You are on page 1of 29

‫يدي رسالة ( اللمذهبية قنطرة‬

‫اللدينية(‬
‫الدكتور‪ :‬محمود أحمد الزين‬
‫كبير الباحثين بدار البحوث‬
‫للدراسات السلمية بدبي‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله الذي هدى هذه المة بالقرآن‪ ،‬وجعله‬
‫للتمييز بين الحق والباطل أفضل ميزان‪،‬‬
‫والصلة والسلم على من اصطفاه الله تعالى‬
‫لوحيه‪ ،‬ووكل إليه التفسير والبيان‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه الذين بلغوه إلى العالمين‪ ،‬وشادوا للدين‬
‫أعظم البنيان‪ ،‬ومن تبعهم إلى يوم القيامة‬
‫بإحسان‪.‬‬
‫السلف الصالح وخصوصيتهم‪:‬‬
‫وقد خص الله تعالى هؤلء الصحاب وتابعيهم‬
‫وتابعي تابعيهم بالشهادة على لسان رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون من خير‬
‫أمة أخرجت للناس ـ لذلك اصطلح المسلمون‬
‫على أن يسموهم السلف الصالح)‪ ، ( 1‬فما جاء‬
‫عنهم من علم وعمل فهو خير أساس‪ ،‬وما خالف‬
‫نهجهم فهو أوهام‪ ،‬وثمرات وسواس‪ ،‬وقد كان‬
‫أئمة الفقه الربعة‪ :‬أبو حنيفة‪ ،‬ومالك‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وأحمد ـ رضي الله عنهم ـ من خيرة‬
‫العلماء في آخر تلك القرون‪ ،‬بل كانوا في ذلك‬
‫القرن المبارك أئمة للعلماء العاملين‪ ،‬وقدوة‬
‫للصالحين‪ ،‬ورثوا علم التابعين‪ ،‬وورث التابعون‬
‫علم الصحابة‪ ،‬وورث الصحابة علم رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فنعم المورث‪ ،‬ونعم‬
‫ل رسول الله‬‫ق قو ُ‬
‫الوارث‪ ،‬يكفيهم شهادة ح ٍ‬
‫صلى الله عليه وسلم‪” :‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم“؛ ولجل هذه‬
‫الخصوصية اتخذهم الناس في سائر القرون أئمة‬
‫في دينهم‪ ،‬وتدارسوا ما جاء عنهم من علوم‬
‫الدين‪ ،‬فنظموه ورتبوه ‪ ،‬وفصلوا قواعده‬
‫وفروعه‪ ،‬وأقاموا أساسه وأصوله‪ ،‬وبينوا ما‬
‫اجتمعوا عليه‪ ،‬وما اختلفوا فيه تبعا ً لختيارهم‬
‫جدَ من‬ ‫و ِ‬
‫مما اختلف فيه الصحابة والتابعون‪ ،‬أو ُ‬
‫المسائل في عصرهم‪ ،‬وبينوا نهج كل إمام فيما‬
‫اختار من الحكام والدلة‪ ،‬وما يتميز به عن‬
‫إخوانه من أولئك الئمة‪ ،‬وسموا نهج كل منهم‬
‫مذهبًا‪ ،‬وتبعتهم المة‪ ،‬واختار كل واحد منها‪ ،‬أو‬
‫كل جماعة اتباع من رأوه ـ بحسب اختلف‬
‫التقدير والختيار ـ أولى وأفضل‪ ،‬أو بحسب ما‬
‫تيسر لهم تعلمه من هذه المذاهب‪ ،‬مع حسن‬
‫الظن بالئمة الخرين‪ ،‬قال ابن تيمية‪” :‬فهذه‬
‫المسائل التي تنازع فيها السلف والئمة‪ ،‬فكل‬
‫منهم أقر الخر على اجتهاده‪ ...‬فمن ترجح عنده‬
‫تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده‬
‫تقليد مالك‪ ،‬ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر‬
‫على من ترجح عنده تقليد الشافعي‪ ،‬ونحو ذلك)‬
‫‪.(2‬‬
‫وقد كان هذا حالهم مع وجود نزر يسير من‬
‫الجهال‪ ،‬أو العلماء ـ الذين لم يزكوا نفوسهم من‬
‫العصبية ـ ينظرون إلى غير مذهبهم نظرة‬
‫استصغار‪ ،‬ويجادلونهم جدال من ل يهمه الحق‪،‬‬
‫ولكن يهمه الظهور والنتصار‪ ،‬وكان العلماء‬
‫التقياء والمخلصون الصلحاء ـ من كل مذهب ـ‬
‫يجتهدون في ردع المتعصبين‪ ،‬ويكفونهم عن‬
‫التفرقة بين المسلمين‪.‬‬
‫ظهور اللمذهبية‪:‬‬
‫وظل المر على ذلك طول تاريخ المة السلمية‬
‫إلى أن صرنا في آخر الزمن‪ ،‬فإذا فئة من‬
‫المسلمين تتهم أكثرية المة السلمية بأنها‬
‫خرجت ـ باتباعها هذه المذاهب الربعة ـ عن‬
‫طريق السلف الصالح أهل القرون الثلثة‪ ،‬كأن‬
‫أحكام الشريعة التي ورثها الئمة الربعة عن‬
‫الصحابة والتابعين ـ ونظمها تلميذ الئمة الربعة‬
‫حسب منهاج كل منهم في الترجيح ـ شيء آخر‬
‫غير ما ذهب إليه أولئك السلف الصالحون‪ ،‬وإذا‬
‫هتاف شديد يرفعه اللمذهبيون‪ :‬اتركوا المذاهب‬
‫الربعة واتبعوا مذهب السلف‪ ،‬فإن ترك مذهب‬
‫السلف بدعة ضللة‪.‬‬
‫هل يأذن اللمذهبيون أن نقول لهم‪ :‬على‬
‫رسلكم‪ :‬إن أصحاب المذاهب الربعة‪ :‬مالكا ً وأبا‬
‫حنيفة والشافعي وأحمد) ‪ (3‬هم من السلف‬
‫الصالح‪ ،‬أهل القرون الثلثة‪ ،‬التي أثنى عليها‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬حين سئل أي‬
‫الناس خير؟ فقال‪) :‬قرني ثم الذين يلونهم ثم‬
‫الذين يلونهم ) ‪.(4‬‬
‫ولكن اللمذهبيين ل يرضون هذا الجواب‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬ليس اتباع السلف هو اتباع واحد‬
‫منهم‪ ،‬بل هو اتباع جميع السلف‪.‬‬
‫ما أجمع عليه السلف‪:‬‬
‫فليأذن لنا اللمذهبيون أن نقول لهم‪ :‬إن كنتم‬
‫تدعوننا إلى اتباع ما اتفق عليه السلف فهذا قد‬
‫اتفق عليه جميع أهل السنة‪ ،‬وهو موجود في كل‬
‫واحد من المذاهب الربعة ل يتركونه‪ ،‬واتباع‬
‫مذهب منها يكون في ضمنه اتباع ما اتفق عليه‬
‫السلف‪.‬‬
‫لكن بعض اللمذهبين ينكرون علينا هذا القول‪،‬‬
‫ويقولون‪ :‬قد خالفتم السلف فيما أجمعوا عليه‪،‬‬
‫فأنتم تصّلون عند القبور خلفا ً لهم‪ ،‬وتدعون‬
‫عندها‪ ،‬وتتوسلون بأصحابها‪ ،‬وتقرؤون القرآن‬
‫لصحابها‪.‬‬
‫والجواب على ذلك‪ :‬أن دعوى الجماع هنا زعم ل‬
‫مستند له‪ ،‬ويتضح ذلك من موقف بعض أئمة‬
‫السلف في المسائل المذكورة‪:‬‬
‫‪1‬ـ الصلة عند القبور‪ :‬قال عنها المام مالك في‬
‫مدونته )‪” :(1/90‬ل بأس بالصلة في المقابر“‬
‫وهو من كبار أئمة السلف‪ ،‬وروى مسلم برقم )‬
‫‪ (2493‬عن عائشة&‪” :‬أنها كانت تصلي في‬
‫حجرتها“ وفيها ثلثة قبور‪ ،‬وقال ابن تيمية في‬
‫الفتاوى )‪” :(21/304‬المقبرة وأعطان البل‬
‫تصح الصلة فيهما على القول الصحيح“‪ ،‬فأين‬
‫الجماع؟!‬
‫‪2‬ـ الدعاء عند القبور سنة نبوية‪ ،‬كما روى مسلم‬
‫عن بريدة برقم )‪ (975‬وفيه‪ :‬أن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا إذا خرجوا‬
‫إلى المقابر‪) :‬أسأل الله لنا ولكم العافية( وهو‬
‫دعاء الزائر لنفسه ولغيره وللموات‪ ،‬ونقل ابن‬
‫تيمية في كتابه ”الرد على الخنائي“ ص )‪(405‬‬
‫دعاءً مطول ً في زيارة قبر النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وفي جملة هذا الدعاء يقول ص)‪(536‬‬
‫من الرد‪” :‬وسل الله حاجتك متوسل ً إليه بنبيه‬
‫تقض من الله عز وجل“ فأين الجماع؟!‬
