Professional Documents
Culture Documents
المؤلف :قداسة البابا شنودة الثالث .
الطبعة :الخامسة نوفمبر . 1987
المطبعة :النبا رويس ) الوفست ( العباسية .
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف .
صفحة
6 تصدير الكتاب
7 أخلي ذاته
29 ملء الزمان
35 عمانوئيل ...الله معنا
41 مصالحة السماء والرض
53 لماذا حل الرب بيننا ؟
67 لسقوط وقيام كثيرين
73 جاء يطلب ويخلص ما قد هلك
نقدم لك في هذا الكتاب سبع محاضرات القيت عن الميلد :الخمس الولي
منها القيت في القاعة المرقسية بدير النبا رويس بالقاهرة خلل سنتي
. 1967 / 1966والمحاضرتين الخريين القيتا في الكاتدرائية الكبري في
سنة ، 1976سنة . 1980
وفي كتاب ] وحي الميلد [ قدمنا لك سبع محاضرات أخري .
وبهذا نكمل لك 14محاضرة روحية عن الميلد .
ول تزال أمامنا محاضرات غير هذه لم يسبق نشرها .وكذلك ) أسئلة في
الميلد ( وهي كثيرة
ليت الرب يعطينا فرصة لنشر كل هذا ،وإن امكن لباس من تجميعه في
مجلد يشمل كل محاضرااتنا عن الميلد وإجابة كل السئلة المتعلقة به .
ولكن المهم في كل ذلك هو .
فاعلية اليمان في حياتنا الخاصة ،كأفراد وكجماعة ...
وغالبا ً ما تدور هذه النقطة الهامة في جميع محاضراتنا عن الميلد ،كما
نحرص أن نفعل ذلك في كل الحاضرات بوجه عام .
لن الدروس الروحية وحدها ،بدون فاعليتها في الحياة ،تكون بدون جدوي ،
ومجرد ثقل على الضمير .
فاحرص أيها البن المبارك في كل قراءاتك الروحية أن تحول الكلمة إلى
حياة ،لكي تنمو كل حين في معرفة ربنا يسوع المسيح وفي محبته ،كما
تكون لك شركة روحية مع كل إخوتك الذين يسلكون نفس الطريق ...وليكن
الرب معك ...
يعطيك القوة في طريقك إليه .ويعطيك الستجابة في طريقه إاليك .
البابا شنودة الثالث
" فليكن فيكم هذا الفكر الذي
في المسيح يسوع أيضا ً ،الذي إذ
كان في صورة الله لم يحسب خلسة
أن يكون معادل ً لله .
لكنه أخلي ذاته آخذا ً صورة
عبد ،صائرا ً في شبة الناس .وإذ
وجد في الهيئة كإنسان وضع
نفسه وأطاع حتى الموت ،موت
الصليب " .
) فى 5 : 2ـ . ( 8
إن السيد الرب ،إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة
الميلد فحسب ،بل شمل ذلك حياته كلها التي ل تدخل تحت حصر .
ميلد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلء الذات
وسنحاول أن نتبع إخلء الرب لذاته في كل ناحية ...ونحاول أن ندرك
السباب التي من أجلها أخلي ذاته ...ثم نأخذ لنفسنا عظة عملية ،محاولين
أن نطبق عنصر الخلء في حياتنا ...
وعلينا أن نفهم بالدقة :ما هو معني إخلء الذات ...
إنه لم يخلها طبعا ً من جوهرة ول من طبيعته ول من لهوته الذي لم يفارق
ناسوته لحظة واحدة ول طرفة عين .بل أخلي ذاته من المجاد المحيطة به
ومن عظمة السماء .وسنشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة ...
جميل بنا أن نلحظ أن هذا الخلء لم يكن إقلل ً من شأن الرب ،وإنما هو
عظمة جديدة في مفهومها .كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية .
أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد ،فلم يكن أحد يتصورها .هذه
قدمها الرب لنا ...
كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك .ولو أتي كذلك ،ما كان أحد ينكر
عليه أنه ملك .فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة ،ومن نسل داود
الملك .
ولكنه أخلى ذاته من الملك ،وهو ملك الملوك ) رؤ ... ( 14 : 17
لم يأت في هيئة ملك .لن اليهود في في تفاخرون بالعظمة البشرية ،كانوا
ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم ،لنهم كانوا يظنون أن عظمة أن
عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أيا ً .
فلم يخلصهم بعظمة الملوك ،بل بتواضع النجار الناصري ،الذي إستهانوا به
قائلين " :أليس هذا هو النجار إبن مريم ؟! " ) مر . ( 3 : 6أتي كنجار
بسيط ،ولم يأت كملك .ولما سعي إليه الملك ،رفضه وهرب منه .ولما "
رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكا ً ،إنصرف إلى الجبل
وحده " ) يو . ( 15 : 6
ورضي أن يحاكم أمام عبيده ،أمام بيلطس وهيرودس ،وأمام أعضاء
مجلس السنهدريم ...وكان يقول " :مملكتي ليست من هذا العالم " ) يو
. ( 36 : 18
ً
أخلي ذاته من صولجان الملك ومن الكرامة المقدمة للملوك ،مفضل أن
يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه ،وليست الخائفة من سطوه سلطانه ...
أخلي ذاته من كرامة الرئاسة :
لم يطلب أن يكون رئيسا ً لتابعيه ،أو سيدا ً ...وإنما صديقا ً لهم .وهكذا قال
لتلميذه " :ل أعود أسميكم عبيدا ً ...لكني سميتكم أحباء " ) يو . ( 15 : 15
وخاطبهم في إحدى المرات قائل ً " :أقول لم يا أصدقائي ) " ...لو ( 4 : 12
.
وأخلي ذاته لدرجة أنه إنحني وغسل أرجلهم ...
لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه ...بل كانت تربطه بهم رابطة الحب ل
رابطه الرئاسة .إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان ...
أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس ل خضوعهم ،وكان يريد محبتهم
ل تذللهم ولم يقم نفسه رئيسا ً للناس بل صديقا ً .
لذلك كان محبوبا ً ل مخافة .يهابه الناس عن توقير ،ل عن رعب .لم يرد أن
تكون له الرهبة التي ترعب الناس ،بل الحب الذي يجذب الناس .وهكذا
أمكن للطفال أن تلتف حوله ،وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره .
إن كل من يحب العظمة ،لم يتمتع بفاعلية اليمان بعد .
قال النبا أنطونيوس مرة لولده ] :يا أولدى ،أنا ل أخاف الله [ .فأجابوه :
] هذا الكلم صعب يا أبانا [ .فقال لهم ] :ذلك لني أحبه .والمحبة تطرح
الخوف إلى خارج [ ) 1يو . ( 18 : 4
إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة .يريدون أن يخافهم الناس
،ولو عن قهر .أما المسيح إلهنا فيقول " :من يحبني يحفظ وصاياي " .
يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف ...
أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إل في الضرورة
القصوى .
لم يستخدم قوته من أجل ذته ،ول من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لهوته
ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو اللم .رفض أن يحول
الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي ،بينما بارك الخمس خبزات من أجل
إشفاقه على الناس .
لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات ،ول من أجل اليمان .وعندما
كانوا يطلبون منه معجزة لجل ) الفرجة ( لم يكن يقبل .بل كان يبكتهم
قائل ً " :جيل فاسق وشرير يطلب آية ول تعطي له ) " ...مت . ( 39 : 12
لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر ،ومثلما فعلت عرفاه
فيلبي ،ومثلما سيحدث في لزمنة الخيرة من المسيح الدجال والوحش
والتنين ...
رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل ،لتحمله الملئكة .
ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته ! ...رفض ذلك
أخلي ذاته من إعجاب الناس .إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد ،لنه
أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد .
ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير ،لم يشأ أن يراها
كل الشعب ،ول حتي كل تلميذه الثني عشر ،بل رآها ثلثة فقط ،
وأوصاهم أل يظهروها ...كان زاهدا ً في كل هذه المور التي يبحث عنها من
يريدون أن يظهروا ذواتهم ...بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر
كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلم عن آلمه
...أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها ...
وحتى من أجل اليمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات .أراد أن يكون
إيمانهم بدافع من الحب والقتناع وليس بسبب المعجزات .وما الدليل على
هذا ؟
ً
دليلنا أنه كان يطلب اليمان قبل المعجزة ،وليس كنتيجة لها .وكثيرا ما كان
يسال الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن ؟ " ،أو يقول له " :ليكن لك
حسب إيمانك " .وإن كان يؤمن قبل ً تحدث معه المعجزة ...ولذلك قيل عنه
إنه في وطنة " :لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم " ) مت ( 58 : 13
.كان اليمان يسبق المعجزة .وكانت المعجزة نتيجة لليمان وليست سببا ً .
وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف
روحية ...تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحا ً
وجليا ً ...وهكذا نري في معجزة لقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه .إن
الحب الذي كان يعتصر قلبه ،ظهر أول ً في عينيه الدامعتين ،قبل أن تظهر
قوته في عبارة " :هلم خارجا ً " .وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها
عبارة " :فتحنن يسوع " أو " أشفق " أو ما شابه ذلك ...
ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه ،أو في ٌالنتقام من مضطهديه
وشاتميه .أهانوه بكل أنواع الهانة ،وأشبعوه شتما ً وتعييرا ً .وكان يستطيع
أن يجعل الرض تفتح فاها وتبتلعهم ،أو تنزل نار من السماء وتفنيهم .ولكنه
لم يفعل .كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه .
وعاش بغير لقب وبغير وظيفة :
• عاش السيد المسيح بغير لقب ،وبغير وظيفة رسيمة في المجتمع ،
وبغير اختصاصات في نظر الناس ...
• ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي ،أو في نظر
الدولة ؟! ل شئ ..كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر ،
يعمل ويعلم ،دون أن يتسند إلى وضع رسمي ...
• لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس ،لنه لم يكن من
سبط لوى ول من أبناء هارون الناحية ،أنه عندما شفي الرجل البرص ،
قال له " :إذهب أر نفسك للكاهن ،وقدم القربان الذي أمر به موسى "
) مت . ( 4 : 8يا لها من عبارة مؤثرة للغاية !! تصوروا رئيس الكهنة
العظم ،منشئ الكهنوت ومؤسسه ،ومنع كل سلطة كهنوتيه ،يقول
للبرص " :إذهب أر نفسك للكاهن " !! ...
وماذا عنك أنت يارب ن أنت الكاهن إلى البد على طقس ملكي صادق ؟
لماذا ترسلني إلى كاهن ،وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة ؟! ما أعجبك في
إخلئك لذاتك ! تتصرف كمن ل سلطة له ،وأنت مصدر كل سلطة !!
• وعاش السيد المسيح بدون أي مركز إجتماعي ،ولم تكن له أية صفة
رسمية على الطلق .حتى في وضعه كمعلم ...لم يكن من طوائف
الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين ،ول من جماعة
الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة ) أر ، ( 18 : 18ول من الشيوخ
ول من البارزين في المجتمع ...
• وعلى الرغم من كل ذلك ،مل الدنيا تعليما ً ،وكانوا يلقبونه بالمعلم ،
والمعلم الصالح ،ودعي معلما ً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة
والفريسيين ...
وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بل لقب ،ومع ذلك يعمل أكثر من
أصحاب اللقاب ! ...
وفي حياته كمعلم ،عاش وقد أخلي ذاته من كل شئ .
لم يكن له مكان يعلم فيه ...
أحيانا ً كان يعلم وهو جالس على الجبل ،وأحيانا ً يكلم الناس وهو واقف في
سفينة وهم جلوس على الشاطئ ...وأحيانا ً كان يعلم وهو في وسط الزروع
والبساتين ،يتأمل مع تلميذه زنابق الحقل وطيور السماء ...وأحيانا ً كان
يعلم في الخلء ،في موضع قفر ،في البرية .وأحيانا ً في الطريق ...وعلى
العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم ،ل مركز ثابت ...بل لم يكن له أين
يسند رأسه ) لو . ( 58 : 9
وإذ أخلي ذاته من الرتباط بمكان معين ،عمل في كل مكان ...
عجيب أن الله الذي مل السموات والرض ،لم يكن له أين يسند رأسه ...
عندما ولد يقول الكتاب " :لم يكن له موضع في البيت " ) لو . ( 7 : 2
ً
وطول فترة تجسده على الرض لم يكن له مسكن معين .يذهب أحيانا إلى
بيت سمعان ،وأحيانا ً إلى بستان جثماني ...ما أعجب قول الكتاب " :
ومضي كل واحد إلى بيته ،أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون "
) يو ... ( 1 : 8
والذين كانوا يتبعونه ،كانوا يسيرون وراء المجهول ...ل يعرفون لهم موضعا ً
ول مركزا ً ،ول مالية معينة ،ول عمل ً محدودا ً .عندما قال السيد لمتي
الللوى " :إتبعني " ،تبعه متى ...ولو سألته " :إلى أين ؟ " لما عرف كيف
يجيب ...ولو سألته ماذا ستعمل ؟ لوقف أمام علمة إستفهام ل جواب لها .
لقد أراد الرب لتلميذه أن يخلوا ذواتهم أيضا ً ...هم مجرد تلميذ ،ل يعرفون
لهم عمل ً سوي أن يتبعوا المسيح ،الذي ل يعرفون له وظيفة ول عمل ً رسميا ً
ول مكانا ً ثابتا ً ...
يحيط به جماعة من المساكين :
وكما أخلي المسيح ذاته ،أحبه الذين أخلوا ذواتهم ،أو الذين ل ذوات لهم .
فأحاطت به مجموعة من الفقرا والمساكين والمزدري وغير الموجود ...
جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم ) 1كو . ( 28 ، 27 : 1
وهكذا إختار تلميذه :جماعة من الصيادين الجهلة ،كما إختار تلميذه :
جماعة من الصيادين الجهلة ،كما إختار واحدا ً من العشارين المرذولين .
والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب :الطفال الذين ل يعتد بهم أحد
والخطاة والعشارون الذين يحتقرهم الناس ،والنساء أيضا ً اللئى لم تكن
لهن مكانه في المتجمع اليهودي ...وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه ) لو 23
... ( 27 :وحول صليبه وقفت النسوة ل شيوخ الشعب ...وبكت عليه بنات
أورشليم ) لو ( 28 : 22ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم !
عاش إنسانا ً بسيطا ً بل مركز وبل لقب ،يحيط به أشخاص مجهولن بل مركز
وبل لقب أيضا ً
وحتى لقبه الطبيعي " إبن الله " ،لم يستخدمه كثيرا ً .وكان يستبدله في
غالب الحيان بلقب " إبن النسان " ! ...
ً ً
عاش وسط الشعب ،ل وسط الرؤساء .؟ وكان قريبا من الصغار ،بعيدا عن
الكبار والمعتبرين ،يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء ...وحسنا ً تنبأ عنه داود
قائل ً " :الغراء قاموا على " ) مز " ( 3 : 54الرؤساء إضطهدوني بل سبب
" ) مز . ( 161 : 119
حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي ،
ولم يدخل بيت بيلطس ول بيت هيرودس ودخل بيت زكا ،ولم يدخل بيت
حنان ول بيت قيافا ...
عاش فقيرا ً ...
أخلي ذاته من المال والجاه ،فعاش فقيرا ً ل يملك شيئا ً وهو مغني الكل .
حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم ،فطلب من بطرس
أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم ) مت . ( 27 : 15
وعاش مرفوضا ً .
