالعرض حـاد ٌ‬
‫ن غيُر واجب‪ ،‬على درجة نازلة لئقة بحــال‬ ‫الحق ممك ٌ‬
‫الممكن‪ ،‬بحيث ل نسبة بين ما اتصــف بــه الحــق جــل‬
‫وعــز ومــا اتصــف بـه الممكــن ‪ -‬أي المخلــوق ‪ -‬وأيــن‬
‫ك‬‫ل للــزوال غيــُر مملـــو ٍ‬ ‫ث قابــ ٌ‬‫ن حــاد ٌ‬
‫وجــود ٌ ممكــ ٌ‬
‫ب‬ ‫ف بــه حيــن اتصــافه بــه‪ ،‬مــن الوجــود ِ الــواج ِ‬
‫للمتص ِ‬
‫ي البدي الذي يجل عن البتداء والنتهاء‪ ،‬ويرتفــع‬ ‫الزل ّ‬
‫عن قبول الفناء؟!‬
‫‪ ...‬وبهذا يبين لك معنــى قــوله تعــالى فــي صــفة‬
‫ذاته العلية وكمالته المقدسة ) ليس كمثله شسسئ‬
‫( ) هسسو الحسسي ( ) وهسسو اللطيسسف الخسسبير (‬

‫‪216‬‬
‫) وهسسو العليسسم القسسدير ( ) ل يعلسسم مسسن فسسي‬
‫السموات والرض الغيب إل الله ( إلى أمثــال‬
‫هذه اليات الشريفة مــن كــل مــا دل علــى انحصــار‬
‫هذه الصفات فيه عز وجل‪ ،‬وقصــرها عليــه‪ .‬ولُبـ ـعْ دِ‬
‫ما بين حقــائق هــذه الصــفات فــي الممكــن ‪ -‬يعنــي‬
‫المخلوق ‪ -‬وحقيقِتها في الواجب ‪-‬يعني الله تعالى ‪-‬‬
‫قــال بعــض الفضـــلء‪ :‬إن إطلق الوجــود والحيــاة‬
‫والعلم ونحوها على الممكن ما هو إل بالمجاز‪.‬‬
‫‪ ...‬وأرجــو بعــد هــذا البيــان لهــذين القســمين أن‬
‫تكون قد تكشفت لك تلك المغالطة الــتي قــد يفــوه‬
‫بها بعضهم في مناظرة أهل الســنة‪ ...‬وهــو قــولهم‪:‬‬
‫إن الوجه والعين واليدين والقدمين والساق صــفات‬
‫كما أن الحياة والعلم والرادة والقدرة صفات‪ ،‬وقــد‬
‫قلتــم بهــا فــي ذات اللــه‪ ،‬فلمــاذا ل تقولــون بتلــك‬
‫الصفات الوجه وما ذكر معه؟ فكما قلتم له علــم ل‬
‫در‪ ،‬فقولــوا لــه وجــه علــى‬
‫قـ َ‬
‫كالعلوم‪ ،‬وقدرة ل كالـ ُ‬
‫الحقيقة ل كــالوجوه ويــد علــى الحقيقــة ل كاليــدي‬
‫ورجل على الحقيقة ل كالرجل وساق على الحقيقة‬
‫ل كالسوق‪ ،‬ويتوسعون في ذلــك حــتى انخــدع بهــذا‬
‫الكلم من أهل الفضل من تروج عليه الحيل‪ ،‬ويغره‬
‫الزخرف من القول‪ ،‬ويزيد فــي رواج هــذا الزخــرف‬
‫أن هذه العبارة‪ " :‬له وجــه ل كــالوجوه " توجــد مــن‬
‫بعض الكابرالمنزهين للحق عن الجزاء والجســمية‬

‫‪217‬‬
‫كمــا هــو الحــق‪ ،‬وهــي مــن هــؤلء ـــ أي مثبــتي‬
‫الظواهرالحسية ـ مغالطة‪ ..‬فإن السسوجه والعيسسن‬
‫واليسسسد والرجسسسل والسسسساق أجسسسزاء وأبعسسساض‬
‫وأعضاء لما هسسي فيسسه مسسن السسذوات‪،‬ل معسسان‬
‫وأوصاف تقوم بموصوفاتها‪ ،‬فأين هي ممسسا‬
‫ألحقوهسسا بسسه مسسن الحيسساة والعلسسم والرادة‬
‫والقدرة؟!‪.‬‬
‫وهسسسل هسسسذا إل كتشسسسبيه العسسسالم بسسسالعلم‬
‫والبيض بالبياض؟!‬
‫‪ ...‬فإن قالوا‪ :‬إنا ل نريد بالوجه وأخــواته مــا هــو‬
‫أجــزاء وأبعــاض‪ ،‬بــل نريــد مــا هــو صــفات حقيقــة‬
‫كالعظمة والملــك والبصــر والقــدرة‪ ،‬ولكنــا ل نعيــن‬
‫المراد‪.‬‬
‫قلنا لهم‪ :‬مرحبا بالراجعين إلى الحق‪ ...‬ول نــزاع‬
‫بيننا وبينكم( انتهى كلمه رحمه الله بتصرف يسير‪.‬‬
‫وجاء في كتاب مناهل العرفان للشيخ الزرقــاني‬
‫‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ (291 / 2) -‬ما نصه‪:‬‬
‫)لقــد أســرف بعــض النــاس فــي هــذا العصــر‪،‬‬
‫فخاضوا في متشابه الصفات بغيــر حــق‪ ،‬وأتــوا فــي‬
‫حديثهم عنها وتعليقهم عليهــا بمــا ل يــأذن بــه اللــه‪،‬‬
‫ولهم فيها كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيــه‪..‬‬
‫حتى بــاتت هــذه الكلمــات نفســها مــن المتشــابهات‬
‫ومــن المؤســف أنهــم يواجهــون العامــة وأشــباههم‬

‫‪218‬‬
‫بهذا‪ ،‬ومن المحزن أنهــم ينســبون مــا يقولــون إلــى‬
‫سلفنا الصــالح‪ ...‬مــن ذلــك قــولهم‪ :‬إن اللــه تعــالى‬
‫يشــار إليــه بالشــارة الحســية!! ولــه مــن الجهــات‬
‫الست جهة الفوق‪ ،‬ويقولون إنــه ‪ -‬تعــالى ‪ -‬اســتوى‬
‫على العرش بذاته استواًء حقيقيًا‪ ،‬بمعنى أنه استقر‬
‫عليه استقرارا ً حقيقيًا‪ ،‬غير أنهم يعــودون فيقولــون‪:‬‬
‫ليــس كاســتقرارنا وليــس علــى مــا نعــرف‪ ،‬وهكــذا‬
‫يتناولون أمثال هذه الية‪ ،‬وليس لهم فيمــا نعلــم إل‬
‫التشبث بالظواهر‪ ،‬ولقد تجلــى لــك مــذهب الســلف‬
‫والخلــف فل نطيــل بإعــادته‪ ...‬لــو أنصــف هــؤلء‬
‫لســكتوا عــن اليــات والخبــار المتشــابهة‪ ،‬واكتفــوا‬
‫بتنزيه الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحـدوث‬
‫ولوازمـه‪ ،‬ثم فوضـوا المـر إلى الله وحـده( اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة محمود بن خطاب السبكي ‪ -‬رحمه‬
‫الله تعالى ‪) -‬الدين الخالص ‪:(28 / 1‬‬
‫)وأمــا الســلف والخلــف فــإنهم مجمعــون علــى‬
‫ثبوت صفات الله تعالى الواردة في الكتــاب العزيــز‬
‫والسنة المحمدية‪ ،‬وإنما خلفهم في تفــويض معنــى‬
‫المتشابه وهو مذهب السلف‪ ،‬وفي بيان معناه وهــو‬
‫مذهب الخلف( اهـ‪.‬‬
‫قال المــام ابــن الجــوزي ‪ -‬رحمــه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫)دفع شبه التشبيه ص ‪ 97 /‬وما بعدها(‪:‬‬
‫)ورأيت من أصحابنا من تكلم في الصول بمــا ل‬

‫‪219‬‬
‫يصلح‪ ،‬فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب‪ ،‬ورأيتهــم قــد‬
‫نزلــوا إلــى مرتبــة العــوام فحملــوا الصــفات علــى‬
‫مقتضى الحس‪ ،‬فســمعوا أن اللــه تعــالى خلــق آدم‬
‫علــى صــورته فــأثبتوا لــه صــورة ووجه ـا ً زائدا ً علــى‬
‫الــذات‪ ،‬وعينيــن وفمــا ولهــوات‪ ،‬وأضراســا وأضــواء‬
‫ف ـا ً وخنصــرا ً‬
‫لوجهه هي السبحات‪ ،‬ويدين وأصابع وك ّ‬
‫وإبهاما َ وصدرا ً وفخذا ً وساقين ورجلين‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬ما سمعنا بذكر الرأس‪.‬‬
‫دني العبد مــن‬
‫س‪ ،‬وي ُ ْ‬
‫م ّ‬
‫س وي ُ َ‬
‫م ّ‬
‫وقالوا‪ :‬يجوز أن ي َ َ‬
‫ذاته‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬ويتنفس‪.‬‬
‫ثم يرضون العوام بقولهم‪ :‬ل كما يعقل!!‬
‫وقــد أخــذوا بالظــاهر فــي الســماء والصــفات‪،‬‬
‫فسموها بالصفات تسمية مبتدعة ل دليــل لهــم فــي‬
‫ذلــك مــن النقــل ول مــن العقــل‪ ،‬ولــم يلتفتــوا إلــى‬
‫النصــوص الصــارفة عــن الظــواهر إلــى المعــاني‬
‫الواجبة لله تعالى‪ ،‬ول إلى إلغاء مــا يــوجبه الظــاهر‬
‫من سمات الحدوث‪ ،‬ولم يقنعوا بــأن يقولــوا‪ :‬صــفة‬
‫فعــل‪ .‬حــتى قــالوا‪ :‬صــفة ذات‪ ،‬ثــم لمــا أثبتــوا أنهــا‬
‫صفات ذات‪ ،‬قالوا‪ :‬ل نحملها على توجيه اللغة مثــل‬
‫يد على نعمة وقدرة‪ ،‬ومجيء وإتيان على معنى بـــر‬
‫ولطف‪ ،‬وساق على شدة‪ ،‬بــل قــالوا‪ :‬نحملهــا علــى‬
‫ظواهرها المتعارفة‪ ،‬والظاهر هو المعهود من نعوت‬

‫‪220‬‬
‫الدمييــن‪ ،‬والشــيء إنمــا يحمــل علــى حقيقتــه إذا‬
‫أمكــن‪ ،‬ثــم يتحرجــون مــن التشــبيه‪ ،‬ويأنفـــون مــن‬
‫إضافته إليهم‪ ،‬ويقولون‪ :‬نحن أهل الســنة‪ .‬وكلمهــم‬
‫صـــريح فـــي التشبيــــه‪ ،‬وقـــد تبعهـــم خلـــق مـــن‬
‫العـوام‪.(...‬‬
‫إلــى أن قــال‪) :‬فلــو أنكــم قلتــم نقــرأ الحــاديث‬
‫مــُلكم إياهــا‬
‫حـ ْ‬
‫ونسكت‪ ،‬ما أنكر عليكــم أحــد‪ ،‬إنمــا َ‬
‫على الظاهر قبيح( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام ابن القشيري ‪ -‬رحمه اللــه تعــالى ‪-‬‬
‫)إتحاف السادة المتقين ‪:(109 / 2‬‬
‫)يقولــون ‪ -‬يعنــي أهــل الظــاهر ‪ -‬نحــن نأخــذ‬
‫بالظاهر ونجــري اليــات الموهمــة تشــبيها ً والخبــار‬
‫المقتضية حــدا ً وعضــوا ً علــى الظــاهر‪ ،‬ول يجــوز أن‬
‫نطــرق التأويــل إلــى شــيء مــن ذلــك‪ ،‬ويتمســكون‬
‫بقــوله تعــالى) ومسسا يعلسسم تسسأويله إل اللسسه ( ‪...‬‬
‫وأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلوا فــي قلــوبهم‬
‫وصف المعبود سبحانه بالعضاء والجوارح والركوب‬
‫والنــزول والتكــاء والســتلقاء والســتواء بالــذات‬
‫والــتردد فــي الجهــات‪ ،‬فمــن أصــغى إلــى ظــاهرهم‬
‫يبـــادر بـــوهمه إلـــى تخيـــل المحسوســـات فيعتقـــد‬
‫الفضائح‪ ،‬فيسيل به السيل وهو ل يدري( اهـ‪.‬‬
‫)مناهــل‬ ‫قال الشيخ الزرقاني ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫العرفان ‪:(292 / 2‬‬

‫‪221‬‬
‫)فالعمــدة عنــدنا فــي أمــور العقــائد هــي الدلــة‬
‫القطعية التي توافرت على أنه تعالى ليــس جســما ً‬
‫جــا لحــد‬‫ول متحيًزا ول متجــزًئا ول مركب ًــا‪ ،‬ول محتا ً‬
‫ول إلى مكان ول إلى زمان‪ ،‬ول نحو ذلك‪ ،‬ولقد جاء‬
‫القرآن بهذا في محكماته‪ ،‬إذ يقول‪ ) :‬ليس كمثله‬
‫شسسئ ( ويقسسول ) قسسل هسسو اللسسه أحسسد ‪ ،‬اللسسه‬
‫الصمد ‪ ،‬لم يلد ولم يولد ‪ ،‬ولم يكن له كفوا ً‬
‫ى‬‫ن اللسسه غنس ّ‬
‫أحد ( ويقول‪ ) :‬إن تكفسسروا فسسأ ّ‬
‫عنكم ول يرضى لعباده الكفر ‪ ،‬وإن تشكروا‬
‫يرضه لكم ( ويقسسول‪ ) :‬ياأيهسسا النسساس أنتسسم‬
‫ى الحميد (‬ ‫الفقراء إلى الله ‪ ،‬والله هو الغن ّ‬
‫وغير ذلك كثير في الكتــاب والســنة‪ ،‬فكــل مــا جــاء‬
‫مخالفا ً بظاهره لتلــك القطعيــات والمحكمــات فهــو‬
‫من المتشابهات التي ل يجوز اتباعها‪ ،‬كما تــبين لــك‬
‫فيما سلف‪.‬‬
‫ثـــم إن هـــؤلء ‪ -‬يعنـــي القـــائلين بـــالظواهر ‪-‬‬
‫متناقضــون‪ ،‬لنهــم يثبتــون تلــك المتشــابهات علــى‬
‫حقائقهــا‪ ،‬ول ريــب أن حقائقهــا تســتلزم الحــدوث‬
‫وأعــراض الحــدوث‪ ،‬كالجســمية والتجــزؤ والحركــة‬
‫والنتقــال‪ ،‬لكنهــم بعــد أن يثبتــوا تلــك المتشــابهات‬
‫علــى حقائقهــا ينفــون هــذه اللــوازم‪ ،‬مــع أن القــول‬
‫بثبوت الملزومات ونفــي لوازمهــا تنــاقض ل يرضــاه‬
‫لنفسه عاقل‪ ،‬فضل ً عن طالب أو عالم‪ ،‬فقولهم في‬

‫‪222‬‬
‫مســألة الســتواء النفــة‪ :‬إن الســتواء بــاق علــى‬
‫حقيقتــه يفيــد أنــه الجلــوس المعــروف المســتلزم‬
‫للجســمية والتحيــز‪ ،‬وقــولهم بعــد ذلــك ليــس هــذا‬
‫الستواء على مــا نعــرف‪ ،‬يفيــد أنــه ليــس الجلــوس‬
‫المعــروف المســتلزم للجســمية والتحيــز‪ ،‬فكــأنهم‬
‫يقولون‪ :‬إنه مستو غير مستو ومستقر على العرش‬
‫غيــر مســتقر‪ ،‬أو متحيــز غيــر متحيــز‪ ،‬وجســم غيــر‬
‫جســم‪ ،‬أو أن الســتواء علــى العــرش ليــس هــو‬
‫الستواء على العرش‪ ،‬والســتقرار فــوقه ليــس هــو‬
‫الستقرار فوقه‪ ...‬فإن أرادوا بقولهم الستواء على‬
‫حقيقتــه‪ ،‬أنــه علــى حقيقتــه الــتي يعلمهــا اللــه ول‬
‫نعلمها نحن‪ ،‬فقد اتفقنا‪ ،‬لكن تعبيرهم هذا موهم‪ ،‬ل‬
‫يجــوز أن يصــدر مــن مــؤمن‪ ،‬خصوصــا ً فــي مقــام‬
‫التعليم والرشاد وفي موقف النقاش والحجاج‪ ،‬لن‬
‫القول حقيقة أو مجاز ل ينظر فيه إلى علم الله وما‬
‫هو عنده‪ ،‬ولكن ينظر فيه إلى المعنى الذي وضع له‬
‫اللفظ في عرف اللغة‪ ،‬والستواء في اللغة العربيــة‬
‫يدل على مــا هــو مســتحيل علــى اللــه فــي ظــاهره‬
‫فلبد إذن من صرفه عــن هــذا الظــاهر‪ ،‬واللفــظ إذا‬
‫صرف عما وضع له واستعمل في غير مــا وضــع لــه‬
‫خرج عن الحقيقة إلى المجــاز ل محالــة‪ ،‬مــا دامــت‬
‫هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى الصلي‪ ،‬ثــم إن‬
‫كلمهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامــة وفتنــة‬
‫لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه؟!‬

‫‪223‬‬
‫وفي ذلك مــا فيــه مــن الضــلل وتمزيــق وحــدة‬
‫المة‪ ،‬المر الــذي نهانــا القــرآن عنــه‪ ،‬والــذي جعــل‬
‫عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يفعل ما فعل بصــبيغ‪،‬‬
‫وجعل مالكا ـ ـ رحمــه اللــه تعــالى ـ ـ يقــول مــا قــال‬
‫ويفعل ما فعل بالذي سأله عن الستواء‪.‬‬
‫ولو أنصــف هــؤلء لســكتوا عــن اليــات والخبــار‬
‫المتشابهة‪ ،‬واكتفوا بتنزيــه اللــه تعــالى عمــا تــوهمه‬
‫ظواهرها من الحــدوث ولــوازمه‪ ،‬ثــم فوضــوا المــر‬
‫في تعيين معانيها إلى الله وحده( اهـ‪.‬‬
‫وبأقوال أئمة الســلم وأعلم المــة ينجلــي فــي‬
‫هذه القضــية وجــه الحــق‪ ،‬وتتضــح المحجــة‪ ،‬ويتــبين‬
‫على وجــه اليقيــن أنــه ليــس لهــل الحــق فــي هــذه‬
‫المســألة إل قــولن‪ ،‬التفــويض الــذي عليــه أكــثر‬
‫السلف‪ ،‬والتأويل الذي عليه أكثر الخلف وجماعــات‬
‫من السلف‪ ،‬وليس بعد هذين المذهبين إل التعطيــل‬
‫أو التشبيه‪.‬‬

‫*****‬

‫التأويل والتعطيل‬

‫‪224‬‬
‫التأويل والتعطيل كلهما أسند إلى الشاعرة على‬
‫سبيل القدح والتشنيع‪ ..‬أما التأويل فقد تبين لك كونه‬
‫شعارا ً لهل الحق أمام أهل البدعة من المشبهة‬
‫والمجسمة‪ ،‬فاستحقوا به المدح ل القدح‪ ،‬والمنقبة ل‬
‫المذمة‪.‬‬
‫وأما التعطيل فهم منه براء‪ ..‬وكيف ينسب إلى‬
‫الشاعرة التعطيل وهم المثبتة للصفات المنزهون‬
‫لله تعالى عن جميع الفات وسمات النقص‬
‫والمخلوقات‪ ،‬وهم المنتسبون إلى إمام أهل السنة‪،‬‬
‫وشوكة أصحاب الحق في حلوق المبتدعة‪.‬‬
‫وإنما الذي أوقع من يتهم الشاعرة في ذلك أنهم‬
‫لم يدركوا حقيقة الفرق بين التأويل والتعطيل‪ ،‬أو‬
‫أنهم لم يدركوا الفرق بين نفي أصل الصفة ونفي‬
‫المعنى الحسي الظاهر والحقيقة اللغوية التي ل تليق‬
‫بالله تعالى‪.‬‬
‫وعلى أية حال سنحاول في ما يأتي بيان هذا‬
‫الفرق‪ ،‬ولكن قبل ذلك ل بد من بيان معنى التعطيل‪.‬‬

‫*****‬

‫‪225‬‬
‫حقيقة التعطيل‬

‫التعطيل هو التخلية والنفي‪ ،‬هذا في الصل‪ ،‬يقال‪:‬‬


‫امرأة عاطل‪ ،‬إذا خل جيدها من القلئد والزينة‪.‬‬
‫والمع ّ‬
‫طلة هم نفاة صانع العالم‪ ،‬وهم هنا نفاة‬
‫صفات الباري ج ّ‬
‫ل وعّز‪ ،‬مثل الجهمية الذين نفوا‬
‫صفات الله تعالى وع ّ‬
‫طلوها‪.‬‬

‫*****‬

‫‪226‬‬
‫هل عطل الشاعرة صفات الله تعالى‬

‫لقد مّر معنا في هذا البحث اعتقاد الشاعرة‬


‫وتأويلهم لبعض اللفاظ التي يستحيل وصف الله‬
‫تعالى بظاهرها وحقائقها التي يعهدها البشر من‬
‫أنفسهم ومما حولهم‪ ،‬وهذا الذي ذهبوا إليه من‬
‫التأويل هو عين ما كان يعرفه السلف الصالح‬
‫ويعتقدونه‪ ،‬غير أن جمهورهم رضي الله عنهم‬
‫أحجموا عن التصريح والتعيين حين احتمل اللفظ‬
‫عندهم أكثر من معنى فتوقفـوا ورع ا ً وتهّيب ًا‪ ،‬ثم‬
‫لعدم الحاجة إلى ذلك لسلمة عصرهم من البدع‬
‫التي حدثت بعد‪ ،‬يشهد لهذا ما ذكرناه مرارا ً من‬
‫تصريح البعض منهم بهذه المعاني التي قال بها‬
‫الشاعرة‪ ،‬ولو جاز وصف الشاعرة بالتعطيل‬
‫ذهم بالتأويل لنسحب هذا الحكم على أجيال‬ ‫لَ ْ‬
‫خ ِ‬
‫الصحابة والتابعيـن وتابعيهم‪.‬‬
‫ولقد نص العلماء على أن مذهب التأويل منقول‬
‫خذ ُ جمهورهم بمذهب التفويض‬ ‫عن السلف الصالح‪ ،‬وأ ْ‬
‫‪ -‬وهو ما يسميه العلماء تأويل ً إجماليًا‪ -‬ل ينفى أ ْ‬
‫خذ َ‬
‫ت منهم بالتأويل‪.‬‬
‫جماعا ٍ‬
‫قال المام النووي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬مثبتا ً التأويل‬

‫‪227‬‬
‫للسلف الصالح )شرح مسلم ‪ (36 / 6‬ما نصه‪:‬‬
‫)هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان‬
‫مشهوران للعلماء‪ ....‬ومختصرهما أن أحدهما وهو‬
‫مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين‪ ...‬والثاني‬
‫مذهب المتكلمين وجماعات من السلف وهو‬
‫ل على‬‫محكي عن مالك والوزاعي أنها تتأو ّ‬
‫ما يليق بها بحسب مواطنها( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام الزركشي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في‬
‫النصـوص المتشـابهة )البرهان في علوم القرآن ‪:(207/ 2‬‬
‫)اختلف الناس في الوارد منها في اليات‬
‫والحاديث على ثلث فرق‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أنه ل مدخل للتأويل فيها‪ ،‬بل تجري‬
‫على ظاهرها ول تؤول‪ ...‬وهم المشبهة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن لها تأويل ً ولكّنا نمسك عنه مع تنزيه‬
‫اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل‪ ،‬ونقول ل يعلمه إل‬
‫الله‪ .‬وهو قول السلف‪.‬‬
‫ولة‪ ،‬وأولوها على ما يليق‬
‫والثالث‪ :‬أنها مؤ ّ‬
‫به‪.‬‬
‫والول باطل‪ ،‬والخيران منقولن عن‬
‫ي وابن‬
‫قل عنه التأويل عل ّ‬
‫الصحابة‪ ...‬وممن ن ُ ٍ‬
‫مسعود وابن عباس وغيرهم( اهـ‪.‬‬
‫وقال العلمة الشوكاني ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬

‫‪228‬‬
‫)إرشاد الفحول ص ‪:(176 /‬‬
‫)الفصل الثاني‪ :‬فيما يدخله التأويل‪ ،‬وهو قسمان‪،‬‬
‫أحدهما أغلب الفروع‪ ،‬ول خلف في ذلك‪ ،‬والثاني‪:‬‬
‫الصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عّز‬
‫ل‪.‬‬‫وج ّ‬
‫وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلثة مذاهب (‪.‬‬
‫ونقل المذاهب الثلثة التي ذكرها الزركشي ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫)قال ابن برهان‪ :‬الول من هذه المذاهب‬
‫باطل‪ ،‬والخران منقولن عن الصحابة‪،‬‬
‫ي وابن‬‫ل هذا المذهب الثالث عن عل ّ‬ ‫ق َ‬
‫ون ُ ِ‬
‫مسعود وابن عباس وأم سلمة( اهـ‪.‬‬
‫ويؤيد هذا أيضا ً ما نقله العلماء عن بعض أئمة‬
‫السلف من التأويلت لبعض نصـوص المتشابه‪ ،‬نذكر‬
‫منها على سبيل الجمال‪:‬‬
‫تأويل ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الساق‬
‫بشدة المر‪ ،‬وكذلك مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة‬
‫وسعيد بن جبير وغيرهم‪) .‬الطبري ‪ ،38 / 29‬القرطبي ‪/ 18‬‬
‫‪(249‬‬
‫وتأويلهم للفظ الوجه في قوله تعالى ) فأينما‬
‫توّلوا فث ّ‬
‫م وجه الله ( ‪.‬‬
‫قال مجاهد‪ :‬قبلة الله‪) .‬الطبري ‪.(402 / 1‬‬