‫‪ 3‬ـ وأما قراءة القرآن‪ :‬فقال ابن تيمية في‬
‫الفتاوى )‪” :(24/315‬وأما الصيام عنه‪ ،‬وصلة‬
‫التطوع عنه‪ ،‬وقراءة القرآن عنه‪ ،‬فهذا فيه‬
‫قولن للعلماء‪ :‬أحدهما‪ :‬أنه ينتفع به‪ ،‬وهو مذهب‬
‫أحمد وأبي حنيفة وغيرهما‪ ،‬وبعض أصحاب‬
‫الشافعي وغيرهم“‪ ،‬وقال في )‪:(24/366‬‬
‫”تنازعوا في وصول العمال البدنية كالصوم‬
‫والصلة والقراءة‪ ،‬والصواب أن الجميع يصل‬
‫إليه“ فأين الجماع؟!‬
‫ما اختلف فيه السلف‪:‬‬
‫فهذا الذي اختلف فيه السلف‪ ،‬أو لم يتكلم فيه‬
‫بعض السلف كيف يمكن اتباع جميعهم فيه؟‬
‫فمن اتبع بعضهم ترك بعضهم الخر؟ ول يعقل‬
‫أن يكون أحدهما مذهب السلف دون الخر‪ ،‬ما‬
‫دام القولن مما قاله علماء من السلف!! بل‬
‫الجميع من مذهب السلف‪.‬‬
‫هل القول الراجح هو مذهب السلف‪:‬‬
‫يقول اللمذهبيون‪ :‬انظروا في أدلة المختلفين‪،‬‬
‫واتبعوا الدليل القوى‪ .‬فنقول لهم‪ :‬فلنفرض‬
‫أنكم وازنتم بين الدلة‪ ،‬واستطعتم أن ترجحوا‬
‫القوى‪ ،‬هل الترجيح يعطي صاحبه الحق في‬
‫تضليل مخالفيه وتبديعهم كما تفعلون؟! وهل‬
‫يعطيه الحق في أن يحكم على كل الئمة الذين‬
‫خالفوه بأنهم فاتهم أن يطلعوا على الدليل‪ ،‬أو‬
‫فاتهم أن يفقهوه‪ ،‬مع ما عرف عنهم من التبحر‬
‫في العلم والتقوى‪ ،‬ومع ما نحن عليه من قلة‬
‫الحظ منهما؟!‬
‫ثم ل بد لنا أن نسألهم‪ :‬هل القول القوى دليل ً‬
‫عند قائله هو مذهب السلف؟ إذا صح هذا فكل‬
‫صاحب قول يقتنع بدليله أنه القوى يستطيع أن‬
‫يقول‪ :‬أنا على مذهب السلف‪ ،‬وإذا تعلم أدلة‬
‫جديدة دفعته إلى الرجوع عن قوله‪ ،‬وترجح ما‬
‫كان عنده مرجوحا ً صار هذا الجديد هو مذهب‬
‫السلف‪ ،‬والخر بدعة ضللة مخالفا ً لمذهب‬
‫ذ‪ ،‬وكل‬‫السلف!! ويتعدد مذهب السلف حينئ ٍ‬
‫يدعيه لنفسه‪ ،‬ثم إن ما يقوله أي إنسان بعد‬
‫السلف ـ مهما كان دليله قويا ً ـ في نظره ونظر‬
‫موافقيه فذلك قوله هو لقول السلف‪ ،‬ونسبته‬
‫إليهم باطلة‪ ،‬وتزكية للنفس‪ ،‬والله تعالى يقول‪:‬‬
‫قى{]النجم‪/‬‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫م ِ‬ ‫عل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫و أَ ْ‬
‫ه َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫كوا َأن ُ‬
‫ف َ‬ ‫فَل ت َُز ّ‬
‫} َ‬
‫‪ ،[32‬وانتقاصا ً لمخالفيه‪ ،‬والله تعالى يقول‪:‬‬
‫} ول تلمزوا أنفسكم {]الحجرات‪. 11/‬‬
‫وإذا كان مايراه أحدنا أقوى دليل ً هو مذهب‬
‫السلف‪ ،‬فقد صرنا نحن ميزان علم السلف‪،‬‬
‫وليس علمهم هو الميزان لنا‪ ،‬وهذا عكس‬
‫المقصود من اتباع السلف‪.‬‬
‫من الذي يرجح بين الدلة‪:‬‬
‫ثم إن الموازنة بين الدلة واختيار القوى أمر‬
‫يحتاج إلى أهلية خاصة‪ ،‬كما نقل في مسودة آل‬
‫تيمية ص )‪ (515‬عن المام أحمد في رواية‬
‫يوسف بن موسى‪” :‬ل يجوز الختيار إل لرجل‬
‫عالم بالكتاب والسنة“ فهل هذا ممكن لكل من‬
‫يدعيه‪ ،‬وهل العلم بالكتاب والسنة شيء قليل‬
‫ليحصل بزمن يسير؟ فأقل ما يمكن هو أنه يحتاج‬
‫إلى معرفة قواعد الحديث في الموازنة بين‬
‫الرواية الضعيفة والصحيحة‪ ،‬وإلى الموازنة بين‬
‫الدلة المختلفة من جهة السناد ليقدم القوى‬
‫على القل قوة‪ ،‬وإلى الموازنة بين عامها‬
‫وخاصها‪ ،‬وناسخها ومنسوخها‪ ،‬وكيف يمكن‬
‫الجمع بينها‪ ،‬أو ترجيح بعضها على بعض‪ ،‬وهذا‬
‫يحتاج إلى خبرة واسعة في علم الحديث‪ ،‬وإلى‬
‫علم الناسخ والمنسوخ‪ ،‬وعلم اللغة العربية‪،‬‬
‫وعلم الصول‪ ،‬وهذا ل يستطيعه أكثر الناس‪،‬‬
‫ومن يستطيعه يحتاج إلى زمن ليتعلمه‪ ،‬والترجيح‬
‫قبل التعلم أو بدونه إما عدوان على أدلة‬
‫الشريعة‪ ،‬كما روى الترمذي عن ابن عباس عن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪) :‬من قال في‬
‫القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(‪ ،‬وإما‬
‫تقليد لقول شيوخه‪ ،‬ول يقدر على ترجيحه‪،‬‬
‫فيزعم الترجيح بدون أهلية‪ ،‬وهي دعوى ينقضها‬
‫الواقع‪.‬‬
‫واجب من لم يتأهل للترجيح‪:‬‬
‫وإذا كان النسان قبل الهلية ل يمكنه أن يتبع‬
‫الدليل القوى فماذا يفعل؟‬
‫قال ابن قيم الجوزية عن الئمة المجتهدين)‬
‫‪” : ( 5‬في مسائل من العلم لم يظفروا فيها‬
‫بنص عن الله ورسوله‪ ،‬ولم يجدوا فيها سوى‬
‫قول من هو أعلم منهم فقلدوه‪ ،‬وهذا فعل أهل‬
‫العلم‪ ،‬وهو الواجب‪ ،‬فإن التقليد إنما يباح‬
‫للمضطر“‪ ،‬وقال قبل ذلك‪” :‬وكل من اشتبه‬
‫عليه شيء وجب أن يكله إلى من هو أعلم منه‪،‬‬
‫فإن تبين له صار عالما ً مثله‪ ،‬وإل وكله إلى‬
‫عالمه“)‪ ،( 6‬وإذا كان هذا واجب العلماء‬
‫المجتهدين‪ ،‬فمن لم يحصل العلوم التي يمكنه‬
‫بها الترجيح أولى بالتقليد؛ لن مسائل الخلف‬
‫كلها تشتبه عليه قبل أن يحصل القدرة على‬
‫الختيار‪ ،‬وهي العلم بالكتاب والسنة ـ كما تقدم‬
‫عن المام أحمد بن حنبل ـ وهذا النوع من الناس‬
‫يعبر عنه العلماء باسم المستفتي‪ ،‬كما نقل في‬
‫المسودة)‪” : ( 7‬فأما صفة المستفتي فهو‬
‫العامي الذي ليس معه ما ذكرنا من آلة‬
‫الجتهاد“‪ .‬والعامي ليس هو المي‪ ،‬بل هو كما‬
‫صرح به في المسودة ”من ليس معه آلة‬
‫الجتهاد“‪.‬‬
‫ومن لم يقدر على البحث والنظر في الدلة‬
‫والترجيح كيف يستطيع أن يناقش المفتي في‬
‫الدلة‪ ،‬ولذا صرح ابن تيمية بمنعه من ذلك فقال‬
‫في المسودة) ‪” : (8‬ل ينبغي للعامي أن يطالب‬
‫المفتي بالحجة فيما أفتاه‪ ،‬ول يقول له‪ :‬لم‪ ،‬ول‬
‫كيف‪ ،‬فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة‬
‫سأل عنها في مجلس آخر‪ ،‬أو فيه بعد قبول‬
‫الفتوى مجردة عن الحجة“؛ وذلك لنه ل يعرف‬
‫كيف يفقه الحجة‪ ،‬وإذا قال‪ :‬أنا ل أتبع إل الحجة‬
‫من الكتاب والسنة كان متناقضًا‪ ،‬ومخالفا ً‬
‫لنفسه‪ ،‬بل هو تابع لجهله بالكتاب والسنة‪،‬‬
‫ف ما ليس لك به‬ ‫مخالف لقوله تعالى‪ } :‬ول ت ْ‬
‫ق ُ‬
‫علم {]السراء‪.36/‬‬
‫وبهذا يظهر الفرق بين العالم الذي يجب عليه‬
‫أن يتبع الدليل‪ ،‬ويختار الدليل القوى‪ ،‬وبين‬
‫غيره ممن يجب عليه التقليد‪ ،‬وبه يعلم أيضا ً أن‬
‫الئمة ـ الذين أمروا الناس باتباع الدليل‪،‬‬
‫ونهوهم عن التقليد ـ كانوا يخاطبون بذلك العالم‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬كما نقل المزني في مقدمة‬