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته ،كان من الناحية الخري
يفع شأن أولده ...
أخذ شكل العبد ،وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة اللهية ! ) 2بط . ( 4 : 1
حقا ً كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا ،وأعطانا الذي له " .وهكذا
صارت لنا شركة معه ) 1يو . ( 6 : 1وصرنا " شركاء الروح القدس " ) عب
2 ) ، ( 4 : 6كو ، ( 14 : 13وشركاء في الميراث ) أف ... ( 6 : 3وصرنا
جسده ،وأعضاءه ،ثابتين فيه ،كالغصان في الكرمة ...
وصار الرب يقربنا إليه باستمرار ،ويرفعنا قدامه ...
ومع أنه إبن الله الوحيد ،الكائن في حضن الب منذ الزل ،يمس نفسه في
غالبيه الوقات " :إبن النسان " .ونحن بني النسان يدعونا أولد الله ،
ويكررها مرات عديدة ...
ويقول عنا نور العالم ،ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس ) مت : 5
. ( 16 ، 14ويدعونا أصدقاء له ،وأحباء ،وخاصته التي يحبها حتى المنتهي .
ولكن الكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته ! ويقول الكتاب " :
ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شئ " ) عب ( 17 : 2ويقول
أيضا ً ... " :ليكون هو بكرا ً بين أخوة كثيرين " ) رو . ( 29 : 8
من هم أخوته هؤلء ؟! هم نحن التراب والرماد ...
لو أن أحد الباء الكهنة في أيامنا ،أرسل خطابا إلى واحد من أولده ،يقول
له فيه " :أيها الخ العزيز " ،لصاح الناس :ما هذا التواضع العجيب وأخلء
الذات ؟! كيف يدعو إبنه أخا ً له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الرباب عندما
يدعونا إخوته ؟!
ً
بل أكثر من هذا أن الرب كثيرا ما يختفي لنظهر نحن .فعندما ظهر الرب
لشاول الطرسوسي ودعاه ،فاستجاب وقال " :ماذا تريد يارب أن أفعل " )
أع . ( 6 : 9حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائل ً له :ط قم
وأدخل المدينة فيقال " ) أع ( 6 : 9حوله الرب أن نفعل " .وظهر الرب في
رؤيا لحنانيا ،وكلمة من جهة شاول ،فشفاه وعمده إليه ريالة الرب .
إن عمل الكهنوت كله ،وكل أعمال الخدمة والرعاية ،هي أعمال للرب ،
يعمل فيها الله في إختفاء ،ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة .هو يعمل فينا
،وهو يعمل بنا ،وهو يعمل معنا ،ولكنه غير ظاهر ،أما نحن فنبدو للناس ،
كأننا نعمل .بينما " ليس الغارس شيئا ً ول الساقي ،بل الله الذي ينمي " )
1كو . ( 7 : 3ولكن الله كثيرا ً ما يعطي السلطان لولده ،دون أن يستخدمه
مباشرة ...
والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في أختفاء ،أن يختفوا هم
ليظهر الله .
فمجد الله ل يجوز أن يعطي لخر .أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين " :
ليس لنا يارب ليس لنا ،ولكن لسمك القدوس أعط مجدا ً " ) مز ( 1 : 115
.
وعمل المعجزات يعلمه الله أيضا ً في اختفاء عن طريق أولده فيظهرون هم
في الصورة ،أما الرب فيقول لهم في حب " من يكرمكم يكرمني " ...الله
يرسل السيدة العذراء ،أو الملك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من
القديسين ،فيعلمون معجزات ،ويمجدهم الناس ،ويفرح الرب بأن أولده
يتمجدون ...بل كثيرا ً ما يقع إنسان في ضيقة ،فيصرخ مستغيثا ً " يا
مارجرجس " ،ويسمع الرب ،فيرسل مارجرجس ،فينقذه ...أو ينذر إنسان
نذرا ً للعذراء ...ويفرح الرب ويستجيب ...
بل أن الكنائس ـ وهي كنائس الله ـ سمح أن تبني على أسماء أولده .
فنقول كنيسة العذراء ،وكنيسة مارجرجس ،وكنيسة النبا أنطونيوس ،
وكنيسة مارمرقس ...وكلها بيوت للرب .ولكن الرب يفرح بأولده ...
بل حتي شريعة الرب ينسبها أيضا ً لولده أحيانا ً ،فيقول " :-ناموس موسي
" أو " شريعة موسى " ،بنما هي شريعة الرب ل غيره .ويقول الرب
للبرص " :قدم القربان الذي أمر به موسي " ) مت ( 4 : 8ويقول أيضا ً " :
موسى من أجل قساوة القربان إذن لكم أن تطلقوا نساءكم " ) مت 8 : 19
( ،بينما الذي هو الله ،والذي أمر هو الله .ولكن الله يرفع من شأن موسي
،ويضع إسمه بدل ً من نفسه ! ...
من هم هؤلء يارب الذين تريد أن تظهرهم ؟ إنهم تراب ورماد ،عدم ليس
لهم وجود ...ولكنهم أحباؤك قديسوك ...
هناك عبارة عجيبة في العهد القديم ،وقفت أمامها منذهل ً لحظات طويلة ...
في قصة الله مع موسى النبي .عندما ثقلت المسئولية على موسي ،قال
له الرب " :إجمع إلى سبعين رجل ً ...فأنزل وأتكلم معك هناك .وآخذ من
الروح الذي عليك وأضع عليهم ،فيحملون معك ثقل الشعب " ) عد 16 : 11
. ( 17 ،
تصوروا ،الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم ! وما هو الروح
الذي على موسى ؟ أليس من عندك يارب ؟! كيف تأخذ منه ؟ وكيف تأخذ
منه أمام كل هؤلء ؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى ،
أنت يا مصدر كل عطية صالحة ،أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم ...كل ،
إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى ،وأضع عليهم ،وأرفع شأن
موسى في أعينهم ...مبارك أنت يارب في كل تدبيرك الصالح .
الله يحب أولده ،ويريد أن يكرمهم ،في السر والجهر .
بل أن الله كثيرا ً ما كان يسمي نفسه بأسماء أولده ....فيقول " :أنا إله
إبراهيم ،وإله إسحق ،وإله يعقوب " ) خر . ( 6 : 3ما هذا يارب ؟ إنهم هم
الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك ...الله يختفي ويظهر أولده .وهم بالمثل
يختفون لكي يظهر هو أنها محبة متبادلة .
ومن المظاهر العجيبة في إخلء الرب لذاته ،ورفع شأن أولده ،قصــة عمــاد
الرب من عبده يوحنا بن زكريا ...
يوحنا الذي لم يكن مستحقا ً أن ينحني ويحل سيور حذائه ،يوحنا الذي قال له
في صراحة " :أنا محتاج أن أعتمد منك " ،يقف أمامه رب المجد قائل ً " :
إسمح الن " ...فسمح له ،وإعتمد الرب منه ...يا للعجب ...رئيس الكهنة
العظم ،وراعي الرعاة ،الكاهن إلى البد على طقس ملكي صادق يأتي
ليعتمد من يوحنا ،بينما تنفتح السماء ،ويسمع صوت الب قائل ً " :هذا هو
إبني الحبيب الذي به سررت " ) مت 13 : 3ـ . ( 17
ً
كانت معمودية يوحنا للتوبة ...ولم يكن السيد المسيح محتاجا إلى التوبة
مطلقا ً لنه قدوس بل عيب .فلماذا أعتمد ؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا
جاءوا معترفين بخطاياهم ) مت . ( 6 : 3ولم تكن للرب خطايا يعترف بها ،
ويتوب عنها ويعتمد بسببها ،حاشا ...فلماذا إعتمد إذن ؟!
إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد ...وبنفس الوضع ،من أجلنا
إعتمد .من أجلنا أخذ شكل الخطاة ،إذ وضع عليه إثم جميعنا ،ووقف يطلب
عنا معمودية التوبة ،كنائب عن البشرية الخاطئة ...
ماذا كانت السقطة الولي سوي الكبرياء ،سواء سقطة الشيطان أو سقطة
النسان ؟! فالشيطان قال في قلبه " :أصعد إلى السموات ،أرفع كرسي
فوق كواكب الله ...أصير مثل العلي " ) إش . ( 14 ، 13 : 14وعندما
أسقط أبوينا الولين أغراهما بقوله " :تنفتح أعينكما ،وتكونان مثل الله " ...
) تك . ( 5 : 3
ً ً
أخلي الله ذاته آخذا صورة العبد ،لكي يعطي درسا للعبد الذي أراد أن يرفع
ذاته ويصير إلها ً .وهكذا صار إبن الله الوحيد إبنا ً للنسان ،ليعالج كبرياء
النسان ويجعله إبنا ً لله ،بالتضاع الذي إتضع به إبن الله ،وليس بكبرياء
السقطة الولي ...
وهكذا في إخلئه لذاته قيل إنه شابه " :أخوته " في كل شئ ) ...عب 2ك
. ( 17
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له ،إنما يبكت الذين يعاملون
إخوتهم كعبيد لهم ،أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزا ً أعلي من
إخوتهم ...أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا ...لقد أخلي ذاته ،حتى
استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائل ً " :حاشاك يارب ) " ...مت
. ( 22 : 16وسمح لكثيرين أن يجدلوه ويناقشوه ،بعكس كثرين من البشر
الذين ل يقبلون جدال ً من أحد وكان تلميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى
سموهم " الحواريين " ...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته ،وصار كواحد منا ...أراد النسان أن يرتفع
ويصير مثل الله .فنزل الله وصار مثل النسان ...لكي ينيله بغته ،ولكن
بطريقة سليمة ،بإتضاع الله ل بأرتفاع النسان ....
النسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد ...فبدل ً من أن يرتفع
النسان ليقف مع الله ،نزل الله ليقف مع النسان .ليكما بنزوله يخجل
النسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه .وباتضاعه يقترب إلى صورة الله
المتضع .لقد أخذ الرب صورة العبد ،لكي يخفض من تشامخ السادة ...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلء الرب لذاته .ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا
سلطانا ً في أيدينا ،نريد أن تميد الرض تحت أقدامنا ،وترتعش السموات
من فوق ...
إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته ـ وفيه كل الملء ـ فنحن الفراغ ،كيف
نخلي ذواتنا ؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللهوت ،أخلي ذاته وصار
في الهيئة كإنسان .وهو الله أخذ شكل العبد ،فالعبد عندما يخلي ذاته أي
شئ يكون ؟ إن سرنا النسان هو أن يسأل النسان ذاته :ما هي ذاتي حتى
أخليها ؟! وعندما يشعر النسان أنه فراغ ،ل يوجد فيه شئ يخليه ،يكون
حينئذ في طريقة إلى كل الملء ...
النزول إلى فوق :
إن السيد المسيح إلهنا ـ عندما أخلي ذاته ـ نزل من السماء إلى الرض ،وما
أبعد المدي بين الثنين ! ونحن الذين على الرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي
أين ننزل ،وإلى أين نهبط ؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط ؟ ل
شك أننا في هبوطنا ،وإنما نهبط من الرض إلى السماء .وفي نزولنا إنما
ننزل من تحت إلى فوق !! ...
وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية ،مقاييس العلو
والهبوط ...
ألغاها كلها ،وغيرها إلى العكس فقال " :من يرفع نفسه يتضع ،ومن يضع
نفسه يرتفع " ) مت . ( 12 : 23وقال في نفس المعني " :من أراد أن
يكون فيكم عظيما ً ،فليكن خادما ً .ومن أراد أن يكون فيكم أول ً ،فليكن
عبدا ً " ) مت . ( 26 : 20وقال أيضا ً " :إذا أراد أحد أن يكون أول ً ،فليكن
آخر الكل وخادما ً للكل " ) مر . ( 35 : 9
فالشخص الذي يرفع نفسه ،إنما يهبط بمستواها الروحي .كلما إنتفخ ،
يتضاءل حتى يصبح ل شئ ...مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان
الذي كلما يرتفع ،تتسع رقعته .وكلما تتسع رقعته يتلشي حتى يصبح ل شئ
.وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال " :
لن الرشاد يهلكون فنوا كالدخان فنوا " ) مز " ( 20 : 37كما يذري الدخان
تذريهم " ) مز . ( 2 : 68
إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم ،إنما ) يرفعونها ( إلى أسفل ،ل إلى
فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله " :من يرفع نفسه يتضع " ...
أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو ـ أن صح
التعبير يهبطون إلى فوق ...هم باستمرار ينزلون إلى العالي الكائنة في
العماق ،لن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق ،عندما
أخلي ذاته ..لقد علمنا أن العلو هو العمق ،وأن العلو والعمق ،عندما أخلي
ذاته ...لقد علمنا أن العلو هو العمق ،وأن العلة يوجد تحت ل فوق ...
وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل .
إن المتضعين من قبل في هبوطهم ،والمتكبرين يهبطون في صعودهم .
وكل من يريد أن يصعد إلى فوق ،ويلتصق بالله ،علية أن ينزل إلى الرض
ويقول مع داود " :لصقت بالتراب نفسي " ) مز . ( 25 : 119وإلهنا البائس
من المزبلة ،ليجلس مع رؤساء شعبه " ) مز . ( 7 : 113
والن ،كيف تخلي ذاتك أيها الخ :
أول شئ نتذكره في ميلد الرب هو عمق محبته للناس .فمن أجل محبته
لهم سعي لخلصهم .ومن أجل محبته لهم أخلي ذاته ،وأخذ شكل العبد ،
ونزل من السماء ،وتجسد وصار في الهيئة كإنسان ) في . ( 8 ، 7 : 2
إن التجسد والفداء ،أساسهما محبة الله للناس .فهو من أجل محبته لنا ،
جاء إلينا .ومن أجل محبته لنا ،مات عنا .لهذا يقول الكتاب " :هكذا
أحب ...حتى بذل إبنه الوحيد ) " ...يو . ( 16 : 3أنظروا ماذا يقول " :
هكذا أحب ...حتى بذل " .نحن إذن في تجسده ،نذكر محبته التي دفعته
إلى التجسد .وإعترافا ً منا بهذه المحبة ،نتغنى بها في بدء كل يوم ،إذ نقول
للرب في صلة باكر " :أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر ،وكل الخليقة تهللت
بمجيئك " .قبل ميلد السيد المسيح ،كان هناك خصومه بين الله والناس .
فجاء السيد المسيح لكي يصالحنا مع الله ،أو جاء لكي نصطلح معه هو .
قبل مجيئه كانت هناك خصومة بين السماء والرض .ومرت فترة طويلة
كانت فيها شبه قطيعة بين السمائيين والرضيين :ل رؤي ،ول أحلم مقدسة
،ول أنبياء ،ول كلم من الله للناس ،ول ظهورات مقدسة ...ول أية صلة
واضحة !! ...كانت الرض بعيدة عن السماء طوال تلك الفترة ...
كانت خطايا الناس كاليالي الشتاء :باردة ومظلمة وطويلة .وكانت تحجب
وجه الله عنهم .وكانت الخصومة بينهم وبين الله ،يثلها في الهيكل الحاجز
المتوسط اليذ ل يستطيع أحد من الشعب أن يختاره إلى قدس القداس ...
وزادت خطايا الناس ،وأحتدم غضب الله عليهم ،وإستمر القطيعة .ولم
يحاول البشر أن يصطلحوا مع الله .
ثم جاء السيد المسيح ،فأقام صلحا ً بين الناس والرض ،وأرجع الصلة بينهما
.وبدأت تباشير الصلح تظهر .ورجعت العلقات كما كانت من قبل وأكثر ...