‫‪229‬‬
‫ك إل وجهه (‬ ‫ئ هال ٌ‬
‫لش ٍ‬ ‫وقوله تعالى ) ك ّ‬
‫قال مجاهد وأبو عبيدة والضحاك‪ :‬إل هو‪) .‬القرطبي‬
‫‪ ،322 / 13‬الطبري ‪ ،82 / 20‬دفع شبه التشبيه ص ‪.(113 /‬‬
‫وقال أبو العالية وسفيان‪ :‬إل ما أريد به وجهه‪.‬‬
‫وقال الصادق‪ :‬دينه‪ .‬وقال أبو عبيدة أيضًا‪ :‬إل جاهه‪.‬‬
‫)القرطبي ‪.(322 / 13‬‬
‫وتأويل ابن جرير الطبري للستواء بالعلو‬
‫والسلطان )في تفسيره ‪ (1/192‬ويروى شيء قريب من‬
‫هذا عن الحسن والثوري‪) .‬مرقاة المفاتيح ‪،137 /2‬‬
‫وتفسير العز بن عبد السلم ‪ ) .(486 - 485 / 1‬وجاء‬
‫ربك (‬
‫)ذكره ابن‬ ‫وتأويل أحمد لقوله تعالى قال‪ :‬جاء ثوابه‪.‬‬
‫كثير من رواية البيهقي ثم نقل قول البيهقي‪ :‬وهذا إسناد ل غبار‬
‫عليه‪ .‬البداية والنهاية ‪ ،(327 / 10‬وهو مروي عن سيدنا‬
‫ابن عباس رضي الله عنهما‪) .‬تفسير النسفي ‪،378 / 4‬‬
‫في هامش تفسير الخازن(‪.‬‬
‫)السماء والصفات‬ ‫وتأويـل البخاري للضحك بالرحمة‪.‬‬
‫ئ‬
‫ل شس ٍ‬ ‫للبيهقي ص ‪ (470 /‬وتأويـله لقوله تعالى ق) ك ّ‬
‫هال ٌ‬
‫ك إل وجهه ( قال ‪ :‬إل ملكه‪) .‬الفتح ‪.(364 / 8‬‬
‫وغير ذلك مما سيأتي بيانه وتفصيله في مبحث‬
‫تأويلت السلف الصالح‪ ،‬وهي كثيرة جدا ً تزخر بها‬
‫كتب التفسير والحديث وغيرها‪ .‬وهو أمر ثابت ل‬

‫‪230‬‬
‫سبيل إلى جحده‪ ،‬ولن يتأتى لمكابر إنكاره‪.‬‬
‫إن التعطيل كما هو واضح من تعريفه نفي صفات‬
‫الباري سبحانه‪ ،‬والشاعرة لم ينفوا صفة لله تعالى‬
‫ثبتت بطريق صحيح‪ ،‬ومؤلفاتهم تشهد بهذا‪ ،‬غاية ما‬
‫فعلوه أنهم حملوا هذه النصوص التي تقتضي‬
‫ظواهرها وحقائقها تشبيه الله تعالى بخلقه على وجه‬
‫تعرفه العرب ل ينافي تنزيه الله تعالى‪ ،‬وفرق كبير‬
‫بين نفي ما أثبته الله تعالى كما فعل الجهمية‪ ،‬وبين‬
‫إثباته ثم حمله على معنى لئق بالله تعالى مشهور‬
‫في اللسان العربي بعد أن استحال الظاهر‪.‬‬
‫ولنأخذ على ذلك مثال ً ليزداد المر وضوحًا‪ ،‬قال‬
‫الله تعالى ) الرحمن على العرش استوي (‬
‫ن كثيرة ٌ ما بين حقيقة ومجاز‪،‬‬ ‫فللستواء في اللغة معا ٍ‬
‫وكل ما كان حقيقة من معاني الستواء ل يليق بالله‬
‫سي جسماني وكل ما‬ ‫تعالى‪ ،‬لن الستواء فعل ح ّ‬
‫كان من هذا القبيل ظاهره وحقيقته اللغوية قطعا ً ل‬
‫تليق بالله تعالى‪ ،‬ولهذا فإنه ل محيص من المصير‬
‫إلى المعاني المجازية‪ ،‬وهذا ما فعله العلماء‪ ،‬فهم‬
‫رحمهم الله عندما رأوا استحالة المعاني الحقيقية‬
‫للستواء في حق الله تعالى أثبتوا ما أثبته الله تعالى‬
‫لنفسه أو أثبته له رسوله عليه الصلة والسلم‪ ،‬ثم‬
‫نّزهوا الله عن ظاهر اللفظ فنفوا الحقيقة اللغوية‬
‫المعهودة بين الخلق‪ ،‬وقالوا استوى رّبنا تعالى كما‬

‫‪231‬‬
‫أخبر استواًء ليس كاستواء البشر ـ كما يتبادر من‬
‫سة والحلول‬‫ظاهر اللفظ ـ استواًء منزها ً عن المما ّ‬
‫والستقرار وغير ذلك من المعاني الباطلة‪.‬‬
‫وهذه نصوصهم في ذلك‪:‬‬
‫)إحياء علوم‬ ‫قال المام الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫الدين ‪:(90 / 1‬‬
‫)وأنه تعالى مستوٍ على العرش على الوجه الذي‬
‫قاله وبالمعنى الذي أراده‪ ،‬استواًء منّزها ً عن‬
‫سة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال‪ ،‬ل‬ ‫المما ّ‬
‫يحمله العرش‪ ،‬بل العرش وحملته محمولون بلطف‬
‫قدرته ومقهورون في قبضته(‪.‬‬
‫وقال أيضا ً )الحياء ‪) (108 / 1‬الصل الثامن‪ :‬العلم‬
‫بأنه تعالى مستوٍ على عرشه بالمعنى الذي أراده الله‬
‫تعـالى بالستـواء وهو ل ينافي الكبريـاء ول يتطرق‬
‫إليه سمـات الحدوث والفناء( ‪1‬هـ‪.‬‬
‫فبالله خّبرونا أي تعطيل في هذا ؟!‬
‫في هنا إل ما يجب نفيه عن الله تعالى‬‫وهل ن ُ ِ‬
‫ويحرم إثباته؟!‬
‫فالشاعرة لم يعطلوا صفة الستواء‪ ،‬كل‪ ،‬لكنهم‬
‫نزهوا الله تعالى عن المعنى الحسي المحال‬
‫للستواء الذي هو الجلوس والستقرار وهو المعنى‬
‫الظاهر من اللفظ‪ ،‬ومثبته ل محالة واقع في التشبيه‬

‫‪232‬‬
‫ص العلماء على أن الحمل على‬
‫ومائل إليه‪ ،‬ولقد ن ّ‬
‫الظاهر تشبيه‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬أثناء‬
‫شرحه لحديث النزول )الفتح ‪:(36 / 3‬‬

‫)وقد اختلف في معنى النزول على أقوال‪:‬‬


‫فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم‬
‫المشبهة تعالى الله عن قولهم‪ (..‬اهـ‪.‬‬
‫وقد نقلنا قول المام الزركشي والشوكاني في‬
‫هذا المعنى قريبًا‪.‬‬
‫قال المـام القرطبي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬عند‬
‫تفسير قوله تعالى ) ءأمنتم من في السماء ( )‬
‫صه )قال المحققون‪ :‬ءأمنتم‬ ‫‪ (216 / 18‬ما ن ّ‬
‫من فوق السماء‪ ،‬كقوله تعالى ) فسيحوا‬
‫سة والتحيز لكن‬ ‫في الرض ( أي فوقها‪ ،‬ل بالمما ّ‬
‫بالقهر والتدبير‪.....‬والخبار في هذا الباب كثيرة‬
‫صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ل يدفعها إل ملحد‬
‫أو جاهل معاند‪ ،‬والمراد بها توقيره وتنزيهه عن‬
‫السفل والتحت‪ ،‬ووصفه بالعلوّ والعظمة ل بالماكن‬
‫والجهات والحدود لنها صفات الجسام‪ ،‬وإنما ترفع‬
‫اليدي بالدعاء إلى السماء لن السماء مهبط‬
‫الوحي‪ ...‬ولنه خلق المكنة وهو غير محتاج إليها‬
‫وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ول مكان‬
‫ول زمان وهو الن على ما عليه كان( اهـ‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫)‪(103 / 7‬‬‫وقال المام الطبري رحمه الله تعالى‬
‫في تفسير قوله تعالى ) وهو القاهر فوق‬
‫صه )فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه(‬
‫عباده ( ما ن ّ‬
‫أي هم دونه من هذه الحيثية‪ ،‬ل من حيث الحس‬
‫والمكان‪.‬‬
‫وقـال في تفسيـره للستـواء )‪) (192 / 1‬عل عليهم‬
‫علوّ ملك وسلطان ل علوّ انتقال وزوال( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام القرطبي )‪ (399 / 6‬في تفسير قوله‬
‫تعالى‬
‫) وهو القاهر فوق عباده ( )ومعنى فوق عباده‬
‫فوقية الستعلء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت‬
‫تسخيره ل فوقية مكــان( اهـ‪.‬‬
‫)الفتح ‪:(158 / 6‬‬ ‫وقال الحافظ ابن حجر‬
‫)ول يلزم من كون جهتي العلوّ والسفل محال‬
‫و‬
‫و‪ ،‬لن وصفه بالعل ّ‬ ‫على الله أن ل يوصف بالعل ّ‬
‫من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من‬
‫س( اهـ‪.‬‬ ‫جهة الح ّ‬
‫وقال أيضا ً )الفتح ‪ (508 / 1‬عند شرحه لحديث )إن‬
‫أحدكم إذا قام في صلته فإنه يناجي ربه‪ ..‬فإن الله‬
‫في قبلته(‪.‬‬
‫قال الحافظ )فيه ردّ على من زعم أنه –‬
‫تعالى – على العرش بذاته( اهس‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫وقال المام بدر الدين بن جماعةرحمه الله‪:‬‬
‫) ثم استوي على العرش ( ورد في خمس‬
‫آيات وفي سادسة في طه ) الرحمن على‬
‫العرش استوي ( والقرآن نزل بلغة العرب ومعاني‬
‫كلمهم وما كانوا يتعقلون من خطابهم( ثم أخذ رحمه‬
‫الله ببيان معاني الستواء في اللغة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫)واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما ل يليق‬
‫من ذلك بجلل الرب تعالى غير مراد كالقعود‬
‫والعتدال‪ ،‬واختلفوا في تعيين ما يليق بجلله من‬
‫المعاني المحتملة كالقصد والستيلء‪ ،‬فسكت السلف‬
‫عنه وأّوله المتأولون على الستيلء والقهر لتعالي‬
‫ل عن سمات الجسام من الحاجة إلى‬ ‫الرب عّز وج ّ‬
‫الحّيز والمكان‪ ،‬وكذلك ل يوصف بحركة أو سكون أو‬
‫اجتماع وافتراق‪ ،‬لن ذلك كله من سمات المحدثات‬
‫وعروض العراض‪ ،‬والرب تعالى مقدس عنه‪ ،‬فقوله‬
‫تعالى) استوي ( يتعين فيه معنى الستيلء والقهر‬
‫ل القعود والستقرار‪ ،‬إذ لو كان وجوده مكانيا ً أو‬
‫دمهـما عليه‬ ‫زمانيا ً للزم قدم الزمان والمكان أو تق ّ‬
‫تعالـى وكلهما‬
‫سا ً ‪ -‬عن‬‫باطل‪ ...‬فإن قيل‪ :‬نفي الجهة ‪ -‬أي ح ّ‬
‫الموجود يوجب نفيه‪ -‬أي الموجود – لستحالة موجود‬
‫من غير جهة‪ .‬قلنا‪ :‬الموجود قسمان‪ :‬موجود ل‬
‫يتصرف فيه الوهم والحس والخيال‪ ،‬ول يقبل التصال‬

‫‪235‬‬
‫والنفصال‪ .‬وموجود يتصرف ذلك فيه ويقبله‪.‬‬
‫فالول ممنوع الستحالة ‪ -‬أي ل يستحيل وجوده‬
‫بغير جهة ‪ -‬والرب تعالى ل يتصرف فيه ذلك‪ ،‬إذ ليس‬
‫ح وجوده عقل ً من‬ ‫بجسم ول عرض ول جوهر‪ ،‬فص ّ‬
‫ل الدليل العقلي على وجوده‬ ‫غير جهة ول حيز‪ ،‬كما د ّ‬
‫مع نفي الجسمية والعرضية مع ُبعد الفهم الحسي له‪،‬‬
‫ل على نفي الجهة والحيز مع ُبعد الفهم‬ ‫فكذلك د ّ‬
‫والحس له‪ ......‬فإن قيل‪ :‬قال الله تعالى ) إليه‬
‫يصعد الكلم الطيب ( وهذا ظاهر في الجهة‪،‬‬
‫وكذلك قوله تعالى) تعرج الملئكة والروح إليه (‬
‫م َيعرج إليه ( الية‪ .‬قلنا‪ :‬ليس‬ ‫وقوله ) ث ّ‬
‫المراد بالغاية هنا غاية المكان‪ ،‬بل غاية‬
‫انتهاء المور إليه‪ ،‬كقوله تعالى ) أل إلى الله‬
‫تصير المور ( و ) إليه يرجع المر كّله (‬
‫وكقول الخليل ) إني ذاهب إلى ربى‬
‫سيهدين ( ‪ ...‬وهو كثير‪ ،‬فالمراد النتهاء إلى ما‬
‫ده لعباده والملئكة من الثـواب والكرامة والمنزلة‪.‬‬ ‫أع ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬إنما يقال استولى لمن لم يكن مستوليا ً‬
‫قبل‪ ،‬أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه‪ ،‬أو‬
‫عاجزا ً ثم قدر‪ .‬قلنا‪ :‬المراد بهذا الستيـلء القـدرة‬
‫التـامة الخـالية عن معـارض‪ ...‬فان قيسل‪:‬‬
‫فالستيـلء‪ -‬أي بهـذا المعنى ‪ -‬حاصل بالنسبة إلى‬
‫جميع مخلوقاته‪ ،‬فما فائدة تخصيصه بالعرش‪ .‬قلنا‪:‬‬

‫‪236‬‬
‫ص بالذكر لنه أعظم المخلوقات إجماعًا‪ ،‬كما خ ّ‬
‫ص‬ ‫خ ّ‬
‫ُ‬
‫ب العرش ( وهو رب كل شيء‪ ،‬وإذا‬ ‫بقوله ) ر ّ‬
‫استولى على العرش المحيط بكل شيء استولى‬
‫على الكل قطعًا‪ .‬إذا ثبت ذلك فمن جعل‬
‫الستواء في حقه تعالى ما يفهم من صفات‬
‫المحدثين‪ ،‬وقال‪ :‬استوى بذاته‪ ،‬أو قال‪:‬‬
‫استوى حقيقة‪ ،‬فقد ابتدع بهذه الزيادة التي‬
‫لم تثبت في السنة ول عن أحد من الئمة‬
‫المقتدى بهم( اهـ‪) .‬إيضاح الدليل ص‪ 101/‬ـ ‪ ،107‬إتحاف‬
‫الكائنات‪ ،‬للشيخ محمود بن خطاب السبكي ص ‪ ،67 - 66 /‬ويبدو‬
‫أن النسخة التي اعتمد عليها الشيخ أوثق من نسخة ناشر الصل‪،‬‬
‫لذا اعتمدنا لفظ التحاف(‪.‬‬
‫وقس على الستواء جميع ما هو ثابت من نصوص‬
‫الصفات‪ ،‬يثبتون كل ذلك بل تشبيه ول تمثيل‪،‬‬
‫ويؤولون ‪ -‬إذا استحال الظاهر ‪ -‬بل تعطيل‪ ،‬يثبتون ما‬
‫أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان نبّيه ‘‬
‫بعد أن ينزهوه تعالى عن كل ما ل يليق به سبحانه‬
‫من ظاهر اللفظ‪ ،‬وهذا القدر من معنى اللفظ هو‬
‫المنفي عندهم لستحالة أن يتصف الله تعالى به‪،‬‬
‫وهو القدر الذي يجب نفيه‪ ،‬ومثبته ل محالة واقع في‬
‫التشبيه أو التجسيم أو مائل إليه‪.‬‬
‫على أن التأويل ليس عنه محيص‪ ،‬وكل الذين‬
‫يفرون منه مضطرون إليه ل محالة‪ ،‬وإل فماذا‬

‫‪237‬‬
‫عساهم أن يقولوا في مثل قوله تعالى ) نسوا الله‬
‫فنسيهم ( وقوله سبحانه ) اليوم ننساكم‬
‫كما نسيتم لقاء يومكم هذا (‬
‫وقوله عّز وج ّ‬
‫ل ) وهو معكم أينما كنتم (‬
‫وقوله سبحانه ) ما يكون من نجوى ثلثة‬
‫إل هو رابعهم ول خمسة إل هو سادسهم ول‬
‫أدنى من ذلك ول أكثر إل هو معهم أينما‬
‫كانوا (‬
‫وقوله تعالى ) الله يستهزئ بهم (‬
‫وقوله تعالى ) والله خير الماكرين (‬
‫وقوله تعالى ) يخادعون الله وهو خادعهم‬
‫(‬
‫ل الله حتى تمّلوا(‪.‬‬
‫وقوله ‘ )ل يم ّ‬
‫وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكيا ً عن رّبه عّز‬
‫وج ّ‬
‫ل )‪ ..‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة(‪.‬‬
‫وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكيا ً عن ربه تعالى‬
‫دني(‪.‬‬
‫)عبدي مرضت فلم تع ْ‬
‫وقوله ‘ )فإن موسى الله أحد ّ من موساك‪،‬‬
‫وساعد َ الله أشد ّ من ساعدك(‪.‬‬
‫ي كريم يستحيي من‬ ‫حي ّ‬
‫وقوله ‘ )إن الله تعالى َ‬
‫دهما صفرا ً ليس فيهما شيء(‪.‬‬‫عبده أن يرفع يديه فير ّ‬
‫وقوله ‘ )إن الله يضحك‪.(...‬‬

‫‪238‬‬
‫وقوله ‘ )إن الله يغار‪.(...‬‬
‫وقوله ‘ )إن الله يعجب‪.(...‬‬
‫وغير ذلك من النصوص‪ ،‬أتراهم يثبتون ظواهرها‬
‫وحقائقها المعهودة المعروفة بين البشر أيضًا‪،‬‬
‫فيقولون‪:‬‬
‫نثبت لله نسيانا ً حقيقيا ً ومكرا ً حقيقيا ً وخداعا ً‬
‫حقيقيا ً واستهزاًء حقيقيا ً ومرضا ً حقيقيا ً وهرولة‬
‫حقيقية وسـاعدا ً شديدا ً حقيقيًا‪ ،‬وموسى حاد ّةً‬
‫حقيقية‪ ،‬وملل ً حقيقيًا‪ ،‬وعجبا ً وغيرة ً وحيـاًء وترددا ً‬
‫ل ذلك‬ ‫ة وقربا ً بالذات والمسافات‪ ،‬ك ّ‬ ‫وضحكا ً ومعي ّ ً‬
‫على الحقيقة؟!!‬
‫ول نظن أن أحدا ً يماري ويكابر في استحالة هذه‬
‫الظواهر وفي نفيها عن الله تعالى‪ ،‬فكذا ظاهر‬
‫الستواء والنزول والمجيء ونحوها يجب نفيه ومنعه‬
‫لتحاد العّلة في الجميع وهي استحالة الظاهر‬
‫والحقيقة‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن عساكر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫)تبيين كذب المفتري ص‪:(388 /‬‬
‫)فإنهم – يعني الشاعرة – بحمد الله ليسوا‬
‫معتزلة‪ ،‬ول نفاة لصفات الله معطلة‪ ،‬لكنهم يثبتون له‬
‫سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات‪ ،‬ويصفونه بما‬
‫اتصف به في محكم اليات‪ ،‬وبما وصفه به نبّيه ‘ في‬

‫‪239‬‬
‫صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والفات‪،‬‬
‫فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من‬
‫المجسمة والمشبهة‪ ،‬ولقوا من يصفه بصفات‬
‫المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ‬
‫يسلكون طريق التأويل‪ ،‬ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح‬
‫الدليل‪ ،‬ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفا ً‬
‫ظلم التشبيه‪ ،‬فإذا أمنوا من‬‫من وقوع من ل يعلم في ُ‬
‫ذلك رأوا أن السكوت أسلم‪ ،‬وترك الخوض في‬
‫التأويل إل عند الحاجة أحزم‪ ،‬وما مثالهم في ذلك إل‬
‫ل داء من الدواء‬‫مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي ك ّ‬
‫بالدواء الموافق‪ ،‬فإذا تحقق غلبة البرودة على‬
‫المريض داواه بالدوية الحاّرة‪ ،‬ويعالجه بالدوية‬
‫الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة‪ ،‬وما هذا في‬
‫ضرب المثال إل كما ُرويَ عن سفيان‪ :‬إذا كنت‬
‫ي رضي الله عنه‪ ،‬وإذا كنت‬ ‫دث بفضائل عل ّ‬ ‫بالشام فح ّ‬
‫دث بفضائل عثمان رضي الله عنه‪.‬‬ ‫بالكوفة فح ّ‬
‫وما مثال المتأّول بالدليل الواضح إل مثال الرجل‬
‫السابح‪ ،‬فإنه ل يحتاج إلى السباحة ما دام في البر‪ ،‬فإن‬
‫اتفق له في بعض الحايين ركوب البحر‪ ،‬وعاين هوله‬
‫عند ارتجاجه وشاهد منه تلطم أمواجه‪ ،‬وعصفت به‬
‫فلك‪ ،‬وأحاط به إن لم يستعمل‬ ‫الريح حتى انكسر ال ُ‬
‫السباحة الُهلك‪ ،‬فحينئذ يسبح بجهده طلبا ً للنجاة‪ ،‬ول‬
‫يلحقه فيها تقصير حب ّا ً للحياة‪ ،‬فكذلك المو ّ‬
‫حد ما دام‬

‫‪240‬‬
‫جة التنزيه‪ ،‬آمنا ً في عقده من ركوب ل ّ‬
‫جة‬ ‫سالكا ً مح ّ‬
‫التشبيه‪ ،‬فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل‬
‫در‬
‫لسلمة عقيدته من التشبيه والباطيل‪ ،‬فأما إذا تك ّ‬
‫صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل‪ ،‬فل بد ّ من تصفية‬
‫قلبه من الكدر بمصفاة التأويل‪ ،‬وترويق ذهنه براووق‬
‫الدليل‪ ،‬لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام أبو نصر القشيري رحمه الله تعالى‬
‫)إتحاف السادة المتقين ‪:(108 / 2‬‬
‫)فإن قيل‪ :‬أليس الله يقول ) الرحمن على‬
‫العرش استوي ( ؟ فيجب الخذ بظاهره‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬الله يقول أيضا ً ) وهو معكم أينما‬
‫ل شئ‬ ‫كنتم ( ويقول تعالى ) أل إّنه بك ّ‬
‫محيط ( فينبغي أيضا ً أن تأخذ بظاهر هذه‬
‫اليات حتى يكون – تعالى – على العرش‬
‫وعندنا ومعنا ومحيسطا ً بالعالم محدقا ً به‬
‫بالذات في حالة واحدة‪ ،‬والواحد يستحيل أن‬
‫ل مكان‪ .‬قالوا‪ :‬قوله تعالى‬ ‫يكون بذاته في ك ّ‬
‫) وهو معكم ( يعني بالعلم‪ ،‬و ) بكل شسئ‬
‫محيط ( إحاطة العلم‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬وقوله تعالى ) على العرش‬
‫استوي ( قهر وحفظ( اهس‪.‬‬
‫جة السلم الغزالي رحمه الله تعالى‬
‫وقال المام وح ّ‬
‫)الحياء ‪:(108 / 1‬‬