‫مختصره‪ :‬أن الشافعي ينهى عن تقليده وتقليد‬
‫غيره‪.‬‬
‫وفي هذا التفصيل قال ابن قيم الجوزية)‪: ( 9‬‬
‫”أما من قلد فيما ينزل به عالما ً يتفق له على‬
‫علمه‪ ...‬فمعذور؛ لنه قد أدى ما عليه‪ ،‬وأدى ما‬
‫لزمه فيما نزل به لجهله‪ ،‬ول بد له من تقليد‬
‫عالم فيما جهله“‪ ،‬وحينئذ يكون متبعا ً للكتاب‬
‫والسنة بواسطة من قلده‪ ،‬ول يستطيع غيره‪،‬‬
‫ول يكلف الله نفسا ً إل وسعها‪.‬‬
‫ثم يقول‪” :‬ولكن من كانت هذه حاله هل يجوز‬
‫له الفتيا في شرائع دين الله؟ فإن أجاز الفتوى‬
‫لمن جهل الصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه‬
‫أن يجيزه للعامة‪ ،‬وكفى بهذا جهل ً وردا ً‬
‫للقرآن“‪ ،‬وبهذين الكلمين‪ ،‬والمقارنة بينهما‬
‫يظهر أن الدعوة إلى اتباع الدليل موجهة إلى‬
‫من عنده أهلية الفتوى‪ ،‬أما غيره فل بد له من‬
‫تقليد عالم فيما جهله‪ ،‬كما قال الله تعالى‪:‬‬
‫سئلوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون {‬ ‫}ف ْ‬
‫ل عما يجهله‪ ،‬كحافظ‬ ‫]النحل‪ ،[43/‬أي يسأل ك ٌ‬
‫السنة الذي ل يفقهها‪ ،‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪) :‬رب حامل فقه ليس بفقيه(‪،‬‬
‫فهذا ل يسألهم عن السنة؛ لنه يحملها‪ ،‬ولكن‬
‫يسأل عن فقهها‪.‬‬
‫يقول اللمذهبيون‪ :‬إن تقليد العالم واجب على‬
‫من لم يعرف خطأ العالم‪ ،‬أما من عرفه‪ ،‬وعرف‬
‫الدليل على خطئه‪ ،‬فكيف يجوز أن يترك الدليل‬
‫ويقلد بعدما عرف أن العالم الذي كان يقلده‬
‫مخطئ؟‬
‫وجواب هذه الشبهة‪ :‬أن نسألهم من الذي‬
‫يستطيع أن يكشف خطأ العالم‪ ،‬ويعرف أن قول‬
‫غيره هو الصواب؟ أهذا ممكن لكل من قرأ‬
‫الدليل أو حفظه‪ ،‬أم هو خاص بمن هو أهل لن‬
‫يفقهه‪ ،‬كما قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم؟ فإن قالوا‪ :‬خاص بمن له أهلية لن‬
‫يفقهه‪ ،‬وهو الذي عنده أهلية الختيار في‬
‫مسائل الختلف‪ ،‬وليس لمن ليس له الهلية إل‬
‫التقليد‪ .‬قلنا‪ :‬هذا حق‪ ،‬ولكن ما يراه الناس‬
‫منكم‪ :‬هو أن كل ً منكم حتى المي يقول‪ :‬أنا ل‬
‫أقلد أحدًا‪ ،‬بل أتبع الكتاب والسنة‪ ،‬ول يكتفي‬
‫بذلك‪ ،‬بل يتهم كل من خالفه بالبدعة الضللة‪،‬‬
‫وبالعراض عن الكتاب والسنة ومذهب السلف‪.‬‬
‫هل اتباع العلماء للمذاهب عصبية‪:‬‬
‫يقول اللمذهبيون‪ :‬نحن ل ننكر هذه القوال‬
‫التي قالها العلماء‪ ،‬ولكن ننكر تعصب العلماء‬
‫الذين يستطيعون اتباع الدليل القوى‪ ،‬ثم‬
‫يتركون ذلك ويتبعون المذهب الذي نشؤوا عليه‪،‬‬
‫وننكر تعصب غير العالم حين يلتزم مذهب عالم‬
‫واحد طول حياته‪ ،‬وكلهما بدعة لم تكن على‬
‫عهد السلف الصالح‪.‬‬
‫وجواب هذه الشبهة يسير‪ :‬فالعالم الذي‬
‫يستطيع الترجيح ل بد أن يكون عالما ً بالكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬كما قال المام أحمد‪ ،‬وهذا أمر كبير‬
‫ترونه أنتم هينا ً يسيرًا‪ ،‬ويرونه هم أمرا ً كبيرًا‪ ،‬ل‬
‫يطيقه إل أولو العزم من العلماء‪ ،‬والتزامهم‬
‫بمذهب أحد الئمة ليس عصبية‪ ،‬ولكنه خشية من‬
‫أن يقولوا في دين الله بل تثبت‪ ،‬وذلك تقدير‬
‫لمسؤولية العلم بالكتاب والسنة‪ ،‬وفقه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وأنتم في الواقع حتى العلماء منكم‬
‫ملتزمون بما يقوله جماعة من العلماء‪ ،‬هم أهل‬
‫مذهبكم‪ ،‬ل تخرجون عن ذلك‪ ،‬فلم كان التزامكم‬
‫حقًا‪ ،‬وكان التزامهم عصبية؟! فأنتم تزعمون أن‬
‫فهم علمائكم للكتاب والسنة هو الكتاب والسنة‬
‫نفسهما‪ ،‬وأن فهم العلماء الخرين ـ وإن كانوا‬
‫من الئمة الربعة ـ شيء آخر غير الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ومخالفكم يمكن أن يدعي ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫هذا تزوير في الموازنة يؤدي ـ إذا سمعه من ل‬
‫يتفهم المور حقيقة الفهم ـ أن ينحاز إلى فهم‬
‫علمائكم‪ ،‬ويتخذه مذهبًا‪ ،‬فهذه دعاية كالدعايات‬
‫السياسية والتجارية والعصبية‪ ،‬ثم تزعمون أن‬
‫كل ما أنتم عليه هو الحق‪ ،‬وما سواه ضلل‬
‫وبدعة وخروج عن مذهب السلف‪ ،‬وهو ل يخالف‬
‫إل فهمكم وفهم علمائكم‪ ،‬وتزعمون أنه ل‬
‫يتخلص أحد من العصبية إل أن يوافقكم على‬
‫ذ فقط يكون‬ ‫أقوال علمائكم وشيوخكم‪ ،‬فحينئ ٍ‬
‫متبعا ً للكتاب والسنة ومذهب السلف!! فأنتم‬
‫ميزان العلم والسلف‪ ،‬وأنتم الحكم في‬
‫اختلفهم‪ ،‬ولكم وحدكم حق تضليل الخرين‪،‬‬
‫دون أن تسمحوا لتباعكم بالطلع على أدلة‬
‫أقوال الخرين؛ لنها عندكم بدعة‪ ،‬ولن النظر‬
‫في كتب البدع محرم‪ ،‬ويجب مقاطعتها‬
‫ومقاطعة أهلها والبراءة منهم‪ ،‬أليست عصبيتكم‬
‫أشد؛ لن ما هم عليه ل تضليل فيه للخرين‪ ،‬ول‬
‫تبديع لمخالفهم‪.‬‬
‫فلنفرض أنكم فيما قلدتم وافقتم الصواب‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا ل يعلمه إل الله‪ ،‬ول يعلمه الناس حتى‬
‫المجتهد في اتباع الدليل‪ ،‬كما قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم)‪ ( 10‬في وصيته لبعض‬
‫قادة جيشه‪) :‬وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك‬
‫على أن تنزلهم على حكم الله‪ ،‬فل تنزلهم على‬
‫حكم الله‪ ،‬ولكن أنزلهم على حكمك‪ ،‬فإنك ل‬
‫تدري أتصيب حكم الله فيهم أم ل(‪ ،‬فهل من‬
‫حقكم أن تحتكروا الصواب لنفسكم‪ ،‬وما الفرق‬
‫بينكم وبين المقلدين الخرين؟‬
‫فالفرق بينكم وبينهم أنهم يعترفون بالتقليد‬
‫وأنكم تسمون تقليدكم اتباعا ً للدليل؛ لنكم‬
‫تظنون أنه بمجرد أن تطلعوا على أدلة علمائكم‬
‫وترجيحهم لها تكونون مرجحين متبعين للدليل‪،‬‬
‫ل مقلدين لهم‪.‬‬
‫قراءة الدلة دون أهلية‪:‬‬
‫و الحاديث دلت على أن الطلع والقراءة ليسا‬
‫هما فقه الكتاب والسنة‪ ،‬فقد قال رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم عمن يحفظ الحديث وليس‬
‫لديه أهلية فقه الحديث‪) :‬رب حامل فقه ليس‬
‫بفقيه( فهو يصرح بأنه ليس كل من حمل‬
‫الحديث يصير فقيها ً فيه‪ ،‬أي ليس كل محدث‬
‫فقيهًا‪ ،‬وأولى من حامل الحديث بهذا من قرأه‬
‫ولم يحفظه‪ ،‬وهذا واضح في كلم المام أحمد‪.‬‬
‫ففي المسودة)‪ : ( 11‬نقل عن عبد الله بن‬