ولكي أوضح المر لكم أقول :تصوروا أن دولتين متخاصمين ،قد رجع الصلح
بينهما ،فماذا تكون النتيجة :طبعا ً ترجع العلقات كما كانت :يعود التمثيل
السياسي بينهما ،وإرسال السفراء والقناصل ...وفي ظل المودة الجديدة
تبرم أتفاقية اقتصادية ،إتفاقية عسكرية ...المهم أنه توجد علقة وصلة .
كذلك لنفرض أن شخصين متخاصمين قد إصطلحا ،في ظل الصلح نري
العلقات قد بدأت ترجع ،تعود التحيات والبتسامات والزيارات والحاديث ،
وتعود المودة ...هكذا حدث بين السماء والرض .وبدأت تباشير الصلح
تظهر بمجئ السيد المسيح أو في خطوات وممهدات مجيئه ..
تباشير الصلح .
وأول شئ شاهدناه من تباشير هذا الصلح هو كثيرة نزول الملئكة إلى
الرض .
في مجئ السيد المسيح وقبيل مجيئه إزداد ظهور الملئكة بشكل واضح
ظهورات متوالية ،فردية وجماعية ،كسفراء للرب .وتهلل الملئكة بفرح
عظيم ،وأرادوا أن يشتركوا في هذا الحدث العجب وهو تجسد الرب وميلده
فظهر ملك يبشر زكريا بولدة يوحنا ) لو ، ( 11 : 1وملك يبشر العذراء
بولدة السيد المسيح ) لو ، ( 26 : 1وملك ظهر ليوسف في حلم يخبره
بحبل العذراء ) مت . ( 20 : 1وملك ظهر للرعاة يبشرهم بالميلد اللهي
) لو . ( 9 : 2وملك ظهر ليوسف في حلم وأمره أن يهرب بالطفل يسوع
وأمه إلى مصر ) مت . ( 13 : 2بالضافة إلى هذا جمهور من الملئكة الذين
ظهروا مسبحين الله وقائلين :ط المجد لله في العالي وعلى الرض السلم
وبالناس المسرة " ) لو . ( 14 ، 23 : 12
إن ظهور الملئكة بهذه الكثرة ،يدل على أن العلقات بدأت ترجع بين
السماء والرض ،وتدل على فرح الملئكة بالخلص المزمع ،وإشتراكهم مع
الرضيين في هذا الفرح .
وظهور الملئكة في فترة الميلد كان مجرد طلئع للملئكة الذين ملوا العهد
الجديد ...ملئكة كانوا يخدمون الرب على جبل التجربة ) مر ، ( 13 : 1
وملئكة القيامة الذين ظهروا لنسوة ،ومثل الملكين اللذين طمأنا الرسل
وقت صعود الرب ) أع ... ( 10 : 1
كان هؤلء جميعا ً طلئع نعرف بهم الملئكة غير المرئيين المحيطين بنا إن ،
الذين قال عنهم القديس بولس الرسول " :أليس جميعهم أرواحا ً خادمة ،
مرسلة للخدمة لجل العتيدين أن يرثوا الخلص " ) عب . ( 14 : 1
ولم يكتف السماء في صلحها مــع الرض بظهــور الملئكــة ،بــل إمتــدت إلــى
الحلم المقدسة بما فيها من توجيه ومن إعلن .
إجتمع المران معا ً بالنسبة ليوسف الصديق :ملك ظهر له فــي حلــم يخــبره
بالحبل المقدس ) مت . ( 20 : 1وملك ظهر له في حلم يأمره بالذهاب إلى
مصر ) متت . ( 13 : 2ثم بعد ذلك ظهر له ملك في حلم أرض مصر يأمره
أن يرجع إلى بلدة لنه " قد قام الذين كانوا يطلبون نفس الصبي " ) مت : 2
. ( 20ولما خـاف أن يــذهب إلـى اليهوديـة بســبب أن أرخيلوس كـان يملــك
هناك " ،أوحي إليه في حلم " أن ينصرف إلى نواحي الجليل ،فذهب وسكن
في الناصرة ) مت . ( 22 : 2
هؤلء الملئكة الذين ظهروا ليوسف الصديق في الحلم ،يعطوننا فكرة عن
سمو مكانه العذراء .فالعذراء ظهر لها الملئكة عيانا ً في صحوها ،رأتهم
بعينيها وسمعتهم بأذنيها ،أما يوسف الصديق فرأي وسمع في الحلم .إن
هذا يذكرنا بالفرق الكبير بين مركز موسي النبي ومركز هارون ومريم .
اللذين وبخهما الرب عندما تقول على موسي ،فقال لهما " :إن كان منكم
نبي للرب ،فبالرؤيا إستعلن له ،في الحلم أكمله .وأما عبدي موسي فليس
هكذا بل هو أمين في كل بيتي .فما ً إلى فم وعيانا ً أتكلم معه " ) عد 6 : 12
ـ.(8
لقد كلم الملئكة يوسف الصديق عن طريق الحلم .وهكذا حدث أيضا ً مع
المجوس إلى هيرودس ،فانصرفوا إلى كورتهم " ) مت . ( 12 : 2
وحديث المجوس يذكرنا بظهورات مقدسة أخري صاحبت حديث الميلد ،
ونقصد أول ً النجم الذي ظهر للمجوس ،وأرشدهم إلى مكان المزود
المقدس) مت 1 : 2ـ . ( 12لم يكن ذلك النجم عاديا ً ـ كما شرح القديس
يوحنا ذهبي الفم ـ بل كان قوة إلهية أرشدتهم .ذلك أن مساره كان غير
عادي من المشرق إلى الغرب ،وكان يظهر حينا ً ،ويختفي حينا ً آخر ،ويقف
حينا ً ثالثا ً .كذلك يقول عنه أنه " :وقف حيث كان الصبي " .هذا النجم كان
ظهورا ً مقدسا ً ولم يكن نجما ً كباقي النجوم ...
وفي صلح السماء مع الرض الذي جبلته بركة الميلد لم تقتصر الصلة على
ظهور الملئكة والحلم المقدسة والظهورات المقدسة ،بل أيضا ً رجعت
روح النبوة مرة أخري ،ورجع عمل الروح القدس في الناس وامتلؤهم منه .
نقرأ عن يوحنا المعمدان في بشارة الملك عنه أنه " :من بطن أمه يمتلئ
من الروح القدس " ) لو . ( 15 : 1ونقرأ في بشارة الملك للعذراء قوله لها
" :الروح القدس يحل عليك ،وقوة العلي تظللك " ) لو . ( 35 : 1ونقرأ
في زيارة العذراء للقديسة اليصابات أنه " :لما سمعت اليصابات سلم مريم
،إرتكض الجنين في بطنها ،وإمتلت اليصابات من الروح القدس " ) لو : 1
. ( 41ونقرأ عن زكريا الكاهن ـ بعد إنقضاء فترة صمته ـ " وامتل زكريا أبوه
من الروح القدس وتنبأ قائل ً . ( 67 : 1 ) " ...ونقرأ أيضا ً عن سمعان الشيخ
أنه كان رجل ً بارا ً " :والروح القدس كان عليه وكان قد أوحي إليه بالروح
القدس ) " ...لو . ( 26 : 25 : 2
عجيب جدا ً هذا العمل الواسع للروح القدس في الناس في تلك الفترة
المقدسة .وعجيب هذا المتلء من الروح القدس وهذا الحلول ،وهذا التنبوء
أيضا ً ...لقد تنبأ زكريا الهن ،وتنبأت إمراته اليصابات ،وتنبأ سمعان الشيخ ،
وتنبأت حنة بنت فنوئيل ) لو . ( 36 : 2وبدا أن الله رجع يتكلم في أفواه
النبياء وكل ذلك كان من بوراد إنتهاء الخصومة بميلد السيد المسيح ،أو
كانت هذه هي تباشير الصلح الذي تم على الصليب .
وكان من تباشير الصلح أيضا ً رجوع المعجزات .والمعجزات دليل عمل يد
الله مع الناس ...كان إنفتاح رحم اليصابات العاقر هو المعجزة الولي .
وكان صمت زكريا الكاهن ثم إنفتاح فمه بعد تسعة أشهر معجزتين أخريين .
وكانت معجزة المعجزات هي ولدة السيد المسيح من عذراء .وكان إرتكاض
الجنين بإبتهاج في بطن اليصابات تحيه الله الذي في بطن العذراء هو
معجزة أخري .ول نستطيع أن نحصي المعجزات التي رافقت ميلد المسيح
وطفولته .أما معجزاته في أرض مصر ،فلعل أبرزها هو ما يشير إليه أشعياء
النبي قائل ً " :هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر .
فترتجف أوثان مصر من وجه ،ويذوب قلب مصر داخلها " ) إش . ( 1 : 19
وفعل ً سقطت أوثان مصر بدخول الرب إليها ...
كل هذا يدل على أن يد الرب قد بدأت تعمل ،وأن ميلد السيد المسيح كان
مقدمة لصلح السماء مع الرض ،الصلح الذي قلنا إن أولي تباشيره كان
ظهور الملئكة .ويحسن أن نقف وقفة تأمل بسيطة عند ظهورات الملئكة
هذه ...
• أول ملك ظهر وذكره النجيل المقدس ،كان هو الملك الذي ظهر
لزكريا الكاهن .إنها لفته كريمة من الرب يعطى بها كرامة للكهنوت ،
فيكون ظهور الملئكة اول ً للكهنة ،بعد فترة الحتجاب الطويلة .ولفته
كريمة أخري للكهنوت ،أن يظهر الملك في مكان مقدس " :واقفا ً عن
يمين مذبح البخور " وفي لحظة مقدسة عندما كان زكريا البار يكهن
للرب ويرفع البخور أمامه ) لو 8 : 1ـ ... ( 10
جميل من الرب أنه عندما أرسل خدامه السمائيين أول ً إلى بيته المقدس
وإلى خدام مذبحة الطاهر .ول شك أن هذا كله يشعرنا بجمال المذبح الذي
وقف الملك عن يمينه في أول تباشير الصلح .كم بالكثر جدا ً مذبح العهد
الجديد في قدسيته الفائقة للحد ،حيث ملك الذبيحة الصاعد إلى العلو
يحمل إلى الله تضرعنا ...
نعود إلى الملك الطاهر الذي ظهر لزكريا الكاهن ...
كان ملكا ً يحمل بشارة مفرحة .لقد عاد الرب يفرح وجه الرض التي
حرمت كثيرا ً من أفراحه في فترة القطعية والخصومة .وهل هناك فرح
أعظم من تبشير زوج العاقر بأنها ستلد إبنا ً :ط لم يقم بين المولودين من
النساء من هو أعظم منه " ) مت ، ( 11 : 11إبنا ً سيكون " :عظيما ً أمام
الرب " ) لو !! ( 15 : 1عبارات " :الفرح " تدفقت من فم الملك ،فقال :
" ل تخف يا زكريا ،لن طلبتك قد سمعت ،وامرأتك اليصابات ستلد لك إبنا ً ،
وتسميه يوحنا ،ويكون لك فرح وإبتهاج ،وكثيرون سيفرحون بولدته " .
وكانت إيحاءه جميلة من الرب في تباشير هذا الصلح ،أن يسمي الطفل "
يوحنا " ...وكلمة يوحنا معناها " :الله حنان "!!
وكأن الله يقصد أنه وإن تركنا زمنا ً ،إل أن محبته دائمة إلى البد " ،مياة
كثيرة ل تستطيع أن تطفئها " ) نش . ( 7 : 8وأنه وإن حجب وجهه حينا ً ،
فإنه ل يحجب قلبه الحنون .فعلي الرغم من فترة القطيعة بين السماء
والرض التي سبقت ميلد السيد المسيح ،وعلى الرغم من الخصومة
القائمة ،كان الله ما يزال كما هو ،كله حنان وشفقة " ...الله حنان " أو "
الله حنون " .لعل هذا يذكرنا بقول الرب من قبل :
" لنه كإمراة مهجورة ومخزونة الروح دعاك الرب ،وكزوجة الصبا ...لحيظة
تركتك ،وبمراحم عظيمة سأجمعك .بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك
لحظة وبإحسان أبدي أرحمك "
) إش 6 : 54ـ . ( 8
إنها نبوءة أشعياء عن مصالحة الرب لشعبه وكنيستة ،قد بدأت تتحقق ...
تلك النبوءة العجيبة ،الجميلة في موسيقاها ،التي بدأها الرب بنشيده العذب
" :ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد ) " ...إش . ( 1 : 54تري أكاذيب
اليصابات " :العاقر التي لم تلد " رمزا ً للكنيسة في إفتقاد الرب لها ؟ وهل
كان إسم إبنها يوحنا " :الله حنان " رمزا ً أيضا ً لمصالحة الله لكنيستة ؟ وهل
ترنم اليصابات " :العقر التي لم تلد " كان بشيرا ً يتحقق باقي مواعيد الله إذ
يقول لكنيسته في نفس النشيد :
" كما حلفت أن ل تعبر بعد مياة نوح على الرض ،هكذا حلفت أن ل أغضب
عليك ول أزجرك .فإن الجبال تزول ،والكام تتزعزع ،أما إحساني فل يزول
عنك ،وعهد سلمي ل يتزعزع ،قال راحمك الرب " .
ط أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية ،هأنذا أبني بالثمد حجارتك ،
وبالياقوت الزرق أؤسسك .وأجعل شرفاتك ياقوتا ً ،وأبوابك حجارة بهرمانية
،وكل تخومك حجارة كريمة .وأجعل كل بنيك تلميذ الرب ،وسلم بنيك
كثيرا ً " ) إش 11 : 54ـ . ( 13
هل كان هذا الصحاح الرابع والخمسون من نبوءة اشعياء موضع تأمل
القديسة اليصابات في خلص الرب القريب ،طوال الستة أشهر التي مرت
ما بين بشارة الملك لزكريا وبشارة الملك للعذراء ؟! إن هذه الفكرة تمل
قلبي ،وتضغط على عقلي بإلحاح شديد ...ول شك أن هذه القديسة
الشيخة التي كانت تحمل إبنا ً نذيرا ً للرب في أحشائها ،كانت تشعر أنه ليس
بأمر عادي هذا الذي حدث لها وإذ نتأمل في هذا الفصل من اشعياء ـ الذي
ينطبق عليها وعلى الكنيسة ـ يهز كيانها كله هذا " النبي النجيلي " إذ يقول :
" ها العذراء تحبل وتلد إبنا ً وتدعو إسمه عمانؤئيل " ) إش . ( 14 : 7
قلنا إنه من تباشير الصلح بين السماء والرض كان ظهور الملئكة للبشر .
وكان الملك الول هو الذي بشر زكريا الكاهن .
• أما الملك الثاني ،فكان جبرائيل ،الذي بشر السيدة العذراء .
نلحظ أن هذا الملك كان له مع العذراء أسلوب معين .لقد بدأها بالتحية ،
بأسلوب كله توقير وإحترام لها .في بشارة زكريا لم يبدأه الملك بالتحية ،
وإنما قال له " ل تحف يا زكريا فإن طلبتك قد سمعت " .أما في بشارة
العذراء فقال لها الملك :
" السلم لك ايتها الممتلئة نعمة .الرب معك " .وعندئذ ـ بعد هذه المقدمة ـ
بدأ الملك في إعلن رسالته .وحتى هذه الرسالة أدمجها بعبارة مديح أخري
فقال " :ل تخافي يا مريم ،لنك قد وجدت نعمة عند الله " ثم بعد ذلك
بشرها بالخبر الذي جاء من أجلة " :ها أنت ستحبلين وتلدين إبنا ً وتسمينه
يسوع . " ...