‫‪241‬‬
‫)الصل الثامن‪ :‬العلم بأنه تعالى مستوٍ على عرشــه‬
‫بالمعنى الذي أراده الله تعالى بالستواء‪ ،‬وهــو الــذي ل‬
‫ينافي وصف الكبرياء‪ ،‬ول يتطرق إليه سـمات الحــدوث‬
‫والفناء‪ ،‬وهو الذي أريد بالستواء إلى السماء حيث قال‬
‫في القرآن إ) ثم استوي إلى السماء وهى دخان‬
‫( وليسسس ذلسسك إل بطريسسق القهسسر والسسستيلء‪..‬‬
‫واضطّر أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطّر‬
‫أهل الباطسسل إلسسى تأويسسل قسسوله تعسسالى ) وهسسو‬
‫معكسسم أينمسسا كنتسسم ( إذ حمــل ذلــك بالتفــاق علــى‬
‫الحاطــة والعلــم وحمــل قولـــه ‘ )قلــب المــؤمن بيــن‬
‫إصــبعين مــن أصــابع الرحمــن( علــى القــدرة والقهــر‪،‬‬
‫وحمل قوله ‘ )الحجــر الســود يميــن اللــه فــي أرضــه(‬
‫على التشريف والكرام‪ ،‬لنه لو ترك على ظاهره للزم‬
‫منه المحال‪ ،‬فكــذا الســتواء لــو تــرك علــى الســتقرار‬
‫سا ً للعــرش‬ ‫والتمكن لزم منه كون المتمكن جسما ً مما ّ‬
‫دي إلــى‬‫إما أكبر منــه أو أصــغر‪ ،‬وذلــك محــال‪ ،‬ومــا يــؤ ّ‬
‫المحـال فهو محال(’اهـ‪.‬‬
‫ولقد نقل العلماء الجماع على أن هذه الظواهر‬
‫غير مرادة للشارع‪ ،‬من ذلك ما ذكره المام الحافظ‬
‫‪ -‬رحمه الله‬ ‫أبو الحسن علي بن القطان الفاسي‬
‫تعالى ‪ -‬حيث قال‪) :‬القناع في مسائل الجماع ‪:(34 - 32 / 1‬‬

‫)وأجمعوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك‬


‫صفا ً صفا ً لعرض المم وحسابها وعقابها وثوابها‪،‬‬

‫‪242‬‬
‫فيغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب منهم من يشاء‬
‫كما قال تعالى‪ ،‬وليس مجيئه بحركة ول انتقال‪.‬‬
‫وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له‪ ،‬وأن‬
‫رضاه عنهم إرادته نعيمهم‪.‬‬
‫وابين ويسخط على‬‫وأجمعوا أنه يحب الت ّ‬
‫الكـافرين ويغضب عليهم‪ ،‬وأن غضبه إرادته‬
‫لعذابهم‪ ،‬وأنه ل يقوم لغضبه شيء( اهـ‪.‬‬
‫أتراهم أجمعوا على باطل حين أجمعوا على نفي‬
‫الظاهر المحال في لفظ المجيء والرضا والغضب؟!‬
‫وهل تجتمع أمة محمد ‘ على ضللة وبدعة؟! أم‬
‫تراهم عطلوا صفات الباري عز وجل؟!‬

‫)شرح مسلم ‪/ 5‬‬ ‫وقد مّر معنا قول القاضي عياض‬


‫‪:(24‬‬
‫)ل خلف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم‬
‫ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة‬
‫بذكر الله تعالى في السمـاء كقوله تعالى ) ءأمنتم‬
‫من في السماء أن يخسف بكم الرض (‬
‫ونحوه ليست على ظاهرها بل متأّولة عند جميعهم(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال المام الزاهد القدوة أبو عمرو الداني رحمه‬
‫الله تعالى )الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في العتقادات‬

‫‪243‬‬
‫ص ‪:(124 /‬‬
‫)إن الله تعالى لم يزل مريدًا‪ ،‬وشائيًا‪ ،‬ومحب ًّا‪،‬‬
‫ومبغضًا‪ ،‬وراضيًا‪ ،‬وساخطًا‪ ،‬ومواليا ً ومعاديًا‪ ،‬ورحيمًا‪،‬‬
‫ورحمانًا‪ ،‬وأن جميع هذه الصفات راجعة إلى‬
‫إرادته في عباده‪ ،‬ومشيئته في خلقه ل إلى‬
‫غضب يغّيره‪ ،‬ورضا ً يسكن طبعا ً له‪ ،‬وحنق‬
‫ض‬
‫وغيظ يلحقه‪ ،‬وحقد يجده‪ ،‬وأنه تعالى را ٍ‬
‫من علم أنه باليمان يختم عمله‬ ‫في أزله ع ّ‬
‫ويوافي به‪ ،‬وغضبان على من يعلم أنه‬
‫بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره( اهـ‪.‬‬
‫ل وعّز )ص ‪:(135 /‬‬ ‫بج ّ‬ ‫وقال أيضا ً في نزول الر ّ‬
‫)ونزوله تبسارك وتعسالى كيف شساء‪ ،‬بل‬
‫د‪ ،‬ول تكييسف‪ ،‬ول وصف بانتقال ول زوال(‬ ‫ح ّ‬
‫اهس‪.‬‬
‫)ص ‪/‬‬ ‫وقال ـ رحمه الله تعالى ـ في استوائه تعالى‬
‫‪:(130‬‬
‫وه بغير كيفية ول‬ ‫)واستواؤه ج ّ‬
‫ل جلله عل ّ‬
‫تحديد ول مجاورة ول مماسة( اهـ‪.‬‬
‫فهل كان هؤلء الئمة معطلين حين صرفوا هذه‬
‫اللفاظ عن ظاهرها‪ ،‬وحملوها على المجازات‬
‫والستعارات؟!‬
‫بهذا تعلم ‪ -‬توّلى الله هدانا وهداك ‪ -‬أن التعطيل‬

‫‪244‬‬
‫الذي ُيرمى به الشاعرة والماتريدية وهم جماهير‬
‫أعلم المة إنما هو عين التقديس والتنزيه‪ ،‬والذي‬
‫يرفض ما ذهبوا إليه‪ ،‬ويصّر على إثبات ما نفوه يقع‬
‫حتما ً بالتجسيم والتشبيه‪ ،‬إذ إن هذا القدر من معنى‬
‫اللفظ الذي نفاه الشاعرة ونزهوا الله تعالى عنه‬
‫ف الله تعالى به لما يلزم منه من‬
‫يحرم إثباته ووص ُ‬
‫اللوازم الباطلة المحالة‪.‬‬
‫وعلى الجملة فأقوال سلف المة وخلفها مطبقة‬
‫على تنزيـه الله تعالى عن هذه الظواهر المحالة‪،‬‬
‫وفي ما نقلناه مقنع لمن أنصف‪.‬‬
‫نخلص من هذا إلى أن التأويل بشرطه وضوابطه‬
‫ي ومنهج شرعي أصيل ل مناص من الخذ‬ ‫سن ّ ّ‬
‫شعاٌر ُ‬
‫به لفهم كتاب الله تعالى وسنة نبّيه صلى الله على‬
‫وسلم‪ ،‬وليس شعارا ً للبدعة والضللة أو التعطيل‪،‬‬
‫وأن من يحمل المتشابه من نصوص الصفات على‬
‫الظواهر المعهودة لدى الخلق هو الواقع في‬
‫التعطيل‪ ،‬لنه عطل المعنى المفهوم من النص‬
‫وصدف به عن القصد‪.‬‬

‫*****‬

‫‪245‬‬
‫تأويلت السلف الصالح لنصوص الصفات‬
‫إن الخلف من علماء المة حين سلكوا مذهب‬
‫التأويل لم يبتدعوا قول ً ومنهجا ً من عند أنفسهم‪ ،‬لكنهم‬
‫سلكوا بهذا مسلك جماعات كثيرة من السلف الصالح‬
‫ل‬‫قالوا بالتأويل وأخذوا به ‪ -‬كما مّر معنا ‪ -‬وهذا يد ّ‬
‫قطعا ً على سّنية هذا المنهج وأصالته وشرعيته‪ ،‬ولقد‬
‫نقل العلماء تأويلت ثلة من أكابر السلف الصالح‪ ،‬من‬
‫ذلك على سبيل المثال‪:‬‬

‫تأويل ابن عباس رضي الله عنهما‬


‫للكرسي بالعلم‪:‬‬
‫جاء في تفسير الطبري )‪ (7 / 3‬عند تفسيره لية‬
‫صه )اختلف أهل التأويل في معنى‬ ‫الكرسي ما ن ّ‬
‫الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الية أنه‬
‫وسع السموات والرض‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬هو علم الله‬
‫ل على ظاهر القرآن فقول‬ ‫تعالى ذكره‪ ....‬وأما الذي يد ُ ّ‬
‫ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد‬
‫بن جبير أنه قال‪ :‬هو علمه‪ (..‬اهـ‪.‬‬

‫تأويله رضي الله عنه لمجيء الرب ج ّ‬


‫ل‬
‫وعّز‪:‬‬

‫‪246‬‬
‫)‪/ 4‬‬ ‫جاء في تفسير النسفي رحمه الله تعالى‬
‫فا ً‬
‫مَلك ص ّ‬ ‫‪ (378‬عند قوله تعالى ) وجاء ربك وال َ‬
‫صه )هذا تمثيل لظهور آيات اقتداره‬ ‫ص ّ‬
‫فا ( ما ن ّ‬
‫وتبيين آثار قهره وسلطانه‪ ،‬فإن واحدا ً من الملوك إذا‬
‫حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما ل يظهر‬
‫صه‪ ،‬وعن ابن عباس‪ :‬أمره‬ ‫بحضور عساكره وخوا ّ‬
‫وقضاؤه( اهـ‪.‬‬
‫ونقل المام القرطبي نحو هذا عن الحسن‬
‫البصري‪ ،‬وقال هناك نقل ً عن بعض الئمة ما ن ّ‬
‫صه‬
‫)تفسير القرطبي ‪:(55 / 20‬‬
‫)جعل مجيء اليات مجيئا ً له تفخيما ً لشأن تلك‬
‫اليات‪ ،‬ومنه قوله تعالى في الحديث " يا ابن آدم‬
‫مرضت فلم تعدني‪ ..‬واستسقيتك فلم‬
‫تسقني‪ ..‬واستطعمتك فلم تطعمني "‪ ..‬والله‬
‫ل ثناؤه ل يوصف بالتحول من مكان إلى مكان‪،‬‬ ‫ج ّ‬
‫وأّنى له التحول والنتقال ول مكان له ول أوان‪ ،‬ول‬
‫يجري عليه وقت ول زمان‪ ،‬لن في جريان الوقت‬
‫ت الوقات‪ ،‬ومن فاته شيء فهو‬ ‫على الشيء فوْ َ‬
‫عاجز( اهـ‪.‬‬

‫تأويله رضي الله عنه للفظ )العين(‪:‬‬


‫قال تعالى ) واصنع الفلك بأعيننا ( قال‬
‫رضي الله عنه‪ :‬بمرأى منا )تفسير البغوي ‪/ 2‬‬

‫‪247‬‬
‫‪ .(322‬وقال تعالى ) واصبر لحكم ربك فإّنك‬
‫بأعيننا ( قال رضي الله عنه‪ :‬نرى ما يعمل‬
‫بك )تفسير الخازن ‪.(190 / 4‬‬

‫تأويله رضي الله عنه للفظ )اليد(‪:‬‬


‫قال تعالى ) والسماء بنيناها بأييد (قال‬
‫وة وقدرة )القرطبي ‪/ 17‬‬‫رضي الله عنه‪ :‬بق ّ‬
‫‪.(52‬‬
‫تأويله رضي الله عنه لقوله تعالى ) الله‬
‫نور السموات والرض (‬
‫صه‬‫جاء في تفسير الطبري ) ‪ (18/135‬ما ن ّ‬
‫) عن ابن عباس قوله ) الله نور السموات‬
‫والرض ( يقول‪ :‬الله سبحانه هادي أهل السموات‬
‫والرض (‪.‬‬

‫تأويله رضي الله عنه لنصوص )الوجه(‪:‬‬


‫قال تعالى ) ويبقى وجه ربك ذو الجلل‬
‫والكرام ( قال رضي الله عنه‪ :‬الوجه عبارة عنه‪.‬‬
‫وقال القرطبي في تفسيره‪ :‬أي ويبقى الله فالوجه‬
‫عبارة عن وجوده وذاته سبحانه‪ ..‬وهذا الذي ارتضاه‬
‫المحققون من علمائنا ابن فورك وأبو المعالي‬
‫وغيرهم‪ ..‬وقال أبو المعالي‪ :‬وأما الوجه المراد به عند‬

‫‪248‬‬
‫)القرطبي ‪.(165 / 17‬‬ ‫معظم أئمتنا وجود الباري تعالى‬

‫تأويله رضي الله عنه للفظ )الساق(‪:‬‬


‫قال تعالى ) يوم ُيكشف عن ساق ( قال‬
‫رضي الله عنه‪ :‬عن كرب شديـد )الطبري ‪،38 / 29‬‬
‫القرطبي ‪.(249 / 18‬‬

‫تأويله رضي الله عنه للفظ )الجنب(‪:‬‬


‫قال تعالى‪ ) :‬أن تقول نفس يا حسرتى‬
‫على ما فّرطت في جنب الله ( قال رضي الله‬
‫عنه‪ :‬تركت من طاعة الله وأمر الله وثوابه )روح‬
‫المعاني الية ‪ 56‬من الزمر(‪.‬‬
‫قال المام اللوسي رحمه الله تعالى‪) :‬وبالجملة ل‬
‫ل من‬ ‫يمكن إبقاء الكلم على حقيقته لتنزهه عّز وج ّ‬
‫الجنب بالمعنى الحقيقي‪ ،‬ولم أقف على عد ّ أحـد من‬
‫السلف إياه من الصفات السمعية( اهـ‪) .‬المصدر السابق(‪.‬‬

‫هذا هو سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وناهيك‬


‫بابن عباس فقها ً وعلما ً بالقرآن والتنزيل‪ ،‬وهو الذي‬
‫قهه في‬ ‫مف ّ‬‫دعـا له رسول الله ‘ بقوله‪) :‬الله ّ‬
‫الدين وعلمه التأويل( وهو حبر المة وترجمان‬
‫القرآن‪.‬‬
‫هذا والذي ذهب إليه الشاعرة والماتريدية في‬

‫‪249‬‬
‫هذه النصوص هو عين ما نقل عن ابن عباس رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬فإن جاز اتهام الشاعرة والماتريدية‬
‫بالتعطيل والبتداع‪ ،‬جاز ذلك على سيدنا ابن عباس‬
‫‪ -‬معاذ الله ‪ -‬وحاشاه أن يقول في الله تعالى ما ليس‬
‫له به علم‪.‬‬
‫أل فليتق الله! امرؤ جاءته موعظة من ربه‪،‬‬
‫ه! عن التطاول على أئمة الدين وعلماء الشرع‬ ‫ولي َن ْت َ ِ‬
‫الذي هو في حقيقة المر تطاول على صحابة رسول‬
‫الله ‘ والتابعين لهم بإحسان !‪.‬‬

‫تأويل مجاهد والسدي للفظ )الجنب(‪:‬‬


‫جاء في تفسير الطبري رحمه الله )‪ (19 / 24‬عند‬
‫قوله تعالى ) أن تقول نفس يا حسرتى على‬
‫ما فّرطت في جنب الله ( قال مجاهد‪ :‬في أمر‬
‫الله‪ ،‬وقال السدي‪ :‬على ما تركت من أمر الله‪.‬‬

‫تأويل الضحاك وقتادة وسعيد بن جبير‬


‫للفظ )الساق(‪:‬‬
‫جاء في تفسير الطبري )‪ (39 – 38 / 29‬عند قوله‬
‫تعالى ) يوم ُيكشف عن ساق ( قال الضحاك‪:‬‬
‫دة المر‪،‬‬
‫هو أمر شديد‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬أمر فظيع وش ّ‬

‫‪250‬‬
‫وقال سعيد‪ :‬شدة المر‪.‬‬
‫وقال المام الطبري قبل هذا بأسطر‪) :‬قال‬
‫جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل‪ :‬يبدو‬
‫عن أمر شديد( اهـ‪.‬‬

‫تأويل سفيان الثوري وابن جرير الطبري‬


‫للستواء‪:‬‬
‫قال المام الطبري )‪ (192 / 1‬في تفسير قوله‬
‫تعلى ) ثم استوي إلى السماء ( بعد أن ذكر‬
‫صه‪) :‬عل عليهن‬‫معاني الستواء في اللغة‪ ،‬ما ن ّ‬
‫وارتفع‪ ،‬فدبرهن بقدرته‪....‬عل عليها علو ملك‬
‫وسلطان‪ ،‬ل علو انتقال وزوال(‬
‫وأّول سفيان الثوري الستواء على العرش‪ :‬بقصد‬
‫أمره‪ ،‬والستواء إلى السماء‪ :‬بالقصد إليها )مرقاة‬
‫المفاتيح ‪.(137 / 2‬‬

‫تأويل مجاهد والضحاك وأبي عبيدة للفظ‬


‫)الوجه(‪:‬‬
‫قال تعالى ) فأينما توّلوا فثم وجه الله (‬
‫)الطبري ‪،402 / 1‬‬ ‫قال مجاهد رحمه الله‪ :‬قبلة الله‪.‬‬
‫السماء والصفات للبيهقي ص‪ ،309/‬وصححه ابن تيمية عنهما‬
‫كما في العقود الدرية ص‪247/‬ـ ‪(248‬‬

‫‪251‬‬
‫وقال الضحاك وأبو عبيدة في قوله تعالى ) ك ّ‬
‫ل‬
‫شسئ هالك إل وحهه ( ‪ :‬أي إل هو )دفع شبه التشبيه‬
‫ص ‪.(113 /‬‬

‫تأويل المام الشافعي رضي الله عنه‬


‫للفظ )الوجه(‪:‬‬
‫حكى المزني عن الشافعي في قوله تعالى )فثم‬
‫وجه الله( قال‪ :‬يعني والله أعلم فثم الوجه الذي‬
‫وجهكم الله إليه‪) .‬السماء والصفات للبيهقي ص‪.(309/‬‬

‫تأويل المام الطبري للفظ )العين(‪:‬‬


‫قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى ) ولتصنع‬
‫على عيني ( بمرأى مني ومحبة وإرادة )‪.(123 / 16‬‬

‫تأويل المام مالك بن أنس رضي الله عنه‬


‫لحديث النزول‪:‬‬
‫سئل المام مالك ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬عن نزول الرب‬
‫حر‪ ،‬فأما‬
‫س َ‬
‫ل‪ ،‬فقال )ينزل أمره ‪ -‬تعالى ‪ -‬كل َ‬‫عّز وج ّ‬
‫هو عّز وج ّ‬
‫ل فإنه دائم ل يزول ول ينتقل سبحانه ل إله‬
‫إلى هو( اهـ‪.‬‬
‫)التمهيد ‪ ،143 / 7‬سير أعلم النبلء ‪ ،105 / 8‬الرسالة‬
‫الوافية لبي عمرو الداني ص‪ ،136/‬شرح النووي على صحيح‬

‫‪252‬‬
‫مسلم ‪ ،37 / 6‬النصاف لبن السيد البطليوسي ص ‪.(82 /‬‬

‫تأويل المام أحمد رضي الله عنه مجيء‬


‫الله تعالى‪:‬‬
‫جاء في كتاب البداية والنهاية للمام الحافظ ابن‬
‫صه‪:‬‬‫كثير رحمه الله تعالى )‪ (361 / 10‬ما ن ّ‬
‫)روى البيهقي عن الحاكم عن عمرو بن السماك‬
‫عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأّول قول الله تعالى‬
‫) وجاء ربك ( أنه جاء ثوابه‪ .‬ثم قال البيهقي‪ :‬وهذا‬
‫إسناد ل غبار عليه( اهـ‪.‬‬
‫ونقل الحافظ ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى‬
‫عن المام أحمد في قولـه تعالـى‪ ) :‬هل ينظرون‬
‫إل أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ( أنه‬
‫قال‪ :‬المراد به قدرته وأمره‪ .‬قال‪ :‬وقد بّينه‬
‫في قوله تعالى ) أو يأتى أمر ربك ( ومثل هذا‬
‫في القرآن ) وجاء ربك ( قال‪ :‬إنما هو قدرته‪) .‬دفع‬
‫شبه التشبيه ص‪.(141 /‬‬

‫تأويل الحسن البصري رضي الله عنه‪:‬‬


‫قال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى‪:‬‬
‫) وجاء ربك ( ‪ :‬جاء أمره وقضاؤه‪ .‬وعن الكلبي‪:‬‬
‫جاء حكمه )تفسير البغوي ‪.(454 / 4‬‬

‫‪253‬‬
‫وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى ) أن تقول‬
‫نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب‬
‫الله ( قال‪ :‬في طاعة الله‪) .‬انظر روح المعاني تفسير‬
‫الية ‪ 56‬من سورة الزمر(‪.‬‬

‫تأويل المام البخاري رضي الله عنه‬


‫للضحك‪:‬‬
‫قال المام البيهقي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في كتـاب‬
‫" السمـاء والصفـات " )ص ‪) :(470 /‬باب ما جاء في‬
‫الضحك‪ ..‬عن أبي هريرة أن رسول الله صلى عليه‬
‫وسلم قال‪ " :‬يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما‬
‫الخر كلهما يدخل الجنة‪ "...‬قال‪ :‬قال البخاري معنى‬
‫الضحك الرحمة‪ .‬قال أبو سليمان – يعني الخطابي ‪-‬‬
‫قول أبي عبد الله قريب‪ ،‬وتأويله على معنى الرضى‬
‫لفعلهما أقرب وأشبه‪ ،‬ومعلوم أن الضحك من ذوي‬
‫ل على الرضى‪ ،‬والبشر والستهلل منهم‬ ‫التمييز يد ّ‬
‫دمة إنجاح الط ِّلبة‪ ،‬والكرام‬ ‫دليل قبول الوسيلة‪ ،‬ومق ّ‬
‫يوصفون عند المسألة بالبشر وحسن اللقاء‪ ،‬فيكون‬
‫المعنى في قوله " يضحك الله إلى رجلين " أي‬
‫جب الضحك ومقتضاه(’اهـ‪.‬‬ ‫ُيجزل العطاء لهما لنه مو َ‬
‫قال الحافظ ابن حجر )فتح الباري ‪ (486 / 6‬مؤكدا ً‬
‫مؤيدا ً لما ذهب إليه أبو سليمان الخطابي والعلم‬
‫المنزهون العارفون بالله تعالى‪:‬‬

‫‪254‬‬
‫ل على أن المراد بالضحك القبال‬ ‫)قلت ويد ّ‬
‫بالرضا تعديته بـ " إلى "‪ ،‬تقول‪ :‬ضحك فلن إلى‬
‫جه إليه طْلق الوجه مظهرا ً للرضا به( اهـ‪.‬‬‫فلن‪ .‬إذا تو ّ‬

‫تأويل المام البخاري للفظ )الوجه(‪:‬‬


‫قال المام البخاري ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسير قوله‬
‫ل شسئ هالك إل وجهه ( إل ملكه‪.‬‬ ‫تعالى‪ ) :‬ك ّ‬
‫ويقـال‪ :‬إل ما أريـد به وجـه الله )الصحيـح كتـاب التفسيـر‬
‫سـورة القصص‪ ،‬فتح البـاري ‪ (364 / 8‬اهـ‪.‬‬
‫ل إجماع المة على منهج التأويل‬ ‫وقد مّر معنا نق ُ‬
‫حيث قال الحافظ أبو الحسن علي بن القطان‬
‫الفاسي رحمه الله تعالى )القناع في مسائل الجماع ‪/ 1‬‬
‫‪) (33 – 32‬وأجمعوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة‬
‫والملك صفا ً صفا ً لعرض المم وحسابها وعقابها‬
‫وثوابها‪ ،‬فيغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب منهم‬
‫من يشاء‪ ،‬كما قال تعالى‪ ،‬وليس مجيئه بحركة‬
‫ول انتقال‪.‬‬
‫وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له‪ ،‬وأن‬
‫رضاه عنهم إرادته نعيمهم‪.‬‬
‫وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على‬
‫الكافريـن ويغضب عليهم‪ ،‬وأن غضبه إرادته‬
‫لعذابهم‪ ،‬وأنه ل يقوم لغضبه شيء( اهـ‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫وإجمــاع المــة علــى صــرف لفــظ المجيــء عــن‬
‫ظــاهره المحــال فــي حــق اللــه تعــالى وهــو الحركــة‬
‫والنتقال إجماع على التفويض‪ ،‬وإجماعهم على حمــل‬
‫لفــظ الرضــا علــى إرادة الحســـان والنعيــم‪ ،‬ولفــظ‬
‫الغضــب علــى إرادة العقــاب والنتقــام إجمــاع علــى‬
‫التأويــل‪ ،‬وبهــذا يتأكــد مــا ذكرنــاه ســابقا ً أن هــذين‬
‫المذهبين التفويض والتأويل هما المــذهبان المعتــبران‬
‫ولت عليهما‪ ،‬وما نقلناه مــن‬ ‫اللذان ارتضتهما المة وع ّ‬
‫تأويلت سلفنا الصــالح غيــض مــن فيــض وزهــرة مــن‬
‫روض‪ ،‬ومن أراد الستزادة فليرجع إلى كتــب الــتراث‬
‫من تفسير وحديث وأصــول وغيرهــا‪ ،‬ليقــف علــى مــا‬
‫يثلج صدر كل موحد منزه‪.‬‬
‫تنبيه‬
‫شبهة تتردد على ألسنة المثبتين لظواهر نصوص‬
‫المتشابه‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫إثبات المعاني الجمالية لهذه النصوص ل ينفي‬
‫إثبات الصفة الواردة في النص‪ ،‬مثال ذلك قول الله‬
‫تعالى) بل يداه مبسوطتان ( يقولون‪ :‬نحن ل‬
‫ننكر أن النص يفيد إثبات الجود والكرم له تعالى‬
‫ونفي البخل عنه‪ ،‬فإن معنى بسط اليد مشهور عند‬
‫العرب‪ ،‬بيد أن هذا ل ينفي إثبات صفة اليد لله تعالى‪.‬‬
‫وقس على هذا جميع النصوص الواردة في الصفات‪.‬‬
‫هذا تقرير هذه الشبهة‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫وفي جوابها نقول‪:‬‬
‫إن أريد بإثبات الصفات إثباتها على ما جاءت دون‬
‫تفسير ول تعيين معنى وإنما يكتفي بتلوتها والسكوت‬
‫عليهـا‪ ،‬وذلك ‪ -‬قطعا ً ‪ -‬بعد صرفها عن ظاهرها‬
‫المحال في حق الله تعالى ول يقال بالذات أو حقيقة‪،‬‬
‫فذلك حق ل ريب فيه‪ ،‬وهو ذاته مذهب السلف‬
‫الصالح‪ ،‬وهو ل ينافي ‪ -‬كما مر معنا ‪ -‬مذهب الخلف‪،‬‬
‫وشرح هذا على المثـال الذي ضربناه أن يقال‪ :‬جاء‬
‫في النص أن لله تعالى يدين‪ ،‬إذا ً نثبت لله تعالى يدين‬
‫ليستا بجارحتين‪ ،‬ثم نسكت‪ ،‬ونفوض العلم بالمراد‬
‫إلى الله تعالى‪ ،‬فهذا مسلك ل اختلف في صحته‪،‬‬
‫وهو بعينه مسلك السلف الصالح‪ ،‬أما إن أريد بالثبات‬
‫حمُلها على ظاهر اللفظ المحال وعلى الحقيقة‬
‫اللغوية المعهودة فهو باطل قطعًا‪ ،‬ولقد نقلنا عن‬
‫علماء المة ما يدحضه وينفيه فل نعيده‪.‬‬
‫على أننا نقول‪ :‬ليس كل ما يضاف إلى الله تعالى‬
‫يراد به إثبات صفة لله تعالى‪ ،‬إذ قد تكون الضافة‬
‫من باب المشاكلة والمقابلة كالستهزاء والمكر‬
‫والخداع وما جرى هذا المجرى‪ ،‬فل يثبت بما كان من‬
‫هذا القبيل من اللفاظ صفة لله تعالى‪ ،‬كأن يقال لله‬
‫مكر يليق به أو استهزاء يليق به‪ ،‬تعالى الله عن ذلك‬
‫علوّا ً كبيرًا‪ ،‬ومن ذلك أيضا ً ما كان صفة نقص كالملل‬
‫دد ونحو ذلك‪ ،‬فكل‬ ‫والنسيان والمرض والتعجب والتر ّ‬