‫المام أحمد عن أبيه‪ ،‬أنه قال‪” :‬سألت أبي عن‬
‫الرجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف‬
‫الصحابة والتابعين‪ ،‬وليس للرجل بصر بالحديث‬
‫الضعيف والمتروك‪ ،‬ول السناد القوي من‬
‫الضعيف‪ ،‬فيجوز أن يعمل بما يشاء‪ ،‬ويتخير ما‬
‫أحب منها‪ ،‬فيفتي به ويعمل به؟ قال‪ :‬ل يعمل‬
‫به حتى يسأل ما يؤخذ به منها‪ ،‬فيكون يعمل‬
‫على أمر صحيح‪ ،‬يسأل عن ذلك أهل العلم“‪،‬‬
‫فهذا حكم من قرأ الكتب‪ ،‬ل يعمل حتى يسأل‬
‫أهل العلم عن القوي والضعيف‪ ،‬ويظل يسأل‬
‫حتى يكون عالما ً بالكتاب والسنة‪ ،‬قادرا ً على‬
‫فقههما بنفسه‪ ،‬فإن زعم قبل ذلك أنه يتبع‬
‫الدليل فهو عامل بجهله في الكتاب والسنة‪ ،‬وقد‬
‫سبق ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم القائل‪) :‬من قال في القرآن بغير علم‬
‫فليتبوأ مقعده من النار‪.‬‬
‫هل يجب عدم اللتزام بمذهب‪:‬‬
‫أما القول فيمن يسألهم‪ :‬فلم يأت في القرآن‬
‫والسنة أن يسأل واحدا ً أو أكثر‪ ،‬أو أن يسأل في‬
‫كل مرة عالمًا‪ ،‬غير الذي سأله أول مرة؛ لن الله‬
‫سئلوا أهل الذكر إن كنتم ل‬ ‫تعالى قال‪ } :‬ف ْ‬
‫تعلمون {]النحل‪ ،[43/‬واللمذهبيون يزعمون أنه‬
‫ل يجوز التزام قول عالم واحد؛ لنه التزام بقول‬
‫غير معصوم‪ ،‬فهل إذا سأل عالما ً آخر في‬
‫الخلفيات يكون عامل ً بقول معصوم‪ ،‬مهما كثر‬
‫الذين يسألهم؟! وهم يزعمون هذا دون أن‬
‫ل‪ ،‬أو نقل ً عن أحد من أئمة السلف‪:‬‬ ‫يقدموا دلي ً‬
‫أن هذا ل يجوز‪ ،‬فكيف يكون هذا هو مذهب‬
‫السلف وقد قال عن عبد الرحمن بن القاسم‬
‫تلميذ مالك ـ وهما من السلف ـ إنه لم يكن‬
‫يسأل غير مالك؟! إنما هو قولهم هم‪ ،‬أحدثوه‬
‫في آخر الزمان‪ ،‬وإذا سأل واحدا ً من علمائهم‬
‫رضوا عنه‪ ،‬مهما لزمه من السنين‪ ،‬كما هم‬
‫يفعلون‪ ،‬فهل هذا التزام بقول المعصوم؟! أم‬
‫أن هذا خصوصية لهم؛ لن ما يفهمونه من السنة‬
‫هو السنة نفسها‪ ،‬وما يفهمه مخالفهم من‬
‫الئمة وأتباعهم شيء آخر غير الكتاب والسنة‪،‬‬
‫بل مخالف لهما؟!‬
‫هل الخلف المذهبي يفرق المة؟‬
‫هنا يقول لنا اللمذهبيون‪ :‬إن الخلفات المذهبية‬
‫جعلت هذه المة أحزابًا‪ ،‬والله تعالى يقول‪} :‬إن‬
‫الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ً لست منهم في‬
‫شيء{]النعام‪ ،[159/‬ويقول‪ } :‬ول تكونوا‬
‫كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم‬
‫البينت وأولئك لهم عذاب عظيم {]آل عمران‪/‬‬
‫‪ ،[105‬فترك المذاهب واجب حفاظا ً على وحدة‬
‫المة‪ ،‬وهذه المذاهب فرضتها السياسات‬
‫الغاشمة‪ ،‬كل ملك يفرض على الناس مذهبًا‪،‬‬
‫حتى فرقوا الناس هذا التفرق الكبير‪.‬‬
‫ونقدم المعذرة إلى اللمذهبين عن قبول هذه‬
‫المغالطة‪ ،‬فهاتان اليتان وضعوهما في غير‬
‫الموضع الذي أنزلتا فيه‪ ،‬فهاتان اليتان في‬
‫تفريق الدين‪ ،‬والختلف عليه بعد مجيء البينات‪،‬‬
‫التي تقطع الخلف‪ ،‬كما صرحت الية الكريمة‪،‬‬
‫وهذا شيء آخر غير الخلف الجتهادي‪ ،‬والدليل‬
‫على ذلك أمران‪:‬‬
‫أولهما ‪ :‬أن الخلفات الجتهادية كانت موجودة‬
‫في القرون الثلثة‪ ،‬التي قال فيها رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم‪) :‬خير الناس قرني‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم(‪ ،‬فمن دعا المة‬
‫إلى أن تكون كلها على القول الذي ترجح عنده‪،‬‬
‫وزعم أن ذلك مذهب السلف‪ ،‬فهو مناقض لما‬
‫كانوا عليه‪.‬‬
‫فصاحب هذه الدعوة يريد أن يحقق للمة الوحدة‬
‫في الخلفات الفقهية‪ ،‬ويحقق لهم ما عجز عنه‬
‫السلف‪ ،‬ولم يهتموا به‪ ،‬ولم يسعوا إليه‪ ،‬وإذا‬
‫كان السلف مع تمام علمهم وتقواهم قد‬
‫اختلفوا في هذه المسائل‪ ،‬فهل يمكننا أن نتفق‬
‫مع نقص العلم والتقوى‪ ،‬أم أن اختلفنا سيكون‬
‫أشد؟ ترى أهذه دعوة تؤدي إلى الوحدة‪ ،‬أم إلى‬
‫تمزيق المة وصراعها‪ ،‬لدرجة إراقة الدماء‪ ،‬كما‬
‫هو واقع ومشاهد من آثار هذه الدعوة؟!‬
‫ثانيهما ‪ :‬أن ابن تيمية سئل عن صلة أهل‬
‫المذاهب الربعة خلف بعضهم؟ فقال في‬
‫الفتاوى )‪” :(23/374‬نعم تجوز صلة بعضهم‬
‫خلف بعض‪ ،‬كما كان الصحابة‪ ،‬والتابعون لهم‬
‫بإحسان‪ ،‬ومن بعدهم من الئمة الربعة يصلي‬
‫بعضهم خلف بعض‪ ،‬مع تنازعهم في هذه‬
‫المسائل المذكورة وغيرها‪ ،‬ولم يقل أحد من‬
‫السلف إنه ل يصلي بعضهم خلف بعض‪ ،‬ومن‬
‫أنكر ذلك فهو مبتدع ضال‪ ،‬مخالف للكتاب‬
‫والسنة وإجماع سلف المة وأئمتها‪ ،‬وقد كان‬
‫الصحابة والتابعون ومن بعدهم منهم من يقرأ‬
‫البسملة‪ ،‬ومنهم من ل يقرؤها‪ ...‬ومنهم من‬
‫يقنت في الفجر‪ ،‬ومنهم من ل يقنت‪ ،‬ومنهم‬
‫من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء‪ ،‬ومنهم‬
‫من ل يتوضأ‪ ،‬ومنهم من يتوضأ من مس الذكر‬
‫ومس النساء بشهوة‪ ،‬ومنهم من ل يتوضأ‪ ...‬ومع‬
‫هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض“‪ ،‬ثم قال‬
‫ص )‪” :(377‬وقول القائل‪ :‬إن المأموم يعتقد‬
‫بطلن صلة المام خطأ منه‪ ،‬فإن المأموم يعتقد‬
‫أن المام فعل ما وجب عليه‪ ،‬وأن الله قد غفر‬
‫له ما أخطأ فيه‪ ،‬وأن ل تبطل صلته لجل ذلك“‪،‬‬
‫فمن زعم أنها بدعة فقد رد على قول رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم‪) :‬إذا حكم الحاكم‬
‫فاجتهد ثم أخطأ فله أجر(‪ ،‬والله ل يأجر على‬
‫البدعة‪ ،‬بل هي في النار‪ ،‬وصاحبها له عذاب‬
‫عظيم‪ ،‬كما قال الله تعالى في الية السابقة‪:‬‬
‫} لهم عذاب عظيم {‪ ،‬فاليتان في الخلف‬
‫المعاند للبينات‪ ،‬ل في الخلف الناشيء عما‬
‫يشتبه من الحاديث واليات‪ ،‬وكيفية فقهه‪،‬‬
‫والفرق بين المرين عظيم جدا ً ل تقارب فيه‪،‬‬
‫وبهذا يظهر أن الصلة خلف المتوسلين برسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم بعد موته صحيحة؛‬
‫لنهم اتبعوا في هذه المسألة إمام هدى‪ ،‬هو‬
‫أحمد بن حنبل رحمه الله‪ ،‬سواء أخطأ في‬
‫اجتهاده أو أصاب‪ ،‬والقائل بأن الصلة خلفهم ل‬
‫تصح مخالف لئمة الهدى‪.‬‬
‫أما مسألة أن هذه المذاهب فرضتها السياسات‬
‫ل منها انتشر حيث وجد‬ ‫الغاشمة‪ :‬فالمذاهب ك ٌ‬
‫العلماء الذين يعلمونه للناس‪ ،‬ولكن أخبرونا كيف‬
‫نشرتم اللمذهبية؟ ألم تفرضوها في كل موضع‬