إنه اسلوب إحترام عجيب يليق بالتحدث مع والدة الله الممجدة ،المملكة
الجالسة عن يمين الملك .
لم يستطع رئيس الملئكة جبرائيل أن ينسى أنه واقف أمام أقدس إمرأة في
الوجود ،وإنه واقف أمام أم سيده ،التي ستكون سماء ثانية لله الكلمة .
فخاطبها بأسلوب غير الذي خوطب به الكاهن البار زكريا ...
هنا نلحظ أنه لم يبدأ فقط صلح بين السمائيين والرضيين ،بل بدأ تقدير
وتوقير من سكان السماء لسكان الرض في شخص أمنا وسيدتنا العذراء
مريم ...فمرحبا ً بهذا الصلح .
• أما الظهور الثالث ،فكان ظهور ملك الرب للرعاة .
هنا نجد تقدما ً ملموسا ً في العلقات ،إذ لم يقتصر المر على أن " ملك
الرب وقف بهم " بل يقول الكتاب أكثر من هذا " :ومجد الرب ...أضاء
حولهم " .وبعد أن بشرهم الملك " بفرح عظيم " يكون " لجميع الشعب " ،
وبولدة " مخلص " " ،ظهر بغتة ـ مع الملك ـ جمهور من الجند السماوي
مسبحين الله وقائلين " :المجد لله في العالي ،وعلى الرض السلم ،
وبالناس المسرة " .
• وهنا نسمع عبارات الفــرح ،والمســرة ،والســلم ،والخلص ...وبــدل ً
من ظهور ملك واحد ،نري جمهورا ً من الجند السماوي يسبحون .
إنها تباشير الصلح العظيم ،المزمع أن يتم على الصليب .ونلحظ أن هذا
الصلح قد بدأه الله ل الناس .
أول ما نتذكره في هذا المجال ،هو أن الله يسعى لخلص النسان ،حتى لــو
كان النسان ل يسعى لخلص نفسه .
نلحظ هذا منذ البدء :عندما أخطأ آدم وسقط ،لم يسع لخلص نفسه ،بل
نراه ـ على العكس من ذلك ـ قد هرب من الله ،وخاف من الله ،وإختفي ،
بل نراه .لم يحدث أنه سعي إلى الله ،طالبا ً الصفح والمغفرة ،وطالبا ً
النقاوة والطهارة .بل إنه " :لما سمع صوت الرب الله ماشيا ً في الجنة ...
" اختبأ هو وإمراته من وجه الرب " تك . ( 8 : 3وهكذا أوجد حجابا ً وحاجزا ً
بينه وبين الله .وبدأت الخصومة .
من الذي سعي لخلص آدم ؟ إنه الله نفسه ،دون أن يطلب آدم منه ذلك .
آدم شغله الخوف عن الخلص أو حتى عن مجرد التفكير فيه ...وهكذا بحث
الله عن آدم ...وأعطاه وعدا ً بأن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية
) تك . ( 15 : 3
لقد أعتبر الله أن المعركة الدائرة هي بينه وبين الشيطان ،وليست بين
الشيطان والنسان .أعتبر أن قضيتنا هي قضيته هو .وإذا بنسل المرأة الذي
يسحق رأس الحية هو الله نفسه الذي أتي في ملء الزمان من نسل
المرأة .هو الله إذن الذي دبر قصة الخلص كلها ،لنه :يريد أن الجميع
يخلصون ،وإلى معرفة الحق يقبلون " ) 1تى . ( 4 : 2هو يريد خلصنا
جميعا ً ويسعى إليه ،حتى إن كنا نحن ـ في تكاسلنا أو في شهواتنا ـ غافلين
عن خلص أنفسنا ! ...
في قصة الخروف الضال ،نرى أن هذا الخروف الضال لم يسع لخلص
نفسه ،وإنما تائها ً وبعيدا ً .والراعي الصالح هو الذي جرى وراءه .
هو الذي فتش عليه وسعي إليه ،وهو الذي تعب من أجله إلى أن وجده ،
وحمله على منكبيه فرحا ً ،ورجع به سالما ً إلى الحظيرة ...
وفي قصة الدرهم المفقود ،نجد نفس الوضع أيضا ً ...
فإن تعطل خلص النسان ،يكون السبب بل شــك راجع ـا ً إلــى النســان ذاتــه
وليس إلى الله .
وهذا المر واضح في تبكيت الرب لورشليم ،إذ قال لها " :يا أورشليم يا
أورشليم ،يا قاتلة النبياء وراجمة المرسلين إليها .كم مرة أردت أن أجمع
أولدك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ،ولم تريدوا " ) مت : 23
... ( 37أنا أردت ،وأنتم لم تريدوا ...
مثال أخر هو عروس النشيد .الله هو الذي سعي لخلصها " طافرا ً على
الجبال ،وقافزا ً على التلل " وقال لها " :افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا
حمامتي يا كاملتي ،لن رأسي قد إمتل من الطل وقصصي من ندي الليل "
) نش . ( 2 : 5وتكاسلت النفس في الستجابة ،وتعللت بالعذار .فماذا
كانت النتيجة ...كانت أنها عطلت عمل النعمة فيها بعض الوقت وصاحت في
ندم " :حبيبي تحول وعبر " ...
تأكد أنك إن كنت تريد الخلص من الخطية ،فإن الله يريد ذلك أضعافا ً
مضاعفة ...
المهم إنك تبدي رغبتك المقدسة هذه .هناك عبارة لطيفة قالها أحد
القديسين .قال ] :إن الفضيلة تريدنا أن نريدها ل غير [ .يكفي أن نريد ،
إرادة جادة ،والله يتولي الباقي .بل حتى هذه الرادة هو يمنحها لنا ،لجل
خلصنا .
ومن القصص العجيبة عن سعي الله لخلصنا ،ما يقوله الله ـ في سفر
حزقيال النبي ـ للنفس الخاطئة الملوثة " :مررت بك ورأيتك مدوسة
بدمك ...وقد كنت عريانة وعارية .فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب
.فبسطت ذيلي عليك ...ودخلت معك في عهد ـ يقول السيد الرب ـ
فحممتك بالماء ،وغسلت عنك دماءك ،ومسحتك بالزيت ...وجملت جدا ً
جدا ً ،فصلحت لمملكة " ) خر . ( 16
تلك النفس المسكينة ـ لو تركت لذاتها ـ لبقيت على حالها مطروحة وملوثة ،
عريانة وعارية .ولكن الله فعل من أجلها الكثير ،وأنقذها مما هي فيه ...
ولكن ليس معني سعي الله لخلصنا ،أننا نتكل على ذلك ونكسل ! كل وإل
فإنه يتحول ويعبر كما حدث مع عروس النشيد .إنما يجب أن تتحد إرادتنا
بإرادته .وعملنا بعمله .هو ينزل إلى عالمنا ،ونحن نقدم له ولو مزودا ً
ليستريح فيه ...
إن الله يسعى لخلصنا ،ويسعى ليصالحنا معه .الصلح يبدأ من جانب الله ...
إنه درس لنا حينما تكبر قلوبنا على أخوتنا الصغار ،فل نسعي لمصالحتهم
بحجة أننا الكبار !! ...
الكبير يسعى لمصالحة الصغير
في كــل تباشــير الصــلح الــتي ذكرناهــا نــرى أن اللــه هــو الســاعي لمصــالحة
البشرية .النور الذي ل يدنى منه ،يسعى لمصــالحة الــتراب والرمــاد ! ملــك
الملــوك ورب الربــاب يتقــدم ليصــالح عبيــده ...نــراه أنــه هــو الــذي أرســل
الملئكة للبشر وهو الذي بعث إليهم برســائل فــي الحلم .وهــو الــذي أرجــع
لهم روح النبوة ،وهو الذي عمل على إعادة العلقــات كمــا كــانت ...بــل هــو
الذي أرسل إليهم إبنه الوحيد ليخلصهم ،من فرط محبته لهم .
وكما قال القديس يعقوب السروجي ] :إنه كانت هناك خصومة بين الله
والنسان .فلما لم يتقدم النسان لمصالحة الله نزل الله ليصالح النسان [ .
ولم يحدث هذا في الميلد فقط ،وإنما كان هو دأب الله دائما ً .نراه وهو
الكبير العالي غير المحدود يسعى لمصالحة النسان .يقول " :أنا واقف
على الباب وأقرع .من يفتح لي أدخل وأتعشى معه " ) رؤ . ( 29 : 3ونحن
نتساءل في عجب :كيف يارب تقف على الباب وتقرع .البشر هم الذين
أذهب إليهم .أنا لست أبحث عن كرامة لي ،وإنما أبحث عن خلصهم هم ،
ول أستريح حتى أطمئن على خلصهم .
حقا ً ،ما أعجب قلب الله المحب ،وما أعجب تواضعه ...
الله يرسل النبياء والرسل لكي يصالحوه مع البشر .يعترف القديس بولس
الرسول بهذا فيقول " :نسعي كسفراء عن المسيح ،كأن الله يعظ بنا ،
نطلب عن المسيح :تصالحوا مع الله " ) 2كو . ( 20 : 5
حقا ً :هل كان هناك عمل آخر للنبياء سوى عقد صلح بين الله والناس .
والله هو الذي طلب الصلح فأرسل أنبياءه ! بل ما أعجب الرب في سعيه
للصلح إذ يقول :
" بسطت يدي طول النهار ،إلى شعب معاند ومقاوم " ) رو . ( 21 : 10
مازال الرب باسطا ً يده ،يطلب صلحا ً معنا ويقول " :هلم نتحاجج " ) إش
. ( 18 : 1
الله هو الذي صالح يونان النبي لما إغتم وإغتاظ ،مع أنه غضبه لم يكن
حسب مشيئة الرب .أعد له يقطينه " :فارتفعت فوق يونان لتكون ظل ً على
رأسه ،لكي يخلصه من غمه " وظل يجاذبه الحديث قائل ً له " :هل اغتظت
بالصواب ؟ " ويونان يجيب " :اغتظت بالصواب حتى الموت " لم يزل به
حتى أقنعه وصالحه ) يون . ( 4
ً
والسامرة التي أغلتق أبوابها في وجهه ،لن وجهه كان متجما نحو أورشليم ،
لم يتضايق من تصرفها هذا ،ولم ينزل نارا ً من السماء ليحرقها كما لقترح
التلمذان ،بل ذهب إليها ليصالحه ،وهي المخطئة .وبذل من حبه حتى
أصلحها وصارت له ) يو . ( 4
وفي قصة البن الضال ،نرى أن البن الكبير لما غضب ورفض أن يدخل ،
ورفض أن يشترك في الفرح برجوع أخيه ،مع أن غضبه لم يكن مقدسا ً ،
ومع أن إرادته كانت ضد إرادة إلب ،إل أن الب ذهب إليه ليصالحه .وفي
ذلك يقول الكتاب :
" فخرج أبوه يتول إليه " ) لو . ( 28 : 15مع أن كلم هذا البن كان قاسيا ً
في حديثه مع أبيه ،وكانت إتهاماته كثيرة وظالمة ،إل أن الب إحتمله ،
وأطال أناته على حتى صالحة .ولم يقل له كيف وأنت صغير تكلمني هكذا !
ولما أخطأ القديس بطرس وأنكر السيد المسيح ،لم ينتظر الرب حتى يأتي
القديس بطرس تائبا ً ومعتذرا ً ،بل هو الذي بداه بالكلم ،وسهل المر عليه ،
وأرجع العلقات كما كانت ،بنفس الدالة ...
إن الرب ل يرى في سعيه للصلح إنقاصا ً لقدرة أو إضاعة لكرامته ،بل على
العكس إنه يبرهن على محبه وعلى وتواضعه فيزداد حب الناس له .
وإن كان الله بميلده قد جاء ليصالحنا ،فإذهب أنت يا أخي وصالح غيرك .ل
تقل كيف أذهب أنا ؟ هم الذين يأتون .كل ،فإن الذي يقوم بالصلح ،هو
الذي ينال بركته ...ول تقل كيف أصالح ابني ،أو أخي الصغر ،أو خادمي ،
أو مرؤوسى ،وأنا الكبير ؟! إعرف أن الكبير هو الكبير في قلبه وفي حبه ،
في فضائله وفي احتماله .والله ل يقيس الناس بمقياس السن أو المركز ،
بل بنقاوة القلب .
ومهما كنت كبيرا ً ،فلن تكون مطلقا ً في درجة الله الذي سعي لمصالحة
عبيده ومخلوقاته !
وحاذر من أن تطلب إحتراما ً يليق بك ،حتى لو كان يليق بك المجد والكرامة
!! بل أطلب محبة الناس وبركتهم .وفي ذكري الميلد تذكر تواضع الرب
الذي نزل من سمائه إلينا ،فكيف ل نتنازل بعضنا للبعض ...
وفي مصالحة الناس ،ل تفكر في خطية غيرك ـ كبيرا ً كان أم صغيرا ـ وإنما
ً
فكر في نقاوة قلبك ،وضع أمامك تواضع الرب في مصالحته للبشر .
• الفداء حل السيد المسيح بيننا ؟
• الفداء هو السبب الساسي
للتجسد .
• اتى المسيح لينوب عن البشرية
.
• درس عجيب في التواضع .
• أسباب أخري .
لماذا حل السيد المسيح بيننا ؟
ونحن نحتفل بميلد السيد المسيح من العذراء ،لعلنا نتساءل فيما بيننا :ما
هي السباب التي دعت رب المجد أن يتخذ جسدا ً ويحل بينن ،ويصير في
الهيئة كإنسان ،ويولد من إمراة كبني البشر ؟
ل شك أن الفداء هو السبب الساسي للتجسد .جاء الرب إلى العالم ليخلص
الخطاة ،جاء ليفديهم ،جاء ليموت وليبذل نفسه عن كثيرين .هذا هو
السبب الرئيسي الذي لو إكتفى السيد المسيح به ولم يعمل غيره ،لكان
كافيا ً لتبرير تجسده .جاء السيد المسيح ليوفي العدل اللهي ،وليصالح
السماء والرض .
ً
ويمكننا أن نقول أيضا ـ إلى جوار عمل الفداء والمصالحة ـ إن السيد المسيح
قد جاء لينوب عن البشرية .وكما ناب عنها في الموت ،ينوب عنها أيضا ً في
كل ما هو مطلوب منها أن تعمله .إن النسان قد قصر في كل علقاته مع
الله ،فجاء " إبن النسان " لينوب عن النسان كله في إرضاء الله .
وفي فترة تجسده أمكن للرب أن يقدم للبشرية الصورة المثالية لما ينبغي
أن يكون عليه النسان كصورة الله ومثاله .قدم القدوة ،والمثال العملي .
حتى أن القديس أثناسيوس الرسولي قال إنه لما فسدت هذه الصورة التي
خلق الله بها النسان ،نزل الله ليقدم لهم الصورة اللهية الصلية ...
وأيضا ً لما أخطأ الناس في تفسير الشريعة اللهية وقدموها للناس حسب
مفهومهم الخاطئ ،ومزجوا بها تعاليمهم الخاصة وتقاليدهم ،جاء الرب
ليقدم للبشرية الشريعة اللهية كما أرادها الرب ،نقية من الخطاء البشرية
في الفهم والتفسير ...
وسنحاول الن أن نتناول هذه السباب جميعها ،نتحدث عنها بمزيد من
التفصيل ،ونري ما يمكن أن نستفيده من دروس روحية لحياتنا خلل هذا
الشرح .