‫‪257‬‬
‫هذا وأمثاله الله تعالى منزه عنه بالجماع‪ ،‬فل يوصف‬
‫الله تعالى بشيء من ذلك‪ ،‬ومنه أيضا ً ما كان‬
‫مشهورا ً في معنى مجازي كلفظ الجنب والصبع‬
‫ونحوه‪ ،‬فهذا وبابه ل خلف في حمله على ما اشتهر‬
‫فيه‪.‬‬
‫)فتح‬ ‫نقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد‬
‫صه‪:‬‬
‫الباري ‪ (395 / 13‬ما ن ّ‬
‫)نقول في الصفات المشكلة أنه حق وصدق على‬
‫المعنى الذي أراده الله‪ ،‬ومن تأّولها نظرنا فإن كان‬
‫تأويله قريبا ً على مقتضى لسان العرب لم ننكره‬
‫عليه‪ ،‬وإن كان بعيدا ً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديـق‬
‫مع التنزيه‪ ،‬وما كان منها معناه ظاهرا ً مفهوما ً من‬
‫تخاطب العرب حملناه عليه‪ ،‬مثل قوله تعالى ) على‬
‫ما فّرطت في جنب الله ( فإن المراد به في‬
‫استعمالهم الشائع حق الله فل يتوقف في حمله‬
‫عليه‪ ،‬وكذا قوله ‘ "إن قلب ابن آدم بين‬
‫أصبعين من أصابع الرحمن " فإن المراد به‬
‫إرادة قلب ابن آدم مصرفة بقدرة الله وما يوقعه‬
‫فيه‪ ،‬وكذا قوله تعالى ) فأتى الله بنيانهم من‬
‫القواعد ( معنساه خرب الله بنيانهسم‪ ،‬وقوله )‬
‫إنما نطعمكم لوجه الله ( معنـاه لجـل الله‪،‬‬
‫ل من تيقظ له(‬ ‫وقس على ذلـك‪ ،‬وهو تفصيـل بالغ ق ّ‬
‫اهـ‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫وقال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى‬
‫)تعريف عام بدين السلم ص‪:(82/‬‬
‫)إذا كانت اللغات تعجز عن الحاطة بالمشاعر‬
‫النسانية وتضيق عنها‪ ،‬فهي عن أن تحيط بصفات‬
‫الله أعجز وأضيق‪ ،‬فل يجوز إذن أن تفهم الكلمات‬
‫الواردة في آيات الصفات بالمعنى " القاموسي"‪ ،‬ول‬
‫يجوز أن نقول‪ :‬إن لله يدا ً كأيدينا لقوله تعالى‪ ) :‬يد‬
‫الله فوق أيديهم (ولن معنى اليد في " القاموس‬
‫" يدل على ذلك‪ .‬هذا هو الساس في فهم آيات‬
‫الصفات‪ ،‬لقوله تعالى) ليس كمثله شسئ ( ولن‬
‫الخالق ل يشبه المخلوق‪.‬‬
‫ول يجوز كذلك أن ننفي عنها كل معنى‪ ،‬وأن‬
‫نعطلها من الدللة‪ .‬فالله لم ينزل القرآن ليعطل عن‬
‫معانيه‪ ،‬ولم يجعله ألفاظا ً جوفاء ل تدل على شيء‪.‬‬
‫فكيف إذن نفهم آيات الصفات؟‬
‫لقد وجدت أن هذه اليات على ثلثة أشكال‪:‬‬
‫‪ -1‬آيات وردت على سبيل الخبار من الله كقوله‬
‫) الرحمن على العرش استوي ( فنحن ل‬
‫نقول‪ :‬إنه ما استوى‪،‬فنكون قد نفينا ما أثبته الله‪،‬‬
‫ول نقول‪ :‬إنه استوى على العرش كما يستوي‬
‫القاعد على الكرسي‪ ،‬فنكون قد شبهنا الخالق‬
‫بالمخلوق‪ ،‬ولكن نؤمن بأن هذا هو كلم الله‪ ،‬وأن‬
‫لله مرادا ً منه لم نفهم حقيقته وتفصيله‪ ،‬لنه لم يبين‬

‫‪259‬‬
‫ل‪ ،‬ولن العقل البشري يعجز عن الوصول‬ ‫لنا مفص ً‬
‫إلى ذلك بنفسه‪ ،‬ول نخوض فيه بل نتبع فيه طريق‬
‫السلف‪ ،‬والسلف لم يبحثوا فيه أص ً‬
‫ل‪ ،‬ولم يقولوا "‬
‫حقيقة " ولم يقولوا "مجازا ً "‪.‬‬
‫‪ -2‬آيات وردت على السلوب المعروف عند علماء‬
‫البلغة بالمشاكلة‪ ....‬واليات الواردة على هذا‬
‫السلوب كثيرة‪ ،‬كقوله تعالى‪ ) :‬نسوا الله‬
‫فنسيهم ( ‪ ...‬ومن أمثالها آية ‪ ) :‬ومكروا‬
‫ومكر الله ( وآية‪ ) :‬يخادعون الله وهو‬
‫خادعهم (‬
‫‪ -3‬آيات دّلت على المراد منها آيات أخــرى‪ ،‬كقــوله‬
‫تعالى‪ ) :‬وقالت اليهود يد اللسسه مغلولسسة غل ّسست‬
‫أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسسسوطتان‬
‫ينفق كيف يشاء ( تدل على المراد منها آية‪:‬‬
‫) ول تجعسسل يسسدك مغلولسسة إلسسى عنقسسك ول‬
‫تبسطها كل البسط ( ويفهم منها أن بسسسط‬
‫اليد يراد به الكرم والجود ول يستلزم ذلسسك "‬
‫بسسل يسسستحيل " أن يكسسون للسسه تعسسالى يسسدان‬
‫حقيقيتان كأيدي الناس وقد جاء في القرآن‬
‫قوله‪ ) :‬بين يدي رحمته ( و) بين يدى عذاب‬
‫شديد ( والقرآن ) ل يأتيه الباطل بين يديه (‬
‫وليـــس للرحمـــة ول للعـــذاب ول للقـــرآن يـــدان‬
‫حقيقيتان( اهـ‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫ومما هو جدير بالتنبيه عليه والتحذير منه ذلك‬
‫المنهج الغريب والمسلك الشاذ عن أصول المنهج‬
‫العلمي ل سيما في مجـال العقيدة وأبواب الصفات‬
‫التي نيطت بالقطعي واليقيني من الدلة‪ ،‬ذلك المنهج‬
‫الذي طفق أصحابه يثبتون صفات لله تعالى بأحاديث‬
‫وآثار ل تصلح أن تكون دليل ً في جزئيات فروع الفقه‬
‫فضل ً عن أصول الديانات وما يتعلق منها بذات الله‬
‫تعالى وصفاته‪ ،‬وهؤلء متناقضون في أحكامهم أشد‬
‫التناقض وأصرحه‪ ،‬فبينما هم يتساهلون هنا في جانب‬
‫الثبات‪ ،‬ويثبتون لله تعالى الصفات بأحاديث واهية‬
‫وأخبار ضعيفة‪ ،‬تراهم يتشددون في جانب الفروع‬
‫الفقهية‪ ،‬بل أبواب الترغيب والترهيب وأبواب فضائل‬
‫العمال ‪ -‬هذه البواب التي تساهل العلماء في قبول‬
‫الحاديث فيها بالشروط المعروفة ‪ -‬وينكرون على‬
‫الناس العمل بالحاديث الضعيفة في هذه البواب‪ ،‬ثم‬
‫يثبتون لله تعالى صفات بمثل هذه الحاديث التي‬
‫ددون في‬ ‫أنكروها‪ ،‬بل أضعف منها وأوهى‪ ،‬فيتش ّ‬
‫مواطن التسهيل ويتساهلون في المواطن التي يجب‬
‫التشدد والتيقن فيها مثل العقائد‪ ،‬هذا مع افتراضنا أن‬
‫مضمون هذه الحاديث والثار التي يثبتون بها لله‬
‫تعالى الصفات مما ل يحيله العقل والنقل‪ ،‬فكيف‬
‫والمر على النقيض من ذلك ومضمونها وظواهرها‬
‫مما قطعت العقول الصريحة والنقول الصحيحة‬
‫باستحالته وتنزه الله تعالى عنه‪ ،‬ل شك أن البلية في‬

‫‪261‬‬
‫هذه الحال تكون أعظم والخطر أجسم‪.‬‬
‫ولقد نقلنا قبل عن المام البي في شرحه على‬
‫صحيح مسلم )‪ (54 / 7‬قاعدة ذهبية في أبواب‬
‫الصفات‪ ،‬ل بأس بإعادتها لتستقر في الذهان‬
‫والعقول‪ ،‬قال رحمه الله تعالى‪:‬‬
‫)القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما‬
‫يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن‬
‫يرد متواترا ً في نص ل يحتمل التأويل‪ ،‬وغاية‬
‫المتواتر أن يرد فيما دللته على المحال‬
‫دللة ظاهرة‪ ،‬والظاهر يقبل التأويل‪ ،‬فإن‬
‫ورد يجب صرف اللفظ عن ظاهره‬
‫المستحيل‪ ،‬ثم اختلف فوقف أكثر السلف‬
‫عن التأويل‪ ،‬وقالوا نؤمن به على ما هو عند‬
‫ل علم ذلك‬ ‫الله سبحانه في نفس المر‪ ،‬ونك ِ ُ‬
‫إلى الله سبحانه‪ ،‬وقال قوم بل الولى‬
‫صا ً في محال‬ ‫التأويل‪ ..‬وإن ورد خبر واحد ن ّ‬
‫قطع بكذب راويه‪ ،‬وإن كان محتمل ً للتأويل‬
‫يتصرف فيه كما سبق( اهس‪.‬‬
‫ومضمون هذه القاعـدة مما اجتمعت عليه عقول‬
‫أعلم المة وأئمـة المسلميـن والعارفين بالله‪ ،‬وهذا‬
‫مما يدل يقينا ً على خطأ هؤلء المجازفين‪.‬‬
‫)دفع‬ ‫قال الحافظ ابن الجوزي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫شبه التشبيه ‪:(155‬‬

‫‪262‬‬
‫)ل تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحي ً‬
‫ل‪ ،‬وصار‬
‫دلين‪ :‬بأن جمل‬
‫هذا كما لو أخبرنا جماعة من المع ّ‬
‫البزاز دخل في خرم إبرة الخياط‪ ،‬فإنه ل حكم لصدق‬
‫الرواة مع استحالة خبرهم( اهـ‪.‬‬
‫وبهذا نختم هذا الباب‪ ،‬ونمسك القلم عن‬
‫السهاب‪ ،‬لننتقل إلى باب آخر من الحديث نثبت فيه‬
‫كون الشاعرة والماتريدية غالب المة المحمدية‪،‬‬
‫وعلى الله التكلن‪.‬‬

‫*****‬

‫‪263‬‬
‫الشاعرة والماتريدية هم غالب المة‬

‫علماء المة هم نجوم السماء‪ ،‬يهتدي بهم من‬


‫أطبقت عليه ظلمات الحيرة والتبست عليه معالم‬
‫الطرق‪ ،‬فإذا رأى أمامه أكابر الذين شهدت لهم المة‬
‫بالفضل وتلقاهم الخاصة والعامة بالقبول علم حينئذ‬
‫أن هذا المنهج والطريق الذي سلكه هؤلء منهج هدى‬
‫وصراط مستقيم‪.‬‬
‫ومذهب الشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة هو‬
‫المذهب الذي عليه سواد المة وأكابر أهل الفضل‬
‫فيها كما نقلنا من أقوال علماء المسلمين‪ ،‬وما ذاك‬
‫إل لنه المتداد الطبيعي لما كان عليه الصحابة‬
‫والتابعون وتابعوهم‪ ،‬فلم يبق علم من العلوم لم يكن‬
‫لهم الريادة فيه‪ ،‬ول تركوا بابا ً للمعرفة لم يلجوه‪،‬‬
‫فكان لهم في كل علم من علوم الشريعة وغيرها‬
‫القدح المعلى والجبين الجلى‪.‬‬

‫*****‬

‫‪264‬‬
‫أكابر مفسرى المة من الشاعرة‬
‫والماتريدية‬

‫ومن هذه العلوم التي كان لهل السنة فضل‬


‫التقدم والتبريز فيها علم تفسير كتاب الله تعالى‬
‫والعلوم المتعلقة به كالقراءات والغريب والمشكل‬
‫ونحوها‪ ،‬وإلمامة عجلى بثلة من أعلم هذا الباب‬
‫تقفك على هذه الحقيقة‪.‬‬
‫• المام الفذ المفسر والمحدث العلمة القرطبي‬
‫رحمه الله تعالى‪ ،‬صاحب تفسير الجامع لحكام‬
‫القرآن‪ ،‬وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان‪،‬‬
‫حكى في تفسيره مذاهب السلف كلها‪ ،‬قال عنه‬
‫الداوودي في الطبقات " هو من أجل التفاسير‬
‫وأعظمها نفعا ً "‪.‬‬
‫• المام الحافظ المفسر أبو الفداء إسماعيل بن‬
‫كثير رحمه الله تعالى‪ ،‬صاحب التفسير العظيم‬
‫ح‬
‫صـّر َ‬ ‫قـ َ‬
‫ل عنه أنه َ‬ ‫والبداية والنهاية وغيرها‪ ،‬فقد ُنـ ِ‬
‫بأنه أشعري كما في الدرر الكامنة ‪ ،1/58‬والدارس‬
‫في تاريخ المدارس للنعيمي ‪ ،2/89‬أضف إلى ذلك‬
‫أنه ولي مشيخة دار الحديث الشرفية التي كان‬
‫شرط واقفها أن ل يلي مشيختها إل أشعري‪ ،‬وزد ْ‬

‫‪265‬‬
‫عليه ما في تفسيره من التنزيه والتقديس والتشديد‬
‫على من يقول بظواهر المتشابه كما مـّر من قوله‬
‫م‬
‫عند تفسيره لقوله تعالى من سـورة العراف ) ث ّ‬
‫استوي على العرش ( )تفسيره ‪ (2/220‬إلى غير‬
‫ذلك من المثلة الظاهرة الجلية في كونه من أهل‬
‫السنة الشاعـرة‪.‬‬
‫• المام المفسر الكبير قدوة المفسرين ابن‬
‫عطية الندلسي رحمه الله تعالى صاحب تفسير‬
‫المحرر الوجيز‪ ،‬أّلف كتابه في التفسير فأحسن فيه‬
‫وأبدع‪ ،‬كان رحمه الله من أفاضل أهل السنة‬
‫والجماعة ومن أكابر أهل الفضل‪ ،‬قال أبو حيان‬
‫ل من‬‫الندلسي فيه )في مقدمة البحر المحيط(‪ " :‬هو أج ّ‬
‫صنف في علم التفسير وأفضل من تعرض للتنقيح‬
‫فيه والتحرير "‬
‫• المام أبو حيان الندلسي رحمه الله تعالى‬
‫صاحب البحر المحيط والنهر الماد من البحر‪ ،‬الحجة‬
‫الثبت اللغوي‪ ،‬وهو غني عن التعريف به والتنويه‬
‫بذكره‪.‬‬
‫• المام المقدم فخر الدين الرازي رحمه الله‬
‫تعالى صاحب تفسير مفاتيح الغيب‪ ،‬المفسر‪،‬‬
‫المتكلم‪ ،‬إمام وقته‪ ،‬وفريد عصره‪ ،‬كان شجا ً في‬
‫حلوق المبتدعة‪ ،‬وسيفا ً مصلتا ً على أهل الزيغ‬
‫واللحاد‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫• المام المفسر الحافظ البغوي محي السنة‬
‫رحمه الله تعالى صاحب كتاب شرح السنة‪،‬‬
‫وتفسيـره مملوء بما يدل على اعتقاد أهل السنة‪،‬‬
‫وزاخر بالتأويل السني لنصوص المتشابه‪.‬‬
‫• المام المفسر أبو الليث السمرقندي رحمه الله‬
‫تعالى‪ ،‬صاحب تفسير بحر العلوم‪ ،‬وكتاب تنبيه‬
‫الغافلين وبستان العارفين‪ ،‬وقد اشتهر بلقب إمام‬
‫الهدى‪.‬‬
‫• المام المفسر الواحدي أبو الحسن على‬
‫النيسابوري أستاذ عصره في النحو والتفسير‪ ،‬كان‬
‫سنيا ً أشعريا ً من أهل السنة والجماعة‪ ،‬صاحب‬
‫المؤلفات النافعة والشارات الرائعة‪ ،‬وله كتاب‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وهو من أشهر الكتب في بابه‪.‬‬
‫• المام المفسر أبو الثناء شهاب الدين اللوسي‬
‫الحسيني الحسني رحمه الله تعالى‪ ،‬خاتمة‬
‫المفسريـن ونخبة المحدثيـن كما وصفه الشيـخ بهجة‬
‫البيطار وقال عنه أيضا ً )حلية البشر ‪ " :(1450 / 3‬كـان‬
‫رضي الله عنه أحد أفراد الدنيا يقول الحق ول يحيد‬
‫عن الصدق‪ ،‬متمسكا ً بالسنن‪ ،‬متجنبا ً للفتن‪.‬‬
‫• المام المفسر السمين الحلبي رحمه الله تعالى‬
‫صاحب تفسير الدر المصون‪.‬‬
‫• المام الحافظ المفسر جلل الدين السيوطي‬
‫رحمه الله تعالى صاحب الدر المنثور في التفسير‬

‫‪267‬‬
‫بالمأثور‪.‬‬
‫• المام الخطيب الشربينى رحمه الله تعالى‬
‫صاحب تفسير السراج المنير‪.‬‬
‫وغير هؤلء ممن لو أطلنا النفس بذكرهم لخرجنا‬
‫عن المقصود‪ ،‬كلهم كانوا من أهل السنة الشاعرة‬
‫والماتريدية‪.‬‬

‫تنبيه‬
‫اقتصــرنا علــى ذكــر مــن جــاء بعــد زمــن المــام‬
‫الشعري وســار علــى هــديه‪ ،‬ولــم نــذكر فــي مقدمــة‬
‫المفســرين شــيخهم وإمــامهم فــي هــذا العلــم‪ ،‬نعنــي‬
‫الحافظ المفسر محمد بن جرير الطــبري رحمــه اللــه‬
‫تعالى‪ ،‬وكان معاصرا ً للمام الشعري وتوفي قبله‪ ،‬فل‬
‫يبعد أن يكون وقف على شــيء مــن تصــانيف المــام‬
‫أبي الحسن على كثرتها واستفاد منها‪ ،‬ل ســيما وهمــا‬
‫في بلد واحــد‪ ،‬ومــن أنعــم النظــر فــي تفســير المــام‬
‫ح عنــه رحمــه اللــه‬‫الطبري ل يســتبعد ذلــك‪ ،‬فقــد ص ـ ّ‬
‫تعالى بعض التأويل لبعض آيات المتشابه‪ ،‬ونقل بعض‬
‫تأويلت السلف من الصحابة والتابعين مؤيدا ً لهــا كمــا‬
‫مّر في مبحث تأويلت السلف‪ ،‬بل نزيد ونقــول إنــه ل‬
‫يبعد أن يكون انتسب إليه فيمــا لــم يصــلنا مــن كتبــه‪،‬‬
‫فقد ذكرت كتب التاريخ أنه قد انتهض لنصرة طريقــة‬
‫المام أبي الحســن والمــام أبــي منصــور جميــع أهــل‬

‫‪268‬‬
‫السنة في العالم السلمي‪.‬‬
‫ولو افترضــنا أن المــام الطــبري لــم ينتســب إلــى‬
‫المام أبي الحسن‪ ،‬فإنه يكفينــا أن يكــون موافق ـا ً لــه‬
‫في العتقـاد بتنزيــه البــاري ســبحانه وتقديســه‪ ،‬وهــذا‬
‫ف في عد ّ المـام الطـبري ضـمن مـن ذكرنـا‬ ‫القدر كا ٍ‬
‫مــن المفســرين‪ ،‬بــل هــو علــى رأســهم‪ ،‬إذ المقصــود‬
‫اعتقاد معتقد أهل السنة والجماعة سواء انتسب إلــى‬
‫الشعري أم لم ينتسب‪.‬‬

‫* ومن المفسرين المتأخرين‬


‫والمعاصرين‪:‬‬
‫• الستاذ الداعية سيد قطب رحمه الله تعالى‬
‫صاحب الكتاب العظيم " في ظلل القرآن "‪.‬‬
‫• الشيخ العلمة الطاهر بن عاشور صاحب‬
‫" التحرير والتنوير "‪.‬‬ ‫التفسير العظيم‬
‫• الستاذ الداعية الشيخ سعيد حوى رحمه الله‬
‫تعالى صاحب كتاب " الساس في التفسير"‪.‬‬
‫• الشيخ العلمة محمد متولي الشعراوي رحمه‬
‫الله تعالى الذي ارتبط اسمه بالقرآن حتى إذا ما ذكر‬
‫القرآن ذكر الشيخ‪ ،‬وإذا ذكر الشيخ ذكر القرآن‪.‬‬
‫• والشيخ الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله تعالى‬
‫ورعاه صاحب التفسير المنير والفقه السلمي‬

‫‪269‬‬
‫وغيرها من الكتب النافعة‪.‬‬

‫*****‬

‫‪270‬‬
‫أكابر محدثي المة وحفاظها من‬
‫الشاعرة والماتريدية‬

‫منهم على سبيل المثال‪:‬‬


‫• المام الحافظ أبو الحسن الدارقطني رحمه‬
‫الله تعالى إمام وقته والذي لم يَر مثل نفسـه‪،‬‬
‫وقصته مع المام الباقلني تغني عن الطالة في‬
‫إثبات اتباعه لمذهب الشعري‪).‬انظر تبيين كذب المفتري‬
‫‪ ،255‬السير ‪ ،17/558‬أثناء ترجمة الحافظ أبي ذر الهروي‪،‬‬
‫وتذكرة الحفاظ ‪.(3/1104‬‬
‫• الحافظ أبو نعيم الصبهاني رحمه الله تعالى‪،‬‬
‫صاحب حلية الولياء‪ ،‬كان من الطبقة الثانية من أتباع‬
‫المام الشعري‪ ،‬أي من طبقة المام الباقلني‬
‫والستاذ أبي إسحاق السفراييني والحاكم وابن‬
‫فورك رحم الله الجميع )تبيين كذب المفتري ‪ ،246‬الطبقات‬
‫الكبرى للتاج السبكي ‪.(3/370‬‬

‫• الحافظ أبو ذر الهروي عبد بن أحمد رحمه الله‬


‫ده الحافظ ابن عساكر في الطبقة الثالثة‬ ‫تعالى‪ ،‬ع ّ‬
‫ممن أخذ عن أصحاب أصحاب الشعري )انظر المصادر‬
‫السابقة‪ ،‬والطبقات الكبرى للتاج السبكي ‪.(3/370‬‬
‫• الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه الله تعالى‪،‬‬