‫لكم فيه سلطة‪ ،‬فتمنعون العلماء الخرين أن‬
‫يعلموا الناس ما عندهم‪ ،‬وتفرضون علماءكم‬
‫على الناس‪ ،‬وتؤذون العلماء الذين ليسوا على‬
‫منهجكم‪ ،‬وتبعدونهم عن كل بلد لكم فيه سلطة‪،‬‬
‫فأنتم تتهمون الناس بما هم برآء منه وبما أنتم‬
‫واقعون فيه‪.‬‬
‫ما هو مذهب أهل الحديث؟‬
‫وكثيرا ً ما يقول اللمذهبيون‪ :‬لماذا تتركون‬
‫مذهب أهل الحديث‪ ،‬وتتبعون مذاهب الفقهاء‪،‬‬
‫فأهل الفقه كل واحد منهم يتعصب لمذهبه‪،‬‬
‫وأهل الحديث ل يتعصبون إل لحديث رسول الله‬
‫صلى الله عليه وسلم؟!‬
‫والجواب‪ :‬أن هذه مغالطة‪ ،‬فإن الئمة الربعة‬
‫كانوا من علماء الحديث‪ ،‬والمحدثون أكثرهم تابع‬
‫لمذهب واحد من الربعة‪ ،‬فالمام مالك كان في‬
‫عصره إمام أهل الحديث‪ ،‬وكذلك المام أحمد‪،‬‬
‫والشافعي مع أنه لم يكن مثلهما في الحديث‪،‬‬
‫لكن كان من كبار أهل الحديث‪ ،‬حتى سمي ناصر‬
‫السنة‪ ،‬ول يمكنه أن ينصر السنة دون علم واسع‬
‫صل من الحديث ـ إل أنه لزم‬ ‫بها‪ ،‬ولو لم يكن ح ّ‬
‫فترة طويلة كل ً من المامين مالك وسفيان بن‬
‫عيينة‪ ،‬يأخذ عنهما ـ لكان عنده حديث كثير جدًا‪،‬‬
‫وأما المام أبو حنيفة فيكفيه عمل ً بالحديث ما‬
‫بينه المام المحدث الطحاوي من موافقته‬
‫للحاديث في كل فقهه‪ ،‬وأما شهرته بالرأي‬
‫فلمرين‪ :‬أولهما‪ :‬كثرة تدقيقه وتعمقه في فهم‬
‫السنة والقياس عليها‪ .‬وثانيهما‪ :‬كثرة اعتماده‬
‫على فقه سيدنا عبد الله بن مسعود ومنهجه‪،‬‬
‫حيث كان ابن مسعود يتجنب الرواية عن رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم مهما أمكنه؛ خوفا ً من‬
‫الخطأ في الرواية‪ ،‬فالناس يستطيعون أن يردوا‬
‫عليه في الفقه إذا أخطأ‪ ،‬ولكن إذا أخطأ في‬
‫الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم يتناقل‬
‫ذلك الناس‪ ،‬ويستمر الخطأ‪ ،‬وقد بين العلماء‬
‫تفصيل موقف المام أبي حنيفة في كتب‬
‫خاصة‪ ،‬من تأملها عرف حرصه على اتباع‬
‫الحاديث النبوية‪ ،‬وقد اشتهر عنه أنه يرجح‬
‫العمل بالحديث الضعيف على القياس‪ ،‬خلفا ً لما‬
‫يشيعه خصومه‪.‬‬
‫وأما أولئك الذين يهاجمون مذاهب الفقهاء‬
‫الربعة‪ ،‬ويزعمون أنهم ينتصرون للحديث‬
‫الشريف‪ ،‬فقد أظهرت مؤلفاتهم تعصبهم‬
‫للعلماء الذين يحبونهم‪ ،‬بحيث ضعفوا ما‬
‫يخالفهم‪ ،‬وإن كان صحيحًا‪ ،‬وصححوه وإن كان‬
‫ضعيفًا‪ ،‬مع أنهم يزعمون أنهم ل يتعصبون إل‬
‫للحديث الشريف‪ ،‬فهي دعوى ينقضها واقعهم‪.‬‬
‫هل اتباع المذاهب بديل للدلة؟‬
‫بعد هذا كله بقيت أشد التهم التي يرميها‬
‫اللمذهبيون على سائر أمة السلم ـ التي ل‬
‫تسير على خطاهم‪ ،‬ول ترضى أن تجعلهم قادتها‬
‫ـ وهي أنهم يقولون لهم‪ :‬إن الله تعالى فرض‬
‫طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫وأنتم جعلتم طاعة الئمة بديل ً عن طاعة الله‬
‫ورسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ولو كانت طاعة‬
‫العلماء مقبولة لكان الصحابة أحق بهذا من‬
‫الئمة الربعة وغيرهم من العلماء‪.‬‬
‫وجواب هذا أن الئمة الربعة ليسوا بديل ً عن الله‬
‫ورسوله‪ ،‬وليست كتبهم مزاحمة لكتاب الله‬
‫وسنة رسوله‪ ،‬ولكنها شرح لهما‪ ،‬وبيان وعون‬
‫لمن يريد أن يفقه عن الله ورسوله آيات الكتاب‬
‫والسنة‪.‬‬
‫وكذلك ليس الئمة الربعة بديل ً عن الصحابة‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬ول منازعين مزاحمين لهم‪،‬‬
‫فالصحابة لم يكتبوا كتبًا‪ ،‬وما تكلموا من الفقه‪،‬‬
‫إل في المسائل التي وجدت في زمانهم‪ ،‬ول‬
‫تكلم كل منهم في كل المسائل‪ ،‬فمن يريد أن‬
‫يتبعهم ل يمكنه ذلك إل إذا جمع كل ما قالوه‪،‬‬
‫وهذا ما فعله الئمة المجتهدون الربعة‬
‫وأمثالهم‪ ،‬فالذي فعله كل منهم هو أنه جمع ما‬
‫تفرق من فقه الصحابة والتابعين للكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬وعمل بما اتفقوا عليه‪ ،‬ورجح عند‬
‫اختلفهم ما رآه راجحا ً حسب قواعد الرواية‬
‫وقواعد فقه الكتاب والسنة‪ ،‬التي علمها‬
‫واختلفوا في الترجيح كما اختلف الصحابة‪ ،‬فهم‬
‫خدموا علم الصحابة والتابعين‪ ،‬وما فضلت المة‬
‫اتباعهم على غيرهم إل لخدمتهم الكتاب والسنة‬
‫وفقه الصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬وأما العراض‬
‫عن فقههم فهو تفريط بعلم الكتاب والسنة‪،‬‬
‫كما يأتي تفصيله في رسالة العلمة الكوثري ـ‬
‫رحمه الله ـ‪.‬‬
‫ل ينكر على من اختار إماما ً دون الخرين‪:‬‬
‫فإن قيل لنا‪ :‬لماذا اقتصرتم على هؤلء الربعة‪،‬‬
‫مع أن أئمة الجتهاد في عصر السلف كثيرون؟!‬
‫فالجواب‪ :‬أن المة فضلت اتباعهم من باب‬
‫الختيار فيما تختلف وجهات النظر فيه‪ ،‬ول يلزم‬
‫فيه المرء بشيء‪ ،‬ولم يكن ذلك انتقاصا ً للئمة‬
‫الخرين‪ ،‬ولكن لنها رأتهم جمعوا أكثر ما يمكن‬
‫من فقه الصحابة والتابعين‪ ،‬ووثقوا ما ثبت ‪،‬‬
‫وتركوا ما لم يثبت‪ ،‬وشرحوا ذلك‪ ،‬ووفقوا بين‬
‫المختلف منه إذا أمكن‪ ،‬واعتمدوا في الترجيح‬
‫على موازين دقيقة أمنية‪ ،‬ولنها رأتهم أفضل‬
‫في العمل والتقوى من معاصريهم‪ ،‬ووجدت أكثر‬
‫علماء عصرهم وما بعده وافقوهم‪ ،‬ووجدت أن‬
‫مذاهبهم خدمت كثيرا ً بالمراجعة والمدارسة‪،‬‬
‫وطول البحث‪ ،‬والنظر فيما هو أنسب لوقائع‬
‫الحياة‪ ،‬فاختارتهم دون غيرهم‪ ،‬وهذا واقع‬
‫يعرفه كل العلماء‪ ،‬وإن غاب عن غيرهم‪ ،‬فالذي‬
‫يريد أن يستغني عنهم يضيع هذا الجهد العلمي‬
‫الكبير الواسع‪ ،‬الذي جمعه وحققه الئمة الربعة‪،‬‬
‫وتبعهم تلميذهم في دراسته وتنقيحه‪ ،‬هذا إذا‬
‫كان من أهل العلم‪.‬‬
‫وأما فتح الباب لنصاف العلماء وأشباه العلماء‪،‬‬
‫أو عموم الناس أن يتكلموا في الفقه‪ ،‬ويختاروا‬
‫ما يشاؤون منه‪ ،‬دون أهلية‪ ،‬ودون معرفة‬
‫بقواعد فهم الدلة‪ ،‬فهو أمر ينتهي إلى التلعب‬
‫بآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم وضياع الدين كله‪ ،‬والعياذ بالله تعالى‪.‬‬
‫وهذه هي القنطرة التي ُيتخذ فيها الهوى دينًا‪،‬‬
‫وتؤدي إلى اللدينية‪.‬‬
‫والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪.‬‬
‫وبعد فهذه كلمة قدمتها بين يدي رسالة العلمة‬
‫المحدث الفقيه الصولي الشيخ )زاهد الكوثري(‪:‬‬