1ـ الفداء هو السبب الساسي للتجسد :
لقد أخطأ النسان الول ،وكانت خطيته ضد الله نفسه :فهو قد عصي الله
وخالف وصيته .وهو أيضا ً أراد أن يكبر وأن يصير مثل الله عارفا ً الخير
والشر ) تك . ( 5 : 3وفي غمرة هذا الغراء نري أن النسان لم يصدق الذي
قال له عن شجرة معرفة الخير والشر " :يوم تأكل منها موتا ً تموت " ) تك
. ( 17 : 2وعلى العكس من هذا صدق الحية التي قال " :لن تموتا " .وبعد
الكل من الشجرة نري أن النسان قد بدأ يفقد إيمانه في وجود الله في كل
مكان وقدرته على رؤية كل مخفي ،وظن أنه إن إختبأ وسط الشجر يستطيع
أن يهرب من رؤية الله له .وفي محاسبة الله للنسان بعد الخطية ،نري أن
النسان يتكلم بأسلوب ل يليق ،إذ يحمل الله جزاءا ً من مسئولية خطيته
فيقول له " :المرأة التي جعلتها معى هي أعطتني " ) تك . ( 12 : 3
إنها مجموعة أخطاء موجهة ضد الله :عصيان الله ،ومنافسة الله في
معرفته ،وعدم تصديق الله في مواعيده ،وعدم اليمان بقدرة الله ،وعدم
التأدب في الحديث مع الله .
أخطأ النسان ضد الله ،والله غير محدود ،لذلك صارت خطيته غير
محدودة .والخطية غير المحدودة ،عقوبتها غير محدودة .وإن قدمت عنها
كفارة ،ينبغي أن تكون كفارة غير محدودة ،ول يوجد غير محدود إل الله .
لذلك كان ينبغي أن يقوم الله نفسه بعمل الكفارة ...
هذا هو ملخص المشكلة كلها في إيجاز ...
لقد أخطأ النسان ،وأجرة الخطية هي الموت ) رو . ( 23 : 6وكان لبد أن
يموت النسان ،وبخاصة لن الله كان قد أنذره بهذا الموت من قبل أن
يتعدي الوصية ،إذ قال له " :وأما شجرة معرفة الخير والشر فل تأكل منها .
لنك يوم تأكل منها موتا ً تموت " .وهكذا استحق حكم الموت ،وكان لبد أن
يموت .
كان موت النسان هو الوفاء الوحيد لعدل الله .وإن لم يمت النسان ،ل
يكون الله عادل ،ول يكون الله صادقا ً في إنذاره السابق ...
هذه النظرة يشرحها القديس أثناسيوس الرسولي باستفاضة في كتابه "
تجسد الكلمة " .وإذ يشرح لزوم موت النسان ،يشرح من الناحية المضادة
المشاكل التي تقف ضد موت النسان .فماذا كانت تلك المشاكل ؟
كان موت النسان ضد رحمة الله ،وبخاصة لن النسان قد سقط ضحية
الشيطان الذي كان أكثر منه حيلة ومكرا ً !! ) تك . ( 3
وكان موت النسان ضد كرامة الله ،إذ أنه خلق على صورة الله ومثالة ،
فكيف تتمزق صورة الله هكذا ؟!
وكان موت النسان ضد قوة الله ،كأن الله خلق خليقة ولم يستطع أن
يحميها من شر الشيطان ! وهكذا يكون الشيطان قد إنتصر في المعركة !!
وكان موت النسان ضد حكمة الله في خلقه للبشر .وكما يقول القديس
أثناسيوس الرسولي إنه كان خيرا ً للنسان لو لم يخلق ،ن أن يخلق ليلقي
هذا المصير !! وأخيرا ً كان موت النسان ضد ذكاء الله .إذ كيف توجد
المشكلة ول يستطيع عقل الله أن يوجد لها حل ً !!
إذن كان موت النسان ضد رحمة الله ،وضد كرامة الله ،وضد قوة الله ،
وضد حكمته وذكائه .وكان لبد لحكمة الله أن تتدخل لحل هذا الشكال ...
وهكذا تدخل أقنوم البن لحل الشكال .والبن كما يقول القديس بولس
الرسول هو " :حكمة الله وقوة الله " ) 1كو ، ( 24 : 1ويسميه سفر
المثال " :الحكمة " ) أم . ( 1 : 9
والن نسأل :كيف أمكن لحكمة الله حل هذا الشكال ؟ كان الحل هو
الكفارة والفداء ،لبد أن يموت أحد عن النسان ،فيفديه ،لنقاذه .ولم
يكن يصلح لهذا الفداء أي كائن آخر ،غير النسان ذاته ،ل ملك ،ول حيوان ،
ول روح ،ول أية خليقة أخري ...فلماذا ؟
كان ل يمكن لمخلوق أن يموت عن النسان لسببين :
أول ً ـ لن كل مخلوق محدود ،ل يمكن أن يقدم كفارة غير محدودة ،توفي
العقوبة غير المحدودة ،للخطية غير المحدودة .
ثانيا ـ لن الحكم صدر ضد النسان ،فيجيب أن يموت النسان .
وكان الحل الوحيد هو التجسد :أن ينزل الله إلى عالمنا مولودا ً من إمرأة ،
فهو من حيث لهوته غير محدود كإله ،يمكنه أن يقدم كفارة غير محدودة ،
تكفي لمغفرة جميع الخطايا لجميع الناس ،في جميع الجيال .وهو من حيث
ناسوته ،يمكنه أن ينوب عن النسان المحكوم علية في دفع ثمن الخطية .
من أجل هذا السبب كان السيد المسيح يتعمد أن يسمي نفسه " :إبن
النسان " في كثير من المجالت ...
هذا إذن هو السبب الساسي لولدة السيد المسيح مع العذراء .جاء ليحمل
خطيتنا ،ويموت عنها ،لينقذنا من عقوبتها ...
إن عرفنا هذه الحقيقة ،فما هي الدروس الروحية التي يمكن أن نتعلمها
منها في حياتنا ؟ هذا ما نود الن أن نتأمل فيه .
تأمل ...
تأمل أيها الخ المبارك في أن كل خطية ترتكبها هي موجهـة ضـد اللـه ذاتــه ،
ول تختلف في دينونتها عن خطية آدم وحواء .
هي مثل خطيئتهما غير محدودة ،لنها موجهة ضد الله غير المحدود .وهكذا
فإن عقوبتها غير محدودة ،ول تغفر إل بكفارة غير محدودة ...
كل خطية ترتكبها هي عصيان لله .هي نوع من التحدي لله وعدم المبالة
بوصاياه ،بل هي ثورة عليه وإنضمام لخصمه الشيطان ...وهكذا فكل خطية
ترتكبها تحمل معني عدم محبة لله ،لنه يقول :من يحبني وصاياي ) يو : 14
. ( 15
لذلك عندما أخطأ داود وزني وقتل ،لم يقل أخطأت ضد أوريا الحثي وزوجته
،بل قال لله " :لك وحدك أخطأت ،والشر قدامك صنعت " ) مز : 50
... ( 4
حقا ً إن الخطية خاطئة جدا كما يقول الكتاب ) رو . ( 13 : 7
ً
وكل خطية ترتكبها يحملها المسيح ،لنه هو " :حمل الله الذي يرفع خطية
العالم كله " ) يو " ( 29 : 1كلنا كغنم ضللنا ،ملنا كل واحد إلى طريقة .
والرب قد وضع عليه إثم جميعنا " ) إش . ( 6 : 53
إنك يا أخي ربما تستسهل الخطية ،وتستسهل غفرانها ،وتظن أنه بمجرد
العتراف بها تنتهي .ول يتناول تفكيرك كيف تغفر هذه الخطية بالعتراف
لذلك تجد المر سهل ً ول تشعر بفداحة ما تفعله !!...خطيتك أيها ل تغفر إل
بدم المسيح ،لنه " :بدون سفك دم ،ل تحدث مغفرة " ) عب . ( 22 : 9
فما هو موقف الكاهن من الغفران إذن ؟ هل مجرد قراءة التحليل أو عبارة :
" الله يحاللك " هي كل شئ ؟! كل بل شك .فمجرد هذه الكلمة وحدها ل
تكفي ...
عندما يعطيك الكاهن المغفرة ،إنما يقوم بعملية تحويل .يحول الخطية من
حسابك إلى حساب السيد المسيح .ينقل الخطية من على رأسك إلى رأس
الحمل الذي يحمل خطايا العالم كله .وحينئذ يمحوها السيد المسيح بدمه .
بل أتجرأ وأقول إن السيد المسيح نفسه عندما كان يقول لنسان " :مغفرة
لك خطاياك " لم تكن هذه العبارة وحدها تكفي بدون دم الرب .إنما قول
السيد الرب لنسان " :مغفورة لك خطاياك " معناها " :إنني قبلت أن
أموت عن هذه الخطايا ،وقبلت أن أمحوها بدمي .لذلك أعتبرها مغفورة ،
لنها مغموسة في دمي " .لنه لو كانت مجرد عبارة المغفرة تكفي لماذا
إذن كان التجسد ،ولماذا إذن كان الصلب والفداء ؟
بسبب خطيتك أيها الخ ،أخلي الرب ذاته ،وأخذ شكل العبد ،وولد كإنسان ،
وأحتمل كل ضعف البشرية .
من أجل خطيتك صار طفل ً ،ومن أجلها هرب من هيرودس إلى مصر ،ومن
أجلها جرب من الشيطان ،ومن أجلها إضطهده اليهود وأهين وشتم وبصق
عليه وضرب وصلب ومات .إن عرفت كل هذا ،فكيف تحتمل مشاعرك أن
تخطئ ؟!
يجب أن تعلم جيدا ً أن كل خطية لبد أن تقف أمام عدل الله ،لكي تعطي
حسابا ً أمامه " ومخيف هو الوقوع في يدي الله الحي " ) عب . ( 31 : 10
لذلك في يوم ميلد المسيح ،تأمل في محبته لك ،وفي سعيه لخلصك
وكيف أنه من أجلك جاء
حقا ً لقد جاء المسيح ليخلص العالم ) يو . ( 17 : 3جاء ليطلب ويخلص ما قد
هلك ...فهل كان هذا هو كل شئ ؟ كل ،فإننا نلحظ شيئا ً آخر وهو أنه قد
جاء لينوب عن البشرية .
2ـ أتي المسيح لينوب عن البشرية :
إنه ناب عنا في دفع ثمن الخطية ،في الموت ،فمات عنا .ولكن هذا لم
يكن هو الشيء الوحيد الذي ناب عنا فيه .بل أنه ناب عنا في كل عمل
صالح ،في تكميل الناموس كله ...فاختتن وهو غير محتاج إلى الختان ،
وصام وهو غير محتاج إلى الصوم ،وإعتمد وهو غير محتاج إلى عماد ،وهكذا
داوليك .
ولعل نيابة الرب عن النسان هي التي جعلته يسمي نفسه في أحيان في
أحيان كثيرة " إبن النسان " ،مشيرا ً إلى أنه جاء نائبا ً عن النسان أو نائبا ً
عن البشرية فهو ليس إبن فلن من الناس ،وإنما هو إبن النسان عموما ً .
وقد ناب عن النسان في موته وفي حياته وفي كل ما كان مطلوبا ً منه ...
• ولنبدأ أول ً بموضوع العماد ،كمثال ...
ذهب السيد المسيح إلى يوحنا ليعتمد منه .ولكنه بل شك لم يكن محتاجا ً
مطلقا ً إلى العماد .معمودية يوحنا كانت للتوبة ،والتوبة عمل يقوم به
الخطاة وليس البرار .ويسوع المسيح القدوس البار ،الذي هو وحده بل
خطية ،لم يكن محتاجا ً إلى التوبة ،وبالتالي لم يكن محتاجا ً إلى معمودية
يوحنا .
ً ً
كان يوحنا صوتا صارخا في البرية ينادي " :توبوا لنه قد أقترب ملكوت
السموات "
) مت " . ( 2 : 3إصنعوا ثمارا ً تليق بالتوبة " " كل شجرة ل تصنع ثمرا ً جيدا ً
تقطع وتلقي في النار " .وهذا الصوت لم يكن بأي حال موجها ً إلى السيد
المسيح ،الذي إعترف له يوحنا قائل ً " :أنا محتاج إلى أن أعتمد منك "
) مت . ( 14 : 3ويوحنا كان يأتي إليه ليعتمدوا " معترفين بخطاياهم " ) مت
( 6 : 3والسيد المسيح لمتكن له خطية يعترف بها ...
فمادام لم يكن محتاجا ً إلى التوبة ،ول إلى المعمودية ،فلماذا ذهب إلى
يوحنا ؟ ولماذا إعتمد ؟
لقد فعل ذلك " ليكمل كل بر " ،لينوب عنا في إطاعة الناموس .إن
البشرية فشلت في إرضاء الله الب ،فجاء البن يرضيه .يريه " :إبن
النسان ط وقد وقف كامل ً أمامه ...فناب عنا في تقديم هذه التوبة ...كما
سينوب عنا في آخر الزمان في تقديم خضوع البشرية للب .وهكذا يقول
الرسول " :ومتي أخضع له الكل ،حينئذ البن أيضا ً سيخضع للذي أخضع له
الكل "
) 1كو . ( 28 : 15
إن الخطية كانت لها نتيجتــان :هلك النســان ،واغتصــاب قلــب اللــه .وجــاء
السيد المسيح ليصلح المرين معا ً :
جاء ليخلص النسان الهالك ،إذ ناب عنا في الموت وفي دفع ثمن الخطية .
وجاء ليصالح لب الله الغاضب بأن يقدم له ناسوتا ً كامل ً يرضيه ،وهكذا ناب
عنا في تكميل الناموس وفي كل عمل صالح .قام بالعملين معا ً :أرضي
قلب الله بحياته الطاهرة ،وأنقذ حياة النسان ،بموته الكفارى .
• وكما ناب السيد المسيح عن البشرية في التوبة والعماد وتكميل
الناموس ،ناب عنها أيضا ً في الصوم .لم يستطيع النسان أن يكبح جماح
جسده ،فأكل من طعام نهي الله عنه ،فسقط .وجاء السيد المسيح
ليصلح هذا الخطأ ،فبدأ خدمته بالصوم حتى عن الطعام المحلل للجميع .
نحن نصوم لنروض الجسد ونلجمه ونربيه .أما جسد السيد المسيح فلم
يكن جامحا ً حتى يكبح جماحة ،فلماذا إذن صام ؟ ونحن نصوم لكي تصفو
الروح وتسمو .وروح السيد المسيح في صفائها وسموها ليست في حاجة
إلى صوم يوصلها إلى العلو الذي توجد فيه بطبيعتها .إذن لماذا صام ؟
لقد صام عنا ،أربعين يوما ً وأربعين ليلة .وفي ذلك الصوم قدم لله الب ـ
نيابة عنا ـ جسدا ً طاهرا ً ل يخضع لشهوة طعام ،إستطاع أن يبرهن عمليا ً
على أنه " :ليس بالخبز وحده يحيا النسان " ) مت . ( 4 : 4
لقد ناب السيد المسيح عنا في تقديمه للب صورة النسان الكامل المطيع
لوصاياه ،وفي نفس الوقت قدم للبشرية الصورة اللهية التي خلقوا على
مثالها .