‫‪271‬‬
‫)الطبقات ‪(3/372‬‬ ‫ذكره التاج السبكي في الخامسة‪.‬‬
‫• الحافظ الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى‬
‫صاحب المستدرك على الصحيحين‪ ،‬وإمام أهل‬
‫الحديث في عصره‪ ،‬وشهرته تغني عن التعريف به‪،‬‬
‫اتفق العلماء على أنه من أعلم الئمة الذين حفظ‬
‫الله بهم هذا الدين‪ .‬ذكره الحافظ ابن عساكر في‬
‫الطبقة الثانية‪ ،‬أي من أصحاب أصحاب المام‪) .‬تبيين‬
‫كذب المفتري ص‪.(227/‬‬
‫• الحافظ ابن حبان البستي رحمه الله تعالى‬
‫صاحب الصحيح وكتاب الثقات وغيرها‪ ،‬المام الثبت‬
‫القدوة إمام عصره ومقدم أوانه‪.‬‬
‫• الحافظ أبو سعد ابن السمعاني رحمه الله‬
‫تعالى‪ ،‬صاحب كتاب النساب‪) .‬الطبقات ‪(3/372‬‬

‫• المام الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى‬


‫صاحب التصانيف التي طار صيتها في الدنيا‬
‫والمؤلفات المرضية عند المؤيدين والمخالفين‪.‬‬
‫• المام الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى‬
‫صاحب كتاب تاريخ مدينة دمشق الذي لم يترك فيه‬
‫شاردة ول واردة إل أحصاها‪.‬‬
‫• المام الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله‬
‫تعالى‪ ،‬ذكره الحافظ ابن عساكر أول الطبقة الرابعة‪.‬‬
‫)التبيين ص ‪.(268 /‬‬

‫‪272‬‬
‫• المام الحافظ محي الدين يحيى بن شرف‬
‫النووي محي الدين رحمه الله تعالى‪ ،‬صاحب‬
‫المؤلفات النافعة التي كتب الله لها القبول في‬
‫الرض وبين الناس‪ ،‬مثل كتاب رياض الصالحين‬
‫والذكار وشرح صحيح مسلم وغيرها‪.‬‬
‫• المام المحقق بقية الحفاظ صلح الدين خليل‬
‫بن كيكلدى العلئي الذي لم يخلف بعده في الحديث‬
‫مثله‪ ،‬ولم يكن في عصره من يدانيه في علم‬
‫الحديث‪.‬‬
‫• شيخ السلم المام الحافظ أبو عمرو بن‬
‫الصلح رحمه الله تعالى وهو أول من ولي مشيخة‬
‫دار الحديث الشرفية التي كان ل يليها إل أشعري‪.‬‬
‫• المام الحافظ ابن أبي جمرة الندلسي مسند‬
‫أهل المغرب رحمه الله تعالى ورضي عنه‪ ،‬صاحب‬
‫كتاب بهجة النفوس في شرح مئة حديث من صحيح‬
‫البخاري‪.‬‬
‫• المام الحافظ الكرماني شمس الدين محمد‬
‫بن يوسف رحمه الله ورضي عنه‪ ،‬صاحب الشرح‬
‫المشهور على صحيح البخاري‪.‬‬
‫• المام الحافظ المنذري رحمه الله تعالى‬
‫صاحب الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫• المام الحافظ البي رحمه الله تعالى شارح‬

‫‪273‬‬
‫صحيح مسلم‪.‬‬
‫• المام الحافظ ابن حجر العسقلني رحمه الله‬
‫تعالى صاحب أعظم شرح على صحيح البخاري‬
‫مى بـ " فتح الباري " والذي قيل فيه‪ :‬ل هجرة‬
‫المس ّ‬
‫بعد الفتح‪.‬‬
‫• المام الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى‪.‬‬
‫• المام الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى‪.‬‬
‫• المام القسطلني رحمه الله تعالى شارح‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫• المام الحافظ المناوي رحمه الله تعالى‪.‬‬
‫وغيرهم وغيرهم من أئمة الحديث وحفاظ المة‪،‬‬
‫كانوا من أهل السنة الشاعرة والماتريدية‪.‬‬

‫*****‬

‫‪274‬‬
‫أكابر فقهاء المة من الشاعرة‬
‫والماتريدية‬

‫قال الحافظ ابن عساكر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬


‫)تبيين كذب المفتري ص‪:(410 /‬‬
‫)وأكثر العلماء في جميع القطار عليه – يعني‬
‫مذهب الشعري – وأئمة المصار في سائر العصار‬
‫يدعون إليه‪ ...‬وهل من الفقهاء من الحنفية‬
‫والمالكية والشافعية إل موافق له أو منتسب‬
‫ض بحميد سعيه في دين الله أو‬ ‫إليه أو را ٍ‬
‫ن بكثرة العلم عليه( اهـ‪.‬‬ ‫مث ٍ‬
‫وقال المام ابن السبكي رحمه الله تعالى‬
‫)الطبقات ‪) :(3/365‬وقد ذكر شيخ السلم عز الدين‬
‫ابن عبد السلم أن عقيدته ‪ -‬يعني الشعري ‪ -‬اجتمع‬
‫عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلء الحنابلة‪،‬‬
‫ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في‬
‫زمانه أبو عمرو بن الحاجب‪ ،‬وشيخ الحنفية جمال‬
‫الدين الحصيري( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام أبو المظفر السفراييني ‪ -‬رحمه الله‬
‫تعالى ‪) -‬التبصير في الدين ص ‪:(189 /‬‬

‫)علوم الفقه ويختص بالتبحر فيه أصحاب الحديث‬

‫‪275‬‬
‫وأصحاب الرأي‪ (.......‬اهـ‪.‬‬
‫وقول هؤلء العلم يغنينا عن الفاضة بذكر أسماء‬
‫وا عليها‬
‫م ْ‬
‫س َ‬
‫دا و َ‬
‫العلماء الذين فاقوا نجوم السماء ع ّ‬
‫دا‪.‬‬
‫ج ّ‬

‫أعلم المة في اللغة والدب من‬


‫الشاعرة والماتريدية‬

‫قال المام أبو المظفر السفراييني ‪ -‬رحـمه الله‬


‫تعالى ‪) -‬المصدر السابق ]بتصرف يسير[ وانظر الفرق بين‬
‫الفرق ص‪ ،183/‬ص ‪ ،240 /‬واتحاف السادة المتقين ‪:(2/102‬‬
‫)وجملة الئمة في النحو واللغة من أهل البصرة‬
‫والكوفة في دولة السلم كانوا من أهل السنة‬
‫والجماعة وأصحاب الحديث والرأي‪ ....‬وكذلك لم‬
‫يكن في أئمة الدب أحد إل وله إنكار على أهل‬
‫البدعة شديد وُبعد ٌ من بدعهم بعيد‪ ،‬مثل الخليل بن‬
‫جاج‬
‫أحمد ويونس بن حبيب وسيبويه والخفش والز ّ‬
‫والمبرد وأبي حاتم السجستاني وابن دريد والزهري‬
‫وابن فارس والفارابي‪ ،‬وكذلك من كان من أئمة‬
‫النحو واللغة مثل الكسائي والفراء والصعمي وأبي‬
‫زيد النصاري وأبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني وأبي‬
‫عبيد القاسم بن سلم‪ ،‬وما منهم أحد إل وله في‬

‫‪276‬‬
‫ب لهل السنة والجماعة وَرد ّ على أهل‬ ‫ص ٌ‬
‫تصانيفه تع ّ‬
‫اللحاد والبدعة‪ ،‬ولم يقّر واحد في شيء من العصار‬
‫من أسلف أهل الدب بشيء من بدع أهل الهواء‪....‬‬
‫ومن كان متدنسا ً بشيء من ذلك لم ي َ ُ‬
‫جْز العتماد‬
‫عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل معـاني النحو‪،‬‬
‫ول في تأويـل شيء من الخبـار‪ ،‬ول في تفسيـر آية‬
‫من كتاب الله تعالى( اهـ‪.‬‬
‫هؤلء هم المتقدمون من أئمة اللغة والدب‬
‫والنحو‪ ،‬ثم جاء من بعدهم وساروا على نفس‬
‫الطريق السويّ في العتقاد لم يبدلوا ولم يغيروا‬
‫مثل المام ابن النباري وابن سيده صاحب كتاب‬
‫المخصص في اللغة وابن منظور صاحب كتاب لسان‬
‫العرب والجوهري صاحب الصحاح والمجد‬
‫الفيروزآباذي صاحب كتاب القاموس المحيط‬
‫والمرتضى الزبيدي صاحب كتاب تاج العروس‪ ،‬ومن‬
‫النحويين محمد بن مالك صاحب اللفية المشهورة‬
‫في النحو وشارحها ابن عقيل وابن هشام المصري‬
‫غناء لمتعلم أو متأدب عن كتبهم‬‫وغيرهم ممن ل َ‬
‫ومصنفاتهم‪ ،‬وكلهم كانوا على عقيدة أهل السنة‬
‫والجماعة من الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم‪.‬‬

‫*****‬

‫‪277‬‬
‫كّتاب سيرة المصطفى صلى الله عليه‬
‫وسلم من الشاعرة والماتريدية‬

‫قال المام أبو المظفر السفراييني ‪ -‬رحمه الله‬


‫تعالى – )المصدر السابق(‪:‬‬
‫)علوم المغازي والسير والتواريخ والتفرقة بين‬
‫السقيم والمستقيم‪ ،‬ليس لهل البدعة من هو رأس‬
‫في شيء من هذه العلوم فهي مختصة بأهل السنة‬
‫والجماعة( اهـ‪.‬‬
‫وممن صّنف في السير والمغازي من الشاعرة‬
‫والماتريدية فبلغت مصنفاته ما بلغ الليل والنهار‪:‬‬
‫• المام البيهقي رحمه الله تعالى صاحب دلئل‬
‫النبوة‪.‬‬
‫• المام أبو نعيم الصبهاني رحمه الله تعالى‬
‫صاحب دلئل النبوة أيضًا‪.‬‬
‫• القاضي عياض رحمه الله تعالى صاحب الشفا‬
‫في شمائل وأحوال المصطفى ‘ الذي ليس له نظير‪.‬‬
‫• المام ابن الجوزي رحمه الله تعالى صاحب‬
‫الوفا بأحوال المصطفى‪.‬‬
‫• المام الحلبي رحمه الله تعالى صاحب السيرة‬
‫الحلبية المسماة بإنسان العيون‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫• المام السهيلي رحمه الله تعالى صاحب‬
‫الروض النف‪.‬‬
‫• المام القسطلني رحمه الله تعالى صاحب‬
‫المواهب اللدنية‪.‬‬
‫• المام الصالحي الدمشقي رحمه الله تعالى‬
‫صاحب سبل الهدى والرشاد‪.‬‬
‫• المام المؤرخ المقريزي رحمه الله تعالى‬
‫صاحب كتاب إمتاع السماع‪.‬‬
‫ومصنفات هؤلء الئمة هي أهم المراجع التي‬
‫عليها المعتمد في سيرة المصطفى ‘‪ ،‬وكلهم على‬
‫عقيدة الشاعرة والماتريدية وعلى ما كان عليه‬
‫المتقدمون من كتاب السيرة الوائل مثل ابن إسحاق‬
‫والواقدي وابن سعد وابن هشام وغيرهم من أكابر‬
‫العلماء في السيرة والمغازي‪.‬‬
‫وكذلك من صنف في التواريخ من الئمة غالبهم‬
‫من الشاعرة والماتريدية مثل المام الحافظ ابن‬
‫عساكر في كتابه الفذ تاريخ مدينة دمشق والمام ابن‬
‫الجوزي في كتابه المنتظم والمام الخطيب البغدادي‬
‫في كتابه تاريخ بغداد وابن خلدون وابن الثير‪ ،‬وكذلك‬
‫من صّنف في تراجم العلم مثل المام الصفدي في‬
‫كتابه الوافي في الوفيات الذي اختصره في كتابه‬
‫أعيان العصر‪ ،‬وقبله المام الباخرزي صاحب كتاب‬
‫دمية القصر‪ ،‬وابن شاكر الكتبي صاحب كتاب فوات‬

‫‪279‬‬
‫الوفيات وقاضي القضاة ابن خلكان الشافعي صاحب‬
‫كتاب وفيات العيان‪ ،‬وك ُّتاب تراجم طبقات علماء‬
‫المذاهب الفقهية وأصحاب كتب التراجم التي وضعت‬
‫حسب القرون مثل الدرر الكامنة وإنباء الغمر كلهما‬
‫للحافظ ابن حجر والضوء اللمع للحافظ السخاوي‪،‬‬
‫ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي‪ ،‬ومرآة الجنان‬
‫لليافعي وخلصة الثر للمحّبي وسلك الدرر للمرادي‬
‫والكواكب السائرة للغزي‪ ،‬وغيرهم الكثير‪.‬‬
‫صّنف في‬‫ومما يلحق بما مّر وهو قريب منه‪ ،‬ما ُ‬
‫النساب والماكن والبلدان مثل كتاب النساب للمام‬
‫السمعاني ومعجم البلدان لياقوت الحموي ومعجم ما‬
‫استعجم للبكري وغير ذلك كثير جدًا‪ ،‬كل أولئك كانوا‬
‫إما أشاعرة أو ماتريدية‪.‬‬
‫ونحن في كل هذا إنما نقتصر على من كان‬
‫معروفا ً بين الناس وإل فالمر ل يدخل تحت الجهد‬
‫ددنا مصنفاتهم‬‫والطاقة‪ ،‬وهؤلء الذين ذكرناهم وع ّ‬
‫سواء في القرآن وعلومه أو الحديث أو الفقه‬
‫والصول أو علوم العربية أو التواريخ والمغازي‬
‫والسير وغير ذلك‪ ،‬هم عبارة عن مراجع المكتبة‬
‫السلمية التي ل غناء لكاتب أو باحث في أي فن‬
‫عنها‪.‬‬
‫وعلى الجملة فإن التاريخ على مدى أدواره كلها‬
‫منذ منتصف القرن الرابع هو خير شاهد على أن‬

‫‪280‬‬
‫مذهب الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من أهل‬
‫السنـة بجمـيع طوائفهم هو المذهب الغالب السائد‪،‬‬
‫فأينما ارتحلت في مشارق العالم السلمي ومغاربه‪،‬‬
‫شماله وجنوبه فرايات أهل السنة أعلى ما تراه‪،‬‬
‫ومهما بالغت بالرجوع في أحقاب الزمن لن تجد‬
‫مذهبهم إل غالبا ً على كل ما سواه‪ ،‬وذلك لحديث‬
‫المصطفى ‘ "ل تجتمع أمتي على ضللة "‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك‪ ،‬تلك الصروح الشامخة‬
‫والمراكزالعلمية التي كانت تنشر النور في جميع‬
‫أصقاع العالم النساني‪ ،‬مثل الجامع الزهر في مصر‪،‬‬
‫وجامع القرويين في المغرب‪ ،‬وجامع الزيتونة في‬
‫تونس‪ ،‬والجامع الموي في دمشق‪ ،‬وندوة العلماء‬
‫في الهند‪ ،‬وغيرها من منارات العلوم المبثوثة في‬
‫مختلف أنحاء العالم السلمي‪ ،‬كلها كانت تتبنى إما‬
‫مذهب الشاعرة أو الماتريدية‪ ،‬ومن قبلها المدارس‬
‫السلمية التي قامت في حواضر السلم قديمًا‪ ،‬مثل‬
‫المدارس النظامية نسبة للوزير نظام الملك‪ ،‬وهي‬
‫كثيرة‪ ،‬حتى قيل بأنه ل تخلو مدينة من مدن العراق‬
‫وخراسان من أحدها‪ ،‬وهي من أهم السباب في‬
‫انتشار المذهب السني‪ ،‬ومن أشهرها نظامية بغداد‬
‫التي كانت أكبر جامعة في الدنـيا يومئـذ)‪ (1‬ولي‬

‫‪ ()1‬كما يصــفها الســتاذ الشــيخ علــي الطنطــاوي رحمــه اللــه‬


‫تعالى‪ .‬الفتاوى ‪.2/253‬‬

‫‪281‬‬
‫مشيختها المام‬
‫أبوإسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى‪ ،‬وممن‬
‫وليها أيضا ً المام الغزالي رحمه الله تعالى‪ ،‬ونظامية‬
‫نيسابور التي ولي مشيختها المام الجويني رحمه الله‬
‫تعالى وبعده المام الغزالي أيضًا‪ ،‬ومن تلك الصروح‬
‫العلمية التي كان لها أكبر الثر في التاريخ السلمي‬
‫والحركة العلمية في العالم السلمي أجمع مدرسة‬
‫دار الحديث الشرفية التي كان شرط واقفها أن ل‬
‫يلي مشيختها إل أشعري )انظر طبقات ابن السبكي‬
‫‪ ،(398 ،10/200‬وكان أول من استلم مشيختها الحافظ‬
‫أبو عمرو بن الصلح رحمه الله تعالى‪ ،‬ثم تعاقب‬
‫الئمة بعده‪ ،‬فمنهم المام الرباني الحافظ يحيى بن‬
‫شرف النووي رحمه الله تعالى والحافظ جمال الدين‬
‫المزي والحافظ التقي السبكي والحافظ ابن كثير‬
‫ون‬ ‫صـ ْ‬
‫وغيرهم‪ ،‬والذين تخرجوا فيها من العلماء ل ُيح َ‬
‫كثرة‪ ،‬وهكذا استمّرت هذه المدرسة بإخراج العلماء‬
‫والئمة والحفاظ والفقهاء والمقرئين قرونـا ً طويـلة‪"،‬‬
‫وبقيت كذلك حتى القرن الحادي عشر الهجري‪ ،‬ثم‬
‫بدأ يدب إليها الضعف وذلك تبعا ً لما كان يمّر به‬
‫العالم السلمي من تفكك وخور‪ ،‬ثم هيأ الله لها‬
‫عالمين جليلين استطاعا بجهودهما أن يعودا‬
‫بالمدرسة إلى سابق عهدها‪ ،‬فاستؤنفت فيها حلقات‬
‫العلم وقراءة الحديث وروايته منذ عام ‪1272‬هـ‪ ،‬كان‬

‫‪282‬‬
‫ذلك بجهود الشيخ يوسف المغربي ودعم المير عبد‬
‫القادر الجزائري الذي افتتح المدرسة بقراءة صحيح‬
‫البخـاري‪ ،‬وكأن عملـهما ذاك كان تمهيدا ً لبروز مجدد‬
‫القرن الرابع عشر الهجري المحدث الكبر محمد بدر‬
‫الدين الحسني الذي تسلم مشيختها وأعاد لها عزها‬
‫ومجدها وفخرها‪ ،‬فمن دار الحديث وعلى يدي شيخها‬
‫المحدث الكبر تخرج علماء الشام والبلدات الشامية‪،‬‬
‫وما من عالم بدمشق في عصرنا الحاضر أو طالب‬
‫علم إل وهو تلميذ له أو تلميذ لتلميذه " )من كتاب دار‬
‫الحديث الشرفية بدمشق للدكتور محمد مطيع حافظ‪ ،‬بتصرف‬
‫يسير(‪.‬‬
‫ومما يستشهد به لثبات فضل السادة الشاعرة‬
‫والماتريدية ما جاء في الحديث من الدعاء والثناء‬
‫على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وأمير ذلك‬
‫الجيش وهو من الشارات الباهرة لرسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬فقد روى البخاري في التاريخ الكبير‬
‫والصغير وأحمد في مسنده والبزار وابن خزيمة‬
‫والطبراني والحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي عن‬
‫النبي ‘ قال " لتفتحن القسطنطينية فلنعم المير‬
‫أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش "‪.‬‬
‫وهذا الحديث حدا بكثير من المسلمين منذ زمن‬
‫الصحابة إلى الذين بعدهم والذين بعدهم أن يحاولوا‬
‫الكرة بعد الكرة فتح القسطنطينية‪ ،‬وما ذلك إل‬

‫‪283‬‬
‫ليحظوا بهذا الشرف السامي والثناء العظيم العاطر‬
‫من المصطفى ‘‪ ،‬فذخر الله هذا الشرف وهذه‬
‫المنقبة للسلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله‬
‫تعالى ولجيشه المقدام الجسور‪.‬‬
‫وفتحت القسطنطينية وفاز الفاتح وجيشه بثناء‬
‫رسول الله ‘‪.‬‬
‫ومما ل يخفى على شاد ٍ في التاريخ أن محمدا ً‬
‫الفاتح والعثمانيين جميعا ً كانوا أحنافا ً في الفروع‪،‬‬
‫ماتريدية في العتقاد‪.‬‬
‫والسؤال الذي يرد هنا‪ :‬أيكون ثناء رسول الله ‘‬
‫على مبتدع وضال؟!‬
‫أيصح أن يكون هذا الثناء العاطر على فاتح‬
‫القسطنطينية من نصيب منحرف في العتقاد؟!‪.‬‬
‫ومن قبل الفاتح من سلطين المة وفاتحيها يأتي‬
‫السلطان المجاهد الشهيد نور الدين محمود رحمه‬
‫الله تعالى ورضي عنه‪.‬‬
‫والسلطان المجاهد صلح الدين اليوبي رحمه الله‬
‫وهو الذي حظي بشرف تطهير المسجد القصى من‬
‫الصليبيين‪.‬‬
‫والملك المظفر التقي قطز رحمه الله تعالى‪،‬‬
‫الذي حظي بشرف دحر التتار عن بلد السلم‪.‬‬
‫ومن متأخري البطال والمجاهدين الذين يفخر‬

‫‪284‬‬
‫أهل السنة والجماعة بهم السد الهصور عمر المختار‬
‫رحمه الله تعالى وهو أحد أعلم وأتباع الحركة‬
‫السنوسية المباركة‪ ،‬والعلمة المجاهد الصوفي‬
‫الناسك بديع الزمان الّنوْرسي رحمه الله تعالى محيي‬
‫السلم في تركيا بعد أن كادت تودي به رياح‬
‫اللدينية‪ ،‬والبطل المجاهد عز الدين القسام رحمه‬
‫الله تعالى وهو من أعلم العلماء النساك المتصوفة‬
‫والمجاهدين‪ ،‬والبطل المجاهد عبد القادر الجزائري‬
‫رحمه الله تعالى‪.‬‬
‫وغير هؤلء الكثير ممن ل يحصيهم إل خالقهم‬
‫ولقد اكتفينا بمن اشتهر بين الخواص والعوام على‬
‫السواء فمفاخر أهل السنة ل تدخل تحت الحصر‬
‫وأّنى لنا بكيل ماء البحر أو عد ّ نجوم السماء‪ ،‬وإنما‬
‫ذكرنا هذا استئناسا ً ل استشهادًا‪ ،‬إذ بما ذكرناه سابقا ً‬
‫من الحجج والبراهين كفاية وبلغ‪.‬‬
‫ورحم الله المام عبد القاهر البغدادي إذ يقول‬
‫)الفرق بين الفرق ص‪:(283 /‬‬
‫)ل خصلة من الخصال التي تعد ّ في المفاخر لهل‬
‫السلم من المعارف والعلوم وأنـواع الجتهـادات إل‬
‫ولهل السنة والجمـاعة في ميدانهـا القدح المعلى‬
‫والسهـم الوفر( اهـ‪.‬‬

‫ورحم الله المام العلمـة عبد الله بن علـوي‬

‫‪285‬‬
‫)نيل المرام شرح عقيدة السلم ص ‪:(8 /‬‬ ‫الحـداد حيث قال‬
‫)اعلم أن مذهب الشاعرة في العتقاد هو ما كان‬
‫عليه جماهير أمة السلم علماؤها ودهماؤها‪ ،‬إذ‬
‫المنتسبون إليهم والسالكون طريقهم كانوا أئمة أهل‬
‫العلوم قاطبة على مّر اليام والسنين‪ ،‬وهم أئمة علم‬
‫التوحيد والكلم والتفسير والقراءة والفقه وأصوله‬
‫والحديث وفنونه والتصوف واللغة والتاريخ( اهـ‪.‬‬
‫ولنا الحق أن نتساءل بعد كل ما مر وما قيل‪ :‬ما‬
‫الهدف من القدح بأعلم المسلمين وإسقاط الهيبة‬
‫والتوقير من قلوب الجيال المسلمة لهم؟!!‬
‫لماذا يصر البعض على تحطيم صروح الدين من‬
‫خلل تحطيم أعلمه ورموزه؟!‬
‫ترى أل يمكن أن يقام مجد للمتأخرين إل على‬
‫أنقاض شرف الولين؟!‬
‫أم أنه حق فينا قول رسول الله صّلى الله عليه‬
‫وسلم )ل تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه المة‬
‫أولها(؟!!‬