‫”اللمذهبية‪ ، “...‬وهو وكيل الشيخ )مصطفى‬
‫صبري( في منصب شيخ السلم في الخلفة‬
‫العثمانية‪ ،‬وقد نال الشيخ زاهدا ً أذى كثير بسبب‬
‫هذه الرسالة وأمثالها‪ ،‬مما رد فيه على‬
‫اللمذهبيين‪ ،‬ووجهت إليه حملت تشويه كبيرة‪،‬‬
‫فكل من رد على اللمذهبيين رموه بتهم كثيرة‪،‬‬
‫أقلها تهمة البدعة الضللة‪ ،‬والمنصف من بحث‬
‫ونظر‪ ،‬وخشي الله في بحثه ونظره‪ ،‬ثم حكم من‬
‫المبتدع‪ ،‬ومن تابع السنة‪ ،‬والجميع سيقفون بين‬
‫يدي الله أحكم الحاكمين‬
‫)ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت أحكم الحاكمين (‬
‫)ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا(‬

‫ومن المغالطة في ترويج اللمذهبية أن كتابها يطلقون في كثير من الحيان اسم السلف على العلماء‬ ‫)‪(1‬‬
‫الذين اختاروا اتباعهم وعلى مشايخهم في هذا العصر فهي تسمية لو صحت لغة لما صحت ورعًا لنها من‬
‫تزكية المرء لنفسه وترفعه على إخوانه المسلمين بلحق‪.‬‬
‫مجموع الفتاوى )‪(20/292‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫لم يعد الحافظ ابن حجر المام أحمد في أهل القرون الثلثة وهذا ليطعن في منزلته حديثًا أوفقهًا‬ ‫)‪(3‬‬
‫على أن حديث خير القرون له رواية ذكرت القرن الرابع فيكون المام أحمد منهم بل من كبارهم‪.‬‬
‫صحيح البخاري برقم )‪ (6282‬وصحيح مسلم برقم )‪(2533‬‬ ‫)‪(4‬‬
‫إعلم الموقعين )‪(2/184‬‬ ‫)‪(5‬‬
‫إعلم الموقعين )‪(2/177‬‬ ‫)‪(6‬‬
‫ص )‪(517‬‬ ‫)‪(7‬‬
‫ص )‪(554‬‬ ‫)‪(8‬‬
‫إعلم الموقعين )‪(2/138‬‬ ‫)‪(9‬‬
‫)‪ (10‬رواه مسلم برقم ‪1731‬‬
‫)‪ (11‬ص ‪517‬‬

‫اللمذهبية قنطرة اللدينية‬


‫للعلمة الكوثري رحمه ال‬
‫بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫ل تجد بين رجال السياسة ‪ -‬على اختلف‬
‫مبادئهم ‪ -‬من يقيم وزنا ً لرجل يدعي السياسة‬
‫وليس له مبدأ يسير عليه ويكافح عنه باقتناع‬
‫وإخلص ‪ ،‬وكذلك الرجل الذي يحاول أن يخادع‬
‫الجمهور قائل لكل فريق ‪ :‬أنا معك ‪.‬‬
‫ومن أردإ خلل المرء أن يكون إمعة ‪ ،‬ل مع‬
‫هذا الفريق ول مع ذلك الفريق ‪ ،‬وإن تظاهر‬
‫لكل فريق أنه معه ‪ .‬وقديما قال الشاعر‬
‫العربي‬
‫يوما يمان إذا لقيت ذا يمن = وإذا لقيت معديا‬
‫فعدناني‬
‫ومن يتذبذب بين المذاهب منتهجا اللمذهبية‬
‫في الدين السلمي فهو أسوأ وأردأ من‬
‫الجميع ‪.‬‬
‫وللعلوم طوائف خاصة تختلف مناهجهم حتى‬
‫في العلم الواحد عن اقتناع خاص ؛ فمن ادعى‬
‫الفلسفة من غير انتماء إلى أحد مسالكها‬
‫المعروفة ‪ ،‬فإنه يعد سفيها منتسبا إلى السفه‬
‫‪ ،‬ل إلى الفلسفة ‪ ،‬والقائمون بتدوين العلوم‬
‫لهم مبادئ خاصة ومذاهب معينة حتى في‬
‫العلوم العربية ل يمكن إغفالها ‪ ،‬ول تسفيه‬
‫أحلم المتمسكين بأهدابها لمن يريد أن يكرع‬
‫من ينابيعها الصافية ‪.‬‬
‫وليس ثمة علم من العلوم عني به العلماء‬
‫عناية تامة على توالي القرون من أبعد عهد‬
‫في السلم إلى أدنى عهوده القريبة منا مثل‬
‫الفقه السلمي ‪ ،‬فالنبي ‪ -‬صلى الله عليه‬
‫وسلم – كان يفقه أصحابه في الدين ‪،‬‬
‫ويدربهم على وجوه الستنباط ‪ ،‬حتى كان نحو‬
‫ستة من الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين‬
‫– يفتون في عهد النبي – صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪. -‬‬
‫وبعد انتقاله إلى الرفيق العلى استمر‬
‫الصحابة على التفقه على هؤلء ‪ ،‬ولهم‬
‫أصحاب معروفون بين الصحابة والتابعين في‬
‫الفتيا ‪ ،‬فالمدينة كانت مهبط الوحي ‪ ،‬ومقر‬
‫جمهرة الصحابة إلى آخر عهد ثالث الخلفاء‬
‫الراشدين ‪ ،‬وعني كثير من التابعين من أهل‬
‫المدينة بجمع شتات المنقول عن الصحابة من‬
‫الفقه والحديث ‪ ،‬حتى كان للفقهاء السبعة‬
‫من أهل المدينة منزلة عظيمة في الفقه ‪،‬‬
‫كان سعيد بن المسيب يسأله ابن عمر – رضي‬
‫الله عنهما – عن أقضية أبيه ‪ ،‬تقديرا من ذلك‬
‫الصحابي الجليل لسعة علم هذا التابعي الكبير‬
‫بأقضية الصحابة ‪.‬‬
‫ثم انتقلت علوم هؤلء إلى شيوخ مالك من‬
‫أهل المدينة ‪ ،‬فقام مالك بجمعها وإذاعتها‬
‫على الجماهير ‪ ،‬فنسب المذهب إليه تأصيل‬
‫وتفريعا ‪ ،‬وانصاع له علماء كبار تقديرا لقوة‬
‫حججه ونور منهجه على توالي القرون ‪ ،‬ولو‬
‫قام أحد هؤلء العلماء المنتمين إليه بالدعوة‬
‫إلى مذهب يستجده لوجد من يتابعه من أهل‬
‫العلم لسعة علمه وقوة نظره ‪ ،‬لكنهم فضلوا‬
‫المحافظة على النتساب إلى مذهب عالم‬
‫المدينة ‪ ،‬حرصا على جمع الكلمة ‪ ،‬وعلما منهم‬
‫بأن بعض المسائل الضعيفة المروية عن‬
‫صاحب المذهب تترك في المذهب إلى ما هو‬
‫أقوى حجة وأمتن نظرا برأي أصحاب الشأن‬
‫من فقهاء المذهب ‪ ،‬حتى أصبح المذهب‬
‫غ‬
‫باستدراك المستدركين لمواطن الضعف بال َ‬
‫القوة ‪ ،‬بحيث إذا قارعه أحد المتأخرين أو‬
‫ف َ‬
‫قدَ رأسه ‪.‬‬ ‫ناطحه َ‬
‫وهكذا باقي المذاهب للئمة المتبوعين ‪ ،‬فها‬
‫هي الكوفة بعد أن ابتناها الفاروق – رضي الله‬
‫صح من قبائل العرب ‪،‬‬ ‫عنه – وأسكن حولها ال ُ‬
‫ف ّ‬
‫بعث إليها ابن مسعود – رضي الله عنه – ليفقه‬
‫أهل الكوفة في دين الله قائل لهم ‪ :‬إني‬
‫آثرتكم على نفسي بعبدالله ‪.‬‬
‫وعبدالله هذا منزلته في العلم بين الصحابة‬
‫عظيمة جدا ‪ ،‬وهو الذي يقول فيه عمر ‪ :‬كنيف‬
‫ملئ علما ‪ .‬وفيه ورد حديث ‪ ) :‬إني رضيت‬
‫لمتي ما رضي لها ابن أم عبد ( وحديث ‪:‬‬
‫) من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل‬
‫فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ‪.‬‬
‫فقراءة ابن مسعود هي التي يرويها عاصم‬
‫عن زر بن حبيش عنه ‪ ،‬كما أن قراءة علي بن‬
‫أبي طالب – كرم الله وجهه – هي التي يرويها‬
‫عاصم عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن حبيب‬
‫السلمي عنه ‪.‬‬
‫عني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة من عهد‬ ‫ف ُ‬
‫عمر إلى أواخر عهد عثمان – رضي الله عنهم‬
‫– عناية ل مزيد عليها ‪ ،‬حتى امتلت الكوفة‬
‫بالفقهاء ‪.‬‬
‫ولما انتقل علي بن أبي طالب – كرم الله‬
‫سّر من كثرة فقهائها‬ ‫وجهه – إلى الكوفة ‪ُ ،‬‬
‫جدا فقال ‪ :‬رحم الله ابن أم عبد ‪ ،‬قد مل هذه‬