3ـ آتي ليقدم لنا الصورة اللهية :
لقد خلق النسان على صورة الله ومثالة ) تك ( 27 : 1في البر والقداسة
والكمال ،ولكنه شوه تلك الصورة اللهية بخطاياه .لسنا نقول هذا عن
مجموعة خاطئة معينة من الناس ،وإنما عن الكل " :الجميع زاغوا وفسدوا
معا ً ،ليس من يعمل صلحا ً ،ليس ل واحد " ) مز . ( 3 : 14وهكذا فقدت
الصورة اللهية من الكون ...لعل تلك الصورة هي التي كان يعينها ديوجين
الفيلسوف ] :عن أي شئ تبحث [ ؟ فأجاب ] :أبحث عن إنسان [ !! إن
النسان في وضعه الصلي ـ كصورة الله ـ لم يكن موجودا ً .
فأتي السيد المسيح ليقدم للناس هذه الصورة اللهية ،بمثال عملي أمامهم
يرونه فيحاكونه ...وهكذا قال لهم فيما بعد " :لني أعطيتكم مثال ً ،حتى
كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضا ً " ) يو . ( 15 : 13بهذه الصورة رآه
القديس بطرس الرسول " :تاركا ً لنا مثال ً ،لكي تتبعوا خطواته " ) 1بط : 2
. ( 21وبنفس المعني يقول معلمنا يوحنا الرسول " :من قال إنه ثابت فيه ـ
ينبغي أنه كما سلك ذاك يسلك هو أيضا ً " ) 1يو ... ( 6 : 2
قدم لنا صورة للنسان المنتصر على الشيطان ،ليعالج بها صورة آدم وحواء
اللذين إنهزاما ً أمام إغراء الحية وإيحائها .وهكذا بدأ خدمته بأن سمح
للشيطان أن يجربه ،ليس مرة واحدة كما فعل مع أبوينا الولين ،وإنما ثلث
مرات ) مت ( 4أعقبتها فيما بعد تجارب ل تعد .وإذ كانت كلمة الله ووصيته
على لسان النسان الول ،ولكنها ليست ثابته في قلبه ،ول منفذه عمليا ً في
حياته ،كانت وصية الله وكلمته قوية وفعالة في فم السيد المسي ،هزم بها
الشيطان فلم يستطع أن يرد عليه .
وفي حياة السيد المسيح قدم لنا صورة النسان الكامل ،الذي إستطاع أن
يتحدى جميع مقاوميه قائل ً " :من منكم يبكتني على خطية " ) يو . ( 46 : 8
ويقول عنه بولس الرسول إنه " :مجرب في كل شئ مثلنا بل خطية "
) عب . ( 15 : 4وقال عنه أيضا ً إنه " :قدوس بل شر ول دنس قد إنفصل
عن الخطاة ،وصار أعلى من السموات " ) عب . ( 26 : 7لذلك عندما بشر
الملك العذراء بميلده قال لها " :القدوس المولود منك ) " ...لو . ( 35 : 1
هذا القدوس ،إذ لم تكن في حياته خطية يموت بسببها ،مات عن خطايانا
نحن وإستحق أن يكون فادي البشرية .
ً
يمكننا أن نتأمل حياته المقدسة ،ونأخذ لنفسنا درسا من كل عمل ومن كل
قول .كانت حياته نورا ً يرشدنا إلى ما ينبغي أن نعمله .لذلك يسميه القديس
يوحنا ك " النور الحقيقي الذي يضئ لكل إنسان " ) يو . ( 9 : 1وإذ كانت
خطية النسان الولي هي الكبرياء ،لذلك جاء السيد المسيح يلقننا درسا ً في
التواضع .
4ـ درس عجيب في التواضع :
سقط أبوانا الولن في الكبرياء عندما قبل ً إغراء الحية في قولها " :تصيران
مثل الله ) " ...تك ( 5 : 3ومن قبلهما سقط الشيطان في هذه الخطية
ذاتها إذ قال في قلبه " :أصعد إلى السموات ..أصير مثل العلي " ) إش 14
. ( 14 ، 13 :فجاء السيد المسيح يرد على هذه السقطة .
النسان الترابي أراد أن يرتفع ويصير مثل الله ،فإذا بالله ينــزل ليصــير شــبه
الناس !!
النسان أراد أن يكبر ذاته ،فعالجة الرب بأن أخلي ذاته .مقاييس العظمة
كانت مرتكبة في حياة النسان .فأصلحها له الرب .كان يري العظمة في
الكبرياء ،فشرح له الرب عمليا ً كيف أن العظمة في التواضع .ووضع ذلك
المبدأ العجيب " :أكبركم يكون خادما ً لكم .فمن يرتفع نفسه يتضع ،ومن
يضع نفسه يرتفع " ) مت . ( 12 ، 11 : 123
كان الناس يقيسون عظمة الشخص بمقدار انتفاخه وتوقير الناس له .
لذلك كان الكتبة والفريسيون " :يحبون المتكأ الول في الولئم ،والمجالس
في المجامع ،والتحيات في السواق ،وأن يدعوهم الناس سيدي سيدي "
) مت ( 7 ، 6 : 23ز فجاء السيد المسيح يعطي مثال ً آخر للعظمة ،العظمة
الهادئة المتضعة غير المنتفخة البعيدة عن الكبرياء ومديح الناس ،عظمة
القلب النقي المنتصر على المجد الباطل ،عظمة البساطة والوداعة .ولول
مرة بدأنا نسمع عن جمال التضاع ...
قبل السيد المسيح كانوا يرون العظمة ،كعظمة الملوك ،في فخامتهم
وحسن منظرهم ،
مثل شاول الملك الذي " :من كتفه إلى فوق ،كان أطول من كل الشعب "
) 1صم . ( 2 : 9كانوا يرون العظمة في المركبات والسيوف واحاطة
الشخص نفسه بالجنود ورجال الحاشية والعبيد والخصيان !! ...فأتهاهم
السيد المسيح بصورة أخري للعظمة ،عظمة مالك السموات والرض الذي
ليس له أين يسند رأسه ،
عظمة الشخص الذي ليس له مكان إقامة ،وليس له منصب ول وظيفة في
المجتمع ،ومع ذلك يهز المجتمع كله بأصابعه !! ...لقد جاء السيد المسيح
بصورة أخري للعظمة لم يرها الناس من قبل ...كانوا يفهمون الكرامة بأن
يجلس العظيم فل يستطيع أحد أن يقترب إليه ،أو أن يمشي في هيبه ووقار
ل تقرب منه إمرأة ول طفل ...لذلك عندما إقترب الطفال من المسيح ،
إنتهرهم التلميذ !! ) لو . ( 15 : 18فقال لهم الرب " دعوا الولد يأتون إلى
ول تمنعوهم ،لن لمثل هؤلء ملكوت الله " ..وتعجب التلميذ ،وكانوا
يفكرون في قلوبهم " :ما هذا الذي نراه منك يارب ؟! إنك كبير عن هذا
المستوي ،نجلسك على عرش عظيم ،والناس يسجدون لك من بعيد !! ل
يستطيع الكبار أن يقتربوا إليك ،فكم بالولي الطفال !! " ..وكأن السيد
المسيح يجيبهم عن كل هذا " :دعكم من هذه الصورة الخاطئة التي أخذها
الناس عن العظمة "
نفس المر تكرر في بيت الفريسي عندما أتت إمرأة خاطئة وبللت قدمي
المسيح بدموعها ومسحتها بشعر رأسها ،وكانت تقبل قدميه وتدهنهما
بالطيب ) لو ( 38 : 7فتأفف الفريس ،وتذمر في قلبه ...كيف يقبل السيد
المسيح أن تلمسه إمرأة خاطئة وتقبل قدميه ! ...ولكن السيد المسيح دافع
عن المرأة ،ورآها أعظم من الفريسي ،لنها أحبت كثيرا ً ،فغفر لها
الكثير ...لم تكن العظمة في نظر السيد المسيح هي الترفع عن الناس
والتعالي على الضعفاء ،وإنما محبة الناس والعطف عليهم ...
نفس النتقاد وجهوده إلى الرب في جلوسه مع الخطاة والعشارين ،كما لو
كان في جلوسه معهم أو اشتراكه في موائدهم ،انتقاض من قدرة وكرامته .
أما الرب فكان يرى الكرامة كل الكرامة في البحث عن هؤلء الضالين
وإنقاذهم مما هم فيه .وهنا تبدو كرامته كراع ،ومعلم ...
كل هذا يقنعنا بأن السيد المسيح ـ في مجيئه إلينا ـ كانت له إلى جوار الفداء
اسباب أخري ،وإن كانت جانبية ...
أسباب أخري لمجيئه :
لقد جاء السيد المسيح لكي يصــلح التعليــم الفاســد الــذي وقــع فيــه النــاس ،
ولكي يصحح المفــاهيم الخــاطئة للشــريعة وللنــاموس وللمبــادئ العامــة فــي
الحياة ...
ذلك لن الكتبة والفريسيين وزعماء اليهود وكهنتهم ورؤساءهم كانوا قد
شوهوا كل شئ ،وفسروا الدين حسب مزاجهم الخاص ،وأبطلوا وصيه الله
بسبب تقاليدهم ) مت . ( 6 : 15ووضعوا على أكتاف الناس أحمال ً ثقيلة
عسرة الحمل ،وأغلقوا ملكوت السموات قدام الناس ،فل هم دخلوا ،ول
جعلوا الداخلين يدخلون ) مت . ( 23من أجل ذلك وبخهم السيد المسيح ،
وكشف رياءهم أمام الناس .وقال عن أمثال هؤلء المعلمين الكذبة " :
جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص " ) يو . ( 8 : 10ذلك لنهم غرسوا
في أذهان الناس وقلوبهم تعاليم خاطئة ومفاهيم منحرفة .
لهذا جاء السيد المسيح ليقدم مفاهيم جديدة .جاء يقلب تلك الوضاع ،
ويقيم ثورة ف الحياة الدينية .
ً
أو كما قال للناس جئت للقي نارا على الرض .فماذا أريد لو أضطرمت "
) لو . ( 49 : 12جاء يشعل ثورة ،ما قبلها ثورة ،ول بعدها ثورة ...ثورة
على الفهم الخاطئ للدين ،والفهم الخاطئ للمبادئ .أقام السيد المسيح
دولة جديدة من الفكر العالي السامي ،
ل يمكن أن يصل إليه تفكير البوذيين ول تفكير الكنفوشيوسيين ول تفكي
البراهمة ول تفكير الفلسفة جميعا ً .جميع فلسفة العالم إنحنوا في خضوع
وفي توقير أمام تعاليم المسيحية .وإذ بالمسيحية قد ارتفعت فوق كل تلك
الفلسفات ،وغلبتها جميعا ً الفسلفة وغلبت القوانين ،وغلبت النظمة
الموجودة الجهلة الذين ل فكر لهم ،ولكن لهم فكر المسيح .وإستطاع هؤلء
أن ينشروا تعاليم الرب في كل مكان " :مستأسرين كل فكر إلى طاعة
المسيح " ) 2كو . ( 5 : 10حقا ً لقد قدم السيد المسيح نورا ً عجيبا ً للعالم .
نحن نفتخر ونفرح ونسر .يمتلئ فمنا بركة وتسبيحا ً ،لن السيد المسيح
أعطانا تعليما ً عظيما ً من هذا النوع يسمو على كل تعليم آخر .صدقوني لو
كانت المسيحية كلها ،ليست فيها سوي هذه الية الواحدة التي تقول " :
أحبوا أعداءكم ،باركوا لعينكم ،إحسنوا إلى مبغضيكم ،وصلوا لجل الذين
يسيئون إليكم ويطردونكم " ) مت . ( 44 : 5لو كانت المسيحية ل تحمل
سوي هذه الية الواحدة ،لكانت هذه الية الواحدة تكفي ...هاتوا كل تعليم
الفلسفة ل تجودنه يوازي هذه الية في سموها وعلوها وعمقها ...
لقد جاء السيد المسيح إلى العالم فبهر العالم بتعليمه ...يقول معلمنا
القديس متي بعد تسجيله لعظة السيد المسيح على الجبل " :فلما أكمل
يسوع هذه القوال بهتت الجموع من تعليمه ،لنه كان يعلمهم كمن له
سلطان وليس كالكتبة " ) مت . ( 29 ، 28 : 7كان تعليما ً ل يدخل إلى
الذان والذهان فقط ،وإنما يخترق القلب ويستقر فيه ،بسلطان ...ذلك
لن " :كلمة الله حية وفعالة ،وأمضي من كل سيف ذي حدين ...ومميزة
أفكار القلب ونياته " ) عب . ( 12 : 4ان يعطي التعليم ويعطي معه نعمة
لتنفيذه .وربما عن هذا قال القديس يوحنا الرسول " :لن الناموس بموسى
أعطي .أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا ً " ) يو . ( 17 : 1
لم يكن تعليم السيد المسيح مبهرا ً للشعب مبهرا ً للشعب فقط ،وإنما
للرؤساء أيضا ً ،حتي في طفولته ...
إنه وهو صبي في الثانية عشرة من عمره ،جلس في الهيكل في أورشليم ،
في وسط المعلمين ،في وسط الكتبة والكهنة والشيوخ وأعضاء مجلس
السنهدريم " :وكل الذين سمعوه ،بهتوا من فهمه وأجوبته " ) لو . ( 47 : 2
ولما بدأ كرازاته ،نسمع عن نيقوديموس أحد رؤساء اليهود وعضو مجلس
السنهدريم ،أنه جاء إلى السيد المسيح ليل ً ،يسأل ويتعلم 0يو ، 1 : 3
... ( 2
وفي سلطان السيد المسيح في التعليم ،وفي ثورته التعليمية ،نجده يقول
في سلطان " :سمعتم أنه قيل ...وما أنا فأقول لكم ) " ...مت . ( 5من
ذا الذي يستطيع أن يتكلم هكذا عن شريعة الله ؟! ولكنه السيد المسيح ،
الذي أنار عقولنا بذلك السمو العجيب في فهم الدين ،وإستطاع أن يحول
فكر البشرية وفهمها ...
ً
الناس قبل مجيئه كانوا يفهمون أن القوة هي العنف ،فأعطاهم مثل للقوة
هو قوة المحبة الباذلة ،التى تبذل ذاتها عن الخرين ،ومثل ً آخر عن القوة ،
هو قوة الروح في الداخل .
والناس كانوا يفهمون الحية بمعني أن يفعل النسان ما يشاء .فوضح لهم أن
الحرية الحقيقية هي تحرر النسان من الخطية وتحرره من عبودية الشهوة
ومن سلطان الجسد ،بل تحرره من الذات ...
وفي تعليم السيد المسيح أعطي الناس فكرة جديدة عن الله ذاته .كانوا
ينظرون إلى الله كقوة جبارة ل يستطيعون الدنو منها .حتى أنهم عند إعلن
الوصايا العشر على الجبل ،كانوا مرتعدين " ،وقالوا لموسي :تكلم أنت
معنا فنسمع ،ول يتكلم معنا الله لئل نموت " ) خر . ( 19 : 20أما في مجئ
السيد المسيح ،فأراهم الله في صورة أخري .وأخذوا فكرة عن الله المحب
الشفوق ،الوديع المتواضع ،الذي " :ل يخاصم ول يصيح ول يمسع أحد في
الشوارع صوته .قصبه مرضوضة ل يقصف ،وفتيلة مدخنه ل يطفئ " ) مت
. ( 20 : 12الله الذي يجول بينهم كراع يسعي في طلب الضال .وكطبيب
يضمد الجروح ،وكنور يضمد الجروح ،وكنور حقيقي يشرق للضالين وغير
العارفين ...هذه هي الصورة الجديدة التي قدمها لهم عن الله فأخبوه " :
والمحبة تطرح الخوف إلى خارج " ) 1يو ( 18 : 4
لجل هذا كله فرح العالم بمجئ الرب ...