‫*****‬

‫‪286‬‬
‫جهود أهل السنة في الذود عن الدين والرد‬
‫على المبتدعين‬

‫نظرة عابرة إلى كتب التراجم والتواريخ والسير‬


‫والعلوم الخرى الشرعية وغيرها كفيلة بإقناع من‬
‫تجرد للحقيقة وأزاح عن عينيه غشـاوة التقليد‬
‫صب بفضل الشاعرة والماتريدية‪.‬‬ ‫والتع ّ‬
‫طلع على كتب التراث هذا‬ ‫فأّول ما يلحظه الم ّ‬
‫الجهد الهائل الجّبار الذي بذله أعلم المسلمين وأئمة‬
‫الدين من الشاعرة والماتريدية في نصرة السلم‬
‫وتوطيد عقائده والذود عن حرماته وتحصين ثغوره‪،‬‬
‫ونشر العلم في مشارق الرض ومغاربها‪.‬‬
‫جهود هي عند المنصف غّرة في جبين الدهر‪،‬‬
‫وإكليل غار على ناصية التاريخ‪.‬‬
‫وحريّ بنا في هذا البحث الذي أردنا به نصرة‬
‫وه بهذه‬‫الحقّ وإظهار فضائل أهل الفضل أن نن ّ‬
‫طلع القارئ على‬‫الجهود المباركة ونذكر طرفا ً منها‪ ،‬لي ّ‬
‫ما تقّر به عينه من تاريخ أمته المشرق والمشّرف‪.‬‬
‫من ذلك ما جاء في كتاب " الفرق بين الفرق "‬
‫)ص ‪ (283 /‬للمام الفذ الفرد عبد القاهر البغدادي قال‬
‫رحمه الله تعالى‪:‬‬

‫‪287‬‬
‫)اعلم أنه ل خصلة من الخصال التي ُتعد ّ في‬
‫المفاخر لهل السلم من المعارف والعلوم وأنواع‬
‫الجتهادات إل ولهل السنة والجماعة في ميدانها‬
‫القدح المعّلى والسهم الوفر‪.‬‬
‫فدونك أئمة أصول الدين وعلماء الكلم من أهل‬
‫ي بن أبي‬
‫السنة‪ ،‬فأّول متكلميهم من الصحابة عل ّ‬
‫طالب كّرم الله وجهه‪ .....‬ثم عبد الله بن عمر‪.....‬‬
‫وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن‬
‫عبد’العزيز وله رسالة بليغة في الرد ّ على القدرية‪.‬‬
‫ي زين العابدين‪ ....‬ثم الحسن‬‫ثم زيد بن عل ّ‬
‫البصري‪ ....‬ثم الشعبي‪ ....‬ثم الزهري‪ ....‬ومن بعد‬
‫هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق‪ ....‬وأّول‬
‫متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب أبو حنيفة‬
‫والشافعي‪ ....‬وكان أبو العباس بن سريج أبرع‬
‫الجماعة في هذه العلوم‪ ....‬ثم من بعدهم المام أبو‬
‫الحسن الشعري الذي صار شجا ً في حلوق القدرية‪،‬‬
‫ومن تلمذته المشهورين أبو الحسن الباهلي وأبو عبد‬
‫الله بن مجاهد وهما اللذان أثمرا تلمذة هم إلى‬
‫اليوم شموس الزمان وأئمة العصر كأبي بكر محمد‬
‫بن الطيب ـ الباقـلنـي ـ وأبي إسحاق إبراهيم بن‬
‫محمد السفراييني‪ ،‬وابن فورك‪ .....‬وكذلك أئمة‬
‫وف كانوا على توالي القرون على هذا‬ ‫الرشاد والتص ّ‬
‫المنهج السديد في المعتقد‪ ،‬وكذلك جمهرة أهل النحو‬

‫‪288‬‬
‫واللغة والدب كانوا على معتقد أهل السنة‪.....‬‬
‫وكذلك أئمة القراءة وحملة التفسير بالرواية من عهد‬
‫الصحابة إلى عهد محمد بن جرير الطبري وأقرانه‬
‫ومن بعدهم كانوا كلهم أهل السنة‪ ،‬وكذلك‬
‫المفسرون بالدراية إل بعض أفراد من أهل البدعة‪،‬‬
‫وكذلك مشاهير علماء المغازي والسير والتواريخ‬
‫ونقد الخبار وحملة الرواية من أهل السنة والجماعة‪،‬‬
‫فيظهر بذلك أن جماع الفضل في العلوم في أهل‬
‫السنة والجماعة‪ .‬حشرنا الله سبحانه في زمرتهم(‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) -‬ص ‪:(240 /‬‬

‫)الفصل الّول من فصول هذا الباب في بيان‬


‫أصناف أهل السنة‪.‬‬
‫صنف منهم‪ :‬أحاطوا علما ً بأبواب التوحيد‪...‬‬
‫وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من‬
‫المتكلمين الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل‪...‬‬
‫وسائر أهل الهواء الضالة‪.‬‬
‫والصنف الثاني منهم‪ :‬أئمة الفقه من فريقي‬
‫الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين‬
‫مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الزلية‪...‬‬
‫الصنف الثالث منهم‪ :‬هم الذين أحاطوا علما ً‬
‫ي ‘ وميزوا‬
‫بطرق الخبار والسنن المأثورة عن النب ّ‬
‫بين الصحيح والسقيم منها‪ ،‬وعرفوا أسباب الجرح‬

‫‪289‬‬
‫والتعديل‪ ،‬ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع‬
‫أهل الهواء الضالة‪.‬‬
‫الصنف الرابع منهم‪ :‬قوم أحاطوا علما ً بأكثر‬
‫جَرْوا على سمت‬ ‫أبواب الدب والنحو والتصريف‪ ،‬و َ‬
‫أئمة اللغة كالخليل وأبي عمرو بن العلء وسيبويه‬
‫والفّراء والخفش والصمعي والمازني وأبي عبيد‬
‫وسائر أئمة النحو من الكوفيين والبصريين‪ ....‬ومن‬
‫مال منهم إلى شيء من الهواء الضالة لم يكن من‬
‫جة في اللغة والنحو‪.‬‬
‫أهل السنة ول كان قوله ح ّ‬
‫الصنف الخامس منهم‪ :‬هم الذين أحاطوا علما ً‬
‫بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن‬
‫وتأويلها على وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلت‬
‫أهل الهواء الضالة‪.‬‬
‫الصنف السادس منهم‪ :‬الزهاد الصوفية الذين‬
‫أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا‪ ....‬وجرى كلمهم‬
‫في طريق العبارة والشارة على سمت الحديث دون‬
‫من يشتري لهو الحديث‪.‬‬
‫الصنف السابع منهم‪ :‬قوم مرابطون في ثغور‬
‫المسلمين في وجوه الكفرة يجاهدون أعداء‬
‫المسلمين ويحمون حمى المسلمين‪ ....‬ويظهرون‬
‫في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫مة البلدان التي غلب‬
‫والصنف الثامن منهم‪ :‬عا ّ‬
‫مة البقاع التي ظهر‬‫فيها شعائر أهل السنة‪ ،‬دون عا ّ‬

‫‪290‬‬
‫فيها شعار أهل الهواء الضالة‪ ،‬وإنما أردنا بهذا‬
‫مة اعتقدوا تصويب علماء‬ ‫مة‪ ،‬عا ّ‬
‫الصنف من العا ّ‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬ولم يعتقدوا شيئا ً من بدع أهل‬
‫الهواء الضالة‪ ...‬فهؤلء أصناف أهل السنة‬
‫والجماعة‪ ،‬ومجموعهم أصحاب الدين القويم‬
‫والصراط المستقيم( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام الكبير أبو المظفر السفراييني ‪-‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪) -‬التبصير في الدين ص ‪) :(187 /‬أما‬
‫العلوم‪:‬‬
‫ي في مدارج الفضل والدب الذي هو‬ ‫فأّولها‪ :‬الرق ّ‬
‫ترجمان جميع العلوم‪ ،‬ومعرض جميع الفوائد الفاخرة‬
‫في الدنيا والخرة‪ ،‬إذ ل سبيل إلى تفسير القرآن‬
‫وأخبار الرسول ‘ إل بمعرفة الدب‪.‬‬
‫وجميع الئمة في النحو واللغة من أهل البصرة‬
‫والكوفة في دولة السلم كانوا من أهل السنة‬
‫والجماعة وأصحاب الحديث والرأي‪ ....‬وكذلك لم‬
‫يكن في أئمة الدب أحد إل وله إنكاٌر على أهل‬
‫البدعة شديد‪ ،‬وبعد ٌ من بدعهم بعيد‪....‬‬
‫وثانيها‪ :‬علم تفسير القرآن‪....‬‬
‫وثالثها‪ :‬العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى ‘‪....‬‬
‫حر فيه أصحاب‬
‫ص بالتب ّ‬
‫ورابعها‪ :‬علوم الفقه ويخت ّ‬
‫الحديث وأصحاب الرأي‪....‬‬

‫‪291‬‬
‫خامسها‪ :‬علوم المغازي والسير والتواريخ‪...‬‬
‫وليس لهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه‬
‫صة بأهل السنة‪...‬‬
‫العلوم فهي مخت ّ‬
‫سادسها‪ :‬علم التصوف والشارات‪ ...‬ولم يكن‬
‫ط لحد من أهل البدعة فيه ح ّ‬
‫ظ‪...‬‬ ‫ق ّ‬
‫وسابعها‪ :‬علم أصول الدين وإن لهل السنة‬
‫والجماعة التفّرد بأكثر من ألف تصنيف في أصول‬
‫الدين‪...‬‬
‫وأما أنواع الجتهادات الفعلية التي مدارها على‬
‫أهل السنة والجماعة في بلد السلم فمشهورة‬
‫دهم ثغور‬
‫مذكورة‪ ....‬ومن آثارهم الجتهادية س ّ‬
‫السلم والمرابطة بها في أطراف الرض‪ ،‬مثل ثغور‬
‫الروم وأرمينية‪ ،‬وانسداد جميعها ببركات أصحاب‬
‫الحديث‪ ،‬وأما ثغور بلد الترك فمشتركة بين أهل‬
‫الحديث والرأي‪....‬‬
‫فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة‬
‫والجماعة في العلوم والجتهادات أنهم أهل الجتهاد‬
‫والجهاد‪ (...‬اهـ‪.‬‬
‫درهم‪ ،‬فما‬
‫هذا هو شأن أهل السنة‪ ،‬وهذا هو ق ْ‬
‫الذي ينقمه منهم خصومهم؟!‬
‫ولله دّر الحـافظ ابن عساكر ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬
‫حيث يقول )تبيين كذب المفتري ص ‪) :(367 /‬فيا ليت‬

‫‪292‬‬
‫شعري ماذا الذي تنفر منه القلوب عنهم ‪ -‬يعني‬
‫الشاعرة ‪ -‬أم ماذا ينقم أرباب البدع منهم؟!‬
‫أغزارة العلم‪ ،‬أم رجاحة الفهم‪ ،‬أم اعتقاد التوحيد‬
‫والتنزيه‪ ،‬أم اجتناب القول بالتجسيم والتشبيه‪ ،‬أم‬
‫القـول بإثبـات الصفـات‪ ،‬أم تقديس الـرب عن‬
‫العضـاء والدوات؟!( اهـ‪.‬‬
‫وحيث يقول أيضا ً )ص ‪:(410 /‬‬
‫)وأكثر العلماء في جميع القطار عليه ‪ -‬يعني‬
‫مذهب الشاعرة ‪ -‬وأئمة المصار في سائر العصار‬
‫يدعون إليه‪ ،‬ومنتحلوه هم الذين عليهم مدار الحكام‪،‬‬
‫وإليهم يرجع في معرفة الحلل والحرام‪ ،‬وهم الذين‬
‫ُيفتون الناس في صعاب المسائل‪ ،‬ويعتمد عليهم‬
‫الخلق في إيضاح المشكلت والنوازل‪ ،‬وهل من‬
‫الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إل موافق‬
‫ض بحميد سعيه في دين الله‬ ‫له أو منتسب إليه أو را ٍ‬
‫ن بكثرة العلم عليه( اهـ‪.‬‬
‫مث ٍ‬
‫أو ُ‬
‫وقال المام العلمة المرتضى الزبيدي ‪ -‬رحمه‬
‫الله تعالى ‪) -‬إتحاف السادة المتقين ‪:(102 / 2‬‬
‫)اعلم أن أهل ملة السلم قد أطلقوا جميعا ً‬
‫القول بأن صانع العالم ل يشبه شيئا ً من العالم‪ ،‬وأنه‬
‫د‪ ،‬وأنه سبحانه موجود بل‬ ‫ليس له شبه ول مثل ول ض ّ‬
‫تشبيه ول تعطيل‪ ،‬ثم اختلفوا بعد ذلك فيما بينهم‪،‬‬
‫فمنهم من اعتقد في التفصيل ما يوافق اعتقاده في‬

‫‪293‬‬
‫الجملة‪ ،‬ولم ينقض أصول التوحيد على نفسه بشيء‬
‫من فروعه‪ ،‬وهم المحققون من أهل السنة والجماعة‬
‫سكوا بأصول‬ ‫أصحاب الحديث وأهل الرأي الذين تم ّ‬
‫وات ولم يخلطوا مذاهبهم‬ ‫الدين في التوحيد والنب ّ‬
‫بشيء من البدع والضللت‪ ...‬وعلى ذلك أئمة الدين‬
‫جميعهم في الفقه والحديث والجتهاد في الفتيا‬
‫والحكام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة‬
‫والوزاعي والثوري وفقهاء المدينة وجميع أئمة‬
‫الحرمين وأهل الظاهر وكل من يعتبر خلفه في‬
‫الفقه‪.‬‬
‫وبه قال أئمة الصفاتية المثبتة من المتكلمين كعبد‬
‫الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد المحاسبي‬
‫وعبد العزيز المكي والحسين بن الفضل البجلي وأبي‬
‫العباس والقلنسي وأبي الحسن الشعري ومن تبعهم‬
‫من الموحدين الخارجين عن التشبيه والتعطيل‪ ،‬وإليه‬
‫ذهب أيضا ً أئمة التصوف‪ ،‬كأبي سليمان الداراني‬
‫وأحمد بن أبي الحواري وسري السقطي وإبراهيم بن‬
‫أدهم والفضيل بن عياض والجنيد وُرويم والنوري‬
‫والخراز والخواص ومن جرى مجراهم‪ ،‬دون من‬
‫انتسب إليهم وهم منه بريئون من الحلولية وغيرهم‪،‬‬
‫وعلى ذلك درج من سلف من أئمة المسلمين في‬
‫الحديث كالزهري وشعبة وقتادة وابن عيينة وعبد‬
‫الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد ويحيي بن معين‬

‫‪294‬‬
‫وعلي بن المدائني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن‬
‫راهويه ويحيى بن يحيى التميمي وجميع الحفاظ‬
‫لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين ُنقل‬
‫قولهم في الجرح والتعديل‪ ،‬والتمييز بين الصحيح‬
‫والسقيم من الخبار والثار‪ ،‬وكذلك الئمة الذين‬
‫أخذت عنهم اللغة والنحو والقراءات وإعراب القرآن‪،‬‬
‫كلهم كانوا على طريقة التوحيد من غير تشبيه ول‬
‫تعطيل‪.(...‬‬
‫وذكر طائفة من أئمة اللغـة والدب ثـم قال‪:‬‬
‫ح اليوم الحتجاج بقوله في اللغة والنحو‬
‫)وكل من يص ّ‬
‫والقراءات من أئمة الدين فإنهم كلهم منتسبون إلى‬
‫ما انتسب إليه أهل السنة والجماعة في التوحيد‬
‫وإثبات صفـات المـدح لمعبودهم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ونفي‬
‫التشبيه عنه( اهـ‪.‬‬
‫وقد ذكرنا قوله قب ُ‬
‫ل )التحاف ‪:(106 / 2‬‬
‫)إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم‬
‫الشاعرة والماتريدية(‪.‬‬
‫فد ّ‬
‫ل قوله النف )فإنهم كلهم منتسبون‪ (...‬على‬
‫أنه يعني الشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من‬
‫طوائف أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫در أهل السنة والجماعة الشاعرة‬ ‫يتضح بهذا ق ْ‬
‫والماتريدية وأصحاب الحديث ومزّيتهم على من‬
‫سواهم من أهل الهواء والزيغ والبدع‪ ،‬ويظهر ما‬

‫‪295‬‬
‫صهم الله تعالى به من الفضل‪ ،‬واجتباهم له من‬
‫اخت ّ‬
‫حمل لواء الحق والهدى والرشاد لعامة الورى‪.‬‬

‫*****‬

‫‪296‬‬
‫فتاوى وأقوال العلماء في فضل‬
‫الشاعرة‬
‫مهم وانتقصهم‬
‫وتغليظهم القول لمن ذ ّ‬

‫قال الله تعالى ) واّلذين يؤذون المؤمنين‬


‫والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا‬
‫بهتانا وإثما مبينا ( ‪ ،‬وقال تعالى في الحديث‬
‫القدسي )من عادى لي وليا ّ فقد آذنته‬
‫بالحرب(‪ ،‬والعلماء هم أولياء الله تعالى وخاصته من‬
‫خلقه‪ ،‬بهم ينتشر الدين وُيذاد عن عقائد الناس‬
‫وحرماتهم‪ ،‬وموت آلف من البشر أهون ضررا ً من‬
‫موت عالم‪.‬‬
‫وحرمة العلماء من حرمة الدين‪ ،‬فمن وقرهم‬
‫وعرف لهم أقدارهم فالدين يوقر‪ ،‬ومن تطاول عليهم‬
‫وحقرهم فعلى الدين يتطاول وله يحقر‪.‬‬
‫ظم شعائر الله‬ ‫يقول الله تعالى ) ومن يع ّ‬
‫فإنها من تقوى القلوب ( ‪.‬‬
‫فأي شعيرة من شعائر السلم أعظم من رموزه‬
‫وأعلمه الذين بهم قوام الدين وصلح العباد والبلد؟!‬
‫وأي عزيمة أوثق أمرا ً وأعظم أجرا ً من تكريمهم‬
‫وتوقيرهم والعتراف بفضلهم؟!‬

‫‪297‬‬
‫وأي جريمة وعظيمة أشد نكرا ً وأكبر وزرا ً من‬
‫تحقيرهم وازدرائهم والحط من أقدراهم؟!‬
‫والتطاول على العلماء ل سيما المتقدمون منهم‬
‫من الذنوب التي تكون في آخر الزمان فقد جاء في‬
‫ن آخر هذه المة‬
‫الحديث أن من أشراط الساعة لعْ َ‬
‫أّولها‪ ،‬إشارة منه ‘ إلى فظاعة هذا الصنيع وشناعته‬
‫خر إلى آخر الزمان!‪.‬‬
‫حتى إنه أ ّ‬
‫ولقد تضافرت أقوال أئمة السلم وتواترت‬
‫فتاواهم في التشنيع على من تطاول على مقام‬
‫أعلم الشريعة وعلماء المة‪ ،‬وأوجبوا على ولة أمور‬
‫المسلمين الضرب على يده وتعزيره ومعاقبته‪.‬‬
‫من ذلك ما أفتى به قدوة المالكية في عصره‬
‫المام ابن رشد )الجد( رحمه الله تعالى‪ ،‬وهذا نص‬
‫السؤال‪:‬‬
‫)ما يقول الفقيه القاضي الجل‪ ،‬أبو الوليد ‪ -‬وصــل‬
‫الله توفيقه وتسديده ونهج إلى كــل صــالحة طريقــه ‪-‬‬
‫فــي الشــيخ أبــي الحســن الشــعري وأبــي إســحق‬
‫السفراييني وأبي بكر الباقلني وأبي بكــر بــن فــورك‬
‫وأبي المعــالي‪ ...‬ونظرائهــم ممــن ينتحــل علــم الكلم‬
‫ويتكلم في أصول الــديانات ويصــنف للــرد علــى أهــل‬
‫الهواء؟ وما يقــول فــي قــوم يســبونهم وينتقصــونهم‪،‬‬
‫ويســـبون كـــل مـــن ينتمـــي إلـــى علـــم الشـــعرية‪،‬‬
‫ويكفرونهم ويتبرؤون منهم وينحرفون بالوليــة عنهــم‪،‬‬

‫‪298‬‬
‫ويعتقدون أنهــم علــى ضــللة‪ ،‬وخائضــون فــي جهالــة‪،‬‬
‫فماذا يقال لهم ويصــنع بهــم ويعتقــد فيهــم؟ أيــتركون‬
‫على أهوائهم؟ أم يكف عن غلوائهم؟(‪.‬‬
‫فأجاب رحمه الله تعالى بما نصه‪:‬‬
‫)تصفحت ‪ -‬عصمنا الله وإيـاك ‪ -‬سؤالك هذا‬
‫ووقفت عليه‪ ،‬وهؤلء الذين سميت من العلماء أئمة‬
‫خير وهدى‪ ،‬وممن يجب بهم القتداء‪ ،‬لنهم قاموا‬
‫بنصر الشريعة‪ ،‬وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضللة‪،‬‬
‫ن به من‬‫وأوضحوا المشكلت وبينوا ما يجب أن ُيدا َ‬
‫المعتقدات‪ ،‬فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء‬
‫ل‪ ،‬وما يجب له‬ ‫على الحقيقة‪ ،‬لعلمهم بالله عّز وج ّ‬
‫وما يجوز عليه وما ينتفي عنه‪ ،‬إذ ل تعلم الفروع إل‬
‫بعد معرفة الصول‪ ،‬فمن الواجب أن يعترف‬
‫بفضائلهم ويقر لهم بسوابقهم‪ ،‬فهم الذين عنى‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله )يحمل هذا‬
‫العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف‬
‫الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين(‬
‫فل يعتقد أنهم على ضللة وجهالة إل غبي جاهل أو‬
‫مبتدع زائغ عن الحق مائل‪ ،‬ول يسبهم وينسب إليهم‬
‫ل‪:‬‬‫خلف ما هم عليه إل فاسق‪ ،‬وقد قال الله عّز وج ّ‬
‫) واّلذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما‬
‫اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (‬
‫فيجب أن يبصر الجاهل منهم‪ ،‬ويؤدب الفاسق‪،‬‬

‫‪299‬‬
‫ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهل ً‬
‫ببدعة‪ ،‬فإن تاب وإل ضرب أبدا ً حتى يتوب‪ ،‬كما فعل‬
‫عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ المتهم في‬
‫اعتقاده‪ ،‬من ضربه إياه حتى قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‬
‫إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء‪ ،‬وإن‬
‫كنت تريد قتلي فأجهز علي‪ .‬فخلى سبيله‪ .‬والله‬
‫أسأل العصمة والتوفيق برحمته‪ .‬قاله محمد بن‬
‫رشد( )فتاوى ابن رشد ‪.(802 / 2‬‬
‫وقال المام الكبير أبو المظفر السفراييني ‪-‬‬
‫ص َ‬
‫ل اعتقاد الفرقة‬ ‫رحمه الله تعالى ‪ -‬بعد أن ف ّ‬
‫الناجية‪:‬‬
‫)وأن تعلم أن كل من تدّين بهذا الدين الذي‬
‫وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق‬
‫ه فهو مبتدع‬‫ع ُ‬‫وعلى الصراط المستقيم‪ ،‬فمن بدّ َ‬
‫فره فهو‬ ‫ل ومسن ك ّ‬‫ومسن ضلله فهو ضا ّ‬
‫كسافر( اهـ )التبصير في الدين ص ‪.(111 /‬‬

‫وقد شد ّد َ المام النووي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪-‬‬


‫ض لهم بالثلب‪،‬‬
‫عر َ‬ ‫النكير على من انتقص العلماء و َ‬
‫فقال‪:‬‬
‫)قــال اللــه تعــالى ) ومن يعظّسسم شسسعائر اللسه‬
‫فإنها من تقوى القلوب ( وقال تعالى ) ومن‬
‫يع ّ‬
‫ظم حرمات اللسسه فهسسو خيسسر لسسه عنسسد رب ّسسه (‬
‫وقـــال تعــالى ) واخفسسض جناحسسك للمسسؤمنين (‬

‫‪300‬‬
‫وقسسال تعسسالى ) واّلسسذين يسسؤذون المسسؤمنين‬
‫والمؤمنسسات بغيسسر مسسا اكتسسسبوا فقسسد احتملسسوا‬
‫بهتانا وإثما مبينا ( وثبت في صحيح البخاري عــن‬
‫أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صــلي اللــه‬
‫ل قــال )من آذى لسسي‬ ‫عليه وســلم أن اللــه ع ـّز وج ـ ّ‬
‫ولي ّا ً فقد آذنته بالحرب(‪.‬‬
‫وروى الخطيــب البغــدادي عــن الشــافعي وأبــي‬
‫حنيفــة رضــي اللــه عنهمــا قــال )إن لــم تكــن الفقهــاء‬
‫أولياء الله فليس لله ولي(‪.‬‬
‫وفي كلم الشافعي‪ :‬الفقهاء العاملون‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي الله عنهما‪ :‬مــن آذى فقيهـا ً‬
‫فقد آذى رسول الله صلى الله على وسلم‪ ،‬ومن آذى‬
‫رسول الله ‘ فقد آذى الله عــز وجــل‪ .‬وفــي الصــحيح‬
‫مة اللسسه فل‬ ‫عنه ‘ " من صلى الصبح فهو في ذ ّ‬
‫مته"(ا هـ‪) .‬المجموع ‪/ 1‬‬‫يطلبّنكم الله بشيء من ذ ّ‬
‫‪.(24‬‬
‫وإن لم يكن أعلم المة وأماثلها من أئمة الدين‬
‫الشاعرة والماتريدية أولياء الله فمن تراهم‬
‫يكونون؟!‬
‫وقال الحافظ ابن عساكر ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬تعالى‪:‬‬
‫)اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته‪ ،‬وجعلنا‬
‫ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته‪ ،‬أن لحوم العلماء‬