‫القرية علما ‪.‬‬
‫ب مدينة العلم )يعني علي رضي الله‬ ‫ووالى با ُ‬
‫عنه( تفقيههم ‪ ،‬إلى أن أصبحت الكوفة ل‬
‫مثيل لها في أمصار المسلمين في كثرة‬
‫فقهائها ومحدثيها ‪ ،‬والقائمين بعلوم القرآن‬
‫وعلوم اللغة العربية فيها بعد أن اتخذها على‬
‫بن أبي طالب – كرم الله وجهه – عاصمة‬
‫الخلفة ‪،‬‬
‫وبعد أن انتقل إليها أقوياء الصحابة‬
‫وفقهاؤهم ‪ ،‬وقد ذكر العجلي أنه توطن‬
‫الكوفة وحدها من الصحابة ألف وخمسمائة‬
‫صحابي ‪ ،‬سوى من أقام بها ونشر العلم بين‬
‫ربوعها ‪ ،‬ثم انتقل إلى بلد آخر فضل عن باقي‬
‫بلد العراق ‪ ،‬فكبار أصحاب علي وابن مسعود‬
‫– رضي الله عنهما – بها لو دونت تراجمهم في‬
‫كتاب خاص لتى كتابا ضخما ‪ ،‬وليس هذا‬
‫موضع سرد لسمائهم ‪،‬‬

‫وقد جمع شتات علوم هؤلء إبراهيم بن يزيد‬


‫النخعي ‪ ،‬وآراؤه مدونة في آثار أبي يوسف ‪،‬‬
‫وآثار محمد بن الحسن ‪ ،‬ومصنف ابن أبي‬
‫شيبة وغيرها ‪ ،‬ويعد النقاد مراسيله صحاحا ‪،‬‬
‫ويفضله على جميع علماء المصار الشعبي‬
‫الذي يقول عنه ابن عمر – رضي الله عنهما –‬
‫حينما رآه يحدث بالمغازي ‪ :‬لهو أحفظ لها‬
‫مني وإن كنت قد شهدتها مع رسول الله –‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪. -‬‬
‫ويقول أنس بن سيرين ‪ :‬دخلت الكوفة‬
‫فوجدت بها أربعة آلف يطلبون الحديث‬
‫وأربعمائة قد فقهوا كما في الفاصل‬
‫ي‪.‬‬
‫ز ّ‬
‫م ِ‬
‫هْر ُ‬
‫م ُ‬
‫للرا َ‬
‫ونها بعد‬
‫وقد جمع أبو حنيفة علوم هؤلء ود ّ‬
‫أخذ وردّ سديدين في المسائل بينه وبين أفذاذ‬
‫أصحابه في مجمع فقهي كيانه من أربعين‬
‫فقيها من نبلء تلميذه المتبحرين في الفقه‬
‫والحديث وعلوم القرآن والعربية ‪ ،‬كما نص‬
‫على ذلك الطحطاوي وغيره ‪.‬‬
‫وعن هذا المام العظم يقول محمد بن‬
‫إسحاق النديم ‪ ،‬الذي ليس هو من أهل‬
‫مذهبه ‪ :‬والعلم برا وبحرا ‪ ،‬شرقا وغربا ‪ ،‬بعدا‬
‫وقربا تدوينه رضي الله عنه ‪.‬‬
‫ويقول الشافعي رضي الله عنه ‪ :‬الناس عيال‬
‫في الفقه على أبي حنيفة‬
‫ثم أتى الشافعي ‪ -‬رضي الله عنه – فجمع‬
‫عيونا من المعينين ‪ ،‬وزاد ما تلقاه من شيوخه‬
‫من أهل مكة كمسلم بن خالد ‪ ،‬الذي تلقى عن‬
‫ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ‪ -‬رضي الله‬
‫عنهما ‪ ، -‬وقد امتل الخافقان بأصحاب‬
‫الشافعي وأصحاب أصحابه ‪ ،‬وملؤوا العالم‬
‫علما ‪ ،‬وأهل مصر من أعرف الناس بعلومه‬
‫وعلوم أصحابه حيث سكنها في أواخر عمره ‪،‬‬
‫ونشر بها مذهبه الجديد ‪ ،‬ودفن بها – رضي‬
‫الله عنه ‪-‬‬
‫ول يتسع هذا المقال لبيان ما لسائر الئمة من‬
‫الفقهاء من الفضل على الفقه السلمي ‪،‬‬
‫وهم على اتفاق في نحو ثلثي مسائل الفقه ‪،‬‬
‫والثلث الباقي هو معترك آرائهم ‪ ،‬وحججهم‬
‫في ذلك ومداركهم مدونة في كتب أهل الفقه‬
‫‪.‬‬
‫فمذاهب تكون بهذا التأسيس وهذا التدعيم إذا‬
‫لقيت في آخر الزمن متزعما في الشرع يدعو‬
‫إلى نبذ التمذهب باجتهاد جديد يقيمه مقامها ‪،‬‬

‫محاول تدعيم إمامته باللمذهبية بدون أصل‬


‫يبني عليه غير شهوة الظهور ‪،‬‬
‫تبقى تلك المذاهب وتابعوها في حيرة بماذا‬
‫يحق أن يلقب من عنده مثل هذه الهواجس‬
‫والوساوس ‪ ،‬أهو مجنون مكشوف المر ‪ ،‬غلط‬
‫من لم يقده إلى مستشفى المجاذيب ‪ ،‬أم‬
‫مذبذب بين الفريقين يختلف أهل العقول في‬
‫ده من عقلء المجانين ‪ ،‬أو مجانين العقلء ؟!‬‫ع ّ‬
‫‪.‬‬
‫بدأنا منذ مدة نسمع مثل هذه النعرة من أناس‬
‫في حاجة شديدة على ما أرى إلى الكشف عن‬
‫عقولهم بمعرفة الطبيب الشرعي ‪.‬‬
‫قبل اللتفات إلى مزاعمهم في الجتهاد‬
‫الشرعي القاضي – في زعمهم – على‬
‫اجتهادات المجتهدين ‪ ،‬فعلى تقدير ثبوت أن‬
‫عندهم بعض عقل ‪ ،‬فل بد أن يكونوا من‬
‫صنائع أعداء هذا الدين الحنيف ‪ ،‬ممن لهم‬
‫غاية ملعونة إلى تشتيت اتجاه المة السلمية‬
‫في شؤون دينهم ودنياهم ‪ ،‬تشتيتا يؤدي بهم‬
‫إلى التناحر والتنابذ والتشاحن والتنابز يوما‬
‫بعد يوم ‪ ،‬بعد إخاء مديد استمر بينهم منذ‬
‫بزغت شمس السلم إلى اليوم ‪.‬‬
‫فالمسلم الرزين ل ينخدع بمثل هذه الدعوة ‪،‬‬
‫فإذا سمع نعرة الدعوة إلى النفضاض من‬
‫حول أئمة الدين الذين حرسوا أصول الدين‬
‫السلمي وفروعه من عهد التابعين إلى اليوم‬
‫‪ ،‬كما توارثوه من النبي – صلى الله عليه‬
‫وسلم – وأصحابه – رضي الله عنهم أجمعين –‬
‫أو طرق سمعه نعيق الن ّْيل من مذاهب أهل‬
‫الحق ‪ ،‬فل بد له من تحقيق مصدر هذه النعرة‬
‫واكتشاف وكر هذه الفتنة ‪ ،‬وهذه النعرة ل‬
‫يصح أن تكون من مسلم صميم درس العلوم‬
‫السلمية حق الدراسة ‪ ،‬بل إنما تكون من‬
‫متمسلم مندس بين علماء المسلمين أخذ بعض‬
‫رؤوس مسائل من علوم السلم بقدر ما يظن‬
‫أنها تؤهله لخدمة صنائعه ومرشحيه ‪ ،‬فإذا دقق‬
‫ذلك المسلم الرزين النظَر في مصدر تلك‬
‫النعرة بنوره الذي يسعى بين يديه ‪ ،‬يجده‬
‫شخصا ل يشارك المسلمين في آلمهم‬
‫وآمالهم إل في الظاهر ‪،‬‬
‫بل يزامل ويصادق إناسا ل يتخذهم المسلمون‬
‫بطانة ‪ ،‬ويلفيه يجاهر بالعداء لكل قديم وعتيق‬
‫إل العتيق المجلوب من مغرب شمس‬
‫الفضيلة ‪ ،‬ويراه يعتقد أن رطانته تؤهله – عند‬
‫أسياده – لعمل كل ما يعمل ‪ ،‬فعندما يطلع‬
‫ذلك المسلم على جلية المر يعرف كيف‬
‫يخلص نيئة السلم من شرور هذا النعيق‬
‫المنكر بإيقاف أهل الشأن على حقائق‬
‫المور ‪ ،‬والحق يعلو ول يعلى عليه ‪.‬‬
‫فمن يدعو الجمهور إلى نبذ التمذهب بمذاهب‬
‫الئمة المتبوعين الذين أشرنا فيما سبق إلى‬
‫بعض سيرهم – ل يخلو من أن يكون من الذين‬
‫يرون تصويب المجتهدين في استنباطاتهم‬
‫كلها ‪ ،‬بحيث يباح لكل شخص غير مجتهد أن‬
‫يأخذ بأي رأي من آراء مجتهد من المجتهدين ‪،‬‬
‫بدون حاجة إلى القتصار على آراء مجتهد‬
‫واحد يتخيره في التباع ‪ ،‬وهذا ينسب إلى‬
‫المعتزلة ‪ ،‬وأما الصوفية فإنهم يصوبون‬
‫المجتهدين ‪ ،‬بمعنى الخذ بالعزائم خاصة من‬
‫بين أقوالهم من غير اقتصار على مجتهد واحد‬
‫‪.‬‬
‫وإليه يشير أبو العلء صاعد بن أحمد بن أبي‬
‫بكر الرازي – من رجال نور الدين الشهيد –‬
‫في كتابه ) الجمع بين التقوى والفتوى من‬
‫مهمات الدين والدنيا ( حيث ذكر في أبواب‬