وقف الملك يحمل البشري للرعاة قائل ً " :ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون
لجميع الشعب " ) لو ... ( 11 : 2أي أن الفرح لم يكن للرعاة فقط ،إنما
لجميع الشعب .وليس لليهود فقط ،إنما للعالم كله ..
حقا ً إنه فرح عظيم ،رأيناه وضحا ً على وجه سمعان الشيخ الذي حل الطفل
يسوع على ذراعية ،وبارك الله قائل ً " :الن يارب تطلق عبدك بسلم لني
عيني قد أبصرتا خلصك الذي أعددته قدام جميع الشعوب " ) لو ... ( 29 : 2
إنه فرح بالخلص المنتظر منذ زمان .
رأينا هذا الفرح على وجه حنة النبيه العابدة القديسة التي " وقفت تسبح
الرب ،وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم " ) لو . ( 28 : 2
وظهر هذا الفرح على وجه اليصابات لما زراتها العذراء ،فامتلت اليصابات
من الروح القدس وقالت للعذراء " :من أين لي هذا ،أن تأتي أم ربي إلى .
فهوذا حين صار صوت سلمك في في أذني ،ارتكض الجنين بابتهاج في
بطني " ) لو 41 : 1ـ ... ( 44حتى الجنين ابتهج ن لنه كان نبيا ً ،ويعرف
من هو هذا المسيح الذي أتي ...
ولكن هل فرح الكل وابتهجوا ،أم أن هناك من قد حزن ـ للسف ـ بسبب
مجئ المسيح
؟
هذا ما سوف نحدثك عنه إن شاء الله في المحاضرة المقبلة .
" هذا قد وضع لسقوط
وقيام
كثيرين في بني إسرائيل ،
ولعلمة
) لو 2 تقاوم "
( 34 :
كانت نبوءة من سمعان الشيخ عن السيد المسيح إنه " :لسقوط وقيام
كثيرين ولعلمة تقاوم " ) لو ... ( 34 : 2فمتي تحققت هذه النبوءة ؟ وهل
كانت عن مناسبة الميلد فقط ،أم امتدت إلى نهاية هذا الدهر ؟
كون مجئ المسيح لقيام كثرين ،هذا أمر معقول يقبله لكل .
ولكن عجيبة حقا ً هي عبارة " لسقوط ...كثيرين " فكيف ذلك ؟
سنشرح كيف تمت هذه العبارة ،ولنضرب المثل الول :
إن كان المجوس قد فرحوا فرحا ً عظيما ً لما رأوا النجم الذي أرشدهم إلى
مكان الرب ) مت ، ( 10 : 1فذهبوا وقدموا له هداياهم ...فإنه في نفس
الوقت قيل عن هيرودس الملك إنه لما سمع عن ميلد المسيح " اضطرب
وجميع أورشليم معه " ) مت . ( 3 : 2
ً
كان ميلد المسيح سبب فرح للمجوس ،وسبب اضطرب ! أهو ملك حقا ؟
وهل يوجد ملك غيري ؟! وكيف أتركه يملك ؟! إن هذا مستحيل .لذلك
اضطرب وفكر أن يقتل المسيح !
مسكين أنت يا هيرودس ! هل ظننت في جهلك أن السيد المسيح قد جاء
لينافسك في ملكك ! حقا ً إنه ملك الملوك ،ولكن مملكته ليست من هذا
العالم ) يو . ( 36 : 18هل أنت خائف منه لئل يهو عرشك ويسلبك تاجك ؟
اطمئن .إن لعبة التيجان تليق بالصغار أمثالك يتلهون بها .أما السيد المسيح
فهو اسمي من التيجان واسمي من العروش .
السماء هي عرشه .والرض بما فيها عرشك ـ هي موطئ قدميه ) مت : 5
. ( 34
ً
لقد جاء السيد المسيح من أجلك أيضا ،ليحررك :يحررك من عبودية
الذات ،ومن عبودية الشهوات ،ويحررك من إغراء التيجان والعروش .يجعل
نفسك طليقة تعلو في السماء كالنسور .تعلو مستوي التيجان والعروش
والنياشين .
لو كان هيرودس يفكر في خلص نفسه ،لفرح بمجئ المسيح .
وكان يمكنه أن يفرح أيضا ً ،لو كان يهمه خلص العالم ،أو على القل كان
يفرح لن النبوءات تحققت في عهده .ولكنه كان أحد الذين سقطوا لنه
تمركز حول ذاته لذلك فكر أن يقتل المسيح
أراد أن يقتل من بيده مفاتيح الحياة والموت ،الذي حياة هيرودس معلقة
بمشيئته .ولرادة هيرودس لم تكن عن جهل ،بل عن معرفة ،بعد أن سأل
الكهنة والكتبة وسمع النبوءة .وفي غضبه تحدى الله .
ً
فهل أنت يأخى كهيرودس ـ تخاف أن يكون المسيح ملكا ؟
فترفض أن يملك عليك ،لئل يحطم اصناما ً داخل ذاتك .وتري أن ملك
المسيح هو صليب سوف تحمله ،يقف ضد رغباتك الخاطئة .
هل تخاف أن حريتك بدخول المسيح في حياتك .وتقول خير لي أن المسيح
ل يوجد ،لكي أوجد أنا ] حسب منطق الوجوديين [ ؟!
كان المسيح لقيام كثيرين كيوحنا المعمدان الذي قال " :ينبغي أن ذاك يزيذ
وأني أنا أنقض " ) يو . ( 30 : 3وكان لسقوط كثيرين مثل هيرودس الذي
انطبقت عليه عبارة " :من وجد نفسه يضيعها " ) مت . ( 39 : 10
كثيرون ل يفرحون بمجيء المسيح لنهم غير مستعدين للقائه .
لو عرفوا أن المسيح قد جاء يخافون أن يكشفهم ،أو يضبطهم في خطية ،
أو يحرمهم من مشغوليات تبهجهم ،وهم غير متفرغين له !
كذلك في المجيء الثاني سيكون المسيح لسقوط وقيام كثيرين !
سيفرح المؤمنين الحقيقيون بمجيء الرب ،إذ يأخذهم معه على السحاب
في المجد ،ويكونون مع الرب كل حين .بينا آخرون " يقولون للجبال
غطينا ،وللتلل اسقطي علينا " ) رؤ ( 16 : 6لنه " مخيف هو الوقوع في
يدي الله الحي " ) عب . ( 31 : 10إنها ساعة يتقرر فيها المصير ،مثل عبور
البحر الحمر ،كان سبب خلص أولد الله ،وسبب هلك فرعون وجنوده .
من الذين سقطوا بمجيء المسيح ؟ لشك أولهم الشيطان .
قال الرب عنه " :أبصرت الشيطان ساقطا ً مثل البرق من السماء " ) لو 10
. ( 18 :نعم إن كل ما فعله الشيطان ـ وما سيفعله ـ ضيعه الرب كله حينما
قال على الصليب قد أكمل ...فصار تعب الشيطان باطل ً بالنسبة إلى
المفديين .وختم الرب على هذا السقوط بقوله " :رئيس هذا العالم قد دين
" ) يو . ( 11 : 16وعبارة سقوط كثيرين ل تعني الشيطان فقط بل كل
جنده أيضا ً ،إذ قد طرح الذي كان يضل العالم " وطرحت معه ملئكته " ) رؤ
7 : 12ـ . ( 9
من العداء الكثرين الذين يسقطون :النسان العتيق .
إن الرب بتجسده وفدائه ،منح نعمة للمؤمنين ينالونها في المعمودية ،إذ
يسقط النسان العتيق ،يموت ويدفن ) رو . ( 6؟ ويقوم إنسان آخر في "
جدة الحياة " قد لبس المسيح ) غل . ( 27 : 3حقا ً في المعمودية سقوط
وقيام كثرين .
ومن المثلة الجميلة للسقوط القيام ،شاول وبولس :
ً
سقط شاول الطرسوسي الذي كان يضطهد الكنيسة ،يجر رجال ونساء إلى
السجن ،وقام مكانه بولس الرسول الذي تعب في الكرازة أكثر من الجميع
وصنع معجزات ،وأسس الكنائس ،وأرسل الرسائل ،ونال إكليل الشهادة .
وسقط كهنة اليهود ،ليقوم كهنة على طقس ملكي صادق .
قال السيد المسيح في تغيير هؤلء الوكلء " :إن ملكوت الله ينزع منكم ،
ويعطي لمه تصنع ثماره " ) مت . ( 43 : 21وبالمثل فعل مع الناموسيين
والصدوقيين ،وشهد العالم سقوط وقيام كثيرين .وقام كهنوت على طقس
ملكي صادق .
سقط المعلمون الكذبة وفي مقدمتهم الكتبة والفريسيون والشيوخ .
سقطت هيبتهم في أعين الناس ،وسقط تعليمهم ،وسقطت كبرياؤهم
وافحمهم السيد المسيح في كل مناقشة ،وأثبت للكل فساد ما يفعلون به .
ورأي الناس أنه قد قام معلم عظيم " بهتوا من تعليمه " يعلمهم بسلطان
وليس كالكتبة .وأخيرا ً تحطم الكتبة والفريسيون بقول السيد لهم في ) مت
" : ( 23ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون " ...حيث شرح في
تفصيل شديد كل أخطائهم وانتهوا من تاريخ اليهود ،ليقوم مكانها معلمون
آخرون اختارهم الرب .
ً
وفي سقوط كثرين نذكر أيضا الوثنية بكل رجالها
كل فلسفاتها قد سقطوا ،سواء مدرسة السكندرية الوثنينة التي سقطت
بقيام مدرسة السكندرية اللهوتية التي أقامها مارمرقس .أو مثلما حدث
في قصة أسطفانوس الشماس الول الذي قيل عنه إنه وقفت ضده مجامع
الليبرتينيين ،والقيروانيين ،والسكندريين ،مع الذين من كيليكيا وآسيا " ولم
يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به " ) أع . ( 10 ، 9 : 6
وقامت المسيحية منتصرة في صراعها مع الديان الخري .
قال الســيد المســيح " :مــا جئت للقــي ســلما ً علــى الرض بــل ســيفا " أي
ً
الصراع الذي يقوم بين اليمــان وكــل معارضــية .أمــا الــذي ســقط فــي هــذا
الصراع فهو الديان الخري كلها :الديان الرومانية بزعامة جوبــتر ،والديــان
اليونانية بزعامة زيوس ،والديان المصرية بزعامة رع ،وأديان أخــري كــثيرة
في الشرق ،مع عبــادات الرواح والنــار والجــداد ...وســقطت الوثنيــة وكــل
فلسفتها وكل حكمتها .وشهد العالم فترة من الكرازة ومن الستشهاد ،ظهـر
فيها سقوط وقيام كثيرين ..
وتحقق قول الرسول " :اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء .واختار الله
ضعفاء العالم ليخزي القوياء .واختار الله أدنياء العالم والمزدري وغير
الموجود ليبطل الموجود " ) 1كو . ( 28 ، 27 : 1
وإذا بالصبا المي يقف أمام اساطين مجمع السنهدريم ،ليقول لهم في
شجاعة " ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس " .ويقف السيد المسيح ليقول
" :أحمدك أيها الب لنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء ،وأعلنتها
للطفال " ) مت ( 25 : 11وشهد التاريخ في إنتشار المسيحية سقوط
وقيام كثيرين .
لذلك كان المتواضعين في مقدمة الذين قاموا .
لقد تحققت تسبحة العذراء التي قالت فيها " :انزل العزاء عن الكراسي ،
ورفع المتواضعين " ) لو . ( 52 : 1هنا انزال ورفع :سقوط وقيام ...
هذه العذراء المسكينة اليتيمة التي سلموها لنجار يرعاها ،أصبحت جميع
الجيال تطوبها .ومزود البقر مزارا ً للعالم كله ،مكانا ً مقدسا ً ،تنحني أمامه
رؤوس الباطرة والملوك تطلب بركة ترابه .والصيادون الفقراء صاروا قادة
العالم وكهنته ورعاته ومعلميه .
ً
" الشياء العتيقة قد مضت .هوذا الكل قد صار جديدا " ) 2كو . ( 17 : 5
ومن الكثرين الذين سقطوا ،مفاهيم كثيرة ...
مفاهيم الناس السابقة عن العظمة والقوة والحرية وما أشبه ،تغيرت إلى
العكس سقطت وأقام السيد مكانها مفاهيم جديدة .فلم يعد القوي هو الذي
يضرب غيره على الخد والخد الخر .إنما القوي هو الذي يحتمل ،كما قال
الرسول " :يجب علينا نحن القوياء أن نحتل ضعفات الضعفاء " ) رو 1 : 15
(.
و العظمة صارت في التضاع وليس في الكبرياء .ووضع الرب هذه المبادئ
الجملية " من رفع نفسه يتضع .ومن وضع نفسه يرتفع " " من وجد نفسه
يضيعها .ومن أضاع نفسه من أجلي يجدها " .
إننا على أبوابها عام جديد .ونريد أن تنطبق علينا عبارة " قيام كثيرين " .
فيقيمنا الرب بنعمته وبروحه القدوس ،وبعمله الدائم فينا .يقيمنا عن يمينه
ويقول لنا " :تعالوا يا مباركي أبي ،رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم
" ) مت . ( 34 : 25
إنه أقام كثيرين ل نستطيع أن نحصي عددهم ،ربوات ربوات وألوف ،اولئك
الذين ينشدون للرب أغنية جديدة في ملكوته .فلنكن من هؤلء .
بقي أن نقول إن السقوط والقيــام علــى الرض هــو بصــفة مــؤقته يمكــن أن
تتغير بعد حين ،لتعد لسقوط أو قيام أبــديين .وليــت الجمـع يهتمــون بــأبيتهم
من الن .
وليتنا نتناول باستحقاق في بداية هذا العام ولنعرف :
إن التناول هو أيضا ً وسقوط كثيرين
قيامهم في حالة الستحقاق ،إذ يثبتون في الرب ) يو ( 56 : 6
السقوط في حالة عدم الستحقاق ،إذ يتناولون دينونة لنفسهم ) 1كو : 11
. ( 29
" لن إبن النسان قد جاء لكي
يطلب ويخلص ما قد هلك "
) لو ( 10 : 19
ـــــــــــــــ
عن محاضرة ألقيت في الكاتدرائية الكبري مساء الجمعة 1976 12 /3
لماذا جاء السيد المسيح إلى عالمنا ؟ يوضحه النجيلي بقوله إنه جاء يطلب
ويخلص ما قد هلك ) لو ( 10 : 19أي الخطاة الهالكين .
ولماذا جاء يخلصهم ؟ السبب أنه أحبهم ...على الرغم من خطاياهم !
وفي هذا يقول الكتاب " :هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ،لكي
ل يهلك كل من يؤمن به ،بل تكون له الحياة البدية " ) يو ( 16 : 3إذن هو
حب أدي إلى البذل ،بالفداء .قصة قصة ميلد المسيح إذن ،هي فر جوهرها
،قصة حب .
أحب الله العالم ،العالم الخاطئ ،المقهور من الشيطان ،المغلوب من
الخطية ...العالم الضعيف العاجز عن إنقاذ نفسه ! أحب هذا العالم الذي ل
يفكر في حب نفسه حبا ً حقيقيا ً ،ول يسعى إلى خلص نفسه ...بل العالم
الذي في خطيته انقلبت أمامه جميع المفاهيم والموازين ،فأصبح عالما ً
ضائعا ً .والعجيب أن الله لم يأت ليدين هذا العالم الخاطئ ،بل ليخلصه ،
فقال " :ما جئت لدين العالم ،بل لخلص العالم " ) يو . ( 47 : 12
لنا يأت ليوقع علينا الدينونة ،بل ليحمل عنا الدينونة .من حبه لنا وجدنا
واقعين تحت حكم الموت ،فجاء يموت عنا .