‫‪301‬‬
‫مسمومة‪ ،‬وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم‬
‫معلومة‪ ،‬وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بله‬
‫الله قبل موته بموت القلب )فليحذر اّلذين‬
‫يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو‬
‫يصيبهم عذاب أليم ( اهـ‪) .‬تبيين كذب المفتري ص ‪/‬‬
‫‪ ،425‬المجموع ‪.(1/24‬‬
‫وقد سئل المام العلمة ابن حجر الهيتمي رحمه‬
‫الله تعالى‪ :‬عن المام أبي الحسن الشعري‬
‫والباقلني وابن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين‬
‫وأبي الوليد الباجي وغيرهم ممن تكلم في الصول‬
‫وسلك مذهب الشعري في العتقاد‪ ،‬وعن حكم من‬
‫انتقصهم وضللهم؟‪.‬‬
‫فأجاب رحمه الله بعد أن شّنع على من عرض‬
‫لهم بشتم أو تضليل أو قدح‪:‬‬
‫)بل هم أئمة الدين وفحول علماء المسلمين‬
‫فيجب القتداء بهم لقيامهم بنصرة الشريعة وإيضاح‬
‫المشكلت ورد ّ شبه أهل الزيغ‪ ،‬وما يجب من‬
‫العتقادات والديانات لعلمهم بالله وما يجب له وما‬
‫يستحيل عليه وما يجوز في حقه‪ ....‬والواجب‬
‫العتراف بفضل أولئك الئمة المذكورين في‬
‫السؤال وسابقتهم‪ ،‬وأنهم من جملة المرادين بقوله‬
‫‘ " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله‬
‫ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال‬

‫‪302‬‬
‫المبطلين وتأويل الجاهلين " فل يعتقد‬
‫ضللتهم إل أحمق جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق‪،‬‬
‫ول يسبهم إل فاسق‪ ،‬فينبغي تبصيـر الجاهل وتأديب‬
‫الفاسق واستتابة المبتدع( اهـ ‪) .‬الفتاوى الحديثية ص ‪/‬‬
‫‪.(205‬‬
‫ونقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله فتوى للمام‬
‫محمد بن علي الدامغاني وافقه عليها المام أبو‬
‫إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي الفيروزباذي‬
‫والمام أبو بكر الشاشي في فضل الشاعرة‪،‬‬
‫معّرض بهم‪.‬‬ ‫ووجوب معاقبة منتقصهم وال ُ‬
‫وهذا نص الستفتاء والفتوى على ما جاء في‬
‫كتاب " تبيين كذب المفتري " )ص ‪) :(332 /‬بسم الله‬
‫الرحمن الرحيم‪ .‬ما قول السادة الجلة الئمة الفقهاء‬
‫أحسن الله توفيقهم ورضي عنهم في قوم اجتمعوا‬
‫على لعن فرقة الشعـري وتكفيرهم‪ ،‬ما الذي يجب‬
‫عليهم في هذا القول؟ أفتونا في ذلك منّعمين مثابين‬
‫إن شاء الله‪.‬‬
‫الجواب وبالله التوفيق‪ :‬أن كل من أقدم على لعن‬
‫فرقة من المسلمين وتكفيرهم فقد ابتدع وارتكب ما‬
‫ل يجوز القدام عليه‪ ،‬وعلى الناظر في المور أعّز‬
‫الله أنصاره النكار عليه وتأديبه بما يرتدع هو وأمثاله‬
‫عن ارتكاب مثله‪ .‬كتب محمد بن على‬
‫الدامغاني‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫وبعده‪:‬‬
‫الجواب وبالله التوفيق‪ :‬إن الشعرية أعيان السنة‬
‫صار الشريعة‪ ،‬انتصبوا للّرد على المبتدعة‪ ....‬فمن‬
‫ون ّ‬
‫طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة‪ ،‬وإذا رفع أمر‬
‫من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب‬
‫عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد‪ .‬كتبه إبراهيم بن‬
‫على الفيروز باذي ‪ -‬أبو إسحاق الشيرازي ‪.-‬‬
‫وبعده‪:‬‬
‫جوابي مثله‪ .‬كتبه محمد بن أحمد الشاشي(‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن عساكر‪) :‬فهذه أجوبة هؤلء‬
‫الئمة الذين كانوا في عصرهم علماء المة‪ ،‬فأما‬
‫قاضي القضاة أبو عبد الله الحنيفي الدامغاني فكان‬
‫يقال له في عصره أبو حنيفة الثاني‪ ،‬وأما الشيخ‬
‫المام أبو إسحاق فقد طّبق ذكر فضله الفاق‪ ،‬وأما‬
‫الشيخ المام أبو بكر الشاشي فل يخفى محله على‬
‫مْنتهٍ في العلم ول ناشي‪ ،‬فمن وفقه الله للسداد‬ ‫ُ‬
‫وعصمه من الشقاق والعناد انتهى إلى ما ذكروا‬
‫واكتفى بما عنه أخـبروا‪ ،‬والله يعصمنـا من قـول‬
‫الـزور والبهتان( اهـ‪.‬‬
‫وقـال العلمة السيد محمد بن علوي المـالكي‬
‫الحسيـني رحمه الله في الشاعرة والماتريدية‬
‫)مفاهيم يجب أن تصحح ص ‪:(111 /‬‬

‫‪304‬‬
‫)هم أئمة وأعلم الهدى من علماء المسلمين‬
‫الذين مل علمهم مشارق الرض ومغاربها‪ ،‬وأطبق‬
‫الناس على فضلهم وعلمهم ودينهم‪ ،‬هم جهابذة‬
‫علماء أهل السنة وأعلم علمائها الفاضل الذين‬
‫وقفوا في وجه طغيان المعتزلة‪ ...‬إنهم طوائف‬
‫المحدثين والفقهاء والمفسرين من الئمة العلم‬
‫كشيخ السلم أحمد بن حجر العسقلني شيخ‬
‫المحدثين بل مراء‪ ..‬أشعري العقيدة‪ ،‬وشيخ علماء‬
‫أهل السنة المام النووي‪ ...‬أشعري العقيدة‪ ،‬وشيخ‬
‫المفسرين المام القرطبي‪ ...‬أشعري العقيدة‪ ،‬وشيخ‬
‫السلم ابن حجر الهيتمي‪ ...‬أشعري العقيدة‪ ،‬وشيخ‬
‫الفقه والحديث المام الحجة الثبت زكريا النصاري‬
‫أشعري العقيدة‪ ،‬والمام أبو بكر الباقلني والمام‬
‫النسفي والمام الشربيني وأبو حيان النحوي‪...‬‬
‫والمام ابن جزي‪ ...‬الخ كل هؤلء من أئمة‬
‫الشاعرة‪ ..‬وأي خير يرجى فينا إن رمينا علماءنا‬
‫العلم وسلفنا الصالحين بالزيغ والضلل؟ وكيف يفتح‬
‫الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيهم‬
‫النحراف والزيغ عن طريق السلم؟( اهـ)‪.(1‬‬

‫‪ ()1‬كتاب )مفاهيم يجب أن تصحح( للعلمة الســيد محمــد بــن‬


‫علوي المالكي رحمه الله تعالى‪ ،‬وهو مــن الكتــب القيمــة النافعــة‬
‫المباركة‪ ،‬وقد قّرظه جمع من أكابر علماء العــالم الســلمي هــذه‬
‫بعض أسمائهم‪:‬‬
‫ـ الشيخ حســنين مخلـوف مفـتي الـديار المصـرية السـابق‪ .‬ــ‬

‫‪305‬‬
‫الشيخ محمــد أحمــد بـن حسـن الخزرجــي المــؤرخ الفقيــه ووزيــر‬
‫الشـؤون السـلمية والوقـاف فـي دولـة المـارات ورئيـس لجنـة‬
‫التراث‪ .‬ـالشيخ محمد الطيب النجار رئيس مركز السنة والســيرة‬
‫الــدولي ورئيــس جامعــة الزهــر ســابقًا‪ .‬ـ ـ الشــيخ عبــدالله كنــون‬
‫الحســني رئيســرابطة علمــاء المغــرب وعضــو رابطــة العــالم‬
‫السلمي بمكة المكرمة‪ .‬ـ الدكتور الحسيني هاشم وكيــل الزهــر‬
‫الشريف وأمين عام مجمــع البحــوث السـلمية‪ .‬ــ الـدكتور رؤوف‬
‫شلبي وكيل الزهر الشــريف‪ .‬ـ ـ الــدكتور عبــدالفتاح بركــة الميــن‬
‫العام لمجمع البحوث السلمية في القاهرة‪ .‬ـ الشــيخ ســيد أحمــد‬
‫العوض مفتي السودان ورئيـس مجلــس الفتــاء‪ .‬ــ شـيخ الحــديث‬
‫ورئيس الجامعة الشرفية وأمير جمعية الســلم فــي باكســتان‪ .‬ـ ـ‬
‫مدير التعليــم بجامعــة العلــوم الســلمية فــي كراتشــي‪ .‬ــ رئيــس‬
‫مجلس علماء الباكستان‪ .‬ـ الدكتور حسن الفاتح قريب اللــه مــدير‬
‫الجامعــة الســلمية فــي الســودان‪ .‬ـ ـ الشــيخ يوســف بــن أحمــد‬
‫الصــديقي وكيــل محكمــة الســتئناف العليــا فــي البحريــن وعضــو‬
‫الرابطة السلمية بمكة المكرمة‪.‬‬
‫وغير هؤلء من غالب أقطـار العـالم السـلمي‪ ،‬ممـا يؤيـد مـا‬
‫ذكرناه في البحث من أن غالب أمة السلم في القــديم والحاضــر‬
‫وغالب أصقاع العالم السلمي على هذا المنهــج الســديد القــويم‪،‬‬
‫ولله الحمد أول ً وآخرًا‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫فتوى الهيئة الشرعية للفتاء في دبي‬

‫هذا جواب سؤال كنا قد بعثنا به إلى الهيئة الشرعية‬


‫للفتاء في دبي – المارات عن طريق موقعهم‬
‫اللكترونى‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫السلم عليكم ورحمة الله وبركاته‬
‫شكرا ً على اتصالكم بنا ‪ ،‬وهذا رد ّ على رسالتكم التي‬
‫وردت إلينا‬
‫السؤال ‪:‬‬
‫إخواني العزاء‬
‫السلم عليكم ورحمة الله وبركاته‬
‫من هم الشاعرة ؟ وهل هم من أهل السنة‬
‫دعهم ويضّللهم‬
‫والجماعة ؟ وما حكم من ينتقصهم ويب ّ‬
‫؟‬
‫الجواب وبالله التوفيق ‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫الشاعرة هم من أهل السنة والجماعة من أتباع أبى‬
‫الحسن الشعرى ‪ ،‬الذي سار على منهج الصحابة‬
‫والتابعين وتابعيهم ‪ ،‬أقوالهم المنسوبة إلى السلف‬
‫والقوال المنسوبة إلى الخلف ‪ ،‬وكل ما ذكر مستند‬
‫إلى الدلة والنصوص ‪ ،‬سواء إمرار الصفات على‬
‫ظاهرها أو تأويلها بما يتفق مع الثار واللغة ‪.‬‬

‫فل يجوز انتقاصهم ول تبديعهم ول تضليلهم ‪ ،‬ومن‬


‫دعهم فهو المبتدع ‪،‬‬‫انتقصهم فهو الناقص ‪ ،‬ومن ب ّ‬
‫ومن ضّللهم فهو الضال ‪ ،‬لن المة من خلل قرونها‬
‫قبول واجتهاداتهم بالرضا‬ ‫قت أقوالهم بال َ‬
‫المتتالية تل ّ‬
‫والنصاف ‪.‬‬

‫ى التوفيق‬
‫والله ول ّ‬

‫‪308‬‬
‫فتوى أ‪.‬د‪ .‬أحمد الحجى الكردي‬

‫ورد السؤال التي على الشيخ في موقعه في الشبكة‬


‫اللكترونية وكان جوابه التي بعد ‪ ,‬وهذا نص‬
‫السؤال ‪:‬‬
‫السلم عليكم‬
‫أود أن تشرحوا لنا أساسيات هذه الفرقة وأيضا شيئا‬
‫من عقيدتها بالنسبة للسماء والصفات ‪ ،‬نسألكم‬
‫العفو للطالة وأرجو أل تبخلوا علينا بالشرح الوافي ‪.‬‬
‫الجواب ‪:‬‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫الحمد لله رب العالمين ‪ ،‬وأفضل الصلة وأتم‬


‫التسليم على سيدنا محمد خاتم النبياء والمرسلين ‪،‬‬
‫وعلى آله وأصحابه أجمعين ‪ ،‬ومن تبع هداهم بإحسان‬
‫إلى يوم الدين‬
‫وبعد ‪...‬‬
‫فالمام أبو الحسن الشعرى هو إمام هذه الفرقة‬
‫وهى فرقة أهل السنة والجماعة وعليها عامة‬
‫المسلمين في الكرة الرضية وأصولها مشروحة في‬
‫كتب العقيدة السلمية المختلفة ‪ ،‬ومنها كتاب‬
‫العقيدة الطحاوية فيستحسن الرجوع إليها لبيان‬
‫التفاصيل ‪.‬‬

‫والله تعالى أعلم‬

‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد الحجى الكرد‬

‫‪309‬‬
‫فتوى مفتى الجمهورية اللبنانية‬
‫) ثم جعلناك على شريعة من المر فاّتبعها‬
‫ذين ل يعلمون (‬ ‫ول تّتبع أهواء ال ّ‬
‫الحمد لله رب العالمين ‪ ،‬والصلة والسلم على‬
‫سيدنا ونبينا محمد خاتم النبياء والمرسلين ‪ ،‬وعلى‬
‫آله وأصحابه أجمعين ‪ ،‬ومن تبعهم بإحسان إلى يوم‬
‫الدين ‪.‬‬
‫وبعد ‪...‬‬
‫فإن الشاعرة هم أهل السنة والجماعة ينتسبون إلى‬
‫المام أبى الحسن على بن إسماعيل الشعرى رحمه‬
‫الله ‪ُ ،‬ولد سنة ستين ومئتين للهجرة على الشهر‬
‫فى مدينة البصرة ‪ ،‬وُتوفى فى عام أربعة وعشرين‬
‫وثلثمئة للهجرة ‪.‬‬
‫والمام أبو الحسن الشعرى – رحمه الله تعالى – هو‬
‫إمام كبير من أئمة أهل السنة والجماعة ‪ ،‬وعقيدة‬
‫الشاعرة هى عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات‬
‫وجود الله تعالى وتوحيده ‪ ،‬وأنه تعالى ليس كمثله‬
‫شـئ ‪ ،‬ل يشبه شيئا ً ول يشبهه شـئ ‪ ،‬وأنه تعالى‬
‫يّتصف بكل صفات الكمال ‪ ،‬وي ُّنزه عن كل صفات‬
‫النقص ‪.‬‬
‫والشاعرة يدحضون آراء المبتدعة كالمعتزلة الذين‬
‫ينكرون رؤية الله تعالى فى الخرة ‪ ،‬وقد أثبتها الله‬
‫تعالى فى القرآن الكريم بقوله تعالى ) وجوه يومئذٍ‬
‫ناضرة ‪ ،‬إلى ربها ناظرة ( سورة القيامة الية ‪. 22‬‬

‫ومن أبرز أئمة الشاعرة ‪ :‬المام الجوينى الشافعي ‪،‬‬


‫والمام الغزالي الشافعي ‪ ،‬والمام اللقانى المالكي ‪،‬‬

‫‪310‬‬
‫وكثير من المحدثين والفقهاء رضي الله عنهم‬
‫أجمعين ‪.‬‬

‫ومعظم بلد الشام وغيرها من بلد المسلمين على‬


‫عقيدة أهل السنة والجماعة الشعرية أو الماتريدية ‪.‬‬

‫والله تعالى أعلم ‪ ،‬وصّلى الله على سيدنا محمد‬


‫وعلى آله وصحبه وسّلم تسليما كثيرا ‪ ،‬والحمد لله‬
‫رب العالمين ‪.‬‬
‫مفتى الجمهورية اللبنانية‬
‫الشيخ محمد رشيد راغب قباني‬
‫بيروت ‪ 12‬صفر ‪ 1425‬هـ‬
‫و ‪ 22‬آذار ‪ 2005‬م‬

‫هذا وكتب علماء السلم مزينة بالثناء على‬


‫الشاعرة وأهل السنة جميعًا‪ ،‬ل يكاد يخلو من ذلك‬
‫كتاب‪ ،‬وطافحة بالنكير على من انتقصهم أو عرض‬
‫لهم بشتم أو سباب‪ ،‬وفي ما نقلنا بلغ وكفاية لمن‬
‫أنصف وتجرد‪ ،‬أما المتعسف فلن تغنيه الشمس في‬
‫كبد السماء دليل ً على النهار‪ .‬والله المستعان على ما‬
‫يصفون‪.‬‬

‫‪311‬‬
*****

312
‫عقيدة أهل السنة والجماعة‬

‫إن المطالع في كتب العقائد لهل السنة يرى أنهم‬


‫رحمهم الله قد اقتصروا على إثبات عشرين صفة لله‬
‫تعالى‪ ،‬وخشية أن يسبق إلى ذهن المسلم أن أهل‬
‫السنة نفوا ما سوى ذلك من الصفات نقول‪:‬‬
‫إن صفات الله تعالى من حيث اليمان بها تنقسم‬
‫إلى قسمين‪ ،‬قسم يجب اليمان به ومعرفته إجمال‪،‬‬
‫وهو ما قامت عليه الدلة النقلية والعقلية إجما ً‬
‫ل‪ ،‬وهو‬
‫جميع الكمالت في نظر العقل مثل العدل والحب‬
‫والرحمة والنتقام والمغفرة والحكمة وكل ما هو‬
‫صفة كمال لله تعالى‪ .‬وقسم يجب معرفته واليمان‬
‫به تفصي ً‬
‫ل‪ ،‬وهو ما قامت الدلة النقلية والعقلية عليه‬
‫ل‪ ،‬وهي العشرون صفة التي يذكرها العلماء في‬ ‫تفصي ً‬
‫كتبهم لنها أمهات مهمات الصفات‪ ،‬وكل ما يرد من‬
‫صفات أخرى فهو داخل في هذه الصفات )أركان‬
‫اليمان للشيخ وهبي غاوجي‪ ،‬أركان السلم له أيضا ‪1/41‬‬
‫بتصرف(‬
‫قال الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي‬
‫حفظه الله )كبرى اليقينيات ص ‪:(108‬‬

‫)يجب أن تعلم في كلمة جامعة مجملة أن الله عز‬

‫‪313‬‬
‫وجل متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن جميع‬
‫صفات النقصان إذ إن ألوهيته تستلزم اتصافه‬
‫بالكمال المطلق لزوما ً بينا ً بالمعنى الخص‪.‬‬
‫ثم إن علينا بعد ذلك أن نقف على تفصيل أهم‬
‫هذه الصفات‪ ،‬ونبين معناها وما تستلزمه من أمور‬
‫ومعتقدات‪ .‬وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه‬
‫الكريم بصفات كثيرة مختلفة إل أن جزئيات هذه‬
‫الصفات كلها تلتقي ضمن عشرين صفة رئيسية ثبتت‬
‫بدللة الكتاب وبالبراهين القاطعة( اهـ‪.‬‬
‫)للشيخين الفاضلين‬ ‫وجاء في شرح جوهرة التوحيد‬
‫عبدالكريم تتان ومحمد أديب الكيلني ‪:(1/274‬‬
‫)وقبل الكلم على " وجوب الوجود " نبين أنه‬
‫‪ -‬على الجمال ‪ -‬كل كمال‪ ،‬وينزه‬ ‫يجب لله تعالى‬
‫عن كل نقصان‪ ،‬ويجوز في حقه فعل كل ممكن‬
‫وتركه‪ ،‬وعلى التفصيل يجب لله تعالى عشرون صفة‬
‫قسمها العلماء ‪ -‬ابتغاء التعرف إليها على أنها أمهات‬
‫ما يجب لله تعالى‪ -‬إلى أربعة أقسام‪ (.....‬اهـ‪.‬‬
‫وقال المام العلمة الهدهدي‬
‫)شرح السنوسية‬
‫ما يجب‬
‫الصغرى ص ‪ (46 ،45‬عند قول المصنف )فم ّ‬
‫لمولنا جل وعز عشرون صفة(‪.‬‬
‫قال في شرح ذلك‪) :‬من بمعنى بعض فهي‬
‫للتبعيض أي من بعض ما يجب‪ ،‬لن صفات مولنا جل‬
‫وعز الواجبة له ل تنحصر في هذه العشرين‪ ،‬إذ‬

‫‪314‬‬
‫كمالته ل نهاية لها‪ ،‬ولم يكلفنا الله إل بمعرفة ما‬
‫نصب لنا عليه دليل ً وهي هذه العشرون‪ ،‬وتفضل علينا‬
‫بإسقاط التكليف بما لم ينصب لنا عليه دلي ً‬
‫ل( اهـ‪.‬‬
‫وبالجملة‪ ،‬فأقوال ونصوص العلماء في ذلك‬
‫كثيرة‪ ،‬وبما نقلناه كفاية لبيان المقصود‪ ،‬فإن أهل‬
‫السنة الشاعرة والماتريدية لم يكونوا معطلين‬
‫للصفات ول مشبهين لله تعالى بالمخلوقات‪ ،‬وإنما‬
‫هم مثبتون لله تعالى كل ما ثبت نقل ً وعقل ً من‬
‫الكمالت ومنزهون له سبحانه عن سمات النقص‬
‫والفات‪.‬‬
‫وإليك ‪ -‬وفقنا الله وإياك لهداه ‪ -‬مجمل عقيدة‬
‫أهل السنة الشاعرة لكي تعلم صفاء هذا العقـيدة‬
‫وتمسكها بالمأثور عن رسول الله ‘ وعن صحابته‬
‫رضوان الله عليهم‪:‬‬
‫) الحمد لله المبدئ المعيد‪ ،‬الفعال لما يريد‪ ،‬ذي‬
‫العرش المجيد والبطش الشديد‪ ،‬الهادي صفوة العبيد‬
‫إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد‪ ،‬المنعم عليهم‬
‫بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات‬
‫التشكيك والترديد‪ ،‬السالك بهم إلى اتباع رسوله‬
‫المصطفى واقتفاء صحبه الكرمين المكرمين بالتأييد‬
‫والتسديد‪ ،‬المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن‬
‫أوصافه التي ل يدركها إل من ألقي السمع وهو شهيد‪،‬‬
‫ف إياهم أنه في ذاته واحد ل شريك له فرد ٌ ل‬‫المعّر ِ‬

‫‪315‬‬
‫مثيل له صمد ل ضد له منفرد ل ن ِد ّ له وأنه واحد‬
‫قديم ل أول له‪ ،‬أزلي ل بداية له‪ ،‬مستمر الوجود ل‬
‫آخر له‪ ،‬أبدي ل نهاية له قيوم ل انقطاع له‪ ،‬دائم ل‬
‫انصرام له‪ ،‬لم يزل ول يزال موصوفا ً بنعوت الجلل‪،‬‬
‫ل يقضى عليه بالنقضاء والنفصال بتصرم الباد‬
‫وانقراض الجال‪ ،‬بل هو الول والخر والظاهر‬
‫والباطن وهو بكل شيء عليم‪.‬‬
‫وأنه تعالى ليس بجسم مصور‪ ،‬ول جوهر محدود‬
‫مقدر‪ ،‬وأنه تعالى ل يماثل الجسام ول يقبل‬
‫النقسام‪ ،‬وأنه تعالى ليس بجوهر ول تحله الجواهر‪،‬‬
‫ول بعرض ول تحله العراض‪ ،‬بل ل يماثل موجودا ً ول‬
‫يماثله موجود‪ ) ،‬ليس كمثله شئ ( ول هو مثل‬
‫شيء‪ ،‬وأنه ل يحده المقدار ول تحويه القطار‪ ،‬ول‬
‫تحيط به الجهات ول تكتنفه الرضون والسموات‪.‬‬
‫وأنه تعالى مستو على عرشه على الوجه الذي‬
‫قاله وبالمعنى الذي أراده‪ ،‬استواءً منزها ً عن‬
‫المماسة والستقرار والتمكن والحلول والنتقال‪ ،‬ل‬
‫يحمله العرش‪ ،‬بل العرش وحملته محمولون بلطف‬
‫قدرته ومقهورون في قبضته‪ ،‬وهو فوق العرش‬
‫والسماء‪ ،‬وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى‪ ،‬فوقية ل‬
‫تزيده قربا ً إلى العرش والسماء‪ ،‬كما ل تزيده بعدا ً‬
‫عن الرض والثرى‪ ،‬بل هو سبحانه رفيع الدرجات عن‬
‫العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الرض‬