‫الفقه منه ما هو مقتضى الفتوى ‪ ،‬وما هو‬
‫موجب التقوى من بين أقوال الئمة الربعة‬
‫خاصة ‪ ،‬وليس في هذا معنى التشهي أصل ‪،‬‬
‫بل هو محض التقوى والورع ‪.‬‬
‫والرأي الذي ينسب إلى المعتزلة يبيح لغير‬
‫المجتهد الخذ بما يروقه من الراء‬
‫للمجتهدين ‪ ،‬لكن أقل ما يجب على غير‬
‫المجتهد في باب الجتهاد أن يتخير لدينه‬
‫مجتهدا يراه العلم والورع ‪ ،‬فينصاع لفتياه‬
‫في كل صغير وكبير ‪ ،‬بدون تتبع الرخص – في‬
‫التحقيق – وأما تتبعه الرخص من أقوال كل‬
‫إمام ‪ ،‬والخذ بما يوافق الهوى من آراء‬
‫الئمة ‪ ،‬فليسا إل تشهيا محضا ‪ ،‬وليس عليهما‬
‫مسحة من الدين أصل ‪ ،‬كائنا من كان مبيح ذلك‬
‫‪.‬‬
‫ولذلك يقول الستاذ أبو إسحق السفراييني‬
‫المام ‪ ،‬عن تصويب المجتهدين مطلقا ‪ :‬أوله‬
‫سفسطة وآخره زندقة ‪ .‬لن أقوالهم تدور بين‬
‫النفي والثبات ‪ ،‬فأنى يكون الصواب في‬
‫النفي والثبات معا ؟ ‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬إن من تابع هذا المجتهد جميع آرائه فقد‬
‫خرج من العهدة ‪ ،‬أصاب مجتهده أم أخطأ ‪،‬‬
‫وكذا المجتهدون الخرون ‪ ،‬لن الحاكم إذا‬
‫اجتهد وأصاب فله أجران ‪ ،‬وإذا اجتهد وأخطأ‬
‫فله أجر واحد ‪ ،‬والحاديث في هذا الباب في‬
‫غاية من الكثرة ‪.‬‬
‫وعلى اعتبار من قلد المجتهد خارجا من‬
‫ة منذ‬‫جَرت الم ُ‬‫ده ‪َ ،‬‬
‫العهدة وإن أخطأ مجته ُ‬
‫بزغت شمس السلم ‪ ،‬ول تزال بازغة إلى‬
‫قيام الساعة ‪ -‬بخلف شمس السماء فإن لها‬
‫فجرا وضحى وغروبا – ولول أن المجتهد يخرج‬
‫من العهدة على تقدير خطئه لما كان له أجر ‪،‬‬
‫وليس كلمنا فيه ‪ ،‬وكلم الستاذ أبي أسحق‬
‫السفراييني عن المصوبة حق ‪ ،‬يدل عليه ألف‬
‫دليل ودليل ‪ ،‬ولكن ليس هذا بموضع توسع‬
‫في بيان ذلك ‪.‬‬
‫وأما إن كان الداعي إلى نبذ التمذهب يعتقد‬
‫في الئمة المتبوعين أنهم من أسباب وعوامل‬
‫الفرقة والخلف بين المسلمين ‪ ،‬وأن‬
‫المجتهدين في السلم إلى اليوم كلهم على‬
‫خطإ ‪ ،‬وأنه يستدرك عليهم في آخر الزمن‬
‫الصواب الذي خفي على المة منذ بزوغ‬
‫شمس السلم إلى اليوم ‪ ،‬فهذا من التهور‬
‫والمجازفة البالغين حد النهاية ‪.‬‬
‫ونحن نسمع من فلتات ألسنة دعاة هذه النعرة‬
‫بين حين وآخر تهوين أمر أخبار الحاد‬
‫الصحيحة من السنة ‪ ،‬وكذا الجماع والقياس ‪،‬‬
‫بل دللت الكتاب المعتبرة عند أهل الستنباط‬
‫‪.‬‬
‫فبتهوين أخبار الحاد يتخلصون من كتب السنة‬
‫من صحاح وسنن وجوامع ومصنفات ومسانيد‬
‫وتفاسير بالرواية وغيرها ‪ ،‬وإذن فل معجزة‬
‫كونية تستفاد منها ول أحكام شرعية تستمد‬
‫منها ‪ ،‬فهل يسلك مثل هذه السبيل من سبل‬
‫الشيطان غير صنائع أعداء السلم ؟ ‪.‬‬
‫على أن أخبار الحاد الصحيحة قد يحصل بتعدد‬
‫طرقها تواتر معنوي ‪ ،‬بل قد يحصل العلم بخبر‬
‫الحاد عند احتفافه بالقرائن ‪ ،‬بل يوجد بين‬
‫أهل العلم من يرى أن أحاديث الصحيحين –‬
‫غير المنتقدة – من تلك الحاديث المحتفة‬
‫بالقرائن ‪.‬‬
‫وبنفي الجماع يتخلصون من مذاهب جمهرة‬
‫أهل الحق ‪ ،‬وينحازون إلى الخوارج المرقة ‪،‬‬
‫والروافض المردة ‪.‬‬
‫وب َِردّ القياس الشرعي يسدون على أنفسهم‬
‫باب الجتهاد ومسالك العلة – على طرقها‬
‫المعروفة المألوفة – منحازين إلى نفاة‬
‫القياس من الخوارج والروافض وجامدي أهل‬
‫الظاهر ‪.‬‬
‫وبتلعبهم بدللت الكتاب المعتبرة عند أهل‬
‫الستنباط يتخذون القيود الجارية مجرى‬
‫الغالب الملغاة باتفاق بين القائلين بالمفاهيم‬
‫وغير القائلين بها من صدر السلم إلى اليوم‬
‫وسيلة لتغيير كثير من الحكام القطعية ‪،‬‬
‫ويجعلون للعرف شأنا غير ما له عند جميع‬
‫فقهاء هذه المة ‪ ،‬خانعين لما ألقاه بعض‬
‫مستشرقي اليهود بمصر في عمل أهل‬
‫المدينة ونحوه ‪ ،‬وكذلك صنيعهم في المصلحة‬
‫المرسلة التي شرحنا دخائلها بعض شرح في‬
‫مقالنا ) شرع الله في نظر المسلمين ( ‪.‬‬
‫وكل ذلك يجري تحت بصر الزهر وسمعه ‪،‬‬
‫ورجاله سكوت ‪ ،‬والسكوت على تلك المخازي‬
‫مما ل يرتضيه الزهر السني الذي أسس بنيانه‬
‫على التقوى منذ عهد الملك الظاهر بيبرس‬
‫وأمرائه البرار ‪ ،‬حيث صيروه معقل العلم‬
‫لهل السنة ‪ ،‬بعد أن أحيوا معالمه ‪ ،‬ولم تزل‬
‫ملوك السلم ترعاه على هذا الساس إلى‬
‫اليوم ‪ ،‬ول يزال بابه مغلقا على غير أتباع‬
‫الئمة الربعة ‪ ،‬وكم أدروا عليه من الخيرات‬
‫لهذه الغاية النبيلة ‪ ،‬وللملك فؤاد الول –‬
‫رحمه الله – يد بيضاء في إنهاض الزهر على‬
‫ذلك الس القويم ‪ ،‬والحكومة الرشيدة‬
‫المتمسكة بأهداب الدين السلمي لم تزل‬
‫تسدي إليه كل جميل مراعاة لتلك الغاية‬
‫السديدة ‪.‬‬
‫فإذا تم لدعاة النعرة الحديثة في قصر‬
‫الجتهاد على شخص واحد من أبناء العهد‬
‫الحديث – بمؤهلت غير معروفة – وتمكنوا من‬
‫إبادة المذاهب المدونة في السلم لهؤلء‬
‫الئمة العلم ‪ ،‬ومن حمل الجماهير على‬
‫النصياع لراء ذلك الشخص يتم لهم ما يريدون‬
‫‪.‬‬
‫لكن الذي يتغنى بحرية الرأي على الطلق‬
‫بكل وسيلة كيف يستقيم له منح الطامحين‬
‫من أبناء الزمن مثله إلى الجتهاد من‬
‫الجتهاد ‪ ،‬أم كيف يجيز إملء ما يريد أن يمليه‬
‫من الراء على الجماهير مرغمين فاقدي‬
‫الحرية ‪ ،‬أم كيف يبيح داعي الحرية المطلقة‬
‫حرما الجماهير المساكين المقلدين حرية تخير‬
‫مجتهد يتابعونه باعتبار تعويلهم عليه في دينه‬
‫وعلمه في عهد النور!!؟ ‪ .‬ولم يسبق لهذا‬
‫الحجر مثيل في عهد الظلمات !!! وهذا مما ل‬
‫أستطيع الجواب عنه ‪.‬‬
‫وقصارى القول أنك إذا قمت بدرس أحوال‬
‫القائمين بتلك النعرة الخبيثة وجدتهم ل‬
‫يألفون المألوف ‪ ،‬ول يعرفون المعروف ‪،‬‬
‫أعمت شهوة الظهور بصائرهم ‪ ،‬حتى تراهم‬
‫يصادقون المتألبين على الشرق المسكين ‪،‬‬
‫فنعرتهم هذه ما هي إل نعيق اللحاد المنبعث‬
‫عن أهل الفساد ‪ ،‬فيجب على أهل الشأن أن‬
‫يسعوا في تعرف مصدر الخطر ‪ ،‬وإطفاء‬
‫الشرر ‪ ،‬وليست هذه الدعوة المنكرة سوى‬
‫قنطرة اللدينية السائدة في بلد أخرى منيت‬
‫باللحاد وكتبت لها التعاسة ‪ ،‬والمؤمن ل يلدغ‬
‫من جحر مرتين ‪ ،‬والعاقل من اتعظ بغيره ‪،‬‬
‫والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ‪.‬‬

You might also like