ً
ومن أجل حبه لنا ،أخلي ذاته ،وأخذ شكل العبد ،وصار إنسانا .
كانت محبة الله لنا مملوءة اتضاعا ً ،في ميلده ،وفي صلبه .
في هذا التضاع قبل أن يولد في مذود بقر ،وأن يهرب من هيرودس ،كما
في إتضاعه أطاع حتى الموت ،موت الصليب ،وقبل كل اللم والهانات
لكي يخلص هذا النسان الذي هلك .رأي الرب كم فعلت الخطية بالنسان !
فتحنن عليه ...
كان النسان ـ الذي خلق على صورة الله ومثالة ـ قد انحدر في سقوطه إلى
أسفل ،وعرف من الخطايا ما ل يحصي عدده ،حتى وصل إلى عبادة
الصنام " وقال ليس إله " " ...الجميع زاغوا وفسدوا معا ً " ) مز 1 : 14ـ 3
( ...ووصلت الخطية حتى إلى المواضع المقدسة !
النسان وقف من الله موقف عداء .ورد اله على العداء بالحب !
فجاء في محبته " يطلب ويخلص ما قد هلك " .وطبعا ً الهالك هو النسان
الذي عصي الله وتحداه ،وكسر وصاياه ،وبعد عن محبته " ،وحفر لنفسه
آبارا ً مشققة ل تضبط ماء "
) أر . ( 13 : 2ولكن الله ـ كما اختبره داود النبي " لم يصنع معنا حسب
خطايانا ،ولم يجازنا حسب آثامنا .وإنما ...كعبد المشرق عن المغرب ،أبعد
عن معاصينا " ) مز 10 : 103ـ . ( 12ولماذا فعل هكذا ؟ يقول المرتل " :
لنه يعرف جبلتنا .يذكر أننا تراب نحن " ) مز . ( 14 : 103
حقا ً إن الله نفذ ) محبة العداء ( على أعلي مستوي ...
جاء الرب في ملء الزمان ،حينما اظلمت الدنيا كلها ،وصار الشيطان
رئيسا ًَ لهذا العالم ) يو ، ( 30 : 14وانتشرت الوثنية ،وكثرت الديان ،
وتعددت اللهة ...ولم يعد للرب سوي بقية قليلة ،قال عنها إشعياء النبي " :
لول أن رب الجنود أبقي لنا بقية صغيرة ،لصرنا مثل سدوم وشابهنا عمورة
" ) إش . ( 9 : 1
وجاء الرب ليخلص هذا العالم الضائع :يخلصه من الموت ومن الخطية .
وقف العالم أمام الله عاجزا ً ،يقول له " :الشر الذي لست أريده ،إياه
أفعل " " ليس ساكنا ً في شئ صالح " " أن أفعل الحسني لست أجد " ) رو
17 : 7ـ . ( 19أنا محكوم على بالموت والهلك .وليس غيرك مخلص
) إش . ( 11 : 43هذا ما تقوله أفضل العناصر في العالم ،فكم وكم
الشرار الذين يشربون الخطية كالماء ،ول يفكرون في خلصهم !!
إن كان الذي يريد الخير ل يستطيعه ،فكم بالولي الذي ل يريده ؟! إنــه حقـا ً
قد هلك ...
لم يقل الكتاب عن المسيح إنه جاء يطلب من هو معرض للهلك ،وإنما من
قد هلك ...لن " اجرة الخطية هي موت " ) رو . ( 23 : 6الخطية في
اعنف صورها " قد دخلت إلى العالم ،وبالخطية الموت .وهكذا اجتاز الموت
إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع " ...وهكذا " ملك الموت من آدم " ) رو
12 : 5ـ . ( 14
والرب في سمائه استمع إلى أنات القلوب وهي تقول :
قلب قد تغير :الله لم أعد أطلبه .والخير لم أعد أريده .والتوبة ل أبحث
عنها ول أفكر فيها ،ول أريدها .لماذا ؟ لن " النور جاء العالم .ولكن العالم
أحب الظلمة أكثر من النور ،لن أعمالهم كانت شريرة " ) يو . ( 19 : 3
ومادام قد أحب الظلمة أكثر من النور ،إذن فسوف ل يطلب النور ول
يسعي إليه !
هذا العالم الذي يحب الظلمة ،جاء الرب ليخلصه من ظلمته .
" إلى خاصته جاء ،وخاصته لم تقلبه " ) يو . ( 11 : 1وعدم قبولهم له معناه
أنهم هلكوا .والرب قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك .رفضهم له ل يعني
أنه هو يرفضهم .بل على العكس يسعي إليهم ،لكي يخلصهم من هذا
الرفض .لنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقلبون " ) 1تي : 2
.(4
كذلك جاء يطلب الوثنين الذين يعبدون آلهة أخري غيره .
هم ل يعرفهم ويعرف ضياعهم .وقد جاء لكي يطلبهم " النور أضاء في
الظلمة .والظلمة لم تدركه " ) يو ( 5 : 1ولكنه لم يتركهم لعدو إدراكهم
له .إنما جاء ليعطيهم علم معرفته .وقد قال للب عن كل هؤلء الذين جاء
ليخلصهم " :عرفهم اسمك وسأعرفهم ،ليكون فيهم الحب الذي أحببتني
به ،وأكون أنا فيهم " ) يو . ( 26 : 17
ما أكثر ما احتمل الرب لكي يخلص ما قد هلك .
لست أقصد فقط ما احتمله على الصليب .ولكني أقصد أيضا ً ما أحتمله أثناء
كرازته من الذين رفضوه ،حتى من خاصته ! التي لم تقبله ...حقا ً ما أعجب
هذا :أن يأتي شخص ليخلصك ،فترفضه وترفض خلصه .ومع ذلك يصر
على أن يخلصك !
حتى الذين أغلقوا أبوابهم في وجهه ،صبر عليهم حتى خلصهم .
كان في محبته وفي طول أناته ،ل يياس من أحد ...
جاء يعطي الرجاء لكل أحد ،ويفتح باب الخلص أمام الكل ...يعطي الرجاء
حتى لليدي المسترخية وللركب المخلعة ) عب . ( 12 : 12
" قصبه مرضوضة ل يقصف .وفتيلة مدخنة ل يطفئ ) مت . ( 20 : 12
إنه جاء ليخلص ،يخلص الكل .وكل هؤلء مرضي وضعفاء وخطاة ومحتاجون
إليه .وهو قد قال :ط
ً
ل يحتاج الصحاء إلى طبيب بل المرضي ما جئت لدعو أبرارا بل خطاة إلى
التوبة " ) مر . ( 17 : 2من أجل هذا ،لم يجد المسيح غضاضة أن يحضر
ولئم الخطاة والعشارين ويجالسهم ويأكل معهم ويجتذبهم إليه بالحب .
وقول للمرأة التي ضبطت في ذات الفعل :ط وأنا ايضا ً ل أدينك " ) يو : 8
( 11لنه ما جاء ليدينها بل ليخلصها .
وهكذا قيل عنه إنه " محب للعشارين والخطاة " ) مت . ( 19 : 11
بل إنه جعل أحد هؤلء العشارين رسول ً من الثني عشر ) متى( .واجتذب
زكا رئيس العشارين للتوبة وزارة ليخلصه هو وأهل بيته وقال " :اليوم حدث
خلص لهل هذا البيت إذ هو ايضا ً إبن لبراهيم " ) لو . ( 9 : 19فتذمروا
عليه قائلين " :إنه دخل ليبيت عند رجل خاطئ " ولكنه كان يطلب ويخلص
ما قد هلك .
ً
إنه لم يحتقر الخطاة مطلقا ،فالحتقار ل يخلصهم !
إنما يخلصهم الحب والهتمام ،والرعاية والفتقاد ،والعلج المناسب .
العالم كله كان في أيام المسيح " قصبه مرضوضة وفتيلة مدخنة .فهل لو
العالم فسد وهلك ،يتخلي عنه الرب ؟! كل ،بل يخلصه .هل لو فقد العالم
صوابه ،يحتقره الرب ؟! كل ،بل يعيده إلى صوابه .
ً
حتى الذين قالوا أصلبه اصلبه ،قدم لهم الخلص أيضا .
وقال للب وهو على الصليب " :يا أبتاه أغفر لهم ،لنهم ل يدرون ماذا
يفعلون " ) لو . ( 34 : 23ولماذا قال " :أغفر لهم " ؟ لنه جاء يطلب
ويخلص ما قد هلك .ولهذا فتح الفردوس أمام اللص المصلوب معه ...
لم يكن ينظر إلى خطايا الناس ،إنما إلى محبته هو .
لم ينظر إلى تعدياتنا ،إنما إلى مغفرته التي ل تحد .أما تعدياتنا فقد جاء
لكي يمحوها بدمه .وحينما كان ينظر إليها ،كان يري فيها ضعفنا .لذلك قال
له المرتل " :إن كنت للثام راصدا ً يارب ،يارب من يثبت ؟! لن من عندك
المغفرة " ) مز . ( 130
إنه درس لنا ،لكي ل نيأس ،بل نطلب ما قد هلك .
هناك حالت معقدة في الخدمة نقول عنها " :ل فائدة فيها " ،فنتركها
ً
ونهملها كأن ل حل لها ،بل نقول إنها من نوع الشجرة التي ل تصنع ثمرا ،
فتقطع وتلقي في النار ) يو . ( 10 : 3
أما السيد المسيح فلم يياس مطلقا ً ،حتى من إقامة الميت الذي قال عنه
احباؤه إنه قد أنتن لنه له أربعة ايام ) يو . ( 11
وهذا درس لنا أيضا ً لكي نغفر لمن اساء إلينا .
لن الرب في تخليصه ما قد هلك ،إنما يغفر لمن أساء إليه .فالذي هلك هو
خاطئ أساء إلى الله .والرب جاء يطلب خلصه ! ...كم مليين والف
مليين عاملهم الرب هكذا ،بكل صبر وكل طول أناة ،حتى تابوا وخلصوا .
وبلطفه اقتادهم إلى التوبة ) رو . ( 4 : 2
كثيرون سعى الرب إليهم دون أن يفكروا في خلصهم .
وضرب مثال ً لذلك :الخروف الضال ،والدرهم المفقود ) لو . ( 15
ومثال ذلك أيضا ً الذين يقف الله على بابهم ويقرع ،لكي يفتحوا له ) رؤ : 3
. ( 20وكذلك المم الذين ما كلنا يسعون إلى الخلص ،ولكن السيد المسيح
جاء لكي يخلصهم ،ويفتح لهم ابواب اليمان .ويقول لعبده بولس " :أذهب
فإني سأرسلك بعيدا ً إلى المم " ) أع . ( 21 : 22
لماذا ذكر القديس بولس هذه العبارة التي قالها له الرب صرخ اليهود عليه
قائلين إنه " :ل يجوز أن يعيش " ) اع . ( 22 : 22ولكن هداية المم كانت
قصد المسيح الذي جاء يطلب ويخلص ما قد هلك .
جاء الرب بغير النفوس الخاطئة إلى أفضل .
غير المؤمنين جاء يمنحهم اليمان .والخاطئون جاء يمنحهم التوبة .والذين ل
يريدون الخير جاء يمنحهم الرادة .والذين رفضوه جاء يصالحهم ويصلحهم .
وهكذا كان يجول يصنع خيرا ً ) اع . ( 38 : 10
حتى المتسلط عليهم إبليس ) أع ( 38 : 10جاء ليعنقهم ويشفيهم .
لذلك نحن نناديه في أوشية المرضي ونقول له " :رجاء من ليس له رجاء ،
ومعين من ليس له معين .عزاء صغيري النفوس ،وميناء الذين في العاصف
" .كل هؤلء لهم رجاء في المسيح الذي جاء يطلب ويخلص ما قد هلك ..
إنه عزاء الهالكين واملهم
لذلك دعي اسمه " يسوع " أي مخلص ،لنه جاء يخلص .
ولذلك فإن ملك الرب المبشر ليوسف النجار ،قال له عن العذراء
القديسة " :ستلد أبنا ً .وتدعو أسمه يسوع ،لنه يخلص شعبه من خطاياهم
" ) مت . ( 21 : 1
مجرد اسمه يحمل معني رسالته التي جاء من أجلها ،أنه جاء يخلص ما قد
هلك ...
جاء يبشر المساكين ،يعصب منكسري القلــوب .ينــادي للمســبيين بــالعتق ،
وللمأسورين بالطلق " ) إش . ( 1 : 61
ما إحللها بشري جاء المسيح بها .لم يقدم للناس إلها ً جبارا ً يخافونه ...بل
قدم لهم ابا ً حنونا ً يفتح لهم أحضانه ،يلبسهم حلة جديدة .ويضع خاتما ً في
أصابعهم ،ويذبح لهم العجل المسمن ) لو . ( 15إلها ً يخلصهم من
خطاياهم ،ويمسح كل دمعة من عيونهم .
وهكذا ارتبط الخلص باسم المسيح وبعمله وفدائه .
فإن كنت محتاجا ً للخلص ،فاطلبه منه :يخلصك من عاداتك الخاطئة ،ومن
طبعك الموروث ،ومن خطاياك المحبوبة ،ومن كل نقائصك .ينضج .ينضح
عليك بزوفاه فتخلص ،ويغسلك فتبيض أكثر من الثلج ...
هذه هي صورة المسيح المحببة إلى النفس ،الدافعة إلى الرجاء .
فإن أردت أن تكون لك صورة المسيح ،افعل مثله .
اطلب خلص كل أحد .افتقد سلمه اخوتك .
وأول ً عليك أن تحب الناس كما أحبهم المسيح ،وتبذل نفسك عنهم ـ في
حدود إمكانياتك ـ كما بذل المسيح .وتكون مستعدا ً أن تضحي بنفسك من
أجلهم .بهذا تدخل فاعلية الميلد في حياتك
ثم أنظر ماذا كانت وسائل المسيح لجل خلص الناس .
استخدم طريقة التعليم ،فكان يعظ ويكرز ،ويشرح للناس الطريق السليم ،
حتى يسلكون بالروح وليس بالحرف .
واستخدم أيضا ً أسلوب القدوة الصالحة .وبهذا ترك لنا مثال ،حتى كما سلك
ً
ذاك ،ينبغي أن نسلك نحن أيضا ً ) 1يو . ( 6 : 2
واستخدم المسيح الحب ،وطول الناة ،والصبر الناة ،والصبر على النفوس
حتى تنضج .كما استخدم التضاع والهدوء والوداعة .
وأخيرا ً بذل ذاته ،مات عن غيره ،حامل ً خطايا الكل ...
فافعل ما تستطيعه من كل هذا .واشترك مع المســيح ،علــى القــل فــي أن
تطلب ما قد هلك ،وتقدمه للمسيح يخلصه .
وعلى القل قدم صلة عن غيرك ليدخل الرب في حياته ويخلصه .والصلة
بل شك هي عمل في امكانك .
ول تكن عنيفا ً ول قاسيا ً في معاملة الخطاة ،بل تذكر قول الرسول " :أيها
الخوة إن انسيق إنسان ،فأخذ في زلة ،فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا
بروح الوداعة ) غل .(1: 6
كم استخدم الرب روح الوداعة في طلب الناس وتخليصهم ...