‫‪316‬‬
‫والثرى‪ ،‬وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو‬
‫أقرب إلى العبد من حبل الوريد‪ ،‬وهو على كل شيء‬
‫شهيد‪ ،‬إذ ل يماثل قربه قرب الجسام كما ل تماثل‬
‫ذاته ذات الجسام‪،‬وأنه تعالى ل يحل في شي ول‬
‫يحل فيه شيء‪ ،‬تعالى عن أن يحويه مكان وتقدس‬
‫عن أن يحده زمان‪ ،‬بل كان قبل أن خلق الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وهو الن على ما عليه كان‪.‬‬
‫وأنه تعالى بائن عن خلقه بصفاته‪ ،‬ليس في ذاته‬
‫سواه‪ ،‬ول في سواه ذاته‪ ،‬وأنه مقدس عن التغير‬
‫والنتقال‪ ،‬لتحله الحوادث ول تعتريه العوارض‪ ،‬بل ل‬
‫يزال في نعوت جلله منزها ً عن الزوال‪ ،‬وفي صفات‬
‫كماله مستغنيا ً عن زيادة الستكمال‪.‬‬
‫وأنه تعالى في ذاته معلوم الوجود بالعقول‪ ،‬مرئي‬
‫الذات بالبصار نعمة منه ولطفا ً بالبرار في دار‬
‫القرار‪ ،‬وإتماما ً منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم‪.‬‬
‫وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر‪ ،‬ل يعتريه قصور‬
‫ول عجز ول تأخذه سنة ول نوم وأنه ذو الملك‬
‫والملكوت والعزة والجبروت له السلطان والقهر‬
‫والخلق والمر‪ ،‬وأنه المنفرد بالخلق والختراع‬
‫المتوحد باليجاد والبداع‪ ،‬خلق الخلق وأعمالهم‪،‬‬
‫وقدر أرزاقهم وآجالهم‪ ،‬ل يشذ عن قبضته مقدور‪ ،‬ول‬
‫يعزب عن قدرته تصاريف المور‪ ،‬ل تحصى مقدوراته‬
‫ول تتناهى معلوماته‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات‪ ،‬محيط بما‬
‫يجري من تخوم الرضين إلى أعلى السمـاوات‪ ،‬فل‬
‫يعزب عن علمه مثقال ذرة في الرض ول في‬
‫السماء‪ ،‬مطلع على هواجس الضمائر وحركات‬
‫الخواطر وخفيات السرائر بعلم أزلي قديم لم يزل‬
‫موصوفا ً به في أزل الزال‪ ،‬ل بعلم متجدد حاصل في‬
‫ذاته بالحلول والنتقال‪.‬‬
‫وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات‪ ،‬ل يجري‬
‫في الملك قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر نفع‬
‫أو ضر إيمان أو كفر عرفان أو نكر فوز أو خسران‬
‫زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إل بقضائه وقدره‬
‫وحكمته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن‪.‬‬
‫وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته‪ ،‬لم يزل‬
‫موصوفا ً بها‪ ،‬مريدا ً في أزله لوجود الشياء في أوقاتها‬
‫التي قدرها‪ ،‬فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله‬
‫من غير تقدم ول تأخر‪ ،‬بل وقعت على وفق علمه‬
‫وإرادته من غير تبدل ول تغير‪ ،‬دّبر المور ل بترتيب‬
‫أفكار ول تربص زمان‪ ،‬فلذلك لم يشغله شأن عن‬
‫شأن‪.‬‬
‫وأنه تعالى سميع بصير‪ ،‬يسمع ويرى ول يعزب‬
‫عن سمعه مسموع وإن خفي ول يغيب عن رؤيته‬
‫مرئي وإن دق‪ ،‬ول يحجب سمعه ُبعد‪ ،‬ول يدفع رؤيته‬
‫ظلم‪ ،‬يرى من غير حدقة وأجفان‪ ،‬ويسمع من غير‬

‫‪318‬‬
‫مخةٍ وآذان‪ ،‬كما يعلم من غير قلب‪ ،‬ويبطش بغير‬‫أص ِ‬
‫جارحة‪ ،‬ويخلق بغير آلة‪ ،‬إذ ل تشبه صفاته صفات‬
‫الخلق كما ل تشبه ذاته ذوات الخلق‪.‬‬
‫وأنه تعالى متكلم آمٌر ناهٍ واعد ٌ متوعد ٌ بكلم أزلي‬
‫قديم قائم بذاته ل يشبه كلم الخلق‪ ،‬فليس بصوت‬
‫يحدث من انسلل هواء أو اصطكاك أجرام‪ ،‬ول‬
‫بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان‪.‬‬
‫وأن القرآن والتوراة والنجيل والزبور كتبه المنزلة‬
‫على رسله عليهم السلم‪ ،‬وأن القرآن مقروء‬
‫باللسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب‪،‬‬
‫وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى ل يقبل‬
‫النفصال والفتراق بالنتقال إلى القلوب والوراق‪.‬‬
‫وأن موسى ‘ سمع كلم الله تعالى بغير صوت ول‬
‫حرف‪ ،‬كما يرى البرار ذات الله تعالى في الخرة‬
‫من غير جوهر ول عرض‪.‬‬
‫وإذا كانت له هذه الصفات كان حيا ً عالما ً قادرا ً‬
‫مريدا ً سميعا ً بصيرا ً متكلما ً بالحياة والقدرة والعلم‬
‫والرادة والسمع والبصر والكلم ل بمجرد الذات‪.‬‬
‫وأنه تعالى ل موجود سواه إل وهو حادث بفعله‬
‫وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها‬
‫وأعدلها‪ ،‬وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته ل‬
‫يقاس عدله بعدل العباد‪ ،‬إذ العبد يتصور منه الظلم‬
‫بتصرفه في ملك غيره‪ ،‬ول يتصور الظلم من الله‬

‫‪319‬‬
‫تعالى فإنه ل يصادف لغيره ملكا ً حتى يكون تصرفه‬
‫فيه ظلمًا‪.‬‬
‫فكل ما سواه من إنس وجن وملك وشيطان‬
‫وسماء وأرض وحيوان ونبات وجماد وجوهر وعرض‬
‫ومدرك ومحسوس‪ ،‬حادث اخترعه بقدرته بعد العدم‬
‫اختراعا ً وأنشأه إنشاًء بعد أن لم يكن شيئًا‪ .‬إذ كان‬
‫موجودا ً وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد‬
‫ذلك إظهارا ً لقدرته وتحقيقا ً لما سبق من إرادته‪ ،‬ولما‬
‫حقّ في الزل من كلمته ل لفتقاره إليه وحاجته‪.‬‬
‫وأنه متفضل بالخلق والختراع والتكليف ل عن‬
‫وجوب‪ ،‬ومتطول بالنعام والصلح ل عن لزوم‪ ،‬فله‬
‫الفضل والحسان والنعمة والمتنان‪ ،‬إذ كان قادرا ً‬
‫ب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم‬ ‫ص ّ‬
‫على أن ي َ ُ‬
‫بضروب اللم والوصاب‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان منه‬
‫عدل ً ولم يكن منه قبيحا ً ول ظلمًا‪.‬‬
‫وأنه تعالى يثيب عباده المؤمنين على الطاعات‬
‫بحكم الكرم والوعد ل بحكم الستحقاق واللزوم له‪،‬‬
‫إذ ل يجب عليه لحد فعل ول يتصور منه ظلم ول‬
‫يجب لحد عليه حق‪.‬‬
‫وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه‬
‫على ألسنة أنبيائه عليهم السلم ل بمجرد العقل‪،‬‬
‫ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات‬
‫الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب‬

‫‪320‬‬
‫على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به‪.‬‬
‫ي محمدا ً صلى‬
‫وأنه تعالى بعث النبي المي القرش ّ‬
‫الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم‬
‫والجن والنس فنسخ بشريعته الشرائع إل ما قرره‬
‫ضله على سائر النبياء وجعله سيد البشر‪،‬‬
‫منها‪ ،‬وف ّ‬
‫وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر من أمور‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬
‫وأنه ل يقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر به بعد‬
‫الموت‪.‬‬
‫وأوله‪ :‬سؤال منكر ونكير‪ ،‬وهما شخصان مهيبان‬
‫هائلن يقعدان العبد في قبره سويا ً ذا روح وجسد‬
‫فيسألنه عن التوحيد والرسالة ويقولن له‪ :‬من ربك‬
‫وما دينك ومن نبيك‪ ،‬وهما فّتانا القبر‪.‬‬
‫وأن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه وأنه حق وعدل‬
‫على الجسم والروح على ما يشاء‪.‬‬
‫وأن يؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان‪ ،‬توزن به‬
‫العمال بقدرة الله تعالى‪ ،‬وأن يؤمن بأن الصراط‬
‫حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من‬
‫السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين‬
‫بحكم الله تعالى‪ ،‬وتثبت عليه أقدام المؤمنين بفضل‬
‫الله‪.‬‬
‫وأن يؤمن بالحوض المورود حوض نبينا محمد‬

‫‪321‬‬
‫صلي الله عليه وسلم يشرب منه المؤمنون قبل‬
‫دخول الجنة وبعد جواز الصراط‪ ،‬من شرب منه‬
‫شربة لم يظمأ بعدها أبدًا‪.‬‬
‫وأن يؤمن بالحساب وتفاوت الناس فيه إلى‬
‫مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه وإلى من‬
‫يدخل الجنة بغير حساب وهم المقربون‪ ،‬فيسأل الله‬
‫تعالى من شاء من النبياء عن تبليغ الرسالة‪ ،‬ومن‬
‫شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين‪ .‬ويسأل‬
‫المبتدعة عن السنة ويسأل المسلمين عن العمال‪.‬‬
‫وأن يؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد النتقام‬
‫حتى ل يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى‪ ،‬فل‬
‫يخلد في النار موحد‪.‬‬
‫وأن يؤمن بشفاعة النبياء ثم العلماء ثم الشهداء‬
‫ثم سائر المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته عند‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله عنهم‬
‫وترتيبهم وأن أفضل الناس بعد النبي ‘‪ :‬أبو بكر ثم‬
‫عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم‪.‬‬
‫وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما‬
‫أثنى الله عز وجل ورسوله ‘ عليهم أجمعين‪.‬‬
‫فكل ذلك مما وردت به الخبار وشهدت به‬
‫الثار فمن اعتقد جميع ذلك موقنا ً به كان‬

‫‪322‬‬
‫من أهل الحق وعصابة السنة وفارق رهط‬
‫الضلل وحزب البدعة‪.‬‬
‫فنسأل الله كمال اليقين وحسن الثبات‬
‫في الدين لنا ولكافة المسلمين برحمته إنه‬
‫أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد‬
‫وعلى كل عبد مصطفى()‪.(1‬‬

‫قال المام العارف بالله الحبيب عبدالله بن علوي‬


‫الحداد رضي الله تعالـى عنـه ونفعنـا بـه في هذه‬
‫العقيدة حاث ّا ً على الخذ والتمسك بها )رسالة المعاونة‬
‫والمظاهرة ص‪:(68/‬‬
‫صن معتقده بحفظ‬ ‫)وينبغي لكل مؤمن أن يح ّ‬
‫عقيدة من عقائد الئمة المجمع على جللتهم‬
‫ورسوخهم في العلم‪ ،‬ول أحسب مبتغي ذلك يصادف‬
‫عقيدة جامعة واضحة بعيدة عن ال ّ‬
‫شبه‪ ،‬سالمة من‬
‫الشياء الموهمة مثل عقيدة المام الغزالي رضي‬
‫الله عنه التي أوردها في الفصل الول من كتاب‬
‫العقائد من الحياء‪ ،‬فعليك بها( اهـ‪.‬‬
‫قال المام عبد القاهر البغدادي ‪ -‬رحمه الله تعالى‬
‫صل هذه العقيدة )الفـرق بـين الفرق ص‪:(20 /‬‬
‫‪ -‬بعد أن ف ّ‬

‫‪ ()1‬من كتاب قواعد العقائد – لحجة السلم أبي حامد الغزالي‬


‫رحمه الله تعالى بتصرف يسير‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫)فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها ولم‬
‫يخلط إيمانه بشيء من بدع سائر أهل‬
‫الهواء فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم‬
‫له بها( اهـ‪.‬‬
‫وقال المام أبو المظفر السفراييني ‪ -‬رحمه الله‬
‫تعالى ‪) -‬التبصير في الدين ص ‪:(180 /‬‬

‫)وأن تعلم أن كل من تدّين بهذا الدين الذي‬


‫وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق‬
‫وعلى الصراط المستقيم‪ ،‬فمن بدعه فهو مبتدع‪،‬‬
‫ومن ضلله فهو ضال ومن كفره فهو كافر‪ ،‬لن من‬
‫اعتقد أن اليمان كفر وأن الهداية ضللة وأن السنة‬
‫ة( اهـ‪.‬‬ ‫بدعة كان اعتقاده كفرا ً وضلل ً‬
‫ة وبدع ً‬
‫جعلنا الله تعالى من المتمسكين بهذه العقيدة‬
‫العاملين بمقتضاها وختم لنا بها آمين‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫هذه خاتمة تطوافنا في هذا الموضوع الذي كثر‬


‫م الجهل به‪ ،‬على الرغم من أهميته‬ ‫السؤال عنه‪ ،‬وع ّ‬
‫شى على وجه الحقيقة فيه‬ ‫وخطورته‪ ،‬موضوع غ ّ‬
‫الجهل أحيانًا‪ ،‬والتعصب أحيانا ً أخرى‪ ،‬فكانت النتيجة‬
‫جّلتها‪.‬‬
‫هذا الظلم الواقع على جل المة و ِ‬

‫‪324‬‬
‫لقد كنا نظن أن لن يتجاوز هذا البحث ورقات‬
‫قليلة‪ ،‬ففوجئنا به وقد أوفى على المئة صفحة‪ ،‬إذ‬
‫كلما أنجزنا الحديث عن مسألة جّرنا الحديث إلى‬
‫مسألة أخرى ل تق ّ‬
‫ل أهمية عن أختها التي سبقتها‪.‬‬
‫على أننا نرجوا أن نكون غطينا جوانب الموضوع‬
‫بسطا ً ومناقشة‪ ،‬وأعطيناه ما يستحق من اليضاح‬
‫والبيان‪ ،‬إذ هو بشتى قضاياه ومسائله بالغ الهمية‬
‫والخطورة والدقة‪ ،‬ولول أن خاض به البعض فأساءوا‬
‫ـ هداهم الله ـ وبلبلوا أفكار الجيال المسلمة الناشئة‪،‬‬
‫ل علماء السلم من‬ ‫وألقوا إلى أذهانهم تضلي َ‬
‫الشاعرة والماتريدية وانحراَفهم عن طريق السلف‪،‬‬
‫نقول لول هذا ما ولجنا هذا الباب‪ ،‬ولتركناه موصدًا‪،‬‬
‫ولكن ما حيلتنا وقد فتح البعض هذا الباب على‬
‫مصراعيه‪ ،‬وانطلقوا ـ دون تثبت ول بينة ول علم ـ‬
‫يضللون ويبدعون‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله‪.‬‬

‫لقد حاولنا جهدنا في هذا البحث ـ وكما هي سمة‬


‫بحوثنا ـ أن ل نورد قناعاتنا الشخصية‪ ،‬وحرصنا على‬
‫الكتفاء بالنقل عن علماء المة وساداتها وأكابرها‪،‬‬
‫فهؤلء الئمة هم الذين كانوا يخاطبون القارئ في‬
‫هذا البحث من خلل نقولتهم ونصوصهم التي‬
‫جمعناها فيه‪ ،‬وهذا الذي نقلناه ‪ -‬على كثرته إذ بلغت‬
‫المصادر التي نقلنا منها زهاء المئة‪ -‬ما هو في‬

‫‪325‬‬
‫الحقيقة والواقع إل نزر يسير ل يذكر من أقوال الئمة‬
‫والعلماء‪ ،‬ولقد اكتفينا بمن هو معروف بين العامة‪،‬‬
‫ولو أردنا الستقصاء ـ وأّنى لنا به ـ لضاق الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬ووالله ما نقول ذلك تخّرصا ً ومينًا‪ ،‬كل‪ ،‬بل‬
‫قّر بها الدنيا‪.‬‬
‫هي حقيقة يشهد بها التاريخ وت ُ ِ‬
‫على أية حال صار هذا البحث الن في عهدة‬
‫ي باكتشاف الجهد المبذول فيه‪،‬‬‫القارئ‪ ،‬وهو المعن ّ‬
‫ي أيضا بوزن الحقيقة التي اعتضدت‬ ‫وهو المعن ّ‬
‫بالبراهين والحجج العقلية والنقلية‪ ،‬ونخلص الن إلى‬
‫أهم النتائج التي خرجنا بها في هذا البحث‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫• الشاعرة والماتريدية هم أتباع المامين‬
‫العظيمين أبي الحسن الشعري وأبي‬
‫منصورالماتريدي‪ ،‬إمامي أهل السنة والجماعة رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬وهما لم يبتدعا طريقا ً غير طريق السلف‬
‫الصالح‪ ،‬ولم ينشئا مذهبا ً جديدًا‪ ،‬بل هما مقرران‬
‫لمذاهب السلف مدافعان عنها‪ ،‬مؤيدان لها بالدلة‬
‫العقلية‪ ،‬فالنتساب لهما إنما هو من حيث كونهما‬
‫شهََرا طريقة السلف‪ ،‬فهما بمنزلة الئمة الربعة في‬ ‫َ‬
‫الفروع الفقهية‪ ،‬إذ كما أن المنتسب إلى أحد الربعة‬
‫هو في حقيقة المر متبع للسلف غير مخالف لهم‪،‬‬
‫فالمتبع لحد هذين المامين ـ أيضا ً ـ متبع للسلف غير‬
‫مفارق لهم في المنهج‪.‬‬
‫• أهل السنة والجماعة مصطلح يراد به عند‬

‫‪326‬‬
‫العلماء الشاعرة والماتريدية وأصحاب الحديث‪ ،‬فإن‬
‫مت‬‫هؤلء هم السواد العظم والكثرة الغالبة التي ع ّ‬
‫جميع الدوار التاريخية ومعظم مساحة الدولة‬
‫السلمية منذ أوائل القرن الرابع إلى يوم الناس هذا‪،‬‬
‫مون بالمثبتة‪ ،‬لكونهم أثبتوا‬
‫سـ ّ‬
‫وكانوا قبل ذلك ي ُ َ‬
‫موا أهل السنة‬ ‫س ّ‬
‫الصفات التي نفاها المعتزلة‪ ،‬ثم ُ‬
‫بعد ظهور إمامي أهل السنة الشعري والماتريدي‬
‫لكونهما نصروا السنة وقمعوا البدعة‪.‬‬
‫• ليس في المتشابه من نصوص الصفات إل‬
‫مذهبان صحيحان للعلماء‪ ،‬هما مذهب التفويض الذي‬
‫ذهب إليه جمهور السلف‪ ،‬ومذهب التأويل الذي قال‬
‫به جماعات من السلف وجمهور الخلف‪ ،‬وليس بعد‬
‫هذين المذهبين إل الجنوح نحو التعطيل أو التشبيه‪.‬‬
‫• ل خلف بين مذهب التفويض والتأويل‪ ،‬إذ‬
‫كلهما مبني على تنزيه الله تعالى عن ظواهر‬
‫المتشابهات وحقائقها اللغوية المستحيلة في حقه‬
‫تعالى‪ ،‬والختلف بين المسلكين داخل في دائرة‬
‫الختلف الجائز الذي ل يستلزم تضليل ً ول تبديعًا‪،‬‬
‫فكل المسلكين منقول عن سلف المة‪.‬‬
‫سّني‬
‫• التأويل بشروطه التي بينها العلماء شعار ُ‬
‫لسبيل إلى فهم كتاب الله تعالى وسنة نبّيه صلى‬
‫الله عليه وسلم فهما ً صحيحا ً إل بالخذ به‪ ،‬فهو أمر ل‬
‫محيد عنه‪ ،‬وكل من ينكره مضطر إليه في بعض‬

‫‪327‬‬
‫النصوص‪.‬‬
‫سّني ليس تعطيل ً أو طريقا ً إلى‬
‫• التأويل ال ُ‬
‫التعطيل‪ ،‬والذي يتهم الخلف من المة بالتعطيل من‬
‫أجل أخذهم بالتأويل هو في حقيقة المر متهم لسلف‬
‫المة الصالح بهذه التهمة‪ ،‬لن جماعات من السلف‬
‫قالوا بالتأويل‪ ،‬وقد نقلنا طرفا ً من أقوالهم وتأويلتهم‬
‫ونصوص العلماء في ذلك في ثنايا البحث‪.‬‬
‫• بحسب الشاعرة والماتريدية من شهود الثبات‬
‫التي تشهد بفضلهم وفضائلهم ومناقبهم وسابقتهم‬
‫الحسنة في الدين ما تزخر به المكتبة السلمية من‬
‫المعارف والعلوم والمفاخر التي هي بمنزلة الدّرة‬
‫اليتيمة في تاج المعارف النسانية‪ ،‬ومن أنصف ونظر‬
‫نظرة سريعة خاطفة إلى المكتبة السلمية بشتى‬
‫أقسامها من القرآن وعلومه والحديث وفنونه والفقه‬
‫وفروعه وأصوله والسير والمغازي والتواريخ واللغة‬
‫والدب وغير ذلك من المعارف التي يضيق عن‬
‫تفصيلها المقام‪ ،‬نقول من أنصف ونظر هذه النظرة‬
‫السريعة إلى ما ذكرنا خرج بيقين ل يشوبه ريب‬
‫بفضل علماء المة من الشاعرة والماتريدية‪ ،‬وتبين‬
‫له بجلء ذلك الجهد الهائل الجبار الذي بذله هؤلء‬
‫العلم في الذود عن الدين والدفاع عن السلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫• لقد تواترت فتاوى علماء المة في جميع‬

‫‪328‬‬
‫العصور بالثناء على الشاعرة والماتريدية‪ ،‬والتنويه‬
‫بفضلهم وشرفهم‪ ،‬كما تضافرت أقوالهم بالنكير على‬
‫من عرض لهم بالنتقاص والثلب‪ ،‬وشّنعوا عليه غاية‬
‫التشنيع‪ ،‬وطالبوا بتعزيره وتأديبه‪.‬‬
‫*****‬
‫هذا إجمال لنتائج البحث مما قد فصلناه هناك‬
‫مؤيدا ً بالحجة والبرهان‪ ،‬ومدعما ً بالعقل والنقل‪،‬‬
‫طحبا ً بأقوال أكابر المة وفضلئها‪.‬‬
‫ومص َ‬
‫على أننا ‪ -‬وإن أتينا بما أتينا به من حجج وبراهين ‪-‬‬
‫ل نكاد نخلص من متعنت مكابر‪ ،‬ومستسر بالنكار‬
‫ومجاهر‪ ،‬ممن كّبلوا عقولهم بالتقليد‪ ،‬وأغمضوا‬
‫أعينهم عن الحقيقة‪ ،‬فهؤلء ومن جرى مجراهم ‪ -‬وإن‬
‫كان يعّز علينا عنتهم وإعراضهم ‪ -‬ل نملك لهم إل‬
‫الدعاء بالهداية‪ ،‬ثم الصفح الجميل‪.‬‬
‫ولكننا نيمم شطر تلك العقول المسلمة الواعية‪،‬‬
‫المتعطشة للحق‪ ،‬المتجردة من أجل الوصول إليه‪،‬‬
‫المقدرة لسلفها الصالح وأعلم المة‪ ،‬المدركة‬
‫لخطورة المرحلة التاريخية التي يمّر بها العالم‬
‫السلمي‪ ،‬والمدركة أيضا ً لهمية الوحدة السلمية ل‬
‫سيما في هذا الوقت الذي تكالبت على المة فيه‬
‫العداوات وتداعت من كل أصقاع الرض‪ ،‬فهذه‬
‫العقول سيجد هذا البحث ـ إن شاء الله تعالى ـ‬
‫طريقه إليها‪ ،‬وسيؤتي ثماره الطيبة فيها‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫ثم نقول لمن ل يتفق معنا تعالوا إلى كلمة سواء‬
‫بيننا وبينكم‪:‬‬
‫• أل ّ نقول في الله تعالى وصفاته وأفعاله إل ما‬
‫ثبت بطريق القطع واليقين‪ ،‬ول نزيد على ما ثبت‪ ،‬فل‬
‫نقول بذاته أو على الحقيقة أو على الظاهر أو ما‬
‫ص صحيح أو نفاه عقل‬‫شابه ذلك مما لم ي َرِد ْ به ن ّ‬
‫صريح‪.‬‬

‫• أل ّ نضلل أعلم المة وعلماءها‪ ،‬فنهد َ‬


‫م بهذا‬
‫ماء من الفضيلة في‬ ‫الفعل تلك الصروح العالية الش ّ‬
‫أذهان الجيال المسلمة‪ ،‬ونجرَأهم على ذلك‪.‬‬
‫• أل ّ نصنف المسلمين ‪ -‬إذا خالفونا في ما ل بأس‬
‫ساق‪ ،‬جهل ً‬ ‫لل ومبتدعين وف ّ‬ ‫ض ّ‬‫بالختلف فيه ‪ -‬إلى ُ‬
‫في الدين وجرأة على الله تعالى ورسوله‪.‬‬

‫***‬

‫حد كلمة‬ ‫وأخيرًا‪ ..‬فإننا نجأر إلى الله تعالى بأن يو ّ‬


‫المسلمين‪ ،‬ويزيل أسباب الشقاق المزروعة بينهم‪،‬‬
‫ويهدينا وإخواننا جميعا ً إلى ما يحبه ويرضاه‪ ،‬ويجمعنا‬
‫جه أنظارنا إلى‬ ‫معهم في صف واحد‪ ،‬ونقول‪ :‬فْلـُنو ّ‬
‫موجبات الوحدة والوفاق التي متعنا الله تعالى بها‪،‬‬

‫‪330‬‬
‫ضاربين صفحا ً عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو‬
‫ذلك‪ ،‬واضعين نصب أعيننا قول الحق تبارك وتعالى )‬
‫ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ( ‪.‬‬

‫وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‬


‫وصلى الله على عبده ورسوله محمـد‬
‫وعلى آله وصحبه وسلم‬
‫تم بحمد الله‬

‫‪331‬‬

You might also like